نفائس الأصول في شرح المحصول

القرافي

كتاب نفائس الأصول في شرح المحصول تأليف الإمام الفقيه شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المصري المشهور بالقرافي المتوفى سنة 684هـ دراسة وتحقيق وتعليق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - والشيخ علي محمد معوض قرظه الأستاذ الدكتور: عبد الفتاح أبو سنة الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية وخبير التحقيق بمجمع البحوث الإسلامية مكتبة نزار مصطفى الباز الطبعة الأولى 1416هـ - 1995م

بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله عليه توكَّلتُ قال سيدنا ومولانا الشيخ الإمام العالم العلامة بقية السلف، وقدوة الخلف، لسان المتكلمين، سيف المناظرين، فريدُ دهره، ووحيد عصره شهابُ الدينِ أحمدُ بنُ إدريسَ المالكىُّ، المعروفُ بـ ((القَرَافيِّ)) متع الله المسلمين ببقائه: الحمد الله الذي تفرد في عظم ألوهيته بكمال المجد والعلاء، وتوحد في جلال صمديته بغايات شرف الصفات والأسماء، وتمجد بجلال أزليته في صفاته وهويته عن إمكان الحدوث والابتداء، وتقدَّس في وجوب ديمومية أبديتهِ عن عواض التغير والفناء، الذي عجز عن إدراك كنه حقيقته غايات

عقول العقلاء، وتاهت في سُرَادقات عظمة جلاله نهايات ألباب الألباء، أحاط عمله القديم بكل موجود ومعدوم، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، نفذت سوابق مشيئته في بريته، فلا يكون إلا ما يشاء في حالتي السراء والضراء، وطوري الشدة والرخاء، حليت بمدارج معارج شرف تقريبه أرواح خاصته الأنبياء، وتنعمت بتجليات مواهب ملكوته صدور الأولياء، وخضع لعواصف قواصف رهبوته من في الغبراء والزرقاء، عظمت مواهب آلائه، فالدنيا والآخرة في بحار جوده أيسر العطاء، أعطى الجزيل، وأظهر الجميل، فأعظم به في بسط العطاء، وسبل الغطاء، أنزل الرسائل، وشرع الوسائل؛ فحاز أيسرها حكمة الحكماء، نوع آدابها، وفرع أسبابها، وأرشد طلابها بأوضح الأنباء،

فرسخت أصولها، وبسقت فروعها، وأينعت ثمارها في صدور العلماء، وأفضل الصلوات الطيبات على محمد سيد النُّجباء، وواسطة عِقْد الأصفياء، اختار الله تعالى له من المقامات القدسية أعلاها، ومن الصفات النفسانية أسناها، ومن الرسائل الربانية أسماها، ومن الصحابات والقرابات أوفاها، ومن الأمم العاملة أقواها، وأفضلها في برِّها وتقواها، وقدمه على جميع الملائكة والأنبياء ليلة الإسراء، فهو الرسول الأعظم، والإمام الأقوم، والشفيع المقدم. إذا اشتدت إليه حاجات الأمم يوم الفصل والقضاء، آدم فمن دونه تحت لوائه وسيادته على الثقلين، من صفاته وأسمائه شمس الوجود، معدن الجود، وجامع الحمد، وحائز الجِدّ في جميع التصرفات والآراء، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومحبيه صلاةً يجزيه الله بها عن أمته أحسن

الجزاء، وأسلم بها من دَرَك الشقاء، وضَنْك البلاء، وشماتة الأعداء، وأحوز بها منازل السعداء في دار البقاء. أمَّا بعدُ: فأفضل ما اكتسبه الإنسان علْماً يسعد به في عاجل معاشه، وآجل معاده، ومن أفضل ذلك علم أصول الفقه؛ لاشتماله على المعقول والمنقول، فهو جامع أشتات الفضائل، والواسطة في تحصيل لباب الرسائل، ليس هو من العلوم التى هي رواية صرفة لا حَظَّ لشرف النفوس فيه، ولا من المعقول الصرف الذي لم يَحُضَّ الشرع على معانيه، بل جمع بين الشرفين، واستولى على الطرفين، يحتاج فيه إلى الرواية والدراية، ويجتمع فيه معاقد النظر، ومسالك العبر، من جهله من الفقهاء فتحصيله أجاج، ومن سُلِبَ ضوابطه عُدم عند دعاويه الحِجَاج، فهو جدير بأن ينافس فيه، وأن يشتغل بأفضل الكتب في تلخيصاته ومبانيه، ورأيت كتاب ((المحصول)) للإمام الأوحد فخر الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ الإمام العلامة أبى حفصٍ عُمَرَ الرَّازيِّ، قدَّس الله روحه، جمع قواعد الأوائل ومستحسنات الأواخر بأحسن العبارات، وألطف الإشارات، وقد عظم نفع الناس به

وبمختصراته، وحصل لهم بسببه من الأهليَّة، والاستعداد ما لم يحصل لمن اشتغل بغيره. بسبب أنه ألفه من أحسن كتب السنة، وأفضل كتب المعتزلة: ((البرهان)) و ((المستصفي)) للسنة، ((والمعتمد)) و ((شرح العمد)) للمعتزلة، فهذه الأربعة هي أصله، مُصانا بحسن تصرف الإمام، وجود ترتيبه وتنقيحه، وفصاحة عبارته، وما زاده فيه من فوائد فكره وتصرفه وحسن ترتيبه، وإيراده وتهذيبه، فاستخرت الله -تعالى - في أن أضَعَ له شرحاً أودعه بيان مشكله، وتقييد مهمله، وتحرير ما اختل من فهرسة مسائله، والأسئلة الواردة على متنه، وما عساه يوجد من الفوائد في غيره، وجمعت له نحو ثلاثين تصنيفا في أصول الفقه للمتقدمين والمتأخّرين من أهل السنة والمعتزلة، وأرباب المذاهب الأربعة منها ((البرهان)) و ((المُستصفي)) و ((الإحكام)) لسيف الدين الآمدى،

وكتاب ((الترجيحات)) له، و ((منتهي السُّول)) له، و ((المعتمد)) لأبي الحسين، و ((شرح العمد)) له، و ((القياس الكبير)) له، و ((القياس الصغير)) له، و ((شرح البرهان)) للأبيارى، و ((شرح البرهان)) للمَازِريِّ، و ((الإفادة)) للقاضي عبد الوهاب في مجلدين و ((الملخص)) له، و ((الفصول)) للباجى في مجلدين، و ((الإشارة)) له، و ((اللُّمع)) للشيخ أبي إسحق وشرحه له , و ((المعالم))، وشرحها للتِّلمسانى،

و ((المحصول)) لابن العربى، و ((العمْدة)) لأبي يعلى مجلدان، و ((الواضح)) لأبى عبيد مجلدان، و ((التمهيد)) لأبى

الخَطَّاب مجلدان، و ((التنقيحات)) للسهروردي، و ((الأوسط)) لابن برهان مجلدان. و ((الوافي)) لابن حمدان الحرَّاني مجلدان، و ((تعليق على المحصول)) لابن يونس الموصلى، و ((شرح النَّقْشَوَاني للمحصول))، و ((كتاب ابن

القاص))، و ((كتاب الإحكام)) لابن حزم، و ((كتاب الرَّوضة)) للشيخ موفق الدين، و ((شفاء الغليل)) للغزاليِّ، وتعاليق لجماعة من العلماء المعتبرين في أصول الفقه لا أطول بذكرهم، والتزمت من

مختصراته ((بالمنتخب)) و ((الحاصل)) لضياء الدين حسن، و ((الحاصل)) لتاج الدين، و ((التحصيل)) لسراج الدين. و ((التنقيح)) للتبريزى، والتزمت أن أعزو كل قول لقائله، وكل سؤال لمورده، وكل جواب لمفيده، ليكون المطالع لهذا الشرح ينقل عن تلك الكتب العديدة الجليلة الغريبة، فيكون ذلك أجمل من النقل عن كتاب واحد في التدريس والإفادة، وعند المناظرات، وليكون إذا وقع خلل فيما نقلته وقد أعزيته إلى موضع يستدرك من الموضع الذي أعزيته إليه، ويمكن استدراكه من أصله، فيكون ذلك أيسر لتحقيق الصواب ورفع الخطأ وما فتح الله تعالى به من المباحث والأسئلة والأجوبة والقواعد والتنبيهات أسرده سردا من غير إعزاء، ولعلي قد أكون صادفت خاطر غيرى في ذلك، ولم أعلم به، غير أن الله تعالى أعلم بمواهبه في صدور عباده، غير أنى أذكر ما وقع لي من ذلك بفضل الله - تعالى - وفتحه، رجاء النفع به إن شاء الله تعالى، وقد يتفق لى بعد ذلك أن أجده لغيرى فلا أعيد ذكره خشية الإطالة، وقد يقع الخاطر على الخاطر في القصائد المنظمة، فكيف بموارد العقول، فإنه أقرب لأنها كالمرائي، إذا استوت في الجلاء، تجلَّى في جميعها الصورة الواحدة، ولا أورد من الأسئلة إلا ما هو حق عندى لا جواب عنه، أو ما عنه جواب، غير أن كثيرا من الفضلاء يعسر عليهم الجواب عنه، فأذكره لجوابه لا لذاته، وليحترز منه، ويتنبه به على أمثاله، وأما الأسئلة الضعيفة فلا أوردها؛ لأنها تطويل بغير فائدة مهمة، والعمر أقصر شُقة من أن يطول بالعتاب، وكذلك إذا وقع جواب حق، أو سؤال حق لا أورد عليه الأسئلة الضعيفة، ثم أجيب عنها، فتصير أجوبة وأسئلة، وأسئلة وأجوبة فيتسلسل الحال، فهذا لا يليق إلا بعلم الخلاف للتمرُّن على الجدال والمناظرات، أما بغيره فلا، ومهما كان لفظ ((المحصول)) غنيا عن البيان تركته، إلا أن يكون عليه سؤال، متى كان محتاجا لبيان، وهو يحصل من أثناء إيراد الأسئلة عليه تركت بيانه لحصوله من الأسئلة طلبا

مقدمة الشارح

لتقليل الحجم، وترك التطويل، وأبدأ بالمحصول. فإذا تلخص كلامه، وما عليه ثنيت بمختصراته، فإن زاد بعضها لفظا، أو غيّر وضعها، فأذكر ما يتعلق بذلك التغيير، أو بتلك الزيادة من إيراد وتحرير وغير ذلك، ثم أثلث بتصانيف الناسِ المتقدم ذكرها، فأنقل ما فيها جميعها في كل مسألة تكون فيها من زيادة فائدة إن وجدتها، والمتكرر أسقطه، ويصير هذا الكتاب شرحا لـ ((المحصول)) ولمختصراته من ال ((المنتخب))، و ((الحاصل)) وغيره، فيعظم نفعه، ويجل في الوضع وقعه، مستعينا بالله - تعالى - على خلوص النية وحصول البغية وسميته ((نَفَائس الأصُولِ في شَرْحِ المَحْصُولِ))، وقد أقدم قبل الخوض في شرح الكتاب أربعة أبحاث يناسب تقديمها: البحث الأول قال ((السيف الآمدي)): حق على كل من حاول علما أن يتصور معناه بالحد والرسم، ليتميز له مطلوبه عن غيره، وأن يعرف موضوعه، ليتميز عن غيره من الموضوعات، وغايته المقصودة من تحصيله، حتى لا يكون سعيه عبثا، والذي يبحث فيه عنه من المسائل ليتصور طلبها، وما منه يستمد ليحصله من تلك المادة، وما هي مبادئه ليبنى عليها.

أما حدُّ أصول الفقه فسيأتى إن شاء الله -تعالى -في الشرح. وأمَّا موضوعه، فموضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه لذاته، فموضوع أصول الفقه الأدلة الموصلة للأحكام الشرعية، وأقسامها، واختلاف مراتبها، وكيفية الاستدلال بها على الأحكام الشرعية على وجه الإجمال دون التفصيل، وكيفية حال المستدل بها، فالموضوع لعلم أصول الفقه كله ثلاثة أجزاء الأدلة والاستدلال، وهو باب التعارض والترجيح، وصفة المستدل، وهو باب المجتهد والمقلّد، والمفتي والمستفتِي، كما أن موضوع الفقه الأفعال من جهة أنها يعرض لها حكم شرعي في مكلف، أو لا يعرض لها حكم شرعي كالنائم والساهي، وأسباب الأحكام والشروط والموانع، والحجاج الكائنة عند الحكام كالبينات والأقارير ونحوها. وموضوع علم التفسير ألفاظ الكتاب العزيز ومعانيه. وموضوع علم الحديث ألفاظ الحديث وأسانيدها ورواتها. وموضوع علم الطب مزاج الإنسان من حيث يصح ويسقم، وعلى هذا المِنوَال يُعرف موضوع كل علم، فهذا بسط كلام سَيْفِ الدِّينِ، وإنما هو اختصره. وأما غايته، فالوصول إلى معرفة الأحكام الشرعيَّة. وأما مسائله، فهي أحوال الأدلة المبحوث عنها فيه. وأما استمداده، فعلم الكلام والعربية والأحكام الشرعيَّة. أما الكلام فلتوقُّفه على أن الناطق بهذه الأدلة رسول صادق. وأما العربية؛ فلأن من جهلها جهل دلالات الألفاظ في الكتاب والسنة، وأقوال إجماع الأمة من جهة الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص وغير ذلك.

وأما الأحكام الشرعية، فلا بد من تصورها ليعلم كيف يفيدها أصول الفقه، ولا يتوقف على الأحكام من جهة أنها حاصلة للأفعال؛ لأن الأحكام متوقفة على أصول الفقه، وهو أدلته من هذا الوجه، فيلزم الدور، بل من الوجه الذي ذكرناه. وأما مبادئه، فمبادئ كل علم التصورات، والتصديقات المسلمة في ذلك العلم من غير برهان ليبنى عليها ذلك العلم، كانت مسلمة في نفسها كمبادئ علم أصول الدين التى هي البدهيات، أو مقبولة على سبيل المصادرة، وتكون مبرهنة في علم آخر قبل هذا العلم، وهي هاهنا ما يحتاجه أصول الفقه من الكلام والعربية والأحكام الشرعية على ما تقدم. قال الأبيارىُّ في ((شرح البرهان)): أصول الفقه له معنيان: يطلق لقبا، ويطلق مضافا. فإنْ أطلق لقبا فهو من الفنون مشتمل على جملة من الأحكام الشرعية، وحقائقها، وأقسامها، والمميز لها، وهو أدلتها، وأقسام الأدلة، وشرائطها، وكيفية الاستدلال بها، وكيفية المستدل. وإذا أطلق مضافا فهو الأدلة خاصة من هذا الوجه، لا يتوقف على الكلام والعربية والفقه، إنما يتوقف من الوجه الأول الذي هو لقب.

البحث الثاني: فضيلة علم الأصول

وفى كلامه نظر. أما اللقب فيتوقف على تلك الأمور؛ لأن بعضها جزء، وبعضها لازم للمجموع، وأما المضاف فلأن خصوص المضاف إنما يعرف بالمضاف إليه من حيث هو كذلك، والمضاف إليه الفقه، فيتوقف المضاف الذي هو الأصل على معرفته، والفقه هو الأحكام، وهو يستلزم من الكلام صدق الرسول والعربية وغيرها، فالقِسْمَان متوقفان؛ والتوقف أعم من توقف الجزء، وتوقف اللزوم، غير أن اللوازم منها قريب لا بدّ من معرفته، وحضوره في الذهن، وبعيد قد يستغنى عنه. البحث الثاني في فضيلة هذا العلم، وقد أجمع قوم من الفقهاء الجهال على ذمّه، واهتضامه، وتحقيره في نفوس الطلبة، بسبب جهلهم به، ويقولون: إنما يتعلم للرياء، والسُّمعة، والتغالب، والجدال، لا لقصد صحيح، بل للمضاربة والمغالبة، وما علموا أنه لولا أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل ولا كثير، فإن كل حكم شرعى لا بُدَّ له من سبب موضوع، ودليل يدل عليه وعلى سببه، فإذا ألغينا أصول الفقه ألغينا الأدلة، فلا يبقى لنا حكم ولا سبب، فإن إثبات الشرع بغير أدلته، وقواعدها بمجرد الهوى خلاف الإجماع، ولعلهم لا يعبئون بالإجماع، فإنه من جملة أصول الفقه، أو ما علموا أنه أول مراتب المجتهدين، فلو عدمه مجتهد لم يكن مجتهدا قطعا، غاية ما في الباب أن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لم يكونوا يتخاطبون بهذه الاصطلاحات، أما المعاني فكانت عندهم قطعا، ومن مناقب الشافعى -رضي الله عنه - أنه أول من صنف في أصول الفقه.

رد شبه من قال إنه علم جدال

وأما قولهم: إنه جدال، فليت شعرى كيف يليق بهم ذم الجدال والجدل، وهو شأن الله تعالى، وشأن خاصته، فقد أقام الله - تعالى - الحجج، وعامل عباده بالمناظرة، قال الله تعالى: {فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين}، وقال تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه}، وقال للملائكة: {ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض}، لما قالوا له: {أتجعل فيها من يفسد فيها}، وقامت الحجة له - تعالى - عليهم لما أنبأهم آدم بالأسماء وتناظرت الملائكة بقوله تعالى: {ما كان لي

من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون}، وتجادل الأنبياء عليهم السلام. وفي الصحيح: ((تحاجّ آدم وموسى - عليهما السلام - فقال موسى لآدمَ -صلواتُ الله عليهم أجمعين - أنتَ آدَمُ خلقك الله بيدهِ وأسجدَ لكَ الملائكة، وعاتبه على أكل الشجرة، فقال له آدم في آخر كلامه: أتلومني على أمر قد قُدّر علىَّ؟ قالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: فحجَّ آدم موسى)) أى ظهرت حجته عليه. الحديث. وحاجت الأنبياء أممها، وجادلتها قال الله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه}، وحكى المجادلة إلى آخرها إلى قوله تعالى: {فبهت الذي كفر}، وقال تعالى: {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا}، وقال تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}، وقال تعالى {وجادلتهم بالتي هي أحسن}، وقال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} وهو كثير جدا. فالجدال أصله اللَّىُّ والفَتْلُ، وجَدَلت الحبل إذا فتلته، ومنه سمى الصَّقر أجدل لانبرام جسمه وشدته، فمن لوى إلى الحق فهو محمود، ومن لوى إلى الباطل فهو مذموم، فالجدال كالسَّيف آلة عظيمة حسنة في نفسها، وإنما يَعْرض لها الذم من جهة ما تعمل فيه، فمن قطع به الطريق، وأخاف به السبيل على المسلمين ذُمّ، فكما لا يذم السيف في نفسه لا يذم الجدال في

البحث الثالث: في تسمية الكتاب بالمحصول

نفسه، وإنما يُذَمُّ القصد الصارف له إلى الباطل، فما من شيء في العالم إلا هو كذلك، قال الله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}، فجعل الجميع فتنة إشارة لما ذكرته، وأصول الفقه وأصول الدين من الفروض المتعين إقامتها وضبطها، لوجوب الحجة لله - تعالى - على خلقه، وإيضاح أحكام شريعته، وسيأتى في ((المحصول)) أنه من فروض الكفايات الحسنة الجليلة التى لها شئون، وشرف عظيم على غيرها. البحث الثالث في تسمية الكتاب بـ ((المحصول))، وهو مشكل، لأن الفعل إن كان حَصَلَ فهو قاصر ليس له مفعول، فلا يقال: محصول لأنه اسم مفعول، وإن كان حصَّل بالتشديد فاسم المفعول منه مُحصَّل، نحو كسَّرته فهو مكسَّر، وجرَحْته فهو مُجَرَّح، فمحصول لا يتأتى منه، وليس للعرب هاهنا إلا حَصَلَ وحصَّل، فعلى هذا لفظ محصول ممتنع لغة، والجواب من وجوه: أحدها: أن صيغة مفعول تكون لغة للمصدر، تقول العرب: فلانٌ لا معقول له أى لا عقل له، وكذلك قيل: في قوله تعالى: {بأيكم المفتون}، أى الفتنة، فيكون المحصول بمعنى الحصول، ولا شك أن هذا الكتاب فيه حصول لأنواع من العلوم والفوائد. وثانيها: أن ((حصل)) القاصر يتعدى بحرف جر تقول: حصل بكذا، فيكون هذا الكتاب قد حصل به العلم للمشتغل به، ولا شك أن كذلك، فيصدق عليه أنه محصول به.

البحث الرابع: في اختصار الرازي للمحصول

وثالثها: أن ((حصل)) يتعدى للظرف من الزمان، والظرف من المكان، فيكون هذا الكتاب محصولا فيه، ولا شك أنه كذلك؛ لأنه مكان حصل فيه العلم مسطورا لمن يقرؤه. ورابعها: أنه يتعدّى للمفعول من أجله، فتقول: حصل له أى لأجله، فيكون هذا الكتاب حصل العلم لأجله، ولا شك أنه كذلك؛ لأن مصنفه لما أراد وضعه حصَّل، واستحضر في نفسه علما كثيرا لأجل وضعه. فهذه وجوه أربعة، وعلى الثلاثة الأخيرة منها سؤال وهو: أن اسم المفعول متى كان له صلة من حرف جر، فلا بد وأن ينطق به معه، فلا تقول: زيد ممرور وتسكت، بل تقول: ممرور به، وكذلك مدخول عليه؛ لأن اسم المفعول في تقدير ما لم يسم فاعله، والذي يقام مقام الفاعل هو ذلك المضمر المجرور فلا يجوز حذفه، وقد جوزوه لقوله تعالى: {إن العهد كان مسؤولا}، وقوله: {في ليلة مباركة} أى فيها، وقوله تعالى: {شجرة مباركة} أى فيها، فإن (بارك) لا يتعدى إلا بحرف جر. وأجابوا عن قول الأولين بأن حرف الجر حذف على السعة، فاستتر الضمير في الصفة كما حذف في قوله تعالى: {افعل ما تؤمر} و {اصدع بما تُؤمر} حذف حرف الجر فصار تؤمر، ثم حذف وهو منصوب؛ لأن المجرور لا يحذف على الصحيح لما فيه من حذف كلمتين، وقيل: حذفا معا، كذلك حذف حرف الجر هاهنا، ويؤكده إجماع النحاة على قولهم: جار ومجرور، وهو مجرور إليه أى: انجر له المصدر بالحرف، فإذا قلت: مررت بزيد انجرَّ المرور لزيد بالباء، ومع ذلك لم يقولوا: مجرور إليه، بل سكتوا عن إليه.

وكذلك قال صاحب ((الجمل))،:كان متصرفه، تقول: كان فهو كائن ومكون، ومعناه فيه، ولم يذكر فيه. وكذلك قال سيبويه في ((كتابه)) كما نقله صاحب ((الجمل)) عنه، ولم يذكر فيه، فتخرج هذه الأجوبة على هذا. البحث الرابعُ أخبرنى ((الشيخ شمس الدين الِخسْرُوشَاهي)) أنّ الإمام فخر الدين

اختصر من ((المحصول)) كراسين فقط، ثم كمله ((ضياء الدين حُسين)) فلما كمل وجد عبارته تخالف الكراسين الأولين، فغيرهما بعبارته، وهذا هو ((المنتخب))، فـ ((المنتخب)) لضياء الدين حسين لا للإمام فخر الدين، ويوجد في بعض النسخ: قال محمد بن عمر إشارة للإمام فخر الدين، وهو وَهْم، وليس للإمام فخر الدين في اختصاره شيء.

مقدمة صاحب المحصول

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعينُ قال مولانا الصدر الإمام: ((سلطان المحققين، ناصر الإسلام والمسلمين، بحر العلوم، أستاذ الورى، علم الهدى، أستاذ الشرق والغرب حجة الله على العباد، الداعي إلى الله أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الرَّازى متّع الله المسلمين بطول عُمْرِه، وَشَكَر في الدين سَعْيَه)): الحمدلله حقَّ حمْدِهِ، وصلى الله على محمد وآله، وعلى جميع الأنبياء والمُرسلين. الكلام في المقدمات وفيه فُصول المقدمات: جمع مقدِّمة، ويقال: مقدَّمة - بفتح الدال وكسرها - اسم مفعول، واسم فاعل، ملاحظة أمرين مختلفين، إن لاحظت أن المقدمة تُقدِّمُنَا لمقصودنا، كسرنا الدال، لأنها فاعلة، أونحن نقدمها لنبنى عليها مقصودنا، فتحنا الدال؛ لأنها اسم مفعول. قال صاحب ((الصحاح)) وغيرُه: مقدمة الجيش مكسورة

الفصل الأول: في تفسير أصول الفقه

الدال، وهي أول الجيش، ولم أرهم حكوا فيها خلافا، فكأنه غلب عليها اسم الفاعل، من جهة أنها تقدم الجيش والجيش يتبعها، وهي تشجعه وتستتبعه، وهذا البحث بعينه يأتى في مقدمات الدليل بتجويز الوجهين. الفصل الأول في تفسير أصول الفقه [قال الرَّازي]: اعلم أن المركَّب: لا يُمكن أن يُعلم إلا بعد العلم بمفرداته، لا من كل وجه، بل من الوجه الذي لأجله يصحُّ أن يقع التركيب فيه.

فيجب علينا تعريف الأصلِ والفقه، ثم تعريف أصول الفقه. أما الأصل: فهو المُحتاج إليه. وأمَّا الفقه: فهو في أصلِ اللغة عبارة: عن فهم غرض المتكلم من كلامه. وفي اصطلاح العلماء عبارة: عن العلم بالأحكام الشرعية العملية، المستدل على أعيانها، بحيث لا يُعلم كونها من الدين ضرورة. فإن قلتَ: الفقه من باب الظنون، فكيف جعلته عِلما. قلت: المجتهد إذا غلب على ظنه مشاركة صورة لصورة في مناط الحكم، قطع بوجوب العمل بما أدَّى إليه ظنه، فالحكم معلوم قطعا، والظن واقع في طريقه. وقولنا: ((العِلم بالأحكام)): احتراز عن العلم بالذوات والصفات الحقيقية. وقولنا: ((الشرعية)): احتراز عن العلم بالأحكام العقلية؛ كالتماثل، والاختلاف والعلم بقبح الظلم، وحسن الصدق عند من يقول بكونهما عقليين. وقولنا: ((العملية)): احتراز عن العلم بكون الإجماع وخبر الواحد والقياس حُجَّة؛ فإن كل ذلك أحكام شرعية، مع أن العلم بها ليس من الفقه، لأن العلم بها ليس علما بكيفية عمل. وقولنا: ((المستدل على أعيانها)): احتراز عما للمقلد من العلوم الكثيرة المتعلقة بالأحكام الشرعية العلميّة؛ لأنه إذا علم أن المفتى أفتى بهذا الحكم، وعلم أن ما أفتى به المفتى هو: حكم الله تعالى في حقه، فهذان العلمان يستلزمان العلم بأن حكم الله تعالى في حقه ذلك، مع أن تلك العلوم لا تسمى فقها؛ لمَّا لم يكن مستدلا على أعيانها. وقولنا: ((بحيث لا يُعلم كونها من الدين ضرورة)): احتراز عن العلم

بوجوب الصلاة والصوم؛ فإن ذلك لا يُسمّى فقها؛ لأن العلم الضروري حاصل بكونهما من دين محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ. وأمَّا أصول الفقه، فاعلم أنَّ إضافة اسم المعنى تُفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه في المعنى الذي عُيِّنَتْ لهُ لفظة المضاف، يُقال: هذا مكتوب زيد، والمفهوم ما ذكرناه. وعند هذا نقول: أصول الفقه: عبارة عن مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها، وكيفية حال المستدل بها. فقولنا: ((مجموع)): احتراز عن الباب الواحد من ((أصول الفقه)) فإنه، وإن كان من أصول الفقه، لكنّه ليس أصول الفقه؛ لأن بعض الشيء لا يكون نفس ذلك الشىء. وقولنا: ((طرق الفقه)) يتناول: الأدلة والأماراتِ. وقولنا: ((على طريق الإجمال)): أردنا به بيان كون تلك الأدلّة أدلَّة؛ ألا ترى أنا إنما نتكلم في أصول الفقه في بيان أن الإجماع دليل؟! فأمّا أنه وجد الإجماع في هذه المسألة فذلك لا يُذكر في أصول الفقه. وقولُنا: ((وكيفية الاستدلال بها)) أردنا به: الشرائط التى معها يصحُّ الاستتدلال بتلك الطُّرُقِ. وقولنا: ((وكيفية حال المستدل بها)) أردنا به: أنَّ الطالب لحكم الله تعالى، إن كان عاميا، وجب أن يستفتي؛ وإن كان عالما، وجب أن يجتهد، فلا جرم وجب في أصول الفقه أن يبحث عن حال الفتوى، والاجتهاد، وأنَّ كل مجتهد هل هو مصيب، أم لا.

شرح القرافي لتعريف أصول الفقه

قال القرافي: تقريره: أنّ أصول الفقه مركب من المضاف والمضاف إليه، والعلم بالمركبات يتوقف على العلم بالمفردات، لأن من جهل الحيوان، أو الناطق استحال أن يعرف الإنسان، أو جهل الخلَّ أو السُّكّر استحال أن يعرف السَّكَنْجَبِين الذي يتركب منهما، ولكن يعرف الحيوان والناطق من جهة أنهما حيوان وناطق، فإن تركب الإنسان منهما، إنما هو من هذا الوجه، لا من جهة أن الحيوان جسم ولا ممكن، ولا من جهة أن الناطق متحيز، ولا قابل للأعراض، وكذلك جميع أجزاء المركبات، يجب أن يقف العلم بالمركب عليها من جهة أنها يصح منها التركيب، لا من كل وجه، وترد عليه أربعة أسئلة: السؤال الأول: أنَّ العلم قسمان: إجمالي وتفصيلي. فالإجمالي: العلم بالشيء من بعض وجوهه. والتفصيلي: العلم بالشيء من جميع وجوهه، وكذلك تقول: أمر فلان أعرفه من حيث الجملة، وأمر فلان أعرفه مفصلا، والجَمْل: الخلط، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: ((لعن الله اليهود حُرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها)) أى: خلطوها بالسبك على النار. ومنه لفظ ((مُجمَل)) لاختلاط المراد فيه بغير المراد، والعلم الإجمالى: اختلط الوجه المعلوم بالوجه المجهول في تلك الحقيقة.

إذا تقرر هذا، فالعلم بالمركب إنما يتوقف على العلم بمفرداته إذا كان تفصيليا، أما الإجمالى فلا، فكم في العالم من يعلم التِّريَاق والفاروق بالسماع، ولا يعرف أن حوائجه نَيِّف وسبعون حاجة، بل يعرف سقف بيته ولا يعرف عدد خشبه، ولا ما رُصَّ فيه من اللَّبِنِ، بل يعرف نفسه، ولا يعرف أن فيه خمسمائة عضلة تحركه، ولا عدد عظامه، وأوردته، وشرايينه، وغير ذلك من أجزائه، وهذه نفس الإنسان، فما ظنُّك بغيرها، نعم العلم التفصيلي متوقف، لكنه أطلق القول، فيرد عليه القسم الأول الإجمالى. الثاني: أنه إذا سُلِّمَ له ما قال، واحتاج كما قال إلى معرفة الفقه، والأصل يلزمه أن الفقه جزء كما قال، وأن الحقيقة لا تثبت به، وأن الحقيقة لا تثبت بدون جميع أجزائها، فلا يسمى أحد أصوليا، إلا إذا قام به أصول الفقه، ومن جملة أجزائه الفقه، فلا يكون أحد أصوليا حتى يكن فقيها، وليس كذلك لإطباق أهل العرف علي قولهم: فلان أصولى، وليس بفقيه، وإنما يحتاج في الأصول إلى معرفة تصور أصل الأحكام الفقهية، أو التمثيل ببعض أفرادها، وذلك ليس كافيا في مسمى الفقه على ما يأتى في حد الفقه إن شاء الله تعالى. الثالث: في قوله: من الوجه الذي يصح التركيب فيه، مع أن الجزء لا يقع التركيب فيه، بل منه، والذي يقع التركيب فيه إنما هو المركب لا مفرداته، فمقتضى قوله: أن يكون التركيب في الجزء، فيكون كل جزء مركبا، فيلزم التركيب في كل مركب من أجزاء لا نهاية لها، وهو محال لاقتضاء صيغته أن كل جزء وقع التركيب فيه. الرابع: أن أصول الفقه مركب من المضاف الذي هو الأصول، ومن الفقه الذي هو المضاف إليه، فاللازم عن هذا التركيب معرفة الأصول، ومعرفة نسبته الخاصة إلى الفقه لا نفس الفقه، فالمضاف إليه لا يدخل في حقيقة المضاف، بل نسبته إليه فقط، فقوله بعد ذلك: فيجب علينا تعريف الأصل،

تنبيه

والفقه ليس كذلك، بل تعريف الأصل ونسبته إلى الفقه، وأما الفقه فلا، وهذا هو السر في أن أصول الفقه قد يوجد بدون الفقه، وفي قوله: هذا أصولى، وليس بفقيه؛ لأن الفقه لم يدخل في حقيقة الأصول، بل النسبة فقط، كقولهم: غذاء الإنسان، ونومه، ومسكنه، لم يدخل الإنسان في شىء من تلك الحقائق، بل النسبة إليه فقط. تنبيه وفي ((الحاصل)) سكت عن قوله: لا من كل وجه، بل من الوجه الذي يصح التركيب فيه، فيسقط عنه السؤال الثالث، ويرد عليه أنه أهمل، كيف يعرف جزآه؟ فيبقى الكلام دائرا بين ما هو شرط، وهو الوجه الذي يقع منه التركيب، وما ليس بشرط، وهو معرفة الجزء من غير ذلك الوجه. وقال سراج الدين: من حيث يصح تركيبها، فلا يرد عليه شىء مما ورد على تاج الدين، ولا على الإمام في السؤال الثالث.

وقال التبريزى لا بد من معرفة الأصول والفقه، ومعرفة وجه الإضافة، ولم يذكر الوجه الذي يقع منه التركيب، بل عبر عنه بوجه الإضافة، فهو نحو من ((الحاصل))، وسكت ((المنتخب)) عن هذه المسألة بالكلية. قوله: ((الأصل هو المحتاج إليه)) تقريره: أن الأصل والفقه لما احتاج إلى تعريفهما، وهما لكل واحد منهما معنى في اللغة، ومعنى في اصطلاح العلماء، احتاج إلى تعريف هذه المعانى الأربعة، فهذا الذي ذكره هو معنى الأصل في اللغة عنده؛ لأن أصل السُّنبلة بُرّة، وهي تحتاج إليها، وأصل النخلة نواة وهي يحتاج إليها، وأصل الإنسان نطفة، وهو محتاج في تخليقه إليها، ولا شك أن كل أصل يُحتاج إليه، غير أن كل حقيقة كما يحتاج لأصلها يحتاج لشرطها، وانتفاء مانعها والشروط وعدم الموانع ليست أصولا لتلك الحقائق. فكما تحتاج السنبلة للبرة تحتاج للهواء اللَّين والندى المتواصل، وعدم دابة تقلعها من أصلها، وعدم عَفَن يحصل لها من منبتها، ولا يقال: أصلها الهواء، ولا عدم الحيوان المهلك، وكذلك الإنسان يحتاج لهواء يتنفس فيه، وقوت يغذيه، وبيت يؤويه، وثوب يحميه، ولا يقال: أصله الهواء ولا الثوب، فالحاصل أن كل أصل مُحتاج إليه، ليس كل محتاج إليه أصلا،

فيكون حده جامعا ليس مانعا؛ لاندراج حصول الشرائط، وانتفاء الموانع فيه، وليست أصولا، ووافقه على هذا التفسير سراج الدين، وصاحب ((المنتخب))، وتاج الدين غيَّرَ الحد فقال: أصل الشيء ما منه الشيء، فلا يَردُ عليه الشروط، وعدم الموانع؛ لأن الشروط ليس من شرطه، ولا من عدم مانعه، فهذا هو الباعث له على التغير في ظاهر الحال، ويرد عليه سؤالان: أحدهما: أنَّ ((مِنْ)) لفظ مشترك بين ثمانية معانٍ، كما تقرر في كتب النحو: ابتداء الغاية وانتهاؤها وغير ذلك، والمشترك يمتنع وقوعه في الحدود لإجماله، والحدود مرادة للبيان. وثانيهما: سلمنا أن الاشتراك ليس مانعا، لكن معانيها كلها لا تصح في هذا الموضع. أما ابتداء الغاية، فيصير معنى الكلام: كل ما منه ابتداء الغاية فهو أصل، وليس كذلك، كقولك: سرت من ((مصر)) إلى ((مكة))، وليس ((مصر)) أصل السير في اللغة. وأمَّا انتهاء الغاية كقولك: رأيت الهلال في دارى من خلال السَّحاب، فانتهاء رؤيتك إلى السحاب على ما قاله البعض. وقال آخرون: بل ابتدأت الرؤية من السحاب، فتكون لابتداء الغاية لا لانتهائها، ومثله شممت المِسْكَ في دارى من السوق، وعلى الأول ليس السحاب أصل رؤيتك لغة، وأما التبعيض فلأن معناه أن المجرور بـ ((مِن)) كل، والمتعلق بالمجرور جزؤه، كقولك: قبضت من الدراهم عشرة فالعشرة بعض المال، والمال أكثر منه، ولا يصدق فيما هو أصل لغة أنه أكثر، فإن البرة ليست أعظم من السنبلة، وليست السنبلة جزءا منها بل السنبلة مؤلفة من أجزاء مخلوقة لله تعالى، إما من الماء والتراب أو غيرهما قدر البرة

مرارا كثيرة وأجزاء البرة كلها إلا قشرها، نبتت من السنبة فالقضية بالعكس السنبلة كل والأصل بعض، وكذلك النواة في النخلة والنطفة في الإنسان وأما بيان الجنس نحو قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}. وقولنا: خاتم من فضة، وباب من الساج، فلأن معناه أن الأول أعم من المجرور فبين المتكلم أن المراد من ذلك العام هذا المخصوص، وأنه ليس مراده مطلق الباب، بل الباب الكائن من السَّاج، وكذلك بقية الصور. والأصل في اللغة لا يمكن وجود فرعه بدونه، فلا توجد السنبلة من غير بُرَّة، ولا إنسان من غير نطفة في جارى عادة الله، وقد تنخرق العادة كما في آدم، وعيسى عليهما السلام، لكن اللغة إنما وضعت للعادة لا لما خرقها، وإذا بطل معنى العموم بطل بيان الجنس. وأما الزيادة لتأكيد العموم نحو: ما جاءنى من أحد. أو تنصيص العموم نحو: ما جاءنى من رجل. أو بمعنى ((عند)) نحو: قوله تعالى: {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة .... يخلفون} أو غيرها مما ذكره النحاة فبعيد جدا عن هذا الموطن، وإنما بينت الذي يقرب لتوهم إرادته، أما البعيد جدا فلا أطول بذكره. قال الآمدىُّ: أصل الشىء ما يستند تحقق ذلك الشى إليه، وينبغي أن يقول: في مجرى العادة، وإلا فيشكل عليه الخالق العالم سبحانه وتعالى، فإن وجود كل شىء يستند إليه، ولا يسمى في اللغة أصلا للبرة ولا لغيرها، بل يقال له تعالى: خالق ولا يقال: أصل.

تعريف الفقه في اللغة

وقال أبو الحسين في ((شرح العمد)): ((أصل الشرع ما بينى عليه غيره)) وهي أشد من العبارة الأولى. قوله: ((الفقه في اللغة: فهم غرض المتكلم من كلامه)).

فائدة: الفقه في اللغة عن أبي إسحاق

يرِدُ عليه أن المنقول عن اللغة، أن الفقه هو مطلق الفهم. قال المازرى في ((شرح البرهان)): الفقه، والفَهْم، والطِّب، والشِّعر، والعِلم، خمس عبارات لمعنى واحد، غير أنه اشتهر بعضها في بعضه أنواع الفهم، فاشتهر الطِّب في معرفة أحوال مِزاج الإنسان، والشِّعر في معرفة الأوزان، والفقه في معرفة الأحكام، وإلا فالعرب تقول: رجل طبيب إذا كان عالما. قال الشاعر [الطويل]: وإن تَسْألُونِى بِالنِّسَاءِ فَإنَّنِى ... خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبيبُ

أي عارف، وقال الله تعالى: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم}، أى لا تعرفون، وقال عليه السلام: ((رُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَن هُوَ أفقهُ مِنْهُ)) الحديث، أى أفهم. إذا تقرر هذا، فحدّه حينئذ غير جامع لخروج فهم الصنائع وغيرها منه، وتقول العرب: فلان يفقه الخير والشر، وهو عكس حده للأصل، فإنه كان غير مانع فكان ينبغى أن يقول: هو في اللغة الفهم، كما قال غيره، ووافقه ((المنتخب)) على ذلك، وسكت سِراجُ الدين وتاج الدين عن هذا التفسير جملة ولم يذكراه البتة. ((فائدة)) قال الشيخ أبو إسحاق في ((شرح اللمع)): الفقه في اللغة: فهم

فائدة: الفقه عن ابن عطية

الأشياء الدقيقة، ولذلك تقول: فهمت كلامك، وفقهته، ولا تقول: فقهت أن السماء فوقنا والأرض تحتنا، وقاله غيره أيضا، وعلى هذا لا يكون مرادفا للعلم كما قاله المَازِرى، بل مباين، ومسماه بعض أنواع مسمى العلم. ((فائدة)) قال ابنُ عَطيَّة في ((تفسيره)): يقال: فَقَهَ وَفَقِهَ وَفقُه - بفتح القاف وكسرها وضمها. فبالفتح إذا سبق غيره للفهم، كَوزْن غَلَبَ. وبالكسر إذا فهم. وبالضمِّ إذا صار الفِقْهُ له سجيةً، فيكون على وزن فَعُلَ بالضم؛ لأنه شأن أفعال السَّجَايا الماضية نحو ظَرُفَ فهو ظريف، وشَرُفَ فهو شريف، وكَرُمَ فهو كريم.

ثمانية أسئلة على تعريف الفقه

واسم الفاعل من الأولين فاعل نحو: سمع فهو سامع وغلب فهو غالب، ومن الثالث فعِيل نحو: شرف فهو شريف، وكذلك تقول: فَقُهَ فهو فقيه. قوله: والفِقْهُ في اصطلاح العلماء: ((أنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المستدل على أعيانها، بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة)). تقريره: أنه قال: بعد هذا ما هو شرح الحد، ويكمل إيضاحه أيضا بالإيراد عليه من الأسئلة، وهي ثمانية: السؤال الأول: في احترازه بالعميلة عن كون الإجماع حجة، وخبر الواحد والقياس حجة، فهو إشارة منه إلى أن الله - تعالى - أوجب علينا أن نتعلم أصول الفقه لضبط الشريعة، وكذلك جلّ أصول الدين، وهي أمور تعلم ولا تعمل، ولا يقال للعالم بها: فقيه في العرف، بل أصولى، فاحتاج لإخراجها عن الحد، فهذا يتجه غير أن كل قيد في حدٍّ إنما يذكر ليحترز به من ضده، هذه قاعدة الحدود فقوله: ((العملية)) يقتضى الاحتراز عن الأحكام الشرعية العملية الكائنة بالقلب دون عمل الجوارح، وعلى هذا يخرج بعض الفقه من الحد؛ لأن الفقيه كما يكون فقيها بالعلم بوجوب الصلاة والصوم، يكون فقيها بالعلم بوجوب النية، والإخلاص، وتحريم الربا والحسد، وأمور كثيرة لا توجد إلا في القلب، فقد تعلَّق الفقه بعمل الجوارح والقلب أيضا، فإخراجه يقتضى إخراج بعض المحدود، فلا يكون الحدُّ جامعا.

السؤال الثاني

وسيف الدين قال: الفروعية إلى آخر الحد، فبقوله: الفروعية دخلت الأعمال والنيات، وجميع ما ورد نقضا؛ لأنها تسمى فروعية، ولا يرد عليه نقض، وخرج بالفروعية علم الأصلين، فاستقام حده بقوله: الفروعية، فإن قلت: بل هذه داخلة في حده؛ لأنها تعمل بالقلب، وهو قد أخرج غير العملية فقط، وأخذ جميع العمليات كانت بالجوارح أو بالقلب قلت: سؤال حسن، غير أنه يبطل بما ذكره من الإجماع والقياس وخبر الواحد، فإنها أمور يتصرف فيها وبها في القلب، ويقدم ويؤخر، ويحقق اعتقاداتها وأنها معتبرة شرعا، فللقلب فيها أعمال كثيرة، والأصولى يعمل بقلبه وبفكره فيها تحقيقا وإلغاء، ومع ذلك لا يُسمّى فقيها، فعمل القلب إن كان معتبرا دخل عمل الأصولى بقلبه، أو غير معتبر خرج الإخلاص والنية وغيرهما. السؤال الثانى: ثم الألف واللام في قوله: العملية مشكلة؛ لأن الألف واللام تستعمل لاستغراق الجنس، نحو {لا تقربوا الزِّنا} وللمعهود من الجنس نحو قوله تعالى: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول}، أى الرسول المعهود بتقدم ذكره الآن. ولبيان حقيقة الجنس نحو قول السيد لعبده: اذهب إلى السوق، فاشتر لنا الخبز واللحم، أى هذه الحقيقة، ولم يرد جميع الأفراد، ولا معهودا منها، وهذا هو غالب استعمالها، وهو الذي يمكن أن يفسر به في هذا الموضع. ولها عند النحاة مواضع أخر لا تحسن هاهنا. كالتسوية نحو هذا الرجل يسوونه بين النَّعتِ والمنعوت.

والتزين نحو دل الدليل على حدوث العالم أى دليل دل على حدوثه. واللام حلية في الدليل، وزينة في النطق، وفي الفعل على معنى الزيادة نحو قول الشاعر [الطويل]: يَقُولُ الخَنَا وَأَبغَضُ العُجْمِ نَاطِقاً ... إلى رَبِّنَا صَوتُ الحِمَارِ اليُجَدَّعُ وموصولة: وهي الكائنة في الصفات نحو: الضارب والضاربة، أى: الذي ضرب والتى ضربت. فنقول: إنْ كان المراد هاهنا استغراق الجنس، والقاعدة أن صيغة العموم كلية لا كل.

والفرق بينها أن الكلية هي الحكم على كل واحد بحيث لا يبقى واحد نحو: قولنا: كل رجل يشبعه رغيفان غالبا، فتصدق باعتبار الكلية، وتكذب باعتبار الكل، الذي هو المجموع، والكل نحو قولنا: كل رجل يشيل ألف قنطار فتصْدُقُ باعتبار الكل، وتكذب باعتبار الكلية، فإن أراد باللام الكلية كان معنى الفقه صادقا بكل فرد فرد على حاله، فيكون من قام به العلم، بأى حكم - كان وحده يسمى فقيها، وليس كذلك في العرف، وإِنْ أراد باللام الكل لا الكلية لزم ألا يسمى أحد فقيها؛ لأن مجموع الأحكام العملية لم يحصله أحد، وإن أراد العهد تعذر؛ لأنه لا معهود بيننا، ولأنه لو نشأ مجتهد، واتبعه في تصانيفه طلبة سموا فقهاء، مع أنَّ ما اشتغلوا به غير معهود. قال الشيخ أبُو عَمرِو بنُ الحَاجِب:

((المراد: أقل الجمع ثلاثة))، ورد عليه أنه يلزم أن من عرف ثلاثة أحكام ينبغى أن يسمى فقيها في العرف وليس كذلك.

............................................................................

...........................................................................

...........................................................................

قال الشيخ شرف الدين بن أبى الفضل المرسى: ((اللام)) لمطلق الحقيقة، ويكون المراد أنها تصدق بحكم واحد، ولا يشكل أن أهل العرف لا يسمون من علم حكما واحدا فقيها، فإنَّ صيغة فَعِيل إنما هي للمعنى تفيد كونه سجية، والحدود إنما وضعت لأجل المعنى الأعم، أمَّا بقيدِ كونِهِ سجيَّةً فلا، والذي يستحقه أصل المعنى الأعم فاقِهٌ لا فَقِيهٌ، فلا يضر الحد سلب فقيه، وهذا جواب جيد حسن، ويمكن الجواب بأنها للعهد. وتقريره: أن الخاصة والعامة مجمعون على سَلْب الفقه عن طوائف من

أهل الحِرَف وغيرهم، ومجمعون على إثباته لطائفة هي عند أهل العرف معروفة، ومن تحدد واتصف عندهم بتلك الصفة سموه فقيها، وإن لم يتصف قالوا: ليس بفقيه، والقضاء على المحال بالنفي أو الإثبات من جميع الناس فرع تصورهم ما لأجله ينفون، وما لأجله يثبتون، فتكون هذه الصورة التي لأجلها ينفون ويثبتون معلومة عند جميعهم، فهي معهودة، والمراد باللام تلك الصورة فصح أنها للعهد، فهذا تقرير هذه الصورة من حيث الإجمال، وأما من حيث التفصيل فقد أشار إليه سَيْفُ الدين بقوله في حده: جملة غالبة من الأحكام احترازا من الحكم الواحد ونحوه، ولم تتعيَّن هذه الجملة بمذهب معين، ولا بتصنيف معين، ولو طرأ مجتهد كما تقدم في السؤال صح أن مذهبه من حفظه منه جملة غالبة يسمى فقيها، وهذا أحسن الأجوبة، فإن جواب شرف الدين يَرد عليه أن أهل العرف إذا قيل لهم: مَن عرف حكما واحدا هل هو من أهل الفقه أو من العوام؟ قالوا: ليس هو من أهل الفقه، فيسلبون عنه الفقه، ولفظ الفقه لأصل المعنى لا لكونه سجيَّة، فلا يجد عنه جوابا كما وجده في لفظ فقيه، وهذا الجواب الأخير لا يَرِد عليه شيء من ذلك، ولا بد من تصور ورود هذه الأسئلة، والجواب عنها من استحضار قاعدة، وهو أن كل معنى قائم بمحل وجب أن يشتق له من لفظ ذلك المعنى لفظ، كمن قام به السَّوَاد سمى أسود، ومن قامت به الحركة سمِّى متحركاً، ويمتنع الاشتقاق لغيره كما يأتى تقريره، فلهذه القاعدة استدللنا بالسلب على عدم معنى الفقه، وبثبوت الاسم المشتق من لفظ المعنى الذي هو فقيه على ثبوبته، وإيراد السؤال في ((لام)) العملية أولى من إيراده في ((لام)) الأحكام؛ فإن ((لام)) الأحكام ليس المراد بها أحكام الفقه فقط، بل العقلية والفقهية، فالإيراد فيها غير

السؤال الثالث

متجه لأنه أخرج بعد هذا العقلية بقوله: الشرعية، ثم أخرج هنا أيضا أحكام أصول الفقه وأصول الدين بقوله: ((العملية)) بل لا ينبغى إيراد هذا السؤال إلا على لام العملية؛ لأنه قصد بها الفقه وحده. السؤال الثالث: على قوله: ((المستدل على أعيانها))، قال: إنه احتزر به عما للمقلد من العلوم الكثيرة المتعلقة بالأحكام الشرعية العملية؛ لأنه إذا علم أن المفتى أفتى بهذا الحكم، وأن ما أفتى به المفتى، فهو حكم الله تعالى في حقه لعلم أن هذا حكم الله - تعالى - في حقه، مع أنه لا يسمى فقيها؛ لأنه لا يستدل على أعيانها، فنقول: صيغة المستدل على أعيانها صيغة مفعول ما لم يسم فاعله، وإذا كان الفاعل لم يذكر فنقول: هذه الأحكام التى حصلت للمقلد هي مستدل على أعيانها؛ لأن المجتهدين استدلوا على أعيانها، فما خرج المقلد بهذا القيد فإن قلت: يرد عليه أيضا أن العلم ليس حاصلا للمقلد، فإن إحدى المقدمتين غيرُ معلومة وهي الكبرى. أما قوله: هذا أفتانى به المفتى، فمعلوم له بالجنس. وأما قوله: وكل ما أفتى به المفتى، فهو حكم الله تعالى قطعا، فهذا إنما يحصل لمن علم أن الإجماع انعقد على أن حكم الله - تعالى - في حق المقلدين ما أفتاهم به المجتهدون، وهذا الإجماع أولا غير صحيح، فإن الإمام قد حكى في كتاب ((الاجتهاد)) أن معتزلة ((بغداد)) قالوا: لا يجوز للعامى تقليد المجتهدين. وقال الجُبَّائى: لا نجوزه في غير مسائل الاجتهاد، سلمنا حصول

السؤال الرابع

الإجماع، لكن من أين لهذا العامى العلم به؟ بل أكثر الفقهاء لا يعرفه ولا شعور له به، وإذا لم يحضر العلم بالإجماع في ذهن العامى، لا تكون المقدمة الثانية معلومة له لعدم موجب للعلم من ذهنه، فلا يكون العلم حاصلا للعامى، بل عنده ظن نشأ عن ظاهر حال المفتى، وهو أن الظاهر من حال من انتصب للفتيا بين المسلمين ألا يفتى إلا بحكم الله تعالى، أما القطع فلا، فعلى هذا يكون العامى خارجا عن الحد بقوله في القيد الأول العلم بالأحكام، فهذا القيد حَشْو في الحد، والحشو في الحدود لا يجوز. قلت: أما خلاف معتزلة ((بغداد))، فمسبوق بإجماع الصحابة -رضي الله عنهم- فإنهم ما كانوا يُنكرِون على جُلف الأعراب وعوام الناس استفتاءهم لفقهاء الصحابة، بل لو أقدموا على التصرفات بغير استفتاء ذموهم، فالإجماع حاصل. وأمَّا أنَّ هذا الإجماع يجهله كثير من الفقهاء فضلا عن العوام فصحيح، غير أن الحدود يحترز فيها عن النقوض، وإن كان وقعها نادرا جدا، وليس من المستحيل في مجارى العادات اطِّلاع جماعة من العوام الذين يخالطون الفقهاء والفضلاء من غير اشتغال بالفقه أن يطلعوا على هذا الإجماع، فتلك الطائفة إذا استفتت حصل لها العلم، لأن المقدمتين عندها معلومتان، فاندفع السؤال بهذه الطائفة وإن قلَّت. السؤال الرابع: على قوله: ((على أعيانها)) لفظ العَيْن ظاهر في إرادة أشخاص الأحكام، وحينئذ يقال: ما مرادك بقولك: على أعيانها؟ أتريد أن على كل عَيْن من أعيان الاحكام دليلا يخصه؟ أو تريد أن الاستدلال يقع في كل عين ولو بدليل عام؟ إنْ أردت الأول خرج الفقه من الحد، فإنه لا يوجد غالبا أدلة خاصة بأعيان المسائل، بل إنما تثبت الأحكام في أعيان المسائل بعموم الأدلة، وفتجب الزكاة في هذا المال المخصوص بعموم قوله تعالى: ((وآتوا الزكاة))

السؤال الخامس

ويجب حد الزنا بعموم قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} وكذلك بقية الأحكام، وإن أردت أن الاستدلال يقع في أعيان الأحكام بالدليل العام به من العامى في كل مسألة جزئية فأحد الأمرين لازم. إما خروج الفقهاء من الحد، أو دخول العوام، وكلاهما يبطل الحد، فلو قال المستدل على أعيانها بأدلة تخص أنواعها استقام، فإن الأدلة المختصة بالأنواع لم توجد إلا في أنفس الفقهاء. السؤال الخامس: على قوله: بحيث لا يُعلم كونها من الدين ضرورة، وقال: احترزت به عن وجوب الصلاة والصوم، فإن ذلك لا يسمى فقها، فنقول: إذا كانت شعائر الإسلام ضرورية من الدين كيف يبقى بعد قولكم: المستدل على أعيانها؟ فإن العلم الضرورى إذا حصل بالشيء تعذّر اكتسابه بالدليل، فحينئذ قد خرجت شعائر الإسلام بقولك: المستدل على أعيانها، فيكون هذا القيد حشوا تأباه الحدود. فإنْ قلت: الضرورة لا تمنع الاستدلال لا في العقليات ولا في الشرعيات. أما في العقليات فإن حدوث العالم وغيره تقام عليه الأدلة الكثيرة واحدا بعد واحدٍ، مع أنه قد حصل العلم الضرورى بالأوّل. وأما في الشرعيات فلأنا نستدل في جميع الأعصار والأمصار على وجوب الصلاة بقوله تعالى: {أقيموا الصلاة} وبِقولِه عليه السلام: ((بُنىَ الإسلامُ على خمسٍ)) عقلا وشرعا، فعلمنا أن الضرورة لا تنافي الاستتدلال كان الضرورى عقليا، أو شرعيا.

قلت: الذي تقرر في علم المعقول أن العلم الضرورى لا يقبل الزيادة. قال الإمام في ((المحصل)): إذا أقمنا على المطلب دليلا، وحصلت الضرورة به، ثم أقمنا أدلة أخر بعده، فليس المقصود حصول العلم بذلك المطلوب، وإلا لزم تحصيل الحاصل، بل المطلوب كون تلك الأدلة أدلة على ذلك المطلوب، فالمتحصل بها كونها في أنفسها أدلة، لا حصول العلم بذلك المطلوب، كما إذا طلبت دار الأمير فعرفت الذهاب إليها بطريق وعلمت دار الأمير والطريق إليها، فلك أن تسأل عن أخرى، وهل هذه الطريق أيضا

السؤال السادس

تُفضِى إلى دار الأمير كما أفضت الطريق الأولى؟ وليس مقصودك تعرف دار الأمير، بل كون الطريق الثانية هل هي طريق أم لا؟ وكذلك شعائر الإسلام العلم بها حصل، وإنما يقصد معرفة ما ورد فيها من الأدلة الشرعية نصا، أو قياسا، وكيف يمكن غير ذلك، وهي إنما تفيد بعمومها الظن، والقطعى يستحيل اكتسابه من الظنى؟ السؤال السادس: قال النَّقْشَوَانى: احتزاره بالشرعية عن الأحكام العقلية لا يصح؛ لأن التماثل والاختلاف، وكل ما في العالم مخلوق لله تعالى، والله - تعالى - هو الشارع، فكلها شرعية.

...............................................................................

السؤال السابع

وجوابه من وجهين: أحدهما: أنّ قولنا: الشرعية إشارة إلى الشرعيات الصادرة عن الله تعالى، لا إلى الله - تعالى - من حيث هو هو، وما في العالم إنما يضاف إلى الله - تعالى - من حيث قدرته لا من حيث شرائعه، فليس في العقلية نسبة الشرعية، بل نسبة القدرة والتأثير. وثانيها: أن من المعقولات ما لا مدخل لقدرة فيه ألبتة، بل هو كذلك بذاته، ولا يضاف إلى شيء، ولا يُنْسب إليه في تحصيله على تلك الهيئة كاستحالة المستحيلات، ووجوب الواجبات، وإمكان الممكنات، ومناقضة العدم للوجود، ومضادة السواد للبياض دون الحركة، ونحو ذلك كثير، ولو قطعنا النظر عن إثبات الصانع لجزمنا بهذه الأمور، فليست ناشئة عن الربوبية ألبتة، بل هي في نفس الأمر كذلك، وإن جُهلت لنا، فأمكن الاحتراز عنها. السؤال السابع: قال التبريزى والنقشوانى: لا يحسن الاحتراز عن شعائر الإسلام التى هي ضرورية من الدين كالصلاة والصوم، فإن الفقه كان

السؤال الثامن

حاصلا للصحابة رضوان الله عليهم، ولم تكن ضرورية حينئذ، وفقه الصحابة -رضي الله عنهم - يجب أن يتناوله الحد. وجوابه إنما حدُّ الفقه في اصطلاح العلماء اليوم في عصرنا، وفقه الصحابة رضي الله عنهم لم يكن يسمى فقها ذلك الوقت باصطلاح، بل بوضع اللغة فقط، واصطلاحنا اليوم يتناوله من جهة أنه نظرى، ولما صار ضروريا من الدين لم يصدق عليه حينئذ فقه اصطلاحا، كما أن الظن إذا صار علما لم يصدق عليه اسم الظن بسبب انتقاله لحالة أخرى، وكذلك علم الصحابة رضوان الله عليهم بأصول الفقه، وأصول الدين وجميع المعلومات، كان يسمى فقها لغة، ولا يتناوله اصطلاح العلماء في لفظ الفقه. السؤال الثامن: قال ((صاحب الوافي)): الحد ينتقض بعلم الله - تعالى - وعلم جبريل عليه السلام؛ لأنه متعلق بهذه الأحكام الشرعية المخصوصة، ولا يسمى فقها في العرف، ولا يرد هذا النقض على صاحب ((التحصيل)) لقوله: ((الاستدلال)) ولم يقل: ((المستدل على أعيانها))، بل قال: الفقه العلم بالأحكام التى هي كذا وكذا بالاستدلال؛ لأن هذا العلم ليس بالاستدلال. ((تنبيه)) وافق صاحب الكتاب ((المنتخب))، وقال سراج الدين: الفقه العلم بالأحكام الشرعية العملية التى لا يعرف بالضرورة كونها من الدين، إذا حصل بالاستدلال على أعيانها فيسقط عنه ما في السؤال الثالث من

رد قول من قال الفقه من باب الظنون فكيف جعل علما

الأحكام التقليدية استدل عليها المجتهد؛ لأنه إنما ورد لأن الصيغة منفية لما لم يسم فاعله، وهاهنا ليس كذلك. وقال في الحاصل: الشرعية المدلولة مع جملة قيود الكتاب، وهي في معنى لفظ الكتاب، فإنَّ اسم المفعول في معنى الفعل الذي لم يسم فالعه. وقال التبريزىٌّ: ((الفقه فهم الأحكام الشرعية العملية)). ويرد عليه ما احترز عنه الإمام من أصول الدين، وأصول الفقه المطلوبين للشرع، وما عند المقلد وشعائر الإسلام. قولُه: ((فإنْ قلت: الفقه من باب الظنون فكيف جعلته علما؟)). قلت: المجتهد إذا غلب على ظنه مشاركة صورة لصورة في مناط الحكم قطع بوجوب العمل بما أدى إليه ظنه، فالحكم معلوم قطعا، والظن وقع في طريقه. تقريره بيان أن الأحكام الشرعية معلومة بأن تقول: يدل على ذلك برهانان قطعيان: الأول: أن نقول: كل حكم شرعى ثابت بمقدمتين قطعيتين، وكل ما هو ثابت بمقدمتين قطعيتين فهو معلوم، فكل حكم شرعى معلوم إنما قلنا: إنه ثابت بمقدمتين قطعيتين؛ لأنا نفرض الكلام في حكم، ونقرر فيه تقريرا نجزم باطراده في جميع الأحكام. فنقول: وجوب النية في الصوم مظنون لمالك قطعا عملا بالوجدان؛

لأنه يجد الظن في نفسه قطعا، وكل ما هو مظنون لمالك، فهو حكم الله تعالى قطعا في حقه، وحق من قلده إذا حصل له سببه. وهذا التقرير نجزم باطراده في جميع الأحكام، فيكون كل حكم شرعة ثابتا بمقدمتين قطعيتين: الأولى: وجدانية. والثانية: إجماعية، وكلاهما قطعي، فتثبت أن كل حكم شرعة ثابت بمقدمتين قطعيتين. وأما أن كل ما هو ثابت بمقدمتين قطعيتين فهو معلوم؛ فلأن النتيجة تابعة للمقدمات، فيكون كل حكم شرعى معلوما وهو المطلوب. وقولنا: في حقه وحق من قلده لانعقاد الإجماع على أن وجوب البسملة لا يلزم المالكية ولا مالكا، ووجوب مسح جميع الرأس لا يلزم الشافعية ولا الشافعى، ولا يعصون بترك ذلك.

.....................................................................

.....................................................................

بل كل منهم مطيع بفعل ما غلب على ظنه، كالمجتهدين في جهات الكعبة إذا غلب على ظن أحد منهم ضد ما غلب على ظن الآخر، فإنه لا يعصى بترك ما غلب على ظن صاحبه، بل يعصى بترك ما غلب على ظنه، وكل واحد منهما حكم الله - تعالى - في حقه ما أدى إليه اجتهاده من الجهات، فكذلك أفعال المكلفين يكون الفعل الواحد حراما حلالا بالنسبة إلى شخصين، كما تكون الميتة حراما حلالا بالنسبة إلى شخصين: المختار والمضطر، ونزل الشرع ظنون المجتهدين منزلة أحوال المكلفين من الاضطرار والاختيار، فالظنان المختلفان كالصفتين من الاضطرار والاختيار، والكل طرق إلى الله تعالى وأسباب السعادة الأبدية. وقولنا: ((إذا حصل له سببه)) احترازا من أن يجتهد المجتهد في أحكام الصرف ولا مال له، أو في الزكاة ولا نصاب عنده، أوفي الجنايات ولا مجنى له أو في الأقضية ولا حكم له، أوفي أحكام الحيض والعدد، وهو رجل لا يتأتى ذلك منه، لكنه بحيث لو حصل له ذلك السبب كان حكم الله - تعالى - في حقه بمقتضى ذلك السبب. وينبغى أن يعلم أنه ليس من شرط الوجوب أن يكون ممكنا، بل قد يكون مستحيلا، كقولنا: إن كان الواحد نصف العشرة، فالعشرة اثنان، وهو كلام صحيح، فقد قال الله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، فغلبوا الفساد على وجود الشريك، وهو مستحيل، فعلى هذا قولنا: ((إذا حصل له سبب)) يدخل فيه الممكن كمِلْك النصاب، والمستحيل عادة كأحكام الحيض، ونحوها في حق المجتهدين الرجال، ويصير القيد شاملا لجميع الأحكام.

البرهان الثاني

وقولنا: ((حكم الله - تعالى - في حقه))، ولم نقل: يجب عليه العمل بمقتضى ظنه؛ لأن الاجتهاد قد يُفضِى إلى إباحة مباح، فلا يجب العمل لتعذر الوجوب في المباح، وكذلك المندوب والمكروه والحرام. فإن قلت: هذه الأحكام كلها وإن لم يجب فيها مباشرة الفعل، لكنه يجب اعتقاد الإباحة والندب ونحوهما. قلت: الاجتهاد ما وقع في الاعتقاد، إنما وقع في الفعل ما حكم الله - تعالى - فيه، فأداه اجتهاده إلى إباحة ذلك الفعل، فالفعل هو المحترز منه، لا اعتقاد حكمه، وإن كان الاعتقاد قد وقع فيه الاجتهاد أيضا، لكن معنا أمران مُجتهد فيهما: أحدهما: يجب وهو الاعتقاد. والآخر: لا يجب وهو الفعل، فيجب الاحتزار عنه، وهذا التقرير يظهر بطلان قول من يقول: الثابت بالإجماع إنما هو وجوب العمل لا الحكم، وهل وجوب العمل إلا الحكم؟ وكيف ينطقون بوجوب العمل ولا يعتقدونه حكما؟ وكيف يخصصون وجوب العمل مع أن الاجتهاد قد يقع في المباح وغيره؟ ولا يمكن حمله على وجوب الفتوى، فإن المجتهد قد يتعين له الحكم بالإجماع، ولا يفتى به لكونه خاصا به في واقعة وقعت له، أو أنه لم يسئل عنه، أو يسئل ولا يجيب لكون غيره قد قام مقامه في الفتوى، فسقط عنه الوجوب، فالقول بوجوب العمل لا يصح كما قاله الإمام وغيره، ومن قال بوجوب العمل فهي هفوَةٌ منه، فليراجع ذهنه. البرهان الثاني: نقول: ((كل حكم شرعى ثابت بالإجماع، وكل ما هو ثابت بالإجماع فهو معلوم، فكل حكم شرعى معلوم)). إنما قلنا: إن كل حكم شرعى ثابت بالإجماع، لأن الأحكام قسمان:

ستة أسئلة على البرهانين

منها: ما اتفقت الفتاوى عليه، وظاهر أنه ثابت بالإجماع. ومنها: ما اختلفت الفتاوى فيه، وقد انعقد الإجماع على أن كل مجتهد إذا استفرغ جهده في طلب الحكم الشرعي، وغلب على ظنه حكم فهو حكم الله - تعالى - في حقه وحق من قلده، إذا حصل له سببه، فقد صارت الأحكام في مواقع الخلاف ثابتة بالإجماع عند الظنون، فثبت أن كل حكم شرعى ثابت بالإجماع. وأما أن كل ما هو ثابت بالإجماع، فهو معلوم، فلأن الإجماع معصوم على ما يأتى تقريره في كتاب الإجماع إن شاء الله تعالى، فثبت أن كل حكم شرعى معلوم وهو المطلوب. وعلى البرهانين ستة أسئلة: أحدها: لا نسلم انقعاد الإجماع على أن ما غلب على ظن المجتهد هو حكم الله تعالى في حقه، وحق من قلده إذا حصل له سببه. وثانيها: سلمنا انقعاد الإجماع على ذلك، لكن الإجماع ظنى عند الإمام، ولأن أدلته ظنية فهو ظنى، فإن ظواهر النصوص إنما تفيد الظن، وإذا كان ظنيا لايحصل العلم؛ لأن النتيجة تابعة للمقدمات. وثالثها: سلمنا أنه قطعى، لكنه ادَّعى في كتاب الإجماع أنه ظنى، فكيف يدعى هاهنا أن الحكم الشرعى معلوم بناء، فإنه تناقض، فنحن نلزمه مذهبه في الإجماع، وإن كان مذهبا باطلا، فإن النقض والإلزام يردان بمعتقد من يرد عليه ذلك، ولا يشترط وقوع ذلك الأمر في نفس الأمر. ورابعها: أن الأمارات أكثرها غير متفق عليها، فإذا افتى مفت بناء على أمارة مختلف فيها، كيف يوافقه غيره إلا أن ذلك حكم الله تعالى، مع اعتقاده بطلان مستنده، وأنه أفتى غير مستند، والفُتيا بغير مستند باطلة

إجماعا؟ فلا يتصور حصول الإجماع في هذه الصورة، فلا تصدق الكلية وهي أن كل حكم شرعى ثابت بالإجماع؛ لأنكم تعنون بالحكم الشرعى: ما أفتى به المجتهدون لا الواقع في نفس الأمر. وخامسها: أنَّ من الأحكام ما ينقض إذا حكم به حاكم، وهو ما خالف أحد أمور أربعة: الإجماع والنص والقياس الجلى والقواعد، على ما بُسط وقرر في الفقه، وما لا يقرر بعد تأكده بحكم الحاكم أولى ألا يقرر في الشريعة قبل تأكده بالحكم، فلا يتكون تلك الفتاوى مُتَّفقا على أنها حكم الله تعالى، فلا تصدق الكلية أن كل حكم أفتى به المفتى ثابت بالإجماع. وسادسها: سلمنا جميع ما ذكرتموه، لكنه إنما يتم إذا قلنا: إن كل مجتهد مصيب، أما إذا قلنا: إن المصيب واحد ليس مرسلا، وهو الصحيح، تكون جميع الفتاوى ما عداه خطأ، والخطأ لا يكون حكم الله تعالى بالإجماع، بل معفو عنه، أما أنه حكم الله تعالى في نفس الأمر فلا، فضلا عن دعوى الإجماع فيه. والجواب عن الأول: أن الحكم بالراجح من الدليلين معلوم بالضرورة من دين محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ فإن الاجتهاد مشروع بالضرورة، فعند التعارض محال بالضرورة أن يقال بترك الراجح لأجل المرجوح، فيتعين ترك المرجوح لأجل الراجح، ولأنه ليس مطلوب المجتهدين في جميع الأعصار والأمصار إلا الراجح ليحكموا به، فإن التعارض معلوم الوقوع بالضرورة بين الظواهر والأقيسة، والقواعد، وطلب السالم عن المعارض محال، بل المطلوب الراجح ليس إلا، ومن استقرأ هذه الأمور علم أن القضاء بالراجح معلوم من الدين بالضرورة. وفي التفاوى، والأقضية، وقيم الُمتلفات، وأُرُوش الجنايات، وإذا كان القضاء بالراجح معلوما من الدين بالضرورة،

فالأولى أن يكون مجمعا عليه، لاستحالة حصول الخلاف فيما هو معلوم منا لدين بالضرورة، وقد نقل هذا الإجماع جماعة من الأصوليين. وعن الثاني: أن الإجماع قطعى ومخلافه كافر، بل قواعد أصول الفقه كلها قطعية، غير أن القطع لا يحصل بمجرد الاستدلال ببعض الظواهر، بل بكثرة الاستقراء لموارد الأدلة، ومن كثرت مطالعته لأقضية الصحابة رضوان الله عليهم، واستقراؤه لنصوص الكتاب والسنة حصل القطع، غير أن ذلك يتعذر وضعه في كتاب، فوضع في الكتب ما تيسر وضعه، وما ذلك إلا كشجاعة على وسخاء حاتم. لو لم نجد فيهما حكاية موضوعة في كتاب واحد لم يحصل لنا القطع بهما، لكن القطع حاصل بهما بكثرة الاستقراء، والمطالعة التى لا يوجد مجموعهما في كتاب واحد، فلذلك قلنا: إنا قاطعون بشجاعة على وسخاء حاتم، كذلك من أراد القطع بقواعد أصول الفقه من الإجماع والقياس وغيرهما، فلتيوجه للاستقراء التام في أقضية الصحابة، ومناظراتهم، وأجوبتهم وفتاويهم، ويكثر من الاطلاع على نصوص السنة والكتاب، فيحصل له من جميع ذلك ومن القرائن الحالية، والسياقات اللفظية، القطع بهذه القواعد، الغفلة عن هذا المُدرك هو الموجب لقول من قال: الإجماع ظني، لأنه لم يطلع إلا على نصوص يسيرة في بعض الكتب، فهو كم لم ير لحاتم غير حكايات يسيرة في بعض الكتب، فلا يجد في نفسه غير الظن،

فيقول سخاء حاتم مظنون، مع أنه في نفس الأمر مقوطع به عند غيره ممن كمُل استقراؤه. هذه قاعدة جليلة شريفي ينبغى أن يتفطَّن لها، فإنها أصل كبير من أصول الإسلام، وهو سر قول العلماء: إن قواعد الدين قطعية، وعدم العلم بها هو سبب المخالفين في ذلك، ومثال الفريقين كفريقين تواتر عند أحدهما قضية لم تتواتر عند الآخر، ففتى كل واحد منهما على مدركه من الظن والقطع، وقد تكون الرسالة المحمدية لم تبلغ لبعض الناس، وقد تبلغ بأخبار الآحاد، ولا يقدح ذلك في أنها قد قطع بها في نفس الأمر. وعن الثالث: أنه وإن ادعى ذلك، فإنَّه لم يفرع عليه، بل فرع على مذهب الجماعة، فالتفريع صحيح، والإلزام صحيح. وعن الرابع: أن الأمارة وإن اختلتف فيها فالفتيا عليها، كالفتيا بالحكم المختل فيه، فحكم الله - تعالى - في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده في المدرك المختلف فيه، والحكم المختلف فيه، نعم لو حكم لمدرك مجمع على بطلانه لم نقل إنه حكم الله - تعالى - في حقه، إلا أن يكون قد التبس عليه، أما مع العلم بأنه غير مدرك فليس بحكم الله - تعالى - في حقه إجماعا. وقد حكى الغزالى في ((المستصفى)) على أن المجتهد إذا أخطأ

الإجماع فحكم الله - تعالى - في حقه ذلك الحكم المخالف للإجماع بالإجماع حتى يطلع على مخالفته للإجماع، ولأجل للبس، وإذا انعقد الإجماع في المخالف للإجماع بسبب اللبس فغيره بطريق الأولى، فالحكم في المدارك كالحكم في الفتاوى، لأن كونه مدركا فتيا مختلف فيها فالبابان واحد، والمختلفون سواء في ذلك، وحكم الله - تعالى - ما غلب على الظنّ، فالأمارة ومدلولها بالإجماع فهما كلاهما سواء، ولو اقتضى الخلاف في الأمارة أن يعتقد المخالف أنه أفتى بغير دليل لاعقتد في فتياه في الحكم الذي يخالف فيه أنه أفتى بغير حكم الله تعالى، ومتى أفتى بغير حكم الله - تعالى - لا يجوز اتباعه، لكن الإجماع منعقد على وجوب الاتباع في مسائل الخلاف وغيرها ما لم تخالف الأمور الأربعة الموجبة لنقض الحكم المتقدم ذكرها. نعم إن كان المفتى بالمدرك المختلف فيه يعتقد بطلانه وغلط فيه، فهذا ينقض إذا اطلع عليه، وهو حكم الله - تعالى - في حقه حتى يطلع عليه، كما قلنا في مخالف الإجماع حتى يطلع عليه. وعن الخامس: أن ما ينفقض من الأحكام هو حكم الله - تعالى - في حق من لم يطلع على سبب النقض حتى يطلع عليه، وحكى الإجماع في ذلك، والعجب ممن ينكر الإجماع في الحكم بالراجح في مواطن الخلاف مع وجوده في الحكم بما يخالف الإجماع لأجل الراجح في ظن المجتهد. وعن السادس: أنّ كل حكم شرعى معلوم على التقديرين، أما إن قلنا: إن كل مجتهد مصيب فظاهر، وأما القول بأن المصيب واحد، فالفقه إنما هو العلم بما ظهر على ألسنة المجتهدين، لا بما عند الله تعالى. فإذا قلنا في الحد: الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية إنما نريد ذلك؛ لأنا

نحُدُّ الفقه في العرف وهذا هو الذي في العرف، وإذا انعقد الإجماع على أن من غلب على ظنه ما هو على خلاف الإجماع أن حكم الله - تعالى - في حقه ما غلب على ظنه حتى يطلع على الإجماع، فأولى أن يكون في حكم الله - تعالى - في حقه ما هو على خلاف شيء في نفس الأمر لم يطلع عليه، ويكون نظير هذه المسألة أن الكعبة معينة في نفس الأمر للصلاة بالإجماع، ومع ذلك إذا اجتهد فيها عشرة فصلوا العشر جهات، فحكم الله - تعالى - في حق كل مجتهد منهم أن يصلى لجهته التى غلبت على ظنه؛ وكذلك من قلده ممن يجوز له التقليد حتى يطلع على بطلانها، كذلك هاهنا غاية هذا الحكم في نفس الأمر أن يكون كالكعبة إذا أحيطت، فإنه مختلف فيه وتعيين الكعبة متفقه عليه، فهذه الأحكام المختلف فيها الصادرة عن ألسنة المجتهدين وفكرهم، وبذل جهدهم معلومة مجمع عليها حتى يعلم أنها مخالفي لحكم الله - تعالى - في نفس الأمر. واعلم أنك إذا لاحظت مسألة القبلة والأوانى والاجتهاد فيها، ومسألة

الميتة وكونها حراما حلالا لشخصين باعتبار صفتين، وأن الصفتين كالظنين في المجتهدين، ولاحظت أنَّ من وجد جلابا فظنه خمرا، فإنه يحرم عليه بالإجماع حتى يطلع عليه أو خمرا يظنه جلابا، فإنه مباح له بالإجماع، حتى يطلع على كونه خمرا، أو أجنبية يظنها امرأته، أو امرأته يظنها أجنبية، ونحو ذلك من الصور والنظائر، فإن الأحكام فيها تابعة لما في النفوس دون ما في نفس الأمر، فإنَّ ذلك يسهل عليه معرفة هذه المسألة، وقد أطلت الكلام فيها بتقارير جليلة رجاء إيضاحها، واقتصرت عليها مع القدرة على الزيادة في ذلك، فإنى رأيت كثيرا من الفضلاء ينكرونها، ويقولون: كيف يتصور أن تكون جميع الأحكام الشرعية معلومة، مع أنها مبنية على ظواهر العمومات، وأقيسة الشبه وغيرهما؟ وفيما ذكرته كفاية في إزالة هذه الشبهة من بواطنهم.

((تنبيه))

((تنبيه)) وافق الإمام في دعوى أن الأحكام الشرعية معلومة شيخ الأصوليين القاضى أبا بكر الباقلانى. حكاه المَازَرىُّ عنه في ((شرح البرهان))، ووافقه إمام الحرمين والغزالى، وابن برهان، وسيف الدين الآمدى، والأبيارى. وحكى الإجماع في أن الراجح يجب الحكم به، وصاحب ((المعتمد)) وصاحب ((الوافي)) جمهور من تحدث في هذا العلم، كلهم يقولون:

الأحكام الشرعية معلومة، ووافقه من المختصرين للمحصول ((المنتخب)) و ((الحاصل)) و ((التحصيل))، وخالفه التبرزى، فقال: من الأحكام ما يعلم ومنها ما يظن، ووقع في الوهم الذي وقع فيه غيره. قال ابنُ بُرْهَان في كتاب ((الأوسط)): والحكم عند ظن المجتهد الناشيء عن الأمارة معلوم مقطوع به بالإجماع، كما أن الحاكم إذا شهدت عنده البينة غلب على ظنه صدقهم، وقطع بوجوب الحكم عليه بالإجماع عند ذلك الظن، حتى لو استحل عدم الحكم حينئذ كفر لتركه مقطوعا به وكذلك إذا قال الله تعالى: إذا شككتم في يوم هل هو من رمضان في آخر أم لا؟ أوجبته عليكم، فنحن نقطع بوجوبه علينا عند الشك، ويصير الحكم متعلق الشك، والقطع من وجهين مختلفين، وهذا كلام حسن. وأما قوله: ((الظن واقع في طريقه)). فوافقه على هذه العبارة ((المنتخب)) و ((التحصيل))، وخالفه صاحب ((الحاصل))، فقال: المظنون طرائقها لا هي، فجمع الطرائق، وغيره وحد كما وحد صاحب الأصل في ((المحصول)) فيظن أن الجمع إشارة إلى الطرق المثيرة للظن الذي يحكم عنده الإجماع بأنه المظنون حكم الله - تعالى - في

((تنبيه)) إذا اجتمع في الحكم الشرعى دليلان يدلان عليه

حق المجتهد كالعموم والقياس، ونحو ذلك، وعبارة الوحدة تحتمل ذلك، وتحتمل أن الظن وقع في الطريق الدال على كون الأحكام معلومة، وقد تقدم طريقان، بمعنى أن الظن متعلق المقدمة الوجدانية التى تقدم ذكرها وواقع عند المقدمة الإجماعية، فإن الإجماع متعلقه الحكم لا الظن، بل هو واقع عند الظن بخلاف الوجدان متعلقه الظن، وهذا أقرب للفظ المحصول؛ لأنه قال: ((الظن واقع في طريقه))، وتلك الأمارات من العموم، والقياس، ونحوهما مثيرة للظن، لأن الظن واقع فيها، بل بها لا فيها. وقول صاحب ((الحاصل)): ((المظنون طرائقها)) عبارة حائدة عن السنن، فإن الطرائق إن أراد بها ما ذكرته من الأدلة الدالة على كون الأحكام معلومة، فليست مظنونة، وإنْ أراد القياس ونحوه، فوجودها أيضا معلوم واستلزامها مظنون، فلا يقال: هي مطنونة، فعبارة الإمام والجماعة أسد. ظ وفي كلام الإمام إشارة أخرى حسنة، وهي أن الظن إنما يقدح في النتيجة إذا كان جراء الطريق بأن تكون إحدى المقدمتين ظنيَّة، أما إذا لم يكن جراء الطريق، بل واقعا فيه لا يقدح في النتيجة، والظن هاهنا خارج عن المقدمتين، والمقدمتان معلومتان. ((تنبيه)) إذا اجتمع في الحكم الشرعى دليلان يدلان عليه؛ القياس مثلا، وهو ظنى، والبرهان المتقدم ذكره، وهو قطعى؛ فكان الحكم معلوما لأجل الدليل القطعى، ولم يكن ظنيا. لأجل الدليل الظنِّى، ولو اجتمع مقدمتان ظنية وقطعية، كان المطلوب ظنيا لأجل المقدمة الظنية، ولم يكن قطعيا لأجل المقدمة القطعية، والفرق أن المقدمة القطعية تتوقف إفادتها على المقدمة الظنية، فلا نقطع بالمطلوب لتوقف القطعى على الظنى، فلا يوثق بهما معا.

((فائدة)) متى قال الإمام في السؤال: لا يقال فالسؤال عنده ضعيف

والدليل القطعى لا تتوقف إفادته للعلم على الدليل الظنَّى، فويق به للعلم بالمطلوب، فلو شهد عدل أن الواحد نصف الاثنين، لم يقدح كون شهادته لا تفيد إلا الظن في كون الواحد نصف الاثنين، لم يقدح كون شهادته لاتفيد إلا الظن في كون الواحد نصف الاثنين معلوما، أو شهد أنَّ الشمس مشرقة، لم يقدح ذلك في إفادة الحسَّ كونها مشرقة، فتأمل الفرق، وبه يظهر لك أن دلالة الأدلة الظنية من العموم والقياس، وغيرهما لا يقدح في إفادة البراهين المفيدة للعلم، ولا في العلم المستفاد من انعقاد الإجماع على أن ذلك المظنون حكم الله - تعالى - في حق من ظنه من المجتهدين. ((فائدة)) متى قال الإمام في السؤال: لا يقال فالسؤال عنده ضعيف؛ لأنه أتى بصيغة النفي في أوله فلا قدم للسؤال في الثبوت. ومتى قال: ولقائل أن يقول: فهو عنده قوى؛ لأنه ابتدأه بلام الاختصاص التى هي للثبوت، فهو متمكن القدم في الثبوت. ومتى قال: فإن قيل؛ أو فإن قلت فهو عنده متقارب في البعد من ظهور الفساد، وللصحة؛ لأن ((إن)) في لسان العرب للشك فلا تدخل ولا يعلق عليها إلا مشكوك فيه، فلا تقول: إن زالت الشمس أكرمتك، فلذلك قال: لا يقال: العلم من باب الظنون لقوة ضعف السؤال عنده. قوله: إضافة اسم المعنى يفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه في المعنى الذي عينت له لفظة المضاف. تقريره: أن الإضافة تقع بين الألفاظ وبين المعانى. أما في الألفاظ فلظهور الأثر بين اللفظين، فتجرد الأول من لام التعريف والتنوين ويتعرف اللفظ الثانى باللفظ الأول. وأما في المعانى؛ فلأن المعنى الأول يتعرف بالمعنى الثانى وينتقل إليه معناه.

فالمضاف للمصدر يصير مصدرا نحو: ضربته أشد الضرب، وإلى الظرف يصير ظرفا نحو: مرت سبع ليال ونحو ذلك، وإذا تقررت الإضافة بين الألفاظ والمعانى، واللفظ متقدم في إضافته على إضافة المعنى؛ لأنه سببه، فلو لم يركب اللفظ لم يتعرف المعنى، فيكون متقدما طبعا، فيتعين تقديمه وضعا، فلذلك قال: إضافة اسم المعنى ولم يقل: المعنى، ومتى أضيف فقيل: زيد كاتب الأمير، وحاجب الوزير، وعدو خالد، وصديق بكر فلا يفهم من الإضافة الأولى إلا اختصاص الكتابة بالأمير، ومن الثانية إلا اختصاص الحجة بالوزير، ومن الثالثة إلا اختصاص العداوة بخالد، ومن الرابعة إلا اختصاص الصداقة ببكر دون ما عدا ذلك، فهو معنى قوله: ((يفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه في المعنى الذي عينت له لفظة المضاف)). أى: لا يقع الاختصاص إلا في مسمى لفظة المضاف فقط، من ذلك الوجه، ومقصوده بهذا التنبيه أن أصول الفقه مضاف ومضاف إليه، فيختص الأصول بالفقه من جهة أنها أدلة له لا من وجه آخر، فإنها أصوات وأعراض وممكنة ومصادر سيَّالة وغير ذلك، ومع ذلك فلا تختص بالفقه إلا من جهة أنها أدلة، وهي الجهة التى عينت لها لفظة المضاف. قوله: ((أصول الفقه مجموع ((طرق)) الفقه على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها، وكيفية حال المستدل ((بها)) إلى آخر الفصل. تقريره: أن الأصل له أربعة معانٍ: واحد منها لُغوى، وثلاثة اصطلاحية. فاللغوى: أصل الشىء منشؤه الذي تفرع عنه، نحو أصل النخلة نواة، والإنسان نطفة كما تقدم في تعريف الأصل. والاصطلاحية: أصل الشئ دليله، ومنه أصل هذه المسألة الكتاب والسنة

((تنيبه)) مقتضى قوله أن تكون أصول الفقه كلها ثلاثة أجزاء لا رابع لها

والإجماع أى أدلتها، ومنه أصول الفقه، وأصل الشئ رجحانه عند العقل، ومنه الأصل براءة الذمة أى الراجح؛ لأن الإنسان ولد بريئا من الحقوق كلها، فإذا خطر ببالنا أن ذمته اشتغلت بحق الله تعالى، أو للخلق، أو لم تشتغل؛ ولم يقم دليل على شئ من ذلك كان احتمال عدم الشغل راجحا على احتمال الشغل في العقل، ومنه الأصل في الكلام الحقيقة، أى هي الراجحة عند السامع على المجاز، والأصل عدم الاشتراك أى الراجح عدم الاشتراك على الاشتراك، والأصل بقاء ما كان على ما كان أى الراجح بقاؤه على تغيره عن حاله، والأصل الرابع الصورة المقيس عليها في القياس، فإنهم يسمونها أصلا، وليست من هذه الأقسام، فالأصول حينئذ أربعة متباينة بالحد، والحقيقة واللفظ بينهما مشترك. ((تنيبه)) مقتضى قوله أن تكون أصول الفقه كلها ثلاثة أجزاء لا رابع لها، وإن طالت المصنفات فيها وكثرت، الأدلة والاستدلال والمستدل. فالأول: الأوامر والنواهي والعموم والقياس والإجماع ونحوها. والثانى: التعارض والترجيح. والثالث: هو باب المجتهد وصفته والمقلد وصفته، وعلى كلامه خمسة أسئلكة: الأول: أن قوله: ((مجموع طرق الفقه))، وقال: احترزت به عن الباب الواحد يلزمه أحد الأمرين: إما أن يقول في حد الفقه: مجموع أبواب الفقه، ألا يقول هاهنا لفظ المجموع. وتقريره: أن للفقه أبوابا أكثر من أبواب أصول الفقه بكثير، وأهل العرف يسمون فقيها من عرف جملة غالبة من الفقه كما تقدم تقريره،

وكذلك من عرف جملة غالبة من أصلو الفقه سمونه أصوليّاً، ولا يمكن لأحد أن يقول: إن من جهل بابا واحدا من أصول الفقه وإن صغر، وإن قل أن أهل العرف يمتنعون من إطلاق الفظة الأصولى عليه، بل بعض الكتب المختصرة لم تستوعب فيها أبواب أصول الفقه، ومع ذلك يسمون العالم بها أصوليا كما يسمون العالم بمختصرات الفقه فقبها لكونه حصَّل جملة غالبة في الموضعين، بل المخالف في صيغة العموم والأمر كالقاضى ونحوه يلزم ألا يسمى أصوليّا عند خصومه، وكذلك كل أصولى خالف أصلا لا ختلال المجموع بالقياس إليه، وإذا استوى البابان لزم احد الأمرين ضرورة، والذي يظهر أن الإسقاط في اشتراط المجموع هو الصواب، وقد أسقطه كثير من المصنفين ووافقه أبو الحسين في شرح ((العمد)) وغيره. الثانى: قوله: على سبيل الإجمال مع أنَّ القاعدة أن كل قيد في حد إنما يُحتَرَزُ به من ضده، وقد تقدم أن العلم الإجمالي معرفي الشئ من بعض وجوهه، والتفصيلي معرفة الشيء من جميع وجوهه، تقدم ذلك في أول الشرح مبسوطاً، فحينئذ الإجمال إنما يحترز به عن التفصيل، وقد قال: إنه احترز به عن حال الفقيه في علمه بوجود الأدلة في الصور المعينة، مع أن الفقيه فاته بعض الوجوه، وهو كون تلك الأدلة التى هي حظ الأصولى، فحينئذ كل واحد من الفقيه والأصولى إنما حصل له العلم بهذه الطرق على سبيل الإجمال، فاندرك الفقيه في حد الأصول فما قصد أن يكون مخرجا انعكس موجباً. الثالث: أن وجود الأدلة في صور الأحكام كوجود الحقائق في البقاع والأزمان، ووجود الحقائق في البقاع والأزمان لا يكون وجوها فيها حتى بعد الجهل بها يخل بالعلم بتلك الحقيقة؛ لأن من جهل حقيقة الإنسان وعلم أن منه في الأرض الفلانية، أو الزمان الفلانى أفراداً لا يقال: إنه جاهل بحقيقة

الإنسان، وكذلك من علم حقيقة السواد، فكذلك من علم حقيقة الإجماع، وجهل انقعاده في مسألة القراض لا يقال: إنه جاهل بحيقة الإجما ع؛ لأن وجوده في القراض كوجود السواد في ثوب زيد، وإنما يعد وجها في الحقيقة ما كان قارا فيها، كمن علم الإنسان من جهة كونه ناطقا لا من جهة كونه ضاحكا بالقوة، أو كاتبا بالقوة، ونحو ذلك، فإنه لم يعلم الإنسان على التفصيل، فظهر أن إخراج حظ الفقيه من الأدلة لا يصير العلم بأصول الفقه إجماليا بغير هذا الوجه، أما بهذا الوجه فلا. الرابع: أن من جملة أصول الفقه كيفية حال من لم يجز له الاستدلال بهذه الأدلة على الأحكام ليعتمد على ما يظهر له وهو المقلد، فإن صفته إنما تذكر في أصول الفقه، وما ذكرها كما ذكر صفة المستدل، فإن قال: إن صفته تعلم بطريق اللزوم من معرفة صفة المستدل، بمعنى أن من ليس موصوفا بصفة الاجتهاد فهو المقلد. قلنا: وكذلك تُعْلم صفة المجتهدين من صفة المقلد بطريق اللزوم، بمعنى أن من ليس بمقلد فهو مجتهد، وهذا التعريف المتضارب الشئ لا يجوز في الحدود، فلا يقال في الحركة: ما ليس بسكون، ولا لسكون ما ليس بحركة؛ لأنه تعريف الشئ بما لا يعرف إلا بعد معرفته. الخامس: قال النًّقْشَوَانى: إنه فسَّر الطريق بما يكون النظر الصحيح فيه مقصيا للعلم، أو الظن بالحكم الشرعى، والذي ينظر لتحصيل العلم، أو الظن الخاص هو الفقيه، فيلزم أن يكن أصول الفقه فقهاً، وهذا السؤال غير متجه؛ لأنا إذا قُلْنا في حد الماء: هو الذي إذا شربه الحيوان روى به، فهذا تعريف بخاصة، ولا يلزم دخول الحيوان في حد الماء، وكذلك إذا قلنا:

تنبيه

الشمس هو المستدير الذي يضئ منه العالم، وتغيب لأجله الكواكب، لا يدخل العالم ولا جميع الكواكب في حد الشمس، بل هذا تعريف بخاصة وحيثية في الشمس، أى هو بحيث يكون كذلك، ومتعلق الحيثية لا يدخل فيها، وكذلك هذه حيثيثة في طريق الفقه، ومتعلقها وثمراتها، وجيمع ذلك لا يدخل فيها. ((تنيبه)) وافقه ((المنتخب)) في عبارته ((والحاصل)) أيضا، وقال صاحب ((التحصيل)): جميع طرق الفقه من حيث هي طرق إلى آخره فيرد عليه جميع ما على الأصل إل سؤال الجمال، فعبارته أقرب للصواب. وقال التبريزى: مجموع أدلة الفقه غير أنها لها أجناسا لقولنا: الإجماع وخبر الواحد والقياس واحدا وأشخاصا كهذا الإجماع، وهذا الخبر المعين والعلم بماهية الجنس، وكونه حجة، وشروط اعتباره، وكيفية دلالته هو الملقب بعلم أصول الفقه، وهو المراد بقولههم: على سبيل الإجمال، والعلم بالأشخاص، ووجه دلالتها هو علم الفقه والخلاف، فكذلك هو مجموع أدلة الفقه على سبيل الإجمال، وكيفية دلالتها، وشروط اعتبارها، وكيفية حال المستدل بها، والمقلد له، هذه عبارته، ويرد عليه السؤال الأول والثاني والثالث فقط؛ لأنه ذكر المقلد، ولم يتعرض لتحديد الطرق. ((تنبيه)) قد تقدم من كلام الأبيارى في ((شرح البرهان)) أن أصول الفقه تطلق اسما علماً لعلم مخصوص، وتطلق مضافا للفِقْه. والقسمان مشكلان.

((فائدة)) قال أبو الحسين في شرح ((العمد)): لا يجوز التقليد في أصول الفقه

أما المضاف فلأن المضاف تتوقف معرفته على معرفة المضاف إليه، مع أن المضاف إليه الذي هو الفقه متوقف على أصوله، فيلزم الدور. وأما العلم، فلأن العلم الملقب بأصول الفقه فيه مواد كثيرة كما تقدم، وهي جزء كبير من الفقه للتمثيل، وجزء كبير من العربية لمعرفي أحوال الألفاظ وجزء كبير من أصلول الدين كالحسن والقبح، وصدق النبوة وعصمة الانبياء عليه السلام، وجزء من النحو والتصريف وغير ذلك، وهذه الإجزاء كلها لم يذكرها مع أنها من جملة المسمى، وهو تعرض لجميع الأجزاء، فيكون حده غير جامع على رأيه. ((فائدة)) قال أبو الحسين في شرح ((العمد)): لا يجوز التقليد في أصول الفقه، ولا يكون كل مجتهد فيه مصيبا، بل المصيب واحد بخلاف الفقه في الأمرين. قال: والمخطئ في أصول الفقه ملوم، بخلاف الفقه هو مأجور، فهذه ثلاث قواعد خالف فيها الفقه أصوله؛ لأن أصول الفقه ملحق بأصول الدين، وأصول الدين كذلك، ولم يحك في ذلك خلافا، غير أنك ينبغى أن تعلم أن من أصول الفقه مسائل ضعيفي المدارك كالإجماع السكوتى والإجماع على الحروب ونحو ذلك، فإن الخلاف فيها قوى، والمخالف فيها لم يخالف قاطعا بل ظنا، فلا ينبغى تأثيمه، كما أنَّا في أصول الدين لا نؤثم من يقول: العرض يبقى زمنين، أو ينفي الخلاء، وإثبات الملأ، وغير ذلك

من المسائل التى ليس مقصودها من قواعد الدين الأصلية، وإنما هي من المسميات في ذلك العلم.

الفصل الثانى فيما يحتاج إليه أصول الفقه من المقدمات

الفصل الثانى فيما يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أُصُولُ الفِقْهِ مِنَ المُقَدِّمَاتِ قال الرازى: لَمَّا كان أصول الفقه عبارة عن: مجموع طرق الفقه، والطريق هو الذي يكون النظر الصحيح فيه مفضيا؛ إما إلى العلم بالمدلول، أو إلى الظن به، والمدلول هنا: هو الحكم الشرعى وجب علينا تعريف مفهومات هذه الألفاظ: العلم، وما ذكر معه. ثم ما كان منها بين الثبوت كان غنيا عن البرهان، وما لم يكن كذلك وجب أن يحال بيانه على العلم الكُلِّى الناظر في الوجود ولواحقه؛ لأن مبادئ العلوم الجُزئية لو بُرهن عليها فيها، لزم الدور، وهو محال. قال القرافي: تقريره: أن علم أصول الدين هو أصل العلوم كلها؛ لأنه يتضمن العلم بالوجود، وأقسامه، والعلم بالعدم وأقسامه، والعلم بالعدم وأقسامه، وما هو معلوم خارج عن النقيضين فيبحث في العالم، وأجزائه، وأحواله، وصانع العالم، وصفاته، وأحكامه، وما وراء ذلك من المستحيلات، والممكنات، وغير ذلك من سائر المعلومات. ومن فروعه إثبات النبوات بالنظر العقلى في المعجزات، ومن فروع النبوة علم التفسر، وعلم الحديث وعلم الأصول التى بنبنى عليها الفقه، ونحو ذلك من فروع علم أصول الفقه، فهو الغاية والنهاية، وحيئذ يجب في كل

علم هو فرع عن علم آخر أن توجد مقدمات الأصل مُستسلفة في ذلك الفرع، فتوجد حقائها متصورة كما ثبت في علم الأصل، غي أن على المُصَنَّف مناقشة في قوله: لو برهن عليها فيها، بل كان يقول: لو برهن عليها منها، فإن الدور إنما يأتى بإثبات الأصل بمقدمات الفرع. أما إثبات الأصل في الفرع بمقدمات الأصل نفسه لا يلزم منه الدور، فقوله فيها لا يقتضى أن الإثبات وقع بمقدمات الفرع، فلا يكون الدور لازما. أما مع قوله: منها يكون الدور لازما، وقد صحر صاحب ((الحاصل)) عزو غيره من المختصرين سكت عنه جملة، ويريد بقوله: ماكان محتاجا إلى البرهان أحيل على العلم الكلى إثبات العلم والنظر وجميع الأعراض، فإن هذا إثباته على منكريه هو شأن أصول الدين لا أصول الفقه. ***

الفصل الثالث في تحديد العلم والظن

الفصل الثالث في تحديد العلم والظن هذا المقصود إنما يتحقق ببحثين: الأول: أن حُكم الذِّهن بأمر على أمر، إما أن يكون جازما أولا يكون، فإن كان جازما، فإما أن يكون مطابقا للمحكوم عليه أو لا يكون، فإن كان مطابقا، فإمّا أن يكون لموجب أو لا يكون. فإن كان لموجب: فالموجب إما أن يكون حسيا أو عقليا أو مركبا منهما. فإن كان حسيا، فهو: العلم الحاصل من الحواس الخمسة، ويقرب منه العلم بالأمور الجدانية؛ كاللذة، والألم. وإن كان عقليا، فإما أن يكون المجوجب مجرد تصور طرفي القضيَّة، أو لا بد من شئ آخر من القضايا، فالأوَّل هو: البديهيَّات، والثاني: النظريات. وأمَّا إن كان الموجب مركبا من الحس والعقل، فإمَّا أن يكون من السمع والعقل، وهو المتواترات، أو من سائر الحواس والعقل، وهو التجريبيات والحدسيات، وأما الذي لا يكون لموجب، فهو: اعتقاد المقلد. وأما الجازم غير المطابق، فهو: الجهل.

وأما الذي لا يكون جازما، فالتردد بين الطرفين، إن كان على السوية، فهو: الشك، وإلا، فالراجح ظن، والمرجحوح ونم. الثانى: أنه ليس يجب أن يكون كل تصور مكتسبا، وإلا، لزم الدَّورُ أو التسلسل؛ إمَّا في موضوعات متناهية، أو غير متناهية؛ وهو يمنع حصول التصور أصلا، بل لا بد من تصور غير مكتسب، وأحق الأمور بذلك ما يجده العاقل من نفسه، ويدرك التفرقة بينه وبين غيره بالضرورة. ومنها: القسم المسمى بالعلم؛ لأن كل أحد يدرك بالضرورة ألمه ولذَّته، ويدرك بالضرورة كونه عالما بهذه الأمور. ولولا أن العلم بحقيقة العلم ضرورى، وإلا لامتنع ان يكون علمه بكونه عالما بهذه الأمور ضروريا؛ لما أن التصديق موقوف على التصور، وكذا القول في الظن. ثم العبارة المحررة أن الظن تغليب لأحد مجوزين ظاهي التجويز. وها هنا دقيقة وهي أن التغليب إما أن يكون في المعتقد، أو في الاعتقاد: أما الذي يكون في المعتقد فهو: أن يكون الشيء ممكن الوجود والعدم، إلا أن أحد الطرفين به أولى؛ كالغيم الرطب؛ فإن نزول المطر منه وعدم نزوله ممكنان، لكن النزول أولى. وأما الذي يكون في الاعتقاد، فهو: أن يحصل اعتقاد الوقوع، واعتقاد اللاوقوع كل واحد مع تجويز النقيض، لكن اعتقاد الوقوع يكون أظهر عنده من اعتقاد اللاوقوع؛ فظهر أن اعتقاد رجحان الوقوع مغاير لاعتقاد رجحان اللاوقوع.

شرح القرافي

فهذا الثاني هو: الظن، فان كان مطابقا للمظنون كان ظنا صادقا، وإلا، كان ظنا كاذبا. وأما الأول، وهو: اعتقاد رجحان الوقوع، فإن كان مطابقا للمعتقد، كان علما أو تقليدا على التفصيل المتقدم، وإلا، كان جهلا، والله أعلم. قال القرافي: تقريره: يتحرر بالإيراد عليه فتحصل الفائدتان، وموجب هذا البحث أنه لما حدد أصول الفقه، وقع في الحد ذِكُرُ هذه الحقائق احتاج لتعيرفها لئلا يكون قد عرفه بالمجهولات، وهو غير جائز، ولما صرح بلفظ التحديد تعين أن يرد عليه ما يرد على الحدود، ولو لم يصرح بالتحديد لأمكن أن يقال: إنه قصد بهذه التقاسيم الكليات لا الحدود، ولا شك أنَّ الكليات لا يشترط انعكاسها، فمن قال كل إنسان حيوان، كان كلامه صادقا، وإن كذب عكسه كل حيوان إنسان، والحد لا بد وأن يكون مطردًا منعكسا، وعلى هذا التقدير يرد عليه عشرون سؤالا: الأول قوله: ((حكم الذهن)) أسس تقسيمه على الحكم، والحكم لايكون إلا في التصديقات، مع أن العلم قد يكون في التصورات التى لاحكم فيها، وقد اتفق الناس على صحة تقسيم العلم إلى التصور والتصديق. فقوله: ((الحكم)) يخرج أحد قسمى العلم، ولايتأتى له أن يخرج قسما من هذا التقسيم جامعا للعلم ع أنه قصد الحد الجامع المانع، فلا يتم له بذلك. الثاني: على إضافة الحكم إلى الذهن، يقتضى اختصاص العلم بأحكام العقول وتصديقاتها، مع أن العلم القديم ليس كذلك، بل العقل يمكن أن يقال: إنه ليس حاصلا للملائكة، وإن كانوا من سادات العلماء والخاصة النجباء؛ لأن العقل هو سجية خاصة ينشأ عن الأمزجة البشرية، نسبة هذه

الثالث: قوله: بأمر على أمر

السجية إليها كنسبه الصقال في المرآة إليها، فكما أن الصقال طبيعة الحديد لا ينشأ غن غير الحديد، كذلك السجايا البشرية لا تنشأ عن غي البشرية، فتكون عقول البشر وأبنية الملائكة مختلفة، وقبول العلم لازما عاما لحقائق مختلفي من المخلوقات والخالف -سبحانه وتعالى-، وحينئذ كان الواجب أن يأخذ مطلق الكشف الذي يعم القديم والحادث، حتى يكون حده للعلم جامعا، ويضع للظن والجهل ولاشك ونحوها بحثا آخر. الثالث: قوله: ((بأمر على أمر)) مع أن الصحيح أن لفظ الأمر حقيقة في اللفظ الدال على الوجوب، وهو غير مراد هاهنا، بل المراد هاهنا حكم الذهن بأحد النقيضين على الآخر، فإن الأحكام وإن كثرت، وتنوعت كانت قديمة أو حادثة فإنها لاتخرج عن النقيضين بالضرورة، فإن الحكم إما بسلب الشئ أو بثبوته، والمحكوم عليه إما وجود، أو عدم. فلا حكم إلا بأحد النقيضين، ولا حكم إلا على أحد النقيضين، وما قال أحد: إن لفظ الأمر موضوع للنقيضين معا بل قال بعضهم: للقول خاصة، وقال آخرون: للقول والفعل. وقال أبو الحسين: للفعل، والشيء، والصفة، فإن فرَّعنا على مذاهب الاشتراك، فاللفظ المشترك لا يقع في الحدود لإجماله، والحدود مرادة للبيان، وإنْ فرعنا على عدم الاشتراك فما علمت أحدا قال: إنها موضوعة لمطلق العلوم الذي يعم النقيضين من غير اشتراك، فحيئذ حقيقة هذا اللفظ غير مرادة، ومرات المجاز غير متعينة، فيكون تعريفا بالمجهول، فلا يصح فكان الواجب على هذا أن يقول: حكم الذهن بمعلوم على معلوم ليعم النقيضين، ويكون اللفظ حقيقة من غير اشتراك ولا مجاز. الرابع: على قوله: ((فإن كان جازما)) بدأ بالقسم الكثير الأقسام، وقاعدة هذا الباب: البداية بالقليل الأقسام ليتفرغ العقل للكثير الأقسام، فكان

الخامس: على قوله: ((إما أن يكون مطابقا أو لا يكون))

الواجب أن يقول: فإن كان غير جازم، ثم يفرغ منه، ويشرع في الجازم؛ لأن أقسامه أكثر. الخامس: على قوله: ((إما أن يكون مطابقا أو لا يكون)). أراد بالمطابقة كون المحكوم به واقعا في الخارج، وهو المتبادر إلى الذهن، كالحكم بوجود زيد في الدار، وهو كذلك، فإنه مطابق، فإن أراد هذا أشكل عليه بأن النسب والإضافات على رأى أهل التحقيق لا وجود لها في الأعيان، وإنما وجودها في الأذهان كالأبوة، والبنوة، والتقديم والتأخير، والتأثير ونحو ذلك، فإنا نحكم بها ويكون الحكم مطابقا صدقا وحقا، مع أن المحكوم به في الذهن ليس الخارج، فحينئذ لا بد من تفسير المطالبقة بمعنى آخر، وهو مجهول جدا، فإنا إذا حاولنا تفسير المطابقة بغير ما تقدم عسر جدا، ولا يكاد يعقل من المطابقة إلا أن ما في الذهن واقع في الخارج، فحيئذ يلزم أحد أمرين: إما خروج بعض أنواع المطابقة إن أراد التفسير المعلوم، أو التعريف بالمجهول إن لم يرده، وعلى التقديرين يبطل تحديده وتعريفه، والذي تحرر في تفسير المطابقة بمعنى يشمل الأمور الحقيقة والنسب الإضافية أن يذكر بصيغة التنويع، فيقال: المطابقة إما بوقوع ما في الذهن في الخارج التناسل على الصورة الخاصة كان ذلك ملزوما لصحة حكمنا بأن المتولد عن ذلك الواطئ ابن للواطئ، وأن الواطئ أبوه، وإن وقع فعل زمان، ثم وقع فعل بعده في زمان آخر كان ذلك الوقوع في الخارج ملزوما، لصحة حكمنا بتقديم الأول على الثاني، وتأخير الثانى عن الأول. وكذلك سائر الأحكام النسبية مفسرة بوقوع صحتها في الخارج، لابوقوعها في نفسها، خلاف المطابقة في الحكم بالأمور الحقيقة، إنما هو بوقوعها في نفسها، وإذا تحقق تفسير المطابة على وجه يعم جميع

السادس

الأحكام، فحينئذ يظهر بالضرورة أنه أخفي من مفهوم العلم والظن وما يتبعهما، فإن الناس يعلمون هذه الحقائق، ولا يكاد أحد يعلم تفسير المطابقة بهذا التفسير المتنوع، فحينئذ يلزم أنه عرّف الأجلَى بالأخفي وهو غير جائز. السادس: على قوله: ((لموجب)) هذا الموجب الذي أشار إليه في غياة الغموم والإشكال؛ لأنه قسمه إلى الحسى والعقلى والمركّب منهما، فدل على أنه أعم من كل واحد من الثلاثة، ثم إنه قسم العقلى إلى البديهي الغنى عن الكسب فدل على أنه أعم من الدليل الكاشف للتصديقات، وأن المراد من هذا الموجب شئ غير الدليل، وموجود غير الدليل غير معقول، وشئ وهو أعم من البديهي والنظرى وهو قد جعله موجب العلم، فيكون الشئ موجبا لنفسه، وإن أراد الدليل، فالحس لا يصدق أنه دليل؛ لأن الدليل فيه مقدمتان منتجتان لم يبق هاهنا إلا حرف واحد، وهو أن نفسره باستعداد الفطرة لقبول العلوم، والاستعداد في الحواس، وفي مرآة العقل، فيقبل البديهي والنظرى والدليل وغيره، أو أخص من ذلك، وهو ما يقع في صورة العقل من تصور طرفي القضية في البديهيات، او المقدمات في النظريات، أو صور المحسوسات في الحواس، فيصير مراده مفهوم الواقع في امرآة العقل والحالس مما يتعقبه العلم عادة، ولا شك أن هذا الموجب أعم من الدليل، والتصور، والحس، ويصح التعبير به غير أنه في غاية الخفاء، فإن المتبادر للذهن من الموجب إنما هوا لديل في التصديقات، والحد في التصورات، وهو لم يتعرض للتصورات، فلم يق إلا الدليل المتبادِر. وما عداه خفي عند العقل عند السماع، والتعريف بالخفيات لا يجوز لا سيما إذا عرضنا على أنفسنا مفهموم العلم الذي قال فيه هو وغيره: إنه

السابع: ((على حصره الموجب في الحسى والعقلى والمركب منهما))

بديهي غنى عن التعريف، وعرضنا هذا التفسير في الموجب وجدنا الموجب أخفى بكثير، وتعريف الأجلى بالأخفي غير جاز. السابع: ((على حصره الموجب في الحسى والعقلى والمركب منهما))، فإن الحصر غير ثابت في هذه الثلاثة، فإن ذلك يبطل بأمور: أحدها: أن الوجدانيات ليست من الحسيات؛ لأن من فقد حواسه وجد في نفسه ألمه ولذته، وليست من العقليات، لأن البهائم التي لا عقول لها تجد جوعها وعطشها وألمها ولذتها وغير ذلك. وثانيها: إذا خلق الله - تعالى - علما ضروريا في بعض مخلوقاته، فإنه إما بطريق الكشف فيما عادته يقع للأولياء والعلماء أولى من هذا القبيل، كما يخلق في نفس جبريل علما ضروريا بأنه تعالى طلب منه الرسالة الخاصة لبعض الأنبياء. وثالثها: المركب من الوجدانيات والعقليات. ورابعها: المركب من الوجدانيات والحسيات. وخامسها: المركب من أمر إلهي كما تقدم والحس. وسادسها: المركب من أمر إلهي مع العقل. وسابعها: المركب من أمر إلهي مع الوجدان، فإنه أمكن أن يكون لنا مطلو ب يترتب على مقدمة وجدانية، وأخرى من أحد هذه الأقسام، ومجموعهما يكون هو المفيد. وقرائن الأحوال تفيد العلم بغير فكرة في بعض الصور، فلا يكون نظريا لعدم الفكرة، ولا بديهيا لعدم كناية احد الطرفين في القضية، ولذلك نقطع لا يتعلق إلا بالكون وما وراءه إنما يدرك بالقرائن الأحوال، وبالجملة فالحصر غير ثابت، وإذا لم يكن الحصر ثابتا، فيكون العلم المترتب على هذه

الثامن: على قوله: ((إن كان الموجب تصور طرفي القضية فهو البديهيات))

الأقسام التى لم تدخل في حره غير داخل في حده، فيكون حده غير جامع، فيكون باطلا. الثامن: على قوله: ((إن كان الموجب تصور طرفي القضية فهو البديهيات)). فإن هذا التفسير يخص البديهي الذي هو تصديق، والبديهي هو الذي يبديه العقل ويهجم عليه بغير كسب، وهذا قد يكون تصورا غنيا عن الحد، فكان المتعين أن يقول: البديهي هو الغنى عن الكسب، فيشمل التصديقات والتصورات، فإن الكسب تارة يكون بالبراهين في التصديقات، وتارة بالحدود في التصورات، فلا كسب تصديق إلا ببرهان، ولا تصور إلا بحد، أو ما في معناه من الرسم، وتبديل اللفظ باللفظ، فيكون حده حيئنذ للبديهي غير جامع، فيكون باطلا. التاسع: على هذا المقام أيضا أنَّ أجلى البديهيات قولنا: النفي والإثبات لا يجتمعان، والثبوت والنفي اختلف العقلاء هل بينهما واسطة أم لا؟ فأرباب الاحوال وغيرهم أثبتوا الوسائط مع أنهم عقلاء، فعلمنا حينئذ العقل لابد معه من مرشد آخر، وهو زائد على قولنا: تصور طفي القضية وكذلك قولنا: الواحد نصف الاثنين لا يكفي تصور طرفي القضية وهما الواحد ونصف الاثنين حتى يحصل عند العقل بعد الخلوص من غمرات الطفولية والصغر دربة بماهية العدد، وتصور لحقيقته وكثير من معالمه ولوازمه وخصائصه، فحينئذ ثم آخر وراء تصوره طرفي القضية، ولذلك إن العقلاء لا يعنون بالبديهيات ما هو لازم لحقيقة العقل جزما، بل هو غالب عليه بعد الخلوص من غمرات الصغر، ولا يكاد يرعى عنه أحد بعد ذلك، اما أنه بمجرد تحقق العقل في الصبى في أول دفعة يكون عالما بأن الواحد نصف الاثنين من غير مباشرة ولا مخالطة ولا معاناة شئ من المقدمات العقلية

العاشر

أو غيرها ألبتة فلا يقوله أحد، فحينئذ مجرد التصور ليس كافيا في البديهيات فخرجت البديهيات كلها عن حد البديهيات. العاشر: على قوله: والثاني النظريات يكون حده غير مانع لدخول البديهيات كما تقدم تقريره في السؤال التاسع. الحادي عشر: أن العلم الإلهي خارج عن حد العلم؛ لأنه ليس له موجب ألبتَّة، بل هو واجب لذاته مستغنٍ عن الموجب والموجد، فلا يكون الحد جامعا فيكون باطلا. الثانى عشر: قوله: ((الذي يكون مركبا من السمع والعقل هو المتواتر)) مشكل بما إذا سمعنا سُعالا كثيرا أو عطاسا أو نَحيحا شديدا فإن العقل يجزم بواسطة هذا المسموع بأن الفاعل لذلك حى، مع أن العقل يجوَّز ان تقوم أصوات السعال، وغيره بغير الحى، لكن تكرر ذلك على العقل في مجرى العادة حتى قال من قبل نفسه: إن كل ما هو موصوف بهذه الأصوات الكثيرة على هذه الصورة حى بالضرورة، كما جزم وقال هؤلاء المخبرون ووصلوا في حد الكثرة إلى غاية يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة، فهذه هيا لمقدمة التى شاكر بها العقل الحس، وصار الموجب لذلك مركبا من العقل والحس ووالجزمان عاديان؛ لأن العقل يجوز الكذب على عدد وإن كثر ولايقال لهذا العلم الواقع في صورة السعال ونحوه إنه متواتر،

الثالث عشر

ولذلك يستدل العقل باختلاف الأصوات المسموعة من الطيور وحركات الحجارة، وأنواع الصرر، والقرع، والقلع على أن الذي قام به الصوت فرس أو طائر أو نحاس أو حجر أو غير ذلك مما علم العقل به عند سماع الأصوات، والمستند مركب والسمع والعقل وليس من باب التواتر، فقد دخل في حد المتواتر ما ليس منه من العلوم العادية. الثالث عشر: قوله: ((أو من سائر الحواس والعقل))، وهو المجربات والحدسيات جعل الموجب واحدا، والعلم الناشئ عنه واحدا، وظاهر كلامه أن لفظ الحدسيات والتجريبيات متراردف؛ لأن اتحاد الموجب يقتضى ذلك ولم يجعل لأحدهما مزية يمتاز بها، مع أن الفرق وقاع ضرورة. وتقريره: أن الإنسان قد يجد بشمه، كرائحة المسك، وببصره كلون الأترج، وبذوقه كطعم الليمون وبلمسه كملمس الخشب.

الرابع عشر

وقد يقع ذلك فرد دفعة، فلا يحصل ظن لتحقق تلك الحقائق من مجرد إدراك الحواس، وقد يتكرر حتى يصير إلى حد الظن، فيقول العقل: كل ما كان كذا فهو مسك ظنا لا قطعا، وفد يعقظم التكرر حتى يقول العقل مقدمة من قبل نفسه، كل ما كان كذا على هذه الرائحة فهو مسك ضرورة، وكذلك بقية النظائر، وقد يحدس ببصره كنقد الذهب والفضة ونضج الفاكهة ونحو ذلك، ثم ذلك قد لا يتكرر فلا يقول العقل المقدمة من جهته ألبتة، وقد يتكرر حتى يقول العقل: كل ما كان من الذهب كذا فهو بهرج، ظنا من غير القطع، وقد يحصل القطع فيهما، مع أن الفرق بينهما: أن الحدسيات تفتقر إلى نظر حالة القضاء على الجزئيات، والتجريبيات بينهما: أن الحدسيات تفتقر إلى نظر حالة القضاء على الجزئيات، والتجريبيات لا تحتاج إلى ذلك، فإذا قيل لك: في الدار ليمون هل هو حامض؟ تقول: نعم، أوصبر هل مر؟ تقول: نعم من غير أن تراه، ولو قيل لك: معى درهم هل هو بَهْرج؟ فتقول: حتى أنظر إليه وأفكر فيه، هل وجد فيه ما هو عند العقل علامة البهرج أم لا؟ وكذلك إذا قيل لك: في الدار فاكهة هل هي ناضحة؟ فتقول: حتى أنظر إليها وأفكر فيها، والتجارب لاتحتاج لفكر عند القضاء على الجزئيات، فلا يفكر في حمض الليمون ألبتة، فهذا هو الفرق، وهو افتقار الحدسيات إلى نظر حالة القضاء على الجزئيات بخلاف التجريبيات. الرابع عشر: إنَّ العلماء عدوا من جملة التجريبيات أدوية الأمراض وأسبابها، نحو كون المحمودة مسهلة، والسموم قاتلة، فإن كان المراد بذلك أن مطلق الحس كاف مع العقل فلزم أن يكون دلالة العالم على صانعه من باب

الخامس عشر: قوله: ((الذي لا يكون لموجب هو اعتقاد المقلد))

التجارب، لأنا لا نثبت صانعا ما لم نحس بصنعته بحيكم العقل حينئذ بأن لها صانعا، ويلزم أيضا ألا تكون هذه تجريبية، فإن أصل الحس ليس كافيا فيها، بل لا بد من التكرر في أدوية الأمراض وأسبابها، وإن كان لابد من التكرر ولا يكفي أصل الحس بطل قوله: إن كان مركبا منا لحس والعقل هو المجربات فإن أصل الحس حينئذ ليس كافيا، بل الحس مع التكرر، وهذا هو الصحيح وإلا لكان الاستدلال بالصنعة على صانعها تجريبا، وليس كذلك اتفاقا، بل هو من العقلى الصرف، وإذا تقرر أن تكرر الحس مع العقل هو مدرك التجارب، لزم أيضا أن يكون كل موضوع حصل فيه استدلال بدوران فيه حس أن يكون تجريبا، وقد لا يمتنع تسمية ذلك تجريبا، كدوران غضب زيد مع سماعنا لا سماعه الكلام المغضب، ويخرج عن ذلك الدوران الذي ليس فيه حس مع العقل كدوران تحريم الخمر مع إسكارها، فإن كونها مسكرة وتحريمها ليس أحدهما مدركا بالحس، أما التحريم فقائم بذات الله تعالى، وأما الإسكار فأمر باطن في النفس أوفي الدماغ على ما يقوله الأطباء، نعم دليل التحريم قد يعلم بالحس، وقد يكون بعلم ضرورى غير محسوس، وآثار السُّكر قد تظهر للحس، وقدتدرك بالقرائن بالاستدلال العقلى. الخامس عشر: قوله: ((الذي لا يكون لموجب هو اعتقاد المقلد)) يلزم عليه أن التقليد كله اعتقاد مطابق لا لموجب، لأنه جعل التقليد قسما من المطابق فيكون مطابقا، وليس كذلك، لأن أكثر التقليد غير مطابق كتقليد عوام الكفار، والمبتدعة، وغيرهم لآبائهم، ورؤساهم، قال الله: ((إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)) الزخرف: 23 فيكون حد التقليد غير جامع، فيكون باطلا بل التقليد هو أخذا لقول عن قائله بغير دليل حقا أو باطلا، أو بقول المقلد وهو ظاهر حال المقلد، وهو نفي مطلق الموجب.

السادس عشر: قوله: ((الجازم غير المطابق وهو الجهل))

السادس عشر: قوله: ((الجازم غير المطابق وهو الجهل)) هذا الحد غير جامع لخروج الجهل البسيط، لأن تقدير الكلام ((الجهل يكون عبارة عن الحكم الذي يكون جازما غير مطابق))، والجهل البسيط ليس فيه حكم ولا جزم، فيخرج من الحد، هذا إن نفينا اللفظ على ظاهره في قوله: هوا لجهل، وإن زدتنا لفظا آخر نجعله مضمرا، تقديره: ((هو الجهل المركب)) صح الحد وسلم من سؤال عدم الجمع، غير أنه يزلم فيه سؤال آخر، وهو أ، هـ أطلق العام لإرادة الخاص أو التزم الإضمار، وكلاهما تأباه الحدود، بل كان الواجب أن يقول: فهو الجهل المركب، والفرق بين الجهل البسيط والمركب أن البسيط جهل يعلمه صاحبه ويقول: أنا جاله نحو قولك لزيك: أتعلم عدد شعر رأسك وأنت جاهل به؟ فيقول: أنا جاهل، فقد علم جهله، فلم يتركب جهله من جهلين، والكافر جهل الحق في نفس الأمر، وإذا قيل لأنت جاهل. يقول: لا بل عالم، فقد جهل وجهل جهله فتركب جهله من جهلين فسمى مركبا. وقد جمع المتنبى في بيت وصف رجل بجهل مركب بثلاث جهالات فقال [الطويل]: ومن جاهل بى وهو يجهل جهله ... ويجهل علمى أنه بىَ جاهل

السابع عشر: قوله: ((التردد بين الطرفين إن كان على التسرية، فهو الشك))

السابع عشر: قوله: ((التردد بين الطرفين إن كان على التسرية، فهو الشك))، يرد عليه أن المقسم إلى المقسم إلى الشئ يجب صدقه على ذلك الشئ، كتقسم الحيوان إلى الناطق والبهيم، وتقسم الناطق إلى المؤمن والكافر، فيلزم صدق الحيوان على الكافر والمؤمن، كذلك هاهنا قسم الحكم إلى جازم وغير جازم وقسم غير الجازم إلى الشك وغيره، فيلزم أن يصدق الحكم على الشك، مع أن الشاك غير حاكم قطعا، فلا يصح أن يكون الشك قسما لهذه القسمة، قال بعضهم: الشاك حكم لأنه يخطر بباله أحد النقيضين، ثم يتركه ويخطر النقيض الآخر، وهذا غلط؛ لأنه يخطر بباله أحد النقيضين، ثم يتركه ويخطر النقيض الآخر، وهذا غلط؛ لأن التصور هو الحاصل في الشك، والتردد بين التصورات ليس حكما بل الجواب أن التقسيم قد يقع في الأعم مطلقا لتقسيم الحيوان كما تقدم، وقد يقع في الأعم من وجه كتقسيم الحيوان إلى الأبيض والأسود، وتقسيم الأبيض إلى الحيوان والجير واللبن، مع عدم صدق الحيوان على الجير واللبن، فحينئذ التقسيم أعم من كونه في الأعم مطلقا عموما مطلقا، ومن التزم التقسيم فقد التزمأعم مما يلزم عليه صدق المقسم على أقسام أقسامه، والملتزم للأعم لا يرد عليه ما يرد على الأخص، كمن التزم أنه قتل حيوانا، لا يلزمه القصاص لاحتمال كونه سبعا، والقصاص إنما يلزم في أخص من الحويان الذي هو الإنسان، ومن قال: إن معى عددا لا يلزمه أنه زوج؛ لأنه لم يلزم إلا ما هو أعم من الزوج، كذلك هاهنا، لا يلزم القمسم صدق المقسم على أقسام أقسامه، لأنه إنما لاتزم ما هو أعم، وهو مطلق التقسيم، السؤال إنما يلزم في أصخ من ذلك، وهو تقسيما الأعم عموما مطلقا فاندفع السؤال. ((تنبيه)) قوله: ((في الحسيات، ويقرب من العلوم الوجدانية))، جعل الوجدانيات أقرب إلى الحسات دون العقليات، وسببه أن الحواس لا تدرك إلا جزئيا لا

((تنبيه))

كليا، فلا تشم إلا مسكا خاصا ولاتذوق إلا طعما خاصا، اما كل حول فلا سبيل إلى دراك الحس له، ولا يدرك الكلية إلا العقل، ومدركات العقل إما كلى أو كليات، فالكلى نحو: مطلق الحويان، والكلية نحو: كل حيوان حساس، وهذا لا سبيل للحس عليه، والوجدانيات حسيات بل جزئيات، فإن الإنسان لا يدرك أنه قام به كل وجوع ولا كل عطش، بل جوع خاص، ولذة خاصة، فلما كانت الوجدانيات جزئيات لا كلى ولا كليات كان شبهها بالحسيات دون العقليات. ((تنبيه)) لم يقل -رحمه الله تعالى -: هو العلم بالمحسوسات، كما قاله جمع كثير في كتبهم من علماء الأدب والأصول، وهو لحن. قال علماء اللغىة: لا يقال في الحواس إلا أحس فعله رباعى، قال الله تعالى: ((فلما أحس عيسى منهم الكفر)) آل عمران: 52 ومفعوله حينئذ محس على وزن مفعل، وجمع حينئذ محسات لا محسوسات، لأن محسوسات جمع محسوس، ومفعول إنما يكون من الفعل الثلاثى، وهذا فعل رباعى، كما قال ابن الجواليقي مما تفسده العامة، يقولون

بالمحسوسات وصوابه المحسات وإنما المحسوسات المقتولات حسه إذا قبتله، وحسَّ الدابة بالمحسة، وحس النار إذا ردها بالعصا على الملة، وحس اللحم إذا وضعه على الجمر. وقال ابن برى: الفضلاء كأبى على وغيره يقولون: المحسوس إما من باب أحمه الله فهو محموم، وأسعده الله فهو مسعود، وإما من جهة الإتباع للمعلوم كما في الحديث: ((ارجعن مأزورات غير مأجورات)).

الثامن عشر

الثامن عشر: قال النقشواني: جعل هاهنا التقليد قسيم العلم، ومقتضاه ألا يصدق في العلم على التقليد، لأن التقسيم ضد قسيمه ويضاف له، والضد لا يصدق على ضده، وقال في حد الفقه: ((المستدل على أعيانها)) احترازا من المقلد فإن له علما بان المفتى أفتاه، وكل ما أفتاه المفتى فهو حكم الله، فيلزم أحد الأمرين: إما فساد الحد بالحشو الحاصل قوله: المستدل على أعيانها إن كان المقلد لا علم له، لخروجه بقيد اللعم المذكور في أول الحد. وإما فساد التقسيم بجعله التقليد قسيم العلم إن كان المقلد عالما بأن يكون ما في الحد صحيحا، لان العلم حينئذ ينقسم إلى التقليد وغيره، وقسيم لا يكون قسما منه، فيفسد إما الحدود وإما التقسيم. التاسع عشر: قال النقشوانى: بعض الملقلدين لهم مستند كلى قطعا، وهما المقدمتنان المتقدم ذكرهما، فاشتراطه في حقيقة التقليد وعدم المستتند يخرج بعض أنواع التقليد، فلا يكون حده جامعا أيضا من جهة اشتراط هذا القيد. العشرون: قال النقشوانى: جعل الوهم قسما من الحكم، والوهم لا حكم فيه كما تقدم تقريره في الك. وجوابه هاهنا من وجهين: أحدهما: ما تقدم في الشك. الثاني: أنه جعل الراجح والمرجحوح قسما واحدا، وذكر اسم جزئى هذا

((تنبيه)) وافقه ((المنتخب)) و ((الحاصل)) وكذلك ((التحصيل))

القسم ولم يقسم غير المساوى إلى قسمين، بل قال: وإلا فالراجح ظن والمرجوح وهم. ((تنبيه)) وافقه ((المنتخب)) و ((الحاصل)) وكذلك ((التحصيل)) غير انه قال: المحسوسات، ولم يقل: هو العلم الحاصل من الحواس الخمس كما قال في الأصل، فيرد عليه مناقشة ((الجواليقى)). وقال ((التريزى)): حكم الذهن بأمر على أمر إما أن يكون جازما أو لا، والجازم إما أن يكون طابقا أو لا، والمطابق إما أن يستند إلى العقل أولا، والمستند إما أن يستقل العقل بدركه أولا، وغير المستقل به إما أن يفتقر إلى النظر لا غير، أو الحس لاغير، أوإليهما، والمفتقر إليهما إما الفكر أو السمع، والفكر وشيء من سائر الحواس، فما هو بمشاركة الفكر وشئ من الحواس، فهو التجريبى والحدس، وما هو بمشاركة الفكر والسمع فهو المتواتر، وما هو بمشاركة الحس لا غير فهو الحس، ويدخل فيه الحس الباطن، وهو العلم الوجدانى، بمشاركة الفكر لاغير فهو النظرى، وما يتسقب لبه العقل هوالبديهي، وما لا يستند للعقل فتقليد، وغير المطابق منه جهل مركب، وغير الجازم إن استوى طرفها فشك، وإن ترجح أحدهما فالراجح ظن والمرجوح وهم، فلا يرد عليه السؤال السادس لأنه لم يذكر لفظ الموجب، ويرد عليه غيره، لأنه جعل الحكم مستندا لمجرد العقل، والفعل إنما هو غريزة قابلة لا موجبة، وما ليس بموجب لا يستند إليه حكم كصقال المرآة لا يوجب انطباعا لكنه قابل له، والممكن قابل للإيجاد، ولا يوجب إيجادا ولا وجودا.

قوله: ليس يجب أن يكون كل تصور مكتسبا، وإلا لزم التسلسل أو الدور إما في موضوعات متناهية أو غير متناهية.

تعريف الحد والرسم

تقريره: أن التصورات لا تكتسب إلا بالحدود، والحدلا يبد فيه من التصورات، ولو تصورات الجنس والفصل، وأقل ذلك تصور واحد وهو الحد الناقص، أو الرسم الناقص، فإنَّ المعرفات خمسة: الحد التام: هو التعريف بالجنس وافصل، كتعريف الغنسان بأنه الحيوان الناطق. والحد الناقص: وهو التعريف بالفصل وحده، كتعريفه بالفصل وحده نحو قولنا: الناطق. والرسم التام: وهو التعريف بالجنس والخاصة نحو قولنا فيه: الحيوان الضاحك. والرسم الناقص: وهو التعريف بالخاصة وحدها نحو قولنا: الضاحك.

وتبديل لفظ بلفظ مرادف له: هو أشهر من الاول عند السامع، نحو قولنا: ما الباقلاء؟ فنقول: الفول. وعلى التقادير الخمسة لا بد من حصول صوة في نفس السامع يتوصل بها إلى معرفة ما قصد تعريفه، وتلك الصورة أيضا مكتسبة؛ لأن التقدير أن كل تصور مكتسب، فيفتقر في حصولها إلى صورة أخرى، والأخرى إلى أخرى، فإن رجعنا إلى بعض ما فارقناه من الصور لزم الدور، وإن ذهبنا إلى غير النهاية لزم التسلسل فالدور، ويكفي فيه موضوعان، يتوقف كل واحد منهما على تقدم الآخر عليه، فيكفي فيه موضوعات متناهية، والتسلسل لا بد فيه من موضوعات غير متناهية، وهما لا يجتمعان متى التزمنا الدور ذهبت الموضوعات إلى ما لا نهاية لها؛ لأنها لا تصير لازمة، وإن أمكن حصولها أيضا فإن الحالات قد تجتمع، لكن الكلام في لزمومها لا في اجتماعها، وحينئذ يتعين على الإمام أمران: أحدهما: أن يدعى لزوم أحدهما، لا لزوم أحدهما عينا، ولا لزومهما معا، أما لزوم أحدهما عينا فلأنه إن التزم لزوم الدور يقول السائل: أذهب إلى غير النهاية ولا أرجع إلى بعض ما فارقته، فلا يلزم الدور فلا تتم دعواه في الدور، وإن عبر لزوم التسلسل يقول السائل: لا أذهب إلى غير النهاية بل أرجع إلى بعض ما فارقته، فيلزم الدور ولا يلزم التسلسل، فلا بد أن يعدل المستدل عن دعوى لزوم أحدهما عينا، وأما عدم لزومهما معا فلأن التردد بين صورتين من هذه إلى هذه، ومن هذه إلى هذه مرارا غير متناهية كاف ولا يلزم التسلسل، ولذلك يلزم التسلسل، ولا يلزم الدور بأن يذهب في التوقف إلى غير النهاية، ولا نرجع إلى بعض ما فارقناه. وثانيهما: أنه يتعين عليه أن يأتى بصيغة ((أو)) دون الواو؛ لأن الواو للجمع فيقتضى لزمومهما معا، و ((أو)) لأحد الشيئين، وهو اللازم للحق دون المجموع.

قال الخونجى: ((لو كانت العلوم كلها غير مكتسبة لما فقدنا شيئا، ولو كانت كلها مكتبسة لما حصلنا على شء، فيتعين أن البعض مكتسب، والبعض الآخر غير مكتسب)). قوله: ((العلم ضرورى غير مكتسب؛ لأن كل أحد يدرك بالضرورة ألمه ولذته، ويدرك بالضرورة كونه عالما بهذه الأمور، ولولا أن العلم بحقيقة العلم ضرورى، وإلا لامتنع أن يكون علمه بكونه عالما بهذه الأمور ضروريا، ولأن التصديق موقوف على التصور، وكذلك القول في الظ،)). تقريره: أن العلم باللذة - مثلا - ضرورى، وهو علم خاص قد حصل قبل الكسب، ومتى حصل الخاص حصل العام؛ لأنه في صمنه، فيكون العام الذي هو مطلق العلم قد حصل بدون كسب، وإذا حصل مطلق العلم بدون كسب يكون غنيا عن الكسب وهو المطلوب. وكونه يعلم أنه عالم بهذه الأمور تصديق فيه تصوران: أحدهما: موضوع القضية وهو زيد نفسه. والثاني: محمول القضية وهو كونه عالما بهذه الأمور فصار علمه بهذه الأمور حاصلا بدون الكسب فيكون ضروريا، وهي معنى قوله: التصديق مسبوق بالتصور، يعنى أن تصور علمه، فهذه الأمور تقدم على الكسب، ولذلك يظن بالضرورة أن زيدا -مثلا- حى من غير كسب، وهذا ظن خاص حصل بدون كسب، ومتى حصل الخاص حصل العام في ضمنه بدون الكشب، فيكون مطلق الظن ضروريا غينا عن الكسب، وهو الممطلوب. سؤال: إذا شرع في هذا الباب يثبت أن الأمور العامة ضرورية، لأن بعض أفرادها أو انواعها ضرورى، لزمه أن يكون الشك ضروريا، والوهم ضروريا والإنسان والحيوان والجسم والحجر وكل جنس علم منه فرد بالضرورة، وكذلك يلزمه أن مطلق النفس ضرورى، لأنى أعلم نفسى بالضرروة، وأنها

غير نفس زيد، وأنها باقية من أول العمر إلى آخره، وأنها عرض لها أحوال مختلفي أنا عالم بها، وهذا كله من غير كسب، ونفسى أخص من مطلق النفس، فيلزم أن يكون مطلق النفس ضروريا، مع أن النفس في غياة الإشكال قيل: هي جوهر، وقيل: هي عرض، وقيل: مجردة عن المواد لاداخل العالم ولاخارجه، وقيل: هي الروح، وقيل غيره. وأخبرنى بعض الفضلاء أنه راى فيها للعقلاء ثلاثمائة قول في تصنيف لبعض العلماء، ومع هذا الاختلاف كيف يتصور الضرورة والساتغناء عن الكسب؟ قال الله تعالى: ((ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيم من العلم إلا قليلا)) فأخبر -سبحانه وتعالى- أنه مما اختص بعمله دون خلقه، مع أنى أعلم أن لى روحا بالضرورة، وانها غير ورح زيد الذي مات، وغير أرواح جميع أنواع الحيوانات، وإن لزم أن تكون الروح والنفس ضرورى غنيتين عن الكسب فغيرهما بطريق الاولى، فلزم ألا يبقى شيء غير ضرورى، وهو خلاف الضروروة، وكيف يكون الإنسان ضروريا مع اختلاف العقلاء هل هو الشكل أوأمر آخر؟ واختلفوا في ذلك الأمر الآخر اختلفا شديدا، ومع شدة الاختلفا لا ضرورة، وكذلك اختلفوا في الجويان هل يدخل فيه النبات أم لا؟ فقالت فرقة عظيمة: النبات حيوان، ومنع ذلك آخرون، ومع شدة الاختلاف لا ضرورة، وهذا في الإنسان والحيوان المتعلقين بنا فما ظنك بغيهرما؟ جوابه: استدلاله -رحمه الله - صحيح، وهذا التهويل ايرد عليه، أما الإنسان والحيوان ونحوهما، فيلزم أن هذه الحقائق كلها ضرورية. وأما اختلاف العقلا في الإنسان والحيوان، فهو خلاف وضع الفظ، لا في حقيقته ومعنها: هل لفظ الإنسان موضوع للشكل أو للنفس؟ وكذلك هل لفظ الحيوان موضوع للحساس فلا يكون النبات حيوانا لعدم حسه، أو للنامى فيكون النبات حيوانا لكون ينمو؟

((سؤال)) إذا سلم له أن العلم والظن غير مكتسبين

وأما النفس ونحوها فإن هاهنا أمرين: عوارض، ومعروضات لها. فالعوارض: كون النفس تتألم وتلتذ وتعلم وتجهل، ونحو ذلك من كونها ربط بها حياة البدن، وتدبير الأغذية والادوية، وتصرفات الأمراض وتنوعها وتحليلها وتزيدها. والمعروض له: هو الشئ الذي عرض له هذه الأمور، وهو كنه النفس وحقيقتها من حيث هي هي، فالعوارض هي المعلومة بالضرورة لنا، وأما الكنه والحقيقة التى عرضت لها هذه الأمور فمجمهولة لنا بالضرورة، وهذا كما نقول: إذا رأينا صنعة نعلم أن لها صانعا، ومدبرا بالضرورة، وكنه ذلك الصانع وحقيقته غير معلومة بالضرورة، وكذلك قال العلماء: كنه حقيقة الله تعالى غير معلوم للبشر، وكونه صانع العالم ضروريا، فإن دلالة الصنعة على صانعها ضرورى، فبهذا الطريق يحصل الجمع بين كون النفس غير ضرورية، وبين صحة استدلاله -رحمه الله تعالى - فإنى إنما أعلم نفسى بالضرورة من حيث عوارضها، لا من حيث هي هي، وكذلك جميع الصور المجهولة التى علمت من وجه الضرورة. ((سؤال)) إذا سلم له أن العلم والظن غير مكتسبين لقولة جلاهما فكيف حدهما؟ أم العلم فتعرض لتحديده في التقسيم؛ لأن التقسيم إنما أتى به للتحديد كما قال: الفصل الثالث في تحديد العلم والظن، ثم أنه ذكر التقسيم، ثم أنه تعرض لتحديد الظن ثانيا بقوله: ((الظن تغليب لأحد مجوزين ظاهرى التجويز))، فأحد الكلامين باطل. ((تنبيه)) أسقط ((المنتخب)) هذا البحث، وقال ((الحاصل)): لا سبيل إلى تحديد العلم؛ لأن الحد كاشف عن المعلوم، ولا كاشف عن العلم ألبتة، وإلا لدار بل هو الكاشف عن غيره.

وأما الظن فتحديده ممكن، وهو اعتقاده الراجح بأحد النقيضين، فوافق الإمام في العلم دون الظن في عدم تحديده. وجواب هذا الدور: هو لأن الحد هو كشف ما دل اللفظ المعين عليه بطريق الأإجمال. مثاله: إذا سئلنا عن حد الإنسان فقلنا: هو الحيوان الناطق، فالسامع إما أن يكون عالما بالحيوان والناطق أولا، فإن كان عالما بالحيوان الناطق فهو عالم بالإنسان، فعن أي شيء سأل؟ وعن أي شيء عرفناه نحنه؟ وإن كان جالها بهما فالتعريف بالمجهول لا يصح، فيتعين به إن كان بشر أن يكون عالما بالإنسان، وإنما سمع لفظ الإنسان فعلم أنه له مسمى ما، ولم يعلم عينه، ومسمى ما هو بعض وجوه الإنسان، لأن الإنسان هو مسمى ما، فقد علم الإنسان أولا بطريق الإجمال من جهة لفظ الموضوع بإزائه، فلما حددناه له فقلنا له ذلك المعلوم لك من وجه هو الحيوان الناطق، فقد فصلنا له ما كان عنده مجملا، فهذا هو الحد، وبهذا أجيب عن قولهم في حد العلم: هو معرفة المعلوم على ما هو به، إن المعلوم مشتق من العلم، فلا يعرف إلا بعد معرفة العلم، فتعريف العلم به دور، فقيل لهم: إنه المعنى الذي يتعلق بالمعلوم، وهو كان علما به، لأن التعريف بالمجهول لا يجوز، علم حينئذ حقيقة العلم، وكذلك الجواب عن قولهم في حد الأمر: هو القول المقتضى طاعة المأمور بفعل المأمور به أنه قد يعلم المأمور، ويعلم أنه مأخوذ من معنى معين، ولا يعلم أن اسم ذلك المعنى أمر فلا دور حينئذ، بل الحدود كلها إنما تقع بالمعلوم، ومتى كان الجنس والفصل معلومين، فالنوع معلوم، ويتعين أن التحديد إنما أفاد تفصيل ما أجمله اللفظ، وعلى هذا يكون لفظ العلم لم يعلم السامع أنه موضوع لأي شيء، فإذا قلت له: هو معرفة المعلوم على ما هو به، أو هو الجزم المطابق لمستند كما قاله الإمام أو غير ذلك، وهو

تعريف تلك الألفاظ ومدولاتها حصل له تفصيل ما أجمله عليه لفظ العلم لما قلناه له، ونحن إنما توصلنا لتفصيل ذلك بالعلم بما كان عنده مفصلا، فلو أن العلم في ذاته مجهول، لا نسبة اللفظ لزم الدور، لكن هو في نفسه معلوم، وهو المتوقف عليه، ولم يتوقف هو على غيره، بل المتوقف هو تفصيل إجمال ذلك اللفظ الذي سمعه السائل فلا دور، وكذلك جميع الحدود حتى فرضت السائل جاهلا بالمعنى في نفسه، استحال تعريف له بالجنس الفصل لوقوع الجهل فيهما حينئذ، فإنهما متى كانا معلومين استحال أن يجهل النوع، إذ لا معنى للنوع إلا مجموعهما، فاندفع السؤال، وهكذا كان ((الخسروشاهي)) يقرره، يجيب به عن جميع هذه الأدوار. قال شيف الدين: توقف غير العلم على العلم إنما هو من جهة أن العلم كاشف له، وتوقف العلم على ذلك الغير من جهة أنه صفة مميزة له، وخاصة ولا يلزمه، فهذا جواب حسن، بعد تسليم أن العلم متوقف في ذاته وحكى عن المتكلمين في تعريفه ثلاثة أقوال ثالثها بالتقسيم والمثال دون الحد، قاله الغزالى وإمام الحرمين قال: والتفصيل ضعيف؛ لأن التقسيم إن لم يفد تعريفا فهلا عبرة به، وإلا فهو تعريف حد أو رسم، وهو المذهب الأحسن. قوله: ((الظن تغليب لأحد مجوزين ظاهرى التجويز إلى آخر الفصل)).

تقريره: أن الحقائق في نفس الأمر، صفات نسبتها إليهما كنسبة صفات لنفوس إليها، مثال: العقرب من صفاتها تأليف الجسمية، ويمتنع أن يكون عقربا بدون ذلك، فنسبة هذا المعنى إليه كنسبة العلم إلى النفس من جهة أنه لايجوز خلافي، ومن صفاتها غلبة الأذى عليها، فنسبه هذا المعنى إليه كنسبة الظن للنفس من جهة أن فيه طرفا راجحا وطرفا مرجوحا، ومن صفاتها أن نسبة ذاتها إلى حصولها في البقعة المعينة، ولا حصولها على السواء، فنسبة هذا إليها كنسبة الشك إلى النفس من جهة الاستواء، وكذلك الغيم الرطب يوصف بالجسمية، فلا يجوز خلافها، ونقله للأمطار فيكون راجحا كالظن في النفس، ونسبته إلى نفعه من الأرض نسبة واحدة، وكذلك جميع الحقائق، وظهر بهذا أن الرجحان والغلبة قد يكون في المعتقد كالمطر ونحوه، وقد يكون في الاعتقاد، وهو الطرف الراجح المسمى ظنا، فعلى هذا الاعتقاد المتعلق برجحان المعتقد قد يكون علما، كما نعقتد نحن في رجحان أذى العقرب وغلبته، فإنه معلوم لنا، وقد يكون ظنا في حق من لم يرها قط، نظرا إلى شوكها وسرعة حركتها، فيغلب على ظنه أنه حيوان مؤذ، وقد يكون شكا، كما إذا استوى عنده الأمران، أو تقليدا كما إذا سألنا وقلدنا، أو جهلا مركبا، بأن يكون في أرضه حيوان شائك شبها، فظن أنها ذلك الحيوان، واعتقد انها عظيمة النفع عديمة الضرر، كذلك الحيوان الذي بأرضه؛ لأنه لم يرها إلا لآن، فهذا جهل مركب، فظهر أن الاعتقاد المتعلق بالرجحان الكائن في الحقائق التى هي المعتقدات تنقسم إلى خمسة: العلم، والظن، التقليد، والجهل المركب، والشك على ما تقدم له في التقسيم، وإلا فالشك ليس اعتقادا. وأما رجحان الاعتقاد فهو الاحتمال الراجح الكائن في النفس، فيتعذر أن

((تنبيه)) قال في ((المنتخب)): ((الظن رجحان الاعتقاد))

يكون علما لأجل الاحتمال المرجوح، وأن يكون شكا لأجل الاحتمال الراجح، ويتعين أن يكون ظنا ليس إلا، والذي هو ظن ليس إلا مغايرا لما ينقسم إلى خمسة أجزاء. أحدها: الظن فظهر قوله: إن اعتقاد رجحان الوقوع مغاير لرجحان اعتقاد الوقوع، فالثانى هو الظن، والأول هو المنقسم للخمسة. ((تنبيه)) قال في ((المنتخب)): ((الظن رجحان الاعتقاد))، وهو مغاير لاعتقاد الرجحان، وهو معنى ما في ((المحصول)) ولفظه، وهاهنا تقريب للمتعلم، وهو أن لارجحان متى كان أول الكلام فهو أقرب إليه، فهو في نفسك وهو الظن، كقولنا: رجحان الاعتقاد، فإن قدمت الرجحان على الاعتقاد، ومتى تأخر الرجحان عن الاعتقاد فقد بعد عنك، فهو في المعتقد كقولك: اعتقاد الرجحان، فإن الرجحان فيى رجحان الاعتقاد في النفس، والرجحان في اعتقاد الرجحان في المعتقد لا في النفس، والإعتقاد في رجحان الاعتقاد هو غير المقسم إلى الخمسة، والاعتقاد في اعقتاد الرجحان هو المنقسم إلى الخمسة، بهذه التنويعات يتضح هذا المشكل، ويقال: لما وصل هذا الكلام إلى ((إفريقية)) من المغرب قالوا: هذه عبارة متكررة، لا فرق

بينها ولا فائدة فيها، وأشكل ذلك عليه، ثم اتضح بعد طول وهو موضوع العذر في الإشكال على من أشكل عليه، وفـ ((الحاصل)) فرق بن الاعتقاد الراجح بأحد النقيضين، اعتقاد الراجح من أحد النقيضين، فالأول هو الظن والثانى هو المنقسم إلى الخمسة، وهذا الكلام يحتاج تقريرا آخر؛ لأنه غير العبارة، فتقول: إنما قال في الأول بـ ((الباء)) وفي الثانى بـ ((من))؛ لأن ((الباء)) للتعلق، كما تقول: العلم متعلق بالمعولم، فمعنى كلامه الاعتقاد الراجح المتعلق بأحد النقيضين هو الظن، فـ ((الباء)) متعلقة بصفة محذوفة، ولا شك أن الظن والعلم وغيرهما إنما يتعلق باحد النقيضين، ضرورة انحصار المعلومات كلها في النقيضين، ومن المحال أن يقعا معا، فالمعولم الوقوع أو المظنون هو أحدهما، والمعلق به دون الآخر، ومعنى قوله: ((من أحد النقيضين)): أن ((من)) للتبعيض أى: لنا اعتقادات ذات علم أو ظن أو غيرهما من الخمسة متعلقة بواحد من النقيضين، فنحن نعتقد الراجح منها هو الوجود أو العدم على قدر الواقع في ذلك في نفوسنا، فالرجحان في الاعتقاد الراجح في النفس، والرجحان في اعتقاد الرجح في المعتقد دون النفس، فظهر معنى كلام ((ألحاصل)) أيضا. وفي ((التحصيل)) الظن للاعتقاد الراجح من اعتقادى الطرفين، مغياره اعتقاد الراجح منا لطرفين، وقد لا يكون معه اعتقاد آخر، ويحتمل الأمور الخمسة، والأول الظن فهو نحو كلام ((الحاصل))، غير أن عليه سؤلا يخصه في قوله: ((الراجح من اعتقاد الطرفين))، فجعل الطرف

((تنبيه)) قول الإمام في الأصل: ((ظاهرى التجويز)) احترازا

الراجح اعتقادا والمرجوع اعتقادا، والمرجوح لا يصدق عليه أنه اعتقاد، لأن الاعتقاد هو عقد القلب على القضية، والحكم المرجوح يتسحيل أن يعتقده القلب؛ لأنه اعتقد النقيض الآخر، واعتقاد وقوع النقيضين محال، فذكر الجائزين في ((المحصول)) أولى لاندفاع هذا السؤال عنه. وقال التبرزى: الظن السكون إلى مجوز مع تجويز نقيضه فعلا، احترازا من التجويز العقلى في نفس الأمر، والمحكوم به قد يكون في نفس الأمر الرجحان كرجحان وقوع المطر، وليس بظن، فإن ذلك قد يكون علما، أي معلوما، والرجحان في الحكم الذهنى هو الظن لا الرجحان المحكوم به، فقوله: فعلا يريد وقوعا في العادة؛ لأن العلوم العادية كجزمنا بأن البحر ماء، وأنه لم ينقلب زيتا؛ علما قطعيا مع تجويز العقل انقلاب البحر زيتا. ((تنبيه)) قول الإمام في الأصل: ((ظاهرى التجويز)) احترازا عن العلوم العادية

((فائدة)) وقع في بعض نسخ ((المنتخب))

فإنها تغليب لأحد الجائزين عقلا، فإنا نجزم ببقاء البحر ماء، وهو أحد الجائزين، فلولا قوله: ((ظاهرى التجويز)) لدخلت العلوم العادية في حد الظن، وبقوله: ((ظاهرى التجويز)) خرجت العلوم العادة؛ لأن الاحتمال المرجوح الذي في الظن إذا قيس إلى الاحتمال الحاصل مع العلوم العادةكان ظاهرا جدا، فإن عدم انزل المطر من الغيم الرطب قربب، من مجارى العادات، فصار الاحتمالان والظن كل واحد منهما ظاهر، أما الراجح فبالقياس إلى ما يقابله، وأما المرجوح فبالقيسا إلى الاحتمال العقلى الكائن في العلوم العادية، فهذا معنى ظهور التجويز في الاحتمالين، وإلا فكلامه يقتضى اجتماع النقيضين، لأن أحدهما إذا كان ظارها لم يكن الآخر ظاهرا، فجعله ظاهرها يقتضى أن يكون ظارها وألا يكون ذلك باعتبارين، هو مرجوح باعتبار ماقبله، وراجح باعتبار مقابل العولم العادية، فلا محال حينئذ. ((فائدة)) وقع في بعض نسخ ((المنتخب)) كالغيم الرطب المسف - بالسين المهملة- ومعناه: القريب من الأرض. تقول العرب: اسف الطائر إذا قارب الأرض في طيرانه، والسحاب إذا أثقل بحمل الماء تدلى وقرب من الأرض، فلذلك كان لقربه من الأرض فدخل في ظن الأمطار. ***

الفصل الرابع في النظر والدليل والأمارة

الفصل الرابع في النظر والدليل والأمارة قال الرازي: أما النظر فهو ترتيب تصديقات في الذهن؛ ليتوصل بها إلى تصديقات أخر، والمراد من التصديق: إسناد الذهن أمرا إلى أمر بالنفي أو بالإثبات إسنادا جازما، أو ظاهرا ثم تلك التصديقات التي هي الوسائل، إن كانت مطابقة لمتعلقاتها، فهو النظر الصحيح وإلا فهو النظر الفاسد. ثم تلك التصديقات المطابقة: إما أن تكون بأسرها علوما؛ فيكون اللازم عنها أيضا علما، وإما أن تكون بأسرها ظنونا، فيكون اللازم عنها أيضا ظنا، وإما أن يكون بعضها ظنونا، وبعضها علوما؛ فيكون اللازم عنها أيضا ظنا؛ لأن حصول النتيجة موقوف على حصول جميع المقدمات، فإذا كان بعضها ظنا، كانت النتيجة موقوفة على الظن، والموقوف على الظن ظن، فالنتيجة ظنية؛ لا محالة. وأما الدليل، فهو الذي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم. وأما: الأمارة، فهي التي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيها، إلى الظن. قال القرافي: تقريره: يتحصل بالإيراد عليه، فلا حاجة للتَكرا وعليه تسعة أسئلة: الأول: على قوله: ((ترتيب تصديقات)) هو صيغة جمع، مع أن البرهان

القاطع قد قام على أن الدليل يستحيل أن يتركب من أكثر من مقدمتين تامتين، وحيث احتاج الدليل أو المطلوب إلى مقدمات كثيرة فإنما ذلك لعدم تمام المقدمتين أو إحداهما، والمقدمات الزائدة لتمامها أو لتمام إحداهما. وبيانه: أن المحكوم به إذا كان مجهول الثبوت للمحكوم عليه فلا بد من واسطة بينهما، يكون ثبوتها لأحدهما معلوما، وثبوت الآخر لها معلوما، فيلزم ثبوت المجهول للمعلوم، كما إذا جهلنا ثبوت الحدوث للعالم، فيتوسط بينهما التغير. فنقول التغير ثابت للعالم، والحدوث ثابت للمتغير، فالحدوث ثابت للعالم؛ لأن لازم اللازم لازم، فمن المحال أن تعلم هاتان الملازمتان ولا

.......................................................................

......................................................................

..................................................................

..................................................................

....................................................................

..................................................................

............................................................................

............................................................................

...........................................................................

يحصل العلم، نعم قد لا تعلمان، فنحتاج في كل مقدمة إلى دليل مركب من مقدمتين، وقد يحتاج الدليل الثاني لذلك أيضا، فتكثر المقدمات، فظهر أنه يستحيل الزيادة في الديل على مقدمتين تامتين، ويستحيل أن تحصل النتيجة بأقل منهما، فإنه لو انقطعت الواسطة عن المحكوم عليه أو المحكون به لم يحصل ثبوت المحكوم به للمحكوم عليه، ونقل عن بعض الفضلاء أنه أنكر هذا، وقال: بل تكفي مقدمة واحدة فإنا نقول: الحكم ثابت بالإجماع، ولقوله تعالى كذا، والإجماع مقدمة واحدة، وحكاية النص كذلك. وجوابه: أن إحدى المقدمتين قد تكون معلومة فسكت عنها؛ لأنها معلومة. وتقريره هاهنا: هذا ثابت بالإجماع، وكل ما ثبت بالإجماع، فهو حق فهذا حق. فقولنا: ((وكل ما ثبت بالإجماع حق)) أمر معلوم لنا فسكتنا عنه، إنما الذي نشك فيه وجود الإجماع في هذه الصورة فذكرناه، وكذلك أصل المثال الآخر هذا ورد فيه القرآن، وكل ما ورد فيه القرآن فهو حق، وهذه الثانية معلومة، إنما المجهول الأول، فذكرنا المجهول دون المعلوم لعدم الفائدة في ذكره، فظهر أنه لا بد من مقدمتين، وأنهما كافيتان، فاشتراط الجمع لا يصح، فإن قلت: هذا بناء على أن الجمع اثنان، فلا يرد السؤال.

قلت: سلمنا أنها مسألة خلاف، لكن المتبارد إلى الفهم من حقيقة الجمع الثلاث، والبيان بالحدود لايكون بالخفيات وإن كانت حقائق، وهذا السؤال قال بعضهم: ترتب تصديقين. الثاني: على قوله: ((ترتيب تصديقات)) فإن الترتيب قد يكون صحيحا، وقد يكون فاسدا مختل الشروط، فإنا لو قلنا: كل إنسان حيوان، وكل حجر جماد، صدق أنه ترتيب، ولكنه فاسد، ولا يقع مثل هذا في النظر لعدم اتحاد الوسط بين المقدمتين، أو يتحد الوسط لكن تفقد بعض الشروط الأشكال الأربعة المقررة في المنطق، ننحو قولنا: لا شيء من الإنسان بفرس، وكل فرس حيوان، فإن النتيجة لاشيء من الإنسان بحيوان، وهي باطلة؛ لأن من شرط الشكل الأول أن صغراه موجبة وهذه سالبة، وكذلك: كل إنسان حيوان، وبعض الحيوان فرس، لاينتج بعض الإنسان فرس، لأن من شرط كبراه أن تكون كلية، وهذه جزئية، وهذا كثير لا يضبطه إلا المنطق، فعلم أن الترتيب لا بد وأن يكون على صورة خاصة في النظر، وهو أحد مطلق الترتيب فلا يستقيم. فإن قلت: قصد أن يكون الحد جماعا للنظر الصحيح والفاسد. قلت: ليس كذلك؛ لأنه قد خصص الفاسد بعدم مطابقة المقدمات، فلم يرد الفاسد من جهة الترتيب. الثالث: أن النظر كما يقع في ترتيب التصديقات في البراهين لاكتساب التصديقات يقع أيصا في ترتيب التصورات في الحدود لاكتساب التصورات، فقد خرج من الحد بعض النظر، فلهذا السؤال قال بعضهم: ترتيب معلومات ليعم التصديقات والتصورات. الرابع: أن النظر قد لا يفضي إلى ترتيب ألبتة، كما إذا كان في طلب التصورات ولم يوجد تعريفها إلا بالرسم الناقص، وهو لازم واحد خارجي مساو للماهية، كقولنا في الإنسان: الضاحك أو الكاتب، فإن الترتيب فرع

التعدد، والمعرف به واحد، فلهذا السؤال قال إمام الحرمين: النظر الفكر، ولم يرد على هذا الوصف. الخامس: على قوله: ((ليتوصل بها إلى تصديقات أخر)) من أن ماهية النظر من حيث هي هي إنما تفضي في البراهين إلى تصديق واحد، فاشتراط التصديقات يخرج حقيقة النظر من الحد. فإن قلت: النظر له أفراد، ويقع في كل فرد تصديق، ففي أفراد النظر تصديقات. قلت: نحن إنما نقصد بالحدود الماهيات الكليات من حيث هي هي، فإذا حددنا الحيوان بأنه الجسم الحساس، لا نتعرض لأنواعه ولا لأفراده، بل للماهية من حيث هي هي، وماهية النظر من حيث هي هي لا تستلزم عددا في النتائج، بل تصديق نتيجة واحدة، فاشتراطه العدد في الناتج يخرج كل صورة ليس فيها إلا نتيجة واحدة. السادس: سلمنا صحة القيود، لكنه ينتقض بنظر العين، فإنه نظر وليس فيه ما ذكره، ولفظ النظر صالح لنظر العين كما هو صالح لنظر العقل، فإذا قلنا: ((فلان ينظر)) احتمل الأمرين، فكان يجب أن يقول: النظر العقلي ترتيب تصديقات إلى آخره، حتى يخرج نظر العين. السابع: على قوله: ((إن كانت التصديقات مطابقة لمتعلقاتها فهو النظر الصحيح)) إنه لا يكفي في صحة النظر المطابقة، كقولنا: كل إنسان حيوان، وبعض الحيوان فرس، ينتج بعض الإنسان فرس، وهو باطل، لأنه نظر فاسد مع الطابقة وصدق المقدمات، فحينئذ الفساد قد يكون لعدم المطابقة، وقد يكون لفوات شرط من شرائط الإنتاج، فإن شرط الشكل الأول كلية المقدمة الثانية، وها هنا هي جزئية، وقد يكون الفساد لطرق كثيرة غير عدم المطابقة في المقدمات وتجويز ذلك في علم المنطق؛ فلا يكون تقييده للنظر الصحيح مانعا لدخول بعض الفاسد فيه.

((تنبيه)) في تعريف النظر

الثامن: على قوله: ((وإن لم تكن مطابقة فهو الفاسد)) يشكل بقولنا: كل إنسان حجر، وكل حجر حيوان، فإن نتيجته: كل إنسان حيوان، وهو حق مع عدم المطابق في المقدمتين. وجوابه: أن النتيجة هذه حق، لهاتين المقدمتين، بل علمنا أنها حق من جهة أن الواقع كذلك، بل هذا نظر فاسد، ومن سلم صحته لزمه أن هذه النتجية نتيجة، فإن الإنتاج فرع التسليم. التاسع: أن المطابقة قد تكون مفسرة لموافقة ما في الذهن لوقوعه في المخارج، وقد تكون مفسرة لوقوع ملزوم صحة حكم العقل كما في النسب، وقد تقدم بسطه في أسئلة التقيسم في حكم الذهن بأمر على أمر، وهذا التقسيم الذي هو أعلم من الوقوع في الخارج إن أراده - مع أنه في غاية الخفاء بحيث لا يعرفه أكثر الفضلاء- فقد عرف بما هو أخفي من العرف، فلا يصح التعريف، وإن أراد أحد نوعيه الذي هو الوقوع في الخارج، أشكل عليه بقولنا: زيد بن عمر، وكل من يتولد من نطفة أبيه، فزيد متولد من نطفة أبيه، فهذا نظر صحيح، ومقدماته غير مطابقة، بمعنى أن البنوة ليست موجودة في الخارج لكونها نسبة، فصار ضابط النظر الفاسد غير مانع لدخول بعض النظر الصحيح فيه. ((تنبيه)) في تعريف النظر سبعة مذاهب المتقدم، وفي ((الحاصل)) ترتيب تصديقين ليتوصل بهما إلى استعلام مجهول، وقيل: ترتيب

((فائدة)) التصديق هو الخبر

معلومات ليتوصل بها إلى معلوم آخر، وقيل: ترتيب معلومين لتيوصل بهما إلى معلوم، وقيل: الفكر. وقال القاضي: هو تردد الذهن بين أنحاء الضروريات. وقال الأستاذ الإسفراييني: هو تحديق الذهن إلى جهة الضروريات. ((فائدة)) التصديق هو الخبر، ولما كان يقال لقائله، صدقت أو كذبت سمى بأحسن عارضيه لفظا، وكان يمكن أن يسما تكذيبا، والتصور مشتق من الصورة لأن للحقائق أشكالا في الذهن، كما لها أشكال وصور في الخارج، والصورة مشتقة من التصيير، لأن الصورة لا تكون صورة حتى تصير إلى حال بعد حال بالنجر أو البناء أوا لخرط، أو نوع من الصناعات، أو بالخلق الرباني بتنقلها في الأطوار.

((فائدة)) فعيل يكون بمعنى فاعل

((فائدة)) فعيل يكون بمعنى فاعل، نحو: ((رحيم)) بمعنى ((راحم))، وبمعنى مفعول نحو: قتيل بمعنى مقتول، ومحتمل لهما نحو: ولى، فإنه تولى الله - تعالى - بطاعته فهو فاعل، أو تولاه الله بطلفه فهو مفعول، و ((دليل)) فعليل بمعنى فاعل؛ لأنه مرشد، والبرهان مرادف له، وهما ما أفادا علما، والأمارة ما أفادت ظنا، والطريق يصدق عليهما بطريق التواطؤ، لأن الأول طريق العلم، والثاني طريق الظن. مثال: لامقدمات كلها علمية، قولنا: كل عشرة مثلا زوج، وكل زوج منقسم بمتساويين، فكل عشرة منقسمة بمتساويين، ومثالها كلها ظينة قولنا: كأس الحجام نجس عملا بالغالب، وكل نجس لا تصح به الصلاة، لقوله تبارك وتعال: (وثيابك فطر) المدثر: 4 وكأس الحجام لا تصح به الصلاة. ومثال البعض ظني قولنا: في الدار جيوان، عملا بالغالب وكل حيوان جسن، ففي الدار جسم. ((فائدة)) قال أبو الحسين في ((المعتمد)): ((قال المتكلمون: لكل ما أفاد النظر فيه الظن فهو أمارة كان عقليا أو شرعيا)). وقال الفقهاء: القياس وخبر الواحد أدلة، ولا يسمون الأمارات العقيلة أدلة، كالنظر في القِبْلَة وقيم المُتلفات. ((تنبيه)) النتجية تتبع أخس المقدمات، والخسات ثلاثة: الظن والسلب والجزئي،

((تنبيه)) تقدم في كون الحكم الشرعي معلوما أنه إذا اجتمع مقدمتان ظنية وقطعية

فظنية وقطعية النتيجة ظنية، وسالبة وموجبة النتيجة سالبة، كل إنسان ناطق، ولا شيء من الناطق بفرس، فلا شيء من الإنسان بفرس، وجزئية وكلية النتيجة جزئية، نحو بعض الحيوان إنسان، ولك إنسان نطاق، فبعض الحيوان ناطق. ((تنبيه)) تقدم في كون الحكم الشرعي معلوما أنه إذا اجتمع مقدمتان ظنية وقطعية، النتيجة ظنية وإذا اجتمع دليلان ظني وقطعي المطلوب قطعي، والفرق توقف المقدمات بعضها على بعض، بخلاف الأدلة، وأن الظن إنما يقدح في النتيجة إذا كان أحد جزئي الدليل. أما إذا كان خارجا عن الديلل، بل بعض أجزاء الدليل، أو كل جزء منه متعلقا بالظن، فلا يقدح، تقدم بسطه هناك.

الفصل الخامس في الحكم الشرعي

الفصل الخامس في الحكم الشرعي قال الرازي: قال أصحابنا: إنه الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالإقتضاء أو التخيير. أما الإقتضاء، فإنه يتناول اقتضاء الوجود، واقتضاء العدم، إما مع الجزم أو مع جواز الترك؛ فيتناول الواجب والمحظور والمندوب والمكروه. وأما التخيير، فهو: الإباحة. فإن قيل هذا التعريف فاسد من أربعة أوجه: أحدها: أن حكم الله تعالى على هذا التقدير خطابه، وخطاب الله تعالى كلامه، وكلامه عندكم قديم، فيلزم أن يكون حكم الله تعالى بالحل والحرمة قديما. وهذا باطل من ثلاثة أوجه: الأول: أن حل الوطء في المنكوحة وحرمته في الأجنبية صفة فعل العبد؛ ولهذا يقال: هذا الوطء حلال، أو حرام، وفعل العبد محدث وصفة المحدث لا تكون قديمة. الثاني: أنه يقال هذه المرأة حلَّت لزيدٍ بعدما لم تكن كذلك، وهذا مشعر بحدوث هذه الأحكام.

الثالث: أنا نقول: المقتضى لحل الوطء هو النكاح، أو ملك اليمين، وما كان معللا بأمر حادث يستحيل أن يكون قديما، فثبت أن الحكم يمتنع أن يكون قديما، والخطاب قديم، فالحكم لا يكون عين الخطاب. وثانيها: أن الأحكام خارج عن هذا الحد، وهو كون الشيء سببا وشرطا ومانعا وصحيحا وفاسدا. وثالثها: أن الحكم الشرعي قد يوجد في غير المكلف؛ وذلك كجعل إتلاف الصبي سببا لوجوب الضمان، وجعل الدلوك سببا لوجوب الصلاة. ورابعها: أنك أدخلت كلمة ((أو)) في الحد، وهو غير جائز لأنها للترديد، والحد للإيضاح وبينهما مباينة. والجواب: قوله: ((الحل والحرمة من صفات الأفعال)). قلنا: لا نسلم؛ فإن عندنا: لا معنى لكون الفعل حلالا إلا مجرد كونه مقولا فيه: ((رفعت الحرج عن فاعله)) ولا معنى لكونه حراما إلا كونه مقولا فيه: ((لو فعلته لعاقبتك))) فحكم الله تعالى هو قوله، والفعل متعلق القول، وليس لمتعلق القول من القول صفة، وإلا، لحصل للمعدوم صفة ثبوتية بكونه مذكورا، ومخبرا عنه، ومسمى بالاسم المخصوص. قوله: ((إنا نقول: هذه المرأة حلت لزيد، بعدما لم تكن كذلك)) قلنا: حكم الله تعالى هو قوله في الأزل: ((أذنت للرجل الفلاني حين وجوده في كذا)) فحكمه قديم، ومتعلق حكمه محدث. قوله: ((الحكم يعلل بالأسباب)):

شرح القرافي

قلنا: المراد من السبب عندنا المعرف لا الموجب. قوله: ((هذا التحديد يخرج عنه كون الشيء سببا وشرطا ومانعا وصحيحا وفاسدا)). قلنا: المراد من كون الدلوك سببا: أنا متى شاهدنا الدلوك، علمنا أن الله تعالى أمرنا بالصلاة، فلا معنى لهذه السببية إلا الإيجاب. وإذا قلنا: ((هذا العقد صحيح)) لم نعن به إلا أن الشرع إذن له في الانتفاع به ولا معنى لذلك إلا الإباحة. قوله: ((هذا التحديد يخرج عنه إتلاف الصبي، ودلوك الشمس)) قلنا: معنى قولنا: ((إتلاف الصبي سبب لوجوب الضمان)) أن الولي مكلف بإخراج الضمان من ماله، والرجل مكلف ب أداء الصلاة عند الدلوك. قوله: ((كلمة أو للترديد)). قلنا: مرادنا أن كل ما وقع على أحد هذه الوجوه كان حكما، وإلا فلا. قال القرافي: قوله: ((الحكم الشرعي خطاب الله تعالى القديم المتعلق بأفعال المكلفين على وجه الاقتضاء أو التخيير)).

((سؤال)) قوله تعالى ((أقيموا الصلاة))

تقريره: أن الخطاب قد يكون خبرا لا حكم فيه نحو ((نحن خلقناكم)) الواقعة: 57، فقوله: ((المتعلق بأفعال المكلفين)) احترازا من المتعلق بأفعال الجمادات نحو قوله تعالى: ((ويوم نسير الجبال)) فهذا خطاب متعلق بالجبال، وهي جمادات. وقوله: ((على وجه الاقتضاء)) احترازا من المتعلق بأفعال المكلفين على وجه الخبر كقوله تعالى: ((وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)) البقرة: 34 فهذا خطاب متعلق بأفعال الملائكة، فهم مكلفون بالسجود وغيره، لكن هذه الآية لم يطلب - تعالى - من أحد منا، ولا من الملائكة بها شيئا، بل هي خبر عما تقدم من حال الملائكة. وقوله: ((أو التخيير)) لأن الاقتضاء تدخل فيه أربعة أحكام: الوجوب، والندب، والكراهة، والتحريم، وتبقى الإباحة فقال: ((أو التخيير)) ليشمل الحد الأحكام الخمسة. ((سؤال)) قوله تعالى ((أقيموا الصلاة)) خطاب الله تعالى وهو متعلق بأفعال الملكفين على وجه الاقتضاء، فيلزم أنه حكم، ولو كان حكما لاتحد الدليل والمدلول، وكذلك جميع نصوص أدلة الأحكام. ((سؤال)) ينتقض الحد بالاستفهام، لأنه طلب للفهم، والتمنى، والترجى، لأن المتلكم فيهما طالب للمترجى والمتمنى، والقسم؛ لأن المقسم طالب لتعظيم المقسم به، والنداء، لأن المنادى طالب لحضور المنادى له، وليست أحكاما شرعية مع أن مدلولاتها قائمة بالنفس، كلام نفسي. جوابه أن الإستفهام حقيقة على الله تعالى محال؛ لأنه بكل شيء عليم،

((سؤال)) المخاطبة مفاعلة لا تكون إلا من اثنين

بل هو إمّا نهي محض نحو قوله تعالى: ((فهل ترى لهم من باقية)) الحاقة: 8 معناه: لا ترى لهم من باقية. أو ثبوت محض نحو قوله تعالى: ((هل أتى على الإنسان حين من الدهر)) الإنسان: 1 أي: قد أتى، ومنه الامتنان نحو قوله تعالى: ((ألم نشرح لك صدرك)) الشرح: 1 فهي كلها إخبارات حرجت بقوله على وجه الاقتضاء وكذلك التهديد نحو ((ما منعك أن تسجد)) ص: 75 وأما قوله تعالى: (أم له البنات ولكم البنون)) الطور: 39 فوعيد معناه النهي، فيندرج في الحكم لأنه تحريم، فإنا لا نخص التحريم بصيغة النهي، بل بأي دليل كان. والترجي والتمني محالان على الله تعالى، لأنهاما لا يكونان إلا من جاهل بالعواقب، لأن المعلوم لا يترجى ولا يتمنى، بل هما من الله - تعالى - إما مجاز في الأمر فيندرجان من باب التعبير بالملزوم عن اللازم، لأن الطلب من لوازهما، أو بتصرفات المخاطب، أي: عمل عمل من يرجو، كما في قوله تعالى: ((لعله يتذكر أو يخشى)) طه: 44 أي عظاه موعظة الراجي، أي بالغا في ذلك، فيندرج في الحكم لأنه طلب او مجاز منصرف إلى الله تعالى نحو قوله تعالى: ((ثم بعثناكم من بعد موتكم)) البقرة: 56 أي: بالغنا في هذا مبالغة من يرجو هذا منكم، والضابط: متى كان الفعل من الله - تعالى - فالمبالغة منه، ويكون خبرا عن المبالغة، فيخرج تقيد الطلب، ومتى كان الفعل للعبد كانت المبالغة طلبا من العبد للمبالغة، فيكون حكما، وأما الندائ والقسم فنوقل: إنهما حكمان؛ لأنهما طلبان من الله تعالى. ((سؤال)) المخاطبة مفاعلة لا تكون إلا من اثنين، فتكون مختصة بالحادث،

فمخاطبة الله - تعالى - حادثة، وكلامه قديم، والحكم عندنا قديم، فتسيره بالحادث لا يصح، فيجب على هذا أن نقول في الحد: ((هو كلام الله القديم ..)) إلى آخره، فالكلام احترازا من الخطاب الحادث، ((والكلام القديم)) احترازا من الكلام الحادث الذي هو آيات القرآن، فإنها أصوات حادثة، وهي الأدلة، وأما الحكم فمدلول قديم قائم بذات الله تعالى. قوله: ((الحكم صفة فعل العبد تقول: وطء حلال، وصفة الحادثة حادثة، ثم أجاب عنه بأنه متعلق الخطاب)). تقريره: أن الشيء يوصف بما هو قائم به، نحو: عالم وقادر، وبما ليس قائم به كقولك: الشمس تغرب غدا، فغروب الشمس يصدق عليه أنه معلوم، ولكن بعلم قام بك، وكذلك هو مذكور ومخبر عنه، ولكن بذكر قام بك، وخبر قام بك لا به، وكذلك إذا قلت لعبدك: أسرج الدابة، فالإسراج مأمور به، وواجب على العبد بأمر وإيجاب قام بك، لا بإسراجه، فظهر أن الشيء قد يوصف بما ليس قائما به، ففي القسم الأول، إذا وصف بما هو قائم به يلزم من نحدوث الموصو ف حدوث الصفة، [وفي الثاني إذا وصف بما ليس قائما به لا يلزم من حدوث الموصوف حدوث الصفة لأن الصفة إذا لم] تقم به أمكن تقديمها عليه، فجاز أن تكون قديمة والموصوف حادث، فوصف الأفعال بالأحكام من هذا القبيل، فقولنا: حلال وحرام مثل قولك: في إسراج لادابة وغروب الشمس. فقوله: ((لا نسلم أن الحرمة من صفات الأفعال)) مراده صفات قائمة بالموصوف، وإلا فهي صفة قطعا كقولك: فعل حلال وحرام، فهذا التفصيل خير من المنع، ثم إنه قال: ((لا معنى لكونه حراما إلا كونه مقولا فيه: لو فعلته لعاقبتك)) مشكل، لأن هذه صيغة خبر، وهو مشكل، وتفسير الحرمة بالخبر لا يصح، لأن الخبر يدخله التصديق والتكذيب،

أقسام خطاب الشرع

والأحكام لا يدخلها ذلك، ولأن الخبر لاينسخ على الصحيح، الأحكام تنسخ، فهذا التفسير باطل، بل لا معنى للحرمة إلا طلب قائم بذات الله تعالى، متعلق بدرك العقل لا ما قاله. قوله: ((المراد من السبب المعرف لا الموجب)). تقريره: أن الحادث يجوز أن يعرف بالقديم، كما عرفنا الله تعالى بصنعته المحدثة، وأما الموجب فهو المؤثر بالذات، والموجد هو المؤثر بالاختيار، والأثر من الموجد أو م الموجب متأخر عنهما بالضرورة، فإذا كانا حادثين كان حادثا جزما. قوله: ((المراد من كون الدلوك سببا أنا متى شاهدنا الدلوك علمنا أن الله - تعالى - أمرنا بالصلاة)). تقريره: أن خطاب الشارع قسمان: خطاب تكليف أو إذان يشترط فيه علم المخاطب وقدرته، وهو الاحكام المتعلقة بالاقتضاء أو التخيير، فلا بد من علم المكلف بما طلب منه، أو أذن له فيه، ولا بد من كونه مقدورا له، فالنازل من شاهق قهرا لا يؤمر بالنزل، ولا يباح له، بل لاتتعلق به هذه الاحكام، ويكون في هذا الحال كالنائم والجنون. وخطاب وضع: وهو نصب الأسباب، والشروط، والموانع، والتقديرات. فالأول: كالنصاب في الزكاة،

........................................................................

............................................................

وأوقات الصلوات.

........................................................

والثانى: كالحول في الزكاة، والطهارة في الصلاة. والثالث: كالدين في الزكاة، والنجاسة في الصلاة. والرابع: هو إعطاء الموجود حكم المعدوم والمعدوم حكم الموجود.

فالأول: كالنجاسة المعفو عنها، فإنها موجودة، وهي في حكم الشرع كالمعدومة، وكذلك كل رخصة. والثاني: كتقدير الملك للمعتق عنه، إذا قال لك: أعتق عبدك عني، فإن الولاء له، فيقدر له الملك حتى يثبت ولاء العتق له، وكذلك تقدير الأعيان في الذمم في السلم وغيره، فإنك تقول: في ذمته جمل أو حنطة، أو دين إلى أجل ونحو ذلك، مع أ، هذه الأشياء معدومة، لكن الشرع يقدرها موجودة لصحة إيراد المعقود، فإن العقد بدون المعقود عليه محال، ولا يكاد باب من أبواب الفقه يعرى عن التقدير، وقد ثبت ذلك في كتاب ((الأمنية في إدراك النية)). فهذا القسم من الخطاب الذي هو خطاب الوضع للأربعة، لايشترط فيه قدرة المكلف، ولا علمه، فيورث بالنسب، ويطلق بالضرر ونحو ذلك، وإن كان الوارث والمطلق عليه غير عالمين وعاجزين كمالمجنون والغائب وونحوهما، هذا هو الغالب في خطاب الوضع، وقد استنثى صاحب الشرع منه أشياء كالجنايات، فإنها أسباب العقوبات ولا يعاقب عاجز، ولا غير عالم، فمن شرب خمرا يظنه جلابا لا يحد، ومن وطيء أجنبيه يظنها أمته لا يحد، لأن عقوبة العاجز ولاذي لم يقصد الفساد لم يرد به الشرع، وكذلك طلاق الصبي وبيعه لا ينفذان، مع أنهما سببان كالنسب الموجب للإرث، ومقتضى القاعدة أن ينفذا من الصبي، وتخريج هذه المستثنيات مبسوط في الفقه.

غير أن هذا هو شأن هذه القاعدة، إذا تقرر هذا، فجعل الشارع الزوال سببا هو نصبه سببا، وإذا جعله سببا ترتب على هذا الجعل علمنا بوجوب الظهر عنده، فتفسير الإمام نصب الأسباب بعلمنا لا يستقيم، وهو كتفسير السرقة بالقطع، وأنه غير مستقيم، ثم قوله: ((لا معنى لهذه السببية إلا الإيجاب)) لا يصح؛ لأن الإيجاب حقيقة معلومة، وهي أعم من كونها مرتبطة بالزوال، فالزوال بالزوال أمر زائد عليها، والزائد على الشيء لا يكون نفسه، وهذا الارتباط هو السببية، وليس هو حقيقة الإيجاب قطعا، وكذلك الشرطية في المشروط هو ربط عدم الحكم بحالة عدم الشرط، ومانعية المانع هي ربط عدم الحكم بحالة وجود المانع، فإن المعتبر من الشروط عدمه في عدم الحكم، ومن المانع وجوده في عدم الحكم، ومن السبب وجوده وعدمه، وسيأتي بسط هذا إن شاء الله تعالى عند الكلام على الشروط

((تنبيه)) قد يجتمع خطاب الوضع وخطاب التكليف وقد ينفردا

في تخصيص العام، وكذلك التقديرات ربط الشرع الولاء بتقدير الملك في المحل، وقرر الشرع صحة الصلاة مع وجود النجاسة المعفو عنها، فهذه أحكام سابقة على علمنا، ويترتب عليها علمنا، فلا يستقيم تفسيرها بعلمنا، وما من حكم إلا وله سبب في الشريعة، وتحرير ذلك في الفقه، إذا تقرر هذا ظهر أن خطاب الوضع أحكام، لأنه أمر قرره الشرع، ولم يعلم إلا من قبله، وليس من باب الإخبارات بل إنشاءات كالتكاليف. وتقريره: أنه ربط بين الحكم التكليفي وغيره من الأسباب، والشروط، والموانع، والتقديرات، وأن ذلك الربط غير علمنا بالثبوت عند حدوث الأسباب ونحوها، وغير الحكم المرتبط، فيتعين حينئذ بطلان جوابه، وصحة السؤال، وبطلان الحد بأنه غير جامع لجميع أنواع الأحكام، وأنه يتعين أن يزيد في الحد نوعا آخر بصيغة أو فيقول: الحكم الشرعي كلام الله تعالى القديم المتعلق بأفعال المكلفين على وجه الاقتضاء أو التخيير أو ما يتبعه هذا التعلق وجودا أو عدما، فبقولنا: ((وجودا دخلت الأسباب))، وبقولنا: ((أو عدما)) تندرج الشروط والموانع، فإن الحكم ينعدم عند عدم الشرط ووجود المانع، فيجتمع في الحد لفظة أو ثلاثة لفظات، ويصير الحد جامعا مانعا. ((تنبيه)) قد يجتمع خطاب الوضع وخطاب التكليف في شيء واحد، كالزنا حرام، وهو سبب الحد، وقد ينفرد خطاب الوضع كأوقات الصلاة، وقد ينفرد التكليف كصلاة الظهر، وإن كان لا بد في كل واحد منهما من وقوع الآخر في الوجود، إلا أنهما قد لا يجتمعان في الشيء الواحد. ((تنبيه)) ينبغي أن يفهم من السبب ما يلزم من وجوده وجود الحكم، ومن عدمه

((تنبيه)) ينبغي أن يعلم أن خطاب التكليف والإباحة يندرج فيه الملك

عدمه، كزوال الشمس مع وجوب الظهر، ووعلى هذا تندرج الأسباب لأنها يلزم من وجودها وجود الأحكام، ومن عدمها عدهما، وفي الحقيقة السبب هو الظن، أو العلم الناشئان عنها، وكذلك تندرج الحجج المشروعة عند الحكام كالبينة، والإقرار، واليمين، ونحو ذلك، فإنها يلزم من وجودها الوجود، ومن عدمها العدم، والسبب في الحقيقة، نشأ في نفس الحاكم من ظن أو علم عندها، كما تقدم في المجتهد. ((تنبيه)) ينبغي أن يعلم أن خطاب التكليف والإباحة يندرج فيه الملك، لأنه إباحة الانتفاع بالمملوك وصحة العقد؛ لأنه إباحة الانتفاع بالمعقود عليه، والنجاسة لأنها تحريم لملابسة تلك العين في الصلاة أوالغذاء، والطهارة لأنها إباحة الملابسة في الصلاة أو الغذاء، والحدث لأنه تحريم ملابسة الصلاة حتى يتطهر، وعلى هذه الطريقة ترجع إلى الأحكام الخمسة جميع هذه الأمور التي لها عبارات تخصها، ولا تسمى بحرام ولا بمباح، وهي في المعنى راجعة إليهما، ومنه العصمة في الدماء أو الأموال، فإنها راجعة إلى تحريم أحدها عند عدم وجود السبب المبيح، وكثير م هذه الصور إذا سئل أكثر الفقهاء عنها إلى أي الأحكام ترجع؟ لا يدري لأيها ترجع، ويعتقد أنها خارجة

معاني أو

عنها، بل أكثر الفقهاء لا يفهم معنى الحدث والنجاسة والطاهرة، وهي من أول شيء اشتغل به، وما سببه إلا اختلاف الألفاظ. قوله: ((معنى كون إتلاف الصبي سبب الضمان أن المولى مكلف بإخراج الضمان من ماله)). قلنا هاهنا أمران: تكليف الصبي بالإخراج، وجعل إتلاف الصبي سبب هذا التكليف، فهذا الجعل هو غير التكيلف قطعا، لكونه متعلقا بفعل الصبي لا بفعل الولي، ولكونه متقدما على تكليف الولي فهو لغيره قطعا، ولا مخلص من هذه الأمور إلا بأن يذكر في الحد ما يقتضي دخول الأحكام الوضعية مع التكليفية كما تقدم. قوله في الجواب عن ((أو)) للترديد: أن مرادنا أنه كل ما وقع على أحد هذه الوجوه كان حكما ومالا فلا)). تقريره: أن ((أو)) لها خمسة معان: الإباحة نحو: أصحب العلماء أو الزهاد، والتخيير: كقول البائع: خذ الثوب أو الدينار، والفرق بينهما أن لك في الأول الجمع دون الثاني. والشك: نحو جاءني زيد، أو عمرو.

((سؤال)) ((على هذا التقدير تكون ((أو)) مشتركة

والإبهام: نحو يأتي زيد أو عمرو. والفرق بينهما أنك عالم في الثاني بالآتي منهما، وإنما قصدت التلبيس على السامع بخلاف الأول أنت غير عالم بهما. والتنويع: نحو العدد إما زوج أو فرد، أي العدد متنوع إلى هذين النوعين، والفرق بين الأولين والثلاثة الآخرة أن الأولين لا يكونان إلا في الأمر، والثلاثة الأخيرة لا تكون إلا في الخبر، فمراد الإمام هاهنا الخامس وهو التنويع، فهو يقول: الحكم الشرعي متنوع إلى هذين النوعين، الإقتضاء والتخيير. ((سؤال)) ((على هذا التقدير تكون ((أو)) مشتركة، واللفظ المشترك لا يجوز في الحدود لإجماله، والحدود مرادة للبيان)). جوابه: يجوز دخول المشترك والمجاز في الحدود إذا كان اللبس ذاهبا بالسياق، فلا يفهم أحد من قول القائل: العدد إما زوج أو فرد إلا التنويع، ولا نحكم بأن هذا القائل شاك، وكذلك إذا قلنا في حد الزنجي: هوالآدمي الأسود الكائن في جنوب الهند، لا يخفي على أحد أنا إنما أردنا سواد جلده دون أسنانه وعينيه، وهو مجاز لا يصير، فكذلك هاهنا لا يفهم أحد من ذكر الحد أنه شاك في قوله، بل إنما أراد التنويع.

((فائدة)) قال بعضهم: ((هذا حكم بالتردد لا ترديد في الحكم))

((فائدة)) قال بعضهم: ((هذا حكم بالتردد لا ترديد في الحكم)). معناه: أن المنوع حكم بتردد الحقيقة المتنوعة بين هذين النوعين، فليس بشاك، بل هو جازم بالتردد، والشاك متردد في حكمه، هل يحكم بهذا أو بنقيضه، فظهر الفرق بين لاحكم بالترديد، والترديد في الحكم، والقادح إنما هو الثاني دون الأول والواقع في احد الحكم هو الأول دون الثاني، فلا فساد حينئذ. ((سؤال)) قال النقشواني: ((إن أراد بالمكلفين من تعلق به الحكم الشرعي لزم الدور؛ لأنه عرف الحكم بما لا يعرف إلا بعد معرفته)). جوابه: تقدم في حد المعلم أن السائل قد يعرف معنى المكلف، ولا يعرف معنى لفظ الحكم، وبسطه هناك. ((سؤال)) اختلف الناس في الصبيان هل هم مندوبون للصلاة والصوم أم لا؟ فعلى القول بتعلق الندب بهم لا يندرج الندب بالمتعلق بهم في الحد؛ لأنهم ليسووا مكلفين، لأن التكليف مأخوذ من الكلفة والمشقة، وإنما يفهم ذلك في

الوجوب والتحريم خاصة، فالصبي غير مكلف، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((رفع القلم عن ثلاث)) إشارة إلى رفع التكليف مع بقاء الندب في حق الصبيان على الصحيح.

الفصل السادس في تقسيم الأحكام الشرعية

الفصل السادس في تقسيم الأحكام الشرعية قال الرازي: التقسيم الأول وهو من وجوه: خطاب الله تعالى إذا تعلق بشيء، فإما أن يكون طلبا جازما، أو لا يكون كذلك. فإن كان جازما، فإما أن يكون طلب الفعل، وهو الإيجاب، أو طلب الترك وهو التحريم. وإن كان غير جازم، فالطرفان، إما أن يكونا على السوية، وهو الإباحة، وإما أن يترجح جانب الوجود، وهو الندب، أو جانب العدم، وهو الكراهة، فأقسام الأحكام الشرعية هي هذه الخمسة. وقد ظهر بهذا التقسيم ماهية كل واحد منها، فلنذكر الآن حدودها وأقسامها. أما الواجب، فالذي اختاره القاضي أبو بكر أنه ما يذم تاركه شرعا على بعض الوجوه. وقولنا: ((يذم تاركه)) خير من قولنا: ((يعاقب تاركه)) لأن الله تعالى قد يعفو عن العقاب، ولا يقدح ذلك في وجوب الفعل، ومن قولنا: ((يتوعد بالعقاب على تركه)) لأن الخُلفَ في خبر الله تعالى محال، فكان ينبغي أن لا يوجد العفو،

الفرق بين الواجب والفرض

ومن قولنا: ((ما يخاف العقاب على تركه)) لأن الذي يشك في وجوبه وحرمته قد يخاف من العقاب على تركه، مع أنه غير واجب، وقولنا: ((شرعا)) إشارة إلى ما نذهب إليه من أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع. وقولنا: ((على بعض الوجوه)) ذكرناه ليدخل في الحد الواجب المخير، لأنه يلام على تركه إذا تركه وترك معه بدله أيضا، و (الواجب الموسع) لأنه يلام على تركه إذا تركه في كل الوقت، (والواجب) على الكفاية لأنه يلام على تركه إذا تركه الكل. فإن قيل: هذا الحد يدخل فيه السنة؛ فإن الفقهاء قالوا: لو أن أهل محلة اتفقوا على ترك سنة الفجر بالإصرار، فإنهم يحاربون بالسلاح، قلت: سيأتي جوابه إن شاء الله تعالى. وأما الاسم، فاعلم أنه لا فرق عندنا بين الواجب والفرض، والحنفية خصصوا اسم الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع، والواجب بما عرف وجوبه بدليل مظنون. قال أبو زيد رحمه الله: الفرض عبارة عن التقدير؛ قال الله تعالى ((فنصف ما فرضتم)) أي قدَّرتم. وأما الوجوب، فهو عبارة عن السقوط، قال الله تعالى: ((فإذا وجبت جنوبها)) أي سقطت؛ إذا ثبت هذا، فنحن خصصنا اسم الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع؛ لأنه هو الذي يعلم من حاله، أن الله تعالى قدره علينا. وهذا الفرق ضعيف؛ لأن الفرض هو المقدر، لا أنه الذي ثبت كونه مقدرا

تعريف المحظور

علما أو ظنا كما أن الواجب هو الساقط، لا انه الذي ثبت كونه ساقطا علما أو ظنا، وإذا كان كذلك، كان تخصيص كل واحد من هذين اللفظين بأحد القسمين تحكما محضا. وأما المحظور فهو الذي يذم فاعله شرعا، وأسماؤه كثيرة: أحدها: أنه معصية، وإطلاق ذلك في العرف يفيد أنه فعل ما نهى الله تعالى عنه، وقالت المعتزلة: إنه الفعل الذي كرهه الله تعالى، والكلام فيه مبني على مسألة خلق الأعمال، وإرادة الكائنات. وثانيها: أنه محرم، وهو قريب من المحظور. وثالثها: أنه ذنب، وهو المنهي عنه الذي تتوقع عليه العقوبة والمؤاخذة؛ ولذلك لا توصف أفعال البهائم والأطفال بذلك، وربما يوصف فعل المراهق به؛ لما يلحقه من التأديب على فعله. ورابعها: أنه مزجور عنه، ومتوعد عليه، ويفيد في العرف أن الله تعالى هو المتوعد عليه والزاجر عنه. وخامسها: أنه قبيح، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. وأما المباح، فهو الذي أعلم فاعله أو دل على أنه لا ضرر في فعله وتركه ولا نفع في الآخرة. وأما الأسماء، فالمباح يقال له: إنه حلال طلق. وقد يوصف الفعل بأن الإقدام عليه مباح، وإن كان تركه محظورا؛ كوصفنا

المكروه وإطلاقاته

دم المرتد بأنه مباح، ومعناه أنه لا ضرر على من أراقه، وإن كان الإمام ملوما بترك إراقته. وأما المندوب، فهو الذي يكون فعله راجحا على تركه في نظر الشرع، ويكون تركه جائزا. وإنما ذم الفقهاء من عدل عن جميع النوافل؛ لاستدلالهم بذلك على استهانته بالطاعة، وزهده فيها فإن النفوس تستنقص من هذا دأبه وعادته. وقولنا: ((في نظر الشرع)) احتراز عن الأكل قبل ورود الشرع، فإن فعله خير من تركه، لما فيه من اللذة لكن ذلك الرجحان لما لم يكن مستفادا من الشرع؛ فلا جرم أنه لا يسمى مندوبا. وأما الأسماء، فأحدها: أنها مرغب فيه، لما أنه قد بعث المكلف على فعله بالثواب. وثانيها: أنه مستحب، ومعناه في العرف أن الله تعالى قد أحبه. وثالثها: أنه نفل، ومعناه أنه طاعة غير واجبة وأن للإنسان أن يفعله من غير حتم. ورابعها: أنه تطوع، ومعناه أن المكلف انقاد لله تعالى فيه مع أنه قربة من غير حتم. وخامسها: أنه سنة، ويفيد في العرف أنه طاعة غير واجبة، ولفظ السنة مختص في العرف بالمندوب بدليل أنه يقال هذا الفعل واجب أو سنة. ومنهم من قال: لفظ ((السنة)) لا يختص بالمندوب بل يتناول كل ما علم

((تنبيه)) التقسم الدائر بين النفي والإثبات

وجوبه أو ندبيته بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أو بإدامته فعله؛ لأن السنة مأخوذة من الإدامة، ولذلك يقال: الختان من السنة ولا يراد به أنه غير واجب. وسادسها: أنه إحسان، وذلك إذا كان نفعا موصلا إلى الغير مع القصد إلى نفعه. وأما المكروه، فيقال بالاشتراك على أحد أمور ثلاثة: أحدها: ما نهي عنه نهي تنزيه، وهو الذي أشعر فاعله بأن تركه خير من فعله، وإن لم يكن على فعله عقاب. وثانيها: المحظور وكثيرا ما يقول الشافعي رحمه الله: أكره كذا وهو يريد به التحريم. وثالثها: ترك الأولى كترك صلاة الضحى، ويسمى ذلك مكروها، لا لنهي ورد عن الترك بل لكثرة الفضل في فعلها والله أعلم. قال القرافي: قوله: ((خطاب الله تعالى إذا تعلق بشيء، إما أن يكون طلبا جازما، وإما ألا يكون، إلى قوله: فانقسمت الأحكام الشرعية إلى هذه الخمسة)). قلنا: قد تقدم أن حكم الله تعالى هو كلامه القديم، وأن الخطاب إنما يفهم منه المخاطبة الحادثة، وأن خطاب الله تعالى هو الكتاب والسنة اللذان هما أدلة الأحكام لا الأحكام. ((تنبيه)) التقسم الدائر بين النفي والإثبات، لا يلزم منه كون تلك الأقسام على ذلك

العدد من غير زيادة، ولا نقصان، ولا الحصر في ذلك العدد، وإنما هو عناية المتكلم، وتفسير لما في نقسه، فإن نورع في ذلك وقف الحال. بيانه: أنك تعلم أن العالم ثلاثة أقسام: جماد ونبات وحيوان لا رابع لها، مع أنه أمكن أن أذكر تقسيما بين النفي والإثبات يقتضي أنهما قسمان أو عشرة، فأقول: المعلوم الكائن في مجوجودات العالم إما أن يكون حساسا أو لا، فإن كان حساسا فهو الحيوان، وإلا فهو الجماد، فثبت الحصر باثنين، أو أقول إن كان حساسا فلا يخلو إما أن يكون ناطقا أولا، فإن كان ناطقا فهو الحيوان، وإلا فهو الإنسان، وإن لم يكن حساسا فلا يخلو إما أن يكون ناميا أو لا، فإن كان ناميا فهو النبات، وإن لم يكن ناميا فلا يخلو إما أن يكون نائعا أو لا، فإن كان مانعا فهو الماء، وإلا فهو الجماد، إلى غير ذلك من التفاسير الفاسدة، والأقسام الرديئة التي ليست بمطابقة، فإن تفسير الناطق بالحيوان غَلَط وكذلك النامي بالجماد ونحوه، وإنما أردت أن أبين لك أن التقسيم يكون محصرا قطعا، وتفسير ذلك القسم بما يقوله المقسم قد يكون صحيحا، وقد تكون العدة أكثر مما قاله أو أقل، فلا نعتبر لمراده، بمعنى أني أريد بهذا القسم هذا المعنى، وقد يكون صحيحا وقد يكون فاسدا، إذا تقرر ذلك فاختلف الناس في عدد الأحكام فقيل: خمسة كما قاله وهو المشهور. وقيل: أربعة، والمباح ليس من الشرع. ومنشأ الخلف فيه: هل يراد به عدم الحرج والثواب في الفعل والترك، وذلك ثابت قبل الشرع، وما هو ثابت قبل الشرع لا يكون شرعيا؟ أو يراد به إعلام صاحب الشرع بذلك؟ ولا شك أن إعلام الشرع لا يثبت قبل الشرع فيكون شرعا، وهو المشهور. وقيل: اثنان، وفسرت الإباحة بنفي الحرج عن الإقدام على الفعل،

فيندرج فيها الواجب، والمندوب، والمكروه، والمباح، ولا يخرج سوى الحرام، وهذا هو تفسير المتقديمن، والثابت في موارد السنة، وإنما فسره بمستوى الطرفين المتأخرون، قوال عليه السلام: ((أبغض المباحات إلى الله الطلاق)) و ((أفعل)) لا يضاف إلا لجنسه، فلا يقال: زيد أفضل الحمير، فيكون الطلاق من جملة المباح، مع أن الرجحان يقتضي جانب الترك، والرجحان مع المساواة محال، فلا يستقيم الحديث إلا على تفسير الإباحة بعدم الحرج في الإقدام حتى يندرج فيها المكروه والراجح الترك، ويكون من أشد مراتب المكروه. قوله: ((وقد ظهر بهذا التقسيم ماهية كل واحد منها فلنذكر الآن حدودها)).

((سؤال)) قال النقشواني: إذا ظهرت الماهية أي فائدة في ذكر الحدود

((سؤال)) قال النقشواني: إذا ظهرت الماهية أي فائدة في ذكر الحدود، فإن مقصودها إنما هو بيان الماهيات. جوابه: بأن تعريف الماهية بالتقسيم والرسوم، والحدود المنفردة كإقامة برهانين على مطلوب واحد في التصديقات، فإن التصديق يكون معلوما بالأول، فما فائدة الثاني، فكما لا يقدح ذلك في التصديقات لا يقدح هذا في التصورات والجواب في الجميع واحد، وهو ما قاله الإمام في ((المحصل)) أن في ذلك تحصيل العلم بأن الطريق الثاني طريق لتحصيل العلم، كما علم من حال الأول، فليس ذلك عبثا، بل تحديد علم بحال يحدد العلم بكونه طريقا بعد أن لم يكن ذلك معلوما من البرهان الثاني، ولا من الحد بعد التقسيم، وكذلك إذا رسمنا حقيقة يرسم لنا أن نرسمها برسم آخر لتحصيل العلم بأن هذه العبارة الثانية تحصل ما حصلته العبارة الأولى. قوله: ((الواجب ما يذم تاركه شرعا على بعض الوجوه إلى قوله: وأما المحظور)). عليه ثمانية أسئلة: الأول: لا يصح التحديد بما يخاف العقاب على تركه؛ لأن الذي يشك في وجوبه وحرمته قد يخاف من العقاب على تركه مع أنه غير واجب. قلنا: تصوير هذا القسم عسر جدا، فإن الشاك إن فرض مجتهدا، وكان شكه لعدم الدليل كان حكم الله في حقه عدم الوجوب جزما، فلا يخاف العقاب إجماعا، فما اجتمع الشك والوجوب والخوف، وإن كان شكه لتعارض الأمارتين فللعلماء قولان: أحدهما: يتساقطان، ويرجع إلى البراءة الأصلية.

والآخر: يتخير بينهما، فعلى القول الأول لا وجوب ولا خوف ولا عقاب، وكذلك الثاني لا شك في الحكم؛ لأنه التخيير على هذا التقدير، وإن فرض مقلدا، فإما أن يتمكن من السؤال والتعليم أولا، فإن تمكن من التعليم ولم يفعل فهو عاص إجماعا، حكاه الشافعي في ((رسالته)) والغزالي في ((إحياء علوم الدين)) أن كل أحد يجب عليه أن يعلم

حكم الله تعالى عليه في حالته التي هو فيها، وعصيانه بترك التعليم وبالإقدام قبل التعليم. ومقتضى ما حكيناه عن الإجماع على تحريم الفعل، حتى يتعلم أن الفعل يكون حراما حتى يتعلم إن كان ملابسا لعدمه، كمن أراد أن يصرف دينارا، أو ترك الفعل حرام إن كان ملابسا للفعل كمن أراد مفارقة أبويه، أو عياله للحج أو للغزو أو لغير ذلك، فحينئذ الحكم متعين قبل السؤال، ومتعين بعده، وهو ما يقوله المفتى، فلا شك في الوجوب، بل الجزم في الحالين لحكم لله تعالى، وإن لم يتمكن من السؤال سقط عنه التكليف، لأنه مشروط بالعلم إجماعا، وقد تعذر، والمتعذر لا تكليف فيه إجماعا، وإذا تعذر تصويره في المجتهد، والمقلد تعذر مطلقا لانحصار الحق في القسمين، فإن قلت: نفرضه في المجتهد إذا أقدم على الترك قبل النظر، أو المقلد قبل السؤال، فإنهما إذا تركا وهما حينئذ يشكان في الوجوب مع أن الوجوب لا يتعين إلا بالنظر في حق المجتهد، أو السؤال في حق المقلد. قلت: مقتضى ما حكاه الشافعي من الإجماع التحريم في هذه الحالة، وأنه الحكم المتعين لهذه الحالة، ولا شك حينئذ. جوابه: أنه يتصور في حق المقلد فيما إذا كان عدم الحكم مجمعا عليه، أو مختلفا فيه، وهو مقلد لمن يعتقد عدم وجوبه، وتمكن من السؤال ولم يسأل، فإن الحكم متعين في حقه، لأنه مجمع عليه، أو لأنه مذهب إمامه،

الثاني: على قوله: يذم تركه شرعا

وقد تعين وبرز للوجود بالنسبة لكل أحد إن أجمع عليه، أو بالنسبة لذلك المجتهد، ومن قلده، وترك السؤال مع المكنة يوجب الشك في الوجوب، لأن الحكم لو كان هو الوجوب تعين الوجوب في حقه بسبب المكنة، فهو يجوز أن يكون الواقع الوجوب، وقد تعين الوجوب في حقه بسبب المكنة، وأن يكون الواقع الإباحىة فيكون هذا فعل شك في وجوبه وليس واجبا، لأنه الواقع في نفس الأمر الإباحة إما مجمعا عليها، أو مذهبا لإمامه. ويتصور في المجتهد إذا أقدم على الفعل قبل بذل جهده في طلب الحكم، ويكون الواقع في نفس الأمر للإباحة مجمع عليها، أما المختلف فيها فلا أثر لها هاهنا، لانه لا يتعين في حقه مذهب القائل بها لامتناع التقليد عليه بخلاف المقلد، فإذا كانت الإباحة مجمعا عليها، جوز أن يكون الدليل يقتضي الوجوب إذا اجتهد ونظر، أو أنه يطلع على وجوب مجمع عليه إذا اجتهد فشك في وجوب الفعل، مع أنه ليس واجبا في حقه لتعميم الإباحة في حق الأمة بسبب أنها مجمع عليها، فهاتان صورتان لهذه المسألة، وما عداهما يعسر تصويرها فيه. الثاني: على قوله: ((يذم تاركه شرعا))، فقوله: ((شرعا)) منصوب على التمييز، فيفيد أنه ذم منسوب للشرع، والنسبة تصدق بأي طريق كان منسوبا إلى الشرع. قال السهروردي في ((التنقيحات)): إما أن يكون الذام صاحب الشرع، أو الشرع أو جملته، والكل باطل.

الثالث: على قوله: على بعض الوجوه

أما الأول فلأن صاحب الشرع ما نص على ذم كل تارك بعينه بالتنصيص عليه. وأما الثاني: فلأن الشرع ليس حيا عالما يصدر عن الذم. وأما الثالث: فأهل الشرع إنما يذمون من علموا أنه ترك واجبا، فذمهم موقوف على معرفتهم بالواجب، فلو عرف الواجب بذمهم توقف كل واحد منهما على صاحبه، ولزم الدور. جوابه: أن الذام هو صاحب الشرع بصيغ العموم نحو قوله:: ((فأولئك هم الظالمون)) البقرة: 229، ((أولئك هم الفاسقون)) الحشر: 19 ونحو ذلك، فإن صيغ العموم تتناول كل فرد بعمومها، ثم قوله في جملة الشرع: إنه يلزم الدور، لا يتم لما تقدم في حد العلم، وإن الحدج تفصيل ما دل عليه لفظ المحدود بطريق الإجمال، فجاز أن يكون السامع يعلم ما يذم عليه جملة لاشرع، ولا يعلم أنه الواجب، وبسطه هناك. الثالث: على قوله: على بعض الوجوه، قال: ليدخل فيه الواجب الموسع والمخير، وعلى الكفاية ولا يذم فيها إلا إذا تركها، وترك بدلها، فنقول: صيغة تذم فعلا في سياق الإثبات، فيكون مطلقا لا يتناول إلا القدر المشترك بين جميع الأقسام، وإذا كان معناه القدر العام اندرج فيه النوعان، ما يذم في بعض الوجوه وفي كلها، كما إذا أتينا بصيغة تتناول مطلق الحيوان، فإنها تتناول الناطق وغيره، فاندرج النوعان، فلا حاجة إلى هذا القيد الزائد وهو قوله على بعض الوجوه. الرابع: أن قيد بعض الوجوه يخرج ما يذم تاركه على كل الوجوه؛ لأن كل قيد في حد إنما نحترز به عن ضده، فقيد البعض ينافي الكل، فيخرج أكثر الواجبات من الحد، وهي الواجبات المعينة التي لا توسعه فيها.

الخامس

الخامس: أن الواجب والمخير، والموسع، وعلى الكفاية يرجع إلى الواجب المعبر في التحقيق الذي يذم تاركه على كل الوجوه. وتحريره أن مفهوم إحدى الخصال، أو الأزمان، أوالطوائف هو متعلق الوجوب، ولا تخيير فيه، والخصوصيات هي متعلق التخيير لا وجوب فيها، فالواجب واجب مطلقا من غير تخيير، وما فيه التخيير لا وجوب فيه، فحيث وجد الوجوب ذم تاركه على كل الوجوه، فلا معنى للاحتراز عنها، وسيأتي بسطه في الواجب المخير. السادس: أن الحد غير جامع، بل كل حد وقع فيه ترتيب شيء على تقدير الترك. بيانه: أن المطيع يفعل الواجب من غير تفريط صدق على فعله أنه واجب، وصدق عليه أن ليس بتارك، لأن فاعل، والفاعل ليس بتارك، والقاعدة: أن المترتب على تقدير ينتفي عند انتقاء ذلك التقدير، فالذم أو غيره المترتب على تقدير الترك ينتفي عند انتفاء الترك فينتفي الترك وما رتب عليه، ومجموعهما هو الحد، فقد انفتى الحد عن جميع الواجبات المفعولة من غير تقصير مع صدق الوجوب عليها، فالحد غير جامع، سواء قلنا: ما يذم تاركه أو يعاقب تاركه، أو يستحق العقاب تاركه، وجيمع هذه الأمور المترتبة على تقدير الترك. جوابه: على قاعدة شرعية غريبة وهي أن القيود المذكورة في الحد ليست حدا، وإنما هي متعلق الحد. وتقرير القاعدة أن التحديد يقع لذوات الأوصاف، وتارة يقع بحيثيات الأوصاف، فإذا قلنا: السخي هو الذي يبذل المال بسهولة. معناه: هو الذي بحيث إذا بذل المال بذله بسهولة، أي هو الذي بحيث إذا أخرجه أخرجه بسهولة، وقد لا يخرج شيئا غيره لعدم سبب يقتضي ذلك، لكن كونه بحيث هو كذلك لا يبطل بعدم الإخراج، فجعلنا الضابط هو الحيثية في

الإخراج لا نفس الإخراج، والإخراج هو متعلق الحد لا نفس الحد، فلما خرج لم يخرج عدمه مع وجود المحدود، لأنه متعلق الحد لا نفس الحد، وكذلك حد الواجب هاهنا بحيثية الذم على تركه، لا نفس هذه القيود، بل هذه القيود متعلق الحيثية، وليست حدا. ومعناه: الواجب ((هو الذي بحيث إذا ترك ذم تاركه، ولا شك أن الواجب إذا فعل من غير تقصير، هذه الحيثية ثابتة له، وهي الحد لا متعلقها الذي هو القيود، فما وجد المحدود فهو جامع، واندفع السؤال وأنا ذاكر لك مثلا من هذا الباب حتى تتضح لك القاعدة. فإذا قلنا: الواجب هو الذي رجح فعله على تركه في نظرا لشرع على وجه يمتنع التقصير، فهذا تحديد بالأوصاف لا بحيثية الأوصاف، ا, المندوب هو الذي رجح فعله، ويجوز تركه في نظر الشرع هو تحديد بذوات الأوصاف. ولو قلنا: يثاب فاعله كان تحديدا بحيثية الوصف، لأنه قد لا يفعل، وما يخرج بعدم فعله عن كونه واجبا، لكن الحيثية لا تفارقه مفعولا ومتروكا. وإذا قلنا: المباح ما استوى طرفاه في انظر الشرع كان تحديدا بذوات الأوصاف. وإذا قلنا: إنه الذي أعلم فاعله أنه لا نفع له ولا ضرر عليه في الآخرة، كان بحيثية الأوصاف، فإنه قد لايفعل، فلا يصدق أن له فاعلا يتناول الإعلام، ومع ذلك لا يخرج عن كونه مابحا، لانه بحيث لو فعل لكان الأمر مباحا كذلك، وأكثر الحدود إنما تقع بذوات الأوصاف، فلا جرم لم يتنبه للحدود بحيثيات الأوصاف لعلتها، فيعتقد أن الحدود إذا وجد بدونها يكون الحد غير جامع، وليس كذلك، ويعتقد أيضا أن تلك الأوصاف المذكورة هي الحد وليس كذلك، فقد تذكر أوصاف الحد ولا يكون حدا، بل حيثية كما تقدم، ولاجرم بعد هذا عن الإفهام، فإن المعهود أن الأوصاف المذكورة والقيود الملفوظ بها هي الحد لا غير، فوقع الغلط في هذا الموطن الذي لا يكون إلا بحيثيات الأوصاف لا بالأوصاف، فتأمل ذلك فهو غريب التقرير نادر الوقوع.

السابع: قوله: ((يذم)) بصيغة [الفعل] المضارع

السابع: قوله: ((يذم)) بصيغة [الفعل] المضارع، والذي يصح هاهنا من الذم، إنما هو ذم صاحب الشرع الوارد في النصوص كما تقدم، فينبغي أن يقول: الواجب ما ذم تاركه بصيغة الفعل الماضي؛ لأن هذه المذام قد وقعت وردت في الكتاب والسن، فذكر صيغة المضارع يشعر بأنها لم تقع، وهذا إنما يحسن إذا كان الذام هم حملة الشرع، وحملة الشرع قد لا يشعرون بالتارك حتى لا يذمونه، وقد يذمون على ترك المباح أحيانا، فإن الناس ما هم معصومون من أن يُسنوا قبيحا، أو يقبحوا حسنا، والبدع والحوادث كثيرة والأهواء والآراء مختلفة، وإن أراد الذم الواقع بإجماع يلزمه أن لا واجب إلا الجمع عليه، وهو باطل إجماعا، فتعين ألا يراد بالذم إلا ذم صاحب الشرع الوارد في النصوص، وحينئذ تتعين صيغة الماضي. الثامن: قال النقشواني: ينتقض جميع الحد بالمندوبات كلها، فإنها إذا نذرت صارت واجبة بالندب، فقد ذم تاركها على بعض الوجوه، وهو من جهة إذا نذرت، ومتى وقع الذم على تقدير [دون تقدير] صارت كالواجب الموسع.

.......................................................................

.......................................................................

.......................................................................

.......................................................................

.......................................................................

.......................................................................

......................................................................

والمخير والكفاية، ثم هذا السؤال يقتضي عدم المنع بدخول المندوبات،

...........................................................

...........................................................

...........................................................

..........................................................

ويقتضي عدم الجمع من جهة أنه قال: إنما احترزت بقولي: بعض الوجوه عن المخير والموسع والكفاية، وهذا ليس منها، فيكون هذا القول منه، فيقتضي أن ما عدا هذه الثلاثة يذم عليه على جميع الوجوه، والواجب بالنذر لا يذم تاركه على تقدير ألا ينذر، فلا يكون بذم تاركه على كل الوجوه، فيخرج من الواجبات التي قصد دخولها، أو نقول: ينبغي أن يستثنى أربعة: المنذورات مع الثلاثة المذكروة، ومن هذه المادة الأفعال قبل ورود لاشرع لا يذم تاركها، وبعده يذم، كتارك ما ورد الشرع بوجوبه، فقد حصل الذم على بعض الوجوه، وكذلك الميتة يذم تاركها إذا اضطر إليها، ووجب عليه الأكل، وكل ما يترتب وجوبه على سبب يطرأ وينعدم، فإن النفقة على المرأة يذم تاركها إذا وجد سبب وجوبها، ولا يذم إذا زال ذلك السبب بالطلاق وغيره. وكذلك نفقات الأقارب والدواب والعبيد على تقدير بيعها لا تجب، بل صلاة الظهر لا يذم تاركها قبل الزوال، ويذم بعده، وكذلك سائر الواجبات قبل أسبابها، وبعد طروء أسبابها، فتكون هذه الأمور كلها الذم فيها على بعض الوجوه كالمخير، ويلزم أن تكون واجبة قبل طروء أسبابها، لأنها تجب إذا وقعت أسبابها، فيلزم صدق حد الوجوب قبل تحقق الوجوب، وهو يقتضي أن الحد غير مانع. جوابه: أن المفهوم من قوله: على بعض الوجوه إذا تقرر الوجوب بعد طروء سببه والخطاب به، وتعدد الوجوه في هذه الصور إنما هو باعتبار عدم

السبب وعدم الخطاب، وكلامه إنما يفهم منه ما بعد الخطاب، وتحقق الأسباب، فلا ترد هذه الصور. ((تنبيه)) وافقه ((التحصيل)) و ((المنتخب)، وقال ((الحاصل)): ما يذم تاركه مطلقا، ولم يقل: بعض الوجوه، فيندفع عنه السؤال الرابع. وقال التبريزي: الحكم التكليفي ينقسم إلى: إيجاب، وندب، وتحريم، وكراهة، وإباحة، ووجه الحصر أن تعلق الخطاب إما تخييرا، أو اقتضاء لطلب الفعل، أو الترك، وكلاهما إما مع تجويز ضده، أو المنع من ضده، الأول: الإباحة، والثاني: الإيجاب أو الندب، والثالث: تحريم أو كراهة، والواجب هو المأمور المهدد بالعقاب على تركه، وليس من شرط التهديد وقوع المهدد به، فلا ينافي العفو، ويرد عليه أن تقسيم الحكم التكليفي إلى الإباحة والندب يشعر بأن الإباحة تكليف، وليس كذلك بل التكليف ما فيه كلفة ومشقة، وذلك يختص بالواجب والمحرم ولذلك قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك)) مع أنه مندوب إجماعا، فدل على أن المشقة إنما تنشأ عن التحتيم.

((تنبيه)) وهم كثير من الأصوليين فقالوا في حد الواجب

ثم قوله: تعلق الخطاب إما تخييرا، أو اقتضاء -تقسيم غير حاصر؛ لأنه قد يكون خبرا، وهو خطاب، وقوله الثاني: إيجاب أو ندب - يقتضي أن الطلب الجازم قد يقع ندبا، وليس كذلك، بل كان ينبغي أن يقول: والثالث ندب، ويجعل الأقسام خمسة؛ لأن تقسيمه يقتضيها، ويرد عليه أيضا أن التهديد لم يعين فاعله، فيندرج فيه تهديد أهل العرف على ترك بعض المباحات، فاندفع عنه السؤال الأول، والثاني، والثالث، والرابع، والخامس، والسابع، والثامن، ولا يرد عليه غير السادس فقط. ((تنبيه)) وهم كثير من الأصوليين فقالوا في حد الواجب: ما يذم تاركه، ويثاب فاعله، فضموا قيد الثواب إلى الحد، وهو غير مستقيم، فإن الحد يصير غير جامع. وتقريره: أن ليس كل واجب يثاب على فعله، ولا كل محرم يثاب على تركه. أما الأول فكنفقات الزوجات، والأقارب، ورد المغصوب، ودفع الديون والأجر والأثمان إذا فعلت من غير قصد امتثال أمر الله - تعالى - وقعت

((تنبيه)) إذا قلنا بأن المخير يذم تاركه على بعض الوجوه فما عدد تلك الوجوه وما ضابطها؟

واجبة مع أنه لا ثواب فيها لعدم القصد لطاعة الله تعالى، بل لو لم يشعر بأن الله - تعالى - أوجبها عليه وقعت واجبة، ولا ثواب مع عدم الشعور بالإيجاب. وأما الثاني: فلأن المحرمات تخرج الإنسان عن عهدتها بمجرد تركها، وإن لم يشعر بتحريمها عليه، ولا ثواب مع عدم الشعور بالتحريم لانتفاء طاعة الله - تعالى - بعدم الشعور بتكليفه، وإذا اقترن قصد الطاعة بجميع ذلك حصل الثواب، فظهر أن التحديد بالثواب في فعل الواجب، وترك المحرم غير مستقيم، وإنما يلزم في الواجب ذم تاركه، أو استحقاق العقاب، ففي المحرم استحقاق العقاب على الفعل، أما فعل الواجب وترك المحرم فلا. ((تنبيه)) إذا قلنا بأن المخير يذم تاركه على بعض الوجوه فما عدد تلك الوجوه وما ضابطها؟ جوابه: أن التخيير إذا وقع بين شيئين ذم على وجه، أو بين ثلاثة ذم على وجه دون وجهين، والضابط أن تعدد الخصال التي وقع بينها التخيير، ويسقط منها واحد، والباقي هي الوجوه التي لا يذم فيها، فإن التخيير، ويسقط منها واحد، والباقي هي الوجوه التي لايذم فيها، فإن التخيير إن وقع بين عشرة مثلا - أحدها العتق - مثلا فلا يذم عليه إلا إذا ترك الجميع، ومتى فعل أحد التسعة لم يذم على العتق، وكذلك بقيتها، فيسقط أبدا واحدا، والباقي وجوه عدم الذم، ووجوه الذم واحد دائما لا يزيد على واحد، قلت الخصال أو كثرت.

((تنبيه)) إذا حد الواجب بأنه الذي يستحق تاركه العقاب على تركه، لا يرد عليه سؤال العفو الذي أورده الإمام

((تنبيه)) إذا حد الواجب بأنه الذي يستحق تاركه العقاب على تركه، لا يرد عليه سؤال العفو الذي أورده الإمام، لأن العفو لا ينافي الاستحقاق، وإنما يرد سؤال العفو على من يذكر العقاب نفسه لا استحقاقه. ((تنبيه)) شرع الإمام -رحمه الله - في تقسيم الأحكام، وحدودها، وذكر من الحد ما تقدم، والذي ذكره ليس حكما، لأن حكم الله - تعالى - هو الوجوب لا الواجب، بل الواجب هو فعل المكلف، فهو متعلق الحكم لا نفس الحكم، فشرع عند الحكم حد متعلقه، وأحدهما مباين للآخر؛ فإن الحكم صفة الله تعالى، ومتعلقه صفة للعبد، وأحدهما مباين للآخر؛ فإن الحكم صفة الله تعالى، ومتعلقه صفة للعبد، لأنه فعله فكان المتعين أن يقول: الوجوب هو الذي يذم تارك متعلقه شرعا على بعض الوجوه، وهذا السؤال مطرد في جميع حدوده، وهذا التعبير لازم في الجميع. قال سيف الدين في ((الإحكام)): الوجوب الشرعي تعلق خطاب الشارع بما ينتهض تركه سببا للذم شرعا في حالة ما، ومراده بـ ((حالة ما))، مراد الإمام بقوله: بعض الوجوه، وهو أسد من كلام الإمام وأقل أسئلة. ((فائدة)) قال سيف الدين: يبطل قول الحنفية في اشتراطهم قيد القطع في إطلاقهم لفظ الفرض بإجماع الأمة على إطلاقه على أداء الصلوات المختلف فيها، يقول كل منهم إذا صلى: أديت فرض الله تعالى، مع أنه لا قطع مع الاختلاف، والأصل في الإطلاق الحقيقة.

((مسألة)) قال الآمدي: ذهب بعض الناس إلى أن فرض الكفاية لا يسمى واجبا

((مسألة)) قال الآمدي: ذهب بعض الناس إلى أن فرض الكفاية لا يسمى واجبا، بل واجب العين فقط؛ لأن واجب الكفاية يسقط بفعل الغير والواجب على الإنسان لايسقط بفعل غيره. قال: والاختلاف في طريق السقوط لا يوجب اختلاف الحقيقة، كاختلاف جهات الثبوت، لا يوجب اختلاف الحقيقة، ولأن من ارتد وقتل أبيح دمه،

مع أن القتل بالردة يسقط بالتوبة، وقتله بالقتل لا يسقط بالتوبة، فاختلف المسقط، ولم يختلف الحكم. قوله: ((المحظور ما ذم فاعله شرعا))، ولم: يقل على بعض الوجوه كما قال في الواجب، لأن قوله: في بعض الوجوه في الواجب احترازا من الواجب الموسع والمخير، وعلى الكفاية، والوجوب في تلك الثلاثة إنما هو متعلق بالقدر المشترك بين الخصال في المخير، وبين الأزمان في الموسع، وبين الطوائف في الكفاية، والخصوصيات متعلق التخيير دون الوجوب إلا في فرض الكفاية لتعذر خطاب المجهول، وهذا متيسر في الوجوب دون التحريم، لأنه لا يلزم من إيجاب المشتركات إيجاب الخصوصيات، كما إذا أوجب الله - تعالى - رقبة في العتق، أو شاة في الزكاة، لايلزم وجوب خصوصيات الرقاب والشياة، أما تحريم المشتركات فيلزم منه تحريم الخصويات، كما إذا حرم الله - تعالى - مفهوم الخنزير، حرم الخنزير السّمين، والهرم، والقصير، والطويل، وغيرها، وكذلك إذا حرم مفهوم الخمر حرم كل خمر، فالتحريم مع التخيير في الخصوصيات متعذر، وإذا تعذر امتنع تصوره الموسع، والمخير، وعلى الكفاية، فلا يحتاج لقيد يخرجها. فإن قلت: بل هي مقصورة؛ لأن الله - تعالى - حرم إحدى الأختين لا بعينها، وإحدى المرأتين الأم أوبنتها، ولم يخصص واحدة منهما في

......................................................................................

......................................................................................

((فوائد)) في الفرق بين أسماء المحظور

خصوصها بالتحريم، كخصال الكفارة لم يخص واحدة منها في خصوصها بالإيجاب، ولأنه إذا وجبت إحدى الخصال لا بعينها فقد حرم تركها، فيصير المحرم ترك خصلة لا بعينها، وهذا تحريم على التخير. قلت: لا نسلم تحريم إحدى الأختين لا بعينها، بل متعلق التحريم هو المجموع عينا. والقاعدة: أن تحريم المجموع، أو نفي المجموع يكفي في الخروج عن عهدته فرد منه، فمن ترك ركعة من خمس ركعات في الظهر لم يعص الله - تعالى - بصلاة الظهر خمس ركعات، لأن المطلوب هو عدم ذلك المجموع، وعدم المجموع يصدق بأي جزء كان من أجزائه وهو الجواب عن الأم وابنتها، والمحرم في خصال الكفارة إنما هو ترك المجموع؛ لأنه لما وجبت واحدة لا بعينها حرم نقيضها وهو إيجاب جزئي، ونقيض الموجبة لاجزئية إنما هو السَّالبة الكلية، فما يتعين أنه ترك فردا لا بعينه حتى يترك كل فرد، فترك كل فرد هو المحرم عينا، فظهر أن التحريم في هذه الصور كلها إنما هو متعلق بعين المجموع، لا بالمشترك بين أفراده، فما اجتمع تحريم مشترك وتخيير بين جزئياته. ((فوائد)) في الفرق بين أسمائه، فالمعصية لغة: من الشدة والامتناع، ومنه العصا لامتناع أجزائها، والتفافها، واستعصاء الأمر على الإنسان امتناعه، واستعصاء الحب أو غيره على النضج في النار، وعند الطبخ امتناعه،

((تنبيه)) قال سيف الدين: المحرم هو ما ينتهض فعله سببا للذم شرعا

والعاصي ممتنع عن طاعة الأمر، فسمى فعله معصية من العصيان، والمحرم الممنوع والمحظور أشد منه في المنع من جهة شدة الوعيد، ومنه الحظيرة التي تعمل حول مراعي الغنم تمنعها من السباع، فالوعيد هو كذلك الحائط حول الغنم؛ لأن الوعيد يمنع الإقدام كما تمنع هي السباع، والذنب مأخوذ من الطرف ومنه أذناب الدواب؛ لأنها أطرافها وهي أخسها، فالمذنب اتصف بأخس الأحوال، وصار لسبب ذلك من أطراف الناس، والزجر المنع بالقول العنيف المتصمن للوعيد، والزجر قد يكون بغير القول، بل بتحقق الفعل المؤلم عند المخالفة، والقبيح ما فيه نفرة النفوس، فاستعماله في حق الله - تعالى - مجاز تشبيه. ((تنبيه)) قال سيف الدين: المحرم هو ما ينتهض فعله سببا للذم شرعا بوجه ما من حيث هو فعل له، قال: فالقيد الأول لخروج الواجب والمندوب، والثاني لإخراج المخير كما تقدم في الواجب، والثالث لإخراج المباح إذا استلزم تركه واجبا، فإنه يذم عليه لكن من جهة أنه ترك واجبا، وقد تقدم أن المخير لا يدخل في هذا الباب، ووافقه على دخول المخير أبو عمرو بن الحاجب في ((مختصره))، وهو وهم لما تقدم، وأما بقية القيود فحسنة، وقد علمت أن الهذه الحدود مستبعدة من جهة أن المقصود تحديد للأحكام، ولم تحدد إلا متعلقاتها، فحكم الله - تعالى - التحريم لا المحرم، والحد إنما ذكر للمحرم الذي هو فعل العبد. ((مسألة)) قال سيف الدين: يجوز عندنا تحريم أحد الشيئين لا بعينه خلافا

للمعتزلة، لإمكان أن يقول: حرمت عليك كلام زيد أو عمرو،

حرمت عليك كلام أحدهما لا بعينه، ولست أحرم عليك الجمع، ولا واحدا بعينه، وهذا معقول غير ممنوع، وليس المحرم المجموع لتصريحه بنقيضه. وجوابه: قد تقدم، ونحن نمنع أن ما قاله متصور في غيرتحريم المجموع، فإنه إذا قال: خصوص أحدهما لا أريده فلم يبق بعد الخصوص إلا المشترك، وإذا منعه من إدخال الماهية المشتركة في الوجود امتنع كل فرد؛ لأنه لو دخل

ما يحتمل لفظ اعلم

فرد لدخل في ضمنه المشترك، وإذا امتنع كل فرد صار المحرم ((كل)) لا ((كلي))، لتحريم الخنازير يحرم كل خنزير، لا المشترك الكلي بين الخنازير فما قاله غير متصور أصلا، والحق في هذا ما نسبه للمعتزلة دون مانسبه لأصحابنا. قوله: ((المباح ما أعلم فاعله، أو دل على أنه لا ضرر عليه في فعله، ولا في تركه، ولايقع في الآخرة إلى قوله .... : في المندوب)). هذا كما تقدم تعريف بحيثية الوصف لا بذات الوصف كما تقدم في حد الواجب؛ فإن المباح قد لايكون له فاعل حتى يعلم، ولا يخرج عن كونه مباحا. ثم قوله: ((اعلم)) يحتمل أمورا؛ لأن العرب تقول: أعلم وعلَّم -بتشديد اللام - إذا وضع علامة على الشيء، ومنه قول كتاب القضاة في السجلات وأعلم تجب شهادة كل واحد منهما علامة الأداء والقبول، وأعَلْم زيد عمرا إذا أخبره، وأعلمه إذا حصل له العلم، وتكون الهمزة للتعدية لمفعول ثالث، والمدخول في العلم نحو أنْجد، وأَتْهَمَ، وأصبح، وأمسى إذا دخل نجد، وتِهَامة، والصباح، والمساء. والدليل أيضا في الإصطلاح: لما أفاد علما، وفي اللغة للمرشد كيف كان

((فائدة)) تقول العرب: حلال طلق

أفاد علما أو ظنا، فإن أراد بقوله: أعلم، وضع العلامة، كان هذا كافيا عن قوله: أو دل لشموله، وإن أراد الإخبار فلا يعم؛ لأن الإباحة قد تستفاد من فعله عليه السلام، أوتقريره من غير إخبار، لكن كان يمكنه أن يأتي بعبارة تنوب منابها كلفظ الطريق الشامل لقيد العلم، والظن ونحو ذلك، وإن أراد تحصيل العلم لم يشمل المباح؛ لأنه قد يكون مظنونا، فإن أراد بقوله: ((دل)) مطلق ما يفيد، سواء كان يفيد علما أو ظنا على مقتضى اللغة صح، غير انه تطويل لعدوله عن العبارة المفردة نحو بين لفاعله، وأرشد إلى غير ذلك من العبارات المقررة الشاملة. وقوله: ((في الآخرة)) متعلق بعدم الضرر والنفع معا، لأن المباح قد يكون فيه نفع وضرر في الدنيا، وأكثر المباحات كذلك من المأكول، والمشروب، والملبوس، وغيرها، لابد من التعب في كسبها، وتحصيلها، وتناولها، والانتفاع بملابستها في الأجسام في عاجل في الدنيا، أما الآخرة فلا أثر لجيمع ذلك فيها إلا أن يكون وسيلة لمأمور، كمن ينام نهارا ليتهجد بالليل، ونحوه، ولذلك كان ينبغي أن يزيد في الحد من حيث هو مباح ليخرج عنه فاعل المباح الذي يترك به واجبا، أو يستعين به على واجب، فإن الأول يتضرر في الآخرة، والثاني ينتفع في الآخرة، لكن لأجل ما أدَّى إليه المباح لا للمباح، وصدق أن فاعل المباح انتفع وتضرر. ((فائدة)) تقول العرب: حلال طِلق بكسر الطاء، ووجه طَلْقٌ بفتحها. وقوله: وقد يوصف الفعل بأن الإقدام عليه مباح، وإن كان تركه محظورا، كوصف ذم المرتد بأنه مباح، هذا التفسير هو اصطلاح المتقدمين، وتفسر المباح بمستوى الطرفين هو اصطلاح المتأخرين، وقد تقدم بسطه عند تقسيم الأحكام إلى خمسة، والاستشهاد بالحديث.

((تنبيه)) وافقه ((المنتخب))، وأسقطه ((التنقيح))

((تنبيه)) وافقه ((المنتخب))، وأسقطه ((التنقيح)). وقال في ((الحاصل)): هو المأذون في فعله، وتركه شرعا من غير حمد، ولازم في أحد طرفيه، وهو أحسن من تعريف الأصل، لأنه تعريف بذوات الأوصاف دون حيثياتها، ولأنه بلفظ مفرد من غير ترديد بين ما علم ودل. وفي ((التحصيل)) ما علم فاعله أو دل، فإنه لا يترجح أحد طرفيه على الآخر شرعا، وعليه ما على أعلم أو دل. ((مسألة)) قال سيف الدين: اختلف في المباح هل هو حسن أم لا؟ والحق أنه إن أريد بالحسن ما لفاعله أن يفعله فهو حسن، وإن أريد ما يحمد فاعله، فليس بحسن. قوله: في المندوب .... إلى آخره، فقوله: إن الله أحبه أي يعامل فاعله معالمة المحب بصيغة اسم المفعول، إلا فحقيقة المحبة مستحيلة على الله - تعالى -، لأنه ميل بالطبع، وهو على الله محال. ((تنبيه)) قال في ((المنتخب)): وقد يُسمى المندوب مرغبا فيه وسنة. وقيل: كل ما علم وجوبه أو ندبيته بأمر الرسول صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ أو بإدامته عليه فهو سنة. فقوله: وقيل: ولم يذكر السنة يشعر بأنه في المندوب، وإنما هو قول في السنة، فصار لفظه لا يوفي بمعنى الأصل، ثم قوله مأخذو من الإدامة، ولذلك سمى الختان سنة، يشعر بأن الختان إنما سمى سنة؛ لأن أثره يدوم،

((فائدة)) الندب لغة

ولفظ الأصل، إنما قال: ((الختان من السنة))، ولا يراد به أنه غير واجب، فجعله عائدا من إلى أصل الكلام من أن السنة تطلق على الواجب، وكذلك لفظ ((التحصيل)) يوهم ذلك، وأعرض ((الحاصل)) و ((التنقيح)) عن ذلك. ((فائدة)) الندب لغة: الدعاء إلى أمر مهم، كما قال الشاعر [البيسط]: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... للنائبات على ما قال برهانا ((مسألة)) قال سيف الدين: قال الأكثرون: المندوب ليس من التكليف؛ لأن الله تركه، فلا كلفة كالمباح.

وقال الأستاذ أبو إسحاق: هو من التكليف، لأن العلم بأنه سبب للثواب يوجب تحمل المشقة في فعله لتحصيل الثواب. جوابه: أنه غير ملجأ لذلك بالإكراه الشرعي، والمشقة إنما تنشأ عن الإلجاء، والمختار لا مشقة عليه. قوله: ((المكروه يقال بالاشتراك على ثلاثة إلى آخره)). اعلم أن قدماء العلماء - رضي الله عنهم - كانوا يكثرون من إطلاق المكروه على المحرم لئلا يتناولهم الإطلاق في قوله تعالى: ((ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام)) النحل: 116 فيحددون صورة اللفظ، وإن لم يرد إلا في تحريم ما لم يحرمه الله تعالى كالسائبة ونحوها. قال إمام الحرمين في ((النهاية)): إنما يقال على ترك الأولى إن كان منضبطا نحو الضحى، وقيام الليل، وما لاتحديد له، وما لا ضابط من المندوبات لا يسمى تركه مكروها، وإلا لكان الإنسان في كل وقت ملابسا لمكروهات كثيرة من حيث إنه لم يتصدق بأحد ثيابه أو لم يقم فيصلي ركعتين، أو يعود مريضا في المدينة إلى غير ذلك. وزاد الآمدي معنى رابعا: إطلاقا على ما يغلب على الظن حله، لكن في القلب منه حرارة كلحم الضبع.

((فائدة)) المكروه من الكريهة، وهي الشدة في الحرب

((فائدة)) المكروه من الكريهة، وهي الشدة في الحرب، ومنه سمى يوم الحرب يوم كريهة، وقوله تعالى: ((حملته أمه كرها ووضعته كرها)) الأحقاف: 15 أي في شدائد ونحو ذلك الكراهة والكراهية. ((مسألة)) قال سيف الدين: اختلف في المكروه هل هو من التكليف كما تقدم في المندوب سؤالا وجوابا؟

التقسيم الثاني قال الرازي: الفعل إما أن يكون حسنا أو قبيحا

التقسيم الثاني قال الرازي: الفعل إما أن يكون حسنا أو قبيحا. وتحقيق القول فيه: أن الإنسان إما أن يصدر عنه فعله وليس هو على حالة التكليف، وإما أن يصدر عنه الفعل وهو على حالة التكليف. والأول كفعل النائم، والساهي، والمجنون، والطفل فهذه الأفعال لا يتوجه نحو فاعليها ذم ولا مدح، وإن كان قد يتعلق بها وجوب ضمان وأرشٍ في مالهم ويجب إخراجه على وليهم. والثاني: ضربان؛ لأن القادر عليه المتمكن من العلم بحاله إن كان له فعله فهو الحسن وإن لم يكن فهو القبيح. ثم قال أبو الحسين البصري رحمه الله: القبيح هو: الذي ليس للمتمكن منه ومن العلم بقبحه أن يفعله ومعنى قولنا: ((ليس له أن يفعله)) معقول لا يحتاج إلى تفسير ويتبع ذلك أن يستحق الذم بفعله، ويحد أيضا بأنه الذي على صفة لها تأثير في استحقاق الذم. وأما الحسن، فهو: ما للقادر عليه، المتمكن من العلم بحاله، أن يفعله وأيضا: ما لم يكن على صفة تؤثر في استحقاق الذم. وأقول: هذه الحدود غير وافية بالكشف عن المقصود. أما الأول، فنقول ما الذي أردت بقولك: ((ليس له أن يفعله))؟ فإنه يقال

للعاجز عن الفعل ليس له أن يفعله، ويقال للقادر على الفعل، إذا كان ممنوعا عنه حسا: ليس له أن يفعله، ويقال للقادر إذا كان شديد النفرة عن الفعل: ليس له أن يفعله، وقد يقال للقادر إذا زجره الشرع عن الفعل: إنه ليس له أن يفعله والتفسيران الأولان غير مرادين لا محالة، والثالث غير مراد أيضا لأن الفعل قد يكون حسنا مع قيام النفرة الطبيعية عنه وبالعكس. والرابع أيضا غير مراد؛ لأنه يصير القبيح مفسرا بالمنع الشرعي. فإن قلت: المراد منه القدر المشترك بين هذه الصور الأربع من مسمى المنع. قلت: لا نسلم أن هذه الصور الأربع تشترك في مفهوم واحد؛ وذلك لأن المفهوم الأول معناه: أنه لا قدرة له على الفعل، وهذا إشارة إلى العدم، والمفهوم الرابع معناه: أنه يعاقب عليه؛ وهذا إشارة إلى الوجود، ونحن لا نجد بينهما قدرا مشتركا. وأما قوله: ((ويتبع ذلك أن يستحق الذم بفعله)) قلنا: لما فسرت القبيح: بأنه الذي يستحق الذم بفعله، وجب تفسير الاستحقاق والذم. فأما الاستحقاق، فقد يقال: الأثر يستحق المؤثر، على معنى أنه يفتقر إليه لذاته، ويقال: المالك يستحق الانتفاع بملكه؛ على معنى أنه يحسن منه ذلك الانتفاع. والأول ظاهر الفساد، والثاني يقتضي تفسير الاستحقاق بالحسن، مع أنه فسر الحسن بالاستحقاق؛ حيث قال: الحسن هو الذي لا يستحق فاعله الذم فيلزم الدور، وإن أراد بالاستحقاق معنى ثالثا فلا بد من بيانه.

شرح القرافي: قوله: ((الفعل إما أن يكون حسنا أو قبيحا))

وأما الذم فقد قالوا إنه قول أو فعل أو ترك قول أو ترك فعل ينبىء عن اتضاع حال الغير. فنقول: إن عنيت بالإتضاع: ما ينفر عنه طبع الإنسان ولا يلائمه فهذا معقول لكن يلزم عليه أن لا يتحقق الحسن والقبح في حق الله تعالى؛ لما أن النفرة الطبيعية عليه ممتنعة؛ وإن عنيت به أمرا آخر فلا بد من بيانه. وأعلم: أن هذه الاشكالات غير واردة على قولنا؛ لأنا نعني بالقبيح: المنهي عنه شرعا، وبالحسن ما لا يكون منهيا عنه شرعا، وتندرج فيه أفعال الله تعالى، وأفعال المكلفين من الواجبات والمندوبات والمباحات وأفعال الساهي والنائم والبهائم. وهو أولى من قول من قال: الحسن ما كان مأذونا فيه شرعا لأنه يلزم عليه أن لا تكون أفعال الله تعالى حسنة، ولو قلت: ((الحسن: هو الذي يصح من فاعله أن يعلم أنه غير ممنوع عنه شرعا)) خرج عنه فعل النائم والساهي والبهيمة، ويدخل فيه فعل الله تعالى، لأن وجوب ذلك العلم لا ينافي صحته وبالله التوفيق. قال القرافي: قوله: ((الفعل إما أن يكون حسنا أو قبيحا)). أي التقسيم الثالث تقريره: أن الكلام الذي نقله هو كلام أبي الحسين في ((المعتمد)) نص المسطرة. ومعنى قوله: ((القادر عليه)) احترازا عن العاجز، فإن العجز عن الواجب يبطل حسنه، وعن ترك المحرم يبطل قبحه، ((والعالم بحاله))، احترازا من

الواطئ أجنبية يظنها امرأته، فإنه غير عاصٍ، وكذلك الواطيء لزوجته يظنها أجنبية فإنه عاص. مع أن الفعل في نفس الأمر في الأول قبيح، وفي الثاني حسن، وإنما أحيل المدح، والذم يسبب عدم العلم، فلذلك اشترط العلم بحال الفعل، فإن كان مأذونا له في أحد الوصفين فهو الحسن، وإلا فهو القبيح. وقوله: ((على صفة تؤثر في استحقاق الذم)). يريد بالصفة لامفسدة على أصله في الاعتزال، فإنه كلام ((أبي الحسين))، وجعل الحسن ما ليس فيه هذه الصفة، ولم يشترط فيه أن يكون فيه مصلحة، كما قلنا نحن: الحسن ما ليس منهيا عنه، ولم تشترط أن يكون مأمورا به ليعم تناوله عندهم وعندنا. وقوله في تفسير ليس له أن يفعله: والرابع غير مراد؛ لأنه يصير القبيح مفسرا بالمنع الشرعي. معناه: وأ، تم لا تقولون به إنما يفسر القبح بالمنع الشرعي أهل النسة، أما المعتزلة فلا. وقوله: ((لا يجد مشتركا بين الوجود والعدم)) ممنوع، بل النقيضان مشتركان في التناقض، وهما وجود وعدم، ويشترك الوجود والعدم في الإمكان في الممكن الخاص، والمعلومية، والمذكورية، وأنهما ليسا بسواد، ولا بياض، ولا جسم، ولا حجر، وغير ذلك مما لا نهاية له من الأمور السلبية المشتركة بينهما، مع أن أبا الحسين لم يذكر إلا قوله: ليس له أن يفعله، وهذا سلب أمكن الاشتراك فيه، نعم لو ادعي الاشتراك في أمر ثبوتي تعذر بين الوجود والعدم في ذاتيهما لا في أمر خارج عنهما، فإن وجود الحركة وعدمها يعتوران على الجسم، والجسم مشترك بينهما خارج عنهما، وكذلك العلم وعدمه، والإرادة وعدمها محالها مشتركة بين هذه النقائض.

وهي وجودية، وظهر أن الوجود والعدم يشتركان في الأمور الوجودية والعدمية، فدعوى عدم الاشتراك لا تتم. وقوله في تفسير الاستحقاق: ((الأول ظاهر الفساد)). يعني: أن الذم ليس مؤثرا في فاعل القبيح، بل الذم لا يؤثر لفي شيء لتعذر التأثير في الكلام، والذم إنما هو كلام، وإلزامه الدور على الثاني غير لازم؛ لأن مدلول الاستحقاق قد يكون مجهولا لشخص، والحسن معلوما له، وبالعكس عند شخص آخر، والحدود والرسوم إنما هي بحسب حال السائل، فرب شخص يعرف الحقيقة لازما، فيعرف له بذلك اللازم، وغيره بجهله، فلا يعرف له به، أو يقول: ليس معنى أن المالك يستحق الانتفاع بملكه أنه يحسن منه ذلك، بل معناه أن الله - تعالى - أذن له فيه، وهو أخص من الحسن؛ لأن الحسن هو الذي لا نهى فيه، وعدم النهي أعم من ثبوت الإذن، بدليل فعل البهائم، وحينئذ نقول: لفظ الإذن لم يقع في تفسير الحسن أصلا فلا دور، وقد تكون الألفاظ يجهل منها ما هي موضوعة له، وإن كانت المعاني في أنفسها معلومة كما تقدم بسطه في حد العلم، وإنه يصح تعريفه بالمعلوم كما تقدم تمامه. ثم نقول هاهنا معنى ثالث: هو الاستحقاق المقصود في القبيح، وهو ملائمة الذم لفاعل القبيح في نفوس العقلاء الملائمة بين الذم والفاعل غير التأثير والإذن الشرعي، وهذا المعنى ظاهر متبادر للذهن عند سماع هذه اللفظة إذا قال القائل: المحسن يستحق الثناء الجميل، والمسيء يستحق العقاب الوبيل. معناه: أن ذلك ملائم للطباع، ومناسب عند العقول، كما أن عقاب المحسن منافر عند الطبع، فهذه الملائمة والمنافرة معلومة بالضرورة للعقلاء، ومتبادرة عند سماع اللفظ، فاندفع السؤال. وقوله: ((الذم قول أو تركه أو فعل أو تركه)). مثال القول: الشتم.

مثال تركه: ترك رد الجواب عند تعيينه. مثال الفعل: الضرب. مثال ترك القيام في المحافل عند تعيينه، ويرد عليه أن الذم في اللغة إنما هو اللفظ ليس إلا، والأقسام الثلاثة لا تسمى ذما، فتفسير الذم بها لا يصح. وقوله: ((يدل على اتضاح حال الغير))، الغير هاهنا المذموم، أي: يتضح حاله عند الذام، فكذلك لما فسره بالنفرة استحال في حق الله - تعالى - لتعذر النفرة الطبيعية عليه، ويرد عليه أن الذم لفظ دال كما قال على النفرة، ولا يلزم من فني المدلول وتعذره في حق الله - تعالى - انتفاء الدال الذي هو الذم، والتحديد إنما وقع به، وما تعين نفيه في حقا لله تعالى، فإنا لآيات الدالة على التجسيم استحال مدلولها في حق الله - تعالى - ما بطل كونها دالة على تلك الأمور من التجسيم، فإن الدلالة الظنية قد توجد بدون مدلولها، فالقبيح هو الذي يحسن ورود هذه الألفاظ الدالة على النفرة في حق فاعله، سواء تحققت النفرة في نفس الذام أم لا، وكذلك إن آخذناه بذم الشخص على الفعل الحسن لغرض من الأغراض، وهو يعتقد أنه فعل حسن، ولا نفرة في نفسه، ومع ذلك لا يقال: إنه ليس بذم، فالحاصل أن التحديد وقع بالذم / وهو باق في حق الله - تعالى - ولم يقع بمدلوله فلا يضر انتفاؤه. وقوله: ((هذه الإشكالات غير واردة على قولنا، لأن القبيح عندنا هو المنهى عنه شرعا، والحسن ما ليس منهيا عنه)). يرد عليه أن القبيح عندنا يعتمد المفاسد كما أن الأمر يعتمد المصالح، فقلنا بالصفحة كما قالوا بها، غير أنا قلنا على سبيل التفصيل، وهم قالوا بها على سبيل الوجوب، وعندنا المحرم ملزوم للذم فقد قلنا بالذم، وعندنا ليس له

((سؤال)) قال النقشواني: جعل الإمام الحكم الشرعي منفسما إلى الحسن والقبح

أن يفعله شرعا، فيرد علينا جميع ما ورد عليهم في الصفة والاستحقاق والذم، وجميع الأسئلة. قوله: ((وإذا قلنا: الحسن هو الذي يصح من فاعله أن يعلم أنه غير ممنوع عنه دخل فيه فعل الله - تعالى -؛ لأن وجوب ذلك العلم لا ينافي صحته)). تقريره: أن الصحة والقبول، والإمكان معنى واحد ينقسم إلى: الإمكان العام، والإمكان الخاص، فالإمكان العام: هو سلب الضرورة عن أحد الطرفين، والإمكان الخاص: سلب الضرورة عن الطرفين معا، أعني طرفي الوجود والعدم. بيانه: أن الواجب وجوده ضروري، وعدمه ليس ضروريا، فقد سلبنا الضرورة عن أحد طرفيه وهو العدم، والمستحيل عدمه ضروريا، ووجوده ليس ضروريا، فقد سلبنا الضرورة عن أحد طرفيه وهو الوجود، والممكن لا ضرورة في وجوده ولا في عدمه، فقد سلبنا عن أحدهما، فعلم أن سلب الضرورة عن أحد الطرفين يصدق على الواجب والممكن ولامستحيل، والإمكان الخاص لا يصدق إلا على الممكن خاصة، فهو يريد بقوله: يصح من فاعله أن يعلم بالتفسير الأعم الصادق على الواجب الوجود، فلذلك قال: وجوبه لا ينفاي صحته، لما سبق إلى الذهن أن الصحة لا يفهم منها إلا المعنى الأخص المنافي للوجوب، فأخبر أنه يريد المعنى الأعم. ((سؤال)) قال النقشواني: جعل الإمام الحكم الشرعي منفسما إلى أقسام، هذا هو القسم الثاني، فيكون الحكم الشرعي منقسما إلى الحسن والقبيح، فيكون الحسن والقبيح حكمين شرعيين، مع أنه حدا لحكم بأنه خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلفين، فعلى هذا بطل قوله: إنه يندرج في الحسن فعل الله

تعالى؛ لأنه ليس خطابه المتعلق بفعل المكلفين، ولذلك لا يندرج فعل البهائم والنائم والساهي، والأفعال قبل ورود الشرع يلزمه أن تكون حسنة، وأنها خطاب الله تعالى، فثبت خطاب الله تعالى حيث انتفي خطابه، وهو تناقض ظاهر. جوابه: أن التقسيم قد يقع في الأعم والأخص مطلقا، فيجب صدق المقسم إلى جميع أقسام المقسم إليه، كتقسيم الحيوان إلى الناطق والبهيم، وتقسيم الناطق إلى الرجل والمرأة، فيجب صدق الحيوان على الرجل والمرأة، وجميع أقسامها؛ لأن المقسم أعم مطلقا، وتارة يقع التقسيم في الأعم من وجه، كتقسيم الحيوان إلى الأبيض والأسود، فلا يجب صدق الحيوان على جميع ما ينقسم إليه الأبيض والأسود، فلا يجب صدق الحيوان على جميع ما ينقسم إليه الأبيض ومن الجير واللبن، ولا جميع ما ينقسم إليه الأسود من القار والقطران، إذا تقرر هذا فمن التزم أصل التقسيم الذي هو أعم من التقسيم في الأعم مطلقا لا يرد عليه ما يلزم على أحد نوعيه، كما أن من التزم أنه قتل حيوانا لا يلزمه ما يلزم من قتل إنسانا، ولا من قال معي عدد أن يلزمه أن يكون زوجا، ولايلزمه لوازم الزوجية التي هي أحد أنواع العدد، لأنه إنما التزم الأعم، كذلك التقسيم إنما التزم التقسيم الذي هو أعم مطلقا، والحكم هاهنا أعم من الحسن من وجه، لا عموم مطلقا، والحسن ينقسم إلى ما هو حكم، وإلى ما ليس فيه حكم، كما ينقسم الأبيض إلى ما هو حيوان، وإلى ما ليس بحيوان، فكما لا يلزم صدق الحيوان على الجير لا يلزم صدق الحكم الشرعي على فعل الله تعالى، وما قيل معه، وهذا الجواب جليل ينفعنا في تقسيم العلم إلى التصور والتصديق، مع انقسام التصديق إلى العلم والجهل، فيلزم صدق العلم على الجهل، وفي تقسيم حكم الذهن بأمر على أمر، ثم قسم إلى الشك الذي لا حكم فيه، وقد تقدم تقريره، فتأمل هذا الجواب تجد نفعه إن شاء الله تعالى.

قَالَ سراج الدين: إنما تتم الإشكالات بإثبات الحصر في الأقسام المذكورة، ونفي كل واحد منها بخصوصه وعمومه، ولم تقم الدلالة على واحد منهما. يريد بالإشكالين قول الإمام: ((ليس له أن يفعله))، أنه يقال لأربعة، والكل باطل هذا أحدهما. والثاني: إشكال الاستحقاق فهو يعني أن التقسيم في الإشكالين وقع بين الثواب، والتقسيم إنمنا يكون حاصرا إذا وقع بين النفي والإثبات، أو بين ثوابت معلوم الحصر فيها بالضرورة نحو: العدد إما زوج أو فرد، وزيد إما متحرك أو ساكن، وليس هذا منها، فالحصر ليس بثابت ولا حاصل. وقوله: ((نفي كل واحد منها بخصوصه وعمومه)). يريد أن القسم قد ينتفي من حيث خصوصه، ويبقى عمومه كما ينتفي الإنسان من حيث هو ناطق، ويبقى عمومه، وهو كونه حيوانا، كذلك هاهنا اشتركت الأقسام كلها في أنه ليس له أن يفعله، فسلب هذه اللام الدالة على المكنة، والإذن، والاختصاص هو مشترك، ولعله يبقى بعد نفي كل واحد من الخصوصيات وحده لصلاحيته للاستقبال؛ فإن الكلي قد يكون نوعا أخيرا لا يحتاج لنوع آخر يكون فيه، أو في نوع آخر غير المذكورات، وكذلك أقسام الذم هي مشتركة في مطلق الدال على اتضاح حال المذموم في نفس الذام، فلعله يبقى مستقلا بعد نفي الأقسام، أو في نوع آخر غير المكذورة؛ لعدم إقامة الدليل على الحصر في هذه الأقسام. هذا تقرير كلامه. وجوابه: أن هذا الكلام من سراج الدين إنما يلزم إذا دعى نفي هذه الأمور، أما من ادعى نفي إفادتها للتعريف، فيكفيه أن يقول: إنه لم يفهم من لفظك المحاول للتعريف إلا كذا، وتعين أمر أو أكثر من غير حصر، ونقول: هذا الذي فهمته من كلامك لا يصلح للتعريف، وعمومه ما فهمته

((تنبيه)) خالفه ((الحاصل))

مرادا من كلامك، وغير هذا الأقسام التي لم يثبت الحصر يها لم يفهم أيضا من كلامك مع احتمال أن يكون مراده لك، هذا القدر يكفي في الرد على من حاول التعريف بأن يقال له: لم يفهم إلا كذا، وهو لايصلح للتعريف، ولا يلزم مورد هذا الكلام إثبات حصر، ولا نفي عموم هذه الحقائق، ومع ذلك يكون قادحا في التعريف، لأنه يرجع إلى إثبات التعريف، ومنع صلاحيته للإفادة، لا أنه دعوى نفي حقائق حتى يلزم ما ذكره سراج الدين، مع أنه أول سؤال أورده على الإمام، وهو غير وارد. ((تنبيه)) خالفه ((الحاصل)) في العبارة فقال: ((المؤثر يستحق الأثر، والأثر يستحق المؤثر إلى آخره)) ثم قال: وهما غير مرادين؛ لأن الصفة ليست مؤثرة في الذم لتخلفه عنها في الكذب النافع، ولا الذم في الصفة ليست مؤثرة في الذم لتخلفه عنها في الكذب النافع، ولا الذم في الصفة، ولم يتعرض الإمام لهذه الزيادات، وكلامه غير منطبق على ما تقدم؛ لأنهم قالوا: القبيح هو الواقع على صفة لأجلها يستحق فاعله الذم، فجعلوا الاستحقاق بين الفاعل والذم، لا بين الصفة والذم كما جعله هو، فلا ينطبق كلامهم على كلامه، ثم قال: والنفرة على الله تعالى محال، مع أنهم يقبحون الأفعال في حق الله تعالى هذا الكلام أيضا ليس في الأصل، بل قال في الأصل: يلزم ألا يتحقق الحسن والقبح في حق الله تعالى، لما أن النفرة الطبيعية عليه محال، فعبارة الإمام تقضتي أن القبح لا يتصور بالنسبة إلى الله تعالى، أي لا يتصور منه أن يستقبح، لأن المستقبح هو الذي ينفر طبعه بذمه لفاعل القبيح، والله - تعالى - يستحيل عليه أن ينفر طبعه، وهذا متجه، وعبارته هو تقتضي أن الأعفال الصادرة عن الله - تعالى - منها ما هو قبيح، وعلى هذا يكون الذام النافر غيره، على تقدير صدور ذلك القبيح، وهوغير منتظم مع قوله: ((النفرة على الله - تعالى -

((تنبيه)) قال أبو الحسين في ((المعتمد)): أهل ((العراق)) يطلقون القبيح على المحرم والمكروه

محال)) لا يستقيم إلا أن يكون فاعل القبيح غير الله تعالى، والله - تعالى - هو الذام، وعبارة الإمام أقرب لهذا من عبارة ((الحاصل)). ((تنبيه)) قال أبو الحسين في ((المعتمد)): أهل ((العراق)) يطلقون القبيح على المحرم والمكروه، وما لا بأس بفعله، وهو ما فيه شبهة قليلة، وإن كان مباحا كسؤر كثير من الحيوان، بخلاف شرب الماء من دجلة لا يقال فيه: لا بأس به. قال: وإنما قلنا: القبيح هو الذي على صفة لها تأثير في استحقاق الذم، ولم يقل: يستحق لاجله الذم؛ لأن القبيح قد يفعله من لا يذم كالجاهل بحاله في وَطء الأجنبية يظنها امرأته، والبهيمة تفعل القبيح كما قال ولا تذم؛ لأن مناط القبيح المفسدة، والبهيمة قد توقع المفسدة بالقتل وغيره ولا تذم، فلذلك لم يذكر تلك العبارة؛ لأنها لا تمشى على طرق أصحابنا، يعني المعتزلة. قال المازري في ((شرح البرهان)): قال القاضي أبوبكر: الحسن ما للفاعل أن يفعله، والقبيح ما ليس له أن يفعله، كما قاله أبو الحسين. وقال القاضي أيضا: الحسن ما ورد الشرع بوجوب تعظيم فاعله، والثناء عليه، والقبيح ما ورد الشرع بانتقاص فاعله، وسوء الثناء عليه، فيندرج المباح في الأول دون الثاني قال: ولا يندرج الواجب في الأول؛ لأنه لا يقال له أن يفعله، بل عليه أني فعله، قال: ويبعد في الشرع أن يسمى المباح حسان، والمكروه قبيحا. قلت: وهذا الاختلاف للمفسرين في قوله: ((ليجزيهم الله أحسن ما عملوا)) فقيل: لمَ لمْ يقل: بحسب ما عملوا ليعم؟

قيل في الواجب: قال: أحسن ليخرج الحسن الذي هو المباح، فإنه لا جزاء فيه، فكان اللفظ منطبقا بناء على أن المباح مسمى حسنا. وقيل: بل المراد بالأحسن الواجبات، وبالحسن المندوبات، وقال: أحسن، ليدل على المندوب بطريق الأولى؛ لأن منه سهل عليه بذل العطية العليا سهل عليه بذل العطية سهل عليه بذل العطية الدنيا بطريق الأولى.

التقسيم الثالث: في خطاب الوضع وأقسامه

التقسيم الثالث قال الرازي: قالوا: خطاب الله تعالى كما قد يرد بالإقتضاء أو التخيير، فقد يرد أيضا بجعل الشيء سببا وشرطا ومانعا، فلله تعالى في الزاني حكمان: أحدهما: وجوب الحد عليه، والثاني: جعل الزنا سببا لوجوب الحد؛ لأن الزنا لا يوجب الحد بعينه وبذاته بل بجعل الشارع إياه سببا. ولقائل أن يقول: إن كان المراد من جعل الزنا سببا لوجوب الحد هو أنه قال: ((متى رأيت انسانا يزني فاعلم أني أوجبت عليه الحد)) فهو حق ولكن يرجع حاصله إلى كون الزنا معرفا بحصول الحكم، وإن كان المراد: أن الشرع جعل الزنا مؤثرا في هذا الحكم، فهذا باطل لثلاثة أوجه: الأول: أن حكم الله تعالى: كلامه، وكلامه قديم، والقديم لا يعلل بالمحدث. الثاني: أن الشرع لما جعل الزنا مؤثرا في وجوب هذا الحد، فبعد هذا الجعل إما أن تبقى حقيقة الزنا كما كانت قبل هذا الجعل أو لا تبقى: فإن بقيت كما كانت، وحقيقته قبل هذا الجعل ما كانت مؤثرة فبعد هذا الجعل وجب أن لا تصير مؤثرة، وإن لم تبق تلك الحقيقة، كان هذا إعداما لتلك الحقيقة، الشيء بعد عدمه يستحيل أن يكون موجبا. الثالث: الشرع إذا جعل الزنا علة، فإن لم يصدر عنه عند ذلك الجعل أمر ألبتة استحال أن يقال إنه جعله علة للحد؛ لأن ذلك كذب، والكذب على الشرع محال.

شرح القرافي

وإن صدر عنه أمر، فذلك الأمر إما أن يكون هو الحكم، أو ما يوجب الحكم أولا الحكم ولا ما يوجبه. فإن كان الأول، كان المؤثر في ذلك الحكم هوالشرع لا ذلك السبب. وإن كان الثاني، كان المؤثر في ذلك الحكم وصفا حقيقيا، وهذا هو قول المعتزلة في الحسن والقبح، وسنبطله، إن شاء الله تعالى. وإن كان الثالث فهو محال لأن الشارع لما أثر في شيء غير الحكم، وغير مستلزم للحكم لم يكن لذلك الشيء تعلق بالحكم أصلا. قال القرافي: قوله: ((التقسيم الثالث ...) إلى آخره هذا القسم يسمى خطاب الوضع والإخبار. معناه: أن الله - تعالى - شرح لأحكام الإقتضاء، والتخيير أسبابا وشروطا، وموانع، وزاد غيره التقديرات، وهي: إطاء الموجود حكم المعدود، وإعطاء المعدوم حكم الموجود، كتقدير النجاسة المعفو عنها معدومة، ويسير الضرر والجهالة وتقدير الأعيان في السلم، والديون في السلف ونحوه في الذمة مع أنها معدومة. وقوله: ((أول التقسيم قالوا)): يعني العلماء؛ لأن المعتزلة، والسنة ولاجميع قائلون بخطاب الوضع، غير أنا نفسره بالمعرف، والمعتزلة بالمؤثر. قوله في الوجه الثاني: ((إن لم تبق الحقيقة كما كانت كان ذلك إعداما لها))، ممنوع؛ لأن الشيء يصدق عليه أنه ما بقي كما كان بأن يعدم، أو بأن يزيد فلعله هاهنا بالزيادة، وهو الواقع عند الخصم، فلا يتم قوله، والشيء بعد عدمه لا يؤثر، لأنها عدمت حينئذ من جهة بقائها على ما كانت عليه، لا من جهة هلاكها في نفسها.

((سؤال)) قال النقشواني: قوله في الوجه الثاني بعد هذا الجعل ((إما أن تبقى الحقيقة كما كانت أولا))

قوله في الوجه الثالث: ((وإن كان القسم الثاني كان المؤثر في الحكم وصفا حقيقيا، وهو المقر له في الحسن والقبح)). معناه عدهم: أن الله - تعالى - خلق المهلكات للأجسام كالسم وغيره، وجعل فيها وصفا يقتضي الهلاك، وخلق المصلحات للأجسام كالأغذية وغيرها، وجعل فيها وصفا يقتضي الصلاح، فهذان الوصفان في القسمين مخلوقات لله صدرا عنه، وهما يؤثران في القبح والحسن والتحريم والتحليل، فظهر أن القسم الثاني هو مذهب المعتزلة. ((سؤال)) قال النَّقْشّوَانِيُّ: قوله في الوجه الثاني بعد هذا الجعل ((إما أن تبقى الحقيقة كما كانت أولا))، إنما يصح إذا كان الجعل حادثا، ويكون الجعل طارئا، لكن الجعل قديم؛ لأنه وربط الله - تعالى - الحد بالزنا في كلامه النفساني، أو علمه، وتقديره على رأي المعتزلة، على تقدير وجود الزاني بشروطه. جوابه: أن الجعل يصدق مع القدم، بالنظر إلى ذات الممكن، فإن الله - تعالى - إذا قدّر وجود العالم، أو غيره من الممكنات صار واجبا أن يوجد، ولا التقدير، وما أضيف إليه من جهة الله - تعالى - لم يكن ليجب وجوده، فيصح عليه أن جعل واجبا، بمعنى صير، باعتبار ما يستحقه لذاته. قال الفارسي في ((الإيضاح)) وجعل لها خسمة معانٍ. صير: نجو جعلت الطين خزفاً.

وسمى: نحو قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الله إناثا)) أي سموهم لتعذر وصولهم لذواتهم. وشرع في التفعل: نحو جعلت أبتسم لزيد. وألقى: نحو جعلت متاعك بعضه على بعض، أي ألقيته. وبمعنى خلق: نحو قوله تعالى: ((وجعل الظلمات ولانور)) أي خلقها، والتصيير صادق في الممكن إذا صار واجبا لغيره بعد ما كان ممكنا لذاته بعدية قبلية لا زمانية. وقد قال الإمام في ((الأربعين)) وغيره: إن التقديم والسبق له خمسة معان: أحدها: التقديم العقلي، وإن عدم التقديم بالزمان.

سؤال: قول سراج الدين

سؤال قال سراجُ الدِّينِ: يرد على الأول لعلهم أرادوا بجعل الزنا سببا تعلق الحكم به، ومعناه نفس تعلق الكالم النفساني، او التقدير الأزلي بارتباط الحد بالزنا. جوابه: لا يمكنهم أن يريدوا ذلك، لأن المقصود في هذها المقام إنما هو التأثير، وسائر التعلقات لا تؤثر إلا تعلق القدرة، ولا مدخل للقدرة في الأحكام، فتفسير بمطلق التلعق غير سائغ. ((سؤال)) قال سراجُ الدِّينِ: يرد على الوجه الثالث أن الصادر عن صاحب الشرع المؤثرية، وهي غيرهما. يعني: صدر عن صاحب الشرع المؤثرة التي جعلها في الزنى، وهي غير الوصف الحادث في الأفعال المحدثة. جوابه: أن هذا التفسير راجع للمقسم الثاني، وهو قوله: ما يوجب الحكن، فإن الموجب عبارة عما يكون له صفة المؤثرية، لأن عند فرض عدمها يستحيل أن يوجب الحكن، وهذا الذي وعد أنه يبطله على المعتزلة من الصفات المؤثرة في الأحكام. فقوله: ((ما يوجب الحكم)) اندرجت فيه المؤثيرة، فإن الوصف الحقيق الذي ذكره إنما أورده بوصف المؤثرية، وهو مراد المعتزلة، ولم تجعل المعتزلة الصفات موجبة للحكم مع عمد المؤثرية، بل مع تحققها. ((تنبيه)) زاد في ((الحاصل)) بعد قوله: إن أرادوا بالسببية الإعلام، فهو حق، لكنه

ليس حكما شرعيا، فسلب كونه حكما شرعيا لم يصرح به في الأصل، ولا صرح به غيره، ولا كان يليق التصريح به؛ لأن خطاب الوضع أحكام شرعية، غير انها غير أحكام التكليف. قال التبريزي: إن ورد بالإقتضاء والتخيير فهو التكليف، وإلا فإما أن يتضمن إنشاء وهو إفادة أمر لإفادة الفهم لأمر، نحو بعت، واشتريت، وطلقت في معرض الحكاية، وهو خطابا لوضع، وحصر أثقسامه أن المنشأ إما نفس مفهوم أمر، أو تعلق أمر بأمر. الأول محله إما الأعيان أو هيئاتها، وهي الاستعدادات القائمة بها، أو الحوادث من الأفعال، والأقوال وغيرها، والثابت في الأعيان إما لغرض الانتفاع، أو غرض تركه، والثابت للانتفاع قد يكون محض ضعف السبب، كما في التحجير قبل تمام الإحياء، أو لقيام مانع، إما مع تنجز الاستعداد كما في الكلب والسرجين، أو مع تأخره كما في جلد الميتة والخمرة المحترمة، فهو للإختصاص، وإن كان لانتفاع كامل فإما انتفاع عام بخصوص الأكل والوقاع، وكيفما كان، فإما أن يكون مرادا في جنسه، أو بالنظر إلى أعيان الأشخاص، فالثابت للعموم في جنسه هوا لطهارة، والثابت للخصوص في جنسه هو الحل، والثابت لأعيان الأشخاص في النوعين إن كان لأصل التمكين، فهو الملك، ويدخل فيه ملك اليمين، وملك النكاح المعبر عنه بالزوجية، وإن كان لدوام التمكين فهو العصمة، والثابت لغرض ترك الانتفاع إن كان على العموم، فهو النجاسة، أو لخصوص الأكل، والوقاع فهو الحرمة، وهي غر حمة الأفعال الاثبتة بخطاب التكليف، كما أن حل الأعيان غير حل الأفعال.

وأما الثابت في الهبات فهو الاستحقاق، كاستحقاق منافع الأعيان، واستحقاق إجراء الماء، والمرور، والبناء، وأمثالها، وقد يضاف الاستحقاق إلى المعاني والأفعال، كاستحقاق البيع، ولافسخ، والشفعة، والحبس، واليد وبينونة الزوج المجنون في القسم. وقد يعبر عن الاستحقاق بالملك، وأما الثابت في الأفعال فإما الاستحقاق كما ذكرناه من البيع، والفسح، أو الأعتبار، والانعقاد، ولاصحة، والعقود، واللزوم، والبطلان، والفساد، وهو أوصفا الإنسان، ووجه الحصر هو أن الفعل إن كان وجوده كعدمه في نظر الشرع، فهو الفاسدد ولاباطل واللغو، إلا أن البطلان، والفساد لا يطلقان إلا على ما له اعتبار في حال ما، وإن لم يكن كذلك فهو المعتبر غير منعقد، ثم إن المعتبر إن لم يفتقر في تمام السببية إلى أمر فهو المنعقد فإن توفر عليه حكمه فهو النافذ، وإن لم يقبل الفسخ فهو اللازم، والصحيح قد يرادف النافذ، وقد يرادف المنفذ إلا أنه يختص بالعقود والعبادات. والفسح: هو حل ارتباط العقود. وأما ما يفيد تعلق أمر بأمر، فالمعلق لا بد وأن يكون أمرا شرعيا، وإن لم يكن المعلق به شرعيا، لأن الحقيقي إن لم يكن علق بالشرعي كان محالا وإن علق بالحقيقي لم يكن للتعليق شرعا، ولا إنشاء، ثم المعلق إن كان ثبوتيا فالمعلق به سببا أو نفيا، فالمعلق به إن كان وجودا فهو المانع، أو عدما فوجوده شرطا. هذا تمام الحصر وهو من أقسام الأحكام الشرعية، وتسميها الفقهاء المعاني المقدرة، وليس ذلك مجرد حصول الآثار، وترتب المقاصد فإنها معللة بها كتعليل جواب الانتفاع بالملك، ووجوب الضمان بالعصمة، وكذلك كونه سببا ليس هو مجرد ثبوبت الحكم عنده كما ظنه المصنف، فإنا تطلب السببة بعد العلم بالثبوت عنده قطعا، ويستدل عليها بالأدلة الشرعية، ثم تارة بين أنه السبب، وتارة غيره للأعم، أو الأخص، أو المساوي، فدل على أن العلم بالسببية غير العلم بالثبوت عنده.

هذا كلام التبريزي في خطاب الوضع وفيه فوائد، ويحتاج بعضه إلى البيان فأقول: أما قوله: نحو بعت، واشتريت في معرض الحكاية، إن أراد أن صورة الإنشاء تحاكي الخبر المحتمل للتصديق، والتكذيب في الصورة لا في المعنى صح، وإن أراد أنه البائع إذا حكم صدر عنه عند العقد يكون ذلك إنشاء، فليس كذلك، بل هذا خبر صرف، ويتحصل في أقسامه التي قصد بها بيان الحصر أن التحجير في الموات قبل الإحياء، وتمكين صاحب الكلب والسرجين منه، وجلد الميتة، والخمر التي تكون ليتيم قد يرى فيها الحكام والعصمة بين الزوجين، وكون العين نجسة، والاستحقاق والاعتبار، والصحة، والنفوذ، واللزوم، والبطلان والفساد والفسخ أحكام وضعي وليس كذلك، بل التخير هو سبب في نفسه، ويترتب عليه منع الغير من ذلك المكان المحجر أن يبنى فيه ملكا بغير إذن المحجر، والمنع تكليف، وتمكين صاحب الكلب، وما معه إذا من صاحب الشرع في الانتفاع بالكلب،

.....................................................................

والسرجين على رأي من رأى ذلك، وكذلك جلدالميتة، والخمر المحترمة

......................................................................

إذن في بقائها، وكذلك التمكين من الأكل، والوِقاع كله إذن، وإباحة ترجع إلى أحد الأحكام الخمسة، لا للوضع، والطهارة إذن في ملابسة العين الطاهرة في الصلوات والأغذية، كما أن نجاسة العين ترجع إلى تحريم العين النجسة في الصلوات، والأغذية، والعصمة بين الزوجين معناه: الإذن لكل واحد منهما في الاستمتاع بصاحبه، ومنع المرأة من تمكين غير الزوج، فإن المنع أصل هذا الاشتقاق، ومنه العصم وحش في الجبللا يقدر عليه غالبا، ومنه المعصم، لأن به يمتنع الإنسان في القتال وغيره، ومنه دمه معصوم أي ممنوع شرعا، فالعصمة إذن وتحريم، فترجع إلى الأحكام الخمسة، والاستحقاق إذن للمستحق في أخذ العين، ثم تسمية المباح من أحكام التكليف توسع، لأن التكليف إنا يصدق على ما فيه كلفة، وهو المحرم والواجب خاصة، ولذلك تقول: الصبي غير مكلف، وإن كان يندب للصلاة على الصحيح، ثم حصره ما وقع دائرا بين النفي والإثبات فلم ينحصر. وقوله: ((فالمعلق إن كان ثبوتيا فالمعلق به سبب)). يشير إلى أن وجود السبب يلزممنه الوجود، بخلاف الشرط والمانع، ووجود المانع يلزم منه عدم الحكم، بخلاف السبب ولاشرط، وعدم الشرط هو المعتبر، فالسبب يلزم من وجود الوجود، ومن عدمه العدم ما لم يعرض أمر خارجي كالاختلاف بسبب أمر آخر، فيلزم الوجود عند العدم، أو عدم الشرط، أو قيام المانع، فلا يلزم من الجود الوجود، والشرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، ما لم يعرض امر خارجي، كتقدم اسبب قبل الشرط، كا في دوران الحول مع تقدم النصاب، فإنه يلزم من وجود الشرط وجود الحكم، لكن لتقدم السبب الذي هو النصاب، والمانع ما يلزم من وجوده العدم، لايلزم من عدمه

تعريف السبب

وجود ولا عدم ما لم يعرض أمر خارجي، كما إذا وجد السبب عند عدم المانع، يلزم الوجود لكن ليس لعدم المانع، بل لوجود السبب، فالمعتبر من المانع وجوده، ومن الشرط عدمه، ومن السبب وجوده وعدمه. وأما سيف الدين الآمدي فقال: خطاب الوضع والإخبار ستة أوضفا: السبب، والمانع، والشرط، ولاصحة، ولابطلان، والعزيمة، والرخصة، وجعل العزيمة والرخصة صنفا واحدا. ثم قال: ((السبب لغة: ما يتوصل به لمقصود ما، فالحبل سبب والطريق سبب، اصطلاحا: الوصف الظاهر المنضبط الذي دل الدليل السمعي على كونه معرفا للحكم الشرعي، وهو يكون تعبديا كزوال الشمس للظهر، ومعقول المعنى كالإسكار لتحريم الخمر، وفائدة نصبه سببا علم المكلفين تجدد الأحكام في الوقائع مع الأيام عند انقطاع الوحي)). قال: فإن قيل: لو كانت السببية حكا شرعيا لافتقرت لسبب آخر يعرفها ويلزم التسلسل أو الدور. قلنا: يعرف بالنص فلا دور ولا تسلسل. ثم قال: المانع كل وصف وجود ظاهر منضبط، هو ينقسم إلى مانع الحكم كالأبوة في القصاص، وهو كل وصف تقضتي حكمته نقيض حكم

.........................................................................................

((فائدة)) قال الغزالي: الأسباب ظاهرة في العبادات المتكررة كالصلاة والصوم والزكاة

السبب مع بقاء حكمه السبب، وإلى مانع السبب، وهو الذي يخل وجوده بحكمة السبب، كالدين في الزكاة يخل وجوده بحكمة ذلك النصاب، فيشبه الفقير، ولاشرط ينقسم إلى ما بخل عدمه بحكمة لاسبب، وهو شرط السبب كالقدرة على التسليم في البيع، وإلى شرط الحكم، وهو ما تقتضي حكمته نقيض حكما لسبب مع بقاء حكمة السبب، كعدم الطهارة في الصلاة مع الإتيان بمسمى الصلاة. قال: والحكم الشرعي في ذلك قضاء الشارع على الوصف يلزمه مانعا أو شرطا لانفس الوصف. ((فائدة)) قال الغزالي: الأسباب ظاهرة في العبادات المتكررة كالصلاة والصوم والزكاة، فإن ما يتكرر الوجوب بتكرره يسمى سببا، أما ما لا يتكرر

كالإسلام والحج، فيحتمل أن يكون معلوما بالنصوص الدالة عليه، والحاجة إلى سبب، ويمكن أن قال: سبب وجوب الحج السبب دون الاستطاعة، ولما لم يكن السبب إلا واحدا لم يجب الحج إلا مرة واحدة، والإيمان معرفة، فإذا حصلت دامت. ((فائدة)) قال الغزالي: السب لغة: الطريق والحبل الموصل للماء، وهو ما يحصل عنده لا به، فإن الماء لا يحصل بالحبل، بل الإستقاء، والوصلو للمقصد بالسير لا بالطريق، ولكن لا بد من الطريق والحبل، وهو في عرف الفقهاء مشترك بين أربعة أمور: الأول: وهو أقربها للحقيقة ما يطلق في مقابلة المباشرة، لأنه يقال لحافر البئر: سبب، والمتردي صاحب علة، لأن الموت حصل عند الحفر لا به. الثاني: يسمون الرمي سببا للقتل، لأنه العلة، ولا بد مع الرمي من الوصول للمرمى. الثالث: قولهم: اليمين سبب الكفارة، وملك النصاب سبب الزكاة، ويريدون ما يحسن إضافة الحكم إليه. الرابع: يريدون به العلة، وهو أبعدها عن الحقيقة، لأنها تتأثر غير أن العلة لما لم تكن علة إلا بالجعل حصل الشبه.

التقسيم الرابع قال الرازي: الحكم قد يكون حكما بالصحة، وقد يكون حكما بالبطلان

التقسيم الرابع قال الرازي: الحكم قد يكون حكما بالصحة، وقد يكون حكما بالبطلان، والصحة قد تطلق في العبادات تارة وفي العقود أخرى. أما في العبادات، فالمتكلمون يريدون بصحتها كونها موافقة للشريعة، سواء وجب القضاء أو لم يجب. والفقهاء يريدون بها ما أسقط القضاء، فصلاة من ظن أنه متطهر صحيحة في عرف المتكلمين، لأنها موافقة للأمر المتوجه عليه، والقضاء وجب بأمر متجدد، وفاسدة عند الفقهاء؛ لأنها لا تسقط القضاء. وأما في العقود، فالمراد من كون البيع صحيحا: ترتب أثره عليه. وأما الفاسد: فهو مرادف للباطل عند أصحابنا. والحنفية جعلوه قسما متوسطا بين الصحيح والباطل، وزعموا أنه الذي يكون منعقدا بأصله، ولا يكون مشروعا بسبب وصفه كعقد الربا، فإنه مشروع من حيث إنه بيع، وممنوع من حيث إنه يشتمل على الزيادة. والكلام في هذه المسألة مذكور في الخلافيات؛ ولو ثبت هذا القسم لم نناقشهم في تخصيص اسم الفاسد به. ويقرب من هذا الباب البحث عن قولنا في العبادات: إنها مجزية أم لا؟ واعلم أن الفعل إنما يوصف بكونه مجزيا؛ إذا كان بحيث يمكن وقوعه

بحيث يترتب عليه حكمه، ويمكن وقوعه بحيث لا يترتب عليه حكمه، كالصلاة والصوم والحج. أما الذي لا يقع إلا على وجه واحد؛ كمعرفة الله تعالى ورد الوديعة، فلا يقال فيه إنه مجزىء أو غير مجزىء. إذا عرفت هذه فنقول: معنى كون الفعل مجزيا: أن الإتيان به كاف في سقوط التعبد به، وإنما يكون كذلك لو أتى المكلف به مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة فيه من حيث وقع التعبد به. ومنهم من فسر الإجزاء بسقوط القضاء، وهو باطل؛ لأنه لو أتى بالفعل عند اختلال بعض شرائطه ثم مات، لم يكن الفعل مجزيا مع سقوط القضاء. ولأن القضاء إنما يجب بأمر متجدد؛ على ما سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى ولأنا نعلل وجوب القضاء بأن الفعل الأول لم يكن مجزيا فوجب قضاؤه والعلة مغايرة للمعلول. قال القرافي: قوله: ((الحكم قد يكون بالصحة، وقد يكون بالبطلان إلى قوله: في الإجزاء)). اعلم أن الفقهاء، والمتكلمين اتفقوا على الأحكام، إنما الخلاف في لفظ وضع الصحة لماذا؟ فاتفقوا على أن المصلى محدثا بظن الطهارة أنه مثاب، وأنه وافق أمر الله تعالى؛ لأن الله - تعالى - أمره أن يصلي صلاة يغلب على ظنه طهارتها، وقد فعل، وأنه لا يجب عليه القضاء إذا لم يذكر الحدث، وأنه يجب عليه القضاء إذا ذكر، فالأحكام كلها متفق عليها، إنما الخلاف هل يوضع لفظ الصحة لمثل هذا؟ أو لما يكون صحيحا في نفس الأمر مستكملا لشروط في علم الله تعالى، واصطلاح الفقهاء أنسب للغة؛ لأن الآنية متى كانت صحيحة من جميع الجوانب إلا من جانب واحد فهي

مكسورة لغة، ولا تكون صحيحة لغة حتى لا يتطرق إليها الخلل من جهة ألبتة، وهذه الصلاة يتطرق لها الخلل من جهة وهي جهة ذكر الحدث، فلا تكون صحيحة، بل المستجمع لشروطه في نفس الأمر هو الصحيح عند الفقهاء، وهو المناسب للغة. وقوله: ((الصحة في العقود ترتب آثارها عليها)). معناه: المكنة من الأكل والبيع، والهبة، والوقف، ونحوه وأثر كل عقد على حسبه، فأثر البيع ما تقدم، وأثر الإجارة التمكن من المنافع وفي القراض عدم الضمان، واستحقاق الربح، وفي النكاح التمكن من الوطء، والطلاق، إلى غير ذلك من أنواع العقود، وإذا كان لكل عقد أثر يخصه، وجمع بينهما بلفظ الأثر، وكان يجمع بين العبارة والعقود بلفظ واحد، ويقول: للصحة مطلقا ترتب الأثر على الثصحيح، وفي العبادات براءة الذمة، وسقوط الأمر لو سقط القضاء على الخلاف، وفي العقود ما تقدم فيستريح الطالب من حفظ شيئين يظنهما متباينين، ويكثر عليه الغلط، ولعله إنما أفررد العبادات ليحكي الخلاف فيها بين الفقهاء والمتكلمين، ولم يختلفوا في العقود ذلك الاختلاف، وما ذكره الحنفية مناسب للغة أكثر؛ لأن الطعام إذاتغير مع بقائه يقال لها في اللغة: فسدت؛ وإن كانت عينها باقية، أما إن ذهب الطعام بأن أكله حيوان، أو الثمرة بأن أكلت أوسرقت، لا يقال: فسدت، بل هلكت، وبطلت، فظهر أن الفساد لا يطلق إلا حيث يكون للعين ثبوت من وجه. إذا تقرر هذا فإذا باع رشيد من رشيد عرضا أو طعاما بخمر لم تتقرر

........................................................................

حقيقة العقد شرعا؛ لأن الحقيقة كما تبطل لذهاب جميع أجزائها تبطل لذهاب أحد أجزائها، وقد ذهب أحد أركان العقد، وهو أحد العوضين بطل شرعا، فتكون حقيقة العقد منفية شرعا لانتفاء جزئها شرعا، فيقال له: باطل عندهم. أما إذا باع رشيد من رشيد فضة بفضة، فقد حصلت الأركان الأربعة معتبرة شرعا، فتكون حقيقة العقد ثابتة شرعا لثبوت جميع أجزائها شرعا، وأحد الأركان حصلت فيه صفة وهي الزيادة، وهي منشأ الفساد ولاتحريم، فعلى هذا تكون عقود الربا كلها إذا وقعت على هذه الصورة كانت لفائدة لا باطلة، لبقاء الحقيقة وثبوتها شرعا لثبوت جميع أركانها شرعا، كالطعام إذا عرض له الحمض المفسد، وهذا توجيه صحيح يؤيد الحنفية، غير أن في كتاب الله - تعالى - ما يبطل ذلك، وهو قوله تعالى: ((لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)) فسمى السموات والأرض فاسدة على تقدير

((فائدة)) قال الغزالي: يتخرج على الخلاف من قطع صلاته لأجل غريق

الشريك، ووجوده، ووقع التمانع، أن العلام حينئذ يستحيل وجوده لحصول التمانع، لا أنه يكون موجودا على نوع من اخلل، فقد سمى الذي لا تثبت حقيقته بوجه فاسدا، وهو خلاف ما قالوه فتأمل ذلك. وقوله في تمثيل الفاسد: ((كعقد الربا، فإنه مشروعمن جهة أنه بيع، ممنوع من جهة اشتماله على الزيادة)) يلزم منه اندراج الباطل في تفسر الفاسد، فإن الباطل أياض لم ينه عنه منجهة أنه بيع، بل مشروع من ذلك الوجه، إنما المفاسد في متعلقاته من جهة العاقدين والعوضين، بل ينبغي أن يفسر بتفسير هو أخص من مطلق البيع، فنقول: مشروع من جهة أنه يبيع فضة بفضة، وهذا لا يصدق على الباطل فلا يندرج. ((تنبيه)) زاد في ((المنتخب)) بعد تفسير صحة العبادة والبطلان مقابل لها على اختلاف المذهبين. معناه من قال: الصحة موافقة الأمر يوقل: البطلان مخالفة الأمر، ومن قال: الصحيح ما أسقط القضاء يقول: الباطل ما أمكن أن يتعقبه القضاء. ((فائدة)) قال الغَزَالي: يتخرج على الخلاف من قطع صلاته لأجل غريق، فهي صحيحة عند المتكلمين، وباطلة عند الفقهاء. قوله: ((وبقرب من هذا الباب البحث عن الإجزاء في العبادة إلى آخر التقسيم)). اعلم أن الفرق واقع بين الصحة، والإجزاء من حيث الجملة؛ لأن الصحة في العقود دون الإجزاء، لأنه لا يصدق في العبادة، وله إشعار

بالوجوب، فيبعد أن يقال في صلاة النفل: إنها مجزئة من حيث إنها نفل، غير واجبة بالشروع، أوفي صدقة التطوع إنها مجزئة. أما الفرق بين إجزاء العبادة وصحتها فصعب؛ لأن كل عبادة صحيحة عند الفقهاء مجزئة، وكل عبادة مجزئة صحيحة، فيعسر الفرق، وجميع المباحث والأسئلة الواردة على أحد البابين واردة في الآخر، وعلى هذا التقدير يعسر جعلهما بحثين أو مسألتين، غير أني قد استروحت من قوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردة بن نيار في جذع الماعز: ((تجزئك ولا تجزيء أحدا من بعدك)) أن الإجزاء أعم، فإن السيد إذا جعل على عبيده في الخراج كل واحد عشرة، فرحم بعضهم في بعض الأيام، فقال له: تجزئك ولا خمسة عما قرر عليك، بمعنى أنه يزيل الطلب عنك، لأنك أتيت بالمأمور على الوصف الذي تقاضاه الأمر كالجذع، فإنه ليس على الوصف الذي تقاضاه الأمر بالأضحية، وقد أسقط عنه عليه الصلاةوالسلام الطلب به، فيكون الإجزاء

أعم لكون زوال الطلب قد يكون بالفعل الموصوف بالأوصاف الوقاعة في الأمر، وقد يكون بدونها كالجذع، والصحة زواله بالفعل الواقع على وفق الأمر، ويمكن أن يقال: الإجزاء والصحة كل واحد أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه، لأن المتيمم في الحضر يصلي ويعيد عد الشافعي إذا وجد الماء، والعادم للماء والترا ب يصلي، ويعيد على أحد الأقوال، مع أن الصلاة الأولى صحيحة، وإعادة الثانية ليس لعدم الكمال، بل لعدم الإجزاء؛ لأنها واجبة فالصحة أعم من الإجزاء لوجودها بدونه، ومعنى عدم الإجزاء هاهنا أن الأولى لم تبرئ الذمة فهي كالركعتين من الظهر، والجزاء أيضا أعم لوجوده بدون الصحة في حديث أبي بردة المتقدم، فيكون كل واحد أعم وأخص من وجه؛ لثبوت عموم كل واحد منهما على الآخر، واجتماعهما في أكثر الصور، فهذا ما تيسر لي في الفرق، ولهذا الإلباس قال الإمام: يقرب من هذا البحث عن الإجزاء. وقوله: ((لايوصف بالإجزاء إلا ما أمكن أن يوصف بالبطلان، وعدم الإجزاء كالصوم)) هذا على قاعدة لغويو أن العرب لاتوصف المحلى بشيء إلا إذا كان قابلا لضد، فلاتقول في الخراز: إنه أعمى وإن كان لا يبصر لعدم قبوله للبصر ولا أصم لعدم قبوله للسمع عادة، فكذلك العبادة إذا لم تقبل الوصف بالفساد لا توصف بالإجزاء، ثم تمثيله بمعرفة الله -سبحانه وتعالى- صحيح، فإنها متى تحقق الكشف كانت معرفة، وإن لم يتحقق الكشف

لم تكن المعرفة حاصلة، فما وصفت المعرفة بغير الإجزاء قط، ولا تقبله، نعم قد يشترط، في اعتبارها، وترتيب الثواب عليها أمور أخر، فإن وقوعها قبل الأمر بها لا ثواب فيه، ومع الكفر الفعلي، كإلقاء المصحف في القاذورات محبط لثوابها ونحو ذلك، فثوابها قد يكون وقد لا يكون. أما وقوعها على الوجه المطلوب منها في ذاتها، فلا يتصور وقوع على غيره. وأما تمثيله برد الوديعة فغير مسلم؛ لأنه إن أراد بالرد المستجمع لجميع الشرائط والأسباب، وانتفاء الموانع، فالعبادات والمأمورات الكل كذلك، وإن أراد أصل الرد كيف كان، قد يرد الوديعة لربها بعد جنونه، أو الحجر عليه فلا يبرأ بذلك، ويضمن، أويبعها ربها، فيتعين التسليم للمشترى، أو يرهنها فيسلمها للراهن، او يموت فيتعين التسليم للوارث، فأصل الرد في الوديعة يقبل الوجهين، فلا يصح التمثيل به قوله: إجزاء الفعل كون الإتيان به كافيا في السقوط التعبد به، وهو معنى قوله في الصحة: إنها موافقة الشريعة، فإنها متى وافقت الشريعة أسقطت التعبد بها، فظهر أنها موافقة الشريعة، فإنها متى وافقت الشريعة أسقطت التعبد بها، فظهر أنهما معنى واحد، إلا أن يتلمح ما تقدم، وكذلك قوله: ومنهم من فسره بسقوط القضاء هو قوهل في الصحة في المذهب المحكي عن الفقهاء: إن الصحيح ما أسقط القضاء، غير أنه هاهنا جعله نفس السقوط، وثمت سبب السقوط، وبين العدم وسببه فرق لا محالة، فإن كان مراده وال سبب السقوط، فهذا هو غير مذهب الفقهاء في الصحة، أو نفس الدم فهو غيره، وهو ظاهر لفظه. وقوله: الآتي بالعفل غير مستجمع للشرائط، ثم يموت)). يريد قبل خروج الوقت، لم يثبت الأمر ب القضاء في حقه؛ لأن القضاء إنما يتوجه لاأمر به إذا خرج الوقت، فقد وجد في حق هذا عدم القضاء،

فلو كان الإجزاء عدم القضاء لوجد الإجزاء هاهنا، ولم يوجد، فدل على أنه غيره، وكذلك من لم يفعل اصلا، ثم مات قبل خروج الوقت. قوله: ((ولأن القضاء إنما يجب بأمر جديد)). معناه: أن قاعدة الحصر تقتضي ترتيب الوجود على الوجود، والعدم على العدم، فإذا قال عليه السلام: ((إنما الماء من الماء)).يترتب وجوب الغسل على وجودا لماء، وعدم الوجوب على عدم الماء، فيكون عدم القضاء مستفادا من عدم النص الجديد لا من الإجزاء، فلا يكون الإجزاء نفس عدم القضاء؛ لأنه لو كان نفسه لافاده، لأن الشيء يفيد نفسه بالضرورة، فلما كانت إفادته من غيره دل على أنه غيره.

وتقرير آخر: أن الإجزاء إذا كان عدم القضاء يلزم أن يكون عدم الإجزاء هو القضاء بالضرورة، فمتى كان الفعل غير مجزء كان القضاء واجبا بالضروة، فذلك يمنع أن القضاء إنما يجب بأمر جديد؛ لأنه على هذا التقدير لا يحتاج للأمر الجديد ألبتة، بل مجرد عدم الإجزاء كاف فيه، وذلك يبطل هذه القاعدة التي سنبينها في ((الأوامر)) أن القضاء إنما يجب بأمر جديد. قوله: ((ولأنا نعلل وجوب القضاء بعدم الإجزاء، والعلة مغايرة للمعلول)). ظاهر كلامه أن غير موجه، أن خصمه ادعى الإتحاد بين الإجزاء وعدم القضاء، وهو أثبت المغايرة بين عد الإجزاء والقضاء، فأثبت التعدد في محل لم يدع الخصم فيه الإتحاد، فا يتوجه كامله على خصمه. ووجه تقريره: توجهه أن الإجزاء إذا عدم القضاء، واتحد هذان المفهومان، وكانا حقيقة واحدة، كانت هذه الحقيقة يناقضها عدم الإجزاء، لأنه نقيض الآخر الذي هو عدم القضاء عند الخصم، ونقيض الشيء هو نقيض ما هو نفسه، ويناقض أيضا هذه الحقيقة القضاء؛ لأنه نقيض عدم القضاء الذي هو عندا لخصم الإجزاء، فتكون هذه الحقيقة ثلاثة نقائض، نفسها، ونقيضان يقابلانهما عدم الإجزاء، والقضاء، والحقيقة الواحدة لا يناقضها إلا نقيض واحد، لأنه لا واسطة بين النقيضين، فعلى هذا يلزم من اتحاد الإجزاء، وعدم القضاء اتحاد عدم الإجزاء والقضاء حتى يكون النقيض المقابل واحدا، فيصح حينئذ أنه لو صح قول الخصم لاتحد عدم الإجزاء والقضاء، لكنهما غير متحدين، لأنا نعلل أحدهما بالآخر، فالإمام أبطل اتحاد الإجزاء، وعدم القضاء بإبطال اتحاد آخر هو لازم، وإبطال اللازم إبطال الملزوم، فهذا توجيه كلامه.

((سؤال)) قد تصور صورة التعليل في الكلام الصحيح مع عدم التغاير

((سؤال)) قد تصور صورة التعليل في الكلام الصحيح مع عدم التغاير، وهو في كل حد مع محدوده، كقولنا: هذا إنسان؛ لأنه حيوان ناطق، وهذا حكم الله تعالى، لأنه خطابه بالإقتضاء، وهذا غصب، لانه وضع يد عادية، ورفع يد مستحقة، فقال الإمام: لعل ما يقوله وجب عليه القضاء، لأن فعله غير مجزيء من هذا القبيل، فلا يفيد كلامه شيئا حتى يبين أنه من التعليل فيه التغاير، بيحتاج دليل إلى دليل آخر. ((سؤال)) قضية التعليل تنعكس عليه؛ لأنا نعلل موافقة الأمر بالإجزاء، فيكون غيره مع أنه ادعى الوحدة فيهما. ((سؤال)) تفسيره للأجزاء بسقوط الأمر يشكل ما إذا لم يفرط في الفعل حتى مات، فإن الأمر يسقط عنه، ويعذر مع أنه لا إجزاء. ((سؤال)) توجد الصحة والإجزاء فيما لا يوجد فيه القضاء ألبتة كالأضحية والنوافل، فإنها صحيحة، ولا يقال: يسقط القضاء عنه، ولاهي مسقط للقضاء، لأن الحكم بسقوط الشيء عن الشيء فرع قبوله له. ((تنبيه)) وافقه ((المنتخب)) و ((التحصيل)) وسكت عن ((التنقيح))، وعبر ((الحاصل)) فقال في حكاية مذهب الخصم: ومنهم من جعله عبارة كما أسقط القضاء، ففسر مذهب الخصم بأن الإجزاء سبب عدم القضاء لا نفسه، وعلى هذا لا يستقيم من ((تاج الدين)) الاستدلال بعد ذلك بأن العلة مغايرة

للمعلول، ولأنه قد يوجد عدم الإجزاء مع عدم القضاء، فيبطل هذان الوجهان في حقه، ولا يلزم بطلان الوجه الثالث؛ لأنه إذا كان الإجزاء سبب عدم القضاء يكون عدمه سبب وجود القضاء؛ لأن عدم السبب سبب لعدم المسبب، وعدم العلة علة لعدم المعلول، فيستغني عن النص الجديد، والتقدير أن القضاء لا يثبت إلا به، هذا خلف فمذهب الخصم مع هذه القاعدة لا يجتمعان، لكن هذه القاعدة صحيحة، فمذهب الخصم باطل، فظهر أن تفصيل ((الحاصل)) مع استدلاله بالوجوه الثلاثة لا يتم، بل كان يقتصر على ما يصح منهما، ويلزم أياض من تفسيره أن الإجزاء والصحة حقيقة واحدة، وأن هذا الوجه الذي يصح هاهنا يصح الاستدلال به في الصحة من جهة المتكلمين على الفقهاء، ويكون الفقهاء محجوجين به. وعبر أيضا تاج الدين فقال: ولأنا نعلل القضاء بالإجزاء، والعلة مغايرة للمعلول، فيكون الكلام متجها في أول الأمر، ويندفع سؤال عدم التوجيه، ويكون قد بقي للإحتاد مطابقة، لأنه نفاه لنفي لازمه كما تقدم، وهو أيسر، وأقرب من حيث التقرير والتوجيه. قال سراجُ الدِّينِ في ((التحصيل)): ولقائل أن يقول: لو فسر بما يكفي الإتيان به في سقوط القضاء اندفع سقوط القضاء بالموت عند عدم الفعل، وتعليل القضاء بعدم الإجزاء، وهو عين ما اختراه تاجا لدين، وقد تقدم بيان سقوط الوجهين. قال سيف الدين: لا بأس بتفسير إجزاء العبادة بكونها مسقطة للقضاء، فوافق قوله قول سراج الدين، وتاج الدين.

التقسيم الخامس العبادة توصف بالقضاء والأداء والإعادة

التقسيم الخامس العبادة توصف بالقضاء والأداء والإعادة. فالواجب: إذا أدي في وقته سمي أداء، وإذا أدي بعد خروج وقته المضيق أو الموسع سمي قضاء، وإن فعل مرة على نوع من الخلل، ثم فعل ثانيا في وقته المضروب له سمي إعادة؛ فالإعادة: اسم لمثل ما فعل على ضرب من الخلل. والقضاء: اسم لفعل مثل ما فات وقته المحدود. ثم هاهنا بحثان: الأول: لو غلب على ظنه في الواجب الموسع أنه لو لم يشتغل به، لمات فها هنا لو أخر عصى، فلو أخر وعاش، ثم اشتغل به قال القاضي أبو بكر: هذا قضاء؛ لأنه تعين وقته بسبب غلبة الظن، وما أوقعه فيه، وقال الغزالي رحمه الله: هذا أداء، لأنه لما انكشف خلاف ما ظن زال حكمه فصار كما لو علم أنه يعيش. الثاني: الفعل لا يسمى قضاء إلا إذا وجد سبب وجوب الأداء مع أنه لم يوجد الأداء، ثم القضاء على قسمين: أحدهما: ما وجب الأداء، فتركه وأتى بمثله خارج الوقت، فكان قضاء، وهو كمن ترك، الصلاة عمدا في وقتها، ثم أداها خارج الوقت. وثانيهما: ما لا يجب الأداء، وهو أيضا قسمان:

شرح القرافي

أحدهما أن يكون المكلف بحيث لا يصح منه الأداء. والثاني: أن يصح منه ذلك: أما الذي لا يصح منه الأداء، فإما أن يمتنع ذلك عقلا؛ كالنائم والمغمى عليه، فإنه يمتنع عقلا صدور فعل الصلاة منه. وإما أن يمتنع ذلك منه شرعا؛ كالحائض، فإنه لا يصح منها فعل الصوم، لكن لما وجد في حقها سبب الوجوب، وإن لم يوجد الوجوب، سمي الإتيان بذلك الفعل خارج الوقت قضاء. وأما الذي يصح ذلك الفعل منه، إن لم يجب عليه الفعل، فالمقتضى لسقوط الوجوب قد يكون من جهته، كالمسافر فإن السفر منه، وقد أسقط وجوب الصوم. وقد يكون من الله تعالى، كالمريض، فإن المرض من الله وقد أسقط وجوب الصوم. ففي جميع هذه المواضع اسم القضاء إنما جاء؛ لأنه وجد سبب الوجوب منفكا عن الوجوب، لا لأنه وجد وجوب الفعل، كما يقوله بعض من لا يعرف من الفقهاء، لأن المنع من الترك جزء ماهية الوجوب فيستحيل تحقق الوجوب مع جواز الترك. قال القرافي: قوله: التقسيم الخامس ((العبادة توصف بالقضاء والأداء ...)) إلى آخر التقسيم. اعلم أن تفسير الأداء بفعل الواجب في وقته، والقضاء فعل الواجب بعد فوات وقته المحدد لا يتم، بل عليه خمسة أسئلة: الأول: أنه لم يذكر أنه محدود له شرعا، فيندرج فيه ما حدده أهل العرف للواجب، وإن لم يحدده الشرع.

الثاني: أن الواجبات الفورية كرد الغصوب، وإنقاذ الغرقى، والتوبة من الذنوب، وقضايا الحكام عند نهوض الحجاج، ولاأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك، عين لها الشرع الزمان الذي يلي وقوع أسبابها، فهي واجبات لها أزمنة محدودة أوله ما يلي السبب، وآخره نهاية الفعل، ولا تسمى في وقتها أداء ولا خارج وقتها قضاء، مع وجود الحديثن فيها، فيكون الحدان غير مانعين. الثالث: إذا قلنا: الحج على الفور عند من قال به، فإذا أخَّره لعام آخر لا يكون قضاء عند هذا القائل، ولايلزمهسؤق هدى القضاء. الرابع: أن صلاة الجمعة لم يشرع فيها القضاء، فيلزم ألا يصدق عليها الأداء، ولا توصف به لقوله في الإجزاء: إنه لا يوصف به إلا ما يقبل وقوعه على صورة عدم الإجزاء، وقررت ذلك بالقاعدة اللغوية أن الشيء إنما يوصف بالشيء إذا كان قابلا لضده ومثله هناك، فعلى هذا لا توصف الجمعة بالأداء مع أنها إيقاع الواجب في وقته المحدود له شرعا، فيكون الحد تشبيها غير مانع. الخامس: إذا قلنا: الأمر على الفور، فإنه للوجوب، يلزم على هذا القول أنا متى أخرنا المأمور عن الزمان الذي يلي ورود الصيغة كان قضاء، وإذا فعلناه فيه كان أداء، مع أن صاحب هذا المذهب لم يلتزم هذا، فلا يقال في إسراج الدابة إذا قال السيد لعبده، أسرج الدابة: إنه أداء في وقته، ولا قضاء إذا أخره، وهذه أسئلة صحيحة، فيتعين كشف الغطاء عن هذا المقام فأقول: إن تعيين الوقت للواجب له سببان: أحدهما: له مصلحة في نفس الوقت كأوقات الصلوات، ورمضان لصوم، فإنا نعتقد أن في هذه الأوقات مصالح لم نطلع عليها طردا لقاعدة الشرع في رعاية المصالح، فإن الملك العظيم إذا كان عادته أنه يخلع الأخضر على

العلماء، ورأينا شخصا أخلع عليه أخضر، ونحن لا نعلم حال ذلك الشخص قلنا: هو عالم؛ لأنه العادة من ذلك الملك، فكذلك عادة الله - تعالى - أن شرائعه مصالح لعباده، فكل مكان لا نعلم فيه مصلحة قلنا فيه مصلحة لم نطلع عليها، وهكذا كل تعبدي معناه أنَّا لم نعلم بمصلحته لا لأنه لا مصلحة فيه، فهذه أوقات العبادات المتقدم ذكرها متضمنة لمصالح هي سبب تعينها دون غيرها. والسبب الثاني: لتعيين الوقت مصلحة المأمور به، لا مصلحة في الوقت، كتعيين الوقت في إنقاذ الغريق تابع لسقوطه، وتعيينه لمصلحة في الإنقاذ، وهو المأمور به دون مصلحة في ذلك الوقت، فلو تقدم سقوط الغريف في الماء تقدم الوقت ولو تأخر تأخر، وكذلك الحج على الفور تابع لوجود الاستطاعة، فلو تقدمت تقدم تعين الزمان، ولو تأخرت تأخر تعين الزمان، فتعيينه لمصلحة المأور عند الإستطاعة لا لمصلحة في الوقت، وكذلك الغوريات كلها. إذا تقرر هذا فنقول: ((الأداء إيقاع الواجب في وقته المحدود له شرعا لمصلحة اشتمل عليها الوقت إذا قبل القضاء)). فقولنا: شرعا احترازا عن تحديد العرف. وقولنا: ((لمصلحة اشتمل عليها الوقت)) احترازا من تعيين الفوريات لمصالح المأمورات. وقولنا: ((إذا قبل القضاء)) احترازا من الجمعة، بناء على قاعدة أن الشيء إنما يوصف بأحد الضدين إذا قبل الضد الآخر، ويكون القضاء إيقاع الواجب خارج وقته المحدود له شرعا الذي حدد لمصلحة فيه، وحينئذ صحت الحدود، واندفعت الإشكالات.

((تنبيه)) ينتفض حد الأداء على التفسيرين بقضاء رمضان

وقوله: ((إذا فعل الواجب ثانيا في وقته المضروب لتقدمه على نوع من الخلل سمي إعادة)). يريد بالخلل ما هو أعم من الإجزاء والكمال، فإعادة من صلى بدون ركن أو سرط خلل في الإجزاء، والمصلى وحده يعبد مع جماعة لخلل في الكمال، ولم يجمع حده أنواع الإعادة، لأن الإعادة قد تكون خارج الوقت، فاشتراطه الوقت يصير الحد غير جامع. ((تنبيه)) ينتفض حد الأداء على التفسيرين بقضاء رمضان، فإن الشرع حدد له بقية العام، فيتناوله حد الأداء، وليس بأدءا، لاتفاقنا على أنه قضاء، فيتعين أن يراد في حد الأداء، وهو مقتضى الأمر الأول، فإن قضاء رمضان بأمر جديد، وكذلك قولهم في الحج: إنه أداء مع عدم تحديد الوقت لا سيما إذا قلنا: هو على التراخي، وقد أطبق الفقهاء على قولهم: حجة الأداء، وحجة القضاء، فيبطل بها التفسيران، فإن تعيين الوقت تابع للاستطاعة، وليس محددا، بل تعينه تبعا للاستطاعة، وينتقض حد القضاء بقضاء الحج، فإنه ليس خارج وقته محدود، وبقضاء النوافل عند من قال بها إذا أفسدت عمدا، إما لوجوبها بالشروع عند مالك، أو يقضى، وهي غير واجبة

كما قاله الشافعي في صلاة العيد، وإن كان مذهبه يخرج بقيد اشتراط الوجوب. وتقول العلماء: إذا فات المسبوق بعض صلاة الإمام هل يصلي الباقي قضاء فيجهر فيما فات من المغرب والعشاء، أو بناء فيسر؟ فهذا قضاء مع حصوله في الوقت، فيبطل به حد الأداء والقضاء معا لفوات خروج الوقت، وينبغي في هذا المقام أن نقول: لفظ القضاء مشترك بين ثلاثة معانٍ: ما فعل خارج وقته، وهو قضاء الظهر، وما فعل بعد تعينه بسببه، والشروع فيه لا بالوقت، كما إذا شرع في الحج ثم فسد، فإنه قضاء لتعينه بالشروع. وما فعل على خلاف ترتيبه بعد فوات ترتيبه لا وقته، وهو قضاء المأمور، فإن شأن الجهر في الصلاة الليلية أن يكون أولها سابقا على السر والمسبوق فاته ذلك، ويندرج قضاء النوافل في قضاء الحج، لأنه من المتعين بسببه والشروع فيه، وإذا كان اللفظ مشتركا، وكنا متعرضين بالحد لأحد مسميات المشترك لا يرد علينا المسمى الآخر، بل لكل مسمى حد يليق به، فمن حدد العين التي هي الحدقة، لا يرد عليه عين الماء، ولا عين الذهب، وإنما ترد النقوض إذا كان اللفظ الدال على المحدود وصورة النقض متواطئا أو مشككا، أما المعاني المتباينة لا يرد بعضها على بعض، يوكون لفظ الأداء مشتركا بين ما تعين وقته المحدود بالأمر الأول وما تعين بسببه، وهي حجة الأداء، فتندفع النقوض كلها.

تنبيه

((تنبيه)) ما تقدم من تحرير أن القضاء المقصود هاهنا هو الذي تعين وقته لمصلحة اشتمل عليها الوقت، يقتضي أن الحق مع الغزالي دون القاضي في حق من غلب على ظنه أنه لا يعيش إلى آخر الوقت؛ لأن التحديد هاهنا ثابت للظن لا للمصلحة التي في الوقت؛ ولأن الظن يكسف الغيب أنه كاذب، والظن الكاذب لا يعتبره الشرع، بل كلما ثبت كذبه انتفي عنه مقتضى صدقه. والذي قاله بعض الفقهاء أنه وجد وجوب الفعل، وضعفه الإمام هو الوجوب في حق الحائض، قال به جماعة من المالكية، وقاله الحنفية وفسروه بأن الوجوب موسع عليها، بمعنى أن الوجوب ثابت دائما، ولا يتعين إلا عند زوال الحيض، كما أن الظهر واجب وجوبا موسعا، ولا يتعين إلا عند آخر القامة، وهذا وإن كان أخف إشكالا من المالكية من جهة أنهم لم يجمعوا بين الوجوب في زمن كون الفعل محرما، غير أنه غير تام، لأن الواجب الموسع هو الذي يصح إبقاؤه في أول وقته ويسد المسد ويحصل مقصود الأمر وصلاة الحائض في زمن الحيض لاتجوز ولا تسد المسد فلا معنى لكونه واجبا عليها وجوبا موسعا. ((تنبيه)) على حدود الإمام تكون العبادة ثلاثة أقسام: منها ما يقبل الأداء والقضاء كالصلوات الخمس، وما لا يقبلها كالنوافل وما يقبل الأداء فقط كالجمعة. ((فائدة)) قال الغزالي رحمه الله تعالى: القضاء قد يطلف مجازا؛ لانه تلو الأداء وللأداء ثلاثة أحوال:

الأول: أن يكون إذا ترك الواجب عمدا، أو سهوا، وجب القضاء فهذا قضاء حقيقة. الثاني: ألا يجب الأداء كصوم الحائض قضاؤه مجاز لأنه فرض مبتدأ، لكن لما كان بسبب حالة متقدمة سمى قضاة. قال: فإن قيل: فلينوِ البالغ القضاء لما فات إيجابه في حال الصغر. قلنا: لو أمر بذلك لنواه لكن لم يؤمر به، ولعل الفرق عدم التكليف النية، بخلاف الحائض مكلفة من حيث الجملة. الثالث: المريض والمسافر فيحتمل المجاز، إذا لاوجوب، وتحتمل الحقيقة، لأنهما لو صاما صح، ويلزم عليه أن يسمى الصلاة في آخر الوقت قضاء مجازا، لانه يخير في آخر الوقت لتخيرهما بين لاشهري الأداء والقضاء، فالأظهر أن الصوم قضاء مجاز، والنائم، والناسي يقضيان، وإن لم يتقدم الوجوب لتقصيرهما في أسباب الغفلة. الرابع: المريض إن كان لا يخشى الموت من الصوم، فهو كالمسافر، وإن خشى الموت والضرر العظيم بحيث يعصي بترك الأكل فهو كالحائض، فإن صام فيحتمل ألا ينعقد؛ لأنه معصية، ويحتمل أن ينعقد، لأنه جاء به على وجه متقرب إلى ربه، فهو كالصلاة في الدار المغصوبة، ويلزم عليه صوم يوم النحر، فإنه نهى عنه إجابة لدعوة الله - تعالى - لضيافته بالأضاحي ويعسر الفرق.

((تنبيه)) نفي من أوصاف العبادة القبول

((تنبيه)) نفي من أوصاف العبادة القبول لم يذكره، وهو مشكل، لأن عدم القبول مع إيقاع الفعل على جميع الأمور المعتبرة في صحة ذلك الفعل إن كان معناه أن ذمته بقيت عنده مشغولة، فهو خلاف الإجماع، لانعقاد الإجماع على براءة الذمة حينئذ، وإن كان معناه شيء آخر فما حقيقته؟ والجواب: أن القبول شيء غير الإجزاء والصحة؛ لأنه ترتب الثواب على ذلك العمل، والإجزاء ولاصحة يرجعان إلى سقوط الخطاب، ومعناه لا يعاقب على الترك؛ لأنه قد فعل، وما يلزم من عدم المؤاخذة حصول الإثابة، وهذا يظهر معنى قوله تعالى: ((إنما يتقبل الله من المتقين)) [المائدة: 27]، أي إنما ترتب المثوبات، ورفع الدرجات على العمل الصالح إذا كان العامل متقيا، وأما غيره فتسقط عنه العقوبة فقط، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن من الصلاة ما يقبل نصفها وثلثها وربعها))، ومنها ما تلف كما يلف الثوب الخلق، فيضرب بها وجه صاحبها مع انعقاد الإجماع على الإجزاء، أي لا يثاب عليها شيء، أو نصف الإثابة، أو ربعها، فظهر الفرق بين القبول وغيره، وأن انعقاد الإجماع على براءة الذمة لا ينافي ذلك، والمراد بالمتقين هاهنا من كثر تقواه وطاعته لله تعالى، وإلا

فالمسمى اللغوي حاصل لكل مسلم؛ لأنه اتقى عذاب الله تعالى بإسلامه؛ لأنه مأخوذ من الوقاية، وليس ذلك مرادا بل ما تقدم، ولما كان القبول هو أمر مغيب عنا لا تدخله أحكامنا تركه الأصوليون من أوصاف العبادة؛ لأنهم ما يذكرون إلا ما تدخله أحكامنا بضوابط عندنا معلوم أو مظنونة، والقبول ليس كذلك فتركوه.

التقسيم السادس قال الرازي: الفعل الذي يجوز للمكلف الإتيان به

التقسيم السادس قال الرازي: الفعل الذي يجوز للمكلف الإتيان به: إما أن يكون عزيمة أو رخصة؛ وذلك لأن ما جاز فعله إما أن يجوز مع قيام المقتضى للمنع أو لا يكون كذلك. فالأول: الرخصة، والثاني: العزيمة. فما أباحه الله تعالى في الأصل من الأكل والشرب لا يسمى رخصة، ويسمى تناول الميتة رخصة، وسقوط رمضان عن المسافر رخصة. ثم الذي يجوز فعله مع قيام المقتضى للمنع، قد يكون واجبا، كأكل الميتة، والافطار عند خوف الهلاك من الجوع، وقد لا يكون واجبا كالافطار؛ والقصر في السفر، وقول كلمة الكفر عند الإكراه. ولما تكلمنا في الحكم الشرعي وأقسامه، فلنبين أنه ثابت بالعقل أو بالشرع. قال القرافي: قوله: ((ما جاز الإتيان به إما أن يكون عزيمة أو رخصة ...)) إلى آخر التقسيم يرد عليه أربعة أسئلة: الأول: أن تحديده الرخصة بما جاز فعله من قيام المقتضى لملنع يقتضي أن الحدود، والتعازير، والجهاد، والحج، والصلوات الخمس، والطهارات في شدة البرد، والصوم في الهواجر، ونحو ذلك من كل ما فيه مشقة أن يكون رخصة، وهو خلافا لإجماع؛ لأن الإنسان مكرم معظم لقوله تعالى: ((ولقد كرمنا بني آدم)) [الإسراء: 70] ولقوله: ((لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)) [التين: 4]، ووصف التكريم يأبى الإهانة، ويمنع من

إلزام المشاق، والإهانة بالحدود، وغيرها، وفي الجهاد التعريض لهدم البنية الشريفة الحسنة التقيوم الدالة على قدرة الله - تعالى - وجميل اختراعه، وهذه كلها يجوز الإقادم عليها مع قيام هذا المانع، فيلزم على قوله أن تكون رخصا، وليست رخصا إجماعا، ويلزم أن يكون النكاح رخصة، فإنه إهانة للموطوءات بصب الفضلات فيهن، وأن تكون الذبائح رخصة؛ لأن فيه هدم بنية الحيوان الشريفة المتقنة الدالة على كمال القدرة، وبديع الصنعة بل تحريم الخمر رخصة؛ لأنه ثبت مع وجود المنافع الجسمية لقوله تعالى: ((وإثمهما أكبر من نفعهما)) [البقرة: 219] بل كل حكم ثبت لمصلحة معها أيسر مفسدة، أو لمفسدة معها أيسر مصلحة رخصة؛ لأن تلك المفسدة المرجوحة تقتضي المنع إذا تفردت، وهو إنما يريد ذلك، لأنه لو أراد السالم عن المعارض لم تكن المية رخصة، لأن مقتضى المنع فيها لم يسلم عن معارضة الضرورة، فتكون الشريعة كلها رخصة. الثاني: يلزمه أن كل واجب في الشريعة رخصة؛ لأن النصوص النافية للتكليف تنفيه كقوله تعالى: ((وما جعلنا عليكم في الدين من حرج)) [الحج: 78]، ((ويريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)) [البقرة: 185]، و ((ما على المحسنين من سبيل)) [التوبة: 91]، وقوله عليه السلام "لا ضرر ولا ضرار " بل البراءة الأصلية تقتضي عدم الأحكام مطلقا، فتكون المباحات كلها، والمندوبات، والمكروهات التي يجوز الإقدام عليها رخصا، وهو خلاف الإجماع. الثالث: تحديده العزيمة بما يجوز الإقدام عليه مع عدم قيام المانع إذا تخيل أن المانع غير ما ذكرته، يلزمه أن أكل الطيبات، ولبس الثياب، والتأنق في المراكب، والمساكن، والموطآت من العزائم، فإنه يجوز الإقدام عليها من غير مانع من الموانع التي تشير إليها بما هو موجود في الميتة للمضطر وغيرها، وهذه لا يصدق عليها أنها عزائم؛ لأن العزائم ما فيه عزم، وتأكيد في

اصطلاح العلماء، وهو مقتضى اللغة، وهذه الأمور لم يؤكد صاحب الشرع في فعلها، بل الأمر بضد ذلك، كما قال الله تعالى ذاما لم يكثر من ذلك ((أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون)) الآية [الأحقاف: 20]، ونحو ذلك من الكتاب والسنة نحو قوله تعالى: ((إنهم كانوا قبل ذلك متردفين)) الواقعة:45، "إلا قال مترفوها " [سبأ: 34]. الرابع: أن قوله: ما جاز فعله يوجب انحصار الرخصة في جواز الإقدام والرخصة كما تكون في الفعل، كأكل الميتة تكون في الترك كالفطر في رمضان، فلا يكون تفسيره جامعا، وبهذه الأسئلة يظهر أن حد الرخصة في غاية الصعوبة. وكنت في كتاب ((تنقيح الفصول)) حددت العزيمة بانها طلب الفعل السالم عن المانع المشتهر ليخرج بقيد الطلب أكل الطيبات ونحوها، ويندرج فيه المندوبات كسجود القرآن، لأن الفقهاء قالوا: عزائم القرآن إحدى

عشرة سجدة، وتندرج الواجبات، وحددت الرخصة بأنها جواز الفعل مع المانع المشتهر، ونعني بالإشتهار ما تنفر عنه النفوس المتقية، فإنها إذا سمعت أن فلانا غص فشرب الخمر، أو أكل الميتة للجوع استصعبت ذلك ونفرت

.......................................................................

عنه، وقالت: دعت الضرورة إلى عظيم، بخلاف إذا سمعت أن أحدا أقيم عليه الحد، أو مات في الجهاد، أو داوم على الصلوات لا تنفر من ذلك، فلا تكون رخصا، فتندفع أكثر الأسئلة بهذا القيد الذي هوا لمانع الذي تنفر عنه، ثم ظهر لي بعد ذلك أن السلم رخصة، والجعالة رخصة، والقراض رخصة، والمساقاة، والصيد الذي يكتفي فيه بالجرح بدلا عن الذب، إلى غير ذلك من موارد الشريعة التي هي رخص إجماعا مع سكون النفوس عند سماعها، فبقيت بعد ذلك واستصعب تحديدها، فمن انضبط له ذلك فليفعله، فقد ظهرت الأشياء التي يحترز منها بالأسئلة السابقة.

الفصل السابع في أن حسن الأشياء وقبحها لا يثبت إلا بالشرع

الفصل السابع في أن حسن الأشياء وقبحها لا يثبت إلا بالشرع الحسن والقبح قد يعنى بهما: كون الشيء ملائما للطبع أو منافرا، وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليين. وقد يراد بهما كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص كقولنا العلم حسن والجهل قبيح ولا نزاع أيضا في كونهما عقليين بهذا التفسير. وإنما النزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا وعقابه آجلا فعندنا أن ذلك لا يثبت إلا بالشرع، وعند المعتزلة: ليس ذلك إلا لكون الفعل واقعا على وجه مخصوص؛ لأجله يستحق فاعله الذم قالوا وذلك الوجه قد يستقل العقل بإدراكه وقد لا يستقل. أما الذي يستقل، فقد يعلمه العقل ضرورة كالعلم بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار وقد يعلمه نظرا كالعلم بحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع. والذي لا يستقل العقل بمعرفته، فكحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح صوم الذي بعده فإن العقل لا طريق له إلى العلم بذلك لكن الشرع لما ورده به علمنا أنه لولا اختصاص كل واحد منهما بما لأجله حسن وقبح وإلا لامتنع ورود الشرع به.

شرح القرافي

لنا أن دخول هذه القبائح في الوجود إما أن يكون على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق وعلى التقديرين فالقول بالقبح العقلي باطل. بيان الأول: أن فاعل القبيح، إما أن يكون متمكنا من الترك، أولا يكون، فإن لم يتمكن من الترك، فقد ثبت الاضطرار، وإن تمكن من الترك، فإما أن يتوقف رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح، أو لا يتوقف، فإن توقف فذلك المرجح إما أن يكون من العبد، أو من غيره أو لا منه ولا من غيره: أما القسم الأول، وهو: أن يكون من العبد فهو محال لأن الكلام فيه كما في الأول فيلزم التسلسل. وأما القسم الثاني، وهو: أن يكون من غير العبد فنقول عند حصوله ذلك المرجح إما أن يجب وقوع الأثر أو لا يجب: فإن وجب، فقد ثبت الاضطرار، لأن قبل وجود هذا المرجح كان الفعل ممتنع الوقوع، وعند وجوده صار واجب الوقوع، وليس وقوع هذا المرجح بالعبد ألبتة فلم يكن للعبد تمكن في شيء من الأحوال من الفعل والترك ولا معنى للاضطرار إلا ذلك. وإن لم يجب، فعند حصول هذا المرجح لا يمتنع وجود الفعل تارة وعدمه أخرى فترجح جانب الوجود على جانب العدم، أما أن يتوقف على انضمام مرجح إليه أو لا يتوقف فإن توقف لم يكن الحاصل قبل ذلك مرجحا تاما وكنا قد فرضناه مرجحا تاما هذا خلف. وأيضا: فالكلام في هذه الضميمة كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال.

وأما إن لم يتوقف على انضمام قيد إليه، فمع ذلك المرجح تارة يوجد الأثر، وتارة لا يوجد، ولم يكن رجحان جانب الوجود على جانب العدم موقوفا على قصد من جهته ولا على ترجيح ألبتة وإلا لعاد إلى القسم الأول وقد أبطلناه. فحينئذ يكون دخول الفعل في الوجود اتفاقيا لا اختياريا فقد ثبت الإتفاق. وأما القسم الثالث، وهو أن يكون حصول ذلك المرجح لا من العبد ولا من غيره فحينئذ يكون واقعا لا لمؤثر فيكون حصوله اتفاقيا لا اختياريا. وأما لو قلنا: إن المتمكن من الفعل متمكن من الترك لكن لا يتوقف رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح، فعلى هذا التقدير يكون رجحان الفاعلية على التاركية اتفاقيا أيضا، لأن تلك القادرية لما كانت نسبتها إلى الأمرين على السوية ثم حصلت الفاعلية في أحد الوقتين دون التاركية من غير مرجح ألبتة، كان رجحان الفاعلية منه على التاركية اتفاقيا، فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال القادر يرجح الفاعلية على التاركية من غير مرجح، قلت: هل لقولك يرجح مفهوم زائد على كونه قادرا أو ليس له مفهوم زائد عليه؟! فإن كان ذلك مفهوما زائدا على كونه قادرا، كان ذلك قولا بأن رجحان الفاعلية على التاركية لا يمكن إلا عند انضمام قيد آخر إلى القادرية فيصير هذا هو القسم الأول الذي تكلمنا فيه. وإن لم يكن ذلك مفهوما زائدا لم يبق لقولكم:"القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح" إلا أن صفة القادرية مستمرة في الأزمان كلها.

ثم إنه يوجد الأثر في بعض تلك الأزمنة دون بعض، من غير أن يكون ذلك القادر قد رجحه أو قصد ايقاعه، ولا معنى للاتفاق إلا ذلك فثبت بهذا البرهان القاطع أن دخول هذه القبائح في الوجود إما أن يكون على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق. وإذا ثبت ذلك، امتنع القول القبع العقلي بالإتفاق. أما على قولنا فظاهر. وأما عند الخصم، فلأنه لا يجوز ورود التكليف بذلك؛ فضلا عن أن يقال: إن حسنه معلوم بضرورة العقل. فثبت بما ذكرنا أن القول ب القبح العقلي باطل. أما الخصم، فقد ادعى العلم الضروري بقبح الظلم والكذب والجهل وبحسن الانصاف والصدق والعلم. ثم قالوا هذا العلم غير مستفاد من الشرع لأن البراهمة مع انكارهم الشرائع عالمون بهذه الأشياء؟ ثم زعموا بعد ذلك أن المقتضي لقبح الظلم مثلا هو كونه ظلما لأنا عند العلم بكونه ظلما نعلم قبحه وإن لم نعلم شيئا آخر وعند الغفلة عن كونه ظلما لا نعلم قبحه وإن علمنا سائر الأشياء، فثبت أن المقتضي لقبحه ليس إلا هذا الوجه. ومنهم من حاول الاستدلال بأمور: أحدها أن الفعل الذي حكم فيه بالوجوب مثلا لم يختص بما لأجله

استحق ثبوت ذلك الحكم، وإلا كان تخصيصه بالوجوب دون سائر الأحكام ودون سائر الأفعال ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح. وثانيها: أنه لو لم يكن الحسن والقبح إلا بالشرع، لحسن من الله تعالى كل شيء، ولو حسن منه كل شيء، لحسن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب، ولو حسن منه ذلك لما أمكننا أن نميز بين النبي والمتنبيء وذلك يفضي إلى بطلان الشرائع. وثالثها: لو حسن من الله تعالى كل شيء لما قبح منه الكذب وعلى هذا فلا يبقى اعتماد على وعده ووعيده، فإن قلت الكلام الأزلي يستحيل أن يكون كذبا. قلت هب أن الأمر كذلك لكن لم لا يجوز أن تكون هذه الكلمات التي نسمعها مخالفة لما عليه الشيء في نفسه وحينئذ يعود الإشكال. ورابعها: أن العاقل إذا قيل له إن صدقت أعطيناك دينارا وإن كذبت أعطيناك أيضا دينارا واستوى عنده الصدق والكذب في جميع الأمور إلا في كونه صدقا وكذبا فإنا نعلم بالضرورة أن العاقل يختار الصدق. ولولا أن الصدق لكونه صدقا حسن وإلا لما كان كذلك. وخامسها: أن الحسن والقبح لو لم يكونا معلومين قبل الشرع لاستحال أن يعلما عند ورود الشرع بهما؛ لأنهما إذا لم يكونا معلومين قبل ذلك فعند ورود الشرع بهما يكون واردا بما لا يعقله السامع ولا يتصوره وذلك محال، فوجب أن يكونا معلومين قبل ورود الشرع.

والجواب عن دعوى الضرورة: أنها مسلمة ولكن لا في محل النزاع فإن كل ما كان ملائما للطبع حكموا بحسنه وما كان منافرا للطبع حكموا بقبحه، فهذا القدر مسلم فإن ادعيتم أمرا زائدا عليه فلا بد من افادة تصوره ثم اقامة الدلالة على التصديق به فإن كل ذلك غير مساعد عليه فضلا عن ادعاء العلم الضروري فيه. فإن قلت: الظلم ملائم لطبع الظالم، ومع ذلك فإنه يجد في صريح العقل قبحه ولأن من خاطب الجماد بالأمر والنهي، فإنه لا ينفر طبعه عنه مع أن قبحه معلوم بالضرورة، ولأن من أنشأنا قصيدة غراء في شتم الملائكة والأنبياء وكتبها بخط حسن وقرأها بصوت طيب حزين؛ فإنه يميل الطبع إليه وينفر العقل عنه فعلمنا أن نفرة العقل مغايرة لنفرة الطبع. قلت: الجواب عن الأول أن الظالم لا يميل طبعه إلى الظلم لأنه لو حكم بحسنه لما، قدر على دفع الظلم عن نفسه فالنفرة عن الظلم متمكنة في طبع الظالم والمظلوم إلا أنه إنما رغب فيه لعارض يختص به وهو أخذ المال منه والحكم بحسن الإحسان إنما كان لأن الحكم بحسنه قد يفضي إلى وقوعه، وهو ملائم لطبع كل أحد والحكم بقبح الكذب إنما كان لكونه على خلاف مصلحة العالم وبحسن الصدق لكونه على وفق مصلحة العالم وبحسن انقاذ الغريق لأنه يتضمن حسن الذكر وإن لم يوجد ذلك فلأن من شاهد شخصا من أبناء جنسه في الألم تألم قلبه فإنقاذه منه يستلزم دفع ذلك الألم عن القلب، وذلك مما يميل إليه الطبع. وأما مخاطبة الجماد فلا نسلم أن استقباحها يجري مجرى استقباح الظلم.

والقدر الذي فيه من الاستقباح إنما كان لاتفاق أهل العلم على أن الإنسان لا يجب أن يشتغل إلا بما يفيده فائدة إما عاجلة وإما آجلة. وأما القصيدة المشتملة على الشتم فإنما تستقبح لإفضائها إلى مقابلة أرباب الفضائل بالشتم والاستخفاف وهو على مضادة مصلحة العالم. فظهر أن المرجع في هذه الأشياء إلى ملائمة الطبع ومنافرته، ونحن قد ساعدنا على أن الحسن والقبح بهذا المعنى معلوم بالعقل والنزاع في غيره. سلمنا تحقق الحسن والقبح لكن لا نسلم أن المقتضى لقبح الظلم هو كونه ظلما ولم لا يجوز أن يكون المقتضى لقبحه أمرا آخر؟ قوله العلم بالقبح دائر مع العلم بكونه ظلما وجودا وعدما. قلنا: لم قلت إن الدوران العقلي دليل العلية عليه وما الدليل عليه؟! ثم إنه منقوض بالمضافين فإن العلم بكل واحد من المضافين دائر مع العلم بالآخر وجودا وعدما مع أنه يمتنع كون أحدهما علة للآخر وتمام تقرير هذا السؤال سيأتي إن شاء الله في كتاب القياس. سلمنا أن الدليل الذي ذكرتموه يقتضي أن يكون قبح الظلم لكونه ظلما لكن معنا ما يدل على فساده وهو أن المفهوم من الظلم اضرار غير مستحق وكونه غير مستحق قيد عدمي والقيد العدمي لا يصلح أن يكون علة للحكم الثابت ولا أن يكون جزءا للعلة إذ لو جاز استناد الأمر الثبوتي إلى الأمر العدمي لجاز استناد خلق العالم إلى مؤثر عدمي وحينئذ ينسد علينا باب معرفة كون الله تعالى موجدا لأن العدم نفي محض فيستحيل أن يكون مؤثراً.

فإن قلت لم لا يجوز أن يكون العدم شرطا لتأثير العلة في المعلول؟! قلت: لأنه إذا فقد هذا العدم لم تكن العلة مؤثرة في المعلول وعند وجوده تصير مؤثرة فيه فكون العلة بحيث تستلزم المعلول وتستعقبه أمر حدث مع حدوث هذا العدم وليس له سبب آخر سواه فوجب تعليله به فيعود الأمر إلى تعليل الأمر الثبوتي بالأمر العدمي وهو محال. وأما الجواب عما احتجوا به أولا فهو أن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر إن افتقر إلى المرجح توقف رجحان فاعلية العبد على تاركيته على مرجح غير صادر من جهته وإلا وقع التسلسل ويكون رجحان الفاعلية على التاركية عند حصول ذلك المرجح واجبا وإلا لزم الرجحان لا لمرجح. وإذا كان كذلك لزم الجبر ويلزم من لزوم الجبر القطع ببطلان القبح العقلي. وإن لم يفتقر الرجحان إلى المرجح أصلا فقد اندفعت هذه الشبهة بالكلية والجواب عما احتجوا به ثانيا أن الاستدلال بالمعجزة على الصدق مبني على مقامين: أحدهما: أن الله تعالى إنما خلق ذلك المعجز لأجل التصديق والثاني: أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق، والقول بالحسن والقبح إنما ينفع في المقام الثاني، لا في المقام الأول فلم قلتم إن الله تعالى ما خلق هذا الفعل إلا لغرض التصديق؟! وتحقيقه: أن لو توقف الرجحان على المرجح لزم الجبر وإذا لزم الجبر، لزم بطلان القبيح العقلي لزم بطلان القبح العقلي.

ولو لم يتوقف على المرجح، لجاز أن يقال أن الله تعالى خلق ذلك المعجز لا لغرض أصلا. ثم إن كان ذلك لغرض فلم قلتم: إنه لا غرض سوى التصديق؟ فإن قلت القول بالقبح العقلي يمنع من خلق المعجز على يد الكاذب مطلقا، لأن خلقه عند الدعوى يوهم أن المقصود منه التصديق فلو كان المدعي كاذبا لكان ذلك ايهاما لتصديق الكاذب وإنه قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح. قلت: لم قلت: إن الفعل الذي يوهم القبيح ولم يكن موجبا له قبيح؟ وذلك لأن المكلف لما علم أن خلق المعجز عند الدعوى يحتمل أن يكون للتصديق ويحتمل أن يكون لغيره، فلو حمله على التصديق قطعا لكان التقصير من المكلف حيث قطع لا في موضع القطع، وهذا كإنزال المتشابهات في القرآن فإنه يوهم القبيح ولكنه لما احتمل سائر الوجوه لم يقبح شيء منها من الله تعالى. فثبت أن الإلزام الذي أوردوه علينا في إحدى المقدمتين وارد عليهم في المقدمة الأخرى وكل ما يجعلونه جوابا عنه في تقرير إحدى المقدمتين فهو جوابنا في تقرير المقدمة الأخر. ى والجواب عما ذكروه ثالثا: أنه وارد عليهم أيضا، لأن الكذب قد يكون حسنا وذلك في صورتين إحداهما أن الكافر إذا قصد قتل النبي فاختفي النبي في دار انسان فجاء الكافر وسأل صاحب الدار عن ذلك النبي وعلم صاحب الدار أنه لو أخبره عن مكان النبي أو سكت أو اشتغل بالتعريض لقتله قطعا فها هنا الصدق قبيح والكذب حسن.

ثانيتهما أن من توعد غيره ظلما وقال: إني سأقتلك غدا فلا شك أنه متى لم يفعل ذلك صار هذا الخير كذبا فلو كان الكذب قبيحا لكان ترك هذه الأشياء مستلزما للقبيح ومستلزم القبيح قبيح فيجب أن يكون ترك هذه الأشياء قبيحا فيكون فعلها حسنا لا محالة وذلك باطل بالاتفاق. فإن قلت الجواب عن الصورة الأولى من وجهين: الأول: أنا لا نسلم أنه يحسن الكذب هناك ويقبح الصدق فإن الواجب أن يأتي فيه بالمعاريض وإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب سلمنا أنه يحسن ذلك ولكن كونه كذبا يقتضي القبح والحكم قد يتخلف عن المقتضى لمانع إلا أن الأصل حصول الحكم عند حصول العلة وهذا هو الجواب أيضا عن الصورة الثانية. قلت الجواب عن الأول أن الخبر إنما يصير من باب المعاريض بإضمار أمر وراء ما دل الظاهر عليه إما بزيادة أو نقصان أو تقييد مطلق أو تخصيص عام مع أنه لا ينبه السامع على أنه نوى ذلك لأنه لو نبهه عليه لما حصل المقصود وإذا جوزتم حسن ذلك لأجل مصلحة تقتضي ذلك لم يمكنكم اجراء خطاب الله تعالى على ظاهره وذلك لا سبيل إليه إلا بأن يقال لا يعرف هذا المعارض لكن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدم الشيء. وعن الثاني أن تخلف الأثر العقلي عن المؤثر العقلي محال وإلا كان عدم المانع جزءا من العلة وهو محال ثم إن سلمناه، لكن الإلزام عائد عليكم لأنكم لما جوزتم في الجملة تخلف الحكم عن المؤثر لمانع جاز في كل خبر كاذب أن لا يكون قبيحا لأجل أنه وجد مانع يمنع من قبحه وحينئذ لا يحصل القطع بكونه قبيحا بل غاية ما في الباب أن يحصل الظن بقبحه فقط.

والجواب عما ذكروه رابعا أنه: إنما ترجح الصدق على الكذب في تلك الصورة لما أن أهل العلم قد اتفقوا على قبح الكذب وحسين الصدق لما أن نظام العالم لا يحصل إلا بذلك والإنسان لما نشأ على هذا الاعتقاد واستمر عليه لا جزم ترجح الصدق عنده على الكذب. فإن قلت أنا أفرض نفسي خالية عن الإلف والعادة والمذهب والاعتقاد ثم أعرض على نفسي عند هذا الفرض هذه القضية فأجدها جازمة بترجيح الصدق على الكذب قلت هب أنك فرضت نفسك خالية عن هذه العوارض لكن فرض الخلو عن العوارض لا يوجب حصول الخلو عن العوارض بل لو أني خلقت خاليا عن العوارض ففي ذلك الوقت لا أدري هل كنت أحكم بهذا الحكم أم لا؟ والجواب عما ذكروه خامسا أن عندنا الموقوف على الشرع ليس هو تصور الحسن والقبح فإني قبل الشرع أتصور ماهية ترتب العقاب والذم على الفعل وعدم هذا الترتب فتصور الحسن والقبح لا يتوقف على الشرع وإنما الموقوف على الشرع هو التصديق به فأين أحدهما من الآخر والله أعلم. وقد جرت عادة أصحابنا أن يتكلموا بعد هذه المسألة في مسألتين أخريين: أحدهما: أن شكر المنعم لا يجب عقلا. والثانية: أنه لا حكم قبل ورود الشرع. واعلم أنا متى بينا فساد القول بالحسن والقبح العقليين فقد صح مذهبنا في هاتين المسألتين لا محالة

لكن الأصحاب سلموا القول بالحسن والقبح العقليين ثم بينوا أنه بعد تسليم هذين الأصلين لا يصح قول المعتزلة في هاتين المسألتين. قال القرافي: قال سيف الدين: أكثر العقلاء على مذهب أصحابنا، ووافق المعتزلة الكرامية والخوارج.

..........................................................................

والبرَاهمة، والثنوية، وغيرهم، ورأيت أنا ذلك لليهود والنصارى في كتبهم، ومعتقداتهم، وهو مذهبهم أعني اليهود والنصارى.

قال سيف الدين: اختلف المعتزلة فقال أوائلهم: الصفات لاتوجب الحسن والقبح، ومنهم من أوجب ذلك، ومنهم من أوجبه في القبح دون الحسن، وورد على كلام الإمام ستة عشر سؤالا: الأول: على قوله: إنما النزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا والعقاب آجلا، فإنه يشعر بأن هذا الترتيب فيه النزاع، وليس كذلك عندنا، وعند المعتزلة يجوز أن يحرم الله تعالى، ويوجب ولا يجعل ذما أصلا، بل بحصول المقصود بالوعيد من غير ذم، فلا يصح أن تعجيل الذم متنازع فيه، وكذلك يكلف الله - تعالى- فلا يعاقب آجلا، بل يعجل العقوبة عقيب الذنب، ولا ينازع المعتزلة ولا أهل السنة في جواز ذلك، بل الله تعالى قدر بإرادته تعجيل الذم، وتأجيل العقاب الأعظم، وغيره ممكن عند الفريقين، فما قال أحد: إن في العقل ما يقتضي تأخير العقاب عن الجاني، فقد أهلك الله كثيرا من المجرمين عقيب ذنوبهم، ولا استحالة في ذلك، إنما النزاع في كون الفعل متعلق المؤاخذة الشرعية كيف كانت هل يستقل العقل بذلك أم لا؟ كانت ذما أو غيره معجلة أو مؤجلة. الثاني: على قوله: وعند المعتزلة لكون الفعل واقعا على وجه مخصوص، ولم يبين ذلك الوجه، فبقي الكلام مجملا، واقتضاؤه على ذكر الصدق والكذب، وهما مثالان لا يفيدان القاعدة الكلية، ولعله يتخيل متخيل أن خصوصهما مراد، والمشترك بينهما وبين غيرهما، وإذا كان المشترك المراد فهل هو ذلك كله؟ لم يتعرض لتخصيصه بل ينبغي أن يقال: متى اشتمل الفعل على مصلحة خالصة أو راجحة اقتضى العقل عندهم أن الله - تعالى - طلبه، وإن اشتمل على المفسدة الخالصة أو الراجحة قضى العقل بأن الله - تعالى - طلب تركه، وإن عرى عنهما، إما لعروه عن المصلحة والمفسدة، أو لتساويهما كان مباحا، ومتى اشتمل على المصلحة الخالصة أو الراجحة،

وهي في المرتبة الدنيا فالواقع الندب، وكلما عظمت عظم الطلب، وإن كانت في المرتبة العليا فالواقع الوجوب، حتى يكون أعلى مراتب الندب، يليه أدنى مراتب الوجوب، وإذا كانت المفسدة الخالصة أو الراجحة في أدنى المراتب كانت الكراهة، أو في أعلى المراتب كان التحريم، حتى يكون أعلى مراتب الكراهة يليها أدنى مراتب التحريم، وبهذا الطريق تتحرر عندهم الأحكام الخمسة بالعقل، وعندنا نحن أيضا الواقع بالشرع كذلك، وغير أنا لانوجبه، وهم يوجوبنه على الله - تعالى - فهذا تلخيص مذهب الفريقين، غير ان هاهنا عقبة صعبة على الفريقين قطعها، وهي المراد بالمصلحة أو المفسدة، إن كان مسماهما كيف كانا، فما من مباح إلا وفيه في الغالب مصالح ومفاسد، فإن أكل الطيبات ولبس الثياب اللينات فيها مصالح الأجساد ولذات النفوس، وآلام ومفاسد في تحصيها، وكسبها وتناولها، وطبخها وإحكامها، وإجادتها بالمضغ، وتلويث الأيدي إلى غير ذلك مما لو خير العاقل بين وجوده وعدمه اختار عدمه، فمن يؤثر وقيد النيران وملابسة الدخان وزفر الأدهان، فيلزم ألا يبقى مباح ألبتة، وإن أراد ما هو اخص من مطلقهما، مع أن مراتب الخصوص متعددة، وليس بعضها أولى من البعض، ولأن العدول عن أصل المصحة والمفسدة تأباه قاعدة الاعتزال، فإنه سفه ولا يمكنهم أن يقولوا: إن ذابط ذلك أن كل مصلحة توعد الله على تركها، أو مفسدة توعد الله تعالى على فعلها هي المقصودة هاهنا، وما أهمله الله تعالى فليس دالخا في مقصودنا، ونحن حينئذ نريد ملطق المعتبر من غير تخصيص، فيندفع الإشكال، لأنا نقول: الوعيد عندكم، والتكليف تابع للمصلحة والمفسدة، ويجب عندكم بالعقل، فإنه - تعالى - يتوعد على ترك المصالح، وفعل المفاسد، فلو استفدتم المصالح والمفاسد المعتبرة من الوعيد لزم الدور، ولو صحت الاستفادة في المصالح والمفاسد من الوعيد للزمكم أن تجوزوا أن يرد التكليف بفعل المفاسد، وترك المصالح، وتنعكس

((تنبيه)) نعني بالخالصة من المصالح ما لا مفسدة فيه ألبتة

الحقائق حينئذ، فإن المفيد هو التكليف، وأي شيء كلف الله - تعالى - به كان مصلحة، وهذا يبطل أصلكم، وأما حظ أصحابنا من هذا الإشكال، فهو أنه يتعذر عليهم أن يقولوا: إن الله - تعالى - راعى مطلق المصلحة، ومطلق المفسدة على سبيل التفضل؛ لأن المباحات فيها ذلك، ولم يراع، بل يقولون: إن الله - تعالى - ألغى بعضها في المباحات، واعتبر بعضها، وإذا سئلوا عن ضابط المعتبر مما ينبغي ألا يعتبر عسر الجواب، بل سبيلهم استقراء الواقع فقط، وهذا وإن كان يخل بنمط من الاطلاع على بعض أسرار الفقه، غير أنهم يقولون: ((يفعل الله ما يشاء)) [إبراهيم:27]، و "يحكم ما يريد " [المائدة: 1]، "لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون " [الأنبياء:23]، ويعتبر الله - تعالى - ما يشاء لا غرو في ذلك. وأما المعتزلة الذين يوجبون ذلك عقلا يكون هذا الأمر عندهم في غاية الصعوبة، لأنهم إذا فتحوا هذا الباب تزلزلت قواعد الاعتزال. ((تنبيه)) نعني بالخالصة من المصالح ما لا مفسدة فيه ألبتة، وهو عزيز في الواقع وبالراجحة ما فيه مفسدة مرجوحة، كالقود والحدود فإن فيه آلام الجناة غير أن مفسدة مصلحة الزجر أجرح، وكذلك المفسدة الراجحة كالإسكار معه مصلحة في الخمر من إثارة الحرارة الغريزية، والبلاغم والسوداء إلى غير ذلك مما ذكره أهل الطب غير أن ذلك مرجوح بالنسبة إلى مفسدة إفساد العقول، والمفسدة الخالصة نادرة كالمصلحة الخالصة. ((تنبيه)) ليس مراد المعتزلة بأن الأحكام عقلية أن الأوصاف مستقلة بالأحكام، ولا

أن العقل هو الموجب أو المحرم، بل معناه أن العقل عندهم أدرك أن الله - تعالى - لحكمته البالغة يكلف بترك المفاسد، وتحصيل المصالح، فالعقل أدرك أن الله - تعالى - أجب وحرم، لا أن العقل أوجب وحرم، ويكون النزاع معهم في أن العقل لأدرك ذلك أم لا؟ فنحن نقول: الذي ادركه العقل أن ذلك جائز على الله تعالى، ولا يلزم من الجواز الوقوع، وهم يقولون: بل هو عند العقل من قبيل الواجبات، لا من قبيل الجائزات، فكما يوجب العقل أن الله - تعالى - يجب أن يكون عليما قديرا متصفا بصفات الكمال، فكذلك أدرك وجوب مراعاة الله - تعالى - للمصالح، والمفاسد، فهذا هو موطن نزاع الفريقين فاعلمه، فأكثر الفقهاء ما يفهم إلا أن العقل عند المعتزلة هوا لموجب وليس كذلك. الثالث: على قوله: ((وقد يعلم نظرا كالصدق الضار، والكذب النافع)) لم يبين ما الذي يعلمه العقل من ذلك، وإذا تبين فهل هو حكم واحد في جميع هذا القسم أو أحكامه مختلفة؟ ذلك كله لم يتعرض لتلخيصه، مع أنه قصد التلخيص وتحقيقه أن الكذب الضار مفسدة مطلقا لكونه كذبا، ولكونه صارا، فيكون قبيحا، ومراتبه في القبح على قدر مرتبته بما حصل من الضرر، ولاصدق النافع مصلحة مطلقا، لأن كونه صدقا مصلحة، وسجية كريمة، وكونه نافعا مصلحة للغير، فيكون حسنا من غير نظر، ومرتبته في الحسن على قدر ماحصل للغير من النفع. أما الصدق الضار فاجتمع فيه مصلحة الصدق ومفسدة الضرر، فيحتاج العقل بنظر أيهما راجح أو هما مستويان؟ فقد يكون الضرر لا يقدح في الحسن، كصدق الشهود الموجب للقصاص وغيره، فإنه ضار بمن عليه الحق، وقد يكون قادحا كمن صدق ظالما في إخباره عن مالم معصوم، فأخذه الظالم، ثم في هذا المقام يختلف الحال

فليس صدق قاضي الإقليم المقتضي لضياع فليس على اليتيم بقبيح، بل لو كذب ليحفظ ذلك كان قبيحا، فإن كذب العظيم الذي هو قدوة الإسلام لا يباح بمثل هذا، وصدقه لضياع الأموال العظيمة قبيح، وصدق الرجل الحقير المضيع للمال المتوسط قبيح، فحينئذ يتعين النظر في كل صورة على حيالها بحسب حال الصادق، أو الكاذب، وبحسب حال المترتب على ذلك الصدق أو الكذب، وتعبر المفاسد والمصالح، وما يعارضها في كل صورة بحسبها، فإن رجح جانب القبح قضينا به، أو جانب الحسن قضينا به، وإن استوى الأمران، وفسرنا الحسن بما ليس فيه مفسدة خالصة، ولا راجحة كان موطن التساوي حسنا، فعلى هذا تخلتف الأحكام في هذا القسم اختلافا كثيرا، ولا يكون حكمه واحدا، وهو مرادهم بأنه مدرك العقل بالنظر، لأنه أدرك بالنظر حكما واحدا في الجميع. الرابع: على قوله: إن لم يتمكن من الترك، فقد ثبت الاضطرار، ولأن غير المتمكن له معنيان: أحدهما: المكره كالذي يحمل ويدخل به الدار. والثاني: الفاعل المختار المتمكن من الفعل والترك إذا استجمع لكل ما لا بدل له منه في التأثير، فإن أثره حينئذ يصير واجب الوقوع، وما كان واجب الوقوع لا يتمكن أحد من تركه، وكذلك إذا استجمع لله - تعالى - جميع ما يتوقف على تأثيره من تعلق قدرته وعلمه، وحضور زمان مراد إرادته، وجميع الشروط الواجبة في ذلك الأثر وجب ذلك الأثر من الله تعالى، فهذه قاعدة عقلية لا يستثنى منها شيء، وعدم التمكين بهذا التفسير لا ينافي الحسن والقبح، لأن الفعل إنما وقع باختيار الفاعل حينئذ وإيثاره، فأمكن مدحه وذمه، فهو حينئذ إن فسر عدم التمكن بهذا القسم منعناه عدم

الحسن والقبح، وإن فسره بالقسم الآخر منعنا الحصر في الاضطراري والاتفاقي لبقاء هذا القسم. الخامس: على قوله: المرجح إما أن يكون من العبد، أو من غيره، أو لا منه ولا من غيره، فإنه غير حاصر، وبقي أن يقول: البعض منه والبعض الآخر من غيره، أوبعضه منه، وبعضه الآخر لا من غيره، او بعضه من غيره، والبعض الآخر لا من العبد، وهذه الأقسام لم يتعرض لها من أن الواقع عند المعتزلة هو القسم الأول أن البعض من العبد، والبعض من غيره. وتقريره عندهم: أن الله - تعالى - خلق النساء الجميلة، وخلق الإدراك في البصر لذلك وخلق مزاج الشاب ولذة الجماع، ولما حصل ذلك وأدرك الشاب الجميلة أحدث من قبل نفسه عندهم عزما وإرادة وأفعالا بها كمل المرجح لوقوع الزنا، وكذلك جميع الصور فالقسم المقصود بالبحث لم يذكره. السادس: على قوله: إذا كن المرجح من العبد يلزم التسلسل فنقول: لم لايمجوز أن يكون من العبد وتنتهي المرجحات إلى مرجح لا مرجح له، فيكون ذلك المرجح اتفاقيا، ولا يكون القبيح الذي وقع الكلام فيه اتفاقيا ولا اضطراريا؟ أما أنه ليس اتفاقيا، فلأنه لمرجح، وأما أنه غير اضطراري فبتمكنه من الترك، والاتفاق إنما وقع في مرجح بعيد لم يدع فيه الحصر والإضطرار والاتفاق، فلا يحصل مقصود المستدل من أن السرقة نفسها التي الكلام فيها منحصرة في الأمرين، ثم نقول: التسلسل يلزم فيها إذا كان المرجح من الغير بعين ما نقوله فيها إذا كان المرجح من العبد. السابع: على هذا المقام أيضا أن التسلسل غير لازم، وإن لم تكن بعض المرجحات اتفاقيا، فإن لقائل أن يقول: يتوقف المرجح العاشر على الأول مثلا، فيكون اللازم الدور، فلا تتم دعوى لزوم التسلسل، وإن ادعى الدور

بقول السائل لا يلزم، بل يذهب لغير النهاية، فيتعين أن يدعى أحد الأمرين إما الدور او التسلسل، لا أحدهما بعينه، وإذا كان أحدهما هو اللازم الذي هو أعم من احدهما عينا لا يكون أحدهما عينا هو اللازم؛ فإنه لا يلزم من لزوم الأعم لزوم الاخص لعدم لزوم الأخص للأعم. الثامن: على قوله: إن توقف المرجح من الغير على ضميمة يعود الكلام فيها ويلزم التسلسل. يرد عليه أن اللازم أحد الأمرين كما تقدم، لا التسلسل عينا. التاسع: على قوله: لم لا يجوز أن يكون المرجح من الغير، ويجوز معه الفعل والترك؟ ولا يكون الفعل اتفاقيا بأن يكون ذلك المرجح هو الإرادة القديمة، والإرادة إنما هي إرادة كانت قديمة، أو حادثة تقبل في ذاتها الذي لها في ذاتها، وصحة تعلقها بكل واحد من النقيضين بدلا عن الآخر تتعلق باحدهما عينا من غير احتياج لمرجح يرجح أحدهما بها، وهذا هو خاصيتها إن ترجح من غير مرجح، كما أن من خاصية العلم الكشف لذاته، وخاصية الحياة تصحيح المحل لقبول الإدراكات والإرادات وغيرها لذاتها، فكل معنى له خصوص لذاته غير معلل، بل يقتضي ذلك لذاته، كذلك الإرادة تقتضي الترجيح من غير مرجح لذاتها، وكذلك إرادة الله - تعالى - كما يصح تلعقها بوجود العالم بدلا عن عدمه يصح تعلقها بعدمه بدلا عن وجوده، وقد تعلقت بوجوده بدلا عن عدمه لا لمرجح آخر. فإذا قيل: لم يرجح وجود العالم بالزمن المعين، وجميع الأقوال الواقعة له دون أضدادها الجائزة عليه قبل الإرادة. فإذا قيل: لم تعلقت الإرادة بهذه الأحوال دون أضدادها؟ قيل: ذلك لذات الإرادة، وكذلك الإرادة الحادثة لازما للشيء لذاته لا

تختلف باختلاف القدم والحدوث، كالعلم له الكشف حادثا وقديما، وكذلك الحياة وجميع المعاني. وبرهان تصحيح كون الإرادة لاتفتقر إلى مرجح أن الترجيح من غير مرجح، كما هو محال فهو واجب، إذ لو لم يكن واجبا وافتقر كل مرجح إلى مرجح استحال أصل الترجيح للزوم التسلسل حينئذ أو الدور، فيكون أصل الترجيح موقوفا على المحال فيكون محالا، فحينئذ يجب أن يكون مرجح لا مرجح له، وذلك هو الإرادة بشهادة العقل أن ذلك لها لذاتها، كما شهد العقل أن الكشف لذات العلم من غير مرجح، والمصحح لقيام العلوم الحياة، فظهر حينئذ أن المرجح قد يكون من الغير، ويجوز معه لاوجود والعدم، ويقع الوجود دون العدم، ولايلزم الإتفاق، ولذلك يقول: لم لا يجوز أن يكون مرجح العبد هو إرادته، وهي مستغينة عن المرجح فلا يلزم التسلسل. العاشر: أن جميع ما ذكره لازم في حق الله تعالى، بأن يقال: إما أن يمكن الترك في فعل الله - تعالى - أو لايمكن إلى آخر التقسيم، فيلزم أن أفعال الله - تعالى - إما اتفاقية لا مدخل له فيها، فلا توصف بالحسن، وهو خلاف إجماع الفيقين، أو اضطراريه فيكون الله -سبحانه وتعالى- مجبورا على أفعاله، أو يكون موجبا بالذات، وهو خلاف إجماع الفريقين، ومن أراد الجواب عن هذا فهو ببعض الأسئلة المتقدمة، إما سؤال الإرادة وهو السؤال السابع، أو بالسؤال الرابع، وهو تفسير غير المتمكن بالمستجمع لكل ما لا بد له من في التأثير. الحادي عشر: أن يعلم بالضرورة أن الحيوانات لها أفعال اختيارية، بل ذلك هو حد لاحيوان في قولنا: هو الجسم الحساس المتحرك بالإرادة، فصار التحرك

بالإرادة والاختيار هو فصله، وفصل الجنس يجب الاشتراك فيه بين جميع أنواعه، وأشخاص أنواعه، فالأفعال الاختيارية يشترك فيها بين جميع الحيوانات

بالضرورة، فيكون هذا الاستدلال على خلاف الضرورة، فلا يسمع كذبة السوفسطائية المشككة في الضرورة.

الثاني عشر: أن دليله وإن سلم له جميع دعواه، ولا يمكن أن ينتجه. أما أنه ما أنتج جميع دعواه، فلأنه ادعى أول الفصل أن حسن الأشياء وقبحها لا يثبت إلا بالشرع، ثم كان نتيجة دليله أن القبح العقلي باطل. ولم يتعرض للحسن، فصارت الدعوى عامة والدليل خاص، فلا يسمع. وأما أنه لا يمكن أن ينتج دعواه؛ فلأن الحسن عند المعتزلة ما للمتمكن منه العالم بحالة أن يفعله، وهذا يندرج فيه أفعال الله تعالى، ولا خلاف أن حسن أفعال الله - تعالى - وخلقه للعالم لا يتوقف على وورد النص، بل يدرك العقل، ولذلك عندنا الحسن ما ليس منهيا عنه، وماليس منها يندرج

((تنبيه)) ذكر مقدمة ونتيجة

فيه فعل الله - تعالى - وهو حسن عقلا، لا يتوقف عاقل في ذلك، فظهر حينئذ أن الحسن العقلي بتفسيرهم وبتفسيرنا لا يتوقف على السمع، فلا يصح أن يدعى في أصل المسألة، نعم إذا فسر الحسن بكون الفعل متعلق المدح أو الجزاء الشرعي كان محل النزاع، واندرج في دليله، لكنه لم ينقله عنهم ولا عنا، فلا ينتظم كلامه في نصب هذا الدليل على القسمين، وكان اللائق أن يقسم الحسن ثلاثة أقسام: ما يتعقل بفعل الله تعالى، وما يتعلق بفعل المكلفين، وما يتعلق بالساهي والنائم والبهائم ونحوها. كما فسر عمومه في أول الكتاب، وقال: إن هذه الأقسام الثلاثة تندرج فيه، ثم نقول: فعل الله - تعالى - حسن عقلا بالإجماع، والقسمان الآخران هما محل النزاع، فإن أهل السنة يجوزون تكليف البهائم والنائم والمجنون وغيرهم، بناء على جواز تكليف ما لا يطاق، وإنما عملوا عدم التكليف في هذه المواطن بالسمع، فهذا تلخيص كون الحسن عقليا أو غير عقلي. ((تنبيه)) ذكر مقدمة ونتيجة، ولا بد في الدليل من مقدمتين، لأنه قال: أفعال العباد منحصرة في الاضطرار والاتفاق، وعلى التقديرين فالقول بالحسن والقبح العقليين باطل. فقوله: وعلى التقديرين إن كان نتيجة فأين المقدمة الثانية؟ أو مقدمة فأين النتيجة؟ وظاهر كلامه أنها نتيجة، لأنها نفس الدعوى، فينبغي أن يعلم أن إحدى المقدمتين قد يحدث العلم بها، وها هنا كذلك، وأصل الدليل أن يقول: الأفعال منحصرة في الإتفاق والإضطرار، وكل منحصر في هذين لا حسن فيه ولا قبح عقلي، فأفعال العباد يستحيل فيها الحسن والقبح العقليان، فذكر معنى النتيجة أن القول بها باطل.

((تنبيه)) خالفه صاحب ((المنتخب)) فقال

((تنبيه)) خالفه صاحب ((المنتخب)) فقال: إذا ثبت الحصر في الاضطرار والاتفاق ثبت المقام الثاني، فإن الخصم يمنع ورود التكليف به، فضلا عن ادعاء كونه حسنا، فجعل النتيجة الحسن، وليس في ((المحصول)) إلا القبح، فيكون السؤال الأخير له الذم من جهة أنه جعل الحسن عقليا، وليس كذلك بل قد يكون، وقد لا يكون كما تقدم تفصيله، وكذلك ((الحاصل)) قال: وقد يراد بالحسن ولاقبح كون الفعل متعلق المدح والذم عاجلا، والثواب والعقاب آجلا، فهما شرعيان عندنا، والذي في ((المحصول)) إنما هو ذكر تفسير القبيح فقط لم يفسر غيره، ولم يستقبح إلا هو، ولم يذكره إلا في فهرست الفصل، ولم يعده بعد ذلك، فكان كلامه أقرب إلى الصواب من كلامها على ما فيه. قال سراجُ الدِّينِ: ولقائل أن يقول: وجوب الشيء بشرط غيره لا ينافي إمكانه، وقدرة الغير عليه، وإلا لزم نفي قدرة الله تعالى، وهو إشارة لما تقدم من الاستجماع في السؤال الرابع. ثم قال: فإن قلت: الفرق أن مرجح فاعلية الله - تعالى - يحصل باختياره. قلت: الكلام في فاعليته لذلك المرجح، كما في الأول، ويلزم التسلسل في أفعاله تعالى، والاعتراف بالمنع المذكور، ويرد عليه أن فاعلية الله تعالى لمرجح الفاعلية قد ينتهى لترجيح الإرادة التي تقدم أ، ها ترجح لذاتها، ولا تحتاج لمرجح، فلا يلزم التسلت، ثم نقول: التسلسل عينا غير لازم، بل أحد الأمرين إما الدور، وإما التسلسل؛ لأنا إذا رجعنا إلى بعض ما فارقناه لزم الدور، أو ذهبنا إلى غير النهاية، ولم نرجع إلى بعض ما فارقناه لزم التسلسل.

الثالث عشر: قال التبريزي: أجمعنا على حسن تكليف الإنسان، وقبحه في البهائم والجماد، ولا فرق إلا ما ذكره المعتزلة، فما الدليل على امتناعه؟ جوابه: امتناعه ما تقدم من الخبر والاتفاق، فيتعين صرفه؛ لأن الإنسان مدرك مصنور لورود الخطاب، وهذا فرق مقصود هنالك. الرابع عشر: قال: لو سلب العباد القدر لأدرك العقل هذا التمييز، ووجوب الإيثار، والاختيار على من كان ممكنا منه، فلا يلزم الخطأ في هذه المسألة. جوابه: فرض إمكانه محال، فمتى فرض وقوعه أمكن أن يلزمه محالان، لأن المحال يجوز أن يلزمه المحال، ومن جملته عدم الخطأ في هذه المسألة. الخامس عشر: قال: توقيفه الفاعلية على أمر مع فرض التمكن من الترك جمع بين النقيضين؛ لأن الفاعلية إذا توقفت على مرجّح كانت بعده واجبة، وقبله ممتنعة، فلا مكنة حينئذ. جوابه: أن المكنة إن فسرت بالإمكان الخاص والتخيير لزم السؤال، وله أن يفسرها بالإمكان العام، فلا يلزم السؤال لصدقه على الواجب والممتنع والممكن الخاص، وهو سلب الضرورة عن أحد نقيضي المحمول كما تقرر في المنطق. السادس عشر: قال التبريزي: ((قول الإمام: إذا لم يتوقف عل مرجح كان اتفاقيا)) باطل؛ لأنه لو كان اتفاقيا لم يتمكن من الترك؛ لأن الإتفاقي ما لم يكن بمؤثر، والتقرير أنه فاعل متمكن. جوابه: أنه يتمكن من الترك، وهو ملابس للفعل، بمعنى أنه لا مرجح له من قبله، ويجوز عليه فعله وتركه، ويكفي هذا في الإتفاق المانع من التكليف، والمدح، والذم الشرعيين، فإنه إنما يمدح أو يذم على ما له فيه مدخل، والمكنة ليست مدخلا يوجب المدح؛ والذم؛ لأن الإنسان متمكن

((سؤال)) قال التبريزي: ....

من فعل كل محرم، وإلا لما حرم عليه، ومع ذلك فلا يذم عليه حتى يكون له في فعله مدخل. قوله: " فإن قلت: للقادر أن يرجح الفاعلية على التاركية من غير مرجح إلى حجج الخصوم " يندفع بأن مفهوم الترجحي غير القادر، ولا يتم مطلوبه؛ لأنه يمكن تفسيره بتفسير التأثير للقادر أن يريده دون نقيضه، ولا يلزم الجبر، لأنه أثره بإرادته ولا الاتفاق؛ لأن له فيه مدخلا وإرادة حينئذ. ((سؤال)) قال التبريزي: يعارضه في مكنته فيقول: فعل القبيح إن لم يكن مقدورا، فهو إما اضطراري أو اتفاقي، والاتفاقي محال؛ إذ لو كان ممكنا لتعذر استناد العالم لصانعه، والاضطرار باطل؛ لأنه إما من علة موجبة أو فاعل مختار، والفاعل محال؛ لانه إما أن يتمكن من الترك أو لا التقسيم إلى آخره، والعلة باطلة، لأنها إن كانت قديمة لزم قدم الأثر، أو حادثة تسلسلت العلة. جوابه: أن أهل الحق يمنعون في هذا المقام أن القبيح ممكن للعبد لا مطلقا، بل يقولون: الجيمع واقع بقدرة الله تعالى، والعبد في المعنى مضطر، فيكون فاعله مختارا والعبد مضطرا، والإمام إنما ردد باعتبار العبد لا باعتبار كل فاعل، بل الفاعل عنده هو الله تعالى بالاختيار، والعبد مجبور وهوغير معذور، فاندفعت المعارضة ألبتة. قوله: ((أما الخصم فقد ادعى العلم الضروري إلى آخر الفصل)). يرد على قولهم: إن العلم بالقبح دائر مع العلم بالظن أن الدوران ظني، وهم يدعون القطع، فما ينتجه دليلهم لا يقولون به. وما يقولون به لا ينتجه دليلهم.

وعلى قولهم: "لولا الاختصاص ما حكم فيه بالوجوب بما لأجله استحق ذلك لزم الترجيح من غير مرجح" ثلاثة أسئلة: الأول: أن قاعدة مذهبهم تقتضي أن المصالح والمفاسد تتبعها الأحكام، وأن الأحكام لوازم الاوصاف، ونتيجة هذه المقدمات صدق قولنا: لو حكم تعالى بالوجوب لكان لمرجح هو المصلحة، فتكون المصالح والمفاسد لوازم، والمطلوب أن تكون ملزومات، واللازم لا يجب أن يكون ملزوما، ولم يثبتوا هذا اللازم مما ينعكس ملزوما، فلا تنتج قاعدتهم. الثاني: أنا لا نسلم أن ثم مرجحا، وهو المصلاح والمفاسد، ولكن ربط هذه الأحكام بها هل هوعلى سبيل الوجوب كما يقولون؟ أو التفضل كما تقوله نحن؟ الأول: ممنوع. والثاني: مسلم، ولا يحصل مقصودكمن؛ فإن التفضل لا يعلم إلا بالسمع دون العقل، وأنتم تدعون ثبوت هذه المراعاة بالعقل. الثالث: أنه لا يلزم من عدم الترجيح بالمصالح والمفاسد نفي أصل المرجح، فلم قلتم: إنه يلزم الترجيح من غير مرجح، ثم إنا ننازع بإبداء مرجح على هذا التقدير؟ فنقول: لم لا يجوز أن يكون هو الإرادة، كما يختص وجود العالم لوقت المعين دون غيره، وكذلك سائر أجزاءه وأحواله التي هي قابلة لأضدادها؟ وعلى قولهم: لو حسن من الله تعالى كل شيء لحسن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب، أن حاصل تجويز عدم مراعاة الله تعالى للمصالح يلزم منه تجويز إضلال الحلق بعدم معرفة أوصفا الأنبياء وتمييزهم عن غيرهم، وهذا إذا سلم هو عين مذهبنا، فإنا نجوز على الله تعالى

أن يضل الخلق أجمعين، وأن يهديهم أجمعين، فهذه النكتة لا أثر لها ألبتة، مع أن النقشواني، وغيره اعتقدوا أنها في غاية القوة لا جواب عنها، مع أنها لا تستحق جوابا، بل هي مذهبنا بعينه، وليس اللازم عن هذه النكتة وقوع ذلك حتى يقال: يلزم خلاف الواقع، بل تجويز ذلك ليس إلا، وكذلك اللازم عن الوجه الثاث تجويز أن الله - تعالى - يخلق أصواتا في بعض مخلوقاته تدل على أمر غير واقع، كما يجوز أن يخلق في حجر من الحجارة أصواتا قائلة: الواحد نصف العشرة، وهذا نحن نجوزه، وعدنا كل كذب في العالم، وكل كفر ومعصية، الله تعالى خالقها، وليس مقصود الخصم الكذب في الكلام النفساني، فإن النزاع إنما وقع في مراعاته تعالى المصالح في أفعاله، وأما صفاته تعالى، فاتفق الفرق كلها على أنها في غاية الكمال، ولا يلزمنا من ذلك عدم الإعتماد على وعده تعالى، فإنه لا يلزم من التجويز على الله تعالى ألا يجزم بعدمالوقوع، فكم من شيء اتفق العقلاء على تجويزه، وقطعوا بعدم وقوعه، كما يجوز على الله تعالى أن تكون الأنهار الغائبة عنا زيتا أو عسلا، ونقطع بأن ذلك ما وقع، وأن هذه المشايخ التي نراها ولدت شيوخا كذلك، ونقطع بأنها ما ولدت أطفالا، ونظائره كثيرة، وكذلك نقطع بأن الله تعالى ما خلق هذه الأصوات في جبريل عليه السلام في الرسائل الربانية إلا مشتملة على المصالح، مطابقة لمدلولاتها بقرائن الأحوال من عوائد الله تعالى، لا من جهة العقل، فكذلك يجوز ذلك عقلا، ونقطع بأنه ما وقع، ونجزم بوعده تعالى ووعيده، وجميع أخباره. وعلى قوله في الجواب: أن العدمي لايكون علة الحكم، وإلا لجاز إسناد العالم إلى مؤثر عدمي، أن القوم لم يجعلوا المصالح والمفاسد موجودة لأحكام الله تعالى كما توجد العلة معلولها، وتنقله من العدم إلى الوجود، بل حكم الله تعالى تعلق إرادته بالإقتضاء، أو التخيير، كما

((تنبيه)) اللازم عن جوابه عن الحجة الأولى ...

أنه عندنا تعلق كلامه النفسي بذلك، والتعلق عدمي، فالحاكم الشرعي عدمي، لأن الكلام من حيث هو كلام ليس بحكم، بل قد يكون حبرا أو حكما، فلا يتعين الحكم حتى يوجد بغير تعلق مخصوص، والتعلقات عدميات لرجوعها إلى النسبة بين المتعلقات والمتعلقات، والنسب عدمية، والعدمي يجوز أن يؤثر فيه العدمي، كما أن عدم العلة علة لعدم المعلول، وعدم اسبب سبب لعدم السبب، فهذا فرق عظيم بين هذا، وبين إسناد العالم لمؤثر عدمي. وفرق آخر، وهو أن هذه الأوصاف عندهم توجب عقلا أن الله - تعالى - يربط بها الأحكام، لا أنها هي الرابطة للأحكام بأنفسها، فهذا فرق آخر وبينه سراج الدين على معنى آخر، فقال: هو قد فسر القبح بمعنى عدمي بقوله: ليس لفاعله أن يفعله، فيصح تعليله بالعدم، ويرد على قوله عند حصول العدم: تصير العلة مؤثرة في معلولها، فاستلزام العلة أمر حدث مع حدوث هذا العدم، فيكون العدم علة هذا الاستلزام. قلنا: لا نسلم، بل لم لا يجوز أن يكون الاستلزام ناشئا عن ذات العلة، وحدوث هذا العدم شرط؟ ((تنبيه)) اللازم عن جوابه عن الحجة الأولى: أن الخصم شرع يثبت مذهبه بهذه الحجة، فبين الإمام أنها لا تثبته، بل إما أن تبطله، أو تبطل هي في نفسها، وعلى التقديرين لا يثبت مذهبهم، لأن الترجيح من غير مرجح إن لم يكن محالا بطلت الحجة في نفسها، لأن من ألزم خصمه لازما ليس بمحال لم يلزمه شيئا، وإن كان الترجيح من غير مرجح حالا لزم الجبر، فيبطل مذهبهم، فظهر لزوم أحد الأمرين، وعدم إنتاجها لمذهبهم. قوله: "الاستدلال بالمعجز بمبني على مقامين:

أحدهما: أن الله تعالى إنما خلق ذلك المعجز لأجل التصديق. الثاني: أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق، والحسن والقبح إنما يقع في المقام الثاني دون الأول ". وتقريره: أن الحسن والقبح يقتضي أن الله تعالى لا يتصرف إلا لمصلحة، أما تعيين مصلحة معينة لا يقتضيها الحسن والقبح، فلعل خلق المعجز لغرض آخر، فلا ينتقض الحسن والقبح، وأما الثاني وهومن صدقه الله فهو صادق، فلو لم يكن صادقا كان قبيحا، كيف يصدق الله من ليس بصادق على أصولهم؟ فلا أثر له إلا في المقام الثاني، وإذا كان المعجز لا لغرض التصديق لا يوهم تصديق الكاذب، كما أن المؤذن إذا أذن في غير الوقت أوهم دخول الوقت، لأن الأذان لا يكون إلا لغرض إفهام دخول الوقت، أما مشي المؤذن على السطح لا يوهم دخول الوقت، لانه ليس لغرض إفهام دخول الوقت، كذلك هاهنا قوله، فثبت أن الإلزام الذي اورده علينا في إحدى المقدمتين وارد عليهم في المقدمة الأخرى، وكل ما هو جوابهم عن تقرر إحدى المقدمتين فهو جوابنا في تقرير المقدمة الأخرى. معناه: أن البحث في المقدمة الأولى التي هي أن المعجز ليس لغرض التصديق، أو هي لغرض التصديق كما قالوه، وقلنا: أدى إلى إيرادهم أن الإيهام على الله تعالى محال لقبح، فأوردنا عليهم المتشابهات، وهي إنزال أمر يوهم التحسين، وهو ليس بمراد، ولم يقبح ذلك لاحتماله وجوها أخر من المصالح، فلما تقرر لنا في هذا المقام هذا البحث نفعنا في المقام الثاني، وهو أن من صدقه هل يجب أن يكون صادقا؟ لأن غاية هذا التصديق من الله تعالى له إن أظهر على يديه ما يدل على صدقه دلالة لا يحصل الجزم بالنبوة منها إلا بعد النظر الصحيح المحصل للعلم وبعد النظر الصحيح لا يقع لبس؛ فإن اللبس إنما يكون قبل ذلك.

أما نظرنا في معجزة المدعي وقرائن أحواله وسجاياه هل تقبل الكذب أم لا؟ وهل غرضه الدنيا أم لا؟ إلى غير ذلك من جميع ما يتوهم أنه باعث على الكذب، فحينئذ يحصل العلم ويقع الفرق بينه وبين الكذابين بالضروة، بحيث لا يبقى لبس، فمجرد إظهار المعجز ليس كافيا في حصول العلم بالنبوة حتى ينظر في جميع الأحوال، فما يجيبون به عن المتشابهات التي أوردناها عليهم في البحث عن المقدمة الأولى، نحن نجيب به عن المقدمة الثانية، وهي تصديق الله تعالى بالمعجز، لأنه عند عدم النظر كالمتشابهات عند عدم النظر، فلا يصح حينئذ إظهار المعجز على يد الكاذب، فإن النظر يفضحه، ويبين أنه كاذب ليس بنبي، فلا يكون ذلك قبيحا، كما أن النظر بين الآيات المتشابهات بين أنها ليست لما دل عليه ظاهرها، بل معنى آخر، فبطل المقام الأول؛ لأن غرض التصديق لا يتعين، وبطل المقام الثاني، لأنا قلنا: إنه كالمتشابهات، وأن جوابهما واحد، فبطل المقامان، فاندفعت الشبهة. وقوله في الجواب عن إظهار المعجز على يد الكاذب: "لو كان الفعل يتوقف على الغرض لزم الجبر" ممنوع، لجواز أن يكون متوقفا عليه، وهو بعض ما يتوقف عليه، فيلزم من عدمه العدم، ولا يجب الوجود عند حضوره، ويصدق التوقف. وقوله: "المعاريض لا بد فيها من زيادة أو نقصان، أوتقييد أو تخصيص ". مثال الزيادة: أن يسألك الظالم عن زيد، من عند؟ فتقول: حيوان، وتزيد في نفسك ناطق، ولا تظهره له، وتفهمه هو أنه حيوان بهيم. ومثال النقصان: أن تقول: هو ولدي، وتريد في نفسك أنك تعامله معالمة الأبناء، فينقص وصف البنوة، ويبقى زيد وحده، كما قال الخليل

صلوات الله عليه في امراته، هي أختي يريد في الإسلام، فنقص من اللفظ وصف الأخوة. ومثال تقيد المطلق: أن تقول: هو الذي في عينه بياض، وتريد البياض المحيط بالسواد، وهو بياض خاص مقيد. ومثال تخصيص العام قولك للظالم: ليس في الدار أحد، وتريد بهذا النفي غير من يريد الظالم، وأكثر ما تقع المعاريض في الاستعمال بالمجاز والمشترك، ولم يذكرها، فالمجاز كقول الصديق رضي الله عنه في رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: ((هو رجل يهديني السبيل))، يوهم أنه

خفير الطريق، ومراده سبيل الآخرة، وهومجاز عن الطريق الحس ليوهم الرجل بذلك فلا يعرفه، وكان ذلك حين خروجهم للمدينة في الهجرة، والاشتراك كقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ للذي سأله من أنتم؟ وكان عليه السلام يجب إيهامه أنهم غير المسلمين لئلا يعرف به عدوه، فقال له: "نحن من ماء"، وماء قبيلة في اليمن، وأراد عليه السلام "من ماء مهين" [المرسلات: 20]. وتقرير قوله: الموقوف على الشرع، إنما هو التصديق بالحسن والقبح لا تصورهما أنا نجور أن الله تعالى يبتع الأحكام المصالح والمفاسد، فإنا لا

تنبيه: قال سيف الدين: قال أصحابنا مدارك

نحيل مذهب المعتزلة بل نحيل وجوب ذلك. فنحن متصورون حينئذ لذلك لرابط قبل الشرع، فإذا ورد الشرع به جزمنا حينئذ به وحكمنا، فهذا هو التصديق، وقد تقدم في النظر اشتقاق التصور والتصديق وحيقيتهما. ((تنبيه)) لما تقدم كثرة القوادح في دليل الإمام، حسن ذكر غيره من المدارك لئلا تبقى المسألة بغير مدرك. قال سيف الدين: قال أصحابنا مدارك: الأول: لو كان الكذب قبيحا لذاته، لكان القائل إذا قال: إن بقيت ساعة أخرى كذبت، فبقي ساعة أخرى إن قالوا: صدقه حسن، يلزم حسن الكذب، حتى يصدق، أو كذبه حسن لزم حسن الكذب، وهو المطلوب. الثاني: لو قبح الظلم لكونه ظلما لتقدمت العلة على معلولها، لأن الظلم إنما يكون بأخذ المال بغير حقه، وأنتم قبل الأخذ تفضون فيه بالقبح ولذلك ليس له أن يفعله، فيلزم تقدم القبح قبل الظالم، وهو تقدم المعلوم العقلي على علته. الثالث: قال سيف الدين: لنفسه، وقال: هو العمدة أن الحسن والقبح غير الأفعال، لإمكان الذهول عنها، مع العلم بالفعل وهما ثبوتيان، لأن نقيضهما لا حسن ولا قبح الذي يوصف به العدم، وصفة العدم عدم، فهما ثبوتيان، وهما صفة الفعل عندهم، فيلزم قيام العرض بالعرض، لكن قيام العرض بالعرض محال؛ لأن العرض الذي هو المحل لا بد وأن يقوم بالجوهر لا معنى له إلا أن وجوده في حيز الجوهر تبعا له فيه، وقيام أحد العرضين لآخر لا معنى له إلا قيامه بالجوهر في حيزه تبعا له، فيكون قائما

بالجواهر، فلا يكون صفة للفعل وهو المطلوب، ولا يرد عليه وصفنا الفعل بكونه ممكنا، ومعلوما، ومقدروا، لأن هذه أمور سلبية لصدقها على العدم، فإنه معلوم وممكن، أما المقدورية فإنها نسبة بين القدرة ولاممكن، فإن قالوا الحسن والقبح نسبي، فهذا هو مذهبنا، أنه يختلف بحسب ما يتعلق به خطاب الله تعالى. قلت: هذه الوجوه عليها مباحث، فيرد على الأول أن قوله الأول "أكذب إن بقيت " قبيح، لانه وعد بالقبيح، وصدقه ثاينا حسن، ولايزلمه حسن الكذب؛ لأنا لم نحس بالأول. وعلى الثاني، أنا إنما قضينا بالقبح على تقدير الوقوع فمنعناه الآن، لأنه مما يقع على تقدير وقوعه القبيح. وعلى الثالث: أنه ينقض بالحسن والقبح العقليين في ملاءمة الطبع، ومنافرته وصفات الكمال وصفات النقص، ثم قول: الحسن والقبح ذاتيان للفعل وهما حكمان، والأحكام الذاتية ليست أعراضا قائمة بمحالها، كما نقول السواد سواد لذاته، والبياض بياض لذاته، وكذلك سائر الأعراض، وما لزم قيام الرعض بالعرض، لأنها أحكام للمعاني لا أنها معان في أنفسها، فكذلك هاهنا، بل أقول في إبطال الحسن والقبح، رعاية المصالح غير واجبة على الله تعالى عقلا، فالحسن والقبح العقليان باطلان. بيان الأول: أن الله تعالى خلق العالم في وقت معين مع إمكان خلقه فيما قبله بمائة ألف سنة، أو بعده بمائة ألف سنة، ضرورة استواء إيجاده بالنسبة إلى الأزمنة المتخيلة، والله تعالى عالم بما يترتب في خلق العالم من المصالح، فتأخيره يقتضي عدم رعاية حصول المصالح، لأن الله تركها في مائة ألف سنة، لم يحصلها فيها، بل ... في تلك المدة، فلا تكون غاية حصول المصالح واجبة في حق الله تعالى.

أو تقول: خلق العالم إما أن يكون مصلحة، وإما ألا يكون، فإن كان يلزم تفويت المصالح، وإن لم يكن كان خلقه عريا عن المصالح، فالله تعالى، لا يجب أن يكون تصرفه ملزوما للمصالح، ولا تكون راعيتها واجبة، إذا تقرر عدم وجوب رعاية المصالح، فلا يجب في العقل أن الله تعالى يربط أحكامه بها، بل يجوز ذلك ونقيضه، فتبطل قاعدة الحسن والقبح العقليين، وغلط من فسره بالعقاب أو الذم أو غير ذلك، فإن المثوبات والعقوبات فرع ربط الأحكام بالمصالح والمفاسد، إذ العقوبات فرع العصيان، والعصيان فرع الأحكام، فافهم هذا الموضع، فأكثر الجماعة كإمام الحرمين في "البرهان" وغيره اعتمد على أن الحسن والقبح يرجع إلى تصرف الله تعالى في أمر مغيب عنا من الثواب والعقاب لا مدخل له في المصالح والمفاسد المتعلقة بنا، وليس كذلك، بل هم يقولون: إنما ترتب ذلك للمفاسد والمصالح، وذلك غيب عندهم، لأنه معلوم عندهم بالعقل وجوبه منجهة أنهم إذا علموا أن الفعل مشتمل على مفسدة خالصة أو راجحة علموا أن اللهتعالى أناط بها المنع، ونفي عنها العقوبة، كل ذلك معلوم عندهم بالعقل، فتسقط كلمات الجماعة في الرد عليهم، وظهر أن ما ذكرته برهان على إبطال قولهم، وهو من قول الشافعي رضي الله عنه إذا سلم القدرية العلم خصموا، أي: خصموا في جيمع هذه المسائل، ولذلك هذه الحجة ما نشأت إلا عن كون الله تعالى عالما بما في العالم من المصالح والحكم، ومع ذلك أخر خلقه آلافا من السنين. وقوله: "إذا بينا فساد الحسن والقبح العقليين، فقد صح مذهبنا في أن شكر المنعم غير واجب عقلا، ولا حكم قبل الشرع، لكن أصحابنا سلموا الحسن والقبح العقليين، وأبطلوا المسألتين بعد التسليم".

يرد عليه أن هذا الكلام غير معقول من وجهين: أحدهما: أن إذا سلمنا قاعدة الحسن والقبح، فقد سلمنا أن الأحكام مرتبطة بالمصالح الخالصة أو الراجحة، والمفاسد الخالصة أو الراجحة، وعلى هذا تكون الأحكام واقعة قبل الشرع ضرورة، ضرورة وقووع تلك المصالح والمفاسد قبل الشرع، وإذا كانت الاحكام واقعة قبل الشرع كان وجوب شكر المنعم ثابتا قبل الشرع، لأنه من جملة الأحكام، فعلم أنه متى سلمنا قاعدة الحسن والقبح فقد سلمنا المسألتين، فنزاعنا بعد ذلك في المسألتين نزاع فيما سلمناه، وذلك باطل، وإنما يحسن النزاع بعد التسليم في غير المسلم، وهذا بعضه بل كله، لأنا إذا قلنا: لا حكم للأشياء قبل الشرع لم يخل حكما من الاحكام، فلم يخل من الحسن والقبخ شيئا، والتقدير أنا سلمناه كله، فهذا من أفحش التناقض. وثانيهما: أنا إذا بينا أنه لا حكم للأشياء قبل الشرع، فقد نفينا جميع الوجوبات، والتحريمات، والمندوبات، والمكروهات، والإباحات، ووجوب شكر المنعم من جملة الوجوبات، فيندرج في تلك المسألة، فلا معنى لجعلها مسألة أخرى، إذ هي فرد من أفرادها، وما بالنا حينئذ إذا جوزنا مثل هذا ألا نبين عدم وجوب اصلاة، مسألة أخرى، وكذلك وجوب الصوم وغير ذلك، فما وجه الاقتصار على نفي هذا الوجوب وحده؟ والجواب عن الأول: أنه النزاع من المعتزلة في قاعدة الحسن والقبح، في أن العقل هل له ولاية على أن يحكم بأن الله تعالى حكم بربط الأحكام بالمصالح والمفاسد أم لا؟ فنحن نمنع ذلك، ونقول: لم يحكم العقل إلا بجواز الربط، لا بالربط نفسه بناء على جواز تكليف ما لا يطالق، فيجوز أن يوجب الله تعالى علينا ويحرم من غير بعثة، وهم يقولون: بل أدركنا بالعقل أن الله تعالى يجب له لحكمته البالغة ألا يدع مفسدة في وقت من

الأوقات إلا حرمها، ويعاقب عليها، ولا مصلحة في وقت من الأوقات إلا أوجبها ويثبت عليها تحقيقا لكونه حكيما، ولوا ذلك لفاتت الحكمة من جانب الربوبية، وهو باطل، لاتفاق المسلمين على أن الله تعالى حكيم، فنحن حينئذ نسلم لهم أن العقل مولى على ذلك، ولا يلزم من تسليم الولاية على الحكم وقوع الحكم، لتوقف الحكم على مدرك يستنقد إليه، فنحن ننازع في المسألتين في وجود المستند، فلا يقع حكم قبل الشرع، لعدم المستند الذي لأجله يحكم العقل، لا لعدم ولايته على الحكم، ولذلك قلنا: لو وجب الشكر لوجب، إما لمصلحة أو لمفسدة إلى آخر التقسيم والاستدلال، فلم يبين إلا عدم المدرك، ولم ينازع في الولاية، فظهر حينئذ أن المسلم غير المتنازع فيه. وعن الثاني: أن المسألة الثانية لم تتناول شكر المنعم. وبيانه: أن معنى قولنا وقولهم في الأحكام قبل ورود الشرائع أن الأحكام تتبع المصالح، والمفاسد الكائنة في أنفس الأفعال، وذلك متحقق في كل فعل على حدثته وإن لم يلاحظ فيه غيره، وشكر المنعم الوجوب فيه بالنسبة إلى مناسبة وملاءمة بين فعل الشكر، وبين فعل المشكرو الذي هو الإحسان السابق في حق الشاكر فأحدهما غير الآخر. وبيانه بالمثال: أنك إذا أنقضت غريقا من البحر كان تعيين الإنقاذ متضمنا لمصلحته، وهي حفظ حياته عليه، ثم إن كان الغريق أحسن إليك قبل ذلك حصلت ملاءمة أخرى بين الإنقاذ، وبين إحسانه السابق، ومن هذا الوجه كان الإنقاذ شكرا، وهذه الملاءمة الحاصلة بين الفعلين غير المصلحة التي هي في نفس الإنقاذ وهي حفظ حياته عليه، ولذلك أمكن وقوعها منفكة عن الشكر في حق من لم يحسن إليك، وقد يوجد الشكر منفكا عن المصلحة في نفس الفعل في حق من طلب منك فعلا عاريا عن المصلحة والمفسدة.

لاعتقاده أنه فيه مصلحة ومفسدة، فإنك إذا أطعته بفعل ذلك كان ذلك شكرا، وحصلت فيه الملاءمة بين إحسانه إليك، وبين ذلك الفعل مع عروه في نفسه عن المصالح، عكس الإنقاذ المتضمن للحياة في حق من لم يحسن إليك، وإذا أمكن انفكاك الشكر عن المصلحة في نفس الفعل، وانفكاك المصلحة في نفس الفعل عن الشكر، كان ضربين قطعا. فقولنا: "لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع". معناه: تابعة للمصالح والمفاسد في أنفس الأفعال، وبقيت الملاءمة التي هي الشكر الخارجة عن الفعل لم يتعرض لها، فيتعين أن يكونا مسألتين، واندفع الإشكالان بفضل الله تعالى وإلهامه لمقاصد العلماء وتحرير أقوالهم.

الفصل الثامن في أن شكر المنعم غير واجب عقلا

الفصل الثامن في أن شكر المنعم غير واجب عقلا وقالت المعتزلة بوجوبه عقلا. لنا: النص والمعقول: أما النص فقوله تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" [الإسراء: 15] وقوله تعالى "رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" [النساء:165] وأما المعقول، فهو أنه لو وجب، لوجب: إما لفائدة أو لا لفائدة، والقسمان باطلان فالقول بالوجوب باطل. إنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون لفائدة؛ لأن تلك الفائدة: إما أن تكون عائدة إلى المشكور، أو إلى غيره: والأول باطل: لأن الله تعالى منزه عن جلب المنافع ودفع المضار. والثاني باطل لأن الفائدة العائدة إلى الغير إما جلب المنفعة أو دفع المضرة لا جائز أن يكون ذلك لجلب المنفعة لثلاثة أوجه: الأول أن جلب النفع غير واجب في العقل، فما يفضي إليه أولى ألا يجب. الثاني أنه يمكن خلو الشكر عن جلب النفع لأن الشكر لما كان واجبا فإذن الواجب لا يقتضي شيئا آخر.

الثالث: أن الله تعالى قادر على إيصال كل المنافع بدون عمل الشكر فيكون توسيط هذا الشكر غير واجب عقلا. ولا جائز أن يكون لدفع المضرة، لأنه إما أن يكون لدفع مضرة عاجلة، وهو باطل لأن الاشتغال بالشكر مضرة عاجلة فكيف يكون دفعا للمضرة العاجلة؟ وأما أن يكون لدفع مضرة آجلة، وهو باطل أيضا لأن القطع بحصول المضرة عند عدم الشكر إنما يمكن إذا كان المشكور يسره الشكر ويسوءه الكفران فأما من كان منزها عنهما فاستوى الشكر والكفران بالنسبة إليه فلا يمكن القطع بحصول العقاب على ترك الشكر بل احتمال العقاب على الشكر قائم من وجوه: أحدها: أن الشاكر ملك المشكور فإقدامه على تصرف الشكر بغير إذنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه من غير ضرورة وهذا لا يجوز. وثانيها: أن العبد إذا حاول مجازاة المولى على إنعامه عليه استحق التأديب والاشتغال بالشكر اشتغال المجازاة فوجب أن لا يجوز. وثالثها: أن من أعطاه الملك العظيم كسرة من الخبز أو قطرة من الماء فاشتغل المنعم عليه في المحافل العظيمة يذكر تلك النعمة وشكرها استحق التأديب وكل نعم الدنيا بالقياس إلى خزانة الله تعالى أقل من تلك الكسرة بالقياس إلى خزانة ذلك الملك فلعل الشاكر يستحق العقاب بسبب شكره. ورابعها: لعله لا يهتدي إلى الشكر اللائق فيأتي بغير اللائق فيستحق العقاب.

وإنما قلنا: إنه لا يمكن أن يجب لا لفائدة لوجهين: الأول: أن ذلك عبث وأنه قبيح. والثاني: أن المعقول من الوجوب ترتب الذم والعقاب على الترك فإذا فقد ذلك امتنع تحقق الوجوب. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال وجب الشكر لمجرد كونه شكرا وذلك لأن وجوب كل شيء لو كان لأجل شيء آخر لزم التسلسل فثبت أنه لا بد وأن ينتهي إلى ما يكون واجبا لذاته. وعندنا الشكر واجب لنفس كونه شكرا كنا أن دفع الضرر عن النفس واجب لنفس كونه دفعا للضرر ولذلك فإن العقلاء يعلمون وجوبه عندما يعلمون كونه شكرا للنعمة وإن لم يعلموا جهة أخرى من جهات الوجوب. نزلنا عن هذا المقام فلم لا يجوز أن يقال وجب الشكر عليه لدفع ضرر الخوف وذلك لأنه لا يجوز أن يكون خالقه طلب منه الشكر على ما أنعم به عليه فلو لم يقدم على الشكر كان مستوجبا للذم والعقاب. أقصى ما في الباب أن يقال: كما يجوز هذا يجوز أيضا أن يكون قد منعه من الشكر لتلك الوجوه الأربعة المذكورة في الاستدلال لكن الظن الأول أغلب لأن المشتغل بالخدمة والمواظب على الشكر احسن حالا من المعرض عن الخدمة والمتغافل عن الشكر. وأما تمثيل نعم الله بكسرة الخبز فليس بجيد لأن خلقه العبد واحياءه واقداره وما منحه من كمال العقل وتمكينه من أنواع النعم أعظم من جميع خزائن ملوك الدنيا ثم ما أكرمهم به بعد تمام هذه النعمة من بعثة الرسل اليهم وانزال كتبه عليهم.

وقد صرح داود وسليمان عليهما السلام بالشكر في قوله تعالى: "وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين" [النمل:15] وليس يجب إذا كان تعالى قادرا على أضعاف ما منحه عبيده من النعم أن يستحقر ما منحه إياهم كما أن الملك إذا أعطى قناطير ذهب فإنه لا يستحقر ذلك لأجل أن خزائنه بقيت مشتملة على أضعاف مضاعفة على ما أعطى. سلمنا أن وجوبه ليس لفائدة زائدة فلم لا يجوز ذلك؟ قوله أنه عبث والعبث قبيح قلنا إنكم تنكرون القبح العقلي فكيف تمسكتم به في هذا الموضع؟ سلمنا أن ما ذكرتموه يوجب أن لا يجب الشكر عقلا لكنه يوجب أيضا أن لا يجب شرعا فإنه يقال إنه تعالى لو أوجبه لأوجبه إما لفائدة أو لا لفائدة ... إلى آخر التقسيم ولما كان ذلك باطلا بالاتفاق فكذا ما ذكرتموه. سلمنا صحة دليلكم ولكنه معارض بوجوه الأول أن وجوب شكر المنعم مقرر في بدائه العقول وما كان كذلك لم يكن الاستدلال على نقيضه قادحا فيه. الثاني: هو أن من وصل إلى طريقين، وكان أحدهما آمنا، والآخر مخوفا، فإن العقل يقضي بسلوك الطريق الآمن دون المخوف، وها هنا الاشتغال بالشكر طريق آمن والاعراض عنه مخوف فكان الاشتغال بالشكر أولى. الثالث: أنه لو لم يجب الشكر في العقل لم يجب طلب معرفة الله تعالى أيضا لأنه لا فرق في العقل بين البابين. ولو لم يجب طلب معرفة الله تعالى في العقول لزم افحام الرسل والأنبياء،

لأنهم إذا أظهروا المعجزة، قال المدعوون لهم: لا يجب علينا النظر في معجزتكم إلا بالشرع ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في معجزتكم فإذا لم ننظر في معجزتكم ف لا نعرف وجوب ذلك علينا وذلك يقتضي إفحام الرسل. والجواب: قولهم لم لا يجوز أن يجب لنفس كونه شكرا؟ قلنا: قولنا: " لو وجب الشكر لوجب إما لفائدة أولا لفائدة" تقسيم دائر بين النفي والاثبات فلا يحتمل الثالث ألبتة. وأيضاف قولكم: "إنه وجب لكونه شكرا" معناه: أن كونه شكرا يقتضي ترتب الذم والعقاب على تركه وهذا داخل فيما ذكرناه، فلا يكون هذا قسما زائدا على ما ذكرناه. قوله: إنه إنما يجب عليه دفعا لضرر الخوف: قلنا: قد بينا أن الخوف حاصل في فعل الشكر، كما أنه حاصل في تركه، فإذا احتمل الخوف على الأمرين، كان البقاء على الترك بحكم استصحاب الحال أولى، فإن لم تثبت أولوية الترك فلا أقل من أن لا يثبت القطع بوجوب الفعل. قوله: الاشتغال بالخدمة أولى: قلنا: هذا مسلم في حق من يفرح بالخدمة، ويتأذى بالإعراض، أما في حق من لا يجوز الفرح والغم عليه فمحال وأيضا فمثل هذا الترجيح لا يفيد إلا الظن. قوله: لا يجوز تشبيه نعم الله تعالى بكسرة الخبز:

قلنا التشبيه واقع في النسبة لا في المقدار ونحن لا نشك أن جميع نعم الدنيا بالإضافة إلى خزائن الله تعالى أقل من الكسرة بالإضافة إلى ملوك الدنيا. قوله الحكم بكون العبث قبيحا لا يصح إلا مع القول بالقبح العقلي وأنت لا تقول به؟ قلنا قد ذكرنا أصحابنا إنما تكلموا في هذه المسألة بعد تسليم القبح العقلي ليثبتوا أن كلام المعتزلة ساقط في هذا الفرع مع تسليم ذلك الأصل وإذا كان المقصود ذلك لم يكن ما قالوه قادحا في كلامنا. قوله هذا يقتضي أن لا يحسن ايجاب الشكر من الله تعالى: قلنا: غرضنا من الدليل الذي ذكرناه بيان أنه لو صح التحسين والتقبيح العقلي لما أمكن القول بايجاب الشكر لا عقلا ولا شرعا وقد ثبت لنا ذلك. بقي أن يقال فأنتم كيف أوجبتموه شرعا؟ قلنا: لأن من مذهبنا أن أحكام الله تعالى وأفعاله لا تعلل بالأغراض فله بحكم المالكية أن يوجب ما شاء على من شاء من غير فائدة ومنفعة أصلا وهذا مما لا يتمكن الخصم من القول به فسقط السؤال. أما قوله: وجوب الشكر معلوم بالضرورة: قلنا: في حق من يسره الشكر ويسوءه الكفران أما في حق من لا يكون كذلك فلا نسلم. فإن قلت بل وجوبه على الاطلاق معلوم بالضرورة وأنت مكابر في ذلك الإنكار:

قلت أحلف بالله تعالى وبالايمان التي لا مخارج منها أني راجعت عقلي وذهني وطرحت الهوى والتعصب فلم أجد عقلي قاطعا بذلك في حق من لا يصح عليه النفع والضرر بل ولا ظانا فإن كذبتمونا في ذلك كان ذلك لجاجا ولم تسلموا من المقابلة بمثله أيضا. وأما قوله: ترجيح الطريق الآمن على المخوف من لوازم العقل: قلنا: نعم لكنا بينا أن كلا الطرفين مخوف فوجب التوقف. قوله إنه يفضي إلى إفحام الأنبياء: قلنا العلم بوجوب الفكر والنظر ليس ضروريا بل نظريا فللمدعو أن يقول إنما يجب علي النظر في معجزتك لو نظرت فعرفت وجوب النظر لكني لا أنظر في أنه هل يجب النظر علي وإذا لم أنظر فيه لا أعرف وجوب النظر في معجزتك فيلزم الإفحام. فإن قلت بل أعرف بضرورة العقل وجوب النظر عليَّ: قلت: هذا مكابرة لأن العلم بوجوب النظر علي يتوقف على العلم بأن النظر في هذه الأمور الإلهية يفيد العلم وذلك ليس بضروري بل نظري خفي فإن كثيرا من الفلاسفة قالوا إن فكرة العقل تفيد اليقين في الهندسيات والحسابيات فأما في الأمور الإلهية فلا تفيد إلا الظن. ثم بتقدير أن يثبت كونه مفيدا للعلم فإنما يجب الإتيان به لو عرف أن غيره لا يقوم مقامه في إفادة العلم وذلك ما لا سبيل إليه إلا بالنظر الدقيق وإذا كان العلم بوجوب النظر موقوفا على ذينك المقامين النظريين فالموقوف

شرح القرافي

على النظري أولي أن يكون نظريا وإذا كان كذلك كان العلم بوجوب النظر نظريا لا ضروريا وحينئذ يتحقق الإلزام فكل ما يجعله الخصم جوابا عن ذلك فهو جوابنا عما ذكروه وبالله التوفيق. قال القرافي: قوله: ((الفصل الثامن شكر المنعم غير واجب ...)) إلى آخر الفصل، ولنقدم أبحاثا ثلاثة: المبحث الأول في بيان حقيقة الشكر ما هو؟ فإن التصديق فرع التصور، فأقول: شكر الله تعالى طاعته بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ولذلك لما يقيل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ لما قام حتى تورمت قدما:"أفتفعل ذلك وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ألا أكون عبدا شكورا "، فسمى صلاته شكرا، وهي قول، وفعل، واعتقاد، وقال الله تعالى:"اعملوا آل داود شكرا " [سبأ:13] فجعل جملة شريعتم شكرا، وقال الشاعر: [الطويل]: أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا إشارة إلى الثلاثة القول باللسان والفعل باليد والولاء والوداد والاعتقاد بالضمير وهو القلب، فكل ما لله تعالى فيه طلب، ففعله طاعة إن طلب فعله أو تركه طاعة إن طلب تركه، لأن العبد مطيع بجميع ذلك،

المبحث الثاني: الشكر غير واجب بالإجماع

ومتقرب به إلى الله تعالى، فيكون فعل جميع الواجبات والمندوبات، وترك جميع المحرمات والمكروهات شكرا لله تعالى كانت في الأفعال، والأقوال أو الاعتقادات، لكن أعظم مراتب الشكر الإيمان، ومعرفة الله تعالى، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، كما قال عليه السلام: "الإيمان خمس وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ". ويظهر بهذا أن الشكر أعم من الحمد من وجه، وأخص من وجه، لأن الحمد هو الثناء بالقول الجميل، فقد يوجد ولا شكر إذا فعلته في حق من لم يحسن إليك، ويوجد الشكر بدون الحمد إذا وقع بالفعل والاعتقاد، ويجتمعان معا إذا أثنيت على المحسن إليك. المبحث الثاني إذا تقرر هذا، فظهر أن شكر الله تعالى غير واجب بالإجماع، لأن المركب من الواجبات والمندوبات غير واجب، بل الواجب جزء هذا المجموع لا كله، فعلى هذا إذا قيل: الشرك غير واجب إجماعا صح باعتبار

المبحث الثالث في تحقيق المتنازع فيه بيننا وبينهم

المجموع لا باعتبار كل فرد من أفراده، فيتعين تحرير الدعوى، ولا يؤتى بلفظ يوهم إيجاب المجموع من حيث هو مجموع. المبحث الثالث في تحقيق المتنازع فيه بيننا وبينهم، وهو قبل الشرع وبعده، أما قبل اشرع فننازعهم في الحكم والمدرك، فلا وجوب عندنا، ولا العقل يقضي ولا شرع حينئذ. وأما بعد الشرع فنساعد على الحكم، ونسلم أن المدرك الشرع، وننازع أنه رادف العقل بل انفرد بنفسه، وهم يقولون: اجتمع بعد ورود الشرع السمع والعقل، ولم يختص السمع بذلك. وننازعهم بعد الشرع في طرف آخر، وهو أن إيجابه عندهم بعد الشرع، وقبله عقلى واجب لازم في حق الله تعالى، وعندنا إنما أوجبه على سبيل التفضل منه سبحانه وتعالى، فهذه ثلاثة أطراف وقع فيها النزاع، طرف قبل الشرع وطرفان بعد الشرع. ثم يقول: استدلاله بالنص غير متجه، فإنه لا يلزم من سلب التعذيب عدم التكليف، فجاز أن يكون التكليف ثابتا قبل البعثة، وقد اطاعوا بفعل المكلف به، أو لم يفعلوا، وتأخر العذاب إلى بعد البعثة كما يتأخر بعد البعثة إلى يوم القيامة، فلا يلزم من عدم الغذاب عدم التكيلف بوجوب الشكر، بل يحتاج في تقرير النص إلى مقدمتين: إحداهما: أن يقول: لو وقع الوجوب قبل البعثة لتركوا عملا بالغالب.

فإن الغالب على الناس المخالفة بشهادة الاستقراء بعد البعثة، قال الله تعالى: ((وما وجدنا لأكثرهم من عهد))، و ((إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله))، ((وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)). وثانيهما: أنهم لو تركوا لعوقبوا عملا بالأصل؛ لأن ترك الواجب سبب العقوبة، والأصل ترتب المسببات على أسبابها، فينتظم هذا القياس لو كلفوا لتركوا، ولو تركوا لعوبقوا، لكنهم لم يعاقبوا لقوله تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا))، فيكون لازم اللازم للتكليف منفيا، فيكون التكليف منفيا، ومتى أهملت هاتان المقدمتان، أو إحداهما لم يتجه الاستدلال بالنص، فيرد عليه خمسة أسئلة: الأول: أن الفعل حقيقة في حق مباشر الفعل، ومجازا في نسبته للآمر به، نحو: قطع السلطان اللص، وبني القلعة، أي: أمر بذلك، وهو مجاز بالنص، وكذلك في مورد النفي إنما يحمل على نفي الحقيقة، فإذا قلنا: ما قام زيد، فمحمله على نفي القيام الحقيقي، فيحمل نفي العذاب في الآية على نفي التعذيب الذي صدر عن مجرد قدرته - تعالى - من غير أن يأمر به ملكا أو غيره؛ لأنه المباشرة في حقه تعالى، فينفي من العذاب ما يقطع بطريق أمره به تعالى، كخسف مدائن لوط وغير ذلك، كما أمر الله تعالى به الملائكة أو غيرهم، فلا يكون مطلق العذاب منفيا، فلا يلزم نفي التكليف. الثاني: سلمنا سموله للنوعين، لكن لا نسلم أن النكرة إذا كانت في سياق النفي تعم مطلقا، وإنما تعم إذا كانت في أسماء خاصة، فقد قال الجرجاني في أول ((شرح الإيضاح)): إذا قلت: ما جاءني رجل، لا

يعم ذلك حتى تقول: ما جاءني من رجل، بخلاف قوله: ما جاءني أحد، يعم من غير من. وقال صاحب الكشاف في قوله تعالى: ((ما لكم نم إله إيره)) وفي قوله تعالى "وما تأتيهم من آية نم آيات ربهم" أن العموم لم يحصل إلا من صيغة "من".

ولو قال مالكم إله أو ما تأيتهم آية لم تعم، فعلمنا حينئذ ان النكرة لا تعم كيف كانت، فلم قلتم: إن "معذبين" من الصيغ التي تعم نكراتها في النفي؟ الثثالث: "ما"موضوعة لنفي الحال مع "ليس"كما أن "لم، ولما" موضوعان لنفي الماصي، و"لا" و"لن"لنفي المستقبل، وكان صيغة مضى، فيتعين أن يكون هذا لالفظ حكاية حال ماصية، وزمن هذه الحال لم يتعين، فلا يتعين هذا السلب العام من هذا الوجه أيضا. الرابع: سلمنا العموم مطلقا، لكن العام في أفراد ماهية المطلق في أحوالها وزمانها، وبقاعها ومتعلقاتها، فإذا قال الإنسان: لا علم لي، هذا عام في نفي جميع أفراد علمه، غير أنه يحسن تقييده بمجيء زيد فلو قلال: أردت ذلك، لم يصر لفظه مجازا بهذا التقييد، بخلاف لو قال: أردت نفي بعض أفراد العلم دون بعض، كان من مجاز التخصيص، فتكون الصغية عامة في نفي افراد التعذيب مطلقة في متعلق التعذيب، فلعله على شيء معين، فما تعين نفي التعذيب على كل شيء، فلا يلزم نفي التكليف. الخامس: سلمنا عمومه في أفراد التعذيب، وفي متعلقه لكن قوله تعالى: "حتى نبعث رسلوا" يقتضي مفهمه أنه يعذب حينئذ، لأن ما بعد الغاية يقتضي أن يثبت فيه نقيض ما قبلها، فنجزم بوقوع التعذيب بعد البعثة، لكن لم تصرح الآية بأن هذا التعذيب لما سبق، ولا لما يأتي، ولا لما هو خاضر فلعله للماضي، فلا يلزم نفي التكليف في الماضي، بل نقول: اللفظ يقتضي أن التعذيب لأجل الماضي، لأن المفهوم هو نقيض

المنطوق، والمنطوق عند الخصم هو سلب التعذيب في الماضي، ونقيض قولنا: ما نعذب عن الماضي نعذب على الماضي، لأنه لا تناقض بين عدم التعذيب في الماضي، والتعذيب في المستقبل، ولما كان المفعوهم نقيض المنطوق تعين صرفه للماضي عملا بالتناقض، فتصير الآية دالة على وجوب شكر المنعم قبل الشرائع، والخصم يريد أن يستدل بها على عدمه، بل هي مقتضية لنقيض مطلوبه، فتأمل ذلك، وكذلك قوله تعالى: "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل". معناه: أن حجة الخلق تنتفي بعد البعثة، ولكن هل باعتبار ما مضى أو باعتبار المستقبل، فلعل المعتزلي يقول: إذا حصلت البعثة تأكد أن العقل على الصواب في رعاية المصالح، والمفاسد لورود السمع بها، فقامت الحجة لله تعالى وسقطت حجة الخلق، فإن تضافر الأدلة من المعقول والمنقول مما يقطع العذر، ويحسم المادة. وقوله في المعقول: لا تعود الفائدة على المشكور لتنزه الله تعالى عن جلب المنافع، لا يتم مع المعتزلة، فإن عدتهم تقتضي أن الله تعالى حكيم، وحكمته البالغة تقتضي أن من كماله رعاية المصالح، وأن عندم مراعاتها مخل بالكمال الإلهي، وإذا راعاها حصل الكمال الإلهي، ولا شك أن كمال الله تعالى عائد لجلاله وذاته، ولا يمكن أن يقال: هو منزه عنه، بل ثبوت هذا له عندهم كثبوت العلم، والقدرة وغيرهما من صفات الكمال، وترك هذا التنزيه عندهم تنزيه. وقوله: "جلب المنفعة غير واجب في العقل " ممنوع، بل المنافع منها ضروري كحفظ الأعراض عن الثلم الفاحش، والنفس عن الهلاك، والعافية عن العذاب، وتحصيل أسباب البغال الكثيرة والمنازل العالبية، والثياب اللينة والزوجات الجميلة، هذا لا يوجبه العقل، فظهر أن ما ذكره ليس على عمومه، فلعل المنفعة التي جيب الشكر لها من قبل ما يوجبه العقل.

وقوله: "أداء الواجب لا يقتضي شيئ آخر " ممنوع عندهم، لأن الآتي بالواجب محقق لمصلحته، والمحقق للمصالح تجب مكافأته، ولذلك يوجبون على الله تعالى مجازاة المحسنين. وقوله: " الله تعالى قادر على إيصال كل المنافع بدون هذا الشكر " ممنوع عندهم، فإن من قواعدهم الفاسدة أن الإحسان لغير المحسن محال على الله تعالى؛ لأنه سبقه فيستحيل تعلق القدرة به، فيمنعون أنه تعالى قادر على خلق ما علم عدمه، أو قدره أو أخبر عن عدمه، لأنه ممتنع لغيره، وإن كان ممكنا في ذاته، وكذلك المانع عندهم ممكنة لذاتها، ممتنعة عند عدم سبب استحقاقها من جهة العبد. وقوله: "الإشتغال بالشكر مضرة عاجلة، فلا يكون دافعا للمضرة العاجلة " باطل قطعا، فإن قطع الأيدي المتآكلة، وسقى الأدوية الكريهة، والبط والحجامة، وغير ذلك مضرات عاجلة، وهي دافعة لمضرات عاجلة، لكنها لما كانت أعظم من الدافعة لها حسن فعل الدافعة الدنيا لدفع المدفعوعة العليا. وقوله: القط بالمضرة الآجلة أنها تكون عند من يسره الشكر، ويسوؤه الكفران هم يمنعون هذا الحصر، ويقولون لوجوب الشكر سببان: أحدهما: ما ذكره من المسرة والمساءة. والثاني: كون المشكور ملكا حكيما مبالغا في الحكمة يرى في حكمته ألا يتصف عباده بترك الأدب والشكر، وإن كان ذلك الملك لا يلتذ بذلك، بل يفعله؛ لأنها صفة كمال، حتى أن الحكماء يفعلون ما يؤلم طباعهم،

ويسوؤها لاشتمالها على الحكمة لا للذة، فكثير من الحكماء يترك ملاذ النساء، وفضول الكلام وكثيرا مما يميل إليه طبعه، ويلتزم في ذلك مشاقا طبعية ليس إلا للحكمة ليوفيها حقها، والله تعالى عندهم في أقضى الغايات من الحكمة، فهو أولى بأن يوجب مكافأة المحسن على إحسانه لما فيه من الحكمة، لا ليوقع لذة ولا نفرة، فالحصر غير ثابت. قوله: "قلنا غرضنا من الدليل أنه لو صح الحسن والقبح العقليان لما أمكن القول بإيجاب الشكر من الله تعالى لا عقلا، ولا سمعا ". هذا الموضوع في غاية الإشكال، وعسر التقرير وبان المراد منه، ظاهره يقتضي أنه ادعى بطلان مذهبه، على تقرير صحة مذهبهم في الحسن والقبح، فيكون معنى كلامه لو صح مذهبكم لبطل مذهبنا بالوجبوب في الشرع، وهذا لا يسوء الخصم بل يسره، ثم إن الخصم التزم وجوب عدم وجوب الشكر شرعا لعدم وجوبه عقلا، وهو جعل عدم وجوب الشكر عقلا، وشرعا لازما للحسن والقبح، فلم يظهر أنه وارد على الكلام الأول. ووجه تقرير كلامه: أنه قال في أصل دليله: لو وجب الشكر لوجوب إما لفائدة، أو لا لفائدة، والقسمان باطلان، فلا يجب، والمقدر وجوبه، فيلزم ألا لا يجب على تقدير وجوبه، فيجتمع النقيضان على هذا التقدير، وهو تقدير الوجوب عالعقلي، فيكون الواجوب العقلي ملزما لاجتماع النقيضين، وهو الوجوب العقلي محالا، وهو مقصوده، وهكذا ينبغي لك أن تفهم، حيث سمعمت في مسألة لو كان لما كان أن معناه أن هذا المذهب في تلك المسألة متى فرض واقعا اجتمع النقيضان، من لزوم عدم وقوعه على تقدير فرض وقوعه، وكذلك إذا قال القائل: لو صح بيع الغائب على الصفة لما صح؛ لأنه لو صح لكان مساويا للمرئي في مصلحة

الصحة، لكنه غير مساو، فلا يصح على تقدير صحته، فيجمتع النقيضان على تقدير القول بصحته، وتتبين المقدمات بطرقها الفقهية، وكذلك في كل مسألة من هذا النمط، هذا هو المتحصل من هذا الاستدلال فيها على هذا الوجه، فهو -أعني الإمام- بين أن مذهب المعتزلة ملزو لاجتمع النقيضين من جهة وقوع عدم الوجوب على تقدير الوجوب جاء السائ من جهة المعتزلة. قال: ويلزم أيضا على هذا التقدير اجتماع النقيضين من جهة عدم الوجوب بالسمع، مع أن الواقع الوجوب السمعي، فجعل هذا لازما آخر لذلك التقدير، فقال له الإمام: هذا هو غرضنا أن يكون هذا التقدير الذي هو الوجوب العقلي ملزما لألف محال أنا بينت محالا لازما له، وأنت بينت محالا آخر، فلا يقدح ذلك في غرضي، فإنه كلما كثرت اللوازم المحالة للتقدير كان ذلك أبلغ في بطلانه، فالمعتزلة ساعدونا بهذا السؤال، ولم يقدحوا في غرضنا فلذلك قال: مرادي أنه لا يثبت الوجوب العقلي، ولا السمعي على هذا التقدير، فيجتمع النقيضان في العقلي، وفي السمعي معا، لان السمعي واقع إجماعا، والعقلي واقع بالفرض، فعدم الوقوع فيهما يقتضي إجتماع النقيضين في كل واحد منهما، وهذا التقدير مبني على قاعدة ينبغي أن يتفطن لها، وهو أنه متى فرض تقدير، وذكر دليل، فهو على ذلك التقدير، وجميع ما يرد عليه سؤال وجواب هو على ذلك التقدير إلى أن ينفصل البحث في ذلك الدليل، فلهذه القاعدة كان النقيضان مجتمعين في العقلي والشرعي على هذا التقدير، وكان هذا ملزوما للمحالين، فلا جرم لم يخل ذلك بغرض المستدل الأول، وكذلك في جميع مسائل الخلاف في الفقه والأصول، فاعلم ذلك. فإن قلت: إن فرضنا الخصم ردد في نفس الأمر لا على هذا التقدير، فما يكون جوابنا عن النكتة التي ذكرها المستدل؟ وأي الأقسام يلتزم، وكيف يظهر الفرق؟

قلت: نحن كنا نبحث مع المعتزلة على تقديرين: أولهما: تسليم قاعدة الحسن والقبح قبل الشروع في هذه المسألة. وثاثنهما: تقدير الوجوب في شكر المنعم عقلا، فلا جزم ألزمنا في التقدير الثاني العبث على تقدير الوجوب لا لفائده، لأن التقديرين اللذين كنا نبحث عليهما أحدهما مصحة الحسن والقبح العقليين، أما إذا ردد السائل في نفس الأمر، فقد خلصنا عمن التقديرين، ولمن نكن حينئذ معتزلة، بسبب تسليم قاعدة الحسن والقبح، ونكون حينئذ اشعرية أهل سنة، لأن حاصله أنه مفسر بعدم رعاية المصالح، وهذا هو عين مذهبنا، فيثبت الوجوب الشرعي ولا يثبت الوجوب العقلي، واستقام قول الإمام: لو ثبت الحسن والقبح العقليان لما ثبت الوجوب العقلي، ولا الشرعي في الشكر، وذكر الحسن والقبح، ولم يذكر وجوب الشكر عقلا، لأن كليهما مقدر الحسن مقدر التسليم، والشرك مقدم الوجوب، فلما كان يحبث على التقديرين صح ان يذكر أحدهما وسكت عن الآخر؛ لان جميع ما يلزم يلزم التقديرين، فلا فرق بين ذكرهما وذكر أحدهما، وظهر بهذا التقدير بطلان قول من يقول: إن الإمام غير دعواه، وأنه انتقل إلى تفسر آخر لم يتعرض له في أصل الديل، بل الإمام لم يتغير بحث ألبتة، وما برح على نمط واحد. قوله: "العلم بوجوب النظر ليس ضروريا ". تقريره: أن العقل إذا أوجب النظر إنما يوجبه إيجاب الوسائل لا إيجاب المقاصد، لأن النظر إنا هو وسيلة لتحصيل العلم، وا, الظن بالمنظور فيه، فلا بد أن يثبت عند العقل أنه وسيلة لذلك، فقد قال السمنية: إنه لا يفيد أصلا في الإلهيات، فلا بد من النظر في تحقيق كونه وسيلة في الجواب عن شبههم، وهومقام نظري، وإذا ثبت أنه وسيلة فلا بد أن يثبت انحصار

الوسائل فيه، لا، المقصد متى كان له وسيلتان فأكثر لم تجب أحدهما عينا، لا عقلا ولا شرعا، كما لو كان للجامع طريقان مستويان لا جيب سلوك أحدهما عينا وقد قال أرباب الرياضيات: إن تصفية الباطن، لزوم الخلوات وإصلاح الأغذية وإخلاء البواطن من الفكر يوجب حصول العلم بطريق الشطح وغيره، فهذا طريق آخر، ووسيلة ثانية لتحصيل العلوم، فلا يتمكن العقل من وجوب النظر عينا حتى يثبت عنده إبطال هذه الوسيلة، وهو عسر، فحينئذ بإيجب العقل للنظر وسيلة تتوقف على أنظر في هذين المقامين النظريين، فيقول العقل: لا أنظر حتى يجب علي النظر، ولا يجب علي النظر حتى أنظر في هذين المقامين، ولا أنظر فيهما حتى يجب علي النظر فيلزما لدور، وإقحام الرسل إذا أوجبنا النظر عقلا

كما ألزمتمونا إياه في إيجابه سمعا، فهذا جواب إلزامي، وللأصحاب جوابان آخران صحيحان:

أحدهما: أن الوجوب السمعي عند القائلين به، وهم أهل الحق لم يوقفوه على ثبوت النبوة، بل على مجرد التمكن من النظر في لمعجزة فقط، وكذلك وجوب النظر المقضي إلىمعرفي الله تعلى [لا يتوقف عل معرفة الله تعالى] بل التمكن من ذلك كاف كما نقله صاحب

البرهان، وصاحب المستصفى، وصاحب "الأحكام" عن أهل السنة، فتوقف وجوب النظر على ثبوت النبوة لم يقل به أحد من الفرق. أما عند المعتزلة فسابق على ذلك لثبوته بالعقل، وأما عندنا فيكفي التمكن، حتى لو أعرض الناس عن الأنبياء، وقالوا: لاننظر حتى ماتوا على ذلك، ماتوا كفارا يتسحقون الخلود في النيران وغضب الديان، وكذلك أجمع المسلمون على تكفير من لم يؤمن برسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ وإن كان أكثرهم لم يقصد النظر في معجزته عليه السلام، ولا خطر بباله ذلك، لا سيما عوام الكافر وجهالهم من النسوان، ولابلهان وغيرهم، وهم كفرة إجماعا ما سببه إلا أنهم متمكنون من النظر، فتركوا مع الإمكان. وثانيهما: أن الإفحام غير لازم على تقدير انحصار المدرك في السمع، بل ولو انتقى المدرك سمعا وعقلا، لأن الله تعالى طبع البشر على النظر في الغرائب، وخوارق العادات، سواء حثهم العقل او السمع عليه أم لا، بل لونهاهم العقل والسمع لعصوهما، وذهبت منهم طائفة لقضاء شهواتهم في الاطلاع على ذلك المستغرب، كما عملوا ذلك في كثير من أهويتهم التي نهى الشرع عنها، والعقل عند المعتزلة، فلو ظهرت امرأة لها عشرة رؤوس، ومائة عين، وهي تظهر العجائب من الخوارق، ونادى ملك المدينة لا يجتمع أحد لذهب جماعة من أهل الجسارة والجهلة إليها، واجتمعوا بها، واطلعوا عى عجائبها، مع أنها أجنبية عنهم، فهذا منهي عنه شرعا وعقلا

وسلطنة، ومع ذلك فلا بد وأن يقع إجراء الله تعالى العادة بذلك في خلقه، فظهر أن الإفحام غير لازم على كل تقدير ألبتة، مع أن هذه النكتة نحن نلتزم بجملتها، فإن اللازم عن جواز الإفحام إضلال الخلق وتعب خواطر الأنبياء، وذلك نحن نجوزه كله، فيجوز على الله تعالى أن يضل الخلق أجمعين، وأن يهديهم أجمعين، وأن يعذبهم أجمعين، وأ، ينعمهم أجميعن: "لايُسأل عما يفعل وهم يسألون "، فهذه النكتة ليس فيها حاصل ألبتة للمعتزلة، "وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا". زاد صاحب ((الحاصل)) أن الشكر، ومعرفة الله - تعالى - متلازمان إجماعا. وقال الإمام في "المحصول": "لافرق بينهما في العقل "، ولم يذكر الإجماع. ووجه الإجماع في التلازم أن من قال بوجوب الشكر عقلا قال بوجوب المعرفة عقلا، ومن قال بعدم وجوبه قال بعدم وجوب الآخر، فلم يفرق أحد بينهما، فحصلت الملازمة بالإجماع، وهو معنى قول "المحصول ": "لافرق بينهما في العقل " أي عند الفريقين. وزاد ((الحاصل)) لفظة أخرى، ويه قوله: فيلزم إفحام العقل، ولم يقله في "المحصول"، وهو غير سديد، لأن العقل لا ينفحم حينئذ، بل إذا قال: لا يجب علي النظر حتى أنظر، ولا نظر حتى يجب علي النظر للازم عن هذا أن العقل لا يقضي بوجبوب النظر، وكونه لا يقضي بوجبو النظر ليس بإفحام له، ولا يتأذى بذلك بخلاف الرسل ينفحمون بعدم حصول مطلوبهم من أممهم، وله توجيه، وهو أن البحث في الدور العقلي وقع على تقدير أن وجوب النظر عقلي، فيلزم صدق قولنا لو وجب عقلا لما وجب

((فائدة)) قال سيف الدين: الشرك عند الخصوم ليس معرفة الله تعالى

عقلا للزوم الدور، فيلزم اجتماع النقيضين في العقل، فعبر عن هذا الدقر من المحال العقلي بالإفحام هذا غايته. وزاد التبريزي: فإن ألزمونا عدم وجوب الشكر شرعا بمقتضى المجازاة قلنا: هو غير لازم؛ لأن الشرع يستقل بما لا يستقل به العقل، فيجب التوقف إلى ورود الشرع، كما في آحاد الشكر، ومعناه إن ألزمونا ذلك على تقدير تسليمنا لهم الحسن والقبح. قلنا على هذا التقدير: الشرع يحيط بجزئيات من المصالح لايحيط بها العقل، كما في أنواع العبادات ومقاديراها، وتنوع أسبابها، فإن العقل لم يهتد لجملة ذلك، فيجب التوقف حتى يردا لمطلع الأعظم، فعلعه يرد بما لم يدركه العقل. وهذا الكلام مندفع عن المعتزلة من جهة أنهم لا يسلمون التوقف إلا فيما لم يشد العقل فيه بشيء، أما أصل الشكر فقضى فيه العقل بمصالح ضرورية عندهم والشرع من المستحيل عند الكل أن يرد بما يخالف العقل، فلا معنى للتوقف، بخلاف آحاد الشكر، فلا يتم جوابه، بل جواب المحصول كما تقدم تقريره هو الصواب على هذا التقدير. ((فائدة)) قال سيف الدين: الشرك عند الخصوم ليس معرفة الله تعالى؛ لأن الشكر فرعها، بل إتعاب النفس بفعل المستحسنات العقلية، وترك المستقبحات العقلية. قال صاحب "البرهان": وهو عندهم ليس من الضروريات، بل النظريات.

الفصل التاسع في حكم الأشياء قبل الشرع

الفصل التاسع في حكم الأشياء قبل الشرع انتفاع المكلف بما ينتفع به إما أن يكون اضطراريا كالتنفس في الهواء وغيره وذلك لا بد من القطع بأنه غير ممنوع عنه إلا إذا جوزنا تكليف ما لا يطاق وإما أن لا يكون اضطراريا كأكل الفواكه وغيرها فعند المعتزلة البصرية وطائفة من فقهاء الشافعية والحنفية أنها على الإباحة وعند المعتزلة البغدادية وطائفة من الإمامية وأبي علي بن أبي هريرة من فقهاء الشافعية أنها على الحظر وعند أبي الحسن الأشعري وأبي بكر الصيرفي وطائفة من الفقهاء أنها على الوقف وهذا الوقف تارة يفسر بأنه لا حكم وهذا لا يكون وقفا بل قطعا بعدم الحكم وتارة بأنا لا ندري هل هناك حكم أم لا وإن كان هناك حكم فلا ندري أنه إباحة أو حظر لنا أن قبل الشرع ما ورد خطاب الشرع فوجب أن لا يثبت شيء من الأحكام لما ثبت أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع أما القائلون بالاباحة فقد تمسكوا بأمور ثلاثة الأول ما اعتمد عليه أبو الحسين البصري وهو أن تناول الفاكهة مثلا منفعة خالية عن أمارات المفسدة ولا مضرة فيه على المالك فوجب القطع

بحسنه، أما أنه منفعة فلا شك فيه وأما أنه خال عن امارات المفسدة فلأن الكلام فيما إذا كان كذلك وأما أنه لا ضرر فيه على المالك فظاهر وأما أنه متى كان كذلك حسن الانتفاع به فلأنه يحسن منا الاستظلال بحائط غيرنا والنظر في مرآته والتقاط ما تناثر من حب غلته من غير إذنه إذا خلا عن أمارات المفسدة وإنما حسن ذلك لكونه منفعة خالية عن أمارات المفسدة غير مضرة بالمالك لأن العلم بالحسن دائر مع العلم بهذه الأوصاف وجودا وعدما وذلك دليل العلية وهذه المعاني قائمة في مسألتنا فوجد الجزم بالحسن فإن قلت هب أنكم لم تعلموا فيه مفسدة ولكن احتمال مفسدة لا تعلمونها قائم فلم لا يكون ذلك كافيا في القبح قلت هذا مدفوع من وجهين الأول أن العبرة في قبح التصرف بالمفسدة المستندة إلى الأمارة فأما المفسدة الخالية عن الأمارة فلا عبرة بها ألا تراهم يلومون من قام من تحت حائط لا ميل فيه لجواز سقوطه ولا يلومونه إذا كان الجدار مائلا ويلومون من امتنع عن أكل طعام شهي لتجويز كونه مسموما من غير أمارة ولا يلومونه على الامتناع عند قيام أمارة فعلمنا أن مجرد الاحتمال لا يمنع الثاني لو قبح الإقدام لتجويز كونه مفسدة لقبح الاحجام عنه لتجويد كونه مصلحة وفيه وجوب الانفكاك عن كل واحد منهما وهو تكليف ما لا يطاق الوجه الثاني في أصل المسألة أن الله تعالى خلق الطعوم في الأجسام مع إمكان أن لا يخلقها فيها وذلك يقتضي أن يكون له تعالى فيها غرض يخصها،

وإلا كان عبثا ويستحيل أن يعود الغرض إلى الله تعالى لامتناع ذلك عليه فلا بد وأن يكون الغرض عائدا إلى غيره فأما أن يكون الغرض هو الإضرار أو الإنفاع أو لا هذا ولا ذلك والأول باطل أما أولا فباتفاق العقلاء وأما ثانيا فلأنه لا يحصل الضرر إلا بإدراكها فإذا كان الضرر مقصودا والإدراك من لوازم الضرر كان مأذونا فيه لأن لازم المطلوب مطلوب ولا يجوز أن يكون الغرض أمرا وراء الإضرار والإنفاع لأنه باطل بالاتفاق فثبت أن الغرض هو الإنفاع وذلك الإنفاع لا يعقل إلا على أحد ثلاثة أوجه إما بأن يدركها وإما بأن يجتنبها لكون تناولها مفسدة يستحق الثواب باجتنابها وإما بأن يستدل بها وفي كل ذلك إباحة إدراكها لأنه إنما يستحق الثواب بتجنبها إذا دعت النفس إلى إدراكها وفيه تقدم إدراكها وإنما يستدل بها إذا عرفت والمعرفة بها موقوفة على إدراكها لأن الله تعالى لم يخلق فينا المعرفة بها من دون الإدراك فصح أنه لا فائدة بها إلا إباحة الانتفاع بها الوجه الثالث أنه يحسن من العقلاء التنفس في الهواء وأن يدخلوا منه أكثر مما تحتاج إليه الحياة ومن رام أن لا يزيد على قدر ما يحتاج إليه عده العقلاء من المجانين والعلة في حسنه أنه انتفاع لا نعلم فيه مفسدة وهي قائمة في مسألتنا وهذه الدلالة هي عين الدلالة الأولى واستنشاق الهواء مثال ذلك.

أما القائلون بالحظر فقد احتجوا بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فوجب أن لا يجوز قياسا على الشاهد واحتج الفريقان على فساد قولنا إنه لا حكم بوجهين الأول إن قولكم لا حكم هذا حكم بعدم الحكم والجمع بين إثبات الحكم وعدمه تناقض والثاني أن هذه التصرفات إما أن تكون ممنوعا عنها فتكون على الحظر أو لا تكون فتكون على الإباحة ولا واسطة بين النفي والإثبات والجواب عن الأول أن الحكم العقلي في الأصل ممنوع سلمناه لكن لا نسلم كونه معللا بالوصف المذكور والاعتماد في اثبات العلية على الدوران العقلي قد أبطلناه وعن الثاني بالقدح فيما ذكروه من التقسيم ثم بالنقض بالمطعومات الموذية المهلكة وعن حجة أصحاب الحظر بأن الإذن معلوم بدليل العقل كالاستظلال بحائط الغير فلم قلتم إن هذا القياس لا يدل عليه؟ وعن التناقض بأن نقول أي تناقض في الإخبار عن عدم الإباحة والحظر؟ وعن الأخير أن مرادنا بالوقف أنا لا نعلم أن الحكم هو الحظر أو الإباحة وإن فسرناه بالعلم بعدم الحكم قلنا هذا القدر ليس إباحة، بدليل أنه حاصل في فعل البهيمة مع أنه لا يسمى مباحا بل المباح هو الذي أعلم فاعله أو دل

شرح القرافي

على أنه لا حرج عليه في الفعل والترك وإذا بينا أنه لم يوجد هذا الإعلام لا عقلا ولا شرعا لم يكن مباحا والله أعلم. قال القرافي: الفصل التاسع في حكم الأشياء قبل ورود الشرع إلى آخره، فحكى الخلاف فيما لا يكون العبد مضطرا إليه، كأكل الفاكهة، وحكاية الحظر عن بعض المعتزلة في الأفعال مطلقا يلزم منه تحريم إنقاذ الغرقى، وإطعام الجوعان، وكسوة العريان، ونصر المظلوم، وجميع المصالح تكون حينئذ محرمة عندهم، وهذا مما تأباه قواعد الاعتزال إباء شديدا، فأين هذا من وجوب رعاية المصالح عقلا؟ وإيجاب الإثابة عليها عقلا في حق الله تعالى، بحيث إنهم يحيلون على الله تعالى عدم الإثابة، وكذلك حكايته عن بعضهم الإباحة مطلقا يقتضي إباحة القتل، وإفساد العقول، والأعراض، وأخذ الأموال، وجميع أنواع الظلم والفساد، وهذا تأباه قاعدة الإعتزال، لأن المعتزلة جزم العقل عندهم بأن الله تعالى أناط التحريم بالمفاسد، ورد السمع أم لا، ويجوبن ذلك في حق الله تعالى، فبين إباحة المفاسد ومذهبهم بعد شديد. وأما سيف الدين وإمام الحرمين في "البرهان"، والأبياري والمازري وغيرهم، فجزموا بان هذه المذاهب إنما هي في القسم الثالث من الأقاسم عند المعتزلة، وهو ما لم يقض العقل فيه بتحسين ولا بتقبيح، كمقادير العبادات، وتخصيصها ببعض الأزمة ونحو ذلك. وأما صاحب "المستصفى" فقال ولم يجزم: يحتمل أن يكون ذلك فيما لم يجزم العقل فيه بتحسين ولا تقبيح. والصواب قول إمام الحرمين ومن وافقه لما تقدم، وحكى القاضي عبد

الوهاب المالكي في ((الملخص)) هذ المسألة، كما حكاها "المحصول" وقال: ذهب أبوالفرج المالكي وكثر من أصحاب الشافعي وحكى في كتاب "الإفادة" الحظر عن الشيخ أبي بكر الأبهري من الماليكة، وحكي الوقف عن ابن المنتاب المالكي فوافق جماعة من أهل السنة المعتزلة، وخالفوهم في المستند بمستندهم السمع لا العقل، كما عند المعتزلة، فتمسكوا على الإباحة في كل شيء قبل الشرائع بقوله تعالى: ((خلق لكم ما في الأرض جميعا))، وبقوله تعالى: "أعطى كل شيء خلقه " وبقوله تعالى: "قل: من حرم زينة الله التي

أخرج لعباده والطيبات من الزرق "، وتمسكوا على التحريم بقوله تعالى:"يحل لهم الطيبات " دل على أنها قبل ذلك غير محللة وبقوله تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " دل ذلك على أن ما لم يأتنا لا نباشره، وذلك هو التحريم، وبقوله تعالى: "يسألونك ماذا أحل لهم" دل ذلك على أن الأصل التحريم، ويسألون ما أبيح منه، ولأن قاعدة الشرع إذا دار الفعل بين الإباحة والتحريم حرم، كالأجنبية مع الأخت الملتبسة، وكالمذكاة مع الميتة، فكل فريق يقول: إذا فقد دليل خاص حمل على الحظر إن كان القائل به، أو على الإباحة إن كان القائل به، فتظهر فائدة ذلك عند تعارض الأدلة، أو عند عدمها، فهاذ نوع آخر من الخلاف غير المحكى عن المعتزلة. وقال أبوالحسين في ((المعتمد)): المآكل والمشارب على الإباحة. وقال معتزلة ((بغداد)) وطائقة من الإمامية وبعض الفقهاء وأبي علي بن

أبي هريرة من فقهاء الشافعية: محظورة، وتوقف قوم في حظرها، وهذا مغاير للمصنف وسيف الدين، فهذا تلخيص محل الخلاف في هذ المسألة. وقوله: الوقف يفسر تارة بأنه لا حكم وحسن تسمية هذا وقفا بأن الجازم بمذهب يتوقف على الفتيا بضده، ولذلك نقول: المتقي يتوقف عن حدود الله، بمعنى يمتنع من الدخول فيها ولم يبين أن المذهبيين للأشعري، وحكى سيف الدين وغيره مذهب الأشعري الجزم بعدم الحكم. وقوله: ((لنا أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع)). قال كثير من الفضلاء:

هذا رجوع منه عن قاعدة الحسن والقبح التي سلمها، وبحث على فرضها وتقديرها، فإنها تقتضي ثبوت الأحكام بالعقل، فدعواه الحصر في السمع رجوع عما سلمه، وليس كما قالوا؛ لأنه قد تقدم أن المسلم إنما هو ولاية العقل على الحكم، ولا يلزم من تسليم كون العقل بحيث يحكم أن يكون حكم لجواز تعذر المدرك، كما أن العقل له أن يحكم في علم الحساب بالإجماع، ولا يتوقف على السمع، ولكن إذا اشتد عليه المدرك في تلك المسألة الحسابية لا يحكم اتافقا، وقد نص الحساب على أن المسائل الحسابية ثلاثة أقسام: منها ما يخرج بالحساب المفتوح وبحساب الجبر، ومنها ما لا يخرج إلا بحساب الجبر، ومنها ما لا يخرج أبدا، فكذلك ها هنا، نسلم لهم أن العقل يستقل بربط الأحكام الإلهية بالمدارك، ولكن إذا تعذر عليه وقف، ولم يحكم كذلك هاهنا لما بين في مسألة شكر المنعم أن المدرك إما لفائدة أو عدمها، والقسمان باطلان، فبطل المدرك، فلا جزم قال بعدها هاهنا لما بينت أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع مع أنه لو لم يقتدم منه استدلال لما كان قوله رجوعا عما سلم لعدم التناقض بين تسليم الولاية على الحكم، واستحقاقه عقلا، وبين منع المدرك العقلي، بل لو منع المدارك مطلقا لم يلزم ذلك فاعلمه. وقوله: "خلق الطعوم في الأجسام مع إمكان ألا يخلقها، فلا بد من عرض، ويستحيل عوده إلى الله تعالى ". يرد عليه ما تقدم في شكر المنعم أن مذهبهم أن حكمة الله تعالى تقضتي له لذاته أن يظهر الإحسان والفضل، وأنواع البدائع في الإيجاد وغيره، وأن هذا من صفات كماله، وصفات كماله عائدة إليه تعالى، فلهم منع هذا المقام بناء على هذا الأصل

وقوله: ((غرض الإضرار باطل باتفاق العقلاء)). يريد أن القائل قائلان: قائل بعدم الغرض ألبتة، وهم السنية، وقائل

بغرض هو الإحسان، وهو مذهب المعتزلة، فرغض الإضرار لم يقل به أحد. قوله: ((وأما ثانيا فلأن الضرر لا يحصل إلا بإدراكها)) ويرد بالإدراك المباشرة بالعقل؛ لقوله: فيكون مأذونا فيه، وعلى هذا نمنع توقف الضرر على الإدراك مطلقا لجواز أن يتضرر الإنسان بما لا يدركه، كما تتأذى الناس بريح الوباء، وغيره من مجاورة الجبال، والسباخ، والبحار، ومواضع القتال عن بعد، والأكثر لا يعلم أن ذلك سبب الضرر بالأمراض، والأسقام، وغيرها، ولأن القائلين بأحكام النجوم قالوا: إن منها ما يضر الضرر العظيم؛ لأن الله تعالى خلقه كذلك كالعقاقير، ومع ذلك فلا يتناولها أحد، ولا يباشرها، بل ولا يعتقد ذلك فيها، ونحن وإن لمن نعتقد ذلك فيها، فذلك لعدم دلالة العادة في استقرائها على ذلك، فلو دل الاستقراء على أن ذلك منها أكثرى كالعقاقير الطبية اعتقدنا ما قالوه، كما اعقتدنا ذلك

في العقاقير مع تجويزنا ذلك قطعا، وإذا كان من الجائزات فعلى تقدير وقوعه لا يتوقف الضرر على الإدراك، بل الشمس والقمر مؤثران بإذن الله تعالى في العالم من غير إدراك اتفاقا بتغيير الفصول الأربعة، وإنضاج الثمار، وتجفيف الحبوب، والمقطوع من الخشب في ليالي الظلام لا يسوس بخلاف المقمرة. وقوله: "الانتفاع لا يكون إلا بثلاثة أوجه " الحصر ممنوع لجواز أن ينتفع بها بوجه رابع؛ كما ينتفع بالجبال بإرساء الأرض ولمجاورة البحر الملح لإصلاح أجساد الحيوانات، حتى قيل: إن البلد البعيد عن البحر الملح أكثر من نصف شهر يضعف حاله، لأن هواه يملح الأجساد، ويذهب عنها العفن كالملح في لحوم الذبائح إذا رفع، قالوا: وهذا حكمة من حكمة خلق الله تعالى له، وبالجملة فأنواع الانتفاع بالمخلوقات كثيرة في باطن الإنسان وظاهره، وقريبة وبعيدة، بغير ما ذكره فالحصر ممنوع. وقوله: "وفي كله إباحة إداركها" ويريد بالإدراك المباشرة حتى تشتهيها نفسه عند الإجتناب ممنوع، فإن الإنسان قد يشتاق لاشيء بالأخبار وقرائن الأحوال، ولذلك إن العميان يحبون على السماع، ونحوه كثير في العالم، والالتذاذ أيضا لا يتوقف على الإدراك، بل يلتذ الإنسان أيضا بالسماع، والاستدلال وغيره، ودلالة الصنعة على صانعها غير متوقفة على المباشرة، لأنا نستدل بالكواكب وأفلاكها، وغير ذلك من أجزاء العالم ولم نباشرها. وقوله في الجواب عن الأول: ((إن الحكم العقلي في الأصل ممنوع)). معناه: أن القياس من شرطه أن يكون من باب واحد، فتقاس العاديات على العاديات، والعقليات على العقليات، والشرعيات على الشرعيات، لأن القياس لا بد فيه من جامع هو مدرك الحكم في الأصل، والفرع مساوٍ له فيه، فثبت ذلك الحكم في الفرع، هذا يقتضي اشتراكهما في موجبات

((سؤال)) إذا كنا نبحث في المسألتين على تقدير تسليم القاعدة في الحسن والقبح

الأحكام، وهذه الثالثة لا يشترك منها اثنان في موجب واحد، فلا يقاس أحدهما على الآخر، فالخصم إن ادعى أن الحكم في الاصل عقلي منعناه، أو شرعي منعنا صحة القياس لتغاير البابين. ((سؤال)) إذا كنا نبحث في المسألتين على تقدير تسليم القاعدة في الحسن والقبح، فعلى تقدير تسليمها يكون كل ما هو ثابت بعد الشرع ثابت قبله بالعقل، وبعده بالعقل والسمع معا، كما هو مذهب المعتزلة، فالحكم حينئذ في الأصل كما هو شرعي هو عقلي، فكيف يستقيم أن نمنع أنه عقلي، بل هو عقلي جزما على هذا التقدير. جوابه: أنا نسلم أنا معتزلة حقيقة، والباحث في هذا المقام معتزلي، فهو لا يستدل على من ينازعه إما تحقيقا أو تخيلا، كما أن كل أحد إذا ارد تحقيق الحق لنفسه في أي مسألة أراد، فإنه يورد على نفسه كل ما يمكن إيراده عليه من جهة أي خصم فرض، ويتولى هو ذلك من نفسه لنفسه، فيقول المعتزلي المحقق: أنا إذا فرضت نفسي باحثا في هذا المقام وقائسا على غيري، فلذلك الغير منع الحكم في الأصل. فإن قلت: بل الإنسان يفرع على ما يثبت عنده من القواعد وإذا تخيل أن مانعا يمنعه أحال نمعه على الدليل الدال عنده على تلك القاعدة، فلا يتوجه المنع على تقدير تسليم القاعدة المذكورة أصلا. قالت: قد تقدم أن المسلم في القاعدة إنما هو تمكن العقل من الحكم لا وقوع الحكم، فعلى هذا أمكن أن يكون الحكم في الأصل عقليا وغير عقلي، فأمكن المنع فتفطن لهذا الموضع ونظائره في هذه المسائل، فهي غوامض كما تقدم في قوله: إن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع. وقوله: "قد أبطلنا الدوران العقلي"غير متجه، لأنه إنما تقدم منه الوعد

بإبطاله في كتاب القياس، حيث قال: العلم بالقبح دار مع العلم بالظلم وجود وعدما، ثم للخصم أن يقول: الدوران الذي سيبطله في القياس إنما هو الدوران الظني، ومن الدوران ما هو قطعي، كدوران العلم مع الحياىة، والإرادة مع العلم في العقليات، ودوران الموت مع قطع الرأس، والتوسيط، ونحوهما من العاديات، فلم قلتم: إن هذا الدوران ظني كالذي أبطلتموه؟ وقوله: وعن حجة الحظر أن الإذن معلوم بالعقل كالاستظلال بحائط الغير، فلم قلتم: إن هذا القياس لا يدل عليه؟ وقد يقول قائل: إنه أبطل هذا القياس، فكيف جعله مستندا له هاهنا في دعواه ثبوت الإذن عقلا؟ فيقال له: هو في هذا المقام سائل معترض على أرباب الحظر، والمعترض إنما وظيفته أن يبين وجود احتمال قادح فهو أورد هذا الاحتمال ليطالب المستدل ببطلانه، لا أنه يعتقده، وذلك منتجه من كل معترض على كل مستدل، ومن الإنسان على نفسه إذا حاول الاستدلال، وإن كان يمكنه هاهنا مع الحكم في الاصل كما قاله في الإباحة، غير أنه أراد أن ينوع البحوث في الموضعين. وقوله: "أي تناقض في الأخبار عن عدم الإباحة والحظر". معناه: أن الاتفاق حاصل على ثبوت الأحكام العقلية قبل الشرع، إنما النزاع في الشرعية، فالحساب والهندسة وغيرهما ثابتة قبل الشرع اتفاقا، فنحن حكما بعقولنا حكما عقليا كما حكمنا بانتفاء الأحكام الشرعية، قبل البعثة، فلا تناقض بين ثبوت الحكم العقلي واتفقاء الحكم الشرعي، وسمي الحكم العقلي إخبارا، لأنه تصديق، وكل حكم تصديقي إخبارا، لأنه يقال لقائله: صدقت أو كذبت، فالخبر لازم لإدراك التصديق فعبر به عنه.

((تنبيه)): المعتزلة حكمت عقولها بحسب الإمكان

وقوله: "مرادنا أنا لا نعلم الحكم والحظر، أو الإباحة ". معناه: أن نسلم أن الإباحة نقيض الحظر، وأن عدم الحظر هو الإباحة، وأن النقيضين لا واسطة بينهما، وأن القضاء بانتفائهما قبل الشرع أو في أي زمان كان محال، غير أ، عدم العلم بأيهما الواقع ممكن لا محظور فيه، فنحن لا ندري ما الواقع من ذينك النقيضين، كما أنا لا نعلم هل زيد في الدار أم لا؟ مع أن الواقع أحدهما بالضرورة، ولا يكون ذلك قضاء بارتفاع النقيضين، بل قضاء بعدم العلم بالواقع منهما، والفرق بين البابين ظاهر، وهذا على مذهب غير الشيخ أبي الحسن الأشعري، أما على رأيه فيتعين الوجه الثاني، وهو منع أن الإباحة عدم الحظر، بل ضده، والأحكام الرعية كلها أضداد، وليس فيها شيء نقض شيء، ورفعها كلها ممكن، وقد تقدم بيان أن كلام الله تعالى لا يجب أن يكون فيه حكم، بل اللازم له الخبر فقط، وقد تقدم بسطه. ((تنبيه)) ينبغي أن تعلم أن المعتزلة حكمت عقولها بحسب الإمكان، فلما وجدت المصالح والمفاسد رطبت بها الأحكام الربانية، ولما فقدتها فيما لم يطلع العقل عليه بمفسدة، ولا مصلحة اعتدموا على أقيسة عادية غير المفاسد والمصالح، وهو دأبهم أبدا في جعل الأمور العادية أحكاما إلهية، ومنه نشأ الفساد في قاعدة الحسن والقبح في جميع الفروع المتفرعة منها من خلق الأفعال وإرادة الكائنات، فهم في هذه المسألة جروا على ذلك، وعدوا إلى علة أخرى، ومدرك آخر، لما تعذر الأول، فلا تعتقد أن المردك واحد. ((تنبيه)) الاستدلال بالفواكه وافق "المحصول" فيه "المستصفى"و"الإحكام"، والأبياري والمازري مع أن الفواكه من قسم ما يدرك العقل مصلحته في الأجسام بالدواء، والغذاء، والالتذاذ وغير ذلك، فنقل الاستدلال به عن

((تنبيه)) زاد التبريزي في الجواب عن شبهة الإباحة

المعتزلة، وتظافر هؤلاء الجماعة على نقله عنهم يدل على أن فهرسة "المحصول"هي مقصودهم، لا ما لايدرك العقل مصلحته، غير أن هذا يعارضه أن فيه نقض قواعدهم كما تقدم، فتأمل الأمرين كما ترى. ((تنبيه)) زاد التبريزي في الجواب عن شبهة الإباحة بابا يمنع الأمرين المفسدة في آحاد الأعيان، وامتناع بناء القطع بناء على الظاهر، ولا نسلم عدم الضرر في الحب المتناثر، وإنما يترك لمفسدة الإلتقاط أو لأنه يتغير بذلك؛ ولأن الإذن معلوم في الاصل بظاهر الحال، حتى لو صرح بالمنع حرم الإلتقاط، وبه يبطل الدوران، والإستظلال، والنظر في المرآة ليس تصرفا في ملك الغير، ولهذا يقبح من المالك المنع منه، وهو ممنوع حسبة. وقال سراجُ الدِّينِ: يمنع النقض بالطعوم المؤذية، لأنه يمكن الإنتفاع بها بالتركيب مع ما يصلح، ويمنع توقف المعرفة على التناول حالة التكليف، فإنا لا نسمي فعل غير الملكف مباحا، معناه أن التناول قد يحصل حالة الجنون أو غيره من الأ؛ وال التي لا تكليف فيها، ولاخطاب، فلا تصدق إباحة التناول، ويحصل من ذلك التناول المقاصد الثلاثة من الإلتذاذ، والترك بعد ذلك مع الشهور والإستدلال. ((فائدة)) قال إمام الحرمين في "البرهان": يلزم القائلين بالحظر الأضداد التي لا انفكاك عن جميعها، فإن الحظروا ذلك لزم تكليف ما لا يطاق، أو خصصوا بعض الأفعال انتقض دليلهم.

((فائدة)) في "المستصفى" قال: مذهب الأشعرية امتناع تعري الجواهر عن جميع الطعوم

قال: وأصحاب الإباحة لا خلف بيننا وبنهم في الحقيقة؛ لأنم أرادوا استواء الأمر في الفعل والترك دون ورود النص، وهو كذلك، وافقه سيف الدين والغزالي في المستصفى. قلت: وليس كما قال لا يا أيها الأشاعرة، يجوز تكليف ما لا يطاق، ويجوز تحريم الجمع، بمعنى أن الله تعالى يربط لاترحيم بجميع الأفعال، ويعاقب كل ملابس لفعل، ويجوز أن يطلق الجميع لعباده، فجزمهم بالإباحة مضافة لديلل العقل خلاف مذهبنا، بل من جز منا بالإباحة إنما جزم بناء على أدلة السمع لا بالعقل، وهم جزموا بناء على المناسبة العقلية الحاصلة من أقيستهم كما تقدم. ((فائدة)) في "المستصفى" قال: مذهب الأشعرية امتناع تعري الجواهر عن جميع الطعوم، وكذلك جميع الأعراض لا ينفك الجوهر عن الشيء وعن ضده، فقولهم: خلق الطعو مع إمكان ألا يخلقها ممنوع، بل يجب خلق بعضها قطعا عندنا. ((تنبيه)) عند المعتزلة الأدلة السمعية مؤكدة لما علمه العقل ضرورة أو نظرا، ومظهرة للحكم المتقدم الثابت بالعقل، وأنه ما زال كذلك، وعندنا الأدلة السمعية منشيئة في الجميع؛ لأنها لم تجتمع مع أدلة العقل لا أولا ولا آخرا، وعندهم اجتمعت آخرا، وانفرد العقل بها أولا. ((تنبيه)) قوله في أول المسألة: ما يضطر إليه كالتنفس في الهواء، ونحوه لا بد من القطع بأنه غير ممنوع منه.

((تنبيه)) نحن قائلون بأن الأحكام نفية قبل الشرائع

مفهومه: أنه يجوز أن يكون مباحا، وليس كذلك، بل لا يجوز أن يتعلق به حكم شرعي ألبتة، فالنازل من الشاهق لا يباح له النزول، ولا يتعلق به حكم شرعي، بسبب أن القاعدة أن الأحكام الشرعية لا تتعلق إلا بما يجوز أن يفعله الإنسان، ويتركه أما ما يتعين فيه الفعل أو الترك فلا، فاعلم ذلك، هذا كله بناء على اقتناع تكليف ما لا يطاق، أما إذا جوزناه جوزنا في ذلك جميع الأحكام الشرعية الخمسة. ((تنبيه)) نحن قائلون بأن الأحكام نفية قبل الشرائع، وبأنها قديمة، وظاهره التناقض، فإن القديم لا يكون منفيا قبل الشرائع، ولا في وقت، ووجه الجمع بين المثالين أنها قديمة متعلقة بالأفعال على تقدير ورود الرسائل، كما كانت متعلقة على تقدير وجود الأساب من أوقات الصلوات وغيرها، فنيها قبل الشرائع إنما هو نفي لتعلقها في تلك الحالة لا نفي لذواتها، كما نقول: إن الشريعة تقررت بعد موته صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ. ونقول: إن الظهر لا يجب قبل الزوال إشارة إلى التعلق، ونفيه قبل الزوال، وهو ثابت في اأزل متعلق بما بعد الزوال، وهي ثلاثة مسائل بقصد الجمع بينهما هاتان المسألتان، ومسألة المأمور إنما يصير مأمورا حالة الملابسة لا قبله، وستأتي تكملة هذا البحث إن شاء الله تعالى في الأوامر. ((تنبيه)) حيث نفينا الأحكام قبل الرسل، فلا نرد أن ننفي من جملتها الحسن الذي هو مفسر بعدم النهي، بل لا تعد إلا الأحكام الخمسة التي لا تعلم إلا من قبل الشرع، والحسن والقبح، وإن تقدم أ، هما قسمان من الحكم الشرعي، فالحسن أعم من الحكم الشرعي، لما قتدم أن المقسم قد يكون أعم من المقسم إليه من وجه، فيصدق المقسم إليه بدون المقسم، كالحويان المقسم إلى الأبيض والأسود، وصدق الحيوان بدون الأبيض؛ والأبيض بدون الحيوان.

الفصل العاشر في ضبط أبواب أصول الفقه

الفصل العاشر في ضبط أبواب أصول الفقه قد عرفت أن أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه وكيفية الاستدلال بها وكيفية حال المستدل بها أما الطرق فإما أن تكون عقلية أو سمعية أما العقلية فلا مجال لها عندنا في الأحكام لما بينا أنها لا تثبت إلا بالشرع وأما عند المعتزلة فلها مجال لأن حكم العقل في المنافع الإباحة وفي المضار الحظر وأما السمعية فإما أن تكون منصوصة أو مستنبطة أما المنصوص فهو إما قول أو فعل يصدر عمن لا يجوز الخطأ عليه والذي لا يجوز الخطأ عليه هو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومجموع الأمة والصادر عن الرسول وعن الأمة إما قول أو فعل والفعل لا يدل إلا مع القول فتكون الدلالة القولية مقدمة على الدلالة الفعلية والدلالة القولية إما أن يكون النظر في ذاتها وهي الأوامر والنواهي وإما في عوارضها إما بحسب متعلقاتها وهي العموم والخصوص أو بحسب كيفية دلالتها وهي المجمل والمبين والنظر في الذات مقدم على النظر في العوارض فلا جرم باب الأمر والنهي مقدم على باب العموم والخصوص.

ثم النظر في العموم والخصوص نظر في متعلق الأمر والنهي والنظر في المجمل والمبين نظر في كيفية تعلق الأمر والنهي بتلك المتعلقات ومتعلق الشيء متقدم على النسبة العارضة بين الشيء وبين متعلقه فلا جرم قدمنا باب العموم والخصوص على باب المجمل والمبين وبعد الفراغ منه لا بد من باب الأفعال ثم هذه الدلائل قد ترد تارة لإثبات الحكم وأخرى لرفعه فلا بد من باب النسخ وإنما قدمناه على باب الإجماع والقياس لأن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به وكذا القياس ثم ذكرنا بعده باب الإجماع ثم هذه الأقوال والأفعال قد يحتاج إلى التمسك بها من لم يشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أهل الإجماع فلا تصل إليه هذه الأدلة إلا بالنقل فلا بد من البحث عن النقل الذي يفيد العلم والنقل الذي يفيد الظن وهو باب الأخبار فهذه جملة أبواب أصول الفقه بحسب الدلائل المنصوصة ولما كان التمسك بالمنصوصات إنما يمكن بواسطة اللغات فلا بد من تقديم باب اللغات على الكل وأما الدليل المستنبط فهو القياس فهذه أبواب طرق الفقه وأما باب كيفية الاستدلال بها فهو باب التراجيح وأما باب كيفية حال المستدل بها فالذي ينزل حكم الله تعالى به إن كان

عالما فلا بد له من الاجتهاد وهو باب شرائط الاجتهاد وأحكام المجتهدين وإن كان عاميا فلا بد له من الاستفتاء وهو باب المفتي والمستفتي ثم نختم الأبواب بذكر أمور اختلف المجتهدون في كونها طرقا إلى الأحكام الشرعية فهذه أبواب أصول الفقه أولها اللغات وثانيها الأمر والنهي وثالثها العموم والخصوص ورابعها المجمل والمبين وخامسها الأفعال وسادسها الناسخ والمنسوخ وسابعها الإجماع وثامنها الأخبار وتاسعها القياس وعاشرها التراجيح وحادي عشرها الاجتهاد وثاني عشرها الاستفتاء وثالث عشرها الأمور التي اختلف المجتهدون في أنها هل هي طرق للأحكام الشرعية أم لا حكم تعلم أصول الفقه ولنختم هذا الفصل بذكر بحثين الأول أن تحصيل هذا العلم فرض والدليل عليه أن معرفة حكم الله تعالى في الوقائع النازلة بالمكلفين واجبة ولا طريق إلى تحصيلها إلا بهذا العلم وما لا يتأدى الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب وإنما قلنا إن معرفة حكم الله تعالى واجبة للإجماع على أن المكلف غير مخير بين النفي والإثبات في الوقائع النازلة بل لله تعالى في كل واقعة أو في أكثر الوقائع أحكام معينة على المكلف.

شرح القرافي

وإنما قلنا إنه لا طريق إلى معرفة حكم الله تعالى إلا بهذا العلم لأن المكلف إما أن يكون عاميا أو لا يكون فإن كان عاميا ففرضه السؤال لقوله فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون لكن لا بد من انتهاء السائلين إلى عالم وإلا لزم الدور أو التسلسل وعلى جميع التقادير فحكم الله تعالى لا يصير معلوما وإن كان عالما فالعالم لا يمكنه أن يعرف حكم الله تعالى إلا بطريق لانعقاد الإجماع على أن الحكم بمجرد التشهي غير جائز ولا معنى لأصول الفقه إلا تلك الطرق فثبت أنه لا سبيل إلى معرفة حكم الله تعالى إلا بأصول الفقه وأما بيان أن ما لا يتأدى الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف كان واجبا فسيأتي تقريره في باب الأمر إن شاء الله تعالى البحث الثاني: أنه من فروض الكفايات لأنا سنقيم الدلالة إن شاء الله تعالى في باب المفتي والمستفتي على أنه لا يجب على الناس بأسرهم طلب الأحكام بالدلائل المفصلة بل يجوز الاستفتاء وذلك يدل على أن تحصيل هذا العلم ليس من فروض الأعيان بل من فروض الكفايات والله تعالى أعلم بالصواب. قال القرافي: قوله "والفعل لا يدل إلا مع القول ". يريد بالقول نحو قوله تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه " ونحوه، فلولا ذلك لم يكن دليلا علينا، ولا لنا حجة بصورة الفعل. قوله:"الدلالة القولية إما أن يكون النظر في ذواتها، وهي الأوامر

والنواهي، أو عوارضها بحسب متعلقاتها، وهيا لعموم والخصوص، أو بحسب كيفية دلالتها، وهي المجمل والمبين " عليه أسئلة ثلاثة: الاول: أنه جعل مورد التقسيم الدلالة، والدلالة لا يقال لها: أمر، ولا نهي، بل الذي هو أمر ونهي الأدلة الا الدلالة، فإن الأدلة هي الأفاظ والدلالة إشعارها بمدولاتها. الثاني: قوله: إن كان النظر في ذاتها، فهي الأوامر والنواهي يتخيل في ذلك نحو قوله تعالى: ((فاقتلوا المشركين)) فإن الدليل الاول بالذات هو قوله: "اقتلوا" وهو متعلق بعموم المشركين، وهذا لا يتم به المقصود، لأن الذوات ليس المقصود بها ذات اللفظة من حيث هي لفظة، فإن الألفاظ بما تدل بالوضع لا بالذات، وكما أن الأمر يدل بالذات، فصيغة العموم، وجميع الصيغ تدل بالوضع، فلا فرق. فإن قلت: العموم لا يكون دليلا يفيد حكما شرعيا، بلا يقع إلا متعلق الدليل، وكلامه ليس في الألفاظ من حيث هي ألفاظ، بل في الأدلة الشرعية. قلت: قد يكون الديل في نفس العموم مثل قوله تعال: "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" فإنه ديل على تحريم النفاق بما فيه من الوعيد، وليس ثم أمر ولا نهي، وقوله تعالى: "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه)) الآية، يدل بعموم صيغة ((ما)) على عموم الحل في جميع الذي الي أوحي من غير أمر ولا نهي، وقوله تعالى ((خلقك لكم ما في الأرض جميعا)) يدل بعمومه على الإباحة، وذلك كثير، فيست الأدلة الشرعية منحصرة في الأمر والنهي. الثالث: على قوله: ((كيفية دلالتها وهو المجمل والمبين)).

يرد عليه أن المجمل هو عديم الدلالة، وإذا عدمت الدلالة امتنع اتصافها بالكيفية، لأن الكيفية صفة، والصفة متعذرة عند عدم الموصوف، والعدم لا يسمى كيفية. قوله: ((والنظر في العلموم والخصوص نظر في متعلق الأمر والنهي)). قلت: قد تقدم أن العموم نفسه قد يكون دليلا شرعاي، ولا يكون متعلق الأمر والنهي. قوله: النظر في المجمل والمبين نظر في كفيية الأمر والنيه، مع أنه جعل المجمل والمبين نظرا في كيفية الدلالة، فيلزم أن تكون دلالة الأمر هي نفس الأمر، ودلالة الأمر غيره، لأنها كيفية بينه وبين مدلوله، فيتنافر قوله بسبب ذلك. قوله: "تأخر الإجماع والقسا عن السنخ؛ لا، هما لا ينسخان ". معانه: أن السنخ إنما ورد بعد الأوامر والنواهي والأفعال، لأنها ترد لرفع الحكم وثبوته، فالنسخ عارض من عوارضها يحسن ذكره بعدهما؛ لأن عارض الشيء متأخر عنه، ولما لم يكن النسخ يدخل في هذين لم يكن عارضا لهما فلم يذكر بعدهما، فهذا وجه تأخيرهما عن النسخ، ويرد عليه أنه ذكر في "باب النسخ" أن القياس يتصور فيه النسخ. وقوله: "وما لايتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب " يحترز بقوله: "المطلق" عن الواجب الذي قيد في أصل التكليف به بوجود سبب، أو شرط، أو انتفاء مانع؛ فإن أسباب التكليف وشروطه، وانتفاء موانعه لا تجب إجماعا، فلا يجب تحصيل ملك النصاب لتجب الزكاة، ولا الإقامة ليجب الصوم، ولا دفع الدين لتجب الزكاة، إنما اختلف العلماء فيما

((سؤال)) قال النقشواني: لايصح قوله: إن الفعل لا يدرك إلا بالقول

يتوقف عليه إيقاع الملكف به على الوجه المعتبر، بعد تقرر التكليف يفرق بين قول السيد لعبده: إن نصبت السلم فاصعد السطح، وبين قوله: اصعد السطح، ولم يذكر شيئا آخر، فيجب عليه النصب في الثاني دون الأول. وقوله: لله تعالى في كل واقعة أو في أكثرها حكم معين حسن الترديد، باق لا ختلاف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: لا تخلو واقعة من حكمن، ومنهم من قال: تخلوا، ومثلوا ذلك بالمتوسط مزرعة لغيره إن قعد فيها أفسد أو خرج منها أفسد، فهل يرتفع الحكم الشرعي عنه لتعذره؟ إذ يقال: حرم الله تعالى البقاء ترجيحا بالاستصحب، حكاه الغزالي في "المستصفى"، وكذلك إذا سقط في بشر على صبية، إن بقى قتل بعضهم، وإن انتقل قبل بعضهم، ومن هذه النظائر، فهذا سبب ترديده بصيغة "أو". ((سؤال)) قال النَّقْشّوَانِيُّ: لايصح قوله: إن الفعل لا يدرك إلا بالقول؛ فإن الأفعال قد تستقل بالدلالة إما في حق الله تعالى كما يدل فعله على صفات التأثير، وإبقائه على العلم، وإما في حق رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ، فلأنه عليه السلام، إذا قام وترك التشهد دل على عدم وجوبه، وإن مسح بعض راسه دل على عدم وجوب جميعه، وإن صلى الوتر على الراحلة دل على عدم وجوبه، ونظائره كثيرة. جوابه: أما في حق الله تعالى فلا يرد؛ لأنه لم تبق داللاة الفعل مطلقا، بل باعتبار الأحكام الشرعية، وأما في حق رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ فلأن الدلالة في تلك الصور لم تكن من الفعل، بل من الترك؛ لأن الترك يدل على عدم وجوب المتروك، فما استدللنا إلا بعدم الرجوع إلى التشهد، وعدم الاستيعاب في الرأس، وعدم التوجه إلى الكعبة والنزول إلى الأرض. فإن قلت: الترك كما يدل على عدم الوجوب، فالفعل يدل على عدم التحريم، فكلاهما دال، فلا نخلص عن السؤال.

((تنبيه)) هذا الفصل بينه في كتاب "المعتمد"

قلت: الدلالة في الموضعين إنما جاءت من جهة أنه صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ معصوم، والمعصوم لا يتصور منه فعل المحرم، ولا ترك الواجب، وأدلة العصمة سمعية، فما دل الفعل إلا بالقول فاندفع السؤال عن الفعل والترك. فإن قلت: استوى الفعل والقول في أنهما لا يدلان على الأحكام الشرعية بذاتيهما، بل لابد للقول من الوضع، ولا بد للفعل من القول، فكلاهما محتاج لغيره، فلم يجعل أحدهما مقدما على الآخر هاهنا، وفي باب التعارض والترجيح. قلت: مسّلم أن كليهما مفتقر إلى غيره، لكن القول لا يحتاج للفعل، بل الوضع، والفعل يحتاج للقول، ثم النزاع، والنظر هاهنا إنما هو في كون الفعل دالا على حكم علينا لا على حكم عليه، وعلى كونه يدل على عدم الوجوب، والترك يدل على عدم التحريم، إنما ذلك بالنسبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يرد سؤالا علينا. ((تنبيه)) هذا الفصل بينه في كتاب "المعتمد"، لكن بلفظ أقرب من هذا للصواب، فقال: ينبغي أن ينظر فائدة الخطاب في نفسه، ثم يتكلم في شمول تلك الفائدة وخصوصها، وإجمالها، وتفصيلها، فيتقدم الأمر على النهي، لتقدم الإثبات على النفي، ثم يقدم الخصوص والعموم على المجمل والمبين؛ لأن الكلام في الظاهر أولى من الخفي، ويقدم المجمل والمبين على الأفعال؛ لأنهما من قبيل الخطاب، وتقدم الأفعال على النسخ؛ لأن النسخ يدخل الأفعال ويقع بها كالخصاب، ويقدم النسخ على الإجماع؛ لأن الخطاب مثبت الإجماع، ويقدم الإجماع على القياس؛ لأنه طريق صحة

القياس، وتقدم هذه الأبواب على المفتي، لأنه إنما يفتي بعد هذه الأبواب، هذا كلام حسن، وقال نحوه في شرح كتاب ((العمد))، وفي ((المعتمد)) أحسن تلخيصا، لأنه صنعه بعده لنفسه، وذلك شرح ((للعمد)) التي هي كلام القاضي شيخه.

الكلام في اللغات

الكلام في اللغات وفيه تسعة أبواب الباب الأول في الأحكام الكلية للغات قال الرزاي: اعلم أن البحث إما أن يقع عن ماهية الكلام أو عن كيفية دلالته ولما كانت دلالته وضعية فالبحث إما أن يقع عن الواضع أو عن الموضوع أو عن الموضوع له أو عن الطريق الذي به يعرف الوضع. قال القرافي: الكلام في اللغات: وهي جمع لغة، ولغة القوم: هي ما اصطلحوا عليه من الألفاظ في المقاصد مفردا أو مركبا، وأصل هذه المادة من الطبع، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: ((إذا قلت لصاحبك، والإمام يخطب: أنصت فقد لغوت)).

أي: أتيت بكلام بعيد عن الصلاح، وقال الله تعالى: "ولا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما " أي: كلاما لا منفعة فيه. ومنه قول الشاعر [الوافر]: ويهلك بينها المرئي لغوا ... كما ألغيت في الدية الحوارا أي: الحوار لا يعتد به في إبل الدية.

ولما كانت للألفاظ أصوات تخرج من لافم كأنه يلقيها، ويطرحها، ولذلك سمى الكالم لفظا من قولهم: لفظ البحر كذا إذا طرحه، فكأن الفم يطرح الحروف والأصوات.

النظر الأول في البحث عن ماهية الكلام

النظر الأول في البحث عن ماهية الكلام اعلم أن لفظة الكلام عند المحققين منا تقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس وعلى الأصوات المتقطعة المسموعة. والمعنى الأول مما لا حاجة في أصول الفقه إلى البحث عنه إنما الذي نتكلم فيه القسم الثاني فقال أبو الحسين الكلام هو المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة المتواضع عليها وربما زيد فيه فقيل إذا صدر عن قادر واحد. أما قولنا المنتظم فاعلم أنه حقيقة في الأجسام لأن النظام هو التأليف وذلك لا يتحقق إلا في الأجسام ولكن الأصوات المتوالية على السمع شبهت بها فأطلق لفظ المولف والمنتظم عليه مجازا. وقولنا من الحروف احترزنا به عن الحرف الواحد فإن أهل اللغة قالوا أقل الكلام حرفان إما ظاهرا وإما في الأصل كقولنا ق، ش، ع، فإنه كان في الأصل قي وشي وعي ولهذا يرجع في التثنية إليه فيقال قيا عيا إلا أنه أسقط الياء للتخفيف. وقولنا المسموعة احتراز عن حروف الكتابة وقولنا المتميزة احتراز عن أصوات كثير من الطيور وقولنا المتواضع عليها احتراز عن المهملات. وقولنا إذا صدر عن قادر واحد احتراز عما إذا صدر كل واحد من

حروف الكلمة عن قادر آخر نحو أن يتكلم أحدهم بالنون من نصر والثاني بالصاد والثالث بالراء فإن ذلك لا يسمى كلاما. واعلم أن هذا الحد يقتضي أمرين: أحدهما: كون الكلمة المفردة كلاما وهو قول الأصوليين. والنحاة أجمعوا على فساد ذلك وقالوا إن لفظ الكلام مخصوص بالجملة المفيدة ونقلوا أيضا فيه نصا عن سيبويه وقول أهل اللغة في المباحث اللغوية راجح على قول غيرهم. الثاني: أن قوله أقل الكلام حرفان إما ظاهرا أو في الأصل يشكل بلام التمليك وباء الالصاق وفاء التعقيب فإنها أنواع الحرف الذي هو قسيم الاسم وكل حرف كلمة وكل كلمة كلام مع أنها غير مركبة. فإن قلت الحركة في الحقيقة حرف فإذا ضمت الحركة إلى الحرف كان المجموع مركبا. قلت هذا على بعده لو قبلناه بقي الإشكال بالياء من غلامي ونون التنوين ولام التعريف فإنها حروف مفردة خالية عن الحركات وهي مفيدة. فالأولى أن نساعد أهل النحو ونقول كل منطوق به دل بالاصطلاح على معنى فهو كلمة. فهذا يتناول الحرف الخالي عن الحركة والحرف المتحرك والمركب من الحروف. وأما الكلام فهو الجملة المفيدة وهي إما الجملة الاسمية كقولنا زيد

شرح القرافي

قائم أو الفعلية كقولنا قام زيد وإما مركب من جملتين وهي الشرطية كقولك إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود. قال ابن جني: الكلام يخرج عن كونه كلاما تارة بالنقصان وتارة بالزيادة: أما بالنقصان فإذا قلت قام زيد ثم أسقطت اسم زيد واقتصرت على مجرد قولك قام لم يبق كلاما. وأما بالزيادة فإنك إذا أدخلت على تلك الجملة صيغة الشرط حتى صارت هكذا إن قام زيد فإنه لأجل هذه الزيادة خرج عن كونه كلاما لأنه لا يكون مفيدا ما لم يضم اليه غيره. قال القرافي: قوله: لفظ الكلام مشترك بين الأصوات والكلام النفساني فيه ثلاثة مذاهب: قيل: حقيقة في اللساني، لأنه المتبادر للفهم عند قولنا: تكلم فلان، أو لم يتكلم، وقيل: في النفساني كقول الأخطل [الكامل]: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا وقل: هو مشترك بينهما، وهو المشهور كما حكاه، وكذلك إمام

الحرمين جمعا بين المدركين، وهذا الخلاف ليس خاصا بلفظ الكلام، بل وكل ما يتعلق به من الأمر والنهي، والخبر والتصديق، والتكذيب ونحو ذلك من عوارض الكلام. وقوله: ((والمعنى الاول يعني النفساني لا حاجة في أضول الفقه للبحث عنه)). معناه: لا حاجة في البحث عن إثباته، وإلا فلا بد منتتصوره حتى يعتقد أن اللفظ موضوع للطلب النفساني، وأن أصول الفقه كله إنما هو أدلة الأحكام كلها من الكلام النفساني، فلا بد من تصوره في جميع هذه المدارك لكن التصديق به إنما يستفاد من علم أصول الدين. قوله: ((وقولنا: من الحروف احترزنا به عن الحرف الواحد)) لا يستقيم؛ لأن الحرف الواحد يصدق عليه أنه من الحروف، بل إنما يستقيم الإحتراز بقوله: المنتظم فإن الانتظام في الحرف الواحد محال أو بغير عبارته، ويقول: هو الحروف المنتظمة. وأما إذا قال: المنتظم من الحروف حصل الإحتراز بالمنتظم لا بقوله من الحروف، ثم استشهاده بقول العرب: ((قِ عِ شِ)) يبطل كلامه، فإن الحروف الأصلية لم ينطق بها، وما لم ينطق به كيف يوصف بأنه منتظم مع المسموع؟ بل ينبغي له على هذا التقدير أن يقول: المنتظم من الحروف إلى آخره، ثم يزيد في الحد ظاهرا أو في الأصل، وقول العرب: وأصله وقَى يقي

حذفت الواو من أوله في المضارع لوقوعها بين ياء وكشرة، وحذفت الياء من آخره علامة الجزم بالأمر، فبقيت القاف وحدها، وكذلك وشي يشي، ووعي يعي من الوعي، ولاوشي الذي هو لارونق، ووشي الثوب علمه، ومنه الواشي؛ لأنه يزين الكلام عند من يشى إليه، ووعى من الوعي، وهو الضبط، ومنه وعيت كلامك إذا فهمته جيدا، وكذلك "فِ) من الوفاء، و"لِ" من الولاء، ومنه قول الحاة في ألغازهم [الوافر]: أقول لِخالدًا يا عمرو لما ... علت نابي السيوف المرهفات فيظهر للسامع في لِ زيدا أنه حرف جر ونصب به فيشكل، ويفهم من قولهم: بالسيوف جارا ومرفوعا، وإنما مرادهم أنه أمر عمرا أن يلى زيدا في صف القتال أي: يكون بجنبه لما علت ناب هذا القائل السيوف أي علت رأسه، وهو كثير في الأفعال المعتلة الأول والآخر، وإنما رجعت الياء في تثنية الفاعل، فقيل: عيا وليا؛ لأن الياء إنما حذفت ليكون حذفها علامة للوقف، فإذا حصلت تثنية الفاعل صار علامة الوقف حذف النون، لأنها علامة الجزم في خمسة أمثلة: تفعلان، ويفعلان، وتفعلون، ويفعلون وتفعلين، وأصل عيا عيان، وكذلك بقيتها. وقوله: "سقطت الياء للتخفيف" عبارة فيها بعد عن اصطلاح النحاة، فإن ما حذفه مقصود للدلاة على الجزم والنصب أول لغيره لا يقال فيه: تخفيف، إنما يقال: حذف للتخفيف إذا حذف الشيء لا لمقصد يخصه، كما حذف التنوين ولانون من اسم الفاعل إذا أضيف لما فيه لام التعريف، نحو: زيد ضارب عمرو غدا، أو الزيدون ضاربو عمرو غدا. وقوهل: "قولنا: المتميزة احترازا عن كثير من أصوات الطيور" لا يتم؛ لأن الطير إنما يفسر الحروف كما يحكي عن "الدرة " وغيرها، أو لا

يفسرها، كما يقال عن الهدهد، يقول في صياحه: كذا سبب، والقمري يقول في صياحه: اذكروا ربكم، وغير ذلك. والأول لا حاجة للاحتراز عنه، فإنه عند العرب متكلم، ونطقه كلام، وأجزاؤه حروف ز والقسم الثاني: لا يصدق أنه نطق بحرف، بل السامع يتوهم في ذلك المسموع أمورا يمكن أن تفسر بحروف لا أنها حروف، ولا يتناولها لفظ الحروف لغة، فلا يحتاج إلى إخراجها بهذا القيد، فيكون هذا القيد حشوا لا يليق بالحدود. وقوله: وقولنا: ((المتواضع عليها)) احترازا من المهلمات في غاية الإشكالات، لأن هذا القيد يخرج الكالم كله من حد الكالم، وذلك أن العرب وضعت "قاف"مثلا للحرف الأول من قال، و"ألفا" للثاني منه، و"لاما" للثالث منه، وكذلك بقية حروف ألف، باؤ، تاء، ثاء، الثمانية والعشرون. قال صاحب "الكشاف": ومن حكمة هذه المواضع أنهم جعلوا مسمى كل اسم في أوله إلا الأل ما أمكن جعله في اول اسمه، لأنه ساكن، والإبتداء بالساكن متعذر، فعوضوه بما يشاكله وهو الهمزة، وقال: ليست مركبة من قاف وألف ولام وإلا كان قال: تسعة أحرف، فإن كل واحد منها ثلاثة أحرف وإنما ركبت العرب "قال" من مسميات هذه الأحرف لا منها، فظهر حينئذ أن الكلام كله إنما هو مركب من مسميات الحروف، وتلك المسيمات لم تضع العرب واحدا منها لشيء بل المجموع. قال: هو الموضوع، أما كل حرف منه فلا، فحينئذ الكلام إنما هو مركب

من الحروف المهلمة لا من الموضوعة، فخرج جيمع الكلام عن حد الكلام، فيبطل الحد ضورة لاشتراطه الوضع وعدم الإهمال والواقع الإهمال، فإن قلت: أحمل وقله: المهملة علىنها أهملت أن توضع لها لا أنها أهملت أن توضع في نفسها، ولا شك أن الحروف منها ما وضع لها كما تقدم، ومنها ما لم يوضع له كالحرف المركب من الباء والفاء في انحو: أغرافيا الذي عرفه الناس، وقالوا: جغرافيا، والمركب من الجيم والشين في نحو: نفشواني، فصيرت السين جيما كما صيرت الفاء في المثال الأول باء ونحو ذلك، وقد انتهت أوضاع العرب كما حكاه الزمخشري في "المفصل" وغيره إلى نيف وثلاثين حرفا وضعت لها، منها مشهور في الإستعمال وهو الثمانية والعشرون، ومنها قليل الاستتعمال نحو: التي بين القاف والكاف، وهو مبسط في كتب النحو. وأخبر بعض المؤرخين أن بعض الطوائف لا يتكلمون إلا بتسعة أحرف فيقولون: خل أخمر بالخاء فيهما، ويسقطون الحاء المهملة، وعلى هذه الطريقة يستقيم كلامه. قلت: المتبادر إلى الفهم من المهملة هو أنها لم توضع، وإرادة مثل هذا في الحد إلغار، وتحديد بما لا يفهم فلا يجوز، سلمنا أنه لا يخفي وأنه يتبادر للفهم، لكن لا نسلم أن تلك الحروف ما وضع لها، بل وضعوا للفاء في المثال الأول باء مشربا فاء، ووضعوا جيما في المثال الثاني مشربا سين، وبالجملة فهذا الموضوع - كما ترى - عويص. قوله: "وقولنا: إذا صدرت عن قادر واحد احتززنا عن صدور كل حرف من قادر))، يرد عليه أن هذا يمنع أن يسمى منتظما، بل هو مفترق، فقد خرج بقيد الإنتظام، ثم اشتراط القادر يصير الحد غير جامع؛ فإن القادر لا يتصور [إلا] في حي له إرادة وقدرة، والكلام قد يحصل من

الجماد، فإن الأصوات والحروف لا يشترط فيها الحياة، فإنها رياح تنضغط في مجار، وهذا المفهوم يتأتي في الجماد. وقد أخبرت عن القاضي الفاضل وزير الملك الناصرصلاح الدين، أنه جاءه رجل فقال له: عندنا صنم يتكلم، فذه ب إلأيه معه، فوجد صنما من رخام أحمر قد أتى عليه الرمل إلا رأسه وهو ساكت. فقال له الفاضل: ما له لا يتكلم؟ فقال له: تريد ذلك؟ فقال: نعم، فوضع الرجل إصبعه على ثقب في وسط رأسه، ولاريح يخرج نمه خروجا شديدا، فمنع الريح من الخروج حتى تغمر باطن الصنم به، ثم فتح ذلك الثقب، فشرع الريح يخرج، وجعل الصنم يقول: هاتان المدينتان كانتا لشداد وشديد ابني عاد، ماتا وصارا إلى التراب، من ذا الذي يبقى على الحدثان؟ وطول في الحدثان تطويلا شديدا حتى فرغ الريح من جوفه، ثم أعاد سد ذلك الثقب، فأعاد القول بعينه مرارا، وهو لا يزيد على ذلك، ولا ينقص، وسر ذلك أن الكلام أصله الريح، الذي هو النفس، فإذا ضغطه الإنسان حدث الصوت منغير حرف، فإن قطع ذلك الصوت في مقطع مخصوص حدث الحرف المناسب لذلك المقطع، فصار الصوت عارضا للنفس، والحرف عارا للصوت، لكن يشترط في المجري ملوسة خاصة وصقال خاص، فإن تغيير بطل الكلام، ألا ترى أن الإنسان إذ خشن حلقه

بكثرة الصياح اقنطع كلامه، أو بكثرة الرطوبة كما في النزلات الباردة انقطع كلامه أيضا، فمن استطاع أن يصننع مجرى على هذه الصورة تأتي له أن يتحيل على هذا الكلام من الجماد، فعامل هذا الصنم صنع هذا المجرى، وسطل عليه الريح من مكان ينزل منه، ويخرج من رأس هذا اصنم، وإذا سد الثقب انبعث الهواء في ذلك المجرى المصنوع، فإذا فتح الثقب شرع الهواء يخرج من ذلك المجرى، ويتقطع في مقاطع وضعت لفيه، فتحدث حروف في تلك المقاطع، فوضع في ذلك الصنم مقاطع حروف تلك الكلمات فقط. وكذلك بلغني أن الملك الكامل وضع له شمعدان، كلما ضمى من الليل ساعة انفتح باب منه، وخرج منه شخص يقف في خدمة السلطان، فإذا انقضت عشر ساعات طلع شخص على أعلى الشمعدان وقال: صبح الله السلطان بالسعادة، فيعلم أن الفجر قد طلع، وعملت أن هذا الشمعدان وزدت فيه أن الشمعة يتغير لونها في كل ساعة، وفيه أسد تتغير عيناه من السواد الشديد إلى البياض الشديد، ثم إلى الحُمرة الشديدة في كل ساعة لهما لون، فيعرف التنبيه في كل ساعة، وتسقط حصاتان من طائرين، ويدخل شخص، ويخرج شخص غيره، ويغلق باب ويفتح باب، وإذا طلع الفجر طلع شخص على أعلى الشمعدان وإصبعه في أذنه يشير إلى الأذان،

غير أني عجزت عن صنعة الكلام، وصنعت أيضا صورة حيوان يمشي ويلتفت يمينا وشمالا ويصفر ولا يتكلم. وبالجملة فاتفق القلاء على أن الأصوات لا تفتقر للحياة، وإذا نطق الجماد بالكالم فهو كلام عند العرب، ولم يندرج في الحد. قوله: " واعلم أن هذا يقتضي أن [تكون] الكلمة المفردة كلاما " ممنوع بل بعض ما هو كلمة كلام، فإن من جملة الكلمات حروف المعاني البسيطة نحو: كاف التشبيه، ولام التمليك، ونحوهما، غير مندرج في حده، لأنه اشترط تعدد الحروف. قوله: "أجمع الأصوليون على فساده، وقالوا: الكالم الجملة المفيدة، ونقلوا فيه نصا عن سيبويه، وقول أهل اللغة في المباحث اللغوية مقدم على غيرهم ". هذا الكلام يشعر بأن التفسيرين أريد بهما الكلام اللغوي لقوله في المباحث اللغوية: ورأيت أكثر من رأيته من فضلاء النحاة يقول: إن قول النحاة: إن الكلام هو الجملة المفيدة، هو حده في الإصطلاح لا في اللغة، وعلى هذا لا تيجه كلامه أن قولهم مقدم، لانه لا تعارض حينئذ؛ فإن أحدهما لغوي والآخر اصطلاحي، ولا يتجه قوله: إن النحاة أجمعوا على فساده، فإن القوم حينئذ اصطلحوا لأنفسهم، ولم يتعرضوا لفساد اللغوي ألبتة، وبعض النحاة يقول: التفسيران للمسمى اللغوي، وكذلك حكاه ابن بُرهان في كتاب "الاوسط ". قال أبو البقاء القولين عن اللغوي، وحكى أن غير لمفيد سمي كلاما

عن شرذمة قليلة من النحاة، ويحتج لذلك أن الكلام مشتق من الكلام بكسر الكاف التي هي الجراح، ووجه الاشتقاق أن الجراح منها ضار كالجراح المفسدة، ونافع كالفصاد عند الحاجة، وكذلك الكالم المفيد منه نافع سار، ومنه مؤذ ضار، وهو احتجاج حسن، وهو على هذا يتجه كلام المصنف اتجاها قويا. وأعجبني قول القائل في هذا الاشتقاق [الطويل]: دع الكبر واجنح للتواضع تستمل حِباب منيع الود صعب مرامه وداو بلين ما جرحت بغلظة وطيب كلام المرء طب كلامه فجمع بين الكلام والكلام والطيب والطب. وقوله: " إن حده يبطل بلام التمليك، وياء الإضافة، ونحوها " ممنوع فإنه ما التزم أن كل كلمة كام، بل تعرض لحد الكلام فقط، فكل ما تناوله حده يلزمه أن يسمى كلاما ومالا فلا، والحروف البسيطة لم يتناولها حده لاشتراطه العدد في الحروف، فلا يندرج. وقوله: " فإن قلت: الحركة في الحقيقة حرف". هذا السؤال له مستند من جهة اللغة، فإن النحاة قد قالوا: إن الثلاثي الساكن الوسط ينصرف، والثلاثي المحرك الوسط نحو سقر لا ينصرف لقيام

حركة وسطه مقام الحرف الرابع، وكذلك نصوا عليه في فروع في باب النسب، ثم جوابه عن هذا السؤال مندفع بما تقدم في تحقيق الحد. وقوله: "كل منطوق به دال بالإصطلاح على معنى ". فكلامه يقتضي إندراج الكلام في حد الكلمة؛ لأن الجملة المفيدة منطوق به دل بالإصطلاح على معنى، وورود هذا السؤال يتوقف على تحرير قاعدة تأتي إن شاء الله في باب المجاز المركب: هل هو عقلي أم لا؟، وهي أن العرب هل وضعت المركبات كما وضعت المفردات وهو الحق أم لا ظ فعلى تقدير عدم وضعها المركبات يندفع السؤال؛ لأن لكلام حينئذ ما دل بالإصطلاح. وقوله: "بالإصطلاح" احتراز عن المهملات، فإنها تدل بالعقل على أن الناطق بها جسم وممكن إلى غير ذلك، ولا تسمى كلمة؛ لأن المهمل لا يصد عيله أنه اسم، ولا فعل، ولا حرف، وما سلب عنه الثلاثة لاي كون كلمة في اصطلاحهم، لحصرهم الكلمة في الأقسام الثلاثة، بل يجري ذلك مجرى الأصوات. وقوله: " وأما الكلام فهو الجملة المفيدة " عليه سؤالان: السؤال الأول: أنه لم يذكر الإصطلاح، فيرد عليه المهملات؛ فإنها جملة مفيدة كما تقدم، وليست كلاما. السؤال الثاني: أن الجملة تصدق على الكلمة، لأنها جملة حروف، وهي غير مفيدة تصورها مسماها، فتندرج الكلمة في حد الكلام، كما اندرج الكلام في حد الكلمة. فإن قلت: الجملة في اصطلاح النحاة لا تدصق على الكلمة، وهو يتكلم

فوائد: اشتقاق الاسم

على أنه من جملة النحاة، فلا يرد السؤال؛ لأن اصطلاحهم فيا لجلمة أنها إنما تكون في الكلام المفيد. قلت: الجملة عند النحاة أخص من الكلام؛ فإن الكلام قد يكون بجمل كثيرة، وقد يكون بجملة واحدة، والحد إنما جعل للجاهل، والجاهل بالأعم أولى أن يجهل الأخص، فتحديد الأعم بالأخص لا يصح. قوله: "الجملة إما اسمية أو فعلية " ضابط الاسمية عند النحاة: ما كانت من مبتدأ، وخبر نحو: زيد قائم، والفعلية: ما كانت من فعل وفاعل نحو: قام زيد، فإن جاء خبر المبتدأ فعلا نحو: زيد يقوم. قال أبو علي: هي ذات وجهين باعتبار المبتدأ هي اسمية، وباعتبار خبره هي فعلية. وقوله: أو مركب من جملتين، وهي الشرطية يشكل بالقسم والمقسم عليه، فإنه مركب من جملتين، وليس شرطا، فيكون حده غير جامع. ((فائدة)) الاسم مشتق من السمو على رأي البصريين، أو من السمة على رأي الكوفيين، والفعل الصناعي يسمى فعلا، لأنه دال على المصدر الذي هو فعل حقيقي لغة، والحرف في اللغة هو الطرف، وكل حرف يمكن أن يقع آخر كلمة فسمى حرفا؛ ولأنه لا يخبر به ولا يخبر عنه، فكان متأخرا في الرتبة عن الاسم والفعل، ومنه الرجل المحارف -بكسر الراء- وهوا لدنيء الأخلاق، كأنه في طرف السعادة لم يحز منها شيئا، ومنه سميت الصنائع حرفا؛ لأنها في طرف الرزق، إنما هي للقوت لا للغني. ((تنبيه)) قال سراجُ الدِّينِ: النداء جملة مفيدة؛ وفي كونها من الأقسام فيه بحث. تقريره: انا إذا قلنا: يا زيد اختلف فيه، فقيل: الإفادة حصلت بحرف النداء، والاسم المنادى خاصة، فعلى هذا لاتكون هذه الجملة من الأقسام.

((فائدة)) قال سيف الدين: أكثر الأصوليين على ما نقله ((المحصول)) عن أبي الحسين من حد الكلام

وقيل: الفعل مقدر تقديره: أنادي زيدا، فعلى هذا التقدير يكون من الأقسام الثلاثة، ورود عليه أن الفعل لو كان مضمرا تقديره: أنادى زيدا لدخله التصديق والتكذيب، ولا يدخلان، فلا يكون الفعل مقدرا. أجاب المرِّد عن هذا السؤال بأن الجملة الفعلية قد تخرج عن الخبر إلى الإنشاء، فلا تحتمل التصديق والتكذيب، نحو بعت واشتريت، ومنه جملة القسم لا يحتملها لكونها إنشاء، ولذلك قال النحاة في حد القسم: إنه جملة إنشائية مؤكدة لجملة أخرى، فهذا ما أشار إليه من البحث. ((فائدة)) قال سيف الدين: أكثر الأصوليين على ما نقله ((المحصول)) عن أبي الحسين من حد الكلام قال: ومنهم من قال: الكلمة الواحدة لا تسمى كلاما، واختلفوا إذا اجتمعت كلمات غير مفيدة نحو: زيد لا كلما، فقال بعضهم: هو كلام، لأن آحاد كلماته وضعت للدالة، ومنهم من منع، والنزاع في هذه الصورة يرجع للاصطلاح الخارج عن وضع اللغة في إطلاق اسم الكلام. ((تنبيه)) ليس من شرط الجملة المفيدة التي حدها النحاة الكلام أن تكون أجزاؤها

((تنبيه)) قوله: الجملة الاسمية ما كانت من مبتدأ وخبر

موضوعة، بل تصح من المهمل بأحد جزءيه نحو: ديز مهمل، وبجزءيه معا نحو "خنفشار شيصبان " وهاتانا الكلمتان مبتدأ وخير على قاعدة قول العرب: أبويسف أبو حنيفة. أي: هو مثله في الفقه، ونحوه زيد زهير شعرا، وحاتمجودا، وعلي شجاعة، وكذلك خنفشار منزل منلزة شيصبان في الإهمال. ((تنبيه)) قوله: الجملة الاسمية ما كانت من مبتدأ وخبر، يقتضي أن المبتدأ لا يكون إلا اسما، وليس كذلك، بل قد يكون اسما كما تقدم، وفعلا نحو: قام فعل ماضٍ، فإن رفع "فعل ماض" إنما هو بخبر الإبتداء، وقام ليس اسما، وإلا لكذب قولنا: "إنه فعل ماص" لأنه يستحيل أن يكون شيء من الأسماء فعلا ماضيا، وقد يكون المبتدأ حرفا نحو: ثم حرف عطف، فرفع حرف عطف على خبر الإبتداء، والمبتدأ ثم، وليست اسما وإلا لكذب

((تنبيه)) قال أبو الحسين في المعتمد: ليس من شرط الكلام أن يكون من حرفين

قولنا: إنه حرف عطف، فإنه لا شيء من الأسماء حرف عطف، ويكون المبتدأ لفظا ليس اسما، ولا فعلا، ولاحرفا في نحو: ديز مهمل، فرفع مهمل على خبر الإبتداء، وليس اسما ولا فعلا ولا حرفا، فإن ما لم يوضع لا يوصف بانه اسم ولا فعل ولا حرف، فحينئذ المبتدأ أعم منا لجميع، فلا يشترط في المبتدأ أن يكون اسما، وتكون الجملة جملة، وليس فيها اسم ولا فعل ولاحرف، وهو يبطل ما تقدم من الحصر الذي ذكره المُصَنَّف. ((تنبيه)) قال أبو الحسين في المعتمد: ليس من شرط الكلام أن يكون من حرفين اصطلح على وضعهما، بل أهل اللغة قسموا الكلام إلى المهمل والمستعمل، فجعلوا المهلم كلاما، قال: ويحتمل أنهم سموا المهمل كلاما مجازا، ويكون الوضع شرطا. قال القاضي عبدالوهاب في الملخص: اختلف في المهمل، والأصوات المنظومة، والحروف المؤلفة هل تسمى كلاما أم لا؟ والمهمل هو الذي لم يوضع لشيء ألبتة، وحجة اشتراط الوضع أنهم لا يسمون اللفظ الذي لا يفيد المعنى المراد به كلاما، وإن كان موضوعا، لأنه لم يفد المقصود منه، فالمهمل أولا، ولا تسمى أصوات الطيور كلاما، وإن كان فيها حروف بني آدم نفسها.

النظر الثاني في البحث عن الواضع

النظر الثاني في البحث عن الواضع كون اللفظ مفيدا للمعنى إما أن يكون لذاته أو بالوضع سواء كان الوضع من الله تعالى أو من الناس أو بعضه من الله تعالى وبعضه من الناس فهذه احتمالات أربعة الأول مذهب عباد بن سليمان الصيمري والثاني وهو القول بالتوقيف مذهب الأشعري وابن فورك والثالث وهو القول بالاصطلاح مذهب أبي هاشم وأتباعه والرابع هو القول بأن بعضه توقيفي وبعضه اصطلاحي وفيه قولان منهم من قال ابتداء اللغات يقع بالاصطلاح والباقي لا يمتنع أن يحصل بالتوقيف ومنهم من عكس الأمر وقال القدر الضروري الذي يقع به الاصطلاحي توقيفي والباقي اصطلاحي وهو قول الأستاذ أبي إسحاق وأما جمهور المحققين فقد اعترفوا بجواز هذه الأقسام وتوقفوا عن الجزم والذي يدل على فساد قول عباد بن سليمان أن دلالة الألفاظ لو كانت ذاتية لما اختلفت باختلاف النواحي والأمم ولاهتدى كل انسان إلى كل لغة وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.

واحتج عباد بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه ما لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر من غير مرجح وهو محال وإن حصلت بينهما مناسبة فذلك هو المطلوب. والجواب: إن كان الواضع هو الله تعالى كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين كتخصيص وجود العالم بوقت مقدر دون ما قبله أو ما بعده وان كان الناس فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ في ذلك الوقت بالبال دون غيره كما قلنا في تخصيص كل شخص بعلم خاص من غير أن يكون بينهما مناسبة. وأما الذي يدل على إمكان الأقسام الثلاثة فهو أن الله تعالى قادر على أن يخلق فيهم علما ضروريا بالألفاظ والمعاني وبأن واضعا وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني وعلى هذا التقدير تكون اللغات توقيفية. وأيضا: فيصح من الواحد منهم أن يضع لفظا لمعنى ثم إنه يعرف الغير ذلك الوضع بالايماء والاشارة ويساعده الآخر عليه ولهذا قيل لو جمع جمع من الأطفال في دار بحيث لا يسمعون شيئا من اللغات فاذا بلغوا الكبر لا بد وأن يحدثوا فيما بينهم لغة يخاطب بها بعضهم بعضا وبهذا الطريق يتعلم الطفل اللغة من أبويه ويعرف الأخرس غيره ما في ضميره. فثبت إمكان كونها اصطلاحية، واذا ثبت جواز القسمين ثبت جواز القسم الثالث وهو أن يكون البعض توقيفيا والبعض اصطلاحيا.

ولما كنا لا نجزم بأحد هذه الثلاثة فذلك يكفي فيه الطعن في طرق القاطعين. احتج القائلون بالتوقيف بالمنقول والمعقول. أما المنقول فمن ثلاثة أوجه: أحدهما قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها دل هذا على أن الأسماء توقيفية واذا ثبت ذلك في الأسماء ثبت أيضا في الأفعال والحروف من ثلاثة أوجه: الأول أنه لا قائل بالفرق. والثاني أن التكلم بالأسماء وحدها متعذر فلا بد مع تعليم الأسماء من تعليم الأفعال والحروف. والثالث أن الاسم إنما سمي اسما لكونه علامة على مسماه والأفعال والحروف كذلك فهي اسماء أيضا وأما تخصيص لفظ الاسم ببعض الأقسام فهذا عرف أهل اللغة والنحو. وثانيها: أن الله تعالى ذم أقواما على تسميتهم بعض الأشياء من غير توقيف؛ بقوله تعالى " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان" فلو لم يكن ما جعل دالا على غيرها من الاسماء توقيفا لما صح هذا الذم. وثالثها قوله تعالى: "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم " ولا يجوز أن يكون المراد منه اختلاف

تأليفات الألسنة وتركيباتها لأن ذلك في غير الألسن أبلغ وأجمل فلا يكون تخصيص الألسن بالذكر مرادا فبقي أن يكون المراد اختلاف اللغات. وأما المعقول فمن وجهين: أحدهما أن الاصطلاح إنما يكون بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره وذلك لا يعرف إلا بطريق كالألفاظ والكتابة. وكيفما كان فإن ذلك الطريق لا يفيد لذاته فهو إما بالاصطلاح فيكون الكلام فيه كما في الأول ويلزم التسلسل أو بالتوقيف وهو المطلوب. وثانيها أنها لو كانت بالمواضعة لارتفع الأمان عن الشرع لأنها لعلها على خلاف ما اعتقدناها لأن اللغات قد تبدلت. فان قلت لو وقع ذلك لاشتهر، قلت هذا مبني على أن الواقعة العظيمة يجب اشتهارها وذلك ينتقض بسائر معجزات الرسول وبأمر الاقامة أنها فرادى أو مثناة. أما القائلون بالاصطلاح فقد تمسكوا بالنص والمعقول: أما النص فقوله تعالى "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه" فهذا يقتضي تقدم اللغة على بعثة الرسول فلو كانت اللغة توقيفية والتوقيف لا يحصل إلا بالبعثة لزم الدور وهو محال. وأما المعقول فهو أنها لو كانت توقيفية لكان إما أن يقال إنه تعالى يخلق العلم الضروري بأنه تعالى وضعها لتلك المعاني أو لا يكون كذلك.

والأول لا يخلو إما ان يقال إنه تعالى يخلق ذلك العلم في العاقل أو في غير عاقل: وباطل أن يخلقه تعالى في عاقل لأن العلم بأنه تعالى وضع تلك اللفظة لذلك المعنى يتضمن العلم به تعالى فلو كان ذلك العلم ضروريا لكان العلم به تعالى ضروريا لأن العلم بصفة الشيء متى كان ضروريا كان العلم بذاته أولى أن يكون ضروريا ولو كان العلم به تعالى ضروريا لبطل التكليف لكن ذلك باطل لما ثبت أن كل عاقل فإنه يجب أن يكون مكلفا. وباطل أن يخلقه في العاقل لأنه من البعيد أن يصير الانسان غير العاقل عالما بهذه اللغات العجيبة والتركيبات النادرة اللطيفة. وأما الثاني؛ وهو أن لا يخلق الله تعالى العلم الضروري بوضع تلك الألفاظ لتلك المعاني فحينئذ لا يعلم سامعها كونها موضوعة لتلك المعاني إلى بطريق آخر، والكلام فيه كالكلام في الأول فيلزم إما التسلسل وإما الانتهاء إلى الاصطلاح. هذا ملخص ما عول عليه ابن متويه في "التذكرة". واحتج الأستاذ أبو اسحاق على قوله: بأن الاصطلاح لا يصح إلا بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره فإن عرفه بأمر آخر اصطلاحي لزم التسلسل، فثبت أنه لا بد في أول الأمر من التوقيف ثم بعد ذلك لا يمتنع أن تحدث لغات كثيرة بسبب الاصطلاح بل ذلك معلوم بالضرورة ألا ترى أن

الناس يحدثون في كل زمان ألفاظا ما كانوا يستعملونها قبل ذلك؟! فهذا مجموع أدلة الجازمين. والجواب عن التمسك بقوله تعالى "وعلم آدم الأسماء كلها " أن نقول لم لا يجوز أن يكون المراد من التعليم أنه تعالى ألهمه الاحتياج إلى هذه الألفاظ وأعطاه من العلوم ما لأجلها قدر على هذا الوضع. وليس لأحد أن يقول التعليم ايجاد العلم بل التعليم فعل صالح لأن يترتب عليه حصول العلم ولذلك يقال علمته فلم يتعلم ولو كان التعليم ايجاد العلم لما صح ذلك. سلمنا أن التعليم ايجاد العلم ولكن العلم الذي يكتسبه العبد مخلوق لله تعالى فالعلم الذي يحصل بعد الاصطلاح بكون من خلق الله تعالى فقوله تعالى "وعلم "ولا ينافي كونه بالاصطلاح. سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون المراد من الأسماء العلامات والصفات مثل أن يقال إنه تعالى علم آدم عليه السلام أن الخيل تصلح للكر والفر والجمال للحمل والثيران للزرع وذلك لأن الاسم مشتق من السمة أو من السمو وعلى التقديرين فكل ما يعرف عن ماهية شيء ويكشف عن حقيقته كان اسما له وأما تخصيص لفظ الاسم بهذه الألفاظ فهذا عرف حادث. سلمنا أن المراد من الأسماء الألفاظ فلم لا يجوز ان يقال إنها كانت

موضوعة بالاصطلاح من خلق خلقه الله تعالى قبل آدم عليه السلام فعلمه الله ما تواضع عليه غيره؟ وعن الثاني: أنهم إنما استحقوا الذم لاطلاقهم لفظ الإله على الصنم؛ مع اعتقاد تحقق مسمى الإلهية فيها. وعن الثالث: أن اللسان اسم للجارحة المخصوصة وهي غير مرادة بالاجماع فلا بد من المجاز فليسوا بصرفه إلى اللغات أولى منا بصرفه إلى القدرة على اللغات أو إلى مخارج اللغات. وعن الرابع: أنه باطل بتعلم الولد اللغة من والديه فإن ذلك ليس مسبوقا بالتوقيف. سلمنا أنه لا بد قبل الاصطلاح من لغة أخرى ليصطلحوا بها على تلك اللغة الثانية فلم لا يجوز أن تكون هذه اللغات التي نتكلم بها الآن توقيفية لاحتمال أن يقال: كان قبل هذه اللغات لغة أخرى وأنها كانت توقيفية ثم إن الناس بتلك اللغة اصطلحوا على وضع هذه اللغات؟ فإن قلت: إذا كان لا بد من الاعتراف بلغة توقيفية فلنعترف بكون هذه اللغات توقيفية ولنسقط من البين تلك الواسطة المجهولة، قلت كلامنا في الجزم وما ذكرته ليس من الجزم في شيء. وعن الخامس: أنه لو وقع التغيير في هذه اللغة لاشتهر، ونقضه بمعجزات الرسول وأن الإقامة فرادى أو مثناة فسيجيء الجواب عنه في باب الأخبار إن شاء الله تعالى.

شرح القرافي

أما الذي احتج به القائلون بالاصطلاح فالجواب عما تمسكوا به أولا: أن الحجة إنما تتم، لو لم يحصل التوقيف إلا ببعثة الرسل وذلك ممنوع. وعن الثاني: أنه تعالى خلق فيهم علما ضروريا بأن واضعا وضع هذه الألفاظ بازاء تلك المعاني وإن كان لا يخلق فيهم العلم بأن ذلك الواضع هو الله تعالى، سلمنا أنه تعالى يخلق فيهم العلم بأن ذلك الواضع هو الله تعالى فلم قلت إنه باطل؟! قوله لأنه ينافي التكليف: قلنا: إنه ينافي التكليف بمعرفة الله تعالى ولا ينافي التكليف بسائر الأشياء. سلمنا أنه لا يخلقه في العاقل فلم لا يخلقه في غير العاقل ولم لا يجوز في المجنون أن يعلم بالعلم الضروري بعض الأحكام الدقيقة؟! فهذا هو الجواب عن وجوه القاطعين، ومتى ظهر ضعفها وجب التوقف والله أعلم. قال القرافي كفائدة: قال ابن حزم: اللغات أصلها لغة واحدة، وإنما

اختلفت باختلاف البلاد، والتعبيرات في الإستعمال، فالسريانية أصل العربية والعبرانية، وأول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام، فهي لغة ولده، والعبرانية لغة إسحاق عليه السلام، ولغة ولده، والسريانية كانت لغة إبراهيم عليه السلام. قوله: "عباد بن سليمان الصيمري " وقع في النسخ الصيمري، والصيميري، فالأول منسوب إلى صيمر ضيعة في آخر عراق العجم، وأول عراق العرب قريب من ادينور، والصحيح فتح الميم. وقيل بضمها صيمري. والثاني منسوب إلى "ضمرة" قبيلة من العرب، والذي وجدته في التواريخ هو الأول بالصاد المهملة والميم لا بالضاد المعجمة. قالوا: وكان عباد من المعتزلة حتى كان بعض الملوك يقصد الإجتماع به، وهو يمتنع، فوجده يوما في الطريق فقال له: سل مني حاجة، فقال له: ألا أراك بعدها. وقال بعض المؤرخين: سلمان بغير ياء، وأن سليمان خطأ. وقال المرزباني في كتابه ((تاريخ المتكلمين)): سلمان ويغره نقله كذلك

بغير ياء، ولم أره في جميع ما رأيته من نسخ "المحصول" وغيره من كتب الاصول إلا بالباء باثنين من تحتها، قالوا: وكنيته أبوسهل. والأشعري منسوب إلى أبي موسى الأشعري، وأبو موسى من الأشعريين قبيلة منسوبة إلى "أشعر" من قدماء الجاهلية، مسيت ذريته به، ذكره ابن إسحاق في "السيرة". وابن فورك عند المحدثين بضم الفاء، وهوأفصح، وهومن العلماء الجلة في المعقول والمنقول. ومذهب عبَّاد في هذه المسألة هل هو قسيم لمذاهب الجماعة معه حتى لا يشترط الوضع أصلا وهو صعب؟ فإن أهل كل لغة يتكلمون في كل معنى

بلفظ غير اللفظ الذي يتكلم به غيرها، ويبعد بعدا شديدا أن هذه الألفاظ اختصت بهذه المسميات من غير واضع، بل طارت مثل العصافير وارتشقت في هذه المسميات، بل الذي يقتضيه حال مذهبه أنه فرع على مذهب من يعتقد أن الحروف مشتملة على الحرارة ولابرودة والرطوبة واليبوسة والخواص الغريبة، وتصلح للمداوة من الأمراض كالعقاقير، ولدفع السموم كالترياقات، وتحدث الأمراض العظيمة إذا استعمل حارها المحررون، وباردها المبرودون، وغير ذلك مما نسبوه لها من الطعوم والخواص العجيبة مما هو مسطور في كبهم مبسوط، فعلى هذا يقول عباد: الواضع حكيم فيضع لكل مسمى من الألفاظ ما يناسبه في مزاجه وتركيبه في كل لغة، وهذا عساه يقرب من العقل. وأما الاستغناء عن الوضع بالكلية فصعب التصور، وعلى هذا يكون الواضع هو الله تعالى، أو غيره على الخلاف، فيكون قسما مما معه من المذاهب لا قسيما لها، وكلام المُصَنَّف محتمل لجميع ذلك، فإنه إنما قسم الإفادة، والإفادة قد تكون بالذات من غير وضع، كدلاله السواد على الجسم، والعلم على الحياة، وقد يكون بالوضع كاللغات، ويحكى عن بعضهم أنه كان يدعى أنه يعلم المسميات من الأسماء مع الجهل بالوضع، فقيل له: ما تقول في قولنا: ادعاع بالبربية هو اسم أي شيء؟ فقال: أجد فيه يبسا شديدا وأراه اسم الحجر، وهو كذلك عند البربر. وقوله: " إن دلالة الألفاظ لو كانت ذاتية لما اختلفت باختلاف النواحي ولا اهتدي كل أحد إلى لغة " لا يتم، فإن الشيء إذا كان يقتضي الشيء لذاته قد يكون ذلك الإقتضاء ضروريا كاقتضاء السيف القطع بما فيه من الحدة، وقد يكون نظريا كاقتضاء ماء الهِنْدِبَا تفيتح سدد الكبد، فإنه لا يطلع على

حقيقته إلا الأطباء، وقد لا يكون ضروريا ولا نظريا كاقتضاء المغنطيس جر الحديد، فإن الفرق بينه وبين سائر الأحجار لا يمكن العقل أن يهتدي إليه بالنظر. وإذا تقرر أن الإقتضاء الذاتي أعم من كل واحد من الثلاثة، فجاز أن يكون من قبيل النظر الدقيق الذي لا يعرفه إلا بعض الفضلاء المطلعون على أسار الحروف، ومناسبات الكلام، أو من قبيل ما لا يهتدي إليه بالعقل أبتة، فلا يلزم أن يهتدي كل أحد إلى معرفة كل اللغات، بل ذلك للعالم بتلك الأسرار فقط، وإنما يلزم ذلك أن لو كان ذلك الإقتضاء ضروريا كمضادة السواد البياض، فغن كل آدمي يعل ذلك؛ لأنه ضروري. وقول عباد: ((لو لم يكن بين الأسماء، والمسميات مناسبة لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجحيا من غير مرجح)) عليه سؤالان: الأول: أن المناسبة إن أريد بها مناسبة ضرورية أو نظرية، لم يلزم من عدمها الترجحي من غير مرجح؛ لجواز وقوع مرجح بمناسبة من القسم الثالث، وهو الذي لا يهتدي إليه العقل ألبتة. وإن أراد بها مناسبة غير ضرورية، ولا نظرية فمن أين اهتدى هو إليها حتى

يدعيها؟ فإن ما هذا شأنه إنما يعرف بجريان العادة بظهور آثار خاصة، كما في المغنطيس، ولو ظهرت آثار خاصة لشاركناه نحن فيها، كما اشترك الناس كلهم في معرفة خاصية المغنطيس، وعلموا أن ثم معنى اختص به دون غيره. الثاني: لا نسلم أنه يلزم من عدم مطلق المناسبة الترجيح من غير مجرح؛ لجوازم أن يكون المرجح خطور هذا الاسم بالبال دون غيره، أو أنه خطر بالبال مع غيره، والإرادة عينت أحدهما للوضع دون الآخر، كما أن الله - تعالى - بكل شيء عليم، وخصص كل جزء من أجزاء العالم بزمان وحالة وهيئة دون غيرها مما هو قابل لجمعيها؛ لأن الإرادة شأنها لذاتها ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير احتياجها إلى مرجح ألبتة، وهذه خاصيتها لذاتها قديمة كانت أو حادثة، كما أن العلم خاصيت لذاته الكشف كان قديما أو حادثا، من غير مرجح يرجح له ذلك، أو يكون المرجح غير الإرادة بأن يستحضر الواضع لاأسماء، ويقول: إن كان أول شيء أراه من جهة المشرق كذا سميته بكذا دون غيره، كما حكى ذلك عن العرب أنها كانت تسمي باسم أول شيء يطلع عليها، ولذلك سمت بثعلبة وكليب وعجل وأسد ونحوها من الوحوش، أو يقول: أحد الأمرين لازم إما فساد كلام الإمام، أو كلام عباد؛ لأن عباد إن أراد مطلق المناسبة بطل كلام الإمام لما تقدم، وإن أراد مناسبة خاصة بطل كلام عباد ز وقله: " لو جمع أطفال بحيث لا يسمعون شيئا حتى يكبروا حدثت بينهم لغة " قال بعضهم: إذا كانوا معتدلي الأمزجة، والأخلاق، والخلق كانت تلك اللغة هي السريانية؛ لأنها اللغة الطبيعية، وإن بعضها يظهر في ألسينة الأطفال عند بدء نشوئهم. وقوله: " التكلم بالأسماء وحدها متعذر " إنما يدل أن لو كان المقصود

تعليم آدم الأسماء لتستقل بها مقاصده، وهذا ما دل عليه دليل، لا الآية ولا غيرها، فلعله علمه الأسماء وحدها ووكل الأفعال والحروف للاصطلاح، وبعد ذلك يقدر على التكلم. وقوله: (التكلم بها متعذر) إما ألا نسلمه لصحة التكلم بقولنا: زيد قائم، ونحوه من كل جملة اسمية، وهي لا تحصى عددا، أو نسلمه، ونمنع أنه مقصود في التلعيلم المذكور في الآية. فإن قلت: الوضع كما كان في المفردات كان في المركبات، ونسبة المفرد إلى المعنى المفرد كنسبة اللفظ المركب إلى المعنى المركب، فالأسماء يندرج فيها الجيمع، لأنها تسمو بالمفردات والمركبات من حضيض الجهل إلى يقين العلم. قلت: لا نسلم أن الوضع وقع في المركبات، فإنه مختلف فيه، سلمناه لكن لفظ الاسم ظاهر في المفرد دون المركب. قوله: وقوله تعالى: ((ومن آيات خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم)) وجه الدليل منه أنه تعالى جعله من جملة آياته المضافة إليه فتختض به. ويرد عليه أن النحاة قالوا: العرب تكتفي بالإضافة بأدنى ملابسة فنقول: طلع كوطب زيد، إذا كان يسافر عند طلوعه، ونحو ذلك، فيكفي في صحة الإضافة إلى الله تعالى، كونه خلق من يضعها إن كان المراد هو اللغات. وقوله: ينتقض بمعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وتكون الإقامة مثنى، وفرادى ووعد بالجواب عنه، من أحسن ما قيل فيه: أن الأمة

..................................................................

اكتفت بالقرآن عن سائر المعجزات، فلذلك لم يشتهر غيره، وأن الإفراد وغيره وقع في الإقامة، فلذلك نقل الجميع ووقع الخلاف لاختلاف النقل. وقوله: ((لو كانت اللغة توقيفية لزم الدور)). مراده لزم الدور في ذلك الرسول الذي يأتي للخلق بتعليم اللغات وحده، دون غيره من الرسل، لأن الآية اقتضت كما قال تقدم اللغة على البعثة، فتكون اللغة متقدمة على بعثة الرسول، وبعثته منتقدمة على اللغة، لأنه معلمها، فيلزم الدور، وأما غيره من الرسل فلم يقصده، وإنما استفيد من عموم الآية كل رسول حتى يندرج ذلك الرسول في الحكم، ثم الآية ليس فيها ما يقتضي التقدم، فإن الباء لم يقل أحد: إنها للتقدم، بل الذي يصح منها هاهنا: إما السببية نحو سعدت بطاعة الله تعالى، أو المصاحبة نحو: خرج زيد بثيابه، أي: مصاحبا لها، وعلى التقديرين لا يلزم الدور. أما السببية: فيكون الرسول جاء بسبب تعليمهم اللغة، فتكون اللغة متأخرة عن البعثة على التقديرين فلا دور. أما على تقدير المصاحبة: فتكون اللغة مقارنة للبعثة مع أن التقدير الآخر يقتضي تقدم البعثة فيلزم محال آخر، وهو مقارنة المتقدم لا الدور، وإنما حسن استدلاله في هذه الآية أن المفهوم من السياق تقدم اللغة على البعثة، وبدليل قوله بعد ذلك: ((ليبين لهم)) أي: أرسلناه إليهم بلغتهم ليقع منه البيان لهم بغير كلفة.

((فائدة)) قال المازري: فائدة الخلاف في هذه المسألة تظهر في جواز قلب اللغة

((فائدة)) قال المازري: فائدة الخلاف في هذه المسألة تظهر في جواز قلب اللغة، فأما ما يتعلق بالأحكام الشرعية التي مستندها الألفاظ، فمتى غيرت اختلطت الأحكام وفسد النظام، فهذا الاختلاف في تحريم قلبه، لأجل ما يؤى إليه لا لأجل نفسه، وما لا تعلق له بالشرع، فقال بعضهم: إن قالنا: إن اللغة توقيقة امتنع تغييرها، فلا يسمى الثور فرسا، والفرس دارا، والقائلون بالاصطلاح لا يمنعون ذلك، وعلى القول بتجويز الأمرين فجوز بعضهم التغيير كالقول بالاصطلاح، ومنعه أو عثمان الصابوني، لاحتمال التوقيف، وأن الله - تعالى - أوجب على السامعين ألا ينطقوا إلا بالموضوع الرباني، وقال: هو بعيد. وقال الغزالي في كتاب ((النكاح)) في ((البسيط)): إذا أظهر في الصداق ألفين، وعبروا بهذا اللفظ عن ألف في الباطن، فخرج جواز ذلك على كون اللغة توقيفية أو اصطلاحية. ((فائدة)) قوله الذي اعتمد عليه ابن متوتة يقال: متويه، وهو الأصل مثل

سيبويه ونفطويه وعمرويه وحمويه مركب من اسم وصوت، وغير أن المحدثين كرهوا النطق ب ((ويه))، لأن كلام فيه حزم وإشعار بمكروه، فقالوا: متوته بالتاء باثنتين من فوقها، وعليه إشكال أن التاء لم تكن في أصل الاسم، فكان ينبغي أن يقولوا: متويه بالهاء المفتوحة، ولا يغيروه، وجوابه أن اللفظ العجمي شأن العرب التلاعب به وتغييره، وهذا نوع آخر من التغيير، فلا نخطيء المحدثين. وقله: (التعليم فعل صالح للعلم لا إيجاد العلم). يرد عليه أن أصل علّم بالتشديد علم بالتخفيف، ثم تعدى بالتشديد، أو بالهمزة إلى مفعول آخر، ولاأصل في التعيدة أني بقى معنى الأصل، والأصل في قولنا: علم بالتخفيف وجود العلم، فلذلك علم وأعلم، أي: حصل لغيره العلم، وإذا كان هذا خبرا عن وجود العلم وخبر الله - تعالى -

((فائدة)) قال سيف الدين: ذهب أراب علم التكسير، وبعض المعتزلة إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها لمناسبة

يجب أن يكون صدقا، فيكون اللعم وجب لآدم جزما، ويبعد حمله على الإلهام. وأما قوله: علمته فما تعلم، هذا لفظ فيه قرينة تصرف اللفظ عن حقيقته، بقوله: فما تعلم، والأصل في الآية أن يكون لفظها حقيقة لا مجازا. قوله: ((عرفه أن الخيل تصلح للكر والفر، وكل ما يعرف ماهيته كان اسما)). قلنا: يقال: سما بها فهو سامٍ على وزن اسم الفاعل، أما اسم على وزن فعل فممنوع، والذي في الآية صيغة أسماء جمع اسم لا جمع سام. وقوله: ((إن الحجة إنما تتم لو لم يحصل التوقيف إلا ببعثة الرسل وهو ممنوع)). تقريره: أن يجوز أن يخلق الله - تعالى - علما ضروريا للخلق بأن واضعا وضع هذه اللغات من غير بعثة. ((فائدة)) قال سيف الدين: ذهب أراب علم التكسير، وبعض المعتزلة إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها لمناسبة طبيعية بين اللفظ ومعناه، ويريد بأرباب علم التكسير أهل العلم الرياضي من الهندسة، وفنون الحساب، والمساحة، وبعض المعتزلة: ((عباد)) قال: ولا وجه للمناسبة؛ لأنا نعلم بالضرورة أن الواضع لو وضع لفظ الوجود ابتداء للعدم، ولفظ العدم للوجود لما امتنع، كما قد وضع لظف الجوز للأبيض، وضده، وهو الأسود، ولااسم الواحد لا يكون بطبعه مناسبا للضدين، بل المخصص هو إرادة الواضع،

والوضع اختياري، واتفقوا على أن وضع الأعلام تكفي فيه الإرادة، وهذا الكلام يشعر بأن المناسبة التي أراد عباد اعتبرها الواضع كما تقدم، لا أنها كافية، فلا يكون مذهب عباد قسما، بل هو داخل في أحد تلك المذاهب كما تقدم، ويبقى مذهبه هو هو مبني على أن الواضع هو الله - تعالى - أو الخلق أو البعض؟ يحتمل جميع ذلك، ويفتقر إلى نقل، وما تيسر لي تحقيقه مع كثرة ما جمعت لهذا الشرح من التصانيف الأصولية.

النظر الثالث في البحث عن الموضوع

النظر الثالث في البحث عن الموضوع اعلم أن الانسان الواحد لما خلق بحيث لا يمكنه أن يستقل وحده باصلاح جميع ما يحتاج إليه فلا بد من جمع عظيم ليعين بعضهم بعضا حتى يتم لكل واحد منهم ما يحتاج إليه ف احتاج كل واحد منهم إلى أن يعرف صاحبه ما في نفسه من الحاجات. وذلك التعريف لا بد فيه من طريق وكان يمكنهم أن يضعوا غير الكلام معرفا لما في الضمير كالحركات المخصوصة بالأعضاء المخصوصة معرفات لأصناف الماهيات إلا أنهم وجدوا جعل الأصوات المتقطعة طريقا إلى ذلك أولى من غيرها لوجوه: أحدها: أن ادخال الصوت في الوجود أسهل من غيره؛ لأن الصوت إنما يتولد في كيفية مخصوصة في اخراج النفس وذلك أمر ضروري فصرف ذلك الأمر الضروري إلى وجه ينتفع به انتفاعا كليا أولى من تكلف طريق آخر قد يشق على الانسان الإتيان به. وثانيها أن الصوت كما يدخل في الوجود ينقضي فيكون موجودا حال الحاجة ومعدوما حال الاستغناء عنه وأما سائر الأمور فإنها قد تبقى وربما يقف عليها من لايراد وقوفه عليها.

شرح القرافي

وأما الإشارة فإنها قاصرة عن إفادة الغرض فإن الشيء ربما كان بحيث لا يمكن الاشارة إليه حسا كذات الله تعالى وصفاته. وأما المعدومات فتعذر الاشارة إليها ظاهر. وأما الأشياء ذوات الجهات فكذلك أيضا لأن الاشارة إذا توجهت إلى محل فيه لون وطعم وحركة لم يكن انصرافها إلى بعضها أولى من البعض. وثالثها أن المعاني التي يحتاج إلى التعبير عنها كثيرة جدا فلو وضعنا لكل واحد منها خاصة لكثرت العلامات بحيث يعسر ضبطها أو وقوع الاشتراك في أكثر المدلولات وذلك مما يخل بالتفهيم. فلهذه الأسباب وغيرها اتفقوا على اتخاذ الأصوات المتقطعة معرفات للمعاني لا غير. قال القرافي: النظر الثالث في البحث عن الموضوع: اعلم أنّ الإنسان الواحد لما خلق بحيث لا يمكنه أني ستقل وحده بغصلاح جميع ما يحتاج إليه، فاحتاج كل واحد منهم إلى أن يعرف صاحبه مافي نفسه من الحاجات. وذلك الترعيف لا بد فيه من طريق، وكان يمكنهم أن يضعوا غير الكلام معرفا لما في الضمير كالحركات المخصوصة بالأعضاء المخصوصة معرفات لأصناف الماهيات إلا أنهم وجدوا جعل الأصوات المتقطعة طريقا إلى ذلك أولى من غيرها لوجوده: أحدها: أن إدخال الصوت في الوجود أسهل من غيره، لأن الصوت إنما يتولد في كيفية مخصوصة في إخراج النفس؛ وذلك أمر ضروري، فعرف

ذلك الأمر الضروري إلى وجه ينتفع به انتفاعا كليا أولى من تكلفة طريق آخر، قد يشق على الإنسان الإتيان به. وثانيها: أن الصوت كما يدخل في الوجود ينقضي فيكون موجودا حال الحاجة، ومعدوما حال الاستغناء عنه، وأما سائر الأمور فإنها قد تبقى، وربما يقف عليها من لا يراد وقوفه عليها، وأما الإشارة فإنها قاصرة عن إفادة الغرض، فإن الشيء ربما بحيث لا يمكن الإشارة إليها ظاهر، وأما الأشياء ذوات الجهات فكذلك أيضا، لأن الإشارة إذا توجهت إلى حل فيه لون، وطعم، وحركم لم يكن انصرافها إلى بعضها أولى من البعض. وثالثها: أن المعاني التي يحتاج إلى التعبير عنها كثيرة جدا، فلو وضعنا لكل واحد منها علامة خاصة لكثرت العلامات بحيث يعسر ضبطها، أو وقوع الإشتراط في أكثر المدلولات [وذلك مما يخل بالتفهيم].

النظر الرابع في البحث عن الموضوع له

النظر الرابع في البحث عن الموضوع له وفيه أبحاث أربعة الأول الأقرب أنه لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ يدل عليه بل ولا يجوز لأن المعاني التي يمكن أن يعقل كل واحد منها غير متناهية فلو وجب أن يكون لكل معنى لفظ يدل عليه لكان ذلك إما على الانفراد أو على الاشتراك والأول باطل لأنه يفضي إلى وجود ألفاظ غير متناهية. والثاني باطل أيضا لأن تلك الألفاظ المشتركة إما أن يوجد فيها ما وضع لمعان غير متناهية أو لا يكون كذلك والأول باطل لأن الوضع لا يكون إلا بعد التعقل وتعقل أمور غير متناهية على التفصيل محال في حقنا وإذا كان كذلك امتنع منا وقوع التخاطب بمثل ذلك اللفظ. والثاني يقتضي أن تكون مدلولات الألفاظ متناهية لأن الألفاظ إذا كانت متناهية ومدلول كل واحد منها متناه فضم المتناهي إلى المتناهي مرات متناهية لا يفيد إلا التناهي فكان الكل متناهيا فمجموع ما لا نهاية له غير مدلول عليه بالألفاظ. إذا ثبت هذا الأصل فنقول: المعاني على قسمين منها ما تكثر الحاجة إلى التعبير عنه ومنها ما لا يكون كذلك.

فالأول لا يجوز خلو اللغة عن وضع اللفظ بازائه لأن الحاجة لما كانت شديدة كانت الدواعي إلى التعبير عنها متوفرة والصوارف عنها زائلة ومع توفر الدواعي إلى التعبير عنها وارتفاع الصوارف يجب الفعل. وأما الأمور التي لا تشتد الحاجة إلى التعبير عنها فإنه يجوز خلو اللغة عن الألفاظ الدالة عليها. البحث الثاني: في أنها ليس الغرض من وضع اللغات أن تفاد بالألفاظ المفردة معانيها. والدليل عليه أن إفادة الألفاظ المفردة لمسمياتها موقوفة على العلم بكونها موضوعة لتلك المسميات المتوقف على العلم بتلك المسميات فلو استفيد العلم بتلك المسميات من تلك الألفاظ المفردة لزم الدور. بل الغرض من وضع الألفاظ المفردة لمسمياتها تمكين الانسان من تفهم ما يتركب من تلك المسميات بواسطة تركيب تلك الألفاظ المفردة. فان قلت: ما ذكرته في المفردات قائم بعينه في المركبات لأن المركب لا يفيد مدلوله إلا عند العلم بكون ذلك اللفظ المركب موضوعا لذلك المدلول وذلك يستدعي سبق العلم بذلك المدلول فلو استفيد العلم بذلك المدلول من ذلك اللفظ المركب لزم الدور. قلت لا نسلم أن الألفاظ المركبة لا تفيد مدلولها إلا عند العلم بكون تلك الألفاظ المركبة موضوعة لذلك المدلول. بيانه أنا متى علمنا كون كل واحد من تلك الألفاظ المفردة موضوعا لتلك

المعاني المفردة وعلمنا أيضا كون حركات تلك الألفاظ دالة على النسب المخصوصة لتلك المعاني فاذا توالت الألفاظ المفردة بحركاتها المخصوصة على السمع ارتسمت تلك المعاني المفردة مع نسبة بعضها إلى بعض في الذهن ومتى حصلت المفردات مع نسبها المخصوصة في الذهن حصل العلم بالمعاني المركبة لا محالة. فظهر أن استفادة العلم بالمعاني المركبة لا تتوقف على العلم بكون تلك الألفاظ المركبة موضوعة لها والله أعلم البحث الثالث: في أن الألفاظ ما وضعت للدلالة على الموجودات الخارجية بل وضعت للدلالة على المعاني الذهنية والدليل عليه أما في الألفاظ المفردة فلأنا إذا رأينا جسما من بعيد وظنناه صخرة سميناه بهذا الاسم فإذا دنونا منه وعرفنا أنه حيوان لكنا ظنناه طيرا سميناه به فإذا ازداد القرب وعرفنا أنه انسان سميناه به فاختلاف الأسامي عند اختلاف الصور الذهنية يدل على أن اللفظ لا دلالة له إلا عليها وأما في المركبات فلأنك إذا قلت قام زيد فهذا الكلام لا يفيد قيام زيد وإنما يفيد أنك حكمت بقيام زيد وأخبرت عنه ثم إن عرفنا أن ذلك الحكم مبرء عن الخطأ فحينئذ نستدل به على الوجود الخارجي فأما أن يكون اللفظ دالا على ما في الخارج فلا والله أعلم. البحث الرابع: في أن اللفظ المشهور المتداول بين الخاصة والعامة لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى خفي لا يعرفه إلا الخواص مثاله ما يقوله مثبتو الأحوال من المتكلمين أن الحركة معنى يوجب للذات كونه متحركاً.

شرح القرافي

فنقول المعلوم عند الجمهور ليس إلا نفس كونه متحركا فأما أن متحركيته حالة معللة بمعنى وأنها غير واقعة بالقادر فذلك لو صح القول به لما عرفه إلا الأذكياء من الناس بالدلائل الدقيقة ولفظة الحركة لفظة متداولة فيما بين الجمهور من أهل اللغة. وإذا كان كذلك امتنع أن يكون موضوعا لذلك المعنى بل لا مسمى للحركة في وضع اللغة إلا نفس كون الجسم منتقلا لا غير والله أعلم. قال القرافي: وفيه أبحاث البحث الأول: لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ إلى آخره، عليه أربعة أسئلة: الأول: على قوله: (بل ولا يجوز أن يكون لكل معنى لفظ)). قلنا: لأنه يجوز أن يكون الواضع هو الله تعالى، وعلمه متعلق بما لا يتناهى، فيعلم من الألفاظ ما لا يتناهى، فيجعل بإرادته -سبحانه وتعالى- لكل معنى لفظا في علمه من غير أن يعلم بذلك الخلق، فإذا أراد الله تعالى إفهام بعض ذلك لخلقه أعلمه بالوحي أو بعلم ضروي. الثاني: سلمنا أن الواضع هو الخلق، لكن لا نسلم الإمتناع. قوله: (المعاني التي يمكن أن يعقل كل واحد فيها غير متناهية)). قلنا: ما لا يتناهى له تفسيران: أحدهما: ما ليس له غاية ولا طرف، كقولنا: معلومات الله غير متناهية وكقول الفلاسفة: الحوادث غير متناهية من جهة الأول.

فلهذه الأسباب، وغيرها اتفقوا على اتخاذ الأصوات المتقطعة معرفات للمعاني لا غير. وثانيهما: ما له طرف وغاية، غير أنه لا يجب الوقوف عند تلك الغاية، ومنه قولنا: مقدورات الله - تعالى - غير متناهية، أي: لا غاية تصل إليها إلا ويمكن أن يوجد الله - تعالى - غيرها، ولا يجب الوقوف هنالك مع أن كل شيء توجده القدرة القديمة يجب أن يكون محصورا بين طرفين، لأن العالم حادث، وللمقدورات أول، ودائما لا بد نم الوصول إلى غاية، لكنه لا يجب الوقوف عندها، ومنه قولنا: نعيم الجنة غير متناه، أي: لا يصل إلى غاية إلا وينتقل بعدها لغيرها، وهو ذو طرفين دائما، فظهر الفرق بين المفهومين. وإن معنى قولنا: معلومات الله غير متناهية، غير قولنا: مقدوراته غير

متناهية، وإن ماله غاية جيب الوقوف عندها مثل الحياة الدنيا، ونحوها متناهٍ بالتفسيرين، وإن أحد التفسيرين، وهو ماله غاية الا يجب الوقوف عندها متناهٍ بالتفسير الآخر، وإنه يقبل أن يسمى متناهيا وغير متناهٍ، وحيئذ الأقسام ثلاثة: ما لا يقبل إلا أن يسمى متناهيا، وهو ما جيب الوقوف عند غايته كالحياة الدنيا. وما لا يقبل أن يسمى إلا غير متناه وو ما ليست له غاية، ولا طرف كالمعولمات ووجود الله - تعالى - بالنسبة إلى الأزمان والآباد والدهور. ومنه ما يقبل الأمرين كنعيم أهل الجنة والمقدورات. إذا تقرر هذا فنقول: إذا فرعنا على أن الواضع هو الله - تعالى - كانت الألفاظ والمعاني غير متناهية، بمعنى عدم الطرف والغاية، وإن المعلوم منهما في العدم غير متناه لا طرف له، وكذلك كل نوع من أنواع معلومات الله - تعالى - كأفراد الإنسان، وأفراد الطعوم، بل كل نوع من الطعوم له أفراد في العدم معلومات لله - تعالى - غير متناهية، فحينئذ على هذا التقدير هما سواء، فدعوى الفرق باطلة. وإن فرعنا على أن الواضع الخلق، فكلاهما غير متناه باعتبار أن كل متصور عمن القسمين متى وصلنا فيه إلى غاية لا يجب الوقوف عندها، بل بعدها غايات لا نهاية لها بهذا التفسير، فما من تصورات من المعاني يتصورها الإنسان كائنة ما كانت، إلا ويمكن أن يتصور بعدها أمثالها، وكذلك إذا فرضنا الحروف حرفين فقط القاف والصاد يمكن أن نتخيل قافا، وصادا، وقافا، وصادين، وقافا وثلاث صادات، ثم هلم جرا، وهذا من حرفين فقط، فكيف من ثمانية وعشرين، فالألفاظ أيضا غير متناهية بهذا

التفسير، وإن فسرنا غير المنتاهي بما لا طرف له كانا متناهين، فهما سواء على هذا التقدير، جزما فدعوى الفرق بينهما ممنوعة. وقوله: إن كان الواضع على الإنفراد أفضى إلى وجود ألفاظ غير متناهية تعين، وهو محال ممنوع. الثالث: على قوله: ((إذا توفرت الدواعي والصوارف وجب الفعل) ممنوع، لأنه فسر الدواعي بالحاجة، فإن فسر انتقاء الصوارف بالصوارف العادية، لم يتم مقصوده؛ لجواز عدم مساعدة الإرادة الربانية، وإن فسره بانتفاء الصوارف العقلية بحيث يندرج فيها الموانع العقلية، ويكون العقلد قد استجمع فاعله لكل ما لا بد له منه في إيقاع فعله فمن أين له ذلك؟ وإنه حصل في الأوضاع اللغوية في كل لفظة منه، ولعله نفي بعض المعاني ما حصلت فيها الإرادة الربانية، فهذا الوجوب غير متعين اللزوم، ثم يتأكد ذلك بما نقله جماعة من العلماء في تصانيفها من ان الفرس وضعت أسماء غير العرب، وتركتها العرب على حالتها. فمنها من الأواني: الكُوز، والإبريق، والطّست، والخِوان، والطبق، والقصعة والسُّكرُّجة.

ومنها من الملابس: السمور، والسنجاب، والقماقم، والفَنَك، والدّلق، ولاخز، والديباج، والتأختج، والوجيح، والسندس.

ومنها من الجواهر: الياقوت، والفيروزج، والبِجَاد، والبَلُّور. ومنها من المأكول: الخبز السميد، والدرمك، والجردق، والجرمازج، والكعك. ومنها من الأطبخة: السكباج، والدوغباج، والمزيرباج والبارباج

والرماج، والاسبيدباج، والدخبرباج، والطباهج، والجردابج، والروذق، والهلام، والخامير، والفالوذج، والجواذب واليزماورد، والزماورد. ومنها من الحلاوى: الفالوذج، والجوزينج، واللوزينج، والفوينج.

ومنها من الأشربة: الجلاب، والحلاب، والسكنجبين، والجلنجين، والمتة. ومنها في الافاوية: الدراصيني، والفلفل، والكراويا، والقِرفة،

والزنجبيل، والخُولنجان.

ومنها من الرياحين: النرجس، والبنفسج، والنسرين، والخيري، والسوسن، والمرزنجوش، والياسمين، والجُلَّنار.

ومنها من الطيب: المسك، والعنبر والكافور، والصندل والقرنفل.

فصل وما تكلمت به الفرس والعرب على لفظ واحد

فصل وما تكلمت به الفرس والعرب على لفظ واحد واتفقا في الموضع؛ التنور والخمير والرمان والدين والكير والدينار والدرهم.

فصل وتركت الفرس ألفاظا كثيرة وأخذتها

فصل وتركت الفرس ألفاظا كثيرة وأخذتها من العرب: الكف، والساق، والفران، والبزاز والوزان، والكيّال، والمساح، والحمال، والبياع، والصراف، والبقال، والقصاب، والبيطار، والرائض، والطراز، والخياط، والقواد، والأمير، والخليفة والوزير، والحاجب، والقاضي، وصاحب البريد والحبر، والوكيل، والسقاء والساقي، والشراب، والدخلي، والخراج، والحلال، والحرام

والبركة، والصواب، والخطأ، والغلطة، والوسوسة، والحسد، والكساد، والعارية، والنصح، والنصيحة، والصورة، والطبيعة، والند، والبخور، والغالية، والخلوف.

والكيلجة، والحبا، والحبة، والمضغة، والدراعة، والإزار، والمضربة، واللحاف، والمخدة، والنعل، والفاختة، والقمري، واللعلع، والخط، والقلم، والمداد، والحبر، والكتاب، والصندوق، والمقدمة، والسفط، والخرج،

والسفرة، واللهو، والقمار، والجفاء، والوفاء، والكرسي، والقفص، والمشجب، والدواة، والمرفع، والقنينة، والفتيلة، والأسنان، والكلبتان، والحلقة، والمنقلة، والمجمرة، والمزراق، والحربة.

والمتفلة، والدبوس، والمنجنيق، والقرادة، والركاب، والعلم، والطبل، والغاشية، والنعل، والجل، والبرقع، والشكل، والعنان، والغذاء، والحلو، والقطائف،

والقلية، والهريسة، والمزورة، والعصيدة، والفتيت، والبقل، والنطع، والطراز، والفلك، والمشرق، والمغرب، والطالبع، والشمال، والجنوب، والصبا، والدبور، والأبله،

والأحمق، والبليد، واللطيف، والظريف، والجلاد، والسياف، والعاشق، والزكاة، والحج، والمسلم، والمؤمن، والكافر، والمنافق، والفاسق، والخبيث، والإقامة، والينيم ـ والمتعة، والطلاق، والظهار، والإيلاء، والقِبلة، والمحراب، والجبت، والطاغوت،

والميسر،

والسجين، والغسلين، والضريع، والزقوم، والتسنيم،

والسلسبيل، وهاروت، وماروت،

فصل فيما أخذ من الروحية

ويأجوج ومأجوج، ومنكر، ونكير. فصل ومما أخذ من الرومية: القديس، وهو الأمير، والقراميد وهي الآجر، وأصله بالرومية القرميدي، والخندريس، والقسطاس، والميزان،

والفردوس، والبستمان، والبطاقة، رقعة فيها رقم، والمتاع، والقيان، والاصطرلاب، والقسطار، والجهبذ، والقسطل، والقبرس، أجود النحاس، والقنطار، والبطريق، والعابد، والترياق، والسموم، والقنطرة، والقيطون، وهو المبيت الشتوي، والقولنج،

وقالون معناه أصبت، وسأل علي رضي الله عنه شريحا القاضي مسألة فأصاب فقال له: قالون، أي: أصبت بالرومية. وهذه الفصول وجدتها في كتاب الخزانة الصاحبية الوزيرية الناجية، أسبغ الله ظلالها، فاستحسنتها فوضعتها هاهنا رجاء الفائدة للواقف عليها، مع ما فيها من الدلالة على أن العرب وغيرها من أهل اللغات، لم تستوعب الوضع للمعاني، فتبطل دعوى الواضع في كل ما يحتاج إليه في التخاطب. الرابع: قال التبريزي: إن كان المراد باللفظ الموضوع اللفظ الدال كان مخصوصا به أم لا، مفردا أو مركبا، فالظاهر أن أن هذا وقع، لأن الفصيح لا يعجز عن التعبير عما في نفسه، وإن كان المراد ما يدل بالمطابقة مفردا فاستيعاب الوضع لجميع المعاني غير معلوم، بدليل الحال والروائح، ولا يمكن دعوى هذا الإختصاص بغير المهم، فإن الحال مهم كالماضي في المستقبل، والحقائق الكلية شاركت الأعيان الجزئية، والألقاب في الاسم الواحد، وآحاد الروائح لا اسم لها، وهي من المهم وكذلك الألوان، فجميع ما تدعو الحاجة إليه غير موضوع له، وهذا الكلام يحتاج إلى تقرير. أحدها: أنه موضوع للحال مجاز في الاستقبال، وثانيها: العكس، وثالثها: أنه مشترك بينهما، فعلى هذا الحال موضوع له، وعلى الأولين يتجه السؤال.

وأما الروائح: فتحرير الكلام فيها أن لها أجناسا، وأجناس أجناس، وأنواعا، فالجنس العالي رائحة، وهي تنقسم إلى عطرة، ومنتنة، فتحت الجنس العالي جنسان، والعطرة تنقسم إلى رائحة عنبر، ورائحة مسلك وغيرهما، فرائحة العنبر ونحوه أنواع سافلة، والعطرة جنسها، والرائحة جنس جنسها، فوضعت العرب للجنس العالي رائحة، وللجنس المتوسط عطرة ومنتنة، واكتفوا في الأنواع السافلة بإضفاة اسم الجنس العالي للنوع. فقالوا: رائحة مسك، رائحة عنبر، ولم يضعوا له اسما يخصه. وكذلك الطعوم: الجنس العالي طعم، وتحته تسعة أجناس: الحلو والدسم، وهما قوام الأجسام، وما عدهاما إنما يستعمل للإصلاح، كذلك قاله فضلاء الأطباء، والمالح، والحريف، والمر، والحامض، والقابض، والعفص، وهو الذي في الرتبة العليا من القبض، فالقابض كالباذنجان، والعفص كالعفص، والبلوط ونحوهما ز والتاسع: وهو ما لا طعم له كقشر الجوز اليابس ونحوه، وتحت كل جنس أنواع: فالحلو تحت حلاوة العسل ولاتمر وغيرهما، فوضعت العرب للجنس العالي لفظ الطعم، ولكل واحد من الأجناس المتوسطة من الألفاظ ما تقدم ذكره، واكتفت في الأنواع بإضافة اسم الجنس العالي، أو المتوسط إلى النوع، فقالت: طعم عسل وحلاوة عسل، ولم تضع له اسما يخصه، لكن توسعت في إضافة اسم الجنس المتوسط في الطعوم أكثر من الروائح،

فلا يكادون يضيفون في الروائح إلا الجنس العالي دون الجنس المتوسط، ويضيفون المتوسط في الطعوم كثيرا فيقولون: حلاوة العسل وحموضة الليمون، وهو أكثر استعمالهم، بخلاف الروائح. وقوله: ((الحقائق الكلية شاركت الجزئية واللقب)). معناه: أن مفهوم الفرس الكلي يسمى فرسا نولذلك تقول: خطرت ببالي اليوم حقيقة فرس فتمتيتها، تريد الماهية الكلية، وتسميها فرسا، وتقول للفرس المعين الواقف في الإصطبل: إنه فرس، وتقول اللفظ: إنه فرس فتقول: فرس على وزن فعل، وهو اسم سالم من الإعتلال، فيسمى اللفظ فرسا. وبقي على التبريزي فسم آخر، وهو الخط الكتابي، فتقول: رأيت فرسا مكتوبا بالحبر أو بخط ابن البواب، فتسمي الأحرف الكتابية فرسا أيضا، وكذلك جميع الحقائق الواجبة الممكنة، يقال فيه: هذه الأربع، وكذلك قال المتكلمون: كلام الله - تعالى - قائم بذاته، محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة، ممكنون في المصاحف، فجعولوه أربعة، ولس ذلك تعدد الحقيقة، ولا لانتقالها، بل من حيث تعدد الإطلاق، وهل هو حقيقة أو مجاز؟ تحقيق في غير هذا الموطن. وقال الفضلاء: كل شيء له وجودات أربعة: وجود في الأذهان، وجود في الأعيان، ووجود في

البحث الثاني: ليس الغرض من وضع اللغات أن تفاد بالألفاظ المفردة ومعانيها

الأذهان، ووجود في البيان، ووجود في البنان، يريدون بالأخيرين النطق والخط، هذا بسط كلامه وتقريره. وعليه سؤال، وهو أن أحد الأمرين لازم، أما عدم إهمال الوضع في هذه الأمور، أو بطلان دعواه أن هذه اشتركت في الاسم؛ لأن الاسم إن كان حقيقة في الأربعة بطل إهمال الوضع، لأن العرب حينئذ وضعت لها لفظات واحدا بطريق الاشتراك، وإن لم يكن حقيقة لزم إهمال الوضع، لكن لا تشترك هذه الحقائق في الاسم، فظهر أن العرب ما استوعبت المعاني التي تحتاج إليها، بل أهملت بعضها. البحث الثاني: ليس الغرض من وضع اللغات أن تفاد بالألفاظ المفردة ومعانيها إلى آخره عليه سؤالان: الأول: مبني على قاعدة، وهي أن الوضع يوجب ملازمة ذهنية بين اللفظ، ومسماه عند العالم بالوضع، فمتى علم الوضع، وسمع اللفظ الموضوع ارتسم في ذهنه، فانتقل ذهنه لمسماه، فهذه هي الملازمة الذهنية. إذا تقررت القاعدةة فنقول: الوضع مسبوق بالتصور، وحصول العلم بذلك المعنى الذي يقصد الوضع له، فيوضع له حينئذ، ثم بعد ذلك تطرأ الغفلات على الذهن، ويذهب ذلك العلم لطريان ضده على الذهن، فإذا سمع اللفظ حالة الغفلة انتقل ذهنه للمسمى، وتصوره بسبب الملازمة التي اوجبها الوضع، فيحصل علم بالمسمى بسبب ذلك، وهذا العلم هو غير العلم السابق على الوضع، وإن كان مثله فقد أفاد الوضع للمعنى العلم به، من غير دور، لأن العلم المتوقف عليه وهو السابق على العلم المتوقف وهو اللاحق، وفلا يلزم الدور الذي قاله، وظهر أن اللفظ يفيد معناه المفرد.

((تنبيه)) زاد التبريزي فقال: أما وقوع المخبر عنه

الثاني: على قوله إذا وضع الألفاظ المفردة لتلك المعاني المفردة، ودلالة الحركات على النسب المخصوصة علمنا نسبة تلك المعاني بعضها البعض عند سماعاها. قلنا: فإنه لا معنى لوضع الألفاظ المركبة للمعاني المركبة إلا ذلك، فإنا إذا قلنا: ضرب زيد عمرا، فإن الرفع والنصب في هذا الكلام على هذا النسق دال على أن زيدا فاعل بضرب، وأن عمرا مفعوله، ولا نعني بالوضع إلا هذا القدر، ومن االمحال أن تدل الحركات على النسب بغير وضع، فظهر أن الدوران كان حقا، فإنه يلزم في المركبات، ولا محيص عن الدور فيهما إلا بما تقدم من التقرير في انتقاء هذا الدور. ((تنبيه)) زاد التبريزي فقال: أما وقوع المخبر عنه فمن شيء آخر يحصل، فإن الخبر من حيث هو خبر يستوي فيه الصدق والكذب. قلت: وهذا ممنوع بل اللفظ يدل على وقوع المخبر عنه، فقولنا: قام زيد، يدل على صدور القيام عنه في الزمان الماضي، ولم تضع العرب هذا اللفظ إلا لهذا المعنى، ولم تضعه للوقوع، وعدم الوقوع على السواء بل للوقوع للإخبار به عن غرض، وهو الوقوع إذا كان واقعا، فأخبر به عن الوقوع، وليس واقعا، فخالف الوضع من هاهنا جاء الكذب، كما أن الشرع لم يضع العقوبة إلا لتوضع في الجناة، فمن وضعها في غيرها فقد خالف الشرع، ولا يقدح ذلك في كون الشرع إنما وضعها للجناة فقط، كذلك العرب لم تضع إلا للإخبار عن المعنى إذا كان واقعا، ولذلك تقول النجاة: قام زيد يدل على حصول المصدر في الزمن الماضي، وزيد قائم يدل على إيجاب القيام له، وجميع الأخبار هي كذلك لم توضع إلا للصدق، كما أن

المبحث الثالث في أن اللفظ ما وضع للدلالة على الموجودات الخارجية

الأوامر لم توضع إلا للطلب، فاستعمالها في غيره لم يقدح ذلك في الوضع وقول العلماء: الخبر ما يقبل الصدق، والكذب، يريدون عقلا وعادة، وأما بالنظر إلى اللغة فلا، كما أن كل أحد مأمور بالصلاة ليس إلا، وليس وضعه في اشرع إلا للطاعة في جميع ما أمر به، وبعد ذلك نقول: كل إنسان قابل للطاعة والمعصية، أي: من حيث العادة والعقل، لا من حيث الشرع، بل من حيث الشرع الطاعة ليس إلا، وكذلك الخبر في اللغة هو الصدق ليس إلا، فقوله: إنما يوجد وقوع المخبر عنه من أمر آخر ليس كذلك، بل من اللفظ لغة. المبحث الثالث في أن اللفظ ما وضع للدلالة على الموجودات الخارجية، بل للمعاني الذهنية إلى قوله: فاختلاف الأساسي عند اختلاف الصور الذهنية يدل على أن اللفظ لا يدل إلا عليها ز قلت: قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: الألفاظ إنما وضعت للحقائق الخارجية، وجعل هذا أصلا في القياس في اللغات، فإنه قال: إن تلك الحقائق الموضوع لها إذا فنيت وجاء أمثالها إنما يطلق عليها بالقياس، واتفقوا على أن الأعلام إنما وضعت للأمور الخارجية المتشخصة. والحق ما قاله الإمام؛ لأن الواضع لو وضع لم افي الخارج، فإما أن يعتبر التعيين في التسمية، ويجعله جزءا من المسمى أو لا، فإن اعتبره لزم أن يكون المثل الثاني مخالفا له بتشخصه أيضا، فإن الأمثال إذا أخذت بقيد تعييناتها، والتقدير أنه متواطيء، ويلزم أن يكون اللفظ مشتركا لا متواطئا، والتقدير أنه متواطيء، ويلزم أن يكون اللفظ مشتركا بين أمور غير متناهية، وهو ممتنع في اللفظ المشترك، وأن يكون كل شخص يفتقر لوضع جديد، لأنه شأن المشترك، وهذا كله غير واقع في المتواطئة التي هي محل النزاع

((فائدة)) الكليات ثلاثة: طبيعي، ومنطقي، وعقلي

فإن النزاع في هذه المسألة فيما عدا الأعلام، وكلها موضوعة لمعنى كلي على ما يأتي بيانه إن شاء الله في الكلام على الألفاظ الموضوعة للكليات والجزئيات، وإن كان الواضع لم يعتبر التعيين، ومتى حذفت عن الأمثال التيينات لم يبق إل المشتركات، ولا نعني بالأمور الذهنية إلا الكليات. إذا تقرر أن هذا هو الحق فقوله في الكاب غير محصل لهذا المطلوب، لأن الأعالم تختلف باختلاف ما يتوهمه الناظر من الصور، فيقول: هذا زيد، ثم يول: هوعمرو، ثم يقول: هو خالد، وكلما تغير اعتقاد الناظر غير الاسم مع أن الأعلام للجزئيات بالإجماع، فهذا المدرك باطل، بل الذي تقدم تقريره في الرد على أبي إسحاق مدرك صحيح يعتمد عليه. وقوله: " إن اللفظ المركب لا يدل على ما في الخارج " يتسقيم إذا أراد بالذات، وإن أرادس لب مطلق الدلالة لايصح، وظاهر كلامه عدم إرادته؛ لأ، هـ قرر من كلامه ما يقتضي أنه يدل بالإلتزام من جهة ظاهر حال المتكلم إذا علم صدقه، وأنه مبرأ من الكذب. ((فائدة)) الكليات ثلاثة: طبيعي، ومنطقي، وعقلي. قال الإمام في "الملخص": إذا قلنا: الحيوان كلي، فمعنا ثلاثة أمور: الحيوان وكلي والمركب منهما، فالأول الطبيعي، والثاني المنطقي، والثالث العقلي.

وتقريره: أن الله - تعالى - خلق حيوانا في الخارج بالضرورة، فإما أن يكون بقيد أو لا بقيد. والثاني: كلي خارجي طبيعي بمعنى أنه طبعه الله طبعية مخصوصة قابلة لعوارض مخصوصة نحو: الحس، والحركة بالإرادة، وغير ذلك، فهذا المفروض في الخارج قطعا، وإن كان مع قيد فكلما وجد مع قيد وجد في نفسه، فالحيوان الطبيعي في الخارج بالضرورة. وأما قولنا: (كلي) فهو غشارة إلى الصورة الكائنة في الذهن التي تنبطق على أفارد الحيوانات افي الخارج، فهذا هو الكلي المنطقي؛ لأن الأهل المنطق إنما يتكلمون فيه، لأنهم إنما يتكلمون في هذا الموطن في الجنس والنوع والفصل، والخاص، والعرض العام، وهذه صور ذهنية تنطبق على أمور خارجية فلذلك سمى منطقا، وأما تسمية الثالث عقليا، فلأنه مركب من الخارج والذهني، وهذا المركب لا وجود له إلا في الإعتبار الذهني العقلي لا في نفس الأمر، لأن المنطقي صورة ذهينة هي تصور وعلم، والخارجي جسم خاص، فكلاهما موجود، أما العقلي فلا، ونحو ذلك أن يعتبر العقل حقيقة مركبة من العالم وعشرة أمثاله معه، أو من المستحيل، والممكن، أو المستحيل والواجب، أو من عشرة محالات، فهذا مهيع متسع للاعتبارات العقلية، فالمركب من الممكن والواجب ممكن، ومن المستحيل والممكن مستحيل، ومن المستحيل والواجب مستحيل، والمعتبر من الخارجي والذهني إن أخذ بقيد كونه ذهنيا، والآخر بقيد كونه خارجيا كان المجموع مستحيل الوجود في الخارج، بل أفارده فقط، وإن لم يوجد فيه هذان القيدان كان لمجموع ممكنا غير واقع، مثل إنسان له ألف رأس فهذا هو السبب في هذه التسميات، وانقسام الكليات إلى ثلاث. ومتى قيل: الكلي لا وجود له في الخارج صدق باعتبار المنطقي، والعقلي دون الطبيعي.

تنبيه: اللفظ يدل مطابقة على مسماه

ومتى قيل: موجود في الخارج صدق باعتبار الطبيعي دون لاآخرين، وعلى هذا التقدير تكون قاعدتك في اهذا الموطن، فإنه يغلط فيه كثير من الناس. ((تنبيه)) إذا تقرر هذا فقولنا: اللفظ يدل مطابقة على مسماه، وقد تقرر أن مسماه هو الأمور الذهنية، فعلى هذا لا يدل على الخارج مطابقة، ولا تضمنا، ولا التزاما، فإن الصورة الخارجية ليست جزءا للذهنية، لاستحالة وقوع ذلك الجسم المخصوص في الذهن، بل الواقع في الذهن إنما هو اصورته، ولا لازمه للذهنية، لأن الذهنية قد توجد منفكة عن الخارجية، فإن الإنسان قد يتصور ماهية، ولا يكون شيء من أفرادها في الخارج، كبحر من زئبق، أو وجد قبل تصوره وعدم، وعلى التقديرين ينفك اللزوم، فتبطل دلالة الإلتزام، فتبطل الدلالة مطلقا، وأيضا فإن دلالة الإلتزام أن تتلازم الصورتان في الذهن لا المتصور والصورة، فدلالة الإلتزام أيضا متعذرة من هذا الوجه، فالدلالة مسلوبة عن الأمور الخاجرية مطلقا، هذا من حيث الألفاظ المفردة. وأما المركبات فتدل على الوقوع في الخارج، لأن المركب يدل على الإسناد في هذن المتكلم، وظاهر حاله يقتضي المطابقة، وأن ما اعتقده كما اعتقده، فيدل اللفظ بالإلتزام على الوقوع في الخارج، أما الألفاظ المفردة فلا تدل على وقوع الصورة في الذهن، وليست إخبارا عن شيء حتى يستدل بظاهر حال المخبر على وقوعه، وعلى هذا قول العلماء: لفظ الإنسان يدل على الحيوان الناطق مطابقة، وعلى الناطق أو الحيوان التزاما. معناه أنه يدل على الكلي الذهني من مجموعهما، أو من أحدهما، أما أن أحدهما وقع في الخارج، فهذا لا يزلم من مجرد النطق باللفظ المفرد،

((تنبيه)) قال التبريزي: موضوع اللفظ هو ما يحتاج للتعبير عنه

فيصير المسمى وجزأه ولازمه في دلالة الإلتزام باعتبار ما في الذهن دون الخارج، هذا هو الذي يقتضيه أن اللفظ وضع لما في الذهن دون الخارجي. ((تنبيه)) قال التبريزي: موضوع اللفظ هو ما يحتاج للتعبير عنه، وينقسم إلى صور المعقولات، وإلى حقائق الأشخاص، وينقسم إلى الألفاظ وغيرها، بدليل أنك تقول: النار مخلوقة، ونعني بها الخارجية، وهي جسم ممكن، ويريد المعنى المعقول، والنار اسم صحيح غي رمعتل، ويريد اللفظ، ثم يتجه أن اللفظ وضع أولا لأعيان الأشخاص حقيقة، فإن الحاجة إليها أمس، ثم استعمل في الحقائق الكلية لأجل المطابقة إما تجوزا، أو اكتفاء بالإشتراك كي لا تكثر الألفاظ، ويتجه أن يقال: وضعت أولا للمعاني، فإنها محل الضرورة لعدم قبول الإشارة إليها، ثم اندرجت الأعيان تحت ضرورة وجود المعاني بها، ولأنا لو قدرنا الوضع للأعيان لم يكن تخصيص الأعيان الحاضرة عند الوضع، فإن ما سيوجد يحتاج أيضا إلى الأسامي، ولا يتناولها اللفظ الواحد إلا بالإشتراك، أو وملاحظة المعنى، والثاني ألوى، ولما صارت الألفاظ الموضوعة بواسطة الوضع مجودات مختلفة افتقرت إلى ألفاظ أخر للتعريف، بجعلت الأسامي اسما، وكذلك القول في المكتوب. ((تنبيه)) تقدم أن اللفظ في كل شيء يصدق على أربعة أمور ما في الأذهان والأعيان والبيان والبنان، وهل صدقه على الجميع حقيقة أو مجاز؟ وكلام التبريزي يقتضي أنه حقيقة في الجميع، ويؤكده اطراده في جميع الحقائق، لكن يلزم على هذا أن كل لفظ في العالم مشترك؛ لأن هذه الأمور مختلفة، وذلك صعب، ويمكن أن يقال: هو حقيقة في الكلي الذهني، وإذا وجد من أفراد ذلك الكلي فرد في الخارج صدق اللفظ على ذلك الخارجي حقيقة، لانطباق مسمى اللفظ عليه، وهو الصورة الذهنية، وإن لم يوجد من الخارجيات ما لم تنطبق عليه الصورة الذهنية اقتصر على الذهني،

((تنبيه)) زاد سراج الدين لقائل أن يقول: اختلاف اللفظ الموضوع للخارجي ممنوع في نفس الأمر

ويكون في النطق والكتابة مجازا من باب إطلاق الدليل عى المدلول، فإن اللفظ يدل على ما في النفس، والكتابة تدل على ما في اللفظ، فيكون مجازا في الكتابة في الرتبة الثانية. ومن قال: اللفظ موضوع للأمور الخارجية يقول: إطلاقه على الذهنية من باب إطلاق المتعلق على المتعلق، فإن العلم الذي هو الصورة الذهنية متعلقة بالأمور الخارجية، وعلى اللفظ والكتابة مجاز من باب إطلاق الدليل على المدلول، لكن مجاز في المرتبة الثالثة، فإن العلم متعلق بالمعولم الذي هو المسمى، واللفظ دال على مافي النفس، والكتابة دالة على اللفظ، فيكون الاسم مجازا في الكتابة في الرتبة الرابعة من الحقيقة، والثالثة من المجاز، فإن أول رتب المجاز الصورة الذهنية على هذا المذهب، وهو موضع ضيق، وفيه نظر عويص، أعني في تعيين الحقيقة والمجاز، والإشتراك وعدمه، غير أن الصواب يظهر في أن اللفظ ليس موضوعا للخارجيات، بل للذهنيات والاشتراك بعيد، فإن العقل لا يحصل له تردد وإجمال ععند سماع فرس، هل هو علم، أو لفظ، أو كناية؟ بل يجزم أن المراد به تلك الحقيقة المعلومة أما في الخبر فوقوعا، وأما في الطلب فاقتضاء، وأما في الإذن والإباحة فملابسة وتركا. ((تنبيه)) زاد سراج الدين لقائل أن يقول: اختلاف اللفظ الموضوع للخارجي ممنوع في نفس الأمر، وجواز إطلاق الشيء مشروط باعتقاد أنه كذلك في الخارج، والكذب في المركب يمتنع لو كانت دلالته قاطعة. وبسطه: أن معنى قوله: الخارجي، أي: لاختلاف الخارجي في الإعتقاد، وليس معناه أنه موضوع للخارجي، وأسند منعه بأن ذلك الإختلاف لم يقع في نفس الأمر، بل بحسب الإعتقاد.

المبحث الرابع اللفظ المشهور لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى خفي لا يعرفه إلا الخواص

أما بحسب نفس الأمر، فلا يختلف المسمى، ولا لفظه، وإن الاختلاف في هذه الإطلاقات إنما كان؛ لأن إطلاق لفظ المسمى شمروط باعتقاد أنه ذلك المسمى. وقوله: الكذب إنما يمتنع أن لو كانت الدلالة قطعية. هو كلام ذكره الإمام بعد هذا قدمه هو، فقال الإمام: (لو كان لفظ الخبر موضوعا لما في الخارج لتعذر الكذب) يعني أن اللفظ متى وجد وجد ذلك المعننى في الخارج، وهذا إنما يتم للإمام بأحد طريقين: إما أن يكون الاسم نفس المسمى، والخبر نفس المخبر، وهو باطل، أو يكون غيره، لكن تكون دلالته قطعية، وهو باطل أيضا، لأن دلالة الألفاظ ليست قطعية، فجاز تخلف مدلولها عنها، فيبطل قول الإمام مطلقا. المبحث الرابع اللفظ المشهور لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى خفي لا يعرفه إلا الخواص. مثاله: ما يقوله مثبتوا الأحوال إلى آخره، اعلم أن الأحوال جمع حال، والحال عندهم هي صفة لموجود، لا موجودة ولا معدومة، وزاد بعضهم فقال: لا معلومة، ولا مجهولة. وتقريرها: بالمثال أولا ليشهد الكلام فيها أنها على قسمين: معللة وغير معلة، فالمعللة هي أحكام المعاني، فمتى قام معنى بمحل أوجب لمحله حكما منه، فالسواد يوجب لمحله أنه أسود، والبياض يوجب لمحله أنه أبيض، والعلم يوجب لملحله أنه عالم، وكذلك بقتيها، فكونه عالما معلل بقيام العلم به، وكذلك سائرها، فهذه عندهم أحوال معللقة بذلك، ومعنى ذلك الحكم هو اختصاص العلم بهذا الموصوف دون غيره، فذلك الإختصاص يسمى

عالمية، والعالمية مع المعروض لهذه العالمية يسمى عالما، فالعالمية جزء عالم، وكذلك بقيتها. وغير المعللة: هي كون العلم علما والبياض بياضا، وكذلك سائر المعاني، فإذا قيل لك: لم كان العلم علما؟ لا يمكنك أن تقول: لأجل كذا، وإن كنت تقول: وجد في الخارج بقدرة الله - تعالى - لكن الكلام في الحقيقة سواء وجدت، أو عدمت يتعذر علينا تعليل خصوصيتها، وكذلك سائر المعاني والجواهر، والأقسام، والحقائق، والمعلومات، وحتى إذا قيل لك: لمَ كان المستحيل مستحيلا؟ لا تجد لذلك سبيلا، فهذه أحوال غير معللة، ولست صفات قائمة لمحالها حتى تقول: هي موجودة، ولا هي مسلوبة عن محالها حتى يقال: العلم بيس بعلم، فلذلك قالوا: ليست موجودة ولا معدومة، وكذلك اختصاص العلم بمحله نسبة وإضافة، والنسب والإضافات عندنا عدمية خلافا للفلاسفة، ولا هي مسلوبة عن محالها حتى يصدق على العالم أنه ليس بعالم، فلذلك قيل في الأخرى: ((ليست موجودة ولامعدومة)) ولما وصل الفريق الآخر إلى هذا المقام قال: هذه ليست معلومة، لأن المعلوم إما موجود أو معدوم، وهذه ليست موجودة ولا معدومة، ولا هي مجهولة، لأنا حكمنا بها على محالها، والمجهول مطلقا لا يحكم به. إذا تقرر هذا ظهر أن الحركة معنىيوجب لمحله كونه متحركا، ويكون كونه مترحكا حالا معللا بالحركة. وقوله: ((إنها غير واقعة بالقادر))، بناء على قاعدة وهي أن القدرة صفة مؤثرة لا بد أن يكون أثرها وجوديا، وهي عدمية، فلا يكون بالقادر. وقوله: ((لايعرفها إلا الأذكياء)) ممنوع؛ لأن العوام يفهمون الحركة، وكونه مترحكا، ويقولون: زيد متحرك، ولا يقولون: زيد حركة، ويقولون بأجمعهم: الحركة تنافي السكون، فهم متصورون للأمرين، غير أن هذه التدقيقات وتفاصيل المباحث ليست عندهم، وذلك لا يقدح في معرفتهم

بمسميات الألفاظ، ألا ترى أنهم يعرفون الحيوان والإنسان، وتفاصيل أحوالهما وخواصهما لا يعرفه إلا فضلاء الناس، ومن ذلك ما لا يعلهم إلا الله تعالى، فما قاله مندفع، أعني دليله على هذه الدعوى، ودعواه صحيحة في غير هذا المثال، وهل وقع أو ما وقع له مثال يحتمل ذلك؟ والغالب عدم وقوعه، وأنه لا يشتهر لفظ إلا ومسماه مشتهر.

النظر الخامس فيما يعرف به كون اللفظ موضوعا لمعناه

النظر الخامس فيما يعرف به كون اللفظ موضوعا لمعناه لما كان المرجع في معرفة شرعنا إلى القرآن والأخبار، وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم، كان العلم بشرعنا موقوفا على العلم بهذه الأمور، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به، وكان مقدورا للمكلف، فهو واجب. ثم الطريق إلى معرفة لغة العرب ونحوهم وتصريفهم إما العقل، وإما النقل، أو ما يتركب منهما. أما العقل: فلا مجال له في هذه الأشياء؛ لما بينا أنها أمور وضعية، والأمور الوضعية لا يستقل العقل بإدراكها. وأما النقل: فهو إما تواتر أو آحاد والأول يفيد العلم، والثاني يفيد الظن. وأما ما يتركب من العقل والنقل، فهو كما عرفنا بالنقل أنهم جوزوا الاستثناء عن صيغ الجمع، وعرفنا بالنقل أيضا أنهم وضعوا الاستثناء لإخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ؛ فحينئذ نعلم بالعقل بواسطة هاتين المقدمتين النقليتين أن صيغة الجمع تفيد الاستغراق. واعلم أن على كل واحد من هذه الطرق الثلاثة- إشكالات، أما التواتر: فإن الإشكال عليه من وجوه: أحدها: أنا نجد الناس مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة المسلمين اختلافا لا يمكن القطع فيه بما هو الحق؛ كلفظة الله

تعالى؛ فإن بعضهم زعم أنها ليست عربية، بل سريانية، والذين جعلوها عربية اختلفوا في أنها من الأسماء المشتقة، أو الموضوعة، والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافا شديدا، وكذا القائلون بكونه موضوعا اختلفوا أيضا اختلافا كبيرا، ومن تأمل أدلتهم في تعيين مدلول هذه اللفظة علم أنها متعارضة، وأن شيئا منها لا يفيد الظن الغالب فضلا عن اليقين. وكذا اختلفوا في الإيمان والكفر، والصلاة والزكاة، حتى إن كثيرا منالمحققين في علم الاشتقاق زعموا أن اشتقاق الصلاة من الصلوين، وهما: عظما الورك، ومن المعلوم أن هذا الاشتقاق غريب. وكذلك اختلفوا في صيغ الأمور والنواهي، وصيغ العموم مع شدة اشتهارها، وشدة الحاجة إليها اختلافا شديدا. وإذا كان الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ، والحاجة إلى استعمالها ماسة جدا كذلك، فما ظنك بسائر الألفاظ؟! وإن كان كذلك ظهر أن دعوى التواتر في اللغة والنحو متعذرة. فإن قلت: هب أنه لا يمكن دعوى التواتر، في معاني هذه الألفاظ على سبيل التفصيل، ولكنا نعلم معانيها في الجملة، فنعلم أنهم يطلقون لفظ الله على الإله سبحانه وتعالى، وإن كنا لا نعلم أنن مسمى هذا اللفظ أهو الذات، أم المعبودية، أم القادرية؟ وكذا القول في سائر الألفاظ. قلت: حاصل ما ذكرته أنا نعلم إطلاق لفظ الله على الإله سبحانه وتعالى من غير أن نعلم أن مسمى هذا الاسم ذاته، أو كونه معبودا، أو كونه قادر على الاختراع، أو كونه ملجأ الخلق، أو كونه بحيث تتحير العقول في إدراكه إلى

غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ، وذلك يفيد نفي القطع بمسماه، وإذا كان الأمر كذلك في هذه اللفظة مع غاية شهرتها ونهاية الحاجة إلى معرفتها، كان الاحتمال فيما عداها أظهر. وثانيها: أن من شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة، فهب أنا علمنا حصول شرائط التواتر في حفاظ اللغة والنحو والتصريف في زماننا هذا، فكيف نعلم حصولها في سائر الأزمان؟! فإن قلت: الطريق إليه أمران: أحدهما: أن الذين شاهدناهم أخبرونا أن الذين أخبروهم بهذه اللغات كانوا موصوفين بالصفات المعتبرة في التواتر، وأن الذين أخبروا من أخبرهم كانوا كذلك إلى أن يتصل النقل بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم. وثانيهما: أن هذه الألفاظ، لو لم تكن موضوعة لهذه المعاني، ثم وضعها واضع لهذه المعاني، لاشتهر ذلك ولعرف؛ فإن ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله. قلت: أما الأول، فغير صحيح؛ لأن كل واحد منا حين سمع لغة مخصوصة من إنسان، فإنه لم يسمع منه أنه سمع من أهل التواتر، وأن الذين أسمعوا كل واحد من مسمعيه سمعوها أيضا من أهل التواتر، إلى أن يتصل ذلك بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم، بل تحرير هذه الدعوى على هذا الوجه، مما لا يفهمه كثر من الأدباء؛ فكيف يدعى أنهم علموه بالضرورة؟! بل الغاية القصوى في راوي اللغة أن يسنده إلى كتاب مصحح، أو إلى أستاذ متقن، ومعلوم أن ذلك لا يفيد اليقين.

وأما الثاني، فضعيف أيضا، أما أولا؛ فلأن ذلك الاشتهار إنما يجب في الأمور العظيمة؛ ووضع اللفظة المعينة بإزاء المعنى المعين ليس من الأمور العظيمة التي يجب اشتهارها، وأما ثانيا؛ فلأن ذلك ينتقض بما أنا نرى أكثر العرب في زماننا هذا يتكلمون بألفاظ مختلة، وإعرابات فاسدة، مع أنا لا نعلم واضع تلك الألفاظ المختلة ولا زمان وضعها، وينتقض أيضا بالألفاظ العرفية؛ فإنها نقلت عن موضوعاتها الأصلية، مع أنا لا نعلم المغير ولا زمان التغيير فكذا هاهنا. سلمنا أنه يجب أن يشتهر ذلك؛ لكن لا نسلم أنه لم يشتهر، فإنه قد اشتهر، بل بلغ مبلغ التواتر أن هذه اللغات إنما أخذت عن جمع مخصوصين كالخليل، وأبي عمر بن العلاء، والأصمعي، وأبي عمرو الشيباني، وأضرابهم ولاشك أن هؤلاء ما كانوا معصومين، ولا كانوا بالغين حد التواتر، وإذا كان كذلك لم يحصل القطع واليقين بقولهم. أقصى ما في الباب أن يقال: نعلم قطعا استحالة كون هذه اللغات بأسرها منقولة على سبيل الكذب، إلا أنا نسلم ذلك، ونقطع بأن فيها ما هو صدق قطعا، لكن كل لفظة عينَّاها، فإنه لا يمكننا القطع بأنها من قبيلما نقل صدقا أو كذبا؛ وحيينئذ لا يبقى القطع في لفظ معين أصلا، هذا هو الإشكال على من ادعى التواتر في نقل اللغات. أما الآحاد، فالإشكال عليه من وجوه: أحدها: أن رواية الآحاد لا تفيد إلا الظن، ومعرفة القرآن والأخبار مبنية على معرفة اللغة والنحو والتصريف، والمبني على المظنون مظنون، فوجب ألا يحصل القطع بشيء من مدلولات القرآن والأخبار، وذلك خلاف الإجماع.

وثانيها: أن رواية الآحاد لا تفيد الظن، إلا إذا سلمت عن القدح، وهؤلاء الرواة مجرحون. بيانه: أن أجل الكتب المصنفة في النحو واللغة: "كتاب سيبويه" وكتاب "العين". أما "كتاب سيبويه": فقدح الكوفيين فيه وفي صاحبه أظهر من الشمس، وأيضا فالمبرد كان من أجلِّ البصريين، وهو قد أورد كتابا في القدح فيه. وأما "كتاب العين": فقد أطبق الجمهور من أهل اللغة على القدح فيه. وأيضا فإن ابن جني قد أورد بابا في كتاب "الخصائص" في قدح أكابر الأدباء بعضهم في بعض وتكذيب بعضهم بعضا، وطول في ذلك وأفرد بابا آخر في أن لغة أهل الوبر أصح من لغة أهل المدر، وغرضه من ذلك القدح في الكوفيين؛ وأفرد بابا آخر في كلمات من الغريب لا يعلم أحد أتى بها إلا ابن أحمر الباهلي. وروي عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان ألفاظا لم يسمعاها، ولم يسبقا إليها، وعلى نحو هذا قال المازني: ما قيس على كلام العرب، فهو من كلامهم. وأيضا، فالأصمعي كان منسوبا إلى الخلاعة، ومشهورا بأنه كان يزيد في اللغة ما لم يكن منها. والعجب من الأصوليين أنهم أقاموا الدلالة على أن خبر الواحد حجة في الشرع، ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة، وكان هذا أولى؛ لأن إثبات اللغة كالأصل للتمسك بخبر الواحد، وبتقدير أن يقيموا الدلالة على ذلك،

فكان من الواجب عليهم أن يبحثوا عن أحوال رواة اللغات والنحو، وأن يتفحصوا عن أسباب جرحهم وتعديلهم، كما فعلوا ذلك في رواة الأخبار، لكنهم تركوا ذلك بالكلية مع شدة الحاجة إليه فإن اللغة والنحو يجريان مجرى الأصل للاستدلال بالنصوص. وثالثها: أن رواية الراوي إنما تقبل إذا سلمت من المعارض، وهاهنا روايات دالة على أن هذه اللغة تتطرق إليها الزيادة والنقصان. أما الزيادة: فلما نقلنا عن رؤبة وأبيه من الزيادات، وكذلك عن الأصمعي والمازني. وأما النقصان: فلما روى ابن جني بإسناده عن ابن سيرين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: كان الشعر علم قوم، لم يكن لهم علم أصح منه فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم، وغفلت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب في الأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئولوا فيه إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، وقد هلك من العرب ما هلك، فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم أكثره. وروى ابن جني ايضا بإسناده عن يونس بن حبيب، عن أبي عمرو بن العلاء، أنه قال: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير. قال ابن جني: فهذا ما نراه، وقد روي في معناه كثير؛ وذلك يدل على تنقل الأحوال بهذه اللغة، واعتراض الأحداث عليها، وكثرة تغيرها.

وأيضا فالصحابة مع شدة عنايتهم بأمر الدين، واجتهادهم في ضبط أحواله، عجزوا عن ضبط الأمور التي شاهدوها في كل يوم خمس مرات، وهو كون الإقامة فرادى أو مثناة، والجهر بالقراءة، ورفع اليدين، فإذا كان الامر في هذه الأشياء الظاهرة كذلك، فما ظنك باللغات، وكيفية الإعرابات، مع قلة وقعها في القلوب، ومع أنه لم يشتغل بتحصيلها وتدوينها محصل إلا بعد انقراض عصر الصحابة والتابعين؟! وأما ما يتركب من العقل والنقل، فالاعتراض عليه أن الاستدلال بالمقدمتين النقليتين على النتيجة، لا يصح إلا إذا ثبت أن المناقضة غير جائزة على الواضع، وهذا إنما يثبت إذا ثبت أن الواضع هو الله تعالى، وقد بينا أن ذلك غير معلوم. فإن قلت: الناس قد أجمعوا على صحة هذا الطريق، لأنهم لا يثبتون شيئا من مباحث علم النحو والتصريف إلا بهذا الطريق، والإجماع حجة. قلت: إثبات الإجماع من فروع هذه القاعدة، لأن إثبات الإجماع سمعي، فلا بد فيه من إثبات الدلائل السمعية، والدليل السمعي لا يصح إلا بعد ثبوت اللغة والنحو والتصريف، فالإجماع فرع هذا الأصل، فلو أثبتنا هذا الأصل بالإجماع، لزم الدور؛ وهو محال، فهذا تمام الإشكال. والجواب: أن اللغة والنحو على قسمين: أحدهما: المتداول المشهور، والعلم الضروري حاصل بأنها في الازمنة الماضية كانت موضوعة لهذه المعاني؛ فإننا نجد أنفسنا جازمة بأن لفظ السماء والأرض كانتا مستعملتين في زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذين

شرح القرافي

المسميين، ونجد الشكوك التي ذكروها جارية مجرى شبه السوفسطائية القادحة في المحسوسات التي لا تستحق الجواب. وثانيهما: الألفاظ الغريبة، والطريق إلى معرفتها الآحاد، إذا عرفت هذا فنقول: أكثر ألفاظ القرآن ونحوه وتصريفه من القسم الأول، فلا جرم قامت الحجة به. وأما القسم الثاني: فقليل جدا، وما كان كذلك، فإننا لا نتمسك به في المسائل القطعية، ونتمسك به في الظنيات، ونثبت وجوب العمل بالظن بالإجماع، ونثبت الإجماع بآية واردة بلغات معلومة لا مظنونة، وبهذا الطريق يزول الإشكال، والله أعلم. قال القرافي: قوله: "النظر الخامس .... " إلى آخره عليه ثلاثة عشر سؤالا: الأول: النقل إما تواتر أو آحاد، القسمة ليست حاصرة؛ لأن التواتر هو خبر جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب. والآحاد: هو ما أفاد ظنا أخبر به واحد أو أكثر، هذا هو الاصطلاح، ونفى خبر الواحد إذا أفاد العلم بما يقترن به من قرائن الأحوال وغيرها كأخباره عليه السلام مشافهة، واحتفت به قرائن تقتضي إرادة ما فهم منه قطعا لا ظنا، ولذلك ميزه عليه السلام مع القرائن. تقرير قوله قبل هذا: " ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وهو مقدور للمكلف فهو واجب" يريد بالمطلق ما لا يفيد في أصل الخطاب بشرط أو سبب وانتفاء مانع في الوجوب، فإن سبب الوجوب وشرطه وانتفاء مانعه لا يجب إجماعا نحو: ملك النصاب سبب وجوب الزكاة، والإقامة شرط للصيام، والدين مانع من وجوب الزكاة فلا يجب تحصيل النصاب ولا الإقامة ولا وفاء الدين لأجل

الزكاة إجماعا، إنما الخلاف فيما يتوقف عليه إيقاع الواجب وصحته بعد تقرر الوجوب، ففرق بين قول السيد لعبده: إذا نصبت السلم فاصعد السطح، وبين قوله: اصعد السطح، فالخلاف في النصب الثاني دون الأول؛ لأن الثاني مطلق والأول مقيد. وقوله: وكان مقدورا للمكلف احتراز من عجزه عن نصب السلم؛ فإنه تكليف مالا يطاق، فإن جوزناه، فإنا لا نفرع عليه؛ لأنا لا نعتقد وجوبه في الشريعة على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فكل معجوز عنه عادة لا نعنى بوجوبه كان واجبا أصالة، أو توقف عليه واجب. وقوله: "الأمور الوضعية لا يستقل العقل بدركها". معناه: أن جميع الشرائع وغيرها من الأمور المكتسبة لا بد وأن يكون للعقل فيها مدخل، إذ من لا عقل له لا يحصل علما ولا ظنا مكتسبا، لكل لا يستقل العقل إلا في ثلاثة مواطن: وجوب الواجبات، واستحالة المستحيلات، وجواز الجائزات، وما عدا هذه الثلاثة لا بد من أمر زائد على العقل من الحواس أو غيرها. وقوله بعد هذا: " كما إذا بلغنا أنهم جوزوا الاستثناء في صيغة الجمع" يريد المعرف بالألف واللام، أو الإضافة، أو كان في سياق النفي نحو الرجال أو رجالك أو لا رجال لك. أما النكرة نحو رجال، فلا عموم فيها دخل عليه الاستثناء أم لا، فنقول: صيغة المشركين يدخلها الاستثناء عملا بالنقل، وهو عبارة عما لولاه لوجب اندراج المستثنى تحت الحكم، وما من نوع إلا يصح استثناؤه، وما استثنى فيندرج تحت الحكم، فتكون الصيغة للعموم، وهذا العموم إنما حصلناه من مجموع النقل، وتصرف العقل، فإنه لم ينقل إلينا أن الصيغة للعموم البتة، بل تانك المقدمتان فقط، فقد حصل لنا مطلوب لغوي بالتركيب من العقل، والنقل.

فائدة: التواتر

"فائدة" التواتر قيل: من قول الله تعالى (ثم أرسلنا رسلنا تترى) [المؤمنون: 44] قال اللغويون: أي: واحدا بعد واحد بفترة. قال الجواليقي: وقول العامة: تواترت كتبك علي غلط؛ لأنهم يريدون تواصلت، والصيغة لضد المواصلة، وقيل: هو من الوتر الذي هو الفرد، أي فردا بعد فرد، وعلى هذا يصح قولهم: تواترت كتبك علي. والآحاد من الأحد، وهو المنفرد، ومنه قوله تعالى: (قل هو الله أحد) [الإخلاص:1] وهل الأحد والواحد مترادفان كما قاله أبو علي في "الإيضاح"؟ أو متباينان كما قاله غيره؟ أو يرادفه آحاد وموحد على وزن عطاش ومضرب كما قاله صاحب كتاب "الرتبة"؟ خلاف بين العلماء ليس هذا موضع تحقيقه، ولما كان الواحد إذا انفرد ليس يفيد إخباره الظن غالبا يسمى كل خبر يفيد الظن آحادا، وضعا عرفيا للأصوليين. الثاني: على قوله: زعم بعضهم أن لفظ الله هذه اللفظة سورية، والمنقول في كتب التفسير وغيرها أن بعض الناس قال: إنها سريانية بتسكين الراء وتشديدها، يقال بالوجهين، والتسكين أكثر، أما سوري، فلم أره في غير "المحصول"، وجميع ما رأيته، وسألت الفضلاء عنه، فهو ما تقدم، ويحتمل ما ذكره وجوها. منها: أنها لفظة أعجمية، وقالت الأدباء: إن اللفظ الأعجمي ينقل عن

لسان العرب فيحدث فيه أنواعا من التغيير، كما نطقوا بجبريل على صيغ مختلفة مشهورة، وكذلك ميكائيل، وغيرها، فيحتمل أن يكون هذا التغيير من هذا القبيل. ومنها: أنه يحتمل أنه قد يتخيل أنه لفظ مركب من سور وبان، والنسبة للفظ المركب تصح لضده فقط، كماقالوا بعلى، في بعلبك (¬1)، ورامى في رام هرمز (¬2)، كذلك هاهنا سورى. ومنها: أن يتخيل أن الألف والنون زائدتان، كما قالوا في أذربيجان -إقليم من أقاليم العجم- إن فيه خمس علل لمنعه من الصرف: إحداها: زيادة الألف والنون، وقد جوزت العرب في النسب حذف الألف والنون، فكذلك هاهنا حذفا، وحذفت الياء أيضا، كما حذفت في قاضٍ، إذا نسب إليه لوقوعها طرفا، فقالوا: سورى فهذه احتمالات في تصحيح هذا الكلام مع غرابته.

الثالث: على قوله: إنهم اختلفوا في اشتقاق لفظ الله، ولفظ الصلاة، ومسمى لفظ الله، ومسمى صيغة الوجوب وغير ذلك، فإن هذه شبهة ساقطة بناء على قاعدة، وهي أن التواتر لا يدخل إلا في أمر حسي، أما النظريات، وجميع العقليات، فلا مدخل للتواتر فيها إجماعا، واتفق الناس على اشتراط ذلك، إذا تقرر هذا فنقول: حظ الحس من هذه الألفاظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- نطق بها، وهذا لم يختلف فيه اثنان من المسلمين، ولا من الكافرين، بل اتفقت الملل على أنه - صلى الله عليه وسلم-أتى بالقرآن، وأنه تحدى به، وإنما اختلفوا هل هو من عند الله تعالى أم لا؟ فالمسلمون على ذلك، والكفار يمنعونه، أما إنه أتى به فلا خلاف فيه فهذا حظ الحس؛ لأنه سمع منه بالحس، وأما كون اللفظ مشتقا من كذا، أو من كذا فهذا أمر نظري لا مدخل للتواتر فيه، وكذلك كون الأمر موضوعا للوجوب، إنما يدرك بدقائق النظر في تصاريف الاستعمالات لا مدخل للتواتر فيه، وإذا كان الخلاف في غير موطن التواتر لا يقدح في وجود التواتر، ولا في كونه مفيدا للعلم؛ لأنهم لو اختلفوا في متعلق التواتر دل ذلك على عدم حصول العلم للمختلفين، لكن اختلفوا في الاشتقاق والأمور النظرية، فلا علم فيها، ونحن نقول به، ولا نقول بالتواتر فيها؛ لانتفاء شرط دخوله فيها، وهو الحسي. الرابع: قوله: من شرط التواتر استواء الطرفين، والواسطة قد يحصل التواتر بلا طرفين، ولا واسطة إذا كان المخبر لنا هو المباشر لذلك الأمر المحسوس، أو طرفان بلا واسطة، إذا نقل إلينا من نقل عن المباشر، وطرفان وواسطة، إذا نقل إلينا من نقل عمن نقل عن المباشر، فالمباشر والناقل إلينا طرفان، ومن بينهما واسطة، وقد تكثر الوسائط كنقل القرآن إلينا بيننا، وبين السامعين له من رسول الله صلى الله عليه وسلمن فتجيء ست وسائط في كل قرن واسطة، وليس كل تواتر له طرفان فضلا عن طرفين وواسطة، وما

أمكن وجود الشيء بدونه لا يكون شرطا فيه، لكن إن اتفق وقوع هذه الطبقات، فيشترط استواؤها كلها في كون كل طائفة منها يستحيل تواطؤها على الكذب، كما يشترط في أصل عدد التواتر وإن لم تتعدد طبقاته. الخامس: على قوله: إن مخبرينا أخبروا أن مخبريهم كانوا موصوفين بشرائط التواتر، كذلك كل طائفة إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الكلام لايفيد المقصود، بسبب أن الكلام في هذا المقام بسبب معرفة اللغة والنحو والتصريف، وهذه الأمور لم يكن مبدؤها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر الناس أنى وضعت هذه لهذه، أو أخبر عن الواضع أنه وضع هذه الألفاظ لهذه المعاني، بل هذا أمر لم يتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفيا ولا إثباتا فيما علمت، بل نطق بلغة العرب من غير تعرض لحقيقة اللفظ من مجازه ولا تعيين مسمياته، وسلك في ذلك أسوة المتعلمين للغة، ويجتهد في معرفة مسمى اللفظ من غير نطقه من كتب اللغة، ويحمل لفظه -صلى الله عليه وسلم_ عليه عند عدم القرينة الصارفة للمجاز، فلا معنى للوقوف في سلسلة طبقات التواتر عند زمانه صلى الله عليه وسلم. السادس: على قوله: "لو لم تكن هذه الألفاظ موضوعة لهذه المعاني، وقد وضعها واضع آخر لاشتهر ذلك" لا يفيده التواتر في نقل اللغات، فإن قوله: لو وضع لاشتهر، يفيد أنه ما وقع التغيير، وهل ذلك قطعا أو ظنا؟ لم يتعين اليقين في ذلك، فإن هذه المقدمة قد تكون يقينية أحيانا، وقد لا تكون بحسب خصوصيات المراد، وإذا تقرر أن الوضع الجديد ما وقع يلزم أن يكون الوضع الأول مستمرا، ولا يلزم من كونه مستمرا، ولم يتعين أن يكون متواترا، بل قد يكون متواترا، وقد يكون آحادا كحوشي اللغة الذي

"تنبيه" وقع في النسخ يروى عن رؤبة

نجده في غرائب المصنفات، وقد لا ينقل أصلا، ولا يلزم من عدم نقله تغييره، فكم من لفظ للعرب لم نسمعه؛ ولا يلزم من ذلك تغييره، والذي حاوله بهذه المقدمة لا يحصل له. السابع: على قوله: سلمنا أنه لا بد من اشتهار التغيير، ثم قال: إنه اشتهر، ووصل موصل القطع، فإن أهل اللغة كالخليل وأبي عمرو بن العلاء وأبي عمرو الشيباني، وغيرهم ما كانوا بمعصومين، واقتصر على هذا القدر، مع أنه لا يلزم من عدم العصمة وقوع التغيير، ولا اشتهاره، فقد لا يكونون معصومين، ولا يقع منهم الخطأ، وقد يقع ولا يشتهر، فدعواه لم تحصل بمقدماته. الثامن: على قوله: هؤلاء الرواة مجرحون، فلا تفيد روايتهم الظن، فقد يكون المخبر مجروحا، بل فاسقا، بل كافرا ويفيد خبره الظن، بل العلم، ولذلك أجمع الناس على جواز حصول التواتر والعلم اليقين بإخبار الجماعة من الكفار، فمجرد الجرح لا يخل بالظن، بل يضعفه عند من يعتقد صحة ذلك الجرح، وقد ينتهي الجرح إلى رتبة تخل بأصل الظن، ولكن القوادح التي وقعت في هؤلاء العلماء الفضلاء لا يكاد يعتقدها أحد إلا نادرا، ولو اعتقدها لا يسقط عنده أصل الظن ألبتة، بل يبقى في صدره ظن كثير من أقوالهم وأخبارهم. "تنبيه" وقع في النسخ يروى عن رؤبة، وأبيه وابنه، بالنون والباء، وصورة

الخط واحدة، وهذا رؤبة كان أبوه يسمى العجاج، وابنه يسمى عقبة، وكان رؤبة، وأبوه العجاج راجزين عظيمين في العرب بالرجز، وغيره من فضائل لسان العرب، وكان عقبة بن رؤبة مخضرما، والمخضرم في اصطلاح الأدباء من أدرك الجاهلية، والإسلام، وكانت فيه نسبة قوية لمن خالط العجم، فيضعف الاستشهاد بكلامه، والظاهر حينئذ أن المراد أبوه لا ابنه، لضعف حاله عن هذه الرتبة، وهي الوصول إلى أن يقاس بأنه رؤبة في جرأته على ارتجال اللغة، فإن ظاهر الحال فيمن لا يستشهد بكلامه لا يبقى له داعية على ارتجال اللغة، وهذا هو الذي رأيت الأدباء ينصرونه، ويقولون: هو العجاج، دون عقبة، والعجاج لقب، واسمه عبد الله، وكنيته أبو الشعثاء، وأبو العجاج جد رؤبة يسمى رؤبة أيضا، ولم ينقل عنه كلام في اللغة، وربة بن العجاج يكنى أبا الجحاف، فالصحيح في الرواية عن رؤبة وأبيه بالباء الذي هو العجاج، والمراد برؤبة ولد العجاج لا أبوه. التاسع: على قوله: العجب من الأصوليين أنهم ما اجتهدوا في إثبات اللغة، وفحصوا عن أحوال الرواة كما فعلوا ذلك في الحديث، ورواته، ليس في ذلك عجب؛ فإن العلماء-رضي الله عنهم- رأوا أن الدواعي متوفرة، على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصرفوا عنايتهم للتحرز عن ذلك

الكذب، وقد وضع ابن الجوزي، وغيره كتبا طويلة في الموضوعات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا أسباب عديدة تبعث الواضعين والكاذبين على الوضع، حتى حكي عن طائفة كثيرة من العباد أنهم كانوا يضعون الأحاديث، في أجور العبادات، ويقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى كذا فله من الدرجات كذا، ومن القصور كذا، ومن المثوبات السنية كذا، وكذلك يقولون في سائر الأذكار والأعمال الشرعية التي يتقرب بها، فإذا قيل لهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " من كذب علي عامدا متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". قالوا: نحن ما كذبنا عليه، بل كذبنا له؛ لتكثر الأعمال الصالحة، ومنها نصرة المذاهب، ومنها عداوة الدين، كما وضعت الباطنية فضائل

القرآن، وخواصه حتى يجربها الضعيف الإيمان، فلا يجد تلك المنفعة لتلك السور فيسوء ظنه بها، والمقاصد في هذا الباب كثيرة. وأما اللغة فالدواعي على الكذب فيها في غاية الضعف، وكذلك كتب الفقه لا تكاد تجد فروعها موضوعة عن الشافعي، أو مالك، أو غيرهما ألبتة، وكذلك أن السنة جمع الناس منها موضوعات كثيرة، وجدوها، ولم يجدوا في غيرها من اللغة، وفروع الفقه مثل ذلك، ولا قريبا منه، حتى يروى أن البخاري كان يحفظ مائة ألف حديث غير صحيحة ليحترز منها،

ويحذر منها، ولما كان الخطأ والكذب في اللغة، وغيرها في غاية الندرة اكتفى العلماء فيها بالاعتماد على الكتب المشهورة المتداولة، فإن شهرتها وتداولها يمنعان ذلك مع ضعف الداعية له، فهذا هو الفرق عند العلماء، فلا عجب حينئذ من صنيعهم. وهذا كما عمل صاحب الشريعة المطهرة، اكتفي في الإقرار بمجرد الإخبار من العاقل لكون الداعية لا تتوفر من الإنسان على أن يتقول بذلك. قال العلماء: لا يشترط في ولاية النكاح العدالة، على الخلاف في ذلك؛ فإنه لا داعية للقاضي على إذنه بولايته، فاكتفى بالوازع الطبعي السالم عن معارضة داعية الإعلام، كذلك الكذب مفسدة ونقيصة، فوازع الطبع يمنع منه، ولا داعية تعارض هذه الداعية فاكتفى بذلك. العاشر: على قولهم: إن اللغة يتطرق إليها النقصان والزيادة، فلا يفيد ما نقل إلينا الظن. قلنا: لا نسلم صحة تلك المطاعن، فإن اعتبارها في الجرح فرع صحة نقلها. سلمنا صحة نقلها عن قائلها، لكن لا نسلم أنه مصيب في ذلك الطعن، سلمنا أنه مصيب، لكن القادح كون بعض الرواة أدخل في اللغة ما ليس منها، ولا يصح قياسه، أو ما يصح قياسه عليها. الأول ممنوع؛ لأنه لم ينقل صريحا هكذا. والثاني لا يضر؛ لأن القياس في اللغة قد قاله جماعة من العلماء الأتقياء القدوة. سلمنا قدح الزيادة، لكن لا نسلم قدح النقصان، فإن بعض اللغة ليس شرطا في بعض حتى يلزم من عدم ذلك البعض خلل في الباقي، لو ذهب

النحو كله إلا باب الفاعل والمفعول، لم يقع خلل في باب الفاعل والمفعول إذا بقي كاملا في نفسه، وكذلك لو جهل علم التصريف كله لم يختل شيء من علم الإعراب، وجميع العوامل في الأسماء، والأفعال، ثم إن كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقواعد الشريعة فما وجدنا فيها شيئا يتوقف على لغة هي مجهولة لتأويل الموجود، بل بعضه كاف فيها، فلا يضرنا عدم ما فقد من اللغة في شريعتنا، وغير شريعتنا لا ضرورة لمعرفته، نعم هو من باب المستحسنات. الحادي عشر: على قوله: الصحابة -رضي الله عنهم- لم يضبطوا أمر الإقامة ورفع اليدين في الصلاة. فإنَّا نقول: قال العلماء رضي الله عنهم: لم يفرط الصحابة -رضي الله عنهم- في ذلك، بل الجميع وقع، وروى الجميع واختلف العلماء لاختلاف طرق تلك الروايات في القوة والضعف، وما هو معضود بعمل أهل المدينة، أو غيره وما ليس كذلك، فلا تفريط حينئذ. وقيل: لما كان ذلك من باب المندوبات لا من الواجبات التي يوجب تركها خللا ضعفت الداعية في ضبطها بحيث يصل إلى حد التواتر، ولم تهمل بالكلية بل نقلت نقلا صحيحا كثيرا، بخلاف قواعد الديانة أمرها مهم لا تضعف الداعية فيها، فلا تلحق بهذه الأمور، وضبط اللسان من قواعد الدين، بل هو من أصل كل أصل، وقاعدة كل قاعدة تقرير الناقض على الواضع هو أن الرواة يسمعون العرب يدخلون صيغة الاستثناء على صيغة الجمع المعرف، وسمعوهم يقولون: الاستثناء عبارة عما لولاه لاندرج المستثنى تحت الحكم، وبعد انفصال هؤلاء الرواة عنهم أبطلوا ذلك، ونقضوه، فنبقى نحن نبني على مقدمتين منسوختين، والبناء على المنسوخ الباطل باطل، فلا يصح الاستدلال بتلك المقدمتين حينئذ.

الثاني عشر: على قوله: "إنما ينتفي التناقض إذا كان الواضع هو الله تعالى". قلنا: التناقض هاهنا مفسر بإبطال ما تقدم من الوضع، وهذا ليس محالا على الله تعالىن فإن الله -تعالى- يجوز عليه إبطال الأحكام الشرعية، بل جملة الشرائع، فكيف لا يجوز أن يبطل وضع لفظة بإزاء معنى معين، بل نسخها أيسر من نسخ الشرائع، لتضمن الشرائع تحصيل المصالح ودرء المفاسد، بخلاف اختصاص اللفظ المعين بالمعنى المعين إنما هو للتعريف، وأي لفظ وضع غيره عرفه، وإن ترك مهملا اندرج في جملة مجهولات العالم، ولا يجب على الله أن يحصل لنا العلم بجميع المعلومات، بل يستحيل ذلك علينا، فظهر أن احتمال التناقض مشترك بين الله تعالى، وبين عباده. تقرير: يريد بقوله لا يثبتون شيئا من اللغة إلا هذا الطريق، يريد النقل أو المركب من النقل والعقل. الثالث عشر: قال التبريزي: جعله ذلك الطريق مركبا من العقل، والنقل بعيد، بل هو نقلي صرف، والنقل تارة يدل صريحا، وتارة يدل ضمنا، وإذا قال صاحب الشرع: السارق يقطع، والنباش سارق، قطع النباش بالنقل لا بالعقل، نعم لو ثبت كونه سارقا بضرب من النظر، أو أن السارق يقطع بضرب من النظر كالمناسبة، والاعتبار، وثبت الآخر بالنقل كان مركبا من العقل والنقل. أما إذا لم يكن للعقل تصرف سوى التفطن لوجه وجود الحكم، في النقلين فهو نقلي محض، فإن الدليل هو المنظور فيه، والمنظور فيه هاهنا هو النقل. جوابه: أن الإمام قال: إما العقل، أو النقل، أو ما تركب منهما، فإن

"تنبيه" ليس مراد العلماء بالنقل النقل عن الواضع

أراد بالتركب منهما حصول مقدمة من العقل لولاها لم يحصل المطلوب هي صغرى القياس، أو كبراه، أو تتوقف عليها إحداهما، كما تقدم في أن العلم التواتري مركب من العقل والحس، فإنه لولا قول العقل: هؤلاء يستحيل تواطؤهم على الكذب، لو فقدت لانتفى العلم التواتري، وهاهنا اللزوم حاصل، وإنما العقل تفطن لوجه اللزوم مع وقوعه في نفس الأمر، وفي صورة التواتر، ونحوه اللزوم ليس حاصلا إن كان المراد بالتركيب هذا المعنى فالسؤال متجه، وإن كان المراد بالنقل قول القائل: هذه الصيغة للعموم، أو هذه للخصوص، أو للفرس، أو للطير، ونحو ذلك، فما هو صريح هكذا لا يحتاج لا يحتاج لفكره، وبالمركب منهما ما يحتاج إلى فكره لم يرد السؤال؛ لأنه لم يوجد نقل على التقدير الذي ذكره الإمام قائل الصيغة للعموم، وإنما وجد نقلان في شيئين آخرين لا هما للعموم، ولا لازم العموم، بل قد يعرض الاستثناء للعموم، وقد لا يعرض، فتتعين صيغة العموم إنما جاءت حينئذ من جهة العقل مع النقل، فحسن إطلاق لفظ التركيب منهما، والإمام لم يدع إلا مطلق التركيب، لا تركيبا خاصا، ومن ادعى الأعم لا يرد عليه ما يرد على الأخص، فالسؤال مندفع. "تنبيه" ليس مراد العلماء بالنقل النقل عن الواضع، فإنه غير معلوم، فكيف ينقل عنه؟ بل المراد نقل الاستعمال عن أهل اللسان لا نقل الوضع، ويستدل بالاستعمال على أن الذي استعمل فيه اللفظ هو موضوعه ظاهرا بناء على مقدمة، وهي أن الأصل عدم المجاز، والنقل، فهذا هو تفسير النقل، وجميع ما ينقله الخليل والأصمعي، وغيرهما من هذا الباب.

الباب الثاني في تقسيم الألفاظ

الباب الثاني في تقسيم الألفاظ قال الرازي: وهو من وجهين: التقسيم الأول: اللفظ: إما أن تعتبر دلالته بالنسبة إلى تمام مسماه أو بالنسبة إلى ما يكون داخلا في المسمى من حيث هو كذلك، أو بالنسبة إلى ما يكون خارجا عن المسمى من حيث هو كذلك. فالأول: هو المطابقة. والثاني: التضمن. والثالث: الالتزام. *تنبيهات: الأول: الدلالة الوضعية هي: دلالة المطابقة، وأما الباقيتان فعقليتان؛ لأن اللفظ إذا وضع للمسمى انتقل الذهن من المسمى إلى لازمه، ولازمه إن كان داخلا في المسمى فهو التضمن، وإن كان خارجها فهو الالتزام. الثاني: إنما قلنا في التضمن: إنه دلالة اللفظ على الجزء المسمى من حيث هو كذلك؛ احترازا عن دلالة اللفظ على جزء المسمى بالمطابقة على سبيل الاشتراك، وكذلك القول في الالتزام. الثالث: دلالة الالتزام لا يعتبر فيها اللزوم الخارجي؛ لأن الجوهر والعرض

التقسيم الأول للمفرد

متلازمان، ولا يستعمل اللفظ الدال على أحدهما في الآخر، والضدان متنافيان، وقد يستعمل اللفظ الدال على أحدهما في الآخر؛ كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40] بل المعتبر اللزوم الذهني ظاهرا، ثم هذا اللزوم شرط لا موجب. ولنرجع إلى التقسيم، فنقول: اللفظ الدال بالمطابقة: إما ألا يدل شيء من أجزائه على شيء حين هو جزؤه، وهو المفرد الأبكم. وإما أن يدل كل واحد من أجزائه على شيء حين هو جزؤه، وهو المركب. وإما أن يدل أحد جزئيه دون الآخر، وهو غير واقع؛ لأنه يكون ضما لمهمل إلى مستعمل، وهو غير مفيد. أما المفرد، فيمكن تقسيمه على ثلاثة أوجه: الأول: أن المفرد: إما أن يمنع نفس تصور معناه من الشركة، وهو الجزئي، أو لا يمنع وهو الكلي. ثم الماهية الكلية: إما أن تكون تمام الماهية، أو جزءها، أو خارجا عنها. والأول: هو المقول في جواب "ما هو". والثاني: هو الذاتي. والثالث: هو العرضي. أما الماهية: فإما أن تكون ماهية واحد، أو ماهية أشياء. والأول: هو الماهية بحسب الخصوصية.

وأما الثاني: فتلك الأشياء لا بد وأن يخالف كل واحد منها صاحبه في التعين: فإما أن يحصل مع ذلك مخالفة بعضها بعضا في شيء من الذاتيات، أو لا يحصل. فإن كان الأول، فتمام القدر المشترك بينها من الأمور الداخلة فيها هو تمام الماهية المشتركة؛ لأن ما هو أعم منه لا يكون تمام المشترك، وما هو أخص منه لا يكون مشتركا، وما يساويه، فإن ساواه في الماهية، فهو هو لا غيره، وإن ساواه في اللزوم دون المفهوم، لم يكن هو تمام القدر المشترك. وإن كان الثاني، كان تمام القدر المشترك بينهما هو تمام ماهية كل منهما بعينه؛ إذ لو كان لكل واحد منهما ذاتي آخر وراء القدر المشترك، كانت المخالفة بينهما لا بالتعين فقط، بل وبالذاتيات، وقد فرض أنه لا مخالفة في الذاتيات؛ هذا خلف. وأما الذاتي: فهو إما أن يكون تمام الجزء المشترك، وهو الجنس، أو تمام الجزء الذي يميزه عما يشاركه في الجنس، وهو الفصل، أو المجموع الحاصل منهما، وهو النوع. وإما ألا يكون كذلك، فيكون ذلك جزء الجزء، وهو إما جنس الجنس، أو جنس الفصل، أو فصل الفصل. ثم إن الأجناس تترتب متصاعدة، وتنتهي في الارتقاء إلى جنس لا جنس فوقه، وهو جنس الأجناس. والأنواع تترتب متنازلة إلى نوع لا نوع تحته، وهو نوع الأنواع.

التقسيم الثاني للمفرد

وأما الوصف الخارج عن الماهية، فتقسيمه على وجهين: الأول: أن ذلك الخارجي، إما أن يكون لازما للماهية، أو للوجود، أولا يلزم واحدا منهما. ثم لازم كل واحد من القسمين قد يكون بوسط، وقد يكون بغير وسط، والذي يكون بوسط ينتهي إلى غير ذي وسط، وإلا لزم الدور أو التسلسل. وغير اللازم: قد يكون سريع الزوال، وقد يكون بطيئه. الثاني: أن الوصف الخارجي: إما أن يعتبر من حيث إنه مختص بنوع واحد لا يوجد في غيره، وهو الخاصة. أو من حيث إنه موجود فيه وفي غيره، وهو العرض العام. وهذا التقسيم وإن كان بالحقيقة في المعاني، لكنه عظيم النفع في الألفاظ. التقسيم الثاني للفظ المفرد: وهو: أنه إما أن يكون معناه مستقلا بالمعلومية، أو لايكون، والثاني هو: الحرف. والأول: إما أن يكون اللفظ الدال عليه دالا على الزمان المعين لمعناه، وهو الفعل. أو لا يدل، وهو الاسم، ثم الاسم تقسيمه من وجهين: الأول: أن الاسم إن كان اسما للجزئي، فإن كان مضمرا، فهو: المضمرات، وإن كان مظهرا فهو العلم.

التقسيم الثالث للمفرد

وإن كان اسما للكلي، فهو: إما أن يكون اسما لنفس الماهية، كلفظ السواد، وهو المسمى باسم الجنس في اصطلاح النحاة، أو لموصوفية أمر ما بصفة، وهو الاسم المشتق، كلفظ الضارب، فإن مفهومه: أنه شيء ما مجهول بحسب دلالة هذا اللفظ، لكن علم منه أنه موصوف بصفة الضرب. الثاني: أن الاسم هو: الذي يدل على معنى، ولا يدل على زمانه المعين. وهو على أقسام ثلاثة:، فإن المسمى قد يكون نفس الزمان، كلفظ الزمان واليوم والغد. وقد يكون أحد أجزائه الزمان كالاصطباح والاغتباق، ولهذا يتطرق إليه التصريف، وقد لا يكون زمانا ولا مركبا من الزمان، كالسواد وأمثاله. التقسيم الثالث للفظ المفرد: وهو: إما أن يكون اللفظ والمعنى واحدا، أو يتكثرا، أو يتكثر اللفظ ويتحد المعنى، أو بالعكس. أما القسم الأول: فالمسمى، إن كان نفس تصوره مانعا من الشركة ومظهرا فهو العلم. وإن لم يمنع، فحصول ذلك المسمى في تلك المواضع، إن كان بالسوية، فهو المتواطىء. أو لا بالسوية، فهو: المشكك، كالوجود الذي ثبوت مسماه للواجب أولى من ثبوته للممكن. إما إذا تكثرت الألفاظ وتعددت، أو تباينت المعاني، فهي المتباينة، سواء تباينت المسميات بذواتها، أو كان بعضها صفة للبعض، كالسيف والصارم، أو صفة للصفة كالناطق والفصيح.

وأما إذا تكثرت الألفاظ واتحد المعنى، فهو الألفاظ المترادفة، سواء كانت من لغة واحدة، أو من لغات كثرة. وأما إذا اتحد اللفظ وتكثر المعنى، فهذا اللفظ إما أن يكون قد وضع أولا لمعنى ثم نقل عنه إلى معنى آخر، أو وضع لهما معا. أما الأول: فإما أن يكون ذلك النقل لا لمناسبة بين المنقول إليه والمنقول عنه، وهو المرتجل. أو لمناسبة، وحينئذ: إما أن تكون دلالة اللفظ بعد النقل على المنقول إليه أقوى من دلالته على المنقول عنه، أو لا تكون. فإن كان الأول: سمي اللفظ بالنسبة إلى المنقول إليه لفظا منقولا، ثم الناقل، إن كان هو الشارع، سمي لفظا شرعيا. أو أهل العرف، فيمسى لفظا عرفيا، والعرف: إما أن يكون عاما، كلفظ الدابة، أو خاصا، كالاصطلاحات التي لكل طائفة من أهل العلم. وأما إن لم تكن دلالته على المنقول إليه أقوى من دلالته على المنقول عنه، سمي ذلك اللفظ بالنسبة إلى الوضع الأول حقيقة، وبالنسبة إلى الثاني مجازا. ثم جهات النقل كثيرة، من جملتها المشابهة، وهي المسمى بالمستعار خاصة. وأما إذا كان اللفظ موضوعا للمعنين جميعا، فإما أن تكون إرادة ذلك اللفظ لهما على السوية، أو لا تكون على السوية. فإن كانت على السوية، سميت اللفظة بالنسبة إليهما معا "مشتركا"، وبالنسبة إلى كل واحد منهما "مجملا"؛ لأن كون اللفظ موضوعا لهذا وحده، ولذلك وحده، معلوم؛ فكان مشتركا من هذا الوجه.

وأما إن كان المراد منه هذا أو ذاك غير معلوم، فلا جرم كان مجملا من هذا الوجه. وأما إن كانت دلالة اللفظ على أحد مفهوميه أقوى، سمي اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهرا، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولا. *تنبيه: الأقسام الثلاثة الأول مشتركة في عدم الاشتراك؛ فهي نصوص. وأما الرابع فينقسم إلى: ما إفادته لأحد مفهوميه أرجح من إفادته للثاني، وهو الظاهر، وإلى ما لايكون كذلك، وهو الذي يكون على السوية، وهو المجمل، أو مرجوحا، وهو المؤول. فالنص والظاهر يشتركان في الرجحان، إلا أن النص راجح مانع من النقيض، والظاهر راجح غير مانع من النقيض. فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم، فهو جنس لنوعين: النص والظاهر. والذي لا يقتضي الرجحان، فهو المتشابه، وهو جنس لنوعين: المجمل والمؤول. أما المركب فنقول: الحاجة إلى اللفظ المركب، كما تقدم، للإفهام، فالقول المفهم، إما أن يفيد طلب شيء إفادة أولية، أولا يفيده. فإن كان الأول: فإما أن يفيد طلب ذكر ماهية الشيء، وهو الاستفهام. أو طلب التحصيل، وهو إن كان على وجه الاستعلاء، فهو الأمر، وإن كان على وجه الخضوع، فهو السؤال، وإن كان على وجه التساوي، فهو الالتماس، وكذلك القول في طلب الامتناع.

وأما القول المفهم الذي لا يفيد طلب شيء إفادة أولية: فإما أن يحتمل التصديق والتكذيب، وهو الخبر، أولا يكون كذلك، وهو مثل التمني والترجي والقسم والنداء، ويسمى هذا القسم بالتنبيه تمييزا له عن غيره. وأنواع جنس التنبيه معلومة بالاستقراء لا بالحصر، هذا كله تقسيم دلالة المطابقة. أما تقسيم دلالة الالتزام، فنقول: المعنى المستفاد من دلالة الالتزام، إما أن يكون مستفادا من معاني الألفاظ المفردة أو من حال تركيبها. والأول قسمان؛ لأن المعنى المدلول عليه بالالتزام: إما أن يكون شرطا للمعنى المدلول عليه بالمطابقة، أو تابعا له. فإن كان الأول، فهو المسمى بدلالة الاقتضاء. ثم تلك الشرطية قد تكون عقلية، كقوله صلى الله عليه وسلم:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" فإن العقل دل على أن هذا المعنى لا يصح إلا إذا أضمرنا فيه الحكم الشرعي. وقد تكون شرعية كقوله: "والله، لأعتقن هذا العبد" فإنه يلزمه تحصيل الملك؛ لأنه لا يمكنه الوفاء بقوله شرعا إلا بعد ذلك. وأما إن كان تابعا لتركيبها، فإما أن يكون من مكملات ذلك المعنى، أو لا يكون. فالأول: كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب عند من لا يثبته بالقياس.

التقسيم الثاني للألفاظ

وأما الثاني: فإما أن يكون المدلول عليه بالالتزام ثبوتيا، أو عدميا. أما الأول، فكقوله تعالى: {فالآن باشروهن} [البقرة:187] ومد ذلك إلى غاية تبين الخيط الأبيض؛ فيلزم فيمن أصبح جنبا ألا يفسد صومه، وإلا وجب أن يحرم الوطء في آخر جزء من الليل بقدر ما يقع الغسل فيه. وأما الثاني، فهو: أن تخصيص الشيء بالذكر، هل يدل على نفيه عما عداه؟ والله أعلم. التقسيم الثاني للألفاظ اللفظ الدال على معنى: إما أن يكون مدلوله لفظا، أو لا يكون، والثاني بمعزل عن اعتبارنا. والذي مدلوله لفظ: فإما أن يكون لفظا مفردا، أو مركبا، وكلاهما إما أن يكون دالا على معنى، أو ليس بدال على معنى، فهذه أربعة. أحدها: اللفظ الدال على لفظ مفرد دال على معنى مفرد، وهو: لفظ الكلمة وأنواعها، وأصنافها، فإن لفظ الكلمة يتناول لفظ الاسم، وهو لفظ مفرد يتناول لفظ الرجل، وهو لفظ مفرد دال على معنى مفرد، وكذا القول في جميع أسماء الألفاظ، كالقول والكلام، والأمر والنهي، والعام والخاص، وأمثالها. وثانيها: اللفظ الدال على لفظ مركب موضوع لمعنى مركب، وهو كلفظ الخبر؛ فإنه يتناول قولك: زيد قائم، وهو لفظ مركب دال على معنى مركب. وثالثها: اللفظ الدال على لفظ مفرد لم يوضع لمعنى، وهو الحرف المعجم؛ فإنه يتناول كل واحد من آحاد الحروف، وتلك الحروف لا تفيد شيئاً.

شرح القرافي

فإن قلتَ: أليس أنهم قالوا: لفظ الألف اسم لتلك المدة؟! قلتُ: ليس المراد من قولي: الحرف لا يفيد شيئا إلا نفس تلك المدة، وكذا القول في سائر الحروف. ورابعها: اللفظ الدال على لفظ مركب لم يوضع لمعنى، والأشبه أنه غير موجود؛ لأن التركيب إنما يصار إليه لغرض الإفادة، فحيث لا إفادة فلا تركيب. واعلم أن في البحث عن ماهية الاسم والفعل والحرف دقائق غامضة، ذكرناها في كتاب "المحرر" في دقائق النحو، والله أعلم. البحث الأول في تفسير دلالة اللفظ قال القرافي: "اللفظ إما أن تعتبر دلالته ... " إلى قوله: "الدال بالمطابقة إما ألا يدل بشيء من أجزائه" ذكر ابن سينا (¬1) في "الشفاء" عن المتقدمين فيها تفسيرين: أحدهما: أنه فهم السامع من كلام المتكلم كمال المسمى، أو جزءه، أو لازمه. وثانيهما: أن دلالة اللفظ كونه بحيث إذا أطلق فهم السامع منه كمال المسمى، أو جزءه، أو لازمه. فهذا هو اللفظ الدال، والذي بحيث إذا أطلق لا يفهم منه ذلك هو غير دال، واختار المتأخرون الحد الأول، واستدلوا على صحة ما ذهبوا إليه بأن

اللفظ إذا دار بين المتخاطبين، وحصل فهم السامع منه، قيل: هو لفظ دال، وإن لم يحصل قيل، ليس بدال، فقد دار إطلاق لفظ الدلالة مع الفهم كدوران [لفظ الإنسان مع الحيوان الناطق] وجودا وعدما، وسائر المسميات مع أسمائها، لا يقال: إن الدلالة غير الفهم، لتعليلنا أن الدلالة بحصول الفهم، فنقول: هذا لفظ دال؛ لأنه مفهم، والعلة مغايرة للمعلول؛ لأن التعليل قد يكون مع الاتحاد في كل حد مع محدوده، فنقول: هذا إنسان؛ لأنه حيوان ناطق، وكذلك جميع الحقائق مع حدودها، وإذا كان التعليل أعم من التغاير لا يستدل به على التغاير؛ لأن الأعم غير مستلزم للأخص. احتج أرباب المذهب الآخر بأن الدلالة صفة للفظ، فيقال: لفظ دال، وعلة ما ذكره الفريق الأول تكون الدلالة صفة للسامع، لأن الفهم صفة للسامع، فهذا التفسير باطل قطعا، ويتعين أن الصحيح هو التفسير الآخر. أجاب الفريق الآخر من وجهين: أحدهما: أن الدلالة كالخياطة، والنجارة، والصياغة، وكما أن النجارة في الخشب، والصياغة في الحلي، والخياطة في الثوب، والناجر والصائغ هو الفاعل، وكذلك الدلالة مع السامع؛ لأنه موضع تأثير اللفظ، واللفظ هو الفاعل. وثانيهما: أن تسمية اللفظ دالا باعتبار أنه [بحيث] إذا أطلق أفهم، تسمية له باعتبار ما هو قابل له، فهو كتسمية الخمر مسكرا، والماء مرويا، وهو مجاز اتفاقا، وتسميته دالا باعتبار أنه حصل الفهم في ذهن السامع

"فائدة" قال اللغويون: يقال: "دلالة فائدة" بالفتح

تسمية له باعتبار ما هو حاصل له بالفعل لا بالقوة، وأنه حقيقة إجماعا، والتسمية بالحقيقة أولى من المجاز، فيترجح تفسيرنا على ذلك التفسير. ويمكن الجواب عن هذين الوجهين بأن الصياغة، ونحوها مصادر، والأصل في المصادر لا يوصف بها إلا الفاعلون، وإطلاقها على آثارها، وهي الهيئات الحاصلة في المحال مجاز من باب إطلاق السبب على المسبب، أو المتعلِّق على المتعلَّق، والأصل في الكلام الحقيقة. وعن الثاني: أن الفهم الحاصل للسامع ليس حاصلا للفظ بل للسامع؛ لأنه آثر الأطلاق، فكان ينبغي أن يقولوا: دلالة اللفظ هو إفهامه السامع، لا فهم السامع للمتكلم لما يقولونه. واعلم أنه يتلخص من كلام الفريقين أن دلالة اللفظ إفهامه السام ما تقدم ذكره، وفهم السامع مطاوعة؛ لأنك تقول أفهمني ففهمت، كما تقول: كسرته فانكسر، ودفعته فاندفع، وعلمته فتعلم، فالإفهام صفة للفظ، والفهم أثره، وهو صفة للسامع، ويحصل الجمع بين هذه القواعد التي ذكرها الفريقان، وتندفع الإشكالات كلها. "فائدة" قال اللغويون: يقال: "دلالة فائدة" بالفتح، أي: بفتح الدال وكسرها. قال ابن الخشاب في "شرح المقامات": العرب تفرق بين الفَعالة

البحث الثاني في تحديد أنواع الدلالة وهي ثلاثة

والفِعالة والفُعالة، فبالفتح للسجايا النفيسة كالشجاعة والسخاوة، والصرامة، وبالكسر لما هو صنعة كالنجارة والخياطةن والصياغة، والفُعالة بالضم لما يطرح ويخرج من الشيء كالنخالة، والقمامة، والنقاوة، والكناسة، ونقاوة المتاع: خياره؛ لأنه يخرج منه، وقد تستعمل هذه الأوزان في غير ذلكن لكن كثر استعمالها في هذه المواد، ومقتضى ذلك أن يرجع الكسر في دال الدلالة، لأنها محاولة ومعاطاة من المستعمل أن يلاحظ أنها تعتبر بسبب الوضع كالسجية للفظ، كما تصير الشجاعة بسبب الطبع الذي طبعه الله -تعالى- للشخص. البحث الثاني في تحديد أنواع الدلالة وهي ثلاثة: الأولى: دلالة المطابقة وهي: فهم السامع، أو إفهامه من كلام المتكلم كمال المسمى، كفهم مجموع العشرة من لفظها. الثانية: ودلالة التضمن هي: إفهام اللفظ للسامع مع جزء المسمى، كإفهام لفظ العشرة السامع له الخمسة منه. الثالثة: ودلالة الالتزام هي: إفهام اللفظ للسامع مع لازم المسمى البين.

البحث الثالث في تعليل تسميتها بذلك

البحث الثالث في تعليل تسميتها بذلك فأقول: اللفظ إذا وضع لمعنى زاد عما تحته وقصر عما فوقه وانطبق على مسماه، فصارت المطابقة للمسمى باعتبار اللفظ، ولنمش الآن على طريق المتأخرين فنقول: سمي الفهم المتعلق بالمسمى مطابقة من باب [تسمية] ما يستحقه المتعلق [بالفت] على المتعلق بالكسر، والجزء في ضمن الكل، فصار التضمن حكما للجزء باعتبار كله، فسمي الفهم المتعلق بالجزء تضمنا من باب تسمية المتعلق بالكسر بما يستحقه المتعلق بالفتح في اللازم، واللازم بينه وبين المسمى التزام، فصار الالتزام حكما للازم باعتبار ملزومه، فسمي الفهم المتعلق باللازم التزاما من باب تسمية المتعلق بما يستحقه المتعلق، فهذه التسميات الثلاثة منقولة عن مجاز واحد لغوي، وهو إطلاق ما يستحقه المتعلق على المتعلق، وعلى طريقة الأوائل، والذي اخترته تكون الدلالة صفة اللفظ والمطابقة صفة له باعتبار مسماه، فتكون تسمية الدلالة مطابقة من باب إطلاق ما يستحقه الموصوف الذي هو اللفظ على الصفة التي هي الدلالة التي هي الصفة الأخرى للفظ، والتسميتان الأخريان تبقيان على حالهما، كما تقدم تعليلهما. وكان يمكن أن أقول في [التعليل] الأول: المطابقة حكم للفظ باعتبار مسماه، وفي التضمن حكم للكل باعتبار جزئه، وفي الالتزام حكم للملزوم باعتبار لازمه، لأن النسبة الواقعة بين الشيئين يمكن أن يوصف بها كل واحد منهما، غير أن الذي اخترته من العبارة يقتضي انتظام الثلاثة على نسق واحد.

البحث الرابع في أن تقسيم الدلالة إلى هذه الثلاثة

ولذلك اخترته، فأقول: [حكما] للمسمى باعتبار لفظه، وللجزء باعتبار كله، وللازم باعتبار ملزومه، فتكون العبارة والإضافة متناسبة الوزن خفيفة على السمع البحث الرابع في أن تقسيم الدلالة إلى هذه الثلاثة: المطابقة والتضمن والالتزام من باب القضايا المنفصلة المانعة للخلو، أو مانعة الجمع، أو مانعتهما، فمانعة الخلو [قلنا] إما أن يكون زيد في مائع، وإلا ألا [يعرف] فيمكن اجتماعهما بأن يكون في البحر، ولا يعرف، ويمنع خلو زيد عنهما. ومانعة الجمع نحو: هذا العدد [المسمى، وكذلك العدد] أو أكثر يمنع اجتماعهما، ويمكن الخلو عنهما بأن يكون أقل. ومانعتهما: العدد إما زوج، أو فرد، وبسط هذا وضوابطه في علم المنطق، فلا يقال: تقسيم الدلالة لهذه الأقسام يقتضي ألا يجتمع فيها اثنان كالزوج والفرد، بل هذه القضية مانعة الخلو فقط، كما قلنا: العلم إما تصور أو تصديق، مع إمكان اجتماعهما، فإن كل تصديق فيه تصوران، والباب واحد، فإن المفهوم علوم، [أو ظنون] على حسب الكلام، والمتكلم به.

البحث الخامس في أن الحصر هل هو ثابت في هذه الثلاثة أم لا؟

البحث الخامس في أن الحصر هل هو ثابت في هذه الثلاثة أم لا؟ فأقول: الدليل على الحصر: أن المدلول إما ما وضع له اللفظ أو لا. والأول: دلالة المطابقة. والثاني: إما أن يكون المدلول داخلا فيما وضع له اللفظ أو لا، فالأول دلالة التضمن. [والثالث] الالتزام، فثبت بهذا التقسيم الدائر بين النفي والإثبات الحصر في الثلاث. فإن قيل: هذا الحصر باطل بأمور سبعة: الأول: أن اللفظ الواقع في البراهين نحو قولنا: العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث، فهذه العبارات في هذه المقدمات دالة على حدوث العالم، ودلالتها لا يمكن أن يقال: إنها مطابقة، فإن الدليل فيها إنما نشأ عن مجموع هذه الألفاظ لا عن بعضها، والمجموع لم يوضع لحدوث العالم حتى يدل عليه مطابقة ولا تضمنا، لأن التضمن: هو دلالة اللفظ على جزء مسماه، ومجموع هذه الألفاظ ليس له مسمى حتى يكون حدوث العالم جزءه ولا أكثر، أما أنه ليس [لها] مسمى؛ [لأن حدوث] العالم لزمه، فإن جزء المسمى ولازم المسمى فرع المسمى، فحيث لا مسمى ينتفيان، فهذه دلالة واقعة فيبطل الحصر في الثلاث. الثاني: أن لنا مفهوم الكلية والكل والكلي.

مفهوم الكلية والكل والكلي

فالكلية: القضاء على كل فرد فرد حتى لا يبقى من تلك المادة فرد. والكل: هو المجموع من حيث هو مجموع. والكلي: هو القدر المشترك بين الأفراد. وبيانها بالمثال إذا قلنا: كل رجل يشبعه رغيفان غالبا، إن أردنا بالكلية كل فرد فرد على حاله صدق الحكم، وإن أردنا الكل الذي هو المجموع كذبت القضية، فإن المجموع لا يشبعه آلاف. عكسه إذا قلنا: كل رجل [يشيل] الصخرة العظيمة، يصدق ذلك باعتبار الكل الذي هو المجموع، ويكذب باعتبار كل واحد [واحد]، وإذا [قلت] الإنسان نوع، صدقت باعتبار الكلي الذي هو القدر المشترك، وكذبت باعتبار كل [فرد] وباعتبار المجموع، فإن النوع هو المقول على كثيرين مختلفين بالعدد فقط في جواب ما هو، والمجموع لا يمكن حمله على أحد من الناس، فيقال: زيد مجموع الناس، وكذلك كل فرد يشير إليه لا يمكن حمله على اثنين من بني آدم، فالمجموع حينئذ ليس المجموع ولا كل فرد على [حاله] فهو القدر المشترك، وهو الكلي وإذا ظهر الفرق بين الكل والكلي والكلية يظهر من ذلك الفرق بين الجزء والجزئية والجزئي، فالجزء بعض الكل، والجزئية بعض الكلية، والجزئي هو الشخص [الواحد] المعين من الكلية، كزيد من أفراد الإنسان.

إذا تقررت هذه الفروق وتميزت هذه الحقائق فأقول: إذا فرضنا لفظا وضع بإزاء الكلية، كما قاله أرباب العموم في صيغ العموم، فدلالة ذلك اللفظ على فرد من تلك الكلية، كما في لفظ (المشركين) بالنسبة إلى (زيد المشرك) خارجة عن الدلالات الثلاث، لا جائز أن تكون مطابقة؛ لأن لفظ الكلية لم يوضع له وحده، ولا تضمنا؛ لأن دلالة التضمن هي دلالة اللفظ على جزء مسماه، والجزء إنما يقال بالقياس إلى الكل، وهذه كلية لا كل، فليس (زيد المشرك) حينئذ جزءا بل جزئية، ولا التزاما، لأن الفرد في الكلية ليس لازما خارجا عن المسمى، ولو خرج هذا الفرد لخرج كل فرد، ولا يبقى بعدها مسمى حينئذ، فالفرد ليس لازما، فليس فيه دلالة التزام، فهذه دلالة غير الدلالات الثلاث. الثالث: أنا إذا سمعنا لفظ (خنفشار) مثلا من المهملات تكرر مرارا كثيرة بصوت حنين دلنا على أن الناطق به حي آدمي، يقظان إلى غير ذلك مما تفهمه من أحوال هذا المتكلم، وليس هذه الدلالة مطابقة؛ لأن هذا اللفظ فرضناه مهملا، فليس له مسمى، ولا تضمنا؛ لأن جزء المسمى فرع المسمى، ولا التزاما؛ لأن لازم المسمى فرع المسمى، ولا مسمى فهذه الدلالة غير الثلاث. الرابع: أن العالم يدل على صانعه، وليس اسما له، ولا [صانعه] جزؤه، ولا لازمه، وكذلك دلالة جميع الأفعال على الحياة، والعلم والقدرة والإرادة والغضب والرضا وغير ذلك. الخامس: الحروف الكتابية: كل واحد منها يدل على صوت مخصوص،

فقولنا: (قاف) يدل على [الحرف] [الأول] من (قال) و (ألف) يدل على الثاني منه، و (لام) يدل على الثالث منه، ودلالة كل واحد من الحروف الثمانية والعشرين على مسمياتها دلالة مطابقة؛ لأنها وضعت لها في اصطلاح الكتاب، والحروف الكتابية ليست ألفاظا مع وجود دلالة المطابقة فيها، فلا يكون تحديد دلالة المطابقة بدلالة اللفظ على مسماه جامعا، بل قد خرج منه بعض دلالة المطابقة. السادس: دلالة اللفظ المركب كقولنا: الإنسان كاتب بالقوة في هذا العالم بإذن الله -تعالى- مجموع هذا اللفظ يدل على نسب مخصوصة، وإسنادات مخصوصة، مؤلفة مرتبطة بعضها ببعض، ومجموع هذا اللفظ لم يوضع لمجموع هذا المعنى، فليس مطابقه، وليس مجموع هذا المعنى جزء المسمى هذا المجموع، ولا لازما له لعدم التسمية [به]، فدلالته خارجة عن الدلالات الثلاث مع أنها ألفاظ، وليست مهملة [فما] انحصرت دلالة اللفظ الموضوع، أو تفرع على مذهب المصنف في أن العرب ما وضعت المركبات، فيكون هذا المركب مهملا، وقد دل على معاني قصدت العرب الدلالة عليها، والدلالة فيها تتبع [مركبات] العرب، وليست مستفادة من جهة العقل، فما جمع الحد أنواع الدلالة. السابع: أن حروف المعاني نحو (ليت) و (لعل) يدل الأول على التمني والثاني على الترجي، فإن كانت هذه مطابقة يلزم أن يكون التمني مسمى (ليت) مثلا. فتكون (ليت) اسما له، والتقدير أنها حرف لا

اسم، ويلزم [أنها] تدل على معنى في نفسها، وأن تستقل بإفهام معنى كالأسماء، والنحاة منعوا ذلك، وقالوا: إن الحرف لا يستقل، ولا يقال [إن] حرف لمعنى يدل لا تضمنا ولا التزاما لعدم المسمى، كما تقدم، فيتعذر جزء المسمى ولازم المسمى. والجواب عن الأول: أن الألفاظ للبراهين لم تدل على حدوث العالم وغيره من النتائج الكائنة بعدها إلا بالعقل، وما دل بالوضع إلا على مفردات المعاني في تلك البراهين، ونحن حيث حصرنا الدلالة في الثلاث إنما تعرضنا لحصر الدلالة الناشئة عن الوضع، وهذه بالعقل، فلا يرد علينا، كمن تعرض لحصر النامي الذي هو حيوان في الناطق والبهيم، لا يرد عليه الشجر. وعن الثاني: أن لفظ الكلية موضوع للقدر المشترك بقيد تتبعه في جميع أفراده على ما يأتي بسطه إن شاء الله -تعالى- في (باب العموم والخصوص)، وقيد التتبع في الكل جزؤه التتبع في البعض، فتكون دلالة اللفظ عليه دلالة تضمن من هذا الوجه لا من جهة أنه بعض للكلية، بل من جهة أنه بعض القيد الواقع فيها، وهو التتبع في الكل، فإن العام موضوع لقيدين المشترك وقيد التتبع، فقيد التتبع جزء المسمى، والتضمن باعتبار جزء هذا الجزء، لا باعتبار جزء المسمى، فهو من الدلالة العربية التي لا نظير لها، أو تفسر دلالة التضمن بدلالة اللفظ على جزء مسماه الذي هو أعم من الجزء والجزئية، ويريد بالجزء ما يعم الأمرين وهو كونه بعضا، وهو وإن كان خلاف ظاهر إطلاقهم إلا أنه يحتمله، وهو من المواضع المشكلة جدا فتأمله.

وعن الثالث: أن دلالة خنفشار ونحوه من المهملات على [ما تقدم] دلالة عقلية أو عادية، والمدعى حصر الدلالة الوضعية، فلا يرد، وهو الجواب عن الرابع. [وأما دلالة الحروف الكتابية وهو الخامس]: على مفردات الحروف الصوتية وضعية، وكذلك الإشارات [القولية] كثير منها يدل بالوضع على خصوص المشار إليه، وهي دلالة مطابقة، غير أنا لم نعن بتقسيمنا في دلالة اللفظ الحدود للدلالات الثلاث، بل تعريف أن الدلالة الناشئة عن اللفظ، فالوضع لا يخرج عن الثلاث. وإن القضية مانعة الخلو في هذا الشيء الخاص؛ لأنها مانعة الجمع، أو الجمع والخلو كما تقدم بيانه، وكقولنا: إما أن يكون زيد في البحر، وإما ألا [يعرف]، وإنه لا يخلو عن هذين الأمرين كلام صحيح، ولا يرد عليه أن عمرا أيضا حصل له ذلك؛ لأنا لم نعرض لتحديد هذه الأحوال، بل لتعريف أن زيدا لا يخلو عنهما فقط، كذلك هاهنا يجوز حصول المطابقة في غير اللفظ، ولا يقدح ذلك فيما ذكرناه، [وكذلك] لما ذكرنا الحصر حصرنا في الثلاث، ولم نتعرض لحصر الثلاث في دلالة اللفظ، فتأمل ذلك. وعن السادس: أن الصحيح أن المركبات وضعتها العرب كما وضعت المفردات، فوضعت المفرد دالا على المفرد، والمركب دالا على المركب على

البحث السادس في قوله (من حيث هو جزؤه)

ما يأتي بيانه في (المجاز والحقيقة) إن شاء الله تعالى، لأنه [في] موضعه، وعلى هذا التقدير يندرج في مقصودنا. ونحن لما قسمنا دلالة اللفظ لم نقيده [بالمفرد]، بل عنينا به اللفظ من حيث هو لفظ مفرد [مفردا] كان أو مركبا، فلا يرد المركب، مع أنا لو قيدناه بالمفرد كان ذلك التقييد كتقييدنا الدال باللفظ، فيكون الجواب عنه كالجواب عن الحروف الكتابية. وعن السابع: أن حروف المعاني اسم لتلك المفردات التي دلت عليها في وضع [اللفظ]، وإنما [النحاة] اصطلحوا على تخصيص لفظ الاسم ببعض موارده الذي هو أشرفها، وبحثنا نحن بحسب الوضع اللغوي فلا ترد الحروف؛ لأنا نلتزمها من جملة مرادنا [للأسماء]، ونحن لم نقسم الاسم، بل اللفظ الذي هو أعم. البحث السادس في قوله (من حيث هو جزؤه) احترز به عن وضع لفظ المسمى لجزئه بالاشتراك، فيصير للفظ المسمى على جزئه دلالتان: دلالة تضمن باعتبار الوضع الأول، ودلالة مطابقة باعتبار الوضع الثاني، وكلامه في هذا التقسيم يجري مجرى الكليات التي لا تختص بالواقع من الوضع، ولا بلغة العرب، بل بما وقع، وكل ما يمكن وقوعه، فكأنه يقول: كلما اعتبر اللفظ بالنسبة إلى بعض مسماه كان تضمنا، فيقال له: على هذا التقدير قد يعتبر اللفظ

بالنسبة إلى بعض مسماه ولا يكون تضمنا، بل مطابقة، وهو الاعتبار الناشئ عن الوضع للجزء، والكلية تبطل بفرد، فيحتاج إلى أن يقول: إنما دل اللفظ على جزء مسماه مطابقة، من حيث كمال المسمى، لا من حيث هو جزؤه. فأقول: (من حيث هو جزؤه) ليخرج من حيث هو كله، والجماعة يمثلون ذلك بلفظ الإمكان، فإنه موضوع للإمكان العام، والخاص والعام جزء الخاص كما تقدم بيانه في تحديد الحسن والقبح، فهو حينئذ لفظ موضوع للجزء والكل، وفي النفس منه شيء، فلعله ما وضع لذلك، بل [قوله]: إمكان عام لأحدهما، وإمكان خاص للآخر، هذا المجموع هو الموضوع لأحدهما، والمجموع الآخر للمعنى الآخر، فلا اشتراك حينئذ، وأجد أحسن من ذلك للتمثيل لفظ الحرف، فإنه موضوع لكل حرف من الحروف الدالة على المعنى، لجزئه، بل لكل جزء من أجزائه، فإن (ليت) -مثلا- حرف، والحرف الأول منها يسمى جزءا، وكذلك الثاني، والثالث وكذلك (قد) حرف تحقيق، [والأول] منها حرف، والجزء الثاني وهو الدال حرف أيضا، وكذلك القول [في] الالتزام من حيث هو كذلك، غير أن تمثيله أعسر من تمثيل التضمن، فأين لنا لفظ وضع لمعنى وضع مع ذلك للازمه مثلما وضع له ولجزئه؟ وإن كان إمكانه ظاهرا غير أن العسر هو تمثيل الواقع منه، وقد وقع في اللغة [منه] لفظ [مفعل] فإن أئمة اللغة قالوا: هو اسم للزمان والمكان والمصدر، وهو ثلاثة متلازمة في العادة،

فيكون اللفظ موضوعا للشيء ولازمه، فلا فعل إلا في زمان ومكان غالبًا، ويكفي ذلك في صحة الملازمة وصحة التمثيل، وكذلك قول العرب] في [المختار، والمختص،] والمعتد [كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة اسم للفاعل، والمفعول، والمفعول لازم الفاعل عقلًا. (فائدة وسؤال) أول من ذكر في الدلالة هذه الحيثية الإمام فخر الدين وتابعه عليها أصحابه من بعده، والمتقدمون اكتفوا بقرينة قولهم: مسمى اللفظ وجزؤه ولازمه؛ فإن قرينة الجزئية واللازمية مشعرة بأنه ليس كمال المسمى، ولا هو المسمى فاكتفوا بذلك، فإن كانت هذه القرائن كافية، فلا حاجه لهذه الحيثيات؛ فإنه حشو خال عن الفائدة، وإن كانت ليست كافية، فيلزم ذكر الحيثية أيضا في دلالة المطابقة، فإن لفظ المسمى كما يجوز أن يوضع لجزئه يجوز أن يوضع له مع غيره، فتصير دلالته عليه حينئذ تضمنًا لا مطابقة، كوضع لفظ العشرة للخمسة عشر، فيصير دالًا على العشرة دلالة المتضمن باعتبار الوضع الثاني، فيحتاج للحيثية في المطابقة، كما احتجنا إليها في الدلالتين الأخريين، وهو سؤال متجه.

البحث السابع في قوله في (المحصول): أو بالنسبة إلى ما يكون خارجا عن المسمى

البحث السابع في قوله في (المحصول): أو بالنسبة إلى ما يكون خارجا عن المسمى، ولم يشترط أمرا زائدا، وهذا القدر لا يكفي، وإن كان قد يكفي. أما أنه لا يكفي؛ فلأن الخارج عن المسمى قد يكون عارضا، ولازما خفيا، فلا يدل اللفظ عليه، ولابد من اشتراط اللزوم البين في دلالة الالتزام، وهو كون اللازم لا ينفك عن المسمى في الذهن. وأما أنه قد يكفي؛ فلأنه إنما قسم فيما ينشأ عن الدلالة اللفظ، ومتى لم يكن اللازم بينا لا ينشأ فهمه عن اللفظ، بل عن أمر زائد غير اللفظ، فلا ينسب حينئذ إلى اللفظ، بل لذلك الزائد، والكلام إنما هو في دلالة اللفظ، لا في دلالة غيره، فلا حاجه إلي هذا التقيد؛ لأنه مندرج في العبارة المذكورة، وعلي التقديرين فلابد من بيان اللزوم البين، سواء ورد إهماله على المصنف أم لا. فأقول: الحقائق أربعة أقسام: متلازمة في الذهن، والخارج. ولا متلازمة في الذهن، ولا في الخارج. وفي الذهن فقط.

] وفي الخارج فقط [. فالأول: كالسرير والارتفاع [فقط]، فإن السرير إذا وقع في الخارج لزمه الارتفاع من الأرض، وإذا تصورناه في الذهن وقع معه في الذهن الارتفاع من الأرض، فهما متلازمان فيهما. والثاني: كالسرير، وذلك أنه لا يلزم من وجود أحدهما وجود الأخر خارجا، ولا ذهنا، فإنا قد نتصور أحدهما، ونذهل عن الآخر. والثالث: كالسرير، والإمكان، فإن الإمكان] يلزم [السرير في الخارج، فلا يوجد إلا وهو ممكن، ويستحيل خلاف ذلك، فهما متلازمان في الخارج، مع أنا قد نتصور أحدهما، ونذهل عن الأخر، فليس متلازمين في الذهن؛ لأنا نعني ب (اللازم) ما لا يفارق. والرابع: كزيد إذا أخذ بقيد كونه نجار السرير، فإنا إذا تصورناه من جهة كونه نجار السرير استحال ألا نتصور السرير مع أنه لا ملازمة في الخارج، وكذلك السواد إذا أخذ] بقيد [كونه ضد البياض، وتصوره من هذا الوجه استحالة ألا يتصور البياض مع التلازم، بل هما متنافيان، وهذه الملازمة نشأت عن أخذ السواد بقيد هذا الاعتبار، أما السواد من حيث هو سواد لا يلزم من تصوره] تصور [البياض. إذا تقررت هذه الأقسام الأربعة، فأعلم أنه يندرج في دلالة الالتزام منها اثنان:

(تنبيه) الملازمة قد تكون: عقلية وشرعية

المتلازمان في الذهن [والخارج]. والمتلازمان لا في الذهن، ولا في الخارج. فإنه متى حصل الشعور بأحد هذين إنما يكون لقرينة ماضية، أو حاضرة، أو غير ذلك مما هو زائد على اللفظ، فالدلالة منسوبة لذلك الزائد لا للفظ، فلا يقال: أن اللفظ دال على ذلك] العارض [. (تنبيه) الملازمة قد تكون: عقلية: كالزوجية للاثنين. وشرعية: كالجزية للكفر. وعادية:] كالارتفاع والسرير [. ] وقد تكون قطعية كالزوجية [، وقد تكون ظنية ضعيفة جدا، كما إذا كانت عادة زيد إذا أتانا جاء معه عمرو، فمتى تصورنا أحدهما انتقل الذهن للآخر لأجل ذلك الاقتران، وإن لم يحصل إلا مرة واحدة، والمرة الواحدة لا توجب ملازمة بين الشخصين في الخارج ولا نقطع بها، بل قد تكون كلية كالزوجية للعشرة، وقد تكون جزئية كملازمة المؤثر للأثر حالة وجوده في زمن حدوثه في تلك الحالة فقط، والكلية في علم المنطق ما

البحث الثامن في أن هذه الملازمة شرط لا سبب

تلزم في جميع الأحوال الممكنة، والجزئية ما تلزم في بعضها] فقط [، هذا النحو محرر هناك، ومنه ملازمة الطهارة الصغرى للطهارة الكبرى زمن الارتفاع فقط، ولذلك لا يلزم من عدم هذا اللازم الذي هو الطهارة الصغرى عدم] الملزوم [الذي هو الطهارة الكبرى، وهذا من خصائص الملازمة الجزئية، ولا يلزم من عدم اللازم عدم الملزوم لاحتمال وجوده بدونه في الحالة التي هو ليس لازما له فيها، فإن لم تعلم هذا أشكل عليك الجواب عن الطهارتين، وجميع] ما ذكر [. البحث الثامن في أن هذه الملازمة شرط لا سبب؛ لأن الشرط ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. فالقيد الأول احترزنا به عن المانع؛ فإنه لا يلزم من عدمه شيء. والثاني: احتراز من السبب. والثالث: احترازا من مقارنة وجوده لوجود السبب، فإنه يلزم الحكم حينئذ، لكن لأجل السبب لا لأجل وجود الشرط. والسبب ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته. فالأول: احتراز من الشرط. والثاني: احتراز من المانع. والثالث: احتراز من مقارنة وجوده لوجود المانع، فلا يلزم الوجود أو

سؤال

مقارنة عدمه بخلاف سبب آخر، فلا يلزم العدم، ولكن ذلك ليس لذاته، بل لغيره. والمانع ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود، ولا عدم لذاته. فالأول: احتراز من السبب. ] والثاني: احتراز من الشرط [. والثالث: احتراز من مقارنة عدمه عدم السبب أو عدم الشرط، فيلزم العدم، لكن ذلك ليس لذاته، بل لعدم السبب، إذا] اتضحت [هذه الحقائق فالملازمة الذهنية يلزم من عدمها العدم، ولا يلزم من وجودها وجود ولا عدم، بل يتوقف وجود الدلالة الالتزامية على الإطلاق، فالإطلاق هو السبب وهي الشرط. (سؤال) لم] لا عكستم [، أو سويتم؛ فإن اللفظ أيضا لا يستقل بدلالة الالتزام حتى تحصل الملازمة الذهنية؟ فنقول: الملازمة سبب، والإطلاق شرط عكس ما ذكرتموه، أو لا ترجحوا أحدهما على الآخر. جوابه: الفرق أنا وجدنا الإطلاق يستقل بالدلالة في صورة المطابقة، ولم نجد الملازمة الذهنية تستقل في صوره، فجعلنا الإطلاق هو السبب لحصول

البحث التاسع فيما بين الدلالات الثلاث من العموم والخصوص

الشهادة له بذلك في المطابقة، ولم يحصل للملازمة سببا لعدم الشهادة لها بالاعتبار. البحث التاسع فيما بين الدلالات الثلاث من العموم والخصوص فالمطابقة أعم منهما مطلقا؛ لأنه كلما وجدت دلالة التضمن، أو دلالة الالتزام وجدت دلالة المطابقة؛ لأن شيئًا لم يسم حينئذ، فاللفظ يدل عليه مطابقة، وقد توجد دلالة المطابقة، ولا يوجدان في اللفظ الموضوع للبسائط التي ليست لها لوازم بينة، فالمطابقة حينئذ أعم مطلقا، أما هما، فكل واحد منهما أعم من الآخر، وأخص من وجه؛ لأن الأعم والأخص من وجه، هما اللذان يجتمعان في صورة، ويوجد كل واحد منهما وحده كالأبيض والحيوان، فيوجد] الحيوان ولا أبيض في الزنجي [، والأبيض ولا حيوان في الجير واللبن، وهما معا كالصقالبة، كذلك هاهنا يوجد التضمن، والالتزام كما في اللفظ الموضوع للمركبات التي ليست لها لوازم بينة] والالتزام بدون التضمن في اللفظ الموضوع للبسائط التي لها لوازم بينة [ويجتمعان معا في اللفظ الموضوع للمركبات التي لها لوازم بينة. البحث العاشر في مدرك خلاف العلماء في أن الدلالات الثلاث هل هي وضيعة، أو المطابقة فقط والأخريان عقليتان؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين، واختار سيف الدين الآمدي أن المطابقة، والتضمن] كل منهما دلالة [لفظية دون الالتزام؛ لأن الجزء داخل في

المسمى،] والالتزام [خارج، ومنشأ الخلاف يرجع إلى تفسير الدلالة الوضعية هل هي عبارة عن إفادة المعنى بغير وسط مختص بالمطابقة؟ أو إفادة المعنى كيف كان بوسط أو بغير وسط فتعم الثلاثة؟ لأن اللفظ يفيد الجزء، واللازم بواسطة إفادته المسمى.

تنبيه

(تنبيه) وقع الإمام في (المحصول)، وسيف الدين في (الأحكام)، والإمام في (المعالم)، ولغيره أن الدلالة اللفظ إن اعتبرت بالنسبة إلي تمام المسمى فهي المطابقة، ولفظ التمام إنما يكون فيما له أجزاء، فيخرج اللفظ الموضوع بإزاء البسائط؛ فإنه لا يصدق فيه التمام، ولا النقصان، فذكر التمام لا حاجه إليه، بل يقال: إن اعتبرت الدلالة بالنسبة إلى مسمى اللفظ، ولا يزاد على ذلك. البحث الحادي عشر في الفرق بين دلالة اللفظ والدلالة باللفظ أول ما سمعت هذه العبارة من الشيخ شمس الدين الخسر وشاهي وكان يقول: هذا الموضع خفي على الإمام فخر الدين وحصل بسبب التباسهما عليه خلل كثير في كلامه، ثم إني أنا بعد ذلك تصفحت المواضع التي وقع الخلل فيها في (المحصول)، فوجدتها نحو ثلاثين موضعا سيقع التنبيه عليها في مواضعها إن شاء الله تعالى، ودلالة اللفظ هي ما تقدم بيانه على اختلاف تلك الطرق الثلاث، ولنفرع على أحدهما عينا ليتجه الفرق، ويقرب البحث ولتكن الدلالة هي فهم السامع، وأما الدلالة باللفظ فهي استعمال اللفظ أما في موضعه، وهي الحقيقة، أو في غير موضعه لعلاقة بينهما، وهو المجاز. وأما استعماله لغير علاقة. قال العلماء: هو وضع مستأنف من ذلك المستعمل، كما إذا قال: الله أكبر، أو] كما إذا قال [: اسقني الماء، ويريد بذلك طلاق امرأته، وهذه (الباء) في قولنا: الدلالة باللفظ باء الاستعانة؛ لأن المتكلم استعان

بلفظ على إفهامها ما في نفسه، كما يستعين بالقلم على الكتابة، والقدوم على النجارة، وإذا تقرر ضابط الحقيقتين، فيقع الفرق بينهما في خمسه عشر فرقأ: أحدها: أن دلالة اللفظ صفه للسامع، والأخرى صفه للمتكلم. وثانيها: أن دلالة اللفظ محلها القلب؛ لأنه موطن العلوم، والظنون، والأخرى محلها اللسان، وقصبه الرئة. وثالثها:] ن دلالة الفظ [علم، أو ظن، والأخرى أصوات مقطعة. ورابعها: أن دلالة اللفظ مشروطة بالحياة، والأخرى يصح قيامها بالجماد؛ فإن الأصوات لا يشترط فيها الحياة. وخامسها: أن أنواع دلالة اللفظ ثلاثة: المطابقة، والتضمن، والالتزام لا يتصور في الدلالة باللفظ، ولا يعرض لها، وأنواع تلك اثنان: الحقيقة، والمجاز لا يعرضان لدلالة اللفظ. وسادسها: أن دلالة اللفظ مسببة عن الدلالة باللفظ، فالفهم ينشأ عن النطق، والدلالة بالفظ سبب. وسابعها: أنه كلما وجدت دلالة اللفظ وجدت الدلالة باللفظ؛ لأن فهم مسمى اللفظ من الفظ فرع النطق باللفظ، وقد توجد الدلالة باللفظ دون دلالة اللفظ لعدم تفطن السامع لكلام المتكلم لصارف، إما لكونه لا يعرف لغته، أو استعمل المتكلم لفظا مشتركا بدون القرينة، أو بقرينه لم يفهمها السامع. وثامنها: أن الدلالة اللفظ حقيقة واحدة لا تختلف في نفسها؛ لأنها إما علم أو ظن، وهما أبد الدهر على حالة واحده، والدلالة باللفظ، وهي استعماله تختلف.

فتارة يجب في الاستعمال تقديم خبر] المبتدأ [. وتارة يجب تقديم الفاعل. وتارة لا يجب، إلي غير ذلك من اختلاف أوضاع اللغات العربية والعجمية [والعرفية]. وتاسعها: أن دلالة اللفظ لا تدرك بالحس في مجرى العادة، والدلالة باللفظ تسمع. وعاشرها: أن الدلالة باللفظ لا تتصور في الغالب إلا من مسميات عديدة نحو: قام زيد، فإن كل حرف منه مسمى لاسم من حروف الجمل والنطق بالحرف الواحد نحو (ق)، و (ش) نادر، وأما دلالة اللفظ فدائما هي مسمى واحد، وهي علم أو ظن. وحادي عشرها: أن الدلالة باللفظ اتفق العقلاء على أنها من المصادر السيالة التي لا تبقي زمانين، واختلفوا في دلالة اللفظ هل تبقى أم لا؟ وثاني عشرها: أن دلالة اللفظ تأتي من الآخرين، بخلاف الأخرى. وثالث عشرها: الدلالة باللفظ لا تقوم إلا بمتحيز، ولا يمكن غير ذلك، ولذلك أحلنا الأصوات على الله-تعالى- ودلاله اللفظ] على [قيامها بغير المتحيز، وكذلك فإن الله-تعالى- له علم] متعلق [بجميع المعلومات، وسمع جميع الكلام، والأصوات. ورابع عشرها: دلالة اللفظ لا نتصور من غير سمع؛ فإن فهم معنى

(تنبيه) وقع للإمام، وغيره من المنصفين أن دلالة التضمن والالتزام مجاز

اللفظ فرع سماعه، والأخرى تتصور من الأصم الذي طرأ عليه الصمم؛ فإن الذي لم يسمع قط لا يتصور منه النطق باللغات الموضوعة، لأنه لم يسمعها حتى يحكيها، ولذلك قال الأطباء: إن الخرس أصابهم غالبا في آذانهم لا في ألسنتهم، فلم يسمعوا شيئا يحكونه، فلذلك لا يتكلمون. وخامس عشرها: الدلالة باللفظ توصف بالصفات الكثيرة، فيوصف النطق بالفصاحة، والجهورية، واللكن، والتمتمة، وغير ذلك مما يوصف به المتكلمون في كلامهم، ودلالة اللفظ لا توصف بشيء من ذلك، ولا يوصف العلم الحاصل عن النطق بغير كونه علما، نعم الظن الناشيْ عن النطق قد يوصف بالقوة بخلاف العلم، فهذه وجوه وفروق يحصل لك العلم] ببيانها والعلم بحقيقتها [ويتوصل بهذه الفروق إلى العلم بالفروق الكائنة بين الدلالة باللفظ، وبين دلالة] اللفظ على الطريقين الآخرين الذين تقدم تحريرهما [أول الباب. (تنبيه) وقع للإمام، وغيره من المنصفين أن دلالة التضمن والالتزام مجاز، وأن دلالة المطابقة حقيقة، وهو غير مستقيم، فإن الاتفاق وقع على أن الحقيقة استعمال اللفظ في موضوعه، والمجاز استعمال اللفظ في غير موضوعه، والسامع ساكت لم] يسمع [شيئا، فلا يصدق في حقه حقيقة الاستعمال الذي هو جنس مذكور في حدى الحقيقة والمجاز، فلا يتصور أنه في دلالة اللفظ ألبتة، وكذلك إذا فسرنا دلالة اللفظ، يكون اللفظ بحيث إذا أطلق أفهم أو بإفهامه بالفعل، فإن هذين المعنيين غير نطق اللافظ باللفظ، فإنهما ضبط اللفظ، والاستعمال صفه اللافظ، ولا يصدق على اللفظ أنه

البحث الثاني عشر في الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل

يستعمل للفظ، كما يصدق على المتلفظ ذلك؛ ولأن كون اللفظ بحيث يفهم إذا نطق به ثابت للفظ قبل النطق والاستعمال، والثابت قبل اللفظ غيره. البحث الثاني عشر في الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل، فإنها تلتبس على كثير من الناس، وهي متعلقة بما نحن فيه والحاجة إليها ماسة، فالوضع في اصطلاح العلماء يقال بالاشتراك على ثلاثة معان: أحدها: جعل اللفظ دليلا على المعنى كتسميه الولد زيدا، ومنه وضع اللغات. وثانيها:] غلبة استعمال اللفظ في المعني [حتى يصير أشهر فيه من غيره، وهذا هو وضع الحقائق الشرعية، والعرفية، فإن حملة الشريعة لم يجتمعوا في موضع واحد، أو زمان واحد، وقالوا: نتفق على تسمية] النقص [والقلب، والعكس، وغير ذلك من أسماء] العبادات [. كما اتفقوا على تسمية الاعتكاف للبث الخاص، والموالاة والترتيب للصفتين الخاصتين في الطهارات. وكذلك لم يجتمع أهل العرف على جعل اللفظ للدابة بإزاء الحمار أو غيره، بل كثر الاستعمال في هذه المعاني وهجر غيرها، حتى صار لا يفهم إلا هي، فهذا معني الوضع فيها. وثالثها: أصل الاستعمال، ولو مرة واحدة، وهو المراد بقول العلماء: من شرط المجاز الوضع أو ليس من شرطه ذلك، خلاف، ومرادهم بالوضع أنه

(تنبيه) قوله: اللزوم الخارجي غير معتبر

لا بد أن يسمع من العرب النص بذلك النوع من المجاز، ولو مرة واحدة] ولا يسمون النطق مرة واحدة [وضعا إلا في هذا الموضع. وأما الاستعمال: فهو إطلاق اللفظ وإرادة مسماه بالحكم،] وهو [الحقيقة أو غير مسماه لعلاقة بينهما، وهو المجاز. والحمل: اعتقاد السامع مراد المتكلم من اللفظ. فمعني قول العلماء: أن الشافعي -رضي الله عنه- حمل قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}] البقرة: 228 [على الأطهار أي] اعتقد [مراد الله -تعالى- من الآية وأن أبا حنيفة -رضي الله عنه- حمل الآية على الحيض أي: اعتقد أن هذا مراد الله - تعالى- من الآية فيؤول الحمل إلي دلالة اللفظ. فتلخص أن الوضع السابق، والحمل لاحق، والاستعمال متوسط، وأن المستعمل والحامل معلومان، والواضع مجهول على الخلاف في ذلك، وأن كل واحد منها يتأتي منه الاستعمال والحمل، ويتعذر منه الوضع، فهذه فروق ثلاثة بين الوضع والآخرين. (تنبيه) قوله: اللزوم الخارجي غير معتبر؛ لأن الجوهر والعرض متلازمان، ولا يستعمل اللفظ الدال على أحدهما في الآخر، هذا من التباس دلالة الفظ بالدلالة باللفظ؛ فإن الاستعمال هو الدلالة باللفظ، والاستعمال شيء يترتب عليه الفهم أو الإفهام على المذاهب المتقدمة، بل ينبغي أن يقول: هما متلازمان في الخارج، ولا يدل لفظ أحدهما على الآخر، فالاستعمال قد يكون فيما له

دلالة، وقد يكون في المجملات التي هي قسيم الألفاظ الدالة، وقد يكون فيما ليس موضوعا، ولا مجازا كقوله: اسقني الماء، ويريد الطلاق، وإذا وجد الاستعمال بدون الدلالة كان غيرها على أي مذهب فسرت الدلالة، وما علمت أحدا قال: الدلالة هي الاستعمال، بل جميع الناس يقولون: هذا اللفظ لا دلالة له على كذا، واللفظ الفلاني يدل عليه مع اشتراك اللفظين في الاستعمال. واتفقت الأمة على سلب الدلالة عن بعض الألفاظ المستعملة. ثم قوله: (لا يستعمل لفظ أحدهما في الآخر) ممنوع بل يجوز أن يستعمل أحدهما في الآخر، وما المانع من ذلك لاسيما وهما متلازمان عقلا، والملازمة مجوزة للاستعمال. وهذا أول المواضع التي دخل الخلل فيها بسبب التباس الدلالة باللفظ بدلالة اللفظ، وهي نحو ثلاثين موضعا في الكتاب، وأنا أنبه على كل موضع أصل إليه إن شاء الله تعالى. تقرير قوله: والضدان متنافيان، وقد يستعمل لفظ أحدهما في الآخر، كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}] الشورى: 40 [. في هذه الآية أربعة مذاهب: فقيل: هو من باب إطلاق الضد على الضد كما قال؛ لأن الأحكام الشرعية أضداد لا يجتمع منها حكمان في شيء واحد باعتبار واحد، ويمكن ارتفاعهما بعدم الشرعية ألبتة بعدم البعثة، والجناية حرام، والقصاص مباح، فسمى القصاص سيئة بناء على ما ذكره المصنف. وهو مفرع على قاعدة وهى: أن كل متكلم له عرف في لفظ إنما يحمل لفظه على عرفه، وصاحب الشرع له عرف في لفظ السيئة، وهى المعصية، فتحمل الآية عليها، فيتعين ما قاله المصنف.

(سؤال) قال النقشوانى: إن أراد بقوله: من حيث هو جزؤه

وقيل: الجميع حقيقة ملاحظة للغة؛ لأن العقوبة تسوء الجاني، كما ساءت الجناية المجني عليه. وقيل: هو من باب إطلاق لفظ السبب على المسبب؛ لأن الجناية سبب العقوبة. وقيل: من باب مجاز المشابهة؛ لأن القصاص يشبه الجناية في أنهما قتل أو قطع، ففي وجه المجاز ثلاثة مذاهب والقول بالحقيقة، فصارت أربعة مذاهب. (سؤال) قال النقشوانى: إن أراد بقوله: من حيث هو جزؤه، واحترازه من وضع لفظ الكل للجزء أن دلالة التضمن يستحيل حصولها على تقدير الوضع للجزء، أو اللازم؛ لأن المفهوم بالمطابقة] والأصالة [يستحيل فهمه تبعا؛ لأن الفهم بعد الفهم تحصيل الحاصل، فحينئذ شرط دلالة التضمن عدم الوضع، إن أراد هذا فهو صحيح، وان أراد أن الدلالتين يحصلان فلابد من التمييز بينهما بالحيثية، فهو باطل؛ لأن حصول أحدهما يمنع الأخرى؛ لأن الذي يفهم أصلا لا يفهم تبعا لئلا يلزم تحصيل الحاصل. جوابه: أن الشيء قد يفهم، وينسب فهمه إلى جهتين، ولا يلزم تحصيل الحاصل؛] لأن هنا [معلومان ودليلان؛ لأن كونه جزءا غير كونه كلا للمسمى، وإذا تغايرت المفهومات كانت معلومات استفيدت من نسبتين للفظ، فينسب إلى اللفظ بكونه جزء مسماه، وينسب إليه نسبة أخرى بأنه كمال مسماه، ولا محال في شيء من هذا كله.

(سؤال) اللفظ الدال هو قسيم لغير الدال

(سؤال) اللفظ الدال هو قسيم لغير الدال، وعدم الدلالة إما لعدم الوضع، أو الإجمال، كما تقول: لفظ (القراء) ولا يدل على خصوص] الطهر [، ولفظ (العين) لا يدل على خصوص الذهب، وإذا كان الدال قسيم المجمل سقط] اعتباره [، واحتراز الإمام فإنه على تقدير وضع لفظ الكل للجزء أو المسمى للازمه يصير اللفظ مشتركا لا دلالة له ألبتة لا على جزء، ولا على كل، ولا لازم، وإذا انتفت الدلالة مطلقا انتفت أنواعها التي هي المطابقة، والتضمن، والالتزام. ولا يبقى اعتبار حينئذ لدلالة اللفظ لجزئه، ولا لكله، فلا يتمكن السائل من قوله: قد اعتبرت دلالة اللفظ بالنسبة إلى جزء مسماه، وليست تضمنا حتى يحتاج إلى دفعه بقوله: (من حيت هو جزؤه)، وبهذا السؤال يظهر لك أن اللفظ الموضوع أعم من كونه له دلالة، بل قد يكون، وقد لا يكون، لكنها إذا كانت لا تخرج عن الثلاث، وهو ما قسم الدلالة إلا إذا وجدت، فلا جرم] لم أورد عليه [اللفظ المجمل على الدلالة لما أوردت تلك الأسئلة السبعة؛ لأنه غير متجه، ويظهر لك أيضا هذا السؤال أن الاستعمال غير الدلالة؛ فإن الألفاظ المجملة مستعملة مع انتفاء الدلالة عنها. (تنبيه) إذا كان اللفظ مشتركا بين الكل والجزء لا يكون مجملا في (الجزء)، والكلام في سياق النفي لوجوب ثبوت الجزء مع ثبوت الكل، ووجوب

(تنبيه) زاد سراج الدين فقال: استدلاله بملازمة الجوهر والعرض

انتفاء الكل قطعا حالة النفي، ويبقى مجملا في مقابلتهما، ولا يتم مثل هذا في اللازم والملزوم، غير أن سياق الثبوت يقتضى ثبوت اللازم قطعا. وأما النفي] فمجمل وهذا [ينتفع به صاحب الكتاب نفعا يسيرا، وفى التحقيق غير نافع، فإن هذا لزوم عقلي، ولا يلزم أن يكون الواقع مرادا للمتكلم، فالدلالة على المراد منفية جزما. (تنبيه) زاد سراج الدين فقال: استدلاله بملازمة الجوهر والعرض، وعدم استعمال لفظ أحدهما في الآخر ضعيف؛ إذ دلالة اللفظ غير استعماله، ولأنه استدلال بانتفاء الشيء مع تحقق غيره على عدم اعتبار ذلك الغير ....). وتقرير آخر كلامه، أما أوله فمفهوم مما تقدم أن الإمام استدل بانتفاء الاستعمال مع تحقق الملازمة الخارجية على عدم اعتبار الملازمة الخارجية، وهو غير منتج؛ لأنه جاز أن يكون ذلك المتحقق معتبرا في ذلك المعدوم، وانتفى لانتفاء سببه؛ فإن وجود الشرط لا يلزم منه وجود المشروط، فلا يلزم عليه نقض، إنما يحسن ذلك في السبب، فإنه إذا عدم مسببه مع وجوده دل ذلك على عدم سببه، إذ لو كان سببا للزم النقض عليه، ومثل هذا لا يرد في الشرط. هذا تقرير كلامه، وهو غير وارد على الإمام؛ لأن للإمام أن يقول: الملازمة وان كانت شرطا، لكن الإطلاق سبب، فإذا وجد الإطلاق فقد وجد السبب، والشرط أيضا موجود، فيثبت الحكم جزما، فلما لم يوجد دل] ذلك [على أن الملازمة الذهنية هي المعتبرة، ولا يقال: لم لا

البحث الأول لم قسم الدال بالمطابقة دون الدال بالتضمن والالتزام

يجوز أن يكون المعتبر هو المجموع؟ لأنه لو كان كذلك لكانت حيث وجدت الملازمة الذهنية مع الإطلاق لا تحصل دلالة الالتزام لعدم حصول الملازمة الخارجية، لكنها حصلت، فدل ذلك على عدم اعتبار الملازمة الخارجية، ولا شك أن مجرد الاستدلال بعدم المشروط على عدم اعتبار الحاصل شرط ليس كافيا، ما لم] تنضم [هذه المقدمات، فمناقشته من حيث الجملة واردة، وتندفع بزيادة ما ذكرناه. وقوله في (المركب ..... إلى تقسيم المفرد) فيه ثلاثة مباحث: البحث الأول لم قسم الدال بالمطابقة دون الدال بالتضمن والالتزام، مع أن الثلاثة صفات للفظ؟ جوابه: إنما فعل ذلك؛ لأنه] لو [قسم الدال بالتضمن والالتزام، لم يعم الألفاظ بهذا الحكم؛ لأنه كان يخرج الألفاظ الموضوعة للبسائط التي ليست لها لوازم بينة، وإذا قسم الدال بالمطابقة اندرج تحت حكمه جميع الألفاظ الموضوعة، فكذلك] أخبار [التقسيم فيه. (سؤال) قسم الدال بالمطابقة إلى مفرد ومركب، مع أنه يعتقد أن المركبات غير موضوعة لقوله: المجاز المركب عقلي، ولا يستقيم ذلك إلا بناء على عدم وضع المركبات على ما هو مقرر في موضعه هناك، وإذا لم تكن المركبات موضوعة لا تثبت فيها دلالة المطابقة أصلا، فيتناقض الموضعان، وليس له جواب إلا أنه فرع على المذهب الآخر في أن المركبات موضوعة، والمسألة فيها قولان للعلماء.

البحث الثاني جزء اللفظ على أربعة أقسام

البحث الثاني جزء اللفظ على أربعة أقسام: دال حالة الإفراد فقط، والتركيب. وغير دال فيهما. ودال حالة الإفراد فقط،] ودال [حالة التركيب فقط. فالأول: كزيد من قولنا: زيد قائم، فإنه يدل على زيد أفردته أو ركبته مع قائم. والثاني: كـ (جع) من جعفر لا يدل إن أفردته أو ركبته مع (فر)؛ لأن الدال حينئذ هو المجموع لا (جع) من حيث هو (جع). والثالث: كـ (إن) من (إنسان) فإنك إن أفردتها دلت على الشرط، وإذا ركبتها مع (سان) ويقال: إنه اسم بلد لم يفهم الشرط حينئذ، وكذلك (أب) اسم الولد، (كم) اسم استفهام عن عدد، وإذا ركبتها وقلت: أبكم؟ لم يفهم الولد، ولا العدد. ودال حالة التركيب دون الإفراد. وقال بعض الفضلاء: إنه غير موجود إلا في حروف المعاني البسيطة نحو: (كاف) التشبيه، و (لام) التمليك، و (باء) الإلصاق، ونحو ذلك فإنك إذا ركبتها، وقلت: زيد كالأسد دلت الكاف على التشبيه، و (اللام) على الملك، وإذا أفردتهما لا يدلان على شيء، وهذا بخلاف حروف المعاني المركبة نحو (ليت) و (إن)، فإنها تدل على ما وضعت له أفردت أو ركبت.

البحث الثالث لم قيدها هنا بلفظ (حين) وفى دلالة التضمن، بـ (حيث)؟

إذا تقررت أقسام جزء اللفظ، فيندرج في حد المركب منه قسمان، ويحرج قسمان يندرجان في حد المفرد. البحث الثالث لم قيدها هنا بلفظ (حين) وفى دلالة التضمن، بـ (حيث)؟ وهل يتصور العكس أو التسوية؟ وجوابه: أن كل واحد منهما متعين لموضوعه. أما حيث، فلأن جهة كون الجزء كمال المسمى أو جزؤه، وجهان فيه، والوجهان مكانان مجازيان، ولذلك عبر عنهما بـ (حيث) لا بـ (حين)؛ لأن الخمسة جزء العشرة دائما، سواء وضع لها لفظ العشرة على سبيل الاشتراك أم لا. وأما في باب المفرد والمركب، فإن الدلالة انقسمت بحسب أزمنة التركيب، دون الإفراد، والأزمنة والأحوال يعبر عنها بـ (حين) دون (حيث)، إذ لا معنى للمكان في الأزمان. (سؤال) إذا سمى إنسان ولده بحيوان ناطق، فجزء هذا اللفظ كان دالا قبل هذا الوضع على جزء هذا المعنى؛ لأن كل جزء من اللفظ يدل على جزء في المعنى، فـ (حيوان) يدل على جنسه، و (ناطق) على فصله، والوضع الثاني لم يبطل الوضع الأول، فيبقى الوضع الثاني يدل جزؤه على جزء المعنى، وهو يبطل حد المفرد والمركب لاتفاقهم على أن جميع الأعلام مفردات، وهذا علم فيكون مفردا وهو قد اشترط في المفرد عدم الدلالة، وهذا دال، فيكون حد المفرد غير جامع، ويبطل حد المركب لاندراج هذا فيه وهو مفرد، وكذلك يتصور النقض من كل حد جعل علما لبعض أشخاص

(سؤال) على قوله: وإما أن يدل على أحد أجزائه. . . إلخ

أنواعه، ولهذا السؤال قال] أفضل [الدين الخونجى: المركب هو الذي يقصد بجزئه الدلالة على بعض ما يقصد به، وهذا العلم لا يقصد بجزئه الدلالة على بعض معناه، والمفرد هو الذي لا يقصد بجزئه الدلالة على بعض معناه، فاندفع النقض عن الحدين، غير أنه بـ (يقصد) يحتمل دخول الاستعمال المجازى فيه، فإن القصد كما] يتصور في الاستعمال الذي هو حقيقة [يتصور في الاستعمال الذي هو مجاز، فينبغي أن يزاد فيه، فيقال: هو الذي يقصد بجزئه جزء معناه من جهة الوضع الأول احترازا من المجاز،] فإنه وضع ثان [على رأي، والبحث في هذا المقام إنما هو في الدلالة الناشئ عن الوضع الأول، وهى لا تتصور إلا في الحقيقة. (سؤال) على قوله: وإما أن يدل على أحد أجزائه دون الآخر، وهو غير موجود؛ لأنه يكون ضما لمهمل إلى مستعمل. قلت: بل هو موجود، فإنا إذا قلنا: (خنفشار مهمل) كان هذا مركبا؛ لأنه مبتدأ وخبر، والمبتدأ والخبر مركب إجماعا، وأحد] جزأيه [موضوع وهو قولنا: مهمل، والآخر غير موضوع، وهو (خنفشار)، بل يتصور مهملا بجزئيه ويقع التركيب والضم، ويكون كلاما عربيا؛ لأن من قواعد العرب أن الشيئين إذا اشتركا في صفة جعلوا أحدهما خبرا عن الآخر، فيقولون: أبو يوسف أبو حنيفة لاشتراكهما في الفقه، وزيد زهير شعرا، وحاتم جودا ونحو ذلك، فلذلك يقول: خنفشار شيصبان، أي أنهما اشتركا

(تنبيه) مقتضى ما تقدم من القواعد يقتضى أن الفعل المضارع مركب

في صفة الإهمال، كما شارك زيد زهيرا في الشعر، وسائر النظائر، فهذا كلام عربي مبتدأ وخبر، وجزآه مهملان، وهذا تمثيل النقض في المركبات. ومثاله في المفردات قولهم: أحيا وأحيان، وأوفا وأوفان ومعا ومعالين إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة إذا استقرأته، مع أن الأول موضوع لمعنى، وضموا إليه لفظا آخر مهملا، ووضعوا الجميع لمعنى آخر، فقد ضموا المهمل للمستعمل في المفردات، كما تقدم تمثيله في المركبات، فالنقوض واردة مطلقا، وهذا القسم الأخير هو أولى بالإيراد عليه، فإنه قم الدال بالمطابقة، وهو ظاهر في المفردات، وإن أمكن وقوعه في المركبات بناء على أن العرب وضعتها، وأن المركب يدل بالمطابقة على المركب، كما يدل المفرد، وإنما بدأت بإيراد المركب لقوله: إن ضم المستعمل للمهمل محال. قال النقشوانى: لا يلزم من عدم دلالة اللفظ في حالة أن يكون مهملا، أو غير دال بانفراده أن يكون مهملا؛ فإن كاف التشبيه وغيرها من حروف المعاني البسيطة لا تدل منفردة، وهى بعض الحالات، وكونه غير واقع لا يوجب اطراحه؛ لأنه ممكن، كما قلنا في دلالة اللفظ نتحدث فيها على الممكن وقع أم لا؟ (تنبيه) مقتضى ما تقدم من القواعد يقتضى أن الفعل المضارع مركب؛ لأن جزءه يدل على جزء المعنى حين هو جزؤه، أو يزاد على اختلاف] الحروف [، فإن حروف المضارعة تدل على المتكلم، والمخاطب، والغائب، وبقية الكلمة تدل على المصدر والزمان.

(فائدة) قال الخونجى أفضل الدين -رحمه الله-: المركب يسمى مؤلفا وقولا

وكذلك الصفات المؤنثة نحو: قائمة، وذاهبة، فإن التاء تدل على التأنيث في الموصوف وبقية الكلمة. وكذلك التنوين يدل على التنكير في بعض الصور نحو قولنا: رأيت إبراهيم، وإبراهيما آخر، فالثاني منون منكر، والتنوين دليل تنكيره. وكذلك حرف المبالغة في (فعيل)، و (فعال) و (مفعال)، و (فعول)، نحو: رحيم، ووهاب، ومعطاء، وغفور، فإن حروف المبالغة التي فيها تدل على جزء المعنى المقصود، وقس على ذلك نظائره. (فائدة) قال الخونجى أفضل الدين -رحمه الله-: المركب يسمى مؤلفا وقولا، وفرق بعض المتأخرين بين المركب والمؤلف. فقال: المؤلف: هو ما يدل جزؤه، ولكن لا على جزء المعنى، وهو أحد أنوع المفرد عند المتقدمين كـ (بعلبك) فإن جزأه (بعل) يدل على الزوج، وليس مقصودا في البلد الذي هذا اللفظ اسمه. قوله: (المفرد إما أن يمنع نفس تصور معناه من الشركة، وهو الجزئي إلى قوله: وهو العرضي. مثال الجزئي: مسميات أعلام الأشخاص كلها. وقولنا: (أعلام الأشخاص) احترازا عن أعلام الأجناس كـ (أسامة)، ونحوه فإن مسمياتها كلية، ومعني منع الشركة أنه لا يمكن أن يقال ذلك] الشخص [على اثنين من ذلك الشخص بما هو ذلك الشخص. فإن قلت: يمكن أن يخلق الله -تعالى- مثله، فيصير ذلك الشخص مقولا عليهما.

(تنبيه) لا يلزم من قولنا في الكلي ... إلخ

قلت: خلق مثله مسلم، غير أنه إذا وجد مثل زيد مثلا في جميع أحواله لا يسميه أحد زيدا، بل يقال: هذا لا يعرف اسمه،] وهذا عرف اسمه [كما أنه لو سمى البياض الذي في ثوب عمر خنفشار لا يطلق أحد على البياض الذي في ثوب عمر خنفشار إلا أن يوضع للبياض من حيث هو بياض، وسر ذلك أن المثلين يجب أن يكون تعيينهما غير مشترك بينهما بالضرورة، وإلا لكان أحدهما عين الآخر وبطل التعدد، وإذا لم يكن حاصلا للآخر، فلم يوجد المسمى بكماله في المثال الآخر، فلذلك لم يصح إطلاق لفظ الأول عليه بخلاف أسماء المعاني الكلية، وجد جميع المسمى بعينه في المحل الآخر، فلذلك أطلق عليه الاسم من غير احتياج لوضع آخر، فهذا هو معنى قول العلماء: إن الجزئي لا يقبل الشركة، أي من حيث تعيينه، وإلا فخلق الأمثال ممكنة، وهو سؤال صعب ينبغي أن يتفطن لهذا الجواب عنه. (تنبيه) لا يلزم من قولنا في الكلي: إنه لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه قبوله لها؛ فإن حاصل كلامنا عزل تصوره عن إفادة الشركة؛ لأنا قلنا: تصوره] يفيد [الشركة، ولا يلزم من عزل شيء عن إفادة شيء كونه قابلا لذلك الشيء، كما نقول: تصور الواحد بما هو تصوره لا يفيدنا أنه يمتنع عليه أنه خمس عشر] الشيء [بل إنما نعلم امتناع ذلك بمقدمات حسابية زائدة على تصوره، فما لزم من عزل تصوره عن إفادة ذلك قبوله له. إذا تقرر أنه قد يقبل الشركة، وقد تكون مستحيلة عليه في نفس الأمر،

(تنبيه) مسمى الشمس كلي ... إلخ

فنقول:] الكلى قد [لا يقبل الوجود كالمستحيل، وقد يقبله ولم يوجد كبحر من زئبق، وقد يكون موجودا، ويستحيل تعدده، كواجب الوجود] سبحانه وتعالى [، وقد يقبل التعدد، ولم يتعدد كالشمس، وقد يتعدد كالإنسان فهذه خمسة، وعادة أهل المنطق يعدونها ستة تقسيمهم المتعدد إلى متناهي العدد، وغير متناهية، لكن غير المتناهي إنما هو بناء على حوادث لا أول لها، وقدم العالم، ونحن لا نقول به، فلذلك تركت القسم السادس. (تنبيه) مسمى الشمس كلي، بخلاف مسمى زيد؛ لأنه لو طلعت شموس عديدة سميت كل واحدة شمسا من غير احتياج لوضع] جديد [وذلك دليل على أن لفظ زيد لم يوضع لكلى، وأن لفظ الشمس وضع لكلى، فلذلك أطلق على ما يوجد لوجود المسمى فيه. (تنبيه) ينقسم الكلى إلى ما انحصر نوعه في شخصه الشمس والقمر، وإلى ما ينحصر كالحيوان، تمثيل الأنواع الأخيرة كالإنسان والفرس ونحوهما كلية، وكل واحد منهما ليس جزء غيره، فهو كمال ماهية، وكل جنس كالحيوان أو الجسم أو النامي، أو فصل كالناطق أو الحساس جزء ماهية؛ لأنه جزء النوع المركب للنوع من الجنس والفصل، والضاحك بالقوة، أو الكاتب بالقوة خارج عن الماهية.

(فائدة) ألفاظ السؤال في اللغة عشرة

(فائدة) ألفاظ السؤال في اللغة عشرة: (ما)، (وما هو) يسأل بهما عن كمال الماهية، و (أي) عن المميز، و (كيف) عن الحال، و (من) عن الشخص، و (هل) عن الوجود، و (متى) عن الزمان، و (أين) عن المكان، و (كم) و (كأين) عن العدد، وجواب كل لفظ ما وضع له ذلك اللفظ، فإذا قيل: أي شيء الإنسان؟] فلا تقول [: حيوان ناطق،] بل قل: ناطق فقط؛ لأنه مميزه، وإذا قيل: ما هو الإنسان أو ما الإنسان [؟ فقل: حيوان ناطق؛ لأنه كمال الحقيقة، وإذا قيل: متى السفر؟ فقل: غدا، ولا تقل: أمامك، وإذا قيل: أين زيد؟ فقل: أمامك، ولا تقل: غدا، وكذلك بقيتها. الماهية والمائية هي الحقيقة منسوبة إلى لفظها الذي يسأل به عنها، والياء فيها للنسب، فالماهية منسوبة إلى (ما هو) والمائية منسوبة إلى ماء، فزيد عليها الهمزة ليصح النسب في لفظه، والمئوية هي الحقيقة منسوبة إلى لفظ هو، فانه كما يسأل عن كل حقيقة بما يخبر عن كل حقيقة معبرا عنها هو، فيقال: من القائم؟ فيقول: هو زيد، ومن الحيوان الناطق؟ فيقول: هو الإنسان، فالماهية والمائية النسبية فيهما للفظ الاستفهام، والمائية للفظ خبري، فهذه حقائقها وأصولها. (تنبيه) قسم المصنف اللفظ المفرد إلى جزئي وكلي، فجعل الجزئي والكلي من ألقاب الألفاظ، وسيجعله بعد هذا من ألقاب المعاني، وقد نص في

(فائدة) قال الإمام في (الملخص) وغيره: الفرق بين المقول في جواب (ما هو)

(الملخص) أن الجزئي والكلي يقال بالذات للمعاني، وبالعرض للألفاظ، فيعلم أن تقسيمه هذا، وجعله الجزئي والكلي للفظ إنما هو مجاز، وتوسع كما ذكره في (الملخص). (فائدة) قال الإمام في (الملخص) وغيره: الفرق بين المقول في جواب (ما هو)، والمقول في طريق (ما هو)، والداخل في جواب (ما هو)، فالأول تمام الجواب، والثاني جزؤه إن دل عليه لفظ المطابقة، والثالث جزؤه المدلول بالتضمن. الحيوان الناطق الأول. والثاني: الناطق وحده. والجسم الثالث. (فائدة) قال الإمام في (الملخص): الذاتي له ثمانية مسميات: الأول: المحمول] وهو [الذي يكون موضوعه يستحق أن يكون موضوعا، نحو: الإنسان أبيض؛ لأن الموصوف الأصل أن يكون هو المبتدأ الموضوع، ويسمى موضوعا بالذات، وبإزائه المحمول بالعرض. الثاني: المحمول بالذات، نحو الحجر أو زيد متحرك يقابله المتحرك بالعرض نحو الجالس في] السفينة [. الثالث: حمل الأعم على الأخص، نحو: الإنسان حيوان يقابله المحمول بالعرض، نحو: بعض الحيوان إنسان.

(تنبيه) قال النقشواني: كلامه يشعر بانحصار الجزئي والكلي، في المفرد

الرابع: ما لا يكون بينه وبين الموضوع واسطة، نحو: سطح أبيض يقابله المحمول بالعرض على ما يكون بينهما واسطة، نحو: جسم أبيض. الخامس: إذا كان المحمول تقتضيه ذات الموضوع بالطبع، نحو: الحجر متحرك إلى أسفل، عكسه متحرك إلى فوق. السادس: ما لا يفارق الموضوع في حال. السابع: الجزء للماهية. الثامن: الذي يلحق الموضوع لا لأمر أعم، نحو: الحيوان متحرك، أو أخص نحو: الحيوان ضاحك، والضابط في الجميع ما هو اخص بالماهية، ولكن مراتب الخصوص متفاوتة، والياء فيه] للنسب [أي: هو منسوب إلى الذات. (تنبيه) قال النقشواني: كلامه يشعر بانحصار الجزئي والكلي، في المفرد، وليس كذلك، بل قد يكون المركب جزئيا، كقولنا: هذا الإنسان وهذا الفرس، وقد يكون كليا كقولنا: الحيوان جنس، والإنسان نوع، فتقسيم مطلق اللفظ إليهما أولى من تقسيم المفرد ليشمل المركب. وقوله: (الماهية إما أن تكون ماهية شيء واحد ...) إلى قوله: (وأما الذاتي). تقرير الأجوبة ثلاثة بحسب الخصوصية وبحسب الشركة، وبحسبهما، فالجواب إن كان لا يقال إلا عن سؤال واحد فهو الخصوصية نحو كل حد مع محدود وكل نوع انحصر في شخص، فإذا قيل: ما الشمس؟ فنقول: الذي يضئ منه العالم، وتغيب لأجله الكواكب، فهذا الجواب لا يصدق في شيء آخر، وإن كان لا يقال إلا جمع بين نوعين فهو الجواب بحسب الشركة نحو ما الإنسان والفرس؟ فيقال: حيوان، ولا يصح هذا الجواب إذا أفرد

أحدهما لأنه حينئذ غير مانع،] والذي يكون بحسبهما أن يجمع بين فردين من نوع سافل [، فيقال: ما زيد وعمر؟ فيقال: حيوان ناطق، وإن أفردت أحدهما فقلت: ما حقيقة زيد؟ فيقال: حيوان ناطق. وقوله: (إما أن يخالف بعضهما بعضا في شيء من الذاتيات)، يريد بالأجزاء الفصول، مثل الناطق في الإنسان، والصاهل في الفرس، وتمام المشترك بينهما هو الحيوان، وما أعم منه كالنامي والجسم، وهما بعض الحيوان، والأخص منه] في [الفصول المذكورة. وقوله: (إن ساواه في الماهية فهو هو) معناه: أنه مثل الحيوان في ماهيته هو الحيوان بعينه، كما أن المساوي لتمام ماهية زيد من حيث هو متعين بخصوصها، لا يكون إلا زيدا نفسه، والمساوي للحيوان في اللزوم، دون المفهوم هو فصله نحو (الحساس) والمتحرك بالإرادة. قوله: (وأما الذاتي ....) إلى قوله: (وأما الوصف الخارجي). يريد من تلك الأقسام الثمانية الجزء والأقسام هاهنا سبعة أصلها: النوع: كالإنسان. والجنس كالحيوان. وجنس الجنس كالنامي. وفصل الجنس: كالحساس. ثم فصل النوع] كالناطق [، وجنس الفصل كالمدرك، فإن الناطق هو

(تنبيه) قال النقشواني: كلامه يشعر بانحصار الجزئي والكلي، في المفرد

المدرك للعلوم بقوة العقل، فالمدرك جنس له، وتحت هذا الجنس المدرك بالنظر وبالشم وبالسمع، وبقية الحواس والوجدانيات. والمدرك بالعقل أحد أنواع المدرك، فالمدرك جنس الناطق، وكونه بالعقل فصل الفصل مع أن الكليات أصولها خمسة: النوع، والجنس، والفصل، والخاصة كالضاحك بالقوة، والعرض العام كالماشي، وإنما يكثر بالنظر إلى أجزاء هذه الكليات، والجنس الذي لا جنس فوقه هو الجسم، وليس الجوهر الفرد؛ لأن من ِشرط الجنس عندهم أن يكون محمولا، والجوهر لا يحمل على النبات والجماد، أو غيرهما، فلا يقال: الإنسان جوهر، ولا الموجود؛ لأن الجنس عندهم لا يؤخذ بقيد الوجود، بل ما يقبل أن يوجد، وأن يعدم، أو يتعين أنه الوجود، كالواجب الوجود، أو العدم كالمستحيل، فالوجود عندهم أمر يعرض للأجناس، وليس داخلا فيها فتعين الجسم في هذه المادة، وفى الأعراض المعنى وتحقق] في [كل مادة على حسب حالها. وقول الفلاسفة: إن رءوس الأجناس عشرة، أمر استقرائي لا حقيقي، فيجوز أقل وأكثر عند أهل الحق، فلذلك أهملت تحقيق المقولات العشرة عند الفلاسفة. (تنبيه) قال النقشواني: كلامه يشعر بانحصار الجزئي والكلي، في المفرد لم يكن حصر الجزء في الجنس والفصل، يعنى أن الفصل قد يكون مركبا من شيئين، كفصل الحيوان فإنه انفصل بأنه حساس ومتحرك بالإرادة، فإذا فسرنا الفصل بتمام المميز كان ذلك منطبقا على مجموعهما، وبقى أحدهما لا جنسا لعدم عمومه، ولا فصلا لاشتراط التمام، فلا يثبت الحصر.

(فائدة) سميت أجزاء العوالي جنس الأجناس

(فائدة) سميت أجزاء العوالي جنس الأجناس، وأجزاء السافلات نوع الأنواع، لأن الجنسية هي بالعموم، والنوعية هي بالخصوص، والجنس العالي فيه أعم من كل أعم، فدخلت فيه العمومات كلها، فسمى جنس الأجناس، أي أعم العمومات، والنوع السافل فيه كل أخص، فسمى نوع الأنواع، أي أخص من كل خاص (سؤال) قال النقشواني: مراده أولا تمام الماهية: إن كان الذي لا تختلف أفراده إلا بالشخص استحال تقسيمه إلى الجزئي الذي هو جنس، وإن أراد الماهية كيف كانت، فكل ماهية كيف كان لها تمام، فكيف يجعل البعض تماما، والبعض ليس تماما. جوابه: أنه يختار القسم الثاني، والشيء قد يكون تماما بالنسبة إلى] ذاته، وجزءا بالنسبة إلى [غيره كما تقول: العشرة تمام عقد في نفسها وهى جزء العشرين. (سؤال) قال النقشواني: فسر الجزء بالجنس والفصل وهو باطل؛ لأن الجنس والفصل يحملان على النوع، والجزء ليس بمحمول، فلا يقال: العشرة خمسة، ولا البيت سقف جوابه: أن الجزء أعم مما يحمل، فإن كان] الاتحاد [خارجيا امتنع حمله، وإن كان الاتحاد واقعا في الخارج، والتعدد في الذهن صح الحمل، وكان كل واحد من تلك المتعددات جزءا، كما يتخيل في الذهن، فالسواد كونه عرضا، وكونه لونا، وخصوص كونه سوادا، والجميع في الخارج شيء

(سؤال) قال النقشواني: قوله. (إن كان الجزء تمام المشترك، فهو الجنس)

واحد، بخلاف البيت والسقف، والتعدد في الخارج والعدد أمور ذهنية، ولكنها ليست متحدة في الخارج، بل لا توجد إلا في الذهن، فالتعدد لازم لها أبدا، ففات شرط صحة الحمل، وهو الاتحاد في الخارج، فلابد منه. (سؤال) قال النقشواني: قوله. (إن كان الجزء تمام المشترك، فهو الجنس) يشكل بماهية تركبت من شيئين يشارك بأحدهما حقيقة، وبالآخر حقيقة أخرى، كالإنسان يشارك الفرس في] الحيوان والملك في الناطق [، فإن أخذنا تمام المشترك مطلقا، فهو الإنسان، والإنسان ليس جنسا لنفسه، فحينئذ لابد من تقييد هذا الكلام بحقيقة معينة، ولا يطلق تمام المشترك مطلقا. قوله: وأما الخارجي ... إلى آخر التقسيم. ذكر في غير (المحصول) اللوازم ثلاثة منها بوسط، وثلاثة بغير وسط، وبها تصير ستة. مثالها: الضاحك بالقوة لازم لحقيقة الإنسان بواسطة المتعجب بالقوة، وجعودة الشعر لازمة لزيد، بواسطة لزوم يبس المزاج، وليس هذين لازمين لحقيقة الإنسان لوجودها بدونهما، والوجود في بلاد (السودان) يلزمه السواد في الإنسان، بواسطة لزوم قرب الشمس من رءوس أهل ذلك المكان، عكسه البياض في الصقالب بواسطة بعد الشمس عن رءوس أهله حتى يقال: إنه إذا سكن طائفة من السودان بلاد الصقالبة وتناسلوا كان البطن الثالث الذي هو الذرية الثالثة بيضاء، عكسه إذا سكن الصقالبة بلاد السودان تكون الذرية

(فائدة) قال الإمام فخر الدين في تفسيره الكبير في قوله تعالى:} وأنه هو أضحك وأبكى {

الثالثة سوداء؛ لأن النطف تتغير بسبب استيلاء الحر على الأمزجة أو البرد، فهذه مثل ستة: ثلاثة بوسط، وثلاثة بغير وسط. (فائدة) قال الإمام فخر الدين في تفسيره الكبير في قوله تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى} [النجم 43]: إن المتحدثين على حقائق الوجود يقولون: إن قوة الضحك تنشا عن قوة التعجب، وليس كذلك، فكم من متعجب لا يضحك، بل ربما حمله التعجب على الحزن، ودوام الصمت والقبض، وقيل: عن الاستغراب، وليس كذلك لما تقدم، فيتعين أن الله -تعالى- هو العالم بسبب ذلك، وأنه الذي أضحك وأبكى. وتقرير قوله: لابد من الانتهاء إلى غير ذي وسط، وإلا لزم الدور أو التسلسل؛ لأنه لو كان لكل لازم واسطة، ولكل واسطة واسطة، لزم الذهاب إلى غير نهاية، فإن رجعنا إلى بعض ما فارقناه، لزم الدور. وإن ذهبنا إلى غير النهاية ولم نرجع إلى بعض ما فارقناه لزم التسلسل، فمتى ادعينا أحدهما عينا منع السائل لزومه؛ لجواز أن يكون الواقع القسم الآخر، فيتعين أن يدعى لزوم أحدهما، لا بعينه حتى يتعين اللزوم، وحينئذٍ علينا التعبير بصيغة (أو) دون (الواو، وتمثيل السريع الزوال كصفرة الوجه، وحمرة الخجل، والبطيئ الزوال كالشباب والكهولة. (فائدة) قال الفضلاء: الوجل الخوف، وإذا طرأ سببه على الإنسان هربت النفس، أو الحرارة هربا من المؤذى، فيبقى سطح الجسد خاليا من الدم، فيصفر اللون، وإذا غضب سارت الحرارة إلى خارج الجسم، طلبا للانتصار،

(تفريع) قد يجتمع من الكليات الخمسة عدد في حقيقة واحدة

فيكثر الدم في سطح الجسد، ولذلك يحمر اللون، وتمتلئ العروق، والخجل يطرأ عليه السبب المؤلم فيصفر هربا، ثم يراجع نفسه ويثبت، فيرجع طلبا، فكذلك حالة الخجل مترددة بين الصفرة والحمرة. (تفريع) قد يجتمع من الكليات الخمسة عدد في حقيقة واحدة، فالحيوان جنس باعتبار كونه تمام الجزء المشترك بين الإنسان والفرس، وهو عرض عام؛ لأنه خارج عن فصول أنواعه، وقارن أكثر من وحد منها؛ لأن النوع لما تركب من الجنس والفصل، كأن كل واحد منهما داخلا في النوع، خارجا عن حقيقة صاحبه. ونوع باعتبار النامي؛ لانقسام النامي إلى الحيوان والنبات، فقد اجتمع في الحيوان ثلاثة من الكليات، والحساس فصل باعتبار الحيوان؛ لأنه فصله عن النبات، وعرض عام باعتبار فصول أنواع الحيوان؛ لأنه جزء الحيوان الخارج عنها، وجزء الخارج خارج، فهو خارج وجد في أكثر من حقيقة واحدة، فيكون عرضا عاما، وهو نوع باعتبار المدرك، فإن المدرك ينقسم إلى مدرك بالعقل، ومدرك بالحس، فهذه ثلاثة أشياء، فالحساس والناطق فصل باعتبار الإنسان؛ لأنه فصله عن البهيم، ونوع باعتبار المدرك؛ لأن الناطق هو المدرك للعلوم بالعقل، والمدرك بالعقل أحد أنواع المدرك، وخاصة باعتبار الحيوان؛ لأنه خارج عنه لما تقدم، ولم يوجد في غيره هو شأن الخاصة، وكذلك سائر فصول الحيوان. وبهذه الطريقة يمكنك تقرير ما يقع لك من الحقائق. التقسيم الثاني إلى آخره عليه عشرة أسئلة: الأول: على قوله: (إن لم يستقل معناه بالمعلومية فهو الحرف).

أقول: ظاهر كلامه يقتضى أن معنى الحرف الذي هو مسماه لا يستقل بإفادة معلوم، وهذا ينفى المعلوم مطلقا كان تصورا أو تصديقا، ونعن نعلم بالضرورة أن معنى (ليت) يحصل في أنفسنا معلوما، وهو تعلق الأمل، وكذلك معنى (حتى) الذي هو الغاية يحصل في أنفسنا معلوما، وهو نهاية الشيء وطرفه، وكذلك جميع الحروف، فيؤدى كلامه إلى أن يخرج جميع الحروف من حد الحرف، هذا إن أراد مطلق المعلوم، كما هو ظاهر لفظه، وإن أراد معلوما تصديقيا، فمسلم أن الحرف لا يفيد ذلك، لكن الفعل والاسم أيضا كذلك لا يفيد واحدا منهما إلا التصور، ولا يفيد تصديقيا ألبتة إلا في ألفاظ يسيرة من الأسماء، نحو لفظ الخبر والكلام والقصة والبيان، ونحوها من الألفاظ التي وضعتها العرب للجملة المفيدة، فإن لفظ الخبر لم تضعه العرب إلا لكلام مفيد، فمعناه يفيد معلوما تصديقيا، وعلى هذا تدخل الأفعال، وغالب الأسماء في حد الحرف، وعلى التقديرين يبطل كلامه، سواء أراد معلوما تصديقيا أو تصويريا، وليس لنا معلوما غيرهما. الثاني: على قوله: (إن دل على الزمان المعين لمعناه، فهو الفعل). أقول: والتعيين ظاهر في التشخيص الذي يختص بفرد معين، تكون نسبته للأزمان، كنسبة زيد للأشخاص، وليس لنا فعل وضع يدل على زمان شخصي، بل يدل على النوع دون الشخص؛ فإذن الفعل الماضي يدل على أن الفعل وقع في نوع الزمن الماضي، ولا يعين فردا منه، والمضارع وإن دل على الحال، والحال هو الزمن الفرد الحاضر الذي لا يتعدد، لكنه في أصل الوضع لم يوضع إلا لنوع الحال وزمن الحال يرد نوعه على الوجود فردا بعد فرد، فقد يشخص بالاتفاق لا بأصل الوضع، ثم إن كلامه في مطلق الفعل، فلا يكفي فعل الحال في تصحيح كلامه.

الثالث: سلمنا أن المراد بالمعين ما هو أعم من الشخص والنوع بخصوصه، لكن ذلك يبطل بأمور: أحدها: الصبوح، فإنه يدل على زمن معين بالنوع لمعناه، وهو أول النهار؛ لأن أئمة اللغة قالوا: الصبوح هو الشرب أو النهار. وثانيها: الغبوق فإنه اسم للشرب آخر النهار، فقد عين لمعناه زمانا بالنوع. وثالثها: الغدو وهو اسم للحركة أول النهار. ورابعها: الرواح فإنه اسم للحركة بعد الزوال، قاله العلماء لغة. وفى قوله تعالى:} غدوها شهر ورواحها شهر {] سبأ: 12 [. أي: مسير ريح سليمان -عليه السلام- في النصف الأول مسيرة شهر، مسيرتها به في النصف الأخير من النهار مسيرة شهر. وخامسها: المتقدم فإنه يدل على وقوع معناه في الزمن السابق. وسادسها: المتأخر يدل على وقوع معناه في الزمن اللاحق. وسابعها: الماضى. وثامنها: الحال. وتاسعها: المستقبل، فإن هذه الأسماء الثلاثة تدل على اختصاص معنى، كما في الزمن الماضي، والحال، والمستقبل، فهذه كلها أسماء قد اندرجت في حد الفعل، فيكون غير مانع] فيكون باطلا [. الرابع: على قوله: (أول لا يدل، وهو الاسم).

(تنبيه) جميع أوضاع العرب وضعت فيها الحروف ... إلخ

يقتضى أن الاسم لا يدل على زمن معين لمعناه، وهو يبطل بالنصوص السبعة المتقدمة في الفعل، فإنها أسماء، وهى تدل، فلا يكون حده جامعا. وأحسن ما ذكره النحاة في حد الفعل: أنه اللفظ الدال على أحد الأزمنة الثلاثة بصيغته، فقولهم: بـ (صيغته) يخرج تلك النقوض ويعنون بـ (صيغته) كونه على وزن (فعل) أو (يفعل) أو (افعل) أو (لا يفعل)، وتلك النقوض كلها إنما دلت بالحروف والصيغة، لا بالصيغة وحدها. (تنبيه) جميع أوضاع العرب وضعت فيها الحروف والصيغة نحو إنسان. هذه الحروف (تدل كونها على وزن إفعال بكسر الهمزة، إلا الفعل، فإنها وضعت الصيغة للزمان، والحروف للدلالة على المصدر، ويدلك على ذلك أنك إذا جردت الوزن)، فقلت: فعل في نحو ضرب، فهم الزمان بمجرد الوزن، وإذا جردت الوزن في قولك: الماضي والمستقبل، فقلت: الفاعل والمستفعل، لا يفهم الزمان. فتنبه لهذه الدقيقة، وإن الصيغة وضعت في الأفعال خاصة، وهذا يبطل قول من يقول: الفعل يدل على الزمان تضمنا، بل هو حينئذ مطابقة، فإن الصيغة وحدها للزمان، والحروف وحدها للمصدر، خلافا لمن اعتقد أن المجموع للمجموع. الخامس: على قوله: إن كان الاسم لجزئي، فإن كان مضمرا، فهو المضمرات، جعل هاهنا الجزئي اسما للمعنى، وقيل: هذا جعله اسما للفظ، وهذا هو الحقيقة، والأول كان مجازا،

ثم جعل المضمر اسما لجزئي، وهو ليس كذلك، بل مسمى المضمر كلي؛ لأنه لو كان اسما لجزئي لما صدق على شخص آخر إلا بوضع آخر كالعلم، لكن كل متكلم يقول: أنا] ونحن [إلى آخر الدهر من غير احتياج إلى وضع، فدل على أن لفظ (أنا) موضوع لمفهوم المتكلم وكذلك (نحن) و (أنت) وأخواتها لمفهوم المخاطبة، و (هو) وأخواتها لمفهوم الغائب؛ ولأنه لو كان موضوعا لجزئي لما صدق على جزئي آخر إما بطريق المجاز أو الاشتراك. والأول: باطل، وإلا لافتقر للقرينة، ولصح] سلبه [عن المحل الثاني؛ لأنها من خواص المجاز، وليس كذلك. والثاني: باطل؛ لأنه يلزم أن يكون اللفظ مشترك بين أمور لا نهاية لها، وهو باطل؛ لأن الوضع فرع التصور؛ ولأنه يلزم أن يكون مجملا؛ لأنه شأن الاشتراك، والمضمرات ليست مجملات. فإن قلت: لو كان موضوعا لكلي لما دل على الشخص المعين؛ لأن الدال على الأعم غير دال على الأخص، ولما كان أعرف المعارف؛ لأن الكلي يكون دائرا بين أفراده، وهذا هو كالنكرة؛ لأنها دائرة بين أفراد ذلك الجنس، لكن النحاة جعلوه أعرف المعارف. قلت: الجواب عن الأول: أن دلالة اللفظ على الجزئي لها سببان: وضع اللفظ بإزائه، فيدل عليه الوضع لوضعه بإزائه، والثاني أن يوضع

(فائدة) والمضمر هو اللفظ المحتاج في تفسيره للفظ

لكلي، ويدل الواقع على حصر ذلك الكلى في ذلك الشخص الجزئي، فيفهم لحصر المسمى فيه، لا للوضع بإزائه، كما نقول:] صاحب مصر [، فيفهم منه الملك الحاضر في ذلك الوقت لحصر الواقع المسمى فيه، لا لأن اللفظ موضوع بإزائه، وكذلك إذا قلنا: الشمس يفهم العرض الموجود بعينه لحصر الواقع المسمى فيه، لا لأن اللفظ موضوع بإزائه؛ لأن لفظ الشمس مسماه كلي، كما تقدم. وعن الثاني: أنهم سموه أعرف المعارف لفهم الشخص منه السبب المتقدم من حصر الواقع المسمى فيه، ولم يصر شائعا لذلك، فإذا ظهر أن مسماه كلي لم يبقى إلا العلم. السادس: قال الشيخ تقي الدين: اللفظ الموضوع للكلية كصيغ العموم مسماه كل فرد، بحيث لا يبقى فرد، وهذا المسمى يمتنع أن يقع منه اثنان، ضرورة استيفاء الأول لجميع أفراد تلك المادة، وإذا امتنع أن يقع منه اثنان امتنع قبوله للشركة، فهو جزئي بالتفسير الذي فسره أن الجزئي ما يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه، فحينئذ أحد الأمرين لازم. إما أن يكون لفظ الجزئي ثلاثة، إن صح كلامه في المضمرات، أو اثنين: العلم وصيغة العموم. (فائدة) والمضمر هو اللفظ المحتاج في تفسيره للفظ، يجوز أن يكون منفصلا عنه ملفوظا، أو معلوما، أو قرينة تكلم، أو خطاب. فقولنا: (اللفظ) احترازا عن أسماء الإشارة؛ فإنها محتاجة لفعل من الإشارات.

وقولنا: (منفصلا) احترازا عن الموصولات؛ فإنه يحتاج في بيانها للفظ متصل بها هو، وصلتها، وعائدها، ويجب اتصاله بها، بخلاف اللفظ المفسر للمضمر لا يجب اتصاله به، بل يعود الضمير على كلام متقدم تقدما كبيرا. وقولنا: (ملفوظا أو معلوما)، يشمل أنواع اللفظي؛ فإنه قد يكون ملفوظا به نحو زيدا أكرمته، وقد لا يذكر أصلا؛ لأنه يكون معلوما كقوله تعالى:} إنا أنزلناه في ليلة القدر {] القدر: 1 [، فإنه يعود على القرآن، ولم يتقدم له ذكر غير أنه معلوم، وكذلك قوله تعالى:} حتى توارت بالحجاب {] سورة ص: 32 [، فاعل (توارت) ضمير يعود على الشمس، ولم يتقدم لها ذكر، غير أنها معلومة. والضمير مشتق إما من الضمور لصغر لفظه، كقوله: فرس مضمر إذا صغر جوفه من قلة العلف والسمن، ومنه ضمور العين أي صغرها، أو من الضمير الذي هو الفؤاد؛ لأنه كناية عن شيء أضمر في النفس، وهو زيد في قولك: زيدا أكرمته، فكان الأصل أن يقول: زيدا أكرمت زيدا، لكنك أضمرت زيدا، وكنيت عنه بالهاء، فكان زيدا خرج في حلية الهاء، فهو مضمر، والمضمرات أصلها ستون، وتصل إلى مائة وخمسين بالتفريع، وذلك مبسوط في كتب النحو. والعلم: هو اللفظ الموضوع لجزئي كزيد، مشتق من العلامة؛ لأنه علامة على ذلك الجزئي. تقرير: اسم الجنس عند العرب ما كان موضوعا لماهية كلية اختلف ما تحتها بالحقيقة، بخلاف المنطقيين لا يسمون جنسا؛ بل نوعا إلا ما اختلف ما تحته

بالحقيقة كالحيوان، فإن تحته الإنسان والبهيم، وهما مختلفان، والإنسان لا يسمونه جنسا لأن ما تحته يختلف بالعدد فقط، بخلاف العرب يسمونه جنسا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إذا اختلف الجنسان، فبيعوا كيف شئتم) يجعل الحنطة والفول جنسين، وكذلك بقيتها. السابع: على قوله: (الموضوع] لموصوفية [أمر بصفة هو المشتق، يشكل بالضمرات، فإن) أنا) و (نحن) موضوع لمفهوم المتكلم، و (أنت) و (أنت) و (أنتم) موضوعة للمخاطب، و (هو) و (هي) و (هم) موضوعة للغائب، فهذه موضوعة لموصوفية بالتكلم، والخطاب والغيبة، وليست مشتقات، وكذلك المبهمات، نحو هذا وهؤلاء، و (تلك) و (ذلك) موضوعة لموصوفية أمر ما يكون مشارا إليه، وليست مشتقات اتفاقا، بل يشترط في المشتقات أمر زائد، وهو كون صيغته فيها حروف أصلية، وهى حروف مصدر من المصادر نحو: ضارب، أو معنى من المعانى نحو: أسود من السواد، ومتى فقد هذا لا يكون مشتقا، وهو الذي دل عليه حده للمشتق حيث قال الميداني: المشتق هو أن توجد بين اللفظين مشاركة] في المعنى والتركيب [، فيرد أحدهما إلى الآخر،] ومتى فقد هذا لا يكون مشتقا، وهو الذي دل عليه حد المشتق [. الثامن: على هذا الموضع أيضا أن المشتق ليس مسماه الموصوفية، بلى الذات تفيد الموصوفية، فإنا إذا قلنا: عالم، فمعناه ذات مالها العلم،

فقولنا: لها العلم هي الموصوفية، وهو جزء مدلول عالم، والجزء الآخر الذي عرضت له هذه الموصوفية، وقد صرح هو بهذا بعد هذا في مسائل الاشتقاق، فقال: مدلول المشتق مركب، والمشتق منه مفرد، ووجود المركب بدون المفرد محال. تقرير قوله: إن مدلول الضارب مجهول، بحسب دلالة هذا اللفظ. معناه: أن العقل دل على أن الموصوف بهذه المعاني ليس معنى لاستحالة قيام العرض بالعرض، وأنه يجب أن يكون مستقلا بنفسه غنيا عن المحل، فإن كان المعنى من عوارض الأجسام، كالضرب يجب أن يكون متحيزا، وهذا شيء لا يفيده اللفظ، بل العقل، ثم إذا كان متحيزا يعلم بدليل آخر أنه زيد، أو غيره لا باللفظ المشتق. التاسع: على قوله: (إن المسمى قد يكون نفس الزمان، كلفظ الزمان واليوم والغد) فإنه مشكل؛ لأن الزمان موضوع لمطلق الزمان، وإما اليوم فمسماه أخص من مطلق الزمان، لأنه موضوع للزمان الذي أنت فيه، بقيد كونه نصف دورة الفلك، فمسمى اليوم يصدق عليه الزمان، لا أنه نفس الزمان، وكذلك الغد اسم لما هو اخص من مطلق الزمان؛ لأنه اسم لليوم الذي بعد يومك بقيد كونه نصف دورة الشمس، وأنه معدوم لم يأت بعد، فهو شيء يصدق عليه الزمان، لا أنه مطلق الزمان. العاشر: على قوله في الاصطلاح: (إن أحد أجزائه الزمان، ولذلك يتطرق إليه التصريف) فإنه كلام غير معقول، فإنه إن أراد أنه يكون منه فعل، نحو: اصطبح يصطبح، فهذا التصريف لم ينشا عن كون أحد أجزاء مدلوله الزمان؛ لأن كل مصدر نحو الضرب والعلم، ونحوهما تنصرف منها الأفعال، وليس الزمان جزء مدلولها، فلا مدخل لكون الزمان جزء مدلول الاصطباح في التصريف. فقوله: (ولهذا يتطرق إليه التصريف) لا يعقل، وان أراد بالتصريف غير تصرف الماضي والمستقبل منه، فلا أعرفه.

(تنبيه وفائدة عظيمة) وهو أنه ترك ما كان ينبغي له أن يذكره وهو علم الجنس

(تنبيه وفائدة عظيمة) وهو أنه ترك ما كان ينبغي له أن يذكره وهو علم الجنس، فإنه ذكر علم الشخص لتحديده إياه بما يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه، وعلم الجنس لا يمنع تصور معناه من الشركة. والفرق بينهما في غاية العسر، فإن (أسدا) اسم جنس (وأسامة) علم جنس، وكلاهما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة، ويصدق على كل أسد في الخارج اللفظان أنه أسد، وأنه أسامة، وأسامة علم جنس؛ لأنهم منعوه من الصرف بالتأنيث والعلمية، وليس شيء مع التأنيث غير العلمية فتعينت، ولذلك نص عليه النحاة. ومن ذلك: أبو براقش لطائر يتلون، وأبو قيرة لضرب من الحيات يشبه السهم القصير طوله شبر، وبنت طبق دابة تدور على صفة الطبق. وقيل: إنها تنام سبعة أيام، فإذا انتبهت حين تنفسها تموت، وإذا أخذها الرجل يحسبها سوارا، فإن رماها وهى نائمة سلم، وان انتبهت في يده مات. وثعالة علم للثعلب، والثعلب اسم جنس، وابن مفرض طائر بطنه أحمر، وسائره اسود، وليس له اسم جنس غير العلم فقط، وحمار قبان دويبة ملساء سوداه، وهو علم، ليس له اسم، ونقل صاحب (المفصل)

منها عددا كبيرا، وفسرها اللغويون، وكان الشيخ شمس الدين الخسروشاهى ورد الديار المصرية، وكان يحرك هذه المثلة، ويطلب الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس، فما كان يجد من يجيبه، وكان يزعم أنه لا يعرف تحقيق هذا الموضع في الديار المصرية إلا هو، ولم أر أنا من يعرفه، وكان يذكر الفرق لطلبته، ونقلته عنه، وها أنا أذكره فأقول: الوضع مسبوق بالتصور، فلا يضع الواضع لشيء حتى يتصوره، فإذا وقعت صورته في ذهنه، فتلك الصورة هي فرد مشخص من أفراد تصورات تلك الحقيقة، بدليل أن تلك الصورة تعقبها الغفلة، ثم تأتى بعدها صورة أخرى، فتتوالى الأمثال على الذهن، وتتخللها الغفلات؛ ولأنه يكون في ذهننا تلك الصورة بعينها، فهي مثل لتلك الصورة التي في نفس الواضع، فصارت لتلك الصورة أمثال باعتبار الصور الواردات على ذهن الواضع، وباعتبار النفوس العددية، إذا تقرر أن تلك الصورة فرد من أفراد تصورات تلك الحقيقة، وكل فرد من الأمثال هو متشخص متعين في نفس الواضع، كشخص زيد في الخارج الذي هو فرد من أفراد الإنسان، وهذه الصورة الشخصية فيها عموم وخصوص، فعمومها كونها صورة تلك الحقيقة كالأسد مثلا الذي هو قدر مشترك بين التصورات المتعلقة بتلك الحقيقة. وخصوصها هو بعينها وتشخيصها، فإن وضع لها الواضع من حيث عمومها، فهو اسم جنس، وإن وضع لها من حيث هي مشخصة، وهو خصوصها فهو علم جنس؛ لأنه وضع للعموم والخصوص، كما وضع علم الشخص لعموم الإنسان مثلا، وخصوص كونه زيدا ذلك الشخص المتشخص، فتلخص فرقان: أحدهما: بين اسم الجنس وعلمه باعتبار دخول الخصوص في التسمية في علم الجنس، وخروجه عن اسم الجنس. وثانيهما: الفرق بين علم الجنس، وعلم الشخص أن علم الجنس هو الموضوع للعموم بقيد التشخص الذهني، وعلم الشخص موضوع للعموم

تنبيه: قول النحاة: إن أجمع وجمعاء وغدوة وبكرة ... إلخ

الخارجي، بقيد التشخص الخارجي، فهذا تحرير الفرقين بين المعاني الثلاثة فتأمله. فإذا قلت: إذا كان مسمى علم الجنس صورة ذهنية مشخصة، فكيف انطبقت على ما لا يتناهى من الجزئيات؛ فإن الجزئي لا ينطبق على كثيرين بالضرورة. قلت: هذه الصورة الجزئية لما أخذت في الذهن أخذت بقيد كونها المشترك بين تلك الأشخاص الكثيرة، فلذلك انطبق عليها كل مشترك بين أشياء ينطبق عليها، فكانت هذه الصورة كلية من هذا الوجه، وجزئية من حيث أخذها بقيد الشخص. (تنبيه) ينبغي أن يتفطن لهذه المباحث لمعنى قول النحاة: إن أجمع وجمعاء وغدوة وبكرة إذا قصد بها زمن معين أنها معارف مع صدقها على ما لا يتناهى، من ذلك النوع أن الواضع وضع لتلك الحقائق بقيد التشخص الذهني، فهي أعلام أجناس، فلذلك امتنع صرفها، وإلا إذا قيل لك: كيف تصير النكرة معرفة بالقصد؟ مع أنه لا يكاد يطلق يقول: رأيت رجلا، أو اشتريت عبدا، أو أنفقت مالأ، ونحو ذلك إلا ويريد في نفسه معنى من ذلك الجنس واللفظ نكرة إجماعا، فكيف صارت غدوة وبكرة معرفة في اللفظ بمجرد القصد، فلا جواب إلا أن يرجع إلى المباحث المتقدمة. فنقول: العرب وضعت لفظ نكرة وضعين: أحدهما: لمطلق نكرة، فهذا اسم جنس نكرة. والوضع الثاني: لنكرة بقيد تشخصها بزمان معين في مطلق ذلك التعين، وأخذت معه الشخص الذهني، فكان هذا الوضع علم جنس، فإنها لو اقتصرت على تعين النكرة الذي هو قدر مشترك بين سائر المعينات كان نكرة أيضا: لأن إضافة الكلى يحصل المجموع كليا، فيصير نكرة.

تنبيه: تعريف المتواطيء

قلنا: ولو حصل من القيود ألف قيد، ألا ترى أن لفظ إنسان نكرة مع أنه جسم كما تقدم نام حي حساس ناطق، ولم تخرجه كثرة القيود عن التنكير، فحينئذ لا بد من الشخص الذهني فيندفع الإشكال. وكذلك في جمع وجمعاء وسحر إذا أريد به يوم معين، وكذلك سموا الشيح (شيحان) والميرة بيرة، والفجور تفجار وفى الأعداد ستة ضعف ثلاثة وثمانية ضعف أربعة، وأربعة نصف ثمانية، والأوزان التي يوزن بها، فيقولون: سكران فعلان، وطلحة فعلة، وأفضل أفعل، فيمنعون الصرف للعلمية مع سبب آخر مع صدق هذه المثل كليا على ما لا يتناهي، ومن لم يفهم المباحث السابقة لم يفهم هذه المواضع في كلام العرب. فإن قلت: إذا قلتم: إن علم الجنس في هذه الأمثلة كلها وضع الصورة المتشخصة في الذهن، فكيف صدقت تلك الصورة المتشخصة على جميع الصور الخارجية؟ وإنما تصدق من حيث عمومها، لا من حيث خصوصها. قلت: بل تصدق من حيث الخصوص أيضا لابد إذا تصورت في ذهنك صورة الأسد، فهذه الصورة خاصة، وأنت تجدها في نفسك تنطبق من حيث هي على كل أسد، كما إذا انطبع في مرآة صورة شجرة، فأنت تجدها تنطبق على كل شجرة من ذلك النوع، وذلك الشكل، وإن كان عددا غير متناه، وكذلك إذا صورتها في حائط تجدها تنطبق على ما لا يتناهى من ذلك النوع، وذلك الشكل، فكذلك إذا كانت الصورة، فتأمل ذلك، ولذلك إذا أخذت مقدارا من الماء في الخارج، فإنك تجده ينطبق على كل مقدار من الماء من ذلك النوع. (التقسيم الثالث: .... إلى قوله: وأما المركب). (تنبيه) اعلم أن المتواطئ هو اللفظ الموضوع لمعنى كلى مستو في محاله،

تعريف المشكك

فقولنا: (كلي) احتراز من العلم، و (مستو) احتراز من المشكك، واشتقاقه من التواطؤ الذي هو التوقف. قال الله تعالى:} إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله، زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدى القوم الكافرين {] التوبة: 37 [. أي: يوافقوا عدد الشهور الحرم، في كونها أربعة، فيغيرون شهرا بشهر، ليعلموا الأربعة، فيوافقوا في العدد، وإن خالفوا في المعدود. والمشكك هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي، مختلف في محاله بجنسه. فقولنا: (كلي) احترازا من العلم، و (مختلف في محاله بجنسه) احترازا من المتواطئ، فإنه مختلف في محاله بغير جنسه، واشتقاقه من الشك؛ لأنه شك الناظر فيه، هل هو متواطئ أو مشترك؟ فمن حيث هو يطلق على المختلفات يشبه أن يكون مشتركا، ومن حيث مسماه واحد كلي يشبه أن يكون متواطئا فيحصل الشك؟ فسمي مشككا بكسر الكاف اسم فاعل. قال السهروردى في (المطارحات): أسباب التشكيك ثلاثة: أحدها: الكثرة والقلة، كلفظ النور كثر مسماه في الشمس، وقل في السراج. وثانيها: إمكان التغير، واستحالته كالوجود، ويصدق على الوجود الواجب، وهو يستحيل عليه التغير، ويصدق على الوجود الممكن، وهو قابل التغير والزوال والعدم والفناء، فالوجود الواجب كالشمس، والممكن كالسراج. ] وثالثها: الاستغناء والافتقار كالوجود، فإنه يصدق على العرض المفتقر للمحل، وعلى الجوهر الغنى عن المحل، فالجوهر كالشمس، والعرض كالسراج [.

(سؤال) المشكك لا حقيقة له

(سؤال) المشكك لا حقيقة له، بل هو إما متواطئ، أو مشترك؛ لأنا نفرض نور الشمس مثلا مائة جزء، ونور السراج عشرة أجزاء، فقد اشتركا في العشرة، وامتازت الشمس بالزيادة، والسراج بعدمها، فلفظ النور إن كان وضع للمشترك الذي هو العشرة، فهو متواطئ قطعا؛ لأن العشرة لم يختلف فيها بالضرورة، وإنما وقع الخلاف بزيادة غير العشرة، وكل متواطئ فقد اختلف في محاله بغير المسمى، كالحيوان اختلف في الإنسان والحشرات اختلافا شديدا بأمور خارجية عن مفهوم الحيوان. فإما أن يكون الجمع مشككا، أو الجمع متواطئا، وإن كان الوضع وقع في المشكك للقدر المشترك بقيد الزيادة في الشمس، وقيد عدمها في السراج، وهذان مجموعان متباينان، فاللفظ مشترك ضرورة. جوابه: أن الاصطلاح وقع في المشكك، فاختلف في محاله بجنسه، فإن الشمس خالفت السراج بزيادة هي نور، وإن وقع الاختلاف بغير الجنس سمى متواطئا. والمتباينة مشتقة من البين الذي هو الفراق، والتباين الذي هو التباعد، ولما كان مسمى هذا غير مسمى هذا، وإن اجتمعا في محل واحد، نحو زيد متكلم فصيح، فزيد اسم ذاته، ومتكلم اسم صفته، وفصيح اسم صفة صفته. والسيف اسم للحديدة، والمهند اسم نسبته للهند، والصارم اسم صفه قطعه في أنه غاية في القطع، ومنه صرم الحبل أي حله بالكلية. والمرادفة: هي اللفظان فأكثر وضعا لمسمى واحد، باعتبار واحد، مشتقة من رديفي الدابة، شبه اجتماع اللفظين على معنى واحد، باجتماع الراكبين على دابة واحدة. وقوله: (إن اتحد اللفظ، وتعدد المعنى، ونقل عن الأول) مراده بالنقل،

ليس النقل العرفي، بل النقل] الاصطلاحي [اللغوي، وهو التحويل؛ لأنه قسم إلى المجاز المرجوح الذي لم يوجد فيه النقل العرفي، ومورد التقسيم يجب أن يكون مشتركا بين الأقسام، فدل ذلك على أن مراده النقل اللغوي؛ لأن اللفظ لما وضع لمعنى، ثم استعمل في غيره، فكأنه قد حول من موضع لموضع على سبيل المجاز عن التحويل اللغوي، وهو من مجاز التشبيه، وإلا فالتحويل على اللفظ محال؛ لأن الأصوات لا تبقى زمنين، وما لا يقبل البقاء لا يقبل التحويل. ثم قوله: (إن كان النقل لا لمناسبة فهو المرتجل) هذا التفسير لم أر أحدا ساعده عليه، بل نص الزمخشري وغيره على أن المرتجل هو اللفظ الذي لم يسبق بوضع وهو قد اشترط الوضع عكس ما قالوه قال شرف الدين بن التلمسانى: إنه لم يوافقه أحد من النحاة، ومختصرات (المحصول) تابعته، وسيف الدين في (الإحكام) حيت فسر المرتجل بما فسره هو به، ولعله تابعه؛ لأنه بعده في التصنيف، وإن عاصره في الزمان، والظاهر أن هذا التفسير غير جيد؛ لأنه لم يضعه اصطلاحا لنفسه، وإنما تعرض في هذا التفصيل كله لبيان اصطلاح النحاة من المنقول، والعلم، والحقيقة، والمجاز، فكلها اصطلاحات العلماء المتقدمين. وقد أكثرت المطالعة في هذا الموضع، فلم أجد إلا ما أخبرتك به. قوله: (والمرتجل) قال صاحب كتاب (الزينة): المرتجل وأنشد هذه القصيدة ارتجالا مأخوذ من الرجل لما كان الواقف على رجل واحدة لا يتمكن من الفكر، فسمى الشعر الذي ليث قبله فكر مرتجلا، ولذلك شبه به اللفظ الذي لم يسبق بوضع مرتجلًا.

(تنبيه) كل مجاز راجح منقول

(تنبيه) كل مجاز راجح منقول؛ لأنه برجحانه صار حقيقة عرفية، أو شرعية، وليس كل منقول مجازا راجحا؛ لأن النقل قد يقع لا عن علاقة، كما ينقل لفظ جعفر اسما للولد الخاص. ونقل المتكلمون لفظ الجوهر عن النفس في اللغة إلى الجوهر الفرد الذي هو في غاية الخسة، ولا يرى ولا ينتفع به، فالعلاقة حينئذ بينهما منفية، فهو ليس بمجار لعدم العلاقة، وإذا انتفى أصل المجاز امتنع أن يكون مجازا راجحا، وكذلك لفظ الذات موضوع لغة للصحبة، فيقال لحقيقة الشيء: ذات أي: حقيقة، والحقيقة يستحيل فيها أن يكون لها صحبة، فالعلاقة منفية، فأصل المجاز منفي كما تقدم، فحينئذ المنقول أعم من المجاز الراجح، وكلامه ظاهر يقتضى أن كل منقول مجاز، وليس كذلك كما رأيت، فإن نسبت المنقول إلى أصل المجاز كيف كان، كان كل واحد منهما أعم وأخص من الآخر من وجه؛ لوجود المجاز بدون المنقول في المجاز المرجوح، والمنقول بدون المجاز في الجوهر، والذات، ونحوهما، ويجتمعان معا في المجاز الراجح فهما كالحيوان، والأبيض، وضابط الأعم والأخص من وجه أبدا أن يوجد كل واحد منهما وحده ومع الآخر. (فائدة) قال صاحب (المفصل): النقل إما عن مفرد أو مركب. والمفرد إما عن اسم عين مستقلة نحو: جعفر؛ لأنه النهر الصغير] وأسد وعجل [، أو اسم معنى، نحو: فضل] وإياس [، أو صفة نحو: الحارث] والعباس [، أو فعل إما ماض نحو شمر، أو أمر نحو: اصمت، أو مضارع: نحو: يزيد، ويشكر وتغلب، أو عن صوت نحو (به).

فائدة: الكلام على الحقيقة اللغوية والشرعية والعرفية ... إلخ

والمركب إما عن اسمين ليس بينهما إسناد، ولا إضافة نحو: بعلبك، (ورام هرمز) أو بينهما إضافة نحو: عبد مناف وعبد الله، أو بينهما إسناد نحو: تأبط شرا، وشاب قرناها، واسم وصوت نحو سيبويه، ونفطويه، وعمرويه. (فائدة) يتحقق من النقل أن الحقائق أربعة، والمجازات أربعة. حقيقة لغوية وشرعية. وعرفية عامة: وهى التي اجتمع عليها الناس كلهم أو جمهورهم. وحقيقة خاصة: وهى التي اختصت ببعض الفرق، كاصطلاح الفقهاء على النقض، والفرق، والكسر، وغير ذلك، والنحاة على المبتدأ والخبر والجار والمجرور، والمتكلمون على الجوهر والعرض، وكل واحدة من هذه الأربعة إذا كان اللفظ فيها حقيقة في شيء، ثم استعمل في غيره كان مجازا بالقياس إليها، فلفظ الصلاة في اللغة الدعاء، ونقل للأفعال المخصوصة، فإذا استعمل في الدعاء كان مجازا باعتبار الحقيقة الشرعية، ولفظ (الدابة) إذا استعمل في مطلق ما دب كان مجازا بالقياس إلى الحقيقة العرفية، وكذلك سائرها، فيحصل لنا أربع حقائق، وأربعة مجازات. قوله: (وان لم تكن دلالة اللفظ على المنقول إليه أقوى سمى بالنسبة إلى المنقول إليه مجازا). عليه ثلاثة أسئلة: الأول: أنه قسم المنقول إلى المنقول، والشيء لا يقسم لنفسه. فإن قلت مراده بالنقل في المقسم النقل اللغوي، والمقسم إليه النقل العرفي. قلت: هذا وإن كان مشكلا من حيث كونه أصوليا، فينبغي ألا يتحدث إلا

(فائدة) قال الإمام فخر الدين في كتاب (المحرر) قولنا: معنى وزنه مفعل

باصطلاح عرف الأصوليين، فإنه وإن سلم فقد قسمه إلى المجاز الخفي، وليس في المجاز الخفي إلا النقل اللغوي، فيلزم المحدود المتقدم. الثاني: أنه قسم اللفظ إذا كثرت معاينة واتحد هو إلى المجاز الخفي، والمجاز الخفي لا يصدق عليه أنه معنى اللفظ، فإن الاصطلاح على أن معنى اللفظ، ومدلوله، ومسماه واحد، والمجاز ليس مسمى، فلا يصح تكثير المعاني بالمجاز، بل لا يكون لهذا اللفظ إلا معنى واحد، وهو الحقيقة فقط. الثالث: المجاز والحقيقة من أسماء استعمال اللفظ، لا من أسماء اللفظ، فاللفظ من حيث هو لفظ لا يسمى حقيقة، ولا مجازا، وإن سمي علما، ومضمرا، ومتواطئا، ومشككا وغير ذلك وأما حقيقة ومجازا فلا يصح إلا أن يضمر مضافا محذوفا تقديره يسمى استعمالا بالنسبة إلى الخفي مجازا، وإلى المنقول عنه حقيقة. (فائدة) قال الإمام فخر الدين في كتاب (المحرر) قولنا: معنى وزنه مفعل، وهو اسم الزمان، والمكان، والمصدر. والمراد هاهنا اسم مكان الغاية، أي: الموضع الذي قصده، وعناه الواضع بالوضع فهو مكان الغاية، فسمى معنى لذلك، فبهذا يظهر أن المجاز لا يسمى معنى اللفظ، وعليه سؤال وهو أن الغاية في الغائي، لا في المعنى، فمكانها قلب الواضع لا المسمى، فلا يصح هذا التعليل؛ لأن تسميته معنى من باب مجاز التشبيه. تقرير ذلك: أن الغاية هي الإرادة، ولها نسبتان: نسبة لمحلها، وهي نسبة الموصوفية، والمريدية، ونسبة لمتعلقها، ويسمى

فائدة

التعلق، فشبهت إحدى النسبتين بالأخرى، فسمى المراد معنى لهذه العلاقة، وهى مشابهة إحدى النسبتين للأخرى. وقوله: (إن كانت إفادة اللفظ لهما على السوية سمى اللفظ بالنسبة إليهما مشتركا) يرد عليه أن كل مشترك مجمل والمجمل لا دلالة، والدلالة هي الإفادة، فلا يستقيم قولنا: إنه أفادتهما على السواء؛ لأن الواقع حينئذ عدم الإفادة مطلقا. (تنبيه) وقع في بعض النسخ يسمى (مشتركا بالنسبة إلى كل واحد منهما، ومجملا بالنسبة إليهما)، والصحيح (مشتركا بالنسبة إليهما، ومجملا بالنسبة إلى كل واحد منهما)؛ لأن الشركة من الأمور النسبية، فلا يصدق على الدار أنها مشتركة بالنسبة إلى زيد وحده، بل لابد من آخر معه في تلك الدار، والإجمال يرجع إلى عدم الفهم، وعدم الفهم يمكن نسبته إلى واحد، فيقال: زيد لم يفهم من اللفظ، فلذلك تعينت النسبة للشركة، والإفراد بقولك: لكل واحد منهما الإجمال. (فائدة) قوله: (لأن كون اللفظ موضوعا لهذا وحده معلوم) - عليه مناقشة؛ لأن التقدير أن اللفظ مشترك، والمشترك ما وضع لأحد مسمياته وحده، بل ينبغي أن يقول: كون هذا مسمى، فأما معلوم، فيصرح بالتمام دون الوحدة. قوله: (وإن كانت] دلالة [اللفظ بالنسبة إلى أحد مفهوميه أقوى، سمي بالنسبة إلى الراجح ظاهرا وإلى المرجوح مؤولا) - عليه مناقشة؛ لأن المعنى المؤول لا يفهم من اللفظ؛ لأنه المجاز مع الحقيقة، والخصوص مع العموم، بل السامع يخبر بأنه غير مراد، فكيف يحسن أن يسمى أنه فهم من اللفظ؟

(فائدة) النص له ثلاثة معان في اصطلاح العلماء

بل كان ينبغي أن يقول: بالنسبة إلى احتماليه، أما مفهوماه ويصفهما بأنهما مفهومان، فلا فائدة. المؤول مشتق من المآل، إما لأنه يئول إلى الظهور إن عرض له دليل، أو لأن الفعل آل إلى تجويزه بعد فهم الظاهر، والثاني أولى؛ لأنه تسمية له باعتبار ما هو موصوف به الآن، فإطلاق المشتق عليه من المآل حقيقة. وأما الأول فإنه تسمية له باعتبار ما هو قابل له من عروض الدليل المرجح، وقد يحصل وقد لا يحصل، والأصل عدم حصوله، فيكون من باب تسمية العنب خمرا، فيكون مجازا، والحقيقة أرجح من المجاز. تقرير قوله: (الأقسام الثلاثة الأول مشتركة في عدم الاشتراك، فهي نصوص). يريد بالثلاثة: اتحاد اللفظ والمعنى، وتعدد اللفظ والمعنى، وتعدد اللفظ واتحاد المعنى، فإن هذه المفهومات من حيث هي لا اشتراك فيها، فتكون نصوصا. (فائدة) النص له ثلاثة معان في اصطلاح العلماء: ماله معنى قطعا، ولا يحتمل غيره قطعا، كأسماء الأعداد. وما يدل على معنى قطعا، ويحتمل غيره كصيغ الجموع في العموم، نحو قوله تعالى} فإذا انسلخ الأشهر الحرم {فاقتلوا المشركين} حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم {] التوبة: 9 [، فإنه لابد في هذه الصيغة من اثنين، وما يدل على معنى كيف كان،

سؤال

وهو غالب استعمال الفقهاء، فيقولون: نص الشافعي على كذا، ولنا النص، والقياس في المسألة، ونص العلماء في هذه المسألة على كذا، ولا يريدون إلا لفظا دالا كيف كان والأول والثالث في المحصول. فقوله: (فهي نصوص). يريد المعنى الثالث، والنص الذي جعله قسيما للظاهر بعد هذا هو الأول، والثاني نص عليه الغزالي في (المستصفى). (سؤال) قوله: (إما أن تكون إفادة ذلك اللفظ لهما على السوية فهو المشترك)، مشكل؛ لأن المشترك مجمل، والمجمل لا فائدة له؛ لأن الإفادة هي الدلالة، والدال ضد المجمل، وكذلك تقسيمه اللفظ باعتبار الإفادة إلى المؤول، مع أن المؤول إنما هو احتمال خفي يقتضيه اللفظ ولا يدل عليه، وكذلك تقسيمه إلى الحقيقة والمجاز، والمجاز لا يدل عليه إلا لقرينة. وكذلك قوله: إما أن تصير دلالته على المنقول إليه أقوى، وصيغة التفضيل إنما تصدق من حيث يصدق المشترك، وهو هاهنا القوة فهي الدلالية. وكذلك قوله قبل هذا (من حيث هو جزؤه) في (باب الدلالة)، مع أنه إذا صار اللفظ مشتركا بين الجزء والكل يطلب دلالته بالكلية، فتأمل هذه المواضع. (سؤال) لا نسلم أن الثلاثة الأول، وهي اتحاد اللفظ، والمعنى، وتعدد اللفظ والمعنى، واتحاد المعنى قد اشتركت في عدم الاشتراك؛ لأن الألفاظ المتباينة لا تمنع الاشتراك نحو لفظ (القرء)، ولفظ (العين)، وهما متباينان لتعدد اللفظ والمعنى، وهما مشتركان، وكذلك الترادف قد يكون مشتركا، فإن

(قاعدة) التقسيم الذي يسميه أهل المنطق المنفصلة ... إلخ

(القرء) مرادف للفظ الحيض والطهر، ولفظ (العين) مرادف للفظ الذهب في الذهب، وللركية في عين الماء، ومع ذلك فهو مشترك. جوابه: أنه إنما عرض لها الاشتراك لا من جهة أنها مترادفة ولا متباينة، ونحن إنما نمنع عنها الاشتراك من جهة أنها متباينة ومترادفة، وهذه جهة أخرى فلا تضره. (قاعدة) التقسيم الذي يسميه أهل المنطق المنفصلة، قد يكون مانع الجمع فقط، وقد يكون مانع الخلو فقط، وقد يكون مانعهما. فالأول: إذا تركبت القضية من الشيء، وما هو أخص من نقيضه نحو: هذا العدد، إما أقل من ذلك العدد، أو أكثر، فيمتنع اجتماعهما، ويمكن ارتفاعهما، بأن يكون متساويا؛ لأن الأكثر أخص من نقيض الأول؛ لأن ما ليس بأقل يكون أكثر، وقد يكون متساويا. والثاني: إذا تركبت من الشيء، وما هو أعم من نقيضه. فقولنا: إما أن يكون زيد في البحر، وإما ألا يعرف، فإن لم يكن في البحر تعين عدم معرفته، وإن انتفى عدم الغرق تعين الغرق، فيكون في الماء جزما، فلا يرتفعان، ويمكن اجتماعهما بأن يكون في البحر، ولا يعرف؛ لأن عدم كونه في البحر أخص من (لا يعرف)، و (لا يعرف) أعم من عدم كونه في الماء؛ لأنه يصدق مع الماء ومع البر، فلو ارتفع لارتفع الشيء، وما هو أعم من نقيضه، ومتى ارتفع ما هو أعم من النقيض ارتفع النقيض؛ لأنه يلزم من نفي الأعم نفي الأخص، فيرتفع النقيضان، وهو محال. والثالث: إذا تركبت من الشيء والمساوي لنقيضه، كقولنا: العدد إما زوج

(فائدة) النص مأخوذ من وصول الشيء إلى غايته

أو فرد، فإن عدم الزوج منحصر في الفرد، فلذلك لا يجتمعان، ولا يرتفعان؛ لأن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان. إذا تقرر هذا فاعلم أن التقسيم في هذه الألفاظ، وفي دلالة اللفظ، وفي قولنا: العلم إما تصور، أو تصديق كله يرجع إلى مانعة الخلو فقط، لا مانعة الجمع، ولا مانعتهما؛ لإمكان اجتماعهما كلها، أو أكثرها، كلفظ (العين) مرادف للحدقة، ومباين (للقرء)، ومتواطئ؛ لأن كل مسمى من مسمياته مستوف محاله، وهي مشتركة، فهذه أربعة اجتمعت في لفظة. وأما التنافي بين العلم، والمتواطئ ونفسهما، ومقصود هذه القاعدة أن تتفطن لدفع الأسئلة عنك] فإن ظاهر التقسيم للقياس بين الأقسام، فيقال لك: هذه الأقسام ليس بينها تناف [كما بين الزوج والفرد، والمتحرك والساكن؛ لأنه السابق إلى الذهن، فنجيب بأن هذه القضية مانعة الخلو فقط. (فائدة) النص مأخوذ من وصول الشيء إلى غايته، من قولهم: نصت الظبية جيدها إذا رفعته. وفي الحديث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يسير العنق فإذا وجد] فرجة [نص)، أي: يسير برفق، (فإذا وجد فسحة رفع السير إلى غايته). فمن لاحظ أعلى مراتب الوصول في الظهور إلى غايته قال: النص المعنى الأول.

(فائدة) المجمل مشتق من الجمل

ومن لاحظ أصله جعله الثالث. ومن لاحظ التوسط، قال بالتفسير الثاني من تفاسير النص. (فائدة) المجمل مشتق من الجمل الذي هو الخلط، ومنه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها). أي: خلوطها بالسبك، ومنه العلم الإجمالي، أي: اختلط فيه الوجه المعلوم بالوجه المجهول في تلك الحقيقة، والوجه المجمل اختلط فيه على السامع مراد المتكلم بغيره، فلذلك يسمى مجملا. (سؤال) قوله: (النص والظاهر يشتركان في الرجحان). أقول: الرجحان من الأمور النسبية التي لا تعقل إلا بين راجح ومرجوح. والتقدير أن النص مدلوله متعين، ولا يحتمل غيره، فلا رجحان حينئذ، كما أن الظن يصدق فيه الرجحان دون العلم لاتحاد الجهة فيه، وإنما الرجحان في الظاهر خاصة لوجود الاحتمالين، ويمكن الجواب عنه أن نقول: إن الإنسان قبل سماع اللفظ كان تجويز النقيضين عنده في كل شيء ممكنا على السواء في الاحتمالين، فلما سمع اللفظ النص ترجح عنده أحدهما الذي هو مدلول النص، حتى امتنع النقيض الآخر، فقد صدق أصل الرجحان في النص من حيث الجملة، كما صدق أصل الرججان في خبر التواتر في أصله، ثم انتهى إلى حد القطع. وأما أنه مبني على الرجحان، فكان أصله خبرا واحدا، ثم انتهى إلى

(سؤال) قولهم: (النص ما لا يحتمل)

العلم، وكذلك هذا راجح فيه أحد الطرفين بعد التساوي، وعند كمال تصور مراد المتكلم منه، والعلم بحقيقته، أي: حقيقة اللفظ، وحصل الجزم. وتوهم التبريزي من هذا السؤال فغير العبارة، وقال: النص والظاهر يشتركان في تعين المراد فيهما، فهما نوعا المحكم، وفي (المنتخب) (المشترك بينهما هو المحكم) ولم يذكر الرجحان، و (الحاصل) و (التحصيل) مثل (المحصول) في ذكر الرجحان. (سؤال) قولهم: (النص ما لا يحتمل)، يبطل النص بأمور: أحدها: أن أقوى ألفاظ النصوص لفظ العدد كالعشرة مثلا، والعقل يجوز بالضرورة أن تكون العرب وضعتها لمعنى آخر من الجماد، والنبات، والحيوان، وأن ذلك المسمى الآخر هو مراد المتكلم، هذا الاحتمال لا يبطل تجويزه أبدا، وإن كان اللفظ لا يقبل أن يراد به التسعة، أو الإحدى عشرة، ويرد مع احتمال الاشتراك التقديم، والتأخير، والنقل، والمعارض الفعلي والإضمار، وهذه احتمالات لا يبطلها لفظ العدد. وثانيها: أن مذهب أهل الحق جواز النسخ قبل الفعل، فإذا أمرنا بعدد جاز أن يكون الله -تعالى- علم نسخه قبل وقوعه، فلا يكون مراده بالنص الأول الإيقاع، بل إظهار الطواعية من المأمور، كما اتفق في قصة إبراهيم وإسحاق -عليهما السلام- فإن لفظ (إسحاق) نص، ومع ذلك لم يكن

المراد بالنص الأول الذبح، بل إظهار طواعيتهما، وحسن إقبالهما على أوامر الله تعالى. وثالثها: أن صيغ الأعداد تقبل المجاز بدليل قوله تعالى: } ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه {] الحاقة: 32 [، وكذلك قوله تعالى:} إن تستغفر لهم سبعين مرة {] التوبة: 80 [. قالوا: المراد الكثرة لا خصوص السبعين. قال العلماء: العرب تعبر بالسبعين عن أصل الكثرة، فالمراد أنها كثيرة الذرع. وكذلك قوله تعالى:} ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير {] الملك: 4 [. قال العلماء: معناه أرجعه دائما، ودل بـ (الكرتين) على أصل الكثرة، وتقول الناس في العرف: كلمني كلمتين، ومراده كلاما كثيرا، وكذلك قولهم: امش معي خطوتين، والأصل عدم النقل والتغير، فيكون ذلك لغة، وهذا عين المجاز، فإنه استعمال اللفظ في جميع هذه الصور في غير ما وضع له. وإذا كان هذا في لفظ العدد، فكيف غيره؟ ولا يتصور لفظ يتعذر فيه أمثال هذه الاحتمالات إلا لفظ الجلالة، وهو قولنا: الله، فإن هذا اللفظ علم بالضرورة لا يقبل كثيرا من هذه الأسئلة مع أنه قد جاء في الكتب القديمة في التوراة: جاء الله من سيناء،

وأشرق من ساعير، واستعلى من جبال (قازان) و (سيناء) طور سيناء، و (ساعير) الموضع الذي كان به عيسى عليه السلام بـ (الشام) و (قازان) بـ (مكة)، ومراد هذا اللفظ مجيء هدي الله تعالى، وكتبه، وآياته الكرام، وبراهينه. وفي القرآن الكريم قال تعالى:} وجاء ربك والملك صفا صفا {] الفجر: 22 [. وفي السنة النبوية (ينزل ربنا] تبارك وتعالى] كل ليلة إلى السماء الدنيا) [حين يبقى ثلث الليل الأخير يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له [) [.

والمراد المجاز على ما تقرر في موضعه، فقد قيل: هذا اللفظ مجاز لغة، فبطل أن لنا لفظا لا يقبل المجاز، والنص بتفسير عدم القبول لا حقيقة له. ورابعها: أن الاستثناء يدخل في صيغ العدد. قال الله تعالى:]} ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه [فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون {] العنكبوت: 14 [. وقال عليه الصلاة والسلام: (إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا).

فائدة: المحكم، والحكمة، والحكيم، والحاكم، كله مأخوذ من حكمة الدابة

والاستثناء عبارة عن إخراج ما لم يرد باللفظ، فدل على أنه لم يرد بالألف والمائة، إلا ما ذكر، وذلك عين المجاز. ولأجل هذا البحث حكى (الشلوبين) خلافا بين النحاة؛ هل يجوز دخول الاستثناء في العدد أم لا؟ وصمم هو على عدم جواز دخوله، واعتذر عن هذه النصوص بأعذار ضعيفة، بناء منه على أن كل موطن فيه استثناء، ففيه مجاز. (فائدة) قال صاحب كتاب (الزينة): المحكم، والحكمة، والحكيم، والحاكم، كله مأخوذ من حكمة الدابة: وهي الآلة التي يمنعها الفساد، فسمى كل ما فيه منع فساد بذلك، فالحاكم يمنع الخصوم من الظلم، والحكمة تمنع الموصوف بها من الوقوع في الرذائل، والآيات المحكمات التي لم يقع فيها نسخ، كأن مراد الشرع هذه اللفظة لم يبطل، والبناء المحكم الذي يمتنع عليه الهد،] ومقصود الواضع الإفهام، والنص أفهم، والظاهر كذلك، ولم

(سؤال) المتشابه ليس مشتركا بين المجمل، والمؤول

] يبطل [مقصوده من الإفهام إلا في المجمل، فصار النص، والظاهر محكمين. (سؤال) المتشابه ليس مشتركا بين المجمل، والمؤول؛ لأن المجمل شابه أحد احتماليه الآخر في الاحتمال والتساوي، ففيه احتمالان متشابهان. وأما المؤول فيقابله الظاهر، وهو لا يشبهه بل ضده، فحينئذ التشابه خاص بالمجمل، وليس مشتركا بين المجمل والمؤول. (فائدة) المتشابه له ثلاثة معان في اصطلاح العلماء. أحدها: ما لا يفهم كالمجملات. والثاني: ما يفهم مما لا يجوز على الله -تعالى- مثل كليات التجسيم. ومنه قوله تعالى:}] فأما الذين في قلوبهم زيغ [فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله] وما يعلم تأويله إلا الله {[] آل عمران: 7 [. وثالثها: ما لا يعلم معناه، أي: مسماه، وهو الحروف المقطعة التي في أوائل السور، فالمجمل، والمؤول متشابه باعتبار أنه لا يعتقده السامع مرادا للمتكلم. قوله: (وأما المركب إلى آخر التقسيم فقوله: إما أن يفيد طلب الشيء إفادة أولية. تقريره: أن الطلب قد يكون في الرتبة الأولى، كالأوامر والنواهي، وقد لا يكون في الرتبة الأولى بل في الثانية، فإن (ليت) للتمني، و (لعل)

(سؤال) قوله في الاستفهام: (إنه طلب ماهية الشيء)

للترجي، ويلزمهما الطلب في الرتبة الثانية، وكذلك القسم موضوع للحلف، ومن لوازمه طلب تعظيم المقسم به، ولذلك أقسم الله تعالى بكثير من مخلوقاته طلبا لتعظيمها، وأن يجعلها على قدر أوضاعها. وقولنا: يا زيد، موضوع للنداء، ومن لوازمه طلب حضور المنادى. وقوله: (أو لا يفيده) - يندرج فيه ما يقيده في الرتبة الثانية، كما ذكرناه، وما لا يفيده أصلا، وهو الخبر، وكذلك قسمه إليهما. ويظهر لك الفرق بين الاستفهام وغيره: أن الاستفهام هو طلب حصول العلم للمستفهم لا فعل يفعله المستفهم، وأن الأمر هو طلب الفعل فيما إذا قال السيد لعبده: من بالباب، فيكون للسيد عبد آخر، غير الذي استفهمه زيد، فلا يعتب السيد على العبد الأول؛ لأن مقصوده حصول العلم، وقد حصل، ولو قال له: اسقني، فلم يسقه، وسقاه غيره، اتجه عينه على الأول، وإن كان مقصوده قد حصل؛ لأنه طلب منه فعلا، وما فعله، فهو عاصٍ يستحق العتب. (سؤال) قوله في الاستفهام: (إنه طلب ماهية الشيء)، يرد عليه أن الأمر طلب ماهية الفعل، والفعل شيء، فاندرج الأمر في ضابط الاستفهام، والمطابق أن يقول: إن الاستفهام طلب حصول العلم بالماهية، وهو الذي يقتضيه اللفظ؛ لأن الاستفعال أبدا لطلب الفعل، فالاستسقاء لطلب السقى، والاستخراج لطلب خروج المعنى من اللفظ، والاستفهام لطلب الفهم والعلم قريب، فالذي ينطبق على اللفظ أن يقال: طلب الفهم، أو طلب العلم بالماهية.

فائدة: مذاهب العلماء في موضوع اللفظ الذي يسمى أمرا

(فائدة) للعلماء في موضوع اللفظ الذي يسمى أمرا ثلاثة مذاهب. قيل: الطلب يفيد الاستعلاء. وقيل: يفيد العلو. وقيل: لا يعتبر القيدان، بل الطلب فقط، وهو قول جمهور المتكلمين، كما أن الخبر يسمى خبرا مع الاستعلاء والعلو، ومع عدمهما، كذلك الأمر بجامع الوضع. والفرق بين الاستعلاء والعلو، أن الاستعلاء هيئة الأمر من رفع الصوت، وإظهار الفهم، والترفع، والعلو هيئة للأمر من جهة منصبه، كالسيد مع عبده، والوالد مع ولده، والملك مع رعيته، وسنقرر مدارك هذه المذاهب في (الأوامر) إن شاء الله تعالى. وقوله: إن احتمل التصديق] والتكذيب [فهو الخبر، فينبغي له أن يقول:] إن الخبر ما احتمل التصديق والتكذيب) [لذاته؛ لأن الخبر قد لا يحتمل التصديق لأجل المخبر عنه، كقول القائل: الواحد نصف العشرة، وقوله في التمني، وما معه يسمى بالتشبيه هذا لفظ وضعه المصنف من قبل نفسه للقدر المشترك بين هذه الأقسام بخصوصه؛ لأن كلها منبهة على الطلب في الرتبة الثانية كما تقدم، فآثر أن يجعل لها لفظا متواطئا يخصها عن غيرها. (سؤال) فسر المركب بما يدل جزؤه على معنى حالة التركيب، ثم قسمه ها هنا إلى ما فيه طلب، وقسم الطلب إلى الأمر، والمقسم إلى المقسم إلى الشيء يجب

صرفه على ذلك الشيء، فيلزم صرف المركب على الأمر، مع أن قولنا قم، واجلس، ونحوه، ليس لفظه يدل على جزء المعنى حالة التركيب. جوابه على ما تقدم من أن المقسم إلى المقسم إلى الشيء، إنما يجب صرفه عليه، إذا كان التقسيم في الأعم مطلقا. أما في الأعم من وجه فلا. والتقسيم أعم من كونه في الأعم مطلقا عموما مطلقا؛ لوقوعه في الحيوان المقسم إلى الأبيض والأسود، وتقسيم الأبيض والجير مع عدم صرف الحيوان على الجير والقار في الطرف الآخر. (تقريره): مثل دلالة الاقتضاء بشرط مدلول اللفظ، يحترز به عن المعاني المخلة بالفهم، وهي الخمسة الاحتمالات، كما عدها في مسألة التعارض، أو العشرة كما عدها في مسألة أن اللفظ لا يفيد اليقين إلا بعشرة شروط، وسردها هنالك، ولم يذكر في الموضوعين دلالة الاقتضاء؛ لأنها لا تخل بإرادة مدلول اللفظ؛ لأنها شرطية، والشرطية امتازت بدلالة الاقتضاء، ومثلها القاضي عبد الوهاب بقوله تعالى:} فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم {] الشعراء: 63 [. يقتضي أنه ضرب؛ لأن الانفلاق مشروط بسببه والضرب سببه، وكقوله تعالى:} وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون فلما جاء سليمان قال: أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم

سؤال: الفرق بين الاقتضاء والإضمار

تفرحون {] النمل: 35 - 36 [، يقتضي أنها أرسلته حتى جاء؛ لأن الإرسال شرط في مجيئه رسولا. (سؤال) هذه إضمارات فما الفرق على هذا التقدير بين الاقتضاء والإضمار؟، مع أن الاقتضاء على هذا التقدير إضمار، وهو من باب تعارض احتمالات الألفاظ عند الإضمار منها، وجعل دلالة الاقتضاء غير الخمسة يقتضي أن الإضمار مباين لدلالة الاقتضاء. جوابه:] أن الإضمار [المراد هناك هو الذي يصير اللفظ مجازا في التركيب نحو قوله تعالى} واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون {] يوسف: 82 [. فأتى بضمير أهلها، ومع عدمه يصير اللفظ مجازا في التركيب، وهاهنا لا نضمر شيئا يصير اللفظ مجازا، بل يبقى على ما كان عليه، غير أن اللفظ المنطوق به دل بالالتزام على معان أخر غير المدلولية بالمطابقة. (فائدة) الإضمار ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يوجب مجازا في التركيب كما تقدم. القسم الثاني: لا يوجب مجازا في التركيب، إلا أنه لازم للمعنى المنطوق به، إما شرعا، كما في قوله تعالى:} يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى

الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين {] المائدة: 6 [. فإنا نضمر محدثين، وكقوله تعالى:} أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر [فعدةٌ من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيرا فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون {] البقرة: 184 [] وإما أن نضمر فأفطرتم بناء على أن الدليل دل على أن القضاء لا يكون إلا مع الإفطار، والوضوء لا يكون إلا بعد الحدث [وإما أن تكون الملازمة عادته كما تقدم في قصة موسى في البحر، وبلقيس في الرسالة. القسم الثالث: إضمار دل عليه الدليل من غير ملازمة، ولا مجاز في الإفراد، ولا في التركيب، كما في قوله تعالى]} قال: بصرت بما لم يبصروا به [فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها، وكذلك سولت لي نفسي {] طه: 96 [، فإنا نضمر: من أثر حافر فرس الرسول عليه السلام، وليس في العادة، ولا في العقل، ولا في الشرع ما يقتضي ذلك، بل دل الدليل على أن الواقع كان كذلك. فهذه القاعدة تظهر أن دلالة الاقتضاء قد تكون إضمارا كما في (محدثين)، و (أفطرتم). وقد لا تكون، بل يكتفى بدلالة الالتزام، كما في قول السيد للعبد: اصعد السطح، فإنه لم يضمر شيئا، غير أن لفظه دل بالالتزام على معنى غير المنطوق كما تقول: دل اللفظ بالالتزام على إيجاب الشيء، والأمر على

سؤال: االفرق بين دلالة الاقتضاء وبين القاعدة ... إلخ

تحريم جميع أضداده، وفي تحريم الشيء على الأمر بأحد أضداده من غير إضمار، ويكون ضابط دلالة الاقتضاء هو دلالة اللفظ التزاما على ما هو شرط في المنطوق كان بإضمار أم لا، ولا يوجب مجازا في اللفظ. هذا تحرير اصطلاحهم، والجمع بين إطلاقاتهم، فإنه في مسألة التعارض جعل دلالة الاقتضاء خارجة عن هذا القسم الذي هو الإضمار المجازي. (سؤال) ما الفرق بين دلالة الاقتضاء وبين القاعدة الأخرى التي يقولون فيها: إذا تعذر حمل اللفظ على حقيقته ويمكن أن نضمر أمورا، فإنه لا يتعين إضمارها كلها، بل يقتصر منها على فرد، وقعت هذه القاعدة في كتاب (العموم)، وبين المجازات المفردة إذا تعذرت إرادة الحقيقة، وإن تعذرت الفروق أو تفردت فينبغي أن يكون الجميع مجملا عند التساوي، وغير مجمل عند رجحان أحدهما، أو يقال: ليس مجملا مطلقا، ولا يتعين الراجح؛ لأن عمومه لغة، والعموم اللغوي لا يحمل على بعضه لرجحان بعضه، كقول القائل: (من دخل داري فله درهم)، لا يخرج الجهال، أو تتعين الأقارب أو العلماء لرجحانهم، وكل هذا يحتاج للبيان، والإيضاح؛ لأنها قواعد متعددة الوضع، ومختلفة الأحكام، وقليل من الناس من يحققها. جوابه: لابد هاهنا من استحضار الفرق بين دلالة اللفظ، وبين الدلالة باللفظ، وقد تقدم الفرق بينهما من خمسة عشر وجها. فإن دلالة الاقتضاء من باب دلالة الالتزام التي هي دلالة اللفظ. وقولهم: (إذا تعذر حمل اللفظ على حقيقته إلا بإضمار أمور). معناه يكون اللفظ حقيقة، ويضاف إليه ذلك المضمر، وهذا إن كان لضرورة التصديق، فهذا هو معنى قولهم في كتاب (العموم): المقتضى لا عموم له، كذلك حرره سيف الدين في (الإحكام)، وقيده بهذا القيد.

ومثله قوله عليه] الصلاة [والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ] والنسيان وما استكرهوا عليه [)، فإن الخبر إنما يصدق إذا أضمرنا شيئا آخر؛ لأن الواقع يتعذر رفعه. وأما الإمام فخر الدين فسوى بين الجميع كما ترى في (المحصول)، وإن كان لا لضرورة التصديق، فهو دلالة الاقتضاء. وأما المجاز في المفردات إذا دل الدليل على عدم إرادة الحقيقة، فهذا يرجع إلى الدلالة باللفظ لا لدلالة اللفظ، ودلالة الاقتضاء من باب دلالة اللفظ، فافترقت الثلاث قواعد، وظهرت الفروق بينها. وأما كون الإجمال يعمهما، أو يخصهما، فالإجمال يرجع إلى عدم الدلالة، ودلالة الاقتضاء فيها دلالة الالتزام، فلا إجمال، نعم قد يكون اللفظ

دل بالالتزام على لازم بالنوع غير معين بالشخص، فيكون مجملا بين تلك الأفراد. وأما المقتضى الذي قالوا فيه: لا عموم له، فإذا استوت الأمور التي بها يحصل بها التصديق، وكل واحد يقوم مقام الآخر على السواء، فهو أيضا مجمل بالقياس إلى تلك الأفراد بخصوصها، ويمكن أن يقال: يثبت واحد منها بالاختيار كالمطلق إذا كان يأتي بكل فرد على البدل، فأي فرد عيناه حصل المقصود به، [إن استوت مع المقصود وإلا بقيت مجملة] نحو شاة من أربعين، وإذا تعذرت الحقيقة، وبقيت المجازات مستوية، فالنقل على أن النص يبقى مجملا، ومتى ترجح أحدهما تعين في الجميع، ولا يعم مع المرجوحية في البعض؛ لأن دلالته ليست لغوية، وإنما هي عقلية، ولم يوجد في العقل ما يوجب شمولها، بخلاف صيغة العموم؛ لأن الوضع اقتضى الشمول، فلا عبرة بالفروق والرجحانات. تقرير قوله: الشرطية عقلية في قوله عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ). معناه: أن العقل دل على أن الواقع لا يصح رفعه، فوجب في العقل مع ضرورة التصديق أن يضمر شيئا آخر يمكن رفعه، وجعل هذا المثال لازما للازم فيه للإفراد؛ لأن هذا الحديث وإن كان جملة مركبة، ففي هذا المركب مفرد، وهو مفهوم الواقع من الخطأ يتعذر رفعه، ومن لوازم تعذر الواقع إضمار أمر يصح رفعه لضرورة التصديق، فينشأ اللزوم فيه عن المفرد، فلذلك مثل به لازم المفرد. وكذلك قوله: (والله لأعتقن هذا العبد). مفهوم العتق في هذه الجملة المركبة يتوقف على الملك، فهو لازم لمفرد في المركب.

ثم إن المصنف ذكر لازم المفرد، وقسمه لما هو شرط، ولما هو تابع. ومثل الشرط بالعقلي، والشرعي، ولم يذكر الباقي، وطلبته في عدة نسخ، فلم أجده، غير أن تاج الدين في (الحاصل) مثله باستعداد الكتابة للإنسان، فإن لفظ إنسان يدل بالمطابقة على الحيوان الناطق، وبالالتزام على أنه كاتب بالقوة، وضاحك بالقوة، وغير ذلك، وهي أمور تابعة لوجود الإنسان. ومثل لازم المركب المكمل له بقوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} [الإسراء: 23]، فإنه يلزم تحريم الضرب، فيحتاج للفرق بين هذا المركب، وبين الحديث في رفع الخطأ، فكلاهما جملة مركبة. والفرق أن التأفيف بما هو تأفيف ليس فيه ما يقتضي تحريم الضرب، وكذلك التحريم بما هو تحريم إذا تركب التحريم مع التأفيف لزم تحريم الضرب، وأما رفع الخطأ ففي ذلك المركب مفرد وهو مفهوم الواقع يلزمه تعذر الارتفاع كما تقدم تقريره. وقوله: عند من لا يثبته بالقياس؛ لأن المثبت لتحريم الضرب بالقياس، يقول: اللفظ لا يدل عليه ألبتة، فلا تتحقق دلالة الالتزام، ونحن إنما نتكلم فيها. وقوله: إن قوله تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} الآية [البقرة: 187].

صور لازم المركب

وجعله لازما ثبوتيا؛ لأنه صحة الصوم، والصحة ثبوتية، واللازم العدمي جعله مفهوم المخالفة، ويتعين أن نخصصه بما إذا كان المنطوق به ثبوتيا، كما في حديث الساعة، أما لو انعكس الحال كما في قوله تعالى: {ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون} [المؤمنون: 117] فإن مفهومه أن غير الكافرين يفلح، وهو لازم ثبوتي؛ لأن المفهوم أبدا هو نقيض المنطوق، فإن كان المنطوق ثبوتيا كان المفهوم عدميا، أو بالعكس فبالعكس، وهذه كلها لوازم للمركبات؛ لأن المركبات ليس فيها مفرد نشأ عنه اللزوم، كما تقدم تقريره في رفع الخطأ وهو موضوع غامض؛ لأنها كلها جمل مركبة، ويقول السائل: الرفع بما هو رفع لا يلزم منه إضمار، والخطأ بما هو خطأ لا يلزم منه إضمار، فما نشأ اللزوم إلا عن المركب، فلا يجد المستدل جوابا إن لم يلاحظ ما ذكرته لك من أن المركب اشتمل على مفهوم [مفرد] من حيث المعنى، وهو مفهوم الواقع وهذا المفرد هو منشأ اللزوم، وهذا التقسيم كله في دلالة اللفظ لا في الدلالة باللفظ الذي هو مفهوم المخالفة وغيره، وهاهنا مثل آخر أوضح ما في الكتاب، وأظهر دلالة، وها أنا ذاكرها؛ ليتضح الموضع اتضاحا جيدا، ويحصل فوائد أيضا في تلك المثل. فلازم المركب له صور: أحدها: قوله عليه الصلاة والسلام [في الحديث القدسي]: يقول الله تعالى: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي

بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا يكون إلا ما أريد). والتردد على الله محال، لأنه نقيض العزائم التي لا تكون إلا من حادث؛ لأنها نشأت عن الجهل بالعواقب، فإذا ظهرت رجع عما عزم عليه أولا. فقال العلماء: هذا المركب عبر به عن لازمه مجازا. وتقريره: أن التردد في المساءة في العادة إنما يكون في حق من عظم قدره عند المتردد، كما إذا أراد أن يضرب ولده، فإنه يتردد في ذلك هل يصادف وجه المصلحة أم لا؟ أما إذا أراد قتل عقرب، أو حية، أو ما ليس له عنده قدر، فإنه يبادر لذلك من غير تردد، فصار عظم القدر لازما لمن يتردد في مساءته، فعبر هاهنا بالتردد عن لازمه الذي هو عظم القدر، فيصير معنى الكلام: المؤمن عظيم القدر عندي، أو ليس عندي أعظم قدرا من المؤمن، ويؤول فهم العقل إلى فهم هذا اللازم من هذا المركب. وثانيها: قوله عليه [الصلاة] والسلام: (وددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا فأقتل، ثم أحيا فأقتل).

مع أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعلم أن قتله كفر، فكيف يتمنى الكفر، فإذا تقرر هذا المعنى عند المعقل، فيقول: لهذا الكلام لازم، وهو الشهادة. فيكون معنى الكلام: تمني الشهادة التي هي لازمة لهذا المركب؛ لما يتعذر حمله على المركب نفسه. وثالثها: قوله تعالى حكاية عن هابيل وقابيل: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك، فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين} [المائدة: 29]. قال العلماء: كيف يليق بهابيل أن يتمنى حصول الإثم بسبب القتل؟ والقتل من الكبائر، وتمني الكبيرة حرام، مع أن الله -تعالى- حكاه عنهما لنتجنب فعل قابيل، ونتأسى بهابيل، وهذه فائدة نقل قصص من قبلنا إلينا، فتعين حمل هذا المركب على لازمه، وهو إرادة السلامة من قتل أخيه، فإنه لا يسلم من ذلك إلا لأن يترك أخاه لا يقاتله، ومتى تركه قتله، فصار هذا المركب له لازما يؤول العقل إلى فهمه من هذا المركب. فإن قلت: هذه مجازات عن المركبات، والمجاز من الدلالة باللفظ، لا من دلالة اللفظ، ودلالة الالتزام من دلالة اللفظ فليس هذه المثل بمطابقة. قلت: وكذلك (رفع عن أمتي الخطأ) لما تعذر حمله على حقيقة المركب حملناه على لازمه، وهذا هو عين المجاز، فالسؤال مشترك. والجواب المحقق عن ذلك في الكل، أنه قد اجتمع دلالة اللفظ، والدلالة باللفظ في هذه المثل كلها؛ لأن هذه التعذرات في حمل اللفظ على حقيقته أوجبت اعتقاد أن المتكلم ما أراد إلا لازم المركب، لا نفس المركب [وهذا هو الدلالة باللفظ؛ ولأن هذه لوازم في نفس الأمر تفهم عند المركب بسبب هذه التعذرات، وهذا هو دلالة اللفظ فهما معا مجتمعان ثم الملازمة قد تحصل] بين المفرد والمركب، وبعض اللوازم لجوهر المركب نحو: علم

(تنبيه) قال التبريزي: دلالة الالتزام تنقسم إلى ... إلخ

زيد الخير والشر، فمن لوازمه لذاته أنه حي وقد لا يكون لذات المركب، بل الأدلة الخارجية وقرائن الأحوال، واتفاق بعض الأسباب، كما يتفق أن يقدم علينا زيد مع عمرو، فينبغي متى تصورنا زيدا تصورنا عمرا؛ لأنه قارنه في قدومه علينا، ومتى حصلت الملازمة بأحد هذه الأمور حصلت دلالة اللفظ، فإن دل دليل على أن المتكلم استعمل اللفظ في ذلك اللازم، حصل أيضا الدلالة باللفظ، فقد يجتمعان، وقد لا يجتمعان بحسب ما تقتضيه الأدلة، فتأمل ذلك؛ فإن السؤال الذي أوردته يشوش عليك مثل الكتاب، وينتقل البحث من دلالة الالتزام إلى باب المجاز والحقيقة، فيفسد التمثيل إلا أن تلاحظ ما ذكرته لك في الجواب. (تنبيه) قال التبريزي: دلالة الالتزام تنقسم إلى ما اقتضاه ثبوت الملفوظ، وإلى ما اقتضاه التصديق. فالأول كحديث: (رفع عن أمتي الخطأ)، وكقوله عليه [الصلاة] والسلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) عند من لا يثبت الأسامي الشرعية. وقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23]، {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق} [المائدة: 3]، وهو يرجع إلى صرف اللفظ عن مقتضى الوضع إلى المجاز لقرينة العرف، أو لتعذر الحمل على الحقيقة، لكن العلماء أفردوا هذا التقسيم بلقب آخر لاقتران القرينة بجنسه.

(تقرير) قوله: (عند من لم يثبت الأسامي الشرعية)

وأما الثاني: فينقسم إلى ما هو مقتضى ثبوته في نفسه، وإلى ما هو مقتضى الوفاء بحكمته. أما الأول: فقد يكون شرطا شرعيا كالملك إذا قال: اعتق عبدك عني، أو جنسا كإمساك جزء من الليل، أو غسل جزء من الرأس، وقد يكون سببا كفهم نجاسة الماء القليل بمجرد وقوع النجاسة فيه من قوله عليه السلام: (فلا يغمس يده في الإناء)، وقد يكون انتفاء ما ينافيه من ضد وغيره، كفهم صحة صوم من أصبح جنبا من آية المباشرة. وأما الثاني فقد يكون مقتضى الوفاء بأصل الحكمة، ويقتضي الوفاء بحكمة التخصيص. فأما الأول: فهو مفهوم الموافقة، ويسمى فحوى الخطاب ولحنه. وأما الثاني: فهو مفهوم المخالفة، ويسمى دليل الخطاب. والقسم الأول من أصل التقسيم، ومن القسم الثاني يسمى دلالة الضرورة والاقتضاء. (تقرير) قوله: (عند من لم يثبت الأسامي الشرعية). معناه: أن من أثبتها لا يحتاج في التصديق، وفي النفي لإضمار شيء؛ لأن المسمى الشرعي حينئذ يكون منفيا. أما من لم يثبتها، ولم يبق إلا المسمى اللغوي، وهو أصل الإمساك، وهو واقع بالضرورة، فلا يحصل الصدق في الإخبار عن نفيه إلا بنفي أمر آخر. وقوله: إن من هذا القبيل قوله [تعالى]: {حرمت عليكم أمهاتكم

البحث الأول: العرب هل وضعت المركبات أم لا؟

[وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما} [النساء: 23]. وقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] عند أهل الحق، فمنطوقه صحيح، وأما مفهومه أن غير أهل الحق يخالفون. فما تلخص لي أن العقلاء مجمعون على أن التحريم لا يتعلق بالأعيان، من باب تكليف ما لا يطاق. وأما المعتزلة فيمنعون ذلك بناء على منع تكليف مالا يطاق. قوله: (وحاصله يرجع إلى صرف اللفظ عن مقتضى الوضع إلى ما هو مجاز). فيه كلام مشكل؛ لأنه إن أراد مجاز المفردات، فغير مسلم؛ لأن التحريم باق في التحريم، والميتة في الميتة، وإن أراد مجاز المركبات، ففيه بحثان: البحث الأول: أن العرب هل وضعت المركبات أم لا؟ قولان، فعلى عدم الوضع لا مجاز ولا حقيقة، فإن المهمل لا يدخله مجاز ولا حقيقة؛ لوقوع الاتفاق على اشتراط الاستعمال في الموضوع في الحقيق، وفي غير الموضوع في المجاز، وكلاهما فرع الوضع.

البحث الثاني: المضاف للمحذوف هل هو سبب للتجوز، أو محل التجوز؟

البحث الثاني: إن سلمنا أن العرب وضعت المركبات، وهو الصحيح، فهاهنا بحث دقيق، وهو أن المضاف للمحذوف هل هو سبب للتجوز، أو محل التجوز؟ فظاهر كلام الإمام في مواضيع في (المحصول) أنه سبب التجوز. وكلام غيره من أرباب علم البيان أنه محل التجوز. وتحرير المذهبين: أن الإمام [الرازي] يقول: الأصل في المنصوب أن يكون هو المفعول لغة، وهذا هو الحقيقة، فإذا أضمرنا مضافا محذوفا، فقد صيرناه المفعول، وأبطلنا الحقيقة، فصار المضاف سبب التجوز. وغيره يقول: إنما وضعت العرب اللفظ على وفق الحكمة، فوضعت لفظ السؤال ليتركب مع لفظ من يصلح للإجابة، ولفظ التحريم ليركب مع لفظ ما يقبل الكسب والاختيار؛ لأنه المناسب للحكمة، فإذا ركبنا لفظ السؤال مع القرية، والتحريم مع الميتة، فقد خالفنا أصل الوضع، فيكون المجاز حاصلا في المنصوب الذي هو القرية والميتة، والمتجوز عنه هو الأهل في القرية، والأكل في الميتة، فالمحذوف محل التجوز أي محل المتجوز عنه، فإذا وضح لك الطريقان، فكلام التبريزي يأتي على طريق الإمام فخر الدين أن المضاف سبب التجوز، فتفطن لهذا الموضع فهو عزيز. وقوله: (أهل العلم لقبوا هذا القسم بلقب). يريد أنهم لقبوه بدلالة الاقتضاء. وقوله: (لاقتران القرينة بجنسه)، يعني: أن دلالة الالتزام فيه مطردة، مع أن دلالة الالتزام ليست مجازا على ما علمت، لكنه مشى على قاعدة الإمام في التباسهما عليه.

(فوائد) فحوى ولحن الخطاب .. إلخ

وقوله: (قد يكون وفاء بأصل الحكمة، وهو مفهوم الموافقة). يعني: أن تحريم التأفيف تحريم لضرب وفاء بأصل الحكمة؛ لأن إباحة الضرب تخل بحكمة التحريم للتأفيف؛ لأن الحكمة إنما هي البر وعدم العقوق للوالدين. (فوائد) فحوى ولحن الخطاب، وتنبيه الخطاب، ودليل الخطاب، ومعقول الخطاب، ومفهوم الموافقة، ومفهوم المخالفة، كلها اصطلاحات لعلماء الأصول المتقدمين، تركها الإمام [الرازي]، وقد تعرض لها التبريزي فأقرها؛ حتى لا يجهلها من سمعها. ففحوى الخطاب: هو مفهوم الموافقة وتنبيه الخطاب، وسمي مفهوم الموافقة؛ لأن المسكوت وافق المنطوق. وفحوى الكلام اللازم عنه من جنسه، يسمى تنبيه الخطاب؛ لأنه ينبه بالأدنى على الأعلى. وضابط مفهوم الموافقة: هو أنه إثبات حكم المنطوق للمسكوت بطريق الأولى، إما في الأكثر كالضرب مع التأفيف فإنه أعظم وأكثر عقوقا، وإما في الأقل: كما في قوله تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك [ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما]} [آل عمران: 75]. مفهومه أن أمين الدينار بطريق الأولى، وهو أقل.

تعريف لحن الخطاب

ولحن الخطاب: هو إفهام الشيء من غير تصريح، وهذا معناه لغة، ومنه قوله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم}. [سورة محمد: 30] وقال الشاعر: [الخفيف]: منطق صائب ويلحن أحيا ... نا وخير الحديث ما كان لحنا أي: ليست أطماعنا من غير تصريح. فوضعه العلماء في الاصطلاح لنوع من ذلك، واختلف في ذلك النوع. فقيل: هو دلالة الاقتضاء. وقيل: هو مفهوم الموافقة. وقيل: مفهوم المخالفة، حكاه القاضي عبد الوهاب، وأبو الوليد الباجي؛ لأن الثلاثة فيها إشعار من غير تصريح، فحسن فيها لفظ اللحن. واختلف هل اللحن واللحن بمعنى واحد؟ بتحريك الحاء وتسكينها. فقيل: هما سواء، يطلق للصواب والخطأ. وقيل: اللحن بالسكون للخطأ، وبالفتح للصواب، حكاه القاضي عياض.

(تنبيه) أسقط (المنتخب) هذه المباحث في دلالة الالتزام كلها

وتنبيه الخطاب مفهوم الموافقة، ودليل الخطاب مفهوم المخالفة؛ لأن التقييد دل على سلب الحكم عن المنطوق، ومعقول الخطاب القياس المستنبط من النصوص، فهذه ألفاظ اصطلاحية. ينبغي أن يعلمها طالب العلم، وهذه التفاسير ذكرها الباجي في (إشارته)، والقاضي عبد الوهاب في كتاب (الإفادة). وقوله: (القسم الأول من أصل التقسيم، والأول من التقسيم الثاني يسمى دلالة الاقتضاء)، يؤكد ما قاله سيف الدين في (الإحكام)، غير أنه زاد عليه قسما آخر، وهو الملك في العتق، وهذه اصطلاحات، والاصطلاح في دلالة الاقتضاء رأيته مضطربا اضطرابا كبيرا بالزيادة والنقص، غير أنهم اتفقوا على أنه لابد فيه من دلالة الالتزام. (تنبيه) أسقط (المنتخب) هذه المباحث في دلالة الالتزام كلها وغير تاج الدين فيها موضعا، وأسقط سراج الدين ذلك الموضع وحده، وهو اشتراط الملك في العتق، فمثله تاج الدين بقوله: (أعتق عبدك عني). وأسقطه سراج الدين ولم ينقله ألبتة، والذي في كتاب (المحصول) إنما هو والله لأعتقن هذا العبد، فإن ذلك يقتضي فيه ثبوت الملك؛ لأن في الأول الولاء للمعتق عنه، فلابد أن يثبت له الملك؛ ليترتب عليه العتق، فيترتب الولاء، والثاني لابد فيه من الملك؛ فإن مقصود اليمين القربة بعتقه، وذلك فرع الملك. (التقسيم الثاني ...) إلى آخره، وهو راجع إلى أصل الباب؛ لأنه قسم الألفاظ من وجهين، وإلا فالذي قبل هذا التقسيم الثالث، فيكون هذا رابعا، لكنه راجع لأصل الباب.

وقوله: (والذي مدلوله). يعني: معزول عن اعتبارنا، يعني: هاهنا، فإن أكثر الألفاظ مدلولها معان كلفظ الإنسان، والجماد، والنبات، والحيوان، والألوان، والطعوم، والروائح، وجميع الأعراض غير اللفظ، ومقصوده هاهنا الكلام على ما مدلوله لفظ فقط، واللفظ الدال على لفظ مفرد دال نحو الكلمة، فإنها اسم للمشترك بين الاسم، والفعل، والحرف، وهو كونه لفظا دالا، فتناول كل جنس من هذه الأجناس، وأنواعه، وأشخاصه الجزئية كـ (زيد) من الأسماء، و (قام) من الأفعال، و (إن) من الحروف، ولفظ الخبر يتناول القدر المشترك بين كل كلمتين استندت إحداهما إلى الأخرى استنادا يحتمل التصديق والتكذيب لذاته والحروف الثمانية والعشرون، وهي (ألف، باء، تاء) إلى آخرها، كل واحد منها وضع لحرف ما يتركب منه الكلام، فـ (قاف) اسم الجزء الأول من قال، و (ألف) اسم الجزء الثاني منه، و (اللام) اسم الجزء الثالث منه، وكذلك بقية الكلام، وقد تقدم كلام [صاحب (الكشاف)] من أن حكمة الواضع أنه جعل مسمى كل اسم في أوله إلا الألف، فإنها ساكنة لا على أن نجعل أول اسمها لتعذر النطق بالساكن، فعوضها بالهمزة التي تجانسها، وهي تقبل الحركة، فمسمى (قاف) في أوله، وكذلك (كاف) و (ميم) و (نون) كما ترى، وكذلك بقيتها. وقوله في الكتاب: (إن حرف المعجم يتناول كل حرف) -ـ غير مستقيم، بل العبارة المنطبقة أن يقول: كل حرف يتناول حرفا من هذه الحروف، فإن كل واحد منها وضع لنوع من هذه الأنواع، ولم يوضع لكل الأنواع، وهذه الأنواع وأفرادها مهملة لم توضع لشيء، بل وضع لها فقط.

(سؤال) قوله: (اللفظ الموضوع للفظ مركب مهمل إذا أشبه أنه غير موجود)

(سؤال) قوله: (اللفظ الموضوع للفظ مركب مهمل إذا أشبه أنه غير موجود) بل هو موجود، فإن قولنا: (خنفشار مهمل) مبتدأ وخبر، وأحد جزئيه مهمل، وهو خنفشار، والآخر موضوع، وهو: مهمل، وقولنا: خنفشار وشيصبان، مبتدأ وخبر على حد قول العرب: أبو يوسف أبو حنيفة، وزيد زهير شعرا، وحاتم جودا، وكذلك كل اسمين اشتركا في صفة كالفقه بين أبي يوسف وأبي حنيفة، والشعر في الآخرين، فكذلك هاهنا لاشتراك اللفظين في صفة الإهمال، فقد وجد لفظ مهمل مركب، وفيه الفائدة، ويتناوله لفظ الخبر، فيصدق حينئذ على الخبر أنه وضع للفظ مركب مهمل غير دال، فإن قلت: هذا يفيد ذاك من حيث التركيب، أما المفردات فلا، ومراده بغير الدال في التركيب، وأنت لم تمثله. قلت: قوله: (لم يوضع لمعنى) يمنع ذلك، فإنه قد صرح بأن المجاز المركب عقلي لا لغوي، وإنما يتم ذلك، ويعتقده إذا اعتقد أن العرب لم تضع المركبات، فهو عنده كل مركب مطلقا غير موضوع، فلما جعل هاهنا قسما منها لا وضع فيه، دل على أنه بحسب مفرداته لا يجب تركيبه، ويؤكد ذلك أن جميع ما ذكره فيما تقدم، أنه موضوع دال إنما هو في مفرداته، ثم سلب ذلك هاهنا، فيكون هو الوضع في المفردات؛ [لأنه جعله قسيمه، وبالجملة إن كان المقصود عدم الوضع في المفردات] فهذه النقوض واردة، وهو ظاهر كلامه. وقوله: (إن في كتاب (المحرر [في دقائق النحو)] دقائق ذكرناها) سأذكر إن شاء الله تعالى عند قوله: الفاء للتعقيب، على حسب ما يصح عند كلامه على معاني الحروف.

(تكميل) إذا كان مسمى اللفظ لفظا قد يكون الاسم الأكبر من المسمى

(تكميل) إذا كان مسمى اللفظ لفظا قد يكون الاسم الأكبر من المسمى، نحو كاف، فإنه اسم للحرف الأول من كلام، وحرف، فإنه اسم لكل حرف من حروف المعاني حتى تصدق حروف العطف البسيطة نحو: (الواو)، و (الفاء)، و (باء) الإلصاق، وكذلك الاسم يصدق بياء الضمير، وكافه وهائه نحو: غلامي وغلامك وغلامه، ولفظ الفعل يصدق على (ق)، و (ش)، و (ل)، أفعال أمر من الوقاية والوشي والولاية، وقد يكون أقل من المسمى نحو: حم اسم السورة، وخبر اسم لكلمتين أسند مسمى إحداهما إلى مسمى الأخرى إسنادا يحتمل التصديق والتكذيب، وقد يكون الاسم اسما لكل لفظ دون أجزائه، نحو: الاسم والفعل والحرف والخبر والكلام على رأي النحاة، وقد يكون اسما للكل، ولأجزائه نحو: الحرف يصدق على (قد) أنه حرف تحقيق، وعلى (القاف) وحدها والدال وحدها منه، وعلى التحقيق لا يستقيم هذا الحرف؛ لأن الحرف اسم للقدر المشترك بين سائر الحروف التي لا تستلزم التركيب، ولا البساطة. * * *

الباب الثالث في الأسماء المشتقة

الباب الثالث في الأسماء المشتقة والنظر في ماهية الاسم المشتق، وفي أحكامه: أما الماهية فقال الميدان رحمه الله: الاشتقاق أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب، فترد أحدهما إلى الآخر، وأركانه أربعة: أحدها: اسم موضوع لمعنى. وثانيها: شيء آخر له نسبة إلى ذلك المعنى. وثالثها: مشاركة بين هذين الاسمين في الحروف الأصلية. ورابعها: تغيير يلحق الاسم في حرف فقط، أو حركة فقط، أو فيهما معا. وكل واحد من الأقسام الثلاثة: فإما أن يكون بالزيادة، أو بالنقصان أو بهما معا، فهذه تسعة أقسام: أحدها: زيادة الحركة، وثانيها: زيادة الحرف، وثالثها: زيادتهما معا، ورابعها: نقصان الحركة، وخامسها: نقصان الحرف، وسادسها: نقصانهما معا، وسابعها: زيادة الحرف مع نقصان الحركة، وثامنها: زيادة الحركة مع نقصان الحرف، وتاسعها: أن تزداد فيه حركة وحرف، وتنقص منه أيضا حركة وحرف. فهذه هي الأقسام الممكنة، وعلى اللغوي طلب أمثلة ما وجد منها.

أحكام الاسم

أما الأحكام فنذكرها في مسائل: المسألة الأولى: أن صدق المشتق لا ينفك عن صدق المشتق منه؛ خلافا لأبي على وأبي هاشم؛ فإن العالم والقادر والحي، أسماء مشتقة مع العلم، والقدرة، والحياة. ثم إنهما يطلقان هذه الأسماء على الله تعالى وينكران حصول العلم والقدرة والحياة لله تعالى؛ لن المسمى بهذه الأسامي هي: المعاني التي توجب العالمية، والقادرية، والحيية، وهذه المعاني غير ثابتة لله تعالى؛ فلا يكون لله تعالى علم وقدرة وحياة، مع أنه عالم قادر حي. وأما أبو الحسين، فإنه لا يتقرر معه هذا الخلاف؛ لأن المسمى عنده بالقدرة نفس القادرية، وبالعلم العالمية، وهذه الأحكام حاصلة لله تعالى، فيكون لله تعالى علم وقدرة. لنا: أن المشتق مركب، والمشتق منه مفرد، والمركب بدون المفرد غير معقول. المسألة الثانية: اختلفوا في أن بقاء وجه الاشتقاق، هل هو شرط لصدق اسم المشتق؟! والأقرب أنه ليس بشرط؛ خلافا لأبي علي بن سيناء من الفلاسفة، وأبي هاشم من المعتزلة. لنا: أن بعد انقضاء الضرب يصدق عليه أنه ليس بضارب، وإذا صدق ذلك، وجب أن يصدق عليه أنه ضارب. بيان الأول: أنه يصدق عليه أنه ليس بضارب في هذه الحال، وقولنا: ليس

بضارب، جزء من قولنا: ليس بضارب في هذه الحال، ومتى صدق الكل، صدق كل واحد من أجزائه، فإذن صدق عليه أنه ليس بضارب. وبيان الثاني: أنه لما صدق عليه ذلك، وجب ألا يصدق عليه أنه ضارب؛ لأن قولنا: (ضارب) يناقضه في العرف (ليس بضارب) بدليل أن من قال: فلان ضارب، فمن أراد تكذيبه وإبطال قوله، قال: إنه ليس بضارب، ولولا أنه نقيض الأول، وإلا لما استعملوه لنقض الأول؛ ولما ثبت كونهما موضوعين لمفهومين متناقضين، وقد صدق أحدهما، فوجب ألا يصدق الآخر. فإن قيل: لا نسلم أنه يصدق عليه بعد انقضاء الضرب- أنه ليس بضارب. قوله: لأنه يصدق عليه أنه ليس بضارب في هذه الحال؛ ومتى صدق عليه ذلك، صدق عليه أنه ليس بضارب!! قلنا: حكم الشيء وحده يجوز أن يكون مخالفا لحكمه مع غيره، فلا يلزم من صدق قولنا: (ليس بضارب في الحال) صدق قولنا: (ليس بضارب). سلمنا أنه يصدق عليه أنه ليس بضارب، فلم لا يصدق عليه أنه ضارب؟! بيانه: أن قولنا: فلان ضارب، وقولنا: فلان ليس بضارب، ما لم نعتبر فيه اتحاد الوقت- لم يتناقضا، ولا يجوز إيراد أحدهما لتكذيب الآخر. سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم، لكنه معارض بوجوه: الأول: أن الضارب من حصل له الضرب، وهذا المفهوم أعم من قولنا: حصل له الضرب في الحال، أو في الماضي؛ لأنه يمكن تقسيمه إليهما، ومورد

القسمة مشترك بين القسمين، ولا يلزم من نفي الخاص نفس المشترك؛ فإذن لا يلزم من نفى الضاربية في الحال نفى الضاربية مطلقا. الثاني: أن أهل اللغة اتفقوا على أن اسم الفاعل، إذا كان في تقدير الماضي لا يعمل عمل الفعل، ولولا أن اسم الفاعل يصح إطلاقه لفعل وجد في الماضي، وإلا لكان هذا الكلام لغوا. الثالث: أنه لو كان حصول المشتق منه شرطا في كون الاسم المشتق حقيقة، لما كان اسم المتكلم والمخبر واليوم والأمس وما يجري مجراها ـ حقيقة في شيء أصلا، واللازم باطل، فالملزوم مثله. بيان الملازمة: أن الكلام اسم لمجموع الحروف المتوالية، لا لكل واحد منها، ومجموع تلك الحروف لا وجود له أصلا بل الموجود منه أبدا ليس إلا الحرف الواحد، فلو كان شرط كون الاسم المشتق حقيقة حصول المشتق منه، لوجب ألا يصير هذا الاسم المشتق حقيقة ألبتة. فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: الكلام اسم لكل واحد من تلك الحروف؟! سلمنا: أنه ليس كذلك، فلم لا يجوز أن يقال: حصول المشتق منه شرط في كون المشتق حقيقة، إذا كان ممكن الحصول، فأما إذا لم يكن كذلك، فلا؟!. أو نقول: شرط كون المشتق حقيقة حصول المشتق منه؛ إما لمجموعه أو لأجزائه، وهاهنا إن امتنع أن يكون للمجموع وجود، لكنه لا يمتنع ذلك للآحاد.

أو نقول: لم لا يجوز أن يقال: هذه الألفاظ ليست حقائق في شيء من المسميات أصلا؟!. قلت: الجواب عن الأول: أن ذلك باطل بإجماع أهل اللغة، وأيضا: فالإلزام عائد في لفظ الخبر؛ فإنه لا شك في أن كل واحد من حروف الخبر ليس خبرا، وكذلك كل واحد من أجزاء الشهر والسنة ليس بشهر ولا سنة. وعن الثاني: أن أحدا من الأمة لم يقل بهذا الفرق؛ فيكون باطلا. وعن الثالث: أن هذه الألفاظ مستعملة، وكل مستعمل، فإنه إما أن يكون حقيقة، أو مجازا، وكل مجاز فله حقيقة، فإذن هذه الألفاظ حقائق في بعض الأشياء، وقد علم بالضرورة أنها ليست حقائق فيما عدا هذه المعاني، فهي حقائق فيها. الرابع: الإيمان مفسر: إما بالتصديق، أو العمل، أو الإقرار، أو مجموعها. والشخص حينما لا يكون مباشرا لشيء من هذه الأشياء الثلاثة يسمى مؤمنا حقيقة، فلولا أن حصول ما منه الاشتقاق ليس شرطا لصدق المشتق، وإلا لما كان كذلك. والجواب: قوله: يجوز أن يختلف حال الشيء بسبب الانفراد والتركيب!! قلنا: مدلول الألفاظ المركبة ليس إلا المركب الحاصل من المفردات التي هي مدلولات الألفاظ المفردة. قوله: وحدة الزمان معتبرة في تحقق التناقض!!.

قلنا: هذا لا نزاع فيه، لكنا ندعي أن قولنا: (ضارب) يفيد الزمان المعين، وهو الحاضر بدليل ما ذكرنا: أن إحدى اللفظتين مستعملة في رفع الأخرى. أما أولا: فلأنا نعلم بالضرورة من أهل اللغة أنهم متى حاولوا تكذيب المتلفظ بإحدى اللفظتين، لا يذكرون إلا اللفظة الأخرى، ويكتفون بذكر كل واحدة منهما عند محاولة تكذيب الأخرى، ولولا اقتضاء كل واحدة منهما للزمان المعين، وإلا لما حصل التكاذب. وأما ثانيا: فلأن كلمة (ليس) موضوعة للسلب، فإذا قلنا: ليس بضارب، فلابد وأن يفيد سلب ما فهم من قولنا: ضارب، وإلا لم تكن لفظة (ليس) مستعملة للسلب. وإذا ثبت أن كل واحدة من هاتين اللفظتين موضوعة لرفع مقتضى الأخرى، وجب تناولهما لذلك الزمان المعين، وإلا لم يحصل التكاذب. ثم لا نزاع في أن ذلك الزمان ليس هو الماضي ولا المستقبل؛ فتعين أن يكون الحاضر. قوله في المعارضة الأولى: ثبوت الضرب له أعم من ثبوته له في الحاضر أو الماضي بدليل صحة التقسيم إليهما. قلنا: كما يمكن تقسيمه إلى الماضي والحاضر، يمكن تقسيمه إلى المستقبل، فإنه يمكن أن يقال: ثبوت الضرب له أعم من ثبوته له في الحال أو في المستقبل، فإن كان ما ذكرته يقتضي كون الضارب حقيقة لمن حصل له الضرب في الماضي، فلكين حقيقة لمن سيوجد الضرب منه المستقبل، وإن لم يوجد ألبتة لا في الحاضر ولا في الماضي، فإنه باطل بالاتفاق.

قوله ثانيا: إن أهل اللغة قالوا: اسم الفاعل إذا أفاد الفعل الماضي لا يعمل عمل الفعل. قلنا: وقد قالوا أيضا: إذا أفاد الفعل المستقبل، عمل عمل الفعل؛ فيلزم أن يكون الاسم المشتق حقيقة فيما سيوجد فيه المشتق منه، ولا شك في فساده. قوله ثالثا: يلزم ألا يكون اسم المخبر حقيقة أصلا. قلنا: المعتبر عندنا حصوله بتمامه، إن أمكن، أو حصول آخر جزء من أجزائه؛ ودعوى الإجماع على فساد هذا التفصيل ممنوعة. قوله رابعا: الشخص يسمى مؤمنا، وإن لم يكن مشتغلا في الحال بمسمى الإيمان. قلنا: لا نسلم أن ذلك الإطلاق حقيقة، والدليل عليه: أنه لا يجوز أن يقال في أكابر الصحابة: إنهم كفرة؛ لأجل كفر كان موجودا قبل إيمانهم، ولا لليقظان: إنه نائم؛ لأجل نوم كان موجودا قبل ذلك، والله أعلم. المسألة الثانية: اختلفوا في أن المعنى القائم بالشيء، هل يجب أن يشتق له منه اسم؟ والحق التفصيل: فإن المعاني التي لا أسماء لها مثل أنواع الروائح والآلام، فلا شك أن ذلك غير حاصل فيها. وأما التي لها أسماء، ففيها بحثان: أحدهما: أنه، هل يجب أن يشتق لمحالها منها أسماء؟! الظاهر من مذهب المتكلمين منا: أن ذلك واجب، فإن المعتزلة، لما قالت:

إن الله تعالى يخلق كلامه في جسم، قال أصحابنا لهم: لو كان كذلك، لوجب أن يشتق لذلك المحل اسم المتكلم من ذلك الكلام، وعند المعتزلة: أن ذلك غير واجب. وثانيهما: أنه إذا لم يشتق لمحله منه اسم، فهل يجوز أن يشتق لغير ذلك المحل منه اسم؟ فعند أصحابنا: لا، وعند المعتزلة: نعم. لأن الله تعالى يسمى متكلما بذلك الكلام واستدلت المعتزلة لقولهم في الموضعين: بأن القتل والضرب والجرح قائم بالمقتول والمضروب والمجروح، ثم إن المقتول لا يسمى قاتلا، فإذن محل المشتق منه لم يحصل له اسم الفاعل، وحصل ذلك الاسم لغير محله. وأجيبوا عنه: بأن الجرح ليس عبارة عن الأمر الحاصل في المجروح، بل عن تأثير قدرة القادر فيه، وذلك التأثير حكم حاصل للفاعل، وكذا القول في القتل. وأجابت المعتزلة عنه: بأنه لا معنى لتأثير القدرة في المقدور إلا وقوع المقدور؛ إذ لو كان التأثير أمرا زائدا، لكان: إما أن يكون قديما، وهو محال؛ لأن تأثير الشيء في الشيء نسبة بينهما؛ فلا يعقل ثبوته عند عدم واحد منهما، أو محدثا؛ فيفتقر إلى تأثير آخر؛ فيلزم التسلسل. والذي يحسم مادة الإشكال أن الله تعالى خالق العالم، واسم الخالق مشتق من الخلق، والخلق نفس المخلوق، والمخلوق غير قائم بذات الله تعالى. والدليل على أن الخلق عين المخلوق أنه لو كان غيره، لكان إن كان قديما، لزم قدم العالم، وإن كان محدثا، لزم التسلسل.

المسألة الرابعة: مفهوم الأسود شيء ... إلخ

ومما يدل على أنه ليس من شرط المشتق منه قيامه بمن له الاشتقاق-ـ أن المفهوم من الاسم المشتق ليس إلا أنه ذو ذلك المشتق منه، ولفظ (ذو) لا يقتضي الحلول. ولأن لفظة (اللابن)، و (التامر)، و (المكي)، و (المدني)، و (الحداد) مشتقة من أمور يمتنع قيامها بمن له الاشتقاق. المسألة الرابعة: مفهوم الأسود شيء ما له السواد؛ فأما حقيقة ذلك الشيء، فخارج عن المفهوم، فإن علم، علم بطريق الالتزام، والذي يدل عليه أنك تقول: الأسود جسم، فلو كان مفهوم الأسود أنه جسم ذو سواد، لتنزل ذلك منزلة ما يقال: الجسم ذو السواد يجب أن يكون جسما، والله أعلم بالصواب]. قال القرافي: قال ابن الخشاب في كتابه في الاشتقاق ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول: جوازه مطلقا، قاله ابن درستويه،. المذهب الثاني: منعه مطلقا، قال ابن نفطويه، ويرى أن الجميع موضوع، قال: وإن كان ظاهريا في مذهبه، وكان من أصحاب داود الظاهري، ووافقه محمد بن الحسين المقري. المذهب الثالث: أن في الكلام مشتقا، وغير مشتق. قال: والاشتقاق مأخوذ من الشق افتعال منه. فشققت معناه: اقتطعت، ومنه قول الفرزدق: [البسيط].

فائدة: تسمية المنقول عن أسماء الأجناس أعلاما

مشتقة من رسول الله نبعته [طابت مغارسه والخيم والشيم]. وقال الرماني في كتاب (الحدود النحوية) حده: اقتطاع فرع من أصل يدور في تصاريفه. وقال في كتاب (الاشتقاق): هو إنشاء فرع عن أصل يدل عليه. وقال عبد الله بن أحمد: هو رد فرع إلى أصل يعني يجمعهما، وهو خاص في أصل الوضع بالأصل. (فائدة) قال اللغويين كالأصمعي، وقطرب ونحوهما: يسمون المنقول عن أسماء الأجناس أعلاما على الأشخاص مشتقة نحو (جعفر) و (ثعلبة)، والنحويون يخالفونهم. (مسألة) قال: الحمار من الحمرة؛ لأنها تكون الغالب على حمر الوحش، والغراب من الغرب الذي هو الحد لحدة بصره، أو من الغرابة؛ لأن الشعراء يجعلون صياحه سببا للفراق، والجراد من الجرد؛ لأنه يجرد الأرض من النبات، وضروب الحيوان وغيرها. وقوله: هذه الدراهم ضرب هذه السنة، وضرب كل سنة مشابه للسكة،

(فائدة) قال ابن جني في (الخصائص): الاشتقاق كما يقع من الأسماء يقع من الحروف

وضروب السنين مختلفة السكك، وأنواع الحيوان مختلفة الطباع، والضرب من الرجال الخفيف اللحم لكونه يسهل مشيه، فيكثر ضربه الأرض، وضريب السواك اختلاط بعضه ببعض، والاختلاط موجب لضرب بعضه ببعض، والضريب الثلج لكونه يضرب الأرض، والضرب بفتح الراء العسل لاستضرابه بسبب الغلظ، ولمشابهته الضرب الذي هو الثلج في لونه الصافي. (فائدة) قال ابن جني في (الخصائص): الاشتقاق كما يقع من الأسماء يقع من الحروف، فإن (نعم) حرف جواب، وأرى أن النعمة، والنعم، والنعماء، والنعيم مشتقة منه، وكذلك أنعم صباحا؛ لأن الجواب به محبوب للقلوب. وكذلك سوفت من (سوف) الذي هو حرف تنفيس، ولوليت له إذا قلت له: (لولا)، وليلت إذا قلت له: لا لا. (مسألة) قال ابن جني: الجمل من الجمال، والغنم من الغنيمة، والشاة من الوشي؛ لأنها تشي من الأرض، والخيل من الاختيال، والبقر من بقرت

(مسألة) قال ابن جني: يقال للحاجة: الحاجة، والحوجاء، واللوجاء ... إلخ

الأرض، أي شققتها، ومنه بقر بطنه، والفضة من الافتضاض؛ لأنها في تراب معدنها مفترقة، وإن كانت تسبك بعد ذلك. وسميت لجينا؛ لأنها ملتجنة أي: ملتصقة بترابها، ولذلك التزموا فيه التصغير لحقارته في تراب معدنه بسبب التفرق. والذهب؛ لأنه كالذهب المفقود معدنه لتفرقه في التراب، أو لقلته في العالم عند الناس. والقليل عند العرب في معنى المعدوم لقولهم: (قل من يقول كذا إلا زيد) بالرفع أجرى (قل) مجرى النفي، فرفعوا المستثنى منه؛ لأن القليل كالعدم، ولذلك كفوه بـ (ما) فقالوا: (قلما يفعل كذا زيد)، والأفعال لا تكف أجروه مجرى حرف النفي مثل: (لم) و (لما). وسموه تبرا من التبار، وهو الهلاك؛ لأنه في معدنه كالهلاك. وسموه إذا خلصوه الخلاص من الخلوص. والإبريز من البروز. والعقيان من العقي وهو أول ما يطرحه الجنين من بطنه عند خروجه من بطن أمه. (مسألة) قال ابن جني: يقال للحاجة: الحاجة، والحوجاء، واللوجاء، والأرب، والإربة، والمأربة، واللبانة، والتلاوة، والتلية، والأشكلة، والشهلاء، وأصل الجميع واحد، وهو الإقامة على الشيء، والتشبث به؛ لأن أصحاب الحوائج كذلك، والحاجة من الشجر ذات الشوك التي يلتف بها ما يمر عليها، و (الحوجاء) و (اللوجاء) من لجت الشيء إذا أدرته في فيك،

(قاعدة) قال الأدباء: الاشتقاق قسمان

والحاجة يتردد في حصولها، والأرب، والإربة، والمأربة من الإربة؛ وهي العقدة، والحاجة معقودة بنفس الإنسان. واللبانة من تلبن بالمكان إذا أقام به، والتلاوة والتلية من تلوت الشيء إذا قفوته، والأشكلة من الشكال، والشهلاء من المشاهلة، وهي مراجعة القول. (قاعدة) قال الأدباء: الاشتقاق قسمان: اشتقاق أصغر، واشتقاق أكبر. فالأصغر هو ما كان من المصادر عند البصريين كاسم الفاعل، واسم المفعول، واسم المكان، واسم الزمان، واسم الآلة، والفعل الماضي والمضارع، ونحوها. والاشتقاق الأكبر ما كان من غير ذلك نحو الجمال من الجمال ونحو ذلك وهو ما يكون من جميع الحقائق نحو: استنوق البعير، واستنسر البغاث من الناقة، والنسر، واستحجر الطين، ونحو ذلك. (سؤال) يرد على حد المصنف للاشتقاق أن الصالح مشتق من الصالحين، فإن التثنية والجمع والمفرد فيها قيود للحد، وليس أحدها مشتقا من الآخر،

بل الجميع مشتق من المصدر، وكذلك الأمر والنهي ليس أحدهما مشتقا من الآخر. والماضي والمضارع واسم الفاعل وسائر الصيغ المشتقة يلزم أن يكون كل واحد منها مشتقا من الآخر. أمثلة ما ذكروه، ولنذكر لكل واحد منها ثلاثة أمثلة، حتى إذا ورد على بعضها سؤال، أو تصحيف حصل المقصود بالآخر. الأول: زيادة الحركة علم من العلم زاد في الفعل حركة اللازم، وضرب من الضرب، وقتل من القتل. الثاني: زيادة الحرف نحو جارح من الجرح، وتالف من التلف، وغاضب من الغضب، وغاصب من الغصب. الثالث: زيادتهما نحو عالم من العلم زاد حركة اللام والألف، وضارب من الضرب، وقاتل من القتل. الرابع: نقصان الحركة نحوه: أسود من السواد قدمت الألف التي بعد الواو، ونقصت حركة السين، وأبيض من البياض، وأصبح من الصباح. الخامس: نقصان الحروف: كتب من الكتاب، حسب من الحساب، وذهب من الذهاب.

(سؤال) بقى زيادة حرفين نحو ... إلخ

السادس: نقصان الحرف والحركة نحو: سر من السير، نقصت حرك الراء للأمر والياء لالتقاء الساكنين، وبع من البيع، وضر من الضير. السابع: زيادة الحرف، ونقصان الحركة نحو: يغضب من الغضب، زاد حرف المضارعة، ونقصت حركة الغين، ويهرب من الهرب، ويهرم من الهرم. الثامن: نقصان الحرف، وزيادة الحركة نحو: حي من الحياة، نقصت تاء التأنيث، وتحولت الألف ياء؛ لأنه أصلها، وكثر من الكثرة، نقصت تاء التأنيث، وتحركت التاء الوسطى، وكلا وخذا من الأكل، والأخذ، سقطت الألف الأولى، وتحركت الكاف، والخاء، والألف الأخيرة ضمير التثنية لا من الفعل المشتق. التاسع: زيادة حرف، وحركة نقصانهما نحو: أحمر من الحمرة، زادت الألف، وحركت الميم ونقصت التاء وحركت الحاء. (سؤال) بقى زيادة حرفين نحو: معلم، فإن (اللام) مشددة بلامين وحرفين، وحركة: نحو: مضروب من الضرب [. وزيادة حرفين ونقصان حركة نحو: غضبان من الغضب، وزيادة حرفين وحركة نقصانهما نحو: (مسبار من السبر الذي هو الاختبار، ووجدت من المشتقات أمثلة كثيرة على غير ما ذكرتم لم أطول بذكرها، فإن كان -رحمه الله- أراد الحصر، فهو باطل بما ذكرته، وأن أراد التنبيه فقط، فكان

يكفيه الإشارة إلى أصل زيادة الحركات والحروف، ولا حاجة إلى التطويل في ذلك. وأجاب بعض الفضلاء عن ذلك بأن قوله: في الحرف والحركة أراد جنسهما إذا اجتمعا قلا أو كثرا، وعلى هذا الحصر ثابت، والألف واللام في الحرف والحركة في كلامه لاستغراق الجنس، فاندفع السؤال، ولذلك قال في آخر كلامه: (فهذه الأقسام الممكنة)، فدل ذلك على أنه أراد الحصر، خالفه (الحاصل) في أقسام فقال: زيادة الحرف ونقصانه وزيادته ونقصانه، وكذلك في الحركة، وفيهما معا، فعمل لكل واحد من الثلاثة زيادته ونقصانه ولم يعمد زيادة الحرف، ونقصان الحركة، كما في (المحصول). وفى (التحصيل) أجمل فقال: بالحرف، أو الحركة، أو بهما بالزيادة أو النقصان، أو بهما معا، ولم يبين لا عين تسعة ولا غيرها، وكذلك (المنتخب)، وسكت التبريزى عنه بالكلية.

(سؤال) مقتضى ما ذكروه من حدود الاشتقاق أن يكون جبريل مشتقا من ... إلخ

(سؤال) مقتضى ما ذكروه من حدود الاشتقاق أن يكون جبريل مشتقا من الحبروت؛ لأنه يأتي بالقتال، وإسرافيل من السرف لعظم خلقه، وميكائيل من الكيل؛ لأنه يكيل الأرزاق، وعزرائيل من التعزير؛ لأنه يعزر الخلق بقبض أرواحها، وآدم من الأديم؛ لأنه ألف من أديم الأرض، وأدريس من الدرس؛ لأنه درس بحقه باطل غيره، ونحو ذلك كثير، ولو كانت مشتقة لانصرفت، لكنها ممنوعة من الصرف، واتفق الأدباء على أن الاشتقاق والعجمة لا يجتمعان. المسألة الأولى: وهى المشهورة بيننا، وبين المعتزلة بحق الله -تعالى- خاصة، فيثبتون الأحوال دون المعاني التي نوجبها، فلا يثبتون شيئا من الصفات السبعة، فيتبتون أحكامها التي هي القادرية، والعالمية، وكذلك البقية، وبيان إبطال مذهبهم في علم الكلام. قوله: (لا يأتي الخلاف مع أبى الحسين) يريد في هذه المسألة؛ لأنه من ادعى الاتحاد بين الحكم وموجبه، فالنزاع معه إنما هو في إبطال الاتحاد بينهما. فلعله لو اعترف بالمغايرة والتعدد قال بأنهما متلازمان، فما تعين الخلاف معه في هذه المسألة، بل في اتحاد الأمرين المذكورين. وقوله لنا: (إن المشتق مركب، والمشتق منه مفرد، والمركب بدون المفرد محال). تقرير ذلك: أن العالم معناه: شيء ما له العلم، فشيء ما أحد الجزئين، وله العلم هو الجزء الأخير. (سؤال) فهرسة المسألة غير منتظمة، لأن المشتق منه إنما هو اللفظ؛ لأن الاشتقاق

(المسألة الثانية) اختلفوا في بقاء وجه الاشتقاق

من عوارض الألفاظ دون المعاني، فالمشتق عالم مثلا، والمشتق منه لفظ العلم لا مسماه، وقد يصدق لفظ عالم في الوجود على شخص، ولا ينطق أحد في حقه بلفظ العلم، فينفك المشتق عن المشتق منه، بل كان الصواب أن يقال: صدق المشتق لا ينفك عن صدق مسمى المشتق منه. أما المشتق منه فلا يلزم إجماعا. وكذلك قوله: (المشتق مركب، والمشتق منه مفرد، والمركب بدون المفرد غير معقول) - لا يتم؛ لأنه جعل لفظ العلم الذي هو مشتق منه جزء المشتق الذي هو عالم، ولفظ المصدر، أو اسم المعنى ليس جزءا من لفظ اسم الفاعل، نعم اشتراكا في الحروف الأصلية، والحروف الأصلية لا مشتق، ولا مشتق منه، بل المشتق مركب من مسمى المشتق منه، لا من المشتق منه، وهو مطلوبة، غير أن العبارة غير محررة. (المسألة الثانية) اختلفوا في بقاء وجه الاشتقاق: (سؤال) البقاء ليس شرطا إجماعا، بل المقارنة لزمن الإطلاق، والبقاء لا يصدق إلا بشرط تقدم المعنى، وقد لا يتقدم، بل يصدق اللفظ حقيقة زمن الحدوث، فأول زمن الحياة يصدق أنه حي، وكذلك سائر المعاني، فالبقاء ليس شرطا، بل المقارنة، ثم قوله هو شرط لصدق المشتق منه لم يقل لا حقيقة ولا مجازا، والمجاز ليس مشروطا إجماعا، بل كونه حقيقة. تحرير الأقسام ثلاثة: اثنان مجمع عليهما: إطلاق اللفظ المشتق، ومسمى المشتق منه مقارن حقيقة إجماعا، كتسمية الخمر خمرا، وإطلاقه، وهو مستقبل مجازا إجماعا، كتسمية العنب خمرا، أو إطلاقه وهو متقدم؟ فيه مذهبان: أصحهما: المجاز.

(سؤال) هذه الأزمنة الثلاثة المتقدم ذكرها إنما هي بالنسبة إلى زمن الإطلاق

فرق بين هذه المسألة والتي قبلها والنزاع في صدق المعنى على المحل من حيث الجملة، وفى هذه المقارنة فقد يصدق المعنى، ولا يقارن بأن يكون في الماضي والمستقبل، فالثانية ألأخص من الأولى، فالمسلم للأولى يمكنه المنازعة في الثانية؛ لأنه لا يلزم من تسليم أصل الصدق تسليم اشترط المقارنة. (سؤال) هذه الأزمنة الثلاثة المتقدم ذكرها إنما هي بالنسبة إلى زمن الإطلاق، فعلى هذا يكون قوله تعالى:} فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين] حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم {] التوبة:5 [، وقوله تعالى:} السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم {] المائدة:38 [،} والزاني والزانية {] النور:2 [ونحوه من نصوص الكتاب والسنة لا يتناول الكائن في زماننا من هذه الطوائف إلا بطريق المجاز، لأن زمانهم مستقبل بالنسبة إلى زمن نزول هذه النصوص ونطق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يتناولهم اللفظ إلا بطريق المجاز، فيتعذر علينا الاستدلال بها؛ لأن الأصل عدم المجاز في كل واحد منها، فيفتقر في كل دليل إلى دليل آخر يدل على التجوز إلى تلك الصورة، فتقف علينا الأدلة السمعية كلها، وهو خلاف الإجماع، بل أجمع العلماء على أن هذه الألفاظ حقائق في هذه المعاني، فكيف تتصور هذه المسألة، وكيف نجمع بينها، وبين هذه القاعدة الإجمالية؟ (سؤال) إذا قال القائل: من دخل داري فله درهم، كان اللفظ متناولا لكل من

(سؤال) أجمع العلماء على أن لفظ الفعل الماضي حقيقة

يدخل الدار في الزمن المستقبل حقيقة لغوية، وما تقدم من تقسيم الأزمنة يأباه. (سؤال) أجمع العلماء على أن لفظ الفعل الماضي حقيقة، وإن كان قد تقدم مسمى المشتق منه، والفعل المستقبل حقيقة في المستقبل، والمعنى المشتق من لفظه لم يأت بعد، ومن ذلك الأوامر، والنواهي، والأدعية، والشروط، وأجوبتها، والوعد، والوعيد، والترجي، والتمني، والإباحة، هذه الأمور العشرة إنما وضعت لتناول المعدوم المستقبل ليس إلا، ولا تتعلق بحاضر، ولا ماض مع وجود الاشتقاق فيها، فهذه الدعوى في هذه المسألة إما باطلة، وإما غير محررة. والجواب عن الأول: أن المشتق على قسمين: محكوم به، ومتعلق الحكم. فالمحكوم به نحو: زيد صائم، أو مسافر، فقد حكمنا عليه بهذه المشتقات. ومتعلق الحكم، نحو: أكرم العلماء، ولم نحكم بأن أحدا عالم، بل حكمنا بوجوب الإكرام لهم، وهو متعلق هذا الحكم، ومرادنا في هذه المسألة المشتق إذا كان محكوما به. أما إذا كان متعلق الحكم، فهو حقيقة مطلقا من غير تفضيل، والله سبحانه وتعالى لم يحكم في تلك الآيات بأن أحدا أشرك ولا زنى ولا سرق، بل حكم بوجوب القتل، والقطع، والجلد فقط، وهذه الطوائف متعلق الأحكام، فاندفع الإشكال عن نصوص الكتاب والسنة بتخصيص الدعوى، مع أن كل من رأيته يتحدث في هذه المسألة يذكرها عموما، وهو باطل إجماعا، وبالضرورة كما ترى.

قاعدة كل ما أخص في طرف الثبوت، فهو أعم في طرف النفي ... إلأخ

وعن الثاني: أن مقصودنا بالمشتق إذا حكم به على المحل، وأخبر المخبر بثبوته، وفى قول القائل: من دخل داري لم يحكم بدخول أحد الدار، فاندفع الإشكال الآخر بعين ذلك التخصيص. وعن الثالث: أن مرادنا اسم الفاعل، واسم المفعول، واسم الزمان، واسم المكان، واسم الآلة ونحوها، أما الأفعال وما ذكر معها لم نرده. فإذا تخصصت المسألة، خرجت منها هذه النصوص أمكن تمشيتها، وإلا كانت باطلة بالإجماع، فتأمل هذه المواضع، ففيها فوائد جليلة. قاعدة كل ما أخص في طرف الثبوت، فهو أعم في طرف النفي، وكل ما كان أخص في طرف النفي، فهو أعم في طرف الثبوت، فعدم الأخص أعم من عدم الأعم، وعدم الأعم أخص من عدم الأخص، فوجود الإنسان أخص في طرف الثبوت من الحيوان، وعدمه أعم من عدم الحيوان؛ لأنه يعدم كل عدم الحيوان، وقد يعدم ولا يعدم الحيوان لعدم فصله، خاصة الذي هو الناطق، فعدم الإنسان أعم من عدم الحيوان، وعدم الحيوان أخص من عدم الإنسان، عكس ما كان عليه في جهة الثبوت. إذا تقررت هذه القاعدة، فقولنا: ضارب في الحال أخص من: (ضارب) لحصول الخصوص بقيد الحال، وسلبه أعم من سلب: (ضارب) لما تقدم، فلا يلزم من صدق: ليس بضارب في الحال صدق: ليس بضارب، لأنه لا يلزم من صدق عدم الأخص صدق الأعم. فرق بين عدم الأخص وبين العدم الأخص، وبين سلب المقيد بالحال، وبين السلب المقيد بالحال، فهو يريد أن يجعل سلب: (ضارب) من حيث هو ضارب، ويقيده في الحال، ويقول: متى صدق السلب المقيد بالحال صدق السلب ضرورة صدق الأعم عند صدق الأخص.

(قاعدة) القضايا أربعة

ونحن ننازعه، ونقول: بل هذا السلب دخل على الضارب المقيد بالحال، فهو سلب الأخص لا سلب أخص، وسلب المقيد بالحال لا السلب المقيد بالحال كما زعم، والصيغة محتملة للأمرين، فلا يتعين لإنتاج مطلوبة. فقوله: والأول جزء من الثاني يمنعه أنه جزؤه، لأن سلب الأعم ليس جزءا من سلب الأخص؛ لأنه اخص، والأخص ليس جزءا للأعم، بل الصادق العكس الثاني جزء من الأول؛ لأن الأعم جزء من الأخص. (قاعدة) القضايا أربعة: موجبة كلية نحو: كل إنسان حيوان، وسالبة كلية نحو: لا شيء من الإنسان بفرس، وموجبة جزئية نحو: بعض الحيوان إنسان، وسالبة جزئية نحو: بعض الحيوان ليس بفرس. (قاعدة) المعلومات كلها أربعة أقسام: نقيضان: وهما اللذان لا يجتمعان، ولا يرتفعان كوجود الشيء وعدمه. وخلافان: وهما اللذان يمكن اجتماعهما، وارتفاعهما كالحركة، والبياض. وضدان: وهما اللذان لا يجتمعان، ويمكن ارتفاعهما مع اختلاف الحقيقة، نحو: السواد، والبياض. ومثلان: وهما اللذان لا يجتمعان، ويمكن ارتفاعهما مع تساوى الحقيقة. (تنبيهات) الأول: قولنا في الضدين: (مع اختلاف الحقيقة) احترازا من المثلين، فإنهما متساويان في الحقيقة، كما أن قولنا في المثلين: إنهما متساويان في

الثاني: أن قولنا في الضدين: يمكن ارتفاعهما ... إلخ

الحقيقة احترازا من الضدين، فإنهما مختلفان في الحقيقة، فلا فارق بين الضدين والمثلين إلا الاختلاف والتساوي في الحقيقة. الثاني: أن قولنا في الضدين: يمكن ارتفاعهما يشكل بالحركة والسكون، والموت والحياة، والعلم والجهل، والنور والظلمة، وبكل ضدين لا ثالث لهما، فإنهما لا يرتفعان، وإنما يتصور الارتفاع في الضدين اللذين لهما ثالث، كالألوان والطعوم والورائح. وجوابه: أنه يمكن ارتفاع هذه الأمور بارتفاع محالها، فقبل وجود العالم لا متحرك ولا ساكن، ولا جاهل ولا عالم من الخلائق التي يتضاد في حقهم ذلك ويتعاقب، وكذلك النور والظلمة، وسائر هذه النقوض، وإمكان الارتفاع أعم من الارتفاع المحلى، فهو صادق بما ذكرناه. الثالث: أن صانع العالم مع العالم ليس من الأربعة، فليسا نقيضين، لأنهما وجوديان، والنقيضان لابد وأن يكون أحدهما عدميا. ولا ضدين، لأن المؤثر لا يضاد أثره وإلا صدر عنه بل نافاه. ولا مثلين لعدم المنافاة، ولأن الواجب الوجود لا يماثل الممكن، ولا خلافان، لأنهما لا يمكن ارتفاعهما لتعذر العدم على الواجب الوجود سبحانه وتعالى. وجوابه: أنا نريد بالمعلومات ماعدا هذه الصورة. الرابع: أنه اشتهر من قواعد علم الكلام أن الضدين لابد أن يكونا ثبوتيين، وليس كذلك فإنهما قد يكون أحدهما عدميا كما قيل: إن سلب الشيء عن الشيء قد يكون المحل قابلا له، وقد لا يكون، فإن لم يكن قابلا له قبل لمنافاة ذلك الوجود، ولما يقابله يقابل السلب، والإيجاب كالنفي المقابل لوجود المستحيل.

الخامس: ينبغي أن يعلم أن الخلافين قد يمكن افتراقهما ... إلخ

نقول: التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب، وإن كان المحل قابلا لذلك الوجود. قيل: التقابل بينهما العدم والملكة، فالملكة هي الوجود المقبول، والعدم هو النفي الذي لا يقابله، وسمى بذلك، لأنه لما كان يقبله عد كأنه مالك له، وعلى هذا العدم والملكة متنافيان، وهما ضدان لإمكان رفعهما بأن يكون الوجود ليس واقعا، والعدم غير واقع، لأن المحل لا يقبل ذلك الوجود، مع أن أحدهما ليس ثبوتيا، فانتقضت القاعدة. الخامس: ينبغي أن يعلم أن الخلافين قد يمكن افتراقهما مع إمكان اجتماعهما وارتفاعهما، وقد لا يمكن، فالأول كالحركة والبياض، والتاني كالزوجية مع العشرة، وسائر اللوازم مع الملزومات، فإنهما لا يفترقان، وهما خلافان لانطباق حد الخلافين عليهما. إذا تقررت هذه الحقائق الأربعة، فتقول: قاعدة الكليات لا تناقض بينها لإمكان ارتفاعهما، والنقيضان لا يرتفعان، كقولنا: كل عدد زوج، ولا شيء من العدد بزوج، كلاهما كاذب، فقد ارتفعا، والجزئيتان لا تناقض بينهما لإمكان اجتماعهما على الصدق، كقولنا: بعض العدد زوج، وبعضه ليس بزوج، والنقيضان لا يجتمعان، فتكون الكليتان ضدين، والجزئيتان ضدين، فحينئذ التناقض إنما يقع بين الكلية والجزئية المخالفة لها في السلب أو الإيجاب، فتقيض الموجبة الكلية السالبة الجزئية، ونقيض السالبة الكلية الموجبة الجزئية، فعلى هذا اتجه منع قوله: كل واحد منهما يستعمل لتكذيب الآخر، لأن الضارب موجبة جزئية، وليس بضارب سالبة جزئية، والجزئيتان لا تناقض بينهما ما لم يضف إلى احديهما الدوام فنقول: ضارب دائما، أو ليس ضارب دائما، فبقيد الدوام تصير كلية تقابلها الجزئية بالتناقض، ولا يمكن الإضافة ها هنا في ضارب، لأن التقدير أنه ضارب في الماضي فقط.

وقوله: (إنما يكونان متناقضين إذا اتحد الوقت) - ممنوع، ولا يلزم من اتحاد الوقت التناقض. وتقرير شروط التناقض أن نقول: قاعدة التناقض لها ثمانية شروط: اتحاد الموضوع احترازا من تعدده نحو: زيد قائم، عمر ليس بقائم. واتحاد المحمول احترازا من قولنا: [زيد قائم]، زيد ليس بقائم. ووحدة الزمان احترازا من قولنا: زيد قائم يوم الجمعة ليس قائما يوم الخميس. ووحدة المكان احترازا من قولنا: زيد قائم في الدار ليس قائما في السوق. ووحدة الإضافة احترازا من قولنا: زيد أبو عمرو ليس أبا خالد. واتحاد الجزء والكل احترازا من قولنا: الزنجي أسود، ويريد جلده، وليس بأسود يريد أسنانه. واتحاد القوة والفعل احترازا من قولنا: الخمر مسكرة بالقوة ليس مسكرة بالفعل. والاختلاف في الكمية احترازا من قولنا: بعض العدد زوج، وبعضه ليس بزوج. فجميع هذه المثل الثمانية ليس فيها تناقض. وقال: يكفي اتحاد الإضافة في الثمانية، فإن اختلاف أحد الثمانية يوجب اختلاف الإضافة؛ لأن اختلاف الصيام يوجب اختلاف السفر، وكذلك بقيتها. وإذا تقررت هذه القاعدة ظهر أنه لا يلزم من اتحاد الزمان حصول التناقض.

وأما مناقضة أهل العرف فصحيحة بناء على أنهم يريدون عند التكذيب المناقضة بالشروط الثمانية، فإذا عضد هذه المقدمة بأن الأصل عدم النقل، والتغيير صحت المقدمة. تقرير قوله: يجوز أن يكون حكم الشيء وحده مخالفا له مع غيره. معناه: أن قولنا: قام زيد حكمه الإخبار والجزم، وإن دخل عليه حرف الشرط فقلنا: إن قام زيد بطل ذلك، وصار غير مفيد البتة، وكذلك هل قام زيد؟ بطل الإخبار، وصار استخبارا، ونظائره كثيرة. يقول السائل: فلعل قولك: في الحال يوجب صدق معنى لا يصدق عند إفراد ضارب عن قيد الحال، فيكون الصادق الثبوت عند عدم القيد، وعند القيد يصدق السلب. قوله: (الضارب من حصل له الضرب، وهو أعم من الحال). ممنوع؛ لأن قوله: (حصل) صيغة ماضية، والماضي لا يصدق على الحال، نعم لو قال: حاصل أو يحصل أمكن تسليمه، أما (حصل له) فلا. قوله: (اتفقوا على أن إطلاق اسم الفاعل بمعنى الماضي إذا قلنا: زيد ضارب عمرا أمس). قلنا: اتفاقهم على الإطلاق لا يلزم منه الحقيقة، وقد يكون مجازا، وهو مذهبنا، فقد أطلقوه باعتبار المستقبل، وهو مجاز إجماعا، وأولى أن يكون حقيقة؛ لأنهم قالوا: إذا كان بمعنى المستقبل عمل فأثبتوه، وأثبتوا له العمل، فيكون أقوى من الماضي الذي لم يثبتوا أثره. قوله: (لو كان حصول المشتق منه شرطا لما كان حصول الأمس واليوم حقيقة). قلنا: النزاع إنما هو في بعض المشتقات لا في كل الألفاظ، فالماضي،

(تنبيه) الشهر، والسنة أمكن أن يكونا من محل النزاع ... إلخ

والمستقبل، والمتقدم، والمتأخر، وغير ذلك أسماء وحقيقة في الماضي، والمستقبل إجماعا، وقد تقدم ألفاظ كثيرة لم تندرج في صورة النزاع، وإنما يرد اليوم والأمس أن لو كان النزاع في كل لفظ. تقرير قوله: الإلزام عائد في لفظ المخبر. معناه: أن المخبر اتفق الناس على أنه يصدق فيمن نطق بكلام غير مفيد، والكلام المفيد إنما يحصل بمجموع حروف. وأما المتكلم فقد قيل: إن الكلام حرفان، أفاد أم لا، كانا مهملين موضوعين لمعنى، فلذلك سلم الكلام، ونازع في الخبر مع أن الكلام وإن فسر بأقل الأقوال فهو حرفان، وما علمت أحدا يقول: الحرف الواحد كلام، إلا أن يكون في الأصل أكثر من ذلك، والحرفان لا يجتمعان، فلا فرق بينهما وبين الخبر. (تنبيه) الشهر، والسنة أمكن أن يكونا من محل النزاع؛ لأن الشهر من الاشتهار برؤية الهلال وغيره، والسنة قالوا: من السنة الذي هو التغيير؛ لأن أحوال العالم تتغير فيها بالرفع والخفض، أو بالفصول الأربعة، وكذلك العام من العوام، لأن الشمس عامت في الفلك عومة كاملة، فكانت في نقطة، وخرجت منها، وعادت إليها، ويؤيده قوله تعالى: {وكل في فلك يسبحون} [يس:40]. وكذلك اختار أرباب الآداب أن يقال: عام مبارك، ولا يقال: سنة مباركة؛ لإشعار السنة بالتغيير والجدب والمكاره، والعام ليس كذلك، وكذلك قال الله تعالى: {ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} [يوسف:49]. وقال في الجدب: {سبع سنين} [يوسف:47]، ولم يقل: سبعة

أعوام، فظهر أن هذه مشتقة تفريعا على الاشتقاق الأكبر لا الاشتقاق الأصغر على ما تقدم بيانه. وأما اليوم، والأمس فما سمعت لهما اشتقاقا منقولا لأهل الأدب، وظهر الفرق. وقوله: (كل يستعمل إما حقيقة، وإما مجازا). ممنوع، لأن لفظ (جعفر) إذا استعمل في الإنسان المخصوص لا حقيقة؛ لأن (جعفر) اسم للنهر الصغير، ولا مجازا لعدم العلاقة بين النهر الصغير، وبين الإنسان المخصوص، ونظائره كثيرة في الأعلام. وفيما قاله العلماء: إذا قال: اسقني الماء، أو سبحان الله، وأراد طلاق امرأته، أو عتق عبده، فليس حقيقة في الطلاق، ولا مجازا لعدم العلاقة، وهو كثير أيضا. قوله في الجواب: (مدلول الألفاظ المركبة ليس إلا المركب الحاصل من المفردات التي هي مدلولات الألفاظ المفردة) لا يتم جوابا؛ لأنا نسلم له الآن أن مدلول المركب الآن هو مدلول الألفاظ الموجودة الآن، ولكن إذا انفرد بعض هذه الألفاظ عن بعض، هل يبقى الحال كما كان أو يختلف؟ هذا موضع النزاع، وقد تقدمت مثل لم يبق فيها مدلول المفرد حالة التركيب، ولا مدلول التركيب حالة الإفراد. قوله: (كلمة (ليس) موضوعة للسلب، فإذا قلنا: ليس بضارب، فلابد أن يفيد سلب ما فهم من قولنا: ضارب). قلنا: ظاهر كلامه أن السلب لا بد أن يرفع جملة ما فهم من الثبوت، وهو غير لازم، فإن سلب الكل المركب يكفي فيه نفي جزء منه، نحو: لا نصاب للزكاة عندك، يكفي فيه نفي دينار واحد، وكذلك الكليات إذا دخل عليها السلب.

(أسئلة)

قولنا: ليس كل عدد زوجا، ولا كل أحد يصحب، ونحو ذلك، فإن السلب إنما ينفي بعض هذه الكلية لا جملة ما فهم من قولنا: ليس كل عدد زوجا الذي هو الكلية، فإن أراد سلب الجميع، فهو باطل بما ذكرناه، إلا زوجا الذي هو الكلية، فإن أراد الجميع، فهو باطل بما ذكرناه، وإن أراد صدق أصل النفي كيف كان أفاده، فإن لفظ (ضارب) وضع لمجموع هذا المفهوم، فإذا انتفى بجملته أو ببعض أجزائه لم يصدق اللفظ بعد ذلك إلا مجازا، وهو المطلوب. (أسئلة) الأول: قال النقشواني: كل إنسان يصدق عليه أنه نائم، وليس بنائم لما عرف من اختلاف الزمانين مع عدم التناقض. الثاني: قال النقشواني: يصدق أن الفرس ليس بحيوان طائر، وأنه حيوان صاهل، فكونه حيوانا، وليس بحيوان جزء من هذين المقدمتين الصادقتين، فلو صدق مقدما خلاف قياس المصنف لصدق أن الفرس حيوان، وليس بحيوان، وهو محال. الثالث: أن نكتته معارضة بأن يصدق أنه ضارب في الماضي، فيصدق أنه ضارب؛ لأنه جزء من ضارب في الماضي، وإذا صدق ضارب لا يصدق أنه ليس بضارب؛ لأنه نقيضه، ولا ينقلب ذلك في المستقبل، فيقال: هو ضارب في المستقبل، وضارب في المستقبل جزؤه ضارب، مع أنه مجاز إجماعا؛ لأنا نمنع القلب، فإن ضاربا معناه: الضرب كائن منه، والضارب في المستقبل لم يكن منه ضرب. الرابع: قال: إن الحق في هذه المسألة التفصيل إن لم يطرأ على المحل معنى آخر يضاد الأول، حتى يشتق له منه اسم كالسارق، والزاني، فهو

حقيقة في الحال، وإن تقدم؛ لأن الله-تعالى-أمرنا بقطع يد السارق، وجلد الزاني، فلو ذهب ذلك بالمضي لأقمنا الحدود على غير السارق والزاني، وهو باطل، وإن طرأ الضد، واشتق له منه اسم كالثوب يصبغ أسود لم يصدق حقيقة، وبه يبطل كلام المصنف في اليقظان لا يسمى نائما، والصحابي لا يسمى كافرا لطريان الضد، وهو اليقظة، والإسلام. الخامس: قال: إن المشتق قد يصدق بدون المشتق منه على ما ذكره في التي بعد هذه المسألة من المكي، والمدني، والخالق، والرازق. والجواب عن الأول أن المصنف إنما ادعى التناقض في العرف؛ لأنهم يقصدون زمانا واحدا، وهو الحاضر لا بمجرد اللفظ، كما في النائم واليقظان باعتبار الليل والنهار. وعن الثاني أن قولكم: الفرس ليس بحيوان طائر من باب سلب الأخص، وهو إنما صحح دليله بناء على أنه سلب أخص، فالمتوجه عليه المنع أن مقدمته من هذا الباب، ولم يستدل بصورة السلب والإيجاب مطلقا. وعن الثالث: بأن قولنا: ضارب في الماضي يمنع صدقه حقيقة، بل مجازا مثل ضارب في المستقبل، وهو إنما ذكر مقدمته بناء على صدق أنه يصدق عليه ليس بضارب في الحال حقيقة، فإن كان ذلك صحيحا ظهر الفرق، وإلا فالمتجه منع مقدمته، ولا حاجة للمعارضة. وعن الرابع: أن التفصيل ممنوع، والله تعالى لم يأمر بقطع السارق، إلا إذا صار الاسم يصدق عليه مجازا، أو دخل الفعل منه في الوجود، وصار محكوما عليه بالمضي، والله-تعالى-يرتب أحكامه بعد مضي المعنى، وصيرورة اللفظ مجازا، ولا يمنع ذلك إلا غافل عن الأوضاع الشرعية، بل لا يكاد يوجد في الشرعية إلا ذلك في جميع الموارد.

(تنبيه) قال التبريزي: الحق في هذه المسألة التفصيل ... إلخ

وعن الخامس: أن النزاع في المشتق من المعاني دون الأقسام، فلا يرد المكي، والمدني. وأما الخالق ونحوه، وإن كان مشتقا من الخلق الذي ليس بجسم. قلنا: أن يقول: إنما وضعت العرب اسم الفاعل حقيقة لمن هو ملابس للتأثير قام به الأثر أم لا، كان التأثير وجوديا، أو عدميا، ولذلك سمي الإنسان معدما أو فقيرا، وابنا وأبا باعتبار هذه الأمور، وهي ليست وجودا، والله-تعالى- مؤثر في الشيء المرزوق، والمخلوق، فتصدق هذه الألفاظ حقيقة حالة صدور هذه الآثار عنه تعالى، وقبل ذلك وبعده تكون مجازا. (تنبيه) قال التبريزي: الحق في هذه المسألة التفصيل، فإن كان صفة أو حلية كالعمى، والعور، أو اسم محل قيام المعنى كالأسود، والعالم، والمتحرك، والمؤمن، والكافر، والنائم، فيشترط بقاء وجه الاشتقاق؛ لأن العالم، ولا علم له محال، وأما ما يرجع إلى نسبة الفعل كالقاتل، والضارب، والخالق، فلا يشترط وجود المعنى حينئذ، والمعنى فيه أن العالم بقيد الذات التي هي محال قيام العلم، فلا يصدق ذلك مع انتفاء العلم، ومفهوم القاتل الذات التي هي مصدر القتل، أو الخلق، وذلك يصدق عليه في الزمن الثاني. وسر الفرق أن المعنى مفتقر لمحله دائما، وينقسم إلى الأزمنة، فيصدق أن يقال: قام يوما، وقام سنة، فيجوز أن يقوم به أمس هو قيامه اليوم، فلا يكفي في قيام اليوم قيام أمس. وأما الفعل فإنه يجوز أن يصدر منه أمس، وأيضا يصدر منه اليوم، فإذن لا تعدد في الصدور، فإطلاقه يفيد تحقيق أصل السنة، وهو مسمى الصدور

لا غير، وهو حق مهما أطلق؛ لأن الزمان غير مأخوذ فيه؛ ولهذا يصح أن يقال على الدوام: الله تعالى خالق العالم، ولو قيل: ليس خالق العالم كان كفرا، وإن صح أن يقال: ليس خالق العالم الآن، ولو كان الإطلاق في طرف الثبوت نقيض هذا التفصيل لما كان سلبه كفرا، كما في طرف المعاني والصفات، فإن عالما يسلب بناء على الحال الخالي. قال: فهذا كلام محقق، وإن لم أجده في المصنفات، ولا ينبغي أن يشكل الأمر عليه بالمصلي، والغاضب، والداخل، والخارج، فلعلك تقول: نسبة الصلاة إلى المصلي نسبة الفعل إلى الفاعل، وكذلك الغصب، والخروج، ثم لا يقال: هو مصل أو غاصب، أ، داخل باعتبار ما كان إلا مجازا، فإنها مغالطة من حيث إن أفعال تقوم بالفاعل، فتصير صفة له إما حقيقة أ، اعتبارا، ومنه المتكلم، والمخبر، فإنه عند أهل الحق هو محل قيام الكلام، ففعله لازم لا مجاوز محل قدرته، فيكون كالمتحرك، فالصلاة، والكلام حركات مخصوصة، فلتفهم ذلك ليجعل قانونا لأمثاله. وقلت: هذا الكلام منه تهويل بغير تعويل. وسر الفرق الذي قاله مردود؛ فإن الصدور يتعدد كما يتعدد قيام العلم بالمحل، فصدور زيد عن قدرة الله تعالى غير صدور عمرو، والنسب متعددة، وتكفيرنا لمن قال: الله تعالى ليس خالق العالم إنما كان لأنا فهمنا عنه القضاء بالسلب الكلي في جميع الأزمنة، فالتكفير للمعنى المفهوم، لا للفظ، ثم اعتذاره عن الغاصب ونحوه لا يتم؛ لأنه قد قال: هي صفة حقيقية أو اعتبارا، وكذلك نقول: خلق العالم صفة لله- تعالى- اعتبارا، وكذلك نقول: خلق العالم صفة لله- تعالى- اعتبارا، ولذلك من أسمائه تعالى الخالق، الباريء، المصور.

(فائدة) قال سيف الدين: اختلف في (بقاء) الصفة المشتقة منها هل يشترط ... إلخ

وزاد سراج الدين في قوله: إنهم قالوا: إذا كان اسم الفاعل بمعنى الاستقبال يعمل. قال: تعليل المجازي أولى، يعني يكون حقيقة في الماضي مجازا في المستقبل. وقال في قوله: لا يقال في أكابر الصحابة: إنهم كفار: إن الحقيقة قد تنزل لعارض من التعظيم، أو غيره. قلت: والجواب عن الأول: أنا قد استدللنا بصحة الإطلاق من النحاة لزم النقض على صحة الإطلاق بالمستقبل، فيصير تحقيق المجاز معارضا بانتقاض الدليل، فلا ترجيح حينئذ للخصم. وعن الثاني: أنه يلزم التعارض بين مقتضى الوضع، وذلك المعارض، وعلى مذهب المصنف لا يلزم التعارض، فكان أولى. (فائدة) قال سيف الدين: اختلف في (بقاء) الصفة المشتقة منها هل يشترط في إطلاق الاسم المشتق حقيقة أم لا؟ أثبته قوم، ونفاه آخرون. وفصل بعضهم بين ما هو ممكن، وما ليس ممكنا، فاشترط في الممكن دون غيره، فحصل من كلام سيف الدين فوائد منها: تصريحه بأن الخلاف إنما هو في إطلاق اللفظ حقيقة. ومنها القول بالتفرقة بين الممكن وغيره، كالكلام والخبر، فهذه فوائد ليست في (المحصول). المسألة الثالثة: في أن المعنى القائم بالشيء هل يجب أن يشتق له منه اسم إلى آخر ما فيها تسعة أسئلة؟

(تنبيه) لم أجد الخلاف بيننا وبين المعتزلة في هذه المسألة إلا في موضع واحد

الأول: على قوله: (والحق التفصيل بين أنواع المعاني التي لا أسماء لها كأنواع الروائح والآلام، فلا شك أن ذاك غير حاصل فيها). يرد عليه أن هذا ليس تفصيلا؛ لأن العلماء قالوا: إذا قام المعنى بمحل اشتق للمحل من لفظه لفظ، فما لا لفظ له لم يقل أحد بالاشتقاق منه، فهذا ليس تفصيلا لكلام الناس، ولا تفصيلا في المسألة. الثاني: على هذا أيضا بأن نسلم صحة التفصيل، فيرد عليه قوله من باب المجاز والحقيقة: إن الرائحة حقيقة في معناها، ولم تشتق منه، فقد انتفض التفصيل، وهو أن ما له لفظ لم يشتق منه. (تنبيه) لم أجد الخلاف بيننا وبين المعتزلة في هذه المسألة إلا في موضع واحد وهو مسألة [قوله تعالى]: {ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل، ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما} [النساء:164]، بل كلمه بكلام قائم بذاته، وخلق له كلاما في الشجرة سمعه موسى عليه السلام، فالأول قول أصحابنا، والثاني قول المعتزلة، فقد قام الكلام بالشجرة ولم يشتق لها منه لفظ، فلم يقل الله تعالى: وكلمت الشجرة موسى، [واشتق الله تعالى فقال: وكلم الله موسى] وما عدا هذه الصورة لا نخالف فيه المعتزلة، وإذا قام البياض بثوب لا تقول المعتزلة: إنه لا يسمى أبيض، ويسمى ثوبا آخر لم يقم به البياض أبيض، ولا يقول هذا عاقل. الثالث: على قوله القتل قائم بالمقتول، ولا يسمى قاتلا؛ لأن القتل هو المصدر، وهو قائم بالفاعل دون المفعول، بل الذي في المفعول إنما هو أثره.

الرابع: سلمنا قيامه بالمقتول، لكن الدعوى في أصل المسألة أنه لم يشتق له منه اسم، وكونه اسما أعم من كونه اسم فاعل، أو اسم مفعول، فلا يرد هذا نقضا؛ لأن مقتول اسم إجماعا. الخامس: على قوله: (يفتقر التأثير إلى تأثير آخر، ويلزم التسلسل). قلنا: التأثير والخلق، والتأثر، والمخلوقية، نسب وإضافات عندنا، خلافا للفلاسفة، والنسب والإضافات عدمية في الخارج؛ لأن الله-تعالى-إذا خلق جوهرا بعد جوهر، فمخلوقه اثنان اثنان ليس إلا بهذا الغرض، ومع ذلك يصدق أن أحدهما قبل الآخر، وسابق عليه، والثاني بعده، ومتأخر عنه، ويصدق أيضا أنهما اثنان، فهذه نسب كثيرة غير الجوهرين. فلو كانت وجودية مع أنها حادثة تابعة لحدوث الجوهرين كان الله-تعالى-وهو المؤثر فيها، فتكون مخلوقاته أكثر من اثنين، والمقدر أنهما اثنان، هذا خلف؛ ولأن النسبة لو كانت وجودية لكان لها نسبة لمحلها، والكلام في نسبة النسبة، ويلزم التسلسل، فحينئذ النسب عدمية، ووجودها إنما هو في الاعتبار العقلي دون الخارجي. فإن قلت: إن كانت الأحكام الذهنية مطابقة لما في الخارج كانت النسب في الخارج، وإن لم تكن مطابقة، فهو جهل، والتقدير أنها حق ومعلومة، قلت: قد تقدم في باب الكلام على تقسيم الذهن بأمر على أمر، تفسير هذه المطابقة، وأنها مخالفة لسائر المطابقات، فلينظر من هناك، وإذا لم تكن النسب في الخارج لا تحتاج إلى تأثير، فإن احتياج الممكن إلى التأثير فرع اعتبار دخوله في الوجود، فما لا يدخل في الوجود لا تأثير له، سلمنا اعتبار احتياجه للتأثير، فلم لا يجوز أن يكون تأثير التأثير غير التأثير بخلاف التأثير في الجوهر، والعرض؟ وتقريره: أن الحقائق المختلفة بذاتها يجوز اختلافها في بعض اللوازم،

وتأثير التأثير مخالف لتأثير الجوهر، فجاز أن يكون أحدهما زائدا، والآخر ليس بزائد كما تقول: معلوم كل علم غيره إلا العلم، فإنه نفس العلم به لمخالفته لسائر الحقائق، ومخبر كل خبر غيره، إلا الخبر، فإن الخبر عن الخبر هو نفس الخبر لمخالفته لسائر الحقائق، فكذلك هاهنا. سلمنا احتياجه لتأثير آخر، لكن لم قلتم: إن التسلسل محال في النسب والإضافات، إنما هو محال في الموجودات الحقيقية؟ السادس: على قوله: (الخلق نفس المخلوق)، قلنا: كذلك قال الشيخ أبو الحسن الأشعري، وألزم عليه أن يعرب (السماوات والأرض) مصدرا؛ لأن الخلق مصدر اتفاقا، وهو نفس المخلوق مصدرا، والسماوات والأرض مخلوقة، فيكون مصدرا، وهذا غلط، وعدم فهم لكلامه، بل مراده بأن الخلق نفس المخلوق أنه ليس زائدا عليه في الخارج، بل أمر يعتبره العقل، كما قاله في الوجود أنه نفس الموجود لا أنه هو، بل ليس زائدا عليه في الخارج، وفي الذهن هو اعتبار مغاير، وهو مصدر باعتبار ما في الذهن، ومن ذلك الاعتبار الذهني حصل الاشتقاق، كما سمى تعالى واجب الوجود، وأزليا وأبديا، مع أن الوجود، والأزلية، والأبدية نسب ترجع إلى تعذر العدم على الذات، فهو نسبة بين الذات، والعدم، والأزل والأولية، والأبدية مغايرة الوجود لجميع الأزمنة المستقبلة، والمقارنة نسبة. فإن قلت: إذا حصل الاشتقاق لما في الذهن لله-تعالى- فقد اشتق لغير المحل، ولم يشتق للمحل، وأنت لا تقول به. قلت: النسب الذهنية كلها يشتق منها باعتبار وجود ملزوم صحة الحكم بها، كما تقدم تقريره في تفسير مطابقة [النسب] في حكم الذهن بأمر على أمر، وأن مطابقتها مخالفة لسائر المطابقات، والاشتقاق في الحقيقة إنما هو من

(المسألة الرابعة) مفهوم الأسود شيء ما له السواد ... إلخ

ذلك الملزوم الخارجي، وكذلك الاشتقاق من الأبوة، والبنوة، فتقول: أب، وابن، ومتقدم، ومتأخر، ونحوه من ملزوم صحة الحكم الذهني. السابع: على قوله: (إن كان محدثا لزم التسلسل). قلنا: قد بينا أنه عدمي ليس موجودا في الخارج، وما ليس موجودا في الخارج لم يحتج إلى خلق، فلا يلزم التسلسل. الثامن: على قوله: (اسم المشتق). معناه: أنه ذو المشتق منه. قلنا: لا نسلم أن هذا تفسيره، بل أخص من هذا، فإن (ذا) معناه الصاحب، وقولنا صاحب معناه المقارنة، لا يلزم منها القيام، فالصحابة ليسوا قائمين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقولنا: صاحب مال، ليس معناه أن المال قام به، فتفسيره بهذا مصادرة، بل تفسيره أخص من هذا، وهو الصحبة مع القيام بالمشتق له. التاسع: على قوله: (اللابن، والتامر). قلنا: اللابن معناه ذو اللبن، والتامر معناه ذو تمر، وهذه أمور ليست قائمة بالمحال، مسلم ولكن النزاع إنما هو في المعاني، وهذه أمور ليست قائمة بالمحال، مسلم ولكن النزاع إنما هو في المعاني، وهذه أجسام لم تندرج في صورة النزاع، فلا يحسن بها النقض، وكذلك المكي والمدني منسوب إلى (مكة) و (المدينة)، وهما أجسام ليست من صورة النزاع وكذلك الحداد. قال النحاة: النسبة إلى جميع الحرف فعال، نحو حداد، وفكاه، وخياط، وكلها أجسام ليست من صورة النزاع. (المسألة الرابعة) مفهوم الأسود شيء ما له السواد، أما حقيقة ذلك الشيء لا تعرف إلا

بطريق الالتزام، يدل عليه أنك تقول: الأسود جسم، فلو كان مفهوم الأسود أنه جسم ذو سواد لنزل ذلك منزلة الجسم ذي السواد، يجب أن يكون جسما. تقرير ذلك: أن العرب وضعت لفظ الأسود لشيء ما له السواد، والمراد بشيء ما للقدر المشترك بين الموجودات، إما أنه جسم أم لا، فإنما يعلم ذلك بدليل العقل، دل العقل على أن السواد لا يقوم إلا بجسم، كما أن لفظ السواد اسم للون المخصوص، أما ذلك اللون يجب أن يقوم بجسم، فإنما علم ذلك بالعقل، فلم يدخل شيء من ذلك في حقيقة المسمى، فلا يدل عليه اللفظ مطابقة، ولا تضمنا، بل التزاما؛ لأن الجسمية لازمة لهذا المعنى في الذهن والخارج. وأما قوله: (لو كان مفهوم الأسود أنه جسم ذو سواد لكان مثل قولنا: الجسم ذو السواد يجب أن يكون جسما) هذا الاستدلال مبني على قاعدة ذكرها أبو على في (الإيضاح) وذكرها غيره. فقال أبو على: واعلم أنه لا يجوز أن تقول: إن الذاهب جاريته صاحبها؛ لأنك لا تفيد بالخبر شيئا لم يستفد من المبتدأ، وحكم الجزء الذي هو الخبر أن يفيد ما لم يفده المبتدأ، هذا نص كلامه، فبقوله: جاريته علم أنه صاحبها، فلا يكون خبرا عنه. وقال أبو على أيضا في (مسائله): قوله تعالى: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} [النساء:176] من هذا الباب غير أن الصفة مضمرة في الخبر، وهي المحسنة له؛ لأن العرب كانت تورث الصغار دون

(فائدة) مسألة (الإيضاح) تبطل من وجه آخر ... إلخ

الكبار من البنات لضعفهن، فأراد الله- تعالى-[بقوله]: (اثنتين) مجردتين عن وصف الصغر والكبر إشارة إلى عدم اعتبار ما كانوا يعتبرونه من وصف الصغر، وحكاها الحريري في (درة الغواص) عن الأخفش، وحكى هذا الجواب. (فائدة) مسألة (الإيضاح) تبطل من وجه آخر من جهة الضمير في صاحبها؛ لأن القاعدة: أن المبتدأ لا بد أن يعود عليه عائد من الخبر، والذاهب صفة لموصوف محذوف تقديره الرجل الذاهب جاريته صاحبها، فالهاء في (صاحبها) عائد على الجارية لا على المبتدأ، فبطل كونه خبرا لعدم العائد. سؤال على هذه القاعدة: وهو أن أبا على لما قال: لأنه لم يفد بالخبر شيئا لم يفده بالمبتدأ يقتضي بظاهره أن ليس من جهة كون السامع لم يحصل له فائدة، وأنه لو حصل له فائدة لجازت المسألة، فإنه لم يتعرض للسامع، وإنما تعرض لدلالة لفظ المبتدأ، ولو كان المقصود السامع، وعدم فهمه لكان في القرآن جمل كثيرة قد فهمها السامعون قبل نزول الخطاب، كقوله تعالى: {إنني أنا لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه:14]. وقوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر:30].

والخلق أجمعون يعلمون ذلك. فإن قال: يحسن ذلك لتضمن هذه المبتدآت مقاصد أخر في التنبيه على التعظيم في الآية الأولى، أو التسلية في الآية الثانية، فقل في مسألة أن الذاهب جاريته: يجوز إن لاحظنا فيها معنى آخر مع أنه أطلق القول بالمنع، فدل ظاهر كلامه على أن ظاهر المنع لأمر يرجه إلى التركيب، كما يمتنع قولك: رجل في الدار، وزيد كيف؟ ونحو ذلك مع أن السامع لم يحتمل عنده الفهم بهذه التراكيب، وهي ممنوعة عند النحاة، ولم تجزها العرب، فهذا ظاهر لفظه أن المنع لنفس اللفظ لا للسامع، وعلى هذا تنتقض هذه القاعدة بالطم والرم فإنا نقول: إن العشرة خمسة وخمسة، وكل حد مع محدوده، فنقول: الإنسان هو الحيوان الناطق، وكذلك جميع المحدودات. وبقولنا: الإنسان ناطق، وحكم الله تعالى خطابه، والله ربنا، ومحمد نبينا، ونظائره كثيرة. وسألت جماعة ممن اجتمعت بهم من الأدباء يقولون: إنما المنع لأجل أن السامع يفهم أنه صاحبها من قولك: جاريته، ولم أجد هذا التفسير ينطبق على كلام أبي على وغيره. وكيف لم يجد أبو على في القرآن غير قوله تعالى: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} [النساء:176]، فكم في القرآن من جملة يفهمها السامع ولم يتعرض أبو على ولا غيره لها لمنعها، وما من كلام إلا ويصح أن يفهمه سامع دون سامع، فليمنع الكل، أو ليجوز الكل، أو يفصل في الكل. أما تخصيص هذه المواد بالمنع من غير تفصيل فأجده مشكلا، بل الجواب الصحيح أن اللفظين متى كانا مترادفين على إفادة معنى واحد، ولم يضمر في الثاني صفة زائدة، ولا فائدة لم تحصل من الأول امتنع لنفس اللفظ لا للسامع.

والإضافة في قولنا: جاريته تفيد الصحة لغة، وصاحبها كذلك، فهما مترادفان، فإن أضمرنا صفة زائدة صحت المسألة، ولذلك صح (كانتا اثنتين) لإضمار الصفة، وإن كان الألف في (كانتا) موضوعة للتثنية، ولفظ اثنتين موضوع للتثنية وكذلك قوله [الرجز]: أنا ألو النجم وشعري شعري لما أضمرنا المعروف صح، ومما يمتنع بهذه العلة الليل ليل، والنهار نهار، والبغل بغل، والحمار حمار، القصيدة المشهورة لوجود الترادف مع عدم الفائدة، وبهذا التقرير لا ترد الحدود مع محدوداتها لما فيها من التفصيل والفائدة، وعدم الترادف أيضا، فإن لفظ الحيوان الناطق ليس مرادفا للإنسان لوضعهما للجزءين، ووضعه للمجموع، وكذلك العشرة خمسة وخمسة، وسائر هذه النقوض لانتفاء ضابط المنع. وكذلك لا ترد {نفخة واحدة} [الحاقة:13] و {فدكتا دكة واحدة} [الحاقة:14] لأن قولنا: نفخة ودكة لا يفيد إلا أنه وقع من المصدر فرد، فهو مثل قولنا: أعطيتك درهما، ولا ينافي ذلك إعطاء درهم آخر. وقولنا: واحدة تحسم المادة في التكرر، ولم يدل على المنع {نفخة} و {دكة} و {إلهين اثنين} [النحل:51] أشكل من هذا كله؛ لأنا لم نستفد باثنين شيئا.

(تنبيه) زاد سراج الدين الأرموي ... إلخ

فقال بعضهم: هو على التقديم والتأخير تقديره: اثنين إلهين، فقد استفدنا من الثاني غير فائدة الأول، وهو غير متجه؛ لأن المفعولين هاهنا كالمبتدأ والخبر، والقاعدة في المبتدأ والخبر أن يكون الأعرف هو المبتدأ، والمفعول الأول، فلا تقديم ولا تأخير. ووجه تخريج كلام (المحصول) على هذه القاعدة أن الجسم إذا كان داخلا في مسمى الأسود امتنع الإخبار عنه؛ لأنه جسم؛ لأن المبتدأ يفيده، كما قال أبو على بخلاف إذا جعلنا مدلول الأسود شيئا أعم من الجسم قام به عرض السواد، فإذا أخبرنا بالجسم زدنا فائدة، فجاز الخبر، وكان عربيا. (تنبيه) زاد سراج الدين الأرموي: (ولقائل أن يقول: العلم بأن التأثير غير وقوع الأثر ضروري، ثم لا برهان على وجوب الانتهاء إلى أثر أخير، بل إلى مؤثر أول، والتسلسل في الثاني ممنوع، وتقدم النسبة على محلها ممتنع دون المنسوب إليه، ولعل الأصحاب لا تدعى ذلك إلا في المشتق من المصادر). تقريره: أن التأثير نسبة بين الأثر والمؤثر، والنسبة بين النسبتين غيرهما، ولأنها عدمية، ووجود الأثر ليس عدميا. وقوله: (لا برهان على وجوب الانتهاء إلى أثر أخير، بل إلى مؤثر أول) معناه: لا برهان من حيث العقل، فإن العقل يجوز أن الله- تعالى- بعد هذه الساعة لا يخلق شيئا، لكن السمع ورد بأن الله- تعالى- خلاق على الدوام، وأنه يخلق النعيم في الجنة دائما، [وكذلك النار]، أما الانتهاء إلى مؤثر فلولا ذلك كان وجود أي ممكن فرض موقوفا على تقدم مؤثرات قبله، لا نهاية لها، وذلك يمنع وجوده [ويحيله] لتوقفه على دخول ما لا يتناهى في الوجود، وانقضاء ما لا نهاية له محال، والموقوف على المحال

محال، والتسلسل في المؤثرات محال، يريد بخلاف التسلسل في الآثار المستقبلة، فإنه ليس محال. وقد مثله إمام الحرمين بقوله القائل: لا أعطيك درهما إلا وأعطيك بعده درهما آخر؛ فإن العطاء لا يمتنع، ويعطيه بعد كل درهم درهما أبد الآباد، بخلاف ما إذا قال: لا أعطيك درهما حتى أعطيك درهما قبله، فإنه يمتنع الإعطاء حينئذ؛ لأنه تسلسل في الماضي، بخلاف المستقبل، ففرق بين حوادث لا أول لها، وبين حوادث لا نهاية لها، والثاني ممكن اتفاقا، والأول محال عند أهل الحق القائلين بحدوث العالم، جائز عند الفلاسفة القائلين بقدم العالم وتوجيه ما قاله سراج الدين على كلام الإمام أن التأثير إذا كان حادثا افتقر إلى تأثير آخر حادث، فهو تأثير في التأثير، فهو حادث بعد حادث من القسم الجائز فيه التسلسل، وليس كما زعم سراج الدين، بل التأثير إذا كان حادثا افتقر إلى تأثير يتقدم عليه لا يتأخر عنه، فإن التأثير يتقدم على وجود الأثر، فهو يؤول إلى حوادث لا أول لها إلى حوادث لا آخر لها، فتأمله. ومعنى قوله: (وتقدم النسبة على محلها [ممتنع]، دون المنسوب إليه كالمتقدم) يريد أن التقدم يوصف به المتقدم، وإن لم يوجد المتأخر، فإذا خلق الله- تعالى- جسما قبل وجود العالم بألف سنة صدق عليه حينئذ أنه متقدم على العالم، وإن لم يوجد العالم في تلك الأزمة، فكذلك الخلق جاز أن يتقدم وصفه الخالق، ولا يكون العالم موجودا، فيكون قديما، والعالم حادث، فهذا وجه قوله: ممتنع أي: نحن نمنعه مطلقا، بل قد يجوز تقدم النسبة، وليس كما زعم سراج الدين، فإن النسب على قسمين منها ما لا يوجد إلا مع وجود الطرفين اللذين حصلت بينهما النسبة، كالبنوة والأبوة

والمقابلة، والمدابرة، والفوقية، والتحتية، ونحو ذلك، ومنها ما يوجد، وأحد الطرفين غير موجود كالتعلق بين العلم والمعلوم، والخبر والمخبر عنه، فإن التعلق فيهما قد يوجد، والمعلوم والمخبر عنه معدومان، كما في علم الله-تعالى-وخبره عن وجود العالم في الأزل، والعالم [معدوم]، ونظائرهما كثيرة من التقدم والتأخر إذا عدم المتقدم والمستقبل والماضي، وغير ذلك، والخلق من النسب التي تتوقف على وجود الخالق والمخلوق، كالتأثير بدون المؤثر والأثر محال، لا بد من وجودهما، فاندفع منعه. * * *

الباب الرابع في أحكام الترادف والتوكيد

الباب الرابع في أحكام الترادف والتوكيد قال الرازي: الألفاظ المترادفة هي: الألفاظ المفردة الدالة على مسمى واحد باعتبار واحد، واحترزنا بقولنا: "المفردة" عن الرسم والحد. وبقولنا: "باعتبار واحد" عن اللفظتين، إذا دلا على شيء واحد باعتبار صفتين؛ كالصارم والمهند، أو باعتبار الصفة وصفة الصفة؛ كالفصيح والناطق، فإنهما من المتباينة. واعلم: أن الفرق بين المترادف والمؤكد أن المترادفين يفيدان فائدة واحدة من غير تفاوت أصلا. وأما المؤكد: فإنه لا يفيد عين فائدة المؤكد، بل يفيد تقويته. والفرق بينه وبين التابع؛ كقولنا: شيطان ليطان: أن التابع وحده لا فيد، بل شرط كونه مفيدا تقدم الأول عليه. أما الأحكام ففي مسائل: المسألة الأولى: في إثباته: من الناس من أنكره، وزعم أن الذي ظن أنه من المترادفات، فهو من المتباينات التي تكون لتباين الصفات، أو لتباين الموصوف مع الصفات. والكلام معهم: إما في الجواز، وهو معلوم بالضرورة، أو في الوقوع، وهو إما في لغتين، وهو أيضا معلوم بالضرورة، أو في لغة واحدة، وهو مثل الأسد

والليث، والحنطة والقمح، والتعسفات التي يذكرها الاشتقاقيون في دفع ذلك، مما لا يشهد بصحتها عقل ولا نقل، فوجب تركها عليهم. المسألة الثانية: في الداعي إلى الترادف: الأسماء المترادفة إما أن تحصل من واضع، أو من واضعين: أما الأول: فيشبه أن يكون هو السبب الأقلى، وفيه سببان: الأول: التسهيل والإقدار على الفصاحة؛ لأنه قد يمتنع وزن البيت وقافيته مع بعض أسماء الشيء، ويصح مع الاسم الآخر، وربما حصل رعاية السجع والمقلوب والمجنس وسائر أصناف البديع، مع بعض أسماء الشيء دون البعض. الثاني: التمكين من تأدية المقصود بإحدى العبارتين عند نسيان الأخرى. وأما الثاني: فيشبه أن يكون هو السبب الأكثرى، وهو اصطلاح إحدى القبلتين على اسم لشيء غير الذي اصطلحت القبيلة الأخرى عليه، ثم اشتهار الوضعين بعد ذلك. ومن الناس من قال: الأصل عدم الترادف لوجهين: الأول: أنه يخل بالفهم التام؛ لاحتمال أن يكون المعلوم لكل واحد من المتخاطبين غير الاسم الذي يعلمه، فعند التخاطب لا يعلم كل واحد منهما مراد الآخر، فيحتاج كل واحد منهما إلى حفظ تلك الألفاظ؛ حذرا عن هذا المحذور، فتزداد المشقة. الثاني: أنه يتضمن تعريف المعرف؛ وهو خلاف الأصل.

المسألة الثالثة: في أنه، هل تجب صحة إقامة كل واحد من المترادفين مقام الآخر أم لا؟

المسألة الثالثة: في أنه، هل تجب صحة إقامة كل واحد من المترادفين مقام الآخر أم لا؟ الأظهر في أول النظر ذلك؛ لأن المترادفين لابد وأن يفيد كل واحد منهما عين فائدة الآخر، فالمعنى لما صح أن يضم إلى معنى حينما يكون مدلولا لأحد اللفظين، لابد وأن يبقى بتلك الصفة حال كونه مدلولا للفظ الثاني؛ لأن صحة الضم من عوارض المعاني، لا من عوارض الألفاظ. والحق أن ذلك غير واجب؛ لأن صحة الضم قد تكون من عوارض الألفاظ؛ لأن المعنى الذي يعبر عنه في العربية بلفظ "من" يعبر عنه في الفارسية بلفظ آخر، فإذا قلت: خرجت من الدار، استقام الكلام؛ ولو أبدلت صيغة "من" وحدها بمرادفها من الفارسية، لم يجز. فهذا الامتناع ما جاء من قبل المعاني، بل من قبل الألفاظ، وإذا عقل ذلك في لغتين، فلم لا يجوز مثله في لغة واحدة؟. المسألة الرابعة: إذا كان أحد المترادفين أظهر، كان الجلي بالنسبة إلى الخفي شرحا له، وربما انعكس الأمر بالنسبة إلى قوم آخرين. وزعم كثير من المتكلمين أنه لا معنى للحد إلا ذلك؛ فقالوا: الحد تبديل لفظ خفي بلفظ أوضح منه؛ تفهيما للسائل، وليس الأمر كما ذكروه على الإطلاق، بل الماهية المفردة، إذا حاولنا تعريفها بدلالة المطابقة، لم يكن إلا على الوجه الذي ذكروه. المسألة الخامسة: في التأكيد وأحكامه، وفيه أبحاث:

شرح القرافي

الأول: التأكيد هو: اللفظ الموضوع لتقوية ما يفهم من لفظ آخر. الثاني: الشيء إما أن يؤكد بنفسه أو بغيره، فالأول: كقوله عليه الصلاة والسلام: "والله، لأغزون قريشا، والله، لأغزون قريشا، والله، لأغزون قريشا". والثاني على ثلاثة أقسام: فإن لفظة التأكيد إما أن يختص بها المفرد، وهو لفظ النفس والعين؛ أو المثنى، وهو كلا وكلتا، أو الجمع، وهو أجمعون أكتعون أبصعون والكلن وهو أم الباب، وقد يكون داخلا على الجمل مقدما عليها؛ كصيغة "إن" وما يجري مجراها. الثالث: في حسن استعماله، والخلاف فيه مع الملاحدة الطاعنين في القرآن. والنزاع إما أن يقع في جوازه عقلا، أو في وقوعه. أما الجواز، فهو معلوم بالضرورة؛ لأن التأكيد يدل على شدة اهتمام القائل بذلك الكلام. وأما الوقوع، فاستقراء اللغات بأسرها يدل عليه. واعلم: أن التأكيد، وإن كان حسنا، إلا أنه متى أمكن حمل الكلام على فائدة زائدة، وجب صرفه إليها. الرابع: في فوائد التأكيد؛ وسيأتي - إن شاء الله تعالى - ذكرها في باب العموم عند استدلال الواقفية بحسن التأكيد على الاشتراك، والله أعلم. قال القرافي: وتقرير قوله: والألفاظ المترادفة هي توالي الألفاظ المفردة

(فائدة) المعرفات خمسة

الدالة على مسمى واحد باعتبار واحد فاحترز بقوله: المفردة عن الرسم والحد [مع محدوده]؛ لأنه لو سكت عن المفردة، وقال: هي الألفاظ الدالة على معنى واحد. قيل له: فلفظ الإنسان يدل على الحيوان الناطق، والمفهوم من حده، وهو قولنا: هو الحيوان الناطق هو المفهوم من الاسم، ولولا ذلك لما صح الحد، فيلزم أن يكون لفظ الإنسان مرادا باللفظ الحد، وليس كذلك؛ لأن لفظ الإنسان موضوع للمجموع المركب من الجنس والفصل، والحيوان موضوع للجنس، والناطق موضوع للفصل وحده، فلم يوجد لفظان منهما موضوعين لمعنى واحد، فلا ترادف، ومراده بالحد الحد التام. (فائدة) المعرفات خمسة: الحد التام: وهو التعريف بجميع الأجزاء نحو قولنا في الإنسان: هو الحيوان الناطق. والحد الناقص: هو التعريف بالفصل وحده، كقولنا في [حد] الإنسان: هو الناطق. والرسم التام: هو التعريف بالداخل والخارج كقولنا في الإنسان: هو الحيوان الضاحك. والرسم الناقص: هو التعريف بالخارج، [وحده]، كقولنا في الإنسان: هو الضاحك بالقوة. وتبديل لفظ بلفظ مرادف له هو أعرف منه عند السامع، كقولنا: ما البشر؟ فيقال: الإنسان، أو ما الباقلاء؟ فيقال: الفول، فالحد الناقص لا يحترز

(سؤال) لم جعلتم الناطق داخلا في مفهوم الإنسان، والضاحك خارجا عنه ... إلخ

عنه بقوله: المفردة، وكذلك الرسم الناقص؛ لأنهما لفظان مفردان، ولأنهما قد خرجا بقوله: الدالة على معنى واحد؛ لأن مدلولات هذه الأمور غير مدلولات لفظ الإنسان، وما تم مدلوله مدلول الإنسان إلا الحد التام، فزاد في حده "المفردة" ليخرجه، وهو لا يقع دائما إلا بلفظ مركب؛ لأنه لا يسمى حدا تاما حتى يذكر فيه الجنس والفصل، وهما له لفظان، فيتركب اللفظ من اللفظين. (سؤال) لم جعلتم الناطق داخلا في مفهوم الإنسان، والضاحك خارجا عنه، ولم لا كان العكس؟ جوابه: أن الداخل والخارج في جميع الحقائق للإنسان وغيره تابع لما يفهم عن واضع اللغة، فإن فهم عنه أخذ في المسمى الحيوان والناطق فقط، كان ما عداه خارجا أو أخذ الحيوان والضاحك وحده كان الناطق وغيره خارجا، وهاهنا فهمت الناس أن العرب وضعت لفظ الإنسان للحيوان والناطق وحدهما، فكان ما عداهما خارجا عن المسمى، فهذا هو قاعدة هذا الباب، وليس هو من باب التحكم. تقرير: المهند معناه: المنسوب للهند من السيوف. والصارم: البليغ في القطع فهما متغايران. وإذا قلنا: زيد متكلم فصيح، كان زيد اسما لذاته، والناطق اسما لصفته، والفصيح اسما لصفته صفته؛ لأن الفصاحة صفة الكلام. وقول العرب: جائع نائع، وعطشان نطشان، وحائر دائر، وحسن يسن، ونحو ذلك لم تضعه لمسمى في نفسه، وإنما وضعته العرب ليركب مع

"فائدة" قال الشيخ سيف الدين: وبين التابع والآخرين فرق آخر

ما قبله تابعا له على ما سمعت في المثل السابقة، قاله الآمدي، ولهذا قال ابن دريد: فسألت أبا حاتم عن معنى قولهم: "يسن" فقال: لا أدري [في نفسه، وإنما وضعته [العرب] ليركب مع ما قبله تابعا له على ما سمعت في المثل السابق] بخلاف المؤكدة نحو جاء القوم أجمعون أكتعون أبصعون وضعت للتقوية، والمرادف وضع لنفس المسمى فافترقت. "فائدة" قال الشيخ سيف الدين: وبين التابع والآخرين فرق آخر، وهو أنه يشترط في التابع أن يكون على وزن المتبوع بخلافهما. "سؤال" قال النقشواني قوله: "باعتبار واحد" - حشو؛ فإن وحدة المسمى تحصل ذلك. "تنبيه" زاد "المنتخب" فقال: التأكيد هو اللفظ الموضوع لتقوية ما يفهم من لفظ آخر وإنما قال في "المحصول": والتأكيد لا يفيد غير فائدة المؤكد، وليس جميعها وضع لتقوية ما يفهم من الأول، بل هي ثلاثة أقسام:

الأول: وضع للتقوية نحو: أجمعون، أكتعون، أبصعون، أتبعون، وأن وإن بالفتح والكسرن ولام التأكيد نحو إن زيدا لقائم. الثاني: ما وضع لمعنى إنشائي، ويقع به التأكيد في الاستعمال من غير أن يكون وضع له نحو قولنا: زيد قائم، ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ لم توضع إلا للإنشاء. الثالث: كل كلمة زائدة في الكلام نحو: (الكاف) في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) [الشورى: 11] و (الباء) في قوله تعالى: (وكفى بالله شهيدا) [النساء: 79]. و (ما) في قوله: (فبما نقضهم ميثاقهم) [المائدة: 13]. و (لا) في قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد) [البلد: 1]. وهو كثير في الكتاب والسنة ولسان العرب. قال ابن جني: جميع ذلك للتأكيد وبسط كلامه، فقال: أصل التأكيد في لسان العرب إعادة الكلام الأول بعينه، ثم اختصرت العرب الكلام، فأقاموا مقام [إعادة] الجملة اسما واحدا نحو: أجمعون، أو حرفا واحدا نحو: إن زيدا قائم. فإذا قلنا: إن زيدا لقائم، فهو تقدير ثلاث جمل: زيد قائم، زيد قائم، زيد قائم؛ لأن "إن" لجملة، "واللام" لجملة، وأصل الكلام، صارت الجمل ثلاثا. وإذا قلنا: (كفى بالله شهيدا) فهو تقدير جملتين: كفى بالله شهيدا،

تنبيه

كفى بالله شهيدا؛ لأن الحرف الزائد قائم مقام جملة، فعلى قول صاحب "المنتخب" يكون ضابطه للتأكيد غير جامع لخروج القسمين الآخرين عنه؛ لأنهما لم يوضعا للتقوية. "تنبيه" وينبغي أن تعلم أنا إن فرعنا على أن العرب وضعت المركبات كما وضعت المفردات لا يرد السؤال؛ لأن العرب وإن وضعت: زيد قائم للإنشاء دون التقوية في مفرداته، لكن أمكن أن يقال: وضعت هذا المركب للتقوية من حيث هو مركب، وكذلك وضعت الكلمات لتركبها زائدة، ولا ينافي بين وضعها مفردة للإنشاء دون التقوية، ووضعها مركبة للتقوية، فتأمل ذلك. "فائدة" سمعت الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله يقول: اتفق الأدباء على أن التأكيد في لسان العرب إذا وقع بالتكرار لا يزيد على ثلاث مرات. وأما قوله تعالى في سورة المرسلات: (ويل يومئذ للمكذبين) [المرسلات: 15] في جميع السورة نحو العشرة، فذلك ليس تأكيدا، بل كل آية قيل فيها: "ويل يومئذ للمكذبين" في هذه السورة، فالمراد المكذبون بما تقدم ذكره قبل هذا اللفظ، ثم يذكر الله - تعالى - معنى آخر، ويقول: "ويل

"فائدة" يقال: تأكيد وتوكيد

يومئذ للمكذبين" أي هذا الذي تقدم أيضا، وهو غير الأول، فلا يجتمعان على معنى واحد، فلا تأكيد؛ لأن من شرط التأكيد الإجماع على معنى. وكذلك قوله تعالى في سورة الرحمن: فبأي آلاء ربكما تكذبان) [الرحمن: 13]. المراد ما تقدم من ذكر النعم قبل ذلك اللفظ، فلا يجتمع لفظان على معنى واحد، فلا تأكيد. "فائدة" يقال: تأكيد وتوكيد بالألف والواو لغتان، وأكدت، ووكدت لغتان. "فائدة" يقال: التأكيد بالتكرار قد يكون اللفظ الأول والثاني في معنى واحد من غير زيادة، ولا نقصان، نحو قام زيد قام زيد، وقد يكون الثاني يتناول الأول وغيره معه، فيكون تأكيدا في الأول، وإنشاء في غيره الذي زاد به، نحو قوله تعالى: (وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم) [البقرة: 136]. فإن لفظ "النبيون" يتناول موسى وعيسى وغيرهما من النبيين، فهو تأكيد فيهما، إنشاء في غيرهما، وقد يكون الثاني في بعض الأول عكس القسم الثاني، كقوله تعالى: (وملائكته ورسله وجبريل وميكال) [البقرة: 98]، فإن "جبريل" مؤكدة لنفسه المندرجة في صيغة الملائكة، فهذه ثلاثة أقسام في التأكيد: متساويان، الأول أكثر، الثاني أكثر. "قاعدة" والناس متفقون على أن الإنشاء لا يكون تأكيدا، وأن المؤكد لا يزيد على الأصل من حيث هو تأكيد، فقوله تعالى: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) [سورة ص: 73].

"المسألة الأولى: في إثبات الترادف"

قال بعضهم: قوله تعالى: (أجمعون) يفيد الاجتماع في فعل السجود، ورد عليه بأن هذا المعنى لم يفهم من الأول، فيكون إنشاء. والتقدير أنه تأكيد، هذا خلف. "المسألة الأولى: في إثبات الترادف" قال المنكرون للترادف: القمح والبر والحنطة متباينة، لا مترادفة، والقمح

اسم صفة من قوله تعالى: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) [يس: 8]. وهذه الحبة يحصل فيها تعب في حرثها وحصادها [ودراسها]، وغير ذلك، فسميت قمحا لذلك، والبر من البر؛ لأنها قوا بنية الإنسان، والحنطة اسم الذات، والإنسان والبشر متباينان، فالإنسان من النسيان. لقول الشاعر: [الطويل]: .............................. [وسميت إنسانا لأنك ناسي] ويعضده قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى [ولم نجد له عزما]) [طه: 115] فسميت ذريته بذلك، وقيل: من الأنس؛ لأنه يتأنس به، ويأنس بعضه ببعض ما لا يأنس غيره من الحيوان بعضه ببعض. وقيل: من النوس الذي هو الحركة، وعلى هذا سمى الجان بالناس، وقد قيل ذلك في قوله تعالى: (من الجنة والناس) [الناس: 6]. هذه ثلاثة أقوال في اشتقاقه، فهو اسم صفة، والبشر من البشر. وقول العرب: بشر يبشر بشرا إذا انتشر وسوى، والإنسان قد سويت ظواهر أعضائه. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "خللوا الشعر وأنقوا البشر".

"سؤال" قوله: "لا يشهد بصحة اشتقاقهم عقل، ولا نقل"

أي: أنقوا ظواهر أجسادكم، فعلى هذا هو اسم صفة، أو نجعله اسم الذات، والأول اسم صفة. "سؤال" قوله: "لا يشهد بصحة اشتقاقهم عقل، ولا نقل" - ممنوع، فقد تقدم بيان وجه الاشتقاق في هذا المثل، وتقدم أيضا في "باب الاشتقاق" الفرق بين الاشتقاق الأكبر والأصغر، وأن هذه الاشتقاقات من الاشتقاق الأكبر. "المسألة الثانية: في الداعي للترادف" قوله: الأول: "هو السبب الأقلي" - يشير إلى أن الترادف نقل من الواضع الواحد؛ لأن العادة جارية أن الإنسان إذا سمى شيئا، وجعل له ما يعرفه عند التخاطب لا يسميه مرة أخرى إلا مثله للتسهيل لمن يعسر عليه النطق بالراء، فيقول: القمح، ولا يقول: البر، ورعاية السجع نحو ركبت البر، واشتريت البر، وهو جناس، والمقلوب نحو واو ونون وميم وساس وكلك، إذا سمى بها، فإنها تنقلب واوا وميما ونونا وساسا وكلكا بعينها. هذا في المفردات، أما في المركبات، فكما يحكي عن القاضي الفاضل أنه قال في بعض أرض خضراء فقال أصحابه: إن هذا الكلام ليس في ظاهره فائدة، والفاضل لا يتكلم بمثل هذا، فوجدوه ينقلب أرضا خضراء قرئ من أوله إلى آخره، أو نطق به من أوله أو من آخره، ولذلك قال له العماد الأصفهاني يوما لما ركب: سر فلا كبابك الفرس، فقال له الفاضل: دام الله علا العماد، والكلامان ينقلبان نطقا وكتابة.

"سؤال" قوله: ومن الناس من قال: إن الترادف خلاف الأصل

وفي "مقامات الحريري" أنواع من ذلك نحو ساكب كأس، وسكب من لك مكس ونحو ذلك، فيضع الواضع تلك الألفاظ المفردة بعد وضعه غيرها ليتأتى له القلب إذا أراده. "سؤال" قوله: ومن الناس من قال: إن الترادف خلاف الأصل يشعر بأن غير هذا القائل لم يوافقه، وكونه تعريف المعرف لا ينفي النزاع في أنه خلاف الأصل. "المسألة الثالثة: في إقامة أحد المترادفين مقام الآخر" إذا أبدلت لفظ "من" بلفظ آخر، والنسخة التي قرأتها على شمس الدين الخسروشاهي كان فيها إذا أبدلت لفظ "من" بلفظ "إن"، وكذلك كان الشيخ شمس الدين الذي يقربه يقول: هو هكذا لفظ الأصل، وكان عالما بلسان الفرس، غير أنا نحن لا نعلم لسان الفرس، فما نأخذ ذلك عن الإمام فخر الدين، والشيخ شمس الدين إلا تقليدا، وقد وجدت في لغة العرب ما يغني عن التقليد وهو مثال لذلك؛ لأن أئمة اللغة قالوا: صلى ودعا مترادفان. مع أنه يجوز أن يقول: صلى عليه، فيركب صلى مع لفظ على في طلب الخير للمدعو له، ولو ركبت دعا مع على في طلب الخير، فقلت: دعا عليه لم يصح، وانعكس المعنى للشر؛ ولأن "ليت" موضوعة للتمني، فهي مرادفة للفظ التمني. ويصح أن يركب مع لفظ التمني الخبر عن المبتدأ، فتقول: التمني تعلق الأمل، ولو قلت: "ليت" تعلق الأمل من غير إضمار شيء لم يكن كلاما عربيا؛ لأن العرب لا تجيز الإخبار عن المسمى للحرف معبرا عنه بلفظ الحرف.

"سؤال" قال النقشواني ... إلخ

وكذلك "حتى" موضوعة للغاية، فهي مرادفة للغاية، ويصح التركيب مع لفظ الغاية، فتقول: الغاية في الشيء نهايته. ولو قلت: حتى في الشيء نهايته، لم يكن كلاما عربيا، وكذلك جميع حروف المعاني مرادفة في جميع معانيها للأسماء، ولا يصح إقامتها مقام تلك الأسماء، لا في الإخبار عنها، ولا في الإخبار بها، فهذه كلها مثل معلومة لنا، يستغنى بها عن التقليد، والنطق بما لا نفهمه. ومما يرد عليه في قوله: صحة التركيب من عوارض المعاني دون الألفاظ أن قولنا: في الدار رجل، تركيب صحيح، ورجل في الدر، غير صحيح عند العرب، مع أن المعنى لم يختلف عند السامع، وكذلك "إلى" وجميع حروف الجر تركب مع جميع الأسماء إلا "عند" فلا يدخل عليها من حروف الجر إلا "من"، فتقول: خرجت من عنده، ولا تقول: ذهبت إلى عنده، ولفظ "رب" من حروف الجر لا يركب إلا مع النكرات. وتقول: كيف زيد؟ فيصح، ولو قلت: زيد كيف؟ لم يصح، وهو كثير في لسان العرب، وهو وإن لم يكن من باب المترادفات، غير أنه يرد على قوله: إن الصحة من عوارض المعاني دون الألفاظ، فهذه صحة من عوارض الألفاظ دون المعاني. "سؤال" قال النقشواني: تنظيره باللغتين غير سديد، فمن ادعى ذلك، فإنما ادعاه من لغة واحدة، والصحيح أن اللغة الواحدة يفصل فيها، فيقال: إن لم يكن المقصود إلا مجرد الفهم قام أحد المترادفين مقام الآخر، وإن كان المقصود قافية القصيد، وروى الشعر، وأنواع الجناس، والسجع، فلا يقوم أحدهما مقام الآخر؛ فإن إحداهما لا تكون فيه الحروف المجانسة لتلك اللفظة التي يقصد جناسها، ولا يكون [فيها] حرف الروى، ويكون جميع ذلك في اللفظ الآخر المرادف.

المسألة الرابعة: أن أحد المترادفين يكون شرحا للآخر

وجوابه: أن الدعوى عامة، فتخصيصها بلغة دون لغتين خلاف الظاهر، ثم الإمام لم يذكر ذلك إلا على سبيل التأسيس، فقال إذا جاز ذلك في لغتين تطرق الجواز إلى اللغة الواحدة. وأما التفصيل فلا يرد عليه؛ لأنه إنما ادعى أصل الجواز من حيث الجملة. وأما روى القصيد وغيره، فلا يخطر لعاقل فضلا عن الإمام أن روى القصيد إذا كان راء يتعين البر دون القمح. المسألة الرابعة: أن أحد المترادفين يكون شرحا للآخر عند من يكون أجلى عنده، كما شرح أهل "مصر" لأهل "الشام" لفظ الفول بلفظ الباقلاء؛ لأن الباقلاء هو المعروف عندهم، وبالعكس عند أهل مصر والشام. سؤال: قوله: الماهية المفردة. إذا حاولنا تعريفها لم يكن تعريفها إلى على الوجه الذي ذكروه، وإنما الحدود كلها من باب شرح أحد المترادفين بالآخر، وهذا لا يتم في شيء من الحدود التامة، ولا الناقصة، ولا الرسم التام، ولا الناقص، بل في تبديل لفظ بلفظ هو أشهر منه عند السامع، كما تقدم بسطها في تحديد المترادفة، فنحن قد نحاول تعريف الحقيقة المفردة بالرسم الناقص، فنذكر لازم تلك الماهية البسيطة، واللفظ الموضوع للازمها غير اللفظ الموضوع لها، فلا ترادف. فإذا قلنا: النقطة طرف الخط، فالنقطة اسم ذاتها، وطرف الخط يدل على لازمها، وليس مرادفا للفظ النقطة، وكذلك تقول: مركز الدائرة هو الذي يكون بعده عن جميع أجزاء المحيط بعدا واحدا، والوحدة هي التي تكون نصف الاثنين، فهذه الألفاظ متباينة عرفا بأحدهما ماهية بسيطة من غير ترادف، فقوله: "لم يمكن إلا على الوجه الذي ذكروه" لا يتجه.

المسألة الخامسة في التأكيد

المسألة الخامسة في التأكيد: قوله: "هو الموضوع لتقوية ما يفهم من لفظ آخر" قد تقدم ما يرد عليه عند الفرق بينه وبين المرادف. "قاعدة" قال النحاة: التأكيد قسمان: لفظي، ومعنوي. فاللفظي: هو إعادة اللفظ الأول بعينه. والمعنوي: هو المؤكد بغيره نحو التأكيد بالنفس والعين. "قاعدة" قال النحاة: أكتعون أبصعون أبتعون لا تنفرد بأنفسها، ولا تتقدم على أجمعين، وما تصرف منه فتقول: جاء القوم أكتعون، ولا جاء القوم أكتعون أجمعون، بل لا ننطق بهذه الألفاظ إلا بعد النطق بـ"أجمعين" في الإفراد، والتثنية، والجمع. "فائدة" أكتعون مشتق من يكتع الجلد في النار إذا اجتمع كأن القوم اجتمعوا في المجيء كما يجتمع الجلد، وأبصعون من بصع العرق إذا خرج دمه دفعة، فكأن القوم لم يتأخر منهم أحد، وجاءوا جملة مع أنه قد تقدم أنه لا يجوز أن يراد معنى زائد على أصل المجيء، فإن التأكيد إنما يقويه الأول بإيفاد المجاز عنه من غير زيادة، وإنما ذكر هذه الاشتقاقات لوجه مناسبة التأكيد فقط؛ لأن الاجتماع مراد.

"قاعدة" التأكيد يختلف في جواز النطق به بحسب الفعل المنطوق به

"قاعدة" التأكيد يختلف في جواز النطق به بحسب الفعل المنطوق به، "فكل" و"أجمع" لا يؤكد بهما إلا ما تتبعض حقيقته باعتبار الفعل المسند إليه، فتقول: اشتريت الفرس كلها، ولا تقول: جرت الفرس كلها؛ لأنها لا تتبعض باعتبار الجري، وإن تبعضت باعتبار الشراء. تقرير قوله: "الكل أم الباب" أي هو أبلغ ما يذكر في أنه لم يتأخر من المخبر عنه شيء باعتبار ذلك الفعل المسند، وغيره دونه في المبالغة. قوله: "والخلاف فيه مع الملحدة الطاعنين في القرآن الكريم" ظاهر الكلام يشعر بأنهم منعوا التأكيد في اللغة، وليس كذلك، بل نازعوا في أن القرآن كلام الله - تعالى - لأجل التأكيد؛ لأنهم اعتقدوه في لسان العرب لنوع من القصور عن تأدية ما في النفس، واحتيج إلى التأكيد، والله - تعالى - غير محتاج لذلك، فلو كان القرآن كلام الله - تعالى - لم يكن فيه تأكيد، وضلوا وكفروا من حيث جهلوا أن الله - تعالى - خاطب عباده بالقرآن على منوال العرب، وجعله قرآنا عربيا في جميع الأساليب العربية، فكل موطن يحسن فيه التأكيد لغة أكد، وكل موضع يحسن فيه التقدم قدم إلى غير ذلك من الأوضاع العربية؛ ليكون القرآن عربيا على وفق حال المرسل إليهم ليكون ذلك أقرب إليهم إلى هدايتهم لتلك المقاصد الإلهية كما قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين [لهم فيضل الله من يشاءن ويهدي من يشاء، وهو العزيز الحكيم) [إبراهيم: 4]. فلو أتى الله- تعالى- به على غير هذه الأساليب لعسر عليهم فهمه إلا بعد تعليم وتعب طويل من الرسول- عليه السلام- فهذا معنى خلاف الملحدة فيه، فجاء اللفظ غير واضح لهذا المعنى.

"فائدة" الملحدة واللحد في القبر والإلحاد جميعه معناه: الضم

"فائدة" الملحدة واللحد في القبر والإلحاد جميعه معناه: الضم؛ لأن الميت يضم في لحده، والملحد يضم الباطل للحق حتى يفسده، وقوله تعالى: (إن الذين يلحدون في آباتنا لا يخفون علينا، أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شيءتم إنه بما تعملون بصير) [فصلت: 4]. أي يضموا إلينا أكاذيبهم وافتراءهم علينا، وفيها تقرير الأصل في وضع اللغات، والغالب عليها أنها إنما وضعت لتفيد معنى إنشائيا لم يفهم من غير ذلك اللفظ، والتأكيد قليل بالاستقراء، فإذا دار اللفظ بين النادر والغالب حمل على الغالب لفائدة زائدة غير التأكيد. * * *

الباب الخامس في الاشتراك

الباب الخامس في الاشتراك قال الرازي: اللفظ المشترك هو: اللفظ الموضوع لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعا أولا من حيث هما كذلك. فقولنا: "الموضوع لحقيقتين مختلفتين" احترزنا به عن الأسماء المفردة. وقولنا: "وضعا أولا": احترزنا به عما يدل على الشيء بالحقيقة وعلى غيره بالمجاز. وقولنا: "من حيث هما كذلك" احترزنا به عن اللفظ المتواطئ؛ فإنه يتناول الماهيات المختلفة، لكن لا من حيث إنها مختلفة، بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد. المسألة الأولى: في بيان إمكانه ووجوده: وجود اللفظ المشترك: إما أن يكون واجبا، أو ممتنعا، أو جائزا، وقال بكل واحد من هذه الأقسام قائل: أما القائلون بالوجوب، فقد احتجوا بأمرين: الأول: أن الألفاظ متناهية، والمعاني غير متناهية، والمتناهي إذا وزع على غير المتناهي، لزم الاشتراك. وإنما قلنا: "إن الألفاظ متناهية" لأنها مركبة من الحروف المتناهية، والمركب من المتناهي متناه. وإنما قلنا: "إن المعاني غير متناهية" لأن الأعداد أحد أنواع المعاني، وهي غير متناهية.

وأما أن المتناهى إذا وزع على غير المتناهى، حصل الاشتراك، فهو معلوم بالضرورة. الثاني: أن الألفاظ العامة كالوجود والشيء، لا بد منها في اللغات، ثم قد ثبت أن وجود كل شيء، نفس ماهيته، فيكون كل شيء مخالفا لوجود الآخر، فيكون قول الموجود عليها بالاشتراك. والجواب عن الأول بعد تسليم المقدمتين الباطلتين أن نقول: الأمور التي يقصدها المسمون بالتسمية متناهية، فإنهم لا يشرعون في أن يسموا كل واحد من الأمور التي لا نهاية لها، فإن ذلك مما لا يخطر ببالهم، فكيف يقصدون تسميتها؟ بل لا يقصدون إلا إلى تسمية أمور متناهية، ويمكن أن يكون لكل واحد منها اسم مفرد. وأيضا: فكل واحد من هذه الألفاظ المتناهية، إن دل على معان متناهية، لم يكن جميع الألفاظ المتناهية دالا على معان غير متناهية؛ لأن المتناهى، إذا ضوعف مرات متناهية، كان الكل متناهيا. وإن دل كل واحد منها أو بعضها على معان غير متناهية، فالقول به مكابرة. وعن الثاني: أنا لا نسلم أن الألفاظ العامة ضرورية فاللغات؛ وإن سلمنا ذلك، لا نسلم أن الوجود غير مشترك في المعنى. وإن سلمنا؛ لكن لم لا يجوز اشتراك الموجودات بأسرها في حكم واحد سوى الوجود، وهو المسمى بتلك اللفظة العامة؟ أما القائلون بالامتناع، فقد قالوا: المخاطبة باللفظ المشترك لا تفيد فهم

المقصود على سبيل التمام، وما يكون كذلك، كأن منشأ للمفاسد على ما سيأتي تقريره في مسألة أن الأصل عدم الاشتراك، وما يكون منشأ للمفاسد، وجب ألا يكون. والجواب: لا نزاع في أنه لا يحصل الفهم التام من سماع اللفظ المشترك؛ لكن هذا القدر لا يوجب نفيه، لأن أسماء الأجناس غير دالة على أحوال تلك المسميات لا نفيا ولا إثباتا، والأسماء المشتقة لا تدل على تعين الموصوفات ألبته، ولم يلزم من ذلك جزم القول بأنها غير موضوعة، فكذا هاهنا. وإذا بطل هذان القولان، فنحن نبين الإمكان أولا، ثم الوقوع ثانيا: أما بيان الإمكان، فمن وجهتين: الأول: أن المواضعة تابعة لأغراض المتكلم، وقد يكون للإنسان غرض تعريف غيره شيئا على التفصيل، وقد يكون غرضه تعريف ذلك الشيء على الإجمال؛ بحيث يكون ذكر التفصيل سببا للمفسدة، كما روى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال للكافر الذي سأله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقت ذهابهما إلى الغار: (من هو؟ فقال: رجل يهديني السبيل) ولأنه ربما لا يكون المتكلم واثقا بصحة الشيء على التعيين، إلا أنه يكون واثقا بصحة وجود أحدهما؛ لا محالة؛ فحينئذ يطلق اللفظ المشترك؛ لئلا يكذب، ولا يكذب ولا يظهر جهله بذلك؛ فإن أي معنى يصح، فله أن يقول: إنه كان مرادي. الثاني: أن ما ذكروه من المفاسد، لو صح: فإنما يقدح في أن يضع الواضع لفظا لمعنيين على سبيل الاشتراك، لكنه يجوز أن يوجد المشترك بطريق آخر،

المسألة الثانية: في أقسام اللفظ المشترك

وهو أن تضع قبيلة اسما لشيء، وقبيلة أخرى ذلك الاسم لشيء آخر، ثم يشيع الوضعان، ويخفى كونه موضوعا للمعنيين من جهة القبيلتين. وأما الوقوع، فمن الناس من قال: إن كل ما يظن مشتركا، فهو إما أن يكون متواطئا، أو يكون حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر؛ كالعين، فإنه وضع أولا للجارحة المخصوصة، ثم نقل إلى الدينار؛ لأنه في الغرة والصفاء كتلك الجارحة، وإلى الشمس؛ لأنها في الصفاء والضياء كتلك الجارحة، وإلى الماء؛ لوجود المعنيين فيه. وعندنا أن كل ذلك ممكن؛ والأغلب على الظن وقوع المشترك. والدليل عليه: أنا إذا سمعنا (القراء) لم نفهم أحد المعنيين من غير تعيين، بل بقي الذهن مترددا، ولو كان اللفظ متواطئا، أو حقيقة في أحدهما، مجازا في الآخر، لما كان كذلك. فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: كان حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر، ثم خفي ذلك؟! قلت: أحكام اللغات لا تنتهي إلى القطع المانع من الاحتمالات البعيدة، وما ذكرتموه لا ينفي كونه حقيقة فيهما الآن، وهو المقصود، والله أعلم. المسألة الثانية: في أقسام اللفظ المشترك: المفهومان: إما أن يكونا متباينين؛ كالطهر والحيض المسميين بالقراء/ أو لا يكونا متباينين، بل يكون بينهما تعلق، وحينئذ لا يخلو إما أن يكون أحدهما جزءا من الآخر، أو لا يكون.

المسألة الثالثة: في سبب وقوع الاشتراك

فالأول: مثل ما إذا سمى معنى عام باسم، وسمى معنى خاص تحته بذلك الاسم، فوقوع الاسم عليهما، والحالة هذه، يكون بالاشتراك؛ مثل الممكن، إذا قيل لغير الممتنع، وقيل لغير الضروري؛ فإن غير الممتنع أعم من غير الضروري؛ فإذا قيل الممكن عليهما، فهو بالاشتراك. وأيضا فقوله: (على الخاص وحده) قول بالاشتراك أيضا بالنظر إلى ما فيه من المفهومين المختلفين. وأما إن لم يكن أحدهما جزءا من الآخر، فلا بد وأن يكون أحدهما صفة للآخر؛ وهو كما إذا سمى شخص أسود اللون بالأسود، فإن قول الأسود عليه؛ من حيث إنه لقب، ومن حيث إنه مشتق بالاشتراك، ثم إذا نسيت ذلك الشخص إلى القار، فإن اعتبرت لونه، كان الأسود مقولا عليه، وعلى القار بالتواطؤ، وإن اعتبرت اسمه، كان الأسود مقولا عليه، وعلى القار بالاشتراك. دقيقة: لا يجوز أن يكون اللفظ مشتركا بين عدم الشيء وثبوته؛ لأن اللفظ لابد وأن يكون بحال متى أطلق أفاد شيئا، وإلا كان عبثا؛ والمشترك بين النفي والإثبات لا يفيد إلا التردد بين النفي والإثبات، وهذا معلوم لكل أحد. المسألة الثالثة: في سبب وقوع الاشتراك: السبب الأكثري هو: أن تضع كل واحدة من القبيلتين تلك اللفظة لمسمى آخر، ثم يشتهر الوضعان، فيحصل الاشتراك. والأقلى هو: أن يضعه واضع واحد لمعنيين، ليكون المتكلم متمكنا من التكلم بالمجمل؛ وقد سبق في الفصل السالف: أن المتكلم بالكلام المجمل من مقاصد العقلاء ومصالحهم.

المسألة الرابعة: في أنه لا يجوز استعمال المشترك المفرد في معانيه على الجمع

وأما السبب الذي يعرف به كون اللفظ مشتركا، فذلك إما الضرورة، وهو أن يسمع تصريح أهل اللغة به. وإما النظر؛ وذلك أنا سنذكر إن شاء الله تعالى الطرق الدالة على كون اللفظة حقيقة في مسماها، فإذا وجدت تلك الطرق في اللفظة الواحدة بالنسبة إلى معنيين مختلفين، حكمنا بالاشتراك. ومن الناس، من ذكر فيه طريقين آخرين: أحدهما: أن حسن الاستفهام يدل على الاشتراك؛ لأن الاستفهام عبارة عن طلب الفهم، وطلب الشيء حال حصوله محال، والفهم إنما لا يكون حاصلا لو كان اللفظ مترددا بين المعنيين. الثاني: قالوا: استعمال اللفظ في معنيين ظاهرا يدل على كونه حقيقة فيهما؛ وذلك يقتضي الاشتراك. واعلم: أنا سنبين إن شاء الله تعالى في باب العموم: أن هذين الطريقين لا يدلان على الاشتراك. المسألة الرابعة: في أنه لا يجوز استعمال المشترك المفرد في معانيه على الجمع. وذهب الشافعي، والقاضي أبو بكر رضي الله عنهما إلى جوازه، وهو قول الجبائي، والقاضي عبد الجبار بن أحمد. وذهب آخرون إلى امتناعه، وهو قول أبي هاشم، وأبي الحسين البصري والكرخي.

ثم اختلفوا؛ فمنهم من منع منه؛ لأمر يرجع إلى القصد، ومنهم من منع منه؛ لأمر يرجع إلى الوضع، وهو المختار. وقبل الخوض في الدليل لابد من مقدمة وهي: أنه ليس يلزم من كون اللفظ موضوعا لمعنيين على البدل أن يكون موضوعا لهما جميعا؛ وذلك لأنا نعلم بالضرورة المغايرة بين المجموع، وبين كل واحد من أفراده، ولا يلزم أن يكون المجموع مساويا لكل واحد من أفراده في جميع الأحكام، فلا يلزم من كون كل واحد من الشيئين مسمى باسم، كون مجموعهما مسمى به. إذا ثبتت هذه المقدمة فالدليل على ما قلنا: أن الواضع إذا وضع لفظا لمفهومين على الانفراد، فإما أن يكون قد وضعه مع ذلك لمجموعهما، أو ما وضعه لهما: فإن قلنا: إنه ما وضعه للمجموع، فاستعماله لإفادة المجموع استعمال اللفظ في غير ما وضع له؛ وإنه غير جائز. وإن قلنا: إنه وضعه للمجموع، فلا يخلو إما أن يستعمل لإفادة المجموع وحده أو لإفادته مع إفادة الأفراد. فإن كان الأول: لم يكن اللفظ إلا لأحد مفهوماته، لأن الواضع إن كان وضعه بإزاء أمور ثلاثة على البدل، وأحدهما ذلك المجموع فاستعمال اللفظ فيه وحده لا يكون استعمالا للفظ في كل واحد من مفهوماته. فإن قلت: إنه يستعمل في إفادة المجموع والأفراد على الجمع، فهو محال؛ لأن إفادته للمجموع معناه: أن الاكتفاء لا يحصل إلا بهما، وإفادته للمفرد

معناه: أنه يحصل الاكتفاء بكل واحد منهما وحده، وذلك جمع بين النقيضين وهو محال. فثبت أن اللفظ المشترك من حيث إنه مشترك لا يمكن استعماله في إفادة مفهوماته على سبيل الجمع. واحتج المجوزون بأمور: أحدها: أن الصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة استغفار، ثم إن الله تعالى أراد بهذه اللفظة كلا معنييها في قوله تعالى:} إن الله وملائكته يصلون على النبي {(الأحزاب:56). وثانيهما قوله تعالى:} ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب .. {؟! (الحج: 18). أراد بالسجود هاهنا الخضوع؛ لأنه هو المقصود من الدواب، وأراد به أيضا وضع الجبهة على الأرض؛ لأن تخصيص كثير من الناس بالسجود دون ما عداهم ممن حق عليه العذاب مع استوائهم في السجود بمعنى الخشوع يدل على أن الذي خصوا به من السجود هو وضع الجبهة على الأرض، فقد صار المعنيان مرادين. وثالثهما قوله تعالى:} والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء {(البقرة: 228) إذا أراد به الحيض والطهر؛ لأن المرأة إذا كانت من أهل الاجتهاد، فالله تعالى أراد منها الاعتداد بكل واحد منهما بدلا عن الآخر، بشرط أن يؤدي اجتهادها إليه أو إلى الآخر.

ورابعها: قال سيبويه: قول القائل لغيره: (الويل لك) دعاء وخبر؛ فجعله مفيدا لكلا الأمرين. والجواب عن هذه الوجوه بأسرها: أن ما ذكروه، لو صح لدل على أن هذه الألفاظ كما هي موضوعة للآحاد، فهي موضوعة للجمع، وإلا كان الله تعالى قد استعمل اللفظ في غير مفهومه؛ وهو غير جائز. وعلى هذا التقدير: يكون استعماله لإفادة الجمع استعمالا له في إفادة أحد موضوعاته، لا في إفادة الكل على ما بيناه، والله أعلم. فرعان: الأول: بعض من أنكر استعمال المفرد المشترك في جميع مفهوماته جوز ذلك في لفظ الجمع، أما في جانب الإثبات، فكقوله للمرأة: اعتدي بالأقراء. والحق أنه لا يجوز؛ لأن قوله: اعتدي بالأقراء معناه: اعتدي بقرء وقرء وقرء، وإذا لم يصح أن يفاد بلفظ القرء كلا المدلولين، لم يصح ذلك أيضا في الجمع الذي لا يفيد إلا عين فائدة الإفراد. وأما في جانب النفي، فلم يقم دليل قاطع على أن الواضع ما استعمله في إفادة نفيهما جميعا. ويمكن أن يجاب عنه: بأن لا يفيد إلا رفع مقتضى الإثبات، فإذا لم

المسألة الخامسة في أن الأصل عدم الاشتراك

يفد في جانب الإثبات إلا أمرا واحدا، لم يرتفع عند حرف النفي إلا المعنى الواحد. فأما إن أريد حمله على أن المراد منه: لا تعتدي بما هو مسمى الأقراء؛ فحينئذ يكون كون الحيض والطهر مسمى بالقرء وصفا معقولا مشتركا بينهما؛ فيكون اللفظ على هذا التقدير متواطئا، لا مشتركا. الثاني: أنا لو جوزنا أن يفاد باللفظ المشترك جميع معانيه، فإنه لا يجب ذلك. ونقل عن الشافعي رضي الله عنه، والقاضي أبي بكر أنهما قالا: المشترك إذا تجرد عن القرائن المخصصة، وجب حمله على جميع معانيه، وفيه نظر؛ لأنه إن لم يكن موضوعا للمجموع، فلا يجوز استعماله فيه، وإن كان موضوعا له، فهو أيضا موضوع لكل واحد من الأفراد، واللفظ دائر بين كل واحد من الفردين وبين المجموع، فيكون الجزم بإفادته للمجموع دون كل واحد من الفردين ترجيحا لأحد الجائزين على الآخر من غير مرجح؛ وهو محال. فإن قلت: حمله على المجموع أحوط، فيكون الأخذ به واجبا: قلت: القول بالاحتياط ستتكلم عليه إن شاء الله تعالى. المسألة الخامسة في أن الأصل عدم الاشتراك: ونعني به: أن اللفظ متى دار بين الاشتراك وعدمه، كان الأغلب على الظن عدم الاشتراك، ويدل عليه وجوه: أحدها: أن احتمال الاشتراك، لو كان مساويا لاحتمال الانفراد، لما حصل

التفاهم بين أرباب اللسان حالة التخاطب في أغلب الأحوال، من غير استكشاف، وقد علمنا حصول ذلك، فكان الغالب حصول احتمال الانفراد. وثانيهما: لو لم يكن الاشتراك مرجوحا، لما بقيت الأدلة السمعية مفيدة ظنا؛ فضلا عن اليقين؛ لاحتمال أن يقال: إن تلك الألفاظ مشتركة بين ما ظهر لنا منها وبين غيره؛ وعلى هذا التقدير يحتمل أن يكون المراد غير ما ظهر لنا؛ وحينئذ لا يبقى التمسك بالقرآن والأخبار مفيدا للظن؛ فضلا عن العلم. وثالثها: أن الاستقراء دل على أن الكلمات في الأكثر مفردة لا مشتركة، والكثرة تفيد ظن الرجحان، فإن قلت: لا نسلم أن الكلمات في الأكثر مفردة؛ لأن الكلمة إما حرف، أو فعل، أو اسم. أما الحرف، فكتب النحو شاهدة بأنه مشترك. وأما الفعل، فهو إما الماضي، أو المستقبل، أو الأمر. أما الماضي والمستقبل، فهما مشتركان؛ لأنهما تارة يستعملان في الخبر، وأخرى في الدعاء، ولأن صيغة المضارع مشتركة بين الحال، والاستقبال، وأما صيغة (أفعل) فالقول بأنها مشتركة بين الوجوب والندب مشهور. وأما الأسماء ففيها اشتراك كثير، فإذا ضممنا إليها الأفعال والحروف، كانت الغلبة للاشتراك!! قلت: الأصل في الألفاظ الأسماء، والاشتراك نادر فيها، بدليل أنه لو كان الاشتراك أغلب، لما حصل فهم غرض المتكلم في الأكثر، ولما لم يكن كذلك، علمنا أن الغالب عدم الاشتراك.

ورابعها: أن الاشتراك يخل بفهم القائل والسامع؛ وذلك يقتضي ألا يكون موضوعا. بيان أنه يقتضى الخلل في الفهم: أما في حق السامع، فمن وجهتين: الأول: أن الغرض من الكلام حصول الفهم، وهو غير حاصل في المشترك؛ لتردد الذهن بين مفهوماته. الثاني: أن سامع اللفظ المشترك ربما يتعذر عليه الاستكشاف؛ إما لأنه يهاب المتكلم، أو لأنه يستنكف عن السؤال، وإذا لم يستكشف، فربما حمله على غير المراد، فيقع في الجهل، ثم ربما ذكره لغيره، فيصير ذلك سببا لجهل جمع كثير؛ ولهذا قال أصحاب المنطق: إن السبب الأعظم في وقوع الأغلاط حصول اللفظ المشترك. وأما في حق القائل؛ فلأن الإنسان إذا تلفظ باللفظ المشترك، احتاج في تفسيره إلى أن يذكره باسمه المفرد، فيقع تلفظه باللفظ المشترك عبئا، ولأنه ربما ظن أن السامع متنبه للقرينة الدالة على تعيين المراد، مع أن السامع لم يتنبه له، فيحصل الضرر؛ كمن قال لعبده: أعط الفقير عينا، على ظن أنه يفهم أن مراده الماء، ثم إنه يعطيه الذهب، فيتضرر السيد به. فثبت بهذه الوجوه: أن الاشتراك منشأ للمفاسد، فهذه المفاسد إن لم تقتض امتناع الوضع، فلا أقل من اقتضاء المرجوحية. وخامسها: أن الإنسان مضطر في بقائه إلى استعمال المفردات، ولا حاجة به إلى المشترك، فيكون المفرد أغلب في الوجود، وفي الظن.

المسالة السادسة: فيما يعين مراد اللافظ باللفظ المشترك

بيان الحاجة إلى المفردات أن الإنسان لا يستقل بتكميل مهمات معيشته بدون الاستعانة بغيره، والاستعانة بالغير لا تتم إلا باطلاع الغير على حاجته، وقد عرفت أن ذلك لا يحصل إلا بالألفاظ المفردة. وإنما قلنا: إن الحاجة إلى المشترك غير ضرورية؛ لأنهم إن احتاجوا إلى التعريف الإجمالي أمكنهم ذكر تلك المفردات مع لفظ الترديد، وحينئذ يحصل المطلوب في اللفظ المشترك. وإذا ظهرت المقدمتان، ثبت رجحان المفرد على المشترك في الوجود وفي الذهن، وهو المطلوب، والله أعلم. المسالة السادسة: فيما يعين مراد اللافظ باللفظ المشترك: اللفظ المشترك: إما أن توجد معه قرينة مخصصة، أو لا توجد. فإن لم توجد، بقي مجملا؛ لما ثبت من امتناع حمله على الكل. وإن وجدت القرينة، فتلك القرينة: إما أن تدل على حال كل واحد من مسميات اللفظ؛ إلغاء أو اعتبارا، أو على حال البعض؛ إلغاء أو اعتبارا، وإما على حال الكل من حيث هو كل؛ إلغاء أو اعتبارا؛ فهو مندرج تحت حال البعض؛ لأن اللفظ إذا كان مفيدا لكل واحد من تلك الأفراد، وللكل من حيث هو، كل كان الكل أحد الأمور المسماة به، فتكون القرينة الدالة عليه؛ إلغاء أو اعتبارا دالة على بعض ما اندرج تحت تلك اللفظة. فأما القسم الأول وهو: ما يفيد اعتبار كل واحد من تلك المعاني، فتلك: المعاني إما أن تكون متنافية، أو لا تكون.

فإن كانت متنافية، بقي اللفظ مترددا بينها كما كان، إلى أن يظهر المرجح. وإن لم تكن متنافية، فقال بعضهم: الأدلة المقتضية لحمل اللفظة على كل معانيها معارضة للدليل المانع من حمل اللفظ المشترك على كل معانيه، فتعتبر بينهما الترجيحات. وهذا خطأ؛ لأن الدلالة المانعة من حمل اللفظ المشترك على كل معانيه دلالة قاطعة، فلا تقبل المعارضة. سلمنا قبوله للمعارضة؛ لكن لا معارضة هاهنا؛ فإن الدليلين، إذا اقتضيا حمل اللفظ على كلا مدلوليه أمكن أن يكون اللفظ كما كان موضوعا لكل واحد منهما بالاشتراك، فهو أيضا موضوع للجميع، أو أن المتكلم قد تكلم به مرتين، ومع هذين الاحتمالين زال التعارض، وإذا بطل التعارض، ثبت أنه متى قامت الدلالة على كون كل واحد منهما مرادا، وجب حمله عليهما. القسم الثاني، وهو: الذي يكون مفيدا إلغاء كل واحد من تلك المعاني؛ وحينئذ يجب حمل اللفظ على مجازات تلك الحقائق الملغاة. ثم لا يخلو: إما أن نكون تلك الحقائق الملغاة بحال لو لم تقم الدلالة على إلغائها، كان البعض أرجح من البعض، أو ليس الأمر كذلك. فإن كان الأول: فمجازاتها: إما أن تكون متساوية في القرب، أو لا تكون متساوية: فإن تساوت المجازات في القرب، وكانت إحدى الحقيقتين راجحة كان مجاز الحقيقة الراجحة راجحا.

وإن تفاوتت المجازات، نظر: فإن كان مجاز الحقيقة الراجحة راجحا، فلا كلام في رجحانه. وإن كان مجاز الحقيقة المرجوحة راجحا، وقع التعارض بين المجازين؛ لأن هذا المجاز، وإن كان راجحا إلا أن حقيقته مرجوحة، وذلك المجاز، وإن كان مرجوحا، إلا أن حقيقته راجحة، فقد اختص كل واحد منهما بوجه رجحان، فيصار إلى الترجيح. وأما إن كانت الحقائق متساوية، فإما أن يكون أحد المجازين أقرب إلى حقيقته من المجاز الآخر إلى الأخرى، أو لا يكون: فإن كان الأول، وجب العمل بالأقرب. وإن كان الثاني، بقيت اللفظة مترددة بين مجازات تلك الحقائق؛ لما ثبت من امتناع حمل اللفظ على مجموع معانيه، سواء كانت حقيقية أو مجازية. القسم الثالث: وهو الذي يدل على إلغاء البعض. فاللفظة المشتركة، إما أن تكون مشتركة بين معنيين فقط، أو أكثر. فإن كان الأول، فقد زال الإجمال؛ لأن اللفظ لما وجب حمله على معنى، ولا معنى له إلا هذان، وفد تعذر حمله على ذلك فيتعين حمله على هذا. وإن كان الثاني، وهو أن تكون المعاني أكثر من واحد، فعند قيام الدليل على إلغاء واحد منها، بقي اللفظ مجملا في الباقي. وأما القسم الرابع، وهو الذي يدل على اعتبار البعض، فهذا يزيل الإجمال، سواء كانت اللفظة مشتركة بين معنيين أو أكثر.

المسألة السابعة: في أنه يجوز حصول اللفظ المشترك في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم

المسألة السابعة: في أنه يجوز حصول اللفظ المشترك في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. والدليل على جوازه وقوعه، وهو في قوله تعالى:} والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء {(البقرة: 228)، وفي قوله تعالى:} والليل إذا عسعس {(التكوير: 17) فإنه مشترك بين الإقبال والإدبار. واحتج المانع بأن ذلك اللفظ: إما أن يكون المراد منه حصول الفهم، أو لا يكون، والثاني عبث. والأول لا يخلو: إما أن يكون المراد منه حصول الفهم بدون بيان المقصود، أو مع بيانه. والأول: تكليف ما لا يطاق. والثاني: لا يخلو: إما أن يكون البيان مذكورا معه، أو لا يكون. فإن كان الأول، كان تطويلا من غير فائدة، وهو سفه وعبث. وإن كان الثاني، أمكن ألا يصل البيان إلى المكلف؛ فحينئذ يبقى الخطاب مجهولا. والجواب: أن هذا غير وارد على مذهبنا في أن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وأما الجواب على أصول المعتزلة، فسيأتي في مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب إن شاء الله تعالى. قال القرافي: قوله: اللفظ المشترك هو اللفظ الموضوع لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعا أولا من حيث هما كذلك، فاحترزنا بحقيقتين مختلفتين عن

الأسماء المفردة، وبالوضع الأول عن الحقيقة والمجاز، وبقولنا: (من حيث هما كذلك) عن المتواطئ لتناوله المختلفات لا من حيث هي مختلفة، بل من حيث اشتراكهما في معنى واحد، وعليه سبعة أسئلة: الأول: على قوله: (مختلفتين): فإن كل قيد في حد إنما يحترز به عن ضده، فيحترز (بالمختلفات) عن الوضع للمتمائلات، لكن الوضع للمثلين محال عقلا، فلا حاجة للاحتراز عنه. برهانه: أن المثلين لا بد أن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بشخصه، وبعينه عن الآخر، فالواضع إما أن يتخذ التعيين في المسمى أم لا، فإن أخذ جزءا من المسمى في كل واحد من المثلين، أو في أحدهما لزم أن يكون وضع للمختلفين، لا للمثلين، أو في أحدهما لزم أن يكون وضع للمختلفين، لا للمثلين؛ لأن المثل بعد التعيين مخالف للمثل الآخر بالضرورة، وإن لم يأخذ التعيين، وما وقع به التشخيص في التسمية، والقاعدة العقلية أن المثلين إذا حذف عنهما مشخصاتهما لم يبق إلا القدر المشترك بينهما، والمشترك بينهما واحد، والواحد ليس بمثلين، فما وضع حينئذ لمثلين، فعلمنا بالضرورة أن الوضع للمثلين متعذر مستحيل، والمستحيل لا يحترز عنه. الثاني: على قوله: (احترزنا به عن الأسماء المفردة)، فأقول: لفظ السواد والبياض لفظان مفردان، وقد وضعا للمختلفين، وهما السواد والبياض، وإن أراد به كل لفظ مفرد على حاله من غير أن يضاف إليه غيره، وهو الأقرب لمراده، فقد خرج بقوله: حقيقتين، فلا حاجة للاختلاف. الثالث: على قوله: (وضعا أولا) احترازا عن الحقيقة والمجاز: قلنا: لا نسلم أن المجاز فيه وضع ثان، حتى يحترز عنه بالوضع الأول.

سلمنا أن فيه وضعاً، لكن له ثلاثة معان: جعل اللفظ دليلا على المعنى، وهو وضع اللغات، وعليه استعمال اللفظ في المعنى، وهو وضع الحقائق العرفية والشرعية؛ فإن أهل العرف لم يجتمعوا في صعيد واحد حتى اتفقوا على جعل اللفظ لذلك المعنى، بل استعمل هذا وهذا، حتى كثر الاستعمال، واشتهر اللفظ في تلك الحقيقة، فهذا معنى آخر من الوضع. والقسم الثالث: أصل الاستعمال، ولو مرة واحدة، فإذا سمع من الغرب التجوز مرة واحدة باعتبار المشابهة، كان مجاز التشبيه موضوعا، والوضع في هذا الباب مفسرا بأصل الاستعمال، وإذا كان لفظ الاستعمال مشتركا بين معان ثلاثة، فقول: في أصل الحد (هو اللفظ الموضوع) إن أراد المعاني الثلاث، فهذا لا يحسن في الحد؛ إما لأن اللفظ المشترك لا يجوز أن يقع في الحد، وإما لأن المشترك لا يجوز استعماله في جميع مفهوماته، وإن أراد الوضع الذي هو الجعل فقط، وهو الظاهر؛ لأنه وضع اللغات لا يندرج المعنى الآخر، وهو الوضع المفسر بأصل الاستعمال، فلا يحتاج إلى إخراجه. الرابع: على قوله: (من حيث هو كذلك) احترازا عن المتواطئ؛ فإنه يتناول المختلفات. قلنا لا نسلم أن اللفظ المتواطئ يتناول المختلفات، ولا يدل عليها البتة؛ فإن القاعدة أن الدال على الأعم غير دال على الأخص. فلفظ الحيوان غير دال على الإنسان البتة فلا يتناوله؛ لأن التناول هو الدلالة. الخامس: سلمنا أنه يتناول المختلفات، لكنه خرج بقوله: الموضوع لحقيقتين؛ لأن المتواطئ لم يوضع إلا للمشترك، وهو حقيقة واحدة.

(تنبيه) قد نقل أئمة اللغة أن اللفظ حقيقة في معنى، مجاز في معنى آخر

السادس: قال النقشواني: إذا اشتهر المجاز حتى يساوي الحقيقة، ولم يعلم ذلك (1) يتعين أن يقال: هو مشترك لضرورة المساواة، وعدم النقل أنه مجاز في أحدهما، مع أن الوضع في هذا المشترك لم يكتف فيه بالأول، فخرج عن حده. السابع: قال: إذا استعمل أهل العرف اللفظ في معنيين مختلفين حتى ينتج الوضع الأول، ولم يعلم ذلك، فإنا نعد ذلك اللفظ مشتركا مع أن الوضع ليس أولا. قال: وبهذا قد يكون مستويا في المعنيين عند قوم، فيكون مشتركا عند من يثبت عندهم الاستواء، وكذلك إذا كان موضوعا لهما معا أولا، فربما اشتهر في أحدهما دون الآخر عند قوم، فلا يكون مشتركا بالنسبة إليهم، فإن ضابط الاشتراك هو التساوي، ويكون هذا سؤالا آخر على خد المصنف. (تنبيه) قد نقل أئمة اللغة أن اللفظ حقيقة في معنى، مجاز في معنى آخر، ثم يساوي المجاز الحقيقة، فلا نقول: هو مشترك لقول أئمة اللغة: إنه غير مشترك، بل نقول: اشترك في مجازه، مثاله لفظ النكاح. قال أئمة اللغة: إنه موضوع للتداخل، ومنه نكحت الحصاة خف البعير، وهو مجاز في العقد، وقد ساواه في العرف. فإذا قلنا: نكح فلان عند فلان. معناه: عقد، ومع ذلك فلا يقال: هو مشترك، وبهذا يظهر سؤال على النقشواني في قوله: إذا اشتهر واستوى صار مشتركا، بل نقول: ليس مشتركا.

فائدة: المشترك الموضوع لحقيقتين فأكثر ... إلخ

(فائدة) نقول المشترك الموضوع لحقيقتين فأكثر باعتبار واضع واحد ظاهرا فقولنا: (لحقيقتين) احترازا عن الموضوع لمعنى واحد. وقولنا: (فأكثر) ليدخل الذي وضع لثلاث فأكثر. وقولنا: (باعتبار واضع واحد) احترازا عن الموضوع لمعنيين في أحدهما بوضع العرف، والآخر بوضع اللغة. وقولنا: ظاهرا احترازا من أن يخفى علينا وضعه لأحدهما بالعرف، والآخر باللغة ونحن لا نشعر، لكن الظاهر أن الكل وضع واحد؛ لأن الأصل عدم تعداد الواضع، فلا جرم لا يزال يقتدى بالاشتراك عند التساوي حتى يقال: إنه في أحدهما باللغة، وفي الآخر بالعرف. المسألة الأولى: قوله: (الألفاظ متناهية، والمعاني غير متناهية). قلنا: قد تقدم في أنه لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ؛ لأن الألفاظ والمعاني سواء في التناهي وعدمه، وأن ما لا يتناهى له تفسيران: ما لا نهاية له، كمعلومات الله تبارك وتعالى وما لا نهاية، لكن لا يجب الوقوف عندها كنعيم الجنة، ومقدورات الله تعالى والمعاني فهما سواء، وبسطه هناك. قوله: (لأن الألفاظ مركبة من الحروف المتناهية، والمركب من المتناهى متناه). قلنا: هذا باطل من وجهين: أحدهما: أن العشرة متناهية، وإذا علمنا منها سلسلة غير متناهية صدق عليها عدم التناهي، مع أنها مركبة من المتناهى، فحروف التركيب ثمانية وعشرون.

(سؤال) قوله: (الألفاظ العامة كالوجود والشيء)

قلنا إن تركب من اثنين منها فقط ما لا يتناهى، فنقول: كاف وصاد، وكافان وصاد، وثلاث كافات وصاد ونزيد أبدا في عدد الكافات واحدا حتى نذهب إلى غير النهاية، فلابد أن نقول: المركب من المتناهى مرارا متناهية متناه. وثانيهما: سلمنا أنه يتركب منها مرارا متناهية، غير أنه قيد يكون لا يجب الوقوف عندها، فتكون الألفاظ غير متناهية على ما تقدم بيانه من تفسير غير المتناهي. قوله: (المعاني غير متناهية؛ لأن أحد أنواعها العدد). قلنا، والعدد متناه إن فسرنا غير المتناهي بما لا غاية له، فإن كل شيء نتصوره من الأعداد له أول، وهو الواحد، وآخر وهي المرتبة التي وصلنا إليها، غير المتناهي بما لا غاية له. قلنا: المنع لأجل ذلك. (سؤال) قوله: (الألفاظ العامة كالوجود والشيء). مراده هاهنا لفظ (وجود، وشيء) بالتنكير لا بالتعريف، وهي على هذا التقدير ليست عامة؛ فإن صيغ العموم لا تدخل فيها النكرات في الثبوت، وإنما العام معانيها، فكان الواجب أن يقول: ألفاظ المعاني العامة، وهو مقصودة، غير أنه توسع، وسمي اللفظ بما يستحقه مدلوله. قوله: (فيكون لفظ الوجود مقولا عليهما بالاشتراك). قلنا: هذا ما قاله أكثر الأصحاب، وهو غير صحيح، فإن معنى قولنا: الوجود نفس الموجود أنه ليس زائدا عليه في الخارج، بل أمر يعتبره الذهن،

تقرير قوله: (المقدمتين الباطلتين)

كما قلنا: الخلق نفس المخلوق، بمعنى أنه أمر ذهني لا خارجي، فهو في الحقيقة متواطئ باعتبار ذلك الأمر الذهني لا مشترك. ويؤكد ذلك أنه يطلق على ما لا يتناهى من الموجودات، والمشترك لا تكون مسمياته غير متناهية، ولا يطلق على غير المتناهى من غير احتياج لوضع جديد إلا المتواطئ، فلفظ الوجود والشيء متواطئ، على تقدير تفسير الوجود بأنه نفس الموجود. قال الإمام في (المباحث المشرقية): اتفق الناس على أن الشاعر لو قال في رؤية الموجود مرارا كثيرا كان إيطاء وإعادة لعين المعنى الأول، واتفقوا على جواز تكرار اللفظ المشترك في الروى، باعتبار تعدد المعاني، فللشاعر أن يقول: زيد ذهبا، وانتقدت الذهبا، ولا يكون إيطاء، فدل على أن لفظ الوجود غير مشترك لما تقدم بيانه أنه موضوع لمعنى ذهني. تقرير قوله: (المقدمتين الباطلتين). معناه: أنا نمنع أن الألفاظ متناهية، والمعاني غير متناهية، ومستند المنع ما تقدم من أن الكل من باب واحد، إما أن يكونا غير متناهيين، أو متناهيين على اختلاف تفسير غير المتناهي، فهو يشير لما تقدم من السؤال. قوله: (المعاني التي لا تتناهى لا تخطر ببالهم). يريد لا يتصورون ما لا غاية له على التفصيل إذا فسر ما لا يتناهى بمسلوب النهاية، أما بالتفسير الآخر، وهو ما له غاية لا يجب الوقوف عندها، كما في نعيم أهل الجنة، ومقدورات الله تعالى فيمكن تصورهم له. تقرير قوله: (لا نسلم أن الألفاظ العامة ضرورية في اللغات). يؤيده أن اللغة قد تترك مثل هذا، وقد تقدم في أنه لا يجب أن يكون لكل

(قاعدة) المضاف للمعلوم ثلاثة أقسام

معنى لفظ، وأن لغة العرب تركت ألفاظا كثيرة أخذتها من الفرس، والفرس تركت ألفاظا كثيرة أخذتها من العرب على سبيل الاستعارة، فهو يؤيد هذا البحث. وقوله: (لا نسلم أن الوجود غير مشترك). يعني: بل هو مشترك عرض زائد، كالألوان والطعوم والروائح، فلفظه حينئذ متواطئ. (قاعدة) المضاف للمعلوم ثلاثة أقسام: قسم اتفق الناس على أنه زائد على المضاف إليه، كحركة زيد ولونه وعلمه. وقسم اتفق الناس على أنه غير زائد على المضاف إليه في الخارج، كذات زيد وماهيته وحقيقته، فذات الشيء نفسه في الخارج اتفاقا، فإن كان مدلول الذات يصدق على ذات السواد، وذات البياض، وجميع الذوات الممكنة وغيرها، فهو عام زائد في الذهن دون الخارج، وكذلك جميع ما ذكر معه. وقسم اختلف الناس فيه، هل هو من القسم الأول، أو من القسم الثاني؟ كوجود زيد، فهل هو نفسه كذاته، أو غيره كحركته؟ مذهبان، فالخصم فرع على أنه مثل ذاته غير زائد. والإمام منع على المذهب الآخر، والتزم أنه زائد عليه، كحركته ولونه. تقرير قوله: لم لا يجوز اشتراك الموجودات كلها في معنى عام؟ معناه: أن يكون لفظ الوجود موضوعا لنسبة وإضافة عامة، نحو كون الحقيقة قبالة العدم في خبر الوجود الذي هو زائد على الماهية، فعلى ما قاله يكون معنى

(تنبيه) زاد التبريزي بأنه قال: وقولهم: المتناهي إذا وزع على غير المتناهي لزم الاشتراك، هفوة

الوجود غير مسمى بهذه اللفظة، فإما أن يكون له لفظ آخر لا يعلمه، أو يكون لم يوضع لجواز خلو اللغة عن الوضع لبعض المعاني كما تقدم بيانه. (تنبيه) زاد التبريزي بأنه قال: وقولهم: المتناهي إذا وزع على غير المتناهي لزم الاشتراك، هفوة؛ لأن المتناهي لا يفي بغير المتناهي لا بالتعبير، ولا بالاشتراك، ثم معاني الألفاظ المشتركة لها أسام مفردة ليصح أن يقال: هذا اللفظ المشترك، واستغنت اللغة عن الاشتراك على أن في التركيبات أقساما مهملة، فلو كان وقوع الاشتراك لضرورة الإعواز لما أخلو بتلك التركيبات. بمعنى أن خنفشار وشيبصان وديز، ونحوها مركبات مهملة لم توضع لشيء، فلو كان الاشتراك لعدم ما يوضع لوضعت هذه الألفاظ. ويرد عليه في قوله: إن المتناهي إذا وزع على غير المتناهي لا يفي به، أن ذلك يتم له إذا كان الواضع هو الخالق؛ لأن وضع المخلوق فرع تصوره، وتصور دائما متناه. أما إذا فرضنا الواضع هو الله تعالى أمكن أن يضع لفظا واحدا لجميع المعلومات بمعنى يجعله علما عليه، ويخصه به بإرادته تعالى وعلمه المحيطين، ويكون هو سبحانه وتعالى عالما بذلك، ونحن يتعذر علينا علم ذلك، ولا يلزم من تعذر علمنا بالشيء عدمه في نفسه، وبهذا يتجه السؤال عليه في قوله: لابد لكل واحد من معاني اللفظ المشترك من أسام مفردة، بل نقول: لا يكفي لشيء منها البتة (غير) (1) ذلك اللفظ المشترك، وعلم الله تعالى كاف في ذلك، ومن أراد تعريفه من خلقه بذلك، خلق له علما ضروريا بأن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، فيعلم

ذلك المخلوق منا، ولا نعلم لذلك المعنى لفظا آخر غير ذلك اللفظ المشترك الذي وجد في نفسه العلم به. مثال لقوله: يطلق المشترك حتى لا يكذب، ولا يكذب بأن العلم أن زيدا اشترى دارا، وشك هل الثمن ذهبا أو ركية؟ فيقول: اشتراها بعين، فإن ظهر أنه (ذهب) (1) قال: هو الذي أردته بلفظ العين، أو ركية وهي عين الماء، قال: هي التي أردتها بلفظ العين، وهذا وإن كان حراما شرعا إلا أنه من أغراض الناس، وقد يباح أحيانا، أو يجب الكذب، والتمويه لسبب شرعي يقتضي ذلك من تخليص أحد من القتل، أو حفظ مال معصوم (2)، ثم الواضع، بل هذه أحكام تنشأ عن الشرائع، لا عن الوضع. تقرير لقوله: (المفاسد إنما تلتزم في الواضع الواحد، أما في القبيلتين فلا). معناه: أن هذه المفاسد تمنع الواضع أن يضع اللفظ مشتركا، وإحدى القبيلتين إنما وضعت اللفظ على أنه غير مشترك ووضعته القبيلة الأخرى على أنه غير مشترك، ثم شاع الوضعان، فلزم الاشتراك من (غير) قصد بين الطهر والحيض، بل هو موضوع للقدر المشترك بينهما، واختلف في تعيين ذلك المشترك على ثلاثة أقوال: أحدها: هو الجمع من قولك: قريت الماء في الحوض إذا جمعته فيه، والدم يجتمع في زمن الطهر في الجسد، وفي زمن الحيض في الرحم. وثانيها: هو الانتقال سمي قرءا لغة، والحائض تتنقل من الطهر للحيض، والطاهر تتنقل من الحيض للطهر.

المسألة الثانية: في أقسام اللفظ المشترك

وثالثها: الزمان تقول العرب: جاءت الريح لقرئها، أي لزمانها، والحيض له زمان، والطهر له زمان، فسمي قرءا لذلك. ومن ذلك التعزيز قيل: مشترك بين الإهانة والتعظيم، لقولنا: عزر الحاكم الجاني، فهو إهانة، وقوله تعالى:} لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا {(الفتح: 9)، أي: تعظموه، فهو ليس بمشترك حينئذ، قالوا: بل هو متواطئ للقدر المشترك بين الموضعين (وهو المنع) (1) فتعزيز الجناة يمنعهم من العود للجنايات، وتعزيز رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه من أعدائه ن جميع المكاره، ومن ذلك العسعسة في قوله تعالى:} والليل إذا عسعس {(التكوير: 17)، قالوا: هو مشترك بين أول الليل وآخره. قال النفاة للاشتراك: بل هو متواطئ للقدر المشترك بينهما، وهو اختلاط الظلام بالضياء، وعلى هذا النحو جروا في جميع المشتركات من الألفاظ. المسألة الثانية: في أقسام اللفظ المشترك: قوله: مثل تسميته الخاص باسم العام، مثاله: تسمية الإنسان بالحيوان، فإن الحيوان جزء الإنسان، فيصير اللفظ مشتركا بين الجزء والكل، وأما تمثيله بالإمكان، إذا قيل لغير الممتنع ولغير الضروري، فإن غير الممتنع يشمل الواجب والممكن، وغير الضروري هو الممكن، فلذلك قال: إن غير الممتنع أعم من غير الضروري لصدقه على غير الضروري الذي هو الممكن، وعلى الضروري الذي هو الواجب، وإذا اعتبرت هذا اللفظ بالنسبة إلى الإنسان وحده في المثال السابق كان مشتركا أيضا؛ لأنه يصدق على جزئه وكله.

قوله: (وإذا لم يكن أحدهما جزء الآخر، فلابد وأن يكون صفة) ممنوع؛ لأن التقسيم وقع فيها إذا كان بينهما تعلق، والتعلق قد يكون بالجزئية وبالصفة وبالشرطية والعلية والمانعية، أو يكون جزء علة أو شرطه أو مانعه، فلو وضع لفظ الشمس لسخونة الماء الناشيء عن الشمس كان مشتركا، وبينهما تعلق، وليس السخونة الحاصلة للماء صفة للشمس، وبقية النظائر كثيرة لا يعسر التمثيل بها. قوله: (المشترك بين الشيء وعدمه لا يفيد إلا التردد بين النفي، والإثبات المعلوم لكل أحد) ممنوع، بل يفيد استحضار السامع ذينك النقيضين، فإنه ليس من لوازم الإنسان أن يكون كل نقيضين حاصلين بباله. وثانيهما: يفيد أنه أحد هذين النقيضين مراد المتكلم، وهذا لم يكن عند السامع قبل ذلك. وثالثهما: أنه يفيد تعيين المراد، وحصول المقصود إذا اقترنت به قرينة ضعيفة لو انفردت لم يفد تعين المراد، والمجموع المركب منها، ومن اللفظ المشترك يفيد تعين المراد، فقد صار ما ليس مفيدا بسبب وضع هذا اللفظ المشترك، وهي فائدة جليلة، ثم ينتقض ما ذكره بلفظ القرء للحيض والطهر، وهو عدم الدم، فهما نقيضان. وأجيب عن الأخير بأنه عدم الدم عمن شأنها أن تحيض، وعلى هذا يكون ضدا لا نقيضا، ويبنى على هذا التردد هل بنت المهد طاهر أم لا؟ فعلى توجه المنع لا تسمى حائضا ولا طاهرا، كما لا يسمى (الخراز) (1) لا بصيرا ولا أعمى ولا سميعا، ولا أصم لعدم قبوله لذلك (2).

(سؤال) قال سراج الدين: منع الوضع للنقيضين لأجل العبث ... إلخ

(سؤال) قال سراج الدين: منع الوضع للنقيضين لأجل العبث، إنما يمنع من الواضع الواحد، أما من قبيلتين فلا، لعدم استشعار كل واحدة منهما هذه المفسدة، كما تقدم في مفاسد الاشتراك. (تنبيه) زاد التبريزي: قد يكون للضدين كالجون للأسود والأبيض، والناهل للريان والعطشان، وبين المختلفات كالعين والشيء، ووصفه نحو: تأبط شرا إذا تأبط شرا. وبين الفاعل والمفعول كالمختار يقال للذي اختار الثوب: مختار، وللثوب أيضا مختار، والمختص والمعتد يقال لزيد الذي اختص بعمرو ولعمرو المختص، وللذي اعتد بالدين، وللمعتد به، وقد يكون في التركيب، وقد يكون في الحروف، ويجوز للشيء وعدمه، وكيف تستقيم حجة المصنف على نفيه مع قوله: الكلام لم يوضع لإفادة المعاني المفردة بالألفاظ المفردة؟ بل وضع لأجل نسبة بعضها لبعض، وكيف يمكن أن يقال للمشترك بين النفي والإثبات: يفيد التردد بينهما، فإنه تصديق، والمفرد لا يفيد التصديق، ولو كان معينا لا مشتركا، نعم اللفظ يفيد بذكر مسماه، فإن كان متعينا عرفنا أنه المراد، أو مشتركا ترددنا في مراده لشمول صلاحية اللفظ، وعدم التعيين، وهو غير التردد في ثبوت المسمى وانتفائه، على أن دليله مقوض بكل لفظ مفرد، أو مركب وضع للأوليات، أو لمعنيين متضادين على التقابل. تقرير قوله: قد يكون في المركب. مثاله: قول العرب: خرج زيد وأبوه مسافر، هذا التركيب في الجملة الثانية وضعته العرب ليكون حالا من زيد، وتكون الجملة في (موضع) نصب؛ وليكون إخبارا لا تعلق له بالأول، وإما يعلم ذلك بالقرائن، وكذلك زيد في الدار جالس، وضعت العرب الجار والمجرور في هذا

المسألة الثالثة: في سبب وقوع الاشتراك

التركيب ليكون خبرا عن المبتدأ؛ وليكون في موضع نصب على الحال، وليكون متعلقا بجالس لا موضع له من الإعراب. وفي الحروف نحو (الواو) للقسم والعطف، وهو كثير. ومعنى قوله: (كيف يجتمع دليله؟) مع قاعدته: أن العرب لم تضع لإفادة المعاني المفردة أن التردد إنما يحصل بين مسميات الألفاظ، والنقيضان مفردان، فلا يفيدهما اللفظ على قاعدته، ويرد عليه أن الإمام إنما ادعى التردد حالة التركيب إذا قلنا: هند ذات قرء مثلا نسب إليها الدم أو عدمه، فما أفاد إلا التردد بين نسبتين بين النقيضين. وكذلك قوله: التردد تصديق، وهو لا يفيده المفرد، إنما أراد الإمام التردد حالة التركيب، لا باللفظ المفرد وحده، كما في قولنا: هند في قرئها. ومعنى قوله: وضع للأوليات، أو المتضادين على التقابل: أن الموضوع للبديهات من التصورات نحو: الحرارة والبرودة والجوع والعطش، وجميع أحوال النفس الوجدانية هي معلومة بالضرورة، فما لزم من كونها حاصلة بالعقل عدم الوضع لها، فكذلك التردد يون حاصلا بالعقل ويوضع له. وكذلك كل أحد يعلم أن الجسم إما متحرك، أو ساكن، أو حي أو ميت، أو عالم أو جاهل، مجتمع مع غيره أو مفترق، وكل ضدين لا ثالث لهما، العقل يعلم أن الواقع أحدهما لا بعينه، فالتردد الذي بين النقيضين حاصل في التردد الذي بين الضدين اللذين لا ثالث لهما. المسألة الثالثة: في سبب وقوع الاشتراك: قوله: (يعرف الاشتراك بالضرورة بأن يعلم (1) تصريح أهل اللغة به). يريد بأهل اللغة العلماء المتصدين لضبط اللغة، كالخليل والأصمعي ونحوهما، لا واضع اللغة؛ فإن ذلك لم يظفر به أحد، بل هو مجهول كما تقدم في الخلاف في أن اللغات توقيفية أم لا؟

وقوله: (إذا وجدت الطرق الدالة على أن اللفظ حقيقة في معناه في لفظ واحد بالنسبة إلى معنيين، دل على الاشتراك) لا يتم له ذلك في كل تلك الطرق، فيتم له مثل تعذر السلب يدل على الحقيقة، وإمكانه يدل على المجاز، كمن رأى حيوانا مفترسا، فقال: رأيت أسدا لا يمكن أن يقال: ما رأى أسدا، وإن عبر بذلك عن زيد الشجاع أمكن أن يقال: ما رأى أسدا، بهذا يتم له في المشترك؛ فإنه لا يمكن أن يقال في الحدقة: إنها ليست بعين إلا أن يراد العين بمعنى الذهب ونحو ذلك، أما بمعنى الحدقة فلا، ومن أدلة الحقيقة تجريدها عند الاستعمال عن القرينة، فإذا أرادوا استعمال اللفظ في حقيقته في الأسد لم يأتوا بقرينة، أو في الرجل الشجاع أتوا بقرينة، فيكون ذلك دليل المجاز، هذا لا يتم له في المشترك؛ لأنه لا يستعمل إلا مع القرينة كالمجاز، وقد يقصد الإلغاز فيهما، فلا يؤتى بالقرينة فيهما، فهما سواء في ذلك. قوله: (سنبين أن الاستفهام لا يدل على الاشتراك). معناه: أن الاستفهام كما يكون لطلب الفهم في المجملات يكون في النصوص أيضا التي لا إجمال فيها لمقاصد: أحدها: حب السامع لذلك المعنى، كما تقول لزيد: بعث لك السلطان بألف دينار، فتقول: بألف دينار يكرر ذلك لشدة فرحه به. وثانيها: شدة كراهية السامع لذلك المعنى، كقولك له: طلب السلطان منك ألف دينار، فيقول لك: ألف دينار ألف دينار، فيكرر ذلك رجاء أن يفسر بتفسير أقل من ذلك، مع أن لفظ الألف نص لا يحتمل المجاز، فضلا عن كونه مجملا. وثالثها: استعباد السامع ذلك المعنى، كمن قال: حفظت البارحة

المسألة الرابعة: لا يجوز استعمال المشترك في معانيه

(ألف) (1) ورقة، فيكرر ذلك رجاء أن يكذب نفسه، أو يفسر الحفظ بمنعها من الضياع، أو غير ذلك. ورابعها: رفع احتمال المجاز البعيد، فإن اللفظ وإن كان ظاهرا، إلا أنه يحتمل المجاز (البعيد) (2) كمن دخل داري فاقتله، فتقول له: أتريد أقاربك وأصدقاءك؟. وخامسها: كون السامع يعلم أن المتكلم كثير الكذب، فيأتي باللفظ النص، فيستفهمه السامع رجاء أن يظهر له صدقة، أم الاستعمال فلا يدل على الاشتراك؛ لأنه كما يقع بين المعنيين في اللفظ المشترك يقع بين المجاز والحقيقة، والمجاز مقدم على الاشتراك، فلا يدل الاستعمال على الاشتراك لتقدم المجاز عليه. المسألة الرابعة: لا يجوز استعمال المشترك في معانيه على الجمع، هذه عبارته. وقال الشيخ سيف الدين: اللفظة الواحدة من متكلم واحد في وقت واحد، إذا كانت مشتركة بين معنيين، أو حقيقة في أحدهما، مجازا في الآخر، ولم تكن الفائدة فيهما واحدة، هل يجوز أن يراد بها كلا المعنيين؟ خلاف، وهذه العبارة أضبط للمسألة من كلام المصنف؛ لأنه أطلق. وانعقد الإجماع على أن اللفظ المشترك المفرد يجوز استعماله في معانيه، في أزمنة عدة، وفي إطلاقات عدة (ومن متكلمين عدة) (2)، ولذلك

غلطنا من استدل من الحنفية على أن المراد بآية العدة الحيض، لقوله عليه الصلاة والسلام: (دعى الصلاة أيام أقرائك) (1).

فقد صرح- عليه السلام- بأن الصلاة تترك في القرء، فدل على أن المراد به الحيض، فيكون المراد بآية العدة الحيض، وهذا غلط؛ لأن المتكلم الواحد إذا قال: رأيت عينا، وقال عقبيها: وبعت عينا، فإنه يجوز أن يريد بالعين الأولى الباصرة، وبالثانية الفوارة. ولا يجوز أن يستدل أنه أراد في المرة الثانية الفوارة أنه أراد بإطلاقه الأول الفوارة، هذا إذا كان المتكلم واحدا، فكيف والآية قرآن، والحديث سنة؟ فيندرج إطلاق اللفظ المفرد مرات في كلام المصنف، وهو لا خلاف فيه، ولا يندرج في عبارة سيف الدين (1)، ثم قول سيف الدين: أو حقيقة ومجازا ليعلمنا أن النزاع كما هو في الجمع بين الحقيقتين، فهو في الجمع بين الحقيقة والمجاز، وبين مجازين. وقد صرح الإمام بهذا القسم الثالث في المسألة السادسة بعد هذه، إذا دل الدليل على أن الحقائق غير مرادة، والمجازات مستوية، وحقائقها مستوية، أن الحمل على جميع المجازات يتخرج على استعمال المشترك في مفهوميه، على ما سيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى، ونص على الثلاثة أبو الحسين في كتاب (المعتمد)، واختار المنع. وقوله: (ولم تكن الفائدة فيهما واحدة). يريد أن المستعمل قد يجمع بين حقيقتين، أو حقيقة ومجاز لمعنى عام اشتراكا فيه، يريد ذلك المشترك دون خصوص كل واحد منها، فهذا مجمع عليه، فيتعين إخراجه من الموطن الذي يحكى فيه الخلاف. قوله: (منهم من منع منه لأمر يرجع إلى القصد). قال سيف الدين: لهم شبهات ثلاث:

الأولى: أن المستعمل إذا استعمل في الحقيقة يكون مستعملا في موضوعه، وباعتبار كونه مستعملا في مجازه لا يكون مستعملا في موضوعه، فيكون في الموضوع، لا في الموضوع، وهو جمع بين النقيضين، وكذلك باعتبار كونه مستعملا للمشترك في المفهوم الآخر، لا يكون مستعملا في الأول، وقد كان مستعملا فيه، فيجتمع النقيضان. (الثانية: أن استعماله في المجاز يقتضي إضمار (كاف) التشبيه، وفي الحقيقة لا يقتضي ذلك، فتكون (كاف) التشبيه مضمرا لا مضمرا، فيجتمع النقيضان) (1). الثالثة: استعماله في المجموع يقتضي عدم الاكتفاء بأحدهما، واستعماله في أحد المفردات نقيض الاكتفاء به، فيلزم أن يحصل الاكتفاء بالمفرد وحده، وألا يحصل، وهو جمع بين النقيضين. والجواب عن الأولى: أن اجتماع النقيضين باعتبار إضافتين ليس بمحال، فهو من جهة أحدهما في الموضوع، ومن جهة الآخر ليس في الموضوع، فهما جهتان، كما قلنا: زيد أبو عمرو، وليس أبا خالد، فهو أب، وليس أبا، ولا تناقض، وهو الجواب عن الثانية، فتضمر (الكاف)، ولا تضمر باعتبار شيئين. وعن الثالثة: ما سيأتي في الجواب عن نكتة الإمام. وقال صاحب (المعتمد) (2): في الإرادة معنى آخر، فقال: استعمال صيغة الأمر إذا استعملت في الطلب تقتضي إرادة الفعل، وفي التهديد تقتضي كراهيته، فيكون مريدا للضدين، بناء على أصله أن الصيغة تدل على إرادة

قاعدة: المجاز ثلاثة أقسام

المأمور، دون كلام النفس، ثم إن هذا المانع لا يعم جميع الصور، فإن إرادة الاعتداد بالطهر والحيض، وتحريم الموطوءة والمعقود عليها على الأبناء لا يقتضي ذلك، وهو كثير. قوله: ومنهم من منعه لأمر يرجع إلى الوضع. (قاعدة) إن المجاز ثلاثة أقسام: قسم اتفق الناس جوازه، وهو ما قربت علاقته، واتحد مجمله أعنى لم يجمع فيه بين مجازين. وقسم اتفق الناس على منعه، وهو مجاز التعقيد، وهو ما بعدت علاقته، كقول القائل: تزوجت بنت الأمير، ويفسر ذلك باجتماعه بوالد عاقد الأنكحة بالمدينة، معتمدا على أن زواج بنت الأمير من لوازمه في العقد؛ لأنه سببه المبيح ومن لوازم العقد العاقد؛ لأنه فاعله ومن لوازم العاقد أبوه؛ لأنه والده، فلأجل هذه الملازمات يجوز، وهذه علاقة بعيدة لا تجيزها العرب، واتفق الناس على منعه. وقسم اختلف الناس فيه، وهو الجمع بين حقيقتين، أو مجازين، أو مجاز وحقيقة، فإن الجمع بين حقيقتين مجاز؛ لأنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له، فهذه الثلاثة أنواع من المجاز، ومن الناس من منعها بناء على أن العرب لم تجزها. ومن الناس من أجازها بناء على أن العرب أجازتها، واستعمالات الكتاب والسنة، وكلام العرب يحكم بين الفريقين، فهذا تقرير الطريقين في المنع. قوله: (إن لم يضعه للمجموع امتنع استعماله في المجموع) مصادرة على مذهب الخصم، فإن الخصم يقول: هذا من المجاز الجائز، فيجوز على

تقدير عدم الوضع، فادعاؤه المنع مصادرة على مذهب الخصم بغير دليل، وهذا أول المسألة، هل يجوز هذا أم لا؟ قوله: استعمال اللفظ في إفادة المفردين يقتضي الاكتفاء بكل واحد منهما، واستعماله في المجموع يقتضي أن الاكتفاء يحصل بكل واحد من المفردين، فيجتمع النقيضان. عليه ثلاثة أسئلة: الأول: أن قوله: الاكتفاء به، وعدم الاكتفاء إنما يتأتى في الأوامر، والنزاع في هذه المسألة لا يختص بالأوامر، بل في مطلق الاستعمال الذي يشمل الأمر والنهي، والخبر في الثبوت، والخبر في النفي، والتخصيص في الجواب، أو الدليل مع عموم الدعوى لا يصح. الثاني: يتعين بمقتضى السؤال الأول أن يفسر المسألة بما يشمل جميع صورها الأربعة، وهو إضافة الحكم الذي يشمل الأمر والنهي، وخبر الثبوت، وخبر النفي، ونقول: الاستعمال له تفسيران: تفسير أعم، وتفسير أخص، فالتفسير الأخص أن استعمال اللفظ معناه: أن الحكم مضاف للمستعمل فيه، ومسكوت عن غيره، والتفسير الأعم أنه مضاف إليه مع السكوت عن غيره، والنكتة إنما تتم على تقدير تفسير الاستعمال بالمعنى الأخص، حتى يكون استعمال اللفظ في المفرد. معناه: أنه مطلوب وغيره غير مطلوب (وقد كان مطلوبا) من جهة طلب المجموع، فيكون مطلوبا وغير مطلوب، فيجتمع النقيضان، وهذا هو معنى قوله: يحصل الاكتفاء به أن غيره غير مطلوب. وإذا تقرر أن النكتة إنما تتم على تقدير (تفسير) (1) الاستعمال بالمعنى

الأخص، فحينئذ نقول: التفسير الأخص باطل قطعا؛ لأنه لو صح فإذا أوجب الشرع الصلاة أو الإسلام، فيكون معناه أنها واجبة، وغيرها غير واجب، فإذا أوجب بعد ذلك الصوم، أو غيره يكون ذلك ناسخا، أو معارضا لما تقدم من الدليل الدال على وجوب الصلاة، ويكون كل نص يأتي بالثبوت يناقض ما تقدمه؛ لأنه تقدم نفيه، وهو باطل إجماعا. وإذا قال القائل: زيد موجود، يقتضي أن غيره غير موجود، أو أنا مسافر معناه: وليس في العالم مسافر غيري أو أنا عطشان معناه: وليس في العالم عطشان غيري، وهو باطل بالضرورة، وأن العرب لا تقصد مثل هذا، فضلا عن أن يكون ذلك تفسيرا استعمالها لألفاظها، وإذا ظهر بطلان التفسير الأخص تعين أن يكون مفسرا بالمعنى الأعم، وهو أن الخبر مطلوب، وغيره مسكوت عنه، ولا تناقض بين كونه مطلوبا من جهة طلب المجموع، وكونه مسكوتا عنه من جهة استعمال اللفظ في الفرد الآخر فإن السكوت عن الطلب ليس تصريحا بعدم الطلب، ففرق بين عدم الدلالة، وبين الدلالة على العدم. والتناقض إنما يأتي من الثاني دون الأول. الثالث: سلمنا تفسير الاستعمال بالمعنى الأخص، ومع ذلك فلا يحصل مقصود الإمام، وذلك أن موارد الاستعمال أربعة كما تقدم فيحصل مقصوده في الأمر، وخبر الثبوت، دون خبر النفي والنهي؛ لأن الأمر بالمجموع أمر بأجزائه، والخبر عن ثبوت المجموع خبر عن ثبوت أجزائه، فيلزم حصول حكم المجموع في أجزائه طلبا أو خبرا، والنهي عن المجموع ليس نهيا عن أجزائه، فإذا حرم الله تعالى الظهر خمس ركعات لا يلزم أن يحرم جميع ركعات الخمس، بل يكفي في النهي عن المجموع ترك جزء منه، أي جزء كان، ويخرج عن عهدة النهي، ولذلك حرم الله تعالى

مجموع الأختين، ومجموع المرأة وبنتها، وخرجنا عن عهدة ذلك النهي بترك إحديهما، وكذلك الخبر عن النفي يكفي فيه نفي جزء من ذلك المجموع. فإذا قلنا: ليس عنده نصاب صدق ذلك بنفي دينارين من النصاب؟ إذا تقرر هذا فنقول: النهي عن المجموع يقتضي أن يخرج عن عهدة النهي بترك جزء لا بعينه لا يتعين له جزء معين، واستعمال لفظ النهي في أحد الأجزاء عينا يقتضي أن يكون ذلك الجزء الذي استعمل اللفظ فيه منهيا عنه، وغيره غير منهى عنه، فيكون الجزء الآخر غير منهى عنه، ولم يثبت له أنه منهى عنه من جهة النهى عن المجموع، فلم يوجد إلا أحد النقيضين، وهو كونه غير منهى عنه، أما منهى عنه فلا، وكذلك استعمال اللفظ في الجزء الآخر يقتضي أنه منهى عنه، وهذا الجزء غير منهى عنه، ولم يكن هذا الجزء منهيا عنه من جهة النهى عن المجموع، فلم يجتمع النقيضان، وكذلك في خبر النفي، إذا أخبر عن نفي المجموع يكون منفيا لجزء منه غير معين، ويكون استعمال اللفظ في أحد الفردين معناه: أنه منفي، وغيره غير منفي، فيكون الجزء الآخر غير منفي، وإن لم يكن منفيا من جهة نفي المجموع، فلم يجتمع فيه النقيضان، وكذلك استعمال اللفظ في الآخر كما تقدم في النهي، فعلمنا حينئذ أن نكتته لا تتم، وإن فسرنا الاستعمال بالمعنى الأخص إلا في قسمين، ويبطل في قسمين، ومتى كانت الدعوى عامة، والدليل خاص لا يسمع ذلك الدليل، كمن قال: الحيوان كله حرام؛ لأن الخنزير، حرام، أو العدد كله زوج؛ لأن العشرة زوج، فلا يتم ذلك في شرع الاستدلال. فإن قلت: بل اجتماع النقيضين على هذا التقدير في هذين القسمين حاصل؛ لأن المجموع إذا كان منهيا عنه، وغيره غير منهى عنه، ومن جملة اعتباره ذلك الجزء، وذلك الجزء الآخر، فيكون كل واحد منهما غير منهى عنه.

ومن جهة استعمال اللفظ في كل واحد منهما يكون منهيا عنه، فيجتمع فيه أنه منهى عنه، وغير منهى عنه، وهو جمع بين النقيضين. وكذلك إذا استعمل اللفظ في أحد الجزئين كان منهيا عنه، والجزء الآخر غير منهى عنه، فثبت له عدم النهي من هذا الوجه، ومن جهة استعمال اللفظ فيه يكون منهيا (عنه) (1)، فيجتمع فيه النقيضان، وكذلك القول في خبر النفي، فعلمنا أن الجمع بين النقيضين لازم أيضا على هذا التقدير في هذين القسمين، كما هو لازم في الأمر، وخبر الثبوت. قلت: ما ذكرته مسلم، غير أن المقصود إنما هو إبطال اجتماع النقيضين من جهة استعمال اللفظ في المجموع، ومن جهة استعمال اللفظ في أحد الجزءين، وكون أحد النقيضين يحصل من جهة استعمال اللفظ في المجمع، والنقيض الآخر من استعمال اللفظ في الجزء الذي يقابله، فثبت أن هذه المقدمة بما هي هذه المقدمة لا تتم. أما أن النقيضين يجتمعان بطريق آخر فلا أمنعه، لكن المصنف لم يدعه، إنما ادعى تلك المقدمة فقط، فكان الإيراد عليها أسئلة خمس: الأول: قال سراج الدين: النزاع في استعماله في كل واحد من المفهومات، لا في كلها، وبينهما فرق بمعنى أن المحال إنما ينشأ من الاستعمال في المجموع من حيث هو مجموع، والنزاع إنما هو في كل فرد فرد على حياله، لا في مجموعهما، فمحل النزاع كلية، والمحال إنما نشأ عن الكل، والفرق بين الكلية والكل ما تقدم في دلالة اللفظ. الثاني: قال: استعمال اللفظ في المعنى لا يوجب الاكتفاء به مع استعماله في غيره معه، كاستعمال العام في كل واحد واحد من أفراده، وأفراد أنواعه.

الثالث: قال: المحال المذكور يلزم من استعماله في كل واحد من الفردين، فلا حاجة إلى المقدمة الأولى، يعنى بالمقدمة وضع اللفظ للمجموع، واستعماله فيه؛ لأن استعمال اللفظ في أحد المفردين يوجب أن الآخر غير مطلوب، (وفي المفرد الآخر يقتضي أن الأول غير مطلوب، فيكون كل واحد منهما مطلوبا، وغير مطلوب) (1). الرابع: قال: إن عنى بالوضع ما يعم الحقيقة والمجاز، لم يلزم من استعمال اللفظ في جميع معانيه استعماله في المجموع، وإن عنى به المختص بالحقيقة لا يلزم من عدم الوضع له عدم جواز استعماله فيه، يعنى: إن أراد أنه موضوع للمجموع (بطريق المجاز) لا يكون من جملة معاني اللفظ لأن معنى اللفظ إنما يتناول المسمى بطريق الحقيقة، فلا يلزم الاستعمال (فيه) (1)، وإن عنى بالوضع الحقيقة لا يلزم من عدم الوضع بهذا التفسير عدم جواز الاستعمال بطريق المجاز؛ لأنه عند الخصم مجاز جائز. الخامس: قال الشيخ تقي الدين: أصل هذه المسألة يشكل الخلاف فيها بما أجمعوا عليه من جموع الأعلام، نحو الزيدين، ولفظ العلم مشترك قطعا لوضعه للمختلفات، وإذا جمع أريد جميع تلك المختلفات، وكذلك التثنية فقد استعمل اللفظ المشترك في الاثنين من مسمياته، وفي جميع مسمياته، وهي صورة النزاع، ولا خلاف فيه، فيكون حجة لمن أراد أجاز على من منع. والجواب عن الأول: أن البحث في الكل من حيث هو كل إنما نشأ من الترديد في أنه وضع للكل أم لا؟ فلما فرضنا أنه وضع للكل صار الكل أحد المسميات، ولزم من عموم الاستعمال في الجموع، والمفردات اجتماع النقيضين

وأيضا فقد يكون لفظ في اللغة موضوعا للمفردات والجموع، فيكون محل النزاع في المفردات والجموع؛ لأنه بعض مفردات اللفظ، فما ذكره الإمام لا ينافي محل النزاع، بل هو يعضه. وعن الثاني: أن مسمى العام شيء واحد، وهو القادر المشترك بين أفراده، بقيد يتبعه في محاله بحكمه على ما يأتي بسطه في العموم إن شاء الله تعالى، فالعام إنما استعمل في معنى واحد، فليس هو نظير المشترك؛ لأن مسمياته متباينة، بل منع الاكتفاء صحيح كما تقدم، أما التشبيه بالعموم فلا. وعن الثالث: أن المحال إذا كفى فيه مقدمات، وألزم ذلك المحال بمقدمات أخرى لا يقدح ذلك في إثبات الدعوى، فإن اللازم للمستدل إثبات دعواه بطرق، أما أنه يمكنه اختصاره، أو العدول عنه إلى غيره، فليس ذلك من الأسئلة المتوجهة من أن تلك المقدمة أدى إليها الغرض والبحث في الترديد، لا أنه قصدها ابتداء. (وعن الرابع: أنه سؤال صحيح، وقد تقدم أنه مصادرة، لكن هذا التقدير فيه ترديد، وذلك لا ترديد فيه) (1). وعن الخامس: أن الأعلام إذا جمعت ذهبت العملية عنها، ولذلك قال النحاة: يجب تعريف تثنية العلم وجمعه بالألف واللام ليخلف عليه بتعريف اللام ما ذهب عنه من تعريف العلمية، فلا يجوز أن تقول جاءني زيدون، بل الزيدون، فإذا ذهبت العلمية بسبب التثنية والجمع لم يبق إلا كونه مسمى باسم زيد، فيكون نكرة متواطئا بمعنى واحد لا مشتركا، بل يصير كالصالحين والمؤمنين، فلا حجة فيه للمجوزين، بخلاف إذا استعمل المشترك في

معانيه، كل واحد منها باق على خصوصه، حتى لو قصد إلى معنى عام بين أفراده كان مجازا جائزا إجماعا، وقد تقدمت الإشارة إليه في كلام سيف الدين. قوله: (الصلاة من الله رحمة). هذه العبارة لا يكاد يوجد للفضلاء والعلماء غيرها، وهي مشكلة؛ فإن الدعاء إذا كان محالا على الله تعالى يتعين صرفه لمجازه الجائز على الله تعالى وتفسيره به، والرحمة حقيقتها رقة الطبع، فهي أيضا مستحيلة على الله تعالى فتفسير المستحيل بالمستحيل غير لائق، ويصير كما إذا قيل لنا: ما معنى قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في سنة أيام ثم استوى على العرش) (الأعراف: 54). فنقول: معناه: جلس، وإذا كان لابد من ذكر مستحيل يحتاج إلى تأويل، فيخلى اللفظ محتاجة للتأويل الأول على حاله، ولا حاجة إلى التطويل، فكذلك هاهنا الرحمة محتاجة للتأويل كالدعاء، فيقتصر على لفظ الدعاء والصلاة، ولا حاجة إلى تفسيرها، بل كان ينبغي أن يذكر المجاز على الله تعالى فيقال: الدعاء من الله تعالى معناه الإحسان، وهو جائز على الله تعالى. قوله: (ومن الملائكة استغفار) يوهم أن هذا متعين في حقهم، بل لو قال: الدعاء من الملائكة باق على حقيقته كان أصوب، وإنما بعثه على ذلك أن الدعاء المحكى عن الملائكة في الكتاب العزيز هو الاستغفار في قوله تعالى: (تكاد السموات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم) (الشورى: 5).

ومع ذلك فقد حكى الله تعالى عنهم قولهم: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم، ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) (غافر: 7 8)، فهذه أدعية متنوعة ليس الاقتصار على الاستغفار واقعا. قوله: (أراد بهذه اللفظة المعنيين) ممنوع، بل الخبر الأول مضمر، تقديره أن الله تعالى يصلى، والملائكة يصلون، فالمضمر يستعمل في معنى، والمنطوق به في معنى آخر. سلمنا أنه مستعمل في المعنيين، لكن أحدهما حقيقة، والآخر مجاز؛ لأن لفظ الصلاة لم يوضع للإحسان، بل هو سببه فهو من باب إطلاق السبب على المسبب، والدعوى استعمال المشترك في معانيه. فإن قلت: إنما حسن الاستدلال بمثل هذا؛ لأن محل النزاع في الحقيقتين يعتقد أن اللفظ كما وضع للمفردين وضع للمجموع، فجعله من باب المشترك لا بما ذكرته، فلا نجيب عنه بأنه أراد ما صرح بخلافه. سلمنا أنه حقيقة في الرحمة، كما قال الغزالي في (المستصفى) فلم لا يجوز أن يكون استعمل في معنى مشترك بينهما؟ وهو تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو معنى واحد مجاز مفرد متفق عليه، وحمل كتاب الله تعالى على المتفق عليه أولى من حمله على المختلف فيه من استعمال المشترك في مفهوميه.

قوله: (أراد بالسجود هاهنا الخشوع؛ لأنه المتصور من الذوات). قلنا: هذا يفهم في عرف الاستعمال أن المراد الخوف والخشية؛ لأنه المفهوم من خشوع قلوب العباد في الصلاة وغيرها، وذلك متعذر من الجبال والشجر، والكل مراد بمعنى واحد، بل المراد هاهنا بالخشوع الانقياد لقدرة الله تعالى بالتأثير فيها جحدت ذلك أو آمنت به، جهلت أو علمت، فالدهر تتصرف فيه قدرة الله تعالى قهرا، وإن كان غير مأمور بذلك، ولا عالم به، وكذلك الشجر والجبال تتصرف فيها قدرة الله تعالى قهرا وإن لم يكن لها شعور بذلك، فهذا هو الخشوع، وهو مسماه اللغوي. كما قال الشاعر (الطويل): ترى الأكم فيها سجدا للحوافر يصف جيشا عظيما مر على الآكام، وهي المواضع المرتفعة من الأرض، وشأن ذلك في العادة أنها تتهدد، وتذهب وتنقاد للحوافر بالسجود والسحق والهد والمحق. قوله: (أراد بالسجود المعنيين). قلنا: لا تسلم، بل يأتي سؤال الإضمار، ويكون التقدير: ويسجد له كثير من الناس، فصدق لدلالة الأول عليه كما حذف الخبر في الآية الأولى لدلالة الآخر عليه عكس هذه، ولا يأتي سؤال الغزالي في أنه مستعمل في معنى عام، وهو الدلالة على تعظيم الله تعالى لأن الدلالة لا تختص ببعض الناس، بل الجميع البار والفاجر، يدل وجوده على وجود الله تعالى وصفاته العلا، فالتنصيص يقتضي تغاير المعنى، غير أنه مجاز في وضع الجبهة على الأرض ويأتي السؤال السابق.

قوله: (إذا كانت المرأة من أهل الاجتهاد أراد الله تعالى منها الاعتداد بكل واحد منهما بدلا عن الآخر). قلنا: ليس هذا من صورة النزاع، إنما صورة النزاع في استعمال اللفظ المشترك على سبيل الجمع، وهاهنا إنما أراد أحدهما لا بعينه على ما يؤدي إليه اجتهادها فلا جمع، ولو صح هذا الدليل لكان المجوز أقوى منه، وهو أن الله تعالى أراد من كل مجتهد أن يعتقد أن مراده إما الحيض، وإما الطهر، وقد وقع القولان في علماء الأمة، فيكون الله تعالى قد استعمل لفظ الأقراء في المجموع بالإجماع؛ لأن كل طائفة قالت بأن الله تعالى أراد أحدهما. قالت الحنفية: الحيض. وقالت غيرها: الطهر، وكلاهما حكم الله صحيح مقرر في الشريعة، فيكون الله تعالى أرادهما على هذا التقدير. قوله: قال سيبويه: القائل لغيره: الويل لك دعاء وخبر، جعله مقيدا للأمرين. قلنا: قوله: دعاء وخبر لم يقل: موضوع لهما، بل معناه يستعمل في الخبر تارة، وفي الدعاء أخرى، وكذلك: (سلام عليكم) (الرعد: 24) دعاء وخبر على هذا المعنى، بل الخبر ضد الدعاء، فلا يجتمع معه. بيانه: أن الخبر لا يكون إلا عما يعتقد حصوله، والدعاء لا يكون بمعلوم الحصول، فلا يجوز أن يقال: اللهم اجعل الأرض تحتا والسماء فوقا، ولا اللهم لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، لقوله عليه السلام (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). وكذلك كل ما هو من هذا الباب، فحينئذ هما ضدان، والضدان لا

يجمع بينهما في محل واحد. إذا تقرر هذا قال أرباب علم البيان: إن أصل الدعاء صيغة الأمر، فتقول: اللهم اغفر لنا، هذه هو الحقيقة، ثم يستعار لفظ المستقبل للدعاء مجازا، إلا أنه خبر، والخبر متعلقة واقع متقرر، يستعار للدعاء على سبيل التفاؤل بالوقوع، فهذا في الرتبة الثانية، والرتبة الثالثة أن يقال: غفر الله لنا، فيكون أبلغ من المضارع؛ لأن الماضي دخل مسماه في الوجود بخلاف المضارع، وهو وإن كان خبرا مجزوما بوقوع متعلقة، غير أنه لم يدخل الوجود، فتكون استعارة الماضي أبلغ من استعارة المضارع في معنى التفاؤل، وفي الأحوال كلها لم يخبر عن وقوع المغفرة، بل مقصودنا الطلب لما لا نعلم وقوعه، فكذلك ويل له، أصله الخبر، ويستعار للدعاء تفاؤلا، ووقت الاستعارة لا يكون خبرا، بل دعاء، ووقت عدم الاستعارة يكون خبرا، ولا يكون دعاء، فما اجتمع في الاستعمال. قال القاضي تاج الدين رحمه الله: الدعاء والخبر لا يكونان إلا في المركبات، والنزاع إنما وقع في الاشتراك في المفردات، فكيف يحسن الاستدلال بالمركبات، وهذا السؤال يتم إذا قلنا: إن العرب ما وضعت المركبات على رأي المصنف؛ لأنه جعل المجاز المركب عقليا، فيرد عليه السؤال التزاما. أما إذا قلنا: وضعتها على ما هو الحق، ويأتي بيانه في أن المجاز المركب عقلي، فلا يرد السؤال؛ لأنها إذا كانت موضوعة دخل فيها الاشتراك. قوله: في الجواب للألفاظ كما وضعت للآحاد وضعت للمجموع، يريد أن النكتة التي ذكرها قطعية عقلية، وإذا تعارض العقل والنقل يتعين تأويل النقل للعقل على القاعدة، فيتأول أن هذه الألفاظ وضعت للمجموع والأفراد، فيمكن الجمع بين النكتة وبينهما، إنما منع من استعمال اللفظ في جميع المسميات، وعلى هذا التقدير لم يستعمل إلا في أحد المسميات، فلا تعارض غير أنك قد علمت أن النكتة غير تعيينية ولا ظنية، فلا ضرورة لهذا

التأويل، بل لا يجوز حينئذ؛ لأن التأويل بغير عاضد من الأدلة الصحيحة غير جائز، بل هذا التأويل قصد به دفع سؤال عنه، فلم يندفع، وحق على نفسه به سؤال لا يندفع، وهو أن مراده حينئذ بتلك الآيات ليس الجمع بين الحقيقة والمجاز، بل الحقيقتين، وقد علمت أنه ليس كذلك، فسد باب التأويل له في تلك الآيات بهذا التأويل المذكور هاهنا. قوله: (بعض المانعين جوز ذلك في لفظ الجمع). قلت: وجه شبهته أن الجمع يتخيل فيه تكرر اللفظ، واللفظ إذا تكرر جازت المسالة إجماعا، فيجوز أن يريد بلفظه الأول غير ما يريد بلفظه الثاني كما تقدم. بيانه: لكن هذا التخيل باطل؛ فإن صيغة الجمع صيغة مفردة، وضعت للدلالة على الجمع، كما يدل المفرد على المفرد. فإذا قلنا: أقراء، فليس فيها ثلاث قافات، وثلاث راءات حتى يتخيل فيها ثلاث لفظات، بل قاف وراء واحدة، فهذه الشبهة ساقطة. قوله: الحق أنه لا يجوز؛ لأن معنى قوله: اعتدى بالأقراء: اعتدى بقرء وقرء. قلنا: هذه العبارة تقتضي أن الجمع معناه النطق بصيغة المفرد مرتين، وهذا يناسب الجواز لا المن، بل ينبغي أن يكون معنى اعتدى بالأقراء: اعتدى بثلاثة من مسمى هذا اللفظ، وهذا اللفظ له مسميان، فيتوقف الامتثال على بيان المراد بالقرينة، كما في المفرد. قوله: (الجمع لا يفيد إلا عين فائدة الإفراد). يريد في تعيين المسمى لا في التعدد والاتحاد، وإلا فالجمع فيه كثرة بالضرورة، وظاهر لفظه يقتضي أن المفهوم من الجمع هو المفهوم من المفرد،

وليس كذلك إجماعا، إنما اختلف الناس في الجمع هل يكون أقل الجمع اثنين الذي هو التثنية أم لا؟ فإن قلت: ذكر الإفادة في المشترك غير سائغ؛ لأن المشترك مجمل، والمجمل غير مفيد بمعنى غير دال. قلت: مسلم غير أن اللفظ المشترك يفيد أن المراد مسمياته دون غيرها كالقرء، فإنه يفيد أن المراد لا يعد الحيض أو الطهر، فهذا هو المراد فالإفادة لا تعين المراد عينا. قوله: (أما في جانب النفي، فلا يقم قاطع على أن الواضع ما استعمله في إفادتهما جميعا). قلنا: القصد بهذا الكلام التفرقة بين الإثبات والنفي، ولا فرق عند العرب بين قولنا: عند زيد عشرة، ليس عنده عشرة، فإن لم يكن لفظ العشرة موضوعا لمجموع الخمستين لا تثبت العشرة في الأول، ولا تنفي في الثاني. وإن كان مراده بالاستعمال في النفي على سبيل المجاز، فما الفرق بين المجاز في المجموع ثبوتا أو نفيا؟ هو جمع بين المسميين في الإثبات والنفي، فالجمع إن كان ممتنعا ففيهما، وإلا ففيهما. وإن قلت: الفرق أن نفي المجموع يكفي فيه جزء ما غير معين، بخلاف الثبوت لابد فيه من جميع الأجزاء، والاستعمال على هذا في النفي إنما وقع في مطلق الجزء السابع، لا في المعين، فافترقا. قلت: مسلم، هذا تخيل حسن، غير أن القضاء على المجموع بالنفي فرع الجمع بين المعنيين في الذهن، حتى يقضي على مجموعهما بالنفي، والاستعمال حينئذ في المجموع، وهو المقصود بالاستعمال، ومطلق الجزء يحصل المقصود؛ لأنه المستعمل فيه، ولو كان مطلق الجزء هو المستعمل فيه،

(تنبيه) زاد تاج الدين أن قوله: (يصلون) فيه ضمير عائد إلى الله تعالى

ويلزم من نفي المعنى العام نفي جميع جزيئاته، فيلزم نفي كل فرد، وهو خلاف المقدر، ويكون حينئذ بمعنى التواطؤ، لا بمعنى الاشتراك. قوله: (ويمكن الجوب بأن النفي لا يفيد إلا رفع مقتضى الإيجاب). قلنا: لا نسلم، فإن مقتضى الإيجاب في قولنا: (في الدار رجل) مطلق لا يفيد إلا رجلا واحدا. وقولنا: (لا رجل في الدار) يفيد نفي كل رجل، فقد اختلف مقتضاهما لغة. قوله: (سنتكلم على الاحتياط). يريد أن الحمل على جميع المسميات ليس احتياطا في درء المفاسد؛ لأنه إذا قال لعبده: انظر إلى العين، فأخذ ينظر إلى ذهبه فيصادره، أو تمتد النفوس إلى امرأته فتفجرها. (تنبيه) زاد تاج الدين أن قوله: (يصلون) فيه ضمير عائد إلى الله تعالى وآخر إلى الملائكة عليهم السلام وتعدد الضمائر كتعدد الأفعال، ولا نزاع فيه إنما النزاع في المرأة، وهو الجواب عن الثاني؛ لأن المعطوف بمثابة الأفعال. وعن الثالث: أن ذلك بيان كون اللفظ مشتركا لا بيان الجمع، ويرد عليه أن قوله: (فيه ضمير) يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن الخبر مضمر كما تقدم، وهو لا ينتظم لقوله: وتعدد الضمائر كتعدد الأفعال، فيضير معنى كلامه تعدد الأفعال كتعدد الأفعال، فيضير نسبتها للشيء بنفسه؛ فإن الفعل المضمر غير المنطوق به، فالأفعال متعددة قطعا.

وثانيها: أن يريد أن ضمير (الواو) يشمل اسم الله تعالى لأنه من جملة الظواهر التي تقدم ذكرها، وهذا هو مقصود الخصم، ويبطل قوله: (تعدد الضمير كتعدد الأفعال)، وإلا لزم أن يكون هاهنا آلاف من الأفعال؟ لأن (الواو) مشتملة على آلاف من الملائكة. وثالثهما: أن يريد أن فيه ضميرا غير (الواو) ويعبر عنه، فهو مثلا وهو ظاهر كلامه، وهذا خلاف إجماع النحاة؛ لأنهم متفقون على أن (يصلون) ونحوه من الأفعال التي هي على هذا المنوال (يفعلون) ليس فيه ضمير إلا (الواو) فقط. وأما قوله: (وهو الجواب عن الثاني)؛ لأن المعطوف بمثابة الأفعال بخلاف المعلوم من اللسان؛ لأن المعطوف هاهنا الملائكة، ولا يقول أحد ممن له علم باللسان العربي: إنه فعل ولا بمنزلة الفعل هاهنا، ثم لو سلم له أن المعطوف كالفعل يبطل قوله، وهو الجواب عن الثاني؛ لأنه إنما قرر في الأول أن في (يصلون) ضميرا، والمعطوف ليس ضميرا، فليس هذا هو الأول حتى يقول: هو الجواب عن الثاني، بل كلام النحاة هاهنا في العطف، أن لهم ثلاثة مذاهب: أحدها: أن حرف العطف قام مقام العامل في المعطوف. وثانيها: أن المعطوف إنما ارتفع وانتصب وانخفض بحرف العطف نفسه. وثالثها: أن العامل مضمر مع حرف العطف، والأول المشهور عند البصريين، فإن أراده فلا ضمير حينئذ، ولا تعدد للأفعال هاهنا؛ لأن العطف على معمول (إن) لا على معمول (يصلون). وإن أراد الثاني، فلا ضمير أيضا ولا تعدد، وإن أراد الثالث، فلا ينبغي أن يقول: المعطوف يقوم مقام تعدد الأفعال، بل المعطوف هاهنا لم يقم

مقامه؛ لأنا أضمرنا (إن)، ولم نضمر فعلا، ولم نقم شيئا مقام شيء على هذا التقدير، وبالجملة فكأن في نفسه شيئا لم يأت بعبارة تدل عليه، بل بعبارة لا تستقيم على تقدير من التقادير الصحيحة عند أئمة اللغة. ويرد عليه في الثالث أنه سلم فيه الاشتراك، وهو غير مسلم. وزاد صاحب (المنتخب) وغيره، فقال في أول المسألة: لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في جميع معانيه خلافا للشافعي (والقاضي عبد الجبار) (1) وغيرهما (2) فإنهم قالوا: إذا تجرد عن القرائن المخصصة وجب حمله على الكل، وقد علمت فيما تقدم أن الاستعمال غير الحمل، وأن الاستعمال صفة للمتكلم، والحمل صفة للسامع، وأن الأول الدلالة باللفظ، والثاني دلالة اللفظ، وقد تقدم الفرق بينهما من خمسة عشر وجها، وإن جعل أحدهما عين الآخر غلطا، وإذا كانا خلافا للشافعي، فإنه قال: الترتيب في الوضوء واجب، وهذا غلط من القول، بل لا نذكر عن المخالف إلا نقيض ما ذكر عن المستدل، وهاهنا أحد النقيضين من مسألة والنقيض الآخر من مسألة أخرى ففسدت العبارة. والإمام في (المحصول) لم يقل هكذا، وإنما ذكر الحمل فرعا في آخر المسألة، وفرعه على القول بالجواز، فلم يرد عليه هذا الإشكال، بل صاحب المنتخب (3) غير العبارة، فورد عليه ذلك.

وزاد سراج الدين] في (التحصيل) [: "ولقائل أن يقول: (إذا كان الجمع تعديد الأفراد جاز أن يراد به الكلى، كما في المفردات، ولأنهم يجمعون العلم لإفادة الأشخاص المختلفة) وهذان هما السؤالان السابقان اللذان وقعا لغيره. وزاد أيضا في الجواب عن حجة الشافعي في وجوب الحمل على المجموع، فقال: ولقائل أن يقول: هذا ينفي الجواز أيضا، فلا يتمسك به تفريعا عليه، وغير جواب الإمام؛ لأن اللفظ ما لم يوضع للمجموع لا يجوز استعماله، وإن وضع فحينئذ لو استعمل فيه مع أنه أحد المسميات لزم الترجيح بلا مرجح، والإمام لم يقل هكذا، وإنما قال: يكون الجزم بإفادته المجموع، دون المفردين ترجيحا بلا مرجح، وبين العبارتين فرق، فإن الجزم راجع إلى السامع بالإرادة من جهة المتكلم، وهو يرجع إلى الحمل، فعلى عبارة (المحصول) لا ينبغي التفريع على الجواز، وعلى عبارة (التحصيل) ينبغي التفريع، فلا يرد سؤاله على (المحصول) بل على نفسه. وغيّر التبريزي وزاد فقال: دليل المنع أنه لو جاز، فإما أن يجوز وضعا، أولا وضعا، ولا وضعا لا يكون لغة العرب. ومعنى قولنا: لا يجوز وضعا، لا يخلو إما أن يكون وضع لهما على الجمع، أو على الانفراد، والأول ليس مشتركا، بل متواطئ، أو المفرد الذي كل واحد منهما جزء مفهومه، كالأريكة التي تتناول السرير والفرش على الجمع، والحلة التي تتناول مجموع الثوبين، فإن كان الثاني وهو موضوع لها على الانفراد، فالاستعمال فيهما خلاف الوضع، وهو المراد بعدم الجواز، ويرد عليه أن قوله: إن كان لا وضعا لا يكون لغة العرب،

وهو معنى قولنا: لا يجوز إن أراد لا يكون لغة العرب حقيقة ولا مجازا ممنوع، وإن أراد حقيقة فقط لا يضر ذلك خصمه، فإنه يجوز مجازا. وقوله: (وإن كان الثاني)، فهو خلاف الوضع، وهو المراد بعدم الجواز، فسر عدم الجواز بعدم الوضع، وهذا لا ينازعه فيه خصمه القائل بالمجاز، وزاد فاحتج الشافعي في الحمل، فقال: العمل بالدليل واجب ما أمكن، وليس من عادة العرب تفهيم المراد باللفظ المشترك من غير قرينة، فيصير انتفاء القرينة المخصصة قرينة معممة، ولأنه إذا ثبت جواز إرادة الجميع، فالآحاد لا يصلح بعضها معارضا للبعض، ولا يصلح معارضا للمجموع، فإن مقتضى كل فرد الحمل عليه، نظرا إلى الصلاحية، وإمكان الإرادة لا ينفي الحمل على الغير، كما في المتواطئ، وقد وفًّينا بمقتضى كل فرد بالحمل على الجميع، ويحتاج كلامه إلى بسط. فقوله: (إذا ثبت جواز إرادة الجمع). يعني: لأن التفريغ على الجواز. وقوله: (وإمكان الإرادة لا ينفي الحمل على الغير). يريد إمكان إرادة الإفراد بالحكم لا ينفي إرادة الجموع الذي هو غير الإفراد؛ لأن إرادة المتواطئ لا ينافى إرادة قيد زائد عليه، وأن يراد به أخص من مسماه، فكذلك المجموع أخص من كل فرد لحصول الفرد في جميع صور إرادة المجموع دون العكس، والحمل على الأخص توفية بالحمل على الأعم، ويرد عليه أن القرينة المخصصة عند العرب هي سبب الحمل في الألفاظ المجملة، كانت مشتركة أو غير مشتركة، وعدم السبب سبب لعدم المسبب، فالقرينة إذا عدمت كان سببها سبب عدم الفهم، ويكون دليلا ظاهرا على إرادة المتكلم بقاء لفظه مجملا وأن الإجمال مقصوده، كما أن القرينة المخصصة دليل إرادته البيان.

فوائد ثمانية

قوله: إمكان الإرادة لا ينفي الحمل على الغير. قلنا: مسلم ولا نثبته أيضا. فلم قلت: إن أحد الجائزين واقع؟ هذا موضع النزاع، ولذلك يقول في المتواطئ: لا يحمله على أخص منه نوع أو شخص، إلا بدليل منفصل لا بمجرد اللفظ. وقوله: "وقد وفينا كل فرد بالحمل على المجموع"- ممنوع لاحتمال أن يكون اللفظ في سياق النهي أو النفي، فمتى حملناه على نفي المجموع لا يلزم نفي كل فرد على حياله، ولا النهي عنه، بل يكون اللفظ غير متعرض له ألبتة. (فوائد ثمانية) الأولى: قال سيف الدين] في (الإحكام) [: القائلون بجواز الاستعمال في جميع المعاني قالوا: بشرط ألا يمتنع الجمع بينهما. الثانية: قال المجوزون: لم يقل منهم بوجوب الحمل عند التجرد إلا الشافعي رضي الله عنه، وأما المعتزلة فلم يوجبوا الحمل عند التجرد. الثالثة: قال القائل بأن المنع لأجل الإرادة لا اللغة، وهو الغزالي وأبو الحسين البصري. الرابعة: قال بالتعميم في سياق النفي كان اللفظ مفردا أو جمعا، والبعض منع في الإثبات. قال أبو الحسين البصري: فيه احتمال واشتباه، فيجوز أن يقال بنفي

الاعتداد بالحيض والطهر معا، وهو إشارة لما تقدم في بحث (المحصول) في الإيراد عليه من جهة أن نفي المجموع غير ثبوت المجموع، وتقدم جوابه. الخامسة: قال: ليس اللفظ المشترك عند الشافعي والقاضي] عند الجبار [إذا أراد به مجموع مسمياته مجازا، بل حقيقة كسائر الألفاظ العامة في صيغ العموم، ولهذا حمله عند التجرد على العموم، كصيغ العموم، قال: وعلى هذا تبطل الأسئلة الواردة على المعتزلة القائلين بأنه وضع لأحد مسمياته على سبيل البدل حقيقة، وهذا كلام سيف الدين، وصمم على التعميم، وكونه حقيقة حتى أنه لم يضع هذه المسألة في (باب العموم) وهي في اللغات. وكذلك (المستصفى) و (البرهان) نقلا العموم، ووضعاها في باب العموم وقال شرف الدين بن التلمساني في (شرح المعالم): وقد اختلف المعممون فمنهم من قال: حقيقة، قال: ويعزي للشافعي، وهو بعيد، ومنهم من قال بطريق المجاز، وإليه مال إمام الحرمين. واعلم أنه من صيغ العموم مشكل؛ لأن مسمى العموم كما سيأتي إن شاء الله- تعالى- مسماه واحد، فلذلك حمل عليه، وها هنا المسميات متعددة، وإلا لما كان مشتركا، وحينئذ يأتي قول الإمام: إن لم يكن وضع للمجموع امتنع القول بالعموم الحقيقي لعدم الوضع، فإن كان وضع للمجموع كان المجموع أحد المسميات، فلا يعمم في جميعها إذا حمل على المجموع، ويكون حينئذٍ كلا ومجموعا لا كلية، والعام من شأنه أن يكون كلية على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في (باب العموم)، والعام لابد أن تكون أفراده غير متناهية، وهذا أفراده متناهية، وكيف يكون حقيقة مطلقا مع أنه لم

ينقل لنا أنه وضع للمجموع، بل هذا مجاز قطعا؟ ولعل الشافعي يريد بأنه حقيقة في كل فرد على حاله، لا في الجميع، ولما كان مشتملا على الحقيقة من حيث الجملة سماه حقيقة توسعا، ويكون مدركه في الحمل والتعميم إنما هو الاحتياط لتحصيل مراد المتكلم جزما، فهذا هو اللائق لمنصب هذا الإمام العظيم دون هذه النقول. السادسة: مثل شرف الدين بن التلمساني النفي في المشترك بقولنا: لا عين لي هل يعم جميع مسميات العين أم لا؟ السابعة: قال النقشواني: اللفظ المشترك إما فرد أو جمع، والمفرد إما معرف باللام أو منكر، والجمع إما مذكور بلفظ الكل والجمع نحو: اعتدى بكل قرء، أو بالأقراء جميعها بصيغة العموم، وعلى التقادير، فإما مكرر نحو: اعتدي بقرء قرء، أو اعتدي بالأقراء والأقراء، وكل ذلك إما في الثبوت، أو النفي كما في النهي. أما المفرد المنكر غير المكرر، فلا يستعمل في معنييه نفيا ولا إثباتا؛ لأن التنكير يقتضى التوحيد، وهو يضاد الجمع، وإن كرر فقد جوزوا استعماله في المعنيين؛ لأنه لما لم توجد قرينة تجمعهما في معنى واحد حملا على المعنيين، والمذكور بلفظ الكل والجمع قالوا: يجب الحمل على معانيه جمعا؛ لأنه لا كل ولا جمع في مثل هذه الصورة غير هذه المعاني؛ لأن الحيض والطهر لا يمكن الحمل على جميع أفرادهما، فتعين الحمل عليهما. وأما في مثل العين فقد يتصور ذلك، فلا يجب الحمل، وإن كان بصيغة العموم، أو مفردا محلى باللام، فهو كما سبق. والظاهر أن هذا التقسيم من عند النقشواني؛ لأنه منقول؛ لأن ظاهر كلامه وبحثه في كتابه، ونقلت كلامه؛ لأن فيه محلا للناظر، ويحرك أنواعا من البحث، وأقرب ذلك إذا كرر المنكر أمكن أن يقال: لا يتعين أن يكون اللفظ

الثاني في معنى ثانٍ لصدق اللفظ الأول، وأمكن أن يقال: بل يتعين لئلا يلزم التأكيد والتكرار، وهو خلاف الأصل، وكذلك العطف يضر أيضا نوعا من النظر؛ ولأن الشيء لا يعطف على نفسه، فيتأكد التغاير والجمع، بخلاف صورة عدم العطف، وكذلك إذا جاء التعريف بعد التنكير، نحو: اعتدّى بقرء، اعتدى بالقرء، هل تحمل اللام على العهد أو على العموم؟ موضع نظر. وكذلك إن اجتمع العطف واللام أمكن القول بحصول التعارض، كما في العطف من موجب التغاير، فيتعدد، وما في اللام من العهد، فلا يتعدد، وهذه كلها بحوث يمكن تحريكها، وأما النقل عن العلماء، فما من متبع، ولا مدخل للنظر فيه. الثامنة: قد تقدم أن محل الخلاف في هذه المسألة ثلاثة: الجمع بين مجازين أو حقيقتين أو مجاز وحقيقة. نقل إمام الحرمين في (البرهان) أن القاضي اشتد إنكاره للجمع بين مجاز وحقيقة؛ لأن كونه حقيقة يقتضى اعتبار كونه في موضوعه، وكونه مستعملا في مجازه يقتضي عدم اعتبار كونه في موضوعه، فيكون كونه في موضوعه معتبرا وغير معتبر، وهو جمع بين النقيضين. قال: وجوزه الشافعي؛ لأن النقيضين باعتبار إضافتين إلى معنيين ليس محالا، والمجاز مطلقا متفق عليه بين الكل فهو أرجح من التضمين، والفرق بينهما أنك في المجاز مطلقا تارك للحقيقة بالكلية، كما تقدم من كلام الغزالي في التعبير بلفظ الصلاة عن معنى التعظيم تاركا للدعاء بالكلية، والتضمين أن يريد الدعاء مع غيره، وعده أرباب علم البيان من فصيح إيجاز العرب واختصارها، فقالوا: إذا أرادت العرب أن تخبر عن معنيين بجملتين حذفت إحدى الجملتين، وجعلت معناها في الجملة الباقية بطريق الإرادة، وبقيت قرينة لفظية من المحذوفة تدل عليها، أو قرينة حالية، أو خارجية.

مثال اللفظية قوله تعالى: {عينا يشرب بها المقربون}] المطففين: 28 [، ويشرب لا يتعدى للمشروب بالباء، فكان الأصل: يشرب بها المقربون، ويروون بها، فحذفت الجملة الثانية، وبقي منها الباء، فأضيفت الجملة الباقية فقيل: "يشرب بها"، فالباء من الجملة المحذوفة وهي تدل عليها وأريد بـ (يشرب) المعنيان اختصارا وإيجازا. وكذلك قوله تعالى: {آمنوا بالله ورسوله}] الحديد: 7 [أصل "آمن" "أمن" بالقصر إذا صار ذا أمن في نفسه قاصر غير متعدٍ تعدي بالألف فقيل: (أأمن) إذا (أأمن) غيره، أي صير غيره ذا أمن، ومنه قوله تعالى: {أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}] قريش: 4 [بغير حرف جر، فالمؤمن بكلام الشخص آمنه التكذيب فيه فأصل الآية: {آمنوا بالله ورسوله}] الحديد: 7 [بغير حرف جر، والإيمان في القلب، فقصد معنى آخر، وهو الإقرار باللسان بما في القلب، والإقرار يتعدى الباء، تقول: أقررت بكذا، فصار المقصود حينئذ أن ينطق به (آمنوا الله ورسله) وأقروا بذلك، فحذفت الجملة الثانية، وخلى منها الباء دليلا عليها، فقيل: (آمنوا بالله)، فكذلك قال جمهور العلماء: إن الإيمان بالقلب لا يكون به الإنسان مسلما يستحق دخول الجنان والسلامة من النيران حتى يقول بلسانه، وإن سكت مع الإمكان خلد في النيران. وهذه المسألة مستوفاة الأقسام والأحكام في (الشفاء) عند القاضي عياض، وليس هذا موضعها. وهذا النوع كثير في القرآن، ومنه قول الفرزدق] الرجز [: كيف تراني قالبا مجني .... قد قتل الله زيادا عني

مع أن (قتل) لا يتعدى بـ (عن)، لكن أصل كلامه صرفه (عني) بأن قتله، فحذفت الجملة الأولى، وبقي منها (عن) مع الجملة الثانية كما تقدم. ومثال الحالية: تعدد إرادة الدعاء مضافا إلى الله- تعالى- في آية الصلاة؛ لأن شأن الله- تعالى- ألا يسأل؛ لأن المسئول الغني على الإطلاق، فيتعين الجمع بين الحقيقة والمجاز. ومثال القرينة الخارجية: أن يقول القائل: رأيت أسدا، ثم يقول: أردت الحقيقة والمجاز، فالتضمين موضع حسن، فتأمله، وتأمل تحقيقه. والفرق بينه وبين المجاز العرف، فهو محتاج إليه في كتاب الله- تعالى- وسنة رسوله احتياجا كثيرا لكثرة تكرره. (تنبيه) استشكل الأبياري في "شرح البرهان" قول القاضي بعموم المشترك مع توقفه في صيغ العموم، حيث اتحاد المسمى مع إمكان إرادة الجمع، بل أولى من المشترك للتباين في مسمياته، وهو مشكل كما قال، ولاسيما والمنقول عنه في دليل التعميم أنه قال: يصح أن يراد كل واحد منهما مفردا، فيجوز الجمع عموما، وهذا يتكرر في العموم بل أولى. المسألة الخامسة: الأصل عدم الاشتراك: قد تقدم أن الأصل في اصطلاح العلماء أربعة معان: أصل الشيء ما منه الشيء لغة، وأصل الشيء دليله، ومنه أصول الفقه، وأصل الشيء رجحانه، ومنه الأصل] عدم الاشتراك أي الراجح عند العقل احتمال عدم الاشتراك، والأصل عدم المجاز، والأصل براءة الذمة، والأصل [بناء ما كان على ما كان.

والرابع الصورة المقيس عليها في القياس يسمى أصلا. (تنبيه) الألفاظ ثلاثة أقسام: لفظ نقل الاشتراك فيه، واعتقدناه كالعين والجون. ولفظ نقل عدم الاشتراك فيه، واعتقدناه كلفظ الله، ولفظ الرحمن، فهذان القسمان لا نزاع فيهما، ولم نردهما بالاستدلال. وقسم نقل لنا أنه موضوع لمعنى، وسكت عن غيره كلفظ الفرس، فهذا هو المقصود بأن الأصل عدم الاشتراك فيه، والذي يريده بالأدلة. (سؤال) قوله: لو كان احتمال الاشتراك مساويا لاحتمال الانفراد لما حصل الفهم بين أهل اللسان في أغلب الأحوال. لا معنى لقوله: "في أغلب الأحوال"؛ لأن اللفظ إن تجرد عن المفيد للرجحان والتقدير والتساوي، فمن المحال أن يفيد في صورة، وإن اقترن به مفيد الرجحان حصل في كل صورة، فحينئذ الصادق السلب الكلي، أو الإيجاب الكلي، فلا وجه لدعوى الغلبة. (سؤال) ادعى الرجحان وأبطل المساواة، ولم يتعرض للمرجوحية، مع أن تعين رجحان عدم الاشتراك إنما يتعين عند انتفاء المساواة، وانتفاء مرجوحيته، ولم يتعرض لها، فلا تتعين دعواه في رجحان عدم الاشتراك. جوابه: أن الطريق الذي أبطل المساواة متقررة في المرجوحية، فإن احتمال عدم الاشتراك إذا كان مرجوحا تعذر الفهم عند التخاطب، كما في المساواة بطريق الأولى، فلذلك تركه.

(سؤال) قوله: "لما أفادت الأدلة السمعية الظن، فضلا عن اليقين"- مشكل؛ لأن الأدلة السمعية هي بعض الألفاظ التي وقع بها التخاطب، وقد بين في الوجه الأول أن الألفاظ لا تفيد عند التخاطب، وقد بين في الوجه الأول أن الألفاظ لا تفيد عن التخاطب، فهو إعادة لبعض ما ذكره أولا، فالدليل واحد وهو يعيد أجزاءه، فلا معنى له حتى يجعله دليلا ثانيا. جوابه: أن القاعدة عند النظار متى تنازعنا في الدليلين هل هما واحد أو اثنان؟ نظرنا اللازم عنهما إن كان واحدا فهو واحد، أو كان اللازم متعددا، فهما متعددان، واللازم هاهنا متعدد؛ لأن مقصوده بالأول: فساد المعاش بين الناس في التخاطب، فلا يتمكنون من إصلاح معاشهم. والمراد من الثاني: فساد المعاد؛ لأنا إذا لم نفهم الألفاظ الواردة في الشرائع لا نتمكن في طاعة الله تعالى؛ لعدم فهم مدلولات الألفاظ، فيفسد علينا المعاد؛ لأن السعادة لا تحصل فيه إلا بطاعة الله- تعالى- فاللازم مختلف، فهما دليلان، وكذلك إذا تنازعنا في القياسين، هل هما قياس واحد، أو اثنان؟ قال النظار: إن كان الجامع فيهما واحدا، فهما واحد، فلا يستحق الثاني جوابا، وهو ثمرة الخلاف في تعدد الأدلة والأقيسة، وإن كان الجامع متعددا فهما قياسان؛ لأن الدليل الذي هو روح القياس إنما هو الجامع الذي هو سره، فإذا تعدد] تعدد [القياس، فاستحق الثاني جوابا آخر. قوله: (كتب النحاة شاهدة بشركة الحرف). يريد نحو (الواو) فإنها عاطفة وللقسم، وواو (رب) وغير ذلك و (لا) النافية والناهية والزائدة وغير ذلك، وعلى هذه الطريقة كما وقع في كتب النحو.

قوله: الماضي والمستقبل مشترك؛ لأنه يستعمل خبرا ودعاء. قلنا: قد بينا في المسألة قبل هذه أن الدعاء إنما يستعمل فيه الخبر على سبيل الاستعارة للتفاؤل، فلا اشتراك. قوله: (المضارع مشترك بين الحال والاستقبال). قلنا: نقل الشيخ أبو عمر في شرح مقدمته في ذلك ثلاثة أقوال مشتركة كما قال: حقيقة في الحال مجاز في المستقبل، حقيقة في المستقبل مجاز في الحال. قلنا: المنع على القولين الآخرين. قوله: (الأصل في الألفاظ الأسماء) يريد الغالب الكثير، فاستعمل الأصل لمعنى الراجح عند العقل؛ فإن الأغلب هو الذي يسبق للعقل. وتقرير هذا الجواب أنه لا يلزم من تقسيم جنس إلى ثلاثة أنواع أن تكون أفراد كل نوع ثلث العدد الواقع من تلك الأنواع، كما إذا فرضنا مدينة فيها نصرانيان ويهوديان، وبقيتها مسلمون، صدق أن أهل هذه المدينة إما مسلمون أو يهود أو نصارى، مع أنه لا يصدق أن كل فريق ثلث عدد المدينة، كذلك الكلمات إما اسم، أو فعل، أو حرف، والأكثر الأسماء كالمسلمين في المدينة في المثال، فلا يلزم من تسليم أن القسمين الأولين مشتركان، وبعض الثالث في المثال، فلا يلزم من تسليم أن القسمين الأولين مشتركان، وبعض الثالث أن يكون الثلثان، وبعض الثلث الآخر وقع فيها الاشتراك. (سؤال) قوله: (الاشتراك يخل بفهم السامع والقائل) - مشكل؛ لأن التلفظ بكل لفظ كان مشتركا أو غيره لا يحصل فيهما للمتكلم، وإنما المقصود به فهم السامع، فكيف يجعل المشترك مخلا بفهم القائل؟

جوابه: أنه قد قال في آخر كلامه: إن المتكلم ربما ظن أن السامع فهم القرينة، أو فهم المقصود في قوله: أعط السائل عينا، ولا يكون السامع فهم ذلك، فهذا هو حظ المتكلم من عدم الفهم، وإنما نشأ ذلك الجهل، وعدم الهم عن كون اللفظ مشتركا، فلو كان اللفظ غير مشترك لم يقع المتكلم في ذلك الغلط. قوله: "يحصل مقصود اللفظ المشترك بالترديد بين المفردات بصيغة (أو) أو (أم) أو (إمَّا). فنقول: أعط ذهبا أو ماء. (سؤال) الترديد يحتاج فيه إلى التركيب، وتكثير الألفاظ، والمشترك يحصل منه الإجمال المقصود باللفظ المفرد، فكان أولى. (سؤال) قال النقشواني: قولنا: (الاشتراك أقل ومرجوح). يريد باعتبار كل الأمصار والأعصار، لا باعتبار مصر معين، وعلى هذا جاز أن يكون الغالب الاشتراك باعتبار مجموع الدنيا، واشتهر عند كل قوم فرد من تلك المسميات، فلا يختل فهمه، وإن كان الغالب الاشتراك ينتظم قوله: لو كان احتمال الاشتراك مساويا لما حصل الفهم، فيبطل استدلاله في الوجوه الثلاثة الأول، إلا أن يقصد بالمسألة مصرا معينا، أو قبيلة معينة، فيتم جوابه احتمال الاشتراك، باعتبار جملة العام مرجوح؛ لأن الأصل عدم تعدد مسميات الألفاظ، وهذه مقدمة ظنية، فيكتفي فيها بمثل هذا، ثم إنا نرده في كل قبيلة معينة على حيالها حتى يستوعب آخر الدنيا بما ذكرنا من الدليل.

(سؤال) قال: الوجهان الآخران إنما يتم الاستدلال بهما إذا كان الواضع واحدا حكيما يحدد تلك المفاسد، أما إذا جوزنا لكل واحد من القبائل أن يضع، فجاز أن تضع قبيلة لفظا لمعنى، وتضعه أخرى لغيره، فيحصل الاشتراك، ولا تمنعهم هذه المفاسد لعدم شعورهم بها. جوابه: أن الاستقراء دل على أن الوضع قليل التعدد، وإلا لكثر الاشتراك بغير ما ذكره، والاشتراك ليس كثيرا كملا بالاستقراء، وإذا كان الغالب اتحاد الواضع اتجه الوجهان الأخيران أيضا، بناء على الغالب. فإن قلت: هذا الجواب يبطل بما تقدم من كلامه أن السبب الأكثري للاشتراك وهو ضع القبيلتين، وإلا على وضع الواضع الواحد. قلت: لا يضر ما تقدم؛ لأن معناه إذا وقع الاشتراك كان أكثره عن وضع القبيلتين، والكلام في هذه المسألة في تقليل الاشتراك جملة. فنقول: اتفاقه أيضا من القبيلتين مرجوح، وإلا لكان أكثر الألفاظ مشتركا، وليس كذلك، فلا تناقض بين الوضعين. قال سراج الدين: ظن وضع اللفظ للمعنى يوجب حمله عليه، وإن أمكن وضعه لغيره احتمالا سواء. جوابه: لا نسلم أن ظن الوضع يوجب الحمل، بل لو قطعنا بالوضع، وجوزنا أنه موضوع لغيره احتمالا على السواء امتنع منا الحمل قطعا، لجواز أن يكون المتكلم أراد ذلك المسمى الآخر الذي ما علمناه. (سؤال) قال التبريزى: قوله: (لو كان الغالب الاشتراك لما أفاد كلام الشرع الظن) ممنوع لجواز أن يكون الغالب الاشتراك على اللغة، ولكن البليغ في الفصاحة

والبلاغة يحترز عنه، فلا يقع في الكتاب والسنة، أو يقع نادرا، أو محفوظا بالقرائن. جوابه: متى كان الاشتراك هو الغالب، فمتى وردت لفظة مجردة عن القرائن الحالية والمقالية تكون دائرة بين النادر والغالب، فيحمل على الغالب عملا بالقاعدة، ولا يحصل الهم جزما. فإن قلت: المجاز غالب على اللغة على ما سيأتي بيانه، ومع ذلك لا يحمل اللفظ على الغالب الذي هو المجاز، فلم لا يكون الاشتراك غالبا، ولا يعتقد في اللفظة أنها مشتركة كالمجاز؟ قلت: لغة العرب تقتضي أن المجاز لا يوقعونه مجازا إلا محفوظا بالقرينة، فإذا وجدنا اللفظة بغير قرينة اعتقدنا أنها ليست مجازا، ولم يلتزم العرب أنها لا تضع لفظة مشتركة إلا ومعها قرينة، فالاشتراك ينشأ عن الوضع، وهو لا قرائن معه، والمجاز ينشأ عن الاستعمال، وعادتهم لا يتركون القرائن في استعمالهم المجاز، فافترقا. فإن قلت: وعادتهم أيضا لا يتركون القولين في استعمال المشترك، إلا أن يريدوا التلبيس على السامع، وكذلك في المجاز إذا أرادوا التلبيس لم يأتوا بالقرينة، فاستويا. قلت: الاشتراك ثابت قبل الاستعمال؛ لأنه ينشأ عن الوضع، فإذا وقع اللفظ مجردا مع اعتقادنا أن الغالب هو الاشتراك وجب صرفه للاشتراك، وأما المجاز المجرد عن القرينة، فليس هو غالبا إجماعا، فليس هذا النوع من المجاز نوعا غالبا يصرف إليه فافترقا.

(سؤال) قال التبريزى: مما يدل على أن الغالب الاشتراك أن كل اسم هو موضوع لأربع مراتب: الوجود الخارجي، والوجود الذهني، والوجود النطقي، والوجود الكتابي، كما تقول للفرس الواقفة: فرس، وللمتخيل في الذهن فرس، فتقول: خطر ببالي اليوم فرس، وتقول: لفظ فرس على وزن (فعل) وهو اسم صحيح غير معتل، ورأيت فرسا مكتوبا بالحبر بخط منسوب، وكل اسم كذلك. وأجاب عنه بأن هذا ليس محل البحث، وإلا لزم أن تكون الأسماء كلها مشتركة، بل اللفظ حقيقة في العيني أو الذهني، وما عداه مجاز فيه. (سؤال) في (المعالم) الملازمة في قولك: لو استوى الاحتمالان لما حصل الفهم- ممنوعة، بل يحصل التصريح بالمراد، وأجاب عنه بوجهين: أحدهما: أنا نجد الفهم من غير تصريح، فدل على أن التساوي غير واقع، والفهم إنما حصل بالتصريح. وثانيهما: أن التصريح إنما يكون بلفظ، أو كتابة، أو إشارة، والكلام فيه كما في الأول، فيلزم التسلسل، يعني أن الكتابة والإشارة من جملة الموضوعات، فيكون الكلام فيها كما في اللفظ، وإن كان احتمال الاشتراك مساويا، ففي ذلك كله أجاب شرف الدين بن التلمساني في (شرح المعالم) عن هذا الأخير، فقال: يكون البيان بقرائن الأحوال، وهي لا يدخلها الوضع، فما ذكره غير لازم. المسألة السادسة: فيما يعين مراد اللافظ: قوله: إن كانت المعاني متناهية بقى اللفظ مترددا بينهما. مثاله: إذا قلنا: العسعسة مشتركة بين أول الليل وآخره، وأوجب الله-تعالى- صلاة في العسعسة، فلا ندري أيهما يصلى فيه؟، أو الأمر مشتركا بين الوجوب والندب، فلا ندري كيف نجعل نية الوجوب، أو نية الندب إلا

أن نقول: يحمل اللفظ على جميع مسمياته] فيفعلهما [. قله: أو أن المتكلم قد تكلم به مرتين، هذا إنما يأتي في ما إذا لم يكن السامع مباشرا للمتكلم، بل نقل إليه المشترك عنه، ونقل إليه أدلة دالة على أن الجميع مراد، فنقول: لعله تكلم به مرارا. أما إذا باشر المتكلم، فلا يتأتى بذلك. قوله: (إن كان بعض الحقائق أرجح من بعض). يعني يكون بعضها عادة ذلك المتكلم أن يتكلم بذلك المسمى أكثر من غيره من المسميات، أو يكون النطق به أفصح، أو أعذب، أو أخف حروفا، أو التجوز عنه قليل وغيره بخلاف ذلك، أو يكون عاما، وهو أقل أفراد من المسميات الأخرى، فإنه كلما قلت أفراد العموم قل احتمال تطرق التخصيص إليه. قوله: (إما أن تكون المجازات مستوية أم لا). معناه: أن المجاز قد يرجح إن كان بينه وبين حقيقته ملازمة ذهنية، والمجاز الآخر ليس كذلك. أو يكون في المرتبة الأولى من التجوز، والآخر ليس كذلك، كما نقول في الحقيقة: إنها مجاز في الرتبة الثالثة من المجاز، أو يكون بينه وبين حقيقته تسبب والآخر اتفاقي، كتسمية المرض الشديد بالموت؛ لأنه سبب الموت، وتسمية العنب بالخمر؛ لأنه آيل إليه، وقد لا يئول. قوله: إن كان مجاز الحقيقة مرجوحا وقع التعارض بين المجازين؛ لأن أحدهما راجح بنفسه، مرجوح من جهة حقيقته، والآخر على العكس، فيصار إلى الترجيح. قلنا: لا يلزم من ذلك التساوي حتى يصار للترجيح؛ لأن رجحان الحقيقة في أحدهما قد يكون أكثر من رجحان المجاز في الآخر فيرجح، أو رجحان المجاز في أحدهما قد يكون أكثر من رجحان الحقيقة في الآخر. وإنما يصار للترجيح من خارج إذا استوت أسباب الترجيح فيهما قوله: الدال على اعتبار البعض بنفي الإجمال- يستقيم إذا كان ذلك

البعض واحدا، وأما إن كان أكثر من واحد، فإن التردد يبقى بينهما كما سبق في الدال على اعتبار الكل. والفرق أن إلغاء البعض مع الكثرة، واعتبار البعض مع الكثرة أن واحدا من الجميع إذا ثبت أنه مراد أعرضنا عما عداه لحصول المقصود من التمكين من العمل، وأما إذا ثبت أن بعض العدد الكثير غير مراد بقى الذهن مترددا بين بقية العدد أيهما المراد. (سؤال) قال النقشوانى: جعل مورد التقسيم القرينة المخصصة، وقسمها للقرينة الموجبة لاعتبار الكل، مع أن الموجبة لاعتبار الكل لا تخصيص فيها. جوابه: أنه قال: إما أن يوجد مع اللفظ المشترك قرينة مخصصة، أو لا يوجد تقسيم القرينة المخصصة إلى وجودها وعدمها، ثم قسم وجودها إلى مخصصة للبعض، وإلى ما لا تخصيص فيه، كما قال السائل، وهذا لا غرو فيه لما تقدم أن المقسم قد يكون مقسما إلى الأعم مطلقا، وإلى الأعم من وجه، فالأعم مطلقا يلزم صدقه على كل أقسام المقسم إليه، وكتقسيم الحيوان إلى الناطق والأعجمي، والأعم من وجه لا يلزم صدقه على جميع أقسام المقسم إليه، كالحيوان المقسم إلى الأبيض والأسود، ثم الأبيض ينقسم إلى الجير والحيوان، فلا يلزم صدق الحيوان على الجبر، وإذا كان التقسيم أعم من كونه في الأعم مطلقا، فمن التزمه لا يرد عليه ما يرد على أحد نوعيه؛ لأن ذلك السؤال قد ينشأ عن خصوص ذلك النوع، وهذه القاعدة قد تقدمت في مواطن، ويتخرج بها أسئلة كثيرة. المسألة السابعة: يجوز حصول المشترك في كتاب الله تعالى، لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}] البقرة: 228 [. يرد عليه أن الخصم يقول: هذا متواطئ لا مشترك، وقيل في المتواطئ ثلاثة مذاهب: قيل: هو موضوع لمطلق الجمع؛ لأن الدم يجتمع في الطهر في الجسد، وفي الحيض في الرحم من قولك: قريت الماء في الحوض إذا جمعته. وقيل: اسم للانتقال، والطاهر تنتقل للحيض، والحائض تنتقل للطهر. وقيل: للزمان، تقول العرب: جاءت الريح لقرئها أي لزمانها، وقوله

تعالى: {والليل إذا عسعس}] التكوير: 17 [. قيل: متواطئ، ومعناه: اختلاط الظلام بالضياء، وهو قدر مشترك بين أو الليل وآخر، فلا اشتراك. (سؤال) ادعى وقوعه في الكتاب والسنة ولم يذكر إلا الكتاب إما لثبوت الحكم فيها بطريق الأولى؛ لأنها أخفض وتبة؛ وإما أنه لا قائل بالفرق؛ وإما لظنه أنه ذكره وما ذكره. قوله: والأولى تكليف مالا يطاق. قلنا: ونحن نقول به. قوله: إن كان البيان مذكورا مع المشترك كان تطويلا بغير فائدة كان لا نسلم عدم الفائدة ونحن ننتزع بذكر فوائد منها كثرة الأجور في حروف التلاوة، ومنها: التشريف بالمخاطبة مع الله تعالى، وإن خطاب الله تعالى لعباده من أعلى مراتب الشرف؛ وذلك لما قاله الله تعالى {وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى}] طه: 17 [وكان يكفيه هي عصاي، وإنما قصد تكثير الخطاب مع الله تعالى، ليحوز الشرف الأعلى. ومنها: امتحان العباد بذلك فجاهل يقول ما لي حاجة في الأدب، ولما لم يقول الله تعالى في هذا حكم وأسرار، ومواهب ربانية فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيا عن بينة. قوله: وإن كان البيان غيره مقرون بالمشترك أمكن ألا يصل إلى المكلف فيبقى الخطاب. قلنا: لا نسلم مجهولا، لكن يحصل للمكلف أجو الطلب ونجوز رتبة النسبة، ولا قائم ينزل العمل لعدم وجدانه البيان. قوله: (إما على أصول المعتزلة فسيأتي الجواب عنه في مسألة تأخير البيان إلى وقت الخطاب) يريد أن العرض قد يكون ذكر الشيء على سبيل التفصيل منشأ المفسدة، وعلى سبيل الإجمال منشأ المصلحة فخاطب المشترك في الصور التي يكون فيها التفصيل منشأ المفسدة.

الباب السادس في الحقيقة والمجاز

الباب السادس في الحقيقة والمجاز وهو مرتب على مقدمة، وثلاثة أقسام: أما المقدمة ففيها ثلاث مسائل: المسألة الأولى: في تفسير لفظتي الحقيقة والمجاز في أصل اللغة: أما الحقيقة فهي فعلية من الحق، ويجب البحث هاهنا عن أمرين: أحدهما: أن الحق في اللغة هو الثابت؛ لأنه يذكر في مقابلته الباطل، فإذا كان الباطل هو المعدوم، وجب أن يكون الحق هو الثابت. وثانيهما: البحث عن وزن الفعيلة، وفيه أيضا بحثان: الأول: أن الفعيل قد يكون بمعنى المفعول، وقد يكون بمعنى الفاعل فعلى التقدير الأول معنى الحقيقة المثبتة؛ وعلى التقدير الثاني: الثابتة. الثاني: أن الياء في الفعيلة؛ لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة؛ فلا يقال: شاة أكيلة ونطيحة. وأما المجاز، فهو مفعل من الجواز الذي هو التعدي في قولهم: جزت موضع كذا، أو من الجواز الذي هو قسيم الوجوب والامتناع، وهو في التحقيق راجع إلى الأول؛ لأن الذي لا يكون واجبا ولا ممتنعا كان مترددا بين الوجود والعدم؛ فكأنه ينتقل من الوجود إلى العدم، أو من العدم إلى الوجود، فاللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي شبيه بالمنتقل عن موضوعه؛ فلا جرم سمى مجازا.

المسألة الثانية: في حد الحقيقة والمجاز

المسألة الثانية: في حد الحقيقة والمجاز: أحسن ما قيل فيه ما ذكره أبو الحسين، وهو: أن الحقيقة ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به، وقد دخل فيه الحقيقة اللغوية، والعرفية، والشرعية. والمجاز: (ما أفيد به معنى مصطلح عليه، غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة التي وقع التخاطب بها؛ لعلاقة بينه وبين الأول). وهذا القيد الأخير لم يذكره أبو الحسين، ولابد منه، فإنه لولا العلاقة، لما كان مجازا، بل كان وضعا جديدا. وقوله: (معنى مصطلح عليه): إنما يصح على قول من يقول: المجاز لابد فيه من الوضع، فأما من لم يقل به، فيجب عليه حذفه. وأما قوله: (غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة) ففيه سؤال؛ وذلك أنه يقتضي خروج الاستعارة عن حد المجاز. بيانه: أنا إذا قلنا؛ على وجه الاستعارة: (رأيت أسدا) فالتعظيم الحاصل من هذه الاستعارة ليس لأنا سميناه باسم الأسد؛ ألا ترى أنا لو جعلنا الأسد علما له، لم يحصل التعظيم ألبتة؟ بل التعظيم إنما حصل؛ لأنا قدرنا في ذلك الشخص صيرورته في نفسه أسدا، لبلوغه في الشجاعة التي هي خاصية الأسد إلى الغاية القصوى، فلما قدرنا أنه صار أسدا في نفسه أطلقنا عليه اسم الأسد؛ وعلى هذا التقدير لا يكون اسم الأسد مستعملا في غير موضوعه الأصلي. وجوابه: أنه يكفي في تحصيل التعظيم أن يقدر أنه يحصل له من القوة مثل ما للأسد، فيكون استعمال لفظ الأسد فيه استعمالا للفظ في غير موضوعه الأصلي.

وأعلم: أن الناس ذكروا في تعريف الحقيقة والمجاز، وجوها فاسدة: أحدها: ما ذكره أبو عبد الله البصري، ألا وهو أن الحقيقة: ما انتظم لفظها معناها من غير زيادة، ولا نقصان، ولا نقل. والمجاز هو: الذي لا ينتظم لفظه معناه: إما لزيادة، أو لنقصان، أو لنقل: فالذي يكون للزيادة هو الذي ينتظم عند إسقاط الزيادة؛ كقوله تعالى:} ليس كمثله شيء {] الشورى: 11 [فإنا لو أسقطنا الكاف، استقام المعنى. والذي يكون للنقصان هو الذي ينتظم الكلام عند الزيادة؛ كقوله تعالى:} واسأل القرية} [يوسف: 82 [، ولو قيل: واسأل أهل القرية، صح الكلام. والذي يكون لأجل النقل قوله:) رأيت أسدا (وهو يعني الرجل الشجاع. واعلم أن هذا التعريف خطأ؛ لأن المجاز بالزيادة والنقصان إنما كان مجازا؛ لأنه نقل عن موضوعه الأصلي إلى موضوع أخر في المعنى، وفي الإعراب، وإذا كان كذلك، لم يجز جعلهما قسمين في مقابلة النقل. أما في المعنى؛ فلأن قوله تعالى:} ليس كمثله شيء} [الشورى: 11 [يفيد نفي مثل مثله، وهو باطل؛ لأنه يقتضي نفيه - تعالى الله عن ذلك - إلا أنه نقل عن هذا المعنى إلى نفي المثل، وكذلك قوله تعالى:} واسأل القرية} [يوسف: 82 [موضوع لسؤال القرية، وقد نقل إلى أهلها. وأما في الإعراب؛ فلأن الزيادة والنقصان، متى لم يغير إعراب الباقي، لم يكن ذلك مجازا؛ فإنك إذا قلت: جاءني زيد وعمرو، فهو في الأصل: جاءني زيد وجاءني عمرو، إلا أنه حذف أحد اللفظين؛ لدلالة الثاني عليه، لكن لما لم يكن الحذف سببا لتغيير الإعراب، لم يحكم عليه بكونه مجازاً.

وهذا الكلام في جانب الزيادة. وأما إذا أوجبنا تغيير الإعراب، كانا مجازين؛ وذلك إنما يتحقق عند نقل اللغة اللفظة من إعراب إلى إعراب آخر. وثانيها أيضا: ما ذكره أبو عبد الله البصري ثانيا، فقال:) الحقيقة ما أفيد به غير ما وضعت له، والمجاز: ما أفيد به غير ما وضع له) وهذا أيضا باطل: أما قوله في الحقيقة: (إنها ما أفيد بها ما وضع له (فباطل؛ لأنه يدخل في الحقيقة ما ليس منها؛ لأن لفظة الدابة، إذا استعملت في الدودة والنملة، فقد أفيد بها ما وضعت له في أصل اللغة مع أنه بالنسبة إلى الوضع العرفي مجاز، فقد دخل المجاز العرفي فيما جعله حدا لمطلق الحقيقة؛ وهو باطل. وقوله في المجاز: (إنه الذي أفيد به غير ما وضع له) فهو باطل بالحقيقة العرفية والشرعية؛ فإن اللفظة أفيد بها، والحالة هذه، غير ما وضعت له في أصل اللغة، فقد دخلت هذه الحقيقة في المجاز. وأيضا فقوله:) ما أفيد به غير ما وضع له) إما أن يكون المراد منه انه أفيد به غير ما وضع له بدون القرينة، أو مع القرينة. والأول باطل؛ لأن المجاز لا يفيد البتة بدون القرينة، والثاني ينتقض بما إذا استعمل لفظ السماء في الأرض، فإن اللفظ قد أفيد به غير ما وضع له؛ مع أنه ليس بمجاز فيه، وأيضا ينتقض بالإعلام المنقولة. فإن قلت: العلم لا يفيد!

المسألة الثالثة: في أن لفظتي الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى المفهومين المذكورين حقيقة أو مجاز؟

قلت: حق إن العلم لا يفيد في المسمى صفة، وليس بحق أنه لا يفيد أصلا، بل هو يفيد عين تلك الذات، لكنه يفيد صفة في الذات. وثالثها: ما ذكره ابن جني وهو) أن الحقيقة ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، والمجاز: ما كان بضد ذلك). وهذا ضعيف؛ لأن ما ذكره في حد الحقيقة تخرج عنه الحقيقة الشرعية والعرفية، وهما يدخلان فيما جعله حد المجاز. وأيضا فقوله: (والمجاز ما كان بضد ذلك) معناه: أن المجاز هو الذي ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، وهو باطل، وإلا لكان استعمال لفظ الأرض في السماء مجازا. ورابعها: ما ذكره عبد القاهر النحوي رحمه الله، فقال الحقيقة كل كلمة أريد بها عين ما وقعت له في وضع واضع وقوعا لا يستند فيه إلى غيره؛ كالأسد للبهيمة المخصوصة، والمجاز: كل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها؛ لملاحظة بين الأول والثاني). وهذا التعريف أيضا ليس بجيد؛ لأنه يقتضى خروج الحقيقة الشرعية والعرفية عن حد الحقيقة، ودخولهما في حد المجاز، وهو غير جائز. المسألة الثالثة: في أن لفظتي الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى المفهومين المذكورين حقيقة أو مجاز؟. الحق: أن هاتين اللفظتين في هذين المفهومين مجازان؛ بحسب أصل اللغة، حقيقتان؛ بحسب العرف. بيان الأول: أما في الحقيقة؛ فلأنا بينا أنها مأخوذة من الحق، وبينا أن الحق

شرح القرافي

حقيقة في الثابت، ثم إنه نقل إلى العقد المطابق؛ لأنه ولى بالوجود من العقد غير المطابق، ثم نقل إلى القول المطابق لعين هذه العلة، ثم نقل إلى استعمال اللفظ في موضوعه الأصلي، لأن استعماله فيه تحقيق لذلك الوضع، فظهر أنه مجاز واقع في الرتبة الثالثة بحسب اللغة الأصلية. وأما المجاز: فإطلاقه على المعنى المذكور على سبيل المجاز أيضا؛ لوجهين: الأول: هو أن حقيقة العبور والتعدي، وذلك إنما يحصل في انتقال الجسم من حيز إلى حيز، فأما في الألفاظ فلا، فثبت أن ذلك إنما يكون على سبيل التشبيه. الثاني: هو أن المجاز مفعل، وبناء المفعل حقيقة: إما في المصدر، أو في الموضع، فأما الفاعل، فليس حقيقة فيه، فإطلاقه على اللفظ المنتقل لا يكون إلا مجازا. هذا إذا قلنا: إن المجاز مأخوذ من التعدي. وأما إذا قلنا: إنه مأخوذ من الجواز، كان حقيقة لا مجازا؛ لأن الجواز، كما يمكن حصوله في الأجسام، يمكن حصوله في الأعراض. فاللفظ يكون موضوعا لذلك الجواز؛ لأنه موضوع لجواز أن يستعمل في غير معناه الأصلي، فيكون حقيقة من هذين الوجهين، إلا أنا قد ذكرنا أن الجواز إنما سمي جوازا؛ مجازا عن معنى العبور والتعدي، والله أعلم بالصواب. قال القرافي: قوله: (لفظ فعيل يكون بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول) اعلم أن فعيلا يقع على قسمين:

فائدة: المبالغة قد تكون في اللفظ لأجل تكرار الفعل نحو: قتال، وضراب

أحدهما: أن يكون اسم فاعل من فعل - بضم العين - نحو كلام فهو كريم، وشرف فهو شريف، وظرف فهو ظريف، فهذا لا مبالغة فيه من جهة تكرار الفعل، غير أنه موضوع لما يكون سجية هو أبلغ مما لا يكون كذلك، كضارب وخارج، ولم يوجد اسم الفاعل لهذا النوع إلا على هذا الوزن. والقسم الثاني: ما كان له اسم فاعل يستحقه بأصل الوضع، ثم عدل عنه إلى فعيل؛ لأجل قصد المبالغة من جهة كثرة الفعل والمفعول؛ وهو ثلاثة أقسام: - منه: ما يتعين بأصل السياق للفاعل نحو: عليم، وقدير، ورحيم، بمعنى: قادر، وعالم، وراحم. - ومنه: ما يتعين للمفعول بالسياق نحو: جريح، وقتيل، بمعنى: مجروح، ومقتول. - ومنه: ما يحتمل الأمرين ولا يعين السياق أحدهما نحو نبى يحتمل أن يكون بمعنى فاعل إن أخذناه من النبوة أي: علا قدره وعظم، بمعنى مفعول، أي: نباه الله تعالى، وولي يحتمل أن يكون فاعل أي: تولى الله بطاعته، أو مفعول أي: تولاه الله بإعانته ولطفه، وشهيد، يحتمل أن يكون بمعنى فاعل، أي: شهد حضرة القدس، أو المفعول أي: أشهده الله - تعالى - ذلك، أو شهد له بالجنة، ومن ذلك حقيق الذي مؤنثه حقيقة يحتمل أن يكون فاعلا بمعنى: حاقق، ومفعولا بمعنى: محقوق. فائدة: المبالغة قد تكون في اللفظ لأجل تكرار الفعل نحو: قتال، وضراب،

وقد تكون لتكرره في المفعول نحو: ذبحت الكباش، فإن الذبح لا يتكرر في المفعول الواحد، والأول يقبله، ولتكثيره من الفاعل نحو: يركب الإبل بالتشديد أي: كثر الفعل باعتبار كثرتها لا لتكرره من كل واحد منهما، فهذه ثلاثة أسباب للمبالغة. قوله: (التاء فيهما لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة). اعلم أن الحقيقة فيها) ياء وتاء) وكلاهما للنقل، (فالياء) باثنتين من تحتها للنقل من الاسمية إلى الوصفية؛ لأن (حقا) مصدر ليس بصفة. فإذا قلت (حقيق) صار صفة، تقول: زيد حقيق بكذا، فتصفه بذلك، ولو قلت: (زيد حق) امتنع إلا على التأويل في الوصف بالمصادر، نحو: زيد عدل ورضا، ونسخ اليمن، وضرب الأمير. و (التاء) باثنتين من فوقها - للنقل من الوصفية للاسمية عكس (الياء (؛ لأن العرب إذا وصفت بفعل، ونطقت معه بالموصوف اكتف بتأنيث الموصوف عن تأنيث الصفة، فيقولون: امرأة قتيل، وشاه نطيح، وكف خضيب، ولحية دهين، فالتأنيث في الأول أغنى عن التأنيث في الثاني، فإذا لم ينطقوا بالموصوف أثبتوا التاء، حذرا من اللبس فيقولون: رأيت قتيلة بنى فلان، وأكيلة السبع، ونطيحة الكبش، ونحو ذلك، فهي هاهنا مفعول لا صفة، فهو معنى قوله: للنقل من الوصفية إلى الاسمية الصرفة أي: لم تجر على موصوف في هذه الحالة، فهي اسم مجرد. قوله: (الجواز العقلي راجع للجواز الحسي). معناه: أن الجواز العقلي سمي جوازا، إما لأن الجائز ينتقل من حيز الوجود إلى حيز العدم، ومن حيز العدم إلى حيز الوجود على سبيل الاستعارة والمجاز، وإما لأن العقل يحكم بوجود، تارة، وبعدمه أخرى، فالعقل

المسألة الثانية: في حد الحقيقة والمجاز

ينتقل فيه من أحد النقيضين للأخر انتقالا مجازيا، فكان الأصل هو العبور من جسم إلى جسم كمعابر الأنهار وغيرها. المسألة الثانية: في حد الحقيقة والمجاز.

(سؤال) قوله: (قولنا: أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع به التخاطب

قوله: (الحقيقة ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الإصلاح). يقتضى أن الحقيقة اسم للفظة المستعملة في موضوعها لقوله: ما وضعت له، والتي وضعت إنما في اللفظة، فتكون الحقيقة اسما للفظة المستعملة لا نفس الاستعمال، وهذا يناقضه قوله بعد هذا:) إن الحقيقة نقلت لاستعمال اللفظ في موضوعه الأصلي). فإن مقتضاه أن مسمى الحقيقة هو استعمال في الموضوع، لا اللفظة بوصف الاستعمال، وبينهما فرق يوجب التناقض في المعنى. (سؤال) قوله: (قولنا: أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع به التخاطب، وقد دخل فيه الحقيقة اللغوية، والحقيقة العرفية، والشرعية) مشكل؛ لأن الاصطلاح المفهوم منه الوضع، وقد تقدم أن الوضع له ثلاثة معان: جعل اللفظ دليلا على المعنى، كتسمية الولد زيدا، ومنه تسمية اللغات

تنبيه: اشتراطه الاصطلاح في الحقيقة والمجاز يخرج الألفاظ المهملة نحو ... إلخ

ووضعها، ويقال: الوضع على غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر من غيره، وهذا هو وضع الحقائق الثلاثة الشرعية، كالصلاة للفعل المخصوص، والعرفية العامة كالدابة والجماد، والعرفية الخاصة كالجوهر والعرض عند المتكلمين، ويقال: الوضع على مطلق الاستعمال ولو مرة واحدة في صورة واحدة، وهو قولهم: من شرط المجاز الوضع أي سمع منهم مرة واحدة التجوز لذلك النوع من المجاز، ولم يسموا مطلق الاستعمال وضعا إلا في هذا الموضع. إذا تقرر أن الوضع لفظ مشترك فإن أراد بالاصطلاح الوضع اللغوي الذي هو جعل اللفظ دليلا على المعنى، فهذا لا يندرج فيه الشرعية والعرفية؛ لآن الوضع فيها ليس بهذا التفسير، وإن أراد بالاصطلاح المعاني الثلاثة أو بعضها، فهذا استعمال اللفظ المشترك في جميع معانيه، وهو مختلف فيه، وبتقدير تسليمه، فهو مجاز على التصحيح، ومثل هذا المجاز الخفي يجتنب في الحدود، فاللازم أحد أمرين: إما عدم الاندراج، وإما دخول المجاز الخفي في الحدود، وكلاهما محدود. تنبيه: اشتراطه الاصطلاح في الحقيقة والمجاز يخرج الألفاظ المهملة نحو خنفشار، فإن المهمل لا حقيقة ولا مجاز لفقدان شرطهما، وهو الوضع. وقوله: (لولا العلاقة لم يكن مجازا، بل وضعا مستأنفا). معناه: أن يكون كما يقول العلماء في قول القائل لامرأته: سبحان الله، واسقني الماء، ويريد الطلاق، فإن هذا ليس مجازا لعدم العلاقة، وهو وضع من قائله لهذا المعنى، وبذلك فارق الكناية، لأن الكناية فيها العلاقة، وهذا الباب ليس فيه علاقة، ولهذا لم يقل به الشافعي في الطلاق ونحوه، وقال به مالك. قوله في الجواب عن الاستعارة: (يكون لفظ (الأسد) مستعملا في موضوعه الأصلي).

(فائدة) قوله تعالى:} ليس كمثله شيء} قال العلماء: (الكاف) يجب أن تكون زائدة

معناه: أن العرب وضعت لفظ (الأسد) للحقيقي، وهذا أسد متخيل، فيكون غير الموضوع، فيكون اللفظ فيه مجازا. (فائدة) قوله تعالى:} ليس كمثله شيء} [الشورى: 11 [. قال العلماء: (الكاف) يجب أن تكون رائدة؛ لأنها لو كانت أصلية لكان معنى الكلام (ليس مثل مثله شيء)، فتكون الآية تقضي أن له مثلا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا؛ لأنك إذا قلت: ليس مثل ابن زيد احد، يكون له ابن، فيتعين أن تكون الكاف زائدة، فيصير معنى الكلام) ليس مثله شيء)، ولا يكون للكاف معنى البتة غير تأكيد نفى المثل عنه سبحانه وتعالى، كما تقدم النقل عن (ابن جني) أنه قال: (كل حرف زيد في كلام العرب فهو قائم مقام إعادة الجملة مرة أخرى)، فيكون معنى هذه الآية: ليس مثله شيء مرتين للتأكيد. وقال الشيخ شرف الدين بن أبي الفضل:) أجعل الكاف أصلية، ولا يلزم محذور، فأقول: نفي المثل له طريقتان: إما بذاته، أو بنفي لازمه، ويلزم من نفى اللازم نفي الملزوم، ومن لوازم المثل أن له مثلا، فإذا نفينا مثل المثل انتفى لازم المثل، فينتفي المثل لنقي لازمه). قلت له: إذا نفيت مطلق المثل الذي هو لازم المثل، ومن جملة أمثال مثل الله - تعالى - الله - فيلزم نفيه، وهو محال. قال: ليس محالا؛ لأن الله - تعالى - على هذا التقدير له اعتباران من حيث ذاته، ومن حيث هو مثل مثله، والثاني أخص من الأول. والقاعدة: انه يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فلا يلزم القضاء بالنفي في حق الله - تعالى - من حيث هو مثل مثله نفيه؛ لأن النفي إنما حصل

(تنبيه) المجاز بالزيادة والنقصان مشكل

للأخص، فيؤول الحال أن النفي إنما حصل للمماثلة، وذلك ليس بمحال، بل واجب. قلت له: القاعدة في القضايا التصديقية أن الحكم فيها يكون على ما صدق عليه العنوان، ونعنى بالعنوان: ما عبر عن المحكوم عليه به، وقد يكون نفس المحكوم عليه، كما إذا قلنا: الإنسان حيوان، وقد يكون جزؤه، كقولنا: الإنسان ناطق، وقد يكون لازمه، كقولنا: الضاحك بالقوة حيوان، وقد يكون عارضا له، كقولنا: الضاحك بالفعل حيوان، وفي جميع هذه المثل إنما حكمنا على ماصدق عليه أنه ضاحك هو المحكوم عليه بأنه حيوان لا نفس الضاحك، وكذلك جميع القضايا التصديقية. إذا تقررت هذه القاعدة؛ فيظهر حينئذ إذا حكمنا بالنفي على جميع أمثال المثل، فقد حكمنا على ما صدق عليه أنه مثل المثل، لا على المماثلة، كما قال: فيلزم القضاء بالنفي على ذات واجب الوجوب، وهو محال، فما أفضى إليه يكون باطلا، وذلك إنما نشأ عن كون (الكاف) ليست بزائدة، فتعين ما قاله العلماء أنها زائدة. (تنبيه) المجاز بالزيادة والنقصان مشكل؛ لأن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، وجميع الألفاظ المذكورة في الآيتين مستعملة في ما وضعت له، والقرية في القرية، والسؤال في السؤال، وكذلك الآية الأخرى، فلم يبق إلا المحذوف وهو الأهل، والمحذوف مسكوت عنه لم يستعمل، وما لا يستعمل لا يكون حقيقة ولا مجازا، وكذلك الكاف الزائدة ليست مستعملة في شيء، وكل زائد من هذا النوع ليس مستعملا في شيء لا مجازا ولا حقيقة، فلا مجاز البتة. واتفق العلماء على انه مجاز فتأمل ذلك، فيتعين أن يكون من مجاز

(تنبيه) ليس كل مضاف محذوف يوجب مجازا في التركيب

التركيب لا من مجاز الإفراد؛ لأن لا من مجاز الإفراد؛ لأن العرب وضعت السؤال ليركب لفظه مع لفظ من يصلح للإجابة، فحيث ركبته مع ما لا يصلح للإجابة عدلت عن التركيب الأصلي إلى تركيب آخر غير الأصلي، ولا نعني بالمجاز في التركيب إلا هذا القدر، وهو استعمال المركب على خلاف التركيب الأصلي، فمتى رأيت لفظة وضعت لتركيب مع لفظة فركبت مع غيرها، فهو مجاز في التركيب، نحو: أكلت الماء، وشربت العلم، ودخلت في الفضيلة، وخرجت من الشبه، ونحو ذلك، وكذلك الكلمات الزوائد كلها من الأفعال، والحروف وضعت لتركب مع ما ينتظم معناها مع معناه، فإذا ركبت مع مالا ينتظم معناها مع معناه كانت زائدة. (فالكاف) وضعت لتركب مع المشبه به، فإذا ركبت) لا) معه، كان مجازا في التركيب، و (لا) في قوله تعالى:} لا أقسم بهذا البل} [البلد:1 [إذا جعلناها زائدة، وضعت لتركب مع منفى، وهاهنا ركبت (لا) مع منفى، فهي مجاز في التركيب. وكذلك سائر الزوائد. (تنبيه) ليس كل مضاف محذوف يوجب مجازا في التركيب؛ فإنك إذ قدرت في قوله تعالى:} وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 82 [وتجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون لينتظم المعنى، فإن الرزق لا يكون تكذيبا، وأما كونهم يجعلون الشكر تكذيبا، فيحسن ذكر ذلك لأمثالهم كما تقول: فلان يشكر الله بمعاصيه على سبيل التهكم، والإنكار عليه، فكذلك قدرة العلماء، ولا ينتظم المعنى إلا به، فهذا المضاف المحذوف لا يوجب مجازا؛ لأن العرب وضعت الجعل تركبه مع الرزق، فكان النطق به نطقا بالوضع، بخلاف السؤال مع القرية، وكذلك ما قدروه في قوله تعالى:} لتسألن عن النعيم} [التكاثر: 8 [، وقالوا: عن شكر النعيم، ونظائره في

القرآن كثيرة، وإنما يكون مجازا في التركيب إذا ركبت اللفظة مع ما لا يصلح له في أصل الوضع، والزوائد من الأفعال مثل) كان (في مثل قول الشاعر] الوافر [: سراة بني أبي بكر تساموا ... على كان المسومة العراب تقديره على المسومة، و (كان (زائدة، ونظائره في القرآن وغيره كثيرة، كما في قوله تعالى:} إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} [سورة ق: 37 [، أي: لمن له قلب، وكان زائدة على أحد الوجوه. قوله: (والنقل نحو: رأيت أسدا). استعمل هاهنا في المعنى اللغوي دون الاصطلاحي على سبيل المجاز؛ لأن النقل لغة: هو التحويل، وكأن اللفظ حول من وضعه الأول إلى الرجل الشجاع مجازا، فإن اللفظ لا ينفي زمنين حتى يقبل التحويل. وأما النقل في الاصطلاح: وهو غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر فيه من غيره، فلم يوجد الأسد، فظهر أن مراده النقل اللغوي. قوله:) لا يجوز جعل الزيادة والنقصان قسمين قبالة النقل (.

معناه: أن المقسم أبدا لا يجعل قسما مع جملة أقسامه، فلا يقول: العدد إما زوج أو فرد أو عدد، والحيوان إما ناطق أو أعجمي أو حيوان، فيأتي بالمقسم مع جملة الأقسام؛ لأن شأن الأقسام أن يكون بينهما تعاند، وتضاد، كما رأيت في الزوج، والفرد، فإذا جعل المقسم أحدها صار بينه وبينها تضاد، مع انه جزؤها، والشيء لا يضاد جزءه، وجنسه، وهو معنى قولهم: القسم لا يكون قسما؛ لأن الفرد قسم من العدد، وقد صار قسما له؛ لأنه جعل أحد الأقسام، وكل قسم منها يسمى قسما لصاحبه. قوله:} واسأل القرية} [يوسف: 82 [موضوع لسؤال القرية فيه بحث دقيق، وهو أن المضاف المحذوف هل سبب التجوز، أو محل التجوز. وبيانه: أن الإمام يلاحظ قاعدة، وهي أن العرب شأن لغتها أن يكون المنصوب بالفعل هو المفعول، فيكون هذا اللفظ في هذه المادة موضوعا لسؤال القرية، فتقدير مضاف محذوف، يكون سبب التجوز، وصيرورة اللفظ مجازا وغيره من أرباب علم البيان، يقول: لفظ السؤال وضع ليركب مع من يصلح للإجابة، فإذا ركب مع غيره صار مجازا، فيكون المضاف المحذوف هو محل التجوز، أي: المتجوز عنه لا سبب المجاز، وينبني على الطريقتين أن المضافات المحذوفات كلها التي يثبت أنها لا توجب مجازا نحو:} وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 82 [، ونحوه: هل تكون مجازات أم لا؟ فعلى طريقة تكون كلها مجازات؛ لآن الذي باشره العامل عدل عنه إلى غيره. وعلى الطريق الأخرى لا يوجب مجازا في التركيب، كما تقدم بيانه، فتأمل هذه المواضع؛ فإنها نادرة الوقوع في كتب العلماء وقل من يقف عليها. قوله: (وكذلك الزيادة إذا لم تغير إعراباً).

مثاله: قوله تعالى:} فبما نقضهم ميثاقهم} [المائدة:13 [. فإن الباء خافضة لـ) نقضهم (أثبتت بها أم لا، بخلاف:} وكفى بالله شهيدا} [النساء:79 [، فإن الإعراب تغير بزيادة الباء. وقوله: (أن المجاز لا يكون بالزيادة والنقصان حتى تغير الإعراب). ] ممنوع في جميع الصور [، أما في العطف فمسلم، فإن جاءني زيد وعمرو حقيقة لغوية، وأما في مثل هذه الزيادة في قوله تعالى:} فبما نقضهم ميثاقهم} [المائدة: 13 [، فممنوع على طريق أرباب علم البيان المتقدم من أن العرب وضعت (ما) لتركبها مع صلتها أو صفتها أو جزئها إن كانت مبتدأة فحيث ركبتها لا مع ذلك عريت عن جمعيه يكون مجازا في التركيب للعدول عن الوضع الأصلي إلى غيره، كما تقدم بيانه، فحينئذ لا يشترط في مجاز التركيب تغير المعنى والتركيب معا، بل قد يكون، وقد لا يكون، كما تقدم في المثل السابقة. قوله: (إذا استعملت لفظة (الدابة (في الدودة والنملة فقد أفيد بها ما وضعت له لغة مع أنها مجاز عرفي (. قلنا: اجتمع فيها الاعتباران، فهي من وجه حقيقة، ومن وجه مجاز، وقلنا:) ما وضعت له (، يخرج ذلك من الاعتبار المجازى، فإنها من ذلك الوجه لم تفد ما وضعت له، ونظيره قوله في دلالة التضمن: من حيث هو جزؤه، وغيره اكتفى بقرينة الجزئية، كما تقدم بيانه وكذلك قوله في الإيراد على حد المجاز؛ لأن قوله:) غير ما وضع له (يخرج الحقيقة العرفية؛ لأنها من جهة الحقيقة العرفية موضوعة. قوله: "لفظ السماء في الأرض ليس مجازا فيها". يريد لعدم العلاقة، وهي شرط في المجاز، ويشكل عليه بما نقله من

علاقات المجاز، فجعل منها إطلاق أحد الضدين على الآخر كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] والسماء ضد الأرض؛ لأن السماء من العلو، فكل ما علا فهو سماء، حتى سقف البيت، ومنه قوله تعالى:} فليمدد بسبب إلى السماء} [الحج: 15 [. قال المفسرون: يمدد بحبل إلى سقف بيته، والسحاب سماء، والأرض من التسافل. ومنه قول العرب: فلان شديد الأرض أي: شديد التسافل والدناءة من الأخلاق، فالسماء ضد الأرض، لآن العلو ضد التسافل، فكان إطلاق لفظ أحدهما على الآخر جزءا مجازا، أو لأن السماء محيطة بالأرض، فيكون من باب إطلاق لفظ السبب المادي على المسبب، كتسمية الماء بالوادي في قولهم: سال الوادي، أو لأنها تقابلها فبينهما ملازمة عادية، والملازمة علاقة في المجاز كالتعبير عن الإحسان بالرحمة. قوله: (ينتقض بالأعلام المنقولة). قوله: بعض الأعلام قد تنقل، ويسمى بها لعلاقة، كتسمية ولد بـ (رمضان)؛ لأنه ولد في رمضان، أو مكي لأنه ولد ب (مكة)، أو حنظلة؛ لأنه ولد في سنة جدبة، أو حرب لأنه ولد في وقت حرب، وهو كثير قصدته العرب وأهل العرف، وتلك المقاصد منقولة عنهم، وقد يكون النقل لا لعلاقة كمن سمى جعفر مع عدم العلاقة؛ لأن الجعفر: النهر الصغير، فالصحيح أنه ينتقض ببعض الأعلام لا بكلها.

(سؤال) قال التبريزي: حد للمجاز في قوله: أفيد به معنى مصطلحا عليه غير ما اصطلح عليه أولا - ينتقض بالمشترك

(سؤال) قال التبريزي: حد للمجاز في قوله: أفيد به معنى مصطلحا عليه غير ما اصطلح عليه أولا - ينتقض بالمشترك إذا وضع لأحد المعنيين قبل الآخر. قال: بل يقال: هو اللفظ المطلق على غير ما وضع له في الوضع الذي به التخاطب استعارة عن محل الوضع؛ فإنه لولا ملاحظة محل الحقيقة في إطلاق الاسم لدخل فيه الوضع الجديد، والاسم العرفي. قلت: وأهمل ذكر العلاقة، وهي شرطه، فإنه لا يلزم من ملاحظة الأصل حصول العلاقة بينهما. قال: والحقيقة: اللفظ المطلق على الموضوع له في الوضع الذي به التخاطب. قال: وهو معنى ما ذكره أبو الحسين قال: إلا أن هذه العبارة أبلغ، وتشمل الحقيقة الشرعية والعرفية. مسألة سادسة: في لفظي الحقيقة والمجاز. قوله: الحق هو الثابت، ثم نقل إلى العقد المطابق؛ لأنه أولى بالوجود من العقد غير المطابق، ثم نقل للقول المطابق لعين هذه العلة، ثم نقل لاستعمال اللفظ في موضوعه؛ لأن الاستعمال تحقيق لذلك الوضع؛ فهو مجاز في الرتبة الثالثة بحسب العلة الأصلية. قال قبل هذا في أول الباب: (والحق يذكر قبالة الباطل). فدل على انه نقيضه، وعلى قول المصنف يلزم أن يكون لفظ الحق مرادفا للفظ الموجود؛ لأن الباطل هو المعدوم.

وكذلك صرح به "التبريزي" فقال: الحق في اللغة الموجود. وقال سيف الدين الآمدي: هو الثابت اللازم؛ لأنه يذكر قبالة الباطل. قال صاحب (المجمل) في اللغة وهو (ابن فارس): (الحق نقيض الباطل، حق الشيء إذا وجب، وحاق الرجل الرجل إذا خاصمه، وادعى كل واحد منهما الحق، وأحق الحق إذا أثبته، ومنه قوله تعالى:} ويحق الحق} [يونس: 82 [- بضم الياء- وفلان حامي الحقيقة إذا حمى ما يحق عليه أن يحميه، وحق لك أن تفعل كذا، وحققت الأمر وأحققته إذا تيقنته. قال الزبيدي في (مختصر العين): حق الشيء يحق- بكسر الحاء وضمها- وهذه حقيقتي أي حقي، والحقيقة ما يصير إليه حق الأمر ووجوبه. قال (التبريزي): (الحق الموجود والحقيقة فعليه منه، ثم جعلت عبارة عن الذات والماهية، تقول: ذات الجوهر وحقيقته وماهيته، ثم نقل عن المسمى الدال على نفس المسمى وحقيقته تمييزا له عنه إذا دل على غير المسمى الحقيقي). والمجاز مفعل من الجواز الذي هو العبور حقيقته، فاستعير للأمر الذي يشابه الحق من بعض الوجوه، فقيل: ملك الله حق، وملك الآدمي مجاز، وحياة الآخرة حق، وحياة الدنيا مجاز، بمعنى أنه باطل معدوم، أو يؤول لذلك من حيث إن القانع بالشبه جاوز الحقيقة إليه، ثم نقل اللفظ المستعمل فيه، فإذا هما مجازان واقعان في الرتبة الثالثة، فظهر من مجموع هذه النقول أن لفظ الحق مرادف للموجود والشيء عندنا؛ لآن لفظ الشيء عندنا

يختص بالموجود، والمعتزلة يجعلونه اسما للمعلوم الشامل للمعدوم والموجود، وعندنا على هذا التقدير تترادف هذه الثلاثة الألفاظ، وإذا كان الحق اسما للموجود ترد سبعة أسئلة. الأول: أن قوله: نقل الاعتقاد؛ لأنه أولى بالوجود من العقد غير المطابق فكونه أولى بالوجود الذي هو الثبوت كما قال، يقتضي أن اللفظ مشكل، واللفظ المشكل لا يكون مجازا في الأكثر منهما، بل ذلك يقتضي كونه حقيقة فيه، فتعليله المجاز يفضى إلى إبطاله، كما أن لفظ النور مشكل، وإطلاق لفظة الشمس الذي هو أقوى من السراج، لا يقتضي أن لفظ النور مجاز فيه، فكذلك هاهنا، بل يكون حقيقة في الجميع، وكذلك يتجه السؤال في القول المطابق. الثاني: قوله: (نقل لاستعمال اللفظ في موضوعه الأصلي؛ لأن الاستعمال فيه تحقيق لذلك الوضع). يرد عليه أن الاستعمال أعم من كونه مع الوضع بدليل المجاز، والأعم من الشيء لا يدل على الحقيقة لعدم استلزامه إياه. جوابه: أن اللفظ متى أستعمل في غير موضعه كان لعلاقة، فحيث لا علاقة في الموضوع فلم يكن الاستعمال على هذه الوجه أعم من الاستعمال في غير الموضوع، وهذه الاستعمال هو مراد المصنف. الثالث: أن الوضع ليس وجوديا، بل نسبة يجعلها الواضع بين اللفظ والمعنى، والنسب لا وجود لها في الأعيان بل هي عدمية، والحق هو الوجود أو الموجود، وعلى كل تقدير لا يكون التحقيق، ولا الحق موجودا في الوضع إلا مجازا، وكلامه يشعر أن العلاقة فيهما واحدة، وكذلك قال في الثاني لعين هذه العلة ثم استطرد الثالث0 الرابع: على قوله: إنه مجاز في الرتبة الثالثة ولعله في الرتبة الأولى أو

في الثانية، وما الدليل على أن التجوز أولا وقع الاعتقاد، ثم إلى اللفظ المصدق، ثم إلى ما ذكرناه؟ ولو قال قائل: هذه مجازات لا يترتب بعضها على بعض، بل كل مجاز على حدة عسر الرد عليه. الخامس: أن الذي تقتضيه النقول المتقدمة أن يكون إطلاق لفظ الحقيقة على الاعتقاد، واللفظ الصدق والاستعمال حقيقة لغوية، لأن الجميع موجود كما يقال: الجميع شيء وموجود حقيقة إجماعا، وان يصدق الحق على الاعتقاد الباطل واللفظ الكذب، والاستعمال المجازي أيضا التي هي مقابلات تلك الثلاثة؛ لأنها موجودة، فالكفر موجود، والكذب موجود، والمجاز موجود بالضرورة، فإذا كانت الألفاظ الثلاثة مترادفة، واثنان منها حقيقة في الستة، كان الثالث الذي هو الحق كذلك، وهذا ضروري، بل الذي يتلخص في هذه الأمور الثلاثة من المجاز مجاز واحد، وهو التعبير بلفظ الأعم عن الأخص من باب تخصيص بعض مسميات العام بلفظ العام، كتخصيص لفظ الدابة بالحمار، أو الفرس، فإن الوجود قدر مشترك بينهما، فتخصيص بعضها في العرف للفظ دون بعض لا يكون إلا على هذا التجوز، وهو ظاهر جدا، فيكون المجاز واحدا في الجميع، والعلاقة واحدة في الجميع، وهى مابين الخاص والعام من الملابسة، فإن الخاص عارض للعام، فعبر بلفظ العام عنه، وهذا هو الذي يظهر في هذا الموضع، وما عداه لا يقاس على تلك النقول ألبتة. السادس: أن قوله: (في الرتبة الثالثة) يظهر أنه أراد في الرتبة الثالثة من المجاز، فإن المجاز الأول الاعتقاد المطابق، ثم اللفظ الصدق، ثم الاستعمال، وإذا لاحظت قول التبريزي لم يكن ما قاله في الثالثة؛ بل في الرابعة، فإن اللفظ نقل عن الموجود لنفس الموجود، فيقولون: ذات السواد، ويريدون ذاته لا وجوده للاعتقاد، ثم اللفظ الصدق، ثم الاستعمال، فيصير أربع مراتب في نفس المجاز.

(سؤال) قوله: (هذين الوجهين) ولم تتقدم الأوجه مشكل

السابع على قول التبريزى: ثم نقل عن المسمى للاسم الدال على نفس المسمى حقيقة مع أنه قد قال: إن الحق هو الوجود، والاسم موجود، فينبغي أن يكون اللفظ في حقيقة في الاسم لما تقدم، لأنه موجود إلا أن يقول: هذا تخصيص اللفظ العام ببعض موارده. قوله: (المجاز مفعل). وهو حقيقة في المصدر أو الوضع ينبئ عليه الزمان، فإن النحاة قالوا: مفعل للثلاثة تقول: هذا الشهر محصد الزرع وتريد الزمان، وهذه الأرض كانت محصد الزرع وتريد المكان، وأعجبني محصدك أي: حصادك إذا أردت المصدر، وتقول: مررت بمقتله ومصابه أي: بقتله وإصابته. قوله: (فإطلاقه على اللفظ المتنقل مجاز). يعنى: أن اللفظ جائز من محل الوضع لموضع التجوز فهو اسم فاعل، ولم يوضع مفعل لاسم الفاعل. قوله: (أما إذا كان مأخوذا من الجواز كان حقيقة). لأن الجواز كما يمكن حصوله في الأجسام يمكن حصوله في الأعراض، فاللفظ يكون موضعا لذلك الجواز، لأنه موضع لجواز أن يستعمل في غير معناه الأصلي، فيكون حقيقة في هذين الوجهين. (سؤال) قوله: (هذين الوجهين) ولم تتقدم الأوجه مشكل، وقد كشفت عدة نسخ فوجدتها بلفظ التثنية، وقد يكون ذلك سهوا من النساخ.

(سؤال) قوله: (فيكون حقيقة، لأن الجواز كما في الأجسام يمكن حصوله في الأعراض)

(سؤال) قوله: (فيكون حقيقة، لأن الجواز كما في الأجسام يمكن حصوله في الأعراض). يقتضى أن اللفظ متى كان في أمر عام يكون حقيقة في جميع أنواعه وأفراده، وهو حق غير أنه قد خالف هذه القاعدة في الحقيقة، حيث أخذها من الحق الذي هو الموجود، وهو أمر عام في تلك الموارد، ولم يجعلها حقيقة في الجميع، وكلامه هاهنا إيراد تلك الأسئلة عليه. ويلزمه سؤال آخر أنه يلزم من كونه مأخوذا من الجوار الذي هو مشترك بين الأعراض والأجسام أن يكون حقيقة، لأن إطلاقه ها هنا ليس باعتبار ذلك القدر العام، بل باعتبار خصوصه، فيكون من باب تخصيص اللفظ العام ببعض موارده كالدابة فيكون مجازا. وقوله: (موضع)، أي: مكان جواز التجوز، لأن كل أخص فهو محل لأعمه، وليس اللفظ محلا لهذا الجواز فقط بل لأنواع كثيرة من الجواز لا ينضبط عددها، فيجوز في اللفظ أن يوجد وأن يعدم، وأن يوضع لكل مسمى في العالم، وأن ينطق به كل مصوت في العالم، وهذا باب متسع جدا. ***

القسم الأول في أحكام الحقيقة وفيه مسائل

القسم الأول في أحكام الحقيقة وفيه مسائل المسألة الأولى: في إثبات الحقيقة اللغوية: والدليل عليه: أن ها هنا ألفاظا وضعت لمعان، ولا شك أنها قد استعملت بعد وضعها فيها، ولا معنى الحقيقة إلا ذلك. واحتج الجمهور عليه بأن اللفظ: إن استعمل في موضوعه الأصلي فهو الحقيقة، وإن استعمل في غير موضوعه الأصلي، كان مجازا، لكن المجاز الحقيقة، وإن استعمل في غير موضوعه الأصلي، كان مجازا، لكن المجاز فرع الحقيقة، ومتى وجد الفرع، وجد الأصل، فالحقيقة موجودة، لا محالة، وهذا ضعيف، لأن المجاز لا يستدعى إلا مجرد كونه موضوعا قبل ذلك لمعنى آخر، وستعرف أن اللفظ في الوضع الأول لا يكون حقيقة ولا مجازا، فالمجاز غير متوقف على الحقيقة. المسألة الثانية: في الحقيقة المعرفية: اللفظة المعرفية هي: التي انتقلت عن مسماها إلى غيره، بعرف الاستعمال، ثم ذلك العرف قد يكون عاما، وقد يكون خاصا، ولا شك في إمكان القسمين، إنما النزاع في الوقوع فتقول: أما القسم الأول، فالحق أن تصرفات أهل العرف منحصرة في أمرين: أحدهما: أن يشتهر المجاز، بحيث يستنكر معه استعمال الحقيقة، ثم للمجاز جهات، كما سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى:

منها: حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كإضافتهم الحرمة إلى الخمر، وهى في الحقيقة مضافة إلى الشرب. ومنها: تسميتهم الشيء باسم شبيهه، كتسميتهم حكاية كلام زيد، بأنه كلام زيد. ومنها: تسمينهم الشيء باسم ما له به تعلق، كتسميتهم المزادة بالرواية التي هي اسم الجمل الذي يحملها. وثانيهما: تخصيص الاسم ببعض مسمياته، كالدابة، فإنها مشتقة من الدبيب، ثم إنها اختصت ببعض البهائم، والملك: مأخوذ من الألوكة وهى الرسالة، ثم اختص ببعض الرسل، والجن: مأخوذ من الاجتنان، ثم اختص ببعض من يستتر عن العيون، وكذا القارورة والخابية: موضوعتان لما يستقر فيه الشيء وتخبأ فيه، ثم خصصا بشيء معين. فالتصرف الواقع على هذين الوجهين هو الذي ثبت أهل العرف، فأما على غير هذين الوجهين، فلم يثبت عنهم، فلا يجوز إثباته. والذي يدل على وجود هذا القدر من التصرف أن علامات الحقيقة كما سنذكرها حاصلة في الألفاظ عرفا، فوجب كونها حقيقة فيه. وأما القسم الثاني، وهو التعرف الخاص فهو ما لكل طائفة من العلماء من الاصطلاحات التي تخصهم، كالنقض والكسر والقلب والجمع والفرق- للفقهاء.

المسألة الثالثة: في الحقيقة الشرعية

والجوهر والعرض والكون- للمتكلمين. والرفع والنصب والجر- للنحاة ولاشك في وقوعه. المسألة الثالثة: في الحقيقة الشرعية: وهى: اللفظة التي استفيد من الشرع وضعها للمعنى، سواء كان المعنى واللفظ مجهولين عند أهل اللغة أو كانا معلومين، لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى، أو كان أحدهما مجهولا، والآخر معلوما، واتفق على إمكانه، واختلفوا في وقوعه. فالقاضي أبو بكر منع منه مطلقا، والمعتزلة أثبتوه مطلقا، وزعموا أنها منقسمة إلى أسماء أجريت على الأفعال، وهى: الصلاة، والزكاة، والصوم، وغيرها. وإلى أسماء أجريت على الفاعلين، كالمؤمن، والفاسق، والكافر، وهذا الضرب يسمى: بالأسماء الدينية، تفرقة بينها وبين ما أجريت على الأفعال، وإن كان الكل على السواء في أنه اسم شرعي. والمختار أن إطلاق هذه الألفاظ على هذه المعاني على سبيل المجاز - من الحقائق اللغوية. لنا: أن إفادة هذه الألفاظ لهذه المعاني، لو لم تكن لغوية، لما كان القرآن كله عربيا وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم. أما الملازمة، فلأن هذه الألفاظ مذكورة في القرآن، فلو لم تكن إفادتها لهذه المعاني عربية، لزم ألا يكون القرآن كله عربياً.

وأما فساد اللازم فلقوله تعالى:} قرآنا عربيا {[يوسف: 2]، وقوله تعالى:} وما أرسلنا من رسول، إلا بلسان قومه {[إبراهيم: 4]. فإن قيل: هذا الدليل فاسد الوضع، لأنه يقتضى أن تكون هذه الألفاظ مستعملة في عين ما كان العرب يستعملونها فيه، وبالاتفاق ليس كذلك. فإن الصلاة لا يراد بها في الشرع نفس الدعاء، أو المتابعة فقط، فإذن ما يقتضيه هذا الدليل لا تقولون به، وما تقولون به لا يقتضيه هذا الدليل، فكان فاسدا. سلمنا أنه ليس فاسد الوضع، لكن الملازمة ممنوعة: بيانه: أن إفادة هذه الألفاظ لهذه المعاني، وإن لم تكن عربية، لكنها في الجملة ألفظ عربية، فإنهم كانوا يتكلمون بها في الجملة، وإن كانوا يعنون بها غير هذه المعاني، وإذا كان كذلك كانت هذه الألفاظ عربية. سلمنا أنها، إذا استعملت في غير معانيها العربية، لا تكون عربية، لكن لم يلزم ألا يكون القرآن عربيا؟. بيانه: أن هذه الألفاظ قليلة جدا، فلا يلزم خروج القرآن بسببها عن كونه عربيا، فأن الثور الأسود لا يمتنع إطلاق اسم الأسود عليه، لوجود شعرات بيض في جلده، والشعر الفارسي يسمى فارسيا، وإن وجدت فيه كلمات كثيرة عربية. سلمنا ذلك، لكن لا يجوز خروج القرآن عن كونه عربيا؟!

وأما الآيات، فهي لا تدل على أن القرآن بكليته عربي، لأن القرآن يقال بالاشتراك على مجموعة، وعلى كل بعض منه لأربعة أوجه: أحدها: لو حلف ألا يقرأ القرآن، فقرأ آية، حنث في يمينه، ولولا أن الآية الواحدة مسماة بالقرآن، وإلا لما حنث. الثاني: أن الدليل يقتضى أن يسمى كل ما يقرأ قرآنا، لأنه مأخوذ من القرأة أو القرء، وهو الجمع، خالفناه فيما عدا هذا الكتاب، فنتمسك به في الكتاب بمجموعه وأجزائه. الثالث: أنه يصح أن يقال: هذا كل القرآن، وهذا بعض القرآن، ولو لم يكن القرآن إلا اسما للكل، لكان الأول تكرارا، والثاني نقضا. الرابع: قوله تعالى في سورة يوسف:} إنا أنزلنه قرآنا عربيا {[يوسف: 2] والمراد منه تلك السورة. فثبت أن بعض القرآن قرآن، وإذا ثبت هذا لم يلزم من كون القرآن عربيا كونه بالكلية كذلك. سلمنا أن ما ذكرتم من الدليل يقتضى كون القرآن بالكلية عربيا، لكنه معارض بما يدل على أنه ليس بالكلية عربيا، فإن الحروف المذكورة في أوائل السور ليست عربية، والمشكاة من لغة الحبشة، والإستبراق والسجيل فارسيتان معربتان، والقسطاس من لغة الروم. سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على مذهبكم، لكنه معارض بأدلة أخرى من حيث الإجمال والتفصيل:

أما الإجمال: فهو أنه قد ثبت بالشرع معان لم تكن ثابتة قبله، وما لم يكن معقولا للعرب لا يجوز أن يضعوا له اسما، وإذا لم يكن لها شيء من الأسمى واحتيج إلى تعريفها فلابد من الأسامي لها، كالولد الحادث، والأداة الحادثة. أما التفصيل فهو: أن يتبين في كل واحد من هذه الألفاظ أنها مستعملة لا في معانيها الأصلية. أما الإيمان فهو، في أصل اللغة عبارة عن التصديق، وفى الشرع: عبارة عن فعل الواجبات، يدل عليه ثمانية أوجه: الأول: أن فعل الواجبات هو الدين، والدين هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان، ففعل الواجبات هو الإيمان. وإنما قلنا: إن فعل الواجبات هو الدين، لقوله تعالى:} وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة {(البينة:5) فقوله تعالى:} وذلك دين القيمة {يرجع إلى كل ما تقدم، فيجب أن يكون كل ما تقدم دينا. وإنما قلنا: إن الدين هو الإسلام، لقوله تعالى:} إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران:19]. وإنما قلنا: إن الإسلام هو الإيمان لوجهين: أحدهما: أن الإيمان، لو كان غير الإسلام، لما كان مقبولا ممن ابتغاء، لقوله تعالى:} ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه {[آل عمران: 85]

والثاني: أنه تعالى استثنى المسلمين من المؤمنين في قوله تعالى:} فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين {[الذاريات:35 - 36]، ولولا الاتحاد، لما صح الاستثناء. الثاني: قوله تعالى:} وما كان الله ليضيع إيمانكم {[البقرة: 143]، قيل: صلاتكم. الثالث: قوله تعالى:} إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله {[النور:62] إلى آخر الآية، ثم إن الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر هذه الآية أن يستغفر لهم، والفاسق لا يستغفر له الرسول حال كونه فاسقا بل يلعنه، ويذمه، فدل على أنه غير مؤمن. الرابع: أن قاطع الطريق يخزى يوم القيامة، وكل من كان كذلك، فقد أخزى: أما الأول، فلقوله تعالى في صفتهم:} ولهم في الآخرة عذاب عظيم {[المائدة: 23]. وأما الثاني: فلقوله تعالى حكاية عنهم:} إنك من تدخل النار فقد أخزيته {[آل عمران:192]، ولم يكذبهم، فدل على صدقهم فيه. وإنما قلنا: إن المؤمن لا يخزى يوم القيامة، لقوله تعالى:} يوم لا يخزى لله النبي والذين آمنوا معه {[التحريم:8]. الخامس: لو كان الإيمان في عرف الشرع عبارة عن التصديق، لما صح

وصف المكلف به إلا في الوقت الذي يكون مشتغلا به، على ما مر بيانه في باب الاشتقاق، لكن ليس كذلك، لآن من أتى بأفعال الإيمان، ولم يحبطها يقال: ـه مؤمن، بل حال كونه نائما يوصف بأنه مؤمن. السادس: يلزم أن يوصف بالإيمان كل مصدق بأمر من الأمور، سواء كان مصدقا بالله تعالى أو بالجبت والطاغوت. السابع: من علم بالله تعالى، ثم سجد للشمس، وجب أن يكون مؤمنا، وبالإجماع ليس كذلك. الثامن: قوله تعالى:} وما يومن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون {[يوسف:106] أثبت الإيمان مع الشرك، والتصديق بوحدانية الله لا يجامع الشرك، فالإيمان غير التصديق. أما الصلاة: فهي في أصل اللغة: إما للمتابعة، كما يسمى الطائر الذي يتبع السابق (مصليا). وإما للدعاء، كما في قول الشاعر [المتقارب]. وصلى على دنها وارتسم أو لمعظم الورك كما قال بعضهم: الصلاة إنما سميت صلاة، لأن العادة في الصلاة أن يقف المسلمون صفوفا، فإذا ركعوا كان رأس أحدهم عند صلا الآخر، وهو: عظم الورك. ثم إنها في الشرع لا تفيد شيئا من هذه المعاني الثلاثة لوجهين:

الأول: أنا إذا أطلقناها، لم يخطر ببال السامع شيء من هذه الثلاثة، ومن شأن الحقيقة المبادرة إلى الفهم. الثاني: أن صلاة الإمام والمنفرد صلاة، ولم يوجد فيها شيء من المتابعة، ولا يكون رأسه عند عظم ورك غيره. وإذا انتقل الإنسان من الدعاء إلى غيره، لا يقال: إنه فارق صلاته. ولأن صلاة الأخرس صلاة، ولا دعاء فيها؛ فدل على أن هذه اللفظة غير مستعملة في معانيها اللغوية. وأما الزكاة: فإنها في اللغة للنماء والزيادة، وفى الشرع لتنقيص المال على وجه مخصوص. وأما الصوم: فإنه في اللغة: لمطلق الإمساك، وفى الشرع: للإمساك المخصوص، ولا يتبادر الذهن عند سماعه إلى مطلق الإمساك. والجواب: قوله: الدليل فاسد الوضع؛ لأنه يقتضى كون هذه الألفاظ موضوعة في المعاني التي كانت العرب يستعملونها فيها. قلنا: هذا الدليل يقتضى كون هذه الألفاظ مستعملة في المعاني التي كانت العرب يستعملونها فيها على سبيل الحقيقة فقط، أو سواء كانت حقيقة، أو مجازا؟! الأول ممنوع، والثاني مسلم. بيانه: أن العرب كما كانوا يتكلمون بالحقيقة، يتكلمون بالمجاز. ومن المجازات المشهورة: تسميتهم الشيء باسم جزئه، كما يقال للزنجي:

إنه أسود؛ والدعاء أحد أجزاء هذا المجموع المسمى بالصلاة، بل هو الجزء المقصود؛ لقوله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14] ولأن المقصود من الصلاة التضرع والخضوع؛ فلا جرم لم يكن إطلاق لفظ الصلاة عليه خارجا عن اللغة، فإن كان مذهب المعتزلة في هذه الأسماء الشرعية- ذلك، فقد ارتفع النزاع، وإلا فهو مردود بالدليل المذكور. فإن قلت: من شرط المجاز اللغوي تنصيص أهل اللغة على تجويزه، وهاهنا لم يوجد ذلك؛ لأن هذه المعاني كانت معقولة لهم، فكيف يمكن أن يقال: إنهم جوزوا نقل لفظ الصلاة من الدعاء الذي هو أحد أجزاء هذا المجموع إليه؟ ّ! قلت: لا نسلم أن شرط حسن استعمال المجاز تصريح أهل اللغة بجوازه. سلمنا ذلك؛ إلا أنهم صرحوا بأن إطلاق اسم الجزء على الكل على سبيل المجاز- جائز، فدخلت هذه الصورة فيه. قوله: إفادة هذه اللفظة لهذا المعنى، وإن لم تكن عربية، فلم لا يجوز أن يقال: هذه اللفظة عربية؟ ّ قلنا: لأن كون اللفظة عربية ليس حكما حاصلا لذات اللفظة من حيث هي، بل من حيث هي دالة على المعنى المخصوص، فلو لم تكن دلالتها على معناها عربية، لم تكن اللفظة عربية. قوله: اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة لا يخرجه عن كونه عربيا. قلنا: لا نسلم؛ فإنه لما وجد فيه ما لا يكون عربيا، وإن كان في غاية القلة؛

لم يكن المجموع عربيا، وأما الثور الأسود الذي توجد فيه شعرة واحدة بيضاء، والقصيدة الفارسية التي توجد فيها ألفاظ عربيه، فلا نسلم جواز إطلاق الأسود والفارسي على مجموعهما على سبيل الحقيقة. والدليل عليه: جواز الاستثناء، ولولا أنه بمجموعه لا يسمى بهذا الاسم حقيقة، وإلا لما جاز الاستثناء. قوله: القرآن اسم لمجموع الكتاب، أو له ولبعضه؟! قلنا: بل للمجموع؛ بدليل إجماع الأمة على أن الله تعالى ما أنزل إلا قرآنا واحدا، ولو كان لفظ القرآن حقيقة في كل بعض، منه لما كان القرآن واحدا. وما ذكروه من الوجوه الأربعة معارض بما يقال في كل آية وسورة: إنه من القرآن، وإنه بعض القرآن. قوله: وجد في القرآن ألفاظ عربية. قلنا: لا نسلم؛ أما الحروف المذكورة في أوائل السور، فعندنا أنها أسماء السور. وأما المشكاة والقسطاس والإستبرق، فلا مانع من كونها عربية، وإن كانت موجودة في سائر اللغات؛ فإن توافق اللغات غير ممتنع. سلمنا: أنها ليست بعربية؛ لكن العام إذا خص، يبقى حجة فيما وراءه. قوله: هذه المسميات حدثت، فلابد من حدوث أسمائها. قلنا: لم لا يكفى فيها المجاز، وهو تخصيص هذه الألفاظ المطلقة ببعض مواردها؟ فإن الإيمان والصلاة والصوم كانت موضوعة لمطلق التصديق،

والدعاء، والإمساك، ثم تخصصت بسبب الشرع؛ بتصديق معين، ودعاء معين، وإمساك معين، والتخصيص لا يتم إلا بإدخال قيود زائدة على الأصل. وحينئذ يكون إطلاق اسم المطلق على المقيد إطلاقا لاسم الجزء على الكل. وأما الزكاة: فإنها من المجاز الذي ينقل فيه اسم المسبب إلى السبب. والجواب عن المعارضة الأولى: أنا لا نسلم أن فعل الوجبات هو الدين، أما قوله تعالى: {وذلك دين القيمة} [البينة: 5] فنقول: لا يمكن رجوعه إلى ما تقدم؛ لوجهين: أحدهما: أن ذلك لفظ الوجدان؛ فلا يجوز صرفه إلى الأمور الكثيرة. والثاني: أنه من ألفاظ الذكران؛ فلا يجوز صرفه إلى إقامة الصلاة، وإذا كان كذلك، فلابد من إضمار شيء آخر وهو أن يقولوا: ذلك الذي أمرتم به دين القيمة. وإذا كان كذلك، فليسوا بأن يضمروا ذلك أولى منا بأن نضمر شيئا آخر؛ وهو أن نقول: أن ذلك الإخلاص، أو ذلك التدين دين القيمة، ويكون قوله تعالى: {مخلصين له الدين} (البينة: 5) دالا على الإخلاص. وإذا تعارض الاحتمالان، فعليهم الترجيح، وهو معنا؛ لأن إضمارهم يؤدى إلى تغيير اللغة، وإضمارنا يؤدى إلى عدم التغيير. والجواب عن الثاني: أنا لا نسلم أن المراد في قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، بل المراد منه موضوعه اللغوي، وهو التصديق بوجوب تلك الصلاة.

وعن الثالث: لا نسلم أن كلمة (إنما) للحصر. سلمناه؛ لكنه معارض بآيات؛ منها: ما يدل على أن محل الإيمان هو القلب، وذلك يدل على مغايرة الإيمان لعمل الجوارح؛ قال تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} [المجادلة: 22]، {وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل: 106]، {يشرح صدر للإسلام} [الأنعام: 1250]. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك). ومنها: الآيات الدالة على أن الأعمار الصالحة أمور مضافة إلى الأيمان، قال الله تعالى: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [الرعد: 29] و {من يؤمن بالله ويعمل صالحا} [التغابن: 9] {ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات} [طه: 75]، {فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمنا} [الأنبياء: 94]. ومنها: الآيات الدالة على مجامعة الإيمان مع المعاصي؛ قال الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} [الأنعام: 82]، {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] وهذا هو الجواب عن سائر الآيات التي تمسكوا بها. والجواب عن الخامس: أن ما ذكروه لازم عليهم؛ لأنه قد يسمى مؤمنا حال كونه غير مباشر لأعمال الجوارح. والجواب عن السادس: أنا نعترف بأن الإيمان في عرف الشرع ليس لمطلق التصديق، بل التصديق الخاص، وهو تصديق محمد- صلى الله عليه وآله

فروع على القول بالنقل

وسلم- في كل أمر ديني علم بالضرورة مجيئه به، وهو الجواب عن السابع والثامن. وأما الذين احتجوا به من أن الصلاة والصوم غير مستعملين في موضوعيها اللغويين، فمسلم، ولكنهما مستعملان في أمور هي مجازات بالنسبة إلى تلك الموضوعات الأصلية، وهم ما أقاموا الدلالة على فساده، والله أعلم. فروع على القول بالنقل الأول: النقل خلاف الأصل؛ ويدل عليه أمور: أحدها: أن النقل لا يتم إلا بثبوت الوضع اللغوي، ثم نسخه، ثم ثبوت الوضع الآخر. وأما الوضع اللغوي، فإنه يتم بوضع واحد، وما يتوقف على ثلاثة أشياء مرجوح بالنسبة إلى ما لا يتوقف إلا على شيء واحد. وثانيها: أن ثبوت الحكم في الحال يفيد ظن البقاء على ما سنقيم الدليل عليه في باب الاستصحاب، ذلك يدل على أن البقاء على الوضع الأول أرجح. وثالثها: أنه لو كان احتمال بقاء اللغة على الوضع الأصلي معارضا لاحتمال التغيير، لما فهمنا عند التخاطب شيئا إلا سألنا في كل لفظة: هل بقيت على وضعها الأول؟! وإذا لم يكن كذلك، ثبت ما قلناه. الفرع الثاني: لا شك في ثبوت الألفاظ المتواطئة في الأسماء الشرعية، واختلفوا في وقوع الأسماء المشتركة والحق وقوعها؛ لأن لفظ الصلاة مستعمل في معان شرعية لا يجمعها جامع؛

الثالث: كما وجد الاسم الشرعي، فهل وجد الفعل الشرعي

لأن اسم الصلاة يتناول ما لا قراءة فيه؛ كصلاة الأخرس، وما لا سجود فيه، ولا ركوع؛ كصلاة الجنازة، وما لا قيام فيه؛ كصلاة القاعد. والصلاة بالإيماء على مذهب الشافعي- رضي الله عنه- ليس فيها شيء من ذلك، وليس بين هذه الأشياء قدر مشترك يجعل مسمى الصلاة فيها حقيقة. وأما المترادف، فالأظهر انه لم يوجد؛ لأنه ثبت أنه على خلاف الأصل؛ فيقدر بقدر الحاجة. الفرع الثالث: كما وجد الاسم الشرعي، فهل وجد الفعل الشرعي والحرف الشرعي؟ الأقرب أنه لم يوجد؛ أما أولا: فبالاستقراء، وأما ثانيا: فلأن الفعل صيغة دالة على وقوع المصدر بشيء غير معين، في زمان معين. فإن كان المصدر لغويا، استحال كون الفعل شرعيا، وإن كان شرعيا، وجب كون الفعل أيضا شرعيا، تبعا لكون المصدر شرعيا، فيكون كون الفعل شرعيا- أمر حصل بالعرض لا بالذات. الفرع الرابع: في أن صيغ العقود إنشاءات، أم إخبارات؟ لا شك أن قوله: نذرت وبعت واشتريت، صيغ الأخبار في اللغة، وقد تستعمل في الشرع أيضا للإخبار، وإنما النزاع في أنها حيث تستعمل لاستحداث الأحكام إخبارات أم إنشاءات. والثاني: هو الأقرب لوجوه:

الأول: أن قوله: (أنت طالق) لو كان إخبارا، لكان إما أن يكون إخبارا عن الماضي أو الحال أو المستقبل، والكل باطل، فبطل القول بكونها إخبارا. أما أنه لا يمكن أن يكون إخبارا عن الماضي والحاضر؛ فلأنه لو كان كذلك، لا امتنع تعليقه على شرط؛ لأن التعليق عبارة: عن توقيف دخوله في الوجود على دخول غيره في الوجود، وما دخل في الوجود لا يمكن توقيف دخوله في الوجود على دخول غيره في الوجود، ولما صح تعليقه على الشرط، بطل كونه إخبارا عن الماضي أو الحال. وأما أنه لا يمكن أن يكون إخبارا عن المستقبل؛ فلان قوله: (أنت طالق) في دلالته على الإخبار عن صيرورتها موصوفى بالطلاق في المستقبل- ليس أقوى من تصريحه بذلك، وهو قوله: (ستصيرين طالقا في المستقبل) لكنه لو صرح بذلك، فإنه لا يقع الطلاق؛ فما هو أضعف منه- وهو قوله: (أنت طالق) - أولى بألا يقتضى وقوع الطلاق. الثاني: أن هذه الصيغ لو كانت إخبارا، لكانت إما أن تكون كذبا أو صدقا: فإن كانت كذبا، فلا عبرة بها، وإن كانت صدقا، فوقوع الطالقية: إما أن يكون متوقفا على حصول هذه الصيغ، أو لا يكون: فإن كان متوقفا عليه، فهو محال؛ لأن كون الخبر صدقا يتوقف على وجود المخبر عنه، والمخبر عنه هاهنا هو وجود الطالقية، فالإخبار عن الطالقية يتوقف كونها صدقا على حصول الطالقية، فلو توقف حصول الطالقية على هذا الخبر، لزم الدور، وهو محال.

شرح القرافي

وإن لم يكن متوقفا عليه، فهذا الحكم لابد له من سبب آخر، فبتقدير حصول ذلك السبب؛ تقع الطالقية، وإن لم يوجد هذا الخبر. وبتقدير عدمه؛ لا توجد، وإن وجد هذا الإخبار، وذلك باطل بالإجماع!! فإن قيل لم لا يجوز أن يكون تأثير ذلك المؤثر في حصول الطالقية يتوقف على هذه اللفظة؟ قلت: هذه اللفظة، إذا كانت شرطا المؤثر المؤثر في الطالقية، وجب تقدمها على الطالقية، لكنا بيتا أنا متى جعلناها خبرا صادقا، لزم تقدم الطالقية عليها؛ فيعود الدور. الثالث: قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] أمر بالتطليق؛ فيجب أن يكون قادرا على التطليق، ومقدوره ليس إلا قوله: (طلقت) فدل على أن ذلك مؤثر في الطالقية. الرابع: لو أضاف الطلاق إلى الرجعية، وقع، وإن كان صادقا بدون الوقوع؛ فثبت أنه إنشاء لا إخبار، والله أعلم. قال القرافي: قوله: (إن استعمل في غير موضوعه، كان مجازا) ممنوع لاحتمال عدم العلاقة كما إذا قال لامرأته: سبحان الله، ويريد الطلاق، فإن هذا واقع إجماعا إنما الخلاف في لزوم الطلاق به. قوله: (المجاز لا يستدعى إلا مجرد كونه موضوعا). تقريره: أن الواضع لو وضع لفظ الأسد للحيوان المفترس، ويكون أول مستعمل يستعمله، يقول: رأيت أسدا، ويريد الرجل الشجاع، فهذا مجاز لم يقدمه إلا الوضع، ولم تتقدمه الحقيقة، فعلمنا أنه ليس من لوازم وقوع المجاز وقوع الحقيقة، والوضع الأول ليس مجازا ولا حقيقة لاشتراطنا فيهما

(سؤال) سيقول بعد هذا: إن اللفظ متى كان مجازا في شيء فلابد وأن يكون حقيقة في غيره

الاستعمال، ولم يوجد؛ لأن الإطلاق لإرادة الحكم في المسمى، أو في غيره، ولم يوجد ذلك. (سؤال) سيقول بعد هذا: إن اللفظ متى كان مجازا في شيء فلابد وأن يكون حقيقة في غيره، فجعل الحقيقة لازمة للمجاز، وهاهنا نفى ذلك؟ والجواب: أنه هاهنا نفى أن يكون الوقوع لازما للوقوع لازما للوقوع، وثمت ادعى أن القبول لازم للقبول، ولذلك لم يذكر إلا المستقبل؛ لأن صيغة (أن) للمستقبل فقال: فلابد وأن يكون حقيقة في غيره، كما تقول: كل من كان ضاحكا بالقوة فلابد وأن يكون كاتبا بالقوة، فيجعل القولين متلازمين، والوقوع فيهما لا يلزم فيه حكم من شخص ضاحك بالفعل، وهو ليس بكاتب بالفعل، فلا تنافى بين التلازم بين القبولين، وعدم التلازم بين الوقوعين. المسألة الثانية: في الحقيقة العرفية قوله: (هي التي انتقلت عن مسماها إلى غيره بعرف الاستعمال). يشكل فإن حملة الشريعة إذا غلب استعمالهم لفظ الصلاة والصوم في العبادتين المخصوصتين سميتا حقيقتين شرعيتين؛ لأن صحة النسب إلى الشرع إما أن يكون صاحب الشرع نقل، أو حملته نقلوا، فنسب للشرع؛ لأن النسبة تكفى فيها أدنى مناسبة كما تقول لمن سافر ل (مكة): مكي، وإن لم يكن من أهلها، بل سافر إليها، أو حصلت له نسبة إليها. قوله: (من جهات المجاز حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه). يشكل عليه بأن هذا مجاز في التركيب، وهو قد قال بعد هذا: (المجاز المركب عقلي) وهاهنا جعله لغويا، ويمكن الجواب بأنه لم يفرع على مذهبه، بل على غيره.

(تنبيه) تلخيص ما قاله من المثل أن الحقيقة العرفية تنحصر في شيئين

قوله: (كتسميتهم الحاجة بالغائط). مراده بالحاجة: الفضلة الخارجة من الإنسان، والغائط: المكان المطمئن، كما أن النجو: المكان المرتفع، والخلا: المكان الفارغ، فلما كان الناس يقصدون النزول للمكان المطمئن، والاستتار بالمرتفع، والإبعاد للخالي، فسميت الفضلة بذلك. قوله: (ومنه المزادة بالرَّاوية) يعنى: أن الراوية الأصل فيه للجمل الحامل الماء؛ لأن الراوية اسم مبالغة في اسم الفاعل يقول: رجل راوية إذا كَثُرت روايته للحديث، وعلامة إذا كَثُرَ تعليمه، ونَسَّابة إذا كثر إثباته لأنساب الناس، ونحو ذلك، فالهاء للمبالغة في اسم الفاعل، وعلى هذا يتصور أن تكون الراوية حقيقة في المزادة، فإن الجمل كما يروى بالحمل للمزادة يروى بما فيها كما تقول: أرْوَتَني شربةُ الماء، وكوز الماء، بل الري في الحقيقة إنما يصدق حقيقة لغوية على الماء؛ لأنه الذي يروى العطشان، والجمل والمزادة لا يرويان، فإطلاق اللفظ عليهما مجاز، أما كونه منقولا عن الجمل للمزادة كما قاله فبعيد. (تنبيه) تلخيص ما قاله من المثل أن الحقيقة العرفية تنحصر في شيئين ما هو أجنبي عن الحقيقة كالغائط، فإن الفضلة ليس بعض المواضع المطمئنة، وبعض أنواع الحقيقة كالدابة للحمار بـ (مصر) والفرس بـ (العراق). (تنبيه) أطلق جماعة من الأصوليين أن لفظ (الدابة) منقول في العرف لذوات الأربع، وهذا لم يوجد قط بالاستقراء، فإن الكلب والأسد ونحوهما لا يسمى دابة بالإطلاق العرفي، بل اللُّغوي.

(سؤال) قوله: (الجان مأخوذ من الاجتنان، ثم اختص ببعض ما يستتر عن العيون)

(سؤال) قوله: (الجَان مأخوذ من الاجْتِنَان، ثم اختص ببعض ما يستتر عن العيون). ليس هذا التمثيل مستقيما، لأن النقل إنما هو أن يوضع لفظ لمعنى كلى، ثم يختص ذلك اللفظ ببعض أنواع ذلك الكلى، كما إذا وضع لفظ الحيوان للجسم الحسّاس، ثم يختص بالإنسان، ولفظ الدابة لمطلق مَا دَبَّ، ثم يختص بالفرس، وفرق بين وضع اللفظ لمعنى كلى، فيخصص ببعض أنواعه، وبين وضعه لمعنى كل، وذلك اللفظ مشتق من لفظ آخر، فالاشتقاق لا عبرة به في هذا الباب، بل العرب وضعت لفظ المجنِّ للدَّرَقة، والجَنِيْنِ لما في بطن الحامل، والجنون لمَا ستر العقل، والجان للفريق الخاص الذي هو أحد الثَّقَلَيْن، والكل لاحظت في لفظه اشتقاقا من لفظ الاستتار، فلو خصصت لفظ المجنّ ببعض الدرق، أو الجان ببعض قبائله كان ذلك مثالا للمسألة. أما إذا وضعت لفظ لمعنى كلى لملاحظة اشتقاق، ولم تخصصه ببعض أنواعه، فهذه حقيقة لغوية لا عرفية، فتأمل الفرق فلا تقع في الغلط، وجميع مُثُلِهِ باطلة بهذا التقرير، فإنه بنى الأمر فيها على الاشتقاق لا على الاختصاص، وينهما فرق كبير. قوله: (علامة الحقيقة حاملة في هذه الألفاظ). تقريره: أن علامة الحقيقة السبق إلى الفهم مع التجرد عن القرينة، والتجريد عن القرينة عند إرادة الاستعمال، وتعذر السلب، فإذا قيل: الفضلة غائط لا يقول أحد: ليس هي بغائط. أمثلة النقص وجود العلّة بدون المعلول، أو الحد بدون المحدود، أو دليل بدون المدلول.

(تنبيه) متى وضع اللفظ لمعنى عام، ثم نقل لبعض أنواعه إنما يكون حقيقة عرفية من جهة الخصوص لا من جهة العموم

والكسر: هو النقض على جزء العلة. والقلب: إثبات نقيض الدعوى بعين الدليل الذي استدل به الخصم. والجامع: علة القياس. والفرق: معنى مناسب في الأصل مفقود في الفرع. والجَوْهَر: هو المتحيز الذي لا يقبل القسمة. والعرض: هر المفتقر للمحل كالألوان، والطعوم ونحوها. والكون: هو الحصول في الحَيّز، وبسط هذا في مواطنه. (تنبيه) متى وضع اللفظ لمعنى عام، ثم نقل لبعض أنواعه إنما يكون حقيقة عرفية من جهة الخصوص لا من جهة العموم؛ لأن المجموع من حيث هو مجموع الذي هر الأخص لم يوضع اللفظ له، فإطلاق اللفظ عليه استعمال اللفظ في غير ما وضع له؛ فيكون حقيقة عرفية من هذا الوجه، ومجازا لُغويا أيضا، كما أنه إذا وُضع في العرف لهذا المجموع الخاص، ثم استعمل في المعنى العام كان مجازا عرفيا حقيقة لغوية. (فائدة جليلة) أهل العرف كما ينقلون المفرد كذلك ينقلون المركب، فمن ذلك قولهم: (الميتة حرام)، فيضيفون الأحكام الشرعية للأعيان، وإنما هي في أصل الوضع مضافة للأفعال. ومنه قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم}] النساء: 23 [. ومن ذلك ضربت زيدا، ويريدون بعضه، وكذلك رأيته، والأصل يقتضى الإضافة لبعضه فيقول: ضربت الموضع المخصوص الذي ضربه، ومن ذلك ما جرت به عادتهم أن ركبوه من الإيمان، فيقولون: والله لا أكلت رأسا. فغالب تركيبهم إنما هو في رءوس الأنعام إذا اختلفوا، فلا جرم اختلف

(سؤال) ينبغي أن يقول: من صاحب الشرع؟ لأن الشرع هو الرسالة

العلماء هل يحنث بغيرها أم لا؟ بناء على أن ذلك الاستعمال، هل وصل إلى النقل فلا يحنث، أو لم يصل فيحنث؟ فهذا منشأ الخلاف، ولو قال: رأيت رأسا، لم يختلفوا أن لفظه لا يتعين للأنعام؟ لأن هذا التركيب لم يشتهر في الأنعام، وإنما اشتهر في تركيب الأيمان، وهذا هو المدرك في أن مالكا أوجب في (أيمان المسلمين)، الصوم دون الاعتكاف؛ لأن التركيب الغالب في الأيمان يقع في الحج، والصدقة، والصوم دون الاعتكاف، فتأمل هذه المواطن، فهي شريعة في الأصول والفروع. المسألة الثالثة: في الحقيقة الشرعية قال: (وهي اللفظة التي استفيد من الشرع وضعها للمعنى). (سؤال) ينبغي أن يقول: من صاحب الشرع؟ لأن الشرع هو الرسالة، والرسالة لا تضع لفظا، إنما يتصور الوضع من صاحب الشرع الذي هو الله تعالى. قوله: (كان اللفظ والمعنى مجهولين في اللغة أم لا)؟ تقريره: أن العلماء قالوا: إن العرب لم تعرف لفظ (المنافق) إنما عرفت (النافقاء)، وهو باب بيت اليربوع، يستره بيسير من تراب، ويكون بعيدا من غيره، فإذا اضطره الصيادون دخل من بابه المعروف، وخرج من ذلك الباب، والصياد لا يعلم، فالمنافق لما كان يظهر الإيمان، ويبطن الكفر، حصل له ذلك الشبه فسمى منافقا، فاللفظ مجهول، والمعنى أيضا مجهول؛ لأن الشرع نقل مخالفة الظاهر للباطن للمخالفة الخاصة بين الكفر والإيمان الخاص، وهذا لم يكن معلوما لهم بخصوصه، والمعلومان؛ كالزكاة، وإخراج المال- كانا معلومين، ولم يضعوا لفظ الزكاة لإخراج المال، بل

صاحب الشرع وضعه له، ولفظ بـ (الصلاة) كان معلوما لهم اسما للدعاء، والعبادة المخصوصة كانت مجهولة لهم، فأحدهما مجهول والأخر معلوم. قوله: (منع منه القاضي مطلقا، وأثبته المعتزلة مطلقا). يريد بالإطلاق عموم الأقسام الثلاثة المعلومين والجهولين، والمعلوم والمجهول التي تقدم تمثيلها، فإن المذهبين اطردا في الجميع، فالقاضي يقول: جميع ما أطلق في الشريعة، إنما أريد به مسماه اللغوي، وأراد الله -تعالى- بـ (الصلاة) الدعاء، ودلت الشريعة أنه لا بد من إضافة أمور أخر للدعاء، وأن ذلك الدعاء يتعين أن يكون دعاء الفاتحة، وهو قوله تعالى: {أهدنا الصراط المستقيم}] الفاتحة: 6 [، وأن يضاف إليه جميع الفاتحة مع جميع الشروط والأركان. والمعتزلة يقولون: بل نقل صاحب الشرع هذه الألفاظ، وجعلها اسما لهذه الحقائق المتحددة، كما يسمى الإنسان ولده جعفرا باسم النهر الصغير. والمصنف وغيره قالوا: استعملها صاحب الشرع مجازا عن الحقائق اللغوية، فهذه ثلاثة مذاهب. وقال سيف الدين: نفى (القاضي) الوضع الشرعي، وأثبته (المعتزلة) والفقهاء والخوارج)، فجعل الفقهاء مع المعتزلة، ولم يتعرض له المصنف، وكذلك نقله أبو الحسين في (المعتمد). وقال أبو إسحاق في (اللمع (: هذه أول مسألة نشأت في الاعتزال؛ لأنه لما قتل عثمان -رضي الله عنه- ونشأت الفتنة، ثم جاءت المعتزلة، قدحوا في الصحابة -رضي الله عنهم- وقالوا: لا نجعلهم مؤمنين، بل منزلة بين منزلتين.

(تنبيه) يشكل تصميم القاضي على هذه المسألة، وهذا التصميم مع أنه يساعد على إمكان المجاز في كلام صاحب الشرع، ووقوعه في القرآن، والسنة ... إلخ

قيل لهم: إنهم مصدقون، والإيمان هو التصديق، والمؤمن المصدق قالوا: إن اسم الإيمان قد انتقل لمن لم يعمل كبيرة. قال: وسمعت (أبا الطيب) يقول: سمعت القاضي أبا بكر يقول: ذهبت ناشئة المعتزلة، وناشئة القدرية، وقوم من المتفقهة إلى أن في الأسماء منقولا، ولم يعلموا ما في ذلك من الكفر والطغيان، وذكر ما تقدم من أمر الصحابة رضي الله عنهم. قال أبو إسحاق: ويمكننا آن نحترز من هذه المسألة فنقول: الأسماء منقولة إلا هذه المسالة فإنها أول بدعة ظهرت في الإسلام. وقال الإمام في (البرهان): قال القاضي، وطوائف بعدم النقل، وأنها مقرة على معناها، ولم يرد فيها شيء. وقالت طوائف من الفقهاء: أقرت وزيد في معناها، وقالت المعتزلة بالنقل. واستمر القاضي على لجاج ظاهر فقال: الصلاة الدعاء، والمسمى بها في الشرع الدعاء عند وقوع أفعال وأقوال، قال: والمختار أنها مجارات عن اللغوية، فتصير المذاهب أربعة. (تنبيه) يشكل تصميم القاضي على هذه المسألة، وهذا التصميم مع أنه يساعد على إمكان المجاز في كلام صاحب الشرع، ووقوعه في القرآن، والسنة فلم لا قال بالمذهب الثالث وهو أن اللفظ استعمل فيها مجازا، ويستريح من

التشنيعات التي تنشأ عن إرادة الحقيقة اللغوية في قوله- صلى الله عليه وسلم-: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور). وقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}] البقرة: 185 [مع

تقرير: إنما سمت المعتزلة أسماء الأفعال بالشرعية؛ لأنها شرائع

أنه لا يفهم أحد من ذلك إلا الصلاة المخصوصة، والإمساك المخصوص، فلو قال بالمجاز لم يكن في ذلك محذور، وما الفرق بين المجاز في هذه اللفظات، وبين سائر الألفاظ التي وقع فيها المجاز، وهى كثيرة جدا؟. تقرير: إنما سمت المعتزلة أسماء الأفعال بالشرعية؛ لأنها شرائع، وسمت أسماء الفاعلين دينية؛ لأن الدين له معان أحدها: الطاعة، ومنه قوله تعالى: {وذلك الدين القيمة}] البينة: 5 [، {إن الدين عند الله الإسلام}] آل عمران: 19 [، وهو المراد هاهنا، والفاعلون هم المطيعون، والطاعة متأتية منهم، بخلاف الأفعال، فلذلك خصصوا الشرعية بالأفعال، والدينية بالفاعلين. (قاعدة) اللفظ العجمي إنما كان عجميا؛ لأن واضعه الأول العجم، واستعماله بعد ذلك من العرب لا يبطل ذلك، ولا يحدد له عربية، وكذلك وضع العرب له، فإذا سمت العرب ولدها بإبراهيم وغيره من الألفاظ العجمية، لا تصير تلك الألفاظ عربية بالأوضاع الطارئة بعد ذلك وإن كانت عربية، ومقتضى هذا أن اللفظ لا يكون عربيا إلا لكون واضعه الأول عربيا، وإن وضعه غير العرب بعد ذلك، كوضع الشرع وغيره لا يخرجه ذلك عن كونه عربيا، فظهر حينئذ انحصار أسباب كون اللفظ عربيا، وعجميا في واضعه الأول. وكذلك أيضا الإفادة لا توصف بكونها عربية ولا عجمية؛ لأن الإفادة هي المفهم من اللفظ لمسماه، والمفهوم في العرب والعجم نشأ عن الطباع البشرية، وذلك لا يغيره كون السامع عربيا أو عجميا، فكما لا يقال: في علم العرب إنه عربي، ولا في علم العجم إنه عجمي، لمعنى تباين النوع، لا لمعنى صحة النسبة للمحل، فكذلك لا يقال في الإفادة: إنها عربية ولا عجمية.

إذا تقرر هذا كان قوله (إن الإفادة لو لم تكن عربية لم يكن القرآن عربيا) كلام بعيد عن الصواب إلا أن يريد بأن الإفادة عربية أنها نشأت عن وضع عربي، فهذا مجاز لا حاجة إليه. بل فيقول: لأن هذه الألفاظ لو لم تكن عربية؛ لأن واضعها الأول هو العرب لما كان القرآن كله عربيا، واستقام البحث من غير حاجة لوصف المفهوم بوصف لا يقبله إلا على طريق المجاز. تقرير كلامه في هذا الدليل دائر بين نصرة مذهبه، ومذهب القاضي، ولا يتعين لأحدهما؛ لأن المجاز عن اللفظ اللغوي لا يخرج عن كون اللفظ عربيا، بل لو قيل: هذا الدليل ظاهر في إثبات مذهب القاضي دون مذهبه لم يبعد؛ لأن اللفظ المجازى لا يفيد أصلا، بل المفيد هو المجموع من اللفظ والقرينة. أما على مذهب القاضي فالمفيد هو اللفظ، هذا إذا جرينا على قوله في الإفادة، ويمكن أن يقال: بل هو ظاهر في مذهبه، وقوله بالمجاز فقط لقوله: لو لم تكن إفادتها لهذه المعاني، وهذه إشارة إلى العبادات بخصوصها، وهذه بخصوصها لم يقل القاضي: إن الألفاظ أفادتها ألبتة، بل اللفظ إنما أفاد المسميات اللغوية، والعمائم التي ضمت المسميات اللغوية بأدلة خارجية. وقوله:) وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم). تقريره: أنه جعل عدم كون إفادة هذه الألفاظ لغوية ملزوما لعدم كون القرآن عربيا، فالملازمة واقعة بين عدمين، واللازم منفى؛ لأن القرآن عربي عملا بالنص، فينتفي الملزوم، وهو عدم كون إفادة هذه الألفاظ لغوية.

(قاعدة) (الملزوم): ما يحسن فيه (لو) كانت فيه (لو) أم لا. (واللازم) ما يحسن فيه اللام ... إلخ

(قاعدة) (الملزوم): ما يحسن فيه (لو) كانت فيه (لو) أم لا. (واللازم) ما يحسن فيه اللام كانت فيه أم لا، نحو إن كان العدد عشرة فهو زوج، فلو قلت:.لو كان العدد عشرة لكان زوجا لصح، ولو قلت: لو كان زوجا لكان عشرة لم يصح، كقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}] الأنبياء: 23 [، فجعل الملزوم بصيغة (لو) وهو الشريك، ولازمه الذي هو الفساد بصيغة (اللام)، ويؤنس ذلك أن تقول: الواو للواو، واللام للام؛ لأن الواو في ملزوم، والواو في لو، واللام في اللازم، وله اللام. (قاعدة) اللازم والملزوم لكل واحد منهما وجود وعدم، وأحدهما عقيم، والآخر منتج، فالمنتج عدم اللازم ينتج عدم الملزوم، ووجود الملزوم ينتج وجود اللازم، فنقول: لو كان عشرة لكان زوجا، لكنه ليس بزوج، وليس بعشرة، لكنه عشرة فهو زوج، وعدم اللزوم ووجود اللازم عقيمان، فلو قلت: لكنه ليس بعشرة فليس زوجا لم يصح لاحتمال أن يكون زوجا كالستة أولا زوجا كالخمسة، فالثابت على تقدير عدم العشرة يحتمل أن يكون زوجا، وغير زوج، ووجود اللام لا يفيد شيئا، فلو قلت: لكنه زوج، فهو عشرة أو لا عشرة لم يلزم لاحتمال أنه ستة أو عشرة، فكل ما وجوده منتج فعدمه عقيم، وكل ما عدمه منتج فوجوده عقيم. (قاعدة) اللازم والملزوم قد يكون كل واحد منهما عدما نحو: لو لم يكن زوجا لم يكن عشرة، أو كل واحد منهما وجودا نحو: لو كان عشرة لكان زوجا، أو الملزوم وجودا، واللازم عدما نحو: لو كان عشرة لم يكن فردا أو الملزوم

عدما، واللازم وجودا نحو: لو لم يكن زيد ساكنا لكان متحركا، فهذه أربعة أقسام، وقد تقدم في أول الكتاب عند باب النظر اللازمة العلمية والظنية والكلية والجزئية، فيطالع من هناك. قوله: (أما فساد اللازم فكقوله تعالى: {قرأنا عربيا}] يوسف: 2 [. يرد عليه أن المحكوم به على الشيء الذي يسميه أهل المنطق المحمول، والنحاة الخبر قد يصح ثبوته لذلك الشيء باعتبار وجه من وجوهه، ولا يقتضى ذلك الشمول فيه، ويثبت له ضد ذلك الحكم باعتبار آخر في ذلك المحكوم عليه؛ كما نقول: زيد صديق باعتبار المؤمنين، وعدو باعتبار الكافرين، وكذلك مائل نافر، محب كاره، مؤمن كافر باعتبار الله تعالى، وباعتبار الطاغوت، وكذلك صور كثيرة تجتمع فيها الأحكام المتضادة بوجوده واعتبارات، فوصف القرآن بأنه عربي لا يقتضى أنه ليس بعجمي، فلعله مما تقدم من النظائر. وتقريره: أنه جاز أن يكون عربيا باعتبار صيغه ونظمه وتركيبه، لا باعتبار مفرداته كما قيل فيه: إنه معجز والمراد غير المفردات، فعلى هذا احتمل أن تكون فيه ألفاظ كثيرة غير عربية، وهو موصوف بأنه عربي كما تقدم. قوله: (دليلكم يقتضى أن هذه الألفاظ مستعملة فيما كانت العرب يستعملونها فيه). ] قلنا: لا نسلم أنه يلزم من كون الإفادة عربية أن تكون مستعملة فيما كانت العرب يستعملونها فيه [ بيانه: وذلك أن إفادة اللفظ ترجع لدلالة اللفظ، وقد تقدم في دلالة الألفاظ مباحث. أحدهما: في الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل. والحمل: هو دلالة اللفظ، فقد يدل اللفظ على شيء، ويكون السامع

فهمه منه، ويكون المتكلم قد استعمله في غيره، بل صيغة العموم إذا ورد عليها التخصيص بالعقل أو غيره؛ لا تكون مستعملة في العموم، واللفظ العام إنما يفيد العموم، فالإفادة في شيء، والاستعمال في غيره. قوله: (الملازمة ممنوعة؛ لأن هذه الإفادة وإن لم تكن عربية، لكن العرب كانوا يعنون بها عين هذه المعاني، فكانت عربية). قلنا: قد تقدم أن اللفظ لا يكون عربيا لكون المستعمل عربيا، ولا عجميا، ولا عنى به هو ولا غيره معنى يريده، بل لكون الواضع الأول عجميا أو عربيا، فلا يصح قوله: فكانت في الجملة عربية كذلك. قوله: (القرآن يقال بالاشتراك على مجموعه، وعلى كل جزء منه). قلنا: هذا يقتضى أنه متواطئ، وأدلته بعد ذلك تقتضى التواطؤ، وأن لفظ القرآن موضوع للقدر المشترك بين أجزائه، وهو مطلق الجمع، وإذا كان موضوعا للقدر المشترك لا يكون اللفظ مشتركا؛ لأن المتواطئ مسماه واحد، والمشترك مسماه متعدد، فهما ضدان، والجمع بينهما محال. قوله: (القرآن مأخوذ من القراءة وهى الجمع). قلنا: النقول في كتب اللغة في الجمع قول العرب: قريت الماء، في الحوض إذا جمعته، فهو من ذوات الياء، ولم يقولوا: قرأت الماء بالهمزة. والقاعدة: أن الهمزة تخفف كحروف العلة، لا أن حروف العلة تصير همزة؛ لأن القاعدة الانتقال من الثقل للخفة لا من الخفة للثقل، فأخذ القرآن من قريت الماء في الحوض مشكل. قوله: (إذا ثبت أن بعض القرآن يسمى قرآنا لا يلزم من تسمية القرآن عربيا أن يكون كله عربيا.

(التنبيه) العجب، من نقضهم بأربع كلمات فيها النزاع

تقريره: أن لفظ (قرآن) على هذا التقدير دائر بين جميع أجزاء القرآن، والمطلق يتأدى بصورة كما تقول: عند زيد ماء حلو لا يلزم أن جميع الماء، حلو؛ لأن الحكم كان على مطلق الماء لا على كل ماء فقوله تعالى: {قرآنا عربيا}] يوسف: 2 [يحتمل أنه أراد به الجزء الذي في القرآن عربي دون ما هو غير عربي. قوله: (الحروف التي في أوائل السور ليست عربية). قلنا: لا نسلم بل هي عربية؛ لأنه قد تقدم في حد الكلام أن العرب وضعت كل لفظة من هذه اللفظات لحرف من حروف الكلم، فالقاف للحرف الأول من قال،] الألف للثاني، واللام للثالث منه [، فجميع الحروف التي في أوائل السور موضوعة وضعا عربيا، وجمعها في أوائل السور كجمع كلمات عربية في اسم علم، فلو سمى شخص بإنسان طير سمك لم يقل أحد: إن هذا الاسم عجمي بل عربي، نعم يمنعه الصرف للتركيب والعلمية لا العجمة، فكذلك هذه الحروف التي في أوائل السرر كلها عربية. (التنبيه) العجب، من نقضهم بأربع كلمات فيها النزع وهي: المشكاة، والإستبرق، والقسطاس، والسجيل، والكلمات العجمية في القرآن كثيرة جدا، فقد قال النحاة: أسماء الملائكة كلها عجمية إلا أربعة: منكر، ونكير، ومالك، ورضوان، وأسماء الأنبياء كلها عجمية إلا أربعة: شعيب، وصالح، وهود، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليهم أجمعين، فعلى هذا كل نبي أو ملك ذكر اسمه في القرآن فهو أعجمي، وكذلك ما ذكر مضافا من العجم غير هؤلاء نحو: فرعون، وهامان، وقارون، وآذر، وهو كثير، فالكلمات العجمية في القرآن مجمع عليها، ولا تحتاج لهذا التكلف، والقرآن إنما هو عربي باعتبار تراكيبه، واستعمالاته، ونظمه لا باعتبار جميع مفرداته.

قوله: (استثنى الله- تعالى- المسلمين من المؤمنين في قوله تعالى: {فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين}] الذاريات: 36 [). قلنا: هذا ليس استثناء؛ لأن النحاة إنما تعرب (غير) هاهنا مفعولا بـ (وجدنا) لا بالنصب على الاستثناء سلمنا أنه استثناء، لكن الاستثناء لا يقتضى اتحاد اللفظ، ولا اتحاد المعنى، وان كان الاستثناء، متصلا تقول: لبست كل ثوب إلا الكتان فهذا متصل، واللفظ متباين، فإن الكتان لم يوضع للثوب، والمعنى غير متحد؛ فإن عموم الثياب غير خصوص الكتان، فدعوى الاتحاد استدلالا بالاستثناء لا تصح، بل كان ينبغي أن يقول: لو كان معنى الإسلام مباينا للإيمان، ومغايرا له لما انتظم الكلام؛ فإنك إذا قلت: أخرجت جميع أعدائك فما وجدت غير بيت من أصدقاتك لم ينتظم لتباين المعنيين حتى تقول: فما وجدت غير بيت من أعدائك. قوله: (والفاسق لا يستغفر له الرسول حال كونه فاسق، بل يلعنه (. قلنا: لا نسلم، بل نحن مأمورون بالاستغفار للعصاة، والدعاء لهم بالمغفرة والهداية، وتيسير الطاعة، بل نفعل ذلك مع اليهود فضلا عن الفسقة، بل العاصي أحوج للشفاعة، والدعاء من الطائع، وأما اللعنة فمنهي عنها، وقد قال عليه السلام: (المؤمن لا يكون لعانا). قوله: (قالوا: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته}] آل عمران: 192 [، ولم يكذبهم). قلنا: قد حكى الله -تعالى- أقوالا كثيرة باطلة ولم يكذب قائلها نحو

(سؤال) هذا الوجه الرابع وضع في الشكل الثاني، وشرطه: اختلاف مقدمته في الكيف وكلية الكبرى

قولهم: {ما جاءنا من بشير ولا نذير}] المائدة: 19 [، وقولهم: {لو أن لي كرة فأكون من المحسنين}] الزمر: 58 [، ولم يكذب الله -تعالى- هذا القول مع أنه باطل؛ لأن من قدر الله -تعالى- عليه العذاب لا يكون محسنا أبدا، وقد قال الله تعالى: {ولو ردوا لعادوا}] الأنعام: 28 [غير أن بعض العلماء قال: إنما يترك الله -تعالى- الرد على الأقوال الباطلة إذا كانت ظاهرة البطلان، أما إن خفي البطلان، فيحتمل الصدق، فيرده، وقوله تعالى: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته}] آل عمران: 192 [ليس ظاهر البطلان، بل مقطوع الصحة، وكفى بالنار خزيا للمعذب بها. (سؤال) هذا الوجه الرابع وضع في الشكل الثاني، وشرطه: اختلاف مقدمته في الكيف وكلية الكبرى، والكبرى هاهنا جزئية؛ لأن قوله تعالى: {والذين آمنوا معه}] التحريم: 8 [، هذه المعية إن حملناها على المعية في عدم الجزئي دخله التخصيص بما دلت عليه أحاديث الشفاعة أن طوائف من المؤمنين يدخلون النار، وإن حملناها على المعية في الإيمان في زمانه كان أرجح لوجهين: الأول: أن المعية حقيقة في الزمان دون المعية في الصفة. الثاني: أن يكون أبعد عن التخصيص فيتعين، وعلى هذا التقدير يكون المراد بعض المؤمنين، فتكون الكبرى جزئية فلا تنتج. قوله: (حال كونه مؤمنا يسمى مؤمنا). قلنا: مجاز، فاستوي الإيمان بمعنى التصديق، وبمعنى الأعمال في كونه حالة البر، وفيه مجاز.

أسماء الخيل في حلبة السباق عشرة

قوله: (يلزم أن يكون المصدق بالطاغوت مؤمنا). قلنا: نحن نقول: حيث أطلق الشرع لفظ الإيمان أراد اللغوي، ثم دلت الدلائل من خارج على أن المراد خصوصيات أخر، كما قلنا في الصلاة والصوم، فدلالة الدليل على الخصوصية لا يكون الشارع أراد باللفظ مطلق التصديق الذي يصدق بكل تصديق، وهو الجواب عن السابع. قوله: (التصديق بوحدانية الله -تعالى- لا يجامع الشرك يعنى في القلب، فيتعين صرف الإيمان للأعمال). قلنا: لا يمتنع اجتماعهما في القلب؛ لأن النفس ذات جواهر نورانية يقبل كل جوهر منها ضد ما قبله الآخر، فيقوم بجوهرين منها التوحيد، والشرك، ويكون الإيمان على بابه للتصديق من غير نقل، ولذلك يقول: يقوم بالنفس العلم بشيء،، والجهل بشيء آخر، فكذلك هاهنا يمكن التصديق ببعض ما جاءت به الشريعة، والشرك لا ينافيه كما أن المشرك يصدق بتحريم القتل وغيره مع أنه مشرك. قوله: (سمى الطائر الذي مع السابق مصليا). قال أئمة اللغة: أسماء الخيل في حلبة السباق عشرة يجمعها قول الشاعر] الطويل [: أتانا المجلى والمصلى وبعده الـ .... مسلى ونال بعده عاطف يسرى ومرتاحها ثم الحظى مؤمل .... وجاء اللطيم والسكيت له يبرى فهذه أسماؤها على التوالي من أولها إلى آخرها السابق فالسابق. قوله: (الصلا عظم الورك). المشهور: أن الصلا عرق في الظهر عند العجز، ثم يتفرع في الوركين عرقان مسميان صلوين، ومنه قول ابن دريد في صفة الفرس] الرجز [:

قريب ما بين القطاة والمطا ... بعيد ما بين القذال والصلا فالقطاة: مقعد الرديف، والمطا: الظهر، والقذال: ما بين الأذنين، فهو يصفه بطول العنق. قوله: (الصلاة لا يفهم منها اليوم الدعاء ولا غيره مما قيل فيها). قلنا: عدم الفهم قد يكون لغلبة الاستعمال، ولا نزاع فيه، إنما النزاع في نقل الله -تعالى- لها أول نزول هذه الألفاظ، أما اشتهارها بعد ذلك بغلبة الاستعمال فمتفق عليه، وهو الجواب عن كثير من أسئلتهم. قوله: (الصلاة الأخرس صلاة ولا دعاء فيها). قلنا: هذا يتخرج على أن الكلام وتوابعه موضوع للساني، أو النفساني، أو هو مشترك، وهو المشهور، يمنع ألا يكون للأخرس دعاء، فإنه يدعو بكلامه النفساني حقيقة لغوية. قوله: (الزكاة للزيادة، وفى الشرع للتنقيص). قلنا: مال الإنسان ما ينتفع به، فالمال في الحقيقة ما كان عند الله -تعالى- كما قال عليه السلام: (يربى الله -تعالى- لأحدكم صدقته كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله).

وقال عليه السلام: (ليس لك من مآلك إلا ما أنققت في فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت). وقال الله تعالى: {ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ}] النحل: 96 [، والمخرج في الزكاة زائد في المال الأخروي، ولذلك كان بعض السلف يقول للسائل: مرحبا بمن جاء يحول مالنا لدارنا. قوله: (الدعاء هو الجزء المقصود في الصلاة لقوله تعالى: {أقم الصلاة لذكرى}] طه: 14 [). قلنا: هذا يبطل بوجوده: أحدهما: أن الأركان مجمع عليها بخلافه. وثانيها: قوله عليه السلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجدا). ولم يقل: قارئا ولا داعيا، وذلك يدل على أن السجود أفضل. وثالثها: قوله عليه السلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا

ذكرها)، فإن الله -تعالى يقول: {أقم الصلاة لذكرى}] طه: 14 [أخرجه مسلم، وهو يدل على أن المراد بالذكر ذكر العبادة لا ذكر الله تعالى، وإلا لما ارتبط الكلام. قوله: (كون اللفظ ليس عربيا ليس لذاته، بل لكونه دالا على المعنى المخصوص (. قلنا: لا نسلم ذلك، بل إنما تكون عربية لكون واضعها الأول عربيا، كما تقدم بيانه. قوله: (لو كان القرآن يصدق على أجزائه لما صدق أن الله -تعالى- إنما أنزل قرأنا واحدا). قلنا: كما يصدق أن ماء النيل ماء واحد، وماء البحر المالح ماء واحد، مع أن كل جزء من أجزائه يسمى ماء، وما ذلك إلا أن الوحدة تطلق

(سؤال) قال (سراج الدين): كل القرآن وبعضه لا يعارض الذي ذكره؛ لصدق القرآن على الجزء والكل بالاشتراك اللفظي والمعنوي

باعتبارات عديدة، فيقال: واحد بالنوع، وواحد بالشخص، وواحد بالمذهب، وواحد بالصفة، وواحد بالزمان، وواحد بالمكان، وكل شيء أضيفت إليه الحقيقة أمكن أن تكون واحدة به، كذلك القرآن واحد بالنوع لا واحد بالأجزاء، أو واحد بالمبدأ والمختم، وكما يقول: كلام الله- تعالى- واحد، وهو أمر، ونهى، وخبر، وكل واحد منها يسمى كلاما لله تعالى. قوله: (يقال في كل سورة: إنها بعض القرآن، ومن القرآن، فدل على أن القرآن لا يصدق على كله). قلنا: نقول في كل غرفة من الماء من البحر: إنها من الماء، وبعض. الماء، مع صدق لفظ الماء على جميع أجزاء الماء، وكذلك بقية النظائر المتقدمة. (سؤال) قال (سراج الدين): كل القرآن وبعضه لا يعارض الذي ذكره؛ لصدق القرآن على الجزء والكل بالاشتراك اللفظي والمعنوي يعنى: أن لفظ القرآن لما كان مشترك بين البعض والكل عندهم صدق بعض القرآن باعتبار أحد المسميين، وذلك لا ينافى الاشتراك في اللفظ، ولم يدعوا غيره. وقوله: (الحروف التي في أوائل السور أسماء السور). قلنا: هذا لا يخلص من السؤال؛ لأن الخصم قال: وجد في القرآن ما ليس بعربي، وإذا كانت أسماء السور، فالمسمى بها هو الله تعالى، وإنما يكون اللفظ عربيا، إذا كان المسمى عربيا،، وهاهنا ليس كذلك، فإذا جعلها أسماء السور لا تكون عربية، وهو مطلوب الخصم، بل الجواب عن ذلك ما تقدم في الإيراد على هذا الوضع عند ذكره في هذا الشرح. قوله: (في المشكاة ونحوها لا مانع من كونها عربية أيضاً).

قلنا: مسلم، ولكن ما الموجب لكونها عربية، فلا يلزم من عدم المانع من وقوع الشيء وقوعه، بل الوقوع يتوقف على السبب بعد انتفاء المانع، لاسيما وقد نقل أنها عجمية، والأصل عدم وضع العرب لها، فمذهب الخصم معضود بأصلين: عدم السبب، وعدم الوضع، وأنتم لم تقيموا الدلالة على خلاف ذلك. قوله: (العام إذا خص بقى فيما عدا محل التخصيص حجة). قلنا: القرآن على رأيك اسم للكل لا لكلية، والعام: هو الموضوع للكلية، فاسم القرآن ليس من باب العموم، غير أن المقصود يحصل من جهة أن الدليل إذا دل على أن كل العشرة دراهم جياد، فخصص ذلك بدرهم منها بقى الدليل معمولا به، فيما عدا ذلك الدرهم مع أن العشرة كل لا كلية كما سيأتي في الفرق بينهما في (العموم) إن شاء الله تعالى. قوله: (الزكاة نقل فيها اسم السبب للمسبب). تقريره: إن الزكاة اسم للزيادة والنماء، وسبب وجوب الزكاة ملك الأموال النامية: العين، والحرث، والماشية، فسمى المسبب الذي هو إخراج ذلك الجزء زكاة إطلاقا لاسم السبب على المسبب. وقيل: من مجاز التشبيه؛ لأنها تزيد في تزكية نفس مخرجها، وصفات كماله لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}] التوبة: 103 [. قوله: {وذلك دين القيمة}] البينة: 5 [من لفظ الوجدان أي: وضع للمفرد). قلنا: مسلم، ولكن يعود على جميع ما مضى وصف مفرد مذكر تقديره: ذلك المذكور، والمذكور مفرد مذكر كما قال الله تعالى: {والذين لا يدعون

(الفرع الأول) قوله: (النقل يتوقف على نسخ الوضع السابق) لم يرد به النسخ الاصطلاحي الذي هو رفع الحكم الشرعي، بل اللغوي

مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون، ومن يفعل ذلك يلق أثاما}] الفرقان: 68 [. أي: ومن يفعل ذلك المذكور، وقوله تعالى: {عوان بين ذلك}] البقرة: 68 [، مع أن (بين) لفظ لا يكون إلا بين اثنين، فعبر بذلك عن مجموعهما، وهذا الإضمار أولى من إضمار الدين والإخلاص؛ لأن الإشارة كالضمائر الأصل أن تعود إلى الملفوظ، أو ما هو أقرب إليه، والمذكور أقرب من الإخلاص للمنطوق. وقوله: (إضمارهم يؤدى إلى تغيير اللغة، بخلاف إضماره). ممنوع؛ لأن إضمارهم ذلك الذي أمرهم به كما قدره لهم، وهو لو صرح بهذا لم يكن فيه تغيير اللغة، غير أنه يريد بالتغير إطلاق لفظ دين القيمة على العبادات، وهذا أيضا ليس فيه تغير؛ لأن لفظ الدين له محامل نقلها أئمة اللغة أحدهما الطاعة، وهو المراد هاهنا فلا تغير ألبتة. قوله: (الإيمان في عرف الشرع: تصديق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل أمر ديني علم بالضرورة مجيئه به). يريد أن جاحد ما لم يعلم بالضرورة لا يخل بكونه مؤمنا، ولا تزول عصمة دمه بذلك. (الفرع الأول) قوله: (النقل يتوقف على نسخ الوضع السابق) لم يرد به النسخ الاصطلاحي الذي هو رفع الحكم الشرعي، بل اللغوي بمعنى أن ذلك الرجحان، والسبق إلى الذهن الذي كان للمسمى الأول عند الإطلاق بطل وصار للثاني، وهذا هو النسخ اللغوي؛ لأنه للإزالة. (الفرع الثاني) (قاعدة) متى كان اللفظ مطلقا على أشياء لا باعتبار مشترك بينها، فاللفظ مشترك

(سؤال) قال سراج الدين: يكون اللفظ موضوعا للفعل الواقع على أحد هذه الوجوه المخصوصة

كلفظ (العين)، و (القرء)، ونحوهما لا يطلقان على تلك المسميات باعتبار مشترك بينها، ومتى كان يطلق باعتبار مشترك لم يكن اللفظ مشتركا من ذلك الوجه، كلفظ الحيوان يطلق على أنواعه باعتبار كونها جسما حساسا، فلا جرم لم يكن مشترك بل متواطئا، فلفظ الصلاة كلفظ العين على ما بينه. (سؤال) قال سراج الدين: يكون اللفظ موضوعا للفعل الواقع على أحد هذه الوجوه المخصوصة، وعلى هذا يكون متواطئا. قوله: (والأظهر أن المترادفة لم توجد) يشكل عليه بما قدم أول الكتاب من أن الفرض مرادف للواجب، وقد وجدا معا في أصل الشريعة مطلقين على شيء واحد، ففي الحديث الصحيح خرجه مسلم، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حكاية عن الله تعالى: (ما تقرب إلى عبد بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه). فالمراد: هاهنا جميع الواجبات إجماعا؛ ولأنه قابلها بالنوافل، وقد سماها قربا، فثبت الترادف. (الفرع الثالث) قوله: (الفعل دال على حصول المصدر لشيء غير معين في زمان معين). يريد بغير المعين الفاعل، وبالزمان المعين أحد الأزمنة الثلاث، فتعين الزمان بالنوع لكونه يعين أحد الثلاثة، إما الماضي، أو الحال، أو المستقبل،

(سؤال) قوله: (إذا كان المصدر لغويا استحال كون الفعل شرعيا)

والفاعل لم يتعين بشيء من ذلك، فجعله غير معين، وكلاهما غير معين بالشخص، بل التعين في أحدهما بالنوع، والآخر مسلوب التعين مطلقا. (سؤال) قوله: (إذا كان المصدر لغويا استحال كون الفعل شرعيا). قلنا: لا نسلم لأن المصدر، والفعل صيغتان لكل واحدة منهما مسمى يخصها، لا يلزم من حصول النقل في إحديهما النقل في الأخرى، ولا التجوز بإحديهما التجوز بالأخرى؛ لأنك تعلم بالضرورة أنه إذا نطق الإنسان بالمصدر قد سكت عن لفظ الفعل، وبالعكس، نعم مسمى المصدر هو جزء مسمى الفعل، لا أن المصدر نفسه جزء الفعل، بل هما صيغتان مختلفتان في البناء، ويكفى أن إحداهما اسم والأخرى فعل، وحينئذ جاز أن ينقل الشرع الفعل دون المصدر فيكون المصدر لغويا، والفعل شرعيا، وكذلك قد ينقل صاحب الشرع المصدر دون الفعل، فيكون المصدر شرعيا، والفعل لغويا فلا ملازمة بين الطرفين، وبحثه هاهنا كبحثه في أن المصدر لا يكون بالذات إلا في (أسماء الأجناس)، وهو باطل على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. (الفرع الرابع) الخلاف في صيغ العقود الذي أشار إليه هو مع الحنفية، مع أن بعضهم يقول: المنقول عندنا أنها إنشاءات، واحتجوا لكونها إخبارات: بأن الإخبارات هو أصلها إجماعا غير أن الشرع ربط الأحكام بها، وذلك لا يقتضى إخبارا إن كانت أخبارا أن تكون كاذبة، فهل نجعلها إنشاء، فلا يدخلها الصدق ولا الكذب؟ أو نقول: الشرع يقدر تقدم مخبراتها عليها بالزمن الفرد لضرورة تصديقه، قالوا: هذا أولى لوجوه. أحدها: لأن التقدير متفق عليه إجماعا، والنقل مختلف فيه

(قاعدة) الفرق بين الإنشاء والخبر من ثلاثة أوجه

وثانيها: أن التقدير من باب الإضمار الذي تكفى فيه أدنى قرينة، والنقل يحتاج لمقدمات لأكثر كما تقدم تقريره. وثالثها: على تقدير الإضمار يكون اللفظ حقيقة لغوية، وعلى تقدير النقل يكون مجازا لغويا، والحقيقة أولى من المجاز، ثم إن التقدير واقع في الذي قال: اعتق عبدك عنى، فيقدر دخول العبد في ملك الآمر قبل العتق بالزمن الفرد، وتقدير الدية في ملك المقتول خطأ قبل موته بالزمن الفرد، وتقدير، النقود، والقيم والأعيان في السلم، والمنافع في الإجارات في الذمم حتى يصح ورود العقد عليها، وقد بينت في كتاب (الأمنية في إدراك النية) أن غالب أبواب الفقه لا بد فيه من التقدير، فالعدول إلى القاعدة العامة أولى من النقل المختلف فيه، احتج المخالفون بأن علامة الحقيقة موجودة في هذه الألفاظ من المبادرة عند عدم القرينة، والاستعمال مع التجريد عنها وغير ذلك، فوجب القول بأنها حقيقة، ولا نعنى بالنقل إلا ذلك. (قاعدة) الفرق بين الإنشاء والخبر من ثلاثة أوجهٍ: الأول: أن الأخبار يدخلها التصديق والتكذيب، بخلاف الإنشاء. الثاني: أن الخبر تابع لتقرر مخبره في زمانه ماضيا وحالا أو مستقبلا، والإنشاء، يتبعه مدلوله ومتعلقه، فالخبر تابع، والإنشاء متبوع. الثالث: أن الخبر ليس سببا لمدلوله، والإنشاء سبب لمدلوله، قولنا: قام زيد، ليس سببا لقيامه

(قاعدة) عشر حقائق في اللغة لا تتعلق إلا بالاستعمال دون الحال والماضي ... إلخ

وقولنا: أنت حر سبب للعتق. قوله: (لو كانت إخبارا عن الماضي أو الحال لامتنع تعليقه). قلنا: لا نسلم، ومستند المنع أنه إذا قال: إن دخلت الدار فأنت حر، هذا عندنا إخبار عن ارتباط العتق بالدخول، فنحن نقدر بعد نطقه بصيغة التعليق الارتباط قبل نطقه بالزمن الفرد لضرورة تصديقه، ومتى كان المخبر قبل الخبر، ولو بالزمن الفرد صدق على ذلك الخبر أنه ماض؛ لأنا لا نعنى بالخبر عن الماضي إلا الذي يتقدمه مخبره، فقد اجتمع التعليق، وكونه خبرا عن ماضٍ من غير محال، وإما يمتنع تعليق الماضي إذا كان واقعا قبل النطق بالخبر، أما (ذا كان معدوما قبله، وقدرناه بعده بالزمن الفرد فليس محالا، وإذا كان الماضي أعم مما يصح تعليقه صح المنع في أنه لو كان ماضيا امتنع تعليقه لما بيّنا. (قاعدة) عشر حقائق في اللغة لا تتعلق إلا بالاستعمال دون الحال والماضي: الأمر، والنهي، والدعاء، والشرط وجزاؤه، والوعد، والوعيد، والترجي، والتمني، والإباحة. فهذه القاعدة هي أصل هذا البحث، ويبنى عليها فوائد كثيرة في الأصول، والفروع، والكتاب، والسنة، ويفهم منها معنى قوله عليه السلام: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم ...) الحديث، ويندفع الإشكال في أن هذا الحديث يقتضى تفضيل إبراهيم على محمد عليهما أفضل السلام؛ لأن المشبه دون المشبه فتأمل ذلك، فليس هذا موضع بسطه، وهي قاعدة جليلة، فاضبطها ضبطا حسنا.

قوله: (لو كانت الصيغة كذبا لم يعتبرها الشرع. تقريره: أن الشرع لا يعتبر الخبر الكذب في أن يرتب عليه ما يرتبه على الصدق، فمن قال: أنا زنيت بهذه وهو مجبوب لا نحده، أو قال: اليوم سرقت من الهند مالا لا نقطعه ونحو ذلك؛ لأن الأحكام تتبع المصالح والمفاسد، والخبر الكاذب ليس معه مفسدة المخبر عنه، ولا مصلحته، فلا يترتب حكم. قوله: (الخبر الصدق يتوقف على وجود المخبر عنه). قلنا: لا نسلم؛ فإن الخبر عن المستقبل صدق، ومخبره لم يوجد بعد، بل ينبغي أن يقول: الخبر الصدق يتوقف على تقرير مخبره في زمانه ماضيا أو حالا أو مستقبلا، فلولا تقرر قيام الساعة لما صح إخبارنا عنها، وكذلك جميع المستقبلات فلفظ التقرر أولى من لفظ الوجود، ثم إنه ينتقض بالخبر عن المستحيلات نحو الخبر عن اجتماع النقيضين، وغيره فإنه إخبار عما لا يقبل الوجود ألبتة، وبالخبر عن عدم العالم وجميع أجزائه، فإن العدم لا يقبل الوجود وإن قبله المعدوم. قوله: (يلزم الدور). قلنا: لا نسلم بل هاهنا ثلاثة أمور: الخبر، وتقدير الطالقية قبله بالزمن الفرد، وصدق الخبر، فالواقع في الرتبة الأولى الخبر، ثم تقدر بعد النطق به الطالقية لضرورة التصديق، فيصير صادقا بعد التقدير، فاللفظ متوقف عليه مطلقا، ولم يتوقف على شيء، والصدق متوقف مطلقا، ولم يتوقف عليه شيء، وتقدير الطالقية متوقف عليه، فيتوقف على اللفظ، ويتوقف عليه الصدق، وإذا كان الأمر واقعا على هذا الترتيب بين ثلاثة أشياء فلا دور، إنما الدور بين شيئين يتوقف كل واحد منهما على الآخر توقفا سبقيا احترازاً

(قاعدة) متى ورد التكليف بشيء غير مكتسب تعين صرفه لسببه

عن التوقف المعى؛ فإنه لا دور فيه، فإذا قلت: (لا أخرج حتى يخرج زيد معي)، وقال زيد: (لا أخرج حتى يخرج عمرو معي). خرجتما معا من غير محال، بخلاف إذا قال كل واحد منكما قبل قوله، ومقدوره ليس إلا قوله: طلقت، فيكون مؤثرا في الطالقية. (قاعدة) متى ورد التكليف بشيء غير مكتسب تعين صرفه لسببه، أو لثمرته، ويعنى بالمكتسب ما يقدر المأمور على إيجاده أو إعدامه عادة إما متعين الوقوع، أو متعين الانتفاء لا يرد التكليف به في عادة الشرع، وان جوزنا تكليف ما لا يطاق؛ لأن الشرع لم يجزه في عوائد شرعه، فالنازل من الشاهق لا يكلف بالنزول؛ لأنه متعين الوقوع، ولا بالطلوع؛ لأنه متعين الانتفاء عادة. مثال ما يتعين صرفه لثمرته قوله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله}] النور: 2 [. والرأفة أمر يهجم على القلب اضطرارا عند وجود سببه، فلا يمكن رفعه، فيتعين صرفه لثمرته. قال ابن عباس- رضي الله عنه-: معنى الآية لا تنقصوا الحدود؛ لأن الإنسان إذا غلب عليه الإشفاق كان ذلك سببا لتنقيصه الحد، فهو المنهي عنه لا الرأفة التي هي الرقة والرحمة الواقعة في القلب، فإنها ضرورية للبشر، وكذلك قوله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن}] الحجرات: 12 [مع أن الظن يهجم عند قيام أسبابه، ولا قدرة لأحد على دفعه عن نفسه؛ فيتعين صرفه لآثاره، فإذا حصل ظن من الظن المنهي عنه، وهو الظن الناشيء من غير سبب شرعي، كأن دلت الأمارة العادية لا الشرعية على أنه زنا، لا يجوز لنا أن نقول: فلان زنا، فلا نتحدث، ولا نفسق، ولا نرتب في حقه شيئا من الأحكام والآثار التي شأنها أن تترتب في حق الزناة، فالنهي

(القاعدة الأولى) أن التحريم كلام الله تعالى القديم، القديم لا يتصور كسبه للعبد

منصرف لهذه الآثار، دون أصل الظن، فالذي قال لعمر رضي الله عنه: (رأيت استا ينبو ونفسا يعلو، ورجلين كأنهما أذنا حمار، ولم أدر ما وراء ذلك يا أمير المؤمنين). ليس في قدرته أن يدفع الظن عن نفسه في أن المرء، كذلك زنا لكن النهى عن الآثار. مثال ما ينصرف لسببه قوله تعالى: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}] آل عمران: 102 [نهي الموتى متعذر فيتعين صرفه للأسباب السابقة، أي: تعاطوا الأسباب التي تقتضى أن يكون الموت آت في حالة الإسلام، وكذلك قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}] النساء: 43 [. السكران ليس أهلا للنهى، بل معناه النهي عن الأسباب التي تفضي لهذه الحالة عند الصلاة. إذا تقرر هذا قلنا قواعد: (القاعدة الأولى) أن التحريم كلام الله تعالى القديم، القديم لا يتصور كسبه للعبد. (القاعدة الثانية) أن الطلاق فيه معنيان: أحدهما: قول القائل: أنت طالق. الثاني: التحريم المترتب عليه، والثاني غير مقدور لما تقدم في الفروق الثلاثة، فإذا تعذر صرف الأمر للطلاق بمعنى التحريم تعين حمله على سببه، وهو قوله: أنت طالق إذ غيره منفى إجماعا، فيكون اللفظ سببا، ولا نعنى بكونه إنشاء إلا كونه سببا، فهذا تقرير هذا الموضع.

(سؤال) جعل كون صيغ العقود إنشاءات مفرعا على الحقيقة الشرعية

قوله: (لو أضاف الطلاق للرجعية وقع، وإن كان صادقا بدون الوقوع). تقريره: أن تقدير المخبر قبل التلفظ إنما كان لضرورة التصديق، وهذا صادف لتقدم الطلاق منه فصدق في قوله: أنت طالق، فانتفى سبب التقدي، فلا يثبت التقدير، ولا يلزم الرجعية طلاق أبدا، وهو خلاف الإجماع، ويرد عليه أنه إخبار عن طلقة أخرى بعد الأولى، ويقدر وقوع طلقة أخرى بعد الأولى لضرورة تصديقه، فنحن على القاعدة المتقدمة لم تنتقض. (سؤال) جعل كون صيغ العقود إنشاءات مفرعا على الحقيقة الشرعية مع أنها إنشاءات في زمن العرب قبل ورود الشرع، فيكون هذا الفرع مفرعا على الحقيقة العرفية لا الشرعية، ويمكن أن يقال: إن الشرع لما وضعها أسبابا فقد وضعها، فهي من فروع الحقيقة الشرعية، لكنه لا يصح؛ لأن هذه الصيغ من (بعت) و (اشتريت) كانت أسبابا عند العرب، وكانت تنشئ هذه الأحكام بها، فأقرها صاحب الشرع، واستثنى بعضها عن الحل، وزاد في بعضها شروطا. (تنبيه) في (الحاصل) عبارة مشكلة التقدير. فقال: لنو كانت لم إخبارات كاذبة فلا عبرة بها أو صادقة، فإما آن يتوقف وجود مفهوماتها عليها؛ فيدور لتوقف الصادقية على وجود المفهوم، وبالعكس بالتقدير،) أو لا يتوقف، وهو باطل بالإجماع. فقوله: (وبالعكس بالتقدير هو المشكل). ومراده بالتقدير ما تقدم من قوله: إما أن يتوقف وجود مفهوماتها عليها.

فهذا التقدير هو توقف المفهومات التي هي الطلاق وغيره على صيغ العقود، فقوله: لتوقف الصادقية على وجود المفهوم، هذا في نفس الأمر. وقوله: (وبالعكس). يعنى، ويتوقف المفهوم عليها بالتقدير المتقدم، فيلزم الدور. وقال التبريزى: وقع في الحقيقة الشرعية ما وقع في العرفية من النقل عن المسمى اللغوي إلى مسمى آخر، ومن التخصيص ببعض المسميات، فالنقل كلفظ الصلاة، نقل عن الدعاء للأفعال المخصوصة، والتخصيص كالصوم ونحوه يخصص ببعض أنواع الإمساك. قال: واحتج القاضي على امتناع النقل بأمرين: أحدهما: خروج القرآن عن كونه عربيا. وثانيهما: أن النبي- عليه السلام- لو فعل ذلك للزمه تعريف الأمة كيلا يكون تجهيلا، أو تلبيسا؛ لأنهم لا يفهمون عند الإطلاق إلا المعنى اللغوي، ولو وقع التعريف لكان متواترا؛ إذ لا حجة في الآحاد. قال: والجواب عن الأول أنه إنما يلزم المعتزلة قالوا بالنقل، وأما نحن فنقول بالاستعارة. وعن الثاني: أن القرائن دلت على ذلك مع الإجماع على أن هذه المسميات هي مقاصد الشرع. قال: ومن الدليل على العرف الشرعي قوله عليه السلام: (الفضل

ربا)، وقوله عليه السلام: (الطواف بالبيت صلاة)، وقوله عليه

السلام في الصلاة: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، وقوله عليه

(التنبيه) قال الشيخ سيف الدين، والغزالي في (المستصفى): اختلفوا في اشتمال القرآن على كلمة غير عربية

السلام: (الذكاة ما أنهر الدم وفرى الأوداج). وحمل هذه على المسمى اللغوي يفسد الكلام، ويصيره خلفا، فتعين الشرعي. (تنبيه) كلام التبريزى هذا يدل على أن المعتزلة ينازعون القاضي، وينازعهم في النقل من قبل الله تعالى، ومن قبل رسوله- صلى الله عليه وسلم- وأن النقل لا يختص بالله تعالى، وإن كان وضع الشرع يختص به، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو مبلغ، فقد يسبق إلى الذهن أن وضع اللفظ كذلك، وأن النزاع خاص بالوضع من قبل الله- تعالى- فقط. (التنبيه) قال الشيخ سيف الدين، والغزالي في (المستصفى): اختلفوا في اشتمال القرآن على كلمة غير عربية، فأثبته ابن عباس، وعكرمة- رضي الله عنهما- ونفاه الباقون، واحتج النافون بقوله {بلسان عربي مبين}] الشعراء: 195 [، واحتج المثبتون بالمشكاة وما تقدم، وأجيبوا بأن اللغات قد تشترك في الكلمة كلفظ (ثبور)، فقد قيل: اتفقت فيه جميع اللغات، وقد علمت مما تقدم أن في القرآن كلمات عجمية كثيرة جدا، وأن العجاب من وقوع

(فائدة) قال موفق الدين المقدسي في كتاب (الروضة): الأسماء الشرعية التي اختلف فيها إذا أطلقت قال القاضي: (هي مجملة). وقال الفقهاء: تحمل على عرف الشرع

الخلاف فيه، إلا أن يكون الخلاف في أسماء الأجناس دون الأعلام، فيتجه غير أنه يرد عليه أمران: الإطلاق في موضع التفصيل، وصحة حجة النفاة؛ فإن الوصف بالعربية كما ينتفي بالجنس ينتفي بالعلم. (فائدة) قال موفق الدين المقدسي في كتاب (الروضة): الأسماء الشرعية التي اختلف فيها إذا أطلقت قال القاضي: (هي مجملة). وقال الفقهاء: تحمل على عرف الشرع؛ لأن القاعدة أن كل متكلم يحمل لفظ على عرفه، فهذه فائدة تظهر في الخلاف في هذه المسألة. ***

القسم الثاني في المجاز وفيه مسائل

القسم الثاني في المجاز وفيه مسائل قال الرازي: المسألة الأولى: في أقسام المجاز: المجاز: إما أن يقع في مفردات الألفاظ فقط، أو في مركباتها أو فيهما معا: أما الذي يقع في المفردات فكإطلاق لفظ (الأسد) على الشجاع، و (الحمار) على البليد. وأما الذي يقع في التركيب، فهو أن يستعمل كل واحد من الألفاظ المفردة في موضوعه الأصلي، لكن التركيب لا يكون مطابقا لما في الوجود؛ كقوله] المتقارب [: أشاب الصغير وأفنى الكبيـ .... ر كر الغداة ومر العشى فكل واحد من الألفاظ المفردة التي في هذا البيت مستعمل في موضوعه الأصلي، ولكن إسناد (أشاب) إلى (كر الغداة) غير مطابق لما عليه الحقيقة؛ فإن الشيب يحصل بفعل الله تعالى لا بكر الغداة. وأما الذي يقع في المفردات والتركيب معا، فكقولك لمن تداعبه: أحياني اكتحالي بطلعتك؛ فإنه استعمل الإحياء لا في موضوعه الأصلي، ولفظ الاكتحال لا في موضوعه الأصلي، ثم الإحياء إلى الاكتحال، مع أنه غير منتسب إليه.

المسألة الثانية: في إثبات المجاز المفرد

وقد جاء في القرآن والأخبار من الأقسام الثلاثة شيء كثير، والأصوليون لم يتنبهوا للفرق بين هذه الأقسام، وإنما لخصه الشيخ عبد القاهر النحوى. المسألة الثانية: في إثبات المجاز المفرد: الدليل عليه: أنهم يستعملون (الأسد) في الشجاع، و (الحمار) في البليد؛ مع اعترافهم بان الأسد والحمار غير موضوعين في أول الأمر لهذين المعنيين، بل أنهما أطلقا عليهما؛ لما مفهوميهما، وبين هذين الأمرين من المشابهة، ولا معنى للمجاز إلا ذلك. واحتج المانعون منه: بان اللفظ لو أفاد المعنى على سبيل المجاز، فإما أن يفيده مع القرينة، أو بدون القرينة. الأول باطل؛ لأنه مع القرينة المخصوصة لا يحتمل غير ذلك، فيكون هو مع تلك القرينة حقيقة فيه لا مجازا، وبدون تلك القرينة غير مفيد له أصلا، فلا يكون حقيقة ولا مجازا. فظهر أن اللفظ على هذا التقدير لا يكون مجازا لا حال القرينة، ولا حال عدم القرينة. والثاني أيضا باطل: لأن اللفظ لو أفاد معناه المجازى بدون قرينة، لكان حقيقة فيه؛ لأنه لا معنى للحقيقة إلا ما يكون مستقلا بالإفادة بدون القرينة. الجواب: أن هذا نزاع في العبارة؛ ولنا أن نقول: اللفظ الذي لا يفيد إلا مع القرينة هو المجاز، ولا يقال: اللفظ مع حقيقة فيه؛ لأن دلالة القرينة ليست دلالة وضعية، حتى يجعل المجموع لفظا واحدا دالا على المسمى.

المسألة الثالثة: في أقسام هذا المجاز

المسألة الثالثة: في أقسام هذا المجاز، والذي يحضرنا منه اثنا عشر وجها: أحدهما: إطلاق اسم السبب على المسبب، والأسباب أربعة: القابل والصورة والفاعل والغاية. مثال تسمية الشيء باسم قابلة قولهم: سال الوادى. ومثال التسمية باسم الصورة: تسميتهم اليد بالقدرة. ومثال التسمية باسم الفاعل حقيقة أو ظنا: تسمية المطر بالسماء. ومثال التسمية باسم الغاية: تسمية العنب بالخمر، والعقد بالنكاح. وثانيهما: إطلاق اسم المسبب على السبب: كتسمية المرض الشديد والمذلة العظيمة بالموت، ويحتمل أن يكون وجه المجاز هاهنا ما بين الأمرين من المشابهة، ثم هاهنا بحثان: البحث الأول: أن العلة الغائية حال كونها ذهنية- علة العلل، وحال كونها خارجية- معلولة العلل، فقد حصلت لها علاقتا العلية والمعلولية؛ وكل واحدة منهما علة لحسن التجوز إلا أن نقل اسم السبب إلى المسبب، أحسن من العكس؛ لأن السبب المعين يقتضى المسبب المعين لذاته. وأما المسبب المعين فإنه لا يقتضى لذاته السبب المعين على ما بينا الفرق بينهما في الكتب العقلية. وإذا كان كذلك كان إطلاق اسم السبب على المسبب أولى من العكس. الثاني هو: أن العلة الغائية لما اجتمع فيها الوجهان: السببية، والمسببية، كان استعمال اللفظ المجازى فيها أولى من سائر المواضع؛ لاجتماع الوجهين.

وثالثها: تسمية الشيء باسم ما يشابهه؛ كتسمية _الشجاع) أسدا، و (البليد) حمارا، وهذا القسم على الخصوص هو المسمى بالمستعار. ورابعها: تسمية الشيء باسم ضده؛ كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}] الشورى: 40 [، {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}] البقرة: 194 [، ويمكن جعل ذلك من باب المجاز للمتشابهة؛ لأن جزاء السيئة يشبهها في كونها سيئة، بالنسبة إلى من يصل إليه ذلك الجزاء. وخامسها: تسمية الجزاء باسم الكل؛ كإطلاق اللفظ العام، مع أن المراد منه الخصوص. وسادسها: تسمية الكل باسم الجزء، كما يقال للزنجى: إنه أسود والأول أولى؛ لأن الجزء لازم الكل، أما الكل فليس بلازم للجزء. وسابعها: تسمية إمكان الشيء باسم وجوده، كما يقال للخمر التي في الدن: إنها مسكرة. وثامنها: إطلاق اللفظ المشتق بعد زوال المشتق منه؛ كقولنا للإنسان بعد فراغه من الضرب: إنه ضارب. وتاسعها: المجاورة؛ كنقل اسم الرواية من الجمل إلى ما يحمل عليه من ظرف الماء، وكتسمية الشراب بالكأس، ويمكن جعله من المجاز بسبب القابل. وعاشرها: المجاز بسبب أن أهل العرف استعماله فيما كانوا يستعملونه فيه؛ كالدابة، إذا استعملت في الحمار.

المسألة الرابعة: في أن المجاز بالذات لا يدخل دخولا أوليا إلا في أسماء الأجناس

فإن قلت: لفظ الدابة: إما أن يكون مجازا من حيث إنه صار مستعملا في الفرس وحده أو من حيث منع من استعماله في غيره. والأول من باب إطلاق اسم العام على الخاص، فلا يكون قسما آخر. والثاني: باطل؛ لأن المجازية كيفية عارضة للفظة؛ من جهة دلالتها على المعنى، لا من جهة عدم دلالتها على الغير. قلت: لفظ الدابة إذا استعمل في الحمار والكلب، كان ذلك مجازا بالنسبة إلى الوضع العرفي؛ لأنه يكون مستعملا في غير موضعه، لعلاقة بينه وبين موضوعه، ويكون ذلك حقيقة بالنسبة إلى الوضع اللغوي، إلا أن هذا المجاز من باب المشابهة؛ فلا يكون في الحقيقة قسما آخر. وحادي عشرها: المجاز بسبب الزيادة والنقصان، وقد ذكرنا مثاليهما، وبينا كيفية الحال فيهما. وثاني عشرها: تسمية المتعلق باسم؛ كتسمية المعلوم علما، والمقدور قدرة. المسألة الرابعة: في أن المجاز بالذات لا يدخل دخولا أوليا إلا في أسماء الأجناس. أما الحرف فلا يدخل فيه المجاز بالذات؛ لأن مفهومه غير مستقل بنفسه، بل لابد وأن ينضم إليه شيء آخر لتحصل الفائدة. فإن ضم إلى ما ينبغي ضمه إليه، فهو حقيقة فيه، وإلا فهو مجاز في المركب لا في المفرد.

المسألة الخامسة: أن لفظ الأسد لا يستعار للرجل الشجاع إلا لأجل المشابهة في الشجاعة

وأما الفعل فهو لفظ جال على ثبوت شيء لموضوع غير معين، في زمان معين، فيكون الفعل مركبا من المصدر وغيره، فما لم يدخل المجاز في المصدر، استحال دخوله في الفعل الذي لا يفيد إلا ثبوت ذلك المصدر لشيء. وأما الاسم فهو: إما علم، أو مشتق، أو اسم جنس. أما العلم: فلا يكون مجازا؛ لأن شرط المجاز أن يكون النقل لأجل علاقة بين الأصل والفرع، وهي غير موجودة في الأعلام. وأما المشتق: فما لم يتطرق المجاز إلى المشتق منه، فلا يتطرق إلى المشتق الذي لا معنى له إلا أنه أمر ما حصل له المشتق منه. فإذن المجاز لا يتطرق في الحقيقة إلا إلى أسماء الأجناس، والله أعلم. المسألة الخامسة: أن لفظ الأسد لا يستعار للرجل الشجاع إلا لأجل المشابهة في الشجاعة، لكن الرجل الشجاع كما يشبه الأسد في شجاعته، فقد يشبهه في صفات أخر؛ كالبخر وغيره، فلو كانت المشابهة كافية في ذلك، لجاز استعارة الأسد للأبخر، ولما لم يجز ذلك، صح قولنا. ولأنهم قد يطلقون النخلة على الرجل الطويل، ولا يطلقونها على غير الإنسان، وذلك يدل على اعتبار الاستعمال في المجاز. واحتج المخالف بوجهين: الأول: اتفقوا على أن وجوه المجازات والاستعارات مما يحتاج في استخراجها إلى تدقيق النظر، وما يكون نقليا لا يكون كذلك.

المسألة السادسة: في أن المجاز المركب عقلي

الثاني: أنك إذا قلت: (رأيت أسدا) وعنيت به الشجاع- فالغرض من التعظيم إنما يحصل بإعارة معنى الأسد له، فإنك لو أعطيته الاسم بدون المعنى، لم يحصل التعظيم. وإذا كانت إعارة اللفظ تابعة لإعارة المعنى، وإعارة المعنى حاصلة بمجرد قصد المبالغة، وجب ألا يتوقف استعمال اللفظ المستعار على السمع. والجواب عن الأول: أن المستخرج بالفكر جهات حسن المجاز. وعن الثاني: أن هذه الإعارة ليست أمرا حقيقيا، بل أمرا تقديريا، فلم لا يجوز أن يمنع الواضع منه في بعض المواضع، دون البعض؟! المسألة السادسة: في أن المجاز المركب عقلي: ومثاله في القرآن: قوله تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها} [الزلزلة: 2] وقوله: {مما تنبت الأرض} [يس: 36]. فالإخراج والإنبات غير مستندين في نفس الأمر إلى الأرض، بل إلى الله تعالى، وذلك حكم عقلي ثابت في نفس الأمر، فنقله عن متعلقه إلى غيره نقل لحكم عقلي، لا للفظ لغوي؛ فلا يكون هذا المجاز إلا عقليا. فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: صيغة (أخرج وأنبت) وضعت في أصل اللغة بإزاء صدور الخروج والنبات من القادر، فإذا استعملت في صدورهما من الأرض، فقد استعملت الصيغة في غير موضوعها؛ فيكون هذا المجاز لغويا؟! قلت: إن أمثلة الأفعال لا تدل بالتضمن على خصوصية المؤثر:

والدليل عليه وجوه: أحدهما: أنه لو كان كذلك، لكان المفهوم من لفظة (أخرج) أن القادر صدر عنه هذا الأثر، فيكون مجرد قولنا: (أخرج) خبرا تاما فكان يلزم أن يتطرق إليه وحده التصديق والتكذيب، ومعلوم أنه ليس كذلك. وثانيها: أنه يصح أن يقال: أخرجه القادر، ولو كان القادر جزءا من مفهوم (أخرج) لكان التصريح بذكر القادر تكرارا. وثالثها: هب أنها دالة على صدور الفعل عن القادر، فأما عن القادر المعين، فلا؛ وإلا لزم حصول الاشتراك اللفظي بحسب كل واحد من القادرين. إذا ثبت هذا فنقول: إذا أضيف ذلك الفعل إلى غير ذلك القادر الذي هو صادر عنه، لم يكن التغيير واقعا في مفهومات الألفاظ، بل في إسناد مفهوماتها إلى غير ما هو مستندها. فإذا قال قائل: ما الفرق بين هذا المجاز، وبين الكذب؟ قلنا: الفارق هو القرينة، وهي قد تكون حالية، وقد تكون مقالية. أما الحالية فهي: ما إذا علم أو ظن أن المتكلم لا يتكلم بالكذب؛ فيعلم أن المراد ليس هو الحقيقة، بل المجاز. ومنها: أن يقترن الكلام بهيئات مخصوصة قائمة بالمتكلم، دالة على أن المراد ليس هو الحقيقة، بل المجاز. ومنها: أن يعلم بسبب خصوص الواقعة أنه لم يكن للمتكلم داع إلى ذكر الحقيقة؛ فيعلم أن المراد هو المجاز.

المسألة السابعة: في جواز دخول المجاز في خطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم

وأما القرينة المقالية فهي: أن يذكر المتكلم عقيب ذلك الكلام ما يدل على أن المراد من الكلام الأول، غير ما أشعر به ظاهره. المسألة السابعة: في جواز دخول المجاز في خطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم: الأكثرون: جوزوا ذلك؛ خلافا لأبي بكر بن داود الأصفهاني. لنا قوله تعالى: {جدار يريد أن ينقض فأقامه} [الكهف: 77]، {وجاء ربك} [الفجر: 22]. وقد ثبت بالدليل أنه لا يجوز أن يكون المراد منها ظواهرها؛ فوجب صرف إلى غير ظواهرها، وهو المجاز. واحتج المخالف بأمور: أحدها: لو خاطب الله بالمجاز لجاز وصفه بأنه متجوز، ومستعير. وثانيها: أن المجاز لا ينبئ بنفسه عن معناه، فورود القرآن به يقتضي الالتباس. وثالثها: أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة، وهو على الله تعالى محال. ورابعها: أن كلام الله تعالى كله حق، وكل حق، فله حقيقة وكل ما كان حقيقة، فإنه لا يكون مجازا. والجواب عن الأول: أن أسامي الله تعالى توقيفية، وبتقدير كونها اصطلاحية، لكن لفظ المتجوز يوهم كونه تعالى فاعلا ما لا ينبغي فعله، وهو في حق الله تعالى محال. وعن الثاني: أنه لا التباس مع القرينة الدالة على المراد.

المسألة الثامنة: في الداعي إلى التكلم بالمجاز

وعن الثالث: أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز لأغراض سنذكرها، إن شاء الله تعالى. وعن الرابع: أن كلام الله تعالى كله حقيقة؛ بمعنى أنه صدق، لا بمعنى كون ألفاظ بأسرها مستعملة في موضوعاتها الأصلية، والله أعلم. المسألة الثامنة: في الداعي إلى التكلم بالمجاز. العدول عن الحقيقة إلى المجاز: إما لأجل اللفظ، أو المعنى، أولهما. أما الذي لأجل اللفظ فإما أن يكون لأجل جوهر اللفظ، أو لأجل أحوال عارضة للفظ. أما الأول فهو: أن يكون اللفظ الدال على الشيء بالحقيقة ثقيلا على اللسان: إما لأجل مفردات حروفه، أو لتتنافر تركيبه، أو لثقل وزنه، واللفظ المجازي يكون عذبا، فتترك الحقيقة إلى هذا المجاز. وأما الثاني وهو: أن يكون لأجل أحوال عارضة للفظ، فهو أن تكون اللفظة المجازية صالحة للشعر، أو السجع، وسائر أصناف البديع؛ واللفظة الحقيقية لا تصلح لذلك. وأما الذي يكون لأجل المعنى: فقد تترك الحقيقة إلى المجاز؛ لأجل التعظيم والتحقير، ولزيادة البيان، ولتلطيف الكلام. أما التعظيم، فكما يقال: سلام على المجلس العالي؛ فإنه تركت الحقيقة ها هنا لأجل الإجلال.

وأما التحقير، فكما يعبر عن قضاء الحاجة بالغائظ الذي هو اسم للمكان المطمئن من الأرض. وأما زيادة البيان: فقد تكون لتقوية حال المذكور، وقد تكون لتقوية الذكر: أما الأول؛ فكقولهم: (رأيت أسدا)، فإنه لو قال: (رأيت إنسانا يشبه الأسد في الشجاعة) لم يكن في البلاغة كما إذا قال: (رأيت أسدا) وتحقيق هذا الفرق مذكور في كتابنا في (الإعجاز). وأما الثاني فهو: المجاز الذي يذكر للتأكيد. وأما تلطيف الكلام فهو: أن النفس إذا وقفت على تمام كلام، فلو وقفت على تمام المقصود، لم يبق لها شوق إليه أصلا؛ لأن تحصيل الحاصل محال، وإن لم تقف على شيء منه أصلا، لم يحصل لها شوق إليه. فأما إذا عرفته من بعض الوجوه دون البعض، فإن القدر المعلوم يشوقها إلى تحصيل العلم بما ليس بمعلوم، فيحصل لها بسبب علمها بالقدر الذي علمته - لذة، وبسبب حرمانها من الباقي - ألم، فتحصل هناك لذات، وآلام متعاقبة، واللذة إذا حصلت عقيب الألم، كانت أقوى، وشعور النفس بها أتم. إذا عرفت هذا فنقول: إذا عبر عن الشيء باللفظ الدال عليه؛ على سبيل الحقيقة، حصل كمال العلم به؛ فلا تحصل اللذة القوية. أما إذا عبر بلوازمها الخارجية، عرف لا على سبيل الكمال؛ فتحصل الحالة المذكورة التي هي كالدغدغة النفسانية؛ فلأجل هذا، كان التعبير عن المعاني بالعبارات المجازية ألذ من التعبير عنها بالألفاظ الحقيقية، والله أعلم.

المسألة التاسعة: في أن المجاز غير غالب على اللغات

المسألة التاسعة: في أن المجاز غير غالب على اللغات: قال أبو الفتح بن جني: أكثر اللغة مجاز: أما في الأفعال، فنحو قولك: (قام زيد، وقعد عمرو) فإن الفعل يفيد المصدر، فقولك: (قام زيد) معناه: كان منه القيام، أي: هذا الجنس من الفعل، والجنس يتناول جميع الأفراد، ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام؛ لأنه لا يجتمع لإنسان واحد في وقت واحد، ولا في مائة ألف سنة- القيام كله الداخل تحت الوهم. أقول: هذا ركيك؛ لأنه ظن أن المصدر لفظ دال على جميع أشخاص تلك الماهية، وهو باطل، بل المصدر لفظ دال على الماهية، أعني: القدر المشترك بين الواحد والكل، والماهية من حيث هي هي لا تستلزم الوحدة ولا الكثرة؛ وإذا كان كذلك، كان الفعل المشتق منه لا دلالة له على الكثرة، ولا على الوحدة. وقال أيضا: قولك (ضربت عمرا) مجاز من جهة أخرى؛ لأنك إنما ضربت بعضه لا جميعه، ولهذا احتاط الإنسان قال: ضربت رأسه، وهذا أيضا يكون مجازا، وذلك عندما إذا ضربت جانبا من جوانب رأسه فقط. اعترض أبو محمد بن متويه، فقال: المتألم بالضرب جملة عمرو، لا عضو منه. أقول: هذا الاعتراض ساقط؛ لأن ابن جني إنما ألزم المجاز في لفظ الضرب لا في لفظ التألم، والضرب عبارة عن إمساس جسم حيوان بعنف، والإمساس حكم يرجع إلى الأجزاء، لا إلى الجملة بالاتفاق؛ فكان المضروب بالحقيقة هو الجزء الممسوس فقط؛ فظهر سقوط هذا الاعتراض. وأقول: هاهنا وجوه أخر من المجازات السائغة؛ فإني إذا قلت: (ضربت

المسألة العاشرة: في أن المجاز على خلاف الأصل، والذي يدل عليه وجوه

زيدا)، فزيد ليس عبارة عن جملة البنية المشاهدة؛ لأنا نعلم أن زيدا هو الذي كان موجودا وقت ولادته، ونعلم أن أجزاءه وقت شبابه أكثر مما كانت وقت ولادته، ولا شك أن زيدا هو تلك الأجزاء الباقية من أول حدوثه إلى آخر فنائه، وتلك الأجزاء قليلة؛ فإذن المسمى بزيد هو تلك الأجزاء. فإذا قلت: (ضربت زيدا) فلعل هذا الإمساس ما وقع على تلك الأجزاء؛ فيكون الكلام أيضا مجازا؛ من هذا الوجه. ثم هاهنا دقيقة، وهي أن هذه المجازات من باب المجاز العقلي؛ لأنك إذا قلت: (رأيت زيدا، وضربت عمرا) فصيغتا (رأيت) و (ضربت) مستعملتان في موضوعيهما الأصليين؛ فلا يكون مجازا، وأما لفظة (زيد) فهي من الأعلام؛ فلا تكون مجازا؛ فلم يبق إلا أن المجاز واقع في النسبة فيكون مجازا عقليا، والله أعلم. المسألة العاشرة: في أن المجاز على خلاف الأصل، والذي يدل عليه وجوه: أحدها: أن اللفظ، إذا تجرد: فإما أن يحمل على حقيقته أو على مجازه، أو عليهما، أو لا على واحد منهما؛ والثلاثة الأخيرة باطلة، فتعين الأول. وإنما قلنا: إنه لا يجوز حمله على مجازه؛ لأن شرط الحمل على المجاز حصول القرينة؛ فإن الواضع، لو أمر بحمل اللفظ عند تجرده على ذلك المعنى، لكان حقيقة فيه؛ إذ لا معنى للحقيقة إلا ذلك. وأما أنه لا يجوز حمله عليهما معا، فظاهر؛ لأن الواضع لو قال: (احملوه وحده عليهما معا) كان اللفظ حقيقة في ذلك المجموع، ولو قال: (احملوه إما على هذا، أو على ذاك) كان مشتركا بينهما.

وأما أنه لا يجوز أن يحمل على واحد منهما البتة؛ فلأنه على هذا التقدير يكون اللفظ حال تجرده من المهملات، لا من المستعملات، وإذا بطلت هذه الأقسام الثلاثة، تعين القسم الأول، وهو المطلوب. وثانيها: أن المجاز لا يتحقق إلا عند نقل اللفظ من شيء إلى شيء، لعلاقة بينهما، وذلك يستدعي أمورا ثلاثة: وضعه للأصل، ثم نقله إلى الفرع، ثم علة للنقل. وأما الحقيقة، فإنه يكفي فيها أمر واحد، وهو: وضعه للأصل. ومن المعلوم أن الذي يتوقف على شيء واحد، أغلب وجودا مما يتوقف على ذلك الشيء، مع شيئين آخرين معه. وثالثهما: أن واضع اللفظ للمعنى، إنما يضعه له، ليكتفي به في الدلالة عليه، وليستعمل فيه؛ فكأنه قال: إذا سمعتموني أتكلم بهذا الكلام، فاعلموا أنني أعني هذا المعنى؛ وإذا تكلم به متكلم بلغتي، فليعن به هذا. فكل من تكلم بلغته يجب أن يعني به ذلك المعنى؛ ولهذا يسبق إلى أذهان السامعين ذلك المعنى، دون ما هو مجاز فيه. ولو قال لنا مثل ذلك في المجاز، لكان حقيقة، ولم يكن مجازا. ورابعها: إجماع الكل على أن الأصل في الكلام الحقيقة، وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: (ما كنت أعرف معنى الفاطر، حتى اختصم إلي شخصان في بئر، فقال أحدهما: فطرها أبي، أي: اخترعها).

شرح القرافي

وقال الأصمعي: (ما كنت أعرف الدهاق، حتى سمعت جارية بدوية تقول: اسقني دهاقا، أي: ملآنا). فهاهنا استدلوا بالاستعمال على الحقيقة، فلولا أنهم عرفوا أن الأصل في الكلام الحقيقة، وإلا لما جاز لهم ذلك. وخامسها: لو لم يكن الأصل في الكلام الحقيقة، لكان الأصل إما أن يكون هو المجاز، وهو باطل بإجماع الأمة، أو لا يكون واحد منهما أصلا؛ فحينئذ يتردد كل كلام الشارع بين أمرين، فيصير الكل مجملا، وهو باطل بالإجماع. ويلزم أن يصير كل متكلم به في العرف مجملا؛ لتردد تلك الألفاظ بين حقائقها ومجازاتها، ولو كان الكل مجملا، لما فهمنا المراد في شيء من الألفاظ، إلا بعد الاستفسار، وطلب تعيين المراد، ولما كان ذلك باطلا، علمنا أن الأصل في الكلام الحقيقة. فرع: إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة، والمجاز الراجح، فأيهما أولى؟ فعند أبي حنيفة - رضي الله عنه -: الحقيقة المرجوحة أولى. وعند أبي يوسف - رحمه الله -: المجاز الراجح أولى. ومن الناس من قال: يحصل التعارض؛ لأن كل واحد منهما راجح على الآخر من وجه، ومرجوح من وجه آخر؛ فيحصل التعارض. قال القرافي: اعلم أن المجاز المفرد أن ينقل الاسم المفرد عن المعنى المفرد إلى معنى مفرد فأكثر.

فقولنا: (الاسم المفرد) - نريد به ما عدا الجملة كان اسما واحدا كزيد، أو مركبا كعبد الله، وبعلبك. وقولنا: (إلى معنى مفرد) نريد به ما لا إسناد فيه احترازا عن الجمل؛ فإن فيها إسنادا. وقولنا: (فأكثر) احترازا عما يقال: إن الجمع بين مجازين فأكثر جائز، وهو مذهب مالك، والشافعي وغيرهما، كما تقدم في مسألة أن المشترك لا يستعمل في مفهوميه. والمجاز في التركيب: أن يكون اللفظ وضع ليركب مع لفظ معنى، فركب مع غيره، كما إذا قلت: شربت العلم، وأكلت الماء، ووزنت. المسائل، فإن الوضع الأول يقتضى أن الشرب يركب مع المائعات، والأكل مع الجامدات، والوزن في ذوات الثقل من الأجرام، والعدول عن هذا مجاز في التركيب، ومنه تركيب السؤال مع القرية؛ لأن الوضع الأول يقتضى أن يركب مع لفظ من يصلح للجواب. ومنه قول الشاعر [المديد]: وتركت الموت جريان ينظر فإن الموت لا يجرى ولا ينظر. فهذا كله مجاز في التركيب، فتأمله ونظائره في الصفات والأفعال، وسائر الكلمات. قوله: (التركيب لا يكون مطابقا لما في الوجود). قلنا: هذه عبارة مجملة تحتمل الصدق والكذب؛ لأنه غير مطابق لما في الوجود، ويحتمل غير مطابق للوضع الأول، والثاني هو الحق، والأول قد

يكون حقيقة، فليس مراد الحق قول القائل: الواحد نصف العشرة لا يقول أحد: إنه مجاز في التركيب، وكذلك أنوع الكذب قوله-[المتقارب]: أشاب الصغير وأفنى الكبيـ ... ر كر الغداة ومر العشى وأن جميع المفردات مستعملة في موضوعاتها يبطل بأشاب الصغير؛ فإن الشيب لا يأتي على صغير حقيقة، بل من تقدم فيه الصغر، وهو كقوله: تحرك الساكن، وسكن المتحرك: أي من كان متحركا، فالشيب والصغر ضدان، وإنما يصدق ذلك باعتبار ما كان عليه، وتسمية الشيء باعتبار ما كان عليه مجاز. قوله: (الشيب يحصل بفعل الله- تعالى- لا بكر الغداة). قلنا: كر الغداة هو طول العمر، وهو سبب عادى للإشابة، والعرب لم تخص الوضع في الأفعال بالمؤثر الحقيقي العقلي، بل تقول العرب: قتل زيد عمرا، وهو باعتبار أنه استعمال اللفظ فيما وضع له، وكذلك برد الماء، وسقط الحائط ونحوه مما لا كسب فيه، أو ما فيه كسب نحو صلى، وصام، أو هو مؤثر حقيقي نحو خلق الله العالم، فالوضع اللغوي أعم من كل واحد من الثلاثة، ولا أجد أشابه طول العمر إلا من باب نسبة الفعل إلى السبب العادي نحو: أماته الجوع، وأهرمه الهم، مع أن الفاعل للهرم هو ألله تعالى فكذلك هاهنا، ونبه عليه التبريزي. (أحياني اكتحالي بطلعتك) تقريره: أن القائل استعمل الإحياء مجازا في السرور، والعلاقة بينهما أن الحياة إذا كانت في محل ظهرت آثاره، وتنوعت حركاته، وكثرت قوته

(سؤال) يلزم أحد الأمرين إما عدم المجاز في المفردات، أو في المركبات

وأفعاله، وعكسه الموت، وكذلك السرور إذا حصل في محل توفرت قوته، وظهرت بهجته واشتدت عزيمته، وعكسه الخوف والحزن، فلما تشابها استعار الإحياء، للسرور، وعبر بالاكتحال عن الرؤية، ووجه الشبه أن المكتحل يحيط جفنيه وحدقتيه بالمرود المكتحل به، والرائي يحيط بالرئى بإدراكه فتشابها في الإحاطة، فاستعير لفظ الاكتحال للرؤية، فاللفظان مجازان في الإفراد، وإسناد الإحياء إلى الاكتحال مجاز في التركيب. (سؤال) يلزم أحد الأمرين إما عدم المجاز في المفردات، أو في المركبات. بيانه: أن المفردات لم ن استعملت في موضوعاتها بطل مجاز الإفراد، وثبت مجاز التركيب، فإن العرب لا تقول: إن ميتا أحياه الكحل؛ فإن الإحياء هو تحصيل الحياة في المحل بدلا عن الموت، وإن كانت المفردات مجازات، وقد عبر بالإحياء عن السرور، وبالاكتحال عن الرؤية حصل المجاز في الإفراد، لكن يبطل مجاز التركيب لأن التقدير يبقى سررت برؤيتك، وهذا التركيب حقيقة في التركيب، فإن السرور يركب مع الرؤية حقيقة، فظهر أن المجاز في الإفراد والتركيب غير حاصلين في هذا المثال، ونبه على هذا السؤال التبريزى. جوابه أنا في مجاز التركيب لا نلاحظ المعنى أصلا، والنية بل مجرد اللفظ هل وضع ليركب مع هذا اللفظ أم لا؟، فإن كان وضع ليركب مع غيره لا معه كان مجازا في التركيب، وإلا فلا، ثم هذا السؤال مغالطة؛ لانا ادعينا أن تركيب لفظ الإحياء مع لفظ الاكتحال مجال في التركيب، أتى السائل بتركيب آخر غير المدعى، وهو تركيب لفظ السرور مع الرؤية، وهذا لم ينازع فيه، ولا ادعينا أن كل مركب مجاز بل بعض المركبات، فلا يتجه السؤال البتة؛ لأنه في غير محلى النزاع.

(سؤال) قد قال بعد هذا (إن المجاز المركب عقلي). ومعناه: أنه ليس لغويا، وهاهنا جعله من أقسام اللغوي، فيتناقض كلامه

(سؤال) قد قال بعد هذا (إن المجاز المركب عقلي). ومعناه: أنه ليس لغويا، وهاهنا جعله من أقسام اللغوي، فيتناقض كلامه. جوابه: أنه لم يفرع على ذلك المذهب، بل على المذهب الآخر في أن المجاز المركب لغوى، وأن العرب وضعت المركبات، كما وضعت المفردات، وحينئذ يدخلها المجاز اللغوي. (تنبيه) المجاز المركب قد يكون مع عدم الحذف كما تقدم في شربت العلم، وأكلت الماء، وقد يكون مع حذف مضاف نحو: {واسأل القرية} [يوسف: 82]، وقد تقدم أن في هذا القسم طريقين: هل المضاف المحذوف سبب التجوز أو محل التجوز؟ فعند المصنف سبب التجوز؛ لأنه يعتقد أن أصل الوضع يقتضى أن الأحكام تابعة لعمل العوامل. فيقول: الأصل أن تكون القرية هي المفعولة؛ لأنها المنصوبة، فلما قدرنا مضافا كان ذلك التقدير سبب حصول المجاز في التركيب مع القرية. وغيره من أرباب علم البيان يقول: الواضع حكيم وضع على وفق الحكمة، فوضع السؤال ليركب مع لفظ من يصلح للإجابة، والأكل مع الجامدات، والشرب مع لفظ المائعات، فإذا ركبنا السؤال مع القرية فقد تجوزنا عن أهلها، فهو محل التجوز لا سببه، فتنبه لهذه الدقائق، وما في المجاز المركب من الدقائق.

(المسألة الثانية: في إثبات المجاز المفرد)

(المسألة الثانية: في إثبات المجاز المفرد) قوله: (احتج المانع من المجاز المفرد بأن إفادة اللفظ للمعنى المجازى إن كان مع القرينة فمحال أن يكون مجازا؛ لأنه مع القرينة لا يحتمل غيره، وبدون القرينة لا يكون حقيقة ولا مجازا). قلنا: لا يلزم من عدم احتماله لغيره ألا يكون مجازا؛ لأن حد المجاز هو: (استعمال اللفظ في غير موضوعه)، وهذا كذلك، ولذلك نمنع أنه مع عدم القرينة لا حقيقة ولا مجازا، أما لا حقيقة فمسلم؛ لأن التقدير أنه مجاز، وأما أنه ليس مجازا فممنوع، وإنما يلزم ذلك أن لو كانت القرينة هي العلاقة لكنها غيرها؛ لأن العلاقة هي الارتباط الذي بين محل التجوز ومحل الحقيقة، وهى حاصلة سواء تجوزنا أم لا؛ لأن لفظ الأسد إذا استعمل في الحيوان المفترس وهو موضوعه الأصلي لا يخرجه ذلك عن أن يكون مشابها للرجل الشجاع، والقرينة هي الأمارة المرشدة للسامع أن المتكلم أراد المجاز، وهذا قد يوجد مع المجاز، وقد يعدم، وليست مصححة للمجاز، بل الكلام في نفسه مجاز علمه السامع أم لا، فقوله: (لا يكون مجازا) ممنوع. قوله: (دلالة القرينة ليست وضعية حتى يكون المجموع لفظا واحدا دالا على المسمى). قلنا: إن القرينة قد يكون لها دلالة بالوضع كما تقول: رأيت أسدا يجاهد في سبيل الله؛ فإن يجاهد في سبيل الله دلالته وضعية، وإن أراد دلالة وضعية على المسمى بطريق المطابقة بطل بقوله: المجموع لفظ واحد دال على المسمى؛ فإن القرينة حينئذ جزء الدال، وجزء الدال غير دال بالمطابقة، فلم يبق إلا مطلق الدلالة، وهى حاصلة في أكثر القرائن اللفظية ثم إن جزء الدال قد يكون غير دال، فإن ز يدا وعامة الألفاظ كل حرف منها غير دال، والمجوع دال، وقيل: من الألفاظ جزؤه دال مثل: معا ومعاليق، ومسا

(فائدة) نقل سيف الدين أن المنازع في وجود المجاز في اللغة ومانعه هو الأستاذ أبو إسحاق ومن تابعه

ومساليق، فإن معا ومسا اسمان للمعا والمسا، ثم بتقدير التسليم أن دلالتها غير وضعية أن المجموع من اللفظ المتجوز به، ولفظ القرينة ليس موضوعا لمحل التجوز حتى يكون حقيقة فيه. (فائدة) نقل سيف الدين أن المنازع في وجود المجاز في اللغة ومانعه هو الأستاذ أبو إسحاق ومن تابعه.

(المسألة الثالثة: في أقسام هذا المجاز)

(المسألة الثالثة: في أقسام هذا المجاز) قوله: (الأسباب أربعة: القابل، والفاعل، والصورة، والغاية). تقريره: أن السبب القابل هو: ما يصلح في العادة أن يرد عليه مسببه، كالحفيرة تقبل أن يرد عليها الماء فتسمى: واديا، وكذلك الزير، والكوز، والكأس، وجميع هذا النوع كذلك، وتارة يقبل أن يرد عليه وينقام منه المسبب كما تعمل من الشمع قدحا، ومن الخشب بابا، ومن الحدي سكينا وهو الهيولى عند الفلاسفة، فالسبب المادي فيه هذان القسمان. والفاعل: هو كالنجار بالنسبة إلى السرير. والصورة: هي الهيئة التي تتأتى بها من تلك الحقيقة، مقصوده بالصور البيت للسكن، وصورة السرير للنوم عليه، فلو كان البيت غير ساتر لم يحصل المقصود من الشيء، ولو كان السرير محدبا لم يتأت عليه النوم، وكذلك بقية النظائر. والسبب الغائي: هو الثمرة المقصودة من الشيء الباعثة عليه كالنوم على السرير والسكنى في البيت، وهذا السبب الغائي هو المراد بقول القدماء: أول الفكر آخر العمل، وآخر العمل أول الفكر، فأول ما يخطر للإنسان أن يكون له بيت يؤويه يشرع في تحصيل اللبن، والبناء، وتصوير البيت، وبعد

ذلك يحصل له أول فكرته وهو الاستتار والإيواء، في البيت، وكل شيء في العالم له هذه الأسباب الأربعة، فالكتاب مادته الورق والحبر، وسببه الفاعل الناسخ، وسببه الصوري هو انتظام حروفه على الصورة المخصومة، فلو كان محيطا لم يحصل المقصود، وغايته حفظ الأسرار فيه والعلوم ليطلع عليها عند حاجتها، ويحفظ عند الغفلة عنها. والإنسان له أربعة أسباب: النطفة سببه المادي، وما جعله الله - تعالى في الرحم من الحرارة الخاصة، والرطوبة، والكيفية فاعلة في مجارى العادات بقدرة الله تعالى، وصورته الخاصة، وشكله الإلهي، وتوفيق مزاجه، وتهذيب أخلاقه، ورقة طبعه، وشفوف روحانيته هو سببه الصوري، وغايته القيام بأوامر الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. قال ابن عباس- رضي الله عنه-: (لآمرهم بعبادتي)، وكذلك جميع الكائنات على هذا الترتيب في هذه الأسباب الأربعة. قوله: (مثال التجوز بالسبب الصوري تسميتهم اليد بالقدرة). وقع في كثير من النسخ هكذا اليد بالقدرة، وهو غلط وصوابه القدرة باليد، فإن الموجود في لسان العرب إطلاق اليد على القدرة، كقوله تعالى: (قل لمن في أيديكم من الأسرى) [الأنفال: 70] أي: في قدرتكم، ... وقوله تعالى: {لما خلقت بيدي} [سورة ص: 75]، أي بقدرتي {ومما عملت أيدينا} [يس: 71]، أي قدرتنا، {يد الله فوق أيديهم} [الفتح: 10]، أي قدرته محيطة بأيديهم، {وقالت اليهود يد الله مغلولة} [المائدة: 64]، أي: قدرته عاجزة، وكذبوا في ذلك، فالاستقراء دل على استعارة لفظ اليد للقدرة لا لفظ القدرة لليد، ولو

استعيرت صح، وكان من باب التجوز بلفظ المسبب عن السبب، وهو لم يقصد تمثيله، وإنما مثل التعبير بلفظ السبب عن المسبب، فلذلك كان الصواب في المثال العكس (فائدة) إطلاق اليد في حق الله تعالى، وسائر الآيات والأحاديث الدالة بظاهرها على التجسيم اختلف فيها أهل الحق، هل يتعين مجازها أم لا؟ بعد إجماعهم على أن ظواهرها غير مرادة، وإذا قلنا بالمجاز وتعينه فقيل: هي صفات مجهولة لنا لا نعرفها تضاف للصفات السبع التي دلت الصيغة عليها. وقيل: بل تتعين مجازها في الصفات السبع التي دلت الصيغة عليها، وهى: القدرة، والعلم، والإرادة، والكلام النفساني، والسمع، والبصر، والحياة، فعبر بالعين عن العلم، وباليد عن القدرة، والرحمة والغضب عن الإرادة، والجنب والوجه عن الذات، وإذا قلنا بأن اليد القدرة فلم ثنيت وجمعت وأفردت في مواطن مع أنها واحدة؟ والجواب: أنها أفردت باعتبار ذاتها، لا أنها واحدة؟ وجمعت باعتبار متعلقاتها، واستعير لها ما صدر عنها من الآثار العديدة مجازا، وثنيت باعتبار أن آثارها قسمان، واختلف في تعيين القسمين. فقيل: جميع آثارها منحصرة في الدنيا والآخرة. وقيل: الجواهر، والأعراض. وقيل: الحبور، والسرور، فلما كان جميع آثارها قسمين ثنيت باعتبارها مجازا. تقرير: ووجه كون صورة اليد للاقتدار؛ أنها لو خلقت رخوة كالجلد، لم يقتدر أحد بها على عمل، أو صلبت عظما واحدا تعذر العمل بها، فجعلت مركبة

من عظام عديدة، وأربطة، وعضل متعددة؛ ومن ورائها، وقدامها، وورائها، وألا تقبض وتبسط، وتدار، وطولت أصابعها لتحيط بالأشياء الغليظة، وقعر كفها لتشتمل على الأشياء، الكروية، وجعل إبهاماها أمام أصابعها لتقابله ويقابلها، فتقوى كل منهما بصاحبتها، بخلاف لو جعلت كلها في جهة واحدة ضعفت، ورققت أظافرها لتمسك بها الأشياء الدقيقة، وجعل جلدها أقوى الجلد حسا لتدرك به الكيفيات المختلفة، فيتناول منها عند عدم الإدراك بالبصر مقصوده، ويجتنب مكروهه، فهذه الصورة على هذه الهيئة أوجبت هذه الأعمال، فكان إطلاق لفظ اليد على القدرة من باب إطلاق اسم السبب الصوري على المسبب. قوله: (ومثال التسمية باسم الفاعل حقيقة أو ظنا: تسميتهم المطر بالسماء (. إنما قال: حقيقة أو ظنا؛ لأن قرائن الأحوال في العادة اقتضت أن السحاب أجسام لطيفة يخلقها الله- تعالى- من بخار الأرض أو من غير ذلك، الله اعلم بأسرار ملكه، الأول قول الفلاسفة، والثاني قول أصحابنا، فإن فرعنا على الأول فيكون اللطيف من البخار يختفي في بطن السحاب، وينعكس، ويقطر ماء، كما تراه في غطاء القدر يصعد البخار من القدر، فإذا انعكس من غطائها رجع ماء وقطر، وعلى هذا التقدير يكون تكون الماء في بطون السحاب كتكون الأجنة في بطون الأمهات، فكما يقال: إن رحم المرأة فاعل عادة لا حقيقة في تكوين الجنين، كذلك السحاب فاعل عادة في تكوين الماء، كما تقول: الشمس تفعل في العادة نضج الثمار، ويبس الحبوب، وإذابة الشمع، وتجفيف الماء من الثياب وغيرها، أو الله- تعالى- يلقح السحاب بالرياح، ويجعلها تولد الماء بطريق آخر الله- تعالى- يعلمه، فلما كانت هذه الاحتمالات قائمة لم يحصل الجزم بأنها فاعل عادة.

(سؤال) المطر كان فوقنا في السحاب فهو سماء في نفسه، فلا حاجة إلى المجاز، بل اللفظ حقيقة

فقال: (أو ظنا). فاليقين والظن يرجحان لكون السحاب فاعلا، ومن ذلك قول الشاعر [الوافر]: إذا نزل السحاب بأرض قوم ... رعيناه ولو كانوا غضابا فالسماء، اسم السحاب؛ لأنه يعلونا، وكل ما علانا فهو سماء، حتى سقف البيت، ومنه قوله تعالى: {فليمدد بسبب إلى السماء} [الحج: 15] أي: بحبل إلى سقف بيته، والسحاب لم ينزل، وإنما نزل المطر، فسمى سماء، باعتبار اسم فاعله، ومنه ما جاء في السنة: (أصابتنا سماء) أي: مطر، وهو كثير. (سؤال) المطر كان فوقنا في السحاب فهو سماء في نفسه، فلا حاجة إلى المجاز، بل اللفظ حقيقة. قوله:) مثال التسمية باسم الغاية: تسمية العنب بالخمر، والعقد بالنكاح). تقريره: أن العنب غالب القصد من زراعته وعصره إنما هو الخمر، والقصد لذلك أكثر من القصد للخل والحصرم وغير ذلك، فكان هو الباعث عليه، فكان سببا غائبا كما تقدم تقريره، والعقد المقصود منه النكاح، فأطلق لفظ النكاح الذي هو التداخل على العقد؛ لأنه المقصود من العقد، ومنه قوله تعالى: {إني أراني أعصر خمرا} [يوسف: 3]، {ولا

(تنبيه) قوله تعالى: {إني أراني أعصر خمرا} [يوسف: 36] دخله مجاز التركيب

تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} [النساء: 22]، والعقد محرم؛ فكان مرادا؛ لأن الإجماع، أو الدليل عينه. (تنبيه) قوله تعالى: {إني أراني أعصر خمرا} [يوسف: 36] دخله مجاز التركيب أيضا؛ فإن لفظ العصر لم يوضع ليركب مع المائعات من الخمر وغيرها، بل مع الجامد الذي فيه رطوبة، فلما ركب مع لفظ الخمر كان على خلاف الوضع الأول، فكان من مجاز التركيب. (تنبيه) لا يتعين المجاز في الاثنين، ولا في كل موضع فيه إطلاق اسم السبب الغائي على المسبب أنه من باب إطلاق السبب على المسبب، بل يصح أن يكون من باب إطلاق المسبب على السبب عكس ما قال؛ لأن السبب الغائي مسبب في الأعيان؛ وسبب في الأذهان على ما سيأتي تقريره، فيصح فيه الوجهان لوجود العلاقتين. قوله: (وثانيها: إطلاق اسم المسبب على السبب كتسميتهم المرض الشديد بالموت، والمذلة العظيمة بالموت). معناه: أنهما مسببان فيه في العادة في بعض الأحوال. قوله: (ويحتمل أن يكون من باب المشابهة). أي: أنهما تشابها في أن كل واحد منهما فيه مؤلمات وشدائد. قوله: (العلة الغائية حال كونها ذهنية علة العلل، وخارجية معلولة العلل). معناه: أن الإنسان أول ما يتصور سترة البيت وإيواءه، فيبعثه ذلك على

تحصيل السبب المادي وهو اللبن وغيره، والسبب الفاعل وهو البناء، والصوري وهو تشكيل البيت على وجه تحصل السترة بالبيت في الخارج، وحينئذ إذا فرعت الأسباب الثلاثة، حصلت السترة بالبيت في الخارج، فهي مترتبة على الثلاثة، فهي مسببة عنها، وهى الباعثة عليها، حال كونها في الذهن، فهي سبب في الذهن، ومسبب في المخارج. قوله: (نقل السبب إلى المسبب أحسن من العكس). لأن السبب المعين يقتضى المسبب المعين لذاته، بخلاف المسبب. مثاله في الشرعيات: وجوب الوضوء له أسباب عديدة، فإذا قيل لك: زيد لامس، تقول: وجب عليه الوضوء، فإذا قيل لك: وجب عليه الوضوء، لا تقول: لامس، بل تقول: حصل منه سبب يقتضى ذلك، فتشير إلى نوع السبب، لا إلى عين مسبب معين، وفي المسبب تشير إلى عين السبب، وكذلك الغسل، والحدود، وغيرها من الشرعيات. ومثاله من العقليات: أن الحصول في الحيز المعين بعد أن كان في غيره له سببان: الحركة إليه، والثاني: أن يعدمه الله- تعالى- من ذلك الحيز، ويوجده في هذا الحيز. فإذا قيل لك: انه قد تحرك إليه. قلت: حصل هو في ذلك الحيز. أما إذا قيل لك: هو في ذلك الحيز. تقول: الغالب أنه تحرك، ولا تجزم قطعا بالحركة، كما تجزم في الأول، بل يجوز ترتبه على كل واحد من السببين. فإن قلت: هذا لا يطرد، أما في الشرعيات؛ فلأن جلد المائة لا يكون إلا عن زنا، وأخذ الجزية لا يكون إلا عن الكفر، وهو كثير، وأما في

قاعدة أخرى: الأحكام الشرعية أضداد ولا يجتمع منها اثنان في شيء واحد باعتبار واحد

العقليات فلأن العالمية لا تكون إلا عن العلم، وكذلك القادرية لا تكون إلا عن القدرة، وكذلك بقية أحكام المعاني. قلت: معنى قولنا: أن المسبب يقتضى نوع السبب لا عينه، أي: لا ذاته ما لم يعرض له عارض من خارج من خصوص مادة، أو غير ذلك. وأما بالنظر إلى ذاته فلا، ولا تناقض بين عدم اقتضائه لذاته من غير سبب، وبين حصول الاقتضاء لأمر خارجي، بخلاف السبب، فإنه لذاته يقتضى عين المسبب، وذلك كافه في الترجيح. قوله: (وهذا القسم هو المستعار). للعلماء في المستعار مذهبان: قيل: كل مجاز مستعار؛ لأن اللفظ إذا وضع لمعنى استحقه بسبب الوضع، فاستعماله في غيره يكون على وجه العارية، فيكون كل مجاز مستعارا. وقيل: المستعار أخص من المجاز، وهو أحد أنواع المجاز، وهو ما كانت العلاقة فيه مشابهة خاصة. قوله: (تسمية الشيء باسم ضده كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}) [الشورى: 40]. تقريره: أن القاعدة: أن من له عرف في لفظ، فإنما يحمل لفظه على عرفه، والشرع له عرف في السيئة أنها: الذنب المحرم، بخلاف اللغة هي: ما يسوء وإن كان واجبا. إذا تقررت هذه القاعدة قلنا: (قاعدة أخرى) وهى أن الأحكام الشرعية أضداد لا يجتمع منها اثنان في شيء واحد باعتبار

واحد، والجناية محرمة، والعقوبة مباحة، والتحريم ضد الإباحة، والتحريم هو السيئة في عرف الشرع، فتسمية القصاص سيئة إطلاق لأحد الضدين على الآخر، وفي هذه الآية ونحوها أربعة طرق، يحتمل أن اللفظ حقيقة فيها تغليبا للغة؛ لأن القصاص يسوء الجاني، كما ساءت الجناية المجني عليه، وإذا قلنا: إنه مجاز فثلاثة طرق ما تقدم، ومن مجاز التشبيه كما قرره في الكتاب، ومن باب إطلاق لفظ السبب على المسبب؛ لأن الجناية سبب العقوبة. قوله: (تسمية الجزء باسم الكل كإطلاق اللفظ العام، ويراد الخاص). قلنا: صيغ العموم ليس مدلولها كلا بل كلية، وقد تقدم الفرق بينهما أن الكل هو المجموع، والكلية هي القضاء على واحد واحد بحيث لا يبقى واحد، وأن مدلول العموم لو كان الكل لتعذر الاستدلال به في النفي والنهى على ثبوت حكمه بجزء من جزئياته، فإنه لا يلزم من النهى عن المجموع النهى عن فرد معين منه، وكذلك النفي، لا يلزم من نفي المجموع نفي أجزائه كلها، فإذا قلنا: لا يقتل مجموع النفوس جاز قتل الألف منه، فإذا كان هذا هو مدلول قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) [الإسراء: 33]، فيجوز قتل كل من على وجه الأرض، ولا يعصى لبقاء بعض آخر، وهو الماضي؛ أو المستقبل من النفوس ويكون قولنا: لا رجل في الدار معناه: ليس المجموع في الدار، فيجوز أن يكون في الدار آلاف، إذا تقرر أن مدلول العموم كلية لا كل لا يكون الخصوص جزءا، فلا يكون إطلاق العموم لإرادة الخصوص من باب إطلاق لفظ الكل على الجزء، بل ذلك كقوله- عليه السلام- حكاية عن الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين).

والمراد: قراءة الفاتحة التي هي جزء الصلاة، وكذلك قوله عليه السلام (فصلى الظهر حين زالت الشمس). والظهر اسم لمجموع الركعات الأربع، فلو صلاها كلها عد الزوال، لكان قد شرع فيها قبل الزوال، فيتعين أنه أراد بلفظ الظهر جزءها، وهو افتتاحها. قوله: (تسمية الكل باسم الجزء، كما يقال للزنجي: إنه أسود). معناه: أن الأسود بعضه، وهو جلده دون أسنانه وعينيه، ويرد عليه أن المحمول على الشيء لا يقتضى أن يكون ثابتا لكله، كما تقول للرجل. إنه أبخر، وأشهل، وأعرج، وأحدب، وإنما ذلك في بعض أعضائه، وذلك الإطلاق حقيقة، فكذلك قولنا: انه أسود إنما حمل على الزنجي، وإذا كان الحمل اعم مما ثبت للكل أو البعض، والأعم لا يستلزم الأخص، فلا بد من دليل يدل على أن هذا المحمول من قبيل ما يكون المحمول فيه ثابتا للكل، وحينئذ يلزم المجاز، وإلا فلا، وتمييز ذلك بالضوابط عسر جدا. قوله: (الجزء يلازم الكل دون عكس). معناه: أنه متى وجد الكل وجد الجزء من غير عكس، فقوله: يلازم معناه لازم. قوله: (تسمية إمكان الشيء باسم وجوده) الإمكان هو: القبول. ومراده بوجوده: وجود المقبول، وهذه العبارة فيها مناقشة؛ لأنا إذا قلنا

الخمر إنها مسكرة لم يطلق هذا الاسم على القبول، بل على المحل الذي ثبت له القبول، ولا بد من ملاحظة قاعدة في هذا المثال، وهى: أن الأوصاف إنما تصدق حقيقة في الحال دون الاستقبال، كما تقدم في إطلاق المشتق على المحل، فعلى هذا مسكر لا يصدق إلا على الخمر الذي شرب وسيطر على الدماغ حتى حصل منه تغطية العقل، ولا يصدق على الماء أنه يروى حتى يشرب ويزيل العطش، وأما قبل ذلك فمجاز، وكان حق العبارة أن يقول: تسمية الشيء بما هو قابل له. قوله: (إطلاق المشتق بعد زوال المشتق منه). هذا على غير مذهب ابن سينا كما تقام أول الكتاب. قوله: (مجاز المجاورة: نقل اسم الراوية من الحمل إلى ما يحمل عليه من ظرف الماء، وتسمية الشراب بالكأس). أما الراوية: فقد تقدم أنها مبالغة في اسم الفاعل، فمن كثرت روايته للحديث سمى راوية، ومن كثرت معرفته للأنساب سمى نسابة، وعلى هذه الطريقة، وهذا المعنى يقتضى أن يكون الذي يستحق هذا اللفظ بأصل الوضع هو الماء؛ لأنه هو الذي يكثر إرواؤه، وهو فاعل الري في مجرى العادة، ويكون إطلاقه على الحمل والمزادة مجازا من باب مجاز المجاورة. وأما الحمل فلا يفعل الري، حتى يستحق اسم الفاعل من الري فتبنى له صيغة المبالغة. وأما الكأس فالمشهور في النقل أنه: الزجاجة إذا وضع فيها الشراب سميت كأسا، إلا سميت زجاجة، وكذلك الخوان لا يسمى بذلك إلا إذا كان عليه الطعام قاله الثعالبي في: (فقه اللغة)، ونقل غيره أن الكأس من أسماء الخمر نفسه من غير ظرف هي فيه.

قال ومنه قوله تعالى {يتنازعون فيها كأسا} [الطور: 23]، أي: خمرا: (لا لغو فيها ولا تأثيم) [الطور: 27]، فعلى هذا النقل الأول يكون تسمية الشراب بالكأس من باب تسمية الجزء باسم الكل؛ لأن الكأس اسم للمجموع، كالحلة اسم لمجموع الثوبين، على النقل الثاني يكون اللفظ فيها حقيقة، ويكون إطلاق الكأس على القدح مجازا من باب إطلاق المسبب على السبب المادي، أو من مجاز المجاورة. قوله: وعاشرها المجاز بسبب أن أهل العرف تركوا استعمال ما كانوا يستعملونه فيه كالدابة إذا استعملت في الحمار عليه سؤالان: (السؤال الأول) أن البحث في هذه المسألة من أولها إلى هاهنا في أنواع العلاقة الموجبة لصحة المجاز، وترك أهل العرف ليس من العلاقة في شيء، فجعله أحد أنواع العلاقة غير معقول، بل هذا نوع من أنواع المنقول عنه؛ لأن المنقول عنه، قد يكون موضوعا لغة، أو عرفا، أو شرعا، أما من أنواع العلاقات فلا، فجعله من أنواع العلاقة لا معنى له. (السؤال الثاني) إن إطلاق الدابة على الحمار حقيقة عرفية؛ لأن اللفظ في العرف نقل إلى الحمار في الديار المصرية، غير أن المصنف مثل باعتبار عرف (العراق)، أن لفظ الدابة نقل للفرس، فعلى هذا استعمال لفظ الدابة باعتبار عرفهم يكون تركا للحقيقة العرفية. قوله: (فإن قلت: لفظ الدابة إما أن يكون مجازا من حيث صار مستعملا في الفرس وحده، أو من حيث منع من استعماله في غيره، والأول من باب إطلاق اسم العام على الخاص، فلا يكون قسما آخر).

يقتضى كلامه هذا أمرين يندفع بهما إشكالان: أحدهما: أنه أراد بالعام والخاص فيما تقدم المعنى العام لا اللفظ العام، وعلى هذا يصدق، ثم إن الخاص كل والعام جزء، فإن الحيوان الأعم جزء الإنسان الأخص 0 وكذلك كل أعم مع أخصه، ولذلك قال هاهنا: (فلا يكون هذا قسما آخر) دل على أنه تقدم، ولم يتقدم له إلا هذا المثال من هذه الصيغة، وهذه المادة، غير أن ما ورد عليه ئمت من أن صيغة العموم كلية لا كل يرد عليه سؤال آخر، وهو أنا إذا حملنا كلامه ئمت على أنه أراد العموم المعنوي لا اللفظي انعكس الحال عليه في التمثيل؛ لأنه جعله لإطلاق اسم الكل على اسم الجزء، والعام ليس هو كل الخاص، بل جزء الخاص كل؛ لأن الخاص مركب من العام، وزيادة الفصل، وإن لم يكن هذا مراده بطل قوله: لا يكون هذا قسما آخر؛ لأنه حينئذ لم يتقدم له ذكر. والأمر الثاني: المستفاد من كلامه هاهنا أن مراده بقوله: المجاز مسبب أن أهل العرف تركوا استعماله في الذي كانوا يستعملونه فيه، أن أهل العرف تركوا المعنى العام الذي هو مطلق الدابة، وجعلوا اللفظ لبعض أنواعه الذي هو الفرس أو الحمار، لا أنهم تركوا الحقيقة العرفية بل اللغوية، ولو لم يكن هذا مراده لما كان لقوله: فإن قلت: اللفظ إما أن يكون مجازا من حيث هو مستعمل في الفرس وحده، السؤال إلى آخره معنى، بل إنما يتجه السؤال إذا كان المصنف ادعى هذا المجاز الذي ردد فيه السائل، غير أن جوابه يبطل ذلك. قوله: (والثاني باطل؛ لأن المجارية كيفية عارفة للفظة من جهة دلالتها على المعنى لا من جهة عدم دلالتها على الغير). تقريره. أن الجاز لا يتصور بدون الاستعمال؛ لأن حده اقتضى ذلك، حيث قلنا: هو اللفظة المستعملة في غير ما وضع له لعلاقة بينهما، والمهجور

(سؤال) مجاز التركيب ما العلاقة فيه؟

ترك الاستعمال فيه، فلا يكون مجازا فيه، وعليه مناقشة في قوله: (المجازية كيفية عارضة من جهة دلالتها على المعنى)؛ لأن اللفظ إذا استعمل مجازا لا يدل على المعنى المجازى، بل الدال القرينة، فنسبة الدلالة للفظ فيه توسع، ويمكن أن يقال: اللفظ دل بواسطة القرينة، فله نوع من الدلالة، كما أن اللفظ المشترك إذا احتفت به قرينة، صار المجموع دالا على ذلك المعنى المعين. قوله: (وثاني عشرها المجاز بسبب الزيادة والنقصان). قلنا: هذا من مجاز التركيب كما تقدم بيانه، وهو لا يعتقده مجازا لغويا، بل عقليا، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، فلم جعله قسما منه؟ وجوابه: أنه لم يفرع على مذهبه، بل على المذهب الآخر. (سؤال) مجاز التركيب ما العلاقة فيه؟ فماذا قلنا: {كفي بالله شهيدا} [الإسراء: 96، الرعد: 43]، (الباء) زائدة، وهو من مجاز التركيب، وكذلك قوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم} [النساء: 155، المائدة: 13]، (ما) زائدة، وهو من مجاز التركيب، فإن هاتين الكلمتين لم توضعا لتركبا هذا التركيب، بل (الباء) تركب مع الذي يلتصق به الفعل، أو تكون أداه أو سببا على اختلاف أحوالها، وكذلك (ما) لم توضع للزيادة، بل الأقسام الأحد عشر التي لها مذكورة مفصلة في كتب النحاة، ولا يمكن أن تكون العلاقة إحدى العلاقات المتقدمة؛ لأن التقدير أن المجاز بالزيادة والنقصان قسم آخر غيرها. أو يقولون: هذا مجاز لا علاقة له، فيبطل قولكم في حد المجاز: لعلاقة بينهما، ولا بد من علاقة عامة تشمل جميع مجاز التركيب على اختلاف أنواعه ومواده، فإنه كثير جداً.

(تنبيه) قال التبريزي في قوله: (سال الوادي) يحتمل أن يكون المجاز ... إلخ

جوابه: أن أصل العلاقة هو الارتباط بوجه ما، وهي متنوعة، فذكر المصنف أحد عشر نوعا غير هذا النوع، وهذا النوع فيه نوع خاص من العلاقة، وهو متشابهة التركيب الكائن مع الزيادة أو النقصان، للتركيب الكائن في التركيب الذي هو الوضع الأصلي، فالتشبيه واقع في صورة التركيب، وبهذا يفارق المستعار المتقدم ذكره؛ لأن المستعار شبهه في المعنى، وهذا شبهه في تركيب اللفظ، ولهذا جعل المصنف الزيادة والنقصان نوعا واحدا؛ لأن علاقتهما واحدة، وإن اختلفا في المعنى، فالزيادة أبدا للتأكيد، كما تقدّم نقله عن ابن جنى، فلا زيادة إلا للتأكيد، تقدم بسطه في باب التأكيد، وأما النقص فلا تأكيد فيه، فحينئذ هما متباينان، فلا جامع يجمعهما جمعا عاما إلا ما ذكرته لك من مشابهة التركيب، وهذا الموضع من مشكلات مجازات العرب؛ لأن مجاز التركيب في نفسه قل من يعرفه، وعلاقته أقل من ذلك ظهورا، وأخفى سبيلا. قوله: (تسمية المتعلق به باسم المتعلق، كتسمية المعلوم علما، والمقدور قدرة). مثاله: قوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه}] البقرة: 255 [. فلفظ (من) يقتضى أن العلم نفسه ليس مرادا، فإن (من) هاهنا ظاهرة في التبعيض، علم الله- تعالى- لا يتبعض، ومعلوماته تتبعض، فتعين الصرف لها، فيكون التقدير: ولا يحيطون بشيء من معلوماته (إلا بما شاء)، وتقول العرب للأمر العظيم إذا رأته كالأهرام ونحوها: ما هذا إلا قدرة عظيمة، أي: مقدور عظيم، فالقدرة والعلم متعلقان، والمعلوم والمقدور متعلق بهما. (تنبيه) قال التبريزي في قوله: (سال الوادي) يحتمل أن يكون المجاز في

(سال) لا في (الوادي) يريد بأن يكون معناه: دفع الوادي بما فيه من الماء قال: ويجوز أن يكون على حذف المضاف تقديره: سال ماء الوادي. وعلى قول المصنف وقول التبريزي يجوز أن يكون من مجاز التركيب؛ لأن السيلان لم تضعه العرب لتركبه مع لفظ ما لا يصلح للسيلان، فإذا ركبته معه كان مجازا في التركيب. قال: (ويجوز في تسمية المرض الشديد والمذلة بالموت أن يكون من إطلاق اسم الغاية). وقول التبريزي هذا لا يتجه، فإنه يتخيل أن غاية المرض الموت، وهذا ليس كافيا في السبب الغائي؛ فإن الذي يفضى إليه الشيء، ويكون نهايته وغايته قسمان: تارة تكون الغاية هي الباعثة عليه كالخمر في العنب، والسترة في الدار، والنوم على السرير، فإن هذه الأمور هي الباعثة على هذه الحقائق. وتارة لا تكون الغاية، والنهاية المترتبة على الشيء هي المقصودة منه كصيرورة الإنسان للموت، والدار للخراب، والثوب للإخلاق، ونحو ذلك فهذه لا تسمى في عرف أهل هذا اللسان علة غائية؛ لأنها لم تبعث عليه، وإن ترتبت عليه، ولذلك قالوا: أول الفكرة آخر العمل، وقالوا: العلة الغائية علة في الأذهان، معلولة في الأعيان، وذلك لا يصح في هذا القسم الثاني، إنما يصح في الأول، والذي يوقع الذل بالإنسان ما يتعين أن يكون مقصوده كالموت لا كليا ولا أكثريا. نعم قد يقصد وذلك لا يكفى حتى يكون كليا أو أكثريا، ولذلك خلق الله- تعالى- الأمراض المقصود منها تكفير السيئات، ورفع الدرجات، وإظهار مكارم العباد، وتفاوت رتبهم، وإن قلنا: أفعال الله -تعالى- لا تعلل بالأغراض بطل ذلك بالكلية لا نادرا ولا أكثرياً.

(المسألة الرابعة: لا يدخل المجاز دخولا أولياء إلا في أسماء الأجناس)

قال التبريزي في إطلاق الكل على الجزء قال: (كإطلاق اللفظ العام على الخاص). فصرح باللفظ، وحقق ورود الإشكال على هذا الموضع، ثم قال: وهذا بإطلاق اسم الجزء على الكل أشبه، وهذا الذي قاله لا يتجه، فإن اللفظ العام ليس جزء الخاص، وإنما يتأتى ذلك في المعنى العام، كما تقدم بيانه. (المسألة الرابعة: لا يدخل المجاز دخولا أولياء إلا في أسماء الأجناس) هو يحترز بهذا التقييد من ثلاثة أشياء: المشتقات، والأعلام، والحروف، ويتعين أن يكون إطلاقه هاهنا أسماء الأجناس، باعتبار اصطلاح النحاة في وضعهم الأسماء لقبيل خاص من الكلمات، وما عداها يسمى فعلا أو حرفا. وأما لو فرضناه أطلق باعتبار اللغة، فالحروف أيضا من أسماء الأجناس، وكذلك الأفعال؛ لأن كل واحد منها وضع لمسمى ذلك المسمى جنس في نفسه؛ لأن الجنس في اللغة: (كل حقيقة خالفت حقيقة أخرى في مقصود)، لقوله عليه السلام: (فإذا أختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم). قوله: (مفهوم الحرف غير مستقل بنفسه، بل لابد أن ينضم إلى شيء آخر لتحصل الفائدة). قلنا: قوله: غير مستقل بنفسه، إن أراد لا يستقل بصورة تصوره فمحال عند العالم بالوضع، فإن كل من سمع (ليت) انتقل ذهنه للتمني، و (ثم) انتقل ذهنه للعطف، وكذلك جميع الحروف المركبة، إلا أن يعرض لها اشتراك يصيرها مجملة، لكن ذلك لا يقدح، فإن الأسماء أيضا كذلك، وإن أراد أنه لا يستقل معناه بمعنى تصديقي، فكذلك جميع أسماء الأجناس، إنما تستقل قبل التركيب بالتصورات.

قوله: (إن ضم الحرف لما ينبغي ضمه إليه فهو مجاز في التركيب، لا في المفرد، وإن ضم لما ينبغي ضمه إليه فهو حقيقة). قلنا: قد يضم لما ينبغي ضمه إليه من حيث اللفظ، بأن يركب مع لفظ وضعته العرب ليركب معه، ومع ذلك يكون مجازا لا حقيقة، قوله تعالى: {لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم}] الأعراف: 11 [، -فثم- وضعت للتراخي في الزمان، وأن ما بعدها يكون واقعا في الزمان بعد الذي قبلها متراخيا عنه، مقتضى هذه القاعدة، أن يكون أمر الملائكة بالسجود متأخرا بالزمان عن خلقنا وتصويرنا، والواقع خلافه، فتعين المجاز، كذلك قوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا}] البلد: 11 [بعد قوله: {فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة}] البلد: 13 - 15 [. وأجمعت الأمة على أن الأمر بالإيمان متقدم على الأمر بالإعتاق والإطعام، فيتعين المجاز، وكذلك قول الشاعر] الخفيف [: إن من ساد ثم ساد أبوه .... ثم ساد قبل ذلك جده وقال الأدباء: معنى هذا البيت أن الشاعر أراد الإخبار بأن هذا وإن عظمت سيادته فلم تأته السيادة عن كلالة بل ان أبوه أعظم منه، وجده أعظم من أبيه، فصار المذكور بعد (ثم) واقعا قبلها، وهذا خلاف الوضع الأصلي، فاختلف الأدباء في هذا المقام.

فقال بعضهم وهو أكثرهم: أصل الترتيب في المخبر عنه، واستعمل هاهنا مجازا في ترتيب الخبر. وقال الأقلون وهم المحققون: يلزم على هذا تراخي الكلام المتأخر عن الكلام المتقدم، والآيات نزلت جملة واحدة، وبيت الشعر أنشد جملة واحدة. بل الصحيح أن هذا من مجاز التشبيه، وأن الرتبة العالية تشبه بالبعيد في الزمان، فشبه البعد بين الرتب بالبعد بين الأزمان، والتراخي بالتراخي، فيصير معنى الآية: أن أمر الملائكة في السجود لآدم كان أعظم في التشريف والتكريم من نفس الخلق والتصوير، ومرتبة الإيمان أشرف من رتبة العتق والإطعام، وسيادة الأب كانت أعظم من سيادة الابن، وسيادة الجد كانت أعظم من سيادة الأب. وهذا معنى جميل مقصود للبلغاء، فيتعين الحمل عليه لعظم فائدته، وجلالة معناه، وعلى كلا المذهبين تكون (ثم) مستعملة في غير موضعها، إما في الخبر دون المخبر عنه كما قال الأولون، وإما في الترتيب، وهي لم توضع إلا للتراخي في الزمان، فيكون هذا مجازا في المفرد، ثم أسندت وركبت مع ما يصلح أن تركب معه، فإن تركبت (ثم) مع القول، وبقية النظائر ليس على خلاف الوضع اللغوي في التركيب. وكذلك (بل) وضعت للإضراب عن المخبر عنه، فإذا قلت: قام زيد بل عمرو، أبطلت قيام زيد، وأثبت القيام لعمرو، وقد يستعمل الإضراب عن الخبر دون المخبر عنه، كما قال الله تعالى: {بل إدارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون}] النمل 66 [فإن المعنى المتقدم على (بل) لم يضرب عنه، بل قال العلماء: معناه يكفي من الإخبار عن هذا

المعنى، يشرع في الإخبار عن القصة الثانية، فهي إضراب عن الخبر، لا عن المخبر عنه، وهو كثير في القرآن، وكلام العرب، فقد استعملت (بل) مجازا في الإضراب عن الخبر؛ لأنها لم توضع له، وهو من مجاز المفرد، ووقع ذلك كثيرا في الحروف تكون مجازا في الإفراد مع تركيبها مع ما يصلح أن تركب معه. و (لعل) للترجي، ثم تستعمل في غيره كما في قوله تعالى: {لعلهم يهتدون}] الأنبياء: 31 [. قال العلماء: الترجي على الله-تعالى- محال، فتصرف (لعل) لطلب الاهتداء، فتكون أمرا بالاهتداء، وهذا مجاز في المفرد. وقيل: تجعل إخبارا عن المبالغة في الفعل المتقدم، فيكون المعنى: فعلنا ذلك على أتم درجاته فعلا بليغا، فعل من يريد هدايتكم، ويتمناها، كونها أيضا استملت في المسألة مجازا في الإفراد، وعلى القولين هي مركبة مع ما يصلح للتركيب معه. وكذلك (في) للظرفية، وتستعمل في السببية كقوله عليه السلام: (في النفس المؤمنة مائة من الإبل)، أي: بسبب قتلها، وفعله عليه السلام في الحميرية التي وجدها ليلة الإسراء في النار، فقالت: (حبست هرة حتى ماتت جوعا وعطشا فدخلت النار فيها)، أي: بسبب قتلها.

وقولنا: يحب في الله، ويبغض في الله، أي: بسبب طاعة الله معصيته، وهو كثير. ثم قوله: (إن ضم لما ينبغي ضمه إليه فهو حقيقة). قلنا: الضم ليس شرطا في كونه حقيقة، فإنا إذا نطقنا بلفظ، ثم بدا لنا في الكلام، فإن كان مرادنا بتلك اللفظة الظرفية الحقيقة، كانت حقيقة، أو غيرها كانت مجازا، فقد تقررت الحقيقة والمجاز بدون التركيب، فلا يكون التركيب شرطا كما إذا قلنا: الأسد، ونريد أن نقول: الأسد مفترس، ثم سكتنا، فإن كنا قد أردنا الحيوان المفترس، فهو حقيقة، وإلا فهو مجاز إن أردنا زيدا الشجاع، ولا عبرة بالتركيب في استعمال مفردات الألفاظ] حقائق ولا مجازات بعد الأسماء، والأفعال، والحروف [. قوله: (الفعل دال على ثبوت شيء لموضوع غير معين في زمان معين). معناه: انك إذا قلت: قام، دل على ثبوت القيام لفاعل غير معين من جهة اللفظ، وقد يكون معلوما لا من جهة هذه اللفظة، وإن قصد بذلك اللفظ التحديد، بطل بقولنا: الصبوح، والغبوق، والمتقدم، والمتأخر، والماضي، والحال، والمستقبل، فإنها تدل على شيء لموضوع غير معين في زمان معين، ومع ذلك فهي أسماء، فيكون الخبر غير مانع. قوله: (فيكون مركبا من المصدر وغيره، وما لم يدخل المجاز في المصدر، استحال دخوله في الفعل الذي لا يفيد إلا ثبوت ذلك المصدر لشيء). قلنا: مسمى الفعل مركب من مسمى المصدر والزمان، ليس الفعل في نفسه مركبا، ولا مدلوله مركبا من المصدر، ثم نقول؛ المصدر له معنيان:

حركات الفاعلين، واللفظ الدال عليها، والأول لغوي، والثاني اصطلاحي، فإن أراد اللغوي صح قوله: إنه جزء مسمى الفعل، وبطل قوله: إن المجاز يدخل فيه؛ لأن المجاز من عوارض الألفاظ، دون المعاني، وإن أراد المصدر الاصطلاحي الذي هو اللفظ، بطل قوله: إنه جزء الفعل، فإنا نعلم بالضرورة أن من نطق بصيغة (ضرب)، ما نطق بصيغة (ضرب) - بتسكين الراء-، فلابد من بطلان إحدى المقدمتين بالضرورة، ثم إن الفعل له مسمى وهو الحركة والزمان، والمصدر له مسمى، وهو الحركة فقط، فهما لفظان متباينان، ومسمياهما متغايران، فقد ينطق الإنسان بلفظ الفعل مجازا، ولا ينطق بلفظ المصدر، كما قال الله تعالى: {جدارا يريد أن ينقض}] الكهف: 77 [، فدخل المجاز في لفظ (أراد)، والإرادة نفسها لم ينطق بلفظها حتى يدخله المجاز، فإن المجاز فرع النطق باللفظ، ويلزم من هذا بطلان قوله: إنه ما لم يدخل المجاز في المصدر لا يدخل في الفعل، بل قد يدخل في الفعل طول الدهر، ولا يدخل في المصدر مرة واحدة؛ لأنهما لفظان متباينان، لا يلزم من التلفظ بأحدهما التلفظ بالآخر، ويظهر هذا بطلان قوله: إن المجاز لا يدخل في الفعل إلا بطريق العرض، بل يدخل بالذات كما تقدم، ولا يدخل بالعرض في صورة واحدة، فإنه ليس لنا صورة يتعذر فيها التجوز بالمصدر والنطق به، إلا حتى بنطق بالفعل التزاما، فيحصل في المصدر بالذات، وفي الفعل بالعرض، بل جميع الصور يصح النطق فيها بالفعل وحده، والمصدر وحده بحسب ما تدعو الضرورة إلى هذا أو هذا، وليس لنا صورة يجب اجتماعهما فيها، فلا يلزم المجاز بالعرض في حالة من الحالات، بل بالذات في جميع الصور في المصدر، وفي الفعل. قوله: (الأعلام يتعذر فيها المجاز لعدم العلاقة).

قلنا: لا نسلم عدم العلاقة لا عند الوضع، ولا بعده. أما عند الوضع فلأن كثيرا من الناس يسمون أولادهم بأمور قارنت ولادتهم، فيسمون رمضان من ولد في رمضان، ومكي من ولد بـ (مكة)، وجمرة وحرب من ولد في زمن الشدائد، وكان كثير من الجاهلين يسمون بذلك، وبضده من قارن مولده الخير: بمفلح، حارث، وصالح، وغير ذلك، والمقارنة أحد أنواع العلاقة، وهي حاصلة هاهنا. غايته: أن ذلك لم يوجد في كل الأعلام، وكذلك ليس كل أسماء الأجناس يصح التجوز عنها، لعدم العلاقة في بعضها. وأما بعد الوضع فكقول العرب: زيد زهير شعرا، وحاتم جودا، وعلى شجاعة، وأبو يوسف أبو حنيفة، فالعلم الثاني أبدا مجاز عبر به عن الأول لمشاركته له في نقل الصفة، وهذا متيسر في كل علم شارك غيره في صفة، فظهر أن العلم يدخله المجاز عند الوضع وبعده دخولا بالذات لا بالعرض، مع أن مجاز العرض لا يتصور أبدا كما تقدم بيانه، بل إما مجاز بالذات، وإلا فلا مجاز ألبتة. قوله: (وأما المشتق فلما لم يتطرق المجاز للمشتق منه، لا يتطرق إلى المشتق منه الذي لا معنى له إلا أنه أمر ما حصل له المشتق منه). قلنا: المشتق لفظ، وله مسمى، وهو ذات ما قام بها مسمى المشتق منه لا المشتق منه، والمشتق منه: لفظ له مسمى آخر، هو جزء مسمى المشتق منه، فهما لفظان متباينان، ومسمياهما متغايران، ولا يلزم من النطق بأحدهما النطق بالآخر نحو: المريد، والإرادة، والعالم، والعلم، فقد يقول: جدار مريد السقوط، ولا يتلفظ بلفظ الإرادة، فيقول: فلان عالم بصنيع فلان، يريد أنه ظان إياه، أو مجاز له عليه؛ فإن العلم، وما يصرف منه يستعمل في هذين المعنيين مجازا، ولا ينطق بلفظ العلم ألبتة، فيدخل المجاز

بالذات في المشتق، ولا يدخل في المشتق منه ألبتة، وقد يتجوز بالعلم، والإرادة، ولا ينطق بلفظ المريد، والعالم ألبتة فلا يدخلها المجاز لا بالذات ولا بالعرض، وينبغي أن تعلم هاهنا أمرين: أحدهما: أن المشتق منه اللفظ دون المعنى، فلفظ (ضارب) مشتق من لفظ الضرب لا من معناه، فإن الاشتقاق من عوارض الألفاظ باعتبار معانيها، لا من عوارض المعاني باعتبار ألفاظها. وثانيهما: أن المجاز من عوارض الألفاظ دون المعاني، وحينئذ يبطل جميع هذا الكلام، ولا يدخل مجاز في لفظ بطريق العرض ألبتة، بل في الذات فقط، ومتى دخل في لفظ لا يلزمه دخوله في لفظ آخر؛ لأن النطق به غير لازم، وهذه المقدمات ظاهرة جدا، ومقتضاها ألا يتحصل من هذه المسألة شيء ألبتة، بل تبطل من أولها إلى آخرها في الحروب، والأعلام، والمشتقات، كانت أفعالا أو أسماء. فإن قلت: الأفعال والمشتقات] لها [كلها أحكامها كلها بطريق] العرض [فيها، وبالذات في المشتق منه، فالخبر نحو: قام زيد، والإخبار في الظاهر بالفعل، وفي التحقيق بالمصدر فما حصل له الإخبار بالفعل إلا بواسطة الإخبار بالمصدر، وكذلك النفي] نحو [: ما قام زيد، النفي في الزاهر للفعل، وفي التحقيق للمصدر، فما دخل في الفعل إلا بواسطة دخوله في المصدر، وكذلك التأكيد، والتشبيه، فكذلك ينبغي في المجاز. قلت: هذا صحيح؛ لأن العرب وضعت الأفعال، والمشتقات لتضيف بها مسميات الأجناس إلى المحكوم عليه. وأما المجاز فهو] استعمال [لأسماء الأجناس لا لمسمياتها، والفعل

(سؤال) قال النقشواني: قوله: إن الحرف لا يدخله المجاز لعدم استقلاله بالإفادة

إنما يستتبع مسمى اسم الجنس لا لفظه عملا بالجنس، فإن الناطق بلفظ الفعل لم ينطق بلفظ المصدر، فالفعل يستلزم معنى المصدر لا لفظه، والمجاز إنما هو من عوارض اللفظ دون المعنى، فهذا هو الفرق بين المجاز، وبين ما ذكرتموه من النظائر. (سؤال) قال النقشواني: قوله: إن الحرف لا يدخله المجاز لعدم استقلاله بالإفادة. يلزمه ألا تدخله الحقيقة، فإنه إذا لم يستقل بإفادة معنى لا يكون حقيقة فيه، فيلزم من عدم المجاز عدم الحقيقة، مع أنه قد صرح في الباب الثامن بمعاني الحروف، فتكون حقائق فيها، ومجازات في غيرها بالذات. (سؤال) قال النقشواني: (لم لا يجوز أن ينضم الحرف لما لا ينبغي ضمه إليه، ويكون مجازا في الإفراد مع كونه مجازا في التركيب؟). (سؤال) قال: قوله: لا يدخل في المشتق إلا بواسطة دخوله في المشتق منه، ينتقض بقوله: إن إطلاق المشتق بعد زوال المشتق منه مجاز، فقد دخله المجاز بالذات كما قال هناك. (سؤال) بقى عليه علم الجنس لم يذكره، فإنه غير اسم الجنس، وغير الأعلام، والمشتقات، والحروف، وقد تقدم تقريره عند تقسيمات الألفاظ. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: لا يدخل المجاز في العلم؛ لأن كل مسمى فاسمه

حقيقة فيه، إذا نظرنا إلى الحد المذكور، ويدخل متأصلا في المشتق، وصيغة الفعل والحرف، كما تسمى المريد للسفر: مسافرا، وللحج: حاجا. وأما الفعل فتقول: مات فلان، وسافر، ووصل، و {أتى أمر الله}] النحل: 1 [، و {إذا وقعت الواقعة}] الواقعة: 1 [، إذا لم يبق تردد في أنه يقع، مع تقرر اسم المصدر، وأما الحرف، و (الواو) إذا استعملت بمعنى (أو)، و (الفاء) لمجرد العطف، و (من) بمعنى (في)، فإنه مجاز بالتأصل كالأسماء. قال: فإن قيل: قد ذكرتم أن العلم لا يدخله المجاز، وهو ينتقض بقولكم: أبو يوسف أبو حنيفة، ونحوه إذا وقعت المشابهة بينهما في المعنى الذي يختص بأحدهما: قال: والجواب من وجهين: أحدهما: أنه لابد من إخراج هذه الأعلام عن العملية لتصلح للاستعارة؛ لأنها إنما وضعت لتعريف الذات بما هي عين تلك الذات، من غير اعتبار صفة نفسية أو معنوية، فأبو حنيفة يتناول الشخص المسمى به حالة كمال علمه، كما كان يتناول وهو رضيع، وبهذا الاعتبار لو قضيت على شخص بأنه أبو حنيفة لم يفد صفة بأصل العلم فضلا عن كماله، فإذا لابد أن يجعل اسما للمعين بما هو عليه من الوصف المشهور به، فيصير عبارة عن ذات هي كذا، فتبطل العلمية عنه، ويلحق بأسماء الأجناس، فعند ذلك يصلح للاستعارة في كمال العلم. وثانيهما: أن اسم العلم إذا لم يفد إلا العين كما تقدم، فهو بمثابة الإشارة بان هذا ذاك، فإذا لم يكن كذلك بقرينة الحس، فهو مجاز عقلي؛ لأنه حكم باتحاد العين لأجل اتحاد الصفة، وليس فيه مخالفة وضع في استعمال

هذا وذاك، فكذلك في اسم العلم، فإنه أريد به نفس موضوعه الأصلي، ولأن اختصاصه بمحل الوضع وليس تقتضيه اللغة، ولا تبينه على المشاركة في صفة يقتضيه وضع المسمى، ولابد للمجاز من ظهور في محل الاستعمال أولا واحتمال لمحل الاستعمال ثانيا، بالإضافة إلى الإشعار اللغوي. قال: وهذا من لطائف المباحث. قلت: والجواب عن كلامه: أما الوجه الأول: فقوله: (إن العلم إنما وضع لتلك الذات مع قطع النظر عن الصفة) - فمسلم، ولكن قوله: (ولابد وأن يجعل في ثاني حال عبارة عن ذات هو كذا، فتبطل العلمية عنه). قلنا: إن أراد أن اللفظ ينتقل عن الذات، ويصير اسما للمجموع المركب من الذات والصفة فممنوع، ولا ضرورة لذلك، والأصل عدم النقل، ويدل على ذلك أن الصفة قد تذهب، ولا يتغير ذلك الاسم، ولا يحتاج لنقل آخر لنفس الذات، ولا يصير اللفظ مجازا في تلك الذات بعد ذهاب الصفة، بل كل صفة تطرأ ويشتهر بها المحل أمكننا أن نقول لكل من شارك في تلك الصفة: إنه زيد، فنقول: عمر زيد، إذا اشتركا في السمن، وإن كان السمن قد يعقبه الهزال، والأسماء في أنفسها لا تتغير. وإن أراد أن الاسم وضع لنفس الذات، ثم اتفق أن تلك الذات حدث لها أمر صارت مشهورة به، فصار لازما لتلك الذات، والاسم موضوع للملزوم دون اللازم، فنقول نحن في الذات الأخرى: إنها منزلة منزلة الذات الأولى ونستعير لها لفظا؛ لأن لازمها أشبه لازم الأخرى، فهذا حق، وليس فيه نقل الاسم عن عين الذات مع الصفة، بل التعبير بلفظ الذات عن ذات أخرى حصل لها مثل تلك الصفة العارضة للذات الأولى، وهذا لا يخرج اللفظ الأول عن علميته، ولا يبطل المجاز فيه لاندراجه في حد المجاز،

وهو استعمال اللفظ في غير وضع له، فإن وضع لذات فاستعمل في غيرها، فلفظ الخبر أبدا هو المجاز. فإذا قلنا: أبو يوسف أبو حنيفة، فأبو حنيفة هو المجاز؛ لأنه استعمل في أبي يوسف، ولم يوضع له، وكذلك زيد زهير شعرا، وحاتم جودا، المجاز في زهير، وحاتم، ولو صح قوله: إنه صار اسم جنس لكان نكرة، وصح نعته بالنكرات، واتفق النحاة على أنه لا ينعت بالنكرات، ولذلك اتفقوا على أنه لا تدخله الألف ولام التعريف، ولو كان اسم جنس لعرف باللام، اتفقوا على عدم صحة إضافته، وهو في هذه الحالة، ولو كان اسم جنس لصحت إضافته، فظهر أنه لا نقل، وإنما استعرنا لفظ إحدى الذاتين لأجل ما عرض لها للذات الأخرى، كأنا قلنا: هذا الاسم عرض لمسماه، مثل ما عرض لمسمى ذلك الاسم مع بقاء الاسمين على ما وضعا له. وقوله: (إذا كان العلم لا يفيد إلا اسم العين، فهو بمثابة الإشارة بأن هذا ذاك، فإذا لم يكن بقرينة الحس فهو مجاز عقلي). معناه: أن لفظ أحد العلمين لم يوضع ليركب مع هذا العلم، فلما ركب معه كان مجازا عقليا، مع أن النحاة يقولون: تقديره أنه منزل منزلته، وإذا تقرر أنه مجاز عقلي فهو كونه مجازا في الإفراد. وأما قوله: (ليس في مخالفة وضع في استعمال هذا وذاك). قلنا: لا نسلم بل خولف الوضع؛ فإن زهيرا وضع ليعبر به عن مسمى مخصوص عبر به عن غيره، وهو زيد. قوله: (ولابد للمجاز من ظهور في محل الاستعمال أولا، واحتماله لمحل الاستعمال ثانيا).

(المسألة الخامسة في أن المجاز يتوقف على السمع)

قلنا: لما عرضت لمسمى العلم تلك الصفة، واشتهرت فيه، صارت الصفة تفهم عند إطلاق ذلك العلم، لا لوضعه بإزاء تلك الصفة، بل لعروض تلك الصفة فقط، فحصل الإشعار الموجب] لحسن [استعمال لفظ ذلك العلم فيما حصل له تلك الصفة، كما أن نقول: الثلاثة مشتهرة بأنها فرد، والستة بأنها زوج، ولم يلزم من ذلك أن لفظ الثلاثة موضع لتلك المرتبة من العدد بوصف الفردية، حتى تكون الفردية جزء المسمى، بل لازم المسمى، وكذلك كل لفظ وضع لحقه لها لوازم. (المسألة الخامسة في أن المجاز يتوقف على السمع) قوله: (الرجل الشجاع كما يشابه الأسد في الشجاعة، فهو يشابهه في البخر وغيره مع أن الأبخر لا يستعار له لفظة الأسد). قلنا: القائلون بعدم اشتراط السمع في المجاز، وأن المشابهة تكفي -يقولون: لابد أن تكون الصفة أشهر صفات المحل، والبخر ليس أشهر صفات المحل. قوله: (ولأنهم يطلقون النخلة على الرجل الطويل، ولا يطلقونها على غيره، وهو دليل اشتراط السمع). قلنا: بل لأن قوة المشابهة لم تحصل لغير الإنسان، فقد شارك الإنسان النخلة في الشكل الآدمي، وكون رائحة ذكارها تشبه رائحة مني الرجل، وجريدها يشبه ذوائب بنات آدم، ولا تحمل الثمرة إلا بعد زمن طويل كالإنسان، وحملها من أول زمن يخلق الطلع في قبلها إلى حين صيرورته تمرا تسعة أشهر، كذلك مدة حمل بنات آدم، ولا يحصل حملها إلا بالذكر بخلاف غيرها من الشجر، وذكر بعض الفضلاء في قوله عليه السلام:

(تنبيه) (معنى قولهم: المجاز يتوقف على السمع)

(أكرموا عمتكم النخلة إنها خلقت من فضل طين آدم)، وأنها شابهت بنيته من أربعة عشر وجها، فهذا هو سبب الاختصاص، لا اشتراط السمع في المجاز. قوله: المستخرج بالفكر جهات حسن المجاز. تقريره: أن السمع إذا كان شرطا لا يمنع ذلك الفكرة، كما ورد السمع بقطع السارق، ويفكر هل معنى السرقة في هذا الشخص الذي وضع المتاع على ظهر الدابة، فخرجت به، أو رماه إلى خارج الحرز، ولم يخرج به، أو ربطه لمن جره؟ وكذلك إذا ورد عن العرب مجاز التشبيه، فينظر هل حصلت الصفة التي بها المشابهة في زيد أم لا؟ وهل هذه الصفة هي أشهر صفات المحل أم لا؟ وقد تكون هذه الصورة دائرة بين أنواع من المجاز، فينظر أي تلك الأنواع أولى بها؟ فلا تنافي بين الفكر واشتراط السمع، وهذا بسط جوابه في الكتاب. قوله: لأن التعظيم إنما يحصل بتخيل المعنى في موضع التجوز. قلنا: هذا لا يأبى المجاز فإن العرب إنما وضعت لفظ الأسد للمحقق لا للمتخيل وهذا متخيل، فقد استعمل اللفظ في غير ما وضع له. (تنبيه) (معنى قولهم: المجاز يتوقف على السمع).

(سؤال) قال النقشوانى: لا يبعد أن بعض الشجر إذا عظم طوله، واستقامته، ومشابهته للنخلة، أن يتجوز له بلفظ النخلة

معناه: لا يكون مجازيا عربيا في صورة حتى يسمع من العرب نوع ذلك المجاز، فإذا سمعناهم في صورة تجوزوا بعلاقة الشجاعة تجوزنا نحن في كل صورة بها على ذلك الشرط، وكذلك جميع العلاقات الاثنتى عشرة التي تقدم ذكرها في أنواع المجاز، فإذا وجدنا نحن علاقة أخرى غير الاثنتى عشرة المسموعة، لا نتجوز بها حتى ينقل عن العرب أنهم تجوزوا بها، ولا يشترط أنه سمع من العرب التجوز بلفظ الأسد لزيد نفسه؛ لأن العرب لم تعلم بزيد؛ لكونه كان معدوما مجهولا، بل المراد السماع في النوع في تلك العلاقة لا في كل صورة جزئية. (سؤال) قال النقشوانى: لا يبعد أن بعض الشجر إذا عظم طوله، واستقامته، ومشابهته للنخلة، أن يتجوز له بلفظ النخلة، فاستدلاله بعدم إطلاق النخلة على غير الرجل الطويل ضعيف. (تنبيه) قال التبريزى: استدلال المصنف ضعيف؛ لأن الشجاع لم يسم أسدا للمشابهة في مسمى الشجاعة، بل قولنا: هو شجاع أبلغ من قولنا: هو فلان الذي فيه الشجاعة، بل الغرض المبالغة، ولا يحصل ذلك ما لم يكن محل الاستعارة منه مشهورا بأقصى مراتب الوصف، فلا جرم كل من اختص لمبالغة في وصف، جازت الاستعارة لمن شاركه في أصله إذا أردنا المبالغة، وللاستعارة مراتب في الجواز، ودقائق في الحسن، فليس من شبه الساق المليح بالقمر كمن شبه الوجه المليح به، وإن زعم أنه يشاركه في كمال الحسن. قال: والأشبه أن ذلك لا يتوقف على السماع، فإنا وإن قدرنا عدم السماع، فلا يمتنع أن نقول: فلان كالأسد أي: في الشجاعة، ويفهم منه المقصود، وإن لم يذكر مناقب التشبيه، ثم تدرج زيادة في التخفيف،

ومبالغة في الوصف، فنقول: فلان أسد، أي: كالأسد، كما قال الشاعر] الطويل [: فعيناك عيناها، وجيدك جيدها ... ولكن عظم الساق منك دقيق ثم الدليل عليه أنا بينا أن العرف الشرعي مجاز عن العرف اللغوي، وتقرير الإذن اللغوي في أعيان المعاني الشرعية محال. قلت: (قوله: قولنا: شجاع أبلغ من قولنا: فلان الذي فيه الشجاعة) ليس كذلك بل الأمر بالعكس؛ لأن اسم الفاعل الذي هو شجاع، لا يدل إلا على أصل المعنى، وأما الشجاعة كما قال بالألف واللام فهي للعموم، أو للكمال، وأيهما كان فهو أبلغ من أصل المعنى، ولو كانت الشجاعة نكرة أيضا؛ لأن النكرة من المصدر تدل على أصل المعنى، واسم الفاعل يدل على أصل المعنى تضمنا؛ لأنه يدل على الذات الموصوفة بالمعنى، فالمعنى جزء مسماه، والدلالة بالمطابقة أبلغ من دلالة التضمن؛ لأنها مقصودة بالذات، والتضمن مقصود بالعرض. وقوله: نحن نشبه الوجه بالقمر دون الساق صحيح؛ لأن العرب تقصد في التشبيه معنى خاصا بذلك المشبه به، فالوجه أخص بالقمر من حيث الاستدارة، والوضاءة، والأنس، والجمال، وميل النفوس إليه، وهذا المجموع لم يحصل للساق، فكل شيء يقصد فيه أخص الأشياء به شبهاً.

قال المبرد في (الكامل): يقصد في كل مشبه به معنى يخصه، فلا يقصد من الظبية قرونها ولا جلدها، بل حلاوتها في رأى العين، وكذلك يقصدون من القمر ما تقدم. ويحكى أن ذا الرمة، واسمه (غيلان) - كانت جاريته تحفظ من شعره كثيرا، فعبر يوما عن الحى الذي هي فيه، فوجدها تستقى الماء، فطلب منها ماء يشربه فسقته، فقصد مداعبتها، فقال لها: إن ماءك حار يشير إلى ماء منيها الذي تنزله عند الجماع، وكانت تحفظ له قصيدته التي منها] الطويل [: أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا أأنت أم أم سالم؟ فأنشدته: أأنت الذي شبهت عنزا بقفرة ... لها ذنب فوق استها أم سالم جعلت لها قرنين فوق جبينها ... وظبيين مسودين مثل المحاجم وساقين إن يستمكنا منك يتركا ... بجلدك يا غيلان مثل المباسم أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا أأنت أم أم سالم؟

فعلم أنها انتقدت عليه التشبيه، وخشي من شده هجوها، فقال لها: خذي ناقتي هذه، ولا تحدثي بذلك أحدا، فردت إليه ناقته، ووعدته بكتمانها، وما جاء انتقادها عليه إلا من وجهة أنها عممت، أما لو أنصفته في التشبيه، وخصصته بحلاوة الغزالة؛ لا ندفع تشنيعها عنه. قوله: (لا نمنع أن نقول: فلان كالأسد عند عدم السماع، ويفهم المقصود). قلنا: ليس النزاع بين الفريقين في فهم المقصود، إنما النزاع في أنه مجاز عربي أم لا؟ كما أنا لو قلنا: إن قائم زيدا فهم المقصود، ورجل في الدار فهم المقصود، ولا يكون كلاما عربيا حتى نقول: إن زيدا قائم، وفي الدار رجل. وقوله: (يقصد بحذف الكاف التخفيف، والمبالغة). قال الأدباء: أصل التشبيه زيد كالأسد، وفي الرتبة الثانية زيد الأسد، وفي الرتبة الثالثة الأسد كزيد، وفي الرتبة الرابعة الأسد زيد. ووجه المبالغة: أن مع حذف الكاف جعل زيد نفس الأسد، وهو أبلغ من الأسد به؛ لأن المشبه أقصر رتبة من المشبه به، ثم إذا عكسنا القضية صيرنا الأسد يشبه زيدا، فهو أبلغ في شجاعة زيد، ومن هذا الباب مكان ورد في السنة الصحيحة في (مسلم)، وغيره ظل يجهله كثر من غلاة الصوفية فيه، واعتقدوا الاتحاد في حق الله تعالى، وفي حق صفاته العلا، وهو قوله- عليه السلام- حكاية عن الله تعال: (ما تقرب إلى أحد بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها). فقال أهل الضلال: أخبر الله- تعالى- أن ذاته- تعالى- تصير صفات العبيد.

ووجه تقرير الحديث: أن أصل الكلام: فإذا أحببته صار سمعه كسمعي، وبصره كبصري، ويده كقدرتي، ثم بالغ في التشبيه، فحذف أداة التشبيه، فقال: سمعه سمعي، وبصره بصري، ويده قدرتي، ثم عكس مبالغة فقال: كان سمعي سمعه، وبصري بصره، وقدرتي يده، ثم حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، وإذا حذف السمع من قوله: سمعي، لم يبق إلا الياء، والياء ضمير مخفوض لا يصلح أن يكون اسم كان، فعوضت بالتاء المرفوعة التي تصلح أن تكون اسم كان، فقال: كنت سمعه، وبصره، ويده. ومعنى حصول الشبه: أن سمع العبد يصير مشبها بسمع الله- تعالى- من جهة أنه مخالف لمجرى العادة، كما اتفق لسارية يسمع عمر، وعمر (بالمدينة)، وسارية- رضي الله عنه- ببلاد الترك، وهو يقول: يا سارية الجبل، صار بصر عمر- رضي الله عنه- على خلاف العادة، لكونه رأى سارية ببلاد الترك من (المدينة)، وصارت يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم، على خلاف مجرى العادة في رميه بكف من حصا؛ فعميت

(فائدة) زيد كالأسد حقيقة

جيش الكفار، فهذا وجه المشابهة، ومعنى الحديث، وهو مبني على هذه القواعد من التشبيه، فلجهلهم بها وقعوا في الكفر والإلحاد. (فائدة) زيد كالأسد حقيقة؛ لأن الكاف وضعت للتشبيه، فكل لفظ هو مستعمل في موضوعه. وقوله: (زيد الأسد، والأسد زيد). هو المجاز؛ لأن لفظ الأسد لم يستعمل في الحيوان المفترس، كما في المثال الأول بل في زيد، ولم يوضع له. قوله: (والدليل القاطع أن الأسماء الشرعية مجازات عن اللغة). قلنا: ليس في هذا دليل قطعي، ولا ظني؛ لأن الذي يشترط السمع، إنما يشترطه في النوع، لا في آحاد الصور، والحقائق الشرعية كلها إما من باب التعبير باسم الجزء عن الكل كالصيام، والصلاة، أو من باب إطلاق السبب على المسبب، كإطلاق اسم الزكاة على الزكاة الشرعية، كما تقدم بسطه في الحقيقة الشرعية، وكلاهما سمعا من العرب في هذا النوع في غير هذه الصورة الشرعية.

(فائدة) قال سيف الدين: احتج مشترط السماع بأنه لولا اشتراطه لسمى الصيد شبكة

(فائدة) قال سيف الدين: احتج مشترط السماع بأنه لولا اشتراطه لسمى الصيد شبكة، وغير الإنسان نخلة، والثمرة شجرة، وظل الحائط حائطا، والابن أبا، لما بين هذه المواطن من العلاقات، وليس كذلك. ثم قال: ولقائل أن يقول: جاز أن تكون العلاقة كافية ما لم يمنع مانع من أهل اللغة، وها هنا منعوا، فيجوز في غيره بمجرد العلاقة. (المسألة السادسة: في أن المجاز المركب عقلي) هذه المسألة مبنية على قاعدة، وهي: أن العرب لما وضعت المفردات هل وضعت المركبات؟ في ذلك قولان لأرباب علم البيان، والصحيح أنها وضعت المركبات، كما وضعت المفردات. احتج المانع بأنا قول: مات زيد، فيكون كلاما عربيا، مع أن العرب لم تعرف زيدا حتى تركب الفعل أو غيره معه، وكذلك التركيب مع سائر الحقائق المجهولة للعرب، يكون التركيب معها كلاما عربيا، مع أنها لم تعرفها حتى تضع التركيب معها، بل وضعت المفردات، وجرت في تركيبها مع ما علمته العرب، ومع ما لم تعلمه، فلا جرم كان كل مركب من هذا النوع عربيا، باعتبار مفرداته، دون مركبه. وجوابه: أن القائل بالوضع إنما ادعى الوضع للنوع دون الشخص، فوضع نوع الفاعل، والمفعول، ونوع (أن (، واسمها، وخبرها، ونوع المبتدأ والخبر، وكذلك بقية أنواع كلام العرب، فاندفع الإشكال.

واحتج المثبتون بأن العرب لما قالت في المفردات: إنسان على وزن إفعال- بكسر الهمزة- من كلامنا،-وبضمها وفتحها- ليس من كلامنا فحجروا، وأطلقوا. كذلك قالوا: إن زيدا قائم من كلامنا، وقائم إن زيدا ليس من كلامنا، وإن قائما زيدا ليس من كلامنا، وفي الدار رجل من كلامنا، ورجل في الدار ليس من كلامنا، ورب رجل من كلامنا، ورب زيد ليس من كلامنا، فحجرت، وأطلقت في المركبات، كما حجرت وأطلقت في المفردات، ولا نعني بالوضع إلا ذلك. إذا تقررت القاعدة فمن قال بأن العرب وضعت المركبات، قال بأنها وضعت كل لفظ ليركب مع ما يناسبه، فيركب لفظ السؤال مع لفظ من يصلح للإجابة، ولفظ الأكل مع الأغذية، والشرب مع الأشربة، فمتى وقع التركيب هكذا، فهو حقيقة لغوية، وإن ركب لفظ الأكل مع المائعات، فيقال: أكلت الماء، أو شربت الخبز، أو ركبت الشدائد، أو اتسعت أخلاقه، أو ضاقت أخلاقه، فهو مجاز لغوي في التركيب، وقد يصحبه المجاز في المفردات، وقد لا يصحبه. والقائل بأن العرب لم تضع المفردات يقول: المركبات مهملة، والمهمل لا يوصف بكونه حقيقة ولا مجازا لاشتراطه الوضع في الجميع، فالحقيقة: اللفظة المستعملة في موضعها، والمجاز هو: المستعمل في غير موضعه، فاشترطا الوضع في الحقيقة والمجاز، فحيث لا وضع لا حقيقة ولا مجاز، وكما إذا أطلقنا لفظ خنفشار، وأردنا به الحصير، لا يقال: هو حقيقة فيه، ولا مجاز، فيقول هذا القائل بعدم الوضع إذا سمع قوله تعالى (وأخرجت الأرض أثقالها)] الزلزلة: 2 [، (مما تنبت الأرض)] البقرة: 61 [ليس للغة ها هنا مدخل لعدم الوضع، فلم يبق إلا تصرف العقل.

(قاعدة) وضعت العرب الأفعال حقيقة في استعمالها

وهو أن العقل أدرك أن الأرض لا تفعل شيئا، وإنما الفاعل هو الله تعالى، فحقيقة الفعل لم توجد من الأرض، فسمته مجازا عقليا، لأنه ليس فيه إلا العقل فينسب إليه، وحيث نسب الفعل لفاعله حقيقة، كقولنا: خلق الله- تعالى- العالم، نسميه حقيقة عقلية؛ لأنها مدركة بالعقل، فهذا هو تحرير قوله: المجاز المركب عقلي. فإن قلت: (فإذا قلنا: خنفشار، وأردنا الحصير ليس هو من موضوعات العرب، فهو مهمل كالمركبات عند هذا القائل، فلم لم نسمه مجازا عقليا؟ قلت: نسبة الأفعال لمستحقها والمؤثر فيها، ولغير المؤثر فيها يدركه العقل، وهو من أحكامه التي يقدر أن يستقل بها وجوبا واستحالة. وأما إطلاق اللفظ المهمل المفرد على محل معين، فهو يجوز أن يكون اسما له، وأن يطلق عليه، وألا يكون شيء من ذلك، فالعلم بذلك إنما يحصل من أمر غير العقل؛ لأن حظ العقل فيه التجويز ليس إلا، ولا يحكم بوجوب، ولا استحالة، ولا يعين شيئا من ذلك، بخلاف نسبة الأفعال يوجبها الله- تعالى- ويحيلها على غيره، فلما كان العقل يستقل بها نسبت هذه المركبات له، بخلاف اللفظ المفرد. (قاعدة) وضعت العرب الأفعال حقيقة في استعمالها، وقد تستعمل مع الفاعل حقيقة، نحو: خلق الله ورزق، وفي الفاعل نسبا، وعادة لا حقيقة نحو: قتل زيد عمرا، وما لم يفعل حقيقة ولا نسبا نحو: برد الماء، وسقط الحائط، ومات زيد، وتحركت الريح. إذا تقررت هذه القاعدة، وأن ليس من شرط نسبة الفعل حقيقة، أن يكون الفاعل فاعلا مؤثرا مخرجا من] العدم [إلى الوجود.

قلنا: أن نمنع أن تنبت الأرض وتخرج مجاز بل تنبت، كما نقول. أروي الماء وأشبع الخبز، وأحرقت النار، ولا يقول أحد: إن هذه مجازات، بل حقيقة، وإنما يكون المجاز حيث يعلم أن العرب وضعت اللفظ ليركب مع غير هذا، فركب مع هذا كما تقدمت المثل، ولا تنافي بين نسبة الفعل إلى الله- تعالى- بالإيجاد وحده، ويكون تركيب اللفظ مع لفظ محل ذلك الفعل حقيقة لغوية؛ فإن الله- تعالى- هو فاعل الري عند شرب الماء. وقولنا: أروي الماء حقيقة لغوية، وكذلك قام زيد، الله- تعالى- فاعل قيامه، واللفظ فيه حقيقة. قوله: (أمثلة الأفعال لا تدل بالتضمن على خصوصيات المؤثر). قلنا: عليه سؤالان: الأول: أن الدلالة غير منحصرة في التضمن، فلم لا يجوز أن تكون دلالة الفعل بالالتزام، وهو الصحيح، فإن الفاعل لازم للفعل؟ الثاني: أن تجد لفظ (أروى) يدل على المائعات، وأشبع على الأغذية، وابتاع على ما يصلح للبيع، وأجاب يدل على ما يصلح للإجابة، وهو كثير، فقد دلت الأفعال على خصوصيات المؤثر. قوله: (لو كان لفظ أخرج يدل على القادر، لكان قولنا: أخرج وحده معناه: أخرجه القادر، وكان يلزم أن يكون وحده خبرا يدخله التصديق والتكذيب). قلنا: لا يلزم من دلالة لفظ على شيء، وأنه إذا فسر به كان جملة أن يكون في نفسه جملة، فإن لفظ العشرة يدل على خمسة مع خمسة. ولو قلنا: خمسة مع خمسة كان خبرا، ولفظ العشرة في نفسها] ليس [خبرا، والصبوح: الشرب أول النهار.

(قاعدة) دلالة اللفظ على المعنى ثلاثة أقسام

وقولنا: الشرب أول النهار خبر، والصبوح ليس خبرا، وكذلك الغبوق: الشرب آخر النهار، وليس خبرا في نفسه، وتفسيره خبر، والمتقدم هو: المعلوم الواقع قبل غيره. وقولنا: المعلوم الواقع قبل غيره خبر، وكذلك المتأخر، والماضي، والمستقبل، والحاضر، بل لفظ الخبر مدلوله يدخله التصديق، والتكذيب، وهو في نفسه لا يدخله ذلك، وكذلك الشأن، والقصة، والحديث، والكلام، والقصيدة، والجملة، وهو كثير، فلا يلزم من كون اللفظ يفسر مدلوله بما يقبل التصديق أن يكون في نفسه خبرا يقبل التصديق. قوله: (يلزم أن يكون قولنا: أخرجه القادر تكرارا). قلنا: لا نسلم أنه تكرار؛ لأن قولنا: أخرجه القادر قضية فيها حكم، وأخرج في نفسه ليس فيه حكم، فقد أنشأنا ما لم يكن في نفس اللفظ. (قاعدة) دلالة اللفظ على المعنى ثلاثة أقسام: أحدها: دلالته على إضافة معنى لمعنى على سبيل التقييد بالتركيب، كدلالة لفظ العشرة على خمسة مركبة مع خمسة من الألفاظ المفردة. وثانيها: دلالة اللفظ على تقييد معنى لمعنى على سبيل الإضافة، نحو: غلام زيد. وثالثها: دلالة اللفظ على تقييد معنى لمعنى على سبيل الصفة، نحو: كان زيد الكاتب مسافرا، فالكاتب صفة لا خبر، وهذه كلها يدل اللفظ فيها على إضافة معنى لمعنى خاص، وليست خبرا، وظهر بهذه القاعدة أن دلالة اللفظ على المعاني المركبة أعم من الدلالة التصورية، والتصديقية، فالذي تقدم كله دلالته على التركيب دلالة تصورية.

وأما الدلالة التصديقية، فهي كقولنا: زيد قائم ونحوه من القضايا خبرا أو طلبا. ثم نقول: التفاسير لمسميات الألفاظ كلها كذلك، فإن كان الإنسان عالما بمدلول اللفظة لم يجز أن يفسر له؛ لأنه تحصيل الحاصل. فقد منع ابن السراج- في كتاب (الأصول) في النحو- أن يقال: النار حارة، والثلج بارد لمن هو عالم بذلك، وإن كان السامع لا يعلم ذلك حسن التفسير له، وكذلك ها هنا، وكل حد مع محدوده كذلك، فإنا إذا قلنا: الإنسان هو الحيوان الناطق، مع أنه لا معنى للإنسان إلا الحيوان الناطق يلزم ما ذكره من التكرار، فلو كان هذا محذورا انسد باب التحديد، وهو باطل. قوله: (إذا كانت موضوعة لمطلق القادر لا لقادر معين، لم يكن التعيين واقعا في مفهومات الألفاظ، بل في إسناد مفهوماتها إلى غير ما هو مسند إليه). قلنا: وهذا هو المجاز في التركيب لغة؛ لأن اللفظ إذا وضع ليركب مع لفظ من هو قادر من حيث الجملة، فركب مع لفظ من لا قدرة له البتة، كان هذا التركيب على خلاف الوضع اللغوي، فكان مجازا في التركيب، فإنا لا نعني به إلا ذلك، كما أن لفظ السؤال لما وضع ليركب مع لفظ من يصلح للإجابة، فلما ركب مع لفظ القرية التي لا تصلح للإجابة في مجرى العادة، كان مجازا في التركيب، فكذلك ها هنا. قوله: (فإن قلت: ما الفرق بين هذا المجاز وبين الكذب)؟ تقرير السؤال: أنه أسند الإنبات إلى الأرض، وهو غير مطابق للوضع اللغوي، فهو كمن قال: الواحد نصف العشرة في عدم المطابقة، فيلزم التسوية بينهما، واعلم أن هذا السؤال لا يخص المجاز في التركيب، بل

والمفرد أيضا، فإن الإنسان إذا قال: (الحائط يريد أن يقع مع أن الجدار لا يريد، أو فلان أسد، أو حمار مع أنه ليس كذلك، فهو غير مطابق، فينبغي أن يفرق بينه وبين الكذب، إذ لا معنى للكذب إلا عدم المطابقة. قوله: (الفرق بينهما هو القرينة). قلنا: المجاز قد يعري عن القرينة، ويكون مع الكذب القرينة، فيلزم أن يكون الكذب مجازا، والمجاز كذبا لما ذكره من الفرق. أما عرو المجاز فلأن المتكلم قد يقصد الإلغاز، والإلباس على السامع، فإنه من مقاصد العقلاء، فيتجوز، ولا يبدي قرينة أو تكون حقيقة لا يفهمها السامع، ولا يخل ذلك بحقيقة المجاز، فإن المجاز إنما يشترط فيه العلاقة وهي لابد منها، أما القرينة فهي شرط في فهم السامع المجاز، لا في حقيقة المجاز. وأما اقتران القرينة بالكذب، فإن الإنسان إذا قال: أنا أقدر على إزالة الشمس من الفلك، وشرب البحر الملح، وغير ذلك مما يعلم أو يظن أنه كذب، لقرينة حالة تعجزه عن ذلك، أو دلالة الدليل العقلي، أو الشرعي، أو العادي على كذبه، قطعنا بكذبه لأجل القرينة، فلا يمكن أن تجعل القرينة هي الفارق المميز، فإنه يؤدي إلى خلط الحقائق، بل الفارق أن الكاذب لفظه ليس مطابقا لما استعمله فيه، كان حقيقة أو مجازا، والمتجوز لفظه مطابق لما استعمله فيه، كانت معه قرينة أم لا. بيان أن الكذب كذلك: أن من قال: الواحد نصف العشرة، فهو مستعمل لفظه فيما فهم عنه، وهو غير مطابق، ولفظه هذا حقيقة لغوية، وإذا قال: فلان أسد، وفلان في غاية الجبن، وقلة الشجاعة كان كذبا؛ لأنه استعمل لفظه في معنى المبالغة في الشجاعة، وهو غير مطابق، فظهر أن الكذب إنما يكون عن عدم المطابقة في الحقيقة والمجاز.

(سؤال) قال النقشواني: (هذه المسألة تناقض اعترافه أول الكتاب بأن الألفاظ المفردة إنما وضعت ليفاد بها معانيها المركبة

وأما أن المجاز مطابق فلأن الإنسان إذا قال: أوجدت الأرض النبات، ومراده أن السبب العادي في تخليق النبات بقدرة الله تعالى، قد وجد منها، ولم يستعمل اللفظ في أنها هي الموجدة تأثيرا حقيقيا، وإذا قال: (اسأل القرية)، إنما استعمل لفظه في إسناد السؤال إلى أهل القرية، وهذا مطابق، ولا يستعمل لفظه في أن الجدران تجيب، وكذلك في مجاز الإفراد، لم يرد إلا المعنى المجازي، وهو واقع، فهذا هو المجاز، كانت معه قرينة أم لا، وبهذا يظهر أن المجاز قد يكون كذبا، وقد يكون صدقا، والحقيقة قد تكون كذبا، وقد تكون صدقا، ونحن إنما نفرق بين المجاز الصادق، والكذب، كيف كان مجازا أو حقيقة، وبهذا الفرق تطرد الحقائق، ولا يختلط منها شيء بشيء. (سؤال) قال النقشواني: (هذه المسألة تناقض اعترافه أول الكتاب بأن الألفاظ المفردة إنما وضعت ليفاد بها معانيها المركبة، وذلك يدل على أن مقصود الواضع إنما هو التركيب، فيكون التركيب موضوعا للعرب على وجه كلي، أن الاسم إذا أسند إلى الاسم على كم ضرب يكون؟ وماذا يفيد كل ضرب؟ وما يفيد كل ضرب؟ وهكذا في الأفعال والحروف). (تنبيه) زاد التبريزي على المصنف: المجاز في التركيب من المجاز اللغوي، حيث عدد أنواع المجاز، مع أن أبنية الأفعال مرشدة وضعا على خصوص الإسناد، وهو غير خصوصية المؤثر، فتحرك لا ينبئ عن قدرة المتحرك، ولا تفرق اللغة بين تحرك الشجر، وتحرك القادر، حتى إن القادر لو تحرك بحركة

(المسألة السابعة: يجوز دخول المجاز في الكتاب والسنة)

اضطرارية لم يخرج عن كونه متحركا حقيقة، بخلاف قولنا: تحرك الشعر، وتحركت شهوة المرأة، وتحركت همة الرجل، فإنه مجاز لانتفاء المؤثرية عن المسند إليه لعدم القيام به، وهو موجب اللغة، وعلى هذا نقول: قتله الحجز إذا وقع عليه فمات، بموجب اللغة، وليس مجازا، وإن كان الفاعل هو الله- تعالى- حقيقة بدليل العقل، بخلاف قتله الحوض، إذا غرق في البحر حيث ركبه حرصا؛ لاختلافهما في المصدر الذي هو موجب اللغة، ويكون ذلك مجازا لغويا، الذي أنكره هو في المركب. (المسألة السابعة: يجوز دخول المجاز في الكتاب والسنة) قوله: (جدارا يريد أن ينقض)] الكهف: 77 [. تقريره: أنه مجاز أن الإرادة متعذرة من الجدار؛ لأنها مشروطة بالحياة، وهو ليس بحي، لكن من لوازم إرادة الشيء من الحي مقاربة ذلك المراد، فعبر بالإرادة عن لازمها الذي هو المقاربة، فيصير معنى الكلام: فوجدا فيها جدارا يقارب الوقوع، والتعبير عن المقاربة بالإرادة مجاز، {وجاء ربك}] الحجر: 22 [، من باب الحذف أي: أمر ربك أو جند ربك، ونحو ذلك، فهو من مجاز التركيب، والأول من مجاز الإفراد. قوله: (لو وقع المجاز في القرآن لسمي الله- تعالى- متجوزا مستعيرا). قلنا: ممنوع؛ لأن المتجوز هو فاعل المجاز، وهو القاعدة في كل اسم فاعل، أنه لمباشر الفعل، والله- سبحانه وتعالى- ليس هو الناطق باللفظ المجازي، بل جبريل، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- والناس بعدهما، فهذا الاسم، لا يصدق على الله- تعالى- لعدم اتصافه بفعل المجاز. قوله: (أسامي الله- تعالى- توقيفية).

(فائدة) قال سيف الدين: منع المجاز في القرآن أهل الظاهر، والرافضة

هذه قاعدة، وهي أن أسماء الله- تعالى- أربعة أقسام: ثلاثة متفق عليها، وواحد مختلف فيه؛ لأن الاسم إن كان غير موهم، وورد السمع به جاز إطلاقه في كل موطن إجماعا كعالم. وإن كان موهما، ولم يرد السمع به امتنع إطلاقه إجماعا، كالدليل للمرشد فاعل الدلالة؛ لإيهامه الدليل نفسه، وكذلك مغن، لإيهامه التنقل في مراتب العزائم. وإن كان موهما، وورد السمع به، اقتصر به على محله إجماعا نحو: ماكر، ومستهزئ الوارد في قوله تعالى: {والله خير الماكرين}] آل عمران: 54 [، و {الله يستهزئ بهم}] البقرة: 15 [، فلا يقال: يا مستهزئ، ولا يا ماكر. وغير موهم لم يرد السمع به قال القاضي: يجوز إطلاقه لعدم الإيهام للنقص. وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: لا يجوز؛ لأن أسماء الله- تعالى- تتوقف على ورود السمع، فلا يجوز لنا، أن نطلق على الله- تعالى- ما يأذن فيه كسيد، لا يقال لله تعالى: يا سيد عند الشيخ، ويجيزه القاضي. ومتجوز لم يرد السمع به، فيمتنع إطلاقه، ولو فرعنا على مذهب القاضي، فهو موهم المجاوزة عن الحق في العرف إذا قيل: في كلامه تجوز، وذلك يوهم الكذب. فيمتنع. (فائدة) قال سيف الدين: منع المجاز في القرآن أهل الظاهر، والرافضة.

(المسألة الثامنة: الداعي للمجاز)

(المسألة الثامنة: الداعي للمجاز) قوله: (يكون لفظ الحقيقة ثقيلا؛ إما لجوهر لفظه، أو لتنافر تركيبه، أو لثقل وزنه (. تقريره: أما جوهر اللفظ فكالحروف الثقيلة، فالكاف، والراء، والقاف، وكل حرف يعسر على الأطفال النطق به إلا بعد قوة ألسنتهم. وتنافر التراكيب، كما أنشدوا] السريع [: قبر حرب بمكان قفر وليـ ... ــس قرب قبر حرب قبر فهذا البيت في غاية التنافر، والثقل، ومن حفظه لا يقدر أن ينشده ثلاث مرات سردا مسرعا، والأدباء يتطارحونه بينهم لذلك، ويقال: إنه من شعر الجن. وثقل الوزن نحو: فعل- بضم الفاء، وكسر العين- مثل: {قتل الإنسان} فهو أثقل من فعل- بفتح الجميع- لعدم الخروج من الضد إلى الضد. قوله: (لفظ المجاز يصلح للشعر والسجع، دون الحقيقة). يعني تكون قافية القصيدة دالا، فيقول: زيد أسد، ولو قال: زيد شجاع، لم تحصل له القافية. وكذلك السجع تكون القرينة الأولى دالا، فيحتاج للفظ الأس دون الشجاع.

(سؤال) جعل هذا القسم لتقوية حال الذكر دون المذكور لا يتجه

قوله: (زيادة البيان قد تكون لتقوية حال المذكور، وقد تكون لتقوية الذكر إلى قوله: ذكرنا الفرق في كتاب الإعجاز). قلت: الفرق أن قولنا: زيد يشبه الأسد لا يدل التشبيه إلا على أصل الشجاعة، من غير مبالغة. وإذا قلنا: زيد أسد كان اللفظ يقتضي أنه لعظم شجاعته صار نفس الأسد، وهذا أوقع في نفس السامع. قوله: (تقوية حال المذكور هو المجاز، الذي يذكر للتوكيد). تقريره: أنا نقول: فلان ذكي يشقق الشعر. فقولنا: يشقق الشعر، لم ترد به الحقيقة، بل المجاز للمبالغة، والتأكيد لقوة ذهنه، كأنه يعبر به في أجزاء الشعر فيفرقه، وكذلك قوله تعالى {بل هم في شك منها}] النمل: 66 [، جعل الشك ظرفا مجازا عن تأكيد شكهم، أي: عظم شكهم حتى أحاط بهم، كما يحيط الظرف بالمظروف، وهو كثير. (سؤال) جعل هذا القسم لتقوية حال الذكر دون المذكور لا يتجه؛ فإن التقوية أبدا إنما تكون في نسبة المسند للمسند إليه، فالتقوية أبدا إنما تكون النسبة لا للفظ، فتقسيمه التقوية للذكر والمذكور لا يتجه. قوله: (تردد آلام الجهالات، ولذات العلوم كالنفس تكون كالدغدغة النفسانية). يريد سببه ما يحصل من حك الأجسام في الجرب، والرمد، وقرص القمل، وغيره، فإن المادة الجربية تفرق اتصال الجسم، وهو ألم، والمر

(سؤال) قال النقشواني: فهم المحبوب بلفظه الحقيقي أتم لذة؛ لأن العاقل لو خير بين التصريح باسم محبوبه، وبين التعريض، لاختار التصريح ... إلخ

باليد على ذلك التفريق يوجب اتصاله، ويقوي لذاته، فيحصل في النفس شبه ذلك. (سؤال) قال النقشواني: فهم المحبوب بلفظه الحقيقي أتم لذة؛ لأن العاقل لو خير بين التصريح باسم محبوبه، وبين التعريض، لاختار التصريح، والمبادرة إليه، بل لو أمكن الزيادة على التصريح لاختاره العاقل. قال: (فإن قيل: نحن نجد الواقع خلاف ذلك، وهو أن الألفاظ المستعارة والمجازية أتم عند السامع). قال: قلت: هو كذلك، لكن لا لما ذكره، بل لأن السامع حصل له شعور بجودة فكرة المتكلم، وتأنيه في تعبيره، وعثوره على المعنى المناسب في ذلك المعنى البديع، وحسن اختياره لذلك اللفظ، فتضاعفت لذته لذلك، ولذلك لو سئل السامع عن سبب لذته لصرح بذلك. (المسألة التاسعة: المجاز غير غالب على اللغات) (سؤال) صدر المسألة بعدم الغلبة، ولم يدل عليه، بل البحث كله مع ابن جني. قوله: (لفظ المصدر لا دلالة له على الوحدة، ولا على الكثرة). تقريره: أنه دال على القدر الأعم، والدال على الأعم غير دال على الأخص، وكل واحد منهما أخص منه؛ لأنهما نوعاه. قوله: ضربت عمرا مجاز، لأنه ضرب بعضه لا جميعه. (قاعدة) تقدم أن الصفات منها ما يقتضي الوصف به حقيقة تعميمه في الموصوف

كالأسد، والأحمر، وجميع الألوان، والطعوم، والروائح، ومنها ما لا يقتضي التعميم في الموصوف، كقولنا: أعرج، وأحدب، وأشهل، وأقرع، ونحو ذلك من العيوب، والمحاسن، وكذلك خالق، وواهب، وراحم، وسميع، وبصير] وعليم [، فإنا لا نشترط] في صدق هذه [أن يكون خلق، أو رحم، أو سمع بجميع أجزائه، بل كل أمر مأخوذ من النسب، والإضافات، لا يشترط فيه ذلك، بل تحقق تلك النسبة لتلك الذات من حيث الجملة، أما استيعاب الموصوف فلا، وهذا الباب بخلاف مسافر، ومنتقل، ومتحرك، ومعتق، وحلال، وحرام، ونحو ذلك، لا يصدق باعتبار بعضه إلا مجازا، بخلاف محرم ومبيح، ومعتق في جميع اسم الفاعل في هذا كله لا يشترط أن يصدر الفعل عن اليد والرجل، وجميع الأجزاء، بل ينطق بذلك لسانه فقط بخلاف المفعول، لابد من الحكم على جميع أجزائه بتلك الصفة، فتفقد هذه المواطن، واستقرئها بجودة الاعتبار. وإذا تقرر ذلك في الصفات، اتجه في الأفعال ضرورة، واستقراؤك يظهر لك ذلك، ومن الأفعال إذا قلنا: قطعت الخشبة، أو العمامة، وكنت قد قطعتها من وسطها بنصفين؛ صدق اللفظ حقيقة، وإن كان القطع إنما حصل في بعض أجزائها، وهو الوسط منها دون بقيتها، وكذلك لو حاول إنسان سلب هذا الفعل فقال: ما قطع فلان الخشبة، أنكره أهل العرف. وضابط هذا الباب أبدا متجه السلب وتعذره، فمتى صح فاللفظ مجاز، وإلا حقيقة. فإذا قلنا: ضرب زيد عمرا، أمكن أن يقال: ما ضرب إلا يده، فما ضربه، ولا يصح ذلك في الفاعل إذا ضرب بيده فقط أن يقال: ما ضربه؛ لأنه لم يضربه بجملته، بل الطعن، والضرب، والمس، ونحو ذلك يكفي

فائدة متويه أصله متويه، مثل، مثل سيبويه، ونفطويه، وحمويه

فيه بعض الفاعل حقيقة لغوية، فهذه التحريكات، هي تفيدك الحقيقة في هذا الباب من المجاز. فائدة متويه أصله متويه، مثل، مثل سيبويه، ونفطويه، وحمويه، وهو مركب من اسم وصوت، وهو عجمي كره المحدثون النطق به لما فيه من لفظ (ويه) الذي هو مشعر بالتفجع، والألم فقلبوه، وقالوا: (متويه) بضم التاء، وتسكين الواو، وفتح الياء والهاء، وزادوا في ذلك فجعلوا (هاءه) (تاء) لشبهها بتاء التأنيث في (خارجة وذاهبة)، واعترض عليهم؛ فإن أصله (الهاء)، فكان الأصل أن تبقى (هاءً)، و (التاء) لا حاجة إليها. وأجيب عنهم بأن اللفظ العجمي جرت العادة بتغييره من غير حد يوقف عنده، ولذلك قالت العرب: (جبرين)، و (جبريل)، و (جبرائيل)، وأكثرت من اللغات في ذلك من غير تحديدها بحد يوقف عنده في ذلك، فكذلك هاهنا. قوله: (المتألم عمرو لا عضو منه). قلنا: لا نسلم؛ لأن العلم إن كان اسما للنفس فقط دون الشكل الذي هو الغالب، فقد برهن الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني على أن النفس ذات جواهر بقوله: النوم ضد الإدراك عقلا، والمنامات إدراك للمثل الدالة على المعاني، فكيف يجتمع مع النوم؟! وأجاب بأن (اليقين) ذات جواهر بقوله: النوم ضد الإدراك عقلا، والمنامات إدراك للمثل الدالة للمعاني، فكيف يجتمع مع النوم؟ وأجاب بأن (النفس) ذات جواهر إن عمها النوم فلا قيام حينئذ، وإن قام النوم ببعض أجزائها قام عرض الإدراك بالبعض الآخر، وقيام الضدين بموضعين لا محال فيه، ولذلك المنام إنما يكثر آخر الليل عند خفة النوم عن النفس، وهذا كلام ظاهر.

إذا تقرر هذا فنقول: جاز قيام الألم ببعض جواهر النفس، فلا يكون المتألم كله. إن قلنا: العلم الذي هو عمرو، وضع للنفس فقط. وإن قلنا: لها مع الشكل، القدر المشترك بين أطوار الشكل على ما يأتي تقريره، فالمنع أظهر؛ فإن الألم قائم بالنفس دون الشكل، وينعطف هذا البحث أيضا على بحث آخر، وهو أن الحواس مع النفس كحجبة مع ملك يحصل لكل واحد منهم علم وإدراك لشيء، فإذا حصل له نقله للملك فنظر فيه بوافر عقله، أو الحواس كطاقات في بيت ينظر منها الملك من كل طاقة إلى نوع من المدركات ليس قبالة الطاقة الأخرى، فعلى هذا ليس في الحواس إدراك البتة، لا للألم، ولا لغيره، وهما قولان للعقلاء في النفس مع الحواس، فعلى الأولى يكون المتألم النفس فقط، فعلى تقدير أن العلم موضوع للنفس مع غيرها، يبطل قوله: المتألم كله. قوله: (الضرب إمساس جسم لجسم حيواني بعنف). الظاهر أن اللغة لا تشترط في المضروب أن يكون حيوانا كقوله تعالى {أن اضرب بعصاك البحر}] الشعراء: 63 [، وفي الآية الأخرى {أن اضرب بعصاك الحجر}] الأعراف: 160 [. الظاهر أن هذا حقيقة، والأصل عدم المجاز. قوله: (زيد هو الموجود من وقت الولادة، وهو الأجزاء الباقية من أول حدوثه إلى آخر فنائه). قلنا: الإنسان إذا ولد له ولد، فهو لا يرى نفسه، بل يعلم أن له نفسا وأخلاقا من حيث الجملة، فهو يلاحظها مجملة غير مفصلة، ويضع لها من القدر المشترك بين أطوار الشكل أمثالها؛ فلأنه لم يقصد تسميته من حيث إنه

جسم حي، أو من حيث إنه شكل آدمي، بل لاحظ كونه إنسانا ناطقا ذا نفس إنسانية، فإنه لا يعتقد أن زيدا غير إنسان ناطق. وأما أنه لاحظ المشترك بين أطوار شكله، فإن الشكل هو أولى بالوضع، لكونه المرئي المعلوم حسا، والنفس إنما هي معلومة بالعقل والعادة، وكذلك إنه إذا أراد أن يعلم أنه زيد أم لا؟ نظر في صفحات وجهه، فإن وجد ما عهده من الشكل قال: هو زيد، وإلا فلا، ولا يقال: إنه وضع للشكل الموجود عند الولادة؛ لأن ذلك الشكل ورد عليه التحلل بسبب ما في جسده من الحرارة، والرطوبة، ومتى اجتمعت الحرارة والرطوبة حللت الحرارة الرطوبة في مجرى العادة، فبدن الإنسان دائما في تحليل لحمه، وعظمه وعصبه، وسائر أجزائه، والغذاء يخلف ما تحلل في جسده، فهو كل يوم في مصروف، ومقبوض، وبدل، ومبدل، فذهبت رأس الإنسان مرارا في عمره وهو لا يشعر، وكذلك جميع أجزائه، فالشكل الكائن عند الولادة ذهب، وأتى غيره مرارا كثيرة، فلا يمكن أن يقال: وضع زيد له، ولا يمكن أن يقال: أعرض عن الشكل بالكلية؛ لأنا لا نجزم بأنه زيد حتى نجد الشكل، فدل على أنه معتبر في التسمية، فتعين أن يكون العلم موضوعا للقدر المشترك بين جميع أطوار الشكل من الصغر، والكبر، والسمن، والهرم والاصفرار باليرقان، والسواد بغلبة السواد، والبرص بغلبة البلغم، والجذام بتقطع الأطراف، وغير ذلك من العوارض التي لا تخل بقولنا: هو زيد، فإنا نسميه زيدا في جميع هذه الحالات، وما ذلك إلا أنا نلاحظ تخطيطا خاصا، وكيفية خاصة في محاسنه وأجزاء أعضائه، وارتسم في ذهننا أن له نسبة خاصة في أنفه وعينيه ووجهه، وأعضائه الأصلية، فمتى وجدنا ذلك من المشترك الذي امتاز به عن غيره، قلنا: هو زيد، ولو تغير منه ما تغير، وإن وجدنا قد مسخ قردا، وغير ذلك، أو كشط وجهه بحيث ذهب ذلك القدر الذي امتاز به طول عمره.

(فائدة) بهذا التفسير تظهر رؤية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في النوم، فإن العلماء قالوا: في قوله عليه السلام: (من رآني فقد رآني حقا، فإن الشيطان لا يتمثل بي)، إن المرئى في النوم إنما هو مثاله- عليه السلام- لرؤيته في المواضع] المتعددة [في وقت واحد

قلنا: لا نعلم: أنه زيد، فظهر حينئذ أن المعتبر هو النفس مع القدر المشترك بين أطوار الشكل، وهذا المجموع ثابت من أول العمر إلى فنائه، وكلام صاحب الكتاب يشعر بأن المسمى بزيد إنما هو نفسه فقط؛ لأنها الأجزاء الباقية من أول العمر إلى آخره، فإنها جواهر شفافية غير الرطوبات، ولا تسلط عليها الحرارة بالتحليل، ولا يخلفها الغذاء، فهذا هو سبب بقائها. فصاحب الكتاب يقول: إن جواهر النفس لعل الضرب لم يصادفها، فيكون الكلام مجازا، وعلى ما قررته أيضا أن المجموع هو المسمى، لا يكون ضرب المجموع؛ لأن جواهر النفس من جملته، ولم يعلم ملاقاة الضرب لها. (فائدة) بهذا التفسير تظهر رؤية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في النوم، فإن العلماء قالوا: في قوله عليه السلام: (من رآني فقد رآني حقا، فإن الشيطان لا يتمثل بي)، إن المرئى في النوم إنما هو مثاله- عليه السلام- لرؤيته في المواضع] المتعددة [في وقت واحد. وأما جواب الصوفية بأنه عليه السلام كالشمس في موضعها وهو يرى في الأرض كلها، فهو من الترهات التي لا فكرة لقائلها؛ لأنا نرى النبي- عليه

السلام- في بيت مخصوص، ويراه الآخر في موضع مخصوص، ولو رأيت الشمس بذاتها في موضع مخصوص ما رئيت بذاتها في موضع آخر مخصوص، بل الحق أن الله - تعالى - يخلق له أمثلة كثيرة، يأتي لكل إنسان بمثاله عليه السلام، فيكون تقدير الحديث: من رأى مثالي، فقد رأى مثالي حقا، فإن الشيطان لا يتمثل بمثالي، ومثاله عليه السلام هو المعصوم، وإنما يعلم أن هذا مثاله عليه السلام، أحد رجلين: صحابي رآه حيا، ورجل وصف له، وتكررت الصفة عليه حتى ارتسم في ذهنه طور خاص، وصورة خاصة، لا يغيرها في ذهنه تغير الأحوال الواردة على المثال من السواد، والشيخوخة والشبوبية، وعدم الأعضاء، وغير ذلك، فإن صفة الرائي تظهر في مثاله عليه السلام، فمن رآه أسود فهو كافر، أو شيخا فهو يعظمه، أو أمرد فهو يستهزئ به، إلى غير ذلك مما تقرر في علم التأويل، فلا بد للرائي من ضبط القدر المشترك بين الأطوار، بحيث لا يشك أن هذا المتغير بصفة الرائي هو الصورة التي حققها قبل التغير كما تقدم تقريره في زيد، وإلا فلا تصح له رؤية البتة، بل يحتمل الصدق، والكذب. قوله: (ضربت زيدا مجاز عقلي)؛ لأن زيدا علم لا يدخله المجاز، والضرب مستعمل في موضوعه، فلم يبق المجاز إلا في النسبة، فيكون مجازا عقليا) عليه سؤالان: (السؤال الأول) أنه قد تقدم أن العلم يدخله المجاز، وها هنا دخله المجاز من باب التعبير بالكل عن الجزء، إن جعلنا المضروب بعضه، أو التعبير بالحال عن المحل إن جعلناه اسما للنفس خاصة. (السؤال الثاني) أن مجاز التركيب إنما يكون إذا وضعت العرب اللفظ ليركب مع لفظ

(سؤال) قال النقشواني: (العرب دائما تستعمل هذا اللفظ، وتخبر عن وقوع الضرب بـ (زيد ... إلخ

معنى، فركب مع غير ذلك اللفظ، وتركيب لفظ الضرب مع لفظ زيد ليس على خلاف الوضع الأول، فلا يكون مجازا في التركيب، بل في المفرد فقط، وهو زيد، وزيد ليس من الألفاظ اللغوية، حتى يكون مجازا لغويا، فتلخص أن هذا المجاز ليس لغويا، ولا عقليا إن كان المتكلم تفطن لمعنى زيد، واستعمال لفظه في بعضه، وإلا فهو كذب محض، ولا مجاز فيه بطريق أصلا، وهذا أحد الفروق بين الكذب والمجاز. (سؤال) قال النقشواني: (العرب دائما تستعمل هذا اللفظ، وتخبر عن وقوع الضرب بـ (زيد (، وذلك يستدعي إمكان الوقوع دائما، فيكون الواقع هو الموضوع له، وهو حقيقة، وكذلك رأيت أنه لا تقصد العرب دائما إلا هذا، سواء كان زيد هذا القدر، أو جوهرا مفارقا أو جسمانيا (. (تنبيه) إن صح كلام النقشواني بطل كلام الإمام، وإن صح كلام الإمام بطل كلام النقشواني، وكان ما ذكره من غلبة الاستعمال يجب أن يكون حقيقة عرفية، ومجازا راجحا غلب على الحقيقة اللغوية، لابد من أحد هذين جزما، فإن أهل العرف كما ينقلون المفردات، ينقلون المركبات، ومن ذلك قولهم: حرمت الخمر، والميتة، ولحم الخنزير، ونحو ذلك مما يتعين فيه غير المذكور، فإن الأحكام الشرعية، إنما تتعلق بالأفعال، فالوضع اللغوي يقتضي أن نقول: حرم شرب الخمر، وأكل الميتة، فغلب التركيب مع الأعيان فكان حقيقة عرفية، وهو كثير،] يحتاج الفقهاء إلى معرفته في الأعيان وغيرها، وقد تقدم بسط هذا في الحقيقة العرفية [.

(المسألة العاشرة: المجاز خلاف الأصل)

(المسألة العاشرة: المجاز خلاف الأصل) (فائدة) تقدم أن الأصل له أربعة معان: أصل الشيء: ما منه الشيء لغة، وأصل الشيء: دليله، ومنه أصول الفقه، أي: أدلته، وأصل الشيء رجحانه، ومنه الأصل عدم المجاز، والأصل عدم الاشتراك، والأصل براءة الذمة، والأصل الرابع الصورة المقيس عليها في القياس. (سؤال) كيف يجمع بين هذه المسألة، وبين قوله في التي قبلها: المجاز غالب على اللغات على ما قاله ابن جنى، وشاهده هو الاستدلال، فإذا كان المجاز غالبا كان هو الأصل، كما نقول: الأصل في كأس الحجام النجاسة، وفي سوسية القصار الطهارة، بناء على الغالب. جوابه: أن المجاز إنما غلب وقوعه مقرونا بالقرينة، وهذا الذي ادعينا أن الأصل عدمه هو المجاز المجرد عن القرينة فلا تناقض. (سؤال) القاعدة المشهورة أن الشيء إذا دار بين النادر والغالب لحق بالغالب دون النادر، والغالب على اللغات المجاز، فإذا وردت صيغة، يجوز أن تكون حقيقة، ويجوز أن تكون مجازا يتعين إلحاقها بالمجاز؛ لأنه الغالب، عملا بالقاعدة، وكذلك ما من عام إلا وقد خص إلا قليل منها، فإذا ورد عموم، وجوز أن يكون خص، أو هو باق على عمومه، ينبغي أن يعتقد أنه مخصوص، بناء على الغالب، والناس قد عملوا على خلاف ذلك، فكيف خولفت القاعدة؟ جوابه: أن المتردد بين النادر والغالب له شرط خفي على مورد السؤال،

وهو خفي على أكثر الناس، وهو أن من شرط المتردد بين النادر والغالب أن يكون من جنس الغالب لا مباينا له، فالسوسية التي للقصار إن كنا قضينا عليها بالطهارة؛ لكونها سوسية قصار، فالمتردد بين الطهارة والنجاسة، إن كان سوسية قصار قضينا بطهارتها؛ لأنها من جنس ذلك الغالب، فلو كنا إنما قضينا بطهارة تلك السواسي، لا لكونها سوسية قصار، بل لكوننا غسلناها بعد القصارة، وهذه السوسية لم تغسل، فلم نلحقها بالسواسي المقصورة؛ لأن المعنى الذي لأجله قضينا بالطهارة لم يوجد فيها، كذلك ها هنا جميع المجازات الواقعة في اللغة ما قضينا بأنها مجازات، لكونها ألفاظا تحتمل المجاز، والحقيقة، بل لكونها معها قرائن دلت على ذلك، وهذا اللفظ المجرد عن القرينة ليس معه قرينة، فلم يكن من جنس الغالب، بل هذه الصورة لم يوجد منها شيء مجاز البتة، لا غالب ولا نادر، بل هذه حقيقة ليس إلا، وكذلك جميع ما قضينا به من العمومات المخصوصة، لم نقض فيه بالتخصيص، إلا لاقتران المخصص به، وهذا العام المتردد ليس معه مخصص، فليس من جنس العمومات التي وقع فيها التخصيص، فلم يقع لنا عام هكذا مخصوص قط، فلا يلحق بالعمومات المخصوصة، فهذا هو الجواب، وهو وجه الجمع بين القاعدتين. قوله: (إن قال الواضع: احمل اللفظ إما على هذا أو على ذاك كان اللفظ مشتركا بينهما). قلنا: هذه العبارة غير كافية في حصول الاشتراك، بل هذه العبارة تناسب المتواطئ أقرب؛ فإن صيغة (أو) إنما تكون في (الحمل) إذا كان اللفظ للقدر المشترك، مع أن اللفظ المشترك لا يصدق عليه أنه يحمل فيه على هذا، أو على هذا، بل الماهية الكلية فقط، لكن كان ينبغي أن يقول: احملوه على ما دلت عليه القرينة، وإن فقدت القرينة فتوقفوا، أما التخيير هكذا فليس في الألفاظ المشتركة.

قوله: (وإن لم يحمل اللفظ على واحد منهما، كان اللفظ من المهملات، لا من المستعملات). قلنا: لا نسلم أنه يلزم من عدم الحمل الإهمال، بل المشتركات كلها عند عدم القرينة لا تحمل على شيء، ولا يصدق عليها أنها مهملة بل موضوعة قطعا، فكان ينبغي أن يقول: يلزم عدم حصول الفائدة من الوضع؛ لأن فائدة الوضع هي الحمل فإذا لم يحمل تعذرت هذه الفائدة، ولعل المصنف يريد أنه من المهملات أي: أهملت فيه فائدة الوضع، لكنه قال: لا من المستعملات، واللفظ إذا لم يحمل في الاشتراك فهو مستعمل، فعدم الاستعمال يأبى ما قاله مع أن عدم الاستعمال لا يلزم من الإهمال؛ لأن المهمل قد يستعمل، فإذا قلنا: رأيت خنفشارا، ونريد هذا الحصير، كان هذا مستعملا في مهمل، وهذا غير متعذر، نعم ليس هو كلاما عربيا. قوله: (وإذا بطلت الثلاثة تعين الأول، وهو المطلوب، فإن قلت: كيف يلزم من الحمل وتعينه للحقيقة أن تكون هي الأصل؟) قلت: لا نعني بالحقيقة إلا الذي يحمل عليه اللفظ عند التجرد، ثم إن الحمل إنما كان لها لرجحانها، ورجحانها هو المعنى بأنها هي الأصل؛ لأن الأصل ها هنا الرجحان. قوله: (المجاز متوقف على النقل). يريد بالنقل ها هنا النقل اللغوي المجازي؛ لأن النقل العرفي هو غلبة الاستعمال، وهو ليس شرطا في المجاز، بل المراد النقل بمعنى التحويل من شيء لشيء آخر، والتحويل في اللفظ الموضوع إنما يصدق بطريق المجاز؛ لأنه لا يبقى زمانين حتى يحول؛ ولأن العرض لا يقوم به عرض الحركة، والنقلة، ولا غيرها من الأعراض.

ونبه في كلامه على شرط في الترجيح بالكثرة، والقلة، وهو أن العلماء قالوا: ما قلَّت مقدماته يكون أرجح من كثير المقدمات، بشرط أن يكون الأقل بعض الأكثر حذرا من ألا يكون بعضه، فلا يلزم الرجحان، لأن المقدمة الواحدة قد تكون أعسر من مقدمات كثيرة، كما أن أخذ ألف دينار من الكيمياء، أو من السلطان مقدمة واحدة، وتحصيلها بالمتجر يحتاج لمقدمات كثيرة، إلا أن هذه الكثرة أيسر وقوعا من تلك المقدمة النادرة، فلذلك قالوا:" من شرط الترجيح أن يكون الأقل بعض الأكثر"، وقد أشار إليه المصنف بقوله: على سببين آخرين معه. فرع: قال (إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة، والمجاز الراجح، تقدم الحقيقة المرجوحة عند أبي حنيفة، والمجاز الراجح عند أبى يوسف). وقال قوم: يحصل التعارض؛ لأن كل واحد منهما راجح من وجه، ومرجوح من وجه. وقال في (المعالم): (لا ينصرف لواحد منهما إلا بالنية؛ لأن الحقيقة من جهة أنها حقيقة توجب القوة، ومن جهة أنها مرجوحة توجب الضعف فاستويا). والحق في هذه المسألة مذهب أبى يوسف؛ لأن كل شيء قدم في الكلام، إنما قدم لرجحانه، والتقدير رجحان المجاز فيقدم، ولذلك قدم عدم الاشتراك عليه، وعدم المجاز عليه، وعدم الإضمار عليه، وسائر ما قدم، إنما قدم لرجحانه. وأما قول أبي حنيفة: (الحقيقة مقدمة على المجاز) فغير متجه؛ لأنا إنما قدمنا الحقيقة على المجار لرجحانها، والتقدير أن هذه الحقيقة مرجوحة فلا تقدم.

وهذه المسألة متصورة في المقولات الثلاث؛ لأنها مجازات راجحات بغلبة الاستعمال إلا الذات والجوهر كما تقدم بيانه، فإنهما منقولان، وليسا مجازين لعدم العلاقة فيهما. وأما مدرك الإمام، ومن معه في التوقف فيرد عليه أربعة أسئلة: الأول: لا نسلم أن كون الحقيقة حقيقة توجب القوة، وإنما توجب القوة لو كانت راجحة، والمقدر خلافه. الثاني: لا نسلم أن المجاز لكونه مجازا يوجب الضعف، وإنما يكون المجاز ضعيفا، إذا كان مرجوحا، والتقدير أنه راجح غير محتاج إلى القرينة في الحمل عليه. الثالث: سلمنا ما ذكره من الموجبات القوة والضعف، لكن لا نسلم التساوي والتعادل، فلم لا يجوز أن يكون موجب القوة في أحدهما أرجح من موجب القوة في الآخر أضعافا مضاعفة؟! أو يكون موجب الضعف في أحدهما، أرجح من موجب الضعف في الآخر أضعافا مضاعفة؟! فمهما لم يثبت أن موجب الراجحية والمرجرحية مستوية في كليهما لا يحصل المطلوب. الرابع: سلمنا التساوي والتعادل، ولكن لم يلزم ألا ينصرف إلى أحدهما إلا بالنية، ويكون اللفظ مجملا فيهما، وذلك أن المجاز قد يكون بعض أفراد الحقيقة كالدابة؛ فإنها مجاز راجح في الفرس في (العراق)، والحمار بـ (مصر)، وكذلك أكثر الحقائق الشرعية، وقد تكون أجنبية عن الحقيقة كالغائط اسم للمكان المطمئن، وهو مجاز راجح في الفضلة المستقذرة، وهي ليست بعض المواضع المطمئنة، بل أجنبية عن الحقيقة. إذا تقررت هذه القاعدة، فنقول: إن كان الكلام في المجار الذي هو بعض أفراد الحقيقة، والكلام في سياق الثبوت كان الكلام نصا في الحقيقة

فرع: قال: إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة، والمجاز الراجح تقدم الحقيقة المرجوحة عند ابي حنيفة والمجاز الراجح عند أبي يوسف

المرجوحة، فلا يحتاج إلى النية؛ لأن النية إنما يحتاج إليها في المتردد بين الإفادة، وعدم الإفادة، ولهذا افتقرت الكنايات في أبواب الفقه للنيات دون الصرائح لتردد الكنايات دون الصرائح. بيان كون اللفظ نصا فيها، فإن القائل إذا قال: في الدار دابة، إن أراد المجاز الراجح، ومتى ثبت الأخص ثبت الأعم، فثبتت الحقيقة المرجوحة التي هي مطلق الدابة، وإن أراد الحقيقة المرجوحة ثبتت الحقيقة المرجوحة، فالحقيقة المرجوحة ثابتة قطعا، فاللفظ نص فيها، فلا يحتاج إلى النية ومتى كان الكلام في سياق النفي، والمجاز بعض أفراد الحقيقة، كان الكلام نصا في المجاز الراجح؛ لأنه إذا قال: ليس في الدار دابة إن أراد المجاز انتفي قطعا، وإن أراد الحقيقة المرجوحة انتفي المجاز الراجح أيضا قطعا؛ لأنه يلزم من نفي الأعم نفي الأخص، فالمجاز الراجح منفي قطعا. فاللفظ نص فيه، فلا يحتاج للنية، ولا للقرينة، ولا يكون اللفظ مجملا فيه، فحينئذ إنما يحسن التوقف في الحقيقة المرجوحة، والكلام في سياق النفي، أو المجاز الراجح. والكلام في سياق الثبوت، أو في المجاز الأجنبي عن الحقيقة كالغائط، فتصير الصور خمسا: يحسن التوقف في ثلاثة، ويمتنع في اثنتين. والقاعدة: أن الدعوى متى كانت عامة، والدليل خاص، لا يسمع ذلك الدليل، كقولنا: الحيوان كله حرام؛ لأن الخنزير حرام، أو الشراب كله حرام؛ لأن الخمر حرام، فكذلك هاهنا الدعوى في خمسة، والدليل إذا سلمت مقدماته إنما يفيد ثلاثة، فلا يسمع، غير أن له في هذا المقام أن يجعل دليله من باب الفرض، والبناء، وهي قاعدة مشهورة عند النظار، إذا كان الدليل إنما يتم في بعض صور النزاع، يفرضون] ذلك [البعض،

تنبيه)) قال شرف الدين بن التلمساني في (شرح المعالم): تمثيل الإمام لهذه المسألة بلفظ الطلاق لا يتجه

الدليل فيه، ثم يقولون: إذا ثبت في هذا البعض بهذا الدليل، وجب أن يثبت في الباقي؛ لأنه لا قائل بالفرق، ويسمون الباقي بناء، والأول فرضا، فنقول هاهنا كذلك، غير أن مجرد ما اعتمد عليه لا يكفي حتى يضم إليه هذه المقدمة، وهي قوله: لا قائل بالفرق. تنبيه)) قال شرف الدين بن التلمساني في (شرح المعالم): تمثيل الإمام لهذه المسألة بلفظ الطلاق لا يتجه، فإنه لا خلاف أنه يحمل على المجاز الراجح، وإنما الخلاف في هذه المسألة، إذا ساوى المجاز الحقيقة كأن يمثله بلفظ النكاح، فإنه حقيقة في الوطء، وهو مجاز في العقد، وقد ساواه ووافقه على تخطئة الإمام بعض أهل العصر، وتخطئتهم له خطأ. وبيانه: أن هذه المسألة هي للحنفية فإنها بين أبي حنيفة، وأبي يوسف، والحنفية أخبر بمذهبهم من غيرهم، وقد سألت أعيانهم ومشايخهم كصدر الدين قاضي القضاة، ومجد الدين بن العديم قاضي القضاة، وغيرهما، فكلهم يخبر بما أنا ذاكره لك، ورأيته في كتبهم، وهو أن الحقيقة متى ساوت المجاز الراجح، فلا خلاف بين أبي حنيفة، وأبي يوسف أن الحقيقة مقدمة، ومتى كان المجاز أرجح من الحقيقة فله حالتان: تارة تأتي الحقيقة بحيث لا يستعمل اللفظ فيها ألبتة، ولا على وجه الندرة، فلا خلاف بينهما أن المجاز الراجح مقدم، ومتى كان اللفظ مستعملا في الحقيقة، ولو على وجه الندرة، فهو موضع الخلاف بينهما، وذكروا، لذلك فروعا أنا ذاكرها إن شاء الله تعالى، وهذا عين ما قاله الإمام، وعكس ما قاله هؤلاء الرادون عليه. أما الفروع فقالوا: إذا حلف لا يشرب من النهر، فهذا في العرف قد رجح في الشرب منه بآلة، وأصل الوضع لا يقتضي ذلك، وهذه الحقيقة لم تترك

بالكلية؛ لأن بعض الرعاة. وغيرهم قد يكرع بعمه من النهر، فعند أبي حنيفة إن شرب بفمه حنث، وإلا فلا؛ لأنه الحقيقة، وعند أبي يوسف بالآلة حنث، وإلا فلا، وكذلك إذا حلف ليشربن من النهر، يتخرج على ذلك، وإذا حلف لا يأكل من هذه النخلة اتفقا هاهنا على أنه لا يحنث إلا بأكله من ثمرها؛ لأن الخشب لا يؤكل، ولا على الندرة، فهي حقيقة أميتت، وكذلك إذا حلف ليأكلن هذه الحنطة لا يبر بأكلها نيئة؛ لأنه حقيقة أميتت، بل لابد من القلى أو تغييرها بوجه تؤكل فيه عادةً، وجعل الحقيقة من الحقائق التي أميتت الطلاق، فإنه لمطلق القيد تقول: وجه طلق. بالفتح في الطاء- وحلال طلق- بكسرها-، وانطلقت بطنه، وانطلق من الحبس، ومع ذلك لم يفهم منه إلا المجاز الراجح، الذي هو إزالة القيد الخاص الذي هو ملك النكاح، وجعله الإمام في (المعالم). مثال المسألة، فيكون السؤال عليه في التمثيل لا في دعواه، ولعل لفظ الطلاق لم تمت حقيقته في زمانه، أو في بلده، فلذلك مثل به المسألة، فاندفع عنه الإشكال مطلقا، لاسيما وقد نقل عن الشافعي- رحمه الله- أنه قال: إذا قال لأمته (أنت طالق)، وأراد إزالة قيد الملك لا تعتق إلا بالنية؛ لأنه حقيقة مرجوحة ومذهب مالك أنه إذا قال (أنت طالق)، وأراد من وثاق، أو طلق الولد قبلت نيته في الفتيا من غير قرينة، وفي القضاء مع القرينة، وهذه الفروع كلها من العلماء تدل على أن اللفظ بصدد الاستعمال في الحقيقة المرجوحة.

(سؤال) قال في (المعالم). لفظ الطلاق لإزالة مطلق القيد

(سؤال) قال في (المعالم). لفظ الطلاق لإزالة مطلق القيد، يقال: لفظ مطلق، وحلال طلق، ووجه طلق، وانطلقت بطنه، وأطلق من الحبس، وليس كذلك، بل حقيقة في إزالة القيد الحسي، مجاز في المعاني، وهر مجاز راجح في العرف، حقيقة عرفية، هذا هو الذي يظهر لي من اللغة. (سؤال) قال الإمام في (المعالم): فإن قلت: إذا قال لامرأته: (أنت طالق)، ينبغي ألا ينصرف لإزالة قيد النكاح إلا بالنية لما ذكرته من أن اللفظ لا ينصرف لأحدهما إلا بالنية. قال: قلت: الفرق أنه إن أراد إزالة قيد النكاح، فقد طلقت، وإن أراد مطلق القيد، فيلزم من زوال مطلق القيد زوال القيد المخصوص، فلما كانت تطلق على كلا التقديرين لم يفتقر إلى النية، بخلاف قوله لأمته: (أنت طالق) لا تعتق على تقدير إرادة المجاز الراجح، فلا جرم افتقر العتق للنية، بخلاف الطلاق، وهذا الكلام منه، وإن كان في غاية الجودة، غير أنه نقض به أصله في قوله: إنه لا ينصرف لأحدهما إلا بالنية. جوابه: أنه أراد أن ينبه بهذا البحث على أن دعواه إنما ينبغي أن يخرج منها المجاز الراجح إذا كان بعض أفراد الحقيقة، والكلام في سياق النفي؛ لأن الطلاق إزالة قيد فهو سلب، وأن الاحتياج للنية فيهما إنما يكون في المجاز الأجنبي من الحقيقة، أو في الجاز الراجح، والكلام في سياق الثبوت على ما تقدم من البحث في تلك الصور الثلاث في السؤال الرابع:

(سؤال) قال بعد هذا: إن الكلام يجب حمله على الحقيقة الشرعية ثم العرفية، ثم اللغوية

(سؤال) قال بعد هذا: إن الكلام يجب حمله على الحقيقة الشرعية ثم العرفية، ثم اللغوية، وهو ينقض أصله هذا؛ فإن الحقيقة العرفية، هي المجاز الراجح، وقد قدمه على الحقيقة المرجوحة، وهو مذهب أبي يوسف جوابه: أنه لم يفرع هذه المسألة على مذهبه، بل على مذهب الجمهور، وهو مذهب أبي يوسف (مسألة) قال في (المعالم): (من شرط المجاز الملازمة الذهنية؛ لأنه إذا حصل ينهما ..). ثم قال: (وملازمة العلة للمعلول لفظ يفيد معنى، فهناك أمران: اللفظ ومعناه، فإذا لم يفد ذلك اللفظ ذلك المعنى، ولا كان فهم معناه مستلزما لفهمه، امتنع فهمه) وجوابه: أنه يفهم بالقرينة، وهذه الدعوى باطلة قطعا؛ لأنه قد ذكر من المجاز التعبير بلفظ الجزء عن الكل، والكل ليس بينه وبين الجزء ملازمة ذهنية؛ لأن الكل لا يلزم الجزء، ونحن نتجوز بالأسد لزيد الشجاع، وزيد ليس لازما للأسد، ولا الأسد لازم له، لا ذهنا، ولا خارجا، ولا يقال: الشجاعة لازمة للأسد، وهي في زيد؛ لأنا نقول: نحن لم نتجوز للشجاعة بل لزيد، فزيد هو المجاز، لا الشجاعة، والشجاعة شرط مصحح، فهذا وهم، وهذه من المسائل التي وقع الغلط فيها بسبب اللبس بين دلالة اللفظ، والدلالة باللفظ، فإن الملازمة إنما هي شرط في دلالة الالتزام التي هي أحد أنواع دلالة اللفظ، فجعلها شرط المجاز الذي هو من

أنواع الدلالة باللفظ، وقد تقدمت الفروق بينهما، ثم قال: والملازمة ثلاثة أقسام: ملازمة العلة للمعلول كالنار للإحراق. والمعلول للعلة كالإحراق للنار. وأحد المعلولين المتساويين كالإحراق، والإشراق. والأول أقوى من الثاني، والثاني أقوى من الثالث عند التعارض، وقد تقدم تعليل ذلك في أنواع المجاز عند ذكر السبب والمسبب. ***

القسم الثالث في المباحث المشتركة بين الحقيقة والمجاز وفيه مسائل

القسم الثالث في المباحث المشتركة بين الحقيقة والمجاز وفيه مسائل قال الرازي: المسألة الأولى: في أن دلالة اللفظ بالنسبة إلى المعنى قد تخلو عن كونها حقيقة ومجازا: أما في الأعلام فظاهر، وأما في غيرها، فالوضع الأول ليس بحقيقة ولا مجاز؛ لأن الحقيقة استعمال اللفظ في موضوعه؛ فالحقيقة لا تكون حقيقة إلا إذا كانت مسبوقة بالوضع الأول. والمجاز هو: المستعمل في غير موضوعه الأصلي، فيكون هو أيضا مسبوقا بالوضع الأول. فثبت أن شرط كون اللفظ حقيقة، أو مجازا حصول الوضع الأول؛ فالوضع الأول وجب ألا يكون حقيقة ولا مجازا. المسألة الثانية: في أن اللفظ الواحد، هل يكون حقيقة ومجازا معا؟ - أما بالنسبة إلى معنيين، فلا شك في جوازه، وأما بالنسبة إلى معنى واحدٍ، فإما أن يكون بالنسبة إلى وضعين، أو إلى وضع واحدٍ: أما الأول، فجائز؛ لأن لفظ الدابة بالنسبة إلى الحمار حقيقة بحسب الوضع اللغوي، مجاز بحسب الوضع العرفي. وأما الثاني، فهو محال؛ لامتناع اجتماع النفي والإثبات في جهةٍ واحدةٍ. المسألة الثالثة: في أن الحقيقة قد تصير مجازا، وبالعكس:

المسألة الرابعة: في أن اللفظ، متى كان مجازا، فلابد وأن يكون حقيقة في غيره، ولا ينعكس

الحقيقة، إذا قل استعمالها، صارت مجازا عرفيا، والمجاز، إذا كثر استعماله، صار حقيقة عرفية. المسألة الرابعة: في أن اللفظ، متى كان مجازا، فلابد وأن يكون حقيقة في غيره، ولا ينعكس: أما الأول؛ فلأن المجاز هو المستعمل في غير موضعه الأصلي؛ وهذا تصريح بأنه وضع في الأصل لمعنى آخر، فاللفظ متى استعمل في ذلك الموضوع، كان حقيقة فيه. وأما الثاني؛ فلأن المجاز هو المستعمل في غير موضعه الأصلي؛ لمناسبة بينهما، وليس يلزم من كون اللفظ موضوعا لمعنى- أن يصير موضوعا لشيء آخر، بينه وبين الأول مناسبة. المسألة الخامسة: فيما به تنفصل الحقيقة عن المجاز: الفروق المذكورة منها صحيحة، ومنها فاسدة: أما الصحيحة فنقول: الفرق بين الحقيقة والمجاز: إما أن يقع بالتنصيص، أو الاستدلال: أما التنصيص، فمن ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقول الواضع: هذا حقيقة، وذلك مجاز. - وثانيها: أن يذكر أحدهما. وثالثها: أن يذكر خواصهما. وأما الاستدلال، فمن وجوهٍ أربعةٍ: أحدها: أن يسبق المعنى إلى أفهام جماعة أهل اللغة عند سماع اللفظ من دون قرينة؛ فيعلم أنها حقيقة فيه؛ فإن السامع لولا أنه اضطر من قصد الواضعين إلى أنهم وضعوا اللفظ لذلك المعنى، لما سبق إلى فهمه ذلك المعنى دون غيره.

وثانيها: أن أهل اللغة، إذا أرادوا إفهام غيرهم معنى، اقتصروا على عبارات مخصوصة، وإذا عبروا عنه بعبارات أخرى، لم يقتصروا عليها، بل ذكروا معها قرينة؛ فيعلم أن الأول حقيقة؛ إذ لولا أنه استقر في قلوبهم استحقاق تلك اللفظة لذلك المعنى، لما اقتصروا عليها. وثالثها: إذا علقت الكلمة بما يستحيل تعليقها به، علم أنها في أصل اللغة غير موضوعة له، فيعلم أنها مجاز فيه؛ كقوله تعالى: {واسأل القرية}] يوسف: [. ورابعها: أن يضعوا اللفظ لمعنى، ثم يتركوا استعماله إلا في بعض مجازاته، ثم استعملوه بعد ذلك في غير ذلك الشيء، علمنا كونه مجازا عرفيا؛ مثل استعمال لفظ الدابة في الحمار. فالخاصيتان الأوليان للحقيقة، والأخريان للمجاز. وأما الفروق الضعيفة، فقد ذكر منها الغزالي وجوها أربعة: أحدها: أن الحقيقة جارية على الأطراد؛ فقولنا: (عالم) لما صدق على ذي علم واحد، صدق على كل ذي علم، والمجاز ليس كذلك؛ فإنه لما صح: {واسأل القرية}] يوسف: 82 [صح (واسأل البساط). وهذا ضعيف؛ لأن الدعوى العامة لا تصح بالمثال الواحد. وأيضا، إن أراد باطراد الحقيقة استعمالها في جمع موارد نص الواضع، فالمجاز أيضا كذلك؛ لأنه يجوز استعماله في جميع موارد نص الواضع، فلا يبقى بينهما فيه فرق. وإن أراد استعمال الاسم في غير موضع نص الواضع؛ لكونه مشاركا للمنصوص عليه في المعنى، فهذا هو القياس، وعنده لا قياس في اللغات.

سلمنا جواز القياس في اللغة؛ لكن دعوى اطراد الحقيقة ممنوعة؛ لأن الحقيقة لا تطرد في مواضع كثيرة: الأول: أن يمنع منه العقل؛ كلفظ الدليل عند من يقول: إنه حقيقة في فاعل الدلالة؛ فإنه لما كثر استعماله في نفس الدلالة، لا جرم لم يحسن استعماله في حق الله تعالى إلا مقيدا. الثاني: أن يمنع السمع منه؛ كتسمية الله تعالى (بالفاضل والسخي) - فإنها ممنوعة شرعا مع حصول الحقيقة فيه. الثالث: أن تمنع منه اللغة؛ كامتناع استعمال (الأبلق) في غير الفرس. فإن اعتذروا عنه بأن الأبلق موضوع للمتلون بهذين اللونين بشرط كونه فرسا!!. فنقول: جوز في كل مجاز لا يطرد أن يكون سبب عدم اطراده- ذلك؛ وحينئذٍ، لا يمكن الاستدلال بعدم الاطراد على كونه مجازا. وثانيها: قال الغزالي رحمه الله: امتناع الاشتقاق دليل كون اللفظ مجازا؛ فإن الأمر، لما كان حقيقة في القول، اشتق منه الآمر والمأمور، ولما لم يكن حقيقة في الفعل، لم يوجد منه الاشتقاق. وهذا ضعيف؛ لما تقدم أن الدعوى العامة لا تصح بالمثال الواحد، ولأنه ينتقض بقولهم للبليد: حمار، وللجمع: حمر، وعكسه: أن الرائحة حقيقة في معناها، ولم يشتق منها الاسم. وثالثها: أن تختلف صيغة الجمع على الاسم، فيعلم أنه مجاز في أحدهما؛ إذ الأمر الحقيقي يجمع على الأوامر، وإذا أريد به الفعل، يجمع على أمورٍ.

شرح القرافي

وهو ضعيف؛ لأن اختلاف الجمع لا إشعار له البتة بكون اللفظ حقيقة في معناه، أو مجازا. ورابعها: أن المعنى الحقيقي، إذا كان متعلقا بالغير، فإذا استعمل فيما لا تعلق له بشيء، كان مجازا، فالقدرة إذا أريد بها الصفة، كان متعلقا بالمقدور، وإذا أطلق على البيان الحسن، لم يكن له متعلق، فيعلم كونه مجازا فيه. وهذا أيضا ضعيف جدا؛ لاحتمال أن يكون اللفظ حقيقة فيهما، ويكون له بحسب إحدى الحقيقتين متعلق، دون الأخرى، والله أعلم. قوله: المسألة الأولى في أن دلالة اللفظ بالنسبة إلى المعنى قد تخلو عن كونها حقيقة ومجازا، أما في الأعلام فظاهر. قال القرافي: قلنا: قد تقدم أن العلم يدخله المجاز، ولكن ذلك لا ينافي صحة قوله: قد يخلو، فإنه ليس كل علم يكون كذلك، وإنما قصدت التنبيه على قوله: (فظاهر)، إشارة إلى البحث المتقدم منه، وما عليه قوله: (الوضع الأول ليس بحقيقة، ولا مجاز). قلنا: نسلم، ولكن قولك: إن دلالة اللفظ قد تخلو عنهما، ومثله بالوضع الأول غير متجه؛ لأن دلالة اللفظ إنما تكون حالة الاستعمال، والوضع الأول ليس فيه استعمال، وقد تقدم الفرق بين الوضع، والحمل، والاستعمال في البحث عن دلالة اللفظ المطابقة، والتضمن، والالتزام، وإذا كان الوضع لا استعمال فيه، فلا يكون من أقسام دلالة اللفظ، بل المطابق أن نقول: اللفظ قد يعرى عن الحقيقة والمجاز. (المسألة الثانية) قوله: (لفظ الدابة في الحمار مجاز بحسب الوضع العرفي متجه بل اصطلاح (العراق) أن لفظ الدابة نقل للفرس، فيكون في الحمار مجازا عرفيا.

(المسألة الثالثة) (متى كان اللفظ مجازا في شيء، فلابد وأن يكون حقيقة في غيره)

قوله: (وأما الثاني فمحال لامتناع اجتماع النفي والإثبات في الجهة الواحدة). تقريره: أن كونه حقيقة، يقتضي أنه موضوع له، وكونه مجازا يقتضي أنه غير موضوع له، فيكون موضوعا (له) غير موضوع له، وهو جمع بين النقيضين. (المسألة الثالثة) (متى كان اللفظ مجازا في شيء، فلابد وأن يكون حقيقة في غيره). قلت: هذه المسألة تناقض قوله في الحقيقة اللغوية، فيما تقدم: أن المجاز قد ينقل عن الحقيقة، وأن المجاز يكفي فيه تقدم الوضع، وقد تقدم تقريره، وهو صحيح، وهاهنا جعل من لوازم المجاز الحقيقة، وهو تناقض، حتى قال بعضهم: إنه لما بحث في هذه المسألة نسي تلك المسألة، ولذلك جعله النقشواني نقيض أصله في ذلك الوضع. وجوابه: أن الإشكال إنما جاء من جهة عدم فهم لفظه وتأمله، فإن المستدلين ئمت على الحقيقة اللغوية قالوا: الواقع من الاستعمال إن كان مجازا، فالحقيقة واقعة منهم هو ذلك، والبحث ئمت باعتبار الواقع، والبحث هاهنا باعتبار التوقع، والقبول فقط يدل على ذلك. قوله: (متى كان مجازا). وهو صيغة شرط، والشرط لا بد وأن يكون معدوما مستقبلا. وقوله: (فلابد وأن يكون مجازا في غيره مستقبل أيضا، من جهة أنه جواب الشرط، وجواب الشرط يجب أن يكون مستقبلا، ومن جهة صيغة (أن) فإنها لا تكون مع الفعل المضارع إلا للاستقبال، والمستقبل لا وقوع فيه، فلم يبق إلا القبول، ولا تناقض بين تلازم القبولين، وعدم تلازم الوقوعين

(المسألة الرابعة: في فروق الحقيقة من المجاز)

فإن ضحك الإنسان بالقوة، وكتابتة بالقوة متلازمان بالضرورة، فكل كاتب بالقوة، ضاحك بالقوة، وبالعكس، والوقوع لا تلازم فيه، فرب ضاحك بالفعل غير كاتب بالفعل، إما لعدم علمه بالكتابة، أو لأنه في تلك الحالة غير كاتب، فاندفع التناقض. قوله: (المجاز هو المستعمل في غير موضوعه الأول لمشابهة بينهما). قلنا: قد تكون العلاقة غير المشابهة، فقد تقدم أن أنواع العلاقة اثنا عشر، فالمتجه أن يقول: لعلاقة، وليس يلزم أن يكون بين الموضوع له، وبين غيره علاقة ألبتة. (المسألة الرابعة: في فروق الحقيقة من المجاز) قوله: (التنصيص أن يقول الواضع: هذه حقيقة، وهذا مجاز). قلنا: هذا فرض مستحيل عادة، وأين الواضع؟، ومن الواضع؟ وهذا شيء ما علمه أحد، فكيف ينقل عنه؟ والصحيح مما تقدم الوقف في الواضع، هل هو الله تعالى، أو غيره، بل المتجه أن يقول: التنصيص: أن يقول أئمة اللغة، مع أنى لم أر أحدا تعرض لذلك تعرضا كليا إلا الزمخشري في (أساس البلاغة) يقول في كل لفظ: هو حقيقة في كذا، مجاز في كذا، وغيره من أئمة اللغة، إنما يذكر ذلك في بعض الألفاظ، ويسردون الباقي سردا من غير تعيين. قوله: (وثانيهما: أن يذكروا حديهما). يريد بقولون: هذا استعمال اللفظ فيما وضع له، وهذا في غير ما وضع له، وهذان هما حدّا الحقيقة والمجاز. قوله: وثالثها: أن يذكروا خواصهما. معناه: يقولون: لفظ الأسد مثلا يتعذر سلبه عن الحيوان المفترس، ويمكن

(تنبيه) اعلم أن اسم الحقيقة قد يسلب عنها، فلا يعبر بذلك؛ لأنه ليس بنقض

سلبه عن الرجل الشجاع، وهذه خاصية الحقيقة والمجاز، وكذلك قولهم: اللفظ يستعمل في الحيوان المفترس، بغير قرينة، ولا يستعمل مع الرجل الشجاع إلا مع القرينة، وكذلك جميع الخواص يذكرونها، ولا يذكرون الحدود، ولا بقولون: اللفظ حقيقة في كذا، ولا مجاز في كذا. (تنبيه) اعلم أن اسم الحقيقة قد يسلب عنها، فلا يعبر بذلك؛ لأنه ليس بنقض على ما تقدم كقوله عليه السلام: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، فقد سلب اسم الشدة عن الذي يصرع الناس مع أنه شديد حقيقة، وكذلك قوله تعالى: {صم بكم عمي فهم لا يرجعون} (البقرة: 18) مع أنهم يبصرون ويسمعون، وكذلك قوله تعالى: {إنهم لا إيمان لهم} (التوبة: 12)، مع أنهم حلفوا، ونظائره كثيرة في الكتاب، والسنة. ومعناه: ليس الشديد الذي تنفعه شدته عند الله تعالى، فهو نفي للشدة النافعة. قوله: (إنما لم يسبق اللفظ إلى فهم السامع؛ لأنه اضطر من قصد الواضعين إلى أنهم وضعوا ذلك اللفظ لذلك المعنى). عليه سؤالان:

الأول: أن المرجح للفهم قد يكون حال المستعملين لا حال الواضع، فإن الاستعمال في ظاهر الحال، إنما يكون في الحقيقة حتى يأتي صارف عنها، أو غير ذلك من أن الأصل عدم التجوز؛ لاحتياجه لأمور من العلاقة، وغيرها، والحقيقة مستغنية عنها، وهذه أمور توجب الرجحان، فما تعين قصد الواضعين. الثاني: قوله: (الواضعين) يقتضي أن الواضع جماعة، ومن أين له ذلك؟ فلعله الله تعالى، أو يعرب بن قحطان، أو شخص غيره. قوله: إذا علقت الكلمة، بما يستحيل تعليقها به علم في أصل اللغة أنه غير موضوع له، فيعلم أنه مجاز، ونحو قوله تعالى: {واسأل القرية} (يوسف: 82). قلنا: هذا يناقض كلامين تقدما: أحدهما: قوله: (إن المجاز المركب عقلي لا لغوي، وهاهنا جعله لغويا. وثانيهما: أنه لما بحث فيما تقدم في هذا المجاز، جعل الأصل في القرية المنصوبة أنها هي المفعول، وتقدير المضاف يوجب المجاز فيها، فجعل المضاف ئمت سبب التجوز، وهاهنا يشير إلى أنه محل التجوز، وأنه ليس الأصل أن يكون المنصوب هو المفعول، بل ينظر إلى ذلك الكلام هل وضع ليعلق ويركب مع هذه الكلمة أم لا؟ فكلامه هاهنا يقتضي أن لفظ السؤال وضع ليركب مع لفظ من يصلح للإجابة، فلما ركب مع القرية، ركب مع غير من وضع له، فكان مجازا، وذلك يقتضي أن الأهل هو المتجوز عنه، وأنه محل التجوز، لا سبب التجوز، وهذا هو الصحيح المختار، وقد تقدم تقرير المذهبين هل المضاف المحذوف، سبب المجاز أو محل المجاز؟ قوله: ورابعها: (أن يضعوا اللفظ لمعنى، ثم يتركوا استعماله في بعض

مجازاته، ثم يستعملونه بعد ذلك في غير ذلك الشيء، فيكون مجازا عرفيا، كالدابة في الحمار). قلنا: لا يكفي في النقل الترك، فقد يترك مع البعض الآخر، بل ينبغي أن يصرح فيقول: يضعون اللفظ لمعنى عام، ثم يضعونه لكثرة الاستعمال لما هو أخص منه، فالحقيقة العرفية التي هي مجاز لغوي إنما تنشأ عن الاستعمال في الأخص لا عن الترك في غيره، فالترك لا يوجب مجازا، ولا حقيقة، بل الاستعمال هو الذي يقع فيه المجاز والحقيقة، والنقل عن اللغة للعرف. ثم قوله: (يستعملونه في غير ذلك الشيء) - هذا الشيء لم يجر له ذكر حتى يسميه، لكنه مراد في قوة كلامه، ومراده غلبة الاستعمال في الأخص كما تقدم، أو يكون المجاز أجنبيا كالغائط، كما تقدم تقريره). قوله: (لا يصح اسأل البساط، كما يصح اسأل القرية). قلنا: لا نسلم أنه يمتنع، بل كلام سيبويه، وغيره يقتضي الجواز. قال سيبويه: لا يجوز أن تقول: قامت هند، ومرادك غلامها، يعني لأن قرينة التعذر في القرية هي الدالة على الإضمار، ولا تعذر هاهنا في هند، فلا يجور إضمار بغير دليل، وهذا يقتضي (اسأل السباط) لقرينة التعذر، فينصرف السؤال إلى صاحبه كما انصرف لأهل القرية. قوله: (الدعوى العامة لا تصح بالمثال الواحد). يعني: أن الإنسان لو قال: كل حيوان حرام الأكل؛ لأن الخنزير حرام الأكل ما صح، أو كل عدد زوج؛ لأن العشرة زوج لم يصح، فالكليات لا تثبت بثبوت الحكم في بعض أفرادها، لكن ينبغي أن يعلم أن ذكر الصورة الجزئية قد يكون للاستدلال فلا يصح، وقد يكون للتنبيه للسامع على الحق في

المسألة لا على سبيل الدليل، كما لو قيل لك: أهل هذه المدينة لا يستعملون النظام الفلاني، فيقال: ليس كذلك: ألا ترى أن فلانا يستعمله؟ يريد تنبيهه على الاستقراء لأحوال تلك البلدة. وكذلك إذا قيل لك: لم قلت: إن الشرع يبيح الغرر للضرورة، والرخصة للمشقة؟ فتقول: كما أباح القراض، والمساقاة مع الغرر والقصر والفطر للمشقة، ونحو ذلك، وليس مرادك إلا التنبيه لا إقامة الدليل، ولو أردت الدليل لامتنع مع أن الناس مجمعون على ذلك. قوله: (إن أراد بالاطراد في جميع الصور نص الواضع، فالمجاز كذلك). قلنا: هذا إنما يتم إذا قلنا: المجاز من شرطه الوضع. أما على القول بالاكتفاء بمجرد الحقيقة، فلا يتجه. قوله: (الحقيقة قد لا تطرد؛ لأنه يمنع منه العقل، كإطلاق الدليل على الله تعالى؛ لأنه فاعل الدليل، لكنه اشتهر في الدلالة فمنع إطلاقه). قلنا: لا نسلم أن هذا يمتنع إطلاقه للإبهام، لكن للسمع؛ لأن هذا المنع حكم شرعي، والأحكام الشرعية إنما تثبت من جهة السمع لا بالعقل. قوله: يمتنع سمعا كتسمية الله- تعالى- بالفاضل، والسخي مع وجود الحقيقة). قلنا: لا نسلم وجود الحقيقة؛ لأن العرب وضعت الفاضل للمتصف بالعلوم المكتسبة، وعلم الله تعالى ليس مكتسبا، ولذلك إن من لم يشتغل بالعلوم، ويكتبها، لا يسمونه فاضلا، والسخي لمن طبعه الله- تعالى- منقاد للعطاء، والله- تعالى- منزه عن الطباع كلها، وذلك فإن السحاب يعطى

جميع ما عنده من الماء، والأرض تخرج جميع ما فيها من النبات، ولا يسميان بالسخي. قوله: (وقد يمنع من ذلك اللغة كالأبلق للفرس). تقريره: قال ابن عطية في تفسيره: قال اللغويون: تقول العرب: فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وكلب أبقع، وثور أشيه، ومنه قوله تعالى في البقرة لبني إسرائيل: {لاشية فيها} (البقرة: 71)، أي ليس فيها ألوان مختلفة، وكل هذه الأسماء لمعنى البلقة اختلفت باختلاف المحل. قوله في الرد على الغزالي: (إن امتناع الاشتقاق دليل المجاز، أنه ينتقض بقولهم للبليد: حمار، وللجمع حمر هذا إنما يتجه إذا كان الجمع مشتقا من المفرد، حتى تكون حمر مشتقة من حمار، وهو مجاز فيكون الاشتقاق دخل في المجاز، وهذا لم يقل به أحد فيما علمت، بل قالوا: الحمار مشتق من الحمرة؛ لأنها الغالبة على حمر الوحش، ولكن حد الميداني الذي قدمه أول الكتاب يقتضيه في قوله: أن يجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب، فيرد أحدهما إلى الآخر، ولا شك أن بين حمار، وحمر، مناسبة في المعنى والتركيب، فيكون أحدهما مشتقا من الآخر. قوله: (الرائحة حقيقة في معناها، ولم يشتق منها). قلنا: قد ورد في البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:) من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة)، فقد اشتق منها الفعل.

(تنبيه) قال النقشواني: (كان تقديم الحد للحقيقة والمجاز كافيين عن هذه الفروق

وقال ابن عطية في تفسيره) والطرطوشي في (سراج الملوك) في قول الشاعر (الخفيف): ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء إن (استراح) من الرائحة لا من الراحة، أي: ليس من مات، وأنتن، ووصل إلى هذه الغاية من الموت بميت، وإذا اشتقت الأفعال اشتقت الأسماء لأن اسم الفاعل يتبع الفعل، والفعل يتبع المصدر. فوله: (اختلاف صيغة الجمع دليل أن اللفظ حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر). قلنا: ينتقض بقولهم في اليد بمعنى العضو: أيدي، وبمعنى النعمة أيادي، واللفظ المفرد مشترك بينهما حقيقة في كل واحد منهما، فاختلف الجمع مع عدم المجاز. قوله: (إذا كان اللفظ موضوعيا بإزاء ماله تعلق بالغير، فأطلق على ما لا تعلق له بالغير، كالقدرة إذا أطلقت على الشاب الحسن، دل على أنه مجاز فيه ثم قال: وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون مشتركا بين المعنيين، وله تعلق بحسب أحدهما دون الآخر). قلنا: إذا دار الأمر بين المجاز والاشتراك كان المجاز راجحا على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، فقول الغزالي مقدم على القول بالاشتراك. (تنبيه) قال النقشواني: (كان تقديم الحد للحقيقة والمجاز كافيين عن هذه الفروق،

ولكن لما علم الأصوليون أن الإنسان قد يحيط بالحدود، ومع ذلك فقد تلتبس عليه أفراد الحقائق المحدودات، فإن الحد إنما يفيد الماهية على وجه كلي، ومع ذلك فقد يقع اللبس، في المفردات، فيجد الإنسان لفظ مستعملا في شيئين ولا يدري أهو حقيقة فيهما، أو مجاز في أحدهما لكثرة العوارض، وهجوم اللبس وكذلك في الفقهيات يعلم حد الإ باحة. وإذا قلت له: معنى كون العين ظاهرة إباحة الصلاة بها، وأكلها إن أمكن يستبعد ذلك، وكذلك يعلم حد التحريم، ويجهل أن النجاسة ترجع إلى تحريم الملابسة في الصلاة، والأغذية فلما كان اللبس يعرض بعد الحد تعرض لذكر هذه الفروق؛ تقوية للبصيرة، ودفعا للشكوك في موارد الاستعمال. ***

الباب السابع في التعارض الحاصل بين أحوال الألفاظ

الباب السابع في التعارض الحاصل بين أحوال الألفاظ / اعلم أن الخلل الحاصل في فهم مراد المتكلم، يبنى على خمس احتمالات في اللفظ: أحدها: احتمال الاشتراك. وثانيها: احتمال النقل´ بالعرف أو بالشرع. وثالثها: احتمال المجاز. ورابعها: احتمال الإضمار. وخامسها احتمال التخصيص. فإن قلت: تركت احتمال القضاء! قلت: الاقتضاء إثبات شرط يتوقف عليه وجود المذكور، ولا يتوقف عليه صحة اللفظ لغة؛ كقول القائل: (اصعد السطح) فإنه يقتضي نصب السلم، لكن نصب السلم لا يتوقف عليه وجود الصعود، ولا يتوقف عليه صحة اللفظ. وإنما قلنا: إن الخلل في الفهم لابد وأن يكون لأحد هذه الخمس، لأنه إذا انتفي احتمال الاشتراك والنقل، كان اللفظ موضوعا لمعنى واحد. وإذا انتفي المجاز والإضمار، كان المراد باللفظ ما وضع له؛ فلا يبقى عند

التعارض بين هذه الاحتمالات يقع في عشرة أوجه

ذلك خلل في الفهم، وإذا انتفي احتمال التخصيص، كان المراد باللفظ جميع ما وضع له. واعلم: أن التعارض بين هذه الاحتمالات يقع في عشرة أوجه؛ لأنه يقع التعارض بين الاشتراك وبين الأربعة الباقية، ثم بين النقل والثلاثة الباقية، ثم بين المجاز والوجهين الباقيين، ثم بين الإضمار والتخصيص؛ فكان المجموع عشرة. المسألة الأولى: إذا وقع التعارض بين الاشتراك والنقل، فالنقل أولى؛ لأن عند النقل يكون اللفظ لحقيقة مفردة في جميع الأوقات، إلا أنه في بعض الأوقات مفرد بالإضافة إلى معنى، وفي بعض الأوقات مفرد بالإضافة إل معنى آخر. والمشترك مشترك في الأوقات كلها، فكان الأول أولى. فإن قيل: لا، بل الاشتراك أولى؛ لوجوه: أحدها: أن الاشتراك لا يقتضي نسخ وضع سابق، والنقل يقتضيه؛ فالاشتراك أولى من النسخ؛ على ما سيأتي بيانه؛ فوجب أن يكون أولى مما لا يحصل إلا عند حصول النسخ. وثانيها: أن الاشتراك ما أنكره أحد من العلماء المحققين، والنقل أنكره كثير من المحققين، فالأول أولى. وثالثها: أن الاشتراك: إما أن يوجد مع القرينة أو لا يوجد مع لقرينة: فإن حصلت القرينة معه، عرف المخاطب المراد على التعيين. وإن لم توجد القرينة معه، تعذر عليه العمل، فيتوقف.

وعلى التقديرين لا يخطئ في العمل. أما في النقل: فربما لا يعرف النقل الجديد؛ فيحمله على المفهوم الأول، فيقع الغلط في العمل. ورابعها: أن الاشتراك يمكن حصوله بوضع واحد؛ فإن المتكلم قد يحتاج إلى التكلم بالكلام المجمل؛ فيقول: الواضع وضع هذا اللفظ لهذا ولهذا بالاشتراك. أما النقل: فيتوقف على وضعه أولا، ثم على نسخه ثانيا، ثم على وضعٍ جديد، والموقوف على أمرٍ واحدٍ أولى من الموقوف على أمور كثيرة. وخامسها: أن السامع قد يسمع استعمال اللفظ في المعنى الأول، وفي المعنى الثاني، ولا يعرف أنه نقل من الأول إلى الثاني؛ فيظنه مشتركا. فحينئذ؛ يحصل فيه كل مفاسد الاشتراك مع مفاسد أخرى، وهي جهله بكون اللفظ منقولا، مع جميع المفاسد الحاصلة من النقل. وسادسها: أن المشترك أكثر وجودا من المنقول، فلو كانت المفاسد الحاصلة من المشترك أكثر، لكان الواضع قد رجح ما هو أكثر مفسدة على ما هو أقل مفسدة، وهو غير جائز. والجواب: أن الشرع إذا نقل اللفظ عن معناه اللغوي، إلى معناه الشرعي، فلابد أن يشتهر ذلك النقل، وأن يبلغ إلى حد التواتر. وعلى هذا التقدير تزول المفاسد المذكورة، والله أعلم.

المسألة الثانية: إذا وقع التعارض بين الاشتراك والمجاز، فالمجاز أولى

المسألة الثانية: إذا وقع التعارض بين الاشتراك والمجاز، فالمجاز أولى؛ ويدل عليه وجهان: الأول: أن المجاز أكثر الكلام من الاشتراك، ولكثرة أمارة الظن في محل الشك. الثاني: أن اللفظ الذي له مجاز: إن تجرد من القرينة، حمل على الحقيقة، وإن لم يتجرد عنها، حمل على المجاز؛ فلا يعرى عن تعيين المراد، والمشترك لا يفيد عين المراد عند العراء عن القرينة. فإن قيل: بل الاشتراك أولى؛ لوجوه: أحدها أن السامع للمشترك، إن شمع القرينة معه، علم المراد عينا؛ فلا يخطئ، وإن لم يسمه، توقف؛ وحينئذ لا يحصل إلا محذور واحد، وهو الجهل بمراد المتكلم. أما اللفظ المحمول على المجاز بالقرينة: فقد يسمع اللفظ، ولا تسمع القرينة، وحينئذ يحمل على الحقيقة فيحصل محذوران، أحدهما: الجهل بمراد المتكلم، والأخر: اعتقاد ما ليس بمراد مرادا. وثانيها: أن اٌشترك يحصل بوضع واحد؛ على ما تقدم بيانه. وأما المجاز: فيتوقف على وجود الحقيقة، وعلى وجود ما يصلح مجازا، وعلى العلاقة التي لأجلها يحسن جعله مجازا، وعلى تعذر الحمل على الحقيقة، وما يتوقف على شيء واحد أولى مما يتوقف على أشياء.

وثالثها: أن اللفظ المشترك، إذا دل دليل على تعذر أحد مفهوميه، يعلم منه كون الآخر مرادا. والحقيقة، إذا دل الدليل على تعذر العمل بها، فلا يتعين فيها مجاز يجب حملها عليه. ورابعها: أن اللفظ المشترك يفيد أن المراد هذا وذاك، ودلالة اللفظ على هذا القدر من المعنى حقيقة لامجاز، والحقيقة راجعة على المجاز؛ فالاشتراك راجح على المجاز. وخامسها: أن صرف اللفظ إلى المجاز يقتضي نسخ الحقيقة، وحمله على الاشتراك لا يقتضي ذلك، فكان الاشتراك أولى. وسادسها: أن المخاطب في صورة الاشتراك يبحث عن القرينة؛ لأن بدون القرينة لا يمكنه العمل؛ فيبعد احتمال الخطأ. أما في صورة المجاز، فقد لا نبحث عن القرينة؛ لأن بدون القرينة يمكنه العمل؛ فينصرف احتمال الخطأ. سابعها: أن الفهم في صورة الاشتراك يحدث بأدنى القرائن؛ لأن ذلك كاف في الرجحان. أما في صورة المجاز، فلا يحصل رجحان المجاز إلا بقرينة قوية جدا؛ لأن أصالة الحقيقة لا تترك إلا لقرينة. والجواب: أن هذه الوجوه معارضة بما ذكرناه في الباب المتقدم من فوائد المجازات.

المسألة الثالثة: إذا وقع التعارض بين اشتراك والإضمار، فالإضمار أولى

المسألة الثالثة: إذا وقع التعارض بين اشتراك والإضمار، فالإضمار أولى؛ لأن الإجمال الحاصل بسبب الإضمار مختص ببعض الصور، والإجمال الحاصل بسبب الاشتراك عام في كل الصور، فكان الاشتراك أخل بالفهم. فإن قلت: الإضمار يفتقر إلى ثلاث قرائن: قرينة تدل على الإضمار، وقرينة تدل على موضع الإضمار، وقرينة تدل على نفي المضمر، والمشترك يفتقر إلى قرينة واحدة؛ فكان الإضمار أكثر إخلالا بالفهم. قلت: هذا لا ينفعكم؛ لأن الإضمار يحتاج إلى ثلاث قرائن صورة واحدة، والمشترك يحتاج غلى قرائن في صور متعددة؛ فيبقى بعضها معارضا للبعض؛ على أن الإضمار من باب الإيجاز والاختصار، وهو من محاسن الكلام؛ قال عليه الصلاة والسلام: (أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارا) وليس المشترك كذلك. المسالة الرابعة: إذا وقع التعارض بين الاشتراك والتخصيص، فالتخصيص أولى؛ لأن التخصيص خير من المجاز؛ على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. والمجاز خير من الاشتراك؛ على ما تقدم، فالتخصيص خير من الاشتراك؛ لا محالة. المسألة الخامسة: إذا وقع التعارض بين النقل والمجاز، فالمجاز أولى لأن النقل يحتاج إلى اتفاق أهل اللسان على تغيير الوضع، وذلك متعذر أو متعسر، والمجاز يحتاج إلى قرينة تمنع المخاطب عن فهم الحقيقة، وذلك متيسر؛ فكان المجاز أظهر.

المسألة السادسة: إذا وقع التعارض بين النقل والإضمار، فالإضمار أولى

فإن قلت: ما ذكرته معارض بشيء آخر وهو أنه إذا ثبت النقل، فهم كل أحد مراد المتكلم؛ بحكم الوضع؛ فلا يبقي خلل في الفهم. وفي المجاز إذا خرجت الحقيقة، فربما خفي وجه المجاز، أو تعدد طريقه، فيقع خلل في الفهم!! قلت: ما ذكرتموه يعارضه شيئان آخران: أحدهما: أن الحقيقة تعين على فهم المجاز؛ لأن المجاز لا يصح إلا إذا كان بين الحقيقة والمجاز اتصال، وفي صورة النقل، إذا خرج المعنى الأول لقرينة، لم يتعين اللفظ للمنقول إليه، فكان المجاز أقرب إلى الفهم من هذا الوجه. الثاني: أن في المجاز ما ذكرنا من فوائد، وليس في النقل ذلك، فكان المجاز أولى. المسألة السادسة: إذا وقع التعارض بين النقل والإضمار، فالإضمار أولى؛ والدليل عليه ما ذكرناه في أن المجاز أولى سواء بسواء. المسألة السابعة: إذا وقع التعارض بين النقل والتخصيص، فالتخصيص أولى؛ لأن التخصيص خير من المجاز؛ على ما سيأتي، والمجاز خير من النقل على ما تقدم، فالتخصيص خير من النقل. المسألة الثامنة: إذا وقع التعارض بين المجاز والإضمار، فهما سواء؛ لأن واحد منهما يحتاج إلى قرينة تمنع المخاطب عن فهم الظاهر. وكما يتوقع وقوع الخفاء في تعيين المضمر، كذلك يتوقع وقوع الخفاء في تعيين المجاز.

المسألة التاسعة: إذا وقع التعارض بين المجاز والتخصيص، فالتخصيص أولى

فإن قلت: الحقيقة تعين على فهم المجاز، فكانت أولى! قلت: والحقيقة تعين على فهم الإضمار؛ أن يسقط من الكلام شيء يدل عليه الباقي. المسألة التاسعة: إذا وقع التعارض بين المجاز والتخصيص، فالتخصيص أولى؛ لوجهين: الأول: أن في صورة التخصيص، إذا لم يقف عن القرينة، يجريه على عمومه، فيحصل مراد المتكلم، وغير مراده. الثاني: أن في صورة التخصيص: انعقد اللفظ دليلا على كل الأفراد، فإذا خرج البعض بدليل بقى معتبرا في الباقي؛ فلا يحتاج فيه إلى تأمل واستدلال واجتهاد. وفي صورة المجاز: انعقد اللفظ دليلا على الحقيقة، فإذا خرجت الحقيقة بقرينة، احتيج- في صرف اللفظ إلى المجاز- إلى نوع تأمل واستدلال؛ فكان التخصيص أبعد عن الاشتباه، فكان أولى. المسألة العاشرة: إذا وقع التعارض بين الإضمار والتخصيص، فالتخصيص أولى؛ والدليل عليه: أن التخصيص خير من المجاز، والمجاز والإضمار سيان، فيلزم أن يكون التخصيص خيرا من الإضمار.

فروع

فروع: الأول: أنك ستعرف- إن شاء الله تعالى- أن النسخ تخصيص في الأزمان، فحيث رجعنا التخصيص على الاشتراك، فإنما أردنا به التخصيص في الأعيان. أما لو وقع التعارض بين الاشتراك والنسخ، فالاشتراك أولى؛ لأن النسخ يحتاط فيه ما لا يحتاط في تخصيص العام؛ ألا ترى انه يجوز تخصيص العام بخبر الواحد والقياس، ولا يجوز نسخ العام بينهما؟!! والفقه فيه أن الخطاب، بعد النسخ، يصير كالباطل، وبعد التخصيص، لا يصير كالباطل؛ فلا جرم يحتاط في النسخ ما لا يحتاط في التخصيص. الثاني: أن اللفظ، إذا دار بين التواطؤ والاشتراك، فالتواطؤ أولى؛ لأن مسمى اللفظ المتواطئ واحد، والتعدد واقع في محاله، ومسمى المشترك ليس بواحد، والإفراد أولى من الاشتراك؛ على ما تقدم به. الثالث: إذا وقع التعارض بين أن يكون مشتركا بين علمين، وبين ومعنيين- كان جعله مشتركا بين علمين أولى؛ لأن الأعلام إنما تنطلق على الأشخاص المخصوصة؛ كزيد وعمرو. وأما أسماء المعاني، فإنها تتناول المسمى في أي ذات كان، فكان احتلال الفهم يجعله مشتركا بين علمين- أقل؛ فكان أولى. الرابع: جعل اللفظ مشتركا بين علم ومعنى- أولى من جعله مشتركا بين معنيين؛ لأن الاختلال الحاصل عند الاشتراك بين العلم والمعنى- أقل مما عند الاشتراك بين المعنيين.

شرح القرافي

الخامس: اللفظ إذا تناول الشيء بجهة الاشتراك، وبجهة التواطؤ، كان اعتقاد أنه مستعمل بجهة التواطؤ أولى. وبيانه: أن لفظ (الأسود) يتناول القار والزنجي؛ بالتواطؤ، ويتناول القار والرجل المسمى بالأسود؛ بالاشتراك. فإذا وجد شخص أسود اللون، ومسمى بالأسود، ثم أطلق عليه لفظ الأسود، فاعتقاد أنه أطلق عليه هذا الاسم باعتبار كونه ملونا- أولى؛ لأن الإطلاق بهذا الاعتبار إطلاق بجهة التواطؤ، والإطلاق بجهة التقليب إطلاق بجهة الاشتراك، والتواطؤ أولى من الاشتراك؛ فكان ذلك أولى، والله أعلم. قال القرافي: قال: اعلم أن الخلل إنما يحصل في فهم التسامع بناء على خمسة احتمالات: الاشتراك والنقل والإضمار والمجاز والتخصيص. وأقول: هاهنا مباحث: (المبحث الأول) اعلم أن المراد بالخلل هاهنا اختلاف القطع بمراد المتكلم؛ لأن الظن حاصل مع هذه الاحتمالات، فاحتمال المجاز لا يمنع الظن بل القطع. (المبحث الثاني) في تحديد هذه الخمسة: فالاشتراك هو: كون اللفظ موضوعا بين معنيين فأكثر وقد تقدم تحريره، وما عليه. والنقل: غلبة استعمال اللفظ في معنى حتى يصير أشهر فيه من غيره، أو جعله اسما لمعنى، بعد أن كان اسما لغيره. فالقسم الأول: هو نقل الحقيقة العرفية العامة كالدابة، أو الخاصة كالجوهر، والعرض، والشرعية كغلبة استعمال الصلاة في الأفعال المخصوصة، بناء على أن صاحب الشرع لم يسم في أصل الإطلاق.

والقسم الثاني: هو كتسمية الولد جعفرا، فإنه نقل بالجعل لا بغلبة الاستعمال، وقد نقدم في الحقيقة العرفية أن النقل قد يكون في أسماء الأجناس، وغيرها. والإضمار المراد به هاهنا: إسرار كلمة فأكثر، أو جملة فأكثر على حسب ما يقتضيه حال ذلك الكلام والمجاز: حده تقدم قريبا. والتخصيص هو: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ العام، أو ما يقوم مقامه قبل تقرر حكمه. فقولنا: أو ما يقوم مقامه ليدخل تخصيص المفهومات؛ لأنها تقوم مقام العموم في شمول الحكم، كقوله عليه السلام: (إنما الماء من الماء). مفهومة: أن ما ليس بإنزال لا يجب منه غسل، فإذا ورد قوله عليه السلام: (إذا التقا الختانان فقد وجب الغسل)، أخرج التقاء الختانين من ذلك المفهوم.

(المبحث الثالث) في حصر هذه الاحتمالات المخلة في هذه الخمسة

وقولنا: قبل تقرير حكمه احترازا من إخراج بعضه بعد تقرر حكمه، فإنه يكون تعميما لا تخصيصا. (المبحث الثالث) في حصر هذه الاحتمالات المخلة في هذه الخمسة. قال في دليل الحصر: (إذا انتفى احتمال الاشتراك والنقل بقى اللفظ موضوعا لمعنى واحد). يعنى: أن المسمى إنما يتعدد بهذين الطريقتين فقط؛ لأن المسمى إذا تعدد فإما أن يجتمعا معا في زمان واحد وهو الاشتراك، أو لا وهو النقل، فإن زمان كون اللفظ موضوعا للمنقول إليه هو بعد زمان كونه للمنقول عنه، وأعنى بكونه منقولا عنه: أنه يكون يتبادر الذهن إليه؛ فإنه بعد النقل لا يتبادر إلى الذهن، بل المنقول إليه، وإن كان خرج عن كونه مسماه، وقد يستعمل فيه اللفظ على وجه الندرة، ما أن الصلاة نقلت للأفعال المخصوصة عن الدعاء، ومع ذلك فمتى قلنا: (اللهم صل على محمد) إنما يريد الدعاء. قال: (وإذا انتفى احتمال الإضمار يبقى اللفظ مستعملا في ما وضع له). كلامه هذا يشعر بأن أحدهما متى وجد كان الكلام مجازا، وليس كذلك، فإن الإضمار أربعة أقسام: قسم يتقاضاه اللفظ، ومعناه لعدم صلاحية الإسناد المنطوق به للمعنى المراد كقوله تعالى: {واسأل القرية} [سورة يوسف: 82]، فإن المعنى المراد

(سؤال) قوله: (إذا انتفى المجاز والإضمار كان المراد باللفظ ما وضع له)

يتقاضى إضمار الأهل، فإن إسناد السؤال إلى القرية لا يفيد مقصود القائل لهذا اللفظ، ويكون الإسناد في التركيب. وقسم لا يكون اللفظ بدونه مجازا في التركيب، وتتقاضاه الأحكام الشرعية، نحو قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [سورة البقرة: 184]، فيضمر فأفطرتم، وكقوله تعالى: {إذا فمتم إلى الصلاة فاغتسلوا} [المائدة: 6]، يضمر محدثين. وقسم تتقاضاه العادة دون الشرع كقوله تعالى: {أن اضرب بعضاك البحر فانفلق} [الشعراء: 63]، تقتضى العادة أنه ما انفلق بمجرد هذا القول، بل لابد من سبب آخر، فيضمر فضرب فانفلق. وكذلك قوله تعالى: {وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون، فلما جاء سليمان} [النمل: 35]، تقديره: (فأرسلت). وقسم يدل عليه دليل غير شرع ولا عادة، كقوله تعالى: {فقبضت قبضة من اثر الرسول} [طه: 96]، دل الدليل المسمى على أنه إنما قبض من أثر حافر فرس الرسول، فيضمر ذلك، وليس فيه إضمار يوجب المجاز إلا القسم الأول، وهو مجاز في التركيب لا في الإفراد، فعلمنا حينئذ أن المجاز لا يترتب على الإضمار كله مع المجاز قطعا لا ينفى مجازا، وإنما السؤال على مفهوم كلامه، وهو مفهوم الشرط قوى في نوع المفهومات، وهو أقوى من مفهوم الصفة. (سؤال) قوله: (إذا انتفى المجاز والإضمار كان المراد باللفظ ما وضع له) - يقتضى أنه إذا كان الإضمار لا يكون المراد باللفظ ما وضع له، فيكون مجازا على حده للمجاز، فيلزم أن يكون المجاز المركب لغويا، وهو لم يثبته حيث قال:

(سؤال) دليل الحصر إنما يكون بالتردد بين النفي والإثبات

(المجاز المركب عقلي)، ثم قوله: (ما وضع له)، ظاهر في العموم، فلا تبقى فائدة من إخراج التخصيص فيما وضع له وصيغته لا تقتضى عموما. فإن قولنا: زيد في البلد، لا يقتضى انه في جملتها. (سؤال) دليل الحصر إنما يكون بالتردد بين النفي والإثبات، وهذا تردد بين الثوابت، فلا يفي حصرا، ثم إن هذا الحصر في الخمسة غير صحيح قطعا، فإنها احتمالات مخلة بالقطع كما تقدم، وهو قد قال بعد هذا: الألفاظ لا تفيد اليقين إلا بعشرة شروط، فذكر هذه الخمسة، وذكر معها نقل اللغة، والنحو، والتصريف، والتقديم والتأخير، والنسخ، والمعارض العقلي، فاحتمال كل واحد من هذه الخمسة الآخر مخل باليقين، ومع ذلك فلم يحصل الحصر فيها؛ غايته إنما علمنا أن هذه مخلة أما انه لا مخل غيرها فلم نعلمه. (سؤال) ذكره لهذه الخمسة إما أن يريد مفهوماتها الكلية أو أنواعها الجزئية، فإن اقتصر على الأول يلزم أن تكون ثلاثة؛ فقط لاندراج الإضمار والتخصيص تحت مفهوم المجاز، وإن أراد الأنواع، فأنواع المجاز كما تقدم اثنا عشر، وهى غير محصورة، وأنواع النقل ثلاثة، فهذه خمسة عشر في اثنين منها فقط، فلا حصر في الخمسة على كل تقدير، وإما لأنها أقل. قوله في الاعتذار عن الاقتضاء: إنه إثبات شرط يتوقف عليه وجود المذكور، ولا يتوقف عليه صحة اللفظ.

(المسألة الأولى: في التعارض بين الاشتراك والنقل)

وتقدم أن دلالة الاقتضاء هي من باب دلالة الالتزام على ما يتوقف عليه التصديق، ودلالة الالتزام لا توجل خللا في أن الملزوم مراد باللفظ، بل ضم إليه غيره فقط، وكلامه في هذا المقام إنما هو فيما يوجب خللا في أن الظاهر مراد أم لا؟ (المسألة الأولى: في التعارض بين الاشتراك والنقل) اعلم أن هذه المسائل العشرة لها ثلاثة ضوابط إذا استحضرها الطالب كفته مؤنتها، فضابط الاشتراك مع الأربعة الأخرى كونه مجملا حالة عدم القرينة، وكلها لا تكون مجملة في حالة، بل إن وجدت القرينة أتبعت، وإلا حمل على الحقيقة الأولى من غير نقل، وعدم الإضمار، والعموم من غير تخصيص، فهذه أربعة مسائل. وضابط النقل مع الثلاثة الأخرى: أن النقل أكثر مقدمات، والثلاثة تكفى فيها القرينة، فترجع على النقل، فهذه ثلاثة مع الأربعة المتقدمة، صارت سبعة، وضابط التخصيص مع المجاز والإضمار- أنه مستعمل في بعض الحقيقة، وهما اجتياز عن الحقيقة، فيكون أرجح منها، فهذه تسع مسائل هي الإضمار والمجاز هما عنده متساويان، فلا يحتاج لترجيح بينهما مع أنه في (المعالم) رجع المجاز على الإضمار بالكثرة، فتصير الضوابط على ما قاله في (المعالم) أربعة. قوله: (الاشتراك لا يقتضى نسخ وضع سابق بخلاف النقل والاشتراك، فيقدم على النسخ). قلنا: النسخ الذي قدمنا الاشتراك عليه وهو رفع الحكم الشرعي، لكونه يحتاط فيه احتياطا شديدا لما فيه من رفع الشرائع المقررة، وأما نسخ الوضع، فهذا ليس من النسخ في الاصطلاح، إنما هو نسخ لغوى ليس فيه تلك العناية، فيقدم الاشتراك عليه.

قوله: (الاشتراك ما أنكره أحد معتبر، والنقل أنكره كثير من المحققين). قلنا: الذي أنكره القاضي إنما هو نقل صاحب الشرع في الأسماء الشرعية، والنقل قد يكون بغلبة استعمال حملة الشريعة، وغلبه استعمال أهل العرف العام أو الخاص، وهذا النقل لم ينكره أحد، فلا يتم مطلوبكم في الترجيح. قوله: (إذا فقدت القرينة في الاشتراك توقف فلا يخطئ وفى النقل ربما جهل النقل، فحمل على الأول فيخطئ). قلنا: احتمال جهله بالنفل كاحتمال جهله بالقرينة المعينة لهذا الفرد، فقد يظن أنها تعين الآخر فيخطئ، فاحتمالات الجهالات عقلا متنوعة، وقائمة في جميع ذلك، فإن بيننا على الظاهر أنه يعلم القرينة، فيحملها على غير محملها، فاستوى الأمران فتساقطا، فيرجع ألى دليلنا السالم عن المعارض0 قوله: (الاشتراك يكفى فيه واضع واحد بخلاف النقل). قلنا: هذا ترجيح حسن، ولكن مفسدة الإجمال عند عدم القرينة أتم وأنكى في الوجود على المتكلم بتعطيل مصلحته، وعلى السامع بتألمه بالجهالة، فيكون النقل أرجح. قوله: (السامع قد يسمع اللفظ المنقول يستعمل في المعنيين فيظنه مشتركا، فتحصل مفاسد الاشتراك، مضافة لمفاسد النقل فيكون الاشتراك أولى). قلنا: هذا الاحتمال مرجوح، بل اللفظ المنتقل للغالب من أهل زمانه، ومكانه، أعنى مصره وعصره اشتهار ذلك بينهم، فلا يعتقد الاشتراك، والاستقراء دل على ذلك، فإنا نجد كل لفظ نقل في العرف يصير في المعنى الأول في أذهان أهل ذلك المصر مرجوحا، فلا يحصل الاشتراك.

(تنبيه) زاد التبريزى فقال: أخل من الاحتمالات بأربعة

قوله: (الاشتراك أكثر فلو كان أكثر مفسدة لكان الواضع جعله أقل) قلنا: إنما جاء من أهل العرف بعد الوضع الأول، والمنقول ليس من الوضع الأول أصلا حتى يقال: لم لا يرجحه، ويجعله أكثر ثم إن هذه المشتركات التي يقولون: إنها أكثر إنما جاء أكثرها بطريق النقل، فإن النقل أصله أن يكون مجازا مرجوحا إذا ترجح وصل إلى التساوي، ثم ينتقل إلى الرجحان بعد ذلك فيصير منقولا، ومجازا راجحا، وربما لم تنهض داعية المستعملين بكثرة استعماله بعد أن صار مساويا، فيبقى مساويا للحقيقة الأولى، وضابطنا في الاشتراك التساوي عند السماع، وتردد الذهن على السواء، فنعتقده إذا سمعناه مشتركا، وإنما هو منقول لم ينتهض إلى درجة النقل الصريح، فالكثرة إنما جاءت من قبل النقل، فبطل ترجيحكم. قوله: (النقل لابد أن يصير إلى حد التواتر فتندفع هذه المفاسد). قلنا: هذا إذا وقع، والبحث في هذه المسألة ليس في نقل وقع، ولا في شيء من الخمسة وقع، بل في احتمالاتها فقط، والاحتمال ليس من لوازمه وقوع ولا تواتر، وإنما النظر لهذه الأمور باعتبارها ذواتها، ولوازمها، وكثرة مقدماتها أن لو فرضت واقعة، لا باعتبار وقوعها، فكل حقيقة كانت في ذاتها راجحة، فهي راجحة وقعت أم لا، بل لو وقعت لم يحصل نزاع ولا تعارض، بل يتعين الواقع في ذلك اللفظ، فهذا ليس بمتجه. (تنبيه) زاد التبريزى فقال: أخل من الاحتمالات بأربعة:

الزيادة: كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]. والتقديم والتأخير كقوله تعالى: {له معقبات من بين يديه، ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11]. معناه: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه، ومن خلفه، وكقوله تعالى: {مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة} [عبس: 13 - 14]. والقلب كقولهم: (أدخلت الخف في رجلي)، (والرجل هي التي تدخل في الخف)، وعرضت الناقة على الحوض. وتعارض مرجع الضمير، وأسماء الإشارة، كقولنا: كلما علمه الحكيم فهو كما علمه، وقد يعد هذا من باب الاشتراك اللفظي، وليس هو منه، والفرق بينهما لطيف. ووجه الحصر فيما ذكرناه: أنه إذا انتفت الزيادة والنقصان، وهو الإضمار استقلت ألفاظ القول بالإفادة، وإذا انتفى التقديم، والتأخير، والقلب طابق التركيب المفهوم من المفردات، وإذا انتفى المجاز تعين محل الحقيقة، وإذا انتفى التصرف الشرعي، والعرفي اتحدت جهة الحقيقة، وإذا انتفى الاشتراك اتحد المحمل، وإذا انتفى التخصيص انطبق المراد على ظاهر مفهومه عينا، فانتفى الخلل مطلقا. قلت: وقيل: {فتول عنهم} [القمر: 6] مستمرا من حيث لا يرونك، فانظر ماذا يرجعون إليك الجواب؟ وقوله: (فهو كما علمه) إن أعدناه على الحكيم يلزم تشبيهه بعلمه، وهولا يشبه علمه، وإن أعدناه على (معلومه) يكون معناه: فهو كما هو في نفس الأمر.

وقوله: (والفرق بينهما لطيف) يعنى أن الغزالي عده من الاشتراك اللفظي، والفرق أن الاشتراك اللفظي له معنيان: أحدهما: وضع اللفظ لمعنيين كالقرء. والثاني: تردد بين معنيين من حيث التركيب لا من حيث الوضع، فسمى إشتراكا لفظيا لاشتراك معنيين في طلب ذلك المتردد بينهما، وذكر غير التبريزى من الاحتمالات المخلة اشتباه الوقف، والابتداء، كقوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران: 7]، وكقوله تعالى:} وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم} [الأنعام: 3]، فالوقف عند قوله: (الله)، والابتداء بقوله تعالى: {في السموات والأرض}، أي يعلم سركم وجهركم في السموات والأرض، ومن التقديم والتأخير قوله تعالى: {والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى} [الأعلى: 4 - 5]، أي: أحوى غثاء، لأن الأحوى: الشديد الخضرة، والغثاء: ما يحمله السيل، ثم يسود من الماء والشمس. وأصل الحوة: السواد، ويسمى الأخضر الشديد أحوى لمقاربة السواد. وكقوله تعالى: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين} [النحل: 51]، أي: اثنين إلهين، ومن الاحتمالات اشتباه الإعراب، كقوله عليه السلام: (ذكاة الجنين ذكاة أمه)، روى (زكاة أمه) بالرفع فلا يحتاج إلى ذكاة، وبالنصب فيحتاج، وفيه بحث مذكور في الخلافيات.

ثم قال التبريزي: وأرجع هذه الاحتمالات التخصيص ثم المجاز فإنه اقل؛ وفيه ترك العمل بالحقيقة مطلقا، ثم الإضمار لأنه اعتماد على مجرد القرينة دون اللفظ، ثم الزيادة فإنها إهمال للفظ الموضوع عن الفائدة، ثم التصرف العرفي، والشرعي لأنه نسخ للحقيقة الوضعية، ثم الاشتراك أبعد المراتب، لأنه لا فائدة فيه عند عدم القرينة، ولم يزد التريزي في المسائل العشرة على هذه الكلمات. وزاد سراج الدين فقال على جوابه على النقل ولقائل أن يقول: اشتهار النقل كيف يزيل نسخ الوضع الأول، ويوقفه على وضع أخر، وقلة وجوده؟ سلمناه لكن التواتر لا يحصل إلا متدرجا، والمفاسد قائمة قبله، ولأنهما إنما يتعارضان في لفظ لا يعلم كونه منقولا ولا مشتركا، نعم لو تعارض لفظ منقول مع أخر مشترك في اثنين مثلا، كان المنقول أولى، لاقتضاء النقل إرادة معين دون الاشتراك، ولا يرد عليه شيء من تلك الوجوه. مثال المسألة: يقول الحنفي: يجوز للمرأة الرشيدة مباشرة العقد في النكاح على نفسها لقوله تعالى: {أن ينكحن أزواجهن} [البقرة: 232].

(المسألة الثانية) إذا وقع التعارض بين الاشتراك والمجاز، فالمجاز أولى

ولقوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة: 230]، فقد سلطها على العقد، فوجب ألا يحجر عليها بقول الشافعي أو المالكي، النكاح لفظ مشترك بين التداخل كقولهم: نكحت الحصاة خف البعير، وبين الأسباب الموصلة إليه كقولهم: نكح فلان عند بنى فلان، ويريدون بذلك السبب المبيح في عوائدهم، ولذلك كانوا يفرقون بين البغايا وغيرهن، وإذا كان مشتركا سقط الاستدلال به، حتى يبين المستدل الرجحان، يقول المستدل: بل هو منقول في عرف الشرع للعقد، ولم يكن مشتركا، ولذلك قال العلماء: كل نكاح في كتاب الله تعالى، فالمراد به العقد إلا قوله تعالى {حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة 230]، والنقل أولى من الاشتراك لما تقرر في علم الأصول. (المسألة الثانية) إذا وقع التعارض بين الاشتراك والمجاز، فالمجاز أولى. قوله: (إذا خفيت القرينة الدالة على المجاز جهل مراد المتكلم، وأعتقد ما ليس بمراد مرادا. قلنا: الغالب ظهور القرينة، لأن البيان الكافي لابد من جهة المتكلم، وحينئذ يبقى الترجيح للنقل بعد الإجمال، والكثرة، والدائر بين الحقيقة والمجاز إنما يحوج للقرينة إذا أريد المجاز. أما إذا أريدت الحقيقة فلا، والمشترك محوج للقرينة في كلا معنييه. قوله: (الاشتراك يحصل بوضع واحد، والمجاز يحتاج الوضع، والعلاقة، وغير ذلك، فالاشتراك أقل توقف. قلنا: الاشتراك أيضا قد تقدم أن سببه الأكثرى إنما هو وضع قبيلتين، فاحتاج لوضعين ووضعين وقرينة في كل مسمى له عند الاستعمال.

أما المجاز فوض واحد، وقرينة واحدة عند إرادة المجاز، وإن سلمنا أن الاشتراك يكون من واضع واحد، فلابد له أيضا من أن يضعه، ثم يضعه حتى يحصل على الاشتراك، فالوضع الواحد غير كافي. قوله: (إذا تعذر أحد المسمى المشترك في تعيين الآخر، بخلاف المجاز لا يتعين عند إرادة الحقيقة). قلنا: قد يكون الاشتراك بين أشياء، فيبقى مجملا بين الباقي، وهو الغالب وقوع الاشتراك في المشتركات بين أكثر من واحد، ثم الحقيقة قد تنحصر جهات المجاز فيها بتعذر العلاقة في غيره، فيصير احتمال انحصار الاشتراك في شيئين كاحتمال انحصار المجاز في واحد، فلا ترجيح، ويبقى ما تسلم لنا سالما عن المعارض. قوله: (دلالة اللفظ في أحد المفهومين حقيقة، والحقيقة مقدمة على المجاز). قلنا: إذا كانت مفردة، وأما مع التعدد فلا. قوله: (الحمل على المجاز لا يقتضى نسخ الحقيقة). قلنا: نسخها معناه: عدم الفهم أنها مرادة، وهذا في المشترك هو في المعنيين، ولا نفهم المراد منها ألبتة. قوله: (البحث عن القرينة في الاشتراك أكثر). قلنا: كثرة البحث مقدمات رائدة توجب مرجوحية الاشتراك. قوله: (المجاز يحوج إلى قرينة قوية، لأن الحقيقة متأصلة). قلنا: قوتها معارض بأن أفراد المشترك يحوج كل واحد منها إلى قرينة، فالقوة معارضة بالكثرة، بل القوة اخف ظاهراً.

(تنبيه) اعلم أني لم أجد هذه المسائل العشرة في شيء من كتب الأصول التي رأيتها إلا في (المحصول)، ومختصراته

قوله: (الوجوه كلها معارضة بفوائد المجاز). قلنا: هذا ضعيف؛ لأن تلك الوجوه كثيرة- التي ذكرها الخصم- ووجوه المجاز لا يجتمع فيها، بل واحد منها كاف في المجاز، وأدلة الخصم كلها تجتمع فترجح ما قاله. مثال هذه المسالة: يقول المالكي: بيع الغائب على الصفة جائز لقوله تعالى: {واحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة: 275]، وهو عام يتناول صورة النزاع، فيحل عملا بالعموم. يقول الشافعي: هذه الصيغة وردت للعموم تارة، وللخصوص أخرى، والأصل في الاستعمال، فتكون مشتركة، وهو مذهب جماعة في هذه الصيغة، وإذا كانت مشتركة كانت مجملة فيسقط الاستدلال. يقول المالكي: جعلها مجازا في الخصوص أولى من الاشتراك لما تقرر في على الأصول (تنبيه) اعلم أني لم أجد هذه المسائل العشرة في شيء من كتب الأصول التي رأيتها إلا في (المحصول)، ومختصراته، مع أنى استحضرت لهذا الشرح نيفا وثلاثين تصنيفا، و (الإحكام) مع بسطه، وكثرة حجمه، لم يذكر منها إلا مسألة واحدة في (الأوامر) وهى: الاشتراك والمجاز، ورجح الاشتراك على المجاز من عشرة أوجه: الأول: أن المشترك حقيقة في الكل فيطرد، بخلاف المجاز. الثاني: يصح منه الاشتقاق لكونه حقيقة بخلاف المجاز، فكان أكثر فائدة. الثالث: أن يصبح التجوز عنه لكونه حقيقة، فكان أكثر فائدة. الرابع: يكفي فيه ادني قرينة، بخلاف المجاز.

(المسألة الثالثة: التعارض بين الاشتراك والإضمار)

الخامس: لا يفتقر للعلاقة، بخلاف المجاز. السادس: أنه غير متوقف على فهم غيره، والمجاز يتوقف على فهم الحقيقة المتجوز عنها حتى يحصل معنى المبالغة في التجوز. السابع: انه مستغن عن تصرف من قبلنا. الثامن: لا يلزم منه مخالفة ظاهر، والمجاز يخالف ظاهر الحقيقة. التاسع: انه غير تابع والمجاز تابع للحقيقة. العاشر: أنه عند عدم القرينة لا يخطئ فيه السامع، وفي المجاز يحمله على الحقيقة، فيخطئ، وقد عرفت وجه البحث في هذه الوجوه مما تقدم. (المسألة الثالثة: التعارض بين الاشتراك والإضمار) قوله: (الإجمال الحاصل بسبب الإضمار خاص ببعض الصور، ويسبب الاشتراك العام. تقريره: أن كل لفظ نسمعه من لسان العرب، لو جوزنا قيه أن يكون مشتركا، ولم يكن ذلك مخلا بكونه عربيا، واحتمال الاشتراك العام. وإما الإضمار فلا تجيزه العرب إلا حيث دل عليه دليل، فلو فرضنا في محل ليس فيه دليل إضمارا، أخرجه ذلك عن نمط كلام العرب، فصار إجماله خاصا ببعض الصور، فإنه لا يجوز أن يقول: قامت هند، ومراده غلامها. قوله: (الإضمار يفتقر إلى ثلاث قرائن). تقريره: أنا إذا سمعنا قوله تعالى: {واسأل القرية} [يوسف: 82]. فنقول: يتعذر إجراء الكلام على ظاهره، فقرينة التعذر هي الدالة على أصل

الإضمار فنقول: ذلك المضمر هل هو جبال القرية؟ أو شجرها؟ فنقول: مناسبة السؤال تقتضى أن يكون المضمر يصلح للإجابة، وقيام الحجة، فنضمر الأهل، فقرينة هذه المناسبة الخاصة هي المعينة لنوع الضمير، ثم نقول: أين نضمره قبل الكلام أَهل اسأل القرية؟ أو بعده اسأل القرية أَهل؟ أو بين الكلمتين اسأل أَهل القرية؟ فنقول: مناسبة النظم تقتضى بينهم، فهذه هي القرينة الثالثة الدال على المحل. قوله: (الإضمار يفتقر إلى ثلاث قرائن في صورة واحدة، والاشتراك يفتقر إلى قرائن في صور متعددة). قلنا: (في صورة واحدة) غير متجه، فإنه إن أراد أن الإضمار لا يقع إلا في صورة واحدة فباطل بالضرورة، وإن أراد أنه يقع في صور كثيرة لكن الصورة الواحدة منه تحتاج لثلاث قرائن، فالذي يقابل الصورة الواحدة من الإضمار الصورة الواحدة من الاشتراك، فتبقى ثلاث قرائن قبالة واحدة، فلا يتجه. قوله: (لأن كل صورة معارضة بصورة، والمجموع بالمجموع). هذا هو المتجه، أما مقابلة الفرد من الإضمار بجملة أفراد من الاشتراك فتحكم، فكان المتجه أن يقول: صور الإضمار ليست شاملة لجميع الألفاظ لما تقدم، فقرائن إضمار كثيرة، وصور قليلة، وقرائن الاشتراك قليلة وصور كثيرة فيحصل التعارض. مثال هذه المسألة: يقول الشافعي: يجوز الاقتصار على مسح بعض الرأس في الموضوع لقوله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} [المائدة: 6]، وجه التمسك: أن) الباء (مشتركة في الإلصاق في الفعل القاصر نحو: مررت بزيد، وبين التبعيض في الفعل المعتدى.

(المسألة الرابعة: في تعارض الاشتراك والتخصيص)

ولو قال في الآية: (وامسحوا رءوسكم) لصح. يقول المالكي: هاهنا مضمر، تقديره: 'وامسحوا أيديكم برءوسكم'، فالمفعول الأول المنصوب محذوف، وهو الممسوح، والرءوس ممسوح بها، والفعل لا يتعدى للمسوح به إلا 'بالباء'، فلا تكون 'الباء' مشتركة لما ذكرناه من الإضمار، والإضمار أولى من الاشتراك لما تقرر في علم الأصول. (المسألة الرابعة: في تعارض الاشتراك والتخصيص) مثالها: يقول المالكي: يجوز للعبد أن يتزوج أربعا لقوله تعالى: (فنكحوا ما طاب لكم من النساء)} النساء: 3 {، والطيب ميل النفس، وقد مالت نفسه إلى الثالثة والرابعة، فوجب أن تحلا معا. يقول الشافعي: لو كان المراد بالطيب ميل النفس لزم التخصيص، فإن زوجة الغير قد تميل إليها نفسه مع أنها محرمة، بل المراد بالطيب هاهنا الحلال، كقوله عليه السلام (من تصدق بكسب طيب) (ولا يقبل الله إلا طيبا)، صونا للكلام من التخصيص. يقول المالكي: الطيب حقيقة فيما ذكرناه، لأنه المتبادر للفهم، فلو كان حقيقة في غيره لزم الاشتراك، والتخصيص أولى من الاشتراك لما تقرر في علم الأصول. (المسألة الخامسة: في تعارض النقل والمجاز) مثالها: يقول المالكي: يجزى رمضان كله بنية واحدة من أوله لأخره لقوله عليه السلام (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل)، وجه التمسك به: أن الصيام منقول عن أصل الإمساك المخصوص الشرعي، والمعرف بالألف واللام يفيد العموم، واستغراق الصوم إلى الأبد، ورمضان من جملة ذلك، فيكون مفهوم ذلك: أن من بيت كان له الصوم، وهذا قد ثبت.

(المسألة السادسة: في انقل والإضمار)

يقول الشافعي: لا نسلم انه منقول، بل مجاز في إمساك جزء من الليل قبل الفجر، ويكون من مجاز التعبير بالأعم من الأخص، فإن الشرع لم يصرح بتبييت النية، وإنما صرح بتبييت الصوم، وما ذكرنا مجمل صالح له والمجاز أولى من النقل لما تقرر في على الأصول. (المسألة السادسة: في انقل والإضمار) مثالها: يقول المالكي: لا يجوز إخراج الزكاة قبل الحول لقوله عليه السلام: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول). والزكاة منقولة في عرف الشرع إلى الزكاة الشرعية، وإذا نفى الشرع الزكاة الشرعية، وجب ألا تجزيء عنه قبل الحول؛ لن ما ليس بمشروع، لا يبرى الذمة من الواجب. يقول الشافعي: لم لا يجوز حمل الزكاة هاهنا على التطهير؟ ومنه قوله

(المسألة السابعة: النقل والتخصيص)

تعالى: {أقتلت نفسا زكية بغير نفس} [الكهف: 74]، ويكون في الكلام إضمار. تقديره: لا وجوب بطهر مال حتى يحول عليه الحول، ونحن نقول: الوجوب لا يتحقق إلا بعد الحول، والإضمار أولى من النقل لما تقرر في علم الأصول. (المسألة السابعة: النقل والتخصيص) مثالها: يقول المالكي: يلوم الظهار من الأمة وأم الولد، لقوله تعالى {والذين يظاهرون من نسائهم} [المجادلة: 3]، وهما من جملة النساء. يقول الشافعي: لفظ النساء صار منقولا في العرف للحرائر، فوجب ألا يتناول محل النزاع، ولو لم يكن منقولا للزم أن يكون مخصصا بذوات المحارم، فإنهن من نسائهم، ولا يلزم الظهار منهن. يقول المالكي: إذا تعارض النقل، والتخصيص، فالتخصيص أولى لما تقرر في علم الأصول. (المسألة الثامنة: المجاز والإضمار) قوله: هما سواء، هو خلاف قوله في) المعالم (قال: المجاز أولى، لأنه أكثر، والكثرة تدل على الرجحان. قوله: (الحقيقة تعين على فهم الإضمار؛ لأنه يسقط من الكلام شيئا يدل على الباقي). قلنا: قد تقدم أن الإضمار أربعة أقسام:

(المسألة التاسعة: المجاز والتخصيص)

أحدها هذا، وهو الذي يوجب مجازا في التركيب، والثلاثة الباقية ليست كذلك كما تقدم بيانه. مثالها: يقول المستدل: المرفقان لا يجب غسلهما، لقوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} [النساء: 43]، والحد لا يدخل في المحدود، يقول السائل: يلزم أن يكون إطلاق لفظ اليد هاهنا مجازا أريد به البعض، لأنه يجب ثبوت المغيا قبل الغاية، ويتكرر إلى الغاية، وجملة اليد لم تثبت قبل المرفق، بل هاهنا إضمار تقديره: اتركوا من أباطكم إلى المرافق، فيبقى المرفق في المغسول، فيقول المستدل: المجاز أولى من الإضمار لما تقرر في علم الأصول. (المسألة التاسعة: المجاز والتخصيص) مثالها: يقول الشافعي: العمرة فرض لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [الحج: 196]، والمر للوجوب. يقول المالكي: يخصص النص بالحج والعمرة المشروع فيهما؛ لأن استعمال الإتمام في الابتداء مجاز. قال: (والتخصيص أولى من المجاز، لما تقرر في علم الأصول). (المسألة العاشرة: الإضمار والتخصيص) يقول المالكي: إذا أسلم المرتد لا يقضي الصلاة لقوله عليه السلام (الإسلام يجب ما قبله).

(فروع) الأول: تعارض النسخ والاشتراك

يقول الشافعي: هذا مخصوص بالديون والودائع إجماعا، والتخصيص على خلاف الأصل، فيتعين أن يكون في الكلام إضمار صونا له عن التخصيص، تقديره: يجب إثم ما قبله، وكون الصلاة في الذمة ليس إثما، فلا تسقط. يقول المالكي: التخصيص أولى من الإضمار لما تقرر في علم الأصول. (فروع) الأول: تعارض النسخ والاشتراك قوله: (يجوز تخصيص العام بخبر الواحد، والقياس، ولا يجوز نسخ العام بهما). يريد العام المتواتر، لأنا نشترط في الناسخ أن يكون مساويا أو أقوى، فلو كان آحادا صح التساوي. قوله: (والفقه فيه أن الخطاب بعد النسخ يصير كالباطل، وبعد التخصيص لا يصير كالباطل). قلنا: هذا متجه من النسخ قبل العمل البتة، كنسخ ذبح إسحاق عليه السلام، أما غالب النسخ كوقوف الواحد للعشرة، فلما نسخ بعد مدة تبين أن غير تلك الندة لم ترد، وأن المراد تلك المدة فقط، فما بطل شيء كان مرادا، فبطلن الإرادة فيه، بل بين الناسخ أن الزمان المستقبل لم يكن مردا، وإلا لزمت المحالات التي لزمت القاضي في كتاب النسخ من انقلاب العلم والخبر، فحينئذ الذي أريد باللفظ لم يبطل، فهو كالتخصيص سواء. وقوله: كالباطل إن أراد في الذي كان مرادا معناه، وإن أراد في أزمنة لم تكن مراده، فهذه الأزمان في النسخ كالأفراد في التخصيص، لم يتصف القسمان بالإرادة قط، ولم يزالا باطلين، غير مقصودين، فبطل هذا الفقه

الذي قاله، غايته أن المحكوم عليه بالإرادة في الزمن الماضي، بين الناسخ أنه لم يرد في المستقبل فورد الإبطال على ما كان موصوفا بالإرادة باعتبار الماضي، والمخرج بالتخصيص لم يكن قط موصوفا بالإرادة، وفى النسخ أتصف بها، ولكن في زمان غير الزمان الذي قال الناسخ هو غير مراد فيه، فما صار النص باطلا مطلقا، بل في بعض وجوهه كالتخصيص، وإنما يتجه في النسخ قبل الفعل، لكن الحكم العام يحتاج إلى فرق عام وهذا الخاص. قال سراج الدين: ما ذكره في النسخ من أنه يصير اللفظ كالباطل، لا يقتضي ترجيح الاشتراك عليه، بل ينبغي له أن يبين أن مفاسد الاشتراك أقل من مفاسد النسخ، يعنى لأن جهة العملية اشتراك وإجمال، والتواطؤ لا إجمال فيه، واستعمال اللفظ من جهة لا إجمال فيها أولي. * * * تم الجزء الثاني بحمد الله ويليه الجزء الثالث إن شاء الله وأوله الباب الثامن

نفائس الأصول في شرح المحصول تأليف الإمام الفقيه شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس بن عبدالرحمن صنهاجي المصري المشهور بالقرافي المتوفى سنة 684 هـ

الباب الثامن في تفسير حروف تشتد الحاجة في الفقه إلى معرفة معانيها وفيه مسائل

الباب الثامن في تفسير حروف تشتد الحاجة في الفقه إلى معرفة معانيها وفيه مسائل المسألة الأولى: في أن الواو العاطفة لمطلق الجمع: قال أبو علي الفارسي: ((أجمع نحاة البصرة والكوفة على أنها للجمع المطلق)). وذكر سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه: أنها للجمع المطلق، وقال بعضهم: إنها للترتيب: الأول: أن (الواو) قد تستعمل فيما يمتنع حصول الترتيب فيه؛ كقولهم: تقاتل زيد وعمرو، ولو قيل تقاتل زيد فعمرو، أو تقاتل زيد ثم عمرو، لم يصح.

والأصل في الكلام الحقيقة؛ فوجب أن يكون حقيقة في غير الترتيب، فوجب ألا يكون حقيقة في التريب؛ دفعا للاشتراك. الثاني: لو اقتضت (الواو) الترتيب، لكان قوله: (رأيت زيدا وعمرا بعده) تكريرا، ولكان قوله: (رأيت زيدا وعمرا قبله) متناقضا، ولما لم يكن كذلك بالإجماع، صح قولنا. فإن قلت: يجوز أن يكون الشيء بإطلاقه لا يفيد حكما، ثم إذا أضيف إليه شيء آخر، تغير عما كان عليه، قوله: (زيد في الدار) يفيد الجزم، فإذا أدخلت عليه الهمزة، فقيل: (أزيد في الدار؟) صار للاستخبار، وبطل معنى الجزم. قلت: حاصل هذا السؤال يرجع إلى أن قوله: (قبله) أو (بعده) كالمعارض لمقتضى الواو، إلا أن التعارض خلاف الأصل، فالمفضى إليه وجب ألا يكون. الثالث: قوله تعالى في سورة البقرة: (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) [البقرة:58] وفي الأعراف: (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا) [الأعراف:161] والقصة واحدة، وقوله تعالى: (واسجدي واركعي) [آل عمران:43] مع أن من شرعها تقدم الركوع، وقوله تعالى: (فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) [النساء:92] وقوله تعالى: أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) [المائدة:33]، وقوله تعالى: (والسارق والسارقة) [المائدة:38]، وقوله: (والزانية والزاني) [النور:2] ففي شيء من هذه المواضع لاتفيد الترتيب. الرابع: السيد إذا قال لعبده: (اشتر اللحم والخبز) لم يفهم منه الترتيب.

الخامس: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قيل له، حين أرادوا السعي بين الصفا والمروة: (بأيهما نبدأ؟ فقال ابدءوا بما بدأ الله به) ولو كانت الواو للترتيب، لما اشتبه ذلك على أهل اللسان، ولما احتيج في بيان وجوب الابتداء من الصفا، إلى الاستدلال بأنه مذكور أولا؛ فوجب أن تقع به البداءة. السادس: لو كانت (الواو) للترتيب، لوجب أن القائل إذا قال: (رأيت زيدا وعمرا) ثم علم أنه رآهما معا- أن يكون كاذبا، وبالإجماع ليس كذلك. السابع: قال أهل اللغة واو العطف في الأسماء المختلفة، كواو الجمع وباء التثنية في الأسماء المتماثلة؛ فإنهم لما لم يتمكنوا من جمع الأسماء المختلفة بواو الجمع، استعملوا فيها واو العطف. ولما كان قولهم: (جاءني الزيدان، واجتمع الزيدون) يفيد الاشتراك في الحكم، ولا يفيد الترتيب فيه، فكذا القول في واو العطف وواو الجمع؛ يجوز أن يشتركا في إفادة الاشتراك. فإن قلت: واو العطف وواو الجمع يجوز أن يشتركا في إفادة الاشتراك، ثم واو العطف يختص بفائدة زائدة، وهي الترتيب. قلت: إنهم نصوا على أن فائدة إحداهما عين فائدة الأخرى، وذلك بنقي الاحتمال المذكور. أحدهما: أن واحدا قام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: (من أطاع الله ورسوله، فقد اهتدى، ومن عصاهما فقد غوى) فقال عليه الصلاة

والسلام: (بئس الخطيب أنت؛ هلا قلت: ومن عصى الله ورسوله، فقد غوى) ولو كانت الواو للجمع المطلق، لما افترق الحال بين ما علمه الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- وبين ما قاله الرجل. وعن عمر - رضي الله عنه- أنه سمع شاعرا يقول [الطويل]: (كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا) فقال له عمر -رضي الله عنه-: (لو قدمت الإسلام على الشيب، لأجزتك) وهذا يدل على أن التأخير في اللفظ، يدل على التأخير في الرتبة. وروي أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا لابن عباس -رضي الله عنهما-: لم تأمرنا بالعمرة قبل الحج، وقد قال الله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله)؟ [البقرة:196] وهو كانوا فصحاء العرب؛ فثبت أنهم فهموا من الواو الترتيب. وثانيها: إذا قال الزوج لامرأته التي لم يدخل بها: (أنت طالق، وطالق) طلقت طلقة واحدة، ولم تلحقها الثانية، ولولا أن الواو تقتضي الترتيب. للحقتها الثانية، كما أنها تطلق طلقتين، إذا قال لها: (أنت طالق طلقتين). وثالثتها: إذا قال: (أيت زيدا وعمرا) فالترتيب يستدعي سببا، والترتيب في الوجود صالح له؛ فوجب جعله سببا إلى أن يذكر الخصم سببا آخر. ورابعها: أن الترتيب (على سبيل التعقيب) وضعوا له (الفاء) والترتيب (على سبيل التراخي) وضعوا له (ثم). ومطلق الترتيب، وهو: القدر المشترك بين هذين النوعين، معنى معقول أيضًا؛ فلا بد له من لفظ يدل عليه، وما ذاك إلا (الواو).

فإن قلت: الجمع المطلق معنىً معقول أيضًا؛ فلابد له من لفظ يدل عليه، وماذاك إلا (الواو)!!. قلت: لما حصل التعارض، وجب الترجيح، وهو معنا؛ وذلك لأنا لو جعلناه للترتيب المطلق، كان معنى الجمع المطلق جزءا من المسمى، ولازما له؛ فجاز جعله مجازا؛ بسبب الملازمة. وأما لو جعلناه للجمع المطلق، لم يكن الترتيب المطلق لازما له؛ فلا يمكن جعله مجازا عنه؛ لعدم الملازمة والجواب عن الأول: أن الواو في قوله: (،من عصى الله ورسوله) لا تقتضي الترتيب لأن معصية الله تعالى ومعصية ريوله صلى الله عليه وسلم لا تنفك إحداهما عن الأخرى، فهذا بأن يدل على فساد قولكم- أولى، بل السبب في أن قوله: (ومن عصى الله ورسوله) إفراد لذكر الله تعالى عن ذكر غيره؛ فكان أدخل في التعظيم. وأما أثر عمر رضي الله عنه: فهو محمول على أن الأدب أن يكون المقدم في الفضيلة مقدما في الذكر، وأما أثر ابن عباس رضي الله عنهما: فهو معارض بأمر ابن عباس إياهم بتقديم العمرة على الحج. وعن الثاني: أن السبب في أن الطلقة الثانية لا تلحقها: أن الطلاق الثاني -ليس تفسيرا للكلام الأول، والكلام الأول تام؛ فبانت به، وأما إذا قال: (أنت طالق طلقتين) فالقول الأخير في حكم البيان للأول؛ فكان تمام الكلام بآخره. وعن الثالث: أن الابتداء بالذكر، لما كان دليلا على الترتيب، لم تكن بنا حاجة إلى جعل الواو للترتيب.

المسألة الثانية: الفاء للتعقيب على حسب ما يصح

وعن الرابع: أن ما ذكرتموه من الترجيح معارض بوجه آخر؛ وهو أن الحاجة إلى التعبير عن المعنى الأعم أشد من الحاجة إلى التعبير عن المعنى الأخص؛ لأنه حيث يحتاج إلى ذكر الأخص يحتاج إلى ذكر الأعم؛ لا محالة ضمنا، وقد يحتاج إلى ذكر الأعم حيث لا يحتاج إلى ذكر الأخص ألبتة؛ فكانت الحاجة إلى ذكر الأعم أشد. المسألة الثانية: الفاء للتعقيب على حسب ما يصح: فلو قال: (دخلت بغداد فالبصرة) أفاد التعقيب على ما يمكن، لا على ما يمتنع، وإنما قلنا: إنها للتعقيب؛ لإجماع أهل اللغة عليه. ومنهم من استدل عليه: بأنها لو لم تكن للتعقيب، لما دخلت على الجزاء إذا لم يكن بلفظ الماضي والمضارع، لكنها تدخل فيه؛ فهي للتعقيب. بيان الملازمة: أن جزاد الشرط قد يكون بلفظ الماضي؛ كقوله: (من دخل داري أكرمته) وقد يكون بلفظ المضارع؛ كقوله (من دخل داري يكرم) وقد يكون لا يهاتين اللفظتين؛ وحينئذ لا بد من ذكر الفاء؛ كقوله: (من دخل داري، فله درهم) وقول الشاعر [البسيط]: (من يفعل الحسنات الله يشكرها) فقد أنكره المبرد، وزعم أن الرواية الصحيحة [البسيط]: (من يفعل الخير فالرحمن يشكره) وإذا وجب دخول الفاء على الجزاء، وثبت أن الجزاء لا بد أن يحصل عقيب الشرط، علمنا أن الفاء تقتضي التعقيب.

المسألة الثالثة: لفظة (في) للظرفية محققا، أو مقدرا

واحتج المنازع بأمور: أحدها: أن الفاء جاء في كتاب الله تعالى لا بمعنى التعقيب في قوله تعالى: (لا تفتروا على الله كذبا؛ فيسحتكم بعذاب) [طه:61] والإسحات لا يقع عقيب الافتراء على الله كذبًا؛ بل يتراخى إلى الآخرة، وقال سبحانه وتعالى: (وإن كنتم على سفر، ولم تجدوا كتابا، فرهانا مقبوضة) [البقرة:283] مع أن ذلك قد لا يحصل عقب المداينة. وثانيها: أن الفاء قد تدخل على لفظ التعقيب، ولو كانت الفاء للتعقيب لما جاز ذلك. وثالثها: أن التعقيب يصح الإخبار به وعنه، والفاء ليست كذلك؛ فالفاء مغايرة للتعقيب. والجواب عن الكل: أن ماذكرتموه استدلال في مقابلة النص؛ فلا يقدح في قولنا، بل وجب حمل ما ذكره أولا: على المجاز، وثانيا: على التوكيد. وأما الثالث: ففيه بحث دقيق، ذكرناه في كتاب (المحرر في دقائق النحو). المسألة الثالثة: لفظة (في) للظرفية محققا، أو مقدرا: أما المحقق، فكقولهم: زيد في الدار وأما المقدر، فكقوله تعالى: (ولأصلبنكم في جذوع النخل) [طه:72] لتمكن المصلوب على الجذع تمكن الشيء في المكان. وقولنا: فلان في الصلاة، وشاك في هذه المسألة من هذا الباب. ومن الفقهاء من قال: إنها السببية؛ مقوله عليه الصلاة والسلام: (في النفس المؤمنة مائة من الإبل) وهو ضعيف؛ لأن أحدا من أهل اللغة ما ذكر ذلك، مع أن المرجع في هذه المباحث إليهم.

المسألة الرابعة: المشهور أن لفظة (من) ترد

المسألة الرابعة: المشهور أن لفظة (من) ترد: لابتداء الغاية؛ قولك: سرت من الدار إلى السوق. وللتبعيض؛ كقولك: باب من حديد. وللتبيين؛ كقوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) [الحج:80] وقد تجيء صلة في الكلام؛ كقولك: ماجاءني من رجل. والحق عندي: أنها للتمييز؛ فقولك: (سرت من الدار إلى السوق) ميزت مبدأ السير عن غيره، وقولك: (باب من حديد) ميزت الشيء الذي يكون منه الباب عن غيره، وقوله عز وجل: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) [الحج:30] ميزت الرجس الذي يجب اجتنابه عن غيره، وكذلك قولك: (ماجاءني من أحد) ميزت الذي نفيت عنه المجيء. وأما (إلى) فهي لانتهاء الغاية، وقيل: إنها مجمبة؛ لأنها في قوله تعالى: (وأيديكم إلى المرافق) [المائدة:6] تستدخل الغاية، وفي قوله تعالى: (ثم أتمو الصيام إلى الليل) [البقرة:187] تقتضي خروجها. وهذا ضعيف؛ لأن هذه اللفظة إنما تكون مجملة، لو كانت موضوعة لدخول الغاية، وعدم دخولها على سبيل الاشتراك؛ لكنا بينا أن اللفظ لا يجوز أن يكون مشتركا بالنسبة إلى وجود الشيء وعدمه. بل الحق أن الغاية، إن كانت متميزة عن ذي الغاية بمفصل حسي؛ كما في الليل والنهار، وجب خروجها، وإن لم تكن متميزة عنها بمفصل حسي كما في اليد والمرفق، وجب دخولها؛ لأنه ليس بعض المقادير أولى من بعض، فليس تقدير القدر الذي يجوز إخراجه من المرفق عن وجوب الغسل بقدر معين- أولى من تقديره بما هو أزيد أو أنقص.

المسألة الخامسة: (الباء): إذا دخلت على فعل بتعدى بنفسه ... إلخ

المسألة الخامسة: (الباء): إذا دخلت على فعل بتعدى بنفسه؛ كقوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم) [المائدة:6] تقتضي التبعيض؛ خلافا للحنفية. وأجمعنا على أنها دخلت على فعل لا يتعدى بنفسه؛ كقولك: (كتبت بالقلم، ومررت بزيد) فإنها لا تقتضي إلا مجرد الإلصاق. لنا أنا نعلم بالضرورة الفرق أن يقال: (مسحت يدي بالمنديل والبالحائط) وبين أن يقال: (مسحت المنديل والحائط) في أن الأول يفيد التبعيض، والثاني يفيد الشمول. واحتج المخالف بأمرين: الأول: أن القائل إذا قال: (مررت بزيد، وكتبت بالقلم، وطفت بالبيت) عقلوا منه إلصاق الفعل بالمفعول به؛ فدل على أن مقتضى اللفظ ليس إلا إلصاق الفعل بالمفعول به. الثاني: أن أبا الفتح بن جني ذكر الذي يقال؛ من أن الباء للتبعيض، شيء لا يعرفه أهل اللغة. والجواب عن الأول: أن قولهم: (مررت بزيد، وكتبت بالقلم) إنما أفاد ذلك؛ لأنه لايتعدى بنفسه؛ فلا يجوز أن يقال: (مررت زيدا، وكتبت القلم) فلذلك أفاد ماقالوه؛ بخلاف ماذكرنا. وأما الطواف: فهو عبارة عن الدوران حول جميع البيت؛ ولهذا لا يسمى من دار ببعضه طائفا بخلاف مانحن فيه فإن من مسح بع الرأس يسمى ماسحاً. وعن الثاني: أن الشهادة على النفي غير مقبولة؛ فلنا أن نخطئ ابن جني؛ بالدليل الظاهر الذي ذكرناه.

المسألة السادسة: لفظة (إنما) للحصر؛ خلافا لبعضهم، لنا ثلاثة أوجه

المسألة السادسة: لفظة (إنما) للحصر؛ خلافا لبعضهم، لنا ثلاثة أوجه: أحدها: أن الشيخ أبا علي الفارسي حكى ذلك في كتاب (الشيرازيات) عن النحاة، وصوبهم فيه، وقولهم حجة. وثانيها: التمسك بقول الأعشى [السريع]: ولست بالأكثر منهم حصىً وإنما العزة للكاثر وبقول الفرزدق [الطويل]: أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ولو لم تحمل (إنما) هاهنا على الحصر، لما حصل مقصود الشاعر. وثالثها: أن كلمة (إن): تقتضي الإثبات، و (ما) تقتضي النفي، فعند تركيبهما يجب أن يبقى كل واحد منهما على الأصل؛ لأن الأصل عدم التغيير. فإما أن نقول: كلمة (إن): تقتضي ثبوت عين المذكور، وكلمة (ما): تقتضي نفي المذكور، وهو باطل بالإجماع. وإما أن نقول: كلمة (إن): تقتضي ثبوت المذكور، وكلمة (ما): تقتضي نفي غير المذكور، وهذا هو الحصر؛ وهو المراد. واحتج المخالف بقوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) [الأنفال:2]، وأجمعنا على أن من ليس كذلك، فهو مؤمن أيضًا!! والجواب: أنه محمول على المبالغة. قال القرافي: قوله: ((الواو) قد تستعمل فيما يمتنع وقوع الترتيب فيه كقولهم: تقاتل زيد وعمرو) وعليه سؤالان:

((السؤال الأول)) لا نسلم أن المقاتلة ليس فيه ترتيب، بل ذلك مسلم باعتبار جملة المقاتلة، زما باعتبار أجزاء المقاتلة فممنوع، فإن المقاتلة أن يضرب هذا، فيضربه هذا، فيضرب الآخر، ومن النادر زن تقع الضربتان معا، وإذا كان الترتيب واقعا بحسب الأفراد صدق مطلق الترتيب، فدعوى نفيه مطلقا باطلة، فلعل الواو للترتيب، ودخلت في المقاتلة لنا بين أجزاءها من مطلق الترتيب. جوابه: لو كان هذا النوع من الترتيب معتبرا لغة، لصح دخول الفاء في المقاتلة، فيقول: تقاتل زيد فعمرو، ولم يجزه أحد. ((السؤال الثاني)) أن هذه الثلاثة مقلوبة، فتقول: استعملت (الواو) فيما فيه ترتيب، فيكون فيه حقيقة، فلا يتكون حقيقة في غير الترتيب دفعا للاشتراك. بيان الأول: قوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا) [الأحقاف:15]، والفصال بعد الحمل، وقوله تعالى: (وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي) [هود:44] واستواؤها كان بعد غيض الماء. بيان الثاني: ظاهر جوابه أن الترتيب واقع مع اللفظ، لأن اللفظ مستعمل فيه، ولا يلزم من وقوع المعنى مع اللفظ استعماله فيه، كما إذا عطفنا شيئين أحدهما على الآخر في المدح، أو الذم، أو الامتنان، فإن تقديم أحدهما يدل على الاهتمام به، وتأخير الآخر يدل على اهتضامه في العطف، وعلى العكس في المدح والذم، فإن الثاني أبلغ أبداً، وكذلك الامتنان، فهذه معان كثيرة واقعة مع (الواو)، وليست (الواو) مستعملة فيها إجماعاً. قوله: (لو كانت للترتيب لكان قولنا: رأيت زيدا وعمرا بعده تكرارا، وقبله نقضا).

تقريره: أنك إذا قلت بعده، فقد أتيت بالبعدية مرتين بلفظين، لأن الواو عند الخصم تدل على بعده، وقولك: بعده يدل على بعده، فيلزم التكرار. وقوله: (قبله نقضا) لأن النقض: وجود الدليل بدون المدلول، أو العلة بدون المعلول، أو الحد بدون المحدود، وهاهنا وجدت الواو الدالة على البعدية على رأي الخصم ولم توجد البعدية، لقول القائل قبله فلزم النقض على الدليل؛ لأن الألفاظ اللغوية كلها أدلة على مسمياتها، لا علل لها، والنقض عام في الأبواب الثلاثة فاعلم ذلك، ويقع في بعض النسخ متناقضًا، وتقريره غير تقرير النقض؛ لأنه الجمع بين النقيضين، فنقول: قوله: وعمرو يقتضي أنه بعده لأجل أن الواو تقتضي الترتيب. وقوله: قبله يقتضي أنه ليس بعده، فيكون بعده لا بعده، وهو جمع بين النقيضين. قوله: (وليس كذلك بالإجماع). عجبت كيف يدعى الإجماع في نفي التكرار، مع أن القائل بأن الواو للترتيب يقول به، بل الذي يتجه أن يقول: وهذان المحذوران لا يلزمان على مذهبنا، فيكون أرجح، ولا نتعرض للإجماع. قوله: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نبدأ بالصفا أو بالمروة، فقال: (نبدأ بما بدأ الله به). فلو كان للترتيب لما اشتبه ذلك على أصحابه عليه وعليهم السلام.

قلنا: ولو لم تكن للترتيب لما قال عليه السلام: (أبتدي بما بدأ الله به)، وما يدريهم ما بدأ الله به لولا دلالة الواو، فهذا الموضع يصلح لاستدلال الفريقين، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرجح وأقوى إجماعا. قوله: (لو كانت للترتيب لكان القائل: رأيت زيدًا، وعمرًا، ثم تبين أنه رآهما معه أنه يعد كاذبا، وليس ذلك إجماعاً). قلنا: لا نسلم الإجماع، بل الخصم يكذبه، باعتبار ما دلت عليه الواو، لا باعتبار مدلول الرؤية. قوله: (الواو) في الأسماء المختلفة كـ (الواو) في الأسماء المتفقة، ثم قال: وفائدة إحديهما فائدة الأخرى). تقريره: أن المراد بالمختلفة جاءني الزيدون، لأجل أن من شرط التثنية والجمع اتفاق الألفاظ، ويرد عليه أنهم قالوا: هذه مثل هذه، والمشبه بالشيء لا يلزم أن يكون مثله من كل وجه. وقوله: بغير ذلك، نصّوا على أن فائدة إحديهما عين فائدة الأخرى، يريدون في معنى الجمع في أصل العامل فقط، لا من جميع الوجوه، ويدل على ذلك أمور:

(سؤال) قال العلماء: ذمه لكونه جمع بينهما في الضمير، لأن الجمع يوهم (التسوية)

أحدها: صحة الاستثناء في (الواو) في صيغة الجمع، فتقول: قام الزيدون إلا أخاك، وفي العاطفة يمتنع، فلو قلت: قام زيد وعمرو إلا عمراً امتنع. وثانيها: أن دلالة اللفظ في واو الأسماد المتماثلة في الجمع على كل واحد من الأشخاص بالتضمن، وفي العاطفة بالمطابقة. وثالثها: أن المتأخر في العاطفة يقتضي الأبلغية في المدح نحو: الفارس البطل، ولو عكست قبح، وفي الذم نحو: شيطان مارد، ولو عكست امتنع، وثبوت التقديم، والتأخير، وأحكامهما، هذه أحكام لم تثبت لواو الجمع، فعلمنا أن مرادهم التسوية في أصل العامل، لا في جميع الأحكام. قوله في الحديث: (ومن عصاهما فقد غوى، فقال عليه السلام: بئس خطيب القوم أنت). (سؤال) قال العلماء: ذمه لكونه جمع بينهما في الضمير، لأن الجمع يوهم (التسوية)، وقد ورد جمعهما في الضمير في قوله عليه السلام: (لا يؤمن أحديكم بالله حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما). جوابه: قال الشيخ عز الدين بن عبدالسلام: إنما منع الشاعر من الجمع؛ لأن الجمع يوهم التسوية من قصده؛ لأن نزول منصبه لا يأبى قصده لذلك، لأن نزول منصبه لا يأبى قصده لذلك، فقد يحمل لفظه على ذلك لقبول حاله لذلك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- منصبه.

(قاعدة) الترتيب له سببان: أداة لفظية كـ (الفاء)، و (ثم)، وطبيعة زمانية

عظيم لا يظن به قصد التسوية، فلا ينصرف الوهم لذلك ألبتة، فلم يكن في نطقه بذلك مفسدة، بخلاف الشاعر. وقال الشيخ تقي الدين بن رزين: كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جملة واحدة فيكره لغة إقامة الظاهر فيها مقام الضمير، فلذلك حسن الجمع، وكلام الشاعر جملتنا لا يكره إقامة الظاهر فيهما مقام الضمير. (قاعدة) الترتيب له سببان: أداة لفظية كـ (الفاء)، و (ثم)، وطبيعة زمانية؛ لأن الزمان مرتب بالطبع، فيستحيل وقوع أول النهار آخره، وآخره أوله، ولا يقع الزمان إلا مرتبا، الماضي قيل الحاضر، والحاضر قبل المستقبل، والأفعال متوزعة على أجزاء الزمان، فكل فرد من أفراد الزمان فيه جزء من الفعل، والواقع في المرتب مرتب، فيصير القول والفعل مرتبًا؛ لأنهما وقعا في الزمان المرتب، فالنطق الواقع في الزمان المتقدم متقدم على النطق الواقع في الزمان المتأخر، فهذا ترتيب نشأ على طبيعة الزمان، لا على أداة لفظية، وهذا هو السر في قول العلماء: إن التقديم في النطق دليل الإهتمام في المقدم، ويتأخر الأهم في المدح والذم والامتنان فذمه -عليه السلام- للشاعر إنما كان لكونه عدل عن التقديم، والترتيب الناشئ عن الزمان لا لكونه لم يترتب بالواو، بل لكونه لم يترتب بالزمان، ويقدم النطق بالأهم في الزمان المتقدم، فنحن نسلم لهم أن الشاعر لو عطف رتب لأجل (الواو)، أو لأجل الزمان المتقدم، الأول ممنوع، والثاني: مسلم، فهذا هو الفرق بين ما أمر به عليه السلام، لا ما ذكروه، وهو الجواب على قول عمر رضي الله عنه: لو قدمت الإسلام لأجزتك، وعن قول الصحابة رضوان الله عليه: إن الله تعالى قدم

الحج، أي: بإيقاع اللفظ الدال عليه في زمان قبل الزمان الذي وقع فيه لفظ العمرة، فكل ما قدم شيء بالزمان دل على أن المتكلم قصد تفضيله، والاهتمام به على المتأخر، فلذلك أرادوا أن يقدموا ما قدم الله -تعالى- بالزمان لا بالواو، وهو الجواب عن لزوم الطلاق باللفظ المتقدم في غير المدخول بها؛ لأنه لم يأت الزمان الثاني إلا وقد بانت بالأول، فلم يبق محلا للطلاق للترتيب الزماني، لا لأجل الواو. قوله: (إذا قال: جاءني زيد وعمرو، والترتيب يستدعي سببا، والترتيب في الوجود صالح له). قلنا: هذا الكلام غير مفيد، فإنا نسلم أن الترتيب حاصل، وأن له سببا غير ما ذكرتموه، لكن لم قلتم: إن الواو وضعت للدلالة على هذا المعنى، فنحن نقول: الدال عليه الطبيعة الزمانية، وهو النطق به أولاً، وسببه كون زيد قبل أولا، ولا يحصل لكم مقصود ألبتة، فالنزاع في هذا المقام في الدال على الترتيب، لا في سبب الترتيب، وأنتم جعلتم النزاع في السبب،

ولا يتعلق به غرض ألبتة، كما أنه لو عطف بالفاء، كان الدال هو الفاء، والسبب الترتيب في الوجود. قوله: (إذا كان (الواو) موضوعًا لمطلق الجمع، لا يمكن جعله مجازا في مطلق الترتيب). قلت: ممنوع بل يجوز التعبير، والتجوز بلفظ أعم إلى ما هو أخص منه، لأنه قد قال في أنواع المجاز: يجوز التعبير بلفظ الجزء عن الكل، والأعم جزء الأخص فيجوز، وهذا الكلام منه مبنى على أن المجاز من شرطه الملازمة الذهنية، وقد تقدم إبطاله، وهذا أحد المواضع الدالة على التباس دلالة اللفظ بالدلالة باللفظ؛ لأن الملازمة إنما هي شرط في دلالة الالتزام، التي هي أحد أنواع دلالة اللفظ، والمجاز أحد أنواع الدلالة باللفظ، وهما متباينان كما تقدم في موضعه، نعم اللازم في هذا المقام أن يكون المجاز مرجوحًا، فإن المجاز الملازمة أرجح منه لا مع الملازمة إجماعا، فإن قوة العلاقة ترجح المجاز، وهذا الترجيح يعارضه أن اللفظ لو كان موضوعا للمعنى العام كانت إفادته أكثر؛ لأن أفراد العام أكثر من أفراد الخاص، وهذان الترجيحان أبدا يجريان في هذه المواضع. قوله: (يدل على فساد قولكم أولى). معناه: أنهما إذا كانا لا يفترقان، وقد أمره بالواو، فقد دخلت الواو فيما لا يتقدم في الوجود، فيكون نقضا عليها. قوله: (الصحابة -رضي الله عنهم- معارضون بأمر ابن عباس). قلنا: لكن الجمع مقدم على الواحد عند التعارض. قوله: (الابتداء بالذكر لما كان دليلا على الترتيب لم يكن بنا حاجة لجعل الواو للترتيب)

(فائدة) من أحسن ما استدل به على أن (الواو) لا تقتضي الترتيب قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت، ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر)

قلنا الابتداء دليل اهتمام المتكلم بالمبتدأ بذكره، ولعله بعد المذكور بعده، والخصم يريد أن يجعل الواو دليل على أن الذي قبلها وقع في الوجود قبل الذي بعدها، فلم تندفع الحاجة بما ذكرتم. قوله: أن كل من عبر عن الإنسان الأخص من الحيوان، بلفظ الإنسان، فقد عبر عن الأخص مطابقة، وعن الأعم تضمينا؛ لأنه جزؤه، وإذا عبر الحيوان بلفظ الحيوان مطابقة، لم يكن معبرا عن الإنسان ألبتة، لعدم استلزام الأعم الأخص. (فائدة) من أحسن ما استدل به على أن (الواو) لا تقتضي الترتيب قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت، ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر) [الجاثية:24]، فهذه مقالة من يجحد البعث، ويرى الأمر مفوضا للدهر، فعند هؤلاء لا حياة بعد الموت، مع أن لفظ الموت قد قدم، وهو عندهم مؤخر في الزمان والوقوع، فقد وقع المتأخر زمانا متقدما، والمتقدم متأخرًا، ولا يعني بأنها لا تقتضي الترتيب إلا ذلك، أو رد هذا بعض نحاة المغرب، وقال عقيبه: لو وجده ابن الخطيب لطرز به أسطره، وهو بحث حسن، غير أن ابن عطية، وغيره نقل من المفسرين أقوالا: أحدها: ماتقدم وثانيها: أن المعنى كله في النوع، أي يموت الآباء، ويحيا الأبناء بعدهم لا أنه البعث، والمتأخر متأخر، وقيل: نموت عند صيرورتنا نطفا ونحيا عند نفخ الروح، وقيل: كنا موتى في الآباء، ثم حيينا بالأرواح بعد التخليق،

(تنبيه) زاد تاج الدين في قوله: أنت طالق، وطالق طلقتين ... إلخ

وعلى هذه الأقول لا حجة في البحث إنما يتم على الأول، وهو ظاهر الآية، لأن الموت المعروف هو الذي يكون عند كمال العمر. فالحجة من الآية ظاهرة بناء على الظاهر. (تنبيه) زاد تاج الدين في قوله: أنت طالق، وطالق طلقتين، ففرق بغير عبارة (المحصول) في الجواب فقال: وحاصله أنه يمكن استقلال الأول في الأول دون الأول في الثاني، يعني بالثاني: أنت طالق طلقتين، وهذه العبارة لا تتجه، بل الأول فيهما يمكن استقلاله، وإنما كان يليق أن يقول: إنه يمكن استقلال الثاني في الأول بخلاف الثاني في الثاني، فإن التفسير هو الذي لا يستقل، وهو الثاني في الثاني، فيتعين ضمه للأصل، فلا يكمل الكلام إلا صونا له عن اللغو، ولو سكت المتكلم في الثاني على قوله: أنت طالق، ولم يقل: اثنتين استقل، ولزمته طلقة، غير أنه إن أراد، لم يستقل بإفادة اثنتين فصحيح غير أنه لا ينتظم كلامه؛ لأن الأول في الأول إنما فيه استقلال بمعنى الإفادة فقط، لا بمعنى إفادة طلقتين، والاستقلال إنما هو راجع إلى كون الكلام يستقل بالإفادة، ويحسن السكوت عليه، وهذا مشترك بين الأول في الأول، والأول في الثاني. (فائدة) قال سيف الدين: لو كانت للترتيب لدخلت في جواب الشرط كفاء، فتقول: من دخل داري وله درهم، كما تقول: فله درهم. جوابه أن الفاء إنما دخلت في جواب الشرط، لا لمجرد وقوع الشرط.

(فائدة) قال سيف الدين: نقل عن جماعة أنها للترتيب مطلقا، وعن الفرء أنها للترتيب حيث يستحيل الجمع

قبل وجود المشروط في زمان متقدم، بل ليصير المشروط مرتبطا بالشرط، فإن أئمة النحاة قد نصوا على أن الإنسان إذا قال: إن دخلت الدار أنت طالق، طلقت الآن؛ لأنه لم يأت بالفاء المصيرة للطلاق مرتبا على الدخول، ومرتبطا به، فالارتباط بالشرط أخص من وقوعه بعده، فكم من واقع بعد شيء لا يكون مرتبطا به، والواو على تقدير كونها موضوعة للترتيب لا تفيد الارتباط، فلا يحسن دخولها مكان الفاء، فظهر الفرق. (فائدة) قال سيف الدين: نقل عن جماعة أنها للترتيب مطلقا، وعن الفرء أنها للترتيب حيث يستحيل الجمع كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا

واسجدوا) [الحج:77]، وترد بمعنى (أو) كقوله تعالى: (أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع) [فاطر:1].

والاستئناف كقوله: (والراسخون في العلم يقولون: آمنا به) [آل عمران: 7]. وبمعنى (مع) نح،: جاء البرد والجباب. وبمعنى (إذ) كقوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا) [آل عمران:154] إلى قوله تعالى: (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) قال إمام الحرمين في (البرهان): اشتهر من مذهب الشافعي أنها للترتيب، وعند بعض الحنفية للجمع المطلق، قال: وقد زل الفريقان؛ لأن الواو لو كانت للجمع لكان القائل: رأيت زيدًا وعمرًا أنه رآهما معًا، وهذا لا يفهم من اللسان، بل الواو لا تفيد الجمع، ولا الترتيب بل التشريك، وإنما ترد للجمع في غير العطف في قولهم: لا تأكل السمك، وتشرب اللبن، ول كانت عاطفة لجزم الفعلان معًا. ((المسألة الثانية)) ((الفاء للتعقيب)) قوله: لو لم تكن للتعقيب لما دخلت على الجزاء إذا لم يكن بلفظ الماضي والمضارع). يريد أنها لا تدخل في هذين، وتدخل في جواب الشرط في غيرهما، وفيه مناقشة. قال الزمخشري في (المفصل)، وغيره: يجب دخول الفاء في الجزاء إذا كان أمرا أو نهيا، أو ماضيا مضيا صحيحا أو مبتدأ أو خبرا نحو: إن جاء زيد فأكرمه، وإن أكرمك، فلا تهنه، وإن أكرمتني اليوم، فقد أكرمتني أمس، وإن أكرمتني فأنت سيد، فقد وجب دخول الفاء في الماضي، وإنما مقصود المصنف إذا كان اللفظ ماضيًا، والمعنى مستقبلا، أما الماضي الصريح في

((سؤال)) التعاليق اللغوية أسباب؛ لأنها يلزم من وجودها الوجود، ومن عدمها العدم

المعنى فتجب الفاء فيه ووجه الاستدلال بدخوله في الجزاء على أنها للتعقيب: أن النحاة قالوا: إذا لم تدخل الفاء في هذه المواطن لا يرتبط الجزاء بالشرط، ويتعجل فإذا قال: إن دخلت الدار أنت حر؛ عتق الآن لعدم الفاء الموجبة لارتباط عتقه بدخول الدار، فالفاء حينئذ هي الموجبة لتأخره عقب الشرط، وارتباطه به، فلو لم تكن للتعقيب لما حصل هذا المعنى بين الشرط، وجزائه. ((سؤال)) التعاليق اللغوية أسباب؛ لأنها يلزم من وجودها الوجود، ومن عدمها العدم، وهذا شأن السبب وإذا كان الشرط سبباً، وشأن السبب أن يتعقبه مسببه، فصار النظر إلى هذا المعنى يوجب التعقيب من غير القائل، يقول: دخولها ها هنا يدل على عدم كونها للتعقيب، لئلا يلزم التكرار، والترادف في نفس التعقيب، بل دخلت الفاء لجعل الجزاء مسبباً عن الشرط كما تقدم، أما أنه عقيبه، فأمكن أن يقال ذلك الشرط لكونه سبباً لا للفاء كما تقدم. قوله: ((الفاء تدخل على التعقيب))، مثاله: جاء زيد فتعقبه عمرو، فلو كانت للتعقيب لزم التكرار. قوله: ((التعقيب يصح الإخبار به، وعنه)). تقريره: أنك تقول: التعقيب ضد التراخي، وموالاة الشيء للشيء تعقيب، فلو كانت الفاء للتعقيب لكانت مرادفة للفظ التعقيب، والقاعدة: أن

المترادفين يصح إقامة كل واحد منهما مقام الآخر، فإذا قلت: البر غذاء تقول: القمح غذاء، فتقيم أحد المترادفين مقام الآخر، ولو حاولت إقامة الفاء مقام التعقيب لقلت: (الفاء) ضد التراخي، تريد بـ (الفاء) ما أردته بلفظة التعقيب من ذلك المعنى لم يكن كلاما عربياً، فحينئذ ليس هما مترادفين، فلا تكون (الفاء) للتعقيب. قوله: فيه بحث دقيق، ذلك البحث هوأن معنى قول النحاة: الاسم يخبر به وعنه، أي: يخبر بمسماه، وعن مسماه معبرا عنه بلفظ الاسم، والفعل يخبر به، ولا يخبر عنه. أي: يخبر بمسماه معبرا عنه بلفظ الفعل، فنقول: قام زيد، ولا يخبر عن مسماه معبرا عنه بلفظ الفعل، فسمى (قام) المصدر في الزمان الماضي. فإذا قلت: مسمى (قام) مركب من المصدر والزمان، صح الإخبار عن مسمى (قام)، لكن معبرا عنه بلفظ مسمى)، لا بلفظ (قام)، ولفظ الفعل يخبر به وعنه مطلقا فنقول: قام فعل ماض، فقولك: (فعل) مرفوع على خبر الابتداء، فيكون (قام) هو المبتدأ، وهو لفظ الفعل دون مسماه، ويخبر به، فتقول: أحد الأفعال (ٍام)، فنجعل لفظ الفعل خبرا عن أحد الأفعال، وقد غلط بعضعن فقال: المخبر عنه في هذه القضية هو اسم، ولو كان اسما لكذبت القضية، فإن الاسم لا يخبر عنه بأنه فعل ماض، وكذلك نقول: في قولنا: (الفعل لايخبر عنه. فإذا قيل لك: قولك: لا يخبر عنه خبر عنه بأنه لا يخبر عنه، فقد تناقضت القضية، وأخبرت عن الفعل. فنقول: المخبر عنه بأنه لا يخبر عنه اسم، يقال له: فإخبارك عن الاسم حينئذ بأنه لا يخبر عنه كذب، لأن كل اسم يصح الإخبار عنه.

فالجواب الصحيح في هذه المواطن كلها أن تقول: المخبر عنه فعل، وهو لفظ الفعل، وما وضعنا قولنا) فعل) إلا للفظ الفعل، وهو يصح الإخبار به وعنه، وحيث قلنا: لا يخبر عنه نريد مسماه لا يخبر عنه بلفظه. وقولهم: الحرف لا يخبر عنه، ولا يخبر به. يريدون: لا يخبر بمسماه، ولا عن مسماه معبرا عنه بلظفه، ف (حتى) موضوعة للغاية، فإذا قلت: غاية الشيء نهايته، فقد أخبرت عن مسمى (حتى) معبرا عنه بلفظة الغاية، لا بلفظ (حتى) الذي هو الغاية خبرا عن النهاية، لكن معبرا عنه بالغاية، ولو عبرت عنه بلفظ الحرف فقلت: حتى نهاية الشيء لم يكن كلاما عربيا. وكذلك (ليت) موضوعة للتمني، فتخبر عن مسماها، فتقول: التمني تعلق الأمل، فتخبر عن التمني معبرا عنه بغير (ليت)، بل بلفظ التمني ولو قلت: ليت تعلق الأمل، لم يكن كلاما عربيا، وكذلك يخبر به فتقول: تعلق الأمل التمني، ولو قلت: تعلق الأمل ليت لم يصح، حيث عبرت عن مسمى ليت ب (ليت)، ويصح الإخبار عن لفظ الحرف، وبلفظ الحرف مطلقا، فتقول: حتي حرف غاية، فرفعت حرف غاية على خبر الابتداء، فيكون (حتى) هو المبتدأ، وكذلك تخبر بها فتقول: أحد حروف الغاية (حتى) فتجعلها خبر المبتدأ، وكذلك (ثم) حرف عطف، و (إن) حرف تأكيد إلى غير ذلك مما لا ينحصر. ومن يقول: إن المخبر به وعنه في هذه القضايا اسم يلزمه كذبها كما تقدم فإنه لا شيء من الأسماء بحرف بالضرورة، بل الحق أن هاهنا ثلاثة أمور: مسمى الحرف إن عبر عنه بغير الحرف صح الإخبار به وعنه مطلقًا.

(تنبيه) زاد سراج الدين فقال: لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يجب دخول (الفاء) علي المذكور عقيب الشرط لنجعله جزاء

ومسمى الحرف إن عبر عنه بلفظ الحرف امتنع الإخبار به وعنه مطلقاً. ولفظ الحرف يصح الإخبار به وعنه مطلقا، وقد تقدم عند تحديد الكلام بيان أنه ليس من شرط المبتدأ أن يكون اسما، بل قد يكون فعلا وحرفا ومهملا لا يوصف بواحد منها نحو: (ديز مهمل، فديز مبتدأ، ولذلك رفعنا (مهمل)، وبهذا البيان يظهر بطلان ظاهر كلام النحاة في قولهم: إن الحرف لا يخبر به ولا عنه؛ لأن لفظ الفعل، والحرف، والاسم إنما وضعت للألفاظ لا للمعاني، واللفظ في الأقسام الثلاثة يصح الإخبار به وعنه مطلقا، إنما التفصيل في المسميات كما تقدم، فهذا هو البحث الدقيق الذي يشير إليه رحمه الله، وهو بحث حسن لا يدركه أكثر النحاة المتأخرين، وهو مراد المتقدمين. (تنبيه) زاد سراج الدين فقال: لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يجب دخول (الفاء) علي المذكور عقيب الشرط لنجعله جزاء، ويكون التعقيب مقتضى الجزاء؟ قلت: أما قوله: لنجعله جزاء فصحيح لما تقدم من أنه إذا لم تدخل (الفاء) يتعجل الطلاق المعلق الآن لعدم الارتباط. وأما قوله: (ويكون التعقيب للجزاء) فلا يتجه بل التعقيب للشرط؛ لأنه السبب، وذات السبب هي المقتضية، وهي التي نسب إليها الاقتضاء. أما الجزاء فمسبب، والمسبب أثر لا اقتضاء له، وقد تقدم أن التعاليق اللغوية أسباب مقتضية

(فائدة) في (البرهان) قال: (الفاء) للترتيب، والتعقيب، والتسبيب

ولذلك فإن صاحب (البرهان) قال: من ضرورة السبب التعقيب. (فائدة) في (البرهان) قال: (الفاء) للترتيب، والتعقيب، والتسبيب، يدل علي الثلاثة قولك: زالت الشمس فوجب الظهر، فالوجوب عقيبه؛ ومرتب عليه، ويدل على أن السابق سببه قال: وقد ترد (الفاء) بمعنى (الواو)، وأكثر ما تجد ذلك في أسماء البقاع، كقوله،: [الطويل] ...... بين الدخول فحومل (المسألة الثالثة) لفظ (في) للظرفية، أو مقدرا.

(فائدة) قال العلماء: (في) تكون للسببية، والظرفية

قلت قوله (أو مقدرا) غير متجه، لأن البحث في هذه المسائل، بل في جميع الألفاظ في أصول الفقه إنما هو عن تحرير الحقيقة اللغوية، وهي المراد بقولنا الأمر للوجوب، الأمر للتكرار، الصيغة للعموم إلى غير ذلك، والظرفية كقوله تعالى: (ولأصلبنكم في جذوع النخل) [طه:71] قال العلماء: هو مجاز تشبيه أي شبه تمكن المصلوب من الجذع بتمكن المظروف من الظرف، وإذا كان مجازا لا يذكر؛ لأن المقصود ضبط الحقائق ليستقر كل لفظ في مركزه وموضوعه. (فائدة) قال العلماء: (في) تكون للسببية، والظرفية، والثاني أربعة أقسام: في القناعة، والسعادة في طاعة الله، والظرف جسم، والمظروف معني نحو: الإيمان في القلب، والعكس نحو قوله تعالى: (بل الذين كفروا في تكذيب) [البروج:19]، (إنا نراك في ضلال مبين) [الأعراف:60]. قالوا: والحقيقة هو الأول، والأقرب إليه من المجازات الثلاث: الظرف.

(تنبيه) وأما إذا قلنا: هو مصلوب في الجذع، فهذا ليس من هذا الباب، بل (في) هاهنا مجاز في الإفراد

جسم، والمظروف معنى، ثم العكس لوجود الجسمية فيه من حيث الجملة، والأبعد كلية أن يكونا معنيين لانتفاء الجسمية بالكلية، التي هي الملاحظة في الوضع في الأوعية والموعا فيها، وإذا كان المعنى ظرفا للجسم فهو للمبالغة أي: كثر المعنى حتي أحاط به، كما يحيط الظرف بمظروفه، كقوله تعالى" (إنا لنراك في ظلال مبين) [الأعراف:60] أي كثر حتى صار محيطا به في المعنى، والتقدير: ولاجرم لم يقل: ما أنا في ضلالة، بل قال: (ياقوم ليس بي ضلالة) [الأعراف:61] لأنه لو نفى أنه في ضلالة، لم يلزم من ذلك أنه غير ضال؛ لأنه لا يلزم من نفى الشيء بوصف الكثرة نفيه، فلذلك عدل إلى أصل المعنى، وكذلك قوله تعالى: (بل هم في شك منها) [النمل:66]، أبلغ من قوله: بل هم شاكون للدلالة على الكثرة، فتأمل ذلك في كتاب الله ـ- تعالى - - فهو كثير. (تنبيه) وأما إذا قلنا: هو مصلوب في الجذع، فهذا ليس من هذا الباب، بل (في) هاهنا مجاز في الإفراد استعمله فيما يشبه الظرفية بسبب التمكن، وليس فيها مجاز تركيب. وإذا قلنا: زيد في ضلالة، فهو مجاز تركيب؛ لأن لفظ (في) لم يوضع ليركب مع المعاني التي لا تتجوف بل ليركب مع ما يقبل التجويف، ويصلح لأن يكون وعاء لغيره، والمعاني ليست كذلك، فتنبه لهذه الدقائق. قوله: (لم يقل أحد من أئمة اللغة: (إنها للسببية) قلنا: بل قد نقله جماعة، ولا يستقيم كثير من الكتاب والسنة إلا عليه كقوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله) [البقرة:190] أي: بسبب طاعة الله - تعالى- بالتوحيد، وقوله عليه السلام: (من أحب في الله،

وأبغض في الله)، أي: بسبب طاعة الله. وبسبب معصية الله، وكذلك قوله- حكاية عن الله تعالى: (وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتزاورين فيّ)، أي: بسبب طاعتي، وكذلك في حديث الإسراء قال عليه الصلاة والسلام: (فوجدت امرأة جمرة قد عجل الله بروحها إلى النار، لأنها ربطت هرة حتي ماتت جوعا وعطشا، فدخلت النار فيها). أي بسببها، وهو كثير جدا في الكتاب والسنة وكلام العرب، فلا أطول بالمثل التي لا تمشي إلا بالقول بالسببية، فلا يكون ضعيفا كما قال (المسألة الرابعة: (من) ترد لابتداء الغاية) اعلم أن (من) لها ثمانية معان:

لابتداء الغاية نحو: سرت من مصر إلى مكة. ولانتهاء الغاية نحو: شممت المسك في داري من السوق، ورأيت الهلال في داري من خلل السحاب، أي: انتهت الرؤية والشم إلى ذلك الموضع. وقيل: بل هي هاهنا لابتداء الغاية، أي: ابتداء الشم والرؤية من ذلك الموضع

ولبيان الجنس نحو (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) [الحج:3] فيذكر أولا أمر عام، ثم يخص بذكر جنسه. وللتبعيض نحو: قبضت من المال، وضابطها أنه يحسن مكانها بعض، فلو قلت: قبضت بعض المال صح. وبمعنى البدل، نحو قوله تعالى (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون) [الزخرف:60] أي: بدلا منكم، قال النحاة، وفي التحقيق هي لابتداء غاية البدل، وبمعنى (عند) كقوله عليه السلام، (ولاينفع ذا الجد منك الجد). أي: لا ينفع صاحب الحظ عندك حظه، وفي التحقيق لابتداء الغاية من العصمة من عذاب الله. وزائدة نحو قول؛: ماجاءني من أحد. أي: ماجاءني أحد، ومن زائدة. وفعل أمر من المين الذي هو الكذب، وللعموم في قولك: ماجاءني من رجل، وتقريره في (باب العموم) إن شاء الله تعالى. قوله: (وللتبعيض) نحو: (خاتم من حديد) هذا عند النحاة لبيان الجنس لا للتبعيض.

قوله: (والحق عندي أنها للتمييز) يرد عليه أن النقل مقدم على الاستدلال، وأعجب من ذلك قوله: وقولك. ماجاءني من أحد، ميزت الشيء الذي نفيت عنه المجيء مع أنه كان متميزا بقولنا: ماجاءني أحد قبل دخول (من)، ولو صح ماقاله، تناقض ذلك مع قوله: إنها زائدة؛ لأن الزيادة تقتضي عدم اعتبارها في المعنى، وما قاله يقتضي أنها معتبرة في المعنى. قوله: (إلى) لانتهاء الغاية، وقيل: إنها مجملة؛ لأنها في قوله:

تعالى (وأيديكم إلى المرافق) [النساء:43] تستدخل الغاية، وفي قوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة:187] تخرج منها) قلنا: لا نسلم أن الغاية دخلت في آية الوضوء؛ لأن القاعدة أن المغيا يجب ثبوته قبل الغاية، وتكرره إليها كقولك: سرت من مصر إلى مكة، فالسير الذي هو المغيا، قد ثبت قبل (مكة)، وتكرر إليها، وهاهنا المغيا هو غسل جملة اليد لقوله تعالى: (وأيديكم إلى المرافق) [النساء:43] واليد اسم للجملة، وثبوت غسل كل اليد قبل المرفق محال، فيتعين ألا يكون هو المغيا، ويتعين أن يكون العامل في قوله تعالى: (إلى المرافق) فعلا مضمرا، وهو المغيا، تقديره: اتركوا من آباطكم إلى المرافق، فـ (إلى) غاية للمتروك لا للمغسول للقاعدة المتقدمة، وعلى هذا البحث يتعارض في هذا المقام المجاز والإضمار، فإن الغسل لا يمكن أن يكون مغيا حتى نعبر باليد عن

(فائدة) في دخول الغاية في المغيا أربعة مذاهب

جزئها، وهو مجاز، فإن فعلته استغنيت عن الإضمار، لأن الغسل حينئذ يتكرر في أبعاض اليد إلى المرافق، وإن لم يعتقد هذا المجاز يتعين أن يكون الإضمار المذكور، والإضمار والمجاز سواء على طريقه في (المحصول)، والمجاز أرجح علي قوله في (المعالم). (فائدة) في دخول الغاية في المغيا أربعة مذاهب: ثالثها: إن كانت متميزة عن ذي الغاية بمنفصل حسي، لم تدخل كقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة:187]، فإن الليل بسواده متميز عن النهار بالحس. ورابعها: إن كانت الغاية من الجنس اندرجت، وإلا فلا، كقوله: بعتك من هاهنا إلى تلك الشجرة، فإن كانت تلك الشجرة رمانا والمبيع رمان اندرجت، وإلا فلا، وهذا الخلاف يحكي في الحد هل يدخل في المحدود، وهو الغاية فلا فرق. (تنبيه) اتفق النحاة - فيما علمت - على أن المعطوف بـ (حتى) لا بد وأن يكون داخلا في حكم ما قبلها، فإذا قلت: أكلت السمكة حتي رأسها، فلا بد وأن يكون الرأس مأكولا، وإلا فلا يصح الكلام، وهي حينئذ لا تنفك عن الغاية، فلا تصح حكاية الخلاف في الغاية مطلقا، كما حكاه جماعة، بل ينبغي أن يخصص ذلك بـ (إلى) وحدها، وأما (حتى) فلا. قوله: (قد بينا أن اللفظ لا يكون مشتركا بين وجود الشيء وعدمه). قلنا: وقد بينا هنالك جوازه، والجواب عن دليل المنع. قوله: (ليس بعض المقادير من المرفق بالدخول أولى من بعض)

(فائدة) لفظ (إلى) مشترك بين حرف الجر المتقدم، وبين واحد الآلاء، التي هي النعم

قلنا: بل يخرج الجزء المسمى بالمرفق، ولا ضرورة لدخوله، ولا حاجة إلى تجزئة مقاديره. (فائدة) لفظ (إلى) مشترك بين حرف الجر المتقدم، وبين واحد الآلاء، التي هي النعم، وهذا ينون دون الأول؛ لأنه اسم منصرف. (المسألة الخامسة) (الباء) إذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه تقتضي التبعيض، كقوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم) [المائدة:6] قلنا: لا نسلم أن الفعل هاهنا يتعدى للرءوس بنفسه، وتقرير المنع بقاعدتين: (القاعدة الأولى) أن لفظ (مسح) يتعدى لمفعولين، أحدهما بنفسه، والآخر بحرف جر، وهو (الباء) ولم تخبر العرب في حرف الجر، بل عينته للمفعول الذي هو الممسوح به، الذي هو الآلة، وعينت النصب للمزال عنه الشيء الممسوح، فإذا كانت الرطوبة في يدك قلت: مسحت يدي بالجدار، ولا يجوز مسحت الجدار بيدي، وإن كان الشيء المزال على الجدار قلت:

مسحت الجدار بيدي، ولا تجيز العرب غير هذا، ولا تجيز تعدية هذا الفعل للآلة المزيلة بغير الباء، والباء هي للاستعانة في هذا الفعل. (القاعدة الثانية) أن الأمة مجمعة على أن الله ـ تعالى - لم يوجب علينا أن نزيل شيئا من رءوسنا، بل زوجب علينا نقل الماء لرءوسنا، فحينئذ الرأس هي المزيلة، واليد هي المزال عنه، فلا يجوز زن يتعدى الفعل إلى الرءوس بغير (الباء) لأنه الآلة المزيلة، وحينئذ المنصوب محذوف تقديره: امسحوا أيديكم برءوسكم، وقد اتفقنا على حذف زحد مفعولي مسح، فنحن نقول: المحذوف المنصوب وهو يقول: المجرور، والقاعدتان المتقدمتان يرجحان ما ذكرناه. قوله: (لنا أنا نعلم بالضرورة الفرق بين قوله: مسحت يدي بالمنديل، وبالجدار، وبين مسحت المنديل بيدي، أن الأول يقتضي التبعيض، والثاني الشمول). قلنا: لا نسلم أن هذا هو الفرق، بل الفرق ما ذكرناه من أن الأول آلة، والثاني مزال عنه ليس بمزيل، فالفرق مسلم، لكن تعيينه في التبعيض ممنوع. قوله: (من مسح ببعض الرأس سمى ماسحا) قلنا: نسلم، ولكن هل يسمى ما سحا رأسه، فلو كانت الآية امسحوا، ولم يذكر الرءوس، سلمنا جواز الاقتصار على البعض، لكن لما ذكر الرأس تعين جميعه، كما إذا قال الله تعالى: (صوموا)، اكتفينا بما يسمى صوما، وهو يوم. أما إذا قال صوموا رمضان، لا يجزئ اليوم الواحد، لأجل تعين.

(فائدة) (الباء) لها سبعة معان

الشهر باسمه الدال على جملته، كذلك هاهنا ذكر الرأس بلفظه الدال على جملته، فيتعين جميعه. قوله: (الشهادة على النفي غير مقبولة). قلنا: الشهادة على النفي ثلاثة أقسام: معلومة نحو: إن العرب لم تنصب الفاعل وترفع المفعول بل عكست. وظنية عن استقراء صحيح، كقولنا: ليس في كلام العرب اسم آخره واو قبلها ضمة. وشائعة غير منحصرة، كقولنا: لميطلق زيد امرأته في هذه السنة، زو لم يدخل بيت فلان عمره، من غير دليل على ذلك، فهذا هو المردود، والأولان مقبولان، وكلام ابن جني من الثاني فيقبل؛ لأنه شديد الاطلاع على لسان العرب، فله الحكم بالنفي ـاهرا، كما يقول المحدث: هذا لم يرد في السنة النبوية، بناء علي تمكن اطلاعه، وجود استقراءه، والسر أن الشهادة على أن النفي مقبولة في النفي المنحصر المعلوم، والمظنون دون غيرهما. (فائدة) (الباء) لها سبعة معان: الإلصاق نحو: مررت بزيد. والاستعانة نحو: كتبت بالقلم، وفحرت بالقدوم. والسببية نحو: سعدت بطاعة الله. والمصاحبة نحو: خرجت زيد بثيابه أي: مصاحبا لها. والتبعيض عند بعضهم. وبمعنى (في) للظرفية نحو: زيد بمصر أي فيها.

وزائدة نحو قوله تعالى: (وكفى بالله شهيدا) [النساء:79] (المسألة السادسة: (إنما) للحصر).

...............

...............

قال سيف الدين: (قال القاضي أبو بكر والغزالي وجماعة من الفقهاء (إنما)، ظاهرة في الحصر، محتملة لتأكيد الإثبات) وقال الحنفية وجماعة ممن ينكر دليل الخطاب: هي لتأكيد الإثبات فقط، قال: وهو المختار. قوله: (ولست بالأكثر منهم حصى) يريد بالحصى العشيرة والقبيلة، وأصل ذلك أن العرب تشبه الجمع الكثير بالحصى فيقولون: جاءوا مثل الرمل والحصى أي في كثرة العدد، فصار ذلك لكثرة دورانه على ألسنتهم، يعبر به عن الجمع، والعصبات، فمعنى البيت: فلست بالأكثر منهم قبيلة ولا جمعًا وعصبة، وصحفه بعضهم بالخاء المضمونة المنقوطة من فوقها، فقيل له: ما معنى ذلك؟ فقال: لأن إحدى البيضتين للنسل، والأخرى للحية، وهي اليمنى فإذا كبرتا عظمت اللحية، وكثر النسلوالإنسان يحترم لكثرة ولده، وكبر لحيته، والكاثر هو صاحب الكثرة مثل: لابن وتامر أي: صاحب لبن وصاحب تمر. قوله [الطويل]: أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

الذائد بالدالين الأولى منقوطة، والثانية مهملة، معناه: المانع، ومنه قوله عليه السلام: (ليذادن رجال عن حوضي)، أي: يمنعون، ويقع في بعض النسخ الزائد بـ (الزاي)، وهو غلط، والذمار اسم مفرد. قال صاحب (العين)، وصاحب (المجمل): هو ما يلزمك حمايته، فهو يصرف للعيال والماشية، والبيوت وغيرها، وهو بالذال المعجمية، والذمر: الرجل الشجاع، والذمر: الحب والموعظة، والحث على الشيء. قوله: (إن للإثبات، و (ما) للنفي). قلنا: (ما) لفظ مشترك بين أحد عشر معنى: الشرطية نحو: ما يصنع زصنع. والاستفهامية نحو: ماعندك؟ وخبرية بمعنى (الذي نحو): ماعندك ينفعنا. وتعجبية نحو: ما أحسن زيدا. ونافية نحو: مافي الدار أحد. ومصدرية نحو: أعجبني ما صنعت، أي: أعجبني صنيعك. وكافة مع (إن) نحو: إنما قام زيد.

(فوائد عشر)

ومهيئة لدخول (رب) على الأفعال نحو: (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) [الحجر:3]. ونكرة موصوفة نحو: مررت بما معجب لك. ونكرة غير موصوفة نحو قوله تعالي: (مابعوضة) [البقرة:26] أي: شيئا بعوضة. وزمانية نحو: لأكرمنك كلما طرد الليل النهار، وإذا كانت مشتركة بين النفي وغيره، فما الدليل علي أنها هاهنا مراد بها النفي؟ وإن أريد بها مطلق الكف، وليس في استعمال المشترك في أحد معانيه نقلولا تغيير) حتى يلزم خلاف الأصل. (فوائد عشر) الأولى: إني رأيت أبا علي الفارسي في مسألة (الشيرازيات* نقل أن (ما) في (إنما) للنفي، وهو من أئمة اللغة وقولهم حجة.

الثانية في تقرير العبارة في تلخيص أنها للحصر فنقول: (إن) للإثبات، و (ما) للنفي، فإذا اجتمعتا، ولم تبقيا على حالهما لزم التغيير، وإن بقيتا، أو انصرفتا للمنطوق، أو المسكوت، اجتمع النقيضان؛ فيتعين التوزيع، وإن انصرف النفي للمنطوق، والإثبات للمسكوت لزم خلاف الإجتماع، فيتعين العكس، وهو المطلوب، فهذه عبارة وجيزة في التقرير. الثالثة: أن القاعدة: أن النفي والإثبات في لسان العرب، إنما ينصرفان للخبر بإجماع النحاة. فإذا قلت: إن زيدا قائم، فالمثبت القيام لزيد لا نفس زيد، وليس زيد قائما، المنفي القيام عنه لا نفسه، ولذلك لزم الكفر إذا قرأ الإنسان: (ولم يكن له كفوا أحد) [الإخلاص:4] برفع (كفوًا)، و (نصب أحد)؛ لأنك نفيت الأحدية عن الكفوية، فتكون الأكفاء كثيرة، وهو كفر، والنفي هاهنا ليس في الخبر، فإنك إذا قلت: إنما زيد قائم، فقائم هو الخبر، وهو مثبت، فقد انتقضت القاعدة في أن النفي لم يكن في الخبر، فهذا النقض نورده في موطنين: أحدهما: إذا قال النحوي: النفي إنما يرد علي الأخبار، نورد عليه هذا النقض. الثاني: إذا ادعى أحد أن (إنما) للحصر، وأن (ما) فيها للنفي، نقول له: لو كانت للنفي، لوردت على الخبر على القاعدة المنصوصة، وليس كذلك إجماعا لو كانت للنفي، لوردت على الخبر على القاعدة المنصوصة، وليس كذلك إجماعا فلا تكون (ما) هاهنا للنفي، فيحصل لك سؤال في هذا المقام، ولك جعله دليلا ابتداءا على أن (إنما) ليست للحصر، والجواب: أن هذا مستثنى عن القاعدة. الرابعة: أدوات الحصر خمسة: (إنما)، والنفي قبل (إلا) نحو: ماقام

إلا زيد، لم يقم إلا زيد، ليس في الدار إلا زيد، كيف لما قلت النفي قبل إلا؟! الثالث: المبتدأ مع الخبر، نحو قوله عليه السلام: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، أي: تحريمها منحصر في التكبير، فلا يحرم عليه الكلام وغيره إلا بالتكبير، ولا يحل له ما كان حلالا له قبل الإحرام إلا بالتسليم، وقوله عليه السلام: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) برفع ذكاة أمه، فيقتضي انحصار ذكاته في ذكاه أمه، فلا يفتقر الجنين إلى ذكاة، ومن روى ذكاة أمه بالنصب استدل به على افتقار للذكاة؛ لأن معناه عنده: ذكاة الجنين أن يذكى ذكاة مثل ذكاة أمه، ثم حذف (مثل) والعامل فيه، وأقيم المضاف إليه مقامه، فنصب؛ لأنه إعراب المحذوف، والقاعدة: أن أن المضاف إليه إذا أقيم مقام المضاف أعرب كإعرابه، وأجاب الفريق الأول بزن تقدير النصب: ذكاة الجنين داخلة في ذكاة أمه، ثم حذفا وفيه جمع بين الروايتين، ولا يلزم احتياجه للذكاة. الرابع: تقديم المعمولات قاله الزمخشري وغيره كقوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفاتحة:5] أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك، وقوله تعالى: (وهم بزمره يعملون) [الأنبياء:27]، أي: لا يعملون إلا بأمره، وقولهم: (إياك أعني واسمعي يا جارة)، أي: لا أعني إلا إياك، وخالف في هذا الرابع جماعة. الخامس: الألف، واللام، قال الرمام فخر الدين في كتاب (الإعجاز) الذي له إن لام التعريف تكون للخصر في قولك (زيد القائم) أي القيام منحصر فيه، وأبو بكر الصديق الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الخلافة بعده - عليه السلام - منحصرة في الصديق

الخامسة: أن الحصر مقسم إلى حصر الصفات في الموصوفات، وإلى حصر الموضوفات في الصفات، والصفات في الصفات. فالأول كقولنا: العالم زيد. والثاني: زيد العالم، ثم قال الغزالي في (المستصفى): إذا قلت: صديقي تنحصر صداقتك فيه فلا تصادق غيره، ويجوز أن يصادق غيرك، وإذا قلت: زيد صديقي حصرته في صداقتك، فلا يصادق هو غيرك، وأنت يجوز أن تصادق غيره. والثالث نحو قولك: الغنى القنوع، والغني في القناعة، والراحة في الزهد. أي: وصف الغنى منحصر في القناعة والراحة منحصرة في الزهد، ومن هذا الباب قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر:28]، حصر الله تعالى الخوف منه في العلم والعلماد، فلا يخشاه إلا عالم به علي قدر علمه به، قل أو كثر، فأقل الناس علما أقلهم خشية، ويطرد ذلك في العامة والخاصة، فإن الجاهل بالشيء لا يخافه، هذا إذا قدم المنصوب، فلو أخر وقيل: إنما يخشى العلماء الله انحصر العلماء في الخشية له تعالى، فلا يخشون غيره، ويجوز أن يخشاه تعالى غيرهم، وعلى الأول لا يخشاه غيرهم، ويجوز من جهة هذا اللفظ أن يخشوا غيره سبحانه وتعالى قال سيف الدين: اختلفوا في قوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) وصديقي زيد، والعالم زيد.

فقالت الحنفية، والقاضي أبو بكر، وجماعة معهما: لا يدل شيء من ذلك على الحصر. وقال الغزالي وجماعة معه: يدل عليه، واختلفوا في قولنا: لا عالم في البلد إلا زيد، فأكثر منكري المفهوم على أنه للحصر. وقال بعضهم: لا يدل على نفي كل عالم سواه، وكذلك نقله الغزالي في (المستصفى). السادسة: أن الحصر قد يذكر ويقرر، ولا يتعرض فيه لاعتبار مخصوص

بل يحكم به مطلقا في نفس الأمر مثل قوله عليه السلام: (إنما الماء من الماء)، وقد يقصد به بعض الاعتبارات، وبعض المتعلقات كقوله تعالى: (إنما أنت منذر) [الرعد:7] حصر نبيه عليه السلام- في وصف النذارة، ومقتضى هذا الحصر ألا يوصف بالبشارة، ولا غيرها من الصفات، مع أن صفاته الجليلة الجميلة أكثر من أن نحصرها نحن. وجوابه: أنه حصر له في النذارة باعتبار من لا يؤمن أي: إنما أنت منذر باعتبار من لا يؤمن، لأنه لاحظ له، ولا يتعلق به من جميع الصفات إلا النذارة، فتقوم الحجة عليه. وكذلك قوله عليه السلام: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى) الحديث، حصر نفسه عليه السلام في البشرية باعتبار الاطلاع على بواطن الخصوم، ولا صفة له عليه السلام باعتبار الاطلاع علي ضمائرهم إلا البشرية، وإلا فمقتضى هذه الصيغة سلب كل صفة عنه غير البشرية، وكذلك قوله تعالى: (إنما الله إله واحد) [النساء:171] أي باعتبار استحقاق العبادة، وقوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) [الحديد:20] مع أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها تنال الدرجات العلية، والمقامات السنية، والأحوال الرضية، والأعمال المرضية، وإنما حصرها في ذلك باعتبار من أثرها، أي لا صفة لها باعتبار من أثرها إلا ذلك، فتأمل هذه القواعد تجد نفعها في الكتاب والسنة نفعا كبيرا عظيما جداً. السابعة: أن الأول قد يكون محصورا في الثاني وهو الأصل، والكثير كما تقدم في جميع المثل المتقدمة، وقد يكون الثاني منحصرا في الأول، كما ذكرته في لام التعريف عن الإمام فخر الدين، ومثلته فيما تقدم في أدوات الحصر.

الثامنة: قال الجرجاني: يجوز أن تقول: إنما هو درهم لا دينار، ولا يجوز زن يقال: ماهو إلا درهم لا دينار، وهو فرق في غاية الإشكال فإن الكل حصر، والكل فقه، وقد رأيت للفصل بينهما فروقا: أحدها: أن (ما) في (إنما) ليست صريحة في النفي، بل المجموع أداة وضعتها العرب لنفي الحكم عن المسكوت، وثبوته للمنطوق، وما هو إلا درهم لا دينار النفي فيه صريح، وشأن كلمة (لا) ألا يعطف بها إلا بعد الإيجاب، فالأول لما كان قريبا من الإيجاب صح العطف، كأنك تقول هو درهم لا دينار، بخلاف الثاني هو نفي صريح، فتصير عاطفا بها بعد النفي. وثانيها: أن الإثبات قد يكون مقصودا أصالة نحو: قام زيد، وقد يكون مقصودا تبعا نحو قول الحالف لغريمه: والله ماعندي إلا درهمان، فلو وجد عنده درهم فقط لم يحنث؛ لأن المقصود نفي الزائد عليهما، وإنما ذكر إثباتهما غير مقصود في نفسه. والمقصود إنما هو نفي الزائد، ولم يختل نفي الزائد بانحصار الموجود في درهم. وقولنا: ماهو إلا درهم، الإثبات فيه غير مقصود، بل المقصود نفي غير الدرهم عن هذه الحقيقة، وإذا كان الإثبات غير مقصود امتنع العطف بـ (لا) فإنها لا يعطف بها إلا بعد الإثبات الصريح، والفرق بين هذا الجواب، والأول أن هذا على أن (ما) للنفي في (إنما)، فهي تدل صريحاً، والشي إذا دل عليه بلفظ صريح قد يكون غير مقصود، بل المقصود هو المذكور بلفظ آخر معه، كما تقدم في مسألة الحلف، والجواب الأول مبني

على أن (ما) ليست للنفي، بل إنما وضعت لمجموع النفي في المسكوت، والإثبات في المنطوق وثالثها: أن عادة العرب إذا فارقت شيئا لا ترجع إليه، بدليل إذا قطعت النعوت بإضمار فعل، أو إضمار مبتدأ لا ترجع للنعت بعد ذلك، وهاهنا إذا قلنا: ما هو إلا درهم، فـ (إلا) إيجاب بعد النفي، فقد أعرضت عن النفي بدخولها في الإثبات الناشيء عن إلا، فلا تعطف بـ (لا)، لأن ذلك من أحكام النفي الذي أعرضت عنه، وإذا قلنا: إنما هو درهم لم يوجد موجب الإعراض عن النفي بعد (إنما)، فعطفت بـ (لا) لبقاء النفي غير مرجوع عنه، ويرد على هذا هذا أن العرب إذا عاملت صيغة من يعود الضمير على لفظه الذي هو الأصل، ثم جمعت الضمير باعتبار المعنى قد ترجع إلى ما أعرضت عنه بأعادته مفردا، كقوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قريب، وإنهم ليصدونهم عن السبيل، ويحسبون أنهم مهتدون، حتى إذا جاءنا قال: ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين) [الزخرف:36 - 38]، فقد ذكر الضمير أولا مفردا، ثم مجموعا، ثم مفردا، فقد حصلت العودة بعد المفارقة فما اطردت القاعدة التي ذكرها، مع أن الجماعة من النحاة منعوا الإفراد في الضمير بعد الجمع طردا لتلك القاعدة، ومواضع في الكتاب العزيز ترد عليهم. ورابعها: قالوا: هذا يتخرج على أن الاستثناء من النفي ليس إثباتا، فقولنا: ماهو إلا درهم ليس إثباتا للدرهم، وإذا لم يتحقق ثبوته امتنع العطف بـ (لا)؛ لأن (لا) لا يعطف بها إلا بعد الإثبات. وقولنا: إنما هو درهم ليس فيه استثناء، بل الدرهم مثبت، فعطفنا عليه بـ (لا)، ونظير هذه المسألة في الإشكال قول النحاة: يجوز أنا زيدا لا ضارب، ويمتنع أنا زيدًا غير ضارب، وأجابوا بأن ضاربا هو العامل في زيد،

فإذا أضيفت (غير) إلى ضارب امتنع عمله في زيد، لأن المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف، لأن المعمول من صلة العامل، وجزء منه، ففيه صيرورة بعض أجزاء الكلمة قبل أولها، وهو عكس الكلام، وهذا المحذور منفى مع (لا)، وقد وقع في بعض الأشعار ما قبل (غير) معمولا لما هي مضاف إليه، قالوا: و (غير) هنالك يكون معناها (لا) مستعملة في مطلق السلب، فلذلك جاز ذلك. التاسعة: القاعدة العقلية تقتضي أن كل مبتدأ محصور في خبره نكرة نحو زيد قائم، أو معرفة نحو: زيد القائم؛ لأن المبتدأ يجب عقلا أن يكون أخص من الخبر نحو: الحيوان جسم، أو مساويا نحو: الحيوان حساس، أما كونه أعم فمحال، فلو قلت: الجسم حيوان، كذب، لأن معناه: كل جسم فهو حيوان، وعلى هذا يلزم الحصر قطعا؛ لأن المساوي محصور في مساويه، والأخص محصور في أعمه بالضرورة، وإذا لزم الحصر في الجميع مع إجماعهم على قولنا: زيد قائم، لا يقتضي سلب غير القيام عنه، بخلاف إذا قلنا: إنما زيد قائم، أو زيد صديقي كما تقدم، فيتعين أن يكون الحصر في زيد قاذم باعتبار سلب النقيض، والضد المنافي لمطلق القيام أي: زيد لا يجوز اتصافه بنقيض ما حكم به عليه، وفي النظائر الأخر الحصر باعتبار سلب النقيض، والضد، والخلاف، لإنك إذا قلت: زيد قائم، فقد أثبت له مطلق القيام، ونقيض مطلق القيام سلب القيام دائما ومتى صدق مطلق القيام امتنع صدق سلب القيام دائما، فقد تعين الحصر في مفهوم القيام، وتعين سلب نقيضه عنه. وإذا قلت: إنما زيد قائم معناه: لا صفة له إلا القيام فيسلب عنه نقيض القيام، والضد نحو الجلوس الدائم، والخلاف نحو الفقه، والطب، واللون، وجميع الصفات التي يمكن جمعها مع مفهوم القيام، وعلى هذا

(تنبيه) القول بأن الحصر يدل على السلب بطريق المفهوم يتوقف على ... إلخ

البحث يكون الحصر الأول عقليا، والثاني لغويا يتوقف على النقل، فتأمل هذا الموضع. العاشرة: ينبغي أن تعلم أن كل قضية فيها حصر لا يمكن أن تجعل مقدمة في دليل من حيث هدا ذات حصر؛ لأن الحصر معناه أن هذا المحمول ثابت لهذا الموضوع، ومسلوب عن غيره، فهي في قوة قضيتين، ولا بد معها من مقدمة أخرى، والدليل لا يتركب عن ثلاث مقدمات. فإذا قلت: إنما الحيوان حساس، وكل حساس جسم ينتج: كل حيوان جسم، لكن يشترط أن يعتبر الثبوت دون السلب حتى يبقى معناه: الحيوان حساس، ويعوض عن السلب عن غير الحيوان؛ لئلا تصير ثلاث مقدمات، ولا قياس عن ثلاث مقدمات، ولأن صغرى الشكل الأول يجب أن تكون موجبة، فهذه القضية السالبة التي هي شرط الحصر، لا يصلح أن تكون فيه، وبهذا التمهيد أجاب الفضلاء عن قول القائل: الإنسان وحده ضاحك، وكل ضاحك حيوان ينتج: الإنسان وحده حيوان، وهو باطل، فقالوا: قولك: الإنسان وحده قضيتان؛ لأن معناهما: هو ضاحك، وغيره غير ضاحك، وصغرى القياس لا تكون قضيتين، ولا سالبة في الشكل الأول. (تنبيه) القول بأن الحصر يدل على السلب بطريق المفهوم يتوقف على أن (ما) في (إنما) ليست للنفي، بل المجموع وضع لثبوت الحكم للمنطوق، وسلبه عن المسكوت. وإذا قلنا: إنها للنفي كان النفي مدلولا مطابقة لا مفهوما بطريق الالتزام؛ لأن دلالة المفهوم من باب دلالة الالتزام.

الباب التاسع

الباب التاسع في كيفية الاستدلال بخطاب الله وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم على الأحكام وفيه مسائل قال الرازي: المسألة الأولى: في أنه لا يجوز أن يتكلم الله تعالى بشيء ولا يعني - به شيئا والخلاف فيه مع الحشوية. لنا وجهان: أحدهما: أن التكلم بما لا يفيد شيئا هذيان، وهو نقص، والنقص على الله تعالى محال. وثانيهما: أن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى، وشفاء، وبيانات؛ وذلك لا يحصل بما لا يفهم معناه. واحتج المخالف بأمور: أحدها: أنه جاء في القرآن ما لا يفيد؛ كقوله: (كهيعص) [مريم:1] وما يشبهه. وقوله: (كأنه رءوس الشياطين) [الصافات:65] وقوله (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) [البقرة:196] فقوله: (عشرة كاملة) لا يفيد فائدة زائدة، وقوله: (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ([الحاقة:13] وقوله: (لاتتخذوا إلهين اثنين) وثانيها: أن الوقف على قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) [آل عمران:

:7] واجب؛ ومتى كان كذلك، لزم القول بأن الله تعالى قد تكلم بما لا يفهم منه شيد. بيان الأول: أننا لو لم نقف هناك، بل وقفنا على قوله: (والراسخون في العلم) [آل عمران: 7] فإذا ابتدأنا بقوله: (والراسخون في العلم) [آل عمران:7] كان المراد منه: (قائلين آمنا، كل من عند ربنا) ويصير ذلك عائدا إلى المذكورات السالفة؛ فيصير المعنى: كأن الله تعالى قال: (الراسخون في العلم قالوا: آمنا به كل من عند ربنا) وذلك غير جاذز علي الله تعالى؛ فبتث أن الوقف على قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) [آل عمران:7] واجب، وإذا ثبت ذلك، ظهر أنا لا نعلم تأويل المتشابهات. وثالثها: أن الله تعالى خاطب الفرس بلغة العرب، مع أنهم لا يفهمون شيئا منها، وإذا جاز ذلك، فليجز مطلقا. والجواب عن الأول: أن لأهل التفسير فيها أقوالا مشهورة، والحق فيها أنها أسناء السور. وأما (رءوس الشياطين) فقيل: إن العرب كانوا يستقبحون ذلك المتخيل، ويضربون به المثل في القبح. وأما قوله ع: (عشرة كاملة): فذلك للتأكيد، وهو الجواب أيضا عن سائر الآيات. وعن الثاني: أن موضع الوقف قوله: (والراسخون في العلم) وماذكروه من الإشكال، فغايته زنه عام خص منه البعض بدليل العقل؛ لامتناع عود ذلك الضمير إلى الله تعالى.

وعن الثالث: أن للفرس طريقا إلي معرفة الخطاب، بالرجوع إلى العرب. قال القرافي: قلنا: مذهب أهل الحق: أن الله تعالى لا يجب تعليل أفعاله، ولا أحكامه بالأغراض. ولا يجب على الله تعالى رعاية مصلحة ولا درء مفسدة، وإنما تصح هذه الدعوى على قاعدة المعتزلة في

الحسن والقبح

....................

..................

......

...

....

........

.........

.............

.............

..........................................

قوله (التكلم بما لا يفيد هذيان ونقص) قلنا: قد تقدم أن وصف الشيء بالصفة قد يصلح حقيقة، وإن لم يعم الموصوف، كقولنا زيد عالم.،سميع، وبصير، (وأدعج وأشهل)، ومكي، وقرشي، وإنما جميع ذلك باعتبار بعض الزعضاء أو نسبة خاصة عرضت له من بعض جهاته لا من جميع جهاته، بخلاف قولنا: أبيض، ونحوه من جميع الألوان، والطعوم، والروائح. وبالجملة: الحمل على الشيء، والوصف له شيء لا يلزم فيه العموم، فلا يلزم من وصف القرآن بأنه بيان أن يكون كله كذلك، فلعل ذلك باعتبار بعضه، أو بعض اعتباراته كما تقدم في المثل. وقد وصف الله - تعالى كتابه بالضدين فقال تعالى: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاءٌ، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى) [فصلت:44]. فدل علي أن ذلك بحسب نسبة خاصة، وزحوال خاصة، وإلا فالضدين لا يجتمعان. وهذا الموضع: من غوامض المباحث، وهو تحرير الفرق بين ما يلزم بالوصف به عموم، وبين ما لا يلزم، وقد حررته قبل هذا، وينبني على

فائدة زائدة

خفائه مشكلات كثيرة، وتندفع بمعرفته، ويختلف لسان العرب كونه حقيقة أو مجازا باعتباره اختلافا كثيراً. قوله: (كأنه رؤوس الشياطين) [الصافات:65]. تقريره: أن المشبه به ينبغي أن يكون معلوما للمخاطب؛ لأن التشبيه بالمجهول لا يفيد، والشياطين غير معلومة للسامع، لعدم ظهورها للحس. وجوابه أنه قد تقرر في أذهان السامعين أن الشياطين شيء وحشي الشكل والصورة، وأنه مرجف مزعج للبشرية، وهذا متقرر في أذهان الناس من الصغر إلى الكبر، كما اشتهر ذلك في العقل، فالتشبيه وقع بتلك الصورة المعلومة في الذهن، فما وقع التشبيه إلا بمعلوم. قوله: (تلك عشرة كاملة) [البقرة:196] الاستدلال بها اللخصم من وجهتين: الأول: هي قوله: (تلك عشرة) فإن المتقدم سبعة، وثلاثة، ومن المعلوم بالضرورة أن السبعة والثلاثة: عشرة، فلا فائدة فيه. الثاني: قوله: (كاملة) ومن المعلوم أن السبعة والثلاثة، عشرة لا تنقص، فقوله (كاملة لا فائدة فيه. أجاب العلماء عن الأول: بأن قوله تعالى: (تلك عشرة) أفاد رفع المجاز المتوهم في (الواو) العاطفة [للسبعة على الثلاثة]، ولأن الواو يجوز استعمالها بمعنى (أو) كقوله تعالى: (أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع) [فاطر:10]، فإذن على تقدير قوله: (تلك عشرة) يعني أنها بمعنى (الواو) لا بمعنى (أو)، فقد حصلت فائدة زائدة. وعن الثاني: أن السامع إذا سمع (ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) [البقرة:196] ربما توهم أن تأخير السبعة عن هذه المواطف الشريفة التي

تعظم فيها أجور الأعمال- وهو موضع العبادة المجبورة، وينبغي ألا يتأخر الجابر عن المجبور- أن ذلك ربما نقص الأجر، فأخبر الله تعالي أنها كاملة الأجر، ولا يتوهم المتوهم، فقوله تعالى: (كاملة) لم يرد كاملة العدد، بل كاملة الأجر وهذه هي الفائدة قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة) [الحاقة:13] و (لا تتخذوا إلهين اثنين) [النحل:51] قال النحاة: النعت هاهنا للتأكيد، والتأكيد فيه فائدة، وهي: إبعاد المجاز عن ذهن السامع. وفي الآية الثانية جواب آخر وهو: أن ال في الآية تقديما وتأخيرا تقديره، ولا تتخذوا إلهين، فقد استفدنا من المفعول الثاني مالم نستفده من المفعول الأول، ولا تأكيد هاهنا، بل استثناء. قوله: (عام خص منه البعض) اعلم أن في الآية ضميرين. أحدهما: يستحيل عوده على الله تعالى. والآخر يجوز. أما الضمير في قوله تعالى: (آمنا به) فلا يستحيل، لأن الإيمان هو التصديق، والتصديق على الله تعالى جائز وواحب فرن الله تعالى يصدق رسله ونفسه بالكلام النفساني وجوبا، فإن خبره تعالى عن الواقعات واجب الوجود لذاته. والإخبار الجائز هو الإخبار بالكلام النفساني المخلوق في عباده، فيجوز ذلك كما قال الله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) [آل عمران:18]، ونحوه فلا حاجة إلى التخصيص من هذا الضمير، والضمير الذي يستحيل عوده عليه

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: فرض الخلاف في الكلام القديم محال

تعالى هو قولنا: (كل من عند ربنا) [آل عمران:7] فالضمير (ربنا) يستحيل عوده على اللع تعالى، فهذا موضع التخصيص، فافهمه. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: فرض الخلاف في الكلام القديم محال، وأما لفظ القرآن فقد دل على الإجماع على امتناع ذلك فيما يتعلق منه بأحكام التكاليف، والشرائع، وما عدا ذلك فلا إحالة عقلا، ولا قاطع فيه سمعا، وكون القرآن هدى وشفاء لا يوجب كونه كذلك في كل حرف. قال: وقوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) [آل عمران:7] إن سلم، فإنما يقتضي عدم علم غير الله، لا أن الله تعالى ما عنى شيئا، وهو محل النظر. وقال سراج الدين في فهرسته المسألة: لا يجوز أن يرد في القآن والأخبار ما لا يفهم خلافا للحشوية. وهذا مباين لـ) المحصول)، فإن هذا يقتضي أن الخلاف في فهمنا نحن لا في عدم إرادة الله تعالى بذلك اللفظ شيئا، فجاز أن يكون اللفظ أراد المتكلم به معنى، والسامع لم يفهمه. ووافق (المنتخب) و (آلحاصل) فقالا: لا يخاطبنا الله تعالى بما لا يفيد وهو معنى عبارة سراج الدين. وقال الشيخ سيف الدين في فهرسته المسألة: لا يتصور اشتمال القرآن الكريم على ما لا معنى له، وهو موافق لمعنى لفظ (المحصول)، بخلاف مختصراته.

(فائدة) (الحشوية) من المشايخ من يرى: أنه لفظ يقال بسكون الشين

(فائدة) (الحشوية) من المشايخ من يرى: أنه لفظ يقال بسكون الشين؛ لأن منهم المجسمة، والجسم محشو فهم ينسبون للحشو بشكون الشين ومنهم من يقول: الحشوية بفتح الشين، ويقول: سبب هذا الاسم أن الحسن البصري كانوا في حلقته فوجد كلامهم ساقطا، وكانوا بين يديه، فقال ردوا هؤلاء لحشا الحلقة أي لجانبها، والجانب يسمى (حشا) ومنه (الأحشاء) لجوانب البطن، والنسبة إلى (الحشا) حشوى بفتح الشين، نحو عصى عصوي، ورحى رحويّ، وهذا هو أظهر القولين. (تنبيه) مراده بقوله: (خلافا للحشوية): الطائفة الذين لا يرون البحث في القرآن إذا تعذر إرادة ظاهرة، نحو آيات الصفات، فإنهم لا يعتقدون ظاهرها، بخلاف المجسمة منهم، فإنهم يجرونها على ظواهرها، وهؤلاء يقولون: ما يعرف معنى هذه الآيات أصلا، بل يفوضها إلى الله تعالى في تعين مجازها بعد أن يعتقد أن خفاءها غير مراده. ومقتضى هذا أن تكون الفهرسة: لا يجوز أن يتكلم الله تعالى بما لا يفهم، وهي عبارات المختصرات، وهذا هو الأقرب للصواب.

(المسألة الثانية) في أنه لا يجوز أن يعني بكلامه خلاف ظاهره، ولا يدل عليه ألبتة. والخلاف فيه مع المرجئة: لنا: أن الفظ الخالي عن البيان أبدا، يكون بالنسبة إلى غير ظاهره مهملا، وقد بينا أن التكلم بالمهمل غير جائز على الله تعالى. فإن قيل: إن عنيت بالمهمل ما لا فائدة فيه ألبتة، فلا نسلم أن الأمر كذلك؛ لأنه تعالى، إذا تكلم بما ظاهره يقتضي الوعيد مع أنه لا يريد ذلك، حصل منه تخويف الفساق، والتخويف يمنعهم من الإقدام؛ فقد حصلت هذه الفائدة. وإن عنيت به أنه لا يحصل منه فائدة الإفهام، فهو مسلم؛ لكن لم قلت: إن ما يكون كذلك، فإنه غير جائز على الله تعالى؟ فإن هذا أول المسألة. والجواب: لو فتحنا هذا الباب، لما بقي الاعتماد على شيء من خبر الله، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما من خبر إلا ويحتمل أن يكون المقصود منه أمراً وراء الإفهام، ومعلوم أن ذلك ظاهر الفساد، والله أعلم. (لا يجوز أن يعني الله تعالى بكلامه خلاف ظاهره، ولخلاف فيه مع المرجئة) قال القرافي: تقريره: أن المرجئة تقول: لا تضر معصية مع الإيمان كما لا تنفع طاعة مع الكفر، ويقولون: آيات الوعيد كلها التي ظواهرها العقوبة المراد منها خلاف ظواهرها وهو التخويف فقط، وناظرني بعضهم مرة واستدل على ذلك بقوله تعالى:

(فائدة) المرجئة من الإرجاء وهو التأخير

(ذلك يخوف الله به عباده ([آلزمر:16]، و (ما نرسل بالآيات إلا تخويفًا) [الإسراء:59]، فقلت له: هذه الآيات عليكم لا لكم، فإنه إن يكن الحق ما تقولونه لا تكون الآيات مخوفة، وأي خوف مع الجزم بأن ظاهر الوعيد غير مراد. والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها: أن المرجئة جزمت بمراد الله تعالى والحشوية قالت: لا نعلم مراد الله تعالى، فالنزاع مع الحشوية في أن معنى معقول أم لا؟، والنزاع مع هؤلاء على المعنى المعقول هل هو مراد الله تعالى أم لا؟. (فائدة) المرجئة من الإرجاء وهو التأخير، كقوله تعالى: (زرجه وأخاه) [الأعراف:111] وهؤلاء المرجئة أخروا الأعمال أي أسقطوا اعتبارها، فلم يجعلوها تسقط عذابا عن العبد، فإنه لا عذاب مع الإيمان، فلم يبق للعمل أثر في إسقاط العذاب، فصار العمل مؤخرا، بمعنى: أنه داحض ساقط، كقوله: أخر الملك فلانا إذا عزله أو أبعده. قوله: (اللفظ بالنسبة إلى غير ظواهره مهمل، والتكلم به غير جائز على الله تعالى). قلنا: لا نسلم أنه مهمل؛ لأن المهمل في الصطلاح ما لم يوضع، وكون اللفظ أريد به غير ظاهره لا يقتضي عدم وضعه سلمنا إهماله، لكن لا نسلم أنه محال على الله تعالى؛ لأن أفعال الله تعالى لا يجب تعليلها بالمقاصد كما تقدم. والأقرب في هذه المسألة والتي قبلها أن يقال: (وذلك غير، اقع)، ولا يقال: (وذلك غير جائز)، فإن جوزنا عدم تعليل أفعال الله وشرائعه،

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: هذه المسألة مثل التي قبلها، ما يتعلق بالشرائع والأحكام ظاهرة المراد

لكن الواقع أنها مصالح للعباد تفضلا من الله تعالى، لا على سبيل الوجوب، وبهذه الدقيقة تتم المباحث. قوله: (لو صح ما ذكرتموه لم يبق الاعتماد على شيء من أخباره؛ لأنه ما منرخبر إلا ويحتمل أن يكون المراد به غير ظاهره). قلنا الاحتمال لا ينفي الوثوق ظاهرا، ولم تحتف باللفظ قرائن غير دلالة الوضع، فإنا لا نقطع بأنه يجب على الهل تعالى ألا يخاطبنا إلا بمراد الظاهر، وهو المستند بجزمنا بخلود أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة، فإن لفظ (خالدين فيها) [الأحزاب:65] لا يفيد القطع؛ لأنه عام في الأزمان، ودلالة العموم ظاهرة ظنية لا قطعية، لكنه حصل من القرائن الحالية من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكرر الألفاظ في الكتاب والسنة إلى أن وصل ذلك إلى حد يفيد القطع عند من حصل له ذلك الاستقراء (تنبيه) زاد التبريزي فقال: هذه المسألة مثل التي قبلها، ما يتعلق بالشرائع والأحكام ظاهرة المراد، بل ذلك مقطوع به لا سيما عند من يحيل تكليف ما لا يطاق، وفيما عدا ذلك لا مانع منه، وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورىّ بغيرها فعل ذلك، من باب الخدع في القتال لا من باب خائنة الأعين.

ثم لا معنى للتعريض إلا هذا، وقد أوجبته المعتزلة.

(المسألة الثالثة) في أن الاستدلال بالخطاب، هل يفيد القطع أم لا؟ منهم من أنكره؛ وقال إن الاستدلال بالأدلة اللفظية مبني على مقدمات ظنية والمبني على المقدمات الظنية ظني؛ فالاستدلال بالخطاب لا يفيد إلا الظن: وإنما قلنا: إنه مبني على مقدمات ظنية؛ لأنه مبني على نقل اللغات، ونقل النحو والتصريف، وعدم الاشتراك، والمجاز، والنقل، والإضمار، والتحصيص، والتقديم والتأخير، والناسخ، والمعارض، وكل ذلك أمور ظنية. أما بيان أن نقل اللغات ظني: فلأن المرجع فيه إلى أئمة اللغة، وأجمع العقلاء على أنهم ما كانوا بحيث يقطع بعصمتهم، فنقلهم لا يفيد إلا الظن وتمام الكلام في هذا المقاك قد تقدم. وأما النحو والتصديف: فالمرجع في إثباتهما إلى أشعار المتقدمين، إلا أن التمسك بتلك الأشعار مبني على مقدمتين ظنيتين: إحداهما: أن هذه الأشعار رواها الآحاد، ورواية الآحاد لا تفيد الظن. وأيضا، إن الذين رواها، روايتهم مرسلة لا مسندة، والمرسل غير مقبول عند الأكثرين، إذا كان خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف إذا كان خبرا عن شخص لا يؤبه لخ، ولا يلتفت إليه؟! وثانيهما: هب أنه صح هذا الشعر عن هذا الشاعر؛ لكن لم قلت: إن هذا الشاعر لا يلحن؟

أقصى ما في الباب أنه عربي؛ لكن العربي قد يلحن في العربية، كما أن الفارسي قل يلحن كثيرا في الفارسية؛ والذي يؤيد هذا الاحتمال: أن الأدباء لحنوا أكابو شعراء الجاهلية: كامرئ القيس، وطرفة، ولبيد، وإذا كانوا معترفين بأنهم قد لحنوا، فكيف يجوز التعويل في تصحيح الألفاظ وإعرابها علي قولهم؟ ذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبدالعزيز الجرجاني في الكتاب الذي صنفه في (الوساطة بين المتنبي وخصومه): أن امرأ القيس أخطأ في قوله [السريع]: (ياراكلا بلغ إخواننا ... من كان كندة أوائل) فنصب بلغ وفي قوله [السريع]: (فاليوم أشرب غير مستعقب إثما من الله ولا واغل) وقوله [المتقارب]: (لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعدين النمر) فأسقط النون من (خظاتا) بغير إضافة وقول لبيد [آلكامل]: تراك أمكنة إذا لم إضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها) فسكن (يرتبط) ولا عمل لـ (لم) فيه.

وقول طرفة [الرجز]: (وقد رفع الفخ فماذا تحذري) فحذف النون. وقول الأسدي [السريع]: (كنا نرقعها فقد مزقت ... واتسع الخرق على الراقع) فسكن ترقع. وقول الفرزدق [الطويل]: (وعض زمان يا بن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف) قضم (مجلف). وقول ذي الخرق الطهوي [الطويل: (يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا ... إلى ربنا صوت الحمار اليجدع) فأدخل الألف واللام على الفعل. وقول رؤبة [الرجز]: (أقفرت الوعثاء والعثائث من بعدهم والبرق والبرارث) وإنما هي البراث جمع برث وهي: الأماكن السهلة من الأرض. وقوله أيضا [الرجز]: (قد شفها اللوح بما زول ضيق) ففتح الياء فهذه وأمثالها كثيرة.

وجري بين الفرزدق وبين عبدالله بن اسحاق الحضرمي في إفوائه وفي لحنه في قوله [الطويل]: (فلو كان عبدالله مولى هجوته ... ولكن عبداللع مولى مواليا) ففتح الياء من (موالي) في حال الجر. وجرى له مع عنبسة الفيل النحوي؛ حتى قال فيه [آلطويل]: (لقد كان في معدان للفيل شاغل لعنبسة الراوي على القصائدا) وكان القدماء يتبعون أشعار الأوائل من لحن وغلط، وإحالة وفساد معنىً وقال الأصمعي في الميت: إنه جرمقاني من جرامقة الشام، لا يحتج بشعره، وأنكر من شعر الطرماح ولحن ذا الرمة. ثم إن القاضي علي بن عبدالعزيز طوّل في هذا المعنى وفي هذا القدر كفاية ومن أراد الاستقصاء، فليطالع ذلك الكتاب. وعند هذا نقول: المرجع في صحة اللغاة، والنحو التصريف إلى هؤلاء الأدباء، واعتمادهم على تصحيح الصحيح منها، وإفساد الفاسد على أقوال هؤلاء الأكابر من شعراء الجاهلية والمخضرمين وإذا كان الأدباء قد قدحوا فيهم، وبينوا لحنهم وخطأهم في اللفظ، والمعنى والإعراب؛ فمع هذا كيف يمكن الرجوع إلي قولهم، والاستدلال بشعدهم؟ أقصى ما في الباب أن يقال: هذه الأغلاط نادرة، والنادر لا عبرة به، لكنا نقول: النادر لا يقدح فيه في الظن، لكن لا شك أنه يقدح في اليقين؛ لقيام الاحتمال في كل واحد من تلك الألفاظ والإعرابات؛ أنه من ذلك اللحن النادر.

فثبت أن المقصد الأقصى في صحة اللغة والنحو والتصريف الظن الظن الثاني: عدم الاشراك؛ فإن بتقدير الاشراك يجوز أن يكون مراد الله تعالى من هذا الكلام غير هذا المعنى الذي اعتقدناه لكن نفي الاشتراك ظني. الظن الثالث: عدم المجاز؛ فإن حمل اللفظ على حقيقته، رنما يتعين، لولم يكن محمولا على مجازه، لكن عدم المجاز مظنون. الظن الرابع: أنه لا بد من عدم النقل، فإن بتقدير أن يقال: الشرع، أو العرف نقله من معناه اللغوي إلى معنى آخر، وكأن المراد هو المنقول إليه، لا ذلك الأصل. الظن الخامس: أنه لا بد من عدم الإضمار، فإنه لو كان الحق هو، لكان المراد الذي يدل عليه اللفظ بعد الإضمار، لا هذا الظاهر الظن السادس: عدم التخصيص، وتقريره ظاهر. الظن السابع: عدم الناسخ، ولا شكل في كونه محتملا في الجملة وبتقدير وقوعه؛ لم يكن الحكم ثابتا الظن الثامن: عدم التقديم والتأخير، ووجهه ظاهر. الظن التاسع: نفي المعارض العقلي؛ فإنه لو قام دليل قاطع عقلي على نفي ما أشعر به ظاهر النقل، فالقول بهما محال؛ لا ستحالة وقول النفي والإثبات؛ والقول بارتفاعهما محال؛ لاستحالة عدم النفي والإثبات. والقول بترجيح النقل على العقل محال؛ لأن العقل أصل النقل، فلو كذبنا العقل، لكنا كذبنا أصل النقل، ومتى كذبنا أصل النقل، فقد كذبنا النقل.

فتصحيح النقل بتكذيب العقل يستلزم تكذيب النقل؛ فعلمنا أنه لا بد من ترجيح دليل العقل. فإذا رأينا دليلا نقليا. فإنما يبقى دليلا عند السلامة عن هذه الوجوه التسعة، ولا يمكن العلم بحصول السلامة عنها إلا إذا قيل: بحثنا واجتهدنا، فلم نجدها؛ لكنا نعلم أن الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود لا يفيد إلا الظن فثبت أن التمسك بالأدلة النقلية مبني على مقدمات ظنية، والمبني على الظنيّ ظنيّ وذلك لا شكل فيه؛ فالتمسك بالدلائل النقلية لا يفيد إلا الظن. فإن قلت: المكلف إذا سمع دليلا نقليا، فلو حصل فيه شيء من هذه المطاعن، لوجب في حكمة الله أن يطلعه على ذلك. قلت: القول بالوجوب على الله تعالى مبني على قاعدة الحسن والقبح العقليين، وقد تقدم القول فيهما. سلمنا ولكننا نقطع بأنه لا يجب على الله تعالى أن يطلعه على ذلك، لما أنّا نجد كثيرا من العلماء يسمعون آية أو خبرا، مع أنهم لايعرفون ما في نجوها ولغتها وتصريفها من الاحتمالات التسعة التي ذكرناها، وإنكار ذلك مكابرة ولو كان ذلك واجبا، لما كان الزمر كذلك، فعلمنا ضعف هذا العذر وفيه وجوه أخر من الفساد، ذكرناها في الكتب الكلامية. واعلم أن الانصاف أنه لا سبيل إلى استفادة اليقين من هذه الدلائل اللفظية، إلا إذا اقترنت بها قرائن تفيد اليقين، سواء كانت تلك القرائن مشاهدة أو كانت منقولة إلينا بالتواتر.

المسألة الثالثة (في أن الاستدلال لالأدلة اللفظية مبني على مقدمات ظنية، والمبني على المقدمات الظنية لا يفيد إلا بالظن) قلنا على هذه العبارة مناقشة، فإن الموقوف على المقدمات الظنية قد يكون قطعيا، بل الموقوف على الشكل قد يكون قطعيا فضلا عن الظن. يدل على ذلك صور. أحدها: ما تقدم أول الكتاب من أن الأحكام الشرعية كلها قطعية مع أنها موقوفة على مقدمات ظنية، ولكن إذا قال: الإجتماع عند ظن المجتهد هذا حكم الله تعالى، قطعنا بأنه حكم الله تعالى لإخبار المعصوم به وثانيها: إذا قال الله تعالى: متى ظننتم وجود زيد في الدار، فاعلموا أني قد أوجبت عليكم ركعتين، فمتى حصل ذلك الظن قطعنا بوجوب الركعتين علينا، لإخبارا لله تعالى بذلك. وثالثها: قوله عليه السلام: (إذا شكل أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى، ثلاثا، أو أربعا؟ فليجعلها ثلاثا، وليضف إليها ركعة أخرى)

قطعنا عند الشك بوجوب الركعة علينا، وكذلك إذا شككنا هل طلع هلال شوال أم لا؟ وجب علينا الصوم، لأجل هذا الشك، وإن كنا في نفس الأمر قد أكملنا الشهر، وكذلك إذا اختلطت أخته من الرضاع بأجنبية، أو طعام نجس بطاهر، أو ميتة بمذكاة فرنا نقطع بتحريم ذلك عند الشك. ورابعها: إذا أشهدت البينة عند الحاكم، وانتفت الريبة، وجميع الموانع الشرعية، وحصل له الظن المعتبر قطعا، وقطع بوجوب الحكم عليه حتي لو جحد وجوبه كفرناه، ففي هذه الصور كلها القطع متوقف على غير قطعي، وما لزم من ذلك عدم القطع بالمطلوب، وإنما الذي [نذكره] مخصوص بما يتوقف علي ظن ليس له مدرك غيره، أو يكون الدليل جزؤه ظني، وجزؤه قطعي فيكون ظنيا، وقد تقدم في إثبات كون الأحكام معلومة الفرق بين المطلوب يتوقف على مقدمتين ظنية وقطعية، وبين المطلوب يدل عليه دليلان قطعي وظني أنه يكون قطعيا. قوله: (اللغوي قد يلحن) قلنا: لا نسلم، وجميع ما وقع لهم قد خرّجه الأدباء على قواعد صحيحة قوله: (نصب (بلغ) مع أنه فعل أمر يتعين جزمه) قلنا: من قواعد العرب أن ضرورة الشعر (تبيح ما لا تبيحه سعة الكلام فإذا فعل الشاعر ما أجازته العرب في الضرورة لا يقال: إن ذلك الشاعر

أخطأ، بل فعل ما هو جائز له صواب، فلا حرج حينئذ ولا انتقاد، والتحريك هاهنا وقع لضرورة وأن البيت. وقد نص جماعة من النحاة علي أن الذي يجوز للشاعر نحو ثلاثين موضعا مسطورة هناك، منها تحريك الساكن، وتسكين المتحرك وهذا منه. قوله [السريع]: فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل قال القرافي: قال سيبويه، وأبو علي الفارسي: القاعدة العربية جواز تسكين وسط الكلمة، وكان أولها مضموما نحو (أسد)، أو مفتوحا نحو (عضد) وأو مكسورا نحو (إبل)، فيقولون: (أسد)، (وعضد)، و (إبل)، وكذلك وأول أخرى أن الجميع كلمة واحدة فيفعلون ذلك، فيأخذون (آلراء) و (الباء) من (أشرب)، والعين من (غير) فيصير (ربع)، لذلك سكن الباء المتحركة متوسطة في كلمة واحدة، فهذه قواعد عربية لم يخرج الشاعر عنها. وقوله: (غير مستحقب) أي: غير واضع في حقب إثما، والحقيبة: ما يوضع خلف الراكب يوضع فيه حوائجه.

وقوله: (ولا واغل) أي ولا داخل عليّ، فكثر (الواغل) الداخل. قوله: (فسكن يرتبط) قلنا: هو مثل ما تقدم في (أشرب)، فتحل (الباء)، من (بعض النفوس) مع (الباء) وال (طاء) من يرتبط)، فسكن الوسط على القاعدة المتقدمة. قوله [الرجز]: قد رفع الفخ فماذا تحذري؟ فحذف النون قلنا: قد نقل ابن خروف في (شرح سيبويه) أن حرف النون التي هي علامة الإعراب في المفردة، والتثنية والجمع يجوز في سعة الكلام. ونقل: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قتلي بدر لما ناداهم: كيف يسمعوا وقد أفنوا، وأصله (يسمعون)، وإذا جار الحذف في السعة فأولى في الشعر، فلا لحن حينئذ.

قوله [السريع]: كنا نرقعها فقد مزقت ... واتسع الخرق على الراقع قلنا: سكن العين من (نرقعها) كما تقدم في تسكين الباء في (أشرب) وأجرى المنفصل مجرى المتصل. قوله [آلطويل]: وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف قلنا: ذكر النحاة في رفع (مجلف) وجوها:

أحدها: أنه مرفوع على أنه خبر مبتدأ، أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره (لم يبق)، أو فاعل بفعل مضمر تقديره لم يبق مجلف دل على ذلك لم يدع قوله [الطويل]: يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا ... إلى ربنا صوت الحمار اليجدع قلنا: الألف واللام تكون في المصنفات بمعنى (الذي)، و (التي) نحو القائم والقائمة، أي الذي قام، والتي قامت. والقاعدة: أن الصلة في الموصول قد تكون جملة فعلية، فلما دعت الضرورة لوزن البيت مع هذا التخيل جاز ذلك في الشعر، ففي هذه المواضع قاعدتان: أن اللام موصولة، وأن الصلة تكون فعلا. وضرورة الشعر و (الخنا) الكلام القبيح، فهو يصف رجلا بأنه يقول الكلام القبيح، وشبهه بالحمار المجدع. قوله [الرجز]: أقفرت الوعثاء والعثاعث ... من بعدهم والبرق البوارث.

قلنا: (أقفرت) صارت قفارا أي خالية، و (الوعثاء) اسلم أرض، وفيها يقول غيلان [آلطويل]: أيا ظبية الوعثاء بين خلاخل ... وبين النقا أأنت أم أم سالم؟ وقد وقع في كثير من النسخ (الوعثاء) بالسين وإنما هو (الوعساء) كذلك أكده صاحب (الصحاح) وغيره و (العثاعث) قال الجوهري: جمع عثعث، وهو للكثيب من الرمل الخالي من

النبات، و (البرق) جمع (برقة)، قال في (المجمل): (البرقة) الأرض ذات حجارة مختلفة الألوان و (البرق) الأرض السهلة، أي هذه المواضع كلما أقفرت، وزاد الراء للوزن، كما نقص الحركة للوزن في (أشرب) فهو عكسه، وكلاهما منصوص فيما يجوز للشاعر للضرورة قوله [الرجز] قد شفها اللوح بما زول ضيق قلنا: قد وقع في بعض النسخ (قد شفها) وإنما هو في قصيدته المشهورة بالواو، (شفها) أي بلغ منها مبلغا عظيما، و (اللوح) بفتح اللام، وعو للعطش، وبعضهم يصحفه بضم اللام، و (اللوح بالضم ما بين السماء والأرض، ومنه قول ابن دريد [الرجز]: واستترل الزباء قسرا وهي من ... عقاب لوح الجو أعلى منتمى و (المازول): المكان الصعب، و (ضيق) هاهنا بفتح الضاد والياء، وأصله: ضيق بفتح الضاد، وسكون الياء مثل: هين، ولين، وميت من غير تشديد، فحرك الياء ليزن البيت بزيادتها كما وزنه بزيادة الراء في (البوارث)، واللام في (اليجدع].

قوله: (عبدالله بن [أبي] إسحاق الخضرمي)، هذا نحوي مشهور و (الفرزدق) الشاعر المشهور قوله [الطويل]: فلو كان عبدالله مولى هجوته ... ولكن عبدالله مولى مواليا قلنا: هذا الجمع المنقوص الذي هو على وزن ما لا ينصرف، للعرب فيه لغتان: منهم من يجري المعتل مجرى الصحيح. قال سيبويه: فتكون الفتحة فيه علامة خفض، وهذه اللغة هي التي اعتمدها الفرزدق في هذا البيت، واللغة المشهورة: أن المنقوص تسكن ياؤه في الخفض، فنقول: مررت بالموالي وبالقاضي، استثقالا للكثرة تحت الياء، ولم يثبتوا الفتحة على (الياء) وإن كانت حقيقة؛ لأن أصلها كسرة؛ لأنها بدل عنها، فلوحظ فيها من الثقل ما لوحظ في الكسرة من الثقل.

قوله [الطويل]: لقد كان في معدان والفيل راحر لعبسة الراوي على القصائد قال القرافي (معدان) هو جد (عبسة) وقوله: (قال الأصمعي في الكميت أنه جرمقاني)

(فائدة)

قال القرافي: قال صاحب (الصحاح): لا تجتمع الجيم والقاف في لسان العرب، فالجرمقاني، والجرموق عجميان، والجرامقة: قوم من العجم سكنوا (الموصل)، كما تقول: (آلأكراد)، والأتراك). قوله: (وليكن شعر الطرماح) قال القرافي: هو بتشديد الميم. قوله: (ومع تلحين الأدباء لهم في اللفظ، والمعنى، والإعراب كيف يمكن الرجوع إلى قولهم). قلنا: قد بينا أن ذلك كله على قواعد عربية، فلا يقدح ذلك في الاعتماد على قولهم، ثم إنا نقول: يكفي في صحة التمسك بأقوالهم أن جميع ما وقع علي اللغات الشاذة، ولوضع الضرورة أنه معلوم عند الناس مثل الشمس من غير لبس، وما ذلك إلا أن المادة معلومة، منضبطة، وعليها المعوّل في الأحكام والتمسكات، ولولا أنها معلومة لتعذر على الأدباء إنكار هذه المواضع، فعين هذا الإشكال هو عين الجواب عنه، والدفع له. (فائدة) لما أنكر بعض النحاة قول [الطويل]: وعض زمان يا بن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف قال له: بما رفعت (مجلف)، فقال له ما يسوءك، ويتوعد، ثم هجا

الفرزدق ذلك النحوي، فقال النحوي: أخبروا الفرزدق أنه لحن في هجائه، فقال له الفرزدق: والله لأهجونك ببيت يستشهد به إلى قيام الساعة وأنشد [الطويل]: أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا فمد (الزنا) ومالشهور فيه القصر، و (الخرطوم): اسم الخمر، فكان الناس يستشهدون بهذا البيت على أن الزنا يمد. قوله: (التقديم والتأخير). قلنا: مثاله: قوله تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما فتحرير رقبة) [التحرير:3] اختلف العلماء رضي الله عنهم هل العود شرط في الكفارة أم لا؟ فظاهر الآية أنه شرط، لتقديمه قبل ذكر الكفارة فكان داخلا فيما هو معتبر في الموجب. وقال بعض العلماء: ليس شرطا، وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره: (والذين يظاهرون من نسائهم، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ثم يعودون) يعني: سبب الكفارة يعودون كما كانوا قبل الحلف؛ لأن كفارة تذهب أثر العصيان، فعلى هذا لا يكون العود شرطا.

قوله: (إذا أهملنا النقل والعقل وقع النفي والإثبات، أو لا نقول بهما يرتفع النفي والإثبات) قال القرافي تقريره: إن آيات الصفات دلت بظواهرها على الجسمية، و، العقل دل على نفيها، فإن أعملناهما ثبتت الجسمية وانتفت، وإن أبطلناهما أبطلتا الجسمية وعدمها، وهو ارتفاع النقيضين قوله: (العقل أصل النقل) قال القرافي: تقريره أن كلام النبوة مبني على المعجزة، وهي لا تعلم إلا بالعقل، فصار العقل أصل النقل، فلو قدحنا في العقل تطرق القدح في المعجز، فيحصل القدح في النقل. قوله: (الاستدلال بعدم الوجدان على الوجود لا يفيد إلا الظن) قلنا: ليس ذلك مطلقا، فإن عدم وجداننا قبلا في البيت الصغير، والوضع المحصور كيف كان المطلوب يدل قطعا على عدم وجوده، وإنما ذلك في غير المنحصر أو المنحصر ظنا. قوله: (لا تفيد الألفاظ اليقين إلا بالقرائن) قال القرافي: تقريره: أن الوضع بما هو وضع تتطرق إليه هذه الاحتمالات، ومع القرائن يقطع بأن المراد ظاهر اللفظ، ثم القرائن تكون بتكرر تلك الألفاظ إلي حد يقبل القطع، أو سياق الكلام، أو بحال المخبر الذي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرائن لا تفي بها العبارات، ولا تنحصر تحت ضابط، ولذلك قطعنا بقواعد الشرائع، وقواعد الوعد والوعيد، وغيرها بقراذن الأحوال والمقال، وهو كثير في الكتاب والسنة، فلو قائل في قوله تعالى: (محمد رسول الله) [الفتح:29] أو (شهر رمضان) [البقرة:185] (يابني إسرائيل) [البقرة:4]

(فائدة)

المراد غير محمد بن عبد الله، أو غير الشهر المخصوص، أو غير إسرائيل الذي هو يعقوب، ولم يعرج أحد على ذلك، وقطع ببطلانه، بسبب قرائن التكرار وقرائن الأحوال، وكذلك بقية القواعد الدينية. (فائدة) قال النحاة ونصوا عليه في عدة من كتبهم: إن الذي يجوز للشاعر نحو ثلاثين موضعا، قصر الممدود عند البصريين دون العكس؛ لأن الهمزة زائدة في الغالب بعد الألف وحذف الزائد هو الأصل. وقال الكوفيون: يجوز له مد المقصور دون العكس؛ لأنه الأصل دون العكس.،ج، ز الكوفيون العكس أيضا لقول العرب [المتقارب]: وماكان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع فلم يصرف (مرداس) لحاجته لعدم تنوين في الوزن، وليس فيه إلا العلمية وهي وحدها لا تمنع في سعة الكلام. واتفقوا على أنه لا يجوز له المقصور المؤنث نحو (لين) فإنه إذا صرف إنما يستفيد التنوين، وهو حرف ساكن، ومع التنوين يذهب الألف وهي حرف ساكن فقد عوض ساكن بساكن فلم يستفد بالصرف شيئا فيمتنع وكذلك المدغم وعكسه، وإلحاق المعتل بالصحيح وعكسه، نحو قوله [الوافر]: إذا ما عد أربعة قسال ... فزوجك خامس وأبوك سادي

أي سادس، وحذف التنوين المصادف للساكن، وحذف الواو، والباء من وسط الكلام، والاكتفاء بالكسرة والضمة وواو (هو) وياء (هي) وتذكير المؤنث وعكسه، وتخفيف المشدد وعكسه وحذف (فاء) الشرط، وحذف الهمزة، وتحفيفها وقلبها ووصل المقطوع وقطع الهمزة الموصولوة وإبدال الحروف الصحيحة بحروف العلة، وقد جاء في القرآن الكريم، فيكون ليس برخصة نحو قوله تعالى: (ثم ذهب إلى أهله يتمطى) [القيامة:33]، (قد خاب من دساها) [الشمس:10]، أي يتمطط، ودسها، وإسكان هاء الضمير، وحذف ما بعدها، ونفي الفعل المضارع كقوله [الوافر]: سأترك منزلي لبني تميم ... والحق بالحجاز فأستريحا وقوله [الطويل]:

لها هضبة لا يترك الذل وسطها ... ويأوى إليها المستجير فيعصما لضرورة الروي المنصوب، وتسكين حرف العلة في النصب والجزم، وتسكين الهمزة التي أصلها حرف مد نحو: كساء، ورداء، وترخيم غير المنادى، وإلحاق لا التعريف الفعل المضارع، وزيادة حرف في الكلمة كما تقدم في بحث (المحصول) كثير منه في هذه المسألة، فهذه رخص في لغة العرب كرخص الشريعة التي على خلاف قواعدها، فكما أنه لا يجوز أن يقال في الرخص الشرعية: إنها ليست من الشريعة لا يقال في رخص العربية: إنها ليست من العربية، ويتعين أن يكون معنى تلحين الفضلاء للشعراء: أن معناه خروجهم عن الجادة، لأنهم ارتكبوا ما لا يجوز في الضرورة، ولو كانت هذه الأمور لحنا لم تختص بثلاثين ولا بألف، ولما حسن أن يقال: الشيء الفلاني لا يجوز للشاعر، والشيء الفلاني يجوز، وذلك الذي منع مطلقا لم يقع منهم، فلا لحن حينئذ إلا بالتفسير الذي ذكرناه

المسألة الرابعة في كيفية الاستدلال بالخطاب الخطاب: إما أن يدل على الحكم بلفظه، أو بمعناه، أو لا يكون كذلك، ولكنه بحيث لو ضم إليه شيء آخر، لصار المجموع دليلا على الحكم: القسم الأول: ما يدل عليه بلفظه، وقد عرفت أنه يجب حمل اللفظ على الحقيقة، وعرفت أن الحقيقة ضربان: أصلية: وهي اللغوية، وطارئة: وهي العرفية، والشرعية. فإن كان الخطاب مستعملا في اللغة في شيء وفي العرف في شيء آخر، ولك يخرج بالعرف عن أن يكون حقيقة في المعنى اللغوي، فإنه يكون مشتركا بينهما. وإن صار مجازا في المعنى اللغوي، وجب حمله على العرفي؛ لأنه هو المتبادر إلى الفهم، ويجب مثل هذا في الاسم المنقول إلى معنى شرعي فالحاصل أن الخطاب يجب حمله على المعنى الشرعي، ثم العرفي، ثم المعنى اللغوي الحقيقي، ثم المجاز فإن خاطب الله تعالى طائفتين بخطاب، هو حقيقة عند إحداهما في شي، وعند الأخرى في شيء آخر وجب أن تحمله كل واحدة منهما على ما تتعارفه؛ وإلا لزم أن يقال: إن الله تعالى خاطبه بغير ما هو ظاهر عنده مع عدم القرينة، والله أعلم بالصواب.

القسم الثاني: ما يدل عليه بمعناه، وهو: الدلالة الالتزامية، وقد ذكرنا في الباب الثاني أقسام الدلالة الالتزامية. القسم الثالث: ما يكون بحيث لو ضم إليه شيء آخر، لصار المجموع دليلا على الحكم، فنقول: ذلك الذي يضم إليه: إما أن يكون دليلا شرعيا، وهو نص، أو إجماع> أو قياس، أو يكون ذلك بشهادة حال المتكلم، فبهذه وجوه أربعة: أحدها: أن ينضم إلى النص آخر؛ فيصير مجموعهما دليلا على الحكم، وله مثالان: الأول: أن يدل أحد النصين على إحدى المقدمتين، والثاني على الثانية؛ فيحصل المطلوب؛ كقولنا: تارك المأمور عاص، لقوله تعالى: (أفعصيت أمري) [طه:93] والعاصي يستحق العقاب؛ لقوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدود الله يدخله نارا خالدا فيها) [النساء:14] الثاني: أن يدل أحد النصين على ثبوت الحكم لشيئين، ويدل النص الآخر على زن بعض ذلك لأحدهما؛ فوجب القطع بأن باقي الحكم ثابت للثاني؛ كقوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا) [الأحقاف:15] فهذا يدل على أن مدة الحمل والرضاع، ثلاثون شهرا، وقوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) [البقرة:223] فهذا يدل على أن مدة الرضاع سنتان؛ فيلزم أن تكون مدة الحمل ستة أشهر. وثانيها: أن يضم إلى النص إجماع؛ كما إذا دل النص على أن الخال لا يرث ودل الإجماع على أن الخالة بمثابته.

وثالثها: أن يضم إلى النص قياس؛ كما إذا دل النص على حرمة الربا في البر، ودل القياس على زن التفاح بمثابته. ورابعها: أن يضم إلى النص شهادته حال المتكلم؛ كما إذا كان كلام الشرع مترددا بين الحكم العقلي وال والشرعي، فحمله على الشرعي أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث لبيان الشرعيات، لا لبيان ما يستقل العقل بأدراكه، هذا إذا كان الخطاب مترددا بينهما؛ أما إذا كان ظاهره مع زحدهما، لم يصح الترجيح بذلك، والله أعلم. المسألة الرابعة: كيفيك الاستدلال قوله: (إذا لم يخرج بالعرف عن أن يكون حقيقة في المعنى اللغوي كان مشتركا بينهما). قلنا: هذا مشكل من وجهين: أحدهما: أنه لا يخرج عن كونه حقيقة في المعنى اللغوي اشتهر في العرفي أم لا؟ وثانيهما: كيف يكون مشتركا بينهما، وما اشتهر في العرفي؛ لأنه إذا لم يشتهر يكون ماجزا مرجوحا أو مساويا، والمجاز المساوي نقول له: مجاز لغوي، ولا يكون مشتركا إلا إذا استويا في الفهم، ولم يعلم أنه منقول عن أحدهما، أما مع العلم باتحاد الموضع له أولا فلا. قوله: (وإن صار مجازا في المعنى اللغوي حمل على العرفي) قلنا: إذا اشتهر في العرفي يصير مجازا في اللغوي باعتبار الحقيقة العرفية، ومع ذلك لا يخرج عن كونه حقيقة لغوية. قوله: (يجب الحمل على الشرعي، ثم العرفي، ثم اللغوي)

(سؤال) إنما يتقدم الشرعي على العرفي إذا كان المتكلم هو صاحب الشرع

قلنا: تقرير ذلك: أن العرف ناسخ لـ (للغة)، والناسخ مقدم، وكذلك الشرائع ناسخة باستعمالها اللغات، والعوائد. (سؤال) إنما يتقدم الشرعي على العرفي إذا كان المتكلم هو صاحب الشرع؛ لأن القاعدة أن كل متكلم له عرف في لفظه، فإنما يحمل لفظه على عرفه، أما إذا صدر اللفظ ممن خالف أو وافق، أو مقر فإنما يحمل على عرفه الذي عادته يتكلم به هو خاصة، أو أهل بلده عامة، بناء على القاعدة: أن من له عرف فإنه يتبع في حقه، وكذلك إذا اختلف العوائد النقالة للغة حمل أهل كل عادة على عادتهم دون عادة غيرهم. (سؤال) إنما يحمل لفظ صاحب الشرع على العرفي دون اللغوي إذا علم مقارنة تلك العادة لزمن الخطاب، أما لو تأخرت فلا، بل تتعين اللغة، فإن الصارف عنها منتف حالة المتكلم، وكذلك القول في كل متكلم: يشترط في حمل لفظه على العادة مقارنة تلك العادة لتلفظه. (سؤال) كلامه هاهنا يناقض قوله في مسألة الحقيقة المرجوحة والمجاز. الراجح: أنهما يتعادلان، ولا يحمل اللفظ على أحدهما إلا بمرجح. جوابه: أنه لم يفرع على ذلك المذهب، بل على مذهب أبي يوسف في تلك المسألة؛ لأنه مذهب الجمهور. قوله: (إذا خاطب الله تعالى طائفتين بخطاب هو حقيقة عند إحديهما في شيء، وعند الطائفة الأخرى في شيء آخر حملته كل واحدة منها على ما تعرفه).

قلنا: هذا إذا لم تطلع كل واحدة منهما على أن وضع الأخرى مخالف لوضعمها؛ لأنها حينئذ تعلم أن اللفظ مشترك مجمل، وأن نسبة المتكلم إلى لغتيهما نسبة واحدة، فيجب عليهما معا الوقف. قوله: (المضموم إما النص، أو الإجماع، أو القياس، أو شهادة حال المتكلم). قلنا: لا نسلم حصر نفي جميع القرائن، فإنها لا تنحصر في الحالية، بل للسياق الواقع في ذلك الأسلوب وقرينة حال المخاطب، والاستحسان، والاستصحاب، والمقيدات، والمعينات كثيرة غير الأربعة المذكورة. قوله في المثال الأول: (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) [الجن:23]. قلنا: هذا المثال دليل مركب من الشكل الأول، ومن شروط الشكل الأول أن تكون كبراه كلية، ولا يصح ذلك حتى يتبين أن كل عاص يستحق العقاب، ولم تجد ذلك بل أقام الدليل على الجزئية فقط، وهو (ومن يعص الله ورسوله) وهو بعض العصاة، فلا ينتج لفقدان الشرط، ثم يؤكد كونها جزئية بقوله تعالى: (ويتعد حدوده)، فإن هذا اقتداء آخر يقتضي أنه إذا لم يتعد حدوده لا يستحق العقاب لذكر الحدود بصيغة الجمع، بل بصيغة العموم؛ لأن اسم الجنس إذا أضيف أضيف عم، فلا يصدق ذلك حينئذ إلا على من تعدى جميع الحدود. قوله: (فيلزم أن تكون مدة جمله ستة أشهر) قلنا: هذا النوع من الاستدلال إنما يتجه إذا كان النصاب أمرين، نحو: اعط زيدا أو عمرًا الدار اعط زيدا ثلثها، فيتعين لعمرو ثلثها، أو خبرين نحو الدار لزيد وعمرو، ولزيد ثلثها، فيتعين أن يكون لعمرو ثلثها، أما إذا

كان أحدهما أما والآخر خبرا- كما في هذا المثال فلا يتجه؛ لأن الأمر قد يكون شيئا، ولا يفعل كله، والخبر يتبع الواقع، وكان طاعة أو معصية كما أمر الله تعالى الناس كلهم بالإيمان. وقال تعالى: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) [يوسف:103] فأخبر عن الواقع، وهو على خلاف الأمر. كذلك هاهنا جاز أن يكون الرضاع الواقع أحدا وعشرين شهرا، ولا يكون الأمر وقع مقتضاه من قوله تعالى (والوالدات يرضعن) [آلبقرة:33] الآية، فيقع الإخبار بأن حمله وفصاله ثلاثون شهرًا، أي تسعة حمل وأحد وعشرون رضاعا بناء على الواقع الغالب دون المأمور به، لا يأتي الاستدلال بهاتين الآيتين على أن أقل الحمل ستة أشهر، ولا سيما وقد عكس الحقيقة هذا الاستدلال، وقالوا: الستة أشهر هي الرضاع، وقالوا أقضى مدة الحمل سنتان مع الرضاعة، ولا يلحق الولد بعد ذلك بالواطيء، وإذا قام في بطن أمه سنتين كفاه من الرضاع سته أشهر، لاستقلاله وشدة أعضائه بطول بقائه في بطن أمه، وجعلوا هذا الموضع دليلا على هذا المطلوب، وبالجملة إنما يتأتى الاستدلال إذا كانا خبرين، أو أمرين، أما إذا تنوعا فلا، لأن الخبر يتبع الواقع، والأمر لا يتبعه، فلا ينتظم الاستدلال. قوله: (لأنه عليه السلام بعث لبيان الشرعيات دون العقليات) قال القرافي: مثاله: (قوله عليه السلام: (من كلم في سبيل الله واله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم، والريح ريح المسك)

فقوله: (والله أعلم بمن يكلم في سبيله) دائر بين أن يكون المراد الإخبار به عمن تعلق علم الله تعالى بهذا المعلوم وهو عقلي، أو أمر بالإخلاص في الجهاد وهو شرعي، فيحمل على طلب الإخلاص دون الأمر المعقول. قوله: (أما إذا كان ظاهره مع أحدهما لم يصح الترجيح) قلنا: ولم لا يصرف عن ظاهره لظاهر حال المتكلم؛ لأنه أخص منه، والخاص مقدم على العام؛ لأن ظهور اللفظ عام بالنسبة إلى كل متكلم، وحال المتكلم خاص بهذه الصورة، ولأن ظاهر الحال يصرف الكلام عن الحقيقة إلى المجاز مع ظهوره في الحقيقة، فعلمنا أن الظهور لا يمنع الحمل الشرعي.

المسألة الخامسة في الخطاب الذي لا يمكن حمله على ظاهره: هذا الخطاب: إما أن يكون خاصا أو عاما: فإن كان خاصا، وكان حقيقة في شيء، ثم وجدت قرينة تصرفه عنه: فإما أن تدل القرينة علي أن المراد ظاهره، أو تدل على أن المراد غير ظاهره، أو على أن المراد ظاهره، وغير ظاهره معًا: فإن دل على أن المراد ليس ظاهره، خرج الظاهر عن أن يكون مرادا؛ فيجب حمله على المجاز. ثم إن المجاز: إما أن يكون واحدا، زو أكثر: فإن كان واحدا: حمل اللفظ عليه، من غير افتقار إلي دلالة أخرى؛ صونا للكلام عن الإلغاء. وإن كان أكثر من واحد: فإما أن يدل دليل في واحد معين على أنه مراد، أو على أنه ليس بمراد، أو لا يدل الدليل في واحد معين، لا يكونه مرادا، ولا بكونه غير مراد: فرن دل الدليل على أنه مراد، قضى به، وإن دل الدليل على أنه غير مراد، فإن لم يبق إلا وجه واحد، حمل عليه، وإن بقي أكثر من واحد، كان القول فيه كما إذا لم يوجد الدليل على كونه مرادا، ولا على كونه غير مراد؛ وهذا هو القسم الثالث

فنقول: وجوه المجاز: إما أن تكوت محصورة، أو غير محصورة: فإن لم تكن محصورة: فقال القاضي عبدالجبار: لا بد من دلالة على المراد؛ لأنه لا يجوز أن يريدها أجمع، مع تعذر حصرها علينا. قال أبو الحسن: ولقائل أن يقول: إنه أرادها كلها على البدل؛ لأن ذلك ممكن مع فقد الدلالة، ومع فقد الحصر؛ فإنه تعالى لو أوجب علينا ذبح بقرة، فإنا نكون مخيرين في ذبح أي بقرة شئنا، وإن لم يمكنا حصر البقر. فأما من لا يجيز أن المراد بالكلمة الواحدة معنيان مختلفان، فيجئ على مذهبه أنه لا بد من دلالة تدل على المراد بعينه؛ لأن اللفظ ما وضع للتخيير. وأما إن كانت وجوه المجاز محصورة: فإن كان البعض أقوى من الباقي، حمل على الأقوى، رعاية لزيادة القوة. وإن تساوت، حمل اللفظ عليها بأسرها؛ على البدل أما على الكل؛ ليس حمل الخطاب على البعض أولى من الباقي. وأما على البدل، فلأن الخطاب ليس بعام؛ حتى يحمل على الجميع. هذا علي قول من يجوز، استعمال اللفظ المشترك في مفهومه. فأما من لا يجوزه، فإنه قول: لا بد من البيان: القسم الأول: وهو أن يدل الدليل على أن غير الظاهر مراد، فذلك الدليل: إما أن يعين ذلك الغير، أو لا يعينه: فإن عينه، وجب حمله عليه، وإن لم يعينه، فالقول فيه كما في القسم الأول.

القسم الثاني: وهو أن يدل دليل على ظاهر الخطاب مراد، وغير ظاهره مراد: فإن كان ذلك الغير معنيا، وجب الحمل عليه؛ فيكون اللفظ موضوعا لهما من جهة اللغة، أو من جهة الشرع، أو تكلم بالكلمة مرتين. وإن لم يتعين ذلك الغير، فالكلام فيه كما في القسم الأول. أما إن كان الخطاب عاما: فإن تجرد عن القرينة، حمل على العموم، وإن لم يتجرد، فهذا يقع على وجوه. أحدها: أن تدل القرينة على أن المراد ظاهره، وغير ظاهره معا، فإن كان كذلك الغير معنيا، حمل اللفظ عليه على التفصيل المذكور، وإن لم يكن معنيا، فالكلام فيه كما في الخاص، إذا دلت الدلالة على أن المراد غير ظاهره. وثانيها: أن يدل على أن المراد ظاهره، جاز أن يكون المراد بعض ما يتناوله، وجاز أن يكون المراد شيئا آخر لم يتناوله الخطاب، فإذا لم يصح اجتماعهما، فلا بد من دليل يعين المراد. وثالثها: أن يدل الدليل على أن بعضه مراد، وهذا لا يقتضي خروج البعض الآخر عن أن يكون مرادا؛ لأنه لا ينافي ذلك، فإن دل على أن المراد هو البعض، خدج البعض الآخر عن كونه مراداً؛ لأن ذلك إخبارا بأن ذلك البعض هو كمال المراد. ورابعها: أن يدل الدليل على أن بعضه ليس بمراد، وحينئذ يخرج عن كونه مرادا، ويبقى ما عداه تحت ذلك الخطاب، والله أعلم.

المسألة الخامسة الخطاب الذي لا يمكن حمله على ظاهره قوله: (إما أن تدل القرينة على أن المراد ليس ظاهره، أو على أن المراد غير ظاهره). قلنا: هذه العبارة فيها إجمال، بل يقول: إما أن تدل على أن الظاهر غير مراد، أو أن المراد غير الظاهر، فإنها إذا دلت على أن الظاهر غير مراد احتمل أن يكون الظاهر غير مراد أيضا، ويكون اللفظ لم يرد به شيء، وإذا دلت على زن المراد غير الظاهر تعين أن يكون اللفظ مراداً. وأما عبارته في قوله: (دلت على أن المراد ليس ظاهره) فقد أثبت مرادا هو غير الظاهر، وهذا هو المفهوم من قوله: (المراد غير ظاهره) فيبقى تكرارا بغير فائدة. قوله: (قال القاضي عبدالجبار: لا يجوز أن يريدها كلها مع تعذر حصرها) قال القرافي: الفرق عنده بين هذه المجازات التي هي غير محصورة، وبين أفراد اللفظ العام - نح، المشركين فإنها أيضا غير محصورة مع صحة إرادتها إجماعا أن صيغ المعلوم تتناول الأفراد التي لا نهاية لها بوجه واحد. وهو مفهوم الشرك مثلا فيتبع في جميع محاله بذلك الحكم، والمجازات مختلفة الحقائق، فلا يجد السامع حقيقة واحدة يعتمد عليها في التتبع، فيضل. (وقول أبي الحسين: يصح أن يريدها على البدل) قال القرافي: تشهد له خصال الكفارة في اليمين، فإنها مختلفة الأنواع:

عتق، وكسوة، وإطعام، وأراد الله تعالى أحدها لا بعينه، فهي كلها مرادة على البدل. لكن هذا لا يمشي على قاعدة أبي الحسين، فإنه يعتقد أن الواجب في خصال الكفارة المجموع، أو واحد معين، لكن هذه المذاهب لم يصح عن المعتزلة نقلها على التحقيق، بل مقصود الفرق واحد في خصال الكفارة على ما يأتي بيانه هنالك، فيصح التنظير، ولو قال الله تعالى: من حنث في يمينه فليقترب إليّ بنوع من القرب، أو يتصدق بمشمول من المشمولات صح مع أنها مختلفات الحقائق، وتكون كلها مرادة علي البدل، فكذلك هاهنا. قوله: (من لم يجز أن يراد باللفظ معنيان مختلفان، فعنده لا بد من الدلالة علي التعيين) قلنا: هذا إشارة إلى مسألة أن المشترك لا يستعمل في مفهوماته، ويصرح بأن الخلاف في الجمع بين حقيقتين، أو مجازين، أو مجاز وحقيقة، الكل سواء في الجواز والمنع، وقد تقدم علي هذا هناك. قوله: (إن كان البعض أقوى حمل على الأقوى) قال القرافي: يريد بالبعض واحد فقط، وإلا لو كان منها عشرة قوية جاء الخلاف المتقدم، ووجب التوقف عند من يتوقف حتى يأتيه البيان. قوله: (وإن تساوت حمل اللفظ عليها بأسرها إما على البدل، وإما على الكل). قال القرافي: فكذا وقع في النسخ الصحيحة (إما)، (وإما) بالواو، وفي بعضها بغير (واو) وهو غلط. ثم قوله: (فلأنه ليس حمل الخطاب على البعض أولى من الباقي).

قال القرافي: تعليل لقوله: (يحمل على الكل) الذي هو القسم الأخير، ثم شرع في تعليل القسم الأول بقوله: (لأن الخطاب ليس عاماً). قوله: (هذا على قول من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهومه) قلنا: عليه سؤلان: الأول: أنه لما بحث في تلك المسألة لم يذكر هذا، وكان من المتعين أن ينبه عليه هناك، وأن المجازات داخلة في الخلاف كالحقائق. الثاني: أن استعمال اللفظ في مجازاته أو حقائقه، معناه: إرادة شمول الحكم، لها من إطلاق واحد، وأما إذا أراد أحدهما فمفهوم أحدهما قدر مشترك بينهما، والقدر المشترك بينهما واحد، فما كان ذلك في الحقائق، بل في مجاز واحد؛ لأن المشترك من مسميات المشترك كلها أعم منها، والأعم من الشيء غيره، فهو غير مسمياتها، فيكون مجازا، وإن كان في المجازات فهو مجاز واحد، فليس هذا من باب الجمع في شيء. قوله: (إن دل على أن الظاهر مراد، وغير الظاهر أيضا مراد فإن كان غير الظاهر مرادا وجب الحمل عليه) قلنا: هذا أيضا يتخرج على جواز استعمال المشترك في مفهوميه، أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، إلا أن يكون قد تكلم باللفظ مرتين. قوله: (إن كان عاما ودل الدليل على أن المراد ظاهره وغير ظاهره) قلنا: هذا يتصور بأن جميع أفراد العموم (.....) والذي يستعمل فيه لفظ العموم قبل دخول موجب التعميم عليه، كما يقول في البيع: إنه مجاز في المساومة، فحمل صيغة قوله تعالى: (وأحل الله البيع) [البقرة:275] على البياعات والمساومات حمل له على الظاهر، وغير الظاهر، ولا يمكن فرض غير الظاهر في العموم هو للخصوص؛ لأنه إذا حمل على العموم،

فقد دخل الخصوص فيه، فالظاهر الذي هو العموم لا يمكن بغير الخصوص ألبتة، فلا يتصور إلا كما تقدم قوله: (جاز أن يكون المراد بعض ما تناوله، أو شيئا لم يتناوله الخطاب) قلنا: معناه: البعض الذي تناوله هو الخصوص، والذي لم يتناوله هو المجاز الأجنبي كما تقدم بتمثيله قوله: (إن دل الدليل على أن المراد هو البعض خرج البعض الآخر عو كونه مراداً) معناه: إن صيغة هذا التركيب تقتضي الحصر، وإذا انحصر المراد في البعض كان البعض الآخر غير مراد، وهذا لا بد فيه من تعيين البعض المراد، وإلا يصير مجملا يتوقف البيان، بخلاف إذا قال: (البعض مراد) هدا لا يدل إلا بطريق مفهومه على أن البعض الآخر غير مراد من جهة أن ذكر البعض يخرج الكل، أما من جهة منطوقة فلا، بخلاف قولنا: (البعض هو المراد) ذلك يقتضي الحصر لفظا. قوله: (إن دل الدليل على أن البعض غير مراد بقي ماعداه تحت الخطاب) قلنا: هذا مشروط بكون البعض المخرج معينا، أما لو كان غير معين كقول المتكلم: بعض هذا العام لم أرده ولم يعينه، يعني النص كله مجملا.

المسألة السادسة في أن ثبوت حكم الخطاب، إذا تناوله على وجه المجاز لا يدل على أنه مراد بالخطاب. مثاله: قوله تعالى: (أو لامستم النساء) [المائدة:6] فإن قيام الدلالة علي وجوب التيمم على المجامع، وهو تناوله اسم الملامسة؛ على طريق الكناية، هل يدل على أنه هو المراد بالآية؟ فذهب الكرخي وأبو عبدالله البصري: إلى أنه واجب، وعندنا أنه ليس بواجب: لنا: المقتضي لإجراد الآية على ظاهرها موجود، والمعارض الموجود، وهو ثبوت حكم الخطاب فيما تناوله على وجه المجاز لا يصلح معارضا له؛ لاحتمال ثبوته بدليل آخر أوجب إجراء الآية على ظاهرها. واحتجوا بأن ثبوت الحكم في صورة المجاز لا بد له من دليل، ولا دليل سوى هذا الظاهر؛ وإلا لنقل. وإذا حمل الظاهر على مجازه، وجب ألا يحمل على الحقيقة؛ لامتناع استعمال اللفظ في مجازه وحقيقته معا. والجواب: لانسلم أنه لا دليل سوى هذا الظاهر: قوله: (لو وجد لنقل) قلنا: لعلهم استغنوا بالإجماع عن نقله، والله أعلم.

(سؤال) قال النقشواني: لفظ الملامسة يتناول الجماع وغيره

المسألة السادسة إذا تناول الخطاب حكمه على وجه المجاز قوله: (وإذا كان المجاز مرادًا لا تكون الحقيقة مرادة، لامتناع استعمال اللفظ في مجازه وحقيقته). قلنا: هذا يتخرج على الخلاف في استعمال المشترك في مفهوميه؛ لأن الخلاف في الجمع واحد كما بيّن هنالك. (سؤال) قال النقشواني: لفظ الملامسة يتناول الجماع وغيره بالمعنى العام لغة، فإذا جرى على عمومه في الصورتين لا يحتاج إلى دليل آخر، ولا يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز، فاندفعت الأسئلة. جوابه: أن هذا السؤال نشأ عن خصوص المادة، وتمثيل المسألة بالملامسة أما على المسألة فلا، ولا يلزم من فساد المثال فساد المسألة، ولا اندفاع تلك الوجوه عنها وأمثلتها بقوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكحوا آباؤكم) [النساء:22]، فإن الحكم ثابت في صورة المجاز الذي هو العقد، فإن بالعقد على المرأة تحرم على الولد، والنكاح حقيقة في التداخل، ولا يتناول اللفظ العقد لغة أصلا، فتتأتى البحوث بكمالها هاهنا، ولا يرد السؤال.

الكلام في الأوامر والنواهي

الكلام في الأوامر والنواهي وهو مرتب على مقدمة وثلاثة أقسام أما المقدمة ففيها مسائل: قال الرازي: المسألة الأولى: اتفقوا على أن لفظة الأمر حقيقة في القول المخصوص، واختلفوا في كونه حقيقة في غيره؛ فزعم بعض الفقهاء أنه حقيقة في الفعل أيضا، والجمهور على أنه مجاز فيه. وزعم أبو الحسين البصري: أنه مشترك بين القول المخصوص، وبين الشيء، وبين الصفة، وبين الشأن والطريق، والمختار: أنه حقيقة في القول المخصوص فقط. لنا: أنا أجمعنا على أنه حقيقة في القول المخصوص؛ فوجب ألا يكون حقيقة في غيره؛ دفعا للاشتراك. ومن الناس من استدل على أنه ليس حقيقة في الفعل بأمور: أحدها: لو كان لفظ الأمر حقيقة في الفعل، لاطرد؛ فكان يسمى الأكل أمرا؛ والشرب أمرًا. وثانيها: ولكان يشتق للفاعل اسم الآمر، وليس كذلك؛ لأن من قام أو قعد، لا يسمى آمرًا وثالثها: أن للأمر لوازم، ولم يوجد شيء منها في الفعل؛ فوجب ألا يكون الأمر حقيقة في الفعل.

بيان الأول: أن الأمر يدخل في الوصف بالمطيع والعاصي، وضده النهي، ويمنع منه الخرس والسكوت؛ لأنهم يستهجنون في الأخرس والساكت أن يقال: وقع منه أمر. وعدوا الأمر مطلقا من أقسام الكلام، كما عدوا الخبر مطلقا منه، وكل ذلك ينافي كون الأمر حقيقة إلا في القول. ورابعها: أنه يصح نفي الأمر عن الفعل فيقال: إنه ما أمر به، ولكن فعله. وهذه الوجوه ضعيفة. أما الأول: فلأنا لا نسلم أن من شأن الحقيقة الاطّراد، وقد تقدم بيان هذا المقام، سلمناه؛ لكن لا نسلم أنه لا يصح أن يقال للأكل والشرب أمر. وعن الثاني: ما تقدم في باب المجاز؛ أن الاشتقاق غير واجب في كل الحقائق. وعن الثالث: أن العرب إنما حكم، بتلك الصفات في الأمر، بمعنى القول؛ فإن ادعيتهم: أنهم حكموا به في كل ما يسمى أمرًا فهو ممنوع. وعن الرابع: لا نسلم أنهم جوزوا نفيه مطلقاً واحتج القائلون بأنه حقيقة في الفعل بوجهين: أحدهما: أن أهل اللغة يستعملون لفظة الأمر في الفعل، وظاهر الاستعمال الحقيقة بيان الاستعمال: القرآن، والشعر، والعرف: أما القرآن: قوله سبحانه وتعالى: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) [هود:

40] والمراد منه: العجائب التي فعلها الله تعالى، وقوله تعالى: (أتعجبين من أمر الله) [هود:73] وأراد به الفعل، وقوله: (وما أمر فرعون برشيد) [هود:97]، (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) [القمر:50] وقوله: (تجري في البحر بأمره) [الحج: 65] وقوله: (مسخرات بأمره) [الأعراف:54]. وأما الشعر فقوله [الوافر]: (لأمر ما يسود من يسود) وأما العرف: فقول العرب في خبر الزباء: (لأمر ما جدع قصير أنفه) ويقولون: (أمر فلان مستقيم، وأمره غير مستقيم) وإنما يريدون: طرائقه وأفعاله، وأحواله، ويقولون: (هذا أمر عظيم)، كما يقولون: (خطب عظيم ورأيت من فلان أمر هالني) وأما أن الأصل في الإطلاق الحقيقة، فقد تقدم. وثانيهما: أنه قد خولف بين جمع الأمر بمعنى القول، وبين جمعه بمعنى الفعل؛ فيقال في الأول: أوامر، وفي الثاني: أمور، والاشتقاق علامة الحقيقة. واحتج أبو الحسين على قوله بأن من قال: (هذا أمر) لم يدر السامع أي هذه الأمور أراد!! فإذا قال: (هذا أمر بالفعل، أو أمر فلان مستقيم، أو تحرك هذا الجسم لأمر، أو جاء زيد لأمر) عقل السامع من الأول القول، ومن الثاني الشأن، ومن الثالث: أن الجسم تحرك الشيء، ومن الرابع: أن زيدا جاء لغرض من الأغراض، وتوقف الذهن عند السماع يدل على أنه متردد بين الكل.

والجواب عن الأول: أنا لا نسلم استعمال هذا اللفظ في الفعل من حيث إنه فعل. أما قوله تعالى: (حتى إذا جاء أمرنا) [هود:40] فلم لا يجوز أن يكون المراد منه القول أو الشأن؟ والفعل يطلق عليه اسم الأمر؛ لعموم كونه شأناً، لا لخصوص كونه فعلا، وكذا الجواب عن الآية الثانية. وأما قوله تعالى: (وما أمر فرعون برشيد) [هود:97] فلم لا يجوز أن يكون المراد هو القول؟ بل الأظهر ذلك؛ لما تقدم من قوله: (فاتبعوا أمر فرعون) [هود:97]، أي: أطاعوه فيما أمرهم به!! سلمنا أنه ليس المراد منه القول، لم لا يجوز أن يكون المراد شأنه وطريقه؟! وأما قوله تعالى: (وما أمرنا إلا كواحدة) [القمر:50] فنقول: لا يجوز رجراء اللفظ على ظاهره: أما أولا، فلأنه يلزم زن يكون فعل الله تعالى واحدا، وهو باطل. وأما ثانيا: فلأنه يقتضي أن يكون كل فعل الله تعالى لا يحدث إلا كلمح البصر في السرعة، ومعلوم أنه ليس كذلك، وإذا وجب صرفه عن الظاهر، سلمنا أن المراد منه تعالى: من شزنه إذا أراد شيئا، وقع كلمح البصر. وأما قوله: (تجري في البحر بأمره) [الحج:65] (مسخرات بأمره) [الأعراف:54] فلا يجوز حمل الأمر هنا على الفعل، لأن (الجري) و (التسخير) إنما حصلا بقدرته، لا بفعله، فوجب حمله على الشأن والطريق. سلمنا أن لفظ الأمر مستعمل في الفعل، فلم قلت: إنه حقيقة فيه؟!

فإن قلتم: لأن الأصل في الكلام الحقيقة، قلنا: والأصل عدم الاشتراك، على ما تقدم. وقد تقدم بيان أنه إذا دار اللفظ بين الاشتراك والمجاز، فالمجاز أولى. والجواب عن الثاني: لم لا يجوز أن تكون الأمور جمعا للأمر بمعنى الشأن لا بمعنى الفعل؟! سلمناه؛ لكن لا نسلم أن الجمع من علامات الحقيقة؛ علي ماتقدم بيانه. فأما ما احتج به أبو الحسين، فهو بناء على تردد الذهن عند سماع تلك اللفظة بين تلك المعاني، وذلك ممنوع، فرن الذي يزعم أنه حقيقة في القول يمنع من ذلك التردد، اللهم إلا إذا وجدت قرينة مانعة من حمل اللفظ علي القول، كما إذا استعمل في موضع لا يليق به القول؛ فحينئذ يصير ذلك قرينة في أن المراد منه غير القول والله أعلم. قال القرافي: على هاتين الصيغتين إشكال وهو: أنهما على وزن فواعل، وفواعل جمع فاعلة نحو: كوافر جمع كافرة، وصواحب جمع صاحبة، ومفردهما (فَعلٌ)، (أمر) و (نهى)، ولا يجمع على فواعل. مع أن الفقهاء والأدباء اتفقوا على هذين الجمعين، فيلزم اجتماعهما على الخطأ. عنه أجوبة: أحدها: أن يمتنع (أوامر) فواعل، بل (أفاعل)، فإن جمع (أمر) (أُمُر) على وزن (فُعُل)، ثم يجمع على (أفاعل) نحو كَلب وأكلب.

وأكالب، فيكون (أوامر) جمع الجمع، وهذا لا يتم في نواهي، فإن النون في الكلمة، فتجعله من باب التغليب، نحو: الغدايا، والعشايا، فإن الأصل في (فعائل): أن تكون جمع (فعيلة) نحو زكية وزكايا، وسرية وسرايا، فتكون هذه الصيغة أصلا في (عشية)، وأما (غدايا) فجمع (غدوة) وليس جمع فعلة على فعائل، بل جمعوه جمع (عشايا) لأنه ضده، ومقابله. والعرب تحمل اللفظ على ضده كما تحمله على مثله، كذلك تكون (نواهي) محمولا على أوامر، لأن الأمر ضد النهي، وكذلك قالوا: (أخذ

ماحدث وما قدم)، فضموا الدال من (حدث) وهي مفتوحة، لأنها مع قدم وهي ضدها فسووا بينهما في ضم العين من الكلمة، وكذلك حملوا (لا) النافية على (أنَّ) المؤكدة فنصبوا بها تشبيها لها (بأنَّ) لأنها ضدها وهو كثير في لسانهم. وثانيها: أنه نقل عن العرب: (أمرته آمرة، ونهته ناهية) فيكون هذان اللفظان جمع (آمرة وناهية) قال أبو الحسين في (المعتمد): قال أئمة: (أوامر) جمع آمرة، و (أمر) لم يجمع أصلا. وقال سيف الدين الآمدي: وقال الأيباري في (شرح البرهان): هو عند الأصوليين جمع (آمر). وسيبويه، وأبو عليّ، وغيرهما من النحاة يمنعون ذلك، ويقولون: لايجمع (فعل) على (فواعل). غير أن الجوهري في (الصحاح) قال: يقول أمرته أمرًا وجمعه (أوامر) وهذا غير معروف عند أئمة العربية. وقال بعض الناس: هو جمع (أوامر) اسم فاعل، وفاعل لو كان اسما لمذكر جمع على (فواعل) نحو خاتم وخواتم، وقابل وقوابل، أو صفة لمذكر لم يجمعه على فواعل، وقد شذّ: فارس وفوارس، وهالك وهوالك، أما (فارس) فلعدم الللبس؛ لأنه لا يتصف به مؤنث، وأما (هالك) فقصدت النفس وهي مؤنثة.

وقيل: المراد الصيغة، فقد سمي الصيغة (أمر) يجوز، أو المؤنث جمع فواعل نحو فاطمة وفواطم في الأسماء، وكاتبه وكواتب في الصفات. قال: والظاهر أن الأصوليين قصدوا ما ذكره صالحب (صاحب) قال: والأمر مصدر لا يثنى، ولا يجمع إلا يجمع إلا إذا اختلفت أنواعه، وإلا تميزت عند النحاة بتعدد المحال. فقد منع سيبويه جمع (العلم) ولم ينظر إلي معتقداته، فلا يصح جمع (الأمر) إلا إذا تحقق اختلاف أنواعه، ولا يكفي تعدد التعلق، وإنما جمع لأن (أمر) الوجوب يباين (أمر) الندب باعتباره لا باعتبار متعلقاته. قال: والقول في النواهي كما تقول في الأوامر وثالثها: أن فواعل قد ورد في غير المؤنث، فقالوا (فوارس) و (هوالك) جمع (فارس) و (هالك) فيكون هذا مثله، وترك على الزول. هب أنه صح ما ذكرتموه لكنه ينبغي أن يسمع من العرب الجمع الذي هو جمعه كما سمع في (أكلب) وعلى الثاني: أنهم كما قالوا (أمره) قالوا: (أمرا)، فكما جمعوا (أمرا) ينبغي أن يجمعوا (أمرا) بطريق الأولى فإنه المشهور. وعلى الثالث: أنه شاذ، بل المشهور (فرسان) و (هلكى) هو الجمع المعتبر. (المسألة الأولى) قال القرافي: قوله: (الأمر حقيقة في القول المخصوص) معنى هذه المسألة: أن لفظ (أمر) [ألف، ميم، راء] موضوع للقدر المشترك بين سائر صيغ الأوامر من صل، وصم، وسافر، ونحوها

فمسمى هذا اللفظ (لفظ)، ومسمى ذلك اللفظ الذي هو المسمى: (الوجوب أو الندب) على الخلاف، فمسمى الأمر لفظ، ومسمى مسماه معني لا لفظ. (أمثلة) نحو الأكل، يقال: (كنا في أمر) أي: نأكل أو نجاهد والشيء: نحو قولك: اذتني بأمر، يشهد لك بأي شيء من الأشياء. والصفة: كقول الشاعر [الوافر]: عزمت على إقامة ذي صباح ... لأمر ما يسود من يسود

أي لصفة توجب السيادة لمن هو أهل لها: وقابل لوقوعها فيه والشأن: كقوله تعالى: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه) [النحل:4] أي شأننا فيما نريده أنه لا يتأخر عن الوقت الذي أريد فيه. والطريق: كقولك: أمر خرسان إظهار الخيلاء، أي عادتهم، والطريق العادة، ولكل بلد طريق وعادة. قوله: (لو كان حقيقة في الفعل، لأطرد، فيقال للأكل أمرا) قلنا: وإنه كذلك، وكيف لا يجوز ذلك، وكل فعل يسمى أمرا قوله: (لو كان حقيقة في الفعل، لأطرد فيقال للأكل أمرا) تقريره: أن الأصل في الفعل المتعدى أن يشتق منه اسم الفاعل، واسم المفعول، فكما تقول: ضرب زيد عمرا، فزيد ضارب، وعمرو مضروب، كذلك إذا أكل زيد الخبز، تقول: زيد آمر، والخبز مأمور إن كان الأمر حقيقة في الفعل، وكذلك جميع الأفعال، ولكنهم لم يقولوا ذلك، فلا يكون حقيقة في الفعل. قوله: (الأمر له لوازم لم توجد في الفعل) قلنا: القاعدة: أن اللفظ المشترك يجوز، بل يجب أن يكون لكل مسمى من مسمياته لوازم ليست لغيره، فمن لوازم (الحدقة) الإبصار دون الذهب، ومن لوازم (الذهب) الاصفرار، ومن لوازم (عين الماء) الإرواء، ولم تقع الشركة بينهما في ذلك مع أن لفظ (العين) حقيقة في الجميع على سبيل الاشتراك، كذلك هاهنا لكل مسمى لوازم لا يلزم وجودها في الآخر، ولا يلزم من ذلك كون لفظ الأمر غير مشترك، ولذلك عندهم الأمر من أقسام

الكلام لا يمنع كون لفظ الأمر مشتركا، فيكون أحد مسمياته من الكلام وبقيتها ليست منه. قوله: (يصح نفي الأمر عن الفعل، فيقال: ما أمرته لكنه فعله) قلنا: إذا كان اللفظ مشتركا بين مسميات، صح سلب كل واحد منهما عن الاخر، ولا يلزم من ذلك عدم الاشتراك في اللفظ، كما يقول: الحدقة ليست بعين، ويريد الذهب، ويقول: الذهب ليس بعين ويريد الحدقة. قوله: (لان نسلم أن شأن الحقيقة الاطراد) قلنا: الأصل والغالب ذلك، والأصل إلحاق الأحكام بالغالب، وأما كون (الأبلق) لا يقال لغير الفرس، ونحو ذلك فقليل. قوله: (الاشتاق غير واجب) قلنا: لكنه الغالب، وغيره في غاية الندرة، فجعل محل النزاع من قبيل الغالب أولى، وكون الرائحة لا يشتق منها في غاية الندرة مع زنهم قد اشتقوا منها، وقد تقدم بيانه في باب المجاز والحقيقة. قوله: (استعمل الأمر في الفعل، والأصل في الاستعمال الحقيقة) قلنا: معنى قوله (الأصل في الكلام الحقيقة) أي: هي المتبادرة في الذهن، الراجحة عند العقل، والرجحان إنما يكون مع الانفراد، فلم قلتم إن الرجحان والمبادرة مع الاشتراك، بل الإجمال هو الواقع، وعدم الفهم بالكلية، فظهر أن قول القائل: الأصل في الكلام الحقيقة لا يتم على إطلاقه، بل يشترط الانفراد، وعلى ظهور المنع في هذه المقدمة متيّسر، وهو أولى من المعارضة التي ذكرها الإمام في الجواب؛ لأن المنع أبدًا مقدم؛ لأنه إفساد لنفس الدليل، والمعارضة تسليم له.

(فائدة)

قوله: (خولف بين جمع الأمر بمعنى القول، وبين بمعنى الفعل، فقالوا في الأول: (آوامر)، وفي الثاني: (أمور، والاشتقاق علامة الحقيقة) (فائدة) قال أبو الحسين في (المعتمد): قال أئمة اللغة: (أمر) لا يجمع على (أوامر) لا في القول، ولا في الفعل، (وأوامر) جمع (آمرة) لأن العرب تقول: أمرته آمرة، ونهته ناهية. وقال سيف الدين الآمدي: قلنا: هذا يقتضي أن الجمع مشتق من المفرد؛ ولذلك ذكره في باب المجاز في قوله: يقولون: البليد جمار، وللجمع: حمر، وهو يأتي على ما قاله الميداني في حد الاشتقاق: أن تجد بين اللفظتين مشاركة في المعنى والتركيب، وبين الجمع والمفرد ذلك، فيصدق عليه الاشتقاق. أما على الاصطلاح النحاة في الاشتقاق الأصغر من المضاد فلا، وإنما يشبه هذا أن يكون من الاشتقاق الأكبر. قوله: (الجري والتسخير إنما حصلا بقدرة الله تعالى لا يفعله) قلنا: لا بد أن يخلق الله تعالى في الريح حركة توجب جرى السفينة أو في المقاديف، أو نحو ذلك. وهذه أفعال بها حصل الجرى في مجرى العادة، وأما نفس القدرة، فهي السبب الأول الفعلي، وهذه الأفعال للسبب العادي.

(تنبيه) زاد التبريزي: والمختار أنه مجاز في الكل

قوله: (لا نسلم أن الجمع من علامات الحقيقة) تقريره: أن الجمع قد يختلف في شيئين، واللفظ حقيقة فيهما، كقولهم في جمع: اليد، بمعنى الجارحة، أيد، وبمعنى النعمة: أيادي، واللفظ مشترك بينهما وقد يكون اللفظ حقيقة في أحدهما، والجمع واحد، كقولهم في البليد (حمار) وفي الحيوان (البهيم): (حمر) (تنبيه) زاد التبريزي: والمختار أنه مجاز في الكل، واستدلوا على كونه حقيقة في الفعل بعدم اشتقاق اسم الفاعل مع تطرقه إليه، وعدم منع سمعي، ثم هذا دليل لا علة فلا يلزم عليه العكس، والاعتماد فيه على لزوم الاشتراك، فإنها على خلاف الدليل، فيجب نفيه ما أمكن، وقد استدل المخالف على كونه حقيقة فيها بالإطلاق، فإنه دليل الحقيقة ظاهرا وهو معارض للزوم الاشتراك وعند التعارض التزام المجاز في الإطلاق أولى لأنه في الرتبة الثانية من مخالفة الدليل والاشتراك في أقصى المراتب على أربع درجات بعد كما سبق. يريد: أن الاشتقاق دليل الحقيقة، ولا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فإنه لا يلزم من عدم الصنعة الدالة على الصانع عدم الصانع بخلاف العلة يلزم من عدمها عدم المعلول، كما يلزم من عدم العلم عدم العالمية والاشتراك يقدم عليه المجاز، والفعل، والإضمار، والتخصيص، فهو في

الرتبة الخامسة بعد هذه الأربعة كما تقدم في المسائل العشرة في باب التعارض الحاصل بين أحوال الألفاظ. ثم قال التبريزي: ومن أبلغ ما يستدل به على كونه حقيقة في جميع مجاري الإطلاق أن الإطلاق صحيح، ولا علاقة بينهما وبين محل الحقيقة المتفق عليه، ولا بد للمجاز من علاقة. وجوابه: أن العلاقة موجودة، أما في العقل؛ فلأنه متعلق الأمر، والتعبير بالمتعلق مجاز حسن كقوله تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه) [البقرة:255] أي معلومة، وقد تقدم ذلك في أقسام المجاز، والشيء أعم من الفعل، والقول، وجميع الموجودات، والتعبير بالأعم عن الأخص مجاز حسن، وكذلك الشأن، والصفة، والعادة أعم من القول، فيكون من باب التعبير بالأعم بلفظ الأعم عن الأخص.

(تنبيه)

(تنبيه) لم يخل هاهنا أن الأمر حقيقة في الكلام النفساني مع أن العلماء قد قالوا: إن لفظ (الكلام)، و (الخبر)، و (الأمر)، و (النهي) و (التصديق)، و (التكذيب)، وجميع الأنواع المتعلقة بالكلام فيها ثلاثة مذاهب: قيل: حقيقة في النفساني، مجاز في اللساني. وقيل: العكس. وقيل: مشترك بينهما، وهو المشهور بينهم، وهاهنا سكت عن هذا التنبيه، وينبغي ذكره.

المسألة الثانية قال الرازي: ذكروا في حد الأمر بمعنى القول وجهين: أحدهما: ماقاله القاضي أبو بكر، وارتضاه جمهور الأصحاب، أنه هو: (القول المقتضى طاعة المأمور بفعل المأمور به) وهذا خطز: أما أولا: فلأن لفظتي (المأمور) و (المأمور به) مشتقان من الأمر، فيمتنع تعريفها إلا بالأمر، فلو عرفنا الأمر، بهما لزم الدور. وأما ثانيا: فلأن الطاعة عند أصحابنا موافقة الأمر، وعند المعتزلة: موافقة الإرادة، فالطاعة على قول أصحابنا: لا يمكن تعريفها إلا بالأمر، فلو عرفنا الأمر بها، لزم الدور. وثانيهما: ما ذكره أكثر المعتزلة، وهو: أن الأمر هو قول القائل لمن دونه: (افعل) أو ما يقوم مقامه. وهذا خطأ من وجوه: الأول: أنا لو قدرنا أن الواضع ما وضع لفظة (افعل) لشيء أصلا، حتى كانت هذه اللفظة من المهملات، ففي تلك الحالة: لو تلفظ الإنسان بها مع من دونه، لا يقال فيه: إنه أمر. ولو أنها صدرت عن النائم والساهي، أو على سبيل انطلاق اللسان بها اتفاقا، أو على سبيل الحكاية، لا يقال فيه إنه أمر.

ولو أنا قدّرنا أن الواضع وضع بإزاء معنى الأمر لفظ (افعل) وبإزاء معنى الخبر لفظ (افعل) لكان المتكلم بلفظ (افعل) آمراً، والمتكلم بلفظ (افعل) مخبرا. فعلمنا أن تحديد ماهية الأمر بالصيغة المخصوصة باطل. الثاني: أن المطلوب تحديد ماهية الأمر من حيث إنه الأمر، وهي حقيقة لا تختلف باختلاف اللغات، فإن التركي قد يأمر وينهى، وما ذكروه لا يتناول إلا الألفاظ العربية. فإن قلت: قوله: (أو ما يقوم مقامه): احتراز عن هذين الإشكالين اللذين ذكرتهما. قلت: قوله: (أو ما يقوم مقامه) يعني به كونه قائما مقامه في الدلالة على كونه طالبا للفعل، أو يعني به شيئا آخر؟! فإن كان المراد هو الثاني: فلا بد من بيانه؛ وإن كان المراد هو الأول، صار معنى حد الأمر هو قول القائل لمن دونه: (افعل) أو ما يقوم مقامه في الدلالة على طلب الفعل. وإذا ذكرناه على هذا الوجه، كأن قولنا: (الأمر هو اللفظ الدال على طلب الفعل) كافيا؛ وحينئذ يقع التعرض لخصوص صيغة (افعل) ضائعًا. الثالث: أنا سنبين إن شاء الله تعالى أن الرتبة غير معتبرة؛ وإذا ثبت فساد هذين الحدين، فنقول: الصحيح أن يقال: (الأمر: طلب الفعل بالقول؛ على سبيل الاستعلاء) ومن الناس من لم يعتبر ها القيد الأخير.

حد الأمر

المسألة الثانية في حد الأمر قال القرافي: قوله: (الأمر هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به) هذا الحد إنما يأتي على قولنا: إنه موضوع لرجحان الفعل فقط

أما على القول بأنه موضوع للإباحة، أو التحريم فلا يتأتى هذا الحد؛ لعدم الطاعة بالفعل في المحرم، وعدمها مطلقا في المباح. قوله: (المزمور به يمتنع تعريفهما إلا بالأمر، فلو عرفا الأمر بهما لزم الدور) قلنا: قد تقدم أن الحد: هو شرح ما دل اللفظ الأول عليه بطريق الإجمال؛ فإنا إذا قلنا في حد الإنسان: هو الحيوان الناطق يجب أن يكون السامع عالما بحقيقة الحيوان والناطق، وحينئذ يكون عالما بحقيقة الإنسان قطعا، فلم يبق التعريف إلا في بيان نسبة اللفظ لمسماه، كأنه سمع لفظ الإنسان فعلم أن له مسمى ما، ولم يعلم تفصيله، فبسطنا ذلك الإجمال، وقلنا له: هو الحيوان الناطق، ولو كان جاهلا بالحيوان، أو بالناطق لبطل حدنا لوقوع المجهول فيه، وكذلك جميع الحدود، فإذا تقرر أن الحدود كلها إنما توضع لبيان نسب الألفاظ، فجاز أن يكون السامع يعلم لفظ المأمور، ولفظ المأمور به لأي شيء هما موضوعان، ولا يعلم لفظ الأمر لأي شيء هو موضوع فيسأل عنه، فبسطنا له مسماه بهذا الحد، وعلى هذا لاتقدير يمنع أنه يمتنع تعريفهما إلا بالأمر، ويمنع لزوم الدور، وإنما تخيل لزوم الدور من وجهة أنهما مشتقان، والمشتق لا يعرف إلا بعد معرفة المشتق منه، وهو غير لازم، لإمكان أن يكون السامع لا يعلم حقيقة الاشتقاق ألبتة، أو يعلمه ولا يعلم أن هذه الصيغ من قبيل المشتقات، بل يقول: هي من أسماء الأجناس، ومتى فرض عارفا بجميع ذلك، وأنهما مشتقان من الأمر منعنا أن مثل هذا يحتاج للحد، بل هذا عالم مطلق، والحد إنما وضع لمن يجهل، فنحن بين أمرين حينئذ، إما زن نمنع الدور، أو نمنع جواز التحديد لمثل هذا السامع. وبهذا نجيب عن الطاعة بأن يكون السامع يعلم مدلول لفظ الطاعة، ولا يعلم مدلول لفظ الأمر، وآخر يعرف مدلول لفظ الزمر ولا يعلم مدلول لفظ

(تنبيه) ماذكره من حد الطاعة بموافقة الآمر يقتضي أن الطاعة لا تدخل في ترك النواهي

الطاعة، فالعالم بالطاعة يعرف له الأمر بها، والجاهل بها يعرفها له بلفظ الزمر ولا دور، وكذلك نقول في الرسوم وهو التعريف باللوازم إن من جهل لا زما معلوما لغيره لا يعرف له بذلك اللازم، ويعرف لغيره به فالتعريف في حق إنسان قد يمنع في حق غيره. وكذلك المقدمات في البراهين يركب لكل إنسان من المقدمات ما يتأتى له العلم بها دون التعذر عليه، وقد يكون ذلك المتعذر متيسرا على غيره. (تنبيه) ماذكره من حد الطاعة بموافقة الآمر يقتضي أن الطاعة لا تدخل في ترك النواهي، وهو ظاهر الاصطلاح، ولذلك في أول الكتاب جعل هذا اللفظ مع المندوب، ولم يذكره في غيره، وها لا ينافي أن ترك المحرمات قربات فإن هذا يرجع إلى اصطلاح وتسمية فقط قوله: (لو وضع لفظ الأمر للخبر، والخبر للأمر، كان أمرًا) قلنا: هذا السؤال إنما يجئ إذا فهمنا عن المعتزلة أنهم آرادوا بقولهم: (أو ما يقوم مقامه) صيغ الأوامر خاصة، وحينئذ يرد السؤال وظاهر كلامهم يشمل سائر الصيغ العربية، والعجمية، وجميع الأوضاع الممكنة، لأنه مندرج في قولهم: (أو ما يقوم مقامه) ولذلك: فإن صيغ الأوامر قد تكون (فاعل) نحو ضارب، وقد تكون (فل) نحو صم، و (فعلل) نحو (دحرج) وهي كثيرة جدا، وإنما (أفعل) واحد منها نحو (أسمع) و (أعلم) قوله: (الأمر? طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء، ومن الناس من لم يعتبر هذا القيد الأخير):

تقريره قوله (بالقول) احتراز من الكام النفساني، فإنه يصدق عليه أنه طلب الفعل، وقوله: (من الناس من لم يعتبر القيد الأخير) عدم اعتباره هو مذهب جمهود أصحابنا الأشعريين محتجين بأن الخبر يسمى خبرا صدر من أعلى أو أدنى مع استعلاء أو بدونه فكذلك الأمر، فإن أحوال المتكلمين لا تتغير في أنواع الكلام، وصدقها على مسمياتها.

(تنبيه) الفرق بين الاستعلاء والعلو

(تنبيه) الفرق بين الاستعلاء والعلو. أن الاستعلاء: هيئة للأمر، نحو رفعت الصوت، وإظهار الترفع، وغير ذلك مما سلكه أرباب الحماقات. والعلو: هيئة الآمر، كالأب مع ابنه، والسلطان مع رعيته، والسيد مع عبده، وهذا يظهر لك أن الاستعلاء ليس معتبرصا لأن أوامر الله تعالى في مواطن كثيرة في غاية التلطف، وتذكر النعم كقوله تعالى: (اتقوا ربكم الذي خلقكم) [البقرة:21] وفي موضع آخر: (الذي جعل لكم الأرض فراشا) [البقرة:22] إلى غير ذلك من زنواع تآلف القلوب والإحسان منه سبحانه وتعالى لعباده وأجمع الناس على أنها أوامر القلوب. (تنبيه) هذا الحدود إنما تجئ على القول بأن حقيقة الكلام، وأنواعه ليست بديهية، أما على القول بأنها بديهية، فلا يتصور التحديد، لأن الكسب فيما لا يقبل الكسب محال، وسنذكر بعد هذا أن حقيقته ضرورية، فتمتنع الحدود. قوله: (الأمر هو اللفظ الدال على طلب الفعل). يشكل عليه بما إذا قال: (عسى أن يأتيني زيد أو ليت فلانا يعطيني كذا) فإنه لفظ دال على الطلب ولا يسمى أمرا، وكذلك قول القائل لغيره: أوجبت عليك كذا يبطل به هذا الحد، وحدّ القاضي المتقدم أول المسألة لأنه يقتضي الطاعة، وليس بأمر، لأنه خبر فينبغي أن نقول: يدل على طلب الفعل في الرتبة الأولى، أو طلبا أوليا.

(تنبيه) قال التبريزي: من لا يقول بكلام النفس يتعين عنده جمل الأمر على العبارات

(تنبيه) قال التبريزي: من لا يقول بكلام النفس يتعين عنده جمل الأمر على العبارات والقائلون بكلام النفس منهم من جعله حقيقة في العبارة مجازا في المعنى، [ومنهم من عكس، مجاز في العبارة] لأنه حيث فهم المعنى صح الإطلاق، وإن كان التعبير عنه قد يكون بتحريك الرأس، ولمح الطرف، ولو قال لعبده: مهما نظرت إلى السماء فقد أمرتك بالكلام، فنظر، ولم يقم استحق العتب، ولو كان الأمر العبارة لكان خلفا ومحالا، ولا يمكن أن يقال: إن قوله في التعليق: (فقد أمرتك)، أمر عام بالقيام في كل حال ينظر فيها إلى السماء وقد خالفه، لأنا نقول: ذلك مفهوم من قوله: أمرتك بالقيام عند نظري إلى السماء، وبينهما فرق؛ لأن الأول: تعليق الأمر، والثاني: تقييد المأمور به، والكلام فيما إذا أرد المعنى الأول ويشهد له: قول بريرة للنبي عليه السلام: (أتأمررني يا رسول الله)، وإنما صدر عنه عليه السلام: (لو راجعته)، وأين هو من صيغة الأمر ليشتبه. (سؤال) قال سراج الدين: (في النائم، والساهي، ونحوهما: لا نسلم أنه صدق أنه قال لغيره حتى يوجد الحد، فلا يرد النقض) يريد: أنه إنما يصدق

أنه قال لغيره إذا قصد ذلك الغير بالقول، وهو لم يقصده، فلا يصدق الحد فلا نقض.

.....................................

..................................

..................................

.................................

................................

المسألة الثالثة: في ماهية الطلب قال الرازي: اعلم أن تصور ماهية الطلب حاصل لكل العقلاء على سبيل الاضطرار، فإن لم يمارس شيئا من الصنائع العلمية، ولم يعرف الحدود والرسوم قد يأمر وينهي، ويدرك تفرقة بديهية بين طلب الفعل، وبين طلب الترك، وبينهما وبين المفهوم من الخبر، ويعلم زن ما يصلح جوابا لأحدهما، لا يصلح جوابا للآخر، ولولا أن ماهية الطلب متصورة تصورا بديهيا وإلا لما صح ذلك. ثم نقول: معنى الطلب ليس نفس الصيغة، لأن ماهية الطلب لا تختلف.

باختلاف النواحي والأمم، وكان يحتمل في الصيغة التي وضعوها للخبر، زن يضعوها للأمر، وبالعكس، فماهية الطلب ليست نفس الصيغة، ولا شيئا من صفاتها، بل هي ماهية قائمة بقلب المتكلم تجري مجرى علمه وقدرته وهذه الصيغ المخصوصة دالة عليها. ويتفرع على هذه القاعدة مسائل: المسألة الأولى: أن تلك الماهية عندنا شيء غير الإرادة، وقالت المعتزلة: هي إدارة المأمور به. لنا وجوه: أولها: زن الله تعالى ما أراد من الكافر الإيمان، وقد أمره به، فدل على أن حقيقة الأمر غير حقيقة الإدارة، وغير مشروطة بها، وإنما قلنا: إنه تعالى ما أراد منه الإيمان، لوجهين: أحدهما: أنه تعالى لما علم منه أنه لا يؤمن، فلو آمن، لزم انقلاب علمه جهلا، وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال، فصدور الإيمان منه محال، والله تعالى عالم بكونه محالا، والعالم بكون الشيء محال الوجود، لا يكون مريدا له بالإتفاق، فثبت أن الله تعالى لا يريد الإيمانمن الكافر. وتمام الأسئلة والأجوبة على هذا الوجه سيأتي في مسألة (تكليف ما لا يطاق) إن شاء الله تعالى. الثاني: هو أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على وجود الداعي، والداعي مخلوق لله تعالى، دفعا للتسلسل، وعند حصول الداعي، يجب وقوع الفعل،

وإلا لزم وقوع الممكن لا عن مرجح، أو افتقاره إلى داعية أخرى، وإلا لزم التسلسل، إذا كانت الداعية مخلوقة لله تعالى، وعند وجود الداعي يجب حصول الفعل، فالله تعالى خلق في الكافر ما يوجب الكفر، فلو أراد في هذه الحالة وجود الإيمان، لزم كونه مريدا للضدين، وذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا. فثبت بهذين الوجهين أن الله تعالى ما أراد الإيمان من الكافر، وأما أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان فذلك مجمع عليه بين المسلمين. وإذا ظهرت المقدمتان، ثبت أنه وجد الأمر بدون الإرادة، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن حقيقة الأمر مغايرة لحقيقة الإرادة وغير مشروطة بها. فإن قيل: مالمراد من قولك: أمر الكافر بالإيمان؟ إن أردت به: أنه أنزل لفظا يدل على كونه مريدا لعقابه في الاخرة، إذا لم يصدر منه الإيمان، فهذا مسلم لكن معناه: نفس إدارة العقاب لا غير، فلا يحصل مطلوبكم من أنه أمر بما لم يرد. وإن عنيت شيئا آخر، فاذكره، سلمنا ذلك، لكن لا نسلم أنه ما أراد الإيمان، ولا نسلم أن إيمانه محال، وسيأتي تقرير هذا المقام في مسألة (تكليف ما لا يطاق). سلمناه؛ لكن لا نسلم أن المحال غير مراد. بيانه هو: أن الإرادة من جنس الطلب وإذا جوزت طلبت المحال مع العلم بكونه محالا، فلم لا تجوز إرادته مع العلم بكونه محالا؟ والجواب: قوله: (الأمر بالشيء عبارة عن الإخبار عن إرادته عقاب تاركه).

قلت: لو كان كذلك، لتطرق التصديق والتكذيب إلى قولهك آمنوا، لأن الخبر من شأنه قبول ذلك، ولأن سقوط العقاب جائز، أما عندنا: فبالعفو، وأما عندهم: ففي الصغائر قبل التوبة، وفي الكبائر بعدها، ولو تحقق الخبر عن وقوع العقاب، لما جاز ذلك. قوله: لم قلت: إن إرادة المحال ممتنعة!؟ قلنا: هذا متفق عليه بيننا وبينكم. وأيضا: لأن الإرادة صفة من شأنها ترجيح أحد طرفي الجائز على الآخر، وذلك في المحال محال، والعلم به ضروري. وثانيها: أن الرجل قد يقول لغيره: (إني أريد منك هذا الفعل، لكنني لا آمرك به) ولو كان الأمر هو الإرادة، لكان قوله: (أريد منك الفعل، ولا آمرك به) جاريا مجرى أن يقال: (أريد منك الفعل، ولا أريده منك) وقوله: (آمرك بهذا الفعل، ولا آمرك به) ومعلوم أن ذلك صريح التناقض، دون الأول. وثالثها: أن الحكيم قد يأمر عبده بشيء في الشاهد، ولا يريد منه أن يأتي بالمأمور به، لإظهار تمرده وسوء أدبه. فإن قلت: ذلك ليس بأمر، وإنما تصور بصورته!! قلت: التجربة إنما تحصل بالأمر، فدل على أنه أمر. ورابعها: أنه سيظهر إن شاء الله تعالى في (باب النسخ) أنه يجوز نسخ ماوجب من الفعل قبل مضى مدة الامتثال، فلو كان الأمر والنهي عبارتين عن الإرادة والكراهة، لزم أن يكون الله تعالى مريدا كارها للفعل الواحد، في الوقت الواحد من الوجه الواحد، وذلك باطل بالاتفاق

واحتج الخصم بوجهين: الأول: أن صيغة (أفعل) موضوعة لطلب الفعل، وهذا الطلب: إما الإرادة، أو غيرها، والثاني باطل، لأن الطلب الذي يغاير الإرادة: لو صح القول به، لكان أمرا خفيا لا يطلع عليه إلا الأذكياء، لكن العقلاء من أهل اللفة وضعوا هذه اللفظة للطلب الذي يعرفه كل واحد، وما ذاك إلا الإرادة، فعلمنا أن هذه الصيغة موضوعة للإرادة. الثاني: أن إرادة المأمور به، لو لم تكن معتبرة في الأمر، لصح الزمر بالماضي، والواجب، والممتنع، قياسا على الخبر، فإن إرادة المخبر عنه، لما لم تكن معتبرة في الخبر، صح تعلق الخبر بكل هذه الأشياء والجواب عن الأول: لا نسلم أن الطلب النفساني الذي يغاير الإرادة غير معلوم للعقلاء، فإنهم قد يأمرون بالشيء، ولا يريدونه، كالسيد الذي يأمر عبده بشيء ولا يريده، ليمهد عذره عند السلطان. وعن الثاني: أنه لا بد من الجامع، وعلى أن القائل بتكليف ما لا يطاق يجوزه، والله أعلم. المسألة الثانية: أن هذا الطلب معنى يقتضي ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، أو جانب الترك على جانب الفعل. وعلى التقديرين؛ فالترجيح قد يكون مانعا من الطرف الآخر، كما في الوجوب والحظر، وقد لا يكون؛ كما في الندب والكراهة. والتفاوت بين أصل الترجيح وبين الترجيح المانع من النقيض تفاوت بالعموم والخصوص.

وأيضا: فهنا لفظ دال على أصل الترجيح، ولفظ دال على الترجيح المانع من النقيض، وعلى التقديرين: فالمعتبر: إما اللفظ الدال عليه، كيف كان اللفظ، وإما اللفظة العربية، فها هنا أقسام ستة: أحدها: أصل الترجيح، وثانيها: الترجيح المانع من النقيض. وثالثها ورابعها: مطلق اللفظ الدال على الأول أو الثاني. وخامسها وسادسها: اللفظة العربية الدالة على الأول أو الثاني. ثم أن بالخيار في إطلاق لفظ الأمر على أيها شئت، أو عليها بأسرها، أو علي طائفة منها، بحسب الاشتراك، فهذا حظ البحث العقلي. وأما البحث اللغوي، فهو أن نقول: جعل الأمر اسما للصيغة الدالة على الترجيح أولى من جعله اسما لنفس الترجيح، ويدل عليه وجوه: أحدها أن أهل اللغة قالوا: الزمر من الضرب: اضرب، ومن النصر: انصر، جعلوا نفس الصيغة أمرا، وثانيها: لو قال: (إن أمرت فلانا، فعبدي حر) ثم أشار بما يفهم منه مدلول هذه الصيغة، فإنه لا يعتق، ولو كان حقيقة الزمر ما ذكرتم، لزم العتق، ولا يعارض هذا الحكم بما إذا خرس وأشار، فإنه لا يعتق، لأنا نمنع هذه المسألة. وثالثها: أنا لو جعلناه حقيقة في الصيغة، كان مجازا في المدلول، تسمية للمدلول باسم الدليل، ولو جعلناه حقيقة في المدلول، كان مجازا في الدليل؛

تسمية للدليل باسم المدلول، والأول أولى، لأنه يلزم من فهم الدليل فهم المدلول، ولا يلزم من فهم المدلول فهم الدليل، بل فهم دليل معين. ورابعها: أن الإنسان الذي قام بقلبه ذلك المعنى ولم ينطق بشيء لا يقال: إنه أمر ألبتة بشيء. وإذا قيل: (أمر فلان بكذا) تبادر الذهن إلى اللفظ دون ما في القلب، وذلك يدل على أن لفظ الأمر اسم للصيغة، لا للمدلول. احتج المخالف بالآية، والأثر والشعر، والمعقول: أما الآية: فقوله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا: نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) [المافقون:1] الله تعالى كذبهم في شهادتهم، ومعلوم أنهم كانوا صادقين في النطق اللساني، فلا بد من إثبات كلام في النفس، ليكون الكذب عائدا إليه. وأما الأثر، فقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (زورت في نفسي كلاما، فسبقني إليه أبو بكر) وأما الشعر: فقول الأخطل [الكامل]: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا وأما المعقول: فهو: أن هذه الألفاظ مفردات، فلو سميت كلاما، لكانت: إنما سميت بذلك، لكونها معرفات للمعنى النفساني، فكان يجب تسمية الكتابة والإشارة كلاما، وإنه باطل. والجواب عن الأول: أن الشهادة هي الإخبار عن الشيء مع العلم به، فلمّا لم يكونوا عالمين به، فلا جرم كذبهم الله تعالى في ادعائهم كونهم شاهدين.

فرع: الأمر اسم لمطلق اللفظ الدال على مطلق الطلب، أو اللفظ العربي الدال على مطلق الطلب؟

وعن الثاني أن قوله: (زورت في نفسي كلاما) أي: خمرته، كما يقال قدرت في نفسي دارا وبناء. وعن الثالث: أنا لا نسلم كون الشعر عربيا محضا، ولو سلمناه، فمعناه: أن المقصود من الكلام ما حصل في القلب. وعن الرابع: أنه قياس في اللغة، فلا يقبل. فرع: الأمر اسم لمطلق اللفظ الدال على مطلق الطلب، أو اللفظ العربي الدال على مطلق الطلب؟ والحق هو الأول، لأن الفارسي؛ إذا طلب من عبده شيئا بلغته، فإن العربيّ يسميه أمرًا، ولو حلف، لا يأمر، فأمر بالفارسية: يحنث في يمينه. وأما أنه اسم لمطلق اللفظ الدال على مطلق الطلب، أو لمطلق اللفظ الدال على الطلب المانع من النقيض: فالحق هو الثاني؛ وذلك إنما يظهر ببيان أن الأمر للوجوب. المسألة الثالثة: دلالة الصيغة المخصوصة على ماهية الطلب، يكفي في حققها الوضع، من غير حاجة إلى إرادة أخرى، وهو قول الكعبي. لنا وجهان: أحدهما: أن هذه الصيغة لفظ وضعت لمعنى، فلا تفتقر في إفادتها لما هي موضوعة له إلى الإرادة، كسائر الألفاظ، مثل دلالة السبع والحمار على البهيمة المخصوصة، فإنه لا حاجة فيها إلى الإرادة.

وثانيهما: أن الطلب النفساني أمر باطن، فلا بد من الاستدلال عليه بأمر ظاهر، والإرادة أمر باطن مفتقرة إلي المعرف، كافتقار الطلب إليه فلو توقفت دلالة الصيغة على الطلب على تلك الإرادة، لما أمكن الاستدلال بالصيغة على ذلك الطلب ألبتة. احتج المخالف: بأنا نميز بين ما إذا كانت الصيغة طلبا، وبين ما إذا كانت تهديدا، ولا مميز إلا الإرادة. والجواب: أنها حقيقة في الطلب، مجاز في التهديد، فكما أن الأصل في كل الألفاظ إجراؤها على حقائقها إلا عند قيام دلالة صارفة، فكذا هاهنا. المسألة الرابعة: ذهب أبو علي وأبو هشام، إلى أن إرادة المأمور به تؤثر في صيرورة صيغة افعل أمرا، وهذا خطر من وجهين: الأول: أن الأمرية، لو كانت صفة للصيغة، لكانت: إما أن تكون حاصلة لمجموع الحروف، وهو محال، لأنه لا وجود لذلك المجموع. وإما لآحداها: فيلزم أن يكون كل واحد من الحروف، التي ائتلفت صيغة الأمر منها، أمرا على الاستقلال، وهو محال. الثاني: أن صيغة (افعل) دالة بالوضع على معنى، وذلك المعنى هو إرادة المأمور، فإذا كانت الإرادة نفس المدلول، وجب ألا تفيد الصيغة الدالة عليها صفة، قياسا على سائر المسميات والأسماء المسألة الخامسة: قال جمهور المعتزلة: الآمر يجب أن يكون أعلى رتبة من المأمور، حتى يسمى الطلب أمرًا.

وقال أبو الحسين البصري: المعتبر هو الاستعلاء، لا العلو. وقال أصحابنا: لا يعتبر العلو، ولا الاستعلاء لنا: قوله تعالى: حكاية عن فرعون: أنه قال لقومه: (ماذا تأمرون) [الشعراء:35] مع أنه كان أعلى رتبة منهم. وقال عمرو بن العاص لمعاوية [الطويل]: (أمرتك أمرا جازما فعصيتني ... وكان من التوفيق قتل ابن هاشم) وقال دريد بن الصمة لنظرائه، ولمن هو فوقه [الطويل]: أمرتهم أمرى بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد وقال حباب بن المنذر يخاطب يزيد بن المهلب أمير خراسان والعراق [آلطويل]: أمرتك أمرا جازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فهذه الوجوه دالة على أن العلو غير معتبر. وأما أن الاستعلاء غير معتبر، فلأنهم يقولون: فلان أمر فلانا على وجه الرفق واللين، نعم، إذا بالغ ف يالتواضع، يمتنع إطلاق الاسم عرفا، وإن ثبت ذلك لغة. واحتج المخالف علي أن العلو معتبر، بأنه يستقبح في العرف أن يقول القائل: أمرت الأمير أو نهيته، ولا يستقبحون أن يقال: سألته أو طلبت منه، ولولا أن الرتبة معتبرة وإلا لما كان كذلك.

وأما أبو الحسين، فقال: اعتبارالاستعلاء أولى من اعتبار العلو، لأن من قال لغيره: (افعل) على سبيل التضرع إليه لا يقال: إنه أمره، وإن كان أعلى رتبة من المقول إليه. ومن قال لغيره: (افعل) على سبيل الاستعلاء، لا على سبيل التذلل يقال: إنه أمره، وإن كان المقول له أعلى رتبة منه، ولهذا يصفون من هذا سبيله، بالجهل والحمق، من حيث أمر من هو أعلى رتبة منه. واعلم: أن مدار هذا الكلام على صحة الاستعلاء، وأصحابنا يمنعون منه، والله أعلم. المسألة السادسة: لفظ الأمر قد يقام مقام الخبر، وبالعكس: أما أن الأمر قد يقام مقام الخبر، فكما في قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا لم تستح، فاصنع ما شئت) معناه: صنعت ما شئت. وأما أن الخبر يقام مقام الأمر، فكما في قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) [البقرة:233] (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) [البقرة:228] والسبب في جواز هذا المجاز: أن الأمر يدل على وجود الفعل، كما أن الخبر يدل عليه أيضا، فينهما مشابهة من هذا الوجه، فصح المجاز، وأيضا يجوز إقامة النهي مقام الخبر، وبالعكس: أما الأول: فكقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يتنكح اليتيمة حتى تستأمر) معناه: لاتنكحوها إلى غاية استئمارها.

وأما الثاني، فكقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة المرأة، ولاتنكح المرأة نفسها) وكما في قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) [الواقعة:79] ووجه المجاز: أن النهي يدل على عدم الفعل، كما أن هذا الخبر يدل على عدمه، فبينهما مشابهة من هذا الوجه والله أعلم. المسألة الثالثة تصور ماهية الطلب حاصل لكل العقلاء ضرورة قال القرافي: قوله: (يعلم كل زحد زن ما يصلح جوابا للأمر لا يصلح جوابا للنهي، ولا للخبر وبالعكس):

قلنا: الجواب: إنما في الاستفهام، فيقال: سأله فأجابه، وأما الأمر والنهي فيقال: امتثل الأمر، واجتنب النهي، لكن المصنف توسع في العبارة، فسمي كل ما يترتب على هذا جوابا، والعلاقة الترتيب. قوله: (الطلب قائم بقلب المتكلم) يريد به: الكلام النفساني، فإن أحد أقسامه الطلب. المسألة الأولى من المفرعات على هذه المسألة في أن الطلب غير الإرادة قوله: (إن الله تعالى أمر الكافر بالإيمان ولم يرده منه):

................................

...................................

........................................

قلنا: اتفقنا نحن والمعتزلة على أنه مأمور، غير أنا نقول بطلب نفساني، وهو يقولون بلفظ لساني دال على أن الله تعالى أراد منه ذلك الفعل، فلا يفيد بحث المصنف، إلا المغايرة بين الأمر والإرادة. وهم يسلمونه بناء على اللساني، فلا يحصل المطلوب. قوله: (علم من الكافر أنه لا يؤمن فلا يريد منه الإيمان، لأن خلاف المعلوم محال) قلنا: علم الله تعالى بعدم صدور الإيمان منه معناه: الإيمان الواجب لم يصدر منه، وكونه لم يفعل، والإيمان الواجب فرع من إيجابه، وإيجابه معناه: إرادته منه عندهم، فصار علم الله تعالى بعدم إيمانه الواجب فرع تركه للإيمان الذي هو فرع إيجابه عليه، فيكون علم اللع بعدم إيمانه متأخرا عن أمره بالإيمان في الرتبة الثالثة، ومشروطا به. أما تأخره فلما تقدم، وأما كونه مشروطا به فلأن العلم الخاص المتعلق.

بالمعلوم الخاص مشروطا بكون ذلك المعلوم كذلك، فلا يكون العلم منافيا للأمر بالإيمان، إما لأنه متأخر، والمتأخر لا ينافي وقوع المتقدم، وإما لأن المشروط لا ينافي شرطه. قوله: (والداعي مخلوقه لله تعالى دفعا للتسلسل)

قلنا: قد تقدم في مسألة الحسن والقبح الكلام على هذه المواضع، ثم التسلسل لازم في صدور الدواعي من غير العبد، أو يقال غير العبد له مرجح مستغن عن الترجيح، فلم لا يجوز أن يقال: وكذلك العبد؟ لأن ذلك المستغني عن المرجح لذاته هو الإرادة، لأنها لذاتها ترجح من غير افتقار منها لمرجح، وذلك غير معلل كما أن العلم يكشف لذاته غير معلل، فحينئذ إما ألا يلزم التسلسل في حق العبد، أو يلزم فيه، وفي غيره فلا يحصل المطلوب. قوله: (الله تعالى خلق في قلب الكافر ما يوجب الكفر، فلو أراد منه في هذه الحالة الإيمان لكان مريدا للضدين):

تقريره: أن الموجد لما يوجب الشيء مريدا لأثره المترتب عليه، لأنه تعالى بكل شيء عليم، فهو يعلم جميع ما يترتب على كل شيء، فحينئذ هو مريد للكفر، فلو أراد الإيمان لأراد الكفر والإيمان وهما ضدان. وهذا هو بعض فوائد قول الشافعي رضي الله عنه: إذا سلم القدرية العلم خصموا، فتنهدم بقاعدة العلم على المعتزلة قواعد كثيرة. قوله: (إن عنيتم بالأمر غير الإرادة فبينوه): قلنا: مرادنا الكلام النفساني، وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى. قوله: (الإرادة جنس الطلب): قلنا: لا نسلم، بل مخالفة له مخالفة شديدة، ولذلك إن الإرادة ترجح أحد طرفي الممكن والكلام لا يرجحه، والإرادة يجب وقوع متعلقها، والأمر لا يجب فيه ذلك، والطلب لا يتعلق إلا بالأفعال، والإرادة تتعلق بالأفعال والذوات الممكنة، وفروق كثبرة بينهما فلا يكون من جنسه. لوله: (لو كان الأمر للإخبار عن إرادة العقاب لتطرق التصديق والتكذيب إليه) قلنا: يعني بأن الأمر إخبار أنه من باب التعريف باللوازم، كما يقول: الإنسان عبارة عن الضحاك بالقوة أي الضحك بالقوة لازم له، والخبر الحاصل بطريق اللزوم لا يلزم أن يثبت له أحكام الخبر الأصلي المطابق، بل التصديق والتكذيب عندنا من لوازم الخبر الأصلي دون اللزومي، كما أن نقول: النهي يفيد التكرار إذا كان أصليًا، بخلاف النهي الذي هو لازم للأمر، لأن الأمر بالشيء عن جميع أضداده، وهذا النهي لا يفيد التكرار، بل إن كان الفعل المأمور به مرة واحدة كان الاجتناب مرة واحدة، أو مرارا كان النهي كذلك،،كذلك يقول: الإنشاءات لا تقبل التصديق

والتكذيب، وإن لزمها الإخبار عن الحكم المنشأ به، ففرق بين الحقائق إذا وقعت مقصودة، وبين إذا وقعت تابعة كما قال الفقهاء: إذا قال لعزيمه: والله لا أملك إلا درهمين، فوجد يملك درهما فقط لا يحنث، لأن المقصود بالاستثناء من النفي ليس إثبات الدرهمين، بل نفي الزائد، فإثباتهما لم يكن مقصودا فلا تثبت له أحكام المقصود كما نفى الزائد، فإثباتهما لم يكن مقصودا فلا تثبت له أحكام المقصود كما إذا قال: والله إن معي درهمين، فإنه يحنث بالنقصان عنهما، وهذه قاعدة في الأصول والفروع، وبهذا التقرير يمكن العفو عن العصاة، ولا ينافي ذلك كون الطلب مفسرا بهذا التفسير، ولا يعتقد أن المعتزلي أراد أن الأمر هبر صرف ألبتة، بل أراد أنه خبر لزومي كما تقدم، ولذلك اتفق الناس على قبول الخبر للصدق والكذب، ولم يقل به المعتزلي في الطلب قطو فظهر أن ما ذكرته هو تحقيق مذهبه. قوله: ولأن العفو جائز فيلزم الحلف، أما عندنا مطلقا، وأما عندكم فبالتوبة): قلنا: أما إذا تاب، أو اجتنب الصغائر، فقد فات الشرط الذي يخلق الله تعالى الإخبار عن العقوبة عليه فلا يلزم الخلف، ولأن إرادة الله تعالى غير واجبة النفوذ عندهم، فالإرادة للعقاب حاصلة، وإنه لم يقع العقاب، فلا خلف على التفسيرين. قوله: (وقد يقول الإنسان لغيره: أنا أريد منك هذا الفعل، ولكن لا آمرك به، فيكون الأمر غير الإرادة): قلنا: معنى لا أمرك به: أي لا آتي بالصيغة الدالة على الإرادة، فتكون الصيغة غير الإرادة، وهو متفق عليه، إنما النزاع في المغايرة بين الكلام النفسي والإرادة.

قوله: (الحكيم قد يزمر عبده بشيء في الشاهد، ولا يريده منه لإظهار تمرده): قلنا: هذا إنما هو إيهام الأمر، لا نفس الطلب الحقيقي، لأنهم صوروره في رجل ضرب عبده، فبلغ ذلك الأمير، فقال له الأمير: إنك تضرب عبدك عدوانا؟ فقال: بل هو يتمرد عليّ وها أنا آمره بين يديك فلا يمتثل، فإذا أحضره زمام الأمير، وقال له: اخرج غداً السوق، فقد أمره بالخروج، وهو يريد منه في هذه الحالة أن يخالفه ليظهر عذره عن الزمير، فهذا إيهام الأمر لا نفس الزمر النفساني الذي هو مطلوبكم. وقوله: (التجربة رنما تحصل بالأمر) قال القرافي: إن أراد النفس فممنوع لأن مجرد سماع العبد للأمر اللساني تحصل التجربة، وإن أراد اللساني، فالفرق مسلم بينه وبين الإرادة قوله: (يجوز النسخ قبل مضي مدة الامتثال): قلنا: هذا ممنوع عند الخصم، فلا يستدل به عليه. قوله: (لو لم تكن الإرادة معتبرة في الأمر لصح الأمر بالماضي كالخبر): تقريره: أن عشرة حقائق لا تتعلق إلا بالمستقبل: الأمر، والنهي، والدعاء، والشرط، وجزاؤه، والوعد، والوعيد، والترجي، والتمني، والإباحة، والخبر يتعلق بالماضي، والحال، والمستقبل، والواجب، والممكن، والمستحيل، الإرادة لا تتعلق بالماضي، فإذا لم تكن الإرادة شرطا في الأمر ساوى الأمر في عدم اشتراط الإرادة، فقاس الخصم أحدهما على الآخر بهذا الجامع.

(فائدة) قد تقدم في أول الكتاب أن حكم الذهن بأمر على أمر قد يكون مع الجزم وبدونه

ويرد عليه: أن الاشتراك في الصفات الثبوتية يقع بين الأضداد، والمختلفات، ولا يوجب ذلك قياس أحدهما على الآخر فضلا عن الاشتراك في الصفات السلبية، كما يقول: السواد شارك البياض في كونهما عرضين، ولونين ومرئيين وغير ذلك، ومع ذلك لا يمكن زن يقاس البياض على السواد في كونه جامعا للبصر، فإن المختلفات قد تشترك في بعض اللوازم، ويجب اختلافها في بعض اللوازم، فلعل الحكم النفسي هو من اللوازم التي يجب الافتراق فيها، فمن زراد القياس فلا بد أن يتبين أن المقيس والمقيس عليه مثلان، أو يبين أن الاشتراك وقع في موجب الحكم، ولا يضره وقوع الاختلاف في الحقائق، كما تقيس الغائب على الشاهد بجوامع هي موجبات الأحكام من إثبات الصفات وغيرها، أمّا مجرد إثبات جامع كيف كان في المختلفات، فذلك لا يقبل شيئًا. قوله: (وعن الثاني لا بد من الجامع): قلنا: قد جمعوا بعدم اشتراط الإرادة في كل واحد منهما، بل كان الجواب أن يقول: لا نسلم اعتبار الجامع المذكور، فإنه لا يلزم من الجماع بما ليس معتبرا أن يثبت الحكم، وهذا هو غاية ما جمعوا به، فقالوا: إذا لم تكن الإرادة معتبرة، وعدم المعتبر لا يكون معتبرا في الحكم. (فائدة) قد تقدم في أول الكتاب أن حكم الذهن بأمر على أمر قد يكون مع الجزم وبدونه، وقسمه إلى عدة أقسام، فذلك الإسناد الذي في الزحكام هو الخبر، وكل خبر كلام، فيكون الخبر والكلام قد يقع في الواجبات والمستحيلات التي لا يتصور فيها الإرادة، فيكون الكلام غير الإرادة، ويتصور في الفروض المقدورة، كقولنا: لو كان الواحد نصف العشرة لكانت العشرة اثنين مع أناّ لا نعتقد ذلك، فوقوع الكلام والخبر ها هنا وفي

القضايا المظنونة يدل على أنه غير العلم، فيكون الكلام النفساني غير العلم والإرادة، وهو قائم بالنفس، لأن هذه الأحكام قائمة بالنفوس، أو نقول: كل من علم أن الحيوان جسم فلا بد أن يسند الجسمية للحيوان، وإسناده الجسمية إليه خبر عنه، فنقول حينئذ: كل عالم بإسناد أمر إلى أمر [هو مخبر بثبوت ذلك الأمر إليه ضرورة وكل مخبر متكلم، فكل عالم بإسناد أمر إلى أمر متكلم]، وكذلك نقول: الله عز وجل عالم بإسناد أمر إلى أمر باتفاقنا، وكل عالم مخبر، وكل مخبر متكلم، فالله تعالى متكلم بكلام نفساني قائم بذاته، لأن هذه الإسنادات نفسانية قائمة بالذات، وكل متكلم يصح منه الأمر، والنهي، والخبر، ومن ذلك الكلام، فالله سبحانه وتعالى يصح منه الزمر النفساني وهو غير الإرادة والعلم، لما تقدم، فيكون فيكون أمر الله تعالى غير إرادته وعلمه، وهو معنى قائم بذاته تعالى، فظهر أن إثبات الكلام من أسهل الأشياء طريقا بهذا التقرير، مع أن المشهور أن أصعب شيء في علم الكلام إثبات الكلام، فقد تيسر ثبوته، والفرق بينه وبين غيره، بأيسر سعي، ولله الحمد، ومن العجب أنه شيء لم يقل به إلا أصحابنا، ولا غرو في أنه واحد وهو أمر، ونهي، وخبر، كما أن الخبر [واحد، وهو] بشارة ونذارة، ووعد ووعيد، وهو واحد، والسر في ذلك أن الواحد قد يتعدد باعتبار متعلقاته، فالكلام باعتبار كونه متعلقا برجحان الفعل أمرا، ويرجحان الترك نهائيا، وبالتسوية بين الأمرين إباحة، وعلي طريق البيع للوقوع يكون خبرا، وتعدد الواحد بنفسه بسبب إضافات تعرض له جائز. المسألة الثانية قال القرافي: قوله: (أنت بالخيار في إطلاق لفظ الأمر على أيها شئت). التخيير هاهنا باعتبار الإمكان العقلي لا باعتبار الجواز اللغوي، وقد تقدم حكاية التبريزي فيها ثلاثة مذاهب:

أنها للنفساني. أو اللساني. أو مشتركة. قوله: (أهل اللغة قالوا: الأمر من الضرب (اضرب): قلنا: هذا لا يأبى الاشتراك، فإنه يكون حقيقة في اللفظ، والطلب النفساني، وإنما يأبى هذا كونه موضوعا للنفساني فقط مع أن إطلاق النحاة اللفظ، وترتيب الحكم عليه لا يقتضي حقيقة ولا مجازا، بدليل ما قالوا في اسم الفاعل: إن كان بمعنى المستقبل يعمل مع أنه حينئذ مجاز إجماعا، فلعل مرادهم هاهنا إذا أطلق لفظ الأمر على الصيغة قيل فيه هذا القول. قوله: (لو حلف لا يأمر عبده فأشار نحوه بما يفهم منه الطلب لم يحنث): قلنا: لا نسلم، فقد حنثه ماله رضي الله عنه وجماعة من العلماء. قوله: (يلزم من فهم الدليل فهم المدلول بخلاف العكس) تقريره: أن فهم الصنعة يدل على فهم الصانع لا من جهة زنه صانع لا يدل على صنعته، كما أن البناء يدل على أن ثمّ بانيا قطعا، وإذا علمنا أن زيدا بن لا يلزم أن يكون بانيا شيئا، وكذلك الإتقان دليل العلم، وعلمنا بالعلم لا يلزم منه أنه ذلك العالم أتقن شيئا، لجواز عدم مباشرته لشيء ألبتة. قوله: (إذا قام به ذلك المعنى النفساني، ولم لا يقال: إنه أمر بشيء): قلنا لا نسلم، بل هذا كمن قالم به العلم، ولم يدل دليل على قيام العلم به، فإذا سألناه عن هذه الصورة قلنا: هو عالم، وإن لم يعلم

بعلمه، كذلك هنا نقول: هو أمر، وإن لم نعلم بأمره، وكذلك جميع أحوال النفس إذا لم يدل عليها دليل تثبت أحكامها لمحالها في نفس الأمر. قوله: (أثبت الله تعالى كذب المنافقين، وليس باعتبار اللساني فتعين النفساني) ?

.............................

قلنا هذا يقتضي أن الكذب يطلق على ما في النفس، والمدعي ليس هو الكذب، إنما هو الأمر، فأين أحدهما من الاخر؟ وجوابه: أن المحسن لهذا الاستدلال أن النزاع في جميع هذه الأنواع واحد: الكلام، والأمر، والنهي، والخبر، والدعاء، والتكذيب، والتصذيق، فمتى ثبت أن بعضها لما في النفس لزم أن يكون الباقي لما في النفس، فهذا هو المحسن لهذا الاستدلال، ويسمونه النظار بالغرض والبناء، وهو أن يكون الدليل يأتي في بعض صور النزاع دون بقيتها، فتتبين صورة الذي يقوم فيه الدليل، ثم يثبتون الباقي عليه لكونه لا قائل بالفرق، فيكون البعض بالدليل، والبعض بالإجماع المركب قوله: (لو سميت الألفاظ كلاما لكان لكونها معرفة لما في النفس، فيلزم ذلك في الإشارة وغيرها، وهو باطل): تقريره: أن هذه الألفاظ ينبغي ألا تسمى كلاما، لأنها لو سميت بذلك لكان لمكان دلالتها المشتركة بينها وبين الكتابة، فيلزم تسمية الجميع كلاما حقيقة، وهو باطل إجماعا. ويرد عليه: زنها تسمى كلاما لا للمشترك بينها وبين غيرها من الكتابة والإشارة، بل لأن ذلك غير معلل بمشترك ولا غيره، أو معلل بمشابهة الكلوم التي هي الجراح من جهة أن بعضها يؤلم، ويكثر ضرره كالجراح المؤذية، وبعضها يعظم نفعه كالفصادة ونحوها لدفع الأمراض المهلكة، فالكلام من الكلام، وكذلك نص عليه النحاة. وهذه المشابهة في الألفاظ أقوى من غيرها، إما لسهولة النطق بها كما تقدم في باب الكلام، وإما لكونها أوصل للنفس؟ قوله: (الشهادة: الإخبار عن الشيء مع العلم به).

(فائدة) قال بعض العلماء: قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا الله) (آل عمران:18] يحتمل الإخبار

إن أبا علي الفارسي قال: (شهد) له ثلاثة معان: أحدها: شهد بمعنى حضر، ومنه شهد بدرا، وشهد العيد. وشهد بمعني علم، ومنه قوله تعالى: (والله على كل شيء شهيد) [البروج:9]. وشهد بمعنى أخبر عن اعتقاده، ومنه قول الشاهد للحاكم: أشهد عندة بكذا أي أخبرك عن اعتقادي. فالشهادة في الآية من هذا القبيل، فعلى هذا يكون التكذيب عائدا إلى الكلام اللساني دون الكلام النفساني، كما لو قالوا: نعتقد أنك رسول الله، فكانوا كذبة في ذلك، فإن المنافقين يعتقدون خلاف ذلك، إنما الذي يعتقده من الكفار نبيا المعاند، وهو ضد المنافق، وسيأتي بسطه في تكليف الكفار بالفروع إن شاء الله تعالى. (فائدة) قال بعض العلماء: قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا الله) (آل عمران:18] يحتمل الإخبار، لأنه تعالى أخبر عباده بذلك، ويحتمل العلم، لأنه تعالى يعلم ذلك، وكذلك الملائكة، وأولو العلم حصل في حقهم القسمان، فيحتاج إلى الترجيح. وقوله: (زورت في نفسي كلاما): أي خمرته، كما تقول: (قدرت في نفسي دارا). قلنا: لم لا يجوز أن يكون الإطلاق في الكل حقيقة، وقد تقدم أن الألفاذ إنما وضعت للمعاني الذهنية، فعلى هذا لفظ الدار وغيرها حقيقة في المعاني النفسانية، وقد تقدم هناك أن التبريزي حصل له تردد في هذا المعنى.

وقال: الأمر محتمل، ومع هذا لا يتم الاستدلال والاستشهاد بالدار على المجاز، لا نسلم أن الشاعر عربي: قلنا هذا الشاعر هو الأخطل، وكان نصرانيا من نصارى العرب، ولم يزل النحاة تستشهد بشعره، كقوله [الخفيف]: إن من يدخل الكنيسة يوما ... يلق فيها جاذرا وظباء وغير ذلك من أبياته الموضوعة في كتب النحو. قوله: (المقصود من الكلام ما حصل في الفؤاد):

(سؤال) نصبه هاهنا الحجاج لمن يقول: إنها حقيقة في النفساني ... إلخ

قلنا: يريد بذلك أنه من باب إطلاق الدليل على المدلول مجازا، والأصل في الكلام الحقيقة. (سؤال) نصبه هاهنا الحجاج لمن يقول: إنها حقيقة في النفساني فقط يبطل عليه قوله: اتفقوا أنها حقيقة في القول المخصوص، والاتفاق حينئذ، ثم إنه عند تقرير الكلام، فيما تقدم قال: الصحيح عند المحققين منا أنه مشترك بين الأصوات، وبين المعنى القائم بالنفس، وارتضاه هنالك، وهنا أبطل ذلك، واختار أنه للنفساني فقط. (فائدة) استدل جماعة من العلماء على أن الكلام موضوع لما في النفس بقوله تعالى: (ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول) [المجادلة:8]، وبقوله تعالى: (استكبروا في أنفسهم) [آلفرقان:21]، أي طلبوا الكبرياء، وبقوله تعالى: (وأسروا قولكم زو اجهروا به رنه عليم بذات الصدور) [آلملك:13] فجعله في الصدور، وبقوله تعالى: (ونعلم ما توسوس به نفسه) [سورة ق:16]، والوسوسة من الكلام، وهو كثير في الكتاب والسنة، فجعل تعالى القول وغيره في النفس، والأصل في الكلام الحقيقة، وهذه الوجوه أقوى من الوجوه التي ذكرها المصنف. المسألة الثالثة قوله: (دلالة الصيغة يكفي فيها اللفظ دون الإرادة): قال سيف الدين: منهم من قال: صيغة أمر بشرط ثلاثة إرادات:

..................................

إرادة إحداث الصيغة وإرادة الدلالة بها على الأمر وإرادة الامتثال فالأولى: احتراز عن النائم إذا صدرت منه والثانية: عما أريد بها التهديد، أو غيره من المحامل. والثالثة: احتراز عن الرسول الحاكي آمر الأمر، فإن الرسل عليهم السلام مبلغون لا آمرون، والأولى متفق عليه، والثانية هي التي أراد بها المصنف، والثالثة هي التي عملها مسألة أخرى، وسماها: إرداة المأمور به. وقال الغزالي في (المستصفى): لمنكري كلام النفس خمسة أقوال: أحدهما: قال البلخي من المعتزلة وغيره: الأمر حروف نحو (افعل) وما في معناه، وهو أمر لذاته وجنسه، ولا يتصور إلا أن يكون أمرا، وما ورد في التهديد وغيره جنس آخر، قال: وقوله: جنس آخر مكابرة. وثانيها: قول جماعة من الفقهاء: الصيغة ليست أمراً، بل مع التجرد عن القرائن الصارفة إلى التهديد وغيره، وكذلك إذا صدرت من النائم والمجنون لم يكن أمرا وثالثها: هذه الصيغة ليست أمرا حتى تصرفها القرينة للأمر. ورابعها: لمحققي المعتزلة: لا يكون صيغة [الكامل أمرا] إلا بالإادات الثلاثة المتقدمة.

وخامسها: لبعضهم: يكفي إرادة واحدة وهو إرادة المأمور به. قوله: (لفظة وضعت لمعنى فلا تفتقر في إرادتها لذلك المعنى لغيرها، كدلالة (السبع) على البهيمة وغيره من الألفاظ): قلنا: هذا عليه سؤال: وهو أنه إثبات اللغة بالقياس، فللخصم منع ذلك بناء على الخلاف فيه. جوابه: أن مثل هذا الكلام تارة يذكر للقياس، وتارة يذكر للتمثيل والتنبيه، فلا يكون قياسا، وهو المراد هاهنا كقولنا في الفروع المشتقة: متي عظمت أسقطها الشرع كما في الجنب إذا خاف الموت على نفسه من الغُسل، والصائم إذا خشى الهلاك من الصوم، فالمقصود التنبيه حتى يتفطن السامع فيجزم، بذلك لما حصل له من التفطن بسبب المثل لتلك القاعدة لا بالقياس على تلك الصور، وكذلك يقول: التواتر يفيد اليقين بليل الإخبار عن وجود (بغداد)، والقرائن تفيد العلم وتمثل صورة، والعلوم العادية تكون مع الجواز، العقلي بدليل أنا نجزم بأن النيل لم ينقلب عسلاً أو زيتاً،

(سؤال)

ونحو ذلك، مقصودنا التنبيه دون القياس، وإلا فهذه مواطن لا يدخلها القياس، ومن لم يتفطن لهذه القاعدة يعتقد أن هذا قياس، أو إثبات الدعوى الكلية بالمثل الجزئية، فيمنع على ذلك، وليس كذلك، بل هذا للتنبيه لا للاستدلال. قوله: (ولأن الطلب النفساني أمر باطن، فلا بد من الاستدلال عليه بأمر ظاهر، والإرادة أمر باطن مفتقرة للعرف، كافتقار الطلب إليه، فلو افتقرت دلالة الصيغة على الطلب إلى تلك الإرادة لما أمكن الاستدلال بالصيغة على الطلب). قلنا: هذا الكلام يقتضي أن الطلب غير الإرادة، والخصم لا يساعد عليه، ولا يستدل عليه بما لا يعتقده. (سؤال) الخصم يقول: أثر هذه الإرادة تعيين الصيغة للطلب، لأنها داذرة بين خمسة عشر محملا، فهي عنده كالكناية لا يتعين للمكني عنه إلا بالإدارة في الطلاق وغيره، ولم يقل: إنها توجب فهما للسامع، بل فهم السامع يحصل بأمور خارجية، كما في الكنايات، فالدلالة التي هي فهم السامع غير متوقفة على الإرادة، فلا ينتظم الاستدلال. ويذل على ذلك: حجة الخصم، وجوابه عنها. (تنبيه) إرادة المأمور به وإرادة استعمال اللفظ في الطلب وكون إرادة المأمور به تقييدا للصيغة أمر به. فنحن ننفي الثلاثة، وهم يثبتونها.

تنبيه

تنبيه قال التبريزي: موضع هذه المسألة كلام آخر: فقال: إذا قلنا: الأمر اسم للصيغة، فهل المسمى الصيغة المجردة؟ أو بشرط زمر زائد وهو الحق بدليل صحة السلب، فمهما فهم منها معنى التهديد أو الدعاء وغيرها فلا يعارض هذا صحة تسميتها أمرا عند الإطلاق والتجرد من القرينة، فإنا وإن سلمنا ذلك نجيب عنه بأن سببه بناء الأمر على الظاهر من استعمالها في موضوعها، لأنها هي المسمى بالأمر، كما يقتضي في سائر الألفاظ أنها حقيقة عند التجرد، فإذا انكشف الغيب رجعنا إليه. وإذا صح أن تجرد الصيغة ليس بأمر، بل باعتبار أمر يتضمنه فالذي يتضمنه ليستحق اسم الأمر هل هو الإرادة أو الطلب؟ قولان. فهذا الكلام من التبريزي يقتضي غير هذه المسألة، بل التي قبلها، وهو أن لفظ الكلام والأمر وغيرهما هل هو موضوعه للنفساني أو اللساني؟ فقوله: هذا يقتضي أنه موضوع لموجموعهما، وهو قول غير محكيّ، فتصير الأقوال أربعة،: النفساني، اللساني، اللفظ المشترك بينهما، هو موضوع لمجموعهما. المسألة الرابعة قوله: (إرادة المأمور به تؤثر في صيرورة الصيغة أمرًا)

(سؤال)

قوله: (إن حصلت الآمرية لكل واحد من الحروف لزم أن يكون كل حرف أمرًا): تقريره: أن كل معنى قائم بمحل أوجب حكمه لذلك المحل، فمن قامت به الحركة فهو متحرك، أو العلم فعالم، ونحوهما، فإذا قام هذا الوصف بحرف سميأمرا، وهو باطل اتفاقا قوله: (لا تفيد الإدارة الصيغة صفة، لأنها مدلولها عند الخصوم قياسا على ساذر المدلولات): قلنا: يرد عليه سؤال: منع القياس في اللغات. ويجاب: بأن المراد التنبيه دون القياس كما تقدم. (سؤال) قال النقشواني: المعنى بأن الإرادة عندهم تؤثر أن السامع إذا فهم من المتكلم أنه أراد منه الفعل اعتقد أن الصيغة للأمر والطلب، وإن لم يفهم ذلك لا يحمله على الطلب، وحينئذ تندفع الأسئلة، والآمرية ليست صفة ثابتة.

عندهم، بل أمر ذهني اعتباري، وجميع ما قاله ينتفقض بالخبرية في الخبر، وجميع الهيئات الذهنية التي هي نسب وإضافات. المسألة الخامسة لا يشترط في الأمر العلو

قوله: (وقال عمرو بن العاص لمعاويه رضي الله عنهما [آلطويل]: أمرتك أمرا جازما فعصيتني وكان من التوفيق قتل ابن هاشم) عجز البيت وقع في بعض النسخ دون بعض. وربما توهم أن هاشم هو: علي بن أبي طالب وليس كذلك، بل

(تنبيه) تقدم في حد الأمر الفرق بين الاستعلاء والعلو وحقيقتهما

المنقول في التاريخ أن هاشما خرج بـ (آلعراق) على معاوية رضي الله عنه فأمسكه فأشار عليه عمرو بقتله، لأنه لا يؤمن مخالفة معاوية، فأطلقه، فخرج عليه مرة أخرى، فأنشده عمرو البيت في ذلك لا في علي كرم الله وجهه (تنبيه) تقدم في حد الأمر الفرق بين الاستعلاء والعلو وحقيقتهما المسألة السادسة قوله: (لفظ الأمر مقام الخبر وبالعكس مثال لفظ الأمر للخبر: قوله عليه السلام: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت): قلنا من العلماء من قال: هو أمر على بابه، ومعناه: اختبر الفعل، فإن كان إذا اطلع الناس عليك إن فعلته، فلم تستح منهم فافعل، حينئذ منه ما شئت، وإن كنت تجد نفسك تستحي منهم، فلا تقدم عليه، كما قال الشاعر [الكامل]:

والستر دون الفاحشات، وما ... يلقاك، دون الخير، من ستر وعلى هذه الطريقة يكون المراد بهذا الحديث: أهل النفوس الشريفة الكريمة التي شزنها أن تستحي من القبائح، أما اللئيمون الخبيثون الذين لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا فلا يقام لهم ذلك، لأنهم لا يستحون من شيء. (تنبيه) ويتعارض في هذا المقام المجاز والتخصيص، فعلى رأي المصنف يلزم المجاز، وعلى رأي غيره يلزم التخصيص، وهو أولى لما تقدم في مسائل التعارض. قوله: (والخبر القائم مقام الأمر، كقوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) [البقرة:233]: تقريره: أن الأمر للغائب إنما يكون باللام، نحو ليقم زيد،، ليخرج عمرو، وإنما يكون الزمر بغير لام المخاطب نحو (صم)، (صل)، ولفظ الوالدات لفظ غيبة، فلما وجد بدون اللام دل على أنه خبر أريد به الأمر، وإلا لزم الخلف، لأن بعض الوالدات لا يرضع ذلك، وخبر الله تعالى يجب أن يكون صدقا، فلذلك تعين صرفه للأمر، وهو القاعدة في كل خبر، ويتعذر فيه إجراؤه على الخبرية يتعين صرفه لغيرها. قوله: (يجوز إقامة النهي مقام الخبر وبالعكس). أما الأول: فقوله عليه السلام: (لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر).

و (لا تنكح المرأة المرأة) قلت: كشفت عدة نسخ فوجدتها هكذا. أما (الأولى) واللائق أن يقول: (أما الثاني)، فإن هذه المثل وردت في الأحاديث المرفوعة الأواخر لا مجزومة الأواخر، والرفع لا يكون في النهي، لأن النهي مجزوم، فتكون هذه المثل مثلا لإقامة الخبر مقام النهي، لا إقامة النهي مقام الخبر فتأمل ذلك، ثم إنه مثل لأحد القسمين دون الآخر. ومثال النهي القائم مقام الخبر، الذي تركه، وإن كان لفظه يقتضي غير ذلك قولنا: إن لم يكن الفعل قبيحا فلا تستح منه، أي: أنت لا تستحي منه حينئذ، وإن علمت زنه خائن فلا تطمئن إليه، أي هذا شأنك معه، ومن هذه المسألة قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم] [العنكبوت:12]، وهم لا يأمرون أنفسهم، فيكون ذلك خبرا تقديره: نحن نحمل خطاياكم. وكذلك قوله تعالى: (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) [مريم:75]، أي مد له الرحمن مدا لأن الله تعالى لا يأمر نفسه وهذا المثل أصرح من المتقدمة.

(فائدة) ذكر المصنف العلاقة المصححة للتجوز ... إلخ

(فائدة) ذكر المصنف العلاقة المصححة للتجوز بأحد هذه الأقسام إلى الأخرى، ثم عدل عن الحقيقة إلي المجاز.،سبب ذلك هو غير العلاقة كما نقول العلاقة بين زيد والأسد الشجاعة. وسبب العدول: تقوية المعني في نفس السامع، فإن قولنا: (هو أسد) أبلغ من قولنا: (هو شجاع)، والسبب هاهنا أن التعبير بالخبر عن الأمر أو النهي أن الخبر مدلوله واقع جزما، فاستعارته للطلب ليدل على تأكيد المطلوب عند الطالب حتى إنه من قوة طلبه له هو عنده بمنزلة الواقع عيانا. وسبب التجوز بالأمر والنهي إلى الخبر: أن الطلب للطالب فيه داعية.

ورغبة، وقد يخبر الإنسان بما لا رغبة له فيه، فاستعارة ما فيه رغبة تدل على قوة عناية المخبر بذلك الخبر، فيكون ذلك واقعا في نفس السامع. قوله: (كما في قوله تعالى (لا يمسه إلا المطهرون) [آلواقعة:79]. يعني: زن هذا الخبر، ومراده النهي عن المسيس إلا بطاهرة، وهذه الآية فيها أقوال: أحدها: أنها خبر على ما قلناه، والمراد الملائكة لقوله تعالى: (بأيدي سفرة*كرام بررة) [عبس:15،16]. قيل: هي نهي مجزوم، والحركة فيه لأجل التضعيق، لأن الفعل المشدد الآخر فيه ثلاث لغات. يقول: شده بضم الدال، لأنه الأصل في المضارع، ويفتحها طلبا للخفة، وبكشرها لالتقاء الساكنين. وقيل: الضمة في (لا يمسه) لاتباع الهاء التي بعد السين، لأن الهاء مضمومة، فضمت السين لذلك إتباعاً.

القسم الأول في المباحث اللفظية، وفيه مسائل

القسم الأول في المباحث اللفظية، وفيه مسائل: قال الرازي: المسألة الأولى: قال الأصوليون: صيغة (افعل) مستعملة في خمسة عشر وجها: الأول: الإيجاب كقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) [البقرة:43] الثاني: الندب، كقوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) [البقرة:195]. (واحسنوا) [آلنور:33] ويقرب منه (التأديب)، كقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مما يليك) فإن الأدب مندوب إليه، وإن كان قد جعله بعضهم قسما مغايرا للمندوب. الثالث: الإرشاد: مقوله تعالى (واستشهدوا شهدين)، (فاكتبوه) [البقرة:282] والفرق بين الندب والإرشاد: أن الندب لثواب الآخرة، والإرشاد لمنافع الدنيا، فإنه لا ينتقص الثواب بترك الاسترشاد في المداينات ولا يزيد بفعله. الرابع: الإباحة، مقوله تعالى: (كلوا واشربوا) [الحاقة:24]. والخامس: التهديد، كقوله تعالى (اعلموا ما شئتم) [فصلت: 40] (واستفزز من استطعت منهم صوتك) [الإسراء:64] ويقرب منه الإنذار، كقوله تعالى: (قل تمتعوا) [إبراهيم:30] وإن كانوا قد جعلوه قسما آخر.

السادس الامتنان، (فكلوا مما رزقكم الله) [النحل:114] السابع: الإكرام: (ادخلوها بسلام آمنين) [الحجر:46] الثامن: التسخير: كقوله: (كونوا قردة) [آلبقرة:65] التاسع: التعجيز، (فأتوا بسورة) [البقرة:23]. العاشر: الرهانة، (ذق إنك أنت العزيز الكريم) [آلدخان:49] الحادي عشر: التسوية (فاصبروا أو لا تصبروا) [الطور:16] الثاني عشر: الدعاء (رب اغفر لي) [الأعراف: 151] الثالث عشر: التمني، كقوله [الطويل]: ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ........... الرابع عشر: الاحتقار، كقوله (ألقوا ما أنتم ملقون) [الشعراء:43] الخامس عشر: التكوين كقوله (كن فيكون) [يس:82] إذا عرفت هذا، فنقول: اتفقوا على أن صيغة (افعل) ليست حقيقة في جميع هذه الوجوه، لأن خصوصية التسخير والتعجيز والتسوية غير مستفادة من مجرد هذه الصيغة، بل إنما تفهم تلك من القرائن. إنما الذي وقع فيه الخلاف أمور خمسة: الوجوب، والندب، والإباحة، والتنزيه، والتحريم: فمن الناس من جعل هذه الصيغة مشتركة بين هذه الخمسة، ومنهم من

جعلها مشتركة بين الوجوب، والندب، والإباحة، ومنهم من جعلها حقيقة لأقل المراتب، وهو الإباحة. والحق: أنها ليست حقيقة في هذه الأمور. لنا: أنا ندرك التفرقة في اللغات كلها بين قوله: (افعل) وبين قوله: (إن شئت فافعل)، وإن شئت فلا تفعل) حتي إذا قّدرنا انتفاء القرائن كلها، وقدرنا هذه الصيغة منقولة على سبيل الحكاية عن ميت أو غائب، لا في فعل معين، حتى يتوهم فيه قرينة دالة، بل في الفعل مطلقا سبق إلى فهمنا اختلاف معاني هذه الصيغ، وعلمنا أنها ليست أسامي مترادفة على معنى واحد. كما ندرك التفرقة بين قولهم: (قام زيد، ويقوم زيد) في أن الزول للماضي والثاني للمستقبل، وإن كان قد يعبر عن الماضي بالمستقبل، وبالعكس، لقرائن تدل عليه. فكذلك ميزوا الأمر عن النهي فقالوا: (الأمر أن تقول: (افعل) والنهي أن تقول: (لاتفعل) فهذا أمر معلوم بالضرورة من اللغات، لا يشككنا فيه إطلاقه مع قرينة علي الإباحة أو التهديد. فرن قيل: تدعى الفرق بين (افعل)، و (لا تفعل) في حق من يعتقد كون اللفظ موضوعا للكل حقيقة، أو في حق من لا يعتقد ذلك؟! الأول ممنوع، والثاني مسلم. بيانه: أن كل من اعتقد كون هذه اللفظة موضوعة لهذه المعاني، فرنه يحصل في ذهنه الاستواء. أما من لا يعتقد ذلك، فإنه لا يحصل عنده الرجحان.

سلمنا الرجحان، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك، للعرف الطارئ، لا في أصل الوضع، كما في الألفاظ العرفية؟! سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك، لكنه معارض بما يدل على نقيضه: وهو: أن الصيغة قد جاءت بمعنى التهديد، والإباحة، والأصل في الكلام الحقيقة. والجواب عن الأول: أنه مكابرة، فإنا نعلم عند انتفاء كل القرائن بأسرها: أنه يكون فهم الطلب من لفظ (افعل) راجحا على قولهم فهم التهديد والإباحة. وعن الثاني: أن الأصل عدم التغيير. وعن الثالث: أنك قد عرفت أن المجاز أولى من الاشتراك، ووجه المجاز: أن هذه الأمور الخمسة، أعني: الوجوب، والندب، والإباحة، والتنزيه، والتحريم أضداد، وإطلاق اسم الضد، على الضد أحد وجوه المجاز، والله أعلم.

المسألة الأولى صيغة الأمر تستعمل في خمسة عشر وجها قال القرافي: قوله (ويقرب من الندب التأديب نحو قوله عليه السلام: (كل مما يليك)

والفرق بينهما أن التأديب يختص بإصلاح الأخلاق النفسية، فهو أخص من المندوب، لأن الندب يكون في غير ذلك، فإن صلاة النافلة مندوبة، وليست من هذا الباب. قوله: (التهديد نحو قوله تعالى: (اعملوا ما شئتم) [فصلت:4] ويقرب من هذا الإنذار كقوله تعالى: (قل تمتعوا) [إبراهيم:30] قلت: الفرق بينهما أن التهديد في عرف الاستعمال أبلغ في الوعيد والغضب، والإنذار قد يكون بفعل الغير، وكذلك الرسل، عليهم السلام، منذورون بعقاب الله تعالى ولا يقال لهم: مهددون، لأن التهديد يختص بفعل المهدد نفسه، قوله: (التسخير) كقوله تعالى: (كونوا قردة خاسئين) [الأعراف: 166]

قلنا: اللائق بهذا القسم أن يسمى سخرية لا تسخير، لأن السخرية الهزو، كقوله تعالى: (ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) [الزخرف:32] (وإن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) [هود:38] فأما التسخير: فهو نعمة وإكرام، لقوله تعالى: (وسخر لكم الليل والنهار) [إبراهيم:33]، (وسخر لكم الأنهار) [إبراهيم:32] و (سخر لكم الشمس والقمر) [إبراهيم:33] ونحو ذلك ووقع في (المستصفى) وغيره عبارة (المحصول) بعينها، ومنه نقل والله أعلم قوله: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) [الدخان:49] قال جماعة: هذا يسمى التهكم، وضابطه: أن يؤتى بلفظ داال على الخير والكرامة، واملراد ضد ذلك، كقوله تعالى: (هذا نزلهم يوم

الدين) [الواقعة:56]، والنزل ما يصنع للضيف عند نزوله، وقوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) [آل عمران:21]، والبشارة في العرف: إنما تكون بالمسار لا بالعذاب، ومنه قول الشاعر [الوافر]: قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرادة طحونا أي صخرة عظيمة، ففي هذه الصور كلها أطلق لفظ الخير، وأريد به ضده لذلك المراد، ذق إنك أنت الذليل اللئيم، فعبر بلفظ ضد ذلك عنه. قوله: (التسوية، كقوله تعالى: (اصبروا أو لا تصبروا) [الطور:16].

قلنا: المستعمل ها هنا في التسوية هو المجموع المركب من صيغتين: من الزمر مع صيغة، أو فهذا المجموع هو المستعمل في التسوية، فلا يصدق عليه أن المستعمل ههو صيغة الأمر من حيث الأمر، وهكذا. قوله: التمني كقوله [الطويل]: ألا أيها الليل الطويل ألا انجل .............. المستعمل في التمني هو صيغة الأمر مع صيغة ألا، لا الصيغة وحدها. قوله: (التكوين، كقوله تعالى: (كن فيكون) [البقرة:217ّ] قلنا: ليس المراد هاهنا التكوين، فإن الله تعالى لا يكون الممكنات بكلامه، بل بقدرته، واملعدوم لا يؤمر بأن يكون نفسه، بل الصحيح في هذه الآية أنها من باب مجاز التشبيه. تقديره: إنما شأننا في إيجاد الشيء إذا أردناه أن نقول له: كن فيكون، أي لا يتأخر عن إرادتنا طرفة عين، بخلاف البشر قد يتأخر مراده عن إرادته.

فمعنى الآية: أرأيتم إذا أمر أحدكم فلا يتأخر مأموره عن أمره ذرة، كذلك مقدوري مع قدرتي وإرادتي، لقول الله تعالى، فهو مجاز شبه وأضاف الأمر إليه بعده ليكون ذلك أبلغ في ألا يتأخر المأمور عن الأمر، فصار هذا المركب إخبارا عن هذا المعنى من عدم التأخير عن القدرة والإرادة. ولذلك صرح سيف الدين بهذا المعنى، فلم يقل: (التكوين)، بل قال:،يرد لكما القدرة كقوله تعالى: (كن فيكون)

(سؤال)

(سؤال) أورد عليه بعض الفضلاء (التعجب)، نحو قوله تعالى: (أسمع بهم وأبصر) [مريم:38] وقول العرب: أكرم بزيد (والخبر) نحو قوله تعالى: (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) [مريم:75] وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم) [العنكبوت:12] أي مد له الرحمن مدا ونحن نحمل خطاياكم، فإن الآمر لا يأمر نفسه، فتعين الخبر. وقد ذكره الإمام مسألة مستقلة، فبقي عليه من الاستقراء هذان النوعان فيكون سبعة عشر، وزاد الإمام في (البرهان): (التفويض) كقوله تعالى (فاقض ما أنت قاض) [طه:72] وقال في قوله تعالى: (كونوا قردة خاسئين) [الأعراف:166]: هو التكوين، ولم يذكر التسخير ألبتة، فيصير ثمانية عشر.

سؤال المجاز لا بد له من علاقة، ولا علاقة في هذه المعاني، بل بعضها في غاية البعد عن الحقيقة نحو التهديد، فإنه بعيد من الإيجاب

سؤال المجاز لا بد له من علاقة، ولا علاقة في هذه المعاني، بل بعضها في غاية البعد عن الحقيقة نحو التهديد، فإنه بعيد من الإيجاب. جوابه: أنها من مجازات التشبيه وتقريره: أن الندب والتأديب والإرشاد فيها معنى الرجحان، وهو مشابه للوجوب، لوجوده في الوجوب والإباحة جواز الإقدام، وهو صفة الوجوب، لأن كل ما وجب جاز فعله. (والتهديد، كقوله تعالى: (اعملوا ما شئتم) [فصلت:40] معناه: أنتم بصفة من بعد عن الخير والانضباط، فشأنكم أن تؤمروا بالمفاسد لقبح ما أنتم عليه، كقوله عليه السلام: (من شرب الخمر فليشقص الخنازير) أي من وصل هذه الغاية فينبغي أن يكون جزارا للخنازير. وهذا الكلام من الرسول صلى الله عليه وسلم في غاية التهديد الدال على تمكن الغضب، وهو أمر لهم على تقديره كونهم موضوفين بهذه الصفة، والأمر المقدر مشابه المحقق في كونه أمرا، والإلزام بضد هذا، أي: أنتم بصفة من يؤمر بأكل السيبات، ويلزم دار الكرامات، فهو يشبه الإيجاب، والتعجيز والسخرية فيه طلب إظهار العجز والامتهان بهم، ففيه طلب حصل به التشبيه للوجوب، لأن الأمر طلب لمصلحة الفعل، وهذه أوامر لمصالح أخرى غير مصلحة الفعل، فاشتركا في مفهوم الطلب، وإن اختلفت مقاصده، والرهانة لأجل الإهانة، والتسوية طلب لمقصود.

التسوية، والدعاء أمر محقق، لأنه طلب جازم لمصلحة الفعل، وإنما يمتنع إطلاقه أدبا مع الله تعالى، والنهي طلب في طرق العدم، فهو يشابه الأمر في مفهوم الطلب الجازم والاحتقار طلب لإظهار الحقارة، والتعجب والخبر فيهما مشابهة صورة التركيب اللفظي كما قلنا في المجاز في التركيب وإن العلاقة فيه مشابهة صورة اللفظ والفرق بينه وبين مجاز الاستعارة: أن المستعار اعتبر فيه اللفظ والمعنى أيضا بالتخيل في محل المجاز، وفي التركيب اعتبر اللفظ فقط. قوله: (يدعى الفرق بين (افعل) و (لا تفعل) عند من يعتقد أن اللفظ موضوع للكل حقيقة أم لا؟) الأول: ممنوع، والثاني، مسلم، ولا يحصل المقصود) قلنا: نحن ندعى ذلك عند أهل العرف، والعرف حجة على الفريقين، لأن الأصل عدم النقل والتغيير.

المسألة الثانية قال الرازي: الحق عندنا أن لفظة (افعل) حقيقة في الترجيح المانع من النقيض، وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين، وقال أبو هاشم: إنه يفيد الندب ومنهم من قال بالوقف، وهو فرق ثلاث: الفرقة الأولى: الذين يقولون: إنه حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو ترجيح الفعل على الترك، ثم الوجوب يمتاز عن الندب، بامتناع الترك، والندب يمتاز عن الوجوب، بجواز الترك، وليس في الصيغة إشعار بهذين القيدين. ويليق بمذهب هؤلاء أن يقولوا: إنه يجب حمله على الندب، لأن اللفظ يفيد رجحان الفعل على الترك، وليس فيه ما يدل على المنع من الترك، وقد كان جواز الترك معلوما بحكم الاستصحاب، وإذا كان كذلك، كان جواز الترك بحكم الاستصحاب، ورجحان الفعل بدلالة اللفظ، ولا معنى للندب إلا ذلك. الفرقة الثانية: الذين قالوا: إن صيغة (افعل) موضوعة للوجوب والندب على سبيل الاشتراك اللفظي، وهو قول المرتضي من الشيعة. الفرقة الثالثة: الذين قالوا: إنها حقيقة: إما في الوجوب فقط، أو في الندب فقط أو فيهما معا بالاشتراك، لكنا لا ندري، ماهو الحق من هذه الأقسام الثلاثة، فلا جرم توقفنا في الكل، وهو قول الغزالي منّا

لنا وجوه: الدليل الأول: التمسك بقوله تعالى لإبليس: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) [الأعراف:12] وليس المراد منه الاستفهام بالاتفاق، بل الذم، فإنه لا عذر له في الإخلال بالسجود بعد ورود الزمر به، هذا هو المفهوم من قول السيد لعبده: (ما منعك من دخول الدار، إذ أمرتك) إذا لم يكن مستفهما، ولو لم يكن الأمر دالا على الوجوب، لما ذمه الله تعالى على الترك، ولكان لإبليس أن يقول: إنك ما ألزمتني السجود. فإن قلت: لعل الأمر في تلك اللغة كان يفيد الوجوب، فلم قلتم: إنه في هذه اللغة للوجوب؟! قلنا: الظاهر يقتضي ترتيب الذم على مخالفة الأمر فتخصيصه بأمر خاص خلاف الظاهر. الدليل الثاني: التمسك بقوله تعالى (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) [المرسلات:48] ذمهم على أنهم تركوا فعل ما قيل لهم: افعلوه ولو كان الأمر يفيد الندب، لما حسن هذا الكلام، كما إذا قيل لهم:] الأولى أن تفعلوه، ويجوز لكم تركه) فإنه ليس لنا أن نذمهم على تركه. فإن قلت: إنما ذمهم لا لأنهم تركوا المأمور به، بل لأنهم لم يعتقدوا حقيقة الأمر، والدليل عليه: قوله تعالى: (ويل يومئذ للمكذبين) [المرسلات:47] وأيضا: فصيغة (افعل) قد تفيد الوجوب عند اقتران بعض القرائن بها، فلعله تعالى إنما ذمهم لأنه كان قد وجدت قرينة دالة على الوجوب.

والجواب عن الأول: أن المكذبين في قوله تعالى: (ويل يومئذ للمكذبين) [المرسلات:47] إما أن يكونوا هو الذين تركوا الركوع، لما قيل لهم: (اركعوا) أو غيرهم: فإن كان الأول: جاز أن يستحقوا الذم بترك الركوع، والويل، بسبب التكذيب، فإن عندنا الكافر كما يستحق العقاب، بترك الإيمان، يستحق الذم والعقاب أيضا، بترك العبادات. وإن كان الثاني: لم يكن إثبات الويل لإنسان بسبب التكذيب منافيا ثبوت الذم لإنسان آخر، بسبب ترك المأمور به وعن الثاني: أنه تعالى إنما ذمهم لمجرد أنهم تركوا الركوع، لما قيل لهم: (اركعوا) فدل على أن منشأ الذم هذا القدر لا القرنة. الدليل الثالث: لو لم يكن الأمر ملزما للفعل، لما كان إلزام الأمر سببا للزوم المأمور به، لكنه سبب للزوم المزمور به، فوجب أن يكون الزمر ملزما للغعل. بيان الشرطية: أن بتقدير ألا يكون الأمر ملزما للفعل، كان إلزام الأمر إلزاما لشيء، وذلك الشيء لا يوجب فعل المأمور به، فوجب ألا يكون هذا القدر سببا للزوم المأمور به وبيان أن إلزام الأمر سبب للزوم المأمور به قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم) [الأحزاب: 36]. والقضاء هو الإلزام فقوله تعالي: (إذا قضى الله ورسوله أمرا) معناه إذا ألزم الله ورسوله أمرا فإنه لا خيرة للمؤمنين في المأمور به

ويجب هاهنا حمل لفظ الأمر على المأمور به، إذ لو أجريناه على ظاهره لصار المعنى: زنه لا خيرة للمؤمنين في صفة الله تعالى، وذلك كلام عير مفيد وإذا تعذر حمله على نفس الأمر، وجب حمله على المأمور به، فيصير التقدير أن الله تعالى، إذا ألزم المكلف أمرا، فإنه لا خيرة له في المأموربه وإذا انتفت الخيرة بقي: رما الحظر، وإما الوجوب والحظر منتف بالإجماع، فتعين الوجوب. فإن قيل القضاء: هو الإلزام، والأمر: قد يرد بمعنى شيء فقوله: (إذا قضى الله ورسوله أمرا) [الزحزاب:36] أي: إذا ألزم الله ورسوله شيئا. ونحن نعترف بأن الله تعالى، إذا ألزمنا شيئا، فإنه يكون واجب علينا، ولكن لم قلت إنه بمجرد أن يأمرنا بالشيء فقد ألزمنا؟ فإن ذلك عين المتنازع فيه والجواب: قد بينا أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص، وليس حقيقة في الشيء دفعا للاشتراك ولا ضرورة هاهنا في صرفه عن ظاهره. إذا ثبت هذا، فقوله: إذا قى الله ورسوله أمرا) معناه: إذا ألزم الله أمرا وإلزام الأمر هو توجيهه على المكلف شاء أم أبى. وإلزام الأمر غير إلزام المأمور به، فرن القاضي، إذا قضى بإباحة شيء، فقد ثبت إلزام الحكم، ولو لم يثبت المحكوم به، فكذا هاهنا: إلزام الأمر عبارة عن: توجيهه على المكلف، والقطع بوقوع ذلك الأمر. ثم الأمر إن لم يقتض الوجوب، لم يكن إلزام الأمر إلزاما للمأمور به وإن كان مقتضيا للوجوب، فهو الذي قلناه. الدليل الرابع: تارك ما أمر الله أو رسوله به، مخالف لذلك الأمر ومخالف.

ذلك الأمر مستحق للعقاب، فتارك ما أمر الله ورسوله به مستحق للعقاب ولا معنى لقولنا: الأمر للوجوب إلا ذلك. وإنما قلنا: إن تارك ما أمر الله أو رسوله به مخالفة لذلك الأمر، لأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، والمخالفة ضد الموافقة فكانت مخالفة الأمر عبارة عن الرخلال بمقتضاه، فثبت أن تارك ما أمر الله أو رسوله به مخالف لذلك الأمر. وإنما قلنا: إن مخالف ذلك الأمر يستحق العقاب، لقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره> أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليك) [النور:63]. أمر مخالف هذا الزمر بالحذر عن العذاب، والأمر بالحذر عن العذاب إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب، فدل على أن مخالف أمر الله أو أمر رسوله قد وجد في حقه ما يقتضي نزول العذاب به. فإن قيل: لانسلم أن تارك المأمور به مخالف للأمر. قوله: (موافقة الأمر: عبارة عن الإتيان بمقتضاه): قلنا: لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، ومالدليل عليه؟ ثم إنا نفسر موافقة الأمر بتفسيرين آخرين: أحدهما أن موافقة الأمر عبارة هن الإتيان بما يقتضيه الأمر، على الوجه الذي يقتضيه الأمر، فإن الأمر، لو اقتضاه على سبيل الندب، وأنت تأتي به على سبيل الوجوب، كان هذا مخالفة للأمر

وثانيهما: أن موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون ذلك الأمر حقا واجب القبول، مخالفته عبارة عن إنكاره كونه حقا واجب القبول. سلمنا أن ما ذكرتم يدل على أن مخالفة الأمر عبارة عن ترك مقتضاه لكن هاهنا ما يدل على أنه ليس كذلك. فإنه لو كان ترك المأمور به عبارة عن مخالفة الأمر لكن ترك المندوب مخالفة لأمر الله تعالى، وذلك باطل، لأن وصف الإنسان بأنه مخالف لأمر الله تعالى اسم ذم، فلا يجوز إطلاقه على تارك المندوب. سلمنا أن تارك المندوب مخالف للأمر، فلم قلت: إن مخالف الأمر مستحق للعقاب؟ أما قوله تعالى: (فليحذر الدين يخالفون عن أمره) [النور:63] الآية. قلنا: لا نسلّم أن هذه الآية دالة على أمر من يكون مخالفا للأمر بالحذر، بل هي دالة على الأمر بالحذر عن مخالف الأمر، فلم لا يجوز أن تكون كذلك؟ سلّمنا ذلك، ولكنها دالة على أن المخالف عن الأمر يلزمه الحذر. فلم قلت: إن مخالف الأمر يلزمه الحذر؟ فإن قلت: لفظة (عن) صلة زائدة، قلت: الأصل في الكلام الاعتبار لا سيما في كلام الله سلّمنا دلالة الآية على أن مخالف الأمر مأمور بالحذر عن العذاب، فلم قلت: يجب عليه الحذر عن العذاب؟

أقصى ما في الباب: أنه ورد الزمر به، لكن لم قلت: إن الأمر للوجوب؟ فرن ذلك أول المسألة!! فإن قلت: هب أنه لا يدل على وجوب الحذر، لكن لا بد وأن يدل على حسن الحذر، وحسن الحذر إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب!! قلت: لا نسلم أن حسن الحذر مشروط بقيام ما يقتضي نزول العذاب بل الحذر يحسن عند احتمال نزول العذاب وعندنا مجرد الاحتنال قائم، لأن هذه المسألة اجتهادية، لا قطعية. سملنا دلالة الآية على قيام ما يقتضي نزول العذاب، لكن لا في كل أمر، بل في أمر واحد، لأن قوله: (عن أمره) لا يفيد إلا أمرا واحدا. وعندنا: أن أمرا واحدا يفيد الوجوب، فلم قلت: إن كل أمر كذلك؟ َ سلّمنا أن كل أمر كذلك، لكن الضمير في قوله: (عن أمره) يحتمل عوده إلى الله تعالى، وعوده إلى رسوله، فالآية لا تدل على أن الأمر للوجوب إلا في حق أحدهما، فلم قلت: إن حق الاخر كذلك؟ والجواب: قوله: (لم قلت: إن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه؟)) قلنا: الدليل عليه أن العبد، إذا امتثل أمر السيد، حسن أن يقال:) هذا العبد موافق للسيد، ويجري على وفق أمره) ولو لم يمتثل أمره، يقال: (إنه ما وافقه، بل خالفه) وحسن هذا الإطلاق من أهل اللغة معلوم بالضرورة. فثبت أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه. قوله: (الموافقة: عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر، على الوجه الذي يقتضيه الأمر)

قلنا لما سلّمتم أن موافقة الأمر لا تحصل إلا عند الإتيان بمقتضى الأمر، فنقول: لا شك أن مقتضى الأمر هو الفعل، لأن قوله (افعل) لا يدل إلا على اقتضاء الفعل، فإذا لم يوجد الفعل، لم يوجد مقتضى الأمر، وإذا لم يوجد مقتضى الأمر لم توجد الموافقة، وإذا لم توجد موافقة الأمر، حصلت مخالفته، لأنه ليس بين الموافقة والمخالفة واسطة. قوله: (الموافقة) عبارة عن اعتقاد كون ذلك الأمر حقا واجب القبول) قلنا? هذا لا يمون موافقة للأمر، بل موافقة للدليل الدال على أن ذلك الأمر حق، فإن موافقة الشيء عبارة عما يستلزم تقرير مقتضاه، فإذا دل الدليل علي حقيقة الأمر، كان الاعتراف بحقيته مستلزما تقرير مقتضى ذلك الدليل. أما الأمر: فلما اقتضى دخول ذلك الفعل في الوجود، كانت موافقته عبارة عما تقرردخوله في الوجود، وإدخاله في الوجود يقرر دخوله الوجود، فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه. قوله: (لو كانت مخالفة الأمر عبارة عن ترك المأمور به، لكنا إذا تركنا المندوب، فقد خالفنا الأمر): قلنا: هذا الإلزام إنما يصح، لو كان المندوب مأمورا به، وإنما يكون المندوب مأمور به، لو ثبت أن الأمر ليس للوجوب، وهذا عين المتنازع فيه، قوله: (لم يجوز أن يكون قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون أمره) [آلنور:63] أمرا بالحذر عن المخالف، لاأمرًا للمخالف بالحذر؟ قلنا: الدليل عليه وجوه.

أحدها: أن النحويين اتفقوا على أن تعلق الفعل بفاعله أقوى من تعلقه بمفعوله، فلو جعلناه أمرًا للمخالف بالحذر، لكنا قد أسندنا الفعل إلى الفاعل، ولو جعلناه أمرا بالحذر عن المخالف لكنا قد أسندنا الفعل إلى المفعول، فيكون الأول أولى. وثانيها: لو جعلناه أمرا بالحذر عن المخالف، لم يتعين المأمور به. فإن قلت: المأمور به، ما تقدم، وهو قوله: (الذين يتسللون منكم لواذاً). [النور:63] قلت: المتسللون منهم لواذا هم الذين خالفوا، فلو أمروا بالحذر عن المخالف، لكانوا قد أمروا بالحذر عن أنفسهم، وهو لا يجوز. وثالثها: أنّا لو جعلناه أمرًا بالحذر عن المخالف، لصار التقدير: (فليحذر المتسللون لواذا عن الذين يخالفون أمره) وحينئذ يبقى قوله: (أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [النور:63] ضائعًا، لأن الحذر ليس فعلا يتعدى إلى مفعولين. قوله: الآية دالة على وجوب الحذر عمن خالف عن الأمر، لا عمن خالف الأمر: قلنا: قال النحاة: كلمة (عن) للبعد والمجاورة، يقال: جلس عن يمينه، أي: متراخيا عن بدنه في المكان الذي بحيال يمينه، فلما كانت مخالفة أمر الله تعالى بعدا عن أمر الله تعالى، لا جرم ذكره بلفظ (عن). قوله: (لم قلت: إن قوله تعالى: (فليحذر): يدل على وجوب الحذر عن العذاب؟).

قلنا: لا ندعي وجوب الحذر عن العقاب، ولكنه لا أقلّ من زن يدل على جواز الحذر، وجواز الحذر عن الشيء مشروط بوجود ما يقتضي وقوعه، لأنه لو لم يوجد المقتضي لوقوعه، لكان الحذر عنه حذرا عما لم يوجد، ولم يوجد المقتضي لوقوعه، وذلك سفه وعب، فلا يجوز ورود الأمر به. قوله: دلت الآية على زن مخالف أمر الله يستحق العقاب، أو على أن مخالف كل زمر يستحق العقاب؟): قلنا: دت على الثاني، لوجوه: الأول أنه يجوز استثناء كل واحد من أنواع المخالفات، نحو أن يقول: فليحذر: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره إلا مخالفة الأمر الفلاني) والاستثناء يخرج من الكلام ما لو لاه لدخل فيه، وذلك يفيد العموم. الثاني: أنه تعالى رتب استحقاق العقاب على مخالفة الأمر، وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية الثالث: أنه لما ثبت أن مخالف الأمر في بعض الصور يستحق العقاب، فنقول: إنما استحق العقاب لأن مخالفة الأمر تقتضي عدم المبالاة بالأمر، وذلك بناسبه الزجر، وهذا المعنى قائم في كل المخالفات، فوجب ترتب العقاب على الكل. قوله: (هب أن أمر الله، أوامر رسوله للوجب، فلم قلتم: إن أمر الآخر كذلك؟): قلنا: لأنه لا قائل بالفرق.

الدليل الخامس: تارك المأمور به عاص، وكل عاص يستحق العقاب، فتارك المأمور به يستحق العقاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك: بيان الأول: قوله تعالى: (ولا أعصى لك أمرًا) [الكهف:69] (أفعصيت أمري) [طه:93] (ولا يعصون الله ما أمرهم) [التحريم:9] بيان الثاني: قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده، يدخله نارا خالدا فيها) [النساء] فإن قيل: لا نسلم أن تارك المأمور به عاص، وبيانه من وجوه: الأول: قوله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) [التحريم:9] فلو كان العصيان عبارة عن ترك المأموربه، لكان معنى ق، له: (لا يعصون الله ما أمرهم) زنهم يفعلون ما يؤمنون به، فكان قوله: (ويفعلون ما يؤمرون) تكرارا) الثاني: أجمع المسلمون على أن الأمر قد يكون أمر إيجاب، وقد يكون أمر استحباب، وتارك المندوب غير عاص، وإلا لاستحق النار، لما ذكرتموه فعلمنا أن المعصية ليست عبارة عن ترك المأمور به. سلمنا أن المعصية عبارة عن ترك المأموربه لكن إذا كان الأمر أمر إيجاب أو مطلقا؟ الأول: مسلم والثاني ممنوع بيانه: أن قوله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم) [التحريم:9] حكاية حال، فيكفي في تحقيقها تنزيلها على صورة واحدة، فلعل ذلك الأمر كان أمر إيجاب، فلا جرم كان تركه معصية

سلمنا أن تارك المأمور به عاص مطلقا، فلم قلت: إن العاصي يستحق العقاب، والآية المذكورة مختصة بالكفار، لقرينة الخلود؟ والجواب: قد بينا أن تارك المأمور به عاص. قوله: (لو كان كذلك) لكان قوله: (ويفعلون ما يؤمرون) تكرارا: قلنا: لا نسلم، بل معنى الآية والله أعلم: (لا يعصون الله ما أمرهم) به في الماضي، (ويفعلون ما يؤمرون) به في المستقبل. قوله: (الأمر قد يكون أمر استحباب): قلنا: لا نسلم كون المستحب مأمورا به حقيقة بل مجازا، لأن الاستحباب لازم للوجوب، وإطلاق اسم السبب على المسبب جا ئز. فإن قلت:: (ليس الحكم بكون هذه الصفة للوجوب، محافظة على عموم قوله: (ومن يعص الله ورسوله) [النساء:14] أولى من القول بأن المستحب مأمور به، محافظة على صيغ الأوامر الواردة في المندوبات (: قلت: بل ما ذكرناه أولى للاحتياط، ولأنا لو حملناه على الوجوب، لكان أصل الترجيح داخلا فيه، فيكون لازما للمسمى، فيجوز جعله مجازا في أصل الترجيح. أما لو جعلنا لأصل الترجيح، لم يكن الوجوب لا زماً، فلا يمكن جعله مجازا عن الوجوب، فكان الأول أولى. قوله: (هذه الآية حكاية حال):

قلنا: الله تعالى رتب اسم المعصية على مخالفة الأمر، فيكون المقتضي لاستحقاق هذا الاسم هذا المعنى فيعم الاسم لعموم ما يقتضي استحقاقه قوله: (الآية مختصة بالكفار بقرينة الخلود) قلنا: الخلود هو المكث الطويل لا الدائم، والله أعلم. واعلم أن هذا الدليل قد يقرر علي وجه آخر، فيقال: إنما قلنا: إن تارك المأمور به عاص، لأن بناء لفظة العصيان على الامتناع، ولذلك سميت العصا عصا، لأنه يمتنع بها، وتسمى الجماعة عصا، يقال: شققت عصا المسلمين، أي: جماعتهم، لأنها يمتنع بكثرتها، وهذا كلام مستعص على الحفظ، أي ممتنع وهذا الحطب مستعص على الكسر. وقال عليه الصلاة والسلام: (لولا أنا نعصي الله، لما عصانا) أي: لم يمتنع عن إجابتنا. فثبت أن العصيان عبارة عن الامتناع عما يقتضيه الشيء، وإذا كان لفظ (افعل) مقتضيا للفعل، كان عدم الإتيان به والامتناع منه عصيانا، لا محالة. وإنما قلنا: إن تسمية تارك المأمور به بالعاصي، تدل على أن الأمر للوجوب، لوجهين: أحدهما: أن الإنسان إنما يكون عاصيا للأمر وللآمر، إذا أقدم على ما يحظره الآمر، ويمنع منه، ألا ترى أن الله تعالى: لو أوجب علينا فعلا، فلم نفعله.

لكنّا عصاة، ولو ندبناه إليه، فقال: (الأولى أن تفعلوه، ولكم ألا تفعلوه) فلم نفعله لم نكن عصاة. ولهذا يوصف تارك الواجب بأنه عاص لله تعالى، ولا يوصف تارك النوافل بذلك. الثاني: أن العاصي للقول مقدم على مخالفته، وترك موافقته، فليس تخلو مخالفته: إما تكون بالإقدام على ما يمنع الأمر فقط، أو قد تثبت بالإقدام علي ما لا يتعرض له الزمر بمنع ولا إيجاب. وهذا الثاني باطل، لأنا لو كنّآ عصاة للأمر بفعل ما لم نمنع منه، لوجب إذا أمرنا الله بالصلاة غدا، فتصدقنا اليوم أن نكون عصاة لذلك الأمر، بتصدقنا اليوم فبان أن مخالفة الأمر، إنما تثبت بالإقدام على ما يمنع منه، فإذا كان تارك ما أمر به عاصيا للأمر، والعاصي للأمر هو المقدم على مخالفة مقتضاه، فالمقدم على مخالفة مقتضاه مقدم على ما يحظره الآمر، ويمنع منه فثبت أن ترك المأمور به يحظره الآمر ويمنع منه، وهذا هو معنى الوجوب. الدليل: أنه عليه الصلاة والسلام دعا أبا سعيد الخدري، فلم يجبه، لأنه كان في الصلاة، فقال: ما منعك أن تستجيب، وقد سمعت قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) [الأنفال:24] فذمه على ترك الاستجابة عند مجرد ورود الأمر، فلولا أن مجرد الأمر للوجوب، وإلا لما جاز ذلك. فإن قيل: هذا خبر واحد، فلا يجوز التمسك به في مسألة علمية:

وأيضا فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ماذمه، ولكنه أراد أن يبين له أن دعاءه صلى الله عليه وآله وسلم مخالف لدعاء غيره. والجواب عن الأول: أنّا بينّا أن المباحث اللفظية لا يرجى فيها اليقين، وهذه المسألة، وإن لم تكن في نفسها عملية، لكنّها وسيلة إلى العمل، فيجوز التمسك فيها بالظن، لأنه لا فرق في العقل بين أن يحصل ظن الحكم، وبين أن يحصل العلم بوجود ما يقتضي ظن الحكم في جواز التمسك بهما في العمليات. وعن الثاني: أن بتقدير ألا يدل الأمر على الوجوب، يكون المانع من الإجابة قائما، وهو الصلاة، فإنها تحرم الكلام، وإذا كان المانع الظاهر قائما، لم يجز من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يسأل عن المانع، بلى، إذا كان قوله تعالى: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم) [الأنفال:24] يفيد الوجوب، فحينئذ يصح السؤال. وأيضا، فظاهر الكلام يقتضي اللوم، وهو في معنى الإخبار عن نفي العذر، وذلك لا يكون إلا والأمر للوجوب. الدليل السابع: هو قوله عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عن كل صلاة). وكلمة (لولا) تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره، فها هنا تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة، فهذا الخبر يدل على أنه لم يوجد الأمر بالسواك عن كل صلاة، والإجماع قائم على أن ذلك مندوب، فلو كان المندوب مأمورا به، لكان الأمر قائما عند كل صلاة، فلما لم يوجد الأمر، علمنا أن المندوب غير مأمور به.

فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: هذا الوجه أمارة تدل على أن أراد: لأمرتهم به على وجه يقتضي الوجوب، وليس يمتنع أن يقتضي الأمر الوجوب بدلالة أخرى. قلت: كلمة (لا) دخلت على الأمر، فوجب ألا يكون الأمر حاصلًا. الدليل: خبر بريرة فإنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتأمرني بذلك؟ فقال: (لا) إنما أنا شفيع) نفى الأمر مع ثبوت الشفاعة الدالة على الندب، ونفى الأمر عند ثبوت الندبية يدل على أن المندوب غير مأمور به، وإذا كان كذلك، وجب ألا يتناول الأمر الندب. الدليل: أن الصحابة تمسكوا بالأمر على الوجوب، ولم يظهر من أحد منهم الإنكار عليه، وذلك يدل على أنهم أجمعوا علي ظاهر الأمر للوجوب. وإنما قلنا: إنهم تمسكوا بالأمر بالأمر على الوجوب، لأنهم أوجبوا أخذ الجزية من المجوس، لما روى عبد الرحمن أنه عليه الصلاة والسلام قال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) وأجبوا غسل الإناء من ولوغ الكلب، بقوله عليه الصلاة والسلام: (فليغسله سبعا). وأوجبوا إعادة الصلاة عند ذكرها، بقوله عليه الصلاة والسلام: (فليصلها إذا ذكرها).

وأما أنه لم يظهر من أحد منهم إنكار عليه، وأنه متى كان كذلك، فقد الإجماع، فتمام تقريرهما مذكور في (كتاب القياس). فإن قيل: كما اعتقدوا الوجوب عند هذه الأوامر، فإنهم لم يعتقدوا عند غيرها، نحو قوله تعالى: (وأشهدوا إذا تبايعتم) [البقرة:282] وقوله: (فكاتبوهم، إن علمتم فيهم خيرًا) [النور:33] وقوله: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) [النساء:3] وقوله: (وإذا حللتم فاصطادوا) [المائدة:2]. وإذا ثبت هذا، فليس القول بأنهم لم يعتقدوا الوجود في هذه الأوامر لدليل متصل. والجواب: أن نقول: لو لم يكن الأمر للوجوب، لامتنع أن يفيد الوجوب في صورة أصلا، ولو يفد الوجوب في شيء من الصور أصلا، لكان دليلهم على وجوب أخذ الجزية شيئا غير عبدالرحمن، ولو كان كذلك، لوجب اشتهار ذلك الدليل، وحيث لم يشتهر، علمنا أنه لم يوجد، ولما لم يوجد كان دليلهم على وجوب أخذ الجزية ظاهر الأمر. أما لو قلنا بأن الأمر للوجوب، لم يلزم من عدم الوجوب في بعض الأوامر ألا يفيد الوجوب الذي ذكاناه أولى. الدليل العاشر: لفظ (افعل): إما أن يكون حقيقة في الوجوب فقط، أو في الندب فقط، أو فيهما معا، أو لا في واحد منهما.

والأقسام الثلاثة الأخيرة باطلة، فتعين الأول، وهو: أن يكون الوجوب فقط. وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون للندب فقط، لأنه لو كان للندب فقط، لما كان الواجب مأمور به فيمتنع أن يكون الأمر للندب فقط. بيان الملازمة: أن المندوب هو: الراجح فعله مع جواز الترك، والواجب هو: الراجح فعله مع المنع من الترك، فالجمع بينهما محال، فلو كان الأمر للندب فقط، لم يكن الواجب مأمورا به. فإن قلت: (لو كان الأمر للوجوب فقط، لما كان المندوب مأمورا به): قلت: التزم هذا لأن كثيرا من الأصوليين صرحوا بأن المندوب غير مأمور به، ولا يمكنك أن تلتزم بأن الواجب غير مأمور به، لأن أحدا من الأمة لم يه. فثبت أن الأمر لا يجوز أن يكون حقيقة في الندب فقط. وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن حقيقة في الوجوب والندب معا، لأنه لو كان حقيقة فيهما، لكان: إما أن يكون كونه حقيقة فيهما، بحسب معنى مشترك بينهما، كما يقال: إنه حقيقة في ترجيح في ترجيح جانب الفعل على الترك فقط، من غير إشعار بجوار الترك، وبالمنع منه أو يكون حقيقة فيهما لا بحسب معنى مشترك. الأول باطل، لأنا لو جعلناه حقيقة في أصل الترجيح، لم يمكن جعله مجازا في الوجوب لأن الوجوب غير ملازم لأصل الترجيح، أعني: القدر المشترك بين الواجب والمندوب، ولو جعلناه حقيقة في الوجوب، كان الترجيح جزاءا من مسماه ولازما له، فيمكن جعله مجازا عن أصل الترجيح، وإذا كان كذلك.

كان جعله حقيقة في الوجوب، ليكون مجازا في أصل الترجيح أولى من جعله حقيقة في أصل الترجيح، مع أنه لا يكون حقيقة في الوجوب، ولا مجاز فيه. والثاني: وهو أن يجعل حقيقة في الوجوب والندب، لا بحسب معنى مشترك بينهما، فهذا يقتضي كون اللفظ مشتركا، وقد عرفت أن ذلك خلاف الأصل. وإنما قلنا: إنها لا يجوز أن يقال: إنه لا يتناول الواجب ولا المنوب أصلا، لأن ذلك على خلاف الإجماع. ولما ثبت فساد هذه الأقسام الثلاثة، تعين القول بالوجوب والله أعلم. الدليل الحادي عشر: أن العبد إذا لم يفعل ما أمره به سيده، اقتصر العقلاء من أهل اللغة في تعليل حسن ذمه على أن يقولوا: (أمر سيده، بكذا فلم، فلم يفعله) فدل كون ذلك علة في حسن ذمه على أن تركه لما أمره به ترك للواجب. فإن قيل: لا نسلم أنهم إنما ذموه لمجرد الترك بل لأجل أمور أخر: أحدها: أنهم علموا من سيده أنه كره ترك ذلك الفعل. وثانيها: أن الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد لسيده وثالثها: أن السيد لا يأمر إلا بما فيه نفعه ودفع مضرته، والعبد أيضا يلزمه ايصال المنافع إلى السيد، ودفع المضار عنه. سلّمنا أنهم ذموه، لمجرد الترك، لكن لا نسلم أن فعلهم صواب، ويدل عليه أمران:

أحدهما: أنه لو كان المأمور به معصية، لما استحق العبد الذم بتركه، فدل على زن مجرد الترك ليس بعلة للذم. وثانيهما: أن كثيرا من الأوامر ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بمعنى الندب، فلو كان ترك المأمور به علة للذم، لكان المندوب واجبا وهو محال. فثبت بهذين الوجهين: أن مجرد ترك المأمور به، لا يمكن جعله علة للذم، وإذا ثبت ذلك، علمنا ما ذكرتموه، من أن العقلاء يعللون حسن ذمه بمجرد ترك المأمور والجواب: أن السيد إذا عاتب عبده عدم الامتثال، فالعقلاء يقولون: (إنما عاتبه، لأنه لم يمتثل الأمر) ولولا أن علة حسن العتاب نفس مخالفة الأمر، وإلا لما صح هذا الكلام، وبهذا يظهر أن كراهية الترك، لا مدخل لها في هذا الباب. أما قوله: (الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد لسيده): قلنا: الشريعة إنما أوجبت على العبد طاعة السيد فيما أوجبه السيد على العبد، ألا ترى أن سيده لو قال له: (الأولى أن تفعل كذا، ولك ألا تفعله) لما ألزمته الشريعة فعله؟ والأمر عند المخالف يجري مجرى هذا القول، فينبغي ألا يجب به على العبد شيء وأما قوله (السيد لا يأمر عبده بما فيه جر نفع، أو دفع مضرة، وذلك واجب.

قلنا: مجرد هذا القدر لا يفيد الوجوب، إلا إذا أوجبه السيد، ولم يرخص في تركه. ألا ترى أنه لو قال له: (الأولى أن تفعل كذا، ويجوز ألا تفعله) جاز له ألا يفعل؟ وكذلك لو علم أن غيره يقوم مقامه في دفع المضرة. قوله: (يشترط في جواز هذا التعليل ألا يكون المأمور به معصية) قلنا: هب أن هذا الشرط معتبر، ولكن يجب فيما وراءه إجراء اللفظ على ظاهره. قوله: (لو كان ترك المأمور به علة للذم، لما جاز ترك المندوب) قلنا: هذا إنما يصح، لو كان المندوب مأمورا به، وهذا أول المسألة، والله أعلم. الدليل الثاني عشر: لفظ (افعل) دال على اقتضاء الفعل ووجوده فوجب أن يكون مانعا من نقيضه قياسا على الخبر فإنه لما دل على المعنى كان مانعا من نقيضه. والجامع بين الصورتين أن اللفظ لما وضع لأفادة معنى فلا بد أن يكون مانعا من النقيض، تكميلا لذلك المقصود، وتقوية لحصوله. فإن قيل: لا نزاع في أن ما دل على شيء، فإنه يمنع من نقضيه لكن لم لا يجوز أن يقال: مدلول قوله: (افعل) هو: أن الأولى إدخاله في الوجود، فلا جرم يمنع من عدم هذه الأولوية؟ والجواب: أن الفعل مشتق من المصدر، فإشعاره لا يكون إلا بالمصدر.

والمصدر في قولنا: (ضرب، يضرب، اضرب) هو: الضرب لا أولوية الضرب، فإشعار لفظ الخبر والأمر بالضرب، لا بأولوية الضرب. وإذا كان إشعار الأمر والخبر ليس بأولوية الضرب، بل بنفس الضرب، وثبت أن المشعر بالشيء مانع من نقيضه وجب أن يكون لفظ اضرب مانعا من عدم الضرب، لا من عدم أولوية الضرب، ولأجل هذا كان الخبر مانعا من النقيض، والله أعلم. الدليل الثالث عشر: الأمر يفيد رجحان الوجود على العدم، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مانعا من الترك. وإن قلنا: إنه يفيد الرجحان، لأن المأموربه إن لم تكن مصلحته راجحة، لكان إما أن يكون خاليا عن المصلحة أو تكون مصلحته مرجوحة أو تكون مساوية للمفسدة. فإن كان خاليا عن المصلحة كان محض المفسدة. فلا يجوز ورورد الأمر به وإن كان مصلحته مرجوحة، لذلك القدر من المصلحة يصير معارضا بمثله من المفسدة، فيبقى القدر الزائد من المفسدة خاليا عن المعارض، فيكون ورود الزمر به أمرا بالمفسدة الخالصة، فيعود إلى القسم الأول. وإن كانت مصلحته معادلة لمفسدته، كان ذلك عبثا، وهو غير لا ئق بالحكيم. وإذا بطلت هذه الأقسام، لم يبق إلا أن تكون مصلحة خالية من المفسدة، وإن كان فيه شيء من المفاسد، ولكن تكون مصلحته زائدة.

وعلى التقديرين يثبت رجحان المصلحة. وإذا ثبت هذا، فنقول: وجب ألا يرد الإذن بالترك، لأن الإذن في تفويت المصلحة الراجحة إذن في تفويت المصلحة الخالصة، لأنه إن وجدت مفسدة مرجوحة، فتصير هي معارضة بما يعادلها من المصلحة، فيبقى الزائد من المصلحة مصلحة خالصة. وإن لم يوجد مفسدة أصلًا، كانت المصلحة خالصة، فيكون الإذن في تفويته إذنا في تفويت المصلحة الخالصة عن شوائب المفسدة، وذلك غير جائز عرفا، فوجب ألا يجوز شرعاً، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح)، فمقتضى هذه الدلالة ألا يوجد شيء من المندوبات ألبتة ترك العمل به حق البعض، تخفيفا من الله تعالى على العباة، فوجب أن يبقى أن يبقى الباقي على حكم الأصل. فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بوجه آخر، وهو: أنه كما أن الإذن في تفويت المصلحة الخالصة قبيح عرفا، فكذا إلزام المكلف استيفاء المصلحة، بحيث لو لم يستوفيها، لاستحق العقاب قبيح أيضًا، لأنه يصير حاصل الأمر: أن يقول الشرع: (استوف هذه المنافع لنفسك، وإلا عاقبتك) وهذا قبيح. والجواب: ماذكرتموه قائم في كل تكاليف، فلو كان ذلك معتبرا، لما ثبت شيء من التكاليف. الدليل الرابع عشر: لا شك أن الأمر يدل على رجحان طرف الوجود على طرف العدم، فنقول: هذا الرجحان لا ينفك عن قيدين: أحدهما: المنع من اتلرك، والآخر: الإذن في الترك.

ولا شك أن إفضاء المنع من الترك إلي الوجود أكثر من إفضائه إلى العدم، ولا شك أن إفضاء الإذن في الترك إلى العدم أكثر من إفضائه إلى الوجود. ولا شك أن الذي يكون أكثر إفضاء إلى الشيء الراجح، راجح في الظن على ما يكون أكثر إفضاء إلى المرجوح، فإذن شرعية المنع من الترك، راجح في الظن على شرعية الإذن في الترك. والراجح في الظن واجب العمل به، بالنص والمعقول. أما النص: فقوله عليه الصلاة والسلام: (أنا أقضى بالظاهر). وأما المعقول: فمن وجهين: الأول: أن أحد النقيضين: إذا كان راجحا على الآخر في الظن، فلم يعمل بالراجح، لوجب العمل بالمرجوح فيكون ذلك ترجيحا للمرجوح على الراجح، وإنه غير جائز بالضرورة. الثاني: أنه وجب العمل بالفتوى، والشهادة، وقيم المتلفات، وأروش الجنايات، وتعيين القبلة، عند حصول الظن. وإنما وجب العمل به، ترجيحا للراجح على المرجوح وذلك المعنى حاصل هاهنا، فوجب العمل به. الدليل الخامس عشر: الوجوب: ينبغي أن تكون له صيغة مفردة في اللغة، وتلك الصيغة هي (أفعل) فوجب أن تكون (افعل) للوجوب. إنما قلنا: إن الوجوب له صيغة مفردة في اللغة، لأن الوجوب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه، والناس قادرون على الوضع، والمانع زائل ظاهرًا،

والقادر: إذا دعاه الداعي إلى الفعل حال عدم المانع، وجب حصول الفعل منه، فثبت أن الوجوب له صيغة مفردة في اللغة. وإنما قلنا: إن تلك الصيغة هي صيغة (افعل) لأن تلك الصيغة: إما أن تكون صيغة (افعل) أو غيرها، والثاني باطل بالإجماع. أما عند الخصم، فلأنه ينكر ذلك على الإطلاق، وأما عندنا: فلأنا لا نقول به في غير صيغة (افعل). وإذا بطل هذا القسم، ثبت القسم الأول، وإلا لكانت اللغة خالية عن لفظة مفردات دالة علي الوجوب مع أن الدليل قد دل على وجودهما. فإن قيل: لا نسلم أن الوجوب له صيغة في اللغة. قوله: (الداعي قائم): قلنا: لا نسلم أن الداعي قائم. قوله: (الوجوب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه): قلنا: لا نسلم. سلمناه لكن لم قلت: إنه لا بد من تعريفه باللفظ، ولم لا تكفي فيه قرينة الحال؟ سلمنا شدة الحاجة إلى لفظ يدل عليه، لكنه قد وجد، وهو قوله: أوجبت، وألزمت، وحتمت. فإن ادعيت: أنه لا بد من اللفظ المفرد، طالبناك بالدلالة عليه.

سلّمنا قيام الدلالة وحصول الداعي، فلم قلت: إنه لا مانع؟ ثم نقول: المانع هو أن اللغات توقيفية، لا اصطلاحية، وإذا كان كذلك كانوا ممنوعين من وضع الألفاظ للمعاني. سلّمنا قيام الداعي، وزوال المانع، فلم قلت بأنه يجب الفعل؟ ثم نقول: ما ذكرتموه من الدليل منقوض، ومعارض. أما النقض: فلأن الحاجة إلى الحاجة إلى وضع لفظ يدل على الحال، ولفظ آخر يدل على الاستقبال على التعيين شديدة مع أنه لم يوجد ذلك في اللغة، وأيضا فأصناف الروائح مختلفة، والحاجة إلى تعريفها شديدة، مع أنه لم توضع لها ألفاظ مفردة، وكذا أصناف الاعتمادات متميزة، مع أنه لم توضع لها ألفاظ مفردة. وأما المعارضة: فمن وجهين: أحدهما: أن الوجوب، كما أنه معنى تشتد الحاجة إلى التعبير، عنه فكذا أصل الترجيح، أعني القدر المشترك بين الوجوب والندب. والندب: معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه، فوجب أن يضعوا له لفظا، ولا لفظ له سوى (افعل) فوجب كونه موضوعا له. ومن قال: إنه للندب وحده، قال: الندبية معنى تشتد الحاجة إلى تعريفها، فلا بد من لفظ، ولا لفظ سوى هذا، فوجب كونه للندب. ومن قال بالاشتراك قال: قد يحتاج الإنسان إلى التعبير عن أحد هذين

الأمرين، على سبيل الإبهام، فلا بد من لفظ، ولا لفظ له إلا هذا، فوجب كونه موضوعا لهما بالاشتراك. وثانيهما: أن الوجوب: معنى تشتد الحاجة إلي التعبير عنه، فلو كانت صيغة (افعل) موضوعة له، لوجب أن يعرف ذلك كل أحد، ولو عرفه كل أحد، لزال الخلاف، فلما لم يزل، علمنا أنه غير موضوع له سلمنا أنه لا بد من لفظ، وأن ذلك اللفظ هو: (افعل) فلم لا يجوز أن يكون موضوعا للندب أيضًا بالاشتراك؟ ثم نقول: الدليل الذي ذكرتموه يقتضي إثبات اللغة بالقياس، وهو غير جائز. والجواب: قوله: لا نسلم شدة الحاجة إلى التعبير عن معنى الوجوب، قلنا: الدليل عليه أن الإنسان الواحد لا يستقل بإصلاح كل ما يحتاج إليه، بل لا بد من الجمع العظيم، حتي يتعين كل واحد منهم صاحبه في مهامه، لتنتظم مصلحة الكل، وإذا احتاج الإنسان إلى فعل يفعله الغير، لا محالة، وأن ذلك الغير لا يعلم منه ذلك إلا إذا عرفه، فحينئذ يحتاج إلى أن يعرفه أنه لا بد وأن يأتي بذلك الفعل، وأنه لا يجوز له الإخلال به، فثبت أن هذا المعنى، مما تشتد الحاجة إلى تعريفه. قوله: (هب أنه لا بد من تعريفه، فلم قلت: إن ذلك التعريف لا يحصل إلا باللفظ). قلنا: (هب أنه لا بد من تعريفه، فلم قلت: إن ذلك التعريف لا يحصل إلا باللفظ؟) قلنا: لأنهم إنما اتخذوا العبارات معرفات لما في الضمائر دون غيرها، لأجل أن الإتيان بالعابرات أسهل من الإتيان بغيرها، وهذا المعنى قائم في مسألتنا فوجب القول به.

قوله: (لم لا يكفي فيه قوله: أوجبت، وألزمت؟) قلنا: لأن اللفظ أخف على اللسان من المركب، فيغلب على الظن أن الواضع وضع لفظا مفردا لهذا المعنى قياسا على سائر الألفاظ المفردة. قوله: (لم قلت: إنه لا مانع؟) قلنا: لأن الموانع بأسرها كانت معدومة والأصل بقاء ذلك العدم، فيحصل من هذا ظن أنه لا مانع، والدليل الذي ذكرناه ظني، فيكون ذلك كافيا في تقريره. قوله: (اللغات توقيفية، فلعلهم منعوا عن الوضع): قلنا: الأصل في كل أمر بقاؤه على ماكان، والأصل عدم التوقيف، وعدم المنع من الوضع، فيحصل ظن بقاء ذلك. قوله: لم قلت: إنه إذا وجد الداعي في حق القادر، وانتفى الصارف وقع الفعل؟ قلنا: الدليل عليه أن القادر على الفعل، إن لم يكن متمكنا من الترك، فقد تعين الفعل رن لم يكن متمكنا من الترك، فقد تعين الفعل وإن كان متمكنا من الترك، فعند الداعي، إما أن يترجح أو لا يترجح: فإن لم يترجح ألبتة، لم يكن الداعي داعيا، وذلك محال، وإن ترجح، وجب الوقع، وتمام تقرير هذا الكلام في كتبنا العقلية. وأما النقوض: فهي مندفعة، لأنا لا نسلم أن اشتداد الحاجة إلى اشتداد الحاجة إلى تعيين الحال، والاستقبال، والروائح المخصوصة، والاعتمادات المخصوصة مساوية.

لاشتداد الحاجة إلى التعبير عن معنى الإلزام، فإن الإنسان في تمر عليه مدة طويلة، ولا يحتاج إلى التعبير عن تلك الأشياء مع أنه في كل لحظة يحتاج إلى التعبير عن معنى الوجوب. وأما المعارضة الأولى: فجوابها: أنا لو جعلنا اللفظ حقيقة في الوجوب، كان الترجيح لا زما للمسمى، فأمكن جعله مجازا عن الترجيح. أما لو جعلناه حقيقة في الترجيح، لم يكن الوجوب لا زما للمسمى، فلا يمكن جعله مجازا عنه، فكان ذلك أولى. قوله: (الحاجة إلى التعبير عن الندبية شديدة): قلنا: لكن الوجوب أولى، لأن الواجب لا يجوز الإخلال به، والمندوب يجوز الإخلال به، والإخلال ببيان ما يجوز الإخلال به أولى من الإخلال ببيان ما لا يجوز الإخلال به. وأما المعارضة الثانية: فهي: (أن اللفظ، لو كان للوجوب، لاشتهر): قلنا: هذا إنما يلزم، لم سلم عن المعارض، أما إذا كان له معارض، ولم يظهر الفرق بينه، وبين معارضه إلا على وجه مخصوص غامض، لم يلزم ذلك. قوله: (هب أن لفظ (افعل) موضوع للوجوب، فلم لا يجوز أن يكون موضوعا للندب أيضا بالاشتراك): قلنا: لما تقدم، أن الاشتراك على خلاف الأصل. قوله: (هذا إثبات اللغة بالقياس): قلنا: سنبين في كتاب القياس- إن شاء الله تعالى أنه جائز.

الدليل السادس عشر: حمله علي الوجوب يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر، وحمله علي الندب يقتضي الشك فيه، فوجب حمله على الوجوب، وإنما قلنا: إن حمله علي الوجوب يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر، لأن المأمور به: إما أن يكون واجبا، أو مندوبا: فإن كان واجبا: فحمله على الوجوب يقتضي القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر. وإن كان مندوبا: فالقول بوجوبه سعي في تحصيل ذلك المندوب بأبلغ الوجوه، وذلك يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر، فإذن على كلا التقديرين: هو غير مقدم على مخالفة الأمر. أما لو كان واجبا، ونحن قد جوزنا له الترك: كان ذلك الترك مخالفة للأمر، فثبت زن حمله على الندب يقتضي الشك في كونه مخالفا للأمر. وإذا ثبت هذا، فنقول: وجب حمله على الوجوب، للنص والمعقول.: أما النص: فقوله عليه الصلاة والسلام: (دع ما يريبك إلي ما لا يريبك) وأما المعقول: فهو: أنه إذا تعارض طريقان: أحدهما آمن قطعا، والآخر مخوف كان ترجيح الآمن على المخوف من موجبات العقول. فإن قيل: لا نسلم أن حمله على المندوب يقتضي الشك في الإقدام على المحظور.

قوله: (لأنه بتقدير أن يكون المأمور به واجبا كان حمله على الندب سعيا في الترك وأنه محظور): قلنا: لا نسلم أنه يمكن زن يكون المأمور به واجبا، فإنا لو علمنا بدلالة لغوية: أن الأمر ما وضع للوجوب، وعلمنا أن الحكيم لا يجوز أن يجرده عن قرينة إلا والمأمور به غير واجب، فإذا حملته على الندب، أمنت الضرر. سلمنا قيام هذا الاحتمال، ولكن حمله على الوجوب فيه أيضا احتمال للضرر، لأن بتقدير ألا يكون الحق هو الوجوب، كان اعتقاد كونه واجبا، جهلا، وتكون نية الوجوب قبيحة، وكراهة أضداده قبيحة. والجواب: إذا علمنا أن لفظ (افعل) لا يجوز استعماله إلا في أحد المعنيين: إما الوجوب، أو الندب، فقبل أن يعلم ما يدل على كونه للوجوب فقط، أو للندب فقط، أولهما معا فإنا إذا حملنا على الوجوب، قطعنا بأنا ما خالفنا الأمر، وإذا حملناه على الندب، لم تقطع بذلك. فإذن: قبل أن يعلم ما يدل على كونه للوجوب فقط، أو للندب فقط، يقتضي العقل حمله على الوجوب، ليحصل القطع بعدم المخالفة. ثم بعد ذلك: قيام الدليل على أنه للندب إشارة إلى المعارض، من ادعاه، فعليه الدليل قوله: (حمله على الوجوب يقتضي احتمال الجهل): قلنا: ما ذكرتموه إشارة إلى احتمال الخطأ في الاعتقاد، وهو قائم في الطرفين، وما ذكرناه، فهو احتمال الخطأ في العمل، وهو حاصل على تقدير

الندب، دون تقدير الوجوب، وإذا اشترك الطرفان في أحد نوعي الخطأ، واختص أحدهما بمزيد خطأ، كان الجانب الخالي عن هذا الخطأ الزائد، أولى بالاعتبار، والله زعلم. واحتج من أنكر كون الأمر للوجوب، بأمر: أحدها: أن العلم بكون الأمر للوجوب: إما أن يكون عقليا، أو نقليا: فالأول: باطل، لأن العقل لا مجال له في اللغات. وأمّا النقل: فإما أن يكون تواترا، أو آحادا: والتواتر باطل، وإلا لعرف كل واحد بالضرورة أنه للوجوب. والاحاد باطل، لأن المسألة علمية، ورواية الاحاد لا تفيد العلم. وهذه الحجة يحتج بها من يقول: لا أدري أن اللفظ موضوع للوجوب فقط، أو للندب فقط، أولهما معا، لأنه لو ادعى الاشتراك، أو الندبية، لزمه أن يقال: العلم بالاشتراك أو الندبية، إنما يستفاد من العقل أو النقل، إلى اخر التقسيم. وثانيها: أن أهل اللغة قالوا: لافرق بين الأمر والسؤال إلا من حيث الرتبة، وذلك يقتضي اشتراكهما في جميع الصفات سوى الرتبة، فكما أن السؤال لا يدل على الإيجاب، بل يفيد الندبية، فكذلك الأمر. وثالثها: أن لفظ (افعل) وارد في كتاب الله وسنة رسوله في الوجوب والندب، والاشتراك والمجاز على خلاف الأصل، فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك، وهو أصل الترجيح، والدال على ما به الاشتراك غير الدال على مابه الامتياز، لا بالوضع، ولا بالاستلزام، فلا يكون لهذه الصيغة إشعار ألبتة.

بالوجوب، بل لا دلالة فيها إلا على ترجيح جانب الفعل، وأما جواز الترك، فقد كان معلوما بالعقل، ولم يوجد ما يزيل ذلك الجواز. فإذن: وجب الحكم بأنذلك الفعل راجح الوجود على العدم، مع كونه جائز الترك، ولامعنى للندب إلا ذلك. والجواب عن الأول: أن نقول: لم لا يجوز أن يعرف ذلك بدليل مركب من النقل والعقل، مثل قولنا: تارك المأمور به عاص، والعاصي يستحق العقاب، فيستلزم العقل من تركيب هاتين المقدمتين النقليتين، أن الأمر للوجب. سلمناه، فلم لا يجوز أن يثبت بالاحاد، ولا نسلم أن المسألة قطعية؟ وقد بينا أنه لا يقين في المباحث اللغوية. وعن الثاني: أن عندنا أن السؤال يدل على الإيجاب، وإن كان لا يلزم منه الوجوب، فإن السائل قد يقول للمسئول منه: (لا تخل بمقصودي، ولا تتركه، ولا تخيب رجائي) فهذه الألفاظ صريحة في الإيجاب، وإن كان لا يلزم من هذا الإيجاب الوجوب. وعن الثالث: أن المجاز، وإن كان على خلاف الأصل، لكنه قد يوجد، إذا دل الدليل عليه، وقد ذكرنا أن الدليل دل على كونها للوجوب، فوجب المصير إليه، والله أعلم. المسألة الثانية قال القرافي: قوله: (لنا قوله تعالى لإبليس: (مامنعم ألا تسجد إذ أمرتك ([الأعراف: 12].

............................................

...............................................................

.....................................................

......................................................

قلنا هاهنا مزاحم يقتضي الوجوب غير الأمر، وهو قوله تعالى قبل ذلك (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) [الحجر:29]

(سؤال)

والقاعدة: أن التعاليق اللغوية أسباب، فيكون حصول آدم وتسويته سببا للسجود، والسبب واجب الترتيب على سببه، وهذا معنى يقتضي الوجوب غير الأمر مما يتعلق إضافة الوجوب للأمر. (سؤال) قال التبريزي: الآية دالة على الأمر للوجوب لا (افعل) فيحتاج إلى بيان أن المندوب ليس مأمورا به وهذا هو أول المسألة، وإذا ثبت ذلك استغنى عن الاية.

(فائدة)

(فائدة) وردت هذه اللفظة في القرآن مع (لا) وبدونها، فحيث وردت فهي زائدة مؤكدة قائمة مقام إعادة الجملة مرتين، كما تقدم بيانه في باب التأكيد. قوله: (الظاهر يقتضي أن ترتيب الحكم على الوصف يدل على علّية ذلك الوصف لذلك الحكم، وهاهنا ترتب الذمّ على ترك ما يسمى أمرًا، فيكون هذا المسمى حيث وجد سبب الذم والأمر في سائر اللغات موجود، لأن سائر العجم إذا طلبت من غيرها شيئا طلبا جازما، وعلمت العرب صدور ذلك منها سمته أمرًا، فاستوت حينئذ اللغات في أن ترك الأمر يوجب الذم.

قوله في المسألة الثانية: (إنما ذمهم لأنهم لم يعتقدوا حقيقة الأمر). قلنا: هذه العبارة غير متجهة، بل كانوا يعتقدون حقيقة الأمر، وأن هذه الصيغة أمر، بل المتجه أن تقول: لأنهم لم يصدقوا وروده من عند الله تعالى. قوله: (لعله إنما ذمهم لأنهم كذبوا بقوله تعالى: (ويل يومئذ للمكذبين) [المرسلات:15]. قلنا: القاعدة: أن ترتيب الحكم على الوصف دليل عليّة ذلك الوصف لذلك الحكم، والترتيب إنما وقع هاهنا على ترك الروع لا التكذيب، فدل على أنه المستقل بالذم. قوله: (القضاء إلزام). قلنا: هذا غير متجه، بل القضاء الفعل، قال الله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) [الجمعة:10] أي فعلت، وقال الشاعر [آلكامل]: وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع أي: فعلهما، يشير إلى مسرودتين. والقضاء: الحكم ومنه قوله تعالى: (وقضى ربك) [الإسراء:23] أي: حكم، ومنه قضاء القاضي، ومما يبطل أنه الإلزام، هاهنا أن قوله

(سؤال)

تعالى: (إذا قضى الله ورسوله أمرًا) [الأحزاب:36] لو كان معناه الإلزام، لكان الله تعالى ألزم عباده أن يأتمروا بأمر الله ويصدرونه، فإن الإلزام لا يتعلق إلا بالأفعال، وألزم الله تعالى الصلاة، أي ألزم فعلها بل يتعين أن يكون الأمر هاهنا معناه: المأمور هو الذي يأتي إلزامه، أما نفس الأمر فلا، ولا شك أن الله تعالى إذا ألزم مأمورا وجب بالإلزام لا بالأمر. (سؤال) سلمنا هذا الدليل، لكنه يقتضي أن أوامر الله تعالى ورسوله لا خيرة فيهما بهذا الوضع الشرعي، والنزاع في هذه المسألة إنما هو في الوضع اللغوي، هل وضعت العرب الصيغة للوجوب أم لا؟ فجاز أن يكون العرب ما وضعت الصيغة للوجوب، ويقول صاحب الشرع: احملوا أوامري على الوجوب، ولا تناقض، بل لو قال الشرع: أوجبت عليكم حمل صيغة الإباحة على الوجوب صح ذلك، ولا يناقض ذلك وضع اللغة، فإن للشرع أن يكلف ما شاء. قوله: (إذا انتفت الخيرة تعين الحظر أو الوجوب) ممنوع بل يبقى الندب والكراهة، فإن الخيرة ظاهرة في التسوية. قال التبريزي: عليه أسئلة. الأول: أن المراد بالأمر: الفعل: والإلزام إنما يأتي فيه، والخيرة إنما تكون فيه. الثاني: أن الآية دلت على أن الأمر إذا اتصل به القضاء كان للوجوب، فلم قلتم: إن الأمر بمجرده يكون للوجوب؟ الثالث: أنها دلت على أن أمر الله ورسوله للوجوب، والنزاع في مطلق الأمر.

(بيان)

قوله: (تارك المأمور به مخالفة لذلك الأمر، والمخالف يستحق العقاب، ولا معنى بأن الأمر للوجوب إلا ذلك): قلنا: هذا الدليل مركب من الشكل الأول، ومن شرطه أن تكون صغراه موجبة، وكبراه كلية، والكبرى هاهنا جزئية. (بيان) أنه لم يقم الدليل إلا على أن مخالف أمر الله تعالى وأمر رسوله، صلى الله عليه وسلم، ينبغي أن يحذر العذاب وهؤلاء بعض المخالفين، وإنما تكون كلية إذا قام الدليل على أن كل مخالف يستحق العقاب، أو ينبغي أن يحذر العقاب، [بل الذي في الآية ينزل منزلة قول القائل: (وبعض المخالفين)] وذلك غير منتج إجماعا. سلّمنا إنتاجه، لكن قوله: (مخالفة الأمر ترك مقتضاه): قلنا: لا نسلم، ولم لا يجوز أن تكون المخالفة فعل ضد المأموربه، ويكون الترك نقيضا لا ضدا؟ وهو الحق، لأن الفعل وعدمه لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأما الموافقة والمخالفة قد يرتفعان. فإن قيل: وجود العالم لا موافقة ولا مخالفة، والضد أخص من النقيض، ولا يلزم من اولعيد على الأخص الوعيد على الأعم، كالوعيد على شرب الخمر، ولحم الخنزير دون مطلق اللحم ومطلق الشراب، سلّمنا إنتاجه لكن هذا يفيد أن أوامر الشرع جعلها صاحب الشرع كذلك، فلم قلتم: إن أصل اللغة كذلك؟ بل هذه الآية ونحوها يمكن أن يستدل بها على أن الأمر في اللغة ليس للوجوب، لأنه لو كان للوجوب لاكتفى بذلك

عن إبداء نصوص في الشريعة تقتضي العقاب، فلما وردت الآيات بالوعيد دلّ على خلو اللغة عن ذلك، لأن الأصل عدم المرادف في الأدلة. قوله: (الآية دلت على أن الأمر بالحذر عن المخالفة، ولا على أمر المخالف بالحذر): قلنا: والمقصود حاصل على هذا التقدير أيضا، فإنا إذا قلنا: احذر المخالف لزيد، فإن ذلك يدل على أن مخالفة زيد سبب يوجب الضرر، ولانعني بأن الأمر للوجوب إلا ذلك، ثم الفاعل هاهنا إذا لم يكن (المخالفين) فإما أن يعود على المتسللين أو غيرهم، والأول باطل، وإلا لزم أن يظهر (بالواو) لأنه حينئذ ضمير جماعة، وإن عاد على غيرهم فهو محال لعدم ذكره، وحذف الفاعل مطلقا لا سبيل إليه، فيتعين أن يكون (الذين) هو الفاعل، وهو المطلوب. وهذا يتجه أكثر من جواب الكتاب. قوله: (الآية دالة على الأمر بالحذر للمخالف عن الأمر لا مخالف الأمر، وتزاعنا إنما هو فيمن خالف أمر الله تعالى، لا في المخالف عن أمر الله تعالى). قلنا: (عن) هاهنا للمجاوزة، لأن الفعل تضمن معنى المجاوزة واستعمل في المجاوزة من غير تضمين، وقد تقدم الفرق بينهما، وهو أن التضمين هو الجمع بين الحقيقة والمجاز، والمجاز إعراض عن الحقيقة بالكلية. ووجه تعلق الغرض بالمجاوزة أن أمر الله تعالى إذا أورد على المكلف، ومات في الزمان الذي يلي ورود الأمر لا يكون عاصيا، لأن زمن الموت حينئذ يكون أول أزمنة الإمكان، فلا بد أن يتجاوز الأمر في ذلك الزمان فما

(تنبيه) النكرات قسمان

بعده، ولا يفعل فيها شيئا، فدل ذلك على أن المجاوزة مقصودة في الأوضاع الشرعية، فذلك أتى بـ (عن)، فليست زائدة، ومعناها صحيح مقصود. قوله: (قلنا: المراد مخالف كل أمر أو أمر واحد، وعندنا أمر واحد للوجوب، يعني الأمر بالإيمان ونحوه مما اتفق على وجوبه): قلنا: الآية شاملة لمل أمر، لأن القاعدة أن اسم الجنس إذا أضيف عمّ، وإن كان مفردا كقوله عليه السلام: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، والأمر هاهنا مضاف للضمير فيعم. (تنبيه) النكرات قسمان: منها ما يصدق اسم قليلها، ومفردها على الكثير منها. ومنها ما لا يصدق مفردها على كثيرها. فالأول: نحو (الماء) و (المال)، يقال للكثير: (ماء) كما يقال للقليل. والثاني: نحو (رجل)، فإنه لا يقال للكثير رجال بل رجال.

فإن أضيف الأول، فالعموم فيه ظاهر، وإضافة الثاني فيه تظهر. ففرق بين قول الإنسان: عبيدي أحرار، وبين قوله: عبدي حر أن التعميم في الأول دون الثاني، وسيأتي تحريره في (باب العموم) إن شاء الله تعالى. فهل (أمر) مما يصدق على الكثير، فيقال للأوامر الكثيرة: أمر أم لا؟ إن لم يمنع استقام البحث. قوله: (لما لم تحصل موافقة الأمر حصلت مخالفته): قلنا: الخصم قد قال: موافقة الأمر اتيان بمقتضاه على الوجه الذي اقتضاه، فإذا اقتضى ندبا، ففعلناه وجوبا لا نكون موافقين له، ثم إن الموافقة والمخالفة ضدان، لا نقيضان، والضدان يمكن ارتفاعهما، ألا ترى أنه قبل ورود الأمر لا موافقة ولا مخالفة؟ وكذلك قبل وجود العالم لم يوجد طائع ولا عاص، ولا موافق لأمر الله تعالى ولا مخالف، فإن الموافقة عند الخصم الإتيان به على وجه الوجوب مخالفة الأمر، فلا يتجه المدرك من الآية على هذا التقدير على أن الأمر للوجوب، وهي إنما دلت على أن المخالف يحذر، فالخصم يقول بموجب الآية، ويقول: المخالف عندي هو الآتي بالفعل على سبيل الوجوب. قوله: (هذا يكون لموافقة الدليل الدال على كون ذلك الأمر حقا، لا موافقة الأمر): قلنا: تقريره: أن اعتقاد أن هذا الأمر حق إنما نشأ عن المعجزة الدالة على النبوة لا عن الأمر. فالمعجزة: هي الدليل الدال على أن الأمر حقّ.

والاعتقاد: موافقة، والإتيان بالفعل موافقة الأمر. قوله: (فإذا دل الدليل على حقيقة ذلك الأمر): قلنا: لا تتجه هذه العبارة، بل المتجه أن نقول: إذا دل الدليل على أن ذلك الأمر صادر من جهة الله تعالى، أما حقيقة الأمر فقد تقدم أن الحق هو الموجود فنقول: الكلام إلي ذلك الأمر موجود، وكونه موجودا لا يحتاج للمعجزة، بل كونه من قبل الله تعالى فقط قوله: (قال النحاة: تعلق الفعل بفاعله أقوى من تعلقه بمفعوله): قلنا: مسلم، لكناّ في هذا المقام لم نقدم مفعولا على فاعل حتى يتجه مثل هذا الكلام، بل قلنا: يجعل غير (الذين) فاعلا، والنحاة لم تقل: إن (الذين) بالفاعلية أولى من غيره، ففرق بين تقديم المفعول على الفاعل، وبين تقديم أحد الاسمين على الآخر في أن يجعل فاعلًا، هذا ليس مورد ذلك النقل عن النحاة، فلا يحتج به علينا. قوله: (النسللون هو المخالفون، فلو كانوا هم المأمورين بالحذر لكانوا مأمورين بالحذر عن أنفسهم، وإنه لا يجوز): قلنا: عليه سؤلان: الأول: أنهم ليسوا المخالفين بل بعضهم، لأن الذين يخالفون صيغة عموم تتناولهم وغيرهم. وثانيهما: سلمنا أنهم المخالفون، لكن لم قلتم: إن الإنسان لا يؤمر بالحذر عن نفسه، فقد عليه السلام: (شر أعدائك نفسك التي بين جنبيك) وإنما قصد عليه السلام بذلك التحذير، وأنه لا شيء يحذر

أعظم ضررا من النفس، وبه جاءت السنة، واكلتاب العزيز: (إن النفس لأمارة بالسوء) [يوسف:53] ونحوه. وثالثها: أن الجواب الصحيح قد تركتموه، وهو أن الفعل لو كان (المتسللون) لظهر الضمير في الفعل بالواو، فقال تعالى: (فليحذروا) [المائدة:41] بالواو إجماعا، لأن فعل الجماعة إذا تأخر عنها وجب جمع الضمير، وإذا تقدم (وجد إلا ما قل وروده) من ذلك قوله تعالى: (وأسروا النجوى الذين ظلموا) [الأنبياء:3] وعن العرب: ألكوني البراغيث، واتحاده هو الذي تقدم، ونصوص النحاة متظافرة عليه. قوله: (ويبقى قوله [أن تصيبيهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم] [النور:63] ضائعا). تقريره: أن فعل الحذر إنما يتعدى لمفعول واحد، تقول: حذرت زيدا كما تقول: أكرمت زيدا، وضربت زيدا، فيكون الذين مفعولا له، فيكون قد استوفى مفعوله، ولم يبق فيه عمل لنصب مفعول آخر، كما إذا قلت: ضربت زيدا ألا يمكن أن تنصب به مفعولا آخر على أنه مفعول به؟ بل على المصدر، أو الحال، أو المفعول معه، أو غير ذلك من زنواع المنصوبات غير المفعول به. أما المفعول به فلا يمكن ذلك في لغة العرب، فلا يبقى لقوله: (أن تصيبيهم فتنة) عامل يعمل فيه، أما أذا جعلنا (الذين) فاعلا يكون (أن تصيبهم فتنة) عامل يعمل فيه، أما إذا جعلنا (آلذين) فاعلا يكون تصيبهم فتنة) مفعولا [فلا يلغو كلام صاحب الشرع. ويرد عليه: أنا إذا جعلنا (الذين) مفعولا يبقى (أن تصيبهم فتنة) مفعولا] من أجله، فلا يلغو، كقولك: حذرت زيدًآ أن يسرق مالي.

(سؤال) قال التبريزي: التردد بين الضرر وعدمه على نحو من التقارب، أو التنازع في كونه كذلك يحسن التحذير منه عرفا، والأمر متردد بين الوجوب وعدمه، والنزاع فيه، فيحسن التحذير منه

قوله: (لا ندعي وجوب الحذر بل حسنه، وحسنه موقوف على قيام المقتضى للحذر، وإلا لكان ذلك عبثا): تقريره: أن الحائط المائل يحسن التحذير منه لوجود المقتضي للحذر، أما الحائط القوي فلا يحسن التحذير منه لعدم المقتضي للحذر، والتحذير عن مثل هذا عبث في العادة واللغة، فإذا حسن الحذر، وكان المقتضى موجودا، فالمقتضى هو موقع الذم الشرعي، ولا معنى بالوجوب إلا ذلك. (سؤال) قال التبريزي: التردد بين الضرر وعدمه على نحو من التقارب، أو التنازع في كونه كذلك يحسن التحذير منه عرفا، والأمر متردد بين الوجوب وعدمه، والنزاع فيه، فيحسن التحذير منه. قوله: (يجوز استثناء كل واحد من أنواع المخالفات، فيقال: فليحذر الذين يخالفون إلا مخالفة الأمر الفلاني): قلنا دخول الاستثناء في المخالفات يفيد العموم في المخالفات لا في الأوامر، فجاز أن يكون الأمر واحدًا، وجميع مخالفاته على العموم ممنوعة، فهذا غير متجه، بل المتجه أن نقول: يصح استثناء كل أمر من هذه الصفة، فيكون للعموم. سلمنا صحة العبارة، لكن الاستثناء أربعة أقسام: ما لولاه لعلم دخوله، كالاستثناء من النصوص نحو: له عندي عشرة إلا اثنين. وما لولاه لظن دخوله، مالاستثناء من العمومات نحو: اقتلوا المشركين إلا زيدا، فلو كان تناوله لزيد مظنون بخلاف تناول العشرة للاثنين. وما لولاه لجاز دخوله، وهو أربعة أقسام:

(سؤال)

الاستثناء من المحال نحو أكرم رجالا إلا زيدا وخالدا، وعمرا، فإن أخص فهو محل لأعمه، وكان للمكلف أن يعين المحل قبل ذلك الاستثناء. ومن الأزمنة، نحو صل إلا بعد العصر. ومن البقاع، نحو صل إلا في المواضع السبعة. ومن الأحوال، نحو قوله تعالى: (لتأتنني به إلا أن يحاط) [يوسف:66]، أي: في كل حالة من الأحوال إلا في هذه الحالة. وإذا كان الاستثناء على هذا التفصيل، فلعل هذا من قبيل ما يجوز لا من قبيل ما يجب، فلا يحصل المقصود. قوله: (رتب الله تعالى استحقاق العقاب على مخالفة الأمر، وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلّية): قلنا: هذا قياس، والسائل إنما منع العموم، ولا تنافي بين عدم العموم، وثبوت الحكم في كل الأفراد بالقياس، فلم يحسن جوابه ألبتة. وهذا السؤال يرد على الوجه الثالث أيضًا. (سؤال) جملة هذا الدليل يقتضي أن أمر الله تعالى يجب حمله على الوجوب، ولا يفيد ذلك أنه في اللغة كذلك، والنزاع إنما هو في اللغة، وأما أوامر الشرع فهي تتبع القرائن عند الخصم. (تنبيه) ينبغي أن يعلم: (أن (المنتخب) أدمج سؤلا في سؤال هذه الآية سهوًا، فأجاب عن أحدهما، وترك الآخر، فقال الآية دالة على الأمر بالحذر عن مخالفة الأمر، أما أمر المخاالف بالحذر فلا، ثم قال: فإن قلت: كلمة (عن) صلة زائدة.

قلت: الأصل ألا تكون كذلك. فهذا جواب عن سؤال لم يذكره، وهو أن المأمور المخالف عن الأمر لا يخالف الأمر، فشرع يجيب عن سؤآل لم يذكره، وترك الجواب عن الذي أورده بالكلية، فتأمله. قوله: (تارك المأمور به عاص، والعاصي يستحق العقاب): قلنا: هذا الدليل من الشكل الأول، وشرطه أن تكون صغراه موجبة، وكبراع كلية وهي هاهنا جزئية، لأنه لم يثبت إلا أن الذي يعصي الله ورسوله يستحق العقاب، وهؤلاء بعض العصاة، فيصير معنى النظم: تارك المأمور به عاص، وبعض العصاة يستحق العقاب، وذلك غير مفيد بإجماع أهل النظر، بل لا ينتج حتى يثبت بالدليل أن كل عاص كيف كان يستحق العقاب. قوله: (يلزم التكرار في قوله تعالى: (لا يعصون الله ما زمرهم ويفعلون ما يؤمرون) [التحريم:6]). قلنا: لا نسلم التكرار في قوله تعالى، بل قال بعض العلماء قوله: (لا يعصون الله ما أمرهم) إخبار عن الواقع منهم، أي عدم المعصية دائماً، وقوله تعالى: (ويفعلون ما يؤمرون) إخبار عن سجياتهم، أي الذين طبعوا عليه هو الطاعة، كما أنهم يلهمون التسبيح كما يلهم أحدكم النفس، وإذا كان أحدهما إخبارا عن الواقع والآخر إخبار عن السجية والفكرة التي فطروا عليها فلا تكرار. قوله: (الآية حكاية حال، فيكفي في تحقيقها صورة واحدة): قلنا: لفظ (ما) من صيغ العموم، لأنها لمعنى الذي، أو مصدرية فيكون معناه: في أمره، وهو أيضا عام، أو زمانية فيكون معناه: لا يعصون

الله في أي زمان أمرهم فيه، وهي أيضا للعموم، كقولك: لا أعصيك ما طرد الليل النهار، أي: في جمع الأمنة. قوله: (معنى الآية: لا يعصون الله ما أمرهم في الماضي): قلنا: يبعد ذلك من جهة أن النحاة نصوا على أن (لا) لنفي المستقبل،،واستعمالها بمعنى (لم) قليل، نحو قوله تعالى: (فلا صدق ولا صلّى) [القيامة:31] أي لم يصدق، فيجتمع المجاز في الفعل المضارع وفي (لا) أيضا. فالجواب المتقدم أولى، ويكون: (ويفعلون ما يؤمرون) إخبارا عن السجية التي هم عليها، لا سيما والفعل المضارع قد كثر استعماله في الحالة المستمرة، مقولهم: زيد يعطي ويمنع، ويصل ويقطع. وقالت خديجة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) أي شأنك ذلك في الماضي، والحال، والمستقبل، وهو مجاز واحد في

المضارع، فيكون أولى من مجازين في الفعل والحرف، لا سيما وهو مجاز مشهور، والأول قليل جدا. قوله: (الاستحباب لازم للوجوب، وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز): قلنا: هذه العبارة غير متجهة، لأنه إنما ادعى الملازمة لا السببية، فكان المتجه أن يقول: وإطلاق اسم الملزوم على اللازم جائز، ولا معنى للسببية هاهنا. قوله: (ليس الحكم بكون هذه الصيغة للوجوب محافظة على عموم قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله) [النساء:14] أولى من القول بأن المستحب مأمور به محافظة على صيغ الأوامر الواردة في المندوبات): تقريره: أن أحد التحصيصين لازم، إما تخصيص الآية، أو تخصيص صيغ الأوامر. بيانه: أنك إن أثبت قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله) على عمومه لا تخرج منه شيئا بألا تعتقد أن فيه مندوبا يخرجه لزمك أن تخرج بعض صيغ الأوامر لا تخرج عن أن تكون مستعملة في موضوعها الذي هو الوجوب، وإن ثبتت صيغ الأوامر لا تخرج منها شيئا بأن تعتقد أن صيغة الأمر موضوعة لمطلق الرجحان يلزم إخراج بعض مخالفي الأمر عن الوعيد، وهم الذين خالفوا أمر الندب. وفي التحقيق التخصيص في الآية والمجاز في صيغ الأمر لا التخصيص، لأنه استعمال لما وضع للوجوب في الندب، فتعارض التخصيص والمجاز، والتخصيص أولى تقدم في مسألة التعارض.

قوله: (لو جعلنا الصيغة لأصل الترجيح لم يكن الوجوب لا زما، فلا يمكن جعله مجازا ممنوع، فإنا نتجوز بالأسد لزيد الشجاع، والأسد لا يلزمه زيد، ونتجوز بلفظ الجزء للكل، والكل غير لازم للجزء، بل هذا الكلام من المصنف نشأ عن اعتقاد أن دلالة اللفظ هي الدلالة باللفظ، وقد تقدم الفرق بينهما من خمسة عشر وجها، ولما كانت دلالة الالتزام شرطها الملازمة الذهنية، جعل هذا الشرط في المجاز الذي هو من الدلالة باللفظ، والشرط إنما هو دلالة اللفظ في نوع منها، فتأمل ذلك. ولهذة المقدمة ادعى في (المعالم) أن من شرط المجاز هو الملازمة الذهنية، وليس كذلك، وتكرر منه هذا الكلام في نحو عشرين موضعا في (المحصول)، وهو غير متجه، لما سمعته الآن وقبل ذلك. قوله: (رتب الله تعالى المعصية على مخالفة الأمر، فيكون المقتضى للاستحقاق هذا المعنى): قلنا: هذا تعميم للحكم بالقياس، والخصم إنما منع عموم اللفظ، فلا يدفع سؤاله العموم بالقياس. قوله: (الخلود هو المكث الطويل لا الدائم): قلنا: الغالب في استعمال صاحب الشرع له في الدائم، وحمل اللفظ على الغالب أولى. قوله: (إنه عليه السلام دعا أبا سعيد الخدري فلم يجبه):

قلنا: الذي نقله البخاري في هذه القصة: أبو سعيد الخدري بن المعلّى، والخذري لا مدخل له في هذه القصة. قال البخاري في (التفسير) في كتابه المعروف بـ (آلبخاري): ثنا إسحاق، ثنا روح،

ثنا شعبة عن خبيب بن عبدالرحمن قال: سمعت حفص بن عاصم يحدث عن أبي سعيد بن المعلى قال: (كنت أصلي فمرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته، فقال: (ما منعك أن تزتي ألم يقل الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) [الأنفال:24] ثم قال: (لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج)، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليخرج فذكرت له، وقال معاذ: ثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن سمع

حفص بن عاصم سمع أبا سعيد رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال هي: (الحمد لله رب العالمين السبع). وقال أبو داود في الصلاة:

ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا خالد عن شعبة عن خبيب بن عبدالرحمن، قال: سمعت حفص بن عاصم يحدث عن أبي سعيد بن المعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ به وهو يصلّي فدعاه، فصليت ثم أتيته، قال: (ما منعك أن تجيبني)، قال: كنت أصلي: قال (ألم يقل الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) [الأنفال:24] ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة قبل أن أخرج من المسجد). قال: فقلت: يارسول الله قولك، فقال: (الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني الذي أوتيت في القرآن العظيم). ورواه أيضًا النسائي في (آلتفسير)، وابن ماجه في (النسخ).

واسم أبي سعيد: الحارث بن أوس بن المعلى الأنصاري، الخزرجي، الذرقي، واسم أبي سعيد الخدري: مالك بن سنان من بني خدرة، خزرجي، أنصاري، فتباينا بالأسماء، والأباء، والعشيرة، وإنما اتفقا في الخزرج، والأنصار. والمنقول في الإحكام، و (المستصفى) وغيرهما من تصانيف، إنما هو الخدري، وما أدرى كيف هذا؟ والمحدثون مطبقون على إنكاره كما ترى، مطبقون على أنه ابن المعلى، وأما الخدري فليس له ذكر مع أن كثيرا من المصنفين وافقوا المصنف في الخدري، ولا أدرى ما ذلك، بل المحققون، وأهل المعرفة بالحديث يخطئون هذا. ووقع في بعض طرق الحديث أن أبا سعيد الخدري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أعود). وهذا يدفع قول من يقول: إنما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلمه ما عنده من الفقه، لا لأنه ذمه على المخالفة، فإن الاعتذار دليل أن الإجابة كانت واجبة. قوله: (هذا خبر واحد، لا يتمسك به في مسألة علمية) قلت: قال الآبياري في (شرح البرهان): مسائل الأصول قطعية، ولا يكفي فيها الظن، ومدركها قطعي، ولكنه ليس المسطور في الكتب، بل معنى قول العلماء: إنها قطعية، أن من كثر استقراؤه واطّلاعه على أقضية الصحابة، رضوان الله عليهم ومناظرتهم، وفتاويهم، وموارد النصوص.

الشرعية، ومصادرها حصل له القطع بقواعد الأصول، ومن قصر عن ذلك لا يحصل له إلا الظن، وبهذا الطريق حصل القطع بشجاعة علي، وسخاوة حاتم، ونح، هما، ولو أن الإنسان لم يسمع لهما بذكر إا في حكاية وحدها لم يحصل له القطع، بل لما كان الإنسان طول عمره يرد عليه أخبارهما حصل له بجميع ذلك القطع بحالهما، وإنما وضع العلماء هذه الظواهر في كتبهم لثبتوا أصل المدرك، لأنها مدرك القطع فلا تنافي بين كون هذه المسائل قطعية، وبين كون هذه النصوص لا تفيد إلا الظن، فتأمل ذلك في جميع هذه المسائل، وعند جميع هذه الأسئلة. قوله: (بينا أن المباحث اللفظية لا يرجى فيها اليقين): قلنا: هذا لم يتقدم بيانه، إنما تقدم أن الألفاظ من حيث الوضع لا تفيد اليقين، وتفيد بالقرائن، [وأن أكثر ألفاظ القرآن من هذا القبيل، وكونها لا تفيد اليقين من حيث الوضع، وتفيد القرائن] والسياقات والتكرار، فلا يقطع الرجاء منها في إفادة اليقين. قوله: (وهذه المسألة وإن لم تكن عملية، لكنها وسيلة للعمل) قال القرافي: رفع في كثير من النسخ بدل عملية علمية، وإنما هي علمية وبه ينتظم الكلام، وكذلك هي في النسخ الصحيحة. قوله: (افرق في العقل بين أن يحصل ظن الحكم، وبين أن يحصل العلم بوجود ما يقتضي ظن الحكم في جواز التمسك بهما في العمليات). تقريره: أنا نسلم أنها يقينية، ولكن من حيث إنها وسيلة للعمل الذي يكتفي فيه بالظن يجوز التمسك فيها بالظن، لأنه لا فرق بين ظن الحكم من دليل يدل عليه، وبين قاعدة عملية ثمرتها الظن، فإطا كان المقصود هو الظن جاز التمسك بالظن في الكل.

(فائدة) الأولى: الظاهرية قالوا بوجوب التمسك، لقوله عليه السلام: (مالكم تدخلون علي قلحا استاكوا)

قوله: (المانع من الإجابة قائم وهو في الصلاة) قلنا: لا نسلم أن الصلاة مانعة من الإجابة، لأن الإجابة ميسرة بالقرآن، وبالإشارة، ولا يبطل ذلك الصلاة عند مالك وأصحابه وجماعة من العلماء. قوله عليه السلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة). تقريره: التمسك به من وجهين: أحدهما: ما ذكره المصنف. والثاني: أنه عليه السلام جعل المشقة من لوازم الأمر له، [وإنما تكون المشقة لازمة] إذا كان للوجوب. (فائدة) الأولى: الظاهرية قالوا بوجوب التمسك، لقوله عليه السلام: (مالكم تدخلون عليّ قلحا استاكوا). الثانية: قال صاحب (المفهم في شرح المسلم) وغيره: إن السواك لا يشرع في املساجد، لأنه إزالة للقاذورات والأوساخ، والمساجد منزهة عن ذلك، قالوا: ولم يرد عنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استاك

في مسجد قط، ولا في جماعة، لأن أرباب الهيئات والمروءات يمتنعون من إزالة القاذورات في المحافل، والجماعات، فيكون معنى الحديث: ليستاكون عند الوضوء للصلاة، فيكون الوضوء لكل صلاة بهذا التفسير.

الثالثة: قال العلماء: هذا الحديث يدل على أن مصلحة السواك وصلت إلى حد يصلح للإيجاب، وترك الإيجاب رفقا بالناس، وقد ساوى كثير من المندوبات كثيرا من الواجبات في المصلحة، ولا يجب ذلك الفعل رفقا بالعباد، وإلا فالأصل أن يكون كل مندوب تقصر مصلحته عن كل اولاجبات. الرابعة: روى (صلاة بالسواك أفضل أو خير من سبعين صلاة بغير سواك (. ومقتضاه: أن يكون السواك أفضل من الصلاة في جماعة؛ لأن صلاة الجماعة إنما فضلت بسبعة وعشرين، والظاهر أن صلاة الجماعة أوكد في نظر الشرع من السواك، فيحتاج للجواب عن ذلك، فلم يظهر لي ذلك. قوله: (لم لا يكون معناه: لأمرتهم أمر إيجاب؟)

قلنا: الأصل عدم الإضمار، (لولا) هنا لم تدخل إلا على مطلق الأمر، فيكون هو المقصود ليس (إلا). قوله: (نفي الأمر مع ثبوت الشفاعة الدالة على الندب). قلنا: ظاهر هذه العبارة: أن شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على الندب الذي هو حكم الله تعالى، وليس كذلك، لأن رسول الله صلى اله عليه وسلم متصرف تارة بالتبليغ عن الله تعالى، فكل ما يصدر في هذه الحالة فهو دال على الأحكام الشرعية وغيرها من الإلهية، وتارة يتصرف بطبعه وسجاياه الكريمة، وأحواله البشرية، فهذا لا يدل على زحكام الله تعالى، فإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اسقوني ماء) لا نقول: إن هذا اللفظ يقتضي أن الله تعالى أوجب علينا ذلك، وإن كنا نعتقد أن امتثال أمره عليه السلام مطلثا واجب، لكن لقوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) [المائدة:92]، وغيره من الأدلة، لا للفظ الصادر منه عليه السلام بمقتضى بشريته، كذلك شفاعته عليه السلام هي بمقتضى ماكرمه وأخلاقه السنية، كأن الله تعالى أوحى إليه في تلك الحالة أمرا يدل على الندب، فنحن مندوبون أن نقبل شفاعته عليه السلام، بل شفاعة آحاد المؤمنين، فضلا عنه عليه السلام، فالشفاعة مدلولها الندب، لا أنها دالة على الندب. قوله: (لأنهم أوجبوا أخذ الجزية من المجوس). قلنا: لم يكن المقصود هناك وجوب الجزية، بل التسوية بينهم وبين أهل الكتاب فيها. قوله: " أوجبوا غسل الإناء من ولوغ الكلب ". قلنا: ممنوع بل ذلك مندوب إليه، وهو مذهب مالك.

قوله: (الحكم تخلف في صورة عدم الوجوب لمانع). قلنا: يلزم في المانع ما لزم في الجزية وغيرها، فإنكم قلتم: لو كان دليل الوجوب غير هـ=خبر عبدالرحمن لاشتهر، وحيث لم يشتهر فلم يوجد، نقول أيضا: إنما قضوا بالندب في تلك الصور لأجل الصيغة الخاصة، إذ لو كان هناك صارف لاشتهر بعين ما ذكرتم، فما هو الجواب عن اشتهار المانع هو جواب الخصم عن عدم اشتهار ذلك الدليل، بل الرجحان مع الخصم، بأن يقول: إذا كان الأمر ليس للوجوب لا يكون إثبات الوجوب في صورة مخالفة للظاهر، بل إثبات الوجوب لأمر زائد لم يتعرض الظاهر له لا بنفي ولا بإثبات، وإذا كان الأمر للوجوب يكون الظاهر قد خولف في صورة الندب بترك مقتضاه، فإن مخالفة الظاهر هو إثبات ما ينفيه الظاهر، أو نفي ما يثبته الظاهر، أما إثبات ما لا يتعرض الظاهر له بنفي ولا بإثبات للوجوب، فليس مخالفة للظاهر، فيكون مذهب الخصم أرجح. قوله: (لا يمكنك أن تلتزم أن الواجب غير مأمور به؛ لأن أحدا من الأمة لم يقل به)

قلنا: كيف يصح ذلك والقائل بأن صيغة الأمر للندب فقط يقول به، والقائل: بأنها للإباحة فقط يقول به، والقائل بأنها للقدر المشترك بينهما يقول به، وهي مذاهب قد حكاها قبل هذا في موضوع الصيغة، حيث ذكر أنها وردت في خمسة عشر موضعًا. قوله: (لو كان حقيقة في أصل الترجيح لم يكن جعله مجازا في الوجوب). قلنا: قد تقدم السؤآل على هذا، وأنه ممكن غير أنه مرجوح، وأنه من باب اعتقاد اتحاد دلالة اللفظ، والدلالة باللفظ، وأن اللازم في هذا المقام هو زن التجوّز عن الوجوب أرجح، لأن التجوز عن أصل الرجحان غير ممكن ولو سلك المصنف هذا القدر من الترجيح كفاه، واستغنى عن هذه المقدمة الباطلة. قوله: (وإذا بطلت الأقسام الثلاثة تعين جعله حقيقة في الوجوب). قلنا: نفي من أصل التقسيم قسم، لم يتعرض له بالإبطال، وهو ألا يكون حقيقة في واحد منهما- كما قاله أرباب الإباحة وإذا لم يثبتوا إبطال هذا القسم، فلعل الحق فيه. قوله: (دل اللفظ على معنى، فوجب أن يكون مانعا من نقيضه كالخبر). تقريره: أن الخبر في لسان العرب: ما وضع للصدق والكذب، معناه بالنظر: أي ما يمكن أن يحصل فيه من جهة المتكلم لا من جهة الوضع؛ فإن المتكلم قد لا يوافق الصدق، فيخبر بالشيء على خلاف ما هو عليه، كما لا يوافق الوضع، فيستعمل اللفظ مجازا، فموافقة المتكلم للوضع غير لازمة، وبهذا الطريق احتمل الخبر الصدق والكذب، لا باعتبار الوضع، ألا ترى أئمة النحو حيث قالوا: مدلول

(سؤال) هذا إثبات للقواعد القطعية بالقياس الذي لا يفيد إلا الظن

(قام) حصول القيام في الزمن الماضي، فلم يجعلوا له مسمى إلا وقوع ذلك المعنى، وذلك هو الصدق، ولو كان الاحتمال من جهة الوضع لقالوا: (قام) مدلوله: إما القيام في الزمن الماضي أو عدمه، وكذلك جميع تفاسير اللغة في الماضي، والمستقبل، والجمل الاسمية من الأسماء، والأفعال، والحروف، وإنما يفسرونها بوقوع ذلك المعنى ليس إلا، فظهر أن العرب لم تضع الخبر إلا للصدق، وحينئذ يتجه قياس الأمر عليه في منع النقيض من جهة الوضع، وإن احتمل النقيض من جهة المأمور، فيترك ولم يوضع للترك كما أن الخبر قد يدخله الكذب. ولم يوضع له. والجامع بين البابين إما ذكره في اكلتاب، وإما لأن لفظ الأمر، ولفظ الفعل الماضي والمضارع، والجميع مشتق من مصدر واحد، وإذا اتحد الأصل وجب أن تتساوى الفروع إلا فيما اتفقا فيه على عدم المساواة، أو الجامع بينهما بأن العرب عادتها أن تحمل الشيء على ضده، كما تحمله على مثله، كما حملت (لا) على (أن) في نصب المضارع، و (الغدايا) على (العشايا) في الجمع، (وحدث) على (قدم)، فتضم الدال من (حدُث) وأصله الفتح. (سؤال) هذا إثبات للقواعد القطعية بالقياس الذي لا يفيد إلا الظن. سلمنا صحة التمسك بالمظنون، لكن هذا قياس في اللغة، ونحن نمنعه، سلمناه، لكن في آحاد الألفاظ التي لا يترتب عليها إلا حكم جزئي فرعي، أما قاعدة كلية كالزمر فلا. قوله: (لو لم تكن مصلحة المأمور به راجحة لكان خاليا عن المصلحة) قلنا: هذا التقسيم غير حاصر، لأن الأمر قد يكون للمصلحة الخالصة كما

يكون للمصلحة الراجحة، وكذلك النهي كما يكون للمفسدة الخالصة يكون للمفسدة الراجحة، ونفي بالخالص ما ليس له معارضا مطلقا من ضده، وبالراجح ما له معارض مرجوح، كما قال الله تعالى في الخمر والميسر: (وإثمهما أكبر من نفعهما) [البقرة:219]، فأشار إلى أن مفسدتهما راجحة لا خالصة، وغالب الواقع في الشرائع المصالح، والمفاسد الراجحة دون الخالصة، فعلى هذا بقيت الخالصة لم يذكرها، فلم يكن التقسيم حاصرا. قوله: (إن كان خاليا عن المصلحة كان مفسدة صرفة، فلا يجوز الأمر به). قلنا: عليه سؤالان: الأول: لا نسلم أنه يلزم من الخلو عن المصلحة حصول المفسدة لجواز الخلو عنهما، وهو أحد أسباب الإباحة (الخلو عنهما)، والسبب الآخر لمساواتهما فيه وتفاوتهما. الثاني: لا نسلم أنه لا يجوز ورود الأمر بمثل هذا وامتناع، وإنما يتجه على الحسن والقبح العقليين، وذلك مذهب المعتزلج، ولا يقولون به، فلا يتجه أن نقول: لا يجوز ورود الأمر به، فإن قلت: أوجه المقدمة بطريق آخر فأقول: الظاهر أن واضع هذه اللغة حكيم لأجل ما وجد فيها من الأسرار البديهية، والمقاصد الجليلة، وإذا كان حكيما فلا يضع (الأمر) إلا لطلب ما فيخ مصلحة خالصة، أو راجحة. أما الماوي والخالي عنهما فلا، وبحثنا في هذه المقدمة إنما هو في أن المأمور راجح المصلحة فقط لا أنه واجب، وقد حصل الغرض بهذا. قلت: سلمنا أن الواضع حكيم، وأنه ما وضع الأمر إلا لراجح المصلحة،

أو الخالص، لكن لا يفيدك ذلك في أن كل شيء استعمل فيه صيغة الأمر فهو كذلك، لأن المستعمل قد يوافق الواضع، وقد لا يوافقه، كما تقدم في أنه قد يستعمل اللفظ الموضوع كذبا ومجازا، وكلاهما خلاف الوضع فكون المزمور راجحا في نفسه إنما يعلم من دليل خارج، لا من نفس الأمر. فإن قلت: الأصل في الاستعمال الحقيقة وألا يستعمل اللفظ إلا فيما وضع له، فيغلب على الظن عدم المجاز. قلت: لا نسلم أن وضع الاستعمال في غير الراجح لمصلحة [راجحة] أو خالصة، يكون مجازا، بل ذلك كما تقول: (ليت) وضع لتمني ما فيه مصلحة، ولو قال الإنسان: ليت لي مفسدة كان ذلك حقيقة فإنه تمنّ، واستعمل (ليت) في موضوعه وهو التمني، وإن كان لا مصلحة هنالك، ولذلك وضعت العرب في لغتها أن المقدم في الذّكر يكون أشرف، فإن قدم آخر في لفظه الخسيس على الشريف لم يكن ذلك مجازا. وكذلك التخيير وضعته العرب ليكون المتساويين، فلو خيّر واحد بين المختلفات لا يقال: لفظه مجاز، فلو قال قائل قائل لعبده: (خيرتك بين الصلاة والفجور، أو إن شئت فصل أو فافجر) لا يقول أحد: إن هذا مجاز فكذلك هاهنا لو قالت العرب: لا تطلب لا مصلحة، فطلب هو ضدها، صدق عليه أنه طالب، وأن الحفظ حقيقة كسائر النظائر المذكورة، وإنما يكون اللفظ مجازا أن لو وضعت العرب الأمر اسما للمصلحة، فاستعمل في غير مصلحة كان مجازا، كلفظ المصلحة إذا أطلق على المفسدة كان مجازا، ولكن هاهنا ما وضعته للمصلحة، بل للطلب، وقالت: لا تطلبوا إلا مافيه مصلحة، فهذا شيء أمرت به المتكلم، ولم يكن مسمى الصيغة كما قالت العرب: (لا) للنفي، ولا تنفوا إلا المنفي، فإذا قالت الذي عليه الدين: (ما لصاحبي علىّ شيء) فهو كاذب، فلفظه حقيقة، ولم يوافق مقصود.

العرب، فتأمل هذه القاعدة، وفرق بين أن يوضع اللفظ اسما لمعني فيستعمل في غيره، وبين أن تضع لمعنى وتقول: هذا المعنى لا يقصد إلا عند شرط مخصوص فيقصده المتكلم عند عدم ذلك الشرط، والأمر من ذلك وضع للطلب، وقالوا: لا تطلبوا إلا ما هو راجح الفعل، فلا يلزم من مخالفة المتكلم ذلك دخول المجاز في لفظه، فتأمل هذا الموضع، فكل من لا يعرفه إذا قيل له في تلك النظاذر كلها: إنها مجاز، لأنها في غير موضوعها، ربما عسر الجواب عليه. قوله: (إذا ثبت أن المصلحة راجحة لا يجوز ورود الإذن في الترك): قلنا: أجمع المسلمون بل جميع العقلاء على أن المصلحة الخالصة والراجحة إن كانت في المرتبة الدنيا كان حكمها الندب، أو في المرتبة العليا كان حكمها الوجوب، ويفرقا المندوب باعتبار عظم المصلحة حتى تكون أعلى مراتب المندوب يليه أدنى مراتب الوجوب، وكذلك نقول في طرف المصلحة بالنسبة إلى المكروه والمحرم. وعلى هذا التقدير لا يمكن أن مجود رجحان المصلحة لا يجوز ورود الإذن في تركه، بل جاز أن يكون من المندوبات، ويرد الإذن بتركه. قوله: (تفويت المصلحة الخالصة قبيح فأوجب أن يكون قبيحا شرعا، لقوله عليه السلام: (ما رآه المسلمون قبيحا فهو قبيح) قلنا: عليه أسئلة: الأول: لا نسلم أنه قبيح في العرف، بل أهل العرف ينتهي تارة عندهم إلى حد الإلزام، وتارة لا نتهي، وإن استحسنت ورجحت مصلحته عندهم، كالدار المزخرفة ونحوها حسنة، وفيها مصالح، لا يسلكون بذلك مسلك الإلزام لأنفسهم مع القدرة عليهم، ومطالب العرف انقسمت إلي ما لا حرج في تركه، وإلى ما في تركه حرج عرفا.

الثاني: في قوله عليه السلام: (ما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح) فإن هذا الحديث كثر الاستدلال به من الخلافيين والأصوليين. وعليه سؤال قوي وهو: أنا إذا قلنا: ما رآه زيد قبيحا فهو عند عمرو قبيح، يفهم منه أن ذلك الفعل، فعسر على أوضاعه وقيوده وتخصصاته، وجميع أحواله حتى لو كان الذي رآه زيد قبيحا وهو لبس الفراء في الصيف لكان اللازم في هذه العبارة أن عمرًا رآه قبيحا في الصيف في ذلك الزمان على ذلك الوضع الذي رآه زيد، وعلى هذا التقدير يقول أهل العرف: إنما رآه قبيحا في الصيف في ذلك الزمان على ذلك الوضع الذي رآه زيد. وعلى هذا التقدير يقول أهل العرف: إنما رآه قبيحا في أمر دنياهم لا في أمر أخراهم، فإن أمر الآخرة راجع لصاحب الشرع لا لأهل العرف، فيكون عند الله تعالى قبيحا في أمر الدنيا توفية بالصيغة، فلا يحصل مقصود المستدل من الحديث، لزن مقصودهم: ما رآه أهل العرف قبيحا في دنياهم فهو عند الله قبيح في شرعه. وفسد أنه ما إذا قلنا: ما راه زيد من لباس الفراء في الصيف قبيحا، فهو عند عمرو قبيح في الشتاء، فذلك لا يقول أحد: إنه مفهوم اللفظ، فتأمل ذلك. وإنما يندفع هذا السؤال بطريق: وهو أن لفظ (عند) يطلق على محامل كثيرة منها (الحكم الشرعي) كقوله تعالى: (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هو اكلاذبون) [النور:13]، أي في حكم الله عند القضاة وولاة الأمور، وإلا فقد لا يأتون بالشهداء، وهو في علم الله صادقون، فلا يمكن تفسير (العندية) إلا بالحكم الشرعي. ولنا قاعدة: وهي أن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دار بين أن يكون مفيدا فائدة عقلية أو شرعية، فحمله علي الشريعة أولى لأنه عليه

السلام إنما بعث مشرعا، وإذا تقرر هذا نقول: إن حملنا لفظ (عند) على العلم أي لعلمه قبيحا، كما هو عندهم، وهذا معلوم بالفعل وحكم عقلي فلا يفيد لفظه عليه السلام حكما شرعيا، وإن حكمه أفاد حكمها شرعيا لا عقليا، فكان أولى، وبهذا يتم الاستدلال لهم. الثالث فيه أيضا: فإن قوله: (المسلمون) صيغة عموم، فإن جعلناها كليه لزم أن يكون كل ما رآه كل واحد من المسلمين يكون عند الله كذلك، والواحد في نفسه ليس عرفا، ولا قائل به، فيتعين معنى الحديث: ما أجمع المسلمون عليه فهو حكم الله تعالى في الحسن والقبح، ونحن نقول به، وإنما النزاع في الفوائد من غير إجماع. الرابع: أن هذا الإستدلال على أن الأوامر في الشرع للوجوب، وهو موضع النزاع، فإن مسائل أصول الفقه إنما يقصد فيها لسان اللغة، وأما بيان الشرع فهو لنا على ما يتقرر في اللغة، بقوله تعالى: (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا) [طه:113] قوله: (ذلك لازم في جميع التكاليف) تقريره أن التكاليف وجميع الشرائع إنما في مصالح العباد، فإذا قلتم: إن إلزام الشارع العبد استفاء مصلحته قبيح لا يلزم ألا يثبت واجب الشريعة ألبتة. هذا غير لازم، فإن الشرع ما حتم على العباد استيفاء مصالحهم أي مصلحة كانت، بل المصالح التي في المرتبة العليا، بخلف مصالح المندوبات، والأصل فيها أن تكون دونها في المرتبة، وأنتم ادعيتهم مطلق المصلحة الخالصة، وهذا لم يوجد في الشرع مثله.

بل قسم الشرع المصالح الخالصة والراجحة قسمين: ما علا وعظم ألزمه، وما لا فلا. قوله: (إفضاء المنع من الترك إلى الوجود أكثر من إفضائه إلي العدم). قلنا: عليه مناقشة لفظية، فإن صيغة المفاضلة إنما تصدق مع الاشتراك، وهو لا يفضي إلى العدم أصلا، فلا تصدق المفاضلة. قوله: (المفضي إلى الراجح راجح في الظن) قلنا: المفضي إلى الشيء وسلية لحصوله، القاعدة: أن الوسائل تبع للمقاصد ودونها في الرتبة، فوسيلة الواجب واجبة، ودونه في الوجوب، ووسيلة المندوب مندوبة، ودونه في الندب، ووسيلة المباح مباحة غير أنها لا يمكن أن تكون أدنى منه، لتعذر ذلك في المباح، لضرورة الاستواء. إذا تقرر هذا فنقول: المصالح الخسيسة التي لا تنهض للإلزام لا عرفا ولا شرعا المنع من الترك فيها وسيلة لفعلها الراجح، وهي في أنفسها لم تنهض لقضايا الإلزام، فوسيلتها أولي لذلك، أي لا تنهض لما تقدم أن الوسائل أخفض رتبة من المقاصد، فلا تفيد هذه المقدمة. سلمنا عمومه لما فيه من الألف واللام، لكن نقول بالموجب فيه، لأنا نقتضي به والقضاء أعم من كونه بالوجوب أو بالندب، فما تعين الوحوب للقاء، فلا يحصل المطلوب، فمتي أفتى بالندب، فقد أفتى وقضى بالضرورة. قوله: (لو لم نعمل بالراجح لعلمنا بالمرجوح). قلنا: لا نسلم أنه يلزم من ترك الراجح العمل بالمرجوح، لأن الشاهد.

العدل إذا شهد وحده في (الزنا) فإن الراجح صدقه، ولم يعمل به وما لزم من ترك العمل به العمل بالمرجوح الذي هو كذبه، بل تركنا صدقه وكذبه، وكذلك كل بينة ردت، وأمارة بطلت، لعدم الاعتبار في الشرع، قوله: (وجب العلم في الفتوى، والشهادة، وأروش الجنايات، وقيم المتلفات، وجهات القبلة، وإنما عمل بذلك تغليبا للراجح) قلنا: لا نسلم أنه لأجل مفهوم الراجح، ولم يعتبر الشرع قط مطلق الرجحان، بل اغتبر في كل موطن ظنا مخصوصا، فلم يعتبر الشاهد الواحد مع قوة الظن بشهادته، ولا فتيا المسلم كيفما كانت، بل حتى يشتهر بالعلم في نظره، وكذلك المفهوم لا يجري فيه كل من غلب على الظن صدقه، بل هو من أهل الخبرة، وكذلك لا نجد موطنا في الشريعة اعتبر الشارع فيه مطلق الظن، بل لا بد من خصوصيته، وحينئذ لا يتم مقصود المستدل، لأنه لم يحصل له إلا مواضع القطع، وهو واقع بين أمور شديدة الاختلاف، فإن الأمر للوجوب من قيم المتلفات، وأروش الجنايات. قوله: (تلك الصيغة الموضوعة للوجوب، إما صيغة (افعل) أو غيرها، والثاني باطل بالإجماع، أما الخصم فلأنه ينكر ذلك على الإطلاق، وأما عندنا فلأنا نقول به في غير صيغة (افعل). قلنا: لا نسلم أن الخصم لم يقل بغير (افعل)، لأن الإجماع منعقد على أنه وضع للوجوب لفظ (الوجوب)، و (الإلزام)، و (التحكم)، ونحن أيضا قائلون بذلك، لأن الإجماع منعقد عليه، وقد تقدم أول اللغات أن جملة كبيرة من المعاني لم تضع العرب لها اشتعارات لغة (الفرس) ولغة (الروم)، وأن أنواع الطعوم والروائح مما تشتد الحاجة إليها، ولم تضع

لها، بل اكتفت بالإضافة بين الجنس وذلك النوع، فيقولون: رائحة (المسك) رائحة (العنبر) قوله: (وكذلك أصناف الاعتمادات لم يوضع لها). يريد أنواع الحركات باليد والرجل وغيرها لم يوضع لكل نوع لفظ يخصه، وإنما يقال إيحاء بيده وخصوص ذلك الإيحاء ليس له لفظ. قوله: (اللفظ أخف على اللسان من التركيب) قلنا: هاهنا أمران: الوجوب من حيث هو وجوب. والإيجاب على الغير المعين، أما الوجوب من حيث هو وجوب، فاللفظ الدال عليه مطابقة بالإجماع، هو لفظ الوجوب ل اأوجبت ولا حتمت، ولم يتعارض في هذا المقام المفرد والمركب على شي واحد، بل المفرد موضوع للمفرد، والمركب موضوع للمركب، وأصل المسألة والدليل إنما ذكر في الوجوب المفرد، فليس هذا موضع الترجيح للمفرد على المركب، بل المصنف يعتقد أن العرب ما وضعت المركبات ألبتة، وإنما وضعت المفردات فقط، فلا يصح منه هذا الجواب، ثم رنا قولنا: (افعل) بمجرده لا يقوم مقام (أوجبت)؛ لأن (أوجبت) جملة فعلية يصح السكوت عليها إجماعا، و (افعل) إذا لم يضم معه فاعل لا يكون جملة، وإن ضم معه حصل التركيب بفاعل مضمر النفس، ويعبر عنه النحاة بأنه مستتر في الفعل، فحينئذ التعارض واقع بين مركبين، غير أن أحد المركبين جزؤه مفرد. فإن قلت: هو أخف لكونه لم ينطق به. قلت: نسلم، لكنه يعارض الإضمار على خلاف الأصل، وأن الأصل

في اللغات القطع والإضمار، وإن التزم في مواطن، ومنعت العرب من إظهاره، فحسبه على خلاف الأصل، وإن كان الأصل في ذلك المضمر، الإضمار لمنع العرب من إظهاره، وجعله أصلًا في نفسه. ويمكن أن يقال: صيغة (افعل) تفيد الطلب والمطلوب معنا بلفظة واحدة. فإنه يفهم من قولنا: (صم) الصيام، وطلبه، والوحوب ونحوه إنما يفيد الوجوب فقط، فكان الأول أولى. قوله: (الوجوب ليس لازما لأصل الترجيح، فلا يمكن جعله مجازا عنه). قلنا: قد تقدم الجواب عن هذا مرارا، وأنه مبني على زن الملازمة شرط المجاز، وأن دلالة اللفظ، والدلالة باللفظ واحدة، وأنه باطل. قوله: (إنما يلزم الاشتهار إذا سلم المعارض). تقريره: أن الوضع حاصل، والدليل عليه موجود، ولكن حصلت شبهات في الوجود من استعمال لفظ الأمر في غير الوجوب، وغير ذلك مما اعتمد عليه الخصم، فهذه الشبهات أوجبت وقوف الدواعي عن إيصال ذلك إلى غاية الضرورة في النقل والجلاء. قوله: (حمل الأمر على الوجوب يفيد القطع بعدم مخالفة الأمر). قلنا: كيف يحصل القطع، ومن الناس من قال: إنه [وضع للتحريم والكراهج مع نفيه الأحكام، كما نقله أو ل المسألة، فلعل مراد المتكلم بهذا اللفظ التحريم، فيحصل] الذم بالإقدام والإخلال بصيغة الأمر. سلمنا انحصار مسماه في الوجوب والندب، ولكن علي تقدير كونه للندب، ففعله بنية الوجوب قد يقتضي المعصية، واستحقاق الذم مع الجهل.

المركب، فما حصل الاحتياط، فإن الإنسان في الشريعة لو اعتقد أن المندوب واجب ربما عصى فرن المندوب قد يكون ضروريا في الدين، فاعتقاد وجوبه جحد لما علم بالضرورة من الدين من ذلك الندب، وجحد الحكم الضروري كفر إجماعا، فهذا خطر عظيم لم نأمنه، أو ما دونه من الخطر، وقد يكون ذلك الوصف الخاص من الندبية مقصود الأمر، واللفظ موضوع له، فما قطعنا بعدم مخالفة الأمر. قوله: أما لو حملناه على الندب بتقدير أن يكون المأمور به مندوبا حصل القطع بعدم مخالفة الأمر. قلنا: لا نسلم، فإنا إذا حملناه على الندب بتقدير أن يكون المأمور به مندوبا حصل القطع بعدم مخالفة الأمر. قوله: أما لو حملناه على الندب فله الترك، لكن الفعل هو المقصود، وجواز الترك يقع، فإذا ترك لا يكون المقصود أملهم من الندب الذي هو الفعل [قد] حصل. قوله: (أما لو كان واجبا ونحن قد جوزنا له الترك كان الترك مخالفا للأمر). قلنا: مخالفة الأمر لم تنشأ عن اعتقادنا أنه للندب، إنما نشأت عن تركه هو، وقد لا يترك فيحصل مقصود الوجوب الذي هو مصلحة الفعل، فالمتجة أن تقول: يلزم، وإلا جوزنا له الترك أن يتر في كثير من الصور فيضيع الواجب، وإن فعل فعل بنية الندب، والواجب بنية الندب لا يجزئ إجماعا قوله: (فإذا كان حمله على الوجوب أحوط وجب عليه لقوله عليه السلام: (دع ما يريبك إلي ما لا يريبك).

قلنا: عليه سؤلان: الأول أن هذه صيغة أمر، فالاستدلال به على أن الأمر للوجوب لا يتجه، لأن الخصم يمنع هنا يمنع أصل المسألة، فلا يجب ما ذكر من الإحتياط. الثاني: أن هذا الحديث المراد به إنما هو الورع عن الشبهات، وهو مندوب إليه إجماعا، فالاستدلال به على الوجوب لا يتم قوله: (ترجيح الطريق الآمن على الخوف من موجبات العقول) قلنا: ذلك قد يكون في العقل، والعادة أولى، وقد يكون متحتما، فلم قلتم: إن هذا من المحتم؟ فرن الخوف إذا قلّ لا يوجب العقل الإحتراز منه، ولا العادة، بل ربما كان الاعتماد على الغالب حسنا عادة وعقلا في سائر الاسفار والمتاجر، فإنه لا يخلو في الغالب عن نوع من الخوف والخطر. تقريره: الأمر إذا ورد جوّزنا أنه متردد بين الوجوب والندب، فاعتبار الوجوب يتطرق إليه الخطأ أن يكون الحق الندب، واعتقاد الندب يتطرق إليه الخطأ لاحتمال الوجوب، والاحتياط في الاعتقاد عن احتمال الخطأ، أما مصلحة الفعل، فإنه يحصل الاحتياط فيها لأنه إذا قال له: أسرج الدابة، وأراد الندب أو الوجوب حصلت المصلحة المقصودة من الفعل على التقديرين إذا فعل، لكنه بنية الوجوب فيكون ملتزما، لاحتمال الخطأ في نية الوجوب

ليخرج عن عهدة الفعل، فإنه إن فعله بنية الندب لا يجزئه على تقدير كونه واجبا. قوله: (العلم بكون الصيغة للوجوب إما أن يكون عقليا زو نقليا والأول باطل لأن العقل لا مجال له في اللغات) تقريره: أن العقل لا يستقل إلا في ثلاث مواطن: إيجاب الواجبات. واستحالة المستحيلات. وجواز الجائزات. وأما وقوع أحد طرفي الجائز فلا يستقل به لا بد معه من قرينة من الحس أو غيره، ووضع اللفظة المعينة للمعنى المعين فمن قبيل الجائزات ولا يستقبل العقل به. ومراده: أن العقل لا مجال له في اللغات أي على سبيل الاستقلال، وإلا فلا بد من العقل في اللغات أو غيرها، ومتى فقد العقل لا يحصل الشعور بشيء من هذه العلوم ألبتة، وهذه حجة القاضي أبي بكر، وقد كررها في كتبه رحمه الله في عدة مواضع أن الزمر للوجوب، والصيغة للعموم، والأمر للتكرار، والفور، ونحو ذلك، وتناقلها الناس بعده. قوله: (التواتر باطل، وإلا لعرفه كل أحد بالضرورة) قلنا: لا نسلم أنه يلزم من التواتر حصول العلم للكل، لأن التواتر قد يختص بالبعض، بل المدينة الواحدة قد يتواتر في جامعها سقوط المؤذن من المنار، ولا يعلم بقية أهل المدينة خارج الجامع ذلك، وإذا كان ذلك في المدينة الواحدة، فأقطار الدنيا أولى بذلك، والعلماء يقولون: إن مسائل

أصول الفقه يحصل بها العلم لمن كثر اطلاعه، واشتد بحثه عن موارد الشريعة وأقضية الصحابة رضوان الله عليهم، ومناظراتهم، وفتاويهم وغير ذلك. ومعلوم أن هذا الحديث من الاطلاع لا يحصل لكل واحد، بل ولا لأكثر الناس، وإنما يحصل للأفراد القليلة، ولا يقول أحد: إن أصول الفقه يكون معلوما لكل أحد، بل ولا مظنونا، بل ولا مشعورا به، بل الغالب على الناس الجهالات، والإعراض عن العلوم، بل عن الشرائع اللازمة. قوله: (أهل اللغة قالوا: لا فرق بين الأمر والسؤال إلا في المرتبة) قلنا: بعض الناس قال ذلك، ولا نسلم أن قوله حجة ويدلك على ذلك: أن الرتبة لم يقل بها الأكثرون، فكيف يدعونها فرقا، وأصحابنا كلهم على عدم اعتبارها. قوله: (وذكر الأمر للوجوب، والندب، والاشتراك، والمجاز خلاف الأصل). قلنا: المجاز لا زم كل تقدير، فإنه إن جعل حقيقة في (الوجوب) كان ورورده في الندب مجازا، وإن كان حقيقة في القدر المشترك كما قال الخصم، كان استعماله في الوجوب مجازا، لأن استعمال لفظ الأعم في الأخص مجازا اتفاقا، لأنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له، فلما كان المجاز لا زما على كل تقدير، كان الترجيح معنا، لأن اللفظ يكون أكثر فائدة، لإفادته خصوص الوجوب مع مطلق الرجحان، ويكون موضوعا لأهم المطالب، ويكون أحوط للذمة والعرض. قولهم: (لم لا يجوز أن يعلم بدليل مركب العقل والنقل؟: كقولنا تارك المأمور به عاص، والعاصي يستحق العقاب، فتارك المأمور به يستحق العقاب)

قلنا: لا نسلم أنه مركب من العقل والنقل، بل هذا نقل صرف، ونصب العقل تفطنة لاندراج الأوسط تحت الأصغر حتى يثبت له الأكثر الثابت بالأوسط، والتفطن ليس مقدمة لأخرى غير المقدمتين الصغرى والكبرى، وإلا لكان كل قياس ثلاث مقدمات، لأنه لا بد في كل قياس من التفطن، وإنما يكون الدليل مركبا من العقل والنقل إذا كانت إحدى مقدماته عقلية، وهاهنا ليس كذلك، بل [الجميع نقلي]، وتحرير هذا السؤآل يتوقف على تفسير الدليل السمعي ماهو؟ فإن فسرناه بما هو مراد الشارع باللفظ الصادر عنه لم يكن هذا الدليل سمعيا، لأن الشارع لم يرد بكلمة من هذه الكلمات أن الأمر للوجوب. وإن فسر بما هو دليل اللفظ مطابقة لن يكون هذا الدليل سمعيا أيضا، لأنه ليس فيه لفظ يدل على أن الأمر للوجوب، وإن فسر بما يدل التزاماً بلفظ مفرد فكذلك. وإن فسر بما يدل كيف بهذا الدليل سمعيا، لأن مجموع اللفظين يدل بالالتزام على أن الأمر للوجوب لا يكون للعقل فيه مدخل على هذا التقدير. ومما يعضد القسم القسم الأول صحة قولنا: إن الشرع لم يرد ببيع [الخور والخنزير وسيلة المحرمات، وإن كان قوله عز وجل: (وأحل الله البيع وحرم الربا) [البقرة:275] يدل عليه، فإنه لا يلزم من التخصيص نفي الدلالة: (فلا تقل لهما أف) [الإسراء:23] وإن لم يدل التزاما، ونظائره كثيرة، سلمنا أنه مركب من العقل والنقل، لكنا بينا أنه لا ينتج، لأن كبراه جزئية، ومن شرط الشكل الأول أن تكون كبراه كلية.

سلمنا صحة إنتاجه لكن إذا تركب من العقل والنقل، ومن هاتين المقدمتين لا يفيد إلا الظن فرن تلك المقدمتين محتملتان للمجاز، والنقل، والاشتراك، وغير ذلك، فلا يفيد إلا الظن، فيكون هذا القياس كخبر الواحد الذي منع أنه يفيد العلم. قوله: (لا نسلم أن هذه المسألة قطعية، ولا تفيد في المباحث اللغوية. قلنا: قد بينا كلام الأبياري، وأن مسائل أصول الفقه قطعية، وأن مدركها ليس موضوعا في الكتب، بل حصل للعماء بكثرة الاطلاع والبحث، فصارت عندهم كسخاء حاتم، وشجاعة علي، فلا يمكن أن يوضع في الكتب ما يفيد القطع بذلك، بل إنما حصل القطع لمن حصل له ذلك بكثرة الاطلاع، وحينئذ الموضوع في الكتب إنما هو ثبته على أصل المدرك لا نفس المدرك. قوله: (لا يقين في المباحث اللغوية) قلنا: قد تقدم أن الوضع من حيث هو وضع لا يفيد اليقين، أما مع السياقات والقرائن الحالية، والمقالية، وغير ذلك فلا نسلم أنها لا تفيد اليقين وقد صرح المصنف رحمه الله بذلك، وادعاه بعد أن تبين عدم العلم من جهة الوضع وحده، وقرر ذلك في اللغات. قوله: (السؤال يدل على الإيجاب هو الطلب الجازم، وإن كان لا يلزم منه الوجوب) تقريره: أن الإيجاب هو الطلب الجازم، ونحن إذا قلنا: اللهم توفنا مسلمين، فطلبنا لذلك جازم لا تردد فيه. ونعني بالوجوب المؤاخدة علي تقدير عدم الفعل، ونحن في هذه الصورة طالبون فقط طلبا جازما، وأما طلب الله تعالى من عباده وإيجابه عليهم، ومعاقبتهم إذا أخلّوا.

(سؤال) الوجوب هو الطلب الجازم، وهو الذي وضعت له الصيغة والإيجاب أضداد

(سؤال) الوجوب هو الطلب الجازم، وهو الذي وضعت له الصيغة والإيجاب أضداد، وصيغة الوجوب في حق المطلوب منه، فقد حصل الوجوب والإيجاب معا فلا معنى لهذا الكلام. بل المتجه أن نقول: الوجوب هو الطلب الجازم، وقد حصل في السؤال، غير أن أثر الترك قد يتخلف لمانع عقلي كما في حق العبد [مع ربه]، أو سمعي كما في حق من تاب إذا اجتنب الكبائر، وأنه دل السمع على عدم مؤاخذته. (تنبيه) قال التبريزي: أحسن ما تمسك به على المسألة عمل الصحابة رضوان الله عليهم، وبقولنا: كل أمر طاعة، وطاعة الله ورسوله واجبة، بيان المقدمة الأولى: بالإجماع. وبيان الثانية: بقوله تعالى: (وأطيعوا اللرسول وأولي الأمر منكم) [النساء:59] فإنه أمر إيجاب بالإجماع. ويرد عليه أربعة أسئلة: الأول: أن قوله: كل أمر طاعة بالإجماع ممنوع فإن من الناس من يقول إنها للتحريم، ومنهم من يقول: إنها للإباحة، وهؤلاء لا يعترفون بالطاعة فيه لمنافاة التجريم والإباحة لها. الثاني: أن هذا الدليل مركب من الشكل الأول في المنطق، ومن شرطه أن تكون كبراه كلية، وهذه جزئية، فلا تنتج، فإنه بيّن أن يعض الطاعة واجبة، وهي طاعة الله ورسوله، وأولي الأمر، ولم يبين أن كل طاعة واجبة، وهذه هي الكلية، فلم يعرف بشرط الشكل الأول.

الثالث: على قوله: إن هذا الأمر أمر إيجاب بالإجماع، لكنه فعل في سياق الإثبات، فيكون مطلقا، فلا يعم جميع الطاعات. الرابع: أن الخصم يقول: الطاعة موافقة الأمر، والأمر عنده للندب، أوله مع غيره وأيما كان فتنقسم طاعة الله تعالى إلى الواجبات، وإلى المندوبات، ولأجل ذلك يقال لكل من أتى بنافلة: أتى بطاعة وتطوع، فدل على أن لفظ الآية لا يتعين للوجوب، فدعواه الإجماع في ذلك غير متجه.

(المسألة الثالثة) قال الرازي: الأمر الوارد عقيب الحظر والاستئذان للوجوب، خلافا لبعض أصحابنا. لنا: أن المقتضي للوجوب قائم، والمعارض الموجود لا يصلح معارضا، فوجب تحقق الوجوب. بيان المقتضي: ما تقدم من دلالة الأمر على الوجوب. بيان أن المعارض لا يصلح معارضا: وجهان: الأول: أنه كما لا يمتنع الانتقال من الحظر إلى الإباحة، فكذلك لا يمتنع الانتقال منه إلى الوحوب، والعلم بجوازه ضروري. الثاني: أنه لو قال الوالد لولده: (اخرج من الحبس إلى المكتب) فهذا لا يفيد الإباحة، مع أنه أمر بعد الحظر الحاصل، بسبب الحبس، وكذا أمر الحائض، والنفساء بالصلاة والصوم، ورد بعد الحظر، وأنه للوجوب.

(تنبيه) القائلون بأن الأمر بعد الحظر للإباحة: اختلفوا في النهي الوارد عقيب الوجوب

واحتج المخالف بالآية، والعرف: أما الآية: فقوله تعالى: (فإذا طعمتم انتشروا) [الأحزاب:53] (وإذا حللتم فاصطادوا) [المائدة:2] (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله) [البقرة:222]. وهذا النوع من الأمر في كتاب الله ما جاء إلا للإباحة، فوجب كونه حقيقة فيها. وأما العرف: فهو: أن السيد، إذا منع عبده من فعل شيء، ثم قال له: (افعله) فهم من الإباحة. والجواب عن الأول: أنه يشكل بقوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) [التوبة:5] فهذا يدل على الوجوب، إذ الجهاد فرض على الكفاية وقوله تعالى: (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله) [آلبقرة:196] وحلق الرأس نسك، وليس بمباح محض. وعن الثاني: أن العرف متعارض، لأن من قال لابنه وهو في الحبس: (اخرج إلى المكتب) فهو أمر بعد الحظر، وقد يفيد الوجوب، والله أعلم (تنبيه) القائلون بأن الأمر بعد الحظر للإباحة: اختلفوا في النهي الوارد عقيب الوجوب: فمنهم من طرد القياس، فقال: إنه للإباحة. ومنهم من قال: لا تأثير هاهنا للوجوب المقدم، بل النهي يفيد التحريم.

المسألة الثالثة قال القرافي: قوله (الأمر الوارد عقيب الحظر والاستئذان يقتضي الوجوب). قال سراج الدين: الأمر بعد الحظر والإذن للوجوب، فيكون معناه: أنه لا فرق بين تقدم الحظر، أو تقدم الإباحة، فإنه للوجوب.

........................................

...............................................

.......................................

...................................................

...............................................

(قاعدة) الفعل المكلف به ممكن

لكن عبارة المصنف فيها قلق، لذكره الاستئذان بالسين والتاء وهو طلب الإذن وليس هاهنا طلب، وعبارة سراج الدين جيدة. وقال الغزالي في (المستصفى): إن كان المنع السابق عارضا لعلة، وعلق على زوالها كقوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) [المائدة:2]، (فإذا طعمتم فانتشروا) [الأحزاب:53]، و (كنت نهيتكم عن زيارة القبور)، و (كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي)، كان الأمر الوارد لرفع الذم فقط، وإلا حملت الصيغة على أصلها في اللغة. (قاعدة) الفعل المكلف به ممكن، فنسبة الوجود والعدم إليه نسبة واحدة على السواء ونسبتهما إليه ككفتي الميزان. فالأمر إذا ورد على الفعل ابتداء رجّح طرف الوجود فحصل الوجوب، وإذا ورد بعد الحظر يكون الحظر قبله قد ورد على كفة العدم فرجح العدم، لأن القاعدة أن الأمر يرجح الوجود، والنهي يرجح العدم، فنجد الأمر الكفة التي قباله كفة راجحة، فيرجح هو أيضا كفته، فيحصل التساوي،

وهو الإباحة كميزان ورد على أحد كفتيها رطل بعد أن كان في الكفة الأخرى رطل، فإنه يحصل التساوي، فهذا الفرق بين ورود الأمر بعد الحظر، فمقتضى هذا القاعدة أن يكون أيضا للإباحة. واختلف القائلون بأن الأمر بعد الحظر للإباحة هاهنا. فمنهم من طرد أصله وقال بالإباحة. ومنهم من قال للتحريم، وفرق بين الحظر والإباحة، والأمر المتأخر بأن الأول أمر يتبع المصالح، والنواهي تتبع المفاسد، وعناية العقلاء، والشارع بدرء المفاسد أكثر من عنايتهم بتحصيل المصالح، ولأن ترجيح النهي يفضي إلى موافقة الأصل، لأن الأصل عدم الفعل، والأمر يقتضي الفعل فبينهما فرقان، فهذه فروق هذه المسألة، وسر مداركها عند الفرق. قوله: (المعارض لا يصلح أن يكون معارضا، لأنه منا يجوز الانتقال من الحظر للإباحة يجوز الانتقال من الحظر للوجوب، والعلم به ضروري) قلنا: الجواب مسلم، وهو لا ينافي مقصود الخصم، فإن الخصم إنما ادّعى الدلالة الظاهرة على الإباحة، والجواب لا ينافي الظهور، وبهذا أجيب عن صورة الحائض وغيرها، فإن تلك الصورة قيل: لا تفيد بوقوعها إلا الجواز ما بقي الطهور، فلا يحصل المقصود من الاستشهاد بها. قوله: (يدل على الإباحة قوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) [المائدة2] وماذكر معه من الأيات) قلنا: الدعوى عامة أن كل أمر بعد الحظر للإباحة، ولم يثبتوا ذلك إلا في صور قليلة، ومتى كان المطلوب عاما، والدليل خاصا لا يفيد، كمنا يقول: كل لحم حرام، لأن لحم الخنزير حرام، أو كل عدد زوج، لأن

العشرة زوج، ثم نقول: قوله تعالى: (فإذا طعمتم فانتشروا) [الأحزاب:53]، إنما نحمله على الوجوب، لأن المقام في بيته، عليه السلام [بعد ذلك حرام، وترك الحرام واجب، فإن قلت: الأصل الحقيقة] فيكون حقيقة في الإباحة، ويكفي في ذلك صورة بهذا الطريق، وهو المطلوب. قلت: مسلم أن الأصل في الاستعمال الحقيقة، غير أنه معارض بأن الأصل [في الأمر أن يحمل على اولجوب، لأنا إنما نبيحه في هذه المسألة على تقدير كونه للوجوب، فالأصل بعارض بالأصل] فلا يحصل المقصود للقائل بالإباحة إلا بدليل من خارج غير الذي ذكره. قلت: مسلم، ولكن الفريقين متفقان على أن الأمر للوجوب، لأن هذه المسألة إنما هي من القائلين بالوجوب، فذلك الأصل السابق يجب مراعاته أولى مما نحن متنازعون فيه، ويجعل المتنازع فيه مجازا أولى من نكير البعض على ما اتفقنا عليها، وهو أن الأمر للوجوب، وكل آية معارضة بمثلها، فيرجع للأصل.

المسألة الرابعة قال الرازي: الأمر المطلق لا يفيد التكرار، بل يفيد طلب الماهية من غير إشعار بالوحدة والكثرة، إلا أن ذلك المطلوب لما حصل بالمرة الواحدة لا جرم يكتفى بها، والأكثرون خالفوا فيه، وهو ثلاث فرق: إحداها: الذين قالوا: إنه يقتضي المرة الواحدة لفظا. والثانية: أنه يقتضي التكرار. وثالثها: التوقف: إما لادعاء كون اللفظ مشتركا بين المرة الواحدة، والتكرار، أو لأنه لا يدري أنه حقيقة في المرة الواحدة، أوفي التكرار. لنا وجوه: أحدها: أن الصيغة (افعل) موضوعة لطلب إدخال ماهية المصدر في الوجود، فوجب ألا تدل على التكرار، ولا على المرة. بيان الأول: أن المسلمين أجمعوا علي أن أوامر الله تعالى منها: ماجاء على التكرار كما في قوله تعالى: (أقيموا الصلاة) [البقرة:43] ومنها ماجاء لا على التكرار، كما في الحج. وفي حق العباد أيضا: قد لا يفيد التكرار، فإنه السيد إذا أمر عبده بدخول الدار، أو بشراء اللحم، لم يعقل منه التكرار، ولو ذمه السيد على ترك التكرار، للامه العقلاء.

ولو كرر العبد الدخول، لحسن من السيد أن يلومه ويقول: (إني قي أمرتك بالدخول، وقد دخلت، فيكفي ذلك، وما أمرتك بتكرار الدخول) وقد يفيد التكرار، فإنه إذا قال: (احفظ دابتي) فحفظها ساعة ثم أطلقها يذم إذا ثبت هذا، فنقول: الاشتراك ومالجاز خلاف الأصل، فلا بد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين الصورتين، وما ذاك إلا طلب إدحال ماهية المصدر في الوجود. وإذا ثبت ذلك، وجب ألا يدل على التكرار، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الصورتين المختلفتين لا دالة فيه على ما به تمتاز إحدى الصورتين عن الأخرى، ولا بالوضع ولا بالاستلزام. فالأمر لا دلالة فيه ألبتة لا على التكرار، ولا على المرة الواحدة، بل على طلب الماهية من حيث هي هي، إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في اولجود بأقل من المرة الواحدة، فصارت المرة الواحدة من ضرورات الإتيان بالمأمور به فلا جرم دل على المرة الواحدة من هذا الوجه. وثانيها: أن أهل اللغة قالوا: لا فرق بين قولنا: (يفعل) وبين قولنا (افعل) إلا في كون الأول خبرا والثاني طلبا. ثم أجمعنا على أن قولنا: (يفعل) يتحقق مقتضاه بتمامه في حق من يأتي به مرة واحدة، فكذا في الأمر، وإلا لحصلت بينهما تفرقة في شيء غير الخبرية والطلبية، وذلك يقدح في قولهم. وثالثها: أن القول بالتكرار يقتضي أن تستغرق الأوقات، بحيث لا يخلو.

وقت عن وجوب المأمور به، إذ ليس في اللفظ إشعار بوقت معين، فليس حمله على البعض أولى من الباقي، لكن حمله على كل الأوقات غير جائز. أما أولا: فبالإجماع. وأما ثانيا: فلأنه إذا أمر بعبادة، ثم أمر بغيرها، لزم أن تكون الثانية ناسخة للأولى، لأن الأول قد استوعب جميع الأوقات، والثاني يقتضي إزالته عن بعضها، والنسخ هو: إزالة الحكم بعد ثبوته إلى بدل، وقد حصل ذلك هاهنا، وفي علمنا بأن الأمر ببعض الصلوات ليس نسخا لغيرها، وأن الأمر بالحج ليس نسخا للصلاة، ما يدل على فساد ما قالوا. وأما ثالثا: فلأنه يلزم أن يكون الزمر بغسل بعض أعضاء الوضوء نسخا لما تقدمه، والزمر بالصلاة يكون نسخا للأمر بالوضوء وذلك لا يقوله عاقل. ورابعها: أنّا نعلم حسن قول القائل لغيره: (افعل كذا أبدا، أو افعله مرة واحدة بل زيادة) فلو دل الأمر على التكرار، لكان الأول تكرارا، والثاني نقضا، ولما لم يكن كذلك بطل ما قالوا. احتج القائلون بالتكرار بوجوه: أحدها: أن الصدّيق رضي الله عنه تمسك علي أهل الردة في وجوب تكرار الزكاة بقوله تعالى: (وأتوا الزكاة) [البقرة:43] ولك ينكر عليه أحد من الصحابة، فدل على انعقاد الإجماع، على أن الأمر للتكرار. وثانيها: أن الأمر طلب الفعل، والنهي طلب الترك، فإذا كان النهي الذي هو أحد الطلبين يفيد التكرار، فكذا الآخر.

وثالثها: أن الأمر لو لم يفد التكرار، لما جاز ورود النسخ عليه، ولا الاستثناء، لأن ورود النسخ على المرة يدل على البداء، وورود الاستثناء عليها يكون نقضا. ورابعها: أنه ليس في لفظ الأمر تعيين زمان، فلا يكون اقتضاؤه لإقاع الفعل في زمان أولى من اقتضائه لإيقاعه في زمان آخر، فإما ألا يقتضي إيقاعه في شيء من الأزمنة وهو باطل، زو في كل الأزمنة وهو المطلوب. وخامسها: أن الاحتياط يقتضي تكرار المأمور به، لأنه بالتكرار يأمن من الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى، وبترك التكرار لا يأمن منه، لاحتمال أن يكون ذلك الأمر للتكرار، فوجب حمله على التكرار، دفعا لضرر الخوف على النفس. وأما القائلون بالإشتراك بين المرة الوحيدة، وبين التكرار: فقد احتجوا بوجهين: أحدهما: أنه يحسن الاستفهام فيه، فيقال: أردت بأمرك فعل مرة واحدة أم أكثر؟ ولذلك قال سراقة للنبي صلى الله عليه وسلم: أحجتنا لعامنا هذا أم للأبد؟ وحسن الاستفهام دليل الاشتراك وثانيهما: ورود الأمر في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجهين، والأصل في الكلام الحقيقة، فكان الاشتراك لازما. والجواب عن الأول: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. بين للصحابة أن قوله: (أقيموا الصلاة) (واتركوا الزكاة) يفيد التكرار، فلما كان ذلك معلوما للصحابة، لا جرم تمسك الصديق بهذه الآية في وجوب التكرار.

وعن الثاني: أن الفرق من وجهين: الأول: أن الانتهاء عن الفعل أبدًا، فغير ممكن، فظهر الفرق. والثاني: أن النهي كالنقيض للأمر، لأن قول القائل لغيره: (كن فاعلا) موجود في قوله: (لا تكن فاعلا) وإنما زاد عليه لفظ النفي، فجرى مجرى قوله: (زيد في الدار، زيد ليس في الدار) وإذا كان النهي مناقضا للأمر، وجب أن تكون فائدة النهي مناقضة لفائدة الأمر. فإذا كان قولنا: (افعل) يقتضي إيقاع الفعل في زمان ما أي زمان كان، بل في الأزمنة كلها، لأنه إن لم يفعل اليوم، وفعل غداً، كان ممتثلا للأمر، ولا يجوز أن يكون متتثلا للأمر والنهي معا، مع كونهما نقيضين، فصح أن كون الأمر مفيدا للمرة الواحدج، يقتضي أن يكون النهي مانعا للفعل في جميع الأزمان. ثم نقول: كون النهي مفيدا للتكرار يدل: على أن الأمر لا يفيد إلا المرة الواحدة، لأن فائدة الأمر رفع فائدة النهي، وفائدة النهي، وفائدة النهي المنع من الفعل في كل الأزمان، ففائدة الأمر رفع هذا المنع الكلي، ورفع المنع الكلي يحصل بالثبوت ولو في زمان واحد، فوجب أن تكون فائدة الأمر اقتضاء الفعل، ولو في زمان واحد، وإذا كان كذلك، لزم من كون الأمر نقيضا للنهي، مع كون النهي مفيدا للتكرار، أن يكون الأمر غير مفيد للتكرار. وعن الثالث: أن النسخ لا يجوز وورده عليه، فإذا ورد، صار ذلك قرينة في

أنه كان المراد به التكرار، وعندنا لا يمتنع جمل الأمر على التكرار، بسبب بعض القرائن. وأما الاستثناء: فإنه لا يجوز على قول من يقول بالفور، أما من لم يقل به، فإنه يجوز الاستثناء، وفائدته المنع من إيقاع الفعل في بعض الأوقات التي كان المكلف مخيرا بين إيقاع الفعل، وفي غيره. وعن الرابع: أن الأمر عند القائلين بالفور مختص بأقرب الأمنة إليه، وعند منكريه دال على طلب إيقاع المصدر من غير بيان الوحدة، والعدد، والزمان الحاضر والآتي، بل على القدر المشترك بين المقيد، والمقيد، ومقابليهما. وعن الخامس: أن المكلف، إذا علم أن اللفظ لا يدل على التكرار، أمن من الخوف، على أنه معارض بالخوف الحاصل من التكرار، فإنه ربما كان ذلك مفسدة كما في شراء اللحم، ودخول الدار. وأما الاستفعان والاستعمال، فسيظهر إن شاء الله تعالى في باب العموم: أنه لا يدل واحد منهما علي الاشتراك، وعلى أن الأوامر الورادة بمعنى التكرار، بعضها يفيد التكرار في اليوم، وبعضها في الأسبوع، وبعضها في الشهر، وبعضها في السنة، وظاهر زن ذلك لا يستفاد إلا من دليل منفصل، والله أعلم. المسألة الرابعة الأمر لا يفيد التكرار. قال القرافي: قوله: (الأمر يفيد المرة الواحدة لفظا) تقريره: أن المرة الواحدة قي يقتضيها اللفظ التزاما، إذا قلنا: الأمر لمطلق

الفعل، فمن لوازمه أن يتحقق في مرة مع احتمال الزائد عليه، فالمرة ضرورية لازمة لوقوع أصل الفعل. وهؤلاء يقولون: الأمر وضع لخصوص المرة الواحدة يفيد كونها واحدة، لا أنها وقعت بطريق اللزوم

قوله: (الفرقة الثالثة قالوا: يقتضي التكرار). قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في (اللمع): قالوا: يفيد التكرار في الأزمنة الممكنة للفعل، دون أزمنة قضاء الحاجة، والنوم، وغير ذلك مما هو ضروري للإنسان. وهذا هو المتجه، ولا نقول: إن اللفظة وضعت له، بل [مراد] الألفاظ ما وضعت في اللغات، إلا لما يمكن في العادة حصوله. قوله: (اللفظ الدال على المشترك بين الصورتين المختلفتين لا دلالة له على ما تمتاز به، لا مطابقة ولا التزاما). تقريره: أن الدال على الأعم غير دال على الأخص مطابقة، لأنه لم يوضع، ولا التزاما، لأن الأخص لا يلزم الأعم، وما لا يلزم الشيء لا يدل لفظه عليه التزاما، كما نقول: لفظ الحيوان لا يدل على الإنسان ألبتة، فمن قال: إن في البيت حيوانا لا يفهم أحدا أنه إنسان، ولا لا إنسان. قوله: (قال أئمة اللغة: لا فرق بين قولنا: (يفعل) وبين قولنا: (افعل) إلا في كون الأول خبرا، والثاني طلبا). قلنا: إن ادعيتهم أن يعضهم قال ذلك، فهذا اجتهاد منه، واستدلال بموارد الاستعمال، فهو كأحد المخالفين لا يسلم له صحة ذلك، بل هو مصادرة على مذهب المخالفين أحدها مستسلفة في دعواه من غير دليل.

قوله: (التكرار يقتضي استغراق الأزمان). قلنا: قد تقدم نقل الشيخ أبي إسحاق في شرح (اللمع): أن القائلين إنما قالوا به الأزمنة الممكنة، زما الجميع فلم يقل به أحد، لأن اللغات لا توضع إلا لما يمكن. قوله: (ليس في اللغة ما يقتضي حمله على البعض). قلنا: إذا كان اللفظ يدل على أزمنة الإمكان، والواقع في الوجود تعينها تعين المقصود، ولا إجمال ولا ترجيح من غير مرجح، بل كونه غير محتاج إليه هو المعين له. قوله: (يلزم أن يكون الأمر الثاني ناسخا للأول). قلنا: لم لا يجوز أن يقال: بل خصصه بأنه إخراج بعض مقتضي اللفظ، لأن كون الأمر للتكرار هو بمنزلة العموم في الأشخاص، والصيغ الموضوعة للعموم في الأزمان يدخلها التخصيص، لأنه لو قال: والله لا كلمته الأيام واليالي، ونحو ذلك مما هو عام في الأزمنة دخله التخصيص بالنية، فكذلك إذا قلنا: الأمر للتكرار صارت الصيغة عامة في الأزمنة يدخلها التخصيص. ومقصود المصنف حاصل على هذا التقدير أيضا، لأن المخصص لا بد وأن يكون معارضا للذي خصصه، فالقول بالتكرار يفضي إلى المعارضة، والقول بعدمه لا يفضي إليها، فيكون أرجح، غير أن المفسدة في التخصيص أخف، كما ستعلمه إن شاء الله تعالى. وإنما يتجه النسخ أن لو ثبت أن المتكلم أراد جميع الأوقات من الأمر الأول. وكذلك نقول في تخصيص الأشخاص لا يكون ناسخا إلا إذا ثبت أن أن جملة أفراد العام مراده بأن يعمل بجملة العام ثم يبطل الحكم في بعضه أول كله فيكون نسخا، أما قبل فبالتخصيص حتى يثبت فيه خلافه. قوله: (وذلك لا يقوله عاقل).

(تنبيه) ينبغي أن يعلم أن مقتضى ما قاله القائل بالتكرار ما وجد في الاستعمال لا لغة ولا عرفا ولا شرعا

قلنا: أما النسخ فمسلم، وأما مخالفة ظاهر الصيغة، وترك التكرار فأمكن القول به، وهو مذهب الخصم. قوله: (افعله أبدا يلزم أن يكون تكرار، وافعله مرة واحدة نفض). تقريره: أن صيغة الأمر تقتضي التكرار، وقوله: (أبدا) يقتضي التكرار فقد لزم التكرار بورود لفظين دالين على معنى واحد، وقوله: (مرة واحدة) نقض، لأن النقض وجود الدليل بدون المدلول، فيلزم وجود الدليل الذي هو صيغة الأمر، بدون مدلولها الذي هو التكرار، وهذا هو النقض. (تنبيه) ينبغي أن يعلم أن مقتضى ما قاله القائل بالتكرار ما وجد في الاستعمال لا لغة ولا عرفا ولا شرعا، فإنا لا نجد أمرا طلب على هذه الصورة في جميع الأزمنة الممكنة بحيث لا يفيد طول عمره فيما عدا أزمنة الضرورة، وإنما وجد ذلك في النواهي والتروك، فالزمر بحفظ السر، والوديعة، ونحو ذلك مما هو على الدوام، فهذا معناه أما أمر بفعل على الدوام فلم يوجد أصلا، فيلزم زن الأمر ما استعمل في صورة حقيقة ألبتة، فيلزم حينئذ أمران: كثرة المجاز بحيث يستوعب الحقيقة، وهو خلاف الأصل، وأن اللفظ صار منقعولا عن الوضع اللغوي بسبب كثرة الاستعمال في غير التكرار، وكثرة الاستعمال عن الوضع اللغوي بسبب كثرة الاستعمال في غير التكرار، وكثرة الاستعمال في غير الحقيقة بوجب النقل، والنقل أعظم مفسدة من المجاز، فيلزم القائل بالتكرار هذان الأمران، فيكون ذلك من أحسن الحجج عليه. قوله: (احتج الصديق بقوله تعالى: (وآتوا الزكاة) [البقرة:110] على التكرار.

قلنا: هاهنا مع صيغة الأمر غيرها، وهو أن القاعدة تتكرر الحكم بتكرار سببه، وسبب وجوب الزكاة نعمة الملك، فلما تكررت وجوب الزكاة، وهذا مقتضى للتكرار غير الأمر. قوله: (الأمر طلب الفعل، والنهي طلب الترك، والنهي الذي هو أحد الطلبين يقتضي التكرار، فكذلك الآخر). قلنا: هذا إثبات للغة بالقياس، وهو ممنوع. قوله: (لو لم يكن للتكرار لكان النسخ بداء، والاستثناء نقضا). تقريره: أنه إذ أمر بالمرة الواحدة، ثم نسخها بكونه قد بدا له في طلب ذلك الفعل، وذلك على الله تعالى محال، لأنه بكل شيء عليم، وإنما يتأتى ذلك ممن لا يعلم المصالح، فتظهر له بعد خائها، فتبدو له وسيأتي الجواب عنه، وإن ذلك كله معلوم لله تعالى في الأزل أنه يأمر بالمرة لامتحان العبد، ثم ينسخه عنه لحصول المقصود من الامتحان، وكان تعالى يعلم الأمر والإعراض عنه، والإقبال عليه لا تون الحجة القائمة للرب، ولا سبب لاستحقاق الثواب والعقاب حصل من العبد، وقد رتب الله تعالى ملكه على أن الثواب إنما يكون لما صدر من العبد وكسبه، وكذلك العقاب، وأما الاستثناء فلا يلزم منه النقض على الأمر إنما أراد المصنف الاستثناء نفسه، فإنه وضع لإخراج بعض من كل، والمرة الواحدة إذا استثنت لم يخرج بعضا من كل، بل الجميع، فلم يوجد مفهوم إخراج البعض من الكل، فقد وجد الدليل الذي هو صيغتة الاستثناء بدون مدلوله الذي هو اخراج بعض من كل، وهذا هو النقض، ويمكن أن يكون نقضا على صيغة الأمر، فإنها وجدت بدون الطلب، فإن طلب مرة وأبطلها، فلم يوجد مدلول الصيغة، غير أن هذا الازم على التكرار، فإن ورود الاستثناء عليه

يقتضي أنه بعض، لا أنه لم يوجد مدلول الأمر الذي هو الفعل في جميع الأزمنة الممكنة بخروج بعضها بالاستثناء، فلا جرم لما كان واردا على التقديرين لم يحسن من الخصم الاستدلال به، أما النقض على الاستثناء فلا يرد على التقديرين، لأنه بتقدير أن الأمر للتكرار زخرج بعضا من كل، فحسن الاستدلال به، فبهذا يظهر أن النقض مراد، بل الاستثناء دون صيغة الأمر. قوله: (حسن الاستفهام دليل التكرار). قلنا: الاستفهام قد يكون للإجمال كما قلتم: الناشئ عن الاشتراك أو غيره قد يكون مع النصوص التي لا إجمال فيها، إما لعظم الميل إلى ذلك المعنى، كما إذا قال له أحد: قد بعث لك السلطان ألف دينار، فيستفهم عسى المتكلم يرجع عن ذلك، وإما لغرابة المعنى، كقوله: قرأت البارحة ألف ختمة نقول له ذلك استبعاداً لقوله، ولأغراض أخر من احتمال المجاز، والإضمار وغيرهما، وإذا كان الاستفهام أعم من الإجمال لا ستدل به على الإجمال، فإن الأعم من الشيء لا يدل عليه، كما أن لفظ الحيوان لا يدل على الإنسان، والزوج لا يدل على العشرة، وسبب استفهام سراقة

(تنبيه) الفرق بين قولنا: (افعل) وبين قولنا: (كن فاعلا)

رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فرط الاهتمام بتأسيس قواعد الإسلام لا الإجمال. قوله: (وردت الأوامر بالمعنيين، وذلك دليل الاشتراك). قلنا: المجاز أولى من الاشتراك، فيكون مجازا في التكرار. قوله? (لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين للصحابة أن أمر الصلاة والزكاة للتكرار) قلنا: الأصل عدمه، وكلام الصديق رضي الله عنه يقتضي عدمه، فإنه لم يعتمد عليه، بل على ظاهر الآية، فدل ذلك على أنها مدركة. قوله: (الفرق أن الانتهاء أبدا ممكن، أما الاستعمال أبدًا فغير ممكن) قلنا: هذا الفرق لا يرد، فإن الخصم ما ادعى إلا في الأزمنة الممكنة، وذلك ممكن، بل إن فرقتم بأنه أعسر من الترك دائمًا، فيتجه، أما بالتعدد فلا. قوله: (النهي كالنقيض للأمر، فإن قول القائل لغيره: (كن فاعلا) موجود في قوله: (لا تكن ة قلنا: النهي كلية، والأمر عند الخصم كلية مستوعبة لجميع الأزمنة، والكليتان ضدان لا نقيضان، فلا تتم هذه المقدمة. وأما قوله: كن فاعلا، لا يكون فاعلا كليتان عنده ضدان لا نقيضان، وليس في (لا تكن فاعلا) نفي، إنما هو نهي، فادعاء النفي غير مسلم، ولو سلم ما ضر، غيرأنه مناقشة لفظية. (تنبيه) الفرق بين قولنا: (افعل) وبين قولنا: (كن فاعلا)، فإن الأول عند

الخصم للتكرار في الفعل، والثاني للتكرار في الكون، فيكون عمومه في أفراد الكون، ويكون مطلقا في الفعل، لأن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، والأزمنة، والبقاع، والمتعلقات. وكذلك العام في الأزمان من الأكوان مطلق في المتعلقات فيقتضي (كن فاعلا) كل الأكوان باعتبار فعل واحد، بخلاف (افعل) يقتضي كل الأفعال في أزمنة الإمكان، [فهذا فرق ظاهر بين المسألة، وهذا المثال عند الخصم، فلا يصح مثالا). قوله: (يجري ذلك مجرى زيد في الدار، زيد ليس في الدار). قلنا: وزيد في الدار، زيد ليس في الدار ليسا نقيضين، بل خلافان، لأنهما جزئيان، والجزئيات لا تناقض بينهما، بل يصح اجتماعهما وارتفاعهما بأن يكون في الدار زمان، وفي زمان آخر ليس هو فيها. وبالجملة قد ذكر العلماء شروط التناقض غايته إذا حيل بعضها لا يحصل التناقض. قوله: (وإذا ثبت التناقض كان قولنا: (افعل) يقتضي إيقاع الفعل في زمان ما، أي زمان كان فقولنا: (لا تفعل) يوجب أن يقتضي المنع من فعله في زمان أي زمان كان). قلنا: هذه العبارة تقتضي أنهما ليسا نقيضين، كقولكم في كلا الصيغتين زمان ما، بل ينبغي أن نقول: نقيض المنع في جميع الأزمنة حتى تكون سالبة كلية، والأمر موجبة جزئية، فيتعين التناقض. قوله: (وفائدة الاستثناء المنع من الفعل فيه، وفي غيره في بعض الأوقات التي كان المكلف مخيرا بين إيقاع الفعل فيه وفي غيره). تقريره: من القاعدة التي تقدم ذكرها أن الاستثناء أربعة أقسام:.

(تنبيه)

أحدها: الاستثناء فيما يجوز دخوله من غير ظن ولا علم، وهو من الأزمنة، والبقاع، والمحال، والأحوال، وهذا من الأزمنة التي كانت تقبله الصيغة لا أنها تتناوله، فلا تناقض بين كون الأمر للمرة الواحدة، وبين استثناء بعض الأزمنة التي تقبلها تلك المرة. قوله: (التكرار يكون في السنة، والشهر إلى اخره). مثله باليوم كالصلوات الخمس، والأسبوع لصلاة الجمعة، والشهركصوم الأيام البيض، والسنة كرمضان. (تنبيه) قال التبريزي: ويدل أيضا على أن الأمر لمطلق الفعل صحة سقوط العتب، واستقامة العذر من؟ الممتثل مرة؟ حيث لا قرينة كقولنا: (قل)، ويشهد له حصول صدق الوعد، والإخبار بالمرة الواحدة، كقولك (فعلت)، (وافعل) وتققه أن مسمى المصدر يتضمنه جميع أمثلة الأفعال، لأنه مورد التصرف، ومعقود وجوه اختلاف الأوزان، فلا يتميز بعضها عن إلا بخصوصياتها من غير تعيين زمان الوقوع بالوعد والإخبار ماضيا ومنتظراو أو تعلق الطلب والكراهية بالمترتب منه أمرا، ونهيا، وذلك يوجب الاشتراك فيما وراء الخصوصيات. قال: وهذا دليل واضح في نظر المصنف، وهو تصفح، وليس بقياس. قال: ووجه آخر غريب، وهو أن الحكمة تقتضي تقدم وضع اسم أصل المعنى على وضع اسمه يوصف، فإن نفس المعنى أصل بالإضافة إلى الموصوف، فإنه جنس للخاص المفضول، فيتقدم عليه بالطبع، والذهن.

والقصد، فيجب أن يكون الوضع له متقدما على الوضع للموصوف أيضا، هذا بالنظر إلى المعنى، وبالنظر إلى الموضوع أيضا، وهذا اللفظ يعلم أن وضع المفرد يتقدم على وضع المركب، وقد دل الاستقراء على اعتبار هذين المعنيين، فإن موضوع المفردات كلها أصل بالإضافة إلي موضوع المركبات منها، كمسمى الرجل بالإضافة إلى الرجل الطويل، والأسود بالإضافة إلى الأسود المشرقي، وهلّم جرا، وإذا فهم هذا فنقول: طلب الماهية أصل بالإضافة إلى طلبها أبدا أو مرة، والنظر في لفظ مفرد، فتعين الوضع له واجب بالطبع، وموجب الحكمة، وحكم للاستقراء. قال: ووجه آخر لا بأس به: لو كان الأمر موضوعا لأحدهما لكان التصريح بالمعنى الآخر مناقضة للوضع، ولو كان للقدر المشترك لكان التصريح إتماما وبيانا والثاني أظهر. وتطرد هذه الأدلة كلها في مسألة الفور والتراخي. قلت: ويرد عليه في الوجه الأول أنه قد صار حيث قال: سقط العتب، وحصل العذر بالمرة الواحدة، والخصم لا يسلم شيئا من ذلك، وكذلك عند الخصم لا يصدق الإخبار بقوله: (فعلت) مقتضى الأمر، إلا أن يصرح بالدوام، فهذه مصادرة من غير حجة. وقوله: إن مسمى المصدر قدر مشترك بين جميع الأفعال مسلم، ولكن العرب وضعت المصدر المنكر لمطلق الفعل اتفاقا، واختلفت أوضاع الأفعال، فالنهي للتكرار على الصحيح، والأمر عند الخصم كذلك، والاعتماد على الممصدر لا يتجه ألبتة. ومن العجب قوله: هذا دليل واضح، وهي في غاية البعد.

وكذلك قوله في الثاني: (إن طلب الماهية لأصل الوضع لها، لأنها سابقة) مسلم، ولكن الكلام في لفظ (الفعل) الذي هو صيغة الأمر. فإن قلت: إنها وضعت للناهية فقط فأين الحجة؟ فهذا أول المسألة، وكذلك قوله في الثالث: إن التصريح بخلاف التكرار غير مناقض كله مصادرة.

المسألة الخامسة قال الرازي: اختلفوا في أن الأمر المعلق بشرط أو صفة، هل يقتضي تكرار المأمور به بتكرارهما، أم لا؟ مثال الصفة: قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) [المائدة:38]. ومثال الشرط: (إن كان) أو (إذا كان) زانيا، فارجمه. فنقول: كل من جعل الأمر المطلق مفيدا للتكرار، قال به هاهنا أيضا. وأما القائلون بأن الأمر المطلق لا يفيد التكرار، من جهة ورود الأمر بالقياس، فها هنا مقامان: المقام الأول: في أنه لا يفيده من جهة اللفظ، ويدل عليه وجوه: أحدها: أن السيد إذا قال لعبده: (اشتر اللحم، إن دخلت السوق) لا يعقل منه التكرار، حتى لو اشتراه دفعة واحدة، لا يلزمه الشراء ثانيا. وثانيها: لو قال لامرأته: (إن دخلت الدار، فأنت طالق) لا يتكرر الطلاق بتكرر دخولهما في الدار. وكذلك، لو قال: (إن رد الله علي مالي أو دابتي أو صحتي، فله علي كذا)

لم يتكرر الجزاء بتكرر الشرط، وكذا لو قال الرجل لوكيله: (طلق زوجتي، إن دخلت الدار) لم يثبت على التكرار. وثالثها: أجمعنا على أن الخبر المعلق على الشرط، كقوله: (زيد سيدخل الدار، لو دخلها عمرو) فدخلها عمرو، ودخلها زيد، فإنه يعد صادقا، وإن لم يتكرر دخول زيد عند دخول عمرو، فوجب أن يون في هذه الصورة كذلك، والجامع دفع الضرر الحاصل من التكليف بالتكرار. ورابعها: أن اللفظ ما دل إلا على تعليق شيء والمفهوم من تعليق شيء أعم من تعليقه عليه في كل الصور، أو في صورة واحدة، لأنه يصح تقسيم ذلك المفهوم إلى هذين القسمين، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين، فإذن تعليق الشيء لا يدل على تكرار ذلك التعليق. المقام الثاني: في أنه يفيده من جهد ورود الأمر بالقياس، والدليل عليه: أن الله تعالى لو قال: (إن كان زانيا، فارجمه) فهذا يدل على أنه تعالى جعل الزنا علة لوجوب الرجم، ومتى كان كذلك، لزم تكرر الحكم عند تكرر الصفة. بيان الأول: أن القائل إذا قال: (إن كان الرجل عالما زاهدا، فاقتله، وإن كان جاهلا فاسقا، فأكرمه) فهذا الكلام مستقبح في العرف، والعلم بذلك ضروري. فالاستقباح: إما أن يكون، لأنه يفيد أن هذا القائل جعل الجهل والفسق موجبين للتعظيم، أو لأنه لا يفيد ذلك، والثاني باطل، لأنه لو لم يفد العلية، ولا منافاة أيضا بين الجهل، وبيم استحقاق التعظيم بسبب آخر من كونه نسبيا، شجاعا، جوادا، فصيحا، فحينئذ لم يكن إثبات استحقاق التعظيم، مع كونه جاهلا، فاسقا) على خلاف الحكمة، فكان يجب ألا يثبت، وحيث ثبت،

علمنا فساد هذا القسم، وأن ذلك الاستقباح إنما حصل، لأنه يفيد أن ذلك القائل جعل جهله وفسقه علة لاستحقاق الإكرام، فثبت أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة. فإذا صدر ذلك من الله تعالى: أفاد ظن أن الله تعالى جعل ذلك الوصف علة، وذلك يوجب تكرر الحكم عند تكرر الوصف، باتفاق القائسين، فثبت أن قول الله تعالى: (إن كان زانيا، فارجمه) يفيد تكرار الرجم عند تكرار الزنا. فإن قيل أولا: هذا يشكل بقوله: (إن دخلت الدار، فأنت طالق) فإنه لا يتكرر الطلاق بتكرر الدخول، (إن دخلت السوق، فاشتر اللحم) فإنه لا يتكرر الأمر بشراء اللحم عند تكرر دخول السوق. ثم نقول: لا نسلم أنه يفيد ظن العلية. أما قوله: (إن كان الرجل عالما، فاقتله) فهذا الاستقباح إنما جاز، لأن كونه عالما ينافي جواز القتل، فإثبات هذا الحكم مع قيام المنافي يوجب الاستقباح. سلمنا أنه يفيد العلية في هذه الصورة، فلم قلت: إن في ساذر الصور يجب أن يكون كذلك؟ سلمنا أنه في جميع الصور يفيد العلية، فلم قلت: إنه يلزم من تكرر العلة تكرر الحكم؟ فإن السرقة، وإن كانت موجبة للقطع، لكن يتوقف إيجابها لهذا الحكم على شرائط كثيرة. والجواب: أنه قوله: (إن دخلت الدار، فأنت طالق) فهذا يفيد ظن أن هذا الإنسان جعل دخول الدار علة لوقوع الطلاق، وإذا جعل الإنسان شيئا علة لحكم، لم يلزم من تكرر ماجعله تكرر ذلك الحكم.

ألا ترى أنه لو قال: (أعتقت عبدي غانما لسواده، وبعله كونه أسود) وكان له عبد آخر أسود، فإنه لا يعتق عليه ذلك العبد. ومعلوم أن التنبيه على العلية لا يزيد على التصريح بها. أما إذا علمنا أو ظننا أن الشارع جعل سيئا علة لحكم، فإنه يلزم من تكرر ذلك الشيء تكرر ذلك الحكم بإجماع القائسين، فثبت أنه لا يلزم من عدم تكرر الحكم عند تكرر المعلق عليه، عندما يكون التعليق صادرا عن العبد، ألا يتكرر عند ما يكون التعليق صادرا من الله تعالى. فإن قلت: هذا التكرار لا يكون مستفادا من اللفظ، بل يكون مستفادا من الأمر بالقياس. قلت: هذا هو الحق، وعند هذا يظهر أنه لا مخالفة بين هذا المذهب، وبين ظاهر المذهب المنقول عند الأصوليين، من أنه لا يفيد التكرار وهو حق. ونحن نعنى به: أنه يفيد ظن العلية، فإذا انضم الأمر بالقياس، حصل من مجم، عهما إفادة التكرار، ولا منافاة بين هذا المذهب، وبين ماقالوه. قوله: (الاستقباح إنما جاز، لأن كونه فاسقا بنافي جواز التعظيم): قلنا: لا نسلم حصول المنافاة؛ لأن الفاسق قد يستحق الإكرام بجهات أخر، والأصل تخريج الحكم علي وفق الأصل. قوله: (لم قلت: إنه لما حصل ظن العلية في الصورة التي ذكرتموها، حصل ظن العلية في سائر الصور؟):

(تنبيه) قال القرافي: القائلون بالتكرار حالة عدم التعليق ... إلخ

قلنا: لوجهين: أحدهما: أنا نقيس عليه سائر الصور، والجامع هو: أن الحكم إذا كان مذكورا مع علته، كان أقرب إلي القبول، وذلك مصلحة الملكف، فيناسب الشرعية. الثاني: أنا نعد صورا كثيرة، ونبين حصول ذلك الظن فيها، ثم نقول: لا بد بينها من قدر مشترك، وذلك المشترك: إما ما ذكرناه من ترتيب الحكم على الوصف، أو غيره: والثاني مرجوح؛ لأن الأصل عدد سائر الصفات، فتعين الأول، فعلمنا أن ترتيب الحكم على الوصف، أينما كان، فإنه يفيد ظن العملية. قوله: (لم قلت: إنه يلزم من تكرر العلة تكرر الحكم؟): قلنا: هذا متفق عليه بين القائسين، فلا يكون المنع فيه مقبولا، والله أعلم. المسألة الخامسة الأمرالمعلق بشرط أو صفة هل يقتضي التكرار بتكررها أم لا؟ (تنبيه) قال القرافي: القائلون بالتكرار حالة عدم التعليق قالوا هاهنا به

بطريق الأولى لأن ترتيب الحكم على الوصف يدل على عليّة الوصف لذلك الحكم.

........................................

والقاعدة أيضا: أن التعاليق اللغوية أسباب، فرن جعل الشرط صفة مشتقة الأمران اللذان يدلان على العلية. والقاعدة أيضا الثالثة: أن الحكم يتكرر بتكرر علّيته، فيكون الأمر، هاهنا متكررًا، لأن الأمر يقتضي ذلك، ولأن العلة تقتضيه، فكان التكرار أوكد من المسألة السابقة. قوله: (الخبر المعلق على الشرط نحو قولنا: زيد يدخل الدار لو يدخلها عمر). وجعل (لو) حرف شرط، وكذلك جعل صاحب (المفصّل). وفي التحقيق هو ليس بشرط، لأن من شرط الشرط أن تختص بالمستقبل، (ولو) تدخل على الماضي، فنقول: لو جئتني أمس أكرمتك اليوم، وإنما شابهت الشرط من جهة أن فيها ارتباطا كما في الشرط. قوله: (يصح تقسيم التعليق إلى المرة الواحدة، والتكرار، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين لا إشعار له بواحد منهما). قلنا: القائل بالتكرار لا يصح عنده التقسيم، كما لا يصح تقسيم صيغة العموم إلى العموم والخصوص. ففي هذه مصادرة على مذهب الخصم بغير دليل. فإن قال: الفرق يقتضي ذلك، والأصل عدم النقل والتغيير. قلنا: هذه المقدمة التي ادّعوها إن صدقت فلا حاجة إلى الزيادة عليها مع أن الحصم يمنع صحة ذلك عرفا ولغة. قوله: (إن قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق لا يتكرر الطلاق بتكرر الدخول).

قلنا: القاعدة: (أن من جعل علة معينة يحكم بتعينه تكرر حكمه الخاص به، الذي جعله هو معللا من قبله، أما حكم غيره فلا يترتب عليه علّيته هو. فإذا كان السبب في إكرام غيرك فلا، وهاهنا جعل المعلق دخول الدار سببا وعلّة لطلا امرأته، والطلاق حكم للشارع، لأنه ليس حكما لاله، فإذا تكررت عليته، فلا يلزم أن يتكرر معها حكم الشارع، لأنه ليس حكما للمعلق كما أن الشارع إذا نصب علته للحكم لا يلزم أن يترتب عليها حكم أحد من المكلفين، بل حكم الله تعالى فقط، فالحاصل أبدا أن العلة للمعلل حيث علل، إنما يتكرر معها حكم المعلل لا حكم غيره، والطلاق، والعتاق، وجميع ذلك أحكام شرعية، ليست أحكاما للمعلق فلا يتكرر، ولو قال أحد، إني قد جعلت دخول الدار علّة لطلاق امرأتي، لا يلزمه بذلك طلاق، لأنه ليس له أن ينصب عللا شرعية، إنما نصب العلل الشرعية للشارع، وإنما لزم الطلاق بالتعليق، لأن الشارع أذن له أن يجعل أي شيء شاء علة لطلاق امرأته بطريق خاص، وهو التعليق فقط على حسب ما يقتضيه لفظ التعليق. فإذا قال: (إن دخلت) لم يجعله الشارع يتكرر، وإن قال: (كلما دخلت) جعله يتكرر، لأن الضيغة تقتضي التكرار لغة، فإن نصب علة من غير تعليق جعله يتكرر، لأن الصيغة تقتضي التكرار لغة، فإن نصب علة من غير تعليق لم تصر علة، وإن جعل ما ليس للتكرار لم يصر للتكرار، لأنه لم يؤذن له في ذلك، والأصل في الأحكام الشرعية أن تكون للشارع، وأما قوله (إن دخلت السوق فاشتر اللحم) لم يتكرر للقرينة العرفية، لئلا تفنى دراهمه فيما لا ينتفع به، وكذلك (إن دخلت الدار فطلق امرأتي) إنما يفهم منه التطليق مرة واحدة، وأنه جعل الدخول سببا لولاية الوكيل على الطلاق لا الطلاق نفسه، ولا تتكرر ولايته بالدخول، لأن العادة اقتضت أن.

ذلك مرة واحدة، ثم قوله: (أنت طالق) تعليق إنشاء لا أمر، وكذلك (فأنت حر). وأصل المسألة: إنما هو في الأمر، غير أن المحسن لهذا يحمل التسوية من جهة أن المعلق عليه علة لما علق عليه كيف كان. قوله: (لا منافاة بين الفسق والإكرام، فإن الفاسق قد يستحق الإكرام بسبب آخر) قلنا: أما المنافاة فحاصلة جزما بالنظر إلى الفسق، وهو المنطوق به في اللفظ، وأما سبب آخر يذكره القائل، بل صرح بالمنافي فقط، فصح كلام الخصم، وإنما يحسن ما ذكرتموه من الجواب أن لو قال: أكرم زيدا وهو في نفسه يعلم السامع من أنه فاسق، ولم يصرح الآمر بالفسق، فهاهنا نقول: السامع يحتمل أن يكون أمر بإكرامه لشجاعته، أو لغير ذلك، أما مع التصريح فالمنافاة أو التعليق أن التعليل حاصل جزما، بمعنى أن الظن فيه حاصل جزما، والتعليل أولى، لأنه ليس فيه تعارض، والمانع فيه تعارض بين المقتضي والمانع، فإنه لا تصح الإشارة للمانع إلا عند قيام المقتضي على ما سيأتي في القياس إن شاد الله تعالى فالاستقباح مشترك، وعدم التعارض مرجح

المسألة السادسة قال الرازي: في أن مطلق الأمر لا يفيد الفور، فالت الحنفية: إنه يفيد الفور، وقال قائلون: إنه يفيد التراخي، وقالت الواقفية: إنه مشترك بين الفور والتراخي. والحق أنه موضوع لطلب الفعل، وهو القدر المشترك بين طلب الفعل على الفور، وبين طلبه على التراخي، ومن غير أن يكون في اللفظ إشعار بخصوص كونه فورا أو تراخيا. لنا وجوه: أحدها: أن الأمر قد يرد عندما يكون المراد منه الفور تارة، والتراخي أخرى، فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين القسمين، دفعا للاشتراك والمجاز، والموضوع لإفادة القدر بين القسمين لا يكون له إشعار بخصوصية كل واحد من القسمين، لأن تلك الخصوصية مغايرة لمسمى اللفظ، وغير لازمة له، فثبت أن اللفظ لا إشعار له لا بخصوص كونه فورا ولا بخصوص كونه تراخيا وثانيها: أنه يحسن من السيد أن يقول: (افعل الفعل الفلاني في الحال أو غدا) ولو كان فورا داخل لفظ (افعل) لكان الأول تكرارا، والثاني نقضا، وأنه غير جائز. وثالثها: أن أهل اللغة قالوا: لا فرق بين قولنا: (يفعل) وبين قولنا: (افعل) إلا أن الأول خبر، والثاني أمر، لكن قولنا: (يفعل) لا إشعار له بشيء من الأوقات، فإنه يكفي في صدق قولنا: (يفعل) إتيانه به في أي وقت كان من

أوقات المستقبل، فكذا قوله: (افعل) وجب أن يكفي في الرتيان بمقتضاه الإتيان به في أي وقت كان من أوقات المستقبل، وإلا فحينئذ يحصل بينهما فوق في أمر آخر سوى كونه خبرا أو أمرًا ورابعها: أن أهل اللغة قالوا في لفظ (افعل): إنه أمر، والأمر قدر مشترك بين الأمر بالشيء على الفور، وبين الأمر به على التراخي، لأن الأمر به على الفور أمر مع قيد كونه على الفور. وكذلك الأمر به على التراخي: أمر مع قيد كونه على التراخي، ومتى حصل المركب، فقد حصل المفرد، فعلمنا أن مسمى الأمر قدر مشترك بين الأمر مع كونه فورا، وبين الأمر مع كونه متراخيا. وإذا ثبت أن لفظ (افعل) للأمر، وثبت أن الأمر قدر مشترك بين هذين القسمين، ثبت أن لفظ (افعل) لا يدل إلا على قدر مشترك بين هذين القسمين. واحتج المخالف بأمور: أحدها: قوله تعالى لإبليس: (مامنعك ألا تسجد إذ أمرتك) [الأعراف:12] عابه على أنه لم يأت في الحال بالمأمور به، وهذا يدل على أنه أوجب عليه الإتيان بالفعل، حين أمره به إذ لو لم يجب ذلك، لكان لإبليس أن يقول: (إنك أمرتني، وما أوجبت عليّ في الحال، فكيف أستحق الذم بتركه في الحال؟!). وثانيها: قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) [آل عمران:133] وقوله: (فاستبقوا الخيرات) [آلمائدة:48]

وثالثها: لو جاز التأخير، لجاز: إما إلي بدل، أو إلى بدل: والقسمان باطلان، فالقول بجواز التأخير باطل. أما فساد القسم الأول: فهو أن البدل هو: الذي يقوم مقام المبدل منه من كل الوجوه، فإذا أتى بهذا البدل، وجب أن يسقط عنه التكليف، وبالاتفاق ليس كذلك. فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: البدل قائم مقام المبدل منه، في ذلك الوقت، لا في كل الأوقات؟: فلا جرم لم يلزم من الإتيان بالبدل سقوط الأمر بالمبدل!! قلت: إذا كان مقتضى الأمر بالإتيان بتلك الماهية مرة واحدة، في أي وقت كان، وهذا البدل قائم مقامه في هذا المعنى، فقد تأدى ما هو المقصود من الأمر بتمامه، فوجب سقوط الأمر بالكلية، بل ذلك العذر يتمشى بتقدير أن يقتضي الأمر التكرار ولكنه باطل. وأما فساد القسم الثاني، وهو القول بجواز التأخير لا إلى بدل فذلك يمنع من كونه واجبا لأنه لا يفهم من قولنا: إنه ليس بواجب، إلا أنه يجوز تركه من غير بدل ورابعها: لو جاز التأخير، لجاز إما إلى غاية معينة، بحيث إذا وصل المكلف إليها لا يجوز له أن يؤخر الفعل عنها، أو يجوز له التأخير أيدًا، والقسمان باطلان، فالقول بجواز التأخير باطل، إنما قلنا: (إنه لا يجوز له التأخير إلى غاية) لأن تلك الغاية: إما أن تكون معلومة للمكلف، أو لا تكون: فإن كانت معلومة له، فتلك الغاية ليست إلا أن تصير بحيث يغلب على ظنه أنه لو لم يشتغل بأدائه، فاته ذلك الفعل، بدليل أن كل من قال بجواز التأخير

إلى غاية معلومة قال: إن تلك الغاية هي هذا الوقت، فالقول بإثبات أخرى خرق للإجماع، وإنه غير جائز. لكن القول بجواز التأخير إلي هذه الغاية باطل، لأن الظن، إن لم يكن لأمارة، جرى مجرى ظن السوداوي، فلا عبرة به. وإن كان لأمارة، فكل من قال بهذا القسم قال: إن تلك الأمارة: إما المرض الشديد أو علو السن، وهذا أيضا باطل لأن كثيرا من الناس يموت فجأة وذلك يقضي أنه ماكان يجب عليهم ذلك الفعل في علم الله تعالى مع أن ظاهر ذلك الأمر للوجوب. وإنما قلنا: إن تلك الغاية لا يجوز أن تكون مجهولة، لأنه على غير هذا التقدير يصير مكلفا بألا يؤخر الفعل عن وقت معين، مع أنه لا يعرف ذلك الوقت، وهو تكليف ما لا يطاق. وإنما قلنا إنه لا يجوز أبدا، لأن التأخير أبدا تجويز أبدا، وإنه ينافي القول بوجوبه. وخامسها: أن السيد، إذا أمر عبده بأن يسقيه الماء، فهم منه التعجيل، واستحسن العقلاء ذم العبد على التأخير، والإسناد إلى القرينة خلاف الأصل، فالأمر يفيد الفور. وسادسها: أجمعنا على أنه يجب اعتقاد وجوب الفعل على الفور، فنقول: الفعل أحد موجبي الأمر، فيجب على الفور، قياسا على الإعتقاد، والجامع تحصيل المصلحة الحاصلة، بسبب المسارعة إلي الامتثال.

وسابعها: أن الزمر يقتضي إيقاع الفعل، فأشبه العقود في البياعات، فلما وقع العقد عقيب الإيجاب والقبول، فالأمر وجب أن يكون مثله، وتحريره: أنه استدعاء فعل بقول مطلق، فيقتضي التعجيل، كالإيجاب في البيع. وثامنها: أن الأمر ضد النهي، فلما أفاد النهي وجوب الانتهاء على الفور، وجب في الزمر أن يفيد الوجوب على الفور وربما أوردوا هذا على طريق آخر، فقالوا: ثبت أن الأمر بالشيء نهي عن تركه، لكن النهي عن تركه يوجب الانتهاء عن تركه في الحال، والانتهاء عن تركه في احلال لا يمكن إلا بالإقدام على الفعل في الحال، فثبت أن الأمر يوجب الفعل في الحال. وتاسعها: أجمعنا على أنه لو فعل عقيبه، يقع الموقع، ويخرج عن العهدة، وطريقة الاحتياط تقتضي وجوب الإتيان به على الفور، لتحصيل الخروج عن العهدة بيقين. والجواب عن الأول: أنه حكاية حال، فلعل ذلك الأمر كان مقرونا بما يدل على الفور، وعن الثاني أن قوله: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) [آل عمران:133] مجاز من حيث ذكر المغفرة، وأراد ما يقتضيها، وليس في الاية أن المقتضي لطلب المغفرة هو الإتيان بالفعل، على سبيل الفور، على أن هذه الآية لو دلت على وجوب الفور، لم يلزم منه دلالة نفس الأمر على الفور. وعن الثالث والرابع: أنه يشكل بما إذا صرح وقال: أوجبت عليك أن تفعل هذا الفعل في أي وقت شئت، فكل ما جعلوه عذرا في هذه الصورة فهو

عذرنا عما ذكروه، وكذلك يشكل بالكفارات والنذور وكل الواجبات الموسعة وعن الخامس أنه معارض بما إذا أمر السيد غلامه بشيء، ولم يعلم الغلام حاجة السيد إليه في الحال، فإنه لا يفهم التعجيل، فإن حملتم ذلك على القرينة، ألزمناكم مثله. فإن قلت: إن السيد يعلل ذمه لعبده، بأنني أمرته بشيء، فأخره، ولولا أن الأمر للفور، وإلا لما صح هذا التعليل قلت: وقد يعتذر العبد فيقول أمرتني بأن أفعل وما أمرتني بالتعجيل، وما علمت بأن في التأخير مضرة. وعن السادس: أنه يبطل بما لو قال: (افعل في أي وقت شئت) وبالنذور والكفارات، ويبطل أيضا بالخبر، فإنه لو قال الشارع، (يقتل زيد عمرا) فهاهنا يجب الاعتقاد في الفور ولا يجب حصول الفعل في الفور. ولأن الاعتقاد غير مستفاد من الأمر فلا يجب حصول الفعل في الفور، لأن من ركب الله العقل فيه فإذا نظر علم أن امتثال أمر الله تعالى واجب. وعن السابع: أنه يبطل بقوله: (افعل في أي وقت شئت) ولأن الجامع الذي ذكروه وصف طردي وهو غير معتبر. وعن الثامن: أن النهي يفيد التكرار، فلا جرم يوجب الفور والأمر لا يفيد التكرار فلا يلزم أن يفيد الفور.

وعن التاسع، وهو طريقة الاحتياط: أنه ينتقض بقوله: افعل في أي وقت شئت واعلم: أن هذا النقض يرد على أكثر أدلتهم وهو لازم لا محيص عنه المسألة السادسة الأمر لا يفيد الفور قال القرافي: فيها خمسة مذاهب: 1 - الفور 2 - التراخي 3 - الاشتراك بينهما 4 - القدر المشترك 5 - الوقف قال سيف الدين: من الواقفية من قال: التوقف إنما هو في المؤخر هل هو ممتثل أم لا؟

.....................................

.........................................

وأما المبادر فإنه ممتثل قطعا، لكن هل يأثم بالتأخير؟ مختلف فيه: فمنهم من قال بالتأثيم ومنهم من نفاه ومنهم من توقف في المبادرة أيضا، وخالف في ذلك إجماع السلف.

(سؤال) قال النقشواني: المجاز لا زم له قطعا أو الاشتراك

قوله: (ورد الأمر تارة للفور وتارة للتراخي) مثاله للفور: رد المغصوب وإنقاذ الغرقان، والزمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأقضية الحكام إذا نهضت الحجاج. مثال التراخي: النذور، والكفارات فإنها وظيفة العمر، ويرد عليه: أنه إذا كان للفور كان أكثر فائدة لأن الفورية تكون مدلولة للفظة. (سؤال) قال النقشواني: المجاز لا زم له قطعا أو الاشتراك، لأن اللفظ ورد في الفور والتراخي، وأريد به الخصوصان إجماعا، فإن كان موضوعا لهما لزم الاشتراك وإلا لزم المجاز. جوابه: أنا نمنع أن الخصوصين أريدا من اللفظ، بل بأدلة خارجية من إجماع أو غيره من قرائن الأحول: أو المقال، وإلا لزم الاشتراك أو المجاز. بعين ما ذكرتموه. قوله: (يحسن من السبد أن يقول: افعل على الفور أو على التراخي. ولو كان الأمر للفور كان الأول تكرارا والثاني نقضا). تقريره: أن الأمر يفيد الفور عند الخصم، وقولنا: (على الفور) يفيد الفور، فقد كررنا اللفظ الدال على الفور فيلزم التكرار وقولنا: (على التراخي) يلزم وجود اللفظ الدال على الفور، وهو الزمر، وما وجد كقوله: على التراخي: والنقض: وجود الدليل بدون المدلول والحد بدون المحدود، والعلة بدون املعلول، والصيغ اللغوية كلها أدلة، فيلزم النقض على الدليل وتنعكس القضية على القائل بالتراخي فيكون قولنا: (على

الفور) تكرارا، (وعلى التراخي) نقضا، وهما على خلاف الأصل، لأن العرب إنما وضعت الألفاظ لتفيد معاني منشأة لا ليؤكد بها غيرها بالتكرار والأصل ألا يوجد الدليل إلا ومعه مدلول. قوله: (أهل اللغة قالوا: لافرق بين قولنا: (يفعل) وبين قولنا: (افعل) إلا أن الأول خبر، والثاني أمر) قلنا: إن أردت إجماع أهل اللغة فممنوع وقول البعض معارض بقول البعض فلا حجة حينئذ أو نقول قول البعض إنما قاله نظرا واجتهادا ولا عبرة به لأنه خصم لغيره فلا يسلم له انحصار اللغات في الأمر به فقط، بل فيهما وفي الفور وغير ذلك مصادرة على المذاهب بغير دليل قوله: (أن يفعل لا إشعار له بشيء من الأوقات المستقبلة). قلنا: نقل الشيخ أبو عمرو في (مقدمته): أن في الفعل المضارع ثلاثة مذاهب: حقيقة في الحال مجاز في المستقبل. وعكسه مشترك بينهما فما تعين للمستقبل إجماعا بل على قول قوله: (الأمر أعم من كونه أمرا على الفور أو على التراخي لأن الأمر على الفور أمر يفيد الفورية) قلنا: هذه مصادرة فإن القائل بالفور يمنع العموم ويقول: الفورية داخلة في مفهوم الأمر، وما مثال قولنا: إنه أعم إلا قول القائل: الفعل

(تنبيه)

الماضي أعم من كونه للماضي أو المستقبل، وذلك ممنوع وكل من منع خصوصا عن ماهيةو وادعى تقسيمها لأمر أعم، فإنه يمنع هذا المنع. قوله: (لولا أنه على الفور لكان لإبليس أن يقول: (إنك أمرتني وما أوجبته عليّ في الحال). قلنا: في هذه الآية مقتضيات للفور غير الأمر، فلا يتجه الاستدلال بالأمر منها علي أنه للفور، لأن الله تعالى قال في الآية الأخرى: (فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) [الحجر:29]، فقوله تعالى (فإذا) صيغة شرط، والشروط اللغوية أسباب، والأصل ترتيب المسبب على السبب. وثانيها: أن (إذا) معمول لقوله تعالى: (فقعوا له ساجدين) والعامل في الظرف يجب أن يكون واقعا فيه، فتعين تعجيل السجود كذلك حتى يكون مظروفا لذلك الزمان. ثالثها: الفاء في قوله تعالى: (فقعوا له ساجدين) للتعقيب، فتعين تعجيل السجود. ورابعها: حضور آدم عليه السلام الذي أراد تعظيمه بإسجاد الملائكة له سبب يقتضي أن يترتب عليه مسببه على الفور. وخامسها: سجود جميع الملائكة دليل وقرينة حالية على أنه أريد السجود على الفور في تلك الحالة، وإذا وجدت المرجحات سقط اعتبار الأمر، والإستدلال به في هذه الصورة. (تنبيه) تقدم أن هذه الآية وردت في كتاب الله تعالى في موضع بلفظ (لا) وفي موضع بدونها وحيث وردت معها فهي زائدة للتأكيد قائدة مقام إعادة الجملة مرة أخرى.

تقديره: ما منعك أن تسجد، كذلك قاله ابن جني في (الخصائص). قوله: (في قوله تعالى: (وسارعوا إلي مغفرة من ربكم) [آل عمران:133] (فاستبقوا الخيرات) [البقرة:148]. قلنا: اجتمع في هاتين الآيتين أمران: أحدهما: لفظ (المسارعة) و (الاستباق) وهما موضوعان للفور والزمن الخاص آنفا، وكذلك المبادرة والفور والتعجيل ونحو ذلك من الألفاظ. وثانيها: صيغة الأمر، فالخصم يسلم دلالتها على الفور، لكن من جهة المبادرة التي هي حروف المسارعة والاستباق الموضوعة لذلك لا من جهة صيغة الأمر، فلا يحصل المطلوب، ويؤكده أنه لو حذفت صيغة الأمر، وقيل ذلك بصيغة الخبر (استبق فلان أو سارع) لفهم منه الفور، فدل ذلك على أن الدال هو هذه المبادرة، والحروف خصوصها لا صيغة الأمر. ثم سلمنا عدم هذه المعارضات، لكنها تقتضي حمل أوامر الله تعالى على الفور والنزاع في الوضع اللغوي لا في الحمل، فأين أحدهما من الآخر؟ قوله: (البدل الذي هو يقوم مقام المبدل من جميع الوجوه).

قلنا: البدل في الشريعة خمسة أقسام لكل قسم خاصة يختص به: يبدل الشيء من الشيء في محله، كالمسح بعد الغسل في الجبيرة، ومن خاصيته المساواة في المحل، ومنه (الخفان) غير زن الشرع رخص لنا في ترك بعض المحل لعموم البلوى في الحاجة إلى لبسهما. الثاني: يبدل الشيء من الشيء في مشروعيته، ومنه قول الفقهاء: (الجمعة) بدل من (الظهر) أي في المشروعية، ومن خاصية هذا القسم أن يكون البدل أفضل من المبدل فإنه إنما يعدل للمبدل منه إلا عند تعذّر البدل، عكس ما شاع على ألسنة أكثر الفقهاء. وثالثها: أن يبدل الشيء من الشيء في بعض الأحكام، كالتيمم بدل من الوضوء والغسل في إباحة صلاة واحدة، والوضوء له أحكام كثيرة: رفع الحدث، واستباحته عدة صلوات ومن خصائص هذا ال ألا يعدل إليه إلا عند التعذر في المبدل منه لقصوره، وأن يكون المبدل منه أتم حكمة ومصلحة. ورابعها: يبدل الشيء من الشيء في جميع أحكامه الناشئة عن سببه، كخصال الكفارة، فإن كل خصلة منها تقوم مقام الأخرى في الوجه الذي اقتضاه سببها، وإن كان قد ترتب على بعضها مزيد أجر أولى في عتق أو غير ذلك لكن ذلك لا من جهة سببها بل من جهة مصالحها في ضمنها، وتفاضل بينهما وبين غيرها، وهذه إن كانت على الترتيب كخصال كفارة الظهار، فخاصيتها تحصيل جميع أحكام السبب بخلاف التيمم، وإن كانت على التخيير، نحو كفارة الحنث في اليمين، فهي مسنونة المصالح بالنظر لسببها لا لذواتها، ولذلك خيّر الشرع فيها. وخامسها: يبدل الشيء في بعض أحواله، كالعزم بدل من

(تنبيه) قال إمام الحرمين في (البرهان): أجمعت الأمة على أنه لا يجب الاعتناء بالعزم في كل وقت لا يتفق الامتثال فيه

الصلاة الواجبة وجوبا موسعا، فهو له ثلاثة أحوال: التعجيل، والتوسط، والتأخير، فالعزم بدل من التعجيل، وخاصية هذا أنه خارج عن ماهية المبدل منه بالكلية، وإنما الإبدال بينه وبين أحواله [بخلاف الأربعة المتقدمة وهو أضعفها أيضا حيث لم يجعل بدلا عن شيء من الفعل بل على أحد أحواله]. إذا تقررت أقسام الإبدال في الشريعة بطل قولكم: إن البدل يقوم مقام المبدل منه مطلقا، فإن البدل من الحال لا يأتي فيه ذلك وهو القسم الكامل في صورة النزاع، وبطل قول القائل: إن البدل لا يفعل إلا عند تعذّر المبدل، لأن ذلك يبطل بإبدال الجمعة من الظهر، فلو قيل: إن البدل يقوم مقام المبدل منه في الوجه الذي جعل بدلا فيه صح، عير أنه لا يفيد في هذه المسألة المستدل، لأن مقصوده سقوط الفعل، وإنما سقط أن لو جعل بدلا عنه في ذاته لا في حال من أحواله. (تنبيه) قال إمام الحرمين في (البرهان): أجمعت الأمة على أنه لا يجب الاعتناء بالعزم في كل وقت لا يتفق الامتثال فيه، ولو لم يجر العزم بالبال وامتثل في أثناء العمر أجزأه، ولا يعصيه أحد لترك العزم فيما سبق، وكذلك اتفقوا في الصلاة الموسعة، قال والذي أراه في طريقة القاضي في إيجاب العزم أنه يجب في أول الوقت فقط، وينسحب حكمه على بقية الأوقات كما تنسحب النية على الأفعال، ولا يظن به غير ذلك.

قلت: تلخيص لم يقع في المحصول بل إطلاق المحصول يأباه. وقال الغزالي في (المستصفى): إنما يسقط التكليف بالعزم زمن الغفلة، أما مع الذكر فلا بد من العزم أو الفعل، وهذا يمكن أن يحمل عليه إطلاق (البرهان) قوله: (إذا كان الأمر إنما اقتضى الفعل مرة واحدة. وهذا البدل قد قام مقامة فيها، فيسقط الأمر بالكلية). قلنا: يفرع على أن الأمر ليس للتكرار، وأنه إنما يقتضي الفعل مرة واحدة فلا يلزم سقوطها، لأنه بدل عن حالة من أحوالها وهي التعجيل، وبقيت هي في نفسها لا بدل عنها ولا تسقط. قوله: (إن جاز التأخير مطلقا لا إلي بدل، فذلك يقدح في وجوبه). قلنا: لا يقدح في وجوبه، لأنه إنما يتعين عدم الوجوب أن لو جاز تأخيره لغير بدل، ويتحتم بقرينة الفوات بسبب المرض، أو علو السن، ولا يأثم إذا أخر عن ذلك، وحينئذ يكون ذلك قادحا في وجوبه، أما مطلق قولنا: (جاز التزخير لا لبدل) فلا يقدح، لما ذكرناه من التحتم وغيره. قوله: (إذا مات فجأة يقتضي أنه ماكان واجبا عليه في علم الله تعالى مع زن ظاهر الأمر يقتضي أنه كان واجبا عليه). قلنا: علم الله تعالى بأنه يموت فجأة كعلم الله تعالى بأنه لا يفعل ويعصي، ولا يقدح شيء من ذلك في الوجوب لأن الوجوب تعلق كلام الله تعالى به في هذا الزمان بهذا الفعل مع جواز التأخير بعروض.

الموت له، معروض النسخ له، لأن كليهما مانع صرف عن التكليف، وعلم الله تعالى بالناسخ لا يمنع التكليف كما اتفق في قصة إبراهيم وإسحاق عليهما السلام، وكذلك من مات في نصف القامة بعد الزوال لا نقول: نشأ عدم الوجوب عليه، بل نقول بينا أنه لم يقدر له فعل الواجب، فإنه لا يؤاخذ بتركه بعذر عرض له وهو الموت، كطريان الجنون عليه وغيره، بطريان الموانع، وعلم الله تعالى بها لا يقدح في تعلق الوجوب بالشخص في نفس الأمر. سلمنا أنه يقدح لكن ترك الظواهر لقيام المعارض لا يقدح في كونها مقتضية عند عدم المعارض، فنقول: يجب عليه ظاهرا حتى يمنع مانع، ويحرم عليه حتى يمنع مانع، ولا عذر في ذلك. قوله: (إن كانت الغاية مجهولة يلزم تكليف ما لا يطاق) قلنا: لا نسلّم، بل تكليف بما يطاق، وإنما يلزم ما لا يطاق لو كلف بألا يوخر عنها، ويجوز لك التعجيل قبلها، فيعجل قلبها ويخلص وكل شيء للمكلف أن يفعله بطريق من الطرق لا يقال فيه: إنه تكليف ما لا يطاق، وإنما ذلك في المتعذر بكل الطرق. قوله: (يجب اعتقاد موجب الأمر على الفور، فيقول: أحد موجبي، وأحدهما واجب على الفور، فيجب الآخر قياسا عليه) قلنا: لنا قاعدة، وهي أن اللفظ إذا وضع لمعنى صار بينه وبين ذلك المعنى ملازمة ذهنية عند العالم بالوضع، فإذا سمع اللفظ انتقل ذهنه بالضرورة لذلك المعنى وإن كره، وحينئذ نقول: لا نسلم أنه يجب اعتقاد موجب الأمر على الفور، لأن حصول المسميات التي للألفاظ إذا كانت تقع في ذهن السامع اضطرارا لا يقع بها تكليف ولا وجوب ولا غيره.

سلمنا تعلق التكليف به، لكن حصول المسمى عليه في الذهن على الفور مشترك فيه بين الأوامر، والنواهي، والأخبار، وجميع الحقائق، فلو كان بين الاعتقاد ووجوب الفعل ملازمة لوجب موجب الخبر أن يتعجل لتعجل اعتقاده، وكذلك في الإباحة وغيرها، وهو خلاف الإجماع، فبطلت الملازمة حينئذ بين اعتقاد المسمى وتعجيله، فلا يثبت في صورة النزاع كسائر الصور، وبهذا يظهر أن إطلاق اللفظ موجب لتعجل اعتقاد مسماه في الذهن وليس موجبا لوقوع مسماع في الخارج بدليل الصورة المذكورة. والفرق بينهما: أن الوضع أوجب الملازمة بين السماع والاعتقاد، ولم يوجب الملازمة بين السماع والوقوع في الخارج، فوجوب الملازمة منفيّ في الوقوع في الخارج، فلا يقاس ما لا موجب فيه على ما له موجب من جهة الوضع، ثم إن الإعتقاد حصوله في الذهن على الفور شيء أنشئ عن الوضع، ولم يجعل مسمى اللفظ والوجوب على الفور عند الخصم مسمى اللفظ، فلا يستقيم. قوله: (أحد موجبي اللفظ) بل أحدهما موجب اللفظ وهو الفعل والاخر موجب الوضع لا اللفظ، فتأمل ذلك تأملا جيدا تجده إن شاء الله تعالى. قوله: (يقتضي الفور قياسا على صيغ العقود في البيع بجامع أن كل واحد منهما استدعاء للفعل بالقول) قلنا: لا نسلم أن العقود فيها استدعاء، لأن الاستدعاء هو الطلب وقول القائل: (بعت) هو إنشاء لانتقال الملك ولا طلب فيه، وأي شيء طلب من المشتري، وإنما يتعلق الطلب بفعل من الأفعال، ونحن نجد أن المشتري لا يفعل للبائع شيئا يمقتضى صيغة البيع ولا يمكن أن يقال? إنه وجب عليه دفع الثمن لأنا نقول: ذلك لم يكن بطلب البائع إنما كان بسبب أن عقد البيع أوجبه له أروش الجنايات، وقيم المتلفات أوجبتها الأسباب، ثم بعد ذلك لمستحقها أخذها أو تركها، ثم نقول: عقود الإنشاء إنما أوجبت الحكم على الفور، لأنها أسباب، وشأن السبب أن يستعقب مسببه، والصيغ

ليست أسبابا للنقل إجماعا، وإلا لكان قول السيد لعبده: أسرج الدابة يقتضي ذلك أن يحصل الإسراج، وإن لم يفعل العبد شيئا، كما يحصل الملك بمجرد لفظ العقد، وإن لم يحدد أحد شيئا، فافترقا. قوله: (ولأن الأمر ضد النهي، والنهي يقتضي الإنتهاء على الفور، وكذلك الأمر) تقريره: أن العرب تحمل الشيء على ضده كما تحمله على شبهه، كما نصبت بـ (لا) النافية إلحاقا لها (بأن) المؤكدة المثبتة وهي ضدها، وحملت (الغدايا) على (العشايا) في الجمع، ونظائره كثيرة، فلذلك قاس الخصم الأمر على النهي. قوله: (الأمر بالشيء نهي عن تركه، والانتهاء واجب في الحال وهو لا يمكن إلا بالإقدام على الفعل في الحال، فيكون الأمر على الفور) قلنا: النهي إنما يقتضي الانتهاء في الحال إذا كان نهيا مطابقة، أما التزاما فلا، لأن العرب تفرّق بين الحاقائق المقصودة بالذات، والمقصودة تبعا، ألا ترى أن الخبر يدخله التصديق والتكذيب إذا كان أصلا، والخبر اللازم للأمر في وقوع العقاب على تقدير المخالفة لا يدخله التصديق والتكذيب إذا كان أصلا، والخبر اللازم للأمر في وقوع العقاب علي تقدير المخالفة لا يدخله التصديق والتكذيب، وإن كان آمر مخبرا بذلك، لكنه لما كان خبرا تبعا لم يحسن تصديقه ولا تكذيبه، وكذلك الإثبات إذا لم يكن مقصودا، وظهر خلافه لا يكون فيه كاذبا، كما لو قال لغريمه: ليس عندي إلا درهمان، يقصد التقليل، وظهر أن عنده درهما لا يكذبه أحد، وإن كان الاستثناء من النفي إثباتا، لكن لمّا لم يكن الإثبات هاهنا مقصودا وإنما المقصود النفي، لا جرم لم يعد كاذبا وإن كان إخباره عن الإثبات لم يطابق، ولذلك لا يحنثه الشرع إذا حلف [في ذلك، فالحاصل أنا نمنع أن النهي اللازم للأمر يقتضي الانتهاء، فالحال وهذه النظائر مستند المنع].

قوله: (اتفقنا على أنه لو فعل على الفور وقع لموقع) قلنا: القائل: إن الأمر موضوع للتراخي يمنع ذلك. قوله: (لعل ذلك الأمر كان مقرونا يمقتضى الفور) قلنا: الأصل عدم ذلك حتى يتبين في الواقعة ما يدل عليه. قوله: (وسارعوا إلي مغفرة من ربكم) [آل عمران: 133] مجاز من ذكر المغفرة فإراد ما يقتضيها) تقريره: أن القاعدة الشرعية أن التكليف إنما يقع بمقدور، ومكتسب، فمتى علق الأمر على غير مكتسب تعين صرفه لسببه تارة ولآثاره أخرى صونا للكلام عن الإلغاء، مثال ما يتعين حمله على سببه: قوله تعالى: (ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران:102:] أي تسببوا بتقديم الإيمان عاجلا حتى يأتي الموت عليكم وأنتم كذلك، وإلا فالنهي عن الموت نتعذر، وتكليف الميت محال، وقوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) [الطلاق]. الطلاق تحريم، والتحريم حكم الله تعالى قديم قائم بذاته، يستحيل التكليف به، فيتعين صرفه لسببه وهو أضداد الصيغة في الوجود، وقوله تعالى: (لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى) [النساء:43] أي اجتنبوا الأسباب التي تفضي بكم إلى حضور الصلاة وأنتم سكارى. وأما ما يتعين صرفه لأثاره، فقوله تعالى: (اجتنبوا كثيرا من الظن) [الحجرات:12] مع زن الظن يهجم على النفس اضطرارا، فلا يمكن اجتنابه، فيتعين حمله على آثاره من الحديث بمقتضى ذلك الظن أو الطعن في الأعراض، وغير ذلك من آثار ذلك الظن، وقوله تعالى: (ولاتأخذنكم بهما رأفة في دين الله) [النور:2] والرأفة في القلب تهجم على القلب عند رؤية المؤلمات قهرًا، فيتعين صرفه لآثار الرأفة وهي تنقيص الحدود، ولذلك قاله ابن عباس: فكذلك هاهنا المغفرة صنع الله تعالى لا مدخل

للعبد فيه، والإنسان لا يؤمر بفعل غيره، فيتعين صرفه لسبب المغفرة وهو فعل الطاعات، كقوله تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات) [هود:114] ثم سبب المغفرة قد يكون هو تأخير الفعل كما قال عليه السلام: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطور، وأخروا السحور) فتأخير السحور طاعة وسبب للمغفرة. وقال عليه السلام: (مادخل الرفق في شيء إلا زانه) وقال عليه السلام لأشج عبدالقيس: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة) فجعل الأناة من محاسنه. قوله: (هذه الآية وإن دلت على وجوب الفور لم يلزم منه دلالة الأمر على الفور). يريد: ما تقدم أن الدلالة إنما نشأت من خصوص المادة الموضوعة للفور وإن كانت خبرا كما تقدم بسطه. قوله: (الاعتماد غير مستفاد من الأمر، لأن من ركب الله تعالى العقل فيه، فإذا نظر فيه علم أن امتثال أمر الله تعالى واجب) قلنا: لا نسلم أن العقل يقتضي ذلك، بل إن لم يعلم العقل أن الأمر وضع للوجوب لا يعتقد أن فعل ما أمر الله تعالى به واجب بل يتبع ما

(سؤال) قال النقشواني: الأمر للفور

فهمه من وضع الصيغ اللغوية، ولذلك اختلفنا في مواطن كثيرة في الشرائع، هل هي واجبة أم لا؟ مع أن عقلا ما ذلك إلا لاختلفنا في مدلولات الصيغ، ولو فرعنا على مذهب المعتزلة في الحسن والقبح لا يلزم ذلك أيضا فإن الحسن والقبح إنما يقتضي أن المصالح والمفاسد معتبرة في الأحكام، ونحو ذلك أما أنه إذا وردت صيغة لا نعلم ولا نظن أنها وضعت للوجوب نحملها على الوجوب وإن لم نعلم إلا كونها أمرا فلا، بل لا بد أن يعلم أنها للوجب، أو نعلم أن مصلحة ذلك الفعل تقتضي الوجوب أما مجرد الأمر فغير كاف. قوله: (الجامع الذي ذكروه وصف؛ ردي) ممنوع، بل قدمنا أن وصف الضدية اعتبرته العرب في السوية في الأحكام. (سؤال) قال النقشواني: الأمر للفور، لأن الشارع لو قال: (إذا جاء غد صم) اتفقنا على أن العبد المأمور بالصوم عند مجيء غد، ولا يجوز التأخير، وليس هاهنا إلا الأمر، ثم أورد على نفسه فقال: فإن قلتم: ذكر الغد تعين وقت المأمور به. قلنا: ذكر الوقت تعين وقت نزول الأمر لا المأمور به، ومن ذهب إلى أن الصيغة لا تقتضي الفور لا يلزمه ذلك بخلاف قوله: (صم إذا جاء غد) لأنه لما قال: (صم) صار أمرا، ثم بعد ذلك عين وقت الامتثال بتعيين غد وجوابه: أن الشرط اللغوي سبب يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم والأصل: ترتيب المسببات على أسبابها، فقد وجد ما يقتضي الفورية غير الأمر، ولا فرق عند أهل اللغة في التعليق بين (إذا جاء غد صم)، وبين (صم إذا جاء غد) في أن غدا شرط وسبب الوجود

(تنبيه) قال التبريزي: التمسك على الفور بالاحتياط ضعيف

(تنبيه) قال التبريزي: التمسك على الفور بالاحتياط ضعيف، لأن الاحتياط ليس من أمارات الوضع، ولا من مقتضيات الوجوب، بل هو من باب الأصلح ثم إن قوله: (افعل الآن) بعد تأكيدا، وفي أي وقت شئت يعد تحقيقا ومسامحة. ويرد عليه: أن هاهنا قاعدة خفية، عادة الفضلاء يوردون بسبب إهمالها سؤلا، فيقولون في كل ما يقول فالمستدل فيه: هذا أرجح، فيجب المصير إليه: إن الرجحان يقتضي أنه أحسن، وأما التعيين فلا، بل الندب هو اللازم في هذه المواطن التي فيها الرجحان والاحتياط ونحو ذلك، فإن فعل الأحسن، وترك مواطن الشبه مندوب إليه، والأفضل الوجوب، وأهملت قاعدة وهي: أن الرجحان إن كان في أفعال المكلفين، فكما قالوا وإن كان في مدارك المجتهدين وأدلة النظار والمناظرين اقتضى ذلك الوجوب والتحتم واللزوم، بل انعقد الإجماع على أن المجتهد يجب عليه اتباع الراجح من غير رخصه في تركه، بخلاف الراجح في حق المكلف إنما هو مندوب، وكذلك الراجح في الاجتهاد في طلب القبلة، وطهورية الماء من باب الوجوب إجماعا، ومنه قيم المتلفات، وأروش الجنايات فتأمل هذه القاعدة، فهي ظاهرة وهي خفية وبهذا يظهر لك بطلان قوله: إن الاحتياط ليس من مقتضيات الوجوب، لأن هذا رجحان في دليل لا في فعل. وأما قوله: (افعل الآن تأكيد، وفي أي وقت شئت مسامحة) فهو مصادرة على مذهب الخصم بغير دليل. (تنبيه) قال إمام الحرمين في (البرهان): قال غلاة الواقفية: إن عجل وفعل

على الفور لم يقطع بامتثاله وهو سر في الوقف، وقطع مقتصدوهم: بالامتثال وتوقفوا إذا أخر قال: وهذا هو المختار، قال: ومن قال: إن الأمر للفور فلفظه مدخول؛ لأنه يقتضي أنه لو عجّل لم يخرج عن العهدة، وهو خلاف الإجماع، بل ينبغي أن يقول: الصيغة تقتضي الطلب من غير تعيين وقت.

المسألة السابعة في أن الأمر المعلق، أو الخبر المعلق على شيء بكلمة (إن) عدم عندعدم ذلك الشيء والخلاف فيه مع القاضي أبي بكر، وأكثر المعتزلة. لنا وجهان: الأول: هو أن النحويين سموا كلمة (إن) حرف شرط، والشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه، فيلزم أن يكون أن يكون المعلق بهذا الحرف منتفيا عند انتفاء المعلق عليه. أما أن النحويين سموا هذا الحرف بحرف الشرط، فذلك ظاهر في كتبهم. وأما أن الشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه، فلأنهم يقولون: الوضوء شرط صحة الصلاة، والحول شرط وجوب الزكاة، وعنوا بكونهما شرطين انتفاء الحكم عن انتفائهما، والاستعمال دليل الحقيقة ظاهرا. فإن قيل: لا نزاع في أن النحويين سموا هذا الحرف بحرف الشرط، ولكن لعل ذلك من اصطلاحهم الحادثة، كتسميتهم الحركات المخصوصة بالرفع، والنصب، والحر، وإن لم تكن تسمية هذه الحركات بهذه الأسماء موجودة في أصل اللغة. سلمنا أن هذه الاسم أصلي، لكن لا نسلم أن الشرط: ما ينتفي الحكم عند

انتفائه بل شرط الشيء: ما يكون علامة عل ثبوت الحكم، من قولهم: أشراط الساعة أي: علامتها. سلمنا أن شرط الشيء: ما يوقف عليه لكن مطلقا أو بشرط ألا يوجد ما يقوم مقامه. الأول ممنوع: والثاني مسلم وعلى هذا التقدير: لا يلزم من عغدم هذا الشرط عدم الحكم، إلا إذا عرف أنه لم يوجد شيء ما يقوم مقام هذا الشرط. والجواب: لما دلت الكتب النحوية على تسمية هذا الحرف بحرف الشرط وجب اعتقاد أن هذا الاسم كان حاصلا في أصل اللغة، وإلا كان حصول هذا الاسم له بالنقل، وقد بينا أن النقل خلاف الأصل. قوله: (شرط الشيء: ما يدل على ثبوته): قلنا: لو كان كذلك لا متنعت تسمية الوضوء بأنه شرط صحة الصلاة، فإن الوضوء لا يدل على صحة الصلاة، وكذا القول في قولنا: الحول شرط وجوب الزكاة، والإحصان شرط وجوب الرجم. وأما أشراط الساعة: فهي وإن كانت علامات دالة على وجوب الساعة، لكن يمتنع وجود الساعة إلا عند وجودها، فهي مسماة بالأشراط لا بحسب الاعتبار الأول، بل بحسب الاعتبار الثاني. قوله: (شرط الشيء ما ينتفي الحكم عند انتفائه مطلقا، أو إذا لم يوجد ما يقوم مقامه؟):

قلنا: مطلقا؛ لأنه إذا ثبت كون شيء شرطا، وثبت أن لفظ الشرط معناه في اللغة: ما ينتفي الحكم عند انتفائه، وثبت أن ذلك الشيء يجب انتفاء الحكم عند انتفائه، فلو أثبتنا شيئا آخر يقوم مقامه، لم يكن ذلك الشيء بعينه شرطا، بل يكون الشرط: إما هو أو ذلك الآخر، لا على التعيين وذلك ينافي قيام الدلالة على كونه بعينه شرطا. الحجة الثانية: ماروي أن يعلى بن أمية سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: (مابالنا نقصر، وقد أمنا)؟ فقا: (عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلو صدقته). ولو لم يفهم أن المعلق على الشيء بكلمة (إن) عدم عندد عدم ذلك الشيء لم يكن لذلك التعجب معنى!! فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنما تعجبا من ذلك، لأنهما عقلا من الآيات الواردة في وجوب الصلاة وجوب الإتمام، وأن حال الخوف مستثناة من ذلك، وماعداها ثابت على الأصل في وجوب الإتمام فلذلك تعجبا من ثبوت القصر مع الأمن. ثم نقول: هذا الحديق حجة عليكم لأنه لو امتنع المشروط عند عدم الشرط لما جاز القصر عند عدم الخوف وقد جاز فعلمنا أنه لا يجب عدم المشروط عند عدم الشرط والجواب عن السؤال الأول: أن الآيات الدالة على وجوب الصلاة، لا تنطق بالإتمام ولا بأن الأصل في الصلاة الإتمام، بل المروي عن عائشة رضي الله

عنها أنها قالت: (كانت صلاة السفر والحضر ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر). وعن الثاني: أن ظاهر الشرط يمنع من ذلك ولذلك ظهر التعجب لكن لا يمتنع أن يدل دليل على خلاف الظاهر والله أعلم. احتج المخالف بالآية والحكم. أما الآية: فهو أن المعلق (بأن) على شيء، فلو كان عدما عن عدم ذلك الشيء، لكان قوله عز وجل: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا) [النور:33] دليلا على أن ما حرم الإكراه على البغاء إن لم يردن التحصن وقوله تعالى (فكاتبوهم إن علمتهم فيهم خيرا) [البقرة:172]. وقوله: (أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) [النساء:101] وقوله: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) [البقرة:283] ففي جميع هذه الآيات الحكم غير منتف عند انتفاء الشرط. وأما الحكم: فهو: ما إذا قال لإمرأته: إن دخلت الدار فأن طالق، فهذا لا ينفي الطلاق قبل ذلك الشرط، حتى لو نجز، أو علق بشرط آخر، ولم يكن مناقضا للأول، ولو لزم عدم المشروط عند عدم الشرط، لزم التناقض هاهنا. والجواب عن الأول: أن الظاهر يقتضي ألا يحرم الإكراه على البغاء إذا لم يردن التحصن ولكن لا يلزم من عدم الحرمة القول بالجواز؛ بأن زوال الحرمة قد يكون لطريان المحل، وقد يكون لامتناع وجود عقلا وهاهنا كذلك لأنهن

إذا لم يردن التحصن فقد أردن البغاء وإذا أردن البغاء امتنع إكراههن على البغاء، وإذا أردن البغاء، امتنع إكراههن على البغاء. وعن الثاني: أنه إذا علق الطلاق على الدخول، ثم نجز: فإن كان المنجز واحدة أو اثنين، بقي التعليق، فالمنجز غير المعلق، حتى لو تزوجت بزوج آخر وعادت إليه وتزوجها وقع الطلاق المعلق. وإن كان المنجز ثلاثا، فعندنا المنجز غير المعلق، حتى بقي المعلق موقوفا على دخول الدار فإذا تزوجت بزوج آخر وعادت إليه ودخلت الدار وقع الطلاق المعلق والله أعلم. المسألة السابعة الأمر المعلق أو الخبر المعلق على شيء بكلمة (إن) عدم عند عدم ذلك الشيء قال القرافي: هاهنا مباحث: البحث الأول في هذه الترجمة وتقد توسع المصنف فيها توسعا كبيرا لأنه جعل نفس العدم، وليس كذلك بل الذي يستحقه لغة أن يقال له معدوم أما التعبير بالمصادر وأسماء الأجناس عن الحقائق فمجاز إجماعاً.

...............................................

البحث الثاني في تحريم محل الخلاف فإن القاضي رحمه الله لم يقل: إنه ليس عدما عند عدمه، بل هاهنا أقسام أربعة:

الأول: ترتيب الوجود على الوجود، إذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق. الثاني: ترتيب العدم على العدم، فلا تطلق عند عدم الدخول. الثالث: دلالة التعليق على ترتيب الثبوت. الرابع: دلالة لفظ التعليق على ترتيب العدم على العدم والثلاثة الأولى متفق عليها، إنما النزاع في دلالة لفظ التعليق على ترتيب العدم على العدم فالقاضي يقول: العدم واقع، ولكن الاستصحاب في العصمة لا من دلالة لفظ التعليق. وغيره يقول بالأمرين، وهذا هو معنى قول العلماء: الشرط له مفهوم أو لا مفهوم له، فالقاضي يقول: لا مفهوم للفظ، أي لا يدل لفظ التعليق على ذلك العدم، وغيره يقول به. فهذا هو صورة النزاع وأما عدم المشروط عند عدم الشرط فلا نزاع فيه وكلام المصنف رحمه الله يقتضي أنه محل الخلاف وليس كذلك.

(فائدة) قال ابن التلمساني في (شرح المعالم): قال بمفهوم الشرط الشافي ونفاه مالك وأبو حنيفة

(فائدة) قال ابن التلمساني في (شرح المعالم): قال بمفهوم الشرط الشافي ونفاه مالك وأبو حنيفة. البحث الثالث في أن هذه الدلالة التزام بمعنى أن لفظ التعليق دل بالمطابقة علي ارتباط الثبوت بالثبوت وبالالتزام على ارتباط النفي بالنفي، وكذلك دلالات المفهومات كلها إنما هي من باب دلالة الالتزام بمعنى زن النفي في المسكوت لازم للثبوت في المنطوق ملازمة ظنية لا قطعية وكذلك يجوز أن يعم الثبوت المنطوق والمسكوت. البحث الرابع في تحرير المفهوم، وأقسامه فإن هذه المسألة أول مسألة شرع المصنف يذكر فيها المفهوم فهذا مسمى مفهوم الشرط وذكر بعدها مفهوم الصفة والعدد، واستطرد في المفهومات. فأقول: المفهوم هو دلالة لفظ المنطوق على حكم المسكوت التزاما. وهو قسمان: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة. فمفهوم الموافقة" هو دلالة لفظ المنطوق على ثبوت حكمه للمسكوت بطريق الأولى، وهو قسمان: ثبوته في الأعظم والأكثر كقوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) [الإسراء:23] فإنه يدل على تحريم الضرب بطريق الأولى، وهو أكثر برا وأعظم وقعا. وثبوته في الأقل، كقوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار

يؤده إليك) [آل عمران:75] فالأمين في القنطار أمين في الأقل بطريق الأولى. وقيل: الآية جمعت الأقل والأكثر، فإن الخائن في الدينار خائن في الأكثر بطريق الأولى. ومفهوم المخالفة: هو دلالة لفظ المنطوق على ثبوت نقيضه للمسكوت وهو عشرة أنواع: مفهوم الشرط، نحو: من تطهر صحت صلاته. ومفهوم العلة، نحو: ما أسكر فهو حرام. ومفهوم المانع: نحو، النجاسة مانعة من الصلاة. ومفهوم الصفة، (في سائمة الغنم الزكاة). والفرق بينه وبين مفهوم العلة وإن كان الجميع صفة أن الصفة قد لا تكون علة، فإن السوم ليس علة وجوب الزكاة، بل السبب الملك، والسوم مكمل للسبب. ومفهوم العدد: نحو: أعطه عشرين، مفهومه أنه لا يحب إعطاء الزائد ومفهوم الزمان: (سافرت يوم الجمعة) ومفهوم المكان، نحو: جلست أمامك. ومفهوم الغاية، (أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة:187] ومفهوم الاستثناء، (قام القوم إلا زيدا) ومفهوم اللقب، وهو ترتب الحكم على أسماء الذوات المعنية للأعلام الخاصة بالأشخاص، نحو: زيد، وأسماء الأجناس أيضا مفهوم لقب، غير أنها أقوى، لأنها يمكن الاشتقاق منها.

(تنبيه) وقع في مذهبنا، ومذهب الشافعي أغلاط ينبغي أن نعلمها حتى يتحرز من أمثالها

قاله التبريزي وهو أضعفها، ففي هذه الصورة كلها أثبتنا نقيض حكم المنطوق للمسكوت. فإن قلت: كيف تجعل الاستثناء والغاية منها، و (إلا) وضعت للإخراج و (حتى) للغاية، فالنقيض مدلول اللفظ مطابقة، والمفهوم لا يكون إلا من دلالة الالتزام. قلت: مسلم أن (إلا) وضعت للرخراج من النقيض المنطوق به، فلم قلت إنه يلزم حصول النقيض الآخر للمحكوم عليه؟ فإن قلت: من اللفظ فممنوع، لأن اللفظ إنما اقتضى الإخراج لا العبور في النقيض الآخر. فإن قلت: لأنه لا واسطة بين النقيضين. قلت: فهذا دليل العقل صير الدخول في النقيض الآخر من لوازم الخروج من الأول، وكذلك (حتى) تدل على الغاية، وغاية الشيء طرف النقيض المحكوم به حصول النقيض الآخر، إنما كان دلالة العقل على عدم الواسطة بين النقيضين، فتأمل ذلك. فإن قلت: لم لا عددت مفهوم الحصر منها، لأنها نقيض حكم المنطوق؟ قلت: نص أبو علي الفارسي في المسائل الجليات على أن (ما) في (إنما) للنفي، وإن النفي في المسكوت مدلول لها، وعلى هذا يكون مدلول مطابقة لا التزاما، فلا يكون مفهوما بل منطوقا. (تنبيه) وقع في مذهبنا، ومذهب الشافعي أغلاط ينبغي أن نعلمها حتى يتحرز من أمثالها. قال ابن أبي زيد: عندنا الصلاة على الجنازة واجبة على المسلمين.

لقوله تعالى: (ولاتصل على أحد منهم مات أبدا) [التوبة:84] وإذا حرم الله تعالى الصلاة على المنافقين فقد أوجبها على المؤمنين مع أن مفهوم التحريم على المنافقين عدم التحريم على غيرهم، وعدم التحريم الذي هو النقيض المنطوق أعم من الوجوب، والندب، والإباحة، والأعم من الوجوب لا يستلزمه، فلا يصح الاستدلال به على الوجوب. وقال الشيخ أبو إسحاق في (المهذب): لا يجوز التيمم بالحصا ولا بغير التراب، لقوله عليه السلام: (جعلت لي الأرض مسجدا، وترابها طهورا). مفهومه: أن غير التراب لا يكون طهورا وهو غير مستقيم، لأن التراب اسم ذات فهو مفهوم لقب لم يقل به إلا الدقاق، فهو ليس حجة عند الذي استدل به.

(فائدة) قال سيف الدين: مفهوم الموافقة يسمى فحوى الخطاب، ولحن الخطاب

وقال أيضا: لا يجوز إزالة النجاسة بالخل، لقوله عليه السلام في الدم: (حتيه، ثم اقرصيه، اغسليه بالماء)، فقوله: (بالماء) يقتضي أنه لا يجوز بغير الماء مع أن لفظ الماء اسم ذات، فهو مفهوم لقب فلا يكون حجة. (فائدة) قال سيف الدين: مفهوم الموافقة يسمى فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، أي معناه، ومنه قوله تعالى: (ولتعرفهم في لحن القول) [محمد:30] أي معناه، وقد يطلق اللحن ويراد به اللغة، يقال: تكلم بلحنه، أي: بلغته، ويراد به الفطنة، ومنه (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض) أي أفطن، ويراد به الخروج عن الصواب، ويدخل فيه الخروج عن الإعراب، وقد تقدم بسط هذه الألفاظ واستيعابها. البحث الخامس في أن لفظ الشرط مشترك بين أمرين أحدهما: سبب لا شرط، وهو الشرط اللغوي [و] التعاليق بأسرها. والثاني: الشرط المعروف، وهو الذي يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم.

وهو ثلاثة: عقلي: كالحياة مع العلم. وشرعي: كالطهارة مع الصلاة. وعرفي: كالغذاء مع الحياة. فهذه الثلاثة يلزم من عدمها العدم، ولا يلزم من وجودها وجود ولا عدم، بخلاف الشرط اللغوي الذي هو التعاليق يلزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم، كمن قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، يلزم من الدخول الطلاق، ومن عدم الدخول عدم الطلاق المعلق، وكذلك إن زالت الشمس فصل، يلزم من الزوال الوجوب، ومن عدمه عدم الوجوب، فعلى هذا البحث قول المصنف: (المعلق على الشرط لا يتناول إلا التعاليق) فتمثيله بعد هذا بالوضوء لا يستقيم؛ فإن الإنسان إذا ادعى حكما من مسميات المشترك لا ينبغي أن يمثله بالمسمى الآخر، فإنه انتقال وتغيير. البحث السادس. أن مراد صاحب الكتاب بأن: (إن) وماتضمن معناها للشرط كيف كان نحو: (كيفما)، و (أينما)، و (إذا)، و (متى)، و (حيثما)، و (أنى) ونحو ذلك. قوله: (والشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه) لا يفيد مقصود المسألة؛ لأن المقصود دلالة لفظ التعليق على حصول ذلك الانتفاء، لا مجرد حصول ذلك الانتفاء، فالقاضي يسلم حصول الانتفاء، لكن يمنع أنه مدلول لصيغة التعليق، وللمصنف أن يقول: إذا كان الإنتفاء لازما للانتفاء صار الانتفاء لازما للانتفاء، فيدل اللفظ عليه دلالة الالتزام، وهو المقصود من قولنا: الشرط له

مفهوم، غير أنه يبقى حرف، وهو أن من شرط دلالة الالتزام الملازمة الذهنية، فلعل القاضي ينازع فيها، والظاهر حصولها، فيتم البحث للمصنف. قوله: (سموا الوضوء والحول شرطا، وعنوا بكونهما شرطين انتفاء الحكم عند انتفائهما). قلنا: اشتراك السبب والشرط في أن كل واحد منهما يلزم من عدمه العدم، ويفارق السبب الشرط في أن السبب يلزم من وجوده الوجود، والشرط لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، كما أن المانع يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم، فبينهما مباينة مطلقة، أما السبب فيلزم من وجوده الوجود، وهل يلزم من وجوده العدم، وأما الشرط فلا يلزم من وجوده شيء بخلافه، ويلزم من عدمه العدم، وهو لا يلزم من عدمه شيء فتباينا، وإذا اشتركا في هذا المفهوم مع تباينها امتنع أن ينتقل من أحدهما إلى الآخر. قوله: (العلامة لا يلزم من عدمها عدم). تقريره: أن العلامة دليل، ولا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فإن الصنعة دليل صانعها، ولا يلزم من عدمها عدمه، وكذلك جميع الأدلة، نعم يلزم من عدم الدليل المطلق عدم العلم بالمدلول لا عدم هذا الدليل المطلق، أما الدليل المعين لا لاحتمال أن يكون عليه دليل آخر مع أن هذا الذي قال السائل هو الذي تقتضيه اللغة. قال العلماء: ولذلك سميت درعة الوالي شرطته، أي هم علامات على الوالي وأحوال الخصومات وما يتعلق بها. قوله: (يمتنع وجود تلك الساعة إلا عند تلك العلامات)

(سؤال)

قلنا: ذلك الامتناع لم يتفده من علامات الساعة، بل من إخبار المعصوم من أنهم يهلكون بعدها، فلولا ذلك لجوزنا زن تقوم الساعة قبل تلك العلامات، وليست هذه الآيات أشراطا إلا باعتبار دلالة وجودها على قرب الساعة فقط لا باعتبار دلالة عدمها على العدم عكس ما قاله المصنف. قوله: (فلو كان ثم ما يقوم مقام الشرط لكان الشرط أحدهما لا بعينه). تقريره: أنه إذا قال: (إن دخلت الدار أو كلمت زيدا فأنت حرة)، المعلق عليه أحدهما لا بعينه، وتعتق بأيهما كان. تقريره: نص الآية وهو قوله تعالى: (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) [النساء:101]. فشرط الله تعالى خوف الفتنة ونحن نقصر مع الأمن. (سؤال) قوله عليه السلام: (صدقة تصدق الله بها عليكم) يقتضي أن القصر طارئ على الإتمام وكذلك قوله عليه السلام: (وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة). وقوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) [النساء:

101] وهذه النصوص يعارضها قول عائشة رضي الله عنها في الصحيح: (فرضت الصلاة مثنى فأقرت صلاة السفر وزيدت صلاة الحضر) قال ابن عبدالبر في (الاستذكار): وحديث عائشة أصح حديث في الباب. وأجاب عنه: بأن الصلاة فرضت ليلة الإسراء، وصلاها جبريل برسول الله صلى اله عليه وسلم صبيحة غد كلها ركعتين ركعتين إلا المغرب صلاها ثلاثا، فلما كان ب (المدينة) كمل الله تعالى الصلاة كلها أربعا أربعا إلا المغرب والصبح سفرا وحضرا، ثم نزلت آية القصر بعد ذلك فقولها رضي الله عنها (فأقرت صلاة السفر) أي على ماكانت عليه، واجتمعت الأحاديث.

(قاعدة) الله تعالى شرع الأحكام وشرع لها أسبابا

وحكى هذين القولين للشافعي وجماعة معه. وحكي أيضًا: أنها صليت كلها ب (مكة) أربعا أربعا إلا المغرب والصبح قول آخر، وما خرج قول عائشة رضي الله عنها إلا على القول الأول. وخرجه غيره: على ما روي أن الناس كانوا يصلون أول النهار ركعتين واخره ركعتين، ثم فرضت الصلوات الخمس، فأقرت صلاة السفر علي ما كان قبل الخمس ب (مكة). قوله: (ظاهر الشرط يمنه من ذلك، ولكن لا يمتنع أن يرد دليل على خلافه) يقتضي قوله هذا ما هو مقصود المسألة، وهو دلالة لفظ التعليق على ارتباط العدم بالعدم ظاهرا ظهورا مفهوم لا نفس حصول العدم قوله: (لو قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار لا يناقضه التخيير، فما لزم من عدم الشرط عدم المشروط). (قاعدة) الله تعالى شرع الأحكام وشرع لها أسبابا وحصول الأسباب

على قسمين: قسم قرره في أصل شرعه كالزوال، ورؤية الهلال ومنه ما وكل سببه للمكلف، فإن شاء جعله سببا وإن شاء لم يجعله ولم يجعل له أن يجعله إلا بطريق واحد هو التعليق فدخول الدار ليس سببا لطلاق امرأة أحد وجعل الله تعالى لمن شاء أن يجعله سببا لذلك بالتعليق وكذلك سائر الشروط المعلق عليها في الطلاق والعتاق والنذور، وكما جعل الله تعالى سببا بالتعليق جعل له إبطال سببه بالتخيير، فإذا أنجز بطلت شرطية الشرط وعاد الطلاق الطلاق ونحوه، كما كان قبل التعليق له بتنجيزه وتعليقه، فما وجد المشروط قبل الشرط لأنه حينئذ غير مشروط، وربما أوردوا هذه الشبهة على وجه اخر، فقالوا: المنجز إما أن يكون عين المعلق أو غيره، الأول يلزم منه المشروط حالة عدم شرطه، والثاني يلزم أن يملك بالنكاح التصرف في أكثر من ثلاث وهو وحال فإن النكاح لا يملك من الطلاق أكثر من ثلاث تطليقات. وجوابه: أن نقول: هو عينه، ولا يلزم تقديم المشروط على الشرط بناء على إبطال الشرط عن كونه شرطا، أو نقول غيره، ويبقى المعلق كنكاح جديد يتجرد له، كما قاله في الكتاب. قال بعض العلماء: وأي مانع من تمليكه أكثر من ثلاث تطليقات، غايته أن انعقد الإجماع على أنه لا يملك التصرف في أكثر من ثلاث تطبيقات تعليقا أو تنجيزا، ولا يلزم من عدم التصرف عدم الملك، كالمحجور عليه لا يملك التصرف في مال، وهو ملكه إجماعا. تقريره: قاعدة: الاكراه لا يكون إلا على خلاف الداعية، فالمريد للشيء لا يصح إكراهه عليه، والذي لا إرادة له ألبتة لا يصح إكراهه على ذلك، فلا يكره العطشان على شرب الماء وهو مريد له، ولا يكره زيد على شرب خمر وهو لا يريد وجوده ولا عدمه.

(قاعدة) التكليف لا يكون إلا بسبب مقدور

(قاعدة) التكليف لا يكون إلا بسبب مقدور، فالنازل من شاهق لا يكلف أن ينزل وإن كان النزول متعينا لكونه ليس في وسعه تركه ولا يكلف بالصعود، لأنه ليس في وسعه فعله. إذا تققرت القاعدتان، فالفتيات إذ لم يردن التحصن فإما أن يردن التحصن أو البغاء، أو يستوي عندهن الأمران، وعلى التقديرين لا يتصور الإكراه على الزنا للقاعدة الأولى، وإذا تعذرت حقيقة الإكراه ووقوعها في الوجود تعذر تحريمه في نفس الأمر لا إباحته فإن إباحته أيضا تعتمد على كونه مقدورا مكتسبا كما تقدم؛ إذ المتعين للوقوع لا يباح، فرن الخيرة تعتمد المكنة من النقيضين، فظهر أن عدم التحريم من ثبوت الإباحة، لأنه قد يكون الواقع عدم جميع الأحكام الشرعية مطلقا، فصار مفهوم الشرط واقعا، ولزم من عدم الشرط عدم المشروط الذي هو التحريم ولكن لا يلزم تخلفه للإباحة. (تنبيه) قال التبريزي: الاستدلال من المصنف ضعيف؛ لأن التعلق بالإشراق اللفظي في مقام اختلاف الوضع مكابرة في الحقائق؛ فإن اللفظ الشرط في عرف الفقهاء من الألفاظ الاصطلاحية، كالكسب، والمانع، والمحل، والأصل، ولهذا جعلوه قسيم الأصل والمحل مع شمول لزوم انتفاء الحكم عند انتفائه ومفهومه مغاير لمفهوم الشرط الذي حرفه في العربية (إن) ك فإن المفهوم منه اختصاص لزوم ما جعل جزء الوصف الذي دخلت عليه (إنا) لاختصاص وجود بها، فإن قوله: (إن جئتني أكرمتك) لا يقتضي منع

الإكرام بلا مجئ، بل لزوم الإكرام عند المجئ، ومنع اللزوم دونه، وهذا اللزوم هو معنى السببية في عرفهم، مثل قوله تعالى: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) [المائدة:6]، (وإن كنتم مرضى أو على سفر) [آلنساء:43]، وهو منطبق على اللغة فإن الشرط هو العلامة، ثم قال: ولايدفع الاستدلال بقول عائشة؛ فرن ذلك مذهب عائشة، وهذا مذهب عمر، ويعلى بن أمية، وهي مسألة مختلف فيها، والآية تدل على وجوب الإتمام من وجهين: أحدهما: تسميته قصرا، والصحيح لا يسمى قصرا. وثانيهما: أن الحرج معلل بعذر فإنه رنما يستقيم أن لو كان القصر سببا للحرج ليستند إليه انتفاؤه إلى العدم فينتظم. وإن وافقناه في الحكم، فلا نقول: هو من موضع الوضع، فإن لفظة (إن) توجب اختصاص الذكر بالموضوف بالصفة، فلا فرق في المعنى بين قوله: أعط الرجد إن كان طويلا وبين قوله: أعط الرجل الطويل في أنه نطق بالطول، وسكت عن القصر، ولا حكم للوضع في غير المذكور، بل اقتضاء نظري استدلالي أخذ من قاعدة المفهوم، التفافا إلى قرينة التخصيص كما في مجرى الصفة، وذلك أنه أطلق القول ثم قيده، فلا بد للتقيد من فائدة، والاحتراز فرقا في الحكم هو الأظهر، ولهذا عدم الفرق يوجب اعتذارا على المتكلم في المتعارف، ولأجله سبق الذهن إليه

ومنهم من يقول: مستند السبق دلالة الذكر مع العلم بالانتفاء قبله، فيلزم من النظر إليهما الفرق لا من الوضع ولا من الدلالة، وهذا هو مقتضى نظر القاضي، ومنكري المفهوم. ويشهد لما ذكرناه: أنه لو قال: إن لم تدخل الدار فليست بطالق لم تطلق بالدخول؛ فإن يقتضي دلالة؛ والطلاق لا يقع إلا بلفظه. ويرد على التبريزي: أن مقتضى قوله: (إن جئتك أكرمتنك) نفي اللزوم عند عدم الشرط لا نفي الوجود، وهذا معنى السبب مصادرة بل يقتضي نفي الوجود أيا بدلالة الالتزام للأسماء والأسباب والعلل يقتضي عدمها العدم وكذلك يقول الفضلاء: عدم العلة علة لعدم المعلوم، وعدم السبب سبب لعدم المسبب، وأنه يلزم من عدم الزوال عدم وجود الظهر، ومن عدم الجنايات عدم العقوبات، وغير ذلك من الأسباب الشرعية، فكل سبب شرعي إذا جرد النظر إليه لذاته اقتضى عدم العدم حتى يدل دليل علي خلافه بسبب آخر، فذلك كالمعارض لتلك الدلالة. وقوله: (وهو سبب بخلاف الشرط عند الفقهاء) هو معنى ما تقدم في المباحث، أن التعاليق اللغوية أسباب. وقوله: (إن قول ائشة رضي اللع عنها مسألة خلاف) معناه: أن العلماء اختلفوا: هل القصر أصل أو الإتمام أصل؟ هما قولان مشهوران للعلماء في كتب الفقه.

ثم قوله: (إن وافقناه في الحكم، فلا نقول: هو من موجب الوضع، بل من باب المفهوم) هذا ليس مخالفة للمصنف،، فالمصنفإنما اعاه مفهوما لا منطوقا) وقوله: (ومنهم من يقول مستندا لسبق الذكر مع العلم بالانتفاء قبله). معناه: يأخذ الانتفاء بالانتفاء باستصحاب العدم الكائن قبل وجود الشرط- كما تقدم في المباحث في توجيه مذهب القاضي، وتحرير محل الخلاف. وقوله: (يشهد لماذكرناه: أنه لو قال: إن لم تدخل الدار فليست بطالق، فلم تطلق بالدخول، لأنه مقتضى دلالة، ولا يقع إلا بلفظ). معناه: أنه جعل بالتعليق سبب عدم طلاقها عدم الدخول، ويلزم من عدم الشرط عدم المشروط كما قاله المصنف، وعدم الشرط هو الدخول [ولزم من عدم الشرط عدم المشروط]، وعدم الشرط هو الطلاق، وهي لا تطلق إجماعا، فلا يكون عدم الشرط يقتضي عدم المشروط، ولا يكون عدم الطلاق في مثال المصنف الذي هو (إن دخلت الدار فأنت طالق) إلا لأجل العلم بعدم الطلاق متقدما، وفي مثال التبريزي: لم يعلم عدم المشروط متقدما الذي هو الطلاق فلا جرم لا يلزم الطلاق بالدخول. ويرد عليه: أنه يعتقد أن الشرط له دلالة مفهوم لا منطوق، ولا يلزم من قوله بذلك أن يقول: إن دلالة الشرط له دلالة مفهوم لا منطوق، ولا يلزم من قوله بذلك أن يقول: إن دلالة المفهوم توجب الطلاق، بل إنما يصلح لعدم الطلاق خاصة بسبب أن الطلاق نفسه جعله الشرع يستند إلي لفظ صريح أو كناية، وهاهنا لا واحد فيها، فإن المفهوم دليل فقط، والدليل أعم عن كونه صريحا أو كناية، ألا ترى أن قرائن الأحوال دالة ولا يقع بها الطلاق؟

(تنبيه)

(تنبيه) زاد تاج الدين في المثل قوله تعالى: (واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) [البقرة:172] مع أن الشكر واجب سواء عبدوا أم لا. (قاعدة) لفظ الشرط أصل التعليق كما تقدم وتستعمله العرب كثيرا للتعليل لا للتعليق، كما يقول الإنسان: (أطعني أن كنت ابني)، أي أنت متصف بوصف يقتضي أن تطيعني، فهو ينبهه على السبب الباعث له على المأمور به؛ لا أنه تعلق المأمور به، وكذلك قوله تعالى: (إن كنتم مؤمنين) [هود:86]، وغير ذلك هاهنا هو من هذه القاعدة أي أنتم معترفون بأنكم تعبدونه بسبب استحقاقه لذلك من صفات الربوبية وهذا يبعثكم على الشكر لنعمه، فإن الشكر للنعمة من غير من هذا شأنه، فمن هذا شأنه أولى أن تقابل نعمه بالشكر. (تنبيه) زاد سراج الدين، فأورد على قوله: (الظاهر نفي القصر، وقد يترك الظاهر لمعارض) فقال: ليس مخالفة هذا الظاهر أولى من مخالفة ظاهر قولهم: كلمة (إن) للشرط، وأن الشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه، والتعجب محتمل لما سبق من الاحتمالين، وأنه فهم الإتمام إلا في تلك الحالة. ويعارض: بأن ما قلناه لا يوجب مخالفة الدليل بخلاف ما قالوه.

الأمر المقيد بعدد

المسألة الثامنة في الأمر المقيد بعدد قال الرازي: فلنبحث أن الحكم المعلق بعدد، هل يدل على حكم مازاد عليه ومانقص عنه أم لا؟! أما في جانب الزيادة: فمتى كان العدد الناقص علة لعدم، أو امتنع ثبوت ذلك الأمر في العدد الزائد، فعلة عدم ذلك الأمر حاصلة عند عدم حصول العدد الزائد. مثاله: لو حظر الله تعالى علينا جلد الزاني مائة كان الزائد على المائة محظورا لأن المائة موجودة في الزائد على المائة. ولو قال: (إذا بلغ الماء قلتين، لم يحمل خبثا) فجعل القلتين علة لاندفاع حكم النجاسة، فالزائد عليمهما أولى أن يكون كذلك. أما إذا كان العدد الناقص موصوفا بحكم، لم يجب أن يكون الزائد عليه موصوفا بذلك الحكم، لأنه لا يلزم من كون عدد واجبا أو مباحا أن يكون الزائد عليه واجبا أو مباحا. وأما في جانب النقصان: فالحكم: إما أن يكون إباحة، أو إيجابيا، أو حظرا. فإن كان إباحة، لم يخل ما دون ذلك العدد: إما أن يكون داخلا تحت ذلك

العدد على كل حال، أو لا يدخل تحته على كل حال، أو يدخل تحته تارة، ولا يدخل أخرى: ومثال الأول: أن يبيح الله تعالى لنا جلد الزاني مائة، فإنه يدل على إباحة جلد خمسين، لأن الخمسين داخلة في المائة. ومثال الثاني: أن يبيح الله عز وجل لنا أن نحكم بشهادة شاهدين، فإنه لا يدل على إباحة الحكم بشهادة الواحب، لأن الحكم بشهادة الشاهد الواحب غيد داخل تحت الحكم بشهادتين. ومثال الثالث: أن يبيح لنا استعمال القلتين من الماء، إذا وقعت فيهما نجاسة، فإنه قد أباح لنا استعمال القلة من هاتين القلتين، ولا يدل على إباحة استعمال قلة واحدة، إذا وقعت فيها نجاسة، لأن القلة الواحدة، إذا وقعت فيها نجاسة غير داخلة تحت قلتين، وقعت فيهما نجاسة. أما إئا حظر الله تعالى علينا عددا مخصوصا: فإنه يختلف أيضا، فربما دل على حظر ما دونه من طريق الأولى، لأنه حظر استعمال القلتين، إذا وقعت فيهما نجاسة، فحظر القلة الواحدة أولى، أما لو حظر الله تعالى علينا جلد الزاني مائة، لم يدل على أن ما دونه محظور. وأما إذا أوجب الله تعالى جلد الزاني مائة، فإنه يدل على وجوب جلد خمسين؛ لأنه لا يمكن فعل الكل إلا بفعل الجزء، ولكنه ينفي قصر الوجوب على الجزء، فثبت أن قصر الحكم على العدد لا يدل على نفيه عما زاد أو نقص إلا لدليل منفصل. واحتج المخالف بالسنة، والإجماع:

أما السنة فهي أن الله تعالى لما قال: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) [التوبة:80] قال عليه الصلاة والسلام: (والله لا تزيدن على السبعين) فعقل أن الحكم مفي عن الزيادة. وأما الإجماع: فهو: أن الأمة عقلت من جديد جلد القاذف بالثمانين نفي الزيادة. والجواب عن الأول: أن تعليق الحكم على السبعين كما لا ينفيه عن الزائد فكذا لا يوجبه فلعله صلى الله عليه وسلم جوز حصول المغفرة لو زاد على السبعين فلذلك قال ماقال. وعن الثاني: أن ذلك النفي إنما عقل بالبقاء علي حكم الأصل، والله أعلم. المسألة الثامنة الأمر المقيد بعدد. قال القرافي: شرح المصنف في البحث وماعين مذهبا، واعلم أن مذهبه يقتضي ذلك الحكم المرتب قبل ذلك.

(سؤال) قال النقشواني: قوله: (إذا كان الناقص علة ثبت الحكم في الزائد)

قوله: (مثال العدد الذي هو علة لعدم أمر، كما لو حرم الله علينا جلد الزاني مائة، فإن مازاد على المائة يكون محظورا؛ لوجود المائة في الزائد) قلنا: في هذا الكلام تشويش من جهة أن الله تعالى ماحرم علينا جلد الزاني مائة، بل أوجبها، ولا حاجة لعرضها محرمة، بل نقول: إذا حرم علينا المائتين، وأيضا فالمائة على تقدير كونها محرمة ليست علة التحريم بل أدلة المجلود علة التحريم. قوله: (والجواب عن الأول: أن تعليق الحكم على السبعين كما لا ينفيه عن الزائد فكذلك لا يوجبه). تقريره: أن نقول بأن الزائد مسكوت عنه، يحتمل أن يثبت معه المغفرة وألا يثبت، فلما كان ذلك في محل الجواز احتاط عليه السلام لهم رجاء وقوع المغفرة (سؤال) قال النقشواني: قوله: (إذا كان الناقص علة ثبت الحكم في الزائد) ينتقض بأن الركعتين علة للإجزاء عن الصبح والخروج عن العهدة، وسقوط

(سؤال)

القضاء، والزائد ينافي جميع هذه الأحكام، ويجب القضاء مع الزائد ولا تبرأ الذمة، وكذلك المقادير المعينة من الدواء، والغذاء في الكيف والكم علة لدفع المرض، وبقاء الصحة، ولو زاد على ذلك لبطلت الصحة وحصل المرض. (سؤال) قال النقشواني: الخصم يدعي أن مجموع ما يتعلق بعدد معين [من الأحكام بالدليل يقتضي نفي ذلك المجموع عن الزائد والناقص] إظهارا لفائدة التخصيص، فإذا وجب جلد المائة تضمن ذلك حظر الزائد والاقتصار على الناقص، ومجموع هذه الأحكام مخصوص بالمائة، وكذلك نقول في جميع النقوص: إن المجموع منتف، وإن ثبت بعضه مع تأخر المدلول عن الدليل في بعض الصور لا يقدح في كونه دليلا ظنيا، كما قال في الغيم الرطب: هو أمارة الأمطار، ولا يقدح في تزخر الأمطار عنه في كثير من الصور. (سؤال) قال النقشواني: جوابه عن الآية غير متجه؛ لأنها من باب مفهوم الشرط الذي سلمه، فلا يتجه منه إنكاره، بل كان ينبغي له أن يقول: إنما دل على النفي لكونه من شرط الخصوص العدد، فيندفع استدلال الخصم. قال: لكن يتجه بهذا الجواب إشكال، من جهة أن الشرط يصير العدد المذكور سببا، وهو موجود في الأكثر، فيلزم نفي الغفران في الأمر لوجود الأقل فيه.

الأمر المقيد بالاسم

المسألة التاسعة في الأمر المقيد بالاسم قال الرازي: الجمهور منا ومن المعتزلة قالوا: إن الأمر والخبر المقيد بالاسم لا يدل على نفي حكم ماعاداه، كقول القائل: (زيد في الدار) لا يدل على أن عمرا ليس فيها، وإذا أمر بشيء على أن غيره ليس بجواب. وقال أبو بكر الدقاق منا: إنه يدل على ذلك. لنا وجوه: الأول: اتفاق الكل على أنه يجوز أن يقال: (زيد أكل أو شرب) مع العلم بأن غيره فعل ذلك أيضا. الثاني: أن تخصيص البعض بالذكر لو دل على نفي الحكم عن غير المذكور لبطل القياس، لأن التنصيص على حكم الأصل إن وجد معه التنصيص على حكم الفرع كان حكم الفرع ثابتا بالنص، لا بالقياس، وإن لم يوجد معه، كان النص دالا على عدم الحكم في الفرع، وحينئذ لا يجوز إثباته بالقياس؛ لأن النص مقدم على القياس. الثالث: لو دل على قولنا: (زيد أكل) على أن غيره لم يأكل، لدل عليه: إما بلفظه أو معناه: والأول باطل، لأنه ليس في اللفظ ذكر غير زيد، فكيف يدل على حكم غير زيد؟ والثاني: باطل لأن الإنسان قد يعلم أن زيدا وعمرا يشتركان في فعل، ويكون

له غرض في الإخبار عن أحدهما دون الاخر، فثبت أنه لا يدل عليه لا بلفظه، ولا بمعناه، واحتج المخالف بأنه لا بد في التخصيص من فائدة، ولا فائدة إلا نفي الحكم عما عداه والجواب: المقدمة الثانية ممنوعة فلعل غرضه كان متعلقا بالإخبار عنه دون غيره فلهذا خضه بالذكر، والله أعلم. المسألة التاسعة الأمر المقيد بالاسم قال القرافي: هذه هي مفهوم اللقب، وهو تعليق الحكم بأسماء الذوات كما تقدم تقريره في مباحث المفهومات.

قوله: (لنا اتفاق الكل لعى جواز قولنا: زيد أكل أو شرب مع العلم بأن غيره كذلك). قلنا: الخصم إنما ادعى الظن، والظهور في هذا المفهوم، والجواز لا ينافي الظهور لا سيما في أدنى مراتب المفهوم. قوله: (لو دل تخصيص البعض بالذكر على المنفى عن البعض الآخر كان الحكم ثابتا بالنص، وإلا كان مفهومه يقتضي نفي الحكم في ذلك البعض، فيكون العدم ثابتا بالنص، وهو مقدم على القياس) قلنا: لا نسلم أنه إذا وجد التنصيص على البعض الآخر يمتنع قياسه على البعض الأول: فإن اجتماع الأدلة على الحكم جائز، ولا نسلم أنه إذا لم يوجد النص على البعض يمتنع القياس، وأما كون عدم الحكم في الفرع ثابتا بالنص فلا يمتنع، لأن النص هاهنا معناه مفهوم اللقب، وهو غير مانع القياس، لأن القياس أقوى منه، ومقدم عليه. وقد اختلف الناس في تقديم أخبار الآحاد الصريحة، وظواهر العموم النطقية، فكيف بالمفهوم الذي هو أضعف المفهومات.

(تنبيه)

قوله: (لا يدل بمعناه؛ لأن الإنسان قد يعلم أن زيدا وعمرا اشتركا في فعل، ويكون لهرغرض في الإخبار عن أحدهما دون الآخر). قلنا: قولكم لا ينافي مذهب الخصم؛ لأنه إنما يقتضي الجواز والاحتمال والظهور الذي ادعاه الخصم لا يأباه. قوله: (التخصيص لا بد له من فائدة). قلنا: هذا إنما يتجه إذا أحضر الشخص في ذهنه تخصيص أحدهما دون الآخر، أما إذا لم يحضر إلا أحدهما فلا يقال: حكمت على هذا دون ما لا شعور لك به، لأنه يقول: ما شعرت به. قوله: (لعل غرضه كان متعلقا بالإخبار عنه دون غيره). قلنا: الاحتمال الذي ذكره الخصم أظهر من هذا فيجب المصير إليه والسبق إفهام السامعين هو الحجة في ذلك (تنبيه) إنما خالف مفهوم اللقب سائر المفهومات؛ لأنها تشعر بالعليج بخلاف أسماء الذات لا يشعر بذلك وعدم العلة علة لعدم المعلول، فلذلك كانت حجة دونه (تنبيه) زاد التبريزي: مذهب الدقاق فاسد؛ لأنه يلزم منه سد الباب عن الرخبار عن المعاني، ولا يخفى فساده، ولا مطالبة الذهن بفائدة التخصيص هاهنا، بخلاف الصفة، فإنها تذكر بالموصوف، فتثبته للصفة الأخرى.

الأمر المقيد بالصفة

المسألة العاشرة في الأمر المقيد بالصفة قال الرازي: وهو كقوله: زكوا عن الغنم السائمة. واختلفوا في أنه هل ذلك على أنه لا زكاة في غير السائمة؟ الحق: أنه لا يدل، هو قول أبي حنيفة رحمه الله واختيار ابن سريج والقاضي أبي بكر، وإمام الحرمين? والغزالي، وقول جمهور املعتزلة، وذهب الشافعي والأشعري رضي الله عنهما ومعظم الفقهاء منا إلى أنه يدل. لنا وجوه: الأول أن الخطاب المقيد بالصفة لو دل على أن ما عداه يخالفه لدل عليه إما بلفظه، أو بمعناه لكنه لم يدل عليه من اولجهين فوجب ألا يدل عليه أصلا. إنما قلنا: إنه لا يدل عليه بلفظه، لأن اللفظ الدال على ثبوت الحكم في أحد القسمين إن لم يكن مع ذلك موضوعا لنفي الحكم في القسم الثاني لم يكن له عليه دلالة لفظية. وإن كان موضوعا له فحينئذ يكون ذلك اللفظ موضوعا لمجموع إثبات الحكم في أحد القسمين ونفيه عن القسم الاخر ولا نزاع في دلالة مثل هذا اللفظ على هذا النفي.

بيان أنه لا يدل عليه بمعناه: أن الدلالة المعنويةهي: أن يستلزم المسمى شيئا، فينتقل الذهن من المسمى إلي لازمه وهاهنا: ثبوت الحكم في أحد القسمين لا يستلزم عدمه من القسم الثاني، لأن الصورتين المشتركتين في الحكم كقوله: (في سائمة الغنم زكاة، في معلوفة الغنك زكاة) يجوز تخصيص إحداهما بالبيان دون الثانية، إما لأن بيان الصورة الأخرى غير واجب، أو إن كان واجبا، لكنه يبينه بطريق آخر. أما إذا لم يكن واجبا فذلك: إما لأنه خطر ببال المتكلم أحد القسمين دون الثاني، وهذا إنما يعقل في حق غير الله تعالى. أو أن خطر القسمان بالبال، لكن السامع يحتاج إلي بيان أحد القسمين، دون الثاني، كمن يملك السائمة ولا يملك المعلوفة فإن بعد حولان الحول يحتاج إلي معرفة حكم السائمة دون حكم المعلوفة فلا جرم يحسن من الشارع أن يخص السائمة بالذكر دون المعلوفة وأما إذا وجب حكم القسمين معا، فهاهنا قد يكون ذكر حكم أحد القسمين دليلا على ثبوت ذلك الحكم في القسم الآخر، فإنه تعالى، لما منع من قتل الأولاد خشية الإملاق، كان ذلك دليلا على المنع من قتلهم عند الغني بطريق الأولى. وقد لا يكون كذلك لكنه تبين القسم الآخر بطريق آخر: إما بنص خاص، والفائدة فيه أن إثبات الحكم باللفظ العام أضعف من إثباته بالدليل الخاص، لاحتمال تطرق التخصيص إلي العام دون الخاص.

أو بقياس: كما نص على حكم الأجناس الستة في الربا وعرفنا حكم غيرها بالقياس والمقصود أن ينال المكلف رتبة المجتمهدين. أو البقاء على حكم الأصل: مثل أن يقول الشارع: لا زكاة في الغنم السائمة، ثم نحن ننفي الزكاة عن املعلوفة لأجل أن الأصل عدم الزكاة. وإنما خص القسم الأول بالذكر لأن الاشتباه فيه أكثر، فإن السائمة لما كانت أخف مئونة من املعلوفة كان احتمال وجوب الزكاة في السائمة أظهر من احتمال وجوبها في المعلوفة، فثبت أن تعليق الحكم على الصفة لا يدل على نفي ذلك الحكم عن غيرها لا بلفظه ولا بمعناه فوجب ألا يدل أصلا. فإن قيل: املعتبر في الدلالة المعنوية القاطعة حصول الاستلزام قطعا وفي الدلالة المعنوية الظنية الظاهرة حصول الاستلزام ظاهرا ودعوى الاستلزام ظاهرا لا يقدح فيها عدم اللز، م في بعض الصور. ألا ترى أن الغيم الرطب يدل على المطر ظاهرا، ثم ذلك الظهور لا يبطل بعدم المطر في بعض الأوقات. إذا عرفت هذا فنحن لا ندعي أن تعليق الحكم علي الصفة يدل على نفي الحكم عما عداه قطعا إنما ادعينا أن يدل عليه ظاهرا وما ذكرتموه من تخلف في هذه الدلالة في بعض الصور إنما يقدح في ذلك الظهور لو بينتم أن الإحتمالات التي ذكرتموها هاهنا مساوية في الظهور للاحتمال الذي ذكرناه وأنتم ما بينتم ذلك فيكون دليلكم خارجا عن محل النزاع.

والجواب: تعليق الحكم على الوصف لا يدل على انتفائه عن غيره ألبتة، أما قطعا؛ فلما سلمتم، وأما ظاهرا، فلأنه لو دل عليه ظاهرا، لكان صرفه إلى سائر الوجوه مخالفة للظاهر، والأصل عدم ذلك، وهذا القدر كاف في حصول ظن تساوي هذه الاحتمالات. الدليل الثاني: أن الأمر المقيد بالصفة: تارة يرد انتفاء الحكم عن غير المذكور وهو متفق عليه. وتارة مع ثبوته فيه، كقوله: (ولاتقتلوا أولادكم خشية إملاق) [الإسراء:31] ثم لا يجوز قتلهم لغير الرملاق، وقال تعالى في قتل الصيد: (،من قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) [المائدة:95] ثم إن قتله خطأ، يلزمه الجزاء أيضا. وإذا ثبت هذا فنقول: الاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بين القسمين وهو ثبوت الحكم في المذكور مع قطع النظر عن ثبوته في غير المذكور ونفيه عنه. الدليل الثالث: هو زن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين، لا يلزمه ثبوت الحكم في الصورة الأخرى، والإخبار عن ثبوت ذلك الحكم في إحدى الصورتين ل يلزمه الإخبار عنه في الصورة الأخرى. فإذن: الإخبار عن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين، لا يدل على حال الصورة الأخرى ثبوتا وعدما. إنما قلنا: إن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين، لا يلزمه الحكم في الصورة الأخرى ثبوتا وعدما، لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الصورتين المختلفتين في

بعض الأحكام، فإنهما لما كانتا مختلفتين، فقد اشتركتا في الاختلاف فلا يمتنع أيضا اختلافهما في بعض الأحكام. وإذا ثبت الحكم في هذه الصورة، لم يلزم من مجرد ثبوته فيها ثبوته في الصورة الأخرى ولاعدمه عنها. وإنما قلنا: إن الإخبار عن حكم إحدى الصورتين لا يلزمه الإخبار عن حكم الصورة الأخرى، لأن إحدى الصورتين مخالفة للأخرى من بعض الوجوه، والمختلفتان لا يجب اشتراكهما في الحكم، والعلم بذلك ضروري، فلا يلزم من كون إحداهما متعلق غرض هذا الإنسان بأن يخبر عنها، كون الصورة الأخرى كذلك. فثبت أن الإخبار عن إحدى الصورتين، لا يلزمه الإخبار عن الصورة الأخرى. وإذا ثبتت هاتان المقدمتان، ثبت أن الإخبار عن ثبوت الحكم في هذه الصورة لا يدل على حالة الصورة الأخرى وجودا ولا عدما، وذلك هو المطلوب. الدليل الرابع: لو دل تخصيص الحكم بالصفة، على نفيه عما عداه لدل تخصيصخ بالاسم، على نفيه عما عداه، لكن التخصيص بالاسم لا يدل على نفيه عما عداه، فالتخصيص بالصفة وجب ألا يدل على نفيه عما عداه. بيان الملازمة أن التخصيص بالصفة، لو دل على نفي الحكم عما عداه، لكان

إنما يدل عليه، لأن التخصيص لا بد فيه من غرض، ونفي الحكم عما عداه يصلح أن يكون غرضا والعلم بأنه لا بد من غرض، مع العلم بأن هذا المعنى يصلح أن يكون غرضا يفيد ظن أن هذا هو الغرض والعمل بالظن واجب، وكل هذا المعنى موجود في التخصيص بالاسم؛ فوجب أن يكون التخصيص بالاسم يفيد نفي الحكم عما عداه لأن الصورتين لما اشتركتا في العلة وجب اشتراكهما في الحكم. ولما ثبت أن التخيص بالاسم لا يفيد نفي الحكم عما عداه، وجب في التخصيص بالصفة ألا يدل على ذلك أيضا، والله أعلم احتج المخالف بأمور: الأول: أن تعليق الحكم بالصفة يفيد في العرف نفيه عما عداه فوجب أن يكون الأصل في أصل اللغة كذلك. إنما قلنا: إنه يفيد ذلك في العرف لأن القائل إذا قال: (الإنسان الطويل لا يطير، واليهودي الميت لا يبصر) يضحك منه ويقال: (إذا كان القصير لا يطير، والميت المسلم لا يبصر، فأي فائدة للتقييد بالطويل واليهودي؟!! وإذا ثبت أنه في العرف كذلك وجب أن يكون في أصل اللغة كذلك وإلا لزم النقل وهو خلاف الأصل. الثاني: أن تخصيص الشيء بالذكر لا بد فيه من مخصص، وإلا فقد ترجح أحد الجائزين على الآخر، لا لمرجح، ونفي الحكم عن غيره يصلح أني كون مقصودا فوجب حمله عليه تكثيرا لفوائد كلام الشرع أو لأنه مناسب.

والمناسبة مع القتران دليل العلية، فيغلب على الظن أن علة التخصيص هذا القدر. الثالث: أنا قد دللنا على أن الحكم المعلق على الصفة يشعر بكون ذلك الحكم معللا بتلك الصفة وتعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة خلاف الأصل على ما سيأتي بيانه أن شاء الله تعالى في كتاب القياس فيلزم انتفاء هذا الوصف انتفاء الحكم والجواب عن الأول: أن أهل العرف يضحكون من قول القائل: (زيد الطويل لا يطير) وبالاتفاق أن التخصيص لا يفيد نفي الحكم عما عداه. وللمستدل أن يقول: لا نسلم أن التخصيص هاهنا لا يفيد نفي الحكم عما عداه لأن قوله: (زيد الطويل لا يطير) تعليق للحكم بالصفة وأنه نفس محل الخلاف بل لو قال: (زيد لا يطير) فهذا تعليق للحكم بالاسم وهاهنا لا يقولون إن تعليقه على الاسم عبث، بل يقولون: إنه بيان للواضحات وفرق بين أن يقولوا: إن هذا الكلام بيان للواضحات وبين أن يقولوا: لا فائدة في ذكر هذه الصفة آلبتة، وعلى هذا التقدير اندفع النقض وعن الثاني: أنا لا نسلم أن التخصيص الصادر من القادر لا بد فيه من مخصص، لأن الهارب من السبع، إذا عن له طريقان، فرنه يختار سلوك أحدهما، دون الثاني، لا لمرجح. وأيضا فقد بينا أنه لا حسن ولا قبح عقلا فتخصيص الصورة المعينة بالحكم المعين تخصيص لأحد طرفي الجائز بذلك الحكم من غير مرجح

وأيضا فتخصيص الله تعالى إحداث العالم بوقت معين دون ما قبله أو ما بعده تخصيص من غير مخصص وفي هذا المقام أبحاث دقيقة ذكرناها في كتبنا العقلية سلمنا أنه لا بد من فائدة ولكن سائر الوجوه التي عددناها في دليلنا الأول فوائد وأيضا فجملة منقوضة بالتخصيص بالاسم وعن الثالث: لانسلم أن تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة خلاف الأصل وسيأتي تقريره في كتاب القياس إن شاء الله فرعان: الأول: القائلون بأن التخصيص بالصفة يدل على نفي الحكم عما عداه أقروا بأنه لا دلالة له في قوله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا) [آلنساء:35] ولا في قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها) لأن الباعث علي التخصيص هو العادة فإن الخلع لا يجري غالبا إلا عند الشقاق والمرأة لا تنكح نفسها إلا عند إباء الولي. فإذن لاحتمال أن يكون سبب التخصيص هو هذه العادة لم يغلب على الظن أن سببه نفي الحكم عما عداه. الثاني: تعليق الحكم على صفة في جنس كقوله عليه الصلاة والسلام: (في سائمة الغنم زكاة) يقتضي نفيه عما عداه في ذلك الجنس ولا يقتضي نفيه في سائر الأجناس وقال بعض الفقهاء من أصحابنا: إنه يقتضي نفي الزكاة عن المعلوفة في جميع الأجناس.

لنا: أن دليل الخطاب نقيض النطق، فلما تناول النطق سائمة الغنم، فدليله يقتضي معلوفة الغنم دون غيرها. احتجوا بأن السوم يجري مجرى العلة في وجوب الزكاة ويلزم من عدم العلة عدم الحكم لأن الأصل اتحاد العلة. والجواب: أن المذكور سوم الغنم لا مطلق السوم فاندفع ماقالوه والله أعلم المسألة العاشرة الأمر المقيد بالصفة قال القرافي: قوله: (لا يدل بمعناه التزاما لأن الصورتين المشتركتين في الحكم يجوز زن يخص أحدهما بالبيان):

قلنا: مسلم أن من شرط دلالة الالتزام الملازمة الذهنية لكن الملازمة قسمان: قطعية كملازمة الزوجية الأربعة: وظنية كملازمة النجاسة لكأس الحجام، وهي واقعة في هذه الصورة من هذا القبيل وإذا كانت من هذا القبيل كانت ظنية فلا يناقضها أن المشتركين قد يخص أحدهما بالبيان لأن هذا البيان الاحتمال والجواز والظن يستلزمه ولا بنافيه قوله: قد يكون المقصود بالتنصيص علي إحدى الصورتين ثبوته في الأخرى بطريق الأولى كقوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) [الإسراء:31]

(قاعدة) تعاطي المحرمات مع قيام موجب الطبع وداعيته أخف في نظر الشرع من تعاطيها مع عدم الداعية

(قاعدة) تعاطي المحرمات مع قيام موجب الطبع وداعيته أخف في نظر الشرع من تعاطيها مع عدم الداعية، لقوله عليه السلام: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم: شيخ زان، وملك كذاب، ومعيال متكبر) فعظم عقاب هؤلاء دون غيرهم من الكذابين والزناة والمتكبرين لأنهم تعاطوا المحرمات مع عدم الأسباب العادية المقتضية لها، لأنه لا يضطر الملك للكذب، لأجل بسط قدرته، ولا داعية للشيخ في الزنا، وموجب التكبر على الناس الغنى، وهو منفي في حق الفقير لقوله تعالى: (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) [العلق:6،7] وكذلك قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) [الإسراء:31] فخشية الفقر عذر عادي، ولا يقبل معه منة، وهو أخف من القتل مع الغنى فيكون النهي عن القتل حالة الغني أولى بالتحريم، ثم ما ذكره من الاحتمالات وجوه حسنة، ومقاصد شرعية وعرفية، غير زنها لا يقتضيها اللفظ، لأنها محتملة والأصل عدم ما وراء دلالة اللفظ. قوله: (الاشتباه في السائمة أكثر، لأنه أخف مؤنة) قلنا: هذه العبارة غير متجهة، لأن الاشتباه هو الالتباس، والالتباس في وجوب الزكاة في المعلوفة أكثر، لأنها فيها كلفة، واحتمال عدم وجوب الزكاة فيها أظهر، فيكون في محل الاشتباه، فيكون النص عليها أولى من النص على السائمة، لأن كمال النعمة أتم في وجوب الشكر. قوله: (لو دل التقييد على صرف الحكم عن المسكوت ظاهرا لكان صرفه لتلك الوجوه خلاف الظاهر، والأصل عدم ذلك وهذا القدر كاف في حصول ظن التساوي)

قلنا: ظن التساوي ينشأ عن دليل يدل على التساوي، وأما كون التعارض خلاف الأصل فهذا لا يكفي في ظن التساوي، بل هذا كاف في الترجيح إذا لزم التعارض من شيء ومن شيء آخر لا يلزم التعارض كان المصير إلى عدم التعارض أولى، أما التساوي فإنما ينشأ عن دليل يدل عليه، أو من تعارض أمور مستوية الدلالة متعارضة القوة. قوله: (الأمر المقيد بالصفة مع انتفاء الحكم عن غير المذكور وهو متفق عليه) تقريره: نحو قولنا: من آمن دخل الجنة، ومن كفر دخل النار. قوله: (والاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فيكون حقيقة في القدر مشترك) قلنا: الحقيقة والمجاز إنما يتصوران في الدلالة باللفظ التي هي استعمال اللفظ، والمفهوم من باب دلالة الالتزام التي هي أحد أنواع دلالة اللفظ، وقد تقدم الفرق بينهما من خمسة عشر وجها ثم إن المقيد بالصفة لم يستعمل لفظة في الثبوت في المنطوق والنفي عن المسكوت حتى يقال: هو حقيقة أو مجاز، وإن أحدهما لازم، بل اللفظ استعمل في المنطوق في الصورتين فقط، والسلب في المسكوت لازم لثبوته في المنطوق، واللازم للشيء قد لا يكون مشعورا به فضلا عن استعمال اللفظ فيه، كمن قال: عندي أربعة دل على لفظه على أنها زوج، وهو لم يستعمل لفظ الأربعة في الزوجية، بل في ملزومها، وإلا لكان اللفظ مجازا، والتقدير أنه استعمله

حقيقة مع أن ألفاظ الزعداد لا تقبل المجاز؛ لكونها نصوصا، فذكر المجاز والحقيقة هاهنا لا معنى له، ولا أحد يدعيه، ولا تنازع فيه. قوله: (اللزوم منفي، لأنه لا يمتنع اشتراك الصورتين المختلفتين في الحكم). قلنا: قولكم لا يمتنع إشارة إلى الإمكان والاحتمال، وهو غير مناف للظهور الذي ادعاه الخصم؛ فإن الظن من لوازمه الاحتمال في الطرف الآخر، ولازم الشيء لا يفارقه. قوله: (ولا يلزم من كون أحدهما متعلق غرضه كون الصورة الأخرى كذلك). قلنا: ليس كلامنا من كون أحدهما متعلق غرضه كون الصورة الأخرى كذلك). قلنا: ليس كلامنا في الحقائق المتباينة كالإنسان والفرس، والبقر والغنم، فإذا قال: (في الغنم الزكاة) لا يلزم أن يكون في العقار الزكاة؛ لأن هذا من مفهوم اللقب، بل الكلام في هذه المسألة في حقيقة كلية تعتور عليها صفات متباينة، كما يعتور السوم وعدمه على الغنم، فإذن تلك الحقيقة الكلية حاضرة قبل المتلكم؛ لأنه استحضر أحد جزئياتها المقيدة بإحدى صفاتها، فلو كان مراده تلك الحقيقة الكلية من حيث هي هي، كما يقول الخصم مع قطع النظر عن تلك الصفات لما نطق معها: تلك، الصفة الزائدة، بل اقتصر على ذكرها فقط، فحيث ذكر الصفة دل على زنه قصد المجموع المركب من الحقيقة وصفتها، وهذا المجموع ليس ثابتا لها من حيث هي هي، فلا يثبت الحكم لها من حيث هي هي. وهذا هو دلالة مفهوم الصفة، أما الحقائق المتباينة بالكلية فلا. قوله: (لو دل مفهوم الصفة لكان، لأن التخصيص لا بد فيه من غرض).

قلنا: القائلون بمفهوم الصفة يفرقون بينه وبين مفهوم اللقب؛ فإن مفهوم الصفة فيه رائحة التعليل لأجل الصفة، ويلزم من انتفاء العلة المعلول، فالمعتبر عندهم التخصيص مع ملاحظة التعليل، وهذا المجموع ليس ثابتا للقب لانتفاء التعليل، فلا تصح الملازمة حينئذ ولا يلزم المشاركة المشاركة بين الصورتين في العلية. قوله: (تعليل الأحكام المستوية بالعلل المختلفة خلاف الأصل) تقريره: زن ترتيب الحكم مع الوصف دليل علية ذلك الحكم، فترتيب وجوب الزكاة على السوم دليل علية وصف السوم، فيكون السوم علة وجوب الزكاة أو جزء العلة. والمعلوفة لو وجبت فيها الزكاة لعلة أخرى غير السوم أو ما السوم جزؤه مع أن وجوب الزكاة واحد، فيلزم تعليل الحكم أو ما السوم جزؤه مع أن وجوب الزكاة واحد، فيلزم تعليل الحكم الواحد الذي هو وجوب الزكاة بعلتين مختلفتين وهو باطل، لأن العلل المختلفة مصالحها مختلفة، والأصل تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد واختلافها باختلافها فإذا اختلفت المصلحة وجب أن يختلف الحكم، فلا تتعلل الأحكام المتماثلة بالعلل المختلفة. قوله: (لا نسلم أن تخصيص القادر يفتقر إلى مرجح، لأن الهارب من السبع إذا عن له طريقان مستويان، فإنه يختار سلوك أحدهما لا لمرجع) قلنا: لا نسلم، وكذلك في العطشان مع القدحين المستوين، والجائز مع الرغيفين المستويين يمنع أنه يختار أحدهما لا لمرجح، بل لو فرض عدم المرجح وقف حتى يموت عطشا، زو جوعا، أو أكله السبع. فإن قلت: العادة تحيل ذلك في جبلة البشر. قلت: مسلم، لكن لأن من المحال الاستواء مطلقا، بل لا بد في العادة.

من المرجح، فكذلك كانت العادة الإقدام دون تأخر، وكان للمصنف أن يسلم لهم زنه لا بد من مرجح في طريقي السبع وغيرهما. ونقول: ذلك المرجح هو الإرادة دون الصفة المذكورة، لأنه قد تقرر في علم (الكلام) أن الإرادة شأنها أن ترجح لذاتها من غير احتياجها لمرجح يعين لها ما يرجحه، وذلك لذاتها غير معلل واستوى في ذلك الإدارة القديمة والحادثة وكان ذلك غير معلل فيها كما كان الكشف للعلم غير معلل فيه وجميع خصائص الحقائق كذلك غير معللة قوله: (ولأن تخصيص الصورة المعينة بالحكم المعين ترجيح من غير مرجح، لأنا بينا عدم الحسن والقبح، وكذلك إحداث العالم في وقت معين) قلنا: لا نسلم أن ذلك من غير مرجح، بل الإرادة هي المرجحة بجميع ذلك كما تقدم. قوله: (في هذا المقام أبحاث دقيقة ذكرناها في كتبنا العلمية) يشير إلي البحث عن حقيقة الإرادة وكون ذلك لذاتها وأنها غير معللة ولزوم التسلسل عن اختصاص وقت حدوث العالم بمرجح؛ لأن الكلام يعود في سبب اختصاصه بذلك الوقت دون ما قبله وما بعده ويلزم التسلسل وهذا المانع نفي الأزل. وعدمه هو المرجح بل يفتقر ذلك لتحقيق الأزل وأنه غير مميز عما لا يزال ونحو ذلك من المباحث. قوله: (الدليل منقوض بتخصيص الاسم) قلنا: من شرط النقض تحقيق جميع المدعي علة أو موجبا في صورة النقض، وهاهنا ليس كذلك؛ لأن الموجب عند الخصم التخصيص مع الإشارة إلى العلية، الإشارة إلى العلية، وهذا المجموع ليس في التخصيص بالاسم

قوله: (القائلون بالمفهوم في الصفة اتفقوا على عدم دلالته في قوله: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا) [النساء:35] تقريره: أن الشقاق هو التسوية وقد أوجب الله تعالى بعثة الحكمين عند خوف ذلك، ومفهومه أنه لا يجب إلا إذا خفنا ذلك، مع أنه يجب الكشف مطلقا، خفنا الفرقة أم لا، لكن لما كان الغالب أنا لا نبعث إلا في هذه الحالة، لم يكن له مفهوم، وكذلك الخلع في الغالب أنا لا نبعث لا يكون إلا عند الشقاق، وهو معنى قول العلماد: إن الكلام متى خرج مخرج الغالب لا يكون له مفهوم، بمعنى أنه متى كانت الصفة غالبة علي ذلك المحل لا يكون له مفهوم. وبهذا الطريق حصل الرد على من يقول: المعلوفة لا زكاة فيها لمفهوم الحديث، فإن السوم غالب على أغنام الدنيا لا سيما أغنام (الحجاز) فلا يكون للحديث مفهوم يستدل به على عدم الزكاة في المعلوفة وكذلك قوله عليه السلام: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل).

(سؤال)

تقريره: أن مفهومه: زن وليها إذا أذن صح عقدها على نفسها، والخصم لا يقول به أعني الشافعي والمالكي، لكن هذا خرج مخرج الغالب، لأن الغالب أن المرأة لا تنكح نفسها إلا ووليها غير آذن كاره لذلك، فلا يكون له مفهوم ألبتة. (سؤال) قال الشيخ عز الدين بن عبدالسلام: هذه القاعدة تقتضي العكس، وهو أن الوصف إذا خرج مخرج الغالب يكون له مفهوم، ويكون حجة بخلاف إذا لم يكن غالبا، لأن الوصف الغالب علي الحقيقة تكون العادة دالة علي ثبوتهخ لتلك الحقيقة، فالمتلكم يكتفي بدلالة العادة علي ثبوته لها عند ذكر

اسمه، أما إذا لم تكن العادة دالة عليها، فأمكن أن يقال: أتى المتكلم باسم تلك الصفة ليبين للسامع أن هذه الصفة ثابتة لهذه الحقيقة، أما الغالبة فتكتفي العادة فيها العادة فيها، فإذا أتى بها مع أن العادة كافية فيها دل ذلك على أنه إنما أتى بها ليدل بها على سلب الحكم عن المسكوت عنه لانحصار الحقيقة. جوابه: أن الصفة إذا كانت غالبة صارت لازمة لتلك الحقيقة في الذهن، وذلك سبب الملازمة الخارجية فينطق بها السامع، لأنه وجدها في ذهنه مع الحقيقة، لا أنه استجلبها ليفيدنا أن التقييد بها بها سلب الحكم عن المسكوت عنه، أما إذا لم تكن غالبة، فإنه قد استجلبها عن قصد إليها لينتفي الحم عن المسكوت عنه بالتقييد بها فهذا هو سر قولهم: الكلام إذا خرج مخرج الغالب لا مفهوم له. قوله: (تعليق الحكم على في جنس كقوله عليه السلام: (في سائمة الغنم الزكاة) هل يقتضي نفيه عما عداه في ذلك الجنس أو في سائر الأجناس؟) تقريره: أن المفهوم هو نقيض المنطوق، فهو يقول: (ما ليس بسائمة لا زكاة فيه؟ فعلى هذا يستدل بهذا الحديث على عدم وجوب الزكاة في الحلي المتخذ لاستعمال مباح، وعلى عدمها في الخيل.

والبقر، وسائر الأجناس، لأنها ليست بغنم سائمة، فلا يكون فيها زكاة؟ ونقول: قاعدة العرب أن نقيض المركب عندهم النقيض في ذلك المركب دون غيره، فإذا قلنا: لا يذوق أهل الجنة الموت فيها، ليس نقيضه: ذاقوا الموت، حتى نقول: ذاقوا الموت فيها، وكذلك قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام) [البقرة:188] نقيضه: فكلوها بالباطل ولم يرد الله تعالى بل كلوها بالسبب الحق، فليس نقيضا لها وإلا كان الاستثناء في الاثنين متصلا، ولكنهم قالوا: هو منقطع لأجل أنه حكم بغير النقيض فيما بعد (إلا)، فنقيض المركب أبدا لا بد أن تأخذ فيه جميع القيود التي في المركب فعلى هذا القول ما ليس بسائمة من الغنم ولا نقول: ماليس بسائمة، ونسكت عن قولنا: (من الغنم) فلا يدل إلا على نفي الحكم عن معلوفة الغنم خاصة.

قوله: (لنا أن المفهوم مقتضى النطق، ولما كان النطق يقتضي سائمة الغنم، فيقتضي مفهومه معلوفة الغنم) قلنا: لا يكاد يوجد في النسخ كلها مقتضى النطقب بالميم وبالياء من الاقتضاء، وإنما الحق (نقيض) بالنون من التناقض؛ لأن المفهوم نقيض المنطوق، لا أنه مقتضاه، فالظاهر أنها سبق قلم من المصنف ثم اطردت في النسخ، ثم كلامه غير ملخص، فإنه إذا قال: المفهوم نقيض المنطوق من التناقض فما هو النقيض، هل هو السلب مطلقا، أو السلب عن ذلك المركب خاصة لم يبين ذلك، فيبقى كلامه غير مفيد لإبطال مذهب خصمه. قوله: (احتجزوا بأن السوق يجري مجرى العلة لوجوب الزكاة، ويلزم من عدم العلة الحكم) تقريره: أن ترتيب الحكم علي الوصف يقتضي علية ذلك الوصف لذلك الحكم، وعدم العلة لعدم المعلول، فحيث وجد عدم السوم يلزم عدم وجوب الزكاة ليعم السلب جميع صور عدم الوصف في جميع الأجناس. قوله: (والجواب سوم الغنم لا مطلق السوم، فاندفع ماقالوه). قلنا: لا يندفع ماقالوه بهذا، لأن جميع الصور وجد فيها عدم علة الوجوب، سواد فسرناها بسوم الغنم أو بمطلق السوم، وذلك صادق في معلوفة البقر، والإبل والحلى وجميع هذا الأجناس، بل كأنه يريد أنه إذا كان سوم الغنم هو المنطوق يقتضي أن يثبت النقيض باعتبار ذلك المركب خاصة، فيكون المفهوم ما ليس بسائمة من الغنم، كما تقدم تقريره.

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: إن قول المصنف في أول أدلته: (لو دل الدليل إما بلفظه أو معناه) الحصر غير ثابت

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: إن قول المصنف في أول أدلته: (لو دل الدليل إما بلفظه أو معناه) الحصر غير ثابت، لأن قرينة التخصيص التي يدعونها خارجة عن القسمين، ودلالة المعنى لا تنحصر في الملازمة، وقاس على مفهوم اللقب، والفرق ظاهر. وجوابه: أن قرينة التخصيص توجب الملازمة بين ثبوت الحكم في المنطوق وعدمه في المسكوت، فهي راجعة إلى ما قاله المصنف، وقوله: (دلالة المنطوق لا تنحصر في الملازمة) قلنا: لا نعني بدلالة المعنى إلا ذلك، ثم قال: من جملة فوائد التخصيص بالذكر كون المذكور محل الإشكال كما يقول الشافعي رضي الله عنه: يصح، أما أن العبد المحجور عليه في القتال، مع أن الحر المحجور وغير المحجور عليه سواء، أو كونه هو الأعم الأغلب، أو المعتاد، أو المعتاد الواقع في الوجوب، ولهذا قلنا: لا مفهوم لقوله عليه السلام: (بثلاثة أحجار) لأنه المعتاد، ولا بقوله تعالى: (بئسما يأمركم به إيمانكم) الآية) [البقرة:93] ومن ثم قال: وجواب المصنف بالاتفاق وسبق اللسان باطل لتطرفه لتطرقه للصريح في النطق ولأنا إنما ندعي الدلالة إذا أمناها وتوهم أنه هو الحاضر في الذهن لا يقدح في مفهوم التقييد مع تقدير.

الذكر باللفظ العام الشامل، يريد أنه ينطق باسم يشمل الحقيقة التي تعرض لها الصفتان وقولهم: (المطلوب فائدة الذكر باللفظ العام) قلنا: المطلوب فائدة التخصيص بمعنى بالوصف مع ذكر المطلق واقتطاعه عن الأمر العام، وأما ما ذكره المصنف من فوائد التخصيص فلا شك في إمكانها لكنه لا دليل عليها، ولا يمكن دفع الدلالة بمجرد الاحتمال، وأما ماذكروه من الاحتراز عن الخطأ لا يتصور في كلام الشرع، ولا في الإنشاء من كلام غيره، يعني أن الكذب لا يتصور إلا في الخبر دون الإنشاء والاحتراز عن التخصيص إنما يتصور عند إمكان قيام الدليل المخصص،،كيف يصور ذلك مع فرض إرادة العموم، وإمكان الاغترار بالشبهة في غاية البعد ولا يوازي خطره خطر عدم الحكم عن محل الثبوت بسبب سبق الذهن عند التخصيص. وأما اتقاء محل الاجتهاد، فإنما ينقدح إذا لم يفرض دلالة التخصيص على نفي الحكم، فإنه إذا فرض كان منصوصا عليه، والكلام فيه على أن المجال باق بغرض الدلال ببذل النظر في تحقيقها، وتحقق السلامة عما عداه من مستندات التخصيص المحتملة، وخلو محل الدلالة عن المعارض ثم نقول: لا يخفي إذا اقتضت الحال التسوية بتقدير عموم الحكم كان التخصيص بالذكر إلغازاوإلباسا، كقوله: دخلت السوق، فعرض على تركي وحبشي، وأبلق، وأدهم فاشتريت التركي والأدهم، فإنه يفهم منه الحصر حتى يتبين خلافه عد الكلام إلغازا وإن كان الكلام لم يوضع للحصر، وكذلك لو قال: إن الله تعالى خلق لكم الأنعام، ومتعكم بها، وفرض عليكم الزكاة في الإبل، فإنه يفهم منه الحصر، بقرينة التخصيص، وهذا مما يتعرف به العقلاء في مخاطبتهم، ومستنده قرينة الحال المقتضية للتسوية بينمها في البيان

(تنبيه) قال التبريزي: (المفهوم يتفاضل في القوة فأضعفها مفهوم اللقب، ثم مفهوم اسم الجنس، واسم المعنى

المقصود من الذكر، فتقدير شمول الحكم ينكر التخصيص، إذا تقرر هذا فنقول: القرينة لازمة مفهوم التقييد، فإذا قال الرسول في معرض بيان الحكم وتبليغ الشرع: (من باع نخلة)، فإن كان الحكم واحدا، فجوابه: فثمرتها للبائع، فقوله: (مؤبرة) إبهام بخلاف المراد ضائع وموجب لقصور البيان، لا يليق بالشارع وهذا هو معنى كلام الشافعي في تقرير المفهوم على أن نقول: إذا لم يكن بد من فائدة فالاحتراز وتحرير محل الحكم فائدة متأصلة خاصة بهذا التقييد، فالتنزيل عليه يكون أظهر. (تنبيه) قال التبريزي: (المفهوم يتفاضل في القوة فأضعفها مفهوم اللقب، ثم مفهوم اسم الجنس، واسم المعنى، كقوله: (في الإبل صدقة) وفي (الطعام بالطعام مثل بمثل بمثل) وهو قريب من الأول، فإن الطعام والإبل لقب، لأن اسم الجنس يمكن أن يشتق منه مفهوم الصفة، لأن الصفة تذكر بالموصوف، لأن محل اعتوارها، ثم مفهوم التقييد لانسداد باب هذا الاحتمال) قلت: يريد بمفهوم الصفة الصفة المنفردة دون موصوف كقوله عليه السلام: (الثيب أحق بنفسها). وبالتقييد: ذكرها مع الموصوف، نحو: (في الغنم السائمة). لانسداد باب احتمال التردد بين موصوفات لتعينه بذكره

ثم قال: (فإن قيل إذا كان مستند آثاره دلالة المفهوم امتناع الغفلة عن السكوت أو بعده، فكيف يتصور ذلك في حق الله تعالى؟ وكيف يفرق في حقه بين العلم والصفة وعلم الله تعالى محيط بجميع المعلومات) (قلنا: إذا ثبت ذلك في عرف التخاطب نزل خطاب الله تعالى عليه) قلت: يريد أن القرآن أنزل بلغة العرب، وأما قوله: مستند المفهوم امتناع الغفلة فمستدرك، لأن دلالة المفهوم من باب دلالة اللفظ التي لا يشترط فيها الشعور، ولا القصد، بل اللفظ يفهم منه ذلك بطريق الملازمة، وإن لم يخطر ببال المتكلم، كما أن اللفظ يفهم منه الحقيقة عند التجرد، وإن أراد المتكلم أجاز فقط، فاعلم ذلك. قال: (الرتبة الخامسة: مفهوم الشرط. السادسة: مفهوم الغاية. السابعة: مفهوم الحصر، كقوله عليه السلام، (الماء من الماء) ومستنده شمول الألف واللام واستغراقهما، فإن المبتدأ يجب ألا يكون أعم ويشهد له قول العلماء إنه منسوخ بحديث عائشة رضي الله عنها وهو لم يرفع منطوقهفدل على أن للحصر فهو المرتفع وأصرح منه في الحصر (إنما الماء من الماء) قلت: إذا قلنا: إن العرب وضعت المركبات فيكون وضعت المبتدأ والخبر على أن يكون المبتدأ أخص أو مساويا، فيكون دلالة هذا اللغظ المركب على هذا المعنى وكونه محظورا فيه مطابقة، [كما أن دلالة الرفع على خبر (إن) والنصب على خبر (كان) اسمها مطابقة] وبالجملة كل ما قصدته العرب بوضعها كان مطابقة كان اللفظ الدال مفردا أو مركبا وعلمت أيضا أن

(تنبيه) عبر تاج الدين في (فهرسة المسألة)، فقال: تعليق الحكم بإحدى صفتي الذات لا ينفي تعلقه بالأخرى

أبا علي الفارسي قال في: (الحليبات): إن (ما) للنفي، فيكون النفي مدلولا مطابقة ولا شيء من المفهوم بمطابقة، ولا من المطابقة بمفهوم، فلا يتجه كلام التبريزي فيه. قال: (الرتبة الثامنة: مفهوم الاستثناء الذي اعترف به كل محصل ونفاه غلاة المفهوم، كقولنا: لا فتى إلا علي، ولا عالم في البلد إلا زيد) قلت: هذه صيغة حصر، فتندرج فيما تقدم، وإنما كان ينبغي أن يمثل: بقولنا: قام القوم إلا زيدا، إن كان مراده الاستثناء من حيث هو استثناء وإن أراد الاستثناء مع الحصر إذا اجتمعا، فان ينبغي أن ينبه عليه. (تنبيه) عبر تاج الدين في (فهرسة المسألة)، فقال: تعليق الحكم بإحدى صفتي الذات لا ينفي تعلقه بالأخرى وهو أصرح من قول (المحصول): الأمر المقيد بالصفة، فإن لفظ (المحصول) يحتمل أن تكون الصفة مجردة عن الموصوف، نحو (الثيب أحق بنفسها) ومقصود (المحصول) إنما هو ماقاله تاج الدين.

المسألة الحادية عشرة في أن الآمر هل يدخل تحت الأمر ذكر أبو الحسين البصري فيه تفضيلا لطيفا فقال: هذا الباب يتضمن مسائل: أولها: أنه، هل يمكن أن يقول الإنسان لنفسه: (افعل) مع أنه يريد ذلك الفعل؟ ومعلوم أنه لا شبهة في إمكانه وثانيها: أن ذلك هل يسمى أمراً؟ والحق أنه لا يسمى به، لأن الاستعلاء معتبر في الأمر، وذلك لا يتحقق إلا بين شخصين، ومن لا يعتبر الاستعلاء فله أن يقول: إن الأمر طلب الفعل بالقول من الغير، فإذا لم توجد المغايرة، لا يثبت اسم الأمر. وثالثها: أن ذلك، هل يحسن أم لا؟ والحق: أنه لا يحسن لأن الفائدة من الأمر إعلام الغير كونه طالبا لذلك الفعل ولا فائدة في إعلام الرجل نفسه مافي قلبه ورابعها: إذا خاطب الإنسان غيره بالأمر هل يكون داخلا فيه؟ والحق أنه: إما أن ينقل أمر غيره بكلام نفسه، أو بكلام ذلك الغير: أما الأول: فإن كان يتناوله، دخل فيه، وإلا لم يدخل فيه. مثال الأول: أن نقول: إن فلانا يأمرنا بكذا ومثال الثاني: أن نقول: إن فلانا يأمركم بكذا.

وأما الثاني: فكقوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم) [النساء:11] فهذا يدخل الكل فيه، لأن ذلك خطاب مع جملة المكلفين فيتناولهم بأسرهم إلا من خصه الدليل والله أعلم المسألة الحادية عشرة الآمر هل يدخل تحت الأمر قال القرافي: قوله: (الاستعلاء في الأمر وهو لا يتحقق إلا بين شخصين).

قلنا: اجتمع في الإنسان العقل والنفس بالضرورة، ولذلك نجد العقل يميل إلى شيء والنفس تكرهه فجاز أن يأمر العقل النفس، فيتصور حينئذ الاستعلاء والعلو، لأن العقل جاز أن يقهر النفس ويغلظ عليها، وهو أعلى منها رتبة، فسمي حينئذ آمرا. ويتصور أيضا: بأنه طلب من الغير، فإن النفس غير العقل، ويدل على تسميته أمرا قوله تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء) [يوسف:53] فسماها أمارة، والمقصود بأمر صاحبها، والأصل في الاستعمال الحقيقة. قوله: (فائدة الأمر إعلام الغير) قلنا: لا نسلم، بل الإعلام هو الإخبار، أو إدخال الإنسان في العلم، نحو: أسمعته، أي أأدخلته في السماع، وهما غير الأمر، لأن الأمر هو الطلب الجازم، وهو ليس بإعلام، ولا إخبار، بل الإخبار يلزمه. كما يقول بعضهم: إنه إخبار عن العقوبة على تقدير الترك، فهذا لازم، ليس مقصودا بالذات، ولا يدخله التصديق والتكذيب، وليس كذلك ومقصود الأمر: طلب تحصيل تلك المصلحة التي هي في ضمن الفعل،

(تنبيه)

وذلك متصور بين النفس والعقل، فيطلب من النفس تلك المصلحة التي تحصل في المعاد أو المعاش، أو فيهما معا قوله: (إن فلانا يأمركم بكذا) تقريره: أن الكاف وضعت للخطاب، والخطاب لا يدخل فيه المتكلم، ولا الغائب. (تنبيه) قال التبريزي ليس فيها كبير فائدة، فإن اللفظ إن لم يصلح لتناوله وضعا كقوله: (افعلوا) و (أوجب عليكم) فلا وجه لتخيل الاندراج وإن صلح فلا سبيل للإخراج إلا بقرينة، فإن كونه مخاطبا لا يصلح لمعارضة دلالة الوضع، ونظير عدم القرينة قوله تعالى: (والله بكل شيء عليم) [البقرة:282] وقول القائل: (كل نفس ذائقة الموت) [آل عمران:185]، وكل أمر مكلف بفعله ومحاسب عليه، وقوله عليه السلام: (لن ينجو أحدكم بعمله) قالوا: ولا أنت يا رسول الله، فقال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ومثال القرينة: قوله تعالى: (والله على كل شيء قدير) [آلبقرة:284] وقول القائل: (لا يغلبني أحد، ولا يقابلني بشر، ولا ناظرت أحدا إلا غلبته)، وإذا انقدحت القرينة، فلا خاصية للمخاطبة

المسألة الثانية عشرة في الأمر الوارد عقيب الأمر بحرف العطف وبغير حرف العطف القائل إذا قال لغيره: (افعل) ثم قال له: (افعل) لم يخل الأمر الثاني: إما أن يتناول مخالف ما يتناوله الأمر الأول أو ممثاله. فرن تناول ما يخالفه اقتضى شيئا آخر لا محالة، وهو ضربان: أحدهما: يصح اجتماعه مع الزول، والاخر لا يصح: فالذي يصح اجتماعه مع الأول يجب على المأمور فعلهما: إما مجتمعتين أو مفرقين إلا أن تدل دلالة منفصلة على وجوب الجمع أو وجوب التفريق مثاله: قول القائل لغيره: صل، صم. وأما ما لا يصح أن يجتمع مع الأول فتارة لا يصح عقلا كالصلاة الواحدة في مكانين وتارة لا يصح سمعا كالصلاة والصدقة وكلا القسمين لا يصح الأمر بفعلهما إلا مفترقين. أما إذا تناول الأمر الثاني مثل ماتناوله الأمر الأول: فلا يخلو: إما أن يكون ذلك المأمور به يصح التزايد فيه أو لا يصح: فإن صح: فإما أن يكون الأمر الثاني غير معطوف على الأول أو يكون معطوفا عليه:

فإن لم يكن معطوفا عليه فعند القاضي عبدالجبار بن أحمد: أنه يفيد غير ما يفيده الأول: إلا أن تمنع العادة من ذلك، أو يرد الأمر الثاني معرفا، وهذا هو المختار وقال أبو الحسين البصري: الأشبه الوقف. مثال ماتمنع منه العادة قول القائل لغيره: (استقني ماء اسقني ماء) فالعادة تمنع من تكرار سقيه في حالة واحدة في الأكثر. ومثال ما يعرى عن كلا القسمين قول القائل لغيره: (صل غدا ركعتين صل غدا ركعتين) والدليل على أنه يفيد غير ما يفيد الأول وجهان: الزول أن الأمر يقتضي الوجوب، والفعل الأول وجب بالأمر الأول فيستحيل وجوبه بالأمر الثاني، لأن تحصيل الحاصل محال فلو انصرف الأمر الثاني إلي الفعل الأول، لزم حصول ما يقتضي الوجوب من غير حصول الأثر وذلك غير جائز فوجب صرفه إلي فعل آخر. الثاني: أنا لو صرفنا الأمر الثاني إلي عين ما هو متعلق الأمر الأول، لكان الزمر الثاني تأكيدا ولو صرفناه إلي غيره لأفاد فائدة زائدة وإذا وقع التعارض بين أن يفيد الكلام فائدة أصلية وبين أن يفيد تأكيدا فلا شك حمله على الأول أولى. وأما إن كات الأمر الثاني معطوفا على الأول، فإن لم يكن معرفا فإنه يفيد غير ما يفيده الأول، لأن الشيء لا يعطف على نفسه.

مثاله أن يقول القائل لغيره: (صل ركعتين، وصل ركعتين) فأما إن كان الثاني معطوفا على الزول، ومعرفا كقول القائل لغيره: (صل ركعتين وصل الصلاة) فعند أبي الحسين: أن الأشبه هو الوقف، فإن يمكن أن يقال: يجب حمله على تلك الصلاة، لأجل لام التعريف ويمكن أن يقال: بل يجب حمله على صلاة أخرى، لأجل العطف، وليس أحدهما بأولى من الآخر فوجب التوقف. وعندي: أن هذا الأخير أولى، لأن لام الجنس قد تكون لتعريف الماهية، كما قد تكون لتعريف المعهود السابق، وبتقدير أن تكون للمعهود السابق فيمكن أن يكون المعهود السابق هو الصلاة التي تناولها الأمر الأول، ويمكن أن تكون صلاة أخرى تقدم ذكرها، وإذا كان كذلك بقي العطف سليما عن المعارض. أما إذا كان الثاني أمرا بمثل ما تناوله الأمر، وكان ذلك مما لا يصح فيه التزايد في المأمور به؛ فلا يخلو: إما أن يمتنع ذلك عقلا كقتل زيد وصوم يوم. أو يمتنع ذلك شرعا، كعتق زيد، فإنه قد كان يجوز أن يتزايد عتقه، ويقف تمام حريته على عدد؛ كالطلاق وإذا لم يصح التزايد في المأمور به لم يخل الأمران: إما أن يكونا عامين أو خاصين، أو يكون أحدهما عاما، والاخر خاصا. وإذا لم يصح التزايد في المأمور به، لم يخل الأمران: إما أن يكونا عامين، أو خاصين، زو يكون أحدهما عاما والآخر خاصا. فإن كانا عامين أو خاصين، وجب أن يكون مأمورهما واحدا، وأن يكون الأمر الثاني تأكيدا للأول، سواء ورد مع حرف العطف، أو بدونه. مثال العامين بحرف عطف: قول القائل لغيره: (اقتل كل إنسان واقتل كل إنسان)

ومثاله بلا حرف عطف: أن يسقط من الأمر الثاني حرف العطف. ومثال الخاصين بحرف عطف، وبغير حرف عطف قوله: (اقتل زيدا، واقتل زيدا) وقوله: (اقتل زيدا واقتل زيدا) وأما إذا كان زحدهما عاما والآخر خاصا سواءتقدم العام أو الخاص فالأمر الثاني: إما أن يكون معطوفا على الأول، أو غير معطوف عليه؛ فإن كان معطوفا عليه فمثاله: قول القائل: (صم كل يوم، وصم يوم الجمعة) فقال بعضهم: إن يوم الجمعة لا يكون داخلا تحت الكلام الأول، ليصح حكم العطف. والأشبه: الوقف؛ لأنه ليس ترك ظاهر العموم أولى من ترك ظاهر العطف، وحمله على التأكيد. وأما إذا كان الزمر الثاني غير معطوف فمثاله: قول القائل: (صم كل يوم، صم يوم الجمعة) فها هنا عموم أحد الأمرين دليل على أن الآخر ورد تأكيدا لأنه لم يبق من ذلك الجنس شيء لم يدخل تحت العام، والله أعلم. المسألة الثانية عشرة في الأمر الوارد عقيب الأمر بحرف العطف وبغير حرف العطف. قال القرافي: قوله: (إن أمكن اجتماع الثاني مع الأول فعلهما إما مجتمعين أو مفترقين.

......................................

قلنا: ذلك يتخرج على الخلاف في أن الأمر على الفور أم لا؟ فإن قلنا به قلنا مجتمعين، ليس إلا. قوله: (لا ييضح اجتماعهما معا كالصلاة مع الصدقة) إنما يتجه في الصدقة العظيمة التي تخل بنظام الصلاة، نحو تفرقة مائة دينار على ما ئة مسكين على التعاقب أما الصدقة اليسيرة، كمد اليد بدرهم فلا ينافي ذلك الصلاة قوله: (لام الجنس تنصرف إلى العهد) يريد: بالقرينة، وإلا فالأصل حملها على العموم كما في قوله تعالى: (كما أرسلنا إلي فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول) [المزمل:16] أي المتقدم ذكره لأن من المعلوم أن فرعون لم يعص كل رسول؛ فتعين العهد. قوله: (يستحيل إيجاب الفعل الأول بالأمر الثاني) يريد: إنشاء الوجوب فيه، أما تأكيده فلا يمتنع. قوله: (لو انصرف الأمر الثاني للفعل الأول لزم حصول ما يقتضي الوجوب من غير حصول الأثر، وهو غير جائز). قلنا: إن أردتم أنه مرجوح فحق، لأن الأصل عدم التأكيد، وأن تكون الألفاظ مشتبهة، وإن أردتم أنه محال عقلا فممنوع، لأنه تأكيد، وهو جائز وواقع لغة، وعرفا، وشرعا.

ومراده بالأثر: المدلول، وحصول الدليل بدون المدلول جائز، لكنه مرجوح، ويترجح أنه أراد غير التأكيد، لأنه جعل الوجه الثاني هو لتأكيد فيلزم أن يكون الوجهان وجها واحدا لولا أنه يريد التعذر العقلي فأحد الأمرين يلزمه إما إبطال دعواه، أو اتحاد الدليلين. قوله: (الشيء لا يعطف علي نفسه): قلنا: أما إذا اتحد اللفظ فمسلم، وأما إذا تعذر فيجوز كما قال الله تعالى عن يعقوب عليه السلام: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) [يوسف:86] والحزن: البث، وقوله: (عسر ويسر)، قالوا: معناهما واحد، وحسن العطف للمغايرة في اللفظ قوله: (معناهما حمله على التعدد أولى). تقريره: أن (لام الجنس) كثر التجوز بها في العهد، وبيان حقيقة الجنس دون استغراقه كقوله لعبده: (اشتر لنا اللحم والفحم) يريد من هذين: لا يقصد معينا، ولا اتغراق جميع الأفراد، وتكون زائدة، نحو قول الشاعر [الطويل]: يقول الخنى وأبغض العجم ناطقا ... إلي ربنا صوت الحمار اليجدع وتكون للمح الصفة كدخولها في الفضل والعباس وللموازنة في الكلام نحو: هذا الرجل؛ ليستويا في صورة التعريف، وللتزين نحو قولهم: دل الدليل على كذا، وليس المراد إلا دليلا في الجملة، غير أن (اللام) في الكلام كالخلقة في الأجسام، فأتى بها لذلك وإن أكثر التجوز بها، والواو العاطفة لم يكثر التجوز بها، لذلك فالأقل مجاز الراجح.

(تنبيه)

قوله: (كان ممكن أن يتزايد عتقه، ويقف تمام حريته علي عدد معين كالطلاق) تقريره: أنه إذا قال لعبده: أنت حر يحصل أصل التحريم في المنافع، كما يحصل أصل التحريم في الطلاق الرجعي، ولا يعتق بالكلية، فإذا كرر قوله ثلاث مرات عتق بالكلية كما تطلق المرأة بالكلية، وهذا ممكن عقلا غير أن الشرع لم يرد به. قوله: (ليس ترك ظاهر العطف أولى من ترك ظاهر العموم). قلنا: الذي التزمتموه في (لام) التعريف من الترجيح مع (الواو) يأتي هاهنا: فإن العموميات كثر فيها التخصيص حتى قيل: ما من عام إلا وقد خص إلا قوله تعالى: (والله بكل شيء عليم) [البقرة:282] والعطف لم يحصل فيه مثل هذه المخالفة، وهذا المجاز، فكان العطف أولى من العموم لا سيما والعموم مختلف في أصله هل له حقيقة أم لا؟ والعطف متفق عليه. (تنبيه) لا يلزم من كون أحدهما عاما، والآخر خاصا بناء العام على الخاص، لأن شرط تخصيص العام بالخاص كون الخاص منافيا للعام، وهاهنا الحكم واحد متماثل، فلا يصح التخصيص، إنما يبقى الكلام هل أريد الخاص بصيغة العموم أم لا؟ ووالمشهور عند الأدباء في مثل هذا تناول العام والخاص، وأن العرب إذا اهتمت ببعض أنواع العام أفرد بالذكر لبعده عن التخصيص والإخراج من العموم، فلا يبقى السامع بعد ذلك يتوهم إخراجه، وإن توهم إخراج غيره.

كقوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) [النحل:90]، ومع أن (البغي) اندرج في (المنكر)، لكنه أعظم أنواع المنكر، فأفرد اهتماما به، واندرج (وإيتاء ذي القربى) في (الإحسان) لكنه أفضل فأفرد بالذكر، وكذلك قوله تعالى: (وملائكته ورسله وجبريل وميكال) [البقرة:98] أفرد بالذكر لأفضليته عليهم، وليس منه قوله تعالى: (فيها فاكهة ونخل ورمان) [الرحمن:68] لعدم العموم الشامل في فاكهة لكونها نكرة في سياق الإثبات فلا تعم، كما اندرج الرمان فيها، وكثير من الناس يتوهمونه منه.

القسم الثاني في المسائل المعنوية

القسم الثاني في المسائل المعنوية والنظر فيها في أمور أربعة النظر الأول في الوجوب والبحث: إما عن أقسامه، أو أحكامه: أما أقسامه: فاعلم: أنه بحسب المأمور به ينقسم إلى معين، وإلى مخير، ويحسب وقت المأموربه: إلى مضيق، وموسع. وبحسب المأمور: إلى واجب على التعيين، وواجب على الكفاية المسألة الأولى: قالت المعتزلة: الأمر بالأشياء على التخيير يقتضي وجوب الكل على التخيير، وقالت الفقهاء: الواجب واحد لا بعينه. واعلم: أنه لا خلاف في املعنى بين القولين، لأن المعتزلة قالوا: المراد من قولنا: الكل واجب على البدل هو: أنه لا يجوز للمكلف الإخلال بجميعها، ولا يلزمه الجمع بينها، ويكون فعل كل واحد منها موكولا إلي اختياره. والفقهاء عنوا بقولهم: (الواجب واحد لا بعينه) هذا المعنى بعينه؛ فلا يتحقق الخلاف أصلا. بل هاهنا مذهب يرويه أصحابنا عن المعتزلة، ويرويه المعتزلة عن أصحابنا، واتفق الفريقان على فساده، وهو: أن الواجب واحد معين عند الله تعالى. غير معين عندنا، إلا أن الله تعالى علم أن الله تعالى علم أن المكلف لا يختار إلا ذلك الذي هو واجب عليه.

والدليل على فساد هذا القول: أن التخيير معناه: أن الشرع جوز له ترك كل واحد منها، بشرط الإتيان بالآخر وكونه واجبا على التعيين عند الله تعالى معناه أنه تعالى منعه من تركه على التعيين والجمع بين جواز الترك وعدم جوازه متناقض، فصح ما ادعيناه أنه يمتنع أن يكون كل واحد منها واجبا على التعيين. فإن قلت: لانسلم أن التخيير ينافي تعيينه عند الله تعالى: بيانه: أن الله تعالى، وإن خير بين الكفارات، لكنه علم أن المكلف لا يختار إلا ذلك الذي هو واجب، فلا يحصل الإخلال بالواجب. أو نقول: لم لا يجوز أن يقال: إن لاختيار المكلف تأثيرا في كون ذلك الفعل المختار واجبا؟ أو نقول: لا يمتنع أن يكون ماعدا ذلك الفعل المعين مباحا، ويسقط به الفرض، كما يقولون: إن الإتيان بالفعل المحظور قد يسقط به الفرض كالصلاة في الدار في الدار المغصوبة. قلت: الجواب عن الأول: أن الله تعالى؛ لما خيرنا بين الأمرين، فقد أباح لنا ترك كل واحد منهما؛ بشرط الإتيان بالثاني، ووجوبه على التعيين: معناه: أنه تعالى لم يجوز لنا تركة ألبتة، فلو خير الله تعالى بينه وبين غيره مع أن جعله واجبا على التعيين لكنا قد جمع بين جواز الترك، وبين المنع منه. أما قوله: (إن لاختيار المكلف تأثيرا): قلت: لانزاع في تحقق الوجوب قبل الاهتيا، فمحل الوجوب، إن كان واحدا معينا فهو باطل، لأن التخيير ينافي التعيين.

وإن كان واحدا غير معين فهو محال؛ لأن الواحد الذي يفيد كونه غير معين ممتنع الوجود، وما يكون ممتنع الوجود يمتنع زن يقع التكليف بفعله. وإن كان الواجب هو الكل بشرط التغيير، فذاك هو المطلوب. قوله: (لم لا يجوز أن يسقط الواجب بفعل ما ليس بواجب؟) قلنا: لأن الأمة أجتمعت على أن الآتي بواحدة من الخصال الثلاث المشروعة في الكفارة، لو كفر بغيرها من الثلاث، لأجزأته، ولكن فاعلا لما وقع التكليف به، وذلك يبطل ماذكروه. واحتج المخالف بأن لفعل الواجب أثرا، ولتركه أثرا، وكلا الأثرين يدلان على أن الواجب واحد. أما طرف الفعل، فقالوا: هذا الفعل له صفات: كونه بحيث يسقط الفرض به، وكونه واجبا، وكونه بحيث يستحق عليه ثواب الواجب، وكونه الواجب، وكونه بحيث ينوي بفعله أداء الواجب، وكل هذه الصفات تقتضي أن أكون الواجب واحدا معينا. فأولها: سقوط الفرض، فقالوا: لو لم يكن الواجب واحدا معينا لكنا المكلف، إذا أتى بكلها دفعة واحدة: فإما أن يكون سقوط الفرض معللا بكل المكلف، إذا أتى بكلها دفعة واحدة: فإما أن يكون سقوط الفرض معللا بكل واحد منها؛ فيكون قد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وذلك محال؛ لأن ذلك الأثر مع أحد المؤثرين يصير واجب الوجود بذاته، وواجب الوجود بذاته يستحيل أن يكون واجب الوجود بغيره، فهو مع هذا المؤثر يمتنع أن يكون معللا بالمؤثر الثاني، ومع المؤثر الثاني يمتنع أن يكون معللا بالمؤثر

الأول، فإذا وجد المؤثران معا، يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما فيكون محتاجا إليهما معا وغنيا عنهما معا، وذلك محال. وإما أن يكون سقوط الفرض بالمجموع، فذلك محال؛ لأنه يلزم أن يكون المجموع واجبا، وقد فرضنا الإتيان بالكل غير واجب. ،إما أن يكون سقوط الفرض بواحد منها؛ فذلك الواحد إما أن يكون معينا، أو غير معين: والأول باطل؛ لأن الأثر المعين يستدعي مؤثرا معينا موجودا، وكل موجود، فهو في نفسه معين ولا إبهام ألبتة في وجود الخارجي؛ إنما الإبهام في الذهن فقط. وإذا امتنع وجود واحد غير معين، امتنع الإتيان به، وإذا امتنع الإتيان به، امتنع أن يكون الإتيان به علة لسقوط الفرض ولما بطل هذا، ثبت أن علة سقوط الفرض: هو الإتيان بواحد منها معين عند الله تعالى، وهو المطلوب. وثانيها: كونه واجبا فإذا أتى المكلف بكلها: فإما أن يكون المحكوم عليه بالوجوب مجموعها، أو كل واحد منها، وعلى التقديرين، ويلزم أن يكون الكل واجبا على التعيين، لا على التخيير وهو باطل. أو واحدا غير معين، وهو باطل، لأن غير المعين يمتنع وجوده، فيمتنع إيجابه. أو واحدا معينا في نفسه غير معلوم لنا، وهو المطلوب. وثالثها: أن يستحق عليه ثواب الواجب، فإذا أتى المكلف بكلها: فإما أن

يستحق ثواب الواجب على كل واحد منها، أو على مجموعها؛ وعلى التقديرين يلزم أن يكون الكل واجبا على التعيين، وإما ألا يستحق ثواب الواجب منها إلا على واحد، فذلك الواحد: إما أن يكون معينا، أو غير معين: والثاني محال؛ لأن استحقاق ثواب الواجب على فعله حكم ثابت له معين، والحكم الثابت المعين يستدعي محلا معينا، ولأن فعل شيء غير معين محال؛ فعلمنا أن ذلك الواحد معين في نفسه غير معلوم للمكلف. وربما أوردوا هذا الكلام على وجه آخر: وهو أنه إذا أتى بالكل: فإما أن ينوي الوجوب في فعل كل واحد، أو في فعل واحد دون الباقي، وتمام التقرير كما تقدم. وأما طرف الترك، فأثره استحقاق العقاب؛ فالمكلف، إذا أخل بها أسرها: فإما أن يستحق العقاب على ترك كل واحد منها، فيكون فعل كل واحد منها واجبا على التعيين، هذا خلف أو علي ترك واحد منها، وهو: إما أن يكون معينا أو غير معين، والثاني محال. أما أولا فلأنه إذا لم يتميز واحد منها عن الاخر بصفة الوجوب، كان إسناد استحقاق العقاب إلى واحد منها دون الاخر ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الاخر لمرجح وهو محال. وأما ثانيا: فلأن استحقاق العقاب على الترك حكم معين؛ فيستدعي محلا معينا لاستحالة قيام المعين بغير المعين. وأما ثالثا: فلأن استحقاق العقاب على الترك يستدعي إمكان الفعل، ولاإمكان لفعل شيء غير معين

ولما بطل هذا القسم: ثبت أنه معلل بترك واحد معين عند الله تعالى وهو المطلوب. وأما الذين زعموا أن الواجب واحد غير معين، فقد احتجوا عليه، بأن الإنسان إذا عقد على قفيز من صبرة، فالمعقود عليه قفيز واحد لا بعينه، وإنما يتعين باختيار المشتري أخذ قفيز منها، فقد صار الواحد الذي ليس بمتعين في نفسه معينا باختيار المكلف. وكذا إذا طلق زوجة من زوجاته لا بعينها، أو أعتق عبدا من عبيده لا بعينه، وكذا القول في عقد الإمامة لرجلين دفعة واحدة، والخاطبين لامرأة واحدة، فإن الجمع فيه حرام. والجواب عن الأول: أنه يسقط الفرض عندنا بكل واحد منها. قوله: (يلزم أن يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة): قلنا: هذه الأسباب عندنا معرفات، لا موجبات، ولا يمتنع أن يجتمع على المدلول الواحد معرفات كثيرة. وعن الثاني: إن أردت بقولك: (هي واجبة كلها) أنه يلزم فعلها بعد أن صارت مفعولة، فذلك محال، وغير لازم. ولا يبقى بعد هذا إلا أن يقال: إنها قبل دخولها في الوجود، هل كانت بحيث يجب تحصيلها: إما على الجمع، أو على البدل؟ وجوابنا أن نقول: أما الجمع، فلا، وزما البدل، فنعم؛ بمعنى أنها بعد وجودها يصدق عليها، أنها كانت قبل وجودها بحيث يجب تحصيل أي واحد منها اختار المكلف، بدلا عنه صاحبه، وذلك لا يقدح في قولنا.

وأيضا، فهذه الشبهة والتي قبلها لازمة للمخالف، إذا قال: (الواجب هو ما يختاره المكلف) لأنه إذا أتى بالكل، فقد اختار كلها؛ فوجب أن يسقط الفرض بكل واحد منها، وأن يكون كل واحد منها واجبا؛ وحينئذ يلزمه ما أورده علينا. وعن الثالث: قال بعضهم: إنه يستحق ثواب الواجب على فعل أكثرها ثوابا، ويمكن أن يقال: إنه يستحق على فعل كل واحد منها ثواب الواجب المخير، لا ثواب الواجب المعين، ومعناه: أنه يستحق على فعلها ثواب فعل أمور كان له ترك كل واحد منها؛ بشرط الإتيان بالآخر، لا ثواب فعل أمور كان يجب عليه الإتيان بكل واحد منها على التعيين. وعلى هذا التقدير، يسقط السؤال، وهو الجواب عن قوله: كيف ينوي؟ وعن الرابع: قال بعضهم: يستحق عقاب أدونها عقابا، ويمكن أن يقال: لم لا يجوز أن يستحق العقاب على ترك مجموع أمور كان المكلف مخيرا بين ترك أي واحد منها كان بشرط فعل الآخر؟ وعن الخامس: أنه ليس العقد بأن يتناول قفيزا من الصبرة أولى من أن يتناول القفيز الآخر، لفقدان الاختصاص، فوجب أن يكون كل قفيز منها قد تناوله العقد، لكن على سبيل البدل؛ على معنى أن كل واحد منها لا اختصاص لذلك العقد به على التعيين، وللمشتري أن يختار أي قفيز شاء، وإذا اختاره، تعين ملكه فيه، فتعين الملك في القفيز المعين كسقوط الفرض في الكفارة. وكذا إذا طلق زوجته من زوجاته، لا بعينها، أو أعتق عبدا من عبيده، لا بعينه: أن كل واحد منهن طالق على البدل، وكل واحد منهم يعتق على البدل؛

على معنى أنه لا اختصاص للطلاق أو العتق بواحد معين، وأن أي امرأة اختار مفارقتها تعينت الفرقة عليها، وحلت له الأخرى وأي عبد اختار عتقه، تعينت فيه الحرية، وكان له استخدام الباقين، والله أعلم. فرع: الأمر بالأشياء قد يكون على الترتيب، وقد يكون على البدل، وعلى التقديرين؛ قد يكون الجمع محرما، ومباحا، ومندوبا. مثال المحرم في الترتيب: أكل الميتة، وأكل المباح، وفي البدل: تزويج المرأة من كفئين ومثال المباح في الترتيب: الوضوء والتيمم، وفي البدل: ستر العورة بثوب بعد ثوب. ومثال المندوب في الترتيب: الجمع بين خصال كفارة الفطر. وفي البدل: الجمع بين خصال كفارة الحنث، والله أعلم. القسم الثاني في المسائل المعنوية المسألة الأولى في الواجب المخير

...............................

قال القرافي: قال سيق الدين: أطلق الجبائي وابنه القول بوجوب الجميع. واتفق الكل على جواز ترك البعض. وقال أبو الحسن البصري: المراد بوجوب الجميع أنه يحرم ترك الجميع، فيكون خلافا في اللفظ دون المعنى.

(قاعدة) متعلق التكليف أبدا أعم من متعلق الحكم في حق المطيع

قوله: (الجمع بين التعيين والتخيير متناقض). تقريره: أن الإجماع منعقد على التخيير، والإجماع معصوم لا يقول إلا حقا، فإذا أخبر أن الله تعالى خير فيها كان التخيير واقعا في نفس الأمر والمقدر وقوع التعيين في نفس الأمر، فيجتمع التعيين وعدم التعيين الناشئ عن التخيير في نفس الامر، فيجتمع النققيضان. (قاعدة) متعلق التكليف أبدا أعم من متعلق الحكم في حق المطيع، ونقيضه في حق العاصي. أما الأول: فلأن الله تعالى أوجب الظهر مثلا والمكلفون يفعلونه في بقاع مخصوصة في هيئات مخصوصة، فذاك الواقع أبدا لم يوجبه الله تعالى بما هو ذلك الخاص، بل الواجب على جميع الخلق إنما هو الظهو من حيث هو ظهر، المشترك بين جميع صلواتهم التي صلوها، يعنون بها الظهر، فالواقع من كل إنسان يعلم الله تعالى أنه أخص مما أوجب عليه؛ لأنه تعالى أوجب الظهر وهذا ظهر بقيوده، والمقيد أخص من الحقيقة من حيث هي هي، فمتعلق العلم أبدا أخص من متعلق التكليف، وكذلك نقول في جميع الأفعال المكلف بها، فتأمل ذلك، ويظهر لك به أن الله تعالى ما كلف في الشرائع إلا بكلى لا يجري بالشخص، وإن كان جزئيا بالنوع [أخص منه دائما الواجب المعين فكيف؟] ويظهر لك أيضا بطلان قولهم: إن الواجب هو ما علم الله تعالى أنه سيوقعه، بل الواقع أخص منه دائما في الواجب المعين، فكيف في المخير؟ وأما في املعاصي: فمتعلق الأمر هو الفعل الواجب، ومتعلق العلم هو نقيض الواجب؛ لأنه عدمه وتركه، فليس بين متعلق العلم ومتعلق التكليف أبدا مطابقة، بل المباينة دائما إما بالخصوص والعموم، وإما بالتناقض.

(قاعدة) مفهوم أحد الأشياء قد يشترك بينها لصدقه على كل واحد منها

قوله: (وإن كان واحدا غير معين فهو محال؛ لأن الواحد بقيد كونه غير معين ممتنع الوجود) المعين. قلنا: غير المعين أعم من كونه مأخوذا بقيد سلب المعين، أو من حيث هو، فمن حيث هو هو لا يمتنع وجوده كما في ضمن املعين، ولذلك جاز التكليف بالمطلقات بالإجماع لإمكان وجودها في ضمن المقيدات، ولا يمعنى للمطلق إلا غير المعين. (قاعدة) مفهوم أحد الأشياء قد يشترك بينها لصدقه على كل واحد منها، والصدق عليها مشترك بينهما، وهذا المفهوم الذي هو القدر المشترك بين الخصال هو متعلق الوجوب، ولا تخيير فيه كما أن الخصوصيات متعلق التخيير، ولا وجوب فيها، فإن الله تعالى لم يوجبه خصوصي العتق، ولم يخبر في ترك المشترك؛ لأن تركه هو ترك جميع الخصال، وهو خلاف الرجماع، ولا يتصور تركه إلا بذلك. (قاعدة) تعلق الخطاب بالمشترك بين أشياء ينقسم إلى: الواجب فيه كالموسع. والواجب عليه، كفرض الكفاية. والواجب به، كالمشترك بين أفراد نصب الزكاة، والمشترك بين أفراد الأزمنة إذا قلنا: إن زكاة الفطر تجب وجوبا موسعا من غروب الشمس إلى غروب الشمس من يوم الفطر، وبه يظهر الفرق بين قولهم

(قاعدة)

إنها تجب [بطلوع الفجر، أو بغروب الشمس أو بطلوع الشمس من يوم الفطر]، ولا يأثم بالتأخير في الأقوال كلها حتى تغرب الشمس من يوم الفطر، فقد أجمعوا على التخيير والتوسعة، فلا معنى للقول الرابع. وجواب هذا: أن المشترك في الرابع واجب بسببه، وفي الثلاثة واجب فيه، وإلى الواجب نفسه كخصال الكفارة، فهذه أربعة أقسام ظاهرة، وفهمها جليل. (قاعدة) هذه المشترك متعلق خمسة أشياء: الواجب كما تقدم. وبراءة الذمة، فلا تبرأ الذمة إلا به؛ لأن الذمة لا تبرأ من الواجب إلا بفعل ذلك الواجب، فإذا فعل في ضمن المعين برئت الذمة به لا بالمعين. والثالث: هو متعلق ثواب الواجب على تقدير الفعل، فلا يثاب ثواب

(قاعدة) التخيير يطلق على ثلاث معان

الواجب إلا على القدر المشترك في ذلك المعين، والخصوص قد يثاب عليه ثواب الندب إن كان فيه مصلحة تختص به، كما يقول بعض العلماء: الإطعام أفضل. وبعضهم يقول: العتق أفضل، وقد لا يثاب عليه لعدم المصلحة فيه، وإن وقع ذلك المشترك في أقل خصال مصالحه. الرابع: هو متعلق الإثم على تقدير الترك، فلا يعاقب إلا على ترك المشترك الذي هو مفهوم أحدهما دون خصوص العتق وغيره. فهذا هو تلخيص قوله: (الواجب الكلي بشرط التخيير) أي المشترك بينهما. الخامس: هو متعلق النية، فلا ينوي أداء الواجب إلا بمفهوم أحدها الذي هو قدر مشترك بينها، لا بخصوص العتق، كما أنه إنما ينوي أداء الواجب في الصلاة بمفهوم الظهر الذي هو قدر مشترك بين جميع صلوات الناس، لا بخصوص كونه صلى في البقعة الخاصة، والهيئة الخاصة. (قاعدة) التخيير يطلق على ثلاث معان: أحدها: وجوب النظر فيما يعرض له عدة أسباب؛ فإنها تعين وجوب العمل بمقتضاه، وهذا الباب هو جميع ما فرض الله تعالى إلى كل من ولي ولاية من القاضي إلى الخليفة. وأصل هذه القاعدة قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) [الأنعام:152]، وإذا وجب ذلك في مال اليتيم فالحظر أولى لأن تخيره في المجازين معناه أي سبب تعين له يقتضي نفيا أو قطعا أو ميلا وجب عليه العمل بمقتضاه، ويحرم عليه العدول عنه، ويجب عليه بذل الجهد في تعيين السبب، وكذلك تخييره في الأسارى بين خمس، وكذلك

قولنا: التقدير معوض لاجتهاد الإمام، وصرف بيت المال، وكذلك سعاة الماشية حيث جوزنا له أخذ دون السن. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من ولى من أمور أمتي شيئا فلم يجتهد لهم ولم ينصح فالجنة عليه حرام). وثانيها: إباحة محضة، كأكل الطيبات، ولبس اللباس، ومنه تعارض أمارتين في حق المجتهد، أو بينتين في حق القاضي، فإنه يخير بينهما. وثالثها: ما يتركب منهما، وهو خصال الكفارة ونحوها، كإخراج شاة من زربعين، ورعتقا رقبة من رقاب الدنيا؛ فإن المشترك واجب لا خيرة فيه، والخصوصات مخير فيها، وليست واجبة، فعلى هذا يتلخص أن المخير قد يوجب بخصوصه مخير فيها، وليست واجبة، فعلى هذا يتلخص أن المخير قد يجب بخصوصه وعمومه، كتصرفات الولاة. وقد لا يجب بخصوصه ولا عمومه كأكل الطيبات، وقد يجب بعمومه دون خصوصه كالكفارات، وتلخص أن التخيير متى وقع في تصرفات الولاة، فهو دائر بين واجبات، أو في فعل المكلفين، فهو دائر بين الحاجات. قوله: (الأثر مع أحد المؤثرين يصير واجب الوجود) تقريره: أن كل مؤثر إنما أثر إذا استجمع ما لا بد منه في ذلك، مثاله في العاديات من أراد أن يكتب ألفا، فلا بد له من الدواة والقلم والقرطاس، ولا بد من حركة يده بالطبع في القلم والقرطاس، ولا بدمن وضع رأس القلم على القرطاس، ولا يكفي ذلك فلا بد من تمشية الأصبع على القرطاس مساحة الكف، وحينئذ تجب الألف متى حصلت جميع الشروط، وانتفت جميع الموانع بالضرورة، وهذا معنى قول العلماء: كل مؤثر استجمع لأثره وجب أثره، غير أن قول المصنف: (يصير واجب الوجود

قاعدة: الكليات ثلاثة

لذاته) [غير متجه، بل الوجود لغيره؛ لأنه ممكن في ذاته، والممكن في ذاته لا يكون واجب الوجود لذاته]؛ لأنه قسيمه، وإذا بطل هذا بطل أيضا قوله المبني عليه: (إن واجب الوجود بذاته يستحيل أن يكون واجب الوجود بغيره] مع زن كلام صحيح في نفسه، غير أنه ليس في موضعه، بل المتجه الغير فيه افتقاره للمؤثر، وقد انتفى هذا الافتقار، فلو أثر فيه الغير لزم تحصيل الحاصل، وكذلك وجوبه بالآخر يقتضي استغناءه عن الزول، فيستغني بسبب صدوره عنهما، فيكون واقعا بهما غير واقع بهما، وهو محال. قوله: (إن سقط الفرض بالمجموع يلزم أن يكون المجموع واجبا). تقريره: أن الذمة لا يبرؤها عن الواجب إلا فعل ذلك الواجب، فلو برئت بالمجموع لكان المجموع واجبا. قوله: (سقوط الفرض بغير المعين محال؛ لأن الأثر المتعين يستعدعي مؤثرا موجودا، وكل موجود فهو في نفسه معين، فلا إيهام ألبتة في الوجود الخارجي، إنما الإبهام في الوجود الذهني، وإذا امتنع الإتيان بغير المعين امتنع كونه مسقطا للفرض). قلنا: قولكم كل موجود هو في نفسه معين. قلنا: تريدون: معينا بالشخص أو بالنوع؟ فإن المتعين أعم، والزول ممنوع والثاني مسلم، والمشتركات موجودة في الخارج في ضمن الأشخاص المعينة، فلا يحصل المطلوب. (قاعدة) الكليات ثلاثة: كلي طبيعي وكلي منطقي وكلي عقلي.

فإذا قلنا: الإنسان كلي، فالمحكوم عليه الذي هو الإنسان كلي طبيعي لأن الله تعالى طبعه في الخارج وشخص فيه أشخاص، وقولنا: كلي الذي هو خبر المبتدأ كلي منطقي؛ لأنه إشارة إلى الصورة الذهنية الكلية المنطبقة على جميع الأشخاص. وكلام أهل المنطق ليس إلا فيها، والأول إنما يتكلم فيه الطبيعيون. فسميت بالمنطقي لذلك. والمجموع المركب منهما هو الكلي العقلي، الذي هو شيء اخترعه العقل، ولم يوجد؛ لأنه ضم ما في الذهن لما في الخارج فاعتبرهما حقيقة واحدة، وليس في نفس الأمر حقيقة واحدة مركبة من الذهني والخارجي مسمى عقليا. لذلك فالكلي الطبيعي في الخارج؛ لأن الله تعالى خلق إنسانا بالضرورة، فإن كان مجردا فالكلي الطبيعي بالضرورة في الخارج، وإن كان مع قيد، ومتى وجد مع قيد وجد بالضرورة، فالكلي في الخارج بالضرورة، وأما المنطقي فلا يوجد إلا في الذهن، وأما العقلي فأمر اعتباري، لا في الذهن ولا في الخارج من حيث جملته لا من حيث مفرداته، فمتى قيل: الكلي أو غير المعين ليس في الخارج، إن أريد الطبيعي منع أو غير مسلم. وأكثر مباحث هذه المسألة يظهر فيها المنع بهذه القاعدة، ويقول: غير المعين موجود في الخارج، ويكون متعلق الثواب براءة الذمة والتكليف، وتركه متعلق العقاب. قوله: (والحكم الثابت المعين يستدعي محلا معينا). قلنا: وإنه معين بالنوع، وفعل غير المعين في ضمن ممكن. قوله: (إذا لم يتميز واحد مهما عن الاخر بصفة الوجوب كان إسناد استحقاق العقاب إلى واحد منهما دون الآخر ترجيحا من غير مرجح). قلنا: محل الوجوب هو القدر المشترك، وهو معين بالنوع، والوجوب

متعين له، وتركه هو الذي يقتضي العقاب، فما لزم الترجيح من غير مرجح، وإنما يلزم ذلك أن لو كان الوجوب دائرا بين المعينات ولا ينضبط لواحد منها، ولذلك يقول المستدل: الذي هو مفهوم أحدها هو محل معين بالنوع لا بالشخص، فكان متعلق العقاب، فإذا ادعيتهم أنه لا بد للعقاب من محل معين بالشخص، فكان متعلق العقاب، فإذا ادعيتم أنه لا بد للعقاب من محل معين بالشخص، فهو ممنوع، بل نحن نعتقد أن ذلك ما يوجد في الشرائع؛ لأن التكليف لا يتعلق في الإيجاب والتجريم وجميع الأحكام إلا بمستقبل معدوم، ولا شيء من المعدومات بمشخص ألبتة، إنما المشخصات من عوارض الوجود. قوله: (إذا اشترى قفيزا واحدا صار ما ليس بمعين في نفسه معينا في اختيار المكلف). قلنا لا نسلم أن ماليس بمعين في نفسه صار معينا بالاختيار لأن العقد في الصبرة ما تناول إلا القدر المشترك بين أقفزتها، فإذا أخذ قفيز كان في ذلك القفيز عموم وخصوص، فعمومه في كونه أحد أقفزة الصبرة، وخصوصه كونه هذا المشار إليه، فذلك العموم هو متعلق العقد أولا وآخرا ولا غرو أن يقبض المشتري ما ليس معقودا عليه؛ لأنه وقع من ضرورة قبض البيع وتسليمه، وليس فيه مصلحة تتعلق بالمعاوضات فإن المالية إنما هي في كونه صاعا، أما كونه هذا الصاع فلا مالية فيه فلا يتناوله العقد، ولم يصر غير المعين معينا، بل صار غير المعين في ضمن المعين، فإن أردتم ذلك فهو حق، أما انقلاب الحقائق بأن يصير غير المعين معينا فلا. قوله: (وكذلك إذا طلق أحد نسائه لا بعينها، أو أعتق أحد عبيده لا بعينه) قلنا: هذه مختلفة بالنظر والاعتبار؛ فإن لنا قواعد:

القاعدة الأولى: إن مفهوم أحد الأشياء قدر مشترك بينها لصدقه عليها. القاعدة الثانية: أن تحريم الكليات يلزم منه تحريم جميع جزئياتها، وكذلك نفيها بخلاف إثباتها أو الإثبات فيها، وفرق بين إثباتها أو الإثبات فيها أن قولك في الدار رجل إثبات للمشترك نفي مفهوم الرجال في الدار، وقولك في الإنسان خداع، أي في بعض الأوقات، وفي بعض الحال، وكذلك قولك أوجب الشارع في المال صدقة، أي في بعض صوره، فهذا إثبات في المشترك، وهو مغاير الإثبات للمشترك، ومن الإثبات في المشترك قولك عليّ نذر عتق رقبة، فقد أوجبت على نفسك في هذه الحقيقة أن تعتق واحدا فيها، وكذلك إيجاب الشرع للطلقات كلها إيجاب في المشترك. والفرق بينهما لطيف، وهو في بعض المحال أظهر من بعض. القاعدة الثالثة: أن الطلاق تحريم والعتق إسقاط، فالمطلق لما أضاف الطلاق الذي هو تحريم لمفهوم إحدى نسائه، الذي هو مشترك بينهما حرمت جزئيات هذا المشترك، فيحرمن كلهن، ولا تمييز حينئذ، ولا يكون هذا المثال من هذا الباب؛ لأنا نتكلم في باب إيجاب المشترك لا في باب تحريم المشترك، وإذا أعتق أحد عبيده، فقد وضع مفهوم الإسقاط في مشترك، كما لو قال الله على أن أعتق عبدا من عبيدي، فلا يلزمه غير عبد يختاره؛ لو ضعه في مشترك من غير تحريم. فإن قلت: إذا أعتق أحد عبيده، فقد حرم عليه مله واستيفاء منافعه، فالعتق تحريم كالطلاق، فما الفرق؟ قلت: التحريم قسمان: تارة يكون هذا الواقع في الرتبة الأولى، وتارة يكون لازما، وهاهنا وقع لازما، والطلاق تحريم في الرتبة الأولى، ويلزمه الإباحة للأزواج، كل تحريم يلزمه إيجاب أحد أضداده، [وكل إيجاب يلزمه تحريم جميع أضداده] والقاعدة التي تقدم بسطها مرارا أن الحقائق

الواقعة لازماً تابعة لا تثبت لها أحكامها، وإنما تثبت لها أحكامها إذا وقعت مقصودة في الرتبة الأولى، والمعتق لم يحرم على نفسه شيئا بل أسقط حقه، وبقيت المنافع مباحة توقف إباحتها على إذن المعتق كما يتوقف أكل الفاكهة على إذن مالكها، ولا يقال هي محرمة، بخلاف الوطء حرام بعد الطلاق حتى لو أباحته المرأة لم تتناوله الإباحة، وأما عقد الإمامة لرجلين دفعة، والخاطبان جملة، فهذه تصرفات محرمة، ومتعلق التحريم المجموع، كالجمع بين الأختين، والأم وابنتها، ونحن نتكلم في باب الوجوب لا باب التحريم. قوله: (هذه الأمور معرفات) تقريره: أن الإتيان بالواجب سبب لبراءة الذمة منه، والعلم بحصول السبب يوجب العلم بحصول المسبب، فهو معرف له حينئذ، وكل جزء من أجزاء العالم معرف لوجود الله تعالى، ولم يمتنع اجتماعها كلها في التعريف. قوله: أن الكسب والإيجاد لا يتعلق بالشيء إلا حالة حدوثه، وهو أول أزمنة وجوده التي تلي آخر أزمنة عدمه، أما تعلقه لما تقدم وجوده فمحال؛ لأن المؤثر إن أوجد عين الموجود، فهو تحصيل الحاصل أو غيره فهو اجتماع المثلين، بل معنى ذلك أن هذه الخصال كانت قبل الإيجاد، يجب تحصيل المشترك بينهما في واحد منها، وهو معني قوله: يجب تحصيل على البدل. قوله: (يلزم الخصم أن يكون الكل واجبا، لأنه قال: الواجب ما يختاره المكلف، وهو قد اختار الكل، فيكون الكل واجبا) قلنا: ويلزمه أيضا أن من علم الله تعالى ألا يفعل شيئا أنه لم يجب عليه شيء؛ لأن متعلق عالم على هذا التقدير هو متعلق التكليف.

قوله: (قال بعضهم يستحق ثواب الواجب على فعل أكثرها ثوابا) قلنا: لا يتجه ذلك؛ لأن ثواب الواجب لا يترتب على غير الواجب فأكثرها ثوابا إن كان واجبا تعين، وحينئذ لا يجزئ غيره، وإن لم يكن واجبا لا يثاب عليه ثواب الواجب، فلا معنى لهذا القول، بل أكثرها ثوابا أن فرض فيها يحصل فيه نوعان من الثواب: ثواب الواجب على المشترك بينهما، وثواب المندوب على خصوصه. قوله: (يستحق على فعل كل واحد منهما ثواب الواجب المخير لا ثواب الواجب املعين، بمعنى أنع يستحق على فعلها ثواب أمور كان له ترك كل واحد منها بشرط الإتيان بالآخر) قلنا: هذه العبارة فيها إجمال شديد، فإن كان مرادكم المشترك قصر جوابه، كما تقدم تقريره، فلا يبقى إجمال ألبتة، وإن أردتم غيره فهو غير معقول، قوله: (يستحق عقاب أدونها عقابا). قلنا: هذا أقل خللا من قول الآخر: يستحق ثواب الواجب على أكثرها ثوابا؛ لأن أقلها يكاد ينطبق على المشترك إذ لا أقل منه، غير أن هذه العبارة توهم أنه معين من الخصال بخصوصه كالكسوة مثلا بالنسبة إلى العتق والإطعام، وليس كذلك؛ لأنه لو استحق العقاب على تركه لكان هو الواجب عينا، فلا تخيير حينئذ. قوله: (يستحق العقاب على ترك مجموع أمور كان مخيرا فيها). قلنا: هذه أيضا عبارة مجملة، ولا يخلص منها إلا القول بالمشترك والتصريح به.

(سؤال)

قوله: (ليس تناول العقد لقفيز من الصبرة أولى من تناول الفيز الآخر، فوجب أن يكون كل قفيز منها يتناول العقد على سبيل البدل) قلنا: هذه أيضا عبارة مجملة، فلو قلتم يتناول مفهوم القفيز الذي هو قدر مشترك بينهما صح من غير إجمال قوله: (طلق إحدى نسائه على البدل) قلنا: قد تقدم أن لزوم الطلاق في الجميع بقواعد قطعية، فلا يعدل عنها قوله: (مثال المباح، الوضوء، والتيمم) تقريره: أن المقصود صورة التيمم لا التيمم المبيح، والمقصود في هذا الموطن كله إنما هو الجمع بين الصور التي وقع فيها الجمع أو البدل، فصورة الطعام والميتة يمتنع الجمع بينهما، وكذلك التزويج من كفئين بخلاف الوضوء والتيمم. (سؤال) قال الشيخ سيف الدين: للشيخ شمس الدين الأبياري لما قدم (مصر): لو كان الواجب واجدا لا بعينه لكان بعضها ليس بواجب، وإلا لكان الكل ليس واجبا؛ لأن نقيض السالبة الكلية الموجبة الجزئية، والسالبة الجزئية نقيضها الموجبة الكلية، فلو لم تصدق السالبة الجزئية وهي قولنا بعضها ليس بواجب لصدقت الموجبة الكلية، وهي قولنا: الكل واجب، لكن وجوب الكل خلاف الإجماع، فيتعين أن بعضها ليس بواجب، وإذا كان بعضها ليس بواجب يلزم التخيير بين الواجب وماليس بواجب، وذلك يفضي لترك الواجب باختيار الملكف غير الواجب وهو باطل، فبطل قولنا: الواجب واحد لا بعينه، فلم يجبه شمس الدين عنه على ما قيل، وأشار إلى هذا السؤال في (الإحكام) مختصراً.

(فائدة) متعلق الوجوب في الواجب المخير

وجوابه: أن نقول: لنا قاعدة وهي وهي أن كل ما ثبت للأعم من اللوازم كان للأخص ضرورة ثبوت الأعم في الأخص، فمتى كان للحقيقة جهتا عموم وخصوص صدق عليها أحكام الخصوص من جهة خصوصها، فكل خصلة من خصال الكفارة لها جهتان: جهة عموم وهي كونها أحد الأمور. والثانية: جهة خصوص، وهي كونها عتقا، مثلا فيصدق عليها الوجوب من جهة أنها أحد الخصال، وعدم الوجوب من جهة أنها عتق فيصدق على كل واحد منها أنها واجبة، وغير واجبة من جهتين مختلفتين فعلى هذا نقول: بعضها ليس بواجب من جهة خصوصها ولا يلزم من ذلك التخيير بين الواجب، وما ليس بواجب، بل التخيير واقع بين الخصوصات وهي لا وجوب وجوب فيها، والمشترك الذي هو جهة العموم واجب لا تخيير فيه أو نقول: الكل واجب [من جهة عمومه، ولا يلزم من ذلك خلاف العموم واجب لا تخيير فيه أو نقول: الكل واجب من جهة عمومه، ولا يلزم من ذلك خلاف الإجماع، فرن الذي هو خلاف الإجماع هو وجوب كل واحد منها جهة عمومه وخصوصه] ولم نقل به، فلم يخالف الإجماع وعلى هذا التقدير والتفصيل يحصل الجواب وتندفع به الشبهة. (فائدة) متعلق الوجوب في الواجب المخير هو القدر المشترك بين الخاصال، وقد وجد ذلك في كثير من الصور، ولم يسم ذلك واجبا مخيرا لتعلق الوجوب بمفهوم الشاة من أربعين، ومفهوم الدينار من أربعين دينارا وإعتاق رقبة من رقاب الدنيا، وجميع المطلقات تعلق الخطاب فيها بالمشترك، ولكن المشترك له حالتان: تارة تكون بين أنواع وأجناس، وتارة تكون بين أفراده نوع الأول هو الذي اصطلح عليه بالواجب المخير فلا يندرج فيه الثاني أبدا لا عليه.

(فائدة)

(فائدة) قال الغزالي في (المستصفى) ينتقل الواجب المرتب للواجب المخير لعجزه عن الخصلتين الأولين، فيسقط عنه خصوصها، وله تجشمها فيحصل التخيير بين الثلاث بعروض العجز لا بالخطاب الأول. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: ادعت المعتزلة استحالة الوجوب والتخيير، فنقض عليهم بخصال الكفارة. فاختلفوا في وجوبها: فقال بعضهم: الكل واجب، وإن أتى بها كلها فالكل واجب، وإن أتى ببعضها سقط الباقي. وقال بعضهم: الكل واجب لكن على البدل. وهذا هو مذهب الفقهاء منها، وصرح بألفاظ أوضح من عبارة المصنف في الأجوبة. فقال: الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، فيعلم الواجب الذي ليس بمعين غير معين، وإذا أتى بها كلها سقط الفرض بالأمر الذهني، يريد الكلي، قال: كما في المطلقات، وإذا تركها كلها أثم بترك الواجب فيها كالمطلقات، قال: وانعقد الإجماع على ثلاث فرق اختار كل منهم خصلة غير الخصلة التي اختارها الآخرون أنهم أتوا بالواجب، والواجب لا ينقلب غير واجب. وزاد المعتزلة: أن الإيجاب لا بد فيه من صفة تقتضي الوجوب، فتقضي تلك الصفة محلا معينا ومنعهم ذلك.

(تنبيه)

(تنبيه) يعلم مما تقدم من القواعد أن التخيير كما تصور في الواجب، فإنه لا يتصور في المحرم، لأن التخيير مولى إلى تعلق الخطاب بالمشترك، وتحريم المشترك يقتضي تحريم الكل، كما تقدم في قواعد هذه المسألة فيبطل التخيير فيها، فصار ثبوته يفضي إلى نفيه، فلا يثبت، وقد تقدم أول الكتاب في حدود الأحكام، ونقل سيف الدين عن أصحابنا جوازه، وهو غير جائز كما ترى.

المسألة الثانية الواجب الموسع الفعل بالنسبة إلى الوقت يكون على أحد وجوه ثلاثة: الأول: أن يكون الفعل فاضلا عن الوقت، والتكليف بذلك لا يجوز إلا إذا جوزنا تكليف ما لا يطاق، أو يكون المقصود إيجاب القضاء، كما إذا ظهرت الحائض أو بلغ الغلام وبقي من وقت الصلاة مقدار ركعة، أو أقل. والثاني: ألا يكون أزيد ولا أنقض، نحو: الأمر بإمساك كل اليوم، وهذا لا إشكال فيه. والثالث: أن يكون الوقت فاضلا عن الفعل، وهذا هو الواجب الموسع واختلف الناس فيه: فمنهم من أنكره، وزعم أن الوقت لا يمكن أن يزيد على الفعل ومنهم من سلم جوازه أما الأولون فقد اختلفوا فيه على ثلاث أوجه: أحدها: قول من قال من أصحابنها: إن الوجوب مختص بأول الوقت، وأنه وأتى به في آخر الوقت، كان قضاء. وثانيها: قول من قال من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: إن الوجوب مختص بآخر الوقت، وأنه لو أتى به في أول الوقت، كان جاريا محرى ما لو أتى بالزكاة قبل وقتها. وثالثها: ما يحكى عن الكرخي: أن الصلاة المأتي بها في أول الوقت موقوفة فإن أدرك المصلي آخر الوقت، وليس هو على صفة المكلفين، كان ما فعله نفلا.

وإن أدركه علي صفة المكلفين، كان ما فعله واجبا. وأما المعترفون بالواجب الموسع، وهم جمهور أصحابنا وأبو علي، وأبو هاشم، وأبو الحسين البصري فقد اختلفوا فيه على وجهين: منهم من قال: الوجوب متعلق بكل الوقت، إلا أنه إنما يجوز ترك الصلاة في أول الوقت إلي بدل هو العزم عليها، وهو قول أكثر المتكلمين. وقال قوم: لا حاجة إلي هذا البدل، وهو قول أبي الحسين البصري وهو المختار لنا. والدليل على تعلق الوجوب بكل الوقت: أن الوجوب مستفاد من الزمر والأمر تناول الوقت، ولم يتعرض ألبتة لجزء من أجزاء الوقت؛ لأنه لو دل الأمر علي تخصيصه ببعض أجزاء ذلك الوقت، لكان ذلك غير هذه المسألة التي نحن نتكلم فيها. وإذا لم يكن في الأمر دلالة على تخصيص ذلك الفعل بجزء من زجزاء ذلك الوقت، وكان كل جزء من أجزاء الوقت قابلا له وجب أن يكون حكم ذلك الأمر هو إيجاب إيقاع ذلك الفعل في أي جزء من أجزاء ذلك الوقت أراد المكلف وذلك هو المطلوب. فإن قيل: لا نسلم إمكان تحقق الوجوب في أول الوقت، والتمسك بلفظ الأمر، إنما يكون إذا لم يثبت بالدليل العقلي امتناعه وهاهنا قد ثبت ذلك؛ لأن كونه واجبا في ذلك الوقت معناه: أن المكلف ممنوع من ألا يوقعه فيه، والمكلف غير ممنوع من ألا يوقع الصلاة في أول

الوقت، وإذا كان كذلك، استحال كون الصلاة واجبة في أول الوقت؛ وإذا تعذر حمل الأمر على الوجوب وجب حمله على الندب، فإن قلت: الفرق بينه وبين المندوب من وجهين: الأول: أن هذه الصلاة لا يجوز تركها مطلقا، والمندوب يجوز تركه مطلقا. والثاني: أن هذه اصلاة إنما يجوز تركها في أول الوقت إلي بدل، وهو العزم على فعلها بعد ذلك وأما المندوب فإنه يجوز تركه مطلقا. قلت: الجواب عن الأول: أني لا أدعي أن الصلاة ليست واجبة مطلقا، بل أدعى أنها ليست واجبة في أول الوقت بدليل أنه يجوز تركها في أول الوقت. فأما المنع من تركها في آخر الوقت، فذلك يدل على وجوبها في آخر الوقت؛ ولا يلزم من كون الشيء واجبا في وقت، كونه واجبا في وقت اخر وعن الثاني: أن العزم على الصلاة لا يجوز أن يكون بدلا عن الصلاة ويدل عليه أمور: أحدها: أن العزم على الصلاة: إما أن يكون مساويا للصلاة في جميع الأمور المطلوبة أولا يكون: فإن كان الأول: وجب أن يكون الإتيان بالعزم سببا لسقوط التكليف بالصلاة؛ لأن الأمر ما وقع في ذلك الوقت إلا بالصلاة مرة واحدة، وهذا العزم مساو للصلاة مرة واحدة في جميع الجهات المطلوبة؛ فيلزم سقوط الأمر بالصلاة. وإن كان الثاني: امتنع جعله بدلا عن الصلاة؛ لأن بدل الشيء يجب أن يكون قائما مقامه في الأمور المطلوبة

وثانيها: أن الموجود ليس إلا الأمر بالصلاة في هذا الوقت، والأمر بالصلاة في هذا الوقت لا دلالة فيه على إيجاب العزم، فإذن لا دليل ألبتة على وجوب العزم وما لا دليل عليه لا يجوز التكليف به؛ وإلا لصار ذلك تكليف ما لا يطاق. وثالثها: لو كان العزم بدلا عن الصلاة؛ فإذا أتى المكلف بالعزم في هذا الوقت، ثم جاء الوقت الثاني، فإما أن يجب فعل العزم مرة أخرى، أو لا يجب، لا جائز أن يجب؛ لأن بدل العبادة؛ إنما يجب على حد وجوبها؛ ليكون فعله جاريا مجرى فعلها. ومعلوم أن الأمر أنما انقضى وجوب فعل العبادة في أحد أجزاء هذا الوقت مرة أخرى، ولم يقتض وجوب فعلها مرة أخرى في الوقت الثاني؛ فوجب أن يكون وجوب بدلها على هذا الوجه. فثبت أنه لا يجب فعل العزم في الوقت الثاني؛ فإذن الوقت الثاني لا يجب فيه فعل الصلاة؛ وفعل بدلها، وهو هذا العزم. فثبت أن جواز ترك الصلاة في هذا الوقت لا يتوقف على فعل البدل، وعند هذا يجب القطع بأنها ليست واجبة، بل مندوبة. والجواب: (قوله: الفعل يجوز تركه في أول الوقت؛ فلا يكون واجبا في أول الوقت): قلنا: للناس هاهنا طريقان: الطريق الأول وهو الأصح: أن حقيقة الواجب الموسع ترجع عند البحث إلى الواجب المخير، فإن الآمر كأنه قال: (افعل هذه العبادة؛ إما في أول

الوقت أو في وسطه، أو في آخره، وإذا لم يبق من الوقت إلا قدر ما لا يفضل عنه. فافعله لا محالة، ولا تتركه ألبتة) فقولنا: (يجب عليه إيقاع هذا الفعل: إما في هذا الوقت أو في ذاك) يجري محرى قولنا في الواجب المخير: (إن الواجب علينا: إما هذا أو ذاك) فكما أنا نصفها بالوجوب؛ على معنى أنه لا يجوز الإخلال بجميعها، ولا يجب الإتيان بجميعها، والأمر في اختيار أي واحد منها مفوض إلى رأي المكلف، فكذا هاهنا، لا يجوز للمكلف ألا يوقع الصلاة في شيء من أجزاء هذا الوقت، ولا يجب عليه أن يوقعها في كل أجزاء هذا القت، وتعيين ذلك الجزء مفوض إلى رأي المكلف. هذا إذا كان الوقت فسحة، فأما إذا ضاق الوقت؛ فإنه يتضيق التكليف ويتعين، فهذا هو الذي نقول به، وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى رأي المكلف. هذا إذا كان في الوقت فسحة، فأما إذا ضاق الوقت، فإنه يتضيق التكليف، ويتعين، فهذا هو الذي نقول به، وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى إثبات بدل العزم. الطريق الثاني: وهو اختيار أكثر الأصحاب، وأكثر المعتزلة: هو: أن الفرق بين هذا الواجب وبين المندوب أن هذا الواجب لا يجوز تركه إلا لبدل، والمندوب يجوز تركه من غير بدل قوله أولا: (العزم: إما أن يكون قائما مقام الأصل في جميع الجهات المطلوبة أو لا يكون) قلنا: لم لا يجوز أن يكون قائما مقام الأصل، لا في جميع الأوقات، بل في هذا الوقت المعين، فإذا أتى بالبدل فذ هذا الوقت المعين، سقط عنه الأمر بالأصل في هذا الوقت، ولكن لم يسقط عنه الأمر بالأصل في كل الأوقات؟!

واعلم أن هذا الجواب ضعيف، لأن الأمر لا يفيد التكرار، بل لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة، فإذا صار البدل قائما مقام الأصل في هذا الوقت، فقد صار قاذما مقامه في المرة الواحدة، فإذا لم يكن مقتضى الزمر إلا مرة واحدة، وقد قام هذا البدل مقام المرة الواحدة، فقد تأدي تمام مقصود هذا الأمر بهذا البدل؛ فوجب سقوط التكليف به بالكلية. أما قوله ثانيا: (لا دليل على إثبات العزم): قلنا: لا نسلم لأن النص، لما دل على الواجب الموسع ودل على أنه لا يمكن إثبات الواجب الموسع إلا إذا أثبتنا له بدلا ودل الإجماع على أنه لا يمكن إثبات الواجب الموسع إلا إذا أثبتنا له بدلا ودل ال إجماع على أن ذلك البدل هو العزم؛ لأن القائل قائلان: قائل أثبت البدل، وقائل ما أثبته، وكل من أثبته قال: رنه العزم؛ فلو أثبتنا البدل شيئا آخر، لكان ذلك خرفا للإجماع، وهو باطل. فثبت أن الدليل على وجوب العزم، لكن بهذا التدريج ثم هذا لا يكون مخالفا للنص؛ لأن كما لا يثبته لا ينفيه، وإثبات ما لا يتعرض له النص بالنفي ولا بالإثبات لا يكون مخالفة للظاهر. واعلم أن هذا الجواب ضعيف؛ فإنا نسلم أن العقل دل على أنه لا يمكن إثبات الواجب الموسع، إلا إذا أثبتنا له بدلا، وذلك؛ لأنه لا معنى للواجب الموسع إا أن يقول السيد لعبده: لا يجوز لك إخلاء أجزاء هذا الوقت عن هذا الفعل، ولا يجب عليك إيقاعه في جميع هذه الأجزاء، ولك أن تختار أيها شئت؛ بدلا عن الآخر. ومعلوم أنه لو قال ذلك: لما احتيج معه إلي إثبات بدل آخر.

وأما قوله ثالثا: (إما أن يجب فعل العزم في الوقت الثاني أو لا يجب) قلنا لم لا يجوز أن يجب؟ وذلك لأن العزم بدل عن الفعل في الوقت الأول؛ فيفتقر إلى عزم ثان؛ بدلا عن الفعل في الوقت الثاني. واعلم أن هذا الجواب ضعيف؛ لأنا بينا أن الأمر لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة؛ وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الإتيان بالعزم الواحد كافيا فظهر بما ذكرناه أن القول بالواجب الموسع حق، وأنه لا حاجة في إثباته إلى إثبات بدل هو العزم، والله أعلم فرع: في خكم الواجب الموسع في جميع العمر، وذلك كالمنذورات، وقضاء العبادات الفائتة، وتأخير الحج من سنة إلى سنة، فنقول: إن جوزنا له التأخير أبدا، وحكمنا بأنه لا يعصي، إذا مات، لم يتحقق معنى الوجوب أصلا. وإن قلنا: إنه يتضيق التكليف عليه عند الإنتهاء إلى زمان معين، من غير أن يوجد على تعيين ذلك الزمان دليل، فهو تكليف ما لا يطاق؛ فإنه إذا قيل له: إن كان في علم الله تعالى أنك تموت قبل الفعل، فأنت في الحال عاص بالتأخير. وإن كان في علمه أنك لا تموت قبل الفعل، فلك التأخير، فهو يقول: وما يدريني، ماذا في علم الله تعالى؟ وما فتواكم في حق الجاهل؟ فلا بد من الجزم بالتحليل أو التحريم؛ فلم يبق إلا أن نقول: يجوز له التأخير بشرط أن يغلب على ظنه أنه يبقى بعد ذلك سواء بقي أو لم يبق. فأما إذا غلب على ظنه أنه لا يبقى بعد ذلك، عصى بالتزخير، سواء مات أو لم يمت، لأنه مأخوذ بموجب ظنه.

ولهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز تأخير الحج، لأن البقاء إلى سنة لا يغلب على الظن. وأما تأخير الصوم والزكاة إلى شهر أو شهرين فجائز لأنه لا يغلب على الظن الموت إى هذه المدة. والشافعي رضي الله عنه يرى البقاء إلى السنة الثانية غالبا؛ على الظن في حق الشاب الصحيح، دون الشيخ المريض. والمعزز إذا غلب على ظنهالسلامة، فهلك ضمن، لا لأنه أثم؛ لكن لأنه أخطأ في ظنه، والمخطئ ضامن غير آثم، والله أعلم المسألة الثانية الواجب الموسع قال القرافي: قوله: (ومنهم من أنكره).

..............................................

.....................................................................

......................................................................

................................................................

تقريره: أن لهم شبهة عامة ومدارك خاصة. أما الشبهة العامة: قالوا: الوجوب مع التوسعة يتنافيان؛ لأن الواجب لا يجوز تركه، وهذا يجوز تركه في الوقت الذي وضعتموه للوجوب فيه وهو أول الوقت وآخره، فلا يكون للوجوب الموسع حقيقة وأما مداركهم الخاصة، فالقائلون: متعلق الوجوب بأول الوقت وهم بعض الشافعية، مع أن الشافعية في هذا الوقت ينكرون وجود هذا في مذهب الشافعي، غير أن القائل بهذا المذهب لعلة كان ب (عرقاق العجم) لم يعمله هؤلاء قال شرف الدين بن التلمساني في (شرح المعالم): هذا لا يعدف في مذهب الشافعي، ولعلع التبس بوجه الإصطخري فيما يفعل، فيما زاد على بيان جبريل عليه السلام في العصر، فالصبح مثلا يعد قضاء وهو لا ينكر التوسعة، وإنما قصرها على بيان جبريل عليه السلام. وقال سيف الدين، وأبو الحسين في (المعتمد): (قال بعض الوجوب يختص بأول الوقت) ولم يعين الشافعية. ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق في (اللمع) هذا المذهب أصلا وكذلك (البرهان) و (المستصفي). وحكى أبو الحسين في هذه المسألة ستة مذاهب فقال: مذهب أصحاب الشافعي جميع الوقت.

وخصصه قوم بأول الوقت، ولم يذكر الشافعية قال: وأكثر أصحابنا متعلق بآخر الوقت. فإن عجل: فمنهم من قال: نفل سقط به الفرض. وقال الشيخ أبو الحسن الكرخي: يوقف فإن كان مكلفا في آخر الوقت فواجب، وإا فنفل. وقال الشيخ أبو عبدالله: إن كان آخر الوقت أهلا للتكليف كان فعله مسقطا للفرض. وقال أبو بكر الرازي: يتعين وجوبه بأحد شيئين بالفعل، أو بالتضييق وقال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): منهم من قال: المعجل نفل يمنع من تعلق الوجوب آخر الوقت، ولا يتوجه عليه فرض صلاة فقط. قال العالمي في (أصول الفقه): القائلون بالوجوب أول الوقت هم عامة أهل الحديث، وحكاه الباجي عن الشافعي، كما حكاه عن الإمام.

وقد احتجوا: بأن أوقات الصلوات أسباب، والأصل ترتيب المسببات على أسبابها فيكون الوجوب متعلقا بأول الوقت ويرد عليه أمران: أحدهما: أن هذا لا يناقض مذهب الجمهور؛ فإنهم رتبوا الوجوب على أول الوقت في القدر المشترك بين أجزاء الزمان الكائنة بين طرفي الوقت، فما تعين مذهبكم من هذا المدرك. وثانيهما: أنه يلزمكم الإذن في تفويت الأداء لفعل القضاء من غير ضرورة، وهو لم يوجد في الشرع، إنما وجب الشرع لضرورة السفر، أو غيرها، أما لغير ضرورة فلا، مع أن سيف الدين قد قال في (الإحكام): انعقاد الإجماع على أن الفعل بعد ذلك ليس بقضاء، ولا يصح بنية القضاء وقال إمام الحرمين في (البرهان): لم يقل أحد: إنه إذا أهمل العزم، وفعل في أثناء الوقت أنه عاص، ولا يقال أحد بتجديد العزم، وإنما بل ال الذي أراه مذهبا للقاضي أنه زوجبه أول الوقت، وينسحب على بقية الأزمنة، كما تنسحب النسب على بقية الأفعال في الصلاة وغيرها. وقال الغزالي في (المستصفى): ولا يجب العزم مع الغفلة، أما مع الذكر فلا بد من الفعل أو العزم، ويمكن أن يحمل إطلاق (البرهان) عليه. واحتج الحنفية: بأن الوجوب متعلق بآخر الوقت؛ لأن ثبوت حقيقة الشيء يدل على ثبوته، ويدل انتفاؤهل، كالناطقية مع الإنسان،

وخصيصة الوجوب المؤاخذة على تقدير الترك، ولم نجدها إلا آخر الوقت فوجب اختصاص الوجب بآخر الوقت. ويرد عليه أمران: أحدهما أنه لا ينافي مذهب الجمهور، فإنهم لما قالوا: الوجوب يتعلق بالمشترك بين آخر الوقت، والمشترك لا يتعين إخلاؤه عن الفعل إلا بإخلاء الجميع، فلا جرم لم تخصل المؤاخذة على الترك إلا بذلك. وثانيهما: أن الفرق كلها أجمعواعلى جواز التعجيل والتأخير، فيكون التعجيل كما قالت الحنفية نفلا سد مسد الفرض، وإجزاء النفل عن الفرض على خلاف الأصول، والكرخي هو من الحنفية. واستشكل إجراء النفل عن الفرض، فاختار مذهبا آخر، وهو أن الفعل يقع موقوفا، فإن أتى آخر الوقت وهو مكلف قضى عليه بالوجوب، فسد الواجب مسد الواجب ولم يقم نفل مقام فرض، وإن لم يكن من المكلفين فهو نقل لعدم تحقيق الوجوب. ويرد عليه أن صلاة لا توصف بفرض ولا نفل خلاف المعهود في الشرع، وككيف ينوي هذه الصلاة، ويؤنس ما قاله بعض الفقهاء في إعادة الصلاة في جماعة أنه لا ينوي بها فرضا ولا نفلا، بل ذلك إلى الله تعالى وهو أحد الأقوال الأربعة فيها. ولو قال الكرخي: إن أوقع الصلاة آخر الوقت في واجبة، وإن أوقعها قبل آخر الوقت فهي نفل تمنع من تعليق خطاب الوجوب به لاتجه؛ فإن الوجوب قد يندفع بالموانع كالموت في وسط الوقت، أو الإغماء، أو النوم، وإذا اندفع في حق من لم يفعل، فأولى في حق من فعل صورة الصلاة، وأقرب من الذي حكاه عنه الإمام

وحكى سيف الدين عنه أن الواجب يتعين بالفعل في أي وقت كان، وحكى إجماع السلف على أن من فعل الصلاة أول الوقت ومات، أنه أدى فرض الله تعالى. والقول بالوقف خلاف الإجماع قال والحسين البصري في شرح (العمد): واختلف الحنفية في آخر الوقت الذي هو وقت الوجوب. فقال زفر: هو ما يسمع جملة الصلاة، وينقضي بانقضائها وقال غيره منهم: بل مقدار الإحرام بها، ويريدون أن إدراك الإحرام سبب قائها؛ لأن إيقاعها كلها في ذلك الوقت متعذر قوله: (إن الجمهور قالوا: يتعلق الوجوب بكل الوقت) عبارة غير متجه؛ فإنها تشعر بتعلق الوجوب بكل جزء من أجزائه، وليس كذلك بالإجماع، بل مراده أنه متعلق بالكل على البدل، وهو معنى قولنا: إنه متعلق بالقدر المشترك بين أجزاء الزمان الكائنة بين طرفي الوقت. قوله: (ومنهم من قال: لا يجوز تركه إلا لبدل، وهو العزم) تقريره: أن العادة شاهدة أن السيد إذا أمر عبده ولم يفعل في الحال، ولا عزم على فعله في المآل عدوه معرضا عن أمر سيده، والإعراض عن الأمر حرام، وما به يترك الحرام واجب، فأحد الأمرين إما الفعل وإما العزم واجب.

قوله: (لا يدعي أن الصلاة ليست واجبة مطلقا، بل ليست واجبة أول الوقت) قلنا: عدم وجوبها أول الوقت يصدق بتفسيرين: أحدهما: ليست واجبة في أول الوقت من حيث هو أول الوقت وهذا مسلم، لأنا لا ندعي وجوبها فيه إا من حيث هو متضمن للقدر المشترك من جهة عمومه، لا من جهة خصوصه، كما تقدم في الواجب المخير وإن ادعيت أنها ليست واجبة في أول الوقت من جهة عمومع فغير المسلم لأن الأمر دل على الوجوب، ودل على الإجماع على جواز التأخير، فتعين التخيير بين أفراد ذلك الزمان، فيتعين أن يكون الخطاب متعلقا بالقدر المشترك بينها كما تقدم في الواجب المخير، قوله: (والمنع منتركها آخر الوقت يدل على وجوبها آخر الوقت) قلنا: لا نسلم، بل المنع من تركها آخر الوقت يستلزم فوات المشترك الذي وجب فيه الفعل؛ لأن الوجوب في خصوصه، وحصول الإثم في آخر أعلم الأمرين؛ إما لما ذكرناه، أو لما ذكرتموه، وما هو أعم من الشيء لا يستدل به عليه قوله: (إن لم يكن العزم مساويا للصلاة في الأمور المطلوبة امتنع جعله بدلا، لأن البدل عن الشيء هو الذي يقوم مقامه في الأمور المطلوبة) قلنا: هاهنا قاعدة، وهي أن البدل في الشريعة خمسة أقسام، لكل قسم منها خاصة يختص بها: يبدل الشيء من الشيء في محله كالمسح على الجبيرة، من خصائصها المساواة في المكان،،كذلك كان يلزم في الخف غير أن الشرع رخص فيها للضرورة الثاني: يبدل من الشيء في مشروعيته، كالجمعة بدل عن الظهر ولهذا البدل خصيصتان:

أحداهما أن البدل أفضل من المبدل منه، فإن العدول عن مشروعية الشيء لغيره يقتضي أفضليته، وكذلك الكعبة بدل البيت المقدس في المشروعية، غير أن بدل ترك بالكلية. وثانيهما: أنه لا يجوز فعل المبدل منه إلا عند تعذر المبدل. الثالث: يبدل الشيء من الشيء في بعض أحكامه كالتيمم بدل الوضوء في إباحة صلاة واحدة، والوضوء كنا يبيح صلوات، ويرفع الحدث وإذا وجد الماء في الغسل لا يجب عليه استعماله وفي التيمم بخلافه في ذلك كله إلا في إباحة صلاة، ومن خصائصه أن يكون مو مرجوح المصلحة، ولا يفعل إا عند تعذر المبدل منه. الرابع: يبدل الشيء من الشيء في جملة أحكامه التي أقتضاها سببه، كخصال الكفارة، فإن كانت على الترتيب فخصصها قصور البدل عن المبدل في المصلحة مع القيام في جميع أحكام السبب الذي اقتضاه، وإن اختص هو في نفسه بأحكام تنشأ عنه لا عن السبب الموجب للتكفير، نو الولاء في العتق، وإن كانت على التخيير فمن خصائصها مساواتها للمبدل في المصلحة مع تحصيل أحكام ذلك السبب. الخامس: يبدل الشيء من الشيء في بعض أحواله، وهو العزم، فإنه بدل من تعجيل الصلاة وتوسيطها دون الصلاة، والتعجيل والتوسط والتأخير أحوال تعرض للصلاة، ومصلحة الحال أقل من مصلحة صاحب الحال بكثير، فمن خصائص هذا البدل أا يسد مسد المبدل في شيء من ذاته، بل في بعض أحواله، وهو أضعف أصناف البدل، وبهذه القاعدة يظهر لك بطلان قول القائل: البدل يقوم مقام المبدل [منه] في جميع مصالحه، والأمور المطلوبة

(قاعدة) يؤول مذهب الفقهاء إلى أن كل واجب موسع يلزمه واجب مخير

منه بدليل التيمم والعزم والكفارة على الترتيب، وبطلان قول القائل: لا يجوز العدول إلى إلا عند تعذر المبدل؛ لأنه يشكل بالجمعة. (قاعدة) يؤول مذهب الفقهاء إلى أن كل واجب موسع يلزمه واجب مخير؛ لأن المكلف يكون مخيرا بين العزم والتعجيل. قوله: (وما لا دليل عليه لا يجوز ورورد التكليف به، وإا لزم تكليف ما لا يطاق) تقريره: أنه يلزم التكليف ما لا يطاق اعتقاد التكليف به مع عدم الدليل على ذلك، وقد قررت أول المسألة دليل العزم. قوله: (وإذا أتي بالعزم أول الوقت، ولم يفعل، ثم جاء الوقت الثاني إن احتاج للعزم لزم أن العزم الأول لم يقم مقام الصلاة، والبدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه مرة واحدة) قلنا: العزم الأول بدل عن أحد الحالات الذي هو التعجيل، وبقي التوسع لم يأت له ببدل، فهذا في الحقيقة بدل آخر غير الأول. قوله: (يضعف أن يقال: البدل يقوم مقام الصلاة في أول الوقت؛ لأن الأمر لا يقتضي التكرار، بل مرة واحدة، فإذا حصل البدل عنها سقطت وبطل التكليف بالكلية) قلنا: نسلم أن الأمر لا يقتضي التكرار، وإنما يقتضي مرة واحدة، لكن تلك المرة الواحدة لها أحوال متعددة: التعجيل، والتوسط، والتأخير فأمكن تعدد البدل لتعدد الأحوال.

(قاعدة) الواجب الموسع تارة يكون كل واحد من أجزاء زمانه سببا كأوقات الصلوات وأيام النحر

قال سيف الدين: واتفقنا على زن الفدية في الحامل والمرضع بدل عن تعجيل الصوم فالعزم كذلك. قوله: (دل العقل على أنه لا يثب الواجب الموسع إلا ببدل) قلنا: لا نسلم؛ بل الواجب الموسع كما قلتم يرجع للواجب المخير وأجمعنا على زن المخير لا عزم فيه، وإن آخر الثلاثة إى آخر العمر، فكذلك يؤخر الصلاة إلى آخر القامة لا يفتقر الأمر هذا التكليف على هذه الصورة موسعا من غير بدل، ولا غرو في ذلك إذا قال السيد لعبده: جوزت لك التأخير بغير بدل، وحتمته عليك آخر الوقت أن تفعل ولا حاجة إلى العزم، فلم يدل العقل ولا النقل عليه، فلا يثبت شرعا. قوله: (إن قلنا بتضييق الزمان وتعينه من غير أن يوجد على تعين ذلك الزمان دليل، فهو تكليف ما لا يطاق). قلنا: لا نسلم أنه تكليف ما لا يطاق؛ لأن تكليف ما لا يطاق هو ما لا نقدر على تحصيله بوجه من الوجوه، والمكلف هاهنا يقدر على تحصيله بوجه وهو التعجيل، وإنما يلزم أن يكون ما لا يطاق أن لو قال: حرمت عليك التأخير عن الوقت المجهول، والتعجيل قبله، أما أن يحرم التأخير عنه فقط، فلا يلزم منه تكليف ما لا يطاق. (قاعدة) الواجب الموسع تارة يكون كل واحد من أجزاء زمانه سببا كأوقات الصلوات وأيام النحر ولذلك يتوجه الخطاب على من ولد أو بلغ أو أسلم، وتارة يكون أول جزء منه هو السبب فقط كزكاة الفطر، فلا تجب على المتجدد

(تنبيه)

على الخلاف في ذلك وإن كان لا يأثم من وجبت عليه التأخير إلى غروب الشمس من يوم الفطر، وبه يظهر الفرق بين الأقوال الثلاثة: تجب بغروب الشمس بطلوع الفجر بطلوع الشمس وبين القول الرابع: أنها: تجب وجوبا موسعا من الغروب إلى الغروب، ووجوب قضاء رمضان في جملة العام الثاني دون الأول فتأمله (تنبيه) زاد التبريزي فقال: وجوب العزم تابع لبقاء الفعل في الذمة، ولا زم لكل من عليه التكليف، دخل وقته أو لم يدخل؛ لأنه إذا لم يعزم على الفعل مع التذكر، فقد عزم على الترك وهو معصية وترك المعصية واجب، قال: وعلى هذا الوجه ينبغي أن ينزل احتبار أبي الحسين، وصاجب الكتاب لا على عدم الوجوب في العزم مع عدم الفعل، وأنه خطأ. ويرد على التبريزي: أن العزم على الترك ليس لازما لعدم العزم على الفعل، فلم يشر العالم بذكر، ولا بعزم على فعل، ولا على ترك كالمشكوك في مصلحته، وجميع ما ليس لنا في غرض، أو لكونه غير قابل للعزم كالواجبات، والمستحيلات، وبالجملة فنحن من وراء المنع في هذا المقام.

الواجب على سبيل الكفاية

المسألة الثالثة في الواجب على سبيل الكفاية قال الرازي: الأمر إذا تناول جماعة: فإما أن يتناولهم على سبيل الجمع أو لا على سبيل الجمع؛ فإن تناولهم على سبيل الجمع، فقد يكون فعل بعضهم شرطا في فعل البعض؛ كصلاة الجمعة، وقد لا يكون كذلك؛ كما في قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) [البقرة:43] أما إذا تناول الجميع، فذلك من فروض الكفايات؛ وذلك إذا كان الغرض من ذلك الشيء حاصلا بفعل البعض؛ كالجهاد الذي الغرض منه حراسة المسلمين، وإذلال العدو، فمتى حصل ذلك بالبعض، ولم يلزم الباقين. واعلم أن التكليف فيه موقوف على حصول الظن الغالب. فإن غلب على ظن جماعة أن غيرها يقوم بذلك، سقط عنها، وإن أغلب على ظنهم أن غيرهم لا يقوم به، وجب عليهم، وإن غلب على ظن كل طائفة أن غيرهم لا يقوم به، وجب على كل طائفة القيام به. وإن غلب على ظن كل طائفة أن غيرهم يقوم به، سقط الفرض عن كل واحدة من تلك الطوائف، وإن كان يلزم منه ألا يقوم به أحد، لأن تحصيل العلم بأن غيري، هل فعل هذا الفعل أم لا غير ممكن إنما الممكن تحصيل الظن، والله أعلم

المسألة الثالثة في فرض الكفاية قال القرافي: اعلم أنه إنما سمي كقاية؛ لأنه يكفي فيه البعض عن الكل. وسمي الآخر فرض الأعيان؛ لأنه واجب على كل عين.

الواجب على سبيل الكفاية، ومنها ما لا يتكرر مصلحته

الواجب على سبيل الكفاية بتكرره، وهذا يجب على الأعيان، تكثيرا لتلك المصلحة كالصلوات الخمس، فإن مصلحتها تعظيم الله تعالى وإجلاله وكلما تكررت الأفعال أو كثر الفاعلون كثر تعظيم الله تعالى وإجلاله. ومنها ما لا يتكرر مصلحته بتكرره، كإنقاذ الغريق؛ فإنه إذا انزل الأول في البحر، ثم نزل آخر بعده. [فهذا أو نحوه يحب على الكفاية، ويسقط عن الباقين نفيا للتعقيب. فهذا ضابط فروض الكفاية] لم يحصل بنزوله مصلحة، وكذلك إطعام

(قاعدة) لا يجوز خطاب المجهول، ويجوز الخطاب بالمجهول

الجوعان، وإكساء العريان، فهذا ونحوه يجب على الكفاية، ويسقط عن الباقين نفيا للتعقيب، فهذا ضابط فروض الكفاية، وفروض الأعيان. فإن قلت: يشكل ذلك بصلاة الجنازة؛ فإن المقصود المغفرة، ولم يعلم حصولها، فكيف كانت فرض الكفاية، واقتصر على البعض مع عدم تحقيق المصلحة؟ قلت: مقصود الصلاة على الجنازة حصول المغفرة ظنا لوجود أمارة تدل عليها. وقد حصل ذلك بقوله تعالى: (ادعوني استجب لكم) [غافر:70]، وكقوله عليه السلام: (لا يجتمع لرجل من أمتي أربعون يصلون عليه إلا غفر له)، أو ما هذا معناه، وقد فعل ذلك، وقد حصلت المغفرة ظنا، وأما حصولها علما فلا مطمع فيه أبدا. (قاعدة) لا يجوز خطاب المجهول، ويجوز الخطاب بالمجهول. أعني: غير المعين في القسمين؛ لأن خطاب غير المعين يفضي إلى ترك الأمر، بأن يمتنع كل أحد من فعله؛ لأنه يقول: أنا لم أرد ولم يتعين على بخلاف الخطاب بغير المعين نحو الأمر بإعتقا رقبة،،بجميع المطلقات؛ فإن يتأتى معها حصول مقصود الأمر بفعل معين يدخل في ضمنه ذلك المطلق. وبهذه القاعدة قرر الشرع الوجوب على الكل في فرض الكفاية حذرا من خطاب المجهول لئلا يضيع الواجب، وإلا فمقتضى الخطاب لغة أن يجب على طائفة لا بعينها لقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) [آل عمران:104].

(سؤال)

وقوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) [التوبة:122] وغير ذلك من النصوص التي لا تقتضي إلا طائفة لا بعينها، غير أن هذه القاعدة أوجبت التعميم في الكل مع أن الشيخ المعروف بالعالمي قال في (أصول الفقه) له: قال بعض الفقهاء: فرض الكفاية واجب على طائفة لا بعينها. وقال بعضها: على الكل، ويسقط بفعل البعض، ويتبين أن ذلك البعض هو المراد بالإيجاب. وقال بعضهم: بل الجميع مراد بالوجوب، ويسقط بفعل البعض، فحكى ثلاثة أقوال، واختار الثالث. (سؤال) إذا كان معنى فرض الكفاية الوجوب على أحدى الطوائف، وهي المقصودة، فإنما وجب على الكل وجوب الوسائل لا وجوب المقاصد؛ لذلا يضيع الواجب، وإحدى الطوائف قدر مشترك بين الطوائف، فيكون القدر المشترك بين الطوائف هو متعلق الوجوب، وكذلك في المخير، والموسع، فإذا كان الجميع يتعلق فيه الخطاب بالمشترك، فينبغي أن يتحد الاسم لاستواء المعنى. قلنا: لم يتحد المعنى، وإن تعلق في الجميع بالمشترك؛ لأن المشترك في الكفاية الواجب عليه، والمشترك في الموسع الواجب فيه، والمشترك في المخير هو الواجب نفسه، فحصل لكل واحد منهما خصيصة يختص به، فتعين تعدد الأسماء لتعدد الحقائق. (سؤال) فروض الكفاية يقوم فيها البعض عن فعل البعض، مع أن الأفعال البدنية

(سؤال) كيف سوى الشرع بين الفاعل وغير الفاعل في فروض الكفاية؟

لا ينوب فيها أحد عن أحد كالصلاة، والجهاد، فكيف دخلت النيابة هاهنا؟ جوابه: ليس هذا من باب النيابة، بل أسقط الوجوب عن الفاعل فعله، وعن غير الفاعل انتفاء مصلحة الوجوب، فانتفاء الوجوب لانتفاء مصلحته، فبقي الوجوب بعد ذلك عبثا، فأسباب السقوط مختلفة، وليس فيه نيابة. (سؤال) كيف سوى الشرع بين الفاعل وغير الفاعل في فروض الكفاية؟ جوابه: استويا في سقوط الخطاب عنهما فقط، لكن الفاعل مثاب، وغير الفاعل غير مثاب، بل برئ الذمة فقط. (فائدة) قال صاحب (الطراز) وغيره من العلماء: أذا خرج للفعل الواجب على الكفاية من يغلب على الظن قيامه، فسقط الفرض عن الباقين، ثم لحق بعض من سقط عنه الفرض بتلك الطائفة المبتدئة لفعل ذلك الواجب، وإن كان قد سقط الوجوب عن اللاحقين، واختص الوجوب بالأولين، فإنه يعمهم بعد ذلك بسبب أن مصلحة الوجوب إنما وقعت بفعل الجميع، لا بالأولين فقط، والثواب لمن حصل المصلحة، ويختلف ثوابهم باختلاف مساعيهم، فمن عمل أكثر كان ثوابه أكثر كالملتحق بالمجاهدين، وقد سقط الفرض عنه، أو بالمجهزين للزموات، أو المنقذين للغرقى، ونحو ذلك، ومن ذلك: المستغلين باليوم بطلب العلم، فإنهم يثابون على استغالهم ثواب الواجب؛ فإن المقصود حصول طوائف تقوم بتلك العلوم الشرعية، ولك يحصل إلى الآن، بل الناس في غاية الحاجة لمن يشتغل بالعلم، ويضبط أصوله وقواعده

(فائدة) قال سيف الدين: من الناس من منع صدق الوجوب على فرض الكفاية؛ لأنه يسقط بفعل الغير، وهو باطل

(فائدة) قال سيف الدين: من الناس من منع صدق الوجوب على فرض الكفاية؛ لأنه يسقط بفعل الغير، وهو باطل؛ لأن الاختلاف إنما وقع في المسقط لا في الحقيقة كالاختلاف في طرف الثبوت، كما أن من وجب قتله بالردة، والقتل، فالقتل واحد، وأحدهما يسقط بالتوبة، ولم يلزم الاختلاف في لزوم القتل واستحقاقه. (قاعدة) الذي يوصف بأنه فرض كفاية له شرطان: أحدهما: أن يكون فيه مصلحة شرعية أو وسيلة لمصلحة شرعية، وأن يكون ما لا تتكرر مصلحته بتكرره كما تقدم. فالمصالح الشرعية لضبط أصول الدين، وفروعه، والكتاب والسنة، وأنواع المدارك والأدلة، وأن يوصلها كل قرن إلى من بعده، وكذلك ضبط أصول الدين في العقائد، وآكد من الأول، وقيام الحجة لله تعالى على خلقه بالجهاد، والجدال، ودرء الشبهات عنهم، وكمناظرة الملحدين والطاعنين في الدين، وتمييز المحققين المبطلين من المتشبهين بأهل الحق، وتحقيق قواعد النبوات، وما يتعلق بجناب الله تعالى من الواجبات، والجائزات وتمييزها عن المستحيلات، إلى غير ذلك مما هو من هذا النوع. قال الغزالي: وشرط الطائفة بهذا الشأن شروط أربعة: أن يكونوا وافري العقول؛ لأن هذا العلم لا يحققه إلا الأذكياء. وأن يكون اشتغالهم كثيراً

وأن يكونوا ديانين؛ فإن قليل الدين لا يطلب جواب الشبهة إذا وقعت له. وأن يكونوا فصحاء ومن ذلك تعليم القرآن للصبيان، والفروع للطلبة، والنحو واللغة وما يتعلق بالكتاب والسنة من القراءات السبع، ونحو ذلك. وأما الوسائل للمصالح الشرعية: كالصنائع، والحروف التي لا يستغنى عنها الناس، فيجب أن يخرج لكل حرفة طائفة تقوم بها، فإن كان لهم في ذلك نية أثبتوا على حرفهم ثواب الواجب، وإلا فلا، وليس كل واجب يثاب عليه كما تقدم الواجب أول الكتاب،

النظر الثاني في أحكام الوجوب قال الرازي: وفيه مسائل: المسألة الأولى: الأمر بالشيء أمر بما لا يتم الشيء إلا به بشرطين:

...................................................

................................................................

................................................................

أحدهما: أن يكون الأمر مطلقا. والاخر: أن يكون الشرط مقدورا للمكلف وقالت الواقفية: أن كانت مقدمة المأمور به سببا له، كان إيجاب المسبب إيجابا للسبب؛ لأن عند حصول السبب، يجب المسبب؛ فيمتنع أن يوجب المسبب عند اتفاق وجوب السبب. أما إذا كانت المقدمة شرطا؛ فحينئذ لا يكون المشروط واجب الحصول عند

حصول الشرط، فها هنا لا يكون الأمر بالمشروط أمرا بالشرط؛ كالصلاة مع الوضوء. لنا: أن الأمر اقتضى إيجاب الفعل على كل حال، ولا يستقر وجوبه على هذا الوجه إلا ومقدمته واجبة. إنما قلنا: إن الأمر اقتضى إيجاب الفعل على كل حال؛ لأنه لا فرق بين قوله: (أوجبت عليك الفعل في هذا الوقت) وبين قوله: (لا ينبغي أن يخرج هذا الوقت إلا، وقد أتيت بذلك الفعل) في كون كل واحد من هذين اللفظين دليلا على الإيجاب، على كل حال. وإنما قلنا: إن إيجاب الفعل على كل حال، يقتضي إيجاب مقدمته؛ لأنه لو لم يقتض ذلك، لكان مكلفا حال عدم المقدمة، وذلك تكليف ما لا يطاق. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه أمر بالفعل بشرط حصول المقدمة؟ غاية ما في الباب أن يقال: هذا مخالفة للظاهر؛ لأن اللفظ يقتضي إيجاب الفعل على كل حال؛ فتخصيص الإيجاب بزمان حصول الشرط خلاف الظاهر، فكذا إيجاب المقدمة مع أن الظاهر لا يقتضي وجوبها خلاف الظاهر، وليس تحمل إحدى المخالفتين بأولى من تحمل الأخرى؛ فعليكم الترجيح. والجواب: قوله: (لم لا يجوز أن يقال: إن هذا الأمر أمر بالفعل بشرط حصول المقدمة؟): قلنا: هذا يبطل بأمر الموى غلامه بأن يسقيه الماء، إذا كان الماء على مسافة منه؛

لأنه، إن كان كلفه سقي الماء بشرط أن يكون قد قطع المسافة، وجب إذا قعد في مكانه، ولك يقطع المسافة ألا يتوجه عليه الأمر بالسقي. وإن كان مكلفا بالسقي، مع عدم قطع المسافة، فهذا تكليف ما لا يطاق، فكل ماهو جواب الخصم، فهو جوابنا هاهنا. قوله: (ليس تحمل إحدى المخالفتين أولى من تحمل الثانية): قلنا: مخالفة الظاهر هي إثبات ما ينفيه اللفظ، أو نفي ما يثبته اللفظ. فأما إثبات ما لا يتعرض اللفظ له، لا بنفي ولا إثبات، فليس مخالفة للظاهر؛ والمقدمة لا يتعرض اللفظ لها لا بنفي ولا إثبات، فلم يكن إيجابها لدليل منفصل مخالفة للظاهر. وليس كذلك إذا خصصنا وجوب الفعل بحال وجود المقدمة، دون حال عدمها؛ لأن ذلك بخالف ما يقتضيه اللفظ من وجوب الفعل على كل حال. فروع: الأول: اعلم أن ما لا يتم الواجب إلا معه ضربان: أحدهما: كالوصلة، والطريق المتقدم على العبادة، والآخر: ليس كذلك. والأول: ضربان: أحدهما ما يجب بحصوله حصول ما هو طريق إليه، والاخر لا يجب ذلك فيه. أما الأول: فكما إذا أمر الله تعالى بإيلام زيد، فإنه لا طريق إليه إلا الضرب؛ فهو يستلزم الألم في البدن الصحيح

وأما الثاني فضربان: أحدهما: يحتاج الواجب إليه شرعا. والاخر: يحتاج إليه عقلا. أما الأول: فكحاجة الصلاة إلى تقديم الطهارة. وأما الثاني: فكالقدرة والآلة وقطع المسافة إلى أقرب الأمكان، وهذا على قسمين: منه ما يصح من المكلف تحصيله؛ كقطع المسافة، وإحضار بعض الآلات. ومنه ما لا يصح؛ كالقدرة. وأما الذي لا يكون؛ كالوصلة: فضربان: أحدهما: أن يصير فعله لازما؛ لأن المأمور به اشتبه به، وهو ما إذا ترك الإنسان صلاة من الصلوات الخمس لا يعرفها بعينها، فيلزمه فعل الخمس؛ لأنه لا يمكن مع الالتباس أن يحصل له يقين الإتيان بالصلاة المنسبة إلا بفعل الكل. وثانيهما: ألا يتمكن من استيفاء العبادة إلا بفعل شيء آخر؛ لأجل ما بينهما من التقارب، نحو ستر جميع الفخذ؛ فإنه لا يمكن إلا مع ستر بعض الركبة، وغسل كل الوجه لا يمكن إلا مع غسل جزء من الرأس. وأما الترك: فهو: أن يتعذر عليه ترك الشيء إلا عند ترك غيره، وذلك إذا كان السيء ملتبسا بغيره، وهو ضربان: أحدهما: أن يكون قد تغير في نفسه. والآخر: ألا يكون قد تغير في نفسه

فالأول: نحو اختلاط النجاسة بالماء الطاهر، وللفقهاء فيه اختلافات غير لا ئقة بأصول الفقه. وأما الذي لا يتغير مع الالتباس: فإنه يشتمل على مسائل: منها: أن يشتبه الإناء النجس بالإناء الطاهر، والفقهاء اختلفوا في جواز التحري فيه. ومنها: أن يوقع الإنسان الطلاق على امرأة من نسائه بعينها، ثم يذهب عليه عينها. والأقوى: تحريم الكل؛ تغليبا للحرمة على الحل الفرع الثاني: قال قوم: إذا اختلطت منكوحة بأجنبية، وجب الكف عنهما، لكن الحرام هي الأجنبية، والمنكوحة حلال. وهذا باطل؛ لأن المراد من الحل رفع الحرج، والجمع بينه وبين التحريم متناقض. فالحق أنهما حرامان، لكن الحرمة في إحداهما بعلة كونها أجنبية، وفي الزخرى بعلة الاشتباه بالأجنبية. أما إذا قال لزوجتيه: (إحداكما طالق) فيحتمل أن يقال بحل وطئهما؛ لأن الطلاق شيء متعين؛ فلا يحصل إلا في محل متعين، فقبل التعيين لا يكون الطلاق نازلا في واحدة منهما، فيكون الموجود قبل التعيين ليس الطلاق، بل أمرا صلاحية التأثير في الطلاق عند اتصال البيان به.

وإذا ثبت أن قبل التعيين لم يوجد الطلاق، وكان الحل موجودا وجب القول ببقائه؛ فيحل وطؤهما معا. ومنهم من قال: حرمتا جميعا إلى وقت البيان؛ تغليبا لجانب الحرمة. فإن قلت: لما وجب عليه التعيين، والله تعالى يعلم ما سيعينه، فتكون هي المحرمة، والمطلقة بعينها في علم الله تعالى، وإنما هو مشتبه علينا. قلت: الله تعالى يعلم الأشياء على ماهي عليه؛ فلا يعلم غير المتعين متعينا؛ لأن ذلك جهل، وهو في حق الله تعالى محال، بل يعلمه غير متعين في الحال، ويعلم أنه في المستقبل سيتعين. الفرع الثالث: اختلفوا في الواجب الذي لا يتقدر بقدر معين؛ كمسح الرأس، والطمأنينة في الركوع، إذا زاد على قدر الزيادة، هل توصف الزيادة بالوجوب؟ والحق لا؛ لأن الواجب هو الذي لا يجوز تركه، وهذه الزيادة يجوز تركها؛ فلا تكون واجبة. النظر الثاني في أحكام الوجوب قال القرافي: المسألة الأولى: الأمر بالشيء أمر بما لا يتم الشيء إلا به: قوله: (بشرط أن يكون مطلقا). تقريره: أن الذي يتوقف عليه الواجب قسمان: ما يتوقف عليه في وجوبه. وما يتوقف عليه في وقوعه. فكل ما يتوقف عليه في وجوبه من سبب أو شرط، أو انتفاء ما نع لا يجب تحصيله إجماعا، إنما النزاع فيما يتوقف عليه في وقوعه بعد تقرر وجوبه، كالنصاب سبب وجوب الزكاة، لا يجب على أحد تحصيله حتى تجب الزكاة

(سؤال) قوله: (ما لا يتم الواجب إلا به) يندرج فيه الخبر ... إلخ

عليه، وكذلك الزوجات، والمماليك، والدواب سبب وجوب النفقات ولا يجب تحصيلها، والإقامة شرط وجوب الصوم، ولا يجب على أحد أن يقيم ويترك السفر حتى يجب عليه الثوم، والدين مانع من الزكاة، ولا يجب عليه أن يعطي الدين حتى تجب عليه الزكاة، وفرق بين قول السيد لعبده: إذا نصبت السلم فاصعد السطح، وبين قوله: اصعد السطح؛ فإنه يجب عليه إذا نصب السلم في الأول دون الثاني؛ لأن الثاني ورد مطلقا غير مقيد بشرط في الوجود، والأول قيد وجوبه بشرط، فلا يجب عليه شيء إلا عند حصول ذلك الشرط، فهذا معنى قوله: (مطلقا) (سؤال) قوله: (ما لا يتم الواجب إلا به) يندرج فيه الخبر، ولا تستقيم حكاية الخلاف فيه؛ لأنه واجب إجماعا، إنما الخلاف في الأمور الخارجية عن الواجب) قوله: (والشرط الآخر أن يكون مقدورا للمكلف) تقريره: أن الذي يتوقف عليه إيقاع الواجب بعد وجوبه منه ما هو مقدور للمكلف، كنصب السلم ونحوه، ومنه ما هو معجوز عنه؛ فإن صلاة الإنسان وجميع أفعاله تتوقف بعد وجوبها على تعلق إرادة الله تعالى له بذلك، وعلى خبر الله الخبر النفساني؛ فإنه فاعلها، وليس للمكلف قدرة أن تعلق صفات الله بفعله، فلا جرم لا يجب عليه ذلك، ومن ذلك الطهارة والستارة في الصلاة وغيرهما من الشروط، متى عجز عنها لا يقول أحد بوجوبها. قوله: (وقالت الواقفية: إن كانت مقدمة المأمور به سببا له وجب وإلا فلا)

تقريره: أن المذاهب في هذه المسألة ثلاثة: تجب الوسائل. لا تجب. الفرق بين الأسباب وغيرها. وأما وجه الوجوب فسيأتي، وأما عدم الوجوب فلأن الأمر إنما دل على وجوب الفعل، وإلزامه، ولم يدل عليه دليل فهو على البراءة الأصلية، وأيضا فإن أدلة المصنف ضعيفةة فإنهم اقتنعوا بمبادئ النظر، وإلا فإذا ترك المكلف صعود السطح، فلا شك أنه يستحق المؤاخذة عليه، أما نصب السلم، فما الدليل على أنه يعاقب عليه، وكذلك إذا ترك الإنسان الحج لم قلتم: إنه يؤاخذ على كل خطوة كان يمشيها في طرق الحج؟ وبالجملة ثبوت المؤاخذة على الوسائل بمجرد الأمر في المقاصد عسير، نعم قد تجب الأدلة منفصلة لقوله تعالى في الجمعة: (فاسعوا إلى ذكر الله) [الجمعة:9]، وكان الشيخ شمس الدين الخسروشاهي يؤمن على هذا السؤال. ووجه قول الواقفية: أن السبب يجب دون غيره أن السبب يلزم من وجوده الوجود، والشرط والمانع لا يلزم من وجودهما وجود المطلوب، فإذا أوجبنا السبب أوجبنا وجود شيء فيلزم وجود المصلحة، بخلاف الشرط والمانع، فهذا هو الفرق عندهم. مثال السبب: كما إذا قال: (أوجبت عليكم إيلام زيد)، فإن الضرب يجب؛ لأنه سبب الألم بخلاف تحصيل الآلة التي يضرب بها فإنها شرط، وإزالة الحائل من عليه؛ لأنه مانع. قوله: (إذا كانت المقدمة شرطا لا يجب كالصلاة مع الوضوء)

يريد: أمرين: أحدهما: أن الدليل دل على شرطية الوضوء للصلاة، وإلا فلو قال صاحب الشرع ابتداء: صلوا مع تقرر شرطية الوضوء، ولا يذكر الوضوء ففي هذه الصورة بعد حصول هذين الأمرين تتصور المسألة، ويكون في وجوب الوضوء قولان من جهة الأمر الثاني الوارد بإيجاب الصلاة مجردة عن ذكر الوضوء، وإن كان قد اتفق على وجوبه في الأمر الأول الوارد بوجوب الوضوء. قوله: (الأمر اقتضى إيجاب الفعل على كل حال). قلنا: هاهنا فرق بين إيجاب الفعل في كل حال، وبين إيجابه مع قطع النظر عن كل حال، ومقصود (لم) إنما يتم بالأول دون الثاني: بيانه: أنا نتصور أيجاب المطلقات مع قطع النظر عن الخصوصيات والتعينات، كإعتناق رقبة، وإخراج شاة من أربعين، ولك يوجب الشرع ذلك في كل معين، وكل خصوصية، وإلا لزم الجمع الجمع بين المتضادات، وكان المطلق عاما لا مطلقا، وكذلك تعقل إيجاب الفعل مع قطع النظر عن كل مكان معين، كقوله: (صم) فإن ذلك لا يقضي أن الآمر قصد مكانا معينا، بل ظاهره يقتضي إعراضه عن كل مكان؛ لأنه أوجب الصوم في كل مكان، وكذلك ليس في الزمر ما يقتضي أنه قصد حصول الأحوال والهيئات العارضة للفاعل في حال الفعل من الغضب، والرضا، والجوع، والعطش، وغير ذلك إذا تصورت الفرق في الأزمنة، والبقاع ظهر لك ذلك كله في الأحوال، وأما أن مقصود المصنف إنما يحصل من الفعل في كل كل حال؛ فلأنه نقول: ينبغي ألا يكون من جملة تلك الأحوال عدم الشرط؛ لأنه إن لم يكن عدم الشرط من جملة الأحوال مع أن الأمر اقتضاء الفعل في كل حال، فيكون الأمر اقتضاء إيجاب المشروط حالة عدم شرطه لا يطاق، فيحصل مقصوده من أن المحال إنما نشأ من كون عدم ذلك الشرط من جملة الأحوال.

(تنبيه)

الواقعة، فإذا أوجبنا زواله انتفى تكليف ما لا يطاق لبقاء جميع الأحوال حينئذ الفعل معها ممكن، أما إذا قلنا: إن الأمر اقتضاء إيجاب الفعل مع قطع النظر عن كل حالة لا يكون الأمر متعرضا لإيقاع الفعل في حالة عدم الشرط، بل للفعل من حيث هو هو، فما لزم الجمع بين المشروط وعدم الشرط بخلاف ما إذا كان الأمر متعرضا له، فظهر لك الفرق بين إيجاب الفعل في كل حال، وبين إيجابه مع قطع النظر عن كل حال، وإن كان مقصوده إنما يحصل من الأول دون الثاني. (تنبيه) تقريره رحمه الله لا يحصل مقصوده. بيانه: أن الوسيلة إذا أوجبناها فقد يعصي المكلف، وهو الغالب، كقوله تعالى: (وما وجدنا لأكثرهم من عده) [الأعراف:102]، (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) [الأنعام:116]، (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) [يوسف:103]، وحينئذ يبقى الشرط واقعا من جملة الأحوال، فيلزم المحال المذكور مع التكليف بالوسيلة كما كان لا زما مع عدم التكليف بها، وإذا لم يكلفه بالوسيلة، فقد يفعلها، فلا [يكون] يلزم تكليف ما لا يطاق، فعلمنا حينئذ أن التكليف بما لا يطاق دائر مع فعل الوسيلة، وعدمها، لا مع الأمر بها وعدم الأمر بها، فلا أثر للأمر حينئذ في استلزام نفي المحال، نعم له أثر في تأكد إزالة عدم الوسيلة؛ لأن الوازع الشرعي مؤكد، وربما أوجب إحجاما عند النفوس الخبيثة وهو الأكثرون؛ فإنها أمثل شيء لما منعت عنه وأنفر شيء مما حدثت إليه، فهذا إيضاح الكشف عن غامض هذه المسألة بفضل الله تعالى. قوله: (لا فرق بين قوله: أوجبت عليك الفعل في هذا الوقت)، وبين قوله: (لا ينبغي أن تخرج هذا الوقت إلا وأنت قد أتيت بالفعل) قلنا: بقي قسم آخر، وهو (ألا يتعرض للوقت ألبتة) بالتكليف، بل

يقصد الفعل من حيث هو فعل فقط، وشأن التكليف، والأزمان، والأحوال [وغير ذلك]. قوله: (لم لا يجوز أن يأمر بالفعل بشرط حصول المقدمة؟) تقريره: أن شرط إيقاع الواجب بعد تقرر الوجوب يصير شرطا في أصل الوجوب حتى يخرج من تلك الأحوال حالة عدم الوسيلة، فلا يلزم تكليف ما لا يطاق، وكأن أصل الكلام: اصعد السطح مثلا، فيجب نصب السلم ليتمكن من إيقاع الواجب الذي هو الصعود، فيحصل كلامه بهذا التأويل على أنه قال: إن كان السلم منصوبا، فاصعد السطح، فلا يجب عليه النصب حينئذ إجماعا، ولا يجب الصعود حتى يجد السلم منصوبا، ويكون ذلك تخصيصا على خلاف الظاهر. قوله: (يبطل بالأمر بالسقي الماء، وهو على مسافة إن اشترطتهم قطعها في أصل التكليف لا يعصي بالقعود، وإن لم تشترطوا أتيتم التكليف بالسقي مع عدم قطع المسافة، وهو تكليف ما لا يطاق). قلنا: لنا واسطة أخرى بأن يثبت التكليف مع قطع النظر عن القسمين، بل بالسقي من حيث هو سقي، وإن كان لا يقع السقي إلا بقطع المسافة، ففرق بين توقف الوجود على الوجود، وبين توقف الوجوب على الوجوب، فالتوقف بين الوجودين مسلم، إنما النزاع في التوقف بين الوجوبين، وتكليف ما لا يطاق لا ينشأ من توقف الوجودين؛ فإن الكل ممكن، إنما لزم من إلزام التكليف في حالة عدم وجود الوسيلة، فلو قطع النظر عن كونه قصد لإيقاع التكليف في هذه الحالة، وقال: يقصد المكلف بنفسه إن أراد أن تحصل الوسيلة حصلها، وخلص من العهدة بفعل السقي، وإن شاء لم يحصلها فيستحق المؤاخذة على عدم السقي فقط لا على عدم إيجاد الوسيلة، وقطع المسافة.

نقول: الأمر هذا لا العرض له، إنما العرض بالإيجاب لطلب السقي فقط دون الحالات، وهو من حيث هو ممكن، فما كلفت بغير المقدور عليه. قوله: (مخالفة الظاهر: إثبات ما ينفيه الظاهر، أو نفي ما يثبته الظاهر، أما ما لا يتعرض له الظاهر ألبتة، فليس مخالفة له) تقريره: أما الأول: فكقوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق) [البقرة:197]، فمن أثبت بعض أنواع الرفث، فقد أثبت ما ينفيه الظاهر. وأما الثاني: فكقوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) [البقرة:275]، فمن قال: إن بيعا ليس حلالا فقد نفي ما أثبته الظاهر. مثال الثالث: قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) [المائدة:3]، فلما ورد قوله عليه السلام: (كل ذي ناب من السباع حرام)، لا يكون ذلك مخالفة للظاهر؛ لأنه لم ينفه ولم يثبته. قوله: لو قيل: إن لفظ تعرض لها بالإثبات لم يبعد؛ لأن إيجاب الملزوم يدل بالالتزام على إيجاب لازمه، والشروط لوازم، فيدل اللفظ عليها التزاما، فيكون هذا الجواب أقوى في نفي مخالفة الظاهر من جهة أنا أثبتنا ما أثبته الظاهر، فهو أولى بعدم المخالفة من قولنا: أثبتنا سببا لم يتعرض له الظاهر، بخلاف إخراج بعض الأحوال عن عموم اقتصاء اللفظ بجميعها يكون ذلك تخصيصا للعام، وتخصيص العام مخالفة للظاهر.

(تنبيه)

(تنبيه) البحث في هذه المسألة يمكن صرفه للكلام النفساني، كما قالوه في الأمر بالشيء نهي عن ضده اختلفوا فيه هل في النفساني أو في اللساني، ويمكن ذلك هاهنا؛ لأن الإطلاق نحو من ذلك الإطلاق، فعلى هذا يكون البحث فيه بحسب التعلق لا بحسب الدلالة؛ لأن النفساني مدلول لا دليل، ويمكن صرفها للساني، فيكون البحث عن دلالة اللفظ، هل يتناول الوسائل مطابقة أو التزاما؟ وهو الظاهر أنه التزام إن سلم أصل التناول. (سؤال) إن سلمنا أن الأمر اقتضى إيجاب الفعل مطلقا في جميع الحالات، وإن كانت حالة عدم الشرط كما قال حتى يلزم تكليف ما لا يطاق بأن لم يكلف بتحصيل الشرط، فتكليف ما لا يطاق لازم له على كل تقدير؛ لأن من جملة المقدمات تعلق صفات الله تعالى، والتكليف واقع مع عدم تعلقها في أكثر الصور، كقوله: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) [يوسف:103]. فإن قلت: تكليف ما لا يطاق إنما يمتنع حيث كان الامتناع عاديا، وهاهنا عقلي، لم يقل أحد باستحاله؛ لأن المعتزلة الذي هو أبعد عن ذلك قالوا به، فقالوا: علم الله تعالى لا يمتنع التكليف، فلا يضره هذا، إنما مقصوده ما لا يطاق عادة، والتكليف بالصعود حالة عدم نصب السلم لا يطاق عادة. قلت: ذلك مسلم، لكنه يعتقد أن الكل سواء، وكذلك في ميله تكليف ما لا يطاق، وجعل جميع التكاليف الواقعة غير مقدورة، فالسؤال لازم له. (تنبيه) لا نزاع في أن المقاصد تتوقف على الوسائل، إنما النزاع في أنه إذا ترك

سؤال

الوسيلة مع المقصد هل يعاقب عقابين: عقابا على المقصد، وعقابا على الوسيلة؟ وإذا فعلهما هل يثاب ثوابين عليهما، وقد تقدم استشكال الخسروشاهي لذلك، وأن الحق عقاب واحد، وثواب واحد للمقصد فقط، والوسيلة متعلق بخبر التكليف. (سؤال) قال سراج الدين: لقائل أن يقول: لما كان حال عدم المقدمة من جملة الأحوال، كان تكليف ما لا يطاق إن لزم كان لازما على المذهبين إلا أن تفسير تلك الأحوال بما عدا حالتي وجود ما يقتضي الأمر إيجاده وعدمه، وحينئذ يمنع لزوم ما لا يطاق؛ إذ المحال الفعل مع عدم المقدمة لا هو في حال عدمها والمكلف به هو الثاني. قلت: هذا كلام صحيح غير أنه في غاية القلق والإجحاف بالعبارة، فأبسطه فأقول: معنى قوله: (تكليف ما لا يطاق لازم على المذهبين) أن عدم المقدمة إذا كان واقعا فسواء أوجبنا المقدمة، أو لم نوجبها الفعل في هذه الحالة محال، غير أنا زدنا له على القول بالتكليف التكليف فقط، فصار بذلك تكليفا بالمحال، أما كون الفعل محالا، فلا بد منه؛ لأنه ينشأ من عدم المقدمة، والعدم واقع. وقوله: (إلا تفسير الأحوال بما عدا حالتي ما يقتضي الأمر إيجاده وعدمه) معناه: أن يفرض الأمر واقعا في كل حالة، ويقطع النظر عن مقتضى الوسيلة وجودها وعدمها، فلا يعتبرها في جملة الأحوال لا وجودا ولا عدما، ولو اقتصر سراج الدين على العدم وحده لكفاه بالوجود، حيث لا يترتب.

(تنبيه) زاد التبريزي في استدلاله فقال: (إيجاب الشيء طلب [لتحصيله، وتحصيله تعاطي سبب حصوله، فيحصل بالضرورة طلب الشيء، ويتضمن طلب] ما لا يتم هو إلا به

عليه فائدة، فاختصر إلى الغاية، وزاد ما لا يحتاجه فقوله: (ما يقتضي الأمر إيجاده وعدمه) يريد: الوسائل مع أن عبارته تقتضي الفعل نفسه الذي هو المقصد، وهو غير مراد له، وإنما مراده الوسائل، ويمكن أن يريد بقوله: (إيجاده وعدمه) مسمى الوسائل؛ فإن المتوقف عليه تارة يكون وجود الشيء كالسبب، وتارة عدمه كالمانع، وعلى هذا يكون في كلامه حشو، وهو أقرب لكلامه، وقوله: (المحال الفعل مع عدم المقدمة لا هو حالة عدمها) يريد به أن التكليف وقع بالفعل مع عدم المقدمة تكليف ما لا يطاق؛ لأن قصد منه الجمع بين وجود المشروط مع عدم الشرط، وإنما التكليف حالة العدم فلا؛ لأنه يريد به أن التكليف وقع حالة العدم، ولم يرد به إيقاع المشروط حالة عدم الشرط كما تقول: (استقني) والمسافة بعيدة، واملاء في البئر، ليس المقصود (اسقني)، ولا تقطع المسافة، ولا تسقني من البئر، بل هذا تكليف حالة عدم المقدمة، وهو مقدور للمكلف بأن يقطع المسافة، ويتعاطى الأسباب، ويفعل المأمور، ففي كلامه مضاف محذوف، قوله: (التكليف بالفعل إن وقع بالفعل مع العدم كان محالا، أو حال العدم)، ولم يرد الجمع بينه وبين العدم فليس محالا، وهذا هو المكلف به إذا أخرجناه من جملة الأحوال في الاعتبار لا في الوقوع وعدم الوسيلة، وقد تقدم هذا المعنى في صدر المسألة، لكن العبارة هاهنا قلقة، وهذا معناها. (تنبيه) زاد التبريزي في استدلاله فقال: (إيجاب الشيء طلب [لتحصيله، وتحصيله تعاطي سبب حصوله، فيحصل بالضرورة طلب الشيء، ويتضمن طلب] ما لا يتم هو إلا به، قال: فرن قيل: قد يغفل طالب الشيء عن مقدمات وجوده، فكيف يضاف إليه طلبها؟: قلنا: إن علمها طلبها،

(سؤال) مالفرق بين هذه المسألة، والمسألة التي بعدها أن الأمر بالشيء نهي عن ضده

وإن غفل عنها يتعلق طلبه في مقصوده بوجهه الأعم، وهو كونه لا يتم مطلوبه إلا به، ويتصور من الإنسان طلب ما لا يحيط بتفاصيل ماهيته؛ ولأنه بتقدير ترك الوسيلة يتعرض للعقاب المتوعد المتوعد به على المطلوب، فإن تركه ترك المطلوب وهو قادر عليه بتوسط ما لا بد منه، ولا معنى للواجب إلا ما يترجح جانب فعله على جانب تركه لدفع عقاب يلزم على تقدير تركه. قلت: وكلامه هذا يشعر بأن طلب الفعل طلب لمقدماته بالطلب النفساني لأنه جعل نفس الطلب الوسيلة، وعضده بأن العقل لا يمنع منه؛ لأنه يطلبه إجمالا لا تفصيلا، فعلى هذا يكون اللفظ أيضا دالا عليه تضمنا أو التزاما، وقد تقدمت الإشارة إلى إمكان دعوى هذا الخلاف فيه، وأنهيشبهه دلالة الأمر على النهي عن الضد، وفي كلامه الآخر منه، فلا نسلم أن لا معنى للواجب إلا ما فسره به، بل لا معنى للواجب إلا ما ترجح فعله لدفع عقاب يلحقه على تركه لما هو تركه لا لأجل غيره، ففي كلامه مصادرة، فيعارض الخصم حده الواجب بهذا الحد الآخر فلا يتم مقصوده. (سؤال) مالفرق بين هذه المسألة، والمسألة التي بعدها أن الأمر بالشيء نهي عن ضده؛ لأن عدم الضد مما يتوقف عليه الواجب وبين قوله: ومتعلق النهي فعل ضد المنهي عنه؟ فروع الأول: قوله: (إذا أمر الله تعالى بإيلام زيد، فلا طريق له إا الضرب في البدن الصحيح) يريد: الإيلام الخاص الناشئ عن الضرب، أما مطلق الألم، فيحصل بالكلام وغيره من المؤذيات، وقوله: (الصحيح) احتراز عما يعرض في

الجسد من بطلان الحس، فلقد رأيت من اكتوى في اثنى عشر موضعا بالنار كيا متسعا ولم يحس به، فكان الأطباء يعالجونه، فلما حك يوما جلده بحكاك وجده استبشر الأطباء بعافيته، بكونه حك جلده؛ لأنه لا يحك إلا عن إحساس. قوله: (كحاجة الصلاة إلى الطهارة). يريد: إنه إذا تقرر وجود الطهارة شرطا ثم يأتي أنر بالصلاة بعد ذلك مطلقا، فيكون ذلك الأمر المطلق يقتضي وجوب الوضوء، وإلا فالوضوء واجب بالآية بنص يخصه لا يصح التمثيل به في هذا الباب. وقوله: (إن كان قد تغير في نفسه كالنجاسة مع الماء الطاهر، فللقهاء فيه اختلاف). يريد: إذا تغيرت أوصاف الماء أو أحدها، واختلاف الفقهاء هل يختص ذلك التغير بما دون الرائحة؟ وهل يختص بغير المجاور؟ وأما المجاور كالدهن، والعود والميتة على جنب النهر فلا يضر، وكذلك الرائحة بمفردها كل ذلك فيه خلاف.

الفرع الثاني (إذا اختلطت امرأته بأجنبية منهم من قال: امرأته حلال، وهو باطل) قلنا: لعله يريد أنها حلال في ذاتها، بمعنى أن مفسدة التحريم لم توجد فيها، وإنما عرض لها التحريم لأجل الاشتباه، وعلى هذا هو موافق، ومقصده صحيح. قوله: (إذا قال لزوجاته: إحداكن طالق محتمل بقاء الحل؛ لأن الطلاق حكم معين لا يحصل إلا في محل معين، فقيل: التعيين لا يكون الطلاق لازما. قلنا: لم لا يكفي في تعيين محل الحكم تعينه بالنوع لا بالشخص؟ لأن الأحكام الشعرعية كلها إنما تتعلق بالمعدومات المستقبلة، واملعدوم المستقبل إنما يتعين بالنوع لا بالشخص؛ ولأن جميع الأحكام إنما تتعلق بأمور كلية كما تقدم في الواجب المخير ومتعلق العلم أبدا أخص من متعلق الخطاب، وخصوص كل صلاة بوقوعها في البقعة المعينة والهيئة المعينة لم يتعلق بها إيجاب، وكذلك جميع خصوصيات العبادة حتى لو صلى في الحرم النبوي المفضل المطلوب، أو في الجامع الذي هو شرط الجمعة لا بد أن يختص من ذلك الموضع بخير صلاته وموضع جلوسه ذلك المخصوص من الحرم أو الجامع لم يتعلق به طلب ألبتة وإذا كان الحكم إنما يتعلق بكلي في جميع الصور، والكلي مستحيل أن يكون معينا بالشخص بل بالنوع، فكذلك هاهنا مفهوم إحدى نسائه مفهوم كلي صادق عليها كلها، فهو كلي معين بالنوع. والقاعدة: أن الكلي متى حرم حرمت جزئياته، وكذلك إا ثنى بخلاف الأمر، والثبوت في الخبر والطلاق تحريم، فيحرم جميع النسوة، وقد تقدم بسطه في الواجب المخير.

الفرع الثالث الواجب الذي لا يتقدر إذا زاد فيه هل يتصف الزائد بالوجوب؟ قوله (والحق لا يجب؛ لأن الزائد يجوز تركه) قلنا? هذا هو المتجه غير أنه لا يمكن تأثير الوجوب؛ فإنه ليس البعض بأولى من البعض؛ ولأن فرض الكفاية إذا نهض إليه من يقوم به ثم لحق بهم من سقط عنه الوجوب قبل إيقاع الواجب يقع فعل الجميع واجبا مع أنهم كان يجوز لهم الترك، وقد تقدم بسطه في فرض الكفاية، وهذا يظهر فيما يقع غير مندرج، كالمسح جملة، أما المندرج كالزيادة في الطمأنينة والركوع، فيتعين الأول للبراءة من الواجب، ولا يتجه بعد ذلك قول القائل: ليس البعض أولى من البعض، ويؤنس المندرج الإعادة في جماعة؛ فإن جماعة قالوا: ينوي الفرض، ويجوز أن يكون فرضه ذلك، وهو مفوض إلى الله تعالى مع أنه على التدريج. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: القول بحل امرأته إذا اختلطت بأجنبية نشأ من توهم كون الأحكام صفات الأفعال، والمحال من قاعدة التحسين والتقبيح، وزاد في الفرع الثالث، فقال: ربما يدل على أنه إذا طلق إحداهما لا بعينها أن الله تعالى لا يعلمها إلا غير معينة أن لو كات قبل التعين، فإن الميراث موقوف ولا يتعين. ... تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع إن شاء الله

المسألة الثانية في أن الأمر بالشيء نهي عن ضده

المسألة الثانية في أن الأمر بالشيء نهي عن ضده قال الرازي: اعلم: أنا لا نريد بهذا أن صيغة الأمر هي صيغة النهي؛ بل المراد: أن الامر بالشيء دال على المنع من نقيضه، بطريق الالتزام، وقال جمهور المعتزلة، وكثير من أصحابنا: إنه ليس كذلك. لنا: أن ما دل على وجوب الشيء دل على وجوب ما هو من ضروراته، إذا كان مقدورًا للمكلَّف؛ على ما تقدم بيانه في المسألة الأولى، والطلب الجازم من ضروراته المنع من الإخلال به، فاللفظ دال على الطلب الجازم، وجب أن يكون دالًا على المنع من الإخلال به؛ بطريق الالتزام. ويمكن أن يعبر عنه بعبارة أخرى؛ فيقال: إما أن يمكن أن يوجد مع الطلب الجازم - الإذن بالإخلال، أو لا يمكن. فإن كان الأول: كان جازمًا بطلب الفعل، ويكون قد أذن في الترك، وذلك متناقض. وإن كان الثاني، فحال وجود هذا الطلب، كان الإذن في الترك ممتنعًا، ولا معنى لقولنا: "الامر بالشيء نهي عن ضده" إلا هذا. فإن قيل: لا نسلم أن الطلب الجازم من ضروراته المنع من الإخلال؛ وبيانه من وجهين: الأول: أن الأمر بالمحال جائز؛ فلا استبعاد في أن يأمر جزمًا بالوجود، وبالعدم معًا.

الثاني: أن الآمر بالشيء قد يكون غافلًا عن ضده، والنهي عن الشيء مشروط بالشعور به، فالآمر بالشيء حال غفلته عن ضد ذلك الشيء - يمتنع أن يكون ناهيًا عن ذلك الضد، فضلًا عن أن يقال: هذا الأمر نفس ذلك النهي. والجواب: قوله: "الأمر بالمحال جائز": قلنا: هب أنه جائز؛ ولكن لا تتقرر ماهية الإيجاب في الفعل، إلا عند تصور المنع من تركه؛ فكان اللفظ الدال على الإيجاب دالًا على المنع من الإخلال به؛ ضمنًا. قوله: "قد يأمر بالشيء حال غفلته عن ضده": قلنا: لا نسلم أنه يصح منه إيجاب الشيء عند الغفلة عن الإخلال به؛ وذلك لأن الوجوب ماهية مركبة من قيدين: أحدهما: المنع من الترك، فالمتصور للإيجاب متصور للمنع من الترك؛ فيكون متصورًا للترك؛ لا محالة. وأما الضد الذي هو المعنى الوجودي المنافي: فقد يكون مغفولًا عنه، ولكنه لا ينافي الشيء لماهيته، بل لكونه مستلزمًا عدم ذلك الشيء؛ فالمنافاة بالذات ليست إلا بين وجود الشيء وعدمه. وأما المنافاة بين الضدين فهي بالعرَض؛ فلا جرم عندنا الأمر بالشيء نهي عن الإخلال به، بالذات، ونهي عن أضداده الوجودية، بالعرض والتبع. سلمنا أن الترك قد يكون مغفولا عنه؛ لكن كما أن الأمر بالصلاة أمر بمقدمتها، وإن كانت تلك المقدمة قد تكون مغفولًا عنها؛ فلم لا يجوز أن يكون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، وإن كان ذلك الضد مغفولا عنه؟ سلمنا كل ما ذكرتموه، لكن لم لا يجوز أن يقال: الأمر بالشيء يستلزم النهي

شرح القرافي: قلنا: أحسن من هذه العبارة: الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداه

عن ضده؛ بشرط ألا يكون الآمر آمرًا بما لا يطاق، وبشرط ألا يكون غافلا عن الضد، ولا استبعاد في أن يستلزم شيء شيئًا عند حصول شرط خاص، وألا يستلزمه عند عدم ذلك الشرط. المسألة الثانية الأمر بالشيء نهي عن ضده قال القرافي: قلنا: أحسن من هذه العبارة: الأمر بالشيء نهي عن جميع

..................................................

..........................................................

(تنبيه) تردد كلام الأصوليين في هذه المسألة

أضداده، فإذا قال له: اجلس في البيت، فقد نهاه عن الجلوس في السوق، والحمام، والطريق، والبحر وغير ذلك من المواضع التي يضاد الجلوس فيها الجلوس في البيت، وإذا قال له: لا تجلس في البيت، فقد أمره بالجلوس في السوق أو في المسجد، أو في غير ذلك، ولا يتعين منها شيء، بل أحد الأمور التي يضاد الجلوس في البيت فعلها، وقد خرج عن العهدة. (تنبيه) تردد كلام الأصوليين في هذه المسألة، هل المراد بقولنا: الأمر بالشيء نهي عن ضده في الكلام النفساني، فيكون الأمر النفساني نهيًا عن الضد نهيًا نفسانيًا؟ أو المراد أن الأمر اللساني نهي عن الأضداد بطريق الالتزام؟ وهو مراد المصنف، وقد صرح به، فإن فرعنا على الاول تعين التفصيل بين من يعلم بالأضداد، وبين من لا يعلم، فالله - تعالى - بكل شيء عليم، وكلامه واحد هو أمر، ونهي، وخبر، فأمره عين نهيه، وعين خبره، غير أن التعلقات تختلف، فالأمر عين النهي باعتبار الصفة المتعلقة نفسها التي هي الكلام، وهو غيره باعتبار ان الكلام إنما يصير أمرًا بإضافة تعلق الخاص وهو تعلق الكلام بترجيح طلب الفعل وإنما يصير نهيًا بتعلقه بطلب الترك، فالكلام يفيد التعلق الخاص غيره بالتعلق الآخر، فهذه الأقسام والتفاصيل لاينبغي الخلاف فيها لمن تصورها، وأن أمر الله تعالى بالشيء نهي عن ضده باعتبار أنه لا بد من حصول التعلق بالضد المنافي، وأما من لا شعور له بضد المأمور، فلا يتصور منه النهي عن الاضداد، فكلامه النفسي تفصيلا لعدم الشعور بها، ويصدق أنه نهى عنها بطريق الإجمال؛ لأنه طلب للمأمور على

التفصيل، وليلخصه بكل طريق يفضي لذلك التحصيل؛ لأنه طلب، ومن جملتها اجتناب الأضداد، فيصدق أنه طلب على سبيل الإجمال، كما يطلب الإنسان الترياق الفارق وغيره من المطالب، ويطلب الجنة، وهو لا يعلم تفاصيلها، ولا تفصيل شيء من ذلك، ويصدق عليه أنه طالب لنعيم الجنة، هذا إن فرعنا على الكلام النفسي، وإن فرعنا على الكلام اللساني فلا ينبغي أن يختلف أن صيغة قولنا: (تحرك) ليس فيها صيغة قولنا: (لا تسكن)؛ فإن ذلك مكابرة للحس، وغنما يقع الخلاف في أن صيغة الأمر هل دلت التزامًا أم لا؟ وقد حكى سيف الدين الخلاف في المسألة مفصلا، فقال: الأمر بالشيء على التعيين هل هو نهي عن أضداده؟ اختلفوا فيه: أما أصحابنا: فالأمر عندهم الطلب النفساني، وقد اختلفوا فيه. فمنهم من قال: الأمر بالشيء بعينه نهي عن أضداده، وأن طلب الفعل بعينه هو طلب الترك، وهو قول القاضي منا. ومنهم من قال: هو نهي عن أضداده بمعنى أنه يستلزمه، وهو قول القاضي أخيرًا. ومنهم من منع ذلك مطلقًا، وقاله إمام الحرمين والغزالي. وأما المعتزلة: فالأمر عندهم ليس إلا صيغة (افعل)، وقد اتفقوا على أن صيغة (افعل) لا تكون نهيًا، بل من جهة الالتزام. ومنعه قدماؤهم.

ومنهم من فصل بين الإيجاب، فيقتضي، وبين الندب فلا يقتضي، وأضداد المندوب ليس منهيًا عنها عنده لا نهي تحريم ولا تنزيه، قال: والمختار التفصيل إن جوزنا تفصيل ما لا يطاق، فلا يكون الأمر نهيا عن الضد، وإن منعناه فهو نهي عن الضد في الإيجاب والندب. ولذلك حقق صاحب (البرهان) فقال: القائل بأن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده، وجعله كالحركة التي توجب التقدم هي بعينها توجب التأخر. والقاضي رأى أنه ليس نهياً بعينه، بل يتضمنه. وقال الغزالي في (المستصفى): لا يمكن أن يقال: صيغة النهي، فيتعين الخلاف في المعنى، ويتعين ألا يكون في كلام الله تعالى، فإنه واحد، وهو أمر ونهي. قوله: "الأمر بالشيء دال على المنع من نقيضه" قلنا: النهي يجب أن يشترط في متعلقه مايشترط في متعلق الأمر، وهو كونه مقدورًا مكتسبا يقدر على تحصيله، ونقيض المأمور به عدم صرف العدم المنصرف لايقدر عليه، ولا يمكن اكتسابه، وكذلك لايصح أن يؤمر به، فلا يصح ان يكون منهيا عنه، بل الأضداد أمور وجودية يمكن إكتسابها وتحصيلها، فنهى عنها، أما النقيض فلا. فإن قلت: عنه جوابان: أحدهما: أن أحكام الحقائق المتأصلة لايلزم أن تثبت للحقائق التابعة

اللازمة، وكذلك أن الخبر التابع للأمر والنهي في أن التارك يستحق العقاب، أو الفاعل الذي لايدخله التصديق والتكذيب، والخبر المتأصل يدخلانه، وكذلك النهي اللازم للأمر لايقتضي إستيعاب الأزمنة ولا التكرار، وإلا لزم دوام المأمور به، والنهي المتأصل يقتضي ذلك، وقد تقدم بسطه فهاهنا النهي تابع، فأمكن ألا يشترط فيه مايشترط في النهي المتأصل أن يكون منهيه من جنس المقدور. وثانيهما: أن اختيار النقيض لازم للمأمور به قطعاً، وإذا كان لازماً للمأمور به كأن الأمر دالاً عليه بطريق الإلزام. قلت: الجواب عن الأول أن قولك: نهي عن النقيض إن أردت به تعلق الطلب بالنقيض وبالضرورة المطلوب لابد أن يكون مقدوراً، وإن أردت مطلق الدلالة من غير طلب، فلا تقولوا: نهى عن نقيضه؛ لأن النهي ظاهر في الطلب، بل قولوا: دال على أن فعل المأمور يلزمه ترك نقيضه. وعن الثاني: أن الدلالة مسلّمة إنما الإشكال في كونه منهيا عنه، فعبارة الأصحاب أولى من هذه العبارة. قوله: "لنا مادل على وجوب الشيء دل على ماهو من ضرورته إذا كان مقدورا للمكلف". قلنا: (دلّ) أعم من أنه (نهى)، فنحن نسلم الدلالة ونمنع كونه منهيًا عنه فإن الطلب لسقي الماء يلزم مطلوبه تعلّق قدرة الله تعالى بخلق ذلك، ولا يمكن أن يقال: إن العبد المأمور مأمور بأن يصيّر قدرة الله تعالى متعلقة بذلك الفعل، وإن كان لازما بالضرورة، فعلمنا أن الدلالة أعم من النهي، وأنه لايلزم من تسليمها تسليم النهي، ثم قولكم: إذا كان مقدورًا للمكلف يناقض ما تقدم من قولكم: نقيض المأمور به، ولم تقولوا: ضده كما قال الأصحاب؛ فإن العدم الصرف ليس مقدوراً للقدرة القديمة فضلاً عن الحادثة.

قوله: "إن أمكن أن يوجد مع الطلب الجازم الإذن في الترك، فإن كان الأول لزم أن يكون آذناً في الترك وطالبا ً، فيجتمع النقيضان". قلنا: لانسلم أنه يلزم من إمكان الشيء وقوعه، وإجتماع النقيضين إنما جاء من الوقوع لا من الإمكان، ألا ترى أن كل واحد من النقيضين والضدين ممكن حالة وجود الآخر، ومالزم إجتماع النقيضين؛ لأنه لايلزم من الإمكان الوقوع. قوله: "وإن كان الثاني لزم أن يكون الإذن في الترك ممتنعاً، ولا معنى لقولنا: الأمر بالشيء نهي عن ضده إلا هذا". قلنا: لايلزم من الإمتناع في فعل الضد النهي عنه؛ لأن الطالب للعشرة يمتنع مع مطلوبه الذي هو العشرة أن يكون فرداً، ولا يمكن أن يقال: الفردية منهي عنها؛ لأن المستحيل لاينهى عنه؛ لأن من شرط التكليف تيسير الأسباب، فإن أردتم مطلق الدلالة - كما تقدم - فلا يلزم النهي، ويكون مطلوبكم في هذه المسألة خلاف مطلوب الأصحاب، ثم إنكم هاهنا صرحتم بالضد وعدلتم عن ذكر النقيض، وهذا هو الصواب الذي قاله الأصحاب. قوله: "طلب المحال جائز". قلنا بحثنا في هذه المسألة إنما هو الوضع اللغوي، والألفاظ اللغوية لم توضع لطلب المحال، بل إنما وضعت لما ييسر عادة؛ لأنه مقصود الناس، وإذا قلنا بجواز تكليف مالا يطاق فإنما ذلك في حق الله تعالى بالنظر ماتستحقه الربوبية، أما وضع اللفظ اللغوي فلم يقل أحد: إن الأمر وضع لطلب المحال، وكذلك أنتم تقولون: متعلق النهي فعل ضد المنهي عنه لا نفس (لا تفعل) على ما سيأتي تقريره في النواهي إن شاء الله تعالى، فجعلوا لفظ النهي إنما وضع للممكن دون المستحيل.

قوله: "اللفظ الدال على الإيجاب دال على المنع من الإخلال". قلنا: الدلالة أعم من النهي كما تقدم فلا يفيد المطلوب، ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص. قوله: "لانسلم أنه يصح إيجاب الشيء حالة الغفلة عن ضده؛ لأن الواجب مركب من المنع من الترك". قلنا: لانسلم أن المنع من الترك جهل لازم. سلمنا أنه جر قلم، فلم قلتم: إنه يتعين الشعور به؟ فقد يطلب الإنسان ماهو متصور له على سبيل الإجمال دون التفصيل، ولا يلزم من تصور المركبات تصور المفردات إلا إذا حصل العلم التفصيلي، أما الإجمالي فلا، وقد تقدم بسطه أول الكتاب عند إشتراط تصور المفردين من أصول الفقه عند تصوره الأمر بالشيء على سبيل الإجمال غير ممتنع، بل أكثر الناس لايحيط علما بحقائق الأشياء على سبيل التفصيل، ومع ذلك يصح منهم الأمر والنهي. بل الجواب الحق عن هذا السؤال: أنا ندعي دلالة لفظ الامر على ترك الضد إلتزامًا، ودلالة الإلتزام لايشترط فيها الشعور، بل جميع الدلالات كذلك، فقد يكون المتكلم إنما خطر بباله المجاز فأمر به، والقرينة غير موجودة، وحينئذ لا يدل اللفظ إلا على الحقيقة ولوازمها دون ما خطر للمتكلم، فعلمنا حينئذ أن دلالة اللفظ لايشترط فيها الشعور. وهذا الموضوع هو أحد المواضع التي وقع البحث فيها غير متجه بسبب إلتباس دلالة اللفظ بالدلالة باللفظ؛ فإن الدلالة باللفظ التي هي إستعمال اللفظ هي التي لايشترط فيها الشعور؛ فإن الإطلاق لإرادة المعنى فرع الشعور به، أما إشعار اللفظ بمعنى، فقد لايشعر به المتكلم، وهي نحو

(فائدة) ما الفرق بين هذه المسألة وبين قولهم: متعلق النهي فعل ضد المنهي عنه لا نفس (لاتفعل)

ثلاثين موضعا وقعت في (المحصول) غير متجهة بسبب إلتباس الموضعين، فتاره يأتي باحكام هذه لهذه، وتارة يعكس، فتأمل ذلك، وقد تقدم الفرق بينهما في باب الدلالة من خمسة عشر وجهاً. قوله: "الضد الوجودي لاينافي الشيء لماهيته، بل لكونه مستلزما عدم ذلك الشيء". قلنا: هذه المسأله ذكرها في (المحصل) وحكى فيها خلافا بين العلماء: فمنهم من يقول: الضدان متنافيان لذاتهما، فالسواد ينافي البياض لذاته. ومنهم من يقول: بل لأن كل ضد هو مستلزم نقيض ضده، فالسواد مستلزم لنقيض البياض، فلو حصل البياض مع السواد إجتمع البياض ونقيضه. فقال في (المحصل): المنافاة بين الضدين هل لذاتها أو للصارف؟ خلاف، وهذا بسطه، والمشهور أنها بالذات خلاف قوله هاهنا. قوله: "الأمر بالشيء نهي عن الإخلال به بالذات، وعن أضداده بالعرض". قلنا: قد تقدم أن الإخلال عدم صرف لايمكن أن يوصف بكونه منهيا. (فائدة) ما الفرق بين هذه المسألة وبين قولهم: متعلق النهي فعل ضد المنهي عنه لا نفس (لاتفعل)؛ فإن قولهم: نهي عن ضده معناه أنه تعلق بالضد، وهو نهي متعلق بالضد، وقولهم: متعلقه ضد المنهي عنه هو الأول بعينه. جوابه: أن الفرق بينهما من ثلاثة أوجه: أحدها: أن البحث هاهنا في المتعلقات - بكسر اللام - وهناك في المتعلقات

(سؤال) قال النقشواني: ادعى - هاهنا - أن الدلالة دلالة إلتزام، وجعل الترك جزءا، فتكون الدلالة عليه دلالة تضمن لا إلتزاما

بفتح اللام؛ لأن الأمر متعلق بالمامور، والنهي متعلق بالمنهي عنه، والخبر متعلق بالمخبر، فقولنا - هاهنا -: الأمر بالشيء نهي عن ضده أي الأمر المتعلق بكسر اللام هل هو نهي عن الضد؟ فإذا إتفقنا - هاهنا - هل هو أو غير منتقل للمتعلق الذي هو المنهي عنه، والمامور به، فأمكن أن نقول بعد القول بالإتحاد هاهنا أو بعدمه: إن المتعلق هنا لك هو فعل الضد أو غيره، فلا يلزم من الوفاق هنا الوفاق هنالك، فهما مسألتان. وثانيها: أن البحث هاهنا في دلالة الإلتزام، هل الأمر يدل إلتزاما على ترك الضد ام لا؟ والبحث هنالك في دلالة المطابقة؛ لأن البحث هنالك، هل وضع لفظ النهي يدل على ملابسة الضد أم لا؟ فتكون الدلالة مطابقة؛ لأنه مسماه لغة عند الجمهور. وثالثها: أن الأمر هاهنا دل بالإلتزام على ترك الضد، وهنالك على فعل الضد، فإذا قال له: (لا تتحرك) فالمدلول لهذا اللفظ (اسكن)، وبين الفعل والترك فرد. (سؤال) قال النقشواني: ادعى - هاهنا - أن الدلالة دلالة إلتزام، وجعل الترك جزءًا، فتكون الدلالة عليه دلالة تضمن لا إلتزاما، كما قرره في باب الدلالة. جوابه: أنه اختلفت عبارته في كتبه، فتارة يقول: دلالة الإلتزام خاصة بالخارج، وتاره يقول: اللازم إما داخل وهو الجزء، وإما خارج، ويجعل القسمين دلالة إلتزام، فهاهنا احتج لذلك المذهب الذي لم يقرره في (المحصول) (سؤال) قال النقشواني: لو كان الأمر بالشيء نهيا عن ضده للزم أن يكون الأمر

(سؤال) قال النقشواني: يلزمه أن الامر للفور، وهو لا يقول به

للتكرار، وهو لايقول به؛ لأن النهي يجب أن يكون للتكرار، ومتى دام إجتناب الضد وجب دوام فعل الضد الآخر. جوابه: أن النهي ليس للتكرار - كما سيأتي اختياره فيه إن شاء الله تعالى. سلمنا أنه للتكرار، لكن القاعدة أن أحكام الحقائق التي ثبتت لها حالة الإستدلال لا يلزم أن يثبت لها حالة التبعية - كما تقدم في هذه المسألة، فلا نعيده. (سؤال) قال النقشواني: يلزمه أن الامر للفور، وهو لا يقول به؛ لأن الإنتهاء عن المنهي عنه على الفور، فإذا وجب ترك الضد في الحال وجب فعل الضد الآخر في الحال، فيكون الأمر للفور لا للفور، وهو جمع بين النقيضين. جوابه: ماتقدم في السؤال الذي قبله. (تنبيه) زاد سراج الدين وغيره فقال: الأمر بالشيء نهي عن ضده، ولم يذكر النقيض، وقال: لقائل أن يقول: لا نزاع في أن الدال على إيجاب الفعل دل على المنع من الترك تضمنا، بل النزاع في الدلالة على المنع من أضداده الوجودية. فالدليل المذكور نصب لا في محل النزاع مع إمكان نصبه فيه، ووافقه (المنتخب) و (التنقيح) في التصريح بالضد دون النقيض الذي صرح به في (المحصول) وقال تاج الدين: الأمر بأحد النقيضين نهى عن الآخر.

وزاد التبريزي فقال: لا يتحقق هذا الخلاف في كلام الله تعالى فإن جمهور مثبتي كلام النفس مطبقون على أن كلام الله تعالى واحد، وهو أمر، ونهي، وخبر، وإستخبار، ووعد ووعيد، وإستفهام إلى جميع الأقسام الواقعة في الكلام، فهو تعالى آمر بعين ماهو ناه به، ولا في أن قول القائل (تحرك) هو عين قوله: (لا تسكن)، وإنما النظر في أن قوله: (افعل) وما يتضمنه على خلاف فيه طلب الفعل، فهل هو أيضاً طلب لضده أم لا؟ قال القاضي: هو بعينه طلب ترك الضد، فهو طلب واحد بالإضافة إلى جانب الفعل (أمر) وبالإضافة إلى جانب الضد (نهى). وقال بعضهم: ليس هو عينه، ولكنه متضمنه، وهو إختيار صاحب الكتاب، والذي عليه جمهور المحققين من أصحابنا. ومن المعتزلة: أنه لا يتضمنه، ولا يستلزمه. والدليل عليه أمران: أحدهما: أن النهي طلب، كما أن الأمر طلب، وتعلق الطلب بغير المعلوم محال، فقد يغفل الآمر بالشيء حالة الأمر به عن أضداده، بل الإحاطة بجميع أضداده تخالف العادة، ثم على تقدير حصول الضد، فتركه في المعقولية متميز عن فعل المأمور به، فمتعلق الأمر هو وجه المأمور به، لا وجه ترك ضده، وتلازمهما في الوجود من أحد الطرفين لا يوجب تعلق ذلك الطلب به، كما في العلم، ولا تعلق طلب آخر به، ولا كراهة لعدمه

الذي هو فعل الضد؛ اذ لو كان كذلك لكان تارك المأمور بضد من أضداده ممتثلا بوجوه، على عدد تلك الأضداد وهو محال، فإن أخذ في متعلق الطلب كونه تاركا للضد بفعل المأمور به؛ لئلا يكون ممتثلا بمجرد ترك كل ضد، فنقول وجه المأمور به مستقل يتعلق الطلب به قولا وقصدا، فما وراءه من ترك الضد لو كان متعلقا لكان مستقلا، ولزم الإشكال، ثم لا مستند لتوهم شمول التعلق له إلا الملازمة في الوجود من أحد الطرفين، وهو منقوض بجميع لوازم الوجود وتوابعه. قال: وقوله: "الطلب الجازم من ضرورية المنع من الإخلال" كيف يستقيم من تسليمه جواز الأمر بالنقيضين، فإنه يؤدي إلى اجتماع الطلب والمنع في كل نقيض، وهو جمع بين الضدين، قال: وقوله: "المنع من الإخلال جزء ماهية الإيجاب". قلنا: فيجب أن يتعلق بما يتعلق الإيجاب به الذي هو الطلب الجازم؛ فإن جزء ماهية المتعلق يجب أن يتعلق بمتعلق الماهية، ومتعلق الطلب الجازم هو الفعل، فيلزم أن يكون متعلق المنع أيضا هو الفعل، وهو محال، فلا معنى للمنع من الإخلال إلا غير ذلك للطلب؛ فإن المنع من الشيء بمعنى الضد قد يكون بمنع يقوم به، وقد يكون بلزوم يتعلق بضده أو نقضيه، ويسمى أيضا منعا. قال: وقوله: "يجوز أن يكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده بشرط عدم الغفلة". قال: فإن قلنا: إذا شرطنا في ثبوته أمرا آخر ثبت أنه ليس عينه، ولايتضمنه، ولا يلازمه وهو المدعى، قال: فإن قلت: ناقضت قولك: "ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب"؛ لأن الواجب لايتم الا بترك ضده. قال: قلنا: بل هي مزلة قدمزل فيها من بنى تلك المسألة على تلك.

ويندفع الإشكال بوجهين: أحدهما: هو أنه ما لا يتم الواجب الا به وسيلة للواجب، لازم التقديم عليه، فيجب التوصل به الى الواجب لئلا يعتقد أن حالة عدم المقدمة هو خال عن التكليف؛ لزعمه بأن الأصل ممتنع الوقوع، وهو غير مكلف بالمقدمة. قال: فقلنا: هذا غلط، بل أنت قادر عل تحصيل الأصل بتقديم هذه المقدمة فعليك فعلها، فكان إيجاب المقدمة تحقيقا لإيجاب الأصل مع تقدير عدم المقدمة وترك الضد، أم يتبع حصوله حصول المأمور به من غير قصد، ولا شعور من الفاعل، ولا تشوق من الأمر، فكيف يقاس عليه؟! الثاني: هو أنالا نقول: إنه مأمور به، بل نقول: هو واجب، ولهذا لا يوجب إرتباط القصد به في العبادات، فلا يوجب على الصائم قصد إمساك جزء من الليل، ولا على غاسل الوجه نيه غسل جزء من الراس، ولا نقول أيضا بأنه وجب بإيجاب الأصل، بل بدليل آخر، إيجاب الأصل إحدى مقدمتيه على حسب وجوب العزم. ونقول أيضا: ترك الضد واجب، وفعل الضد حرام، لكن لا من حيث هو فعل الضد، بل من حيث هو ترك المأمور به لئلا يلزمنا فضائح الكعبي. الأمر الثاني: هو أن ارتكاب هذا المذهب يؤدي إلى محالات. أحدها: أنه يستحيل لهما أمره بفعل على الفور على وجه لا يسقط بخروج أول زمان الإمكان أن يأمره قبل فعله بما لا يمكن الجمع بينهما؛ لأن الأمر بكل واحد منها نهي عن الآخر، فيكون آمرا بالشيء وضده، ناهيا عنهما في حال واحدة، حتى لو ترك صلاة واحدة سقطت عنه التكاليف بأسرها: لأنه بالأمر بالقضاء منهي عن سائر العبادات. وثانيها: ان يتعذر الجمع بين اعتبار جهتي الفعل كالصلاة في الدار

المغصوبة؛ فإن التكليف بكل واحدة يتناول الأخرى ضرورة الملازمةفي الوجود، فإن اجتمعا تناقضا، وإن تساقطا - أو أحدهما - تعذر الجمع بين حكمهما. ويستدل على صحة الثالث: أن يكون كل مباح حراما إذا ترك به واجبا، أو واجبا اذا ترك به حراما أبدا، كما صار إليه الكعبي. قلت: كلام التبريزي فيه مواضع يحتاج للكلام عليها. أحدها: قوله: إن كلام النفس يدخله الإستفهام، وجميع أنواع الإستفهام ليس كذلك، بل المتفقون على كلام النفس إتفقوا على إستحالة الإستفهام فيه في حق الله تعالى فإن الإستفهام طلب الفهم، وهو على الله تعالى محال، وإنما تدخل صورة الإستفهام في لفظ القرآن دون كلام النفس، فتناوله العلماء إلى النفي الصرف، أو الإثبات الصرف، أو التهديد إلى غيره مما هو مذكور في كتب التفاسير، وكذلك الترجي والتمني، ونحوهما من أنواع الكلام، وهي مستحيلة على الله تعالى، بل الذي في كلام النفس الطلب والتخيير، والخبر، فيشمل الطلب: الواجبات، والمندوبات، والمحرمات، والمكروهات والتخيير والإباحة. والخبر يشتمل: الوعد والوعيد، والبشارات، والنذارة، وإسنادات الأحكام إلى المحكوم عليها، كيف كانت واجبة، أو ممكنة، أو مستحيلة. وثانيها: قوله: الله تعالى أمر بعين ما هو ناه عنه قد تقدم أنه غيره باعتبار المتعلق، وعينه باعتبار المتعلق فأمكن المنع على أحد الوجهين. وثالثها: قوله: "إن الآمر قد يغفل"قد تقدم الكلام عليه في كلام المصنف، وان الغفلة لا تقدح في الطلب على سبيل الإجمال.

ورابعها: قوله: "تلازمهما في الوجود لا يوجب تعلق ذلك الطلب به كما في العلم". يعني: أن العلم قد يتعلق بشيء، وله لازم في الوجود، ولا يتعلق به العلم، كما يتعلق بوجود كثير من الحقائق في الوجود لازمها في الوجود أحكام وخواص وآثار، ونحن لا نعلمها. ويرد عليه: أن العلم بالملزوم لا يوجب العلم باللازم الخارجي؛ لأنه لايوجب لتلازم العلمين، أما إذا حصل الشعور بالمطلوب، وما يتوقف عليه، وما هو ضده، فالتلازم بين الطلبين يحصل لأجل أمر ثالث وهو الشعور بالأمرين، بخلاف العلمين لا موجب لتلازمهما، وكذلك يتلازم الطلب وكراهة الضد عند الشعور بالضد لأجل الشعور. وإستشهاده بالعلم غير متجه لعدم الموجب فيه. قوله: "لو كان الأمر كذلك لكان تارك المأمور يعد ممتثلاً بوجوده على عدد تلك الأضداد، وهو محال". قلنا: وما المانع في قول القائل: إجلس في البيت، فترك المأمور به، وجلس في السوق أن يكون عاصياً بترك المأمور به الذي هو الجلوس في البيت، ومطيعاً بترك الجلوس في الحمام وقارعة الطريق، ومعاطن الإبل، وجميع البقاع التي تضاد الجلوس في البيت الجلوس فيها، وقد نهاه عن الجلوس فيها، وقد اجتنب تلك المنهيات بجلوسه في السوق، ولا غرو أن يكون مطيعاً وعاصياً في هذه الحالة من وجهين. سلمنا أنه لايكون مطيعاً بترك الأضداد، لكن قد ينهى عن الشيء، ولا يكون مطيعاً بتركه إذا لم تحصل تلك المصلحة التي لأجلها ورد النهي؛ فإنه في جلوسه في السوق لم تحصل مصلحة الجلوس في البيت، وهو مجاهد في المخالفة، عازم على ترك ما كلف به مقتحم للمعصية، فلذلك عصّيناه مطلقاً، بخلاف من مشى للجمعة ففاتته، أو الحج، فإنه سعى في الطاعة

ففاتت، وكانت مساعيه على وفق الأمر عادة فيثاب، وإن فاتت المصلحة؛ لأجل أنه ساعٍ في الطاعة عادة، بخلاف الجالس في السوق لا يعد في العادة إلا معرضاً. وخامسها: قوله "وجه فعل المأمور به مستقل بتعلق الطلب قولاً وقصداً ": قلنا: ذلك ممنوع، بل لا يتصور الطلب مع القصد للمأمور به، وهو مشعر بالضد ولا يقصد، فلا يستقل القصد، وكذلك لا يستقل اللفظ؛ لأن دلالة الالتزام على الضد ملازمة لدلالة اللفظ مطابقة على المأمور به، فلا يصادر على ذلك. وسادسها: قوله: "كيف يستقيم قول المصنف: الطلب الجازم من ضروراته المنع مع تسليمه الأمر بالنقيضين". قلنا: يستقيم لأن تجويزه ذلك إنما هو باعتبار الأحكام الربانية، لا باعتبار الأوضاع اللغوية، فهو يدعي أن اللفظ وضع لمعنى المنع جزؤه، ولا تناقض بين الوضعين، إذ الوضع اللغوي ليس واقعاً على كل ما هو جائز في الأحكام الإلهية، بل العرب إنما وضعت الألفاظ لما يمكن طلبه عادة. سلمنا: إتحاد البابين، لكن التجويز لا يلزم منه الوقوع، فقد يجوز الشيء، ويكون الواقع خلافه كما يجوز في كل لفظة أن تكون موضوعة لغير مسماها ومع ذلك، فالواقع خلافه. وسابعها: قوله: "يلزم المصنف على أن المنع من الإحلال جزء ماهية الإيجاب أن يتعلق ذلك الجزء بما يتعلق الإيجاب؛ لأن جزء المتعلق متعلق بما تعلق المتعلق الذي هو مركب من ذلك الجزء وغيره، كما أن جزء الخبر عن قيام زيد خبر عن قيام زيد، فإن قيام زيد فيه مطلق الخبر، وخصوص هذا الخبر، فيلزم أن يكون المنع متعلقاً بالفعل، فيكون الفعل مطلوباً، محرما، وهو محال".

قلنا: لا نسلم أن جزء الطلب يلزم أن يكون مطلوبه ومتعلقه مطلوب الطلب الذي هو المركب منه ومن غيره؛ لأن أحكام المركبات لا يلزم أن تثبت لأجزائها كما أن العشرة زوج الخمسة، ليست زوجاً، وهو كثير، فلم قلتم: إن ذلك لازم في هذه الصورة، كما نقول: هل قام زيد إستفهام وطلب؟ وجزؤه الذي هو قام زيد لا طلب فيه، فكما تصورنا عروّ الخبر عن الطلب مع أن المركب طلب، فلنتصور أنه طلب لشيء آخر، وهو ترك الضد. وثامنها: قوله: "أنا لا نقول: ما يتوقف عليه الواجب مأمور به، بل واجب". قلنا: الواجب متعلق به الوجوب، ولا نفي بالوجوب إلا الأمر، ولا المأمور به إلا الواجب، فإن الوجوب إن جعل كلاماً نفسيا كان الأمر كذلك، وهو هو، أو لسانياً كان الأمر كذلك، وهو هو. وأما استدلاله بعدم اشتراط النية فسيأتي في أن المأمور به يتوقف على القصد إليه الجواب عن ذلك إن شاء الله تعالى. وتاسعها: قوله: "يلزمنا فضائح الكعبي"، يريد الأسئلة الواردة عليه في أن المباح واجب، وسيأتي إن شاء الله تعالى

وعاشرها: قوله: "يستحيل مهما أمره بفعل على الفور إلى آخره". معناه: أن يقول له: اجلس في البيت على الفور، فأخر الجلوس في البيت زمانا يمكنه أن يجلس، فيستحيل أن يأمره في زمان عدم جلوسه في البيت الذي أخلاه من الجلوس في البيت بأن يجلس في السوق، فيكون الأمر بالبيت نهيا عن السوق، وبالسوق نهيا عن البيت؛ لأنهما ضدان، فيكون آمراً بهما، وناهياً عنهما، وهو محال. وجوابه: أنه إنما يستحيل ذلك إذا اتحد الزمان، أما إذا أخر الجلوس في البيت انتقل الأمر به إلى زمان آخر، فإذا قال له: اجلس في السوق كان هذا أيضاً مخصصاً لما فهم من دلالة الالتزام، ويصير هذا الضد غير منهي عنه، بل يصير أمره بالجلوس فيهما، ولو قال ذلك ابتداء لم يسمع، فكذلك إذا أتى به بعد الآخر، فإذا صار التخصيص في دلالة المطابقة، فأولى أن يجوز في دلالة الالتزام، وبه يظهر الجواب عن قوله: "إذا ترك صلاة واحدة سقطت عنه التكاليف كلها" بل نقول: تخصيص دلالة الإلتزام بها، ولا محال حينئذ، وبه يظهر الجواب عن قوله في: "الصلاة في الدار المغصوبة"؛ فإن وجوب الصلاة وإن اقتضى منع الخروج من الدار، وتحريم الكون في الدار، وإن اقتضى عدم الصلاة؛ لأنه ينافيه، لكن في كل واحد منهما وجهان، فالغصب حرام من جهة أنه استيفاء لمنافع الغير، ويقتضي منع الصلاة من هذا الوجه، وتكون الصلاة واجبة من وجه آخر، وهو وجه العبادة، والصلاة مأمور بها من جهة أنها عبادة، فتقتضي المنع من الخروج من الدار المغصوبة، فيكون الخروج عنها مأموراً به من هذا الوجه، ومنهيا عنه من جهة أنه استيفاء لمنافع الغير، ولا تناقض من اجتماع الضدين، بل النقيضين باعتبارين، هذا إن فرض الوقت مضيقاً في الصلاة، وإلا فلا نسلم أن الأمر بها يقتضي المنع من الخروج، بل الخروج واجب، ويصلى بعد

(فائدة) قال المازري: القائلون بكلام النفس لهم ثلاثة أقوال في هذه المسألة

الخروج آخر الوقت، ويظهر الجواب عن قوله: "يلزم أن يكون كل مباح حراماً إذا ترك به واجباً" بأنه إذا ترك به واجباً، هذا اتفاقي، فإن ترك الواجب قد يكون بالحرام، والمندوب، والمكروه، والمباح فما تعين المباح لترك الواجب، وكلامنا في المسألة فيما إذا تعين المنافي والوسيلة. (فائدة) قال المازري: القائلون بكلام النفس لهم ثلاثة أقوال في هذه المسألة: منهم من يوجد المتعلق والمتعلق به، وهو أبو المعالي، وقال: الأمر ليس نهياً عن الضد. الثاني: وهو قول القاضي قال: يتعدد المتعلِّق والمتعلَّق جميعاً، وجعل الأمر بالشيء يلزمه كلام آخر في النفس يتعلق بالضد. الثالث: قول جماهير أئمتنا قالوا: المتعلق به متعدد، وهو: المأمور به، وضده والمتعلق، وهو كلام النفس، وتعلقه واحد. فالأقوال تعددهما، وإتحادهما، وتعدد المتعلق فقط، هذا أمر الإيجاب، وفي الندب قولان: قال القاضي: الندب يلزمه الكراهة، فهو كالإيجاب. وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: لا يلحق الندب بالإيجاب، ولا يكون نهياً عن الضد، ففرق بينهما.

المسألة الثالثة في أنه ليس من شرط الوجوب تحقق العقاب على الترك

المسألة الثالثة في أنه ليس من شرط الوجوب تحقق العقاب على الترك هذا هو المختار، وهو قول القاضي أبي بكر؛ خلافا للغزالي. لنا وجهان: الأول: أنه لو كان كذلك، لكان حيث تحقق العفو، لم يتحقق الوجوب، وذلك باطل، على قولنا بجواز العفو عن أصحاب الكبائر. والثاني: أن ماهية الوجوب تتحقق عند المنع من الإخلال بالفعل، وذلك يكفي في تحققه ترتب الذم على الترك، ولا حاجة إلى ترتب العقاب على الترك. والعجب أن الغزالي إنما أورد هذه المسألة بعد أن زيف ما قيل في حد الواجب: أنه الذي يعاقب على تركه، وذكر: أن الأولى أن يقال: الواجب هو الذي يذم تاركه. وهذا منه اعتراف بأن الواجب لا يتوقف تقرر ماهيته على العقاب، وأنه يكفي في تحققه إستحقاق الذم، ثم ذكر عقيبه بلا فصل هذه المسألة، وذكر أن ماهية

شرح القرافي: قلنا: هذه الفهرسة غير محررة

الوجوب لا تتحقق إلا بترجيح الفعل على الترك، والترجيح لا يحصل إلا بالعقاب، ولا شك أنه مناقضة ظاهرة. المسألة الثالثة في أنه ليس من شرط الوجوب تحقق العقاب على الترك قال القرافي: قلنا: هذه الفهرسة غير محررة؛ فإن المنقول عن القاضي

...............................................................

أنه قال: يمكن تصور حقيقة الوجوب بدون إستحقاق المؤاخذة بأن يتصور الطلب الجازم بدونه. وقال الغزالي وغيره: إذا قطعنا النظر عن استحقاق المؤاخذة لم يبق إلا رجحان الفعل، وهو قدر مشترك بين الوجوب والندب، فلا يتميز لنا حقيقة الوجوب إلا باستحقاق المؤاخذة على الترك. أما وقوع المؤاخذة وإن وقوعها لازم في جميع الصور، فلم يقل به، ويشهد لصحته قول القاضي: إنا إذا قلنا: (اللهم توفنا مسلمين) لا نجد في أنفسنا مسامحة في هذا الطلب ولا رخصة، بخلاف إذا قلنا: (اللهم أعطنا

ألف قصر أو عشرة آلاف دينار)، فإنه إذا قيل لنا: تسعة آلاف لا يصعب على الواحد منها النزول عن العشرة إلى التسعة كما يصعب عليه النزول عن الإسلام إلى الكفر، فهذا هو الطلب الجازم، وهو الوجوب في هذه الصورة، والمؤاخذة على تقدير عدم الإجابة مستحيلة، فهذا تقرير المسألة، أما المؤاخذة بالفعل فلا، وبهذا يظهر بطلان أدلته؛ لأنها في غير صورة النزاع، ويظهر أيضا الجواب عن تعجبه من الغزالي في حد الواجب؛ فإنه لا تناقض بين قوليه، وقول الغزالي في حد الواجب: إلا بالعقاب مناقضة ظاهرة وكلامه في (المستصفى) عند التأمل لا يقتضي إلا هذا. ونقل عن القاضي أنه قال: لو أوجب الله تعالى علينا شيئا، ولم يتوعد بالعقاب على تركه كان واجبا؛ لأن الوجوب بإيجاب الله تعالى لا بالعقاب. فقال الغزالي على سبيل الإعتراض على القاضي: لابد من الإشعار بالعقاب، وإلا فلا يتقرر، هذا بعض لفظه، وتركت بقيته لطوله.

المسألة الرابعة الوجوب إذا نسخ، بقي الجواز؛ خلافا للغزالي

المسألة الرابعة الوجوب إذا نسخ، بقي الجواز؛ خلافا للغزالي قال الرازي: لنا أن المقتضي للجواز قائم، والمعارض الموجود لا يصلح مزيلا؛ فوجب بقاء الجواز. إنما قلنا: إن المقتضي للجواز قائم؛ لأن الجواز جزء من الوجوب، والمقتضي للمركب مقتض لمفرداته. وإنما قلنا: إن الجواز جزء من الوجوب؛ لأن الجواز عبارة عن رفع الحرج عن الفعل، والوجوب عبارة عن رفع الحرج عن الفعل، مع إثبات الحرج في الترك، ومعلوم أن المفهوم الأول - من المفهوم الثاني. وإنما قلنا: إن المقتضي للمركب مقتض لمفرداته؛ لأنه ليس المركب إلا عين تلك المفردات؛ فالمقتضي للمركب مقتض لتلك المفردات. فإن قلت: المقتضي للمركب مقتض لتلك المفردات حال اجتماعها؛ فلم قلت: إنه يكون مقتضيا لها حال انفرادها؟ قلت: تلك المفردات من حيث هي غير، ومن حيث إنها مفردة غير، وانا لا أدعي أنها من حيث هي مفردة - داخلة في المركب؛ وكيف يقال ذلك فيه، وقيد الانفراد يعاند قيد التركيب، وأحد المعاندين لا يكون داخلا في الآخر؟ ولكنني أدعي أنها من حيث هي داخلة في المركب؛ فيكون المقتضي للمركب مقتضيا لتلك المفردات من حيث أنها هي، لا من حيث إنها مفردة. وإنما قلنا إن المعارض الموجود لا يصلح مزيلاً؛ لأن المعارض يقتضي زوال الوجوب، والوجوب ماهية مركبة، والماهية المركبة يكفي في زوالها زوال أحد

قيودها؛ فزوال الوجوب يكفي فيه إزالة الحرج عن الترك، ولا حاجة فيه إلى إزالة جواز الفعل؛ فثبت أن المقتضي للجواز قائم، والمعارض لا يصلح مزيلاً. فإن قيل: الجواز الذي جعلته جزء ماهية الوجوب، هو الجواز بمعنى: رفع الحرج عن الفعل فقط، أو بمعنى رفع الحرج عن الفعل والترك معاً؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع. ولكن ذلك الأول لا يمكن بقاؤه بعد زوال الوجوب؛ لأن مسمى رفع الحرج عن الفعل لا يدخل في الوجود إلا مقيداً: إما بقيد إلحاق الحرج بالترك؛ كما في الوجوب، أو بقيد رفع الحرج عن الترك؛ كما في المندوب، ويستحيل أن يبقى بدون هذين القيدين. وأما الثاني فممنوع؛ لأن الجواز، بمعنى رفع الحرج عن الفعل والترك، ينافي الوجوب، الذي لا تتحقق ماهيته إلا مع الحرج على الترك، والمنافي لا يكون جزءاً. فثبت أن المقتضي للوجوب لا يكون مقتضياً للجواز بهذا المعنى. والواجب: أن الجواز الذي هو جزء ماهية الوجوب هو الجواز بالمعنى الأول. قوله: "إنه لا يتقرر إلا مع أحد القيدين": قلنا: نسلم؛ لكن الناسخ للوجوب لما رفع الوجوب، رفع منع الحرج عن الترك؛ فقد حصل بهذا الدليل زوال الحرج عن الترك. وقد بقي أيضاً القدر المشترك بين الوجوب والندب؛ وهو زوال الحرج عن الفعل؛ فيحصل من مجموع هذين القيدين زوال الحرج عن الفعل وعن الترك معاً، وذلك هو المندوب والمباح.

شرح القرافي

فظهر بما ذكرنا أن الأمر، إذا لم يبق معمولا به في الوجوب؛ بقى معمولا به في الجواز، والله أعلم. المسألة الرابعة الوجوب إذا نسخ بقي الجواز قوله: "الجواز جزء الوجوب".

قلنا: أو لازم لما يتعين أن جزء الشيء قد يفسر بجزئه، كقولنا: "الإنسان هو الحيوان الناطق"، وبلازمه كقولنا: (هو الضاحك بالقوة)، فتفسير الوجوب بنفي الحرج لا يمنع أنه رسم لا حد. قوله: "الجواز رفع الحرج عن الفعل". قلنا: مقصود هذه المسألة أنه إذا نسخ الوجوب بقي الجواز الذي هو حكم شرعي ليستدل بالدليل الشرعي الدال بالوجوب على أن حكم الله تعالى بعد نسخ الوجوب الجواز، ونفي الحرج أعم من الجواز الشرعي؛ لأن نفي الحرج ثابت قبل الشرع على أصولنا، وما هو ثابت قبل الشرع لا يكون حكماً شرعياً، وإذا كان نفي الحرج شرعياً أعم من الجواز لا يلزم من ثبوته الجواز الشرعي، فلا يفيد هذا البحث شيئاً، بل ينبغي للمستدل في هذه المسألة أن يقول: دل الدليل الموجب على جواز الإقدام، والدليل الناسخ على جواز الإحجام، ومجموع الجوازين هو المدعى في هذه المسألة، وهو ثابت بدليلين شرعيين، فيكون شرعياً، فهذا متجه، أما الجواز ونفي الحرج فلا يفيد.

تنبيه: الجواز في هذه المسألة أعم من الإباحة الشرعية المفسرة باستواء الطرفين لاندراج الندب أيضا فيها

(تنبيه) وينبغي أن يعلم أن الجواز في هذه المسألة أعم من الإباحة الشرعية المفسرة باستواء الطرفين لاندراج الندب أيضاً فيها؛ فإن مجموع نفي الحرج عن الفعل والترك يصدق على القسمين، والكراهة لا تأتي؛ لأن مجرد مرجح الترك لم يوجد. قوله في الجواب عن السؤال: "لا أدعي المفرد من حيث هو مفرد، بل من حيث هو داخل في المركب". قلنا: هذا الجواب لا يدفع السؤال؛ لأن قول السائل: " لما قلت: إن اللفظ اقتضاء الأجزاء حالة الانفراد يصدق بظن تعين أحدهما أن اللفظ لا يدل عليها بطريق الانفراد، وهذا يندفع بجوابكم، ويصدق بطريق آخر، وهو أن اللفظ إذا دل على مركب من جزئين، ثم دل الدليل على عدم أحدهما لا يلزم أن ينفي الجزء الآخر؛ لأن المركب قد يكون أحد جزئه شرطا في الجزء الآخر، كما إذا صدق أن في المحل مجموع معنيين: أحدهما علم، والآخر قد يكون أحد جزئيه شرطاً في الجزء الآخر، ثم دل الدليل على عدم الحياة، فإنه يستحيل بقاء الجزء الآخر الذي هو العلم، وكذلك المركب من الجواهر والأعراض إذا دل الدليل على عدم الجواهر، فإنه يتعذر بقاء الأعراض، ونظائره كثيرة، فقد يدل لفظ على مركب من جزءين، ولا يدل على بقاء أحدهما بعد ذهاب الآخر، فعلى هذا الوجه لا يكون الجواب دافعاً للسؤال، وما تعين القسم الأول مراداً للسائل. قوله: "والماهية المركبة يكفي في زوالها زوال أحد قيودها ". قلنا: مسلم فلم قلتم: إن ذلك الجزء المرتفع هو تحتم الفعل؟ ولم لا يجوز أن يكون هو جواز الفعل؟ وتقريره: أن الماهية المركبة إذا صدق نفيها يكفي في ذلك أي جزء كان من أجزائها، وليس لأحد أن يعين لنفي العشرة جزءا معينا، بل كل جزء يصلح لعدم الماهية المركبة، فلم جزمتم - هاهنا - بتعين هذا الجزء للانتفاء؟

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: لا نسلم أن حقيقة الجواز رفع الحرج، بل التخيير

واعلم أن هذا الشك قوي غير أن جوابه قاعدة، وهي أن المركبات قسمان: منها ما يكون بين أجزائها عموم وخصوص، كالحيوان مع الناطق في الإنسان. ومنها ما لا يكون بين أجزائها عموم وخصوص، كأفراد العشرة. فالقسم الأول يتعين الجزء الخاص للانتفاء إذا دل الدليل على انتفاء الماهية؛ لأنها إن انتفت بجملة أجزائها، فيستحيل أن ينتفي بالجزء العام انتفاء الجزء الخاص، وإن انتفت بأحد أجزائها، فيستحيل أن ينتفي بالجزء العام الذي هو الحيوان - مثلا- مع بقاء الجزء الخاص الذي هو الناطق، بل يتعين أن يكون إنما انتفت بالجزء الخاص، ونفي الجزء العام بعده جائز، فعلمنا أن انتفاء الجزء الخاص لازم الانتفاء قطعاً انتفت بكل أجزائها أو بعضها، بخلاف الجزء العام، فكذلك تعين النفي، ولا يلزم القضاء بنفي الجزء الآخر؛ لأن الدليل ما دل إلا على نفي الماهية، ونفيها أعم من نفيها بكل أجزائها، أو بعض أجزائها، والدال على الأعم غير دال على الأخص، فلا يستفاد من ذلك الدليل نفيها بكل أجزائها؛ لأنه أخص من مطلق نفيها الذي لم يدل الدليل إلا عليه، أما إذا كانت أجزاء الماهية ليس بينها عموم ولا خصوص فلا يتعين لمطلق نفي الحقيقة جزء معين البتة، كذلك هاهنا الوجوب أخص من الجواز، فلا جرم تعين قيد الوجوب للنفي دون قيد الجواز، وإستثنينا الجواز؛ لأن مطلق النفي لا يستلزمه لما تقدم، وهذه قاعدة ينبغي أن يتفطن لها لئلا يرد السؤال مع الغفلة عنها، فليس له جواب غيرها. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: لا نسلم أن حقيقة الجواز رفع الحرج، بل التخيير ولهذا لا يطلق على أفعال البهائم والصبيان، ولو سلم فليس ذلك بلازم

حكم خطاب الإيجاب، بل حكمه الحمل، ورفع الحرج من حكم الأصل، ولو سلم فإنه يثبت ضمناً للحمل فيزول بزواله. وقوله: "يتحقق رفع الوجوب بسقوط العقاب". قال: قلت: الجواز جزء ماهية الوجوب، أو من ضروراته ,وإلا لبطل الاستدلال بالوجوب على ثبوته، وإن كان فلم قلتم: "إن طريق رفع الحرج رفع هذا الجزء دون دال على أن سياقه يقتضي بقاء الندب، وهو أوجه ولا قائل به؟ ". قلت: في كلامه مواضع: أحدهما: حكم الإيجاب، والحمل لفظ محتمل إن أراد به خطاب الشرع بجواز الإقدام فمسلم، ولفظه غير مفصح عنه، ولم يبق بعده إلا نفي الحرج. وثانيها: قوله: "يزول الجواز بزوال الوجوب" قد علمت بطلانه بالقاعدة المتقدمة. وثالثها: قوله: "لم قلت: إنه يلزم رفع هذا الجزء دون ذاك؟ ". جوابه: من القاعدة. ورابعها: قوله: "لم يقل أحد بالندب مع أنه أوجه " يريد بكونه أوجه أن دليل الوجوب كما اقتضى الجواز اقتضى رجحان الفعل أيضاً، والمنع من الترك، فيقتصر بالدليل النافي للوجوب والناسخ له على أقل ما يكون جمعاً بين الأدلة، فيبقى الندب بالضرورة. وقوله: "لا قائل به " مع أن صاحب الكتاب قد صرح به بقوله: وذلك هو المندوب، والمباح في آخر المسألة، وقد علمت في أول (المحصول) أن تفسير المباح بمستوى الطرفين هو اصطلاح المتأخرين. وتفسير المتقدمين: هو ما لا حرج في فعله كان مندوبا ً، أو مباحاً، أو مكروها، فكذلك هاهنا أمكن أن يكون مرادهم بالجواز المباح، والندب، ولا سبيل للكراهة لما تقدم.

المسألة الخامسة في أن ما يجوز تركه لا يكون فعله واجبا

المسألة الخامسة في أن ما يجوز تركه لا يكون فعله واجبا قال الرازي: والدليل عليه: أن الواجب ما لا يجوز تركه، والجمع بينه وبين جواز الترك متناقض. واعلم أن الخلاف في هذا الفصل مع طائفتين: إحداهما: الكعبي وأتباعه؛ فإنه روي في كتب اصحابنا عنهم؛ أنهم قالوا: المباح واجب؛ واحتجوا عليه بأن المباح ترك به الحرام، وترك الحرام واجب؛ فيلزم أن يكون المباح واجباً. وجوابه: أن المباح ليس نفس ترك الحرام، بل هو شيء به يترك الحرام، ولا يلزم من كون الترك واجباً أن يكون الشيء المعين الذي يحصل به الترك واجباً، إذا كان ذلك الترك ممكن التحقيق بشيء آخر غير ذلك الأول. وثانيتهما: ما ذكره كثير من الفقهاء من أن الصوم واجب على المريض، والمسافر، والحائض، وما يأتون به عند زوال العذر يكون قضاء لما وجب. وقال آخرون: إنه لا يجب على المريض، والحائض، ويجب على المسافر وعندنا أنه لا يجب على الحائض، والمريض البتة. وأما المسافر: فيجب عليه صوم أحد الشهرين: إما الشهر الحاضر، أو شهر آخر، وأيهما أتى به، كان هو الواجب؛ كما قلنا في الكفارات الثلاث. ودليلنا ما تقدم: من أن الواجب هو الذي منع من تركه، وهؤلاء ما منعوا من

ترك الصوم؛ فلا يكون واجبا عليهم، بل الحائض ممنوعة من الفعل، والممنوع من الفعل كيف يمكن أن يكون ممنوعا من الترك؟ واحتج المخالف بأشياء: أحدهما: قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] أوجب الصوم على كل من شهد الشهر، وهؤلاء قد شهدوا الشهر؛ فيجب عليهم الصوم. وثانيها: أنه ينوي قضاء رمضان، ويسمى قضاء، وذلك يدل على أنه يحكي وجوبا سابقا. وثالثها: أنه لا يزيد عليه، ولا ينقص عنه؛ فوجب أن يكون بدلا عنه؛ كغرامات المتلفات. والجواب عن الكل: أن ما ذكرتموه استدلال بالظواهر والأقيسة على مخالفة ضرورة العقل؛ وذلك لأن المتصور في الوجوب المنع من الترك؛ فعند عدم المنع من الترك، لو حاولنا إثبات المنع من الترك، لكنا قد تمسكنا بالظواهر والأقيسة؛ في إثبات الجمع بين النقيضين، وذلك لا يقوله عاقل. بلى، إن فسرتم الوجوب بشيء آخر، فذلك كلام آخر. فروع الفرع الأول: اختلفوا في أن المندوب، هل هو مأمور به أم لا؟ والحق أن المراد من الأمر، إن كان هو الترجيح المطلق من غير إشعار بجواز الترك، ولا بالمنع من الترك، فنعم.

وإن كان هو الترجيح المانع من النقيض، فلا؛ لكنا لما بينا أن الأمر للوجوب كان الحق هو التفسير الثاني. الفرع الثاني: اختلفوا في أن المندوب، هل يصير واجبا بعد الشروع فيه؟ فعند أبي حنيفة رحمة الله عليه: أن التطوع يلزم بالشروع. وعند الشافعي رضي الله عنه: لا يجب. لنا: قوله عليه الصلاة والسلام: (الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر) ولأنا نفرض الكلام فيما إذا نوى صوما، يجوز له تركه بعد الشروع. فنقول: يجب أن يقع الصوم على هذه الصفة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ولكل امرئ ما نوى). وتمام الكلام في هذه المسألة مذكور في الخلافيات. الفرع الثالث: المباح، هل هو من التكليف أم لا؟ والحق أنه: إن كان المراد بأنه من التكليف هو أنه ورد التكليف بفعله، فمعلوم أنه ليس كذلك وإن كان المراد منه أنه ورد التكليف باعتقاد إباحته، فاعتقاد كون ذلك الفعل مباحاً - مغاير لذلك الفعل في نفسه، فالتكليف بذلك الاعتقاد لا يكون تكليفاً بذلك المباح. والأستاذ أبو إسحاق سماه تكليفاً بهذا التأويل؛ وهو بعيد مع أنه نزاع في محض اللفظ. الفرع الرابع: المباح، هل هو حسن؟

والحق: أنه: إن كان المراد من الحسن كل ما رفع الحرج عن فعله، سواء كان عن فعله ثواب، او لم يكن، فالمباح حسن. وإن أريد به ما يستحق فاعله بفعله التعظيم والمدح والثواب - فالمباح ليس بحسن. الفرع الخامس: المباح، هل هو من الشرع؟! قال بعضهم: ليس من الشرع؛ لأن معنى المباح: أنه لا حرج في فعله، وفي تركه، وذلك معلوم قبل الشرع؛ فتكون الإباحة تقريرا للنفي الأصلي، لا تغييراً؛ فلا يكون من الشرع. والحق أن الخلاف لفظي؛ وذلك لأن الإباحة تثبت بطرق ثلاثة: أحدها: أن يقول الشرع: إن شئتم فافعلوا، وإن شئتم فاتركوا. والثاني: أن تدل أخبار الشرع على أنه لا حرج في الفعل والترك. والثالث: ألا يتكلم الشرع فيه البتة، ولكن انعقد الإجماع مع ذلك على أن ما لم يرد فيه طلب فعل، ولا طلب ترك، فالمكلف فيه مخير، وهذا الدليل يعم جميع الأفعال التي لا نهاية لها. إذا عرفت هذا، فنقول: إن عنى بكون الإباحة حكما شرعيا: أنه حصل حكم غير الذي كان مستمرا قبل الشرع - فليس كذلك بل الإباحة تقرير لا تغيير. وإن عنى بكونه حكما شرعيا: أن كلام الشرع دل على تحققه، فظاهر أنه كذلك؛ لأن الإباحة لا تتحقق إلا على أحد الوجوه الثلاثة المذكورة.

شرح القرافي: قوله: " لا يلزم أن يكون الذي يترك به الحرام واجبا إذا كان ذلك الترك يحصل بآخر "

وفي جميعها خطاب الشرع دل عليها؛ فكانت الإباحة من الشرع بهذا التأويل، والله أعلم. المسألة الخامسة ما يجوز تركه لا يكون واجبا قال القرافي: قوله: " لا يلزم أن يكون الذي يترك به الحرام واجبا إذا كان ذلك الترك يحصل بآخر ". تقريره: أن عدم الحرام يصدق مع الواجب، والمندوب، والمكروه، والمباح، وما لا حكم فيه البتة كفعل الساهي، والبهيمة وغيرهما، والأعم لا يستلزم الأخص، ووجوب الأعم لا يوجب الأخص، كما أن إيجاب رقبة لا يوجب عتق الرقبة البيضاء والطويلة. وفائدة أخرى: أن الشيء إذا كان واجباً، وله وسائل متعددة لا يجب أحدها عينا، كما إذا كان للجامع يوم الجمعة طريقان مستويان لا يجب سلوك أحدهما عينا، فكذلك هذه الأمور كلها طرق لترك الحرام ووسائل إليه، فلا يجب أحدها عينا وهو المباح، ولو صح ما قالوه لكان المندوب حراما؛ لأنه ترك الواجب، والمكروه أيضاً كذلك، بل الواجب حرام؛ لأنه يستلزم ترك واجب آخر، وعلى هذا السؤال تحفظ الحقائق.

(سؤال) لا نسلم أن المباح يضاد الحرام في كل الصور

(سؤال) لا نسلم أن المباح يضاد الحرام في كل الصور، فقد لا يضاده كالكلام في وقت الزنا ونحوه، وحينئذ إنما يتأتي هذا في بعض المباحات، فلا يتم مقصوده. وقوله: "وثانيها: قال كثير: إن الصوم واجب على المريض، والمسافر، والحائض". قلنا: أما إطلاق الوجوب على المسافر، والحائض فإن أريد به أنه يجب عليهما أحد الشهرين إما شهر الأداء أو شهر القضاء فهو حق، ويكون الساقط عنهما إنما هو تعيين خصوص رمضان، وإن أريد به وجوب الخصوص في رمضان فهو باطل، وأما الحائض فالحق أنه لا يجب عليها إلا أحد الشهرين، ولا الخصوص؛ لأنها لو كانت كذلك لصح منها أن تأتي بخصوص رمضان، وهو خلاف الإجماع. والمخالف في هذه المسألة كما علمت طائفة من المالكية والحنفية، وإختاره الشيخ أبو إسحاق في (اللمع) ، والقاضي أبو يعلى الحنبلي في كتاب (العدة) نقله عن الحنابلة. ففي هذا القول المذاهب الأربعة: فأما المالكية القائلون بها فأطلقت ذلك، ولم تفصل ولم تزد حرفا. وأما الحنفية: فحسب قولها، وقالوا: يجب عليهما وجوبا موسعا، فلم يصادموا انعقاد الإجماع على تأثيمها بالصوم، بخلاف المالكية غير الحنفية، لم يصف لهم مسيرتهم أيضا؛ فإن قاعدة الواجب الموسع أن يصح الإتيان به في أي جزء شاء المكلف من ذلك الزمان الذي وسع الشرع فيه، فإن التزموا ذلك ورد عليهم الإشكال الوارد على المالكية من مصادمة الإجماع، وإن

لم يلتزموه خرجت المسألة من أيديهم، ويبقى معنى قولهم: المعنى بوجوب الصوم عليها أنها إذا طهرت قضت، وهذا ليس محل النزاع هاهنا. وقال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): جواز الترك لا يدل على عدم الوجوب؛ بدليل الدين المؤجل، وتحريم الفعل لا يدل على عدم الوجوب بدليل المحدث، وكذلك أجاب القاضي أبو يعلى. ويؤخذ من هذه الأجوبة: أن الجميع يقولون بالوجوب الموسع، وجوابهم، أن الدين لو عجل لصح، والمحدث يتمكن من إزالة الحدث وفعل الصلاة، بخلاف الحائض. وظاهر نقل (المحصول): أن المريض والمسافر، والحائض يجب عليهم خصوص رمضان عيناً، وهو غير متجه، بما قاله المنصف. قوله: "وقال آخرون: لا يجب على المريض والحائض، ويجب على المسافر". قلنا: إن كان هذا القائل يريد بالمريض حرمة الشرع عليه؛ لأنه يؤدي إلى هلاكه أو فساد عضو من أعضائه، فهذا يقرب من الإتجاه. قال الغزالي في (المستصفى): فإن صام مثل هذا، فيحتمل عدم الإجزاء؛ لأن المحرم لا يجزئ عن الواجب، وعلى هذا هو كالحائض، قال: ويحتمل أن يجزئه؛ لأن المنع إنما كان لحق النفس، واحتمل أن يثبت الوجوب لحق الله، فإذا صام أمكن الإجزاء كالصلاة في الدار المغصوبة، محرمة من وجه، وواجبة من وجه، ومع ذلك أجزأت، وإن أراد المريض الذي لم يحرم عليه الشرع الصوم، فهو كالمسافر لا كالحائض الواجب عليه

أحد الشهرين، وسقط عنه الخصوص فقط لمشقة المرض، كما سقط عن المسافر لمشقة السفر. قوله: "وعندنا أنه لا يجب على المريض والحائض بخلاف المسافر". قلنا: صحة هذا الاختيار تتوقف على التفصيل المتقدم إن أراد الذي يحرم عليه الصوم أمكن القول بذلك، وإلا فلا على ما تقدم. قوله: "ولأنه ينوي قضاء رمضان". قلنا: هذا لا يدل على الوجوب سابقا، بل سبب هذه النية أن هذا الصوم ليس بنذر، ولا تطوع، ولا واجب وجب بسبب وجد، ولا كفارة، والنية حكمها تمييز العبادات عن العادات، وتمييز مراتب العبادات في نفسها، ولا مميز لهذا الصوم إلا إضافته إلى السبب السابق، فيضاف لرمضان ذلك، فكذلك نوى عن الماضي، وأضيف إليه، كما إذا كانت كفارات من ظهار، وإفساد الصيام، وكفارة يمين. وقيل: لا بد في كل صوم أن يضاف لسببه حتى يتميز عن الآخر. قوله: " لا يزيد عليه، ولا ينقص، فيكون بدلا عنه كغرامات المتلفات ". قلنا: هو بدل عنه؛ لمعنى أن السبب السابق اقتضى وجوباً، ولم يترتب عليه لقيام المانع، فهذا بدل عن ذلك الذي لم يترتب، وكفى هذا في حسن كونه مقدرا بقدر السابق؛ لأن البدل تابع للمبدل، وإن عنيتم أنه بدل مما وجب فممنوع، بل صحة البدلية تصدق بما ذكرناه من غير محذور، ويلزم من مخالفة الإجماع في أن الوجوب يثبت أن يأثم بالترك. قوله: "المندوب هل يجب بالشروع؟ " قلنا: هذا الفرع لا يتجه في هذه المسألة؛ لأن مما يجوز تركه لا يتصف

بالوجوب، وهذا الفرع القائل بالوجوب، حيث قال به لا يجوز الترك، فلا يكون من هذه المسألة، ثم هذا الفرع لا أعرفه على إطلاقه، بل قالت به طائفة في الحج والعمرة المندوبين إذا شرع فيهما وجب إتمامهما. وزاد المالكية خمسة أخرى: طواف التطوع، والصلاة، والصوم، المندوبين، والإتمام، فمن صلى في جماعة امتنع أن يفارق الإمام. وعند الشافعي يجوز له أن يفارقه. والاعتكاف، فمن نوى عشرة أيام وجب عليه إذا شرع فيها أن يكملها. وما عدا هذه السبعة مواطن لا أعلم فيه خلافاً. فقد قالت المالكية: من شرع في تجديد الطهارة يجوز له ترك الإكمال لذلك الوضوء. وكذلك من صرح بصدقة التطوع له الرجوع بها، وكذلك من شرع في بناء وقف، أو مسجد، او تلاوة القرآن له إبطال ذلك كله. وليس من هذا الباب الفريضة أول الوقت؛ فإن هذا صفة واجب، والكلام في المندوب الصرف، والإتمام وإن كان صفة واجب إلا أنه مندوب مستقل، بخلاف تعجيل الفرض.

قوله: "الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام، وإن شاء أفطر". قلنا: عنه أجوبة: أحدها: أنه مجمل دائر بين أجزاء اليوم الواحد، فنقول لموجبه: إن شاء صام اليوم الثاني، وإن شاء أفطره؛ فإن الحديث لم يقل: في يوم واحد، فهو دائر بين الإحتمالين فهو مجمل. وثانيها: سلمنا دلالته على اليوم الواحد، لكن نحمله على الصائم الذي عزم على الصوم قبل الشروع فيه. ويدل على هذا المجاز: ظاهر قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33]؛ فإن النهي للتحريم، فيكون الإبطال حراماً. وثالثها: سلمنا أن المجاز لا يتعين، لكنه معارض بقوله عليه السلام: للأعرابي لما قال له: هل يجب علي غير ذلك؟ فقال له: (إلا أن تطوع)، مفهومه فيجب عليك.

قوله: " بفرضه نوى صوماً يجوز له تركه، فيكون بدله تركه بعد الشروع، لقوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات، ولكل إمرئ ما نوى ". قلنا: قوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات)، (الألف) (واللام) فيه للعهد، أي المشروعة المعهودة في الشرع، وليس المراد المحرمات إجماعاً، وحينئذ يتعين أن يكون قوله عليه السلام: (ولكل إمرئ ما نوى)، أي منها حتى ينتظم الكلام، فلا يبقى فيه حجة حينئذ؛ لأنا نمنع أن هذا عمل مشروع، بل كل صوم مشروع - عندنا - لا يجوز إبطاله، والعمل بهذه الصفة غير مشروع فلا يندرج. قوله: "إختلف في المباح هل هو من الشرع أم لا؟ ". قلنا: منشأ الخلاف: اختلاف تفسير المباح، فمن فسره بعدم الحرج، فعدم الحرج ثابت قبل الشرع، وما هو ثابت قبل الشرع لا يكون من الشرع. ومن فسره بإعلام الشرع بنفي الحرج في الفعل، أو الترك، أو تخييره. قال: هو من الشرع؛ لأن هذا الإعلام لا يوجد قبل الشرع، وما توقف على الشرع كان شرعيا، وما لا يتوقف على الشرع لا يكون شرعيا. قوله: " فتكون الإباحة تقريرا للنفي الأصلي لا تغييرا، فلا تكون من الشرع ". قلنا: لكن إن فسرت الإباحة بهذا التقرير كانت شرعية؛ لأنه لا يعلم قبل الشرع. قوله: " إن أريد بالإباحة أنه حصل حكم غير الذي كان مستمرا قبل الشرع فليس كذلك، بل الإباحة في الأقسام الثلاثة التي ذكرها تقرير لا تغيير ".

(تنبيه) زاد التبريزي، فقال: الحق في الإباحة إن ورد فيها خطاب التخيير بعين إضافته إلى الشرع فهو حكم شرعي

من ثبوت الأحكام قبل الشرع ونجوز أن يكون الجميع حراماً أو واجباً بناء على أصولنا في جواز تكليف ما لا يطاق، غير أنا لا نوجبه عقلاً كما تقولون، بل نجوزه، فإذا ورد الشرع بتعيين التسوية بين الفعل والترك، فقد تحددت التسوية، وهي غير ما كان ثابتا قبل الشرع، فإن الشرع لم يتعين قبله ذلك. والتقرير أيضا يدل على الإباحة القائمة بذات الله تعالى وهو حكم شرعي، وقبل ذلك ما كنا ندري ما قام بذات الله تعالى، وبهذا يظهر بطلان كلام الغزالي في قوله: "لا فرق بين مذهبنا ومذهبهم إن أراد به ليس من الشرع بمعنى نفي الحرج". (تنبيه) زاد التبريزي، فقال: الحق في الإباحة إن ورد فيها خطاب التخيير بعين إضافته إلى الشرع فهو حكم شرعي؛ لأنها مقتضى خطابه، وكذلك جاز نسخها بخلاف النفي الأصلي وحيث لا خطاب ولا دلالة، فلا وجه لإضافته إلى الشرع، وانعقاد الإجماع على أن ما لم يرد فيه خطاب للاقتضاء والمنع فهو باق على خيرة الفاعل، لا نجعله حكما من الشرع بدليل الأفعال قبل ورود الشرائع، وأما إذا توجهت دلالة من غير تصريح الخطاب، فهو في محل النظر. قلت: قوله: "انعقاد الإجماع على ان ما لم يرد فيه خطاب، فهو باق على خيرة الفاعل لا يجعله حكما شرعيا بدليل الأفعال قبل ورود الشرائع" لا يتجه؛ لأنا نمنع أن الأفعال قبل ورود الشرائع فيها تخيير، ولو سلمناه فالإجماع دليل شرعي كالنص سواء، بل أقوى لعدم الإحتمال فيه، فيضاف إلى الشرع كما سلمه في النص.

وقوله: اذا توجهت دلالة من غير تصريح، فهو في محل النظر، فينبغي أن يجزم بأنه حكم شرعي لوجود الدلالة، ويجزم بنفي الدلالة ولا يثبت أصلها؛ فإن ثبوت مسمى الدلالة يستلزم الحكم الشرعي؛ لصحة الإضافة حينئذ للشرع بتلك الدلالة. ***

النظر الثالث من القسم الثاني من كتاب الأوامر والنواهي في المأمور به

النظر الثالث من القسم الثاني من كتاب الأوامر والنواهي في المأمور به، وفيه مسائل: قال الرازي: المسألة الأولى: يجوز ورود الأمر بما لا يقدر عليه المكلف عندنا؛ خلافا للمعتزلة، والغزالي منا. لنا وجوه: الأول: أن الله تعالى أمر الكافر بالإيمان، والإيمان منه محال؛ لانه يفضي إلى انقلاب علم الله تعالى جهلا، والجهل محال؛ والمفضي إلى المحال محال. فإن قيل: لا نسلم أن الإيمان من الكافر محال، ولا نسلم أن حصوله يفضي إلى انقلاب العلم جهلا. بيانه: أن العلم يتعلق بالشيء المعلوم على ما هو به، فإن كان الشيء واقعا، تعلق العلم بوقوعه، وإن كان غير واقع، تعلق العلم بلا وقوعه. فإذا فرضت الإيمان واقعا، لزم القطع بأن الله تعالى كان في الأزل عالما بوقوعه. وإن فرضته غير واقع، لزم القطع بأن الله تعالى كان في الأزل عالما بلا وقوعه، ففرض الإيمان بدلا من الكفر لا يقتضي تغير العلم، بل يقتضي أن يكون الحاصل في الازل هو العلم بالإيمان، بدلا عن العلم بالكفر؛ فلم قلت: إن ذلك محال؟

سلمنا أن ما ذكرته يقتضي امتناع صدور الإيمان من الكافر؛ لكنه معارض بوجوه دالة على أن الإيمان في نفسه ممكن الوجود: الأول: ان الإيمان كان في نفسه ممكن الوجود، فلو انقلب واجبا؛ بسبب العلم، لكان العلم مؤثرا في المعلوم، وهو محال؛ لان العلم يتبع المعلوم، ولا يؤثر فيه. الثاني: لو كان ما علم الله تعالى وجوده، واجب الوجود، وكل ما علم الله تعالى عدمه، يكون واجب العدم - لزم ألا يكون الله تعالى قادرا على إيجاد شيء؛ لأن الشيء لا ينفك من أن يقال: إن الله تعالى علم وجوده، أو علم عدمه. وعلى التقديرين: يكون واجبا، والواجب لا قدرة عليه البتة؛ فلزم ألا يقدر الله تعالى على شيء؛ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. الثالث: لو كان ما علم الله وجوده، واجب الوجود، وما علم عدمه، يكون واجب العدم - لزم ألا يكون لنا اختيار في فعل شيء اصلا، وان تكون حركاتنا بمنزلة تحريك الرياح للأشجار؛ من حيث إنه لا يكون باختيارنا، لكنا نعلم بالضرورة أن ذلك باطل؛ لانا ندرك تفرقة ضرورية بين الحركات الحيوانية الاختيارية، والجمادية الإضطرارية. الرابع: أنه لو كان كذلك، لكان العالم واجب الوجود في الوقت الذي علم الله تعالى وقوعه فيه، والواجب يستغني عن المؤثر؛ فيلزم استغناء حدوثه عن المؤثر، فيلزم ألا يفتقر حدوث العالم، ولا شيء من الأشياء إلى القادر المختار؛ وذلك كفر. الخامس: أن تعلق العلم به إما أن يكون سببا لوجوبه، أو لا يكون.

فإن كان سببا لوجوبه، لزم أن يكون العلم قدرة وإرادة؛ لأنه لا معنى للقدرة والإرادة إلا الأمر الذي باعتباره يترجح الوجود على العدم، فإذا كان العلم كذلك، صار العلم عين القدرة والإرادة، وذلك محال؛ لأنه يقتضي قلب الحقائق؛ وهو غير معقول. وإن لم يكن العلم سببا لوجوب المعلوم، فقد سقط ما ذكرتموه من الدلالة؛ لانه مبني على أن المعلوم صار واجب الوقوع عند تعلق العلم به، فإذا بطل ذلك بطل دليلكم. سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الإيمان محال من الكافر، لكن امتناعه ليس لذاته، بل بالنظر الى علم الله تعالى؛ فلم قلتم: إن ما لا يكون محالا لذاته فإنه لا يجوز ورود الأمر به؟ سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الامر بالمحال واقع، لكنه يدل على انه لا تكليف الا وهو تكليف بما لا يطاق؛ وذلك لأن الشيء: ان كان معلوم العدم، كان الأمر بالإتيان به أمرا بإيقاع الممتنع. وان كان معلوم الوجود، كان واجب الوجود، وما كان واجب الوجود لا يكون لقدرة القادر الأجنبي واختياره فيه أثر؛ فيكون التكليف به أيضا تكليفا بما لا يطاق. فثبت أن ما ذكرتموه يدل على أن التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق، وان أحدا من العقلاء لم يقل بذلك؛ فإن بعض الناس أحاله عقلا، وبعضهم جوزه، ولم يقل أحد بانه يمتنع ورود التكليف الا بما لا يطاق؛ فما هو نتيجة هذا الدليل - لا تقولون به، وما تقولون به - لا ينتجه هذا الدليل؛ فيكون ساقطاً.

سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم؛ ولكنه معارض بالنص والمعقول: أما النص: فقوله تعالى: {لايكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] وأي حرج فوق التكليف بما لا يطاق؟ واما المعقول: فمن ثلاثة أوجه: الأول: أن في المشاهد أن من كلف الأعمى نقط المصاحف، والزمن الطيران في الهواء - عد سفيها - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. الثاني: المحال غير متصور، وكل ما لا يكون متصورا لا يكون مأمورا به. إنما قلنا: إنه غير متصور؛ لأن كل متصور متميز، وكل متميز ثابت؛ فما لا يكون ثابتا لا يكون متصورا. بيان الثاني: أن الذي لا يكون متصورا لا يكون في العقل إليه إشارة، والمأمور به يكون في العقل إليه إشارة؛ والجمع بينهما متناقض. الثالث: إذا جوزتم الأمر بالمحال، فلم لا تجوزون أمر الجمادات، وبعثة الرسل إليها، وإنزال الكتب عليها؟ والجواب: قوله: " إذا فرضنا الإيمان بدلا عن الكفر، كان الموجود في الأزل هو العلم بالإيمان بدلا عن العلم بالكفر ": قلنا: نحن، وان لم نعلم ان علم الله تعالى في الأزل تعلق بإيمان زيد، او بكفره، لكنا نعلم أن علمه تعلق بأحدهما على التعيين، وذلك العلم كان حاصلا في الأزل، فنقول: لو لم يحصل متعلق ذلك العلم، لزم انقلاب ذلك

العلم جهلاً في الماضي؛ وهو محال من وجهين: أحدهما: امتناع الجهل على الله تعالى، والثاني: أن تغيير الشيء في الماضي محال. قوله: " العلم غير مؤثر ": قلنا: اللازم من دليلنا حصول الوجوب عند تعلق العلم، فأما أن ذلك الوجوب به أو بغيره، فذلك غير لازم. قوله: " لزم ألا يقدر الله تعالى على شيء ": قلنا: قد بينا أن العلم بالوقوع يتبع الوقوع الذي هو تبع الإيقاع بالإرادة والقدرة؛ فامتنع أن يكون الفرع مانعا من الأصل، بل تعلق علمه به على الوجه المخصوص - يكشف عن أن قدرته وإرادته تعلقتا به على ذلك الوجه. قوله: " يلزم الجبر ". قلنا: إن عنيت بالجبر: أن العبد لا يتمكن من شيء على خلاف علم الله تعالى؛ فلم قلت: إنه محال؟ قوله: " يلزم أن يكون العالم واجب الحدوث، حين حدوثه؛ فيستغنى عن القدرة، والإرادة ". قلنا: قد بينا: أن العلم بالوقوع تبع الوقوع، الذي هو تبع القدرة والإرادة، والفرع لا يغني عن الأصل. قوله: " إن العلم: إما ان يكون سببا للوجوب، او لا يكون ": قلنا: نختار أنه ليس سببا للوجوب، ولكن نقول: إنه يكشف عن الوجوب، وإذا كان كاشفا عن الوجوب، ظهر الفرق.

قوله: (هذا لا يدل على جواز الامر بالجمع بين الضدين): قلنا: بل يدل؛ لأن علم الله تعالى بعدم إيمان زيد ينافي وجود إيمان زيد، فاذا أمره بإدخال الإيمان في الوجود حال حصول العلم بعدم الإيمان، فقد كلفه بالجمع بين المتنافيين. قوله: " هذا الدليل يقتضي أن تكون التكاليف كلها تكليف ما لا يطاق، وذلك لم يقل به أحد ": قلنا: الدلائل القطعية العقلية، لا تدفع بأمثال هذه الدوافع: أما الآية: فهي معارضة بقوله تعالى: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} [البقرة: 286] ولأنك قد علمت أن القواطع العقلية لا تعارضها الظواهر النقلية، بل تعلم أن تلك الظواهر مؤولة، ولا حاجة إلى تعيين تأويلها. قوله: " أنه عبث ". قلنا: إن عنيت بكونه عبثا خلوه عن مصلحة العبد؛ فلم قلت: إن هذا محال. قوله: " المحال غير متصور ". قلنا: لو لم يكون متصورا، لامتنع الحكم عليه بالإمتناع؛ لما أن التصديق موقوف على التصور، ولانا نميز بين المفهوم من قولنا: " الواحد نصف الإثنين " والمفهوم من قولنا: " الوجود والعدم لا يجتمعان " ولوا تصور هذين المفهومين، لامتنع التمييز. قوله: " لم لا يجوز أمر الجماد؟ ".

قلنا: حاصل الأمر بالمحال عندنا هو: الإعلام بنزول العقاب؛ وذلك لا يتصور إلا في حق الفاهم. الدليل الثاني: أن الله تعالى اخبر عن اقوام معينين: أنهم لا يؤمنون، وذلك في قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6] وقال تعالى: {لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون} [يس: 7]. اذا ثبت هذا، فنقول: أولئك الأشخاص، لو آمنوا، لانقلب خبر الله تعالى الصدق، كذبا، والكذب على الله محال: إما لأدائه الى الجهل، أو إلى الحاجة؛ على قول المعتزلة، او لنفسه؛ كما هو مذهبنا، والمؤدي إلى المحال محال؛ فصدور الإيمان عن أولئك الأشخاص محال، وتمام هذا التقرير ما تقدم. الدليل الثالث: أن الله تعالى كلف أبا لهب بالإيمان، ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما اخبر عنه، ومما أخبر عنه: أنه لا يؤمن، فقد صار مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن أبدا، وهذا هو التكليف بالجمع بين الضدين. الدليل الرابع: أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على داعية يخلقها الله تعالى، ومتى وجدت تلك الداعية، كان الفعل واجب الوقوع، واذا كان كذلك، كان الجبر لازما، ومتى كان الجبر لازما، كانت التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق. وإنما قلنا: إن صدور الفعل من العبد يتوقف على داعية يخلقها الله تعالى؛ لأن العبد لا يخلو: إما أن يكون متمكنا من الفعل والترك، أو لا يكون كذلك: فإن كان الأول: فإما أن يكون ترجح الفاعلية على التاركية موقوفا على مرجح، أو لا يكون:

فإن توقف، فذلك المرجح، إن كان من فعل العبد، عاد التقسيم فيه، ولا يتسلسل، بل لا بد وأن ينتهي إلى داعية، ليست من العبد؛ من الله تعالى، وهو المقصود. وإن لم يتوقف على مرجح، فقد ترجحت الفاعلية على التاركية، لا لمرجح، وهو محال؛ لأن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر، لو جاز أن يكون، لا لمرجح، لجاز في كل العالم أن يكون كذلك؛ وحينئذ لا يمكن الاستدلال بجواز العالم على وجود الصانع؛ وهو محال. فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: القادر وحده يكفي في ترجيح أحد الطرفين على الآخر؟ قلت: قول القائل: "إنما ترجح أحد الطرفين على الآخر؛ لأن القادر رجحه" مغالطة؛ لأنّا نقول: هل لقولك: "القادر رجحه" مفهوم زائد على كونه قادرًا، وعلى وجود الأثر، أو ليس له مفهوم زائد؟! فإن كان له مفهوم زائد؛ فحينئذ يكون صدور أحد مقدوري القادر عنه دون الآخر موقوفًا على أمر زائد، وذلك هو القسم الأول الذي بينّا أنه يفضي: إما إلى التسلسل، أو إلى مرجح يصدر من الله تعالى. وإن لم يكن له مفهوم زائد، صار معنى قولنا: "القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح" إلى أن القادر يستمر كونه قادرًا مدة من غير هذا الاثر، ثم إنه وجد هذا الأثر بعد مدة من غير أن يحصل لذلك القادر قصد إليه، وميل إلى تكوينه، وذلك معلوم الفساد بالضرورة. ومنشا المغالطة في تلك اللفظة: هو أن قول القائل: " القادر يرجح لكونه

قادرًا" يوهم ان هذا المقدور إنما ترجح على المقدور الآخر؛ لأن القادر خصه بالترجيح. وقولنا: "خصه بالترجيح" لا يوهم أمرًا زائدًا على محض القادرية؛ لأنا إذا أثبتنا أمرًا زائدًا، فقد أوقفنا ترجحه على انضمام أمر آخر إلى مجرد القادرية؛ وحينئذ يرجع إلى القسم الأول؛ فثبت أن هذا الكلام مغالطة محضة. وإنما قلنا: إن حصول تلك الداعية التي يخلقها الله تعالى يجب صدور الفعل؛ فلأنه لو لم يجب، لكان: إما أن يمتنع أو يجوز: فإن امتنع، كانت الداعية مانعة، لا مرجحة. وإن جاز، فمع تلك الداعية يجوز عدم الأثر تارة، ووجوده أخرى؛ فترجح الوجود على العدم: إما أن يتوقف على أمر زائد، أو لا يتوقف: فإن توقف، لم تكن الداعية الأولى تمام المرجح، وكنا قد فرضناها كذلك، هذا خلف. وأيضًا؛ فلأن الكلام في هذه الضميمة، كما فيما قبلها، ويلزم: إما التسلسل، أو الانتهاء إلى ترجح الممكن من غير مرجح، وهما محالان، أو الوجوب؛ وهو المطلوب. وإنما قلنا: إنه، لما توقف فعل العبد على داعية يخلقها الله تعالى، وكان ذلك الفعل واجب الوقوع عند تلك الداعية لزم الجبر؛ لأن قبل خلقها كان الفعل ممتنعًا من العبد، وبعد خلقها يكون واجبًا، وعلى كلا التقديرين؛ لا تثبت المكنة من الفعل والترك.

وإنما قلنا: إنه لما كان كذلك، كانت التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق؛ لأنه لما لم يكن العبد متمكنًا من الفعل والترك البتة، كان تكليفه تكليفًا لمن لم يكن متمكنًا من الفعل والترك؛ وذلك هو المقصود. الدليل الخامس: التكليف: إما أن يتوجه على المكلف حال استواء الداعي إلى الفعل والترك، أو حال رجحان أحد الداعيين على الآخر: فإن توجه عليه حال الاستواء، كان ذلك تكليفًا بما لا يطاق؛ لأن حال حصول الاستواء يمتنع حصول الرجحان؛ لأن الاستواء ينافي الرجحان؛ فالجمع بينهما جمع بين المتنافيين. وإذا امتنع الرجحان، كان التكليف بالرجحان تكليفًا بما لا يطاق، وإن توجه عليه حال عدم الاستواء، فنقول: الراجح يصير واجبًا، والمرجوح ممتنعًا؛ على ما تقدم تقريره في الدليل الرابع. والتكليف بالواجب محال؛ لأن ما يجب وقوعه استحال أن يسند وقوعه إلى شيء آخر، وإذا استحال ان يسند وقوعه إلى غيره، استحال أن يفعله فاعل، فإذا أمر بفعله، فقد أمر بما لا قدرة له عليه. وأما التكليف بالممتنع، فلا شبهة في أنه تكليف بما لا يطاق. الدليل السادس: أفعال العبد مخلوقة لله تعالى، وإذا كان كذلك، كان التكليف تكليف ما لا يطاق. أما أن فعل العبد مخلوق لله تعالى؛ فلأنه لو كان مخلوقًا للعبد، لكان معلومًا للعبد، وليس معلومًا للعبد، فهو غير مخلوق له، وتقريره في كتبنا الكلامية.

وأما أنه إذا كان فعل العبد مخلوقًا لله تعالى، كان التكليف تكليفًا بما لا يطاق؛ فلأن العبد قبل أن خلق الله تعالى فيه الفعل، استحال منه تحصيل الفعل، وإذا خلق الله تعالى فيه الفعل، استحال منه الامتناع والدفع؛ ففي كلتا الحالتين لا قدرة له على الفعل، ولا على الترك. فإن قلت: هب أنه لا قدرة له على الإيجاد، ولكن الله تعالى أجرى عادته بأنه إذا اختار العبد وجود الفعل، فالله تعالى يخلقه، وإن اختار عدم الفعل، فالله تعالى لا يخلقه، وعلى هذا الوجه يكون العبد مختارًا. قلت: ذلك الاختيار: إن كان منه لا من الله تعالى، فالعبد موجد لذلك الاختيار، وإن لم يكن منه، بل من الله تعالى، كان مضطرًا إلى ذلك الاختيار؛ فيعود الكلام. الدليل السابع: الأمر قد وجد قبل الفعل، والقدرة غير موجودة قبل الفعل، فالأمر قد وجد لا عند القدرة، وذلك تكليف ما لا يطاق. أما أن الأمر قد وجد قبل الفعل؛ فلأن الكافر مكلف بالإيمان. وأما أن القدرة غير موجودة قبل الفعل؛ فلأن القدرة صفة متعلقة، فلا بد لها من متعلق، والمتعلق: إما الموجود، وإما المعدوم، ومحال أن يكون المعدوم متعلق القدرة؛ لأن العدم نفي محض مستمر، والنفي المحض يستحيل أن يكون مقدورًا، والمستمر يمتنع أيضًا أن يكون مقدورًا؛ فالنفي المستمر أولى ألا يكون مقدورًا. وإذا ثبت أن متعلق القدرة لا يمكن أن يكون عدمًا محضًا، ثبت أنه لا بد أن يكون موجودًا.

فلما ثبت أن القدرة لا بد لها من متعلق، وثبت أن المتعلق لا بد وأن يكون موجودًا، ثبت أن القدرة لا توجد إلا عند وجود الفعل. الدليل الثامن: العبد لو قدر على الفعل لقدر عليه: إما حال وجوده، أو قبل وجوده: والأول محال؛ وإلا لزم إيجاد الموجود؛ وهو محال. والثاني محال؛ لأن القدرة في الزمان المتقدم: إما أن يكون لها أثر في الفعل، أو لا يكون: فإن كان لها أثر في الفعل، فنقول: تأثير القدرة في المقدور حاصل في الزمان الأول، ووجود المقدور غير حاصل في الزمان الأول؛ فتأثير القدرة في المقدور مغاير لوجود المقدور. والمؤثر: إما أن يؤثر في ذلك المغاير حال وجوده، أو قبله: فإن كان الأول: لزم أن يكون موجدًا للموجود؛ وهو محال. وإن كان الثاني: كان الكلام في كما تقدم؛ ولزم التسلسل. وإن لم يكن لها أثر في الزمان المتقدم، وثبت أيضًا أنه ليس لها في الزمان المقارن لوجود الفعل أثر؛ استحال ان يكون لها أثر في الفعل البتة، وإذا لم يكن لها أثر البتة، استحال ان تكون للعبد قدرة على الفعل البتة. واعلم ان هذين الوجهين لا نرتضيهما؛ لأنهما يشكلان بقدرة الباري جل جلاله على الفعل. الدليل التاسع: أن الله تعالى امر بمعرفته في قوله {فاعلم أنه لا إله إلا الله}

] محمد: 19 [فنقول: إما أن يتوجه الأمر على العارف بالله تعالى، أو على غير العارف به: والأول محال؛ لأنه يقتضي تحصيل الحاصل، والجمع بين المثلين؛ وهما محالان. والثاني محال؛ لأن غير العارف بالله تعالى، ما دام يكون غير عارف بالله تعالى، استحال ان يكون عارفًا بأن الله تعالى أمره بشيء؛ لأن العلم بأن الله تعالى أمره بشيء مشروط بالعلم بالله تعالى. ومتى استحال أن يعرف أن الله تعالى أمره بشيء، كان توجيه الأمر عليه في هذه الحالة توجيهًا للأمر على من يستحيل أن يعلم ذلك الأمر، وذلك عين تكليف ما لا يطاق. الدليل العاشر: أن الأمر بالنظر والفكر واقع في قوله تعالى: {قل انظروا}] يونس: 101 [وفي قوله تعالى: {أولم يتفكروا}] الأعراف: 184 [وذلك أمر بما لا يطاق. بيانه: أن تحصيل التصورات غير مقدور؛ وإذا لم تكن التصورات مقدورة، لم تكن القضايا الضرورية مقدورة، وإذا لم تكن القضايا الضرورية مقدورة، لم تكن القضايا النظرية مقدورة؛ وإذا لم تكن هذه الأشياء مقدورة، لم يكن الفكر والنظر مقدورًا. وإنما قلنا: إن التصورات غير مقدورة؛ لأن القادر، إذا أراد تحصيلها: فإما أن يحصلها حال ما تكون التصورات خاطرة بباله، أو حال ما لا تكون تلك التصورات خاطرة بباله:

فإن كانت خاطرة بباله، فتلك التصورات حاصلة، فتحصيلها يكون تحصيلًا للحاصل؛ وهو محال، وإن كانت غير خاطرة بباله، كان الذهن غافلًا عنه، ومتى كان الذهن غافلًا عنه، استحال من القادر أن يحاول تحصيله، والعلم بذلك ضروري. فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: إنها متصورة من وجه دون وجه آخر؛ فلا جرم يمكنه أن يحصّل كمالها؟ قلت: لما كانت متصورة من وجه دون وجه، فالوجه المتصور مغاير لما ليس بمتصور؛ فهما أمران: أحدهما: متصور بتمامه، والآخر: غير متصور بتمامه؛ وحينئذ يعود الكلام المقدم. وإنما قلنا: إن التصورات، إذا لم تكن مقدورة، كانت القضايا البديهية غير مقدورة؛ لأن تلك التصورات: إما أن تكون بحيث يلزم من مجرد حضورها في الذهن حكم الذهن بنسبة بعضها إلى بعض بالنفي، أو بالإثبات، أو لا يلزم: فإن لم يلزم، لم تكن تلك القضايا علومًا يقينية، بل تكون اعتقادات تقليدية. وإن لزم، فنقول: حصول تلك التصورات ليس باختياره؛ وعند حصولها، فترتب تلك التصديقات عليها ليس باختياره؛ فإذن حصول تلك القضايا البديهية ليس باختياره؛ وذلك هو المطلوب. وإنما قلنا: إن القضايا البديهية، إذا لم تكن باختياره، لم تكن القضايا النظرية باختياره؛ وذلك لأن لزوم هذه النظريات عن تلك الضروريات: إما أن يكون واجبًا، أو لا يكون:

النظر الثاني من القسم الثاني

فإن لم يكن واجبًا، لم يكن ذلك استدلالًا يقينيًا؛ لأنّا إذا استدللنا بدليل مركب من مقدمات، ولم يكن المطلوب واجب اللزوم عن تلك المقدمات كان اعتقاد وجود ذلك المطلوب في هذه الحالة اعتقادًا تقليديًا، لا يقينيًا. وإذا كان ذلك واجبًا فنقول: قبل حصول تلك المقدمات البديهية، امتنع حصول هذه القضايا الاستدلالية، وعند حصول تلك البديهيات، يجب حصول هذه الاستدلاليات؛ فإذن هذه الاستدلاليات في جانبي النفي والإثبات لا تكون باختيار المكلف. وإذا ثبت هذا، ثبت أن التكليف بها تكليف بما ليس في الوسع؛ فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذه المسألة وبالله التوفيق. النظر الثاني من القسم الثاني قال القرافي: قوله: "يجوز ورود الأمر بما لا يقدر المكلف عليه"

قلنا: هذه العبارة لم تحرر محل النزاع؛ لأن بما لا يقدر المكلف عليه قد يكون معجوزًا عنه متعذرُا عادةً لا عقلًا، كالطيران في الهواء؛ فإنه متعذر عادة ممكن عقلًا، وقد يكون متعذرًا عقلًا، ممكنًا عادة، كمن علم الله تعالى عدم إيمانه؛ فإنه يستحيل وقوع الإيمان منه عقلًا لاستحالة خلاف المعلوم، وإذا سئل أهل العادة عنه قالوا: يمكنه الإيمان، وكذلك جميع الطاعات المقدر عدمها، وقد يكون متعذرًا عقلًا وعادةً، كالجمع بين السواد والبياض. فمحل النزاع إنما هو من حيث يتعذر الفعل عادة كان معه التعذر العقلي أم لا؟ وهو قسمان: المتعذر عادة فقط، والمتعذر عادة وعقلًا، أما المتعذر عقلًا فقط، فلا خلاف فيه وننبهك على ذلك أن المعتزلة من أبعد الناس عن التكليف المتعذر؛ لقولهم: بالحسن والقبح، ومع ذلك فقد أجمعوا معنا على أمور: منها: أن الله تعالى كلف الثقلين أجمعين بالإيمان. ومنها: ان الله تعالى علم أن أكثرهم لا يؤمنون، وأخبر عنهم بذلك بقوله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}] يوسف: 103 [. ومنها: أن خلاف المعلوم محال وقوعه عقلًا، ومع تسليمهم بهذه المقدمات، فقد قالوا بوقوع: تكليف ما لا يطاق عقلًا جزمًا. وإنما ينازعوننا في المتعذر عادة، كيف كان متعذرًا عقلًا أم لا؟ هذا تلخيص محل النزاع، وبه يظهر لك بطلان أكثر ما وقع في المسألة من الأدلة.

وجوزها سيف الدين أكثر من الإمام فقال: اختلف قول أبي الحسن الأشعري في جواز تكليف ما لا يطاق نفيًا وإثباتًا كالجمع بين الضدين، وقلب الأجناس، وإيجاد القديم وإعدامه، ونحوه، وأكثر أقواله الجواز. وقال بعض معتزلة (بغداد): يجوز تكليف العبد بما علم الله تعالى أنه يكون ممنوعًا عنه. وقالت الكرامية: الختم على القلب والطبع مانعان من التكليف. وقال بعض الأشعرية بوقوع تكليف ما لا يطاق نفيًا وإثباتًا، ووافقه على النفي بعض المعتزلة البغداديين، قال: وأجمع الكل على جواز التكليف مما علم الله تعالى أنه لا يكون، وعلى وقوعه شرعًا، كالتكليف بالإيمان لمن علم الله تعالى أنه لا يؤمن خلافًا لبعض المعتزلة. والمختار: إنما هو امتناع المستحيل لذاته، كاجتماع الضدين، وجوازه في المستحيل لغيره، وإليه مال الغزالي. وهذا تلخيص حسن، وصرح بالنفي والإثبات، وما اتفق عليه من غيره، ونعني بالإثبات نحو (تحرك)، و (اسكن)، وبالنفي نحو (لا تتحرك)، و (لا تسكن) في كل ضدين لا ثالث لهما، وكذلك مثله الإمام والغزالي. وصرح الغزالي وغيره: بأن المراد قلب الأجناس ونحوه من المستحيل العادي.

قوله: "إيمان الكافر يفضي إلى انقلاب العلم جهلًا؛ لأن العلم يتعلق بالشيء المعلوم إلى آخره". تقريره: أن علم الله تعالى بعصيان (زيد) بترك الإيمان فرع تقرر عصيانه بترك الإيمان؛ لأن العلم والخبر تابعان لتقرير متعلقهما في (فواته) ماضيًا أو حاضرًا أو مستقبلًا، وعصيانه بترك الإيمان فرع الأمر بالإيمان، فيكون العلم بعدم الإيمان فرع الأمر بمراتب الإيمان، ويكون الأمر شرطًا في تعلق ذلك العلم، وأصل الشيء وشرطه لا ينافيه، وإذا كان العلم تابعًا، فأي شيء فرض مقررًا عليه تبعه العلم في ذلك. قوله: "لو انقلب الإيمان واجبًا لكان العلم مؤثرًا في المعلوم". قلنا: التأثير غير لازم؛ لأنا ندعي أن العلم يلزم لذاته امتناع خلاف ما تعلق به، واللازم قد يكون أثرًا؛ لأن العرض لازم للجوهر، وليس مؤثرًا فيه، والعلم لازم للإرادة، وليست مؤثرة فيه، وهو كثير في كل شرط مع مشروطه، وغير ذلك، وإذا كان اللزوم أعم من التأثير، فمن ادعى اللزوم لا يلزمه التأثير، بل هذا لازم للعلم لذاته، غير معلل، كسائر خصائص الحقائق. قوله: "إن كان العلم سبب الوجوب لزم أن يكون قدرة". قلنا: لا نسلم أن الوجوب هاهنا يقتضي أن يكون العلم قدرة؛ لأن الوجوب لازم عام للقدرة، والعلم والإرادة، وغيرها، غير أن وجوب الشيء بالعلم معناه أن الله تعالى قدر وجود الشيء بقدرته وإرادته، فعلمه كذلك تبعًا لوقوعه بالقدرة، ويستحيل إذا علم كذلك ألا يقع كذلك؛ لأن ذلك من خصائص العلم استحالة انقلابه جهلًا، بل هذه الحقيقة ثابتة لكل حقيقة؛ فإن انقلاب الحقائق محال في كل حقيقة، ووجود الشيء بالقدرة معناه: أن القادر استجمع لكل ما لابد منه في التأثير، وأثرت فيه القدرة،

وجعلت له الوجود، ونقلته من جهة العدم، فيلزم من ذلك الوجوب، والوجوب من الإرادة معناه: أن الله تعالى أراده في الزمن المعين موجودًا بالقدرة، فيستحيل ألا يكون كذلك، فالوجوب بالعلم لتعذر الانقلاب، والوجوب بالقدرة للتأثير والاستجماع، والوجوب بالإرادة لاستحالة عدم نفوذ الإرادة القديمة، فصار الوجوب لازمًا أعم الأسباب، خاصة في كل واحد من هذه، فلا يلزم أن يكون أحدهما هو الآخر. قوله: "يلزم أن تكون التكاليف كلها من باب تكليف ما لا يطاق، لأجل العلم؛ لأن المعلوم الوجوب يصير واجب الوقوع، والواجب لا يصح التكليف به إلا بتكليف ما لا يطاق، ومعلوم العدم يستحيل وجوده، فالتكليف به تكليف بما لا يطاق". قلنا: تعلق العلم بوجود الطاعة من زيد فرع أمره بالطاعة، وفرع تقدير الله تعالى له الطاعة، فالأمر شرط وأصل لتعلق العلم فلا ينافيه، كما تقدم بسطه. قوله: "النص كقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها}] البقرة: 286 [". تقريره: أن ذكر ذلك في سياق الامتنان يدل على إمكان ضده؛ إذ المتعين للوقوع لا يحسن به الامتنان. فإن قلت: يشكل عليك بقوله تعالى: {وما ربك بظلام للعبيد}] فصلت: 46 [مع أن سبب الظلم معين. قلت: هذا من باب التمدح وهو سلب النقائض المستحيلة، بخلاف الامتنان، فهما بابان لا باب واحد. قوله:"كل متميز ثابت":

قلنا: أي شيء تريد بالثابت؟ إن أردت في الخارج فممنوع، وإن أردت ثبوته في الذهن والعلم من حيث بالجملة، فلم قلت: إن ذلك يأباه المستحيل؟ قوله: " إذا جوزتم التكليف بالمحال، فجوزوا تكليف الجمادات، وإرسال المرسل إليها ": قلنا: ذلك لا يتصور عقلاً، والتكليف بالمحال متصور عقلاً، أما عدم تصور الأول فلأن التكليف يرجع إلى النعيم في الطاعة، والعقوبة في المعصية، وذلك إنما يتصور في الحي المدرك، وغير المدرك لا يتصور منه لذة، ولا ألم، ولا أن يخير في شيء بفعله أو بتركه، وأما تصور التكليف بما لا يطاق؛ فلأن معناه أنه يعاقبه؛ لأن المأمور به يتعذر الحصول، ومعاقبة الحي متصورة عقلاً، وإنما تحيلونه أنتم لقاعدة الحسن والقبح، ونحن لا نقول بها، فلم يبق منه مانع عقلي، فظهر الفرق بين البابين. قوله في الجواب: " وقوع العلم في الأزل يمنع من حصول ضد المعلوم ". قلنا: قد تقدم أن تعلق العلم تابع للأمر فلا ينافيه، ثم إن هذا مانع عقلي، فلا نزاع فيه. قوله: " تغيير الشيء في الماضي محال ". تقريره: أن الماضي تعين فيه أحد النقيضين الوجود أو العدم، وكذلك الحاضر ورفع الواقع محال، وأما الأزمنة المستقبلة فقابلة للوجود والعدم كل واحد منها بدلاً عن الآخر لعدم التعين، فلا جرم لم يصح تعلق الأوامر إلا بالمستقبل. قوله: " اللازم عن تعليلنا حصول الوجوب عند تعلق العلم، أما أن ذلك الوجوب به أو بغيره فغير لازم ".

قلنا: هذه عبارة توهم تأثير العلم؛ لأن لفظه الباقي قولك: " به أو بغيره " للسببية، فكأنكم التزمتم السببية، ورددتموها بين العلم وغيره، وليس كذلك، بل المتجه أن تقولوا: أما أن ذلك الوجود بتأثير فلا كما تقدم بيانه أن اللزوم أعم من التأثير. قوله: " تعلق العلم به على الوجه المخصوص يكشف عن أن قدرته وإرادته تعالى تعلقنا به على ذلك الوجه ". قلنا: قولكم: " العلم يكشف " غير متجه، بل العلم مكشوف لا كاشف، إنما الكاشف الواقع فينظر العقل في الواقع، فإن عصى زيد علم أن علم الله تعالى وإرادته وقدرته تعلقت بذلك، وأن من قال: تعلق العلم بإيمانه، فصار الواقع هو الذي يكشف عن تعلق العلم وغيره والصفات مدولة ومكشوفة، أما دالة كاشفة فلا. قوله: " لما قلت: إن الجبر الناشيء عن تعلق علم الله تعالى محال ". تقريره: أن الجبر له تفسيران. أحدهما: مذهبنا وهو كون العبد مقهوراً من حيث تعلق الصفات الربانية بفعل العبد لا من جهة نفسه، ولا من جهة ذات الفعل. وثانيهما: أن الجبر معناه: أن حركات الحيوانات وتحركات الأشجار لا اختيار لها فيها، ولا كسب عادي، وهو مذهب الجبرية المشهور بذلك، ونحن لا نقول به، بل نقول: تعلق الصفات الربانية بفعل العبد، منها ما هو تابع لكونه يفعل أو يترك وهو العلم والخبر، ومنها متبوع وهو الإرادة، وعلى كل تقدير الفعل في مجرى العادات ومكتسب. قوله: " المختار: أن العلم ليس سبباً للوجوب، لكنه يكشف عن سبب الوجوب ".

قلنا: هاهنا مناقشتان: أحدهما: قولكم: " المختار "؛ فإنه يشعر أن بين العقلاء اختلافا في ذلك، وليس كذلك فيما علمت، وكيف يتصور أن يجوّز عاقل إنقلاب العلم جهلاً وإنقلاب الحقائق مطلقاً محال. وثانيهما: قولكم: إنه يكشف عن الوجوب؛ فإنه قد تقدم أن العلم لا يكشف إلا المعلوم للعالم به، فعلم الله تعالى يكشف له معلوماً لا لنا، بل الذي يكشف لنا علمه تعالى هو الواقع - كما تقدم - فالعلم لا يكون كاشفاً إلا المعلوم للعالم خاصة. قوله: " إذا أمر بإدخال الإيمان في الوجود حالة حصول العلم بعدم الإيمان، فقد كلفه الجمع بين الضدين ". قلنا: لا نسلم أنه كلفه الجمع بين الضدين، بل علم الله تعالى مانع من أحد الضدين، والأمر طالب للضد الآخر، فيبقى ذلك كالسيد إذا أمر عبده بالحركة، ومنعه منها؛ فإن العقلاء لا يقولون: إنه كلفه بالضدين، بل كلفه بأحدهما فقط ومنعه منه، وفرق بين أن يكون متعلقه الضدين، وبين أن يكون متعلقه أحدهما فقط، ويمنعه منه كذلك، وإن كان مستدركاً لا يكون من جهة التكليف بالمحال، بل من جهة كون سبب العصيان كان من قبل السيد أنه منعه كما لو أمره بالسفر، ومنعه منه بعد ذلك لا يقول أحد: إنه كلفه بغير مقدور، بل مقدور، والسيد بسبب عوقه عن الطاعة. قوله: " الآية معارضة بقوله تعالى: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} [البقرة: 286]. تقريره: أنهم سألوا رفعه، وسؤال رفعه فرع إمكانه في نفسه؛ لأن الدعاء بما لا يقع محرم شرعاً، والمحرم شرعاً لا يمدحون به، وهذه الآية وردت في سياق المدح.

قوله: " لو لم يكن المحال متصوراً لامتنع الحكم عليه بالامتناع ". قلنا: تعارض في هذا المقام قاعدتان: إحداهما: أن المحكوم عليه لا بد أن يكون متصوراً. وثانيهما: أن المحال في الخارج محال في الذهن، ولا يمكن تصوره، فلا يتمكن العقل أن يتصور ثوباً في غاية السواد وهو أبيض في غاية البياض، فتصوره على هذه الصفة مستحيل، وكذلك العدم نفي محض في الخارج، وما كان نفياً محضاً امتنع أن يكون له ثبوت في الذهن، فلا يتصور الذهن إلا موجوداً، والقاعدتان ضروريتان، ولا سبيل إلى إهمال إحداهما، وهما متناقضتان كما ترى. وكان الشيخ شمس الدين الخسروشاهي: يورد هذا لسؤال بين هاتين القاعدتين. ويجيب عنه: أن المحال يستحيل تصوره باعتبارذاته، ويمكن تصوره باعتبار بسائطه، فالجمع بين السواد والبياض متصور باعتبار أنا نتصور السواد على حدة، والبياض على حدة، ومطلق الجمع على حدة، وهذه بسائطه. ونقول: للعقل حصول مطلق الجمع لهذين محال، وكذلك يتصور مطلق الشريك وصانع العالم من حيث هو صانع، ومطلق الشركة. ونقول: حصول مطلق الشركة بين هذين محال، وكذلك جميع المحالات إنما نتصورها من جهة بسائطها، وإنما العدم الصرف الذي لا تركيب فيه، فإنما يتصور من جهة مقابله الذي هو الوجود، فيتصور الوجود. ونقول: مقابل هذا الوجود ممكن وسابق عليه، ولا حق له، وممتنع الوقوع، ونقيضه، إلى غير ذلك مما يحكم به على العدم، ومتى تصور الشيء من جهة بسائطه، أو من جهة مقابله، فقد تصور من وجه من

وجوهه، والحكم على الشيء لا يقتضي أن يكون متصوراً على التفصيل، بل يكفي وجه، فاجتمعت القاعدتان حينئذ، وصدق على المستحيل أنه متصور باعتبار بسائطه، وغير متصور باعتبار ذاته. قوله: " أخبر عن قوم أنهم لا يؤمنون ". قلنا: المانع حينئذ عقلي، ولا نزاع فيه. قوله: " انقلاب الخبر غير مطابق محال؛ إما للجهل أو للحاجة على قول المعتزلة، أو لنفسه كما هو مذهبنا ": تقريره: أما الجهل فلأنه الغالب على إخبارات البشر، إنما يقع كذباً لعدم العلم بالواقع، فهو جهل مركب. والمعتزلة يقولون: ذلك محال على الله تعالى لأن الكذب في العادة إنما يكون للحاجة، وكذلك قبح الكذب من الملوك أكثر لعدم الحاجة، والحاجة على الله تعالى محال، فغير المطابق على الله تعالى محال. ومذهبنا: أن هذا من باب المستحيلات لذاتها لا من المستحيلات لغيرها، والمستحيل لذاتها لا تعلل كالجمع بين النقيضين، والضدين، وغير ذلك. وعند المعتزلة: هو من المستحيلات لغيرها لوجود ما علم الله تعالى عدمه. قوله: " أخبر الله تعالى عن أبي لهب أنه لا يؤمن مع تكليفه بالإيمان ". قلنا: لا نسلم أن الله تعالى أخبر عنه بأنه لا يؤمن، وإنما نتوهم ذلك في موضعين: أحدهما: قوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب ... الآية} [المسد: 1].

وثانيهما: قوله تعالى {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6] ولا مستند فيهما: أما الأول: فلأن " التب " هو الخسران، وقد يخسر الإنسان، ويدخل النار وهو مؤمن بسبب معاصيه، فلا ينافي الآية الإيمان، أما الآية الأخرى فقد دخلها التخصيص اتفاقاً، وآمن بعض من كان قد كفر قبل نزول هذه الآية، فإن قلنا: العام المخصوص ليس حجة، فلا كلام. وإن قلنا: هو حجة فأبو لهب يجوز أن تكون الآية مخصوصة به أيضاً، وإنما الظاهر يتناوله، والوعيد القاطع لحثه على الإيمان، وإذا اجتمع الظاهر والقاطع قدم القاطع، فيؤمن ضرورة. سلمنا دليلكم، لكن هذه مقدمات نظرية يجوز خلو ذهن أبي لهب عنها، فلا يكون ذلك مانعاً له من الإيمان عادة. قوله: " صار مكلفاً بأن يؤمن، بأنه لا يؤمن ". قلنا: لا نسلم أنه مكلف بأن يؤمن، بأنه لا يؤمن، وإنما يلزم ذلك أن لو كلف بجعل الخبر صادقا ً، وفرق بين التكليف بالتصديق، وبين جعل الخبر صادقا ً، فإن جعل الخبر صادقاً هو وقوع المخبر عنه، وذلك غير لازم في التكليف بالتصديق، ألا ترى إذا أخبرك أحد أن زيداً سيدخل الدار فإنك تصدق الآن بذلك، وتخرج عن العهدة، وأما أنك مكلف بأن يدخل زيد الدار حتى يصير الخبر صادقا حتى يسعى في عدم إيمانه، إنما هو يصدق الخبر فقط. وكذلك نقول في جميع الكفار الذين لم يؤمنوا: إنهم أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون وكلفوا بتصديق ذلك الخبر، ومع ذلك لم يقل

أحد: إنهم كلفوا بأن يكفروا حتى يصير ذلك الخبر صادقا، فمتعلق التكليف إنما هو الإيمان فقط، أما عدمه فلا يلزم التكليف به، وإن كلف بالتصديق بالخبر الدال عليه، فبطل قولهم: إنه مكلف بأنه لا يؤمن؛ لأن هذا إشارة إلى التكليف بجعل الخبر صادقا لا بتصديق الخبر، فما تعلق التكليف بالمحال. قوله: " الفعل يتوقف على داعية غير مخلوقة للعبد ". قلنا: هذا الدليل إلى آخره تقدمت الأسئلة عليه في مسألة الحسن والقبح. قوله: "وإن كانت الداعية غير مخلوقة للعبد لزم الجبر ". قلنا: هذا يقتضي أنه غير مطاق عقلاً، ولا نزاع فيه بل في المتعذر العادي، وكذلك نسلم أن التكاليف كلها غير مقدورة عقلاً وهي مقدورة عادة، وذلك كافٍ في حسن التكليف بالاتفاق كما تقدم تقريره عن المعتزلة وغيرهم. قوله: " إن توجه التكليف حالة إستواء الداعي كان تكليفاً بتحصيل الرجحان عند حصول الاستواء ". قلنا: ومن ورود التكليف لا يطلب فيه الفعل البتة، بل في الزمان الذي يليه، فيما بعده من الأزمنة المستقبلة، والأزمنة المستقبلة لم تعين لوقوع التساوي، ولا الراجحة ولا المرجوحة، بل المكلف مأمور في زمان ورود الأمر أن يحصل في الزمان المستقبل الرجحان في زمان لم يتعين فيه ما يضاده، ولا يمنعه، وحينئذ نختار أنه ورد حالة التساوي بالترجيح في المستقبل، ولا يلزم محال حالة الرجحان، ولا يلزم تحصيل الحاصل، ولا الجمع بين المثلين؛ لأنه أمر في وقت الرجحان أن يحصل مثله في الزمن المستقبل. وحينئذ لا محال، وتتوجه حالة المرجوحية، وتكلف بأن يحصل الرجحان.

في الزمن المستقبل بدلا عن هذه المرجوحية، فعلى كل تقدير لا محال البتة، فاندفعت النكتة. قوله: " إذا استحال إسناده إلى غيره استحال إسناده إلى فعل فاعل ". قلنا: لا نسلم؛ لجواز أن يكون استحالة إسناده إلى غيره؛ ولأجل استجماعه هو لكل ما لا بد منه في التأثير فيه، وحينئذ يكون وقوعه هو سبب وجوبه، وإستحالة صدوره عن غيره، فبطل قولكم: إنه يستحيل إسناده إلى فعل فاعل، بل هو مستند إلى فاعل، وهو فاعله المستجمع، إسناده إلى فعل فاعل، بل هو مستند إلى فاعل، وهو فاعله المستجمع، ولا يكون فاعله مكلفا بما لا يطاق؛ لأنه وجب وتعين للوقوع بسبب قدرته وإرادته، واختياره وداعيته، فلا ينافي ذلك مدحه أو ذمه عليه. قوله: " لو كانت أفعال العبد مخلوقة له لكان عالما بها ". تقريره: أن العبد فاعل، مختار، والفاعل المختار إنما يؤثر بواسطة القصد والاختيار، والقصد بما لا شعور به محال، فتعين أن غير العالم غير مؤثر، وأن كل مؤثر بالإختيار فهو عالم. قوله: " إن كان اختيار العبد من الله تعالى كان العبد مضطرا في ذلك الاختيار ". قلنا: هو مضطر في أنه لابد أن يصير مريدا؛ فإنه إذا خلق الله تعالى الإرادة في نفسه استحال ألا يكون مريدًا، واضطراره لكونه مريدا لا يقدح ذلك في أنه مريد، ومتى كان مريدا كان الفعل واقعا باختياره وإرادته، فلم يكن ذلك متعذرا في العادة، فلا ينافي التكليف، ولا يكون في محل النزاع، إنما النزاع في المتعذر عادة. قوله: " القدرة لا توجد قبل الفعل؛ لأن القدرة صفة متعلقة، والصفة المتعلقة لا توجد غير متعلقة ". قلنا: لا نسلم، بل الصفات المتعلقة قسمان: منها ما لا يوجد غير متعلق بالفعل كالعلم. والإرادة، والسمع،

والبصر، والأمر، والخبر، والطلب، والاستخبار، ونحو ذلك من أنواع الكلام وغيرها. أما القدرة: فلها تعلقان: تعلق صلاحية، وتعلق بالفعل. فكل صحيح المزاج كامل القدرة يجد في نفسه صلاحية القيام، وإن لم يوجد القيام، وكذلك قدرة الله تعالى في الأزل موجودة، والعالم غير موجود، ولها صلاحية التعلق فيما لا يزال، ولما أوجد الله تعالى العالم تعلقت به بالفعل. وأما علمه تعالى، وجميع الصفات المتقدمة، فكانت متعلقة بالفعل في الأزل، والعلم بالمعلومات، والطلب بالأفعال والتروك على تقدير الوجود، والإرادة خصصت في الأزل كل ممكن زمانه وهيئاته، وسمعه تعالى بكلامه النفساني، وخبره تعالى بذاته، وصفاته العلى، فكل صفة لها صلاحية التعلق فهي متعلقة بالفعل دائما في الشاهد والغائب إلا القدرة؛ فإنها قد تنفك عن تعلق الفعل، وتنفرد بتعلق الصلاحية، وإنما الأصحاب قرروا هذه المقدمة بطريق آخر، فقالوا: قدرة العبد عرض، والعرض لا يبقي زمانين، فلو وقعت قبل الفعل لم تكن مؤثرة لعدم بقائها لزمن الفعل، فتعين أن تكون مقارنة. ثم هذه النكتة على تسليمها لا تفيد شيئاً؛ لأن الأمر موجود قبل الفعل - مسلم، ولكنه لم يطلب منه الفعل في زمن الأمر، بل في المستقبل بعده، وذلك الزمان فيه القدرة، فما لزم من تقدم الأمر تكليف بغير مقدور، بل بمقدور؛ لأن الأوامر لا تتعلق إلا بالازمنة المستقبلة. قوله: " لو تعلقت قدرة العبد بالفعل حالة وجوده لزم تحصيل الحاصل ". قلنا: لا نسلم، بل القدرة في الشاهد والغائب إنما تتعلق حالة الوجود،

ولا يلزم تحصيل الحاصل، ولا إيجاد الموجود؛ لأن التأثير إنما يكون في زمان الحدوث، وزمان الحدوث هو أول أزمنة الوجود، وأول أزمنة الوجود الأثر فيه موجود، فما أثرت القدرة إلا في موجود، بل نقول: لا يوجد إلا موجود، أما المعدوم فلو وجد اجتمع النقيضان، وإنما يكون إيجاد الموجود محالا إذا تعدد الزمان، فيتقدم الموجود في زمان. ثم يقال له في الزمان الثاني: أوجده في الزمان الأول، فهذا إيجاد الموجود، وتحصيل الحاصل. أما إذا قيل أوجد الموجود في الزمان الأول في الزمان الثاني، فليس محالا؛ لأنه يصير معناه صير الوجود الأول مقترنا بالزمان الثاني، كما كان مقترنا بالزمان الأول، وهذا ممكن لا مستحيل. وكذلك إذا قيل له: أوجد هذا الأثر في زمن حدوثه ليس محالا، بل لا يتصور الإيجاد عقلا إلا كذلك. قوله: " إن توجه الأمر بمعرفة الله تعالى على العارف بالله تعالى لزم تحصيل الحاصل، واجتماع المثلين ". تقريره: أن المعرفة المأمور بها، إما أن تكون غير المعرفة الأولى، أو مثلها. والأول: هو تحصيل الحاصل. والثاني: اجتماع المثلين. ويرد عليه: أن العارف بالله تعالى قد يكون عارفا بالله على سبيل الإجمال، فيؤمر بتحصيل المعرفة على سبيل التفصيل، فكان الوجه المعلوم ثانيا غير الوجه المعلوم أولاً.

قوله: " إذا لم يكن عارفا بالله تعالى استحال أن يكون عارفا بأن الله تعالى أمره بشيء " قلنا: لا نسلم؛ فإنه يكفي في أنه يعلم أن الله تعالى أمره بالعرفان من وجه ولو قل، فلو جاءنا رسول من خلف جبل وقال: إن خلف هذا الجبل ملكا عظيما يأمركم بالقيام إليه، أمكننا حينئذ أن نعلم ثم ملكا قيل عنه: إنه أمر بذلك، ونفحص عن صدق الرسول، ولم نعلم حينئذ إلا قول المبلغ عنه فقط، وإذا كان مثل هذا الوجه كافيا في السعي في المعرفة، فالأقل منه يوجد في حق الله تعالى. قوله: " الوجه المشعور به يستحيل طلبه لكونه مشعوراً به، وغير المشعور به يستحيل طلبه لكونه غير مشعور به ". قلنا: الوجهان في الحقيقة الواحدة هي موضع الجواب، وبينها وبين الحقيقتين فرق ظاهر؛ لأن بين الوجهين في الحقيقة تلازما يبعث على الإنتقال من المعلوم للمجهول، بخلاف الحقيقتين المتباينتين. ويوضح ذلك أنه إذا علمنا في المدينة رجلا عالما يستحيل الفحص عنه؛ لأنا عرفناه وإن دخل المدينة رجل عالم، ولم يشعر به البتة استحال منا طلبه، لعدم الشعور به، فهاتان حقيقتان متباينتان. وأما لو أخبرنا مخبر أن رجلا عالما وصل المدينة فقد عرفناه من وجه، وهو كونه مخبرا عنه بذلك الخبر، فبعثنا ذلك على تعرف بقية أوصافه؛ لأن بين هذا الوجه المعلوم وبين تلك الوجوه المجهولة ملازمة باجتماعهما في ذات ذلك العالم، والمعلوم منهما أشعر بأن ثم أوصافا مجهولة ينبغي طلبها، فحصلت الملازمة والشعور بأن ثم مجهولاً ينبغي طلبه، فتعين طلبه. قوله: " إن لم يلزم مجرد تلك التصورات لزم بعضها لبعض، فهي تقليد به ".

(سؤال) قال النقشواني: اختياره في هذه المسألة يناقضه اختياره في مسألة: " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب "

قلنا: لا نسلم، بل قد لايكون تصورها كافياً، ولا تكون تقليدية، بأن يحتاج إلى فكر في مقدمات أخرى بديهية غنية، ويكون البعض كافيا في اللزوم، وبعضها ليس كافياً في اللزوم، ولا يكون ثم تقليد ولا عدم الكسب لازم، وكذلك القضايا النظرية في لزومها عن القضايا البديهية، وقد تكون كافية، وقد تحتاج إلى مقدمات أخر، فيكون البعض كسبيا والبعض غنيا عن الاكتساب. (سؤال) قال النقشواني: اختياره في هذه المسألة يناقضه اختياره في مسألة: " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب "، فاختار ثم الوجوب في الوسيلة، وهاهنا اختار أن تكليف ما لا يطاق هو الواقع، وهما متنافيان. تقريره: أن المسائل النظرية قد يتعين فيها المعتقد إذا تعدد الزمان، أو يكون قصد بهذه المسألة الجواز، وقصد بتلك المسألة الوقوع، ولا تناقض، أو يكون قصد أن تكليف ما لا يطاق واقع، وإن قلنا بأن الوسائل أيضا واجبة؛ لأنها تكليف بما لا يطاق، واللفظ يقتضي الوسيلة، فقلنا بها. (تنبيه) زاد سراج الدين أسئلة: أحدها: على قوله: " لو أمن لزم انقلاب العلم جهلا "، فقال: لا يلزم ذلك، بل يكون تعلقه أولا بالايمان بدلا عن تعلقه بعدمه هو لازم للازم عدم الايمان مع تعلق العلم به، اذ لا يريد أن الملازمة إنما حصلت من عدم الإيمان، وتعلق العلم به، فالمستلزم للعلم هو عدم الإيمان، فكذلك يستلزم الايمان العلم بالايمان؛ لان الملازمة ملازمتان فمتى كان عدم الإيمان يلزمه العلم بالعدم كان الايمان يلزمه العلم بالثبوت.

وثانيها: على قوله: " كلف أبو لهب بتصديق هذا الخبر بأنه لا يؤمن " فقال: لا يلزم التصديق بهذا الخبر عينا؛ لأن التصديق إنما كلف به جمليا. يريد: والإجمال وجه، ومن كلف بالعام لا يلزم أنه كلف بالخاص، كما أن من كلف بتحرير رقبة لا يكون مكلفا برقبة بيضاء، طويلة، والإجمال إنما هو وجه ما في الحقيقة، ووجه ما أعم منها؛ لأنه يصدق معها وبدونها، ولذلك أن كثيرا من المؤمنين لا يعلمون أن في القرآن الآيات الخاصة، والإيمان بالشيء فرع الشعور به، بل الإيمان يحصل وإن لم يعرف الإنسان من القرآن آية واحدة، بل يكفي الجزم بتصديق الرسول عليه السلام في كل ما جاء به فقط. وثالثها: على قوله: " إن توجه الأمر على العارف بالله امتنع " فقال: يكون عارفا بوجه ما، وقد تقدم تقريره. ورابعها: على كلامه في التصورات غير مكتسبة، فقال: المعلوم باعتبار صادق عليه يمكن توجه الطلب نحوه، وإنما يمتنع ذلك في المجهول بجميع اعتباراته، ثم حصول التصديقات البديهية كيف كان لا توجب العلم بالنتيجة، بل لا بد من ترتيب خاص، وهو النظر، فإذا كان الترتيب مقدورا كانت العلوم النظرية مقدورة. وزاد التبريزي فقال: اعلم أن بناء هذه المسألة على سلب تأثير قدر العباد فراراً من فقهها؛ وإبطالا لفائدة بعينها بالنظر، وقد وقع الخلاف بين العلماء في طرفي جوازها ووقوعها، فإن أجملنا الأفعال الاختيارية استحالت المسألة، وصار الواجب وقوعه ينعت بما لا يطاق، وقد أجمعت الأشاعرة والمعتزلة إلا الجبرية منهم على إثبات الفعل المقدور. والفرق بينه وبين الرعشة، والرعدة، وحركة الجمادات، ثم الاختلاف في وجه تعلق القدرة الحادثة بالمقدور لا يرفع الإجماع على أصل التعلق، ولا خلاف في أن الله تعالى لم يكلفنا قلب الأجناس، ولا الكون في

مكانين في حالة واحدة، فإن ساق إلى ذلك نظر وجب رده لهذه القاعدة، كما إذا توسط مزرعة للغير، أو وقع على صبي محفوف بالصبيان إن مكث قتل، وإن انتقل قتل، وهل في جائزات العقل إمكانه، وهل وقع إذا كان جائزا النزاع في هذين الأمرين، والحق جوازه وعدم وقوعه؛ لأن الطلب الذي هو ماهية التكليف ليس من جهة التشوق، ولا تعلقه تعلق التأثير لتعلق القدرة والإرادة بدليل صحة التعلق بالمعدوم، وغير المعين، فجاز تعلقه بالمحال، كالعلم، وبأنا لو قطعنا النظر عن القبح العقلى لم يكن محالا، وقد أبطلنا تلك القاعدة، ثم نقول: قبحه إما أن يكون للإضرار أو لعدم الفائدة؛ بدليل أنهما لو انتفيا لانتفى القبح قطعا، ولا يقبح الإضرار فإنه جائز (سابق)، بناء على سابقة جريمة، أو تعقب لذة، وإلا لعدمت الفائدة، فإنه لا سبيل إلى العلم بانتفائها، ولا نسلم أن الامتثال هو الفائدة. وقول الغزالي: " إن الطلب يستدعى مطلوباً متصوراً " إن عنى به موجوداً في العقل فمسلم، والمحال لا يتصور، ولهذا صح أن يقضى عليه، ووصف إمكان الامتثال إنما يعتبر لغرض قصد الامتثال. ولا نسلم حصر مقاصد التكليف في الامتثال. وأما دليل عدم الوقوع: فقوله تعالى: {لايكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 285]، والكافر قادر على الإيمان والمعرفة، فإن الآلة سليمة، والإمكان حاصل، وعلمه تعالى بأنه تركهما معا لا لعلة مستحيل؛ فإن العلم لا لغير المعلوم، واذا كان من وصف المعلوم أنه تركه اختياراً فلو علمه محالا لم يكن ذلك العلم مطابقا، ولذلك اخباره عن الشيء على وفق علمه

لا يغير حكمه، فيجعل الممكن محالا، وحصول الداعية من العبد لا ينفي الاقتدار؛ لأن الموقع والمرجح هو الفاعل لا القدرة والإرادة، فإنهما جهتا الإيقاع والتخصيص، فيوجبان المحل الذي قاما به الاقتدار والاختيار. ومن هنا يبطل حال لزوم الجبر المستفاد من الداعية، وهذا كقول القائل متى يوصف البارئ تعالى بالاقتدار على الفعل حال تعلق إرادته، أو قبل، وقبله ممتنع عنده واجب، والقدرة لا تتعلق بالمحال ولا بالواجب، والمأمور بالمعرفة غير العارف الذي يجوز أن يكون له رب تطلب منه المعرفة، والاستطاعة مع الفعل عند أهل الحق، ولكن ليس مأمورا بالفعل قبل الاستطاعة، وأجمع العقلاء على الفرق بين قولنا: (قم) وبين قولنا: (انظر) والنظر مقدور، والاعتمادات الذهنية كالاعتمادات في النظر عند محاولة المرئيات، ودوام تحقيق صفاتها، ويجد الانسان من نفسه المطالبة بذلك في تذكر ما ينسى. ووجه الدلالة فيما يخفى وانكاره سنبسطه، وحصول القضايا لا يكون عن التصورات دون تعرف الفكر بنسبة بعضها إلى بعض في النفي والاثبات، ومطابقة وجه التأليف، وكل ذلك عن القلب، كما تعمل الجوارح وهو مناط الثواب والعقاب. ومعنى كونها ضرورية: استقلال العقل بدرك بعضها من بعض بغير واسطة. قلت: فقوله: " لم يكلفنا الله تعالى قلب الأجناس " إشارة إلى أن المستحيل العادي لم يقع، وقوله: " المتوسط لمزرعة الغير إن خرج أهلك الزرع، وان بقي أهلك الزرع، أو غاصب المزرعة ". ومقتضاه أن يجب الخروج والإقامة نفياً للمفسدتين، وكذلك الواقع على الصبيان يجب أن يزول عنهم وألا يزول.

قال سيف الدين: قال أبو هاشم: يكلف بالخروج وبالبقاء؛ لأن في كليهما مفسدة. قال سيف الدين: يتعين الخروج لما فيه من تقليل الضرر، كما يكلف المولج في الفرج الحرام النزع، وإن كان فيه مساسا للفرج؛ لأن ارتكاب أدنى الضررين يجب، ووجوب الضمان عليه بما يفسده عند الخروج لا يدل على تحريم الخروج؛ فإن المضطر يأكل الطعام ويضمنه، ويمكن في الصبيين أن يقال بالتخيير، أو تخلو مثل هذه الواقعة عن الحكم. قال الغزالي في (المستصفى): في الصبيين يحتمل أن يقال: يمكث، فإن الانتقال فعل مستأنف لا يصح إلا من قادر، أما ترك الحركة فيصح من غير الحي، ويحتمل أن يخير، وقوله: " لا نسلم حصر مقاصد التكليف في الامتثال "، يعني قد يكلفه بالمحال، ويكون ذلك التكليف نفسه عقوبة لذنب سبق؛ لان هذا التكليف سبب العقوبة، وسبب العقوبة يجوز أن يكون عقوبة. (تنبيه) زاد تاج الدين فقال: في قول المعتزلة: العلم يتبع المعلوم ولا يتقدمه، فقال: العلوم التابعة هي الانفعالية، والمتقدمة هي الفعلية، وعلوم الله تعالى بأسرها فعلية، والانفعال محال عليه تعالى. قلت: العلم الفعلي هو الذي يتبعه الفعل، كمن يعلم مصلحة فيفعلها، والعلم الانفعالي: هو الذي ينشأ عن الاسباب، كما اذا مر زيد بين يديك،

فيحصل لك العلم بمروره، فلما كان مسببا عن مروره سمى انفعاليا، أي منفعل. ومثل هذا محال على الله تعالى؛ لان علمه تعالى واجب الوجوب، أزلي لا ينشأ عن التاثير. ومع هذا التقدير لا يتم ما قاله تاج الدين في أن علم الله تعالى ليس تابعا؛ فإن التابع أعم من الإنفعال؛ لأن علم الله تعالى له تعلقان: تعلق قبل الوقوع، وتعلق بعد الوقوع. أما قبله: فلأن تعلق الإرادة مشروط بالشعور، فما لا شعور به لا يمكن أن يعلم. وأما بعده فلأنه تعالى إذا قدر الممكن في هيئته ووقته واقعا بقدرته، فإنه يعلم كذلك فهذا التعلق الثاني هو التابع أي للتقدير والوقوع، والتعلق الأول متبوع، أي تتبعه الإرادة في الحقيقة التابعية، والمتبوعية، إنما هما للتعلقات، فتعلق سابق، وتعلق لاحق، فلا متبوعية في ذات العلم، وهذا هو مراد المعتزلي، وبه لا يتجه كلام تاج الدين؛ فإن ذلك لحال الذي هو ذات العلم الإنفعال لم يقله الخصم، فلا معنى لدفعه، بل إنما ادعى التبعية في التعلق، فيصدق حينئذ على العلم القديم أنه متقدم ومتأخر باعتبار تعليقه، وأنه تابع ومتبوع. وعبر تاج الدين فقال: في الجواب عن كون العلم مؤثرا في المعلوم. فقال: نحن ندعي التعبير عنده، فاندلع عن تاج الدين سؤال الذي يرد على المصنف؛ لأنه لم يصرح، بل قال عنده، وهو أهم من التأثير؛ لأن اللوازم تثبت عند الملزومات، وكذلك الشروط، وليست آثارا لما ثبت عنده من ملزوم أو مشروط كما تقدم بسطه.

ووافقه سراج الدين فقال: لا يلزم من وجوب الشيء عند العلم أنه أثر له. وقال تاج الدين في الجواب عن قولهم: يلزم أن التكاليف كلها خلاف الإجماع، قال: الإجماع ظني، ودليلنا قطعي. وهذه الجواب غير متجه، بل الإجماع قطعي - على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. والذي ذكره صرح به المصنف في مواضع، وهو مردود، وغير مذهب الجمهور. ***

المسألة الثانية قال الرازي: قال أكثر أصحابنا، وأكثر المعتزلة: الأمر بفروع الشرائع لا يتوقف على حصول الإيمان. وقال جمهور أصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليه: يتوقف عليه، وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني من فقهائنا. ومن الناس من قال: تتناولهم النواهي دون الأوامر؛ فإنه يصح انتهاؤهم عن المنهيات، ولا يصح إقدامهم على المأمورات. واعلم أنه لا أثر لهذا الاختلاف في الأحكام المتعلقة بالدنيا؛ لأنه ما دام الكافر كافرا - يمتنع منه الإقدام على الصلاة؛ وإذا أسلم، لم يجب عليه القضاء. وإنما تأثير هذا الاختلاف في أحكام الآخرة؛ فإن الكافر إذا مات على كفره، فلا شك أنه يعاقب على كفره، وهل يعاقب مع ذلك على تركه الصلاة والزكاة وغيرهما، أم لا؟ ولا معنى لقولنا: إنهم مأمورون بهذه العبادات، إلا أنهم كما يعاقبون على ترك الإيمان، يعاقبون أيضا بعقاب زائد على ترك هذه العبادات، ومن أنكر ذلك قال: إنهم لا يعاقبون إلا على ترك الإيمان، وهذه دقيقة لابد من معرفتها: لنا وجوه: الأول: أن المقتضي لوجوب هذه العبادات قائم، والوصف الموجود، وهو الكفر، لا يصلح مانعا؛ فوجب القول بالوجوب.

إنما قلنا: إن المقتضي موجود؛ لقوله تعالى: {يأيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] وقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97]. ولا شك في أن هذه النصوص عامة في حق الكل. وإنما قلنا: إن الكفر لايصلح أن يكون مانعا؛ لأن الكافر متمكن من الإتيان بالإيمان أولا؛ حتى يصير متمكنا من الإتيان بالصلاة والزكاة؛ بناء عليه؛ وبهذا الطريق قلنا: الدهري مكلف بتصديق الرسول، والمحدث مأمور بالصلاة. فثبت أن المقتضى قائم، والمعارض غير مانع؛ فوجب القول بالوجوب. الدليل الثاني: قوله تعالى: {ماسلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين} [المدثر:42 - 43] وهذا يدل على أنهم يعاقبون على ترك الصلاة. فإن قيل: هذه حكاية قول الكفار؛ فلا يكون حجة، فإن قلت: لو كان ذلك باطلا، لبينه الله تعالى!! قلت: لا نسلم وجوب ذلك؛ وجوب ذلك؛ فإنه تعالى حكى عنهم: أنهم قالوا: {والله ربنا ما كنا مشتركين} [الأنعام: 23] {ما كنا نعمل من سوء} [النحل: 28] {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم} [المجادلة: 18] ثم إنه تعالى ما كذبهم في هذه المواضع؛ فعلمنا أن تكذيبهم غير واجب. سلمنا أنه حجة؛ لكن لم لا يجوز أن يقال: العذاب على مجرد التكذيب؛ لقوله تعالى: {وكنا نكذب بيوم الدين} [المدثر: 46]

والدليل عليه: أن التكذيب سبب مستقل باقتضاء دخول النار، وإذا وجد السبب المستقل باقتضاء الحكم، لم يجز إحالته على غيره. سلمنا أن التعذيب واقع على جميع الأمور المذكورة؛ لكن قوله: {لم نك من المصلين} المدثر 43] معناه: لم نك من المؤمنين؛ لأن اللفظ محتمل، والدليل دل عليه. أما أن اللفظ محتمل؛ فلما روي في الحديث: " نهيت عن قتل المصلين " ويقال: قال أهل الصلاة؛ والمراد منه: المسلمون. وأما أن الدليل دل عليه؛ فلأن أهل الكتاب داخلون في هذه الجملة، مع أنهم كانوا يصلون، ويتصدقون، ويؤمنون بالغيب، ولو كان المراد: من لم يأت بالصلاة والزكاة، لكانوا كاذبين فيه؛ فعلمنا أن المراد أنهم ما كانوا من أهل الصلاة والزكاة. سلمنا أن التعذيب على ترك الصلاة؛ لكن قوله: {لم نك من المصلين} [المدثر: 43] يجوز أن يكون إخبارا عن قوم ارتدوا بعد إسلامهم، مع أنهم ما صلوا حال إسلامهم؛ لانه واقعة حال؛ فيكفي في صدقه صورة واحدة. سلمنا عمومه في حق الكفار؛ ولكن الوعيد ترتب على فعل الكل؛ فلم قلت: إنه حاصل على كل واحد من تلك الأمور؟ والجواب: أن الله تعالى، لما حكى عن الكفار تعليلهم دخول النار بترك الصلاة، وجب أن يكون ذلك صدقا؛ لأنه لو كان كذبا مع أنه تعالى ما بين كذبهم فيها - لم يكن في روايتها فائدة، وكلام الله تعالى متى أمكن حمله على ماهو أكثر فائدة، وجب ذلك. [ص 1572]

وأما المواضع التي كذبوا فيها مع أن الله تعالى مابين كذبهم فيها: فذاك لاستقلال العقل بمعرفة كذبهم فيها؛ فتكون الفائدة من ذكر تلك الأشياء بيان نهاية مكابرتهم وعنادهم في الدنيا والآخرة. وأما هاهنا، فلما لم يكن العقل مستقلا بمعرفة كذبهم، والله تعالى لم يبين لنا ذلك، فلو كانوا كاذبين فيه، لم يحصل منه غرض أصلا؛ فتكون الآية عرية عن الفائدة. قوله: " العلة هي التكذيب بيوم الدين ": قلنا: لو كان كذلك لكان سائر القيود عديم الأثر في اقتضاء هذا الحكم؛ وذلك باطل؛ لان الله تعالى رتب الحكم عليها أولا في قوله تعالى: {قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 43 - 44]. قوله: " لما وجد السبب المستقل، لم يجز إحالة الحكم على غيره ": قلنا: لعل الحصول في الموضع المعين من الجحيم ما كان لمجرد التكذيب؛ بل لمجموع هذه الأمور، وإن كان مجرد التكذيب سببا لدخول مطلق الجحيم. قوله: " المراد من قوله: {لم نك من المصلين} أي: لم نك من المؤمنين ": قلنا: هذا التأويل لا يتأتى في قوله: {ولم نك نطعم المسكين}. قوله: " أهل الكتاب صلوا، وأطعموا ": قلنا: الصلاة في عرف الشرع عبارة عن الأفعال المخصوصة التي في شرعنا، لا التي في شرع غيرنا. قوله: " جاز أن يكون المراد منه قوما ارتدوا بعد إسلامهم ":

قلنا: إن قوله سبحانه وتعالى: {قالوا لم نك من المصلين} هو جواب المجرمين المذكورين في قوله: {يتساءلون عن المجرمين} [المدثر: 40 - 41] وذلك عام في حق الكل. الدليل الثالث: قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} [الفرقان: 68] إلى قوله: {يضاعف له العذاب يوم القيامة} [الفرقان: 69] وكذلك قوله: {فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى} [القيامة: 31 - 32] ذمهم على ترك الكل. وكذلك قوله تعالى: {وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة} [فصلت: 6 - 7]. الدليل الرابع: الكافر يتناوله النهي؛ فوجب أن يتناوله الأمر، وإنما قلنا: إنه يتناوله النهي؛ لأنه يحد على الزنا. وإنما قلنا: إنه إذا تناوله النهي، وجب أن يتناوله الأمر؛ لأنه إنما يتناوله النهي؛ ليكون متمكنا من الاحتراز عن المفسدة الحاصلة؛ بسبب الإقدام عن المنهى عنه؛ فوجب أن يتناوله الأمر؛ ليكون متمكنا من استيفاء المصلحة الحاصلة؛ بسبب الإقدام على المأمور به. فإن قيل: لا نسلم أنه يتناوله النهي، وأما الحد، فذاك؛ لأنه التزم أحكامنا. سلمنا؛ لكن الفرق بين الأمر والنهي هو أنه مع كفره يمكنه الانتهاء عن المنهيات، ولا يمكنه مع كفره الإتيان بالمأمورات. والجواب عن الأول: أن من أحكام شرعنا ألا يحد أحد بالفعل المباح.

وعن الثاني: أن قولكم: " الكافر المكلف يمكنه الانتهاء عن المنهيات " إن عنيتم به: أنه يتمكن من تركها من غير اعتبار النية، فهو أيضا متمكن من فعل المأمورات من غير اعتبار النية. وإن عنيتم به: أنه متمكن من الانتهاء عن المنهيات؛ لغرض امتثال قول الشارع - فمعلوم أن ذلك حال عدم الإيمان - متعذر. فالحاصل أن المأمور والمنهي استويا في أن الإتيان بهما من حيث الصورة لا يتوقف على الإيمان، والإتيان بهما؛ لغرض امتثال حكم الشارع - يتوقف في كليهما على الإيمان؛ فبطل الفرق الذي ذكروه. واحتج المخالف بأمرين: أحدهما: أنه لو وجبت الصلاة على الكافر، لوجبت عليه: إما حال الكفر، أو بعده: والأول باطل؛ لان الإتيان بالصلاة في حال الكفر ممتنع، والممتنع لا يكون مأمورا به. والثاني باطل؛ لإجماعنا على أن الكافر، إذا أسلم، فإنه لا يؤمر بقضاء ما فاته من الصلاة في زمان الكفر. وثانيهما: لو وجبت هذه العبادات على الكافر، لوجب عليه قضاؤها؛ كما في حق المسلم، والجامع تدارك المصلحة المتعلقة بتلك العبادات؛ ولما لم يكن الأمر كذلك، علمنا أنها غير واجبة عليه. والجواب عن الأول: أنا بينا أنه لا تظهر فائدة هذا الخلاف في الأحكام

المسألة الثانية الأمر بالفروع لا يتوقف على حصول الإيمان

الدنيوية؛ وإنما تظهر فائدته في الأحكام الأخروية؛ وهي أنه، هل يزداد عقاب الكافر؛ بسبب تركه لهذه العبادات؟ وما ذكرتموه من الدلالة لا يتناول هذا المعنى. وعن الثاني: أنه ينتقض بالجمعة. ثم الفرق أن إيجاب القضاء على من أسلم بعد كفره ينفرده عن الإسلام؛ لإمتداد أيام الكفر بخلاف المسلم، والله أعلم. المسألة الثانية الأمر بالفروع لا يتوقف على حصول الإيمان وكذلك نقله القاضي عبد الوهاب في (الملخص)، والقاضي أبو يعلى في كتاب (العدة) عن أحمد، وهو مذهب جمهور المالكية، والحنابلة، والشافعية. تمهيد الكفار ستة أقسام كافر كفر بباطنه وظاهره، وهم أكثر الحربيين. وكافر آمن بظاهره وباطنه، وكفر بعدم الإذعان للفروع، بأن يعتقد

صحة الرسالة، ويصرح بذلك بلسانه، ويقول: أخاف من الدخول إما المعرة، أو فوات منصب، أو غير ذلك، كما اتفق لأبي طالب حال حياته، كان يعتقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصرح بذلك طول عمره، ومنه قوله في شعره (الطويل): لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل فقد صرح بأنهم يعلمون صدقه، ويروى أنه كان يقول: لولا أن تعيرني نساء قريش لاتبعتك. وكافر كفر بباطنه دون ظاهره، وهو المنافق. وكافر كفر بظاهره دون باطنه، وهو المعاند. كما يحكى أن بعض اليهود قال لأخيه: امض إلى هذا الرجل، فانظر إليه، هل هو هو؟ فرجع إليه، فقال: هو هو. فقال: على ماذا عزمت؟ قال: على معاداته ما عشت. قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ... الآية} [النمل: 14] فهؤلاء معاندون. وكافر كفر بفعله، وآمن بظاهره وباطنه، وأذعن للفروع، كملقي المصحف الكريف في القاذورات، ونحوه من السجود للصنم وغيره. وكافر كفر بإرادة الكفر لا بنفس الكفر؛ لأن إرادة الكفر عند الشيخ أبي الحسن الأشعري كفر، وجعل منه بناء الكنائس، فمن بنى كنيسة ليكفر فيها بالله تعالى فهو كافر؛ لإرادته الكفر، ومن قتل نبيا مع إيمانه كتمان شريعته فهو كافر؛ لإرادته الكفر، ومن أخر رجلا عن الإيمان بغير عذر فهو كافر؛ لإرادته بقاءه على الكفر، ولذلك قيل: إن الخطيب إذا أخر يوم الجمعة من يريد الإسلام لأجل الخطبة، فقد كفر، فلا تصح الجمعة خلفه.

إذا تقررت هذه الأقسام، فإن عني بأن الكفار لا يخاطبون بالفروع لعدم إمكان ذلك منهم؛ لأن من لا يعتقد صحة الشيء يتعذر عليه الطاعة به - كان هذا هو المدرك في المنع؛ فإن التصديق مورد تلك الأوامر في نفوسهم، فلا تتعذر عليهم الطاعة. ومنها أن المأمورات منها ما اشترك فيه الشرائع، كالكليات الخمس، لم تخل شريعة عنها، وهي حفظ النفوس، والعقول، والأعراض، والأنساب، والأموال، فلم يبح الله تعالى منها شيئا في شريعة من الشرائع، فحرم المسكرات في الجميع، وإنما أبيح عند اليهود والنصارى منها القدر الذي لا يسكر، وكذلك الزنا، والسرقة والقذف، والقتل حرام إجماعاً من الأمم الكتابية، فحينئذ هؤلاء الكفار الذين كفروا بظاهرهم وباطنهم أمكن أن يطيعوا في هذه الكليات وغيرها من الأوامر التي اتفقت عليها الشرائع كإنقاذ الغرقى، وكسوة العريان، وإطعام الجوعان، وأكثر أنواع الإحسان مأمور به عندهم، فيطيعون به، ولا يتعذر ذلك عليهم من جهة عدم اعتقاده؛ لأنهم يعتقدونه. وظاهر كلام الأصوليين أن هذا مدرك المسألة، وهو مشكل كما ترى، ولذلك فرق بعضهم بين الأوامر والنواهي؛ لأن الطاعة بالأوامر لا تكون إلا مع اعتقادها، وفي النواهي لا تتوقف على الشعور بها فضلا عن اعتقادها، فمن حرم الله تعالى عليه شيئا خرج عن عهدته، وإن لم يعلم أن الله تعالى حرمه عليه إذا تركه، فبمجرد الترك يسلم من العقوبة. ويؤكد أن هذا هو المدرك قول إمام الحرمين في (البرهان): إن الخلاف في جواز المخاطبة عقلا ووقوعه بعد جوازه، ثم قال: واحتج المانعون بأنه لو فرض الخطاب لإقامة الفروع لكان مستحيلا مع الإصرار على الكفر، وهو تكليف ما لا يطاق.

(فرع) قال المازري: اختلف في هذه المسألة هل هي نظرية اجتهادية؟ - وهو الصحيح - أو قطعية؟

فجعله من باب تكليف ما لا يطاق عقلا، وهذا صريح في ذلك. ثم قال: ومدركهم ينتقض بمخاطبة من لا يعتقد الصانع بتصديق الأنبياء، وقد وقع الخطاب بالمشروط قبل حصول الشرط، فالدهري والمحدث مخاطب بالصلاة. وعن أبي هاشم: أن المحدث غير مخاطب بالصلاة، ولو استمر حدثه دهره، فإن أراد أنه لا يعاقب فقد خرق الإجماع. ثم قال: والحق أنه لا يخاطب بإنشاء فرع على الصحة في حال الكفر. وقال الغزالي في (المستصفى): قال المانعون: كيف يجب ما يستحيل فعله في الكفر، وهو لا يمكنه أن يمتثل، والنصوص متضافرة بأن المنع عقلي لا شرعي عند المانعين، وأنه يرجع إلى عدم اعتقاد صحة ذلك التكليف؟ قال المازري في (شرح البرهان) عن قوم من المبتدعة: إن الكفار غير مخاطبين بالعقائد، ولهم طريقان: إما لأنها ضرورية، والتكليف بالضروري غير جائز، أو هي اختيارية وهم غير مخاطبين بها، وأئمة المسلمين على خلافهم. والمانعون بأنهم غير مخاطبين بالفروع، فهل انتفى ذلك شرعا أو عقلا؟ قولان، وهو إشارة إلى ما تقدم. (فرع) قال المازري: اختلف في هذه المسألة هل هي نظرية اجتهادية؟ - وهو الصحيح - أو قطعية؟ قاله أبو المعالي اعتماداً على إجماع استقرائي.

قوله: " واعلم أنه لا أثر لذلك في الأحكام المتعلقة بالدنيا؛ لأنه لا يصلي حالة كفره " قلنا: بل يظهر أثره في الدنيا من وجوه: أحدها: أنه يكون ذلك سببا لإسلامه؛ لأنه جاء في الحديث: " أن الرجل ليختم له بالكفر بسبب كثرة ذنوبه "، ومقتضى ذلك أنه يختم له بالإسلام بسبب كثرة خيره وبره. وثانيها: أن الإسلام يكون وقع في صدره إذا كان كثير الفساد والفسوق والفجور مضافا إلى الكفر، فإذا علم أن الإسلام يجب لذلك كله، كان ميله إلى الإسلام أشد. وثالثها: أنه يتجه اختلاف العلماء في استحباب إخراج زكاة الفطر إذا أسلم في أيام الفطر. ورابعها: أنه يتجه إقامة الحدود عليهم لا سيما الرجم عند الشافعي؛ فإن العقوبات مع المعاصي والمخالفات في تلك الجنايات مناسبة، أما أنا نعاقبه وهو لم يعص بذلك الفعل الذي يعاقبه عليه فبعيد عن القواعد. فالقائل بأنهم مكلفون سلم من مخالفة القواعد، وهو أثر جميل. وخامسها: استحباب قضاء الصوم إذا أسلم في أثناء الشهر ملاحظة لتقدم الخطاب في حقه، وكذلك وجوب إمساك بقية اليوم الذي أسلم فيه، بخلاف الصبي والحائض يزول عذرهما. والفرق: تقدم الخطاب في حق الكفار دون الصبي، والحائض، والمسافر. وسادسها: لا يشترط إذا أسلم في آخر الوقت بقاء وقت الاغتسال والوضوء، بل تجب الصلاة بإدراك وقت يسع ركعة منها فقط، على الخلاف في ذلك المخرج على الخلاف في كونهم مخاطبين أولا. وسابعا: تفصيل معاملاتهم على معاملات المسلمين، فإنا إذا قلنا: ليسوا

مخاطبين بالتحريم كانت معاملاتهم فيما أخذوه على خلاف القواعد الشرعية أخف من معاملة المسلم؛ لأنه عاص بذلك العقد، وقد نهاه الله تعالى عنه، ولم ينه الكافر؛ ولأنه إذا أسلم أقر على ما بيده من الرهون والغصوب، بخلاف المسلم إذا تاب. إذا قلنا: إنهم مخاطبون بالفروع، فلا استحسان في معاملاتهم من جهة أن كلا الفريقين تعاطى العقود المحرمة، ولم يبق الحق إلا من جهة أن الإسلام يقر لهم الغصوب، والربا، وثمن الخمور وغيرها. وثامنها: أن عقد الجزية يكون من جملة آثاره ترك الإنكار للفروع؛ فإنه سبب شرع، كذلك إن قلنا: إنهم مخاطبون، وإلا فلا يكون شرع سببا إلا لترك إنكار الكفر خاصة. وتاسعها: أن العلماء اختلفوا في الكافر إذا طلق، أو اعتق وبقيا عنده حتى يسلم هل يلزمه ذلك أم لا؟ فإذا قلنا: إنهم ليسوا مخاطبين أمكن تخريج عدم اللزوم على ذلك؛ فإن من جملة الفروع نصب الأسباب، والعتاق والطلاق سببان إذا لم ينصبا في حقهم لم يلزمهم أثرهما. وعاشرها: الأوقاف، والهبات، والصدقات إذا باعوها بعد صدور أسبابها إذا قلنا: ليسوا مخاطبين لا نمنعهم من ذلك وهو مذهب مالك، وإن كنت لا أعلم خلافا في البياعات، وعقود المعاوضات أنهم يلزمون بها، والفرق - والله أعلم - عند العلماء أن معنى المظالم فيها أظهر تحققا، بخلاف عقود المعاوضة، وإن كان المدرك عدم تأهلهم للخطاب بتسببهم بكفرهم ما يبعدهم كما ابعدت الحائض عن الصلاة والصوم؛ لأنها قام بها ما يبعدها عن هذه الدرجة الشريفة التي هي التشريف بالتكليف، ولا ترد هذه الأسئلة، غير أن مقتضى مباحث العلماء هو الأول. قوله: " أثر ذلك إنما يظهر في زيادة العذاب في الدار الآخرة ".

قلنا: أو في خفة العذاب؛ فإن الذي وجب وتعين للكافر إنما هو الخلود، أما نوع معين فلم يتعين، وإذا قلنا: مخاطبون وفعلوا تلك الأوامر كان ذلك سببا للتخفيف عن الفاعل لذلك، كما ورد عن أبي طالب: " أنه كان في غمرات النار، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ضحضاح من نار " قوله: " لنا قوله تعالى: {يأيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] ". قلنا: عليه سؤالان: أحدهما: أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، فيكون كل الناس مأمورين بالعبادة في حالة واحدة، فلا يعم ذلك جميع الناس في جميع الحالات، والمدعي العموم مطلقا، فلا تثبت الدعوى. وثانيهما: أن العبادة هي التذلل ومنه: طريق معبد إذا تذلل من كثرة المارين عليه، والفعل في سياق الإثبات مطلق يكفي في العمل به صورة واحدة، فنحمله على التذلل بترك الأصنام وفعل قواعد الديانات، فلا يشمل الفروع. وهذا السؤال غير السؤال الأول؛ لأن الأول على عموم الأمر، وهذا على صيغة الفعل، ولا يمكن تكميل هذه الدليل بقوله: " لا قائل بالفرق "؛ لأن القائل بالفرق بين الأوامر والنواهي موجود. وكذلك قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] إنما تناول بعض المأمورات، ويمكن أن يقال فيه: ولا قائل بالفرق، بخلاف

الآية الأولى؛ لأن كل من قال: إنهم مخاطبون ببعض الواجبات قال بالكل، بخلاف الآية الأولى فيها مطلق العبادة، فأمكن أن يكون بفعل المحرم. قوله: " الكفر غير مانع؛ لأن الدهري والمحدث مأموران بالإيمان والصلاة ". تقريره: أن الدهري لا يتصور منه تصديق الرسائل لعدم علمه أن للعالم صانعا، فنسبه بعدم اعتقاده الصانع لتصديق الرسل، كنسبه تقديم الإيمان قبل الفروع. وكذلك المحدث لا يتصور منه الصلاة حالة الحدث، كما أن الكافر لا يتصور منه الفروع حالة الكفر، ولما ثبت التكليف في تلك الصورتين بالإجماع علمنا أن الكفر غير مانع من الفروع؛ لأنه مساو له. قوله: " الدليل الثاني: قوله تعالى: {ما سلككم في سقر ... الآية} [المدثر: 42] ". قلنا: هذه الآية فيها الأوامر والنواهي معاً، فالصلاة والإطعام مأموران، والخوض مع الخائضين منهي عنه، فأمكن أن يقال في هذه الآية: وإذا ثبت ذلك في هذه الصور ثبت في الجميع؛ لأنه لا قائل بالفرق بخلاف غيرها من الآيات. قوله: " المراد بالمصلين المسلمين " قلنا: هذا مجاز، والأصل الحقيقة. قوله: " الوعيد ترتب على ترك الكل، فلم قلت: إنه مترتب على كل واحد واحد؟ ". قلنا: هذا السؤال لم يجب عنه المصنف فيما رأيته من النسخ. وجوابه: أن الأوصاف المذكورة في تعليل العقوبات أو المثوبات يجب أن تكون مناسبة لها وإلا كان ذكرها عيباً في العرف، فيكون في اللغة كذلك؛ لأن الأصل عدم النقل والتغيير، فلا يحسن من السيد أن يقول ضربت

عبدي هذا؛ لأنه عصاني، وشرب لما عطش، فلا يكون ذكر قيد من هذه القيود إلا لاشتماله على المناسبة للعقوبة، ولا نعني بكونهم مخاطبين بالفروع إلا هذا القدر، أن أفعالهم في مخالفة الفروع سبب مناسب للعقوبة، وأما استقلاله بدخول (سقر) فلا يكون، والقائل بأنهم ليسوا مخاطبين يقول: أفعالهم في الفروع كالبهائم، وكما لا يحسن عقوبة البهائم شرعا على شرب الخمر، فكذلك الكفار. قوله: " الثالث: قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ... الآية} [الفرقان: 68]. قلنا: هذه الآية كلها نواه، فلا يمكن أن يقال فيها: وإذا ثبت خطابهم بهذه الفروع المخصوصة خوطبوا بجميع الفروع؛ لأنه لا قائل بالفرق؛ لأن من الناس من قال: مخاطبون بالفروع في النواهي فقط. والضابط: أنه متى كان في الآية أمر أمكن أن يقال فيه: لا قائل بالفرق؛ لأنه مهما ثبت الأمر ثبت النهي إجماعا، ومتى كانت الآية مشتملة على نواه فقط لا يمكن أن يقال فيها: لا قائل بالفرق؛ لأن القائل بالاقتصار على النواهي موجود، ومتى كانت الآية مشتملة على القسمين أمكن أن يقال: لا قائل بالفرق لتناولها بعض الواجبات دون المحرمات، فتأمل ذلك، ولا بد في كل دليل من هذه الأدلة من قولنا: ولا قائل بالفرق؛ لأن الدعوى عامة والآية التي ذكرها خاصة، فلا تسمع ما لم يضم إليها هذه المقدمة، وهو لم يذكرها أصلا، فعلى هذا تكون أدلته غير مسموعة، كمن قال: اللحم كله حرام؛ لأن الخنزير حرام، والمشروب كله حرام؛ لأن الخمر حرام، وكل عدد زوج؛ لأن العشرة زوج، فكل أدلته من هذا القبيل، فلا تسمع إلا بالمقدمة المذكورة، فليكن هذا التقرير عندك ثابتا في الجميع. قوله: " الكافر يحد على الزنا ".

(سؤال) قال الشافعي رحمه الله: أحد الحنفي وأقبل شهادته

قلنا: مالك يمنع ذلك، وإن كان يقول: يحد في السرقة، والفرق عندها: أنها من باب التظالم بخلاف الزنا، فيمكن للمستدل أن يذكر مطلق الحد. قوله: " إذا تناوله النهي تناوله الأمر؛ لأن الجامع كونه متمكنا في استيفاء المصلحة ". تقريره: أن الأوامر والنواهي زواجر شرعية لما في ضمنها من الوعيد، وذلك يحث على فعل المصالح والأوامر، وترك المفاسد والنواهي، وفهذا الحث الناشئ عن ذلك يزيد في داعية المكلف، ويمكنه من القسمين. (سؤال) قال الشافعي رحمه الله: أحد الحنفي وأقبل شهادته؛ لأن التأديبات تتبع المفاسد لا المعاصي، بدليل ضرب الصبيان والبهائم؛ استصلاحا لهم من غير معصية، ومن هنا نشأ الفرق بين النواهي والأوامر، فيقول الخصم: إنما أقيمت عليهم الحدود استصلاحا لهم، وهذا عهد في الشرع في درء المفاسد، وأما المصالح فلم يعهد فيها ذلك، ويمكن أن يقال: الصبي يضرب للصلاة، والبهيمة بحسن المشي والأدب، وهذه مصالح. قوله: " الكافر يمكنه الانتهاء عن المنهيات، ولا يمكنه الإتيان بالمأمورات ". قلنا: هذا الموضع من السؤال جوابه، ونحوهما يدلك على أن المدرك في المنع إنما هو عدم التصديق بتلك الفروع، وترد الأسئلة التي في أول المسألة، ولو كان المدرك هو أن الشرع لم يعتبر أعمالهم مع الكفر؛ لبغضهم به وعدم صلاحيتهم للخطاب بالطاعات، كما قال في حق الحائض: إنها بسبب ما قام بها من الدم المستقذر لم تؤهل للتشريف بالتكليف، فلو كان هذا هو المدرك في عدم الخطاب بالفروع لم يكن لذكر هذه الأسئلة معنى، ولا التفرقة بين الأوامر والنواهي معنى أيضاً

قوله: " استوت المأمورات والمنهيات في أن الإتيان بها من حيث الصورة ممكن، وافتقارهما إلى النية في كونهما قرينتين، فيستويان مطلقاً فلا فرق ". قلنا: بقي فرق، وهو أن النهي يسقط المؤاخذة عن الذي خوطب به بمجرد تركه من غير نية، بل صورة الترك كافية لا تسقط المؤاخذة في المأمورات عن المأمور بصورة الفعل، بل يبقى مؤاخذا حتى يأتي بالصورة منوية، وجميع أوضاعها الشرعية. قوله: " لو وجبت الصلاة لوجبت إما حال الكفر أو بعده، والقسمان باطلان، أما حال الكفر فلأن الفعل ممتنع، والممتنع لا يكون مأمورا به ". قلنا: لا يلزم من وجوبها حال الكفر إيقاعها حال الكفر؛ لأن زمن الكفر ظرف للإيجاب لا لإيقاع الواجب، فلو قلنا: إنه ظرف للوجوب، وإيقاع الواجب معا اتجه السؤال لكنا لا نقول: إن زمن الكفر ظرف إلا للوجوب فقط، والفرق بين كون زمن الكفر ظرفا للوجوب، وبين كونه ظرفا لإيقاع الواجب، كما تقول في زمن الحدث: وهو ظرف لإيجاب الصلاة لا لإيقاع الصلاة، بل الواجب ثابت الآن بأن يزيل المانع، ويفعل الصلاة في الزمن الكائن بعد الحدث، كذلك - هاهنا - الإيجاب وحده هو الثابت زمن الكفر، فتأمل هذا الفرق فربما عسر على جماعة. قوله: " فائدة الخلاف إنما تظهر في الآخرة في زيادة العقاب ". قلنا: قد بينا أنه يظهر في الأحكام الدنيوية، ثم إن الخصم ذكر أن الوجوب إما أن يثبت في حالة الكفر، أو في حالة الإيمان، وبينا بطلان القسمين فهذا الواجب حينئذ إنما يتجه إذا قلتم: الوجوب منفي مطلقا حالتي الكفر والإيمان، وإنما المقصود زيادة العقاب، وهذا كيف يتصور التزامه؟ وكيف يعتقد عقاب في الآخرة مع عدم الوجوب في الدنيا؟

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: وجبت عليه الصلاة بشرط تقديم الإيمان

هذا خلاف الإجماع، وأوضاع الشريعة، وإن قلت: وإنما يثبت العقاب في الدار الآخرة بناء على الوجوب في الدنيا هذا خلاف الإجماع، فالتزموا أحد القسمين في زمن الوجوب، وصرحوا بالجواب عن شبهة الخصم. أما العدول إلى زيادة العذاب في الآخرة مع الإعراض عن التزام أحد القسمين، فهذا غير متجه أصلا. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: وجبت عليه الصلاة بشرط تقديم الإيمان، فإن آمن والوقت باق فعليه فعلها، وإن فات صار قضاء، والقضاء يحتاج لخطاب جديد، ولا خطاب في حقه، بل ورد خطاب الإسقاط، فإذا هو واجب بحكم الدليل، ساقط بحكم العفو تدريجا، وبه خرج التزام المسلم القضاء، وكذلك المرتد. قلت: وفي عبارته إجمال من وجه في قوله: " شرط تقديم الإيمان "؛ لأن الشرط قد يكون شرطا في الوجوب كما في البلوغ، وقد يكون شرطا في الصحة، كما في الوضوء، فإن كان مراده بشرط تقدم الإيمان أنه شرط في الوجوب لم يحصل مقصوده من مخاطبة الكافر، وإن أراد أنه الآن خوطب بها من غير شرط في الخطاب والإيجاب، واشترط عليه في إيقاعها تقدم الإيمان حصل مقصوده ويكون ذلك كإيجاب الصلاة في حال الحدث من غير شرط، وتقدم رفع الحدث شرط في إيقاعها لا في وجوبها، فصرح في كلامه بشرطية الإيمان، ولم يذكر في أي شيء هو شرط.

المسألة الثالثة في أن الإتيان بالمأمور به، هل يقتضي الإجزاء

المسألة الثالثة في أن الإتيان بالمأمور به، هل يقتضي الإجزاء قال الرازي: قبل الخوض في المسألة، لابد من تفسير الإجزاء؛ وقد ذكروا فيه تفسيرين: أحدهما، وهو الأصح: أن المراد من كونه مجزيا هو أن الإتيان به كاف في سقوط الأمر. وإنما يكون كافيا، إذا كان مستجمعاً لجميع الأمور المعتبرة فيه؛ من حيث وقع الأمر به. وثانيهما: أن المراد من الإجزاء: سقوط القضاء؛ وهذا باطل؛ لأنه لو أتى بالفعل عند اختلال بعض شرائطه، ثم مات، لم يكن مجزئا مع سقوط القضاء، ولأن القضاء إنما يجب بأمر متجدد؛ على ما سيأتي. ولأنا نعلل وجوب القضاء بأن الفعل الأول ما كان مجزئا، والعلة مغايرة للمعلول، إذا عرفت هذا، فنقول: فعل المأمور به يقتضي الإجزاء؛ خلافا لأبي هاشم وأتباعه. لنا وجوه: الأول: أنه أتى بما أمر به؛ فوجب أن يخرج عن العهدة. إنما قلنا: إنه أتى بما أمر به؛ لأن المسألة مفروضة فيما إذا كان الأمر كذلك وإنما قلنا: إنه يلزم أن يخرج عن العهدة؛ لأنه لو بقي الأمر بعد ذلك لبقي: إما متناولا لذلك المأتي به، أو لغيره:

والأول باطل؛ لأن الحاصل لا يمكن تحصيله. والثاني باطل؛ لأنه يلزم أن يكون الأمر قد كان متناولا لغير ذلك الذي وقع مأتيا به، ولو كان كذلك، لما كان المأتي به تمام متعلق الأمر، وقد فرضناه كذلك؛ هذا خلف. الثاني: أنه لا يخلو: إما أنه يجب عليه فعله ثانيا وثالثا، أو ينقضي عن عهدته بما ينطلق عليه الإسم: والأول باطل؛ لما بينا أن الأمر لا يفيد التكرار. والثاني هو المطلوب؛ لأنه لا معنى للإجزاء إلا كونه كافيا في الخروج عن عهدة الأمر. الثالث: أنه لو لم يقتض الإجزاء، لكان يجوز أن يقول السيد لعبده: " افعل، وإذا فعلت، لا يجزئ عنك " ولو قال ذلك، لعد متناقضا. احتج المخالف بوجوه: أحدها: أن النهي لا يدل على الفساد بمجرده؛ فالأمر وجب ألا يدل على الإجزاء بمجرده. وثانيها: أن كثيرا من العبادات يجب على الشارع فيها إتمامها، والمضي فيها، ولا تجزئه عن المأمور به؛ كالحجة الفاسدة، والصوم الذي جامع فيه. وثالثها: أن الأمر بالشيء لا يفيد إلا كونه مأمورا به، فأما أن الإتيان يكون سببا لسقوط التكليف، فذلك لا يدل عليه مجرد الأمر. والجواب عن الأول: أنا، إن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد، لكن الفرق

شرح القرافي: المسألة الثالثة

بينه وبين الأمر أن نقول: النهي يدل على أنه منعه من فعله، وذلك لا ينافي أن نقول: إنك لو أتيت به، لجعله الله سببا لحكم آخر. أما الأمر، فلا دلالة فيه إلا على اقتضاء المأمور به مرة واحدة، فإذا أتى به، فقد أتى بتمام المقتضى، فوجب ألا يبقى الأمر بعد ذلك مقتضيا لشيء آخر. وعن الثاني: أن تلك الأفعال مجزئة بالنسبة إلى الأمر الوارد بإتمامها، وغير مجزئة بالنسبة إلى الأمر الأول؛ لأن الأمر الأول اقتضى إيقاع المأمور به، لا على هذا الوجه الذي وقع؛ بل على وجه آخر، وذلك الوجه بعد لم يوجد. وعن الثالث: أن الإتيان بتمام المأمور به يوجب ألا يبقى الأمر مقتضيا بعد ذلك، وذلك هو المراد بالإجزاء، والله أعلم. المسألة الثالثة الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء تمهيد: يقتضي الإجزاء قاله (المحصول) وغيره.

......................................................................

ومنهم من يقول: الأمر يدل على الإجزاء، قاله صاحب

(المستصفى)، وغيره. ففي العبارة الأولى: أن الأمر اقتضى شغل الذمة بالمأمور، فكما أن الأمر سبب الشغل، الإتيان بالمأمور به سبب البراءة بعد الشغل. ومعنى العبارة الثانية: أن الأمر دل على الشغل، ودل على أن الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء؛ لأن الإتيان سبب البراءة وهو مدلول الأمر، ومدلول المدلول مدلول، فالبراءة مدلول الإجزاء. وعبارة الكتاب أكثر في كلامهم، وأقرب في التعبير؛ فإن جعل الأمر دالا إنما هو بواسطة - كما تقدم - وكون الإتيان سبب البراءة بغير واسطة، وإضافة الحكم لما هو بغير وسط أولي. قوله: " إنما يكون الفعل كافيا في سقوط الأمر به إذا كان مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة فيه من حيث وقع الأمر به ".

تقريره: أن المعتبر فيه قد يكون من حيث الأمر به كالطهارة، والستارة وغيرهما في الصلاة، وقد يكون معتبرا فيه من حيث إيجاده كالقدرة الربانية الخالقة للأفعال والإرادة، وغير ذلك من أشراط الجواهر في قيام الأعراض بها، فهذا أو ما شبهه لا مدخل له في الإجزاء بخلاف القسم الأول. قوله: " لو أتى بالفعل مع اختلاف بعض شرائطه، ثم مات لم يكن مجزئا مع سقوط القضاء ". قلنا: إنه مات قبل خروج الوقت، والقضاء إنما يجب إذا خرج الوقت، فقد وجد عدم القضاء ولم يوجد الإجزاء، فلو كان شيئا واحدا لما وجد أحدهما بدون الآخر؛ لأن الشيء لا يوجد بدون نفسه، وقد تقدمت هذه الوجوه الثلاثة أول الكتاب، وتقريرها والأسئلة عليها، فلا يطول بإعادتها. قوله: " يقتضي الإجزاء خلافا لأبي هاشم ". تقريره: أن أبا هاشم يقول: الإنسان ولد بريئا من جميع الحقوق، وورود الأمر اقتضى شغل الذمة بفعل مرة في زمن فرد، أو بعدد من الأفعال في زمن الأزمان، ويبقى العدم بعد الأفعال مستفادا من البراءة الأصلية كالأعدام الكائنة قبل التكليف، فالاتفاق واقع على حصول البراءة، وعدم التكليف بعد الفعل، لكن النزاع في المدرك. فالجماعة يقولون: هو أمران: الإتيان بالمأمور به مع البراءة الأصلية، وقد زاد فيها الإتيان في هذه الصورة - أعني بعد الفعل - وانفردت البراءة ببراءة الذمة قبل التكليف. وأبو هاشم يقول: المدرك قبل التكليف، وبعد فعل المكلف به، وهو البراءة فقط. ونظير هذه المسألة: قول القاضي أبي بكر في مفهوم الشرط توافق على عدم المشروط عند عدم الشرط المعلق عليه.

(تنبيه) قال المصنف: المخالف أبو هاشم وأتباعه

ويقول: المدرك هو استصحاب حال المشروط لا لفظ التعليق. (تنبيه) قال المصنف: المخالف أبو هاشم وأتباعه. وقال سيف الدين: القاضي عبد الجبار وأتباعه قال: والإجزاء يراد به الامتثال، ويراد به سقوط القضاء. واتفق الكل على حصول الامتثال، وإنما خالف عبد الجبار في التفسير الثاني، فقال: لا يمنع من القضاء بعده، كذلك صرح به في كتاب (العمد) له. قلت: وكذلك رأيته لعبد الجبار في كتاب (العمد) له، وشرحه أبو الحسين في شرح المعتمد، كما قرره سيف الدين. ويجوز أن يكون أبو هاشم وافقه، غير أن النقل - كما قال - سيف الدين - فاسد لأن الأصحاب - كإمام الحرمين وغيره - على كون الفعل يوجب الخروج عن العهدة، وهو ساقط؛ لأنه استدلال في موضع الوفاق، وليس النزاع في إمكان ورود أمر بعده، وإنما النزاع في الورود به موصوفا بصفة القضاء، والحق نفيه؛ لأن الفعل إذا كان كاملا في نفسه امتنع القضاء إجماعاً، فإنه سمي الأمر الوارد بمثل تلك العبارة خارجا عن الوقت مع تقدمها على وجه الكمال قضاء، فهذا نزاع في تسميته ونسلم له جواز الأمر بمثل ذلك. قوله: " أتى بما أمر به، فوجب أن يخرج عن العهدة ". قلنا: هذا متفق عليه، إنما النزاع في الدليل المخرج عن العهدة كما تقدم.

قوله: " لأنه لو لم يخرج عن العهدة، لبقي الأمر متعلقا بذلك المأتي به، أو بغيره ": قلنا: هذا البحث لا يتجه على أبي هاشم؛ لأن الأمر ما بقي عنده متعلقا، ولا يلزم من قولنا: " لبقي متعلقا " أن يكون دالا على العدم، أو الإتيان بالمأمور به سببًا لبراءة لذمة مجازًا فلا يكون متعلقًا ولا هو دال، والإتيان بالمأمور به سبب وأن يكون الحق هو دلالة البراءة فقط، وكلامكم لا يفيد خلاف ذلك، بل أمر لا تعلق له بالمتنازع فيه. قوله: " إن خرج عن العهدة بما يصدق عليه الاسم، حصل المطلوب ": قلنا: ما يحصل المطلوب؛ فإن براءة الذمة متفق عليها، بل بينوا سببية الإتيان بالمأمور به. قوله: " لو لم يقتض الإجزاء، لجاز أن يقول السيد لعبده: (افعل) فإذا فعلت لا يجزئ عنك " فإنه متناقض ": قلنا: الإجزاء حاصل إجماعا، إنما النزاع في الدلالة هل هي بالنص أو بالبراءة الأصلية؟ ولا نزاع -أيضا - أن الأمر ما بقي متعلقا بفعل آخر، إنما النزاع في تعلقه بعدم الفعل لا بالفعل. وأنتم تقولون: بقي متعلقا بعدم الفعل. وأبو هاشم يقول: لم يبق متعلقا لا بالفعل ولا بعدمه. قوله: " النهي لا يدل على الفساد، فالأمر لا يدل على الإجزاء ". تقريره: أن النهي له مدلول واحد وهو الإنزجار عن الفعل. وهل يدل مع ذلك على الفساد، وهو عدم ترتب المنهي عنه عليه أم لا؟ مذهبان، فرع على عدم الدلالة، فيكون له على هذا التقدير مدلول واحد،

فقال الأمر أيضا وجب إذا دل على طلب الفعل ألا يدل على شيء آخر، وهو براءة الذمة، بجامع أن أحدههما ضد الآخر. والعرب تحمل الشيء على ضده، كما تحمله على مثله، كما حملت (لا) النافية في العمل في الاسم المضاف، ونصبت بها كما تنصب بـ (إن) المؤكدة، وهي ضدها؛ لأن هذه للإثبات، وهذه للنفي، وحملت (الغدايا) على (العشايا) في الجمع، و (غدوة) لا تجمع على (فعالى)، وحملت (حدث) على (قدم) إذا اجتمعا، فضموا الدال من (حدث) وهي مفتوحة؛ أو لأنهما مشتقان من مصدر واحد. والأصل في اتحاد الأصل اتحاد الفرع، إلا ما أجمعنا على الخلاف فيه. ويرد عليه: أنا نمنع إيجاد مدلول النهي، بل يدل على الفساد. قوله: " الأمر بالشيء لا يفيد إلا كونه مأمورا ". قلنا: هذا مصادرة على مذهب الخصم، بل يدل على أمر آخر وهو الإجزاء. قوله: " المنهي عنه لا يمتنع أن يكون سببا للحكم ". تقريره: أن السبب الشرعي ليس من شرطه أن يكون مأذونا في مباشرته، وقد يكون محرما كالسرقة سبب للقطع، وسقوط العدالة، والزنا سبب للرجم، والحرابة سبب للصلب والقتل، فجاز أن ينهى إنسان عن فعل، وإذا فعل جعله سببا لأحكام أخرى، ومتى كانت له آثار لا يكون دالا على الفساد، وقد رتب الشارع على إفساد الحج وجوب الإتمام، وكذلك على فساد الصوم وجوب الإمساك، فلا تناقض بين التحريم، وترتيب أحكامه عليه إذا وقع. أما المأمور به إذا بقيت بعده الذمة غير بريئة لا يكون أتى بجميع ما أمر به، فيلزم التناقض وعليه ما علمت

(تنبيه) زاد التبريزي، فقال: في تفسير الإجزاء سقوط القضاء

قوله: " الإتيان بالمأمور به يقتضي ألا يبقى الأمر بعد ذلك مقتضيا، وذلك هو المراد ". قلنا: مسلم أنه لا يبقى مقتضيا، لكن فرق بين عدم الاقتضاء، واقتضاء العدم، والنزاع في الثاني لا في الأول، وإن عنيتم بالاقتضاء أنا عقيب الإتيان بالمأمور به نجزم بأنه لم يبق شيء في الذمة، وإن هذا الجزم موقوف على العلم بأنه أتى بالمأمور به، فهذا حق، وإلا تناقض مذهب أبي هاشم في أن ذلك لأجل البراءة الأصلية. (تنبيه) زاد التبريزي، فقال: في تفسير الإجزاء سقوط القضاء، هذا إنما يستقيم إذا قلنا: القضاء بالأمر الأول، وإلا فلا معنى لسقوط ما لا دليل عليه. ***

المسألة الرابعة قال الرازي: الإخلال بالمأمور به، هل يوجب فعل القضاء أم لا؟

المسألة الرابعة قال الرازي: الإخلال بالمأمور به، هل يوجب فعل القضاء أم لا؟ هذه المسألة لها صورتان: الصورة الأولى: الامر المقيد، كما إذا قال: افعل في هذا الوقت، فلم يفعل؛ حتى مضى ذلك الوقت، فالأمر الأول، هل يقتضي إيقاع ذلك الفعل فيما بعد ذلك الوقت؟ الحق: لا؛ لوجهين: الاول: أن قول القائل لغيره: " افعل هذا الفعل يوم الجمعة " لا يتناول ما عدا يوم الجمعة، وما لا يتناوله الأمر، وجب ألا يدل عليه بإثبات، ولا بنفي، بل لو كان قوله:" افعل هذا الفعل يوم الجمعة " موضوعا في اللغة لطلب الفعل في يوم الجمعة، وإلا ففيما بعدها، فهاهنا: إذا تركه يوم الجمعة، لزمه الفعل فيما بعده، ولكن على هذا التقدير: يكون الدال على لزوم الفعل فيما بعد يوم الجمعة، ليس مجرد طلب الفعل يوم الجمعة، بل كون الصيغة موضوعة لطلب يوم الجمعة وسائر الأيام. ولا نزاع في هذه الصورة، وإنما النزاع في أن مجرد طلب الفعل يوم الجمعة لا يقتضي إيقاعه بعد ذلك. الثاني: أن أوامر الشرع تارة لم تستعقب وجوب القضاء، كما في صلاة الجمعة، وتارة استعقبته، ووجود الدليل مع عدم المدلول خلاف الأصل، فوجب أن يقال: إن إيجاب الشيء لا إشعار له بوجوب القضاء، وعدم وجوبه.

فإن قلت: " إنك لما جعلته غير موجب للقضاء، فحيث وجب القضاء، لزمك خلاف الظاهر!! ": قلت: عدم إيجاب القضاء غير، وإيجاب عدم القضاء غير ومخالفة الظاهر إنما تلزم من الثاني، وأنا لا أقول به، أما على التقدير الأول: فغايته أنه دل دليل منفصل على أمر لم يتعرض له الظاهر بنفي، ولا إثبات؛ وذلك لا يقتضي خلاف الظاهر. الصورة الثانية: الأمر المطلق، وهو أن يقول: (افعل) ولا يقيده بزمان معين، فإذا لم يفعل المكلف ذلك في أول أوقات الإمكان، فهل يجب فعله فيما بعده، أو يحتاج إلى دليل؟ أما نفاة الفور: فإنهم يقولون: الأمر يقتضي الفعل مطلقا، فلا يخرج عن العهدة إلا بفعله، وأما مثبتوه: فمنهم من قال: إنه يقتضي الفعل بعد ذلك وهو قول أبي بكر الرازي، ومنهم من قال: لا يقتضيه، بل لا بد في ذلك من دليل زائد. ومنشأ الخلاف: أن قول القائل لغيره: (افعل كذا) هل معناه: افعل في الزمان الثاني، فإن عصيت ففي الثالث، فإن عصيت ففي الرابع، على هذا أبدا، أو معناه: افعل في الثاني، من غير بيان حال الزمان الثالث، والرابع؟ فإن قلنا بالأول: اقتضى الأمر الفعل في سائر الأزمان، وإن قلنا بالثاني: لم يقتضه؛ فصارت هذه المسألة لغوية. واحتج من قال: إنه لا بد من دليل منفصل بأن قوله: (افعل) قائم مقام قوله: افعل في الزمان الثاني

شرح القرافي: هاهنا قاعدتان، هما سر البحث في هذه المسألة

وقد بينا أنه إذا قيل له ذلك، وترك الفعل في الزمان الثاني، لم يكن ذلك القول سببا لوجوب الفعل في الزمان الثالث، فكذا هاهنا ضرورة أنه لا تفاوت بين اللفظتين. واحتج أبو بكر الرازي على قوله بأن لفظ (افعل) يقتضي كون المأمور فاعلا على الإطلاق، وهذا يوجب بقاء الأمر، ما لم يصر المأمور فاعلا. وأيضا: الأمر اقتضى وجوب المأمور به، ووجوبه يقتضي كونه على الفور، وإذا أمكن الجمع بين موجبيهما، لم يكن لنا إبطال أحدهما، وقد أمكن الجمع بينهما؛ بأن نوجب فعل المأمور به في أول اوقات الإمكان؛ لئلا ينتقض وجوبه، فإن لم يفعله، أوجبناه في الثاني؛ لأن مقتضى الأمر، وهو كون المأمور فاعلا، لم يحصل بعد، والله أعلم المسألة الرابعة الإخلال بالمأمور به هل يوجب القضاء قال القرافي: هاهنا قاعدتان، هما سر البحث في هذه المسألة.

القاعدة الأولى: أن المقتضى للمركبات في جهة الثبوت، فإذا أوجب الله تعالى الصوم في رمضان فقد أوجب الصوم وزيادة إلزام كونه في رمضان، فالمأمور به مركب من أصل الصوم، واختصاصه المعين. فإذا فات وصف الزمان بالمتعذر يصير النص كالعام المخصوص إذا بطل الحكم في أحد مفرداته يبقى حجة في الباقي، فيبقى النص هاهنا حجة في أصل الفعل بعد تعذر صومه المخصوص، فيوقعه المكلف بعد ذلك. فمن لاحظ هذه القاعدة قال: القضاء بالأمر بالأول. القاعدة الثانية: أن الأوامر تتبع المصالح كما أن النواهي تتبع المفاسد، فإذا أمر الله تعالى بفعل في وقت، فلا بد لتعيين ذلك الوقت من مصلحة تقتضي اختصاص الفعل به؛ لأنه عادة الشرع في شرائعه في رعاية المصالح، وحينئذ إذا خرج ذلك الوقت لا يعلم هل الوقت الثاني مشارك الوقت الأول في المصلحة أم لا؟ فإن من قال لغلامه قبل الفجر بيسير في رمضان: اسقني الآن ماء، فتركه إلى نصف النهار ثم أتاه بالماء، فهذا الوقت لا يشارك ذلك الوقت في مصلحة السقي، وأنه قبل الفجر يتقوى به على الصوم، والآن يفسد عليه

الصوم، واذا حصل الشك في اشتراك الأوقات في المصالح لم يثبت وجوب الفعل الذي هو القضاء في وقت أو آخر إلا بدليل منفصل، وإن كان في بعض الصور قد علم مشاركة الأوقات في تلك المصلحة إلا أن ذلك يكون بدليل من خارج في خصوص تلك المادة لا من جهة الأمر بما هو أمر، وأيضا تقدم أن الخصوصات قد تكون شروطا في المعاني الكلية، فلعل خصوص هذا الزمان شرط فقد فيعدم المشروط، فمن لاحظ هذه القاعدة قال: القضاء بأمر جديد وهو مشهور المذاهب، فهذا سر المسألة. قوله: " إذا قال له: افعل يوم الجمعة لا دلالة له على غير يوم الجمعة ". قلنا: كلامكم يقتضي أن الامر لا يدل على يوم آخر غير يوم الجمعة، وهذا لا نزاع فيه، إنما النزاع في تناوله للفعل من حيث هو فعل، ويختار المكلف زمانا يوقعه فيه، فيكون الزمان الثاني من ضرورة إيقاع مطلق الفعل، لا أنه مدلول الأمر الأول. قوله: " وردت الأوامر مع عدم اقتضاء القضاء، والأصل عدم مخالفة الدليل ". قلنا: الأصل معارض بأصل آخر، وهو أن الأصل بناء الفعل في زمنه، والأمر دال عليه، ولم يأت به. قوله: " عدم إيجاب القضاء غير إيجاب عدم القضاء، ومخالفة الظاهر إنما تلزم من الثاني دون الأول ". تقريره: أن النص إذا لم يوجب القضاء لم يكن معترضا لعدم القضاء، ولا للقضاء، فالدال على القضاء بعد ذلك ليس بينه وبين النص الأول معارضة، فما خولف الظاهر. أما إذا أوجب النص الأول عدم القضاء حصل بينه وبين الدال على القضاء ثانيا معارضة.

(تنبيه) القول بالفعل - هاهنا - بعد ذلك أيسر وأوجه من القضاء اذا عين للفعل زمانا

فواجب الظاهر من جهة إيجاب عدم القضاء، لا من جهة عدم إيجاب القضاء. قوله: " ومنشأ الخلاف بين القولين: أن قول القائل لغيره: (افعل) هل معناه افعل في الزمان الثاني، فإن عصيت ففي الثالث ". يريد بقوله: " الزمان الثاني " باعتبار زمان ورود الأمر؛ فإن زمن ورود الأمر هو الأول، وأول أزمنة إمكان الفعل هو الزمن الثاني من الزمن الذي ورد فيه الأمر. (تنبيه) القول بالفعل - هاهنا - بعد ذلك أيسر وأوجه من القضاء اذا عين للفعل زمانا؛ فإن الزمن هاهنا إنما تعين تعينا تابعا لورود الأمر، فلو تأخر الأمر سنة تأخر زمن الفعل ذلك، ولو تقدم تقدم، والزمن التابع للأمر ظاهر الحال أنه ليس فيه مصلحة تخصه، بل المصلحة في نفس الفعل من حيث هو فعل، ولم يؤت بتلك المصلحة فيبقى المكلف في عهدتها، وأما إذا عين الزمان كـ (رمضان) فظاهر الحال أنه ما عينه إلا وفيه مصلحة تخصه، كما أن ظاهر الإطلاق عدم المصلحة في الوقت، ولو أن بين الأزمنة تفاوتا لعين الراجح منها. قوله: " احتج القائل بعدم الفعل بعد ذلك أن قول القائل: (افعل) قائم مقام قوله: (افعل في الزمن الثاني)، وقد بينا أنه لا يقتضي القضاء، فكذلك هاهنا " قلنا: الفرق أن قوله في الزمن الماضي يقتضي مفهومه عدم الفعل في غيره من جهة مفهوم الزمان. سلمنا عدم اعتبار المفهوم، لكن تعين الزمان بالتنصيص يدل ظاهرا على اختصاصه لمصلحة، بخلاف ظاهر الإطلاق يقتضي إلغاء خصوصات الزمان عن الاعتبار

(سؤال) قال النقشواني: اختياره في هذه المسألة يناقضه اختياره قبل هذا

قوله: " لفظة (افعل) يقتضي كونه فاعلا على الإطلاق ". قلنا: لا نسلم؛ لأنا نفرع على القول بالفور، وعلى هذا التقدير لا يقتضي الفعل على الإطلاق، بل في الزمن الذي يلي ورود الصيغة، فإذا تعذر ذلك الزمان لا يقتضي أن مقتضى اللفظ باق على حاله، بل يمكن أن يقال: تعذر ذلك الزمان بعض المدلول، وهو الزمان الذي يلي ورود الصيغة، وبقي أصل الفعل، أما أنه يقتضي أنه فاعل مطلقا فلا. (سؤال) قال النقشواني: اختياره في هذه المسألة يناقضه اختياره قبل هذا، أن الوجوب إذا نسخ بقي الجواز؛ فإن الدال على المجموع في الصورتين قد تعذر جزء مدلوله، فينبغي أن يبقى في الآخر في الصورتين، جوابه أن عرف الاستعمال يقتضي أن تخصيص الأزمنة يقتضي اختصاصها بمصالح فيها، أما الجواز بما هو جواز فلا نجده في عرف الاستعمال يختص بالوجوب، لمصلحة تخص ذلك الجواز، فافترقا ولا تناقض. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: فعل القضاء إما أن يكون مطابقا بمقتضى وجوب الأداء أو لا، فإن كان الأول وجب أن يتخير بينهما، وليس كذلك، وإن كان غير مطابق وجب ألا يكون مقتضيا؛ لأن مقتضى الأول المطابقة. ويرد عليه: أن الأمر الأول قد تعين الأفضل في الرتبة الأولى، فإن تعين فالمفضول في الرتبة الثانية، فيصدق عليه حينئذ أنه مقتضى الأول، وليس مطابقا للمقتضى الأول، ولا بجميع المقتضى؛ لأنه بعض المقتضى، والبعض لا يطابق الكل.

(سؤال) قال التبريزي على لسان الخصم: إن الزمان في العبادة كالأجل في الدين

(سؤال) قال التبريزي على لسان الخصم: إن الزمان في العبادة كالأجل في الدين، وفوات الأجل لا يسقط الدين، فكذلك في العبادة. وأجاب عنه: بأن الأجل في الدين مهلة تيسر على الغريم، والدين مقصود بما هودين، فلو فهمنا أن العبادة مقصودة في ذاتها دون الزمان كما فهمنا في الدين قلنا بالقضاء أيضا، لكنا نجوز أن تكون إضافة الفعل - هاهنا - للزمان كإضافة الفعل إلى وقت عرفه ومكانها. ***

المسألة الخامسة في أن الأمر بالأمر بالشيء لا يكون أمرا به

المسألة الخامسة في أن الأمر بالأمر بالشيء لا يكون أمرا به قال الرازي: الحق أن الله تعالى، إذا قال لزيد: " أوجب على عمرو كذلك " فلو قال لعمرو: " وكل ما اوجب عليك زيد، فهو واجب عليك " كان الأمر بالأمر بالشيء أمرا بالشيء، في هذه الصورة، ولكنه بالحقيقة إنما جاء من قوله: كل ما اوجب فلان عليك، فهو واجب عليك. أما لو لم يقل ذلك، لم يجب؛ كما في قوله عليه الصلاة والسلام: " مروهم بالصلاة، وهم أبناء سبع " فإن ذلك لا يقتضي الوجوب على الصبي، والله أعلم. المسألة الخامسة الأمر بالأمر بالشيء لا يكون أمرا بذلك الشيء قال القرافي: قلت: هذا هو الحق؛ لأن الأمر إنما اقتضى الإيجاب على الأول

أما الثاني فلا، كما لو قال له " صح على الدابة "، لا يقال إن السيد أمر الدابة، فقوله: (مر فلانا) مثل قوله: (صح على الدابة) فإن قلت: قد قال عليه السلام لعمر بن الخطاب لما طلق ابنه عبد الله رضي الله عنهما امرأته في الحيض: " مره فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء "، واجمعت الأمة على أن ذلك كان واجبا على ابن عمر. قلت: لكن ذلك الوجوب ليس هو مقتضى صيغة الأمر الصادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل فهم عمر وابنه أن مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم التبليغ لعبد الله، لا لأن أباه يأمره من قبل نفسه، ولا نزاع إذا فهم التبليغ أن الثاني يكون مأمورا بالأمر الأول، وهل قوله عليه السلام: " مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر " يقتضي تعلق ندب الصبيان، أو ذلك استصلاح لهم كالبهائم؟ قولان للعلماء رضي الله عنهم. ***

المسألة السادسة الأمر بالماهية لا يقتضي الأمر بشيء من جزئياتها

المسألة السادسة الأمر بالماهية لا يقتضي الأمر بشيء من جزئياتها كقوله: بع هذا الثوب، لا يكون هذا أمرا ببيعه بالغبن الفاحش، ولا بالثمن المساوي؛ لأن هذين النوعين يشتركان في مسمى البيع، ويتميز كل واحد منهما عن صاحبه، بخصوص كونه واقعا بثمن المثل، وبالغبن الفاحش، وما به اشتراك غير ما به الامتياز، وغير مستلزم له. فالأمر بالبيع الذي هو جهة الاشتراك، لا يكون أمرا بما به يمتاز كل واحد من النوعين عن الآخر، لا بالذات، ولا بالاستلزام. وإذا كان كذلك، فالأمر بالجنس لا يكون البتة أمرا بشيء من أنواعه، بل إذا دلت القرينة على الرضا ببعض الأنواع، حمل اللفظ عليه. ولذلك قلنا: الوكيل بالبيع المطلق، لا يملك البيع بغبن فاحش، وإن كان يملك البيع بثمن المثل؛ لقيام القرينة الدالة على الرضا به، بسبب العرف، وهذه قاعدة شرعية برهانية، ينحل بها كثير من القواعد الفقهية، إن شاء الله، والله أعلم. المسألة الساسة الأمر بالماهية الكلية لا يكون أمرا بشيء من جزئياتها قال القرافي: قلت: هذا فرد من قاعدة، وهي أن الدال على الأعم غير

.....................................................

...............................................................

دال على الأخص، فإذا قلنا: " في الدار جسم " لا يفهم أنه نام، وإذا قلنا: " إنه نام " لا يفهم أنه حيوان، وإذا قلنا: (حيوان) لا يفهم أنه إنسان، وإذا قلنا: (إنسان) لايفهم أنه زيد. فإن قلت: الكلي قد ينحصر بنوعه في شخصه كانحصار الشمس في فرد منها، وكذلك القمر، وكذلك جميع ملوك الأقاليم وقضاتها، الأصول تنحصر أنواعهم، في أشخاصهم دائما. فإذا قلت: (صاحب مصر) إنما ينصرف الذهر للحاضر الملك في وقت الصيغة، وكذلك (قاضي العراق) ونحو هذه النظائر، فيكون الأمر بتلك الماهية الكلية يتناول ذلك الجزئي في جميع هذه الصور. قلت: لم يأت ذلك من قبل اللفظ، بل من جهة أن الواقع كذلك، ومقصود المسألة إنما هو دلالة اللفظ من حيث هو لفظ. ***

النظر الرابع في المأمور وفيه مسائل

النظر الرابع في المأمور وفيه مسائل قال الرازي: المسألة الأولى: قال أصحابنا: المعدوم يجوز أن يكون مأمورا، لا بمعنى أنه حال عدمه يكون مأمورا، فإنه معلوم الفساد بالضرورة؛ بل بمعنى أنه يجوز أن يكون الأمر موجوداً في الحال، ثم إن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك يصير مأمورا بذلك الأمر، وأما سائر الفرق، فقد أنكروه. لنا: أن الواحد منا، حال وجوده، يصير مأمورا بأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع أن ذلك الأمر ما كان موجوداً إلا حال عدمنا. وكذلك لا يبعد أن يقوم بذات الأب طلب تعلم العلم من الولد الذي سيوجد، وأنه لو قدر بقاء ذلك الطلب؛ حتى وجد الولد، صار الولد مطالبا بذلك الطلب، فكذا المعنى القائم بذات الله تعالى، الذي هو اقتضاء الطاعة من العباد، معنى قديم، وأن العباد، إذا وجدوا، يصيرون مطالبين بذلك الطلب. فإن قيل: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير لازم على أحد، بل هو عليه الصلاة والسلام أخبر أن الله تعالى يأمر كل واحد من المكلفين عند وجوده، فيصير ذلك إخبارا عن أن الله تعالى سيأمرهم عند وجودهم، لا أن الأمر حصل عند عدم المأمور. سلمنا أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم واجب الطاعة، ولكن وجد هناك في الحال من سمع ذلك الأمر، وبلغه إلينا، أما في الأزل، فلم يوجد أحد يسمع ذلك الأمر، وينقله إلينا، فكان ذلك الأمر عبثا.

ثم ما ذكرتموه معارض بدليل آخر، وهو: أن الأمر عبارة عن إلزام الفعل، وفي إلزام الفعل من غير وجود المأمور عبث؛ فإن من جلس في الدار يأمر وينهى، من غير حضور مأمور، ومنهي، عد سفيها مجنونا، وذلك على الله محال. والواجب: قوله: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن الإخبار، قلنا: من أصحابنا من قال ذلك، وكذلك أمر الله تعالى عبارة عن إخباره بنزول العقاب على من يترك الفعل الفلاني، إلا أن هذا مشكل من وجهتين: أحدهما: أنا بينا فيما تقدم: أنه لو كان الأمر عبارة عن هذا الإخبار، لتطرق التصديق والتكذيب إلى الأمر، ولامتنع العفو عن العقاب على ترك الواجبات؛ لأن الخلف في خبر الله تعالى محال. الثاني: أنه لو أخبر في الأزل، لكان: إما أن يخبر نفسه، وهو سفه، أو غيره؛ وهو محال؛ لأنه ليس هناك غيره. ولصعوبه هذا المأخذ، ذهب عبد الله بن سعيد بن كلاب التميمي من أصحابنا إلى أن كلام الله تعالى في الأزل لم يكن أمرا، ولا نهيا، ثم صار فيما لا يزال كذلك. ولقائل أن يقول: إنا لا نعقل من الكلام إلا الأمر، والنهي، والخبر، فإذا سلمت حدوثهما، فقد قلت بحدوث الكلام. فإن ادعيت قدم شيء آخر، فعليك البيان بإفادة تصوره، ثم إقامة الدلالة على أن الله تعالى موصوف به، ثم إقامة الدلالة على قدمه. وله أن يقول: أعني بالكلام القدر المشترك بين هذه الأقسام، ويمكن الجواب

شرح القرافي: قوله: " أمر الرسول عليه السلام إخبار عن أن الله تعالى يأمر كل واحد منا عند وجوده؛ لا أنه مأمور حالة عدمه "

عن أصل الإشكال؛ بأن قاعدة الحكمة مبنية على قاعدة الحسن والقبح، وقد تقدم إفسادها المسألة الأولى المعدوم يجوز أن يكون مأمورا قال القرافي: قوله: " أمر الرسول عليه السلام إخبار عن أن الله تعالى يأمر كل واحد منا عند وجوده؛ لا أنه مأمور حالة عدمه ". قلنا: الحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير آمر، ولا ناه، ولا مشرع، إنما هو مبلغ عن الله تعالى، والله تعالى هو المشرع وكل مبلغ مخبر، فالرسول عليه السلام مخبر، لكن مخبرنا عن الله تعالى أنه أمرنا بأمره القديم الأزلي في الأزل على تقدير وجودنا، كما علمنا بعلمه القديم، وحصل التعلق في الأزل بما سيوجد من الحركات في المستقبل، فكما تعلق العلم بالمستقبل يتعلق الخطاب في المستقبل بالمعدوم، ولا نزاع في ذلك، وأخبر الرسول عليه السلام أيضا أنا إذا وجدنا، وحصلت شروط خاصة بذلك الزمان هو زمان تعلق أمر الله تعالى وأحكامه، والكائن قبل تلك الشروط ليس متعلق الحكم فالكلام وتعلقه قديمان كالعلم وتعلقه والمتجدد ومتعلقه، وكما يستحيل وجود علم بلا معلوم يستحيل وجود أمر بلا مأمور، لكن الأمر في الأزل بالتعلق في الأزل على شرائط مخصوصة، وكذلك يتعلق العلم على شرائط مخصوصة، فما علم الله أن زيدا يصير عالما، ويعيش مائة سنة إلا بناء على أسباب كثيرة، وشرائطه متعددة في كل يوم شرائط كثيرة لضرورة الحياة من النفس، والغذاء أو أسباب عادية في الحفظ للعلوم، وغير الحفظ، فالبابان سواء، فكما عقل في أحدهما التعلق في الأزل الذي سيوجد فيما لا يزال، فليفعل في الآخر وأما أنه عليه السلام أخبر بتجدد أمر الله تعالى عند وجودنا فممنوع.

قوله: " وجد في زمانه صلى الله عليه وسلم من يبلغ إلينا، أما في الأزل فليس ثم أحد، فكان ذلك الأمر عبثا ". قلنا: ذكر العبث في هذا المقام من قاعدة الحسن والقبح، ونحن نمنعه، سلمناه، ولكن القبيح أن يتكلم الإنسان بكلامه اللساني، وليس هناك من يسمعه، فهذا قبيح عرفا، أما جلوس الإنسان في خلوته مفكرا في أمر معاده ومعاشه، ولا يكون هنالك أحد فهذا ليس قبحا، بل أجود الفكرة حال الخلوة، ولا معنى للفكرة إلا الكلام النفساني وأنواع الإخبارات، ونحن ما ندعي في الأزل إلا الكلام النفساني الذي لا يقبح حالة عدم الغير، فلا عبث حينئذ على قاعدتنا ولا على قاعدة المعتزلة في الحسن والقبح. وبهذا التقرير يظهر بطلان قولهم: لو قعد الإنسان في بيته يأمر وينهى، وليس هنالك أحد كان عبثاً. قوله: " الأمر إلزام للفعل، وإلزام الفعل من غير موجود مأمور محال ". قلنا: هذه مغالطة، ما ألزم الفعل إلا الموجود؛ لأنه تعالى إذا ألزم في الأزل المكلف على تقدير وجوده، فما ألزمه إلا حالة وجوده، ولم يلزمه حالة عدمه شيئا، ففرق بين إلزام المعدوم إذا وجد حالة وجوده وبين إلزام المعدوم حالة عدمه، المحال إنما هو في الثاني دون الأول، ونحن لا نقول بالثاني فلا محال حينئذ. قوله: " لو أخبر في الأزل فأما أن يخبر بنفسه، وهو محال ". قلنا: لا نسلم أنه محال؛ لأن كل عاقل يسند في فكره طول ليله ونهاره، ولا معنى للإسنادات إلا الإخبارات، ومع ذلك أجمع العقلاء على حسنه، فلا يكون في حق الله تعالى قبيحا، بل الله تعالى عالم بجميع معلوماته، ويخبر عن كل معلوم بخصائص صفاته وأحواله، وذلك

غير متناه في متعلقه، وليس في ذلك محال البتة، بل ذلك واجب عقلا عند أهل الحق على ما قالوه، والله تعالى في الأزل، وما لا يزال مخبرا عن صفات كماله، ونعوت جلاله بعينه بكلامه النفساني، وذا واجب الوقوع عقلا أزلا وأبدا، ولا يسمع ذلك إلا الله تعالى، بسمعه القديم، وإلى هذا الإخبار أشار عليه السلام بقوله: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). معناه: تبارك المستحق هو ثناؤك على نفسك، والله تعالى مثنٍ على نفسه دائما أزلا وأبدا، ولا معنى للثناء إلا الإخبار، فهذا واجب حق لا ينكره إلا من لم يرتض بالعلوم العقلية الكلامية. قوله: " له أن يقول: الكلام هو القدر المشترك بين هذه الأقسام ". تقريره: أن الخبر: إسناد يحتمل التصديق والتكذيب بما هو خبر لا يفيد إضافته إلى مخبر خاص أو مخبر عنه خاص. والطلب: إسناد الاقتضاء في الفعل والترك إلى مكلف معين. والتخيير: هو إسناد التسوية إلى مخبر من المخاطبين، فصار الإسناد الذي هو المفهوم العام هو القدر المشترك بين أنواع الكلام، لكن المشترك لا يقع في الوجود إلا في أحد أنواعه، فعند أهل الحق وقع هذا الكلي في الأزل في الخبر وجوبا، وفي الطلب والتخيير جوازا بالنظر إلى ذلك الكلام؛ لأنه من الجائز على الله تعالى ألا يخلق العالم، وعلى هذا التقدير لا

(تنبيه) ما الفرق بين هذه المسألة وبين قولنا: لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع؟

يكون الله تعالى آمرا ولا ناهيا؛ فإن أمر المعدوم إنما يأتي على تقدير أن يوجد، وإذا كان الواقع في قدرة الله تعالى ومعلومه عدم إيجاد العالم استحال حينئذ أن يامر وينهى، وإنما يقع الأمر والنهي في الكلام إذا قدّر الله تعالى إيجاد العالم، ولما كان هذا التقدير من الجائزات كان تصور الأمر، والنهي في الكلام ليس من الواجبات، بل تابع لخلق الله تعالى العالم، وأما الخبر فواجب الوقوع قطعا؛ لأن الله تعالى واجب له العلم قطعا، وكل عالم مخبر عن معلوماته قطعا، فالله تعالى مخبر قطعا، وهذا أمر واجب، وليس له شرط جائز، فكان واجب الوقوع من جميع جهاته، أما الأمر والنهي، فإنما يصير واجبا من جهة واحدة، وهي أن الله تعالى سبقت مشيئته بإيجاد العالم، فتعلق الطلب والتخيير، فيعلم الله تعالى أنه علق أمره ببعض من يوجده من العالم، فصار تعلق الأمر واجبا لغيره من تعلق العلم وغيره، فتأمل هذا الموضوع فهو صعب دقيق لا يسعه أكثر العقول ولا تقبله، غير أني رأيت أن أنبه عليه رجاء أن يصادف أهله. وأما كلام هو قدر مشترك إلا في نوع من الأنواع فغير معقول، بل مستحيل بالضرورة، فإن أراد أن ثم نوعا آخر يثبت فيه الكلام فعليه بيانه، ونحن وراء منعه حتى يثبته، وإلا فالحق ما ذكرناه. (تنبيه) ما الفرق بين هذه المسألة وبين قولنا: لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع؟ فإن الأزل قبل ورود الرسل بالضرورة، وقد نفينا الأحكام قبل الرسل، وهاهنا أثبتناها في الأزل؟

(تنبيه) زاد سراج الدين فقال: لقائل أن يقول: المشترك إذا لم ينفك عن أحد القيود لزم من حدوثها حدوثه

وما الفرق أيضاً بين هذه وبين قولنا فيما سيأتي: المأمور إنما يصير مأمورا حالة الملابسة للفعل، وقد تقدم الجواب عند قولنا: لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع، وأن معناه أن الخطاب لما تعلق بما بعد البعث لا بما قبلها، فالمنفي تعلق الأحكام لا ذواتها، وهاهنا الذي ندعيه في الأزل ذواتها فلا تناقض. وعن الثاني سياتي، وقد تقدم بسطه أيضا أول الكتاب. (تنبيه) زاد سراج الدين فقال: لقائل أن يقول: المشترك إذا لم ينفك عن أحد القيود لزم من حدوثها حدوثه. وزاد التبريزي فقال: في الجواب عن أمر الإنسان وحده عبث، إن الإنسان قد يملأ صحائف - وحده - بالوصايا وأوامر ونواه يرجو بها إطلاع من يوجد بعده من ولده، أو من غيرهم فينتفع بها، ولا مأمور ولا منهي عنده، فكذلك هاهنا. ***

المسألة الثانية تكليف الغافل غير جائز للنص والمعقول

المسألة الثانية تكليف الغافل غير جائز للنص والمعقول قال الرازي: أما النص: فقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاث). وأما المعقول: فهو: أن فعل الشيء مشروط بالعلم به، إذ لو لم يكن كذلك، لما أمكننا الاستدلال بالأحكام على كون الله تعالى عالما، وإذا ثبت هذا، فلو حصل الأمر بالفعل حال عدم العلم به، لكان ذلك تكليف ما لا يطاق. واعلم أن الكلام في هذه المسألة يتفرع على نفي تكليف ما لا يطاق. فإن قيل: لا نسلم أن فعل الشيء مشروط بالعلم به، فإن الجاهل قد يفعله على سبيل الاتفاق. فإن قلت: " الاتفاقي لا يكون دائما، ولا أكثريا ". قلت: لا نسلم؛ فإن حكم الشيء حكم مثله، فلما جاز وجود الفعل مع عدم العلم به مرة واحدة؛ جاز أيضا ثانية وثالثة، فيلزم إمكان ذلك في الأكثر، ودائما. وإذا جاز ذلك، فلا استحالة في أن يعلم الله تعالى وقوع هذا الجائز في بعض الأشخاص. وإذا علم الله تعالى ذلك منه، لم يكن تكليفه بالفعل حالما لا يكون المكلف عالما به - تكليف ما لا يطاق، سلمنا ذلك؛ لكنه معارض بأمور: أحدها: أن الأمر بمعرفة الله تعالى وارد، فإما أن يكون ذلك الأمر واردا بعد حصول المعرفة؛ وذلك محال؛ لأنه يلزم الأمر: إما بتحصيل الحاصل، أو

بالجمع بين المثلين، وهو محال، أو قبل حصول المعرفة، لكن المأمور قبل أن يعرف الأمر، استحال منه أن يعرف الأمر، فإذن قد توجه التكليف عليه حالة ما لا يمكنه العلم بذلك، وهو المطلوب. الثاني: أن العلم بوجوب تحصيل معرفة الله تعالى ليس علما ضروريا لازما لعقول العقلاء وطباعهم، بل ما لم يتأمل الإنسان ضربا من التأمل لا يحصل له العلم بالوجوب، فنقول: علمه بوجوب الطلب: إما أن يحصل قبل إتيانه بالنظر، أو بعد إتيانه به: فإن حصل قبل إتيانه بالنظر، وهو قبل إتيانه بالنظر لا يمكنه أن يعلم ذلك الوجوب؛ لأن العلم بالوجوب مشروط بالإتيان بذلك النظر، وقبل الإتيان بذلك النظر، لو وجب عليه ذلك، لوجب عليه في وقت لا يمكنه أن يعلم كونه واجبا عليه، وذلك هو تكليف الغافل. وإن حصل بعد إتيانه بالنظر، فبعد الإتيان بالنظر، حصل العلم بالوجوب؛ فلو وجب عليه في هذا الوقت تحصيل العلم بالوجوب، لزم: إما تحصيل الحاصل، أو الجمع بين المثلين. الثالث: أن الصبي، والمجنون، والنائم غافلون عن الفعل، ثم إن أفعالهم توجب الغرامات والأروش. الرابع: قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43] خاطب السكران، والسكران غافل، فثبت أنه يجوز خطاب الغافل.

والجواب: نحن لا ندعي أن وقوع الفعل من العبد مشروط بعلمه به، بل ندعي أن اختيار المكلف فعلا معينا لغرض الخروج عن عهدة التكليف مشروط بالعلم به؛ وهذا معلوم بالضرورة، ولا يقدح فيه ما ذكرتموه. وأما المعارضة الأولى: فقد تقدم ذكرها في مسألة تكليف ما لا يطاق. وأما الثانية: فمن الناس من زعم أن العلم بوجوب النظر ضروري، وهذا ضعيف؛ لأن العلم بكون النظر في الإلهيات مفيدا للعلم، وبكونه معينا في ذلك من أغمض المسائل وأدقها؛ لأن جمهور العقلاء، وإن ساعدوا على كون النظر مفيد للعلم في الجملة، كما في الحسابيات، والهندسيات، لكنهم نازعوا في كون النظر مفيدا للعلم في الإلهيات، وزعموا أن النظر فيها لايفيد إلا الظن. ومن سلم ذلك، فقد قالوا: كما أن النظر يفيد العلم، فغيره أيضا قد يفيده؛ وهو تصفية الباطن. وإذا كان العلم بوجوب النظر موقوفا على هذين المقامين النظريين، والموقوف على النظري أولى أن يكون نظريا؛ فثبت أنه لايمكن ادعاء الضرورة في ذلك. واعلم أن هذه الحجة تؤيد القول بتكليف ما لا يطاق. وأما وجوب الغرامات: فمعناه: إما خطاب الولي بأدائها في الحال، أو خطاب الصبي بعد صيرورته بالغا بأدائها. وأما الآية: فلها تأويلان: أحدهما: أنها خطاب مع من ظهرت منه مبادئ النشاط والطرب، وما زال

المسألة الثانية تكليف الغافل غير جائز

عقله، وقوله: {حتى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43] معناه: حتى يتكامل فيكم الفهم، كما يقال للغضبان: اصبر حتى تعلم ما تقول، أي: حتى يسكن غضبك، وهذا؛ لأنه لا يشتغل بالصلاة إلا مثل هذا السكران، وقد يعسر عليه إتمام الخشوع. الثاني: أنه ورد الخطاب به في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر، وليس المراد المنع من الصلاة، بل المنع من إفراط الشرب وقت الصلاة، كما يقال: لا تقرب التهجد، وأنت شبعان، أي: لا تشبع، فيثقل عليك التهجد، والله أعلم. المسألة الثانية تكليف الغافل غير جائز

لقوله عليه السلام: (رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى ينتبه، والمجنون حتى يفيق، والصبي حتى يحتلم). تقريره: أن التكليف يعبر عنه بالكتابة من مجاز السببية؛ لأن المكتوب ثابت كما يتقرر الواجب، ومنه قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص} [البقرة: 178]، لم يعبر عن الكتابة بالقلم من مجاز المجاز، والعلاقة في الأول المشابهة فيكون مستعارا، وفي الثاني التعبير بالسبب عن المسبب؛ لأن القلم سبب الكتابة، فلا استعارة، بل من المجاز الذي ليس بمستعار، " فرفع القلم " رفع التكليف. (سؤال) الذي في الحديث: الجنون، والنوم، وهما نوعان عظيمان في الغفلة بالنسبة إلى مطلق الغفلة التي تحصل للمستيقظ العاقل، ولا يلزم من سقوط التكليف العذر القوي سقوطه لما هو أضعف منه، فلا يتناول الحديث مطلق الغافل الذي هو المدعي. قوله: " فعل الشيء مشروط بالعلم به ". قلنا: ذلك هو الأمر الحقيقي الذي هو نقل الممكن من حيز العدم إلى حيز الوجود، وأما الفعل بالأسباب العادية والمضاف إلى المحال التي أجرى الله

تعالى العادة أن يخلق الفعل فيها، فلا يشترط فيها العلم؛ لأن الفاعل من يقال له في اللغة: (فاعل)، وإن كان غير ناطق، ولا من ذوي الفكرة، كما يفعل النحل الأبيات المسدسة في الصنعة الغريبة في الهندسة مع أنها لاتوصف بالعلم فضلا عن العلم بهذه الهندسة الدقيقة، وكذلك عجائب تظهر من الحيوانات، والعبد المأمور لا يطلب منه اختيار الوجود، بل الكسب العادي، نعم ينبغي أن يقال: إن العبادات المفتقرة للنيات تتوقف على العلم؛ لأن ما لا شعور به يستحيل قصده، وأما ما لا تكون النية شرطا فيه كرد الغصوب، والودائع، ودفع الديون والنفقات فلا. قوله: " حكم الشيء حكم مثله، فإذا وقع الفعل من الفاعل مرة وقع مرارا؛ لأن كل مرة مساوية لتلك المرة الواحدة التي وقعت ". قلنا: حكم الشيء حكم مثله في العقليات، أما في العاديات فقد تقضي العادة بأن الشيء لا يقع إلا نادرا كالغيم الرطب في الشتاء في البلاد الشمالية عدم إمطاره نادرا، فلو صح ما قلتموه لم تمطر أبدا، ولم ير الماء أبدا؛ لأنه قد لا يروى على الندرة، ولا تحرق النار أبدا، فقد عدم إحراقها في حق الخليل عليه السلام ونظائره كثيرة. فعلمنا حينئذ أن ذلك إنما هو في العقليات، أما في العاديات فلا. سلمنا وقوع الإتفاقي من الإنسان دائما، لكن لا نسلم أن التكليف بذلك الواقع منه تكليف بما لا يطاق. بيانه: وذلك أنه لا يلزم من كون الشيء واقعا أن يكون مكتسبا مقدورا؛ فإن النازل وقد رمي من شاهق، النزول واقع منه، وليس مكتسبا، بل لو كلف بالنزول كان غير مكتسب؛ لأن من شرط المكتسب أن يكون للفاعل فيه اختيار في جلبه ودفعه، والنازل لا يقدر على دفع النزول عنه، كذلك الفعل الاتفاقي لا إرادة فيه، فهو غير مكتسب، فالتكليف به تكليف بما لا يطاق؛

لأن معناه: ليكن لك صنع واختيار فيما ليس لك فيه صنع واختيار، وهو جمع بين النقيضين. قوله: " الأمر بمعرفة الله تعالى وارد ". قلنا: قد تقدم الجواب عنه في تكليف ما لا يطاق. قوله: " العلم بوجوب تحصيل معرفة الله تعالى لا يحصل إلا بالنظر، وقبل النظر لا يكون عالما بذلك، فيلزم تكليف الغافل ". قلنا: مذهب أهل الحق أن وجوب النظر لا يتوقف إلا على الممكن، فإذا تمكن فهو تجوز أن له ربًّا يوجب عليه تحصيل معرفته، وإن تركها استحق العقاب، وإن فعلها استحق الثواب، ويجوز ألا يكون كذلك، ومقتضى النظر الأول هو في الفطرة الأولى أن الأحوط في هذا الأمر العظيم الفحص والنظر في حقيقته، فينظر قبول البحث إلى أنه واجب بنظر لا يعرى عنه طبع مستقيم بما هو تكليف العاقل، بل عالم بمواقع النظر والفكر في ذلك. قوله: " وإن حصل بعد إتيانه النظر حصل العلم بالوجوب ". تقريره: أن أهل الرياضيات قالوا: إن إصلاح الأغذية، وتعديل الأمزجة، والانقطاع عن الخلق في الخلوة، واجتناب الفكر، وموارد الغير بخلو النفس إن كان لها استعداد لذلك، فيصير كالمرآة الثقيلة يظهر فيها صور المعلومات، فتحصل العلوم بغير نظر، ومن ذلك المكاشفات، وإذا ثبت أن العلم طريق آخر، والقاعدة أن المطلب متى كان له وسيلتان فأكثر لا يجب سلوك إحديهما، كما أن الجامع لو كان له طريقان مستويان لا يجب سلوك أحدهما يوم الجمعة عينا. قوله: " الجواب عن الآية ".

(سؤال) قال النقشواني: في تكليف الغافل أقرب من تكليف المعدوم، فكيف جوزتم تكليف المعدوم، ومنعتم تكليف الغافل؟

تقرير الجواب عنه: أن القاعدة الشرعية أن الخطاب متى ورد بشيء غير مقدور، أو في حالة غير مقدورة، فيتعين حمله على سببه، أو ثمرته. مثال السبب: قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1]، والطلاق تحريم، والتحريم حكم الله تعالى لا مدخل للمكلف في إيجاده، فيتعين سببه، وكذلك قوله تعالى: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران:102] أي تسببوا في ذلك. والثمرة: كقوله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور: 2]، أي لا تنقصوا الحد؛ لأن الرأفة الطبيعية لا يمكن اجتنابها، وقوله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن} [الحجرات: 12]، أي: لا تتحدثوا به، ولا ترتبوا عليه مقتضاه حتى يثبت؛ لأن الظن يهجم على النفس عند وجود أسبابه، فلا يمكن النهي عنه، كذلك هذه الآية، معناه لا تتعاطوا السبب المفضي إلى أن تأتوا الصلاة وأنتم سكارى نهي من القسم الأول. (سؤال) قال النقشواني: في تكليف الغافل أقرب من تكليف المعدوم، فكيف جوزتم تكليف المعدوم، ومنعتم تكليف الغافل؟ جوابه: أن المعدوم قلنا: تكليف بمعنى أنه تعلق به الخطاب في الأزل على تقدير وجوده، وبعث إليه الرسل، ويعلم خطاب الله تعالى في الأزل على تقدير وجوده. ومرادنا هاهنا: أن الغافل لا يخاطب في زمان غفلته أي: لا يكون تركه للفعل زمان الغفلة موجبا للمؤاخذة لغير الغافل، وما وراءه إلا تكليف المعدوم حالة العدم، ويكون الترك حالة العدم موجبا للعقوبة، وهذا لم يقل به أحد.

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: الدهري مكلف بالإيمان، وهو لا يعرف التكليف، فكيف يفهم التكليف؟

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: الدهري مكلف بالإيمان، وهو لا يعرف التكليف، فكيف يفهم التكليف؟ وأجاب عنه أن المعتبر عندنا التمكين من الفهم، وهو متمكن بواسطة النظر فيه. وزاد في تقرير الحديث: أن الرفع يستدعي الإمكان؛ لأنه لا يقال: رفع القلم عن الجماد. وأجاب عنه: بأن الحديث دليل عدم الوقوع، وهو أحد طرفي النزاع، وإنما صح الرفع مع عدم الجواز؛ لأن الحكم على ذي الصفة ليس حكما بشرط الصفة، وإلا لما انتظم قوله: " حتى يفيق، وحتى يبلغ "، ولا صح قولنا: " سكن المتحرك "؛ فإن المتحرك لا يسكن وهو متحرك، وحينئذ نقول: المقول فيه نائم أو مجنون كان مكلفا، وهو بصدد التكليف لولا النوم والجنون، وقد انقطع عنه التكليف عند النوم والجنون، فصح أن يقال: " رفع عنه القلم " بخلاف الجماد. وأجاب عن تضمين الصبيان: أنه من باب ربط الأحكام بالأسباب، وهو من باب خطاب الوضع لا من باب خطاب التكليف، ولا مانع منه. قلت: قوله: في الحديث دليل على عدم الوقوع، وهو أحد طرفي النزاع يقتضي أن النزاع وقع في جواز هذه المسألة وفي وقوعها والأمر كذلك؛ لأنها من باب تكليف ما لا يطاق، والخلاف في جوازه ووقوعه، ولم يتعرض له المصنف وغيره حكاه. وقوله: " المجنون بصدد التكليف ".

إشارة إلى قاعدة وهي أن العرب تجعل القائل للشيء كالمتصف به، وورد القرآن الكريم منه مواضع، منها: قوله تعالى: {وما يكون لنا أن نعود فيها} [الأعراف: 89] مع أنهم لم يكونوا في الملة الكافرة، والعود فرع الكون، وكذلك قولهم: {أو لتعودن في ملتنا} [الأعراف: 88]، لكن لما كان الناشيء بين قوم كفار شأنه أن يكون على ملتهم بمقتضى العادة، فهم قائلون لذلك من هذا الوجه جعلوا كالمتصفين بذلك، باعتبار إطلاق لفظ العود. ومنها: قوله تعالى: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} [السجدة: 20] مع أنهم لم يخرجوا منها حتى يتصور العود، لكن لما كانوا في غاية بذل الجهد في الخروج منها كالخارجين منها؛ لأن ذلك شأن المجتهد. ومنها: قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة} [البقرة: 175] وشأن البائع أن يكون حائزا لما باعه، وهم لم يهتدوا قط، ولا غفر لهم، لكن لما كانوا متمكنين من ذلك عوملوا معاملة المتصفين به، وكذلك - هاهنا - جعل المجنون والنائم لأجل القبول، كأنه وقع له التكليف ثم رفع. وقوله: " خطاب الوضع غير خطاب التكليف ". معناه: أن خطاب الوضع الذي تقدم بسطه أول الكتاب لا يشترط فيه علم المكلف ولا قدرته، فذلك يورث بالأسباب، ويطلق بالاعتبار، والإصرار مع عدم العلم وعدم القدرة، وخطاب التكليف يشترط فيه العلم بالخطاب، والقدرة على فعل المكلف به، وكونه مكتسبا، وقد تقدم بسط هذه المباحث أول الكتاب عند قوله: لله تعالى في الزاني حكمان. وإذا كان التضمين من باب خطاب الوضع، فلا يضر عدم العلم، لكن كلامه يقتضي أنه سلم أن الصبي مخاطب، وكلام المصنف يقتضي أن المخاطب هو الولي، وهو الصحيح.

المسألة الثالثة قال الرازي: في أن المأمور يجب أن يقصد إيقاع المأمور به على سبيل الطاعة

المسألة الثالثة قال الرازي: في أن المأمور يجب أن يقصد إيقاع المأمور به على سبيل الطاعة. المعتمد فيه قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات " قالوا: ويستثنى منه شيئان: أحدهما: الواجب الأول وهو: النظر المعرف للوجوب؛ فإنه لا يمكن قصد إيقاعه طاعة، مع أن فاعله لا يعرف وجوبه عليه إلا بعد إتيانه به. الثاني: إرادة الطاعة؛ فإنها لو افتقرت إلى إرادة أخرى، لزم التسلسل. المسألة الثالثة المأمور يجب أن يقصد إيقاع المأمور به على سبيل الطاعة تمهيد قال القرافي: الشريعة ثلاثة أقسام: مأمورات. ومنهيات. ومباحات. والقسمان الآخران لا يحتاجان إلى النية؛ لأن المنهي عنه يخرج الإنسان عن عهدته بمجرد تركه، وإن لم يشعر به، فضلا عن القصد إليه يعم الثواب على تركه، إنما يحصل بالقصد للقرينة بتركه. والمباحات فعلها أو تركها لا عهدة فيها، فلا يحتاج إلى النية، كرد الغصوب. [ص 1630]

(قاعدة) التصرفات ثلاثة أقسام

والمأمورات قسمان: منها ما صورها كافية في تحصيل مصالحها، فلا يحتاج إلى النية، كرد الغصوب، ودفع الديون، ونفقات الزوجات والرقيق والأقارب والبهائم، ورد الودائع، ونحو ذلك؛ فإن صورة دفع المال كافية في تحصيل المصلحة المقصودة منه، فإذا دفع بغير نية لا نقول له: لم يجز عنك فأعط مرة أخرى، بل الآخذ انتفع بما أخذه، قصد الدفع أم لا، ومن ذلك النية، فإنها مأمور بها، ومقصودها التمييز، وهو حاصل لها لذاتها، فلا تفتقر إلى قصد يصيرها متميزة لاستحالة وقوعها غير متميزة، فلا جرم استغنيت عن النية لذلك، ولا حاجة إلى التعليل؛ لأنها لو احتاجت النية إلى نية أخرى لزم التسلسل. ومنها ما لا يكفي تصورها في تحصيل مصالحها كالعبادات؛ فإن مقصودها تعظيم الله تعالى، والتعظيم لا يكون إلا مع القصد؛ فإنك إذا صنعت طعاما لمن تقصد إكرامه، فأكله غير من قصدته فإنك لا تعد معظما له، فإذا لم يقصد الله سبحانه وتعالى بهذه العبادة لا يكون الله سبحانه وتعالى معظما بها، فلا جرم لم تحصل مصالحها إلا بالنية فافتقرت إلى النية، فهذا ضابط ما يحتاج إلى النية مما لا يحتاج. (قاعدة) التصرفات ثلاثة أقسام: منها ما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى، واشترط فيه القصد. ومنها ما لا يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى، فلا يشترط فيه القصد. ومنها ما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى، ولم يشترط فيه القصد. مثال الأول: العبادات. [ص 1631]

مثال الثاني: بعض الواجبات، وهو النظر الأول المفضي إلى إثبات العلم بالصانع؛ فإنه قد أجمعت الأمة على أنه واجب لا يمكن التقرب به؛ لتعذر ذلك من جهة أن الفاعل قبل فعله له يتعذر عليه أن يعلم أن له ربا يتقرب إليه، ولبعضهم فيه بحث قد ذكرته في كتاب " الأمنية في إدراك النية " مثال الثالث: الديون، ورد الودائع، وما ذكره معها، ويمكن أن ينوي بها التقرب. وكذلك المباحات يمكن أن يقصد بها التقرب كما قال معاذ بن جبل: " إني لآثاب على نومتي كما أئاب على قومتي "؛ لأنه كان يقصد بنومه الاستعانة. إلى الله تعالى، كالاستعانة بالنوم على الطاعة، فظهر بهذا البحث أن هذه المسألة ليست على إطلاقها. ***

المسألة الرابعة في أن المكره على الفعل، هل يجوز أن يؤمر به ويتركه؟

المسألة الرابعة في أن المكره على الفعل، هل يجوز أن يؤمر به ويتركه؟ المشهور: أن الإكراه إما أن ينتهي إلى حد الإلجاء، أو لا ينتهي إليه: فإن انتهى إلى حد الإلجاء، امتنع التكليف؛ لأن المكره عليه يعتبر واجب الوقوع، وضده يصير ممتنع الوقوع، والتكليف بالواجب والممتنع غير جائز. وإن لم ينته إلى حد الإلجاء، صح التكليف به. ولقائل أن يقول: الإكراه لا ينافي التكليف؛ لأن الفعل: إما أن يتوقف على الداعي، أو لا يتوقف: فإن توقف، فقد بينا فيما تقدم: أنه لابد من انتهاء الدواعي إلى داعية تحصل فيه من قبل غيره، وأن حصول الفعل عند حصول تلك الداعية واجب؛ فحينئذ يكون التكليف تكليفا بما وجب وقوعه، أو بما امتنع وقوعه، وإذا جاز ذلك؛ فلم لا يجوز مثله في الإكراه؟ وأما إن لم يتوقف على الداعي، كان رجحان الفعل على الترك أو بالعكس اتفاقيا، والإتفاقي لايكون باختيار المكلف، وإذا جاز التكليف هناك مع أنه ليس باختيار المكلف؛ فلم لا يجوز مثله في الإكراه؟ فإن قلت: ما الذي أردت بكون الفعل اتفاقيا؟ إن عنيت به: أنه حصل لا بقدرة القادر، فهو ممنوع؛ وذلك لأن المؤثر فيه

شرح القرافي: قلت: جمهور الناس على أن الإكراه لا يبيح المحرمات

عندنا هو القادر، لكن القادر عندنا يمكنه أن يرجح أحد مقدوريه به على الآخر، من غير مرجح، وإن عنيت به أمرا آخر، فلابد من بيانه: قلت: الرجل كان موصوفا بكونه قادرا على هذا الفعل، مع أن هذا الفعل ما كان موجودا، فلما وجد هذا الفعل: فإما أن يكون؛ لأنه حدث أمر آخر وراء كونه قادرا الذي كان حاصلا قبل ذلك، أو ليس كذلك: فإن حدث، كان حدوث الفعل عن القادر متوقفا على أمر آخر، سوى كونه قادرا، وقد فرضناه ليس متوقفا عليه؛ هذا خلف. وإن لم يحدث البتة أمر، كان حدوث هذا الفعل في بعض أزمنة كونه قادرا دون ما قبله وما بعده - ليس لأمر حصل في جانب القادر حتى يؤمر به، أو ينهى عنه، بل كان ذلك محض الاتفاق؛ فيكون في هذه الحالة تكليفا له بما ليس في وسعه؛ وإذا ثبت ذلك، بطل قولهم: المكره غير مكلف. واعلم أن هذه القاعدة قد ذكرناها في هذا الكتاب مرارا، وسنذكرها بعد ذلك، وما ذاك إلا لأن أكثر القواعد مبني عليها، ولا جواب عنها إلا بتسليم أنه يفعل الله ما يشاء، ويحكم ما يريد. المسألة الرابعة المكره على الفعل قال القرافي: قلت: جمهور الناس على أن الإكراه لا يبيح المحرمات من

.............................................................

الأفعال، بخلاف الأقوال، كالنطق بكلمة الكفر، ونحو ذلك من الطلاق، والعتاق، وأنواع العقود، فإنها يسقط اعتبارها بالإكراه المشروع سببا. وأما الأفعال إن تعلق بها حق آدمي فلا خلاف عند المالكية، وما أدرى هل خالف فيه غيرهم أم لا؟ لأنه لا يباح بالإكراه، ويكون مكلفا بتحريم ذلك، وإن تمحض الحق فيه لله تعالى، كشرب الخمر ففيه خلاف، والمشهور المنع. والفرق عند الجمهور بين الأفعال والأقوال: أن الأفعال تتضمن المفاسد، فلا تباح بالإكراه، والأقوال إذا ألغينا عنها مقتضياتها لا يبقى فيها مفسدة، فتباح بالإكراه، كالبيع مثلا، وأما الزنا وشرب الخمر، فإن النسب يختلط، والعقل يفسد ولا يمكن استدراك ذلك بخلاف الأقوال. وقال الغزالي في (المستصفى): المكره يجوز أن يدخل تحت التكليف دون المجنون؛ لأن الخلل هناك في المكلف، لا في المكلف به.

(تنبيه) المكره له حالتان

وقال الإمام في (البرهان): أهل الحق يجوزون تكليفه بفعل المأمورات، وترك المنهيات. ومنعت المعتزلة تكليفه على وفق الإكراه، وجوزواالتكليف على خلاف الإكراه، كما يحرم عليه قتل من أكره على قتله. وفرقت الحنفية بين الإقرار بالأسباب وبين إنشائها، فلا يؤثر عندهم في الإقرار، بخلاف الإنشاء يؤثر فيه. والفرق: ان الإقرار ليس هو سببا في نفسه، بل دليل السبب، أما السبب إذا قارنه المانع الذي هو الإكراه لا يعتبر، وفي الإقرار ما تعين صفة السبب، فهذه نبذ من الخلاف في الإكراه. قوله: " الإكراه لا ينافي التكليف؛ لأن الفعل إما أن يتوقف على الداعي أو لا يتوقف، وإنما يكون الفعل إما واجبا او ممتنعا ". قلنا: الوجوب الناشئ عن الداعية وعدمها يوجب تعذر الفعل عقلا، ولا يمتنع الاختيار فيه عادة، ولا مدح فاعله وذمه، وأما الإكراه فيمنع الإختيار في الفعل عادة، وتعذر بالإقدام عليه نفيا للمفسدة العظيمة الناشئة من الإكراه، بخلاف الوجوب العقلي الناشئ عن العلم والداعية، وغير ذلك، وقد تقدم الكلام على هذه المقامات في مسألة الحسن والقبح. (تنبيه) المكره له حالتان: حالة لا اختيار له فيها، كمن يحمل ويدخل في الدار، فهذا لا خلاف أنه لا يتعلق به حكم من التكاليف.

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: تكليف المكره على وفق الإرادة وعلى خلافها جائز

وتارة يكون مختارا، وهو المهدد بالمؤلمات، فإنه يختار الدفع للمفسدة العليا بالتزام المفسدة الدنيا، فهو مختار بالضرورة، وهو مستند الحنفية في قولهم: إنه مكلف؛ لأنه باختياره ترك ضد ما أكره عليه. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: تكليف المكره على وفق الإرادة وعلى خلافها جائز؛ لأن الإرادة لا تنافي الاستطاعة، فلا تنافي التكليف. بيان الأول من وجوه: الأول: أن فعل المكره في نظر العقلاء إمساك للمكره، ولهذا أوجب سقوط العقوبة، وتركه مخالفة، ولهذا لا ينتظم الاعتذار في تحقيق الوعيد. الثاني: أن المكره مكلف، وتكليف من لا استطاعة له مع العلم به سفه. الثالث: أن اإكراه حمل على الفعل بربط محذور يوجب العقل اجتنابه بالترك حتما، أما قولا كالتهديد بالقتل، أو فعلا كالضرب، فامتثال المكره فيه جرى على موجب النظر الصحيح، فيدل على الاختيار، كما لو كان لازما منه بإجراء الله تعالى العادة؛ فإنه يجب فعله شرعا وعقلا، ولو كان الانبعاث خوف لزومه سالبا للخيرة لم يختلف الحال بأن يكون لزومه بحكم العادة، أو حكم الاتفاق. ويدل على صحته تكليف أحكام اجتماعية: الأول: وجوب الإتيان بكلمة التوحيد تحت ظلال السيوف، ووجوب إفطار الصوم، وترك الصلاة به.

والثاني: تحريم الزنا والقتل عليه، اعنى المكره. والثالث: إباحة التلفظ بكلمة الكفر، وتناول الخمر، وإتلاف مال لغيره. قال: وهذه المسألة من فروع امتناع تكليف ما لا يطاق. قلت: أما قوله: " لا إكراه على وفق الداعية "، فهذا غ متصور، بل لا يتصور الإكراه المشار غليه في هذه المسألة إلا على خلاف الداعية، فإن أراد أن يطلق لفظ الإكراه على غير المراد هاهنا، فلا معنى له في هذه المسألة؛ لأنا نتكلم في شيء خاص اتفقنا على تسميته إكراها. وقوله: " المكره مكلف " أي من جهة الذي أكرهه. وقوله: " كما لو كان لازما منه " أي المحذور لازم من الفعل أو الترك، كالسم فإن القتل لازم منه، وكذلك ترك أكل الميتة، " فيجب الأكل عقلا وشرعا " كما قال: وقوله: " الإتيان بكلمة التوحيد تحت ظلال السيوف " يريد الحربي دون الذمي، ففيه خلاف. قال مالك: لا نسلم، فيصح عنده إسلام الذمي كرها. وحكى عن الشافعية صحته. وقوله: " وجوب إفطار الصوم، وترك الصلاة " يريد إذا اضطره العذر الموجب لإتلاف نفسه أو عضو من أعضائه. وقوله: " تحريم الزنا والقتل " قد تقدم حكاية الخلاف في الإكراه على مجرد حق الله تعالى، ومنه الزنا، فجعله في المجمع عليه لا يستقيم. ***

المسألة الخامسة قال الرازي: ذهب اصحابنا إلى أن المأمور: إنما يصير مأمورا حال زمان الفعل، وقبل ذلك، فلا أمر

المسألة الخامسة قال الرازي: ذهب اصحابنا إلى أن المأمور: إنما يصير مأمورا حال زمان الفعل، وقبل ذلك، فلا أمر؛ بل هو إعلام له؛ بأنه في الزمان الثاني سيصير مأمورا به، وقالت المعتزلة: إنه إنما يكون مامورا بالفعل قبل وقوع الفعل. لنا: أنه لو امتنع كونه مأمورا حال حدوث الفعل، لامتنع كونه مأمورا مطلقا؛ لان في الزمان الأول، لو أمر بالفعل، لكان الفعل: إما أن يكون ممكنا في ذلك الزمان، أو لا يكون: فإن كان ممكنا، فقد صار مأمورا بالفعل حال إمكان وقوعه. وإن لم يكن ممكنا، كان مأمورا بما لا قدرة له عليه؛ وذلك عند الخصم محال. فإن قلت: إه في الزمان الأول مأمور لا بأن يوقع الفعل في عين ذلك الزمان؛ بل بأن يوقعه في الزمان الثاني كنه: قلت: قولك: " إنه في الزمان الأول مأمور بأن يوقع الفعل في الزمان الثاني " إن عنيت به؛ أن كونه موقعا للفعل لا يحصل إلا في الزمان الثاني، ففي الزمان الأول: لم يكن موقعا ألبتة لشيء، وليس هناك إلا نفس القدرة؛ فيمتنع أن يكون في ذلك الزمان مأمورا بشيء. وإن عنيت به؛ أن كونه موقعا - يحصل في الزمان الأول، والفعل يوجد في الزمان الثاني، فنقول: كونه موقعا: إما أن يكون نفس القدرة، أو أمرا زائدا عليها: فإن كان نفس

شرح القرافي: المسألة الخامسة إنما يصير المأمور مأمورا في حالة زمان الفعل

القدرة، لم يكن لكونه موقعا للفعل معنى إلا محض كونه قادرا؛ فيعود القسم الأول. وإن كان أمرا زائدا عليها، فحينئذ تكون القدرة مؤثرة في وقوع ذلك الزائد في الزمان الأول، والأمر إنما توجه عليه في الزمان الأول؛ بإيقاع ذلك الزائد، وذلك الزائد واقع في الزمان الأول؛ فالآمر لا يكون آمرا بالشيء إلا حال وقوعه لا قبله. احتج الخصم بأن المأمور بالشيء يجب أن يكون قادرا عليه، ولا قدرة على الفعل حال وجود الفعل؛ وإلا لكان ذلك تحصيلا للحاصل؛ وهو محال. فعلمنا أن القدرة على الفعل متقدمة على الفعل، والأمر لا يتناول إلا القادر، والرجل لا يصير مأمورا بالفعل إلا قبل وقوعه. والجواب: القدرة مع الداعي مؤثرة في وجود الفعل، ومستلزمة له، ولا امتناع في كون المؤثر مقارنا للأثر، كما في سائر المؤثرات الموجبة، والله أعلم. المسألة الخامسة إنما يصير المأمور مأمورا في حالة زمان الفعل قوله: " وقبل ذلك فلا أمر، بل هو إعلام بأنه يصير في الزمان الثاني مأمورا ".

تقريره: أن هذه المسألة في غاية الإشكال والغموض، وعبارة الكتاب فيها غير مفصحة عن مقصودها.

فأقول: اللغة إنما وضعت لطلب الممكن، وإن قلنا بجواز تكليف مالا يطاق، فذلك بالنسبة إلى أحكام الربوبية لا بالنسبة إلى أحكام اللغة، وإذا كان الأمر إنما وضع لطلب التمكين، والفعل إنما يكون ممكنا في زمان ليس في عدمه، وإلا لاجتمع النقيضان. فحينئذ ما طلب الفعل إلا في زمان الملابسة لا قبله ولا بعده؛ ولأن القدرة عندنا عرض، والعرض لا يبقى زمانين، والقدرة إنما توجد عندنا زمان الملابسة، دائما يكون الفعل ممكنا حالة الملابسة، وقبله مستحيل عادة، فلا يؤمر غلا حالة الملابسة؛ ولأن المأمور به لا بد أن يكون محدثا، والفعل المحدث مسبوق بعدم لا أول له، وملحوق بعدم لا آخر له، والطلب لا يتعلق بالعدم السابق ولا بالعدم اللاحق؛ لأن الأمر ترجيح الفعل الذي هو طرف الوجوب، فيتعين زمان الحدوث، وقد أمر المكلف أن يحصل الفعل في الزمان الذي يلي زمان ورود الصيغة، وإن قلنا: إن الأمر للفور، فإن لم يفعل أمر بتحصيله في الزمن الذي يليه، وأثم بسبب التأثير، وهلم جرا في الأزمان المستقبلة إلى حين الموت، فيكون التكليف واقعا في أول أزمنة الوجود كما تأخر ذلك الزمان تأخر التكليف معه، ولا يثبت قبله، وإن كان ثابتا قبل تحقيق التأخير، فيصدق أنه مكلف قبل زمان الملابسة لأجل التأخير، وليس مكلفا بما قبل زمان الملابسة باعتبار متعلق الأمر أولا، ولا تناقض بينهما، وهذا هو مقصود المسألة وهو المدعي فيها. وقالت المعتزلة: لا يتعلق الأمر بالفعل زمن الملابسة؛ لأنه أول أزمنة الوجود، وأول أزمنة الوجود الفعل فيه موجود، فلو تعلق الأمر به حينئذ لكان طلب إيجاد الموجود، وهو محال، فيتعين أن يتعلق بالفعل قبل زمن الملابسة، وهو زمن العدم. ونحن نجيب عن تحصيل الحاصل: بأن من شرط تحصيل الحاصل تعدد.

الزمان بأن يكون الشيء موجودا في زمان وبعد تحققه يطلب في الزمان الثاني وجوده في غير الزمان الأول، فهذا هو تحصيل الحاصل، بل التأثير والقدرة إنما يتعلق بالآثار في زمن الحدوث، فلو كان ذلك تحصيل الحاصل، ويلزم المعتزلة اجتماع النقيضين؛ فإن الأمر إذا تعلق بالفعل في زمان العدم، فيلزم إيجاد الفعل في زمان عدمه، فيجتمع الوجود والعدم وهما النقيضان. فعلى مذهبنا ينقطع تعلق الأمر بانقضاء زمن الحدوث، وعلى مذهب المعتزلة ينقطع قبل ذلك بأول أزمنة الحدوث، فعلى هذا في الزمن السابق على زمن الحدوث قولان في تعلق الأمر: نحن ننفيه، والمعتزلة يثبتونه. وفي زمن الحدوث قولان في التعلق: نحن نثبته، والمعتزلة ينفونه. فهذا تلخيص المسألة. فإن قلت: إذا قلتم: إن الأمر إنما يتعلق بالفعل زمن الحدوث، والمكلف إنما يصير مأمورا حينئذ. فقبل ذلك لا يكون مأمورا، فكل من لم يتصف بمباشرة الفعل لا يكون عاصيا؛ لأن زمن الملابسة لم يوجد الذي هو موجب تعلق الأمر وصيرورته مأمورا، وإبطال المعصية عن العصاة خلاف الضرورة والإجماع. قلت: ليس حصول زمن الملابسة شرطا في تعلق الأمر، بل الأمر متعلق من الأزل فضلا عما قبل زمن الحدوث، وإنما البحث هاهنا عن صفة ذلك التعلق المتقدم لا تعلق في الأزل كيف تعلق؟ وهل تعلق بالفعل زمن الملابسة أو قبله؟ فالتعلق سابق، والطلب محقق، والمكلف مأمور بأن يعمر زمانا بوجود الفعل بدلا عن عدمه وهو زمن الملابسة، إذا لم يفعل ذلك في

الزمان الأول أمر بذلك في الزمن الثاني، كذلك إلى آخر العمر إذا كان الأمر موسعا، وإن كان على الفور فهو مأمور بأن يجعل الزمن الذي يلي الأزمان حدوث الفعل، فإن لم يفعل ذلك فهو عاص. فزمن الملابسة ذكره لبيان صفة التعلق لا لأنه شرط في التعلق، وإنما يلزم نفي العصيان أن لو كان شرط التعليق. وقوله: " المتقدم قبل ذلك إعلام لا أمر ". معناه: أنه إعلام بأنه مأمور زمن الملابسة، ونعني بالإعلام الإعلام الذي يصحب الأمر على سبيل اللزوم، كما يقول: كل من أمر شخصا فقد لزم أمره خبر لزومي أنه يعاقبه إذا لم يفعل، فكل أمر أو خبر لزومي لا يدخله التصديق والتكذيب، وكذلك النهي والإباحة يلزم كل واحد خبر في الأزل بالعقاب على تقدير الترك، وفي الإباحة با، هـ لا حرج عليه في النقيضين. أما الأعلام الصرف فليس هو مراده، وبذلك تأكدت من أن العبارة غير مفصحة عن حقيقة المسألة. ونظيرها من حيث التمثيل انك إذا قلت لعبدك: أسرج الدابة عند الزوال صدق عليك الآن أنك أمرته، وأن العبد مأمور، وأن الطلب إنما تعلق بفعل عند الزوال لا قبله، والكائن قبل ذلك إعلام بأنه يصير مأمورا إذا جاء الزوال، وهو من أهل التكليف، فزمن الزوال زمن الملابسة، وما قبل الزوال هو مماثل لما قبله من أزمنة العدم، فتأمل هذه التقريرات فهي غامضة، وإذا فهمتها ظهر لك الفرق بين هذه المسألة، وبين قولنا: المكلف مأمور في الأزل وهو معدوم قبل وجوده، وقبل وجود الفعل، وبين قولنا: لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع؛ فإن هذه المسائل متناقضة الظاهر، وقد تقدم الجواب عنها في أن المعدوم مأمور، ولا حكم للأشياء قبل ورود الشرع، وبهذه المباحث يظهر لك ذلك من جهة أن البحث في هذه المسألة في زمن التعلق.

وصفته، وفي المعدوم مخاطب، أي الأمر في الأزل متعلق لطلب الفعل من المكلف غذا وجد زمن حدوث الفعل، ولا حكم للأشياء قبل ورود الشرع، أي لم يتعلق الخطاب بالناس قبل البعثة، بل هو إنما كان قائما في الأزل، فإنما تعلق بهم إذا بعثت الرسل بعد البعثة. فاجتمعت المسائل، وما أعلم في مسائل أصول الفقه أصعب من هذه المسألة، ولا أصعب من تقريرها للمتعلمين. وقد صرح سيف الدين بخلاف عبارة المصنف فقال: اتفق الناس على جواز التكليف قبل حدوثه، سوى شذوذ من أصحابنا، وعلى امتناعه بعد حدوث الفعل. واختلفوا في جواز تعلقه في أول زمان حدوثه: فأثبته أصحابنا، ونفاه المعتزلة. فنقل الخلاف في التعلق لا في كونه أمرا متقدما، ولم يذكر الإعلام أصلا. وقال المازري في (شرح البرهان): إن [مذهبنا] تعلق الأمر بالفعل قبل وجوده وحال وجوده تعلقا متساويا، ثم اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: " هما سواء والأمر متعلق فيهما بالفعل تعلق إلزام. ومنهم من قال ": أما حال الوجود متعلق إلزام، وقبل الوقوع تعلق إعلام، وخلافنا على الأول. وإمام الحرمين والغزالي خالفا أصحابنا، والتزما مذهب المعتولة، ورأيا أن الفعل قبل الإيقاع لا يتعلق الأمر به وإن اختلفت طرقهما.

فإمام الحرمين يقول: بالقدرة حصل الفعل، وانقطاعها حالة وجود الفعل، وما ليس بمقدور لا يؤمر به. والغزالي يسلم مقارنة القدرة، وقال: الفعل حال وقوعه غير مأمور به؛ لأنه حاصل والحاصل لا يطلب. ورأى أبو المعالي: أن القدرة هي التمكن من الفعل، وحالة الوجود تنافي التمكن من الفعل والترك، فتعين الوقوع. وقوله: " لو لم يكن مأمورا حالة الفعل لا متنع كونه مأمورا مطلقا؛ لأن قبل الفعل إما أن يكون الفعل ممكنا " يعني فيفرض وقوعه؛ لأن الممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال، وحينئذ يكون مأمورا حالة الملابسة، وإن لم يكن ممكنا امتنع تعلق الأمر به؛ لأن المعتزلة تمنع وتحيل تعلق الطلب بغير الممكن المقدور للعبد. فهذا التقسيم اقتضى أن الواقع أحد الأمرين، إما التعلق حالة الملابسة أو عدم التعلق، فصدقت الملازمة أنه لو امتنع التعلق حالة الملابسة لامتنع التعلق مطلقا. وقوله: القدرة مع الداعي مؤثرة في الفعل، ولا مانع من كون المؤثر مقارنا لأثره، كما سيأتي في المؤثرات. تقريره: أن القدرة هي الصفة المؤثرة في حق الله تعالى، وفي حق العبد هي الصفة الكاسبة، وكل مؤثر يجب أن يكون مقارنا لأثره باعتبار الزمان، ومعدما بالذات، كما إذا حرك زيد أصبعه، تحرك خاتمه، وتحرك أصبعه، وحركة الأصبع هي السبب، وهي مع حركة الخاتم واقعان في زمان واحد،

(تنبيه) زاد سراج الدين فقال: في نكتة الإمام على المعتزلة لا امتناع في تناول الأمر زمن الإمكان

ويقضي العقل أن حركة الإصبع متقدمة على حركة الخاتم بالذات؛ لأن كل علة فهي متقدمة على معلولها بالذات. (تنبيه) زاد سراج الدين فقال: في نكتة الإمام على المعتزلة لا امتناع في تناول الأمر زمن الإمكان، ولو فرض وقوعه في ذلك الزمان كان مأمورا بالفعل، فلا خلاف، ثم ما ذكرتموه يقتضي ألا يذم تارك المأمور به أصلا لامتناع الذم قبل الأمر. قلت: كل زمان يفرض فيه وقوع الفعل، ونقل التعلق قبله، فيفرض أيضا الإيقاع في كل زمان ينقل الإمكان إليه حتى لا يبقى من أزمنة الإمكان شيء. ثم قوله: " يقتضي قولكم ألا يذم تارك المأمور به ". قلنا: قد تقدم أن زمن الملابسة صفة التعلق لا شرط التعلق، وعلى هذا العصيان لا يتوقف على الملابسة، غير أن سراج الدين اختر بقول الإمام المتقدم قبل ذلك: " إعلام لا أمر " وقد تقدمت إليك تفسيره وتحقيقه، وأن قوله: (إعلام) أي: أن الأمر يلزمه خبر باستقحقاق العقاب على تقدير الترك، وبأنه يصير مأمورا عند الملابسة. وقوله: (لا أمر) أي لا أمر بما قبل زمن الملابسة، كما إذا قال: أسرج الدابة عند الزوال، فهذا ليس أمرا بإسراج الدابة قبل الزوال كذلك هاهنا. وقال التبريزي: وقال أصحابنا: الفعل حال وجوده مأمور به.

وقالت المعتزلة: غنما يكون مأمورا به قبله، وعند الوجود ينفك عنه التعلق، كما في الدوام. وهذا نزاع في تعلق القدرة بالمقدور. فعند الأشاعرة: الاستطاعة مع الفعل إذ لا بقاء مع الأعراض، فوقوع الفعل في الزمن الثاني من القدرة أثر بلا مؤثر، ومؤثر بلا أثر، وهو محال ز وعند المعتزلة: زمان التعلق قبل زمان الوقوع، وتعلق الأمر يلزم تعلق القدرة. قلت: وهذا أيضا حسن عن المسألة، أصلح من عبارة (المحصول). وقوله: " الاستطاعة مع الفعل ". يريد بالاستطاعة القدرة الحادثة، وهي عرض، والعرض لايبقي زمانين، وفلو تقدمت وقع الأمر بعدها بلا قدرة، أو تأخرت وقع الفعل قبلها بلا قدرة، فتعين المقارنة. والمعتزلة يرون انتفاء الأعراض، فتبقى القدرة الكائنة قبل الفعل لزمان الفعل، ولا محال. ***

المسألة السادسة: المأمور به، إذا كان مشروطا بشرط

المسألة السادسة قال الرازي: المأمور به، إذا كان مشروطا بشرط، فالآمر إما أن يكون غير عالم بعدم الشرط، أو لا يكون: أما الأول: فكما إذا قال السيد لعبده: " صم غدا " فإن هذا مشروط ببقاء العبد غدا، وهو مجهول للآمر، فهاهنا: الأمر تحقق في الحال بشرط بقاء المأمور قادرا على الفعل. وأما الثاني: فكما إذا علم الله تعالى أن زيدا سيموت غدا، فهل يصح أن يقال: إن الله تعالى أمره بالصوم غدا؛ بشرط أن يعيش غدا، مع أنه يعلم أنه لا يعيش غدا؟ قطع القاضي أبو بكر، والغزالي رحمهما الله تعالى به، وأباه جمهور المعتزلة. حجة المنكرين: أن شرط الأمر بقاء المأمور؛ فالعالم بأن المأمور لا يبقى - عالم بفوات شرط الأمر؛ فاستحال مع ذلك حصول الأمر. قال المجوزون: لا نزاع في أنه لا يجوز أن يقول للميت حال كونه ميتا: (افعل) لكن لم لا يجوز أن يقال في الحال، لمن يعلم أنه سيموت غدا: (افعل غدا، إن عشت) بل هو جائز لما فيه من المصالح الكثيرة؛ فإن المكلف قد يوطن النفس على الامتثال، ويكون ذلك التوطين نافعا له يوم المعاد، ونافعا له في الدنيا؛ لأنه ينحرف به في الحال عن الفساد. وهذا كان أن السيد قد يستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه، مع عزمه على

شرح القرافي: " الأمر لا يحسن إلا لمصلحة "

نسخ الأمر؛ امتحانا للعبد، وقد يقول الرجل لغيره: " وكلتك ببيع العبد غدا " مع علمه بأنه سيعزله عن ذلك غدا؛ لما أن غرضه منه استمالة الوكيل، أو امتحانه في أمر ذلك العبد. ومأخذ النزاع في هذه المسألة أن المجوزين قالوا: الأمر تارة: يحسن لمصالح تنشأ من نفس الأمر، لا من المأمور به، وتارة: لمصالح تنشأ من المأمور به. وأما المانعون، فقد اعتقدوا أن الأمر لا يحسن إلا لمصلحة تنشأ من المأمور به. وتمام تقريره سيظهر في مسألة أنه يجوز النسخ قبل مضي مدة الامتثال والله أعلم. المسألة السادسة المأمور به إذا كان مشروطا قوله: " الأمر لا يحسن إلا لمصلحة ".

..........................................................

قال القرافي: ينشأ من الأمر دون المأمور، يقال: هذا كأمره تعالى إبراهيم عليه السلام بذبح إسحاق؛ فإن المصلحة كانت في الأمر فقط، وهي

إظهار المبالغة في طاعة الله تعالى، ويوفي بالإقبال على الامتثال، وذلك من أعظم أسباب القرب من الله تعالى، وأما ذبح إسحاق عليه السلام فلا مصلحة فيه، فلذلك نسخه الله تعالى لما حصلت مصلحة الأمر. ومثال ما هو لمصلحة المأمور: الصلاة، فيها تعظيم الله تعالى، وكذلك جميع العبادات، وذبح الحيوان الخسيس لنفع الحيوان الشريف، وأكثر الشرائع من هذا القبيل، والأول قليل في الشرع والعادة. (تنبيه) غير التبريزي فقال: قال أصحابنا: المأمور يعلم كونه مأمورا قبل التمكن. وقالت المعتزلة: لا يعلق إلا بعد التمكن. وهو تنازع في تحقيق الأمر بالشرط في حق الله تعالى، وأجمعوا على تصوره في الشاهد، لكن الآمر يكون جاهلا بعقابة الشرط، والله تعالى يعلق من يدرك زمان التمكن لا يكون مأمورا لأن التمكن شرط، وقد علم الله تعالى انتفاءه، فحيث علم الله التمكن فلا شرط، وحيث علم عدم التمكن فلا أمر، فثبوت الأمر بالشرط في حق الله تعالى محال، والمكلف إذا توجه عليه الأمر بحكم ظاهر البقاء لا يدري أنه يبقى، فيكون مأمورا، أو لا يبقى فلا يكون مأمورا. وقالت الأشاعرة: الأمر قائم بذات الآمر قبل تحقق الشرط متعلقا بالمأمور، والمأمور به، فإن لم يوجد الشرط لم يتبين عدم اللزوم والنفوذ؛ لأن الشرط ليس شرطا لقيام الأمر، بل لنفوذه بمثابة وصف التعلق. فالمعتبر فيه جهل المأمور بحصول الشرط وعدمه، لا جهل الآمر، وهذا تقيرير حسن من التبريزي رحمه الله.

قال الغزالي في (المستصفى): الأمة مجمعة قبل ظهور المعتزلة أن الصبي إذا بلغ أن يعتقد أنه مأمور بشرائع الإسلام، منهي عن مناهيها، أو أن من عزم على التقرب بالمأمورات فتقرب، ولو عزم على فعل غير المأمور لا يكون متقاربا، وعلى لزوم الشرع في صوم رمضان. وعلى أن من حبس المصلى، ومنعه من الصلاة آثم، فهذه الإجماعات حجاج عليهم، والأمر متعلق بكل واحد على تقدير وجوب الشرائع، كما يؤمر المعدوم. قال سيف الدين في (الإحكام (: اختلف أصحابنا والمعتزلة في جواز دخول النيابة في المكلف به من الأفعال البدنية: أثبته أصحابنا، ونفاه المعتزلة. لنا: أن القائل لغيره: " أوجبت عليك خياطة الثوب، فإن خطته، أو استنبت فيه أثبتك، وإن تركت الأمرين عاقبتك " جائز معقول، فجاز وورد الشرع به، وقد وقع؛ لما روى " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شخصا يلبي عن شبرمة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " حج عن نفسك ثم حد عن شبرمة "، وهو نص في المسألة.

(مسألة) قال القاضي عبد الوهاب المالكي في كتاب (الملخص): يجوز تقديم الأمر على زمن المأمور

احتجوا: أن التكليف بالعبادة البدنية ابتلاء وامتحان، وهو مطلوب الشرع؛ لما فيه من كسر النفس الأمارة بالسوء وقهرها لكونها عدوة الله تعالى، وذلك يمنع النيابة، كما لا تدخل النيابة في عوارض النفوس من الإكرام واللذات. والجواب: أن التكليف بأحد الأمرين امتحان أيضا. (مسألة) قال القاضي عبد الوهاب المالكي في كتاب (الملخص): يجوز تقديم الأمر على زمن المأمور، والخلاف في أربعة أوجه: الأول: وجوب تقديم الأمر على وقت المأمور. والثاني: تقدمه لا يخرجه عن أن يكون أمرا، وإن كان إعلاما وإنذارا. والثالث: وجوب تعلق الامر بالفعل حالة إيجاده. والرابع: في مقدار ما يتقدم الأمر به على الفعل من الأوقات. ولا خلاف بين الكل من أصحابنا في وجوب تعلق الأمر بالفعل حالة وقوعه ومقارنته. وقال المعتزلة والقدرية: لا يتعلق الأمر قبل وقوعه. وأما تقدم الأمر نفسه على وقت المأمور فقال كثير من شيوخنا: الأمر على الحقيقة الذي هو الإيجاب والإلزام لا يتقدم على وقت الفعل، فالتقدم إعلام وإنذار، والأمر حقيقة ما قارن الفعل. واختلف المعتزلة في مقدار ما يتقدم بعد اتفاقهم معنا على وجوب تقدمه في وقت يحصل فيه للمأمور فهمه. [ص 1656]

فمنهم من قال: لا يجوز تقدمه عليه بأوقات كثيرة، بل بوقت واحد، إلا لمصلحة. ومنهم من شرط لتقدمه شروطا: من كون تقدمه صالحا للمكلف، أو لغيره، وكون المكلف في جميع تلك الأوقات حيا، سليما، قادرا، مستجمعا لجميع شرائط التكليف. والذي اختاره القاضي أبو بكر: أنه يجب تقدمه على الفعل بوقتين: وقت لاستكمال سماعه، ووقت لحصول العلم بالمراد منه؛ لأن وقوع الفعل في حالة السماع محال؛ لأن الدليل يتقدم على المدلول. ودليلنا على تسميته أمرا: إجماع الأمة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الأمة الآتية بعده بالعبادات وغيرها ولم يزل الناس يكتفون بالأوامر السابقة المتقدمة على زمان الفعل، ولا يحتاجون إلى تجديد أمر آخر - يؤكده. ويأمر الإنسان بوصاياه بما يعمل بعد موته. ولنا على جواز تقدمه على زمان الفعل بالأزمنة الكثيرة إجماع الأمة على الأمر بالموت على الإسلام، وتقدمت أوامره عليه السلام على أفعالنا. احتجت المعتزلة: بأن تقدمه عري عن الفائدة، فيكون عبثا فلا يجوز. قلت: هذه المسألة قد تقدم منها جزء فهرس عليه الإمام بقوله: " إنما يصير مأمورا حالة الملابسة، والتقدم قبل ذلك إنما هو إعلام لا أمر " وما زلت أنا ومن رأيته نستشكل كلامه في قوله: (إعلام) حتى رأيت هذا الفعل معزوا لغيره، وأنه قد تقدمه فيه سلف، فسهل الحال، وعلم أن كلامه من كلام من تقدمه من العلماء، ولعله من هذا الكتاب؛ فإنه قد نقل عنه تاج الدين الأرموي أنه كثير الملازمة له والمطالعة فيه، وأخبرني بذلك من نقله لي غير تاج الدين من المعدول الثقات أنه كان يعتني به ويطالعه؛ فإنه كتاب حسن. [ص 1657]

(مسألة) حكى الشيخ العالمي الحنفي وغيره في تصانيفهم: الخلاف بين الأصوليين في إمكان التفاوت في الوجوب

أعنى (الملخص) فقد ذكرها وضم إليها هذه الزيادات الحسنة، التي لم تقع في (المحصول). فرحم الله العلماء؛ ففي كل منهم بركة وخير كثير. (مسألة) حكى الشيخ العالمي الحنفي وغيره في تصانيفهم: الخلاف بين الأصوليين في إمكان التفاوت في الوجوب، وحكى عدم التفاوت عن الشيخ ابي الحسن الأشعري محتجا: بأن معنى وجوب الفعل أنه قيل فيه: (افعل)، وهذا لا يختلف. وقال غيره: تتفاوت الواجبات لتفاوتها في الثواب والعقاب. قلت: نظير هذا المسألة قولهم: الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وقيل: يزيد وينقص ملاحظة لأصل التصديق، أو تقاربه بكثرة متعلقاته. ومسألة أخرى اختلفوا فيها وهي: أن العلوم هل تتفاوت أم لا؟ فقيل: لا تتفاوت؛ لأن أصل الكشف لايمكن التفاوت فيه من حيث هو كشف. وقيل: تتفاوت باعتبار الجلاء كمما في الحسيات، وباعتبار الخفاء كما في النظريات.

(مسألة) قال ابن برهان في كتاب (الأوسط) في أصول الفقه له: اختلف الأصوليون: هل يتناول الأمر المأمور [به] على وجه الكراهة أم لا؟

(مسألة) قال ابن برهان في كتاب (الأوسط) في أصول الفقه له: اختلف الأصوليون: هل يتناول الأمر المأمور [به] على وجه الكراهة أم لا؟ فقلنا أصحابنا: لا يتناوله. وقال أصحاب أبي حنيفة: يتناوله على وجه الكراهة. والمسألة مفروضة في الطواف المتلبس، وطواف الجنب والمحدث. فعندنا: لا يصح؛ لأنه مكروه، والأمر ما يتناوله. وعندهم يقع الموقع. وبناء المسألة على حرف، وهو أن المكروه عندنا ضد الواجب، وعندهم ليس بضده. لنا: ان المكروه راجع الترك، والمأمور راجح الفعل، وهما متنافيان. احتجوا: بأن الأمر لا يتناول الفعل دون صفاته، كما تناول الأشخاص في المشتركين، دون صفاتهم من الطول والبياض وغير ذلك. وجوابه: أن هذه الصفات متنافية، وليست تلك الصفات متنافية. ***

القسم الثالث في النواهي وفيه مسائل

القسم الثالث في النواهي وفيه مسائل المسألة الأولى: ظاهر النهي التحريم، وفي المذاهب التي ذكرناها في أن الأمر للوجوب. لنا: قوله تعالى: {وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] أمر بالانتهاء عن المنتهى عنه، والأمر للوجوب؛ فكان الانتهاء عن المنهي واجبا، وذلك هو المراد من قولنا: النهي للتحريم، والله أعلم. القسم الثاني في النواهي " ظاهر النهي التحريم، وفيه المذاهب التي ذكرناها في ان الأمر للوجوب ". تقريره: أن المذاهب المذكورة - هناك - سبعة: الصيغة موضوعة للوجوب للندب.

(فائدة) قال الإمام في (البرهان): النهي يرد لسبعة محامل

للقدر المشترك بينهما، وهو مطلق الرجحان. اللفظ مشترك بينهما. موضوع لأحدهما، [و] لانعرفه. الإباحة. الوقف في ذلك كله. قال القاضي عبد الوهاب في (الملخص): ومنهم من فرق بين الأمر والنهي، فحمل مجرد النهي على التحريم، ومجرد الأمر على الندب. وقال: النهي للزجر وهو يفيد التحريم، والأمر استدعاء للفعل والاستدعاء متردد بين الوجوب والندب؛ ولأن النهي يدل على القبح فيحرم، والأمر يديل على الحسن، والحسن قد لا يكون واجبا. (فائدة) قال الإمام في (البرهان): النهي يرد لسبعة محامل: التحريم نحو {ولا تقربوا الزنا} [الإسراء: 32]. والكراهة كقوله تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة: 237]. والدعاء كقوله تعالى: {ربنا لا تزغقلوبنا بعد إ هديتنا} [آل عمران: 8]. والإرشاد كقوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا} [آل عمران: 169] وللتقليل والاحتقار كقوله تعالى: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا} [الحجر: 88]

واليأس كقوله تعالى: {لا تعتذروا اليوم} [التحريم: 7] قوله لنا: " قوله تعالى: {وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] " قلنا: فيه ثلاثة أسئلة: أحدها: لا نسلم أن الأمر للوجوب. وثانيها: أن الآية تقتضي حمل النهي على التحريم، والنزاع في الوضع لا في الحمل. وثالثها: الدعوى عامة في كل نهي، والدليل إنما تناول نهيه عليه السلام ومتى كانت الدعوى عامة، والدليل خاص لا يفيد، وكان مردودا ً وله الجواب عن الاخر، فإنه إذا ثبت الحكم في بعض النواهي وجب أن يثبت في كلها؛ لأنه لا قائل بالفرق. ***

المسألة الثانية المشهور: أن النهي يفيد التكرار

المسألة الثانية المشهور: أن النهي يفيد التكرار، ومنهم من اباه، وهو المختار. لنا: ان النهي قد يراد منه التكرار، وهو متفق عليه، وقد يراد منه المرة الواحدة؛ كما يقول الطبيب للمريض الذي شرب الدواء: " لا تشرب الماء، ولا تأكل اللحم " أي: في هذه الساعة، ويقول المنجم: " لا تفصد، ولا تخرج غلى الصحراء " اي: في هذا اليوم، ويقول الوالد لولده: (لا تلعب) أي: في هذا اليوم، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل؛ فوجب جعل النهي حقيقة في القدر المشترك. الثاني: أنه يصح أن يقال: " لا تأكل السمك ابدا " وأن يقال: " لا تأكل اللحم في هذه الساعة، وأما في الساعة الأخرى، فكل "، والأول ليس بتكرار، والثاني ليس بنقض؛ فثبت أن النهي لا يفيد التكرار. احتج المخالف بأمور: أحدها: أن قوله: (لا تضرب) يقتضي امتناع المكلف من إدخال ماهية الضرب في الوجود، والامتناع من إدخال هذه الماهية في الوجود؛ إنما يتحقق إذا امتنع من إدخال كل أفرادها في الوجود؛ إذ لو أدخل فردا من أفرادها في الوجود، وذلك الفرد مشتمل على الماهية - فحينئذ يكون قد أدخل تلك الماهية في الوجود، وذلك ينافي قولنا: إنه امتنع من إدخال تلك الماهية في الوجود. وثانيها: أن قوله: (لا تضرب) يعد في عرف اللغة مناقضا لقوله: (اضرب).

لأن تمام قولنا: (اضرب) حاصل في قولنا: (لا تضرب) مع زيادة حرف النهي، لكن قولنا: (اضرب) يفيد طلب الضرب مرة واحدة، فلو كان قولنا: (لا تضرب) يفيد الانتهاء أيضا مرة واحدة، لما تناقضنا؛ لأن النفي والإثبات في وقتين لا يتناقضان، فلما كان مفهوم النهي مناقضا لمفهوم الأمر، وجب ان يتناول النهي كل الأوقات حتى تتحقق المنافاة. وثالثها: أن قوله: (لا تضرب) لا يمتنع حمله على التكرار؛ وقد دل الدليل على حمله على التكرار؛ فوجب المصير غليه. إنما قلنا: إنه لا يمتنع حمله على التكرار؛ لأن كون الإنسان ممتنعا عن فعل المنتهى عنه أبدا ممكن، ولا عسر فيه. وأما أن الدليل دل عليه؛ فلأنه ليس في الصيغدلالة على وقت دون وقت؛ فوجب الحمل على الكل؛ دفعا للإمال بخلاف الأمر؛ فإن يمتنع حمله على التكرار، لإفضائه إلى المشقة. والجواب عن الأول: أنه لا نزاع في أن النهي يقتضي امتناع المكلف عن إدخال تلك الماهية في الوجود، ولكن الامتناع عن إدخال تلك الماهية في الوجود، قدر مشترك بين الامتناع عنه دائما، وبين الامتناع عنه، لا دائما؛ كما تقدم بيانه. واللفظ الدال على القدر المشترك لا دلالة له على ما به يمتاز كل واحد من القسمين عن الثاني؛ فإ ذن لا دلالة في هذا اللفظ على الدوام ألبتة. وعن الثاني: أنك إن أردت بقولك: إن الأمر والنهي دلا على مفهومين متناقضين: أن هذا يدل على الإبات، وذلك يدل على النفي - فهذا مسلم،

شرح القرافي: المسألة الثانية النهي للتكرار

ولكن مجرد النفي والإثبات لا يتنافيان إا بشرط اتحاد الوقت؛ فإن قولك:" زيد قائم، زيد ليس بقائم " لا يتناقضان؛ لأنه متى صدق الإثبات في وقت واحد، فقد صدق الإثبات، ومتى صدق النفي في وقت آخر، فقد صدق النفي. ومعلوم أن الإثبات في وقت لاينافي النفي في وقت آخر؛ فمطلق الإثبات والنفي وجب ألا يتناقضا ألبتة. وعن الثالث: أن النهي لا دلالة فيه إلا على مسمى الامتناع، فحيث تحقق هذا المسمى، فقد وقع الخروج عن عهدة التكليف. (تنبيه) قلنا: إ النهي يفيد التكرار، فهو يفيد الفور؛ لا محالة؛ وإلا فلا. المسألة الثانية النهي للتكرار قوله: " وقد ترد للمرة ".

قلنا: التكرار في الشرع كثير، كالزنا والسرقة ونحوهما، وأما المرة الواحدة في الشرع فعسير الوجود، بخلاف الأمر مرة واحدة كما في الحج، والموجود من النهي إنما هو إن لم يدم فلغاية معينة كتحريم الصيد إلى زمن الحل أو الخروج من الحرم ونحوهما، أما المرة الواحدة، فلا يكاد يوجد. قوله: " والاشتراك والمجاز خلاف الأصل ": قلنا: يعارضه أمور: أحدها: أن المتبادر إلى الذهن من النهي إنما هو التكرار، والمبادرة دليل الحقيقة. وثانيها: أن النهي يعتمد المفاسد، والمفسدة مطلوبة الدفع دائما، فلو قال لولده: لا تشرب السم، فإنه لو شرب السم في أي زمان كان حصلت المفسدة، ومات الولد. وثالثها: أن جعله حقيقة في التكرار يوجب مزيد حسن التجوز به إلى أصل الترك؛ لأنه يستلزمه، بخلاف العكس؛ لأن التكرار ليس لازما لأصل الانتهاء. قوله: " يصح أن يقال: لا تأكل السمك، ولا تأكل اللحم في هذه الساعة، والأول ليس تكرارا، والثاني ليس نقضا ً ". تقريره: أن على القول بالتكرار يكون النهي يفيده، وكذلك قوله: (أبدا ً) يفيده فيلزم التكرار، ويكون قوله: " في هذه الساعة فقط "، ووجود الدليل بدون المدلول نقض على الدليل. وقوله: " وليس تكرارا ولا بنقض " بمعنى أن الأصل عدمهما، فهما منفيان بالأصل، ولا زمان على مذهب الخصم.

ويرد عليه: أن المناهي الشرعية والعرفية أكثرها وردت في الدوام، فيلزم أن يكون مجازا، والأصل عدم المجاز أيضا، قوله: (لا تضرب) يناقض قوله: (اضرب)؛ لأن تمام قولنا: (اضرب) حاصل في قولنا: (لا تضرب) مع زيادة حرف النفي، والأمر للمرة، والنهي يقتضي التكرار. قلنا: لا نسلم أن تمام قولنا: (اضرب) في قولنا (لا تضرب)؛ لأن الهمزة في قولنا: (اضرب) وليست في (لا تضرب) دعواكم المناقضة في اللغة ممنوع، بل هما خلافان عند الخصم لا نقيضان، ولا ضدان، ولا مثلان، ثم إن قولكم: (إن حرف النفي وجد) ممنوع، فإن (لا) الناهية ليست للنفي، ولو كانت للنفي لكانت خبرا عن النفي، فيلزم ألا يقع المنهى عنه أبدا؛ لأن الله تعالى أخبر عن عدمه، وليس كذلك بالإجماع، بل الذي يليق أن يقال: إن النهي في معنى النفي من جهة أنه متعلق بالإعدام، كما أن النفي متعلق بالعدم، أما أنه نفي فلا. قوله: " لا دلالة للفظ على خصوص الوقت، فوجب حمله على الكل دفعا للإجمال ": قلنا: عدم الدلالة على خصوص الأوقات لا يوجب إجمالا على تقدير عد الحمل على الكل، كما في المطلقات، والأمر بالماهيات الكليات يقتصر فيها على مسمى اللفظ، ويخرج عن العهدة، ولا إجمال كما في قوله تعالى: {فتحرير رقبة} [البقرة: 92] قوله: " الامتناع قدر مشترك بين الامتناع عنه دائما، وبين الامتناع عنه لا دائما ": قلنا: لا نسلم أنه قدر مشترك؛ لأن المفهوم من الامتناع اجتناب تلك.

(سؤال) قال النقشواني: اختياره - هاهنا - يناقضه ما قرره أن الأمر لا يفيد التكرار

المفسدة التي ورد النهي لأجلها، ومن ترك الزنا في ساعة، وزنى في ساعة أخرى لا يصدق عليه أنه مجتنب للزنا في عرف الاستعمال، بل كل من يصدق عليه أنه غير مجتنب لمحرم من المحرمات لا بد أن يتركه في بعض الأوقات، ومع ذلك لا يصدق عليه أنه مجتنب، بل يقال: هو غير مجتنب للمحرمات، فعلمنا حينئذ أنه لا يصدق إلا مع الدوام، والدوام ليس مشتركا بين الدوام وعدم الدوام، وهو الجواب عن قوله: " لا دلالة في النهي إلا على مسمى الامتناع "؛ لأنا نقول: مسمى الامتناع لا يتحقق إلا مع الدوام، ثم صحة كلامه مبني على قاعدة وهي القضية المهملة يتوقف صدقها على صدق الجزئية، ولا يتوقف على صدق الكلية، فيصدق أن ماهية الإنسان اتصفت بالكتابة إذا اتصف زيد بالكتابة، وإن لم يعلم أن غيره كاتب مع، بل يكفي في صدق الامتناع صدق امتناع جزئي، لكن ما نحن فيه ليس كذلك، بل هو من باب طلب نفي الأعم الذي هو مستلزم لطلب نفي أنواعه وأشخاصه؛ لأن النهي هو طلب إعدام الماهية الكلية، فينتفي جميع افرادها. فإن قلت: يصدق [عليه] أنه طالب عدمها باعتبار محل معين، أو محل غير معين. قلت: ذلك ليس طلب عدمها، بل طلب عدم ما هو أخص منها - وهو الماهية - يفيد بعض المحال، والنهي إنما يتناول تصريحه الماهية من حيث هي هي، فيكون من باب طلب عدم الأعم المستلزم لعدم كل فرد من أفراده، لا من باب المهلة التي يكفي في صدقها جزء من جزئياتها. (سؤال) قال النقشواني: اختياره - هاهنا - يناقضه ما قرره أن الأمر لا يفيد التكرار؛ لأنه قال: النهي يفيد الانتهاء عن الفعل أبدا وهو نقيض الأمر، فيكون الأمر للمرة الواحدة.

(سؤال) قال النقشواني: غذا سلم له أن الصيغة حقيقة في القدر المشترك نفيا للاشتراك والمجاز يلزمه أيضا على تقدير مذهبه الاشتراك والمجاز

وقال أيضا في ان الأمر لا يفيد الفور: أن النهي يفيد التكرار فلا جرم أفاد الفور بخلاف الأمر. (سؤال) قال النقشواني: غذا سلم له أن الصيغة حقيقة في القدر المشترك نفيا للاشتراك والمجاز يلزمه أيضا على تقدير مذهبه الاشتراك والمجاز؛ لأن الصيغة وردت للتكرار تارة ولعدمه أخرى، كما في الزنا، وقتل الصيد، فإن كان اللفظ حقيقة فيهما أو في أحدهما لزم الاشتراك، وإن لم يكن حقيقة في أحدهما لزم المجاز، ولما كان الاشتراك والمجاز لازمنين على تقدير مذهبه امتنع الاستدلال بهما على معنيين، أحدهما التقديرين؛ لأن اللازم للنقيضين لا يدل على وقوع أحدهما عينا. (سؤال) قال النقشواني: لو كان النهي لمطلق الترك - كما قال - لما نهى عن شيء ألبتة؛ لأن الترك في بعض الأوقات ضروري، وما هو واقع بالضرورة لا يحتاج إلى طلبه بصيغة. قوله: " إن قلنا: النهي يفيد التكرار افاد الفور، وإلا فلا ": قلنا: بل إذا قلنا: لا يفيد التكرار يصير كما إذا قلنا: الأمر لا يفيد التكرار، أمكن أن يقال: ذلك الترك المطلوب، وإن لم يكن متكررا فهو مطلوب المتعجل على الفور، كما قلنا في الأمر: بل العرف يقتضي دليلا؛ فإن السيد غذا قال لعبده: لا تدخل الدار، وأخذ يدخلها في الحال استحق التأديب أكثر مما غذا دخلها بزمان طويل؛ فإن ذنبه يكون أخف.

(فائدة) نقل سيف الدين النهي ليس للتكرار عن بعضهم

(فائدة) نقل سيف الدين النهي ليس للتكرار عن بعضهم، ونقله القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتاب (العدة) عن القاضي أبي بكر بن الباقلاني، فلم يختص الإمام بما اختاره من عدم التكرار، لكن مذهب الجمهور خلافه. ***

المسألة الثالثة: الشيء الواحد لا يجوز أن يكون مأمورا به منهيا عنه معا

المسألة الثالثة قال الرازي: الشيء الواحد لا يجوز أن يكون مأمورا به منهيا عنه معا. والفقهاء قالوا: يجوز ذلك، إذا كان للشيء وجهان. لنا: أن المأمور به هو: الذي طلب تحصيله من المكلف، وأقل مراتبه رفع الحرج عن الفعل، والمنهي عنه هو: الذي لم يرفع الحرج عن فعله؛ فالجمع بينهما ممتنع؛ إلا على القول بتكليف ما لا يطاق. فإن قيل هذا الامتناع إنما يتحقق في الشيء الواحد، من الوجه الواحد. أما الشيء ذو الوجهين؛ فلم لا يجوز أن يكون مأمورا به؛ نظرا إلى أحد وجهيه منهيا عنه؛ نظرا إى الوجه الآخر، وهذا كالصلاة في الدار المغصوبة؛ فإن لها جهتين: كونها صلاة، وكونها غصبا، والغصب معقول دون الصلاة، وبالعكس؛ فلا جرم صح تعلق الأمر بها؛ من حيث إنها صلاة - وتعلق النهي بها؛ من حيث إنها غصب؛ لأن السيد، لو قال لعبده: " خط هذا الثوب، ولا تدخل هذه الدار " فإذا خاط الثوب، ودخل الدار، حسن من السيد أن يضربه، ويكرمه، ويقول: أطاع في أحدهما، وعصى في الآخر؛ فكذا ما نحن فيه؛ فإن هذه الصلاة، وإ كانت فعلا واحدا، ولكنها تضمنت تحصيل أمرين: أحدهما مطلوب، والآخر منهي عنه. سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك؛ لكنه معارض بوجه آخر، وهو أن الصلاة في الدار المغصوبة صلاة، والصلاة مأمور بها؛ فالصلاة في الدار المغصوبة مأمور بها.

وإنما قلنا: إن الصلاة في الدار المغصوبة صلاة؛ لأن الصلاة في الدار المغصوبة صلاة مكفئة، والصلاة المكفئة صلاة مع كيفية، فيكون مسمى الصلاة حاصلا. وإنما قلنا: إن الصلاة مأمور بها؛ لقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} [البقرة: 34 - 83 - 110]. والواجب: أن الذي ندعيه في هذا المقام: أن الأمر بالشيء الواحد، والنهي عنه من جهة واحدة - يوجب التكليف بالمحال. ثم إن جوزنا التكليف بالمحال، جوزنا الأمر بالشيء الواحد والنهي عنه؛ من جهة واحدة، وإن لم نجوز ذلك، لم نجوز هذا أيضا؛ فلنبين ما ادعيناه فنقول: متعلق الأمر: إما أن يكون عين متعلق النهي، أو غيره: فإن كان الأول: كان الشيء الواحد مأمورا به، منهيا عنه معا، وذلك عين التكليف بما لا يطاق، والخصم لا يجعل هذا النوع من التكليف، من باب تكليف ما لا يطاق. وإن كان الثاني: فالوجهان: إما ان يتلازما، وإما ألا يتلازما: فإن تلازما: كان كل واحد منهما من ضرورات الآخر والأمر بالشيء أمر بما هو من ضروراته؛ وإلا وقع التكليف بما لا يطاق. وإذا كان المنهي من ضرورات المامور، كان مأمورا؛ فيعود غلى ما ذكرنا؛ من أنه يلزم كون الشيء الواحد مأمورا، ومنهيا معا. وإن لم يتلازما: كان الأمر والنهي متعلقين بشيئين لا يلازم أحدهما صاحبه، وذلك جائز؛ إلا أنه يكون غير هذه المسألة التي نحن فيها.

فإن قلت: هما شيئان يجوز انفكاك كل واحد منهما عن الآخر في الجملة؛ إلا أنهما في هذه الصورة الخاصة صارا متلازمين. قلت: ففي هذه الصورة الخاصة المنهي عنه يكون من لوازم المأمور به، وما يكون من لوازم المامور به، يكون مأمورا به؛ فيلزم ان يصير المنهي عنه في هذه الصورة مامورا به؛ وذلك محال؛ فهذا برهان قاطع على فساد قولهم على سبيل الإجمال. أما على سبيل التفصيل، فهو: أن الصلاة ماهية مركبة من أمور: أحد تلك الأمور: الحركات، والسكنات، وهما ماهيتان مشتركتان في قدر واحد من المفهوم، وهو شغالحيز؛ لأن الحركة: عبارة عن شغل الحيز بعد أن كان شاغلا لحيز آخر؛ والسكون: عبارة عن شغل حيز واحد أزمنة كثيرة، وهان المفهومان يشتركان في كون كل واحد منهما شغلا للحيز؛ فإذن: شغل الحيز جزء جزء ماهية الصلاة؛ فيكون جزاءا لها؛ لا محالة. وشغل الحيز في هذه الصلاة منهي عنه؛ فإذن: أحد أجزاء ماهية هذه الصلاة منهي عنه؛ فيستحيل أن تكون هذه الصلاة مامورا بها؛ لأن الأمر بالمركب أمر بجميع أجزائه؛ فيكون ذلك الجزء مأمورا به، مع أنه كان منهيا عنه؛ فيلزم في الشيء الواحد أن يكون مأمورا به منهيا عنه؛ وهو محال. أما قوله: " كونه صلاة وغصبا جهتان متباينتان يوجد كل واحد منهما عند عدم الآخر ": قلنا: نعم، ولكنا بينا أن شغل الحيز جزء ماهية الصلاة، فكما أن مطلق الشغل جزء ماهية مطلق الصلاة، فذلك الشغل المعين يكون جزءا من ماهية.

(تنبيه) الصلاة في الدار المغصوبة

الصلاة المعينة، فإذا كان هذا الشغل منهيا عنه، وهذا الشغل جزء ماهية هذه الصلاة، كان جزء هذه الصلاة منهيا عنه، وإذا كان جزاؤها منهيا عنه، استحال كون هذه الصلاة مأمورا بها، بل الصلاة مامور بها، لكن النزاع ليس في الصلاة، من حيث إنها صلاة؛ بل في هذه الصلاة، وأما المثال الذي ذكروه، وهو: أن يقول السيد لعبده: " خط هذ االثوب، ولا تدخل هذه الدار " فهو بعيد؛ لأن هاهنا الفعل الذي هو متعلق الأمر، غير الفعل الذي هو متعلق النهي، وليس بينهما ملازمة؛ فلا جرم صح الأمر بأحدهما، والنهي عن الآخر. إنما النزاع في صحة تعلق الأمر والنهي بالشيء الواحد؛ فأين أحدهما من الآخر؟ وأما المعارضة التي ذكروها، فمدار أمرها على أن قوله تعالى: {أقيموا الصلاة} [البقرة: 43] يفيد الأمر بكل صلاة، فهذا مع ما فيه من المقدمات الكثيرة، لو سلمناه، لكن تخصيص العموم بدليل العقل غ مستبعد، وما ذكرناه من الدليل عقلي قاطع؛ فوجب تخصيصه به، والله أعلم. (تنبيه) الصلاة في الدار المغصوبة، وإن لم تكن مأمورا بها إلا أن الفرض يسقط عندها لا بها؛ لأنا بينا بالدليل امتناع ورود الأمر بها. والسلف أجمعوا على أن الظلمة لا يؤمرون بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة، ولا طريق إلى التوفيق بينهما إا ما ذكرنا، وهو مذهب القاضي أبي بكر رحمه الله، والله أعلم.

شرح القرافي: قوله: " الصلاة في الدار المغصوبة صلاة، والصلاة مامور بها، فالصلاة في الدار المغصوبة مأمور بها "

المسألة الثالثة الشيء الواحد لا يكون مأمورا به منهيا عنه قال القرافي: قوله: " الصلاة في الدار المغصوبة صلاة، والصلاة مامور بها، فالصلاة في الدار المغصوبة مأمور بها ".

قلنا: أثبتم أن الصلاة مأمور بها بالآية، والآية عامة في افراد الصلاة، مطلقة في أحوالها، وأزمنتها، وبقاعها؛ لان العام في الأشخاص مطلق في جميع ذلك، وإنما يدل اللفظ العام على حكم أفراده بأنه يفيد المطلق من جميع ذلك، فيتناول لفظ الصلاة بعمومه كل فرد من أفراد الصلاة بوصف مطلق الزمان، ومطلق المكان، ومطلق الحال، فخصوص الدار المغصوبة لا يتناولها عموم الآية، فلا يصدق أن الصلاة في الدار المغصوبة مأمور بها. قوله: " الأمر بالشيء أمر بما هو من ضروراته، وإلا لزم التكليف بما لا يطاق ". قلنا: لا نسلم أنه يلزم تكليف ما لا يطاق - وقد تقدم بيانه في " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ". قوله: " إن لم يتلازم الوجهان لا يكون عين هذه المسألة ". قلنا: بل هي عينها؛ لأنا ندعي أن الشيء إنما تعلق بالغصب بما هو غصب، وأن الأمر تعلق بالصلاة بما هي صلاة، ولا شك ان الصلاة والغصب لا تلازم بينهما في الذهن ولا في الخارج، فإن اتفق اجتماعهما في بعض الصور لايصيرهما ذلك متلازمين؛ فإن كل ما هو عارض للشيء، غير لازم له يمكن أن يجتمع معه في بعض الصور، ولا يخرجه ذلك عن كونه ليس بلازم له، ولا نحن نقول: ما في الصلاة في الدار المغصوبة من مطلق الصلاة.

مأمور بها؛ لانا نقول: الصلاة في الدار المغصوبة بما هي صلاة في الدار المغصوبة مأمور بها وبينهما فرق؛ لتنزيل الصلاة الخاصة بما هي صلاة في الدار المغصوبة محرمة إجماعا، وليس مأمورا بها من هذا الوجه إجماعا، ولا تناقض بين إيجاب الأعم، وعدم إيجاب الأخص؛ بل تحريم الأخص لا يتناقض إيجاب الأعم، كما أن الحيوان المخصوص الذي هو الخنزير حرام، ومطلق الحيوان ليس حراما، وحينئذ فيصح أن المنهي عنه ليس من لوازم المأمور به، فتأمل ذلك. قوله: " الحيز له شغل الحيز بعد أن كان شاغلا لغيره ". قلنا: ينتقض ذلك بامرين: أحدهما: إذا أعدم الله تعالى الجسم من حيز، ثم أوجده في حيز آخر، فإنه يصدق عليه أنه شغل حيزا بعد أن كان شاغلا بحيز آخر، وليس هو متحركا، ولم يوجد الحركة بعد، مع وجود ما ذكرتموه من الحد، فيكون الحد غير مانع. وثانيهما: أن الجوهر الفرد إذا تحرك في حيزه حركه دورية يصدق عليه أنه متحرك، ولم يشغل حيزا بعد أن كان في حيز آخر ضرورة إيجاده الحيز؛ لأن الجوهر الفرد له حيز فرد، فيكون ما ذكرتموه من الحد غير جامع، كما كان بالسؤال الأول غير مانع، فهو عكس الأول. قوله: " السكون عبارة عن شغل الحيز الواحد أزمنة كثيرة ". قنا: يكفي في حقيقة السكون زمانين إجماعا، ولا حاجة إلى أزمنة كثيرة. قوله: " فيكون ذلك الحيز مأمورا به، منهيا عنه ". قلنا: الشغل الواحد وإن كان شغلا واحدرا، فله وجهان: هو مأمور به.

من أحد الوجهين، منهي عنه من الجهة الأخرى، فما يلزم من اتحاد الشغل اتحاد الجهة، فالمنع باق بحالة وإن اتحد الشغل، فإن الشغل الواحد هو صلاة وتقرب غلى الله تعال به في السجود وغيره، فمن هذا الوجه هو مأمور به، وكونه استيفاء لمنافع الغير، فهو من هذا الوجه محرم. قوله: " ليس النزاع في الصلاة من حيث إنها صلاة، بل في هذه الصلاة ". قلنا: مسلم أن النزاع في هذه الصلاة، لكن من حيث إنها هذه الصلاة أو من حيث إنها متضمنة لمطلق الصلاة، فالمأمور به فيها هو ما فيها من مطلق الصلاة لا من حيث هي هي. قوله: " المثال في الخياطة، ودخول الدار، بعيد؛ لأن متعلق الأمر فيه غير متعلق النهي، والنزاع إنما هو الشيء الواحد، فتأمل ". قلنا: بل مثال مطابق وخياطة للصلاة في الدار كصلاته في الدار المغصوبة. وقولكم: النزاع إنما هو في الشيء الواحد. قلنا: لكن غذا كان له جهتان كان كالشغل بالخياطة في الدار هو شغل واحد هو به خياط للثوب، وعاص بالكون في الدار، وكذلك المصلى له شغل واحد هو به مصل ومستوف لمنافع الغير، ففي الصورتين الشغل واحد، والجهات متعددة، والأمر والنهي متعلقان باعتبار شيئين، ولا مانع من تعلق الأمر بالماهية الكلية، بل ما وقع التكليف في الشريعة إلا بذلك فأمر الله تعالى بمطلق الصوم دون الصوم في المكان المخصوص، وكذلك الحج وسائر المأمورات، والواقع أبدا هو أخص من المأمور به دائما، ومتعلق العلم بأنه يقع أخص من المأمور به دائما، وقد تقدم تقريره في (الواجب المخير).

قوله: " العموم: تخصيص بالدليل القاطع ". قلنا: قد بينا أنه ليس بقاطع. قوله: " الفرض يسقط عندها لا بها ". تقريره: أن سبب براءة الذمة من الواجب إنما هو فعل الواجب، فإذا ثبت أن هذه الصلاة غير مأمور بها كانت غير واجبة، فلا يصلح أن تكون سببا لبراءة الذمة من الواجب، فلا يصدق ان الفرض سقط بها؛ لأن الباء للسببية، بل عندها؛ لأن الإجماع إذا انعقد على سقوط الفرض، ودل الدليل على أنه ما سقط بها كان السقوط عندها، كما إذا دفعت الدين عند حائط معين صدق أن الذمة برئت بالدراهم المدفوعة عند الحائط، ولو قلت: برئت بالحائط عند الدراهم لم يصدق ذلك، وما سببه إلا إنما هو سبب يصلح أن تدخل عليه الباء، وما ليس سببا لا تدخل عليه الباء، فلذلك قلنا: يسقط الفرض عندها لا بها، أما لا بها فقد تبين، وأما عندها فلأن العلماء إن افتوا بسقوط الفرض إنما هو به عند الصلاة، أما إن سكن الدار المغصوبة، ولم يصل لم يفتوا بإسقاط الفرض، فلذلك قلنا: (عندها). قوله: " السلف أجمعوا على أن الظلمة لا يمؤمرون بقضاء الصلوات ". قلنا: هذا الإجماع فيه نظر من وجهين: أحدهما: أن غايته أن ما نقل إلينا أنهم افتوا بالقضاء، ومن أين لنا أن بعضهم في بعض البلاد، او شعاب الجبال، أو بطون الأودية، أو بعض القرى، افتى بذلك، ولا يلزم من عدم العلم بالشيء عدم ذلك الشيء، لا سيما وهؤلاء الظلمة المشار إليهم هم الكائنونفي زمن بني أمية، حيث اتسع قطر الإسلام وممالكه، وبلاده من مشرق الشمس إلى مغربها؛ لأن الإشارة بلك إلى تلك العين الواقعة في زمن، فالإجماع بعد عصر الصحابة غير

(تنبيه) زاد سراج الدين فقال: لقائل أن يقول: لا نزاع في أن الفعل المعين غذا أمر به بعينه لا ينهى عنه

منضبط، ولذلك إنا لا نكاد نجد إجماعا إلا من زمن الصحابة رضوان الله عليهم مع أن الإمام في (البرهان) منع صحة هذا الإجماع، وقال: كان في السلف متعمقون في التقوى يأمرون بالقضاء بأقل من هذا. وثانيهما: أن أحمد بن حنبل رضي الله عنه وعبد الحميد من المالكية قالا ببطلان الصلاة ووجوب القضاء، وكونهما أخطآ وخالفا الإجماع خلاف ظاهر حالهما مع كثرة حفظهما، وما نقلاه من الأحاديث والأقضية والوقائع ومكانيهما من الدين والعلم والتحرز. (تنبيه) زاد سراج الدين فقال: لقائل أن يقول: لا نزاع في أن الفعل المعين غذا أمر به بعينه لا ينهى عنه، إنما النزاع في الفعل المعين إذا كان فردا من أفراد الفعل المامور به هل ينهى عنه وما نفيتموه جوازه بين؛ إذ عندكم الأمر بالماهية ليس أمرا بشيء من افرادها؛ ولأنه لو امتنع ذلك لامتنع النهي عن فعل ما؛ لأن نفس الفعل مأمور به لكونه جزءا من الفعل المأمور به، وكل منهي عنه فرد من أفراد نفس الفعل.

قلت: يريد أن الأمر بالماهية إذا لم يكن أمرا بشيء من أفرادها كان الخصوص غير متعرض إليه بالأمر، فأمكن أن يكون منهيا عنه، وإذا كان مطلق الفعل مامورا به لكونه جزء المأمور به، ويلزم من تعلق الخطاب بالعموم تعلقه بالخصوص على سياق ما قالوه، فيكون الخصوص مأمورا به في كل صورة، فيمتنع أن يكون الخصوص محرما في صورة، وهو خلاف الإجماع والضرورة. وزاد التبريزي: فقال: الصحيح صحة الصلاة، واجتمع الأمر والنهي باعتبار جهتين. قلنا: البعيد اتحاد المتعلق، واختلاف وجوه الفعل يبطل اتحاد المتعلق، وكونه لازم الوقوع في الصورة المعينة لا يوجب دخوله في التعلق؛ لأن الأمر هو الطلب، ومتعلقه المعلوم، وما لا يتعلق به العلم لا يتعلق به الطلب، ولذلك لو تعلق به العلم، ولم يتعلق به الغرض - ولو قدرنا الأمر قولا ذكر - فمتعلقه المذكور، فما ليس بمذكور فليس بمأمور، ولو سلم فاللازم لمسماه الصلاة، وهو شغل الحيز لا شغل تلك الغير، والغاصب لم يؤمر بالصلاة في المكان المعين، بل بالصلاة وهو متمكن من إيقاعها بدون شغل تلك الغير، إلا ألا يجد مكانا غيره، فلا يكون منهيا عن الشغل، وليس كلامنا فيه، وإذا لم يدخل الشغل الذي هو متعلق النهي في مسمى الصلاة المأمور بها، ولا كان من لوازم وقوعها لم يتناوله الأمر بالصلاة فتجرد تعلق الأمر عن متعلق النهي إلا أنهما افترقا في الوقوع، وذلك لا يمنع الإجزاء بالمأمور به، كما لو أمر بكسر أحد الكوزين، ونهى عن كسر الآخر فضرب احدهما بالآخر فكسرهما، وكما لو صلى في زحمة، فكما قام أو قعد أدى، أو في ثوب مغصوب أو حرير مع ان الستر جزء الصلاة، فالمأمور به، وهو مقصود بالشغل ليس بمقصود، ويكفي القاطع في سقوط الغرض عنه، وهو الإجماع.

وقوله: (عندها) لأنها روغان في دفع القاطع؛ فإنا نعلم انحصار جهات سقوط فرض العين في الأداء وتعذره، وورود النسخ، ولا ينفك في انتفاء الأخيرين، فتعين الأول. ثم هب أن القاضي أبا بكر اضطر إلى ارتكاب هذا التكليف فما بال المصنف والإجماع عنده دليل ظني، ودليل كونه حجة عنده ظني، فهلا ترك موجبه لما يعتقده من الدليل القاطع؟ قلت: يريد بقوله: (متعلق الطلب) المعلوم أي ما قصد بالطلب، وإن كان اعتبارا في فعل؛ لأن ما لا شعور به متعذر طلبه. وقوله: " لو قدرنا بالأمر ذكريا " يعني لسانيا؛ لأنه كان أولا يبحث في الطلب النفساني. وقوله: " الستر جزء الصلاة المأمور بها " ممنوع بل شرطها، والفق أن الشرط خارج، والجزء داخل، والداخل يستحيل أن يكون خارجا، والشرط لا يكون جزءا. وقوله: " يعلم انحصار جهات سقوط فرض العين في الأداء وتعذره في النسخ ": مثال الأول: الصلاة المجموع على صحتها. مثال الثاني: أغمى عليه حتى مات. مثال الثالث: ذبح إسحاق عليه السلام؛ فإنه نسخ قبل وقوعه، لكن برئت الذمة لوجود النسخ لا إيقاع المأمور به على وجه الصحة. قوله: " الإجماع عنده دليل ظني ".

(فائدة) قال سيف الدين: اتفق العقلاء على استحالة الجمع بين الحظر والوجوب في فعل واحد من جهة واحدة لا على جواز تكليف ما لا يطاق

قلنا: إلا أنه لم يفرع عليه، بل على المشهور، وكذلك في جميع الكتاب لا يكاد يوجد له عليه تفريع. (فائدة) قال سيف الدين: اتفق العقلاء على استحالة الجمع بين الحظر والوجوب في فعل واحد من جهة واحدة لا على جواز تكليف ما لا يطاق. وإنما اختلفوا في انقسام النوع إلى: واجب كالسجود لله تعالى، وإلى محرم: كالسجود للصنم، فمنعه بعض المعتزلة، وقال: إنما المحرم تعظيم الصنم، وهو غير السجود، وقال: النوع الواحد لا يكون حسنا قبيحا. وفي الفعل الواحد إذا كان ذا جهتين، فأكثر الفقهاء على الجواز، وخالف فيه الجبائي، وابنه، وابن حنبل، وأهل الظاهر. والزيدية قالوا بعدم صحة الصلاة في الدار المغضوبة؛ فإن الفرض لا يسقط بها ولا عندها، ووافقهم القاضي ابو بكر إلا في سقوط الفرض، فقال: يسقط الفرض عندها لا بها، ووافقه في (المستصفى)، و (البرهان) الغزالي والإمام في نقل عدم الصحة فيها عن هؤلاء الجماعة. وزاد صاحب (البرهان) فقال: ويعزي هذا المذهب لطوائف من سلف الفقهاء، وأن الجميع قالوا بوجوب القضاء، وبقاء الأمر متوجها بالصلاة عليه. وقال ابن برهان في كتاب (الأوسط): كذلك الخلاف في الثوب المغصوب، والماء المغصوب إذا تطهر منه، والزكاة إذا أديت بمكيال مغصوب أو ميزان مغصوب، أو حج على [جمل] مغصوب، أو صلى وعليه ديون ماطل.

(فائدة) قال سيف الدين: المحرم بوصفه يضاد الواجب بأصله

بها، وهذه الفائدة بجملتها في (المستصفى)، و (البرهان)، وكذلك الفائدة التي بعدها. (فائدة) قال سيف الدين: المحرم بوصفه يضاد الواجب بأصله عند الشافعي رضي الله عنه خلافا لأبي حنيفة. كما إذا أوجب الله تعالى الصوم، وحرم إيقاعه في يوم العيد، ونحو ذلك. فالشافعي يعتقد أن المحرم هو الصوم الواقع، وألحقه بالمحرم باعتبار أصله، فكان تحريمه مضادا للوجوب. واعتقد أبو حنيفة ان المحرم نفس الوقوع لا الواقع، وهما غيران، فلا يضاد إلحاقا بالمحرم باعتبار غيره، حيث قضى بتحريم صلاة المحدث وبطلانها، إنما كان لفوات شرطها من الطهارة لا للنهي عن إيقاعها مع الحدث، بخلاف الطواف، حيث لم يقم الدليل عنده على اشتراط الطهارة فيه. حجة الشافعي: أن اللغوي لا يفرق عند سماعه لقول القائل: " حرمت عليك الصوم في هذا اليوم " مع كونه موجبا للتحريم، وبين قوله: حرمت عليك إيقاع الصوم في هذا اليوم "، من جهة أنه لا معنى لإيقاع الصوم في اليوم سوى فعل الصوم في اليوم، فكان فعل الصوم فيه محرما، وكان ضدا للوجوب. واختلفوا: بان التحريم غيقاع الفعل في الوقت لو كان تحريما للواقع لكان

تحريم إيقاع الصلاة زمن الحيض تحريما للطلاق، وكذا إيقاع الصلوات في الأوقات والبقاع المنهي عنها فيها. جوابه: أنا لم نعص بعدم التحريم في الطلاق؛ لقيام المانع من ذلك وهو الإجماع، وصرفته إلى صفته وهو تطويل العدة، وكذلك الصلاة. (فائدة) قال الغزالي في (المستصفى): يلزم أحمد بن حنبل - القائل بأن الصلاة باطلة، وجميع العقود محرمة، وحتى البيع وقت النداء ألا تحل امرأة لزوجها من في ذمته دانق ظلم، ولا صلاته، ولا جميع تصرافته، ولا يحصل التحليل بوطء من هذا شانه؛ لأنه عاص بترك رد المظلمة، ولم يتركه إلا بتزويجه، وبيعه، وجميع تصرافته، فيلزم تحريم أكثر النساء وبطلان أكثر الأملاك، وهو خرق الإجماع. ***

المسألة الرابعة قال الرازي: ذهب أكثر الفقهاء غلى أن النهي لا يفيد الفساد

المسألة الرابعة قال الرازي: ذهب أكثر الفقهاء غلى أن النهي لا يفيد الفساد، وقال بعض أصحابنا: إنه يفيده، وقال أبو الحسين البصري: إنه يفيد الفساد في العبادات، لا في المعاملات، وهو المختار. والمراد من كون العبادة فاسدة: انه لا يحصل الإجزاء بها، أما العبادات: فالدليل على أن النهي فيها يدل على الفساد: أن نقول: إنه بعد الإتيان بالفعل المنهي عنه، لم يأت بما أمر به؛ فبقى في العهدة. إنما قلنا: إنه لم يأت بما أمر به؛ لأن المأمور به غير المنهي عنه؛ كما تقدم بيانه، فلم يكن الإتيان بالمنهي عنه إتيانا بالمأمور به. وإنما قلنا: إنه وجب أن يبقى في العهدة؛ لأنه تارك للمأمور به، وتارك المأمور به عاص، والعاصي يستحق العقاب؛ على ما مر تقريره في مسألة أن الأمر للوجوب. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون الإتيان بالفعل المنهي عنه سببا للخروج عن عهدة الأمر؛ فإنه لا تناقض في أن يقول الشارع: " نهيتك عن الصلاة في الثوب المغصوب؛ ولكن، إن فعلته، أسقطت عنك الفرض بسببه؟ سلما أن ما ذكرته يدل على أن النهي يقتضي الفساد؛ لكنه معارض بدليلين: الأول: أن النهي لو دل على الفساد، لدل عليه: إما بلفظه، أو بمعناه، ولم يدل عليه في الوجهين، فوجب ألا يدل على الفساد أصلا.

أما أنه لا يدل عليه بمعناه؛ فلأن الدالة المعنوية: إنما تتحقق إذا كان لمسمى الشيء لازم، فاللفظ الدال على الشيء دال على لازم المسمى؛ بواسطة دلالته على المسمى. وهاهنا الفساد غير لازم للمنع؛ لأنه استبعاد في أن يقول الشارع: " لا تصل في الثوب المغصوب، ولو صليت، صحت صلاتك، ولا تذبح الشاة بالسكين المغصوب، ولو ذبحتها بها، حلت ذبيحتك " وإذا لم تحصل الملازمة، انتفت الدلالة المعنوية. الثاني: لو اقتضى النهي الفساد، لكان أينما تحقق النهي، تحقق الفساد. لكن الأمر ليس كذلك؛ بدليل النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة، والوضوء بالماء المغصوب مع صحتهما. والجواب: قوله: " لم لا يجوز أن يكون الإتيان بالنهي عنه سببا للخروج عن العهدة؟ ": قلنا: لانه غذا لم يات بالمأمور به، بقي الطلب كما كان؛ فوجب الإتيان به؛ وإلا لزم العقاب بالدليل المذكور. قوله: " الصلاة في الثوب المغصوب منهي عنها، ثم إن الإتيان بها يقتضي الخروج عن العهدة ". قلنا: الدليل الذي ذكرناه يقتضي ألا يخرج الإانسان عن عهدة الأمر؛ إلا بفعل المأمور به؛ إلا انه قد يترك العمل بهذا الدليل في بعض الصور لمعارض.

والفرق أن مماسة بدن الإنسان للثوب ليست جزءا من ماهية الصلاة، ولا مقدمة لشيء من أجزائها، وإذا كان كذلك، كان آتيا بعين الصلاة المأمور بها؛ من غير خلل في ماهيتها اصلا. أقصى ما في الباب: أنه أتى مع ذلك بفعل آخر محرم، ولكن لا يقدح في الخروج عن العهدة. أما المعارضة الأولى: فجوابها: أن النهي دل على أن المنهي عنه مغاير للمأمور به، والنص دل على أن الخروج عن عهدة الأمر لا يحصل إلا بالإتيان بالمأمور به؛ فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين أن الإتيان بالمنهي عنه لا يقضي الخروجعن العهدة. وأما المعارضة الثانية: فنقول: لا نسلم أن النهي في الصور التي ذكرتموها تعلق بنفس ما تعلق به الأمر؛ بل بالمجاور، وحيث صح الدليل أن الفعل المأتي به غير الفعل المنهي عنه - فلا نسلم أنه لا يفيد الفساد، والله أعلم. وأما المعاملات: فالمراد من قولنا: " هذا البيع فاسد ": أنه لا يفيد الملك، فنقول: لو دل النهي على عدم الملك، لدل عليه: إما بلفظه، أو بمعناه؛ ولا يدل عليه بلفظه؛ لأن لفظ النهي لا يدل إلا على الزجر. ولا يدل عليه بمعناه أيضا؛ لأنه لا استبعاد في أن يقول الشارع: " نهيتك عن هذا البيع، ولكن إن أتيت به، حصل الملك " كالطلاق في زمان الحيض، والبيع وقت النداء. وإذا ثبت أن النهي لا يدل على الفساد، لا بلفظه، ولا بمعناه، وجب ألا يدل عليه أصلا.

فإن قيل: هذا يشكل بالنهي في باب العبادات؛ فإنه يدل على الفساد: ثم نقول: لا نسلم أنه لا يدل عليه بمعناه؛ وبيانه من وجهين: الأول: أن فعل المنهي عنه معصية، والملك نعمة، والمعصية تناسب المنع من النعمة، وإذا لاحت المناسبة فمحل الاعتبار جميع المناهي الفاسدة. الثاني: أن النهي عنه لا يجوز أن يكون منشأ المصلحة الخالصة أو الراجحة؛ أو المساوية: وعلى التقديرين الأولين: وجب الحكم بالفساد؛ لا، هـ إذا لم يفد الحكم أصلا، كان عبثا، والعاقل لا يرغب في العبث ظاهرا، فلا يقدم عليه؛ فكان القول بالفساد سعيا في إعدام تلك المفسدة. وعلى التقدير الثالث، وهو التساوي: كان الفعل عبثا، والاشتغال بالعبث محذور عند العقلاء، والقول بالفساد يفضي إلى دفع هذا المحذور؛ فوجب القول به. سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك؛ لكنه معارض بالنص، والإجماع والمعقول: أما النص: فقوله عليه الصلاة والسلام: " من أدخل في ديننا ما ليس منه، فهو رد "

والمنهي عنه ليس من الدين؛ فيكون مردودا، ولو كان سببا للحكم، لما كان مردودا. وأما الإجماع: فهو أنهم رجعوا في القول بفساد الربا، وفساد نكاح المتعة -إلى النهي. وأما المعقول: فمن وجهين: الأول: أن النهي نقيض الأمر، لكن الأمر يدل على الإجزاء؛ فالنهي يدل على الفساد. الثاني: أن النهي يدل على مفسدة خالصة، أو راجحة، والقول بالفساد سعي في إعدام تلك المفسدة؛ فوجب أن يكون مشروعا؛ قياسا على جميع المناهي الفاسدة. والجواب: قوله: " يشكل بالنهي في العبادات ": قلنا: المراد في الفساد في باب العبادات: أنها غير مجزئة، والمراد منه في باب المعاملات: أنه لا يفيد سائر الأحكام، وإذا اختلف المعنى، لم يتجه أحدهما نقضا على الآخر. قوله: " الملك نعمة؛ فلا تحصيل من المعصية ": قلنا: الكلام عليه وعلى الوجه الثاني مذكور في الخلافيات. وأما الحديث: فنقول: الطلاق في زمان الحيض يوصف بأمرين: أحدهما: أنه غير مطابق لأمر الله تعالى، والثاني: أنه سبب للبينونة: أما الأول: فالقول به إدخخال في الدين ما ليس منه؛ فلا جرم كان ردا.

شرح القرافي: المسألة الرابعة النهي يقتضي الفساد

وأما الثاني: فلم قلت: إنه ليس من الدين؛ حتى يلزم منه أن يكون ردا؛ فإن هذا عين المتنازع فيه؟ وأما الإجماع: فلا نسلم أن الصاحبة رضي الله عنهم رجعوا في فساد الربا والمتعة إلى مجرد النهي؛ بدليل أنهم حكموا في كثير من المنهيات بالصحة، وعند ذلك لا بد وأن يكون أحد الحكمين لأجل القرينة، وعليكم الترجيح. ثم هو معنا؛ لانا لو قلنا: إن النهي يدل على الفساد، لكان الحكم بعدم الفساد في بعض الصور تركا للظاهر. أما لو قلنا بأنه لا يقتضي الفساد، لم يكن إثبات الفساد في بعض الصور لدليل منفصل؛ تركا للظاهر؛ فكان ما قلناه أولى. قوله: " الأمر دل على الإجزاء؛ فوجب أن يدل على النهي على الفساد ": قلنا: هذا غير لازم؛ لإمكان اشتراك المتضادات في بعض الصور اللوازم، ولو سلمنا ذلك، لكان الأمر: لما دل على الإجزاء، وجب ألا يدل النهي عليه، لا أن يدل على الفساد، والله أعلم. المسألة الرابعة النهي يقتضي الفساد قلت: في هذه المسألة خمسة أقوال:

............................................

.................................................

يدل على الفساد. يدل على الصحة. لا يدل عليهما. على شبه الصحة، وهو تفريع المالكية؛ لأن البيع الفاسد عندهم المنهي عنه يفيد شبهة الملك، فإذا اتصل به البيع أو غيره - على ما قرروه - يثبت الملك فيه بالقيمة، وإن كانت قاعدتهم: أن النهي يدل على الفساد في الأصول، غير أنهم راعوا الخلاف في اصل القاعدة في الفروع، فقالوا: شبهة الملك، ولم يمحضوا الفساد، ولا الصحة جمعا بين المذاهب. التفرقة بين المعاملات والعبادات، فيفسد الثاني دون الأول. قوله: " أتى بالمنهي عنه، ولم يأت بالمأمور به لأنه غيره ": قلنا: صدق قولنا: " أتى بالمنهي عنه " أعم من كونه أتى بالمأمور به، أو لم يأت به؛ لأنه قد تقدم أن الخاص قد يكون منهيا عنه، والمفهوم العام قد يكون مباحا كمطلق اللحم في تحريم لحم الخنزير، وواجبا كالصلاة في الدار المغصوبة، ومندوبا كالنافلة في الأوقات المكروهة والبقاع المكروهة، وحراما كالكفر والشرك؛ فإن أصل الكفر حرام، وإذا كان أعم من هذه الأقسام الأربعة لا يستدل به على أحدهما؛ لأن الأعم لا يدل على الأخص.

قوله: " لم لا يجوز أن يكون الإتيان بالمنهي عنه سببا للخروج عن العهدة؛ فإنه لا تناقض بين أن يقول الشارع: " نهيتك عن الصلاة في الثوب المغصوب "، و " إذا فعلته خرجت عن العهدة ". قلنا: أما النهي عنه بما هو منهي عنه لا يكون سببا لبراءة الذمة من الواجب؛ لأن المندوب الذي هو راجح الفعل ومتضمن المصلحة لا يجزئ عن الواجب؛ فإن صلاة ألف ركعة نفلا لا يبرئ الذمة من صلاة الصبح، وأما الصلاة في الثوب المغصوب فإن الذمة غنما برئت؛ لأن المصلي معظما لله تعالى بما شرعه في الصلاة، غير أن ذلك المأمور به صحبه استيفاء حق الغير بغير غذنه، وهذا أمر خارج عن الصلاة، فلم تبرأ الذمة من الواجب إلا بواجب. قوله: " لا يدل النهي بلفظه على الفساد؛ لأنه لا يدل بلفظه إلا على الزجر فقط ": قلنا: دعواكم الحصر مصادرة؛ فإن الخصم هو يقول: هو يدل على الأمرين. سلمنا أنه لا يدل بلفظه، فلم لا يدل بالالتزام؟ قوله: " لا استبعاد في أن يقول الشارع: " لا تصل في الثوب المغصوب وإذا صليت أجزأ عنك "، ولا " لا تذبح الشاة بسكين الغير، وإذا ذبحت أبحتها لك ": قلنا: الملازمة على قسمين: ظنية، وقطعية، فدلالة الالتزام تنقسم لذلك أيضا هذين القسمين، كما يقول في دلالة المفهوم وغيره: إنه دلالة التزام، وهي دلالة ظنية؛ لأن الملازمة ظنية، وذلك ككأس الحجام؛ لفظه يدل على النجاسة ظاهرا كما يدل لفظ سوسية القصار على الطهارة ظاهرا.

وإذا تقرر أن دلالة الالتزام - هاهنا - ظنية، فلا يناقضها قولكم: " لا استبعاد في أن يقول الشارع " لأن هذا إشارة إلى الاحتمال، ومن ادعى الظن فقد التزم الاحتمال لازما لدعواه، فلا يرد عليه سؤال ما ادعاه لازما لدعواه؛ لأن لازم الشيء لا يناقضه، والاحتمال لازم للظن، والسؤال والمعارضات كلها لا بد أن تكون منافية متناقضة. قوله: " لو دل على الفساد لكان حيث تحقق النهي تحقق الفساد، لكنه ليس كذلك؛ فإن الصلاة في الأوقات المكروهة، وبالماء المغصوب صحيحة ". قلنا: لا نسلم الصحة فقد نقل الغزالي في (المستصفى) عدم صحة الصلاة في الأوقات المكروهة عن بعض العلماء والمنقول عن مذهب أحمد بن حنبل عدم الصحة في الوضوء بالماء المغصوب والذبح بسكين الغير، وطرد القاعدة. قوله: " الفرق أن مماسة الثوب ليس جزءا من ماهية الصلاة، فالصلاة في نفسها في ماهيتها لا فساد فيها ": قلنا: لكن الشارع أمره أن ياتي بشرطه كما أمره أن ياتي بصلاة، فكما أنه إذا أتى بصلاة محرمة قدح فيها ذلك عندكم، ولم يعتد بها، وكان كمن لم يصل، وكان من أتى بالشرط المنهي عنه لم يأت بالشرط في نظر الشرع، والصلاة بدون شرطها لا يعتد بها، فنحن لا نورد الفساد على ماهية الصلاة، بل على ماهية الشرط. قوله: " النص دل على أن الخروج عن العهدة لا يحصل إلا بالإتيان بالمأمور به ". تقريره: أن هذا النص هو الاجماع إن تيسر نقله، أو يكون معلوما من الدين بالضرورة، فلا يحتاج إلى النقل، وإلا فلا يجد نصا من الكتاب،

ولا من السنة يقول: لا تبرأ الذمة من أي واجب كان إلا بفعل ذلك الواجب، ويكون ذلك النص شاملا بجملة الشريعة. قوله: " لا نسلم أن النهي في تلك الصور تعلق بما تعلق به الأمر، بل بالمجاور ". قلنا: لا نسلم أنه لم يتعلق به أمر، غايته أنه لم يتعلق به الأمر بالصلاة، لكن تعلق به الأمر بتحصيل الشرط، فقد اجتمع الأمر بالسترة والنهي عن الصغب في الثوب، والبحث فيه كالبحث في الصلاة في الدار المغصوبة، وهو قد التزم هنالك تواردهما على شيء واحد، فيلزمه هاهنا. قوله: " لا يدل النهي في المعاملات بلفظه؛ لأنه لا يدل إلا على الزجر ". قلنا: هذه مصادرة في هذا الحصر، فلم لا يدل على الوجوب وعدم الملك؟ وتقريره: أن النهي لا يكون إلا لتضمن المنهي عنه مفسدة تقتضي التحريم المتضمن للمفاسد، لا ينبغي أن يمكن الشرع من التصرف فيه وتقريره، بل يأمر بنفيه وعدم تقريره؛ نافيا لذلك المفسدة، واقل الأحوال أن يكون دالا بمعناه، فدعواكم نفي الأمرين لا يستقيم، وأما قولكم: " لا استبعاد في أن يقول الشارع: " نهيتكم عن هذا البيع، فإن أتيت به جعلته سببا للملك ". قلنا: قد تقدم أن هذا إبداء الاحتمال، والاحتمال لا ينافي الظن؛ لأنه لازم، ولازم الشيء لا ينافيه. قوله: " المنهي عنه لا يجوز أن يكون منشأ المصلحة الخالصة أو الراجحة ". تقريره: أن المصلحة الراجحة كما في الجهاد؛ فإنه مصلحة نصرة الدين، ومحو الكفر من قلوب المشتركين، وفيه مفسدة ذهاب النفوس، والإضرار بالأولاد والعيال، وإفساد الأموال.

وكذلك القول في المفسدة الخالصة كالكفر، والراجحة كالخمر لقوله تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219]. قوله: " النهي نقيض الأمر، لكن الأمر يدل على الإجزاء، فالنهي يدل على الفساد ". تقريره: أن العرب تحمل الشيء على ضده كما تحمله على مثله، بدليل حملهم (لا) النافية - في نصب المضاف - على (إن) وهي نقيضها؛ لأن النفي نقيض الإثبات، وحملوا (الغدايا) على (العشايا) في الجمع، فإن أصل (الفعال) للعشايا دون الغدايا، كزكية، وزكايا، وسرية وسرايا، لكن (بكرة) ضد (عشية)، فحمل عليه؛ لأن أصلهما واحد وهو المصدر، فـ (اضرب) و (لا تضرب) و (بع) و (لا تبع)، و (صل) و (لا تصل) كلاهما مصدره واحد، والأصل في اتحاد الأصول تساوي الفروع، فكما أن الأمر دل على شيئين: الوجوب والإجزاء - النهي - أيضا - يدل على شيئين: الزجر والفساد، فيكون لكل واحد منهما مدلولان عملا بتساوي الأصل الذي هو المصدر، وقد سلك المنصف في مسألة (الإجزاء) عكس هذا الاستدلال فقال: " النهي لا يدل على الفساد، فالأمر لا يدل على الإجزاء "، ولما كان في الكل قولان جاز له البناء على كلا القولين في أي وقت شاء. قوله: " المراد من الفساد في العبادات أنها لا تفيد براءة الذمة، ومن المعاملات أنها لا تفيد جميع الأحكام، وإذا اختلف البابان لا يرد أحدهما نقضا على الآخر ". قلنا: لا نسلم اختلاف الباب، بل الفساد في الجميع عدم ترتب الآثار، فأثر النهي في العبادة عدم براءة الذمة، واثر النهي في المعاملات عدم إفادة الملك، وتنوع الأمر يقتضي اختلاف الجنس، ألا ترى أن النهي في المعاملات

واحد عندكم مع أن أثر البيع الملك في العين، وفي الإجارة الملك في المنفعة، وفي النكاح التمكن من الوطء وفي القراض الأمانة على المال واستحقاق النصيب؟ وفي كل موطن أثر يخالف أثر الآخر، وما يمنعكم الاختلاف من جعل الجمع شيئا واحدا؟ وكذلك العبادات جعلوها مع المعاملات، وصيروا الجميع بعدم ترتب الأثر، وفسروا الصحة في الجميع بترتيب الآثار، والآثار مختلفة، ويجمعها كونها أثرا كما يجمع الحيوان كله كونه حيوانا، وهو مختلف في نفسه. قوله: " الكلام عليه مذكور في الخلافيات ". تقريره: أن المذكور في الخلافيات أن الله تعالى رتب على ارتكاب المنهي عنه الحد في جنايات خاصة، والتعزيز فيما عداها، مع سقوط العدالة وغير ذلك مما قد استقر في الشريعة، فليس لأحد أن يزيد على ما رتبه الله تعالى، وعدم الملك زيادة على المفرد فوجب ألا يشرع، فلا ينتقم أحد لله تعالى بأكثر مما انتقم لنفسه. قوله: " والواجب عن الحديث: أن الطلاق في زمان الحيض يوصف بأمرين: أحدهما: أنه غير مطابق لأمر الله تعالى. والثاني: أنه يثبت للبينونة، والأول يرد، والثاني محل النزاع ". قلنا: وقع في كثير من النسخ: أحدها أنه مطابق لأمر الله تعالى بإسقاط (غير) والنسخ الصحيحة بإثبات (غير) ثم نقول: الحديث عام في كل ما ليس من الدين، ورفع الواقع متعذر، فتعين صرفه لآثاره، فتعم جميع الآثار إلا ما أجمعنا عليه، فينتفي الأول والثاني وغيرهما.

قوله: " لا يلزم من دلالة الأمر على الإجزاء دلالة النهي على الفساد؛ لإمكان اشتراك المتضادات في بعض اللوازم ": تقريره: أنهم قاسوا النهي على الأمر في أن كل واحد منهما نقيض الآخر، فيقتضي تيقن الوجوب والإجزاء في الأمر، والتحريم والفساد في النهي، فقال في الواجب: هذا غي لازم لإمكان اشتراك المتضادات في بعض اللوازم، وهو غير واجب؛ فإن إمكان اشتراكهما في بعض اللوازم لا باشتراكهما في نفيها، ثم إن الخصم قال: النهي يقتضي الأمر، وقال: هو في الجواب: هو ضده، لكنه قصد كلاما، فنطق ببعضه، فقصد أن المتضادات وإن اشتركت في بعض اللوازم، فيجب اختلافها في بعض، وإلا لكانت أمثالا لا نقائض وأضداد، وإذا وجب اختلافهما في بعض اللوازم فلعل الحكم المطلوب هو مما وقع الاختلاف فيه، فلا يلزم ثبوته، فأراد أن يقول: الإمكان اشتراك المتضادات في بعض اللوازم، إختلافها في البعض، فاكتفى بمفهوم قوله: في بعض اللوازم؛ لأن مفهوم البعض يقتضي أن البعض الآخر ليس كذلك، وإلا لكان الكل، وأما عدول عن النقيض إلى الضد فتوسع في العبارة؛ فإنه كثيرا ما يستعمل أحدهما في الآخر. قوله: " سلمنا ذلك، لكن الأمر لما دل على الإجزاء وجب الا يدل النهي عليه، لا أنه يدل على الفساد ": تقريره: أن النهي إذا كان نقيض الأمر - كما قال الخصم - وشأن النقيض أن يثبت له نقيض حكم نقيضه، فغذا كان السواد يجمع البصر، فعدم السواد لا يجمع البصر، والواجب تعاقب عليه، فما ليس بواجب لا تعاقب عليه، فيكون اللازم هاهنا أن النهي لا يدل على الإجزاء؛ لانه نقيض ما دل عليه، أما دلالته على الفساد، فلا يلزم أن الفساد ليس نقيض الإجزاء، بل أمر آخر ثبوتي مع أن الحق في هذا الموطن أن النهي ضده وليس بنقيض، لأنهما ثبوتيان، والنقيضان لا بد أن يكون أحدهما عدميا، ثم إن ما تقدم من

(تنبيه)

اشتراكهما في المصدر يقتضي اشتراكهما في جميع الأحكام إلا ما دل الدليل على عدم المشاركة فيه. (تنبيه) بقي من الأسئلة سؤال ما أجاب عنه، وهو قول السائل المنهي عنه: لا بد أن يكون مشتملا على مفسدة خالصة، أو راجحة، فوجب أن يقتضي الفساد كسائر المناهي الفاسدة. وأجاب عنه صاحب (الحاصل) فقال: اشتمال الفعل على المفسدة لا يمنع كونه مفيدا للحكم. تقريره: أن السبب الشرعي ليس من شرطه أن يكون مشروعا مأذونا في مباشرته، فالزنا سبب الرجم، والحرابه سبب القتل، والسرقة سبب القطع، وهو كثير، وعدم الفساد هو ترتب الأحكام على المنهي عنه، والأسباب قد تكون كذلك كما في النظائر المذكورة. (تنبيه) ترتب الأحكام على الأفعال المحرمة، وجعلها أسبابا يستدل العلماء على أن النهي قد لا يستلزم الفساد، وفيه تحرير، وهو أن المترتب على الفعل المحرم قد يكون حكما رتب في أصل الشرع على التحريم، كالقطع في السرقة، وقد يكون الفعل المأذون فيه سببا في الشرع بحكم، فإذا وقع محرما قد يترتب عليه ذلك الحكم الذي شأنه أن يترتب على الجائز، كما في الطلاق في الحيض، والملك في البيع الفاسد عند أبي حنيفة، وقد لا يترتب كما في الملاقيح والمضامين، فكل شيء لا يقبل الملك كالخنزير والميتة، فهذا هو محل النزاع في هذه المسألة.

(سؤال) قال النقشواني: قوله في أول هذه المسألة: " لم يأت بالمأمور به، فوجب أن يبقى على العهدة " يناقض ما قرره في الصلاة في الدار المغصوبة

أما القسم الأول فمتفق عليه فلا حجة فيه، إنما يصح الاستدلال بثبوت الأحكام التي شانها ان تترتب على المأذون فيه فقط. (سؤال) قال النقشواني: قوله في أول هذه المسألة: " لم يأت بالمأمور به، فوجب أن يبقى على العهدة " يناقض ما قرره في الصلاة في الدار المغصوبة، أن هناك لم يأت بالمأمور به مع أن كلا الصورتين المصلى عاص فيهما بأمر مع الصلاة، وحكم ثمة بأنه لم يخرج عن العهدة، وهاهنا بأنه خارج عنها. (سؤال) إذا كانت الصحة ترتب الأحكام الشرعية والفساد عدم ترتبها فقبل الشرع لا يكون النهي دالا، فلا يكون البحث في هذه المسألة لغويا، بل شرعيا مع أن البحث في مسائل أصول الفقه إنما يقع في مدلول اللفظ لغة، وقد ينهي الإنسان الفاسق عن التصرفات الصحيحة الشرعية والعبادات الواجبة، فعلى هذا لا يكون النهي يقتضي الفساد لغة البتة. جوابه: أن النهي لغة يدل على الفساد، وهو عدم الآثار عند الناهي كائنا من كان، والناهي على العبادات الواجبة مقتضي نهيه أن لا يصح عنده هو، غير أن الشرع لم يعين مقصده. (فائدة) قال سيف الدين: جماهير الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة والحنفية على ان النهي يقتضي الفساد في العقود، ووافقهم جميع أهل الظاهر، وجماعة من المتكلمين، ثم اختلفت الفرق في ذلك:

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: الظاهر أنه يدل على الفساد بعرف شرعي

فمنهم من قال: إنه من جهة الشرع دون اللغة. ومنهم من قال: ذلك من جهة اللغة. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: الظاهر أنه يدل على الفساد بعرف شرعي؛ لأنه كان شأن الصحابة رضوان الله عليهم في مناظراتهم، فيدعي نفي الأمر ثم يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن ذلك ويذكر الحديث؛ ولأن النهي لا بد له من فائدة وليست إلا الفساد؛ لأن طلب الامتناع أما المفسدة في الفعل، أو لعدم فائدة فيه، أو الفائدة في الامتناع، ودليل الحظر أنا لو فرضنا انتفاء الأقسام للزوم أن يكون الفعل مشتملا على المصلحة، خاليا عن المفسدة فيكون مطلوب لا منهيا عنه، وإذا ثبت الحظر لا يجوز أن يكون لعدم الفائدة؛ لانا فرضناه مفيدا لأحكامه ولا للمفسدة؛ لأنها تنشأ من نفس العبد، أو بواسطة ترتب الأحكام عليه، والأول باطل؛ لأن صيغ المعاملات لا مفسدة فيها، ولهذا لا يأثم بها في معظم الساعات، والثاني باطل لأن المفسدة لو نشات من الحكم لما ثبت الحكم نفيا لها؛ ولأن الحكم وضع شرعي والشرع لا يضع المفاسد، ولا يجوز حمله على فائدة الامتناع فإن الامتناع عما فيه فائدة وهي ترتب الحكم على رأي الخصم لا فائدة فيه. فإن قيل: فائدته الابتلاء والامتحان. قلنا: ذلك فائدة الامتناع لأجل النهي، ونحن نطلب فائدة في الامتناع عن الفعل، ليكون النهي حسنا معقولا؛ ولأن النهي ظاهر في التحريم، والاعتبار ينافي التحريم؛ لأنه تمكين للمكلف من تحصيل حكمة الاعتبار؛ بدليل جميع الأحكام المجمع على اعتبارها.

(فائدة) قال الغزالي في (المستصفى): المنهي عنه ثلاثة أقسام

ولا يرد علينا مواقع السماع، فإنا لا نسلم أن في تلك المواضع نهيا عن نفس التصريف، غايته أن ظاهر الإضافة يقتضي ذلك، لكنه ترك بدليل، وكلامنا حيث ثبت هذا الظاهر. (فائدة) قال الغزالي في (المستصفى): المنهي عنه ثلاثة أقسام: تارة ينهي عنه لذاته كالزنا. وتارة ينهي عنه لغيره كالبيع عند النداء يوم الجمعة. وتارة لوصفه كالطلاق في الحيض والطواف بغير طهارة ونحو ذلك. واتفق الشافعي وأبو حنيفة على أن الأول يقتضي الفساد، والثاني لا يقتضيه، والثالث قال الشافعي: يقتضيه. وقال أبو حنيفة: لا يقتضيه، وجزم الشافعي بأن النهي عن صوم يوم النحر من القسم الأول؛ لان الله تعالى دعا الخلق لضيافته، فالمفسدة في نفس الصوم، وجعل ذلك فرقا بينه وبين الصلاة في الأوقات المكروهة. (فائدة) قال المصنف في (المعالم): أجمعوا على أن النهي لا يفيد الملك في جميع الصور، بل الضابط أن المنهي عنه إما أن به يكون تمام الماهية، او جزؤها، او خارجا [عنها] لازما، أو خارجا مفارقا، أما القسمان الأولان فيبطل العقد فيهما لتمكن الفساد من نفس الماهية، ووافقنا الحنفي فيهما على الفساد، وأما الثالث وهو الخارج اللازم يكون منشأ المفسدة فقال أبو حنيفة: ينعقد مع وصف الفساد؛ لأنا لو قضينا بالصحة مطلقا لكنا قد سوينا.

بين اللازم والمفارق الذي لا يفسد معنى كالبيع وقت النداء، ولو قضينا بالفساد مطلقا، لكنا قد سوينا بينما هو في الماهية، وما هو خارج عنها فوجب أن يقابل الأصل بالأصل والوصف بالوصف، يعني الأصل الصحة يقابل أصل العقد، ووصف الفساد يقابل وصف العقد في أحد أركانه، وهو الزيادة في الربا، قال: وهذا تدقيق حسن غير أنه بقى أن يقال: الجمع بين كون الماهية وجميع أجزائها خالية عن المفاسد مع كون لازمها منشأ المفسدة بحال؛ لأن الموجب لذلك اللازم هو تلك الماهية أو جزؤها، والمستلزم للفاسد فاسد. وأما القسم الرابع وهو الخارج المفارق: لا يمنع صحة العقد، كالوضوء بالماء المغصوب. ***

المسألة الخامسة في ان النهي عن الشيء، هل يدل على صحة المنهي عنه؟ الذين قالوا: إن النهي عن التصرفات لا يدل على الفساد - اختلفوا في أنه، هل يدل على الصحة؟ فنقل عن أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن رحمهما الله أنه يدل على الصحة؛ ولأجل ذلك احتجوا بالنهي عن الربا على انعقاده فاسدا، وكذلك في نذر صوم يوم العيد، وأصحابنا أنكروا ذلك. لنا: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " دعي الصلاة أيام أقرائك ". وروى أنه صلى الله عليه وآله وسلم: " نهي عن بيع الملاقيح، والمضامين " فالنهي في هذه الصورة منفك عن الصحة. احتجوا بأن النهي عن غير المقدور عبث، والعبث لا يليق بالحكيم؛ فلا يجوز أن يقال للأعمى: (لا تبصر) ولا أن يقال للزمن: (لا تطر). والجواب عنه: النقض بالمناهي المذكورة، ثم نقول: لم لا يجوز حمل النهي على النسخ؟ كما غذا قال للوكيل: " لا تبع هذا " فإنه وإن كان نهيا في الصيغة، لكنه نسخ في الحقيقة. سلمنا أنه نهي؛ لكن متعلقه هو البيع اللغوي، وذلك ممكن الوجود؛ فلم قلت: إن المسمى الشرعي ممكن الوجود؟ والله أعلم.

المسألة الخامسة النهي هل يدل على الصحة

المسألة الخامسة النهي هل يدل على الصحة قوله: " احتجوا بالنهي في الربا يدل على انعقاده فاسدا ": تقريره: أن مذهب أبي حنيفة أن عقود ربا الفضل يرد الزائد، ويثبت الملك في المساوي، فإذا باع درهما بدرهمين يرد درهما، ويملك درهما.

....................................................

.....................................................

..........................................................

...................................................

قوله: " لما قال عليه السلام: " دعي الصلاة أيام أقرائك ". تقريره: أن الصلاة ايام الحيض منهي عنها، وهو لا ينعقد إجماعا. ويرد عليه: ان الواقع عدم الصحة فلم قلتم: إنها مستفادة من لفظ النهي، وإنما ذلك بالإجماع، ولا يلزم من وقوع الشيء في موارد استعمال النهي كون اللفظ مستعملا فيه؛ وقد تقدم بسطه في ان (الواو) للترتيب. ولو قال قائل: إنما وقوع عدم الصحة بخصوص لفظ (دعي) او خصوص لفظ (الأقراء)، وبالجملة الخصم من وراء المنع في ذلك. وله أن يجيب: بأن المطلوب إنما هو عدم دلالة اللفظ على الصحة لا دلالته على عدم الصحة، وبينهما فرق، وهاهنا عدم الدلالة على الصحة، ولولا ذلك لوقعت الصحة عملا بالدليل، وإلا لزم النقض والتخلف.

قوله: " النهي عن غير المقدور عبث ". قلنا: هاهنا قاعدة وهي أن الصحة العقلية كصحة وجود الأحكام، والصحة الشرعية كجواز الصوم في غير الأيام المنهي عنها، والصحة العرفية كالمسمى أياما. ويشارك الخلاف الطيران في الهواء، وموضع النزاع في هذه المسألة إنما هو في دلالة لفظ النهي على الصحة الشرعية، واما الصحة العقلية والعادية، فلا بد منها في كل ما يتعلق به التكليف، واللغة لم توضع لتكليف ما لا يطاق، فكلام الخصم لا يفيد دعواه، فما يتجه دليله لا يقول به، وما يقول به لا يتجه دليله. قوله: " لم لا يجوز حمل النهي على النسخ، كما يقول الموكل لوكيله: لا تبع هذا؟ " تقريره: الخصم يدعي أنه يدل على صحة تترتب على العقد المنهي عنه، كما قال في عقود الربا وغيرها، فقال المصنف: نحن وإن سلمنا أنه يدل على الصحة، لكن صحة سابقة أو لاحقة؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم، ولا يحصل مقصودكم؛ لأن مقصودكم الصحة اللاحقة. وبيان أنه يدل على الصحة السابقة: أن الخلائق وكلاء الله تعالى في أرضه وخلفاؤه؛ لقوله تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد: 7]، ولقوله تعالى: {ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} [الأعراف: 129]، وقوله تعالى: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم} [يونس: 14]. وإذا كانوا خلائف وكلاء الله تعالى فتكون تصرفاتهم صحيحة جائزة بمقتضى الوكالة، فإذا نهاهم يكون ذلك نسخا في حقهم، كمن وكل وكيلا.

في بيع سلعة، ثم قال له: (لا تبعها)، فإن ذلك النهي يكون نسخا للجواز السابق، والصحة السابقة، فكان النهي يدل على الصحة لكن سابقة، ومطلوبكم صحة لاحقة، فلا يحصل المقصود لكم. قوله: " يحصل البيع على اللغوي؛ لأنه ممكن الوجود، فلم قلت: إن المسمى الشرعي ممكن الوجود؟ ": يعني ممكن الوجود في الصورة المنهي عنها، بل يبعد وجود البيع المشروع في صورة النهي، هذا كله بناء على تفسير الصحة بمعنى الجواز العقلي أو العادي، والتحقيق أنهما ليس محل النزاع كما تقدم، بل محل النزاع الصحة الشرعية، وهي ترتب آثار النص عليه شرعا. ***

المسألة السادسة: المطلوب بالنهي عندنا فعل ضد المنهي عنه

المسألة السادسة قال الرازي: المطلوب بالنهي عندنا فعل ضد المنهي عنه، وعند أبي هاشم: نفس ألا يفعل المنهي عنه: لنا: ان النهي تكليف، والتكليف إنما يرد بما يقدر عليه المكلف، والعدم الأصلي يمتنع أن يكون مقدورا للمكلف؛ لأن القدرة لابد لها من تأثير، والعدم نفي محض؛ فيمتنع إسناده إلى القدرة. وبتقدير أن يكون العدم أثرا؛ يمكن إسناده إلى القدرة، لكن العدم الأصلي لا يمكن إسناده إلى القدرة؛ لأن الحاصل لا يمكن تحصيله ثانيا. وإذا ثبت أن متعلق التكليف ليس هو العدم، ثبت أنه أمر وجودي ينافي المنهي عنه، وهو الضد. احتج المخالف: بأن من دعاه الداعي إلى الزنا، فلم يفعله، فالعقلاء يمدحونه على أنه لم يزن، من غير أن يخطر ببالهم فعل ضد الزنا؛ فعلمنا أن هذا العدم يصلح أن يكون متعلق التكليف. والجواب: أنهم لا يمدحونه على شيء لا يكون في وسعه، والعدم الأصلي يمتنع أن يكون في وسعه؛ على ما تقدم؛ بل إنما يمدحونه على امتناعه من ذلك الفعل، وذلك الامتناع أمر وجودي؛ لا محالة، وهو فعل ضد الزنا. فإن قلت: إنه كما يمكنه فعل الزنا، فذلك يمكنه أن يترك ذلك الفعل على عدمه الأصلي، وألا يغيره؛ فعدم التغيير أمر مقدور له؛ فيتناوله التكليف.

شرح القرافي: إذا قلنا: النهي عن الشيء امر بضده التزاما تعذر الجمع بينه وبين قولنا: متعلق النهي فعل ضد المنهي عنه

قلت: المفهوم من قولنا: " تركه على ذلك العدم الأصلي، وما غيره عنه " إما أن يكون محض العدم، أو لا يكون: فإن كان محض العدم: لم يكن متعلق قدرته، فاستحال أن يتناوله التكليف، وإن لم يكن محض العدم: كان أمرا وجوديا، وهو المطلوب. المسألة السادسة المطلوب بالنهي فعل ضد المنهي عنه قال القرافي: إذا قلنا: النهي عن الشيء امر بضده التزاما تعذر الجمع بينه وبين قولنا: متعلق النهي فعل ضد المنهي عنه؛ لتعذر أن يكون المدلول مطابقة مدلولا التزاما. فإن قلنا: المراد الكلام النفساني، فالأمر بالشيء غير النهي عن ضده؛ لأن الكلام إنما يصير أمرا ونهيا، فالتعلق بالكلام المتعلق بالضمير. قوله: " العدم الأصلي لا يمكن أن يكون مقدورا ". قلنا: النهي قد يكون عن شيء لم يفعل، يكون معناه حصول العدم الأصلي السابق في الزمان المستقبل، وقد يكون في منع العدم اللاحق بعد طريان الوجود؛ لقوله تعالى: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران: 102] مع أنهم مسلمون في الوقت الحاضر، وجميع ما نهي عنه العباد وهم متصفون بضده من شرب الخمر، والقتل، والغيبة والنميمة وغير ذلك؛ فإن العدم الأصلي لم يرد في تلك الصور كلها، إنما أريد منع العدم اللاحق أن يدخل الوجود على رأي أبي هاشم، فعبارة المصنف لم تتناول

(قاعدة) اللغات ما وضع فيها الطلب إلا للمقدور دون المعجوز عنه

الدعوى، بل العدم السابق فقط، بل كان ينبغي أن يقول: العدم غير مقدور مطلقا، ولا يفيد سابق ولا لاحق، ويكون كلاما صحيحا. (قاعدة) اللغات ما وضع فيها الطلب إلا للمقدور دون المعجوز عنه، ونحن وإن قلنا بجواز تكليف ما لا يطاق، فنحن إنما نقول به في أحكام الربوبية لا في الموضوعات اللغوية، بل اللغات إنما وضعت لتحصيل المقاصد العادية، والمحال لا يحصل عادة فلم يوضع له، فلتعلم أن اللغات لا تتخرج على جواز تكليف ما لا يطاق، ولذلك جاء البحث في هذه المسألة مع أبي هاشم على هذا التقدير الذي ذكره المصنف. (فائدة) ما الفرق بين هذه المسألة وبين قولهم: النهي عن الشيء أمر بضده؛ فإن في كلتا المسألتين صرحوا بطلب الضد من النهي، فإذا قلنا: المطلوب بالنهي إنما هو الضد يقتضي أن الضد هو مطلوب النهي وإيجاده وهو أمر به؛ لأن الطلب الإيجاد لا يكون إلا بالأمر كما أن طلب الإعدام لا يكون إلا بالنهي، ففي الصورتين الضد مأمور به. قلنا: الجواب من وجهين: أحدهما: انا إذا قلنا: المطلوب بالنهي فعل ضد المنهي عنه كان بحثا في المتعلقات بفتح اللام. وثانيهما: ان البحث في تلك المسألة في دلالة الالتزام على ضد المنهي عنه، فنحن نقول: متى نهي عن الشيء مطابقة دل على عدم طلب ضده التزاما، والبحث في هذه المسألة في الدلالة مطابقة ما مدلولها المطابقي هل هو العدم الذي سمعه السامع في قوله: (لا تتحرك) أو ضده الذي لا يسمعه السامع وهو السكون؟ والفرق بين دلالة المطابقة والالتزام ظاهر، وقد تقدم بسطه في: هل الأمر بالشيء نهي عن ضده أم لا؟

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: اختار الغزالي ما قاله أبو هاشم

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: اختار الغزالي ما قاله أبو هاشم، واحتجا بأن متعلق التكليف على التحقيق هو الفعل؛ فإن النهي زجر فيتعلق بالفعل كالطلب ليبقى على النفي الأصلي، فتندفع المسألة المتعلقة بالفعل، وليس هو مطالبا بالعدم الذي هو نفي محض، فإن تركه عن غفلة فلا ثواب، أو بعد تمكن وحصول داعية، الحصول كيف وهو أمر وجودي يصلح للتقرب؟ قلت: استدل لهما بما لا يتلخص دليلا لهما؛ فإنه آل أمره إلى إثبات أمر وجودي يتقرب به، وهذا هو الصواب، فلا خلاف، وإنما كان ينبغي أن يقول: لما كان متمكنا من إيجاده اثبت على عدم الإيجاد بسبب تمكنه منه، ويمنع أن التكليف يتعلق بأمر وجودي، بل يتعلق بالإيجاد بالمأمورات، وبالتبعية على عدم الأصلي إذا كان متمكنا من إيجاد نقيضه. ***

المسألة السابعة النهي عن الأشياء

المسألة السابعة النهي عن الأشياء إما أن يكون نهيا عنها عن الجميع، او عن الجمع، أو نهيا عنها؛ على البدل، او عن البدل: أما النهي عنها عن الجميع: فهو أن يقول الناهي للمخاطب: " لا تفعل هذا ولا هذا " - فيكون ذلك موجبا للخلو عنهما أجمع، ثم تلك الأشياء التي أوجب الخلو عنها، إن كان الخلو عنها ممكنا، فلا شك في جواز النهي. وإن لم يكن، كان ذلك النهي جائزا، عند من يجوز التكليف بما لا يطاق. وأما النهي عن الجمع بين أشياء: فهو مثل أن تقول: " لا تجمع بين كذا وكذا ". ثم تلك الأشياء، غن أمكن الجمع بينها، فلا كلام في جواز ذلك النهي؛ وإلا لم يجز عند من لا يجوز تكليف ما لا يطاق؛ لأنه عبث يجري مجرى نهي الهاوي من شاهق جبل عن الصعود. وأما النهي عن الأشياء على البدل: فهو أن يقال للإنسان: " لا تفعل هذا، إن فعلت ذلك، ولا تفعل ذلك، إن فعلت هذا " وذلك بأن يكون كل واحد منهما مفسدة عند وجود الآخر، وهذا يرجع إلى النهي عن الجمع بينهما، وأما النهي عن البدل، فيفهم منه شيئان: أحدهما: أن ينهى الإنسان عن أن يفعل شيئا، ويجعله بدلا عن غيره، وذلك يرجع إلى النهي عن أن يقصد به البدل؛ وذلك غير ممتنع.

شرح القرافي

والآخر: أن ينهى عن أن يفعل أحدهما دون الآخر، لكن يجمع بينهما. وهذا النهي جائز، إن أمكن الجمع، وغير جائز، إن تعذر؛ على قول من لا يجوز تكليف ما لا يطاق، والله أعلم. المسألة السابعة النهي عن الأشياء قوله: " النهي عن الجمع ": معناه: على الجمع في التحريم، كما تقول: نهيته على وجه لا يعود للفعل، فعلى هذا [هل] يقتضي الحال الذي استقر عليها الواقع من الأفعال. قوله: " في النهي عن الجميع إن لم يمكن الجمع بينهما امتنع إلا عند من يجوز تكليف ما لا يطاق ": تقريره: أن من شرط المنهي عنه أن يكون ممكنا أن يفعل، ولذلك لا يصح أن ينهى عن المستحيلات؛ لأن المكلف لا بد له فيما كلف به من نوع اختيار، فما لا خيرة فيه لا يصح التكليف به، الا ترى ان النازل من شاهق لا ينهى عن الصعود ولا يؤمر به ولا عن النزول، ولا يؤمر به لما ذكرناه من عدم الخيرة؟ قوله: " النهي عن البدل ": تقريره: أنه يرجع النهي عن المجموع كالأم وابنتها وإحدى الأختين لا بعينها، ومعناه المجموع، وقد تقدم في حد الواجب أن النهي على التخيير لا يتصور كما يتصور إيجاب أحد الأمور على التخيير، وإن أصحابنا قالوا به، كما حكاه سيف الدين هناك، وفيه خلاف.

(فائدة) قال ابن برهان: إذا نهي عن إحدى الحالتين لا يفعل هذا أو هذا عندنا لا يجب عليه ترك الحالتين جميعا

وتقريره الصحيح من ذلك مبسوط، وأن كل ما وقع من هذا النوع إنما هو راجع إلى تحريم المجموع. (فائدة) قال ابن برهان: إذا نهي عن إحدى الحالتين لا يفعل هذا أو هذا عندنا لا يجب عليه ترك الحالتين جميعا. وقالت المعتزلة: يجب تركهما، بخلاف ما قالوه في الواجب المخير، قالوا: لا يجب عليه الكل، وإن اتصف بالكلب بالوجوب. ومنشأ الخلاف أن الأشياء عندنا ما حسنت ولا تجب لصفاتها، بل بالشرع، وعندهم لصفاتها، فإذا خير بينهما فقد استويا في المفسدة، فيترك الجميع. وظاهر لفظ التخيير معناه حجة عليه، ووافقه المازري في شرح (البرهان) على هذا النقل، ونقل عن المعتزلة احتجاجهم بقوله تعالى: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} [الإنسان: 24]، فالواجب ترك الجميع. وأجاب بأن ذلك علم من الإجماع لا من اللفظ، وقد تقدم في حد المحرم الجواب عن هذا، وأن التخيير في المحرم محال. والله أعلم. ***

الكلام في العموم والخصوص

الكلام في العموم والخصوص قال الرازي: وهو مرتب على أقسام:

القسم الأول: في العموم وهو مرتب على شطرين

القسم الأول: في العموم وهو مرتب على شطرين: الشطر الأول: في ألفاظ العموم وفيه مسائل: قال القرافي: أقدم قبل الخوض فيه مباحث: البحث الأول: أن العموم من عوارض المعاني، ومن عوارض الألفاظ: أما المعاني فكقولك: مطر عام، ورحمة عامة، وغلاة عامة، وقاعدة عامة، والأجناس والأنواع وجميع الأمور الكلية - كذلك. وأما الألفاظ: فكل ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في هذا الباب. قال سيف الدين: اتفق العلماء على أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة، واختلفوا في عروضه للمعاني حقيقة؛ فنفاه الجمهور، وأثبته الأقلون:

احتج المثبتون بالاستعمال في المثل المتقدم ذكرها، والأصل في الإطلاق الحقيقة. وقال النافون: بل مجاز؛ لوجهين: الأول: عدم الاطراد في زيد وعمرو، والمعاني الجزئية؛ لوجود الأجناس فيها، ولأن العام يكون متحدا متناولا لأمور، وهاهنا لكل قوم مطرد، ولكل شخص حظ من تلك الأمور التي يصفونها بالعموم. والجواب عن الأول: أنه امتنع؛ لأجل الخصوص، كما امتنع أن تسمي الحيوانية التي فيها حسا لأجل الخصوص، وعن الثاني أن تلك الجزئيات بينها قدر مشترك، وهو العام. قال المازري في (شرح البرهان): أصل العموم الشمول، ومنه العامة؛ لكونهم أكثر الناس؛ لكونهم مشتملين على الخاصة، والخصوص: التعلق ببعض ذلك الجنس، أو بجنس دون جنس. وهل يتصور العموم والخصوص في الكلام النفسي؟: مشهور الأشعرية تصورهما منه؛ كالأمر والنهي. وأنكر الإمام في (البرهان) ذلك وصرفه للعموم؛ فإن الإنسان يمكنه تصوره بمعنى العموم؛ فإن الإنسان يمكنه تصوره بمعنى العموم. قلت: وتصويره سهل؛ فإن ذلك الغسناد الخاص أو العام الذي فهم من الألفاظ إنما دل به على معنى قائم في النفس، فذلك هو العموم وأو الخصوص النفساني. قال المازري: وهل يتصور في الأحكام؛ حتى يقال: قطع السارق عام؟ أنكره القاضي، وأثبته أبو المعالي.

(البحث الثاني) أن إطلاقات الأصوليين اختلفت، فمنهم: من يقول: للمعاني والألفاظ خاص وعام

(البحث الثاني) أن إطلاقات الأصوليين اختلفت، فمنهم: من يقول: للمعاني والألفاظ خاص وعام. ومنهم من يفصل، فيفصل للمعاني: أعم وأخص، وللألفاظ: عام وخاص؛ لأن صيغة (أفعل) للتفضيل، والمعاني أبلغ وافضل من الألفاظ، فخصت بصيغة التفضيل.

(البحث الثالث) في صيغ العموم، وهي نيف وعشرون صيغة

(البحث الثالث) في صيغ العموم، وهي نيف وعشرون صيغة: (من) و (ما) و (أي) و (الذي) وتثنيتهما وجمعهما، و (كل) و (جميع) و (أين) و (حيث) و (متى) ولام التعريف في الإفراد والتثنية والجمع، والنكرة في سياق النفي، واسم الجنس، وتثنيته وجمعه، إذا أضيفت هذه الثلاثة، عمت في المضاف، وترك الاستفصال في حكاية الأحوال يقوم مقام العموم في المقال. واختلف في (سائر)؛ فقيل: وهو من السؤر بالهمز الذي هو البقية، فلا يعم، وهو المشهور من استعمال الفصحاء. ومنه قوله عليه السلام: " أمسك أربعا، وفارق سائرهن "، أي: باقيهن.

(البحث الرابع في تحفيق موضوع صيغ العموم)

وقيل: من (السور) بغير همز الذي هو سور المدينة المحيط بها؛ فعلى هذا يكون للعموم، ونص عليه الجوهري، ونصره الشيخ أبو عمرو بن الحاجب، وهو قليل من حيث الصحة، وإن كان استعمال العرف إنما هو عليه غالبا دون الأول، والجمهور يغلطونهم في ذلك. ويقول الفقهاء وغيرهم: سائر الفقهاء يعتقدون أن النية شرط في الصلاة، أي: جميعهم، نقل هذا جميعه القاضي عبد الوهاب المالكي في (كتاب الإفادة). وعندي أنها من جمله صيغ العموم التي هي حرف جر؛ لما يأتي تقريره في أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم؟ وطالعه من هنالك. (البحث الرابع في تحفيق موضوع صيغ العموم) وهو في غاية الإشكال، ولقد وقع البحث فيه مع جماعة من الفضلاء فما تيسر لهم من جواب. وتقرير الإشكال في تحقيق موضوعه: أن صيغ العموم بين أفرادها قدر مشترك، ولها خصوصيات. والصيغة: إما أن تكون موضوعة للمشترك بينها، او لخصوصياتها، أو للمجموع المركب منها في كل فرد، او لمجموع الأفراد؛ والقدر المشترك يفيد العدد. أما المشترك: فلأن اللفظ حينئذ يكون متواطئا مطلقا، يقتصر بحكمه على فرد من أفراده؛ لأنا لا نعني بالمطلق إلا اللفظ الموضوع للقدر المشترك؛ كقوله تعالى: {فتحرير رقبة} [المائدة: 89]. والعام قسيم المطلق، فلا يكون مطلقا، ولأنه لا يقتصر بحكمه على فرد. وأما الخصوصيات في افراد المشتركين مثلا: فالخصوصيات متباينة مختلفة؛

كالطول والقصر والسود والبياض، ونحو ذلك، فلو كان اللفظ موضوعا لها، لزم أن تكون صيغة العموم مشتركة لوضعها بإزاء المختلفات؛ لكنها ليست مشتركة لوجوه: احدها: أن المشترك لا تكون مسمياته غير متناهية؛ لأن الوضع فرع التصور، [و] جميع ما يتصوره الواضع متناه، والاستقراء أيضا دل على ذلك، لكن خصوصيات مسميات المشترك غير متناهية؛ فلا يكون اللفظ مشتركا. وثانيها: أن المشترك لا يستعمل في كل أفراده؛ على قول جماعة من المعممة، والعام يستعمل في جميع أفراده؛ باتفاق المعممة. وثالثها: أن المشترك مجمل يفتقر في حمله على شيء إلى قرينة، والعام عند المعمعة غير مجمل؛ فلا يكون لفظا لعموم مشترك. وأما المشترك مع الخصوصية في كل فرد؛ مثل أن يكون موضوعا لمفهوم الشرك مثلا، ومع وصف الطول في زيد، والمفهوم الشرك مع وصف القصر في عمرو، فيتحصل في كل شخص مجموع مخالف للمجموع المتحصل من الشخص؛ لأن المشترك أبدا مع الخصوصية في كل فرد مخالف للمشترك مع الخصوصية في الفرد الآخر؛ فيكون اللفظ موضوعا لحقائق مختلفة؛ لأنها مجموعات متباينة، وقد تقدم أن اللفظ العام لا يكون مشتركا. وأما مجموع الأفراد المركب من جميع المشتركين مثلا: فلا يجوز أن يكون اللفظ موضوعا بإزائه؛ لأن صيغة العموم لو كانت موضوعة للمجموع، لتعدد الاستدلال بها على ثبوت حكمها لفرد من أفرادها في النفي والنهي؛ بخلاف الأمر والثبوت؛ لأنه يكفي في نفي المجموع فرد من أفراده، وإذا نهى عنه يخرج من عدته بفرد من أفراده؛ لأن معنى النهي لا يعين المجموع للوجود، وإذا ترك منه فرد، فما عين المجموع للوجود.

فإذا قال الله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} [الأنعام: 151] فعلى تقدير كون اللفظ موضوعا للمجموع، يكون معنى الآية: " لا تقتلوا مجموع النفوس "، فمن قتل الإماء من النفوس، لا يصدق عليه أنه قتل مجموع النفوس، فلا يكون عاصيا؛ لانه لم يقتل المجموع، فظهر أنه لو كان المجموع، لما أمكن الاستدلال به على ثبوت حكمه بكل فرد من افراده، فلا يكون اللفظ على هذا التقدير للعموم، هذا خلف، وهذا بخلاف الأمر بالمجموع، او الإخبار عن ثبوت المجموع؛ لأن وجوب المجموع يقتضي وجوب كل افراده، والإخبار عن ثبوته يقتضي أنه لا يصدق إلا بثبوت كل أفراده؛ فظهر الفرق بين النهي والنفي، وبين الأمر وخبر الثبوت. وأما ان صيغة العموم لا تكون موضوعة للمشترك بقيد العدد؛ لأن مفهوم العدد أمر كلي، ومفهوم المشترك كلي. والقاعدة: أن إضافة الكلي إلى الكلي يقتضي أن المجموع كلي، فيكون موضوع العموم على هذا التقدير كليا، فيكون مطلقا، وهو باطل لما تقدم. وأما المشترك بقيد يسلب النهاية، فباطل أيضا؛ لأن المعنى حينئذ: " لا تقتلوا النفوس " بقيد سلب النهاية، فمن قتل العالم يخالف هذا النهي، فيئول البحث إلى تعذر الاستدلال بنفي النفي، والنهي دون الأمر، وخبر الثبوت، وقد تقدم إبطاله، وإذا بطلت هذه الأقسام كلها، أشكل حينئذ مسمى لفظ العموم غاية الإشكال، ويظهر أنه يلزم مما يتخيل فيها ثلاثة أمور: الاشتراك، والإطلاق، أو تعدد الاستدلال بها في النفي والنهي؛ فجميع ما يتخيل من هذا القبيل لا يخرج عن هذه الأمور الثلاثة، وحينئذ يتعين كشف الغطاء عن المعنى الذي وضعت له صيغة العموم. فأقول: إن صيغة العموم موضوعة للقدر المشترك مع قيد يتبعه بحكمه في جميع موارده.

(البحث الخامس) اتفقت النحاة على أن أربع صيغ من جموع التكسير

فبقولنا: " القدر المشترك ": خرجت الأعلام؛ لأن ألفاظها موضوعة بإزاء جزئية لا كلية مشتركة، أعني: علم الشخص لا علم الجنس، وبقولننا: " مع قيد يتبعه بحكمه في جميع موارده ": خرج المطلق؛ لأن المطلق يقتصر بحكمه على فرد من أفراده، والعموم منهما وجد منه فرد رتب فيه ذلك الحكم. ونعني (بحكمه) القدر المشترك بين الأمر والنهي، والخبر والاستخبار والنداء، وجميع الأحكام المقصودة في تركيب اللفظ لا تقتصر بذلك لى نوع معين من الأحكام، ولا يلزم أن يكون مشتركا حينئذ؛ لأن المسمى واحد، وهو المشترك مع قيد التتبع، فالمسمى مركب من هذين القيدين، وهذا المركب هو المسمى، ولم توضع اللفظه بإزاء غيره، فلا يكون اللفظ إلا مسمى واحدا، فلا يكون اللفظ مشتركا، فاندفعت جميع الإشكالات، وتحرر معنى العموم، وأمكن الاستدلال به على ثبوت حكمه في جميع موارده، من غير إشكال ألبتة، فتأمل ذلك فهو صعب التحرير، وعظيم الإشكالات كما ترى. (البحث الخامس) اتفقت النحاة على أن أربع صيغ من جموع التكسير وهي التي يجمعها قول الشاعر (البسيط): بأفعل وبأفعال وأفعلة ... وفعلة يعرف الأدنى من العدد

(البحث السادس) في أن مدلول العموم كلية لا كل ولا كلي

وجموع السلامة مذكرة ومؤنثة - للقلة، وهو العشرة، فما دونها نحو أفلس وأجمال، وأرغفة، وصبية، ومسلمين، ومسلمات. واتفق الأصوليون القائلون بالعموم، وهم أهل الفقه، وجل حملة الشريعة؛ على أن صيغة (المشركين) للعموم، وكذلك الأجمال والأرغفة ونحوها، وهاتان فرقتان عظيمتان ينقلان عن العرب، وكل فرقة تنقل عكس ما نقلته الأخرى، فاين العموم الذي هو غير متناه فوق الآلاف المضاعفة من العشرة فما دونها؛ كما قاله النحاة، ولا سبيل إلى تكذيب واحدة منهما؛ لجلالتها وعظم قدرها، وشأنها في الدين والعلم والعدالة، فتعين الجمع، وطريق الجمع قاله الإمام فخر الدين في أثناء كلامه في المباحث في (المحصول) في باب العموم، وكذلك إمام الحرمين في (البرهان)، وهو أن نقل النحاة عن العرب أنها للعشرة فما دونها - إذا كانت نكرة، نحو (مشركين) و (أجمال) ونقل الأصوليين محمول على ما إذا كانت معرفة بـ (اللام) وأما النكرات فلا، وكذلك ما قيل: " إن الجمع المنكر للعموم " إلا شذوذا. (البحث السادس) في أن مدلول العموم كلية لا كل ولا كلي، وذلك يتوقف على بيان الكل، والكلية، والجزء، والجزئية. أما الكلي: فهو القدر المشترك بين جميع الأفراد لمفهوم المشترك في المشركين، ومفهوم الحيوان في أنواعه، كذلك جميع الأجناس والأنواع. وأما الكل: فهو المجموع الذي لا يبقى بعده فرد، ويكون الحكم فيه على المجموع من حيث هو مجموع، لا على الأفراد. والكلية: يكون الحكم فيها على كل فرد فرد، بحيث لا يبقى فرد.

فإذا قلنا: " كل رجل يشبعه رغيفان " صدق ذلك باعتبار الكلية لا باعتبار الكل، أي: كل رجل على حالة يشبعه رغيفان غالبا، ولا يصدق هذا الحكم باعتبار الكل، اي: المجموع من حيث هو مجموع لا يكفيه رغيفان، ولا قناطير؛ لا، الكل والكلية يندرج فيها الأشخاص الحاضرة والماضية والمستقبلة، وجميع ما في مادة الإمكان، وإذا قلنا: كل رجل يحمل الصغرة العظيمة، صدق ذلك باعتبار الكل دون الكلية، لأن المجموع، إذا اجتمع، شال أي صخرة عظيمة أشير إليها، واما كل واحد على حياله فيعجز عنها. وإذا قلنا: " الحيوان جنس، والإنسان نوع " صدق ذلك باعتبار الكل الذي هو القدر المشترك دون الكل؛ لأن المجموع ليس جنسا؛ لأن من شرط الجنس أن يصح حمله على كل فرد من افراده، وكذلك الكلية لا تصدق على شخص معين؛ لأن من شرط الكلية والكلي ألا يبقى فرد إلا وقد اندرج في الحكم، وجميع الأفراد لا تصدق على الشخص المعين، فحينئذ إنما تصدق على الشخص المعين الكلي دون الكل والكلية، فتتغاير هذه الأحكام، ويصدق بعضها على شيء يظهر لك الفرق بينهما. إذا تقرر الفرق بين الكل والكلية والكلي، فالفرق [بين] الجزء، والجزئية، والجزئي: أن الجزء بعض الكل؛ كالخمسة بالنسبة إلى العشرة، والجزئية بعض الكلية؛ نحو كل عام مخصوص، والجزئي: هو الكلي وقد زائد، وهو تشخصه، فالجزئي عكس الجزء؛ لأن الجزئي كلي، والكلي بعضه، والجزء بعض الكل، فهو عكسه. إذا تقرر الفرق بين السببية، فاعلم أن مسمى العموم كلية لا كل، وإلا لتعذر الاستدلال في النفي والنهي على ثبوت حكمه لفرد من أفراده؛ كما تقدم، وإنما يصح الاستدلال به على ثبوت حكمه للفرد المعين في النفي والنهي، إذا كان معناه الكلية التي الحكم فيها على كل فرد فرد، بحيث لا

(سؤال) دلالة العموم على كل فرد من أفراده؛ نحو: زيد مثلا من المشركين

يبقى فرد؛ فحينئذ لفظها دال على ثبوت الحكم لأي فرد شاء من أفرادها في النفي والنهي. وأما في الأمر وخبر الثبوت: فلا يختلف الحال بين الكل والكلية؛ لأنه يلزم من إيجاب الكل والكلية - إيجاب الأفراد، ويلزم من صدق الخبر عن ثبوت الحكم للكل - ثبوته لكل فرد؛ كوجوب أربع ركعات في الظهر، يلزم منه وجوب كل ركعة، وكذلك الإخبار عن ثوبت أربعة يقتضي ثبوت كل فرد منها، وإنما يفرق بين البابين النهي وخبر النفي، لأن الانتهاء يكفي فيه فرد واحد من المجموع، ونفي المجموع يكفي فيه فرد، فإذا قلنا: ليس في الدار عشرة، يكفي نفي واحد منها؛ فيصدق الخبر، ولو كان في الدار تسعة، وكذلك يصدق أن الله تعالى نهى عن خمس ركعات في الظهر، وإن كانت الأربعة واجبة؛ فظهر حينئذ أن مدلول العموم كلية لا كل؛ لصحة الاشتراك به على ثبوت حكمه لكل فرد من أفراده عند القائلين به إجماعا. (سؤال) دلالة العموم على كل فرد من أفراده؛ نحو: زيد مثلا من المشركين " لا يمكن أن يكون بطريق المطابقة؛ لأن دلالة المطابقة: هي دلالة اللفظ على مسماه بكماله، ولفظ العموم لم يوضع لـ (زيد) فقط، حتى تكون الدلالة عليه مطابقة، ولا بطريق التضمن؛ لأن دلالة التضمن هي: دلالة اللفظ على جزء مسماه، والجزء لا يصدق إلا إذا كان المسمى كلا، ومدلول لفظ العموم ليس كلا كما تقدم، فلا يكون زيد جزءا، فلا يدل اللفظ عليه تضمنا، ولا بطريق الالتزام؛ لأن دلالة الالتزام في دلالة اللفظ على لازم مسماه ولازم المسمى لابد وأن يكون خارجا عن المسمى، و (زيد) ليس خارجا عن مسمى العموم؛ لأنه لو خرج زيد عن مسمى العموم، خرج عمرو وخالد، وحينئذ لا يبقى من المسمى شيء، فعلمنا أن زيدا ليس خارجا.

عن مسمى العموم، بل هو من جملة المسمى، ولا معنى للمسمى إلا هذه الأفراد، وإذا بطل لفظ العموم على (زيد) مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما، بطل أن يدل لفظ العموم مطلقا؛ لانحصار الدلالة في الأقسام الثلاثة. وقد تقدم شيء في دلالات الألفاظ في هذا الكتاب، وفي (شرح المنتخب) أن الجواب عن هذا السؤال: انه يدل بطريق التضمين؛ لأن لفظ العموم موضوع للقدر المشترك بين افراده مع قيد يتبعه بحكمه في جميع محاله، والتبعيض في البعض يقتضي التتبع في الكل، هذا ما قدمته جوابا. وأما الآن: فلا أرتضيه؛ لأن التتبع في جميع المحال، أو في كل المحال معناه: إثبات الحكم لكل محل محل على حياله، بحيث لا يبقى محل، وهذا معنى الكلية، ولولا تفسير الكلية بهذا، للزم أن يتعذر الاستدلال بلفظ العموم على ثبوته لكل فرد من أفراده في النهي والنفي؛ كما تقدم فحينئذ لا معنى لذلك التتبع إلا الكلية، فيكون بعضها جزئية لا جزءا. ودلالة التضمن: إنما هي دلالة اللفظ على جزء مسماه الداخل فيه باعتبار ان المسمى كلي، وهاهنا ليس كلا؛ فلا تصدق دلالة التضمن، فحينئذ يبقى السؤال بغير جواب. وتكون صيغ العموم كلها نقضا على تقسيم دلالات الألفاظ، وحصرها في الثلاثة: المطابقة، والتضمن، والالتزام، وتقدم في (باب الجزء، والكل) أول الكتاب أنها نقض على حصر الجزئي في المضمر والعلم؛ فإن مفهومها يمنع تصور وقوع الشركة فيه؛ فيكون جزئيا، مع أنه لم يذكره،

(فائدة) إذا علمت أن صيغ العموم مدلولها كلية لا كلي، فافهم ذلك أيضا في الضمائر بأسرها

فيكون الحصر في المضمر والعلم باطلا؛ فتكون صيغ العموم نقضا على هذين البابين، ولا يخلص من السؤال القائلون بعدم العمون؛ لأنا نفرض صيغا وضعت للكليات؛ لأنه ممكن، فغذا وقع هذا الجائز، كيف تكون دلالته؟ ويعود السؤال، فاعلم ذلك. (فائدة) إذا علمت أن صيغ العموم مدلولها كلية لا كلي، فافهم ذلك أيضا في الضمائر بأسرها، وصيغ الجموع النكرات، فإذا قال السيد لعبيده: (لا تخرجوا) ليس المراد: لا يخرج كلكم من حيث هو كل، بل المراد بهذه (الواو) التي هي ضمير في (تخرجوا): كل واحد واحد على حياله، وكذلك إذا اخبره بالنفي كقوله: " لا اغضب عليكم أو على أحدكم " فالمراد: ثبوت هذا الحكم لكل فرد فرد مما دلت عليه هذه (الكاف) وكذلك جميع الضمائر، والجموع المنكرة كذلك، فإذا قال: " لأكرمن رجالا اليوم " فالمراد: أكرم كل واحد واحد، مما دل عليه (رجال): وكذلك قوله تعالى {عليكم أنفسكم} [المائدة: 105] اي: على كل واحد واحد بنفسه، وليس المراد المجموع، فجميع الضمائر والجموع النكرات: الحكم فيها على كل واحد واحد على حياله، وهذا معنى الكلية. (البحث السابع) إذا تقرر أن مدلول العمومات كلية لا كل، فاعلم أن هذا عموم باعتبار أفراد المشترك من ذلك العموم فقط، وهو مطلق باعتبار الازمان والبقاع والأحوال والمتعلقات، فتفطن لهذه الأربعة؛ فإنها لا عموم فيها من جهة العموم في الأشخاص؛ بل إنما يدخلها العموم بصيغة وضعت للعموم فيها؛ نحو قولك: (لا كلمته) للإمام و (لا هجرته) في جميع البقاع، و (لا

(البحث الثامن) في ان إطلاق العلماء العموم بالاشتراك على معنيين

سلمت عليه) في جميع الأحوال، فهذه عمومات خالصة بها، وإنما الكلام غذا كانت صيغة العموم في غيرها، فغن ذلك العام مطلق فيها. فإذا قال الله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] بعمومه، باعتبار كل مشرك مشرك بحيث لا يبقى مشرك، ولا دلالة له على أن المشركين في ارض الشام، ولا بلاد الهند، بل يعلم بطريق الالتزام أنه لا بد لكل مشرك من بقعة يكون فيها، وزمان يكون فيه، وحال يكفر فيها، وكما لا يدل على خصوص المكان، فكذلك الزمان؛ لا يدل لفظ المشركين على يوم السبت، ولا يوم الأحد، ولا ان بهم جوعا أو خوفا أو غير ذلك من الأحوال، وكذلك المتعلقات، فإذا قلت: (لا علم لي) فهو عام في جميع افراد العلم، مطلق في متعلقه. فغذا قلت: (لا علم لي بوجود زيد في الدار) بعد قولك: (لا علم لي) لا يكون ذلك مناقضا للعموم الأول؛ بل تفسيرا لذلك المطلق بمتعلق مخصوص. فمن استدل بعموم المشركين على خصوص حالة أو مكان أو زمان أو متعلق فاسد لإله باطل، فإن الدال على المطلق لا يدل على الخصوصيات، فاعلم ذلك، فإنك تجد نفعه في باب التخصيص؛ على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى. (البحث الثامن) في ان إطلاق العلماء العموم بالاشتراك على معنيين: أحدهما: ما تقدم. والآخر: عموم الصلاحية. فعندهم: كل مطلق عام عموم البدلية والصلاحية؛ باعتبار أنه يصدق على

كل فرد بدلا عن الآخر، فإذا قال تعالى: {فتحرير رقبة} [المائدة: 89] له أن يعتق أي رقبة شاء بدلا عن الأخرى، فهذا هو معنى عموم البدلية والصلاحية. والأول عموم الشمول والمعية؛ باعتبار أن الحكم يثبت لكل واحد مع ثبوته للآخر، وفي عموم الصلاحية، إذا ثبت لواحد، لا يثبت للآخر. والعلماء يطلقون العموم بالتفسيرين؛ فينبغي أن تعلمهما؛ حتى لا يلتبس عليك ذلك. ***

الكلام في العموم والخصوص وهور مرتب على أقسام

الكلام في العموم والخصوص وهور مرتب على أقسام: القسم الأول: في العموم، وهو مرتب على شطرين: الشطر الأول: في ألفاظ العموم، وفيه مسائل: المسألة الأولى: في العام قال الرازي: هو: اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له؛ بحسب وضع واحد؛ كقولنا: (الرجال) فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له، ولا يدخل عليه النكرات؛ كقولهم: (رجل) لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا، ولا يستغرقهم، ولا التثنية، ولا الجمع؛ لأن لفظ: (رجلان) و (رجال) يصلحان لكل اثنين، وثلاثة، ولا يفيدان الاستغراق، ولا ألفاظ العدد؛ كقولنا: (خمسة) لأنه صالح لكل خمسة ولا يستغرقه. وقولنا: (بحسب وضع واحد): احترازعن اللفظ المشترك، او الذي له حقيقة، ومجاز؛ فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معا. وقيل في حدة أيضا: إنه اللفظة الدالة على شيئين فصاعدا، من غير حصر. واحترزنا بـ (اللفظة) عن المعاني العامة، وعن الألفاظ المركبة. وبقولنا: (الدالة): عن الجمع المنكر؛ فإنه يتناول جميع الأعداد، لكن على وجه الصلاحية، لا على وجه الدلالة. وبقولنا: (على شيئين): عن النكرة في الإثبات. وبقولنا: (من غير حصر): عن أسماء الأعداد، والله أعلم.

شرح القرافي: قوله: " هو: اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له؛ بحسب وضع واحد

المسألة الأولى: في العام قال القرافي: قوله: " هو: اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له؛ بحسب وضع واحد ": قلنا: قولكم: (ما يصلح له): إما أن يريدوا بالصلاحية الوضع، او ما هو أعم منه، وعلى التقديرين: لا يتم الحد. اما إن أردتم الوضع، فيصير معنى كلامكم: المستغرق لجميع ما وضع له، ولا شك أن ألفاظ الأعداد كلها كذلك؛ فإن لفظ المائة والألف وضع لعشر من المئين أو من العشرات، وهو عند الإطلاق يتناولها كلها، فلا يبقى من العشرات التي وضع لها لفظ المائة والألف شيء، حتى يتناوله، لا سيما وقد قيل: " إنها نصوص لا تقبل المجاز " وكذلك لفظ رجلين، وضع لرجل مع رجل، وهو يتناولهما عند الإطلاق، فيكون الحد غير مانع، وإن اردتم ما هو أعم من الوضع، فيصدق معنى كلامكم: " العام هو اللفظ المستغرق لحقيقته ومجازه " ولا يكاد يوجد عام كذلك إلا نادرا، فيكون الحد غير جامع، فظهر أن قولكم: " ما يصلح له " لا يتم به مقصود. قوله: " بحسب وضع واحد ": احتراز عن المشترك والحقيقة والمجاز: قلنا: خرج ذلك بقولكم (المستغرق) فإن الاستغراق غير حاصل في المشترك؛ من جهة الدلالة الوضعية، بل اللفظ مجمل قاصر عن الاستغراق بدلالته، وكذلك قاصر عن المجاز، ولا يفهم من الاشتراك إلا الادلالة الوضعية. قوله: " وقيل في حده: إنه اللفظة الدالة على شيئين فصاعدا؛ من غير حصر " واحترزنا باللفظ عن المعاني العامة تقريره: أن العموم كما تقدم يصدق على المعنى نحو: " مطر عام، وعدل عام " وعلى اللفظ الموضوع للكليات. فبقولنا: (اللفظ): خرج المعنى الكلي. قوله: " وعن الألفاظ المركبة ":

(سؤال) اللفظ مصدر يصدق على القليل والكثير من جنسه

تقريره: أن قولنا: " زيد قائم وعمرو خارج، والقصيدة الطويلة، والكلام المنتشر " لا يصدق عليه أنه لفظ، بل لفظات عديدة؛ فخرج من الحد. (سؤال) اللفظ مصدر يصدق على القليل والكثير من جنسه، إلا إذا حدد بالتاء؛ فإنه لا يتناول المرة الواحدة منه. فإذا قلنا: (ضربه) لا يتناول غير المضروب مرة واحدة؛ فعلى هذا لا يتناول الحد إلا الحرف الواحد، فإنه لفظة لفظها اللسان؛ وحينئذ يخرج جميع أفراد المحدود عن الحد، بل لو قال: (اللفظ) بغير تاء، كان أقرب للصواب. (سؤال) قال سيف الدين: الشيء يكون للموجود خاصة، والعموم يكون في المعدوم والمستحيل، كقولنا: المعدومات والمستحيلات يعمهما لام التعريف وجميع أدوات العموم؛ كالنفي وغيره. قوله: وبقولنا: " على شيئين " عن النكرة في الإثبات. تقريره: أن النكرة في الإثبات، إذا قلنا: " في الدار رجل " لا يتناول إلا رجلا، وليس هذا عاما في كل نكرة، بل لو قلنا: " في الدار مال " كان نكرة في سياق الإثبات، وهو غير محصور، وبل يصدق على المال، قل أو كثر؛ لأن النكرات على قسمين: منها ما يصدق لفظها على القليل والكثير؛ كمال وماء ولحم وذهب وفضة ونحو ذلك، ومنها ما لا يصدق على الكثير نحو: رجل، ودرهم، ودينار، وفرس، وجمل، وامرأة. فلا يقال لكثير من الدراهم: (درهم) ولا يصدق على الدنانير (دينار) وكذلك بقيتها، فعلمنا أن هذا إنما يتأتى في بعض النكرات؛ فعلى هذا يرد عليه النكرات التي لا تختص بالواحد؛ لأنها أحصر فيها، وأمكن أن يقال: إنها

(سؤال) يشكل عليه بمجموع الكثرة

إنما تدل على القدر المشترك فقط، وإذا وجد الكثير، صدقت عليه، ونحن إنما نتكلم في الدال لا في الصادق معناه. (سؤال) يشكل عليه بمجموع الكثرة؛ نحو: رجال ودراهم ودنانير؛ فإنها وضعت لما فوق العشرة؛ من غير حصر، فهي دالة على شيئين فصاعدا من غير حصر، ولا ترد جموع القلة التي تقدم نظمها في بيت الشعر أول الباب، وجموع السلامة؛ لأنها لا تتعدى العشرة من جهة الوضع، فالحصر فيها واقع بخلاف جموع الكثرة التي لا حصر فيها، فوردت. (سؤال) قوله: " احترزنا عن الألفاظ المركبة ": يخرج المعرف بـ (اللام) فإنه يركب من لام التعريف ومن المعرف، وكذلك النكرة في سياق النفي، وكل مضاف لما بعده، فهو مركب من المضاف والمضاف إليه، و (من) و (ما) وجميع الموصولات مركبة من الموصول والصلة. (سؤال) قال النقشواني: يشكل عليه ألفاظ من النكرات المفردة؛ فإنها ليست للعموم إجماعا، مع صدق الحد عليها؛ نحو قولنا: كثير ومتكثر وعدد؛ فإن هذه تدل على شيئين فصاعدا، وليست عامة. ***

المسألة الثانية المفيد للعموم

المسألة الثانية المفيد للعموم قال الرازي: إما أن يفيده لغة، أو عرفا، أو عقلا: أما الذي يفيده لغة: فإما أن يفيده على الجمع، أو على البدل. والذي يفيده على الجمع: فإما أن يفيده؛ لكونه اسما موضوعا للعموم، أو لانه اقترن به ما أوجب عمومه. وأما الموضوع للعموم، فعلى ثلاثة أقسام: الأول: ما يتناول العالمين وغيرهم، وهو لفظ (أي) في الاستفهام والمجازاة؛ تقول: " اي رجل، وأي ثوب، وأي جسم " في الاستفهام والمجازاة، وكذا لفظ كل، وجميع. الثاني: ما يتناول العالمين فقط، وهو (من) في المجازاة والاستفهام. الثالث: ما يتناول غير العالمين، وهو قسمان: أحدهما: ما يتناول كل ما ليس من العالمين، وهو صيغة (ما وقيل: إنه يتناول العالمين أيضا؛ كقوله تعالى: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} [الكافرون: 4]. وثانيهما: ما يتناول بعض ما ليس من العالمين، وهو صيغة (متى) فإنها مختصة بالزمان، و (أين)، (وحيث) فإنهما مختصتان بالمكان.

وأما الاسم الذي يفيد العموم لأجل أنه دخل عليه ما جعله كذلك: فهو: إما في الثبوت، أو في العدم. أما الثبوت: فضربان: لام الجنس الداخلة على الجمع؛ كقولك: (الرجال) والإضافة؛ كقولك: (ضربت عبيدي). وأما العدم: فكالنكرة في النفي. وأما الاسم الذي يفيد العموم على البدل: فأسماء النكرات؛ على اختلاف مراتبها في العموم والخصوص. وأما القسم الثاني؛ وهو الذي يفيد العموم عرفا: فكقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] فإنه يفيد في العرف تحريم جميع وجوه الاستمتاع. وأما القسم الثالث؛ وهو الذي يفيد العموم عقلا: فأمور ثلاثة: أحدها: أن يكون اللفظ مفيدا للحكم ولعلته، فيقضي ثبوت الحكم، أينما وجدت العلة. والثاني: أن يكون المفيد للعموم ما يرجع إى سؤال السائل؛ كما إذا سئل النبي عليه الصلاة والسلام عمن أفطر؟ فيقول: (عليه الكفارة) فنعلم أنه يعم كل مفطر. والثالث: دليل الخطاب؛ عند من يقول به كقوله عليه الصلاة والسلام: " في سائمة الغنم زكاة " فإنه يدل على أنه لا زكاة في كل ما ليس بسائمة، والله أعلم.

شرح القرافي: قوله: " ما يتناول العالمين وغيرهم وهو لفظ (أي) في الاستفهام والمجازاة "

المسألة الثانية: " المفيد للعموم ... " قال القرافي: قوله: " ما يتناول العالمين وغيرهم وهو لفظ (أي) في الاستفهام والمجازاة ": أي معناه: أنه يصلح لإفادة هذين الجنسين. وفي الحقيقة إنما تفيد العموم فيما أضيفت غليه خاصة؛ فإذا قلنا: (اي رجل) فهو عام في الرجال خاصة، و (أي ثوب) فهو عام في الثياب خاصة، وظاهر كلام المنصف: أنه يدل على العموم خاصة. قوله: " في الاستفهام والمجازاة ": نفعه في شيء، واضر به في شيء: اما وجه النفع: فإن ذلك احتراز عن (أي) إذا وقعت في النداء؛ كقولك: (أيها الرجل) فإنها ليست للعموم، وكذلك إذا كانت نكرة موصوفة؛ كقولك: " مررت بأي مكرم لك " أي شيء مكرم لك. فإن الزمخشري قال في (المفصل): إن (أيا) مثل (من) في جميع وجوهها، ومن جملة وجوه (من): النكرة الموصوفة، فهذا وجه أفاده، وما ذكره يخرج من أقسام (أي) ما ليس للعموم. وأما وجه ضرره فغن (ايا) كما تكون للعموم في الشرط، والاستفهام، تكون للعموم في الخبر الصرف، كقوله تعالى: {لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا} [الكهف:12] {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} [مريم: 69]. فإن (أيا) عامة في الحزب المحصي، والشيعة التي هي أشد عتيا، فاشتراط الشرط والاستفهام يخرج (أيا) الخبرية فيصير حده غير جامع. (فائدة) قال القاضي عبد الوهاب في (الملخص): (أي) تفارق صيغ العموم؛

في أنها عامة على وجه الإفراد دون الاستغراق، فاذا قلت: " أي رجل في الدار " فلا يقال: (إلا زيد) ولا مزيد على ذلك إا وجود عمرو، اي وغا لم يكن مستقيما. قوله: كذلك (كل) و (جمي) يريد انه يفيد العالمين وغيرهم، ولا يريد أنهما للعموم في الاستفهام والشرط، وفي غيرهما لا يكونان للعموم. قوله: " ما يتناول العالمين فقط وهو: (من) في المجازة والاستفهام ": يريد انه يصلح للعالمين، لا انه يتناول جميع العالمين، بل لا يعم (من) إلا فيمن اتصف بصلتها أو خبرها، فإذا قلت: " من دخل داري فله درهم " إنما يعم الداخلين فقط، وكذلك إذا قلت مستفهما: من عندك؟ إنما يتناول الكائنين عندك فقط. وقوله: " في المجازة والاستفهام " ينتفع به، ويتضرر به: أما ما ينفعه: ففي إفراد (من) إذا كانت نكرة موصوفة؛ نحو قولك: " مررت بمن معجب لك " نص عليه (من) النحاة الزمشخري وأبو علي وصاحب (الجمل) وغيرهم. ونقل ابن جني في (الخصائص) أن العرب تقول: أكرم من منا، أي: رجلا رجلا، فيستعملونه نكرة غير موصوفة، والنحاة ينكرون ذلك، ويقولون: لا تقع (من) نكرة إلا موصوفة، فهذا أيضا ينتفع به في إخراجه، ,اما ضرره فيه، فهو أن (من) تكون جزئية غرية عن الشرط والاستفهام، وهي للعموم؛ كقوله تعالى: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} [النمل: 65]. وهو كثير، فينبغي أن يسقط هذا الشرط، ويولى بما يخرج التكرار فقط، فتقول: (من) إذا كانت معرفة، فتدخل الجميع، فإن الاستفهامية والشرطية معرفة، او تقول، كما قال عبد الوهاب المالكي في (الملخص): (من) و (ما)

(سؤال)

إذا كانا للشرط أو الاستفهام، أو بمعنى (الذي) كانا للعموم، ويندفع الإشكال. (سؤال) إذا كانت (من) إنما تتناول من اتصل بصلتها إن كانت خبرية، أو خبرها إن كانت شرطية، او استفهامية فإن الجملة الواقعة بعدها في الخبرية يعدها النحاة صلة، وفي الشرط والاستفهام يعينونها خبرا، فإذا لم تتناول إلا الموصوف بذلك، يكون مدلولها أخص من مدلول العالم؛ لأن العالم الموصوف بتلك الصلة، أو الخبر - أخص من مطلق العالم، والدال على الأخص غير دال على الاعم، فلا تكون (من) دالة على العالم البتة، كما ان لفظ (الانسان) الدال على ما هو اخص من الحيوان غير دال على الحيوان البتة؛ فيبطل. قوله: " بأن (من) تناول العالمين " بل إنما تتناول ما هو اخص من العالمين، وكذلك يرد السؤال في (ما) و (أي) ويظهر ايضا بطلان قول النحاة ان (من) وضعت لمن يعقل، (ما): لما لا يعقل، بل لما هو اخص من ذلك، وإنما تصح هذه الدعاوي على ما نقله ابن جني في (الخصائص) لكن ذلك شاذ، والجماعة ينكرونه. (سؤال) قد وردت (من) في غير العالمين، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فتكون حقيقة في (غير) العالمين، فلا تكون حقيقة في العالمين نفيا للاشتراك. ولأن صدر الاية اقتضى ذلك لقوله تعالى: {والله خلق كل دابة} [النور: 45] واجتمع جميع الدواب، ومنه العالمون؛ كالانس، وغيرهم؛ كالبهائم.

(سؤال) لم يذكر هاهنا الشرط، والاستفهام، كما ذكر في غيره

(والقاعدة) أنه إذا اجتمع العقلاء وغيرهم، غلب العقلاء وصير الجميع عقلاء، فلما وقع التفصيل بعد ذلك، وقع تفصيلا للعقلاء فقط، فكذلك (ما) وقع بصيغة (من) كان المذكور عقلاء ليس غلا لأجل التغليب الواقع في صدر الآية. قوله: " صيغة (ما) تتناول كل ما ليس من العالمين ": يريد أناه لا تختص بنوع من أنواع غير العالمين، بل يعبر بها عن كل نوع غير عالم؛ من الجماد والنبات والحيوان البهيم. ثم قوله: " ما ليس من العالمين " عبارة فيها مسامحة؛ فإنها تقتضي أن يكون موضوعا لكليهم؛ لاجل قوله: (كل) وليس كذلك، بل هي موضوعة ليعبر بها عن المتصف بصلتها، أو صفتها خاصة، فاذا قلت: " رايت ما اعجبني " اختص ذلك بمن يعجبك خاصة، أو " رأيت ما في الدار " اختص بمن في الدار. ويرد عليه السؤال السابق؛ وهو أنها إذا كانت موضوعة للموصوف بصلتها، أو خبرها فقط، يكون مدلولها حينئذ اخص من غير العاقل، فإن الموصوف بالصفة الخاصة اخص من مطلق غير العالم، واللفظ الموضوع للاخص لا يلزم ان يكون موضوعا للاعم؛ كالانسان موضوع لما هو اخص من الحيوان، فلا يكون دالا على الحيوان بالمطابقة؛ بل بالتضمن، وبالجملة: السؤال يطرد في هذه المواطن كلها. (سؤال) لم يذكر هاهنا الشرط، والاستفهام، كما ذكر في غيره؛ وحينئذ يرد عليه أن (ما) يكون نكرة موصوفة؛ كقوله: " مررت بما معجب لك "،

أي: شيء معجب لك، ونكرة غير موصوفة؛ كقوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي} [البقرة: 271] أي: فنعم شيئا هي. وعلى التقديرين لا يتناول الافراد؛ فلا يكون للعموم، وهو إنما يتكلم في صيغ العموم؛ فينبغي أن يقيدها. قوله: " وقيل: إنها تتناول العالمين؛ كقوله تعالى: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} [الكافرون: 4]. تقريره: أن تقدير الكلام، ولا انتم عابدون الذي أعبده، ومعبوده هو الله تعالى، وهو بكل شيء عليم. وأجيب عنه بأن (ما) هاهنا مصدرية. تقديره: " ولا أنتم عابدون عبادتي " فما عبر بها غلا عن ما لا يعلم؛ لأن العبادة لا تعلم، وكذلك أجابوا عن قوله تعالى: {ونفس وما سواها} [الشمس: 7] بأنها مصدرية، اي: وتسويتها، غير أنه: يشكل عليهم عود الضمير على (ما) في قوله تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس: 8] و (ما) المصدرية حرف لا يعود عليه الضمائر، والتزم بعضهم صحة عود الضمير على المصدر وهو شاذ. ومما أول أيضا قوله تعالى: {وما خلق الذكر والأنثى} [الليل: 3]. فقيل: مصدرية: تقديره: وخلق الذكر والأنثى، ومما عسر تأويله: قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3] (والنساء) يعقلن، وكذلك قوله تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} وآدم عليه السلام من ساداات أولي العلم؛ فلذلك قال جماعة من النحاة: " إنها يعبر بها عن نوع من يعقل؛ نحو: (لما خلقت بيدي) وعن صفة من يعقل؛ نحو: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}، أي:

الطيبات، ولا يعبر بها عن شخص من يعقل، لا يقال: " جاءني ما عندك " تريد زيدا، وبهذا التفصيل يمكن الجمع بين الآيات والاستعمالات العربية. قوله: " متى مختصة بالزمان ... ". قال أبو عمرو بن الحاجب في شرح (المفصل): (متى) موضوعة للسؤال عن الزمان المبهم، لا للزان كيف كان، فلا تقول: " متى زالت الشمس فائتني " بل إذا زالت الشمس، وتقول: " متى جاء زيد فائتني " لأن زمن مجيئه مبهم غير معلوم، بهذا يرد سؤال على صاحب الكتاب، حيث لم يقيد، كما قيد أبو عمرو وغيره. قوله: " وأين، و (حيث) مختصان بالمكان " نقل النحاة في حيث ست لغات: الضم، والفتح، والكسر في الثاء الأخيرة مع الياء في الوسط، والثلاثة أيضا مع الواو بدل الياء؛ فتصير ستة قوله: (وأما) الاسم الذي يفيد العموم لأجل أنه اقترن به ما جعله للعموم ... ". قلنا: جعله (القسم) الأول يفيد العموم بنفسه، وهذا القسم إنما يفيد العموم لأجل ما دل عليه - مشكل؛ من جهة أن القسم الأول ايضا، لابد فيه من كلمات تدخل عليه، ففي (من) و (ما): الصلة والخبر، وفي (كل) و (جميع): الإضافة، وفي (متى) و (حيث) و (أين): الإضافة. فول قلت: (حيث) أو (أين) ولم تضفه بشيء، لم يعد عموما. قوله: يفيد العموم في الثبوت (لام الجنس) الداخلة على الجمع. عليه ثلاثة أسئلة: الأول: أنه جعله خاصا بالثبوت، وليس كذلك، بل يفيد العموم في النفي؛ كقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة: 221]

وقوله تعالى: {فغن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} [التوبة: 96] فيعم كل مشركة، وكل فاسق. الثاني: تخصيصه بـ (لام الجنس) يقتضي أن تكون (اللام) الداخلة على الصفات والمشتقات، لا تفيد العموم، وليس كذلك؛ بل تفيدها؛ لقوله تعالى: {إن المصدقين والمصدقات} [الحديد: 18] بل كان ينبغي أن يقول: (لام التعريف) كيف كان، للعموم؛ فإن أسماء الأجناس عنده لا يدخلها المشتقات. ولذلك قال: " المجاز إنما يدخل دخولا أوليا في أسماء الأجناس دون المشتقات، والأعلام، والحروف ". الثالث: تخصيصه بالجمع يقتضي أنها إذا دخلت على التثنية، والفرد، لا تكون للعموم؛ غير أنه قد ادعى أنها في الفرد ليست للعموم بعد هذا، (فهو) مبني على مذهبه، بقيت التثنية لم تندرج؛ مع أنها كالجمع. قوله: " والمفيد للعموم على البدل النكرات؛ على اختلاف مراتبها في العموم والخصوص ". يريد العموم والخصوص، في المعنى، لا في اللفظ؛ فإن التقدير: أنها لا تفيد العموم اللفظي؛ فلم يبق إلا المعنوي، فإن (إنسان) اخص من (حيوان) و (حيوان) أخص من (جسم)، وعلى هذا الترتيب في العموم والخصوص المعنوي. ويريد بقوله: (تفيد على البدل) اي: تقبل هذا بدلا عن دال، ولا يلزم الجمع بين فردين من ذلك الجنس؛ لقوله تعالى: {فتحرير رقبة} [المائدة: 87]. قوله: " والإضافة؛ كقوله: (ضربت عبيدي):

تقريره: أن الإضافة توجب التعميم في المضاف الذي هو الأول، (سواء) كان جمعا أو مفردا؛ لقوله عليه السلام: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". والماء، والميتة مفردان مضافان، وحصل العموم بهما. قوله: " يقال للذي يفيد العموم عرفا؛ كقوله تعالى: " حرمت عليكم أمهاتكم " [النساء: 23] فإنه يفيد في العرف تحريم جميع وجوه الاستمتاع ". تقريره: أن هذا من المركبات التي نقلها العرف عن الموضوعات اللغوية، وقد تقدم في الحقيقة العرفية: أن أهل العرف كما ينقلون المفردات، نحو (الدابة) و (الغائط) فلذلك ينقلون المركبات، وهذا منها؛ فإن هذه الصيغة تقتضي بمعنى اللغة العموم في تحريم الأمهات، فنقله العرف للعموم في تحريم أنواع الاستمتاع، ولو لم ينقله أهل العرف، لكنا نقدر مضافا محذوفا، تقديره: " عليكم استمتاع أمهاتكم ". ولكنا بعد نقل العرف لا نقدر ذلك؛ لأن اللفظ يدل على تحريم الاستمتاع بالمطابقة من جهة الوضع العرفي، واعلم أن دلالة العرف، ونقله لهذه الألفاظ المركبة - لا يختص بصيغ العموم، بل في المفرد المعين أيضا، ممنوع في العرف، فلو قلت: " حرمت عليك هذه الميتة، أو هذه الأم " لكان هذا اللفظ أيضا ممنوعا في العرف؛ لتحريم المنافع المقصودة من تلك العين، والمنقول هو هذا المجموع المركب دون مفرديه. فلو قلت: (الأمهات) وسكت، لم يكن فيه نقل عرفي. ولو قلت: (حرمت) ولم تذكر الأمهات، لم يكن فيه نقل عرفي نبل النقل العرفي إنما وجد في اللفظ المركب هاهنا. ولو قلت: " حرمت عليكم الأفعال الخبيثة، أو المشتملة على المفاسد،

(قاعدة) القياس بما فهمه العقل من التعليل

لم يكن فيه نقل عرفي، وإن كان مركبا، بل هذا لغوي على أصله من غير حذف مضاف، ولا يجوز، ولا نقل، وغنما حصل النقل فيما كان ثانيا، لولا النقل - أ، يضمر فيه مضافا محذوفا؛ كما تقدم، فتأمل هذا الموطن، وهذه الفروق؛ فهي نفيسة لا يكاد يتفطن لها في أنواع المنقولات، ولا في الحقائق العرفيات. قوله: " الذي يفيد العموم عقلا؛ كإفادة اللفظ للحكم، وعليه فيقتضي ثبوت الحكم أينما وجدت العلة ". مراده بالعقل هاهنا: الذي فهم بالعقل؛ لأن دليله عقلي قطعي، كما تقول في حدوث العالم: إنه ثابت بالعقل، ولا شك أن المناسبة والتعليل، وفي الصور الخاصة إنما يفهم بالعقل، وإن كان أصل القياس ثابتا بالسمع، لكن الصورة الخاصة إنما وقع فيها القياس بعد تقريره. (قاعدة) القياس بما فهمه العقل من التعليل، وكذلك بقية الأقسام التي ذكر أن الحكم فيها ثابت بالعقل. معناه: أنه فهم بالعقل، وإن كان ذلك لم يحصل قطعا، بل ظنا ضعيفا. قوله: " مفهوم قوله عليه السلام: (في سائمة الغنم زكاة) يقتضي أن ما ليس سائمة لا زكاة فيه " قلنا: هذا الاطلاق يناقض ما اختاره في (باب المفهوم) ان المفهوم إنما يثبت في ذلك الجنس خاصة، وحكى فيه قولين، واختار خصوص الجنس، وان يكون تقدير الحديث في مفهومه: " ما ليس بسائمة من الغنم لا زكاه فيه " أما ما ليس بسائمة مطلقا؛ حتى يندرج فيه معلوفة البقر والابل والخيل، وجميع ما يصدق عليه أنه ليس بسائمة، فهو غير مختاره، وغير مختار غيره أيضا، لكن هذا الموضع ليس موضع تحريره؛ فلذلك أطلق العبارة.

المسألة الثالثة في الفرق بين المطلق والعام

المسألة الثالثة في الفرق بين المطلق والعام اعلم ان كل شيء، فله حقيقة، وكل أمر يكون المفهوم منه مغايرا للمفهوم من تلك الحقيقة، كان، لا محالة، أمرا اخر سوى تلك الحقيقة، سواء كان ذلك المغاير لازما لتلك الحقيقة أو مفارقا، وسواء كان سلبا، أو ايجابا: فالانسان من حيث أنه إنسان، ليس إلا أنه إنسان: فإما أنه واحد، أو لا واحد، أو كثير، أو لا كثير: فكل ذلك مفهومات منفصلة عن الانسان؛ من حيث إنه إنسان، وإن كنا نقطع بأن مفهوم الإنسان لا ينفك عن كونه واحدا، أو لا واحدا. إذا عرفت ذلك، فنقول: اللفظ الدال على الحقيقة؛ من حيث إنها هي هي، من غير أن تكون فيها دلالة على شيء من قيود تلك القيقة سلبا كان ذلك القيد، أو إيجابا، فهو المطلق. وأما اللفظ الدال على تلك القيقة، مع قيد الكثرة: فإن كانت الكثرة كثرة معينة؛ بحيث لا يتناول ما يزيد عليها - فهو اسم العدد، وغن لم تكن الكثرة كثرة معينة - فهو العام. وبهذا التحقيق؛ ظهر خطا من قال: " المطلق هو الدال على واحد، لا بعينه " فإن كونه واحدا وغير معين، قيدان زائدان على الماهية، والله أعلم.

شرح القرافي: قوله: " المغاير قد يكون لازما، أو مفارقا، سلبا، او إيجابا "

المسألة الثالثة في الفرق بين المطلق والعام قال القرافي: قوله: " المغاير قد يكون لازما، أو مفارقا، سلبا، او إيجابا ": مثال اللازم: الضحك بالقوة؛ بالنسبة إلى الإنسان. مثال المفارق: الضحك بالفعل. مثال السلب: كون الإنسان لا واحدا ولا كثيرا؛ فسلب الوحدة والكثرة غير مفهوم الإنسان. مثال الإيجاب: الضحك بالفعل. قوله: " اللفظ الدال على الحقيقة من حيث إنها هي هي؛ من غير أن يكون فيها دلالة على شيء من قيود تلك الحقيقة ". قلنا: الحقيقة المفيدة قد يوضع لها لفظ مفرد يدل عليها مع قيدها، كالحيوان المقيد بالناطق؛ وضع له لفظ الإنسان، وكذلك كل نوع، فهو الجنس مقيدا بفصله، ومع ذلك فله لفظ واحد دال عليه وهو مطلق؛ فدلالة لفظ (الماهية) قد يدل على قيودها التي هي أجزاؤها ضمنا، ويصدق عليها أنها قيودها، ومع ذلك فهو مطلق، فاشتراط عدم الدلالة مطلقا على القيود، كيف كانت - لا يتجه؛ حتى يصرح بالقيود الخارجية. قوله: " والدلالة على الحقيقة مع كثرة معينة، بحيث لا يتناول ما بعدها. فهو اسم العددد ". قلنا: هذه العبارة تقتضي أن تكون أسماء الأعداد دالة على المعدودات مع العدد. فإن قولكم: إن دل على الماهية مع الكثرة يقتضي أن الماهية داخلة في مدلول لفظ العدد تضمنا، وليس كذلك؛ فإن ألفاظ الأعداد وضعت لتلك

الرتبة المعينة من العدد مع قطع النظر عن المعدودات؛ فإن العشرة مثلا وضع لمجموع الخمستين كانت الخمستان، أي معدود كان، موجودات أو معدومات، جمادات أو حيوانات، ولم يقصد بلفظ العشرة غلا تلك المرتبة الخاصة، مع قطع النظر عن المعدود بها ما كان، أي شيء كان بالماهيات المعدودات، لم يدخل في مسميات ألفاظ العدد ألبتة؛ بل ينبغي أن يقال: إن وضع اللفظ للكثرة المحصورة، فهو اسم العدد، فلا يذكر الماهيات أصلا، بل مراتب العدد فقط، ثم إن جميع ما ذكره ينتقض بمجموع القله، وقد تقدم نظم المكسر منها، مع السلامة في بيت شعر، فإنها تدل على كثرة معينة، وهي الثلاثة أو الاثنان؛ على الخلاف في أقل الجمع، ولا يتناول ما بعدها، وكذلك جموع الكثرة، إذا قلنا: إن أقل مراتب مدلولها أحد عشر؛ على رأي الأدباء، أو الاثنان، والثلاثة؛ على رأي الأصوليين؛ فإن اللفظ دل على هذا العدد المعين، ولم يتناول ما بعده؛ لأن المعنى بالتناول الدلالة والإفادة والفهم عند السماع، وهو منفي في الزائد؛ إجماعا في الجموع النكرات، إلا ما شذ من قول بعضهم. قوله: " وإن لم تكن الكثرة معينة، فهو العام ": يريد بالتعيين المسكوت (عنه) هاهنا مرتبه معينة بكونها مسلوبة النهاية، وهذا نوع من التعيين، فإن ما لا يتناهى يمتاز، ويتعين بسلب النهاية عن المتناهى، ثم إن اللفظ الذي يتخيل وضعه للماهية يفيد كثرة غير متناهية تصدق بطريقين: أحدهما: أن يكون موضوعا لمجموع هذا المفهوم، أي: الكل من حيث هو كل. وثانيهما: أن يكون وضع له بمعنى الكلية، وهذا هو الذي ينطبق على معنى العموم، والأول مندرج في عبارته، وليس للعموم مرد عليه، ويرد عليه أيضا أن الواضع لو قال: " وضعت هذه الصيغة للماهية " يفيد كثرة لا

(تنبيه) زاد تاج الدين، فقال: " اللفظ الدال على الماهية من حيث هي هي: (هو) المطلق

تختص بمرتبة الأعداد، صدق حده فيها، وصدقت هي على أي مرتبة كانت من العدد؛ لأن الموضوع الذي لا يختص بهو أعم من الذي يختص، والأعم لا يستلزم الأخص؛ فلم تسلم هذه الصيغة مرتبة معينة، فتصدق حينئذ باثنين، فرد عليه؛ لاندراجها في حده، وجميع ما ذكر من الحدود والتقاسيم في ضبط صيغ العموم لا يكاد يستقيم منها شيء، فيبقى التعويل على ما تقدم من ضبطها بأنها " الموضوعة للقدر المشترك بقيد يتبعه بحكمه في جميع محاله كلها " فلا يرد شيء من هذه الأسئلة. (تنبيه) زاد تاج الدين، فقال: " اللفظ الدال على الماهية من حيث هي هي: (هو) المطلق، والدال عليها مع وحدة معينة: (هو) المعرفة، ومع وحدة غير معينة: هو النكرة، ومع وحدات معدوده - هو اسم العدد، ومع كل جزئياتها: هو العام ": قلت: قوله: " مع وحدة معينة: هو المعرفة " لا يتجه؛ لأن المعين إن أريد به المعين بالشخص، فليس في المعارف ما وضع لشخص إلا العلم؛ على ما تقرر (في) تقسيمات الألفاظ إلى الجزئي والكلي، وذكر أن المضمر موضوع لجزئي، وجرى ذلك هنالك، وإن أراد بالتعيين التعيين بالنوع، أو الجنس، أو الصفة - أشكل بالنكرات كلها، فإنها معينة أنواعها، وأجناسها كقولك: " إنسان، فرس، ظبي " إنما يتناول حقيقة معينة بنوعها. وقوله: " إن كان للماهية بوحدة غر معينة " ففرق بين المطلق والنكرة؛ وهذا غير معول في اصطلاح النحاة والأصوليين، فإن (رقبة) مطلق إجماعا، ونكرة عند مجموع النحاة، وكذلك (رجل) نكرة، وهو مطلق، وعلى رأيه تكون النكرة أخص من المطلق، فكل نكرة يصدق عليها الإطلاق

بوجود الماهية من حيث هي هي، ولا ينعكس؛ إذ لا يلزم من الماهية من حيث هي هي - وجود الماهية بقيد وحدة غير معينة، وبالجملة فهذا الفرق الذي أشار إليه لا يساعد عليه الاصطلاحات. وقوله: " ومع وحدات معدودة: هو اسم العدد ". يشكل عليه بالجموع كلها؛ فإن الأفراد المندرجة تحتها متعددة، وأنه تعالى يعلم عددها، وكذلك يعلمها البشر؛ فإن الإنسان غذا قال: " رايت رجالا " فهو يعلم عدد من لقي. وإ قلنا: الجمع المكسر لا يتناول إا اثنين أو ثلاثة، والدلالة مفقودة فيما عدا ذلك، فهذه الثلاث وحدات معدولة، وليست اسم عدد، ثم يرد عليه ما ورد على المصنف: من أن لفظ العدد لم يوضع للماهية، مع قيد العدد، ولا للكثرة، بل لمرتبة معينة من الكثرة دون المتكثر فقط. وقوله: " ومع كل جزئياتها: هو العام العام ": في كل لفظ ما يعلمه من السؤال. إن أراد به الكلية صح، أو الكل من حيث هو كل، لا يصح؛ لتعذر الاستدلال به في النفي والنهي؛ كما تقدم، ولما كان لفظه مترددا بين الجنسين، لم يصح لدخول ما لا يكون عاما في ضابط العام. وزاد التبريزي فقال: " اللفظ الدال على الماهية من حيث هي هي: هو المطلق، ويسمى مفهومه كليا، والدال بوصف الكثرة، إن لم ينحصر، فهو العام، وإن انحصر: فهو الجمع المنكر، والدال عليها بوصف الوحدة: ÷والعلم، واسم الغشارة، وما في معناه، وإن كانت ذهنية: فهي المطلق عند الفقهاء، ويخصون الأول باسم الجنس، وأما الدال على نفس الكثرة، فإن

أشعر بكمية: فهو اسم العدد، وإلا: فهو على الأقسام المذكورة، فإن الكثرة: معنى من المعاني تلحقها الكثرة والوحدة، وكذلك الوحدة ". قلت: ما على تفسير العام قد تقدم. وقوله: " إن انحصر: فهو الجمع المنكر ": إشارة إلى ما تقدم: أن مدلول الجمع الاثنان أو الثلاثة؛ على الخلاف، فمدلولها محصور. وقوله: " الدال على الماهية بالوحدة المعينة: هو العلم " صحيح. وقوله: " واسم الإشارة، وما في معناه " غير متجه؛ لأن اسم الإشارة، لو كان موضوعا لمعين، كالسلم، لما صدق على شخص آخر إلا بوضع آخر، لكنه يصدق على ما لا يتناهى، فدل على أنه موضوع لمفهوم المشار إليه، الذي هو مفهوم مشترك كلي، وكذلك صدق على ما لا يتناهى من المحال، وكذلك المضمارت، وجميع المعارف غير العلم، وقد تقدم بسطه في تقسيم الجزئي والكلي. وقوله: " وإن كانت ذهنية، فهو المطلق عند الفقهاء ". يشير إلى ان المطلق وضع للمفهوم الكلي القابل للكثرة والوحدة، وهذا القابل هو صورة ذهنية؛ فإن الواقع في الخارج، إن كان واحدا، استحالت الكثرة عليه، أو كثيرا استحالت الوحدة عليه؛ من حيث هو كثير، فالقابل للأمرين إنما هو في الذهن، والصورة الذهنية واحدة مشخصة، وفرد من افراد تصورات تلك الماهية، وقد تقدم بسطه في علم الجنس عند تقسيمات الألفاظ، وهو يشير إلى أن اللفظ إنما وضع للصورة الذهنية؛ فعلى هذا اللفظ المطلق مدلوله صورة متوحدة ذهنا. وقوله: (عند الفقهاء): احتراز من اصطلاح اللغة؛ فإن المطلق لغة إنما هو الذي ليس له قيد حقيقي، ثم استعير لعدم القيود المعنوية في اصطلاح

الفقهاء؛ فهو مجاز راجح، وحقيقة عرفية عند الفقهاء، والأصوليون معهم في ذلك، لكنه خصص الفقهاء بالذكر؛ لأنهم أكثر استعمالا لهذا اللفظ من الأصوليين؛ لتكرره في أعيان المسائل عندهم. وقوله: " ويخصون الأول باسم الجنس ": يريدون المطلق الكلي. وقوله: " وأما الدال على نفس الكثرة ": أخرج بعبارته هذه ما ورد على الجماعة من أن لفظ العدد، لم يوضع لعدد مع المعدود، بل للعدد فقط، فأشار هو لذلك؛ فقال: " لنفس الكثرة " من غير اعتبار الماهية المعدود. وقوله: " إن أشعر بكمية، فهو اسم العدد ": يعني أن العدد في الاصطلاح عند المتحدثين على كليات الأجناس يسمى: (الكم) فالكم العدد، وكذلك الكمية، وتشدد الميم وتخفف، وكذلك الياء لغتان في كمية، وأصله لفظ كم (الشيء) التي تقول العرب فيها: كم عندك درهما؟ فلما كانت (كم) يسأل بها عن الأعداد، اشتق للعدد اسم منها (كم) و (كمية). وقوله: " وإلا فهو على الأقسام ": يريد أن هذه الماهية، التي هي الكمية، قد توضع لمفرد منها معين في الخارج؛ فيكون عاما، أو معينا ذهنا؛ فيكون مطلقا، ولعدد محصور؛ فيكون جمعا للعدد، أو غير محصور؛ فيكون لفظا عاما في العدد. ***

المسألة الرابعة قال الرازي: اختلف الناس في صيغة (كل) و (جميع) و (أي) و (ما) و (من) في المجازة، والاستفهام: فذهبت المعتزلة، وجماعة من القهاء: غلى أنها للعموم فقط، وهو المختار، وانكرت الواقفية ذلك، ولهم قولان: فالأكثرون ذهبوا: إلى أنها مشتركه بين العموم والخصوص. والأقلون قالوا: لا ندري أنها حقيقة في العموم فقط؛ أو الخصوص فقط، أو الاشتراك فقط، والكلام في هذه المسألة مرتب على فصول خمسة: الفصل الأول في أن: (من) و (ما) و (أين) و (متى) في الاستفهام - للعموم فنقول: هذه الصيغ: إما أن تكون للعموم فقط، او للخصوص فقط، أو لهما؛ على سبيل الاشتراك، أو لا لواحد منهما، والكل باطل إلا الأول. أما أنه لا يجوز أن يقال: إنها موضوعة للخصوص فقط: فلأنه لو كان كذلك، لما حسن من المجيب أن يجيب بذكر كل العقلاء؛ لأن الواجب يجب أن يكون مطابقا للسؤال، لكن لا نزاع في حسن ذلك. وأما أنه لا يجوز القول بالاشتراك؛ فلأنه لو كان كذلك، لما حسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة، مثل أنه إذا قيل: من عندك؟ فلا بد ان تقول: تسألني عن الرجال، أو عن النساء؟ فإذا قال: (عن الرجال)

فلا بد أن تقول: تسألني عن العرب، أو عن العجم؟ فإذا قال: (عن العرب) فلا بد ان تقول: تسالني عن ربيعة، أو عن مضر؟ وهلم جرا، إلى ان تأتي على جميع التقسيمات الممكنة؛ وذلك لأن اللفظ: غما أن يقال: إنه مشترك بين الاستغراق، وبين مرتبة معينة في الخصوص، او بين الاستغراق، وبين جميع المراتب الممكنة؛ والأول باطل؛ لأن أحدا لم يقل به. والثاني يقتضي الا يحسن من المجيب ذكر الجواب، إلا بعد الاستفهام عن كل تلك الأقسام؛ لأن الجواب لابد وأن يكون مطابقا للسؤال، فإذا كان السؤال محتملا لأمور كثيرة، فلو أجاب قبل أن يعرف ما عنه وقع السؤال، لاحتمل ألا يكون الجواب مطابقا للسؤال؛ وذلك غير جائز. فثبت أنه لو صح الاشتراك، لو جبت هذه الاستفهامات، لكنها غير واجبة: أما أولا؛ فلأنه لا عام إلا وتحته عام آخر، وإذا كان كذلك، كانت التقسيمات الممكنة غير متناهية، والسؤال عنها؛ على سبيل التفصيل، محال. وأما ثانيا؛ فلأنا نعلم بالضرورة من عادة أهل اللسان؛ أنهم يستقبحون مثل هذه الاستفهامات. وأما أنه لا يجوز أن تكون هذه الصيغة غير موضوعة لا للعموم، ولا للخصوص، فمتفق عليه، فبطلت هذه الأقسام الثلاثة، ولم ييبق إلا القسم الأول؛ وهو الحق. فإن قيل: لا نسلم أنها غير موضوعة للخصوص. قوله: " لو كان كذلك، لما حسن الجواب بذكر الكل ". قلنا: متى إذا وجدت مع اللفظ قرينة تجعله للخصوص، أو إذا لم توجد الأول ممنوع، والثاني مسلم.

بيانه: أن من الجائز أن تكون هذه الصيغة موضوعة للخصوص؛ إلا أنه قد يقترن بها من القرائن ما يصير المجموع للعموم؛ لجواز أن يكون حكم المركب مخالفا لحكم المفرد. سلمنا ذلك؛ فلم لا يكون مشتركا؟ قوله: " لو كان كذلك، لوجبت الاستفهامات " قلنا: لم لا يجوز أن يقال: هذه اللفظة لا تنفك عن قرينه دالة على المراد بعينه؟ فلا جرم لا يحتاج إلى تلك الاستفهامات. سلمنا إمكان خلوه عن تلك القرينة؛ لكن متى يقبح الجواب بذكر الكل؟ إذا كان ذكر الكل مفيدا لما هو الملطلوب بالسؤال؛ على كل التقديرات، أو إذا لم يكن؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم. بيانه: أن السؤال: إما أن يكون قد وقع عن الكل، أو عن البعض فإن وقع عن الكل، كان ذكر الكل هو الواجب؟ وإن وقع عن البعض، فذكر الكل يأتي على ذلك البعض؛ فيكون ذكر الكل مفيدا لحصول المقصود؛ على كل التقديرات، وذكر البعض ليس كذلك فكان ذكر الكل أولى. سلمنا أن الاشتراك يوجب تلك الاستفهامات؛ لكن لا نسلم أنها لا تحسن؛ ألا ترى أنه إذا قيل (له): من عندك؟ حسن منه أن يقول: اعن الرجال تسألني، أم عن النساء؟ أعن الأحرار، أم عن العبيد؟ غاية ما في الباب أن يقال.

الاستفهام عن كل الأقسام الممكنة غير جائز؛ لكنا نقول: ليس الاستدلال بقبح بعض تلك الاستفهامات على عدم الاشتراك - أولى من الاستدلال بحسن بعضها على الاشتراك؛ وعليكم الترجيح. سلمنا أن ما ذكرتم يدل على قولكم؛ لكنه معارض بأن هذه الصيغ، لو كانت للعموم فقط، لما حسن الجواب إلا بقوله: لا (أو) نعم؛ لأن قوله: من عندك؟ تقديره: أكل الناس عندك؟ ومعلوم أن ذلك لا يجاب إلا بـ (لا) أو بـ (نعم) فكذلك هاهنا. والجواب: قوله: " الصيغة، وإن كانت حقيقة في الخصوص؛ لكن لم لا يجوز أن يقترن بها ما يصير المجموع للعموم؟ ". قلنا: لثلاثة أوجه: الأول: أن هذا يقتضي، أنه لو لم توجد تلك القرينة - ألا يحسن الجواب بذكر الكل. ونحن نعلم بالضرورة من عادة أهل اللغة حسن ذلك، سواء وجدت قرينة أخرى، أم لم توجد. الثاني: أن هذه القرينة لابد، وان تكون معلومة للسامع والمجيب معا؛ لأنه يستحيل أن تكون تلك القرينة طريقا إلى العلم بكون هذه الصيغة للعموم، مع أنا لا نعرف تلك القرينة. ثم تلك القرينة: إما أن تكون لفظا، أو غيره. والأول باطل؛ لأنه إذا قيل لنا: من عندك؟ حسن منا أن نجيب بذكر كل من عندنا، وإن لم نسمع من السائل لفظة أخرى.

والثاني باطل أيضا؛ لأنا لا نعقل قسما آخر وراء اللفظ يدل على مقصود المتكلم إلا الغشارة، وما يجري مجراها؛ من تحريك العين والرأس، وغيرهما. وكل ذلك مما لا يطلع الأعمى عليه، مع أنه يحسن منه أن يجيب بذكر الكل. الثالث: أن من كتب إلى غيره؛ فقال: من عندك؟ حسن منه الجواب بذكر الكل، مع أنه لم يوجد في الكتبة شيء من القرائن. وبهذه الوجوه؛ خرج الجواب أيضا عن قوله: إنما لم يحسن الاستفهام عن جميع الأقسام؛ لأن اللفظ لا ينفك عن القرينة الدالة، وأيضا: فقد انعقد الإجماع على أن اللفظ المشترك يجوز خلوه عن جميع القرائن المعينة. قوله: " إنما حسن الجواب بذكر الكل؛ لأن المقصود حاصل على كل التقديرات ". قلنا: يلزم منه لو قال: من عندك من الرجال؟ - أن يحسن منه ذكر النساء مع الرجال؛ لأن تخصيص الرجال بالسؤال عنهم، لا يدل على أنه لا حاجة به إلى السؤال عن النساء، فلما لم يحسن في هذا فكذا فيما ذكرتموه. وأيضا: فكا أنه يحتمل أن يكون غرضه من السؤال ذكر الكل، أمكن أن يكون غرضه السؤال عن البعض، مع السكوت عن الباقين. قوله: " قد يحسن الاستفهام عن بعض الأقسام، فليس الاستدلال بقبح البعض على نفي الاشتراك أولى من الاستدلال بحسن البعض على ثبوت الاشتراك ". قلنا: قد ذكرنا أنه ليس في الأمه أحد يقول بأن هذه الصيغ مخصوصة ببعض مراتب الخصوص، دون البعض، فلو كانت حقيقة في الخصوص،

المسألة الرابعة في أن (كل) و (جميع) و (أي) و (من) و (ما) في المجازة والاستفهام

لكانت حقيقة في كل مراتب الخصوص، ولو كان كذلك، لوجب الاستفهام عن كل تلك المراتب، فلما لم يكن كذلك؛ علمنا فساد القول بالاشتراك. فأما حسن بعض الاستفهامات، فلا يدل على وقوع الاشتراك؛ لما سنذكر، إن شاء الله تعالى؛ أن للاستفهام فوائد أخرى سوى الاشتراك. قوله: " لو كانت هذه الصيغة للعموم، لما حسن الجواب إلا بـ (لا) أو (نعم). قلنا: لا نسلم؛ وذلك لأن السؤال هاهنا ما وقع على التصديق؛ حتى يكون جوابه بـ (لا) أو بـ (نعم)، بل إنما وقع عن التصور؛ فقوله: من عندك؟ معناه: " إذكر لي جميع من عندك من الأشخاص، ولا تبق احدا إلا وتذكره لي " ومعلوم أنه لا يحسن الجواب عن هذا السؤال بـ (لا) أو (نعم)، والله أعلم. المسألة الرابعة في أن (كل) و (جميع) و (أي) و (من) و (ما) في المجازة والاستفهام قال القرافي: قد تقدم ما في اشتراط الشرط والاستفهام من الفائدة، ومن الضرر في المسألة الثانية. قوله: " للواقفية قولان: أحدهما: أن الصيغ مشتركة بين العموم والخصوص ". تقريره: أنهم لما قالوا بالاشتراك، فهم يتوقفون عند الإطلاق في الحمل على العموم، أو الخصوص إلا بقرينة؛ فتوقفهم في الحمل لا في الوضع؛ لأن من قال بالاشتراك، فقد جزم بالوضع، ولم يتوقف فيه، وغنما سموا واقفية لأجل الحمل فقط.

قال سيف الدين: اختلف العلماء، هل للعموم لفظ موضوع؟ نفاه المرجئة، وأثبته الشافعي، وجماهير المعتزلة، وكثير من الفقهاء. وقالوا: هذه الصيغ حقيقة في العموم، مجاز في غيره. ومنهم: من خالف في الجمع المعرف، واسم الجنس إذا عرف باللام؛ قالوا: إلا أبا هاشم؛ وقال: هي حقيقة في الخصوص، مجاز في غيره. وعن الأشعري: الاشتراك، وعدم الحكم مطلقا، قولان، ووافقه على الثاني القاضي أبو بكر. وعلى كل واحد من القولين جماعة من الأصوليين، ومن الواقفية من فصل بين الأخبار والوعد والوعيد، دون الأمر والنهي. قال المازري في (شرح البرهان): مشهور الشيخ أبي الحسن الوقف، وللواقفية في موضع الوقف خمسة أقوال، وفي صفة الوقف قولان: أما الخمسة: فالمشهور عندهم: انهم على الإطلاق، وقيل به في الأوامر دون الأخبار، وقاله المرجئة. وقيل: بالعكس. وقيل: في الوعيد بحسن الخلف دون الوعد. وقيل: الوقف في الوعيد في عصاة الملة خاصة. وقيل: في الوعد والوعيد في حق من لم يسمع خطاب الشرع، دون من سمعه. وأما المذهبان: فالاشتراك أو عدم العلم بالوضع؛ كما تقدم، ولبعضهم أن لفظ (المؤمنين) و (الكافرين) وضعه الشرع للعموم؛ كما نقل لفظ (الصلاة) و (الحج) وهو غير صحيح، بل الحق أن العموم من اللغة.

(فائدة) قوله: (وهلم جرا) انتصب (جرا) على المصدر بفعل مضمر

قال الأبياري في (شرح البرهان): وإذا قلنا بالتعميم، اختلف، هل يدل قطعا، أو ظنا، أو بعضها وبعضها؟ فقال الشافعي والمعتزلة: يدل قطعا إذا تجردت عن القرائن، ومدرك المعتزلة: استحالة تأخير البيان عن وقت الخطاب، وأما الشافعي، فرأى أنه يجوز تأخير المخصص لغة. وأكثر الفقهاء أن دلالتها ظنية. وفرق أبو المعالي في (البرهان) فقال: أدوات الشرط دلالتها قطعية، إذا تجردت. قوله: " لو كانت للخصوص، لما حسن الجواب بالكل؛ لأن من شرط الجواب أن يكون مطابقا ". قلنا: اتفقنا على حسن الجواب في الاستفهام، إذا قال: من في الدار؟ فنقول: (زيد) مع أن زيدا ليس مطابقا للعموم؛ لأن العموم أفراده غير متناهية، و (زيد) فرد واحد مخصوص، فانتقض ما ذكرتموه. (فائدة) قوله: (وهلم جرا) انتصب (جرا) على المصدر بفعل مضمر، وهلم، معناه: أقبل، وهو اسم فعل أمر. وتقدير الكلام: اقبل بنا نجر جرا، فإذا قلت: ما رأيته من سنة، وهلم جرا، أي: أقبل بنا نجر عدم رؤيتي له من سنة إلى الآن، فهو من الجر الذي هو الجذب.

قوله: " جاز أن يكون موضوعه للخصوص، إلا انه اقترن بها قرينة توجب كونها للعموم، وحكم المركب مخالف لحكم المفرد " تقريره: المركب من لام التعريف، والجمع يوجب العموم، وكل واحد على حياله لا يوجب العموم، وكذلك النفي مع النكرة، وهو كثير يحصل للمركبات ما لا يحصل للمفردات. فالجواب: حسن بالكل لأجل القرينة؛ ويرد عليه أن الأصل عدم القرينة وحسن الجواب؛ فالكل مطرد. قوله: "لا نسلم أن الاستفهام لا يحسن؛ ألا ترى أنه إذا قال: من عندك؟ يحسن أن تقول: أتسالني عن الرجال أو النساء؟ " قلنا: إذا اوردتم الاستفهام علينا نحن: قلنا (إنم) نمنعه بناء على أن الصيغة للعموم، وإن وقع الاستفهام، فلا يقع إلا على وجه الاحتياط؛ فلا يلزم الإكثار منه. أما على رأيكم: فالقول بالاشتراك يوجب تعدد الاستفهام؛ بحسب المراتب للتوهم قطعا؛ فظهر أن إيراده علينا ليس كإيراده عليكم؛ فلا يتجه الإلزام. قوله: " ليس الاستدلال بقبح بعض الاستفهامات على عدم الاشتراك، بأولى من الاستدلال بثبح بعض الاستفهامات على عدم الاشتراك، بأولى من الاستدلال بحسن بعض الاستفهامات على الاشتراك ". تقريره: أن الاستفهامات الكثيرة جملا قبيحة في عرف الاستعمال، فيتعين حذف جملة من تلك الكثرة؛ حتى يزول القبح، فتلك الجمل المحذوفة لأجل القبح هي التي يستدل بها على عدم الاشتراك؛ لأنه لو ثبت لضرورة الاشتراك، والبعض الذي ليس بقبيح لا يمكن أن يبقى لعدم قبحه، وإذا ثبت كان دليل الاشتراك.

قوله: " القرينة التي هي إشارة، أو غيرها لا يمكن إطلاع الأعمى عليها ". قلنا: لا نسلم؛ فإن الأعمى يمكنه أن يدرك النجاسة بمس يده وغيرها صورة الإنسان الكائنة في اليد أو غير اليد، ويكون الناس قد اصطلحوا في ذلك القطر على إشارة خاصة تفيد العموم، فيوضع على جسمه، أو يضع هو يده عليها؛ فيدركها، ويؤكد ذلك أن قبض الأصابع وفتحها بسرعة يشعر بالاستغراق عرفا، والأعمى يمكنه أن يدرك ذلك بحاسة اللمس. قوله: " يلزمك، إذا قال: من عندك من الرجال؟ أن تجب بذكر الرجال والنساء؛ لأن ذكره للرجال لا يدل على استغنائه عن النساء ". قلنا: الإلزام غير مطابق قلوصةر النزاع؛ لأنه إذا قال: من عندك من إخوانك؟ فقال: (كلهم) لم يأت بأجنبي عن لفظ السؤال، وأما إذا ذكر السامع أنه ما ذكرها، إنما ذكر الرجال، فقد أتى بما لم يتعرض اللفظ إليه؛ فليس هو في الحسن مثل الأول، وغذا كان مخالفا لهم بفرق معتبر، لا يرد نقضا؛ " لأن النبي لما قال: (الحي ميتة) كان قد سئل عن الماء فقط، فأجاب " بالماء والميتة؛ تكثيرا للفائدة، فللخصم أن يلتزم الصورة المذكورة تكثيرا للفائدة؛ لأنه كلام عربي كما جاء في الاستعمال النبوي. قوله: " حسن بعض اقسام الاستفهام لا يدل على الاشتراك؛ لما سنبينه، إن شاء الله تعالى ". تقريره: أن الاستفهام لا يدل على الاشتراك؛ لأنه قد يستفهم في النصوص التي لا إجمال فيها: إما لفرط الحب؛ كما إذا قال القائل للرجل البخيل: إن السلطان بعث إليك بألف دينار، فيقول: ألف دينار، ألف دينار؟! ويكررها مائة مرة، ولفرط الكراهة؛ كما إذا قيل له: إن السلطان طلب منك ألف دينار، وقد يكون لفرط الاستغراب؛ كما إذا قال القائل: حفظ فلان البارحة ألف ورقة من الفقه، أو لدفع المجاز البعيد المتوهم؛ كما إذا قال

قال القائل: " رأيت فلانا يشقق الشعر " فيقال: " رأيته يشقق الشعر؟ "؛ لأنه يتوهم أن المقصود فرط ذكائه؛ لأنهم يقولون: فلان ذكي يشقق الشعر " وليس المراد التشقيق حقيقة، فيخشى السامع مثل هذا المجاز؛ فيستفهم؛ حتى يرفعه. قوله: " وقع السؤال هاهنا عند التصديق، فكان الجواب بـ (لا) او (نعم) أما إذا وقع عن التصور؛ كقوله: " من عندك؟ إنما وقع عن التصور ". تقريره: أن (نعم) و (بلى) و (لا): حروف وضعت للجواب عن التصديقات دون التصورات؛ فتعم الموافقة كلام المتكلم نفيا أو إثباتا. و (بلى): لمخالفة النهي، و (لا) لمخالفة الغثبات؛ فإذا قال: " قام زيد " وأردنا موافقته، قلنا: نعم، وإن أردنا مخالفته، قلنا: لا، وإذا قال: " ما قام زيد "، واردنا موافقته قلنا: نعم، وغن أردنا مخالفته، قلنا: بلى. وهذه كلها تصديقات؛ وبهذا يظهر قول العلماء: إن الملائكة لو قالوا: نعم، في قوله تعالى: {ألست بربكم؟} [الأعراف: 72] نعم - قرروا العدم، وتقرير عدم الربوبية كفر، فلما قالوا: بلى، فقد خالفوا النفي، فأثبتوا الربوبية، فكانوا مطيعين موفقين بحمد الله تعالى. وكذلك قوله تعالى: {أليس الله بكاف عبده} [الزمن: 36] فالجواب: بلى. وقوله تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين: 8]. فالجواب: بلى؛ لأن الاستفهام وقع عن ثبوت أمر، الواقع خلافه،

(فائده) اشترك " من عندك؟ " و " كل الناس عندك " في العموم

ومخالفة الثبوت إنما تكون بـ (لا) وعلى هذا المنوال، فليكن علمك محيطا به في الكتاب والسنة ولسان العرب. إذا تقرر هذا، ظهر أن (لا) و (نعم) إنما يكونان في التصديقات دون التصورات. وقول القائل: " اكل الناس عندك؟ ": إستفهام دخل على قول القائل: " كل الناس عندك " و " كل الناس عندك " تصديق بالضرورة، فلما سمعته قصدت أن تعلم صدقه من كذبه، فيجاب بـ (نعم) أو (لا) إن كان كاذبا، وقول القائل: من عندك؟ استفهام عن صورة من هو الموصوف بالعندية، والوصوف بالعندية حقيقة مفردة تصورية لقول القائل: " مثل الخط الحسن " فهذه صورة لا تصديق؛ فلا يحسن فيها (نعم)؛ وإلا لعدم التصديق الذي جعلت العرب هذين جوابا له. (فائده) اشترك " من عندك؟ " و " كل الناس عندك " في العموم، واختص كل واحد بخاصة خارجة عن كونه للعموم؛ من التصديق في الثاني، والتصور في الأول، والمختلفات يجوز اشتراكها في بعض اللوازم، واختلافها في بعض اللوازم؛ فلا جرم اشتركت في إفادة العموم، وامتازت بحسن الجواب بشيء في أحدهما، وتعذره في الآخر، وامتاز أيضا: بأن السؤال والطلب في " أكل الناس عندك؟ في حكم العندية، فالحكم الشامل (و) هو العندية، وهو المسئول عن صدق الخبرية، والشمول في (من عندك) - ليس باعتبار الشمول بالعندية؛ فإنها قد لا تكون وقعت في الوجود، أو وقعت لفرد وحده؛ بل الشمول والعموم باعتبار الاستفهام، اي: الاستفهام وشمل جميع المراتب التي تقبل الاتصاف بالضدية، فاعلم ذلك.

(سؤال) من شرط الواجب: أن يكون مطابقا، مساويا للمسئول عنه

(سؤال) من شرط الواجب: أن يكون مطابقا، مساويا للمسئول عنه، ونحن في الجواب عن الاستفهام، نقول: من في الدار؟ تقول: (زيد) ويكون زيد جوابا تاما بالإجماع؛ مع أنه ليس مساويا للعموم، ولا لبعضه، ولا قريبا منه، فكيف الجمع بين قولنا: " الصيغة للعموم "، والجواب يريد وحده مطابق جوابه. أما أن الصيغة للعموم، فليس معناه أن الكون في الدار حصل لكل فرد من المستفهم عنه؛ بل العموم جاء من جهة أن الاستفهام شمل جميع الأفراد، التي يمكن أن تكون في الدار؛ فلما قال: من في الدار؟ فمعناه صور لي حقيقة من في الدار، واستفهامي هذا عام في جميع الأفراد الممكنة للكون في الدار؛ لا أترك أحدا منها، إلا وانا مستفهم عنه، كان في الدار أو لم يكن، فالعموم إنما جاء من جهة شمول الاستفهام، لا من جهة الكون في الدار، فقد لا يكون في الدار أحد ألبتة، ويكون الجواب: ليس فيها أحد؛ مع أن الكلام للعموم في تلك الحالة أيضا؛ فظهر مدرك العموم. وأما صحة الجواب: يريد: إنما هو مطابق للواقع من المستفهم عنه، لا مطابق للمستفهم عنه. قلنا: مستفهم عنه وقع فيه عموم الاستفهام، ولنا واقع من ذلك المستفهم عنه، إن كان وقع شيء من ذلك به؛ بحسب مزيد تطابق للواقع من المستفهم لا للمستفهم عنه، فافهم ذلك، فهو دقيق. ونظيره في الأوامر: لو قال الله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبه: 5] فلم نجد إلا زيدا مشركا، قتلناه وحده، خرجنا به عن العهدة؛ مع أنه ليس مطابقا للعموم، ما ذلك إلا أن عموم الصيغة باعتبار شمول القتل لكل فرد فرد من المشركين، إن وجد؛ فيصدق أنه لم يبق مشرك، لا وأمر بقتله، إن

(فائدة) المستفهم عنه في قولنا: " من عندك؟ ": تصديق في نفسه بالضرورة

وجد، فإذا لم يوجد إلا واحد، كان مطابقا للواقع مما حصل فيه العموم، لا لنفس ما حصل فيه العموم، وكما يخرج عن العهدة بقتل زيد وحده، إذا لم يوجد إلا هو من العموم، كذلك يحسن جوابنا: يريد وحده في عموم الاستفهام، إذا لم يوجد في الدار إلا هو؟ فهذا طريق الجمع بين كون الصيغة للعموم، وأفرادها غير متناهية، وكون زيد مطابقا في الجواب في الاستفهام أو الامتثال في الأمر؛ فتفطن لذلك. (فائدة) المستفهم عنه في قولنا: " من عندك؟ ": تصديق في نفسه بالضرورة؛ لأن (من) مبتدأ، و (عندك) الخبر، ولا يعني بالتصديق إلا ذلك، لكن التصديق له حالتان: تارة يكون الإسناد بين جزئيه للناطق بلفظه، وتاره يكون للمتكلم به متصورا له؛ نحو قولنا: " قول زيد: (العالم قديم) خطأ " تصورنا تصديقه، وحكمنا عليه بالخطأ، مع أن الإسناد بين جزئيه ليس لنا. إذا تقرر هذا، فالمستفهم تصور معنى (من)، وتصور معنى قوله: (من عندك؟) وفرض إسناد أحدهما للآخر، مع تجويز أن يكون مسندا إليه في نفس الأمر، وألا يكون مسندا إليه؛ فلما تصور هذا التصديق في نفسه، طلب منك أن تصور له من اتصف بالعندية، وهو يجوز أن يقول: لم يتصف بها أحد، او اتصف بها زيد أو عمرو، وهو جاهل بجملة هذه التقارير وثبت طلبه منك عليها، فمطلوبه إنما هو التصوير، ولم يسند أحد جزئي ما سأل عنه، للآخر، نفيا ولا إثباتا؛ فلذلك لم تحسن إجابته. ***

الفصل الثاني في أن صيغة (من) و (ما) في المجازة للعموم

الفصل الثاني في أن صيغة (من) و (ما) في المجازة للعموم قال الرازي: ويدل عليه ثلاثة أوجه: الأول: أن قوله: " من دخل داري، فأكرمه " لو كان مشتركا بين الخصوص والاستغراق، لما حسن من المخاطب أن يجري على موجب الأمر إلا عند الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة، لكنه حسن؛ فدل على عدم الاشتراك، وتقريره ما تقدم في الفصل الأول. الوجه الثاني: أنه إذا قال: " من دخل داري، فأكرمه " حسن منه استثناء كل واحد من العقلاء، والعلم بحسن ذلك من عادة أهل اللغة ضروري، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه؛ وذلك لأنه لا نزاع في أن المستثنى من الجنس لابد وأن يصح دخوله تحت المستثنى منه؛ فإما ألا يعتبر مع الصحة الوجوب، أو يعتبر: والأول باطل؛ وإلا لكان لا يبقى بين الاسثناء من الجمع المنكر؛ كقوله: (جاءني الفقهاء إلا زيدا) - فرق؛ لصحة دخول (زيد) في الخطابين، لكن الفرق معلوم بالضرورة من عادة العرب؛ فعلمنا أن الاسثناء من الجمع المعرف يقتضي إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ؛ وهو المطلوب. فإن قيل: ينتقض دليلكم بأمور ثلاثة:

أحدها: جموع القله؛ كالأفعل، والأفعال، والأفعلة، والفعلة، وجمع السلامة؛ فإنه للقلة؛ بنص سيبويه، مع أنه يصح استثناء كل واحد من أفراد ذلك الجنس عنها. وثانيها: أنه يصح أن يقال: " اصحب جمعا من الفقهاء إلا فلانا " ومعلوم أن ذلك المستثنى لا يجب أن يكون داخلا تحت ذلك المنكر. وثالثها: أنه يصح أن يقال: " صل إلا اليوم الفلاني " ولو كان الاسثناء يقتضي إخراج ما لولاه لدخل، لكان الأمر مقتضيا للفعل في كل الأزمنة؛ فكان الأمر يفيد الفور والتكرار، وأنتم لا تقولون بهما. سلمنا سلامته عن النقض؛ لكن لا نسلم أن قوله: " من دخل داري، أكرمه " يحسن استثناء كل واحد من العقلاء منه؛ فإنه لا يحسن منه أن يستثنى الملائكة، والجن، واللصوص، ولا يحسن أن يقول: " غلا ملك الهند، وملك الصين ". سلمنا حسن ذلك؛ ولكن لم يدل على العموم؟ قوله: " المستثنى يجب صحة دخوله تحت المستثنى منه؛ فإما أن يكون الوجوب معتبرا مع هذه الصحة، أو لا يكون " قلنا: لا نسلم أن المستثنى يجب صحة دخوله تحت المستثنى منه؛ فإن استثناء الشيء من غير جنسه جائز. سلمناه؛ لكن لم قلت: إنه لابد من الوجوب؟ قوله: " لو لم يكن الوجوب معتبرا، لما بقي فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر، وبين الاستثناء من الجمع المعرف ".

قلنا: نسلم أنه لابد من فرق؛ لكن لا نسلم أن هلا فرق غلا ما ذكرتموه. سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على الوجوب؛ لكن معنا ما يدل على أن الصحة كافية؛ وبيانه من وجهين: الأول: أن الصحة أعم من الوجوب، فيكون حمل اللفظ على الصحة حملا له على ماهو أعم فائدة. الثاني: ان القائل، إذا قال لغيره: " أكرم جمعا من العلماء، واقتل فرقة من الكفار " حسن أن يستثني كل واحد من العلماء، والكفار؛ فيقول: " إلا فلانا، وفلانا " ولو كان الاستثناء يخرج ما لولاه لوجب دخوله فيه - لوجب أن يكون اللفظ المنكر للاستغراق. سلمنا أن ما ذكرتموه يقتضي أن تكون صيغة (من) للعموم؛ لكن لا يجب ان يكون الأمر كذلك. بيانه: ان الاستدلال بالمقدمتين المذكورتين على النتيجة، إنما يصح لو ثبت أنه لا تجوز المناقضة على واضع اللغة؛ إذ لو جازت المناقضة عليه، جاز أن يقال: إنهم حكموا بهاتين المقدمتين اللتين توجبان عليهم أن يحكموا بأن صيغة (من) للعموم، ولكنهم لعلهم لم يحكموا بها؛ لأنهم لم يحترزوا عن المناقضة؛ بلى، لو ثبت أن اللغات توقيفية، اندفع هذا السؤال. سلمنا أن صحة الاستثناء من هذه الصيغ دالة على أنها للعموم؛ لكنها تدل على أنها ليست للعموم من وجه آخر؛ وذلك لأنها لو كانت للعموم، لكان الاستثناء نقضا؛ على ما يسيأتي تقريره، إن شاء الله تعالى.

والجواب: أما النقض بجموع القله: فلا نسلم أنه يحسن استثناء أي عدد شئنا منه: مثلا لا يجوز أن يقول: " أكلت الأرغفة إلا ألف رغيف " وتوافقنا على أنه يجوز استثناء أي عدد شئنا من صيغة (من) في المجازاة؛ مثل أن يقول: " من دخل داري، أكرمته، إلا أهل البلدة الفلانية ". قوله: " ينتقض بقوله: اصحب جمعا من الفقهاء إلا زيدا ". قلنا: هب ان الاستثناء من الجمع المنكر يخرج من الكلام ما لولاه، لصح دخوله فيه؛ فلم قلت: غن في سائر الصور كذلك؟ قوله: " يلزم أن تكون صيغة الأمر للتكرار ". قلنا: لم لا يجوز أن يكون اقتران الاستثناء بلفظ الأمر قرينة دالة على دلالة الأمر على التكرار؟ قوله: " لا يحسن استثناء الملائكة واللصوص، وملك الهند وملك الصين ". قلنا: لان المقصود من الاستثناء خروج المستثنى من الخطاب، وقد علم من دون الاستثناء خروج هذه الأشياء من الخطاب؛ ولهذا لو لم يعلم خروجها منه، لحسن الاستثناء. ألا ترى أنه لو كان الخطاب صادرا عن الله تعالى، لحسن منه تعالى هذا الاستثناء؛ مثل أن يقول: " إني أطعم من خلقت إلا الملائكة، وانظر بعين الرحمة إلى جميع خلقي إلا الملوك المتكبرين ". قوله: لم قلت: إنه يجب صحة دخول المستثنى تحت المستثنى منه؟

قلنا: لأن الإجماع منعقد على ذلك في استثناء الشيء من جنسه؛ فلا يتوجه جواز الاستثناء من غير الجنس. ولأن الاستثناء مشتق من الثني، وهو: الصرف، وإنما يحتاج إلى الصرف، لو كان بحيث لولا الصارف لدخل. قوله: " لم قلت: إنه لا فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر، ومن الجمع المعرف، غلا ما ذكرت؟ ". قلنا: لأن الجمع المنكر هو: الذي يدل على جمع يصلح أن يتناول كل واحد من الأشخاص، فلو كان الجمع المعرف كذلك، لم يبق بين الأمرين فرق؛ وحينئذ لا يبقى بين الاستثناء من الجمعين فرق. قوله: " حمل الاستثناء على الصحة أولى؛ لكونها أعم فائدة ". قلنا: يعارضه أن حمله على الوجوب أولى؛ لأن الصحة جزء من الوجوب، فلو حملناه على الوجوب، لكنا قد افدنا به الصحة والوجوب معا. ولو حملناه على الصحة وحدها، لم نفد به الوجوب أصلا، والجمع بين الدليلين بقدر الإمكان واجب. قوله: " الاستثناء من الجمع المنكر ليس إلا لدفع الصحة ". قلنا: هب أنه كذلك؛ فلم قلت: إن التناقض على الواضعين لا يجوز؟ ".

شرح القرافي: قد تقدم، ما سبب الاحتراز بقيد المجازاة

قلنا: لأن الأصل عدم التناقض على العقلاء؛ لاسيما، وقد قرر الله تعالى ذلك الوضع. قوله: لو كانت الصيغة للعموم، لكان الاستثناء نقضا ". قلنا: سيجيء الجواب عنه، إن شاء الله تعالى. فهذا أقصى ما يمكن تمحله في هذه الطريقة. الوجه الثالث: لما أنزل الله تعالى قوله: {إنكم وماتعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء: 98] قال ابن الزبعري: " لأخصمن محمدا " ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يامحمد، أليس قد عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد عيسى؟ " فتمسك بعموم اللفظ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ حتى نزل قوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101]. فإن قلت: السؤال كان خطأ؛ لأن (ما) لا تتناول العقلاء، قلت: لا نسلم؛ لقوله تعالى: {والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها} [الشمس: 5 - 7] والله أعلم. الفصل الثاني في أن (من) و (ما) في المجازة للعموم قال القرافي: قد تقدم، ما سبب الاحتراز بقيد المجازاة، وما يرد بسببه من الأسئلة. قوله: " يحسن استثناء كل واحد من العقلاء ". قلت: الاستثناء اربعة أقسام: ما لولاه لعلم دخوله؛ كالاستثناء من الأعداد؛ نحو: " له على عشرة إلا اثنين " وما لولاه لظن دخوله، وهو

الاستثناء من العمومات؛ نحو " اقتلوا المشركين إلا زيدا " وما لولاه لجاز دخوله، وهو أربعة أقسام. الاستثناء من المحال؛ نحو: " أكرم رجلا إلا زيدا وعمرا " فإن كل شخص، فهو محل لأعمه، ولا يتعين اندراجه فيه، ولا يظن. وكذلك الاستثناء من الأزمنة، نحو: " صل إلا عند الزوال " ومن الأمكنة؛ نحو: " صل إلا عند المزبلة " ومن الأحوال؛ كقوله تعالى: {لتأتثني به إلا أن يحاط بكم} [يوسف: 66]. وهذه الأربعة كلها ليس فيها إلا الجواز بغير ظن، وما لولاه لامتنع دخوله، وهو الاستثناء المنقطع؛ نحو: " رأيت إخوتك إلا ثوبا " فانقطع تقدم اندراج الثوب في الإخوة، وإذا كان الاستثناء أعم من كل واحد من هذه الأقسام الاربعة، امتنع الاستدلال به على الوجوب؛ فإن الخصم لا يعتقد فيه إلا الجواز في هذه الصورة. قوله: " الفرق بين الاستثناء من المعرف والمنكر معلوم بالضرورة ". قلنا: هذه الضرورة ليست في ذهن الخصم، بل الكل عنده سواء، سلمناه؛ لكن لم لا يجوز رجوع الفرق إلى قوه القرب؟ فإن الجائز على الشيء قد يكون في غاية البعد عنه؛ كالتعبير بالشيء عن لوازمه البعيدة، وقد يكون في غاية القرب؛ كالتعبير بالشيء عن اللوازم القيبة، فليس التعبير بالجزء عن الكل، كالتعبير بالكل عن الجزء؛ بل الثاني أقوى، وكذلك السبب أقرب في التعبير به عن المسبب من العكس، وهو كثير في اللغة. قوله: " ينتقض دليلكم بجموع القلة، فإنه يصح استثناء كل واحد من أفراد ذلك الجنس عنها ".

تقريره: أن جموع القلة العشرة فما دونها لغة، وغنما تستعمل فيما زاد على ذلك مجازا، مع أنه يصح أن يقال: " رأيت المسلمين إلا زيدا وعمرا وخالدا، وهلم جرا إلى مائة، والعشرة " لا يجوز أن يخرج منها مائة مع أنه استثناء من الجنس، فلو أنه عبارة عما لولاه لوجب دخول المائة في العشرة؛ وهو محال. وجوابه: ان جموع القلة إن أخذوها معرفة، فهي عندنا للعموم لا للعشرة، وغنما نقول: للتكثير حال القلة فقط، وإن أخذوها نكرة، فلا يلزم النقض؛ لأنا إنما ادعينا العموم ووجوب الاندراج في المستثنى - في المعرفة، ومن شرط النقض وجود غير ما ادعاه المستدل؛ فظهر أنه على التقديرين لا يلزم النقض. قوله: " يصح ان يقال: اصحب جمعا من الفقهاء إلا فلانا ". قلنا: هذه مسالة اختلف النحاة فيها، فمنعها الشلوبين، وابو عمرو بن الحاجب وجماعة؛ وقالوا: لا يجوز الاستثناء من الجمع إذا كان معرفا، وجعلوا قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] من هذا الباب. وقالوا: إنما وجب الرفع في اسم (الله) لأنه استثنى من (آلهة) الذي هو جمع منكر، فلما تعدد الاستثناء، تعين أن يرفع على الصفة؛ فلذلك كان استثناء من موجب، وهو مرفوع. ونص صاحب (التنقيحات) وغيره على جوازه؛ فللخصم أن يمنع على أحد القولين. قوله: " الاستدلال بالمقدمتين المذكورتين، إنما يصح أن لو امتنعت المناقضة على الواضع ".

تقريره: أنه نقل عن العرب مقدمتين: إحداهما: أنه يدخل في صيغة العموم وثانيهما: أن الاستثناء عبارة عما لولاه، لوجب اندراجه، فقال السائل: لعل الواضع بعده، إن نقل عنه، غير وضعه؛ فجعل الاستثناء لا يدخل في صيغة العموم، وجعل الاستثناء عبارة عما لولاه، لامتنع فيما يتم؛ لأنهم يبنونه على أمور منسوخة، والبناء على المنسوخ باطل. وجوابه: أن الأصل عدم الرجوع. قوله: " لو ثبت أن اللغات توقيفية، امتنع ذلك ". قلنا: لا نسلم أنه يمتنع؛ لأن الله سبحانة وتعالى إذا جاز عليه نسخ الشرائع والأحكام المتضمنة للمصالح العظيمة، ونقلها إلى أضدادها، جاز عليه نقل الأسماء والألفاظ عن موضوعاتها، لا سيما ووضع اللفظ المعين للمعنى ليس بينهما مناسبة، بل بمجرد الإرادة. وأما في الأحكام: والإرادة والمصالح الكلية، فليس ذلك بمستحيل على الله تعالى، بل تجويزه على الله تعالى أقرب؛ لأن الله تعالى لا يقبح من فعله شيء في مادة الإمكان، واليسير يقبح منه عادة يبطل شيئا لغير غرض صحيح. قوله: " لو كانت للعموم، لكان الاستثناء نقضا ". تقريره: أن النقض عبارة عن وجود الدليل بدون المدلول، أو العلة بدون المعلول، أو الحد بدون المحدود، والألفاظ اللغوية كلها أدلة على مسمياتها، فإذا استثنى من صيغة العموم، يكون الدال على العموم قد وجد، وهو صيغة العموم، ولم يوجد العموم؛ لأنه ابطل بعضه بالاستثناء، فقد وجد الدليل بدون المدلول، وهو حقيقة البعض

قوله: " لا نسلم أنه يجوز استثناء أي عدد كان من جموع القلة؛ فلا يجوز أن يقال: أكلت الأرغفة إلا ألف رغيف ". قلنا: هذا جائز على مذهبكم؛ لأن جموع القلة إذا تعرفت، صارت للعموم. ويجوز استثناء أي عدد كان من صيغة العموم، وكل من قال: بأن اللام للعموم، جوز ذلك؛ فلا معنى لهذا المنع، بل لو أورد هذا الخصم بصيغة التنكير، أمكن اتجاه المنع مع ان فيه نظرا؛ لأنه إذا قال: " أكلت أرغفة إلا هذا الألف رغيف " صح؛ لأن قوله: (أرغفة): مدلوله لفظ كلي يتناول اثنين أو ثلاثة من الأرغفة بدلالته، ويصلح لغة للعشرة فما دونها، ولا يدل عليها، وعلى كل تقدير، فهذا المفهوم الكلي يصح أن يعين في هذه الألف وفي غيرها، فهذا الألف من بعض محالها، واستثناء بعض المحال من الكل قد تقدم الخلاف فيه؛ فإنه كالاستثناء عن التكرار حرفا بحرف، وهو أحد الأقسام الأربعة المذكورة في أقسام الاستثناء الذي هو عبارة: عما لولاه لجاز دخوله، هذا إذا قال: إلا هذه الألف رغيف. وكذلك إذا قال: " إلا هذا الرغيف، وهذا الرغيف " ويكرر ذلك حتى يكمل ألف رغيف، فإنه يجوز على القول بجواز الاستثناء عن النكرات؛ لأن هذه الأفراد كلها محال لذلك الأمر الكلي والجزئي، فهو محل لأعمه، نعم إذا تكرر وقال: " أرغفة إلا ألفا " فهذا يمتنع بشرط أن يكون استعمل اللفظ في حقيقته، وهو ما دون العشرة؛ لأنه يصير معناه: " أكلت عشرة أو أقل إلا ألفا " وهذا ممتنع إجماعا؛ لأن استثناء أكثر من المدلول المساوي ممتنع إجماعا، فالأكثر أولى بالمنع، أما إن استعمل اللفظ في مجازه، وهو جمع الكثرة، جاز أن يستثنى ألفا وأكثر؛ لأن الذي استعمل اللفظ فيمن يصلح

لذلك: فإن جهل الحال، كان الاحتمال قائما؛ لأجل احتمال التجوز إلى جمع الكثرة، ولا يتعين المنع، فظهر أن المنع غير متجه مطلقا. قوله: " لم لا يجوز أن يكون اقتران الاستثناء بصيغة الأمر قرينة دلالة الأمر على التكرار؟ ". قلنا: الدلالة: فهم المعنى من اللفظ، وإذا لم يكن اللفظ موضوعا للتكرار لا يدل عليه، وإن احتفت به القرائن، غير أن القرينة إن اقتضت التكرار مع الصيغة، يكون الدال هو المجموع المركب من اللفظ والقرينة. وأما الاستثناء فليس قرينة دالة على التكرار؛ لأن التكرار إثبات، والاستثناء نفي؛ لأنه يقتضي الإخراج، نعم: مقتضى الإخراج أن المتكلم أراد بالأمر التكرار، فهو دال على الإرادة، لا على الدلالة. قوله: " إنما لم يحسن استثناء الملوك من الداخلين للدار؛ لأنهم قد علم خروجهم ". يريد: بقرينة العادة؛ فإن القائل إذا قال: " من دخل داري، فأعطه درهما " يعلم بالعادة أنه لم يرد الملوك ونحوهم. قوله: " الاستثناء مشتق من (الثنى) وهو: الصرف، وإنما يحتاج للصرف إذا كان يندرج ". قلنا: أما قولكم: (الصرف) فليس مشتقا منه؛ لأن من شرط الاشتقاق استواء الصيغتين في الحروف الأصلية. وأما قولكم: " إنما يصح إذا كان يتعين دخوله ". فنقول: لم لا يكفي خروجه من الجواز؛ فبعده لا يجوز المراد به. قوله: " الجمع المنكر: هو الذي يدل على جمع يصلح أن يتناول كل واحد من الأشخاص ".

تقريره: أن قولنا: (رجال) يدل على ثلاثة رجال يصلح أن يدخل في هذه الثلاثة كل فرد فرد من الرجال على البدل، لا على الجمع؛ كالمطلقات كلها. قوله: " فلو كان المعرف كذلك، لم يبق بين المنكر والمعرف فرق ". قلنا: قد تقدم بيان الفرق بينهما؛ على تقدير عدم العموم. قوله: " الصحة جزء من الوجوب ". تقريره: أن كل ما وجب وتعين دخوله في الوجود، جاز دخوله في الوجود، إذا فسرنا الجواز بالإمكان العام، وقد تقدم الفرق بين الإمكان العام والخاص، في تفسير الحسن أول الكتاب، وكذلك في الشرعيات: كل ما وجب فعله، جاز الإقدام عليه. أما الجواز المفسر بالإمكان الخاص، فلا يتعين، فتأمله هنالك؛ لأن في تكريره طولا، والإمكان العام هو المراد هاهنا، غير أن قوله (جزء) لا يتعين صحته؛ لاحتمال أن يقال: نحن نسلم أنه يلزم من صدق الوجوب صدق الجواز، لكن صدق الشيء مع الشيء أعم من كونه جزءه أو لازمه؛ فلم قلتم: إن الجواز جزء؟ فلم لا يجوز أن يكون لازما؟ ومقصود المصنف حاصل على التقديرين، غير أن المناقشة في العبارة. قوله: " فلو جعلناه للصحة وحدها، لم يفد الوجوب أصلا ". تقريره: أن الكل دال على الجزء أو اللازم؛ لأنه يدل على الأول تضمنا، وعلى الثاني التزاما، والدال على الجزء واللازم لا يدل على الكل ولا اللزوم؛ لأن الجزء (و) اللازم قد يكونا أعم؛ كالخمسة مع العشرة؛ لوجودها معها وبدونها، وقد يكون مساويا؛ كالناطق مع الإنسان، وكل

فصل مع نوعه، واللازم قد يكون أعم؛ كالزوجية مع العشرة، وقد يكون مساويا كالناطق مع الإنسان، والأعم لا يستلزم الأخص، وكل واحد منهما أعم من كونه أعم؛ فلا يدري السامع من أي السبيلين هو؛ فلا يحصل له الفهم. قوله: " والجمع بين الدليلين بقدر الإمكان واجب ". تقريره: أن الدليل، إذا دل على أنه للصحة، ودل دليل آخر على أنه للوجوب، فإذا جعلناه للوجوب، كان دالا على الامرين؛ لاستلزام الوجوب الصحة، فقد علمنا بالدليلين مع أنه قد تقدم أن الاستثناء أربعة أقسام، آخرها الصحة وحدها، وهي أربعة أقسام. قوله: " الأصل في عدم التناقض، لاسيما وقد قرر الله تعالى ذلك الوضع ". تقريره: أن الله تعالى وضع الكتاب العزيز وأنه عربي، وورد فيه الاستثناء عن الجموع في قوله تعالى: {إلا الذين تابوا} [المائدة: 34] وورود بوجوب ما لم يرد فيه استثناء مع قوبله؛ كما في قوله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] فكل فريق من المنافقين في الدرك الأسفل من النار؛ اتفاقا مع صحة استثنائه، وإذا ورد الكتاب العزيز بذلك الوضع، كان تقريرا له. قوله: " سيجيء الجواب عن كون الاستثناء نقضا ". قلنا: ليس له بعد هذا، إلا أن الاستثناء مع المستثنى منه؛ كاللفظة الواحدة الموضوعة لما بقى بعد الاستثناء. فإذا قلت: " له عندي عشرة إلا اثنين " نقول: للثمانية عبارتان: ثمانية، وعشرة إلا اثنين؛ ولذلك صرح به الحنفية في كتبهم، وقالوا: " الاستثناء

(فائدة) الزبعري بكسر الزاي المنقوطة والباء المنقوطة من تحتها؛ فهما لغتان

تكلم بالباقي بعد الثنا " ومرادهم ما ذكرته، وإذا كانت هذه عبارة أخرى للثمانية، أو لما بقى من العموم بعد الاستثناء، لا يكون الدال على العموم وجد بدون العموم، بل الموجود هاهنا صيغة أخرى غير صيغة العموم، وهي الصيغة المركبة من صيغة العموم، ومن الاستثناء، وهذا فيه تكليف وتوسع. والظاهر: أن الاستثناء تعارض بصيغة العموم في صورة الاستثناء، والمجموع ليس صيغة واحدة؛ وهذا هو الذي ينبغي الجزم به. (فائدة) الزبعري بكسر الزاي المنقوطة والباء المنقوطة من تحتها؛ فهما لغتان: الكسر والفتح، نقلهما المحدثون في الكتب الموضوعة للمتحدث على أسماء الرجال، وهو مقصور الألف، مشدد الزاي المعجمة، بتسكين العين المهملة. قوله: (ما) هاهنا مصدرية، تقديره: والسماء وبنائها، وهو متجه؛ غير الأخير، فإن الضمير في قوله تعالى: {فألهمها} [الشمس: 8] يعود على ما في قوله: {وما سواها} [الشمس: 7] وليس ثم ما يصلح أن يعود عليه الضمير غيره، والضمائر لا تعود على الحروف، و (ما) المصدرية حرف لا يصلح لعود الضمير؛ فينبغي أن تكون (ما) بمعنى الذي، عبر بها عمن يعلم حتى يعود عليها الضمير، وقد نقل عن بعض النحاة عود الضمير على (ما) المصدرية، وهو بعيد، وقد تقدم أن

(ما) يعبر بها عن نوع من يعقل، وصفة من يعقل، دون شخص من يعقل، ففي الآية عبر بها عن نوع المعبود من العقلاء وغيرهم، والاستدلال بالآية على أن (ما) للعموم من وجوه: من جهة أن (ابن الزبعري) عربي، وقد اعتقد أن الحجة تقوم له بعمومها، ومن جهة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقر على إظهار الحجة على الله تعالى في كتابه، وإفحام إساءة مع قدرته على الجواب عن ذلك. الثالث: نزول الآية الأخرى مبينة في قوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101] وهي جارية مجرى التخصيص، فلو لم تكن الآية الأولى دالة على العموم، لا ستغنى عن الثانية، ويمكن أن يقال: إن الآية الأولى ليست للعموم، لكن لها صلاحية العموم، كما يقول الواقفية، وإذا كان لها صلاحية إرادة الملائكة والمسيح، فيرد السؤال باعتبار أن اللفظ صالح لهم؛ فلم لا يبين خروجهم؛ نفيا للإبهام مع الصلاحية؟ فنزلت الآية الثانية مزيلة للوهم الحاصل من الأول، ويكون سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعترافه بالصلاحية لا بالعموم، لاسيما والشافعي رحمه الله يقول: ترك الاستفصال في حكايات الأحوال يقوم مقام العموم في المقام، وفي الآية الأولى: لم يحصل التفصيل؛ فقام ذلك مقام العموم؛ فورد السؤال، لا لأن الصيغة للعموم. (تنبيه) زاد سراج الدين في الجواب؛ فقال: " قوله: اقترن الاستثناء بالأمر قرينة دالة على أن الأمر للتكرار " فقال: لقائل أن يقول: النقض استثناء الأفراد من جموع القلة، ولو أفاد الجموع في غير الجمع المنكر، لزم الاشتراك

والمجاز، ولو دل الأمر على غير موضعه لقرينة؛ لزم المجاز، كيف؛ وصحة الاستثناء لا توجب وجوده؟ وزاد التبريزي، قال: دليل العموم في هذه المواضع أربعة: سقوط الاعتراض عن الجاري على العموم، وتوجهه على النازل للجزئي على العموم، ودخول الاستثناء، وورود النقض عليها، ولا خلاف في شيء منها بين أهل اللسان، وإن توهم متوهم أن ذلك بالقرائن، فرضنا صورا فيها عدم القرائن؛ كالأعمى والغائب، والقرائن في أمور مبهمة لا تتضمن مناسبة لحروف الهجاء وأمثالها، ومن سمع شخصا يقول: " اعتقت كل رقيق لي " ومات، ولم يطلع منه إلا على هذه اللفظة، جاز له أن يتزوج بإمائه، وأكد ذلك الاستعمال: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88] {كل من عليها فان} [الرحمن: 30] {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} [الأنعام: 91] نقضا لقول من قال: {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91]. وكما قال لبيد (الطويل): ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل

فقال له عثمان بن مظعون: " كذبت؛ نعيم الجنة لا يزول " فنادى لبيد، ولو لم يكون لفظ الكل للعموم لم ينتظم تكذيبه. ***

الفصل الثالث في أن صيغة (الكل) و (الجميع) تفيدان الاستغراق

الفصل الثالث في أن صيغة (الكل) و (الجميع) تفيدان الاستغراق ويدل عليه وجوه: الأول: أن قوله: " جاءني كل فقيه في البلد " يناقضه قوله: " ما جاءني كل فقيه في البلد " ولذلك يستعمل كل واحد منهما في تكذيب الآخر، والتناقض لا يتحقق إلا إذا أفاد الكل الاستغراق؛ لأن النفي عن البعض لا يتناقض الثبوت في البعض. الثاني: أن صيغة (الكل) مقابلة في اللفظ لصيغة (البعض) ولولا أن صيغة الكل غير محتملة للبعض؛ وإا لما كانت مقابلة لها. الثالث: أن الرجل، إا قال: " ضربت كل من في الدار " وعلم أن في الدار عشرة، ولم يعرف سوى هذه اللفظة، أعنى: أنه لم يعرف أن في الدار أباه وغيره ممن يغلب على الظن أنه لا يضربه، بل جوز أن يضربهم كلهم؛ فإن الأسبق إلى الفهم الاستغراق؛ ولو كانت لفظة (الكل) مشتركة بين (الكل) و (البعض) لما كان كذلك؛ لأن اللفظ المشترك، لما كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية، امتنع أن تكون مبادرة الفهم إلى أحدهما أقوى منها إلى الآخر. الرابع: أن يتمسك بسقوط الاعتراض عن المطيع، وتوجهه على العاصي. أما الأول: فهو: أن السيد إذا قال لعبده: " كل من دخل اليوم داري، فأعطه رغيفا " فلو أعطى كل داخل؛ لم يكن للسيد أن يعترض عليه؛ حتى إنه لو أعطى

رجلا قصيرا، فقال له: لم أعطيته، مع أني أردت الطوال؟ فللعبد أن يقول: ما أمرتني بإعطاء الطوال، وإنما أمرتني بإعطاء من دخل، وهذا قد دخل. وكل عاقل سمع هذا الكلام، رأى اعتراض السيد ساقطا، وعذر العبد متوجها. وأما الثاني: فهو: أن العبد لو أعطى الكل إلا واحدا، فقال له السيد: " لم لم تعطه؟ " فقال: " لأنه طويل، وكان لفظك عاما، فقلت: لعلك أردت القصار " استوجب التأديب بهذا الكلام. الخامس: إذا قال: " أعتقت كل عبيدي وإمائي " ومات في الحال ن ولم يعلم منه أمر آخر سوى هذه الألفاظ حكم بعتق كل عبيده وإمائه. ولو قال: (غانم حر) وله عبدان اسمهماغانم، وجبت المراجعة، والاستفهام؛ فعلمنا عدم الاشتراك. السادس: أنا ندرك تفرقة بين قولنا: (جاءني فقهاء) وبين قولنا: (جاءني كل الفقهاء) ولولا دلالة الثاني على الاستغراق، وإلا لما بقى الفرق. السابع: معلوم أن أهل اللغة، إذا أرادوا التعبير عن معنى الاستغراق، فزعوا إلى استعمال لفظة (الكل) و (الجميع) ولا يستعملون الجموع المنكرة، ولولا أن لفظة (الكل) و (الجميع) موضوعة للاستغراق، وإلا لكان استعمالهم هاتين اللفظتين عند إرادة الاستغراق، كاستعمالهم للجموع المنكرة. فإن قلت في جميع هذه المواضع: إنما حكمنا بالعموم؛ للقرينة، قلت: كل ما تفرضونه من القرائن أمكننا فرض عدمه مع بقاء الأحكام المذكورة.

وأيضا: لو قيل: كل من قال لك (جيم) فقل له: (دال)، فهاهنا لا قرينة تدل على هذه الأحكام، مع أن العموم مفهوم منه. وأيضا: الأعمى يفهم العموم من هذه الألفاظ، مع أنه لا يعرف القرائن المبصرة، وأما المسموعة فهي منفية؛ لأنا فرضنا الكلام فيمن سمع هذه الألفاظ، ولم يسمع شيئا آخر. الثامن: لما سمع عثمان رضي الله عنه قول لبيد (الطويل): : وكل نعيم لا محالة زائل " قال: كذبت؛ فإن نعيم الجنة لا يزول، فلولا أن قوله أفاد العموم، وإلا لما توجه عليه التكذيب، والله أعلم. الفصل الثالث (كل) و (جميع) للعموم قال القرافي: قوله: " جاءني كل فقيه ... ، ولذلك استعمل كل واحد منهما لتكذيب الآخر ". تقريره: أن هذا مبني على قاعدة، وهي أن القضايا المحصورة المشهورة أربعة أقسام: موجبة كلية، وسالبة كلية، موجبة جزئية، وسالبة جزئية، فالكلية لا تناقضها الكلية؛ لأن قولنا: " كل عدد زوج، لا شيء من العدد بزوج " كاذبتان، والنقيضان لا يكذبان معا، وإذا كانت الكليتان لا تتناقضان،

فالجزئيتان أيضا لا تتناقضان؛ فإن قولنا: " بعض العدد زوج، بعض العدد ليس بزوج " صادقتان، والنقيضان لا يجتمعان، ولا يرتفعان؛ فتعين أن الذي يناقض الكلية إنما هو الجزئية، إذا اختلفتا في السلب والإيجاب، والشروط الثانية المذكورة في علم المنطق. إذا تقرر هذا، فقولنا: " جاءني كل فقيه " موجبة كلية، و " ما جاءني كل فقيه " جزئية سالبة؛ لأن سلب الكلية يكفي فيهما السالبة الجزئية، فمن قال: " كل حيوان إنسان " وأردت تكذيبه في الكلية، قلت له: " ليس كل حيوان إنسانا " وأنت لا تريد السالبة الكلية، بل الجزئية، فعلمنا أن قولنا: " ليس كل حيوان " إنسانا سالبة جزئية، كذلك " ما جاءني كل فقيه " سالبة جزئية. فإذا ثبت التناقض بين قولنا: " جاءني كل فقيه " و " ما جاءني كل فقيه " والثانية سالبة جزئية، لزم أن تكون الأولى موجبة كلية، وهذا هو العموم. وإذا تقرر ذلك في العرف، وجب أن يكون ذلك في اللغة كذلك؛ لأن الأصل عدم النقل والتغير. ويرد عليه: " إن جاءني كل فقيه " فعند الخصم مطلق لا عام، والمطلق، إذا دخل عليه حرف النفي، صار سالبة كلية، فتناقض " جاءني كل فقيه "؛ لأنه عنده موجبة جزئية، فتحقق التناقض، ولكن يعكس مقصود المصنف، فيتلخص للسائل القول في الوجوب؛ فسلم التناقض، ولا يثبت الإيجاب الكلي الذي قصده المستدل، بل بالإيجاب الجزئي؛ وهو الإطلاق. قوله: " صيغة الكل مقابلة لصيغة البعض، ولولا أن صيغة الكل غير محتمله للبعض لما كانت مقابلة لها " عبارة غير متجهة، فإن الكلية مستلزمة للجزئية؛ بالضرورة، ولفظها دال عليها؛ إجماعا، فكيف ينفى عنها

(سؤال) قال سراج الدين: " يكفي في التناقض بينهما دلالتهما على شيء واحد "

احتمالها، بل وقوعها لازم لها، بل العبارة المتجهة أن يقولوا: لو كان لفظ الكلية مختصا بالبعض، لما كان يقابله؛ لأن البعض في السلب لا يقابل البعض في الثبوت؛ كما تقدم. (سؤال) قال سراج الدين: " يكفي في التناقض بينهما دلالتهما على شيء واحد ". يريد أنه يكون مدلول " ما جاءني كل فقيه " سالبة جزئية، وم " جاءني كل فقيه " جزئية، وتكون تلك المحال المحكوم عليها بالسلب نفي المحكوم عليها بالثبوت؛ فيتناقض؛ كما إذا قلنا: " زيد قائم، زيد ليس بقائم " فإن أحدهما يستعمل لتكذيب الآخر في العرف؛ مع اتحاد المدلول في السلب والإيجاب؛ فهاهنا كذلك. جوابه: أن المحل في زيد وشبهه يتعين بسبق التناقض لفهم السامع. أما الثبوت في بعض غير معين، والسلب في بعض غير معين التعين للتنقاض، لا لغه، ولا عرفا، ولا عقلا. فأما إذا قلنا: " بعض إخواتك في الدار، بعضهم ليس في الدار " لا يفهم أحد التناقض؛ فيبطل صحة الاستدلال لصحة التناقض على العموم. ***

الفصل الرابع النكرة في سياق النفي تعم قال القرافي: هذه الدعوى ما رأيت أحدا من الأصوليين، ولا من الأدباء يخصصها، مع انها مخصوصة بإجماعهم، ولم يقع تخصيصها بشيء قليل، بل بكثير من الصور. بيان ذلك أن سيبويه وابن السيد البطليوسي وغيرهما نصوا على أن النكرة في سياق النفي مع (لا) إذا وقعت، لا تعم؛ كقولنا: " لا رجل في الدار " بالرفع، قالوا: بل لك أن تقول: " بل اثنان " فإنك غذا نفيت الرجل بوصف الوحدة، فلك إثباته بوصف الكثرة. وقال: هي جواب لمن قال: هل رجل واحد في الدار؟ سلب له: " لا رجل في الدار " أي: ليس فيها رجل واحد، بل كثير. وإذا قلت: " لا رجل في الدار " بلفظ البناء على الفتح، فهي تعم؛ لأنها جواب لمن قال: هل من رجل في الدار؟ فسأل عن مطلق الرجل، فقلت: " لا رجل في الدار " أي: " ليس من [له] هذا المفهوم في الدار "، فلا يكون فيها رجل، وإلا لما صدق نفي المطلق من الدار. قالوا: ولذلك بقيت هذه دون تلك؛ لأن الأصل أن تقول: لا من رجل في الدار، فتدخل (لا) في كلامك على (من) التي في كلامه؛ لأنك تقصد نفيه على وجهه، فلما حذفت (من) بخلاف (لا رجل) بالرفع ليس فيها (من) فلم يتضمن المنفي، فلم تبن، فهذه صورة تحت تخصيص الدعوى.

(الصورة الثانية) سلب الحكم عن العمومات فإذا قلنا: " ليس كل عدد زوجا " و " ليس كل حيوان إنسانا " ليس مقصودنا القضاء بسلب الزوجية عن كل فرد من أفراد العدد؛ فإن ذلك كذب قطعا، فإن كثيرا من العدد زوج، وكثير من الحيوان إنسان، بل نحن ننكر ذلك على القائل: " كل عدد زوج، وكل حيوان إنسان " فلما رأينا كلامه كلية كاذبة، سلبنا الحكم عن الكلية؛ فقلنا: ليست الكلية كذلك، بل بعضها ليس كذلك؛ ففي التحقيق: كلامنا سالبة جزئية، لا سالبة كلية، مع أنه نكرة في سياق النفي، لأن كلا نكرة، وقد أضيف إلى نكرة، والمضاف إلى النكرة نكرة، فهي نكرة في سياق النفي، ولم تعم؛ لأنه سلب للحكم عن المعمومات، لا حكم بالسلب على العمومات، وبينهما فرق عظيم، وإنما يحصل العموم في الثاني، دون الأول، إذا حكمت بالسلب على كل فرد؛ فيحكم بالسلب على الكلية، فيحصل العموم؛ بخلاف الأول؛ لا طرد الحكم في الكلية؛ فيكفي في ذلك صدق السلب في فرد واحد. (والصورة الثانية) النكرات الخاصة؛ فإن النكرات بعضها أخص من بعض؛ فإن اسم كل [نكرة نوع]، وهو أخص من اسم جنسه، والآخر نكرة؛ كلفظ إنسان مع لفظ حيوان. قال الزمخشري في " الكشاف " في قوله تعالى: {ما لكم من

إله غيره} [الأعراف: 59]: إن العموم إنما استفيد من لفظ: (من) ولو قال: " مالكم إله غيره " لم يعمم، مع أن لفظ (إله) نكرة، وقد حكم بأنه لا يعمم، وكذلك قوله تعالى: {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم} [الأنعام: 4] قال: العموم إنما استفيد من لفظ (من) لا من لفظ آيات في سياق النفي. وقال: إن لفظ (من) يكون لإفادة العموم؛ نحو ما تقدم. وتارة يفيد العموم كقولك: ما جاءني من أحد. قال الجرجاني في أول " شرح الإيضاح ": إن الحرف قد يكون زائدا من جهة العمل، لا من جهة المعنى؛ كقولك: " ما جاءني من رجل " فإنك لو قلت: " ما جاءني رجل " لم تعم، فأفادتنا لفظة (من) العموم، فهي غير زائدة في المعنى، وفي التعبد به لا يحتاج لها. فلو قلت: " جاءني رجل " صح؛ لأن الرجل فاعل بـ (جاء) وهو يتعدى إليه بنفسه، فهي زائدة من وجه دون وجه، وجماعة من النحاة رأيت ذلك لهم مسطورا: أن هذه النكرات الخاصة لا تفيد العموم، وإنما يحصل العموم فيها بـ (من) إذا دخلت عليها، بخلاف النكرات العامة؛ نحو: " ما جاءني من أحد، وما عندي من شيء " فلو حذفت (من) في هذا المثل، لكانت الصيغة للعموم. وقد نقل ابن السكيت في (إصلاح المنطق)، والكلام في (المنتخب).

في اللغة، هذه الصيغ العامة التي تقتضي العموم في النفي؛ نحو نيف وعشرين صيغة، وهي: ما بها أحد ولا وابر، ولا صافر، ولا غريب، ولا كتيع، ولا دبي من دبيب ولا ذبيح، ولا نافخ ضرمة، ولا ديار، ولا طوري، ولا دوري، ولا تؤمري، ولا لاعي قرو، ولا ارم، ولا داع، ولا مجيب، ولا معرب، ولا أنيس ولا ناهق، ولا ناخر، ولا نابح، ولا ثاغ، ولا راغ، ولا دعوى [ولا شفر، ولا صوت]. وينبغي أن يلحق بهذه شيء، وموجود، ومعلوم، وما هو في هذا العموم من المعاني؛ غير أنه لم يذكره. وزاد ابن الكراع على ابن السكيت " ما بها طورى " أي: ما بها أحد يطوي ولا بها وطوثي وما بها زابن ولا أريم، ولا تأمور، أي دماه، ولا عاين، ولا عائن، ومالي منه بد. قلت: " أحد " ليس هو واحد العدد، بل هذا للجنس، وذاك ينبني منه مراتب الأعداد، وهو بالواو، فإن نطق بالألف فهي بدل عن الواو. وقوله تعالى: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] ليس هو الذي من العدد، والوابر مثل لابن وابر، أي: صاحب وبر، وصافر: اسم فاعل من الصفير، وعريب: فعيل بمعنى فاعل، أي: معرب عما في نفسه، وكتيع: من التكتع الذي هو الاجتماع، ومنه تكتع الجلد، غذا ألقيته في النار، ومنه في أسماء التأكيد، الثغور، فهو فعيل بمعنى فاعل، والذبيح: المتلون، والضرمة: النار توقد، وديار: منسوب إلى الدار؛ كخطاب وملامح، وكل ذي حرفة ينسب بهذه الصيغة.

والطورى: منسوب إلى الطور الذي هو الجبل، والتومري: منسوب إلى التامور، وهو دم القلب، ولاعي قرو. قال الجوهري في (الصحاح): معناه: لا حس عسا من قدح، والقرو والعس: القدح، والأرم: الساكن أو الهالك، واللاعي: البعير، والدعوى من الدعوة للطعام، والأريم مثل الأرم، وعاين: صاحب عين، واليد: الانفكاك، فهذه هي الصيغ التي وجدتها، منقولة تستعمل في النفي العام، وينبغي أن يلحق بها ما في معناها من شيء، أو مخلوق، أو معلوم، أو موجود، ونحو ذلك، ولك في هذه الألفاظ المنقولة طريقان: أحدهما: أن تقول: الموصوف محذوف الجميع، تقديره: ما بها أحد وابر ولا صافر إلى آخرها؛ فيكون العموم جاء من الموصوف المحذوف العام؛ لا من الصفة الخاصة؛ فإن الخاص لا يعم. وثانيهما: أنه لا يلزم الحذف، بل المجاز، ونقول: عين في الجميع لفظ الخاص عن العام مجازا، واللفظ خاص، والمراد به أحد ونحوه. فهذا تلخيص هذه الألفاظ التي تقتضي العموم، وما عدا هذه بمقتضى هذه النقول لا تكون للعموم، وهو كثير جدا أكثر من أن يحصى، فكيف الحيلة في ضبط هذه الدعوى مع هذه التخصيصات التي دخلتها، وكلها نكرات في سياق النفي، بل ينبغي أن نقول هاهنا كما قال النحاة في النسب والتصغير: هو على قسمين؛ مقيس، ومسموع؛ هاهنا أيضا النكرة في سياق النفي قسمان: مقيس، ومسموع: فالمقيس المطرد: النكرة في النفي مع (لا) التي لنفي الجنس مبنية؛ نحو: " لا رجل في الدار " ومعربة منصوبة؛ نحو: " لا سائق إبل لك، ولا ثالم

(تنبيه) مقتضى ما قاله الزمخشري والروياني وغيرهما أن لفظة (من) تكون من صيغ العموم

عرض لك " والمسموع: ما عدا ذلك، وهو هذه الكلمات المحفوظة عن اللغويين؛ تحفظ ولا يقاس عليها، إلا ما أشاروا إليه من نحو شيء، وموجود، ونحو ذلك من الأجناس العامة، وبعرض عن كل ما هو أخص منها، فتكون الدعوى على هذه الصورة لا تعم، وتطلق في موضوع التفصيل؛ لا سيما مع هذا التخصيص العظيم الذي لا يليق مثله بكلام الفضلاء المحققين، لاسيما في تمهيد القواعد الكلية. (تنبيه) مقتضى ما قاله الزمخشري والروياني وغيرهما أن لفظة (من) تكون من صيغ العموم، وأن العرب وضعته لإفادة العموم، كما وضعت لفظة (من) بفتح الميم، وأن (من) الشرطية تساوي (من) التي هي حرف جر - في إفادة العموم، مع أن أحدهم لم يعدها من صيغ العموم. وأما أنا، فأضطر؛ لأجل هذه النقول أن أعدها منها؛ وكيف لا تعد منها، والنصوص متضافرة على أنها تفيد العموم وضعا في النكرات الخاصة التي تقدم ذكرها، ولا نعني بكونها للعموم لغة إلا ذلك، فتأمله؛ فإنه لا محاص منه، مع أن إمام الحرمين قال في (البرهان): إن سيبويه قال: " إذا قلت: " ما جاءني من رجل " فهي مؤكدة العموم، وإذا قلت: " ما جاءني رجل " فاللفظ عام " وهذا خلاف نقل الجماعة، وكشفت عن ذلك في (سيبويه) وسألت من هو عارف بالكتاب معرفة جيدة؛ فقال: لا أعلم سيبويه قال هذا، ولا أعلم إلا ما قاله الجرجاني وغيره: أنها ليست للعموم " وأنا أيضا ما وجدته في (سيبويه).

(فائدة) اختلف الناس في النكرة في سياق النفي

(فائدة) اختلف الناس في النكرة في سياق النفي، هل عمت بذاتها، أو لنفي المشترك فيها؟ فرأيت الحنفية يقولون: إنما حصل العموم عندنا؛ لأن حرف النفي اقتضى نفي الماهية الكلية، ويلزم من نفي الأعم نفي الأخص؛ فحصلت السالبة الكلية بطريق الملزوم لنفي الكل، لا أن اللفظ الموضوع في اللغة للسالبة الكلية، وظاهر كلام غيرهم من الأصوليين: يقتضي أن اللفظ وضع للقضاء بالسلب على كل فرد من أفراد الكلية، وأن سلب الكل حصل بطريق اللزوم لنفي الكلية؛ كما قاله الحنفية؛ فإنه يلزم من نفي كل فرد، بحيث لا يبقى فرد نفي الأمر الكلي، ويلزم من نفي الكل صدق النفي في الكلية؛ فكل واحد منهما لازم للآخر؛ بقى أي الأمرين هو المقصود بالوضع؛ حتى يكون الآخر لازما له؟ هذا موضع التردد بين الحنفية وغيرهم. والظاهر: أن اللفظ موضوع للسالبة الكلية، لا لسلب الكلي؛ لأنه المتبادر إلى الفهم في موارد الاستعمال، ويرد عليهم أن الاستثناء يدخل عليها؛ فعلى رأيهم: لا يكون من مسمى اللفظ؛ لأن الكلي لا يخرج منه فرد، فيكون مقطعا من لازم اللفظ، وعلى رأينا: يكون من الأفراد التي هي مدلول اللفظ، والأصل في الاستثناء أن يكون من نفس المدلول. قوله: " لأن الإثبات الجزئي لا يناقضه السلب الجزئي ". تقريره: أنه يرجع إلى ما تقدم في الفصل الثالث: أن النقيضين لا يجتمعان، ولا يرتفعان؛ فإن الكليتين يمكن ارتفاعهما؛ فيكونان ضدين لا نقيضين، والجزئيان يمكن صدقهما؛ فلا يكونان نقيضين، بل خلافين؛ فتعين التناقض بين الكلية والجزئية، وقد تقدم بسطه هناك.

قوله: " لو لم تكن النكرة (في النفي) للعموم، لما كان قولنا: " لا إله إلا الله " إثباتا للإلهية الله تعالى، ولا يوجب ذلك إسلامنا؛ لأنه يكون تعطيلا حينئذ ". قالوا في الجواب عن هذا السؤال: إن المقصود الشرعي حصل من هذه الصيغة بالقرائن مع اللفظ، لا باللفظ مجردا، ومن القرائن الظاهرة كون كل أحد يعلم أن المقصود الشرعي هو المقصود من هذه العبارات، وأن المطلوب إنما هو إثبات الوحدانية؛ فيمكن أن يقال ذلك الجواب هاهنا، ونقول: ليس مجرد اللفظ كافيا في نفي كل إله، بل اللفظ مع القرائن؛ لأن المقصود من جميع الخلائق على ألسة الرسل، إنما هو التوحيد، وقد اشتهر ذلك غاية الشهرة؛ فكان هذا من القرائن الدالة على أن المتكلم، إنما أراد هذا المعنى. قوله: " النكرة في سياق الإثبات لا تعمم، إذا كانت خبرا؛ نحو: " جاءني رجل " فإن كان أمرا، فالأكثر أنها للعموم؛ كقوله: " أعتق رقبة " فإنه يخرج عن العهدة بفعل أيها كان "؟ قلنا: هذا كلام غير متجه جدا؛ لأنه إذا خرج عن العهدة بأي رقبة كانت، كان اللفظ مطلقا، وأنتم أول العموم قلتم: المطلق قسيم العام " وقسيم الشيء لا يصدق عليه، بل هذا الكلام بعينه يقتضي أنها ليست للعموم؛ لأنها لو كانت للعموم، لما خرج عن العهدة إلا بعتق رقاب الدنيا، ويجب عليه أن يعتق ما بقى آخر الدهر؛ لقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] يجب قتل جميع المشركين الذين على وجه الأرض، ما بقينا آخر الدهر، فهذا يدل قطعا على أنها ليست للعموم، ثم من العجب تفريقكم بين الأمر والخبر؛ بأنه يخرج عن العهدة في الأمر بأي رقبة كانت، وكذلك يخرج عن عهدة الخبر، في صدقه بأي رجل كان؛ فلا معنى لهذا الفرق، بل الحق أن النكرة في سياق الإثبات مطلقة لا عموم فيها،

(تنبيه) عبر سراج الدين؛ فقال: إن كانت أمرا، أفادت عند الأكثرين الخروج عن العهدة بكل واحد

[سواء] كانت خبرا أو أمرا؛ بخلاف النفي والنهي؛ كقوله تعالى: {لا تفتروا على الله كذبا} [طه: 61] فإن النهي عن الماهية الكلية نهي عن جميع جزئياتها، ونفي الماهية الكلية نفي لجميع جزئياتها. (تنبيه) عبر سراج الدين؛ فقال: إن كانت أمرا، أفادت عند الأكثرين الخروج عن العهدة بكل واحد، ولنذكر العموم، فيرد عليه إنما ذكره من الخروج عن العهدة، لم يختلف فيه، فلا ينتظم. قوله: " عند الأكثرين " هرب من إشكال، وصادف غيره. ***

الفصل الرابع في أن النكرة في سياق النفي

الفصل الرابع في أن النكرة في سياق النفي تعم قال ارازي: وذلك لوجهين: الأول: أن الإنسان، إذا قال: " اليوم أكلت شيئا " فمن أراد تكذيبه، قال: " ما أكلت اليوم شيئا " فذكرهم ها النفي عند تكذيب ذلك الإثبات يدل على اتفاقهم على كونه مناقضا له، ولو كان قوله: " ما أكلت اليوم شيئا " لا يقتضي العموم، لما ناقضه؛ لأن السلب الجزئي لا يتناقض الإيجاب الجزئي. مثاله من كتاب الله: أن اليهود لما قالت: {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91] قال تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى}، [الأنعام: 91] وإنما أورد الله تعالى هذا الكلام نقضا لقولهم. الثاني: لو لم تكن النكرة في النفي للعموم، لما كان قولنا: " لا إله إلا الله " نفيا لجميع الآلهة سوى الله تعالى. (تنبيه) النكرة في الإثبات، إذا كانت خبرا، لا تقتضي العموم؛ كقولك: " جاءني رجل " وإذا كان أمرا، فالأكثرون على أنه للعموم؛ كقوله: " أعتق رقبة " والدليل عليه: أنه يخرج من عهدة الأمر بفعل أيها كان؛ ولولا أنها للعموم، وإا لما كان كذلك.

الفصل الخامس في شبه منكري العموم

الفصل الخامس في شبه منكري العموم احتجوا بأمور: أولها: العلم بكون هذه الصيغ موضوعة للعموم: إما أن يكون ضروريا؛ وهو باطل، وإلا وجب اشتراك العقلاء فيه. أو نظريا؛ وحينئذ لابد فيه من دليل، وذلك الدليل: إما أن يكون عقليا؛ وهو محال؛ لأنه لا مجال للعقل في اللغات. أو نقليا، وهو إما أن يكون متواترا، أو آحادا؛ والمتواتر باطل، وإلا لعرفه الكل، والآحاد باطل؛ لأنه لا يفيد إلا الظن؛ والمسألة علمية. وثانيها: أن هذه الألفاظ مستعملة في الاستغراق تارة، وفي الخصوص أخرى، وذلك يدل على الاشتراك: بيان المقدمة الأولى: أن القائل إذا قال: " من دخل داري، أهنته، أو أكرمته " فإنه قلما يريد به العموم، وإذا قال: " لقيت العلماء، وقصدت الشرفاء " فقد يريد به العموم تارة، والخصوص أخرى. بيان المقدمة الثانية من وجهين: الأول: أن الظاهر من استعمال اللفظ في شيء كونه حقيقة فيه، إلا أن يدلونا بدليل قاطع على أنهم باستعمالهم فيه متجوزون؛ لأنا لو لم نجعل ذلك طريقاً

إلى كون اللفظ حقيقة في المسمى، لتعذر علينا أن نحكم بكون لفظ ما حقيقة في معنى ما؛ إذ لا طريق إلى كون اللفظ حقيقة سوى ذلك. الثاني: هو أن هذه الألفاظ، لو لم تكن حقيقة في الاستغراق والخصوص، لكان مجازا في أحدهما، واللفظ لا يستعمل في المجاز إلا مع قرينة؛ وذلك خلاف الأصل. وأيضا: فتلك القرينة: إما أن تعرف ضرورة، أو نظرا: والأول باطل، وإلا لامتنع وقوع الخلاف فيه. والثاني أيضا باطل؛ لأنا لما نظرنا في أدلة المثبتين لهذه القرينة، لم نجد فيها ما يمكن التعويل عليه. وثالثها: أن هذه الألفاظ، لو كانت موضوعة للاستغراق، لما حسن أن يستفهم المتكلم به؛ لأن الاستفهام طلب الفهم، وطلب الفهم عند حصول المقتضى للفهم عبث؛ لكن من المعلوم أن من قال: " ضربت كل من في الدار " أنه يحسن أن يقال: " أضربتهم بالكلية؟ " وأن يقال: " أضربت أباك فيهم؟ ". ورابعها: أنها لو كانت للاستغراق، لكان تأكيدها عبثا؛ لأنها تفيد عين الفائدة الحاصلة من المؤكد. وخامسها: أنها لو كانت للاستغرق، لكان الاستثناء نقضا؛ وبيانه من وجهين: الأول: أن المتكلم قد دل على الاستغراق بأول كلامه، ثم بالاستثناء رجع عن الدلالة على الكل إلى البعض؛ فكان نقضا، وجاريا مجرى ما يقال: " ضربت كل من في الدار، لم أضرب كل من في الدار ".

الثاني: أن لفظة العموم، لو كانت موضوعة للاستغراق، لجرت لفظة العموم مع الاستثناء مجرى تعديد الأشخاص، واستثناء الواحد منهم بعد ذلك في القبح؛ كما إذا قال: " ضربت عمرا، وضربت خالدا " ثم يقول: " إلا زيدا " فلما لم يكن كذلك، دل حسن الاستثناء على أن جنس هذه الصيغ ليست للاستغراق. وسادسها: أن صيغة " من، وما، وأي " في المجازة، يصح إدخال لفظ (الكل) عليها تارة، و (البعض) أخرى؛ فتقول: " كل من دخل داري، فأكرمه، بعض من دخل داري، فأكرمه " ولو دلت تلك الصيغة على الاستغراق لكان الكل عليها تكريرا. وسابعها: لو كانت لفظة " من " للاستغراق، لامتنع جمعها؛ لأن الجمع يفيد أكثر مما يفيده الواحد، ومعلوم أنه ليس بعد الاستغراق كثرة، فيفيدها الجمع، لكن يصح جمعها؛ لقول الشاعر (الوافر): " أنوا ناري، فقلت: منون أنتم؟ ... فقالوا: الجن، قلت: عموا ظلاما " والجواب عن الأول: لا نسلم أنه غير معلوم بالضرورة؛ فإنا بعد استقراء اللغات نعلم بالضرورة أن صيغ " كل، وجميع، ومن، وما، وأي " في الاستفهام والجزاء للعموم. سلمناه، فلم لا يجوز أن يعرف بالعقل؟ قوله: " لا مجال للعقل في اللغات ". قلنا: ابتداء، أم بواسطة الاستعانة بمقدمات نقلية؟

الأول مسلم؛ والثاني ممنوع؛ فلم قلت: إنه لم توجد مقدمات نقلية يستنتج العقل منها ثبوت الحكم في هذه المسألة؟ سلمناه؛ فلم لا يجوز أن يعرف ذلك بالآحاد؟ قوله: " المسألة قطعية ". قلنا: لا نسلم؛ كيف وقد بينا أن القطع لا يوجد في اللغات إلا نادرا؟ والجواب عن الثاني: لا نزاع في أن هذه الألفاظ قد تستعمل في الخصوص؛ ولكنك إن ادعيت أنه لايوجد الاستعمال إلا حيث لا حقيقة؛ فحينئذ تعذر الاستدلال بالاستعمال على كونه حقيقة، فإن قلت: أستدل بالاستعمال مع أن المجاز خلاف الأصل على كونه حقيقة فيه. قلت: قولك " المجاز خلاف الأصل " لا يفيد غلا الظن، وعندك المسألة قطعية يقينية. وأيضا: فكما أن المجاز خلاف الأصل، فكذلك الاشتراك، وقد تقدم في كتاب اللغات: أنه إذا وقع التعارض بينهما، كان دفع الاشتراك أولى. وأما قوله أولا: " لو لم يجعل هذا طريقا غلى كون اللفظ حقيقة، لم يبق لنا إليه طريق أصلا ". قلنا: قد بينا فساد هذا الطريق، فإن لم يكن هاهنا طريق آخر إلى الفرق بين الحقيقة والمجاز، وجب أن يقال: إنه لا طريق إلى ذلك الفرق؛ لأن ما ظهر فساده، لا يصير صحيحا؛ لأجل فساد غيره.

قوله ثانيا:" ذلك الطريق: إما أن يعرف بالضرورة، أو بالدليل؛ والضرورة باطلة؛ لوقوع الخلاف؛ والدليل باطل؛ لانا لم نجد في أدلة المخالفين ما يدل عليه. قلنا: الضرورى لا ينكره الجمع العظيم من العقلاء، وقد ينكره النفر اليسير، ولا نسلم أن الجمع العظيم من أهل اللغة نازعوا في أن لفظ (الكل) و (أي) للعموم. سلمنا ذلك؛ لكن لا نسلم أنه لم يوجد ما يدل على كونها مجازا في الخصوص. قوله: " نظرنا في أدلة المخالفين، فلم نجد فيها ما يدل على ذلك ". قلنا: عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، واعلم أن الشريف المرتضى عول على هذه الطريقة، ومن تأمل كلامه فيها علم أنه في أكثر الأمر يدور على المطالبة بالدلالة على كون هذه الصيغة مجازا في الخصوص، مع أنه شرع فيها شروع المستدل على كونها حقيقة في الاستغراق والخصوص. والجواب عن الثالث: لا نسلم أن حسن الاستفهام لا يكون إلا عند الاشتراك؛ فما الدليل عليه؟ ثم الدليل على أنه قد يكون لغيره وجهان: الأول: أنه لو كان حسن الاستفهام؛ لأجل الاشتراك، لوجب ألا يحسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة؛ على ما قررناه في الفصل الأول. الثاني: أن الاستفهام قد يجاب عنه بذكر ما عنه وقع الاستفهام؛ كما لو قال القائل: " ضربت القاضي " فيقال له: " أضربت القاضي؟ " فيقول: " نعم، ضربت القاضي " ولا شك في حسن هذا الاستفهام في العرف.

فثبت بهذين الوجهين أن الاستفهام قد يحسن لا مع الاشتراك. ثم نقول: الاستفهام: إما أن يقع ممن يجوز عليه السهو، أو ممن لا يجوز عليه ذلك: والأول قد يحسن؛ لوجوه أربعة أخرى غير الذي ذكروه: أحدهما: أن السامع ربما ظن أن المتكلم غير متحفظ في كلامه، أو هو كالساهي؛ فيستفهمه ويستبينه؛ حتى إن كان ساهيا، زال سهوه، وأخبره عنتيقظ؛ ولذلك يحسن أن يجاب عن الاستفهام بعين ما وقع عنه الاستفهام. وثانيها: أن يظن السامع؛ لأجل أمارة ان المتكلم قد أخبر بكلامه العام عن جماعة؛ على سبيل المجازفة، ويكون السامع شديد العناية بذلك؛ فتدعوه شدة عنايته إلى الاستفهام عن ذلك الشيء؛ لكي يعلم المتكلم اهتمام السامع به؛ فلا يجازف في الكلام. ولهذا قد يقول القائل: " رأيت كل من في الدار " فإذا قيل له: " أرأيت زيدا فيهم؟ " فقال: " نعم " زالت التهمة؛ لأن اللفظ الخاص أقل إجمالا، وربما لم يتحقق رؤيته؛ فيدعوه ما رآه من اهتمام المستفهم إلى أن يقول: " لا أتحقق رؤيته ". وثالثها: أن يستفهم؛ طلبا لقوة الظن. ورابعها: أن توجد هناك قرينة تقتضي تخصيص ذلك العموم؛ مثل أن يقول: " ضربت كل من في الدار " وكان فيها الوزير، فغلب على ألظن أنه ما ضربه، فإذا حصل التعارض، استفهمه؛ ليقع الجواب عنه بلفظ خاص لا يحتمل التخصيص. وأما إن وقع ممن لا يجوز عليه السهو، فذاك؛ لأن دلالة الخاص أقوى من دلالة العام، فيطلب الخاص بعد العام؛ تحصيلا لتلك القوة.

والجواب عن الرابع من حيث المعارضة، وم حيث التحقيق: أما المعارضة: فمن ثلاثة أوجه: أحدها: تأكيد الخصوص؛ كقولهم: " جاء زيد نفسه ". وثانيها: تأكيد ألفاظ العدد؛ كقوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196] وثالثها: أن التأكيد تقوية ما كان حاصلا، فلو كان الحاصل هو الاشتراك، لتأكد ذلك الاشتراك بهذا التأكيد. فإن قلت: التأكيد يعين اللفظ لأحد مفهوميه، قلت: هذا لا يكون تأكيدا؛ بل بيانا. وأما من حيث التحقيق: فهو: أن المتكلم: إما أن يجوز عليه السهو، أو لا يجوز: فإن جاز ذلك: كان حسن التأكيد؛ لوجوه: أحدها: أن السامع، إذا سمع اللفظ بدون تأكيد، جوز مجازفة المتكلم، فإذا أكده، صار ذلك التجويز أبعد. وثانيها: انه ربما حصل هناك ما يقتضى تخصيص العام، فإذا اقترن به التأكيد، كان احتمال الخصوص أبعد. وثالثها: تقوية بعض ألفاظ العموم ببعض. وأما إن لم يجز السهو على المتكلم: لم يكن للتأكيد فائدة إلا تقوية الظن. والجواب عن الخامس: أنه منقوض بألفاظ العدد؛ فإنها صريحة في ذلك العدد المخصوص، ثم يتطرق الاستثناء إليها.

شرح القرافي: قوله: " لو كان العلم بأن الصيغة للعموم ضروريا، لزم اشتراك العقلاء فيه "

ثم الفرق بين ما ذكروه من الصورتين وبين مسألتنا: أن الاستثناء، إذا اتصل بالكلام، صار جزءا من الكلام؛ فتصير الجملة شيئا واحدا مفيدا؛ لأنه لا يستقل بنفسه في الإفادة؛ فيجب تعليقه بما يقدم عليه، فإذا علقناه به، صار جزءا من الكلام؛ فتصير الجملة شيئا واحدا مفيدا، وفائدته إرادة ما عدا المستثنى؛ بخلاف قوله: " ضربت كل من في الدار، لم أضرب كل من في الدار " لأن هاهنا كل واحد من الكلامين مستقل بنفسه؛ فلا حاجة إلى تعليقه بما تقدم عليه، وإذا لم يتعلق به، أفاد الأول ضرب جميع من في الدار، وأفاد الآخر نفي ذلك؛ فكان نقضا. وأما الثاني: فنطالبهم بالجامع. ثم الفارق أن الاستثناء إخراج جزء من كل؛ فغذا قال: " ضربت زيدا، وضربت عمرا إلا زيدا " انصرف قوله: " إلا زيدا " إلى زيد، لا إلى عمرو؛ لأن زيدا ليس بجزء منهم؛ فكان نقضا؛ بخلاف قوله: " رأيت الكل إلا زيدا " لأن زيدا جزء من الكل؛ فظهر الفرق. والجواب عن السادس: أن حكم المفرد يجوز أن يخالف حكم المركب؛ فيجوز أن يكون شرط إفادة لفظة (من) للعموم انفرادها عن لفظ (البعض) معها؛ بل لم يكن شرط إفادتها للعموم حاصلا؛ فلا جرم لم يلزم النقض. والجواب عن السابق: أن أهل اللغة اتفقوا على أن ذلك ليس جمعا؛ وإنما هو إشباع الحركة؛ لسبب آخر مذكور في كتب النحو. (الفصل الخامس في شبه منكري العموم) قال القرافي: قوله: " لو كان العلم بأن الصيغة للعموم ضروريا، لزم اشتراك العقلاء فيه ".

قلنا: الضرورة أقسام: منها: من ينشأ عن الفطر الإنسانية عند استحكام النشء، وذهاب الطفولية؛ كاستحالة الجمع بين النقيضين والضدين، وكون الجسم الواحد في مكانين. ومنها: ما ينشأ عن التواتر؛ كالعلم بـ (بغداد). ومنها ما ينشأ عن القرائن الحالية، أو المقالية، كالعلم الضروري؛ بأن كل حيوان، إذا أكل، تحرك فكه الأسف إلا التمساح، وأن كل بغلة لا تلد، وأن الإنسان لا يعيش بغير تنفس، وهذه المسائل الأصولية من هذا الباب؛ فإن العلم الضروري فيها حاصل بعد استقراء اللغات، واشتراك العقلاء: إنما يلزم في القسم الأول دون الأخير، وفيما هو ضروري؛ فلا يلزم الشركة فيه، وفيما علم بالضرورة بدليل يطرأ أو لمس حسي؛ فإن من حصل له العلم بمقدار حساب من العدد بالطرق الحسابية، أو وضع يده في طاس ماء بارد أو حار قطع بذلك، ولا يشاركه فيه غيره، إلا أن يشاركه في سبب تلك الضرورة؛ فظهر أن ما ذكره من الملازمة غي لازم. قوله: " الدليل: إما أن يكون عقليا أو نقليا ". قلنا: القسمة غير منحصرة؛ لأن الدال قد يكون قرائن الأحوال الحالية، أو المقالية، أو الاستقراء، أو الحسن والعقل، أو بعض هذه مع بعض من القبيل الآخر، ومع ذلك؛ فهذا كله ترديد بين النوائب التي لايعلم الحصر فيها؛ فلا يكون حجة. قوله: " لا مجال للعقل في اللغات ". يريد على سبيل الاستقلال؛ فإن العقل لا يستقل إلا بثلاثة أشياء: وجوب الواجبات، واستحالة المستحيلات، وجواز الجائزات. وما عدا ذلك، فلا بد مع العقل من غيره؛ من حس أو غيره، وما من

لغة، ولا شريعة، إلا وللعقل فيها مجال؛ لأنه لو فقد العقل، لم يحصل علم بشريعة، ولا لغة، ولا شيء من أمور الدنيا، ولا من أمور الآخرة؛ فظهر أن قوله: " لا مجال للعقل " يريد به: على وجه الاستقلال. قوله: " والنقل: إما تواتر أو آحاد ". قلنا: القسمة غير منحصرة؛ لأن التواتر هو إخبار جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، والآحاد هو ما أفاد ظنا أخبر به واحد أو عدد. بقى قسم آخر؛ وهو إخبار الواحد، إذا احتفت به قرائن؛ حتى أفاد العلم، فليس بتواتر؛ لاشتراطنا العدد في التواتر، وليس آحادا؛ لإفادته العلم، فهو قسم ثالث. قوله: " والتواتر باطل، وإلا يعرفه الكل ". قلنا: هذه الملازمة غير صحيحة؛ لأن التواتر ليس من شرطه الشمول؛ فقد يتواتر سقوط المؤذن من منار الجامع عند أهل الجامع، وبقية أهل المدينة لا شعور لهم بذلك، وكم من قضية تتواتر في إقليم لا يعلم بها أهل الإقليم الآخر. قوله: " لابد أن يثبتوا بدليل قاطع: أنهم ما استعملوا صيغ العموم في الخصوص حقيقة ". قلنا: لا يحتاج إلى الدليل القاطع؛ فإن هذه المسائل، وغن كانت قطعية، فنحن نستدل فيها بالمقدمات الظنية، ويكون المجموع من استدلالنا والاستقراء التام يفيد اليقين بهذه المسائل؛ فلا تناقض بين كونها قطعية، ومحاولة المقدمات الظنية فيها ليس في الوسع، وضع ذلك الاستقراء التام المحصل للعلم في بطون الكتب، بل إنما نضع ما نثبته على أصل الاستقراء، والمدارك على الطالب، وعلى الطالب تكميل الاستقراء المفيد للعلم.

قوله: " لا طريق إلى كون اللفظ حقيقة في المعنى إلا استعماله فيه ". قلنا: لا نسلم؛ بل كون أهل اللغة علم من عادتهم أنهم، إذا استعملوا اللفظ في المعنى، جردوه؛ فيكون حقيقة، وإذا استعملوه في معنى آخره، قرنوه بالقرائن؛ فكان مجازا، فهذا طريق الفرق بين الحقيقة والمجاز، وكذلك ما يتعذر سلبه هو حقيقة، وما يمكن سلبه يكون مجازا؛ فنقول عن الرجل الشجاع: إنه ليس بأسد، ولا نقول عن الحيوان المفترس: إنه يلس بأسد، وكذلك طرق كثيرة قد تقدمت في باب الحقيقة والمجاز. قوله: " لو عرفنا القرينة بالضرورة، لما وقع الاختلاف ". قلنا: قد بينا أن كثيرا من أقسام الضروريات لا يلزم وقوع الشركة فيها. قوله: " نظرنا في أدلة المثبتين، فلم نجد فيها ما يمكن التعويل عليه ". قلنا: أحد الأمرين لازم، وهو: إما عدم اطلاعكم على أدلة المثبتين، أو عدم صدق هذه الدعوى، فإن أدلة المثبتين أفادت القطع للمطلع عليها، غايته أن الاستقراء في اللغات لم يحصل لكم، كما حصل لهم، ولو حصل لكم، لحصل القطع جزما. قوله:" يجوز دخول لفظ الكل عليها، ولفظ البعض، والأول تكرير، والثاني نقض ". تقريره: ان لفظ (كل) يفيد العموم، وصيغة العموم نحو (من) تفيد العموم، فيصير العموم مدلولا عليه مرتين، فيكون تكريرا، ولفظ البعض يقتضي أنه لم يرد جملة الأفراد، فيكون العموم قد وجد بدون معنى العموم، ووجود الدليل بدون المدلول نقض على الدليل، والأمران على خلاف الأصل. قوله: " لو كانت صيغة (من) للاستغراق، لامتنع جمعها ".

تقريره: أن الصيغة، إذا كانت موضوعة للعموم، لم يبق فرد من تلك الأفراد غلا دخل في مسماها، وإذا دخلت جميع الأفراد، لم يبق لهذا المجموع مثل؛ فيتعذر تثنيته؛ فيعذر جمعه بطريق الأولى، فكل لفظ موضوع لكلية يتعذر فيه التثنية والجمع؛ من حيث هو كلية. فإن قلت: فقد أجمع النحاة على صحة تثنية الجمع المعرف، وجمعه؛ كقوله عليه السلام: " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ". فقد ثنى الغنم معروفا بالألف واللام، وهو مستغرق، وعام في جميع الغنم. واتفق الأدباء على أن قولنا: " الأكاليب، والجمالات، والأكاريد " جمع الجمع؛ فالأكاليب: جمع أكلب الذي هو جمع الجمع، والأكاريد: جمع كرد الذي هو جمع كردي، والجميع معرف بالألف واللام، وهي تفيد العموم والكلية؛ فقد صح الجمع في الكليات. قلت: هذا غلط بسبب الغفلة عن دخول الألف واللام، هل كان قبل الجمع أو بعده، ونحن نقول: إن لام التعريف، إنما دخلت بعد التثنية والجمع، وكان الجمع قد ثنى وجمع، وهو نكرة بغير تعريف، وهو في حالة التنكير، إنما يتناول ثلاثة أو اثنين؛ على الخلاف في اصل الجمع؛ فيبقى من تلك المادة أفراد كثيرة يتأتى بسببها التثنية والجمع، فيجمع، أو يثنى، ثم

تدخل لام التعريف بعد ذلك؛ فلا إشكال، والسائل ظن أن لام التعريف دخل فيه التثنية والجمع؛ فأورد السؤال. قوله: " قال الشاعر [الوافر]: أتوا ناري، فقلت: منون أنتم ... فقالوا: الجن، قلت: عموا ظلاما قلت: أصل هذا أن رجلا من الأعراب كان بالبرية، أوقد النار لمقاصده، فأتاه الجن، فقال: من أنتم؟ فقالوا: الجن، قال لهم: عموا ظلاما، أي: انعم الله ظلامكم، كما نقول نحن: أنعم الله مساءكم، والمساء والظلام قريب من قريب، أي: وجدتم نعمة في هذا الدليل فهو دعاء بوجدان النعم، وبعد هذا البيت [الوافر]: لقد فضلتم بالأكل فينا ... ولكن ذاك يعقبكم سقاما فقلت: إلى الطعام، فقال منهم ... فريق نحسد الإنس الطعاما

ومعناهما: أن غالب الجن إنما يعيش بالروائح من الأغذية دون أجزائها، قاله الغزالي في (الإحياء) وغيره. قالوا: وكذلك أغذيتهم من العظام، ونحن نجد أنفسنا في الدهور تقوم على العظام لا تنقص أجزاؤها، ولا تذهب عن مواضعها، ومن الناس من ينقل ذلك عن جميعهم، ومنهم من يقول: هم فرق. قال ابن منبه فيما يروى عنه: إن منهم من يتغذى بأجرام الأغذية، وهم الليعون منهم، ومنهم من يتغذى بالروائح، وهم الروحانيون منهم، وهم مختلفو الخلق والأخلاق، والأطوار؛ ولذلك قال الله تعالى: {وأنا منا الصالحون، ومنا دون ذلك؛ كنا طرائق قددا} [الجن: 11] ". فهؤلاء الجن الواردون على هذا الشاعر، كانوا لا يتغذون بأجرام الأغذية، بل بروائحها، ولا شك أن مباشرة الجرم أعظم في اللذة، وكذلك المريض العاجز والصائم، يشمان الأغذية، فيجدان بها قوه وراحة ولذة، ولكن لو قدروا على تناول الأجرام، لما اقتصروا على الروائح؛ فلذلك حسدوا هذا الحي على أجرام الأغذية.

وقوله: ...................... ولكن ذاك يعقبكم سقاما معناه: ان الرطوبات والأخلاط والأمشاج والعفونات، وأكثر أسباب الأمراض، إنما تحدث عن أجرام الأغذية، وهو سبب السقام؛ ولذلك قلت حياة بني آدم، والواحد من الجن يعيش آلافا من السنين، ولا يموت إلا بعد أن يرى من ذريته خلائق كثيرة. ففي حديث ابن مسعود ليلة الجن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوتا، فقال عليه السلام: (نغمة الجن) وإذا برجل قد أقبل، فقال له: " من أنت؟ " فقال له: أنا فلان بن فلان إبليس، فقال له عليه السلام: " أراك قريبا من الشيخ " يعني إبليس، فقال له الجن: غير أني أسلمت، واجتمعت بموسى عليه السلام وعلمني التوراة، واجتمعت بعيسى عليه السلام وعلمني الإنجيل، وقال لي: إذا اجتمعت بأخي محمد، فسلم لي عليه، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: " وعليه السلام ورحمة الله وبركاته " ثم قال: وقد جئت إليك؛ لتعلمني شيئا من القرآن، فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن، وانصرف ". فانظر هذه الأعمار الطويلة، وسيما قله أسباب الأسقام. قوله: " لم لا يجوز أن يكون العقل بواسطة مقدمات نقلية يستنتج العقل منها الحكم في هذه المسألة ". تقريره: كما تقدم في (أن) الأمر للوجوب، لم ينقل عن العرب ذلك نقلا؛ غير أنا وجدنا مقدمتين:

إحداهما: تارك المأمور به عاص، و [ثانيتهما]: العاصي يستحق العقالب؛ فتارك المأمور به يستحق العقاب، فاستفدنا أن الأمر للوجوب؛ بواسطة هاتين المقدمتين، وكذلك هاهنا. نقول: صيغة العموم يدخلها الاستثناء، والاستثناء عبارة عما لولاه لوجب اندراجه؛ فتكون هاتان المقدمتان نقليتين. فنقول: ما من فرد، ولا نوع من أنواع صيغ العموم، إلا ويصح استثناؤه، عملا بإحدى المقدمتين، وكل ما يصح استثناؤه، وما استثنى تحت اندراجه؛ فيجب اندراجه كل فرد في حكم الصيغة، وهذا هو العموم، وقد استفدناه من المقدمتين النقليتين، م تصرف العقل. قوله: " لا نسلم أن المسألة قطعية؛ لأنا قد بينا أن القطع لا يوجد في اللغات ". قلنا: أما المسألة فقطعية، وقواعد الديانات كلها قطعية الكليات منها، دون تفاريعها، ومستند القطع استقراء اللغات، كما تقدم. وأما ما ذكرتموه من أن اللغات لا تفيد القطع، فذلك إنما بنيتموه في اللغات؛ من حيث الوضع؛ من حيث هو وضع، ونحن نسلم ذلك؛ فإن اللفظة من حيث هي موضوعة لهذا المعنى، تحمل الاشتراك والإضمار وغيرهما. أما هذه المسائل، فلم نستفد الدليل عليها، من حيث الوضع، بل من كمال الاستقراء المشتمل على قرائن الأحوال، والمقال؛ حتى وصل إلى حد القطع، وهذه أمور عظيمة خارجة عن الوضع، من حيث هو وضع، وكذلك يقطع بأن مراد الله تعالى من عيسى ابن مريم، ومن موسى، ومريم بنة عمران أن الأشخاص معينة لا لمجرد الوضع؛ بل للقرائن من

السياق وغيره، فلا تنافي بين كون اللغات من حيث الوضع، لا تفيد القطع، وبين كون هذه المسائل قطعية. قوله: " وإن سلمت أن الاستعمال قد يوجد حيث لا يكون حقيقة، تعذر عليك الاستدلال بالاستعمال على أنه حقيقة ". تقريره: أن الخصم ادعى أنه لا يجوز اعتقاد المجاز، إلا بدليل قاطع؛ كما تقدم في الأسئلة، قاله الإمام، فإذا لم يكتف بالأدلة الظنية في الحقيقة والمجاز، فلا يجزم بأنه حقيقة، غلا بدليل قاطع غير الاستعمال؛ لأنك جوزت أن يكون الاستعمال مجازا، ومع التجويز لا قطع، فلا يستدل بالاستعمال على الحقيقة. قوله: " من تأمل طريق الشريف المرتضى، وجده في أكثر الأمر يطالب بالدليل على أن الصيغة مجاز في الخصوص، مع أنه شرع فيها شروع المستدل ". تقريره: أنه قال: لو علم أنها للعموم، لكان: إما بالعقل، او بالنقل، يعني: بينوا طريقا غير هذين. وقوله: " لم نجد في أدلة القائلين بالعموم ما يعول عليه ". معناه: بينوا دليلا يعول عليه. وقوله: " لابد من قرينة تدل على أن الصيغة مجاز في الخصوص، فبينوا لنا دليلا قاطع على ذلك، هذه الإشارات كلها يفهم منها المطالبة بالدليل على مذهبنا في هذه المسألة، والمستدل، إذا شرع يستدل على مسألة، لا يليق به مطالبة خصمه بإقامة الدليل؛ لأنه لا يلزم من عجز خصمه عن الدليل صحة دعواه هو؛ مع أنه ادعى أن دعواه صحيحة، والتزم بإقامة الدليل عليها؛ فيلزمه ذلك، نهض لخصمه دليل أم لا.

قوله: " الاستفهام: إما أن يقع ممن يجوز السهو عليه، او ممن لا يجوز السهو عليه ". قلت: هذه العبارة وجدتها في عدة نسخ، ولم أجد غيرها، وهي غير متجهة، بل الصواب، أن يقول: الكلام المستفهم عنه: إما أن يقع ممن يجوز السهو عليه أم لا؛ فإن هذه الوجوه التي ذكرها في الكتاب مرتبة على جواز السهو على المتكلم دون السامع، والاستفهام: إنما يكون من السامع دون المتكلم، فتأمل ذلك. قوله: " يكون السامع شديد العناية بذلك، فيستفهم؛ حتى يعلم المتكلم اهتمام السامع ". تقريره: أنه إذا قال: " أكرمت كل من في الدار " ومن جملتهم زيد، والسامع شديد العناية بإكرامه، فيستفهم حتى يعلم أن له به عناية. فقوله: " شديد العناية بذلك ": إشارة للخصوص، لا للعموم. قوله: " دلالة الخاص أقوى من دلالة العام ". تقريره: أن النص، غذا كثرت افراده، صار له باعتبار كل فرد احتمال تخصيص، فغذا كان أقل افرادا، فيكون احتمال التخصيص فيه أقل، فتكون دلالته اقوى؛ لبعد المدلول عن عدم الإرادة؛ لبعد التخصيص عنه. قوله: " وثانيها: تأكيد ألفاظ العدد؛ كقوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196]: عليه سؤالان: أحدهما: أن اسماء العدد نصوص، لا تحتمل المجاز، وما لا يحتمل المجاز تعذر تأكيده؛ لأن التأكيد هو إبعاد المجاز عن اللفظ.

وثانيهما: سلمنا قبولها للتأكيد؛ لكن لا نسلم أن قوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196] تأكيد؛ لأن معناه (كاملة الأجر) لما يتخيل أن تأخير السبعة إلى غير الأيام التي فسدت فيها العبادة، أو وجد سبب الصوم فيها، أو عن المواضع المفضلة يوجب التنقيص فيها؛ فقال الله: {تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196] أي: في الثواب، فلا تأكيد، بل هي لمعنى جديد. قوله: " التأكيد يقويه ما كان حاصلا، فلو كان الاشتراك هو الحاصل، لقوى الاشتراك ". قلنا: التأكيد يقويه ما كان حاصلا، من غير اعتقاد السامع في مراد المتكلم من اللفظ من المسميات، والاشتراك ليس من المسميات، ولا يخطر للسامع أن المتكلم أراده ألبتة؛ لانه لسنة عرضت وقت الوضع، وتحقق ذلك، وبقيت الإرادات تتعاقب على المسميات وعوارضها تقوي الاشتراك وهو كلام حائد عن سنن التأكيد، وموجب اللغة فيه. قوله: " أسماء العدد صريحة، وقد تطرق الاستثناء إليها ". قلنا: الاستثناء حيث وقع معارض لدلالة اللفظ المستثنى منه؛ لأنه يبطل بعض مقتضاه، ولا يلزم من تسليم قيام المعارض في صورة تسليم قيامه في صورة أخرى، فالخصم يقول: لا عموم في الصيغة، فلا معارضة بين صيغة العموم والاستثناء، وهو أرجح من مذهبكم المستلزم لحصول المعارضة بينهما. قوله: " الفرق بين قولنا: " أكرمت كل من في الدار إلا زيدا " وبين " أكرمت زيدا أو عمرا إلا زيدا " أن زيدا في الأول: جزء، وفي الثاني: ليس جزءا ". تقريره: أن الاستثناء لا يجوز أن يخرج كل ملفوظ، بل لا بد أن يبقى منه، فإذا قال: " أكرمت كل من في الدار إلا زيدا " خرج بعض مدلول (كل) وبقى بعضه.

وإذا قال: " اكرمت زيدا وعمرا " فهو قد نطق بلفظين: لفظ زيد، ولفظ عمرو، وقد أخرج جملة مدلول عمرو، ولم يترك منه شيئا، واستثناء جملة مدلول اللفظ لا يجوز، ويكون ذلك نقضا؛ لأن اللفظ الدال على إكرام عمرو وحده، ليس مدلوله حاصلا، وهو إكرام عمرو؛ لإبطال ذلك بلفظ إلا. قوله: " شرط إرادة (من) للعموم عدم لفظ البعض، فإذا قال: " بعض من في الدار " لم يكن شرط إرادتها للعموم حاصلا؛ فلا يكون نقضا ". قلنا: لو صح ما ذكرتموه، لما أمكن أن يكون في العالم شيء معارض لشيء في دلالته ألبتة؛ لأنه يمكننا أن نقول، كما قلتم: شرط إفادة الدليل لذلك عدم معارضة، فغذا وجد المعارض، انتفت دلالته، فليس بدليل في تلك الصورة، والأصل انتفاء الشرط؛ فلا معارضة حينئذ، ومعلوم أن هذا باطل قطعا، والمعارضة حاصلة في أمور لا تعد ولا تحصى؛ فدل ذلك على بطلان هذه النكتة. قوله: " ذلك ليس جمعا، بل لإشباع الحركة ". تقريره: أن العرب تقول لمن قال: " جاءني رجل ": منو، و " رأيت رجلا " منا، و " مرتت برجل ": منى؟ فيظهر إعراب كلامك فيما سأل به عن كلامك؛ ليشعرك أنه إنما استفهم عن كلامك، فإن المستفهم قد يكره سماع الكلام جمله؛ فيشتغل بالسؤال عن غيره؛ ليحرص في غير ما سمعه من المتكلم، كما يقول القائل: السلطان يقصد أن يتجسس الليلة، ويخرج في السوق، فتكره أنت أن يخوض في أمر الملوك؛ لئلا يصل إليك بسبب ذلك شر؛ فتقول مستفهما: كيف بيع الدقيق اليوم؟ فلما كان الاستفهام قد يرد لغير الكلام المسموع، أظهرت العرب إعراب كلامها؛ لتشعرك أنها لم

تخض في كلامك، فلما كانت تقول: منو في الفرد، قالت: منون في الجمع (فظهر) أن الكلمة حل فيها شذوذان: أحدهما: أن العرب عادتها ألا تستعمل هذه الكلام في الوصل، والشاعر استعمله في الوصل. الثاني: أن الشاعر أوقع بعدها المضمر. قال الجزولي في كتابه: والمضمر لا يحكي اتفاقا. قال التبريزي: يبعد تسليم أنه جمع لوجهين: أحدهما: أنه يصلح للواحد فيجمع على نية إرادة الواحد. ثانيهما: أنه جمع لنفس الكلمة وكما قال امرؤ القيس (الطويل): قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ......................

على ما اختاره المازري، وكأنه أراد أن يقول مفصلا من أنت، فجمعها: منون. قلت: قوله: " على نية إرادة الوحدة " يؤيده ما نقلت قبل هذا عن ابن جني في (الخصائص) أنه سمع من العرب أكرم من منا، أي: رجلا رجلا، وهو شاذ. وأما تثنية نفس اللفظ، قال الأدباء: أصله في لسان العرب: أن غالب اسفارهم ثلاثة، فيكون إبداء خطاب أحدهم لرفيقه بلفظ التثنية: افعلا، اصنعا، ولما كان ذلك يكثر في مخاطباتهم في الأشعار، غلب على ألسنتهم، وينطقون به في غير الشعر، فيقول الواحد للواحد: افعلا، وصار ذلك عربيا. قال المفسرون: ورد ذلك في الكتاب العزيز في قوله تعالى: {ألقيا في جهنم} [سورة ق: 24] وعن الحجاج: يا خرشي، اضربا عنقه. وقيل: الألف في معنى إعادة الجملة مرتين. تقديره: قف قف، وألق ألق، واضرب اضرب؛ فعلى هذا يكون من باب التأكيد، لا من المنقول لأجل العادة. (تنبيه) زاد التبريزي؛ فقال في الجواب عن الأول: إن العلم الضروري حاصل بوضع الصيغة للعموم بعد استقراء اللغات، فأما إذا راجعنا أنفسنا، لا نجد

في الألفاظ المشهورة؛ كألفاظ العدد ونحوها، إسنادا متواترا، وما له وجود ضرورة لا يفسد بلفظة أخرى، بل يقال: هو مشهور. وعلى تقدير التفسير: غايته ان يقرأ على شيخ أو غيره، ولا ينتهي إلى التواتر، ثم من لم يعان مسطورا، ولا يلقن درسا إلى أن يعاني ما يعاني لا شك أنه عالم بكثير من اللغات لضرورة معاشه، ولا طريق له إلى التفهم من مجازي الإطلاق، وبه يبطل حصرهم، وهذا يقتضي رفع الشك عن المسألة، ولكن كثرة الاستعمال في غير الموضع كذب يثني الوضع؛ فضعفت الثقة به؛ فقال الأصوليون في مقام طلب القطع: هذا مجمل، أي: في الإرادة، فيجب التوقف فيه؛ لقرب احتمال إرادة غير الأصل؛ لانتفاء أصل الدلالة، فسطر ذلك مذهبا. وإليه أشار الأشعري رئيس الواقفية في كتبه. قلت: ومعنى قوله: " وإلى أن يعاني من يعاني " أي: العامي ما عانى من عانى، أي: ما صحب من اشتغل بالعلم وعاناه. وقوله: " عن الأشعري " يقتضي أنه إنما توقف في الحمل دون الوضع، وأنه جازم بالوضع للعموم وغيره ينقل أن التوقف في الوضع، أو في الحمل؛ لأجل الاشتراك لا في الحمل؛ لأجل غلبة المجاز؛ كما قال. ***

المسألة الخامسة قال الرازي: لا خلاف في ان الجمع المعرف بلام الجنس ينصرف إلى المعهود، لو كان هناك معهود، أما إذا لم يكن، فهو للاستغراق؛ خلافنا للواقفية وأبي هاشم. لنا وجوه: الأول: أن الأنصار، لما طلبوا الإمامة، احتج عليهم أبو بكر رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: " الأئمة من قريش " والأنصار سلموا تلك الحجة، ولو لم يدل الجمع المعرف بلام الجنس على الاستغراق، لما صحت تلك الدلالة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: " الأئة من قريش " لو كان معناه " بعض الأئمة من قريش " لوجب ألا ينافي وجود إمام من قوم آخرين، أما كون كل الأئمة من قريش، فينافي كون بعض الأئمة من غيرهم. وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأبي بكر رضي الله عنه لما هم بقتال مانعي الزكاة " أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس؛ حتى يقولوا: لا إله إلا الله " احتج عليهم بعموم اللفظ، ثم لم يقل أبو بكر، ولا أ؛ د من الصحابة رضي الله عنهم: إن اللفظ لا يفيده " بل عدل إلى الاستثناء؛ فقال: أليس أنه عليه السلام قال: " إلا بحقها؟ وإن الزكاة من حقها ". الثاني: أن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق؛ فوجب أن يفيد في أصله الاستغراق.

أما أنه يؤكد؛ فقوله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} [الحجر: 30] وأما أنه بعد التأكيد، يقتضي الاستغراق؛ فبالإجماع. وأما أنه، متى كان كذلك، وجب أن يكون المؤكد في أصله للاستغراق؛ فلأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد؛ إجماعا، والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتا في الأصل، فلو لم يكن الاستغراق حاصلا في الأصل، وإنما حصل بهذه الألفاظ؛ ابتداء، لم يكن تأثير هذه الألفاظ في تقوية هذا الحكم الأصلي؛ بل في إعطاء حكم جديد؛ فكانت مبينة للمجمل، لا مؤكدة. وحيث أجمعوا على أنها مؤكدة، علمنا أن اقتضاء الاستغراق كان حاصلا في الأصل. فإن قيل: هذا الاستدلال على خلاف النص؛ لأن سيبويه نص على أن جمع السلامة للقلة، وما يكون للقلة لا يكون للاستغراق. ثم ينتقض بجمع القلة؛ فإنه يجوز تأكيده بهذه المؤكدات، وأيضا: فعند الكوفين: يجوز تأكيد النكرات؛ كقوله (الرجز): " قد صرت البكرة يوما أجمعا " والنكرة لا تفيد الاستغراق. والجواب: أنه لابد من التوفيق بين نص سيبويه، وبين ما ذكرناه من الدليل، فنصرف قول سيبويه، إلى جمع السلامة، إذا كان منكرا، وما ذكرنا من الدليل، إلى المعرف، ونمنع جواز تأكيد جمع القلة، وكذا تأكيد النكرات؛ على قول البصريين.

الثالث: الألف واللام، إذا دخلا في الاسم، صار معرفة؛ كذا نقل عن أهل اللغة، فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة، وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بالصرف إلى الكل؛ لأنه علوم للمخاطب، فأما الصرف إلى ما دونه، فإنه لا يفيد المعرفة؛ لأن بعض الجموع ليس أولى من بعض؛ فكان مجهولا. فإن قلت: إذا أفاد جمعا من هذا الجنس، فقد أفاد تعريف ذلك الجنس: قلت: هذه الفائدة كانت حاصلة بدون الألف واللام؛ لأنه لو قال: " رأيت رجالا " أفاد تعريف ذلك الجنس، وتمييزه عن غيره؛ فدل أن للألف واللام فائدة زائدة؛ وما هي إلا الاستغراق. الرابع: أنه يصح استثناء أي واحد كان منه، وذلك يفيد العموم؛ على ما تقدم. الخامس: الجمع المعرف في اقتضاء الكثرة، فوق المنكر؛ لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف، ولا ينعكس؛ فإنه يجوز أن يقال: " رجال من الرجال " ولا يجوز أن يقال: " الرجال من رجال " ومعلوم بالضرورة أن المنتزع منه أكثر من المنتزع. وإذا ثبت هذا، فنقول: المفهوم من الجمع المعرف: إما الكل، أو ما دونه: والثاني باطل؛ لأنه ما من عدد دون الكل إلا ويصح انتزاعة من الجمع المعرف، وقد عرفت أن المنتزع منه أكثر، ولما بطل ذلك، ثبت أنه للكل، والله أعلم. احتجوا بأمور: أولها: لو كانت هذه الصيغة للاستغراق، لكانت، إذا استعملت في العهد، لزم إما الاشتراك، وإما المجاز: وهما على خلاف الأصل؛ فوجب ألا يفيد الاستغراق ألبتة.

شرح القرافي: قال الغزالي في (المستصفى): قال الجمهور: لا فرق بين " اضربوا الرجال، واضربوا رجالا

وثانيها: ولكان قولنا: " رأيت كل الناس، أو بعض الناس " خطأ؛ لأن الأول تكرير، والثاني نقض. وثالثها: يقال: جمع الأمير الصاغة " مع أنه ما جمع الكل، والأصل في الكلام الحقيقة؛ فهذه الألفاظ حقيقة فيما دون الاستغراق؛ فوجب ألا تكون حقيقة في الاستغراق؛ دفعا للاشتراك. والجواب عن الأول: أن الألف واللام للتعريف؛ فينصرف إلى ما السامع به أعرف، فإن كان هناك عهد، فالسامع به أعرف؛ فانصرف إليه، وإن لم يكن هناك عهد، كان السامع أعرف بالكل من البعض؛ لأن الكل واحد، والبعض كثير مختلف، فانصرف إلى الكل. وأيضا: لا يبعد أن يقال: إذا أريد به العهد، كان مجازا، إلا أنه لا يحمل عليه إلا بقرينة؛ وهي العهد بين المتخاطبين، وهذا أمارة المجاز. وعن الثاني: أن دخول لفظتي (الكل) و (البعض) لا يكون تكريرا، ولا نقضا؛ بل يكون تأكدا، أو تخصيصا. وعن الثالث: أن ذلك تخصيص بالعرف؛ كما في قوله: " من دخل داري، اكرمته " فإنه لا يتناول الملائكة، واللصوص، والله أعلم. المسألة الخامسة الجمع المعرف باللام قال القرافي: قال الغزالي في (المستصفى): قال الجمهور: لا فرق بين " اضربوا الرجال، واضربوا رجالا، واقتلوا المشركين، واقتلوا مشركين " وإليه ذهب الجبائي.

(سؤال) الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي

وقال قوم: المنكر لأقل الجمع. قال: وهو الأظهر. قلت: وهذا الذي نقله عن الجمهور لم أره لغيره، وظاهر (المحصول) وغيره يأباه، فإن الجمهور على الفرق بينهما. قوله: " ينصرف إلى المعهود، إذا كان هناك معهود ". تقريره: أنك إذا قلت: " جاءني الرجال " ومرادك قوم فقد تقدم العلم بهم. قوله: " لو لم يكن للعموم، لما استقام استدلال الصديق رضي الله عنه؛ لأن كون بعض الأئمة من قريش لا ينافي كون البعض من غيرهم ". قلنا: هاهنا مزاحم آخر، وهو أن المبتدأ يجب انحصاره في الخبر؛ فانحصرت الأئمة في قريش، لا لأجل العموم. وقولكم: " إذا كان بعضهم ممن قريش فلا ينافي، كون بعضهم من غيرهم ". قلنا: هاهنا تفسير آخر لا البعض ولا الكل، بل الحقيقة من حيث هي هي؛ وتكون محصورة في هذا الخبر، فيحصل مقصود الصديق دون مقصودكم، ومع هذا المزاحم، لا يتأتى لكم الاستدلال بهذه الصورة على العموم. قوله: " إلا بحقها، والزكاة من حقها ". (سؤال) الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، فقوله: " إلا بحقها " يقتضي أن حقها سبب عدم العصمة؛ لأنه استثناء من إثبات، وهذا كلام غير مفهوم ابتداء؛ فما معناه؟ جوابه: أنه لابد من مضاف محذوف في أحد موضعين، فإن الضمير في قوله: (بحقها) متردد بين أن يعود على الكلمة؛ فيكون مثل الضمير في

(قالوها) وبين أن يعود على الدماء والأموال، فإن أعدناه على الكلمة، قدرنا المضاف المحذوف. قيل: الحق تقديره: عصموا منى دماءهم إلا بتضييع حقها، أي: يضيع حق الكلمة؛ لأن لها حقوقا؛ كالزكاة، والصلاة، وجميع حقوق الإسلام؛ فإذا ضيعوها، استحقوا القتل والقتال، ويتم الاستثناء. وإن اعدنا الضمير على الدماء والأموال، قدرنا المحذوف بعض الحق. وقيل: الضمير تقديره: إلا بحق استباحتها، أي: بالسبب الحق الذي تكون الاستباحة به حقا، وتقديرنا: (استباحتها) أولى من تقديرنا (إراقتها) لأن الإراقة تخص الدماء، والاستباحة تعم الدنيا والأموال، وعلى كل تقدير يستقيم معنى الحديث، وبدون هذا لا يستقيم. قوله: " بعد التأكيد يفيد الاستغراق إجماعا ". قلنا: لا نسلم؛ بل الخصم ينازع في صيغ التأكيد؛ أنها تفيد العموم، كما ينازع في المؤكد، وليس عنده صيغة للعموم أصلا؛ والتأكيد عنده كالتأكيد عند الكوفيين في النكرات؛ لا يخرجها عن كونها نكرات. وإن سلم الإجماع، لا يحصل مقصودكم؛ فإن الخصم إذا ساعد أنها بعد تفيد الاستغراق، وقبله لا تفيده، يكون لفظ التأكيد عنده منشأ العموم لا تأكيدا؛ وحينئذ يبطل اعتمادكم على كونه تأكيدا. وقد قال إمام الحرمين في (البرهان): " وما زل فيه الناقلون عن الأشعري ومتبعيه: أن صيغة العموم مع القرائن تبقى مترددة، وهذا إن صح، فيحمل على توابع العموم؛ كالصيغ المؤكده؛ نحو: أجمعين، أكتعين.

أما غيرها، فلا، فقد صرح بأن صيغ التأكيد يمكن أن يقال: إنها مترددة بين الخصوص والعموم. قوله: " نمنع تأكيد جمع القلة ". قلنا: إن أوردوا جمع القلتة معرفا، لا نمنعه؛ لأنه إذا عرف للعموم فإنما يكون للقلة إذا كانت نكرة، وإن أوردوا تأكيده نكرة، منعنا على رأي البصريين، وجوازه على رأي الكوفيين لا يرد علينا؛ فإن شرط النقض أن يكون متفقا عليه، وهذا ليس متفقا عليه؛ فلا يرد. قوله: " اللام لا بد لها من فائدة؛ لأنها للتعريف، والجنس معرف بالاسم النكرة قبل اللام؛ فيتعين الاستغراق أنه هو الذي عرفته اللام ". قلنا: اللام تكون لاستغراق الجنس: كقوله تعالى: " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " [النساء: 145] وللمعهود من الجنس: كقوله تعالى: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولا، فعصى فرعون الرسول} [المزمل: 15] إلى المعهود ذكره الآن، ولبيان حقيقة الجنس: كقول السيد لعبده: " اشتر الخبز واللحم " لا يريد استغراق كل فرق، ولا معهود بينهم؛ فتتعين الحقيقة، وللموازنة في الكلام:، نحو " رأيت هذا الرجل " وللتسوية بين النعت والمنعوت في أصل التعريف والكمال: كالواردة في صفات الله تعالى كقوله تعالى: {الرحمن الرحيم} [الحشر: 22]، و {الملك القدوس السلام} [الحشر: 23] أي: الكامل في كل معنى من هذه المعاني، وللتعيين كقولهم: دل الدليل على ثبوت الحكم في صورة النزاع؛ فإنه من المحال أن يريد الاستغراق؛ لأن كل دليل لا يدل على صورة النزاع، ولا العهد؛ لأنه لا معهود بيننا، ولا حقيقة الجنس؛ لأن القدر المشترك بين جميع الأدلة لا يدل على ثبوت الحكم في صورة النزاع، بل مطلق الدليل لا يدل على شيء، بل لكل مطلوب معين، ولا للموازنة؛ لعدم المنعوت،

وليس هذا موضع الكمال؛ لأنه ليس مقصود المستدل أن دليل المسألة أكمل دليل في العالم ، وهذا السؤال يوردونه في الخلافيات؛ فنبهت المستدل، إذا قيل له: ما مرادك بهذه اللام؟ وأجابوا عنه بأنها في الدليل للتزيين، أي: حلية على اللفظ المذكور؛ كحلي الذهب على الحيوان وغيره، وذكر أنها للتزيين صاحب (التنقيحات) وذكر أكثر الأقسام، وذكر السؤال على قولنا: دل الدليل ما معن اللام فيه؟ وتكون زائدة؛ كقول الشاعر (الطويل): تقول الخنا وأبغض العجم ناطقا ... إلى ربنا صوت الحمار اليجدع فزاد الألف واللام في الفعل المضارع للوزن، وإا كانت ترد هذه المواطن التسعة؛ فلم قلتم: إنها إذا لم تفد تعريف الماهية أو المعهود، يتعين الاستغراق؟ جوابه: أن ما عدا العهد وحقيقة الجنس قليل في اللغة، إلا في نعت المبهم، وليس هو هاهنا، وليس الغالب إلا الثلاثة الأول. قوله: " يصح استثناء كل واحد منه ". قلنا: قد تقدم أن الاستثناء أربعة أقسام: ما لولاه لعلم دخوله، وما لولاه لظن دخوله، وما لولاه لجاز دخوله، وما لولاه لامتنع دخوله.

والاستثناء في هذا الموضع مما يجوز دخوله، ولا يخرجه ذلك عن كونه لأقل الجمع. قوله: " يصح انتزاع المنكر من المعرف، فيكون المعرف أكثر؛ فيكون للعموم؛ لأن ما دون العموم، العموم أكثر منه. قلنا: جاز أن تكون الصيغة مشتركة بين العموم والخصوص؛ كما قاله جماعة من الواقفية، وتكون قرينة الانتزاع دليل إرادة العموم في المنتزع منه، والكل عند عدم القرينة، هل يحمل على العموم أم لا؟ ولا نزاع عند الواقفية في احلمل على العموم عند القرينة، إنما النزاع عند عدمها، ثم إنا نقول: صحة الانتزاع يتوقف على صحة إيراد الكلية، فالصحة متوقفة على الصحة، لا على الوقوع؛ كما تقول: إنه يصح الاستثناء من المطلقات؛ بناء على محالها، وأزمنتها، وبقاعها، وأحوالها؛ لأنها يمكن إرادتها، والتعيين منها، فذلك هاهنا. قوله في الأمثلة: " لو كانت للعموم، لزم المحال في استعماله في العهد ". قلنا: المجاز أو الاشتراك لازم على تقدير كونها للعموم أو ليست للعموم؛ لأنها لم لو تكن للعموم، لزم الاشتراك أو المجاز، إذا استعملت في العموم، واللازم على النقيض لا يجبر زمنه؛ لتعذر الاحتراز منه. قوله: " يكون الكل والبعض داخلا عليه خطأ ". قلنا: لا يكون خطأ، بل الكل تأكيد، والبعض تخصيص، والعام قابل لهما لغة، وما هو قابل لهما لغة لا يكون خطأ. فإن قلت: " هما على خلاف الأصل ". قلت: والمجاز والاشتراك على خلاف الأصل، فلو لم تكن للعموم،

واستعملت في العموم، لزم المجاز والاشتراك، غير أن المجاز على تقدير كونها للعموم أحسن، وأقل مخالفة للأصل؛ لان الكلية مستلزمة للجزئية؛ بخلاف العكس. وإذا حصلت الملازمة، كان المجاز أرجح من صورة عدم الملازمة، ثم التكرير لازم للقول بالخصوص، إذا ذكر البعض. قوله: " اللام للتعريف، فتصرف إلى ما السامع به أعرف ". قلنا: فعلى هذا؛ يبطل مقصودكم في أصل المسألة؛ لأن مقصود المسألة: أن تكون اللام للعموم عينا في اللغة، ولا تنصرف لغيره إلا بقرينة. فإذا سلمتم أنها للقدر العام، وهو ما السامع أعرف به، بطل خصوص العموم، بل ينبغي أن تقولوا: هي حقيقة في العموم. والعهد إنما يصار إليه لقرينة، وهو أولى من العكس؛ لوجود الاستلزام بين الكلية والجزئية. أما البعض الذي هو الجزئية، فلا يستلزم الكلية؛ فكان مجازا أولى. قوله: " ودخول الكل والبعض لا يكون تكريرا، ولا نقضا؛ بل تأكيدا أو تخصيصا ". قلنا: والتأكيد تكرير؛ فلا معنى يمنع التكرير، والتخصيص نقض؛ لأن العام المخصوص وجد حينئذ بدون مدلوله الذي هو العموم؛ لأجل الخصوص، ولا معنى للنقض إلا وجود الدليل بدون المدلول، والحد بدون المحدود، والعلة بدون المعلول. فالتخصيص نقض على الدليل بالضرورة؛ لأن الألفاظ اللغوية أدلة على مسمياتها.

(سؤال) اللام تقتضي استغراق ما دخلت عليه، فإن دخلت على الإنسان، عمت أفراده

(سؤال) اللام تقتضي استغراق ما دخلت عليه، فإن دخلت على الإنسان، عمت أفراده، أو البيع، عمت أفراده، وكذلك جميع ما دخلت عليه. ومقتضى هذه القاعدة: أنها إذا دخلت على التثنية، عمت أفرادها من التثنيات، او على الجمع، عمت أفراد المجموع. وعلى هذا التقدير؛ يتعذر الاستدلال بصيغة العموم في النهي والنفي بعد تسليم كونها للعموم؛ بسبب أن النص ينافي معناه في قوله عليه السلام: " لا تقتلوا الصبيان ". أي: لا تقتلوا أفراد الجموع. فمن قتل صبيا واحدا، لم يقتل جمعا. فيتعذر الاستدلال به على تحريم قتل الفرد، وكذلك كل نص ورد بصيغة الجمع، أو التثنية؛ وذلك خلاف إجماع القائلين بالعموم. جوابه: أن العرب وضعت اللام، وجميع صيغ العموم؛ لاستغراق أفراد ما دخلت عليه كل فرد فرد؛ لكانت في المفردات، أو التثنيات، أو الجموع، ولا يعتبر في ذلك أفراد الجموع، ولا أفراد التثنيات، فتأمل هذا السؤال؛ فهو مفيد

(تنبيه) زاد سراج الدين؛ فقال عند قوله: اللام للتعريف، وليس للعهد؛ فيتعين الاستغراق

(تنبيه) زاد سراج الدين؛ فقال عند قوله: اللام للتعريف، وليس للعهد؛ فيتعين الاستغراق، فقال: يكون لتعيين الجمع المشترك بين كل جمع؛ كما أنها في المفرد؛ لتعيين الماهية المشتركة بين كل فرد. قلت: وكلامه غير متجه؛ لأن الجمع يتعين بصيغة الجمع المنكر قبل دخولها عليه، ولأنها لو كانت لتعيين الجمع، لتعذر الاستدلال بها في النفي والنهي؛ كما تقدم. وقوله: " هي في المفرد لتعيين الماهية ": لا يتجه أيضا؛ لأن الماهية معروفة باسم الجنس النكرة قبل دخولها عليه. وقال تاج الدين " والمنتخب: اللام تنصرف للعموم عند عدم العهد " وهو كلام يشعر بأن الأصل العهد، وإنما يعدل إليه ند عدم العهد، كما تقول: يصار للتيمم، عند عدم الماء، ولصلاة الظهر، عند تعذر الجمعة، وليس ذلك مراده؛ بل هو مثل قولنا: ويحمل الكلام على حقيقته، إذا تعذرت القرينة الصارفة للمجاز، وعلى عدم الإضمار، إذا عدم الدال عليه، ويرث الابن، عند عدم القضاء بتوريثه؛ لأجل كفره، وهذه المسائل كلها فروع، والأصل الحقيقة دون المجاز، وجميع ما ذكره معه، فتأمل كلام المختصرين، ولا يوهمك خلاف المراد. ***

المسألة السادسة قال الرازي: الجمع المضاف؛ كقولنا: " عبيد زيد " للاستغراق

المسألة السادسة قال الرازي: الجمع المضاف؛ كقولنا: " عبيد زيد " للاستغراق؛ والدليل عليه ما تقدم. وأما الكناية؛ فكقوله: " فعلوا " فإنه يقتضي مكنيا عنه، والمكنى عنه قد يكون للاستغراق، وقد لا يكون كذلك؛ فالكناية عنه أيضا تكون كذلك. المسألة السادسة قال القرافي: الجمع المضاف؛ كقولنا " عبيد زيد ". قلت: الإضافة تقتضي العموم، كان المضاف إليه جمعا، أو مفردا. قال موفق الدين في (الروضة): تقتضي الإضافة العموم، كان المضاف مفردا أو جمعا، جامدا أو مشتقا؛ كما في قوله عليه السلام: " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته " يعم جميع أفراد ماء البحر وميتاته. احتج سيف الدين بقوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] استدلت فاطمة على الصديق رضي الله عنهما بعمومه، ولم ينكر عليها عمومه. وبقوله تعالى لنوح عليه السلام: {وأهلك} [هود: 40] فحمله نوح عليه السلام على العموم؛ فقال: {إن ابني من أهلي} ولم ينكر الله تعالى عليه أنه من أهله؛ بل قال: {إنه ليس من أهلك}.

(تنبيه) المفردات قسمان

(تنبيه) المفردات قسمان: منها: ما يصدق المفرد منها على الكثير؛ نحو ماء، ومال، ولحم، وذهب، وفضة؛ فالكثير، وإن عظم، يقال له ذلك. ومنها: ما لا يصدق؛ كرجل، وردهم، ودينار؛ فلا يقال للجمع الكثير من الرجال: رجل، ولا للداراهم: درهم؛ وهو كثير في المفردات، والقسم الأول كثير أيضا، وقد نص العلماء على أن الإضافة توجب العموم، فهل يختص ذلك بما يصدق على الكثير؛ نحو: مالي صدقة؛ لأنه لما قبل صدقة على الكثير، قبل على العموم، وما لا يقبل الكثرة، لا يقبل العموم درهم زائف، فإنا ندرك الفرق بين قولنا: ماله حرام، وبين قولنا: درهمه حرام، وأن الأول للعموم، دون الثاني. وكذلك إذا قال: " عبدي حر " لا يفهم العموم، وإذا قال: " عبيدي أحرار " يفهم العموم من الجمع، ولا نفهمه من المفرد، وفي القسم الأول: نفهمه منهما، فإذا قال: " مالي صدقة " عم، كما إذا قال: " أموالي صدقة " وتأمل هذا الموضع، فلم أر لأحد فيه شيئا، وباعتباره تتجه منوع، في بعض الصيغ والأسئلة كثيرة، وكذلك أيضا لا نفهم العموم من إضافة التثنية في شيء من الصور، كان المفرد يعم أو لا؟ فإذا قال: " عبداي حران " إنما يتناول عبدين؛ كما إذا قال: " مالاي " لا يعم أمواله، فالمفهوم سواء عن العموم في التثنية وهو خلاف الجمع في اكل والمفرد على التفصيل. قوله: " الكناية تقتضي مكنيا عنه، وقد يكون للاستغراق، وقد لا يكون ".

تقريره: أنه يريد بالكناية الضمائر، والضمائر تابعة لما تعود عليه، فإن كان ظاهره عاما، فالضمير عام؛ كقولك: " المشركون يقتلون، وأمر الله بقتلهم " وإن كان الظاهر ليس عاما، لم يكن الضمير عاما؛ كقولك: " زيد وعمرو وخالد يخرجون، وأمر الله تعالى بإكرامهم " فإن هذا الضمير لا يتعدى الثلاثة التي هي ظاهره؛ فلا يقال في الضمير: " لا عام " ولا " ليس عاما " بل يقبل الأمرين بحسب ظاهره. ***

المسألة السابعة قال الرازي: إذا أمر جمعا بصيغة الجمع، أفاد الاستغراق فيهم

المسألة السابعة قال الرازي: إذا أمر جمعا بصيغة الجمع، أفاد الاستغراق فيهم؛ والدليل عليه: أن السيد، إذا أشار إلى جماعة من غلمانه بقوله: " قوموا " فليس يتخلف عن القيام أحد، إلا استحق الذم؛ وذلك يدل على أن اللفظ للشمول، ولا يجوز أن يضاف ذلك إلى القرينة؛ لأن تلك القرينة، إن كانت من لوازم هذه الصيغة، فقد حصل مرادنا، وإلا فلنفرض هذه الصيغة مجردة عنها، ويعود الكلام، والله أعلم. المسألة السابعة قال القرافي: أمر الجمع بصيغة الجمع، يقتضي العموم فيهم. أصلح التبريزي هذه الفهرسة؛ فقال: " الخطاب مشافهة بصيغة الجمع ". والحاصل أن الضمير في " قوموا " ونحوه من ضمائر الخطاب، هل يقتضي العموم؟ قلت: وهذه المسألة يتعين فيها التفصيل: فإن كان المخاطب المتكلم متحيزا مختصا بجهة، اختص الخطاب لمن في جهته، ويكون عاما فيهم، وهو مراد المصنف، وإن كان المتكلم هو الله تعالى المنزه عن الجهات، عم الخلائق الصالحة لذلك الخطاب كلهم؛ لأنه تعالى لما لم يكن في جهة، كانت نسبة الجهات كلها إليه نسبة واحدة، فلم يختص الحكم ببعض الجهات؛ بخلاف المخلوق، لما اختص بجهة وحيز، اختص خطابه بأهل جهته وحيزه. وكذلك النداء يختص في حق المخلوق لمن يصلح لذلك النداء؛ فقول الله تعالى: {يأيها الناس} [البقرة: 21] يعم الناس في جميع الأرض،

وقول أحد الناس: " يأيها الناس " إنما يتناول من يمكنه سماع ندائه؛ لقربه من جهته، ولا يتعدى لغيره إلا بدليل؛ فإن العرب لم تضع النداء لطلب من لم يسمع، وإنما وضعته لطلب السامع، بل اللغات كلها ما وضعت في مطالبها إلا الممكنات العادية، دون الممتنع عادة؛ فتأمل هذه الفروق؛ فهي متعينة وليس منه. ***

الشطر الثاني من هذا القسم فيما ألحق بالعموم، وليس منه

الشطر الثاني من هذا القسم فيما ألحق بالعموم، وليس منه قال الرازي: المسألة الأولى: الواحد المعرف بلام الجنس لا يفيد العموم؛ خلافا للجبائي، والفقهاء، والمبرد. لنا وجوه: الأول: أن الرجل، إذا قال: " لبست الثوب، وشربت الماء " لا يتبادر إلى الفهم الاستغراق. الثاني: لا يجوز تأكيده بما يؤكد به الجمع؛ فلا يقال: " جاءني الرجل كلهم أجمعون ". الثالث: لا ينعت بنعوت الجمع؛ فلا يقال: " جاءني الرجال القصار، وتكلم الفقيه الفضلاء ". فأما ما يروى من قوله: " أهلك الناس الدرهم البيض، والدينار الصفر " فمجاز؛ بدليل أنه لا يطرد، وأيضا: فالدينار الصفر، إن كان حقيقة، فالدينار الأصفر مجاز، كما أن الدنانير الصفر، لما كانت حقيقة، كان الدينار الأصفر، إما خطأ، أو مجازا. الرابع: البيع جزء من مفهوم هذا ابيع، وإحلال هذا البيع يتضمن إحلال البيع، فلو كان لفظ البيع مقتضيا للعموم، لزم من إحلال هذا البيع إحلال كل البيع ومعلوم أن ذلك باطل.

فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: اللفظ المطلق، إنما يفيد العموم، بشرط العراء عن لفظ التعيين، أو يقال: اللفظ المطلق، وإن اقتضى العموم، إلا أن لفظ التعيين يقتضي خصوصه. قلت: أما الأول: فباطل؛ لأن العدم لا مدخل له في التأثير، وأما الثاني: فلأنه يقتضي التعارض؛ وهو خلاف الأصل. الخامس: هو أنا قد بينا: أن الماهية غير، ووحدتها غير، وكثرتها غير، والاسم المعرف لا يفيد إلا الماهية، وتلك الماهية تتحقق عند وجود فرد من أفرادها؛ لأن هذا الإنسان مشتمل على الإنسان مع قيد كونه هذا؛ فالآتي بهذا الإنسان آت بالإنسان. فالإتيان بالفرد الواحد من تلك الماهية يكفي في العمل بذلك النص. فظهر أن هذا اللفظ لا دلالة له على العموم ألبتة: احتجوا بوجوه: أحدها: أنه يجوز أن يستثنى منه الآحاد، التي تصلح أن تدخل تحته؛ لقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا} [العصر: 2] والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه؛ وذلك يدل على كون هذا اللفظ عاما. وثانيها: أن الألف واللام للتعريف، وليس ذلك لتعريف الماهية؛ فإن ذلك قد حصل بأصل الاسم ولا لتعريف واحد بعينه؛ فإنه ليس في اللفظ دلالة عليه، اللهم إلا عند المعهود السابق، وكلامنا فيما إذا لم يوجد ذلك ولا لتعريف

بعض مراتب الخصوص؛ فإنه ليس بعض تلك المراتب أولى من بعض؛ فلابد من الصرف إلى الكل. وثالثها: أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية؛ فقوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275] مشعر بأنه إنما صار حلالا؛ لكونه بيعا؛ وذلك يقتضي أن يعم الحكم؛ لعموم العلة. ورابعها: أنه يؤكد بما يؤكد به العموم؛ كقوله: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل} [آل عمران: 93] وذلك يدل على أنه للعموم. وخامسها: أنه ينعت بما ينعت به العموم؛ كقوله تعالى: {والنخل باسقات} [سورة ق: 10] وكقوله: {أو الطفل الذين} [النور: 31] وكل ذلك يدل على أنه للعموم. والجواب عن الأول: أن ذلك الاستثناء مجاز؛ بدليل أنه يقبح أن يقال: " رأيت الإنسان إلا المؤمنين " ولو كان حقيقة، لاطرد، ويمكن أن يقال: إن الخسران، لما لزم كل الناس، إلا المؤمنين، جاز هذا الاستثناء. وعن الثاني: أن لام الجنس تفيد تعيين الماهية، لا تعيين الكلية، وقد عرفت أن نفس الماهية لا تقتضي الكلية. وعن الثالث: أن ذلك اعتبار مغاير للتمسك بنفس اللفظ، ونحن لا ننكر ذلك، والله أعلم.

شرح القرافي: المسألة الأولى: الواحد المعرف بلام الجنس لا يفيد العموم

الشطر الثاني من هذا القسم: فيما ألحق بالعموم وليس منه قال القرافي: المسألة الأولى: الواحد المعرف بلام الجنس لا يفيد العموم. قال الغزالي في (المستصفى): المختار في هذه المسألة التفصيل: فما يتميز الواحد عن جنسه بتاء التأنيث؛ كتمرة وتمر، وبرة وبر، يعم؛ كقوله عليه السلام: " لا تبيعوا البر " وما لا يتميز بالتاء، إن كان يتمييز بالشخص، والوحدة؛ كالدينار والرجل، فهو ليس للعموم؛ فإنك تقول: دينار واحد، ورجل واحد، وما لا يوصف بالوحدة؛ كالذهب، فإنه يعم؛ فإنك لا تقول: ذهب واحد؛ فإن كونهم وضعوا الواحد المميز بالتاء يدل على أن ما لا ينافيه للعموم، وما لا يوصف بالوحدة دليل على أنه موضوع للعموم، وقولهم: " الدينار أفضل من الدرهم " على العموم فيه بقرينة التسعير، ولا " لا يقتل المسلم بالكافر، ولا الرجل بالمرأة " يفهم ذلك بالقرائن. قوله: إذا قال الرجل: " لبست الثوب، وشربت الماء " لا يفهم بالقرائن منه العموم. قلنا: النزاع في هذه المسألة، إنما هو عند التجرد عن القرائن؛ فلا ينبغي الاستدلال إلا بالصور التي لا قرائن فيها، وهاهنا القرينة موجودة، بل قطعية؛ لأن العادة قاضية بعدم لبس جميع ثياب العالم للرجل الواحد، وكذلك شرب جميع المياه. قوله: " لا يؤكد بما يؤكد به؛ فلا يقال: جاءني الرجل كلهم ". قلنا: لم تكتف العرب في التأكيد والنعت بالمساواة في المعنى، بل اشترطت مع ذلك المساواة في اللفظ؛ فلا ينعت، ولا يؤكد المفرد إلا باللفظ

المفرد، ولا المثنى إلا باللفظ المثنى، ولا الجمع إلا بالجمع، وكذلك التأكيد، فلا يلزم من استواء اللفظين في معنى العموم أن يؤكد أحدهما بما يؤكد به الآخر، بل لابد من المساواة في اللفظ. قوله: " أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض مجاز لعدم الاطراد ". قلنا: قد منعتم في باب المجاز والحقيقة لزوم الاطراد في الحقيقة؛ فيلزمكم ذلك هاهنا. قوله: " إن كان الدينار الصفر حقيقة، فالدينار الأصفر مجاز ". تقريره: الحقيقة، إذا كانت هي نعت المفرد بالجمع، يكون نعت المفرد بالمفرد مجازا؛ لأنه على خلاف الوضع الأول، ولأنه استعمال اللفظة في غير ما وضعت له؛ لأن الأصفر لم يوضع للنعت، وقد استعمل فيه، ويرد عليه سؤالان: أحدهما: أن اللازم، على هذا التقدير، الترادف لا المجاز؛ لأن الجمع وضع للنعت، ووضع للمفرد أيضا معه، فأما المجاز، فلا. وثانيهما: أن البحث في النعت مع المنعوت بحث في المركبات، لا في المفردات، وعند المصنف: العرب لم تضع المركبات، وأن المجاز المركب عقلي، فلا يدعيه هاهنا، وقد تقدم هذا السؤال مرارا، وتقدم الجواب عنه؛ أن المصنف لم يفرع على مذهبه قط في هذا الكتاب، بل على مذهب الجماعة؛ وهو أن العرب وضعت المركبات. قوله: " البيع جزء من مفهوم هذا البيع، فلو كان البيع للعموم، لزم من إحلال هذا البيع إحلال كل بيع ". قلنا: هذه العبارة موهمة أن المراد: أن مطلق البيع جزء من البيع الخاص؛ قولهم: " من مفهوم هذا البيع "، والمفهومات إنما هي المعاني دون

الألفاظ، وعلى هذا التقدير؛ لا يلزم من إحلال هذا البيع إحلال كل بيع، بل مطلق البيع فقط، ومطلق البيع مجمع على حله، وهو أن بيعا بإحلال، فلا يفقد كلامكم شيئا، وإن كان مرادكم اللفظ دون المعنى، فينبغي أن تقولوا: لفظ البيع المدعي فيه العموم جزء من قولنا: هذا البيع، وهذا صحيح؛ لأن البيع المفرد المحلى باللام، جعل نعتا؛ كقولنا هذا، لكن قولكم بعد هذا: " فيلزم من إحلال هذا البيع إحلال كل بيع " غير لازم؛ لأن القضاء حينئذ بالحل، إنما هو على المجموع المركب من صيغة العموم. وقولنا: هذا الذي هو المنعوت لايلزم من ثبوت حكم لمجموع أن يثبت لأجزائه، كما تقول: قولنا: " زيد قائم ": خبر، وكل واحد من أجزائه ليس خبرا، و (زيد): اسم، وكل واحد من أجزائه ليس اسما و (قام): فعل ماض، وكل واحد من أجزائه ليس كذلك، وهو كثير أظهر من أن يضبط بالمل، وقد يكون حكم المجموع تاما لمفرداته؛ كقولنا: " مجموع الروم جسم، وكل واحد منهم جسم، ومجموع الكلام ممكن، وكل واحد من أجزائه ممكن " وهو أيضا كثير جدا، وإذا كان الحال منقسما، لما ثبت حكم مجموعه لمفرداته، وإلى ما لا يثبت، فيكون هذا المستفاد من اللفظ لغة، إنما هو ثبوت الحكم للمجموع. أما ثبوته للمفردات ولا ثبوته: إنما يعلم بدليل من خارج؛ وحينئذ تحقق المنع هاهنا، فيمنع ثبو الحل لمفهوم قولنا: " هذا البيع " لأنه جزء. قوله: " اللفظ المطلق، إنما يفيد العموم بشرط العراء عن لفظ التعيين ". قلنا: هذا خلاف الإجماع؛ لأن القائل قائلان: قائل بعدم العموم، فلا شرط، ولا مشروط. وقائل يقول: هذه القرائن مانعة صارفة؛ كأن عدمها شرط، فلا يمكنك أن تقول: عدم المانع شرط؛ لأنا نقول: هذا كلام قد وهم فيه جمع كثير

من الفقهاء، فيجعلون عدم المانع شرطا؛ ويدل على بطلان ما توهموه: أن الشك في وجود المانع وعدمه يوجب أن يترتب الحكم على سببه؛ لأن الأصل عدم المانع، والشك في وجود الشرط وعدمه يلزم منه عدم ترتب الحكم على سببه؛ لأن الأصل عدم الشرط، فلةو كان عدم المانع شرطا، لزم من الشك في المانع الشك في الشرط، ويلزم أن يثبت الحكم، وألا يثبت؛ لأنه مهما شك في المانع الشك في الشرط، ويلزم أن يثبت الحكم، وألا يثبت؛ لأنه مهما شك في المانع، فقد شك في عدمه، وعدمه شرط؛ فالشرط مشكوك فيه، فتأمل ذلك ولا تجعلن عدم المانع شرطا أبدا إلا بدليل منفصل؛ وحينئذ إذا وقع الشك في ذلك " المانع الذي عدمه شرط " لا يترتب الحكم؛ لأن الأصل عدم الشرط، وإذا ظهر ذلك قلنا: إن العبارة الصحيحة هنا أن تقول: تفيد الصيغة العموم، إلا أن يقوم مانع من ترتيب حكم العموم عليها. قوله: " العدم لا يدخل في التأثير ". قلنا: لا تأثير هنا، بل الدلالة واللزوم فقط، فعدم المانع، إذا جعل شرطا كما سلمتموه للخصم، يكون ذلك العدم علامة مع وجوب السبب الذي هو الصيغة على ترتب الحكم، ولا نزاع أن عدم الشرط معتبر، وعدم اللازم معتبر في عدم الملزوم. . قوله: " تركه العموم؛ لقرينة الإشارة والتعيين، يقتضي التعارض، وهو خلاف الأصل. ". قلنا: والأصل يخالف؛ لقيام الدليل فيمكن مخالفته، فقد ذكر الفقهاء أدلة كثيرة تقتضي أن المعرف باللام من المفردات وغيرها يقتضي العموم، وهي الوجوه التي ذكرتموها كلها في صيغة الجمع؛ من صحة الاستثناء، وحسن الجزاء على موجب العموم، والمؤاخذة، إذا لم تجر على موجب

(تنبيه) زاد التبريزي؛ فقال في الجواب عن قوله: " لا يؤكد بما يؤكد به العموم "

العموم، وورود النقض بالأفراد، كما تقدم في أدلتكم، وإذا دل الدليل على أنها للعموم، كان ذلك دليلا على أن الاستعمال الواقع هاهنا مجاز ضرورة. قوله: " المعرف باللام لا يفيد إلا الماهية ". قلنا: هذه مصادرة على مذهب الخصم بغير دليل، فإن الخصم يقول: " هي للعموم، الذي هو الماهية مع تتبعها بحكمها في جميع مواردها " وعلى هذا؛ لا يكون الآتي تفرد خارجا عن العهد ة. قوله: " يصح أن يستثنى منه الآحاد ". قلنا: الاستثناء أربعة أقسام تقدم بيانها؛ فلعل هذا من قبيل ما يجوز دخوله، ولا يجب. قوله: " لا يصح أن يقال: رأيت الإنسان إلا المؤمنين ". قلنا: لا نسلم؛ بل يصح ذلك عند القائلين بالعموم، وعند غيرهم القائلين بجواز الاستثناء من المطلقات والنكرات، وقد تقدم الخلاف فيه. قوله: " ويمكن أن يقال: (الخسران) لما لزم الناس إلا المؤمنين، جاز هذا الاستثناء ". تقريره: أن الخسران، لما عم غير المؤمنين، وكان ذلك معلوما، حسن الاستثناء مع المعنى المعلوم، لا من اللفظ المنطوق. قوله: " اللام تفيد تعريف الماهية دون الكلية ". قلنا: قد تقدم أن الماهية معلومة معرفة للنكرة التي هي اسم الجنس قبل دخول لام التعريف، فلو كانت اللام لتعريفها أيضا، لزم تعريف المعرف. (تنبيه) زاد التبريزي؛ فقال في الجواب عن قوله: " لا يؤكد بما يؤكد به العموم ".

" إن امتناع ذلك يجوز أن يكون؛ لاختصاص التأكيدات بمؤكدات مخصوصة؛ ولهذا يجوز أن تقول: " أكرم الرجل اي رجل كان " وهو تأكيد بالعام ". قلت: يريد أن تأكيده بصيغ الاستغراق ليس ممتنعا؛ بدليل وقوعه فيما ذكره من المثال، وإنما بعض الأفعال قد يمتنع عليه، ويختص بغيره، وهو كما قال، وسبب الاختصاص ما تقدم من اشتراط العرب المناسبة في اللفظ والمعنى، ولا جرم فالمثال الذي ذكره التأكيد فيه بـ (أي) وهو لفظ مفرد؛ بخلاف التعيين، أجمعين وأبصعين، وأورد بعضالفضلاء عليه: أن ما ذكره ليس بتأكيد؛ فإنه يقال في المطلق مثله؛ فيقال: " أعتق رقبة أي رقبة كانت " فلو كانت تأكيدا بالعام، كما قال؛ لكان المطلق يؤكد بالعموم، وهو باطل اتفاقا؛ لأن من شرط التأكيد المساواة. سلمنا أنه تأكيد؛ لكنا نمنع أنه عام، بل مفرد. تقديره: أي مفرد شئت، فأعتق، ولم يلزمه العموم؛ فكأنه أعاد لفظ الإطلاق بعينه في الرجل، والنكرة في الرقبة. وزاد سراج الدين؛ فقال في قوله: " العدم لا مدخل له في التأثير ". لقائل أن يقول: " كيف جعلت العراء عن لفظ البعض في لفظ الكل شرطا في إفادته للعموم، مع هذا الجواب ". وزاد (المنتخب): فقال: " يجوز أن يقال: " الرجل والرجلان والرجال " ولو كان للعموم، لامتنع ذلك ". ولو قال: " أنت طالق الطلاق " لم يقع الطلاق الثالث، ويصح أن يقال: رأيت الرجل الواحد، والرجال الثالثة، ولا ينعكس، يريد: لا يجوزك أن يقال: رأيت الرجل الثلاثة، والرجال الواحد، ويصح أن يقال: الإله واحد.

ولو كان المعرف يفيد العموم، لامتنع ذلك؛ لأن العموم أفراده متناهية؛ لا تكون واحدا، ولأنه يصح أن قال: الحيوان جنس، وليس كل حيوان جنسا، وزاد في حجج الخصوم: أن يوصف بما يوصف به الجمع؛ كقوله تعالى: {والنخل باسقات لها طلع نضيد} [سورة ق: 10]. قلت: والجواب عن الأول: قد تقدم أن (لام) التعريف، إنما تدخل على الجمع والتثنية بعد الجمع والتثنية؛ لأن المعرف باللام يثنى ويجمع، فما دخلت اللام إلا على (رجال) و (رجلان) والسائل أورد؛ بناء على أنا اوردنا الجمع والتثنية على اللام، ولو كان للعموم، لم يبق بعده فرد، فيتعذر تثنيته فضلا عن جمعه، وهذا حق، غير أن البحث هاهنا، هل التثنية والجمع وردا على التعريف، أو التعريف ورد عليهما؟ وهذا هو الحق، ونحن من وراء المنع، حتى يبين المستدل، أيهما ورد على الآخر، وقد تقدم ذلك. وعن الثاني: أنىقلت يوما للشيخ عز الدين رحمه الله: إن الفقهاء التزموا قاعدتين في الأصول، وخالفوهما في الفروع. فقال: ما هما؟ قلت له: المعرف باللام للعموم عندهم، ولو قال القائل: " الطلاق يلزمني " بغير نية: لم يلزمه إلا طلقة واحدة، وهو خلاف القاعدة. والثانية: الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، ولو قال: " والله، لا لبست ثوبا إلا الكتان " وقعد عريانا، لم يلزمه شيء، ومقتضى قاعدة الاستثناء أنه حلف على نفي ما عدا الكتان، وعلى لبس الكتان، وما لبس الكتان؛ فيحنث.

فقال رحمه الله: سبب المخالفة: أن الأيمان تتبع المنقولات العرفية، دون الأوضاع اللغوية، إذا تعارضا، وقد انتقل الكلام في الحلف باطلاق بحقيقة الحس، دون استغراقه؛ فلذلك كان الحالف لا يلزمه إلا الماهية المشتركة؛ فلا يزيد اللازم له على الواحدة، وتنقل (إلا) في الاستثناء في الحلف بمعنى الصفة؛ مثل (سوى) و (غير) فيصير معنى حلفه: والله، لا لبست ثوبا سوى الكتان، او غير الكتان " فالمحلوف عليه هو المغاير للكتان، فالكتان ليس محلوفا عليه؛ فلا يضره لبسه ولا تركه، ثم توفى رحمه الله واتفق البحث مع قاضي القضاة تاج الدين، فالتزم أن مذهب الشافعي: أنه يحنث، إذا قعد عريانا، وأن (إلا) على بابها، الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات، وراى ما نقلاه في ذلك، وينبغي أن يعلم أن هاهنا أمرين: احدهما: ان النقل، قد وقع إلى بعض الموارد اللغوية، إا في الأجنبي مطلقا؛ فإن استعمال (إلا) بمعنى (غير) عربي كثير، وكذلك اللام بمعنى حقيقة الجنس. وثانيهما: أن النقل لم يقع في المفردات، وإنما وقع في المركبات؛ بل ولا في المركبات، بل في مركب خاص، وهو التركيب في الحلف خاصة. بل لو قلنا: " الطلاق مكروه " ما فهمنا منه إلا العموم، وكذلك " الطلاق يرفع النكاح " ولا مانع هاهنا من حمله على الجنس، وكذلك لو قلنا: " قام القوم إلا زيدا، وما قام القوم إلا زيد " لم يفهم منه إلا الاصطلاح اللغوي؛ ولم يقع النقل إلا في التركيب الخاص، وأهل العرف، كما ينسب إليهم النقل والحقائق العرفية في المفردات؛ كالدابة والغائط، فكذلك ينسب إليهم النقل والحقائق العرفة في المركبات، وقد تعم المركبات، وقد تخصها، وهذا النوع من النقل خفي دقيق لا يكاد يعلمه أكثر الفقهاء في العصر، بل إنما يفهمون النقل في المفردات فقط، وقد تقدم منه أبحاث ومسائل في الحقيقة العرفية في كتاب (اللغات) فظهر جواب سؤال (المنتخب) بسبب النقل.

وعن الثالث: ما تقدم أن العرب تشترط المناسبة في النعوت بين المعنى، والتركيب؛ فلذلك اختص الرجل بنعت الواحد، والرجال بنعت الثلاثة. وعن الرابع: أن قرينة الوحدة صرفت لفظ الإله لحقيقة الجنس؛ لأن معنى الكلام: المعبود باستحقاق واحد، والكلام في المعرف، إذا لم يكن معه قرينة، ثم إن مرادنا بالإله ليس المعبود كيف كان، الذي هو المسمى اللغوي، بل المعبود باستحقاق، وهو لم يوجد في الخارج، ولا يمكن أن يوجد إلا واحد، والعموم هو يتبع العام بحكمه في أفراده، فإنه إذا لم يوجد إلا فرد معين وحده، فكأنا قلنا: " كل فرد يتوهم من هذه المادة، ولم يوجد منه إلا واحد، ولا يمكن أن يوجد إلا واحد " فالعموم باق، وانحصار الكل في فرد من أفراده، أوجب صحة هذا الخبر. وكذلك قوله: " الحيوان جنس " قرينة الجنسية منعت من حمله على العموم؛ لأن مفهوم الجنس هو الذي يصدق على كل فرد من أفراد أنواعه، فلو جعلناه عاما كلية، لكان معنى اللفظ: أن كل فرد من أفراده صادق على كل فرد من أفراده، وهو باطل؛ لأن " زيدا " لا يصدق على كل فرد من أفراد الحيوان؛ فيتعين صرفه للحقيقة الكلية المشتركة بين جميع الأنواع، فهذه قرينة صارفة، والنزع في المعرف، إذا تجرد عن القرينة. وعن قوله: {والنخل باسقات} [سورة ق: 10] أنه ليس وصفا عند النحاة؛ لأن " النخل " معرفة و " باسقات " نكرة، والمعرفة لا توصف بالنكرة. سلمنا أنه وصف؛ لكنا نمنع أن النخل مفرد؛ فلم لا يقال: هو جمع نخلة؟ وقد قال أبو علي في " تكملة الإيضاح ": " النخل جمع نخلة، والشجر جمع شجرة " ولم يحك خلافا، وكذلك قاله في قمح، وشعير، وجراد، ونظائره كثيرة.

(فائدة) الباسق: المرتفع

سلمنا أنه مفرد؛ لكنه أريد به الجمع؛ فيكون مجازا بقرينة هذا النعت، والكلام في هذه الصيغة عند التجرد. (فائدة) الباسق: المرتفع. ***

المسألة الثانية الكلام في الجمع المنكر يتفرع على الكلام في أقل الجمع

المسألة الثانية الكلام في الجمع المنكر يتفرع على الكلام في أقل الجمع قال الرازي: وقد اختلفوا فيه؛ فذهب القاضي، والاستاذ أبو إسحاق، وجمع من الصحابة والتابعين إلى أن أقل الجمع اثنان، وقال أبو حنيفة، والشافعي رحمهما الله: ثلاثة، وهو المختار. لنا وجوه: الأول: أن أهل اللغة فصلوا بين التثنية والجمع؛ كما فصلوا بين الواحد والجمع؛ فكما فرقنا بين الواحد والجمع، وجب أن نفرق بين التثنية والجمع. الثاني: أن صيغة الجمع تنعت بالثلاثة فما فوقها، وبالعكس يقال: " جاءني رجال ثلاثة، وثلاثة رجال " ولا تنعت بالاثنين، فلا يقال: " رجال اثنان، ولا اثنان رجال ". الثالث: أن أهل اللغة فصلوا بين ضمير التثنية، وضميرالجمع؛ فقالوا في الاثنين: فعلا، وفي الثالثة: فعلوا، وفي أمر الاثنين: افعلا، وفي الجمع: افعلوا. احتجوا بالقرآن، والخبر، والمعقول: أما القرآن: فبقوله تعالى: {وكنا لحكمهم شاهدين} [الأنبياء: 78] والمراد: داود وسليمان، وبقوله تعالى: {إذ تسوروا المحراب} وكانا اثنين؛ لقوله تعالى: {خصمان} وبقوله: {إذ دخلوا}

على داود، ففزع منهم، قالوا: لا تخف، خصمان} وبقوله عز وجل في قصة موسى وهارون: {إنا معكم مستمعون} [الشعراء: 15] وبقوله تعالى؛ حكاية عن يعقوب: {عسى الله أن يأتيني بهم جميعا} [يوسف: 83] والمراد: يوسف وأخوه، وبقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] وبقوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله، فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4]. وأما الخبر: فقوله صلى الله عليه وسلم: " الاثنان فما فوقهما جماعة ". وأما المعقول: فهو: أن معنى الاجتماع حاصل في الاثنين. والجواب عن الأول: أنه تعالى كنى عن المتحاكمين؛ مضافا إلى كنايته عن الحاكم عليهما؛ فإن المصدر قد يضاف إلى المفعول، وإذا اعتبرنا المتحاكمين مع الحاكم، كانوا ثلاثة. وأما قوله تعالى: {إذ تسوروا المحراب} مع قوله: {خصمان} فجوابه: أن الخصم في اللغة للواحد والجمع؛ كالضيف؛ يقال: " هذا خصمي، وهؤلاء خصمي " و " هذا ضيفي، وهؤلاء ضيفي " قال الله تعالى: {إن هؤلاء ضيفي} [الحجر: 98] وهو الجواب عن التمسك بقوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا} وقوله: {ففزع منهم}. وأما قوله تعالى: {إنا معكم مستمعون} فالمراد: موسى وهارون، وفرعون.

شرح القرافي: أقل الجمع اثنان

وأما قوله تعالى: {عسى الله أن يأتيني بهم جميعا} فالمراد به: يوسف، وأخوه، والأخ الثالث الذي قال: {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي} [يوسف: 80] وقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} فكل طائفة جمع. وأما قوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} فجوابه: أنه قد يطلق اسم القلب على الميل الموجود في القلب؛ فيقال للمنافق: إنه ذو لسانين، وذو وجهين، وذو قلبين، ويقال للذي لا يميل إلا إلى الشيء الواحد: له قلب واحد، ولسان واحد. ولما خالفتا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ونمتا بأمر مارية، وقع في قلبيهما دواع مختلفة، وأفكار متباينة؛ فصح أن يكون المراد من القلوب هذه الدواعي، وإذا صح ذلك، وجب حمل اللفظ عليها؛ لأن القلب لايوصف بالصغو؛ إنما يوصف الميل به. وأما الحديث: فهو محمول على إدراك فضيلة الجماعة. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم: " نهى عن السفر إلا في جماعة "، ثم بين أن الاثنين فما فوقهما جماعة؛ في جواز السفر. وأما المعقول: فجوابه: أن البحث ما وقع عما تفيده لفظة الجمع، بل عما يتناوله لفظ الرجال والمسلمين؛ فأين أحدهما من الآخر؟ والله أعلم. المسألة الثانية قال القرافي: أقل الجمع اثنان. قال سيف الدين: ليس محل النزاع لفظ الجمع، والمفهوم منه،

الذي هو ضم الشيء إلى الشيء، بل ذلك متفق عليه في الاثنين والثلاثة وغيرهما، إنما الخلاف في اللفظ المسمى بالجمع في اللغة؛ نحو: رجال ومسلمون، وكذلك قاله إمام الحرمين في (البرهان) ومثل بهذين المثالين. قوله: " أهل اللغة فصلوا بين التثنية والجمع؛ كما فصلوا بين الواحد والجمع ". قلنا: إن ادعيتم تفريق أهل اللغة في الألفاظ؛ فقالوا: رجلان؛ للتثنية، ورجال؛ للجمع، ورجل؛ للواحد، فهذا متفق عليه؛ أن الألفاظ مختلفة، وإن عنيتم أن التفرقة وقعت في المعاني، وأن مسمى الجمع لا يصدق على مسمى الاثنين أصلا فهذا محل النزاع، وما ذكرتموه لا يفيد مطلوبكم؛ لأن مطلق التفريق عائد للفظ. قوله: " صيغة الجمع تنعت بالثلاثة دون الاثنين ". قلنا: قد تقدم أن العرب تشترط في التصريف المناسبة اللفظية والمعنوية معا؛ فلا ينعت لفظ التثنية إلا بلفظ التثنية، ولا الجمع إلا بالجمع، ولا الواحد إلا بالواحد؛ ليحصل التناسب. قوله: " فصلوا بين ضمير الاثنين والجمع ". قلنا: الفرق، إن ادعيتموه في اللفظ، فمسلم، وإن ادعيتم أن العرب، متى أطلقت ضمير الجمع، لا تريد به الاثنين، فهذا محل النزاع، وما ذكرتموه لا يفيد، بل هو مصادرة، فعند الخصم: الفرق وقع في اللفظ، وأقل مسمى ضمير الجمع، ولفظ الجمع اثنان. قوله: " ولقوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4].

قلنا: ليس هذا من هذا الباب، بل القاعدة العربية: أن كل شيء أضيف إلى شيء هو بعضه، ليس في الجسد منه إلا واحد، فيه ثلاث لغات: الإفراد؛ كقولهم: كأنه وجه بركنين. والتثنية والجمع؛ كقول الشاعر (السريع): ومهمهين قذفين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور الترسين يصف مهمهين واسعتين؛ لأن المهمه هو الواسع، يقذفان من فيثهما بحديهما وعظمهما، وهو الحال على من يكون فيهما، وظهورهما لا ثابت فيها؛ كظهور الترسين، الذي هو الدرقة، فثنى في الأول، وجمع ف الثاني، والأفصح في هذه اللغات الجمع؛ لأن الانتقال من التثنية التي هي الأصل إلى الجمع أولى من الانتقال إلى الواحد لما بين التثنية والجمع من المناسبة في أصل ضم الشيء إلى مثله، والواحد لا ضم فيه. وقولنا: ليس في الجسد منه إلا واحد؛ لأنه موضع لا لبس فيه؛ بخلاف مافي الجسد منه أكثر من واحد؛ فلا تقول: " رأيت أعين الزيدين " وأنت تريد عينيهما؛ لأنه يوهم أنك رأيت جميع أعينهم؛ بخلاف ظهورهما ورؤيتهما؛ لأنه من المعلوم أن ما لهما إلا رأس واحد لكل واحد. وقولنا: " هو بعض ": احتراز من قولك " رأيت غلامي الزيدين " فلا يجوز الجمع؛ لأنها تثنية أجنبية مضافة، وإنما استقلت العرب اجتماع اسمين في الشيء الواحد، وليس أحدهما أجنبيا؛ حتى كأن الواحد ثنى مرتين، أما في الأجنبي، فهما شيئان في شيئين، فلم تستثقلهما العرب، فهذه قاعدة هذا

الباب، وهو متفق عليه بين الفريقين، وعلى هذه القاعدة؛ يستدل به على صورة النزاع، فليس منها. قوله: " ولقوله عليه السلام: " الاثنان فما فوقهما جماعة " ". قلنا: قال ابن حزم في كتاب " الإحكام في أصول الفقة ": " إن هذا الحديث ليس بصحيح " وهو من أعيان الحفاظ المحدثين. سلمنا صحته؛ لكن هذا يدل على جواز إطلاق لفظ (الجماعة) على الاثنين، وهذا غير محل النزاع؛ فإن لفظ (جماعة) اسم مفرد، وإنما النزاع في صيغ الجموع؛ كالرجال، والدراهم، ونحوهما، ولا خلاف أن لفظ (جماعة) ليس جمعا، لأنه ليس له واحد من لفظه؛ كرجال، فلا يتم الاستدلال به. قوله: " المصدر يضاف للفاعل والمفعول ". تقريره: أن النحاة قالوا: الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة؛ تقول لأحد حاملي الخشبة: " شل طرفك "؛ فتجعل طرف الخشبة طرفه؛ لما بينهما من الملابسة.

حكاه صاحب (المفصل) وحكى (الطويل): إا كوكب الخرقاء لاح بسحره ...................... أضاف الكواكب إليها؛ لأناه كانت تقوم عند طلوعه، ونحو ذلك، وإذا كانت الإضافة في لسان العرب، يكفي فيها أدنى ملابسة، ويكون ذلك حقيقة، جاز إضافة الحكم في الآية إلى الحاكمين، والمحكوم له وعليه، واستقام إطلاق ضمير الجمع. قوله: " في قوله تعالى: {إنا معكم مستمعون} [الشعراء: 15] المراد موسى وهارون وفرعون ". قلنا: هذا غير متجه؛ لأن معية الله تعالى ثلاثة أقسام: واجبة، ومستحيلة، وممكنة. أما الواجبة: فمعيته تعالى بالعلم، ومنه قوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4]. والمستحيلة: المعية بالذات؛ لأنه تعالى ليس كمثله شيء. والمعية الجائزة الممكنة: معيته تعالى باللطف والمعونة والنصر، ونحو ذلك؛ فيجوز أن يفعلها تعالى لمن يشاء من عباده، وله ألا يفعلها: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء: 23] كقوله تعالى: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] أي: بالنصر والمعونة؛ ولذلك حصل لهما قوة الجنان، وأقدما على مقابلة فرعون، وسكن روعهما الذي شكواه في قوله تعالى عنهما: {إنا نخاف أن يفركط علينا أو أن يطغى} [طه: 45]

فقوله تعالى: {إنا معكم مستمعون} [الشعراء: 15] يتعين حمله على النصرة والمعونة؛ حتى يكون ذلك سببا لنهوضها في تبليغ رسالات ربهما، ويكون المراد بالاستماع هاهنا المجازة على صنعهما. تقول العرب: عرفت لك صنيعك، إذا كافأه عليه. ومنه قوله تعالى: {قد يعلم الله المعوقين منكم} [الأحزاب: 18]. {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا} [النورة: 63] أي: قد يجازي؛ وإلا فعلم الله تعالى واجب التعلق لا يحسن معه (قد) وهذه التقارير تمنع أن يكون المراد معية العلم المطلق؛ فإنها لا تفيد تقوية قلب، وأمنا من العدو؛ فإنه تعالى يعلمه ويسمعه مع من يهلكه، ويسلطه عليه، كما هو مع من ينجيه ويعصمه؛ فلا يحصل المقصود إلا على ما ذكرناه، وقد صرح به تعالى في الآية الأخرى، في قوله تعالى: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] وإذا كان المراد معيه النصر والمعونة، تعذر أن يراد فرعون؛ لأنه يراد بالخذلان والهلاك. قوله: " يطلق القلب على الميل ". قلنا: مشكل، من حيث مجاز الأصل وعدمه، ولا يلزم من سماع المجاز في غيره من الصور أن يلزم في صورة النزاع. قوله: " القلب لا يوصف بالصغو ". قلنا: لا نسلم؛ بل الإنسان بجملته يوصف بالميل؛ فكيف بالقلب؟ تقول العرب: " زيد مائل في كلامه على عمرو " وكذلك يوصف بالشك، والغضب، والرحمة، وغير ذلك، وإذا كانت العرب تصف زيدا بجملة ذلك، فأولى قلبه الذي هو المحل الحقيقي لجميع هذه الأعراض؛ الميل وغيره. وقد تقدم مرارا: أن وصف الشيء بالشيء قد يكون؛ لأنه قام بجملته؛

نحو أسود، أو ببعضه؛ كوصفك الإنسان بأنه ناطق، والناطق جزؤه؛ لأنه فصله، والفصل جزء، وبأمر خارج عنه؛ كقولنا: ضاحك، أو بسببه وإضافة، نحو متقدم ومتأخر، وانا قول العرب: أعرج ,اشهل وأعور وأعمى وغير ذلك، إنما هي صفات باعتبار ما قام ببعض الموصوف، وهي حقائق، وأن الفرق بينهما يشترط فيه القيام بالكل، والقيام بالبعض عسر جدا، وقد بسطته قبل هذا، فلا عسر أن يوصف القلب بالصفو والميل ونحوه. قوله: " الحديث محمول على إدراك فضيلة الجماعة ". قلنا: هذا مجاز؛ وإنما الحكم في ظاهر اللفظ على أن الاثنين جماعة، فمن أدعى المجاز، كان عليه الدليل، ولكم أن تقولوا: كلام الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دار بين أن يكون مقيدا بحكم شرعي، أو عقلي، كان حمله على الشرعي أولى؛ لأنه عليه السلام إنما بعث بلسان الشرعيات، وكون الاثنين جماعة، وفيها معنى الإجماع أمر معلوم بالضرورة معقول، وحمله على أنها في نظر الشرع تثبت لها الأحكام الشرعية؛ لجواز السفر من غير كراهة؛ ليحصل لهما فضيلة الصلاة في جماعة حكم شرعي؛ فيتعين الحمل عليه، وإن كان مجازا. ولهذه القاعدة إشكال كبير في هذه المسألة من نحو عشر سنين، أورده على الفضلاء، وما حصل لي ولا لهم جواب عنه، وهو أن الخلاف في هذه المسألة غير منضبط، ولا متصور؛ بسبب أنه، إن فرض قولهم: أقل الجمع اثنان في صيغة الجمع التي هي (جيم) (ميم) (عين) امتنع إتيانه في غيرها من الصيغ؛ لأنه لا يلزم من ثبوت الحكم لصيغة ثبوته لغيرها في الأوضاع اللغوية، وإن كان الخلاف في مدلول هذه الصيغة، فإن مدلولها كل ما يسمى جمعا؛ رجال، ودراهم، أو غير ذلك من صيغ الجموع. فنقول: صيغ الجموع قسمان:

جمع قله، وجمع كثرة: فجمع القلة قسمان: سلامة وتكسير: فجمع السلامة: ما جمع بالواو والنون، أو الياء والنون، أو بالألف والتاء؛ نحو: مسلمين ومسلمات. وجمع التكسير: أربعة أوزان يجمعها قول الشاعر (البسيط): بأفعل وبأفعال وأفعلة ... وفعله يعرف الأدنى من العدد نحو أفلس وأحمال وأجربة وصبية، وما عدا هذه جمع كثرة. واتفق النحاة على أن جمع القلة موضوع للعشرة فما دونها، إلى الاثنين أو الثلاثة على الخلاف، وجمع الكثرة موضوع لما فوق العشرة. قال صاحب (المفصل) وغيره: وقد يستعار (مسمى) كل واحد لكل منهما. وإنما يستعمل في مسمى الآخر مجازا، وأن جمع الكثرة، إذا استعمل فيما دون العشرة، كان مجازا؛ ولذلك استشكل العلماء قوله تعالى: {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] فقالوا: هذا جمع كثرة، وقد استعمل في الثلاثة، وأجابوا بأنه مستعار له، كما اشتركا فيه في مطلق الجمع، فإن كان موطن الخلاف في جموع الكثرة، فلا يستقيم؛ لأن أقل مطلق الجمع مسماها على هذا التقدير أحد عشر، والاثنان والثلاثة إنما يكون اللفظ فيها مجازا، والبحث في هذه المسألة ليس في المجاز؛ فإن إطلاق الجمع على الاثنين لا خلاف فيه، إنما الخلاف في كونه حقيقة، بل لاخلاف أن لفظ الجمع يجوز إطلاقه، وإرادة الواحد، فكيف بالاثنين؛ فقد

جاء في قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس، إن الناس قد جمعوا لكم} [آل عمران: 173] أن القائل واحد. وفي قوله تعالى: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} [النساء: 54] أن الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان الخلاف في جمع القلة، فهو متجه؛ لأنه مجموع للعشرة فما دونها فيمكن أن يقال أقله اثنان، فهذا، وإن تصورناه من حيث الوضع اللغوي، لا يستقيم أن يكون المراد بخصوصه للعلماء؛ لأنهم يقولون: فرقت العرب بين التثنية والجمع؛ فقالوا: رجلان، ورجال، فمثلوا برجال ونحوه، وهو جمع كثرة، وكذلك في الفتاوى؛ فلم يفرقوا بين الأقارير والوصايا، والنذور والأيمان، والاستدلالات على الأحكام في مقام المناظرة، والاجتهاد بين جمع القلة وجمع الكثرة، بل يقولون فيمن قال له: " على دنانير ": يلزمه ثلاثة، كما لو قال (أفلس) لا يفرقون بين الصيغتين؛ فدل ذلك على أن مرادهم ما هو أعم من جمع القلة؛ وحينئذ يكون مرادهم غير معقول، فإن أقل الجمع الذي للكثرة أحد عشر؛ كما تقدم، فهذا وجه الإشكال. وأكثر من يتعرض للجواب عنه يقول: بحث العلماء في هذه المسألة ليس بحسب الحقيقة اللغوية، بل بحسب الحقيقة العرفية، وأهل العرف لا يعتبرون الفرق بين جمع القلة أو الكثرة، وهذا الجواب باطل لوجوه: الأول: أن البحث في مسائل أصول الفقه، إنما يقع عن تحقيق اللغة؛ ليحل عليها الكتاب والسنة، والبحث عن العرف إنما يقع تبعا، وحمل كلام العلماء على الغالب، هو المتجه. وثانيها: أنهم إذا استدلوا، لا يقولون: " قال أهل العرف " ولا " فرق أهل العرف " بل يقولون. " فرقت العرب بين التثنية والجمع " وجميع

(فائدة) ضابط جمع القلة: اللفظ الموضوع لضم الشيء إلى مثله

اعتماداتهم على النعوت، والتأكيدات، والضمائر وغيرها لا مدخل للعرف فيها، بل لغة صرفة، وإنما هو على كلام العرب، دون اصطلاحات أهل العرف، ومن تأمل استدلالاتهم، لا يجدها إلا كذلك في جميع الكتب الموضوعة في أصول الفقه. وثالثها: سلمنا أنهم بحثوا عن الحقيقة العرفية؛ فما يعرضونها على الحقيقة اللغوية أصلا، ولا يذكرونها ألبة، بل كل موطن ذكروا فيه الحقيقة، قرروا فيه الحقيقة اللغوية، وبينوا وجه النقل عنها في العرف؛ هذه عادتهم، وهاهنا لم يتعرضوا لذلك أصلا، [ولا يذكرونها ألبتة]، بل إنما يذكرون موضوعات العرب في الضمائر، والأسماء الظاهرة؛ فذلك يوجب القطع بأن مرادهم الحقيقة اللغوية، دون العرفية. ومنهم: من يجيب بأن جمع الكثرة يصدق على ما دون العشرة حقيقة، وإنما جمع القلة لا يتعدى العشرة؛ فعلى هذا يكون أقل الجمع مطلقا اثنين، وهذا باطل؛ لأن الزمخشري وبان الأعرابي وغيرهما نصوا على أن لفظ جمع الكثرة لا يستعمل فيما دون العشرة إلا مستعارا، ولو كان حقيقة فيما دون العشرة، لما صح قولهم: إنه مستعار، وكتب المفسرين مملوءة من ذلك، خصوصا (الكشاف) فما بقى الخلوص عن هذه الإشكال إلا بالطعن في هذه النقول، ولا سبيل إليه؛ فيبقى الكلام مشكلا. (فائدة) ضابط جمع القلة: اللفظ الموضوع لضم الشيء إلى مثله، أو إلى أكثر منه؛ على الخلاف في أصل مسماه؛ بوصف كونه لا يتعدى العشرة، وضابط مسمى جمع الكثرة: أنه اللفظ الموضوع للأحد عشر فما فوقها من غير حصر، وهذا علة ما لم يعرف من الجموع، فإذا عرفت، صارت كلها

(فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): يستثنى عن هذه المسألة بالإجماع ضمير المتكلم المتصل والمنفصل

للعموم، ولا تعتبر بعد ذلك عشرة، ولا غيرها؛ لذلك نص عليه إمام الحرمين في (البرهان) وأفرد لها مسألة تخص بالجمع بين قول الأدباء: " جمع القلة: للعشرة فما دونها "، وقول الأصوليين: " هو للعموم " وجمع بالتعريف والتنكير. وقال: هو من المهمات. (فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): يستثنى عن هذه المسألة بالإجماع ضمير المتكلم المتصل والمنفصل؛ نحو: نحن، وفعلنا، فإنه يكفي المتكلم وآخر معه إجماعا، ولا يشترط الثلاثة؛ ولذلك لا يصح الاستدلال به على أن أقل الجمع اثنان؛ لأن اللغة لا توجد قياسا. ***

المسألة الثالثة الجمع المنكر يحمل عندنا على أقل الجمع

المسألة الثالثة الجمع المنكر يحمل عندنا على أقل الجمع، وهو الثلاثة؛ خلافا للجبائي؛ فإنه ق ال: يحمل على الاستغراق: لنا: أن لفظ (رجال) يمكن نعته بأي جمع شئنا؛ فيقال: رجال ثلاثة، وأربعة، وخمسة؛ فمفهوم قولك: (رجال) يمكن جعله ورد التقسيم لهذه الأقسام. والمورد للتقسيم بالأقسام يكون مغايرا لكل واحد من تلك الأقسام، وغير مستلزم لها؛ فاللفظ الدال على ذلك المورد، لا يكون له إشعار بتلك الأقسام؛ فلا يكون دالا عليها، وأما الثلاثة فهي مما لابد منها؛ فثبت أنها تفيد الثلاثة فقط. احتج الجبائي: بأن حمله على الاستغراق حمل له على جميع حقائقه؛ وذلك اولى من حمله على بعض حقائقه. والجواب: أن مسمى هذا الجمع الثلاثة من غير بيان عدم الزائد ووجوده، ولا شك أنه قدر مشترك بين الثلاثة فقط، وبين الأربعة، وما فوقها، وقد بينا أن اللفظ الدال على ما به الاشتراك بين أنواع لا دلالة فيه ألبتة على شيء من تلك الأنواع؛ فضلا عن أن يكون حقيقة فيها؛ فبطل قوله: إن حمل هذا اللفظ على الاستغراق يقتضي حمله على جميع حقائقه، والله أعلم.

شرح القرافي: قوله: يمكن نعت رجال بأي عدد

المسألة الثالثة يحمل الجمع المنكر على أقل الجمع قال القرافي: قوله: يمكن نعت رجال بأي عدد، سيما تقول: " رجال ثلاثة، ورجال خمسة " فيكون مورد التقسيم مشتركا بين هذه الأقسام، والمشترك غير مستلزم للخصوصيات. قلنا: وكذلك يصح أن تقول: " رأيت الرجال الخمسة " إلى آخر كلامكم، فيلزمكم أن المعرف للعموم، وهو خلاف مذهبكم. فإن قلتم: قرينة قولنا (خمسة) صارفة عن العموم. قلنا: ويقول الخصم في المنكر كذلك، ولا نسلم أنه مورد تقسيم؛ فإن هذه نعوت مخصوصة عند الخصم، وليست نفسها، وهو يمنع أن يسمى الجمع مشتركا، كما في المعرف الذي يعتقدونه للعموم؛ لأنه يمكن أن يقال: إنه مشترك بين الثلاثة والخمسة، وجميع ما ينعت به من الأعداد. وقوله: " حمله على الاستغراق حمل له على جميع حقائقه ". قلنا: لا نسلم أن له حقائق، بل حقيقة واحدة؛ وهو العدد المشترك من ضم الشيء إلى أكثر منه على الخلاف. نعم: مورد هذه الحقيقة فيه كثرة، فإن أردتم الموارد؛ فيصير معنى كلامكم: يجب حمل اللفظ على جميع موارد مسماه، وذلك يقتضي أنه لا يبقى لنا في اللغة مطلق ألبتة؛ فإن المفرد المطلق موارده كثيرة، غير متناهية؛ فيلزم أن يبقى عاما، وما علمت أحدا قال به. قوله: " مسمى هذا الجمع الثلاثة من غير بيان عدم الزائد ". قلنا: ليس مسماه الثلاثة؛ بل القدر المشترك بين مراتب الجموع؛ على ماتقدم تحقيقه في المسألة الثانية، والثالثة: هي أقل محل مشتمل على ذلك المسمى، وهو معنى قوله العلماء: أقل الجمع اثنان، أو ثلاثة.

معناه: أن أقل محل مشتمل على المسمى هو الاثنان، إلا أن الاثنين بخصوصهما هما مسمى اللفظ، فافهم ذلك، والخلاف في تلك المسألة، إنما هو في أقل المحال التي تشتمل على المسمى، لا في نفس المسمى. ***

المسألة الرابعة قال الرازي: قوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر: 20] لا يقتضي نفي الاستواء في جميع الأمور

المسألة الرابعة قال الرازي: قوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر: 20] لا يقتضي نفي الاستواء في جميع الأمور؛ حتى في القصاص؛ لوجهين: الأول: أن نفي الاستواء أعم من نفي الاستواء من كل الوجوه، أو من بعضها، والدال على القدر المشترك بين القسمين لا إشعار فيه بهما. الثاني: أنه: إما أن يكفي في إطلاق لفظ المساواة الا ستواء من بعض الوجوه، أو لابد فيه من الاستواء من كل الوجوه. والأول باطل؛ وإلا لوجب غطلاق لفظ المتساويين على جميع الأشياء؛ لأن كل شيئين، فلابد وأن يستويا في بعض الأمور؛ من كونهما معلومين، ومذكورين، وموجودين، وفي سلب ما عداهما عنهما، ومتى صدق عليه المساوي، وجب أن يكذب عليه غير المساوي؛ لأنهما في العرف كالمتناقضين، فغن من قال: هذا يساوي 1ذاك، فمن أراد تكذيبة قال: إنه لا يساويه. والمتناقضان لا يصدقان معا؛ فوجب ألا يصدق على شيئين ألبتة: أنهما متساويان، وغير متساويين، ولما كان ذلك باطلا، علمنا أنه يعتبر في المساواة المساواة من كل الوجوه؛ وحينئذ يكفي في نفي المساواة نفي الاستواء؛ من بعض الوجوه؛ لأن نقيض الكلي هو الجزئي. فإذن: قولنا: (لا يستويان) لا يفيد نفي الاستواء؛ من جميع الوجوه، والله أعلم.

شرح القرافي: قوله تعالى: {لايستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة}

المسألة الرابعة قال القرافي: قوله تعالى: {لايستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر: 20]. قوله: " لا يقتضي نفي الاستواء من كل الوجوه، حتى في القصاص ". قلنا: البحث في هذه المسألة دائر على بحث واحد، وهو أن لفظ (تساوي) و (استوى) و (مائل زيد عمر) المتماثلات كلها، والاستواءات، هل مدلولها في اللغة المشاركة في جميع الوجوه؛ حتى يكون مدلولها كلا شاملا ومجموعا محيطا؛ لأن مدلولها المساواة في شيء ما؛ حتى يصدق بأي وصف كان؟ وعلى هذا؛ ما من شيء إلا وهو مساو غيره؛ إذ لابد له من المشاركة، ولو في المعلومية، فعلى هذا؛ يكون المسمى أمرا كليا أعم من الكلي الذي هو المجموع. إذا تقرر هذا في جهة الثبوت، ظهر أثرة في جهة النفي. فإن قلنا: هو المجموع، والمجموع يصدق نفيه بجزء غير معين؛ فلا يحصل شمول، كما قال المصنف: " حتى في نفي القصاص ". وإن قلنا: مسماه المفهوم العام؛ حتى يصدق بأي صفة كانت، فلا يصدق نفي هذا إلا بالسلب في جميع الصفات، كما قال المصنف، والذي يظهر في موارد الاستعمال أن هذه الألفاظ من المساواة والمماثلة، تقتضي المشاركة فيما سبق الكلام لأجله. فإن قلنا: زيد مثل عمرو، وكان الكلام في سياق العفة أو الشجاعة

.....................................................................

..........................................................

أو السخاء، ونحوه، اختص كلامنا بالمماثلة في ذلك، ولا نجد أهل اللغة يجعلون مثل هذا الكلام مجازا؛ بل حقيقة. وإن قولنا: " زيد مثل الأسد شدة " إنه حقيقة. وكذلك قولنا: " زيد كالأسد " حقيقة، إنما المجاز إذا قلنا: " زيد الأسد " مع حذف أداة التشبيه من الحرف أو الاسم، وإذا قلنا: " السواد مثل البياض " في افتقاره للمحل، أو في كونه لونا فإن هذا الكلام حقيقة لا مجاز فيه، فعلى هذا؛ يمنع أنه يقتضي النفي في جميع الوجوه؛ لأن الأمر، إذا كان مفيدا بالسياق، خصصنا أيضا سلب المساواة بما اقتضاه السياق؛ فيكون ما عداه مسكوتا عنه. قوله: " لا يكفي الاستواء من وجه، وإلا لصدق على كل شيء أنه مساو لغيره ". قلنا: ممنوع؛ لاحتمال أن يخصص ذلك الوجه بما دل السياق عليه؛ وحينئذ لا يقع التعميم؛ لاحتمال أن يكون السياق في بيان المخالفة، لا في بيان المساواة. قوله: " هما في العرف كالمتناقضين ". قلنا: مسلم؛ لكن لأجل السياق الأول، غذا دل على معنى، ووقوع المساواة فيه إثباتا، نفاه الآخر؛ بقوله: " ليسا مستويين " اي فيما اشرت إليه، كما اتفقوا على المناقضة في قولنا: " زيد قائم، زيد ليس بقائم " لأن القائل الثاني فهم عن القائل الأول الزمان الحاضر، فنفاه، وحصلت المناقضة، وإن لم يصرح الأول، ولا الثاني بالزمان الحاضر، كذلك هاهنا تحصل المناقضة؛ لأن العادة القصد إلى ذلك الذي أشعر به السياق؛ فحصل التناقض، لاتحاد المورد في الخطابين. قوله: " نقيض الكلي، هو الجزئي ".

(تنبيه) زاد سراج الدين؛ فقال: لقائل أن يقول: كلا الوجهين معارض

تقريره: أنه قد تقدم أن القضايا أربع: موجبة كلية، وسالبة كلية، وموجبة جزئية، [وسالبة جزئية]، وأن الكليتين ضدان يمكن ارتفاعهما، فلا يكونان نقيضين، والجزئيتان خلافان يمكن اجتماعهما على الصدق، والنقيضان لا يجتمعان، فلا يرتفعان؛ حينئذ: مناقض الكلية إنما هو الجزئية، إذا كانت إحداهما موجبة، كانت الأخرى سالبة، وقد تقدم بسطه. (تنبيه) زاد سراج الدين؛ فقال: لقائل أن يقول: كلا الوجهين معارض، ولا ينقضي عنه بأن يعتبر في تناقض قولنا: يستويان. وقولنا: لا يستويان، وحدة ما فيه الاستواء، وأيضا لما وجب استواء كل شيئين في وجه، كفى ذلك في عدم نفي قولنا: لا يستويان الاستواء من كل وجه. قلت: معنى قوله: " كلا الوجهين معارض ": أن الاحتمالين في كون لفظ الاستواء للاستواء في الكل، أو في البعض محتمل. قوله: " لابد من وحدة ما فيه الاستواء ". يريد أن المثبت، إن أراد الاستواء في الكل، فاكتفى بالرد عليه؛ لأنه مورد للثبوت، وإن كان في صفتها، فاكتفى بالرد عليه؛ ليحصل التناقض، وبقية كلامه ظاهر، وهو متجه. وقال التبريزي: نفي التساوي بين الشيئين كقوله تعالى: {لا يستوي

أصحاب النار} [الحشر: 20] وغثباته كقوله عليه الصلاة والسلام: " إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا " لا يقتضي العموم في الأحكام، فلا يقتضي القصاص نفيا، ولا إثباتا؛ لأن الشيء لا يساوي غيره مطلقا، وإلا لاتحدا، أو لغثباته مطلقا، وغلا لما اشتركا في المحكومية؛ فإذن لابد من تقييد التساوي بما فيه التساوي، وإذا لم يذكره، كان مجملا لا عاما. قلت: أما النفي، فقد تقدم، وأما الغثبات؛ فلأن التشبيه، إنما يقتضي الاشتراك في الوجه الذي وقع الكلام لأجله، ورتبته أن يكون المشبه دون المشبه به، فلا يحصل العموم، وإلا يحصل التساوي. وأما قوله: " لا يساوي الشيء غيره مطلقا، وغلا لاتحدا "، فهو كلام يقتضي نفي المتساويين مطلقا، وكذلك المثلان، وقد اتفق العقلاء على أن لنا مثلين متساويين في الأحكام الشرعية؛ لوجوب الصلاة في يوم السبت، ووجوبها في يوم الأححد، وكذلك على زيد وعمرو، وكذلك جميع العبادات، وفي الأحكام العقلية؛ فإن استحالة اجتماع النقيضين في السواد، كاستحالتهما في البياض، وإن أفراد البياض متماثلة إلى غير ذلك، بل من شرط المثلين التبيان بالتعين، فلو اشترطنا في المثلين الاتحاد، انتفى المثلان؛ لأنهما حينئذ واحد، والواحد ليس بمثلين؛ فحينئ1 ليس من شرط التساوي في كل شيء التعيين، بل لابد من المباينة في التعيين؛ وحينئذ لايتم قوله: " فلو استويا في كل شيء، كما الخصم يدعيه في صورة النزاع، لاتحدا ". وقوله: " ولا يباينه مطلقا، وإلا لما اشتركا في المحكومية ". معناه: أن كل واحد منهما محكوم عليه؛ بأنه مباين للآخر، فقد اشتركا في هذا المعنى؛ فلا يحصل السابق مطلقا.

وقوله: " لابد من تقييد التساوي بما فيه التساوي ". معناه: أنه يقتضي صفة ما، غير معينة من غير شمول، فلابد من تعينها. قوله: " إذا لم يذكره، كان مجملا ش. قلنا: يكفي من ذكره كون السياق لأجله، فلا يحتاج مع السياق إلى تصريح. ***

المسألة الخامسة قال الرازي: إذا قال الله تعالى: {يأيها النبي} [التحريم: 11] فهذا لايتناول الأمة

المسألة الخامسة قال الرازي: إذا قال الله تعالى: {يأيها النبي} [التحريم: 11] فهذا لايتناول الأمة. وقال قوم: ما يثبت في حقه يثبت في حق غيره، إلا مادل الدليل على أنه من خواصه، وهؤلاء، إن زعموا: أن ذلك مستفاد من اللفظ، فهو جهالة، وإن زعموا: انه مستفاد من دليل آخر، وهو قوله تعالى: {ما آتاكم الرسول، فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] وما يجري مجراه، فهو خروج عن هذه المسألة؛ لأن الحكم عنده، إنما وجب على الأمة، لا بمجرد الخطاب المتناول للنبي فقط؛ بل بالدليل الآخر. وإذا ثبت ذلك ثبت أيضا: أن الخطاب المتناول بوضعه للأمة، لا يتناول الرسول صلى الله عليه وسلم. المسألة الخامسة قال القرافي: إذا قال الله تعالى: {يأيها النبي} [الأحزاب: 1] لا يتناول الأمة، وبعضهم يستدل بأن العادة جارية بأن رئيس القوم، إذا خوطب، اندرج قومه معه وأتباعه. وجوابه: أن هذا اتسدلال بالعوائد، لا بالأوضاع اللغوية، ونحن لا ننازع في أنه قد يدل بغير الوضع. ***

المسألة السادسة اللفظ الذي يتناول المذكر والمؤنث

المسألة السادسة اللفظ الذي يتناول المذكر والمؤنث قال الرازي: إما أن يكون مختصا بهما؛ وهو كلفظ الرجال للذكور، والنساء للإناث؛ أو لايكون؛ وهو على قسمين: أحدهما: ما لا يتبين فيه تذكير ولا تأنيث؛ كصيغة (من) وهذا يتناول الرجال والنساء، ومنهم من أنكره. لنا: أنعقاد الإجماع على أنه إذا قال: " من دخل الدار من أرقائي، فهو حر " فهذا لا يتخصص بالعبيد، وكذا لو أوصى بهذه الصيغة، أو ربط بها توكيلا، أو إذنا في قضية من القضايا. احتجوا بقول العرب: " من، منأن، منون، منه، منتان، منات ". والجواب: ان ذلك، وإن كان جائزا إلا أنهم اتفقوا على أن الأصح استعمال لفظ (من) في الذكور والإناث. القسم الثاني: ما تتبين فيه علامات التذكير والتأنيث؛ كقولنا: " قام، قاما، قاموا، قامت، قامتا، قمن " واتفقوا على أن خطاب الإناث لا يتناول الذكور، واختلفوا في أن خطاب الذكور، هل يتناول الإناث؟ والحق: لا. لنا: أن الجمع تضعيف الواحد، وقولنا: (قام) لا يتناول المؤنث؛ فقولنا: (قاموا) الذي هو تضعيف قولنا: (قام) وجب ألا يتناول المؤنث. احتجوا: بأن أهل اللغة قالوا: إذا اجتمع التذكير والتأنيث، غلب التذكير.

المسألة السادسة اللفظ الذي يتناول المذكر والمؤنث

والجواب: ليس المراد ما ذكرتموه؛ بل المراد: أنه متى أراد مريد أن يعبر عن الفريقين بعبارة واحدة، كان الواجب هو التذكير، والله أعلم. المسألة السادسة اللفظ الذي يتناول المذكر والمؤنث قال القرافي: قوله: " تقول العرب: من، منان، منون، منه، منتان، منات. قلنا: هذا شاذ في اللغة، والجادة على النعت بلفظ من المفرد، عن الواحد [والمثنى] والجمع، والمذكر والمؤنث. وقول المصنف يشعر بأنه جائز مطلقا، وليس كذلك. ثم قوله، في الجواب " اتفقوا على صحة استعمال (من) في الذكور والإناث " يرد عليه أن الصحة لا تحصل المقصود؛ فإن المجاز كله جائز. وإنما النزاع في الحقيقة اللغوية، وأما استعارة المذكر للمؤنث، والمؤنث للمذكر، فجائز اتفاقا، فقد بعث أعرابي كتابا للحجاج، فقطعه الحجاج؛ احتقارا به، فبلغ ذلك مرسله، فقال: "قبحه الله، جاءته كتابي فاحتقرها " فقيل له: أتقول ذلك في الكتاب؟ فقال: " أليست صحيفة " فأنث الكتاب تأويلا له بالصحيفة، وهذا متنوع واسع مع أنه حقيقة؛ لأنه لاحظ وجها مؤنثا، فاستعمل اللفظ فيه، وفي غير هذا المعنى يكون مجازا أو مستعارا، ولا نزاع فيه؛ إنما التزاع في الحقائق الأصلية. قوله: " إذا اجتمع المذكر والمؤنث، وأراد مريد أن يعبر عن الفريقين بعبارة واحدة، وجب التذكير ". تقريره: أن التذكير في هذه الصورة في شموله للفريقين أمر نشأ عن إرادة المتكلم الجمع، لا عن الوضع، وكلامنا قبل إرادة الجمع، هل يندرج

(فائدة) الجمع لأجل الإرادة في لفظ أحد القسمين يكون لاسباب ثلاثة

المؤنث وضعا أم لا؟ والخصم لم ينتبه، إنما بين الجمع بسبب الإرادة، وهو لا نزاع فيه. (فائدة) الجمع لأجل الإرادة في لفظ أحد القسمين يكون لاسباب ثلاثة: الأول: الشرف، فيغلب المذكر على المؤنث؛ لشرف التذكير، ومنه قول الشاعر (الطويل): ........................... ... لنا قمراها والنجوم الطوالع فقوله: (قمراها) تغليب للفظ القمر على لفظ الشمس؛ لكون القمر مذكرا، والشمس مؤنثة. ومنه قوله تعالى: {ولأبويه لكل ...} [النساء: 11] غلب الأب على الأم. الثاني: خفه اللفظ، ومنه قولهم: دولة العمرين، يريدون أبا بكر وعمر، وكلاهما مذكر، لكن لفظ عمر أخف، فلو غبوا لفظ أبي بكر لقالوا: ابوي بكر، وهو أكثر حروف من قولهم: العمرين. وقيل: المراد عمر بن عبد العزيز، وعمر بن الخطاب؛ وعلى هذا لا تغليب.

الثالث: كراهة المعنى؛ ومنه قوله عائشة رضي الله عنها: " وما لنا عيش إلا الأسودان ". تريد التمر والماء، والتمر أسود، والماء ليس بأسود؛ فغلبت التمر الأسود مع أن كليهما مذكر، ولفظ كليهما على وزن (أفعل) سواء، غير أن العرب شأنها كراهة ذكر البياض، ولذلك يسمون الأبيض أحمر، ومنه قوله عليه السلام " بعثت إلى الاسود والأحمر ". قيل: للعرب والعجم؛ لأن العجم أصفى من العرب لونا. وقيل: للجن والإنس؛ لأن الجان؛ بخفائهم عن الأعين، كانهم في غاية السواد؛ لأن ما لا يرى يرى أسود، ولذلك من غمض عينيه لا يرى غلا سوادا، وفي الظلام كذلك، والأعمى كذلك، ومنه تسمية عائشة بالحميراء، مع قوة بياضها وصفائه لذلك. فلذلك غلبوا الأسود، فهذه اسباب التغليب، وهي تؤكد أنها مجاز قطعا، فإن الأب لم يوضع للأم، ولا عمر لأبي بكر، ولا الأسود للأبيض، وإنما ذلك مجاز؛ لأجل التغليب، والباعث عليه الأسباب المذكورة، فتأمل ذلك. ***

المسألة السابعة قال الرازي: إذا لم يمكن إجراء الكلام على ظاهرة إلا بإضمار شيء فيه

المسألة السابعة قال الرازي: إذا لم يمكن إجراء الكلام على ظاهرة إلا بإضمار شيء فيه، ثم هناك أمور كثيرة يستقيم الكلام بإضمار أيها كان لم يجز إضمار جميعها، وهذا هو المراد من قولنا: " المقتضى لا عموم له " مثاله: قوله عليه السلام: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ". فهذا الكلام لايمكن إجراؤه على ظاهره، بل لابد، وأن نقول: المراد: رفع عن أمتي حكم الخطأ. ثم ذلك الحكم: قد يكون في الدنيا؛ كإيجاب الضمان، وقد يكون في الآخرة؛ كرفع التأثيم، فنقول: إنه لا يجوز إضمارهما معا. لنا: أن الدليل ينفي جواز الإضمار، خالفناه في الحكم الواحد؛ لأجل الضرورة، ولا ضرورة في غيره؛ فيبقى على الاصل، وللمخالف أن يقول: ليس إضمار أحد الحكمين بأولى من الآخر. فإما ألا تضمر حكما أصلا؛ وهو غير جائز، أو تضمر الكل؛ وهو المطلوب. المسألة السابعة قال القرافي: إذا لم يمكن إجراء الكلام على ظاهره، إلا بإضمار، لا يضمر الجميع. قوله: " لايمكن إجراء قوله عليه السلام: " رفع عن أمتي الخطأ ". تقريره: أن كل واقع يستحيل رفعه بعد وقوعه، والمراد بالحديث أن الخطأ

(تنبيه) هذه المسألة هي فرع من دلالة الاقتضاء

إذا وقع من الأمة، رفعه الله تعالى وهذا متعذر؛ فيتعين غضمار شيء آخر يمكن رفعه؛ حتى يستقيم الكلام. قوله: " الدليل ينفي جواز الإضمار، خالفناه في الحكم الواحد؛ للضرورة؛ فيبقى على الأصل ". قلنا: هذا العام يمكن التفصيل فيه؛ فنقول: غن كان كل حكم مضمر يحتاج له لفظ يخصه، فلا يشك ان ذلك خلاف الأصل، وأن جميع الأحكام يعمها لفظ، والحكم الواحد لابد له من لفظ؛ فعلى هذا التردد؛ إما هو بين إضمار لفظ عام، أو إضمار لفظ خاص، وحينئذ يمنع أن إضمار اللفظ العام خلاف الأصل، وأنه مرجوح بالنسبة إلى اللفظ الخاص؛ فإن الجميع اشتركا في مخالفة الاصل، وامتاز اللفظ العام الشامل بزيادة الفائدة؛ فوجب تقديمه؛ لأن المحذور هو كثرة اللفظ المضمر، أما كثرة فائدة ذلك اللفظ المضمر، فلا، وعلى هذا يضمر هاهنا (الحكم) مضافا. تقريره: رفع عن أمتي حكم الخطأ، واسم الجنس إذا اضيف، عم، فيعم أحكام الدنيا والآخرة، ولا يلزم تكثير مخالفة الأصل، ويكون اللفظ أكثر وأجمع للمقاصد؛ فيكون أولى. (تنبيه) هذه المسألة هي فرع من دلالة الاقتضاء؛ لأن دلالة الاقتضاء هي اقتضاء معنى غير المنطوق به؛ يتوقف عليه التصديق، لا تركيب اللفظ، وإذا قلنا بها، وتوقف التصديق على إضمار أمور، هل يضمرها كلها؟ هو هذه المسألة، فهي فرع على تلك، واعلم أنه قد يتفق في بعض الموارد أن يكون أحد ما يمكن إضماره راجحا بالعادة، أو السياق؛ لاقتضاء خصوص ذلك الحكم له، أو بقرينة حالية، أو مقالية؛ فلا ينبغي الخلاف في تعينه للإضمار؛ لرجحانه، وهل يمتنع إضمار غيره؟

(فائدة) قال سيف الدين محتجا للخصم: لفظ الرفع دل على رفع جميع الأحكام

ينبني على أن هذه الإضمارات، إذا قلنا بالعموم فيها، هل هو عموم لغة أو لضرورة الحاجة، وقد اندفعت بالواحد؟ فإن قلنا بالعموم؛ لأنه مقتضي اللغة، يتعين إضافة غير الراجح للراجح؛ لأن العام لغة إذا كان بعضه أرجح من بعض، يتعين اعتبار المرجوح مع الراجح؛ كقوله: " من دخل داري فأكرمه " ولا شك أن إكرام العلماء والأقارب أرجح من إكرام غيرهم، ومع ذلك يتعين إكرام الجميع؛ لعموم اللفظ. أما غذ ليس في اللغة ما يقتضي العموم، فيتعين الاقتضاء على الراجح؛ لاندفاع الضرورة. واعلم أن هذه المسألة بينها مشابهة، وبين الحقيقة، إذا تعذرت، وبقيت مجازات مستوية، أو بعضها أرجح، فهل يتعين الحمل على الكل، او يبقى اللفظ؛ كما قال الشافعي في المشترك، إذا تجرد عن القرائن، أو يتعين الراجح، أو يبقى اللفظ مجملا، حتى تأتي القرينة المميزة، وينبغي أيضا أن يعلم أن القائلين بأنه لا يعمم في هذه المسألة، كيف يضعون إذا استوت الإضمارا؟ هل يرجحون من غير مرجح، ويضمرون بعضها؛ تحكما بغير دليل، وهو بعيد في مجال النظر، أو لا يضمرون إلا ما دل الدليل على تعينه؛ فيصير حينئذ أرجح، لا ينبغي أن يخالفوا في ذلك، فهذه كلها مواقف ينبغي تأملها في هذه المسألة. (فائدة) قال سيف الدين محتجا للخصم: لفظ الرفع دل على رفع جميع الأحكام؛ لأن رفع الحقيقة مستلزم لرفع جميع أوصافها، وأحكامها، فإذا تعذر العمل بهذا الرفع في نفس الدار، بقي مستعملا فيما عداها، هذا من حيث اللغة، ومن حيث العرف أيضا؛ فإنه يقال: " ليس للبلد سلطان ولا حاكم " وفيه حاكم رديء أو سلطان كذلك، والمراد نفي جميع الصفات.

وأجاب عن الأول: بان العموم، إنا نشأ عن نفي الذات، والذات لم تثبت، وانتفاء الموجب يوجب انتفاء الأثر. وعن الثاني: بأن المقصود سلب صفة التدبير، وليس المقصود جميع الصفات؛ بدليل أن السلطان حي عالم له صفات كثيرة، لم يتعرض المتكلم لنفيها. ,اجاب عن قولهم: " ليس إضمار البعض اولى من البعض؛ يلزم الترجيح من غير مرجح " بأن هذا إنما يلزم أن لو أضمرنا حكما معينا، بل نحن إنما نضمر حكما ما، والتعيين إلى الشارع، وألزم عليه سؤال الإجمال، وأجاب عنه بأن سؤال الإجمال على خلاف الأصل، والإضمار أيضا على خلاف الاصل؛ فيتساقطان، وكلامه هذا يقتضي أن القائلين بعدم العموم لم يعنوا شيئا معينا للإضمار، إلا بدليل شرعي، وهو الصواب. ***

المسألة الثامنة قال الرازي: المشهور من قول فقهائنا: أنه لو قال: " والله، لا آكل " فإنه يعم جميع المأكولات

المسألة الثامنة قال الرازي: المشهور من قول فقهائنا: أنه لو قال: " والله، لا آكل " فإنه يعم جميع المأكولات، والعام يقبل التخصيص، فلو نوى مأكولا دون مأكول، صحت نيته؛ وهو قول أبي يوسف. وعند أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يقبل التخصيص، ونظر أبي حنيفة رحمه الله فيه دقيق: وتقريره: أن نية التخصيص، لو صحت، لصحت: إما في الملفوظ، أو في غيره؛ والقسمان باطلان؛ فبلطت تلك النية. وإنما قلنا: إنه لا يصح اعتبار نية التخصيص في الملفوظ؛ لأن الملفوظ هو الأكل، والأكل ماهيتة واحدة؛ لأنها قدر مشترك بين أكل هذا الطعام، وأكل ذلك الطعام، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، وغير مستلزم له؛ فالأكل من حيث أنه أكل مغاير لقيد كونه هذا الأكل، وذاك، وغير مستلزم له، والمذكور إنما هو الأكل من حيث هو أكل، وهو بهذا الاعتبار ماهية واحدة، والماهية من حيث إها هي لا تقبل العدد؛ فلا تقبل التخصيص، بل الماهية إذا اقترنت بها العوارض الخارجية، حتى صارت هذا أو ذاك، تعددت؛ فهناك صارت محتملة للتخصيص، ولكنها قبل تلك العوارض لا تكون متعددة؛ فلا تكون محتملة للتخصيص. فالحاصل أن الملفوظ ليس إلا الماهية، وهي غير قابلة للتخصيص. فأما إذا أخذت الماهية مع قيود زائدة عليها، تعددت؛ وحينئذ تصير محتملة

للتخصيص؛ لكن تلك الزوائد غير ملفوظة؛ فالمجموع الحاصل منها، ومن الماهية غير ملفوظ؛ فيكون القابل لنية التخصيص شيئا غير ملفوظ، وهذا هو القسم الثاني. فنقول: هذا القسم، وإن كان جائزا عقلا، إلا أنا نبطله بالدليل الشرعي فنقول: إضافة ماهية الأكل إلى الخبز تارة، وإلى اللحم أخرى - إضافات تعرض لها؛ بحسب اختلاف المفعول به. وغضافتها إلى هذا اليوم وذلك، وهذا الموضع وذاك إضافات عارضة لها بحسب اختلاف المفعول فيه. ثم أجمعنا على أنه لو نوى التخصيص بالمكان والزمان، لم يصح، فذلك التخصيص بالمفعول به، والجامع رعاية الاحتياط في تعظيم اليمين. حجة أصحاب الشافعي رضي الله عنه: أجمعنا على أنه لو قال: " إن أكلت أكلا، أو غسلت غسلا " صحت نية التخصيص؛ فكذا غذا قال: " إن أكلت " لأن الفعل مشتق من المصدر والمصدر موجود فيه. والجواب: أن المصدر هو: الماهية، وقد بينا أنها لا تحتمل التخصيص، وأما قوله: " أكلت أكلا " فهذا في الحقيقة ليس مصدرا؛ لأنه يفيد أكلا واحدا منكرا، والمصدر ماهية الأكل، وقيد كونه واحدا منكرا ليس وصفا قائما به؛ بل معناه أن القائل ما عينه، والذي يكون متعينا في نفسه، لكن القائل ما عينه؛ فلا شك أنه قابل للتعيين، فغذا نوى التعيين، فقد نوى ما يحتمله اللفظ، فهذا ما عندي في هذا الفصل.

شرح القرافي: إذا قال: (لا آكل)

المسألة الثامنة قال القرافي: إذا قال: (لا آكل): قلت: اختلفت عبارة العلماء في فهرسة هذه المسألة، فالغزالي في (المستصفى)، وسيف الدين وغيرهم يقولون: الفعل المتعدي، هل يعم بفاعله، ويقبل التخصيص أم لا؟ فعلى هذا لا يتناول هذه المسألة الأفعال القاصرة. والقاضي عبد الوهاب المالكي في كتاب (الإفادة) وغيره يقولون: الفعل في سياق النفي، هل يقتضي العموم؛ كالنكرة في سياق النفي؛ لأن نفي الفعل نفي لمصدرة؟ فإذا قلنا: (لا يقوم) كأنا قلنا: (لا قيام). ولو قلنا: (لا قيام) عم، وعلى هذا التفسير؛ تعم المسألة القاصر والمتعدى. والإمام فخر الدين ادعى شيئا مشتملا على الأمرين؛ فإن (لا آكل) هو فعل في سياق النفي، وهو فعل متعد، والظاهر: أن مراده الفعل من المتعدى، كما في (المستصفى) لأنه أحد الأصول التي منها جمع كتابه، ودليله في المسألة إنما تعرض فيه للفعل، فدل ذلك على أنه المراد، والظاهر أنهما مسألتان، ذكر أحد الفريقين إحداهما، وترك الأخرى؛ وعلى هذا لا يكون اختلافا في التعبير عن المسألة. وقوله تعالى: {لا يموت فيها ولا يحيا} [طه: 74] من مسألة الفعل في سياق النفي. قوله: " قبل أن تعرض لها العوارض لا تكون متعذرة " هو مثل قول

النحاة: المصادر لا تثنى، ولا تجمع إلا إن تجددت أو اختلفت أنواعها؛ كالحلوم والإسعال؟ ان ماهية المصدر من حيث هي تلك المادة لا واحدة، ولا كثيرة، فغذا تنوعت بالفصول التشخصات، صارت ذات عدد، فدخلت التثنية والجمع في ذلك العدد، وكذلك الأكل هاهنا غير أن هاهنا بحثا، وهو أنها، إن كانت غير قابلة للتخصيص؛ لعدم تعددها، فهي قابلة للتقييد؛ لأن التقييد عكس التخصيص؛ لأن التقييد زيادة على الحقيقة، وهو ثبات مع الوحدة في الماهية، والتخصيص نقصان، وذلك متعذر مع الوحدة دون التقييد. وإذا قيد الحالف المحلوف عليه بنوع معين، لا يحنث بغيره، كما لو حلف؛ ليكرمن رجلا، ونوى اباه، لا يبرأ بإكرام غيره؛ لأجل أنه قيد الرجل في نيته بأبيه؛ كذلك في النفي، غذا حلف؛ لا يفعل ماهية الأكل، وقيدها في نيته بالطعام الحرام، ونحوه، لا يحنث بالطعام الحلال. قوله: " اجمعنا على أنه، لو نوى التخصيص بالزمان والمكان، لم يصح ". قلنا: لا نسلم؛ بل الشافعية، والمالكية متفقون على أنه إذا قال: " والله لا أكل، ونوى يوم السبت ونحوه، لا يحنث بغيره، وكذلك في المكان، والحكم المقيس عليه ممنوع، وسلمنا الحكم فيه، لكن الفرق أن المفعول به أقوى تعلقا، وأمس باللفظ من الطرفين الزماني والمكاني؛ بدليل أن النحاة أجمعوا على أنه، غذا وجد المفعول به، والظرف في باب ما لم يسم فاعله؛ أنه يتعين تقديم المفعول؛ لقوة شبهه بالفاعل؛ الا ترى أن من أكرم زيدا، أو أهانه، فصده حصول الإكرام لزيد دون الزمان الذي حصل فيه الإكرام، ودون المكان، ولا يكاد أحد يقصد خصوص الزمان والمكان إلا نادرا، ولا عبرة بالنادر؛ ولأن الظروف تتعدى إليها الأفعال المتعدية، وغير المتعدية،

وأما المفعول به، فلا يتعدى إليه إلا الفعل المتعدي، فهو مقتض بخصوص التعدي، دون عموم اللفظ، والاقتضاء الخاص يقدم على الاقتضاء العام؛ بدليل قول الفقهاء: إن الصلاة في الثوب الحرير تقدم على الصلاة في الثوب النجس؛ لاختصاصها بالصلاة، والمحرم يأكل الميتة ولا يأكل الصيد عند الضرورة والتعارض؛ لأن الإحرام يقتضي تحريم خصوص الصيد، والاقتضاء الخاص مقدم، ونظائره كثيرة، فهذه ثلاثة أجوبة. قوله: " اتفقنا على التخصيص، إذا قال: لا أكلت أكلا ". تقريره: أن النحاة اتفقوا على أن ذكر المصدر بعد الفعل، إنما هو للتأكيد، والتأكيد عبارة عما لم ينشأ سببا لم يكن في الاصل غير تقوية ما فهم من الأصل، فجميع الأحكام الثابتة بعد التأكيد هي الأحكام الثابتة قبله، غير التقوية ليس إلا؛ وحينئذ جواز التخصيص من جملة الأحكام، وهو ثابت بعد النطق بالمصدر؛ فيثبت قبله، وهو محل النزاع، وهذا تقرير في غاية الظهور والقوة. قوله: (اكلا) ليس مصدرا " خلاف إجماع النحاة؛ فإنا نقول: اكل يأكل أكلا، وجميع أئمة العربية على إعرابة مصدرا. قلنا: قيد كونه منكرا خارج عن الماهية. قوله:" ليس في (أكلا) إلا الماهية؛ من حيث هي ماهية الأكل، وهي صادقة على التقليل والكثير من جنسها " وهذا هو حقيقة المصدر، وحقيقة النكرة؛ فإن النكرة كل اسم شائع في جنسه لا يخص واحدا منها دون الآخر، ولا شك أن أصل الماهية التنكير. قال النحاة: ولذلك كان التعريف يمنع الصرف؛ لأنه فرع عن التنكير؛ فحينئذ ليس التنكير عارضا، بل هو أصل الحقيقة.

تنبيه: النية لا يجوز تأثيرها إلا في ملفوظ به لا في لازم ملفوظ، ولا في عارضه

قوله: والذي يكون معينا في نفسه، لكن الإنسان ما عينه، فهو قابل للتعيين، فإذا نوى التعيين، نوى ما يحتمله الملفوظ. قلنا: لا نسلم أن المصدر، إذا نطق به هكذا، يلزم أن يكون معينا عند المتكلم، بل يشير به إلى ماهية الأكل التي هي القدر المشترك بين جميع ماهيات الأكل، ولا يريد معينا، لاسيما كل ما في الحلف الذي لا يكون إلا في المستقبلات، والأفعال التي لم تقع بعد، والتعيين إنما يكون في الحال أو الماضي؛ فإنه لابد، وأن يكون معينا، أما المستقبل فلا يلزم ذلك فيه، وكذلك تكاليف الشرع كلها، إنما تعلقت بالماهيات الكليات المعينات؛ لكونها مستقبلة عند الطلب والتخيير، ففرق بين قول القائل: أكلت أكلا، وبين قوله: لا أكلت أكلا، فإن الأول بالضرورة وقع في مأكول معين، وزمان معين، وهيئة معينة؛ بخلاف الثاني مسلوب جميع ذلك؛ فظهر حينئذ أن التعيين في المصدر في صورة النزاع غير لازم. قوله: " نوى ما يحتمله الملفوظ ". قلنا: وكذلك قبل النطق بالمصدر نوى ما يحتمله الملفوظ؛ لأن الفعل يحتمل أن يريد به الحالف مفعولا معينا في نفسه، وهذا معلوم بالضرورة من أحوال الحالفين. (تنبيه) الذي رأيته من كلام الحنفية، وسمعته من فضلائهم في البحث في هذه المسألة: أن النية لا يجوز تأثيرها إلا في ملفوظ به لا في لازم ملفوظ، ولا في عارضه. قالوا: فإذا قال: " لأكرمن رجلا " ونوى اباه، صح؛ لأن ماهية الرجل ملفوظ بها؛ فقبلت تأثير النية بالتقييد والتخصيص، وأما المأكولات من لفظ الأكل، إنما هي مدلولة بالالتزام، فلا تؤثر النية فيها شيئا، ويكون وجود

النية كعدمها، واتفقنا على أنه، لو لم ينو، حنث بأي مأكول كان، فكذلك النية التي هي غير معتبرة، وبقى البحث معهم في تقرير هذه القاعدة، فلم قالوا: " إنها لا في الملفوظ " مع أنهم نقضوا ذلك بما إذا صرح بالمصدر، وتأثيرها حينئذ إنما هو في غير الملفوظ، هذا بحكم مبهم، وظواهر النصوص يرد عليهم مثل قوله عليه السلام: " وإما لكل امرئ ما نوى " وهو حديث عام، لم يخصه صاحب الشرع بالملفوظ، ولا بغيره؛ لقوله: " الأعمال بالنيات " الشامل لكل عمل لا سيما، وسؤال التقييد ما أجابوا عنه؛ فإنهم إنما أجابوا عن التخصيص دون التقييد، وهو عكسه، ولا يلزم من امتناعه امتناعه؛ كما تقدم. ومنها: قوله تعالى؛ حكاية عن يعقوب عليه السلام أنه قال لبنيه عن أخي يوسف: {لتأتني به إا أن يحاط بكم} [يوسف: 66]، فاستثناء حالة الإحاطة من جملة الحالات، والأحوال التي تعرض لهم مفهوم خارج عن مفهوم الإتيان الذي دخل عليه الاستثناء، والاستثناء إنما يصح فيما يمكن أن يتعلق به النية؛ فإنه لفظ دال على ما في النفس، فلو لم يتقرر في النفس إخراج هذه الحالة من جملة الحالات لما أتى بالاستثناء، إلاعلى إخراجها، واللفظ إنما هو مقصود السامع، والحالف لا يحتاج أن يعلم السامع، فيبقى ذلك الإخراج في نفسه يوجب له حكم عدم الحنث، ومن استقرا النصوص من الكتاب والسنة، وجد فيها أشياء كثيرة من هذا الباب تقوم بها الحجة على جواز الإخراج من عوارض الألفاظ دون مدلوله، ثم نحن يكفينا أن لم نجد ما يمنع من ذلك، والأصل براءة الذمة، والأصل عدم المنع والحجر؛ فعليهم هم الدليل على منع ذلك، فهذه القاعدة هي سر البحث عندهم، ثم إنهم قاسوا على الطروق؛ فمنعناهم الحكم في الأصل، ونحن قسنا على التصريح بالمصدر، ولم يمكنهم المنع، فتعين الحق في هذه الجهة.

(تنبيه) زاد سراج الدين؛ فقال: "لقائل ان يقول: تعلق الفعل بالمفعول به أقوى من تعلقه بالمفعول فيه

(تنبيه) زاد سراج الدين؛ فقال: "لقائل ان يقول: تعلق الفعل بالمفعول به أقوى من تعلقه بالمفعول فيه، وكانت دلالته الالتزامية عليه أقوى " قد تقدم هذا في المنوع. وقال التبريزي: جهة الإنصاف تمنع من الجري على مقتضى شرط الاختصار، فدعوى الدقة في مذهب عام يضر به؛ فقياس المفعول به على المفعول فيه ظاهر التكلف؛ لأن المفعول به ممن مقومات الفعل في الوجود؛ لأن قتلا بلا مقتول، وأكلا بلا مأكول محال، وكذلك في الذهن: فهم ماهية القتل والأكل، دون فهم المقتول والمأكول محال، فالتزام الأكل التزام للفعل في محل مخصوص، فبالضرورة خصوص التعلق بالمحل يدخل في الملتزم باللفظ، وأما الزمان والمكان، فليسا من لوازم ماهية الفعل، ولا من مقوماته، بل هما من لوازم الفاعل المحدث، وبهذا ينفك فعل الله تعالى عن المكان والزمان، ولا ينفك قتل عن مقتول، فالزمان والمكان اتفاقي ليس بلازم، فهو نحو كون الصلاة تحت فلك القمر، ثم النية، إنما تؤثر في تخصيص آحاد الأكلات؛ فغن لكل مأكول أكلا، وشمول الكلي لآحاد الجزئيات بماهية الحقيقة عموم عقلي يعبر عنه بالحال، فاللفظ الموضوع للكلي الشامل يشملها من طريق التضمن؛ ضرورة، وإن لم يكن مشعرا بالعدد وضعا، ويشهد له تأكيد المصدر. وقوله: " ليس ذلك مصدرا " خلاف قول أهل اللسان أجمع، ثم يقول: " إا كان مفهوم هذا اللفظ واحدا منكرا " فكيف قبل التخصيص، والوحدة

تناقض الكثرة، وهي جزء مفهومها، وإن لم يحصل التنكير وضعا، كما زعم، ثم إنا إذا قطعنا النظر عن التوجه والتنكير المناقضين للتخصيص، عاد مفهومه بطبع المصدر المسكن في نفس الفعل، وهو قوله: (أكلت) وإذا قبلت هذه الصيغة التخصيص، فأولى أن يقبله المصدر المفهوم المسكن، لا يبقى إلا ان هذا المفهوم في صورة الاجتهاد ملفوظ في محل النزاع مضمون، ولكن التضمن معدود من دلالة اللفظ، بخلاف الاتزام؛ ولهذا إذا قال: (طلقي نفسك) ونوى، صح، وإن لم يكن الطلاق المقابل ملفوظا مفهوما، وكذلك إذا قال: أبنتك، فمذهب الشافعي أدق وأحق. قلت: قوله: " عموم عقلي، فعبر عنه بالحال " يشير بالحال إلى الحال التي ليست بمعللة؛ نحو كون السواد عرضا، وكل كلي من أنواع واشخاص، فسمى حالا غير معللة، والحال المعللة هي أحكام المعاني؛ نحو كون المحال عالما، فعلل بقيام العلم به، وكذلك أسود؛ لقيام السواد، ومتحركا؛ لقيام الحركة به. وقوله: " اللفظ الموضوع للكل الشامل يشملها من جهة التضمن " غير متجه؛ لأن الأعم لفظ لا يدل على الأخص، لا مطابقة، ولا تضمنا، ولا التزاما. وكذلك قال: وإن لم يكن مشعرا بالعدد، يقبل الأعداد، والخصوصات، وجميع الأفراد قبولا لا تضمنا. وقوله: " هذا المفهوم في صورة الاجتهاد ملفوظ في محل النزاع مضمون " أي: هو بمعنى الملفوظ، ومدلول عليه ضمنا. وقوله: " المتضمن معدود من دلالة اللفظ؛ بخلاف الالتزام " غير متجه، بل الكل معدود من دلالة اللفظ، غير أن دلالة التضمن أقوى؛ لكون المدلول داخلا، وفي الالتزام خارجا، ولعله يريد القوة لا النفي بالكلية.

فائدة

(فائدة) قال سيف الدين: " الفعل المتعدي عندنا يجري مجرى العام في مفاعليه؛ فيقبل التخصيص، وهو عندنا كذلك في النفي والإثبات. أما في النفي: إذا قال: " والله، لا أكلت " فقد نفي الحنفية الحقيقة التي هي ماهية الأكل، ويلزم نفي جميع جزئياتها، ونفي كل مأكول؛ فثبت العموم؛ فقبل التخصيص. وأما في الإثبات: نحو: " إن أكلت، فأنت طالق " فمطلق الأكل يستلزم مطلق المفعول، والمطلق يصلح تفسيره بالمقيد. قلت: ويرد عليه منع الحنفية؛ أن هذا مدلول التزاما؛ فلا يقبل التقييد؛ كما تقدمت قاعدتهم. (قاعدة) ما الفرق بين هذه المسألة، وبين قولنا: " المقتضى لا عموم له " فإن الغزالي قال في " المستصفى ": إن الحنفية قالوا: هذه الألة من باب الاقتضاء ولا عموم له، فإذا قال: " انت طالق " ونوى عددا، لا يلزمه العدد. قال: وليس هذا من باب الاقتضاء؛ لان الاقتضاء هو الذي يضمر للتصديق؛ نحو " رفع عن أمتي الخطأ ". والفعل المتعدي ما يدل عليه مفعوله، وليس البعض أولى من البعض؛ فيعم بدلالة اللفظ، لا لأجل التصديق.

المسألة التاسعة قال الرازي: قال الشافعي رضي الله عنه: ترك الاستفصال، في حكاية الحال

المسألة التاسعة قال الرازي: قال الشافعي رضي الله عنه: ترك الاستفصال، في حكاية الحال، مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. مثاله: أن ابن غليان أسلم على عشر نسوة، فقال عليه الصلاة والسلام: " أمسك أربعا، وفارق سائرهن " ولم يسأله عن كيفيه ورود عقده عليهن في الجمع، أو الترتيب؛ فكان إطلاقه القول دالا على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معا، أو على الترتيب. وهذا فيه نظر؛ لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم عرف خصوص الحال، فجأب؛ بناء على معرفته، ولم يستفصل، والله أعلم. المسألة التاسعة قال القرافي: ترك الاستفصال في حكاية الحال، مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. قلت: هذا النقل عن الشافعي يناقضه ما نقل عنه من أن حكاية الحال، إذا تطرق إليها الاحتمال، كساها ثوب الإجمال، وسقط بها الاستدلال. وسألت بعض الشافعية عن ذلك، فقال: يحتمل أن يكون ذلك قولين للشافعي، والحق أنه لا تناقض فيه؛ والكلام حق بني على قاعدتين: القاعدة الأولى: أن الاحتمال تارة يكون في دليل الحكم، وتارة في المحل المحكوم عليه، لا في دليله، ويكون الدليل في نفسه سالما عن ذلك.

وأما في الدليل: فقوله عليه السلام: " فيما سقت السماء العشر " يحتمل أن يريد وجوب الزكاة في كل شيء حتى الخضروات كما قاله أبو حنيفة، ويكون العموم مقصودا له عليه السلام لأنه تعلق بلفظه الدال عليه، وهو صيغة (ما) ويحتمل أنه لم يقصده؛ لأن القاعدة: أن اللفظ، إذا سيق لبيان معنى، لا يحتج به في غيره، فإن داعية المتكلم مصروفة لما توجه له دون الأمور التي تغايره، وهذا الكلام، إنما سيق؛ لبيان المقدار الواجب، دون بيان الواجب فيه، فلا يحتج به على العموم في الواجب فيه، وإذا تعارض الاحتمالان، سقط الاستدلال به على وجوب الزكاة في الخضروات، هذا في الأدلة العامة. وأما في وقائع الأحوال: فكما جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي جاء يضرب صدره، وينتف شعره: " أعتق رقبة " فيحتمل أن يكون أمره بذلك؛ لكونه أفسد صومه، ويحتمل أن يكون ذلك؛ لكونه أفسده بالجماع، أو لكونه أفسد مجموع الصومين، كل هذه احتمالات مستوية بالنسبة إلى ما دل اللفظ عليه، ولا يتعين أحدها من جهة اللفظ، بل من جهة مرجحات العلل، وقوانين القياس، فهذه احتمالات في نفس الدليل؛ فيسقط الاستدلال به؛ على ما الاحتمالات فيه متقابلة.

وأما في المحل المحكوم عليه: فقوله تعالى: {فتحرير رقبة} [المائدة: 89] هذا لفظ صريح في إيجاب إعتاق الرقبة؛ غير أن تلك الرقبة يحتمل أن تكون بيضاء أو سوداء، أو غير ذلك، والمعتق يحتمل أن يكون كهلا أو شيخا، أو غير ذلك؛ فيعم الحالات كلها، وكذلك " في أربعين شاة شاة " يعم أحوالا لشياه من البيضاء والسوداء، أو أي شاة أخرجها أجزأت، وكان الإجزاء عاما في جميع أحوال المحكوم عليه، فتأمل هذا الفرق. فهذه المسألة حيث يكون لفظ الشارع ظاهرا أو نصا، والاحتمالات، إنما هي في محل الحكم، وذلك البعض حيث تتعارض الاحتمالات في نفس الدليل، ولا شك أن المجمل لا دلالة فيه، ولا يثبت به حكم، والنسوة هن المحل المخير فيه، ولفظ الحديث لا إجمال فيه، ويحتمل أن يكون عقودهن واحدة؛ كما قال أبو حنيفة، ويحتمل أن تكون عقودا واحدا بعد واحد؛ يفعم الحكم الجميع. القاعدة الثانية: أن مراد العلماء من تطرق الاحتمال الاحتمال المساوي، أما المرجوح، فلا عبره به إجماعا؛ لأن الظواهر كلها فيها الاحتمال المرجوح، ولا يقدح في دلالتها. ***

المسألة العاشرة قال الرازي: العطف على العام لا يقتضي العموم

المسألة العاشرة قال الرازي: العطف على العام لا يقتضي العموم؛ لأن مقتضى العطف مطلق الجمع؛ وذلك جائز بين العام والخاص؛ قال الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] وهذا عام، وقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} خاص. المسألة العاشرة قال القرافي: العطف على العام لا يقضي تخصيص العام. تقريره: أن الله تعالى لما قال: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} [البقرة: 228] ثم قال: {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة: 228] لا يقتضي صدر الآية العموم في آخرها، بل يجمل آخرها على الرجعيات فقط؛ لأن العطف، إنما يقتضي التشريك في الأحكام بين المفردات، وهاهنا وقع العطف بين جملتين، فجاز اختلافهما في العموم والخصوص؛ غير أن هاهنا قاعدة أخرى؛ وهي أن الضمير الذي يعود على ظاهر، الأصل أن يكون هو نفس ظاهرة، لكن الضمير في (بعولتهن) يعود على جميع المطلقات، فيكون هو أيضا يدل على أن جميع المطلقات بعولتهن أحق بردهن، إلا أن ذلك خلاف الإجماع، فيكون الإجماع هو المانع من إجرائه على عمومه؛ لأن العموم منتف، وهذا أشكل في الآية ن العطف، وأقوى حجة على التعمي، وأما العطف ما هو عطف بين الجمل؛ فاقتضاؤه العموم بعيد. ***

المسألة الحادية عشرة قال الرازي: كل حكم يدل عليه بصيغة المخاطبة

المسألة الحادية عشرة قال الرازي: كل حكم يدل عليه بصيغة المخاطبة؛ كقوله تعالى: {يأيها الذين آمنو}، {يأيها الناس} فهو خطاب مع الموجودين في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك لا يتناول من يحدث بعدهم إلا بدليل منفصل يدل على أن حكم من يأتي بعد ذلك كحكم الحاضرين؛ لان الذين سيوجدون بعد ذلك ما كانوا موجودين في ذلك الوقت، ومن لم يكن موجودا في ذلك الوقت لا يكون إنسانا ولا مؤمنا في ذلك الوقت، ومن لا يكون كذلك، لا يتناوله الخطاب المتناول للإنسان والمؤمن. فإن قيل: وما الذي يدل على العموم؟ قلنا: الحق أنه معلوم بالضرورة في دين محمد صلى الله عليه وسلم. وذكروا فيه طريقين آخرين: الأول: التمسك بقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} [سبأ: 28] وقوله عليه السلام: " بعثت إلى الناس كافة " وقوله: {بعثت إلى الأسود والأحمر} وقوله صلى الله عليه وسلم " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ". الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم متى أراد التخصيص بين؛ كما قال لأبي بردة بن نيار " يجزئ عنك ولا يجزئ أحدا بعدك ". وخص عبد الرحمن بن عوف " بحل لبس الحرير " فحيث لا يتبين التخصيص، نعلم العموم.

المسألة الحادية عشر

ولقائل أن يعترض على الأول: بأن لفظ " لناس، والجماعة، والأسود، والأحمر " لا يتناول إلا الموجودين؛ فيختص بالحاضرين. وعلى الثاني: بأن ذكر التخصيص، إنما يحتاج إليه لو جرى لفظ يوهم العموم، لكنا قلنا: إن الخطاب مشافهة لا يحتمل أن يدخل فيه الذين سيوجدون بعد ذلك؛ فلا حاجة فيه إلى بيان التخصيص. المسألة الحادية عشر قال القرافي: خطاب المشافهة والمخاطبة يخص الموجودين؛ كقوله تعالى: {يأيها الذين آمنو} [البقرة: 178]. تقريره: أن النداء في لسان العرب لا يكون إلا مع القريب الموجود، أما البعيد جدا؛ كنداء من في المشرق من في المغرب، لا يناديه العرب، إلا على سبيل المجاز، وكذلك من لا يصلح للنداء؛ كقوله تعالى حكاية عن الكافر: {ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله} [الزمر: 56] فمناداة الحسرة ونحوها مما لا يعقل، (و) للعلماء فيه تأويلات مذكورة في موضعها، فالمعدوم أولى، غير أن فهرسة المسألة أعم من النداء، وما مثلها إلا تأكيدا؛ فإن المخاطبة صدق ضمائر الخطاب من غير نداء؛ نحو: أكرمتكم، وأمرتكم، وقوموا، و {أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199] والكل أيضا لا يكون في لسان العرب إلا للموجود الذي يمكن مخاطبته بذلك الحكم، وما عدا ذلك فهو محمول على المجاز. (تنبيه) ينبغي أن تستحضر الفرق بين قوله تعالى: {يأيها الناس} [البقرة: 21] وبين قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] ونحوها مما لا نداء فيه، ولا خطاب، وبين قوله تعالى: {يا

عبادي الذين أسرفوا} وبين قوله تعالى: {إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31]: أن الأول يشترط فيه الوجود والاتصال بتلك الصفة الواقعة في الخطاب، حتى يكون حقيقة، والثاني لا يشترط فيه الوجود، ولا حصول ذلك الوصف في كونه حقيقة، بل يصدق اللفظ حقيقة في المعدوم أيضا، وسر الفرق: ما تقدم بسطه في " باب المشتق " هل يشرط بقاؤه حالة إطلاق المشتق منه أم لا؟ من أن المشتق تارة يكون محكوما به، وتارة يكون متعلق الحكم، فإن كان محكوما به، اشترط وجوده، وإن كان متعلق الحكم، فلا، وبسطه هناك، وبيان مدركه، فلا أطول بإعادته، فقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] و {إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31] يتناول الناس، وجملة المسرفين أبد الآبدين؛ ويكون حينئذ بخلاف القسم الآخر، وبه يظهر الجواب عن قوله في الرد على استدلال الجماعة؛ بأن لفظ الناس والجماعة والأسود والأحمر لا يتناول إلا الموجودين؛ لأنا نقول: قوله عليه السلام: " بعثت للأسود والأحمر ": هاهنا متعلق الحكم يعم الموصوفين بهذه الصفات إلى قيام الساعة، ويكون حقيقة؛ لأنه متعلق الحكم، لا محكوم به. فإذا قلنا: " هذا أحمر، هذا أسود " المعنى هاهنا محكوم به، وكذلك الجواب عن البقية، فتأمل ذلك وراجعه من " مسألة الاشتقاق " يتضح لك أكثره، ويندفع بهذه القاعدة أسئلة كثيرة في أصول الفقة، وفي الفقه والتفسير ومواضع كثيرة، ويعرف بها التخصيص من المجاز في هذه المواطن؛ حتى إنه ينبغي أن يجعل هذا من جملة الفروق المذكورة بين المجاز والحقيقة في باب المجاز؛ فقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] يتناول كل مشرك إلى قيام الساعة؛ بخلاف: هؤلاء مشركون، وقوله تعالى: {الزانية والزاني} [النور: 2] يتناول جميع الزناة، وقولنا: " واصحب العلماء والزهاد " يتناولهم إلى قيام الساعة؛ لأن هذا كله متعلق الحكم؛ لأن الله تعالى حكم

(سؤال) قال النقشواني: هذه المسألة تناقض قوله: إن المعدوم يكون مخاطبا

بالقتل، وجعلهم متعلق الحكم، ولم يحكم بأن أحدا مشرك في هذه الآية، ولم يحكم أيضا بأن أحدا زنى ولا سرق، بل جعلهم متعلق حكم إيجاب الجلد والقطع، وكذلك جميع موارد الاستعمال فيها، الفرق بين كون المعنى محكوما به، أو متعلق الحكم. (سؤال) قال النقشواني: هذه المسألة تناقض قوله: إن المعدوم يكون مخاطبا بالخطاب السابق؛ فلم لا يجوز أن يكون الخطاب الموجود في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناول من أتى بعده، وإن كان معدوما؛ كما قالوه في تلك المسألة؟ (سؤال) قال: قوله: " من ليس موجودا لا يكون إنسانا " لا يستقيم؛ لأن الإنسان في نفسه إنسان، والحقائق كلها في أنفسها يجب لها أن تكون على صفات أنفسها، وجدت أو عدمت، وهو ضروري، وكذلك لو حكمنا، فقلنا: " كل إنسان ناطق أو حيوان " اندرج كل إنسان في حكمنا، وإن كان معدوما؛ وإلا لما صدقت الكليات أبدا، والجواب عن الأول: أنه لا مناقضة؛ لأن قولنا: " مرادنا في المسألة المعدوم يجوز خطابه في الكلام النفساني " أي: هو متعلق بالمعدوم في الأزل، والكلام النفساني لا يدخله الحقيقة ولا المجاز؛ بل هما من عوارض الألفاظ اللغوية، وهذه المسألة خاصة باللفظ اللغوي ن فهل يتناول بالوضع المعدوم في المشافهة أم لا؟ فالمسألتان مفترقتان. وعن الثاني: أنا لا نسلم أن الحقائق في أنفسها تكون، حالة العدم يصدق عليها سواد، وبياض، وإنسان، بل المعدومات نفي صرف ليس فيها سواد ولا بياض، وإنما يأتي ذلك على رأي المعتزلة القائلين بأن المعدوم شيء؛ مع أنهم خصصوا ذلك في مقالاتهم بالبسائط من المعاني، أما المركبات، فلم

يقل أحد من مشاهيرهم به، وإنما حكاه الإمام في (المحصل) عن شردمه قليلة منهم، فالإنسان من المركبات، وكذلك الأحمر والأسود، بخلاف الحمرة والسواد، فإنهما بسيطان؛ هذا تفصيل مذهب المعتزلة. وأما نحن، فنقول: لا يصير السواد سوادا، ولا غيره من الحقائق، إلا بقدرة الله تعالى فذلك تابع للإيجاد، ولا كائن قبله، فلم تصدق خصائص الحقائق عليها، وهي معدومة ألبتة. وقولنا: " من المحال ألا يكون السواد سوادا ". معناه: أنه إذا وجد السواد لا يكون سوادا، لا أنه حالة العدم سواد، بل ذلك مذهب المعتزلة. وقولنا: " كل إنسان حيوان " كلية صحيحة، ومعناها أن كل ما لو وجد وكان إنسانا، كان حيوانا، ومن المحال أن يتصف في الوجود بالإنسانية، ولا يتصف بالحيوانية؛ هذا معنى الكليات في جميع المدارك، لا أنا قضينا على المعدومات؛ بأنها أناسي وحيوانات، بل ذلك كله على تقدير الوجود. ***

المسألة الثانية عشرة قال الرازي: قول الصحابي: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر " لا يفيد العموم

المسألة الثانية عشرة قال الرازي: قول الصحابي: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر " لا يفيد العموم؛ لأن الحجة في المحكة لا في الحكاية، والذي رآه الصحابي؛ حتى روى النهي عنه يحتمل أن يكون خاصا بصورة واحدة، وأن يكون عاما، ومع الاحتمال؛ لا يجوز القطع بالعموم، وأيضا قول الصحابي:" قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين " لا يفيد العموم، وكذا القول فيما إذا قال الصحابي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " قضيت بالشفعة للجار " لاحتمال كونه حكاية عن قضاء لجار معروف ن وتكون الألف واللام للتعريف؛ وقوله: " قضيت " حكاية عن فعل معين ماض. فاما قوله صلى الله عليه وسلم: " قضيت بالشفعة للجار " وقول الراوي: أنه صلى الله عليه وسلم " قضى بالشفعة للجار " فالاحتمال فيهما قائم، ولكن جانب العموم أرجح. المسألة الثانية عشرة قال القرافي: " قول الصحابي: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر " لا يفيد العموم؛ لأن الحجة في المحكى لا في الحكاية ". تقريره: أن هذا اللفظ ليس لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لفظ الراوي؛ والحجة إنما تقوم بقوله عليه السلام لا بقول الراوي، ويرد عليه أن هذا

رواية بالمعنى، ومن شرطها المساواة في اللفظ؛ في الجلاء والخفاء، والعموم والخصوص، والزيادة والنقصان، وإذا كان لفظ الراوي عاما، وجب أن يكون لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاما أيضا، وإلا فعل الراوي بالرواية بالمعنى مالا يجوز، وذلك يخيل بعدالته؛ فيتناقض. وأما قوله " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين " فالقضاء له معنيان: أحدهما: الحكم؛ بمعنى الف؛ كقوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23]. وثانيهما: الحكم؛ بمعنى فصل الخصومات بين الناس؛ فالأول ما ينافيه العموم، بل يتعين كما تقدم في النهي عن الغرر. وأما الثاني: فيتعين فيه الخصوص؛ فإن الفصل بين الخصوم يتنافى فيه الحكم بكل شاهد إلى قيام الساعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بل إنما يقضي بشاهد خاص، وهذا القسم الثاني هو الظاهر من إرادة الراوي، وكذلك فهمه الفقهاء؛ وعلى هذا التقدير، يكون الراوي قد اعتمد على قرينة الحال الدالة على أن المراد بالشاهد واليمين حقيقة الجنس، لا استغراق الجنس، ويكون معنى الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر هذين الجنسين في فصل الخصومات، وهو كلام صحيح، ولا يحتمل على العموم؛ بخلاف الغرر (و) هو ظاهر في الفتيا العامة إلى آخر الدهر، واللام فيه لعموم الشامل أي: لكل غرر من جميع أنواعه وأفراده. وكذلك قوله: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قضيت بالشفعة

(تنبيه) زاد التبريزي، فقال: يتجه أن يقال: لو كان خاصا، لما كان مسمى بيع الغرر منهيا عنه

للجار " يحتمل القسمين المذكورين في الشاهد واليمين؛ وعلى هذا يكون المدرك في عدم الدلالة على العموم تردده بين العموم والخصوص، أما حيث لا تردد؛ كقوله: " نهى عن بيع الحصاة وحبل الحبلة " ونحو ذلك؛ فالتردد بعيد، فيدل على العموم. (تنبيه) زاد التبريزي، فقال: يتجه أن يقال: لو كان خاصا، لما كان مسمى بيع الغرر منهيا عنه؛ فلا يصدق في قوله: نهى عن بيع الغرر، فإن النهي عن الخاص ليس نهيا عن المطلق، فالنهي عن شرب الخمر ليس نهيا عن الشرب، ولا النهي عن الأكل في زمان نهيا عن الأكل. فإذن إنما نقول: نهي عن بيع الغرر، مهما كان عدلا، إذا عرف أنه متعلق نهيه صلى الله عليه وسلم فيفيد العموم ضرورة وجود المتعلق في كل فرد؛ ولهذا، إذا قال: قضي بالشفعة، أو قال النبي صلى الله عليه وسلم: قضيته بالشفعة، فهو لسان أصل الشريعة؛ فيجب طلب السبب والمحل، ولا يلزم منه العموم. قلت: " قوله: " النهي عن الخاص ليس نهيا عن المطلق " له معنيان؛ لأن المطلق تارة يراد به القدر المشترك بين الحقائق؛ كمطلق الحيوان ومطلق الإنسان الموجود في كل شخص من أشخاصه، وتارة يراد به العموم المستغرق لكل فرد، ولد رأيت وأنا في أول اشتغالي بالعلم جماعة من الفضلاء يتباحثون

في الفرق بينهم؛ بأن مطلق الحيوان والحيوان المطلق، ومطلق النهي والنهي المطلق، ونحو ذلك من هذا المعنى، وتقرر الفرق بينهم؛ بأن مطلق الحيوان ومطلق النهي للقدر المشترك [من] المفهوم الكلي للوجود في كل شخص من أشخاص تلك المادة لعرايته عن [لام] الاستغراق الموجبة للعموم؛ فكأنا أخذنا القدر المشترك الكلي، وأضفناه لمحله؛ فقلنا: مطلق النهي؛ فعلى هذا يكفي في صدقه فرد واحد، أما النهي المطلق، فقد صدرنا النهي بلام التعريف الموجبة؛ للعموم المستغرق لجميع الأفراد، ثم وضعنا هذا العموم. بيانه: مطلق لا مقيد بحالة، ولا زمان، ولا مكان؛ فيعم جميع الأفراد من تلك المادة، فيكون النهي المطلق شاملا لجميع أفراد النهي، وكذلك بقية النظائر؛ بهذا تقرير الفرق بينهم في ذلك الزمان، وأنا أسمعهم يبحثون، ولم يكن في أهلية مخالطتهم فيما هم فيه؛ غير أني أفهم عنهم حينئذ مقاصدهم وعباراتهم، وصغر السن يمنع من مداخلتهم، وهذا الفرق صحيح باعتبار الاصطلاحات الخاصة، أما بحسب اللغة، فلا يتجه؛ بناء على أن اسم الجنس، إذا أضيف، عم؛ لقوله عليه السلام: " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته " فيعم جميع المياه والميتات. إذا تقرر هذا، فكلام التبريزي لا يصح على المعنى الأول، فإن القضاء بالشفعة المعينة قضاء بمطلق الشفعة الذي هو القدر المشترك؛ لأنه لا يلزم من إباحة الخاص إباحة المشترك، ومن تمليك الخاص تمليك المشترك، وهذا بخلاف النهي عن الخاص، ونفي الخاص، فلا يتناولان المشترك؛ لأن الخاص مركب من المشترك والخصوصية، ويكفي في نفي المركب والنهي عنه، إعدام فرد، وهو الخصوص؛ وعلى هذا لا يستقيم قوله عليه السلام: في نهيه عن الغرر الخاص؛ بخلاف القضاء بالشفعة، فافهم هذا الفرق

وأما المعنى الثاني: فيستقيم قوله عليه، وهو تفسير المطلق بالعموم الشامل، فإن النهي عن الغرر الخاص أو إباحته، لا يقتضي العموم، والظاهر أنه مراده، فتأمل كلامه وهذه التنبيهات والفروق والقواعد. وقوله: " إذا قال عليه السلام: " قضيت بالشفعة " فهو لبيان أصل الشريعة، فيجب طلب السبب والمحل، ولا يلزم منه العموم ". معناه: أنه بيان للماهية الكلية في أصل الشريعة، ولم يتعرض لجميع الأفراد، فيجب أن يطلب بعد ذلك دليلا يدل على تعيين الآيات الموجبة للشفعة؛ كالبيع، والهبة، والصدقة، وللمحل، كالعقار والبناء، دون الأرض والشجر، ونحو ذلك مما اختلف فيه العلماء ن هل فيه شفعة أم لا؟ واتفقوا على الشفعة فيه، فإن وجد إجماع، اكتفى به، وإلا طلب دليل شرعي، ويرد عليه أن لفظ الشفعة صيغة عموم، ولم يتعين القدر المشترك الذي هو بيان حقيقة الجنس، لاسيما مع قوله عليه السلام: " قضيت " هو إخبار عن الحكم والفتوى؛ بخلاف قول الراوي: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة " وهو متردد بين الفتوى، وبين فصل الخصومات؛ فكان مجملا بالنسبة إلى الدلالة على العموم. ***

المسألة الثالثة عشرة قال الرازي: قول الراوي: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر " لا يقتضي العموم

المسألة الثالثة عشرة قال الرازي: قول الراوي: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر " لا يقتضي العموم؛ لأن لفظ [كان] لا يفيد إلا تقدم الفعل، فأما التكرار، فلا. ومنهم من قال: إنه يفيد التكرار في العرف؛ لأنه لا يقال: كان فلان يتهجد بالليل، إذا تهجد مرة واحدة في عمره. المسألة الثالثة عشرة قال القرافي: قول الراوي: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين ..... " قلت: أصل [كان] أن يكون كسائر الأفعال يدل على تقدم الفعل في الزمن الماضي، وإنما انتقلت في العرف كما حكاه عن بعضهم. ***

المسألة الرابعة عشرة قال الرازي: إذا قال الراوي: " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الشفق "

المسألة الرابعة عشرة قال الرازي: إذا قال الراوي: " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الشفق " فقال قائل: الشفق شفقان: الحمرة والبياض؛ وأنا أحمله على وقوعه بعدهما جميعا؛ فهذا خطأ؛ لأن اللفظ المشترك لا يمكن حمله على مفهوميه معا؛ كما تقدم. أما المتواطئ: فمثاله قول الراوي: " صلى رسول الله في الكعبة " فلا يمكن أن يستدل به على جواز أداء الفرض في البيت؛ لأنه إنما يعم لفظ الصلاة لافعلها، فذاك الواقع، إن كان فرضا، لم يكن نفلا، وبالعكس؛ فلا يدل على العموم. المسألة الرابعة عشرة قال القرافي: قول الراوي: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الشفق ... " قوله: " اللفظ المشترك ". تقريره: أن لفظ الشفق موضوع للحمرة والبياض، وهما حدان؛ فيكون مشتركا؛ لأنه سمع عن العرب في الثوب الأحمر: هو أشد حمرة من الشفق وصيغة [أفعل] تقتضي المشاركة، والبياض أيضا يسمى شفقا. نقله أئمة اللغة. وقال بعضهم: هو من الشفقة، وصيغة " أفعل " تقتضي المشاركة، والبياض أصفى من الحمرة؛ فيكون على هذا مسلكا، ويكون في البياض أقوى، ولا يكون مشتركا، وعلى هذا يعم الشفقين؛ لأن صيغة العموم، إذا دخلت على المشكك عمت المختلفات، فإذا قلنا: " خلق الله النور " عم نور الشمس الذي هو أقوى، ونور السراج الذي هو أضعف.

(سؤال) قال النقشواني: " لفظ الشفق قد يقال: هو متواطئ لا مشترك "

قوله: " لا يعم قول الراوي: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت ". تقريره: أن (صلى): فعل في سياق النفي. قوله: لأنه، إنما يعم لفظ الصلاة لا فعلها، هذه هي الرواية الصحيحة، ومعناها: أن لفظ الصلاة المحلي بلام التعريف هو الذي يعم أفرادها، أما كون النبي صلى الله عليه وسلم فعل فعلا واحدا في البيت الحرام، فلا يعم الأنواع، وفي بعض النسخ: إنما يعم الصلاة لا فعلها، وهو قد سقط عنه لفظ الصلاة. (سؤال) قال النقشواني: " لفظ الشفق قد يقال: هو متواطئ لا مشترك ". وإذا قيل: إنه مشترك، لا يلزم استعماله في مفهوميه، كما قال، بل الخصم يحمله على أحدهما عينا، وهو المتأخر زمانا؛ فيلزم من ذلك أن تقع الصلاة بعدهما، لا أنه استعمل اللفظ فيهما. ***

المسألة الخامسة عشرة قال الرازي: قال الغزالي رحمه الله: المفهوم لا عموم له

المسألة الخامسة عشرة قال الرازي: قال الغزالي رحمه الله: المفهوم لا عموم له؛ لأن العموم لفظ تتشابه دلالته بالإضافة إلى مسمياته، ودلالة المفهوم ليست لفظية؛ فلا يكون لها عموم. والجواب: إن كنت لا تسميه عموما؛ لأنك لا تطلق لفظ العام إلا على الألفاظ، فالنزاع لفظي. وإن كنت تعني: أنه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع ما عداه، فباطل؛ لأن البحث عن أن المفهوم، هل له عموم، أم لا؟ فرع على أن المفهوم حجة، ومتى ثبت كونه حجة، لزم القطع بانتفاء الحكم عما عداه؛ لأنه لو ثبت الحكم في غير المذكور، لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة، والله أعلم. المسألة الخامسة عشر قال القرافي: قال الغزالي: المفهوم لا عموم له. قوله: " إن عنى به أنه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع ما عداه ". قلنا: هذه العبارة غير متجهة؛ لأن المفهوم: ثبوت أو إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه من ذلك الجنس؛ وحينئذ الحكم بالسلب إنما هو ثابت فيه لا فيما عداه، فالانتفاء فيه لا في غيره، فقولكم: " ما عداه " يقتضي أن ينتفي الحكم عن المنطوق، وهو خلاف الإجماع، وقولكم: " ما عداه " إذا أردتم به المسكوت، وسلكتم للتوسع في العبارة ينبغي تقييدها بقولكم: " من ذلك الجنس " فإنكم قد حكيتم قولين في مسألة المفهوم؛ فإن الصحيح أنه

(مسألة) قال الشيخ سيف الدين: اختلف العلماء في عموم قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}

لا يحصل الانتفاء إلا عن المسكوت عنه من ذلك الجنس، ولا يعم غيره؛ فقوله عليه السلام: " في سائمة الغنم الزكاة " يقتضي مفهومه سلب الحكم عن معلوفة الغنم؛ على الصحيح، دون غيرها، وعلى القول الآخر يقتضي سلب الحكم عن كل جنس، فيتعين التقييد؛ على المذهب الصحيح. (مسألة) قال الشيخ سيف الدين: اختلف العلماء في عموم قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] هل يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من أنواع مال كل مالك، أو أخذ صدقة واحدة من نوع واحد. قال بالأول الأكثرون، وبالثاني الكرخي. حجة الأول: أن الله تعالى أضاف الصدقة إلى جميع الأموال، والجمع المضاف من صيغة العموم؛ فيتعدد بتعدد الأموال. حجة الثاني: أن " صدقة " نكرة؛ فيصدق بأخذ صدقة واحدة من مال واحد، لاسيما أن لفظ (من) تقتضي التبعيض؛ فيصدق أنه أخذ من بعض الأموال. قلت: وهذا هو المتجه؛ لأن الله تعالى لو قال: " اقتلوا من المشركين رجلا " خرجنا عن العهدة برجل واحد، فيصغة العموم من صيغة التبعيض يبطل عمومها في ذلك الحكم المتبعض؛ فيصدق على كل أحد أنه ابن رجل من جملة رجال العالم. (مسألة) قال سيف الدين: اللفظ العام، إذا قصد به المخاطب الذم، أو المدح؛ كقوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} [الانفطار:

(مسألة) قال إمام الحرمين في (البرهان): " قولهم: " النكرة في سياق الثبوت لا تعم "

13 - 14] وكقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة: 34]. منع الشافعي عمومه، وأن يتمسك به في زكاة الحلي؛ لأن العموم لم يقع مقصودا في الكل، بل للمدح أو الذم. وقال الأكثرون: يصح التمسك به؛ لأن قصد ذلك لا يمنع إرادة العموم. (مسألة) قال إمام الحرمين في (البرهان): " قولهم: " النكرة في سياق الثبوت لا تعم " ليس على إطلاقه، بل النكرة في سياق الشرط تعم؛ كقوله: " من جاءني بمال، جازيته عليه " يعم جميع الأموال؛ لأنها في سياق النفي، إنما عمت؛ لعدم اختصاص النفي بمعين في غرض المتكلم، وكذلك في سياق الشرط تعم ". قلت: وفي التحقيق: ليس هذا نقضا؛ لأن الشرط في معنى الكلام المنفي؛ لأن المشترط لم يجزم بوقوع الشرط حيث فعله شرطا، وإنما مرادهم بالنكرة في سياق الثبوت؛ كقولنا: في الدار رجل ونحوه، أما النفي، والاستفهام، والشرط، فهو عند النحاة: كله كلام غير موجب مع أن الأبياري في (شرح البرهان) رد عليه، ,أنكر العموم، وقال: لو كانت للعموم، كما قال، لما استحق المجازاة إلا من أتى بكل مال، كما لو قال: " من جاءني بكل مال، جازيته " فإنه لا يستحق ببعض الأموال، والله أعلم. ***

القسم الثاني في الخصوص، وفيه مسائل

القسم الثاني في الخصوص، وفيه مسائل: قال الرازي: المسألة الأولى: حد التخصيص على مذهبنا: إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه. وعند الواقفية: إخراج بعض ما صح أن يتناوله الخطاب، سواء كان الذي صح واقعا، أم لم يكن واقعا. وأما قولنا: " العام المخصوص " فمعناه: أنه استعمل في بعض ما وضع له. وعند الواقفية: أن المتكلم أراد به بعض ما يصلح له ذلك اللفظ دون البعض. وأما الذي به يصير العام خاصا: فهو قصد المتكلم؛ لأنه إذا قصد بإطلاقه تعريف بعض ما تناوله اللفظ، أو بعض ما يصلح أن يتناوله؛ على اختلاف المذهبين فقد خصه. وأما المخصص للعموم: فيقال على سبيل الحقيقة على شيء واحد، وهو إرادة صاحب الكلام؛ لأنها هي المؤثرة في إيقاع ذلك الكلام؛ لإفادة البعض؛ فإنه إذا جاز أن يرد الخطاب خاصا، وجاز أن يرد عاما، لم يترجح أحدهما على الآخر إلا بالإرادة. ويقال: بالمجاز؛ على شيئين: أحدهما: من أقام الدلالة على كون العام مخصوصا في ذاته. وثانيهما: من اعتقد ذلك أو وصفه به، كان ذلك الاعتقاد حقا أو باطلا.

شرح القرافي: واشتقاقه من التخصيص ببعض ما يقبل ذلك المخصص به

القسم الثاني في الخصوص، وفيه مسائل قال القرافي: واشتقاقه من التخصيص ببعض ما يقبل ذلك المخصص به، ومنه خص السلطان فلانا بالعطايا. (وفيه مسائل) المسألة الأولى في حد التخصيص قوله: " هو إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه ". قلنا: يندرج في هذا الاستثناء بإخراج بعض العام عنه بعد العمل به؛ فإنه نسخ لا تخصيص، وبإخراج بعض ما تناوله الخطاب بمفهومه؛ كقوله عليه السلام: " إنما الماء من الماء " مفهومه أن ما ليس بإنزال لا يجب منه غسل، وقد أخرج بعض هذا المفهوم قوله عليه السلام: " إذا التقى الختانان، فقد وجب الغسل "، بل ينبغي أن تقول: هو إخراج بعض ما يتناوله اللفظ بمنطوقه، أو مفهومه بلفظ لم يوضع بذاته للإخراج؛ احترازا من الاستثناء؛ فإن ألفاظه وضعت وضعا أولا؛ للإخراج، وجميع المخصصات ليست كذلك؛ لأن المخصص: إما منفصل: نحو نهيه عليه السلام عن حبل الحبلة ونحوه، فإنه لم يوضع في أصل وضعه للإخراج، وإن لزم عنه الإخراج في أنه البيع.

وإما متصل: وهو ثلاثة: الغاية، والشرط، والصفة، وهي لم توضع للإخراج. أما الغاية: فوضعت لبيان النهاية لا للإخراج. وأما الشرط: فللتعليق، وربط أمر بأمر. والصفة: وضعت لبيان زيادة في المذكور لا لتنقيصه؛ بخلاف (إلا) ونحوها بما وضع للاستثناء، إنما وضع للإخراج والتنقيص مما تناوله اللفظ الأول. وقولنا: " قبل تعذر حكمه ": أحتراز من أن يعمل بالعام؛ فإن الإخراج بعد ذلك يكون نسخا. قوله: " وعند الواقفية: إخراج بعض ما صح أن يتناوله الخطاب ". تقريره: أن الواقفية يجوز عدهم أن يراد العموم، ولا يجب ذلك في الوضع؛ لأنهم لا يعترفون بوضع الصيغة للعموم، وهذا من رحمة الله فيتجه إذا فسر الموقف بعد العلم بالوضع، وهو أحد القولين للأشعري. أما عن القول بالاشتراك وبقية الأقوال، التي تقدمت حكايتها عن الواقفية، فلا يتأتى هذا؛ فإن الصيغة عندهم موضوعة للعموم والخصوص، والتوقف، إنما هو في الحمل لا في الوضع، فاللفظ عندهم متناول للجميع بالفعل وضعا ولغة. قوله: " أما الذي يصير به اللفظ مخصوصا، فهو قصد المتكلم ما يتناوله، وهذا هو المخصوص حقيقة، وغيره مجاز ". قلنا: حكى القاضي عبد الوهاب في (الملخص) في هذا قولين: قيل: بالإرادة.

وقيل: بالدليل الدال على الإرادة، وهو الصحيح؛ لان ورود التخصيص على اللفظ العام لا يبطل دلالته على العموم؛ فإن الدلالة هي الإفهام عند التجرد، وهذا المعنى لا يبطل بالمخصص؛ فإن لفظ المشركين يفهم منه الآن المشرك الذمي وغيره، وإن كان الذمي قد خرج منه وقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم} [الجن: 23] يفهم منه الآن العموم، وقد دخله التخصيص؛ إجماعا بالثابت وغيره، ممن يتفضل الله تعالى بالمغفرة عليه من غير توبه، فالمخصص حينئذ ليس مخرجا له عن الدلالة، ولا عن الإرادة، فإنه لم يرد قط بالحكم، ولا ثبوت الحكم في نفس الأمر؛ فإنه لم يثبت فيه، بل مخرج له عن ثبوت الحكم في اعتقادنا؛ لأنا قبل التخصيص نعتقد شمول الحكم، وبعد التخصيص لا نعتقد ذلك؛ فتعين الإخراج من اعتقادنا ليس غلا، وإذا كان الإخراج من الاعتقاد فقط، تعين أن يكون المخصص في الحقيقة غنما هو الدال على الإرادة، لا نفس الإرادة؛ فإن الغرادة أمر خفي لا يصرف اعتقادنا عن العموم. فإن قلت: اللفظ العام، غذا أطلق فليس معه غرادة ثبوت الحكم، ولا غرادة عدمه، وذهل المتكلم عن ذلك ثبت الحكم في جميع الأفراد؛ بدليل الأيمان والنذور، وغير ذلك؛ غجماعا من القائلين بالعموم، فإذا وجدت غرادة المتكلم، اقتضت اختصاص الحكم ببعض الافراد [و] منع ذلك ثبوته في البعض الذي قصد إخراجه؛ فصارت الإرادة مخرجة له عما يستحقه بالوضع؛ فاللفظ يأتي بعد ذلك دليلا على ما في النفس؛ فالمخصص حقيقة إنما هو الإرادة [فقط]. قلت: هذا تقرير حسن غير أن على رأيكم: أن الإرادة مخرجة له عما يستحقه بالوضع، فهي مخرج له عما هو قائل به، وقد وجد سببه؛ فهو حاصل له بالقوة لا بالفعل. وأما الإخراج عن الثبوت في الاعتقاد: فهو إخراج له عما هو ثابت له

(فائدة) الإرادة العارضة مع العموم قسمان

بالفعل، والإخراج إنما يكون حقيقة فيما حصل فيه الدخول حقيقة بالفعل، وفيما هو بالقوة مجاز؛ من باب تسمية الشيء بما هو قابل له؛ فما ذكرناه أولى. (فائدة) الإرادة العارضة مع العموم قسمان: مؤكدة، ومخصصة، وهما يلتبسان على كثير من الفقهاء، وتحقيق الفرق بينهما: أن المخصصة لابد وأن تكون منافية، والمؤكدة موافقة، فمن أطلق العموم، وأراد ثبوت الحكم في جميع أفراده فموافقة مؤكده للفظ في جميع الأفراد. وإن اراد ثبوت الحكم في البعض، غافلا عن البعض الآخر، فغرادته مؤكدة للفظ في البعض المراد، ويثبت الحكم في البعض الآخر باللفظ السلام عن المعارض، ومن أراد غخراج بعض الأفراد عن الحكم، فهذه هي المخصصة؛ لأنها منافية للفظ في ذلك البعض، ففرق بين إرادة ثبوت الحكم في البعض، وبين غرادة عدم ثبوته في البعض، وهاهنا يغلط أكثر المفتين، فإذا قال لهم الحالف: " حلفت، والله، لا لبست ثوبا، ونويت ثياب الكتان " فيقولون: لا يحنثه بغير الكتان، وهذا غلط؛ لأن قصده الكتان لا يقتضي عدم حنثه بغيره؛ لأن لفظه في غير الكتان سالم ن معارضة إبطال الحكم فيه؛ بل ينبغي أن يقولوا له: يحنث بالكتان باللفظ والنية، وبغير الكتان باللفظ فقط. فغذا قلا: نويت عدم الحنث يلبس غير الكتان، او نويت إخراج غير الكتان من اليمين، أما لو قال: نويت الكتان باليمين، فهذا مؤكد

(تنبيه) مقتضى حد التخصيص: ألا يكون قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] مخصوصا الآن؛ لأن لنا قواعد

لا مخصص، فافهم هذا الموضع، فغنه مهمل عند أكثرهم، والسر الذي عليه العول: أن من شرط المخصص أن يكون منافيا، والمؤكد لا يكون منافيا. قوله: " ويقال: المخصص بالمجاز على من أقام الدلالة على التخصيص ". قلنا: التخصيص معناه هاهنا: الإخراج، والإخراج: إنما يكون حقيقة لغوية في الانتقال في الأحياز والخروج من حيز إلى حيز، وهو هنا منتف؛ فلم يبق في الجميع إلا المجاز اللغوي، والحقيقة العرفية التي هي مجاز راجح، فلا يختلف اثنان من أهل العرف الخاص من الأصوليين والفقهاء في أن يقولوا: خصص الشافعي هذه الآية بكذا، وإذا أطلقوا الفعل، وأجمعوا عليه، واشتهر ذلك بمعنى أن اسم الفاعل من ذلك الفعل يكون مع الفعل حقيقة عرفية خاصة، وكذلك هم مطبقون على إطلاق قولنا: هذه لذاتها خصصت هذه لذاتها، وهذا الخبر خصص هذا الخبر، فيكون الفعل حقيقة عرفية، فيتبعه اسم الفاعل بعين ما تقدم، وكذلك من اطلع عليه من العلماء؛ أنه يعتقد التخصيص، قالوا: " إنه خصصه بكذا " فيكون الجميع حقيقة عرفية، وماجزا لغويا في الإرادة وغيرها. (تنبيه) مقتضى حد التخصيص: ألا يكون قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] مخصوصا الآن؛ لأن لنا قواعد: (القاعدة الأولى) أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، والأزمنة، والبقاع، فإذا قال الله تعالى: {يايها النبي جاهد الكفار} [التوبة: 73] فهو عام فيهم،

(القاعدة الثانية) من شرط المخصص أن يكون منافيا

ولا يدل على أمكنتهم المعينة، بل لابد للقتل من مكان ما، ولا أنهم يكونون طوالا قصارا، أو فقيرا أو غنيا، بل لابد لهم من حالة ما. وإذا قلنا: لا علم لي بخروج زيد من الدار، فهو عام في العموم، مطلق في متعلق العلم، وهو المعلومات. (القاعدة الثانية) من شرط المخصص أن يكون منافيا، وقد تقدم تقريره. (القاعدة الثالثة) أن جمع السلامة المذكر لا يتناول الإناث، وحينئذ نقول: ليس مخصوصا بالنساء؛ لعدم تناوله إياهن، والتخصيص فرع التناول، وليس مخصوصا بالذمة؛ لأن اللفظ اقتضى قتل كل مشرك في حالة ما، والواقع الآن أنا نقتل كل مشرك في حالة ما؛ لأنا نقتلهم في حالة الحرابة، ومتى قتلناهم في حالة الحرابة، قتلناهم في حالة ما؛ لأن المطلق في ضمن المقيد، والعام في ضمن الخاص، ولا تنافي بين قتل كل كافر في حالة، وبين عدم قتلهم في حالة مخصوصة؛ لأنه لا يلزم من المنع عن الأخص المنع عن الأعم؛ كما لم يلزم من المنع من مانع الخمر المنع من مطلق المانع؛ وحينئذ لا يلزم من المنع من قتلهم في هذه الحالة الخاصة المنع من قتلهم في مطلق الحالة، وغذا لم يكن ذلك منافيا، لم يكن مخصصا للقاعدة الثانية، وكذلك لا يكون مخصصا بالرهبان ولا الفلاحين ولا المجانين، ونحو ذلك؛ لانها أحوال خاصة لا يلزم من المنع منها وفيها المنع من العام. وعلى هذا التقرير؛ لا يصدق التخصيص غلا إذا خرج بعض العام في جميع الأحوال، لأن الموجبة الجزئية التي هي حالة ما، لا يتناقضها إلا السلابة الكلية التي هي المنع في كل حالة؛ فيقول الله تعالى: {وأوتيت من

(تنبيه) زاد التبريزي؛ فقال: " التخصيص: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ وضعا عن الإرادة باللفظ

كل شئ} [النمل: 23] مخصوص؛ لأنها لم تعط السماوات والأرض ولا شيئا من الكواكب ولا النبوات في شيء من الأحوال. وكذلك قوله تعالى: {تدمر كل شئ} [الأحقاف: 25] فإنها لم تدمر الكواكب في شيء من الحالات، وقوله تعالى: {وخلق كل شئ} [الفرقان: 2] مخصوص؛ لأن الواجبات لا تخلق في حالة من الحالات؛ وبهذا القانون يتضح لك ما دخله التخصيص مما لم يدخله التخصيص، ويظهر لك أن كثيرا مما يقول الناس: " إنه مخصوص " ليس بمخصوص. (تنبيه) زاد التبريزي؛ فقال: " التخصيص: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ وضعا عن الإرادة باللفظ، ويصح أن يقال: ÷وإطلاق العام بإزاء بعض ما يتناوله، وعلى هذا: المخصص على الحقيقة هو المتكلم؛ فإنه الذي قصر إفادة العام على البعض بإرادته، ولكن يطلق لفظ المخصص مجازا على الدليل المعرف له ". قلت: قوله: " عن الإرادة " لا يتجه؛ لأن البعض المخرج لم يتناوله الإرادة؛ حتى يصدق أنه خرج منها. وقوله: " غطلاق العام على بعض ما يتناوله اللفظ " لا يفيد شيئا من التخصيص؛ لأنه لو أطلقه على الكل، صدق أنه أطلقه على البعض؛ لأن الكل لا ينافي البعض، بل يستلزمه، وبقية الكلام تقدم التنبيه عليه. ***

المسألة الثانية في الفرق بين التخصيص والنسخ

المسألة الثانية في الفرق بين التخصيص والنسخ قال الرازي: النسخ: لا معنى له إلا تخصيص الحكم بزمان معين بطريق خاص؛ فيكون الفرق بين التخصيص والنسخ فرق ما بين العام والخاص، لكن الناس اعتبروا في التخصيص أمورا لفظينة أخرجوه لأجلها عن جنس النسخ، وتلك الأمور خمسة: أحدها: أن التخصيص: لا يصح إلا فيما يتناوله اللفظ، والنسخ: قد يصح فيما علم بالدليل؛ أنه مراد، وإن لم يتناوله اللفظ. وثانيها: أن نسخ شريعة بشريعة أخرى يصح، وتخصيص شريعة بشريعة أخرى لا يصح. وثالثها: أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته، والتخصيص ليس كذلك. ورابعها: أن الناسخ يجب أن يكون متراخيا، والمخصص لا يجب أن يكون متراخيا، سواء وجبت المقارنة أو لم تجب؛ على اختلاف القولين. وخامسها: أن التخصيص قد يقع بخبر الواحد والقياس، والنسخ لا يقع بهما. وأما الفرق بين التخصيص والاستثناء، فهو فرق ما بين العام والخاص عندي، ومنهم من تكلف بينهما فروقا.

شرح القرافي: قوله: " النسخ لا معنى له، إلا تخصيص الحكم بزمان معين "

أحدها: أن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة الدالة على شيء واحد؛ فالسبعة مثلا لها اسمان: سبعة، وعشرة إلا ثلاثة، والتخصيص ليس كذلك. وثانيها: أن التخصيص يثبت بقرائن الأحوال؛ فإنه إذا قال: " رايت الناس " دلت القرينة على أنه ما رأى كلهم، والاستثناء لا يحصل بالقرينة. وثالثها: أن التخصيص يجوز تأخيره لفظا، والاستثناء لا يجوز فيه ذلك، وهذه الوجوه متكلفة، والحق أن التخصيص جنس تحته أنواع؛ كالنسخ، والاستثناء، وغيرهما. المسألة الثانية الفرق بين التخصيص والنسخ قال القرافي: قوله: " النسخ لا معنى له، إلا تخصيص الحكم بزمان معين ". قلنا: هذا يتجه فيما فعل، لو مرة واحدة، لكن من صور النسخ عندنا: النسخ قبل التمكن، وقبل إتيان زمان الفعل؛ وحينئذ يكون النسخ إبطالا للحكم بالكلية، فلا يقال: إن ذبح غسحاق عليه السلام تخصيص ببعض الأزمنة، بل ما وقع ولا يقع، وهذا التفسير يتجه على طريق المعتزلة، أما عندنا فلا. قوله: " فيكون الفرق بين النسخ والتخصيص فرق ما بين العام والخاص ". قلنا: هذا غير متجه؛ لأن التخصيص قد يكون في الأشخاص؛ كإخراج بعض الأشياء عن قوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء} [النمل: 23] وقد يكون بإخراج بعض الأزمنة؛ كقولك: والله، لا كلمته في جميع الأيام، وتريد بعضها، والنسخ لا يكون في بعض الأزمنة، كما تقولون، لكن ذلك الحكم المنسوخ قد لا يكون ثابتا بالنصوص، بل بالفعل، أو

بالقرائن الحالية، او المقالية، أو بعلم ضروري يخلقه الله تعالى في الصدور؛ وحينئذ يكون النسخ قد وجد بدون تناول الخطاب؛ فيكون النسخ أعم من هذا الوجه، ويكون التخصيص أعم من جهة تناول الأشخاص في بعض صوره دون الأزمنة، ويجتمعان في إخراج بعض الأزمنة؛ فيكون كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه؛ كالحيوان والابيض، كل واحد منهما يوجد مع الآخر، وهذا هو حقيقة الأعم من وجه، والأخص من وجه، وظاهر كلامكم يقتضي أن التخصيص أعم مطلقا. قوله: " يصح نسخ شريعة بشريعة ". قلنا: هذا الإطلاق وقع في كتب العلماء كثيرا، فالمراد: ان الشريعة المتأخرة قد تنسخ بعض أحكام الشريعة المتقدمة، أما كلها فلا؛ لأن الله تعالى أجرى عادة في الشرائع؛ أنه لا ينسخ منها قواعد العقائد بأصول الدين، ولا ينسخ الكليات الخمسة، وهي حفظ [الدين] والدماء، والعقول، والأنساب، والأموال، فحرم القتل، والسكر، والزنا، والسرقة، في جميع الشرائع، وإنما نسخ في بعضها القدر الذي لا يسكر. أما القدر الذي يسكر، فقد حكى الغزالي إجماع الشرائع على تحريمه، وقد لا ينسخ منها شيء، فقد بعث الله أنبياء كثيرين بتأكيد التوراة، والعمل بجميع ما أنزل فيها من غير نسخ؛ فحينئذ النسخ إنما يقع في بعض الأحكام الفروعية، وإطلاق قولنا: " الشريعة تنسخ الشريعة " يقتضي نسخ الجميع، وليس كذلك، وهو جائز عقلا، غير ان البحث في هذا المقام، إنما هو في الواقع في عادة الله تعالى لا في الجائز عقلا؛ وإلا فيجز التخصيص بين الشرائع؛ لأنه جائز عقلا. قوله: " لا يجوز تخصيص شريعة بشريعة ". تقريره: أن عادة الله تعالى جارية بألا يتأخر البيان عن وقت الحاجة،

وأهل الشريعة السابقة محتاجون للعمل بمقتضيات نصوصهم في زمانهم، فلو كانت الشريعة المتأخرة مخصصة للمتقدمة، لتأخر البيان عن وقت الحاجة، ولا تخصص المتقدمة المتأخرة؛ لأن الله تعالى أجرى عادته؛ ألا يترك في شريعته غلا ما يختص بتلك الأمة، وذلك القرن؛ فلا يحصل منه بيان الشريعة الآتية، وهذه عادة أجرها الله تعالى لذلك، ومن الممكن خلافها عقلا، وهو ممنوع عادة ربانية، لا عقلا. قوله: " النسخ: رفع للحكم بعد ثبوته دون التخصيص ". قلنا: هذه العبارة غير متجهة؛ فإن الله ذا أوجب صوم يوم عاشرواء غلى زمان معين؛ فنسخ وجوبه، فالحكم تعالى إذا أوجب صوم يوم عاشوراء إلى زمان معين؛ فنسخ وجوبه، فالحكم كان ثابتا قبل النسخ، وكان الله تعالى يعلم أنه ثابت إلى زمان ورود الناسخ، وأنه غير ثابت بعده؛ فالناسخ حينئذ؛ لما ورد، لم يرفع الثبوت الكائن قبل حد النسخ؛ لأنه مستمر إليه إجماعا، ولم يرفع الحكم بعد ورود النسخ؛ لأنه لم يثبت إجماعا، فما رفع حكما بعد ثبوته، بل بين أن هذا هو حد الثبوت الكائن في نفس الامر ومنتهاه، فبعد النسخ لم يكن الحكم ثابتا في نفس الأمر، وكذلك بقى بعد النسخ، وقبل النسخ كان الحكم ثابتا، وكذلك بقى، فإن رفع الماضي الواقع محال، والقسمان في النسخ الثابت، وغير الثابت باعتبار ما بين القسمين في التخصيص المراد، وغير المراد باعتبار المخرج، والنفي في التخصيص، والنسخ فكان الاعتقاد حاصلا بأن المخصوص والمنسوخ على خلاف ما ثبت بعد النسخ والتخصيص؛ فاستوى البابان باعتبار الاعتقاد، وباعتبار الواقع في نفس الأمر، وباعتبار التبين، ولم يبق سوى فرق واحد، وهو أن الذي كان موصوفا ثابتا مرادا بالحكم في الزمن الأول في النسخ، حكم عليه بعينه بأنه غير مراد بالحكم بعد ورود الناسخ، وفي التخصيص الذي قيل فيه: " إنه غير مراد " لم يكن مرادا قط، فتوارد الإرادة وعدمها في

النسخ على شيء واحد باعتبار زمانين، وفي التخصيص مورد الإرادة غير مورد عدمها، فهذا فرق محقق؛ لكنه لا يلزم منه رفع الحكم بعد ثبوته؛ لأنه لم يرتفع شيء إلا باعتبار الاعتقاد، وهو مشترك في التخصيص. قوله: " النسخ يجب أن يكون متراخيا، والتخصيص لا يجب أن يكون متراخيا " تقريره: أن الناسخ لو تعجل للإعلام به، فقال: يجب عليكم صوم عاشرواء إلى سنة كذا، ثم أنسخه عنكم، صار الوجوب معينا ينتهي بذاته، والمنتهي بذاته لا يصدق عليه النسخ؛ لقوله تعالى: {ثم أتموا لصيام إلى الليل} [البقرة: 187] فإنه لا يصدق عليه بعد غروب الشمس أنه نسخ، ولا يقبل النسخ، فهذا هو موجب التراخي في النسخ؛ لئلا تبطل حقيقته؛ ولذلك قالت المعتزلة: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب، إلا في النسخ. قالوا: يجوز لذلك، وأما التخصيص، فقد يكون مقارنا، لاسيما بالغاية، والصفة، والشرط؛ نحو:" اقتلوا المشركين؛ حتى يعطوا الجزية، أو اقتلوا المشركين المحاربين " فهذه تخصيصات يجب اتصالها بالعمومات؛ لأنها لا تستقل بأنفسها. قوله: " على اختلاف القولين " يشير إلى ما سيأتي من جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب عندنا؛ خلافا للمعتزلة، فإنا، وإن قلنا: بجواز التأخير لا نقول به في المخصصات المتصلة التي هي الغاية، والصفة، والشرط؛ لأنها ألفاظ لا يجوز النطق بها مفردة لغة؛ لعدم إفادتها، بل لا ينطق بها إلا مع العمومات. قوله: " التخصيص [قد] يقع بخبر الواحد، والقياس، والنسخ لا يقع بهما ". قلنا: بلى، يصح بهما، إذا كان المنسوخ أخبار آحاد، وإنما يصح ما

ذكرتموه في المتواتر؛ لأنا نشترط في الناسخ أن يكون متساويا، أو أقوى؛ فينسخ الآحاد بالآحاد؛ لأنها متساوية، ولا ينسخ بها المتواتر؛ لعدم المساواة. قوله: " والفرق بين التخصيص والاستثناء فرق ما بين العام والخاص ". يريد: أن التخصيص هو الإخراج، فهو أعم من الاستثناء؛ لأن الاستثناء إخراج خاص بصيغ خاصة، فهو نوع من أنواع الإخراج. قوله: " الاستثناء مع المستثنى منه، كاللفظ الواحد؛ بخلاف التخصيص ". قلنا: أما التخصيص المنفصل الذي يقع بالأدلة المستقلة، فمسلم، وأما التخصيص المتصل، وهو الغاية، والشرط، والصفة، فهو مساو للاستثناء في أنه كلام لا يصلح النطق به وحده، بل يفتقر إلى ما يصلح ضمه إليه، والموجب لكون الاستثناء صار مع المستثنى منه كالكلمة الواحدة هو عدم استقلاله بنفسه، فهذه أيضا كذلك، فيكون مع المخصص كالكلمة الواحدة الدالة على ما بقى بعد التخصيص، كما قال الحنفية في الاستثناء: " هو تكلم بالباقي بعد الثنيا " يريدون: هو كلام وضع للباقي بعد الذي أخرج. قوله: " والحق: أن التخصيص جنس تحته أنواع النسخ والاستثناء وغيرهما ". قلنا: أما النسخ: فلأنه إخراج بعض الأزمنة عن الإرادة، كما تقدم، والاستثناء إخراج أيضا (وغيرهما) يريد تخصيص العمومات؛ فإنه ليس نسخا، ولا استثناء، فإذا كان هذا هو النوع الثالث، لزم أن يكون القسم قسما؛ لأن شأن الأقسام أن يكون كل واحد منهما قسيما للآخر منافيا له بالتضاد، وإذا جعل القسيم أحدهما، لزم أن يكون منافيا لأقسامه، والشيء

(تنبيه) زاد التبريزي؛ فقال، في الفرق بين التخصيص والنسخ: إن النسخ يتطرق للحكم المعين

لا ينافي أقسامه؛ لأنه جزء من أقسامه، والجزء لا ينافي الكل، فلا يتجه جعل التخصيص جنسا لنفسه ولغيره؛ إلا أن يريد مطلق الإخراج الذي هو أعم من التخصيص في الاصطلاح، فالعدول عنه إلغاز. (تنبيه) زاد التبريزي؛ فقال، في الفرق بين التخصيص والنسخ: إن النسخ يتطرق للحكم المعين، دون التخصيص؛ بالإجماع، ويصح التخصيص في الخبر دون النسخ. ***

المسألة الثالثة فيما يجوز تخصيصه، وما لا يجوز قال الرازي: الذي يتناول الواحد لا يجوز تخصيصه؛ لأن التخصيص عبارة عن إخراج البعض عن الكل، والواحد لا يعقل ذلك فيه. وأما الذي يتناول أكثر من واحد، فعمومه: إما من جهة اللفظ، ويصح تطرق التخصيص إليه. وأما من جهة المعنى، وهو أمور ثلاثة: أحدها أن العلة الشرعية، هل يجوز تخصيصها؟ وسيأتي الكلام فيه فى باب القياس؛ إن شاء الله تعالى. وثانيها: مفهوم الموافقة؛ كدلالة حرمة التأفيف، على حرمة الضرب. والتخصيص فيه جائز، إذا لم يعد بالنقض على الملفوظ؛ مثل تقييد الأم، إذا فجرت، وضرب الوالد، إذا أرتد، ولايجوز، إذا عاد بالنقض عليه. وثالثها: مفهوم المخالفة: فإنه يفيد السكوت عنه انتفاء مثل حكم المذكور، ويجوز أن تقوم الدلالة على ثبوت مثل حكم المذكور، لبعض المسكوت عنه. المسألة الثالثة فيما يجوز تخصيصه قال القرافي: قال سيف الدين: يجوز تخصيص الألفاظ، كيف كانت له في تبعة التخصيص في الخبر؛ لأنه يوهم الكذب.

قوله: "الذي يتناول الواحد لا يجوز تخصيصه؛ لأن التخصيص إخراج البعض عن الكل، وهو غير معقول في الواحد": قلنا: يندرج في هذا الكلام الواحد بالشخص، وهو يصح إخراج بعض أجزائه، وإن تعذر فيه إخراج بعض الجزئيات؛ لصحة قولنا: "رأيت زيداً" ونريد بعضه يده أو رجله، و"أكلت هذه السمكة" ونريد رأسها فقط، تعم الواحد بكل اعتبار؛ كالجوهر الفرد؛ يتعذر تخصيصه مطلقاً في ذاته دون جهاته ونسبه وإضافاته، فإن له جهات ستة، ونسبًا كثيرة، وإضافات، فهو نصف الأثنين، وثلث الثلاثة، وربع الأربعة، وغير ذلك من النسب، والواحد حينئذ ينقسم إلى أقسام يبقى الفصل. قوله: " العلة الشرعية يجوز تخصيصها ": تخصيص العلة: عبارة عن وجودها في صورة فأكثر، بدون حكمها، وهو المسمى بالنقض على العلة، وفيه أربعة مذاهب: ثالثها: الفرق بين المنصوصة؛ فتجوز، والمستنبطة، فلا تجوز. ورابعها: الفرق بين أن يوجد في صورة النقض فارق، فتجوز، وإلا فلا تجوز. قوله: "يجوز تخصيص مفهوم الموافقة، إذا لم يعد بالنقض على أصله؛ كتقييد الأم، إذا فجرت، وضرب الأب إذا أرتد ": تقريره: أن الله تعالى قال: {فلا تقل لهما أف}] الإسراء: 23 [ فتحريم التأفيف يقتضي تحريم الضرب؛ بطريق الأولى، وكذلك جميع أنواع الأذى التي هي أعظم من أذية التأفيف، أو مساوية لها، فإذا دل الدليل

من خارج على جواز أذيتهما بما هو مساو، أو أعظم منأذية التأفيف، كان ذلك مناقضأ في نظر الحكمة؛ لتحريم التأفيف، إلا أن يكون ذلك بسبب حادث يعارض الأبوة، ويقدم عليها؛ كضرب الأب، أو قتله إذا أرتد، فإن قتله بالردة لعارض الردة المقدم على الأبوة المقتضية للبر، أما إباحة أذيته لغير سبب، فنقض على حكمة تحريم التأفيف. قوله: " يجوز أن يخصص مفهوم المخالفة ": تقريره قوله عليه السلام: " إنما الماء من الماء " يقتضي مفهومه عدم وجوب الغسل من الملامسة، والقبلة، وإلتقاء الختانين، وأكل الطعام، وأمور كثيرة غير متناهية، السلب عام فيها، فقوله عليه السلام: (إذا التقى الختانان؛ فقد وجب الغسل) أخرج هذا الفرد الذي هو التقاء الختانين من عموم ذلك السلب، وكذلك قوله عليه السلام: (إنما الربا في النسيئة) خرج منه بحديث عبادة ربا التفاضل؛ فيقدم الدليل المثبت عل عموم ذلك السلب؛ لأنه أخص وأقوى؛ لكونه منطوقاً؛ فيكون هذا تخصيصاً، ويرد عليه أنه لم يتعرض له ولا لمفهوم الموافقة في حد التخصيص، وقد تقدم التنبيه عليه هناك.

شرح القرافى: قوله: "لو كان التخصيص يمنع الكذب، لما بقي في الدنيا كذب "

المسألة الرابعة قال الرازي: يجوز إطلاق اللفظ العام لإرادة الخاص، أمراً كان، أو خبراً؛ خلافاً لقوم: لنا: الدليل على جوازه وقوعه في القرآن؛ كقوله تعالى: {اقتلوا المشركين} [التوبة: 5] {الله خالق كل شئ} [الزمر: 62] ويقال في العرف " جاءنى كل الناس " والمراد أكثرهم؛ احتجوا: بأنه إذا أريد بالخبر العام بعضه، أوهم الكذب، ولو كان جواز حمله على التخصيص مانعاً من كونه كذباً؛ لما وجد في الدنيا كذب. وجزاز التخصيص في الأمر يوهم البداء. والجواب: إذا علمنا أن اللفظ في الأصل محتمل للتخصيص، فقيام الدلالة على وقوعه لا يوجب الكذب، ولا البداء، واله أعلم. المسألة الرابعة يجوز إطلاق العام لإرادة الخاص قال القرافى: قوله: "لو كان التخصيص يمنع الكذب، لما بقي في الدنيا كذب ": قلنا: التخصيص ليس من الكذب في شيء، ولا من البداء؛ لأن الكذب هو أن يستعمل المتكلم اللفظ في شيء، ولا يكون ذلك الشيء واقعاً في نفس الأمر؛ كان الاستعمال حقيقة؛ كقوله: " دخلت الدار " وما كان دخلها، أم مجازاً؛ كقوله " رأيت أسداً " يريد رجلا ً، وهو في غاية الخوف

والجبن، والمتكلم إذا استعمل العام في الخاص كما في الواقع، فهو صدق قطعاً، فلا كذب قطعاً، وأما البداء: فهو أنه يأمر بالشيء لمصلحة يظنها، ثم يظهر له خلافها؛ فتبدو له في طلب ذلك الفعل، وهو على الله - تعالى - محال؛ لأنه بكل شيء عليم، بل الله ــ تعالى ــ يطلق العام، ويريد الخاص في أوامره، وهو عالم أزلاً وأبداً بنوع تلك المصلحة ومقدارها وأهلها، وجميع مايتعلق بها؛ فلا بداء حينئذ في حقه - تعالى - واستحالة الكذب والبداء عقلا يمنع من توهم ذلك في حق الله - تعالى - قام دليل على التخصيص أم لا؟ وقيام الحجة على صدق الرسل - عليهم السلام - يمنع من ذلك في حقهم، قام دليل التخصيص أم لا؟ * * *

المسألة الخامسة في الغاية التى لا يمكن أن ينتهي تخصيص العموم إلى أقل منها قال الرازي: اتفقوا فى ألفاظ الاستفهام والمجازاة على جواز انتهائها فى التخصيص إلى الواحد، واختلفوا في الجمع المعرف بالألف واللام؛ فزعم القفال: أنهلا يجوز تخصيصه بما هو أقل من الثلاثة، ومنهم من جوز انتهاءه إلى الواحد. ومنع أبو الحسين من ذلك في جميع ألفاظ العموم، وأوجب أن يراد بها كثرة، وإن لم يعلم قدرها، إلا أن يستعمل في حق الواحد على سبيل التعظيم والإبانة؛ فإن ذلك الواحد يجري مجرى الكثير؛ وهو الأصح. أما أنه لا بد من بقاء الكثرة؛ فلأن الرجل لو قال: "أكلت كل ما في الدار من الرمان " وكان فيها ألف، وكان قد أكل رمانة واحدة، أو ثلاثة ــ عابه أهل اللغة، ولو قال: " كل من دخل داري، أكرمته " ثم قال: " أردت به زيداً وحده " عابه أهل اللغة. أحتج من جوز ذلك: بأن استعمال العام في غير الاستغراق ــ استعمال له في غير ما وضع له؛ فليس جواز استعماله في البعض أولى منه في البعض الأخر؛ فوجب جواز استعماله في جميع الأقسام؛ إلى أن ينتهي إلى الواحد. والجواب: لا نسلم أنه ليس بعض المراتب أولى من بعض، وتقريره ما ذكرناه.

شرح القرافي: " اتفقوا فى الاستفهام والشرط؛ أنه يجوز تخصيصه الى الواحد "

وأما أنه يجوز استعماله في حق الواحد؛ على سبيل التعظيم؛ فلقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر} [الحجر: 9]ــ وقوله: {فقدرنا فنعم القادرون} [المرسلات: 23]. المسألة الخامسة في الغاية التى يجوز إليها التخصيص قال القرافي: " اتفقوا فى الاستفهام والشرط؛ أنه يجوز تخصيصه الى الواحد ": مثاله: " من دخل داري، فأكرمه ". والاستفهام: من فى الدار؟ وكذلك: ما رأى؟ وسبب اتفاقهم في هذا؛ على جواز التخصيص إلى الواحد: أن لفظه مفرد، والعرب تعامله معاملة المفرد فى عود الضمير عليه مفرداً، وإن أريد العموم؛ لقوله تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن} [الزخرف: 36]. ولم يقل: يعشون، وهو كثير، ولا تقول العرب: " المشركون اقتله، بل اقتلهم" وكذلك لما كان لفظه مفردًا، جوزوا تخصيصه للمفرد؛ نظراً للفظه، ومعاملة العرب له في الضمائر والنعوت وغير ذلك، فكذلك تعامله في التخصيص؛ لأنه حكم من أحكامه اللغوية، فهذا هو الفرق بينه، وبين صيغ العموم في الجموع، ومنهم من جوزه في الجمع أيضاً؛ لأن الموجب للقبح: إنما هو المعنى دون اللفظ، والمعنى العام والكثرة التي هي غير متناهية موجودة فى لفظ " من " وما منع ذلك من التخصيص للواحد، فكذلك الجمع؛ لاشتراكهما في معنى العموم. وأما أن المعنى هو الموجب لقبح تخصيص العموم بالواحد؛ فلأنه قد أعاده الشافعية والمالكية على أبي حنيفة ــ رحمة الله عليهم أجمعين ــ في

تخصيص قوله عليه السلام: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير أذن وليها ...) الحديث خصصته الآية؛ فقالوا: هذا العموم العظيم يخصصه هذا الصنف القليل، وهو مستقبح لغة، مع أن هذا الصنف أفراده غير متناهية؛ لأنه عام فى نفسه، فإذا أنكر مثل هذا، فأولى أن ينكر العدد المحصور، وإن كثر، فأولى الواحد المعين، فهو أبعد المراتب في التخصيص. قوله: يجوز التخصيص إلى الواحد فى المعظم نفسه؛ لقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر} [الحجر: 9]. وقوله تعالى: {فقدرنا فنعم القادرون} [المرسلات: 23]. قلنا: هذا ليس من صيغ العموم التي نحن نتكلم فيها؛ لأن النحاة متفقون على أن العرب وضعت "نحن" للمتكلم مع غيره، كان ذلك الغير واحداً، أو أكثر، ولا خلاف عندهم أنه في الاثنين حقيقة، وإنما هومحتمل للزيادة، والعموم هو اللفظ الذى لا يكون حقيقة، إلا في عدد غير متناه، وفى دونه يكون مجازاً، بل هذا الضمير لصيغ الجموع المنكرة، إذا أريد بها الواحد، فإنها تكون مجازاً، ولا تكون لفظاً عاما خص؛ لأنها تدل على الاثنين، أو

(فائدة) جاء فى التفسير فى قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس}

الثلاثة حقيقة؛ على الخلاف في أدنى مراتب مسماها، وإذا اقتصر بها عليه كانت حقيقة لا مجازاً، وفي الواحد تكون مجازاً؛ فهذا هو نظيرها لا صيغ العموم، وكذلك الضمير في قوله تعالى {فقدرنا} [المرسلات: 23]. هو مثل "نحن" في اللغة للواحد مع غيره، كان ذلك الغير واحداً أو اكثر؛ بخلاف ضمير الخطاب والغيبة؛ نحو: أكرمتكم، وأنتم، وأهنتهم، وهم، وهن؛ فإنه لا بد من ثلاثة، وتكون حقيقة فيها، ولا يشترط أكثر، وليست من صيغ العموم فى شيء؛ فالحاصل أن التصور فى هذه الضمائر كلها، اذا استعملت في الواحد ــ للمجاز؛ لأن التخصيص فى لفظ عام، وإن صدق عليه التخصيص؛ من حيث هو إخراج بعض ما يتناوله اللفظ من حيث الجملة، لا إخراج بعض مدلول لفظ عام، ولعل هذا هو الموجب لذكر الصنف، لكنه من غير الباب الذى نحن فيه، فلا يحسن ذكره. (فائدة) جاء فى التفسير فى قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس} [آل عمران: 173]. القائلون: نعيم بن مسعود الأشجعي، ويحسدون الناس: يحسدون نعم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المسألة السادسة قال الرازي: اختلفوا فى أن العام الذى دخله التخصيص، هل هو مجاز، أم لا؟ فقال قوم من الفقهاء: إنه لا يصير مجازاً، كيف كان التخصيص، وقال أبو علي، وأبو هاشم: يصير مجازاً، كيف كان التخصيص. ومنهم من فصل، وذكر فيه وجوهاً. والمختار قول أبي الحسين ــ رحمه الله ــ وهو: أن القرينة المخصصة، إن استقلت بنفسها، صار مجازاً؛ وإلا فلا: تقريره أن القرينة المخصصة المستقلة ضربان: عقلية، ولفظية: أما العقلية: فكالدلالة الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب بالعبادات. وأما اللفظية: فيجوز أن يقول المتكلم بالعام: "أردت به البعض الفلاني" وفى هذين القسمين يكون العموم مجازاً. والدليل عليه: أن اللفظ موضوع فى اللغة للاستغراق، فإذا استعمل هو بعينه في البعض، فقد صار اللفظ مستعملا فى جزء مسماه؛ لقرينة مخصصة؛ وذلك هو المجاز. فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: لفظ العموم وحده حقيقة فى الاستغراق ومع القرينة المخصصة حقيقة في الخصوص؟ قلت: فتح هذا الباب يفضي إلى ألا يوجد فى الدنيا مجاز أصلاً؛ لأنه لا

(تنبيه) إذا قال الله تعالى: {اقتلوا المشركين} فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحال: (إلا زيدا) فهذا تخصيص بدليل متصل، أو منفصل؟

لفظ، إلا ويمكن أن يقال: إنه وحده حقيقة فى كذا، ومع القرينة حقيقة فى المعنى الذي جعل مجازاً عنه. والكلام فى أن العام المخصوص بقرينة مستقلة بنفسها، هل هو مجاز أم لا، فرع على ثبوت أصل المجاز، وأما إن كانت القرينة لا تستقل بنفسها؛ نحو الاستثناء، والشرط، والتقييد بالصفة؛ كقول القائل: "جاءني بنو أسد الطوال" فهاهنا لا يصير مجازاً. والدليل عليه: أن لفظ العموم حال انضمام الشرط، أو الصفة، أو الاستثناء إليه لا يفيد البعض؛ لأنه لو أفاده، لما بقي شيء يفيده الشرط، أو الصفة، أو الاستثناء، وإذا لم يفد البعض، استحال أن يقال: إنه مجاز في إفادة البعض، بل المجموع الحاصل من لفظ العموم، ولفظ الشرط، أو الصفة، أو الاستثناء دليل على ذلك البعض، وإفادة ذلك المجموع لذلك البعض، حقيقة. (تنبيه) إذا قال الله تعالى: {اقتلوا المشركين} فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحال: (إلا زيداً) فهذا تخصيص بدليل متصل، أو منفصل؟ فيه احتمال. المسألة السادسة قال القرافى: هل المخصوص مجاز أم لا؟ قال سيف الدين الآمدي في (الإحكام): فيه ثمانية مذاهب: حقيقة مطلقاً، قاله الحنابلة، وكثير من أصحابنا.

وقال الغزالي، وكثير من المعتزلة، وكثير من أصحابنا، وأصحاب أبي حنيفة؛ كعيسى بن أبان وغيره، هو مجاز مطلقا ً. ومن الحنفية: من قال: إن كان الباقي جمعاً، فهو حقيقة، وإلا فلا، واختاره أبو بكر الرازي. ومنهم من قال: إن خص بدليل لفظي، فهو حقيقة، مهما كان المخصص متصلا أو منفصلاً، وإلا فهو مجاز. واختار القاضي أبو بكر وغيره، إن خص بدليل متصل؛ من شرط؛ كقوله: "من دخل داري، أكرمته، سوى بني تميم" فحقيقة، وإلا فمجاز. وقال القاضى عبد الجبار من المعتزلة: إن خصصه بشرط، كما سبق تمثيله أو صفة؛ كقوله: "من دخل دارى، أكرمته، حتى أكره ذلك" و"إلا أن أكره ذلك" أو "إلا بني تميم". وقال أبو الحسين البصري: إن استعمل المخصص بنفسه؛ كانت عقلية، فالدلالة على أن غير القادر غير مراد فى العبادات، أو لفظية؛ كقول المتكلم: "أردت البعض الفلاني" فهو مجاز، وإلا فهو حقيقة؛ كانت القرينة شرطاً، أو صفة مقيدة، أو استثناء. وقيل حقيقة؛ في تناول اللفظ، مجاز؛ فى الاقتصار عليه. قلت: من لاحظ أن الحربيين مشركون مثلاً، قال: اللفظ حقيقة، ومن لاحظ أن اللام صيرت اللفظ للاستغراق ــ وقد استعمل فى غيره ــ قال: مجاز.

ومن لاحظ أنها صيغة جمع، أو لعموم موضوع للجمع بقيد عدم النهاية، وقد ذهب القيد، وبقي الجميع، فيكون اللفظ حقيقة فيه؛ لأنه جمع؛ كالوجوب، إذا تناول الفعل بوصف الطهارة؛ فتعذرت الطهارة، وبقي الوجوب متناولاً له، كذلك العموم، ومن لاحظ أن المتصل مع اللفظ العام كالكلمة الواحدة، فيكون المجموع حقيقة فيما بقي، والمنفصل لا يمكن جعله مع الأصل كلاماً واحداً؛ لاستقلال المنفصل بنفسه ــ قال: هذا مجاز دون المنفصل، والفرق عند الآخر بين الشرط والصفة، وغيرهما: أنهما يتضمنان المقاصد؛ لأن الشرط اللغوي سبب، والأسباب متضمنة للحكم، والصفات متضمنة للمدح والذم. وأما الغاية: فلبيان نهاية الشيء والاستثناء: لإخراج غير المراد، فهما تبعان لغيرهما في القصد، فاللفظ معهما مجاز؛ لضعفهما ولم يجعلهما من أصل الكلام، فيكونان مع الأصل كالكلمة الواحدة، والأولان قويان؛ فلقوتهما جعلا مع الأصل كلمة واحدة، فكان اللفظ حقيقة، والتفريق بين العقلي والفظي عسر المدرك، وكذلك المذهب الأخير. قوله: "الدلالة العقلية كالدلالة على أن غير القادر غير مراد بالتزام العبادات": قلت: هذا على قاعدة المعتزلة: أن الحسن والقبح يمنع من تكليف العاجز، أما على قاعدتنا؛ فم يدل العقل على ذلك؛ بل السمع فى قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]. قوله: "لم لا يكون العام وحده حقيقة فى الاستغراق، ومع القرينة فى الخصوص؟ ّ": قلنا: لأن الحقيقة: هي استعمال اللفظ فيما وضع له.

وقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] مع قوله عليه السلام: (لا تقتلوا الرهبان) مثلاً، لم يوضع هذا المجموع لقتل الحربيين خصوصا، بل كل لفظ وضع لمعنى وحده؛ فلا يكون هذا حقيقة فى الأفراد، ويجوز أن يكون حقيقة من حيث التركيب؛ لأنه قد تقدم أن العرب وضعت المركبات، كما وضعت المفردات؛ وحينئذ يكون هذا التركيب مستعملاً فيما وضع له؛ لأنها وضعت، والكلام هاهنا فى المجاز في الأفراد، لا فى التركيب، ثم من المخصصات القرائن الحالية، وأدلة العقل، وهى ليست موضوعة ألبتة، فلا يكون المجموع حقيقة ألبتة؛ لعدم الوضع. قوله: "والكلام فى العام المخصوص بقرينة مستقلة بنفسها، هل هو مجاز أم لا؟ " تقريره: أن القرينة المستقلة لا يمكن أن يعتقد فيها أنها مع الأصل كاللفظة الواحدة الموضوعة لما بقي بعد التخصيص، إنما يحسن ذلك فيما لا يستقل، وهو الأربعة المتقدمة: الشرط، والغاية، والصفة، والاستثناء. قوله: "لفظ العموم ــ حال انضمام الشرط أو الصفة أو الاستثناء إليه ــ لا يفيد البعض؛ لأنه لو أفاده ما بقي شيء يفيد الشرط أو الصفة أو الاستثناء، فإذا لم يفد البعض، استحال أن يقال: " إنه مجاز فى إفادة البعض، بل المجموع دليل على ذلك البعض": تقريره: أن صيغة العموم لا تفيد البعض؛ اختصاراً حالة انضمام المخصص المتصل إليه، فإنه لو أفاد الأقتصار عليه لم يفد شيئاً، ويرد عليه أنه لا يلزم من عدم إفادته إياه على وجه الاقتصار ــ كون المجموع حقيقة، بل الحق أنه لا يفيد البعض اقتصاراً، بل يفيد مع غيره بالوضع لغة، والمخصص

(سؤال)

دل على عدم استعماله فى الشمول؛ فيكون مستعملاً فى غير ما وضع له، فيكون مجازاً؛ لأن المجموع ليس موضوعاً لما بقي؛ كما تقدم. تقريره: بل بعضه موضوع للشمول، وهو الفظ العام، والبعض الأخر موضوع للغاية، أو للربط والتعليق، أو للإخراج كالاستثناء. قوله: "إذا قال الله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5]ـ، فقال النبي عليه السلام في الحال: (إلا زيداً) فهل هو تخصيص متصل أو منفصل؟ فيه احتمال، تقريره: أن كونه عقيب السماع من غير فصل يقتضي كونه متصلاً، وكونه من متكلمين يقتضي انفصاله، فحصل التردد. (سؤال) قال النقشوانى: اختياره ــ هاهنا ــ ناقص به ما اختاره فى مسألة إذا دار اللفظ بين احتمالين مرجوحين، وجعل التخصيص من جملتها، وجعله قبالة الحقيقة، وما قرره فى أنواع المجاز؛ حيث قال: إطلاق الكل، وإرادة البعض، ومثله بالعام المخصوص، ثم إنه جعل التخصيص جنساً تحته ثلاثة أنواع: أحدها: الاستثناء، فإذا كان التخصيص مجازاً؛ يلزم أن يكون الاستثناء مجازاً، وهو من جملة المخصصات المتصلة، ثم قوله: العام لا يفيد ذلك البعض، وإلا لما أفاد ذلك الشرط شيئاً، يلزمه أن سائر صور التخصيص كذلك، فإن المخصص المنفصل، إذا لم نلاحظه، لا يقتصر على ذلك البعض الباقي بعد التخصيص. قلت: وتندفع هذه المناقضات؛ فإن قوله: "التخصيص مقدم على النقل وغيره" لم يتعرض ثمة لجميع أنواع التخصيص، بل لجنسه من حيث الجملة،

وإذا كان الكلام فى تقرير قاعدة لا يحتج به فى غير تلك القاعدة؛ لأن المتكلم لم يوجه، لتجويز غير ما هو فيه؛ ولذلك قال العلماء: لا يتم أي احتجاج حقيقة بقوله عليه السلام: (فيما سقت السماء العشر) على وجوب الزكاة فى جميع الخضروات؛ لأن الشارع إنما قصد بذلك الكلام الجزء الواجب، لا الواجب فيه، فمتى سيق الكلام فى تحرير معنى، لا يكون حجة فى غيره، كذلك هناك سيق الكلام لترجيح أحد تلك الاحتمالات على غيرها، لا تقرير أنواع التخصيص والمجاز؛ فيحتمل كلامه هناك على التخصيص بقرينة منفصلة، وهو قد سلم هاهنا أنه مجاز، وكذلك نقول: حيث مثل أنه أحد أنواع المجاز؛ لم قلتم: إنه أراد استعمال اللفظ فى الجزء، إذا دلت عليه قرينة متصلة، بل لحمله على ما إذا كان المخصص منفصلاً؛ جمعا بين كلاميه، ولا ضرورة للتناقض؛ لأنه لم يتعين، وأما كونه جعل التخصيص جنساً تحته أنواع: أحدها: الاستثناء، فلا يلزمه أيضاً أن الاستثناء مجاز؛ لأن مطلق التخصيص هو المجعول جنساً، ومطلق التخصيص ليس مجازاً عنده، وإنما المجاز يعرض من المخصص المنفصل الذى هو أخص من مطلق التخصيص؛ فلا يلزم من ثبوت حكم الأخص ثبوته للأعم، بل الأعم عنده قابل لأن يكون مجازاً، وألا يكون كما نقول: الكلام يقبل أن يكون أمرا ً وألا يكون، وإذا قضى على بعض أنواعه بأنه أمر، لا يلزم أن يقضي على مطلق الكلام بأنه أمر، كذلك هاهنا، سلمنا أن هذا الاختيار لا يجتمع مع ذلك، أو أي محذور فى هذا، وذلك أن العلوم ليست تقليدية، ولا يجمد فيها على حالة واحدة طول عمره، إلا جامد العقل، فاتر الذهن، قليل الفكرة، فاتر الفطنة، إلا في الأمور الجليلة جدا؛ فإنها لا تتغير عند العقلاء، وليس هذا منها، بل هذا من محال النظر، وموارد التغير، فهذا الاختلاف مما يدل على وفور علم الإمام وجودة عقله ودينه، أما عقله وعلمه، فإنه دائم أبداً فى النظر والنقل، طالب للأزدياد والتحصيل

والوصول إلى غاية بعد غاية، وكشف حقيقة بعد حقيقة؛ فيظهر له دائماً خلاف ما ظهر له أولاً، وكذلك قال عمر ـ رضي الله عنه ـ في المشركة: "ذلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي" ورجع عما أفتى به أولاً، ولم يزل العلماء على ذلك قديماً وحديثاً. وأما وفور دينه: فلأنه إذا ظهر رجحان شيء، رجع إليه، ولا يخشى أن يقال: غلط أولاً، ثم رجع للحق، بل يقول الحق متى ما ظهر له، ولا يكترث بمن يعتب عليه للاختيار الأول، وهذا عائد الدين، وصلابة الهمة، فهذا بأن يشكر به الإمام أولى وأحرى، وأن يجعل من صفات كماله، لا من صفات نقصانه. ولقد رأيت جماعة قصدت هممهم عن فهم كلام الإمام، والاشتغال بتحصيل معاني كتبه، فيعيبونه بهذا، وينفرون الناس، ويقولون: هو ينقص كلامه بعضه بعضاً، فلا تشتغلوا به، وطول الزمان ينقلون عن الشافعى وغيره من السادة الكرام عدة أقوال فى المسألة الواحدة، ولا يعد ذلك أحد من معايبهم، بل من كمالهم؛ فلم لا يفعلون ذلك هاهنا؟ بل من جهل شيئاً، عاداه، وعادى أهله لا سيما، وفى هذه الاختلافات تنبيه الطالب على النظر، وتفنن من المدارك، ووجوه الترجيح، وقوة إيضاح الحق، فإن كثرة أقل المباحث مما يزيد الحق وضوحاً عند الفضلاء، وذوى العقول الراجحة، كما أن الأخوث، وناقص العقل، إذا اختلفت عليه المباحث يتيه ويضل، ولايبقى له حاصل ألبته، بل لا يعرف المشي إلا على تفنن واحد؛ كالدابة لا تعرف دار صاحبها إلا إذا لم تختلف الطرق عليها، أما ذو البصيرة الراجحة، فلا.

المسألة السابعة يجوز التمسك بالعام المخصوص قال الرازى: وهو قول القهاء، وقال عيسى بن أبان، وأبو ثور: لا يجوز مطلقا. ومنهم من فصل؛ فذكر الكرخى: أن المخصوص بدليل متصل يجوز التمسك به، والمخصوص بدليل منفصل لا يجوز التمسك به. والمختار: أنه لو خص تخصيصاً مجملاً لا يجوز التمسك به، وإلا جاز؛ مثال التخصيص المجمل: كما قال اله تعالى: (اقتلو المشركين) ثم قال: لم أرد بعضهم. لنا وجوه: الأول: أن اللفظ العام كان متنا ولا للكل، فكونه حجة فى كل واحد من اقسام ذلك الكل: إما أن يكون موقوفاً على كونه حجة فى القسم الآخر، أو على كونه حجة فى الكل، أو لا يتوقف على واحد من هذين القسمين: والأول باطل؛ لأنه، إن كان كونه حجة فى كل واحد من تلك الأقسام، مشروطاً بكونه حجة فى القسم الآخر، لزم الدور، وإن أفتقر كونه حجة فى هذا القسم إلى كونه حجة فى ذلك القسم، ولا ينعكس ــ فحينئذ يكون كونه حجة فى ذلك القسم يصح أن يبقى بدون كونه حجة فى هذا القسم؛ فيكون العام المخصوص حجة فى ذلك القسم.

هذا؛ مع انا نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى الكل الأقسام ــ على السوية، فلم يكن جعل البعض مشروطاً بالآخر أولى من العكس. والقسم الثانى أيضاً باطل؛ لأن كونه حجة فى الكل يتوقف على كونه حجة فى كل واحد من تلك الأقسام؛ لأن الكل لا يتحقق إلا عند تحقق جميع الأفراد، فلو توقف كونه حجة فى البعض على كونه حجة فى الكل، لزم الدور؛ وهو محال. ولما بطل القسمان، ثبت أن كونه حجة فى ذلك البعض لا يتوقف على كونه حجة فى البعض الاخر، ولا على كونه حجة فى الكل؛ فإذن: هو حجة فى ذلك البعض، سواء ثبت كونه فى البعض الآخر أو فى الكل، أو لم يثبت ذلك؛ فثبت أن العام المخصوص حجة. الثانى: هو أن المقتضى لثبوت الحكم فى غير محل التخصيص قائم، والمعارض الموجود لا يصلح معارضاً؛ فوجب ثبوت الحكم فى غير محل التخصيص. إنما قلنل إن المقتضى قائم؛ وذلك لأن المقتضى هو اللفظ الدال على ثبوت الحكم، وصيغة العموم دالة على ثبوت الحكم فى كل الصور، والدال على ثبوت الحكم فى كل الصور دال على ثبوته فى محل التخصيص، وفى غير محل التخصيص؛ فثبت أن القتضى لثبوت الحكم فى غير صورة التخصيص قائم. وأما المعارض الموجود لا يصلح أن يكون معارضاً؛ فلأن المعارض إنما هو بيان أن الحكم غير ثابت فى هذه الصورة المعينة، ولا يلزم من عدم الحكم في

هذه الصورة المعينة عدمه فى الصورة الأخرى، فبيان عدم الحكم فى هذه الصورة لا يكون منافياً لثبوت الحكم فى الصورة الأخرى. فثبت: أن المقتضى قائم، والمانع مفقود؛ فوجب ثبوت الحكم. الثالث: أن عليا ــ كرم الله وجهه ــ تعلق فى الجمع بين الأختين فى الملك؛ بقوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم) النساء: 3. مع أنه مخصوص بالبنت والأخت، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة؛ فكان إجماعاً. أحتجوا: بأن العام المخصوص لا يمكن إجراؤه على ظاهرة؛ فيجب صرفه عن الظاهر؛ وحينئذ لا يكون حمله على بعض المحامل أولى من بعض؛ فيصير مجملاً. قلنا: لا نسلم أنه ليس البعض بأولى من البعض، بل عندنا يجب حمله على الباقى، واله أعلم. المسألة السابعة يجوز التمسك بالعام المخصوص قال القرافى: قوله: "قال الكرخى: إن خص بمتصل جاز التمسك به، وإلا، فا": تقيره: أن التخصيص، إذا كان متصلا، كان مع الأصل؛ كاللفظة الواحدة الموضوعة لما بقى، فيكون حقيقة، والمخصص المنفصل لا يمكن جعله مع الأصل كالكلمة الواحدة؛ فكان مجازاً، وليس بعض مراتب المجاز عنده فى التخصيص أولى من البعض؛ فيكون مجملاً، فلا يصح التمسك به، وقد تقدم تمثيل المتصلات بالشرط والغاية والصفة والاستثناء.

قوله: "والمختار إن خص تخصيصاً مجملاً، لا يجوز التمسك به": قلنا: هذا يوهم أن هذا المذهب قال به أحد، ومتى كان التخصيص مجملاً امتنع العنل به اتفاقاً فيما عملت، ولا يمكن العمل به، وبعضه قد حرم مثلاً، وبعضه مباح، وقال المتكلم: المحرم عندى معنى، ولا أبنيه لكم، كما مثلته فى المشركين، فكيف يسوغ من عقل الإقدام على مثل هذا، فهذا، والله أعلم، متفق عليه، فلا معنى لقوله: "والمختار" أما إذا قال: اقتلوا المشركين، والمراد بعضهم والبعض غير معين عند المتكلم، فيصير معنى الكلام: "أوجبت عليكم قتل جماعة لا أعينها" فهو مثل إيجاب عتق رقبة لا بعينها، فيخرج عن العهدة بقتل أى ثلاثة من المشركين كانوا، ولا يكون ذلك تخصيصاً مجملاً إنما يكون مجملاً، إذا كان متعيناً فى نفس الأمر، وامتنع المتكلم من تبيينه، وهو مراده فى الكتاب. قوله: "كونه حجة فى كل واحد من الأقسام، إما أن يتوقف على كونه حجة فى القسم الآخر، أو كونه حجة فى الكل": تقريره: كون لفظ المشركين مثلاً حجة فى الحربيين، إما أن يتوقف على كونه حجة فى الذميين، أو كونه حجة فى مجموع الفريقين من حيث هو مجموع، والمجموع من حيث هو مجموع مغاير للذميين، كمغايرة العشرة الخمسة. قوله: "إن كان مشروطاً بكونه حجة فى القصسم الآخر، لزم الدور": قلنا: التوقف أعم من توقف الشرط؛ لأن التوقف قد يكون على وجه المعية، وقد يكون على وجه السبقية من الطرفين. والثانى هو الذى يلزم منه الدور، دون الأول. فإذا قلت: "لا أخرج من الدار؛ حتى يخرج زيد قبلى" وقال زيد: "لا أخرج؛ حتى تخرج أنت قبلى" تعذر خروج واحد منكما، وصار محالاً.

"سؤال" العام بعد التخصيص حجة فيما خرج بالتخصيص ...

أما إذا قلت: "لا أخرج حتى يخرج زيد معى" وقال زيد: "لا أخرج؛ حتى تخرج أنت معى" خرجتما معاً، ولا يصير خروجكما محالاً، فظهر أن الدور إنما يلزم من التوقف السبقى، دون التوقف المعى، فجاز أن يكون ثبوت الحكم فى كل واحد من القسمين متوقفا على ثبوته فى الآخر، ويكون التوقف معيا لا سبقيا، ولا يلزم الدور، ولا كونه حجة بعد التخصيص لأجل أصل التوقف. "سؤال" العام بعد التخصيص حجة فيما خرج بالتخصيص؛ لأن الحجة هى الدلالة، وصحة التمسك، وهو حاصل، غير أنها حجة لها معارض راجح، وقيام المعارض لا يبطل كون المعارض فى نفسه حجة، بل يمنع من ترتب حكمه عليه؛ فينبغى أن يقول: ثبوت الحكم فى هذا القسم، إما أن يتوقف على ثبوته فى ذلك القسم أم لا؟ فيجعل الترديد فى الحكم لا فى كون اللفظ حجة، والدور الذى ألزمه فى التوقف على الكل منحل بما تقدم فى التوقف على القسم الآخر؛ فلا دور فيهما. قوله: "عدم الحكم فى تلك الصورة لا ينافى ثبوته فى الصورة الأخرى": قلنا: هذه مصادرة من غير دليل؛ لأن الخصم يقول: هو مناف، وأنتم تقولون: غير مناف، ولم تذكروا دليلاً على ذلك، فقد صادرتم على مذهب الخصم من غير دليل، فلا يجوز ذلك فى البحث والإنصاف، بل إن صح لكم ذلك، فا حاجة للأدلة على ذلك. "تنبيهّ" زاد سراج الدين فقال: لقائل أن يقول: لا يلزم من عدم توقف الشيء

على غيره جواز وجوده بدونه؛ كما فى المتلازمين، فإن عنى بتوقفه عليه امتنع وجوده بدونه، لا يلزم الدور، كما فى المتلازمين": قلت: كل علة لها مسببات؛ كالنار للإحراق والإشراق والدخان، ووطء التناسل ينشأ عنه الأبوة والبنوة، وغير ذلك من العلل، فإن معلولاتها لا يوجد أحدها بدون الآخر، وهو غير متوقف عليه فى ذاته، بل كلاهما متوقف على العلة؛ فلا يلزم من عدم التوقف جواز الانفكاك، ووجود أحدهما بدون الآخر، وكذلك لا يلزم من امتناع وجود أحدهما بدون الآخر لدور، لأن التوقف قد يكون معيا لا سبقيا؛ كما تقدم تقريره، وهى فى المتلازمين كالمعلولين كذلك؛ فإن وجود أحدهما بدون الآخر ممتنع، ولا يلزم الدور؛ لأن أحدهما لا يوجد؛ حتى يوجد الآخر معه لا قبله؛ فلا انفكاك ولا دور. وزاد التبريزى، فقال: يتجه أن يقال: دل العام على ثبوت الحكم فى ل فرد؛ بشرط استعماله فى الموضوع، وهو الاستغراق، فإذا لم يشتعمل فيه، جاز فى كل واحد أن يكون مراداً، وألا يكون مراداً؛ فلم يكن حجة فى شيء منه وهو سؤال حسن، غير أنه يقال: الأصل عدم هذه الشرطية، وقال فى أدلة أصل المسألة: استعمل المجاز من غير بيان إلغاز وتلبيس، وليس من عادة العرب؛ فيعلم انتقاؤه من الشرع قطعاً، وإرادة بعض ما وراء محل التخصيص. قال: قيل: فلعل وراء هذا المخصص شخصاً آخر: قلنا: مالم يظهر، فهو فى حكم العدم، كيف، فلو ظهر، لم يحل من الخصم عقدة الإصرار على المنع. * * *

المسألة الثامنة قال الرازى: قال ابن سريج: لا يجوز التمسك بالعام، مالم يستقص فى طلب المخصص، فإذا لم يوجد ذلك الكخصص؛ فحينئذ يجوز التمسك به فى إثبات الحكم، وقال الصيرفى: يجوز التمسك به ابتداء مالم تظهر دلالة مخصصة. واحتج الصيرفى بأمرين: أحدهما: لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب أنه، هل وجد مخصص أم لا، لما جاز التمسك بالحقيقة إلا بعد طلب أنه، هل وجد ما يقتضى صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز؟ وهذا باطل؛ فذاك مثله. بيان الملازمة: أن لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص، لكان ذلك لأجل الاحتراز عن الخطأ المحتمل؛ وهذا المعنى قائم فى التمسك بحقيقة اللفظ؛ فيجب اشتراكهما فى الحكم. بيان أن التمسك بالحقيقة لا يتوقف على طلب ما يوجب العدول إلى المجاز: هو أن ذلك غير واجب فى العرف؛ بدليل أنهم يحملون الألفاظ على ظواهرها من غير بحث عن أنه، هل وجد ما يوجب العدول، أم لا؟ وإذا وجب ذلك فى العرف، وجب أيضاً فى الشرع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون حسناً، فهو حسن". وثانيهما: أن الأصل عدم التخصيص، وهذا يوجب ظن عدم المخصص؛ فيكفى فى إثبات ظن الحكم.

"فرع" إذا قلنا: يجب نفي المخصص، فذاك مما لا سبيل إليه إلا بأن يجتهد فى الطلب

واحتج ابن سريج: أن بتقدير قيام المخصص لا يكون العموم حجة فى صورة التخصيص، فقبل البحث عن وجود المخصص، يجوز أن يكون العموم حجة وألا يكون، والأصل: ألا يكون حجة، إبقاء لشيء على حكم الأصل. والجواب: أن ظن كونه حجة أقوى من ظن كونه غير حجة؛ لأن إجراءه على العموم أولى من حمله على التخصيص، ولما ظهر هذا القدر من التفاوت، كفى ذلك فى ثبوت الظن. "فرع" إذا قلنا: يجب نفي المخصص، فذاك مما لا سبيل إليه إلا بأن يجتهد فى الطلب، ثم لا يجد، لكن الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود، لا يورث إلا الظن الضعيف، واله أعلم. المسألة الثامنة لا يجوز التمسك بالعام مالم يستقص فى طلب المخصص قوله: "لو لم يجز التمسك بالعام، إلا بعد طلب المخصص، لما جاز التمسك بالحقيقة، إلا بعد طلب أنه هل وجد مقتضى المجاز أم لا"؟ قلنا: الصحيح الذى لا ينبغى أت يختلف فيه هو قول ابن سريج، وحكى الشيخ أبو اسحاق فى "اللمع" مقالة ابن سريج عن ابى سعيد الإصطخرى وأبى اسحاق المروزى، وهى المقالة الصحيحة. قال التبريزى وغيره من المتأخرين والمتقدمين، والمسألتان سواء، ولا يجوز الاعتماد على شيء من الحقائق إلا بعد الفحص عن المجاز، ولا شيء من النصوص إلا بعد الفحص عن الناسخ، ولا شيء من الأقيسة إلا بعد الفحص عن المانع من اعتبار ذلك

القياس من الفوارق أو النصوص أو غيرها، بل جميع مدارك الشرع كذلك لا يجوز التمسك بشيء منه إلا بعد بذل الجهد فى نفى المعارض، وهل له معارض يقدم عليه أم لا؟ فإذا غلب على ظنه عدم المعارض حينئذ يعتمد على المجتهد، وإلا فلا حتى اشترط فى رتبة الاجتهاد تلك الشروط العظيمة التى عجز عنها أهل الاعصار المتأخرة، ولو أن الظفر بالدليل فقط يبيح الفتيا بموجب ذلك الدليل، لكان العامى يتيسر له ذلك، بل لا بد من بذل الجهد، ولا يكفى بذل الجهد مع قلة الإحاطة بوجوه الحجاج الشرعية، ومواقع الخلاف والإجماع، وجميع ما يتوقع من الاطلاع عليه يقويه، أو خل من فنون النحو واللغة، ووجوه نصب الأدلة وتركيبها، فبذل الجهد حينئذ مبيح للفتيا، وأما بذل الجهد مع القصور والتقصير، فلا ينفع بذل الجهد شيئا. وأما عدم النظر ألبته، فلو قيل: "إنه خلاف الإجماع" ما أبعد قائلة. وأما قوله: "إن طلب المجاز فى العرف غير واجب": فجوابه: لأن الناس فى العرف يكتفون فى معايشهم بأيسر الأسباب، وأولى مراتب الظنون، فإنه لا تقوم المعيشة إلا بالاكتفاء بذلك، ولو اشترط أهل العرف فى معيشتهم ما شرط فى فتاوى الشريعة، بطلت عليهم معيشتهم، وفسد حالهم. وأما منصب الاجتهاد فى تقرير الشرائع على جميع الخلائق إلى قيام الساعة، وإباحة الدماء، والفروج، والأعراض، والأموال ــ فلا يقرر قاعدة منها إلا بعد بذل الجهد فى جميع الطرق التى يمكن أن يستعان بها جلباً، أو دفعاً، نفيا ً أو إثباتاً، ولا يعتمد على بادـ الراى، وأوائل النظر.

وأما قوله عليه السلام: "ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن"، فلا نسلم صحته، سلمنا صحته؛ لكن المراد به ما رآه جميع المسلمين أو بعضهم؟ الأول: مسلم، ولم يحصل ذلك هاهنا. والثانى: ممنوع؛ فإن بعض المسلمين، أى بعض كان، لم يقل أحد إنه حجة، ولا هو عند الله ـ تعالى ــ ثم إنه يلزمه منه القول بالنقيضين؛ لأن كل خصم قد رأى نقيض ما قال به خصمه؛ فيلزمه اجتماع النقيضين، ثم إن أهل العرف إنما يرو ذلك حسناً فى معايشهم، فيكون عند الله ـ تعالى ـ حسناً فى معياشهم؛ لأن الضمير فى قوله: فهو عند الله حسن ـ عائد إلى المرئى لأهل العرف على ذلك الوجه الذى رواه فيه، كما تقول: زيد يلبس الفراء فى الشتاء، ويرى ذلك حسناً، وما رآه زيد سناً، فهو عند عمرو حسن، إنما يفهم من ذلك لبس الفراء فى الشتاء، لا لبس الفراء كيف كان، ونحن نقول بذلك فالتمسك بالحقيقة مع عدم الفحص عن المجاز حسن عند اله ـ تعالى ــ فى المعاش دون المعاد؛ لأنه هو الذى رآه أهل العرف حسناً، وفى هذا الكلام الأخير بحث؛ لأن رؤية الله ـ تعالى ـ حينئذ تكون بمعنى أنه يعلمه كذلك، وعلى ما قاله المصنف: يكون معناه: أن الله ـ تعالى ـ شرعه فى شرعه حسناً، والقاعدة أن لفظ صاحب الشرع، إذا دار بين الحكم العقلى والشرعى، تعين حمله على الشرعى؛ لأنه ـ عليه السلام ـ إنما بعث لبيان الشرعيات. قوله: "الأصل عدم التخصيص، وهذا يفيد ظن عدم التخصيص": قلنا: مسلم؛ لكن لم قتلتم: إن مطلق الظن كاف فى منصب الاجتهاد، بل لا بد من الظن الناشئ عن بذل الجهد بعد كثرة التحصيل، كما تقدم بيانه، أما مطلق الظن فلا.

"تنبيه"

قوله: " قبل الاطلاع على المخصص يجوز أن يكون العام حجة فى صورة التخصيص، وألا يكون حجة": قلنا: لا نسلم أن الأصل ألا يكون حجة، بل الأصل أن يكون حجة يعمل بها؛ غير أن الشرع شرط التثبيت والفحص على المجتهد؛ لاحتمال قيام المعارض، فإذا لم يجده ببعد بذلالجهد، عمل بمقتضاه. قوله: "ظن كونه حجة أقوى، وهذا القدر كاف" قلنا: "لا نسلم أنه كاف، بل لا بد من الفحص، وإلا لذهبت حقيقة رتبة الاجتهاد، فساوى المجتهد العامى. قوله: "الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود لا يورث إلا الظن الضعيف": قلنا: لا نسلم؛ وإنما يكون الظن ضعيفاً فى حق من لم يكثر تحصيله، أما المجتهد الذى قارب الإحاطة بالكتاب والسنة، وجميع مدارك الشريعة، فعدم وجدانه يقارب القطع بعدم الوجود، فظنه فى غاية القوة. "تنبيه" قال التبريزي: الصحيح أنه لا يجوز التمسك به إلا بعد الاستقصاء فى طلب المخصص، وحد الاستقصاء: أن يجد ف نفسه سكوتاً تاما إلى عدمه؛ كالطالب متاعاً فى البيت يعرف مظانه، إذا لم يجده، ورعاية أقصى الممكن واجبة فى الاجتهاد، كما فى البينات. "تنبيه" كلام المصنفين في "أصول الفقه" يخالف لفظه الذي وضعه فى هذه المسألة؛ فإن الإمام فى "البرهان" قال: "إذا وردت الصيغة الظاهرة فى اقتضاء العموم، لم يدخل وقت العمل"

قال الصيرفي: يجب اعتقاد العموم، على الجزم، فإن تبين خلافه، رجع، قال: وهذا غير معدود عندنا من مباحث العقلاء، وإنما هو قول صدر عن غباوة استمرار فى عمائه، وكيف يتصور الجزم مع احتمال ظهور المخصص، وكشف الغطاء عن المسألة: أنا نغلب على ظننا أولاً العموم، ثم إذا دخل وقت العمل، ولم يرد مخصص، فقد يقطع بالتعميم للقرائن، وقد لا يحصل القطع، فيقطع بوجوب العمل لا بإرادة العموم، بل بظنها. قال المازرى فى "شرح البرهان": المعممون على خلاف مذهب الصيرفى فى اعتقاد العموم جزماً، والكلام فى هذه المسألة مبنى على أن الحاجة لم تدع للعمل بالعموم بعد، وإذا دعت الحاجة لا يمكن تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإذا قال الصيرفى: أنا أردت اعتقاد وجوب العمل لا اعتقاد إرادة العموم: قلنا: فقد يرد المخصص بعد ذلك عند وقت العمل؛ فلا نجزم الآن بوجوب العمل، وإن أراد أنه إذا حضر وقت العمل، أجراه على عمومه من غير التفات إلى طلب ما يخصصه من النصوص والقواعد، فهذا غلط؛ لأن الفقيه لا يباح له أن يفتى بأول خاطر يسنح له، ولو سنح له قياس، لم يجز الفتيا به، حتى يبحث هل فى الشريعة ما يخالفه أم لا؟ قال الأيبارى فى "شرح البرهان": مذهب الصيرفى أنه يمنع تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، فهذا هو موجب قوله: هذا المذهب. قال الغوالى فى "المستصفى": لا خلاف أنه لا تجوز المبادرة إلى الحكم بالعموم، قبل البحث عن الأدلة التى يجوز التخصيص بها فى جميع

الشريعة؛ لأن العموم دليل بشرط انتقاء المخصص، والشرط لم يظهر، وكذلك كل دليل يمكن أن يعارضه دليل؛ ولكن إلى متى يجب البحث؛ فإن المجتهد، وإن استقصى، أمكن أن يشذ عنه دليل مخصص، والناس فى هذا ثلاثة مذاهب: قيل: يكفيه أن يحصل غلبة الظن بالانتفاء، عند الاستقصاء فى البحث؛ كالذى يبحث عن متاع فى البيت. وقيل: لا بد من اعتقاد جازم، وسكون نفس، ومتى جوز، لم يحكم، فكيف يحكم بدليل يجوز أن يكون الحكم به حراماً؟!! وقيل: لا بد، وأن يقطع بانتفاء الأدلة المعارضة، وإليه ذهب القاضى، لكن يشكل طريق تحصيل هذا القطع، فذكر القاضى مسلكين: أحدهما: البحث فى مسألة كثر الاختلاف فيها، كالمسلم يقتل الذمى، ويستحيل فى العادة ألا يظهر لجميعهم دليل فى نفس الأمر. قال: وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه حجر على الصحابة أن يتمسكوا بالعموم فى كل واقعة، لم يشتهر الخلاف فيها، والمعلوم من حالهم خلافه. وثانيهما: أن طول مدة الخلاف والبحث لا يحصل اليقين؛ فلعله مذكور، ولم يبلغ إلينا. المسلك الثانى للقاضى: أن الحكم لو كان مخصوصاً، لنصب الله ــ تعالى ــ عليه دليلاً يخصصه. قال الغزالى: وهذا أيضاً من الطراز الأول، فقد يكون الله ــ تعالى ــ بصره، وما بلغ هذا المجتهد.

قال: والمختار: أصول الاعتقاد إلى هذا الحد لا يشترط، والمبادرة قبل البحث لا تجوز، ويفعل غاية جهده حتى يحس العجز. قلت: فانظر هذه المباحث والتلخيصات لما فى "المحصول" وصدر المسألة فى "المحصول" بالتمسك بالعام، والمسألة إنما هى فى الاعتقاد قبل ورود وقت العمل، وأين أحدهما من الآخر؟ والجماعة يحكمون الإجماع فى أنه: لا يجوز العمل بأول خاطر، ولا بدليل؛ حتى يفحص عن مخصصاته ومعارضاته، واشترط القاضى القطع، وبعضهم نحو ما سمعته مسطورا ً هاهنا، فهذا يظهر لك الحق فى المسألة يقيناً.

القسم الثالث فيما يقتضى تخصيص العموم قال الرازى: والكلام فى هذا القسم يقع فى أطراف أربعة: أحدهما: الأدلة المتصلة المخصصة. وثانيها: الأدلة المنفصلة المخصصة. ثالثها: بناء العام على الخاص. ورابعها: ما يظن أنه من مخصصات العموم، وليس كذلك. القول فى الأدلة المتصلة، وفيه أبواب: الباب الأول فى الاستثناء، وفيه مسائل المسألة الأولى: الاستثناء: إخراج بعض الجملة من الجملة بلفظ "إلا" أو ما أقيم مقامه. أو يقال: ما يدخل فى الكلام إلا لإخراج بعضه بلفظه، ولا يستقل بنفسه. والدليل على صحة هذا التعريف: أن الذى يخرج بعض الجملة عنها: إما أن يكون معنويا؛ كدلالة العقل والقياس، وهذا خارج عن التعريف.

وإما أن يكون لفظيا: وهو إما أن يكون منفصلا؛ فيكون مستقلا بالدلالة، وإلا كان لغواً، وهذا أيضاً خارج عن هذا الحد. أو متصلاً، وهو: إما التقييد بالصفة، أو الشرط، أو الاستثناء، أو الغاية: أما التقييد بالصفة: فالذى خرج لم يتناوله لفظ التقيبد بالصفة؛ لأنك إذا قلت: "أكرمنى بنو تميم الطوال" خرج منهم القصار، ولفظ "الطوال" لم يتناوله القصار؛ بخلاف قولنا: "أكرمنى بنو تميم إلا زيداً" فإن الخارج، وهو زيد، تناولته صيغة الاستثناء، وهذا هو الاحتراز عن التقييد بالشرط. وأما التقييد بالغاية: فالغاية قد تكون داخلة؛ كما فى قوله تعالى: (إلى المرافق): المائدة: 6. بخلاف الاستثناء؛ فثبت أن التعريف المذكور للستثناء منطبق عليه. القسم الثالث فيما يقتضى تخصيص العموم قال القرافى: الباب الأول فى الاستثناء، وفيه مسائل: المسألة الأولى: قوله: "هو إخراج بعض الجملة من الجملة بـ"لا" أو ما أقيم مقامه": تقريره: أنه يتغير ـ هاهنا ـ أن ترتيب الجملة لجزيئات؛ نحو: أفراد العام، وأفراد العدد، والآخر نحو: أكلت السمكة إلا رأسها، حتى ينتظم الحد، وإلا فلا يكون جامعاً. وقوله: "أو ما أقيم مقامه":

يريد: "غيراً" و"حاشا" و"خلا" و"عدا" و"لا يكون" و"ليس". تقول: قام القوم إلا زيداً، وحاشا زيد، وعدا زيد، وخلا زيد، ولايكون زيداً، وليس زيداً، وسوى زيد. قال المازرى فى "شرح البرهان": أدواته اثنا عشر: "إلا" و"غير"

و"بله" و"سوى"

و"سيما" و"خلا" و"عدا"

و"حاشا" و"ما خلا" و"ما عدا" و"ليس"

و"لا يكون". قوله: " ويقال: ما لا يدخل فى الكلام إلا لإخراج بعضه بلفظه، ولا يستقل بنفسه": تقريره: أن المخرج قد يكون بالجمل المستقلة، نحو: لا تقتلوا الرهبان، بعد أن يقول: أقتلوا المشركين؛ لكن هذا لم ينحصر وضعه فى الكلام للإخراج، بل لو ذكر ابتداءً، لم يكن مخرجاً.

"سؤال" قال النقشواني: لفظ "غير" من صيغ الاستثناء، وهى تدخل فى الكلام لا للإخراج

أما "إلا" ونحوها، فلا تدخل إلا للإخراج. وقوله: "بلفظه" يريد المخرج، لا لفظ الذى به يخرج؛ كما قرره فى شرح الحد، فقال: الصفة بالقصر تخرج الطوال، لكن لفظ القصر لم يتناول الطول، بخلاف قولنا: إلا زيداً، فإن الاستثناء تناول المخرج، وهو زيد؛ فيكون هذا التقييد احترازاً عن الصفة والشرط. وقوله: " ولا يستقل بنفسه": احتراز من أدلة المعقول، فإنها تستقل بنفسها، ومن الجمل، غير أنها قد خرجت بالقيد الأول؛ فلا حاجة إلى هذا القيد الأخير. "سؤال" قال النقشواني: لفظ "غير" من صيغ الاستثناء، وهى تدخل فى الكلام لا للإخراج، كما تقول: زيد غير عمرو، ومررت برجل غيرك، فتكون صفة تارة؛ ومخرجة أخرى، وكذلك "ليس" و"لا يكون" للسلب المحض تارة؛ نحو: لا يكون زيد فى الدار أبداً، وليس زيد فى الدار، مع أنها للاستثناء، وكذلك إذا قلت: أكرم القوم ولا تكرم كلهم، صارت هذه اللفظة التى هى "لا" للاستثناء، وليست مختصة به؛ فلا ينبغى له أن يشترط فى الاستثناء: أن يكون لفظاً خاصاً به. قلت: وقد تقدم أن الاستثناء أربعة أقسام: ما لولاه لعلم دخوله؛ كالاستثناء من العدد؛ لأنه نص، وما لولاه لظن دخوله؛ كالاستثناء من العموم، وما لولاه لجاز دخوله من غير ظن، ولا علم، وهو أربعة: الاستثناء من المحال؛ نحو: أكرم رجلا إلا زيداً وعمراً. ومن البقاع؛ نحو: أكرم رجلاً إلا فى الحمام والمزبلة.

"تنبيه" زاد التبريزي؛ فقال: اشتقاقه من الثني، وهو الصرف

والأزمنة؛ نحو: أكرم رجلاً إلا يوم الأحد. والأحوال؛ نحو: أكرم رجلاً إلا أن يغلب؛ لقوله تعالى: (لتأتننى به إلا أن يحاط بكم) يوسف: 66. أى فى كل حالة من الحالات، إلا فى حالة الإحاطة، وهذه الأمور الأربعة لا يغلب على الظن دخول ما استثنى قبل أن يستثنى، بل يجوز أن يدخل فقط. وما لولاه لامتنع دخوله؛ كالاستثناء المنقطع؛ نحو: قام القوم إلا الخيل، فيقطع بعدم دخوله، فهذه تبطل بما لولاه لجاز، أو امتنع فإن الاستثناء فيهما استثناء، وليس فيهما إخراج، لأن الإخراج، إنما يصدق قيقة فيمن اتصف بالدخول؛ فلا يقال: خرج زيد من الدار، ولم يكن قد دخلها إلا مجازاً، مع أن له أن يمنع فى الجائز على أحد القولين فى منع الاستثناء عن النكرات؛ فإن المشهور منعه. وفى المنقطع قولان: هل هو حقيقة أم لا؟ فله منع الآخر على أحد القولين. "تنبيه" زاد التبريزي؛ فقال: اشتقاقه من الثني، وهو الصرف. وزاد سراج الدين: لقائل أن يقول: "التعريف الثانى تعريف الاستثناء بالاستثناء": قلت: وهذا غير متجه، لأن كل حد هكذا، إذا قلنا: الإنسان الحيوان الناطق، فالحيوان الناطق هو الإنسان، وإنما تغيرت العبارات، وكذلك هاهنا: العبارات تختلف، والمعنى واحد، ولا إشكال فى ذلك.

المسألة الثانية يجب أن يكون الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه عادة، وأحترزنا بقولنا: "عادة" عما إذا طال الكلام، فإن ذلك لا يمنع من اتصال الاستثناء، وكذلك قطع الكلام بالنفس والسعال لا يمنع من اتصاله به، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنه جوز الاستثناء المنفصل. وهذه الرواية؛ إن صحت: فلعل المراد منها: ما إذا نوى الاستثناء متصلاً بالكلام، ثم أظهر نيته بعده؛ فإنه يدين فيما بينه وبين اله تعالى فيما نواه. لنا وجهان: الأول: تأخير الاستثناء، لما استقر شيء من العقود؛ من الطلاق والعتاق، ولم يتحقق الحنت أصلاً؛ لجواز أن يرد عليه الاستثناء، فيغير حكمه. الثانى: نعلم بالضرورة أن من قال لوكيله اليوم: "بع دارى من أى شخص كان" ثم قال بعد غد: "إلا من زيد" فإن أهل العرف لا يجعلون الاستثناء عائداً إلى ما تقدم. احتجوا: بأنه يجوز تأخير النسخ والتخصيص؛ فكذا الاستثناء. والجواب: أنه يبطل بالشرط، وخبر المبتدأ: ثم نطالبهم بالجامع، والله أعلم. المسألة الثانية قال القرافى: يجب اتصال الاستثناء بالكلام عادة.

قال سيف الدين: جواز بعض أصحاب مالك جواز تأخير لفظه، إذا نواه مثلاً، وأضمره متصلاً، ويدين فيما بينه وبين الله ـ تعالى ـ وجوزه بعض الفقهاء منفصلاً فى كتاب الله دون غيره. وقال فى "البرهان" إمام الحرمين عن بعض الفقهاء: فى كتاب الله ـ تعالى ـ دون غيره. وعن بعض أصحاب مالك، كما نقله سيف الدين، وشبهه المخصص بكتاب الله ـ تعالى ـ أنه يرى أن كلام الله ـ تالى ـ أزلى، وهو منزل إلينا متراخ. قال: وهذا غير متجه؛ فإن الاستثناء إنما هو فى العبادات فقط. قال المازرى فى "شرح البرهان": والمحكى عن المالكية: هو الاستثناء بالمشيئة، إذا نواه، هل ينحل به اليمين أم لا؟ خلاف ما قاله سيف الدين. قال سيف الدين: وروى عنه ـ عليه السلام ـ انه قال: "والله، لأغزون قريشاً" ثم سكت، وقال بعده: "إن شاء الله" ولما نزل عليه قوله تعالى: (واذكر ربك إذا نسيت) الكهف: 24. بعد بضعة عشر يوماً، فقال: "أن شاء الله" والجواب عن الأول أن السكوت قليل، أو قاله للتبرك. الثانى أنه للتبرك، أو المراد: إن شاء الله، ذكرت ربى، إذا نسيت، فلا يكون متعلقاً بالخبر الأول.

قوله: "وعن ابن عباس، أنه جوز الاستثناء منفصلاً": قلنا: الاستثناء من الألفاظ المشتركة بين معنيين: أحدهما: الإخراج بـ"إلا" وأخواتها. والثانى: يتعلق على مشيئة الله ـ تعالى ـ خاصة دون التعليق على غيرها، فمن قال: إن شاء الله، فقد استثنى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف واستثنى، عاد كمن لم يحلف". ولو قال: أحد دخلت الدار فأنت حر، لم يقل له استثناء، فابن عباس ـ رضى الله عنه ـ إنما روى التأخير فى الاستثناء الذى هو التعليق على مشيئة الله ـ تعالى ـ إما إلا فما علمته. ونقل العلماء أن مدركه فى ذلك غداً إلا أن يشاء الله، (واذكر ربك غذا نسيت) الكهف: 24. قالوا: معناه: إذا نسيت أن تقول: إن شاء الله، فقل ذلك بعد ذلك، ولم يخصص وقتاً؛ فيكون التقدير: واذكر مشيئة ربك، إذا نسيتها، فاعمل بها، وهاهنا لم يعين المصنف المقصود من غيره، بل بحثه يحتمل الأمرين، فإن ذكره للعقود من الطلاق وغيره يقتضى أن المراد إن شاء الله، وصرح بعد ذلك بـ"إلا" فى قوله: إلا زيد. قال المازرى فى "شرح البرهان": عن ابن عباس فى تأخير المشيئة روايتان؛ قيل: مطلقاً، وقيل: سنة، ولم يختلف العلماء فى وجوب إيصال النعت،

والتأكيد، والعطف، والشرط، والاستثناءات، وهذه التوابع كلها، ولا خالف فى ذلك أحد، وإنما وقع الإشكال فيما روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ واتهم العلماء الرواة عنه، وقيل: يؤول بالنية. قوله: إن صخت الرواية، فيحمل على ما إذا نوى عند التلفظ، ثم بين بعد ذلك نيته. قلنا: هذا لا يتم فى كل صور الاستثناء، أما بمشيئة الله ـ تعالى ـ فلأنه سبب حال لليمين، ورافع لها؛ فلأبد من وجود هـ، ولا يكفى القصد إليه؛ كالطلاق الرافع للنكاح، لا يكفى القصد إليه إجماعاً، وإنما الخلاف فى الطلاق بالكلام النفسى. وأما إخراج البعض بالألفاظ قسمان: نصوص، وظواهر: فالنصوص: لا يكفى فى هالإخراج منها النية؛ لأنها لا تقبل المجاز؛ حتى يطلق لفظ العشيرة مثلاً، ويريد بها الثمانية، ثم يتبين بعد ذلك، وإنما يتأتى ذلك فى الظواهر، فيطلق العام، ويريد الخاص، وتفسيره بعد ذلك؛ فعلمنا حينئذ أن أكثر الصور لا يتأتى فيها ما ذكرتموه، بل فى الظواهر خاصة؛ باعتبار إخراج بعض الأفراد عن الحكم؛ لأنه تخصيص، لا باعتبار الاستثناء الذى هو السبب الرافع. قوله: "لو صح التأخير، لما استقر شيء من العقود من الطلاق والعتاق، ولا يتحقق حنث أصلاً " والخصم يقول بذلك، ولا يبالى بهذا التهويل. ويحكى أن بعض الفقهاء ناظر من يقول بهذا المذهب عندبعض الخلفاء، فقال الخليفة: أتدرى ما يقول هذا؟ هو يقول: إن بيعتك على الجند لا تنعقد، وإن لهم حلها أبداً، فسفَّه الخليفة رأيه، ونصر مخالفه.

وحكى ابن العربي فى "القبس": إنى سمعت "ببغداد" امرأة تقول لجاريتها: إن مطهب ابن عباس فى الاستثناء غير صحيح، ولو كان صحيحاً، لما قال الله تعالى لأيوب عليه السلام: (وخذ بيدك ضغثاً، فاضرب به ولا تحنث) سورة ص: 44. بل كان يقول له: استثن، ولا حاجة إلى هذا التخيل فى البر، فما فهم الناس كلهم عن صاحب هذا المذهب إلا أن العقود والحنث، وجميع ما ذكرتموه لا يستقر أبداً، ومتى ورد عليه الاستثناء، رفعه. قوله: إذا قال لوكيله: "بع هذا" ثم قال بعد شهر: "إلا من زيد" ألا يعد هذا {فى العرف استثناءً}. قلنا: قد نقل المفسرون أن قوله تعالى: (غير أولى الضرر) النساء: 95. نول منفصلاً مع أنه استثناء، وكلام لا يستقل بنفسه؛ فيكون ذلك حجة على العرف، ثم إن هذا من النوع الآخر من الاستثناء الذى هو الإخراج، والكلام مع ابن عباس فى المشيئة. قوله: "احتجوا بتأخير النسخ والتخصيص": قلنا: الفرق: أن النسخ لو تقدم الإعلام به، وقال: هذا الحكم بعد سنة؛ لكان هذا الحكم معنا من الآن بال سنة، فكان ينتهى بذاته لا بالناسخ؛ فتعجيل النسخ يبطل؛ بخلاف تعجيل الاستثناء لا يبطله. وأما التخصيص: فإن كان بالأدلة المتصلة؛ كالغاية والشرط والصفة، منعنا تأخيره، أو بالمنفصلة، جوزنا تأخيره، لكن الفرق أنه لفظ يستقل بنفيه؛ بخلاف الاستثناء. قوله: "ينتقض بالشرط، وخبر المبتدأ":

قلنا: الشرط تعليق، والتعليق اللغوية كلها أسباب، والسبب متضمن للحكمة، ومقصود المتكلم؛ فيكون تأخيره تأخير لما هو المقصود، أو جل المقصود، والاستثناء إخراج ماعساه يكون فى الكلام مما هو غير مقصود، وظهر الفرق أن الاستثناء يقع، والشرط مقصود، فهو مهم، والمهم لا يتأخر. وأما خبر المبتدأ، فالفرق فيه وجهين: الأول: أن الخبر، إذا لم ينطبق به، لا يكون الكلام تاما يحسن السكوت عليه، وإذا تأخر الاستثناء، كان الكلام تاما يحسن السكوت عليه، فظهر الفرق. الثانى: أن الخبر المبتدأ هو موضع الفائدة، ومقصود الكلام، فإذا لم يؤت به، فات المقصود، والاستثناء ليس هو مقصود الكلام، بل ينفى عن الكلام ما ليس بمقصود، وبينهما فرق كبير. قوله: "ثم يطالبهم بالجامع": قلنا: الجامع: إبطال ما تناوله اللفظ، فإن الناسخ والمخصص مبطلان لما دل عليه ظاهر اللفظ، وكذلك الاستثناء، فهذا جامع حسن. * * *

المسألة الثالثة استثناء الشيء من غير جنسه باطل؛ على سبيل الحقيقة، وجائز؛ على سبيل المجاز قال الرازى: ودليل الأول: أن الاستثناء من غير الجنس الأول، لو صح، لصح: إما م اللفظ، أو من المعنى.: والأول باطل؛ لأن اللفظ الدال على الشيء فقط غير دال على ما يخالف جنس مسماه، واللفظ إذا لم يدل على شيء لا يحتاج إلى صارف يصرفه عنه. والثانى أيضاً باطل؛ لأنه لو جاز حمل اللفظ على المعنى المشترك بين مسماه، وبين المستثنى، لصح الاستثناء، ولجاز استثناء كل شيء من كل شئ؛ لأن كل شيئين لا بد، وأن يشتركا فى بعض الوجوه، فإذا حمل المستثنى على ذلك المشترك، صح الاستثناء. ولما علمنا أن العرب لم يصححوا استثناء كل شيء من كل شيء، علمنا بطلان هذا القسم. احتجوا بالقراءن، والشعر، والمعقول: أما القراءن: فخمس آيات: إحداها: قوله عز وجل: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ً إلا خطأ) النساء: 92.

وثانيها: قوله تعالى: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس) الحجر: 30. وهو ما كان منهم، بل كان من الجن. وثالثها: قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) النساء: 29. ورابعها: قوله تعالى: (مالهم به من علم إلا اتباع الظن) النساء: 147. والظن ليس من جنس العمل. وخامساً: قوله تعالى (لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً) الواقعة: 25 - 26. والسلام ليس من جنس اللغو. وأما الشعر: فقوله {الرجز}: "وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس" وقوله النابغة {البسيط}: " ........................ وما بالربع من أحد" "إلا أوارى ................................... " والأوارى: ليس من جنس الأحد. وأما المعقول: فهو: أن الاستثناء تارة: يقع عما يدل اللفظ عليه دلالة المطابقة أو التضمن، وتارة: عما يدل عليه دلالة الالتزام؛ فإذا قال: "لفلان على ألف دينار، إلا ثوباً" فمعناه: إلا قيمة الثوب. والجواب: أما قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ) النساء: 92. فجوابه: أن "إلا" هاهنا بمعنى "لكان" أو يقال: وما كان

لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا إذا خطأ؛ فغلب على ظنه أته ليس من المؤمنين: أما بأن يختلط بالكفار؛ فيظن الرجل أنه منهم، أو بأن يراه من بعيد؛ فيظنه صيداً، أو حجراً. وأما قوله تعالى: (إلا إبليس) الحجر: 30. فقيل: إنه كان من الملائكة، ولا بد من الدلالة على أن كونه من الجن ينفى كونه من الملائكة. سلمنا: أنه ليس من الملائكة كانوا مأمورين بذلك؛ فكأنه قال: فسجد المأمورين$ بالسجود إلا إبليس. وأما قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة) النساء: 29. (إلا اتباع الظن) النساء: 157. فقد اتفقت النحاة على أنه ليس باستثناء، ثم فسره البصريون بقولهم: ولكن اتباع الظن، والكفيون بقولهم: سوى اتباع الظن. والجواب عن الشعر: أن الأنيس، سواء فسرناه بالمؤنس أو بالمبصر، أمكن إدخال اليعافير والعيس فيه. وعن الثالث: أنه لو صح الاستثناء من المعنى، لزم صحة استثناء كل شيء من كل شئ؛ على مابيناه، والله أعلم. المسألة الثالثة الاستثناء من غير الجنس قال الجرافى: قوله: "لو صح المنقطع باعتبار المعنى، لصح استثناء كل شيء من كل شيء، وهو باطل عند العرب": قلنا: لا نسلم بطلانه؛ فإن الاستثناء المنقطع لم يقل أحد من أئمة العربية: أنه يختص بنبل نوع من الكلام، بل أى شيء خطر فى نفس المتكلم، ثم

"قاعدة" لا تكاد تجد أحدا يفهم، إلا ويقول: المنقطع: هو المستثنى من غير الجنس، والمتصل: هو المستثنى من الجنس

قولكم لو صح: إما من اللفظ، أو من المعنى، هذا كله إنما يصح، إذا كان الاستثناء المنقطع إخراجاً، فلم قلتم: إن المنقطع إخراج، بل هو مقدار عند النحاة، ولكن إلا ليس فيها إخراج، فلا يستقيم تقسيمكم فى الإخراج. "قاعدة" لا تكاد تجد أحداً يفهم، إلا ويقول: المنقطع: هو المستثنى من غير الجنس، والمتصل: هو المستثنى من الجنس. هذا هو المسطور فى كتب الأدباء والنحاة، والأصوليين، وهو غلط فى القسمين؛ فإن قوله تعالى: (لا تأكلوا أمواكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة) النساء: 29. المحكوم عليه بعد "إلا" هو المحكوم عليه قبلها، ومع ذلك هو منقطع، وكذلك فوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) الدخان: 56. والمحكوم عليه أولاً هو جملة أفراد الموت، والمحكوم عليه بعد "إلا" هو الموتة الأولى، وهى بعض أفراد الموت، ومن جنسه، ومع ذلك، فهو منقطع، وكذلك قوله تعالى: (إلا خطأ) النساء: 92. أى: إلا قتلاًّ خطأ، ومعلوم أن القتل الخطأ بعض أفراد القتل، ومع ذلك، فهو منقطع؛ فيبطل بهذه النظائر حد المتصل؛ لأنه يصير غير مانع بدخولها فيه؛ لأنها من الجنس ـ وحد المنقطع؛ لأنه يصير غير جامع؛ لاشتراطهم فيه أن يكون المستثنى من غير الجنس؛ فيبطل التفسيران، بل الحق أن نقول: المتصل: هو أن تحكم على جنس ما حكمت عليه أولاً؛ بنقض ما حكمت به، وإلا فلا بد فى المتصل من هذين القيدين، ومتى انجزم أحدهما، صار منقطعاً، إما بأن يحكم على غير الجنس، أو بغير النقيض، قيكون المنقطع متنوعاً إلى نوعين، والمتصل نوع واحد؛ فقوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت) الدخان: 56. حصل الانقطاع للحكم بعد "إلا"

بغير النقيض؛ لأن نقيض (لا يذوقون فيها الموت): "يذوقون فيها الموت" وكان يكون معنى الآيه: إلا الموتة الأولى ذاقوها فيها، وليس كذلك، بل لم تحكم إلا بذوقها فى الدنيا، فحكم بغير النقيض، وكذلك (إلا أن تكون تجارة) النساء: 29. لم يحكم بالنقيض؛ لأن نقيض (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل): "كلوها بالباطل" ولم يحكم به بعد "إلا" بل معنى الآية: إلا أن تكون تجارة، فكلوها بالسبب الحق فلم يحكم بالنقيض، بل بغيره؛ فكمان منقطعاً، ونقيض (ماكان لمؤمن أن يقتل مؤمناً): " له أن يقتله" ولم يحكم به؛ لأن الخطأ لا يقال فيه: هو له؛ لأنه حينئذ كان يكون مباحاً، والقتل الخطأ ليس مباحاً؛ فلم يحكم بالنقيض. وقول الشاعر {الرجز}: ..................... إلا اليعافير ............. حصل الانقطاع للحكم على غير الجنس، إن كان منقطعاً. وإن حكمت بالنقيض نحو {البسيط}: .................. إلا أوارى ..............

"فائدة" قوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما)

فإنه حكم بالنقيض؛ لأن الأوارى بالرفع هو ثبوت، والمحكوم به قبل "إلا" سلب، فهو نقيض، وكذلك إن حكمت على غير الجنس بالنقيض، وعلى غير الجنس بغير النقيض، وعلى الجنس بالنقيض فهذه الأقسام الثلاثة هى المنقطعة باعتبار الضابط المتقدم، والمتصل نوع واحد، وهو: أن يحكم على الجنس بالنقيض، فهذا تحرير المتصل، والمنفصل، والمنقطع، وعليه تخرج آيات الكتاب، والسنة، ولسان العرب، ولا يشكل بعد ذلك شيء، بخلاف ما سطره الأدباء وغيرهم. "فائدة" قوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً) مريم: 62. قيل: اللغو: هو الذى لا فائدة فيه، والسلام فيه فائدة، فليس من جنس اللغو، فيكون منقطعاً. وقيل: السلام فى الدنيا دعاء بالسلامة، وفى الآخرة حصل الأمان لأهل الجنة، فتعذر الدعاء لهم بالسلامة، فصار السلام لغواً؛ لبطلان معناه المقصود. وقيل: على هذا التقدير؛ لم يبطل أيضاً، بل هو فى الدنيا لدعاء، والتحية، والإكرام؛ فبطل أحد مقاصده، وبقيت المكارمة والتعظيم، فليس لغواً؛ لحصول هذه الفوائد فيه. "فائدة" قال بعض العلماء: قوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) الدخان: 56. متصل؛ لأن أصل الذوق حقيقة: إنما هو إدراك الطعوم باللسان، وإطلاق على الشدائد والموت ونحوه؛ أنما هو مجاز؛ لأنها ليست من ذوات الطعوم، وإذا كان ذلك مجازاً، فيحمل على الآية مطلق العلم،

"فائدة" اليعافير جمع "يعفور" وهو حمار الوحش

ويصير معناها: لا يعلمون فيها الموت إلا الموتة الأولى يعلمونها فيها؛ لأنهم فى الجنة يعلمون أنهم ماتوا فى الدنيا؛ فيكون الاستثناء متصلاً؛ للحكم بالنقيض على الجنس، غايته وقوع المجاز فى لفظ الذوق، والقائل بأنه منقطع يجوز به إلى إدراك ما هو قائم بالإنسان من الموت وغيره، ونحن نجوز بأنه إلى أصل الإدراك ويكون المجاز على المذهبين من باب التعبير بلفظ الأخص عن الأعم، فيتعارض المجاز الأخص، والانقطاع؛ أيهما يقدم، فالقائل بالانقطاع التزم المجاز الأخص والانقطاع؛ أيهما يقدم، فالقائل بالانقطاع التزم المجاز الأخص والانقطاع، والقائل بالاتصال، قال بالمجاز الأعم، وفاته قوة المجاز فى الأخص، فهذا تلخيص هذه الآية. "فائدة" اليعافير جمع "يعفور" وهو حمار الوحش، والعيس جمع عيساء، وهى الناقة الصفراء الذى يخالط بياضها اصفرار. وقول النابغة {البسيط}: ............................ وما بالدار من أحد يروى برفع "من أحد" وقبله {البسيط}: وقفت فيها أصيلانا أسائلها ... أعيت جواباً وما بالربع من أحد إلا الأوارى لأياً ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد

فالأوارى: جمع آرية، وهى العروة التى يربط فيها الخيل فى الأرض؛ تكون ثابتة مغروزة فى الأرض فى وتد، وتلك العروة ثابتة أبداً، فمتى جيء بالفرس ربطت فيها. وقوله: "لأيا، أى: ملوية؛ عبر بالمصدر عن اسم المفعول، والنوئ: حفيرة تكون قريبة من البيت. والمظلومة: الأرض التى لم ينزل عليها المطر، وهو من الألفاظ المشتركة تطلق على وضع الشيء فى غير محله، وهو الظلم المشهور، وعلى عدم المطر والجدب. والجلد: الصلب، صارت صلبة لعدم الماء الذى يلينها. قوله: الاستثناء يقع من المطابقة، والتضمين، والالتزام: أما المطابقة: فله عشرة إلا اثنين. وأما الالتزام: فله مائة إلا ثوباً؛ لأن المائة قيمة الأعيان والعروض، فلما كان من لوازمها القيمة، استثنى منها قيمة الثوب من اللازم، لا من المطابقة، وأما التضمين فهو عسر جداً، وسألت عنه جماعة من الفضلاء، فلم أجد منه عندهم شيئاً، والذى أراه أن المركبات قسمان: مركب: أجزاؤه متفقة مستوية؛ كالعشرة، فإن الوحدات التى فيها متماثلة، فأى شيء أخرجه منها، كان من المطابقة، وليس لك أن تقول: إذا قال: إلا الاثنين، اجعل هذه الاثنين من الخمسة التى هى جزء؛ فيكون استثناءً من التضمين؛ لأن ذلك يبطل عليك الاستثناء من المطابقة؛ لأنه ما من مطابقة إلا ويجوز أن يقال ذلك فيها، إلا أن يستثنى جميع الأجزاء إلا جزءاً واحداً؛ نحو: عشرة إلا تسعة، أو اثنان إلا واحداً، ويتأتى ذلك فى كل مركب له جزءان فقط، وما عداه يدخله التأويل المذكور، لكن المفهوم عند أهل عرف الاستعمال:

"فائدة" قال إمام الحرمين فى "البرهان": جوز الشافعى الاستثناء من اللازم

أن ذلك كله من المطابقة، نفى جزء من المستثنى منه، أو أكثر، فالصواب أن يقول: كل ما أجزاؤه مستوية لا يتصور فيه الاستثناء من التضمين، والمركب: الذى أجزاؤه مختلفة؛ كالسرير المركب من المسامير والخشب والباب، ونحو ذلك، فإن بعض أجزائه يتعين على الأجزاء. فإذا قلنا: بعته سريراً إلا مسماراً، فإن هذا المسمار المستثنى، أنما استثنى من المسامير، ولم يستثن من الخشب، فتعين أن يكون من الجزء، فيكون من التضمين، بخلاف اثنين من العشرة؛ ليس نسبتها لإحدى الخمستين أولى من نسبتها للخمسة الأخرى، فهذا وجه حسن فى تمثيل الاستثناء من التضمين. "فائدة" قال إمام الحرمين فى "البرهان": جوز الشافعى الاستثناء من اللازم؛ كما إذا قال له: على ألف درهم إلا ثوباً، وعبر بالثوب عن قيمته، ولم يستغرق الألف، ومنعه أبو حنيفة، وجوز استثناء المكيل بعضه من بعض، وإن اختلفت الأجناس؛ للتأويل الذى ذكره الشافعى فى الثوب، واستثناء الموزون من المكيل، والمكيل من الموزون. وقال المازرى فى "ّشرح البرهان" وأبو الحسن فى "المعتمد": هذا من باب الإضمار فى الاستثناء، لا من باب المجاز فى المفرد، بل من باب إضمار المضاف للمحذوف؛ تقديره: قيمة ثوب، فالاختلاف بينهما وبين إمام الحرمين، هل هو من مجاز الإضمار والحذف، أو من باب نقل اللفظ من مفرد إلى مفرد؛ كالأسد الشجاع. قوله: "إلا فى آية الخطأ، ليست استثناء، بل بمعنى "لكن": قلنا: ولا معنى لصورة النزاع التى هى الاستثناء المنقطع إلا ذلك؛ فكل

استثناء منقطع عند النحاة مقدر بـ"لكن" فما حصل جواب "بل" {و} هذه صورة المسألة. قوله: (ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ) النساء: 92. فغلب على ظنه أنه كافر أو صيد": قلنا: وإذا ظنه صيداً أو كافراً، لا نسلم أنه يصدق أن الله ـ تعالى ـ جعل قتل المؤمن له، بل أذن له فى الرمى مسلم، والمستثنى منه ليس الرمى، كيف كان، إنما المستثنى منه ما كان له قتل المؤمن؛ فينبغى أن يكون المستثنى له قتل المؤمن، حتى يكون من الجنس، وبالنقيض؛ فيتحقق الاتصال، وما ذكرتموه لا يحققه. قوله: "لابد من الدلالة على كون إبليس من الجن": قلنا: قوله تعالى: (إلى إبليس كان من الجن، ففسق عن أمر ربه) الكهف: 50. مع أن النزاع وقع فى هذه الآية. وقيل: الجن من الاجتنان، وهو الستر، ومنه المجن؛ لأن الدرقة تستر صاحبها، والجنون يستر العقل، والجنان؛ لأنها مستورة بالشجر، والجنين؛ لأنه مستتر فى بطن أمه، فإذا كان هذا أصل هذه المادة واشتقاقها، فالملائكة محجوبون مستورون عن البصر، فيصدق عليهم أنهم جان، فلا حجة فى الآية، على أن عرف الاستعمال خصص لفظ الجن والجنة بالمخلوق من النار، ولما قال الله تعالى: (من الجنة والناس) الناس: 6. لم يفهم أحد الملائكة، ومثل هذه المناقشة ترد أيضاً فى الملائكة؛ لأنه مشتق من الألوكة، أو المألكة، التى هى الرسالة، وإبليس قد أرسله الله ـ تعالى ـ حالة الرضا عنه إلى الأرض فى قتال الجن، فيصدق عليه أيضاً لفظ الملك، وكان يشارك الملائكة فى أحوالهم، ومن جملتها الرسائل، مع أنه قد قيل: إنه من الجن، وأنهم لما أفسدوا، بعث الله الملائكة إليهم، فقتلوهم، وسَبَوا منهم إبليس

صغيراً، فتربى بين الملائكة، وكان اسمه عزازيل، وكنيته أبو مرة، وإنما لقب بـ"إبليس" لما انقطعت حجته بعد امتناعه من السجود، وكذلك قاله صاحب كتاب "الزينة" فى اللغة، وأنشد عليه {الرجز}: يا صاح! ............ ؟ قال: نعم أعرفه وأبليسا

أى انقطع صوته الذى عادته أن يجيب عند النداء من الصدى، كما جرت عادة الجبال: أن تجيب المنادى، بمثل صوته، فإذا خرجت، لم تجب، وكذلك قال الشاعر {السريع}: صم صداها وعفا رسمها ............. قوله: "حسن استثناؤه؛ لأنه كان مأموراً": قلنا: ذلك لا يمنع الانقطاع؛ فإن المأمورين لم يصدر لهم الكلام، إنما صدر للملائكة. "قاعدة" لا يشترط فى المتصل استواء الفظين، بل لا بد أن يكون الأول شاملاً بلفظ، فإذا قلت: رأيت الحيوان إلا إنساناً، كان متصلاً لشمول الأول، وإن اختلف اللفظ، لا يضر، وإن كان الأول لا يشمل؛ كقولك: رأيت الإنسان إلا فرساً، أو الحيوان إلا نباتاً، كان منقطعاً، فهذان قسمان مميزان: شامل مطلقاً، وغير شامل مطلقاً، بقى قسم ثالث يتصور فيه الشمول، وعدم الشمول؛ كقولك: رأيت الحيوان إلا أبيض، فالحيوان يقبل أن يكون أبيض، وغير أبيض، والأبيض يقبل الحيوان، وغير الحيوان، فكل واحد منهما أعم، وأخص من الآخر من وجه، والأولان أعم مطلقاً، ومباين مطلقاً، فهذا القسم موضع النظر، هل ينظر إلى وجه العموم؛ فيجوز، أو إلى وجه الألتباس وإمكان الافتراق؛ فيمتنع؟ والملائكة مع المأمورين من هذا القسم، فإن الملك قد يكون مأموراً، وقد

لا يكون، والمأمور يقبل أن يكون ملكاً، وألا يكون، فتأمل هذا الموضوع؛ فهو موضع النظر، هل يكون منقطعاً ومتصلاً، وبهذا يمكن أن يقال: السلام: يقع لغواً، وغير لغو، واللغو: يقع سلاماً، وغير سلام؛ فيكون متصلاً من هذا الوجه أيضاً؛ لأن كل واحد أعلم من الآخر من وجه، فهو من القسم الثالث، وقد يتفق اللفظ فى الاستثناء، مع اتفاق المعنى واختلافه؛ فتقول: قبضت الدراهم إلا درهماً، فيتفق المعنى، ورأيت العيون إلا عيناً، فإن أردت بالعيون استعمال اللفظ فى أحد مسمياته، فاستثنيت منه، كان متصلاً، أو من غيره، كان منقطعاً، أو استعملت اللفظ فى جميع مسمياته، فإن الظاهر أنه متصل؛ لأنه بعض ما قبل "إلا" ويحتمل أن يقال: منقطع؛ لأن المتصل هو إخراج بعض الجنس والحقيقة الواحدة، وهذه أجناس وحقائق مختلفة، أخرجت بعضها؛ فيكون منقطعاً، فهو موضع نظر، فيتلخص أن الاستثناء ثمانية أقسام: إن اتفق اللفظ والمعنى، فمتصل، وإن اختلف اللفظ والمعنى، فمنقطع، وإن اختلف اللفظ، واتحد المعنى، والمستثنى منه أعم مطلقاً، فمتصل، أو أعم من وجه، فموضع الاحتمال، والظاهر الاتصال، أو اتحد اللفظ، وكان مشتركاً، واستعمل فى أحد مسمياته، واستثنى فيه، فمتصل، أو قصد الاستثناء من غيره بغير ذلك اللفظ، أو به، فمنقطع، أم منه، فمتصل، أو استعمل فى جميع مسمياته، فموضع النظر. واعلم أن مباحث الاستثناء كثيرة جليلة تقبل أن نجمع فيها تصنيفاً مستقلاً كبيراً جليلاً، وأنا ـ إن شاء الله تعالى ـ أنبه على جمل منه فى هذا الباب، من غير إسهاب. قوله: (إلا أن تكون تجارة) النساء: 29. و (إلا اتباع الظن ....) النساء: 157. قال النحاة: "إنه ليس باستثناء، بل هو مقدر بـ"لكن".

"تنبيه" زاد سراج الدين: فقال فى قوله: "إبليس مستثنى من المأمورين": إنه استثناء من المعنى، وقد تقدم إبطاله

قلنا: قد تقدم أن المقدر بـ"لكن" هو المنقطع، وهذا هو صورة النزاع، وأن جميع المنقطع كذلك. وقولهم: "ليس بالاستثناء" يحمل على أنه ليس باستثناء متصل، وإلا فالاستثناء موجود قطعاً. قوله: "الأنيس يدخل فيه اليعافير والعيس": تقريره: أن الماشى فى البرية، أو القفر، أو المهمه الواسع، يحصل له وحشة شديدة جدا، فإذا رأى طائراً، تأنس به؛ لأنه يشعر بقرب الماء منه، وكذلك الوحوش والعيس بطريق الأولى؛ لأنها تشعر بقرب بنى آدم منه، فيحصل الأنس الشديد والفرح بذلك، والسيارة تحكى ذلك عن أسفارها، فصدق على العيس أنها من المؤنس، فكان الاستثناء متصلاً. قوله: "لو صح الاستثناء من المعنى، لصح استثناء كل شيء من كل شئ": قلت: وإنه كذلك؛ فإن أحداً من النحاة لم يخصص جنساً دون جنس ألبته، بل ما خطر فى بال المتكلم، فهذا اللازم حق يلتزمه، ولا يكرهه، وهو حق. "تنبيه" زاد سراج الدين: فقال فى قوله: "إبليس مستثنى من المأمورين": إنه استثناء من المعنى، وقد تقدم إبطاله. وقال التبريزى: قيل فى قوله تعالى: (إلا خطأ) النساء: 92. أى: ولا خطأ؛ كقول الشاعر {الوافر}: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان

"فائدة"

أى: و {لا} الفرقدان، واعتذروا عن الآيات أنها مقدرة بـ"لكن" ولا أرى لهذا الاعتذار معنى، فإن اللفظ إذا لم يتناول ما بعد "إلا" لم يكن ثنياً، ولا إخراجاً، فإن كان الاستثناء هو الإخراج، وحرف "إلا" صيغة موضوعة له، فهو مجاز قطعاً، وإلا فليغير حد الاستثناء عن الإخراج إلى غيره، أو يدعى الاشتراك فى حرف "إلا". "فائدة" إذا أردت تغير الحد، فقل فيه: هو إخراج بعض الجملة، كانت جزيئات، أو أجزاء، أو إخراج ما يعرض فى نفس المتكلم {فقط}، بلفظ "إلا" وأخواتها، فقولنا: "جزئيات": كالعام والعدد. وقولنا: "أو أجزاء": كإخراج جزء من الشاة، ونحوه بما تقدم من المثل. وقولنا: "ما يعرض فى نفس المتكلم": ليدخل المنقطع؛ لأنه لا ضابط له إلا ما يعرض فى نفس المتكلم، هذا إذا فرعنا على أنه حقيقة، وأن لفظ الاستثناء ليس مشتركاً، أما إذا فرعنا على أنه مجاز، فلا حاجة لذكره، فإن الحدود إنما جعلت لما يتناوله اللفظ حقيقة، وأما إذا فرعنا على أن اللفظ مشترك، فلا حاجة لإدخاله فى الحد؛ لأن القاعدة: أن اللفظ المشترك لا يشمل مسمياته حد واحد، بل لكل مسمى حد.

المسألة الرابعة قال الرازى: أجمعوا على فساد الاستثناء المستغرق، ثم من الناس من قال: شرط المستثنى ألا يكون أكثر مما بقى؛ بل يجب أن يكون مساوياً، أو أقل. وقال القاضى: بل شرطه ألا يكون أكثر ولا مساوياً بل أقل. ويدل على فساد القولين أن الفقهاء أجمعوا على أن من قال: "لفلان على عشرة إلا تسعة" يلزمه واحد، ولولا أن هذا الاستثناء صحيح لغة وشرعاً، وإلا لما كان كذلك. ويدل على فساد القول الثانى خاصة قوله تعالى: (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) الحجر: 42. وقال؛ حكاية عن إبليس: (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) الحجر: 39 - 40. فلو كان المستثنى أقل من المستثنى منه، لزم فى أتباع إبليس، وفى المخلصين أن يكون كل واحد منهما أقل من الآخر؛ وذلك محال. حجة القاضى رحمه الله: أن المقتضى لفساد الاستثناء قائم، وما لأجله ترك العمل به فى الأقل ـ غير موجود فى المساوى والأكثر؛ فوجب أن يفسد الاستثناء فى المساوى والأكثر. بيان مقتضى الفساد: أن الاستثناء بعد المستثنى منه إنكار بعد الإقرار؛ وإنه غير مقبول. بيان الفارق: أن الشيء القليل يكون فى معرض النسيان؛ لقلة التفات النفس

إليه، والكثير يكون متذكراً محفوظاً؛ لكثرة التفات القلب إليه، فإذا أقر بالعشرة، فربما كانت تلك العشرة بنقصان شيء قليل، وإن كانت تامة، لكنه أدى منها شيئاً قليلاً، ثم إنه نسى ذلك القدر؛ لقلته؛ فلا جرم أقر بالعشرة الكاملة، ثم إنه بعد الإقرار، تذكر ذلك القدر؛ فوجب أن يكون متمكناً من استدراكه؛ فلأجل هذا شرعنا استثناء الأقل من الأكثر، ولم يوجد هذا المعنى فى استثناء المثل أو الأكثر؛ لما ذكرنا أن الكثرة مظنة الذكر، وإذا ظهر الفارق، بقى المقتضى سليماً عن المعارض. والجواب عندنا: أن الاستثناء مع المستثنى منه، كاللفظ الواحد الدال على ذلك القدر؛ وعلى هذا الفرض يسقط ما ذكرتم، والله أعلم. المسألة الرابعة قال القرافى: أجمعوا على فساد الاستثناء المستغرق. قلنا: نقل ابن طلحة فى مختصره المعروف بـ"المدخل" إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً ـ قولين: أحدهما: أنه استثناء، وينفعه الآخر يلزمه الثلاث ويعد نادماً. وقال سيف الدين: منع بعض أهل اللغة استثناء عقد، فلا يقول له: مائة إلا عشرة، بل إلا خمسة؛ لأنها بعض العقد أما عقد كامل فلا. قال المازرى: وهؤلاء منعوا: له عندى عشرة إلا ثلاثة؛ لأنه ليس كسراً، وإنما جاز عندهم قوله تعالى: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً) العنكبوت: 14. لأنه كسر، وأجمع الفقهاء على قوله: هى طالق ثلاثاً

إلا واحدة: أنه لا يلزمه إلا اثنتان، فيكون حجة عليهم، وكذلك يجرى الخلاف فى: عشرة إلا واحداً، ونحو ذلك، فإنه ليس بكسر؛ لأن نسبة الآحاد إلى العشرة كنسبة العشرات للمائة، والمئين للألف، وهذا القائل لم يجد فى الكتاب إلا الكسر، وكذلك السنة؛ ففى حديث: "الأسماء مائة إلا واحداً". قال الأيبارى فى "شرح البرهان": ومذهب القاضى: هو مذهب سيبويه، والخليل، والنضر بن شميل، وجماهير البصريين، وهو الوارد فى الكتاب والسنة، ولم يجد إلا استثناء الأقل فى قوله تعالى: (إلا خمسين عاما) العنكبوت: 14. و"مائة إلا واحداً ... ". قال الغزالى فى "المستصفى": قال كثير من أهل اللغة: لا يجوز استثناء عقد، فلا يجوز: مائة إلا عشرة، ولا عشرة إلا درهماً، بل مائة إلا خمسة، وعشرة إلا دانقاً، ونحو ذلك. قوله: أجمع الفقهاء على أن من قال: له عندى عشرة إلا تسعة، لا يلزمه إلا واحد، ولولا أنه صحيح لغة وشرعاً، لما كان كذلك.

"فائدة"

قلنا: قد اتفق العلماء على أنه لو قال: له عندى دنانير، أو دراهم: أنه يلزمه ثلاثة لا يزاد على ذلك، واللغة تقول: اللفظ موضوع لما فوق العشرة، وما قال أحد من الفقهاء فيما علمت: إنه يلزمه أحد عشر، فلعل هذا مثله. "فائدة" هذا الإجماع نقله الغزالي في "المستصفى"، وغيره من الأصوليين. وقال شرف الدين بن التلمسانى فى "شرح المعالم": الإجماع بعيد مع خلاف أحمد وغيره. وقال القاضى أبو يعلى الحنبلى: فى كتاب "العمدة" فى الأصول: لا يصلح استثناء الأكثر عندنا. قال: ونص عليه الخرقى فى كتاب "الإقرار" فى الفروع، فنص على بطلانه فى مذهب أحمد، وهو من أجل الفقهاء، فلا يصح حكاية إجماع الفقهاء. وقاله ابن جنى فى كتاب "الجامع"، وأبو إسحاق الزجاج فى كتاب "المعانى" كما قاله الخرقى، ونقله المازرى عن عبد الملك ابن الماجشون المالكى، كما قاله الخرقى. قوله: "يدل على فساد الثانى": يعنى اشتراط الأقل.

قوله تعالى: (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك) الحجر: 42. وقوله تعالى عن إبليس: (ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منم المخلصين) الحجر: 39 ـ 40. قلنا: لا يلزم القاضى من الآية إلزام؛ لأن القاضى يقول: إن الاستثناء، إنما شرع فى الكلام؛ لإخراج ما عساه لا يشعر به المتكلم، وذلك فى غاية الندرة؛ لأنه يصير الكلام منتقضاً باطلاً فيما استثنى، وهذان المدركان لا يوجدان فى الاثنين؛ لأن ذلك، إنما يتحقق حالة الخطاب، وكونه معلوما ً حينئذ وأن المتكلم مقدم عليه مع علمه، وحالة قول إبليس كذلك، لم يكن فى ظاهر الحال يعلم المخلصين منهم، فلو ظهر الكل مخلصين، لم يكن فى عرف الاستعمال مقدماً على القدر من الكلام، ولا ناقصاً لقوله. وأما قوله تعالى: (إلا من اتبعك) الحجر: 42. فهو غير معلوم للخلق حينئذ، وإن كان الله ـ تعالى ـ يعلم المتبع من غيره، غير أن خطاب الله ـ تعالى ـ يجرى على القانون العربى، فكل ما لو تكلم به العرب، كان سائغاً، كان ذلك فى القرآن على ذلك الوجه، وخصوص الربوبية لا تنقض استعمال اللغات؛ ألا ترى أن كلمة "إن" لا يعلق عليها المحتمل المشكوك فيه، والله ـ تعالى ـ: ذلك فى حق محال، مع أنها فى القرآن فى غاية الكثرة، وما المحسن لها إلا كون المتكلم، لو كان عربياً، لحسن ذلك، فكان صدورها عن الله ـ تعالى ـ حسناً عربيا، وخصوص الربوبية لا مدخل له فى ذلك، فتأمل هذا المعنى، فهو محتاج إليه فى كثير من الكتاب العزيز، فظهر أن الاثنين لا يلزم القاضى منها سؤال، وإنما كان يلزمه أن لو كان ذلك معلوماً للخلق عند النطق بذلك الكلام، كما ينكره القاضى فى قول القائل: له عشرة إلا تسعة.

يقول القاضي: إقدامه على النطق بالعشرة مع علمه بأن أكثرها لا يلزمه اشتغال باللغو من الكلام؛ بخلاف إذا لم يعلم، فهذا فرق عظيم بين البابين، أو يقول: سلمنا استواء البابين؛ لكن المستثنى فى الصورتين أقل. أما قوله: (إلا عبادك منهم المخلصين) الحجر: 40. فهؤلاء يشملون العباد المخلصين؛ لقوله "منهم" إشارة لبنى آدم، وأنه بعضهم، ومعلوم أن المخلصين من بنى آدم أقل. وأما قوله: (إلا من اتبعك من الغاوين) الحجر: 42. فهو أقل أيضاً؛ لأن قوله تعالى (إن عبادى) يشمل الملائكة؛ لكونه اسم جنس أضيف، والمتبع له بعض الغاوين؛ فإن الغاوين منهم من يتبع هواه، ومنهم من يتبع الشيطان، وغير ذلك، فيصيب المتبع له بعض الغاوين، ومعلوم أن كل الغاوين أقل من الكلائكة وحدهم، فكيف إذا أضيف إليهم صالحو بنى آدم؟ وفى الحديث: أن الملائكة يطوفون بالمحشر بمن فيه سبعة أدوار، وذلك أعظم مسمى فى المحشر. وقال عليه السلام: "أطت السماء، وحق لها أن تثط؛ ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك يسبح لله" ومعلوم أن هذا عدد عظيم. وفى الحديث: "يدخل البيت المعمور كل يوم سبعون ألفاً لا يرجعون إليه أبداً" وهذا يتناول {مَا} قبل خلق آدم إلى قيام الساعة، وأن ابن آدم يأتيه كل يوم وليلة أربعة من الملائكة لا يرجعون إليه أبداً.

"فائدة" قال الأبياري فى "شرح البرهان": كون الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة هو مذهب القاضي

قوله: "الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة": قلنا: لا نسلم ذلك؛ بل لفظ العشرة موضوع لمعنى و"إلا" للإخراج، وهذا الكلام الذى تقولونه توسع غير مساعد عليه، ويلزم أن يقولوا مثله فى كل مجاز معه قرينة لفظية، وكل عام معه تخصيص لفظى: أن الجميع حقيقة فيما بقى، وهو ظاهر البطلان. "فائدة" قال الأبياري فى "شرح البرهان": كون الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة هو مذهب القاضي. تقول: وضع العشرة للعشرة وضع استثناء الخمسة للخمسة، كما تقول: زيد للمفرد، وتزيد الواو والنون، فيكون موضوعاً للجمع، والجمهور على خلافه. "تنبيه" زاد التبريزي فقال: "قوله: لا يلزمه إلا واحد إجماعاً" لعله مريد إجماع المذهبين، وإلا فالإمام أحمد يخالف فيه.

وقال في الحجة على القاضى أن يقول: إن حملنا اللفظ على معنى واحد يناقص؛ لأنه أثبت فى الأول السلطنة على بعضهم، وفى الثانية نفاها عن كلهم، فإذاً لا بد من حمل لفظ العباد فى الأول على معنى أعم، أو حمل الاستثناء على الانقطاع، وقد يبطل الاحتجاج. قلت: وتقرير هذا الكلام يفهم مما تقدم.

المسألة الخامسة الاستثناء من الإثبات نفى، ومن النفى إثبات قال الرازى: مثال الأول: قوله تعالى: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً) العنكبوت: 114. ومثال الثانى: قوله تعالى: (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك) الحجر: 40. وزعم أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ أن الاستثناء من النفى لا يكون إثباتاً؛ قال: لأن بين الحكم بالنفى، وبين الحكم بالإثبات واسطة، وهى عدم الحكم؛ فمقتضى الاستثناء بقاء المستثنى غير محكوم عليه، لا بالنفى ولا بالإثبات. لنا: لو لم يكن الاستثناء فى النفى إثباتاً، لما كان قولنا: "لا إله إلا الله" موجباً ثبوت الإلهية لله جل جلاله؛ بل كان معناه نفى الإلهية عن غيره، وأما ثبوت الإلهية له، فلا، ولو كان كذلك، لما تم الإسلام؛ ولما كان ذلك باطلاً، علمنا أنه يفيد الإثبات. احتج أبو حنيفة رحمه الله بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولى"، و"لا صلاة إلا بطهور" ولم يلزم منه تحقق النكاح عند حضور الولى، ولا تحقق الصلاة عند حضور الوضوء؛ بل يدل على عدم صحتها عند عدم هذين الشرطين، والله أعلم.

المسألة الخامسة الاستثناء من الإثبات نفى قال القرافى: قوله: "مثال الاستثناء من الإثبات نفى: قوله تعالى: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً) العنكبوت: 14 ".

قلنا: للحنفية أن يقولوا: الخمسون غير محكوم عليها بالنفى فى هذه الآية، ولا تنافى بين كونها غير محكوم عليها فى هذه الآية، وكونها منفية فى نفس الأمر، ويعلم نفيها بدليل غير هذه الآية، وكذلك تمثيله كون الاستثناء من النفى إثباتاً بقوله تعالى: (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك) الحجر: 42. يقولون: المتبع غير مخبر عنه بالسلطنة من هذه الآية، وتكون السلطنة عليهم معلومة من غير هذه الآية. قاعدتهم: أن المستثنى أبداً غير محكوم عليه بشيء، وقد يكون حكمه معلوماً من غير الاستثناء. قوله: "بين الحكم بالنفى، والحكم بالإثبات واسطة، وهى عدم الحكم ": قلنا: قد قرر هذا فى "المعالم" بأبسط من هذا؛ فقال: الأحكام الخارجية إنما تثبت بواسطة الأحكام الذهنية، فإذا صرفنا الاستثناء إلى الصور الذهنية، أفادها بغير واسطة، وإلى الأحكام الخارجية، لا تفيدنا إلا بوسط، يريد أن الإنسان إذا قال: قام القوم، أو ما قام القوم، أنما يفهم من ذلك ابتداءً أنه يعتقد ذلك، ثم يقول: ظاهر حاله الصدق، فيكون زيد ليس قائماً فى الخارج، أو قائماً، فصار حكمنا بأنه قائم بعد حكمنا بأن المتكلم اعتقد لك، وإذا صرفنا الاستثناء إلى الأحكام الذهنية، يكون معناه: الحكم على كل واحد من القوم إلا زيداً، لا أحكم {به} عليه فى هذه القضية، فيكون غير محكوم عليه؛ فيجوز أن يكون موافقاً للمستثنى منه فى حكمه، وأن يخالفه، ويكون الاستثناء لا يصرف لما هو مستغن عن الواسط، وإذا صرفناه للأحكام الخارجية، صرفناه لما هو محتاج للأحكام الذهنية، وبوسطها، والاستغناء عن الوسط أرجح، ويرد عليه أن المتبادر فى العرف هو الأحكام الخارجية، والأصل عدم النقل، كما أن الأصل عدم الوسط، فيتعارض الأصلان، وتبقى المبادرة سالمة عن المعارض.

قوله: "لو لم يكن الاستثناء من النفى إثباتاً {لما كانت كلمة التوحيد تفيد} بمفردها التوحيد" وإنما يقولون: أحتفت به القرائن والمقاصد، واشتهر أن هذا هو المقصود؛ فلذلك أفادت الوحدانية، لا اللفظ بما هو لفظ، ومن زعم أن هذه الصيغة تتجرد عن هذه القرائن، فهذا بعيد عن الإنصاف. قوله: "لا نكاح إلا بولى ولا صلاة إلا بطهور" يدل على أن الاستثناء من النفى ليس إثباتاً": قلنا: الاستثناء يقع من خمسة أشياء: من الأحكام؛ نحو: ما قام القوم إلا زيداً. ومن العلل والأسباب؛ نحو: لا عقوبة إلا بجناية. ومن الشروط؛ نحو: لا صلاة إلا بطهور. ومن الموانع؛ نحو: لا تسقط الصلاة عن المرأة إلا بالحيض. ومن الأمور العامة، والأزمنة، والبقاع، والمحال، ومن الأحوال؛ كقوله تعالى، حكاية عن يعقوب عليه السلام: (لتأتننى به إلا أن يحاط بكم) يوسف: 66. أى: فى كل حال من الحالات، إلا فى حالة الإحاطة، وقد تقدم تمثيل البقية، والأمور العامة؛ فحيث قال العلماء رضى الله عنهم: إن الاستثناء من النفى إثبات: إنما هو فيما عدا الشروط؛ فإنه تقدم أن الشرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم؛ فإن وجود الوضوء لا يلزم منه صحة الصلاة، ولا عدم صحتها، وكذلك الولى فى النكاح؛ فلا يلزم من القضاء بعدم المشروط حالة عدم الشرط ـ القضاء بثبوت المشروط حالة ثبوت الشرط بمجرده، فجميع الأقسام بقول العلماء: الاستثناء من النفى إثبات، إلا فى الشروط، فلا يحتج فى الشروط على أن الاستثناء من النفى ليس إثباتاً؛ فإنها مستثناة من القاعدة،

"فائدة" نقل الإمام فخر الدين فى "المعالم" الإجماع على أن الاستثناء من الإثبات نفي

فاعلم ذلك، واعلم أن الشروط خارجة من جميع تلك الأقسام الخمسة؛ فلا حجة للحنفية فى هذه الصور كلها، وهو من دقائق مباحث الاستثناء. "فائدة" نقل الإمام فخر الدين فى "المعالم" الإجماع على أن الاستثناء من الإثبات نفي؛ بخلاف الاستثناء من النفى هو مواطن الخلاف؛ ولذلك قال تاج الدين فى اختصاره فى "الحاصل": زاده على لفظ الأصل، وقد سألت أعيان الحنفية عن ذلك؛ فقالوا: نحن نخالف فى القسمين، وفروعنا مبنية عليه فى النفى والإثبات، وهما عندنا ليسا إثباتاً من النفى، ولا نفياً من الإثبات. "فائدة" قال الحنفية: لا فرق بين الاستثناء من النفى أو الإثبات، وبين الاستثناء المفرغ؛ كقولنا: لم يقم إلا زيد، ولم أكرم إلا عمراً. قالوا: وزيد وعمرو فى المثالين غير محكوم عليهما من مجرد اللفظ؛ بل قد تحتف القرائن، فيحصل العلم بالنفى، أو الثبوت، لا بمجرد اللفظ. "فائدة" اتفق العلماء أبو حنيفة وغيره على أن "إلا" للإخراج، وأن المستثنى مخرج، وأن كل من خرج من نقيض، دخل فى النقيض الآخر، فهذه ثلاثة أمور متفق عليها، وبقى أمر رابع مختلف فيه، وهو أنه إذا قلنا: قام القوم، فهناك أمران: القيام والحكم به، فاختلفوا، هل المستثنى يخرج من القيام، أو الحكم به، فنحن نقول: من القيام، فيدخل فى نقيضه، وهو عدم القيام، والحنفية يقولون: هو مستثنى من الحكم، فيخرج لنقيضه، وهو عدم

"تنبيه"

الحكم، فيكون غير محكوم عليه، فأمكن أن يكون قائماً، وألا يكون قائماً، فعندنا انتقل إلى عدم القيام، وعندهم انتقل إلى عدم الحكم، وعند الفريقين هو مخرج، وداخل فى نقيض ما أخرج منه، فافهم ذلك، حتى يتحرر لك محل النزاع، والعرف فى الاستعمال شاهد بأنه إنما قصد إخراجه من القيام، لا من الحكم به، ولا يفهم أهل العرف إلا ذلك، فيكون هو اللغة؛ لأن الأصل عدم النقل والتغيير. "تنبيه" زاد سراج الدين فقال فى الجواب عن قوله فى الجواب عن قو أبى حنيفة: "لا صلاة إلا بطهور" ونظائره: "الإثبات أعم منه بصفة العموم": قلت: يريد أن المتقدم {قبل "إلا"} سالبة كلية، فيكفى فى مناقضتها الموجبة الجزئية، فيكفى مطلق الثبوت، وقد تقرر مطلق ثبوت الصلاة مع الوضوء فى عدة صور، وكذلك صحة النكاح وغيره يثبت مع شروطها فى عدة صور. وقال التبريزى فى الجواب عن قولهم: لا صلاة إلا بوضوء ونحوه: إن الفرق بين النمطين ضرورى فى الفهم، فمن قال: لا قاضى فى البلد إلا فلان، سبق إلى الذهن ثبوت القضاء له. ومن قال: لا قضاء إلا بالعلم أو بالورع، لم يفهم منه ثبوته لكل عالم،

"فائدة"

أو متورع، بل يصح هذا القول، وإن لم يكن فى الوجود قاض، ومستند هذا الفرق أن "الباء" فى اللغة للإلصاق، فيفيد معنى الاشتراط، وهو إلصاق الولى بالنكاح، ولا يلزم العكس. قلت: وقوله: "ولا يلزم العكس" أى: لا يلزم من كون الشرط يجب حصوله عند المشروط، ويلتصق به ـ أن يجب حصول المشروط عند حصول الشرط. "فائدة" هذه المستثنيات كلها فيها الموصوف محذوف تقديره: لا نكاح إلا نكاح ولى، ولا صلاة إلا صلاة بطهور؛ حتى يكون الاستثناء متصلاً، ويجد المجرور ما يتعلق به.

المسألة السادسة الاستثناءات إذا تعددت قال الرازى: فإن كان البعض معطوفاً على البعض بحرف العطف، كان الكل عائداً إلى المستثنى منه؛ كقولك: "لفلان عندى عشرة إلا أربعة، إلا خمسة" وإن لم يكن كذلك، فالاستثناء الثانى، إن كان أكثر من الأول، أو مساوياً له، عاد إلى الأول؛ كقوله: "لفلان على عشرة إلا أربعة، إلا خمسة". وإن كان أقل من الأول، كقولك: "لفلان على عشرة إلا خمسة، إلا أربعة" فالاستثناء الثانى: إما أن يكون عائداً إلى الاستثناء الأول فقط، أو إلى المستثنى منه فقط، أوإليهما معاً، أو لا إلى واحد منهما: والأول هو الحق، والثانى باطل؛ لأن القريب، إن لم يكن أولى من البعيد، فلا أقل من المساواة، والثالث أيضاً باطل؛ لوجهين: أحدهما: أن المستثنى منه مع الاستثناء الأول، لا بد، وأن يكون أحدهما نفياً، والآخر إثباتاً، فالاستثناء الثانى، لو عاد إليهما معاً والاستثناء من النفى إثبات، ومن الإثبات نفى؛ فيكون الاستثناء الثانى قد نفى عن أحد الأمرين السابقين عليه ما أثبته للآخر؛ فينجبر النقصان بالزيادة، ويبقى ما كان حاصلاً قبل الاستثناء الثانى؛ فيصير الاستثناء الثانى لغواً. وثانيهما: أن الاستثناء الثانى، لو رجع وثانيهما: أن الاستثناء الثانى، لو رجع إلى الاستثناء الأول، والمستثنى منه معاً، لزم أن يكون نفياً وإثباتاً معاً؛ وهو محال.

فإن قلت: النفى والإثبات: إنما يتنافيان، لو رجعا إلى شيء واحد، من وجه واحد، فأما عند رجوعهما إلى شيئين، فلا يتنافيان. قلت: لنفرض أنه قال: "على عشرة إلا اثنين، إلا واحداً" فالاستثناء الثانى، لما رجع إلى المستثنى منه، أخرج منه درهماُ آخر، ولما رجع إلى الاستثناء الأول، اقتضى ذلك إثبات ذلك الدرهم المستثنى منه؛ فيكون ذلك الاستثناء نفياً وإثباتاً من المستثنى منه؛ وهو محال. أما الرابع وهو: ألا يرجع الاستثناء الثانى إلى الاستثناء الأول، ولا إلى المستثنى منه، فهو باطل بالاتفاق. المسألة السادسة الاستثناءات إذا تعددت قال القرافى: قلت: هذه المسألة مبنية على خمس قواعد: القاعدة الأولى: أن العرب لا تجمع بين الاستثناء، وواو العطف؛ لأن الاستثناء للإخراج، والواو للتشريك والضم؛ فيتناقضان. القاعدة الثانية: الاستثناء من النفى إثبات، ومن الإثبات نفى. القاعدة الثالثة: إستثناء الجملة، أو أكثر منها لا يجوز. القاعدة الرابعة: أن العرب توجب الرجحان. القاعدة الخامسة: إذا دار الكلام بين الإلغاء والإعمال؛ فالإعمال أولى. "فائدة" قال ابن العربى فى "المحصول" له الاستثناء من الاستثناء جائز؛ خلافاً لبعض الناس، كما قال: انت طالق ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة؛ فإنه

يلزمه اثنتان، وقد جاء فى القرآن {الكريم}: (إلا آل لوط ...... إلا امرأته ......) الحجر: 59 ـ 60 فحكى فيه الخلاف. قوله: "إذا عطف البعض غلى البعض، عاد الكل إلى المستثنى منه": تقريره: أنه إذا قال: "له عندى عشرة إلا أربعة، وإلا خمسة" يمنع أن يكون خمسة مستثناه من الأربعة؛ لأنها أكثر منها، وللعطف، وإن قال: إلا أربعة وإلا ثلاثة ـ امتنع للعطف فقط. وإن قال: "إلا أربعة" من غير عطف، امتنع؛ لأن استثناء جملة الكلام، أو أكثر منه محال، فلا يعود الاستثناء على الاربعة، بل على العشرة. فإن قال: له {على} عشرة إلا أربعة إلا ثلاثة، فهاهنا، إن عاد على العشرة والأربعة، لزم أن يكون الكلام لغواً؛ لأن قوله: "له عشرة" إثبات، وقوله: "إلا أربعة" منفية، فيكون قد اعترف بستة قبل نطقه، فاستثنى الثلاثة، فقوله: "إلا ثلاثة" إذا أعدناه عليها؛ باعتبار عوده على أصل الكلام الذى هو إثبات، يكون قد أخرج ثلاثة؛ فيبقى من الستة ثلاثة، وباعتبار عوده على الأربعة التى هى منفية، يكون قد أثبت منها ثلاثة مضافة للثلاثة الباقية من الستة، وهى عوض الثلاثة المخرج منها؛ فيصير قد اعترف بستة، وهكذا كان حاصلاً قبل قوله: "إلا ثلاثة" فصار قوله: "إلا ثلاثة" لغواً؛ لأجل عود الاستثناء الثانى على أصل الكلام، وعلى الأربعة المستثناة؛ فتين ألا يعود عليها، وهذا مطرد فى جميع كل استثناء بعد استثناء يعود على أصل الكلام، وعلى الاستثناء؛ لأن أحدهما نفى، والآخر إثبات؛ فيحسن أحدهما، ويصير الكلام كما كان أولاً قبل الاستثناء الثانى. قوله: "لو رجع إليها، يلزم أن يكون نفياً وإثباتاً، وهو محال": قلنا: لا نسلم أنه محال؛ فإن كلامكم يشعر بأنه محال عقلاً؛ لأنه جمع بين النقيضين، وليس كذلك، بل هذان نقيضان؛ باعتبار إضافتين، فهو

"فائدة"

نفى؛ باعتبار إضافته إلى أصل الكلام، وإثبات؛ باعتبار إضافته إلى الاستثناء، والجمع بين النقيضين، باعتبار إضافتين، ليس محالاً؛ كما تقول: زيد أب لعمرو، وليس أباً لخالد؛ فهو أب، وليس أباً، وليس ذلك محالاً، بل لا بد فى التناقض من الشروط الثمانية المذكورة فى المنطق، ومتى عدم شرط منها، لم يكن التناقض محالاً، بل لا يكون تناقضاً، ثم إنكم أجبتم عن هذا؛ بأن ضيقتم الفرض، وقلتم: إذا قال: له عشرة إلا اثنين إلا واحداً، فالاستثناء الثانى، لما رجع إلى المستثنى منه، أخرج منه درهماً آخر، ولما رجع إلى المستثنى منه، اقتضى إثبات ذلك الدرهم، فيكون نفياً وإثباتاً، وهو محال، وهذا الجواب ليس بجواب، بل المسألة بحالها، والواحد منفى وثابت؛ باعتبار إضافتين. "فائدة" قال العلماء: قال العلماء: ذا قال: "له على عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنين إلا واحداً" يكون اعترافه بخمسة؛ بناء على الاستثناء الذى قبله دون أصل الكلام؛ لأن قوله: "إلا تسعة" منفية يكون الاعتراف بواحد، و"إلا ثمانية" استثناء من منفى؛ فتكون مثبتة مضافة للواحد؛ فيصير الاعتراف بتسعة. وقوله: "إلا سبعة" منفية، فيكون الاعتراف باثنين، و"إلا ستة" مثبتة؛ فيكون الاعتراف بثمانية. وقوله: "إلا خمسة" منفية، يكون الاعتراف بثلاثة. وقوله: "إلا أربعة" تكون مثبتة، فيبقى الاعتراف بسبعة. وقوله: "إلا ثلاثة" تكون منفية، فيبقى الاعتراف بأربعة. وقوله: "إلا اثنين" مثبتة، يكون الاعتراف بستة.

وقوله: "إلا واحداً" منفية، يبقى الاعتراف بخمسة. هذا إذا ابتدأ بعشرة مثبتة، آل الأمر باستثناء واحد يزاد أبداً على المقدار الأول إلى ثبوت خمسة، فإن ابتدأ بعشرة منفية، فقال: "ليس له عندى عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنين إلا واحداً" يكون الاعتراف بخمسة أيضاً؛ لأن التسعة مثبتة ـ هاهنا ـ لاغبة من النفى، والثمانية منفية؛ فيصير الاعتراف بواحد، والسبعة مثبتة؛ فيصير الاعتراف بثمانية، والستة منفية؛ فيصير الاعتراف باثنين، والخمسة مثبتة؛ فيصير الاعتراف بسبعة، والأربعة منفية؛ فيصير الاعتراف بثلاثة، والثلاثة مثبت؛ فيصير الاعتراف بستة، والاثنان منفيان؛ فيصير الاعتراف بأربعة، والواحد مثبت؛ فيصير الاعتراف بخمسة، وعلى هاتين القاعدتن تفرع الأعداد، وإن كثرت نفياً وإثباتاً.

المسألة السابعة الاستثناء المذكور عقيب جمل كثيرة قال الرازى: هل يعود إليها بأسرها أم لا؟ مذهب الشافعى ـ رضى الله عنه ـ وأصحابه: عوده إلى الكل، ومذهب الإمام أبى حنيفة ـ رحمة الله عليه ـ وأصحابه: اختصاصه بالجملة الأخيرة. وذهب القاضى منا، والمرتضى من الشيعة إلى التوقف، إلا أن المرتضى توقف للاشتراك، والقاضى لم يقطع بذلك أيضاً، من فصل القول فيه، وذكروا وجوهاً. وأدخلها فى التحقق ما قيل: إن الجملتين من الكلام: إما أن يكونا من نوع واحد، أو يكونا من نوعين: فإن كان الأول: فإما أن تكون إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى، أو لا تكون كذلك: فإن كان الثانى: فإما أن يكونا مختلفى الاسم والحكم، أو متفقى الاسم مختلفى الحكم، أو مختلفى الاسم، متفقى الحكم: فالأول كقولك: "أطعم ربيعة، واخلع على مضر إلا الطوال". والأظهر هاهنا: اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة؛ لأن الظاهر: أنه لم ينتقل من الجملة المستقلة بنفسها إلى جملة أخرى مستقلة بنفسها؛ إلا وقد تم

غرضه من الجملة الأولى، ولو كان الاستثناء راجعاً إلى جميع الجمل، لم يكن قد تم مقصوده من الجملة. وأما الثانى: فكقولنا: "أطعم ربيعة، واخلع على ربيعة إلا الطوال". وإما الثالث: فكقولنا: "أطعم ربيعة، وأطعم مضر إلا الطوال" والحكم هاهنا أيضاً كما ذكرنا؛ لأن كل واحدة من الجملتين مستقلة، فالظاهر أنه لم ينتقل من إحداهما، إلا وقد تم غرضه بالكلية منها. وأما إن كانت إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى: فإما أن يكون حكم الأولى مضمراً فى الثانية؛ كقوله: "أكرم ربيعة، ومضر إلا الطوال" أو اسم الأولى مضمراً فى الثانية، كقوله: "أكرم ربيعة، واخلع عليهم إلا الطوال" فالاستثناء فى هذين القسمين راجع إلى الجملتين؛ لأن الثانية لا تستقل إلا مع الأولى؛ فوجب رجوع حكم الاستثناء إليهما. وأما إن كانت الجملتان نوعين من الكلام: فإما أن تكون القضية واحدة، أو مختلفة: فإن كانت مختلفة: فهو كقولنا: "أكرم ربيعة، والعلماء هم المتكلمون، إلا أهل البلدة الفلانية" فالاستثناء فيه يرجع إلى ما يليه؛ لاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين بنفسها. وأما إن كانت القضية واحدة فهو كقوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات) النور: 4. فالقضية واحدة، وأنواع الكلام مختلفة؛ فالجملة الأولى أمر، والثانية نهى، والثالثة خبر؛ فالاستثناء فيها يرجع إلى الجملة الأخيرة؛ لاستقلال كل واحدة فى تلك الجمل بنفسها.

والإنصاف: أن هذا التقسيم حق؛ لكنا إذا أردنا المناظرة، اخترنا التوقف؛ لا بمعنى دعوى الاشتراك؛ بل بمعنى أنا لا نعلم حكمه فى اللغة ماذا؟ وهذا هو اختيار القاضى. واحتج الشافعى ـ رضى الله عنه ـ بوجوه: أولها: أن الشرط، متى تعقب جملاٌ، عاد إلى الكل، فكذا الاستثناء؛ والجامع: أن كل واحد منهما لا يستقل بنفسه، وأيضاً: فمعناهما واحد؛ لأن قوله تعالى فى آية القذف: (إلا الذين تابوا) النور: 5. جار مجرى قوله: (وأولئك هم الفاسقون) النور: 4. إن لم يتوبوا. ويقرب من هذا الدليل قولهم: أجمعنا على أن الاستثناء بمشيئة الله ـ تعالى ـ عائد إلى كل الجمل، فالاستثناء بغير المشيئة، يجب أن يكون كذلك. وثانيها: أن حرف العطف يصير الجمل المعطوف بعضها على بعض ـ فى حكم الجملة الواحدة؛ لأنه لا فرق بين أن تقول: "رأيت بكر بن خالد، وبكر ابن عمرو" وبين أن تقول: "رأيت البكرين" وإذا كان الاستثناء الواقع عقيب الجملة الواحدة راجعاً إليها، فكذا ما صار بحكم العطف كالجملة الواحدة. وثالثها: أنه تعالى، لو قال: "فاجلدوهم ثمانين "جلدة إلا الذين تابوا، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً إلا الذين تابوا، وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) لكان ركيكا جداً. فبتقدير أن يريد الاستثناء عن كل الجمل، لا طريق له إلى ذلك إلا بذكر الاستثناء عقيب الجملة الأخيرة، ففى هذه الصورة، يكون الاستثناء راجعاً إلى

كل الجمل، والأصل فى الكلام الحقيقة، وإذا ثبت كونه حقيقة فى هذه الصورة، كان كذلك فى سائر الصور؛ دفعاً للاشتراك. ورابعها: لو قال: "لفلان على خمسة، وخمسة إلا سبعة" كان الاستثناء هاهنا عائداً إلى الجملتين، والأصل فى الكلام الحقيقة. وإذا ثبت ذلك فى هذه الصورة، فكذا فى غيرها؛ دفعاً للاشتراك. واحتج أبو حنيفة ـ رحمة الله عليه ـ بوجوه: أحدها: أن الدليل ينفى اعتبار الاستثناء، تركنا العمل به فى الجملة الواحدة، فيبقى العمل بالباقى فى سائر الجمل. بيان النافى: أن الاستثناء يقتضى إزالة العموم عن ظاهره، وهو خلاف الأصل. بيان الفارق: أن الاستثناء لا استقلال له بالدلالة على الحكم؛ فلا بد من تعليقه بشئ؛ لئلا يصير لغواً، وتعليقه بالجملة الواحدة يكفى فى خروجه عن اللغوية؛ فلا حاجة إلى تعليقه بسائر الجمل. وإذا ثبت النافى والفارق، ثبت أنه لا يجوز عوده إلى الجمل الكثيرة، والخصم قال به؛ فصار محجوباً. يبقى أن يقال: فلم خصصتموه بالجملة الأخيرة؟ فنقول: هذا تفريع قولنا ولنا فيه وجهان: الوجه الأول: اتفاق أهل اللغة على أن للقرب تأثيراً فى هذا المعنى، ثم يدل عليه أموراً أربعة:

الأول: اتفاق أهل اللغة البصريين على أنه إذا اجتمع على المعمول الواحد عاملان، فإعمال الأقرب أولى. الثانى: أنهم قالوا فى: "ضرب زيد عمراً، وضربته": إن هذه "الهاء" بأن ترجع إلى عمرو المضروب ـ أولى من أن ترجع إلى زيد الضارب؛ للقرب. الثالث: أنهم قالوا فى قولنا: "ضربت سلمى سعدى": إنه ليس فى إعراب اللفظ، ولا فى معناه، ما يجعل أحدهما بالفاعلية أولى من الآخر؛ فاعتبروا المجاورة؛ فقالوا: الذى يلى الفعل أولى بالفاعلية. الرابع: أنهم قالوا فى قولهم: "أعطى زيد عمراً بكراً": أن لما احتمل أن يكون كل واحد من عمرو وبكر، مفعولاً أول، وليس فى اللفظ ما يقتضى الترجيح ـ وجب اعتبار القرب. الوجه الثانى: أن كل من صرف الاستثناء إلى جملة واحدة، خصصه بالجملة الأخيرة؛ فصرفه إلى غيرها خرق للإجماع؛ فهذا تمام هذه الحجة. وثانيها: أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل، لو رجع إلى جميعها لم يخل: إما أن يضمر مع كل جملة استثناء يعقبها، أو لا يضمر ذلك؛ بل الاستثناء المصرح به فى آخر الجمل هو الراجع إلى جميعها: والأول باطل؛ لأن الإضمار على خلاف الأصل؛ فلا يصار إليه إلا لضرورة، ولا ضرورة هاهنا. والثانى أيضاً باطل؛ لأن العامل فى نصب ما بعد حرف الاستثناء، هو ما قبله؛ من فعل أو تقدير فعل، فإذا فرضنا رجوع ذلك الاستثناء إلى كل الجمل، كان

العامل فى نصب المستثنى أكثر من واحد؛ لكن لا يجوز أن يعمل عاملان فى إعراب واحد، أما أولاً: فلأن سيبويه نص عليه، وقوله حجة، وأما ثانياً: فلأنه يجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان؛ وهو محال. وثالثها: أن الاستثناء من الاستثناء مختص بما يليه، فكذا فى سائر الصور؛ دفعاً للاشتراك عن الوضع. ورابعها: أن الجمل، إذا كان كل واحد منها مستقلا بنفسه، فالظاهر أنه لم ينتقل عن واحد منها إلى غيره، إلا إذا تم غرضه منه؛ لأنه كما أن السكوت يدل على استكمال الغرض المطلوب من الكلام، فكذا الشروع فى كلام آخر لا تعلق له بالأول ـ يدل على استكمال الغرض من ذلك الأول. إذا ثبت هذا، فلو حكمنا برجوع الاستثناء إلى كل الجمل المتقدمة، نقض ذلك قولنا؛ أنه لما انتقل عن الكلام الأول، تم غرضه. واحتج الشريف المرتضى على الاشتراك بوجوه: أحدها: أن القائل، إذا قال: "اضرب غلمانى، وأكرم جيرانى إلا واحداً" جاز أن يستفهم المخاطب، هل أراد استثناء الواحد من الجملتين أو من الجملة الواحدة؟ والاستفهام دليل الاشتراك. وثانيها: أنا وجدنا الاستثناء فى القرآن والعربية، تارة عائداً إلى كل الجمل، وأخرى مختصا بالأخيرة، وظاهر الاستعمال دليل الحقيقة؛ فوجب الاشتراك. وثالثها: أن القائل إذا قال: "ضرب غلمانى، وأكرمت من جيرانى قائماً، أو فى الدار، أو يوم الجمعة": احتمل فيما ذكره من الحال والظرفين أن يكون المتعلق

به جميع الأفعال، وأن يكون ما هو أقرب، والعلم باحتمال الأمرين من مذهب أهل اللغة ضرورى، فإذا صح ذلك فى الحال والظرفين، صح أيضاً فى الاستثناء، والجامع أن كل واحد منهما فضلة تأتى بعد تمام الكلام. فهذا مجموع أدلة القاطعين: أما أدلة الشافعية: فالجواب عن الأول: أن نمنع الحكم فى الأصل، وبتقدير تسليمه؛ فنطالب بالجامع. قوله: "إنهما يشتركان فى عدم الاستقلال، وأقتضاء التخصيص": قلنا: لا يلزم من اشتراك شيئين فى بعض الوجوه، اشتركهما فى كل الأحكام. قوله ثانياً: "معنى الشرط والاستثناء واحد": قلنا: إن ادعيتم أنه لا فرق بينهما أصلاً، كان قياس أحدهما على الآخر قياساً للشيء على نفسه، وإن سلمتم الفرق، طالبناكم بالجامع؛ وبهذين الجوابين نجيب عن الاستدلال بمشيئة الله تعالى. والجواب عن الثانى: أنكم، إن ادعيتم أنه لا فرق بين الجملة الواحدة، وبين الجمل المعطوف بعضها على بعض، كان قياس أحدهما على الآخر قياساً للشيء على نفسه؛ وإن سلمتم الفرق، طالبناكم بالجامع. وعن الثالث: أنه يمكن رعاية الاختصار؛ بذكر الاستثناء الواحد عقيب الجمل، مع التنبيه على ما يقتضى عوده إلى الكل، وذلك لا يقدح فى الفصاحة.

وعن الرابع: أن هناك إنما رجع إلى الجملتين؛ لأنه لا بد من اعتبار كلام العاقل، ولما تعذر رجوعه إلى الجملتين، وجب رجوعه إليهما، وهذه الضرورة غير حاصلة فى سائر المواضع. وأما أدلة الحنفية: فالجواب عن الأول من وجهين: أحدهما: أنه ينتقض بالاستثناء بمشيئة الله تعالى وبالشرط؛ فإن ذلك غير مستقل بنفسه، مع أنهما يعودان إلى كل الجمل عندهم. فإن قلت: الفرق هو أن الشرط، وإن تأخر صورة، فهو متقدم معنى، وإذا كان متقدماً معنى، صار كل ما جاء بعده مشروطاً به. وأما الاستثناء بالمشيئة: فإنه يقتضى صيرورة الكلام بأسره موقوفاً؛ فلا يختص بالبعض دون البعض. قلت: لا نسلم أن الشرط يجب أن يكون مقدماً على الكل، بل يجوز أن يكون مقدماً على الجملة الأخيرة، وإن سلمنا ذلك، فلا نسلم أن التقدم يقتضى الرجوع إلى الكل، بل لعله يكون مختصاً بما يليه. وأما الاستثناء بالمشيئة: فلم لا يجوز ألا يقتضى كون الكل موقوفاً، بل يختص ذلك بالجملة الأخيرة؟ والأصوب للحنفية أن يمنعوا هذين الإلزامين؛ حتى يتم دليلهم. وثانيها: أنا لا نسلم أن الاستثناء على خلاف الأصل. قوله: "لأنه يوجب صرف العموم عن ظاهره": قلنا: لا نسلم؛ لأنا بينا فى مسألة أن العام المخصوص بالاستثناء لا يكون

مجازاً، وأن لفظ الاستثناء يصير كاللفظ الواحد الدال على ما بقى بعد الاستثناء. وعلى هذا التقدير؛ لا يكون الاستثناء على خلاف الأصل. وعن الثانى: أنا لا نسلم أنه لا يجوز أن يجتمع على المعمول الواحد عاملان، ونص سيبويه على أنه لا يجوز ـ معارض بنص الكساءى على أنه لا يجوز. وقوله: "يجتمع عل الأثر الواحد مؤثران مستقلان": فجوابه: أن العوامل الإعرابية معرفات لا مؤثرات، واجتماع المعرفين على الواحد غير ممتنع. وعن الثالث: أن الاستثناء من الاستثناء، لوعاد إليه وإلى المستثنى معاً، لزم الفسادان المذكوران فيما تقدم، وذلك غير حاصل فى الاستثناء من الجمل. وعن الرابع: أن نقول: ما تريدون بقولكم: إنه لم ينتقل عن إحدى الجملتين إلى غيرها إلا بعد فراغه من الأولى؟ إن عنيتم به: أنه لم ينتقل منها إلى غيرها إلا بعد فراغه من جميع أحكام الأولى، فهذا ممنوع، بل هو أول المسألة؛ لأن عندنا من جملة أحكامها ذلك الاستثناء الذى ذكرتموه فى آخر الجمل، وإن عنيتم شيئاً آخر، فاذكروه لننظر فيه. وأما أدالة الشريف المرتضى: فالجواب عن الأول والثانى منها ما تقدم فى باب العموم. وعن الثالث: أنا لا نسلم التوقف فى الحال والظرفين، بل نخصهما بالجملة الأخيرة؛ على قول أبى حنيفة ـ رحمه الله ـ أو بالكل؛ على قول الشافعى ـ رضى الله عنه ـ

سلمنا التوقف؛ لكن لا على سبيل الاشتراك، بل على سبيل أنا لا ندرى أن الحق، ماهو عند أهل اللغة؟ فإن تمسك على الاشتراك بالاستفهام والاستعمال، كان ذلك منه عوداً إلى الطريقتين الأوليين. سلمناه؛ فلم قلتم: إنه يجب أن يكون الأمر كذلك فى الاستثناء؟ قوله: "الجامع: هو كون كل واحد من هذه الثلاثة فضلة تأتى بعد تمام الكلام": قلنا: الاشتراك من بعض الوجوه لا يقتضى التساوى من جميع الوجوه، والله أعلم. المسألة السابعة الاستثناء المذكور عقيب الجمل قال القرافي:

"سؤال"

"سؤال" لا تستقيم حكاية الخلاف فى هذه المسألة مطلقاً، ولا فى الشرط، ولا فى الصفة؛ لأن الجمل المعطوفة قد تعطف بالحروف الجامعة "الواو" و"الفاء" و"ثم" فيكون هذا موطن الخلاف، وتكون الستة الباقية غير موطن الخلاف؛ حتى لا يستقيم ذلك فيها اتفاقاً؛ لأن المراد بها أحد الشيئين، فكيف يعمهما الاستثناء؟ وينبغى التوقف فى "حتى" من جهة أنها تتمة لغيرها، فتلحق بالتعميم اتفاقاً، ولا يختلف فيها، ويقال: فيها أمران، شملهما الحكم؛ فيجرى الخلاف فيهما. قوله: "إما أن يكونا من نوع واحد" يريد أمرين، أو نهيين، أو خبرين، بخلاف أن يكون أحدهما أمراً، والآخر خبراً، والمتفقى الاسم: ربيعة، وربيعة، يذكر اللفظ الواحد فى الجملتين، واتحاد الحكم؛ نحو: أكرم ربيعة أكرم ربيعة، فتتفق الجملتان فى الاسم والحكم، أو: أكرم ربيعة، وأكرم مضر اتفقا فى الحكم دون الاسم، و: "أكرم ربيعة، واخلع على مضر" اختلفا فيهما، والجملتان التى لا تعلق لإحداهما نحو ما تقدم، وإضمار حكم إحداهما فى الأخرى؛ كقوله: أكرم ربيعة ومضر، كما قال: "مضر" مفعول بفعل مضمر يدل عليه الأول، تقديره: وأكرم مضر، وهذا يتخرج

على اختلاف النحاة فى الواو العاطفة، هل نابت مناب العامل، أو هى العامل، أو العامل مضمر معها؟ ثلاثة أقوال لهم: فعلى الثالث؛ يتجه دعوى الإضمار، وأطلقه فى هذه المسألة. قال المازرى فى "شرح البرهان": مذهب مالك عوده إلى جميع الجمل. قوله: "أو أضمر اسم إحداهما فى الأخرى؛ كقوله: أكرم ربيعة، واخلع عليهم" يريد أن المجرور فى الثانية يفتقر عوده على الظاهر الذى هو المنصوب الأول، فلإحدى الجملتين بالأخرى ارتباط من هذا الوجه، كما حصل الارتباط من جهة إضمار الحكم؛ فصارت الجملتان كالجملة الواحدة من هذا الوجه. قوله: "يختص الاستثتاء فى الآية بالجملة الأخيرة": تقريره: أن الله ـ تعالى ـ قال: (فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) النور: 3 ـ 5. فيختص بالآخر، فيكون التائبون لا يقتضى عليهم بأنهم فاسقون، ويقام عليهم الحد، ولا تقبل شهادتهم؛ لكونهم حدوا فى القذف، وإن لم يكونوا فسقة، وهذا فيه خلاف بين العلماء، هل تقبل شهادة المحدود فى غير ما حد فيه؟ وهو مذهب مالك، أو لا تقبل مطلقاً؛ لحديث ورد فى ذلك؛ خلاف، وإن أعدناه على جملة الجمل، لا يقام الحد عليهم، ولا ترد شهادتهم، ولا يقضى بفسقهم، وهذا أيضاً مختلف فيه وهل تسقط التوبة الحد أم لا؟ والصحيح عدم إسقاطها للحد؛ لقوله ـ عليه السلام ـ فى الغامدية: "تابت توبة، لو تابها صاحب مكس، لغفر له" مع أنه ـ عليه السلام ـ أمر برجمها.

قوله: "يعود إلى الكل كالشرط": قلنا: فيه خلاف؛ فيمتنع الحكم فى الأصل، سلمناه، لكن الفرق أن الشروط اللغوية أسباب، وهى موطن المقاصد والمصالح، فيكون أشرف وأنفع؛ فيتناسب عودها على الكل؛ تكثيراً لتلك المصلحة، أما الاستثناء، فلإخراج ما عساه اندرج فى الكلام مم ليس منه، فهو يلغى غير المقصود، ولا يحقق مقصوداً، فضعف عن رتبة الشرط؛ فظهر الفرق. قوله: "إن الاستثناء يجرى مجرى الشرط؛ لأن قوله تعالى: (إلا الذين تابوا) النور: 5. يجرى مجرى قوله تعالى: (وأولئك هم الفاسقون) النور: 4. إن لم يتوبوا. قلنا: لا نسلم ن هذا معناه؛ لأن ما ذكرتموه يقتضى أن عدم التوبة: هو سبب الفسوق؛ لأنك إذا قلت: إن أكرمتنى، أكرمتك، وإن آمنت، دخلت الجن، يقتضى أن هذه الشروط أسباب، وكذلك غالب تعاليق اللغة، وهاهنا ليس سبب الفسوق عدم التوبة، بل القذف سبب مستقل فى ثبوت حكم الفسوق؛ فلا يحتاج إلى ضم شيء آخر إليه، ولكن قولنا: "إن لم يتوبوا" إشارة إلى نفى المانع من القضاء بالفاسق، ففيه توسع بالنسبة إلى قواعد الشروط. قوله: "الاستثناء بمشيئة الله ـ تعالى ـ عائد إلى كل الجمل، فكذلك الاستثناء": قلنا: فيه خلاف فنمنعه، لكن الفرق أن الاستثناء بالمشيئة جعله الشرع سبباً رافعاً لليمين؛ كقوله ـ عليه السلام ـ: "من حلف واستثنى، عاد كمن لم يحلف".

أى: ارتفع عنه الانعقاد الذى ترتب عليه بالحلف موجباً للكفارة، وإذا كان سبباً رافعاً ـ والأسباب مواطن الحكم، والمصالح الشرعية والعادية ـ فيناسب التعميم؛ تكثيراً للمصلحة، بخلاف الاستثناء لما تقدم. قوله: "المعطوفات كالجملة الواحدة": قلنا: لا نسلم، ويدل على عدم التسوية وجوه: أحدها: أنه لا يجوز: رأيت زيداً وعمراً، ويجوز: رأيت العمرين إلا عمراً. وثانيها: أن المعطوفات لفظ، كل واحد منها يدل عليه مطابقة؛ استقلالاً، وهو سبب منع استثنائه بجملتة، والدلالة فى الجملة الواحدة، إنما هى تضمن، وهذا يناسب ألا يعود فى الأول، ويعود فى الثانى؛ لعدم الاستقلال. وثالثها. أن الفعل كمل عمله فى الجملة الأولى قبل النطق بالثانية، فهى مستقلة، والثانية لها فعل آخر، فهى مستقلة. ورابعها: أن الأولى يحسن السكوت عليها؛ بخلاف بعض الجملة الواحدة، وإذا حصل التباين فى هذه اللوازم والأحكام، ظهر الاختلاف، والمختلفات لا يجب اشتراكها فى جميع اللوازم، ولا فى لازم معين، إلا بدليل منفصل؛ بل قاعدة الاختلاف التباين فى اللوازم. أما التسوية فلا. قوله: "تعليقه بالجملة الواحدة يكفى فى خروجه عن اللغوية": تقريره: أن اللغوية ـ هاهنا ـ بفتح اللام من اللغو؛ الذى هو الهذر، لا من اللغة؛ التى هى النطق المخصوص، ومعناه يخرج عن أن يكون لغواً.

قوله: "إذا اجتمع عاملان، فإذا اجتمع عاملان، فإعمال الأقرب أولى": تقريره: قام وقعد، فهل زيد مرفوع بالأول، ويضمر فى الثانى؛ قاله الكوفيون، لأن الأول استحق العمل قبل ورود الثانى، أو يرتفع بالثانى؛ لأن أقرب إليه، ويضمر فى الأول، ويكون إضماراً قبل الذكر؛ على خلاف الأصول؛ قاله البصريون. أو نمنع المسألة؛ قاله بعضهم، وكذلك: أكرمت وأكرمنى زيد، فعلى اعتبار الأول ينصب زيداً؛ لأنه مفعول، وعلى اعتبار الثانى برفعه، وقد نقض البصريون أصلهم بما إذا اجتمع الشرط والقسم؛ أن الجواب للأول دون القريب من الجواب؛ كقوله تعالى: (كلا لئن لم ينته انسفعاً بالناصية) العلق: 15. فاللام جواب القسم الذى أشعرت به اللام، ولم يؤت بجواب الشرط، ولهم فروق ومباحث مذكورة فى كتب النحو، لا نطول بذكرها هاهنا، وإنما ذكرت البعض ليتأتى منه السؤال على أبى حنيفة فى ترجيح القرب، وأن البصريين الذين احتج بهم؛ قواعدهم مختلفة، ثم إنهم معارضون بمذهب الكوفيين. قوله: "أعطى زيد عمراً بكراً": تقريره: أن المفعول الأول هو الآخر أبداً؛ فهو فى معنى الفاعل. قوله: "العامل فى الاستثناء الفعل الذى قبله": قلنا: فيه أقوال للنحاة: أحدها: أن الفعل الذى قبل "إلا"عدته "إلا" فنصب ما بعدها. وثانيها: أن "إلا" هى الناصبة؛ لأن معناها أخراج من الكلام كذا، كما نصبوا بـ "إن" وهى حرف؛ لأن معناها أؤكد، ونصبوا الحال بها للتنبيه، وهى حرف؛ لأن معناها أشير وأنبه.

وثالثها: أن معها فعلاً مضمراً دل عليه الظاهر؛ لأن الأول قد استوفى مفعوله، فلم يبق فيه ما ينصب اسماً آخر، فيضمر غيره، وهذه الأقوال الثلاثة إنما تأتى فى الجملة الفعلية. أما الاسمية، فلا يأتى فيها إلا قولان؛ نحو: القوم قريش إلا زيداً. قوله: "الاستثناء فى القرآن عاد على كل الجمل، وعلى بعضها، والأصل الحقيقة": مثال عوده على الكل قوله تعالى: (كيف يهدى الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) آل عمران: 86، 87، 88، 89. هذا فى آل عمران. وفى المائدة قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم) المائدة: 3. فقيل: منقطع، لكن "ما ذكيتم" من غير المذكور. وقيل: متصل يعود على المنخنقة، وما بعدها، أى: ما أدركتم ذكاته من المذكورات، ومثال العائد على جملة واحدة قوله تعالى: (فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) هود: 81. قرئ بالنصب والرفع، فعلى النصب هى مستثناة من الجملة الأولى؛

لأنها موجبة، وعلى الرفع مستثناة من الثانية؛ لأنها منفية، وتكون خرجت معهم، ثم رجعت وهلكت ـ قاله المفسرون. وقوله تعالى: (إن الله مبتليكم ينهر فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى إلا من اغترف غرفة {بيده، فشربوا منه إلا قليل منهم}) البقرة: 249. فهذا يتعين عوده إلى الجملة الأولى دون الثانية؛ لأن مناسبة المعنى تقتضيه. ومما يلتبس قوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً) الفرقان: 68 ـ 70. فيتخيل أنه من الجمل، وإنما هو من لفظ "م ن" وهو مفرد. قوله: "احتمل ما ذكره فى الحال، والظرفين": يريد بالظرفين قوله: فى الدار، ويوم الجمعة؛ لأنه اشتهر فى اصطلاح النحاة؛ تسمية المجرور بالظرف، فهما ظرفان. قوله: "لا يلزم من اشتراك شيئين من بعض الوجوه اشتراكهما فى كل الأحكام": قلنا: إن ادعيتم نفى اللزوم العقلى، فمسلم، ولكن هذه مباحث لغوية يكفى فيها القياس المفيد للظن؛ بناء على جواز القياس فى اللغات، والقياس يكفى فيه الشبه من بعض الوجوه. قوله: "إن ادعيتم الفرق، طالبناكم بالجمع": قلنا: الجامع كون كل واحد من اللفظين لا يستقل بنفسه.

قوله: "ينتقض بالاستثناء بالمشيئة وبالشرط؛ فإنه يعود إلى الكل عندهم": قلنا: قد تقدم الفرق، أن الشروط اللغوية أسباب، والأسباب متضمنة للحكم والمصالح، فعادت للكل؛ تكثيراً للمصالح، والحكم بخلاف الاستثناء؛ لإخراج ما عساه دخل فى الكلام، وهو غير مقصود. قوله: "الشرط، وإن تأخر صورة، فهو متقدم معنى": قلنا: قد منع الفراء ذلك؛ على ما يحكيه الإمام عنه بعد هذا، واختار الإمام التقديم، مع أنه حكى الخلاف فيه، فيمنع؛ بناء على الخلاف. قوله: "لفظ الاستثناء مع الأصل يصير كاللفظة الواحدة": قلنا: قد تقدم أن ذلك مسامحة فى القول، بل يعلم بالضرورة أنهما لفظان متعارضان: أحدهما: ينفى شيئاً. والآخر يثبته. قوله: "واجتماع المعرفات على مدلول واحد غير محال": تقريره: أن الصنعة معرفة للصانع، وكل ذرة فى العالم، فهى دليل على وجود الله ـ تعالى ـ ووجود صفاته العلا {المتقارب}: وفى كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد ومع ذلك، فأجزاء العالم أعظم من أن نحصيها نحن بالعدد. وقوله: "نص سيبويه معارض بنص الكسائى؛ لأن القاعدة: من تمسك بشاذ ومشهور، لا يرد عليه الشاذ من تلك القاعدة، وهذه قاعدة قررها

"تنبيه"

النظار فى المناظرات فمن قال: "الأمر للوجوب" لا يمنع؛ بناء على القول الآخر، وكذلك الصيغة للعموم ونحو ذلك. نعم، لو كنا نبحث فى النحو، اتجه ذلك. قوله: "الاستثناء من الاستثناء، لو عاد إليه، وإلى المستثنى، منه لزم الفسادان المذكوران": تقريره: أنه يلزم خبر الزيادة بالنقص، والنقص بالزيادة؛ من جهة النفى والإثبات، ويصير الثانى لغواً؛ كما تقدم تقريره فى الاستثناءات إذا تكررت، والفساد الثانى: مساواة القرب للبعد مع القرب يوجب الرجحان. قوله: "والجواب عن الأول والثانى ما تقدم فى باب العموم": تقريره: أنه قد تقدم فى "فى باب العموم" أن الاستفهام لا يلزم أن يكون للإجمال؛ بل يكون لفرط التعظيم والإقبال على المعنى، ولفرط الخوف منه، ولتوقع المجاز والإضمار من المتكلم فى كلامه، وأغراض كثيرة؛ تقدمت هناك. ويريد الثانى: أن الاستثناء، لما ورد فى القرآن بالمعنين، وجب أن يعتقد أنه مجاز فى أحدهما؛ لئلا يلزم الاشتراك، والمجاز أرجح من الاشتراك. "تنبيه" قول العلماء فى هذه المسألة بالاشتراك بين عود الاستثناء إلى الكل أو الأخيرة: إنما يكون من باب الاشتراك فى المركبات لا فى المفردات، ويكون هذا مبنيا على وضع العرب المركبات، كما وضعت المفردات، ولا يمكن أن يقال: العود من المفردات.

"سؤال"

"سؤال" قال النقشوانى: على تقدير تسليم العود على الكل تارة، وعلى البعض أخرى؛ لا يلزم الاشتراك، بل يكون متواطئاً فى الكل، وتكون "إلا"وضعت للإخراج كيف كان، وهذه أنواع المخرج، كما يكون للإخراج تارة فى الحيوان، وتارة فى النبات، وفى الجماد أخرى. "تنبيه" الجمل قد يعطف بعضها على البعض بـ "الواو" أو "الفاء" أو "ثم" أو "حتى"، فيأتى فيها خلاف العلماء. أما بقية الحروف التى هى لأحد الشيئين لا بعينه نحو "أو" و"أم" و"أما" فلا يتأتى ذلك؛ لأن المعتبر واحدة من الجمل فى تلك الجملة فقط؛ فيكون الاستثناء كذلك مختصاً بمورد الحكم، فتأمل ذلك. وذلك لما فهرس سيف الدين المسألة قال: "الجمل المتعاقبة بالواو" ولم يطلق كما أطلق المصنف، ووافق المصنف فى الإطلاق "البرهان". "تنبيه" فى القرآن والسنة، اتفق الناس على أنه عائد على الجملة الأولى، وليس ذلك خلاف الإجماع فى هذه المسألة، بل الخلاف فى هذه المسألة، إنما هو في

"تنبيه"

صورة اللفظ، ماذا تقتضى لغة؟ مالم يعارضه معارض، هل يعود على جميع الجمل أو الأخيرة؟ ولم يقل أحد بالأولى، أما إذا جاء معارض، فذلك من غير صورة النزاع، فلا يرد عليها كما ورد الأمر لخمسة عشر جملاً، ولم يقل أحد بأكثرها، لكن ذلك لموجب خارجى عن اللفظ، والنزاع إنما هو فى اللفظ من حيث هو لفظ. "تنبيه" زاد سراج الدين فقال على قوله: "لا يلزم من الاشتراك فى عدم الاستقلال الاشتراك فى جميع الأمور": "لقائل أن يقول: "هذا يقدح فى أصل القياس". وقال على قوله: "يكفى استثناء واحد عقيب الجمل مع التنبيه": "القائل أن يقول: هذا ظاهر الضعف، بل جوابه المعارضة بمثله" يعنى: إن أراد عوده على الأخيرة فقط، كيف يصنع؟ لأن التقدير أنه فى اللغة يعود على جميعها، فيتعذر على المتكلم إشعار السامع بمقصوده، ف السامع بمقصوده، فإن قالوا: يأتى بقرينة. قلنا: وهاهنا أيضاً يأتى بقرينة، فما هو جوابهم جوابنا. وقال على قوله: "إن الاستثناء إنما امتنع للفسادين المذكورين": "لقائل أن يقول: " إن الاستثناء الثالث لا يلغو العودة على الكل؛ نعم يساويه عوده إلى مايليه فى الإفادة". قلت: يريد بالاستثناء الثالث قولنا له: "على عشرة إلا خمسة إلا أربعة

إلا ثلاثة" فالثلاثة هى الاستثناء الثالث، فإن المقر به قبل قوله: "إلا ثلاثة" سبعة، يعود الثلاثة على الكل، يبقى من العشرة ثلاثة، ويثبت من الخمسة ثلاثة؛ لأنها منفية، ويبقى من الأربعة ثلاثة، لأنها مثبتة؛ فيصير المقر به سبعة، فقد نقص الإقرار اثنين، وظهر لعوده على الكل أثر؛ بخلاف إذا عادت الثلاثة على استثناء هو ثلاثة مساوٍ لها فى الإفادة؛ فيستثنى ثلاثة من ثلاثة تليها، فإن ذلك يمتنع، ويتعين عوده على الأول فقط. فقوله: "يساويه": الضمير فى "يساويه" عائد على اللازم المتضمن للفساد الذى قصده المصنف، وعبارة سراج الدين لم يفصح بها إفصاحاً حسناً، بل إشارة خفية. وقال التبريزى فى قول الماضى: إذا استثنى واحد من الجملتين، حسن الاستفهام الواحد، إن كان معيناً، لا يتصور أن يكون من الجملتين؛ فيتعين الاستفهام؛ بخلاف إذا استثنى موصوفاً؛ كقوله: إلا الفقيه، ونحو ذلك.

الباب الثاني فى التخصيص بالشرط قال الرازى: وفيه مسائل: المسألة الأولى: الشرط الذى يقف عليه المؤثر فى تأثيره، لا فى ذاته، ولا ترد عليه العلة؛ لأنها نفس المؤثر، والشيء لا يقف على نفسه ـ ولا جزء العلة، ولا شرط ذاتها؛ لأن العلة تقف عليه فى ذاتها. ثم الشرط قد يكون عقليا، وهو معلوم، وقد يكون شرعياً، فهذا هو الشرط الشرعى، وهو كالإحصان، فإنه شرط اقتضاء الزنا، لوجوب الرجم. المسألة الأولى قال القرافى: قوله: "الشرط هو الذى يتوقف عليه المؤثر فى تأثيره، لا فى ذاته ش: قلنا: الشرط قد يكون فى التأثير؛ كالحول فى تأثير النصاب فى وجوب الزكاة، وقد يكون شرطاً فى وجوب ذات عين مؤثرة؛ كالحياة شرط فى وجود أنواع الإدراكات، وليست العلوم مؤثرات، فما ذكرتموه من الحد غير جامع لخروج هذه الأقسام عنه، ثم إنا نتكلم فى الشرط المخصص: هذه الشروط ليست مخصصة؛ بل المخصص هو الشرط المفسر بالتعليق اللغوى الذى هو سبب فى نفسه؛ لا شرط، وقد تقدم أن لفظ الشرط مشترك بين ما أشتهر أنه شرط؛ كالوضوء فى الصلاة، والحول فى الزكاة، وبين نوع من الأسباب، وهو التعاليق اللغوية؛ لأنها أسباب؛ لأنه يلزم من وجودها الوجود، ومن عدمها العدم، وهذا هو حقيقة السبب.

"فائدة" قال سيف الدين: الشرط شرطان: شرط السبب، وشرط الحكم

إذا تقرر أن لفظ الشرط مشترك، والمشترك يحتاج كل مسمى من مسمياته بحد يخصه، فنقول هاهنا فى حد الشرط الذى هو قصد المصنف ـ رحمه الله ـ: تحديده الشرط هو الذى يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود، ولا عدم لذاته. فالقيد الأول: احتراز من المانع؛ فإنه لا يلزم من عدمه شئ. والقيد الثانى: احتراز من السبب؛ لأنه يلزم من وجود الوجود. والقيد الثالث: احتراز من مقارنة وجود الشرط تقدم السبب، أو مقارنته، فليزم الوجود، كما إذا دار الحول بعد تقدم النصاب، لكن ذلك ليس للحول، بل لتقدم السبب، فقلنا: "لذاته" احترازاً من هذا المعارض، والسبب هو الذى يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته. فالقيد الأول: احتراز من الشرط؛ فإنه لا يلزم من وجوده شئ. فالقيد الثانى: احتراز من المانع؛ فإنه لا يلزم من عدمه شئ. والقيد الثالث: احتراز من مقارنة وجود السبب قيام المانع، أو عدم الشرط، فلا يلزم الوجود، أو مقارنة عدمه إخلافه بسبب آخر؛ فلا يلزم العدم، لكنه بالنظر إلى ذاته، يلزم الوجود عند الوجود، والعدم عند العدم، فهذه ضوابط الأسباب، والشرط، والموانع؛ على النحو الذى شرع فيه المصنف. وأما الشرط المفسر بالتعاليق، وهو الذى يحتاج فى التخصيص؛ قوله: "أقتلوا المشركين، إن حاربوا" فهذا سبب من الأسباب، يتناوله ضابط السب، فلا يحتاج إعادة حد له. "فائدة" قال سيف الدين: الشرط شرطان: شرط السبب، وشرط الحكم:

فما كان عدمه مخلاً بحكمة السبب: فهو شرط السبب؛ كالقدرة على التسليم فى البيع. وما كان عدمه مشتملاً على حكمة مقتضاها نقيض حكمة السبب مع بقاء حكم السبب: فهو شرط الحكم؛ كعدم الطهارة فى الصلاة منع الإتيان بمسمى الصلاة، كما أن المانع مانعان: مانع السبب، ومانع الحكم: فمانع السبب: كل وصف يخل وجوده بحكمة السبب نفياً؛ كالدين فى باب الزكاة مع ملك النصاب، ومانع الحكم: كما وصف وجودى حكمته مقتضاها نقيض حكمة السبب؛ كالأبوة فى باب القصاص، مع القتل العمد العدوان، وقد تقدم أول الكتاب فى الكلام على خطاب الوضع بين جزء العلة والشرط، والوصفان اللذان كل واحد منهما علة مستقلة، وبين الذى هو جزء العلة، وفوائد جمة وتفاصيل تتعلق بهذا الموضع، ذكرها هنالك أليق، وقد تقدمت هنالك. قوله: "الشرط قد يكون عقليا وشرعيا": قلت: وعاديا؛ كنصب السلم؛ لصعود السطح.

"سؤال"

المسألة الثانية قال الرازى: صيغة الشرط: "إن" و "إذا" وهما بعد الاشتراك فى كون كل واحد منهما صيغة الشرط ـ يفترقان فى أن "إن" تدخل على المحتمل، لا على المتحقق، و "إذا" تدخل عليهما؛ تقول: "أنت طالق، إذا احمر البسر، وإن دخلت الدار" فالأول محقق، والثانى محتمل، ولا تقول: "أنت طالق، إن احمر البسر" إلا إذا لم يتيقن ذلك. المسألة الثانية قال القرافى: قوله: صيغة الشرط "إن" و "إذا": قلنا: صيغ الشرط كثيرة "مهما" و "كيف" و "ما" و "أينما" و "أنى" و "متى" و "ما" و "أى" والموصولات، والنكرات الموصوفات، إذا كانت الصلة، أو الصفة ظرفاً، أو فعلاً؛ نحو: (الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار) إلى قوله تعالى: (فلهم أجرهم عند ربهم) البقرة: 274. والنكرة؛ نحو كل رجل يأتينى أو عندك، فله درهم، وصيغ الشرط أكثر من هذا، فلا نطول بها. قوله: "إن" تدخل على المحتمل ": و "إذا" تدخل على المحقق والمحتمل": تقريره: "إن": وضعت لا يعلق بها "إلا" غير المعلوم مما هو مشكوك فيه، فلا نقول: إن زالت الشمس، فأتنى، بل إن جاء زيد، فأتنى وتقول: إذا زالت الشمس، وإذا جاء زيد. "سؤال" إذا قلتم: إن "إن" لا يعلق عليهما إلا المحتمل، كيف يرد فى كتاب الله

"قاعدة" عشر حقائق لا تتعلق إلا بالمستقبل من الزمان

تعالى ـ والله تعالى بكل شيء عليم، فكان يلزم ألا يرد تعليق فى كتاب الله ـ تعالى ـ إلا بـ "إذا" ونحوها أما بـ "إن" فلا. وقد قال الله تعالى: (إن تستغفر لهم سبعين مرة) التوبة: 80. (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك) فاطر: 4. وهو كثير: جوابه: أن القرآن عربى، فكل ما يحسن من العربى استعماله، ورد القرآن به على منوال العرب؛ ليكون القرآن عربيا، فكل ما لو كان العربى هو المعلق فيه بـ "إن" يأتى فى القرآن بـ "إن" وكل ما لو كان المعلق عربيا لا يأتى فيه بـ "إن" لا يأتى فى القرآن تحقيقاً لكونه عربيا، ولا يأخذ وصف الربوبية فى كونه قرآناً عربياً، بل منوال العرب فقط، وهذه قاعدة حسنة يحتاج إليها فى عدة مواطن من كتاب الله ـ تعالى ـ فاضبطها، تنتفع بها. ونظير "إن" فى أنها لا يعلق بها إلا غير المعلوم "متى" ولا يسأل بها إلا عند زمان مبهم؛ فلا تقول: متى تطلع الشمس، وكذلك لا يعلق عليها معلوم، فلا تقول: متى زالت الشمس، فأتنى، وبقية صيغ الشرط لا تكاد تدخل إلا على غير المعلوم. "قاعدة" عشر حقائق لا تتعلق إلا بالمستقبل من الزمان: الشرط، وجزاؤه، والأمر، والنهى، والدعاء، والوعد، والوعيد، والترجى، والتمنى، والإباحة. فإذا قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، لا يريد دخلة مضت، ولا طلاقاً تقدم، بل الجميع مستقبل، وكذلك بقية العشرة، وفى هذه القاعدة فوائد كثيرة بمعرفتها إشكالات كثيرة، ويتخرج بها مسائل كثيرة فقهية.

"فائدة"

"فائدة" "إذا": قد تعرى عن الشرط؛ كقوله تعالى: (والليل إذا يغشى) الليل: 1. إى: أقسم بالليل زمان غشياته أو فى حالة غشيانه؛ فلا شرط فيها، بل ظرف محض. وكذلك قوله تعالى: (والضحى والليل إذا سجى) الضحى: 1 ـ 2. وهو كثير، مع أن الأكثر أنها متضمنة الشرط، وأصلها الظرفية، وإنما الشرط وارد عليها، وأصل الشروط كلها إنما هى "إن" وغيرها متضمن لمعناها.

المسألة الثالثة فى أن المشروط، متى يحصل؟ قال الرازى: وذلك يستدعى مقدمة، وهى أن الشرط على أقسام ثلاثة: أحدها: الذى يستحيل أن يدخل فى الوجود إلا دفعة واحدة بتمامه، سواء كان ذلك؛ لأنه فى نفسه واحد لا تركيب فيه، أو إن كان مركباً، لكن يستحيل أن يدخل شيء من أجزائه فى الوجود إلا مع الآخر. وثانيها: ما يستحيل أن يدخل بجميع أجزائه فى الوجود؛ كالكلام، والحركة، فإن المتكلم بلفظة، يكون حينما وجد الحرف الأول منها، لا يكون الثانى حاصلاً، وحين حصل الثانى، صار الأول فانياً. وثالثها: ما يصح أن يدخل فى الوجود، تارة بمجموعه، وتارة بتعاقب أجزائه. ثم نقول: على هذه التقديرات الثلاثة: فالشرط إما عدمها، وإما وجودها: فإن كان الشرط عدمها: حصل الحكم فى الأقسام الثلاثة فى أول زمان عدمها. وإن كان الشرط وجودها: فنقول: أما فى القسم الأول: فالحكم يحصل مقارناً لأول زمان وجود الشرط. وأما فى القسم الثانى: فإنه يحصل عند حصول آخر جزء من أجزاء الشرط فى الوجود؛ لأنه ليس لذلك المجموع وجود فى التحقيق، بل أهل العرف يحكمون عليه بالوجود؛ وإنما يحكمون عليه بذلك عند دخول آخر جزء من

أجزائه فى الوجود؛ والحكم كان معلقاً على وجوده؛ فوجب أن يحصل الحكم فى ذلك الوقت. وأما فى القسم الثالث فنقول: وجوده إنما يتحقق عند دخول جميع أجزائه فى الوجود دفعة واحدة؛ لكنا فى القسم الثانى عدلنا عن هذه الحقيقة؛ للضرورة، وهى مفقودة فى هذا القسم؛ فوجب اعتبار الحقيقة حتى إنه، إن حصل مجموع أجزائها دفعة واحدة، ترتب الجزاء عليه، وإلا فلا. هذا مقتضى البحث الأصولى، اللهم إلا إذا قام دليل شرعى على العدول عنه. المسألة الثالثة فى أن المشروط، متى يحصل؟ قال القرافى: قوله: "من الشرط ما لا يدخل إلا دفعة، كان بسيطاً أو مركباً، لكن لا تدخل بعض أجزائه، إلا مع البعض الآخر".: مثال الأول: النية؛ فإنه عرض فرد من أفراد المقصود، والعرض الفرد لا يوجد إلا فى زمان فرد. وحيث قال الفقهاء: من شرط النية أن تنبسط على تكبيرة الإحرام. معناها: أنه يجب أن يوالى إفراد النية، وأمثالها إلى حين الفراغ من التكبيرة؛ لأن العرض الفرد يتمادى حتى يفرغ {من} التكبير، فإن ذلك محال؛ لأن التكبير عدة أصوات وحروف، يحتاج عدداً من الأزمنة، والعرض الفرد يستحيل وقوعه بعينه فى عدة أزمنة. ومثال الثانى: المتضايقان، إذا جعلتا شرطاً؛ كمجموع الأبوة والبنوة، فإن هذين المعنيين لا يمكن أن يتقدم أحدهما الآخر، بل هما معاً فى الوجود، والمتناقضان اللتان بين النقيضين، فإن هذا نقيض وذاك أيضاً حصل مثل

هذه المناقضة، فهو نقيض هذا، وكذلك المتضادات والمتماثلات، وجميع المتضايفات التى لا يمكن أن تقع إلا معاً فى زمن واحد، فإذا جعل مجموعها شرطاً لشيء اتجه فيها ذلك. ومثال الثالث: المصادر السيالة، كالكلام المؤلف من الحروف، والمجموع المركب من الأصوات، ومن هذا الباب إفراد الزمان وأيامه؛ ليستحيل حصولها معاً، ويستحيل أن يحصل يوم مع يوم آخر، أو ساعة مع ساعة، وكذلك أفراد الألوان كأفراد الاجتماع والافتراق، وأفراد الحركة والسكون لا يمكن أن يوجد من هذه فردان معاً، بل جميع هذه الأمور مترتبة بذاتها، فمتى علق على مجموع منها، استحال وجوده معاً. ومثال الرابع: القائل الأمرين؛ كقول القائل: إن وضعت فى يدى عشرة دنانير، فأنت حر، فله وضعها جملة، وله وضعها مفرقة ديناراً بعد دينار. قوله: "إن كان الشرط عدمها، حصل المشروط فى أول أزمنة عدمها": تقريره: إذا قال القائل: إن لم ينو، أو لم يقرأ البقرة، أو إن لم يعط عشرة دنانير، فمضى زمن فرد، ولم يحصل شيء من ذلك، صدق الشرط، هذا إن فهم من التعليق مطلق العدم، كيف كانت، وإلا فقد يصدق. وهو كثير فى الأيمان؛ لعدم الشامل للعمر؛ كقول القائل: إن لم أعتكف عشرة أيام، فعلى صدقة دينار، فإن ذلك لا يتعين له الزمن الحاضر، ولا يلزمه الصدقة بمجرد مضى زمن فرد لم يعتكف فيه، أو مضى زمن يسع الاعتكاف المذكور، وفتاوى الفقهاء على مثل هذا، وبالجملة: ذلك يتبع النيات والمقاصد، وما دلت عليه العوائد. قوله: "وإن كان الشرط وجودها، ففى القسم الأول يحصل الوجود مقارناً لأول أزمنة حصول الشرط":

قلنا: هذه المسألة مختلف فيها، هل المشروط يحصل مع الشرط أو بعده؟ وجه الأول: أن غاية الشرط أن يكون كالعلة العقلية، والعلة العقلية تحصل معها معاً فى الزمان، وإن كانت متقدمة عليه بالذات، ففى الزمان الذى قام بك العلم فيه بعينه، حصلت لك العالمية، وإن كان العلم قبل العالمية بالذات لا بالزمان. ووجه الثانى: أنه لو حصل معه، لم يكن أحدهما مترتباً على الآخر فأولى من العلتين، فيجب أن يوجد الشرط فى زمان يترتب عليه المشروط فى الزمان الثانى، وعليه يتخرج: إن بعتك، فأنت حر، وإن قلنا بعده: فلا يعتق عليه؛ لأن بعد البيع يصير فى ملك المشترى. قوله: "وفى الثانى يحصل عند آخر أزمنة أجزائه": تقريره: إذا قال: إن قرأت البقرة، فأنت حر، فإن أهل العرف لا يعدونه قارئاً للبقرة، إلا إذا فرغ منها، وإن مجموعها يستحيل أن يوجد معاً؛ لكونها أصواتاً سيالة، بل الموجود منها دائماً إنما هو حرف واحد ليس إلا فقد اعتبرنا الوجود العرفى. قوله: "وفى الثالث يحصل عند حصول جميع أجزائه فى الوجود دفعة": تقريره: أنه إذا فهم من التعليق وجود المجموع بالهيئة الصورية، كان كما قال، وقد يفهم الوجود، كيف كان، مجتمعاً أو مفترقاً، فإذا قال: إذا أعطيتنى عشرة دنانير، فأنت حر، لا يفرق أهل العرف بين إعطائها جملة أو مفرقة، لا سيما إذا لم تفترق الأزمنة يسيرة، ولا تفوت مصلحة على أحد، فعلى هذا يحصل عند أجزائها، ولا يشترط اجتماعها دفعة، وهذا كله يتبع الألفاظ اللغوية كيف صدرت، والعوائد كيف قضت وخصصت.

"تنبيه" ترك التبريزي هذه المسألة، وغير تاج الدين "والمنتخب" العبارة فيها

"تنبيه" ترك التبريزي هذه المسألة، وغير تاج الدين "والمنتخب" العبارة فيها، ووافق سراج الدين العبارة، فقال تاج الدين فى القسم الثانى: إن كان عدمه شرطاً، فعند فناء كل أجزائه، وإن كان وجوده شرطاً، فعند وجود الجزء الأخير*. وقال فى الثالث: "إن كان الشرط عدمه، فعند فناء كل أجزائه" وهذه العبارة تشعر بالعدم اللاحق دون العدم السابق، وعبارة "المحصول" تقتضى الاكتفاء بالعدم السابق، أو بمطلق العدم كيف كان، ولا يشرط الوجود، وبينهما فرق. قال "المنتخب" فى القسم الثانى: يحصل المشروط عند آخر زمان وجوده، وآخر زمان وجوده لا نهاية له، أو نقول: لا وجود له ألبتة؛ حتى يكون لأزمنة وجوده أجزاء، ففرق بين وجود أجزائه، وبين آخر أزمنة وجوده، والأولى عبارة "المحصول" فهى مستقيمة؛ بخلاف الثانى.

المسألة الرابعة الشرطان، إذا دخلا على جزاء: قال الرازى: فإن كانا شرطين على الجمع، لم يحصل المشروط إلا عند حصولهما معاً، وهو كقوله: "إن دخلت الدار، وكلمت زيداً، فأنت طالق". ولو رتب عليهما جزاءين، كان كل واحد من الشرطين معتبراً فى كل واحد من الجزاءين، لا على التوزيع؛ بل على سبيل الجمع. وإن كان على سبيل البدل، كان كل واحد منهما وحده كافياً فى الحكم؛ كقولك: "إن دخلت الدار، أو كلمت زيداً". المسألة الرابعة قال القرافى قوله: "الشرطان، إذا دخلا على جزء واحد": قلت: بقى فى هذه المسألة قسم لم يذكره، فإنه ذكر أن الشرطين يكونان على الجمع؛ نحو: إن دخلت الدار، وكلمت زيداً، وبقى عليه قسم آخر، وهو قول القائل: إن دخلت الدار، إن كلمت زيداً، فأنت حرة، ولم يأت بشيء من حروف العطف. قال الفضلاء: هذه المسألة صعبة التصور على أذهان الضعفاء. فإنها إن دخلت الدار، ففى تحقق الفرق سر المسألة؛ فإنه لما قال: "إن دخلت الدار" جعل دخول الدار شرطاً، وسبباً لطلاق امرأته، ثم إنه جعل هذا الشرط شرطاً فى اعتباره، وهو كلام زيد، ولذلك يسمون الثانى شرطا؛

فيكون كلام زيد سبباً وشرطاً فى اعتبار الدخول، واعتبار الدخول سبباً لطلاق امراته. والقاعدة: أن الشئ، إذا وجد قبل سببه، كان ساقط الاعتبار؛ كوقوع الصلاة قبل الزوال، فإذا وقع دخول الدار قبل كلام زيد، لا يكون معتبراً، بل وجوده وعدمه سواء، فإذا كلمت زيداً بعد ذلك، لا يلزمه طلاق؛ لأنه لم يوجد سببه الذى هو دخول الدار فيعتبر، فإذا كلمت زيداً أولاً، ثم دخلت الدار بعد سبب اعتبار يعتبر؛ كوقوع الصلاة بعد الزوال، فيلزمه الطلاق أو العتق، أى شيء علقه عليه، فهذا هو الفرق، وللمسألة ضابط، وهو أن المؤخر فى اللفظ يجب أن يكون متقدماً فى الوقوع، وحينئذ يلزم المشروط، ومتى وقع المتأخر متأخراً، والمتقدم متقدماً لم يترتب المشروط، فهذا ضابطها وسرها، والفرق بين حالتيها، وهى من المسائل التى يطرحها الفضلاء بعضهم على بعض.

المسألة الخامسة الشرط الواحد، إذا دخل على مشرطين قال الرازى: فإما أن يدخل عليهما؛ على سبيل الجمع، أو على سبيل البدل: فالأول: كقولك: "إن زنيت، جلدتك، ونفيتك" ومقتضاه: حصولهما معاً. والثانى: كقولك: "إن زنيت، جلدتك، أو نفيتك" ومقتضاه: أحدهما، مع أن التعيين فيه إلى القائل، والله أعلم. المسألة الخامسة الشرط الواحد، إذا دخل على مشروطين قال القرافى: قوله: إن جعل الشرط لجزاءين، حصلا معاً تقريره: أن التعاليق اللغوية أسباب، السبب الذى له مسببان، إذا حصل، حصلا معاً، فكذلك يحصل المشروطان معاً، بمعنى أنه يقتضى بهما، كما يقتضى بوجوب الجلد والنفى عند تحقق الزنا، وقد يقعان، وقد لا يقعان، ويكون الترتيب بينهما وبين السبب، فيكونان فى زمانه، أو يليان زمانه، ومتأخرين عنه بالذات قولاً واحداً، وإنما الخلاف فى الترتيب الزمانى، وهما فى أنفسهما لا يكون بينهما ترتيب لا بالذات، ولا بالزمان، فاعلم ذلك، بل هما معاً ذاتاً وزماناً. قوله: "إن رتب أحدهما على البدل؛ التعيين فى ذلك للقائل": تقريره: أنه جعل مفهوم أحدهما هو المسبب عن ذلك الشرط، فيصيران مثل خصال الكفارة؛ رتب الشرع أحدهما على الحنث، فكما أن للمكلف التعيين، للقائل هاهنا التعيين.

فرع

فرع قال سيف الدين*: هذه المسألة استوعبت* أقسامها، فقال: "الشرط والمشروط: إما أن يتحدا، أو يتعددا، أو يتعدد أحدهما: وما تعدد منهما: فإما على الجمع أو على البدل، فهذه تسعة* أقسام: فإذا قال: "إن جاء زيد، وسلم عليك، فأعطه ديناراً، ودرهماً". فإذا فعلهما، أعطيته إياهما، وإن اختل أحدهما، لم تعطه شيئاً. وإن قال: "إن جاء، وسلم عليك، فأعطه ديناراً أو درهماً" فإذا فعلها، أعطيته أحدهما، وإن اختل أحدهما، لم تعطه شيئاً. وإن قال: "إن جاء، أو سلم عليك، فأعطه ديناراً، ودرهماً" ففعل أحدهما، استحقهما. وإن قال: إن جاء، وسلم عليك، فأعطه ديناراً أو درهماً" ففعلهما، استحق أحدهما، وإن اختل أحدهما، لم يستحق شيئاً. وإن قال: "إن جاء، أو سلم عليك، فأعطه ديناراً، أو درهماً" ففعل أحدهما، استحق أحدهما. وإن قال: "إن جاء، وسلم عليك، فأعطه ديناراً" فاختل أحدهما، لم يستحق شيئاً. وإن قال: "إن جاء، أو سلم عليك، فأعطه، ديناراً" ففعل أحدهما، استحق.

فرع

وإن قال: "إن جاء، فأعطه ديناراً ودرهماً" استحقهما بالمجئ، وإن اختل لم يستحق شيئاً. وإن قال: "إن جاء، أو سلم عليك، فأعطه ديناراً" ففعل أحدهما، استحق، وهذه الأقسام فى "المعتمد" لأبى الجسن*. فرع فلو قال: "فأنت طالق، أو أنت حرة" ففيه الخلاف الذى بين العلماء، وظاهر مذهب مالك: يطلقان معاً، كما إذا قال: إحداكما طالق، وقد تقدم تقريره فى "الواجب المخير" وكذلك: "أنت حر أو أنت ... " يجرى الخلاف فيه الخلاف.

المسألة السادسة قال الرازى: اختلفوا فى أن الشرط الداخل على الجمل، هل يرجع حكمه إليهما بالكلية؟ فاتفق الإمامان الشافعى، وأبو حنيفة ـ رحمة اله عليهما ـ على رجوعه إلى الكل، وذهب بعض الأدباء إلى أنه يختص بالجملة التى تليه، حتى إنه، إن كان متأخراً، اختص بالجملة الأخيرة، وإن كان متقدماً، اختص بالجملة الأولى. والمختار: التوقف؛ كما فى مسألة الاستثناء. المسألة السادسة الشرط الداخل على الجمل قال القرافى: قوله: "اتفق الإمامان أبو حنيفة والشافعى؛ على أنه يعم الجمل، وسوى بعض الأدباء بينه وبين الأستثناء": قلت: والفرق قد تقدم أن الشروط اللغوية أسباب متضمنة للحكم والمقاصد؛ لأن ذلك شأن الأسباب؛ فيتعين عموم تعلقه بجميع الجمل؛ تكثيراً لتلك المصلحة؛ بخلاف الاستثناء إنما هو إخراج لما هو غير مراد، ولعله، لو بقى لم يخل بحكمه المذكور المراد، فأمر الاستثناء ضعيف، وهو يعكر على اللفظ بالتخصيص، فيختص بالأخير؛ تقليلاً لمفسدة التخصيص.

المسألة السابعة قال الرازى: اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام؛ ودليله ما مر فى الاستثناء، واتفقوا على أنه يحسن التقييد بشرط أن يكون الخارج أكثر من الباقى، وإن اختلفوا فيه فى الاستثناء. قال القرافى: قوله: "اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام": تقريره: أنه سب متضمن للحكمة؛ كما تقدم، فيكون متعلق الاهتمام به والعناية، فلا يتأخر النطق {به} فى الزمان، فيعجل بالتنبيه عليه؛ لنفاسته، بخلاف الاستثناء؛ لضعفه: يجوز تأخير التنبيه عليه، هذا إن فسرنا الاستثناء بالإخراج بـ "إلا" ونحوها، وإن فسرنا بال؛ كما هو المروى عن ابن عباس رضى الله عنهما ـ فالفرق ـ وإن كان كل واحد منهما تعليقاً وسبباً متضمناً للحكمة؛ كما تقدم ـ أن الاستثناء بمشيئة الله ـ تعالى ـ رافع لما تقدم، ومعارض له، ومضاد، وهذه الأمور على خلاف الأصل، والشرط اللاحق للجمل لم تتعين معارضته لها، ولا لأسبابها، بل غايته أنه قد لا يوجد فى بعضها، أو بعض أفرادها، فينتفى الحكم من ذلك الفرد لعدم الشرط، مع اقتضاء اللفظ ثبوته فيه، فيحصل التعارض، غير أن ذلك لم يتعين عند التعليق، بل جاز حصول الشرط فى جميعها، فلا ينتفى الحكم فى شيء منها، ويكون الشرط زائداً فى المصالح، لا معارضاً لشيء منها؛ بخلاف المشيئة المعارضة، والمنافاة حاصلة قطعاً عند التعليق، وما يتعين فيه ذلك، فضعف عن رتبة الشرط العام، فلم تتوفر العناية على تعجيل النطق به عند ذكر الحكم، على رأى من يرى ذلك.

قوله: "واتفقوا على حسن التقييد به، إن كان الخارج أكثر من الباقى": تقريره: أن الاستثناء، إذا خرج به أكثر مما نطق به؛ نحو: "له عندى عشرة إلا تسعة" عند أهل العرف: المتكلم مقدم على النطق بما لا يحتاجه لغير ضرورة، وأنه أقر ثم أنكر، وأنه ناقض لفظه، واستعمل ما لا فائدة فيه، وهو النطق بذكر التسعة، وهو أيضاً يعلم ذلك؛ وأنه مقدم عليه فيعاب ذلك عليه، على رأى القاضى وغيره، وأما الشرط فلم يتعين فيه شيء من ذلك، فإذا قال: "أكرم قريشاً" فهذا يقتضى إكرام جميعهم، فإذا قال: "إن أطاعوا الله" يحتمل أنهم كلهم يطيعون الله، فلا ينخرم من الكلام الأول شئ، ويحتمل ألا يطيع أحد منهم، فلا يبقى من الكلام الأول شئ، ويحتمل البعض والبعض، لكن عند النطق لم يتعين الإبطال فى فرد منهم؛ فلم يكن ذلك قبيحاً، ولا عده أهل العرف مستعملاً الهذر من الكلام، ولا قاصداً لما لا يفيده، ولا ناطقاً بما لا يحتاجه لعدم تعين الإبطال؛ فلذلك حسن الشرط، وإن بطل أكثر الكلام، بل كله بخلاف الاستثناء.

المسألة الثامنة قال الرازى: لا نزاع فى جواز تقديم الشرط وتأخيره، إنما النزاع فى الأولى، ويشبه أن يكون الأولى هو التقديم؛ خلافاً للفراء. لنا: أن الشرط متقدم فى الرتبة على الجزاء؛ لأنه شرط تأثير المؤثر فيه، وما يستحق التقديم طبعاً، يستحق التقديم وضعاً، والله أعلم. المسألة الثامنة يجوز تقديم الشرط وتأخيره فى اللفظ قال القرافى: اختار الإمام التقديم، وعلل بأنه شرط تأثر المؤثر فى الجزاء، على قاعدته فى تفسير الشرط بما يتوقف عليه تأثير المؤثر. وتقريره: أن الشيء متأخر عن المؤثر بالذات، وعن جزء مؤثره، وشرط مؤثره، فإذا كان هذا طبيعته فى ذاته، وجب أن يكون ذلك وضعه فى صيغته، والفراء يرى أن الشرط لا يستقل بنفسه، فأشبه الفضلات فى الكلام؛ كالاستثناء، والغاية، والصفة، وقد وافقوه فى هذه المواطن، غير أن الفرق بينهما: أن الشرط سبب متضمن للحكمة، والمصالح بخلافها؛ ولأن النحاة اتفقوا ـ فيما علمت ـ على أن الشرط له صدر الكلام، وإن تأخر فى الرتبة، وأن جوابه لا يتقدم عليه. وأنا إذا قلنا: "أنت حر، إن دخلت الدار" فقولنا: "أنت حر" سد مسد الجواب عندهم، وليس بجواب حقيقى، بل وضع الجواب أن يكون متأخراً، بل بالغوا فى ذلك، فقالوا فى المفعول، إذا تقدم: مفعول مقدم، ولم يقولوا فى جواب الشرط: جواب مقدم، وإن كان كلاهما على خلاف

الأصل، قالوا: سد مسد الجواب، ولم يقولوا: جواب مقدم، فقد سامحوا فى المفعول مالم يسامحوا فى جواب الشرط، وذلك يدل على أن الشرط يقتضى هذه الرتبة اقتضاء قويا، أشد من اقتضاء تأخير المفعول عن الفاعل، وعن الفعل، وهذا كله يؤكد بحث الإمام.

الباب الثالث فى تخصيص العام بالغاية والصفة، وفيه فصلان: الفصل الأول: فى تقييد العام بالغاية، وفيه أبحاث: قال الرازى: البحث الأول: أن غاية الشئ: نهايته، وطرفه، ومقطعه. الثانى: ألفاظها وهى: "حتى" و "إلى" كقوله تعالى: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) البقرة: 222. وقوله: (وأيديكم إلى المرافق) المائدة: 6. الثالث: التقييد بالغاية يقتضى أن يكون الحكم فيما وراء الغاية؛ بخلاف الحكم فيما قبلها؛ لن الحكم، لو بقى فيما وراء الغاية، لم يكن العام منقطعاً؛ فلم تكن الغاية. والأولى، أن يقال: الغاية: إما أن تكون منفصلة عن ذى الغاية بمفصل معلوم؛ كما فى قوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) البقرة: 178. أو لا تكون كذلك؛ كقوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) فإن المرفق غير منفصل عن اليد، بمفصل محسوس. أما القسم الأول: فيجب أن يكون حكم ما بعد الغاية بخلاف حكم ما قبله؛ لأن انفصال أحدهما عن الآخر معلوم بالحس. وأما الثانى: فلا يجب أن يكون حكم ما بعده، بخلاف ما قبله؛ لأنه لما لم

يكن المرفق منفصلاً عن اليد بمفصل معلوم معين، لم يكن تعيين بعض المفاصل؛ لذلك، أولى من بعض؛ فوجب من هاهنا دخول ما بعده فيما قبله. الرابع: يجوز اجتماع الغايتين؛ كما لو قيل: "لا تقربوهن حتى يطهرن، وحتى يغتسلن" فهاهنا الغاية فى الحقيقة هى الأخيرة، وعبر عن الأول بها؛ لقربه منها، واتصاله بها. الباب الثالث فى الغاية والصفة قال القرافى: قوله: "غاية الشيء نهايته وطرفه ومنقطعه": قلنا: أختلف الناس فى سطح الشئ، هل هو وجودى أو عدمى؟ بناء على أن السطح آخر أجزاء الجسم، فيكون وجودياً، أو فناء أجزائه، فيكون عدمياً، كذلك ينبغى أن يجرى الخلاف ـ هاهنا ـ إلى الغاية، هل هى وجودية أو عدمية؟ إن فسرناها بآخر أجزاء الشيء الموجود، فهى وجودية، أو بالعدم الذى يلى آخر أجزائه، فتكون عدمية. قوله: "حكم ما بعد الغاية مخالف لما قبلها": قلنا: قد تقدم ذلك، وإنه من باب المفهوم المدلول؛ التزاماً لامطابقة؛ لأن الغاية تخرج من أحد النقيضين، فالدخول فى النقيض الآخر إنما يكون لدلالة العقل على أنه لا واسطة بين النقيضين، فيتعين النقيض الأخر، فالدخول فيه ليس من اللفظ، فهو مفهوم لا منطوق، والتزام لا مطابقة. قوله: "والأولى أن يقال: الغاية: إما أن تكون منفصلة عن ذى العاية بمفصل معلوم، فيكون ما بعدها مخالفاً لما قبلها": عليه سؤالان:

"فائدة" فى دخول الغاية فى حكم المغيا أربعة مذاهب

الأول: أن قولكم: الأولى إلى آخر كلامكم، يقتضى أنكم اخترتم أحد الأقوال فيما بعد الغاية، والذى بعد الغاية ما فيه خلاف فيما علمت، إنما الخلاف فى الغاية نفسها، هل تدخل فى المغيا أم لا؟ فإذا قال الله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) البقرة: 187 فالليل هو الغاية، وإذا قال: (وأيديكم إلى المرافق) المائدة: 6 المرافق هى الغاية، وهو موطن الخلاف، أما ما بعد ذلك فلم أعلم فيه خلافاً، وأنتم أولاً (ذكرتم) * ما بعد الغاية، ثم بحثكم أشعر بالخلاف فى الغاية نفسها، وليس كذلك. السؤال الثانى: قولكم: "بمفصل معلوم" ليس هو المقصود، بل المحسوس الذى هو أخص من المعلوم، وكذلك من ختم به بعد ذلك، والمعلوم بالقرائن وغيرها ليس مقصوداً لكم، بدليل أن مفصل المرفق معلوم قطعاً، ولم يعتدوا به من هذا الباب. "فائدة" فى دخول الغاية فى حكم المغيا أربعة مذاهب: ثالثها: الفرق بين أن يكون من جنس المغيا، فيندرج أولاً، كما إذا قال: "بعتك هذا الشجر من هاهنا إلى هذه الشجرة" وهو رمان، فإذا كانت الشجرة رماناً اندرجت، وإلا فلا. ورابعها: ما قاله فى الكتاب من الفرق بين الحسى وغيره، فجعل الليل مما يدرك بالحس؛ لأن سواده يدركه بالبصر، أما مفصل المرفق، فإن الحس لا يدركه، وإنما البصر يدرك حركة اليد، وانتقالها فى الأحياز، أما أنها عظم واحد، وهو ينعطف وينثنى، أو العظم لا ينعطف، إنما يعلم ذلك بالعقل بواسطة العوائد، وكذلك أن البهيمة التى ليس لها إلا مجرد الحس، لا تفهم أن هناك مفصلاً، وتعلم طلوع الليل برؤيتها السواد، فهذا هو معنى الفرق الذى اختاره الإمام.

"فائدة"

"فائدة" هذا الخلاف لا ينبغى أن يجرى فى "حتى" بل يختص بـ " بل يختص بـ "إلى" كقول النحاة: إن المعطوف بـ "حتى" يشترط فيه أربعة شروط: أن يكون من جنسه، داخلاً فى حكمه آخر جزء منه، أو متصلاً به، فيه معنى التعظيم، أو التحقير، فاشترطوا الدخول، وما رأيتهم حكوا خلافاً، إنما الخلاف محكى فيما بعد "إلى". ومعنى قولهم: "ومتصلاً به" احتراز من قول العرب: "نمت البارحة، حتى الصباح"، والصباح ليس آخر أجزاء الليل، بل متصل به. وقولهم: التعظيم والتحقير احتراز من قولك: "أكرمت القوم حتى زيداً" ويكون زيد مساوياً لهم؛ فإن ذلك يمتنع؛ حتى يكون أعظم أو أحقر؛ كقول العرب: "قدم الحاج حتى المشاة، ومات الناس حتى الأنبياء" "فائدة" من شرط المغيا أن يثبت قبل الغاية، ويتكرر حتى يصل إليها؛ كقوله: سررت من "مصر" إلى "مكة" فالسير الذى هو المغيا ثابت قبل "مكة" ومتكرر فى طريقها، وعلى هذا يمتنع أن يكون قوله تعالى: (المرافق) غاية لغسل اليد؛ لأن غسل اليد إنما يحصل بعد الوصول إلى الإبط، فليس ثابتاً قبل المرفق الذى هو الغاية، فلا ينتظر غاية له، بل لو قال الله تعالى: اغسلوا إلى المرافق، ولم يقل: (أيديكم) انتظم؛ لأن مطلق الغسل ثابت قبل المرفق، ومتكرر إليه؛ بخلاف غسل جملة اليد. قال بعض العلماء من الحنفية: فيتعين أن يكون المغيا غير الغسل، ويكون التقدير: اتركوا من إباطكم إلى المرافق، فيكون مطلق الترك ثابتاً قبل المرافق، ومتكرراً إليه، ويكون الغسل نفسه لم يغيا، وفى هذا المقام يتعارض

المجاز والإضمار؛ فإن لنا: أن نتجاوز بلفظ اليد إلى جزئها؛ حتى يثبت المغيا قبل الغاية، ولا نحتاج إضماراً، أو لا نفعل ذلك، فنضمر ما قاله الحنفى، والمجاز أولى من الإضمار؛ على ما فى "المعالم"* أو هما سواء؛ على ما فى المحصول؛ ومن هذا قوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) البقرة: 187. يقتضى ثبوت الصيام بوصف التمام قبل غروب الشمس، ويتكرر إلى غروبها، وليس كذلك إجماعاً، فيشكل كون اليل غاية للصوم التام، نعم لو قال: "صوموا إلى الليل" انتظم؛ لأن الصوم الشرعى ثابت قبل الليل، ومتكرر إليه، بخلاف الصوم بوصف التمام، أورد هذا السؤال الصحيح عز الدين بن عبد السلام ـ رحمة الله عليه ـ وأجاب عنه بأن المراد: أتموا كل جزء من أجزاء الصوم بسننه وفضائله، وكرروا ذلك إلى الليل، والكمال فى الصوم قد يحصل فى جزء من أجزاء النهار، دون جزء من جهة اجتناب الكذب والغيبة والنميمة، وغير ذلك مما يأباه الصوم، وكذلك آدابه الخاصة به؛ كترك السواك بالأخضر، واجتناب التجوزات، والتفكر فى أمور النساء، وغير ذلك مما نص عليه الفقهاء، فأمرنا بتكرير هذا إلى غروب الشمس. قوله: "يجوز اجتماع الغايتين؛ كما لو قيل: لا تقربوهن؛ حتى يطهرن، وحتى يغتسلن": قلنا: هاتان غايتان لشيئين، فما اجتمع غايتان. بيانه: ان التحريم الناشيء عن دم الحيض غايته انقطاع الدم، وإذا انقطع الدم، حدث تحريم آخر ناشيء عن عدم الغسل، فالغاية الثانية غايته؛ ولذلك قال الفقهاء: "إن حكم الحائض بعد انقطاع الدم حكم الجنب، فإذا

"فائدة"

جوزنا للحائض قراءة القرآن خشية نسيانها لجزئيها، نمنعها حينئذ من القراءة؛ كما نمنع الجنب؛ لأنها متمكنة من إزالة المانع كالجنب. "فائدة" زاد سيف الدين* فى تفاريع هذه المسألة؛ فقال: إما: أن تكون الغاية بعد جملة واحدة، أو جمل متعددة، والأول إما: أن تكون الغاية واحدة، أو متعددة، فالواحدة: كقوله: "أكرم بنى تميم أبداً أن يدخلوا الدار" فلولا الغاية، لعم الإكرام ما بعد الغاية، والمتعددة: إما على الجميع، أو على البدل: الأول: كقولك: "أكرمهم أبداً إلى أن يدخلوا الدار، ويأكلوا الطعام" فيستمر الإكرام إلى تمام الغايتين، والبدل: كقولك: "أكرمهم إلى أن يدخلوا الدار، أو يأكلوا الطعام" يستمر الإكرام إلى حصول إحدى الغايتين، لا بعينها دون ما بعدها، وإن كانت عقيب جمل، فهل يختص بالأخيرة أو تعم الجمل، كانت واحدة أو متعددة؛ على الجميع، أو على البدل؟ والكلام فيه كالكلام فى الاستثناء عقيب الجمل فى الشمول، والاختصاص بالأخيرة بعينه. "تنبيه" زاد سراج الدين؛ فقال: يجوز أن يكون لحكم واحد غايتان؛ كقوله تعالى: (حتى يطهرن) البقرة: 222. بالتخفيف والتشديد والتحديد. قلت: قرئت الآية بالتشديد* فيهما؛ فيكون المراد بالأول الاغتسال بالماء؛ لأن التفعل إنما يكون من كسبهن، وانقطاع الدم ليس من كسبهن، فيتعين الغسل بالماء، وعلى هذا يكون قوله تعالى: (فإذا تطهرن) البقرة:

222]، أى: إذا وقع ذلك منهن، أى: اغتسلن، فأتوهن؛ كقوله: " لا تكرم زيداً؛ حتى يأتيك، فإذا أتاك فأكرمه " فليس هنا غايتان، بل أعاد الغاية الأولى؛ ليترتب عليها الحكم بطريق التنصيص؛ فإن قوله تعالى: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) البقرة: 222. شيء مغيا، واحتمال أن تتعقبه الإباحة، واحتمال أن يتعقبه عدم الحكم بالكلية؛ فإن عدم التحريم أعلم، فأعاد الله ـ تعالى ـ الوصف ليترتب عليه الإذان الشرعى، فما هو تأكيد، ولا هنا غايتان. وقال التبريزى: "هل يجب أن تكون الغاية أول جزء من المجعول غاية، إذا كان أجزاء، أو آخر جزء منه؟ فيه خلاف. قال: وقيل: إن كانت الغاية منفصلة عن ذى الغاية، فالغاية أول أجزائها؛ كقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) البقرة: 187. وإن لم تكن منفصلة؛ كقوله تعالى: (وأيديكم إلى المرافق) المائدة: 6. فالغاية آخر أجزائها. قلت: وهذا خلاف آخر حكاه التبريزى فى اندراج الغاية فى الُمغيا، هل بكل أجزائها أو ببعضها؟ ولم أره إلا له، والخلاف الذى يحكيه غيره مطلقاً فى الغاية م حيث الجملة.

الفصل الثانى فى تقييد العام بالصفة قال الرازى: والصفة: إما أن تكون مذكورة عقيب شيء واحد؛ كقولنا: "رقبة مؤمنة" ولا شك فى عودها إليه. أوعقيب شيئين، وهاهنا: إما أن يكون أحدهما متعلقاً بالآخر؛ كقولك: "أكرم العرب، والعجم المؤمنين" فها هنا الصفة تكون عائدة إليهما، وإما ألا تكون كذلك؛ كقولك: "أكرم العلماء، وجالس الفقهاء الزهاد" فهاهنا الصفة عائدة إلى الجملة الأخيرة، وإن كان للبحث فيه مجال كما فى الاستثناء، والشرط، والله أعلم. القول فى تخصيص العام بالأدلة المنفصلة فنقول: تخصيص العام: إما أن يكون بالعقل، أو بالحس، أو بالدلائل السمعية وهو على وجهين: تخصيص المقطوع بالمقطوع. وتخصيص المقطوع بالمظنون. فلنعقد فى كل واحد فصلاً: الفصل الأول فى تخصيص العموم بالعقل هذا قد يكون بضرورة العقل؛ كقوله تعالى: (الله خالق كل شئ) الزمر: 62. فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقاً لنفسه ـ وبنظر العقل؛ كقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً) آل عمران: 97. فإنا نخصص الصبى المجنون؛ لعدم الفهم فى حقهما.

ومنهم من نازع فى تخصيص العموم بدليل العقل، والأشبه عندى أنه لا خلاف فى المعنى؛ بل فى اللفظ. أما أنه لا خلاف فى المعنى: فلأن اللفظ، لما دل على ثبوت الحكم فى جميع الصور، والعقل منع من ثبوته فى بعض الصور: فإما أن نحكم بصحة مقتضى العقل والنقل؛ فيلزم صدق النقيضين؛ وهو محال. أو نرجح النقل على العقل؛ وهو محال؛ لأن العقل أصل النقل؛ فالقدح فى العقل قدح فى أصل النقل، والقدح فى الأصل؛ لتصحيح الفرع، يوجب القدح فيهما معاً. وإما أن نرجع حكم العقل على مقتضى العموم، وهذا هو مرادنا من تخصيص العموم بالعقل. وإما البحث اللفظى: فهو أن العقل، هل يسمى مخصصاً أم لا؟ فنقول: إن أردنا بالمخصص الأمر الذى يؤثر فى اختصاص اللفظ العام ببعض مسمياته، فالعقل غير مخصص؛ لأن المقتضى لذلك الاختصاص هو الإرادة القائمة بالمتكلم، والعقل يكون دليلاً على تحقيق تلك الإرادة؛ فالعقل يكون دليل المخصص، لا نفس المخصص، ولكن على هذا التفسير؛ وجب ألا يكون الكتاب مخصصاً للكتاب، ولا السنة للسنة؛ لأن المؤثر فى ذلك التخصيص هو الإرادة، لا تلك الألفاظ. فإن قيل: لو جاز التخصيص بالعقل، فهل يجوز النسخ به؟ قلنا: نعم؛ لأن من سقطت رجلاه، سقط عنه فرض غسل الرجلين؛ وذلك إنما عرف بالعقل.

(تنبيه)

الفصل الثاني في التخصيص بالحس وهو كما في قوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء} [النمل: 23] فإنه لم يكن شيء من السماء، والعرش، والكرسي- في يدها. الفصل الثاني في التقييد بالصفة قال القرافي: قوله: (إن كان أحدهما متعلقًا بالآخر، عادت الصفة إليهما؛ كقوله: (لزم العرب والعجم المؤمنين): تقريره: أن قولك: (العجم) لا يستقل بنفسه، فهو معطوف على العرب في عامله، فلما كان العامل واحدًا، والتشريك وقع بالعطف، كان أحدهما متعلقًا بالآخر. (تنبيه) ترك تاج الدين كلامًا متعينًا؛ فقال: عادت الصفة عليهما، ولم يقل: للبحث فيه مجال، كما في الاستثناء والشرط، فسكوته عن ذلك يوهم أن الصفة مخالفة للاستثناء، وليس كذلك، و (المنتخب) وسراج الدين وافقا (المحصول) وخالف تاج الدين. القول في التخصيص بالأدلة المنفصلة قوله: (تخصيص العام: إما بالعقل، أو الحس، أو الدلائل السمعية): قلنا: الحصر غير ثابت؛ فبقي التخصيص بالعوائد؛ كقول القائل: (رأيت الناس، فلم أر أحسن من زيد) والعادة تقتضي أنه ما يري كل الناس، وكذلك إذا قال القاضي لعبده: (من دخل داري، فأكرمه) العادة تقتضي أنه ما أراد ملوك الهند، ولا الملائكة، وكذلك التخصيص بقرائن

الأحوال؛ كقول القائل لغلامه: (ائتني بمن يخدمني) فإن ذلك يختص بمن يصلح لخدمته في مثل حاله، والتخصيص بالواقع؛ كقوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء} [النمل: 23] فإن الواقع أنها لم تعط النبوة، والسموات، والأرض، وذلك لا يدرك بالحس، ولا بالعقل، فإن الملك لا يدرك عدمه، بل العقل يجوز أن يعطي ذلك، والحس لا يتعلق بعدم الملك؛ بخلاف قوله: {تدمر كل شيء} [الأحقاف: 25] فإن الحس يدرك أن الريح لم تهلك الأرض، والجبال، والسموات، وغيرها، وبقي التخصيص بالقياس وغيره، وبالجملة؛ فالحصر غير حاصل. قوله في السمع: (إنه ينقسم إلى تخصيص المقطوع بالمقطوع، وتخصيص المقطوع بالمظنون): قلنا: بقي تخصيص المظنون بالمقطوع؛ كتخصيص السنة بالكتاب، وتخصيص المظنون بالمظنون؛ كتخصيص السنة بالسنة، فهي أربعة أقسام، تركتم منها قسمين. قوله: (يعلم أنه- تعالى- ليس خالقًا لنفسه): تقريره: أن القاعدة أن التأثير لا يحصل إلا في الممكنات؛ لاستغناء الواجبات لذواتها عن الموجد؛ لأن الوجود حاصل لها لذاتها، وعدم قبول المستحيلات للوجود، فتعينت الممكنات والواجبات بذواتها لله سبحانه وتعالى وصفاته العلا، ويلحق به من النسب والإضافات؛ نحو كون العشرة زوجًا، والخمسة فردًا، ونحو ذلك من الأحكام والإضافات، لا يمكن أن يقال: إنها كذلك بجعل جاعل، بل ذلك لها لذاتها، وكذلك كون العلم مشروطًا بالحياة، والإرادة مشروطة بالعلم، ووجود العرض مشروطًا بوجود الجوهر، ويصلح ذلك في موارده فليس للتأثير مدخل في شيء من ذلك، بل التأثير إنما يكون في الموجودات التي يمكن أن تكون وألا تكون.

(فائدة) حكي سيف الدين منع التخصيص بدليل العقل عن طائفة من المتكلمين شاذة؛ بشبهات ثلاث

قوله: (أو بنظر العقل؛ كإخراج الصبي، والمجنون من آية الحج): قلنا: هذا إنما يأتي على مذهب المعتزلة. أما على رأينا: فيجوز تكليف ما لا يطاق، فيكلف من لا يعلم، ويعاقبه على الترك؛ لأن غايته التكليف بالمستحيل ونحن نجوزه؛ فالتخصيص في هذه الصورة إنما هو بالسمع. قوله: (إن حكم بمقتضي العقل والنقل، اجتمع النقيضان): تقريره: أن النقل اقتضي ثبوت التكليف عليهما، والعقل نفاه، فيكون ثابتًا ليس ثابتًا، وهو جمع بين النفي والإثبات، ويرد عليه أنه قد تقدم المنع؛ لأن العقل ليس له هاهنا اقتضاء، بل ذلك للسمع. قوله: (العقل أصل في النقل): تقريره: أن أصل النقل ثبوت النبوة، وثبوت النبوة بالمعجزة، وثبوت المعجزة بالعقل، بمعني أنه هو الناظر فيها؛ وإلا فالعقل لا يخيل انخراق العادة، ولا توجب المعجزة أن من ظهرت على يده أنه نبي؛ لأنه على أصولنا: يجوز إظهار المعجزة على يد الكاذب عقلًا؛ وإنما امتنع ذلك بالعادة، كما يجوز العقل أن البحر يكون زئبقًا وعسلًا في كل زمان، وإنما امتنع ذلك عادة، فالعقل أصل للمعجزة بهذا التفسير، فهو أصل للنقل؛ لأنه أصل أصله. (فائدة) حكي سيف الدين منع التخصيص بدليل العقل عن طائفة من المتكلمين شاذة؛ بشبهات ثلاث:

إحداها: أن دلالة اللفظ بالوضع، والواضع لا يضع لما هو معلوم الخروج مقطوع به، وإنما يضع لما يريده، والمحال لا يراد، فلا يتناوله اللفظ، فلا يتصور التخصيص؛ لأنه فرع التناول. وثانيها: أن التخصيص بيان، والخارج بالعقل بين، فلا يحتاج للبيان؛ لئلا يلزم تحصيل الحاصل. وثالثها: العقل لا يكون ناسخًا؛ فلا يكون مخصصًا. والجواب عن الأول: أن اللفظ المفرد هو الموضوع للعموم؛ فإن كل شيء متناول للواجب وغيره، وإنما جاء الامتناع من جهة التركيب؛ فيلزم عدم الإرادة في هذا المركب الخاص، ولا يلزم من ذلك عدم وضع المفرد للعموم. وعن الثاني: أن البيان إنما حصل بدليل العقل. وعن الثالث: أن النسخ بيان مدة الحكم، والعقل يتعذر عليه بيان المدة، وإنما يعلم ذلك بالسمع، فإن العقل لا يفرق بين زمان وزمان، بل الكل في نظر العقل سواء؛ بخلاف التفرقة بين الممكن والواجب في قبول التأثير فيه. قوله: (المقتضي للتخصيص الإرادة القائمة بالمتكلم): قلنا: قد تقدم أن ذلك لا يصح، وأن المخصص على التحقيق هو الدال على الإرادة لا عين الإرادة، وقد تقدم تقريره في التخصيص. قوله: (يكون النسخ بالعقل في حق من سقط رجلاه، فإنه يسقط عنه غسل الرجلين): قلنا: لا نسلم أن هذا نسخ؛ لأن الوجوب ما ثبت في أول الأمر إلا مشروطًا بالقدرة، والاستطاعة، وبقاء المحل، ودوام الحياة وعدم الحكم عند عدم الشرط ليس نسخًا؛ فإن الموانع تطرأ على المحال والأحكام مع طول الزمان، وكذلك بعدم الشروط؛ فلا يقال لذلك: نسخ، وليس هو نسخًا

في نفسه، فإن من سافر في رمضان، لم ينسخ عنه الصوم والصلاة؛ لأنه إنما وجب بشرط الإقامة، وإذا حاضت المرأة، لا يقال: نسخ عنها الصوم والصلاة، هذا لا سبيل إليه، بل النسخ إنما يتحقق في حكم ترتب على شرط، فلم يبق مترتبًا على ذلك الشرط، أو في محل بغير شرط، فلم يبق في ذلك المحل، وحاصله أنه رفع الحكم بعد ثبوته، وهذه الأحكام ما ثبتت في أصل الشريعة إلا مشروطة بهذه الشروط على هذه الأوضاع، فما تغير شيء؛ حتى يقال: إنه نسخ. قوله: (التخصيص بالحس: كقوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء} [النمل: 23]): قلنا: قد تقدم أن الحس لا يدرك عدم ملكها للسماء وغيرها، إنما ذلك بالواقع، وهو غير العقل والحس كما تقدم بيانه. ***

الفصل الثالث في تخصيص المقطوع بالمقطوع، وفيه مسائل: قال الرازي: المسألة الأولى: في تخصيص الكتاب بالكتاب، وهو جائز؛ خلافًا لبعض أهل الظاهر. لنا: أن وقوعه دليل جوازه؛ لأن قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] مع قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4] وكذلك قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة: 221] مع قوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} [المائدة: 5] لا يخلو: إما أن نجمع بين دلالة العام على عمومه، والخاص على خصوصه؛ وذلك محال. وإما أن نرجح أحدهما على الآخر؛ وحينئذ زوال الزائل، إن كان على سبيل التخصيص، فقد حصل الغرض. وإن كان بالنسخ، فقد حصل الغرض أيضًا؛ لأن كل من جوز نسخ الكتاب بالكتاب، جوز تخصيصه به أيضًا. احتجوا بقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] فوض البيان إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فوجب ألا يحصل البيان إلا بقوله. والجواب: أنه معارض بقوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب؛ تبيانًا لكل شيء} [النحل: 89] ولأن تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم - آية التخصيص بيان منه له، والله أعلم.

المسألة الثانية: في تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة، وهو جائز أيضًا؛ لأن العام والخاص مهما اجتمعا: فإما أن يعمل بمقتضاهما، أو يترك العمل بهما، أو يرجح العام على الخاص. وهذه الثلاثة باطلة؛ والإجماع، فلم يبق إلا تقديم الخاص على العام. الفصل الثالث في تخصيص المقطوع بالمقطوع قال القرافي: (قوله: (كقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] وقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4]): قلنا: قد تقدم أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، والأزمنة، والبقاع، والمتعلقات. وقوله تعالى: {والمطلقات ...} الآية [البقرة: 228] تقتضي أنهن تكون عدتهن الأقراء في حالة، وهو كذلك، فإن في حالة عدم الحمل تكون عدتهن بالأقراء، وهذه حالة مخصوصة تعتد فيها جميع المطلقات بالأقراء، فالحالة المخصوصة حالة ما، فما خرج شيء من العموم. نعم لو كان بعض المطلقات لا تعتد بالأقراء في حالة ما، أعني: في جميع الأحوال، صدق التخصيص؛ لأن العموم اقتضي مطلق الحالة، وهي موجبة في جميع الأحوال، تناقضها السالبة الكلية، فيتحقق التخصيص؛ لأن من شرطه المنافاة. أما ما يمكن اجتماعه مع العموم، فليس مخصصًا. وكذلك قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة:

221] يقتضي تحريم نكاحهن في حالة مطلقة، لا في جميع الأحوال؛ للقاعدة المتقدمة. وقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} [المائدة: 5] والمراد بالإحصان- هاهنا- الحرائر، وهذا لا يناقض العموم الأول؛ لأن النكاح جائز لمجموع النصين في حالة الحرية، وتبقي حالة الرق لا يقع فيها جواز النكاح، وإذا جاز نكاح كل مشركة في حالة الحرية، فقد جاز نكاح كل كتابية في حالة مطلقة، فالعموم باق على عمومه، ولم تحصل منافاة بين النصين، نعم لو كان بعض المشركات لا يجوز نكاحها في جميع الحالات، حصل التناقض والتخصيص؛ لمنافاة السالبة الكلية الموجبة الجزئية، بل الحاصل من هذه النصوص كلها التي يتوهم أنها مخصصات: التقييد لتلك الحالة المطلقة، فإنها تصير مخصوصة معينة. والتقييد ليس بتخصيص؛ لأنه ضده؛ لأن التقييد زيادة على موجب النص، والتخصيص نقصان من موجب النص. والتخصيص أيضًا مخالفة الظاهر، والتقييد ليس مخالفة للظاهر؛ فالتقييد ليس بتخصيص ضرورة، وإذا جريت على هذه القوانين عسر التخصيص، في كثير من النصوص التي يدعي فيها التخصيص، بل نجدها كلها تقييدات لمطلق تلك الأحوال التي في تلك العمومات، ولا تجد التخصيص إلا في مثل قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} [الزمر: 62] ونحوه؛ فإن الواجبات لم تخلق في حالة، ولم تعط السماء ل (بلقيس) في حالة، ولا دمرت الريح الكواكب في حالة، فهذه تخصيصات محققة لتحقق السالبة الكلية، فناله مطلق الحال الذي هو موجبة جزئية، فعلى هذا التحقيق يتقرر التخصيص، وإلا فلا. وكم من الفقهاء من يعتقد أن هذه الأمور كلها مخصوصة.

قوله: (إن بقي العام على عمومه، والخاص على خصوصه، فهو محال): تقريره: أنه يلزم اجتماع النقيضين فيما تناوله الخاص، فإن أحد النصين يثبت الحكم فيه، والآخر ينفيه، فيكون منفيا ثابتًا، فيجتمع النقيضان. قوله: (احتجوا بقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]): قلنا: صيغة (تبين) فعل في سياق الإثبات؛ فيكون مطلقًا لا يتناول إلا فردًا من أفراد البيان. وقوله تعالى: {ما نزل إليهم} [النحل: 44] يقتضي العموم في كل ما نزل، وهو يتناول الكتاب والسنة؛ لأن السنة منزلة، ووحي؛ غير أنها وحي لم يتعبد بتلاوته، والقرآن تعبدنا بتلاوته، فيكون الرسول- عليه السلامة- مبينًا للكتاب والسنة، غير أن ما به البيان، لم يذكر، فيحتمل أن يكون بالكتاب، ويحتمل أن يكون بالسنة؛ لاستحالة نطقه- عليه السلام- عن الهوى: {إن هو إلا وحى يوحى} [النجم: 4] فلا حجة فيه حينئذ أن البيان إنما يكون بالسنة، ثم الاستدلال به إنما هو بالمفهوم لا بالمنطوق. وقوله تعالى: {تبيانًا لكل شيء} [النحل: 89] منطوق؛ فيتقدم عليه. ***

المسألة الثالثة قال الرازي: تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة، قولًا كان أو فعلًا، جائز؛ للدليل الذي مر. وأيضًا فقد وقع ذلك. أما بالقول: فلأنهم خصصوا عموم قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يتوارث أهل ملتين). وأما بالفعل: فلأنهم خصصوا قوله تعالى: {الزانية والزاني، فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2] بما تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم -؛ من رجم المحصن، وأيضًا: تخصيص السنة المتواترة بالكتاب جائز. وعن بعض فقهائنا: أنه لا يجوز، ودليله التقسيم الذي مر. المسألة الرابعة: في تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالإجماع، وهو جائز؛ لأنه واقع؛ فإنهم خصصوا آية الإرث بالإجماع على أن العبد لا يرث، وخصصوا آية الجلد بالإجماع على أن العبد كالأمة في تنصيف الحد. وأما تخصيص الإجماع بالكتاب والسنة المتواترة؛ فإنه غير جائز للإجماع؛ ولأن إجماعهم على الحكم العام مع سبق المخصص- خطأ، والإجماع على الخطأ لا يجوز.

(سؤال) كيف يدعى أن هذه الأحاديث متواترة؛ مع أن رواتها في الصحاح ما بلغوا حد التواتر

المسألة الثالثة تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة قال القرافي: قوله: خصصوا قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] بقوله- عليه السلام-: (القاتل لا يرث). قلنا: قد تقدم أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، فكل ولد أوجب العموم؛ توريثه في حالة مطلقة، وهذا باق على عمومه؛ لأن كل ولد يرث في حالة عدم القتل والرق والكفر، وهذه حالة مخصوصة، فيصدق لنا عملنا بمقتضي العموم، ويكون الحديث مقيدًا لتلك الحالة المطلقة، لا مخصصًا للعموم. وكذلك الكلام على حديث الرجم. (سؤال) كيف يدعى أن هذه الأحاديث متواترة؛ مع أن رواتها في الصحاح ما بلغوا حد التواتر، بل غايته ثبوت الصحة؛ لثبوت العدالة، وهي رواية واحد أو

اثنين، أو ثلاثة، أو أربعة عن أربعة عن أربعة، وهذه الأعداد لا تحصل التواتر. جوابه: أن السؤال، إنما يرد، إن كان زماننا هو زمان النسخ وانقضائه، لكنا لا نقول به، بل زمان النسخ هو زمان الصحابة- رضوان الله عليهم- وهذه الأحاديث كانت في ذلك الزمان متواترة، والمتواتر يصير آحادًا، فكم من قضية كانت متواترة في الدول الماضية، ثم صارت آحادًا، بل نسيت بالكلية، فلا تنافي بين كون الخبر متواترًا قديمًا، ثم يصير آحادًا في الأزمنة الأخيرة. ***

المسألة الخامسة في أن تخصيص الكتاب والسنة المتواترة، بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، هل هو جائز أم لا؟ قال الرازي: والتحقيق فيه أن اللفظ العام: إما أن يكون متناولًا للرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو لا يكون متناولًا له: فإن كان متناولًا له: كان ذلك الفعل مخصصًا لذلك العموم في حقه، وهل يكون مخصصًا للعموم في حق غيره؟ فنقول: إن دل دليل على أن حكم غيره كحكمه في الكل مطلقًا، أو في الكل إلا ما خصه الدليل، أو في تلك الواقعة- كان ذلك تخصيصًا في حق غيره، ولكن المخصص للعموم لا يكون ذلك الفعل وحده؛ بل الفعل مع ذلك الدليل، وإن لم يكن كذلك، لم يجز تخصيص ذلك العام في حق غيره. وأما إن كان اللفظ العام غير متناول للرسول عليه السلام؛ بل للأمة فقط: فإن قام الدليل على أن حكم الأمة مثل حكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، صار العام مخصوصًا بمجموع فعل الرسول عليه السلام، مع ذلك الدليل؛ وإلا فلا. واحتج من منع هذا التخصيص مطلقًا؛ بأن المخصص للعام هو الدليل الذي دل على وجوب متابعته، وهو قوله تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 158] وذلك أعم من العام الذي يدل على بعض الأشياء فقط، فالتخصيص بالفعل يكون تقديمًا للعام على الخاص؛ وهو غير جائز.

والجواب: أن المخصص ليس مجرد قوله تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 158] بل هو مع ذلك الفعل، ومجموعهما أخص من العام الذي ندعى تخصيصه بالفعل. المسألة الخامسة تخصيص الكتاب والسنة بفعله عليه السلام قال القرافي: قوله: (إن دل دليل على أن حكم غيره كحكمه عليه السلام): تقريره: أن الأدلة المقتضية لكوننا مثله- عليه السلام- في أحكام الشريعة، إلا ما أخرجه الدليل؛ كقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} [الحشر: 7] ونحوه، تناولت الثقلين، فعلى تقدير أن الغير المشار إليه- هاهنا- الثقلان. على هذا؛ يلزم النسخ، وإبطال العام بالكلية، وذلك ليس تخصيصًا؛ لأن التخصيص هو إخراج البعض وإبقاء البعض، وأما الجميع فلا؛ فيتعين حمل كلام المصنف- رحمه الله- على غير خاص هو بعض الأمة، ووجود مثل هذا عسير، غير أنه لم يلتزمه، بل قال: إن وجد، كان الحكم كذلك، مع أنه يمكن تمثيله؛ بأن العموم قد يكون تناول الثقلين، ويخرج عليه السلام من عمومه بطريق أنه إمام، أو قاض، أو نحو ذلك من صفاته عليه السلام؛ فإنه إمام الأئمة، وحاكم الحكام، ومفتي المفتين، فيلحق به- عليه السلام- في التخصيص القضاة وحدهم، أو الأئمة؛ على حسب ذلك الوصف، كما إذا ورد (على اليد ما أخذت حتى ترده)،

فسقط الضمان عنه- عليه السلام- بأحد الأسباب المتقدمة، فيسقط عمن شاركه في تلك الصفة، التي هي مدرك السقوط؛ فعلى هذا يتصور هذا البحث، لا على أدلة التسوية العامة الشاملة للثقلين؛ وعلى هذا يتعين أن يكون معنى قول المصنف: إن دل دليل على أن حكم غيره كحكمه في الكل مطلقًا، أو في الكل إلا ما خصه الدليل؛ أن مراده بالكل كلية ذلك الحكم دون كلية الشريعة. وقوله: (أو في تلك الواقعة) يحمل على ذلك النوع الخاص من جنس ذلك الحكم، مع أن لفظه ما يقتضي إلا كلية الشريعة، هذا هو الظاهر من كلامه؛ وحينئذ يفسر الغير بفرقة مخصوصة من الثقلين، يساويه في كل الأحكام؛ حذرًا من النسخ، وإبطال جملة النص؛ وعلى هذا يعسر تقريره، فما أعلم فرقة من الثقلين ساوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جميع الأحكام دون غيره من الفرق، وبالجملة هذا الموضع قلق يتعين تأويله على أحد الوجوه المذكورة، أو يحمل على وجه من وجوه الحديث دون الخروج من جملته بالكلية، كما حمل حديث النهي عن استقبال القبلة على الأفضلية دون الأبنية. قوله: (المخصص ليس ذلك الفعل وحده، بل الفعل مع الدليل المسوي): تقريره: أن الفعل لو انفرد وحده، ولم يرد دليل مسو، لم يجب التأسي والاقتداء؛ ولو ورد الدليل المسوي دون هذا الفعل، لم يلزم التخصيص؛ لاحتمال أن يكون حكم العموم ثابتًا في حق الكل.

قوله: (وإن كان العام غير متناول له عليه السلام، بل الأمة فقط، وقام الدليل على أن حكم الأمة مثل حكم النبي- عليه السلام- صار العام مخصوصًا بمجموع فعله عليه السلام مع ذلك الدليل، وإلا فلا): تقريره: إذا فعل عليه السلام فعلًا على خلاف العموم الخاص بنا، ودل الدليل على أنا مثله عليه السلام، جاز بمقتضي هذا الدليل المسوي فعل ذلك الذي فعله عليه السلام؛ فعلى هذا يبطل حكم العموم في حق الأمة؛ وعلى هذا يصير إبطالًا للنص بالكلية، وهذا ليس تخصيصًا بل نسخًا، وهذا الذي صرح به في هذا القسم هو مراده في القسم قبله، ويبقي الكلام في غاية الإشكال من جهة أنه صرح في التخصيص بما يمنع التخصيص، ولذلك لم يسلك سيف الدين هذا المسلك، بل قال: إما أن تقول بوجوب التأسي على كل من سواه أو لا. والأول: يلزم منه النسخ دون التخصيص بخروج الجميع من النص، وإن لم نقل بالتأسي، كان الفعل تخصيصًا له- عليه السلام- وحده، وكان النص متناولًا له ولهم، وإن كان متناولًا للأمة فقط، لا يكون فعله عليه السلام تخصيصًا له عن العموم؛ لعدم دخوله. فإن قيل أيضًا بوجوب المتابعة على الأمة، كان نسخًا عن الأمة، لا تخصيصًا، ثم قال: وهذا التفصيل يحكي. قال: ولا أرى الخلاف في التخصيص بفعله- عليه السلام- وجهًا، قال: فإن كان المراد تخصيصه وحده، فلا يتأتي فيه خلاف، أو تخصيص غيره، فلا تخصيص بل نسخ، مع أن الخلاف يحكي في تخصيص العموم بفعله عليه السلام، فقال به الأكثرون من الشافعية والحنفية والحنابلة، ونفاه

(سؤال) تقدم أن كلمة (إن) لا يعلق عليها إلا المشكوك دون المعلوم

الأقلون؛ الكرخي، قال: والأظهر عندي الوقف؛ لأن دليل التأسي عام، فليس مراعاة أحد العمومين أولى من الآخر، فهذا جملة كلامه في هذه المسألة في الإحكام، وما ذكر شيئًا من كلام المصنف. قوله: (الدليل الدال على متابعة أعم من العام الذي يدل على بعض الأشياء). تقريره: أن أدلة التسوية عامة في الشريعة، والنص المخصص أخص منه؛ لتناوله بعضها. قوله: (مجموع الدليل والفعل أخص من ذلك العام). تقريره: أن قوله تعالى: {فاتبعوه} [الأنعام: 155] مع استقباله- عليه السلام- لبيت المقدس، أيضًا الحاجة تقتضي خروجها من النهي في قوله عليه السلام: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها لبول أو غائط) في حالة كوننا في الأبنية، وهذا المجموع أخص من حديث النهي عن الاستقبال. (سؤال) تقدم أن كلمة (إن) لا يعلق عليها إلا المشكوك دون المعلوم. ومن المعلوم بالضرورة أن حكم الأمة حكمه- عليه السلام- إلا ما خصه الدليل؛ فإن أدلة التسوية في الكتاب والسنة كثيرة مستفيضة؛ فكيف يحسن بالمصنف أن يقول: إن علم أن حكم الأمة مثل حكمه، أو حكمه مثل حكم الأمة، فهذه مناقشة لفظية. قال الغزالي في (المستصفي): للمسألة ثلاثة أمثلة:

(سؤال) قال النقشواني: إذا علم أنه- عليه السلام- فعل على خلاف العام، فقد حصل التخصيص؛ فلا حاجة إلى دليل آخر في حق الغير

أحدها: أنه نهي عن الوصال وواصل، وهذا نص لم يتناوله، وإنما قالوا (إنك تواصل)؛ لأنهم فهموا اندراجه في حكمهم. وثانيها: نهي عن استقبال القبلة واستدبارها، وصيغة الحديث لا تتناوله، ثم إنه- عليه السلام- استدبر البيت الحرام، ويحتمل أن يكون هذا مخصصًا؛ لأنه كان في خلوة، والبيان يلزمه- عليه السلام- إظهاره. ونهي عليه السلام عن كشف العورة، ثم كشف فخذه بحضرة أبي بكر وعمر، ويحتمل أنه لم يدخل في النهي، أو أريد بالفخذ ما يقرب منه. (سؤال) قال النقشواني: إذا علم أنه- عليه السلام- فعل على خلاف العام، فقد حصل التخصيص؛ فلا حاجة إلى دليل آخر في حق الغير؛ لأن ذلك زيادة تخصيص، ونحن إنما نبحث في أصل التخصيص لا في تكثيره، ثم ذلك الغير، إن كان كل الأمة، لزم النسخ، والكلام إنما هو في التخصيص. جوابه: أن المصنف جزم بالتخصيص بفعله- عليه السلام- وحده. ثم قال: وهل يكون مخصصًا في حق الغير؟ فذكر المدرك لهذا الفرع لا أصل التخصيص، فهذا تفريع لا تأصيل. (سؤال) بحثه في هذه المسألة يعكر عليه في موضعين:

أحدهما: عند قوله القول في تخصيص العام، فذكر الحس، والسمع، والعقل، ولم يذكر الفعل النبوي، ثم إنه هاهنا قد جعل تخصيصًا من الفعل والسمع، وجعل المجموع هو المخصوص، وهذا المجموع لم يذكره هناك. وثانيهما: أنه في هذه المسألة فهرس التخصيص بفعله عليه السلام، ثم اقتضاء الحال إلى أن المخصص هو مجموع الدليل المسوي مع الفعل، ولا يلزم من اقتضاء مجموع لشيء اقتضاء أجزائه له؛ غير أنه في هذه المسألة قد ذكر الفعل وحده تخصيصًا، في حقه عليه السلام، فخرج عن العهدة بهذا القسم، ثم فرع بعد ذلك. ***

المسألة السادسة قال الرازي: من فعل ما يخالف مقتضي العموم بحضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلم ينكره عليه- فعدم الإنكار من الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاطع في تخصيص العام في حق ذلك الفاعل. أما في حق غيره: فإن ثبت أن حكمه - صلى الله عليه وسلم - في الواحد، حكمه في الكل- كان ذك التقرير تخصيصًا في حق الكل؛ وإلا فلا، والله أعلم. المسألة السادسة التخصيص بالإقرار قال القرافي: قوله: (إن ثبت أن حكمه- عليه السلام- في الواحد حكمه في الكل، كان ذلك التقرير تخصيصًا في حق الكل، وإلا فلا): قلنا: عليه سؤالان: الأول: أنه علق على كلمة (إن) ما هو معلوم؛ لأنه يعلم عليه السلام- أنه إذا كرر حكمًا في حق شخص، فهو للأمة. الثاني: أن كلامه يفضي إلى النسخ؛ كما تقدم، فإذا خرج الكل، أي شيء يبقي في النص، فيكون نسخًا، فيفضي تقرير النسخ إلى إبطاله، إلا أن يحمل على التأويلات المتقدمة. ***

الفصل الرابع في تخصيص المقطوع بالمظنون، وفيه مسائل: قال الرازي: المسألة الأولى: يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد عندنا، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك- رحمهم الله-. وقال قوم: لا يجوز أصلًا. وقال عيسى بن أبان: إن كان قد خص قبل ذلك بدليل مقطوع به، جاز؛ وإلا فلا. وقال الكرخي: إن كان قد خص بدليل منفصل، صار مجازًا- فيجوز ذلك، وإن خص بدليل متصل، أو لم يخص أصلًا، لم يجز. وأما القاضي أبو بكر- رحمه الله- فإنه اختار التوقف. لنا: أن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان، وخبر الواحد أخص من العموم؛ فوجب تقديمه على العموم. إنما قلنا: إنهما دليلان؛ لأن العموم دليل بالاتفاق. وأما خبر الواحد: فهو أيضًا دليل؛ لأن العمل به يتضمن دفع ضرر مظنون؛ فكان العمل به واجبًا؛ فكان دليلًا. وإذا ثبت ذلك، وجب تقديمه على العموم؛ لأن تقديم العموم عليه يفضي إلى إلغائه بالكلية، أما تقديمه على العموم، فلا يفضي إلى إلغاء العموم بالكلية؛ فكان ذلك أولى؛ كما في سائر المخصصات.

وأما جمهور الأصحاب، فقالوا: أجمعت الصحابة على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وبينوه بخمس صور: إحداها: أنهم خصصوا قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] بما رواه الصديق- رضي الله عنه- أنه عليه الصلاة والسلام قال: (نحن- معاشر الأنبياء- لا نورث). وثانيها: خصصوا عموم قوله تعالى: {فإن كن نساء فوق اثنتين، فلهن ثلثا ما ترك} [النساء: 11] بخبر محمد بن مسلمة، والمغيرة بن شعبة أنه - صلى الله عليه وسلم - (جعل للجدة السدس) لأن المتوفاة، إذا خلفت زوجًا، وبنتين، وجدة، فللزوج الرابع (=) ثلاثة، وللبنتين الثلثان (=) ثمانية، وللجدة السدس (=) اثنان؛ عالت المسالة إلى ثلاثة عشر، وثمانية من ثلاثة عشر أقل من ثلثي التركة. وثالثها: أنهم خصصوا قوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275] بخبر أبي سعيد (في المنع من بيع الدرهم بالدرهمين). ورابعها: خصصوا قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب). وخامسها: خصصوا قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24] بخبر أبي هريرة: (في المنع من نكاح المرأة على عمتها، وخالتها، وبنت أخيها، وبنت أخيها). ولقائل أن يقول: هل أجمعت الصحابة على تخصيص هذه العمومات، في هذه الصور، أو ما أجمعت؟

فإن قلتم: (ما أجمعوا) فقد سقط دليلكم، وإن قلتم (أجمعوا) فلم لا يجوز أن يقال: المخصص لهذه العمومات ذلك الإجماع؟ فإن قلت: لابد لذلك الإجماع من مستند هو هذه الأخبار؛ إذ رب إجماع خفي مستنده لاستغنائهم بالإجماع عنه. سلمنا أن ذلك المستند هو هذه الأخبار؛ لكن لعل هذه الأخبار كانت متواترة عندهم، ثم صارت آحادًا عندنا. واحتج المانعون بالإجماع، والخبر، والمعقول: أما الإجماع: فهو: أن عمر- رضي الله عنه- رد خبر فاطمة بنت قيس؛ وقال: (لا ندع كتاب ربنا، وسنة نبينا؛ لقول امرأة لا ندري؛ لعلها نسيت أو كذبت). وأما الخبر: فما روى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا روى عني حديث، فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فاقبلوه، وإن خالفه فردوه) والخبر الذي يخصص الكتاب، على مخالفة الكتاب؛ فوجب رده. وأما المعقول: فوجهان: الأول: أن الكتاب مقطوع به، وخبر الواحد مظنون؛ والمقطوع أولى من المظنون. والثاني: أن النسخ تخصيص في الأزمان، والتخصيص تخصيص في الأعيان؛ فنقول: لو جاز التخصيص بخبر الواحد في الأعيان، لكان لأجل أن تخصيص العام أولى من إلغاء الخاص، وهذا المعنى قائم في النسخ؛ فكان يلزم جواز النسخ بخبر الواحد، ولما لم يجز ذلك، علمنا أن ذلك أيضًا غير جائز.

والجواب عن الأول أنا لا ندعي تخصيص العموم بكل ما جاء من أخبار الآحاد؛ حتى يكون ذلك علينا؛ وإنما نجوزه بالخبر الذي لا يكون راويه متهمًا بالكذب والنسيان، وهذا الشرط ما كان حاصلًا هنا؛ لأن عمر- رضي الله عنه- قدح في روايتها بذلك؛ فلم يكن قادحًا في غرضنا؛ بل هو بأن يكون حجة لنا أولى؛ وذلك لأن عمر- رضي الله عنه- بين أن روايتها إنما صارت مردودة؛ لكون الراوي غير مأمون من الكذب والنسيان، ولو كان خبر الواحد المقتضي لتخصيص الكتاب مردودًا كيفما كان، لما كان لذلك التعليل وجه. وعن الثاني: أن ما ذكرتموه يقتضي ألا يجوز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة، فإن قلتم: إن ما يقتضي تخصيص الكتاب، لا يكون على خلافه قلنا: في مسألتنا ذلك بعينه. وعن الثالث: أن البراءة الأصلية يقينية، ثم إنا نتركها بخبر الواحد؛ فبطل قولكم: (إن المقطوع لا يترك بالمظنون). ثم نقول: لا نسلم حصول التفاوت؛ وبيانه من وجهين: الأول: أن الكتاب مقطوع في متنه، مظنون في دلالته؛ والخبر مظنون في دلالته، فلم قلتم: إنه حصل التفاوت بينهما؛ على هذا التقدير؟! الثاني: أن الدليل القاطع، لما دل على وجوب العمل بالخبر المظنون، لم يكن وجوب العمل مظنونًا؛ لأن تقدير ذلك: أن الله تعالى قال: (مهما حصل في قلبكم ظن صدق الراوي، فاقطعوا أن حكمي ذلك). فإذا وجدنا ذلك الظن، واستدللنا به على الحكم، كنا قاطعين بالحكم؛ وإذا كان كذلك، فلم قلتم: إن التفاوت حاصل على هذا التقدير؟

وعن الرابع: أن الأصوليين اعتمدوا في الجواب على حرف واحد، وهو أن العقل ليس يأبي ذلك، وإنما فصلنا بينهما؛ لإجماع الصحابة على الفصل بينهما؛ فقبلوا خبر الواحد في التخصيص، وردوه في النسخ. وهذا الجواب ضعيف؛ لأنا بينا أن الذي عولوا عليه في أنهم قبلوا خبر الواحد في التخصيص- ضعيف. وإذا ثبت ذلك، فنقول: ثبت بما ذكرنا أن القياس يقتضى أنه لو قبل خبر الواحد في التخصيص، لوجب قبوله في النسخ، وثبت بالاتفاق أنهم ما قبلوه في النسخ؛ فوجب أن يقال: إنهم ما قبلوه في التخصيص أيضًا؛ ضرورة العمل بالدليل. والجواب الصحيح لا يحصل إلا بذكر الفرق بينهما، وهو: أن التخصيص أهو من النسخ، ولا يلزم من تأثير الشيء في الأضعف تأثيره في الأقوى، والله أعلم. تنبيه: فأما قول عيسى بن أبان، والكرخي، فمبنيان على حرف واحد، وهو أن العام المخصوص عند عيسى مجاز، والعام المخصوص بالدليل المنفصل مجاز عن الكرخي، وإذا صار مجازًا، صارت دلالته مظنونة، ومتنه مقطوعًا، وخبر الواحد متنه مظنون، ودلالته مقطوعة؛ فيحصل التعادل. فأما قبل ذلك، فإنه حقيقة في العموم؛ فيكون قاطعًا في متنه، وفي دلالته؛ فلا يجوز أن يرجح عليه المظنون. فهذا هو مأخذهم، والكلام عليه هو ما تقدم، والله أعلم.

الفصل الرابع في تخصيص المقطوع بالمظنون

الفصل الرابع في تخصيص المقطوع بالمظنون قال القرافي: (قوله: وقال عيسى بن أبان: إن خص بدليل مقطوع، جاز، وإلا فلا): تقريره: أنه إذا خص بمقطوع، قطع بكونه مجازًا، فقطع بضعفه، فسلط عليه، حينئذ خبر الواحد يخصصه، وإن لم يخص بمقطوع، لم يقطع بضعفه، فلم يجز تخصيصه بخبر الواحد. (فائدة) المحدثون والنحاة مجموعون على عدم صرف (أبان) وكذلك أبان بن عثمان بن عفان، المحدثون على منع صرفه، وحيث وقع، لا يصرفون، ومانع صرفه خفي، فإن العلمية محققة، ولكن أي شيء معها، وليس من أوزان الفعل المضارع مثل: أحمد أو يشكر أو تغلب أو نرجس ونحوه، فهو من المشكلات لخروجه عن علل الصرف، إلا في العلمية، وهي وحدها غير مانعة من الصرف.

جوابه قال ابن يعيش في (شرح المفصل) من الناس من يصرفه على أن وزنه (فعال) من أبان يبين، والجمهور على عدم الصرف؛ بناء على أن وزنه أفعل، وأصله أبين صيغة مبالغة في الظهور، الذي هو البيان والإبانة، فيقول: هذا أبين من هذا، أي: أظهر منه، فلوحظ أصله؛ فلم يصرف، والفرق بينه وبين الاسم، إذا سمى بما لم يسم فاعله، نحو: بيع وقيل؛ فإن أصله بيع بضم الباء، ولو سمى بقيل لم ينصرف؛ لأنه من جملة الأوزان المانعة من الصرف، وزن ما لم يسم فاعله، فإذا غير لأجل الاعتدال، فقيل: بيع، وقيل، لا ينبغي أن يصرف، كما قلتم في (أبان) إذ اعترض الوزن الذي يمنع الصرف، وهو وزن أفعل. قال: والفرق أن (بيع) صار إلى أبنية الأسماء مثل زيد وتين وفيل، وأما (أبان) فهو أفال، وليس في الأسماء له وزان، ولذلك لم ينصرف فالسؤال وجوابه، والفرق: الكل حسن، فينبغي أن يكون على الخاطر، فهي فوائد لا توجد في عموم الكتب، بل في أفرادها ونوادرها.

قوله: (وقال الكرخي: إن خص بدليل منفصل، صار مجازًا؛ فيجوز تخصيصه بخبر الواحد): تقريره: أن أبا الحسن الكرخي يجعل المخصصات المتصلة مع أصل الكلام كالكلام الواجد الدال على ما بقي، فيكون حقيقة أو كالحقيقة، فيكون قويا، فلا يسلط عليه خبر الواحد بالتخصيص، والمخصص المنفصل لا يتأتي له ذلك فيه، فمداره ومدار عيسى بن أبان على القوة؛ فلا يخصصان، وعلى الضعف؛ فيخصصان، غير أن مدرك الكرخي في القوة الحقيقة والمجاز، ومدرك الآخر انقطع بالمجاز وعدم القطع. وقوله: (العموم دليل بالاتفاق): يريد اتفاق الخصمين، وإلا فالخلاف في كون العموم حجة معلوم). قوله: (تقديم العموم عليه يفضي إلي الغاية): تقريره: إذا ورد قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] وقوله عليه السلام: (لا تقتلوا الرهبان)، وبقيت (اقتلوا المشركين) على عمومه، بطل معنى قوله: (لا تقتلوا الرهبان). وإن خصصنا العموم بالحديث، لم يبطل واحد منهما، فكان أولى. قوله: (خصصوا قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] في المجوس بخبر عبد الرحمن بن عوف: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب). تقريره: أن الآية اقتضت قتل الكل، وخبر عبد الرحمن إنما ورد في الجزية، أي: سنوا بهم سنة أهل الكتاب في الجزية، فبطل القتل فيهم مع أهل الكتاب، وخرج الجميع من عموم المشركين، وبقي عبدة الأوثان وما شاكلهم ممن لا يجوز أخذ الجزية عليه.

(سؤال)

(سؤال) (على جميع هذه الآيات والمواضع) وهو ما تقرر أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، والأزمنة، والبقاع، والمتعلقات، والآية تقتضي قتل كل مشرك في حالة ما، ونحن نفعل ذلك، لم يبطل في فرد من المشركين؛ لأنا نقتل كل فرد منهم في حالة الحرابة والامتناع من أداء الجزية، وهذه حالة خاصة، ومتى صدق الخاص، صدق العام، فيصدق حالة ما، فما تعين العموم، بل هذه المخصصات ليست مخصصات، بل مقيدات لتلك الحالة المطلقة، وقد تقدم مرارًا التنبيه على هذه القاعدة، وبسطها أكثر من هذا، فيراجع من هناك. قوله: (لم لا يجوز أن يكون المخصص لذلك العموم هو ذلك الإجماع؟): قلنا: هذا متعذر؛ فإنهم ما أجمعوا حتى أفتوا، وما أفتوا حتى سمعوا هذه الأحاديث، فالإجماع متأخر في الرتبة الثالثة عن تخصيص العموم؛ فلا يمكن أن يقال، خصصوا بإجماعهم، وكيف يتصور أن يجمعوا على التخصيص بغير مستند، وهل هذا إلا حكم التشهي في الدين، وهو حرام. وقوله: (لعل المسند غير الأخبار): قلنا: الأصل عدمه. قوله: (لعل تلك الأخبار كانت متواترة عندهم): قلنا: الأصل عدم التواتر، وعدم الاختلاف في الأحوال، وبقاء ما كان على ما كان.

قوله: (أما الإجماع: فما روى (أن عمر- رضي الله عنه- رد خبر فاطمة بنت قيس): قلنا: عمر وحده ليس إجماعًا، لكن مراد المصنف أنه لم ينكر أحد عليه، فكان إجماعًا سكوتيا. قوله: (ما الخبر فقوله عليه السلام: (إذا روى لكم عني حديث، فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فاقبلوه، وإن خالفه فردوه): قلنا: السابق إلى الفهم: أن مخالفة الحديث للكتاب إنما تكون لمعارضة ما فهم أنه مراد من الكتاب، فإنا إذا قلنا: (زيد يخالف عمرًا في كلامه) أي: فيما فهم عنه. أما إذا خالفه في ظاهر لفظه، ووافق مقصوده، إنما يقال: موافق لا مخالف، والخصوص موافق للمراد من الكتاب، وبيان له، فلا يكون مخالفًا؛ فلا يتناول هذا الحديث الخبر المخصص. قوله: (البراءة الأصلية يقينية، وقد تركناها بخبر الواحد) يريد أن البراءة الأصلية يقينية الأصل، مظنونة الاستصحاب، بمعنى أن الإنسان قطعنا بأنه ولد بريئًا من جميع الحقوق، ثم إنه إذا كبر، وصار بالغًا، لا يحصل لنا ذلك القطع في خصوص ذلك الزمان، بل نظنه، وكذلك نقبل في شغل ذمته البينة، والشاهد، واليمين، ولو كان ذلك اليقين باقيًا، لما رفعناه بالأسباب المظنونة، وكذلك العموم مقطوع السند، مظنون الدلالة، وخبر الواحد إنما يقبل في صرف الدلالة عن الفرد المخرج، وهي ظنية، وليس لخبر الواحد أثر في السند أصلًا، فحاصل الشبه بين البراءة والعموم: أن الخبر إنما رفع المظنون فيهما، دون أصلهما المقطوع.

قوله: (خبر الواحد مظنون في سنده، مقطوع في دلالته): تقريره: أن هذا من الإمام على سبيل التنزه، حتى يحصل التساوي بين العموم والخبر، وإلا فالخبر قد يكون مقطوع الدلالة، فإن النص قد يروى بالآحاد، ولو صرح به، لكان أقوى في دفع ما قاله الخصم من تقديم العموم على خبر الواحد. قوله: (لما دل الدليل على العمل بخبر الواحد لم يكن العمل بخبر الواحد مظنونًا). قلنا: عليه سؤالان: الأول: أن خبر الواحد قد يخصص ما ليس فيه حكم شرعي؛ كالأخبار الصرفة، وما فيه حكم شرعي، لكن لا يكون فيه وجوب عمل بأن يكون إباحة، أو تحريمًا، أو كراهة، أو ندبًا، أو لنصب بسبب أو شرط، أو مانع؛ من باب خطاب الوضع، فوجوب العمل ليس لازمًا. الثاني: الكلام فيما يثير الظنون التي يفتي عندها الإجماع بوجوب العمل، لا بوجوب العمل، فإن المجتهد يقدم ويؤخر ويرجح، فإذا نقرر عنده بذل جهده، وظن واستقر فكره ودواعيه حينئذ، ويفتيه الإجماع بوجوب العمل إن كان مما يجب العمل به، وإلا فلا. قوله: (إذا قال الله تعالى: (إذا غلب على ظنكم صدق الراوي، فاقطعوا بأني حكمي ذلك): قلنا: لم يقل الله- تعالى- ذلك، بل قال: إذا غلب على ظنكم صدق الراوي، فطلتم غاية الطلب، فلم تجدوا معارضًا لذلك الخبر، فلم تجدوه، وحينئذ يكون حكم الله- تعالى- ما غلب على ظننا، والخصم يقول: إن

ظاهر الكتاب معارض لهذا الخبر، ومقدم عليه، فما حصل انقطع بوجوب العمل. قوله: (التخصيص أضعف من النسخ، ولا يلزم من تأثيره في الأضعف تأثيره في الأقوى). تقريره: أن التخصيص بيان المراد من اللفظ، وإخراج ما ليس بمراد عن اللفظ. وأما النسخ، وإن كان تخصصيًا في الأزمان- لكن الإبطال ورد على ما اتصف بالإرادة في الزمن الماضي، وورود الإبطال على ما اتصف بأنه مراد يقتضي مزيد الاحتياط؛ فإن الذي كان متصفًا بالإرادة كان متضمنًا للمصلحة، وإلا لما أريد بالحكم، وإبطال ما علم؛ أنه كان فيه مصلحة- يحتاج لتفقد، هل بطلت تلك المصلحة منه أم لا؟ إذ لو بقيت لما نسخ في ظاهر الحال؛ فيحتاج ذلك إلى مزيد احتياط، بخلاف التخصيص، ورد الإخراج على ما لم يكن قط مرادًا، فلم يتقدم فيه مصلحة تقتضي مزيد الاحتياط فيه. فهذا هو الفرق المحقق؛ بخلاف قولهم: النسخ إبطال يوهم أنه إبطال المراد في الزمن الذي هو مراد فيه. قوله: في شبهة ابن أبان، والكرخي: (إن العام مقطوع الدلالة) يريد عندهم مع أنه لا يحتاج لذلك، بل يكفي ما تقدم من توجيه مذهبهما. وأما ما ينسب إليهما: أن الدلالة في العام قطعية، فبعيد عن نظر العلماء، وأين القطع من دلالة العموم على الاستغراق؟ ***

المسألة الثانية يجوز تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بالقياس وهو: قول الشافعي وأبي حنيفة، ومالك، وأبي الحسين البصري، والأشعري، وأبي هاشم أخيرًا. ومنهم من منع منه مطلقًا، وهو قول الجبائي، وأبي هاشم أولًا. ومنهم: من فصل، ثم ذكروا فيه وجوها أربعة: الأول: قول عيسى بن أبان: إن تطرق التخصيص إلى العموم، جاز؛ وإلا فلا. والثاني: قول الكرخي، وهو: أنه إن خص بدليل منفصل، جاز؛ وإلا فلا. والثالث: قول كثير من فقهائنا، ومنهم ابن سريج: يجوز بالقياس الجلي دون الخفي، ثم اختلفوا في تفسير الجلي والخفي؛ على ثلاثة أوجه: أحدها: أن الجلي: هو قياس المعني، والخفي: هو قياس الشبه. وثانيها: أن الجلي: هو مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقضي القاضي، وهو غضبان) وتعليل ذلك بما يدهش العقل عن إتمام الفكر، حتى يتعدي إلى الجائع والحاقن. وثالثها: قول أبي سعيد الإصطخري، وهو: (أن الجلي هو الذي إذا قضي القاضي بخلافه، ينتقض قضاؤه). والرابع: قول الغزالي- رحمه الله- وهو: أن العام والقياس، إن تفاوتا في إفادة الظن، رجحنا الأقوى، وإن تعادلا، توقفنا. وأما القاضي أبو بكر وإمام الحرمين، فقد ذهبا إلى الوقف.

قال إمام الحرمين: والقول بالوقف يشارك القول بالتخصيص من وجه، ويباينه من وجه: أما المشاركة فلأن المطلوب من تخصيص العام بالقياس إسقاط الاحتجاج بالعام، والوقف يشاركه فيه. وأما المباينة فهي: أن القائل بالتخصيص يحكم بمقتضي القياس، والواقف لا يحكم به. تنبيه: نسبة قياس الكتاب إلى عموم الكتاب كنسبة قياس الخبر المتواتر إلى عموم الخبر المتواتر، وكنسبة قياس خبر الواحد إلى عموم خبر الواحد، والخلاف جار في الكل، وكذا القول في قياس الخبر المتواتر، بالنسبة إلى عموم الكتاب، وبالعكس. أما قياس خبر الواحد، إذا عارضه عموم الكتاب، أو السنة المتواترة، وجب أن يكون تجويزه أبعد. لنا: أن العموم، والقياس دليلان متعارضان، والقياس خاص؛ فوجب تقديمه. أما أن العموم دليل: فبالاتفاق. وأما أن القياس دليل: فلأن العمل به دفع ضرر مظنون، فكان العمل به واجبًا، وسيأتي تقرير هذه الدلالة في باب القياس، إن شاء الله تعالى، وإذا ثبت ذلك، فالتقرير ما تقدم في المسألة الأولى. واحتج المانعون بأمور:

أحدها: أن الحكم المدلول عليه بالعموم معلوم، والحكم المدلول عليه بالقياس مظنون؛ والمعلوم راجح على المظنون. وثانيها: أن القياس فرع النص، فلو خصصنا العموم بالقياس لقدمنا الفرع على الأصل؛ وإنه غير جائز. وثالثها: أن حديث معاذ دل على أنه لا يجوز الاجتهاد إلا بعد فقد ذلك الحكم في الكتاب والسنة؛ وذلك يمنع من تخصيص النص بالقياس. ورابعها: أن الأمة مجمعة على أن من شرط القياس ألا يرده النص، وإذا كان العموم مخالفًا له، فقد رده. وخامسها: أنه لو جاز التخصيص بالقياس، لجاز النسخ به وقد تقدم تقريره. والجواب عن الأول ما تقدم، وعن الثاني: أن القياس المخصص للنص يكون فرعًا لنص آخر؛ وحينئذ يزول السؤال. فإن قلت: لما كان القياس فرعًا لنص آخر، فكل مقدمة لابد منها في دلالة النص على الحكم- كانت معتبرة في الجانبين، وأما المقدمات التي لابد منها في دلالة القياس، فهي مختصة بجانب القياس فقط. فإذن إثبات الحكم بالقياس يتوقف على مقدمات أكثر، وبالعموم على مقدمات أقل، فكان إثبات الحكم بالعموم أظهر من إثباته بالقياس، والأقوى لا يصير مرجوحًا بالأضعف. قلت: قد تكون دلالة بعض العمومات على مدلوله، أقوى وأقل مقدمات من دلالة عموم آخر على مدلوله.

وعند هذا يظهر أن الحق ما قاله الغزالي رحمه الله- وهو: أن دلالة العموم المخصوص على مدلوله، إذا افتقرت إلى مقدمات كثيرة، ودلالة العموم الذي هو أصل القياس، إذا افتقرت إلى مقدمات قليلة؛ بحيث تكون تلك المقدمات المعتبرة في القياس معادلة لمقدمات قليلة؛ بحيث تكون تلك المقدمات المعتبرة في القياس معادلة لمقدمات قليلة؛ بحيث تكون تلك المقدمات مع المقدمات المعتبرة في القياس معادلة لمقدمات العموم المخصوص أو أقل- جاز؛ وحينئذ لا يتوجه ما قالوه. وعن الثالث: أن حديث معاذ، إن اقتضي أنه لا يجوز تخصيص الكتاب والسنة بالقياس، فليقتض ألا يجوز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة، ولا شك في فساد ذلك. وعن الرابع: أن نقول: ما الذي تريد بقولك: شرط القياس ألا يدفعه النص؟ إن أردتم: أن شرطه ألا يكون رافعًا لكل ما اقتضاه النص، فحق. وإن أردتم: ألا يكون رافعًا لشيء مما اقتضاه النص فهو عين المتنازع. وعن الخامس: ما تقدم في المسألة الأولي. المسألة الثانية يجوز التخصيص بالقياس قال القرافي: قوله: (أبو هشام أولًا): يريد في قوله الأول، قوله: (قال عيسى بن أبان، إن تطرق التخصيص للعموم، جاز تخصيصه بالقياس). تقريره: أن العموم إذ خص، صار مجازًا ضعيفًا، فيجوز أن يسلط عليه القياس، فيخصصه، وإذا لم يدخل التخصيص، يكن حقيقة، فلا يسلط

عليه القياس. وقد تقدم السؤال عن (أبان) وما سبب منع صرفه في المسألة التي قبل هذه. قوله: (وقال الكرخي: (إن خص بدليل منفصل، جاز، وإلا فلا): تقريره: أن الدليل المنفصل يصير مع لفظ الأصل، كالكلمة الواحدة الدالة على ما بقي، فيكون حقيقة، فلا يسلط عليه القياس، أما المتصل، فلا يمكن ذلك فيه؛ لاستقلاله بنفسه، فيكون العموم بعد التخصيص مجازًا، فيخصصه القياس. قوله: (الجلي: قياس المعني، والخفي: قياس الشبه): تقريره: أن قياس المعني: مثل قياس النبيذ على الخمر؛ بجامع السكر، وهو معنى مناسب، وقياس الأرز على البر؛ بجامع الطعم، وهو معني مناسب، وقياس الشبه؛ كقياس الجلسة الأخيرة على الأولى في عدم الوجوب؛ للمشابهة في الصورة، وقياس العبد على الأموال؛ لأجل شبهه بها؛ في كونها تقارض عليه. قوله: وثانيها: الجلي: هو مثل قوله عليه السلام: (لا يقضي القاضي، وهو غضبان) يريد ما يفهم علته من اللفظ، من غير سبر. قوله: (وثالثها: هو ما لو قضي القاضي بخلافه، لنقضناه): قلنا: هذا يلزم من الدور؛ لأن الفقهاء، هذا القائل وغيره، لما ضبطوا ما ينقض فيه قضاء القاضي، قالوا: هو أربعة: ما خالف الإجماع، أو القواعد، أو النص، أو القياس الجلي فكل واحد من البابين يحال على الآخر، ويتوقف عليه، فيلزم الدور. قوله: عن الغزالي: (إن العام والقياس، إن تفاوتا في إفادة الظن، رجحنا الأقوى، وإن تعادلا توقفنا):

(سؤال)

تقريره: أن مراتب الظنون الحاصلة من القياس متفاوتة، فالمنصوص العلة أقوى مما استنبطت علته من أوصاف مذكورة، وما استنبطت علته من أوصاف مذكورة أقوى مما استنبطت علته من أوصاف مذكورة أقوى مما استنبطت من أوصاف غير مذكورة، وما نص على علته بالصريح أولى مما نص على علته بالإيماء، وما كانت علته يشهد نوعها كنوع الحكم أقوى مما يشهد حسنها؛ لحسن الحكم، وما بنيت عيه بالمناسبة أقوى مما بنيت عليه بالدوران، ونحو ذلك مما هو مذكور في باب التعارض والترجيح، والعموم الذي قلت أفراده أقوى في إفادة الظن مما كثرت أفراده؛ لأن تطرق احتمال التخصيص إليه- أقل؛ فإن كثرة الأنواع توجب كثرة التخصيص، والعموم الذي لا يكاد يوجد إلا مخصوصًا أضعف مما يوجد قط مخصوصًا، والعموم الذي يستعمل لفظه مجازًا في كثير من الصور- أضعف مما لم يتجوز بلفظه، وهذا عين التخصيص؛ فإن اللفظ قبل دخول آلة العموم عليه قد يستعمل مجازًا، وقد يستعمل حقيقة، وحينئذ لا تخصيص، إنما التخصيص بعد القضاء بالعموم؛ إذا تقرر تفاوت مراتب الظنون في القياس والعموم، وقد تستوي المرتبتان، وقد ترجح إحداهما، فيتصور ما قاله الغزالي في إتباع الراجح منهما (إن وجد، وإلا توقفنا) فإن المقصود إنما هو القضاء بالراجح. (سؤال) يلزم الغزالي- على هذا التدقيق الحسن- أن يقول بذلك في خبر الواحد مع العموم؛ فإن هذه الترجيحات متجهة هنالك، كما هي متجهة هاهنا؛ من جهة غلبة المجاز على أحدهما، وقلته في الآخر، وكثرة الأفراد، وقلتها، وكثرة اعتوار المجاز عليه في موارد الاستعمال، وقلتها، ونحو ذلك، وهذا السؤال قد يتخيل أنه لازم للواقفية أيضًا، فيقال: لم توقفوا هاهنا، ولم يتوقفوا في خبر الواحد، مع العموم؛ لاختلاف الأحوال بينهما؛ كما تقدم؟ غير أنه غير وارد عليهم؛ لأنهم لم يسلكوا مسلك الغزالي في اعتبار

مراتب الظنون، بل خصصوا العموم بخر الواحد بعمل الصحابة وقوة شهرة ذلك بينهم، ولم يجدوا مثل ذلك الاشتهار في القياس، فتوقفوا؛ لتقارب المدارك، والغزالي إنما لزمه ذلك من جهة ما ذكره من التعليل، وأشار إليه من المدرك الذي لم يعرجوا هم عليه، بل توقفوا في ذلك. قوله: (المطلوب بالقياس إسقاط الاحتجاج بالعام): قلنا: ليس هذا الإطلاق على ظاهره، بل إنما سقط الاحتجاج به في الصورة التي يخرجها القياس. قوله: (والوقف يشارك في ذلك): يريد أنه لا يثبت الاحتجاج بالعام في تلك الصورة. قوله: (نسبة قياس الكتاب إلى عموم الكتاب كنسبة قياس الخبر المتواتر إلى عموم الخبر المتواتر): يريد بقياس الخبر المتواتر القياس الذي الحكم ثابت في أصله بخبر متواتر، وبقياس الكتاب الذي الحكم ثابت في أصله بالكتاب، وكذلك بقية ما ذكره من النظائر. قوله: (الحكم الثابت بالعموم معلوم). قلنا: لا نسلم، بل مظنون؛ لأن دلالة العموم ظنية، وإن كان سنده قطعيا. قوله: (حديث معاذ دل على أنه: لا يجوز الاجتهاد إلا بعد فقد الحكم في الكتاب): قلنا: ولا نسلم أن عموم الكتاب، إذا عارضه القياس المخصص لبعض صوره، يكون الحكم ثابتًا في تلك الصورة التي يتناولها القياس بالكتاب، والحكم مفقود عندنا، حينئذ من الكتاب.

قوله: (أجمعت الأمة على أن النص لا يرده القياس): قلنا: الذي وقع عليه الإجماع: هو أن القياس لا ينسخ المتواتر، أما رده لأخبار الآحاد بجملة ذلك الخبر، ففيه خلاف عند الحنفية والمالكية، وغيرهم من الفقهاء، إذا تعارض قياس وخبر واحد، وإن كان نصا ظاهرًا؛ هل يعرض عن الخبر بالكلية، أو عن القياس بالكلية؟ خلاف، وإذا أبطل الخبر الصحيح الصريح بجميع أفراده، فأول تخصيص العموم الذي فيه ليس إلا إخراج بعض الأفراد عن اللفظ، فهو أسهل من الإبطال بالكلية، وليس في هذين الموطنين إجماع، فكيف يدعي الإجماع مطلقًا؟ قوله: (القياس المخصص للنص فرع لنص آخر، فلا دور): تقريره: أن النص المخصوص غير النص الذي هو أصل القياس، كما نقول: حديث عبادة في الأشياء الستة هو أصل قياس الأرز على البر في تحريم الربا، فهذا القياس يخصص بقوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275] والنص الذي هو أصل غير النص الذي هو أصل القياس، فلا يلزم الدور، ولا تقديم فرع على أصل، بل قدمناه على أنه البيع في حكم الأرز، وليس أصلًا للقياس. قوله: (مقدمات القياس أكثر من مقدمات العام): تقريره: أن النصوص تتوقف على عصمة قائلها، وصحة سندها، وعدم إجمالها في دلالتها، ونحو ذلك من مقدمات النصوص المعتبرة فيها، وهي كلها مشتركة بين النص، الذي هو أصل القياس، وبين النص، الذي يخصصه القياس، والقياس في نفسه يحتاج لكون حكمه مما يقبل التعليل، وأن أصله معلل بكذا، ووجود تلك العلة في الفرع، وانتفاء الفوارق، فهذه مقدمات

تختص بالقياس، مضافة إلى مقدمات النص الذي هو أصله؛ فحينئذ القياس، باعتبار مقدماته، ومقدمات أصله أكثر مقدمات من النص الذي يخصصه، فيكون أضعف عنه، فيقدم العموم عليه. قوله: (قد تكون دلالة بعض العمومات على مدلوله أقوى وأقل مقدمات من دلالة عموم آخر على مدلوله): تقريره: ما تقدم في بيان تفاوت الظنون الناشئة من الظنون، في تقرير كلام الغزالي؛ وحينئذ جاز أن يكون النص القليل المقدمات هو أصل القياس، والكثير المقدمات هو النص المخصوص، فيكون مجموع مقدمات القياس مع أصله أقل من مقدمات النص المخصوص، فيكون القياس أرجح، فيقدم على العموم. قوله: (وبهذا يظهر أن الحق قول الغزالي): تقريره: أن القائلين بأن القياس يخصص العموم، قالوا به مطلقًا في كل قياس مع كل عموم يعارضه القياس، ولم يفصلوا هذا التفصيل، والجواب بهذا التفصيل لا يعم جميع العمومات؛ فإن من العمومات ما مقدماته أكثر، فجاز أن يكون هو أصل القياس؛ فلا يقدم ذلك القياس على العموم الذي مقدماته أقل، فلا يصح العموم في هذه الدعوي، فيتجه قول الغزالي بالتفصيل، فإنه لا يرد عليه هذا السؤال؛ لأن الظن، متى كان أقوى، كانت المقدمات مساعدة على ذلك، وإلا لما كان الظن أقوى. قوله: (وعن الخامس: ما تقدم في المسألة الأولى). قلنا: قد تقدم في المسألة الأولى: أن النسخ رفع لحكم علم ثبوته في ذلك المحل، فيتوقف عن رفعه حتى يتيقن؛ بخلاف التخصيص؛ لم يثبت في تلك الأفراد المخرجة بالتخصيص حكم، فسهل الإقدام عليه، وقد تقدم بسطه في تلك المسألة أكثر من هذا.

المسألة الثالثة قال الرازي: إذا قلنا: المفهوم حجة فلا شك أن دلالته أضعف من دلالة المنطوق، فهل يجوز تخصيص العام به؟ مثاله: إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم، ثم قال الشارع: (في سائمة الغنم زكاة) فهذا مفهومه يقتضي تخصيص ذلك العام. ولقائل أن يقول: إنما رجحنا الخاص على العام؛ لأن دلالة الخاص على ما تحته أقوى من دلالة العام على ذلك الخاص؛ والأقوى راجح. وأما هاهنا فلا نسلم أن دلالة المفهوم على مدلوله أقوى من دلالة العام على ذلك الخاص؛ بل الظاهر أنه أضعف، وإذا كان كذلك كان تخصيص العام بالمفهوم ترجيحًا للأضعف على الأقوى؛ وإنه لا يجوز، والله أعلم. المسألة الثالثة لا يخصص المفهوم العموم قال القرافي: قوله: قوله: (مثاله: إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم، ثم قال الشارع: (في سائمة الغنم الزكاة). قلنا: لا معني لقولكم: إذا ورد، وقد ورد وهو مشهور، وهو قوله عليه السلام: (في كل أربعين شاة شاة). قال سيف الدين: لا أعرف خلافًا بين القائلين بالعموم والمفهوم: أنه

يجوز تخصيص العموم بالمفهوم، كان مفهوم موافقة، أو مخالفة، حتى إنه إذا قال: (من دخل داري، فأضربه) ثم قال: (إذا دخل زيد داري، فلا تقل له، أف) فإن ذلك يدل على تحريم ضرب زيد، وإخراجه من العموم مفهوم الموافقة. قال الغزالي في (المستصفى): (مفهوم الموافقة؛ كتحريم الضرب من تحريم التأفيف- قاطع، كالنص يخصص به، ومفهوم المخالفة عند القائلين به كالنص يخصص به؛ حتى إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم، ثم قال: (في سائمة الغنم الزكاة) خصص العام بالمعلوفة، وبقيت السائمة وخدها؛ لأجل المفهوم. ***

القول في بناء العام على الخاص إذا روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبران: خاص، وعام، وهما كالمتنافيين فإما أن نعلم تاريخهما، أو لا نعلم: فإن علمنا التاريخ: فإما أن نعلم مقارنتهما، أو نعلم تراخي أحدهما عن الآخر: فإن علمنا مقارنتهما؛ نحو أن يقول: (في الخيل زكاة) ويقول عقيبه: (ليس في الذكور من الخيل زكاة) فالواجب أن يكون الخاص مخصصًا للعام، ومنهم من قال: بل ذلك القدر من العام يصير معارضًا للخاص. لنا وجوه: الأول: أن الخاص أقوى دلالة على ما يتناوله من العام، والأقوى راجح؛ فالخاص راجح. بيان الأول: أن العام يجوز إطلاقه من غير إرادة ذلك الخاص، أما ذلك الخاص فلا يجوز إطلاقه من غير إرادة ذلك الخاص؛ فثبت أنه أقوى. الثاني: أن السيد إذا قال لعبده: اشتر كل ما في السوق من اللحم ثم قال عقيبه: (لا تشتر لحم البقر) فهم منه إخراج لحم البقر من كلامه الأول. الثالث: أن إجراء العام على عمومه إلغاء للخاص، واعتبار الخاص لا يوجب إلغاء واحد منهما؛ فكان ذلك أولى. فإن قلت: هلا حملتم قوله: (في خيل زكاة) على التطوع، وقوله: (لا

زكاة في الذكور من الخيل) على نفي الوجوب، وهذا وإن كان مجازًا، لكن التخصيص أيضًا مجاز، فلم كان مجازكم أولى من مجازنا؟! قلت: إنا نفرض الكلام فيما إذا قال: (أوجبت الزكاة في الخيل) ثم قال: (لا أوجبها في الذكور من الخيل). ولأن قوله: (في الخيل زكاة) يقتضي وجوبها في الإناث والذكور، فلو حملناه على التطوع، لكنا قد عدلنا باللفظ على ظاهره في الإناث، لدليل لا يتناول الإناث، وليس كذلك، إذا أخرجنا الذكور في قوله: (في الخيل زكاة) لأنا نكون قد أخرجنا من العام شيئًا، لدليل يتناوله، واقتضي إخراجه. أما إذا علمنا تأخير الخاص عن العام، فإن ورد الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام كان ذلك بيانًا للتخصيص. ويجوز ذلك عند من يجوز تأخير بيان العام، ولا يجوز عند المانعين منه. وإن ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، كان ذلك نسخًا وبيانًا لمراد المتكلم فيما بعد، دون ما قبل؛ لأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة، أما إن كان العام متأخرًا عن الخاص، فعند الشافعي وأبي الحسين البصري: أن العام يبتني على الخاص؛ وهو المختار. وعند أبي حنيفة، والقاضي عبد الجبار بن أحمد: أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم. وتوقف ابن [القاص] فيه.

لنا وجوه: الأول: الخاص أقوى دلالة على ما يتناوله من العام، والأقوى راجح؛ فالخاص راجح. الثاني: أن إجراء العام على عمومه يوجب إلغاء الخاص، واعتبار الخاص لا يوجب إلغاء واحد منهما؛ فكان أولى. واحتج أبو حنيفة وأصحابه- رحمهم الله- بأمور: أحدها: ما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (كنا نأخذ بالأحدث، فالأحدث) فإذا كان العام متأخرًا، كان أحدث؛ فوجب الأخذ به. وثانيها: لفظان تعارضا، وعلم التاريخ بينهما فوجب تسليط الأخير على السابق، كما لو كان الأخير خاصًا، واحترزنا بقولنا: (لفظان) عن العام الذي يخصه العقل، فإنا هناك سلطنا المتقدم. وثالثها: أن اللفظ العام في تناوله لآحاد ما دخل تحته- يجري مجري ألفاظ خاصة، كل واحد منها يتناول واحدًا فقط من تلك الآحاد؛ لأن قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] قائم مقام قوله: (اقتلوا زيدًا المشرك، اقتلوا عمرًا، اقتلوا خالدًا) ولو قال ذلك بعدما قال: (لا تقتلوا زيدًا) لكان الثاني ناسخًا. واحتج ابن القاص على التوقف: بأن هذين الخطابين، كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه آخر؛ لأنه إذا قال: (لا تقتلوا اليهود) ثم قال بعده: (اقتلوا المشركين) فقوله: لا تقتلوا اليهود أخص من قوله: (اقتلوا المشركين) من حيث إن اليهودي أخص من المشرك، وأعم منه؛ من

حيث إنه دخل في المتقدم من الأوقات ما لم يدخل في المتأخر، وهو ما بين زمان ورود المتقدم والمتأخر. فظهر أن الخاص المتقدم أعم في الأزمان، وأخص في الأعيان، والعام المتأخر بالعكس؛ فكل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه آخر وإذا ثبت ذلك وجب التوقف والرجوع إلى الترجيح، كما في كل خطابين هذا شأنهما. والجواب عن الأول: أن هذا قول الصحابي؛ فيكون ضعيف الدلالة؛ فنخصه بما إذا كان الأحدث هو الخاص. وعن الثاني: أن الفرق ما ذكرنا من أن الخاص أقوى من العام؛ فوجب تقديمه عليه، ولأنا لو لم نسلط الخاص المتأخر على العام المتقدم، لزم إلغاء الخاص، أو لو لم نسلط العام المتأخر على الخاص المتقدم، فلا يلزم ذلك؛ فظهر الفرق. وعن الثالث: أنه إذا كان اللفظ عاما احتمل التخصيص وليس كذلك، إذا كان خاصًا، ولهذا لو كان قوله: (لا تقتلوا اليهود) مقارنًا لقوله: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] لخصه، ولو قارن المفصل، لناقضه، ولم يخصه؛ لأن الخاص لا يحتمل التخصيص. وأما الذي تمسك به ابن القاص فهو ضعيف؛ لأنه فرض الخاص المتقدم نهيًا؛ فلا جرم عم الأزمان، وفرض العام المتأخر أمرًا؛ فلا جرم لم يعم الأزمان، فصح له ما ادعاه من كون الخاص أعم من العام؛ من هذا الوجه. أما لو فرضنا الخاص المتقدم أمرًا، والعام المتأخر نهيًا؛ فإنه لا يستقيم كلامه؛

لأن الخاص المتقدم لا شك أنه خاص في الأعيان، وهو أيضًا خاص في الأزمان، لأن الأمر لا يفيد التكرار. أما العام المتأخر فإذا فرضناه نهيًا، كان أعم من المتقدم في الأعيان بالاتفاق، وفي الأزمان أيضًا؛ لأن الأمر لا يتناول كل الأزمان؛ بل يتناول زمانًا واحدًا، فهاهنا المتأخر أعم من المتقدم من كل الوجوه؛ فبطل ما قالوه، والله أعلم. أما إذا لم يعرف التاريخ بينهما فعند الشافعي- رضي الله عنه-: أن الخاص منهما يخص العام. وعند أبي حنيفة- رضي الله عنه- يتوقف فيهما، ويرجع إلى غيرهما، أو إلى ما يرجح أحدهما على الآخر؛ وهذا سديد على أصله؛ لأن الخاص دائر بين أن يكون منسوخًا، وبين أن يكون مخصصًا، وناسخًا مقبولًا، وناسخًا مردودًا؛ وعند حصول التردد يجب التوقف. واعتمد أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: أنه ليس للخاص مع العام إلا أن يقارنه، أو يتقدمه، أو يتأخر عنه، وقد ثبت تخصيص العام بالخاص عندنا على التقديرات الثلاثة، فعند الجهل بالتاريخ، يكون الحكم أيضًا كذلك، وهذا ضعيف؛ لأن الخاص المتأخر عن العام، إن ورد قبل حضور وقت العمل بالعام، كان تخصيصًا، وإن ورد بعده، كان نسخًا. وعلى هذا نقول: إن كان العام والخاص مقطوعين، أو مظنونين، أو العام مظنونًا، والخاص مقطوعًا- وجب ترجح الخاص على العام؛ لأن الخاص دائر بين أن يكون ناسخًا، أو مخصصًا.

وعلى التقديرين؛ فالخاص مقدم في هذه الصورة. أما إذا كان العام مقطوعًا به، والخاص مظنونًا، فبتقدير أن يكون الخاص مخصصًا؛ وجب العمل به؛ لأن التخصيص الكتاب بخبر الواحد جائز. لكن بتقدير أن يكون ناسخًا؛ لم يجب العمل به؛ لأن نسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز. فالحاصل: أن الخاص دائر بين أن يكون مخصصًا، وبين أن يكون ناسخًا مقبولًا، وبين أن يكون ناسخًا مردودًا، وإذا كان كذلك، لم يجب تقديم الخاص على العام مطلقًا. الثاني: أن العموم يخص بالقياس مطلقًا، فلأن يخص بخبر الواحد أولى. وهو ضعيف؛ لأن القياس يقتضي أصلًا يقاس عليه فذلك الأصل، إن كان متقدمًا على العام، لم يجز القياس عليه عندنا، وكذا القول، إذا لم يعرف تقدمه وتأخره، لا يجوز القياس عليه. والمعتمد: أن فقهاء الأمصار: في هذه الأعصار: يخصصون أعم الخبرين بأخصهما، مع فقد علمهم بالتاريخ. فإن قلت: إن ابن عمر- رضي الله عنهما- لم يخص قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء: 23]، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تحرم الرضعة، ولا الرضعتان). وعنه أيضًا أنه لما سئل عن نكاح النصرانية حرمه؛ محتجًا بقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة: 221] وجعل هذا العام رافعًا لقوله

تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} [المائدة: 5] مع خصوصه. قلت: ادعينا إجماع أهل هذه الأعصار، ويحتمل أن يكون ابن عمر امتنع من ذلك؛ لدليل. تنبيه: إن الحنفية، لما اعتقدوا أن الواجب في مثل هذا العام والخاص؛ إما التوقف، وإما الترجيح، ذكر عيسى بن أبان ثلاثة أوجه في الترجيح: أحدها: اتفاق الأمة على العمل بأحدها. وثانيها: عمل أكثر الأمة بأحد الخبرين، وعيبهم على من لم يعمل به؛ كعملهم بخبر أبي سعيد، وعيبهم على ابن عباس؛ حين نفى الربا في النقدين. وثالثها: أن تكون الرواية لأحدهما أشهر. وزاد أبو عبد الله البصري وجهين آخرين: أحدهما: أن يتضمن أحد الخبرين حكمًا شرعيًا. وثانيهما: أن يكون أحد الخبرين بيانًا للآخر بالاتفاق؛ كاتفاقهم على أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا قطع إلا في ثمن المجن) بيان لآية السرقة. قال أبو الحسين البصري رحمه الله: (هذه الأمور أمارة، لتأخر أحد الخبرين؛ لأن الخبر لو كان متقدمًا منسوخًا لما اتفقت الأمة على استعماله، ولا عابوا من ترك استعماله، ولما كان نقله أشهر، ولما أجمعوا على كونه بيانًا لناسخه، وكون الحكم غير شرعي يقتضي كون الخبر الذي تضمنه مصاحبًا للعقل، وأن الخبر المتضمن للحكم الشرعي متأخر. وهذا الوجه ضعيف، والله أعلم.

القول في بناء العام على الخاص قال القرافي: قال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): عندنا يقدم الخاص، ويتوقف فيهما عند القاضي أبي بكر. وعند الحنيفة: إن تأخر الخاص، خصص، وإن تقدم، نسخه العام. وقال بعض أصحابنا: إن ورد الخاص بعد العام كان ناسخًا لما تناوله من العام؛ بناء على أن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الخطاب؛ قاله بعض أصحابنا، كما قاله المعتزلة. وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان الخاص والعام متفقًا على العمل بهما، قضي الخاص على العام، لقوله عليه السلام: (في الرقة ربع العشر) مع قوله عليه السلام: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة). وقال أهل الظاهر: إن كانا في القرآن قضي بالخاص على العام، أو في السنة، سقطا، فهذه ستة مذاهب. قوله: (إذا روى خاص وعام، فهما كالمتباينين): تقريره: هذا التشبيه: أن ظاهر اللفظ يقتضي التنافي، وإذا جمع بينهما، ذهب التنافي، فلذلك قال: كالمتباينين، ولم يقل: متباينان؛ فإن التنافي ليس محققًا؛ لأجل إمكان الجمع.

قوله: (اعتبار الخاص لا يوجب إلغاء واحد منهما): يريد بكليته: وإلا فهو يلزم منه إلغاء ظاهر العام، لكن ليس بكليته، بل ببعض أفراده. قوله: (في الخيل زكاة) يقتضي وجوبها في الإناث. قلنا: لا نسلم أن صيغة (في) تقتضي الإيجاب، بل هي أعم من الوجوب، والندب؛ لأن ثبوت الزكاة فيها يصدق بالطريقين. قوله: (إن ورد الخاص بعد وقت العمل بالخاص، كان نسخًا وبيانًا لمراد المتكلم فيما بعد، دون ما قبل): تقريره: أن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة في عادة الشرع، وأن العقل يقتضي جوازه؛ بناء على تكليف ما لا يطاق، لكن تكليف ما لا يطاق غير واقع، فنعتقد إذا عملنا بالعام، ولم يأت بيان: أن العموم مراد، فيكون الرفع بعد ذلك نسخًا لما هو مراد، وبيانًا؛ لأن المتكلم أراد عدم الحكم فيما بعد ذلك، دون ما قبله؛ لأن الحكم الثابت قبل بالعموم، لا بالخصوص الناسخ. قوله: (كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث): قلنا: (الأحدث) صيغة عامة في أفراد الأحدث، مطلق في متعلقاته، وأحواله، وأزمنته، وبقاعه؛ كما تقدم غير مرة، فنحمله على بعض متعلقاته، وهو الأحدث من الأحكام دون الأدلة، والنزاع إنما هو في الأدلة، ويكون هذا تقييدًا لتلك الحالة والمتعلق، لا تخصيصًا للعموم، ويبقي لفظ الراوي على عمومه، والأحكام هي السابقة للفهم عند سماع هذه الصيغة. ولذلك قال العلماء: أحكام أوائل الإسلام كان فيها الرخص كثيرة، ولما قويت عصابة الإسلام واستقر، تجددت العزائم ناسخة لتلك الأحكام السابقة، وهو معنى الحديث.

قوله: (اللفظ العام قائم مقام التنصيص على الأعيان الخاصة، فقوله: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] قائم مقام اقتلوا زيدًا، اقتلوا عمرًا) ولو قال ذلك، لكان ورود التخصيص بعد ذلك نسخًا): قلنا: الفرق أن صيغة العموم تدل على كل نوع تضمنًا، وفي التنصيص على الأنواع تدل مطابقة، ولفظ التنصيص على الأفراد لا يقبل الاستثناء في كل فرد نص عليه، وفي العموم يقبله، فافترقا. قوله: (إذا قال: لا تقتلوا اليهود، ثم بعد سنة قال: (اقتلوا المشركين) يكون الأول أعم في الأزمان). تقريره: أن هذا البحث مبني على أن النهي يقتضي التكرار، فيتناول الأزمنة من حين وروده إلى آخر الدهر، والأمر- وإن سلمنا أنه للتكرار- فإنما يتناول الأزمنة، من حين وروده إلى آخر المستقبل؛ فينفصل النهي بالسنة الكائنة قبل ورود الأمر. قوله: (وإذا كان كل واحد منهما أعم وأخص من وجه، وجب التوقف): قلنا: عموم (المشركين) في الأشخاص، وعموم النهي الخاص في الأزمان، ودلالة اللفظ على الأشخاص- ليس من الأزمنة، والزمان أبعد عنها، وإن كان المقصود الأهم إنما هو الأشخاص، ودلالة الخاص على أفراده أقوى، فوجب ترجيحه. قوله: (قول الصحابي ضعيف، فنحمله على ما إذا كان المتأخر هو الخاص). قلنا: هذا تحكم؛ لأنه، إن كان حجة، فيجب ألا يخص عمومه إلا بدليل، ولم يذكروه، فإن لم يكن حجة، فلا يحمل على شيء.

قوله: (وهذا سديد على أصله؛ لأن الخاص دائر بين أن يكون منسوخًا ومخصصًا، وناسخًا مقبولًا، وناسخًا مردودًا): تقريره: أن الخاص يحتمل عند الجهل بالتاريخ أن يكون متقدمًا، فيكون منسوخًا على قاعدته أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، وإن كان متأخرًا، وورد قبل العمل بالعام، كان مخصصًا، أو بعد العمل بالعام، فيكون ناسخًا مقبولًا، إن كان مساويًا له، أو أقوى من حيث السند. فأما المتقدم، إن كان متواترًا، لا ينسخه بالآحاد المتأخر، وإن كان متواترًا، نسخ العام المتقدم في الأفراد التي يتلوها الخاص، فلما تعارضت الاحتمالات، وجب التوقف. قلت: وقع في (المحصول) في هذه المسألة ابن الفارض بالفاء، و (ابن العارض) بالعين مع الراء فيهما، وهما تصحيف، وإنما هو (ابن القاص) بالقاف والصاد بالمهملة من غير راء، وهو أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري، صاحب أبي العباس بن سريج مات ب (طرمسوس) سنة خمس وثلاثمائة، وكان إمامًا عظيمًا من الشافعية، وله مصنفات: كتاب (المفتاح) و (أدب القضاء) و (المواقيت) و (التلخيص) وله يقول الشاعر: [الكامل] عقم النساء فلا يلدن شبيهه .... إن النساء بمثله عقم وعنه أخذ الفقه أهل (طبرستان) ذكره الشيخ أبو إسحاق في (طبقات الفقهاء) كذلك، وينبغي لابن القاص؛ ألا يتوقف إلا في الأفراد التي يتناولها

الخاص من العام، أما ما عداها، فسالم عن معارضة هذه الشبهة، فلا يتوقف فيها. قوله: (إذا دار الخاص بين أن يكون هو، والمعارض مقطوعين، أو مظنونين، أو العام مظنونًا، والخاص مقطوعًا): لا يقضي بتقديم الخاص على العام مطلقًا. يريد: بل يفصل في النصوص، ويقال: هل هما حالة النظر مقطوعان، أو مظنونان، أو أحدهما؟ ويخرج أحدهما على هذه القواعد المتقدمة، ولا يجزم بالتقديم مطلقًا، بل يقدم العام المقطوع على الخاص المظنون، لاحتمال تأخره عن وقت العمل بالعام، ويقدم الخاص المقطوع على العام المظنون السند؛ لأنه أسوأ أحواله أن يكون ناسخًا، وهو يصلح لذلك. قوله: (أصل القياس إن كان متقدمًا على العام، لم يجز القياس عليه عندنا): تقريره: أن أبا حنيفة يجعل العام المتأخر ناسخًا للخاص المتقدم، فعلى تقدير ورود حديث عبادة في الأشياء الستة في الربا، وورود قوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275] كان ناسخًا لحديث عبادة، فلم يستقر الحكم في البر، حتى يقاس عليه الأرز، بل يبطل المنع في الجميع عنده، فلا يحتج عليه بمثل هذا القياس؛ به هذا تقرير كلامه بحسب الإمكان مع أن عبارته تقتضي أنا نحن أيضًا نقول بذلك، وما رأيت هذا في غير هذا الموضع. قوله: (عابوا على ابن عباس نفي الربا في النقد): يريد بالنقد الناجز في الربويات: كيف كان، لأنه يخصص الربا بالنسيئة؛ لقوله عليه السلام: (إنما الربا في النسيئة)، ولم يرد بالنقد الذهب، والفضة خاصة.

(سؤال) قال النقشواني: قوله في الخاص المتقدم: (لو نسخناه بالعام المتأخر، لزم إلغاؤه) ممنوع

قوله: (أحدهما: أن يتضمن أحد الخبرين حكمًا شرعيًا): يريد: والآخر مضمونه حكم عقلي؛ لأنه- عليه السلام- إنما بعث لبيان الشرعيات، لا لبيان العقليات. قوله: (وثانيهما: أن يكون أحدهما بيانًا للآخر بالاتفاق؛ لقوله عليه السلام: (لا قطع إلا في ثمن المجن) اتفقوا على أنه بيان لآية السرقة): تقريره: أنه لو لم يتفقوا على أنه بيان، لم يقدم؛ لأن التخصيص كله بيان، فلولا الإجماع، لوجب التوقف في هذا المخصص مع ذلك العموم، لكن لما دل الصادق المعصوم الذي هو الإجماع أنه بيان له، وجب المصير لما قاله الإجماع اضطرارًا. قوله: (هذا الوجه ضعيف): قال ابن يونس في تعليقه: (يريد أن هذا لا يفيد اعتقاد أنه متأخر، بل لعل سبب ذلك ما ذكره الجمهور من كونه خاصا، فينبغي تقديمه على العموم). (سؤال) قال النقشواني: قوله في الخاص المتقدم: (لو نسخناه بالعام المتأخر، لزم إلغاؤه) ممنوع، بل يبقي معمولًا به في الزمان المتقدم، وإنما يبطل في الزمن المتأخر. جوابه: أن الترجيح والحجة باعتبار المستقبل إلى آخر الدهر، فإنا إذا قدمنا

(سؤال) قال النقشواني: الذي اختاره المصنف في النهي أنه لا يفيد التكرار، وهاهنا ألزم التكرار

العام على الخاص، بطل الخاص في المستقبل مطلقًا، وإذا قدمنا الخاص على العام، لا يلغو واحد منهما في المستقبل، فكان أولى (سؤال) قال النقشواني: جوابه بأن (المتقدم) إذا فرض أمرًا، لا يلزم ما قاله ابن القاص لا يتم له؛ بل لا فرق بين الأمر والنهي سواء قلنا: الأمر يفيد التكرار أم لا؛ لأنا إذا قلنا: الأمر لا يفيد التكرار، فمعناه: لم يوضع له لغة، ومع ذلك فتناول الأزمنة المستقبلة إلى يوم القيامة باعتبار الإمكان، كما إذا قلنا: الحج لم يرد أمره بالتكرار فيه، فإنه يلزم كل أحد حجة واحدة إلى قيام الساعة، وكذلك إيجاب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة في العمر، وهي متكررة في جميع الأعصار، فحينئذ لا فرق بين البابين. (سؤال) قال النقشواني: الذي اختاره المصنف في النهي أنه لا يفيد التكرار، وهاهنا ألزم التكرار، إن كان النهي متقدمًا، فقد ناقض. جوابه: أنه ألزم ابن القاص مذهبه في النهي، ولم يفرع على مذهبه هو، بل على مذهب خصمه؛ ليتبين له أن مدركه يطرد في الأمر؛ كما قاله في النهي. (سؤال) قال النقشواني: الشهادتان، إذا علم تقدم إحداهما، عمل بها، وقدمت، وإن جهل التاريخ، عمل بها مع أن كل واحدة منهما يمكن أن تكون مقبولة ومردودة؛ فعلى هذا لا ينبغي التوقف عند جهل التاريخ، بل يعمل بهما، وإلا فما الفرق؟ قلت: الظاهر أنه يريد بالشهادتين، إذا شهدت إحداهما بأنه أقرضه مائة، وشهدت أخرى بأنه أبرأه من خمسين حتى يبقي فيهما أهم وأخص، فإن علم

(سؤال) قال النقشواني: ثم قوله: (إذا تقدم النص، الذي هو أصل القياس، لا يصح القياس عنده) لا يتجه

تقدم الإبراء، لغي أو تقدم القرض، اعتبر، وأبرئ من خمسين، وإن جهل الحال، اعتبرت البينتان، وألزم بخمسين فقط مع جهل التاريخ، ولا يحصل هاهنا توقف أصلًا، مع جواز أن يكون الإبراء قبل القرض؛ فلا يؤثر شيئًا في الإسقاط، والمائة على حالها؛ لتأخرها عن زمن الإبراء، مع أنه لم يقل أحد به، فكما لم يحصل التوقف في الشهادتين في حالة من الحالات، علم التاريخ، أو جهل ذلك في الخبرين، وهذا مستند أعابهم في ترك العمل بالخاص في الربا في النقد، فقدم احتمال التخصيص على احتمال النسخ؛ لأنه أخف، وكما في الشهادتين. (سؤال) قال النقشواني: ثم قوله: (إذا تقدم النص، الذي هو أصل القياس، لا يصح القياس عنده) لا يتجه؛ لأن النص، الذي هو أصل القياس، قد يتقدم على العام، ولا يكون بينه وبين العام معارضة، من حيث اللفظ، كما إذا ورد الأمر بأخذ الجزية من النصارى، ثم ورد الأمر بقتل اليهود، فهذان نصان، لا تعارض بينهما، مع أنه لو رغب أحد من اليهود في بذل، الجزية أمكن قياسه على النصارى؛ بجامع المصلحة، مع أن هذا ليس من باب الخاص والعام، الذي يقول أبو حنيفة بنسخه، ومنع القياس عليه؛ لعدم التعارض في اللفظ، ولو صح ما قاله، لانسد باب تخصيص العموم بالقياس. (تنبيه) وافقه سراج الدين في قوله عندنا في تقدم أصل القياس، وسكت تاج الدين عن هذا البحث بالكلية، وكذلك التبريزي، و (المنتخب) قال: إذا كان أصل القياس مقدمًا على العموم، مع انتفاء التاريخ، لم يجز القياس عليه بالإجماع، فغير العبارة، وحكي الإجماع، وما أدري، هذا الشرط

في القياس من قاله من المتقدمين، ولا من المتأخرين غير (المحصول) ومختصراته تبع له. ولم يزل الناس وجماهير الفقهاء يقيسون، ويخصصون، مع أن أصل ذلك القياس غير معلوم التاريخ فهو مشكل، وقد خطر، فيه جواب حسن، وهو أن قوله: (وهذا ضعيف إلى آخر كلامه) السؤال هو من جهة الحنيفة، فأمكن أن يكون الإمام أورد هذا على ألسنتهم، ويكون قوله (عندنا) عائدًا على الحنيفة، والضمير الذي هو النون والألف عائد عليهم، وهو مستقيم، كما قررته أول المسألة على أصولهم، ولا يكون في هذا التأويل كبير بعد، ويكون الإجماع الذي حكاه (المنتخب) خطأ؛ فإن المصنف لم يقله، ويندفع الإشكال بالكلية. ثم إني بعد الوصول إلى هذه الغاية في الكلام، وجدت أبا الحسين في (المعتمد) قد صرح بهذا، فقال: والجواب عن القياس: أن أصله، إذا تقدم على العام، وكان منافيًا له- امتنع القياس عليه عند الخصم؛ لأنه منسوخ بالعام، فإذا جهل التقدم، امتنع القياس، لاحتمال التقدم. قال: وإن كان أصل القياس متقدمًا على وجه لا ينافيه لنهيه- عليه السلام- عن بيع البر، ثم يقول بعده: (أحللت لكم بيع ما سوى البر) - فيجوز القياس على البر؛ لأنه لا نسخ حينئذ لعدم المنافاة؛ بخلاف لو قال: (أحللت لكم البياعات) فإنه ينافيه وينسخه، ويمتنع القياس، فصرح أن هذا المنع إنما هو على مذهب الخصم. وفصل هذا التفصيل الحسن، وزال الإشكال، ولله الحمد، وظهر أن الذي ظهر لي أن الضمير ضمير الحنفية في قوله: (عندنا)، وأن لفظ (المحصول) صواب، ولفظ (المنتخب) خطأ. وكذلك رأيت العالمي الحنفي ذكر في كتابه (الموضوع في أصول الفقه)

على أصولهم ذكر حججنا عليهم، ومنع صحة القياس على أصولهم، وعلله بأن أصل القياس، إن تقدم، كان منسوخًا؛ فلا يصح القياس عليه، وإنما يصح القياس عليه، وهو متقدم، إذا لم يتناوله العام اللاحق، كما قاله صاحب (المعتمد) حرفًا بحرف، ولم يدع موافقتنا على ذلك، ولا إجماعًا، ولم يرد على المنع بناءً على أصله. ***

القول فيما ظن أنه من مخصصات العموم، مع أنه ليس كذلك، وفيه مسائل المسألة الأولى قال الرازي: الخطاب الذي يرد جوابًا عن سؤال سائل: إما ألا يكون مستقلا بنفسه، أو يكون: والأول على قسمين؛ لأن عدم استقلاله إما أن يكون لأمر يرجع إليه؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر: (أينقص، إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: فلا، إذن). وإما أن يكون لأمر يرجع إلى العادة كقوله: (والله لا آكل) في جواب من يقول: (كل عندي) لأن هذا الجواب مستقل بنفسه، غير أن العرف اقتضي عدم استقلاله، حتى صار مفتقرًا إلى السبب الذي خرج عليه. والقسم الثاني على ثلاثة أنواع؛ لأن الجواب إما أن يكون أخص، أو مساويًا، أو أعم، والأعم إما أن يكون أعم مما سئل عنه؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن بئر بضاعة: (الماء طهور لا ينجسه شيء). أو يكون أعم في غير ما سئل عنه؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد سئل عن ماء البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته). إذا عرفت هذه الأقسام فنقول: أما الجواب الذي لا يستقل بنفسه؛ فإنه يفيد مع سببه، فيكون السبب موجودًا في كلام المجيب تقديرًا، وإلا لم يفد.

ولو أن المتكلم أتي بالسبب في كلامه؛ فقال: (والله، لا آكل عندك) لكان اليمين مقصورًا على الأكل عنده. وأما الجواب المستقل المساوي، فلا إشكال فيه، وأما الأخص فهو جائز بثلاث شرائط: أحدها: أن يكون فيما خرج عن الجواب تنبيه على ما لم يخرج منه. وثانيها: أن يكون السائل من أهل الاجتهاد. وثالثها: ألا تفوت المصلحة، باشتغال السائل بالاجتهاد. وبدون هذه الشرائط، لا يجوز. وأما إذا كان الجواب أعم في غير ما سئل عنه، فلا شبهة في أنه يجري على عمومه. أما إذا كان الجواب أعم مما سئل عنه، فالحق أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب خلافًا للمزني، وأبي ثور؛ فإنهما زعما أن خصوص السبب يكون مخصصًا لعموم اللفظ. قال إمام الحرمين: (وهو الذي صح عن الشافعي- رضي الله عنه-) لنا وجهان: الأول: أن المقتضي للعموم قائم، وهو اللفظ الموضوع للعموم، والمعارض الموجود، وهو خصوص السبب، لا يصلح معارضًا؛ لأنه لا منافاة. بين عموم اللفظ، وخصوص السبب؛ فإن الشارع لو صرح؛ وقال: يجب عليكم أن

تحملوا اللفظ العام على عمومه، وألا تخصصوه بخصوص سببه، كان ذلك جائزًا، والعلم بجوازه ضروري. الثاني: أن الأمة مجمعة على أن آية اللعان، والظهار، والسرقة، وغيرها، إنما نزلت في أقوام معينين، مع أن الأمة عمموا حكمها، ولم يقل أحد: إن ذلك التعميم خلاف الأصل. واحتج المخالف: بأن المراد من ذلك الخطاب إما بيان ما وقع السؤال عنه أو غيره: فإن كان الأول: وجب ألا يزاد عليه؛ وذلك يقتضي أن يتخصص بتخصص السبب. وإن كان الثاني: وجب ألا يتأخر ذلك البيان عن تلك الواقعة. والجواب: أن ما ذكروه يقتضي أن يكون ذلك الحكم مقصورًا على ذلك السائل، وفي ذلك الزمان، والمكان، والهيئة. وأيضًا فلم لا يجوز أن يكون ذلك السؤال الخاص اقتضي ذلك البيان العام؟ لابد على امتناعه من دليل، والله أعلم. تنبيه: هذا العام، وإن كان حجة في موضع السؤال، وفي غيره، إلا أن دلالته على موضع السؤال، أقوى منها على غير ذلك الموضع، وهذا يصلح أن يكون من المرجحات، والله أعلم. قال القرافي: قوله: (الذي يستقل بنفسه، إن كان لأمر يرجع إليه):

(فائدة) لم يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرطب، هل ينقص، إذا جف؟

يريد لأمر يرجع إلى نفس لفظ الجواب؛ فإن قوله عليه السلام: (فلا إذن ....) لو نطق به وحده لم يفهم منه السامع شيئًا أصلًا. وقوله: (لا آكل) جملة مستقلة؛ لحسن السكون عليها، ويستقل العقل بفهم معناها، وإنما جاء عدم الاستقلال من جهة العادة أن مثل هذا الكلام، إذا قيل عقيب قول القائل: (كل عندي) إنما يفهم منه تعلقه بما تقدم، أما لو لم يتقدمه هذا السؤال، استقل بنفسه، ولم يضم إليه غيره، عادة، ولا لغة. (فائدة) لم يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرطب، هل ينقص، إذا جف؟ لأنه كان لا يعلم ذلك، بل كان يعلمه، وإنما قصد بهذا السؤال تنبيههم على علة المنع، وسبب السؤال والجواب، ومحاولة اللفظ، تتقرر العلة في أذهانهم، ويتضح الحكم إيضاحًا قويا، فهذا هو حكمة السؤال، لا يحصل العلم بالمسئول عنه.؟ قوله: (إن كان أعم فيما سئل عنه): قلنا: هذه العبارة غير وافية بالمقصود، بل ينبغي أن يقول: (أعم مما سئل عنه) حتى يكون أزيد أفرادًا من السؤال. أما قوله: (فيما سئل عنه يقتضي أن عمومه لا يتعداه، فجعل السؤال ظرفًا له، والمظروف لا يتعدي الظرف؛ لأن لفظة (في) تقتضي الظرفية. (فائدة) لم يقض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بئر (بضاعة) بشيء، لا بطهارة، ولا بنجاسة، بل ذكر ضابطًا عاما للماء، فكأنه قال: اعرضوا بئر (بضاعة) على هذا الضابط، فإن كان لم يتغير، فهو طهور، وإلا فنجس.

وقد فهم جماعة من أئمة الحديث وغيرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم في بئر (بضاعة) بالطهورية، حتى قال بعضهم: (دخلت إلى البستان الذي فيه البئر بالمدينة، فوجدته صغيرًا): ذكر مساحته، ثم قال: قيل: هذه المساحة لا يضرها التغير؛ لأنه- عليه السلام- حكم له بالطهورية مع قولهم: (إنه يلقي فيه الجيف والنتن) ذكره أبو داود، وهذا غير متجه لمن تأمل وجه الصواب. قوله: (أعم من غير ما سئل عنه، لقوله- عليه السلام- لما سئل عن البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته): تقريره: أنه ليس هاهنا لفظ مفرد هو أعم من ماء البحر، بل مجموع اللفظين الماء، والميتة هو الأعم من السؤال، فالجواب أعم من السؤال. قوله: (لو صرح الشارع بحمل اللفظ على عمومه، لجاز): قلنا: لا نزاع في الجواز، بل في الطهور؛ فالخصم يدعي أن اللفظ ظاهر في القصر على السبب؛ كظهور اللفظ في الحقيقة دون المجاز، مع أن التصريح بالمجاز جائز إجماعًا، بل المفيد أن يقولوا: لو صرح بحمل اللفظ على عمومه، لم يكن ذلك مخالفة للظاهر، فهذا هو محل النزاع. قوله: (حملوا آية السرقة وغيرها على العموم، ولم يقل أحد: إن ذلك خلاف الأصل): قلنا: إن ادعيتم أن أحدًا لم يعتقد ظهور اللفظ في اختصاصه بسببه، فهذا مصادرة، فالمسألة ليس فيها إجماع، لا في السلف، ولا في الخلف، فدعوى الإجماع باطلة قطعًا، وإن ادعيتم أنه لم يقل أحد: إن ذلك خلاف القرائن المرشدة لحمل تلك العمومات على عمومها فمسلم، ولكن لا نزاع عند قيام القرائن، إنما النزاع عند التجرد عن القرائن؛ فإن الأصل يراد به الظاهر الراجح، وقد يكون الرجحان للقرائن، وقد لا يكون لاقتضاء السبب، والسؤال المتقدم كذلك.

(تنبيه) زاد التبريزي؛ فقال؛ على قوله: (إن صاحب الشرع، لو صرح بذلك لجاز): إنه ضعيف

قوله: (إن كان المقصود بيان غير المسئول عنه، وجب ألا يتأخر البيان إلى تلك الواقعة): قلنا: لم لا يجوز أن يقصد بالعموم إنشاء معنى عام، يلزم منه بيان جواب السؤال، لا أنه يقصد به بيان مشكل تقدم حتى يلزم تأخير البيان إلى هذه الواقعة، بل قصد به الإشارة، والبيان في السؤال يحصل ضمنًا؟ قوله: (يلزم أن يكون ذلك الحكم مقصورًا على ذلك السائل في ذلك الزمان، والمكان، والهيئة): قلنا: لا مدخل للزمان، والمكان، والهيئة في ذلك، بل ذلك المعني المسئول عنه فقط، وليس في كلامنا ما يقتضي ما ذكرتموه. قوله: (لم لا يجوز أن يكون ذلك السؤال الخاص اقتضي ذلك البيان العام لابد على امتناعه من دليل): قلنا: قد بينا ذلك الامتناع من جهة أن الأصل في الأجوبة: أن تكون مطابقة للأسئلة، وأن تأخير البيان من واقعة، حتى تذكر في واقعة أخرى خلاف الظاهر. (تنبيه) زاد التبريزي؛ فقال؛ على قوله: (إن صاحب الشرع، لو صرح بذلك لجاز): إنه ضعيف؛ لأن الشارع لو تعبدنا بترك التخصيص بكل ما دل الدليل على كونه مخصوصًا- جاز، ولا يوجب ذلك خروجه عن كونه مخصصًا على قوله: إن آية السرقة ونحوها لم تختص بسببها، إنا إنما ندعي أن السبب قرينة مخصصة، ويجوز أن يعلم قصد العموم في مواضع بصريح أو قرينة على وجه يسقط هذه القرينة.

(فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): (لا يجوز تخصيص العموم بسببه

(فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): (لا يجوز تخصيص العموم بسببه؛ لأنه يدخل فيه دخولًا أوليا، ونقل عن أبي حنيفة تخصيصه به، وهو بعيد جدا، وظهر ذلك منه للناقلين عنه ذلك في حديثين: أحدهما: حديث العجلاني في اللعان، فإنه لاعن امرأته، وهي حامل، ونفي حملها، فانتفى، ومنع أبو حنيفة نفي الحمل باللعان). قلت: لم يرد في اللعان غير قضية العجلاني، والحديث الآخر: حديث

عبد بن زمعة وكان سئل عن ولد أمه في ملك اليمين، فقال: ولد على ملك أبي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر)، فألحق أبو حنيفة الولد بالنكاح، وإن استحال الوطء، ولم يلحق ولد المملوكة بمولاها، وإن أقر بالوطء والافتراش. قال: ولا يليق نسبة هذا له، بل يحمل على أن الحديثين لم يبلغاه بتمامهما. ***

المسألة الثانية قال الرازي: الحق أنه لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي وهو قول الشافعي- رضي الله عنه- لأنه قال: (إن كان الراوي حمل الخبر على أحد محمليه، صرت إلى قوله، وإن ترك الظاهر لم أصر إلى قوله) خلافًا لعيسى ابن أبان. ومثاله: خبر أبي هريرة في: (أن الإناء يغسل من ولوغ الكلب سبعًا) فإنه خص ذلك بمذهب أبي هريرة في أنه يغسل ثلاثًا. ومنهم من فصل؛ فقال: (إن وجد خبر يقتضي تخصيصه، أو وجد في الأصول ما يقتضي ذلك، لم يخص الخبر بمذهبه؛ وإلا خص بمذهبه. لنا: أن مخالفة الراوي تحتمل أقسامًا ثلاثة: طرفين، وواسطة: أما طرف الإفراط فهو أن يقال: الراوي عالم بالضرورة أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك العام الخاص؛ إما لخبر آخر قاطع يقتضي ذلك، أو لشيء من قرائن الأحوال، وهذا الاحتمال يعارضه أنه لو كان كذلك، لوجب على الراوي أن يبين ذلك؛ إزالة للتهمة عن نفسه وللشبهة. وأما طرف التفريط: فهو أن يقال: إنه ترك العموم بمجرد الهوى؛ وهو معارض بما أن الظاهر من عدالته خلافه. وأما الوسط: فهو: أنه خالفه بدليل ظنه أقوى منه: إما خبر محتمل، أو قياس. وذلك الظن يحتمل أن يكون خطأ، ويحتمل أن يكون صوابًا.

وإذا تعارضت الاحتمالات في مخالفة الراوي، وجب تساقطها، والرجوع إلى العموم. واحتج المخالف: بأن مخالفة الراوي، إن كانت لا عن طريق، كان ذلك قادحًا في عدالته، فالقدح في عدالته قدح في متن الخبر. وإن كانت عن طريق، فذلك الطريق إما محتمل، أو قاطع، ولو كان الدليل محتملًا لذكره إزالة للتهمة عن نفسه، والشبهة عن غيره؛ ولما بطل ذلك، تعين القطع. والجواب: أن إظهاره لذلك الدليل المحتمل إنما يجب عليه مع من ناظره؛ فلعله لم تتفق تلك المناظرة. سلمنا أنه ذكره؛ لكن لعله لم ينقل، أو نقل؛ لكنه لم يشتهر، والله أعلم. المسألة الثانية قال القرافي: الحق أنه لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي. قوله: (قال الشافعي: إن حمل الراوي الخبر على أحد محمليه صرت إليه): تقريره: أن اللفظ تارة يكون مجملًا؛ كالقرء، فيحمله الراوي على الطهر؛ فيصار إليه؛ لأنه لم يخالف ظاهرًا، وإن حمل العموم على الخصوص، لم يصر إليه؛ لأن ظاهر كلام الشارع حجة دون مذهب الراوي خلافًا لعيسى بن أبان، وقد تقدم في تخصيص العموم الكلام؛ على (أبان) وسبب منعه من الصرف. قوله: (ومثاله خبر أبي هريرة في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا، فإنه كان يغسله ثلاثًا):

قلنا: هذا اسم عدد، والكلام في صيغ العموم؛ فلا يتجه؛ ولأن الأعداد نصوص لا تقبل التخصيص؛ لأنه مجاز، والكلام في التخصيص، ومثله إمام الحرمين في (البرهان) بقوله عليه السلام: (لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا هاء وهاء) وحمله راويه عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- على التقابض في المجلس. وحكي القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص) في هذه المسألة خمسة مذاهب: تقديم ظاهر الخبر مطلقًا، وتقديم تفسير الراوي مطلقًا. والثالث: إن عدل عن الظاهر، قد الظاهر، أو كان تاويلًا، فالتفسير أولى. والرابع لبعض المالكية: إن كان مما يعلم بمشاهدة الحال، وبمخارج الكلام، فهو أولى، أو بالاستدلال، فالخبر أولى. والخامس: زيادة على الرابع، إن كان لا طريق إلا ذلك، فهو أولى، وإن احتمل ذلك وغيره، فالخبر أولى. وقال الأبياري في (شرح البرهان): (ما علمت أحدًا يقول بتقديم تفسير الراوي على الخبر بكون تفسيره يدل على دليل تقدم على الخبر، وإلا لما قدمه الراوي لعدالته:. قلت: وهذا ليس بخلاف الجماعة؛ لأنه مقصودهم. ومثل ابن برهان المسألة بقوله عليه السلام: (من بدل دينه فاقتلوه) وخصه بالرجل دون المرأة، وحكي الخلاف عن الحنفية. ***

المسألة الثالثة قال الرازي: الحق أنه لا يجوز تخصيص العام بذكر بعضه خلافًا لأبي ثور. مثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أيما إهاب دبغ، فقد طهر) قال: المراد جلد الشاة؛ لأنه قال - صلى الله عليه وسلم - في جلد شاة ميمونة: (دباغها طهورها). لنا: أن المخصص للعام، لابد، وأن يكون بينه، وبين العام منافاة، ولا منافاة بين كل الشيء وبعضه؛ لأن الكل محتاج إلى البعض، والمحتاج إليه لا ينافي المحتاج. احتج المخالف: بأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه؛ فتخصيص الخاص بالذكر يدل على نفي الحكم عن غيره؛ وذلك يقتضي تخصيص العام. والجواب: أنا لا نقول بدليل الخطاب. سلمناه؛ لكن التمسك بظاهر العموم أولى من التمسك بالمفهوم على ما تقدم. المسألة الثالثة لا يخص العام بذكر بعضه قال القرافي: قوله: (مثاله: قوله عليه السلام: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) مع قوله

(فائدة) الإهاب: الجلد قبل الدباغ

- عليه السلام- في شاة ميمونة: (دباغها طهورها). تقريره: أن جلد شاة ميمونة هو فرد من أفراد ذلك العام، لكن لا يمكن أن يقال: إن ذلك العموم، إنما أطلق، وأريد به هذا الجلد الشخص لوجهين: أحدهما: أن هذه صيغة قوية في التعميم فتخصيصها بالواحد بعيد عن كلام العرب، كما تقدم فيما يجب أن ينتهي التخصيص إليه. وثانيهما: أن هذا الجلد لم يكن معلومًا، ولا وقع في تلك الحالة؛ حتى يقصد، فتعين أن يكون المراد من جهة الخصم حمله على نوع جلود شاة، دون جلود البقر، وغيرها من الأنعام والسباع، فيتجه حينئذ قوله، أما أن الخصم يريد حمل العموم على هذا الجلد فبعيد. (فائدة) الإهاب: الجلد قبل الدباغ، أما بعده، فلا يسمي إهابًا، بل أديما، ونحو ذلك. قوله: (لا منافاة بين كل الشيء وبعضه). قلنا: مسلم؛ لكن ليس هذا هو مدرك الخصم، ففرق بين كل الشيء

وبعضه، وبين كل الشيء وذكر بعضه؛ على وجه الاختصاص، فإن تخصيص البعض بالذكر يقتضي تخصيص الحكم به، كما إذا قال الإنسان: (قبضت بعض الدين) لا يفهم العرب من هذا إلا أن حكم القبض يختص بالبعض، وأن البعض الآخر لم يقبض، فكذلك هاهنا، فالتخصيص عند الخصم بذكر البعض من جهة المفهوم؛ لأن البعض ينافي الكل؛ ولأن المنطوق ينافي المفهوم. ***

المسألة الرابعة قال الرازي: اختلفوا في التخصيص بالعادات. والحق أن نقول: العادات إما أن يعلم من حالها: أنها كانت حاصلة في زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يمنعهم منها، أو يعلم أنها ما كانت حاصلة، أو لا يعلم واحد من هذين الأمرين: فإن كان الأول: صح التخصيص بها، لكن المخصص في الحقيقة هو تقرير الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليها. وإن كان الثاني: لم يجز التخصيص بها؛ لأن أفعال الناس لا تكون حجة على الشرع، بل لو أجمعوا عليه لصح التخصيص بها، لكن المخصص حينئذ هو الإجماع، لا العادة. وإن كان الثالث: كان محتملًا للقسمين الأولين، ومع احتمال كونه غير مخصص، لا يجوز القطع بذلك، والله أعلم. المسألة الرابعة التخصيص العادات قال القرافي: قوله: (إذا جهل مقارنة العادة لزمن الخطاب، لا يجوز القطع بالتخصيص، ولا الظن؛ لأن العموم ظاهر لا ينصرف عن عمومه إلا لمانع، والأصل عدمه، فالراجح الذي يغلب على الظن عدمه عملًا بالأصل، فلا يكون التخصيص مظنونًا.

(تنبيه) العادة قد تكون عادة الناس، وقد تكون عادة صاحب الشرع

(تنبيه) العادة قد تكون عادة الناس، وقد تكون عادة صاحب الشرع، فإن كانت عادة الناس؛ خصصت عموم الناس الذي يلفظون به في وصاياهم، وأيمانهم وغير ذلك، فكل من له عادة في لفظه، حمل لفظه على عرفه الذي تقدم نطقه، أما المتأخر عن نطقه، فلا، كانت العادة خاصة به، أو عامة، في بلده؛ كالنقود وغيرها، أو في جميع الأقاليم. ولا يحمل كلام متكلم على عادة غيره، ولا يخصص بها عموم أهل بلد بعادة بلد آخر، وكذلك يمتنع التقييد، كما امتنع التخصيص، والعوائد المتأخرة مطلقًا لا تخصص ولا تقيد، وما علمت في ذلك خلافًا. وأما عرف الشارع وعادته، فيحمل لفظه عليها كما تقول: للشرع عادة في الإيمان، وهي الحلف بالله تعالى، فيحمل عليها قوله عليه السلام: (من حلف، واستثني، عاد كمن لم يحلف) والمخصص في هذه الصور كلها إنما هو العوائد، ولم يتعرض صاحب الكتاب لهذه العوائد، إنما تعرض لعوائد الأفعال دون الأقوال، إذا قررهم عليها. (قاعدة) العوائد قسمان: فعلية، وقولية: فالعوائد القولية: تخصص وتقيد، بخلاف الفعلية، فإنها ملغاة؛ لأن العوائد القولية معناها أن الناس يطلقون ذلك اللفظ، ولا يريدون به في عوائدهم إلا ذلك الشيء المخصوص ك (الدابة) لا يراد بها إلا (الفرس) في (العراق) والحمار ب (مصر) وكذلك الغائط والنجو، وغير ذلك مما جرت العادة بأنه يستعمل في غير مسماه، فيحمل على ذلك المنقول إليه في الاستعمال، ثم النقل.

والعوائد قد تكون في الألفاظ المفردة، وقد تكون في الألفاظ المركبة، وقد تقدم بسطه في الحقيقة العرفية. أما العوائد الفعلية: فتظهر بالمثال: فإذا حلف الملك لا أكلت خبزًا، فأكل خبز الشعير، حنث؛ وإن كانت عادته ألا يأكل إلا القمح. وإن حلف؛ لا يلبس ثوبًا، حنث بلبس ثوب كتان، وإن كانت عادته لبس الحرير. والسبب في ذلك أن العرف القولي ناسخ للغة، وناقل للفظ، والناسخ مقدم على المنسوخ، والفعل لا ينقل؛ لأنه لا يلزم من لباس الثياب الصوف دائمًا تغيير لفظ الثوب عن موضوعه، فلا معارضة بين العرف الفعلي والوضع اللغوي، فلذلك لم يخصص ولم يقيد. والعرف القولي معارض للغة [و] يقضي به عليها، فتأمل الفرق، فكثير من الفقهاء لا يخطر بباله هذا البحث، ولا هذا الفرق، وقد قال سيف الدين: إذا كان قوم لا يأكلون إلا طعامًا مخصوصًا، فورد تحريم الطعام بصيغة العموم، حمل على عمومه في المعتاد وغيره عند الجمهور؛ خلافًا لأبي حنيفة، وذكر عنهم القياس لأحد البابين على الأخير، وهو غير متجه؛ لما تقدم من الفرق. وحكي الغزالي هذا المثال بعينه، وجزم بعدم التخصيص به، ولم يحك خلافًا. وقال المازري: (العادة الفعلية ليست مخصصة؛ بخلاف القولية). قال: ومثال الفعلية قوله عليه السلام: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم؛

فليغسله سبعًا) مع أنه عادتهم لا يضعون في أوانيهم التي تصلها الكلاب إلا الماء، فيختص ذلك بالماء، ويعم جميع ما يتصور فيه الولوغ، خلاف في مذهب مالك، قال: وكأنها عادة قولية، فلم يجزم بذلك. قلت: وتوقف في موضع التوقف، بل المخصص عادة قوليه؛ لأنهم لم يكونوا يضعون في الآنية التي تصلها الكلاب غير الماء [و] كان غالب نطقهم بصيغة (ولغ) في الماء خاصة، فكان ذلك كغلبة نطقهم بلفظ (الدابة) في الفرس، لا أن مدرك التخصيص الفعل. ولم يحك خلافًا غير ما عرض له من التردد، وكذلك صاحب (المعتمد) حكي أن العادة قولية، وأن التخصيص إنما يقع بالقولية، دون الفعلية. ومثل الفعلية بنحو ما مثله سيف الدين، ولم يحك خلافًا. ولم أر أحدًا حكي الخلاف في العادة الفعلية إلا سيف الدين، وأخشى أن يكون ذلك، كما حكاه المازري عن المالكية، ويكون مدرك الحنفية في تلك الفروع هو عادة قولية، وقد التبست بالفعلية، كما تقدم بيانه في ولوغ الكلب، فيظن أنهم خالفوا، وما خالفوا. وأظن أني سمعت الشيخ عز الدين بن عبد السلام يحكي فيها الإجماع، وهو المتجه؛ لما تقدم أن ملابسة بعض المسمي لا يقتضي نسخ ذلك اللفظ عن ذلك المسمي، فلا تعارض ألبتة، فكيف يقضي على اللفظ بما لا يعارضه. قال العالمي في (أصول الفقه) على مذهب أبي حنيفة، لأنه حنفي: العادة

(قاعدة) إذا قررت عادة في زماننا، وتنازعنا، هل كانت في زمانه- عليه السلام- أم لا؟ لا نقضي بها، كما قال

الفعلية لا تكون مخصصة، إلا أن مجموع الأمة على استحسانها، ثم قال: ولقائل أن يقول: هذا تخصيص بالإجماع، لا بالعادة، فلعل هذا أيضًا مستند سيف الدين، وهو باطل، كما قاله العالمي. وأما تقريره- عليه السلام- على عوائد الناس في أفعالهم فالمخصص- كما قال صاحب الكتاب- هو تقريره- عليه السلام- دون ذلك الفعل. (قاعدة) إذا قررت عادة في زماننا، وتنازعنا، هل كانت في زمانه- عليه السلام- أم لا؟ لا نقضي بها، كما قال. وقال بعض أهل العصر: يقضي بها؛ عملًا بالاستصحاب، وهذا غلط؛ لأن الاستصحاب إنما يكون من الماضي للمستقبل والحاضر، لا من الحاضر للماضي، فجر الحوادث إلى ماضي الزمان غلط، وإنما يقال: الأصل عدم النقل والتغيير، إذا تقرر شيء فيقوله باعتبار الحاضر، أو باعتبار المستقبل، فتأمل هذه القاعدة في الاستصحاب؛ فإن كثيرًا يغلطون فيها. ***

المسألة الخامسة قال الرازي: كونه مخاطبًا هل يقتضي خروجه عن الخطاب العام؟ أما في الخبر فلا؛ لقوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم} [البقرة: 29] لأن اللفظ عام، ولا مانع من الدخول. وأما في الأمر الذي جعل جزاء؛ كقوله: (من دخل داري، فأكرمه) فيشبه أن يكون كونه أمرًا قرينة مخصصة، والله أعلم. المسألة الخامسة قال القرافي: قوله: (أما في الأمر الذي جعل جزءًا؛ كقوله: (من دخل داري، فأكرمه) يشبه أن يكون كونه أمرًا قرينة مخصصة): قلنا: بل ذلك ضعيف؛ لأنه لا مانع من أمره بإكرام نفسه، بل ذلك أهم مطالبه. قلنا: وربما يختص به العام في بعض صور التعاليق؛ نحو قوله: (من دخل داري، فعبده حر، وامرأته طالق) فإن هذا الحكم العام لا يتعداه، ولا تطلق إلا امرأته بالدخول فقط. ***

(سؤال)

المسألة السادسة قال الرازي: الخطاب المتناول لما يندرج فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمة كقوله: {يأيها الناس} [البقرة: 21]، {يأيها الذين آمنوا} [البقرة: 104] عام في حقهما، ومنهم من خصصه بالأمة قال: لأن منصب الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقتضي إفراده بالذكر؛ وهو باطل؛ لأن اللفظ عام، ولا مانع من دخول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه. وقال الصيرفي: كل خطاب لم يصدر بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتبليغه، ولكن ورد مطلقًا فالرسول - صلى الله عليه وسلم - مخاطب به؛ كغيره. وكل ما كان مصدرًا بأمر الرسول بتبليغه فذلك لا يتناوله؛ كقوله: {قل يأيها الناس} [الأعراف: 158]. المسألة السادسة الخطاب المتناول للأمة غير متناول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال القرافي قوله: (منصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي إفراده بالذكر): تقريره: أن عوائد الملوك والعظماء، إذا خاطبوا عامة رعيتهم، خصصوا وزراءهم وكبراء خاصتهم بخطاب يخصهم، وإذا كانت هذه العادة في الخطاب، وكلام الله- تعالى- يخصص بالعوائد، فتخصص بهذه العادة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم البرية وسيد الكونين. (سؤال) إنما كانت عوائد الملوك كذلك؛ لأن عظماء دولتهم يقاربونهم في الجلالة والحرمة وتمام العظمة؛ فاقتضاء الحال في سياستهم أن يميزوا عن الرعية؛ حفظًا لقولهم عن الفساد، وما يخشي من غوائلهم في إفساد الممالك.

أما الله تعالى، فالعالم كله، وجميع المخلوقات بالنسبة إلى عظمة جلاله، لا أقول: كالذرة الملقاة في الفلاة، بل العدم الصرف، والنفي المحض، فالتسوية بين أجزاء العالم بالنسبة إلى الله- تعالى- ضعيفة جدا، بل ذلك جناب عظيم، كل عظيم بالنسبة إليه ليس بعظيم، فهذا فرق عظيم يمنع من ملاحظة عوائد الملوك في خطاب الله تعالى. قوله: (إن كان الخطاب أمرًا بالتبليغ، لم يشاركه لقوله تعالى: {قل يأيها الناس} [يونس: 104]): قلنا: لا مانع من أن الله- تعالى- يأمره بأن يأمر نفسه بالأوامر الشرعية، وقد روى عنه- عليه السلام- أنه كان يقول، إذا جاء من الغزو: (جئنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر). قال العلماء: هو مجاهدة النفوس بأمرها وحضها على طاعة الله- تعالى- فإن عدو الكفر إن قتلك، أو قتلته، دخلت الجنة، وإن قتلت نفسك دخلت النار، والأمور كثيرة مذكورة في كتب الرقائق، ليس هذا موضعها؛ فإن أمر الإنسان لنفسه هو دأب كل عاقل في ليله ونهاره. ***

المسألة السابعة قال الرازي: الخطاب المتناول لما يندرج فيه الحر والعبد والمسلم والكافر لا يخرج عنه العبد والكافر، أما العبد: فلأن اللفظ عام، وقيام المانع الذي يوجب التخصيص خلاف الأصل. وهذا القدر يوجب دخول العبد فيه، بل العبادة التي تترتب على المالكية لا تتحقق في حق العبد؛ لأن العبد ليس له صلاحية المالكية، فأما فيما عداه فهو داخل فيه. فإن قلت: المانع من ذلك هو ما ثبت من وجوب خدمته لسيده في كل وقت يستخدمه فيه، وذلك يمنعه من العبادات في هذه الأوقات. فإن قلتم: إنما يلزمه خدمة سيده، لو فرغ من العبادات، فنقول: لم كان تخصيص الدليل الدال على وجوب خدمة السيد بما دل على وجوب العبادة أولى من تخصيص ما دل على وجوب العبادة بما دل على وجوب خدمة السيد؟ قلت: ما دل على وجوب خدمة السيد في حكم العام، وما دل على وجوب العبادات في حكم الخاص؛ لأن كل عبادة يتناولها لفظ مخصوص كآية الصلاة وآية الصيام؛ والخاص متقدم على العام. وأما بيان أن كونه كافرًا لا يخرجه عن العموم؛ فقد ثبت في باب أن الكفار مخاطبون بالشرائع، والله أعلم.

المسألة السابعة المتناول للأحرار والعبيد. قال القرافي: قوله: (الدليل الدال على العبادات أقوى من الدليل الدال على وجوب خدمة السيد؛ فيقدم عليه؛ فيندرج العبيد): لا يتم؛ لأن تلك النصوص تتناول الأحرار مع العبيد، فهي أعم من وجه؛ فيجب التوقف؛ لأن كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه. ***

المسألة الثامنة قال الرازي: قصد المتكلم بخاطبه إلى المدح، أو إلى الذم لا يوجب تخصيص العام، ومنع بعض فقهائنا من عموم قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} [التوبة: 34] وأبطلوا التعلق به في ثبوت الزكاة في الحلي، وقالوا: القصد به إلحاق الذم بمن يكنز الذهب والفضة، وليس القصد به العموم. والجواب: أنا فهمنا الذم من الآية؛ لدلالة اللفظ عليه، واللفظ دل على العموم فوجب إثباته، وليست دلالتها على الذم مانعة من دلالتها على العموم. المسألة الثامنة خطاب المدح والذم لا يوجب تخصيص العام قال القرافي: قوله: (خصص بعضهم قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ...} الآية: [التوبة: 34]، ومنعوا التمسك بها في الخيل، وقالوا: القصد إيجاب الذم بالكنز دون العموم). تقريره: أن لهم قاعدة، وهي: أن اللفظ إذا سيق لمعني لا يستدل به في غير ذلك المعني؛ لأن المتكلم لم يتوجه عليه، كما قلنا لأبي حنيفة لما استدل بقوله عليه السلام: (فيما سقت السماء العشر) على وجوب الزكاة في الخضراوات: قلنا له: هذا الكلام سيق لبيان الجزء الواجب، لا لبيان الواجب فيه؛ فلا يستدل به على عموم المسقي من السماء؛ لأنه لم يقصد في هذا المقام دليل قوله عليه السلام: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) سيق لبيان أن المجوس يسوى بينهم، وبين أهل الكتاب في أخذ الجزية، فلا يستدل به على أن

الجزية تؤخذ من المرأة والصغير ونحوهما؛ بطريق العموم؛ لأن ذلك لم يقصد، وإنما سيق للجزية، ولم يتوجه المتكلم بتقرير غير ذلك من القواعد، وكذلك لا يستدل به على جواز نكاح نسائهم، وأكل ذبائحهم؛ نظرًا لعموم اسم الجنس إذا أضيف في قوله عليه السلام: (سنة أهل الكتاب) فإنه يعم جميع ما ثبت لأهل الكتاب، وبالجملة: فهذه قاعدة مشهورة، إذا سيق الكلام بمعني، لا يستدل به على غيره؛ لعدم توجه المتكلم إليه، وحكاها القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص) مسألة مستقلة وفرسها بتوقف العموم على المقصود فيه. وحكي عن متقدمي المالكية، وبعض الشافعية منهم القفال: أنه موقوف على ما سيق لأجله، ويختص به، وإن كان عاما. وحكي عن متأخري المالكية القول بإجرائه على عمومه، فمستند المانع من التمسك بالآية ظاهر، وإنما في المسألة غور آخر، وهو أن العام إن تقدمه حكم قوم نحو: (إن أكلة الربا ظلموا أنفسهم) ثم بقول: (إنه لا يفلح الظالمون) فهل يحمل اللفظ على عمومه؟ ونقول: لا يفلح كل ظالم، كيف كان من هؤلاء، أو من غيرهم، ونحو هذا، وكذلك إذا قال: صلوا أرحامكم، وأحسنوا لأقاربكم، ثم يقول: إن الله مع المحسنين، هل كان يحسن، أو يختص بمن تقدم؟ ونحو هذه السياقات هي التي يتجه فيها: أن المدح والذم لا يوجب تخصيصًا. قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ويتعين التخصيص، إذا كان المتقدم شرطًا؛ نحو قوله تعالى: {إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورًا} [الإسراء: 25] فإنه يتعين أن تكون العدة بالغفران هاهنا مختصة بمن تقدم ذكره من المخاطبين في قوله تعالى: {تكونوا} ولا يعم هذا الحكم جميع

الخلائق، ولا جميع- الأمم الماضية، بسبب أن التعاليق اللغوية أسباب، والجزء المرتب عليها مسببها وناشئ عنها، وصلاحنا نحن لا يكون سببًا للمغفرة لغيرنا من الأمم؛ لأنها عادة الله تعالى، بل صلاح كل أحد يختص به، إلا أن يكون لغيره في ذلك سبب، أو معونة لقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39]. أما إذا لم يكن شرطًا، فالصحيح الحمل على العموم، وهذه مواطن في المسألة، لم يتعرض لها المصنف، وهي جل المقصود من المسألة، والذي يعرض له الصحيح فيه مع خصمه، ففاتت المسألة عليه بالكلية. ***

المسألة التاسعة قال الرازي: عطف الخاص على العام، لا يقتضي تخصيص العام. مثاله: أن أصحابنا لما احتجوا على أن المسلم لا يقتل بالذمي؛ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقتل مؤمن بكافر) قالت الحنفية: إنه - صلى الله عليه وسلم - عطف عليه قوله: (ولا ذو عهد في عهده) فيكون معناه: (ولا ذو عهد في عهده بكافر) ثم إن الكافر الذي لا يقتل ذو العهد به هو: الحربي؛ فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو: الحربي؛ تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه. والكلام عليه يقع في مقامين: الأول: ألا نسلم أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا ذو عهد في عهده) معناه: (ولا ذو عهد في عهده بكافر). بيانه أن قوله - صلى الله عليه وسلم - (ولا ذو عهد في عهده) كلام تام، وإذا كان كذلك لم يجز إضمار تلك الزيادة. إنما قلنا: إنه كلام تام؛ لأنه [لو] قال: (ولا يقتل ذو عهد) لكان من الجائز أن يتوهم منه متوهم أن من وجد منه العهد، ثم خرج عن عهده، فإنه لا يجوز قتله، فلما قال: (في عهده) علمنا أن هذا النهي مختص بكونه في العهد. وإذا ثبت أن هذا القدر كلام تام، لم يجز إضمار تلك الزيادة؛ لأن الإضمار على خلاف الأصل؛ فلا يصار إليه إلا لضرورة. سلمنا: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا ذو عهد في عهده) معناه: (ولا ذو عهد في عهده بكافر) لكن لا نسلم أن هذا الكافر، لما كان هو: الحربي؛ وجب أن يكون المراد بقوله: (لا يقتل مؤمن بكافر) هو: الحربي. بيانه: أن مقتضي العطف مطلق الاشتراك، لا الاشتراك من كل الوجوه، وإذا كان كذلك، لم يجب ما قالوه، والله أعلم.

المسألة التاسعة عطف الخاص على العام قال القرافي: قوله: (الكافر الذي لا يقتل به دون العهد هو الحربي): تقريره: أن القاعدة الشرعية في القصاص أن كل آدمي يقتل بمن هو أعلى من إجماعًا، إنما الخلاف بيننا وبين الحنفية في قتل الأعلى بالأدنى، والذمي أعلى من المعاهد؛ لأن عقد الذمة يدوم لجميع الذرية إلى قيام الساعة، وعقدة المعاهدة تختص بزمان العهد، فيقتل المعاهد بالذمي فلم يبق أحد لا يقتل به المعاهد إلا الحربي. والقاعدة اللغوية أن العطف يقتضي التسوية؛ فتساوي الجملة الأولى الجملة الثانية، وأن المسلم لا يقتل بالحربي، ويكون المراد بعموم الكافر خصوص الحربي، وهذا مجمع عليه، فسقط الاستدلال بالحديث على أن المسلم لا يقتل بالكافر، فصدر الحديث ينهض وآخره يعكر عليه. قوله: (مقتضي العطف مطلق الاشتراك). تقريره: أن أئمة النحو قالوا: إذا قلنا: مررت بزيد منطلقًا وعمرو؛ لا يقتضي أنك مررت بالمعطوف عليه منطلقًا، بل الاشتراك في مطلق المرور، كذلك جميع الظروف والأحوال والمتعلقات لا يلزم الاشتراك فيها. فإذا قلت: لا يقوم زيد في الدار ولا عمرو، أمكن نفي قيام عمرو باعتبار غير الدار؛ لأنه متعلق، وهكذا هاهنا لا يشتركان فيمن يقتل به، بل في أصل القتل. هذه قاعدة النحاة، وللعلماء في الحديث أربعة أجوبة: (الواو) للاستئناف ليست للعطف؛ لأن ما بعدها جملة مستقلة، سلمنا أنها عاطفة، لكن في أصل النفي، وهو الثاني في الكتاب، سلمنا أن العطف يقتضي التسوية مطلقًا، لكن لا نسلم أن (في) للظرفية، بل للسببية

(سؤال) قال النقشواني هاهنا يرد [سؤال] على هذا المثال لا يختص بصاحب الكتاب، فإن المثال هو الموجود في جميع الكتب، وذلك أن عطف الخاص على العام له صورتان

كقوله عليه السلام: (في النفس المؤمنة مائة من الإبل) أي: بسبب قتلها، فيكون صاحب الشرع قد نص بهذا الحديث على أن المعاهدة موجبة للعصمة، فيصير معني الحديث: لا يقتل ذو العهد بسبب عهده، وسلمنا أنها للظرفية، لكن نفي للتوهم كما قال في الكتاب، فقد يخطر بالبال أن عقد المعاهدة يدو لجميع الذراري كالذمة، فأخبر عليه السلام- أن ذلك لا يتعدي زمن المعاهدة. (سؤال) قال النقشواني هاهنا يرد [سؤال] على هذا المثال لا يختص بصاحب الكتاب، فإن المثال هو الموجود في جميع الكتب، وذلك أن عطف الخاص على العام له صورتان: إحداهما: عام عطف على عام، ويعلم بالدليل أن الثاني دخله التخصيص، فهل يلحق ذلك بالأول المعطوف عليه كقولك: لا تضرب رجلًا ولا امرأة، ثم تبين لنا أن المراد بالمرأة غير القاذفة، وشارية الخمر. والصورة الثانية: يعطف خاص بلفظه على عام بلفظه، فهل يقتضي ذلك تخصيص الأول كقولنا: لا تضرب رجلًا ولا امرأة كهلة، فالمرأة الكهلة أخص من المرأة، فهل يخصص الرجل بالكهل أيضًا؟ والمثال الذي هو من القسم الأول؛ لأن قولنا: ولا ذو عهد في عهده، تبينا بالدليل أن المراد بالكافر هو المقابل، فيبقي القسم الثاني لم يتعرضوا له. ***

المسألة العاشرة قال الرازي: اختلفوا في أن العموم إذا تعقبه استثناء، أو تقييد بصفة أو حكم وكان ذلك لا يتأتي إلا في بعض ما يتناوله، هل يجب أن يكون المراد بذلك العموم- ذلك البعض فقط، أم لا؟ مثال الاستثناء قوله تعالى: {لا جناح عليكم، إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن، أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة: 236] ثم قال عز وجل: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون} [البقرة: 237] فاستثني العفو، وعلقه بكناية راجعة إلى النساء. ومعلوم أن العفو لا يصح إلا من المالكات لأمورهن دون الصغيرة والمجنونة، فهل يجب أن يقال: الصغيرة والمجنونة غير مرادة بلفظ النساء في أول الكلام؟ مثال التقييد بالصفة: قوله تعالى: {يأيها النبي، إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] ثم قال: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا} [الطلاق: 1] يعني الرغبة في مراجعتهن، ومعلوم أن ذلك لا يتأتي في البائنة. ومثال التقييد بحكم آخر: قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}. ثم قال: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة: 228] وهذا أيضًا لا يتأتي في البائن. إذا عرفت هذا، فنقول: ذهب القاضي عبد الجبار إلى أنه لا يجب تخصيص ذلك العموم بتلك الأشياء، ومنهم: من قطع بالتخصيص، ومنهم: من توقف؛ وهو المختار.

والدليل عليه: أن ظاهر العموم المتقدم يقتضي الاستغراق، وظاهر الكناية يقتضي الرجوع إلى كل ما تقدم؛ لأن الكناية يجب رجوعها إلى المذكور المتقدم، والمذكور المتقدم في الآية الأولى هو المطلقات لا بعضهن؛ ألا ترى أن الإنسان، إذا قال: (من دخل الدار من عبيدي، ضربته، إلا أن يتوبوا) انصرف ذلك إلى جميع العبيد، وجري مجري أن يقول: (إلا أن يتوب عبيدي الداخلون في الدار؟). وإذا ثبت ذلك، فليست رعاية ظاهر العموم، أولى من رعاية ظاهر الكناية؛ فوجب التوقف، والله أعلم. المسألة العاشرة تعقب الاستثناء والصفة للعموم قال القرافي: قوله: (في قوله تعالى: {إلا أن يعفون}. تقريره: أن الواو الذي هو ضمير في (يعفون)، والأصل مطابقة الضمير لظاهره، فإذا كان الضمير خاصًا يكون العموم السابق الذي هو ظاهره خاصًا. قوله: (مثال الصفة ...) ثم فسرها بالرغبة. تقريره: أن الرغبة مثل الإنسان، ومثله صفته بخلاف قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة: 228]، فكونهم أحق حكم شرعي لا صفة للعبد، والحكم باستحقاق الرجعة، وتوقع الرغبة لا يتأتي إلا في الرجعيات، فهل يكون المراد بالأول الرجعيات؛ لأن الأصل مساواة الظاهر والمضمر، وذلك كله في تقدير الضمائر؛ لأن معني قوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا} [الطلاق: 1] أي: الرغبة فيهن. ***

القسم الرابع من كتاب العموم والخصوص في حمل المطلق على المقيد، وفيه مسائل قال الرازي: المطلق والمقيد إذا وردا، فإما أن يكون حكم أحدهما مخالفًا لحكم الآخر، أو لا يكون: والأول: مثل أن يقول الشارع: (آتوا الزكاة، وأعتقوا رقبة مؤمنة) ولا نزاع في أنه لا يحمل المطلق على المقيد هاهنا؛ لأنه لا تعلق بينهما أصلًا. وأما الثاني: فلا يخلو: إما أن يكون السبب واحدًا، أو لا يكون هناك سببان متماثلان، أو مختلفان: وكل واحد من هذه الثلاثة، فإما أن يكون الخطاب الوارد فيه أمرًا، أو نهيًا، فهذه أقسام ستة: فلنتكلم فيها: أما إذا كان السبب واحدًا، وجب حمل المطلق على المقيد؛ لأن المطلق جزء من المقيد، والآتي بالكل آت بالجزء؛ لا محالة، فالآتي بالمقيد يكون عاملًا بالدليلين، والآتي بغير ذلك المقيد لا يكون عاملًا بالدليلين؛ بل يكون تاركًا لأحدهما. والعمل بالدليلين عند إمكان العمل بهما أولى من الإتيان بأحدهما، وإهمال الآخر. فإن قيل: لا نسلم أن المطلق جزء من المقيد، بيانه: أن الإطلاق والتقييد ضدان، والضدان لا يجتمعان.

سلمنا ذلك؛ لكن المطلق له عند عدم التقييد حكم، وهو تمكن المكلف من الإتيان بأي فرد شاء من أفراد تلك الحقيقة، والتقييد ينافي هذه المكنة؛ فليس تقييد المطلق أولى من حمل المقيد على الندب؛ وعليكم الترجيح. والجواب: أما أن المطلق جزء من المقيد؛ فلأنا بينا أن المراد من المطلق نفس الحقيقة، والمقيد عبارة عن الحقيقة مع قيد زائد، ولا شك أن الإطلاق أحد أجزاء الحقيقة المقيدة. قوله: (الإطلاق والتقييد ضدان): قلنا: إن عنيت بالإطلاق كون اللفظ دالا على الحقيقة من حيث هي هي، مع حذف جميع القيود السلبية والإيجابية، فلا نسلم أن ذلك ينافي التقييد على ما بيناه. وإن عنيت بالإطلاق كون اللفظة دالة على الحقيقة الخالية عن جميع القيود فنحن لا نريد بالإطلاق ذلك؛ بل الأول، وفرق بين الحقيقة بشرط لا، وبين الحقيقة بلا شرط؛ فإن عدم الشرط غير شرط العدم. وأيضًا: فشرط الخلو عن جميع القيود غير معقول؛ لأن هذا الخلو قيد. قوله: (المطلق: له بشرط عدم التقييد حكم، وهو التمكن من الإتيان بأي فرد شاء، من أفراد تلك الحقيقة). قلنا: هذا الحكم غير مدلول عليه لفظًا، والتقييد مدلول عليه لفظًا، فهو أولى بالرعاية. وأما في جانب النهي، فهو أن يقول: (لا تعتق رقبة)، ثم يقول: لا تعتق رقبة كافرة) والأمر فيه قريب مما مر.

القسم الرابع (في حمل المطلق على المقيد) قال القرافي: قوله: (إما أن يكون أحدهما مخالفًا للآخر، أو لا يكون): قلنا: هذا التقسيم غير منضبط، بل المنضبط ما قاله ابن العربي في (المحصول) وهو أن الحكم والسبب إما أن يتفقا، أو يختلفا، أو يختلف أحدهما دون الآخر، فإن اختلفا معًا، فلا حمل لأحدهما على الآخر؛ كتقييد الرقبة بالإيمان، وإطلاق الشاة في الزكاة. وإن اتفقنا معًا، فهذا هو سبيله؛ لقوله عليه السلام: (في كل أربعين شاة شاة)، فهذا مطلق. وقال عليه السلام: (في الغنم السائمة الزكاة) فهذا مقيد بالسوم، فإن قلنا بالمفهوم، حملنا المطلق على المقيد على الخلاف، والسبب واحد، وهو الملك للمال النامي، والحكم واحد، وهو وجوب الزكاة، واختلاف الحكم فقط لقوله تعالى في الوضوء: {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6]، فقيد غسل اليدين بالمرافق، وفي آية التيمم أطلق فقال تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6]، فهل يحمل إطلاق التيمم على تقييد الوضوء، فيجب التيمم إلى المرافق أم لا؟ خلاف، والسبب واحد وهو الحدث، والأحكام مختلفة وهي الوضوء والتيمم، واختلاف السبب فقط والحكم واحد، كالظهار والقتل سببان مختلفان والحكم واحد، وهو وجوب الإعتاق. فهذا تقسيم منضبط بخلاف الذي في (المحصول)، فذكر أولًا الاختلاف في الحكم وحده، ولم يذكر معه الاختلاف في السبب، ومثله بما هو مختلف الحكم والسبب.

قال المازري في (شرح البرهان): إن اختلف السبب والحكم، لم يختلف فيه، وكذلك إن اتحدا واختلف السبب وحده، فهو في موضع الخلاف. قال: واختلف العلماء في تمثيله، فالجمهور مثلوه بآيتي الظهار والقتل في الإعتاق، ومثله بعضهم بالوضوء والتيمم، وأنكره الأبهري، وقال: التقييد هاهنا بعضو، وهو الذراع، ومقصود المسألة التقييد بصفة. وقال بعضهم: الكل سواء، ويمكن تمثيل الخلاف في السبب دون الحكم، ويكون القيد صفة بقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] وقيد في الآية الأخرى في قوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 217] مالك بقي المطلق على إطلاقه، والشافعي حمل المطلق على المقيد. قال: ويمكن أن يقال: المطلق هاهنا خطاب خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمقيد عام، فما استوي البابان. قلت: وعليه سؤالان: أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم منصبًا، فتعظم مؤاخذته كما قال الله تعالى: {إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} [الإسراء: 75]، وقال تعالى في أزواجه عليه السلام: {يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30] وهو كثير. وثانيهما: سلمنا أن المراد أمته، لكن المقيد فيه أمران مرتبان، وهما الحبوط والخلود على أمرين، وهما الردة والموافاة، فأمكن التوزيع، فلم يقيد ذلك المطلق. هذا السؤال للشيخ: عز الدين بن عبد السلام.

قال المازري. ويمكن أن يعود على النبي- عليه السلام- بقوله تعالى {ومن يفكر بالإيمان فقد حبط عمله} [المائدة: 5]. قوله: (الخطاب الوارد في المطلق والمقيد إما أمر، أو نهي): قلنا: أو خبر، أو استفهام، أو ترج، أو تمن، أو إباحة، فإن جميع أقسام الكلام متصور فيها حمل المطلق على المقيد، فلا ينبغي أن يخصص بالأمر والنهي، فلو قال الله تعالى: أبحت لكم ميتتين، أبحت لكم ميتة السمك، والجراد، حملنا المطلق على المقيد. أو قال القائل: ليت لي مالًا، ثم قال: ليت لي إبلًا، حملنا تمنيه أولًا على الإبل. أو قال عليه السلام: (آخر رجل يخرج من النار رجل من قريش)، ثم قال: (آخر رجل يخرج من النار رجل يقال له: هناد)، وحملنا المطلق على المقيد، وقلنا: ذلك الرجل القرشي هو هناد. قوله: (أما إذا كان السبب واحدًا، فيحمل المطلق على المقيد؛ لأن الآتي بالكل آت بالجزء): قلنا: مقتضي تقسيمكم أن الحكم أيضًا واحد؛ لأنكم رددتم في السبب على تقدير اتحاد الحكم، وعلى هذا التقدير يكون المنطبق على هذا التقسيم التمثيل بالمفهوم، كما تقدم في الغنم السائمة، وعلى هذا التقدير؛ لا نسلم أن الآتي بالمقيدات بالمطلق يلزم ترك المعلوفة؛ بسبب الحمل على المقيد، وحينئذ يتعين أن يقول: إذا اتحد الحكم والسبب، فلا يخلو: إما أن يكون مدلول اللفظ كلية، أو كليا، أو كلا، فإن كان كلية، بطل ما ذكرتموه، وإن كان كليا، استقام؛ لأن القائل إذا قال: من ظاهر، فليعتق رقبة مؤمنة، اتحد الحكم والسبب، وكان الآتي بالقيد آتيًا بالمطلق، واستقام الكلام، وفي

القسم الآخر لا يستقيم، ولما اندرج القسمان في القسم الذي عنيتموه، ورد السؤال باعتبار الكلية، لا باعتبار الكل، وعلى هذا بقيت الكلية، لم يذكروا فيها دليلًا، إذا وقع التقييد والإطلاق فيها، ويكون المتجه ما قاله الخصم؛ لأن الآتي بالقيد غير آت بالمطلق فيتعين عدم الحمل، على هذا البحث يتجه لكلا الفريقين طريقة العرض، والتنافي الاستدلال؛ فيقول القائل بالحمل بعد تقرير الحمل في الكلي، وإذا ثبت ذلك في الكلي، وجب أن يثبت في الكلية؛ لأنه قائل بالفرق، ونقول: القائل بعدم الحمل الآتي بالمقيد غير آت بالمطلق في مسألة الكلية، وجب أن يثبت في الكلي؛ لأنه لا قائل بالفرق، فتأمل ذلك، فهو مجال في البحث للفريقين، وأما الكلي، فقد لا يحصل فيه المطلق في المقيد، كآيتي الوضوء والتيمم؛ فإن اليد اسم المجموع، فجعل المرفق غاية يخرج بقية المطلق. قوله: (الإطلاق والتقييد ضدان): قلنا: لا تنافي بين كون الإطلاق والتقييد ضدين، وبين كون المطلق جزء المقيد؛ لأن الصفتين قد تتضادان والموصوفان لا يتضادان؛ كماهية الإنسان يتصف بالحركة والسكون، والسواد والبياض المتضادة، وهي لا تضاد نفسها؛ ولذلك تتصف بالبياض وعدمه، وهما نقيضان، وهي لا تناقض نفسها، فما ذكرتموه في سند المنع لا يفيدكم صحة المنع علينا في أن الآتي بالمقيد غير آن بالمطلق. قوله: (الإطلاق يقتضي المكنة من أي فرد): قلنا: هذا الحكم عقلي متلقي من البراءة الأصلية؛ لأن الماهية الكلية، لما وجبت، وشهد العقل أن كل جزء من جزئياتها متضمن لها مع أن الأصل عدم وجوب جزئي معين، جزم العقل بالخروج عن العهدة بأي فرد كان، مع أن هذا البحث يختص بالأمر، أما النهي، فلا يتأتي ذلك فيه، فإنه إذا

قال: لا يقرب ماهية الغصب، ثم قال: لا يقرب ماهية الغصب من المسلمين، أو لا يقرب الغصب المتكرر، فإن هذه الصورة ينتقض بها أمران: أحدهما: قولهم فيما تقدم: الآتي بالمطلق آت بالمقيد؛ فإن مقتضي هذا الإطلاق اجتناب الماهية الكلية، ويلزم من اجتناب الماهية الكلية اجتناب جميع جزئياتها وأنواعها. قوله: (الغصب من المسلمين، أو الغصب المتكرر) يخرج بعض الأنواع، وهو الغصب من غير المسلمين، والغصب الذي لا يتكرر، فصار الآتي بالمقيد آتيًا ببعض المطلق؛ لأن الماهية الكلية في النفي كصيغة العموم، وذلك تقدم هنالك في صدر المسألة أن بحثه إنما يتم في الكلي لا في الكلية، وبهذا يمنعه أيضًا تمامه في الكلي، إذا كان في سياق النهي أو النفي، فإن بقي الكل، بقي بجميع أنواعه وأفراده؛ ولم يبق له في تلك الدعوي إلا الكلي في الأمر، وخبر الثبوت. ولأن النهي عن الماهية الكلية يتناول جميع جزئياتها، فيكون عاما، كما إذا قال له: (لا تعتق عبدًا)، يكون عاما في المؤمنين والكفار، فإذا قال بعد ذلك: لا تعتق رقبة كافرة، كان المقيد بعض ما يتناوله العام الأول، الذي هو المطلق، والقاعدة أن العام لا يخصص بذكر بعضه، فيبقي المطلق على عمومه في النهي عن الفريقين المؤمن والكافر، فلا حمل، لأن المقيد هاهنا بعض المطلق. وثانيهما: في الانتقاض لهذا البحث، فإنه إذا نهاه عن الماهية الكلية، لم يكن متمكنًا من تركها بأي نوع كان، أو بأي فرد كان، بل يتعين للجميع الاجتناب، فالمكنة ذاهبة، فكذلك في خبر النفي لا مكنة فيه، بل الجميع؛ فيتعين للنفي، وإنما يكون في النهي، أو النفي متمكنًا، إذا كان المنهي عنه كلا لا كلية، ولا كليًا، وقد تقدم الفرق بينهما في أول العموم؛ فإن النهي

عن الكل الذي هو المجموع يكفي فيه اجتنابه لجزء غير معين، كما إذا نهي عن خمس ركعات في الظهر، فإنه لا يتعين ركعة في الخمسة، كذلك لو قال الطبيب: (لا تأكل هذه الثلاثة أرغفة، بل اثنين منها) فإنه لا يتعين الرغيف المتروك، وكذلك النفي إذا أخبر عن نفي مجموع العشرة لا يتعين فرد منها؛ فتعين للنفي، بل أي فرد كان هذا موضع المكنة، أما في الأصول والفروع مع أن التصانيف يذكر فيها البحث عن المطلق والمقيد، ويعممون الدعوي في جميع الموارد مع اشتمالها على هذه التفاصيل، التي لو عرضت عليهم لم يسعهم إنكارها، وكان ينبغي أن توضع في الكتب مفصلة على هذه القوانين المذكورة، فكانت تخرج من الظلمات إلى النور. قوله: (وفرق بين الحقيقة بشرط (لا)، وبين الحقيقة بلا شرط): تقريره: أنها بشرط (لا) معناه: لا يكون معها قيد ألبتة، ولا بشخص، وعلى هذا التقدير يستحيل وجودها؛ فضلًا عن أن يكون جزءًا من المقيد. وقولنا: بلا شرط، معناه: أن التشخيص والقيود غير معتبرة، بل إن وجدت؛ فذاك، وإن لم توجد، فذاك، فهذه هي التي تقبل الوجود، وتوجد في ضمن المقيد. قوله: (في النهي: لا تعتق رقبة، لا تعتق رقبة كافرة، والأمر فيه قريب مما مر): قلنا: لا نسلم أنه قريب؛ لما تقدم ما بينهما من الفرق العظيم، وأن المقيد لا يستلزم المطلق ألبتة، بل يخل به ضرورة، وكذلك في النفي، وقد تقدم بسطه. ***

المسألة الثانية قال الرازي: اختلفوا في الحكمين المتماثلين، إذا أطلق أحدهما، وقيد الآخر، وسببهما مختلف، مثاله: تقييد الرقبة في كفارة القتل بالإيمان، وإطلاقها في كفارة الظهار، وفيه ثلاثة مذاهب: اثنان طرفان، والثالث هو الوسط، أما الطرفان، فأحدهما: قول من يقول من أصحابنا: تقييد أحدهما يقتضي تقييد الآخر لفظا. وثانيهما: قول كافة الحنفية: إنه لا يجوز تقييد هذا المطلق بطريق ما ألبتة. وثالثها: القول المعتدل، وهو مذهب المحققين منا: أنه يجوز تقييد المطلق بالقياس على ذلك المقيد، ولا ندعي وجوب هذا القياس، بل ندعي أنه إن حصل القياس الصحيح، ثبت التقييد، وإلا فلا. واعلم: أن صحة هذا القول إنما تثبت، إذا أفسدنا القولين الأولين. أما الأول فضعيف جدًا؛ لأن الشارع لو قال: (أوجبت في كفارة القتل رقبة مؤمنة، وأوجبت في كفارة الظهار رقبة كيف كانت) لم يكن أحد الكلامين مناقضًا للآخر، فعلمنا أن تقييد أحدهما لا يقتضي تقييد الآخر لفظًا. احتجوا: بأن القرآن كالكلمة الواحدة، وبأن الشهادة، لما قيدت بالعدالة مرة واحدة، وأطلقت في سائر الصور، حملنا المطلق على المقيد، فكذا هاهنا. والجواب عن الأول: أن القرآن كالكلمة الواحدة في أنه لا يتناقض، لا في كل شيء، وإلا وجب أن يتقيد كل عام ومطلق بكل خاص ومقيد.

وعن الثاني: أنا إنما قيدنا بالإجماع. وأما القول الثاني، فضعيف؛ لأن دليل القياس، وهو أن العمل به دفع للضرر المظنون عام في كل الصور. شبهة المخالف: أن قوله: (أعتق رقبة) يقتضي تمكين المكلف من إعتاق أي رقبة شاء من رقاب الدنيا، فلو دل القياس على أنه لا يجزيه إلا المؤمنة، لكان القياس دليلًا على زوال تلك المكنة الثابتة بالنص؛ فيكون القياس ناسخًا، وإنه خلاف الأصل. والجواب: هذا لا يتم على مذهبكم؛ لأنكم اعتبرتم سلامة الرقبة عن كثير من العيوب، فإن كان اشتراط الإيمان نسخًا، فكذا نفي تلك العيوب يكون نسخًا. أيضًا: فقوله: (أعتق رقبة) لا يزيد في الدلالة على اللفظ العام، وإذا جاز تخصيص العام بالقياس، فلأن يجوز هذا التخصيص به أولى. تنبيه: إذا أطلق الحكم في موضع وقيد مثله في موضعين بقيدين متضادين، كيف يكون حكمه؟ مثاله: قضاء رمضان الوارد مطلقًا في قوله تعالى: {فعدة من أيام آخر} [البقرة: 184] وصوم التمتع الوارد مقيدًا بالتفريق في قوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196] وصوم كفارة الظاهر الوارد مقيدًا بالتتابع في قوله عز وجل: {فصيام شهرين متتابعين} [المجادلة: 4].

اختلفوا فيه على حسب ما مر في المسألة السالفة، فمن زعم أن المطلق يتقيد بالمقيد لفظًا، ترك المطلق هاهنا على إطلاقه؛ لأنه ليس تقييده بأحدهما أولى من تقييده بالآخر، ومن حمل المطلق على المقيد لقياس، حمله هاهنا على ما كان القياس عليه، والله أعلم. المسألة الثانية في الحكمين المتماثلين سببهما مختلف قال القرافي: قوله: (الشهادة أطلقت في مواطن، وقيدت في أخر بالعدالة، فحمل المطلق على المقيد، فكذلك هاهنا): قلنا: سبب الاحتياج للبينات هو ضبط الحقوق، وهو واحد في جميع الصور، وسبب قبول قولها وتصديقها هو ظاهر حالها، وهو أن الغالب على العاقل البالغ المسلم الصدق، وهذا واحد في جميع الصور، وإذا اتحد سبب الحاجة وسبب القبول، ظهر الفرق؛ لأن الأسباب المختلفة مختلفة الحكم ظاهرًا؛ لأن مفسدة القتل أعظم من مفسدة الظهار؛ وحينئذ يتجه أن يقال: عظم المفسدة يقتضي زيادة الشروط في الكفارة؛ فإن الساتر يعظم المستور، والأصل في الكفارة الستر، فاختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأحكام، فلا يحمل المطلق على المقيد، أما مع اتحاد السبب، كما في الشهادة، فيتعين؛ لأجل عدم الاختلاف في المصلحة، فظهر الفرق. قوله: (اعترفتم بسلامة الرقبة عن الكثير من العيوب): قلنا: الفرق بين السلامة من العيوب، وبين اشتراط الإيمان، وجميع القيود: أن الوضع تابع للتصور، والواضع إذا تصور مفهوم (الإنسان) ليضع له، فإنما يسبق إلى ذهنه الإنسان الذي هو حيوان ناطق إلفي الشكل، له حواس خمس، وجوارح مخصوصة، ويدل على ذلك أيضًا: أنا متى

سمعنا لفظ (الإنسان) فإنما يسبق إلى ذهننا الإنسان الموصوف بهذه الصفة، والذهن إنما ينتقل في أول الأمر إلى الموضوع له، وكذلك أن الأصل في الاستعمال الحقيقة، فعلمنا أن الوضع إنما كان السليم، فيتناول السلامة من العيوب- اللفظ وضعًا، أما وصف الإيمان وغيره من القيود، فلم يتناول لفظ الإطلاق، ولو تناوله، لم يكن تقييدًا، وإذا لم يتناوله اللفظ إجماعًا، ظهر الفرق. قوله: (فإذا كان اشتراط الإيمان نسخًا، فكذلك نفي تلك العيوب). تقريره: أن الحنفية لهم قاعدة، وهي: أن الزيادة على النفي نسخ، وكذلك جعلوا اشتراط (الفاتحة) في الصلاة نسخًا، لقوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر منه} [المزمل: 20] لأنه زيادة عليه. ونسخ الكتاب بأخبار الآحاد ممنوع، فلا يشترط (الفاتحة) كذلك هاهنا، وإذا حملنا المطلق على المقيد، صار ذلك نسخًا للإطلاق؛ لأنه زيادة عليه فلذلك ذكر المصنف النسخ هاهنا. قال المازري في (شرح البرهان): ورد على أبي حنيفة نقوض: أحدها: اشتراط السلامة من العيوب. وثانيها: اشتراط الفقر في ذوي القربى. وثالثها: أنه يجزئ عنده عتق الأقطع دون الأبرص. ورابعها: لو حلف؛ لا يشتري رقبة، فاشتري رقبة معيبة، حنث، فلم يعتبر السلامة في الحنث، فخالف قاعدة النسخ، فإن الزيادة عنده نسخ، وهاهنا نسخ القرآن بغير دليل قاطع. قوله: (إذا أطلق الحكم في موضع، وقيد مثله بقيدين مختلفين، مثاله: قضاء رمضان أطلق، وقيد صوم التمتع بالتفريق، وصوم الظهار بالمتابعة اختلفوا فيه). قلنا: هذه أحكام عن أسباب مختلفة، بل أمس منه؛ في عدم اعتبار

القيدين، والرجوع إلى الإطلاق ما اتفق لي مع سيدنا قاضي القضاة صدر الدين الحنفي؛ حكي لي يومًا أنه: اجتمع ب (دمشق) مع السيد الشريف قاضي العسكر شمس الدين نقيب الأشراف في الدولة الكاملية؛ قال: فقلت له: إن الشافعية نقضوا أصلهم: فإنهم قالوا بحمل المطلق على المقيد، وقد ورد قوله- عليه السلام- في الغسل من ولوغ الكلي في الإناء: (فليغسله سبعًا إحداهن بالتراب) وورد مقيدًا بقوله عليه السلام: (أولاهن بالتراب) ومع ذلك، لم يحملوا المطلق على المقيد، بل بقوا المطلق على إطلاقه. قال: فلم يجدوا جوابًا ولم يجيبوا عنه. فقلت له- حفظه الله-: إن لنا قاعدة، وهي أن المطلق، إذا قيد بقيدين متضادين بقي على إطلاقه باتفاق المذهبين، وهاهنا كذلك؛ لأنه ورد في الحديث أيضًا: (أخراهن بالتراب) فسقط أولاهن وأخراهن؛ لأنه ليس اعتبار أحدهما أولى من الآخر، وبقي المطلق علي إطلاقه. وهذا أحسن ما مثل به المسألة؛ فإن السبب واحد، والحكم واحد، والقيود متضادة فيه. (تنبيهات أربعة) الأول: أنه بحث في هذا القسم المختلف الأسباب عن الأمر، وترك النهي ما يعرض له، وكذلك الخبر وبقية أقسام الكلام؛ فإنها يلاحظ فيها هذا من جهة الوضع على الخلاف، فينبغي أن تراجع تلك الضوابط المتقدمة في المسألة الأولى، وتخرج هذه المسألة أيضًا عليها. التنبيه الثاني: أنه كيف يتجه أن يقول بالقياس مذهبًا ثالثًا، مع أن مدرك القوم أن اختلاف الأسباب يوجب اختلاف الحكم والمصالح، ومع الاختلاف كيف يتأتي القياس؛ حتى يصار إليه مذهبًا ثالثًا؟

جوابه: أن الأسباب قد تختلف، وتختلف مصالحها، كما تقدم في القتل والظهار، وقد تتفق مصالحها، كالأسباب النواقض للطهارة الكبرى والصغرى؛ فإن حكمتها واحدة، وإلا لما كان حكمها واحدًا، وكشرب الخمر والقذف حدهما واحد، ومقتضي ذلك أن تكون حكمتهما واحدة؛ وإلا لاختلف الحد، إذا تقرر ذلك، فجاز أن يقع التقييد والإطلاق فيما حكمتهما واحدة، وهما مختلفان في الصورة. (التنبيه الثالث) أن الإطلاق والتقييد أمران إضافيان، قرب مقيد بالنسبة إلى لفظ، مطلق بالنسبة إلى لفظ آخر، ورب مطلق بالنسبة إلى لفظ، مقيد بالنسبة إلى لفظ آخر، فلفظ (الإنسان) مطلق؛ بالنسبة إلى الإنسان المؤمن، ومعناه حيوان ناطق، وهو مقيد؛ بالنسبة إلى الحيوان، والحيوان مطلق؛ بالنسبة إلى الإنسان، ومعناه مقيد؛ لأنه جسم حساس، فهو مقيد، بالنسبة إلى الجسم، وكذلك كلما انتقلت من أخص إلى أعم، يصير المطلق مقيدًا، وعكسه، كلما انتقلت من الأعم إلى أخص، يصير المقيد مطلقًا. فتأمل ذلك، فيتلخص لك أن المطلق الاقتصار على مجرد اللفظ المذكور، والمقيد هو أن يزيد عليه قيدًا زائدًا، ولا يعتقد أن القيد يجب أن يكون مقيدًا بكل اعتبار، بل قد يعتبر بالنسبة إلى معنى آخر، فيكون مطلقًا، والضابط ما سمعته. (التنبيه الرابع) أن التقييد والإطلاق أسماء للألفاظ؛ باعتبار معانيها، لا أسماء للمعاني؛ باعتبار ألفاظها، وكذلك نقول: لفظ مطلق، ولا نقول: معنى مطلق في هذا المقام، فاللفظ المطلق كلفظ النكرة، والمقيد كالمعرفة والموصوفة، ونحو ذلك، كل ذلك من أسماء الألفاظ.

(فائدة) قال ابن العربي في (المحصول) له: جعل الأصوليون المطلق والمقيد من العموم، وليس منه

(فائدة) قال ابن العربي في (المحصول) له: جعل الأصوليون المطلق والمقيد من العموم، وليس منه. قلت: وقوله صحيح غير أنهم لاحظوا أن العموم قد يطلق؛ باعتبار المعاني؛ كما تقدم في أول العموم، والمطلق أكثر ما يستعملونه هاهنا؛ باعتبار الحقائق الكلية، وهي عامة عمومًا معنويًا، لشمولها أنواعها وأشخاصها، فلذلك جعلوا المطلق كالعام، والمقيد كالخاص. (تنبيه) قال التبريزي: في حمل المطلق على المقيد ثلاثة مذاهب، الحق هو الثالث وهو: الحمل إن اتحد السبب؛ فإن الأسباب المختلفة لا يجب أن تكون سواء، بل الغالب اختلافها، وأما مع اختلاف السبب، فيتعذر العمل بمقتضاها؛ للتناقض، فيقدم التقييد؛ لأنه مدلول لفظًا. ***

النوع الرابع في المجمل والمبين، وفيه مقدمة، وأربعة أقسام أما المقدمة: ففي تفسير الألفاظ المستعملة في هذا الباب، وهي سبعة: الأول: البيان: وهو في أصل اللغة: اسم مصدر مشتق من التبيين، يقال: بين يبين تبيينًا وبيانًا، كما يقال: كلم يكلم تكليمًا وكلامًا، وأذن يؤذن تأذينًا وأذانًا. فالمبين يفرق بين الشيء، وبين ما يشاكله، فلهذا قيل: البيان عبارة عن الدلالة؛ يقال: بين فلان كذا بيانًا حسنًا، إذا ذكر الدلالة عليه، ويدخل فيه الدليل العقلي، وفي اصطلاح الفقهاء هو: الذي دل على المراد بخطاب، لا يستقل بنفسه في الدلالة على المراد. والثاني: المبين، وله معنيان: أحدهما: ما احتاج إلى البيان، وقد ورد عليه بيانه. والثاني: الخطاب المبتدأ المستغني عن البيان. الثالث: المفسر، وله معنيان: أحدهما: ما احتاج إلى التفسير، وقد ورد عليه تفسيره. وثانيهما: الكلام المبتدأ المستغني عن التفسير؛ لوضوحه في نفسه. الرابع:

النص، وهو كلام تظهر إفادته لمعناه، ولا يتناول أكثر منه، واحترزنا بقولنا: (كلام) عن أمرين: أحدهما: أن أدلة العقول والأفعال لا تسمى نصوصًا. وثانيهما: أن المجمل مع البيان لا يسمى نصًا؛ لأن قولنا: (نص) عبارة عن خطاب واحد دون ما يقرن به؛ ولأن البيان قد يكون غير القول، والنص لا يكون إلا قولاً. واحترزنا بقولنا: (تظهر إفادته لمعناه) عن المجمل. فإن قلت: أليس قد يقال: نص الله تعالى على وجوب الصلاة، وإن كان قوله: {أقيموا الصلاة} [البقرة: 43]، مجملاً؟ قلت: إنه ليس نصًا إلا في إفادة الوجوب؛ وهو فيها ليس بمجمل. واحترزنا بقولنا: (ولا يتناول أكثر منه) عن قولهم: (اضرب عبيدي) لأن الرجل، إذا قال لغيره: (اضرب عبيدي) لم يقل أحد: إنه نص على ضرب زيد من عبيده؛ لأنه لا يفيده، على التعيين، ويقال: إنه نص على ضرب جملة عبيده؛ لأنه لا يفيد سواهم. الخامس: الظاهر، وهو: ما لا يفتقر في إفادته لمعناه إلى غيره، سواء، أفاد وحده، أو أفاده مع غيره. وبهذا القيد الأخير يمتاز عن النص امتياز العام عن الخاص. وكنا قد قلنا في باب اللغات: إن النص هو: اللفظ الذي لا يمكن استعماله

في غير معناه الواحد، والظاهر هو: الذي يحتمل غيره احتمالاً مرجوحًا، ولا منافاة بين التعريفين. السادس: المجمل، وهو في عرف الفقهاء: ما أفاد شيئًا من جملة أشياء، هو متعين في نفسه، واللفظ لا يعينه، ولا يلزم عليه قولك: (اضرب رجلاً) لأن هذا اللفظ أفاد ضرب رجل، وهو ليس بمتعين في نفسه، فأي رجل ضربته جاز، وليس كذلك اسم القرء؛ لأنه يفيد، إما الطهر وحده، وإما الحيض وحده واللفظ لا يعينه. وقول الله تعالى: {أقيموا الصلاة} [البقرة: 43] يفيد وجوب فعل متعين في نفسه، غير متعين بحسب اللفظ. السابع: المؤول، والتأويل عبارة: عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر. وأما المحكم، والمتشابه فقد مر تفسيرهما في باب اللغات، والله أعلم. * * * القسم الرابع في المجمل والمبين قال القرافي: هذا هو القسم الرابع من أصل الكتاب، والمطلق والمقيد

(فائدة) المجمل مشتق من الجمل، وهو الخلط

سماه أيضًا القسم الرابع، فلا يشكل عليك ذلك؛ فإنه الرابع بالنسبة إلى كتاب العموم، وهذا هو الرابع بالنسبة إلى أصل الكتاب؛ لأنه لما ذكر ترتيب أبواب أصول الفقه، جعل هذا القسم الرابع. (فائدة) المجمل مشتق من الجمل، وهو الخلط، ومنه قوله عليه السلام: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها) أي: خلطوها بالسبك على النار، ومنه العلم الإجمالي؛ لاختلاط المعلوم بالمجهول في تلك الحقيقة، وهاهنا سمى اللفظ (مجملاً) لاختلاط المراد بغير المراد فلذلك سمى مجملاً. (فائدة) قال صاحب (المجمل في اللغة)، وسيف الدين: هو الجمع، ومنه (أجمل الحساب) إذا جمعه.

وقيل: هو المحصل؛ ومنه: (أجملت الشيء، إذا حصلته). قال سيف الدين: وفي الاصطلاح قيل: هو اللفظ الذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء، وهو باطل لدخول المهمل فيه، وليس مجملاً؛ لأن الإجمال والبيان من صفات الموضوعات، ولدخول المستحيل؛ لأنا إذا قلنا: مستحيل لا يفهم منه شيء، وليس مجملاً، فيكون ليس بمانع، وهو أيضًا ليس بجامع؛ لأن اللفظ المجمل قد يفهم منه أحد الأشياء لا بعينها، وقد يكون مجملاً من وجه، ظاهرًا من وجه؛ كقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141] لأن الإجمال قد يكون في الأفعال، كما سيأتي في تردده بين السهو وبين التعمد؛ ليدل على عدم الشرطية، بل هو ماله دلالة على أحد أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه، والقيد الأخير: احتراز عما له ظاهر من وجه. قال أبو الحسين في (المعتمد): ما أفاد جملة؛ ومنه (جملت الحساب)، فعلى هذا يوصف العموم بأنه مجمل؛ لشموله، ويراد به أيضًا ما لا يمكن معرفته. قوله: (البيان: اسم مصدر مشتق من التبيين): قلنا: عليه سؤالان: الأول: قوله: (اسم مصدر) هذا غير متجه، وأما على خلاف الاصطلاح، فإن اسم المصدر عند النحاة هو: الذي لا يجرى عليه الفعل، كما يقولون: التسبيح اسمه (سبحان) فـ (سبحان) اسم مصدر لا مصدر، فهو إن أراد هذا، فهو الاصطلاح، غير أن الأمر ليس كذلك، بل هو مصدر في نفسه يجرى عليه الفعل، وإن لم يرد هذا؛ فهو اصطلاح له غير اصطلاح القوم.

الثاني: قوله: (مشتق من التبيين) هذان مصدران لفعلين، فالتبيين مصدر تبيين، والبيان مصدر بان، والمصادر كلها جامدة، ليس فيها اشتقاق، فكيف يجعل أحدهما من الآخر؟ هذا خلاف اصطلاح النحاة؛ غير أن الاشتقاق اشتقاقان: أصغر، وأكبر، فالاشتقاق الأصغر يختص بأن يكون من المصادر، وباعتباره تكون المصادر غير مشتقة، وهو الذي يغلب استعماله. والاشتقاق الأكبر: لا يتوقف على ذلك، بل يقال: (سوف) مشتق من (سوف): ونون من النون فيحصل الاشتقاق من الحروف، وكذلك استحجر الطين، واستنوق البعير، واستنسر الببغاء: اشتقاق من (الحجر) و (الناقة) و (النسر) وهي أسماء أجناس، ويقولون: (الخمر) مشتق من (الخمرة) لأنها تغلب على الوحوش منها، و (البقر) من (البقر) الذي هو الشق؛ لأنها تشق الأرض بالحرث، وهو كثير، وقد تقدم بسطه في (باب الاشتقاق) وعلى هذا يستقيم ما قاله. قوله: (البيان الدلالة): يريد الدلالة باللفظ لا دلالة اللفظ؛ لأن قولنا: (بين)، أي: تعاطى البيان، والتعاطي إنما هو دلالة باللفظ، أي: استعماله لأجل الإفهام، والدلالة قد تحصل بقصد المتكلم، وبغير قصده، فيفهم السامع الحقيقة، والمتكلم يريد إفهام المجاز. قال سيف الدين: قال أبو بكر الصيرفي: في البيان: التعريف. وقال أبو عبد الله البصري وغيره: هو العلم الحاصل من الدليل.

قال القاضي أبو بكر، وأكثر الشافعية، والمعتزلة؛ كأبي هاشم، والجبائي، وأبي الحسين، وغيرهم: (هو الدليل). قال: وهو المختار؛ لأنه يقال لمن بين بدليل: ثم بيانه، إذا تم دليله، ويبطل الحد الأول بإيضاح الشيء من غير سابقة إجمال، فإنه لا يسمى بيانًا، ويرد على الحد الثاني، أن الحاصل من الدليل يسمى بينًا لا بيانًا، والأصل عدم الترادف. قوله: (في اصطلاح الفقهاء: هو الذي دل على المراد بخطاب لا يستقل بنفسه في الدلالة على المراد): قلنا: قولكم (هو الذي دل بخطاب يقتضي أن يتعاطى التفهيم): هو البيان؛ لأنكم جعلتم الخطاب أداةً له، والبيان إنما هو الخطاب نفسه، والمصنف يريد أن يقول: هو اللفظ الذي دل على المراد بخطاب، وعبر بـ (الذي) عن اللفظ، وأن ذلك اللفظ بصيغة لا تستقل بنفسها، وأحسن من هذه العبارة أن يقول: هو الخطاب المبين المراد الذي لا يستقل بنفسه. ثم قوله: (بخطاب) البيان قد يكون بالفعل، كما بين عليه السلام صلاة الجمعة بفعله، فإنها في كتاب الله - تعالى - مجملة، وبين أوقات الصلاة بفعله في يومين، وقال في آخر اليوم الثاني: (أين السائل؟ ما بين هذين الوقتين).

(فائدة) قال اللغويون: هذه المادة إنما تؤخذ للظهور والبيان

قوله: (لا يستقل بنفسه): قد يستقل البيان بنفسه؛ كقوله عليه السلام: (فيما سقت السماء العشر) فهو كلام مستقل، وهو بيان لقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141] ويسميه العلماء بيانًا في الاصطلاح. وقد لا يستقل البيان بنفسه؛ كقوله تعالى: {إنها بقرة صفراء} [البقرة: 69] فهذا إن لم يضم لما تقدم، عسر فهمه من أجل الضمير، وهذا هو مقصود المصنف غير أن ليس كل بيان كذلك، فكان تفسيره غير جامع. قوله: (المبين: يقال على ما ورد عليه بيانه) وهذا اسم المفعول فيه ظاهر، إنما يشكل على المبين الذي هو واضح في أصل غنى عن البيان. وتقرير تسميته مبينًا من جهة أن الناطق به أوضحه في أصل النطق به، وأتى به مفسرًا فصيحًا، معربًا عن المقصود، فهو أثره، فهو مفعول، فنقول لمن نطق بالنص الصريح: لفظه مبين واضح، والمفسر مرادف للمبين، وتعليلهما واحد. قوله: (المفسر يقال على معنيين). (فائدة) قال اللغويون: هذه المادة إنما تؤخذ للظهور والبيان، ومنه فسر، إذا بين، وسفر عن وجهه، إذا كشف، وأسفرت الشمس، إذا عظم نورها، وسافر؛ لأن السفر يكشف عن أخلاق الناس.

والسفارة: الرسالة؛ لأن الرسول يكشف للمرسل ما أرسله فيه. قوله: (النص: كل كلام تظهر إفادته لمعناه): قلنا: قد تقدم أول الكتاب: أن النص له ثلاثة معان: ما دل على معنى قطعًا، ولا يحتمل غيره قطعًا؛ كأسماء الأعداد، وما دل على معنى قطعًا، وإن احتمل غيره؛ كصيغ الجموع في العموم، فلابد فيها من ثلاثة؛ كقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] وما دل على معنى كيف كان، وهو غالب استعمال الفقهاء، يقولون: (نص الشافعي على كذا) ولنا النص والقياس على كذا، ولا يريدون إلا لفظًا دالاً كيف كان، وأصله من توصيل الشي إلى غايته، ومنه قول جابر: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير العنق، فإذا وجد مزجة نص) أي: رفع السير إلى غايته. ومنه منصة العروس؛ لأنها ترفع إلى الغاية الممكنة في الارتفاع بها. قال امرؤ القيس: [الطويل]:

وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش .... إذا هي نصته ولا بمعطل فمن لاحظ أعلى مراتب رفع الشيء إلى غايته، قال بالتفسير الأول، أو أدنى مراتبه، فالثالث، أو المتوسط، فالمتوسط. قوله: (احترزنا بقولنا: (كلام) عن المجمل مع بيانه؛ فإنه لا يسمى نصًا). قلنا: عليه سؤالان: أحدهما: أنكم ذكرتم في الحد لفظ (الكلام) لا لفظ (النص) فينبغي لكم أن تقولوا: المجمل مع مبينه لا يسمى كلامًا؛ أما النص: فلا مدخل له هاهنا؛ لأنه لفظ المحدد لا لفظ المقيد الواقع في حد الاحتراز. وثانيهما: سلمنا صحة الاحتراز، لكن لا نسلم أن المجمل مع بيانه لا يسمى كلامًا ولا نصًا، بل الكلمات، وإن كثرت، والجمل المفيدة، وإن تعددت تسمى كلامًا؛ لقوله تعالى: {فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6]، والمراد جملة القرآن، واتفق المسلمون على تسمية القرآن كلام الله تعالى. وأما النص: فأصله مصدر تقول: نص كلامه ينص نصًا، والمصدر يصدق على القليل والكثير لغة. فإن قلتم: إنه نقل في عرف الاستعمال للفظ المفرد، قلنا: الأصل عدم النقل والتغيير. قوله: (ولأن البيان قد يكون بغير القول، والنص لا يكون إلا قولاً): قلنا: مسلم، لكن المجمل الذي بيانه قول لا يخرج حينئذ لما تقدم، ويكفي في النقض صورة. قوله: (الآية نص في وجوب الصلاة فقط).

تقريره: أن المراد هاهنا: بالنص ما أفاد معنى كيف كان. وقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} [البقرة: 110] مفيد للوجوب، وقد يكون مفيدًا من وجه، ومجمل من وجه، فهي مجملة في أحوال الصلاة ومقاديرها، وكذلك قوله تعالى: {واتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141] ظاهر في أصل الحق، مجمل في مقداره. قوله: (إذا قال (اضرب عبيدي) لا يقول أحد: إنه نص على ضرب زيد من عبيده): قلنا: لا نسلم؛ فإنا إذا فسرنا النص باللفظ الدال، كيف كان، كانت العمومات نصوصًا في ثبوت الحكم في كل فرد من أفرادها. وكذلك نقول: الله - تعالى - نص على جواز بيع الغائب؛ بقوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة: 275] ونسبة اللفظ إلى الأفراد نسبة واحدة فلو لم يكن نص على فرد، يلزم ذلك في جميع الأفراد، ثم قولكم: لكن يقال: نصه على ضرب جميعهم يبطل ذلك؛ لأن ثبوت المجموع يتوقف على ثبوته في كل فرد، فإذا خرج الفرد عن أن يكون منصوصًا عليه، تعذر أن يكون المجموع منصوصًا عليه؛ فحينئذ يتعين أن يكون قولكم: (ولا يتناول أكثر منه) لا معنى له في الاحتراز. قوله: (الظاهر الذي لا يفتقر في إفادته لمعناه إلى غيره أفاد وحده، أو مع غيره): قلنا: ظاهر كلامكم: أنكم جعلتم الظاهر أعم؛ لقولكم: (أفاده وحده، أو مع غيره) ثم قلتم بعد هذا: (أو بالقيد الأخير يمتاز عن النص امتياز العام عن الخاص) ويلزم من هذا سؤالان: أحدهما: أن حد النص السابق لا يمنع من دخول الظاهر فيه؛ كقولكم:

هو كلام تظهر إفادته لمعناه، وحينئذ لا عموم ولا خصوص، بل التفسيران عامان، وكل منهما لم يصدق إلا على الظاهر، وخصوص النص الذي هو قسيم الظاهر، لم يتعرضوا له؛ وهو الدال على معنى قطعًا، لا يقبل المجاز ألبتة؛ كأسماء الأعداد. وثانيهما: أن الظاهر إذا كان أعم؛ فيجب صدقه على نوعه، الذي هو النص، فيصدق على النص أنه ظاهر، والاصطلاح يأباه. قوله: (كما قلنا في باب اللغات؛ النص: هو الذي لا يمكن استعماله في غير معناه): قلنا: هذه العبارة لم تتقدم، لكنه قال: النص هو المانع من النقيض وتفسيره أنه يمنع المجاز، وقد تقدم البحث عليه هناك، وهو أن النقض أعم من المجاز؛ لاحتماله النسخ. قوله: (ولا منافاة بين التعريفين): تقريره: أن ذلك تعريف للنص المفسر بما دل على معنى قطعًا، ولا يحتمل غيره قطعًا، وهذا تعريف للنص بما له إفادة، كيف كانت، أو لفظ النص لفظ مشترك، وكل لفظ مشترك يكون لكل واحد من مسمياته تعريف غير التعريف الكائن للآخر؛ فلا منافاة حينئذ. قوله: (المجمل في عرف الفقهاء: ما أفاد شيئًا من جملة أشياء هو معين في نفسه). قلنا: كونه معينًا في نفسه لم يأت من قبيل المجمل، إنما جاء من ظاهر حال المتكلم، أما اللفظ من حيث هو لفظ، فلا دلالة له على التعيين، ثم قولكم: (من أشياء) قد يكون من جملة شيئين؛ كالقرء، له مسميان فقط، وهذا ينبني على أقل الجمع، هل هو اثنان، أو ثلاثة؟

(فائدة) قال سيف الدين: قد يكون الإجمال في المشترك

قال سيف الدين (هو غير جامع؛ لأن الفعل قد يكون مجملاً، كما إذا قام من اثنتين، ولا يدري أقام سهوًا أو تعمدًا) وقال: (ينبغي أن يزاد في الحد بالنسبة إليه، فإنه قد يكون ظاهرًا من وجه). (فائدة) قال سيف الدين: قد يكون الإجمال في المشترك؛ كالعين، والمختار للفاعل، والمفعول؛ والضدين؛ كالقرء، ولفظ مركب؛ لقوله تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة: 237]، فإن جميع هذه الألفاظ مترددة بين الولي والزوج. وقد يكون يتردد الضمير؛ نحو: قولنا: (كل ما علمه الفقيه، هو كما علمه) يصح عوده على الفقيه، وعلى العلوم، أو التردد بين الأجزاء، والصفات؛ كقولنا: الخمسة زوج وفرد، يصح باعتبار الأجزاء دون الصفات؛ أو سبب الوقف كقوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران: 7] أو تردد صفة؛ نحو: زيد طبيب ماهر؛ يحتمل ماهر في الطب أو غيره، أو التردد بين مراتب الخصوص؛ كالمخصوص بطائفة مجملة، أو المجازان المستوية، إذا تعددت الحقيقة، فهذه عشرة أيام. وذكر الغزالي في (المستصفى) هذه الأقسام، وزاد: أنه قد يصلح للمتشابهين بوجه ما؛ كالنور للعقل، والنور للجسم، وقد يصلح لمتماثلين؛ كالجسم للسماء والأرض، وقد يكون موضوعًا لهما من غير تقديم وتأخير،

وقد يكون مستعارًا من الآخر؛ كالأم للوالدة والأرض، ويكون سبب التردد بين العطف والابتداء في (الواو). وقوله: (لا يلزم عليه (اضرب رجلاً) لأنه يخرج عن العهدة بأي فرد كان): قلنا: لكن يلزم عليه (ضربت رجلاً)، فإنه معين في نفسه، والمتكلم لم يعينه، وله أن يقول: المتواطئ إذا أريد به بعض أشخاصه، كان مجملاً، كان في الماضي أو المستقبل. قوله: (المؤول احتمال يعضده دليل): قلنا: قد تقدم في أول اللغات: أنه الاحتمال المرجوح والمجاز فيه. وقال الإمام في (البرهان): (التأويل رد اللفظ الظاهر إلى ما إليه مآله في دعوى المتأول، فجعل التأويل صرف الظاهر لا نفس الاحتمال الخفي). قال الأبياري في (شرح البرهان): (قال أبو حامد: هو احتمال مقصود بدليل يصير به أغلب على الظن من الظاهر). قال: وهو ضعيف، وليس من شرطه أن يعضد بدليل؛ ولهذا يقال: هذا تأويل، فما دليله؟ وقد يعضد بدليل يساوي به الظاهر. قال ابن برهان في كتاب (الأوسط): التأويل قسمان في الفروع: مجمع عليه، وفي الأصول حتى قال به الظاهرية، وفي العقائد، وصفات الله - تعالى - فثلاثة مذاهب: إجراء تلك النصوص على ظاهرها عند المشبهة، وصرفها عن ظاهرها، فلا يعين مجازها، وهو مذهب السلف، وتعين المجاز، وهو مذهب الأشعرية.

(تنبيه)

(تنبيه) زاد سراج الدين فقال على حد النص والظاهر: لقائل أم يقول: ما ذكره يقتضي كون النص قسمًا من الظاهر، والمذكور في (كتاب اللغات) كونه قسيمًا له، وبينهما تناف، فهذا التعريفان لا يوافقان التعريفين المذكورين في (كتاب اللغات). قال التبريزي: المجمل: هو الكلام الذي لا يتبين منه مراد المتكلم لا بالوضع، ولا بالعرف، والمبين: هو الدليل إلا أنه في عرف العلماء يختص بقبيل الألفاظ، ثم قد يطلق بإزاء مطلق الدليل اللفظي، وقد يختص بالكاشف عن سابقة إشكال، ثم ذلك المشكل، إن كان مجملاً، سمى بعد البيان مبينًا، أو ظاهرًا؛ وإن أريد به خلافه، سمى مؤولاً، ولا يسمى بيانه تأويلاً. * ... * ... *

القسم الأول في المجمل وفيه مسائل قال الرازي: المسألة الأولى: في أقسام المجمل. الدليل الشرعي: إما أن يكون أصلاً، أو مستنبطًا منه، والأصل إما أن يكون لفظًا، أو فعلاً: أما اللفظ: فإما أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملاً في موضوعه، أو حال كونه مستعملاً في بعض موضوعه، أو حال كونه مستعملاً لا في موضوعه، ولا في بعض موضوعه: أما القسم الأول: فذاك هو أن يكون اللفظ محتملاً لمعان كثيرة فلم يكن حمله على بعضها أولى من الباقي. ثم تناول اللفظ لتلك المعاني: إما بحسب معنى واحد مشترك بين الكل وهو المتواطئ كقوله تعالى: {واتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141] أو لا، بحسب معنى واحد، وهو المشترك؛ كلفظ القرء. وأما القسم الثاني، وهو: أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملاً في بعض مضوعه، فهو كالعام المخصوص بصفة مجملة، أو استثناء مجمل، أو بدليل منفصل مجهول. مثال الصفة قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم}

[النساء: 24] فإنه تعالى، لو اقتصر على ذلك، لم يفتقر فيه إلى بيان؛ فلما قيده بقوله: {محصنين} ولم ندر ما الإحصان لم نعرف ما أبيح لنا. ومثال الاستثناء قوله تعالى: {أحلت لكم بهيمنة الأنعام إلا ما يتلى عليكم} [المائدة: 1]. ومثال الدليل المنفصل المجهول كما إذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5]: المراد بعضهم، لا كلهم. وأما القسم الثالث، وهو: أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملاً، لا في موضوعه، ولا في بعض موضوعه، فهو ضربان: أحدهما: الأسماء الشرعية، والآخر: غيرها. مثال الأول: كما إذا أمرنا الشرع بالصلاة ونحن لا نعلم انتقال هذا الاسم إلى هذه الأفعال احتجنا فيه إلى بيان. والثاني: الأسماء التي دلت الأدلة على أنه لا يجوز حملها على حقائقها، وليس بعض مجازاتها أولى من بعض، بحسب اللفظ؛ فلابد من البيان. أما الفعل فإن مجرد وقوعه لا يدل على وجه وقوعه، إلا أنه قد يقترن به ما يدل على الوجه الذي وقع عليه، وحينئذ يستغنى عن البيان، وقد لا يقترن به ذلك، فيكون مجملاً: مثال الأول: إذا رأينا الرسول - عليه الصلاة والسلام - مواظبًا على الإتيان بالسجودين، علمنا أن ذلك من أفعال الصلاة.

مثال الثاني: أن يقوم من الركعة الثانية، ولا يجلس قدر التشهد، جوزنا أن يكون قد سها فيه، وأن يكون قد تعمد ذلك؛ ليدلنا على جواز ترك هذه الجلسة. وأما المستنبط من الأصل، فهو القياس، ولا يتصور فيه الإجمال، والله أعلم. * * * القسم الأول في المجمل قال القرافي: قوله: (الأصل) إما لفظ أو فعل): قلنا: بقى التقرير، والاستحسان، والعوائد، وقرائن الأحوال، وظاهر الحال لم يندرج في القسمين، مع أنكم تعرضتم لتقسيم الدليل الشرعي بوصف الإجمال. قوله: (يكون اللفظ محتملاً لمعان كثيرة): تقريره: أن الاحتمال قد يكون ينشأ عن الوضع؛ كاللفظ المشترك، فإن وصفه مشتركًا هو سبب التردد، وقد ينشأ عن العقل؛ كاللفظ المتواطئ؛ فإنك إذا قلت: في الدار رجل، احتمل جميع رجال الدنيا، وهذا من تجويز العقل، لا من الوضع. وكذلك تقول: كل مشترك مجمل، وليس كل مجمل مشتركًا؛ فالمجمل أعم من المشترك، ثم المتواطئ لا يكون مجملاً، وهو مستعمل في موضوعه إلا بحسب خصوصيات محاله لا باعتبار ما استعمل فيه، بل هو ظاهر، وكذلك يبادر بفعل المطلقات، ويخرج عن العهدة بفعل أيها شئنا. قوله: (الدليل المجهول كما إذا قال عليه السلام: المراد بقتل المشركين بعضهم لا كلهم): قلنا: لابد أن يقال: بعضهم معين، أما لو قال: (بعضهم) من غير

(تنبيه) زاد سراج الدين فقال: المتواطئ يكون مجملا، إذا أريد به معين

تفسير لم يكن مجملاً، بل يخرج عن العهدة بواحد؛ لأنه يصدق عليه أنه بعض؛ كسائر المطلقات. قوله: (مثال المستعمل لا في موضوعه، ولا في بعض موضوعه: الأسماء الشرعية): قلنا: الأسماء الشرعية في الغالب مستعملة في بعض أنواع ما وضعت له كـ (الحج) لغة: القصد، وهو مستعمل في قصد مخصوص، و (الصوم): الإمساك، وهو في إمساك مخصوص، و (العمرة): الزيارة، وهي في الشرع لزيارة (الصفا) و (المروة) وكذا الوضوء والغسل، وهو كثير. وقد قيل في (الصلاة): إنها كذلك؛ لاشتمالها على الدعاء المخصوص، وهو دعاء (الفاتحة) في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6]. (تنبيه) زاد سراج الدين فقال: المتواطئ يكون مجملاً، إذا أريد به معين. قلت: وفي (المحصول) لم يشترط ذلك، بل أطلق، والإطلاق صحيح؛ لأن الله - تعالى - إذا قال: {فتحرير رقبة} [النساء: 92] صدق أن لفظ (الرقبة) ظاهر بالنسبة إلى القدر المشترك، ومجمل؛ بالنسبة إلى خصوصيات الرقاب، في أنواعها وأشخاصها؛ لأن الإجمال عدم الفهم، وكذلك الذي قبله: اللفظ مجمل بالقياس إليه، وكونه لا يفهم لا يمنعنا من إعمال اللفظ فيما فهمناه، وهو القدر المشترك، فالإجمال قسمان: مانع من العمل: وهو الذي ذكره سراج الدين، وغير مانع: وهو ما في

(سؤال)

(المحصول)، والإطلاق أرجح؛ لأنه يشمل القسمين، والتقييد يخرج أحد النوعين، فكان مرجوحًا. (سؤال) جعله المتواطئ مجملاً، إذا استعمل في موضوعه، إذا أريد به أحد أنواعه، أو أشخاصه - مشكل؛ لأنه إذا أريد به ذلك، لا يكون مستعملاً في موضوعه. (تنبيه) الأصل في المتواطئ عدم الإجمال، وأن يحمل على مسماه المعنى الكلي، حتى تدل قرينة على استعماله في أخص من مسماه، والأصل في المشترك الإجمال، حتى يتبين، فهما مفترقان. (سؤال) قال النقشواني: ما ذكره أولاً في حد المجمل يشعر بأن المسمى بالمجمل يصير حده الأول غير جامع. (سؤال) قال النقشواني: إخراج المتواطئ أولاً عن أن يكون مجملاً؛ حيث ضرب المثال بقوله: اضرب رجلاً، وفي التقسيم جعله من جملة المجمل. جوابه: أنه قد تقدم أن المتواطئ يصدق عليه الإجمال وعدمه، حال كونه مستعملاً في موضوعه، وأنه ظاهر من وجه، ومجمل من وجه، فباعتبار موضوعه ظاهر وغير مجمل، وباعتبار أشخاصه وأنواعه مجمل إجمالاً لا يمنع من العمل؛ لأن الإجمال هو عدم فهم المعنى من اللفظ، وهو أعم من كونه مانعًا؛ لاحتمال أن يكون مع غير المفهوم ما هو مفهوم من جهة أخرى، وقد تقدم.

المسألة الثانية قال الرازي: يجوز ورود المجمل في كلام الله - تعالى - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - والدليل عليه وقوعه في الآيات المتلوة. واحتج المنكر: بأن الكلام: إما أن يذكر للإفهام، أو لا للإفهام، والثاني عبث غير جائز على الله تعالى. والأول: إما أن يكون قد قرن بالمجمل ما يبينه، أو لم يفعل ذلك، والأول: تطويل من غير فائدة؛ لأن التنصيص عليه أسهل وأدخل في الفصاحة من ذكره باللفظ المجمل، ثم بيان ذلك المجمل بلفظ آخر، وأيضًا فيجوز أن يصل الإنسان إلى ذلك المجمل قبل وصوله إلى ذلك البيان، فيكون سببًا للحيرة، وإنه غير جائز, والثاني: باطل؛ لأنه إذا أراد الإفهام مع أن اللفظ لا يدل عليه، وليس معه ما يدل عليه، كان تكليفًا بما لا يطاق، وإنه غير جائز. والجواب: أن هذا الكلام ساقط عنا؛ لأن عندنا يفعل الله ما يشاء، ويحكم ما يريد. وعند المعتزلة: فلا يبعد أن يكون في ذكره باللفظ المجمل، ثم إرداف ذلك المجمل بالبيان مصلحة لا يطلع عليها، ومع الاحتمال لا يبقى القطع، والله أعلم. * * * المسألة الثانية يرد المجمل في كتاب الله تعالى قال القرافي: قوله: (جواز وقوعه في الآيات المتلوة):

يريد المتقدمة في التمثيل. قوله: (ذكر البيان بعد المجمل تطويل من غير فائدة): قلنا: لا نسلم به، بل فيه فوائد: أحدها: امتحان المكلف؛ حتى يظهر المتثبت الفاحص عن دينه الباذل لجهده في طلب البيان من المعرض المتواني في ذلك، فيعظم قد الأول دون الثاني. وثانيها: أن خطاب الله - تعالى - تشريف لعباده، فكلما كثر خطابه، كثر تشريفه، وتلك نعمة عظيمة منه سبحانه وتعالى، ولذلك لما سأل الله - تعالى - موسى عليه السلام - فقال: {وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولىَ فيها مآرب أخرى} [طه: 17 - 18] فزاد في الجواب عما لم يسأل عنه، وقد كمل الجواب بقوله: {هي عصاي} وشرع يعلم الله - تعالى - بما هو به عليم، وما ذلك إلا لتكثير مناجاته لله تعالى، وتضاعف شرفه باستمرار حالة المخاطبة مع رب الأرباب، ولقد يفعل الإنسان ذلك مع ملوك الدنيا وعظمائها، فكيف مع الله تعالى؟! وثالثها: أن ألفاظ القرآن بكل حرف منه عشر حسنات، كما جاء في الحديث الصحيح، فإذا كثرت التلاوة، كثرت الأجور. ورابعها: أن المعنى، إذا ذكر أولاً بلفظ مجمل، ثم ذكر بلفظ مفصل، كان أوقع في النفس؛ فإن النفس تشتاق إلى تمامه بعدل إجماله، وحصول الشيء بعد الشوق إليه، وصورة المنع منه، أبلغ عند النفس من حصوله ابتداءً، ويكون إقبالها على المعنى وفهمه، أتم: لتوفر الداعية بسبب الشوق إليه. قوله: (وقد يصل إليه المجمل دون البيان، وذلك سبب الحيرة): قلنا: التقصير يكون من جهته، لا من جهة المتكلم؛ فإن البيان قد حصل من جهة المتكلم.

القول في أمور ظن أنها من المجملات وليست كذلك، وفيه مسائل قال الرازي: المسألة الأولى: ذهب الكرخي: إلى أن التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان؛ كقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] يقتضي الإجمال. وعندنا: أنه يفيد بحسب العرف تحريم الفعل المطلوب من تلك الذات، فيفهم من قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] تحريم الاستمتاع، ومن قوله: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] تحريم الأكل؛ لأن هذه الأفعال هي الأفعال المطلوبة في هذه الأعيان. والحاصل: أنا نسلم كونه مجازًا في اللغة؛ لكنه حقيقة في العرف. لنا وجوه: الأول: أن الذي يسبق إلى الفهم من قول القائل: (هذا طعام حرام) تحريم أكله، ومن قوله: (هذه المرأة حرام) تحريم وطئها؛ ومبادرة الفهم دليل الحقيقة. وثانيها: ما روى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها، وباعوها) فدل هذا على أن تحريم الشحوم أفاد تحريم كل أنواع التصرف، وإلا لم يتوجه الذم عليهم في البيع. وثالثها: أن المفهوم من قولنا: (فلان يملك الدار) قدرته على التصرف فيها

بالسكنى والبيع، ومن قولنا: (فلان يملك الجارية) قدرته على التصرف فيها بالبيع، والوطء، والاستخدام؛ وإذا جاز أن تتخلف فائدة الملك على هذا النحو، جاز مثله في التحريم والتحليل. احتج الكرخي: بأن هذه الأعيان غير مقدورة لنا، لو كانت معدومة، فكيف إذا كانت موجودة؟ فإذن لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره، بل المراد تحريم فعل من الأفعال المتعلقة بتلك الأعيان، وذلك الفعل غير مذكور، وليس إضمار بعضها أولى من بعض، فإما أن نضمر الكل، وهو محالٌ؛ لأنه إضمار من غير حاجة وهو غير جائز، أو نتوقف في الكل، وهو المطلوب. وأيضًا: فالآية لو دلت على تحريم فعل معين، لوجب أن يتعين ذلك الفعل في كل المواضع، وليس كذلك؛ لأن المراد بقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] حرمة الاستمتاع، وبقوله: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] حرمة الأكل. والجواب: لا نزاع في أنه لا يمكن إضافة التحريم إلى الأعيان، لكن قوله: (ليس إضمار بعض الأحكام أولى من بعض) ممنوع؛ فإن العرف يقتضي إضافة ذلك التحريم إلى الفعل المطلوب منه، والله أعلم. * * * القول فيما ظن أنه من المجملات قال القرافي: قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] مجاز لغوي حققة عرفية). تقريره: أن هذا من مجاز التركيب؛ على ما قاله من حذف المضاف، وقد تقدم أن حذف المضاف من باب المجاز، وتقدم أن إطلاقات العلماء

تقتضي الخلاف في المضاف المحذوف، هل هو سبب المجاز، أو محل المجاز؟ وتقدم تقرير هذا وبسطه في باب المجاز، وتقدم في باب الحقيقة العرفية: أن أهل العرف كما ينقلون المفردات ينقلون المركبات أيضًا، كما أن العرب وضعت المفردات والمركبات، كذلك الوضع العرفي فيه القسمان، وهو معنى قوله: (حقيقة عرفية). هذا هو ظاهر كلامه، ويحتمل على وجه البعد أن يكون أراد مجاز - الإفراد؛ بأن يعتقد أن لفظ الأمهات عبر به عن الاستمتاع بها؛ من باب التعبير بالسبب المؤدى عن مسببه، أو مجاز الملازمة؛ لأن وضع النساء يقتضي قبولهن الاستماع كما يقبل الوادي الماء، والاستمتاع من لوازم النساء في غالب أمرهن إلا أن مجاز التركيب فيه أظهر، وقد تقدم في باب المجاز الفرق بين مجاز التركيب، ومجاز الإفراد، وحقائقهما وشروطهما. قوله: (روى عنه - عليه السلام - أنه قال: (لعن الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم، فجملوها، وباعوها، وأكلوا أثمانها} يدل على تحريم كل أنواع التصرف، وإلا لم يتوجه الذم في النفع): قلنا: عليه سؤالان: السؤال الأول: أن هذا يناقض ما قدمتموه: أن اللفظ موضوع لما يتبادر الذهن إليه فقط، والمتبادر هاهنا إنما هو الأكل وهو المفهوم من الشحوم، إذا قلنا: حرم الله الشحم، أما جميع الأنواع فلا، كما قررتموه في الطعام. السؤال الثاني: أن هذا الحديث في نفسه مشكل، استشكله جماعة من العلماء من جهة أن المتبادر إلى الفهم إنما هو الأكل كما تقدم، فيشكل اللعن على البيع؛ فإنه لا يلزم من تحريم الأكل تحريم البيع؛ كالبغال والحمير يحرم أكلها، ويجوز بيعها، وهو كثير، ومقتضى ذلك أن يعذر اليهود في كونهم حملوا التحريم على الأكل خاصة، فكيف يتوجه عليهم الذم، وأجاب

العلماء عنه بأن هذا الحديث يقتضي أنه قد تقدم عند نزول التحريم عليهم في الشحوم قرائن حالية، أو مقالية تقتضي تعميم التحريم عليهم في جميع المنافع؛ فيكون معنى قوله عليه السلام: (حرمت عليهم الشحوم) أي حرم عليهم جميع منافعها، فباعوها؛ بناء على أنهم كانوا يعملون ذلك بدليل منفصل ورد عليهم؛ لأن كل ما يتوقف عليه تصحيح كلام صاحب الشرع يجب اعتقاد وقوعه، وإلا فظاهر الحديث على خلاف القواعد. قوله: (المفهوم من قولنا: (فلان يملك الدار) قدرته على التصرف بالبيع والتصرف، و (يملك الجارية) قدرته على البيع والوطء، وإذا جاز أن تتخلف فائدة الملك على هذا النحو، جاز مثله في التحريم والتحليل): تقريره: أن التحريم سلب القدرة شرعًا، فإذا كانت القدرة تختلف حالة الثبوت، والسلب إنما يدخل على الحاصل حالة الثبوت، فيكون السكوت مختلفًا؛ لأنه عين الثابت، والتخيل إثبات القدرة شرعًا، فيختلف في الأعيان المحللة. قوله: (هذه الأعيان غير مقدورة لنا، لو كانت معدومة، فكيف إذا كانت موجودة؟): تقريره: أن العقلاء حيث قال بعضهم: إن الحيوان يوجد أفعال نفسه، كما قالت الفلاسفة والمعتزلة، إنما قالوه في أنواع من الأفعال عدها العلماء في كتبهم نحو العشرة: الحركة والسكون، والعلم والظن، والاجتماع والفكر، والافتراق، والنية والإرادة، وأنواع العزوم، والطاعة والمعصية، وهما خصوصان للأفعال ونحو ذلك.

وأما إيجاد الآدمي أو غيره من الحيوانات، وخلق الجبال والسموات والشجر والنبات ونحو ذلك، فلم يقل به أحد، بل جميع الحيوانات عاجزة عن ذلك؛ باتفاق العقلاء، ونقلها من العدم إلى الوجود، إنما هو لله - تعالى - وأما إذا كانت موجودة، فأصعب وأبعد؛ فإن الموجود يستحيل إيجاده على القدرة القديمة فضلاً عن الحادثة، والأثر إنما يفتقر للمؤثر حالة حدوثه لا حالة بقائه؛ فلذلك الاستحالة علينا بعد الوجود أقوى وأشد. * ... * ... *

المسألة الثانية قال الرازي: ذهب بعض الحنفية إلى أن قوله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} [المائدة: 6] مجمل؛ لأنه يحتمل مسح جميع الرأس، ومسح بعضه، وإذا ظهر الاحتمال، يثبت الإجمال. وقال آخرون: لو خلينا واللفظ لمسحنا جميع الرأس؛ لأن الباء للإلصاق. وقال ابن جنى: (لا فرق في اللغة بين أن تقول: مسحت بالرأس، وبين أن تقول: مسحت الرأس؛ لأن الرأس اسم للعضو بتمامه؛ فوجب مسحه بتمامه). وقال بعض الشافعية: إنها للتبعيض فهو يفيد مسح بعض الرأس. وقال آخرون: لا إجمال فيه؛ لأن لفظ المسح مستعمل في مسح الكل بالاتفاق، وفي مسح البعض كما يقال: (مسحت يدي بالمنديل، ومسحت يدي برأس اليتيم) وإن كان إنما مسحها ببعض الرأس، والأصل عدم الاشتراك، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بين مسح الكل، ومسح البعض فقط، وذلك هو مماسة جزء من اليد جزءًا من الرأس. فثبت أن اللفظ ما دل إلا عليه، فكان الآتي به عاملاً باللفظ؛ وحينئذ لا يتحقق الإجمال، ويكفي في العمل به مسح أقل جزء من الرأس. وهو قول الشافعي رضي الله عنه.

المسألة الثانية قال الرازي: (قال بعض الحنفية: {وامسحوا برءوسكم} مجمل؛ لاحتماله البعض والكل). قلنا: لفظ (الرأس) اسم للجميع وهو ظاهر فيه، و (الباء) للإلصاق، ومع الظهور لا إجمال؛ لأن الإجمال إنما يكون مع الاحتمالات المستوية. قوله: (وقال بعضهم: إنها للتبعيض): قلنا: قد تقدم في باب الحروف إبطال هذا، وأن (مسح) له مفعولان، وتمام التقرير هنالك. قوله: لفظ المسح يستعمل في البعض، كما يقال: مسحت برأس اليتيم، وإنما كان المسح ببعضها. قلنا: (مسحت برأس اليتيم) (الباء) للآلة، أي: جعلت رأس اليتيم آلة للمسح، ومسحت برأس اليتيم بيدي، أي: يدي هي آلة المسح عن رأسه، وجميع الرأس هو الآلة، فلا بعض حينئذ حتى يدل الدليل على أنه استعمل لفظ الرأس في بعضها، فيعتقد حينئذ؛ المجاز، وأما مجرد اللفظ، فاللفظ ظاهر في الكل، ليس إلا، وعلى هذا لا يكون اللفظ حقيقة في المشترك، بل في جميع الرأس. وفرق بين قوله: (امسحوا) وبين قوله: (امسحوا برءوسكم)، فالأول لا يقتضي إلا مطلق المسح؛ لأن الفعل في سياق الثبوت لا يدل إلا عليه، والثاني يقتضي تعميم الرأس، كما لو قال: (صوموا) اكتفينا بيوم، وصوموا رمضان، لابد من جملته، ففرق بين الاقتصار على أصل الفعل، وبين إضافته لمحل مخصوص، وإنما يتم مقصود الشافعي أن لو كان لفظ الآية من القسم الأول. * ... * ... *

المسألة الثالثة قال الرازي: اختلفوا في حرف النفي، إذا دخل على الفعل؛ كقوله: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) و (لا عمل لمن لا نية له). فقال أبو عبد الله البصري: إنه مجملٌ؛ لأن ذات الصلاة والعمل موجودة؛ فلا يمكن صرف النفي إليها؛ فوجب صوفه إلى حكم آخر، وليس البعض أولى من البعض. فإما أن يحمل على الكل، وهو إضمار من غير ضرورة؛ ولأنه قد يفضي إلى التناقض؛ لأنا لو حملناه على نفي الصحة، ونفي الكمال معًا، وفي نفي الكمال ثبوت الصحة، فيلزم التناقض. أو لا يحمل على شيء من الأحكام، بل يتوقف، وهذا هو الإجمال. ومن الناس من فصل؛ وقال: هذا النفي إما أن يكون داخلاً على مسمى شرعي، أو على مسمى حقيقي، فإن كان الأول، فلا إجمال؛ لأن الصلاة اسم شرعي، والشرع أخبر عن انتفاء الوصف المخصوص. فإن قلت: يقال: هذه الصلاة فاسدة؛ فدل على بقاء المسمى مع الفساد، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (دعِى الصلاة أيام أقرائك). قلت: التوفيق بين الدليلين أن نصرف ذلك إلى المسمى الشرعي، وهذا إلى المسمى اللغوي. ومن هذا الباب، قوله: (لا نكاح إلا بولي) و (لا صيام لمن لم يبيت الصيام

من الليل) أما إن كان المسمى حقيقيًا، فإما أن يكون له حكم واحد، أو أكثر من حكم واحد، والأول: كقولنا: لا شهادة لمجلود في قذف؛ لأنه لا يمكن صرف النفي إلى ذات الشهادة؛ لأنها قد وجدت، فلابد من صرف النفي إلى حكمها، وليس لها إلا حكم واحد، وهو الجواز؛ لأن الشهادة، إذا كانت فيما كانت، ندبنا إلى ستره، لم يكن لإقامتها مدخل في الفضيلة؛ كقولنا: لا إقرار لمن أقر بالزنا مرة واحدة؛ لأن الأولى له أن يستر ذلك على نفسه؛ فإذن لا حكم له إلا الجواز، وإذا لم يكن له إلا هذا الحكم الواحد انصرف النفي فصح التعلق به. أما إذا كان له حكمان: الفضيلة، والجواز، فلم يكن صرفه إلى أحدهما أولى من الآخر، فيتعين الإجمال، هذا قول الأكثرين. ولقائل أن يقول: لكن صرفه إلى الجواز أولى من صرفه إلى الفضيلة؛ لوجوه: أحدها: أن المدلول عليه باللفظ نفي الذات، والدال على نفي الذات دال على نفي جميع الصفات؛ لاستحالة بقاء الصفة مع عدم الذات. فإذن قوله: (لا عمل) يدل على نفي الذات، وعلى نفي الصحة، ونفي الكمال، ترك العمل به في الذات؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في الباقي. فإن قلت: اللفظ لم يدل على نفي الصحة بالمطابقة، وإنما دل عليها بالالتزام؛ ضرورة أنه يلزم من انتفاء الذات انتفاء الصفة؛ ودلالة الالتزام تابعة لدلالة المطابقة التي هي الأصل.

فهاهنا، لما لم توجد دلالة المطابقة التي هي الأصل، فكيف تبقى دلالة الالتزام التي هي الفرع؟ وأيضًا: فقد جاء هذا اللفظ لنفي الفضليلة فقط؛ والأصل في الكلام الحقيقة. والجواب عن الأول: أنه لا نزاع في أن دلالة هذا اللفظ على نفي الصفة، تابعة لدلالته على نفي الذات، لكن بعد استقرار تلك الدلالة، صار اللفظ كالعام بالنسبة إليها بأسرها، فإذا خص عنها، في بعض الأمور، وهو الذات، وجب أن يبقى معمولاً به في الباقي. وعن الثاني: أنا بينا: أن اللفظ عام بالنسبة إلى نفي الذات، ونفي الصفات ثم تارة يختص بالنسبة إلى الذات فقط، وحينئذ يفيد نفي بقية الأحكام، وتارة يختص بالنسبة إلى الذات، والصحة، فيبقى معمولاً به في الباقي وهو نفي الفضيلة. وثانيها: هو أن المشابهة بين المعدوم، وبين ما لا يصح، أتم من المشابهة بين المعدوم، وبين ما يوجد ويصح، ولا يفضل، والمشابهة إحدى أسباب المجاز، فكان حمل اللفظ على نفي الصحة أولى. وثالثها: أن الخلل الحاصل في الذات عند عدم الصحة أشد من الخلل الحاصل فيها عند بقاء الصحة، وعدم الفضيلة، وإطلاق اسم العدم على المختل أولى من إطلاقه على غير المختل. سلمنا أنه لا يجوز حمل هذا النفي على هذه الأحكام، ولا يجوز حمله على نفي الذات، فلم قلت: إنه مجمل؟

بيانه: أن قولنا: هذا الشيء لفلان معناه: يعود نفعه إليه، وقولنا: (لا عمل لمن لا نية له) معناه لا يعود نفعه إليه، وهذا يقتضي نفي الصحة؛ لأنه لو صح ذلك العمل لعاد، نفعه إليه، واللفظ دل على نقيضه، والله أعلم. * * * المسألة الثالثة حرف النفي إذا دخل على الفعل قال القرافي: قوله: (ذات الصلاة موجودة لا يمكن صرف النفي إليها): قلنا: لا نسلم؛ لأن المنفى هو الصلاة الشرعية، وهي غير موجودة. قوله: (في نفي الكمال ثبوت الصحة): قلنا: لا نسلم؛ بل نفي الكمال بمقتضى اللفظ أعم قد ينتفي لانتفاء أصل الصلاة، وقد ينتفي لوقوعها فاسدة أو غير كاملة، إن كانت صحيحة، غير أن المفهوم لا المنطوق في قولنا: (صلاة غير كاملة): أن الإجزاء حاصل، أما المنطوق فلا، كما إذا قلنا: (ليس في الدار رجل طويل) لنفيه طريقان: ألا يكون في الدار رجل، أو فيها، لكنه رجل غير طويل. وإذا كان نفي الكمال أعم، فلا تناقض حينئذ في نفيهما. قوله: (إن كان المسمى شرعيًا، انتفى كالصلاة): تقريره: أن مفهوم الصلاة استفيد من الشرع وضعه، فهو مسمى شرعي، بخلاف قوله عليه السلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)؛ فإن الخطأ لم يحدد فيه الشرع وضعًا؛ بل حقيقة الخطأ والنسيان واقعتان، وسلب التأثيم عنهما، وهما لغويان واقعان في الوجود مستحيل رفعهما، وأما الصلاة الشرعية لم تقع ألبتة، فأمكن الإخبار عنها بالنفي، ويكون صادقًا. قوله: (يصرف قولنا: (هذه صلاة فاسدة) إلى المسمى اللغوي، وكذلك (دعِىَ الصلاة أيام أقرائك):

قلنا: أما الثاني، فلا يتعين ذلك له، بل أمرت بأن تترك المسمى الشرعي أيام أقرائها، وما أمرت بترك الدعاء أيام الحيض، فلا يتجه المثال الثاني، وأما (هذه صلاة فاسدة)، فتقريره: أن المسمى اللغوي فسد، لا بمعنى أن الدعاء فسد بما هو دعاء؛ إنما معناه فسد أن يصير صلاة شرعية، وهذا غاية ما يمكن تقريره به، وعليه سؤالان: أحدهما: أن عدم انتقال الحقيقة إلى حقيقة أخرى لا يقتضي القضاء على غير المنتقل بأنه فاسد في الاصطلاح، ونحن إنما أطلقنا الفساد؛ باعتبار الاصطلاح. وثانيهما: أن الصلاة قد تفسد؛ لعدم القراءة فيها؛ فلا يكون فيها دعاء ألبتة؛ فلا يكون المسمى اللغوي موجودًا؛ حتى يقضى عليه بالفساد. قوله: (نفي شهادة القاذف له حكم واحد): يريد أن القاذف إذا شهد في الزنا مع امرأته امرأتان لا يشهد هو ولا غيره في الزنا، فلا تتجه الفضيلة والجواز، بل لم يخبر الشرع حينئذ إلا عن نفي الجواز، وكذلك أمر الإنسان بالستر على نفسه في الزنا ونحوه؛ لقوله عليه السلام: (من بلى بشيء من هذه القاذورات، فليستتر بستر الله؛ فإنه من يبدي لنا صفحة وجهه، نقم عليه حد الله).

قوله: (بعد استقرار تلك الدلالة، صار اللفظ كالعام بالنسبة لنفي الذات والصفات): قلنا: إن أردتم باستقرارها اعتقاد نفي الذات وصفاتها، فممنوع؛ لأنا لا نعتقد نفي الذات ألبتة، ويلزم من اعتقادنا نفي الذات: ألا نعتقد نفي الصفات؛ لانتفاء الوجوب من ذهننا. وإن أردتم باستقرار الدلالة: أن عند سماع اللفظ يحصل إفهام نفي الذات، ونفي الصفات؛ فإنه لا يلزم من عدم اعتقاد المفهوم انتفاء الفهم، كما أن اللفظ العام إذا خص لانتفاء دلالته على جميع الأفراد بمعنى إشعاره بها - وإن انتفى اعتقاد العموم - فكذلك لفظ الحقيقة، إذا دل الدليل على أنه أريد به المجاز، لا يبطل إشعاره بالحقيقة. ونقول: اللفظ يدل على العموم والحقيقة، وإنما منعنا من حمله عليه وجود المعارض، ويحكم بوقوع التعارض، والتعارض فرع تحقيق المتعارضين؛ فعلمنا حينئذ أن الدلالة في العموم وغيره باقية بعد اعتقاد أن المفهوم غير مراد، كذلك هاهنا استقرار الدلالة معناه استقرار الإشعار الذهني، وقد تقدم في باب الدلالة أن معناها الشعور، أو الإشعار، أو كون اللفظ بحيث إذا أطلق؛ أشعر، وبهذا التقدير؛ إذا كان هو المراد تستقيم دعوى استقرار الدلالة بالتفسير الأول، والسائل إنما أورد عليه السؤال في الكتاب من القسم الأول.

(تنبيه)

قوله: (المشابهة بين المعدوم وما لا يصح أتم من المشابهة، وما لا يفضل، والمشابهة أحد أسباب المجاز): قلنا: ينبغي أن تقولوا: اشتراك المجازان في أصل المشابهة، ومجازنا أرجح، فيجب المصير إليه. (تنبيه) ويتعين هاهنا أن يكون المجاز مجازًا في التركيب، لا في الإفراد، كما تقدم في هذا الباب، وفي باب المجاز تمام تقريره، وأن يكون هذا المجاز لغويًا، لا عرفيًا؛ لأنه ادعى أن النقل حصل فيه عرفًا عند قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] وهذا مثله. قوله: (هذا الشيء لفلان) أي: يعود نفعه عليه، فقولنا: لا عمل له، أي: لا يعود نفعه عليه): تقريره: كما تقدم أن النفي يتناول ما كان ثابتًا، فإذا كان الثابت هو النفع، يكون السكوت هو النفع. * * *

المسألة الرابعة قال الرازي: قال بعضهم: آية السرقة مجملة في اليد، وفي القطع: أما اليد فلأنه يطلق اسم اليد على هذا العضو من أصل لمنكب، وعليه من الزند، وعليه من الكوع، وعليه من أصول الأنامل، وأما القطع: فلأنه قد يراد به الشق فقط كما يقال: برى فلان قلمه فقطع يده، وقد يراد به: الإبانة. والجواب عن الأول: أن اسم اليد موضوع لهذا العضو من المنكب ولا يتناول الكف وحده؛ لأنه لا يقال: قطعت يد فلان بالكلية إذا قطعت من الكف. وعن الثاني: أن القطع في اللغة: الإبانة، فإذا أضيف إلى شيء أفاد إبانة ذلك الشيء. والشق إذا حصل في الجلد، فقد حصلت الإبانة في تلك الأجزاء، بلى أطلق اسم اليد عليه على سبيل إطلاق اسم الكل على الجزء، فيكون المجاز هاهنا في لفظ اليد، لا في لفظ القطع، والله أعلم. * * * المسألة الرابعة آية السرقة مجملة قال القرافي: قوله: (حقيقة الشق، إذا حصل في جلد اليد، حصلت افبانة في تلك الأجزاء، بل إطلاق اسم اليد على سبيل إطلاق اسم الكل على الجزء؛ فيكون المجاز هاهنا في لفظ اليد لا في لفظ القطع): قلنا: هذا الجواب حسن بالنسبة إلى تسمية الشق قطعًا، لكن الواقع في

الآية ليس هو هذا، بل قطع جملة اليد وإبانتها بالكلية؛ فيكونن حقيقة؛ لأن قطع اليد حقيقة لا يتوقف على إبانتها من الكتف، بل من قطع عمامة من وسطها، يقال لغة حقيقة: إنه قطع العمامة، فكذلك اليد، وكذلك إذا قطع الخشبة من وسطها. * ... * ... *

المسألة الخامسة قال الرازي: قيل في قوله عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان): إنه مجمل؛ لأن نفس الخطأ غير مرفوع، فلابد من صرفه إلى الحكم، فيلزم الإجمال على ما تقدم تقريره. والأقرب: أنه ليس بمجمل؛ لأن المولى، إذا قال لعبده: رفعت عنك الخطأ، كان ذلك في العرف منصرفًا إلى نفي المؤاخذة بذلك الفعل، فكذا إذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته مثل هذا القول، وجب أن ينصرف إلى ما يتوقع مؤاخذته لأمته به وهو الأحكام الشرعية، فكأنه قال: رفعت عنكم الأحكام الشرعية من الخطأ، والله أعلم. * * * المسألة الخامسة قال القرافي: (قوله عليه السلام: (رفع عن أمتي الخطأ) يحمل قوله: طأن ذلك في العرف منصرف إلى نفي المؤاخذة) ينبغي أن يعلم أنه يكون من باب نقل المركبات، لا من باب نقل المفردات كما تقدم بسطه في الحقيقة العرفية، ويكون مجازًا لغويًا من باب المجاز في التركيب دون الإفراد، ويكون على حذف المضاف، هل المضاف المحذوف سبب التجوز، أو محل التجوز؛ على ما تقدم في باب المجاز تقريره. قوله: (ينصرف النفي إلى ما يتوقع المؤاخذة به، وهو الأحكام الشرعية): قلنا: لا نسلم أنه نفي للأحكام الشرعية، بل للإثم فقط، وأما الضمان، فهو ثابت، بل الصادق هاهنا أن نقول: الأحكام الشرعية لا يبقى منها نفي؛

(فائدة) قوله عليه السلام: (رفع عن أمتي الخطأ)

لأن المؤاخذة ليست حكمًا شرعيًا، بل هي تنشأ عن الخبر بالمؤاخذة، لا عن الأحكام؛ لأن الحكم الشرعي خطاب الله - تعالى - المتعلق بأفعال المكلفين على وجه الاقتضاء، والتخيير، والعقوبة ليست مطلوبة، ولا مخيرًا فيها، بل مخيرًا عنها، فالمنفى حينئذ ليس من الأحكام ألبتة، بل الأحكام كلها ثابتة إلا أن يقال: المنفى: الحكم الذي يوجب المؤاخذة، وهو التحريم؛ فإن المؤاخذة لم تنتف إلا بانتفائه، فهذا متجه، لكنه ليس جملة الأحكام، بل بعضها لبقاء الضمان. (فائدة) قوله عليه السلام: (رفع عن أمتي الخطأ): ليس له مفهوم، فلا يعتقد أن من ليس بأمته لم يرفع عنه ذلك، بل مرفوع؛ لأن الكفار إن قلنا: إنهم ليسوا مخاطبين بالفروع، فالمؤاخذة ذاهبة قطعًا، أو مخاطبون، فهم تكون أحكامهم كأحكامنا في العزائم والرخص، فكل ما هو رخصة في حقنا، فهو رخصة في حقهم، ولا يمكن أن يقال: هم مؤاخذون بما لا نؤاخذ نحن به، بل كل ما لو صدر منهم، وأوخذوا به، فكذلك نحن، إذا صدر منّا، أوخذنا به، فنحن وهم سواء في المؤاخذة، وعدمها في الفروع على تقدير الخطاب بها، فالمسكوت عنه كالمنطوق. (مسألة) قال سيف الدين: اللفظ الوارد من الشارع، الدائر بين حكم شرعي، أو موضوع لغوي كقوله عليه السلام: (الاثنان فما فوقهما جماعة)؛ احتمل أن يراد الإخبار عن صورة الاجتماع، وهو لغوي.

(مسألة) اللفظ الشرعي المتردد بين مسمى شرعي، ومسمى لغوي على القول بالمسميات الشرعية: قال القاضي تفريعا على القول بالوضع الشرعي: هو مجمل

قال الغزالي: هو مجمل؛ لتردده بينهما. وقال غيره: يحمل على الشرعي؛ لأنه ظاهر حاله عليه السلام. (مسألة) اللفظ الشرعي المتردد بين مسمى شرعي، ومسمى لغوي على القول بالمسميات الشرعية: قال القاضي تفريعًا على القول بالوضع الشرعي: هو مجمل. وقال بعض الشافعية، والحنفية: يحمل على الشرعي؛ لأنه المناسب للشارع. وقال الغزالي: يحمل في الإثبات على الشرعي؛ لقوله عليه السلام: (إني صائم) لما دخل على عائشة - رضي الله عنها - وسألها: هل عندها شيء. وهو في النهي: مجمل؛ كنهيه - عليه السلام - عن صوم يوم النحر؛ لأن النهي عما لا يتصور وقوعه محال، فهو متردد بينها. (مسألة) قال: إذا دار بين معنى وبين معنيين، فهو يحمل للتردد. وقيل: يحمل على المعنيين؛ لأنه أمثر فائدة، كما إذا دار بين ما يفيد، وبين ما لا يفيد، والفرق أنه هنالك، إذا لم يحمل، يصير لغوًا.

(مسألة) استدل القاضي في اشتراط الولي بقوله عليه السلام: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل) الحديث

(فصل) ذكر الإمام في (البرهان) من هذه المسائل التي فرع البحث فيها عددًا، وسماه (كتاب التأويل) وكذلك ذكره جماعة من الأصوليين، وسموه بهذا الاسم، وذكروا هذه المسائل، فينبغي ذكره هاهنا؛ تحصيلاً لتلك الفوائد، وتوفية بما اشترطته في هذا الشرح أنى لا أجد فائدة إلا ذكرتها. قال الإمام: التأويل بمجرده ليس مسموعًا، بل لابد من دليل عاضد، وذلك الدليل ينقسم إلى مقبول، وغير مقبول: قال: فأذكر مسائل اضطرب فيها نظر العلماء؛ يظهر فيها المقبول من غير المقبول: (مسألة) استدل القاضي في اشتراط الولي بقوله عليه السلام: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل) الحديث. قال الحنفية: يحمل على الصغيرة. أجيبوا بأنها لا تسمى امرأة، كما لا يسمى الصبي رجلاً، ثم إن الصغيرة عندهم، لو عقدت على نفسها كان العقد موقوفًا على إجازة الولي. قالوا: معناه: يؤول للبطلان عند رد الولي، كما في قوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر: 30]. أجيبوا بأن النكاح له عاقبتان: الجواز، إن أمضى، والرد، إن رد فلا يتعين أحدهما للتعيين؛ بخلاف الموت، قالوا: يحمل على الأمة. أجيبوا بأن نكاحها صحيح موقوف، وبأنه عليه السلام قال: (فإن مسها فلها المهر) ومهر الأمة لسيدها.

قال متأخروهم: إرادة التحقيق تحمل على المكاتبة؛ لأنها تستحق المهر. قال: فأكثر أصحابنا قبل هذا التأويل، ورده القاضي والشافعي؛ لأن أدوات الشرط غاية، فتخصيصها بغير دليل لا يصح، لا سيما في ابتداء تأسيس القواعد منه صلى الله عليه وسلم. قال المازري في (شرح البرهان): إذا تأكد العموم، يمتنع تخصيصه، وهاهنا قد أكد بقوله: (باطل باطل باطل) ثلاث مرات، ورد عليه أن التأكيد لا يمنع المجاز، ولا التخصيص؛ لأن قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليمًا} [النساء: 164] مؤكد بالمصدر، وهو مجاز خلافًا للأكثرين؛ لأن تكليم الله - تعالى - خلق علمًا ضروريًا في نفس موسى - عليه السلام - أو غيره تكون نسبته إلى ما قام بذات الله - تعالى - كنسبة السماع للأصوات، وخلق العلم في اللغة لا يسمى تكليمًا في اللغة حقيقة، بل مجازًا؛ من مجاز التشبيه من جهة استواء النسبة. وكذلك قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب: 33] مصدر مؤكد، ومع ذلك فالتطهير هاهنا ليس إزالة النجاسة حقيقة، إنما هي معنوية، فهو مجاز مع التأكيد، والمجاز أبعد من التخصيص، فجواز التخصيص أولى. وكقوله تعالى: {إن الله يغفر الذنوب جميعًا} [الزمر: 53] مع أنه مخصوص بالكفر إجماعًا، وبأحاديث الشفاعة، فإنها دلت على دخول جماعة النار، ولا مغفرة مع العذاب. وأكثر المتقدمين يشيرون إلى أن التأكيد يمنع المجاز، فأردت أن أعرف أن الواقع خلافه، ويقولون: التكليم في الآية يجب أن يكون حقيقة؛ لأنه أكد بالمصدر، والأمر كما ترى.

(مسألة) قال: استدل الشافعي في اشتراط تبييت النية في رمضان لقوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل)

(مسألة) قال: استدل الشافعي في اشتراط تبييت النية في رمضان لقوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) قالوا: يحمل

(مسألة) قال: استدل الشافعي في نكاح المشركات بالقصص المشهورة في الذين أسلموا على الخمس والأختين، وقوله - عليه السلام - لغيلان: (أمسك أربعا، وفارق سائرهن)

على القضاء، والنذر المطلق، أجيبوا بأنه نكرة في سياق النفي؛ فيعم، وحمله على الخصوص خلاف الظاهر؛ لأن المتبادر الصوم الذي هو قاعدة الإسلام، فحمله على توابع الإسلام خلاف الظاهر. قالوا: هو نهى عن الاكتفاء بنية صوم الغد في بياض نهار اليوم، فعليه أن يؤخر النية إلى غيبوبة الشمس؛ حتى يكون بإيقاع النية في الليل مبيتًا؛ وأجيبوا بأنه لا يسبق للفهم أنه نهى عن إيقاع نية صوم الغد في يوم قبله؛ ولأن المفهوم من هذا الكلام النهي عن الذهول والحث على تقديم التبييت، فإذا حمل على النهي عند التقديم على الليل، كان إلغازًا. قالوا: يحمل على نفي الكمال. أجيبوا بأن نفي الكمال غير ممكن في القضاء والنذر، وهما من أفراد العموم، وإذا تعين حمل اللفظ في بعض أفراده على حقيقته، تعين في الكل. (مسألة) قال: استدل الشافعي في نكاح المشركات بالقصص المشهورة في الذين أسلموا على الخمس والأختين، وقوله - عليه السلام - لغيلان: (أمسك أربعًا، وفارق سائرهن) فإذا أسلم كافر على أكثر من أربع، فارق الزائد، ولا يراعى الأوائل والأواخر.

(مسألة)

قالوا: يحمل على أن مراده - عليه السلام - جدد الأنكحة على أربع وأجيبوا بأن: هذا سرف في البعد عن الظاهر؛ ولأن النقلة لم ينقلوا تجديد عقود. قالوا: لعل المشركين وقعت عقودهم قبل مشروعية الخطر، ثم أسلموا بعد الحظر، فأنكحتهم صحيحة، ولذلك أقرها عليه السلام. أجيبوا بأن الأصل عدم هذه الاحتمالات. مثل هذه الأمور لا تسمع في ألفاظه عليه السلام في تقرير قواعد الشرع، ولو فتح هذا الباب، لما انتظم استدلال، ولما استقام ذلك في العدد ولبطل في الأختين؛ فإنه لم يقل أحد: إن الجمع بينهما، كان جائزًا في صدر الإسلام. وقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} [النساء: 23] معناه: إلا ما قد سلف في الجاهلية قبل مبعثه عليه السلام. (مسألة) قال: لو صح، ما روى عنه - عليه السلام - أنه قال: (من ملك ذا رحم محرم، عتق عليه) لم يصح تأويل الشافعية بحمله على عمودي النسب الأصول والفصول؛ لأن قصد الرسول - عليه السلام - العموم من هذا اللفظ لائح قوي؛ لأنه لم يتقدم سؤال سائل، ولا قرينة تصرفه لغير العموم، ومتى فهم عن الشارع قصد العموم في تأسيس القواعد، امتنع حمله على الخصوص؛ فإن الإنسان، لو اشتد به الضعف، وأخذه الضجر، ونزلت أحوال شاقة به، فقال لغلمانه: لا يدخل على أحد، فحملوا هذا العموم على طائفة، وأذنوا لسائر الناس، لاستحقوا الأدب، ولعدوا خارجين عن نمط كلام العرب. ولم يكن السلف يعتمدون مثل هذه التأويلات في كلام صاحب الشرع،

بل يوجبون إجراء الألفاظ على ظواهرها، لا سيما في تأسيس قواعد الشرائع، وتبيين ضوابط الأحكام. ولو أراد الآباء - والبنين، لنص عليهم؛ هذا هو المعلوم من حال أدنى الناس فصاحة؛ فكيف به - عليه السلام - كما علم أن الأقارب تنقسم إلى المحارم وغيرهم، فنص على المحارم دون غيرهم، بل أراد ضم وصف المحرمية إلى وصف القرابة، فيظهر فضل التعميم، فمن أراد مخالفة قصده، لم يقبل منه، فإن عضد تأويله بقياس، فإنما مسنده ظن لم يستفده من لفظ الشارع، فكيف يترك ما استفيد من لفظ الشارع؛ لظن لم يفهم منه، بل ظن اللفظ أولى. إذا تقرر هذا، فنقول: تارة يلوح من كلام صاحب الشرع: أنه لم يرد العموم؛ فلا يتمسك به على العموم؛ كما قال أبو حنيفة بالزكاة في الخضروات اعتمادًا على قوله عليه السلام: (فيما سقت السماء العشر) لأن هذا الكلام سيق لبيان الجزء الواجب، لا لبيان الذي يجب فيه وإذا سيق الكلام لمعنى، لا يستدل به في غيره؛ لأن المتكلم ليس له فيه داعية، وكما استدل الحنفية على أن الخل يزيل النجاسة بقوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4] فأطلق التطهير، ولم يخصص مزيلاً من مزيل، فيعم، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الآية إنما سيقت لبيان أصل التطهير لا الآلة المطهرة، فلا يستدل به فيها؛ كما قال تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ... الآية} [المائدة: 6] فتعرض لصفة الوضوء، ولم يفصل فيما به يتوضأ، مع أنه مخصوص بالماء دون الخل اتفاقًا، وعلى هذا النمط يقبل التأويل، ولا يتمسك بالعموم. والمرتبة الثانية: أن يظهر قصد الشارع التعميم؛ فلا يجوز تخصيصه بقياس مظنون؛ كما سبق.

(مسألة) قال: إن من التأويلات ما لا يجوز إلا في مضايق الشعر وضروراته

المرتبة الثالثة: أن يرد مجردًا عن الأمرين، فهذا محل الاجتهاد، وموطن التخصيص بالقياس، فيبذل الناظر جهده، فإن كان ظن القياس أقوى، عمل به وخصص، أو وجد ظن اللفظ أقوى، عمل باللفظ، واطرح القياس، وإن استويا، وجب التوقف، قاله القاضي. قال: وأنا أرى تقديم الخبر، وإن استويا في الظن؛ لعلو رتبته. مثاله: قوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات) استدل الشافعي به على وجوب النية في الطهارة، وهو نقض للتأويل. (مسألة) قال: إن من التأويلات ما لا يجوز إلا في مضايق الشعر وضروراته، فإذا حمل اللفظ عليه من غير ضرورة، كان ركيكًا، فإن حمل ذو مذهب على شيء من ذلك شيئًا من كلام الشرع، مع إمكان حمله على الظاهر، رد كما حمل الكسر في قوله تعالى: {وأرجلكم} [المائدة: 6] على الجوار مع أنه ليس بين المعطوف والمعطوف عليه مشاركة في المعنى، وإنما يجوز ذلك؛ لضرورة القافية، كما قال امرؤ القيس [الطويل]: كأن ثبيرًا في عرانين وبله .... كبير أناس في بجاد مزمل

والأصل (مزمل) بالرفع، فخفض على الجوار، والأحسن ما قاله سيبويه: أن العرب يقرب عندها المسح من الغسل؛ لأنهما إمساس بالماء، فلما تقاربا في المعنى، حسن العطف؛ كقولهم [مجزوء الكامل]: ولقد رأيتك في الوغى .... متقلدًا سيفًا ورمحًا لأن كليهما يحمل، وإن كان الرمح لا يتقلد، بل يعتقل، فسواه به؛ لمقاربته له في المعنى، فمهما أمكن المشاركة في المعنى، حسن العطف، وإلا امتنع في فصيح الكلام إلا لضرورة. قال: فإن قلت: فقد صرف في القرآن ما لا ينصرف، وهو إنما اتضح؛ للضرورة في قوله تعالى: {سلاسلا وأغلالاً} [الإنسان: 4]. قال: قلت: الفرق أن الصرف رد للأصل، والعطف على الجوار خروج عن الأصل؛ فافترقا. قال المازري في (شرح البرهان): وأجابوا بأجوبة أخرى: أحدها: أن الخفض على الجوار إنما يجوز حيث يؤمن اللبس؛ كالبيت المتقدم، وقول العرب: (هذا جحر ضب خربٍ) والآية محتملة؛ فيمتنع. وثانيها: أنه إنما يحسن مع عدم حرف العطف، وهاهنا حرف العطف فيمتنع؛ لأنه يؤدي إلى تغيير قواعد العوامل التي اقتضى العاطف التشريك فيها. وثالثها: قال سيبويه قولهم: (هذا جحر ضب خربٍ) إنما جاز في

(مسألة) قال: أنكر الشافعي على من تناول ما يخرج الكلام إلى حيز التعطيل

غير الضرورة؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالجملة الواحدة، فكان نعت أحدهما نعتًا للآخر؛ بخلاف الآية. ورابعها: أن التقدير في البيت (مزمل الكبير)، وفي الآخر ضرب جحره)، وحذف ذلك، وهذا متعذر في الآية. (مسألة) قال: أنكر الشافعي على من تناول ما يخرج الكلام إلى حيز التعطيل، كما أولوا آية الصدقات بأن المراد الحاجة كيف كانت، وجوزوا الاقتصار على البعض؛ فلا يبقى لذكر هذه الأصناف فائدة. واحتج الشافعي بالوصية، فإنه لو وصى لهذه الأصناف، لم يجز الاقتصار على بعض الأصناف، فكذلك كلام الشارع، مع أن بعض المتأخرين منع في الوصية أيضًا، وهو باطل. (مسألة) قال: ومن فاسد التأويل رد الحنفية قوله تعال: {فإطعام ستين مسكينًا} [المجادلة: 4] إلى أن معناه: فإطعام طعام ستين مسكينًا، قدروا العدد للطعام؛ لترويج مذهبهم في جواز إطعام الطعام كله لمسكين واحد، وهذا بعيد من قواعد العرب؛ لأن الإطعام يتعدى لمفعولين، تقول: أطعمت زيدًا خبزًا. ويجوز الاقتصار على أحدهما؛ لأنهما من باب (أعطى) و (كسا) لا من باب (ظننت) وأخواتها؛ لأنهما لا ينظم منهما مبتدأ وخبر، فأظهر الله - تعالى - أحد المفعولين؛ اعتناء به، وسكت عن الآخر الذي هو الطعام المطعم ليدل هذا المنطوق به عليه؛ فإن الستين يدل على عددهم على مقدار ما يطعمونه، فجعل هذا هو المهم لا يتم في معنى الآخذ الفاعل، فعكس الحنفية القضية، وجعلوا المهتم به الذي هو العدد المذكور ألغاه نظر الشرع،

(مسألة) قال: إذا ظهر تعليل الحكم من كلام الشرع، ليس لأحد أن يؤوله بقياس

وما أخره الشرع في نظره، وسكت عنه، جعلوه هو المهم، وهذا عكس ما يقتضيه لسان العرب. (مسألة) قال: إذا ظهر تعليل الحكم من كلام الشرع، ليس لأحد أن يؤوله بقياس؛ كقوله - عليه السلام - لما سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: (أينقص إذا جف)؟ فقالوا: (نعم) فقال: (فلا إذن) هذا ظاهر في أن النقصان عند الجفاف سبب المنع، فإذا تأوله أحد بقياس، رد ذلك القياس؛ لأن الظن المستفاد من كلام صاحب الشرع أولى من الظن الناشيء عن فكرة المجتهد، فإن كان ظن القياس نشأ عن كلام صاحب الشرع أيضًا، تقابل الأمران، وحصل التعارض. (تنبيه) مقصوده من هذه المسائل أن يبين قرب التأويل من بعده، وما يسوغ أن يذهب إليه منه مما يمتنع، وينعطف بحثه في هذه المسائل على ما تقدم فيما يجوز إليه تخصيص العموم، وفي تخصيص العموم بالقياس، فقد منع هاهنا في مواطن منوعًا تتعلق بهاتين المسألتين، واستبعد ما جوزه ثمت غاية الاستبعاد. وقيل: وافقه على إيراد هذه المسائل، ونحو منها سيف الدين في (الإحكام) لهذا الغرض أيضًا، وكذلك الغزالي في (المستصفى) والقاضي عبد الجبار في كتاب (العمد)، وابن العربي في (المحصول). وسلك الجميع في هذه المسائل طرق الخلاف في المناظرة في خصوص هذه المسائل، وهذا لائق بعلم الخلاف، لا بعلم الأصول، فلذلك تركها صاحب (المحصول) وتركت أنا أيضًا نقل تلك الحجاج التي لهم هنالك.

القسم الثاني في المبين، وفيه مسائل قال الرازي: المسألة الأولى: في أقسام المبين: الخطاب الذي يكفي نفسه في إفادة معناه إما أن يكون لأمر يرجع إلى وضع اللغة، أو لا يكون كذلك: والأول: كقوله تعالى: {إن الله بكل شيء عليم} [العنكبوت: 62]. أما الثاني: فإما أن يكون بيانه على سبيل التعليل، أو لا على سبيل التعليل. أما التعليل: فضربان: أحدهما: أن يكون الحكم بالمسكوت عنه أولى من الحكم بالمنطوق به، كما في قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23]. وثانيهما: كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات). وأما الذي لا يكون تعليلاً: فضربان: أحدهما: أن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به. وثانيهما: أن يظهر في العقل تعذر إجراء الخطاب على ظاهره، ويكون هناك أمر يكون حمل الخطاب عليه أولى من حمله على غيره كما في قوله تعالى: {واسأل القرية} [يوسف: 82]. فهذه أقسام المبين، والله أعلم.

القسم الثاني في المبين قال القرافي: قوله: (إنها من الطوافين) هو حديث روى أنه - عليه السلام - دُعِىَ إلى دار قوم فيها كلب فلم يجب، ودُعِىَ إلى دار فيها هرة، فأجاب، فسئل عن ذلك فقال: (إنها ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات). أفاد بمفهومه أن الكلب نجس، وأن علة طهارة هذه بطوافها، والكلب لا يتخذ للطواف في البيوت، وعدم العلة علة لعدم المعلول، فحصل المفهوم في الحكم والعلة. قوله: (إذا تعذر حمل اللفظ على ظاهره في العقل؛ كقوله تعالى: {واسأل القرية} [يوسف: 82]. مراده بالعقل المناسبة؛ لأن سؤال القرية وإجابتها لا يستحيل عقلاً، بل المناسبة تقتضي أنهم لا يقيمون الحجة عند أيهم بسؤال الجمادات التي إجابتها من خوارق العادات التي قد تتفق للأنبياء، وقد لا تتفق في جميع الأحوال؛ فإن ذلك ريبة في حجتهم. * ... * ... *

المسألة الثانية في أقسام البيانات قال الرازي: اعلم أن بيان المجمل: إما أن يقع بالقول، أو بالفعل، أو بالترك. أما بالقول فظاهر. وأما بالفعل فإما أن يكون الدال على البيان شيئًا يحصل بالمواضعة أو شيئًا تتبعه المواضعة، أو شيئًا يتبع المواضعة. فالأول: هو الكتابة، وعقد الأصابع. فأما الكتابة فقد يقع بها البيان من الله تعالى بما كتب في اللوح المحفوظ، ومن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما كتب إلى عماله. وأما عقد الأصابع فقد بين به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: (الشهر هكذا وهكذا) وحبس في الثالثة أصبعه. وهذا الباب يستحيل على الله تعالى؛ لاستحالة الجوارح عليه. وأما القسم الثاني: وهو الذي تتبعه المواضعة: فهو: الإشارة؛ لأن المواضعة مفتقرة إليها، وهي غير مفتقرة إلى المواضعة، وإلا لافتقرت إلى إشارة أخرى، ولزم التسلسل، وهو محال. وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإشارة، وذلك حين أشار إلى الحرير بيده، وقال: (هذا حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها).

وأما القسم الثالث: وهو الذي يكون تابعًا للمواضعة، فهو كما إذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: هذا الفعل بيان لهذه الآية، أو يقول: (صلوا كما رأيتموني أصلي). واعلم أنه لا يعلم كون الفعل بيانًا للمجمل، إلا بأحد أمور ثلاثة: أحدها: أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده. وثانيها: أن يعلم بالدليل اللفظي، وهو أن يقول: هذا الفعل بيان لهذا المجمل، أو يقول أقوالاً يلزم من مجموعها ذلك. وثالثها: بالدليل العقلي وهو: أن يذكر المجمل وقت الحاجة إلى العمل به، ثم يفعل فعلاً يصلح أن يكون بيانًا له، ولا يفعل شيئًا آخر، فيعلم أن ذلك الفعل بيان للمجمل، وإلا فقد أخر البيان عن وقت الحاجة، وإنه لا يجوز. وأما الترك فاعلم أن الفعل يبين الصفة، ولا يدل على وجوبها وترك الفعل يبين نفي وجوبه، وذلك على أربعة أضرب: أحدها: أن يقوم من الركعة الثانية إلى الثالثة، ويمضي على صلاته، فيعلم أن هذا التشهد ليس بشرط في صحة الصلاة، وإلا لم تصح مع عدم شرط الصحة، ويدل على أنه ليس بواجب أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز أن يتعمد ترك الواجب. وثانيها: أن يسكت عن بيان حكم الحادثة فيعلم أنه ليس فيها حكم شرعي. وثالثها: أن يكون ظاهر الخطاب متناولاً له، ولأمته على سواء، فإذا ترك الفعل دل على أنه كان مخصوصًا من الخطاب، ولم يلزمه ما لزم أمته. ورابعها: أن يتركه بعد فعله إياه، فيعلم أنه قد نسخ عنه، ثم ينظر؛ فإن كان

حكم الأمة حكمه، نسخ عنهم أيضًا، وإلا كان حكمهم بخلاف حكمه، والله أعلم. المسألة الثانية في أقسام البيانات قال القرافي: قوله: (البيان يقع بالقول، مثاله قوله عليه السلام: (فيما سقت الشماء العشر): قوله: (البيان بالكتابة يمكن في حق الله - تعالى - بخلاف عقد الأصابع والإشارة): قلنا: الكتابة التي قالها في اللوح المحفوظ، إنما تتأتى بأن يخلق الله - تعالى - جسمًا يخلق فيه رقومًا، وأصباغًا، وأشكالاً دالة على المعاني، وإذا كان ذلك لا بد فيه من ذلك، فيخلق الله - تعالى - جسمًا يخلق فيه إشارات مخصوصة، أي إشارة كانت فيها مواضعة تدل الخلق على ذلك المعنى، فالحاصل أن كليهما مستحيل عليه في ذاته، بل يخلقهما في أجسام يخلقها، وممكنات بالطريق التي ذكرناها؛ فلا معنى للفرق بينهما. قوله: (الإشارة تتبعها المواضعة، وهي غير مفتقرة للمواضعة): قلنا: الإشارة بالوضع كاللفظ، فلو قالت العرب: إذا قلنا هكذا وهكذا وهكذا، وضممنا أصابعنا في المرة الأخيرة، كان زائدًا اعتقدناه ناقصًا، ولغى ذلك، وإنما اعتقدنا نقصان؛ لأنهم اصطلحوا على أنه ناقص، وكذلك تحريك اليد، وجميع الحركات إنما تدل بالوضع، وكذلك أهل العرف، إذا أخرج أحدهم ذقنه إلى جهة البعد، كان معناها (نعم) وإن قربها إليه، كان معناها (لا) وعند أهل (مصر) وغيرهم الأمر على العكس، ولا يفهم أهل كل قطر إلا ما تواضعوا عليه؛ فظهر أن الإشارة كالكتابة تفتقر للوضع، ثم

إن المواضعة قد لا تحتاج لإشارة، بل تحصل باللفظ وغيره من العلوم الضرورية، وإنما تحصل المواضعة بالإشارة بشرطين: أن تكون قد وضعت، وأن يقصد المتكلم ذلك، ويعينها للإفهام، وإلا لو عين غيرها، لم يحتج إليها، والكتابة كذلك يحصل بها المواضعة بهذين الشرطين، فهما سواء. وأما قوله: (لو احتاجت للمواضعة، لافتقرت لإشارة أخرى، ولزم التسلسل): قلنا: لا نسلم؛ بل قرائن الأحوال كافية في معرفة أوضاع الألفاظ والإشارات، وجميع الموضوعات كما تقدم في أول الكتاب في تعلم الصبي لغة أبويه. وقوله - عليه السلام - لما أشار إلى الحرير، وقال: (هذا حرام) لو لم يكن موضوعًا للإشارة، أعنى لفظ هذا، لما فهم السامعون الإشارة، ولا المشار إليه. قوله: (الذي يكون تابعًا للمواضعة كقوله عليه السلام: (هذا الفعل بيان لهذه الآية): تقريره: أن الألفاظ التي قال بها عليه السلام: هذا الفعل بيان لهذه الآية، لو لم تكن موضوعة، ما فهم السامعون المقصود، فصار هذا الفعل بيانًا بعد

(سؤال)

تقرر وضع تلك الألفاظ، فهو تابع للمواضعة؛ بخلاف الإشارة على زعمه، وأما الكتابة فليست تابعة لوضع غيرها، بل هي موضوعة؛ فلذلك قال فيها: (بالمواضعة) بصيغة (الباء) التي هي للسببية، ولم يجعلها تابعة، ولا متبوعة؛ لأن مقصوده بالتبعية وضع في غير التابع، والوضع هاهنا في نفس الكتابة، لا في غيرها. فبهذا الطريق، صارت الأقسام عنده ثلاثة. قوله: (يعلم كون الفعل بيانًا للمجمل بالفعل، إذا فعله عند وقت الحاجة): قلنا: هذا متجه؛ على القول باستحالة تكليف ما لا يطاق، ويكون الفعل دالاً على أن ذلك بيانًا نفيًا للاستحالة، أما مع تجويزه، فلا يكون الفعل يدل على ذلك. قوله: (الفعل يدل على الصفة، ولا يدل على وجوبه): تقريره: أنه - عليه السلام - لما بين فعل الجمعة والحج، أمكن أن يكون ذلك مندوبًا، وإنما علمنا الوجوب من صيغ الأوامر في الاثنين. قوله: (الترك ينفي وجوب الفعل): تقريره: أنه - عليه السلام - معصوم لا يقع في فعله محرم، ولا ترك واجب، فمتى ارك شيئًا، دل على عدم وجوبه. (سؤال) جعله الفعل يدل على صفة الفعل دون حكمه؛ بخلاف الترك، فإنه يبين أن ذلك الفعل غير واجب يرد عليه: أن الفعل بين أن ذلك الفعل غير محرم، ولا مكروه، فإن لاحظنا العصمة، حصلت الدلالة فيهما، وإلا فلا دلالة فيهما؛ فلا فرق بينهما، لاختصاص كل واحد منهما بوجه من وجوه الدلالة والأحكام.

قوله: إذا قام من اثنتين، ومضى على صلاته، علم أن التشهد ليس شرطًا في الصلاة، ودل على عدم وجوبه): قلنا: هذا يتوقف على بحثين: الأول: جاز أن يكون شرطًا مع الذكر، كما قاله جماعة من العلماء في طهارة الخبث، والموالاة، والتسمية في الذبيحة. والثاني: أنه - عليه السلام - ما كان متعمدًا؛ فلعله - عليه السلام - استمر عليه؛ للسهو إلى آخر الصلاة، ولم يذكر التشهد، حتى فات موضعه، فسقط شرطيته؛ لانتفاء العمدية، ولا يحصل العصيان بالترك؛ لعدم العمد، ولا يدل الترك على عدم الوجوب حينئذ. قوله: (إذا سكت عن حكم الواقعة، دل ذلك على أنه ليس فيها حكم شرعي): قلنا: قد يكون البيان تقدم قبل هذا السؤال، فقد كان عليه السلام يمكث عددًا من السنين، وهو لا يلزم نفسه الكريمة تكرار النهي عن عبادة الأصنام في كل يوم؛ لأنه قد تقدم، وما بقى لذكره كبير فائدة، فجاز أن يكون الترك لهذا المعنى، والسائل لا يتعلق به الحكم، ويكون ذكره له فيه مفسدة؛ لأن حاله بالنسبة إلى تلك الواقعة يقتضي ذلك؛ كما لو سأل المحرم الشاب عن تفاصيل أحوال الاستمتاع بالنساء، ويكون السؤال أمره به حلال؛ فإن المصلحة تقتضي أن صاحب المسألة يحضر، وأن يترك الحديث مع هذا؛ لئلا يهيج عليه داعية النساء؛ فيفسد حجه. وكذلك لو سأل النساء المخدرات عن تفاصيل أحوال الرجال، وأمكن السكوت عنهم، ولا يدل ذلك على عدم الحكم في تلك الوقائع؛ فلابد مع ترك الجواب من ضميمة قيود؛ حتى يشعر بعدم الحكم.

ولقائل أن يقول: الترك مطلقًا فيه ظهور على عدم الحكم الشرعي، وهذه صورة نادرة لا تقدح في الظن، بل متى سكت المفتي، غلب على الظن عدم الحكم عنده في تلك المسألة. قوله: (إن ترك الفعل بعد أن فعله، دل على نسخه عنه) قلنا: هذا بشرط أن يكون أصل الفعل واجبًا، ويترك في الوقت الذي يتعين فعله فيه، لا لمانع؛ وإلا فالمندوب يجوز تركه؛ كما ترك الخروج للمسجد للصلاة في قيام رمضان، وقال: (خشيت أن تفرض عليكم) وإن كان الوقت لم يأت، أو لم يتعين فعل الواجب، لا يدل ذلك على النسخ، وكذلك الاعتذار بترك الفعل، كتأخير الصلاة إلى دخول وقتها لتركه - عليه السلام - للعذر في الجمع، وهو واجب لم ينسخ، فلا بد من هذه القيود كلها. قوله: (وإن كان حكم الأمة كحكمه نسخ عنهم) قلنا: قد تقدمت المناقشة على تعليقه المساواة على كلمة (إن) مع أنها لا يعلق عليها إلا المشكوك، والمساواة معلومة من الدين؛ فلا تعلق على (إن). قال الغزالي في (المستصفى): الذي يدل على كون الفعل بيانًا سبعة طرق: وروده عند وقت الحاجة؛ لئلا يتأخر البيان عنها. الثانية: أن ينقل إلينا فعل غير مفصل؛ كمسحه رأسه وأذنه، ولم ينقل تجديد الماء، ثم ينقل تجديد الماء، فيكون بيانًا مع احتماله للفضيلة. الثالثة: أن يترك ما يلزمه؛ فيكون نسخًا.

الرابعة: ألا يقطع في سرقة اليمين، فيعلم تخصيص آية السرقة به، ونحو ذلك. الخامسة: أن يفعل في الصلاة ما لو لم يكن واجبًا، لأفسد الصلاة؛ كالركوعين في صلاة الكسوف. السادسة: أن يأخذ الجزية والزكاة مفصلة بعد إجمال النصوص فيها. السابعة: أن يعاقب عقوبة بمال أو غيره، ثم يبين سببها. * * *

المسألة الثالثة قال الرازي: الحق أن الفعل قد يكون بيانًا؛ خلافًا لقومٍ. لنا: أن الخصم إما أن يقول: إنه لا يصح وقوع البيان بالفعل، أو يقول: إنه يصح عقلاً، لكن لا يجوز في الحكمة. والأول: ضربان: أحدهما: أن يقال: إن الفعل لا يؤثر في وقوع اليقين أصلاً، والآخر: أن يقال: إنه لا يؤثر في ذلك إلا مع غيره، وهو أن يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: هذا الفعل بيان لهذا الكلام. والأول باطل؛ لأن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - للصلاة والحج أدل عليهما من صفته لهما، فإنه ليس الخبر كالمعاينة، ولهذا بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحج والصلاة، وقال: (خذوا عني مناسككم)، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وبين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوضوء بفعلهم. وأما الثاني وهو ألا يقع البيان بالفعل وحده، إلا عند قيام الدليل على أن ذلك الفعل بيان لذلك المجمل، فهذا مما لا خلاف فيه، إلا أن المبين هو الفعل؛ لأنه هو المتضمن لصفة الفعل، وإنما القول لتعليق الفعل الواقع بيانًا على المجمل. وأما القسم الثاني: وهو أنه غير جائز في الحكمة، فهو لا يستقيم على أصلنا؛ لأن الله - تعالى - يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.

ثم إن سلمنا هذا الأصل، لكنه لا يمتنع أن يعلم الله تعالى من المكلف أن بيان المجمل بهذا الطريق أصلح له. احتج المخالف: بأن الفعل يطول؛ فيلزم تأخير البيان. والجواب: أن القول قد يكون أطول؛ لأن وصف أفعال الصلاة وتروكها على الاستقصاء أصول من الإتيان بركعة واحدة، فجوابكم جوابنا، والله أعلم. * * * المسألة الثالثة: الفعل يكون بيانًا قال القرافي: قوله: (إن منعوا البيان؛ لأنه ينافي الحكمة، فإن أصلنا أن الله - تعالى - يفعل ما يشاء): قلنا: وقد تقدم أن الفعل دل على صفة الفعل؛ كما في الحج وغيره، فأمكن أن يكون ذلك الفعل؛ لغموضه، ونفاسته، يتعين بيانه بالفعل، ويمتنع بالقول في مقتضى الحكمة؛ صوتًا لنفاسة ذلك الفعل. ولا يشك عاقل أن بيان عمل الصنعة الدقيقة كنسج الديباج البديع، والمعاجين العربية كالدرياق الفاروقي والكيمياء والسيماء، ونحو ذلك بالفعل أولى منه بالقول، بل يتعين الفعل، وإلا يفسد ذلك الموصوف بالقول حالة المباشرة غالبًا، والعادة دلت على ذلك. * ... * ... *

المسألة الرابعة في أن القول هل يقدم على الفعل في كونه بيانًا؟ قال الرازي: القول والفعل، إذا وردا فإما أن يكونا متطابقين، أو متنافيين، فإن كانا متطابقين وعلم تقدم أحدهما على الآخر، فالأول بيان والثاني تأكيد؛ لأن الأول قد حصل التعريف به، فلا حاجة إلى الثاني. وإن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر، حكم على الجملة بأن الجملة بأن الأول منهما بيان، والثاني تأكيد. وإن كانا متنافيين، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قرن الحج إلى العمرة، فليطف لهما طوافًا واحدًا) مع ما روى عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه قرن فطاف طوافين، وسعى سعيين، فالقول هو المقدم في كونه بيانًا؛ لأنه بيان بنفسه، والفعل لا يدل حتى يعرف ذلك: إنا بالضرورة، أو بالاستدلال بدليل قولي أو عقلي، فإذا لم يعقل ذلك، لم يثبت كون الفعل بيانًا، والله أعلم. * * * المسألة الرابعة هل يقدم القول على الفعل؟ قال القرافي: قوله: (القول بيان بنفسه): يريد أن الوضع يوجب الدلالة، والفعل لا شيء في تقتضي دلالته؛ حتى يقول: هذا بيان لذلك المجمل ونحوه. قال سيف الدين: الحق: إن تقدم أحدهما كان بيانًا، والثاني تأكيدًا،

إلا إذا كان دون الأول في الدلالة؛ لاستحالة تأكيد الأضعف للأقوى، وإن جهل التاريخ، وهما مستويان في الدلالة، فأحدهما بيان، والآخر تأكيد، وإن كان أحدهما أرجح؛ فالأشبه أن المرجوح هو المتقدم؛ لأنا لو فرضناه متأخرًا، امتنع أن يكون مؤكدًا، فيكون ملغي، ومنصب الشرع بعيد عن رصدان ما هو ملغي. قلت: وهو غير متجه؛ لأن الأضعف يؤكد ويقوي، ويزيد في رتبة الظن الحاصلة قبله، كما لو شهد أربعة، ثم شهد خامس، فإن الظن يتأكد بالضرورة، وإن اختلف القول والفعل. قال سيف الدين: قال أبو الحسين: المتقدم منهما البيان، وإن كان الفعل؛ فيكون الطواف الثاني في سعيه - عليه السلام - واجبًا إن تقدم فعله - عليه السلام - وإن تقدم القول، فالطواف الثاني غير واجب. قال: والحق: إن تقدم القول، كان الطواف الثاني مندوبًا؛ لأنه لو كان واجبًا، لنسخ الفعل القول، والجمع أولى. وتقدم الفعل، وإن دل على وجوبه، لكن القول المتأخر يدل على عدم وجوبه، وأن يحمل على أنه واجب عليه وحده، والأول سنة، فإن جهل التاريخ، فالأول فرض تقدم القول؛ حتى يكون الطواف الثاني مندوبًا، ولو فرضنا تقدم الفعل؛ لزم إلغاء القول، أو النسخ والإلغاء. * ... * ... *

المسألة الخامسة في أن البيان كالمبين قال الرازي: هذا الباب يشتمل على شيئين: أحدهما: هل البيان كالمبين في القوة؟ والآخر: هل هو كالمبين في الحكم؟ أما الأول: فقال الكرخي: المبين إذا كان لفظًا معلومًا وجب كون بيانه مثله، وإلا لم يقبل. والحق أنه يجوز أن يكون البيان والمبين معلومين وأن يكونا مظنونين، وأن يكون المبين معلومًا، وبيانه مظنونًا؛ كما جاز تخصيص القرآن بخبر الواحد والقياس. وأما الآخر: فهو: أنه هل إذا كان المبين واجبًا، كان بيانه واجبًا كذلك؟ قال به قوم: فإن أرادوا به أن المبين، إذا كان واجبًا، فبيانه بيان لصفة شيء واجب، فصحيح. وإن أرادوا به أنه يدل على الوجوب، كما يدل المبين، فغير صحيح؛ لأن البيان إنما يتضمن صفة المبين، وليس يتضمن لفظًا يفيد الوجوب؛ ألا ترى أن صورة الصلاة ندبًا وواجبًا، صورة واحدة؟ وإن أرادوا: أنه إذا كان المبين واجبًا كان بيانه واجبًا على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإذا لم يكن الفعل المبين واجبًا، لم يكن بيانه واجبًا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فباطل؛ لأن بيان المجمل واجب، سواء تضمن فعلاً واجبًا، أو لم يتضمن، وإلا كان تكليفًا بما لا يطاق، والله أعلم.

المسألة الخامسة البيان كالمبين قال القرافي: قوله: (بيان المجمل واجب على الرسول - عليه السلام - كان الفعل الذي تضمنه المجمل واجبًا أم لا، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق): قلنا: لا نسلم لزوم تكليف ما لا يطاق؛ لأن البيان، إذا فرض غير واجب لا بد من مقدمة أخرى، وهي أن الفعل واجب علينا حالة عدم البيان؛ وحينئذ يلزم ذلك، فقد نفرض البيان غير واجب على النبي - عليه السلام - ويكون الفعل أيضًا غير واجب حالة عدم البيان، كما هو الواقع في الشريعة أنه لا يلزمنا العمل بالمجملات، بل إن وقع بيانها، وجب العمل بها، وإلا فجاز أن يكون الواقع ذلك، ويكون البيان مندوبًا عليه - صلى الله عليه وسلم - ولا يلزم من ذلك تكليف ما لا يطاق، ولا إجمال للأمر الوارد بطريق الإجمال؛ لأن البيان يقع غالبًا؛ لأن وصف الندب حادث على الفعل، وحاله - عليه السلام - تقتضي المبادرة إلى المندوبات، وعدم الإخلال بها. أما إن كان المجمل يتضمن فعلاً غير واجب، فتكليف ما لا يطاق منفي أيضًا لما تقدم؛ ولأن المندوب لو ترك بعد البيان، لم يكن فيه حرج، فأولى قبل البيان، وإنما يلزم تكليف ما لا يطاق فيما يلزم من تركه عقاب. وأما إن كان مباحًا، فبطريق الأولى، وكلامكم يتضمن هذه الأقسام؛ كقولكم: تضمن فعلاً واجبًا، أو غير واجب، ويندرج أيضًا المحرم والمكروه، فإنهما قد يردان بلفظ مجمل؛ فقد يقول السيد لعبده: حرمت عليك النظر للعين، وهو مشترك بين الباصرة والفوارة وغيرهما، فيتوقف العبد إلى عين البيان، ولا يرد البيان بكونه غير واجب مثلاً على السيد، فلا يقع العبد في المخالفة؛ لأنه قد علم أن ثم في هذه المسميات محرمًا، ولم

يتعين، فيتعين اجتناب الجميع؛ كالمذكاة إذا اختلطت بميتة، أو أخته من الرضاعة بأجنبية؛ فعلمنا أنه لا يلزم من عدم وجوب البيان تكليف ما لا يطاق على الإطلاق. قال سيف الدين: قيل: البيان يجب أن يكون مساويًا للمبين في الحكم، وقيل: لا. قال: والمختار التفصيل: إن كان المبين بقى في تعيين أحد محتملاته أدنى دلالة، أو عامًا، أو مطلقًا، فلابد أن يكون أقوى دلالة من العام على صورة التخصيص، ومن المطلق على صورة التقييد، لئلا يلزم من المساواة التوقف، ومن المرجوح الإلغاء؛ فلا بيان حينئذ. وأما المساواة في الحكم، فلا تجب؛ لأنه لو دل البيان على ما دل عليه المبين، لم يكن كون أحدهما بيانًا للآخر أولى من العكس، وإنما يكون بيانًا، إذا كان أحدهما دالاً على صفة ما دل عليه الآخر، لا على مدلوله؛ فيدل البيان على الصفة، والمبين على الأصل. قلت: قوله: (يكون المقيد أقوى من دلالة المطلق على المقيد) - غير متجه، فإن المطلق لا دلالة له ألبتة في جميع الصور؛ لأن الدال على الأعم غير دال على الأخص ضرورة، وإذا انتفت دلالته، بطل اشتراط القوة، وتعين أن يكون أدنى دليل يوجب التقييد؛ لعدم المعارضة. وقوله: (لا يدل البيان على ما دل عليه المبين، بل على صفته، فلا يستويان في حكم الوجوب) فلا يتجه أيضًا؛ لأنه قد يدل على الصفة والوجوب أيضًا لقوله عليه السلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي)

و (خذوا عني مناسككم)، هذا القول مع الفعل بيان، وهو دال على الوجوب كالمبين. قال الغزالي في (المستصفى): بيان الأحكام كلها واجب. وقال بعض القدرية: بيان الواجب واجب، وبيان المندوب مندوب، وبيان المباح مباح. قال: ويلزم على ذلك أن بيان المحرم محرم. * ... * ... *

القسم الثالث قال الرازي: في وقت البيان، وفيه مسائل المسألة الأولى: القائلون بأن لا يجوز تكليف ما لا يطاق اتفقوا على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأن التكليف به مع عدم الطريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق. والإشكالات التي ذكرناها في أن تكليف الساهي غير جائز قائمة هاهنا والجواب واحد. المسألة الثانية: اختلفوا في جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب: الخطاب المحتاج إلى البيان ضربان: أحدهما: ما له ظاهر قد استعمل في خلافه. والثاني: لا ظاهر له كالأسماء المتواطئة والمشتركة. والأول أقسام: أحدها: تأخير بيان التخصيص. وثانيها: تأخير بيان النسخ. وثالثها: تأخير بيان الأسماء الشرعية. ورابعها: تأخير بيان اسم النكرة، إذا أراد به شيئًا معينًا. إذا عرفت ذلك، فنقول: مذهبنا: أنه يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة في كل هذه الأقسام، وأما المعتزلة فأكثر من تقدم أبا الحسين - رحمه الله - اتفقوا على المنع من تأخير البيان في كل هذه الأقسام، إلا في النسخ، فإنهم جوزوا تأخير بيانه.

وأما أبو الحسين: فإنه منع من تأخير البيان فيما له ظاهر قد استعمل في خلافه، وزعم أن البيان الإجمالي كاف فيه، وهو أن يقول عند الخطاب اعلموا أن هذا العموم مخصوص، وأن هذا الحكم سينسخ بعد ذلك. وأما البيان التفصيلي: فإنه يجوز تأخيره. وأما الذي لا يكون له ظاهر؛ مثل الألفاظ المتواطئة، والمشتركة فقد جوز فيه تأخير البيان إلى وقت الحاجة. وهذا التفصيل ذكره كثير من فقهاء أصحابنا؛ كأبي بكر القفال، وأبي إسحاق المروزي، وأبي بكر الدقاق. واعلم أن الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين: أحدهما: أن يستدل في الجملة على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. وثانيهما: أن يستدل على جواز ذلك في كل واحدة من الصور المذكورة. أما المقام الأول: فالدليل عليه قوله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 17 - 18 - 19] و (ثم) في اللغة للتراخي، وهو المطلوب. فإن قيل: لا نسلم أن كلمة (ثم) للتراخي فقط بل قد تجيء بمعنى (الواو) كقوله تعالى: {ثم آتينا موسى الكتاب} [الأنعام: 154] {ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 17] {ثم الله شهيد} [يونس: 46] سلمنا ذلك، لكن لا نسلم أن المراد بالبيان في هذه الآية البيان الذي اختلفنا فيه، وهو بيان المجمل والعموم؛ فلم لا يجوز أن يكون المراد به إظهاره بالتنزيل؟ غاية ما في

الباب أن يقال: هذا مخالفة الظاهر، لكن نقول: يلزم من حفظ هذا الظاهر مخالفة ظاهر آخر وهو أن الضمير الذي في قوله: {ثم إن علينا بيانه} راجع إلى جميع المذكور، وهو القرآن، ومعلوم أن جميعه لا يحتاج إلى البيان، فليس حفظ أحد الظاهرين بأولى من الآخر، وعليكم الترجيح. سلمنا أن المراد من البيان ذلك، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد به تأخير البيان التفصيلي، وذلك عند أبي الحسين جائز؟ سلمنا أن المراد مطلق البيان لكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه} هو: أن يجمعه في اللوح المحفوظ، ثم إنه بعد ذلك ينزله على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويبينه له، وذلك متراخ عن الجمع. سلمنا أن البيان ما ذكرتموه؛ لكن الآية تدل على وجوب تأخير البيان، وذلك ما لم يقل به أحد، فما دلت عليه الآية لا تقولون به، وما تقولون به، وهو الجواز، لم تدل الآية عليه؛ فبطل الاستدلال. والجواب: أما أن كلمة (ثم) للتراخي، فذلك متواتر عند أهل اللغة، والآيات التي تلوتموها المراد هناك التأخير في الحكم. قوله: لم لا يجوز أن يكون المراد من البيان إظهاره بالتنزيل؟ قلنا: لأن قوله: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 18] أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - باتباع قرآنه، وإنما يكون مأمورًا بذلك بعد نزوله عليه، فإنه قبل ذلك لا يكون عالمًا به، فكيف يمكنه اتباع قرآنه؟ فثبت أن المراد من قوله: {فإذا قرأناه} [القيامة: 17] هو الإنزال، ثم

إنه - تعالى - حكم بتأخير البيان عن ذلك، وذلك يقتضي تأخير البيان عن وقت الإنزال. وإذا كان كذلك وجب ألا يكون المراد من البيان هو الإنزال؛ لاستحالة كون الشيء سابقًا على نفسه. سلمنا أنه يمكن ما ذكروه، ولكنه خلاف الظاهر. قوله: يلزم من مخالفة المحافظة على هذا الظاهر، احتياج القرآن جميعه إلى البيان. قلنا: لا نسلم؛ فإن لفظ القرآن يتناول كله وبعضه؛ بدليل أنه لو حلف ألا يقرأ القرآن، ولا يمسه، فقرأ آية، أو لمس آية؛ فإنه يحنث في يمينه. سلمنا أن لفظ القرآن ليس حقيقة في البعض؛ لكن إطلاق اسم الكل على البعض، أسهل من إطلاق لفظ البيان على التنزيل؛ لأن الكل مستلزم للجزء، والبيان غير مستلزم للتنزيل. قوله: (نحمله على البيان التفصيلي): قلنا: اللفظ مطلق فتقييده خلاف الظاهر. قوله: لم لا يجوز أن يكون المراد من الجمع جمعه في اللوح المحفوظ؟ قلنا: لما بينا أنه تعالى آخر البيان عن القراءة التي يجب على النبي - عليه الصلاة والسلام - متابعتها، وذلك يستدعي تأخير البيان عن وقت الإنزال. قوله: هذا يقتضي وجوب تأخير البيان. قلنا: ونحن نقول به.

فإن قلت: الضمير عائد إلى كل القرآن فيجب تأخير بيان الكل وذلك لم يقل به أحد. قلت: قد تقدم بيان أن الضمير غير عائد إلى الكل، والله أعلم. أما الذي يدل على كل واحدة من الصور التي ذكرناها فنقول: الدليل على أنه يجوز تأخير البيان في النكرة أن الله تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة موصوفة غير منكرة، ثم إنه لم يبينها لهم، حتى سألوا سؤالاً بعد سؤال. إنما قلنا: إنه لم يرد بقرة منكرة؛ لوجهين: الأول: أن قوله تعالى: {ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} [البقرة: 68] و {ما لونها} وقول الله تعالى: {إنها بقرة لا فارض، ولا بكر} [البقرة: 69] {إنها بقرة صفراء} {إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض} [البقرة: 71] ينصرف إلى ما أمروا بذبحه من قبل، وهذه الكنايات تدل على أن المأمور به ما كان ذبح بقرة منكرة، بل ذبح بقرة معينة. الثاني: أن الصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثاني، إما أن يقال: إنها صفات البقرة التي أمروا بذبحها أولاً، أو صفات بقرة وجبت عليهم عند ذلك السؤال، وانتسخ ما كان واجبًا عليهم قبل ذلك. والأول: هو المطلوب، والثاني: يقتضي أن يقع الاكتفاء بالصفات المذكورة أخرًا، وألا يجب حصول الصفات المذكورة قبل ذلك، ولما أجمع المسلمون على أن تلك الصفات بأسرها كانت معتبرة علمنا فساد هذا القسم. فإن قيل: لا يجوز التمسك بهذه الآية؛ لأن الوقت الذي أمروا فيه بذبح

البقرة، كانوا محتاجين إلى ذبحها، فلو أخر الله البيان، لكان ذلك تأخيرًا للبيان عن وقت الحاجة، وأنه لا يجوز، فإذن ما تقتضيه الآية لا تقولون به، وما تقولون به لا تقتضيه الآية. نزلنا عن هذا المقام، لكن لا نسلم أن المأمور به كان ذبح بقرة موصوفة، بل ذبح بقرة كيف كانت، فلما سألوا تغيرت المصلحة، ووجبت عليهم بقرة أخرى. وأما الكنايات: فلا نسلم عودها إلى البقرة، ولم لا يجوز أن يقال: إنها كنايات عن القصة، والشأن؟ وهذه طريقة مشهورة عند العرب. سلمنا أن هذه الكنايات تقتضي كون البقرة المأمور بها موصوفة، لكن هاهنا ما يدل على كونها منكرة، وهو من ثلاثة أوجه: الأول: أن قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة: 67] أمر بذبح بقرة مطلقة، وذلك يقتضي سقوط التكليف بذبح بقرة أي بقرة كانت، وذلك يقتضي أن يكون اعتبار الصفة بعد ذلك تكليفًا جديدًا. الثاني: لو كان المراد ذبح بقرة معينة، لما استحقوا التعنيف على طلب البيان، بل كانوا يستحقون المدح عليه، فلما عنفهم الله - تعالى - في قوله: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71] علمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولاً، وذلك إنما يكون لو كان المأمور به أولاً ذبح بقرة منكرة. الثالث: ما روىَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لو ذبحوا أية بقرة أرادوا، لأجزات عنهم، لكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم). سلمنا أن المأمور به ذبح بقرة معينة موصوفة؛ لكن لم لا يجوز أن يقال: البيان

التام قد تقدم، لكنهم لم يتبينوا ليلادتهم، فاستكشفوا طلبًا للزيادة، فحكى الله تعالى ذلك؟ سلمنا أن البيان التام لم يتقدم؛ فلم لا يجوز أن يقال: إن موسى - عليه السلام - كان قد أعلمهم بأن البقرة ليست مطلقة، بل معينة، فطلبوا البيان التفصيلي؟ فالحاصل أن البيان الإجمالي كان مقارنًا، والبيان التفصيلي كان متأخرًا؛ وهو جائز عند أبي الحسين رحمه الله. والجواب: قوله: الآية تقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة. قلنا: لا نسلم؛ لأن ذلك إنما يلزم لو كان الأمر مقتضيًا للفور، لكنا لا نقول به. قوله: (الكنايات عائدة إلى القصة والشأن): قلنا: هذا باطل لوجوه: أحدها: أن هذه الكنايات لو كانت عائدة إلى القصة والشأن، لكان الذي يبقى بعد ذلك غير مفيد؛ لأنه لا فائدة في قوله: {بقرة صفراء} [البقرة: 69] بل لابد من إضمار شيء آخر، وذلك خلاف الأصل، أما إذا جعلنا الكنايات عائدة إلى المأمور به أولاً لم يلزم هذه المحذور. وثانيها: أن الحكم برجوع الكنايات إلى القصة والشأن خلاف الأصل؛ لأن الكناية يجب عودها إلى شيء جرى ذكره، والقصة والشأن لم يجر ذكرهما، فلا يجوز عود الكتابة إليهما؛ لكنا خالفنا هذا الدليل للضرورة في بعض المواضع، فيبقى فيما عداه على الأصل.

وثالثها: أن الضمير في قوله تعالى: {ما لونها} [البقرة: 69] و {ما هي} [البقرة: 70] لا شك أنه عائد إلى البقرة المأمور بها؛ فوجب أن يكون الضمير في قوله: {إنها بقرة صفراء} [البقرة: 69] عائدًا إلى تلك البقرة، وإلا لم يكن الجواب مطابقًا للسؤال. قوله: إن قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة: 67] أمر بذبح بقرة مطلقة. قلنا: هب أن ظاهره يفيد الإطلاق، ونحن نسلمه، لكنا نقول: المراد كان غير الظاهر مع أنه تعالى ما بينه، فما قلتموه لا يضرنا. قوله: لو كان ذلك لطلب البيان، لما استحقوا التعنيف بقوله: {وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71]. قلنا: إن قوله تعالى: {وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71]، ليس فيه دلالة على أنهم فرطوا في أول القصة، أو أنهم كادوا يفرطون بعد استكمال البيان، بل اللفظ محتمل لكل واحد منهما فنحمله على الأخير، وهو أنهم لما وقفوا على تمام البيان، توقفوا عند ذلك، وما كادوا يفعلون. قوله: نقل عن ابن عباس أنه قال: (شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم): قلنا: هذا من أخبار الآحاد، ومع تقدير الصحة، فلا يصلح معارضًا لنص الكتاب. قوله: لم لا يجوز أن يقال: كان البيان حاصلاً، لكنهم لم يتبينوا: قلنا لوجهين:

الأول: أنهم كانوا يلتمسون البيان، ولو كان البيان حاصلاً، لما التمسوه، بل كانوا يطلبون التفهيم. الثاني: أن فقد التبيين عند حضور هذا البيان متعذر هاهنا؛ لأن ذلك البيان ليس إل وصف تلك البقرة، والعاقل العارف باللغة، إذا سمع تلك الأوصاف استحال ألا يعرفها. قوله: (كانوا يطلبون البيان التفصيلي). قلنا: لو كان كذلك، لذكره الله تعالى إزالة للتهمة. أما الدليل على جواز تأخير بيان المخصص: فالنقل و [المعقول]: أما النقل: فهو: أن الله تعالى لما أنزل قوله: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء: 98] قال ابن الزبعري: (قد عبدت الملائكة وعبد المسيح، فهؤلاء حصب جهنم). فتأخر بيان ذلك؛ حتى أنزل الله تعالى قوله: {إن الذين سبقت لهم منَّا الحسنى} [الأنبياء: 101]. فإن قيل: لا نسلم أن قوله تعالى: {وما تعبدون من دون الله} [الأنبياء: 98] يندرج فيه الملائكة، والمسيح. وبيانه من وجهين: الأول: أن كلمة (ما) لما لا يعقل، فلا يدخلها المسيح، والملائكة. الثاني: أن قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون} [الأنبياء: 98] خطاب مع العرب، وهم ما كانوا يعبدون المسيح والملائكة، بل كانوا يعبدون الأوثان.

سلمنا ذلك، لكن تخصيص العام بدليل العقل جائز، وهاهنا دل العقل على خروج الملائكة والمسيح، فإنه لا يجوز تعذيب المسيح بجرم الغير وهذا الدليل كان حاضرًا في عقولهم. ثم نقول: المسألة علمية، وهذا خبر واحد، فلا يجوز إثباتها به. سلمنا صحة الرواية، لكن الرسول - عليه السلام - إنما سكت انتظارًا لنزول الوحي عليه في تأكيد البيان العقلي، واللفظي. والجواب: لا نسلم أن صيغة (ما) مختصة بغير العقلاء، والدليل عليه وجوه: أحدهما: قوله تعالى: {وما خلق الذكر والأنثى} [الليل: 3] {والسماء وما بناها} [الشمس: 5] {ولا أنتم عابدون ما أعبد} [الكافرون: 3]. وثانيها: اتفاق أهل اللغة على ورود (ما) بمعنى (الذي) وكلمة (الذي) متناولة للعقلاء، فكلمة (ما) أيضًا كذلك. وثالثها: أن ابن الزبعرى كان من الفصحاء، فلولا أن كلمة (ما) تتناول المسيح والملائكة، وإلا لما أورده نقضًا على الآية. ورابعها: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يرد عليه ذلك، بل سكت وتوقف إلى نزول الوحي، ولو كان ذلك خطأ في اللغة، لما سكت الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن تخطئته. وخامسها: أنه يقال: (ما في ملكي، فهو صدقة) و (ما في بطن جاريتي، فهو حر) وهو يتناول الإنسان. وسادسها: أنها لو كانت مختصة بغير من يعلم، لما كان لقوله تعالى: {من

دون الله} [الأنبياء: 98] فائدة؛ لأنه إنما يحتاج إلى الاحتراز؛ حيث يصلح الاندراج. قوله: الخطاب كان مع العرب، وهم ما كانوا يعبدون الملائكة والمسيح): قلنا: الرواية المشهورة: أنه قد كان من العرب من يعبد الملائكة والمسيح، وقد ذكر الواحدي وغيره ذلك في سبب نزول هذه الآية. ولأن هذه الآية لو كانت خطابًا مع عبدة الأوثان فقط لما جاز توقف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تخطئة السائل. قوله: (كل أحد يعلم أن تعذيب الرجل بجرم الغير لا يجوز). قلت: نعم، لكن؛ ألا يصح دخول الشبهة في أن أولئك المعبودين كانوا راضين بذلك أم لا؟ وعند ذلك يصح السؤال. قوله: هذه الرواية من باب الآحاد. قلنا: لا نسلم، فإن المفسرين اتفقوا على ذكرها في سبب نزول هذه الآية؛ وذلك يدل على الإجماع. سلمنا أنه من الآحاد؛ لكنا بينا أن التمسك بالأدلة اللفظية، أينما كان، لا يفيد إلا الظن، ورواية الآحاد صالحة لذلك، والله أعلم. وأما المعقول: فمن وجهين: أحدهما: وهو أن نقول لأبي علي، وأبي هاشم: لو لم يجز تأخير بيان التخصيص في الأعيان، لما جاز تأخير بيان التخصيص في الأزمان، لكن جاز هذا، فجاز ذلك.

بيان الملازمة أنه لو لم يجز تأخير بيان المخصص في الأعيان، لكان ذلك؛ لأن تأخيره يوهم العموم، وهو جهل، وهذا المعنى قائم في تأخير المخصص في الأزمان، فعدم الجواز هناك يقتضي عدم الجواز هاهنا. فإن قيل: الفرق من وجهين: الأول: أن الخطاب المطلق معلوم أن حكمه مرتفع؛ لعلمنا بانقطاع سبب التكليف، وليس كذلك المخصوص. وثانيهما: أن احتمال النسخ في المستقبل لا يمنع المكلف في الحال من العمل؛ أما أن احتمال التخصيص في الحال يمنعه من العمل فلأنه لا يدري أنه، هل هو مندرج تحت الخطاب أم لا؟ والجواب عن الأول: أن الله - تعالى - لو قال لنا: (صلوا كل يوم جمعة) لاقتضى ظاهره الدوام، فإذا خرج منه ما بعد الموت للدلالة، بقى الباقي على ظاهره؛ فإن جاز أن يكون حكم الخطاب مرتفعًا مع الحياة والتمكن - ولا يدل ألبتة على ذلك، وإن ظاهر الخطاب يتناوله - جاز مثله في العموم. وعن الثاني: أن الفرق الذي ذكرتموه إنما يظهر لو أخر الله تعالى البيان عن وقت الحاجة؛ أما إذا أخره عن وقت الخطاب، لا عن وقت الحاجة لم يجب على المكلف الاشتغال بالفعل فلا حاجة في ذلك الوقت إلى تمييز المكلف به عن غيره، كما لا حاجة هناك إلى تمييز وقت التكليف عن غيره. الدليل الثاني: أجمعنا على أنه يجوز أن يأمر الله تعالى المكلفين بالأفعال مع أن كل واحد منهم يجوز أن يموت قبل وقت الفعل؛ فلا يكون مرادًا بالخطاب، وفي ذلك تشكيك فيمن أريد بالخطاب، وهذا هو تخصيص، ولم يتقدم بيانه.

واحتج أبو الحسين رحمه الله على المنع من تأخير بيان ما له ظاهر، إذا استعمل في غيره بوجهين. الأول: أن العموم خطاب لنا في الحال بالإجماع، والمخاطب إما ألا يقصد إفهامنا في الحال، أو يقصد ذلك. والأول باطل؛ لوجوه أحدها: أنه إن لم يقصد إفهامنا، انتقض كونه مخاطبًا لنا؛ لأن المعقول من قولنا: إنه مخاطب لنا، أنه قد وجه الخطاب نحونا، ولا معنى لذلك إلا أنه قصد إفهامنا. وثانيها: أنه لو لم يقصد إفهامنا في الحال مع أن ظاهره يقتضي كونه خطابًا لنا في الحال، لكان قد أغرانا بأن نعتقد أنه قد قصد إفهامنا في الحال، فيكون قد قصد أن نجهل؛ لأن من خاطب قومًا بلغتهم فقد أغراهم بأن يعتقدوا فيه أنه قد عنى ما عنوه. وثالثها: أنه لو يقصد إفهامنا لكان عبثًا؛ لأن الفائدة في الخطاب إفهام المخاطب. ورابعها: أنه لو جاز ألا يقصد إفهامنا بالخطاب، جازت مخاطبة العربي بالزنجية، وهو لا يحسنها، إذا كان غير واجب إفهام المخاطبين، بل ذلك أولى بالجواز؛ لأن الزنجية ليس لها ظاهر عند العربي يدعوه إلى اعتقاده معناه، ولو جازت مخاطبة العربي بالزنجية، وبين له بعد مدة، جازت مخاطبة النائم، وبين له بعد مدة، وأن يقصد الإنسان بالتصويت والتصفيق شيئًا يبينه بعد مدة

فإن قلت: خطاب الزنج لا يفهم منه العربي شيئًا: فلم يجز أن يخاطبوا به، وليس كذلك خطاب العربي بالمجمل؛ لأن العربي يفهم منه شيئًا ما؛ لأن قول الله تعالى: {وأقيموا الصلاة} [البقرة: 43] قد فهم منه الأمر بشيء، وإن لم يعرف ما هو. قلت: فإن جاز أن يكون اسم الصلاة واقعًا على الدعاء، ويريد الله به غيره، ولا يبين لنا، جاز أن يكون ظاهر قوله تعالى: {وأقيموا} [البقرة: 43] للأمر، ولا يستعمله في الأمر ولا يبين لنا ذلك، وفي ذلك مساواته لخطاب الزنج؛ لأنا لا نفهم منه شيئًا أصلاً. وأما القسم الثاني: وهو أنه أراد إفهامنا في الحال، فلا يخلو: إما أن يريد أن يفهم أن مراده ظاهره، أو غير ظاهره: فإن أراد الأول: فقد أراد منا الجهل. وإن أراد الثاني: فقد أراد منا ما لا سبيل إليه. ثم قال أبو الحسين: وهذه الدلالة تتناول العام المستعمل في الخصوص، والمطلق المفيد للتكرار المنسوخ، والأسماء المنقولة إلى الشريعة، والنكرة إذا أريد بها شيء معين؛ لأن الكل مستعمل في خلاف ظاهره. الثاني: لو جاز أن يريد بالعموم الخصوص، ولا يبين لنا ذلك في الحال، ولا يشعرنا بأنه بخلافه، لم يكن لنا طريق إلى معرفة وقت الفعل الذي يقف وجوب البيان عليه؛ لأنه لو قيل لنا: صلوا غدًا، جوزنا أن يكون المراد بقوله: غدًا، بعد غد، وما بعده أبدًا؛ لأن كل ذلك يسمى غدًا مجازًا، ولا يبينه لنا، فلا يقف وجوب البيان على غاية، وفيه تعذر علمنا بالمراد بالخطاب.

فإن قلت: إذا بين في غد صفة العبادة، ثم قال: (افعلوها الآن) علمنا أنه يجب فعلها في ذلك الوقت. قلت: لا يصح لكم ذلك؛ لأنه يجوز أن يكون عنى بقوله: الآن وقتًا متراخيًا على طريق المجاز، ولا يبينه لنا في الحال؛ كما جاز مثله في سائر الألفاظ. والجواب عن الأول من حيث المعارضة، ومن حيث الجواب: أما المعارضة فمن أربعة أوجه: أحدها: أن العموم خطاب لنا في الحال، مع أنه لا يجوز اعتقاد استغراقه عند سماعه، بل لابد من أن نفتش الأدلة السمعية والعقلية، فننظر، هل فيها ما يخصه، أم لا؟ فإن لم يوجد فيها ما يخصه، قضىَ بعمومه، وفي زمان التوقف: الخطاب بالعموم قائم مقامه، مع أنه لا يجوز اعتقاده ظاهره، فانتقض قولكم. أجاب أبو الحسين - رحمه الله - عنه: بأن من لم يجوز أن يسمع المكلف العام دون الخاص، لا يلزمه هذا السؤال، ومن جوز ذلك، فله أن يجيب عن السؤال بأن ما يعلمه المكلف من كثرة الأدلة والسنن، يجوز معه أن يكون فيها ما يدل على أن المراد بالخطاب غير ظاهره، فيصير ذلك كالإشعار بالتخصيص. والجواب: أما أنه لا يجوز أن يسمع المكلف العام دون الخاص، فهذا المذهب باطل عندك، وتخريج النقض بالمذهب الباطل باطل. وأما قوله: (علمه بكثرة السنن، كالإشعار بالتخصيص): قلنا: فإذا جوزت أن يكون تجويزه لقيام المخصص في الحال مانعًا له من اعتقاد الاستغراق في الحال؛ فلم لا يجوز أن يكون تجويزه لحدوث المخصص في ثاني الحال مانعًا له من اعتقاد الاستغراق في الحال؟ فهذا أول المسألة.

وثانيها: أجمعنا على أن يجوز تأخير بيان المخصص بزمان قصير، وأن تعطف جملة من الكلام على جملة أخرى، ثم تبين الجملة الأولى عقيب الثانية، وأن يبين المخصص بالكلام الطويل، وهذه الصور الثلاثة نقض على ما ذكره. فإن قلت: إنا لا نجوز تأخير البيان إلا مقدار ما لا ينقطع عن السامع توقع شرط يرد على الكلام، وإنما نجوز البيان بالطويل من القول، أو الفعل، إذا لم يتم البيان إلا بهما، وإذا لم يتم إلا كذلك، لم يكن فيه تأخير البيان. قلت: إن ظاهر لفظ العموم يفيد الاستغراق، فحالما سمع ذلك اللفظ، يتوجه عليه التقسيم الذي ذكره أبو الحسين؛ من أنه إما أن يكون غرض المخاطب به الإفهام، أو لا يكون غرضه الإفهام، والثاني باطل، فتعين الأول. فإما أن يكون غرضه إفهام ما أشعر به الظاهر، فيكون مريدًا للجهل، أو غيره، فيكون طالبًا ما لا سبيل إليه. فإن قلت: (تجويز السامع أن يأتي المتكلم بعد ذلك الكلام بشرط، أو استثناء، يمنعه من حمل هذا اللفظ على ظاهره). قلت: فلم لا يجوز أن يقال في مسألتنا: تجويز السامع أن يأتي المتكلم حال إلزام التكليف بدليل مخصص يمنعه من حمل اللفظ على ظاهره؟ وهذا أول المسألة. وثالثها: أنا نجوز أن يأمر الله - تعالى - المكلفين بالأفعال، مع أن كل واحد منهم يجوز أن يموت قبل وقت الفعل، فلا يكون مرادًا بالخطاب، وفي ذلك شككنا فيمن أريد بالخطاب، وهذا تخصيص، لم يتقدم بيانه ألبتة.

ورابعها: أن غير أبي الحسين من المعتزلة اتفقوا على جواز تأخير بيان النسخ إجمالاً وتفصيلاً، وحينئذ ينتقض دليلهم به؛ لأن اللفظ إذا أفاد الدوام مع أن الدوام غير مراد فإن أراد ظاهره فقد أراد الجهل، وإن أراد غير ظاهره فقد أراد ما لا سبيل إليه. وما يذكرونه من الفرق فقد ذكرناه، وأجبنا عنه. وأما من حيث الجواب فمن وجهين: الأول: أن نقول: ما المراد من قولك: المخاطب إما أن يكون غرضه إفهامنا، أو لا يكون غرضه ذلك؟. إن عنيت بالإفهام إفادة القطع واليقين، فليس غرضه ذلك، بل غرضه منه الإفهام بمعنى إفادة الاعتقاد الراجح، والظن الغالب، مع تجويز نقيضه، فلم قلت: إنه على هذا التقدير يكون عابثًا، ويكون مغريًا بالجهل؟ وبهذا الجواب: يظهر الفرق بين ما إذا كان الغرض ذلك، وبين خطاب العربي بالزنجية؛ لأن هناك لا يمكن أن يكون الغرض إفادة الاعتقاد الراجح، فإنه لا يفهم منه شيئًا. وإن عنيت به أن غرضه إفادة الاعتقاد الراجح، كيف كان، أعني القدر المشترك بين الاعتقاد الراجح المانع من النقيض، وبين الاعتقاد الراجح المجوز للنقيض، فهذا مسلم، ولكن هذا القدر لا يمنع من ورود المخصص؛ لأنه لو امتنع، لكان ذلك الاعتقاد مانعًا من النقيض مع أنا فرضناه غير مانع منه. ثم الذي يدل على أن الغرض من الخطاب إفادة أصل الاعتقاد الراجح،

لا إفادة الاعتقاد الراجح المانع من النقيض: هو أن دلالة الأدلة اللفظية تتوقف على كون النحو، واللغة، والتصريف منقولاً بالتواتر، وعلى عدم الاشتراك، والمجاز، والتخصيص، والنسخ، والإضمار، والنقل، والتقديم، والتأخير، وعدم المعارض العقلي والنقلي، وكل هذه المقدمات ظني، وما يتوقف على الظني أولى أن يكون ظنيًا. فثبت أن الدلائل اللفظية لا تفيد إلا الاعتقاد الراجح، وهذا القدر لا ينافيه احتمال ورود المخصص بعده. ومما يحقق ذلك أن الغيم الرطب في الشتاء يفيد ظن نزول المطر، ثم قد لا يوجد في بعض الأوقات، ثم لا يكون هذا العدم قادحًا في ذلك الظن، وإلا لتوقف تحقق ذلك الظن على انتفاء هذا العدم. فحينئذ يكون ذلك الظن قطعًا، لا ظنًا، هذا خلف، فكذا هاهنا اللفظ العام لا يفيد إلا ظن الاستغراق، وهذا القدر لا يمنع من حدوث المخصص، والله أعلم. الوجه الثاني في الجواب: أن اللفظ العام إن وجد مع المخصص دل المجموع الحاصل منه، ومن ذلك المخصص على الخاص. وإن وجد خاليًا عن المخصص، دل هو مع عدم المخصص على الاستغراق، وذلك متردد بين هاتين الحالتين على السواء، فهو بالنسبة إلى هاتين الحالتين؛ كاللفظ المشترك بالنسبة إلى مفهوماته، والمتواطئ بالنسبة إلى جزئياته فكما أنه يجوز عند أبي الحسين ورود اللفظ المشترك والمتواطئ خاليًا عن البيان؛ لأنه يفيد أن المراد أحد تلك المسميات، فكذا هاهنا اللفظ العام قبل العلم بأنه وجد معه

المخصص، أو عدم، نعلم أن المراد إما العموم أو الخصوص، ونعلم أن هذا اللفظ إن وجد معه المخصص، أفاد الخاص، وإن وجد معه عدم المخصص أفاد العام، فلا فرق بينه وبين المشترك، فكما جاز تأخير البيان، هناك، جاز هاهنا. فإن قلت: هذا عود إلى القول بأن هذه الصيغة مشتركة بين العموم والخصوص، ونحن الآن في التفريع على أنها للعموم فقط. قلت: لا نسلم أن هذا عود إلى القول بالاشتراك، وذلك أنا نسلم أنها وحدها موضوعة للاستغراق. وبهذا الكلام انفصلنا عن القائلين بالاشتراك، لكنا نقول: لا نزاع في حسن ورود المخصص، ولا نزاع في انه عند ورود المخصص لا يفيد إلا الخاص، فإذا شككنا في وجود المخصص وعدمه، لزمنا أن نشك في أنه هل يفيد الاستغراق أم لا؟؛ لأن الشك في الشرط شك في المشروط فأين هذا القول من مذهب القائلين بالاشتراك؟ والجواب عن الثاني: أن اللفظ، وإن كان محتملاً، إلا أنه قد يوجد من القرائن ما يفيد القطع بأن المراد من اللفظ ظاهره، وعلى هذا التقدير، يزول السؤال. فإن لم يوجد شيء من هذه القرائن، وحضر الوقت الذي دل ظاهر الصيغة على أنه وقت العمل، وجب عليه العمل؛ لأن الظن قائم مقام العلم في اقتضاء وجوب العمل في الحال، ولكنه لا يقوم مقامه فيما لا يتعلق به العمل فظن كون اللفظ دالاً على وجوب العمل في الحال، يكفي في القطع بعدم المخصص، فظهر الفرق، والله أعلم.

القسم الثالث في وقت البيان قال القرافي: قلت: وهاهنا مباحث: (البحث الأول) أن صحيح مذهبنا جواز تكليف ما لا يطاق، فلا جرم يلزم أن الصحيح جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة فضلاً عن وقت الخطاب. (البحث الثاني) أن الجهل جهلان: جهل بسيط، وجهل مركب، فالجهل البسيط: أن يجهل، ويعلم أنه يجهل؛ كمن سئل عن شعر رأسه، هل هو جاهل بعدده أم لا؟ يقول: أعلم، وأقطع أني جاهل به. فهذا جهل بسيط. والجهل المركب: أن يجهل، ويجهل أنه يجهل؛ كاعتقادات الكفار وأرباب الأهواء ونحوها، فإنهم جهلوا الحق في نفس الأمر، وإذا قيل لهم: أنتم جاهلون أم لا؟ يقولون: نحن على علم ويقين في ذلك، فقد جهلوا الحق، وجهلوا جهلهم. وكذلك من اعتقد أن زيدًا في الدار، وليس هو في الدار، وأنه صالح، وهو غير صالح، أو بالعكس. وقد جمع المتنبي في ديوانه لشخص واحد ثلاث جهالات فقال [الطويل]: ومن جاهل بي وهو يجهل جهله .... ويجهل علمي أنه بي جاهل (البحث الثالث) أن الجهل المركب أعظم مفسدة؛ لأنه يمنع النظر في الحق والسعي في تحصيله، ويكون الجاهل فيه مفرطًا بالدخول فيه؛ فإنه لو اشتد تحرزه، لم يكن كذلك، ولأنه ليس من لوازم الخلق، فإن من الجائز على المخلوق أن

(فائدة)

يكون عالمًا بالشيء، أو جاهلاً به جهلاً بسيطًا، ولا يقع له الجهل المركب أبدًا، ولا محال في ذلك. أما الجهل البسيط: فمن لوازم البشر، وجميع من هو حي من المخلوقات، فإن الله - تعالى - هو الذي أحاط بكل شيء علمًا، وغير الله - تعالى - يجب أن تكون مجهولاته غير متناهية، ومعلوماته متناهية، والدخول في النقيضة التي ليست من اللوازم أقبح من الإنصاف بما لا ينفك عنه أحد. وفي هذا المقام تفرع كلام الفرق الثلاث، فنحن لما جوزنا أن الله - تعالى - يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولم نقل بالحسن والقبح العقليين، لا جرم جوزنا على الله - تعالى - أن يبتلى عباده بالجهلين البسيط والمركب، ويتأخر البيان عن وقتي الخطاب والحاجة فيما له ظاهر، وما لا ظاهر له، والمعتزلة لما قالوا بالحسن والقبح، قالوا: يجب تعجيل البيان عند وقت الخطاب؛ لئلا يوقع المتكلم السامع في الجهل بمراده، والاحتراز عن المفاسد الممكنة الرفع واجب عقلاً على أصولهم. وأما أبو الحسين: فتوسط بيننا وبينهم، فقال: أما الجهل البسيط، الذي هو من لوازم البشر: فلا غرو؛ لقلة مفسدته، فلا جرم يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب فيما لا ظاهر له؛ لأن غايته حصول الجهل البسيط بمراد المتكلم. وأما ما له ظاهر: فيتعين تقديم البيان؛ لأنه إذا لم يتبين، يعتقد السامع أن الظاهر مراد، وليس مرادًا؛ فيقع في الجهل المركب، وهو مفسدة عظيمة، وإذا تعين تعجيل البيان؛ نفيًا لهذه المفسدة، فيلغى البيان الإجمالي بأن يقول: الظاهر غير مراد، فلا يبقى مع ذلك اعتقاد أن الظاهر مراد فينتفي الجهل المركب، ويبقى الجهل البسيط بمراد المتكلم فقط. (فائدة) قال القاضي عبد الوهاب في (الملخص): قال المعتزلة، وأصحاب أبي

حنيفة: لا بد أن يكون الخطاب متصلاً بالبيان، أو في حكم المتصل؛ احترازًا مما ينقطع بعطاس أو غيره، ومن عطف الكلام بعضه على بعض، ونحو ذلك، ووافقهم بعض الشافعية والمالكية. (البحث الرابع) أن وقت الخطاب وقت الحاجة قد يتحدان؛ كالخطاب برد الغصوب، والتوبة من الذنوب، وجميع الواجبات الفورية، فلا يتأتى هذا التفريع، بل يتفق المعتزلةة على تعجيل البيان؛ لأنهم لا يجوزون تكليف ما لا يطاق، ونجوزه نحن كما تقدم. وقد يكون وقت الخطاب غير وقت الحاجة؛ لقوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] فالآن: وقت الخطاب، ووقت الحاجة بعد انسلاخ الأشهر الحرم، فيتأتى الخلاف عن الفرق الثلاثة. قوله: (ما لا ظاهر له كالأسماء المتواطئة): يريد: إذا أريد بها معين، فهي حينئذ ليست ظاهرة في ذلك المعين من نوع، أو شخص، وهي ظاهرة باعتبار مسماها الكلي، فإذا قال الله تعالى: {فتحرير رقبة} [النساء: 92] فهو ظاهر في وجوب إعتاق رقبة واحدة. نعم؛ لو أراد به نوعًا معينًا، أو شخصًا، كان مجملاً؛ بالنسبة إلى ذلك المعين. قال سيف الدين: قال أبو إسحاق المروزي، وأبو بكر الصيرفي من الشافعية، وبعض الحنفية، والظاهرية: يمنع تأخير البيان عن وقت الخطاب، كما قاله المعتزلة.

وقال الكرخي وبعض الفقهاء: يجوز تأخير بيان المجمل، دون غيره. وقيل: يتأخر في الأمر والوعد والوعيد، دون الخبر. وقال الجبائي وابنه وعبد الجبار: يتأخر بيان النسخ، دون غيره. قلت: وهذا يوهم الخلاف في النسخ، والغزالي حكى الاتفاق فيه و (المحصول) حكى عن أبي الحسين فيه وجوب البيان الإجمالي، فيجمع بين هذه النقول؛ بأن يكون الاتفاق على تأخير التفصيل، والخلاف في الإجمال، وكذلك حكاه صاحب (المعتمد) في (المعتمد). قوله: (تأخير بيان النسخ فيما له ظاهر استعمل في خلافه): قلنا: هذا يتجه، إذا قلنا: الأمر للتكرار أبدًا في الأزمة الممكنة، أو يكون الدليل من خارج على التكرار بأن يكون الأمر ليس للتكرار. وتقول: افعلوا هذا أبدًا، ويكون المأمور به فعلاً واحدًا؛ كذبح إسحاق - عليه السلام - فإن الظاهر في هذه المواطن كلها النسخ؛ على خلاف الظاهر فيها. وأما إذا قلنا بأن الأمر للمرة الواحدة، أو للقدر المشترك بين الواحدة والتكرار، فلا يكون تأخير النسخ هاهنا على خلاف الظاهر؛ بأن يكون المتكلم قد أراد، ولم يدل دليل منفصل عليه، ثم نسخه، وهذا إنما يتجه على رأي القاضي القائل بأن المنسوخ كان دائمًا في نفس الأمر، والنسخ رفع له. وأما عند الفقهاء بأن النسخ بيان، فلا يتصور أن الله - تعالى - أراد بالخطاب الدوام أصلاً، وتكون حقيقة النسخ في هذا القسم مستحيلة.

قوله: (تأخير بيان الأسماء الشرعية هو تأخير بيان ما له ظاهر): يريد أنها كذلك، إذا استعملت في غير المسميات الشرعية؛ بأن يستعمل الصلاة في الدعاء، والصوم في مطلق الإمساك، ونحو ذلك. قوله: (جوز المعتزلة تأخير بيان النسخ وحده): تقريره: أن الفرق عندهم: أن النسخ، لو عجل بيانه عند ذكر المنسوخ بأن يقول: ليقف الواحد منكم لعشرة، وهذا حكمي عليكم إلى سنة، وبعده يكون الحكم وجوب الواحد للاثنين - فكان إبطالاً للنسخ؛ لأن الوجوب حينئذ ينتهي بغايته عند مجيئها، ولا يبقى نسخ، كما لو انتهى الصوم بغروب الشمس لا يقال: إنه منسوخ، فتعجيل بيان النسخ يبطل النسخ ألبتة؛ فلا جرم وجب تأخير بيانه إلى وقت النسخ، ويبقى السامع عندهم في الجهل البسيط بمراد المتكلم على الدوام أبدًا في ذلك الفعل؛ حتى يأتي الناسخ. وهذا - وإن كان على خلاف قاعدتهم - إلا أن الإجماع اضطرهم إليه، وإلا فمقتضى قاعدتهم إحالة النسخ؛ لأن فيها تجهيلاً للسامع، لكن عجزوا عن إجراء قاعدتهم فيه؛ ولا جرم ينبغي إيراده نقضًا عليهم، ويقاس عليه غيره؛ فإنه لا حيلة لهم فيه؛ لأجل الإجماع قبل ظهورهم، وهو من ضروريات الشرائع قبل شرعنا، فاضطروا إليه قهرًا. قوله: (ثم) ترد بمعنى (الواو) كقوله تعالى: {ثم آتينا موسى الكتاب} [الأنعام: 154]، {ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 17] {ثم الله شهيد} [يونس: 46]. قلنا: (ثم) موضوعة لأن يكون الثاني بعد الأول، ومتراخيًا عنه، وقد ورد على خلاف ذلك الثاني قبل الأول؛ كقوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [الأعراف: 11] فالتصوير بعد الخلق؛ لأن الخلق هاهنا التقدير، كقوله تعالى: {هو الله الخالق البارئ

المصور} [الحشر: 24] فجعل المصور غير الخالق، فـ (ثم) هاهنا على حقيقتها، وبابها، و (ثم) الثانية على خلاف الحقيقة؛ فإن إسجاد الملائكة الذي ذكره نبأ واقع في الوجود قبل المذكور قبلها. وكذلك قوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا ...} الآية [البلد: 17] مع أن الإيمان يقع أولاً قبل الإعتاق والإطعام. ومنه قول الشاعر [الخفيف]: إن من ساد ثم ساد أبوه .... ثم قد ساد قبل ذلك جده فسيادة الأب قبل الابن، وسيادة الجد قبل سيادة الأب، فاختلف النحاة والعلماء في هذه المواطن. فقال بعضهم: دخلت هاهنا لتأخير الخبر مجازًا؛ فإنها وضعت للتأخير في الخبر، فاستعملت لتأخير المخبر مجازًا، وهذا باطل؛ لأن الإخبار بما بعدها لم يتراخ في الزمان والنطق عن الأول. وقال المحققون: بل هذا من مجاز التشبيه. وتقريره: أن الرتبة العلية متراخية عن الرتبة الدنية في شرفها، وبينهما بعد معنوي، فشبه البعد بين الرتبتين بالبعد بين الزمانين، فدخلت (ثم) للتراخي بين الرتبتين، فمرتبة الإيمان أعظم من رتبة ما معها، والإسجاد للملائكة كان أبدع في الوجود من أصل الخلق؛ لأنه مستمر مع الزمان، والإسجاد لمخلوق واحد بديع، وسيادة الأب كانت أبلغ من سيادة الابن، وسيادة الجد أبلغ من سيادة الأب، وذلك أبلغ في مدح المذكور أنه وإن كان عظيمًا فأبوه كان أعظم منه، وجده كان أعظم من أبيه؛ فإن هذا يدل على تأثُّل الرئاسة.

(سؤال) قال سيف الدين: البيان يراد به الإظهار لغة

وكذلك إيتاء موسى الكتاب، وشهادة الله - تعالى - أعظم مما تقدمها، وهذا خير من القول الأول، وهما في الكتاب بمعنى (الواو)، ومهما أمكن الحمل عليه لا يعدل عنه؛ فإنه أنفس في المعنى، وقد تقدم بسطه قبل هذا. قوله: عليكم الترجيح): قلنا: القاعدة اللغوية: أن المضاف في كلام العرب يقع الاهتمام به أكثر، فإنك إذا قلت: غلام زيد منطلق، فإنك تخبر عن الغلام، وكذلك النعت والبدل ونحوه. وعود الضمائر إنما يقصد بها غالبًا المضاف دون المضاف إليه؛ ولذلك منع جمهور النحاة أن يكون الحال من المضاف إليه، وأجمعوا عليها من المضاف. إذا تقرر هذا، فقوله تعالى: {ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 19] فقوله: (بيانه) هو اسم (إن) و (الهاء) مضاف إليها، فهي في القوة ليست مثل المضاف الذي هو البيان؛ لما تقدم، فصرف التخصيص عن القوى إلى غيره أولى من صرفه إليه، فهذا ترجيح نحوي من قواعد العربية. (سؤال) قال سيف الدين: البيان يراد به الإظهار لغة. تقول: تبيَّن الحق، وتبيَّن الكوكب، فيكون معنى الآية: إن علينا بيانه للخلق، وإظهاره فيهم، وإشهاره في الآفاق؛ فلا يكون فيها حجة على صورة النزاع. (سؤال) قلت: قوله: (إن الضمير عائد على كل القرآن) - يرد عليه أنه تقدم في

وضع الحقيقة الشرعية: أن لفظ القرآن متواطئ بين الكل والبعض، فلا يكون ظاهرًا في الكل، ويؤكده قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل} [القيامة: 16] والنهي إنما يتناول المستقبل، والمستقبل بعد هذا النهي، إنما هو بعض القرآن، وغيره من الضمائر ملحق به، لأن الأصل أن الضمائر تنسيق للتساوي. قوله: (الآية تدل على وجوب تأخير البيان): تقريره: ليس المراد - هاهنا - الوجوب الشرعي الذي هو خطاب الله - تعالى - بل المراد الوجوب العقلي الناشيء عن الخبر، فإن الله - تعالى - أخبر عن تأخير البيان؛ لكونه ورد بلفظ (ثم) الدالة على التراخي. وإذا قال القائل: جاء زيد فعمرو، فقد أخبر بالتعقيب، أو (ثم عمرو) فقد أخبر بالتراخي، أو (وعمرو) فقد أخبر بمطلق التشريك فقط، فيكون الله - تعالى - مخبرًا عن تأخير البيان، فيكون واجبًا عقلاً؛ لن خبر الله - تعالى - واجب المطابقة عقلاً، وباتفاق الأمم؛ غير أن الآية ظاهرة في هذا الوجوب، ليست قطعًا فيه؛ لأن خبر الله - تعالى - وإن كان واجب الصدق - غير أن اللفظ قابل للتخصيص، والتخصيص لا يحل بوجوب الصدق؛ لأن أيا فيما قصده المتكلم بالخبر والمخصوص لم يقصد فيه الإخبار عن ظاهره، فلا تنافي بين قبول التخصيص، ووجوب الصدق. قوله: (والجواز لم تدل عليه الآية): قلنا: لا نسلم؛ لأن الجواز له معنيان: الإمكان الخاص، والإمكان العام، والجواز بالمعنى العام لا ينافي الوجوب العقلي، بل هو شامل للوجوب والاستحالة، والجواز بخلاف الإمكان الخاص، وقد تقدم بسطه في الحسن والقبح، حيث فات في علم الله - تعالى - أن وجوبه لا ينافي صحته.

قوله: المراد بالآيات التأخير في الحكم الظاهر يريد بالحكم ما تقدم. تقريره: لغيره من التأخير في الرتبة، أي رتبة حكم هذا متراخية عن رتبة هذا. قوله: (اللفظ مطلق، وتقييده خلاف الظاهر): قلنا: المطلق لا يتناول محل النزاع، إنما يتناول القدر المشترك، وأنتم حاولتم الدلالة على تأخير بيان خاص، والمطلق لا يتناوله. ولقائل أن يقول: إذا تأخر المطلق، تأخر كل أفراده؛ لأنه في معنى النفي، ويلزم من نفي المشترك نفي جميع جزئياته، فتأخر الإجمالي والتفصيلي، فهذا التقرير يتجه. أما تقرير صاحب الكتاب، فغير متجه؛ لأن السائل ما قيد مطلقًا، وإنما منع اندراج محل النزاع في الدليل، بل الأحسن أن يقول: هو عام؛ فإنه اسم جنس أضيف؛ فيعم كقوله عليه السلام: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) والأصل عدم التخصيص، أما الإطلاق، فليس واقعًا بل العموم. (سؤال على العموم) لأنا وإن قلنا: بل بيانه صيغة إضافة للعموم، فإنه لا يحصل المقصود؛ لأن البيان مضاف للضمير، إلا ما صدق عليه: أنه من جملة بيانه، وكونه من جملة بيان الإجمال هو موضع النزاع، فاندراجه في العموم هو فرع صدق كونه من جملة بيانه، وهذا كقوله تعال: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها} [الإسراء: 19] لا يندرج فيه إلا السعي اللائق بها. وكذلك (الطهور ماؤه)، إنما يندرج منه ما ثبت بدليل خارجي؛ أنه ماء البحر؛ فحينئذ يحتاج كل فرد من أفراد البيان لدليل خارجي؛ أنه بيان للقرآن، ويحسن إضافته له، فلا يحصل المقصود بسبب أن الخصم لا يعتقد أن

البيان الإجمالي بوصف التأخير في نفس الأمر من جملة بيانه ألبتة، بل هو مستحيل عقلاً عنده. قوله: (نحن نقول بوجوب تأخير البيان): تقريره: أن اسم الفاعل يصدق على بعضه كما تقدم، وبعض بيان القرآن تأخر بالضرورة، كما تأخر بيان مقادير الزكوات وغيرها، وإذا ثبت ذلك في البعض كان الخبر صادقًا، فأمكن القول بوجوب التأخير عقلاً؛ تصديقًا للخبر. قوله: (الآية تقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنهم كانوا محتاجين لذبح البقرة؛ لبيان أمر القتيل، ورفع الفتنة من بينهم، وأنتم لا تقولون به): قلنا: لا نسلم أنَّا لا نقول به، بل هذا هو الصحيح من مذهبنا؛ بناء على جواز تكليف ما لا يطاق، وهو الصحيح المشهور عندنا. فإن قلت: هاهنا سؤال آخر، وهو أن المصنف، إنما أجاب، بناء على أن الأمر ليس على الفور، وهذا الجواب ضعيف لوجهين: أحدهما: أنه لا يعم مذاهب القائلين بالفور وغيره. وثانيهما: أن الأمر - وإن كان للتراخي - فذلك ما لم تحتف قرينة تقتضي الفور، وهاهنا قرينة، وهي الحاجة لرفع النزاع بسبب القتيل، وسد باب القتل والفساد والعناد؛ فهو للفور هاهنا. قلت: الجواب عنه: أن المقصود حاصل على كل تقدير؛ لأن الآية، إذا دلت على جواز التأخير عن وقت الحاجة، دلت على التأخير عن وقت الخطاب، لوجهين: أحدهما: أن كل من قال بتأخير البيان عن وقت الحاجة، قال بتأخير البيان عن وقت الخطاب، فلا قائل بالفرق.

وثانيهما: أنه إذا ثبت تأخيره عن وقت الحاجة، جاز تأخيره عن وقت الخطاب بطريق الأولى؛ لأن المفسدة في التأخير عن وقت الحاجة أعظم. قوله: (الكنايات كنايات القصة والشأن): قلنا: هذه عبارة عادة النحاة يتوسعون فيها على هذه الطريقة، فيجمعون أبدًا بين لفظي القصة والشأن في كل ضمير يجدونه من هذا الباب، وطريق المناقشة عليهم: أن القصة مؤنثة، فضميرها لا يكون إلا مؤنثًا، والشأن مذكر، فضميره لا يكون إلا مذكرًا، فيحمل كل ضمير على ما يليق به، فهذا الضمير مؤنث، فيتعين أن يقال فيه: ضمير القصة ولا يذكر الشأن، وكذلك قوله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار} [الحج: 46]. وقوله تعالى: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] ضمير الشأن فقط، وكذلك قوله تعالى: {إنه من يأت ربه مجرمًا} [طه: 74] لأجل التذكير. وأيضًا، فإن ضمير الشأن، أو القصة أجمع النحاة على أنه لا بد في بيانه من جملة بعده لأنه لا يبين بالمفرد؛ بسبب أن الشأن والقصة في أنفسهما كلام تام، وتفسير الكلام التام بالمفرد مستحيل، إلا أن يكون اللفظ المفرد موضوعًا بإزائه، فيجمل؛ كلفظ الخبر والحديث ونحو ذلك، فإن مدلول هذه الكلمات كلام تام مفيد، فيصلح أن يفسر الشأن والقصة لحصول المطابقة في المعنى؛ بخلاف قولنا: (إنها بقرة صفراء) هذا القول بعد الضمير صفة وموصوف لا يستقل كلامًا، فيتعين أن يكون الضمير ضمير الشأن. قوله: (أمروا بذبح بقرة مطلقة، وذلك يقتضي سقوط التكليف بأي بقرة كانت): قلنا: هذا غير متجه؛ لأن مدعاكم أن المطلوب غير معين، فينبغي أن تأتوا

(فائدة) قوله تعالى: {وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71] اختلف فيه العلماء

بما يدل على سلب التعيين، وينافيه؛ حتى يستقيم الدليل، ولم تأتوا به، بل أتيتم بالمطلق الذي هو الماهية الكلية، والماهية الكلية تقبل التعيين وعدمه؛ فلا منافاة بينهما. قوله: (لو كانت الكنايات كنايات القصة، لكان الباقي بعد ذلك، وهو بقرة صفراء، غير مفيد): يريد بذلك ما تقدم من أن ضمير القصة لا بد أن يكون جملة، وهذا ليس جملة؛ لأنه غير مفيد. قوله: (الكناية يجب أن تعود على ما تقدم ذكره، والقصة والبيان لم يتقدم لهما ذكر): قلنا: قاعدة العرب: أن ضمير الشأن أو القصة لا يشترط فيه تقدم ظاهر يعود عليه، بل من شرطه ألا يتقدم ظاهر يعود عليه، بل هو ضمير لما في النفس، ولذلك احتاج للتفسير، ولو كان عائدًا على سابق، لم يحتج للتفسير. وللعرب ضمائر لا تعود على ظاهر: هذا الضميران؛ ضمير الشأن وضمير القصة، والضمير في قولهم: (ربه رجلاً). فلو قلتم: إن جعلها ضمير الشأن والقصة خلاف الأصل؛ باعتبار أن الغالب في الضمائر غير هذا الجنس، بل الضمائر التي تعود على الظواهر فاستقام قوله: (لو تقدم البيان الإجمالي، لذكره الله - تعالى - إزالة للتهمة عنهم): قلنا: لم قلتم: إن الله - تعالى - يلزمه ذلك، فكم شيء من أحوال بني إسرائيل من مصالحهم ومحاسنهم ما ذكره الله تعالى. (فائدة) قوله تعالى: {وما كادوا يفعلون} [البقرة: 71] اختلف فيه العلماء:

(فائدة)

فقيل: إن نفي فعل (كاد) إثبات، وإثباته نفي، ذكره ابن جنى وغيره، فهاهنا هو نفي، فهو إثبات؛ لأنهم فعلوا. قلنا: وإذا قلنا: (كاد النعام أن يطير) هو إثبات، فهو نفي، لأنه لم يطر، ونظائره كثيرة. وقيل: بل النفي نفي، والإثبات إثبات؛ كسائر الأفعال، ومعناه أنهم كانوا بصفة تقتضي أنهم لا يذبحون، ولا يقاربون الذبح، فهو إخبار عن حالهم، لا عن الواقع من فعلهم. وكذلك قوله تعالى: {إذا أخرج يده لم يكد يراها} [النور: 40] أي: حالته كذلك، وإن كان قد رآها، وخرج على ذلك جميع الصور. (فائدة) قول الناس في العادة: لا كيد، ولا كرامة، ولا عزازة؛ معناه من هذا الباب أي: لا أفعل ولا أقارب الفعل، فلا كيد هو مصدر كاد يكيد كيدًا، أي: لا أفعل، ولا أقارب الفعل، ولا مقاربة للفعل منى. (تنبيه) زاد التبريزي، فقال: ويدل على جواز التأخير قوله تعالى: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت} [هود: 2] و (ثم) للتراخي، ولأن معظم الشريعة وردت مجملة، ثم تدرج تفصيلها على حسب الحاجة، ووقوع الوقائع، والعلم به ضروري من الشريعة المحمدية، كقوله تعالى: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة: 110] {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141] {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة: 178] {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3] {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم} [الحج: 30] ثم قال عليه السلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) (في كل أربعين شاة شاة) (في

خمس من الإبل شاة) إلى تمام كتاب الصدقات، (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) (ليس للمرء من عمله إلا ما نواه) (خذوا عني مناسككم) (لا قطع فيما دون ربع دينار) و (لا قطع في ثمر ولا كثر) ثم بين موضع القطع بفعله عليه السلام (وألا يقتل والد بولده، ولا مؤمن بكافر)، (ولا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها).

(فائدة) قال ابن الزبعري: قال المتحدثون على الأنساب من المحدثين، يقال (الزبعري) بفتح (الباء) وكسرها

وقال تعالى: {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] {حرمت عليكم أمهاتكم ...} إلى تمام المحرمات [النساء: 23] ويعلم قطعًا أن جميع هذه التفاصيل لم تقترن بمدة الحمل، وأن النبي - عليه السلام - لم يذكر عقيب كل آية عند نزول الوحي، وإملائه هذه التفاصيل، بل يقطع بتأخير بعضها عن وقت الوحي. قوله: (وأما تأخير التخصيص، فللعقل والنقل). (فائدة) قال ابن الزبعري: قال المتحدثون على الأنساب من المحدثين، يقال (الزبعري) بفتح (الباء) وكسرها. قوله: (ما) (لا تتناول من يعقل). قلنا: قد قال النحاة: إنها تتناول نوع من يعقل، وصفة من يعقل؛ كقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3] والمراد الطيبات من النساء وكقوله تعالى {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [سورة ص: 75] والمراد آدم، فهذان موضعان ما فيهما حيلة، والآية المراد بها الموصوف بالعبادة، فيندرج فيها من يعقل، إذا حصلت تلك الصفة. قوله: (المسألة علمية، فلا تثبت بهذا الخبر؛ لأنه من أخبار الآحاد): قلنا: قد تقدم أن مسائل أصول الفقه العلمية: مدرك العلم فيها إنما يحصل بسبب كثرة مطالعة أحوال الصحابة - رضوان الله عليهم - وفتاويهم ومناظراتهم، واستقراء النصوص، فمن بالغ في ذلك حصل له العلم بهذه المسائل، وليس في القدرة أن يوضع ذلك في كتاب، بل يوضع في الكتب

ما ينبه على ذلك، ونظير ذلك: أنا نقطع بسخاء حاتم، وشجاعة عليٍّ؛ بسبب كثرة الاستقراء، ولو لم نجد لهما إلا سطورًا في كتاب، لم يحصل العلم، كذلك هذه المسائل تمسك فيها بأخبار الآحاد، والعلم يحصل لمن حصل له ذلك الاستقراء. قوله: (يدل على أن (ما) للعقلاء قوله تعالى: {وما خلق الذكر والأنثى} [الليل: 3] {والسماء وما بناها} [الشمس: 5] {ولا أنتم عابدون ما أعبد} [الكافرون: 3]): قلنا: لا حجة في هذه الآيات؛ لأن (ما) فيها مصدرية تقديره: وخلق الذكر والأنثى، والسماء وبنائها، ولا أنتم عابدون عبادتي. قوله: (اتفق أهل اللغة على ورودها بمعنى (الذي) و (الذي) يتناول العقلاء، فكذلك (ما): قلنا: لا حجة في هذا؛ لأن (الذي) وضعت للقدر المشترك بين العقلاء وغير العقلاء؛ إما مفهوم الوجود الذي يتصف بصلتها، أو المعلوم الموصوف بالصلة. وعندنا: (ما) وضعت لأحد نوعي ما وضعت له (الذي) و (من) وضعت للنوع الآخر، فإذا قلت: (رأيت ما عندك) فمعناه: الذي عندك فعبرنا عن ذلك الذي لا يعقل بـ (ما)، كما يعبر عنه بـ (الذي) عندك، فهي مرادفة لها في أحد نوعيها؛ فلا يلزم من صدقها بمعنى (الذي) في ألف صورة مما لا يعقل، وصحة التعبير بكليهما عن تلك الألف - أن تكون موضوعة للعقلاء، وإنما يتم ذلك أن لو نقلتم عن أهل اللغة أنها تستعمل فيما يعبر عنه بـ (الذي) في جميع ما يعبر عنه بـ (الذي) أما في بعض ما يعبر عنه بـ (الذي) فلا يفيد شيئًا؛ لاحتمال وقوع الترادف بينهما؛ لأن (ما) موضوعة لأخص مما وضعت له (الذي) والموضوع للأخص لا يرادف ما وضع للأعم.

(فائدة)

ونظير (ما) و (الذي) في مواردهما على شيء واحد؛ كترادف (الإنسان) و (الحيوان) على الرجال والنساء يقال لكل واحد منهما: إنسان وحيوان، ويعبر عنه بكلا اللفظين، ولا ترادف بينهما. ولفظ (الذي) كلفظ (الحيوان) موضوع للأعم، ولفظ (من) كلفظ (الإنسان) موضوع للأخص، ولفظ (ما) موضوع للنوع الآخر الذي هو غير الناطق فـ (ما) و (من) و (الذي) متباينة؛ كالحيوان، والإنسان، وغير الناطق، وإن كانت (من) تستعمل بمعنى (الذي) و (ما) بمعنى (الذي) كما يستعمل الإنسان بمعنى يصدق عليه لفظ الحيوان، ولفظ الفرس؛ مع أن الحيوان والإنسان والفرس متباينة. فتأمل هذا المكان؛ فكثير من النحاة اغتر به، ويقول: (ما) تكون بمعنى (الذي)، و (الذي) موضوع للعقلاء، فـ (ما) موضوع للعقلاء، ووجه الغلط في هذا الإنتاج من جهة المنطق، وصناعته في البراهين جاء من جهة أن هذا الدليل مركب من الشكل الأول، ومن شرطه أن يكون كبراه كلية، وهي هاهنا جزئية؛ لأن تقدير الكلام والتركيب في الدليل مدلول (ما) مدلول (الذي)، وبعض مدلول (الذي) عقلاء، ولو صرح بهذا منعناه صحة المقدمة الكبرى، لكن يقع في الكلام تلفيف، فلا يكاد يتفطن لوجه الغلط في الترادف؛ ولا في الدليل، وكلاهما باطل، كما ترى. (فائدة) قال سيف الدين: قال النبي - عليه السلام - لابن الزبعرى لما ذكر: (ما أجهلك بلغة قومك؟ أما علمت أن (ما) لما لا يعقل، و (من) لمن يعقل) وهذا يسقط أصل الاستدلال بالآية والحديث؛ لأن اتباع النبي - عليه السلام - أولى من ابن الزبعرى.

قوله: (لو قال: ما في ملكي صدقة، أو ما في بطن جاريتي حر، تناول الإنسان): قلنا: أما قوله: صدقة، فأمكن النزاع في أنه يجب عليه التصدق برقيقه؛ بمقتضى اللفظ لغة. ويقول القائل: لا يتناول الإنسان إلا بقرينة تدل على أن المقصود العقلاء وغيرهم، إما لأن أهل اللغة يقصدون ذلك، أو قرينة تخص القائل لذلك. وأما قوله: (ما في بطن أمتي حر)، فهذه قرينة ضرورية أنه ما أراد إلا الإنسان، فإنه لا يكون ما في بطنها يقبل العتق إلا ذلك، ومتى دلت القرينة حصل الاتفاق؛ فإن لفظ (ما) يصح استعماله في العقلاء اتفاقًا، إنما النزاع في كون ذلك الاستعمال حقيقة، أو مجازًا. قوله: (كان من العرب من يعبد الملائكة): تقريره: أن العرب لم يكن لها دين مطرد، بل كانوا أشتاتًا، فكل فرقة على دين من جاورت، فكان بعضهم يهود لمجاورتهم اليهود، وبعضهم نصارى، وبعضهم يعبد الكواكب، وبعضهم الأصنام، وبعضهم دهرية. قوله: (بينا أن التمسك بالأدلة اللفظية، حيث كان، لا يفيد اليقين): قلنا: الذي تقدم بيانه: أن الألفاظ لا تفيد اليقين؛ من حيث الوضع فقط، وإنما إذا احتفت بها قرائن الاستعمال، حصلت اليقين، فلا تفيد أن جميع ما يستدل به في هذه المسألة لا يفيد اليقين. قوله: (لو امتنع التخصيص في الأعيان، لكان؛ لأن تأخيره يوهم العموم، وهذا قائم في تأخير البيان في الأزمان، فعدم الجواز هناك يقتضي عدم الجواز هنا): قلنا: هذا النظم فيه إشكال؛ لأن صيغة هناك للبعيد، وهاهنا للقريب،

والعادة: أن صورة النزاع يشار إليها بالقريب، والمنظر به يشار إليه بالبعيد، وأنتم هاهنا قررتم أن الملزوم الموجب هو المفسدة في صورة النزاع، فكان حق الدليل أن يكون هكذا، لو امتنع هاهنا لإيهام العموم، وهو جهل، لامتنع هناك في النسخ، لإيهامه عموم الأزمان، ثم تقولون: فعدم الجواز هاهنا يقتضي عدم الجواز هناك؛ لأن وجود الملزوم هو الذي يوجب وجود اللازم، ثم تقولون: لكن عدم الجواز هنالك باطل إجماعًا، فينتفي ملزومه، وهو عدم الجواز هاهنا. أما قولكم: (عدم الجواز هناك يقتضي عدم الجواز هاهنا) فعكس مقصود النظم؛ لأنكم جعلتم الملزوم ينشأ عن اللازم، وليس كذلك، واعتبرت عدة نسخ، فوجدتها هكذا، وصوابه: فعدم الجواز هاهنا يقتضي عدم الجواز هناك. ثم ما ذكرتموه من الملازمة غير مسلم؛ لأن الفرق: أن تعجيل الإعلام بالنسخ يفضي إلى إبطال حقيقة النسخ، ويكون الفعل ينتهي بوصوله لغايته لا بالناسخ، ولا يصير يقبل النسخ؛ كما لو قال الله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] لا يتصور أن يقال: إنه نسخ الصوم عند دخول الليل، بل انتهى بغايته بانقطاع سبب التكليف. قلنا: هذا الكلام فيه بعد عما نحن فيه؛ لأن ظاهره يقتضي أن حكم الخطاب مرتفع بعد الموت، وكذلك حصل الجواب عنه من المصنف بما يقتضي هذا، مع أن خروج ما بعد الموت ليس من باب النسخ في شيء، بل ذلك تخصيص، فإن النسخ إنما يتصور فيه أن لو اعتقدنا أن الله - تعالى - أراده، ولا يتصور ذلك، بل نحن نعتقد أن الشرائع كلها ما أراد الله - تعالى - بقاء شيء منها يجري حكمه التكليفي على الموتى، كما كانوا في الحياة، فهذا كلام حائد عن الملازمة المتقدمة. قوله: (احتمال التخصيص يمنع):

(سؤال) قال ابن التلمساني في (شرح المعالم): المعتزلة تمنع التكليف في حق من علم الله - تعالى - أن شرط الفعل في حقه مفقود، وقد تقدم ذلك في الأوامر

قلنا: لا نسلم؛ لأن الاحتمال لا يمنع من ظهور العموم، فالعمل بالظن واجب على المكلف. قوله: (يجوز أن يأمر الله - تعالى - المكلفين مع أنه يجوز أن يموت بعضهم قبل الوقت، وهذا تخصيص لم يتقدم بيانه): قلنا: لا نسلم أنه لم يتقدم بيانه؛ لأن العقل والسمع دل على أن جميع التكليف يرد مشروطًا بالقدرة، وانتفاء الموانع العادية، والشرعية من الحيض، والجنون، والإغماء، والنوم، والعجز، بالهرم، ونحو ذلك، فعند الخصم: ذلك مستثنى بالعقل. وعندنا وعنده أيضًا بالنصوص الواردة في تلك الوقائع؛ على التفصيل المعلوم عند حملة الشريعة، ومنها ما هو معلوم بالضرورة؛ كالموت ونحوه، فيصير معنى صيغ التكاليف: أن من كان موصوفًا بهذه الصفات من القدرة وغيرها، فهو المراد، وهذا لم يدخل فيه تخصيص ألبتة، ومن ليس موصوفًا بتلك الصفات، فهو معلوم الخروج من صيغ التكاليف، خصوصًا الموتى، فإنهم معلومو الخروج بالضرورة. (سؤال) قال ابن التلمساني في (شرح المعالم): المعتزلة تمنع التكليف في حق من علم الله - تعالى - أن شرط الفعل في حقه مفقود، وقد تقدم ذلك في الأوامر. قلت: كلامه لا يتجه؛ لأن التكليف إذا لم يتناوله - بناء على قاعدتهم، مع أن اللفظ تناوله - كان ذلك تخصيصًا ناجزًا. قوله: (لا معنى لتوجيه الخطاب نحونا، إلا قصد إفهامنا): قلنا: لا نسلم؛ بل قد يوجه الخطاب نحو المخاطب، ويقصد الإلباس

عليه؛ لأن المصلحة تقتضي ذلك، أو لا يكون المتكلم حكيمًا، فلا يراعي المصلحة، وعلى كل تقدير فيصدق عليه أنه مخاطب له. قوله: (إذا لم يقصد إفهامنا في الحال، فقد أغرانا بالجهل): قلنا: حديث الجهل ونحوه لا يصح عندنا منه شيء؛ لأنا لا نقول بالقبح العقلي، وكذلك العبث ونحوه. قوله: (جاز أن يستعمل الأمر في غير موضوعه، وذلك مساو لخطاب الزنجي بالعربية): قلنا: لا نسلم المساواة؛ لأن السامع، وإن جوز صرف الأمر عن ظاهره، لكنه يعلم من لغة العرب أن المجاز لابد فيه من علاقة، فالعلاقة مرشدة لما يصلح أن يكون مجازًا، فيقع التردد بين الحقيقة وبين ما يصلح أن يكون مجازًا وهو محصور؛ بخلاف الزنجي لا ينضبط له ذلك بشيء. قوله: (هذه الدلالة تتناول استعمال المطلق في المقيد، ثم قال: والنكرة في المعين): قلنا: ما الفرق بين المطلق والنكرة، وهل هما إلا سواء، وقد تقدم البحث في هذا في أول العموم في الفرق بين المطلق والعام، مما انفرد به صاحب (الحاصل). نعم المطلق أعم من المعين، فإن كل معين فلابد له من مخصصات هي قيوده، والمقيد قد يكون نوعًا؛ كما يقيد الحيوان بالناطق، وقد يكون شخصيًا؛ كما تقدم. قوله: (لو جاز إطلاق العموم، ويريد الخصوص، ولا يبين، لم يبق لنا طريق إلى معرفة وقت الفعل؛ لأنه إذا قال: افعلوا غدًا أو الآن، جاز أن يريد غير غد، وغير الآن، ونحن لان نعلمه):

قلنا: هذا الاحتمال لا يمنع الظهور والظن، والعمل بالظن واجب. قوله: (لا يجوز اعتقاد العموم إلا بعد الفحص عن المخصص). قلنا: قد تقدم الخلاف في هذه المسألة في التخصيص بين الصيرفي، وابن سريج، ورجحتم هنالك مذهب الصيرفي، وهاهنا رجحتم مذهب ابن سريج، غير أن تلك المسألة فهرست هنالك بجواز التمسك بالعام، قبل طلب التخصيص، وهاهنا بالاعتقاد، وقد بينا في تلك المسألة: أن فهرستنا خلاف الإجماع، وأن المقصود إنما هو الاعتقاد. قوله: (إذا جوزتم أن يكون تجويزه لقيام المخصص في الحال مانعًا من اعتقاد الاستغراق في الحال، فلم لا يجوز أن يكون تجويز الحدوث في ثاني الحال مانعًا من اعتقاد الاستغراق؟): قلنا: الفرق أن المتكلم هنالك أبدى المخصص، وإنما لم يصل لهذا لقصوره غالبًا؛ فلا قبح من جهة المتكلم، وهاهنا لم يبين المتكلم شيئًا، فكان القبح من جهته لا من تقصير السامع، والبحث في هذه المسألة، إنما هو فيما يتعلق بالقبح من جهة المتكلم فقط. قوله: (يجوز تأخير البيان بالزمان القصير، وأن يعطف كلامًا على كلام قبل البيان): قلنا: المدار في هذه المسألة على القبح العادي؛ لأنه عند المعتزلة عقلي، فإنهم سووا في حق الله- تعالى- بين العاديات والعقليات، فكل ما يقبح عادة جعلوه يقبح عقلًا، وهذه الصورة ليس فيها قبح عادي؛ بخلاف ما نحن فيه. قوله: (العموم لا يفيد إلا الاعتقاد الراجح؛ لتوقفه على أمور عشرة). قلنا: هذا بالنظر إلى الوضع، وأما بالنظر إلى القرائن الحالية والمقالية،

فقد يحصل القطع بظاهر العموم، ويتعذر التخصيص لغة وعادة، وقد تقدم تقريره في فصل التأويل عند ذكر المجمل، والمؤول؛ لإمام الحرمين. قوله: (تردد العام بين الخصوص إن وجد معه المخصص، والعموم، إن عدم المخصص- كتردد المشترك): قلنا: أبو الحسين يفرق؛ فيقول: التردد في المشترك لا يوجب جهلًا مركبًا، وهاهنا يوجبه، وقولكم: (الشك في الشرط الذي هو ورود المخصص يوجب الشك في المشروط الذي هو العموم): قلنا: عنه جوابان. أحدهما: أن التخصيص من قبيل الموانع، لا أن عدمه شرط، وقد تقدم أن لاشك في المانع يوجب غلبة الظن بترتيب الحكم؛ لأن الأصل في كل شيء العدم، ولذلك رتبنا الأحكام الشرعية على أسبابها في هذه المواطن، فإذا شك هل طلق أم لا؟ فلا شيء عليه، أو هل ارتد أم لا؟ ورثناه، أو قتل أم لا؟ عصمنا دمه وعلى هذه الطريقة. فعلمنا أن الشك في المانع لا يمنع من ترتيب أحكام السبب، ويظهر بهذا أيضًا أن عدم المانع ليس شرطًا. وكثير من الفقهاء يغلظ فيه؛ فيقول: عدم المانع شرط؛ لأن الشك في الشرط يوجب ترتب الحكم على سببه؛ كالشك في الطهارة والنية، وغير ذلك، فلو كان عدم المانع شرطًا، لوجب الترتب لكونه عدم مانع، وعدم الترتب لكونه شرطًا، إذا حصل الشك، فيلزم اجتماع النقيضين. وثانيهما: سلمنا أنه شرط، لكن لا نسلم أن الشك حاصل، بل تجويزه على التأويل، وذلك احتمال خفي لا يمنع الظن والاعتقاد؛ بخلاف اللفظ المشترك لا يحصل فيه ظن البتة، فلا يكون الجهل المركب حاصلًا، فلا مفسدة في تأخير البيان عن وقت الخطاب.

(سؤال)

(سؤال) قال النقشواني: الفرق عند المعتزلة بين التخصص والنسخ: أن المكلف يمكنه أن يعتقد أنه مهما بقى أصل الخطاب، فالعمل باق مع تجويزه النسخ، ولا يمكنه أن يعتقد أنه مهما فقد المخصص، كان العموم للاستغراق، كما أنا نعتقد أنه مهما بقى أصل عقد البيع، فالملك باق، فكذلك النسخ. وإذا تقدم البيان الإجمالي في النسخ، لا يمنع ذلك ورود النسخ بعد ذلك، لأنه بالبيان الإجمالي لا يصير مغيًا بغاية، وبالتفصيلي يصير مغيًا بغاية، فيتعذر أن يكون نسخًا؛ لأنه ينتهي لغايته؛ بخلاف الإجمالي. والتخصيص لا يبطل بتقدم البيان. (سؤال) قال التبريزي: البيان والتخصيص تارة يكون كليًا؛ كتخصيص الموتى، وأرباب الأعذار من التكاليف، وتارة يكون جزئيًا، كإخراج زيد بخصوصه، وتعيينه للإخراج، أو إخراج نوع معين. وعلى هذا؛ من مات قبل وقت الخطاب، هو معلوم التخصيص بالبيان الكلي، فلم يكن بيانًا تأخر عن وقت الخطاب. (تنبيه) زاد سراج الدين؛ فقال: في التخصص بالموت شرط وجود المخصص، والمخصص العقلي معلوم في الأزمان دون الأعيان. قلت: وبسط هذه العبارة بما تقدم، وقال على قوله: ينتقض بالكلام الطويل الذي يأتي الكلام بعده: فإنا نعيد التقسيم الذي ذكره أبو الحسين.

وينتقض أيضًا بتوقع شرط يتعقب الكلام يمنع من الحمل على الظاهر. قال في هذا: ولقائل أن يقول: الاحتمالان المذكوران في الصورتين راجحان في الاحتمال المذكور في صورة النزاع، فمنع الراجح من الحمل على الظاهر لا يستلزم منع المرجوح منه. قلت: هو يريد أن احتمال توقع البيانات قبل السكوت وفراغ الكلام راجح؛ لأن الكلام بآخره، فهذا الرجحان يمنع من الحمل على العموم وغيره، فلا يحصل الجهل المركب، واحتمال المخصص في صورة النزاع حيث فرغ الكلام، وتراخى الزمان مرجوح، فلا يمنع من الحمل، فيحصل الجهل المركب، فلا يلزم من منع ذلك منع هذا. وقال في قوله: إن تردد العموم بين اقتران المخصص وعدمه، كتردد المشترك، فقال: ولقائل أن يقول: الإفهام بمعنى إفادة ظن الظاهر إرادة الظن الكاذب، وأنه يمنع، وأما تسوية الاحتمالين فممنوع لا كالمجمل والمتواطئ. قلت: يريد أن الإفهام؛ إذا كان معناه أنه أفهمنا أن الظاهر مراد، فقد أراد منا الظن الكاذب، والوقوع في الجهل، وهو محال عند المعتزلة. وأما أن الاحتمالين سواء، فذلك ممنوع، بل الظن يحصل من العام عند عدم المخصص، ويكون ظنًا كاذبًا. * * *

المسألة الثالثة قال الرازي: وأما الخطاب الذي لا ظاهر له، وهو الاسم المشترك؛ كالقرء بين الطهر والحيض، فإن له ظاهرًا من وجه دون وجه: أما الوجه الذي يكون ظاهرًا فيه: فهو أنه يفيد أن المتكلم لم يرد شيئًا غير الطهر وغير الحيض، وأنه أراد إما هذا، وإما هذا، فمن هذا الوجه لا يحتاج إلى بيان. وأما الوجه الذي يكون غير ظاهر فهو أنه لا يفيد أي الأمرين أراده المتكلم الطهر أو الحيض؟ ولا يجب أن يقترن به بيان في الحال. والدليل عليه: أن الاسم المشترك يفيد أن المراد إما هذا، وإما هذا، من غير تعيين، وهذا القدر يصلح أن يراد تعريفه؛ لأن الإنسان قد يقول لغيره: (لي إليك حاجة مهمة أوصيك بها) ولا يكون غرضه في الحال إلا الإعلام بهذه الجملة. وقد يقول: رأيت رجلًا في موضع كذا، وهو يكره وقوف السامع على عينه، أو يكره وقوفه عليه من جهته، ولهذا وضع في اللغة ألفاظ مهمة، كما وضعت ألفاظ لمعان معينة. قال الله تعالى: {ورسلا لم نقصصهم عليك} [النساء: 164]، {فيضاعفه له أضعافًا كثيرة} [البقرة: 245]. وأيضًا: فقد يحسن من الملك أن يدعو بعض عماله، فيقول له: (قد وليتك البلد الفلاني، فاخرج إليه ف يغد، وأنا أكتب إليك بتفصيل ما تعلمه، ويحسن

من أحدنا أن يقول لغلامه: (أنا آمرك أن تخرج إلى السوق يوم الجمعة، وتبتاع ما أبينه لك يوم الجمع) ويكون القصد بذلك التأهب لقضاء الحاجة، والعزم عليها. وهذا هو نظير ما اخترناه من تأخير بيان المجمل. وإذا كان كذلك: ثبت أنه يجوز إطلاق اللفظ المشترك، من غير بيان التعيين. فإن قلت: الغرض من التكليف هو الفعل، والعلم والاعتقاد تابعان، وهذا الإبهام يخل بالتمكين من الفعل. قلت: الغرض من التكليف قبل الوقت هو العلم، لا الفعل، فأما في وقت الحاجة فالغرض هو الفعل، وهناك يجب البيان. احتجوا: بأنه لو حسنت المخاطبة بالاسم المشترك، من غير بيان في الحال لحسنت مخاطبة العربي بالزنجية، مع القدرة على مخاطبته بالعربية، ولا يبين له في الحال، والجامع أن السامع لا يعرف مراد المتكلم بهما على حقيقته. فإن قلت: الفرق: أن العربي لا يفهم من الزنجية شيئًا، وهاهنا يفهم أن المراد أحد معنيي الاسم. قلت: إما أن تعتبروا في حسن الخطاب حصول العلم بكمال المراد، أو تكتفوا بمعرفة المراد من بعض الوجوه. والأول: يقتضي امتناع تأخير بيان المجمل. والثاني: يوجب حسن مخاطبة العربي بالزنجية؛ لأن العربي إذا عرف لغة

الزنجي المخاطب له علم أنه قد أراد بخطابه شيئًا ما، إما الأمر، وإما النهي، وإما غيرهما. والجواب: أن المعتبر في حسن الخطاب أن يتمكن السامع من أن يعرف به ما أفاده الخطاب. وهذا التمكن حاصل في الاسم المشترك؛ لأنه موضوع لأحد هذين المعنيين، والسامع فهم ذلك منه؛ بخلاف العربي، فإنه لا يتمكن من أن يعرف ما وضع له خطاب لزنجي، فوضح الفرق، والله أعلم. المسألة الثالثة في الخطاب الذي لا ظاهر له قال القرافي: قوله: (لأن المشترك يفيد أن المراد إما هذا، وإما هذا من غير تعيين، وهذا القدر يصلح أن يراد تعريفه): تقريره: أن المشترك يفيد أن المراد إما هذا عينًا، أو ذاك عينًا، وليس المراد أنه يفيد مطلق أحدهما الذي هو مشترك بينهما؛ كما قلنا في خصال الكفارة، وتكون الخصوصات ساقطة عن الاعتبار، بل المراد هاهنا معين، والتردد بين التعينات في ظن السامع، لا في نفس الأمر. * * *

المسألة الرابعة قال الرازي: يجوز أن يؤخر الرسول- عليه السلام- تبليغ ما يوحى إليه إلى وقت الحاجة، وقال قوم: يجب تقديمه عليه. لنا: أن في المشاهد قد يكون تقديم الإعلام على حضور وقت العمل قبيحًا، وقد يكون ترك التقديم قبيحًا، وقد يكون بحيث يجوز الأمران. وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يعلم الله تعالى اختلاف مصلحة المكلفين في تقديم الإعلام، وفي تركه، فيلزم ألا يكون التقديم واجبًا على الإطلاق. احتجوا: بقوله: {يأيها الرسول، بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67] والأمر للفور. والجواب: لا نسلم أنه للفور، سلمناه؛ لكن المراد بذلك هو القرآن؛ لأنه هو الذي يطلق عليه القول بأنه منزل من الله تعالى، والله أعلم. المسألة الرابعة يجوز أن يؤخر الرسول- عليه السلام- تبليغ ما يوحى إليه. قال القرافي: قوله: (قد يكون تقديم الإعلام قبيحًا): تقريره: أن الله- تعالى- إذا أمر نبيه- عليه السلام- بقتال أهل (مكة) بعد سنة، فإنه إذا بلغه من الآن للخلق، شاع وذاع، ووصل للعدو، فاستعد وأدى ذلك إلى فساد عظيم في القتال، وذهاب الأنفس والأموال، فيكون الإعلام من حين النزول ممنوعًا، والتأخير متعينًا.

(فائدة) أشكل على جمع كثير معنى قوله تعالى: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}

قوله: (القرآن هو الذي يطلق عليه أنه منزل من عند الله تعالى): تقريره: أن لفظ التنزيل اشتهر في القرآن في عرف الاستعمال، وإلا فالسنة أيضًا وحي منزل؛ لقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3، 4]. وقال بعض السلف: (اشتغلت بالقرآن سنة، وبالوحي سنتين) يريد بالوحي الأحاديث النبوية. (فائدة) أشكل على جمع كثير معنى قوله تعالى: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: 67]، ويوردونه على الفضلاء. ومعناه: وإن لم تفعل بمقتضى ما بلغت، فأنت في حكم غير مبلغ؛ كقولك لطالب العلم: إن لم تعمل بما عملت، فأنت لم تتعلم شيئًا، أي: أنت في حكم الجاهل، بل لعل الجاهل أفضل منك؛ لأن الحجة قائمة بحصول العلم أكثر، وهذا بناء على قاعدة العرب، وهي نفي الشيء لنفي ثمرته، كما قال تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم} [التوبة: 12] فنفى أيمانهم؛ لعدم حصول المقصود منها، وهو التوثقة. وقال الشاعر: [الطويل] وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها فليس لمخضوب البنان يمين وقال تعالى: {صم بكم عمي} [البقرة: 18] نفى عنهم الحواس؛ لنفي الانتفاع بها، ومنه قوله تعالى: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10] مع أنهم كانوا يسمعون ويعقلون، وهو كثير جدًا، فمعنى الآية الحض على العمل، وأنه بمثابة إذا لم يوجد العمل، يصير- عليه السلام- بمنزلة غير المبلغ؛ مجازًا؛ كما تقدم.

القسم الرابع في المبين له، وفيه مسائل قال الرازي: المسألة الأولى: الخطاب المحتاج إلى البيان يجب بيانه لمن أراد الله إفهامه، دون من لم يرد أن يفهمه. أما الأول: فلأنه لو لم يبينه له، لكان قد كلفه ما لا سبيل له إلى العلم به. وأما الثاني: فلأنه لا تعلق له بذلك الخطاب، فلا يجب بيانه له، ثم الذين أراد الله منهم فهم خطابه ضربان: أحدهما: أراد منهم فعل ما تضمنه الخطاب، إن كان ما تضمنه الخطاب فعلًا. والآخر: لم يرد منهم الفعل. والأولون هم: العلماء، وقد أراد الله تعالى أن يفهموا مراده بآية الصلاة، وأن يفعلوها. والآخرون هم: العلماء في أحكام الحيض؛ فقد أريد منهم فهم الخطاب، ولم يرد منهم فعل ما تضمنه الخطاب. والذين لم يرد الله تعالى أن يفهموا مراده، ولم يوجب ذلك عليهم ضربان: أحدهما: لم يرد منهم أن يفعلوا ما تضمنه الخطاب. والآخر: أراد منهم الفعل.

والأولون هم: أمتنا مع الكتب السالفة؛ لأن الله تعالى ما أراد أن يفهموا مراده بها، ولا أن يفعلوا مقتضاها. والآخر هو: النساء في أحكام الحيض؛ لأن الله تعالى أراد منهن التزام أحكام الحيض؛ بشرط أن يفتيهن المفتي، ولم يوجب عليهن فهم المراد بالخطاب؛ لأنه لم يوجب عليهن سماع أخبار الحيض، فضلًا عن بيان مجملها، وتخصيص عامها. القسم الرابع في المبين له قال القرافي: قوله: (لم يرد الله- تعالى- من هذه الأمة فهم الكتب السالفة، ولا أن يعملوا بمقتضاها): قلنا: هذا يصدق بطريقين: أحدهما: أنه لم يوجب علينا فهم جميع ما فيها. والثاني: أنه لم يوجب شيئًا من مقتضاها؛ من حيث هو مقتضى لها، وإن أراد إفهامنا بعض ما فيها من جهة أنه مقتضى ما أوحي إلينا، هذان معنيان صحيحان. وأما أنه ما أراد إفهامنا شيئًا مما تضمنته مطلقًا، فليس كذلك؛ لأن فيها قواعد العقائد من الوحدانية وغيرها، وكليات الشرائع؛ كالكليات الخمس في حفظ الدماء وغيرها. وقد أراد الله- تعالى-أن نفهم ذلك بالضرورة، لكن من كتبنا لا من تلك الكتب.

قوله: (لم يوجب الله- تعالى- على النساء فهم الكتاب، بل يفتيهم العلماء): قلنا: هذه الدعوى على إطلاقها باطلة، بل النساء كالرجال في جميع الشريعة، إلا ما دل عليه الدليل، فكما أن المرأة العاجزة عن فهم الخطاب لا يجيب عليها لعجزها، فكذلك الرجل الأبله العاجز، وكما أن الرجل الذكي المحصل يجب عليه فهم الخطاب، كذلك المرأة اليقظة الفطنة. وهل يجوز أن نقول: إن عائشة- رضي الله عنها- لم يطلب منها فهم الخطاب مع قوله عليه السلام: (خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء). وكم وجد في هذه الأمة المحمدية من النساء العظيمات المقدار، الجليلات في العلم والعمل ممن رجحن على العلماء المشهورين؛ فالحاصل أن الرجال والنساء سواء في توجه الطلب، غير أن العجزة من النساء المعذورات بالضعف أكثر من المعذورين من الرجال؛ فإن نوعهن يقتضي ذلك، فيجب البيان لهن، كما وجب للرجال، ويبطل هذا القسم من التقسيم، أو يضيف إليه ضعفة الرجال أيضًا، ويصير هذا القسم مسمى بالضعفة لا بالنساء، ويستقيم كلامه على هذا التقدير، والعجب من إطباق الجماعة معه على ذلك التقسيم، والتزام صحته. ذكره صاحب (المعتمد) والعالمي من الحنفية، وصاحب (العمد) والقاضي أبو يعلي من الحنابلة، وجماعة من المصنفين، وهو مقطوع ببطلانه في حق النساء، كما رأيت التقرير والإيراد. * * *

المسألة الثانية قال الرازي: يجوز من الله- تعالى- أن يسمع المكلف العام من غير أن يسمعه ما يخصصه، وهو قول النظام، وأبي هاشم، والفقهاء. وقال أبو الهذيل، والجبائي: لا يجوز ذلك في العام المخصوص بدليل السمع، وإن جاز أن يسمعه المخصوص بأدلة العقل وإن لم يعلم السامع أن في العقل ما يدل على تخصيصه. لنا ثلاثة أوجه: الأول: أن ذلك قد وقع كثيرًا؛ لأن كثيرًا من الصحابة سمعوا قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] مع أنهم لم يسمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) وسمعوا قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] مع أنهم لم يسمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) إلى زمان عمر رضي الله عنه. الثاني: أجمعنا على جواز خطابه بالعام المخصوص بالعقل، من غير أن يخطر بباله ذلك المخصص؛ فوجب أن يجوز خطابه بالعام المخصوص بالسمع من غير أن يسمعه ذلك المخصص؛ والجامع كونه في الصورتين متمكنًا من معرفة المراد. الثالث: أن الواحد منا كثيرًا ما يسمع الألفاظ العامة المخصوصة قبل مخصصاتها، وإنكاره مكابرة في الضروريات. احتجوا بأمور: أحدها: أن إسماع العام، دون إسماع المخصص، إغراء بالجهل.

(سؤال)

وثانيها: أن العام لا يدل على مراد المخاطب بإسماعه وحده؛ كخطاب العربي بالزنجية. وثالثها: أن دلالة العام مشروطة بعدم المخصص، فلو جاز سماع العام دون سماع المخصص، لما جاز الاستدلال بشيء من العمومات إلا بعد الطواف في الدنيا، وسؤال كل علماء الوقت: أنه هل وجد له مخصص؟ وذلك يفضي إلى سقوط العمومات. والجواب عن الأول: أن الإغراء غير حاصل؛ لما قدمنا من أنه يفيد ظن العموم، لا القطع به، وبه خرج الجواب عن الثاني. وعن الثالث: أن كون اللفظ حقيقة في الاستغراق، مجازًا في غيره- يفيد ظن الاستغراق، والظن حجة في العمليات، والله أعلم. المسألة الثانية يجوز من الله- تعالى- إسماع المكلف العام من غير إسماعه المخصص (سؤال) ما الفرق بين هذه المسألة، وبين المسألة الأخرى، يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب؟ لأن في كلا الصورتين سمع المكلف العام بدون المخصص؟ جوابه: أن تلك المسألة: لم ينزل وحي في البيان أصلًا وقت الخطاب، وهاهنا نزل البيان، وفهمه بعض المكلفين، وبقى النزاع هل يجوز أن يسمع البعض دون البعض الآخر العموم، ولا يسمع ذلك البيان؟ ولذلك استدل بأن بعض الصحابة لم يسمع كثيرًا من النصوص، مع أنها في صدور الحفاظ، ولهذا وافق في المسألة أبو هاشم وغيره من المعتزلة، مع أنهم يمنعون تأخير

البيان عن وقت الخطاب، وما ذلك إلا أن البيان قد حصل في الجملة، وسمعه المكلفون من حيث الجملة، وجوزه المانعون في المخصوص بدليل العقل؛ لأن الدليل العقلي حصل في الفطرة، وإنما التقصير من جهة السامع؛ فإنه وإن كان قصر في الاطلاع عليه، لكنه ليس في فطرته، بل أمر خارج بعيد عنه يحتاج إلى نقل إليه، فهذا هو الفرق. قوله: (العام لا يدل على مراد المخاطب بإسماعه وحده): قلنا: لا سنلم؛ لأن مراده الخصوص، ومتى فهم الكلية، التي هي العموم، فهي الجزئية التي هي الخصوص، ففهم المراد حاصل، غير أن فهم ما ليس بمراد غير حاصل، والفرق بين عدم فهم المراد، وفهم غير المراد- ظاهر، بل لو غلط، وأجرى العموم على عمومه، حصل المراد قطعًا، غير أنه قد تحصل مفسدة من الامتثال في غير المراد، وقد لا تحصل، فدعوى أن العام المخصوص، إذا لم يظهر مخصصه، لا يفهم المراد- غير متجه. قوله: (دلالة العام مشروطة بعدم المخصص): قلنا: لا نسلم أن عدم المخصص شرط، بل المخصص من قبيل الموانع، وعدم المانع ليس شرطًا، وقد تقدم بسطه، وغلط كثير فيه. قوله: (يلزم ألا يصح الاستدلال بالعمومات إلا بعد التطويف في الدنيا، وسؤال جميع العلماء عن المخصص): قلنا: قد تقدم في الخصوص أنه لا يجوز التمسك بالعام إلا بعد الفحص عن المخصص على قدر الوسع والطاقة مع حصول الأهلية، وهل من شرطه الوصول إلى القطع، أو الاعتقاد، أو الظن الغالب خلاف مذكور هناك، وأن خلاف ذلك خلاف الإجماع، فهذا اللازم نحن نلتزمه؛ فإنه حق، ولا يلزم من ذلك سقوط العمومات، بل متى عجز عن وجدان المخصص، عمل

بالعموم، فيعمل بكل عموم؛ لأنه إن وجد، خصص وعمل، وإلا عمل به معممًا. قوله: (يفيد ظن العمومات لا القطع بها). تقريره: أن الظن إذا كان حاصلًا، لا يكون إغراء بالجهل؛ لأن الاحتمال لما كان قائمًا، فجزمه بإرادة العموم تقصير منه لا من المتكلم. (المسألة) قال سيف الدين في (الإحكام): المجوزون لتأخير البيان عن وقت الخطاب بالعام، اختلفوا في جواز التدريج في البيان؛ بأن نتبين تخصيصًا بعد تخصيص، فقيل: يمتنع؛ لأن تخصيص البعض بالإخراج أولًا يوهم وجوب استعمال اللفظ في الباقي، وامتناع التخصيص بعد ذلك، وهو تجهيل المكلف، وجوزه المحققون؛ لأن آية السرقة ثبتت في موطن كثيرة ببيان النصاب تارة، وبغيره أخرى في الحرز، وعدم الشبهة، وكذلك غير السرقة، ووافقه الغزالي في نقل هذه المسألة. * * *

الكلام في الأفعال، وفيه مسائل قال الرازي: المسألة الأولى: اختلفت الأمة في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على قولين: أحدهما: قول من ذهب إلى أنه لا يجوز أن يقع منهم ذنب، صغيرًا كان، أو كبيرًا، لا عمدًا، ولا سهوًا، ولا من جهة التأويل، وهو قول الشيعة. والآخر: قول من ذهب إلى جوازه عليهم، ثم اختلفوا فيما يجوز من ذلك، وما لا يجوز: والاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة: أحدها: ما يقع في باب الاعتقاد، وقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يقع منهم الكفر، وقالت الفضيلية من الخوارج: إنه قد وقعت منهم ذنوب، وكل ذنب عندهم كفر وشرك. وأجازت الشيعة إظهار الكفر؛ على سبيل التقية، فأما الاعتقاد الخطأ الذي لا يبلغ الكفر؛ مثل أن يعتقد مثلًا أن الأعراض باقية ولا يكون كذلك، فمنهم من أباه؛ لكونه منفرًا، ومنهم من جوزه. وثانيها: باب التبليغ، واتفقوا على أنه لا يجوز عليهم التغيير، وإلا لزال الوثوق بقولهم. وقال قوم: يجوز ذلك من جهة السهو. وثالثها: ما يتعلق بالفتوى، واتفقوا أيضًا على أنه لا يجوز عليهم الخطأ فيه، وجوزوه قوم على سبيل السهو.

ورابعها: ما يتعلق بأفعالهم، واختلفت الأمة فيه على أربعة أقوال: أحدها: قول من جوز عليهم الكبائر عمدًا، وهؤلاء منهم من قال بوقوع هذا الجائز، وهم الحشوية. وقال القاضي أبو بكر: هذا وإن جاز عقلًا، ولكن السمع منع من وقوعه. وثانيها: أنه لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة ولا صغيرة عمدًا، لكن يجوز أن يأتوا بها، على جهة التأويل، وهو قول الجبائي. وثالثها: أنه لا يجوز ذلك، لا عمدًا، ولا من جهة التأويل، لكن على سبيل السهو، وهم مؤاخذون بما يقع منهم؛ على هذه الجهة، وإن كان موضوعًا عن أمتهم؛ لأن معرفتهم أقوى، فيقدرون على التحفظ عما لا يتأتى لغيرهم. ورابعها: أنه لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة، وأنه قد وقعت منهم صغائر على جهة العمد، والخطأ، والتأويل، إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف، وهو قول أكثر المعتزلة. والذي نقول به أنه لم يقع منهم ذنب، على سبيل القصد، لا صغيرًا ولا كبيرًا، أما السهو فقد يقع منهم، لكن بشرط أن يتذكروه في الحال، وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهوًا، وقد سيقت هذه المسألة في علم الكلام. ومن أراد الاستقصاء، فعليه بكتابنا في عصمة الأنبياء، والله أعلم.

الكلام في الأفعال قال القرافي: قوله: (اختلفت الأمة في عصمة الأنبياء عليهم السلام): قلنا: أخذ الشيء بالرد والقبول فرع عن كونه معقولًا، أما عصمة الأنبياء عليهم السلام، فإن قلتم: إن معناها أنهم لا يصدر منهم المعصية، يشكل بكثير من الصبيان الذين بلغوا أو ماتوا قريب بلوغهم من غير أن يعصوا، فقد صدق معنى العصمة الذي ذكرتموه في حقهم، مع أنهم ليسوا معصومين. وكذلك الصحابة- رضوان الله عليهم- وكثير لم يصدر منهم الكفر، ولا الكبائر، وليسوا معصومين، فلا يكفي في العصمة أن معناها عدم صدور المعصية، بل لابد من تحرير هذا المقام، وهو أنا نقول: قاعدة النقائض مستحيلة على الله- تعالى- والمعاصي مستحيلة على الملائكة والأنبياء- عليهم السلام- وعلى الأمة المحمدية- أعني مجموعها- وأفراد الأمة كل واحد منهم قد استحال منه صدور المعاصي التي لم يقدم عليها، فاشترك الجميع في امتناع صدور النقائض عنهم. ويقول أهل العرف: من العصمة ألا يحد، وكل واحد من هذه المواطن له ضابط: أما تقديس الله- تعالى- وامتناع النقائض عليه: فاجتمع فيه أمور: أحدها: أنه لذاته- تعالى- يوجب ذلك له غير معلل بشيء. وثانيها: أنه لما كان كذلك، علم الله- تعالى- ذلك؛ فوجب ذلك لأجل العلم، ولما علمه أخبر عنه، فصار واجب الخبر. وأما عصمة الملائكة والأنبياء- عليهم السلام- ومجموع الأمة: فالاستحالة في حقهم، والعصمة من باب واحد، وهو أن معناها إخبار الله

- تعالى- النفساني واللساني عن جعلهم كذلك، واجتمع مع ذلك علم الله- تعالى- بذلك وإرادته له، فتكون العصمة. واستحالة المعصية عليهم نشأت عن أمور أربعة: العلم، والخبر النفساني، واللساني، والإرادة وفي حق الله تعالى- عن أربعة أمور أيضًا، غير أن الإرادة يستحيل دخولها فيما يتعلق بالمستحيل على الله تعالى؛ لأنه مستحيل لذاته، والإرادة لا تدخل إلا في الممكنات، ودخلت الإرادة في عصمة الملائكة والأنبياء، ومجموع الأمة؛ لأنه من باب الممكنات عقلًا، وليس ذلك لذواتهم؛ كما في حق الله تعالى، مع أن الإمام في (البرهان) قال: طبقات الخلق على استحالة الكبائر. ونحوها عقلًا، وعليه جماهير أئمتنا. وقال القاضي: سمعًا لا عقلًا. قال: والمختار عندي ما قاله القاضي، وهذه الأمور لم تتناولها المعجزة، والتناول يصدق فيما يبلغه عن الله تعالى. ولو جمع دعوى جميع ذلك، وأقام المعجزة عليه، تناولته، الأكثرون على جواز الصغائر، وعدم وقوعها منهم. قلت: وإجماع الأكثر على الاستحالة العقلية، إن كان المراد به أنها مستحيلة عقلًا لغيرها، فيرتفع الخلاف؛ فإنا لم نسمع بواجب الاستحالة للغير، وإن أرادوا أنها مستحيلة عليهم لذواتهم؛ كاستحالة انقلاب الأعيان، واجتماع النقيضين بالذات، فهو يفيد أن الأجسام مستوية عقلًا، وكل ما جاز على أحد المثلين، جاز على الآخر.

وهذه قاعدة مشهورة؛ منع الاستحالة العقلية بهذا التفسير، وإنما تقع الاستحالة بعد ذلك الغير من سمع، أو علم، أو قضاء، وقدروا التحسين العقلي، والأكثرون ليسوا عليه، فلم يبق إلا غيره، لذلك قال المازري في (شرح البرهان): الأنبياء كالبشر يجوز عليهم ما يجوز على البشر، إلا ما دلت المعجزة على نفيه، وقالوا: نعم، إن هذا لا يجوز علينا، فيمتنع حينئذ. وأما عصمة الصحابة، وآحاد الأمة الذين لم يصدر مهم عاص خاصة، وقولهم: من العصمة ألا يحد فهو متعلق ثلاثة أمور فقط: العلم، والإرادة، والخبر النفساني؛ لأنه من لوازم العلم، وهو معنى قول العلماء: كل عالم مخبر عن معلومه، وليس في حقهم خبر لساني، أي: لم ينزل نص من الله- تعالى- أن فلانًا لا يصدر منه كذا من المعاصي، فهذا التقييد الذي هو الكلام اللساني امتازت به الملائكة والأنبياء- عليهم السلام- ومجموع الأمة. وأما أصل الامتناع، فمشترك، بل ما من أحد إلا وقد عصمه الله- تعالى- من معصيته، وليس أحد من خلق الله- تعالى- جمع بين جميع المعاصي؛ بحيث لا تبقى معصية مقصودة، إلا وقد وقع فيها فتحصل، له في عصمة الأمور الثلاثة المتقدم ذكرها، فيمتاز الامتناع في حق الله- تعالى- بأنه لذاته وتعذر الإرادة فيه. وتمتاز عصمة الأنبياء والملائكة- عليهم السلام- ومجموع الأمة بالخبر اللساني، ويبقى الخبر النفساني، والعلم، والإرادة مشتركًا بين المواطن كلها في الاستحالة على الله- تعالى- وعلى غيره. فهذا تلخيص هذه العصم والاستحالات، وما اشتركت فيه، وما امتازت به، فمتى قلنا: الأنبياء معصومون، نريد الخبر اللساني بالنصوص السمعية، ومتى قلنا: إن فلانًا عصم من ذكا؛ نريد به معنى آخر، وهي الأمور الثلاثة المتقدم ذكرها.

(فائدة) قال القاضي عياض في (الشفاء): مراد العلماء بعصمة الأنبياء بعد النبوة، وأما قبلها فلا، وعليه تحمل النصوص الدالة على وقوع المخالفة منهم. وقيل: معصومون قبل وبعد

فهذا تلخيص محل النزاع، والنزاع حينئذ إنما هو، هل ورد في الشرائع ما يقتضي ذلك الامتناع عليهم أم لا؟ والاستقراء تحقيق ذلك. قوله: (ومنهم من جوز عليهم المخالفة في التبليغ، والفتوى على سبيل السهو): قلت: زاد القاضي عياض في النقل في هذا المذهب؛ أنهم ينبهون عليه إذا سهوا، وهذا الزائد في النقل لا ينبغي إهماله. قوله: (من جوز عليهم الكبائر عمدًا، فمنهم من قال بوقوعها، وهم الحشوية، وقال القاضي أبو بكر: هذا وإن جاز عقلًا، لكن السمع منع من وقوعه): قلت: هذا النقل غير متجه؛ فإن الجواز العقلي لم يقل أحد بعدمه، بل جميع العالم وكل فرد منه يجوز عليه ما جاز على الآخر، ويجوز عليه جميع النقائص عقلًا من المعاصي، فإذا قال القاضي بالجواز العقلي، والامتناع السمعي، فهو ليس من الفرقة المجوزين للكبائر عليهم؛ لأنه قد تقدم تحرير محل النزاع، فمتى صرح القاضي بالامتناع السمعي، فلا يعد مع هؤلاء، وعده من هؤلاء يشعر بأن الخلاف في الجواز العقلي، والامتناع العقلي، وليس كذلك، بل الامتناع من النقائص عقلًا خاص بالله- تعالى- كما تقدم. قوله: (وقد سيقت هذه المسألة في علم الكلام من هذا الكتاب): قلت: لم يتقدم في هذا الكتاب علم الكلام، ولا الكلام على هذه المسألة، فهذا- والله أعلم- سهو من القلم، أو توهم منه أنه فعل ذلك. (فائدة) قال القاضي عياض في (الشفاء): مراد العلماء بعصمة الأنبياء بعد النبوة، وأما قبلها فلا، وعليه تحمل النصوص الدالة على وقوع المخالفة منهم. وقيل: معصومون قبل وبعد.

المسألة الثانية قال الرازي: اختلفوا في أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بمجرده، هل يدل على حكم في حقنا أم لا؟ على أربعة أقوال: أحدها: أنه للوجوب وهو قول ابن سريج، وأبي سعيد الإصطخري وأبي علي بن خيران. وثانيها: أنه للندب، ونسب ذلك إلى الشافعي- رضي الله عنه. وثالثها: أنه للإباحة، وهو قول مالك رحمه الله. ورابعها: يتوقف في الكل، وهو قول الصيرفي، وأكثر المعتزلة، وهو المختار. لنا: أنا إن جوزنا الذنب عليه، جوزنا في ذلك الفعل أن يكون ذنبًا له ولنا، وحينئذ، لا يجوز لنا فعله، وإن لم نجوز الذنب عليه جوزنا كونه مباحًا، ومندوبًا، وواجبًا، وبتقدير أن يكون واجبًا، جوزنا أن يكون ذلك من خواصه، وألا يكون. ومع احتمال هذه الأقسام، امتنع الجزم بواحد منها. واحتج القائلون بالوجوب بالقرآن، والإجماع، والمعقول: أما القرآن: فسبع آيات: إحداها: قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} [النور: 63]. والأمر حقيقة في الفعل على ما تقدم بيانه، والتحذير عن مخالفة فعله يقتضي وجوب موافقة فعله.

وثانيتها: قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} [الأحزاب: 21]، وهذا مجراه مجرى الوعيد فيمن ترك التأسي به، ولا معنى للتأسي به إلا أن يفعل الإنسان مثل فعله. وثالثتها: قوله تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 185] وظاهر الأمر للوجوب، والمتابعة هي الإتيان بمثل فعله. ورابعتها: قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} [آل عمران: 31] دلت الآية على أن محبة الله مستلزمة للمتابعة، لكن المحبة واجبة بالإجماع، ولازم الواجب واجب، فمتابعته واجبة. وخامستها: قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} [الحشر: 7]؛ فإذا فعل فقد آتانا بالفعل فوجب علينا أن نأخذه. وسادستها: قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} [المائدة: 92 والنور: 54] دلت الآية بإطلاقها على وجوب طاعة الرسول، والآتي بمثل فعل الغير- لأجل أن ذلك الغير فعله- طائع لذلك الغير؛ فوجب أن يكون ذلك واجبًا. وسابعتها: أن قوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها} [الأحزاب: 37] بين أنه تعالى، إنما زوجه بها؛ ليكون حكم أمته مساويًا لحكمه في ذلك، وهذا هو المطلوب. وأما الإجماع: فلأن الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين، فقالت عائشة رضي الله عنها: (فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا) فرجعوا إلى ذلك، وإجماعهم على الرجوع حجة، وهو المطلوب،

وإنما كان لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أجمعوا هاهنا على أن مجرد الفعل للوجوب. ولأنهم (واصلوا الصيام لما واصل) و (خلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع) و (أمرهم عام الحديبية بالتحلل بالحلق، فتوقفوا، فشكا إلى أم سلمة، فقالت: اخرج إليهم، واحلق واذبح، ففعل، فذبحوا، وحلقوا متسارعين) و (لأنهم خلع خاتمه فخلعوا) و (لأن عمر رضي الله عنه كان يقبل الحجر الأسود، ويقول: إني لأعلم أك حجر، لا تضر، ولا تنفع، ولوا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك) و (أنه عليه الصلاة والسلام قال في جواب من سأل أم سلمة عن قبلة الصائم: ألا أخبرته أنني أقبل وأنا صائم؟). وأما المعقول فمن وجهين: الأول: أن الاحتياط يقتضي حمل الشيء على أعظم مراتبه، وأعظم مراتب فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون واجبًا عليه وعلى أمته، فوجب حمله عليه. بيان الأول: أن الاحتياط يتضمن دفع ضرر الخوف عن النفس بالكلية، ودفع الضرر عن النفس واجب. بيان الثاني: أن أعظم مراتب الفعل، أن يكون واجبًا على الكل. الثاني: أنه لا نزاع في وجوب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم في الجملة، وإيجاب الإتيان بمثل فعله تعظيم له بدليل العرف، والتعظيمان يشتركان في قدر من المناسبة؛ فيجمع بينهما بالقدر المشترك، فيكون ورود الشرع بإيجاب ذلك التعظيم يقتضي وروده بأن يجب على الأمة الإتيان بمثل فعله. والجواب عن الأول: لا نسلم أن لفظ الأمر حقيقة في الفعل؛ على ما تقدم.

سلمناه؛ لكنه بالإجماع أيضًا حقيقة في القول، فليس حمله على ذلك بأولى من حمله على هذا. سلمناه؛ لكن هاهنا ما يمنع من حمله على الفعل، وهو من وجهتين: الأول: أن تقدم ذكر الدعاء وذكر المخالفة، يمنع منه؛ فإن الإنسان، إذ قال لعبده: (لا تجعل دعائي كدعاء غيري، واحذر مخالفة أمري) فهم منه أنه أراد بالأمر القول. الثاني: وهو أنه قد أريد به القول بالإجماع، فلا يجوز حمله على الفعل؛ لأن اللفظ المشترك لا يجوز حمله على معنييه. سلمناه؛ لكن الهاء راجعة إلى الله تعالى؛ لأنه أقرب المذكورين. فإن قلت: القصد هو الحث على إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تعالى قال: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} [النور: 63] فحث بذلك على الرجوع إلى أقواله وأفعاله، ثم عقب ذلك بقوله: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} [النور: 63] فعلمنا أنه بعث بذلك على التزام ما كان دعاء إليه من الرجوع إلى أمر النبي- عليه الصلاة والسلام. وأيضًا: فلم يجوز الحكم بصرف الكناية إلى الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم؟ قلت: الجواب عن الأول: أن صرف هذا الضمير إلى الله تعالى مؤكد لهذا الغرض أيضًا؛ لأنه لما حث على الرجوع إلى أقوال الرسول وأفعاله، ثم حذر عن مخالفة أمر الله تعالى، كان ذلك تأكيدًا لما هو المقصود من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وعن الثاني: أن الهاء كناية عن واحد، فلا يجوز عوده إلى الله تعالى، وإلى الرسول معًا. سلمنا عود الضمير إلى الرسول، فلم قلت: إن عدم الإتيان بمثل فعله مخالفة لفعله؟ فإن قلت: يدل عليه أمران: الأول: أن المخالفة ضد الموافقة، لكن موافقة فعل الغير هو أن تفعل مثل فعله، فمخالفته هو: ألا تفعل مثل فعله. الثاني: وهو: أن المعقول من المختلفين هما اللذان لا يقوم أحدهما مقام الآخر، والعدم والوجود لا يقوم أحدهما مقام الآخر بوجه أصلًا، فكانا في غاية المخالفة، فثبت أن عدم الإتيان بمثل فعله، مخالف للإتيان بمثل فعله من كل الوجوه. قلت: هب أنها في أصل الوضع كذلك، لكنها في عرف الشرع ليست كذلك، ولهذا لا يسمى إخلال الحائض بالصلاة مخالفة للمسلمين، بل هي عبارة عن عدم الإتيان بمثل فعله، إذا كان الإتيان به واجبًا، وعلى هذا لا يسمى ترك مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة إلا إذا دل فعله على الوجوب، فإذا أثبتنا ذلك بهذا الدليل، لزم الدور، وهو محال. والجواب عن الثاني: لم قلت: إن الإتيان بمثل فعل الغير مطلقًا يكون تأسيًا به؟ بل عندنا: كما يشترط في التأسي المساواة في الصورة، يشترط فيه المساواة في الكيفية حتى إنه لو صام واجبًا، فتطوعنا بالصوم، لم نكن متأسين به، وعلى هذا يكون مطلق فعل الرسول عليه الصلاة والسلام سببًا للوجوب في حقنا؛

لأن فعله قد لا يكون واجبًا، فيكون فعلنا إياه على سبيل الوجوب قادحًا في التأسي، وتمام الأسئلة سيأتي في المسألة الآتية، إن شاء الله تعالى. والجواب عن الثالث: أن قوله: {واتبعوه} [الأعراف: 158] إما أن لا يفيد العموم، أو يفيده: فإن كان الأول: سقط التمسك به. وإن كان الثاني: فبتقدير أن يكون ذلك الفعل واجبًا عليه وعلينا، وجب أن نعتقد فيه أيضًا هذا الاعتقاد، والحكم بالوجود يناقضه؛ فوجب ألا يتحقق. وهذا هو الجواب عن التمسك بقوله تعالى: {فاتبعوني} [آلا عمران: 31]. والجواب عن الخامس: لا نسلم أن قوله تعالى: {ما آتاكم الرسول فخذوه} [الحشر: 7] يتناول الفعل، ويدل عليه وجهان: الأول: أن قوله تعالى: {وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]، يدل على أنه عنى بقوله: {وما آتاكم} ما أمركم. الثاني: أن الإتيان إنما يتأتى في القول؛ لأنا نحفظه، وبامتثاله يصير كأننا أخذناه فيصير كأنه صلى الله عليه وسلم أعطاناه. والجواب عن السادس: أن الطاعة هي الإتيان بالمأمور، أو بالمراد؛ على اختلاف المذهبين، فلم قلت: إن مجرد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على أنا أمرنا بمثله، أو أريد منا مثله، وهذا هو أول المسألة؟! والجواب عن الإجماع من وجوه:

الأول: أن هذه أخبار آحاد، فلا تفيد العلم، ولهم أن قولوا: هب أنها تفيد الظن، لكن ما حصل ظن كونه دليلًا، ترتب عليه ظن ثبوت الحكم، يكون العمل به دافعًا لضرر مظنون، فيكون واجبًا، وتقرير هذه الطريقة سيجيء، إن شاء الله تعالى، في مسألة القياس. الثاني: أن أكثر هذه الأخبار واردة في الصلاة والحج، فلعله صلى الله عليه وسلم كان قد بين لهم أن شرعه وشرعهم سواء في هذه الأمور، قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وعليه خرج مسالة التقاء الختانين، وقال: (خذوا عني مناسككم) وعليه خرج تقبيل عمر للحجر الأسود، وقال: (هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء من قبلي). وأما الوصال: فإنهم ظنوا لما أمرهم بالصوم، واشتغل معهم به أنه قصد بفعله بيان الواجب، ففعلوا، فرد عليهم ظنهم، وأنكر عليهم الموافقة. وأما خلع النعال: فلا نعلم أنهم فعلوا ذلك واجبًا. وأيضًا لا يمتنع أن يكونوا، لما رأوه قد خلع نعله مع تقدم قوله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31] ظنوا أن خلعها مأمور به غير مباح؛ لأنه لو كان مباحًا، لما ترك به المسنون في الصلاة!! على أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: (لم خلعتم نعالكم)؟ فقالوا: لأنك خلعت نعلك؛ فقال: (إن جبريل أخبرني أن فيها أذى)، فبين بهذا أنه ينبغي أن يعرفوا الوجه الذي أوقع عليه فعله، ثم يتبعونه. وأما خلع الخاتم فهو مباح، فلما خلع، أحبوا موافقته، لا لاعتقادهم وجوب ذلك عليهم.

والجواب عن الوجه الأول من المعقول أن الاحتياط، إنما يصار إليه، إذا خلا عن الضرر قطعًا، وهاهنا ليس كذلك؛ لاحتمال أن يكون ذلك الفعل حرامًا على الأمة، وإذا احتمل الأمران، لم يكن المصير إلى الوجوب احتياطًا. وعن الثاني: أن ترك الإتيان بمثل ما يأتي به الملك العظيم قد يكون تعظيمًا؛ ولذلك يقبح عن العبد أن يفعل كل ما يفعل سيده. واحتج القائلون بالندب: بالقرآن، والإجماع، والمعقول: أما القرآن: فقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21] ولو كان التأسي واجبًا، لقال: عليكم، فلما قال: لكم، دل على عدم الوجوب، ولما أثبت الأسوة الحسنة، دلى على رجحان جانب الفعل على جانب الترك، فلم يكن مباحًا. وأم الإجماع: فهو: أنا رأينا أهل الأعصار متطابقين على الاقتداء في الأفعال بالنبي صلى الله عليه وسلم وذلك يدل على انعقاد الإجماع على أنه يفيد الندب. وأما المعقول فهو: أن فعله عليه الصلاة والسلام: إما أن يكون راجح العدم، أو مساوي العدم، أو مرجوح العدم: والأول باطل؛ لما ثبت أنه لا يوجد منه الذنب. والثاني باطل ظاهرًا؛ لأن الاشتغال به عبث، والعبث مزجور عنه؛ بقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} [المؤمنون: 115] فتعين الثالث، وهو أن يكون مرجوح العدم، ثم إنا لما تأملنا أفعاله، وجدنا بعضها مندوبًا، وبعضها واجبًا، والقدر المشترك هو رجحان جانب الوجود، وعدم الوجوب ثابت بمقتضى الأصل، فأثبتنا الرجحان مع عدم الوجوب.

والجواب عن الأول: ما تقدم أن التأسي في إيقاع الفعل على الوجه الذي أوقعه عليه، فلو كان فعله واجبًا أو مباحًا، وفعلناه مندوبًا، لما حصل التأسي. وعن الثاني: أنا لا نسلم أنهم استدلوا بمجرد الفعل، فلعلهم وجدوا مع الفعل قرائن أخرى. وعن الثالث: لا نسلم أن فعل المباح عبث؛ لأن العبث هو الخالي عن الغرض فإذا حصلت في المباح منفعة ما، لم يكن عبثًا، بل من حيث حصول النفع به خرج عن العبث، فلم قلتم: بأنه خلا عن الغرض؟ ثم حصول الغرض في التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومتابعته في أفعاله بين؛ فلا يعد من أقسام البعث، والله أعلم. واحتج القائلون بالإباحة: بأنه لما ثبت أنه لا يجوز صدور الذنب منه، ثبت أن فعله لابد أن يكون إما مباحًا، أو مندوبًا، أو واجبًا. وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في رفع الحرج عن الفعل. فأما رجحان جانب الفعل فلم يثبت على وجوده دليل؛ لأن الكلام فيه، وثبت على عدمه؛ لأن دليل هذا الرجحان كان معدومًا؛ والأصل في كل شيء بقاؤه على ما كان؛ فثبت بهذا أنه لا حرج في فعله قطعًا، ولا رجحان في فعله ظاهرًا. فهذا الدليل يقتضي في كل أفعاله أن يكون مباحًا، ترك العمل به في الأفعال التي علم كونها واجبة أو مندوبة، فيبقى معمولًا به في الباقي. وإذا ثبت كونه مباحًا ظاهرًا وجب أن يكون في حقنا كذلك- للآية الدالة على وجوب التأسي- ترك العمل به فيما كان من خواصه، فيبقى معمولًا به في الباقي.

(فائدة)

والجواب: هب أنه في حقه كذلك فلم يجب أن يكون في حق غيره كذلك؟ والله أعلم. المسألة الثانية في دلالة فعل الرسول- عليه السلام- على الحكم في حقنا قلت: الفعل لا دلالة له على الحكم في حقنا بذاته، بل بالسمع الوارد في ذلك؛ على ما ذكره المصنف بعد ذلك، وإن كان الفعل يدل على العلم والحياة، أمور كثيرة بذاته لا بالوضع، وكذلك صح استدلالنا بالعلم على وجود الله- تعالى- وصفاته العلا؛ غير أنه لا يدل فعله- عليه السلام- على أحد الأحكام الشرعية في حقنا إلا ببينة السمع على ذلك. (فائدة) قال سيف الدين: تلخيص محل النزاع: أن الأفعال الجبلية؛ كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب لا نزاع في كونها على الإباحة بالنسبة إليه وإلى أمته، وما يثبت أنه من خواصه، فلا تعلق له بنا، وما عرف كونه- عليه السلام- فعله بيانًا لنا، فهو دليل بلا خلاف؛ كتبيينه للصلاة والحج، وقطعه السارق، وجلده في الحدود، والبيان تابع للمبين في الوجوب والندب والإباحة، وما عدا ذلك، إن ظهر قصد التقرب به، فقيل: يحمل على الوجوب في حقه وحقنا، قاله ابن سريج، والإصطخري، وابن أبي هريرة، وابن خيران، والحنابلة، وبعض المعتزلة.

وقال الشافعي: بالندب، واختاره إمام الحرمين، وقال مالك بالإباحة، وتوقف الغزالي، والصيرفي وغيرهما. وقال جماعة من المعتزلة: وما لا يظهر فيه قصد القربة، ففيه الخلاف الذي ظهر فيه قصد القربة، غير أن الوجوب والندب فيه أبعد مما ظهر فيه قصد القربة، والوقوف أقرب. وبعض المجوزين للمعصية عليهم قال بالحظر. قال: والمختار إن ما لم يظهر فيه قصد القربة بدليل، ولا كان بائنًا، فهو دليل في حقه على القدر المشترك بين الوجوب والندب، وهذا قبل الرجحان دون الإباحة، وكذلك في حق أمته. ووافقه إمام الحرمين في (البرهان) على نقل المذاهب على هذه الصورة، وإخراج العادة نحو: القيام والعقود، عن موطن الخلاف. ولذلك قال الغزالي في (المستصفى): وحكى الحظر عن قوم، كما حكاه سيف الدين، ولم يحكه الإمام في (البرهان). وحكى الماوردي قولًا بالوجود في الفعل المباح وغيره مطلقًا، كان مباحًا أو غيره. قوله: (الإباحة مذهب مالك): قلنا: الذي نقله المالكية في كتب الأصول والفروع عن مالك هو الوجوب، كذلك نقله القاضي عبد الوهاب في (الإفادة) والباجي في (الإشارة) وكتاب (الفصول) وابن القصار وغيرهم، والفروع في المذهب مبنية عليه.

قوله: (يجوز في الفعل أن يكون مباحًا ومندوبًا وراجيًا، ومع التجويز يمتنع الجزم): قلنا: يمتنع الجزم عقلًا؛ لأن هذا التجويز عقلي، ونحن لم ندع الجزم عقلًا بل سمعًا، ولا تنافي بين عدم الجزم عقلًا، وثبوته سمعًا. قوله: (وثالثها: قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]): قلنا: لفظ (أسوة) نكرة في سياق الإثبات، فلا تعم، بل يقتضي وجوب التأسي به في صورة واحدة، ونحن نقول: يجب إتباعه- عليه السلام- في العقائد، فالدعوى عامة، والدليل خاص، فلا تسمع؛ كمن قال: كل لحم حرام؛ لأن لحم الخنزير حرام، وقد تقدم بسطه. فكذلك قوله تعالى: {فاتبعوه} فعلى في سياق الإثبات لا يعم، يحمل على الوحدانية وغيرها، وكذلك قوله تعالى: {فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]. قوله: (المحبة واجبة بالإجماع): تقريره: أن الله تعالى قال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] فمراد بالمحبة الأولى لا الثانية؛ فإن الثانية في محبة الله- تعالى- لنا، فلا تجب علينا؛ لأنها ليست من فعلنا، والأولى من فعلنا؛ فتجب علينا. ومحبة الرسول- عليه السلام- واجبة بالإجماع علينا من حيث الجملة، أما التفصيل فالمحبة: إن أريد بها ميل القلب، فهو له مراتب مختلفة، فأصل الميل لابد منه بالإجماع، وأما الوصول إلى رتبة علية منه، فليس واجبًا بالإجماع، بل مندوب إليه.

وإن أريد بالمحبة أن نعامله معاملة المحب، وهذا هو محبة الله- تعالى- لنا؛ لأن ميل القلوب عليه مستحيل، فلا خفاء أنه يجب علينا أن نعامله معاملة المحب في أمره بالواجبات، واجتناب المحرمات، وأن نمنع عنه المؤلمات في نفسه، وماله، وعرضه، وجميع ما يتعلق به. وأما معاملته معاملة المحب في المندوبات، والبيوع وفي الميراث، فليس واجبًا بالإجماع، فهذا تفصيل مقصود هذه الآية. فإن اعتقدنا أن الأمر فيها للوجوب، حملناها على الواجب إجماعًا، وإلا حملناها على الجميع. قوله: (لازم الواجب واجب): تقريره: أن الشرط وضعه أن يكون ملزومًا للجزاء، وأن يكون الجزاء لازمًا للشرط؛ كقوله: إن كان هذا عشرة، فهو زوج، ولو عكست؛ فقلت: لو كان زوجًا، لكان عشرة، لم يتم كلامك. وقوله تعالى: {إن كنتم} شرط، وقوله تعالى: {فاتبعوني} جزاؤه، فيكون لازمًا؛ فيكون إتباعًا لازمًا، فلو لم نتبعه، لكان لازم الواجب منفيًا، ويلزم من نفي اللازم نفي الملزوم، فيلزم نفي الواجب بالإجماع، وهو محال، فحينئذ يجب علينا تحصيل هذا الإتباع الذي هو اللازم؛ حتى لا ينتفي الملزوم الواجب الثبوت. قوله: (وسادسها: قوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} [المائدة: 92]. قلنا: هذا فعل في سياق الإثبات، فلا يعم، بل يكون مطلقًا، والمطلق يلغى في العمل به صورة واحدة، ونحن نتبعه في قواعد العقائد، فلا يبعد الأمر [أن يكون] للفروع التي هي محل النزاع.

قوله: (وسابعها: قوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرًا ...} الآية [الأحزاب: 37]). قلنا: نفي الحرج هاهنا مضاف لتزويج الله-تعالى- له، وليس مضافاً لفعله عليه السلام، وتزويج الله- تعالى- إذنه، ولا نزاع أن إذنه- تعالى- يفيد نفي الحرج. سلمنا أن المراد نفيه؛ لكن الآية دلت على مساواة أمته له- عليه السلام- في نفي الحرج؛ لقوله تعالى: {لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا} [الأحزاب: 37] فعلل بحصول نفي الحرج، ونفي الحرج أعم من الوجوب؛ لصدقه في المباح والمندوب والمكروه، والأعم لا يدل على الأخص؛ كلفظ الحيوان لا يدل على الإنسان. فإذا قلنا: في الدار جسم، أو حيوان لا يفهم أنه إنسان ولا غيره، مما هو أخص. وكذلك كل ما كان أعم لا يدل على لفظه على ما هو أخص منه، فالدال على نفي الحرج لا يدل على نفي الوجوب؛ لكونه أخص منه. قوله: (إجماع الصحابة- رضوان الله عليهم- على الرجوع لعائشة في التقاء الختانين حجة): قلنا: لا نسلم أنهم أجمعوا، بل الحديث إنما ورد في الذين بعثوا إليها، وأولئك ليسوا كل الصحابة. قوله: (واصلوا لما واصل عليه السلام): قلنا: كونهم فعلوا لما فعل قدر مشترك بين الوجوب والندب؛ فإنهم كانوا يواظبون على المندوبات بفضل دينهم، فلا يدل فعلهم على الوجوب، فلا يحصل مطلوب المستدل، وهذا السؤال يرد على جميع هذه الاستدلالات.

وقوله: (الاحتياط يقتضي حمل الشيء على أهم مراتبه، وأهم المحامل الوجوب): قلنا: الاحتياط يقتضي الأولوية، والورع، والاحتراز، فلم قلتم: إن ذلك ينهض للوجوب. قلت: وهذا السؤال قد تقدم قبل هذا، وبعض الفقهاء يورده بناءً على عدم المعرفة بقاعدة، وهي أن الرجحان والاحتياط تارة يكون في أفعال المكلفين، وتارة يكون في أدلة المجتهدين، ففي القسم الأول يقتضي الرجحان الندب، وفي الثانية يقتضي الوجوب؛ لإجماع الأمة على أن المجتهد يجب عليه الفتيا بالراجح والعلم به، بل لا يكاد يوجد في الشريعة وجوب إلا مترتبًا على رجحان في مظان الاجتهاد وفرق بين الرجحان في الفعل والرجحان في الدليل، فتأمل ذلك؛ فإنه يوجب ألا يتوجه هذا السؤال هاهنا؛ لأنه رجحان في الدليل. قوله: (الأمر حقيقة في القول بالإجماع): قلنا: لا نسلم؛ فقد تقدم أن فيه ثلاثة أقوال: في النفساني فقط، في اللساني فقط، مشترك بينهما. قوله: (لا يكون الترك مخالفة إلا إذا كان الفعل واجبًا): قلنا: لا نسلم الحصر، بل يكون مندوبًا، ويكون الترك مخالفة، لأن من ترك النوافل، وصلاة الضحى، وصلاة القيام في رمضان يصدق عليه في عرف الاستعمال أنه مخالف للمسلمين، ولرسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قوله: (إذا بينها ذلك بهذا، لزم الدور). تقريره: أن المخالفة تتوقف على الوجوب؛ بناء على حصرها في ترك فعل الواجب، فلا تعلم المخالفة حتى يعلم الوجوب في الفعل، ولا نعلم

الوجوب علينا في الفعل؛ حتى تكون هذه المخالفة، فيتوقف كل واحد منهما على الآخر، فيلزم الدور. قوله: (مقابلة الأمر بالنهي يدل على أن المراد به الأمر القولي): تقريره: أن المناسبة في الكلام تقتضي أن يقابل القول بالقول، فيقابل الأمر بالنهي، والنهي بالأمر. أما إذا قال: وما نهاكم عنه فانتهوا، وافعلوا مثل فعله- ليس هو في المناسبة مثل قوله: (ما نهاكم عنه فانتهوا، وما أمركم به فافعلوا)، بل هذا الثاني أنسب؛ فيجب المصير إليه. قوله: (الأقوال نحفظها، فكأنا أخذناها؛ بخلاف الأفعال): قلنا: لا نسلم؛ بل الأفعال أيضًا تحفظ صورتها، كما تحفظ الأقوال، بل مشاهدة الأفعال أثبت في النفس، فهي أولى بالحفظ، وكذلك التعليم بالفعل أقوى من التعليم بالوصف بالقول، فكلاهما أخذ مجازي، والفعل أقوى في ذلك الإعطاء منه- عليه السلام- لنا، وفي أخذنا له منه. قوله: (الطاعة هي الإتيان بالمأمور، أو بالمراد على اختلاف المذهبين). تقريره: أن المعتزلة يقولون: إن الله- تعالى- مريد لجميع الطاعة، فلا طاعة إلا بفعل مراده. ونحن نقول: مراد الله- تعالى- من الخلق ما هم عليه من طاعة ومعصية، فيأمر بما لا يريد في حق العاصي، ويريد ما لا يأمر به، وهو المعاصي من العصاة، وفي حق المطيع مراده منه هو ما أمره به، فما يفترق الأمر من الإرادة، والإرادة من الأمر في حق العصاة. أما المطيعون فيجتمعان في حقهم، فالطاعة عندنا موافقة الأمر، وعندهم

موافقة المراد، والمطيع عندنا- وإن وافق إرادة الله تعالى- فإنما هو مطيع من جهة الأمر، لا من جهة الإرادة، فهذا معنى قوله: اختلاف المذهبين. قوله: (هذه أخبار آحاد، فلا تفيد العلم): قلنا: تقدم أن هذه المسائل علمية، وإنما يتمسك بها بظواهر الآيات والأحاديث، لا لطلب العلم من خصوص ذلك الستند، بل للتنبيه على أصل المدرك، وأن العلم إنما يحصل في هذه المسائل من كثرة الاطلاع على أقضية الصحابة، ومناظرتهم، واستقراء النصوص في موارد السنة، ومصادرها؛ فيحصل حينئذ العلم؛ كما حصل سخاء حاتم، وشجاعة علي، وليس في الممكن أن نضع في الكتب ما يفيد العلم بذلك، والذي وضع إنما هو نوع المدرك، وأصله لا كماله، وهذا شأننا في جميع مسائل أصول الفقه. قوله: (وعليه يخرج حديث التقاء الختانين): تقريره: أنه- عليه السلام- لما قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) اندرج في ذلك توابع الصلاة من الطهارة والستارة وغيرهما. قوله: (وأما الوصال، فلتوهم أنه قصد بيان الواجب): تقريره: أنه- عليه السلام- أمرهم بصوم رمضان بالقرآن، فيجوز أن يكون جعل هذا بيانًا للصوم الواجب، وبيان الواجب واجب؛ فلذلك اعتقدوا وجوب الوصال. قوله: (وأما خلع النعل، فلا يعلم أنهم فعلوا ذلك على وجه الوجوب). قلت: وله أن يجيب هاهنا بجوابه في التقاء الختانين؛ لأن خلع النعل في الصلاة من توابع الصلاة وعوارضها. قوله: (خلع الخاتم مباح): قلنا: (لا نسلم؛ فإن المروي في الحديث: أنه كان خاتم ذهب، فلما ورد

عليه الأمر بخلعه، وخلع الذهب واجب؛ لأن لباسه محرم، وترك المحرم واجب. قوله: (احتمل أن يكون ذلك الفعل حرامًا على الأمة): تقريره: أن الفعل الواحد قد يكون واجبًا حرامًا، في عصرين، لأمتين؛ لاختلاف الحال في المصلحة والمفسدة؛ كقتل العاصي توبة له كان واجبًا عند بني إسرائيل، وحرام عندنا، وفي الزمن الواحد باعتبار شخصين؛ كإقامة الحدود واجبة على الأئمة، وحرام على العامة. وإذا أمكن أن يكون الفعل مصلحة ومفسدة باعتبار شخصين في زمن واحد، اتجه الاحتمال. قوله: (فعله- عليه السلام- لا يكون راجح العدم؛ لأنه لا يجوز عليه الذنب): قلنا: لا يلزم من رجحان العدم الذنب؛ لأن المكروه راجح العدم، وفعله ليس ذنبًا إجماعًا. قوله: (المساوي عدمه لوجوبه عبث، وهو مزجور عنه؛ لقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} [المؤمنون: 115]: قلنا: إنما اختلف الناس في جواز الذنب على الأنبياء عليهم السلام، أما امتناع المباح عليهم، فخلاف الإجماع، فهو من أعراض العقلاء، فلا عبث حينئذ، ثم قوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} ليس من هذا القبيل؛ إذ ليس معناه الزجر عن العبث، كما قال، بل الزجر عن اعتقاد خلاف ما أخبر الله- تعالى- عنه، وهذا مجمع على تحريمه، وربما كان كفرًا؛ لأن الله- تعالى- أخبر أنه خلق العالم لأجل أمور:

منها قوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [الحجر: 85] قال العلماء: سبب التكليف. وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] قال ابن عباس: لآمرهم بعبادتي، فمن اعتقد أو حسب أو الخلق لم يكن لمعنى، فقد كذب هذه الإخبارات، واستحق الزجر والتكفير، فليس الزجر هاهنا عن فعل ليس فيه مصلحة إنما هو زجر عن اعتقاد الخلف في الأخبار الصادقة، فليس هو من هذا الباب البتة. قوله: (لعلهم وجدوا مع الفعل قرائن أخرى): قلنا: الأصل عدم القرائن. قوله: (لما امتنع الذنب عليه- صلى الله عليه وسلم- تعين أن يكون فعله واجبًا، أو مندوبًا، أو مباحًا): قلنا: لا نسلم الحصر، فإن عدم الذنب يصدق مع المكروه؛ كما تقدم، ولم يذكروه في الأقسام. قوله: (ورجحان الفعل لم يقم عليه دليل): قلنا: لا نسلم؛ بل قد تقدمت أدلة كثيرة تعارض ما يعتمدون عليه من الأصل، واستصحاب العدم، ثم ما ذكرتموه من الأصل معارض بظاهر حاله عليه السلام؛ فإنه كان عليه السلام كثير البعد عن المباحات، ولا يشغل وقته إلا في الطاعات. قوله: (هب أنه في حقه مباح، فلم لا يجب أن يكون في حق غيره كذلك؟). قلنا: قد ذكرنا الخصم مستنده، وهو آية التأسي، فلم يبق لهذا المنع وجه.

(تنبيه)

(تنبيه) غير (المنتخب) في أدلة الوجوب؛ كما قال المصنف ({فليحذر الذين يخالفون عن أمره} [النور: 63]). قال المصنف: والأمر حقيقة في الفعل، وهذا هو مذهب تقدم. قال في (المنتخب): والمراد القدر المشترك بين القول والفعل؛ نفيًا للمجاز والاشتراك، وهذا مذهب لم يقل به أحد، فكان خارقًا للإجماع؛ فإن كل من قال: إنه ليس حقيقة في القول فقط، قال: إنه مشترك؛ كما تقدم، في الأوامر، فكونه حقيقة في المشترك من غير اشتراك ولا مجاز، لم يقل به أحد، وزاد؛ فقال: الاقتداء به- عليه السلام- واجب في الصلاة والمناسك، فيكون في الكل؛ لأنه لا قائل بالفرق، ويرد عليه أن القائل بالفرق بين العبادات وغيرها منقول عن العلماء، نقله القاضي عبد الوهاب في كتاب (الإفادة) وزاد: ترك متابعته مشاقة له، فيكون محرمًا؛ لقوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول ...} [النساء: 115]. ويرد عليه: لا نسلم أن ترك المتابعة مشاقة؛ فإن لفظ المشاقة، إنما يفهم منها في غرف الاستعمال المعاندة والمضادة، ومجرد الترك لا يكفي في ذلك، وزاد: قال عليه السلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).

ويرد عليه أن التخصيص بقوله- عليه السلام- لا يفيد إلا أصل الطلب، فإن أمكن أن يكون مندوبًا، فلا يتعين الوجوب، وزاد: قوله عليه السلام: (من ترك سنتي فليس مني) والسنة: الطريقة؛ فيتناول الأقوال، والأفعال، والتروك. ويرد عليه أن تارك جميع طريقه ليس منه؛ لأنه صيغة عموم؛ لكونه اسم جنس أضيف حكمه على كل أفراده بالترك، ونحن نقول به؛ لأن من جملة ذلك قواعد العقائد وغيرها. ثم إن قوله عليه السلام: (ليس مني): قال العلماء: ليس من أهل صفتي، ويكفي في المباينة لصفته- عليه السلام- ترك المندوبات أو بعضها، ولا يتوقف ذلك على وجوب الإتباع في الجميع. وزاد: قوله عليه السلام: (افترقت بنو إسرائيل ...) الحديث إلى قوله عليه السلام: (إلا ما أنا عليه وأصحابي).

ويرد عليه أن الخروج عما عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يصدق بترك المندوبات أو بعضها، وأنتم لا تقولون به، وهو أيضًا خلاف الإجماع في كونه موجبًا لدخول الناس، فيتعين التخصيص، فنحمله على أصول الشريعة، وعلى ما أجمعنا على وجوبه، ضرورة أن الظاهر غير مراد. وزاد: قوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام؛ ليؤتم به). ويرد عليه أن صيغة (يؤتم به) فعل في سياق الإثبات، فلا يعم والدعوى عامة، فلا يحصل المطلوب. وغير التربيري؛ فقال: تعظيم الرسول- صلى الله عليه وسلم- واجب، والاقتداء بأفعاله تعظيم له؛ فيكون واجبًا، ونص الأصل إنما هو تعظيم الرسول عليه السلام، والإتيان بمثل فعله تعظيم له، والتعظيمان مشتركان في قدر من المناسبة، فيجمع بينهما بالقدر المشترك، فيكون ورود الشرع بذلك التعظيم يقتضي وروده بأنه يجب علينا الإتيان بمثل فعله، فكلام الأصل قياس بجامع المناسبة بمطلق التعظيم، فهذا كلام متجه من حيث الجملة، وهو صحيح في قواعد الاستدلال. أما كلام التبريزي، فلا يصح في قواعد الاستدلال؛ لأنه أعرض عن تقرير

القياس، وجعل كلامه موجبتين في الشكل الرابع، الذي هو أبعد الأشكال عن الطبع، وجعل صغراه جزئية؛ لأن معناها بعض تعظيمه- عليه السلام- واجب؛ إذ لو ادعى أن (ما) كلية، لاندرجت صورة النزاع، فيتجه المنع، فيبقى معنى كلامه هكذا: بعض التعظيم واجب، والإتباع تعظيم، فيكون الأوسط المتكرر موضوعًا في الصغرى، محمولًا في الكبرى، وهذا هو الشكل الرابع، ومن شرطه متى كانت الصغرى موجبة جزئية، لا تكون الكبرى إلا سالبة كلية، وهاهنا ليس كذلك، بل موجبة كلية؛ فلا تنتج. ونظيره قولنا: بعض الحيوان إنسان، وكل فرس حيوان، فإنه لا ينتج بعض الإنسان فرس؛ لأنه كاذب، ونتيجة كلامه: بعض الواجب اقتداء به. ولو سلم صحة هذه النتيجة ما أفاده شيئًا؛ بسبب أن معناه: بعض الواجب اقتداء به. وقولنا: (اقتداء به) لا يشمل جميع أنواع الاقتداء؛ فإن المحمول دائم، إنما هو مطلق، والكلية والعموم إنما يكونان في الموضوعات، فإذا قلت: كل إنسان حيوان، إنما معناه مطلق الحيوان، لا كل حيوان: وإلا لكذبت القضية، فتأمل ذلك، وسر اشتراط السالبة الكلية مع الموجبة الجزئية في الشكل الرابع حتى يصح عكسها، وعكس الصغرى، فيزيد الأول؛ بخلاف الموجبة الجزئية؛ لأنه لا قياس عن جزئيتين، والموجبة الكلية، فلا تنعكس إلا جزئية، ولا قياس عن جزئيتين؛ كما تقرر في علم المنطق. ثم قال التبريزي: في المسألة نظران: أحدهما: فيما يجب أن ينزل عليه في حقه- صلى الله عليه وسلم- والآخر في ثبوت ما ثبت في حقه- عليه السلام- في حقنا. أما الأول: فالظاهر فيه الندب فيما وراء الأمور العادية، التي من ضرورات

الوجود، إلا أن تكون كنفيها؛ بخلاف المعهود، وهو فيما ظهر بقرينة تعاطيه في معرض التقرب، أو مظان القربات، أو كان عليه السلام يواظب عليه فظهر، أن احتمال الذنب لم يكن ممتنعًا، فلا أقل من أن يكون بعيدًا، وكذلك احتمال الإباحة؛ فإن تعاطي المباحات فيما عدا مصالح المعاش يعتبر في نظر أهل العزائم من باب اللعب، ويضيع الوقت؛ فيبعد ذلك في حق من عرف بحفظ وقته، ورعاية زمانه، فكيف في حق الأنبياء عليهم السلام. وإذا ظهر الرجحان في فعله- عليه السلام- فغيره لا دليل عليه؛ فيتوقف فيه إلى أن يأتي دليل. وأما النظر الآخر: فالظاهر لزومه في حقنا؛ لأن النادر أن يفعل ما هو خاص به- عليه السلام- ويدل عليه سيرة الصحابة- رضي الله عنهم- في مبادرتهم للاقتداء به- عليه السلام- ولو في المباحات؛ إلا أن يمنعوا؛ حتى أن ابن عمر كان بطريق (مكة) يقود برأس رحلته يثنيها ويقول: لعل خفًا تقع على خف راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله عليه السلام: (ألا أخبرتها) قاطع في الحجة: يريد التبريزي: قوله عليه السلام: (ألا أخبرتها أني أقبل، وأنا صائم): قال: وقول المصنف: إنه أخبار آحاد. قلنا: لم يبق في ربتة الآحاد، بل استفاض هو وأمثاله، بل صار كالمعلوم بالضرورة من سيرة الصحابة لمن يتبع آثارهم، ويؤيده أنه من باب التعظيم، كما ستجده من أنفسنا في صالحي زماننا. وتعظيم النبي- عليه السلام- واجب، وأصله مندوب في مراتبه. قلت: كان ينبغي أن يقول: أصله واجب، ومراتبه قد تكون مندوبة، أما وصفه أصله بالندب، فغير متجه. * * *

المسالة الثالثة قال الرازي: قال جماهير الفقهاء والمعتزلة: التأسي به واجب، ومعناه: أنا إذًا علمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل فعلًا على وجه الوجوب، فقد تعبدنا أن نفعله على وجه الوجب، وإن علمنا أنه تنفل به كنا متعبدين بالتنفل به، وإن علمنا أنه فعله على وجه الإباحة، كنا متعبدين باعتقاد إباحته لنا، وجاز لنا أن نفعله. وقال أبو علي بن خلاد من المعتزلة: نحن متعبدون بالتأسي به في العبادات دون غيرها كالمناكحات والمعاملات، ومن الناس من أنكر ذلك في الكل. واحتج أبو الحسين بالقرآن، والإجماع: أما القرآن فقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21] والتأسي بالغير في أفعاله هو أن يفعل على الوجه الذي فعل ذلك الغير، ولم يفرق الله تعالى بين أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كانت مباحة، أو لم تكن مباحة. وقوله تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 158] أمر بالإتباع فيجب. أما الإجماع فهو: (أن السلف رجعوا إلى أزواجه في قبلة الصائم) وفي أن (من أصبح جنبًا، لم يفسد صومه) و (في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة، وهو حرام) وذلك يدل على أن أفعاله لابد من أن يمتثل فيها طريقه. ولقائل أن يقول على الدليل الأول: الآية تقتضي التأسي به مرة واحدة، كما أن قول القائل لغيره: (لك في الدار ثوب حسن) يفيد ثوبًا واحدًا، فإن قلت: هذا إن ثبت، تم غرضنا من التعبد بالتأسي به صلى الله عليه وسلم في الجملة.

وأيضًا فالآية تفيد إطلاق كون النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لنا، ولا يطلق وصف الإنسان بأنه أسوة حسنة لزيد، إذا لم يجز لزيد أن يتبعه إلا في فعل واحد، وإنما يطلق ذلك، إذا كان ذلك الإنسان قدوة لزيد يقتدي به في الأمور كلها، إلا ما خصه الدليل. قلت: الجواب عن الأول أن أحدًا لا ينازع في التأسي به صلى الله عليه وسلم في الجملة؛ لأنه لما قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) و (خذوا عني مناسككم) فقد أجمعوا على وقوع التأسي به هاهنا، والآية ما دلت إلا على المرة الواحدة فكان التأسي به صلى الله عليه وسلم في هذه الصورة كافيًا في العمل بالآية، لاسيما، والآية إنما وردت على صيغة الإخبار عما مضى، وذلك يكفي فيه وقوع التأسي به فيما مضى. والجواب عن الثاني: أنك إن أردت به أنه لا يصح إطلاق اسم الأسوة عليه، إلا إذا كان أسوة في كل شيء فهذا ممنوع؛ ثم الذي يدل على فساده وجهان: الأول: أن من تعلم من إنسان نوعًا واحدًا من العلم يقال له: إن ذلك فلان أسوة حسنة. الثاني: وهو أن يقال: (لك في فلان أسوة حسنة في كل شيء) ويقال: (لك من فلا أسوة حسنة في هذا الشيء (دون ذاك، ولو اقتضى اللفظ العموم لكان الأول تكريرًا، والثاني نقضًا. وإذا أردت أن يصح إطلاق اسم الأسوة، إذا كان أسوة في بعض الأشياء، فهذا مسلم، ولكنه صلى الله عليه وسلم عندنا أسوة لنا في أقواله، وفي كثير من أفعاله التي أمرنا بالاقتداء به فيها؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) و (خذوا عني مناسككم).

والجواب عن الحجة الثانية: أن قوله تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 158] مطلق في الإتباع، فلا يفيد العموم في كل شيء من الإتباعات، والأمر لا يقتضي التكرار؛ فلا يفيد العموم في كل الأزمنة. فإن قلت: ترتيب الحكم على الاسم يشعر بأن المسمى علة لذلك الحكم، فماهية المتابعة علة للأمر بها. قلت: فعلى هذا، لو قال السيد لعبده: (اسقني) يلزم أن يكون أمرًا له بجميع أنواع السقي في كل الأزمنة ولو قال له: (قم) يلزم أن يكون أمرًا له بجميع أنواع القيام في كل الأزمنة، وفي هذه الأمثلة كثرة، وما ذكرناه كاف في إفساد ما قالوا، والله أعلم. وأما الإجماع فقد سبق الكلام عليه، والله أعلم. المسألة الثالثة في وجوب التأسي قال القرافي: قلت: هذه المسألة في غاية الالتباس بالتي قبلها؛ لأن المعنى بدلالة الفعل على الوجوب: أنه يجب علينا التأسي به. وقولنا: لا يدل الفعل على الوجوب، أي: لا يجب التأسي، غير أن الفرق بينهما من جهة، وهو أن البحث في المسألة الأولى في أنه، هل نصب فعله- عليه السلام- دليلًا أم لا؟ فالبحث في المسألة الأولى، إنما هو في نصب الفعل دليلًا. فإذا قلنا بأنه لم ينصب أو نصب؛ فهل كلفنا نحن بإتباعه؟ وإن لم ينصب دليلًا، كما نقوله في إمام الصلاة، والخليفة، وولاة الأمور؛ أنه تجب طاعتهم وإتباعهم، وإن كنا لا نقول: إن أفعالهم نصبت دليلًا شرعيًا.

(فائدة) قال ابن برهان في كتابه المسمى بـ (الأوسط): يجب التأسي عندنا، إذا عرف وجهه

وكذلك يجب على الحاكم إتباع البينة والحجاج الشرعية، وإن لم تكن أدلة، وقد تقدم الفرق بين الدليل والحجة؛ فهذا هو الفرق بين المسألتين. قوله: (حجة الوجوب قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]): قلنا: قد تقدم أنها نكرة في سياق الإثبات؛ فلا تعم صورة النزاع؛ فلا يحصل المطلوب. قوله: (الآية وردت على صيغة الإخبار عما مضى): تقريره: أنها وردت بصيغة (كان) الدالة على المضي. (فائدة) قال ابن برهان في كتابه المسمى بـ (الأوسط): يجب التأسي عندنا، إذا عرف وجهه. وقال المتكلمون بالوقف، وللحنفية القولان، وحيث قلنا بوجوب التأسي، فبالسمع عندنا؛ خلافًا لمن قال: هو بالعقل، وإذا لم يعرف وجه الفعل، كيف وقع من الأحكام، فعندنا لا يجب؛ للجهل بالصفة. وقيل: يجب؛ لأن الجهل بالصفة لا يقدح في وجوب مثل الموصوف علينا، وجوابه: أن التأسي فعل مثل الغير على الوجه الذي أتى به، والاحتمالات متعارضة؛ فلا يجب التأسي. والقائلون بالتأسي فيما لم يعرف وجه اختلفوا: فقيل: بندب التأسي؛ لأن الندب هو الحالة الغالبة عليه- صلى الله عليه وسلم-. وقيل: بالإباحة؛ أخذًا بالأقل؛ لأنه المتيقن.

وقيل: بالوجوب؛ لأنه أحوط. قال أبو الخطاب الحنبلي في (التمهيد): إذا لم يعلم وجه الفعل، حمله ابن حنبل على الوجوب. وعنه: يحمل على الندب، وقال الحنفية، وعنه: الوقف؛ حتى يعلم وجهه؛ لاحتمال اختصاصه به عليه السلام. مثاله: مسحه- عليه السلام- جميع رأسه؛ فهل يجب مسح الجميع أم لا؟ يخرج على الخلاف. * * *

القسم الثاني في التفريغ على وجوب التأسي المسألة الأولى قال الرازي: لما عرفت: أن التأسي مطابقة فعل المتأسى به؛ على الوجه الذي قال الرازي: لما عرفت: أن التأسي مطابقة فعل المتأسى به؛ على الوجه الذي وقع فعله عليه، وجب معرفة الوجه الذي يقع عليه فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ثلاثة: الإباحة، والندب، والوجوب. أم الإباحة فتعرف بطرق أربعة: أحدها: أن ينص الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه مباح. وثانيها: أن يقع امتثالًا لآية دالة على الإباحة. وثالثها: أن يقع بيانًا لآية دالة على الإباحة. ورابعها: أنه لما ثبت أنه لا يذنب، ثبت أنه لا حرج عليه في ذلك الفعل، ولا في تركه، وانتفى الوجوب والندب بالبقاء على الأصل؛ فحينئذ يعرف كونه مباحًا. وأما الندب فيعرف بتلك الثلاثة الأول، مع أربعة أخرى: أحدها: أن يعلم من قصده صلى الله عليه وسلم أنه قصد القربة بذلك الفعل، فيعلم أنه راجح الوجود، ثم نعرف انتقاء الوجوب بحكم الاستصحاب، فيثبت الندب. وثانيها: أن ينص على أنه كان مخيرًا بين ما فعل، وبين فعل ما ثبت أنه ندب؛ لأن التخيير لا يقع بين الندب، وبين ما ليس بندب.

وثالثها: أن يقع قضاء لعبادة كانت مندوبة. ورابعها: أن يداوم على الفعل، ثم يخل به من غير نسخ، فتكون إدامته- عليه الصلاة والسلام- دليلًا على كونه طاعة، وإخلاله به من غير نسخ دليلًا على عدم الوجوب. وأما الوجوب: فيعرف بتلك الثلاثة الأول، مع خمسة أخرى: أحدها: الدلالة على أنه كان مخيرًا بينه وبين فعل آخر، قد ثبت وجوبه؛ لأن التخيير لا يقع بين الواجب، وبني ما ليس بواجب. وثانيها: أن يكون قضاء لعبادة، قد ثبت وجوبها. وثالثها: أن يكون وقوعه مع أمارة، قد تقرر في الشريعة أنها أمارة الوجوب؛ كالصلاة بأذان وإقامة. ورابعها: أن يكون جزاء لشرط، فوجب، كفعل ما وجب بالنذر. وخامسها: أن يكون لو لم يكن واجبًا، لم يجز، كالجمع بين ركوعين في صلاة الكسوف. القسم الثاني قال القرافي: قوله: (فعله عليه السلام ثلاثة: الإباحة، والندب، والوجوب): تقريره: أنه- عليه السلام- معصوم؛ فيمتنع المحرم عليه، وكمال عقله وحرصه يمنع أكثر المباحات فضلًا عن المكروهات؛ فلم يبق إلا ما ذكره. فإن قلت: السهو والنسيان الواقع في الصلاة مما جاءت به السنة، وهو

عري عن الأحكام الخمسة، فلا يوصف السهو بحكم البتة، وكذلك النسيان، والخطأ، والإكراه، بل هو كفعل النائم، وحركات الجماد، والرياح، فقد خرج هذا القسم عن تقسيمه. قلت: مقصوده الفعل الذي نتبعه فيه، والسهو لم يقل أحد: إنا نتبعه في أن نسهو، كما سها، بل نرتب على السهو ما رتبه فقط، وهذا ليس إتباعًا في السهو، بل في العمد المقصود. قوله: (لا يقع التخيير بين الواجب، وغير الواجب، ولا بين المندوب، وغير المندوب؛ اعتمادًا منه على أن التخيير يقتضي التسوية): أورد بعضهم على هذه القاعدة تخيير الله- تعالى- نبيه- صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء بين القدحين من لبن وخمر، فاختار اللبن، فقال له جبريل- صلوات الله عليهما-: (اخترت الفطرة، ولو اخترت الخمر، لغوت أمتك) فقد وقع التخيير بين المختلفات عند الله- تعالى- وفي نظر الشرع. وأجبته: بأن الاختلاف هاهنا ليس بين مختلفات في الأحكام، بل باعتبار العواقب. وتقريره: أن حكم الله- تعالى- في ذينك القدحين كان واحدًا: إما الوجوب، أو الندب، أو الإباحة؛ لأن الواقعة واقعة عين محتملة لهذه الثلاثة أحكام، فالواقع واحد منها غير معين، وقد استوى القدحان فيه.

وأما من حيث الوضع الإلهي وما وضع الله- تعالى- في العالم من الأسرار، فهذا بمعزل عن الأحكام الشرعية، كما نقطع بأن الله- تعالى- خيرنا بين بناء دار في هذه البقعة، ودار في تلك البقعة، فإذا اخترنا أحدهما- والحكم في الجميع الإباحة بالإجماع- أمكن أن يقول صاحب الشرع أو المخبر عنه: أصبتم في اختيار هذه البقة للبناء، ولو اخترتم تلك البقعة، لكان الدار مشئومة، فإن الله- تعالى- قد وضع هذه مباركة، ووضع تلك مشئومة، كما جاز في الحديث: (إنما الشؤم في ثلاثة المرأة، والدار، والفرس). فالحكم واحد، والعواقب مختلفة؛ إذ ليست من الأحكام الشرعية الخمسة، بل من أحكام القضاء والقدر، وهو قد يختلف فيه الواجبات والمحرمات، فقد يقدم اثنان على طاعة الله- تعالى- بوصف الوجوب، أو الندب، ويكون في القدر فتنة لأحدهما، ورحمة للآخر. ويقدم اثنان على معصية الله- تعالى- بوصف التحريم، وتكون المعصية هلاكًا لأحدهما، ورحمة في حق الآخر، باعتبار ما يترتب عليهما من الندم، والتوبة، والإنابة، وغير ذلك. وأحكام العواقب غير الأحكام الشرعية، فتأمل ذلك، فلم يرد نقض على هذه القاعدة.

فإن قلت: قد خير الشرع في خصال الكفارة في اختلافهما في المصالح، والأحكام تتبع المصالح؛ فيلزم اجتماع التخيير، والاختلاف في الأحكام؛ فلا تكون التسوية لازمة للتخيير. قلت: التخيير وقع في خصال الكفارة باعتبار مناسبة سبب التكفير، ونحن إنما ندعي أن التخيير يقتضي التسوية بين المخير فيه من الوجه الذي وقع التخيير فيه فقط، لا من كل وجه، كما يخير في إزالة ألم الجوع بين اللحم والنبات. وإن اختلفا من جهة توفير القوة، فالوجه الذي وقع التخيير فيه: التسوية لازمة فيه. ومن جهة توفير القوة: التسوية منفية، وليس فيه تخيير، ونظائره كثيرة. قوله: (من أدلة الوجوب: أن يكون جزاء الشرط؛ كفعل ما وجب نذره): قلت: كشفت نسخًا كثيرة، فوجدت هذه العبارة فيها، ولم أجد غيرها، وهي مشكلة؛ من جهة أن النذر لا يجب، بل يجب به، فكان المتجه أن يقول: ما وجب بالنذر، ولا يقول: ما وجب نذره. قوله: (وخامسها: لو لم يكن واجبًا، لم يجز كالجمع بين الركوعين في صلاة الكسوف): تقريره: أن الزيادة في الزيادة حرام، والركوع الثاني في غير هذه الصلاة يحرم القصد إليه، ومقتضى ذلك تحريم القصد إليه- هاهنا- تسوية بين صورة النزاع وصورة الإجماع، ويرد عليه أن الصلوات وإن عقل معناها من حيث الجملة؛ غير أنها مشتملة على نوع كثير من التعبد؛ فإن عدد الركعات بعيد، وترتيبها على هذه الأسباب الخاصة دون الصيام والصدقة، وأنواع الطاعات بعيد؛ لا يعقل معناه، وكذلك النوافل والسنن؛ فإن مناسبة سبع

تكبيرات لصلاة العيد دون العشرة وغيرها لا يعقل معناه، والتعبد معناه: أنا لا نعلم معناه، لا أنه عرى عن المعنى عند الله تعالى، إذا تقرر هذا؛ فلعل في صلاة الكسوف ما يقتضي مناسبة ركوعين على وجه الندب، لا على وجه الوجوب؛ كما اقتضت مناسبة العيد عند الله- تعالى- الزيادة في التكبير، وأن العيدين سواء في ذلك، وبالجملة أخذ الوجوب من هذا بعيد، بل احتمل أن يكون مندوبًا على هذه الصورة، ومناسبة سببه تقتضي ذلك حتى يثبت بدليل خارج وجوب هذا الفعل، فالملكية كلهم وغيرهم على عدم الوجوب في صلاة الكسوف. قوله: (المعارض، إما قوله عليه السلام، أو فعله): الحصر ممنوع؛ لاحتمال القياس، والإجماع، والدليل المركب من النقل والعقل. * * *

المسألة الثانية قال الرازي: في الفعل، إذا عارضه معارض منه صلى الله عليه وسلم

المسألة الثانية قال الرازي: في الفعل، إذا عارضه معارض منه صلى الله عليه وسلم، فهو إما أن يكون قولًا، أو فعلًا: أما القول: فإما أن يعلم أن المتقدم هو القول أو الفعل، أو لا يعلم واحد منهما: أما القسم الأول، وهو: أن يكون المتقدم هو القول، فالفعل المعارض له: إما أن يحصل عقيبه، أو متراخيًا عنه: فإن كان متعقبًا: فإما أن يكون القول متناولًا له خاصة، أو لأمته خاصة، أو له ولهم معًا: لا يجوز أن يتناوله خاصة، إلا على قول من يجوّز نسخ الشيء قبل حضور وقته وإن تناول أمته خاصة، وجب المصير إلى القول دون الفعل، وإلا كان القول لغوًا، ولا يلغو الفعل؛ لأن حكمه ثابت في الرسول صلى الله عليه وسلم. وإن كان الخطاب يعمه وإياهم، دل فعله على أنه مخصوص من القول، وأمته داخلة فيه لا محالة. وإن كان الفعل متراخيًا عن القول، فإن كان القول عامًّا لنا وله، صار مقتضاه منسوخًا عنا وعنه، وإن تناوله دونه، كان نسخًا عنّا دونه؛ لأن القول لم يتناوله، وإن تناوله دوننا كان منسوخًا عنه دوننا، ثم يلزمنا مثل فعله لوجوب التأسي به. القسم الثاني: أن يكون المتقدم هو الفعل، فالقول المعارض له: إما أن يحصل عقيبه، أو متراخيًا عنه:

فرع (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلة، واستدبارها في قضاء الحاجة

فإن كان متعقبًا فإما أن يكون القول متناولًا له خاصة، أو لأمته خاصة، أو عامًا فيه وفيهم: فإن كان متناولًا له خاصة وقد كان الفعل المتقدم دالًا على لزوم مثله لكل مكلف في المستقبل، فيصير ذلك القول المختص به، مخصصا له عن ذلك العموم. وإن كان متناولًا لأمته خاصة، دل على أن حكم الفعل مختص به، دون أمته. وإن كان عامًا فيه وفيهم، دل على سقوط حكم الفعل عنه وعنهم، وأما إن كان القول متراخيًا عن الفعل: فإن كان متناولًا له ولأمته، فيكون القول ناسخًا لحكم الفعل عنه، وعن أمته، وإن كان يتناول أمته دونه، فيكون منسوخًا عنهم دونه، وإن كان يتناوله دون أمته، فيكون منسوخًا عنه دون أمته. القسم الثالث: إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر، فهاهنا يقدم القول على الفعل، ويدل عليه وجهان: الأول: أن القول أقوى من الفعل، والأقوى راجح، وإنما قلنا: إن القول أقوى؛ لأن دلالة القول تستغني عن الفعل، ودلالة الفعل لا تستغني عن القول، والمستغني أقوى من المحتاج. والثاني: أنّا نقطع بأن القول قد تناولنا، وأما الفعل فبتقدير أن يتأخر، كان متناولًا لنا، وبتقدير أن يتقدم، لا يتناولنا، فكون القول متناول لنا معلوم، وكون الفعل متناولًا لنا مشكوك، والمعلوم مقدم على المشكوك. فرع (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلة، واستدبارها في قضاء الحاجة، ثم جلس في البيوت؛ لقضاء الحاجة مستقبل بيت المقدس):

تنبيه التخصيص والنسخ في الحقيقة إنما لحقا ما دل على أن ذلك الفعل لازم لغيره، وأنه لازم له في مستقبل الأوقات

فعند الشافعي رضي الله عنه أن نهيه مخصوص بفعله في الصحراء؛ حتى يجوز استقبال القبلة واستدبارها في البيوت لكل أحد. وعند الكرخي رحمه الله: يجب إجراء النهي على إطلاقه في الصحراء والبنيان، فكان ذلك من خواص الرسول صلى الله عليه وسلم. وتوقف القاضي عبد الجبار في المسألة. حجة الشافعي رضي الله عنه: أن النهي عام، ومجموع الدليل الذي يوجب علينا أن نفعل مثل ما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع كونه مستقبل القبلة في البنيان عند قضاء الحاجة أخص من ذلك النهي، والخاص مقدم على العام؛ فوجب القول بالتخصيص، والله أعلم. أما إذا كان المعارض للفعل فعلًا آخر، فذلك على وجهين: الأول: أن يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فعلًا، يعلم بالدليل أن غيره مكلف به، ثم نراه بعد ذلك قد أقر بعض الناس على فعل ضده، فنعلم أنه خارج منه. الثاني: إذا علمنا أن ذلك الفعل إنما يلزم أمثاله الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل تلك الأوقات، ما لم يرد دليل ناسخ، ثم يفعل عليه الصلاة والسلام ضده في مثل ذلك الوقت، فنعلم أنه كان قد نسخ عنه. تنبيه التخصيص والنسخ في الحقيقة إنما لحقا ما دل على أن ذلك الفعل لازم لغيره، وأنه لازم له في مستقبل الأوقات. وإنما يقال: إن ذلك الفعل قد لحقه النسخ، بمعنى: أنه قد زال التعبد بمثله، وأن التخصيص قد لحقه؛ على معنى أن بعض المكلفين لا يلزمه مثله، والله أعلم.

شرح القرافي: "قوله: لا يجوز تعقب الفعل والقول، إلاعند من يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقته"

المسألة الثانية إذا عارض فعله - عليه السلام - معارض قال القرافي: "قوله: لا يجوز تعقب الفعل والقول، إلاعند من يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقته": تقريره: أنه عليه السلام إذا نهى نهيًا يخصه، ففعل عليه السلام عقيبه ذلك النهي، فإنه يدلنا ذلك على أن النهي نسخ عنه حكمه، فمن يقول: لا يجوز نسخ الشيء قبل وقته، يمنع النسخ في هذه الصورة؛ لأن عنده الشيء الواحد لا يكون مأمورًا به منهيًا عنه، أو منهيًا عنه مأذونًا فيه؛ على قاعدة الاعتزال في الحسن والقبح؛ لأن النهي يعتمد المفسدة، والإذن يعتمد تجويز الإقدام عليها، وأنه قبيح، بل لا بد عندهم من أن يفعل الفعل، ولو مرة واحدة حتى يكون للنهي، أو للأمر أثر في الوجود. ومذهبنا جواز النسخ مطلقًا؛ فقوله: " إلا على قول من يجوز " نحن الذين نجوز ذلك، وعبارته تقتضي الاستبعاد، وليس كذلك. (سؤال) هذا البحث من الإمام يرِدُ عليه ما في حد النسخ بعد هذا؛ لأنه اشترط التراخي عن المنسوخ، وهاهنا فرضه عقيبه، فيكون الشرط في الحد باطلًا مع أن هذا الشرط ذكره الجماعة كلهم فيما علمت؛ فيكون هذا نقضًا على الجميع، أو تكون هذه الفتوى باطلة؛ إن صح ذلك الشرط في حد النسخ. ولا فرق عند المعتزلة بين ما لم يأت وقته، وبين الحاضر قبل فعله؛ للزوم العبث في الجميع؛ فلذلك سوى المصنف بين البابين هاهنا، وإن كان القول المفروض لم يفرض له وقت مستقبل، فهو سؤال يرد عليه، ويندفع بأنهم لا يفرقون.

(سؤال) يشترط في الناسخ أن يكون مساويا، أو أقوى، والقول أقوى، فكيف ينسخ بالفعل الأضعف؟

(سؤال) يشترط في الناسخ أن يكون مساويًا، أو أقوى، والقول أقوى، فكيف ينسخ بالفعل الأضعف؟ جوابه: اشترط المساواة والقوة، إنما هو باعتبار السنة والرواية، لا باعتبار الدلالة، فينسخ المتواتر المتواتر، وإن اختلفت الدلالة، والآحاد الآحاد، وإن اختلفت الدلالة، وكان المنسوخ أقوى، وضعف الفعل إنما هو من جهة الدلالة. وأما السنة، فالوحي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإقدام على الفعل، فأفاده القطع؛ كما أفاده في القول السابق؛ لأن المخبر في الصورتين هو جبريل عن الله تعالى. قوله: "إذا تناول القول الأمة فقط، قدم القول في حقهم؛ لئلا يلغو": تقريره: من وجه آخر من معنى كلامه أن فعله عليه السلام دليل الوجوب علينا، وهو يتناوله عليه السلام بطريق الأولى؛ فيكون عاما بالنسبة إلى القول؛ ليتناول القول لنا خاصة، وإذا تعارض الخاص والعام؛ قدم الخاص على العام. قوله: "إن تناوله القول مع الأمة وخص عليه السلام بالقول وأمته داخلة فيه": تقريره: أن حمل فعله عليه السلام على اختصاصه به أقرب للجمع بين الدليلين، فيتناولنا نحن القول بعد ذلك كما كان، وهو أولى من تعطيل القول بالكلية، ولم يقل هاهنا بالنسخ؛ لأن من شرطه التراخي، وهذا عقيبه. وهذا هو الفرق بين هذا القسم، والقسم الذي بعده، إذا كان الفعل متراخيًا عن القول، ويرد عليه السؤال المتقدم: أنه يصح في حقه عليه السلام

بالمقارن المعقب القول السابق الخاص به غير أن من الفرق أن التخصيص هنالك لعذر؛ لأن القول لم يتناول غيره، وهاهنا تناولنا معه، فأمكن التخصيص به. قوله: "إن تراخي الفعل عن القول المتناول لنا وله عليه السلام صار منسوخًا عنا وعنه": تقريره: أن حكم الفعل المتأخر يعمنا أيضًا من جهة أدلة التأسي، فهما دليلان عامان في حقنا وحقه عليه السلام وقد تنافيا؛ فينسخ المتأخر المتقدم لتعذر التخصيص ضرورة التساوي، وكذلك إن تناولنا دونه نسخه عنا الفعل المتأخر؛ لعموم التأسي. قوله: "إن كان القول المتأخر خاصًا به، وعقيب الفعل خصصه صلى الله عليه وسلم من ذلك العموم": تقريره: أن الفعل في نفسه لا عموم له؛ حتى يقال: خصصه من ذلك العموم، وإنما معناه: أن الفعل دل فيه الدليل على التكرار، فلا يلزمه فعله بعد ذلك، وإن كان الفعل الذي وقع يستحيل رفعه، بل التخصيص بحسب المستقبل، هذا هو المتجه، وكذلك يكون القول المتأخر الخاص بالأمة مخصصا لها من عموم الفعل؛ غير أن هاهنا لا يشترط التكرار في الفعل، بل يكتفى بعدم لزوم مثله للأمة، ويكون القول مخصصا للدليل الدال على لزوم مثل فعله عليه السلام لنا، فيحمل ذلك الدليل على غير هذا الفعل. قوله: "وإن كان القول المتأخر عامًا فيه عليه السلام وفيهم، سقط حكم الفعل عنه عليه السلام وعنهم". تقريره: أنا هاهنا لا نحتاج للنسخ، ولا للتخصيص، أما التخصيص فلتساوي الدليلين في العموم، أما القول، فبالغرض، وأما الفعل، فعمومه لأدلة التأسي، فلا تخصيص حينئذ، وأما النسخ فلا يلزم أيضًا.

وإن قلنا بالسقوط؛ لأنا نجعل هذا القول المتأخر مانعًا من لزوم تكرار الفعل في حقه عليه السلام لأن الفعل الذي وقع لا يمكن أن يقال: سقط عنه؛ لأن التصرف في الواقعات محال، فلم يبق إلا لزوم التكرار، فيكون هذا القول المتأخر مخصصًا للدليل الدال على أن الفعل ينبغي أن يتكرر، فيحمل على ما عدا هذا الفعل، فيثبت التخصيص بالنسبة إلى ذلك الدليل، لا بالنسبة إلى عموم هذا الفعل، وأما في حقنا فيجعل القول المتأخر مانعًا من لزوم مثل الفعل المتقدم لنا، فيكون مخصصًا لأدلة التأسي، فنحملها على ما عدا هذا الفعل، فقوله: "سقط الفعل عنه وعنهم" لا يستلزم تخصيصًا بين هذين الدليلين، ولا نسخًا؛ بل التخصيص في أدلة أخرى؛ كما تقدم. ولا يلزم هاهنا سؤال النسخ بالمقارن؛ لأنا لم نقل به، بل قلنا بالسقوط، وهو أعم. قوله: " وإن تراخي القول عن الفعل، وهو عام فيه عليه السلام وفي أمته، نسخ حكم الفعل عنه وعن أمته ". تقريره: أنا حكمنا هاهنا بالنسخ؛ لوجود التراخي، الذي هو شرط النسخ؛ كما سيأتي في حده، وقد ثبت حكم التكرار في حقه عليه السلام، ولزوم مثله لنا بمضي زمان يقبل ذلك، وجاء القول بعد ذلك يمنع من الأمرين، وهذا هو النسخ؛ لأن النسخ تخصيص في الأزمان على ما سيأتي، وعلى رأي القاضي أيضًا يتأتى ذلك بأن نقول: كان لزوم التكرار، ولزوم مثله علينا، ثابتا في نفس الأمر، وهذا القول المتأخر نسخه وقطعه، فتصور النسخ على المذهبين؛ فلذلك صرح هاهنا بالنسخ، ولم يصرح به في القسم الذي قبله؛ حيث كان القول متعقبًا، بل صرح بالسقوط الذي هو أعم. قوله: "دلالة الفعل لا تستغني عن القول":

تقريره: أن الفعل لا يكون دليلًا شرعيًا؛ حتى يرد النص بنصبه دليلًا، وأما القول، فهو دليل بالوضع من غير نصبه من جهة الشارع. فإن قلت: لو لم قرر الشرع أحكامه، وشريعته على اللغة العربية، لما اعتبرنا أوضاع العرب، وإن كانت تدل على الأحكام، بل لما ورد قوله تعالى: {قرآنًا عربيًا} [الزمر: 28] وغير ذلك من النصوص، اعتبرنا أوضاع العرب، فقد صارت الأقوال تفتقر للأدلة السمعية، كالأفعال. قلت: هذا مسلم وسؤال حسن، غير أن الترجيح هاهنا بأصل الفهم لا بالفهم المخصوص، فاللفظ يفهم من حيث إنه موضوع، ورد الشرع باعتباره أم لا، والفعغل لا يكون مفهمًا إلا بتنصيص الشارع على ذلك. فإن قلت: اللفظ الموضوع لا يصح الجزم بأنه لا يفتقر إلى الفعل، فقد يفتقر إلى الفعل حالة المواضعة؛ كالإشارة من الواضع أن هذا اللفظ موضوع لذلك، أو غير ذلك من الأفعال التي بها يعلم الولد لغة أبويه. قلت: الفعل لا يتعين في الوضع، بل القرائن المفيدة للوضع أعم نت الأقوال والأفعال، وأما الفعل فلا بد فيه من القول. وهذا كاف في الترجيح. قوله: "نقطع بأن القول قد يتناولنا؟ وأما الفعل، فبتقدير أن يتأخر، كان متناولًا لنا، وبتقدير التقدم، لا يكون متناولًا لنا": تقريره: أن الفعل، إذا تقدم، كان منسوخًا، فلا يتناولنا، وإن تأخر، لم يكن منسوخًا بالقول، فقد ترد بين التناول وعدمه؛ بخلاف القول. فإن قلت: هذا التقدير مشترك في القول أيضًا؛ لأنه إن تقدم، كان منسوخًا أيضًا؛ فقد دار أيضًا بين النسخ وعدمه. قلت: سؤال حسن قوي، وقد أشكل على جماعة من الفضلاء جوابه.

والجواب عنه: أن مراد المصنف: أن اللفظ: يتناولنا بوضع اللغة، وإن لم ترد الشرائع؛ لأن دلالته وضعية، بل شأن هذا اللفظ أنه، متى اطلع على هذا الوجه، يتناولنا، ورد الشرع أم لا؟ وأما الفعل: فإنما يتناولنا، إذا نصبه الشرع دليلًا مفيدًا للحكم، فإذا نصبه الشرع إنما ينصبه دليلًا مفيدًا، إذا لم يكن منسوخًا، أما المنسوخ، فباق على الأصل، مستثنى من أصل نصب الشرع دليلًا، وإذا كان المنسوخ مستثنى، وغير المنسوخ هو المنصوب، فهذا الفعل دائر بين أن يكون من المستثنى الذي ليس بدليل الذي لا يتناولنا، وبين أن يكون مما يتناولنا، فقد دار بين الإلغاء والاعتبار؛ بخلاف القول متناولًا لنا بوضع اللغة قطعًا، ويؤول الفرق إلى أن إفادة اللفظ لغوية؛ لا يمنعها النسخ، ودلالة الفعل شرعية؛ يمنعها النسخ، وأن الواضع للغة وضعه، دالا، نسخ حكمه أم لا، وواضع الفعل دليلًا، إنما وضعه، حيث لم يكن منسوخًا. فإن قلت: لم لا يقال: نصب الشرع الفعل دليلًا مطلقًا؛ حتى يرد المانع والمخصص، كما نقول في صيغة العموم، والأوضاع اللغوية: الأصل أن تكون حجة < حتى يقوم المعارض؟. قلت: المانع من اعتقاد هذا أنه لم يفهم عن الشارع في نصبه الفعل دليلًا ذلك؛ بل للأدلة الدالة على وجوب التأسي، قطعنا بأن الله تعالى ما اراد بها الأفعال المنسوخة، وإذا قطعنا بعدم إرادتها من تلك الادلة، لم نعتقد أن الأصل دلالتها مطلقًا من جهة الشارع؛ بخلاف المنقول عن اللغة؛ إذ الصيغة دالة مطلقًا؛ حتى يقوم المعارض. (تنبيه) بحث الإمام في هذا القسم، إذا جهل التاريخ، يقتضي أن البعض متناول

(تنبيه)

لنا مع أنه يفرضه، بل جزم بالفتيا من غير فرض لذلك، لكن بحثه لا يتم إلا به؛ فيتعين. (تنبيه) إذا فعل عليه السلام؛ على خلاف القول الذي سبق إلى الذهن أن ذلك القول يتعين أن يكون نهيًا، فينهى عن شيء ويفعله، فيدل ذلك على إباحته، وهو أيضًا متصور في الأمر، بأن الأمر يؤمر بشيء فيفعل ضده، في ذلك الوقت الذي هو واجب عليه فيه. (تنبيه) إذا قلنا: ينسخ القول الفعل عنا أو بالعكس، فهذا له حالتان: إن كان في زمانه عليه السلام وبحضرته صلى الله عليه وسلم فقد استويا في المستند؛ لأن الكل محسوس بالسماع والرؤية منه صلى الله عليه وسلم. وإن لم يكن ذلك بحضرته، ولا في زمانه عليه السلام؛ بل نقل ذلك إلينا، فلا بد أن يكون الناسخ مساويًا للمنسوخ في السند، أو أقوى، فلو كان أحدهما متواترًا، والآخر آحادًا لم ينسخ امتواتر بالآحاد، كان قولًا أو فعلًا، متراخيًا أم لا، وكلام المصنف محمول على هذا التفصيل، لا على الإطلاق، وهو ممكن أن يورد سؤالًا على الكتاب. (فائدة) قال سيف الدين: إذا تعارض قوله عليه السلام وفعله، ولم يكن الدليل دل على تكرر الفعل بأن يفعل فعلًا في وقت، ويقول بعده على

الفور، أو على التراخي: (لا يجوز مثل هذا الفعل في هذا الوقت) فلا تعارض بينهما؛ لأن القول لم يرفع حكم الفعل المتقدم، والفعل لم يدل دليل على ذكره؛ حتى يتناول الوقت الثاني، وإن تقدم القول، مثل أن يقول: "يجب علي كذا في وقت كذا" ثم يفعل ضد ذلك الفعل في ذلك الوقت، فمن جوّز نسخ الحكم الممكن، قال: ينسخ حكم القول. ومن منع قال: يمتنع وقوع ذلك على وجه العمد، إلا إذا جوزنا المعصية، وإن كان القول عامًا لنا وله، والفعل متقدم، فلا معارضة، وإن كان لم يدل دليل على التكرار، ولا على وجوب التأسي، وإن تقدم القول الشامل لنا وله، حصل التعارض بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم كما لو كان القول خاصًا به، ولا معارضة بالنسبة إلينا، إن لم يدل دليل على التأسي، ولا التكرر فإن ذلك الدليل على تكرر الفعل في مثل ذلك الوقت، وعلى وجوب التأسي به صلى الله عليه وسلم، والقول خاص به، وتقدم الفعل نسخه القول في حقه في المستقبل، دون أمته؛ لعدم تناول القول لهم، وإن تقدم القول نسخه الفعل المتأخر في حقه، إن كان بعد التمكن، وإلا خرج على الخلاف في النسخ قبل التمكن، وكان موجبًا للفعل على أمته، إن كان القول خاصًا به، فإن جهل التاريخ، والقول خاص به، فلا معارضة بالنسبة لأمته؛ لعدم تناول القول لهم. وأما بالنسبة إليه، فقيل: يجب العمل بالقول؛ لأنه أقوى. وقيل: بالوقف؛ حتى يتبين التاريخ. قال: والمختار هو تقديم القول، فإن خصّنا القول، وتقدم الفعل، نسخه الفعل في حقنا، دونه عليه السلام، أو تقدمه القول، فهل ينسخه الفعل عنّا دونه عليه السلام؟ يخرج على الخلاف المتقدم فيما إذا كان القول خاصّا به.

قال: والمختار هو تقديم القول، وإن عمّنا القول وإياه، نسخ المتأخر المتقدم منهما عنّا وعنه صلى الله عليه وسلم على ما تقدم من التفصيل في التعقيب والتراخي، فإن جهل التاريخ، فالخلاف كالخلاف، والمختار كالمختار، وهذا كله فيما إذا دل الدليل على تكرر الفعل في حقه عليه السلام، وعلى تأسي الأمة به. أما إن دل على التكرر دون التأسي، والقول خاص بالأمة، فلا تعارض؛ لعدم وجوب التأسي، أو خاص به عليه السلام أو عام له ولأمته، فالتعارض بين القول والفعل إنما هو بالنسبة إليه عليه السلام دون الأمة، لعدم وجوب التأسي. قال: ولا يخفى الحكم سواء تقدم الفعل أو تأخر، أو جهل التاريخ، فإن دل الدليل على التأسي، دون التكرر في حقه، والقول خاص به عليه السلام متأخر عن الفعل، فلا معارضة لا في حقه، ولا في حق أمته، أو متقدم على الفعل؛ نسخ الفعل حكم القول في حقه؛ على ما تقدم من التفصيل دون أمته. فإن جهل التاريخ، فالخلاف المتقدم، وإن كان القول خاصّا بأمته، فلا معارضة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم بل بالنسبة للأمة، فينسخ المتأخر المتقدم. وإن جهل التاريخ، فالخلاف المتقدم، والمختار هو المختار، وإن كان القول عامًا لنا وله عليه السلام وتقدم الفعل، فلا معارضة؛ بالنسبة إلى النبي عليه السلام، ونسخ الفعل في حق الأمة، وإن تقدم القول، نسخه الفعل في حق النبي عليه السلام وحق الأمة. فإن جهل التاريخ، فالخلاف كالخلاف، والمختار كالمختار.

(فرع) نهى صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلة ببول أو غائط

قلت: صرح سيف الدين بأمور لم يصرح بها المصنف: منها ك أنه صرح بأن القول قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإطلاق المصنف يحتمل الكتاب والسنة. ومنها: أنه قسم المسألة إلى دلالة الدليل على التأسي، وتكرر الفعل، وإلى عدم دلالة الدليل على التكرر والتأسي، أو التأسي دون التكرر، أو التكرر دون التأسي، وهذا حرف يحتاج له في المسألة، لم يتعرض المصنف إليه، بل أطلق القول. ومنها: حكايته الخلاف في جهل التاريخ، ولم يتعرض له المصنف. (فرع) نهى صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلة. قوله: " المجموع المركب من دليل التأسي، وفعله أخص من عموم النهي ". تقريره: أن هذا المجموع يقتضي إباحة استقبال القبلة في البنيان، فهو كما لو قال: لا تستقبلوا القبلة، ثم قال: يجوز استقبال القبلة في البنيان؛ فإن الثاني أخص من الأول، والأخص مقدم على الأعم. قوله: " إذا عارض الفعل فعل آخر، فذلك على وجهين: أحدهما: ان يفعل عليه السلام فعلا، ويعلم بالدليل وجوب التأسي به في ذلك الفعل، ثم يرى بعد ذلك قد أقر بعض الناس على فعل ضده، فيعلم أنه خارج منه ". تقريره: أن الإقرار ترك، والترك فعل؛ لأنه ملابسة الضد، فلذلك جعل الإقرار فعلا، فيعلم أن ذلك الذي اقره عليه السلام خارج من عموم التأسي في ذلك الفعل.

(فائده) قال سيف الدين: لا يتصور التعارض بين أفعال النبي صلى الله عليه وسلم بحيث ينسخ البعض البعض، أو يخصصه

قال الإمام في (البرهان) وأبو الحسين في (المعتمد): إنما يكون الترك للإنكار دليل الجواز، إذا لم يعلم أنه نهى عنه، وأن الامتناع تعدد؛ فلا يدل، وقد كان عليه السلام يمر بالمشركين بـ (مكه) على أنواع كفرهم، ولم يترك الإنكار عليهم في ذلك لحظه؛ لأنه نهي لا فائده فيه للعلم به. (فائده) قال سيف الدين: لا يتصور التعارض بين أفعال النبي صلى الله عليه وسلم بحيث ينسخ البعض البعض، أو يخصصه؛ لان الفعلين إن تما ووقعا في وقتين كصلاة الظهر اليوم، وصلاتها غدا، ولا تعارض. وإن تعذر اجتماعهما؛ تناقض أحكامهما؛ كالظهر والعصر، أو تناقضا في انفسهما؛ كما لو صام في وقت معين، وأكل في مثل ذلك الوقت، فلا تعارض؛ لإمكان أن يكون الفعل واجبا في وقت، وغير واجب في وقت آخر، فلا تعارض؛ لأنه لا عموم للفعل، فغن دل الدليل على وجوب مثل ذلك الفعل في ذلك الوقت، جوز تكرره، أو دل الدليل على لزوم تأسي أمته به في ذلك الوقت، وترك ذلك الفعل في ذلك الوقت مع الذكر له، والقدرة عليه دل ذلك على نسخ حكم ذلك الدليل الدال على التكرر، وكذلك إقراره لبعض الأمة على الضد مع القدرة على الفعل، والعلم به، والقدرة على الإنكار، ودل على نسخ ذلك الدليل المقتضي لتعميم الصوم على الأمة في حق ذلك الشخص، أو تخصيصه لا نسخ حكم الفعل، ولا تخصيصه. قال الغزالي في (المستصفى): لا يتصور التعارض بين الأفعال البتة بما هي افعال؛ لأن الفعلين لا بد أن يقعا في زمانين، فلا تعارض؛ لعدم المنافاة؛

(تنبيه) قال المصنف: التخصيص والنسخ في الحقيقة إنما لحق ما دل على أن ذلك الفعل لازم لغيره

بخلاف الأقوال لها صيغ تتعلق بالأزمان، فيوجب ذلك التعلق التعارض، فهذا هو الفرق قال ابن العربي في (المحصول): إذا اختلفت أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نازلة على وجهين مختلفين فصاعدا، فثلاثة أقوال: التخيير - وتقديم المتأخر؛ كالأقوال إذا تأخر بعضها - وحصول التعارض، وطلب الترجيح من خارج؛ كما اتفق في صلاة الخوف صليت على أربع وعشرين جهة، يصح منها ستة عشر جهة أجهر فيها. وقال مالك والشافعي: يرجع ما هو الأخير منها، إذا علم. قال: والصحيح أنها لم تختلف، وإنما كان ذلك بسبب اختلاف الأحوال. قال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): إذا تعارض القول والفعل، فثلاثة أقوال بين أصحابنا: القول أقوى، الفعل أقوى، هما سواء، فحكى الخلاف؛ على خلاف حكاية ابن العربي، فيحصل من مجموع النقيلين: أن في المسألة أربعة أقوال بأن يزاد على نقل أبي إسحاق: المتأخر منهما متقدم، ولم يتعرضا للتفصيل الذي ذكره المصنف ولا غيره، فلعل هذا الخلاف على هذه الصورة محمول على بعض الصور، وإلا فهو مشكل؛ لتعذر الجمع بين ظواهر هذه النقول. (تنبيه) قال المصنف: التخصيص والنسخ في الحقيقة إنما لحق ما دل على أن ذلك الفعل لازم لغيره، وأنه لازم له في مستقبل الأوقات. وقولنا: (أينسخ الفعل)؟ معناه: زال التعبد بمثله، و (انه لحقه التخصيص) معناه: أن بعض المكلفين لا يلزمه مثله.

(تنبيه) متى أمكن الحمل على التخصيص، لا يصار إلى النسخ

قلت: يعسر الجمع بين هذا وبين ما تقدم من أن الفعل دليل على الوجوب في حقنا، وإذا كان دليلا قد نصبه صاحب الشرع، أمكن لحوق التخصيص له كسائر الأدلة، وكذلك يلحقه النسخ، إذا علم أن العموم مراد منه في جميع الأزمنة، فإذا وقع بعد ذلك التخصيص، كان نسخا، كما إذا علم أن العموم مراده من قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] ثم يرد بعد العلم بإرادة العموم رفع القتل عن بعضهم، فإنه نسخ، وكذلك قال العلماء: من شرط التخصيص أن يكون واردا قبل العمل بالعام، فمتى عمل به، علم أن العموم مراد، فلا يتصور التخصيص، ويتعين النسخ. (تنبيه) متى أمكن الحمل على التخصيص، لا يصار إلى النسخ؛ لأن التخصيص أهون، وأقرب للجمع. ***

القسم الثالث قال الرازي: في أن الرسول صلى الله عليه وسلم هل كان متعبدا بشرع من قبله؟ وفيه بحثان

القسم الثالث قال الرازي: في أن الرسول صلى الله عليه وسلم هل كان متعبدا بشرع من قبله؟ وفيه بحثان البحث الأول: أنه قبل النبوة، هل كان متعبدا بشرع من قبله؟! أثبته قوم، ونفاه آخرون، وتوقف فيه ثالث. احتج المنكرون بأمرين: الأول: أنه لو كان متعبدا بشرع أحد، لوجب عليه الرجوع إلى علماء تلك الشريعة، والاستفتاء منهم، والأخذ بقولهم، ولو كان كذلك، لاشتهر، ولنقل بالتواتر؛ قياسا على سائر أحواله، فحيث لم ينقل، علمنا أنه ما كان متعبدا بشرعهم. الثاني: أنه لو كان على مله قوم لافتخر به أولئك القوم، ولنسبوه إلى أنفسهم، ولاشتهر ذلك. فإن قلت: " لو لم يكن متعبدا بشرع أحد، لاشتهر ذلك ". قلت: الفق أن قومه ما كانوا على شرع أحد، فبقاؤه لا على شرع ألبتة لا يكون شيئا؛ بخلاف العادة، فلا تتوفر الدواعي على نقله، أما كونه على شرع، لما كان بخلاف عادة قومه، فوجب أن ينقل. احتج المثبتون بأمرين:

شرح القرافي: قوله: (وفيه بحثان)

الأول: أن دعوة من تقدمه كانت عامة، فوجب دخوله فيها. الثاني: أنه كان يركب البهيمة، ويأكل اللحم، ويطوف بالبيت. والجواب عن الأول: أنا لا نسلم عموم دعوة من تقدمه. سلمناه؛ لكن لا نسلم وصول تلك الدعوه إليه بطريق يوجب العلم، أو الظن الغالب، وهذا هو المراد من زمان الفترة. وعن الثاني، أن نقول: اما ركوب البهائم، فهو حسن في العقل، إذا كان طريقا إلى حفظها بالعلف وغيره، وأما أكله لحم المذكى، فحسن ايضا؛ لانه ليس فيه مضرة على الحيوان، واما طوافه بالبيت، فبتقدير ثبوته، لا يجب - لو فعله من غير شرع - أن يكون حراما. التقسيم الثالث قال القرافي: قوله: (وفيه بحثان): البحث الأول هل كان النبي عليه السلام متعبدا بشرع من قبله؟ قلت: هذه الصيغة في قوله: (متعبدا) يحتمل فتح الباء، فيكون اسم مفعول، وكسرها، فيكون اسم فاعل، والذي يظهر لي الكسر؛ بمعنى أنه هل كان عليه السلام يعبد الله تعالى ويتقرب إليه على وضع شريعة اختارها؛ لعلمه بفساد ما عليه الجاهلية، أم كان تحنثه في غار حراء وغيره بمقتضى المناسبة عنده، لا ملتزما شريعة متقدمة؛ لعدم ثبوتها عنده.

وقد قال بعض العلماء في قوله تعالى: {ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك} [الشرح: 2/ 3]، قال: هو الثل الذي كان يجده من علمه بأن ما عليه الجاهلية خطأ، وكان يقترح اشياء يتحنث بها، ويتردد، هل هي موافقة لله تعالى أم لا؟ بمعنى أن الله تعالى قد يكون نهى عنها، أو أمر بها أم لا، في شريعة من الشرائع ولا بعدها، وجميع الطاعات والمعاصي بالنسبة إلى الله تعالى سواء؛ لا تضره المعصية، ولا تنفعه الطاعة، وإنما ينشأ حسن هذه الأمور عن الأمر والنهي فقط، فكان عليه السلام يجد لعدم علمه بالأمر والنهي في ذلك مشقة عظيمة، وثلا كبيرا، فلما جاء الوحي، زال ذلك الثقل ووضع عنه، وبقى على بصيرة في أمر الله تعالى ونهيه، فذلك الوزر الموضوع؛ لأن الوزر هو النثل لفة، فهذا هو معنى قولنا: إنه هل كان متعبدا بشرع من قبله؟ ويدل على ذلك أن سيف الدين الآمدي وغيره لما نقل الخلاف في هذه المسألة قال: نفى التعبد أبو الحسين البصري وغيره. واختلف المثبتون فمنهم: من نسبه إلى شرع نوح. ومنهم: من نسبه إلى شرع إبراهيم. ومنهم: من نسبه إلى شرع موسى. ومنهم: من نسبه إلى شرع عيسى. ومنهم: من قضى بالجواز. [ومنهم: من] يتوقف في الوقوع كالغزالي، والقاضي عبد الجبار، وغيرهما، وإذا كان من جملة الخلاف بالنسبة إلى عيسى وموسى، والقاعدة المقررة أن كل نبي لا يتناول شريعته، إلا قومه وذراريهم، دون غيرهم، فشريعة موسى وعيسى

عليهما السلام لا يتناول إلا بني إسرائيل، وذراريهم دون غيرهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن من ذراري بني إسرائيل؛ فلا تتناوله شريعتهما، فلا يكون الله تعالى قد تعبده بشرعهما إجماعا؛ على هذا التقدير، وإنما يتأتى بحكاية الخلاف في ذلك، إذا صح ما ذكرته، وهذا الاستشهادلا يتم في شريعة إبراهيم ونوح عليهما السلام؛ لأنه عليه السلام من ذريتهما. ويؤكد ما ذكرته إجماع الأمة على أن المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مكلفين بالإيمان بالشرائع المتقدمة، وكذلك انعقد الإجماع على أن كفارهم في النار، ولولا التكليف، لم يؤاخذوا بالكفر، فيكون أهل ذلك العصر بجملتهم مكلفين بشرع من قبلهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم منهم. وإذا كان التكليف مجمعا عليه، يكون فتح الباء مجمعا عليه، فلا يستقيم حكاية الخلاف فيه، بل في كسر الباء خاصة، ومن التزم فتحها، يتعين عليه أن يقول ذلك في الفروع، دون الأصول؛ لحصول الإجماع في الأصول في حق جميع الناس، وهو عليه السلام منهم، ونقول: هو متعبد بشرع من قبله إجماعا باعتبار الأصول، هذا هو الذي يظهر لي، غير أنه قد وقع لبعضهم ما يدل على خلاف ذلك. قال سيف الدين: غير مستبعد من الله تعالى أن يعلم أن مصلحة الشخص يقتضي أنه يعتقد أن الله تعالى هو المتعبد له بذلك، وعلى هذا تكون الباء مفتوحة، وهذا الموضع بخلاف قولنا: النبي عليه السلام متعبد بعد النبوة بشرع من قبله، وكذلك أمته، وهي المسألة الثانية التي بعد

(تنبيه) قال المازري والابياري في (شرح البرهان) والإمام في (البرهان): هذه المسألة لا يظهر لها ثمرة في الأصول، ولا في الفروع

هذه، فيتعين الفتح في الباء؛ لأن مقصودها أن الله تعالى كلفنا بشرع من قبلنا؛ بخلاف هذه المسألة فيها هذا الاحتمال، وهذا الإشكال. (تنبيه) قال المازري والابياري في (شرح البرهان) والإمام في (البرهان): هذه المسألة لا يظهر لها ثمرة في الأصول، ولا في الفروع. قال الإمام في (البرهان): بل يجري مجرى التواريخ؛ فإنا إنما نتعبد أصلا وفرعا بما بعد البعثة فقط، وكذلك قاله التبريزي. (فائدة) الفترة ثلاثة أقسام: إما لعدم البعثة ألبتة أو لكونهم من القوم الذين لم يبعث إليهم أو في بعض الفوع، أو كلها، دون الأصول؛ لانقطاع الشريعة بذلك وحده. قوله: " لم تصل الشريعة المتقدمة إليه علما ولا ظنا، وهذا هو المراد من زمان الفترة ". قلنا: لم يكن للجاهلية زمان فترة، لإجماع الأمة على أن من لم يسلم منهم، ومات قبل النبوة، فإنه في النار، واهل الفترة لا يجزم بأنهم في النار؛ لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء: 15]. وقد قال العلماء: أهل الأعراف الذين ليسوا في النار هم أهل الفترة، وصبيان المشركين، وقوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. فإن قلت: هذه فترة بالنسبة إلى الفروع دون قواعد العقائد، فهم يعذبون باعتبار الشرك، لا باعتبار الفروع؛ لعدم نقلها في زمانهم، وفسادها بالكلية.

(سؤال) قول المنكرين: " لو كان متعبدا بشريعة، لراجع أهل تلك الشريعة "

ومن شرط التكليف: ثبوت المكلف به علمًا، أو ظنًا صحيحًا، وقد انتفيا في الفروع، فهي فترة بالنسبة إلى بعض الأحكام. قلت: هذا لا أنكره، إنما انكرت الإطلاق في الفترة؛ فإنع يوهم ما جرت به العادة في الفترة، وهو عدم التكليف مطلقًا. قوله: " ركوب البهيمة حسن في العقل، وكذلك أكل اللحم ": قلنا: القاعدة أن الحسن والقبح العقليين باطلان، بل نقول في الجواب: إن فعله لذلك حتمل أن يكون؛ لشريعة نقلت إليه، ويحتمل أن يكون؛ لاعتقاده ارتفاع الشرائع بحسب الفترة، وأن جميع ما يلابسه الإنسان حينئذ ليس لله تعالى فيه منه، ولا حكم ألبتة، فيفعله حينئذ؛ لعدم المانع، لا لوجود المقتضى من الشرائع، أو لأنه اقترحه؛ لأنه غلب على ظنه أننه لو كان لله تعالى في هذه الأفعال حكم، لكان هذا المقترح، وإذا كان دائرا بين هذه الاحتمالات، لا يلزم أحدها عينا؛ لأنه ترجيح من غير مرجح. (سؤال) قول المنكرين: " لو كان متعبدا بشريعة، لراجع أهل تلك الشريعة ": قلنا: لا نسلم؛ لاحتمال أن يكون التعبد وقع بفروع خاصة، انضبطت في أول مرة، فاستغنى عن المراجعة، ومطلق التعبد أعم من كونه تحمل الشريعة، فلا تصدق الملازمة أنه لو كان متعبدا لراجع، وكذلك سؤال الافتخار به عليه السلام؛ لاأنه إنما يلزم أن لو كان يراجعهم، حت يشعروا بذلك، أما لا فلا. قوله: " لا نسلم عموم دعوة من تقدمه ": غير مسلم؛ فإن دعوة إبراهيم عليه السلام كانت تناوله، وكذلك دعوة نوح وإسماعيل عليهما السلام؛ لأنه من ذريتهم؛ بخلاف موسى وعيسى عليهما السلام. ***

البحث الثاني قال الرازي: في حاله عليه السلام بعد النبوة

البحث الثاني قال الرازي: في حاله عليه السلام بعد النبوة. قال جمهور المعتزلة، وكثير من الفقهاء: إنه لم يكن متعبدا بشرع أحد. وقال قوم من الفقهاء: بل كان متعبدا بذلك، إلا ما استثناه الدليل الناسخ، ثم اختلفوا، فقال قوم: كان متعبدا بشرع إبراهيم، وقيل: بشرع موسى، وقيل: بشرع عيسى. واعلم أن من قال: غنه كان متعبدا بشرع من قبله: إما أن يريد به أن الله تعالى كان يوحى إليه بمثل تلك الأحكام التي أمر بها من قبله، أو يريد: أن الله تعالى أمره باقتباس الأحكام من كتبهم. فإن قالوا بالأول: فإما أن يقولوا به في كل شرعه، أو في بعضه والأول معلوم البطلان بالضرورة؛ لأن شرعنا يخالف شرع من قبلنا في كثير من الأمور. والثاني مسلم، ولكن ذلك لا يقتضي إطلاق القول بأنه كان متعبدا بشرع غيره؛ لأن ذلك يوهم التبعية، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان تبعا لغيره، بل كان أصلا في شرعه. وأما الاحتمال الثاني، وهو: حقيقة المسألة: فيدل على بطلانة وجوه: الأول: لو كان متعبدا بشرع أحد لوجب أن يرجع في أحكام الحوادث إلى شرعه، ألا يتوقف إلى نزول الوحي، لكنه لم يفعل ذلك لوجهين: الأول: أنه لو فعل، لاشتهر.

والثاني: أن عمر رضي الله عنه طالع ورقة من التوراة، فغضب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال: " لو كان موسى حيا، لما وسعه إلا اتباعي " ولما لم يكن كذلك، علمنا أنه لم يكن متعبدا بشرع أحد. فإن قيل: الملازمة ممنوعة؛ لاحتمال أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم علم في تلك الصور: أنه غير متعبد فيها بشرع من قبله، فلا جرم توقف فيها على نزول الوحي، أو لأنه عليه الصلاة والسلام علم خلو شرعهم عن حكم تلك الوقائع، فانتظر الوحي. أو لأن أحكام تلك الشرائع، إن كانت منقوله بالتواتر، فلا يحتاج في معرفتها الى الرجوع إليهم، وإلى كتبهم، وإن كانت منقولة بالآحاد لم يجز قبولها؛ لأن اولئك الرواة كانوا كفارا، ورواية الكافر غير مقوبلة. سلمنا الملازمة، لكن قد ثبت رجوعه إلى التوراة في الرجم، لما احتكم إليه اليهود. والجواب: قوله: " إنما لم يرجع إليها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام علم أنه غير متعبد فيها بشرع من قبله ": قلنا: فلما لم يرجع في شيء من الوقائع إليهم؛ لوجب أن يكون ذلك لأنه علم أنه غير متعبد في شيء منها بشرع من قبله. قوله " إنما لم يرجع إليها، لعلمه بخلو كتبهم عن تلك الوقائع ": قلنا: العلم بخلو كتبهم عنها، لا يحصل إلا بالطلب الشديد، والبحث الكثير، فكان يجب أن يقع منه ذلك البحث والطلب. قوله:" ذلك الحكم: إما أن يكون منقولا بالتواتر، أو بالآحاد ".

قلنا: يجوز أن يكون متن الدليل متواترا، إلا أنه لا بد في العلم بدلالته على المطلوب من نظر كثير، وبحث دقيق، فكان يجب اشتغال النبي عليه الصلاة والسلام بالنظر في كتبهم، والبحث عن كيفية دلالتها على الأحكام. قوله: " إنه رجع في ارجم إلى التوراة ": قلنا: لم يكن رجوعه إليها رجوع مثبت للشرع بها، والدليل عليه أمور: احدها: أنه لم يرجع إليها في غير الرجم. وثانيها: أن التوراة محرفة عنده، فكيف يعتمد عليها؟ وثالثها: أن من أخبرة بوجود الرجم في التوراة لم يكن ممن يقع العلم بخبره. فثبت أن رجوعه إليها، كان ليقرر عليهم أن ذلك الحكم، كما أنه ثابت في شرعه، فهو أيضا ثابت في شرعهم، وأنهم أنكروه كذبا وعنادا. الحجة الثانية: أنه عليه السلام لو كان متعبدا بشرع من قبله لوجب على علماء الأمصار أن يرجعوا في الوقائع إلى شرع من قبله؛ ضرورة أن التأسي به واجب، وحيث لم يفعلوا ذلك ألبتة، علمنا بطلان ذلك. الحجة الثالثة: أنه عليه الصلاة والسلام صوب معاذا في حكمه باجتهاد نفسه، إذا عدم حكم الحادثة في الكتاب والسنة، ولو كان متعبدا بحكم التوراة، كما تعبد بحكم الكتاب، لم يكن له العمل باجتهاد نفسه، حتى ينظر في التوراة والإنجيل. فإن قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوب معاذا في العمل بالاجتهاد، إلا إذا

عدمه في الكتاب، والتوراة كتاب، ولأنه لم يذكر التوراة؛ لأن في القرآن آيات دالة على الرجوع إليها، كما أنه لم يذكر الإجماع لهذا السبب. قلت: الجواب عن الأول من وجهين: الأول: أنه لا يفهم من إطلاق الكتاب إلا القرآن، فلا يحمل على غيره إلا بدليل. الثاني: أنه لم يعهد من معاذ قط تعلم التوراة والإنجيل، والعناية بتمييز المحرف منها عن غيره، كما عهده منه تعلم القرآن، وبه ظهر الجواب عن الثاني. الحجة الرابعة: لو كانت تلك الكتب حجة علينا، لكان حفظها من فروض الكفايات؛ كما في القرآن والأخبار، ولرجعوا إليها في مواضع اختلافهم، حيث أشكل عليهم كمسألة العول، وميراث الجد، والمفوضة، وبيع أم الولد، وحد الشرع، والربا في غير النسيئة، ودية الجنين، والرد بالعيب بعد الوطء، والتقاء الختانين، وغير ذلك من الأحكام. ولما لم ينقل عن واحد منهم، مع طول أعمارهم، وكثرة وقائعهم، واختلافاتهم مراجعة التوراة، لا سيما، وقد اسلم من أحبارهم من تقوم الحجة بقولهم؛ كعبد الله بن سلام، وكعب، ووهب، وغيرهم، ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب، وكيف يحصل الياس قبل العلم! - دل على أنه ليس بحجة. احتجوا بأمور:

أحدها: قوله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون} [المائدة: 44] وثانيها: قوله تعالى: {فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] أمره أن يقتدى بهم. وثالثها: قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163]. ورابعها: قوله تعالى: {أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} [النحل: 123]. وخامسها: قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} [الشورى: 13]. والجواب عن الأول: أن قوله: {يحكم بها النبيون} [المائدة: 44] لا يمكن إجراؤه على ظاهرة؛ لأن جميع النبيين لم يحكموا بجميع ما في التوراة، وذلك معلوم بالضرورة؛ فوجب: إما تخصيص الحكم، وهو أن كل النبيين حكموا ببعضه، وذلك لا يضرنا، فإن نبينا حكم بما فيه من معرفة الله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله. أو تخصيص النبيين، وهو أن النبيين حكموا بكل ما فيه، وذلك لا يضرنا. وعن الثاني: أنه تعالى أمر بأن يقتدى بهدى مضاف إلى كلهم، وهداهم الذي التفقوا عليه هو الأصول، ودون ما وقع فيه النسخ. وعن الثالث: أنه يقتضي تشبيه الوحي بالوحي، لا تشبيه الموحى به بالموحى به. وعن الرابع: أن الملة محمولة على الأصول، دون الفروع، ويدل عليه أمور:

(تنبيه)

أحدها: أنه يقال: ملة الشافعي وابي حنيفة واحدة وإن كان مذهبهما في كثير من الشرعيات مختلفا. وثانيها: قوله بعد هذه الآية: {وما كان من المشركين} [البقرة: 135]. وثالثها: أن شريعة إبراهيم عليه السلام قد اندرست. وعن الخامس: أن الآية تقتضي أنه وصى محمدا عليه الصلاة والسلام بالذي وصى به نوحا عليه السلام؛ من أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وأمرهم بإقامة الدين لا يدل على اتفاق دينهما، كما أن أمر الاثنين أن يقوما بحقوق الله تعالى، لا يدل على أن الحق على احدهما مثل الحق على الآخر، وعلى أن الآية تدل على أنه تعبد محمدا بما وصى به نوحا عليه السلام؛ من أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وأمرهم بإقامة الدين لا يدل على اتفاق دينهما، كما أن أمر الاثنين أن يقوما بحقوق الله تعالى، لا يدل على أن الحق على أحدهما مثل الحق على الآخر، وعلى أن الآية تدل على أنه تعبد محمدا بما وصى به نوحا عليهما السلام، والله أعلم. البحث الثاني في حالة عليه السلام بعد النبوة قلت: هذه المسألة هي التي يقول الفقهاء فيها: شرع من قبلنا شرع لنا. (تنبيه) الذي نقله المصنف رحمه الله في هذه المسألة من الخلاف في شرع إبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى لم ينقله (البرهان) ولا (المستصفى) ولا (الإحكام) ونقلوا هذا النقل بعينه في التعبد قبل النبوة لا بعدها. ونقل المازري الخلاف بعينه في المسألتين، وعين الأنبياء بعينهم في الحالين، فلا تظنن أن النقل غلط، وكذلك القاضي عبد الوهاب في (الملخص) وزاد في النقل؛ فقال: من الناس من قال: كان متعبدا بشريعة كل نبي تقدمه،

(قاعدة) الشرائع المتقدمة ثلاثة أقسام

إلا ما نسخ أو درس، وهذا لم ينقله المصنف مع أنه هو غالب أحوال الفقهاء في البحث، إذا قالوا: شرع من قبلنا شرع لنا لا يعنون نبيا معينا. قال القاضي: ومذهب المالكية: أن جميع شرائع الأمم شرع لنا، غلا ما نسخ، ولا فرق بين موسى وغيره. وقال ابن برهان: قيل: كان متعبدا قبل النبوة بشرع آدم عليه السلام؛ لأنه أول الشرائع. وقيل: كان على دين نوح عليه السلام. (قاعدة) الشرائع المتقدمة ثلاثة أقسام: قسم لم نعلمه إلا من كتبهم، ونقل أخبارهم الكفار، فلا خلاف أن التكليف لا يقع به علينا، ولا في حق رسوال الله صلى الله عليه وسلم لعدم الصحة في النقل، كما نقل في التوراة في تحريم لحم الجدي بلبن أمه يشير إلى المضيرة التي يطبخها أهل الزمان. وقسم انعقد الإجماع على التكليف به، وهو ما علمنا شرعنا أنه كان شرعا لهم، وأمرنا في شرعنا بمثله؛ كقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة: 45]. وقال تعالى لنا: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة: 178]. وقسم ثبت أنه من شرعهم بنقل شريعتنا، ولم نؤمر به، فهذا هو موضوع الخلاف؛ كقوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام أنه قال لموسى عليه السلام: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} [القصص: 27] فصرح بالإجارة، فهل نستند نحن بهذا على جواز الإجارة في شرعنا؛ فإن جوازها مختلف فيه بين العلماء.

وكذلك قوله تعالى؛ حكاية عن قصة يوسف قول المنادى: {وأنا به زعيم} [يوسف: 72] هل نستدل به نحن على جواز الكفالة، هذا القسم هو موطن الخلاف، والقسمان الأولان مجمع عليهما، فلموطن الخلاف شرطان: ثبوته في شرعنا، وعدم ورود شرعنا باقتضائه منا، فمتى انخرم أحد الشرطين، انتفى الخلاف إجماعا، على النفي، أو على الثبوت. وكذلك لما فهرس سيف الدين هذه المسألة، قال: هل كان متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه؛ لأنه من جهة كتبهم المبدلة، ونقل أربابها، ثم الخلاف إنما هو في القواعد، وإلا فأهل زمانه عليه السلام قبل النبوة، كانوا متعبدين بالإيمان؛ لأنهم كانوا يعذبون على كفرهم، وهو فرع لتكليفهم بشرع من قبلهم، فهو عليه السلام كذلك، فتفسيره ما قبل النبوة وبعدها مشكل، ويبطل بهذا ما يستدل به؛ لأنه ليس في محل النزاع من قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} [الشورى: 13] ونحوه. قوله: " إن أرادوا بالخلاف أن الله تعالى أمره باقتباس الأحكام من كتبهم، فهذا هو حقيقة المسألة ". قلنا: كيف يتصور أن يكون هذا حقيقة المسألة، ونحن مجمعون على أن المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق لا يعلم عدالة راويه؛ أنه يحرم اتباعه، فكيف بالمنقول عن الأنبياء السالفة يقبل فيها قول الكفار الذين لم يرووا عن أسلافهم، ولا يعرفون الرواية في دينهم، بل الرواية واتصال الأسانيد من خصائص الإسلام، وغيرنا من الملليتعذر عليه ذلك؛ لكثرة الخبط، والتخليط، والتبديل، واختلاف الأهواء، فقبول مثل هذه الكتب، وهذه النقول خلاف

الإجماع، فنحن إذا نقلت إلينا التواريخ لا يعمل بها؛ لعدم صحتها، ولو نقل العدل عن العدل، وفي السند واحد مجهول العدالة لا يثبت به حكما، فكيف بقوم قطعنا بكفرهم، وأهويتهم الفاسدة، وتبديلهم، وتنوع أكاذيبهم، هذا لا ينبغي أن يخطر لأحد من علماء الشريعة. قوله حكاية: النبي عليه السلام: " لو كان موسى حيا، لما وسعه إلا اتباعي " قلنا: لا يلزم من اتباع الرسل له ألا يكون متعبدا بالشرائع، لجواز أن يكون متعبدا بها، وهم على تقدير وجودهم يصيرون تابعين له فيما كانوا متبعين فيه؛ كما يصير الإمام مأموما؛ لطريان عارض. قوله: " العلم بحكم شرعهم يتوقف على المراجعة لكتبهم " قلنا: لا نسلم؛ بل يعلم ذلك بالوحي. قوله: " قد يكون متن الدليل متواترا، ودلالته على المطلوب تفتقر إلى نظر دقيق ". تقريره: أنه روى عن إمام الحرمين أنه سئل؛ هل يجوز سماع كلام المرأة الشابة؟ فقال: لا لقوله تعالى: {رب أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143] فقيل له: وأي تعلق لهذه الآية بهذه المسألة؟ فقال: الباعث لموسى عليه السلام على طلب الرؤيا، إنما هو سماع الكلام، فلما سمع الكلام، اشتاق إلى الرؤية، فكذلك يلزم أن سماع كلام المرأة يبعث على رؤيتها، فلا يجوز؛ لأن رؤيتها حرام، وما يؤدي إليه يكون حراما، فمثل هذا نظر دقيق في آية متواترة، فأمكن القطع بالسند للبعد في الدلالة.

(فائدة) استدل سيف الدين، والقاضي عبد الوهاب بقوله صلى الله عليه وسلم ... إلخ

(فائدة) استدل سيف الدين، والقاضي عبد الوهاب بقوله صلى الله عليه وسلم في قصة الربيع لما كسرت سن صبية فقال: (كتاب الله القصاص)، وأشار إلى قوله تعالى: {والسن بالسن} [المائدة: 45]، وذلك مما اخبر الله تعالى انه في التوراة، فتعين أن ما ثبت أنه من التوراة، يكون شرعًا لنا، فإنه ليس في القرآن ذلك إنشاء، بل حكاية عن التوراة، وأجاب سيف الدين بأن الإشارة إنما وقعت لقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194]، وأجاب القاضي بأن الإشارة إلى قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179]. قلت: وجواب سيف الدين أسدّ؛ فإن الحياة إنما تحصل من القصاص في النفوس دون الاعضاء، هذا هو السابق للذهن، ويجوز أن يراد حياة الأعضاء؛ فإن كل عضو، إذا قطع، مات، وإذا شرع القصاص حفظت عليه حياته، وفي الجوابين نظر، بسبب أن الاستدلال بالأخص بالقصة أرجح من الاستدلال بالأعم، فالاستدلال بآية الزنا على الزنا أرجح من الاستدلال بقوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة شرًا يره} [الزلزلة: 8] ونحوه، وآية السن أخص بالواقعة من آية الإعتداء، وآية القصاص، فيكون استدلال الخصم مقدمًا على الجواب عنه، ويجوز أن يقال، بل الجواب أرجح؛ لأنه

تمسك بدليل مجمع على صحته، وهو القرآن المشار، وآية السن استدلال بشرع من قبلنا، وهو مختلف فيه، فيكون مرجوحًا بالنسبة إلى الآيتين الأخريين، وحمل كلامه على الأرجح متعين؛ لعلو منصبه صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الباب قوله عليه السلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله تعالى يقول: {وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14]) وإنما كان هذا القول لموسى عليه السلام. قوله: " إنما رجع للتوراة؛ ليقرر عليهم أن ذلك الحكم، كما هو ثابت في شرعه، فهو ثابت في شرعهم، وأنهم معاندون ". قلنا: هذا الجواب مشكل، وهذا الحديث مشكل؛ من جهة أن هذه القضية كانت عند مقدمه عليه السلام (المدينة) ولم تكن الحدود يومئذ تقام؛ فضلا عن الرجم الذي هو متأخر عن عزائم الغسلام، وتشديداتها التي لا تتم إلا بكمال الكلمة، وكمال الدين؛ ولأنه ورد في بعض الطرق خرجه، الطرطوشي وغيره؛ أن ابن عمر قال في روايته الحديث: " وكان حد المسلمين يومئذ الجلد " فقد اخبر الراوي؛ أن الرجم لم يكن شرعا يومئذ، فلا يستقيم الجواب. وأما الحديث؛ فلأنه إن كان المستند قول الكفار، فمشكل على القواعد، أو الذين أسلموا من الأحبار؛ كعبد الله بن سلام وغيره، فلا يتجه أيضا؛ لأنهم، وإن كانوا عدولا عظماء في الدين؛ غير أنهم ليس لهم رواية في التوراة، لا سند متصل؛ غير أنهم وجدوا آباءهم يقرءون هذا الكتاب، والجميع من أهل الكتاب على شرائعهم، ومطالعة أحوالهم وتصرفاتهم جزم بذلك،

فيتعين أنه إنما أقدم بوحي وصل غليه لم ينقل إلينا، وبهذا الطريق يتعذر الاستدلال به على أن الكافر يرجم؛ لأن ذلك الوحي الوارد يجوز أن يكون عاما في أمثال تلك الواقعة، ويجوز أن يكون خاصا بها، ناصا على عدم تعديته لغيرها، وإذا احتمل واحتمل، سقط الاستدلال؛ لاسيما، والأصل عدم العموم، وعدم التناول، وعدم الشرعية، فيقف الحال على المستدل بهذا الحديث على رجم الكفار. ومن جملة إشكال الحديث: أنه روى أنه عليه السلام سمع في القضية بينة من اليهود الكفار، نقله الطرطوشي في تعليقه، ومن جملة الإشكال، أنه عليه السلام قال " اللهم إني أول من أحيا سنة أماتوها ". وغير ذلك من الظواهر التي تقتضي الاعتماد على ظاهر التوراة، وقبول رواية الكفار وشهادتهم، ولا يندفع جميع ذلك، إلا بأن يكون وحي وصل إليه، عليه السلام. قال القاضي عبد الوهاب في (الملخص): وموضع الخلاف في المسألة أن الله تعالى إذا اخبر في القرآن أنه شرع لبعض الأمم المتقدمة شيئا، وأطلق الأخبار، ولم يذكر أنه شرعه لنا، ولا أنه لم يشرعه لنا، ولا أنه نسخه، هل يجب علينا العمل به أم لا؟ فهذا يؤيد ما لخصته لك من القاعدة، وتبين لك بطلان اختيار الإمام في (المحصول) واختيار الغزالي في (المستصفى) كماستقف عليه إن شاء الله تعالى، وكذلك قال القاضي أبو يعلى في كتاب (العمدة)؛ أن موضع الخلاف فيما غذا ثبت شرعهم بغير نقلهم؛ كما قاله القاضي عبد الوهاب. قوله: " أسلم من خيارهم من تقوم الحجة به ". قلنا: لا نسلم، وإنما تقوم الحجة به، وإن كان عدلا، أو لو كان ينقل

تلك الكتب عن العدل إلى موسى عليه السلام وهذا معلوم الانتفاء بالضرورة لمن حاله حال تصرفات القوم. قوله: " وثانيها قوله تعالى: {فبداهم اقتده} [الأنعام: 90] " تقريره: " أن الهدى: اسم جنس اضيف، فيعم جميع أنواع الهدى الأصول والفروع، وهو المطلوب، وهذا تقرير قوله تعالى: {أن اتبع ملة إبراهيم} [النحل: 123]. قوله: " أحد التخصيصين لازم إما: النبيين، وإما: أحكام التوراة ". قلنا: يختار التخصيص في النبيين، ولا يحصل مطلوبكم؛ لأن التخصيص، إنما دخل لفظ النبيين من جهة أن الأنبياء الذين تقدموا التوراة لم يحكموا بها، فيبقى من عداهم على مقتضى العمم، فيندرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العموم، فلا يحصل مطلوبكم؛ بخلاف إذا قلنا بالتخصيص في الأحكام، فإن التخصيص يبقى مجملا؛ لا تتغير مرتبة الخروج؛ حتى يتعين الباقي لبقاء العقائد، وغن بقيت غلا ان معها الكليات الخمس، حفظ الدماء، والعقول، والأنساب، والأموال، والأعراض، لم يختلف فيها الشرائع، وبقاء الشركة في غيرها محتمل؛ غير أنا نقطع بأن الكل غير مراد قطعا. ولقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} [آل عمران: 50] يدل على المخالفة في بعض الأحكام. قوله: " لأمره باتباع هدى مضاف غلى جميعهم، وهو أصل الدين ". قلنا: الاختلاف لا يابى الإضافة للجميع، كما قال: هدى الشافعي ومالك حق؛ مع اختلاف المذهبين؛ لا سيما، والنحاة تقول: يكفى في

الإضافة أدنى ملابسة، كقول أحد حاملي الخشبة لصاحبه: " شل طرفك "، فتصح إضافة المتفق عليه، والمختلف فيه للجميع. وكذلك تقول: اختلف العلماء، وأقوالهم، وطرقهم، ومعتمدهم، رحمة، كل هذه الألفاظ لا تمنع الإضافة مع الاختلاف، فكذلك هاهنا. قوله: " الآية تقتضي تشبيه الوحي بالوحي، لا الموحى بالموحى ". تقريره: أن لفظ (ما) يجوز أن يكون بمعنى (الذي) فيكون المراد الموحى بالموحى، وأن تكون مصدرية، فيكون التقدير في الأول: أوحينا غليك، كالذي أوحيناه غلى غبراهيم، وفي الثاني: أوحينا غليك، كوحينا لإبراهيم، وهذا أرجح في علم البيان، وصناعة الأدب؛ لأن (ما) لو كانت بمعنى (الذي) لافتقرت إلى صلة وعائد، فكأن يكون العائد هاهنا محذوفا تقديره: " أوحينا إليك كالذي أوحيناه إلى إبراهيم " فهذه الهاء التي هي ضمير هي العائد، وقد حذفت، والأصل عدم الحذف والإضمار، وإن كان جائزا، والمصدرية لا تفتقر لعائد، فكانت غنية عن الحذف؛ فكانت أرجح، قوله: " وثانيها: قوله بعد هذا {وما كان من المشركين} [النحل: 123]. تقريره: أن هذا السلب في قوله: {وما كان من المشركين} [النحل: 123] يقتضي أن المراد بالملة التوحيد؛ حتى تنظم المقالبلة، ويظهر مناسبة السلب. قوله: " وعلى أن الآية تدل على أنه تعبد محمدا عليه السلام بما وصى به نوحا عليه السلام ". تقريره: أن قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} [الشورى: 13] إلى قوله تعالى: {أن أقيموا الدين} [الشورى: 13]

(فائدة) قال سيف الدين: قال الحنفية، وأحمد في إحدى الروايتين، وبعض الشافعية،: إنه متعبد

صيغة أمر من الله تعالى لنا ولنبينا عليه السلام بإقامة الدين، ومتى حصل التكليف الخاص بنا، فليست المسألة المتنازع فيها؛ كما تقدم تقريره أول المسألة، ويرد عليه أن (الدين) اسم شامل لكل ما يسمى دينا، وذلك يتناول الماضي لغيره، والحاضر له، فيكون قد أمرنا بإقامة شرع غيره، وهو مقصود المخالف للمصنف. (فائدة) قال سيف الدين: قال الحنفية، وأحمد في إحدى الروايتين، وبعض الشافعية،: إنه متعبد. وقالت الأشاعرة، والمعتزلة: بمنعه. قال الغزالي في (المستصفى): قال بعض القدرية: لا يجوز تقليد نبي إلا بشرع مستأنف، ويرد عليهم قوله تعالى: {إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث} [يس: 14]. وبعث الله تعالى موسى وهارون معا، داود وسليمان معا، وهو كثير، ويجوز في العقل أن يتعبد الله تعالى عباده بما شاء من شريعة سابقة أو إنشاء. وأما هل وقع ذلك، وتعبدنا باستدامة الخطاب الذي نزل علينا، ولم ينزل علينا خطاب، إلا بما خالف شرع غيرنا؟ فهذا موضع الخلاف. قلت: قد تقدم في تيك القاعدة أول المسألة: أن هذا لا يصح، وأنه لزم منه إثبات الديانات بأقوال الكفار، وهو خلاف الإجماع، ومن هاهنا، والله أعلم، نقل المصنف ذلك الذي تقدم رده عليه، وهو معنى قول الغزالي أنه لم

(مسألة) قال إمام الحرمين في (البرهان): إذا تعددت أفعاله عليه السلام فقال كثير من أصحابنا، ومال إليه الشافعي: إن المتأخر يتعين، ويكون كالناسخ للمتقدم

ينزل علينا خطاب غلا فيما يخالف، بل الحق أنه لا بد من خطاب ينزل علينا بان شرعهم كان على صورة مخصوصة، ولا يختص النازل علينا بما قاله. (مسألة) قال إمام الحرمين في (البرهان): إذا تعددت أفعاله عليه السلام فقال كثير من أصحابنا، ومال إليه الشافعي: إن المتأخر يتعين، ويكون كالناسخ للمتقدم؛ كالقولين؛ إذا تأخر أحدهما؛ كصلاة الخوف، فعلها عليه السلام مرارا. وقال القاضي أبو بكر: بل ذلك يدل على الجواز في الكل، إذا لم يتضمن أحدهما خطرا. قال الإمام: وهو مقتضى الأصول؛ لأن الأفعال لا صيغ لها، ولكن إذا ادعى مدع أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يأخذون بالأحداث فالأحداث من فعله عليه السلام فهو مصنف. قال: وبالجملة فالموضوع ملبس. (مسألة) قال الغزالي في (المستصفى): إذا قلنا بمتابعته عليه السلام فلا عبرة بالزمان والمكان في فعله عليه السلام إلا أن يدل دليل على اعتباره؛ كالوقوف بـ (عرفة). وقال قوم: إذا تكرر منه الفعل في زمان، او مكان، اتبع في ذلك؛ لأن

(مسألة) قال ابن برهان في (الأوسط): إقرار النبي عليه السلام على قول أو فعل، يدل على كونه حقا، ومشروعا

التكرر قرينه اعتباره قال: وهو باطل، بل لابد من دليل خارجي يدل على ذلك. قال ابو الخطاب الحنبلي في (التمهيد): لو تصدق عليه السلام على باب المسجد مرارا، أو عند الزوال، لم يعتبر ذلك المكان، ولا ذلك الزمان، بل أصله الصدقة. (مسألة) قال ابن برهان في (الأوسط): إقرار النبي عليه السلام على قول أو فعل، يدل على كونه حقا، ومشروعا، إن كان القائل أو الفاعل مسلما، أما الكافر، فلا؛ لأنه عليه السلام كان لاينكر على الكافر حالة تماديهم. (مسألة) قال ابن برهان: سكوته عليه السلام عما لو ذكره، كان واجبا، يدل على عدم الوجوب؛ لسكوته عليه السلام عن المطاوعة لزوجها في الوطء في رمضان؛ لا يلزمها الكفارة عند الشافعي؛ لأنه عليه السلام أوجب الكفارة على الأعرابي، وسكت عن المرأة، فلو كانت واجبة عليها، لكان تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا فرق في سكوته عليه السلام عما سمعه، أو بلغه. (مسألة) قال: سكوت الراوي عما لو ذكره، لكان غريبا، يدل على عدم مشروعيته، كما سكت الراوي في رواية حديث (ماعز) عن الجلد، وذكره الرجم يدل على أنه لا يجمع بينهما. وقال أحمد بن حنبل: يجمع بينهما في حق المحصن؛ لظاهر الكتاب والسنة، والجمع بين الدليلين أولى.

(مسألة) قال الإمام في (المعالم): إذا شككنا في شيء، هل فعله عليه السلام أم لا؟

(مسألة) قال الإمام في (المعالم): إذا شككنا في شيء، هل فعله عليه السلام أم لا؟ قلنا: في إثباته طرق: الأولى: أنا إذا أردنا أن نقول: هل توضأ عليه السلام بنية أم لا؟، أو بالترتيب أم لا؟ قلنا: كذلك توضأ؛ لأن فعلهما كذلك أفضل إجماعا، وأفضل الخلق يواظب على الافضل بالضرورة، والضرورة لا يعارضها الشك، وإذا كان وضوؤه عليه السلام مرتبا منويا، وجب علينا مثله؛ لما تقدم. قال شرف الدين بن التلمساني: وعليه سؤالان: الأول: أن يبين أنه عليه السلام فعل ضد ما ادعاه المستدل، ثم ننقلب الدليل. السؤال الثاني: يلزم عليه رفع المندوب. الطريقة الثانية: أن نقول: لو ترك النية والترتيب، لوجب علينا تركهما عملا بدليل التاسي، ولما لم يجب، لزم أنه عليه السلام ما تركه؛ فيحصل المطلوب. (مسألة) قال الإمام في (المعالم): إذا نقل غلينا أخبار متعارضة في فعل واحد، لم يصح أخذه، كيف كان، فالمختار تخييرنا في الكل؛ كما إذا صح أنه

عليه السلام سجد بعد السلام، وخيبر آخر أنه سجد قبله، ولم يثبت المتأخر منهما، وإذا اختلفت الرواية في أنه عليه السلام رفع يديه إلى منكبيه، أو إلى أذنيه، فهاهنا يترجح ما تأيد بالأصل؛ فيرجح المنكب؛ لأن الأصل تقليل الفعل في الصلاة، فإن لم يوجد هذا الترجيح، رجح الأقرب إلى شرائط العبودية، فإن لم يوجد، فهذا حكم بالتخيير كالأخبار الواردة في (التشهد) كيف كانت أصابع يديه. قال شرف الدين بن التلمساني: نقل أن الشافعي رضي الله عنه لما قدم (العراق) اجتمع عنده العلماء، فسئل عن أحاديث الرفع، وأنه روى عنه عليه السلام أنه رفع حذو منكبيه، وحذو أذنيه، فقال: ارى أن يرفع؛ بحيث أن يحاذي أطراف أصابعه أذنيه، وإبهاماه شحمه أضنيه، وكفاه حذو منكبيه، فاستحسن ذلك منه في الجمع بين الروايات، وروى عنه عليه السلام في أحاديث صلاة الخوف هيئات مختلفة، فنرجح فيها نقله الأفعال؛ كما قاله في الرفع. وروى عنه عليه السلام في التشهد أنه قبض اصابعه الثلاث، وأطلق السبابة؛ كالقابض ثالثا وخمسين، أو ثالثا وعشرين، وروى حلق بالإبهام والمسبحة. وقول الروياني: " ثلاثا وخمسين " غشارة إلى أن عقد الثلاثة كان عندهم، كعقد التسعة في زماننا. ***

الكلام في الناسخ والمنسوخ

الكلام في الناسخ والمنسوخ وهو مرتب على أقسام القسم الأول في حقيقة النسخ، وفيه مسائل المسألة الأولى: النسخ في أصل اللغة بمعنى إبطال الشيء، وقال القفال: إنه للنقل والتحويل.

لنا: أنه يقال: نسخت الريح آثار القوم، إذا أعدمتها، ونسخت الشمس الظل، إذا أعدمته؛ لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر، فيظن أنه انتقل إليه، والأصل في الكلام الحقيقة، وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب ألا يكون حقيقة في النقل؛ دفعًا للإشتراك. فإن قيل: وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار، والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز؛ لأن المزيل للآثار والظل هو الله تعالى، وإذا كان ذلك مجازًا امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله.

شرح القرافي: قال صاحب (المجمل) في اللغة: إذا أزال الشيء الشيء فقد نسخه

ثم نعارض ما ذكرتموه، ونقول: بل النسخ هو النقل والتحويل، ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر، كأنك تنقله إليه، أو تنقل حكايته، ومنه تناسخ، وتناسخ القرون قرنًا بعد قرن. وتناسخ المواريث، إنما هو: التحويل من واحد إلى آخر، بدلًا عن الأول؛ فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل، ويلزم ألا يكون حقيقة في الإزالة؛ دفعًا للإشتراك، وعليكم الترجيح. والجواب عن الأول، من وجهين: أحدهما: أنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو الناسخ لذلك من حيث فعل الشمس والريح المؤثرين في تلك الإزالة، ويكونان أيضًا ناسخين؛ لكونهما مختصين بذلك التأثير. وثانيهما: أن أهل اللغة، إنما أخطئوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح، فهب أنه كذلك، لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة، لا إسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس. وعن الثاني: أن النقل أخص من الزوال؛ لأنه حيث وجد النقل، فقد عدمت صفة، وحصلت صفة أخرى، فإذن: مطلق العدم أعم من عدم يحصل عقيبه شيء آخر؛ وإذا دار اللفظ بين العام والخاص، كان جعله حقيقة في العام أولى من جعله حقيقة في خاص، على ما تقدم تقريره في كتاب اللغات، والله أعلم. الكلام في الناسخ والمنسوخ قال القرافي: قال صاحب (المجمل) في اللغة: إذا أزال الشيء الشيء فقد نسخه، ونسخت الشمس الظل، والمشيب الشباب، وتناسخ المواريث، إذا مات وارث بعد وارث قبل القسم، وتناسخ القرون.

وقال أبو حاتم: النسخ: أن يحول ما في الخلية من العسل والنحل في أخرى، ومنه نسخ الكتاب. قوله: " وقيل: إنه الإبطال، نسخت الشمس الظل، إذا عدم؛ لأنه قد لا يحصل في موضع آخر ". تقريره: أن الشمس، متى كانت على سمت الرءوس، فإن الشمس إذا انت عند الزوال، تبطل الظل بالكلية، وتكسوا ضم الشمس القائم، وهذا يتعذر بأرض " مصر " لأن عرضها يكون أكثر من الميل الأعظم، وإنما يتأتى ذلك في بلد عرضه أقل من الميل كـ " الحجاز " بـ " مكة " إحدى وعشرون درجة، وعرض " قبرص " خمسة وعشرون، فلا يتأتى ذلك بها، بل فيما هو جنوبي عنها يومين، وما عدا ذلك، فلا يعدم الظل ألبتة في الفصول الأربعة، بل لابد من بقاء جزء منه عند الزوال. قوله: " المزيل لآثار القوم هو الله تعالى فإضافته للريح مجاز ". قلنا: العرب لم تخص وضعها بالمؤثر الحقيقي، بل لما هو أعم، فيكون حقيقة في الفاعل الحقيقي نحو خلق الله تعالى، وفي المؤثر العادي؛ نحو: أحرقته النار، وقتله السم، وأرواه الماء، وأشبعه الخبز، وإلى ما ليس بمؤثر ألبتة؛ نحو: سقط الحائط، وبرد الماء، ومات زيد، ولا خلاف أن هذه الألفاظ حقائق، فحينئذ الوضع ليس خاصا بالمؤثر، فقولهم: " نسخت الريح آثار القوم " حقيقة لغوية، وإن كان الله تعالى هو المؤثر؛ من حيث الفعل والواقع في نفس الأمر.

(فائده) رأيت في شرح المقامات أن بعض الفضلاء بعث بناسخ إلى صديق له ... إلخ

قوله: " النسخ هو التحويل، ومنه نسخ الكتاب ". قلنا: لا نسلم أن ما في الكتاب حول؛ بل عمل مثله، وعمل مثل الشيء ليس تحويلا له؛ لخلاف تحويل الحجر من مكان إلى مكان، فتعين أن يكون نسخ الكتاب مجازا. (فائده) رأيت في شرح المقامات أن بعض الفضلاء بعث بناسخ إلى صديق له، ومعه رقعة فيها مكتوب: " قد بعث إليك بناسخ، وأعرفك بصفته: أنه غن نسخ، مسخ، وإن نقط، غلط، وإن أشكل، أشكل، ولقد أمليته زيدا، فسمع عمرا، وكتب خالدا، وقرأ عبد الله ". وقال في شرح المقامات: " نسخ " إذا نقل اللفظ والمعنى، و " سلخ " إذا نقل المعنى دون اللفظ، و" مسخ " إذا افسد اللفظ والمعنى. قوله: " ومنه تناسخ القرون ". قلنا: ليس في القرون تحويل، إنما كل قرن يتقدم مانه، ويحدث قرن آخر في زمان آخر، وليس القرن الأول يوجد في زمان القرن الثاني، فلا تحويل حينئذ، إنما هو من مجاز التشبيه، لما أشبه القرن الثاني الأول من حيث الجملة، عد كأنه تحول في الزمان الثاني حقيقة؛ بخلاف تناسخ المواريث؛ فإن الحق ينتقل من وارث إلى وارث. قوله: " لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو الناسخ من حيث فعل الشمس والريح المؤثر في تلك الإزالة ". قلنا: إطلاق التأثير على فاعل المثر، وجعله مثرا بذلك مجاز، ومذهب أهل الحق أن الله تعالى هو الخالق لجميع الآثار الصادرة في الوجود عن الشمس وغيرها بقدرته من غير واسطة، والذي قلمتموه إنما يأتي على طريق الفلاسفة القائلين بأن أجرام الكواكب أثرت، والله تعالى هو خالقها فقط

(تنبيه) لفظ المصنف وجدته في عدة نسخ

قوله: " أهل اللغة إنما أخطئوا في إضافة النسخ للشمس ". قلنا: لم يخطئوا في ذلك؛ لما تقدم أن العرب لم تخصص الوضع بالفاعل حقيقة، بل هذا الإطلاق حقيقة، ومالإضافة صواب؛ من حيث إنهم استعملوا اللفظ فيما وضع له؛ كقولهم: أحرقته النار، وقتله السم إطلاق صواب مع أن الفاعل في الجميع هو الله تعالى. قوله: " النقل أخص من الزوال؛ لأنه حيث وجد النقل، عدمت صفة، وحصلت عقبها صفة أخرى ". قلنا: هذه العبارة غير موفية بالمقصود؛ فإنه إذا عدمت الصفة، وحصل عقبها أخرى، لم يحصل نقل؛ فإن النقل تعين منتقل بحال، والتقدير: أن تلك الصفة عدمت، ولم تنتقل، بل الموجود غيرها، والنقل لا يكون إلا في عين واحدة، وما ذكرتموه تعاقب لا نقل، فلا يحصل المقصود من النقل، بل ينبغي أن يقال: إذا حصل النقل، فقد عدم المنقول من محله الأول، وزال منه، فصار النقل مستلزما للإزالة، وقد يزول الشيء بعدمه في نفسه من غير انتقال، فيكون النقل أخص، والزوال أعم. قوله: " جعل اللفظ حقيقة في الأعم أولى كما تقدم ". قلنا: وقد تقدم أن جعله في الأخص أولى؛ لأنه أكثر فائدة من حيث إفادته للخصوص، ومن حيث استلزامه للأعم، يكون المجاز إلى الأعم أقوى من المجاز على تقدير العكس، فهذان ترجيحان للأخص، ثم إنه هو أكثر اختياركم في المباحث المتقدمة. (تنبيه) لفظ المصنف وجدته في عدة نسخ: " وقال الفقهاء: إن النسخ [هو] النقل " ووافقه على ذلك سراج الدين،

وقال تاج الدين، و (المنتخب) والقفال، وسكت التبريزي عن هذا الحديث بالكلية، فلم يتعرض للنسخ لغة ألبتة، والظاهر أن هذا النقل من تاج الدين و (المنتخب) سهو، فإن سراج الدين، ونسخ (المحصول) على خلافه، وكشفت " البرهان " و " المستصفى " و " المعتمد " وكلام الشيخ أبي إسحاق في " اللمع " و" شرح اللمع " و " الإحكام " لسيف الدين، وهذه الكتب التي يظن أن المصنف نقل منها، فلم أجد ذكر القفال، ولا ذكر الفقهاء، بل قولين مطلقين غير منسوبين، واللائق الاعتماد على نقل المصنف دون مختصرات كتبه، واختار القاضي عبد الوهاب في " الملخص " والغزالي في " المستصفى ": أنه مشترك بين النقل والإزالة لغة. وقال أبو الحسين في " المعتمد ": " الأشبه مجاز في النقل ". قال القاضي عبد الوهاب: وتمثيله بنسخ الكتاب، لا يصح؛ لأن الأجسام التي في حروف الكتاب لم تنقل، وإنما عمل مثلها. قال سيف الدين: قال القاضي أبو بكر، ومن تابعه كالغزالي وغيره: إن النسخ مشترك بين المعنيين المتقدمين. وقال أبو الحسين وغيره: هو حقيقة في الإزالة، مجاز في النقل. وقال القفال من الشافعية: إنه حقيقة في النقل والتحويل، فوافق تاج الدين، و " المنتخب " غير أنهما التزما اختصار ما في " المحصول "، وليس هو في " المحصول " فيكون خطأ، وإن صادفت ذلك في نفس الأمر. ***

المسألة الثانية قال الرازي: في حد النسخ في اصطلاح العلماء

المسألة الثانية قال الرازي: في حد النسخ في اصطلاح العلماء: الذي ذكره القاضي أبو بكر، وارتضاه الغزالي رحمهما الله: أنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم، على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه. وإنما اثرنا لفظ الخطاب، على لفظ النص؛ ليكون شاملا للفظ، والفحوى، والمفهوم، وكل دليل؛ إذ يجوز النسخ بجميع ذلك. وإنما قلنا: " على ارتفاع الحكم الثابت ": ليتناول الأمر، والنهي، والخبر، وجميع أنواع الحكم. وإنما قلنا: " بالخطاب المتقدم ": لأن ابتداء إيجاب العبادات في الشرع، يزيل حكم العقل من براءة الذمة، ولا يسمى نسخا؛ لأنه لم يزل حكم الخطاب. وإنما قلنا: " لولاه لكان ثابتا ": لأن حقيقة النسخ الرفع، وهو إنما يكون رافعا، إذا كان المتقدم بحيث لولا طريانه لبقى. وإنما قلنا: " مع تراخيه عنه ": لأنه لو اتصل به، لكان بيانا لمدة هذه العبادة، لا نسخا. ولقائل أن يقول: هذا الحد مختل من وجوه: أحدهما: أن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم المتقدم ناسخ للحكم الأول،

وليس بنسخ؛ إذ النسخ هو: نفس الارتفاع، وفرق بين الرافع، وبين نفس الارتاع، فجعل الرافع عين الارتفاع خطأ. وثانيها: أن تقييد ذلك بالخطاب خطأ؛ لأن الناسخ قد يكون فعلا، لا قولا؛ فإنه صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا، وعلمنا بالضرورة أنه قصد به رفع بعض ما كان ثابتا، فذلك يكون ناسخا، مع أنه ليس بخطاب. فإن قلت: " الناسخ في الحقيقة هو: الخطاب الدال على وجوب متابعيه عليه السلام في أفعاله ". قلت: لو قدرنا أنه لم يرد أم زائد يدل على وجوب متابعيه في أفعاله، ثم إنه عليه الصلاة والسلام فعل فعلا، ووجد هناك من القرائن ما أفاد العلم الضروري بأن غرضه عليه الصلاة والسلام إزالة الحكم الذي كان ثابتا، فإنه يكون ناسخا بالإجماع مع أنه لم يوجد الخطاب في هذه الصورة أصلا. وثالثها: أن الأمة إذا اختلفت على قولين، فسوغت للعامي تقليد كل واحدة من الطائفتين، ثم اجمعت بعد ذك على أحد القولين،، فهذا الإجماع خطاب، وهو ناسخ لجواز الأخذ بكلا القولين، فقد وجد هاهنا خطاب دال على ارتفاع حكم خطاب، مع أن الحق أن الإجماع لا ينسخ، ولا ينسخ به. ويمكن جوابه: بأنا ذكرنا حد النسخ مطلقا لا حد النسخ الجائز في الشرع. ورابعها: أن كون النسخ رفعا باطل، وسيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى. وخامسها: أن قوله: " بالخطاب المتقدم " خطأ؛ لأن الحكم الأول، لو ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم لا بقوله، لكان الذي يرفعه ناسخا له، فهذا ما في هذا الحد.

شرح القرافي: قوله: " وإنما أثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليشمل اللفظ، والفحوى، والمفهوم

والأولى أن يقال: النسخ: طريق شرعي يدل على أن مثل الحكم الذي كان ثابتا بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه، على وجه لولاه لكان ثابتا. فقولنا: طريق شرعي، نعني به القدر المشترك بين القول الصادر عن الله تعالى وعن رسوله عليه الصلاة والسلام والفعل المنقول عنهما. ويخرج عنه اتفاق الأمة على أحد القولين؛ لأن ذلك ليس بطريق شرعي على هذا التفسير، ولا يلزم أن يكون الشرع ناسخا لحكم العقل؛ لأن العقل ليس بطريق شرعي، ولا يلزم أن يكون العجز ناسخا لحكم شرعي؛ لأن العجز ليس بطريق شرعي. ولا يلزم تقييد الحكم بغاية، أو شرط، أو استثناء؛ لأن ذلك غير متراخ. ولا يلزم ما إذا أمرنا الله تعالى بفعل واحد، ثم نهانا عن مثله؛ لأنه لو لم يكن هذا النهي لم يكن مثل حكم الأمر ثابتا. المسألة الثانية قال القرافي: في حد النسخ قوله: " وإنما أثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليشمل اللفظ، والفحوى، والمفهوم، وكل دليل إذ يجوز النسخ بجميع ذلك ".

....................................................

...................................................

....................................................

......................................................

(سؤال) قال في " التلخيص ": إن المفهوم وإن قلنا: إنه دليل لا يجوز التخصص به

تقريره: أن المفهوم ينقسم إلى مفهوم الموافقة، ,مفهوم المخالفة، وقد تقدم في الأوامر بسط هذه الحقائق، ولفظ النص لا يمتنع عليه المفهوم والفحوى، وإنما مقصوده في قوله: " وكل دليل ليندرج الظاهر الذي ليس بنص بأحد تفاسير النصر الثلاثة التي تقدم بسطها في باب المجمل والمؤول. (سؤال) قال في " التلخيص ": إن المفهوم وإن قلنا: إنه دليل لا يجوز التخصص به، وهاهنا جوز به النسخ، وهو أقوى من التخصيص، فيلزم جواز التخصيص بطريق الأولى، فيتناقض. جوابه: أن ذلك اختياره ولم يفرع عليه، بل على اختيار الجماعة، وهم يجوزون التخصيص. قوله:" وقلنا: ارتفاع الحكم ليتناول الأمر والنهي والخبر ". تقريره: أن الخبر أيضا حكم باعتبار الإسناد الذي فيه بين المحكوم عليه والمحكوم به، فهو حكم غير الأحكام الخمسة، ولا يختص بالخالق بخلافها. قوله: " على وجه لولاه لكان ثابتا ". تقريره: أنه يتخرج على مذهب القاضي أن الحكم لم يكن مغيا في نفس

(فائدة) قال الغزالي في (المستصفى): يجوز أن يسمع جبريل عليه السلام الناسخ والمنسوخ في وقت؛ لأنه ليس مكلفا بمقتضى النصين

الأمر، بل مستمرا لولا الناسخ، وعلى مذهب الفقهاء أيضا؛ لأنه لولا الناسخ، لكان مستمرا في اعتقادنا، وإن كان مغيا في نفس الأمر، والناسخ إنما يبين انتهاء المدة، فاستمرار الثبوت مشترك بين المذهبين باعتبار معنيين، ويكون على مذهب الفقهاء والقاضي احترازا من المغيا في ابتداء أمره؛ لقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] فإنه إذا جاء الليل، انقضى الصوم؛ لانقضائه بغايته، ولا يعقل النسخ عند غروب الشمس؛ لأنه قد ارتفع بغايته. قوله: " وإنما قلنا: مع تراخيه عنه؛ لأنه لو اتصل به، لكان بيانا للعبادة لا نسخا ". قلنا: هذا إنما يأتي في المنسوخ بعد الفعل، أما المنسوخ قبله، فلا يقال: فيه بيان للعبادة، بل يقال: نقض بعضه بعضا، فما استقر شيء؛ حتى ينسخ؛ كما لو قال تعالى: " اوحيت عليك ذبح إسحاق لا يجب عليك ذبحه " فإنه لا نسخ، لعدم الاستقرار. (فائدة) قال الغزالي في (المستصفى): يجوز أن يسمع جبريل عليه السلام الناسخ والمنسوخ في وقت؛ لأنه ليس مكلفا بمقتضى النصين؛ وتقبليغه المكلفين متراخ في وقته. قوله: " الخطاب ناسخ، وليس بنسخ ". قلنا: النسخ هو نقل الناسخ، تقول: نسخ الله تعالى العبادة ينسخها، وإذا كان النسخ فعل الناسخ، وفعل الله تعالى في النسخ هو خلق أصوات الخطاب في جبريل دالة على انتهاء مدة الحكم، فهو عين

(سؤال) بقى على هذا الحد من الأسئلة ما تقدم في تعارض قوله عليه السلام وفعله

النسخ؛ لأنه عين فعل الناسخ، ويصدق على الله تعالى حينئذ أنه الناسخ، كما يصدق على الخطاب أيضا أنه الناسخ لقول الله تعالى والمخصص، والنسخ مخصص للعموم، فتفسير النسخ بالخطاب صحيح. قوله: " كون النسخ رفعا باطل ". قلت: قد تقدم تقرير صحته، وانه يتخرج على المذهبين. (سؤال) بقى على هذا الحد من الأسئلة ما تقدم في تعارض قوله عليه السلام وفعله، في أن الفعل إذا جاء عقيب القول، كان ناسخا له، إذا كان القول خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أثبت هناك النسخ مع عدم التراخي عن المنسوخ، فلا يكون الحد جامعا لأفراد النسخ، أو لا يكون الكلام هنالك صحيحا؛ أحد الأمرين لازم. قوله: " نعي بالطريق المشترك بين القول الصادر عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم والفعل المنقول عنهما ". تقريره: أن المشكل فيه تصوير الفعل المنقول عن الله تعالى كيف يكون ناسخا، وقد تقدم في بيان المجمل: أنه يصح أن يكون بالفعل من الله تعالى ومن رسوله. وقال: المتصور من الله تعالى هو الكتابة في اللوح المحفوظ، فإذا نقل أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ: أن الحكم الفلاني بيان نصه كذا، وأني قد رفعته، كان الأول بيانا، والثاني نسخا بفعل مضاف إلى الله تعالى، وإذا أمكن إضافة الكتاب إلى الله تعالى بواسطة خلقه إياها في اللوح المحفوظ، أمكن إضافة خلق الإشارات إليه، وغير ذلك من الأفعال الدالة بواسطة خلقها في خلقه، فيحصل النسخ والبيان بجميع ذلك.

قوله: " ويخرج عنه اتفاق الأمة على أحد القولين؛ لأنه ليس بطريق شرعي؛ على هذا التفسير ". قلنا: ما يعنون بكونه ليس بطريق شرعي، بل الإجماع السابق على جواز الأخذ بكلا القولين طريق شرعي، والإجماع اللاحق أيضا طريق شرعي، وقولكم: " على هذا التفسير " قلنا: ما يعنون بكونه ليس بطريق شرعي، بل الإجماع السابق على جواز الأخذ بكلا القولين طريق شرعي، والإجماع اللاحق أيضا طريق شرعي، وقولكم: " على هذا التفسير " غير متجه أيضا؛ لأن الجواز السابق حكم شرعي، وارتفاعه معناه أن مثله لا يثبت بعد ذلك بعين ما ذكرتم، فخروجه بهذا القيد غير متجه. قوله: " الناسخ يدل على أن أصل الحكم ليس ثابتا بعد ذلك ". قلنا: عليه سؤالان: الأول: أن النسخ قد يرد على الشيء الواحد؛ كما في ذبح إسحاق عليه السلام، فلا مثل حينئذ مع تحقق النسخ، فلا يكون الحد جامعا للمحدود. الثاني: أن حكم الله تعالى واجب الوجود قديم وكلامه القائم بذاته أزلي أبدي، والأمثال إنما تتصور في الأعراض الممكنة التي يستحيل عليها البقاء زمنين، أما في كلام الله تعالى وصفاته العلا، فلا. فإن قلت: كلام الله تعالى واجب الوجود، غير قابل للأمثال، لكن الحكم الشرعي لا يكفي فيه مجرد لكلام، بل لا بد فيه من تعلق خاص، والتعلق عدمي ممكن قابل للوقوع والتغيير والعدم، فيتصور الأمثال ". قلت: سلمنا أن الحكم لابد فيه من التعلق؛ لكن لا نسلم أنه يتصور فيه الأمثال، بل هو نسبة بين الخطاب والفعل، والنسب عدمية؛ لا وجود لها في الخارج، وما لا وجود له لا يتصف بالأمثال وغيرها. فإن قلت: النسب، وإن لم تكن موجودة مفي الأعيان، غير أنها موجودة في الأذهان، والموجود في الذهن لا يبقى زمنين، فيتأتى فيه الأمثال، وإذا

(سؤال) قال النقشواني: أورد عليهم أن الخطاب ناسخ، وليس بنسخ، والتزمه هو، فقال: الناسخ طريق شرعي

كان معتبرا في الحكم الشرعي، كان الحكم الشرعي حقيقة مركبة من واجب الوجود الذي هو أصل الكلام، ومن التعلق الخاص القابل للأمثال، فيتصور منه الأمثال، والمركب من الأمثال والواجب يكون الانتفاء فيه زمنين، لأجل جزئه؛ فصح الحد. قلت: الحكم الشرعي واقع في نفس الأمر، سواء تصورنا نحن بدل النسبة أم لا، والذي يجب وقوعه في الخارج من النسب، إنما هو صدق ملزوم الحكم بها؛ كما تقدم بسطه في حكم الذهن بأمر على أمر، أول الكتاب، والملزوم الواقع في نفس الأمر إنما هو أصل الكلام بحيثية خاصة، وهو أنه بحيث إذا اعتبر له العقل وجد له تلك النسبة الخاصة، والحيثية ليست من ذوات الأمثال، وأصل الكلام ليس من ذوات الأمثال، فحينئذ لا تتصور الأمثال في الحكم ألبتة، بل هو نزعة من قوله الذي سيأتي في بحثه مع القاضي: أن الحكم، هل يرفع بذاته أم لا؟ وجعل الخلاف فيها راجعا للخلاف في الأعراض، هل يبقىزمنين أم لا؟ فيجعل رجوع الحكم للعرض، وكذلك هاهنا يخيل فيه الأمثال التي لا تتصور إلا في العرض، والكل غير صحيح. (سؤال) قال النقشواني: أورد عليهم أن الخطاب ناسخ، وليس بنسخ، والتزمه هو، فقال: الناسخ طريق شرعي. (سؤال) قال النقشواني: ينتقض حده بالشرط الوارد عقيب الجمل الكثيرة، والاستثناء، أو الصفة؛ فإنه طريق شرعي متراخ عن طريق شرعي، ويرفع ما كان ثابتا مع أنه ليس بنسخ، فإن أراد بالتراخي تراخيا خاصا، فلا بد من بيانه؛ لأن اللفظ يشعر به، وأما ما يصدق عليه أنه تراخ، فيصدق فيما

(سؤال) قال: ينتقض بكل خطاب دال على ثبوت الحكم على الأبد

ذكرناه. (سؤال) قال: ينتقض بكل خطاب دال على ثبوت الحكم على الأبد؛ فإنه يمنع من وجود الأمثال بعده، إذ لا يعدله، ومثله لا يجتمع معه؛ لأن المثلين ضدان في المحل الواحد. (تنبيه) أسقط " المنتخب " و " التنقيح " قوله: " فعل الله تعالى " فلم يذكر هذا الاحتراز ألبتة. وقال تاج الدين:" فعل الرسول فقط "، وسكت عن ذكر فعل الله تعالى لما تخيله فيه من الإشكال، وذكرهما سراج الدين، كما في " المحصول " وزاد التبريزي، فقال في الأسئلة على الحد الأول:" إن حكم الخطاب يتعذر رفعه "، وأجاب عن السؤال الأول، فقال: " الناسخ حقيقة هو الله تعالى، ونسخه قوله وخطابه، ويسمى الخطاب ناسخا مجازا، كما يسمى مثبتا ". وعن الثاني:" أن الفعل في نفسه ليس بدليل، بل بسابقة مقال، أو قرينة حال، فينزله منزلة المخاطب؛ لأنه دليل الخطاب ". قلت: ووعد أنه سيبين كيف يتصور رفع الخطاب. وقوله: " الخطاب لا يسمى ناسخا إلا مجازا " لا يتجه؛ لأن اللفظ يصدق عليه أنه رافع ناسخ، كما يصدق عليه أنه معارض ومناقض، ولا معنى للناسخ إلا المناقض المعارض على وجه خاص، ولذلك يسمى مثبتا حقيقة، كما يسمى دالا حقيقة؛ لأنه لا معنى لكونه مثبتا إلا كونه دالا على الثبوت. وقوله:" الفعل في نفسه ليس بدليل ".

المسألة الثالثة قال الرازي: قال القاضي أبو بكر رحمه الله: النسخ رفع، ومعناه: أن خطاب الله تعالى تعلق بالفعل، بحيث لولا طريان الناسخ لبقى

قلنا: إذا قال صاحب الشرع: " جعلت الفعل دليلا "، صار دليلا، كما إذا قال: " جعلته سببا "، فإنه يكون سببا حقيقة. المسألة الثالثة قال الرازي: قال القاضي أبو بكر رحمه الله: النسخ رفع، ومعناه: أن خطاب الله تعالى تعلق بالفعل، بحيث لولا طريان الناسخ لبقى، إلا أنه زال؛ لطريان الناسخ. وقال الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله: إنه بيان، ومعناه: أن الخطاب الأول انتهى بذاته في ذلك الوقت، ثم حصل بعده حكم آخر. والمثال الكاشف عن حقيقة هذه المسألة: أن من قال ببقاء الأعراض، قال: الضد الباقي يبقى لولا طريان الطارئ، ثم إن الطارئ يكون مزيلا لذلك الباقي. ومن قال بأنها لا تبقى، قال: الضد الأول ينتهي بذاته، ويحصل ضده بعد ذلك، من غير أن يكون للضد الطارئ أثر في إزالة ما قبله؛ لأن الزائل بذاته لا يحتاج إلى مزيل. وإذا ظهر هذا التمثيل، عادت الدلائل المذكورة في تلك المسألة إلى هذه المسألة نفيا وإثباتا، فنقول: احتج المنكرون للرفع بوجوه: الحجة الأولى: أنه ليس زوال الباقي بطريان الطارئ أولى من اندفاع الطارئ لأجل بقاء الباقي، فإما أن يوجدا معا، وهو محال بالضرورة، أو يعدما معا

وهو محال؛ لأن علة عدم كل واحد منهما وجود الآخر، فلو عدما معا لوجدا معًا، وذلك محال. فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: الحادث أقوى من الباقي لحدوثه. قلت: هذا باطل لوجهين: أحدهما: أن الباقي: إما أن يحصل له أمر زائد على ما كان حاصلًا له حال حدوثه، أو لا يحصل: فإن كان الأول كان ذلك الزائد حادثًا، كان ذلك الزائد حادثًا، فذلك الزائد لحدوثه يكون مساويًا للضد الطارئ في القوة، وإذا استويا في القوة، امتنع رجحان أحدهما على الآخر، وإذا امتنع عدم ذلك الباقي لا محالة. وإن كان الثاني، وهو: ألا يحصل للباقي أمر زائد على ما كان حاصلًا له حال الحدوث لزم أن تكون قوة الباقي مساوية لقوة الحادث، وحينئذ يبطل الرجحان. وثانيهما: أ، الشيء حال حدوثه، كما يمتنع عدمه، فالباقي حال بقائه لا بد له من سبب؛ لكونه ممكنًا، وهو مع السبب يمتنع عدمه، فإذا امتنع العدم عليهما، استويا في القوة، فيمتنع الرجحان. الحجة الثانية هي: أن طريان الحكم الطارئ مشروط بزوال المتقدم، فلو كان زوال المتقدم معللًا بطريان الطارئ لزم الدور، وهو محال. الحجة الثالثة: أن الطارئ: إما أن يطرأ حال كون الحكم الأول معدومًا، أو

موجودًا: فإن كان الاول: استحال أن يؤثر في عدمه؛ لأن إعدام المعدوم محال. وإن كان الثاني: فقد وجد مع وجود الأول، وإذا وجدا معًا، لم يكن بينهما منافاة، وإذا لم يكن بينهما منافاة، لم يكن أحدهما رافعًا للآخر. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون ذلك، كالكسر مع الانكسار؟ قلت: الانكسار عبارة عن: زوال تلك التأليفات عن أجزاء ذلك الجسم، والتأليفات أعراض غير باقية، فلا يكون للكسر أثر في إزالتها. الحجة الرابعة هي: أن كلام الله تعالى قديم، والقديم لا يجوز رفعه، فإن قلت: المرفوع تعلق الخطاب. قلت: الخطاب إما أن يكون أمرًا ثبوتيًا، أو لا يكون: فإن لم يكن أمرًا ثبوتيًا، استحال رفعه وإزالته، وإن كان أمرًا ثبوتيًا، فهو إما أن يكون حادثًا، أو قديمًا: فإن كان حادثًا، لزم كونه تعالى مُحلا للحوادث، وإن كان قديمًا، لزم عدم القديم، وهو محال. واعلم أن هذه الوجوه، كما أنها قوية في نفسها، فهي أقوى لزومًا على القاضي رحمه الله؛ لأنه هو الذي عول عليها في امتناع إعدام الضد بالضد. والقول بكون النسخ رفعًا عين القول بإعدام الضد بالضد، فيكون لزوم هذه الأدلة عليه أقوى. واحتج إمام الحرمين رحمه الله على فساد الرفع بوجه آخر، وهو: أن علم الله تعالى إما أن يكون متعلقًا باستمرار هذا الحكم أبدًا، أو يكون متعلقًا

بأنه لا يبقى إلا إلى الوقت الفلاني: فإن كان الأول: استحال نسخه، وإلا لزم انقلاب العلم جهلًا، وهو محال. والثاني: يقتضي بطلان القول بالرفع؛ لأن الله تعالى، إذا علم أن ذلك الحكم لا يبقى إلا إلى ذلك الوقت، استحال وجود ذلك الحكم بعد ذلك، وإلا لزم انقلاب العلم جهلًا ن وإذا كان ممتنع الوجود بعد ذلك، استحال أن يقع زواله بمزيل؛ لأن الواجب لذاته يمتنع أن يكون واجبًا لغيره. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يقال: علم الله تعالى أن ذلك الحكم لا يبقى إلى ذلك الوقت لطريان الناسخ، لا لذاته، وإذا علم الله تعالى أنه يزول ذلك الحكم في ذلك الوقت؛ لطريان ذلك الناسخ لم يكن ذلك قادحًا في تعليل زواله بالنسخ؟ ويزيده تقريرًا أن يقال: إن الله تعالى كان يعلم أن العالم يوجد في الوقت الفلاني، فيكون وجوده في ذلك الوقت واجبا، ولم يكن ذلك الوجوب قادحا في افتقاره إلى المؤثر؛ لأنه لما علم الله تعالى أنه يوجد في ذلك الوقت بذلك المؤثر لم يكن الوجوب على هذا الوجه قادحا في افتقاره إلى المؤثرى، فكذا هاهنا. واحتج القائلون بالرفع بأمرين: أولهما: أن النسخ في اللغة عبارة عن الإزالة؛ فوجب أن يكون في الشرع أيضا كذلك؛ لأن الأصل عدم التغيير، ولأننا ذكرنا في باب نفي الألفاظ الشرعية ما يدل على عدم التغيير. وثانيهما: أن الخطاب كان متعلقا بالفعل، فذلك التعلق يمتنع أن يكون عدمه

شرح القرافي: قوله: " قال الأستاذ: الخطاب انتهى بذاته "

لذاته، وإلا لزم ألا يوجد، وإن لم يكن لذاته، فلا بد من مزيل، ولا مزيل إلا الناسخ. والواجب عن الأول: أنه تمسك بمجرد اللفظ، وهو لا يعارض الدلائل العقلية. وعن الثاني: أن كلام الله تعالى القديم كان متعلقا من الأزل إلى الأبد باقتضاء الفعل إلى ذلك الوقت المعين، والمشروط بالشيء عدم عند عدم الشرط، فلا يفتقر زواله إلى مزيل آخر، والله أعلم. المسألة الثالثة قال القرافي: قوله: " قال الأستاذ: الخطاب انتهى بذاته ". تقريره: أن القاضي والأستاذ اتفقا على أن الهطاب: اقتضاء الدوام باعتقادنا، وإنما الخلاف في نفس الأمر، فالقاضي يقول فيه: اقتضاء الدوام في نفس الأمر، ومثله في كتبه بالنسخ، فقال: النسخ كالفسخ، فكما أن الإجارة إذا كانت مستمرة قبلت الفسخ، أما إذا أجره شهرا، فانقضى ذلك الشهر، فإن الفسخ حينئذ متعذر؛ لعدم الدوام حينئذ. وغيره يقول: لا دوام في نفس الأمر، بل لم يقتض النص العبادة في نفس الأمر، إلا إلى هذه الغاية، والناسخ بينهما. قوله: " والمثال الكاشف عن حقيقة المسألة الأعراض ". قلنا: لا نسلم صحة هذا التمثيل، ولا نسلم أن الأعراض مساوية للمسألة؛ لأن كلام الله تعالى قديم واجب الوجود؛ لا يوصف بما توصف به الأعراض من عدم بقائها زمنين، وهذا المثال بعيد جدا عن المسألة. قوله:" الباقي إما أن يحصل له أمرا زائدا على ما كان حاصلا له قبل حدوثه، أو لا يحصل، فإن كان الأول كان ذلك الزائد حادثا ".

قلنا: هذه العبارة غير متجهة، بل ينبغي أن تقولوا: إما أن يحصل أمر زائد بعد حدوثه، أما قبل حدوقه، فقد حصل له أمر زائد، وهو الحدوث؛ لأنه لم يكن حاصلا قبل الحدوث، والمتجه أن تقولوا: بعد الحدوث؛ فيتجه البحث. وكشفت عدة منالنسخ، فوجدتها كذلك. قوله:" يكون الحادث الزائد مساويا للضد الطارئ في القوة ". قلنا: لا نسلم المساواة حينئذ؛ لأن الحادث في الباقي هو مقارنة الوجود الحاصل عند الحدوث للأزمنة المستقبلة؛ إذ لا يعني للبقاء إلا مقارنة الوجود للأزمنة، والمقارنة: نسبة وإضافة عدمية، والضد الحادث حدوثه حدوث وجود الوجود أقوى من الأمر العدمي، وأمكن دفعه للعدمي، فهذا فرق يمنع المساواة. قوله:" وإن لم يحصل أمر زائد، لزم المساواة ". قلنا: لا نسلم؛ لأنكم قد تريدون بعدم حصول الزائد زائدا وجوديا، وهو ظاهر كلامكم؛ لأنكم جعلتموه مساويا للضد الحادث؛ وحينئذ يصدق أنه ما حصل زائد وجودي، وحصل زائد عدمي؛ وأمكن أن يقال: إنه موجب للضعف، فيكون اللازم على تقدير عدم حدوث أمر زائد وجودي حصول الضعف لا حصول المساواة؛ عكس ما قلتموه. قوله: " الباقي لا بد له من السبب؛ لكونه ممكنا، ومع السبب يمتنع عدمه ". قلنا: لا نسلم أن الباقي يحتاج للسبب؛ لأن المحتاج للسبب هو الممكن، إذا كان في حيز العدم، أما بعد الوجود، فلو أثر فيه، لزم تحصيل الحاصل، أو الجمع بين المثلين، سلمنا أنه لا بد من حصول السبب معه؛

لكن لا نسلم أنه امتنع العدم عليه حينئذ؛ لأن الامتناع إنما ينشأ تعلق السبب به من تعلق التأثير، والأثر زمن التأثير فيه من السبب التام واجب الوقوع، ممتنع العدم، لكن يكون السبب معه أعم، ولا يلزم من تسليم كون السبب معه كونه في زمن التأثير، أو هو مؤثر فيه حينئذ. قوله: " طريان الطارئ مشروط بزوال المتقدم، فلو كان الطارئ علة لعدمه، لزم الدور ". قلنا: أمكن فك الدور بأن الطارئ ليس علة لعدم المنعدم، ولا يلزم من ذلك أن المنعدم يعدم بذاته، كما قدرتموه في الأعراض؛ فإن المسألة هي مثالها؛ لجواز أن يكون باقيا بذاته، والله تعالى يعدمه؛ كما يقوله القاضي في الأجسام، والأعراض باقية بذاتها، والله تعالى تتعلق قدرته بإعدام أي شيء شاء منها، فلا يلزم من عدم التعليل العدم الذاتي. قوله: " الطارئ: إما أن يطرأ حال كون الأول معدوما، أو موجودا، فإن كان الأول، استحال أن يؤثر في عدمه ". قلنا: لا نسلم؛ لأن الضد يطرأ في أول أزمنة العدم الذي يلي آخر أزمنة الوجود، فيمتنع استمرار الوجود في ذلك الزمن؛ فيكون مؤثرا في العدم، مع أنه ما طرأ إلا في زمن العدم، ولا يلزم إعدام المعدوم، وإنما يلزم إعدام المعدوم، أن لو تقرر العدم في زمان قبل طروء الضد، فيحصل الضد عدمه بعد ذلك، أما على ما ذكرناه من تقرر العدم، فلا، والقاعدة أن تحصيل الحاصل أبدا لا يلزم إلا مع تعدد الزمان، أما مع إيجاده، فلا، وكذلك نقول في طرف الوجود المؤثر: يؤثر في كل حادث أول أزمنة وجود الحادث، ومع ذلك لا يلزم تحصيل الحاصل؛ لأنه لم يقرر وجوده قبل ذلك. قوله: " التأليفات أعراض لانتفاء زمانين، فلا أثر للكسر في إزالتها ". قلنا: ذكر الفرق في هذه المقام غير متجه؛ لأنكم أول المسألة ادعيتم

التسوية بين الأعراض، وبين هذه المسألة؛ حتى جعلتموها مثلا لها، فذكر الفرق بعد ذلك غيرمسموع، بل أنتم تضطرون إلى الجواب بما ذكرناه في رفع الحياة للموت، وكسر الفخار، وتسخين الماء البارد، وتبريد السخن، وغير ذلك من طيران الأضداد، والتأثيرات العادية، ما أنكره السوفسطائية، وجعلوا مستندهم عين ما ذكرتموه من النكتة. قوله:" إن لم يكن التعلق أمرا ثبوتيا، استحال رفعه ". قلنا: لا نسلم؛ فإن النسب والإضافات كلها ليست ثبوتية في الخارج، وهي تتضاد، ويرفع بعضها بعضا؛ كالمعية ترفع القبلية، والبعدية ترفع المعية، والتأخير يرفع التقدم، ووجود العالم رفع عدمه، وكل نقيض وجودي يرفع عدمه، غلى غير ذلك من النسب المتضادة، والتعلق هو عندنا من باب النسب؛ لأنه نسبة بين الكلام القديم، وفعل المكلف. قوله: " إن كان وجوديا حادثا، لزم كون الله تعالى محالا للحوادث ". قلنا: لا نسلم؛ لأن هذا التعلق ليس صفة لله تعالى، بل بين الكلام القديم، وفعل المكلف نسبة مخصوصة، فأمكن أن يقال: هو صفة للفعل، فتكون صفة البعد؛ لأن فعل العبد صفته، وليس هذا بأولى من قولكم، " يكون صفة للأمر " لأنه نسبة بينهما، فليس أحدهما أولى به من الآخر، بل بل نقول: العبد أولى؛ لأن صفة الحدوث مستحيلة على الآمر، فيتعين العبد. قوله:" إن كان عدمه لذاته، لزم ألا يوجد ". قلنا: قولكم: " عدمه لذاته " يصدق بطريقين: أحدهما: أنه مستحيل. والثاني: أنه ممكن الدوام في نفسه، وممكن الوجود؛ غير أن إرادة الله

(فائدة) إلزام الإمام والفقهاء القاضي المحال في العلم والخبر

تعالى تعلقت بتعلقه بتلك الغاية، فهو لذاته من هذا الوجه لا يتعداها، ونحن نختار هذا القسم، ونمنعكم امتناع وجوده، ونختار قولكم، وإن لم يكن لذاته، فلا بد من الناسخ وأن عدمه ليس ذاته باعتبار أنه ليس مستحيلا، وعلى هذا التقدير لا يلزم احتياجه للناسخ؛ لاحتمال أن يكون له غاية بالإرادة؛ كما تقدم. (فائدة) إلزام الإمام والفقهاء القاضي المحال في العلم والخبر، أما العلم: فقد تقدم لزوم انقلابه. وأما الخبر: فقالوا: لو شرعه دائما، لعلمه دائما، ولو علمه دائما؛ لأخبر عن دوامه؛ كما تقرر في علم الكلام: أن كل عالم، فهو مخبر عن معلومه، وإذا أخبر عن دوامه مع أنه غير دائم، لزم الانقلاب في الخبر؛ كما لزم في العلم أيضا. (سؤال) قال النقشواني: قوله: " ليس اندفاع الباقي بأولى من طريان الطارئ ". ممنوع، فهذه مقدمة ليست بديهية، ولم يذكر عليها دليلا، بل كل واحد منهما يتبع سببه، فما كان سببه أقوى، رفع صاحبه، كالتسخين مع التبريد: أيهما كان سببه أقوى دفع الآخر. ثم قوله: " الباقي: إما أن يحدث له أمر زائد أولا [لا يحدث]، فإن لم يحدث له أمر زائد، لزم المساواة ": ممنوع؛ لجواز ألا يحدث له أمر زائد، ويحدث له نقصان، فيضعف بطريق أن الباقي مستغن عن السبب، والحادث مفتقر له؛ كما تقرر في علم الكلام، والشيء مع سببه أقوى، ثم إنه مال هاهنا إلى تفسير النسخ بالانتهاء، دون الرفع، والذي اختاره من الحد يناقضه

(تنبيه) قال سراج الدين: " لا نسلم عدم الأولوية؛ إذ العلة التامة لعدم الشيء تنافي وجوده، وبالعكس

بقوله فيه: " على وجه لولاه لكان ثابتا " وهذا إنما يحسن على القول بالرفع. قلت: يحتمل قوله " على وجه لولاه لكان ثابتا " في الذهن والاعتقاد في نفس الامر، وهذا لا يناقض، وقد تقدم تقريره هناك. قال النقشواني: ومثال النسخ وغيره في الإجارة، والبيع، والوقف، فالإجارة: معلومة الانتهاء، فهو كقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187]، والوقف: لا يقبل الرفع أصلا، فهو كالإجارة المتأبدة التي لا تنسخ؛ كالعقائد ونحوها، والبيع: هو نقيض دوام الملك في نفس الأمر؛ حتى يطرأ عليه عقد رافع، أو إقالة ونحوه، فهذا هو مثال النسخ. قلت: هذا التمثيل يحسن باعتبار الاعتقاد، ولا نزاع فيه، ولا يحسن باعتبار الدوام في نفس الأمر؛ لورود سؤال العلم، والخبر في انقلابهما على تقدير النسخ. (تنبيه) قال سراج الدين: " لا نسلم عدم الأولوية؛ إذ العلة التامة لعدم الشيء تنافي وجوده، وبالعكس، ولولا الأولوية، لامتنع حدوث العلى التامة لعدم أو وجود ". يريد أن من جملة تمامها انتفاء جميع الموانع، وحوصل جميع الشروط، ثم قال:" وعن الثاني: لا نسلم أنه مشروط، ولا يلزم من منافاة الشيء لغيره كون وجوده مشروطا بزواله؛ كالعلة مع عدم المعلول ".

يريد أن عدم المعلول ينافيها؛ لاقتضائها وجوده، وليس عدم المعلول شرطا في العلة، بل اجنبى عنها، ثم قال:" وعن الثالث: أن إثبات العدم ليس إعدام المعدوم؛ كما أن إثبات الموجود ليس اتحاد موجود ". يريد أن إثبات الوجود هو تحصيل الوجود، وذلك هو أول أزمنة الحدوث، وليس فيه تحصيل الحاصل؛ لأن من شرط تحصيل الحاصل بعد ذلك الزمان، وهو هاهنا متحد؛ كما تقدم بسطه، فكذلك إثبات العدم هو تحصيل العدم في أول أزمنة تحققه، فلا يلزم تحصيل الحاصل في الموضعين. وقال التبريزي: حقيقة النسخ الرفع؛ خلافا للأستاذ، وإمام الحرمين، والمصنف، وجماعة المعتزلة، ولكل معتمد. قال: أما مستند غير المعتزلة، فما تقدم، وأما مستند المعتزلة، فهو أن الرفع يؤدي إلى أن يكون الشيء الواحد في الزمن الواحد حسنا قبيحا، مصلحة مفسدة، مأمورا منهيا، ويلزم منه البداء والكل محال. ثم قال: لنا أن الخطاب الأول، إذا استقل بإفادة دوام الحكم على القطع، فلولا الخطاب الثاني، لنفى الحكم، ودام، فإذا انقطع عند نزوله، تعين إسناد الإيقاع إليه، لا إلى عدم صلاحية البقاء، وقصور دلالة الخطاب الأول، وهذا هو الذي يعني بالرفع، فنسبة الرفع المرفوع من الرفع؛ كنسبة المكسور من الكسر، والمفسوخ من الفسخ، ولا شك أنا ندرك تفرقة بين بطلان الآنية؛ لتفرق أجزائها؛ بالاختلال، وتناهي قوة البقاء، وبين بطلانها بإبطال تأليفها بالكسر، وكذلك الفرق بين زوال ملك المبيع؛ لهلاكه، وبين زواله؛ لورود الفسخ على المبيع. وقول المصنف: " الكلام قديم ". قلنا: المرتفع ليس هو الكلام؛ بل الحكم، وليس الحكم هو الكلام، بل الثابت بالكلام.

قال: وعند هذا نقول: ينبغي للمحصل ألا يغفل عن مقاصد العلماء في مجاري الإطلاق؛ لئلا يزل بمداحض الاشتراك اللفظي، فيعلم بأنهم، وإن قالوا في حد الحكم في مواضع: " إنه الخطاب المتعلق بكذا " فلا يعنون بالحكم المنسوخ هذه الحقيقة المنقسمة إلى الوجوب، وما يقاسمه، وما ينقسم إليه، وهو حالة شرعية مستفادة من خطاب الشرع، تجري من الفعل مجرى الأوصاف ترجع إلى اعتبار ذهني، أو إضافة محضة، ولهذا نقول: نسخ وجوب كذا، ويشهد له أن القديم، كما لا يرتفع، لا ينعدم، ولا ينقطع، ولا يتصور له ابتداء وانتهاء، وقد اختلفوا في هذا النسخ؛ أنه بيان لمدة الحكم، ولو كان الحكم قديما، لاستحال أن يكون له مده منتهية، وما ذكره المصنف من تعذر إضافة الرفع إلى الطارئ ونسبتها بالحقائق، فلا تحقيق له؛ فإن الحكم وضعي يقبل الرفع كما في الشاهد، والرافع هو الله تعالى، وإنما إشكاله في حق الله تعالى من حيث إنه يوهم البدء، وسنجيب عنه. وقول المعتزلة مبني على التحسين والتقبيح، وقد ابطلناه، وإن أرادوا الأمر والنهي، وأرادوا لزوم اجتماعهما، فليس كذلك؛ فغن عند تعلق الأمر، والنهي، وارادوا لزوم اجتماعهما، فليس كذلك؛ فإن عند تعلق الأمر، بطل تعلق النهي، وإن اراداوا أن ما كان مأمورا، يصير بعينه منهيا في ذلك الزمان، فمسلم؛ لكن لا نسلم أنه محال؛ لأنه مذهبنا. قلت: وعليه مناقشات: الأولى: قوله: " إنه أفاد الدوام على القطع، فلولا الخطاب الثاني، لدام الحكم ". قلنا: لو حصل القطع بالدوام، لاستحال النسخ، وإلا لم يكن القطع قطعا، بل إنما يجوز النسخ، إذا كان الدوام غير قطعي، ففي زمانه عليه السلام لا يحصل القطع بالدوام؛ لإنكار نزول الوحي، وإنما حصل

القطع بالدوام بعد وفاته عليه السلام، لا جرم، استحال النسخ، فالجمع بين القطع بالدوام، وورود النسخ متعذر، فإن أراد انا نقطع بالدوام، لولا الناسخ، سلمناه؛ باعتبار الاعتقاد، لا باعتبار نفس الامر؛ لأن عندنا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فيجوز عندنا تكليف ما لا يطاق، وأن تنتهي مده الحكم، ولا يثبتها الله تعالى، وكذلك نقول في الكسر مع الانكسار في الآنية: إنه إنما يشبه النسخ؛ باعتبار الاعتقاد، لا باعتبار نفس الأمر، بل باعتبار نفس الأمر يمنع الشبه حينئذ؛ لأن الحكم عندنا في نفس الأمر مغيا بغاية معينة، وكذلك الملك في البيع، إنما يشبه بالنسخ؛ باعتبار الاعتقاد. فقوله: " لا نعني بالرفع إلا هذا إن أراد باعتبار الاعتقاد ارتفع الخلاف بيننا وبينه، وإن اراد باعتبار نفس الأمر، منعناه. الثانية: على قوله: " ليس الحكم هو الكلام، ومراد العلماء بالحكم في الحد غير مرادهم بالحكم هاهنا؛ لقولهم هاهنا: إن المرفوع هو حكم خطاب سابق، فجعلوا الخطاب دليل الحكم، لا جنسه الأعم ". قلنا: هذا غير متجه؛ فإن مرادهم بالخطاب في الحد الكلام القديم، ومرادهم بالخطاب هاهنا دليل الحكم، وهذا لا ينافي قولهم: " إن الكلام القديم يستحيل رفعه، وأن الحكم هو الكلام هنا؛ باعتبار القديم، لا باعتبار الحادث الذي هو دليل الحكم، فهو رحمه الله أخذ يحذرنا من الاغترار بالاشتراك اللفظي، واغتر هو به في عين المسألة؛ فإنه توهم أن الحكم لفظ مشترك، وإنما وهمنا، فاعتقدنا أحد المعنيين، وهو عين المعنى الآخر، وليس كذلك، بل لفظ الخطاب مشترك، وهو انتقل من أحدهما إلى الآخر، ولم يشعر، فحذرنا من الوهم، فوقع فيه. الثالثة: على قوله: " الحكم القابل للنسخ المنقسم للوجوب وغيره، وهو حالة شرعية، إلى قوله: " يرجع إلى اعتبار ذهني ".

قلنا: حاصل كلامكم يرجع إلى تفسير الحكم بالتعلق، والتعلق وحده لا يمكن أن يكون حكما، بل لابد من اعتبار المتعلق، فإن تعلقا بغير متعلق محال، وإذا أخذتم المتعلق، فهو الكلام القديم أو اللساني. والثاني: محال؛ لأنه دليل الوجوب، وجميع الأحكام، لا نفس الأحكام؛ فتعين القديم، وهو معنى قول الجماعة: إن حكم الله تعالى هو الكلام القديم، أي القديم المتعلق تعلقا خاصا يغاير تعلق الخبر وغيره، وعندهم هذا المتعلق كان معينا في نفس الأمر، مستمرا في الاعتقاد، فهذا الكلام لا يبطل ما قاله الجاماعة، ولا يرد عليهم. الرابعة: على قولهم: " القديم لا يتصور له انتهاء ". قلنا: لا نسلم أن القديم لا يتصور له انتهاء، وإنما يلزم ذلك أن لو كان الحكم القديم هو كله لجميع اعتباراته وجوديا، وليس كذلك؛ لأن الحكم عندنا مركب من مفهومين: أحدهما: الكلام القديم، وهو وجودي، والآخر التعلق، وهو نسبة عدمية، وهي قديمة، فالمجموع قديم، ولأجل كونه قديما باعتبار أجزائه، صح ارتفاعه، وأن يكون له غاية، امتنع عندنا الرعفا؛ لأجل العلم والخبر، وما يلزم فيهما من المحال، فاستحال بغيره، بقى كونه فعيا ونفيا قلنا به لتعينه. وقال تاج الدين: " صورة المسألة بمثال، وهو نفس المسألة، وذكر مباحث الأعراض ". فقوله: " وهو نفس المسألة " لم يقله الإمام، بل حوم عليه، فيكون ورود الإشكال على تاج الدين أتم، وإنما قال في (المحصول): " المثال الكاشف عن حقيقة المسألة " وقد يكشف عنها، ولا يكون عينها، ولا مساويا لها؛ فإن الأدلة مع المدلولات، والصنعة مع صانعها، كذلك مع عدم المساواة، فهذا التصريح أوجه في تحقيق الغلط، وأبعد عن الغلط.

(تنبيه) كلام القاضي في كتبه، والغزالي في (المستصفى) هو ما نقله التبريزي ونحو منه

قول سراج الدين: " الخلاف في هذه المسالة يشبه الخلاف في بقاء الاعراض " فذكر لفظ الشبه فقط، والشيء قد يشبه الشيء من وجه، وإن خالفه من وجوه، وسكت " المنتخب " عن هذه الكلمة بالكلية، وكذلك التبريزي. (تنبيه) كلام القاضي في كتبه، والغزالي في (المستصفى) هو ما نقله التبريزي ونحو منه، والكل يعتمدون على التنظير بالبيع وفسخه، وكسر الآنية، وقد تقدم الجواب عن ذلك، وإذا حقق البحث معهم، آل كلامهم أن الدوام مقتضى الصيغة، ولا يصادموا العلم الرباين اصلا. يقول الغزالي في (المستصفى): " علم الله تعالى أنه يزول بالناسخ " وهذه المباحث لو حصل فيها التأمل، اجتمعت، ولم يبق خلاف، فإن حاصل هذه المباحث يرجع إلى الدوام؛ بحسب الاعتقاد، وهو لا نزاع فيه. وقولهم: " علم الله تعالى انه يزول بالناسخ، وأنه يدوم لولا الناسخ ". يقال لهم: ومع ذلك، فقد علم الله تعالى ان الناسخ واقع في الوقت المعيت قطعا، فيلزم من ذلك ان الحكم معناه في نفس الامر بذلك الوقت قطعا، وهذا هو مذهب من يخالفهم، فيرتفع الخلاف، ولقد حاولت كلمات الفريقين على ان الخلاف يتحقق بينهم، فما قدرت عليه الا كما ذكرت لك، لا تخرج الفاظهم عن هذه الكلامات، وهي لا تحقق خلافا، وكان الشيخ شمس الدين الخسروشاهي يستشكل الخلاف منهم ويقول: إن قلت " إنهم ما فهموا كلام بعضهم بعضا " لا يعجبني، وان قلت: فهموه " فأين الخلاف مع هذه المقدمات، وهذه المباحث؟.

(تنبيه) صرح الفقهاء بأن النسخ تخصيص في الازمان

(تنبيه) صرح الفقهاء بأن النسخ تخصيص في الازمان. قال الإمام في (البرهان): وهذا إيهام أنه يجوز به تخصيص العموم، وأن الالفاظ الدالة على الاحكام في النسخ، لا تكون إلا ظواهر، وليس كذلك، بل اللفظ قد يقطع بدلالته على الدوام؛ بأن يكون نصا قاطعا، ومع ذلك، فيجوز نسخه، ولا يجوز النسخ بكل ما يجوز التخصيص به. قال سيف الدين: والفرق بين التخصيص والنسخ من عشرة أوجه: الأول: أن التخصيص يخرج ما لم يكن مرادا باللفظ؛ بخلاف النسخ. الثاني: أن النسخ يرد على الواحد؛ بخلاف التخصيص لا يرد إلا على عام. الثالث: أن الناسخ لا يكون إلا بخطاب؛ والتخصيص يكن بالقياس وغيره. الرابع: يجب أن يكون الناسخ متراخيا؛ بخلاف التخصيص. الخامس: التخصيص لا يخرج العام عن الاحتجاج في المستقبل؛ بخلاف النسخ قد يخرجه عن ذلك. السادس: يجوز التخصيص بالقياس؛ دون النسخ. السابع: النسخ رفع الحكم بعد ان ثبت؛ بخلاف التخصيص. الثامن: يجوز نسخ شريعة بشريعة؛ بخلاف التخصيص. التاسع: العام يجوز نسخ الحكم عن جميع افراده؛ بخلاف التخصيص لابد أن يبقى شيئا.

العاشر: أن التخصيص أعم من النسخ؛ لأن كل نشخ تخصيص، وليس كل تخصيص نسخا؛ لأن التخصيص يقع ببعض الأشخاص، وبعض الأحوال، وبعض الأزمنة. قال: وفيه نظر؛ لأن تلك الفروق المذكورة في التخصيص إما لازمة، أو داخلة في مفهومه، والأعم لابد أن يصدق بجميع صفاته على الأخص، فيصدق صفات التخصيص على النسخ، وهو محال، ثم قال: ولقائل أن يقول: تلك الفروق هي بعض أنواع التخصيص، وليست لازمة. قلت: قوله: " النسخ لا يكون إلا بخطاب " ينتقض بالنسخ بالفعل النبوي؛ كما تقدم بيانه، وينتقض القول بالتراخي بالفعل، إذا ورد بعد القول الخاص برسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الإمام قال: هو ناسخ، وقد تقدم إيراده. وقوله: " يجوز التخصيص بالقياس؛ دون النسخ ": قد بين الإمام بعد هذا جواز النسخ بالقياس. وقوله: " النسخ رفع الحكم بعد أن ثبت ": ليس هو مخالفا للفقهاء، إنما معناه رفع الحكم من محل بعد ثبوته في ذلك المحل لتلك الغاية، وهذا هو قول الفقهاء: إن النسخ بيان. * * *

المسألة الرابعة قال الرازي: النسخ عندنا جائز عقلا، وواقع سمعا؛ خلافا لليهود

المسألة الرابعة قال الرازي: النسخ عندنا جائز عقلا، وواقع سمعا؛ خلافا لليهود؛ فإن منهم من أنكره عقلا، ومنهم من جوزه عقلا، لكنه منع منه سمعا، ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ. لنا وجهان: الأول: أن الدلالة القاطعة دلت على نبوة محمد، عليه الصلاة والسلام ونبوته لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله، فوجب القطع بالنسخ. الثاني: ان الأمة مجمعة على وقوع النسخ. ولنا على اليهود إلزامان: الأول: جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح، عليه السلام، عند خروجه من الفلك: " إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك، ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم؛ كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه: " ثم قد حرم الله تعالى على موسى عليه السلام، وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوانات. الثاني: كان آدم عليه السلام يزوج الأخر من الأخت، وقد حرم الله ذلك على موسى، عليه السلام. ولقائل أن يقول لا نسلم أن نبوة محمد، عليه الصلاة والسلام، لا تصح إلا مع القول بالنسخ؛ لأن من الجائز أن يقال: إن موسى وعيسى، عليهما السلام، أمرا الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد، عليه الصلاة والسلام، ثم

بعد ذلك امرا الناس باتباع شرع محمد، عليه الصلاة والسلام، فعند ظهور شرع محمد، عليه الصلاة والسلام، زال التكليف بشرع موسى وعيسى، عليهما السلام، ووقع التكليف بشرع محمد عليه السلام لكنه لا يكون نسخا، بل يكون جاريا مجرى قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187]. والمسلمون الذين أنكروا وقوع النسخ بنوا مذهبهم على هذا الحرف، وقالوا: قد ثبت في القران أن موسى وعيسى، عليهما السلام، بشرا في التوراة والإنجيل بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وأنه عند ظهوره يجب الرجوع إلى شرعه، وإذا كان الأمر كذلك، امتنع تحقق النسخ، وهكذا جواب اليهود عن الإلزامين اللذين أوردناهما عليهم. وأما ادعاء الإجماع، فكيف يصح بعد ما صح وقوع الخلاف فيه؟ والمعتمد في المسألة قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} [البقرة: 106] وجه الاستدلال به: أن جواز التمسك بالقران: إما أن يتوقف على صحة النسخ، او لا يتوقف؛ فإن توقف، عاد الأمر إلى أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لا تصح إلا مع القول بالنسخ، وقد صحت نبوته، فوجب القول بصحة النسخ. وإن لم تتوقف عليه، فحينئذ: الاستدلال بهذه الآية على النسخ. واحتج منكرو النسخ عقلا: بأن الفعل الواحد: إما أن يكون حسنا، أو قبيحا، فإن كان حسنا، كان النهي عنه نهيا عن الحسن، وإن كان قبيحا، كان الأمر به بالقبيح، وعلى كلا التقديرين: يلزم إما الجهل، وإما السفه.

واحتج المنكرون شرعا بوجهين: الأول هو: أن الله تعالى، لما بين شرع موسى، عليه السلام، فاللفظ الدال عليه، إما أن يقال: إنه دل على دوام شرعه، أو ما دل عليه: فإن كان الأول: فإما أن يكون قد ضم الله تعالى إليه ما يدل على أنه سينسخه، أو لم يضم إليه ذلك، فإن كان الأول: فهو باطل من وجهين: الأول: أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام، مع التنصيص على انه لا يدوم جمع بين كلامين متناقضين، وإنه عبث وسفه. الثاني: أن يكون على هذا التقدير: قد بين الله تعالى لموسى، عليه السلام، أن شرعه سيصير منسوخا، فإذا نقل شرعه، وجب أن ينقل هذه الكيفية: أما أولا: فلأنه لو جاز أن ينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية، جاز في شرعنا أيضا ذلك، وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ. وأما ثانيا: فلأن ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر الداعي على نقلها، وما كان كذلك، وجب اشتهاره، وإلا فلعل القران عورض، ولم ينقل، ولعل محمدا، عليه الصلاة والسلام غير هذا الشرع عن هذا الوضع ولم ينقل. واذا ثبت وجوب نقل هذه الكيفية بالتواتر، وجب أن يكون العلم بتلك الكيفية كالعلم بأصل الشرع؛ حتى يكون علمنا بأن موسى، عليه السلام نص على أن شرعه سيصير منسوخا؛ كعلمنا بأصل شرعه ولو كان كذلك لعلم الكل بالضرورة أن من دين موسى، عليه السلام: أن شرعه سيصير منسوخا، ولو كان ذلك ضروريا لاستحال منازعة الجمع العظيم فيه، وحيث نازعوا فيه، دل ذلك على أنه، عليه السلام، ما نص على هذه الكيفية.

وأما القسم الثاني، وهو: أن الله تعالى ذكر لفظا يدل على الدوام، ولم يضم إليه ما يدل على أنه سيصير منسوخا، فنقول: على هذا التقدير، وجب ألا يصير منسوخا، وإلا لزمت محالات: أحدها: أن ذكر اللفظ الدال على الدوام، مع أنه لا دوام، تلبيس، وهو غير جائز. وثانيها: إن جوزنا ذلك، لم يكن لنا طريق إلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخا؛ لأن أقصى ما في الباب أن يقول الشرع: هذه الشريعة دائمة، ولا تصير منسوخة قط ألبتة، ولكن إذا رأينا مثل هذا، مع عدم الدوام في بعض الصور، زال الوثوق عنه في كل الصور. وثالثها: أنه مع تجويز مخالفة الظاهر، لا يبقى وثوق بوعده ووعيده وكل بياناته. فإن قلت: " عرفنا بالإجماع، أو بالتواتر؟ ". قلت: أما الإجماع: فلا يعرف كونه دليلا إلا بآية أو خبر، ولا تتم دلالتة الآية والخبر إلا بإجراء اللفظ على ظاهره، فإذا جوزنا خلافه، لا يبقى دليل الإجماع موثوقا به. وأما التواتر: فكذلك؛ لأن غايته أن نعلم أن الرسول، عليه السلام، قال هذه الألفاظ، لكن لعله أراد شيئا يخالف ظواهرها. وأما القسم الثالث: وهو أن يقال: إنه بين شرع موسى، عليه السلام، بلفظ لابدل على الدوام ألبتة، فنقول: مثل هذا لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة؛ على

ما ثبت أن الأمر لا يفيد التكرار، ومثله لا يحتاج إلى النسخ، بل لا يقبل النسخ ألبتة. الثاني: قالوا: ثبت بالتواتر أن موسى، عليه السلام، قال:" تمسكوا بالسبت أبدا " وقال:" تمسكوا بالسبت، ما دامت السماوات والأرض " والتواتر حجة بالاتفاق. والواجب على الأول أن نقول: لم لا يجوز أن يكون ذلك الفعل مصلحة في وقت، ومفسدة يف وقت آخر؛ فيأمر به في الوقت الذي علم أنه مصلحة فيه، وينهى عنه في الوقت الذي علم أنه مفسدة فيه، كما لا يمتنع أن يعلم فيما لا يزال: أن إمراض زيد وفقره مصلحة له في وقت، وصحته وغناه مصلحة له في وقت آخر، فيمرضه ويفقره حيث يعلم أن ذلك مصلحة، ويغنيه ويصححه حيث يعلم أن ذلك مصلحه، كما لا يمتنع أن يعلم الإنسان أن الرفق مصلحة ابنه وعبده اليوم، والعنف مصلحته في غد، فيأمر عبده بالرفق في اليوم، وبالعنف به في الغد؟ والجواب عن الثاني أن نقول: اتفق المسلمون على انه تعالى بين شرع موسى، عليه السلام، بلفظ يدل على الدوام، واختلفوا في أنه هل ذكر معه ما يدل على انه سيصير منسوخا؟ فقال ابو الحسين البصري رحمه الله: يجب ذلك في الجملة، وإلا كان تلبيسا، وقال جماهير اصحابنا، وجماهير المعتزلة: لا يجب ذلك. وقد مر توجيه المذهبين، في مسأله تأخير البيان عن وقت الخطاب.

ونحن نأتي بالجواب عن هذه الشبهة؛ تفريعا على كل واحد من هذين المذهبين: أما على قول ابي الحسين: من أنه لابد من البيان، فنقول: لم لا يجوز ان يقال: إنه تعالى بين في تلك الشريعة: أنها ستصير منسوخة، لكن لم ينقله أهل التواتر، فلا جرم لم يشتهر ذلك، كما اشتهر اصل الشرع؟ فإن قلت: لما بين الله تعالى أصل ذلك الشرع، وأوصله إلى اهل التواتر، فهل أوصل ذلك المخصص إلى أهل التواتر، أم لا؟. فإن قلت: أوصله إلى أهل التواتر: فإما أن يجوز على أهل التواتر: أن يخلوا بنقله، او لا يجوز. فإن جاز على الشارع الا يوصل ذلك المخصص إلى أ÷ل التواتر، أو انه اوصله اليهم، لكنهم أخلوا بنقله، جاز مثله في كل شرع، فكيف تقطعون مع هذا التجويز بدوام شرعكم؟ فلعلها، وإن كانت بحيث ستصير منسوخة، إلا أن الله تعالى ما بين ذلك، أو انه بينه لكن أهل التواتر أخلوا بنقله أيضا، فلعل محمدا، عليه الصلاة والسلام، نسخ الصلوات الخمس، وصوم رمضان، ولم ينقل ذلك؛ ولما بطل هذان الاحتمالان، ثبت أنه تعالى بين ذلك المخصص لأهل التواتر، وأن أهل التواتر ما أخلوا بنقله، وحينئذ يعود السؤال. قلت: الإشكال إنما يلزم لو ثبت أنه حصل من اليهود في كل عصر ما بلغ مبلغ التواتر، وذلك ممنوع، فإنهم انقطعوا في زمان " بخت نصر " فلا جرم انقطعت الحجة بقولهم؛ بخلاف شرعنا، فإنهم كانوا في جميع الأعصار بالغين مبلغ التواتر.

وأما الجواب؛ على قول اصحابنا، رحمة الله عليهم، فهو أن المخصص لم يكن مذكورا في زمان موسى، عليه السلام. قوله: هذا تلبيس، قلنا: سبق الجواب عنه في مسألة تاخير البيان عن وقت الخطاب، والله اعلم. والجواب عن الثالث: انا لا نعلم ان موسى، عليه السلام، قال ذلك؛ لأن نقل التوراة منقطع بحادث " بخت نصر " سلمنا صحة هذا النقل؛ لكن لفظ التأبيد في التوراة قد جاء للمبالغة دون الدوام في صور: إحداها: قوله في العبد: " إنه يستخدم ست سنين، ثم يعتق في السابقعة، فإن أبى العتق، فلتثقب أذنه، ويستخدم أبدا ". وثانيها: قيل في البقرة التي أمروا بذبحها: يكون ذلك سنة ابدا، ثم انقطع التعبد بذلك عندهم. وثالثها: أمروا في قصة " دم الفصح " بأن يذبحوا الجمل، وياكلوا لحمه ملهوجا، ولا يكسروا منه عظما، ويكون لهم هذا سنة أبدا، ثم زال التعبد بذلك. ورابعها: قال في السفر الثاني: " قربوا إلى كل يوم خروفين، خروفا غدوة، وخروفا عشية قربانا دائما لاحقا بكم ". ففي هذه الصور وجدت ألفاظ التأبيد، ولم تدل على الدوام، فكذا ما ذكرتموه، والله أعلم.

شرح القرافي: قال سيف الدين: منع أبو مسلم الأصبهاني وقوع النسخ شرعا، وجوزه عقلا، ولم ينكر وقوعه من الملل إلا اليهود

المسألة الرابعة في جواز النسخ قال القرافي: قال سيف الدين: منع أبو مسلم الأصبهاني وقوع النسخ شرعا، وجوزه عقلا، ولم ينكر وقوعه من الملل إلا اليهود، وانقسموا ثلاث فرق: قال الشمعونية: يمتنع عقلا، وسمعا. وقال العنانية: يمتنع سمعا، لا عقلا. وقالت العيسوية: يجوز عقلا، ووقع سمعا، واعترفوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى العرب خاصة.

(فائدة) ابو مسلم الاصبهاني، حيث وقع، فهو كنية لا اسم

قال الغزالي في (المستصفى): منكر الإجماع من المسلمين مسبوق بالإجماع. قال الإمام في (البرهان): وافقت غلاة الروافض اليهود في إنكار النسخ. قال سيف الدين: وأول من وضع لليهود أن موسى عليه السلام نص على تأبيد شريعته ابن الراوندي. (فائدة) ابو مسلم الاصبهاني، حيث وقع، فهو كنية لا اسم. قال الشيخ ابو اسحاق في (اللمع): اسمه عمر بن يحيى. وقال ابن برهان في (الأوسط): ابو مسلم بن بحر، كما وقع في (المحصول)، وقال في (المنتخب): ابن عمروا، فاعلم ذلك. قوله: " منهم من أنكره عقلا ".

تقريره: أنهم يثبتون الحسن والقبح، ويقوولن: لا يكون الامر الا لمصلحة، والنهي عن المصلحة قبيح، وبالعكس. قوله: " ومنهم من جوزه عقلا، ومنع منه سمعا ". تقريره: أنهم يتمسكون بما يرونه: " تمسكوا بالسبت، ما دامت السماوات والأرض ". قوله: " ومنعه بعض المسلمين ". تقريره: انه معترف بصحة النبوة المحمدية، وبتحليل الشحوم، والسبت ونحوه، وإلا لما كان مسلما، لكنه يفسر ذلك بالتخصيص بالغاية، فلا خلاف في المعنى. قوله: " الأمة مجمعة على وقوع النسخ ". قلنا: يناقضه حكاية الخلاف عن بعض المسلمين في اصل النسخ، لكنه اعتمد على ان الخلاف مفسر بما تقدم، فالاجماع حاصل في المعنى. قوله: " ولنا على اليهود إلى آخر كلامه ". قلت: وقع لي وجوه أخر غير ما ذكره. احدها: في التوراة: أن السارق، إذا سرق في المرة الرابعة، تثقب أذنه، ويباع، وقد اتفقنا على نسخ ذلك. وثانيها: اتفق اليهود والنصارى على ان الله تعالى فدى ولد ابراهيم من الذبح، وهو نص التوراة، وهو اشد انواع النسخ؛ لأنه قبل الفعل؛ الذي يمنعه المعتزلة، وإذا جاز في الأشد، ففي غيره بطريق الأولى. وثالثها: في التوراة: أن الجمع في النكاح بين الحرة والأمة، كان جائزا في شرع يعقوب عليه السلام لجمعه عليه السلام بينسارة وهاجر، وقد حرمته التوراة.

ورابعها: في التوراة: قال الله تعالى لموسى: " اخرج انت وشيعتك من (مصر) لترثوا الارض المقدسة، التي وعدت بها أباكم إبراهيم أن أورثها نسله " فلما صار إلى التيه، قال الله تعالى: " لا تدخلوها؛ لأنكم عصيتموني " وهو عين النسخ. وخامسها: تحريم السبت؛ فإنه لم يزل العمل مباحا إلى زمن موسى عليه السلام وهو عين النسخ وسادسها: في التوراة ماهو اشد من الندم والبداء، فيكون حجة عليهم، وإن لم يقض بصحته، ففيها: مرض ملك اليهود (حزقيال) واوحى الله تعالى إلى اشعيا عليه السلام " قل لـ (حزقيال) يوصي، فإنه يموت من عتله هذه " فأخبره، فبكى حزقيال، وتضرع، فأوحى الله تعالى إلى أشعيا " أن يقوم من علته، وينزل إلى الهيكل بعد ثلاثة أيام، وقد زيد في عمره خمس عشرة سنه " ومثله في التوراة كثير، فمستندهم في إحالة النسخ على البداء، يبطل بمثل هذا؛ إلزاما لهم. وسابعها: في السفر الأول من التوراة: لما نظر بنو الله بنات الناس حسانا، ونكحوا منهم، قال الله تعالى:" لا تسكن الروح بعدها في بشر، وامهاتهم مائة وعشرين سنة " فأخبرت التوراة أنه لا يعيش أحد أكثر من هذا، ثم أخبرت أن " أرفخشد " عاش بعدها وولد له (شالخ) أربعمائة وثلاثة وستين وادعوا [انه عاش] مائتي سنة، وإبراهيم عليه السلام مائة سنة. وثامنها: الختان كان من شرع ابراهيم جائزا في البكر، وقد أوجبه موسى عندهم يوم ولادة الطفل. وتاسعها: الجمع بين الاختين كان مباحا في شريعة يعقوب عليه السلام، وحرم ذلك في شريعة من بعده، وذلك كثير في التوراة.

وإذا صرحت توراة اليهود بمثل هذه الأمور، لا يسمع كلامهم بعد ذلك في منع النسخ. قوله: " وكان آدم عليه السلام يزوج الأخ من أخته ". قلنا: لم يرد هذا في الكتاب، ولا في السنة، فلعل ذلك كان قبل ورد شرع عليه في ذلك، وإذا لم يرد شرع، كان ذلك كافيا في الاقدام؛ للسلامة من النهي، وإذا كان هذا الاحتمال قائما، لا يكون نسخا؛ لأن التحريم حينئذ وقع؛ للبراءة الأصلية، لا بحكم شرعي. قوله: " بشرت التوراة والانجيل بمحمد صلى الله عليه وسلم ووجوب الرجوع إلى شرعه، فيتحقق النسخ ". قلنا: لا نسلم؛ لجواز أن يكون الشرع ليس فيه نسخ، بل تقرير وزيادات لم تتعرض لها الشرائع السابقة، فليس في التبشير ما يقتضي النسخ. قوله: " وبهذا تجيب اليهود على الالزامات ". قلنا: لا نسلم أنه يستقيم جوابا لهم؛ لأنهم لا يعترفون بذلك، وإن اعترفوا، منعناهم إلزام النسخ من ذلك؛ كما تقدم. قوله: " كيف يصح الإجماع مع الخلاف؟ ". قلنا: قد بينا أن الاتفاق حصل في المنى، إنما الخلاف في التسمية نسخا. قوله: " المعتمد قوله تعالى: {ما ننسخ من آية} [البقرة: 106] " قلنا: لنا قاعدة، وهي ان الشرط ليس من شرطه أن يكون ممكنا، بل قد يكون ممكنا؛ كقولنا: " إن دخلت الدار، فانت حر " وقد يكون ممتنعا؛ كقولنا: " إن كان الواحد نصف العشرة، فالعشرة اثنان " ومنه قوله تعالى: {لو كان

فيهما آلهة إلا لله لفسدتا} [الأنبياء: 22] و (لو): حرف شرط بالنقل مع ان الشريك مستحيل، واذا كان الشرط اعم من الممكن، والاعم لا يستلزم أحد نوعيه عينا، فلا يستدل به على الإمكان. فقوله تعالى: " ما ننسخ " شرط، فلعله من قبيل الممنع، واخبر الله تعالى عن لازم هذا الممتنع، ولو فرض وقوعته، كما اخبر الله تعالى عن الشريك بما يلزمه، لو فرض وقوعه؛ فلا دليل في الآية حينئذ. قوله: " الاستدلال بالقران: إما ان يتوقف على صحة النسخ، أو لا يتوقف ". تقريره: ان موجب هذا الترديد: أن هنا سؤالا مقدرا، تقريره: ان القران لا يكون حجة الا بعد ثبوت النبوة، وثبوت النبوة موقوف على النسخ، فلو ثبت النسخ بالقران، لزم الدور، فلذلك ردد، وقال: إن توقف الاستدلال على النسخ، فنقول: قد ثبتت النبوة بالمعجزة، فينقطع الدور، وإن لم يتوقف، صح الاستدلال، ولا دور. قوله: " وعلى التقديرين، يلزم الجهل أو السفه ". تقريره: أن الآمر، إن لم يكن عالما بما في الأمر من المصلحة، لزم الجهل، وإن علم ذلك، ونهى عنها، لزم الثاني. قوله: " إن دل على دوام شرع موسى عليه السلام، وضم إليه ما يدل على نسخه، لزم التناقض ". قلنا: لا نسلم؛ لجواز أن تكون الدلالة على الدوام تابعة لأصل الوجوب، لا بلفظ خاص في الدلالة على الدوام، كما نقول: إذا قال الله تعالى: (صلوا) ووضع اللغة أن الامر للتكرار، فكما أنه إذا اقترن بصيغة الامر على هذا التقدير فالتنصيص، على عدم التكرار، وأنه يدوم إلى الوقت الفلاني،

(فائدة) رأيت بعض اللغويين ينقل في (بخت نصر) لغتين (نصر) و (نصر) بتشديد الصاد، وتسكينها

وينقطع، ويحمل الأمر على ذلك، ويجعل ذلك قرينة حاملة على الجاز في الامر، فكذلك نص التوراة على الدوام، احتمل أن يكون من هذا القبيل، فلا تناقض، بل تقديم الأخص على الأعم من النصوص، وصرف عن الحقيقة للمجاز. قوله: " ذكر الدال على الدوام من غير بيان تلبيس ": قلنا: نحن نمنع الحسن والقبح العقليين، لا سيما لم يتأخر البيان إلا عن وقت الخطاب، لا عن وقت الحاجة، وهو أخف. قوله: "ينبغي الوقوف بين الوعد والوعيد": قلنا: إن انضمت القرائن الحالية، أو غيرها المفيدة للقطع، حصل القطع، وإلا كفى في وجوب العمل، ووجوب الاعتقاد الظن الغالب، وذلك يحصل مصلحة الزجر، والحث على الفعل. قوله: "لا يتم الإجماع إلا بإجراء اللفظ على ظاهره، فإذا جوزنا مخالفة الظاهر، لا يحصل القطع": قلنا: يحصل القطع بالإجماع وغيره؛ من تضافر النصوص تضافرًا يوجب القطع بإرادة مدلول اللفظ، وإحالة المجاز، وذلك يحصل بكثرة استقراء النصوص. (فائدة) رأيت بعض اللغويين ينقل في (بخت نصّر) لغتين (نصَّر) و (نصر) بتشديد الصاد، وتسكينها. (فائدة) ناظرت بعض اليهود، فقال: كيف تدعون أن شرعنا غير متواتر؛ بسبب

(فائدة) ربما خطر بالبال أن بختنصر كيف يعدم بسببه اليهود، مع تفرقهم في أقطار الأرض، فالعادة تحيل ذلك

بختنصر، والمنقول عندنا أن جمعًا منهم نحو الأربعين سلموا منه، وخرجوا إلى بعض الأقطار، ومثلهم يمكن أن يحصل به عدد التواتر؟ فقلت له: لا نسلم صحة هذا النقل، سلمناه؛ لكن لا يلزم من حصول هذا الجمع أن يكونوا في أنفسهم حافظين للتوراة، وفورع الشريعة، وقواعدها، فلعلهم من القوم الذين لا يعلمون شيئا، وإذا شككنا في حالهم، شككنا في التواتر، ويكفي في عدم الوثوق بأصل الشرائع الشك في بعض شروط التواتر، وهاهنا كذلك، فلا يمكن [أن يقال: إن] اليهود يثبتون بذلك تواتر شرعهم ابدا، ولا القطع بشيء من نصوصهم ألبتة، بل يصير الجميع مشكوكا فيه. (فائدة) ربما خطر بالبال أن بختنصر كيف يعدم بسببه اليهود، مع تفرقهم في أقطار الأرض، فالعادة تحيل ذلك، فاعلم أن اليهود من وقت خروجهم من (مصر) مع موسى عليه السلام وغرق فرعون، لم يسكنوا إلا في موضع واحد في (التيه) ثم انتقلوا بجملتهم للبيت المقدس، فوجدهم (بختنصر) هناك بجملتهم، وبقى بعده جماعة يسيرة، خرجوا مع دانيال عليه السلام إلى (مصر) فأخذهم بختنصر من (مصر) وقتلهم، وخرب إقليم (مصر). قال ابن دحية في كتاب (النبراس في تاريخ بني العباس): فأقامت أرض (مصر) اربعين سنة، لم يزرع نيلها؛ لعدم بني آدم منها بالكلية، وليس فيها إلا العوافي، فهذا هو وجه السؤال على اليهود بواقعة (بختنصر) واليهود تسلم ذلك، ولا تنازع فيه، أعني عدم التفرق واجتماعهم أبدا في مكان واحد.

(تنبيه) زاد سراج الدين فقال: على الآية:" ملزومية الشيء لغيره لا تقتضي وقوعه، ولا صحة وقوعه "

قوله: " الجواب عن التلبيس مذكور في مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب ". تقريره: أن اللفظ، إنما يفيد لفظ البقاء والدوام، مع تجويز خلافه، فلو قطع المكلف لكان التفريط من قبله لقطعه؛ لا في موضع القطع، وتأخير البيان عن وقت الخطاب لوقت الحاجة، وهو وقت مبعثه عليه السلام. (تنبيه) زاد سراج الدين فقال: على الآية:" ملزومية الشيء لغيره لا تقتضي وقوعه، ولا صحة وقوعه ". قلت: يريد أن الشرط ملزوم، والجزء لازم؛ لأن ضابط الملزوم ما يحسن فيه (لو) وضابط اللازم ما يحسن فيه (اللام) نحو: " لو كان الواحد نصف العشرة، لكانت العشرة اثنين " وقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الانبياء: 22] والملازمة قد تكون صحيحة، والملزوم واللازم محالان؛ كقولنا: " لو كان الواحد نصف العشرة، لكانت العشرة اثنين ". * * *

المسألة الخامسة قال الرازي: اتفقت الأمة على جواز نسخ القران، وقال ابو مسلم بن بحر الأصفهاني: لا يجوز

المسألة الخامسة قال الرازي: اتفقت الأمة على جواز نسخ القران، وقال ابو مسلم بن بحر الأصفهاني: لا يجوز. لنا وجوه: أحدها: ان الله تعالى امر المتوفي عنها زوجها بالاعتداد حولا، وذلك في قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج} [البقرة: 24] ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر، كما في قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} [البقرة: 234] قال أبو مسلم: الاعتداد بالحول ما زال بالكلية؛ لأنها لو كانت حاملا، ومدة حملها حول كامل، لكانت عدتها حولا كاملا، وإذا بقى هذا الحكم في بعض الصور، كان ذلك تخصيصا، لا نسخا. والجواب: أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل، سواء حصل وضع الحمل لسنة، أو أقل، او أكثر، فجعل السنة مدة العدة يكون زائلا بالكلية. وثانيها: أمر الله تعالى بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا، إذا ناجيتم الرسول، فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} [المجادلة: 12] ثم نسخ ذلك. قال أبو مسلم: إنما زال ذلك لزوال سببه؛ لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون من حيث لا يتصدقون عن المؤمنين، فلما حصل هذا الغرض، سقط التعبد بالصدقة.

والجواب؛ لو كان كذلك؛ لكان كل من لم يتصدق منافقا، لكنه باطل؛ لأنه روى: " أنه لم يتصدق غير على بن أبي طالب، رضي الله عنه ". ويدل عليه أيضا قوله تعالى: " فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم " [المجادلة: 13]. وثالثها: أن الله تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة، بقوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صارون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65] ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {الآن خفف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفا، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين} [الأنفال: 66]. ورابعها: قوله تعالى: {ما ننسخ من آية، أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} [البقرة: 106] قال أبو مسلم: النسخ هو: الإزالة، والمراد من هذه الآية إزالة القران من اللوح المحفوظ. والجواب: أن إزالة القران من اللوح المحفوظ لا تختص ببعض القرآن، وهذا النص مختص ببعضه. وخامسها: قولها تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142] ثم أزالهم عنها بقوله: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144] قال أبو مسلم: حكم تلك القبلة ما زال بالكلية؛ لجواز التوجه إليها عند الإشكال، ومع العلم، إذا كان هناك عدو. والجواب: أن على ما ذكرته أنت: لا فرق بين بيت المقدس وسائر الجهات، فالخصوصية التي لها امتاز بيت المقدس عن سائر الجهات قد بطلت بالكلية، فيكون نسخا.

شرح القرافي: قوله: " نسخ الآية إزالتها من اللوح المحفوظ "

وسادسها: قوله تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية، والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر} [النحل: 101] والتبديل يشتمل على رفع، وإثبات، والمرفوع إما التلاوة، وإما الحكم، وكيف ما كان، فهو رفع ونسخ. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد به: أن الله تعالى أنزل إحدى الآيتين بدلا عن الأخرى؛ فيكون النازل بدلا عما لم ينزل؟ قلت: جعل المعدوم مبدلا، غير جائز. واحتج أبو مسلم: بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصلت: 42] فلو نسخ، لكان قد أتاه الباطل. وجوابه: المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله تعالى ما يبطله ولا يأتيه من بعده ما يبطله، والله أعلم. المسألة الخامسة في جواز نسخ القرآن قال القرافي: قوله: " نسخ الآية إزالتها من اللوح المحفوظ ". قلنا: لا نسلم أن اللوح المحفوظ يزول منه شيء من القرآن، ولا يلزم من نقله إلينا إزالته كنسخ الكتاب من الكتاب مع بقاء الأصل مكتوبا. قوله: " إزالة القرآن من اللوح المحفوظ لا يختص ببعض القرآن، فهذا النسخ مختص ببعضه ". قلنا: لا نسلم أن في قوله تعالى: {ما ننسخ من آية} ما يقتضي اختصاص ذلك بالبعض أو الكل، بل هذا شرط يصلح للقسمين. قوله: " الخامس: قوله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن

قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142] ثم أزالهم عنها بقوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144]. قلنا: هذا إنما يتجه أن لو كان التوجه للبيت المقدس حاصلا بالقران، وليس كذلك، بل الذي في القرآن قول السفهاء، وهو يقتضي أن لنا قبله متقدمة، أما أن الأمر بهذا بالكتاب أو بالسنة، فلا نشعر بذلك. قوله: " وسادسها: قوله تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا: إنما أنت مفتر} [النحل: 101]. قلنا: هذه صيغة شرط، وقد تقدم أن اشرط ليس من شرطه أن يكون ممكنا، فيقول أبو مسلم بموجب الآية. وأما قوله: " قالوا: وإن كان صيغة ماضية " فلا يدل على الوقوع من جهة إجماع النحاة فيما علمت أن جواب الشرط إذا وقع بالماضي فهو مؤول بالمستقبل، فيكون تقديره: " يقولون " فجاز أن يكون هذا القول المستقبل لم يقع؛ لعدم وقوع شرطه، وإن كان المعلوم أن ذلك وقع، وأنهم قالوا؛ غير أن الاستدلال باللفظ غير الاستدلال بالواقع، والمنع إنما ورد على الدلالة باللفظ. قوله: " جعل المعدوم بدلا غير جائز ". قلنا: كما أجمعنا على أن التيمم بدل من الوضوء، مع أن الوضوء لم يوجد، والجمعة بدلا عن الظهر، والظهر بدلا عن الجمعة، مع أن ذلك المبدل عنه غير موجود، ثم إن الآية التي أبدل منها موجودة في اللوح المحفوظ ليست معدومة، فالآيتان موجودتان: إحداهما: في اللوح المحفوظ. والأخرى: نزلت إلينا، والخصم إنما سأل هكذا، فقال: لم لا تتلون

(قاعدة) وقع في القرآن (بين الأيدي)، والمراد به الماضي

أحد الآيتين بدلا عن الأخرى، وانتم اجبتم عن جعل تنزيل إحدى الآيتين بدلا من تنزيل الأخرى، ولا شك أنه مراد السائل، وإن لم يصرح به، وحينئذ ساغ لكم أن تقولوا: " المعدوم لا يكون مبدلا " إشارة إلى التنزيل الحاصل في الآية الباقية في اللوح المحفوظ؛ فإن إنزالها لم يوجد قط، لكنا قد بينا أن المعدوم يصح البدل منه في مواطن. (قاعدة) وقع في القرآن (بين الأيدي)، والمراد به الماضي. وتقريره: أن الداخل الموجود كالعابر لدرب، فالداخل قبله يكون بين يديه، والداخل بعده يكون وراءه، والماضي بالنسبة إلينا دخل قبلنا، والمستقبل يدخل بعد دخولنا، فلذلك عبر عن الماضي أبدا بما بين الأيدي وعن المستقبل بأنه وراءنا، فمن ذلك: {لا يأتيه الباطل من بين يديه}] فصلت: 42 [ أي من الكتب الماضية، ولا من خلفه، أي في المستقبل. وقوله تعالى: {مصدقًا لما بين يديه من التوراة}] آل عمران: 50 [، وهي قبله: {ويذرون وراءهم يومًا ثقيلا}] الإنسان: 26 [، {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا}] الكهف: 79 [، أي: في المستقبل؛ لأنهم كانوا سيقدمون عليه لم يتعدوه بعد، ولو تعدوه لأمنوا منه، وعلى هذه القاعدة تتخرج هذه الألفاظ حيث وقعت في الكتاب العزيز. وقوله تعالى: {فقدموا بين يدي نجواكم صدقة}] المجادلة: 12 [؛ لأن النجوى تقع في الزمن المستقبل بعد الصدقة، فكانت الصدقة ماضية بالنسبة إلى زمن النجوى، فتأمله في مواطنه، فربما خفي في مواطنه. (تنبيه) عبر تاج الدين للجواب عن قوله تعالى: {لا يأتيه الباطل}] فصلت:

(فائدة) قال (المنتخب): أبو مسلم بن عمر، والذي وجدته في عدة من نسخ (المحصول): ابن بحر، وقاله ابن برهان في كتابه المسمى بـ (الأوسط)

42] فقال: إنه يحيل النسخ على كلية الكتاب، وهو متفق عليه، ولا يحيل على بعض الآيات. (فائدة) قال (المنتخب): أبو مسلم بن عمر، والذي وجدته في عدة من نسخ (المحصول): ابن بحر، وقاله ابن برهان في كتابه المسمى بـ (الأوسط)، قال: أبو مسلم بن بحر الأصبهاني. وقال الشيخ أبو اسحاق في (اللمع): "منعت اليهود من النسخ، وقال أبو مسلم عمرو بن يحيى الأصفهاني ... " فهذا اختلاف متباعد في اسمه، اللهم إلا أن يكون له اسمان، وهو بعيد، أو يكونوا عدة أشخاص كل منهم يسمى أبا مسلم.

المسألة السادسة قال الرازي: اختلفوا في نسخ الشيء قبل مضي وقت فعله

المسألة السادسة قال الرازي: اختلفوا في نسخ الشيء قبل مضي وقت فعله. مثاله: إذا قال الله تعالى لنا صبيحة يومنا: (صلوا عند غروب الشمس ركعتين بطهارة) ثم قال عند الظهر: (لا تصلوا عند غروب الشمس ركعتين بطهارة) فهذا عندنا جائز، خلافًا للمعتزلة، وكثير من الفقهاء. لنا: أن الله تعالى أمر إبراهيم - عليه السلام - بذبح ولده إسماعيل، عليهما السلام ثم نسخ ذلك قبل وقت الذبح. فإن قيل: لا نسلم أن إبراهيم عليه السلام كان مأمورًا بالذبح، بل لعله كان مأمورًا بمقدمات الذبح من الإضجاع، وأخذ المدية، مع الظن الغالب بكونه مأمورًا بالذبح؛ ولهذا قال: {قد صدقت الرؤيا}] الصافات: 105 [، ولو كان قد فعل بعض ما أمر به، لكان قد صدق بعض الرؤيا. فإن قلت: الدليل عليه ثلاثة أوجه: أحدها: قوله تعالى: {إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر}] الصافات: 102 [، لا بد وأن يكون عائدًا إلى شيء، والمذكور هاهنا قوله: {أني أذبحك} فوجب صرفه إليه. وثانيها: قوله تعالى: {إن هذا لهو البلاء المبين}] الصافات: 106 [، ومقدمات الذبح لا توصف بأنها بلاء مبين.

وثالثها: قوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم}] الصافات: 107 [، ولو لم يكن مأمورًا بالذبح، لما احتاج إلى الفداء. قلت: الجواب عن الأول: أن الرؤيا لا تدل على كونه مأمورًا بذلك، وأما قوله: {افعل ما تؤمر} فإنما يفيد الأمر في المستقبل، فلا ينصرف إلى ما مضى من رؤياه في المنام. وعن الثاني: أن إضجاع الابن، وأخذ المدية مع غلبة الظن أنه مأمور بالذبح بلاء مبين. وعن الثالث: أنه إنما فدى بالذبح بسبب ما كان يتوقعه من الأمر بالذبح، سلمنا أنه أمر بالذبح، لكن لا نسلم أنه نسخ ذلك، وبيانه من وجهين: الأول: أنه كلما قطع موضعًا من الحلق، وتعداه على غيره وصل الله تعالى ما تقدم قطعه. فإن قلت: حقيقة الذبح قطع مكان مخصوص تبطل معه الحياة، قلت: بطلان الحياة ليس جزءًا من مسمى الذبح؛ لأنه يقال: قد ذبح هذا الحيوان، وإن لم يمت بعد. الثاني: قيل: إنه أمر بالذبح، وإن الله تعالى جعل على عنقه صفيحة من حديد، فكان إذا أمرّ إبراهيم عليه السلام السكين، لم يقطع شيئًا من الحلق. سلمنا سلامة دليلكم؛ لكنه معارض بدليل آخر، وهو: أن ذلك يقتضي كون الشخص الواحد مأمورًا منهيًا عن فعل واحد، في وقت واحد، على وجه واحد، وذلك محال، فالمؤدى إليه محال.

بيان أنه يلزم ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أن المسألة مفروضة في هذا الموضع، فإنه لما أمر بكرة بركعتين من الصلاة عند غروب الشمس، ثم نهي وقت الظهر عن ركعتين من الصلاة عند غروب الشمس فقد تعلق الأمر والنهي بشيء واحد، في وقت واحد، من وجه واحد؛ حتى لو لم يتحقق شرط من هذه الشرائط، لم تكن هي المسألة التي تنازعنا فيها. وثانيها: أن قوله: (صلوا عند غيبوبة الشمس) غير موضوع إلا للأمر بالصلاة في ذلك الوقت لغة وشرعا، وقوله: (لا تصلوا عند غيبوبة الشمس) غير موضوع إلا للنهي عن الصاة في ذلك الوقت لغة وشرعًا. وثالثها: هو أن النهي لو تعلق بغير ما تعلق به الأمر، لكان لا يخلو: إما أن يكون المنهي عنه أمرًا، يلزم من الانتهاء عنه وقوع الخلل في متعلق الأمر، أو لا يلزم ذلك: فإن كان الأول: كان المتأخر رافعًا المتقدم استلزامًا، فيلزم توارد الأمر والنهي على شيء واحد، في وقت واحد، من وجه واحد، وإن كان الثاني: لم يكن ذلك هي المسألة التي تنازعنا فيها؛ لأنا توافقنا على أن الأمر بالشيء لا يمنع من النهي عن شيء آخر لا يلزم من الانتهاء عنه الإخلال بذلك المأمور. بيان أن ذلك محال: أن ذلك الفعل في ذلك الوقت لا بد وأن يكون: إما حسنًا وإما قبيحًا، وكيفما كان. فإما أن يقال: المكلف ما كان عالمًا بحاله، ثم بدا له ذلك؛ فلذلك اختلف الأمر والنهي، وذلك محال؛ لاستحال البداء على الله تعالى.

وإما أن يقال: إنه كان عالمًا بحاله، فيلزم منه: إما الأمر بالقبيح، أو النهي عن الحسن، وذلك أيضًا محال. والجواب: الدليل على أنه كان مأمورًا بالذبح: أنه لو لم يكن مأمورًا به، بل كان مأمورًا بمجرد المقدمات، وهو قد أتى بتمام تلك المقدمات، فوجب أن يحتاج معها إلى الفدية؛ لأن الآتي بمأمور يجب خروجه عن العهدة، والخارج عن العهدة لا يحتاج إلى الفداء، فحيث وقعت الحاجة إليه، علمنا أنه لم يدخل تمام المأمور به في الوجود. وهذا هو الجواب عن قوله: كلما قطع موضعًا من الحلق، وتعداه إلى غيره، وصل الله تعالى ما تقدم قطعه؛ لأن على هذا التقدير: يكون كل المأمور به دخلا في الوجود، فوجب ألا يحتاج معه إلى الفداء. وأما قوله تعالى: {قد صدقت الرؤيا}] الصافات: 105 [، فغير دال على أنه أتى بكل المأمور به، بل يدل على أنه عليه السلام صدقها وعزم على الإتيان بها، فأما أنه فعلها بتمامها، فليس في الآية دلالة عليه. قوله: إن الله تعالى جعل على عنقه صفيحة من حديد: قلنا: إن اعترفتم بأنه كان مأمورًا بنفس الذبح، لم يجز ذلك على قولكم، وإلا فهو تكليف ما لا يطاق. وإن قلتم: إنه كان مأمورًا بالمقدمات، فهو عود إلى السؤال الأول. وأما المعارضة فالجواب عنها من وجهين: الأول: وهو الذي يحسم المنازعة أنها مبنية على القول بالحسن والقبح، ونحن لا نقول به.

الثاني: سلمنا ذلك، ولكنا نقول: كما يحسن الأمر بالشيء، والنهي عن الشيء، لحكمة تتولد من المأمور به، والمنهي عنه، فقد يحسنان أيضًا لحكمة تتولد من نفس الأمر والنهي؛ فإن السيد قد يقول لعبده: اذهب إلى القرية غدًا راجلًا، ويكون غرضه من ذلك حصول الرياضة له في الحال، وعزمه على أداء ذلك الفعل، وتوطين النفس عليه، مع علمه بأنه سيرفع عنه غدًا ذلك التكليف. وإذا ثبت هذا، فنقول: الأمر بالفعل إنما يحسن إذا كان المأمور به منشأ المصلحة، والأمر به أيضًا منشأ المصلحة. فأما إذا كان المأمور به منشأ المصلحة، لكن الأمر به لا يكون منشأ المصلحة، لم يكن الأمر به حسنًا، وعند هذا يظهر الجواب عما قالوه؛ لأنه حين أمر بالفعل كان المأمور به منشأ المصلحة، وكان الأمر به أيضًا منشأ المصلحة؛ فلا جرم حسن الأمر به. وفي الوقت الثاني، بقي المأمور به منشأ المصلحة، لكن ما بقي الأمر به منشأ المصلحة؛ فلا جرم حسن النهي عنه. فإن قلت: لما بقي الفعل منشأ المصلحة، كما كان، فالنهي عنه يكون منعًا عن منشأ المصلحة، وذلك غير جائز. قلت: إنه يكفي في المنع عن الشيء اشتماله على جهة واحدة من جهات المفسدة، فهاهنا المأمور به، وإن بقي منشأ المصلحة، إلا أن الأمر به، والحث عليه لما صار منشأ المفسدة، كان الأمر به - وإن كان حسنًا نظرًا - إلى المأمور به، لكنه قبيح؛ نظرًا إلى نفس الأمر، وذلك كاف في قبحه، والله أعلم.

المسالة السادسة (في النسخ قبل مضي الوقت)

المسالة السادسة (في النسخ قبل مضي الوقت) قال القرافي: قلت: المسائل في هذا المعنى أربع: إحداهن: إن توقت الفعل بزمان مستقبل، فينسخ قبل حضوره. وثانيتهن: أن يؤمر به على الفور، فينسخ قبل الشروع فيه. وثالثتهن: أن يشرع فيه، فينسخ قبل كماله. ورابعتهن: إذا كان الفعل يتكرر، ففعل مرارًا، ثم نسخ، فإن الثلاثة الأول في الفعل الواحد غير المتكرر. أما الرابعة: فوافقنا عليها المعتزلة لحصول مصلحة الفعل بتلك المرات الواقعة في الأزمنة الماضية، ومنه نسخ القبلة وغيرها، ومنعوا قبل الوقت وقبل الشروع لعدم حصول المصلحة من الفعل، وترك المصلحة عندهم يمنعه قاعدة الحسن والقبح، والنقل في هاتين المسألتين في هذا الموضع قد نقله المصنف. وأما بعد الشروع وقبل الكمال، فلم أر فيه نقلًا، ومقتضى مذهبنا جواز النسخ مطلقًا فيه وفي غيره، ومقتضى مذهب المعتزلة ما أنا ذاكره من التفصيل، لا المنع مطلقًا، ولا الجواز مطلقًا؛ فإن الفعل الواحد قد لا يحصّل مصلحته إلا باستيفاء أجزائه كذبح الحيوان، وإنقاذ الغريق؛ فإن مجرد قطع الجلد لا يحصل مقصود الذكاة من إخراج الفضلات، وزهوق الروح على وجه السهولة، وإيصال الغريق إلى قريب الشط، وتركه هنالك لا يحفظ عليه حياته، بل يموت بقرب الشط، كما يموت في لجة البحر،

وقد تكون مصلحته متوزعة على أجزاء كسقي العطشان، وإطعام الجوعان، وكسوة العريان؛ فإن كل جزء من ذلك يحصل جزءًا من الريّ، أو الشبع، أو الستر، ففي القسم الأول مقتضى مذهبهم المنع لعدم حصول المصلحة. وفي الثاني: الجواز لحصول بعض المصلحة المحسنة للأمر، وخروجه عن العبث بذلك، كما انعقد الإجماع على حسن النهي عن القطرة الواحدة من الخمر مع أن الإسكار لا يحصل إلا بعدة من القطرات، لكنه لا يتعين له بعضها دون بعضها، بل هو متوزع عليها، فكذلك هاهنا، وتنزل الأخرى منزلة الجزئيات. (المسألة الرابعة) فكما لا يمتنع النسخ، وإن فاتت المصلحة في الجزئيات المستقبلة، واكتفى بحصولها في الجزئيات الماضية، كذلك يكتفى ببعض الأجزاء، غير أن هاهنا فرقًا أمكن ملاحظته، وهو أن المصلحة في الجزئيات الماضية مصالح تامة أمكن أن يقصدها العقلاء قصدًا كليًا دائمًا بخلاف جزء المصلحة في نقطة الماء ولبابة الخبز ونحوهما فإن القصد إليها نادر، مع هذا الفرق أمكن أن يقولوا بالمنع في هذا القسم مطلقًا من غير تفصيل، إذا تقرر هذا، فأقول: المصنف - رحمه الله - فهرس المسألة بقوله: (قبل مضي الوقت) وذلك يحتمل الأقسام الثلاثة الأول، ثم مثلها بما إذا أمرنا أول النهار بركعتين عند غروب الشمس، ونسختا عند الزوال، وهذا التمثيل بعين المسألة الأولى، ثم استدل في المسالة بذبح إسماعيل - عليه السلام - وهو من المسألة الثانية؛ فإن ذبح إسحق - عليه السلام - لم يجعل له وقت مستقبل، فلم يطابق دليله تمثيله، ولا مقصوده المسألة، بل كان ينبغي له أن يفرض كل مسألة وحدها، بل وقع البحث غير ملخص، متدافعًا. قوله: "لنا: أن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح إسماعيل عليهما السلام".

قلنا: حكى جماعة من العلماء أن الصحيح عند العلماء أن الذبيح هو إسحق - عليه السلام - لا إسماعيل، واستدلوا على ذلك بأمور،

.................................................

.............................................

وأجابوا عن قوله عليه السلام: (أنا ابن الذبيحين) وليس هذا موضعه؛ لأنها مسألة أخرى غير ما نحن فيه. قوله: "إن قوله تعالى: {افعل ما تؤمر}] الصافات: 102 [ينصرف للمستقبل دون رؤياه". قلنا لو كان ما ذكرتموه المراد لكان حيدة منه عليه السلام عن الإجابة والموافقة؛ فإنه أذن وأمر بغير ما عنه أخبر، فإنه أخبر به في المنام وهو أمر بمستقبل، وذلك ينافي ما أجمع عليه المسلمون من مدحه عليه السلام بالصبر، وينافي أيضًا منصبه، وجلالته في نفسه، وثناء الله تعالى عليه بذلك، بل يتعين أن يكون الفعل المضارع هاهنا عبّر به عن الحالة المستمرة

(فائدة) قال الغزالي في (المستصفى): أجابوا عن قضية إبراهيم عليه السلام بخمسة أوجه

المتناولة للماضي، والحال، والمستقبل، كقول العرب: فلان يعطي، ويمنع، ويصل، ويقطع، أي ذلك شأنه من جميع احواله، ومنه قول خديجة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق)، أي هذا شأنك دائمًا، فهذا هو المراد، أي: افعل جميع ما يرد عليك من أوامر الله تعالى، وليكن هذا شأنك في جميع أحوالك: الماضي، والحال، والمستقبل، وهذا وإن كان مجازًا فيتعين الحمل عليه لقرينة ظاهر حال القائل، ومدح الله تعالى له؛ فإن الآية وردت في سياق مدحهما والثناء عليهما، والتأسي بهما في تلقي أوامر الله تعالى وبعض ذلك كاف في الحمل على المجاز، وترك الحقيقة. قوله: "الفداء إنما حسن بسبب ما كان يتوقعه من الذبح". قلنا: عندكم هذا الاعتقاد غير مطابق، فيندفع بوجوه: أحدها: أن منصب الخليل عليه السلام ينبغي، بل يجب تنزيهه عن الغلط في أوامر الله تعالى واعتقادها على غير وجهها. وثانيها: أن هذا الاعتقاد لم يتبين له باطنه، وقد شرع في الفعل، فيلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنتم تمنعونه عن وقت الخطاب، فوقت الحاجة أولى. وثالثها: أن الأمر لو كان كذلك، لكان البيان كافيًا في ذلك، فلا حاجة إلى الفداء، ولا كان يتصور الفداء. (فائدة) قال الغزالي في (المستصفى): أجابوا عن قضية إبراهيم عليه السلام بخمسة أوجه:

أحدها: انه كان منامًا لا أمرًا. الثاني: كان أمرًا، لكن قصد به العزم دون الذبح. الثالث: لم يحصل نسخ، لكن انقطع الحكم بالتعذر؛ لأجل انقلاب عنقه نحاسًا أو حديدًا. الرابع: المأمور به كان المقدمات للذبح دون الذبح، وقد فعلها. الخامس: انه امتثل، ولم ينسخ عنه شيء، لكنه ذبح، واندمل الجرح، قال: وقال أهل التأويل: إسماعيل ليس بمذبوح باتفاقهم، واختلفوا في كون إبراهيم عليه السلام ذابحًا. فقال بعضهم: إبراهيم ذابح لحصول القطع، والولد غير مذبوح لحصول الالتئام. قوله: "حين أمر بالفعل، كان المأمور به منشأ المصلحة، والآمر به أيضًا منشأ المصلحة، فلا جرم حسن الأمر به، وفي الوقت الثاني نفي المأمور به منشأ المصلحة. لكن الأمر به لم يبق منشأ المصلحة، فلم يحسن الأمر به". هذه العبارة في هذا الموضع كله إلى آخر المسألة غير متجهة؛ فإن المأمور به، الذي هو ذبح إسحاق عليه السلام، لم يكن منشأ المصلحة، إنما كانت المصلحة في الأمر خاصة لما فيه من امتحانهما وما يترتب عليه من إظهار طواعيتهما، وإنابتهما لربهما، وإيثارهما بأنفسهما، وذلك مقام عظيم، ومصالح متعددة جليلة تترتب على صدور الأمر. أما نفس غراقة دم إسحاق عليه السلام مع قطع النظر عن الأمر، فليس منشأ المصلحة، بخلاف ذبح الأنعام للإغتذاء الإنساني متضمن للمصلحة، وهي حفظ الإنسان وتوفير عقله، وقوّته للمعارف والعلوم،

(تنبيه) قال التبريزي: قولهم: "كان يظن الأمر بالذبح"

ولقاء أعداء الدين، وغير ذلك، فهذه مصلحة مقصودة، ورد الأمر بها أم لا بخلاف ذبح إسحاق عليه السلام، بل اللائق في العبارة أن تقولوا: الأمر بالشيء كما يحسن لمصلحة في المأمور، فكذلك يحسن لمصلحة في نفس الأمر فقط، كامتحان العبد بما ليس مقصودًا للسيد، ومنه هذه القصة النبوية، فإذا كان الأمر لمصلحة فيه دون المامور به، وحصل امتحان العبد، وجميع تلك المصالح المقصودة من نفس الأمر، تعين النهي عن ذلك الفعل؛ لأنه مفسدة محضة حينئذ، والنهي عن المفاسد متعين. وأما قولكم: "الأمر لا يحسن ان يكون الىمر والمأمور كلاهما متضمن المصلحة" فممنوع، بل يكفي في الحسن أحدهما فقط. وقولكم: "بقي المأمور به متضمنًا للمصلحة وحده" ليس كذلك، بل لم يبقى مصلحة البتة. (تنبيه) قال التبريزي: قولهم: "كان يظن الأمر بالذبح". قلنا: إيهام الأمر بالذبح مع عدم الأمر به تلبيس وجهل، وإغراء بالباطل، وذلك عندكم محال على الله تعالى لا سيما في حق الأنبياء عليهم السلام، وفهرس المسألة بـ (النسخ قبل التمكن)، وفهرسها تاج الدين بـ (نسخ الفعل قبل مجيء وقته). وقال سراج الدين: "قبل وقت فعله"، وفي (المنتخب): "قبل مضي وقت فعله"، والذي في (المحصول): "قبل تقضي وقت فعله"، فأبعدها عن عبارة الأصل عبارة تاج الدين، وأقربها (المنتخب)، والمسألة مشوشة الفهرسة في أصلها كما تقدم.

(تنبيه) فهرس سيف الدين المسألة فقال: اتفق القائلون بجواز النسخ على جوازه بعد التمكن، واختلفوا قبل دخول الوقت

(تنبيه) فهرس سيف الدين المسألة فقال: اتفق القائلون بجواز النسخ على جوازه بعد التمكن، واختلفوا قبل دخول الوقت، كما إذا قال في رمضان: حجوا هذه السنة، ثم قال: قبل يوم (عرفة): لا تحجوا، وقال: الاحتجاج بقصة إبراهيم عليه السلام ضعيف؛ لأنه ليس قبل التمكن، بل الحجة في نسخ الخمسين صلاة ليلة الإسراء حتى بقيت خمسًا فقط، ويرد عليها انه خبر واحد، ولأنه نسخ قبل الإنزال، وليس صورة النزاع. وفهرس الغزالي المسالة بـ (نسخ الفعل قبل التمكن من الامتثال)، وهي عبارة عامة تشمل الأقسام الثلاثة، على أنها غير مفصلة مثبتة الأقسام الثلاثة، ومثلها كما قال سيف الدين في الحج وبذبح الولد، لقصة إبراهيم عليه السلام وهو منطبق على فهرسته؛ لشمولها القسمين. وقال الإمام في البرهان: إذا ورد الأمر بشيء هل ينسخ قبل مضي وقت اتصال الأمر به بزمان يسع فعل المأمور به؟ ***

المسالة السابعة قال الرازي: يجوز نسخ الشيء، لا إلى بدل؛ خلافا لقوم

المسالة السابعة قال الرازي: يجوز نسخ الشيء، لا إلى بدل؛ خلافًا لقوم. لنا: أنه نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول عليه الصلاة والسلام، لا إلى بدل. احنجوا بقوله تعالى: {ما ننسخ من آية او ننسها نأت بخير منها او مثلها}] البقرة: 106 [ والجواب أن نسخ الآية يفيد نسخ لفظها؛ ولهذا قال: {نأت بخير منها أو مثلها} فليس لنسخ الحكم ذكر في الآية. سلمنا: أن المراد نسخ الحكم؛ لكن لم لا يجوز أن يقال: إن نفي ذلك الحكم وإسقاط التعبد به خير من ثبوته في ذلك الوقت؟ والله أعلم. المسألة السابعة ينسخ لغير بدل قال القرافي: قوله: "احتجوا بقول الله تعالى: {ما ننسخ من آية}] البقرة: 106 [". قلنا: قد تقدم أن الشرط ليس من شرطه أن يكون ممكن الوقوع، والآية لفظها لفظ الشرط، فلا تدل على المطلوب. (فائدة) قال الزمخشري في (الكشاف): الآية العلامة، والآية الجماعة. فمن الأول قوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم}

] فصلت: 53 [، أي العلامات الدالة على البعث والوحدانية، وغير ذلك من المطالب الإلهية. ومن الثاني قوله تعالى: {ليدبروا آياته}] سورة ص: 29 [، أي آيات القرآن؛ لأن كل آية جماعة حروف؛ تقول العرب: (جاء القوم بآيتهم) أي بجماعتهم، فسميت الآية آية؛ لأنها جماعة حروف. ***

المسألة الثامنة قال الرازي: يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقل منه؛ خلافا لبعض أهل الظاهر

المسألة الثامنة قال الرازي: يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقل منه؛ خلافًا لبعض أهل الظاهر. لنا: أن المسلمين سموا إزالة التخيير بين الصوم والفدية؛ بتعيين الصوم نسخًا، وهو أشق، وإزالة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم نسخًا، وأمر الصحابة بترك القتال، ثم أمرهم بنصب القتال، مع التشديد بثبات الواحد للعشرة، وحرم الخمر ونكاح المتعة بعد إطلاقهما، ونسخ جواز تأخير الصلاة عند الخوف إلى إيجابها في أثناء القتال، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وكانت الصلاة ركعتين عند قوم، فنسخت بأربع في الحضر. احتجوا بقوله تعالى: {نأت بخير منها}] البقرة: 106 [والخير: ما هو اخف علينا، وبقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}] البقرة: 185 [. والجواب عن الأول: أن نقول: بل الخير ما هو اكثر صوابًا، وأصلح لنا في المعاد، وإن كان أثقل في الحال. وعن الثاني: أنه محمول على اليسر في الآخرة، حتى لا يتطرق إليها تخصيصات غير محصورة. المسألة الثامنة نسخ الشيء بما هو أثقل منه قال القرافي: قوله: "نسخ الحبس في البيوت بالجلد".

قلنا: لا نسلم أن الجلد أثقل؛ فإن النفوس الأبية تؤثر الحبس أبدًا على الجلد؛ لما فيه من المعرة، والعرف شاهد لذلك. قوله: "حرم الله تعالى الخمر بعد إطلاقها". قلنا: هذه مسألة خلاف، والذي يظهر لي أن الخمر لم تكن مباحة، بل مسكوت عن تحريمها ثم حرمت، ورفع المسكوت عنه ليس نسخًا، ويدل على ذلك ما حكاه الغزالي وغيره من العلماء أن القدر المسكر لم يبحه الله تعالى في ملة من الملل، بل أجمعت الشرائع على تحريمه، إنما الخلاف في القدر الذي لا يسكر، فعندنا حرام، وفي شريعة التوراة مباح على ما يقال، وما حرمه الله تعالى في جميع الملل لا يليق بهذه الشريعة التي هي أتم الشرائع في استيفاء المصالح، ودرء المفاسد إباحته فيها، بل إذا لم تتمكن الكلمة سكت عنه، كما سكت عن الدماء والأموال وغيرها في ابتداء الإسلام، ولم يقل احد: أنها كانت مباحة في اول الإسلام، بل كانت الشرائع تتجدد أولًا فأول، ولم يتقدم إباحتها بتجدد، فكذلك هاهنا. هذا هو مقتضى القواعد والمناسبة. وأما ما اعتمدوا عليه في قوله تعالى: {تتخذون منه سكرًا ورزقًا حسنًا}] النحل: 67 [، والسكر المسكر، وذكره في سياق الامتنان دليل الإباحة، وليس فيه دليل؛ لأن السكر اختلف في الأئمة، واصل السكر المنع، ومنه قوله تعالى: {سكرت أبصارنا}] الحجر: 15 [أي: منعت، ومنه: سكرة الباب: للضبة المانعة من الفتح، فقال جماعة من المفسرين: المراد بالسكر: الخل المانع من الأدواء الصفراوية وغيرها، والزبيب والتمر المانعان من الجوع، وعلى هذا سقط الاستدلال، فتعين اعتبارالقواعد السالمة عن المعارض. قوله: "نسخ صوم يوم عاشوراء برمضان".

قلنا: فيه خلاف؛ هل كان عاشوراء واجب في الأصل أم لا؟ وهل يطلق وجوبه برمضان أم لا؟ قوله: "كانت الصلاة ركعتين عند قوم، فنسخت بأربع في الحضر". قلنا: حكى أبو عمر بن عبد البر في (الاستذكار) عن الشافعي، وجماعة من العلماء أن جبريل إنما صلى برسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الإسراء الصلوات الخمس عند البيت ركعتين ركعتين إلا المغرب، وبقي الأمر كذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة) وكملت له الصلوات الخمس كلها أربعًا أربعًا إلا المغرب والصبح في السفر، وفي الحضر، ثم نزلت آية القصر بعد ذلك، وجمع بهذا بين قول عائشة: (فرضت الصلاة مثنى مثنى، وزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر). وقال: هو أصح حديث روي في الباب، وبين قوله تعالى: {فليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاة}] النساء: 101 [، والمتأصل لا يقال: فيه قصر ودليله الصبح. وقوله عليه السلام: (وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة). وقوله عليه السلام: (صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته)، وذلك كله يدل على التنقيص بعد التكميل.

(فائدة) تعلق المعتزلة بهذه الآية بأن الله تعالى لا يريد لنا إلا الخير والتسهيل والمصالح

وظاهر حديث عائشة يأباه، فيحمل على ان صلاة الفجر أقرت على ما كانت قبل الهجرة، فتجتمع الأدلة، فهذا تلخيص هذا الموضع. قوله: "واحتجوا بقوله تعالى: {بخير منها} والخبر ما هو أخف". قلنا: قوله تعالى: {بخير منها}] البقرة: 106 [نكرة في سياق الثبوت، فتكون مطلقة يكفي في العمل بها صورة واحدة، فيحمل على ما هو اصلح في الثواب، ولا يتعين ما قالوه؛ لعدم العموم فيها. قوله في قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر}] البقرة: 185 [: "يحمل على يسر الآخرة لئلا يتطرق إليه تخصيصات غير محصورة": قلنا: بل يبقى على عمومه، والمراد باليسر ما يسمى يسرًا لغة وعادة، وهو ما يستطيعه الإنسان، والله تعالى لم يكلفنا بغير المقدور، بل بما هو مقدور والمقدور يسمى يسرًا، ومنه قوله تعالى: {فما استيسر من الهدي}] البقرة: 196 [أي ما قدرتم عليه، وقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}] البقرة: 280 [، أي إلى زمن القدرة، ولم يقع في التكاليف إلا مقدور؛ فلا تخصيص حينئذ، ولا حجر للخصم فيه ولم يقع النسخ بالأثقل الذي ليس بمقدور، بل بالمقدور. (فائدة) تعلق المعتزلة بهذه الآية بأن الله تعالى لا يريد لنا إلا الخير والتسهيل والمصالح، ولا يريد لعباده إلا السعادة، وغير ذلك إنما يأتي من قبلهم؛ لقوله تعالى: {ولا يريد بكم العسر}] البقرة: 185 [فحصر إرادته تعالى في اليسر دون العسر، وأهل السنة يحملونه على أن المراد بقوله تعالى: {يريد} أي: يشرع، فعبر بالإرادة عن الشرعية، وهنالك محذوف تقديره: يريد الله بكم اليسر شرعًا، فقولنا: (شرعًا) تمييزًا لما هو

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: يجوز النسخ للأثقل

المراد، ويدل على هذا قوله تعالى: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها}] السجدة: 13 [والمشيئة: الإرادة، فدل ذلك على أنه لم يرد هداية جميع الخلق، وقوله تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله}] الإنسان: 30 [وهو كثير، فيتعين الجمع بما ذكرنا مضافًا إلى أدلة العقول المذكورة في هذه المسألة في كتب اهل الدين. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: يجوز النسخ للأثقل، ولا إلى بدل؛ لأن التكليف ابتداءً غير واجب، فزواله لا يوجب بدلا، ولا وصفًا في البدل. ***

المسألة التاسعة قال الرازي: يجوز نسخ التلاوة دون الحكم، وبالعكس

المسألة التاسعة قال الرازي: يجوز نسخ التلاوة دون الحكم، وبالعكس؛ لأن التلاوة والحكم عبادتان منفصلتان، وكل ما كان كذلك، فإنه غير مستبعد في العقل ان يصيرا معًا مفسدتين، أو أن يصير أحدهما مفسدة دون الآخر، وتكون الفائدة في بقاء التلاوة، دون الحكم، ما يحصل من العلم بأن الله تعالى أزال مثل هذا الحكم؛ رحمة منه على عباده. وقد نسخ الله تعالى الحكم، دون التلاوة، في قوله تعالى: {متاعًا إلى الحول غير إخراج}] البقرة: 240 [بقوله تعالى ك {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا}] البقرة: 228 [. والتلاوة دون الحكم فيما يروى من قوله: {الشيخ والشيخة، إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله}، وعن انس رضي الله عنه: أنه نزل في قتلى بئر معونة: {بلغوا إخواننا أنا لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا} وعن أبي بكر، رضي الله عنه: "كنا نقرأ في القرآن: {لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم} ". والحكم والتلاوة معًا: وهو ما يروى عن عائشة رضي الله عنها انها قالت: (كان فيما أنزل الله تعالى: {عشر رضعات محرمات} فنسخن بخمس). وروي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة. ***

(فائدة) قال سيف الدين: "لم يخالف في ذلك إلا طائفة شاذة من المعتزلة"

المسألة التاسعة يجوز نسخ التلاوة (فائدة) قال سيف الدين: "لم يخالف في ذلك إلا طائفة شاذة من المعتزلة". قال: "وهل يجوز بعد نسخ تلاوة الآية أن يمسها المحدث، ويتلوها الجنب؟ تردد في ذلك الأصوليون". قال: "والأشبه المنع"، وكذلك حكى الغزالي في (المستصفى) عن هذه الطائفة في جواز نسخ التلاوة دون الحكم، والحكم دون التلاوة، وهما جميعًا؛ لأن نسخ التلاوة عندهم محال، وحكاه صاحب (البرهان) عنهم في التلاوة دون الحكم، والحكم دون التلاوة. ***

المسألة العاشرة قال الرازي: الخبر: إما أن يكون خبرا عما لا يجوز تغيره

المسألة العاشرة قال الرازي: الخبر: إما أن يكون خبرًا عما لا يجوز تغيره؛ كقولنا: العالم محدث، وذلك لا يتطرق إليه النسخ، أو عما يجوز تغيره، وهو: إما أن يكون ماضيًا، أو مستقبلا، والمستقبل: إما أن يكون وعدًا أو وعيدًا، أو خبرًا عن حكم؛ كالخبر عن وجوب الحج، ويجوز النسخ في الكل، وقال أبو علي وأبو هاشم: لا يجوز النسخ في شيء منه، وهو قول أكثر المتقدمين. لنا: أن الخبر، إذا كان عن أمر ماض؛ كقوله: (عمرت نوحًا ألف سنة) جاز أن يبين من بعده: أنه أراد ألف سنة إلا خمسين عامًا، وإن كان خبرًا مستقبلا، وكان وعدًا، أو وعيدًا، كقوله: (لأعذبن الزاني أبدًا) فيجوز أن يبين من بعد: أنه أراد ألف سنة، وإن كان خبرًا عن حكم الفعل في المستقبل، كان الخبر كالأمر في تناوله للأوقات المستقبلة، فيصح إطلاق الكل مع أن المراد بعض ما تناوله بموضوعه، فثبت أن حكم النسخ في الخبر كهو في الأمر. احتجوا بوجهين: الأول: أن دخول النسخ في الخبر، يوهم أنه كان كاذبًا. والثاني: أنه لو جاز نسخ الخبر، لجاز أن يقول: (أهلك الله عادًا) ثم يقول: (ما أهلكهم) ومعلوم أنه لو قال ذلك، كان كذبًا. والجواب عن الأول: أن دخول النسخ على الأمر يوهم البداء أيضًا، فإن قالوا: لا يوهم؛ لأن النهي إنما دل على أن الأمر لم يتناول ذلك الوقت، قلنا:

شرح القرافي: قال سيف الدين: إما أن ينسخ نفس الخبر، أو مدلوله، أو ثمرته

وهاهنا أيضًا لا يوهم الكذب؛ لأن الناسخ يدل على أن الخبر ما تناول تلك الصورة. وعن الثاني: أن إهلاكهم غير متكرر؛ لأنهم لا يهلكون إلا مرة واحدة فقط، فقوله: "ما أهلكهم" رفع لتلك المرة، فيلزم الكذب، وأما إن أراد بقوله: "ما أهلكهم" أنه ما أهلك بعضهم، كان ذلك تخصيصًا بالأشخاص، لا بالأزمان، فلم يكن نسخًا، والله أعلم. المسالة العاشرة يجوز نسخ الخبر قال القرافي: قال سيف الدين: إما أن ينسخ نفس الخبر، أو مدلوله، أو ثمرته، والأول إما أن ينسخ تكليفًا به بأن نكلف بأن نخبر بشيء، فينسخ عنا التكليف بذلك الإخبار، أو تلاوته، وكلاهما جائز عند من يجيز النسخ بالإتفاق منهم، كان ما نسخت تلاوته ماضيًا، أو مستقبلا، كان المخبر عنه مما يقبل التغيير أم لا، كالوحدانية، وكفر زيد؛ لأن ذلك كله من الأحكام الشرعية، فجاز أن يكون مصلحة في وقت مفسدة في وقت، لكن هل يجوز، نسخ تكليفنا بالغخبار عما لا يتغير بتكليفنا بالإخبار به بنقيضه؟ ومنعه المعتزلة؛ لأنه كذب، والتكليف بالكذب قبيح. وعندنا: يجوز التكليف بالإخبار بنقيض الحق. وإن كان النسخ لمدلول الخبر، وفائدته، فلذلك المدلول إن امتنع تغييره كحدوث العالم، فنسخه محال إجماعًا، أو يقبل التغيير، فقال القاضي أبو بكر، والجبائي، وأبو هاشم، وجماعة من المتكلمين، والفقهاء: يمتنع رفعه، كان ماضيًا كالإخبار عن كفر زيد، أو مستقبلًا، ووعدًا، أو وعيدًا، أو حكمًا

شرعيًا، وجوزه أبو عبد الله البصري، والقاضي عبد الجبار، وأبو الحسين البصري. ومنهم من فصّل فمنع في الماضي، وجوزه في المستقبل. قال: والمختار جوازه ماضيًا، أو مستقبلًا إذا كان مما يتكرر، والخبر عام فيه، فتبين أن الناسخ إخراج ما لم يتناوله اللفظ. قال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع) عن أبي بكر الدقّاق الشافعي: يمتنع نسخ الخبر، وإن كان عن حكم شرعي نحو: {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] نظر اللفظة، فيتحصل في المسألة اربعة أقوال: المنع مطلقًا، والجواز مطلقًا، والتفرقة بين الماضي والمستقبل، والفرق بين الإخبار عن الحكم الشرعي وغيره. قوله: "يجوز نسخ الخبر عما يجوز تغييره، ماضيًا كان، أو مستقبلًا، أو عن حكم شرعي كقوله تعالى: عمرت نوحًا ألف سنة، فيجوز أن يبين بعد ذلك أنها ألف إلا خمسين عامًا". قلنا: عليه ثلاثة أسئلة: الأول: تفرقتكم بين ما لا يجوز تغييره كحدوث العالم، وما يجوز تغييره كالتعمير وغيره من الممكنات، غير متجه؛ لأن الممكن وإن جاز تغييره بالنظر إلى ذاته، لكنه لأجل خبر الله تعالى يصير واجبًا لغيره؛ والواجب لغيره يستحيل رفعه، وليس لأحد أن يقول: يجوز تغييره ورفعه؛ لحصول الفرق بينه وبين الواجب لذاته، كما أن المستحيل لغيره لا يمكن أحد أن يجوز رفعه لحصول الفرق بينه وبين المستحيل لذاته، وإذا جوزتم ذلك في الواجب لأجل الخبر، يلزمكم أن تجوزوا أن الله تعالى إذا علم وجود

شيء لا يلزم أن يقع، بل يجوز عدمه في الوقت الذي علم وجوده، أو علم عدمه أو يجوزوا وجوده في الوقت الذي علم عدمه؛ لأنه لا فرق بين الوجوب المعتبر باعتبار الخبر، أو باعتبار العلم، لكن خلاف المعلوم متفق على عدم تجوزوا، فكذلك خلاف الخبر الثاني أن الله تعالى إذا قال: عمرته ألف سنة، فإما أن يستعمل اللفظ ابتداءً في الألف ن ويكون واقعه أو لا يكون الواقع إلا الأقل، فإن كان الأول كان البناء بعد ذلك محالًا غير مطابق، وهو على الله تعالى محال. وإن كان الثاني لزم أن يكون لفظ العدد يقبل المجاز، والمنقول أن اسماء الأعداد نصوص لا تقبل المجاز. الثالث: سلمنا صحة ذلك جميعه، لكن يكون ذلك من باب المجاز والحقيقة، والنسخ إنما هو فيما إذا استعمل اللفظ حقيقة في شيء، ثم نسخ، كما أوجب عاشوراء، وأراد باللفظ ظاهره، ثم نسخه، فالحق المقطوع به الذي لا يتجه غيره أن النسخ في الخبر محال، إلا أن يكون خبرًا عن حكم؛ فإن الخبر عن الحكم يجوز نسخه، كلفظ الأمر، هذا إذا كان متعلق ثبوت الحكم في المستقبل مثل قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97]. أما لو أخبر عن ثبوت حكم في الماضي بأن يقول: أوجبت على بني إسرائيل خمسين صلاة، فإن هذا لا يجوز نسخه؛ لأنه يلزم منه الخلف المستحيل على الله تعالى كالإخبار عن حدث العالم بأنه قديم، ولا فرق. قوله: "وإن كان خبرًا عن مستقبل كقوله: (لأعذبن الزاني ابدًا) يجوز أن يبين أن عذابه ألف سنة". قلنا ك هذا صحيح، لكنه يرجع إلى إطلاق العام، وإرادة الخاص، فهذا ليس من باب النسخ في شيء، بل هذا من باب المجاز والحقيقة.

ولذلك قلنا: العام يدخله التخصيص ما لم يعمل به، فيصير نسخًا؛ لأنه يتعين أنه ليس من باب المجاز، بل اللفظ حينئذ مستعمل في غير موضوعه، فتغييره نسخ. فهذه المثل كلها غرور لا حجة فيها، بل الحق استحالة النسخ في الخبر المحض. قوله: "دخول النسخ في الأمر يوجب البداء". قلنا: بل الله تعالى عالم بغاية الحكم المنسوخ من قبل أن يشرعه، فلابداء، لأن البدء هو الظهور بعد الخفاء لقوله تعالى: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} [الزمر: 47] {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات} [يوسف: 35] أي: ظهر، وذلك إنما يكون مع الجهل، والله تعالى بكل شيء عليم، فالبداء في حقه محال، والنسخ يوهمه؛ لأنه عالم بغاية الحكم قبل شرعيته. وأما نسخ الخبر، فيلزم منه الخلف قطعًا كما تقدم بيانه. وأما قولكم: إن نسخ الخبر يبين أن تلك الصورة غير مرادة بذلك الخبر فهو مجاز، وليس من باب النسخ في شيء؛ لأن النسخ هو رفع الشيء بعد أن تحققت فيه إرادة المتكلم بالإجماع، سواء فسرناه بالرفع، أو بالانتهاء؛ فإن المنتهى ثبتت إرادته باعتبار الزمن الماضي. أما ما لم يرد أصلًا، فكيف يصح أن يكون فيه نسخ، وإنما ذلك من باب المجاز الصرف. قوله: "إهلاك عاد لا يتكرر". قلنا: وإذا كان الفعل مما يتكرر يئول أمره للتخصيص، وقد بينا أنه ليس بنسخ، فإذا سلمتم ذلك فيما لا يتكرر، فقد سلمتم؛ لأن الإرداة حينئذ موجودة هنالك، وهو موضع النزاع.

أما ما لم يتصف بالإرادة أصلًا، فلا نزاع فيه، وليس كل التخصيص في الأزمان نسخًا على القول بأن النسخ تخصيص في الأزمان؛ لأن لنا عمومات في الأزمان كالعمومات في الأشخاص، كقولنا: الأيام، والليالي، والأزمنة، والدهور؛ فإن (الألف واللام) تعم ما دخلت عليه، كان أشخاصًا أو أزمنة، ويدخل التخصيص في عموم الأزمنة، ولا يكون نسخًا، فإذا قال الحالف: (والله لا كلمته في جميع الأيام)، واراد أيامًا مخصوصة كان ذلك تخصيصًا، وصحت نيته في ذلك، ولا يقول أحد: هو نسخ، وإن كان تخصيصًا في الأزمان، والكذب في الخبر لا يتوقف على كون المخبر عنه متكررا، أو غير متكرر، بل إذا قال الرجل: (رايت إخوتك)، وصمت جميع أيام الشهر، وأراد حقيقة اللفظ وعمومه، ولم يكن الواقع كذلك كان كذبًا قطعًا، ولا يخاصه أنه يقول: أردت النسخ والإبطال فيما قلته، وذلك معلوم بالضرورة.

المسألة الحادية عشرة قال الرازي: إذا قال الله تعالى: (افعلوا هذا الفعل أبدا)، يجوز نسخه؛ خلافا لقوم

المسألة الحادية عشرة قال الرازي: إذا قال الله تعالى: (افعلوا هذا الفعل أبدًا)، يجوز نسخه؛ خلافًا لقوم. لنا وجهان: الأول أن لفظ التأبيد في تناوله لجميع الأزمان المستقبلة كلفظ العموم في تناوله لجميع الاعيان، فإذا جاز أخد التخصيصين، فكذا الثاني؛ والجامع هو الحكمة الداعية إلى جواز التخصيص. الثاني: أن شرط النسخ: أن يرد على ما أمر به على سبيل الدوام، والتابيد لا يدل إلا على الدوام، فكان التأبيد شرطًا لإمكان النسخ، وشرط الشيء لا ينافيه. احتجوا بأمرين: الأول: أن قوله: (افعلوا أبدًا)، قائم مقام قوله: (افعلوا في هذا الوقت، وفي ذلك، وذاك) إلى أن يذكر الأوقات كلها، ولو ذكر على هذا الوجه، لم يجز النسخ، فكذا إذا ذكر بلفظ التأبيد. الثاني: لو جاز نسخ ما ورد بلفظ التأبيد، لم يكن لنا طريق إلى العلم بدوام التكليف. والجواب عن الأول: أن ذلك يمنع من النسخ كله؛ لأن المنسوخ لا بد من كونه لفظًا يفيد الدوام: إما بصريحه، وإما بمعناه، ثم إنه ينتقض بإنه يجوز أن يقال: (جاءني الناس إلا زيدًا) ولا يجوز: (جاءني زيد، وعمرو، وبكر) و (ما جاءني زيد).

شرح القرافي: قوله: " إن قوله: (افعلوا أبدا قائم مقام التنصيص على أعيان الأزمنة بخصوصياتها "

ثم الفرق ما حققناه في مسالة ان للعموم صيغة. وعن الثاني: ان لفظ التأبيد يفيد ظن الاستمرار، لكن القطع به لا يحصل إلا من القرائن، والله أعلم. المسألة الحادية العشرة (ينسخ ما قيل فيه ابدًا) قال القرافي: قوله: " إن قوله: (افعلوا أبدًا قائم مقام التنصيص على أعيان الأزمنة بخصوصياتها ". قلنا: لا نسلم؛ لما تقدم في العموم؛ لأن التنصيص على الاعيان يدل مطابقة في كل واحد منها، بخلا ف عموميدل تضمنًا ليس إلا، سلمناه لكن عندنا لو نص على خصوصيات الأزمنة جاز النسخ، كما نص الله تعالى على خصوص إسحاق عليه السلام ونسخه، وإنما يمنع من هذا المعتزلة. قوله: "لو جاز نسخ ما ورد بلفظ الدوام لم يكن لنا طريق إلى العلم بدوام التكليف". قلنا: لا يلزم من انتفاء طريق معين انتفاء كل الطرق، فجاز أن يعلم ذلك بالإجماع، أو بالقرائن، أو بدليل مركب من مقدمتين، كما قلنا في أن الأمر للوجوب، وبالجملة نحن من وراء المنع في ذلك. قوله: "لا بد في المنسوخ من كونه لفظًا يفيد الدوام". قلنا: لا يشترط أن يكون لفظه يفيد الدوام، بل جاز أن يكون لا يدل على الدوام، ويفهم الدوام بالقرائن، أو بنص آخر موضوع الدوام، نحو التأبيد وغيره.

القسم الثاني في الناسخ والمنسوخ وفيه مسائل

القسم الثاني في الناسخ والمنسوخ وفيه مسائل قال الرازي: المسألة الأولى: نسخ السنة بالسنة، يقع على أربعة اوجه: الأول: نسخ السنة المقطوعة، بالسنة المقطوعة. والثاني: نسخ خبر الواحد بخبر الواحد؛ كقوله، عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) وقال في شارب الخمر: (فإن شربها الرابعة، فاقتلوه) ثم حمل إليه من شربها الرابعة، فلم يقتله. والثالث: نسخ خبر الواحد بالخبر المقطوع، ولا شك فيه. والرابع: نسخ الخبر المتواتر، وهو جائز في العقل غير واقع في السمع عند الأكثرين؛ خلافًا لبعض أهل الظاهر. لنا: أن الصحابة، رضي الله عنه، كانت تترك خبر الواحد، إذا رفع حكم الكتاب؛ قال عمر، رضي الله عنه: (لا ندع كتاب ربنا؛ لقول امرأة، لا ندري أصدقت أم كذبت). وهذا الاستدلال ضعيف؛ لأنا نقول: هب أن هذا الحديث دل على أنهم ما قبلوا ذلك الخبر في نسخ المتواتر، فكيف يدل على إجماعهم على أنهم ما قبلوا خبرًا من أخبار الآحاد في نسخ المتواتر؟ واحتج أهل الظاهر بوجوه:

الأول: أنه جاز تخصيص المتواتر بالآحاد، فجاز نسخه به، والجامع دفع الضرر المظنون. الثاني: أن خبر الواحد دليل من أدلة الشرع، فإذا صار معارضًا لحكم المتواتر، وجب تقديم المتأخر؛ قياسًا على سائر الأدلة. الثالث: أن نسخ الكتاب وقع باخبار الآحاد من وجوه: أحدها: قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه} [الأنعام: 145] الآية: منسوخ بما روي بالآحاد: أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع). وثانيها: قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24] منسوخ بما روي بالىحاد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها). وثالثها: قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} [البقرة: 180] منسوخ بما روي بالآحاد من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا وصية لوارث). ورابعها: أن الجمع بين وضع الحمل والمدة منسوخ بأحد الأجلين، وإذا ثبت نسخ الكتاب بخبر الواحد، وجب جواز نسخ الخبر المتواتر؛ لأنه لا قائل بالفرق. الرابع: أن أهل قباء قبلوا نسخ القبلة بخبر الواحد، ولم ينكر الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك. الخامس: أنه، عليه الصلاة والسلام، كان ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف، وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ.

والجواب عن الأول: أن الفرق بين النسخ والتخصيص واقع بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وللخصم أن يمنع وجود هذا الإجماع، كما سبق. وعن الثاني: أن المتواتر مقطوع في متنه، والآحاد ليس كذلك؛ فلم لا يجوز أن يكون هذا التفاوت مانعًا من ترجيح خبر الواحد؟ وأما الآيات: فقوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا} [الأنعام: 145] إنما يتناول الموحى إليه إلى تلك الغاية، ولا يتناول ما بعد ذلك، فلم يكن يكن النهي الوارد بعده نسخًا. وعن الثانية: أنا إنما خصصنا قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24] بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تنكح المرأة على عمتها) لتلقى الأمة هذا الحديث بالقبول، وأيضُا غير ممتنع أن يكون الخبر مقارنًا، فقبلوه مخصصا، لا ناسخًا. وعن الثالثة: أنه يجوز أن يصدر الإجماع عن خبر، ثم لا ينقل ذلك الخبر أصلًا؛ استغناء بالإجماع عنه، وإذا جاز ذلك، فالأولى أن يجوز أن يصدر إجماعهم عن خبر، ثم يضعف نقله؛ استغناء بالإجماع عنه. وإذا كان كذلك، لم يمتنع أن يكون هذا الخبر مقطوعًا به عندهم، ثم يضعف نقله؛ لإجماعهم على العمل بموجبه، وهذا هو الجواب أيضًا عن الرابعة. والجواب عن الحجة الرابعة: لعل رسول الله عليه الصلاة والسلام أخبرهم بذلك قبل وقوع الواقعة، ففلهذا قبلوا الخبر، أو لعله انضم إليه من القرائن ما أفاد العلم، نحو كون المسجد قريبًا من الرسول عليه الصلاة والسلام وارتفاع الضجة في ذلك.

شرح القرافي: قوله: "يجوز نسخ الآحاد بالآحاد كقوله عليه السلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)

والجواب عن الحجة الخامسة: أنّا سنبين ضعفها في باب خبر الواحد، إن شاء الله تعالى. القسم الثاني في الناسخ والمنسوخ قال القرافي: قوله: "يجوز نسخ الآحاد بالآحاد كقوله عليه السلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)." قلنا: هذا إنما يصح أن لو قلنا الآن حين حدث النسخ؛ لأنهما آحاد في زماننا، وليس كذلك، بل هذا النسخ وقع في زمانه عليه السلام أو سمعوا اللفظ منه عليه السلام في الموطنين، فاللفظان حينئذ يقطع بصدورهما منه عليه السلام فإن السماع مشافهة يفيد القطع بالنطق كالتواتر، فهذا المثال ليس من هذا الباب وإنما كان يكون منه لو سكت عن هذه المسألة إلى حين نقل هذا اللفظ، ولم يوجد إلا بطريق الآحاد، وكذلك السؤال في شارب الخمر؛ لأن الجميع وقع في زمانه عليه السلام الأمر بقتله، وترك قتله. قوله: "الصحابة كانوا يتركون الكتاب بخبر الواحد، كقول عمر رضي الله عنه: (لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدق أم كذبت) ". قلنا: لاحجة فيه؛ لأنه علل الرد بعدم الوثوق بصدقها، وحصول الشك فيه، والكلام في خبر الواحد إذا كان ظاهر العدالة، سالمًا عن المطاعن. قوله: "جاز التخصيص بخبر الواحد، فيجوز النسخ به".

قلنا: الفرق أن النسخ قضاء بالرفع على حكم علم ثبوته في هذا الفرد باعتبار الزمان المستقبل، فيتعين الاحتياط فيه، والتخصيص لم يتعين فيه ذلك، بل هو غير مراد قطعًا، فضعف أمره. قوله: "نسخ الكتاب في قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي ... الآية} [الأنعام: 145] بنهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع ". قلنا: الآية اجتمع فيها لفظان متعارضان، فيتعين صرف أحدهما للآخر، فلفظ (أوحى) ماض لا يتناول إلا إلى حين ورود الآية ولفظ (لا) لنفي المستقبل بنص سيبويه، وكما في قوله تعالى: {لا يموت فيها ولا يحيا} [الأعلى: 13]، والمراد الاستقبال بالضرورة. قال النحاة: (لم) و (لما) لنفي الماضي، و (ما) و (ليس) لنفي الحال، و (لا) لنفي المستقبل، غير أن (لن) نص في العموم من (لا)، وحينئذ لا بد من صرف (لا) لـ (أوحي) أو صرف (أوحي) للفظ (لا) فإن صرفنا (لا) للفظ (أوحي)، فلا نسخ؛ لعدم التعارض بين الآية والخبر، وإن عكسنا كان تخصيصًا لا نسخًا، فلا حجة فيه. قوله: "خصص قوله عليه السلام: (لا تنكح المرأة على عمتها) قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24] ". قلنا: لا نسلم، بل ذلك تخصيص له، وليس هو من النسخ في شيء، سلمنا أنه نسخ، لكن لا نسلم أنه حين قضى بالنسخ كان آحادًا؛ فإن هذا

الحكم متقدم في زمن الصحابة، فلعلهم سمعوه، أو كان متوترًا، وإن كان كذلك فالقطع حاصل. وكذلك قوله عليه السلام: (لا وصية لوارث). قوله: "الجمع بين وضع الحمل والمدة منسوخ بأحد الأجلين". قلنا: لا نسلم أن الله تعالى شرع الجمع بينهما قط حتى يكون منسوخًا، ولا نسلم أن لنا خبرًا من أخبار الآحاد يقتضي أحد الأجلين بعد شرعية الجمع، وإنما ورد آيتان متعارضتان من حيث الجملة، وهما قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] وقوله تعالى: {وأولات الاحمال أجلهن ان يضعن حملهن} [الطلاق: 4] فمن السلف من قال: يجمع بين الآيتين بأن يجب الأمران. ومنهم من قال: يجمع بينهما بحمل الأجل على غير الحوامل. هذا مدرك المسألة. قوله: "كان عليه السلام ينفذ آحاد الولاة للأطراف، ويبلغون الناسخ والمنسوخ".

(قاعدة) يشترط في الناسخ أن يكون مساويا، أو أقوى، فلذلك ينسخ المتواتر بالمتواتر دون الآحاد

قلنا: فرق بين قول العدل: "هذا نسخ هذا" أو "هو منسوخ"، وبين أن يروي حديثًا يعارضه متواتر، هما مسألتان مختلفتان عند العلماء، والنزاع هاهنا إنما هو في الثانية، وما ذكرتموه ليس منها. قوله: "الوحي إنما يتناول لتلك الغاية، فالواقع بعد ذلك ليس نسخًا". قلنا: هب أن لفظ (أوحى) كذلك علم لا يكون نسخًا باعتبار لفظ (لا) المتناولة للمستقبل كما سلمتموه يلزمكم. قوله: "إنما خصصنا الآية بقوله عليه السلام: (لا تنكح المرأة على عمتها) لتلقي الأمة إياه بالقبول". قلنا: لم ذكرتم التخصيص، والنزاع إنما هو في النسخ. سلمنا أن مرادكم النسخ، لكن لا نسلم أن تلقي الأمة إياه بالقبول يخرجه عن كونه آحادًا؛ فإن تلقي الأمة يكفي فيه عدالة راويه، فهو من صورة النزاع، فإن سلمتموه سلمتم المسألة. قوله: "في حديث أهل قباء: (لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبركم قبل ذلك، أو كانت ثم قرائن) ". قلنا: الأصل عدم ذلك، والمروي أن المخبر أخبرهم وهم في الصلاة، فتحولوا فيها إلى القبلة. (قاعدة) يشترط في الناسخ أن يكون مساويًا، أو أقوى، فلذلك ينسخ المتواتر بالمتواتر دون الآحاد، وينسخ الآحاد بالآحاد والمتواتر، فهذه قاعدة الباب على الجادة.

(قاعدة) إذا دار المصدر بين أن يكون مضافا للفاعل أو المفعول

(قاعدة) إذا دار المصدر بين أن يكون مضافًا للفاعل أو المفعول. قال النحاة: تتعين إضافته للفاعل حتى يدل الدليل على خلافه، وباعتبار هذه القاعدة يسقط الاستدلال بالحديث المتقدم؛ فإن نهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع، لفظ (أكل) مصدر مضاف، فيكون مضافًا للفاعل للقاعدة، ويتعين أن يكون بمعنى المأكول لقاعدة اخرى، وهي أنا لا نُنهى عن فعل غيرنا، وهو السباع، بل يكون المراد المأكول الذي يمكن ذكاته، فيخرج على الخلاف بين العلماء في ذلك، ويكون الحديث كقوله تعالى: {وما أكل السبع إلا ما ذكيتم} [المائدة: 3]. وهل الاستثناء متصل في الآية أو منقطع؟ خلاف بين العلماء، وهذا يمنع من التمسك به على تحريم أكل لحوم السباع أنفسها. فإن قلت: التعبير بالمصدر عن المفعول خلاف الظاهر، ثم المأكول لا يتعلق يتعلق التحريم بعينه؛ لتعذر النهي عن الأعيان، واختصاصه بأفعال المكلفين، فيكون التقدير: نهى عليه السلام عن أكل مأكول السباع، وهذا كله خلاف الظاهر، فيتعين تحريم أكل لحوم السباع أنفسها؛ نفيًا لهذه المخالفة. قلت: التعبير بالمصدر عن المفعول مجاز على خلاف الظاهر، والإضافة للمفعول على خلاف الظاهر، فيتعارض الأمران، فيسقط الاستدلال، وهو مقصودنا. فإن قلت: يلزمكم المجاز والإضمار، وكلاهما على خلاف الظاهر، ونحن يلزمنا مخالفة واحدة، وهي الإضافة للمفعول، فيكون أولى. قلت: هذا الإضمار لا عبرة به في الترجيح؛ لأن هذا المركب نفي حقيقة عرفية، كما تقدم بيانه في (المجملات)، وإن هذا الاستعمال في مثل قوله

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: كل دليل يفيد وجوب العمل به بشرط انتفاء غيره

تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] أن هذا اللفظ موضوع في العرف حقيقة لتحريم الاستمتاع من غير احتياج لإضمار البتة، وهذا البحث ليس من أصول الفقه الذي ذكرته لغرابته، فلم أر أحدًا يحيكه. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: كل دليل يفيد وجوب العمل به بشرط انتفاء غيره، واحتمال ذلك الغير يقدح شكًا في وجود شرط العمل به، كالبراءة المستيقنة مع خبر الواحد، والعام مع المخصص. وشرط جواز العمل بكل دليل عدم ورود الناسخ له، فاحتمال وجوده يفوت شرط العمل، لكن هذا باطل بما قبل معرفة التاريخ، ومعرفة التاريخ لا تنفي الترجيح، فيجب العمل بالراجح، وهذا بخلاف العام، والنهي الأصلي؛ فإنهما وإن كانا مقطوعي الأصل لكنهما ظاهرا التناول، والمخصص ودليل التنقل يبينان أنهما لم يتناولا محل تناولهما، وأما الناسخ فيرفع حكم دلالة محققة. وقال في الأجوبة: آية الوصية نسخت بآية المواريث، والحديث إخبار عنه، وعن إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأطراف: أن ذلك بالقرائن أيضًا المختلفة بإخباراتهم. قال: ومن أصحابنا من سلم وقوع ذلك في عصره صلى الله عليه وسلم لحاجته لذلك، كيلا يخلو عصر النبوة عن طائفة يقومون بالنصرة، والذب عن بيضة الإسلام، بإرسال عدد التواتر إلى كل طرف، ولعله لا يفي به جميع من بحضرته عليه السلام ولهذا وجب عليهم قبول قولهم في التوحيد، وأصول الشريعة، وما لا يجوز إثباته إلا بقاطع في زماننا هذا. قال: وهذا قريب من الإنصاف. ***

المسألة الثانية قال الرازي: قال الأكثرون: يجوز نسخ الكتاب، ودليله ما ذكرناه في الرد على أبي مسلم الأصفهاني

المسألة الثانية قال الرازي: قال الأكثرون: يجوز نسخ الكتاب، ودليله ما ذكرناه في الرد على أبي مسلم الأصفهاني. بقي هاهنا أمران: أحدهما: أنه يجوز نسخ السنة بالقرآن، وهو أيضًا واقع، وقال الشافعي رضي الله عنه: لا يجوز. احتج المثبتون بأمور: أحدها: أن التوجه إلى بيت المقدس كان واجبًا في الابتداء بالسنة؛ لأنه ليس في القرآن ما يتوهم كونه دليلًا عليه، إلا قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115] وذلك لا يدل عليه؛ لانها تقتضي التخيير بين الجهات. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يقال: التوجه إلى بيت المقدس، وقع في الأصل بالكتاب، إلا أنه نسخت تلاوته، كما نسخ حكمه؛ فإنه لا دليل يمنع من هذا التجويز؟ سلمنا أن التوجه إلى بيت المقدس وقع بالسنة، فلم لا يجوز أن يقال: وقع نسخه أيضًا بالسنة؟ وليس من حيث ثبت التوجه إلى الكعبة بالكتاب ما يوجب أن يكون التحويل عن بيت المقدس بالكتاب؛ لأن الظاهر أنه حول عن بيت المقدس، ثم أمر بالتوجه إلى الكعبة، ولهذا كان يقلب وجهه في السماء، لا لوجه سوى أنه قد حول عن الجهة التي كان يتوجه إليها، وينتظر ما يؤمر به من بعد، فأمر بالتوجه إلى الكعبة؛ فإن لم يكن ذلك هو الظاهر، فهو مجوز، وهذا كاف في المنع من الاستدلال.

وثانيها: قوله تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم} [البقرة: 187] وهو نسخ لتحريم المباشرة، وليس التحريم في القرآن. ثالثها: نسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان، وكان صوم عاشوراء ثابتًا بالسنة. ورابعها: صلاة الخوف وردت في القرآن ناسخة لما ثبت بالسنة من جواز تاخيرها إلى إنجلاء القتال، حتى قال، عليه الصلاة والسلام، يوم الخندق: (حشا الله قبورهم نارًا) لحبسهم عن الصلاة. وخامسها: قوله تعالى: {فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10] نسخ لما قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والصلح. واعلم أن السؤالين المذكورين واردان في الكل، ومن الجهال من قدح في هذين السؤالين، وقال: لا حاجة بنا إلى تقدير سنة خافية مندرسة، ولا ضرورة؛ فلم نقدرهما؟ وهذا جهل عظيم؛ لأن المستدل لا بد له من تصحيح مقدماته بالدلالة، فإذا عجز عنها، لم يتم دليله. واحتج الشافعي رضي الله عنه، بقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] وهذا يدل على ان كلامه بيان للقرآن، والناسخ بيان للمنسوخ، فلو كان القرآن ناسخًا للسنة، لكان القرآن بيانًا للسنة، فيلزم كون كل واحد منهما بيانًا للآخر. والجواب: ليس في قوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} دليل على انه لا يتكلم إلا بالبيان، كما أنك إذا قلت: "إذا دخلت الدار لا أسلم على زيد" ليس فيه أنك لا تفعل فعلًا آخر.

شرح القرافي: قوله: "ليس في الكتاب ما يتوهم دليلا على التوجه إلى بيت المقدس إلا قوله تعالى: {فثم وجه الله}

سلمنا أن السنة كلها بيان، لكن البيان هو الإبلاغ، وحمله على هذا اولى، لأنه عام في كل القرآن، أما حمله على بيان المراد، فهو تخصيص ببعض ما أنزل، وهو ما كان مجملًا، أو عاما مخصوصًا، وحمل اللفظ على مايطابق الظاهر أولى من حمله على ما يوجب ترك الظاهر، والله أعلم. المسألة الثانية نسخ الكتاب بالكتاب قال القرافي: قوله: "ليس في الكتاب ما يتوهم دليلًا على التوجه إلى بيت المقدس إلا قوله تعالى: {فثم وجه الله} [البقرة: 115] ". قلنا: بل فيه أقوى من هذا بناء على قاعدة، وهو أن كل بيان لمجمل، فإنه يعد منطوقًا به في ذلك المجمل، فإذا قال الله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام: 141]، فبينه عليه السلام بقوله: (فيما سقت السماء العشر)، فيصير ذلك كالمنطوق به في الآية، كأن الله تعالى قال: (وآتوا عشره يوم حصاده)؛ لأنه لم يرد غيره. وكذلك قول الله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9]، بينها عليه السلام أنها صلاة الظهر، وأنها ركعتان جهرًا في جماعة بخطبة، ومسجد إلى غير ذلك من الشروط، فيصير معنى الآية كأن الله تعالى قال: إذا نودي للصلاة ولم يبين كيف تقام، فهي آية مجملة، ثم بينها عليه السلام بالطهارة، والستارة، واستقبال بيت المقدس، وغير ذلك من الشروط، فيكون الجميع مرادًا من الآية، فتكون دليلًا عليه بواسطة البيان، فيكون التوجه للبيت المقدس على هذا بيانًا بالقرآن، فهذا أقوى مما ذكرتموه لاستناده لهذه القاعدة. وأما قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]، فهو

عام يتناول بيت المقدس وغيره، فيسقط اعتبار الخصوص، وتعين بيت المقدس دون غيره، وأنه إذا تعمد تركه، أو أخطأه تصح صلاته , قوله: "يجوز أن يكون ثبت بقرآن نسخت تلاوته". قلنا: إن كان المقصود في كل مدرك من هذه المدارك القطع بطلب هذه الأدلة كلها، فإنها إنما تدل بواسطة انتفاء المجاز والاشتراك، وغير ذلك مما يقدح في إفادة الألفاظ اليقين، وإن كان المقصود نصب الأدلة من حيث الجملة فيمكن أن نقول: الأصل عدم هذه التلاوة التي تشيرون إليها، وهذا هو الجواب عن قولكم: إن النسخ للبيت المقدس وقع بالسنة؛ لأن الأصل عدم غير ما نحن نتلوه من القرآن في ذلك. قوله: "نسخ صوم رمضان صوم عاشوراء". قلنا: قد تقدم حكاية الخلاف فيه. قوله: "ومن الجهال من قدح في هذين السؤالين". قلنا: إن كان المقصود أن القطع بالقدح في السؤالين جهل، فهو حق، وإلا فلا؛ لأن الأصل عدم السنة كما تقدم تقريره. قوله: "احتج الشافعي بقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] ". قلنا: صيغة (لتبين) فعل في سياق الإثبات، فيكون مطلقًا دالا على القدر الأعم من البيان، والدال على الأعم غير دال على الأخص، ويكفي في العمل به صورة واحدة، وقد أعملناه في التخصيص، أما النسخ فلا يدل عليه؛ لأنه أخص من مطلق البيان، وأما دلالته على أن الله تعالى لا يبين، فهو من باب مفهوم اللقب الذي لا يقول به الشافعي؛ لأنك إذا

(سؤال) قال النقشواني: التوجه للبيت المقدس لم يرد فيه كتاب ولا سنة غير أنا لما أمرنا بالصلاة

قلت: لا يقوم زيد فدلالته على عدم قيام عمرو مفهوم لقب لم يقل به إلا الدقاق. قوله: "في قوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] دليل على أنه لا يفعل غير البيان". تقريره: أنه إذا لم يناف أن يفعل غير البيان أن أن يتكلم بالمجمل أيضًا، فيكون القرآن بيانًاا لذلك المجمل، وبيانه عليه السلام لمجمل القرآن، فيبين كل واحد منهما بعض الآخر، وهو مجمله، فلا دور حينئذ، وإنما كان يلزم الدور أن لو كان كل واحد منهما بيانًا لكل الآخر. (سؤال على الشافعي) قوله تعالى: {ما نزل إليهم} [النحل: 44]، عام في الكتاب والسنة؛ لأن السنة وحي منزل لقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3]. وقال بعض السلف: اشتغلت بالقرآن سنة، وبالوحي سنتين - أي بالأحاديث - فيكون معنى الآية أنه عليه السلام يبين القرآن والسنة بغيرهما، وهو خلاف الإجماع، فما تدل عليه الآية لا يقولون به، وما يقولون به لا تدل عليه الآية. (سؤال) قال النقشواني: التوجه للبيت المقدس لم يرد فيه كتاب ولا سنة غير أنا لما أمرنا بالصلاة، والبيت المقدس هو قبلة الأنبياء كلهم، فانصرف الأمر للمعهود من القبلة، فأمكن أن يكون هذا هو المستند، ولا حاجة إلى تقدير تلاوة منسوخة؛ لأن الأصل عدمها، ولا يكون هذا نسخًا للكتاب بالسنة، ولا للسنة بالكتاب، بل نسخ للشرائع المتقدمة فقط.

((تنبيه)) زاد التبريزي فقال على قوله: "لعله نسخ بقرآن نسخت تلاوته" أن الأدلة لا تندفع بالأوهام والوساس

((تنبيه)) زاد التبريزي فقال على قوله: "لعله نسخ بقرآن نسخت تلاوته" أن الأدلة لا تندفع بالأوهام والوساس، بل الأصل عدم تلاوة منسوخة، وسنة دارسة، والظاهر أنه لو نزلت تلاوة، ونسخت لنقلت كما نقل غيرها. وقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] لا يوجب حصر المبين فيه صلى الله عليه وسلم. قلت: يريد أنه مفهوم لقب، فجاز أن يكون الله تعالى مبينًا أيضًا. ***

المسألة الثالثة قال الرازي: نسخ الكتاب بالسنة المتواترة جائز وواقع، وقال الشافعي رضي الله عنه: لم يقع

المسألة الثالثة قال الرازي: نسخ الكتاب بالسنة المتواترة جائز وواقع، وقال الشافعي رضي الله عنه: لم يقع. احتج المثبتون بصورتين: إحداهما: أنه كان الواجب على الزانية الحبس في البيوت؛ لقوله تعالى: {فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت} [النساء: 15] ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بآية الجلد، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نسخ الجلد بالرجم. فإن قلت: بل نسخ ذلك بما كان قرآنًا، وهو قوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة): قلت: إن ذلك لم يكن قرآنًا، ويدل عليه: أن عمر رضي الله عنه قال: (لولا أن يقول الناس: إن عمر زاد في كتاب الله شيئًا، لألحقت ذلك بالمصحف) ولو كان ذلك قرآنًا في الحال، أو كان ثم نسخ، لما قال ذلك. ولقائل أن يقول: لما نسخ الله تعالى تلاوته، وحكم بإخراجه من المصحف، كفى ذلك في صحة قول عمر، رضي الله عنه، ولم يلزم منه القطع بأنه لم يكن البتة قرآنًا. وثانيها: نسخ الوصية للأقربين بقوله عليه السلام: (لا وصية لوارث) لأن آية المواريث لا تمنع الوصية، إذ الجمع ممكن، وهذا ضعيف؛ لأن كون الميراث حقًا للوارث يمنعه من صرفه إلى الوصية؛ فثبت أن آية الميراث مانعة

من الوصية؛ ولأن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث) خبر واحد؛ إذ لو قلنا: إنه كان متواترًا، لوجب أن يكون الآن متواترًا؛ لأنه خبر في واقعة مهمة تتوفر الدواعي على نقله، وما كان كذلك، وجب بقاؤه متواترًا ن وحيث لم يبق الآن متواترًا، علمنا أنه ما كان متواترًا في الأصل، فالقول بأن الآية صارت منسوخة به، يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد، وإنه غير جائز بالإجماع. واحتج الشافعي رضي الله عنه بأمور: الأول: قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها او مثلها} [البقرة: 106] والاستدلال من وجوه أربعة: أحدها: أنه تعالى أخبر أن ما ينسخه من الآيات يأتي بخير منه، وذلك يفيد أنه تعالى ياتي بما هو من جنسه، كما إذا قال للإنسان: (ما آخذ منك من ثوب، آتك بخير منه) أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه، وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون من جنسه، فجنس القرآن قرآن. وثانيها: أن قوله تعالى: {نأت بخير منها} يفيد: أنه هو المتفرد بالإتيان بذلك الخير، وذلك هو القرآن الذي هو كلام الله تعالى دون السنة، التي يأتي بها الرسول عليه السلام. وثالثها: أن قوله تعالى: {نأت بخير منها} يفيد: أن المأتي به خير من الآية، والسنة لا تكون خيرا من القرآن. ورابعها: أنه تعالى قال: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 106] دل على أن الذي يأتي بخير منها هو المختص بالقدرة على إنزاله، وهذا هو القرآن دون غيره.

الثاني: قوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] فوصفه بأنه مبين للقرآن، ونسخ العبادة رفعها، ورفعها ضد بيانها. الثالث: قوله تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية} [النحل: 101] أخبر تعالى بأنه هو الذي يبدل الآية بالآية. الرابع: أنه تعالى حكى عن المشركين: أنهم قالوا عند تبديل الآية بالآية: {إنما أنت مفتر} [النحل: 101] ثم إنه تعالى أزال هذا الإبهام بقوله: {قل نزله روح القدس من ربك} [النحل: 102] وهذا يقتضي أن ما لم ينزله روح القدس من ربه، لا يكون مزيلًا للإبهام. الخامس: قوله تعالى: {قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله، قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي} [يونس: 15] وهذا يدل على أن القرآن لا تنسخه السنة. السادس: أن ذلك يوجب التهمة والنفرة. والجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في الآية الأولى؛ بوجه عام، ثم بما يخص كل واحد من تلك الوجوه: أما العام: فهو: أن قوله تعالى: {نأت بخير منها} [البقرة: 106] ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخًا، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئًا مغايرًا للناسخ، يحصل بعد حصول النسخ، والذي يدل على تحقق هذا الاحتمال أن هذه الآية صريحة في أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى، فلو كان نسخ تلك الآية مرتبًا على الإتيان بذلك الخير، لزم ترتب كل واحد منهما على الآخر، وهو دور.

وأما الوجوه الخاصة: فالجواب عن الأول: لا نسلم ان ذلك الخير لا بد وأن يكون من جنس الآية المنسوخة، فليس تعلقهم بالمثال الذي ذكروه أولى من مثال آخر؛ وهو أن بقول القائل: (ممن يلقني بحمد وثناء جميل، ألقه بخير منه) في أنه لا يقتضي أن الذي يلقاه به من جنس الحمد والثناء، أو من قبيل المنحة والعطاء. وعن الثاني؛ وهو أن قوله: {نات بخير منها} يفيد أنه هو المتفرد بالغتيان بذلك الخير: أن نقول: المراد بالإتيان شرع الحكم وإلزامه، والسنة في ذلك كالقرآن في أن المثبت لهما هو الله تعالى. وعن الثالث؛ وهو قوله: السنة لا تكون خيرًا من القرآن: أن نقول: إذا كان المراد بالخير الأصلح في التكليف، والأنفع في الثواب، لم يمتنع أن يكون مضمون السنة خيرًا من مضمون الآية. وعن الرابع: أن النسخ رفع الحكم، سواء ظهر ذلك بالقرآن، أو بالسنة وعلى التقديرين فالله تعالى هو المتفرد به. والجواب عن الحجة الثانية: أن النسخ لا ينافي البيان؛ لأنه تخصيص للحكم بالأزمان، كما أن التخصيص للحكم بالأعيان. والجواب عن الحجة الثالثة: أن الناسخ، سواء كان قرآنا أو خبرًا، فالمبدل في الحقيقة هو الله تعالى. والجواب عن الحجة الرابعة: أن من يتهم الرسول عليه الصلاة والسلام فإنما يتهمه؛ لأنه يشك في نبوته، ومن تكن هذه حاله، فالنبي عليه الصلاة

شرح القرافي: قوله "نسخ الحبس في البيوت بالجلد، ثم نسخ بالرجم"

والسلام مفترٍ عنده، سواء نسخ الكتاب بالكتاب، أو بالسنة، والمزيل لهذه التهمة التمسك بمعجزاته. والجواب عن الحجة الخامسة؛ وهي قوله تعالى: {ائت بقرآن غير هذا أو بدله} [يونس 15] أنه يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لا ينسخ إلا بوحي، ولا يدل على أن الوحي لا يكون إلا قرآنا. والجواب عن الحجة السادسة: أن النفرة زائلة بالدليل الدال على أنه {ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3 - 4] والله أعلم. المسألة الثالثة في نسخ الكتاب بالسنة المتواترة قال القرافي: قوله "نسخ الحبس في البيوت بالجلد، ثم نسخ بالرجم". قلنا: عليه أربعة أسئلة: الأول: لا نسلم أن آية الجلد نزلت بعد آية الحبس، بل ظاهر السنة أنها نزلت ثانيًا، وهو قوله عليه السلام: (خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام). فقوله عليه السلام: (قد جعل الله لهن سبيلا) ظاهر في أنه الآن كما ورد عليه تعبير الحبس في البيوت لقوله تعالى: {أو يجعل الله لهن سبيلا} [النساء: 15]. الثاني: سلمنا تأخر آية الجلد، لكن لم قلتم: إنها ناسخة، وذلك لأن

ظاهرها غير متعارض، فأمكن الجلد والحبس في البيوت حتى ينقلوا أن الله تعالى أبطل الحبس في البيوت بها. الثالث: سلمنا أنه تعالى أبطل الحبس بها، لكن لا نسلم أن الحديث من باب التواتر؛ لأن المتواتر هو الذي ينقله عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب، والمسموع منه عليه السلام عند العمل لا يقال فيه: متواتر، ولا آحاد لعدم النقل عنه حينئذ. الرابع: سلمنا صدق التواتر عليه لكنه تخصيص لآية الجلد حيث بينت أن الثيب كان يجلد، وحينئذ يتعين النسخ. قوله: "نسخ الوصية للأقربين بقوله عليه السلام: (لا وصية لوارث) ". قلنا: إنما يتم ذلك حتى تثبتوا أن الصحابة لم يقضوا بإبطال الوصية للوارث إلا بهذا الحديث، وهو منقول إليهم؛ لاحتمال أن يقضوا به مسموعًا منه عليه السلام وحينئذ لا يصدق عليه أنه متواتر. فإن قلت: إذا سمع منه عليه السلام كان مقطوعًا به، فهو في معنى التواتر. قلت: فعلى هذا كان ينبغي أن يفهرس هذه المسالة بغير هذه الفهرسة، وتقولون: "يجوز نسخ الكتاب بالسنة المقطوع بها" قوله: "كون الميراث حقًا للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية". قلنا: عليه سؤالان: الأول: أن هذا اللفظ متغير في نفسه ومرادكم أن الميراث يمنع صرف الوصية. فقلتم: "يمنع من صرفه إلى الوصية"، وهذه عبارة فيها خلل، وقد كشفت عدة نسخ، فوجدتها كذلك، واختصرها سراج الدين على ما ذكرته أنا.

الثاني: لا نسلم أنه يلزم من إثبات حق الوارث منع إثبات حق آخر له، ويدل على ذلك أن الوارث لو كان له دين، أو غير ذلك كان له أخذه مع الميراث، فأخذ الدين بسبب سابق كأخذ الوصية بسببها، وهو الإيصاء. فإن قلت: قوله تعالى: {منهما السدس} [النساء: 11]، {فلهما الثلثان} [النساء: 176]، ونحوه من آيات المواريث صيغ شروط، وهذه أجوبتها، ومتى ذكر جواب شرط بعده كان هو كمال ما يترتب عليه، فلا يرد عليه لدلالته على الحصر. قلت: لا نسلم أن كلها شروط كقوله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} [النساء: 12] لا شرط فيه، بل خبر محض عن الحكم الشرعي باستحقاق ذلك، سلمنا أنها كلها شروط، وأن هذه الأوصاف تقوم مقام الشروط، وأن يصرح بالشرط، لكن ذلك يقتضي الحصر باعتبار ذلك الشرط لا مطلقًا. فإذا قال: من زنى جلد مائة يقتضي أن هذا كمال ما يجلد باعتبار الزنا، وجاز أن يجلد باعتبار القذف؛ لأنه سبب آخر فكذلك هاهنا. قوله: "هذا الخبر ليس متواترًا، فيلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد". قلنا: جاز ألا يكون متواترًا، ولا يكون خبرًا واحدًا عند القضاء بالنسخ، بل مسموعًا منه عليه السلام فيكون نسخًا بالمقطوع كما قلتموه في الرجم وغيره. قوله: "الثاني قوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] ". قلنا: قد تقدم أن قوله تعالى: {لتبين للناس} [النحل: 44] فعل في سياق الثبوت، فيكون دالًا على القدر الأعم، والدال على الأعم غير

(سؤال) قال النقشواني: لا يستقيم أن آية الحبس منسوخة

دال على الأخص، والنسخ أخص من مطلق البيان؛ لصدق البيان على التخصيص، وزوال الإجمال، فلا تدل الآية على النسخ البتة. قوله: "أزال الله تعالى الإبهام بقوله تعالى: {نزله روح القدس من ربك} [النحل: 102] لا يكون مزيلًا للإبهام". قلت: هكذا وجدت العبارة في عدة نسخ، وهي غير منتظمة. وقال سراج الدين عبارة حسنة، فقال: "فما لا ينزله روح القدس لا يكون مزيلًا للإبهام" فما أدري هل وجد نسخة هكذا، أو أصلح ما وجده بعبارة صحيحة؟ قوله: "الثالث: قوله تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية} [النحل: 101] ". قلنا: هذه نكرة في سياق الثبوت، فلا تعم فنقول بالموجب، لكن الله تعالى يبدل البعض، والسنة تبدل البعض ولا تناقض. (سؤال) قال النقشواني: لا يستقيم أن آية الحبس منسوخة؛ لأن الله تعالى قال: {فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} [النساء: 15] فغيّا الحبس بغايتين، فإذا جعل الله تعالى سبيلا بالجلد، أو غيره كان ذلك مبينًا للغاية؛ لأنه ناسخ ولا مخصص.

المسألة الرابعة قال الرازي: في كون الإجماع منسوخا وناسخا

المسألة الرابعة قال الرازي: في كون الإجماع منسوخًا وناسخًا الإجماع إنما ينعقد دليلًا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ما دام، عليه الصلاة والسلام حيا، لم ينعقد الإجماع من دونه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سيد المؤمنين، ومتى وجد قوله عليه الصلاة والسلام، فلا عبرة بقول غيره، فإذن الإجماع إنما ينعقد دليلًا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام. إذا ثبت هذا، فنقول: لو انتسخ الإجماع، لكان انتساخه: إما بالكتاب، أو بالسنة، أو بالإجماع، أو بالقياس، والكل باطل. أما بالكتاب والسنة: فلأنه لا يخلو: إما أن يقال: إنهما كانا موجودين وقت انعقاد ذلك الإجماع أو ما كانا موجودين في ذلك الوقت: فإن كانا موجودين، مع أن الأمة حكمت على خلافهما، كانت الأمة مجمعة على الخطأ، ذاهبة عن الحق، وإنه غير جائز. وإن لم يكونا موجودين، استحال حدوثهما بعد ذلك؛ لاستحالة أن يحدث كتاب أو سنة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام. وأما بالإجماع: فلأن انعقاد هذا الإجماع الثاني: إما أن يكون لا عن دليل، أو عن دليل، فإن لم يكن عن دليل، كان ذلك إجماعًا على الخطأ، وإنه غير جائز، وإن كان عن دليل، عاد التقسيم الأول، من أن يقال: إن ذلك الدليل: إما أن يكون حال انعقاد الإجماع الأول، أو حدث بعده، وقد بينا فساد هذين القسمين.

فإن قلت: أليس أن الأمة، إذا اختلفت على قولين، فقد جوزت للعامي أن يأخذ بأيهما شاء، ثم إذا اتفقت بعد ذلك على أحدهما، فقد منعت العامي من الأخذ بذلك القول الثاني، فهاهنا: الإجماع الثاني ناسخ لحكم الإجماع الأول. قلت: الأمة إنما جوزت للعامي الأخذ بأي القولين شاء بشرط ألا يحصل الإجماع على أحد القولين، فكان الإجماع الأول مشروطًا بهذا الشرط، فإذا وجد الإجماع، فقد زال شرط الإجماع الأول، فانتفى الإجماع الأول؛ لانتفاء شرطه، لا لأن الثاني نسخه. وأما بالقياس: فلأن شرط صحة القياس عدم الإجماع، فإذا وجد الإجماع، لم يكن القياس صحيحًا، فلم يجز نسخه به. وأما كون الإجماع ناسخًا: فقد جوزه عيسى بن أبان. والحق أنه لا يجوز. لنا: أن المنسوخ بالإجماع: إما ان يكون نصًا أو إجماعًا أو قياسًا: والأول: يقتضي وقوع الإجماع على خلاف النص، وخلاف النص خطأ، والإجماع لا يكون خطأ. والثاني أيضًا: باطل؛ لأن الإجماع المتأخر: إما أن يقتضي أن الإجماع الأول حين وقع، وقع خطأ، أو يقتضي أنه كان صوابًا، ولكن إلى هذه الغاية. والأول باطل؛ لأن الإجماع لا يكون خطأ، ولو جاز ذلك، لما كان المنسوخ به أولى من الناسخ، وإن كان صوابًا حين وقع، ولكن كان مؤقتًا، فلا يخلو ذلك الإجماع المتقدم المفيد للحكم المؤقت، من أن يكون مطلقًا أو مؤقتًا، فإن كان مطلقًا، استحال أن يفيد الحكم مؤقتًا، وإن كان مؤقتًا إلى غاية، فذلك الإجماع ينتهي عند حصول تلك الغاية بنفسه؛ فلا يكون الإجماع المتأخر رافعًا له.

شرح القرافي: قال سيف الدين: كون الإجماع ينسخ الحكم الثابت به، نفاه الأكثرون، وجوزه الأقلون

والثالث: باطل؛ لأن هذه المسألة لا تتصور إلا إذا اقتضى القياس حكمًا، ثم أجمعوا على خلاف حكم ذلك القياس؛ فحينئذ يزول حكم ذلك القياس بعد ثبوته؛ لتراخي الإجماع عنه، وهذا محال؛ لأن شرط صحة القياس عدم الإجماع، فإذا وجد الإجماع، فقد زال شرط صحة القياس، وزوال الحكم، لزوال شرطه لا يكون نسخًا. المسألة الرابعة في كون الإجماع ناسخًا قال القرافي: قال سيف الدين: كون الإجماع ينسخ الحكم الثابت به، نفاه الأكثرون، وجوزه الأقلون. وكون الإجماع ناسخًا منعه الجمهور، وجوزه بعض المعتزلة، وعيسى بن أبان. قوله: "لا ينعقد الإجماع بدون رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه سيد المؤمنين". قلنا: شهدت الاحاديث بالعصمة لأمته عليه السلام من حيث هي أمته كقوله عليه السلام: (لا تجتمع أمتي على خطأ) ونحو ذلك، فتكون الأمة معصومة، وهو عليه السلام ليس من جملة أمته، فيتصور انعقاد الإجماع في زمانه عليه السلام؛ لأن حقيقة المضاف خارجة عن حقيقة المضاف إليه؛ ولأن الإجماع في جميع الأعصار بعده ينعقد، وليس من جملتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذلك في زمانه عليه السلام. ثم إنه نقض هذه القاعدة في المسألة التي بعدها، فقال: "القياس يُنسخ في زمانه عليه السلام بالإجماع"، وهذا تصريح بصحة انعقاد الإجماع

(سؤال) منع انعقاد الإجماع في زمانه عليه السلام وجوز بعد ذلك نسخ القياس في زمانه عليه السلام بالإجماع

في زمانه عليه السلام بل لو شهد عليه السلام بعصمة رجل في زمانه قضينا بعصمة ذلك الرجل، وإن كان وحده، فضلًا عن الأمة. وقوله: "متى وجد قول الرسول عليه السلام فلا عبرة بقول غيره". يشكل عليه بأنّا إنما نستدل بالكتاب، والسنة، والإجماع، ولا تناقض بين اجتماع الأدلة العقلية على مدلول واحد، فضلًا عن السمعية، ويلزمه ألا يستدل بالسنة مع وجود القرآن؛ لأنه متواتر مقطوع به، وهو خلاف المعلوم من أحوال العلماء، فهذه القاعدة التي بنى عليها أن الإجماع لا ينسخ، ولا يُنسخ به غير ظاهرة الصحة، فلا يتم مطلوبه. (سؤال) منع انعقاد الإجماع في زمانه عليه السلام وجوّز بعد ذلك نسخ القياس في زمانه عليه السلام بالإجماع، وهو فرع وجوده في زمانه عليه السلام فهو متناقض. قوله: "إن كان الإجماع الأول مطلقًا، استحال أن يفيد الحكم مؤقتًا". قلنا: هاهنا قسم آخر تركتموه، وهو أن يكون ذلك الإجماع مطلقًا لا يتعرض للمؤقت، ولا لضده، بل يسكتون عن الأمرين، ويكون الإجماع الثاني كاشفًا عن التوقيت والغاية، فلا يلزم من عدم إفادة الإجماع الأول له ألا يستفاد من غيره، ويكون الأولون لم يخطر لهم الغاية، ولا ضدها ببال. قوله: "إذا أجمعوا بعد القياس، يزول القياس لزوال شرطه، فلا يكون نسخًا". قلنا: هذا يلزم بعينه في النصوص، فإن من شرط اقتضاء النصوص الإحجام ألا يطرأ عليها ناسخها، فإذا طرأ الناسخ عليها تكون قد زالت لزوال شرطها، ولا نسخ حينئذ، بل لزومه في النصوص أولى؛ لأن النص

أمكن أن يقال: إن الله تعالى أراد به هذه الغاية، فلا تعارض بين الناسخ والمنسوخ في نفس الأمر باعتبار الإرادة، والمراد من النص. أما القياس فمبني على الحكم والمصالح، فالمصلحة إن كانت باقية، ثم حكم الإجماع على خلافها كان هذا تعارضًا بينا أكثر من التعارض في النصوص؛ لكونه معارضًا في نفس الأمر، بخلاف النصوص إنما هو باعتبار الظاهر. قوله في القسم الأول: "إن المنسوخ إما الكتاب، أو السنة، أو القياس". قلنا: سؤال كون الإجماع لا ينسخ به مع أنه يخصص به مشكل؛ لأنه في التخصيص لا بد له من مستند؛ لتعذر انعقاده عن غير مستند، فكذلك في النسخ، ويكون ذلك المستند هو الناسخ؛ ولا يكون في نفسه باطلًا لانعقاده بالناسخ، وكلاهما تخصيص، فما الفرق؟ وكون النسخ أقوى لا يوجب الإحالة كما يخصص الإجماع الكتاب والسنة مع أن الكتاب أقوى، ثم نقول: هذا الحصر غير لازم؛ لاحتمال أن يتمسك الإجماع الثاني بغير ذلك من الاستدلال بنفي خواص الشيء على نفيه، أو ثبوت ملزوماته على ثبوته، أو يفرع على ما يقولونه بعد هذا من الخلاف في انعقاد الإجماع بالبحث، أو العصمة أن يقول الله تعالى لإنسان: (احكم، فمهما حكمت فهو حكمي) فما حكيتموه في المدارك المختلف فيها آخر الكتاب، أو يفرع على أن كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله تعالى ما ظهر في الخواطر بعد بذل الجهد، وجاز انعقاد الإجماع الأول على نوع من الاستدلال المذكور، وانعقاد الثاني على نوع منه، ونحن إذا فرعنا على أن كل مجتهد مصيب، صح ذلك؛ فإنه من المحال أن يكون كل واحد مصيبًا، وكل واحد منهم حكم بالدليل الراجح؛ فإن الراجح في نفس الأمر واحد لا تعدد فيه، بل بعضهم بالراجح، وبعضهم بالمرجوح، وإذا تصور ذلك في المجتهدين تصور في الإجماعين، ويكون أحدهما عن الراجح، والآخر عن المرجوح،

(تنبيه) لم يتعرض سيف الدين لكون الإجماع لا ينعقد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم

ويكونان صوابا كالمجتهدين، وكما لا يلزم من ترك دليل في نفس الامر من النصوص، أو غيرها كون المجتهد مخطئا، كذلك لا يكون الإجماع مخطئًا بناء على أن كل مجتهد مصيب، فكيف يجعل الواحد أعظم من الأمة في الصواب، ويمكن أن يقال: إذا عظم المنصب عظم التكليف كالنبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه كما دل عليه القرآن. وفرع النقشواني هذا فقال: جاز أن يغني الإجماع الأول بناء على البراءة الأصلية بعد بذل الجهد في النص فلم يجدوه، ثم نقل المخصص للبعض الثاني. (تنبيه) لم يتعرض سيف الدين لكون الإجماع لا ينعقد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قال: "ما وجد من الإجماع بعد وفاته عليه السلام إما أن ينسخ بنص أو غيره " إلى آخر التقسيم، ففهرس الدعوى عامة، وعند الدليل خصص بما ينعقد من الإجماع بعده عليه السلام وتعرض له أبو الحسين في (المعتمد) كما قاله المصنف، ثم قال: إن قيل: يجوز أن ينسخ إجماع وقع في زمانه عليه السلام حتى يكون إجماعها هو المعتبر، ثم ينسخ، وأما في حياته عليه السلام فالمنسوخ الدليل الذي أجمعوا لأجله. قال الشيخ أبو إسحاق: لا ينعقد الإجماع في زمانه عليه السلام. وقال ابن برهان: لا ينعقد الإجماع في زمانه عليه السلام. وجماعة من المصنفين وافقوا المصنف في ذلك على ما فيه من الإشكال المتقدم.

المسألة الخامسة قال الرازي: في كون القياس منسوخا وناسخا

المسألة الخامسة قال الرازي: في كون القياس منسوخًا وناسخًا أما كونه منسوخًا فنقول: نسخ القياس: إما أن يكون في زمان حياة الرسول عليه الصلام والسلام، أ, بعد وفاته. فإن كان حال حياته: فلا يمتنع رفعه بالنص، أو بالإجماع، أو بالقياس: أما بالنص: فبأن ينص السول عليه الصلاة والسلام، في الفرع، على خلاف الحكم الذي يقتضيه القياس، بعد استقرار التعبد بالقياس. وأما بالإجماع: فلأنه إذا اختلفت الأمة على قولين قياسًا، ثم أجمعوا على أحد القولين، كان إجماعهم على أحد القولين، رافعًا لحكم القياس الذي اقتضاه القول الآخر. وأما بالقياس: فبأن ينص في صورة على خلاف ذلك الحكم، ويجعله معللا بعلة موجودة في ذلك الفرع، وتكون أمارة علّيتها أقوى من أمارة علّية الوصف للحكم الأول في الأصل الأول، ويكون كل ذلك بعد استقرار التعبد بالقياس الأول. وأما بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام: فإنه يجوز نسخه في المعنى، وإن كان ذلك لا يسمى نسخًا في اللفظ. أما بالنص: فكما إذا اجتهد إنسان في طلب النصوص، ثم لم يظفر بشيء أصلًا، ثم اجتهد، فحرم شيئًا بقياس، ثم ظفر بعد ذلك بنص، أو إجماع، أو قياس أقوى من القياس الأول على خلافه.

شرح القرافي: قوله: "ينعقد الإجماع على أحد القولين، فيكون ناسخا للقياس الذي هو مستند أحد القولين في زمانه عليه السلام"

فإن قلنا: "كل مجتهد مصيب" كان هذا الوجدان ناسخًا لحكم القياس الأول، لكنه لا يسمى ناسخًا؛ لأ، القياس إنما يكون معمولا به بشرط ألا يعارضه شيء من ذلك. وإن قلنا: "المصيب واحد" لم يكن القياس الأول متعبدًا به، فلم يكن النص الذي وجده آخرًا ناسخًا لذلك القياس. وأما كون القياس ناسخًا: فهو إما أن ينسخ كتابًا، أو سنة، أو إجماعًا، أو قياسًا، والأقسام الثلاثة الأول باطلة بالإجماع. وأما الرابع؛ وهو كونه ناسخًا لقياس آخر فقد تقدم القول فيه، والله أعلم. المسألة الخامسة في كون القياس منسوخًا قال القرافي: قوله: "ينعقد الإجماع على أحد القولين، فيكون ناسخًا للقياس الذي هو مستند أحد القولين في زمانه عليه السلام". قلنا: فرضكم نسخ القياس في زمانه عليه السلام بالإجماع يناقض ما في المسألة التي قبل هذه من استحالة انعقاد الإجماع في زمانه عليه السلام. قوله: "إن قلنا: "إن المصيب واحد" لم يكن القياس الأول متعبدًا به". قلنا: لا نسلم؛ فإن المصيب إذا كان واحدًا فقد انعقد الإجماع على أنه يجب على كل مجتهد أن يعمل هو ومن قلّده بما أدى إليه اجتهاده من قياس أو غيره، وإن كان قد أخطأ الحكم المقرر في نفس الأمر، كما نقول فيمن اجتهد وأخطأ الكعبة: يجب أن يصلي إلى الجهة التي استقبلها، وإن كانت خطأ في نفس الأمر، ولا نعني بالتعبد إلا الوجوب، والإكرام، والعقاب على تقدير الترك.

(تنبيه) قال سيف الدين: منع الحنابلة، والقاضي عبد الجبار في بعض أقواله بنسخ حكم القياس

قوله: "نسخ القياس للسنة باطل بالإجماع". قلنا: كيف يتصور الإجماع مع أن العلماء اختلفوا في تقديم القياس على خبر الواحد، فعلى القول بتقديمه لا يبعد أن يتصور النسخ بأن يستقر التعبد بخبر واحد، ثم ينص الشرع في زمان النبوة على حكم عليه يقتضي ضد مقتضى الخبر، فيبطل مقتضى الخبر. (تنبيه) قال سيف الدين: منع الحنابلة، والقاضي عبد الجبار في بعض أقواله بنسخ حكم القياس، بناء على أن القياس إذا كان مستنبطًا من أصل، فالقياس باق ببقاء الأصل، وجوزه أبو الحسين البصري، وفصل بين القياس في زمانه عليه السلام بأن ينص عليه السلام على أصله كحديث منع بيع البر متفاضلًا، ويأمر بالقياس عليه، فإذا قضى عليه السلام بتحريم بيع الأرز متفاضلًا بناء على القياس، جاز نسخه بالنص، وبالقياس بأن ينص على إباحة بعض المأكولات، ويتعبدنا بالقياس عليه بأمارة هي أقوى من أمارة التحريم، وإن كان القياس موجودًا بعده عليه السلام فلا نسخ إلا أن يطلع المجتهد بعد القياس على نص، أو إجماع متقدم، أو قياس أرجح من قياسه، فيرتفع حكم قياسه الأول، وهذا لا يسمى نسخًا. قال أبو الحسين: وهذا كله إنما يتم إذا قلنا: كل مجتهد مصيب؛ لأنه تعبده الله تعالى بالقياس الأول، فرفعه لا يكون متحققًا. قلت: قول أبي الحسين هذا لا يتم؛ لأنا وإن قلنا: ليس كل مجتهد مصيبًا، فلا خلاف أنه كُلف بما غلب على ظنه كالقبلة إذا لم يصبها؛ فإنه كُلف بما أدى إليه اجتهاده، وقد تقدم بسطه في أن الأحكام الشرعية كلها معلومة أول الكتاب.

قال سيف الدين: وأما نحن فنقول: إن كانت العلة منصوصة، فهي في معنى النص، فينسخ هذا القياس بنص، أو قياس كما تقدم، ولو ذهب إليه ذاهب بعد النبي عليه السلام لعدم إطلاعه على ناسخه بعد البحث عنه؛ فإنه وإن كان متعبدًا باتباع ما أوجبه ظنه، فرفع حكمه بعد اطلاعه على الناسخ لا يكون نسخًا متجددًا، بل تبين أنه كان منسوخًا، وإن كانت العلة مستنبطة مجتهد، فيرفع حكمه إذا وجد دليلًا راجحًا عليه. قال: ولا يكون ناسخًا على قولنا: النسخ: رفع حكم الخطاب، وإن كان مشاركا للنسخ في رفع الحكم، وقطع استمراره، سواء قلنا: كل مجتهد مصيب أم لا. قلت: وهذا أعدل من كلام أبي الحسين. قال سيف الدين: واختلفوا في كون القياس ناسخا على ثلاثة أقوال: ثالثها: الفرق بين الجلي والخفي وهو قول أبي القاسم الأنماطي من الشافعية. قال: والمختار جواز النسخ به في العلة المنصوصة؛ لأنه في معنى النص، وغير المنصوصة، وهو قطعي كقياس الأمة على العبد في التقويم؛

فإنه يمنع من ثبوت حكم نص آخر، أو قياس، وذلك ليس نسخا على القول بتفسير النسخ بالخطاب. وإن كان ظنيا فيمنع أن يكون ناسخا للنص والإجماع، وينسخ القياس إن كان أرجح. ***

المسألة السادسة قال الرازي: في كون الفحوى منسوخا وناسخا

المسألة السادسة قال الرازي: في كون الفحوى منسوخا وناسخا أما كونه منسوخا: فقد اتفقوا على جواز نسخ الأصل والفحوى معا. وأما نسخ الأصل وحده فإنه يقتضي نسخ الفحوى؛ لأن الفحوى تبع الأصل، وإذا زال المتبوع، زال التبع لا محالة. وأما نسخ الفحوى مع بقاء الأصل، فاختيار أبي الحسين، رحمه الله: أنه لا يجوز؛ قال: لأن فحوى القول لا يرتفع مع بقاء الأصل إلا وينتقض الغرض؛ لأنه إذا حرم علينا التأفيف على سبيل الإعظام للأبيون، كانت إباحة ضربهما نقضا للغرض. وأما كونه ناسخا: فمتفق عليه؛ لأن دلالته إن كانت لفظية، فلا كلام. وإن كانت عقلية، فهي يقينية، فتقضى النسخ لا محالة، والله أعلم. المسألة السادسة في نسخ الفحوى قال القرافي: قال سيف الدين: تردد قول القاضي عبد الجبار في نسخ الفحوى دون الأصل، فجوز، تارة ورآه من باب التخصيص؛ لأنه نص على الجميع، ثم خصص البعض، ومنعه مرة هو وأبو الحسين. قلت: قد تقدم أن الفحوى هو: مفهوم الموافقة.

قوله: " دلالة الفحوى إن كانت لفظية فلا كلام، وإن كانت عقلية فهي يقينية، فيقتضي النسخ لا محالة ". تقريره: أن العلماء اختلفوا في مفهوم الموافقة، فمنهم من أثبته من دلالة التزام اللفظ، وهو المراد بقوله: [لفظية]، أي: منسوبة إلى اللفظ لا أنها دلالة مطابقة، ومنهم من لم يرد بالمفهوم مطلقا فقال: " الحكم إنما يثبت في المسكوت عنه بالقياس "، وهو مراده بقوله: " عقلية "، أي: العقل أدرك الحكمة التي لأجلها ورد الحكم، فقاس بغير نص في تلك الصورة، ويرد عليه أن القياس ليس يقينا؛ لاحتمال أنا غلطنا في أن ذلك الحكم في الاصل معلل، أو هو معلل بغير تلك العلة التي تقتضي ثبوت الحكم في المسكوت بطريق الأولى، ولعلنا لو ظفرنا بعلة للحكم لم تقتض ثبوت الحكم في المسكوت، بل نفيه، ويكفي أنها مسألة خلاف بين العلماء، ولا قطع مع الخلاف. وإذا فرعنا على أنها عقلية قياسية ينبغي أن تتخرج على الخلاف في تقديم القياس على خبر الواحد، كما تقدم التنبيه عليه. قال ابن برهان في كتاب (الأوسط): يجوز نسخ الفحوى كالنصوص عليه، ولا يتضمن نسخ المنصوص عليه، ونسخ المنصوص عليه وحده لا يتضمن نسخ الفحوى عندنا. وقال الحنفية: يتضمنه؛ لأنه تابعه. ***

القسم الثالث فيما ظن أنه ناسخ، وليس كذلك، وفيه مسائل

القسم الثالث فيما ظن أنه ناسخ، وليس كذلك، وفيه مسائل: المسألة الأولى قال الرازي: اتفق العلماء على أن زيادة عبادة على العبادات لا يكون نسخا للعبادات، ولا زيادة صلاة على الصلوات، وإنما جعل أهل العراق زيادة صلاة على الصلوات الخمس نسخا؛ لقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] لانه يجعل ما كان وسطي غير وسطي. فقيل لهم: ينبغي أن تكون زيادة عبادة على آخر العبادات نسخا؛ لأنه يجعل العباداة الأخيرة غير أخيرة، ولو كان عدد كل الواجبات قبل الزيادة عشرة، فبعد الزيادة لا يبقى ذلك، فيكون نسخا. أما الزيادة التي لا تكون كذلك: فقد اختلفوا فيها، فمذهب الشافعي، رضي الله عنه: أنها ليست نسخا، وهو قول أبي علي، وأبي هاشم، وقالت الحنيفية: إنها نسخ، ومنهم من فصل، ونذكر فيه وجهين: أحدهما: أن النص إن أفاد من جهة الخطاب، أو الشرط، خلاف ما أفادته الزيادة، كانت الزيادة نسخا، وإلا فلا. وثانيهما: قول القاضي عبد الجبار: إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغييرا شديدا، حتى صار المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على حد ما كان يفعل قبلها، كان وجوده كعدمه، ووجب استئنافه فإنه يكون نسخا، نحو زيادة ركعة على ركعتين.

وإن كان المزيد عليه، لو فعل على حد ما كان يفعل قبل الزيادة، فصح فعله، واعتد به، ولم يلزم استئناف فعله، وإنما يلزم أن يضم إليه غيره لم يكن نسخا؛ نحو زيادة التغريب على الجلد، وزيادة عشرين على حد القذف. واعلم أن لابي الحسين البصري، رحمه الله، طريقة في هذه المسألة هي أحسن من كل ما قيل فيها، فقال: النظر في هذه المسألة يتعلق بأمور ثلاثة: أحدها: أن الزيادة على النص، هل تقتضي زوال أمر، أم لا؟ والحق: أنه يقتضيه؛ لأن إثبات كل شيء، لا أقل من أن يقتضي زوال عدمه الذي كان. وثانيها: أن هذه الإزالة، هل تسمى نسخا؟ والحق: أن الذي يزول بسبب هذه الزيادة إن كان حكما شرعيا، وكانت الزيادة متراخية عنه، سميت تلك الإزالة نسخا، وإن كان حكما عقليا، وهو البراءة الأصلية، لم تسم تلك الإزالة نسخا. وثالثها: أنه هل تجوز الزيادة على النص بخبر الواحد والقياس، أم لا؟ والحق: أنه إن كان الزائل حكم العقل، وهو البراءة الأصلية، جاز ذلك، إلا ان يمنع منه مانع خارجي، كما لو قيل: خبر الواحد لا يكون حجة فيما تعم به البلوى، والقياس لا يكون حجة في الحدود والكفارات؛ إلا أن هذه الموانع لا تعلق لها بالنسخ من حيث هو نسخ. وأما إن كان الحكم الزائل شرعيا، فلينظر في دليل الزيادة، فإن كان بحيث يجوز أن يكون ناسخا لدليل الحكم الزائل، جاز إثبات الزيادة، وإلا فلا. فهذا حظ البحث الأصولي، ولنحقق ذلك في المسائل الفقهية المفرعة على هذا الأصل، وهي ثمانية:

الحكم الأول: زيادة التغريب، أو زيادة عشرين على جلد ثمانين: لا يزيل إلا نفي وجوب ما زاد على الثمانين، وهذا النفي غير معلوم بالشرع؛ لأن إيجاب الثمانين قدر مشترك بين إيجاب الثمانين مع نفي الزائد، وبين إيجابه مع ثبوت الزيادة، وما به الاشتراك لا إشعار له بما به الامتياز، فإيجاب الثمانين لا إشعار له ألبتة بالزائد لا نفيا، ولا إثباتا، إلا أن نفي الزيادة معلوم بالعقل، فإن البراءة الأصلية معلومة بالعقل، ولم ينقلنا عنه دليل شرعي، وإذا كان ذلك حكما عقليا، جاز قبول خبر الواحد والقياس فيه، إلأا أن يمنع مانع سوى النسخ. وأما كون الثمانين وحدها مجزية، وكونها وحدها كمال الحد، وتعليق الرد بالشهادة عليها: كل ذلك تابع لنفي وجوب الزيادة، فلما كان ذلك النفي معلوما بالعقل، جاز قبول خبر الواحد والقياس فيه، فكما أن الفروض لو كانت خمسا، لتوقف على أدائها الخروج عن عهدة التكليف، وقبول الشهادة، فلو زيد فيها شيء آخر، لتوقف الخروج عن عدة التكليف، وقبول الشهادة على أداء ذلك المجموع، مع أنه يجوز إثباته بخبر الواحد والقياس، فكذا هاهنا. أما لو قال الله تعالى: " الثمانون كمال الحد، وعليها وحده يتعلق رد الشهادة " لم نقبل في الزيادة هاهنا خبر الواحد والقياس؛ لأن نفيوجوب الزيادة ثبت بدليل شرعي متواتر، وأيضا لو كان إيجاب الثانين يقتضي على سبيل المفهوم نفي الزائد وثبت أن مفهوم المتواتر لا يجوز نسخه بخبر الواحد والقياس، لكنا لا نثبت ذلك بخبر الواحد والقياس. الحكم الثاني: تقييد الرقبة بالإيمان: هو في معنى التخصيص؛ لأنه يخرج عتق الكافرة من الخطاب، فإن كان القتضى لهذا التقييد خبر واحد، أو قياساً،

وكان متراخيا، لم يقبل؛ لأن عموم الكتاب أجاز عتق الكافرة، فتأخير حظر عتقها في الكفارة هو النسخ بعينه، فلم يقبل فيه خبر واحد، ولا قياس، وإن كانا متقارنين، فهو تخصيص والتخصيص بخبر الواحد والقياس يجوز. الحكم الثالث: إذا قطعت يد السارق وإحدى رجليه، ثم سرق، فإباحة قطع رجله الأخرى رفع لحظر قطعها، وذلك الحظر إنما ثبت بالعقل فجاز رفعه بخبر الواحد والقياس، ولم يسم نسخا. الحكم الرابع: إذا أمرنا الله تعالى بفعل، أو قال: " هو واجب عليكم " ثم خيرنا بين فعله، وبين فعل آخر، فهذا التخيير يكون نسخا لحظر ترك ما أوجبه علينا، إلا أن حظر تركه كان معموما بالبقاء على حكم العقل، وذلك لأن قوله: " أوجبت عليكم هذا الفعل " يقتضي أن للإخلال به تأثيرا في استحقاق الذم، وهذا لا يمنع من أن يقوم مقامه واجب آخر، وإنما نعلم أن غيره لا يقوم مقامه؛ لأن الأصل: أن غيره غير واجب، ولو كان واجبا بالشرع، لدل عليه دليل شرعي، فصار علمنا بنفي وجوبه موقوفا على أن الاصل نفي وجوبه، مع نفي دليل شرعي، فالمثبت لوجوبه: إنما رفع حكما عقليا، فجاز أن يثبته بقياس، أو خبر واحد. مثال ذلك: أن يوجب الله تعالى علينا غسل الرجلين، ثم يخبرنا بينه، وبين المسح على الخفين، وكذلك إذا خيرنا الله تعالى بين شيئين، ثم أبت معهما ثالثا. فأما إذا قال الله تعالى: " هذا الفعل واجب وحده " أو قال: " لا يقوم غيره مقامه " فإن إثبات بدل له فيما بعد رافع لما علمناه بدليل شرعي؛ لأن قوله:

" هذا واجب وحده " صريح في نفي وجوب غيره، فالمثبت لغيره رافع لحكم شرعي، فلم يجز كونه خبر واحد، ولا قياسا. فأما قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان} [البقرة: 282] فهو تخيير بين استشهاد رجلين، أو رجل وامرأتين، والحكم بالشاهد واليمين زيادة في التخيير. وقد بينا: أن الزيادة في التخيير ليس بنسخ يمنع من قبول خبر الواحد والقياس فيه ن ومن قال: الحكم بالشاهد واليمين نسخ لهذه الآية، يلزمه أن يكون الوضوء بالنبيذ نسخا لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة: 6]. الحكم الخامس: إذا كانت الصلاة ركعتين فقط، فزيد عليها ركعة أخرى قبل التشهد: فإن ذلك يكون ناسخا لوجوب التشهد عقيب الركعتين، وذلك حكم شرعي معلوم بطريقة معلومة؛ فلا يثبت بخبر واحد، ولا قياس، وليس ذلك نسخا للركعتين؛ لأن النسخ لا يتناول الأفعال، ولا هو نسخا لوجوبهما؛ فإنه ثابت، ولا هو نسخا لإجزائهما؛ لأنهما مجزئتان؛ وإنما كانتا مجزئتين من دون ركعة أخرى، والآن لا يجزئان إلا مع ركعة أخرى، وذلك تابع لوجوب ضم ركعة أخرى، ووجوب ركعة أخرى ليس يرفع إلا نفي وجوبهما، ونفي وجوبها إنما حصل بالعقل، فلم يمتنع من هذه الجهة أن يقبل فيه خبر الواحد والقياس. وأما إذا زيدت الركعة بعد التشهد، وقبل التحلل: فإنه يكون نسخا لوجوب

التحلل بالتسليم، أو يكون ناسخا لكونه ندبا، وذلك حكم شرعي معلوم، فلم يجز أن يقبل فيه خبر الواحد، ولا القياس. فأما كونه ناسخا للركعتين، أو لوجوبهما، أو لإجزائهما، فالقول فيه ما ذكرناه الآن. الحكم السادس: زيادة غسل عضو في الطهارة ليس بنسخ لإجزائها، ولا لوجوبها، وإنما هو رفع لنفي وجوب غسل ذك العضو؛ وذلك النفي معلوم بالعقل، وكذا زيادة شرط آخر في الصلاة لا يقتضي نسخ وجوب الصلاة. فأما كون الصلاة غير مجزئة بعد زيادة الشرط الثاني، فهو تابع لوجوب ذلك الشرط، وإجزاؤها تابع لنفي وجوبه، ونفي وجوبه لم يعلم بالشرع، فكذلك ما يتبعه، فجاز قبول خبر الواحد، والقياس فيه، هذا إن لم تكن قد علمنا نفي وجوب هذه الأشياء من دين النبي، عليه الصلاة والسلام، باضطرار، فأما إن علمناه باضطرار، فقد صار معلوما بالشرع، مقطوعا به، فلم يجز بخبر الواحد والقياس. الحكم السابع: قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] فإنه يفيد كون أول الليل طرفا وغاية للصيام، كما يفيده، لو قال تعالى: " آخر الصيام وغايته الليل " لأن لفظة (إلى) موضوعة للغاية، فإيجاب الصوم إلى غيبوبة الشفق يخرج أوله عن أن يكون طرفا، مع أن الخطاب يفيده، وفي ذلك كونه حقيقة، فلا يقبل فيه خبر واحد، ولا قياس؛ لأن نفي وجوب صوم أول الليل معلوم بدليل قاطع. أما لو قال: " صوموا النهار " ثم جاء الخبر بإتمام الصوم إلى غيبوبة الشفق،

شرح القرافي: قال سيف الدين: منهم من قال

لم يكن ذلك نسخا، لأن الخبر لم يثبت ما نفاه النصر؛ لأن النص لم يتعرض لليل، وإنما نفينا الصوم بالليل؛ لأن الأصل أن لا صوم، وقامت الدلالة في النار خاصة على وجوب الصوم، فبقى الليل على حكم العقل. الحكم الثامن: لو قال الله تعالى:" صلوا، إن كنتم متطهرين " فإنه لا يمتنع أن يقبل خبر الواحد والقياس في إثبات شرط آخر للصلاة؛ لأن إثبات بدل الشرط لا يخرجه عن أن يكون شرطا؛ إذ لا يمتنع أن يكون للحكم شرطان؛ وليس كذلك إثبات صوم جزء من الليل؛ لأن ذلك يخرج أول الليل من أن يكون له غاية. وأما نفي كون الشرط الآخر شرطا، فلم يعلم إلا بالعقل، فلم يكن رفعه رفعا لحكم شرعي، والله أعلم. القسم الثالث فيما ظن أنه ناسخ قال القرافي: قال سيف الدين: منهم من قال: إن كانت الزيادة متصلة بالمزيد عليه اتصال اتحاد رافع للتعدد والانفصال، كزيادة ركعتين على ركعتي الصبح؛ فهو نسخ، وإن لم يكن كذلك كزيادة عشرين جلدة على حد القذف، فلا يكون نسخا، وهو اختيار الغزالي.

قوله: " إنما جعل أهل (العراق) زيادة صلاة على الصلوات نسخا لكونها تصير الوسطى غير وسطي ". تقريره: أن الصلاة الوسطى فيها ندب شرعي في المحافظة عليها تختص به دون سائر الصلوات، والندب حكم يقبل النسخ، واختلف العلماء في لفظ (وسطى)، هل هو من قول العرب: " فلان وسط في قومه "، أي: خيار، ومنه قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143] أي: خيارا عدولا أو هو من التوسط بمعنى آخر؟ وفيه مذاهب: قيل: من التوسط بين الصلوات، فتكون العصر؛ لتوسطها بين صلاتين قبلها: الصبح والظهر، وصلاتين بعدها: المغرب والعشاء. وقيل: لتوسطها بين الليل والنهار، فتكون الصبح؛ لأنها بينهما. وقيل: لتوسط عددها، فتكون المغرب؛ لأنها لا رباعية ولا ثنائية، بل ثلاثية الركعات، والمدرك عند الحنفية في حكم الندب كونها توسطت بين الصلوات، والتوسط بين الصلوات إنما يتصور إذا كانت الصلوات عددا فردا، أم الزوج فيتعذر التوسط فيه فإنك إذا قسمته نصفين لا يبقى شيء يتوسط، بخلاف العدد الفرد يفضل أبدا منه واحد يتوسط، فإذا زيد على الصلوات الخمس صلاة أخرى، الوتر أو غيرها صارت ستا، فيبطل وضع التوسط الذي هو مدرك الحكم، فيبطل الحكم، فقد استلزمت الزيادة نسخ هذا الحكم. قوله: " يلزم مثله في الأخيرة؛ فإن الزيادة تصيرها غير أخيرة ". قلنا: لا يلزمهم ذلك؛ فإن وصف كونها أخيرة لم يترتب عليه حكم شرعي يرتفع بخلاف الوسطى كما تقدم تقريره. قوله: " إن أفاد النص من جهة دليل الخطاب، أو الشرط خلاف ما أفادته الزيادة كانت الزيادة نسخاً ".

تقريره: أن دليل الخطاب هو مفهوم المخالفة كما إذا قال عليه السلام: " في الغنم السائمة الزكاة "، ثم قال عليه السلام: " في المعلوفة الزكاة ". فإن دليل الخطاب ينفي مقتضى هذه الزيادة والشرط، كما لو قال عليه السلام: " في الغنم الزكاة إن كانت سائمة "، ثم يقول عليه السلام: " في الغنم المعلوفة الزكاة "، ومقصود هذا القائل أن النفي كان ثابتا بدليل شرعي، ورفع ما ثبت في الشرع، فيكون نسخا، وسيعلم أن هذا لا يصح، وأن تقرير الشرع للنفي بصريح اللفظ لا يكون المخالفة له بعد ذلك نسخا، فما عول على مدرك صحيح. قوله: " إن غيرت بعدم الإجزاء كان نسخا، وإلا فلا ". قلنا: وهذا المدرك أيضا ضعيف؛ لأن المرتفع هو الإجزاء الكائن قبل الزيادة، والإجزاء معناه أن الشرع لم يوجب ضم شيء آخر إليه، فهو يرجع إلى البراءة الأصلية، ورفع البراءة الأصلية ليس نسخا في إصطلاح العلماء، وهو المقصود هانا كما إذا قال القائل: من حج مرة واحدة أجزأ عنه، فقال له: لم يجزئ عنه، فيقول: لأن الله تعالى لم يوجب غيرها، فيشير إلى البراءة الأصلية، ويقول: من صام نصف رمضان لا يجزئ عنه، فيقال له: لم؟ فيقول: لأن الله تعالى أوجب صوم جملته، فظهر أن الإجزاء راجع إلى البراءة الأصلية، ورفعها ليس نسخا إجماعا. قوله: " إذا قال الله تعالى: " الثمانون كمال الحد " لا يقبل خبر الواحد في الزيادة ". تقريره: أن خبر الواحد هاهنا يرد لا لأجل النسخ؛ بل لأنه إذا تعارض تواتر وآحاد معلوم ومظنون، وليس بينهما عموم وخصوص، قدم المعلوم على المظنون.

قوله: " تقييد الرقبة بالإيمان في معنى العموم فإن تراخي خبر الواحد، أو القياس لم يقبل في التقييد؛ لأنه عين النسخ، ولا ينسخ المتواتر بالآحاد ". قلنا: ليس عتق الكافرة كان يقرر بالقرآن، بل المطلق دل على القدر المشترك بين جميع الرقاب، والتخيير وقع بمقتضى العقل؛ فإن السيد إذا قال لعبده: " ائتني بدرهم " اقتضى العقل تخييره بين جميع الدراهم. وكما قال الله تعالى: {وأقيموا الصلاة} [البقرة: 110]، ونحن نتخير بين بقاع الدنيا في إيقاع الصلاة فيها، ونتخير بين مياه الدنيا في الطهارة، لا أن ذلك التخيير بمقتضى القرآن المتواتر، بل الثابت بالقران هو الماهية المشتركة فقط، وإذا كان عتق الكافرة وغيرها من المحرمات والأنواع إنما هو بدليل العقل، كان لنا ان نقبل فيه خبر الواحد، وتراخيه لا يمتنع قبوله، كما إذا استمر في الشريعة ترك الصلاة أو غيرها من الأحكام مدة؛ لعدم ورورد الخطاب فيها، ثم ورد خبر واحد، فإنا نقبله، ولا نعده نسخا، فكذلك هاهنا، وكذلك نقول: التقييد ضد التخصيص؛ لأن التقييد زيادة على مقتضى النص مع توفية النص مقتضاه، والتخصيص تنقيص لمقتضى النص؛ لأنه إخراج بعض ما تناوله النص، فظهر حينئذ أن التقييد لم يعارض الأصل، فلا يكون ناسخا له؛ لأن من شرط الناسخ أن يكون معارضا، وأن المكنة من جميع أفراد المطلق ليس باللفظ بل بالعقل، وأن رفع الحكم ليس نسخا، وأن تأخر الخبر عن نص الإطلاق لا يوجب نسخا فيه، كالتأخر عن أصول الشريعة كلها وفورعها. قوله: " حظر قطع رجل السارق ثبت بالعقل ". قلنا: لا نسلم أن في رجل السارق حظرا؛ لأن قاعدتها أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرائع، وإذا انتفى مطلق الحكم انتفى الحظر وغيره، بل حظر النفوس والأعضاء إنما علم بالنصوص الشرعية، وقتلنا للناس قبل

الشرائع كقتل السبع لزيد اليوم، فكما أن قتل السبع لا يوصف بالحظر ولا بغيره إلا بدليل السمع، فالحاصل أنا نساعدك على أنه ليس نسخا، لكن نمنعكم ثبوت الحظر فقط، بل لا حكم ألبتة، والخبر حينئذ مثبت بحكم أصلي، وكذلك القياس. قوله في الحكم الرابع: " إذا قال الله تعالى: هذا الفعل واجب وحده، أو لا يقوم غيره مقامه، فإن إثبات بدله لا يكون بالخبر، ولا بالقياس ". قلنا: إن أردتم أن هذا النفي في وجوب الغير، وعدم قيامه مقام الواجب معلوم بالتواتر، فلا يرفع بخبر الآحاد؛ لأن تقديم المعلوم على المظنون متعين؛ لأنه من باب النسخ فهذا مسلم، وإن أردتم أنه من باب نسخ المعلوم بالمظنون، فممنوع؛ لأن الإخبار عن عدم الحكم، وعن البراءة الأصلية لا يكون حكما شرعيا، بل خبر صرف، يدل على ذلك أن الله تعالى لو بعث رسولا فقال: " إن الله تعالى يخبركم أنه لا يكلفكم في هذه السنة، وأن أفعالكم لا حكم لها عنده، بل تجري مجرى أفعال البهائم " ثم طرأ بعد ذلك حكم في هذه السنة لم يكن ذلك نسخا لعدم الحكم الشرعي السابق، ويجعله إما تخصصا أو إطلاقا، فاللفظ (السنة) على بعضها من باب إطلاق الجزء على الكل، ويحتمل أن يكون نسخا لعدم تقدم الحكم. قوله: " التخيير بين العبادة وغيرها ليس نسخا؛ بناء على أن عدم البدل يرجع إلى عدم مشروعيته وهو مشكل؛ لأن التخيير بين الواجب وغيره يسقط وجوب الخصوص، والخصوص والعموم أمران متغايران، وجوب أحدهما غير وجوب الآخر، فيكون ذلك نسخا كما لو نسخ تعين الظهر في إقامتها بعد الزوال، وبهذا يظهر الفرق بين هذا المثال، وبين إيجاب الصوم إلى الزوال، وما معه من النظائر؛ لأن المرفوع في تلك النظائر البراءة الأصلية،

وهاهنا وجوب الوجوب حكم شرعي، ولذلك نقول: تقرير الشرع عدم الحرج في المباح حكم شرعي؛ لأن العقل كان يجوز أن الله تعالى يعاقب قبل الشرائع، فإذا أتى الشرع بعدم الحرج، فقد أنشأ ما لم يكن، وهو تعيين عدم وقوع ذلك الجائز، وهو يدل على الإباحة القائمة بذات الله تعالى التي هي حكم شرعي، وقبل ذلك ما كنا ندري، ما أقام بذات الله تعالى. قوله: " إذا زاد الله تعالى ركعة في الصلاة كان ذلك نسخا لوجوب التشهد عقيب الركعتين ". قلنا: كان الشيخ شمس الدين الخسروشاهي يمنع في هذا الموضع، ويقول: لم يوجب الله تعالى التشهد في آخر الصلاة لكونه عقيب ركعتين، بل لكونه آخر الصلاة، ولذلك إنا نتشهد عقيب ركعتين في الصبح، وعقيب ثلاث في المغرب، وعقيب أربع في الظهر، والمقصود في الجميع آخر الصلاة، وإذا كان التشهد إنما شرع آخر الصلاة، فإذا تشهدنا بعد الزيادة، فقد تشهدنا آخر الصلاة، فما ارتفع حكم شرعي بتأخير التشهد، بل المرتفع حكم عقلي، وهو عدم وجوب الزيادة بوجوبها، وأما التشهد والسلام فلم يرتفع من أحوالهما شيء هو حكم شرعي ألبتة. قوله: " ليست الزيادة ناسخة لإحدى الركعتين المتقدمتين؛ لأنهما مجزيتان مع الزيادة ". قلنا: لو لم يصيرا مجزيتين لم يكن ذلك نسخا؛ لأن الإجزاء في الفعل معناه أن الذمة تبقى بعد بريئة، وبراءتها بعده ترجع لعدم التكليف، وعدم التكليف ليس حكما شرعيا، فرفع الإجزاء ليس نسخا، وهذا المنع يرجع إلى قاعدة أن الأمر يدل على الإجزاء أم لا؟.

فإن قلنا: " لا يدل " كان أشد؛ لوروده. وإن قلنا: " يدل " فمعناه أن الأمر اقتضاء أن ذلك الفعل سبب للبراءة، ودلالة لفظ الشرع على أن الفعل سبب هل هو من خطاب الوضع بالأسباب، والشروط، والموانع، فيكون رفع الإجزاء رافعا للسببية، فيكون نسخا؟. أو معناه أن ذلك لازم للوجوب بمعنى أن من لوازم إيجاب الشيء كون ذلك الواجب سببا للبراءة منه، ويكون هذا اللازم كلزوم العقاب للترك، وليس من باب خطاب الوضع، فلا يكون الإخبار بعد ذلك به نسخا؛ لأن ذلك اللازم ليس حكما شرعيا، كما لو قال: " لأعاقبنكم على ترك هذا الواجب، واعملوا ما شئتم، فمغفور لكم "، فإن ذلك ليس نسخا، والموضوع محتمل لهذا البحث، والأخير هو الذي يرجح عندي؛ لأن الإجزاء عن الأوامر ثابت قبل الشرع بمقتضى اللغة، فكل من أمر عبده قبل الشرع، فإن العبد إذا فعل ذلك الواجب بريء منه، وأجزأ عنه، وما هو ثابت قبل الشرع لا يكون حكما شرعيا. قوله: " إذا زيدت ركعة بعد التشهد، وقبل التحلل، فإنه يكون نسخا؛ لوجوب التحلل بالتسليم، وذلك حكم شرعي ". قلنا: هاهنا منع الخسروشاهي في أن التحلل إنما شرع آخر الصلاة، فلم يتغير من السلام شيء لا في وجوبه، ولا في ندبيته، وأما اتصاله بالتشهد، فلم يتعرضوا له وهو موضوع بحث، فإن ثبت بدليل شرعي أن الموالاة بينهما مطلوبة، كان شرعية ركعة بينهما نسخا لطلب تلك الموالاة، وإن كان معنى تلك الموالاة أن الشرع لم يشرع بينهما فعلا آخر لم يكن نسخا؛ لأنه رافع لحكم العقل، والأول هو الظاهر، وأن الشرع طلب الموالاة بينهما كما طلب الموالاة بين الركعات. قوله: " وإن علمنا عدم هذه الأشياء بالضرورة من دين محمد لم يجز رفعه بالخبر الواحد والقياس ".

تقريره: أن هذا ليس نسخا، وهو الظاهر من كلام المصنف؛ فإنه لم يصرح بالنسخ، بل بامتناع الرفع، فيكون من باب وجوب تقديم المعلوم على المظنون فقط، ولا تعلق له بالنسخ. قوله: " إذا أوجب الصوم إلى الشفق بعد إيجابه إلى الليل يكون نسخا؛ لأنه يخرج أوله عن أن يكون ظرفا للصوم مع أنه معلوم بقاطع، فلا يقبل منه خبر الواحد ". قلنا: هذا الكلام يشعر بأن ما ثبت بدليل قاطع يكون نسخا، وأن مرادكم في الكلام الذي قبل هذا في نفي الشروط وغيرها يكون نسخا، وليس كذلك في الجميع. أما ما تقدم فقد قررته، وأما هذا فلأن كون أو الليل ظرفا للصوم له معنيان: أحدهما: وجوب الإمساك في ذلك الجزء؛ ليتيقن انقضاء النهار. وثانيهما: أنه لا وجوب بعده حتى يكون هو ظرفا. أما الأول فلو رفع لكان نسخا له، لكنه لم يرفع؛ لأن التقدير أنه أوجب استمرار الصوم للشفق، فذلك الوجوب ثابت، وزيد عليه. وأما الثاني فليس نسخا؛ لأن عدم وجوب الغير حكم عقلي، فرفعه لا يكون نسخا، وليس في كونه ظرفا إلا هذين المعيين، ويصير هذا القسم مثل القسم الذي بعده إذا قال: صم هذا النهار فقط، وقد سلمتم أنه ليس نسخا. قوله: " إذا قال الله تعالى: " صلوا إن كنتم متطهرين " لا يمنع إثبات شرط آخر بخبر الواحد؛ لأن إثبات بدل الشرط لا يخرجه عن أن يكون شرطا، إذ لا يمتنع أن يكون للحكم الواحد شرطان ".

(تنبيه) قال التبريزي خلاف ما قال المصنف فقال: قطع يسار السارق في الثانية، ورجله في الثالثة ليس نسخا لآية السرقة

قلنا: هذه العبارة غير منتظمة؛ لأن الشرط الثاني لو كان بدلا عن الأول لم تكن للعبادة شرطان، بل أحدهما لا بعينه، بل العبارة المنتظمة أن تقولوا: " لأن إثبات شرط مع الشرط لا يخرجه عن كونه شرطا "، وقد كشفت عدة نسخ، فوجدت العبارة هكذا. (تنبيه) قال التبريزي خلاف ما قال المصنف فقال: قطع يسار السارق في الثانية، ورجله في الثالثة ليس نسخا لآية السرقة، بل مخصص لها، والدليل الحظر، وإيجاب إتمام الصوم للشفق ليس نسخا؛ لقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] ولا تدل على تحريم إمساك ما بعده، وإباحته مستفادة من النفي الأصلي، وزيادة ركعة على ركعات الصلاة نسخ لأصل تلك العبادة؛ لأن الأربع ليست ثلاثا وزيادة؛ بدليل أنه لو سلم من ثلاث لم يجزه عن بقيتها، بل عليه الأربع، فإذا هي عبادة أخرى، وقد نسخت الأولى بخلاف الزيادة في أعضاء الوضوء، فإنها لا ترفع إجزاء الأولى عن نفسها، وزيادة شرط في العبادة الأشبه أنه نسخ لأصل تلك العبادة؛ لأنه لم يبق لمجرد العقل دون الشرط حكم، وقد كان مأمورا به مجزئا، وقد زال ذلك أصلا، هذا إذا استقر حكم العبادة في الوجوب والإجزاء. أما إذا ورد مطلق الأمر فلا، لجواز أن يكون أطلق وهو مشروط، ويكون إزالة ظاهر لا غير. قلت: قوله: قطع رجل السارق مخصص لآية السرقة، ولدليل الحظر ". ممنوع في آية السرقة؛ لأن هذا زيادة على مدلولها فإنها إنما دلت على قطع الأيدي، والزيادة ليست تخصيصا؛ لأن من شرط التخصيص المنافاة، والإخراج، والتنقيص، وهذا عكسه.

أما دليل الحظر فصحيح، وكلامه يشعر بأن الحاظر سمعي، خلاف ما قاله المصنف: إنه عقلي. وقوله: " زيادة ركعة نسخ لأصل تلك العبادة ". ممنوع. قوله: " الأربع ليست ثلاثا ". قلنا: المفهوم من هذا المركب غير المفهوم المتصور من المركب الآخر في الهيئة الصورية، ولكن إبطال مثل هذا لا يسمى نسخا حتى يكون المرفوع حكما شرعيا، أما هيئة صورية تركيبية فلا، وأما كون الأول لا يجزئ، وكانت تجزئ، فإجزاؤها تابع لعدم اشتراط إجزاء، وهو حكم عقلي، فرفعه ليس نسخا. وقوله: " زيادة شرط نسخ لأصل تلك العبادة؛ لأنه لم يبق لمجرد العقل دون الشرط حكم ". قلنا: هذا تابع للإشراط الرافع لعدم الاشتراط الذي هو حكم عقلي، فلا نسخ. قال سراج الدين على قول صاحب الكتاب: " من قال بأن الشاهد واليمين ناسخ لقوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} [البقرة: 282]، يلزمه أن يكون الوضوء بالنبيذ ناسخا لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [النساء: 43]. قال: ولقائل أن يقول: حظر ترك الواجب معلوم من لفظ الأمر؛ لأن الأمر يقتضي الوجوب.

قلت: يريد أن قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم ...} الآية [البقرة: 282] صيغة أمر تقتضي أن العدول عنه يقتضي العقاب، فالعقاب معلوم بدليل سمعي، فرفعه نسخ، ويرد عليه أن التيمم أيضا صيغة أمر فالمسألتان سواء، والإلزام صحيح. ***

المسألة الثانية قال الرازي: لا شك في أن النقصان من العبادة نسخ لما أسقط

المسألة الثانية قال الرازي: لا شك في أن النقصان من العبادة نسخ لما أسقط، ولا شك في أن ما لا تتوقف عليه صحة العبادة لا يكون نسخه نسخا للعبادة؛ كما لو قال: " أوجبت الصلاة والزكاة " ثم قال: " نسخت الزكاة ". أما الذي تتوقف صحة العبادة عليه، فذلك قد يكون جزءا من ماهية العبادة، وقد يكون خارجا عنها، واختلفوا فيه، فقال الكرخي: نقصان ما تتوقف العبادة عليه، سواء كان جزءا، أو خارجا، لا يقتضي نسخ العبادة، وهو المختار. وقال القاضي عبد الجبار: نقصان الجزء يقتضي نسخ الباقي، ونقصان الشرط المنفصل لا يقتضي نسخ الباقي. فتقول: الدليل عليه: أن نسخ أحد الجزءين لا يقتضي نسخ الجزء الآخر، وذلك؛ لأن الدليل المقتضي للكل كان متناولا للجزئين، فخروج أحد الجزءين لا يقتضي خروج الجزء الآخر، كسائر أدلة التخصيص. واحتجوا: بأن نقصان الركعة من الصلاة يقتضي رفع وجوب تأخير التشهد، ونفي إجزائها من دون الركعة؛ لأن قبل النسخ ما كان تجوز الصلاة من دون هذه الركعة. وأيضا: إن كانت الركعة، لما نسخت، أوجبت علينا أن نخلي الصلاة منها فقد ارتفع إجزاء الصلاة، إذا فعلناها مع الركعة المنسوخة، وإجزاء الصلاة مع الركعة قد يكون حكما شرعيا؛ فجاز أن يكون رفعه نسخاً.

شرح القرافي: قال سيف الدين: اتفقوا على أن نسخ سنة من السنن، كنسخ ستر الرأس؛ والوقوف على يمين الإمام، لا يكون نسخا لتلك العبادة

والجواب: أن هذه أحكام للركعة الباقية، مغايرة لذاتها؛ فكان نسخها مغايرًا لنسخ تلك الذات. وأما نقصان الشرط المنفصل من العبادة، فلا يقتضي نسخ العبادة؛ لأنهما عبادتان، فإذا نسخ إحداهما؛ لدليل مقصورٍ عليها، لم يجز نسخ الأخرى. فعلى هذا: نسخ الوضوء لا يكون نسخًا للصلاة، بل نفي الإجزاء مع فقد الطهارة قد زال؛ وذلك لأن الصلاة ما كانت تجزئ بلا طهارةٍ، فإذا نسخ وجوب الطهارة صارت مجزئةً، وارتفع نفي إجزائيها، فإن أراد الإنسان بقوله: (إن نسخ الوضوء يقتضي نسخ الصلاة) هذا المعنى - فصحيح، لكن الكلام موهم؛ لأن إطلاق القول بأن الصلاة منسوخة هو أنه قد خرجت عن الوجوب، أو عن أن تكون عبادةً، والله أعلم. المسألة الثانية النقصان من العبادة نسخ لما أسقط قال القرافي: قال سيف الدين: اتفقوا على أن نسخ سنة من السنن، كنسخ ستر الرأس؛ والوقوف على يمين الإمام، لا يكون نسخا لتلك العبادة، أما ما تتوقف عليه العبادة فثلاثة أقوال: لا يكون ناسخا. وقال بعض المتكلمين: إنه نسخ مطلقًا، وإليه مال الغزالي. ومنهم من فصل بين الجزء والشرط.

قال الغزالي في (المستصفي): (نسخ بعض العبادة، أو شرطها، أو سنة من سننها هل هو نسخ؟) وحكي الخلاف، ولم يفرق، ونص فيه على السنة خلاف سيف الدين. قوله: (قال القاضي عبد الجبار: نسخ الجزء يقتضي نسخ الباقي، بخلاف الشرط). تقريره: أن الجزء داخل في الماهية، فإسقاطه يغيرها، والشرط خارجي، فالماهية تبقي على صورتها، وتركيبها، ونظامها، فهذا منه يحسن فرقًا، ولا يحسن دليلا، لما سيأتي في أن الكل سواء. قوله: (نقصان الركعة يقتضي رفع وجوب تأخير التشهد). قلنا: تقدم منع الشيخ شمس الدين الخسر وشاهي أن التشهد والسلام لم يشرعا إلا عقيب الصلاة في آخرها كيف كانت، وعددها أي عدد كان، وكذلك نفس الحال فيها آخر الصلاة. قوله: (ويرفع التنقيص نفي إجزاء الصلاة من دون الركعة). قلنا: كونها لا تجزئ بدون الركعة التي كانت واجبةً ذلك يرجع إلى وجوب الركعة التي أنقصت، ونحن نسلم أن رفع وجوب تلك الركعة نسخ، فيتبعه عدم الإجزاء، وأن يقع تبعًا له، فالإجزاء وعدمه أيدًا لا يكونان إلا تابعين، فالإجزاء يتبع الحكم العقلي، وعدم الإجزاء يتبع الحكم الشرعي، فرفع ذلك العدم إنما يكون برفع ذلك الحكم الشرعي، وهو هاهنا الوجوب الذي في الركعة التي نقصت، ولا نزاع فيها، وبه يظهر الجواب عن قوله: ارتفع إجزاء الصلاة مع الركعة المنسوخة؛ لأن إجزاءها معه كان تابعًا لوجوب الركعة المنسوخة، فالإجزاء وعدمه ليس حكمًا شرعيًا أبدًا. ويدلك على ذلك تفسيرنا له أول الكتاب بأنه (موافقة للأمر)، أو (عدم القضاء) على

(تنبيه) اختار التبريزي أن نسخ الجزء نسخ للعبادة

المذهبين، وموافقة الأمر نسبة بين الفعل والأمر عدمية، وعدم القضاء عدم ورود نص بإيجابه، والحكم الشرعي إنما هو خطاب الله الوجودي المتعلق على وجهٍ خاص، فالإجزاء ليس حكمًا شرعيًا، بل نسبة عدمية اعتبارية، وعدمه عدم تلك النسبة، والنسب وعدمها ليست أحكامًا شرعية. قوله: (هذه أحكام الركعة الباقية مغايرة لذاتها، فكان نسخها معايرًا لنسخ تلك الذات). تقريره: أن هذه العبارة من أشكل عبارات الكتاب، وقد حصل فيها عدم إبانة عن المقصود، والمصنفون - لنفوسهم أحوال من القبض والبسط بحسب عوارض الدنيا، ففي وقت البسط تكون عباراتهم في غاية الكمال اللائق بهم، وفي وقت القبض تشوش، ومن اعتبر الكتب وجد فيها ذلك كثيرًا في جميع الفنون، حتى كأن المتكلم في العبارة الثانية غير المتكلم في العبارة الأولى قطعًا، وهو يشير بقوله: (هذه أحكام الركعة الباقية) إلى وجوب تأخير التشهد، وعدم إجزائها بدون الركعة المنسوخة، وإجزاء الصلاة مع اشتمالها على الركعة المنسوخة، فقال: هذه الأحكام مغايرة للركعة الباقية في نفسها، وإن كانت هذه الأحكام مضافة لها، ونسخ أحد المتغايرين لا يلزم منه نسخ الآخر، فالركعة الباقية لا نسخ فيها. (تنبيه) اختار التبريزي أن نسخ الجزء نسخ للعبادة. قال: ودليله أن الأربع نسخ وجوبها وإجزاؤها، واستؤنف إيجاب ركعتين، وليستا بعض تلك الأربع؛ بدليل أنه لو صلى الآن أربعًا لم يجزه، ولو كانت الأربع ركعتين وزيادة، فأسقطت الزيادة مع بقاء أصلها لوجب أن تجزئ كما لو زاد على عدد الجلدات، ثم قال: قال المصنف: ما يقتضي كلا الجزءين يقتضي كل واحد منهما، فإذا خرج أحدهما كان تخصيصًا.

قال: قلنا: هذا غلط؛ فإن المقتضى للكل لا يقتضي كل واحد بما هو ذاك الواحد، وإنما يقتضي كل واحد حين كونه جزءًا لذلك الكلى، ضرورة اقتضاء الكل بما هو كل، فإذا انفصل لم يكن مقتضى. قال: وهذا بخلاف نسخ الشرط، إلا أن يحرم فعلها الآن مع ذلك الشرط، وإن كان فعلها قبل نسخ الشرط حرامًا بدون الشرط، فيكون ذلك نسخًا لأصلها. قلت: قوله: (الأربع يرجع نسخ وجوبها إلى نسخ الركعتين المنسوختين، فإن إيجاب الأربع معناه تجب اثنتان واثنتان) ونحن نسلم أن نسخ الاثنتين حصل، فلزم عنه صدق عدم وجوب الأربع. وقوله: (استؤنف إيجاب ركعتين) ممنوع، بل إيجاب ركعتين ما زال، وإنما حرم فعلها الآن مع المنسوختين، كتحريم الزيادة في الصلاة لا لعدم إيجاب الركعتين الباقيتين، وبه يظهر الفرق بين الزيادة في الصلاة، والزيادة في الجلدات؛ فإن زيادة الجلدات لم يحرم ضمها، بل حرمت الزيادة في ذاتها لكونها إضرارًا بالمجلود، لا نفس الضم، وفي الصلاة إنما حرم نفس الضم لا نفس الركعتين عكس الجلد سواء. قوله: (إن المصنف قال: إن ذلك الإخراج يكون تخصيصًا) لم أره للمصنف، فلعله وجده في نسخه وقعت له، وتأول عليه كلامه بهذا الذي قاله. * * *

القسم الرابع في الطريق الذي به يعرف كون الناسخ ناسخا، والمنسوخ منسوخا

القسم الرابع في الطريق الذي به يعرف كون الناسخ ناسخًا، والمنسوخ منسوخًا قال الرازي: قد يعلم ذلك باللفظ تارةً، وبغيره أخرى: أما اللفظ: فهو: أن يوجد لفظ النسخ: إما بأن يقول: هذا منسوخ، أو يقول: ذاك ينسخ هذا. وأما غير اللفظ: فهو: أن يأتي بنقيض الحكم الأول، أو بضده، مع العلم بالتاريخ: مثال النقيض: قوله تعالى:} الآن خفف الله عنكم {[الأنفال: 66] فإنه نسخ لثبات الواحد للعشرة؛ لأن التخفيف نفى للثقل المذكور. ومثال الضد: التحويل من قبلةٍ إلى أخرى؛ لأن التوجه إلى الكعبة ضد التوجه إلى بيت المقدس. وأما التاريخ: فقد يعلم باللفظ، أو بغيره: أما اللفظ: فكما إذا قال: أحد الخبرين قبل الآخر. وأما غير اللفظ: فعلى وجوهٍ. أحدها: أن يقول: هذا الخبر ورد سنة كذا، وهذا في سنة كذا. وثانيها: أن يعلق أحدهما على زمان معلوم التقدم، والآخر بالعكس؛ كما لو قال: كان هذا في غزاة بدر، والآخر في غزاة أحد، وهذه الآية نزلت قبل الهجرة، والأخرى بعدها.

وثالثها: أن يروى أحدهما رجل متقدم الصحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويروى الآخر رجل متأخر الصحبة، وانقطعت صحبة الأول للرسول، عليه السلام، عند ابتداء الآخر بصحبته؛ فهذا يقتضي أن يكون خبر الأول متقدمًا، أما لو دامت صحبة المتقدم مع الرسول، عليه الصلاة والسلام، لم يصح هذا الاستدلال. ويتفرع على هذا الأصل مسائل: مسألة: قال القاضي عبد الجبار: الصحابي إذا قال في أحد الخبرين المتواترين: (إنه كان قبل الآخر) قبل ذلك، وإن لم يقل قوله في نسخ المعلوم؛ كما تقبل شهادة الشاهدين في الإحصان، الذي يترتب عليه الرجم، وإن لم يقبل في إثبات الرجم، وكما يقبل قول القابلة في الولد: إنه من إحدى المرأتين، وإن كان يترتب على ذلك ثبوت نسب الولد من صاحب الفراش، مع أن شهادة المرأة لا تقبل في ثبوت النسب. قال أبو الحسين، رحمه الله: هذا يقتضي الجواز العقلي، في قبول خبر الواحد في تاريخ الناسخ، ولا يقتضي وقوعه إلا إذا تبين أنه يلزم من ثبوت أحد الحكمين ثبوت الآخر. مسألة: إذا قال الصحابي: (كان هذا الحكم، ثم نسخ) كقولهم: (إن خبر: (الماء من الماء) نسخ بخبر التقاء الختانين) لم يكن ذلك حجةً؛ لأنه يجوز أن يكون قاله اجتهادًا؛ فلا يلزمنا. وعن الكرخي: أن الراوي إذا عين الناسخ؛ فقال: (هذا نسخ هذا)، جاز أن يكون قاله؛ اجتهادًا؛ فلا يجب الرجوع إليه.

شرح القرافي: قوله: (يعرف النسخ بالإتيان بالنقيض أو الضد)

وإن لم يعين الناسخ، بل قال: (هذا منسوخ) وجب قبوله؛ لأنه لولا ظهور النسخ فيه، لما أطلق النسخ إطلاقًا. وهذا ضعيف؛ فلعله قاله لقوة ظنه في أن الأمر كذلك، وإن كان قد أخطأ فيه، والله أعلم بالصواب. القسم الرابع في معرفة النسخ قال القرافي: قوله: (يعرف النسخ بالإتيان بالنقيض أو الضد). يريد في الوقت الذي يتعين للأصل المنسوخ. قوله: (لو دامت صحبة الأول لم يصح هذا الاستدلال). تقريره: أن المتقدم الصحبة إذا دامت صحبته قد يروى حديثًا بعد الذي رواه المتأخر الصحبة، فلا يدل تقدم الصحبة على تأخر الحديث. قوله: (يقبل قول الصحابي في أن هذا المتواتر قبل ذلك المتواتر، كما يقبل الاثنين في الإحصان دون الزنا، والمرأة في أن الولد من هذا المرأة). تقريره: أن التقدم شرط النسخ، والإحصان شرط اعتبار الرجم، والولادة شرط ثبوت النسب، فقاس أحدهما على الآخر. قوله: (هذا يقتضي الجواز العقلي دون الوقوع حتى يتبين اشتراك الجميع في مدرك الحكم). تقريره: أن هذه أبواب متباينة جدًا، فلعل المخالفة في أحدها بين أصله، وفرعه لمعنى يخصه، فلابد أن يبين التسوية في المدرك حتى يحصل الاستواء في الحكم. قوله: (إذا لم يذكر الناسخ يقبل، بخلاف إذا عينه).

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: المتقدم الصحبة يفيد التقدم إن قال: سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلا فل

تقريره: أن هذه المسألة تشبه قول من قال: المرسل أقوى من المسند؛ لأنه لما لم يعين راوي الحديث، فقد نذممه، وما نذممه إلا وقد رضيه لدينه بخلاف إذا لم يذممه، فقد خلى بين الناس وبين النظر فيه، فهو أضعف. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: المتقدم الصحبة يفيد التقدم إن قال: سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلا فلا؛ لاحتمال أن المتأخر سمعه من راوٍ متقدم على المتقدم. قال: وإذا قال الصحابي: (نسخ حكم كذا) كان حجة عند جماعة من الأصوليين. قال: خلا المصنف وجماعة. (مسألة) قال سيف الدين: إذا نسخ حكم أصل القياس هل يبقي حكم الفرع؟ قاله بعض الحنفية، ومنعه الباقون؛ لأن ثبوت الحكم في الفرع تابع؛ فينتفي عند انتفاء المتبوع لبطلان العلة حينئذ؛ لأنها استنبطت من الأصل، وقد بطل. احتجوا بأنه يلزم من رفع حكم الفرع أن يكون بالقياس على حكم الأصل؛ لأنه ارتفع تابعًا له، والنسخ بالقياس يمتنع كما تقدم؛ ولأن نفى الفرع لنفى الأصل إنما يلزم إذا كان الحكم بعد ثبوته يفتقر إلى المؤثر، وليس كذلك؛ ولأن الولد يتبع أباه في الإسلام والكفر حالة صغره، ولو زال إسلام الأب بالردة لم يرد إسلام الولد. والجواب عن الأول أن رفع الحكم كان بالقياس على رفعه في الأصل،

(مسألة) قال سيف الدين: لا أعرف خلافا أن الناسخ إذا كان مع جبريل - عليه السلام - لم ينزل به للنبي - عليه السلام - لم يثبت حكمه في حق المكلفين

وإلا افتقر إلى علة جامعة نافية لهما، وليس كذلك، بل ارتفع لانتفاء علته لا للعلة النافية. وعن الثاني: أن دوام الأمر إن أحوج لدوام المؤثر، فهو المطلوب، وإلا فلا خلاف بين الفقهاء في أنه وإن لم يفتقر الحكم في دوامه إلى دوام ضابط حكمة الحكم المعرف للحكم في الفرع في ابتدائه أنه لابد من دوام احتمال الحكمة، حتى أنه لو انتفت حكمة الحكم قطعًا امتنع بقاؤه بعدها، وإذا كان لابد من دوام احتمال الحكمة، فلابد من أن تكون معتبرةً؛ لاستحالة بقاء الحكم بحكمة غير معتبرة، وينسخ حكم الأصل إن زال اعتبارها، وانتفاء ما لابد منه في دوام الحكم يوجب نفيه. وعن الثالث لا نسلم أن إسلام الأب علة لإسلام الابن حتى يلزم الانتفاء عند الانتفاء؛ ولأن دوام إسلام الأب معتبر في دوام إسلام الابن ليلزم من انتفائه انتفاؤه. (مسألة) قال سيف الدين: لا أعرف خلافًا أن الناسخ إذا كان مع جبريل - عليه السلام - لم ينزل به للنبي - عليه السلام - لم يثبت حكمه في حق المكلفين، بل هم في التكليف بالحكم الأول على ما كانوا عليه قبل إلقاء الناسخ إلى جبريل - عليه السلام. وإنما الخلاف إذا ورد إلى النبي - عليه السلام - ولم يبلغ الأمة هل يتحقق النسخ في حقهم أم لا؟ أثبته بعض الشافعية، ونفاه بعضهم، وبه قال الحنفية، وابن حنبل.

قال: وهو المختار؛ لأن النسخ له لازم، وهو ارتفاع حكم الخطاب السابق، وامتناع الخروج بالفعل الواجب عن العهدة، ولزوم الإتيان بالفعل الواجب الناسخ للإثم بتركه، والثواب على فعله، وهذه اللوازم منتفية، فينتفي الملزوم، وكذلك لزم أهل (قباء) الدخول في الصلاة لبيت المقدس، واعتد النبي - عليه السلام - لهم بالركعات المتقدمة قبل إتمام الصلاة بعد نزول الوحي قبل بلوغه إليهم، ولقوله تعالى:} وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا {[الإسراء:15]،} وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا {[القصص:59]، ولأنهم إن صلوا إلى الكعبة قبل وصول الناسخ لهم أتموا، ولم يخرجوا عن العهدة. احتجوا بعزل الوكيل؛ فإن تصرفه لا ينقذ، وإن لم يبلغه العزل؛ ولأن النسخ إسقاط، فلا يعتبر فيه العلم والوصول كالطلاق والعتاق؛ ولأنه لو قال: (أبحت ثمرة بستاني) أبيح لكل من لم تبلغه الإباحة؛ ولأن النسخ بالناسخ لا بالعلم. والجواب عن الأول: منع الحكم. وعن الثاني: الفرق أن هاهنا يرفع حكم خطاب سابق، بخلاف هاهنا. وعن الثالث: منع الحكم. وعن الرابع: أن العلم شرط لا أنه الناسخ. وحكي الغزالي في (المستصفى)، والإمام في (البرهان) الخلاف في النسخ في حق من لم يبلغه الناسخ، ولم يتعرضوا لكون النبي - عليه السلام - بلغه الكل، أو البعض، أو لم يبلغه لأحد.

(مسألة) قال الغزالي في (المستصفى): يجوز نسخ المنطوق باجتهاد النبي - عليه السلام - وقياسه

وقال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): متى وصل الوحي للنبي - عليه السلام - ثبت حكمه في حقه هو؛ لكونه بلغه، وهذا الحرف لم يتعرض إليه (الإحكام)، ولا من ذكر معه، وإنما تعرضوا للخلاف في حق غير النبي عليه السلام. (مسألة) قال سيف الدين: اتفق العلماء على رفع جميع التكاليف بإعدام العقل الذي هو شرط في التكليف، واختلفوا في أمرين: الأول: جواز نسخ معرفة الله - تعالى - وشكر المنعم، وتحريم الكفر، والكذب، والظلم، وكل ما حسنه وقبحه لذاته، فمنعه المعتزلة على أصولهم في وجوب رعاية المصالح والحكمة. الثاني: إذا جاز نسخ هذه الأحكام، فبعد أن كلف الله - تعالى - العبد هل يجوز أن ينسخ عنه جميع التكاليف اختلفوا فيه، واختار الغزالي المنع؛ بناء منه على أن المنسوخ عنه يجب عليه معرفة الناسخ والنسخ، والدليل المنصوب عليه، فهذا النوع من التكليف؟ لا يمكن نسخه عنده، وقال: ويرد عليه أنا وإن قلنا بأن النسخ لا يمكن حصوله في حق المكلف دون علمه بنزول النسخ، فلا يمتنع تحقق النسخ بجميع التكاليف في حقه عند علمه بالنسخ، وأن يكون مكلفًا بمعرفة النسخ. (مسألة) قال الغزالي في (المستصفى): يجوز نسخ المنطوق باجتهاد النبي - عليه السلام - وقياسه، وإن لم يكن بيانا بلفظ ذي صيغة وصورة يجب نقلها

(مسألة) قال الغزالي في (المستصفي): لا يجوز نسخ منطوق النص القاطع بالقياس المعلوم بالظن والاجتهاد، كان جليا أو خفيا، خلافا لمن شذ فقال: ما جاز التخصيص به جاز النسخ به

(مسألة) قال الغزالي في (المستصفي): لا يجوز نسخ منطوق النص القاطع بالقياس المعلوم بالظن والاجتهاد، كان جليًا أو خفيًا، خلافًا لمن شذ فقال: ما جاز التخصيص به جاز النسخ به، وهو منقوض بدليل العقل، والإجماع، وخبر الواحد، وقد تقدمت الفروق بين النسخ والتخصيص. قال: وقال بعض أصحاب الشافعي: يجوز بالجلي النسخ. قال: ولفظ الجلى مبهم، فإن أراد به المقطوع فمسلم، وإلا فلا، والذي يتوهم فيه القطع ثلاث مراتب: الأولي: ما يجري مجرى النص، وأوضح منه، كقوله تعالى:} فلا تقل لهما أف {[الإسراء:23]؛ فإن تحريم الضرب مدرك منه، فلو كان تقدم النص بإباحة الضرب لكان نسخًا؛ لأنه أظهر من المنطوق. الثانية: لو تقدم نص بأن العتق لا يسري، ثم ورد قوله عليه السلام: (من أعتق شركًا له في عبد .... الحديث)، فتقاس الأمة على العبد، وهو مقطوع للعلم بقصد الشارع المملوكية. الثالثة: أن يرد نص بإباحة النبيذ، ثم يقول الشارع: حرمت الخمر، فيقاس عليه النبيذ إن تعبدنا بالقياس. وقال قوم: وإن لم نتعبد بالقياس نسخنا أيضًا؛ إذ لا فرق بين قوله: حرمت كل مسكر، وبين قوله: حرمت الخمر لسكرتها، وكذلك أقر النظام بالقياس على العلة المنصوصة مع إنكاره أصل القياس، ودليل كون المظنون لا ينسخ المقطوع سمعي لا عقلي، وهو انعقاد الإجماع على بطلان كل قياس يخالف النص.

(مسألة) قال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): لا يجوز النسخ إلا في التكاليف بما يصح وقوعه على وجهين كالعبادات

وقول معاذ: (أجتهد رأيي) بعد ذكر النصوص وعدمها. (مسألة) قال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): لا يجوز النسخ إلا في التكاليف بما يصح وقوعه على وجهين كالعبادات، فيصح أن الصوم يصح بالليل بدلا عن النهار، ويصح بالنهار بدلا عن الليل، والتوجه للكعبة وغيرها. أما ما لا يصح وجوده إلا على وجهٍ واحدٍ كالتوحيد وصفات الذات ونحوه، فإن النسخ فيه لا يجوز. قلت: ولم يحك في هذا خلافًا، ولا يبعد رده إلى المسألة التي حكاها سيف الدين عن المعتزلة: حسنه لذاته كالعدل، وقبحه لذاته كالظلم، ولا يلزم من كون التوحيد واجب الوجود وصفات الذات، وأنها واجبة - أن تكون كذلك، ولا يقبل إلا وجهًا واحدًا، أن يكون التكليف بها واقعًا، فعندنا قبل البعثة لم يقع التكليف بها كما تقدم أول الكتاب، وإذا أمكن عدم التكليف بها، فقد قبلت الوجهين باعتبار التكليف، لا باعتبارها في أنفسها التكليف وعدمه، وإذا قبلت التكليف وعدمه قبلت أيضًا التكليف بتحريم اعتقادها بناء على أصلنا في جواز تكليف ما لا يطاق؛ فإنه عندنا بناء على هذا الأصل يجوز التكليف بتحريم اعتقاد كون الواحد نصف الاثنين ونحو ذلك، وإذا تصور التكليف بتحريم اعتقادها تصورت الأحكام الخمسة فيها، فأمكن التنقل بينها كلها بالنسخ، فما قاله - رحمه الله - غير متجه، مع أنه صمم عليه، فلم يحك فيه خلافًا، وظاهر كلامه في (اللمع) يقتضي أنه مجمع عليه. (مسألة) قال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): الصحيح من المذهب جواز النسخ بدليل الخطاب؛ لأنه في معنى النطق.

(مسألة) قال الشيخ المعروف بـ (العالمي) في كتابه: النسخ بالإقرار جائز

ومن أصحابنا من جعله كالقياس، فلا يجوز النسخ به. وأما فحوى الخطاب فمن جعله معلومًا من جهة النطق جوز النسخ به. ومن قال: إنه معلوم بالاستنباط منع النسخ به. وهذا التقرير على هذا الوجه لم يتقدم للمصنف مثله، وإن كان المصنف قد تعرض لفحوى الخطاب دون دليل الخطاب. (مسألة) قال الشيخ المعروف بـ (العالمي) في كتابه: النسخ بالإقرار جائز كما إذا رأي النبي - عليه السلام - من يفعل فعلا مخالفًا لأصل من الأصول، ولم ينكر عليه، فذلك الإقرار نسخ للأصل المتقدم عند قوم. وقيل: لا يكون نسخًا، وجه الأول: أن الإقرار دليل الإباحة. وجه الثاني: أن الإقرار قد يكون مع المنع لأجل تقدم نهي كان، كما كان يفعله - عليه السلام - مع كفار قريش في الأصنام. والله أعلم بالصواب. * * *

الكلام في الإجماع

بسم الله الرحمن الرحيم الكلام في الإجماع وهو مرتب على سبعة أقسام القسم الأول في أصل الإجماع قال الرازي: المسألة الأولي: الإجماع يقال بالاشتراك على معنيين: أحدهما: العزم؛ قال الله تعالى: {فأجمعوا أمركم} [يونس: 71] وقال عليه الصلاة والسلام: (لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل). وثانيهما: الاتفاق، يقال: (أجمع الرجل، إذا صار ذا جمع) كما يقال: البن وأتمر، إذا صار ذا لبنٍ وذا تمرٍ، فقولنا: (أجمعوا على كذا) أي: صاروا ذوى جمعٍ عليه. وأما في اصطلاح العلماء: فهو: عبارة عن (اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على أمر من الأمور) ونعني بالاتفاق: الاشتراك، إما في الاعتقاد، أو القول، أو الفعل، أو إذا أطبق بعضهم على الاعتقاد، وبعضهم على القول، أو الفعل الدالين على الاعتقاد، ونعني بأهل الحل والعقد: المجتهدين في الأحكام الشرعية. وإنما قلنا: (على أمرٍ من الأمور)، ليكون متناولا للعقليات، والشرعيات، واللغويات.

شرح القرافي: قوله: (الإجماع اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على أمر من الأمور)

بسم الله الرحمن الرحيم (رب يسر بمنك) الكلام في الإجماع قال القرافي: قوله: (الإجماع اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على أمر من الأمور): قلنا: هذه العبارة تعم جميع أهل الحل والعقد إلى يوم القيامة؛ لأنه اسم جنس أضيف، وهو غير مراد، فينبغي أن يقول: من كل عصر؛ لأنه مرادكم.

(سؤال) جعل (أجمع) مشتركا بين العزم والاتفاق

(سؤال) جعل (أجمع) مشتركًا بين العزم والاتفاق، وجعل الاتفاق من باب (ألبن) و (أتمر) لا يتم؛ لأن الاتفاق لابد فيه من القصد والكسب، و (ألبن) و (أتمر) لا يشترط فيه ذلك، بل يصير (ألبن) و (أتمر) وإن ورثه، ولم يكن له فيه مدخل، فهذا أعم من الاتفاق، فتفسيره به غير صواب. جوابه: أن المعنيين، وإن كانا مكتسبين لذلك إلا أنهما يصيران ذا جمع، فهذا المفهوم العام هو الذي ندعيه، وهو شيء واحد في الموضعين، وتقدم العدم لا يضرنا؛ فإن العام قد يفرض له في بعض أنواعه خصوص، ولا يقدح ذلك في كون اللفظ موضوعًا له، كـ (الناطق الحيوان) في الإنسان، وكذلك سائر الفصول. قوله: (يعني بأمر من الأمور لاشتراك في الاعتقاد، أو القول، أو الفعل). قلنا: قال إمام الحرمين في (البرهان): (لا أثر للإجماع في العقليات؛ فإن المعتبر فيها الأدلة القاطعة، فإذا انتصبت لم يعضدها وفاق، ولم يعارضها شقاق، وإنما يعتبر الإجماع في السمعيات، فإذا أجمعوا على فعل نحو: (أكلهم الطعام) دل إجماعهم على إباحته، كما يدل أكله - عليه السلام - على الإباحة ما لم تقم قرينة دالة على الندب، أو الوجوب. فهذا تفصيل حسن، ويصير الحد به غير مانع. وقال أبو الحسين في (المعتمد): يجوز اتفاقهم على القول، والفعل، والرضا، ويخبروا عن الرضا في أنفسهم، فيدل عن حسن ما رضوا به، وقد يجمعون على ترك القول وترك الفعل فيدل على أنه غير واجبٍ، ويجوز أن يكون ما تركوه مندوبًا إليه؛ لأن تركه غير محظور. * * *

المسألة الثانية قال الرازي: من الناس من زعم أن اتفاقهم على الحكم الواحد الذي لا يكون معلوما بالضرورة محال

المسألة الثانية قال الرازي: من الناس من زعم أن اتفاقهم على الحكم الواحد الذي لا يكون معلومًا بالضرورة محال، كما أن اتفاقهم في الساعة الواحدة على المأكول الواحد، والتكلم بالكلمة الواحدة محال، وربما قال بعضهم: كما أن اختلاف العلماء في الضروريات محال، فكذا اتفاقهم في النظريات محال. والجواب: أن الاتفاق إنما يمتنع: فيما يتساوى فيه الاحتمال؛ كالمأكول المعين، والكلمة المعينة. أما عند الرجحان - وذلك: عند قيام الدلالة، أو الأمارة الظاهرة - فذلك غير ممتنع، وذلك كاتفاق الجمع العظيم على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - واتفاق الشافعية والحنفية، مع كثرتهما على قوليهما مع أن أكثر أقوالهما صادر عن الأمارة. ومن الناس من سلم إمكان هذا الاتفاق في نفسه، لكنه قال: لا طريق لنا إلى العلم بحصوله؛ لأن العلم بالأشياء، إما أن يكون وجدانيًا، أو لا يكون: أما الوجداني: فكما يجد كل واحد منا من نفسه من جوعه، وعطشه، ولذته، وألمه، إلى غير ذلك، ولا شك أن العلم بحصول اتفاق أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس من هذا الباب. وأما الذي لا يكون وجدانيًا: فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفته: إما الحس، وإما الخبر، وإما النظر العقلي. أما النظر العقلي: فلا مجال له في أن الشخص الفلاني قال بهذا القول، أو لم يقل به.

بقي أن يكون الطريق إليه: إما الحس، وإما الخبر، لكن من المعلوم أن الإحساس بكلام الغير، أو الإخبار عن كلامه لا يمكن إلا بعد معرفته، فإذن العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد من الأمة، لكن ذلك متعذر قطعًا، فمن ذا الذي يعرف جميع الناس الذين هم بالشرق والغرب؟. وكيف الأمان من وجود إنسان في مطمورة لا خبر عندنا منه؟ فإنا إذا أنصفنا علمنا أن الذين بالشرق لا خبر عندهم من أحد من علماء الغرب؛ فضلا عن العلم بكل واحدٍ منهم على التفصيل، وبكيفية مذاهبه. وأيضا: فبتقدير العلم بكل واحد من علماء العالم لا يمكننا معرفة اتفاقهم؛ لأنه لا يمكن ذلك إلا بالرجوع إلى كل واحد منهم، وذلك لا يفيد حصول الاتفاق؛ لاحتمال أن بعضهم أفتى بذلك، على خلاف اعتقاده تقية، أو خوفًا، أو لأسباب أخرى مخفية عنا. وأيضا: فبتقدير أن نرجع إلى كل واحد منهم، ونعلم أن كل واحد منهم أفتى بذلك من صميم قلبه، فهو لا يفيد حصول الإجماع؛ لاحتمال أن علماء بلدة، إذا أفتوا بحكم، فعند الارتحال عند بلدهم والذهاب إلى البلدة الأخرى، رجعوا عن ذلك الحكم قبل فتوى أهل البلدة الأخرى بذلك. وعلى هذا التقدير لا يحصل الاتفاق؛ لأنا لو قدرنا أن الأمة انقسمت إلى قسمين، وأحد القسمين أفتى بحكم، والآخر أفتى بنقيضه، ثم انقلب المثبت نافيًا، والنافي مثبتًا، لم يحصل الإجماع، وإذا كان كذلك، فمع قيام هذا الاحتمال، كيف يحصل اليقين بحصول الإجماع؟! بل هاهنا مقام آخر، وهو أن أهل العلم بأسرهم، لو اجتمعوا في موضعٍ واحدٍ، ورفعوا أصواتهم دفعة

واحدة، وقالوا: أفتينا بهذا الحكم، فهذا مع امتناع وقوعه لا يفيد العلم بالإجماع؛ لاحتمال أن يكون بعضهم كان مخالفًا فيه، فخاف من مخالفة ذلك الجمع العظيم، أو خاف ذلك الملك الذي أحضرهم، أو أنه أظهر المخالفة، لكن خفي صوته فيما بين أصواتهم؛ فثبت أن معرفة الإجماع ممتنعة. فإن قلت: ما ذكرتموه باطل بصورٍ: إحداها: أنا نعلم بالضرورة أن المسلمين معترفون بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبوجوب الصلوات الخمس، ونعلم اتفاق أصحاب الشافعي على القول ببطلان البيع الفاسد، واتفاق الحنفية على القول بانعقاده، وإن كانت الوجوه التي ذكرتموها بأسرها حاصلة هاهنا. وثانيتها: أنا نعلم أن الغالب على أهل الروم النصرانية، وعلى بلاد الفرس الإسلام، وإن كنا ما لقينا كل واحد من هذه البلاد، ولا كل واحدٍ من ساكنيها. وثالثتها: أن السلطان العظيم يمكنه أن يجمع الناس في موضعٍ واحدٍ؛ بحيث يمكن معرفة اتفاقهم واختلافهم. قلت: أما قوله: (نعلم بالضرورة اتفاق المسلمين على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -): قلت: إن كنت تعني بالمسلمين المعترفين بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقولك: (نعلم اتفاق المسلمين على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - (يجرى مجرى أن يقال: نعلم اتفاق القائلين بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وإن كنتن تعني به شيئًا آخر غير نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلا نسلم أنا نقطع أن القائل بذلك قائل بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولا نسلم أيضًا أنا نقطع بأن كل من قال بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال بوجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وإن كنا نعترف بحصول الظن.

والذي يدل عليه أن الإنسان قبل الإحاطة بالمقالات الغريبة، والمذاهب النادرة يعتقد اعتقادًا جازمًا أن كل المسلمين يعترفون أن ما بين الدفتين كلام الله عز وجل؛ ثم إذا فتش عن المقالات الغريبة وجد في ذلك اختلافًا شديدًا؛ نحو ما يروى عن ابن مسعودٍ أنه: (أنكر كون الفاتحة والمعوذتين من القرآن). ويروى عن الميمونية - قوم من الخوارج - أنهم أنكروا كون سورة يوسف من القرآن، ويروى عن كثيرٍ من قدماء الروافض أن هذا القرآن الذي عندنا ليس هو ذلك الذي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - بل غير وبدل، ونقص عنه وزيد فيه، وإذا كان كذلك، علمنا أنا، وإن اعتقدنا في الشيء أنه مجمع عليه اعتقادًا قويًا، لكن ذلك الاعتقاد لا يبلغ حد العلم، ولا يرتفع عن درجة الظن. قوله: (نعلم استيلاء بعض المذاهب على بعض البلاد). قلنا: علمنا ذلك بخبر التواتر، وفرق بين معرفة حال الأكثر، وبين معرفة حال الكل؛ لأن من دخل بلدًا، ورأي شعائر الإسلام في جميع المحلات والسكك ظاهرةً، علم بالضرورة أن الغالب على أهل تلك المدينة الإسلام. فأما أن يعلم قطعًا أنه ليس في البلدة أحد إلا مسلم ظاهرًا وباطنًا، فذلك مما لا سبيل إليه ألبتة، والعلم بامتناعه ضروري. قوله: (السلطان العظيم يمكنه جمع علماء العالم في موضعٍ واحدٍ). قلنا: هذا السلطان المستولى على جميع معمورة العالم مما لم يوجد إلى الآن، وبتقدير وجوده، فكيف يمكن القطع بأنه لم يتلفت منه أحد في أقصى الشرق، أو أقصى الغرب؟ فإن ذلك الملك ليس بعلام الغيوب، وبتقدير ألا ينفلت منه

شرح القرافي: قوله: (يمتنع إجماعهم على غير الضروري، كامتناعه في الكلمة المعينة، والمأكول المعين)

أحد، فكيف يمكن القطع بأن الكل أفتوا بذلك الحكم طائعين راغبين، غير مكرهين ولا مجبرين؟ والإنصاف: أنه لا طريق لنا إلى معرفة حصول الإجماع إلا في زمان الصحابة؛ حيث كان المؤمنون قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم، على التفصيل. المسألة الثانية في إمكان الإجماع قال القرافي: قوله: (يمتنع إجماعهم على غير الضروري، كامتناعه في الكلمة المعينة، والمأكول المعين): قلنا: الفرق أن الأطعمة والأشربة ونحوها، تمنع الدواعي الطبيعية التي جبلت عليها البشرية، ودواعي البشرية في الشهوة والنفرة مختلفة جدًا، حتى إن الشخص الواحد يخالف نفسه في ساعة أخرى، فلذلك قضت العادة بتعذر اتفاق الجمع العظيم على شهوة الطعام الواحد، والميل إلى التكلم بالكلمة الواحدة ونحوه؛ لأنه مبني على الدواعي الطبيعية، فهذه قاعدة يتعذر الاجتماع فيها من الجمع العظيم، كما أن الغيم الرطب المشف في بلاد الأمطار والثلوج، إذ رآه الجمع العظيم اشترك الجميع في ظن الأمطار، وكذلك الرجل العدل الأمين، يشترك كل من عرف حاله في ظن صدقه، وإن كانوا آلافًا.

والأحكام الشرعية من هذا القسم دون القسم الأول، فكان الإجماع فيه ممكنًا عادة. قوله: (الذي لا يكون وجدانيًا فطريق معرفته إما الحس، أو الخبر أو النظر العقلي). قلنا: الخبر إنما يفيد بطريق السماع، وهو داخل في الحس، فلا يجعل قسيمه. قوله: (الإحساس بكلام الغير، أو الإخبار عن كلامه لا يمكن غلا بعد معرفة ذاته): قلنا: إن أردت بمعرفة ذاته رؤيته حيًا فممنوع؛ فإنا نعلم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - تكلم بالقرآن بالضرورة، ساعد على ذلك أرباب الملل، والمستند في ذلك التواتر، فنقطع بذلك، مع أنا لم نر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك نقطع بأن موسى - عليه السلام - تكلم بالتوراة، وعيسي - عليه السلام - تكلم بالإنجيل، ولم نشاهد واحدًا منهما، وهو كثير، فعلمنا أنه لا يلزم من العلم بأن الشخص تكلم بشيء أن يكون مشاهدًا لنا. وإن أردتم بمعرفته إحاطة العلم به، من حيث الجملة إما بالتواتر أو بغيره. فلم قلتم: إن ذلك متعذر؟ بل تواتر عندنا إجماع الصحابة على وجوب الصلوات الخمس، ووجوب شهر رمضان، ونحوه من شعائر الإسلام، حتى أن جاحد ذلك يكفر. ثم إن هذا السؤال في غير محل النزاع، ونحن نقول: إذا وقع الإجماع، وأمكن العلم به كان حجة معصومة، ولا ندعى وقوعه في شيء معين، كما أنا نقول: القياس إذا حصل كان حجة، أما أنه حصل فليس ذلك حظ الأصولي، بل الفقيه.

(تنبيه) أكثر الإجماعات، بل الكل إلا اليسير منها جدا إجماع الصحابة رضوان الله عليهم

(تنبيه) أكثر الإجماعات، بل الكل إلا اليسير منها جدًا إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، وكانت الصحابة محصورين يعلم أحوالهم، وعددهم، قبل انتشارهم في أقطار الأرض، وتطرق الشك إلى اليسير من الإجماعات لا يبطل هذه المسألة، ولا يقدح فيها، بل في تلك المسائل الفروعية التي يدعى الإجماع فيها. وقولنا بعد هذا: (إن إجماع أهل كل عصر حجة). معناه: أن هذا شأنه إذا وجد، وكونه لم يعلم وجوده لا يقدح في دعوانا، ولا في صحتها. قال التبريزي: (لا يشترط اتفاقهم في ساعة واحدة، بل لو وافق البعض البعض بعد سنين حصل الإجماع). قال: وليس الكلام في الإحاطة بمذاهب الناس اليوم، مع اتساع خطة الإسلام، وانتشار الأئمة في الأقطار، وإنما الكلام في تصور الإحاطة بمذاهب أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في الجملة، وذلك ممكن، بل ظاهر في زمان الصحابة - رضوان الله عليهم - وهم صدر الأمة، وأعلام الأئمة، ومن يتصدى للفتوى ويراجع في الوقائع منهم معلومون مشهورون، تحويهم (مكة) و (المدينة)، ومخاليف (الحجاز)، ومن خرج منها بعد فتح البلاد، وتمصر الأمصار، لنقلة أو تجارة، أو رسالة، أو وقع في أمر معروفون مضبوطون، فيعرف مذهب الحاضر بالسماع والتحقيق، ومذهب الغائب بالرسائل، إما متوترًا، أو آحادًا، ومع قرائن تفيد القطع، ويحصل الأمن من رجوعه بأن يسند المخبرون عنه فتواه إلى زمانٍ عرفنا فيه موافقة غيره، فعند ذلك لا يقدح رجوعه في الإجماع، بعد انعقاده بتمام الموافقة.

(تنبيه) قال التبريزي: الحجاج أكثر من علماء الأعصار أضعافا، وهم يجتمعون على كلمة التلبية في يوم واحد

والعجب أنهم لما اختلفوا، عرف مذهب كل ذي مذهب، حتى لا يكاد يخفى في زماننا هذا مذاهبهم في مسألة الجد، والإخوة، والحرام، والعول. وإنه لم يخالف فيه إلا ابن عباس بعد انقراض عمر، فكيف يخفى اجتماعهم على أهل عصرهم؟ ولما منع بنو حنيفة الزكاة لم يتجرأ على قتالهم إلا أبو بكر. فلو ساعدهم أبو بكر لكان إجماعًا على تحريم قتل مانعي الزكاة، وكان يعرف كما عرفت المخالفة، فلما حاربهم ووافقوه، صار إجماعًا على الجواز. (تنبيه) قال التبريزي: الحجاج أكثر من علماء الأعصار أضعافًا، وهم يجتمعون على كلمة التلبية في يوم واحد، والعالمون من أهل الإسلام على كلمة التكبير يوم العيد، وفي خطباتهم اليوم وفاء بعدد الأئمة في كثير من الأعصار لما جمعتهم داعية واحدة. * * *

المسألة الثالثة قال الرازي: إجماع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - حجة؛ خلافا للنظام، والشيعة، والخوارج

المسألة الثالثة قال الرازي: إجماع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - حجة؛ خلافًا للنظام، والشيعة، والخوارج. لنا وجوه: الأول: قوله تعالى:} ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين {[النساء:115] الآية؛ جمع - الله تعالى - بين مشاقة الرسول، وإتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد؛ فلو كان إتباع غير سبيل المؤمنين مباحًا، لما جمع بينه وبين المحظور، كما لا يجوز أن يقال: (إن زنيت، وشربت الماء، عاقبتك) فثبت أن متابعة غير سبيل المؤمنين محظورة. ومتابعة غير سبيل المؤمنين عبارة عن متابعة قول أو فتوى غير قولهم وفتواهم، وإذا كانت تلك محظورة، وجب أن تكون متابعة قولهم وفتواهم واجبةً؛ ضرورة أنه لا خروج من القسمين. فإن قيل: لا نسلم أن متابعة غير سبيل المؤمنين محظورة على الإطلاق؛ ولم لا يجوز أن يكون كونها محظورة مشروطًا بمشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا تكون محظورة بدون هذا الشرط، خرج على هذا قوله: (إن زنيت، وشربت الماء، عاقبتك) لأن شرب الماء غير محظورٍ لا مطلقًا، ولا بشرط الزنا. فإن قلت: إذا كان إتباع غير سبيل المؤمنين حرامًا عند حصول المشاقة، وجب أن يكون إتباع سبيل المؤمنين واجبًا عند حصول المشاقة؛ لأنه لا خروج عن القسمين، لكن ذلك باطل؛ لأن المشاقة ليست عبارة عن المعصية، كيف كانت،

وإلا لكان كل من عصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشاقًا له، بل هي عبارة عن الكفر به وتكذيبه، وإذا كان كذلك، لزم وجوب العمل بالإجماع عند تكذيب الرسول، عليه الصلاة والسلام، وذلك باطل؛ لأن العلم بصحة الإجماع متوقف على العلم بالنبوة، فإيجاب العمل به حال عدم العلم بالنبوة يكون تكليفًا بالجمع بين الضدين، وهو محال. قلت: لا نسلم أنه إذا كان إتباع غير سبيل المؤمنين حرامًا عند المشاقة، كان إتباع سبيل المؤمنين واجبًا عند المشاقة؛ لأن بين القسمين ثالثًا، وهو عدم الإتباع أصلا. سلمنا أنه يلزم وجوب أتباع سبيل المؤمنين عند المشاقة؛ لكن لا نسلم أنه ممتنع. قوله: (المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر به، وإيجاب العمل بالإجماع عند حصول الكفر محال): قلنا: لا نسلم أن المشاقة لا تحصل إلا مع الكفر. بيانه: أن المشاقة مشتقة من كون أحد الشخصين في شق، وكون الآخر في الشق الآخر، وذلك يكفي فيه أصل المخالفة، سواء بلغ حد الكفر، أو لم يبلغه. سلمنا أن المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر، فلم قلت: إن حصول الكفر ينافي تمكن العمل بالإجماع؟ بيانه: أن الكفر بالرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يكون بالجهل بكونه صادقًا، فقد يكون أيضًا بأمورٍ أخر؛ كشد الزنار، وليس الغيار، وإلقاء المصحف في القاذورات، والاستخفاف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مع الاعتراف بكونه نبيًا، وإنكار نبوته باللسان، مع

العلم بكونه نبيًا؛ وشيء من هذه الأنواع من الكفر لا ينافي العلم بوجوب الإجماع. سلمنا هذه المنافاة؛ فلم قلت: إنها مانعة من التكليف؟ بيانه: أن الله - تعالى - كلف أبا لهب بالإيمان، ومن الإيمان تصديق الله - تعالى - في كل ما أخبر عنه، ومما أخبر عنه: أنه لا يؤمن فيكون أبو لهب مكلفًا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وذلك متعذر. وهذا التوجيه ظاهر أيضًا في قوله تعالى:} إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون {[البقرة:6] فإن أولئك الذين أخبر الله عنهم بهذا الخبر كانوا مكلفين بالإيمان، فكانوا مكلفين بتصديق هذه الآية، وباقي التقرير ظاهر. سلمنا أن هذه الآية تقتضي المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين لا بشرط مشاقة الرسول؛ لكن بشرط تبين الهدى، أو لا بهذا الشرط؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع: بيانه: أنه - تعالى - ذكر مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشرط فيها تبين الهدى، ثم عطف عليها إتباع غير سبيل المؤمنين؛ فوجب أن يكون تبين الهدى شرطًا في التوعد على إتباع غير سبيل المؤمنين؛ لأن ما كان شرطًا في المعطوف عليه يجب أن يكون شرطًا في المعطوف، واللام في الهدى للاستغراق؛ فيلزم ألا يحصل التوعد على إتباع غير سبيل المؤمنين إلا عند تبين جميع أنواع الهدى، ومن جملة أنواع الهدى ذلك الدليل الذي لأجله ذهب أهل الإجماع إلى ذلك الحكم؛ وعلى هذا التقدير لا يبقي للتمسك بالإجماع فائدة.

وأيضًا: فالإنسان إذا قال لغيره: إذا تبين لك صدق فلان فاتبعه، فهم منه تبين صدق قوله بشيء غير قوله، فكذا هاهنا يجب أن يكون تبين صحة إجماعهم بشيء وراء إجماعهم، وإذا كنا لا نتمسك بالإجماع إلا بعد دليلٍ منفصلٍ على صحة ما أجمعوا عليه، لم يبقي للتمسك بالإجماع أثر وفائدة. سلمنا أنها تقتضي المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين، ولكن عن متابعة كل ما كان غير سبيل المؤمنين، أو عن متابعة بعض ما كان كذلك؟! الأول ممنوع، وبتقدير التسليم، فالاستدلال ساقط: أما المنع فلأن لفظ (الغير) ولفظ (السبيل) كل واحد منهما لفظ مفرد؛ يفيد العموم، وأما أن بتقدير التسليم، فالاستدلال ساقط؛ لأنه يصير معنى الآية: (إن كل من اتبع كل ما كان مغايرًا لكل ما كان سبيل المؤمنين يستحق العقاب) وهذا لا يقتضي أن يكون المتبع لبعض ما غاير سبيل المؤمنين مستحقًا للعقاب. والثاني مسلم، ونقول بموجبه، فإن عندنا يحرم بعض ما غاير بعض سبيل المؤمنين، أو بعض ما غاير كل سبيل المؤمنين، أو كل ما غاير بعض سبيل المؤمنين، وهو السبيل الذي صاروا به مؤمنين، والذي يغايره هو الكفر بالله تعالى، وتكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا التأويل متعين لوجهين: أحدهما: أنا إذا قلنا: لا تتبع غير سبيل الصالحين، فهم منه المنع من متابعة غير سبيل الصالحين، فيما به صاروا غير صالحين، ولا يفهم منه المنع من متابعة سبيل غير الصالحين في كل شيء، حتى في الأكل والشرب. وثانيهما: أن الآية نزلت في رجل ارتد، وذلك يدل على أن الغرض منها المنع من الكفر.

سلمنا حظر إتباع غير سبيلهم مطلقًا، لكن لفظ السبيل حقيقة في الطريق الذي يحصل فيه المشي، وهو غير مراد هاهنا بالاتفاق، فصار الظاهر متروكًا؛ فلابد من صرفه إلى المجاز، وليس البعض أولى من البعض، فتبقي الآية مجملة. وأيضًا: فإنه لا يمكن جعله مجازًا عن اتفاق الأمة على الحكم؛ لأنه لا مناسبة ألبتة بين الطريق المسلوك، وبين اتفاق أمة محمد r على شيء من الأحكام، وشرط حسن التجوز حصول المناسبة. سلمنا أنه يجوز جعله مجازًا عن ذلك الاتفاق، لكن يجوز أيضًا جعله مجازًا عن الدليل الذي لأجله اتفقوا على ذلك الحكم؛ فإنهم إذا أجمعوا على الشيء، فإما أن يكون ذلك الإجماع عن استدلال، أو لا عن استدلال: فإن كان عن استدلال: فقد حصل لهم سبيلان: الفتوى والاستدلال؛ فلم كان حمل الآية على الفتوى أولى من حملها على الاستدلال على الفتوى؟ بل هذا أولى؛ فإن بين الدليل الذي يدل على ثبوت الحكم، وبين الطريق الذي يحصل فيه المشي مشابهة، فإنه كما أن الحركة البدنية في الطريق المسلوك توصل البدن إلى المطلوب، فكذا الحركة الذهنية في مقدمات ذلك الدليل توصل الذهن إلى المطلوب، والمشابهة إحدى جهات حسن المجاز، وإذا كان كذلك، كانت الآية تقتضي إيجاب إتباعهم في سلوك الطريق الذي لأجله اتفقوا على الحكم، ويرجع حاصله إلى إيجاب الاستدلال بما استدلوا به على ذلك الحكم، وحينئذ يخرج الإجماع عن كونه حجة. وأما إن كان إجماعهم لا عن استدلال: والقول لا عند استدلال خطأ، فيلزم إجماعهم على الخطأ، وذلك يقدح في صحة الإجماع.

سلمنا دلالة الآية على تحريم متابعة غير قولهم؛ لكن لا نسلم أن كلمة (من) للعموم، وأن لفظ المؤمنين للعموم، فإنا لو حملناه على العموم، لزم تطرق التخصيص إلى الآية؛ لعدم دخول العوام والمجانين والنساء والصبيان في الإجماع. سلمنا ذلك؛ لكن لم قلت: إنه يلزم من حظر إتباع غير سبيلهم وجوب إتباع سبيلهم؟ بيانه: أن لفظ (غير) وإن كان يستعمل في الاستثناء، لكنهم أجمعوا على أنه في الأصل للصفة، وإذا كان كذلك، كان بين إتباع غير سبيل المؤمنين، وبين إتباع سبيلهم قسم ثالث، وهو ترك الإتباع. فإن قلت: ترك متابعة سبيل المؤمنين غير سبيل المؤمنين، فمن ترك متابعة سبيلهم، فقد اتبع غير سبيلهم. قلت: لم لا يجوز أن يقال: الشرط في كون الإنسان متابعا لغيره كونه آتيا بمثل فعل الغير؛ لأجل أن ذلك الغير أتي به؟ فمن ترك متابعة سبيل المؤمنين، وهو إنما تركه لأجل أن غير المؤمنين تركوه، كان متبعًا في ذلك سبيل غير المؤمنين. أما من تركه؛ لأن الدليل دل عنده على وجوب ذلك الترك، أو لأنه لما لم يدل شيء على متابعة المؤمنين، تركه على الأصل، لم يكن هاهنا متبعًا لأحدٍ؛ فلا يدخل تحت الوعيد. سلمنا دلالة الآية على وجوب متابعة سبيل المؤمنين؛ لكن في كل الأمور، أو في بعضها؟

الأول ممنوع؛ لوجوهٍ: أحدها: أن المؤمنين، إذا اتفقوا على فعل شيء من المباحات، فلو وجب إتباع سبيلهم في كل الأمور لزم التناقض؛ لأنه يجب عليهم فعله من حيث إنهم فعلوه، ولا يجب ذلك؛ لحكمهم بأنه غير واجب. وثانيها: أن أهل الإجماع قبل اتفاقهم على ذلك الحكم، كانوا متوقفين في المسألة، غير جازمين بالحكم، بل كانوا جازمين بأنه يجوز البحث عنها، ويجوز الحكم لكل أحد بما أدى إليه اجتهاده، ثم إنهم بعد الإجماع قطعوا بذلك الحكم، فلو وجب متابعتهم في كل ما يقولونه، لزم إتباعهم في النقيضين، وهو محال. فإن قلت: الإجماع الأول على تجويز التوقف، وطلب الدلالة، والحكم بما أدى إليه الاجتهاد ما كان مطلقًا، بل كان بشرط عدم الاتفاق على حكمٍ واحدٍ، فإذا حصل الاتفاق؛ زال شرط الإجماع؛ فزال بزواله. قلت: المفهوم من عدم حصول الإجماع حصول الخلاف، فلو شرطنا تجويز الخلاف بعدم الإجماع، لزم أن يكون تجويز وجود الشيء مشروطًا بوجوده، وأيضًا: فلو جاز في أحد الإجماعين أن يكون مشروطًا بشرط، جاز أيضًا في الإجماع الثاني والثالث، ويلزم منه ألا يستقر شيء من الإجماعات. وثالثها: أن اتفاق المجمعين على ما أجمعوا عليه: إما ألا يكون عن استدلالٍ، أو يكون عن استدلالٍ: والأول باطل؛ لأن القول بغير استدلال خطأ، بالإجماع، فلو اتفق أهل الإجماع عليه كانوا مجمعين على الخطأ، وذلك يقدح في كون الإجماع حجة. وإن كان الثاني، فذلك الدليل، إما الإجماع، أو غيره.

والأول باطل؛ لأن الإجماع: إما أن يكون نفس حكمهم، أو نتيجة حكمهم، والدليل على الحكم متقدم على الحكم. والثاني: يقتضي أن يكون سبيل المؤمنين إثبات ذلك الحكم بغير الإجماع، فيكون إثباته بالإجماع ابتاعًا لغير سبيلهم، فوجب ألا يجوز. فظهر أنا لو حملنا الآية على اقتضاء متابعة المؤمنين في كل الأمور، لزم التناقض، وإذا بطل ذلك؛ وجب حملها على اقتضاء المتابعة في بعض الأمور؛ وحينئذ نقول بموجبه، ونحمله على الإيمان بالله - تعالى- ورسوله، ثم الذي يؤكد هذا الاحتمال وجوه: أحدها: أن القائل إذا قال: اتبع سبيل الصالحين، فهم منه الأمر بإتباعهم فيما به صاروا صالحين، فكذا هاهنا. وثانيها: أنا إذا حملنا الآية على ذلك، كان ذلك السبيل حاصلا في الحال، ولو حملناه على إجماعهم على الحكم الشرعي، كان ذلك مما سيصير سبيلا في المستقبل؛ لأنه لا يوجد إلا بعد وفاة الرسول، عليه الصلاة والسلام، فالحمل على الأول أولى. وثالثها: أن السلطان، إذا قال: (ومن يشاقق وزيري من الجند، ولم يتبع سبيل فلانٍ - ويشير به إلى أقوامٍ متظاهرين بطاعة الوزير - عاقبتهم): فإنه إنما يعني بالسبيل المذكور سبيلهم في طاعة الوزير، دون سائر السيل. سلمنا دلالة الآية على وجوب المتابعة في كل الأمور، لكنها تدل على وجوب متابعة بعض المؤمنين، أو كلهم؟

الأول: باطل؛ لأن لفظ (المؤمنين) جمع، فيفيد الاستغراق، ولأن إجماع البعض غير معتبرٍ بالإجماع، ولأن أقوال الفرق متناقضة. والثاني: مسلم، ولكن كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى قيام الساعة، فلا يكون الموجودون في العصر كل المؤمنين، فلا يكون إجماعهم إجماع كل المؤمنين. فإن قلت: المؤمنون هم المصدقون، وهم الموجودون، وأما الذين لم يوجدوا بعد، فليسوا بمؤمنين. قلت: إذا وجد أهل العصر الثاني، ففي العصر الثاني لا يصح القول بأن أهل العصر الأول هم كل المؤمنين؛ فلا يكون إجماع أهل العصر الأول عند حصول أهل العصر الثاني قولا لكل المؤمنين، فلا يكون إجماع أهل العصر الأول حجة على أهل العصر الثاني. سلمنا أن أهل العصر هم كل المؤمنين، لكن الآية إنما نزلت في زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلما لم يثبت أن الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية بقوا بأسرهم إلى ما بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه اتفقت كلمتهم على الحكم الواحد، لم تدل هذه الآية على صحة ذلك الإجماع، ولكن ذلك غير معلوم في شيءٍ، من الإجماعات الموجودة في المسائل، بل المعلوم خلافه؛ لأن كثيرًا منهم مات زمان حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسقط الاستدلال بهذه الآية.

سلمنا دلالتها على وجوب متابعة مؤمني كل عصرٍ؛ لكن المراد متابعة كل مؤمني ذلك العصر، أو بعضهم؟ الأول باطل؛ وإلا لاعتبر في الإجماع قول العوام، بل الأطفال والمجانين. والثاني نقول به؛ لأن عندنا: يجب في كل عصرٍ متابعة بعض من كان فيه من المؤمنين، وهو الإمام المعصوم. سلمنا أن المراد متابعة جميع مؤمني العصر، لكن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب، وهو أمر غائب عنا؛ فكيف يعلم في المجمعين كونهم مصدقين بقلوبهم؟ لاحتمال أنهم، وإن كانوا مصدقين باللسان، لكنهم كفرة بالقلب، وإذا جهلنا ذلك، جهلنا كونهم مؤمنين، وإذا كان الواجب علينا إتباعهم المؤمنين، فمتى جهلنا كونهم مؤمنين، لم يجب علينا إتباعهم، وهو أيضًا لازم على المعتزلة القائلين بأن المؤمنين هو المستحق للثواب؛ لأن ذلك غير معلومٍ أيضًا. وأيضًا فالأمة متى أجمعت، لم نعلم كونهم مستحقين للثواب، إلا بعد العلم بكونهم محقين في ذلك الحكم، إذ لو لم نعلم لك، لجوزنا كونهم مخطئين، وأن يكون خطؤهم كثيرًا يخرجهم عن استحقاق الثواب واسم الإيمان. فإذن إنما نعرف كون المجمعين مؤمنين، إذا عرفنا أن ذلك الحكم صواب، فلو استفدنا العلم بكونه صوابًا من إجماعهم، لزم الدور. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد من (المؤمنين) المصدقين باللسان، كما في قوله تعالى:} ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن {[البقرة: 221]؟ قلت: لا شك أن إطلاق اسم (المؤمنين) على المصدقين باللسان، دون

القلب - مجاز، فإذا جاز لكم حمل الآية على هذا المجاز، فلم لا يجوز لنا حملها على مجاز آخر، وهو أن نقول: المراد إيجاب متابعة السبيل الذي من شأنه أن يكون سبيلا للمؤمنين؟ كما إذا قيل: (اتبع سبيل الصالحين) لا يراد به وجوب إتباع سبيل من يعتقد فيه كونه صالحًا، بل وجوب إتباع السبيل الذي يجب أن يكون سبيلا للصالحين. سلمنا دلالة الآية على كون الإجماع حجةً؛ لكن دلالة قطعية أم ظنية؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم، لكن المسألة قطعية، فلا يجوز التمسك فيها بالدلائل الظنية: بيانه: ما تقدم في كتاب اللغات: أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد اليقين ألبتة. فإن قلت: إنا نجعل هذه المسألة ظنية. قلت: إن أحدًا من الأمة لم يقل: (إن الإجماع المنعقد بصريح القول دليل ظني) بل كلهم نفوا ذلك، فإن منهم من نفي كونه دليلا أصلا، ومنهم من جعله دليلا قاطعًا، فلو أثبتناه دليلا ظنيًا، لكان هذا تخطئةً لكل الأمة، وذلك يقدح في الإجماع. والعجب من الفقهاء أنهم أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار، وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه هذه العمومات لا يكفر ولا يفسق، إذا كان ذلك الإنكار لتأويل، ثم يقولون: الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع به، ومخالفه كافر، أو فاسق؛ فكأنهم قد جعلوا الفرع أقوى من الأصل، وذلك غفلة عظيمة.

سلمنا دلالة هذه الآية على أن الإجماع حجة، لكنها معارضة بالكتاب، والسنة، والمعقول: أما الكتاب: فكل ما فيه منع لكل الأمة من القول الباطل، والفعل الباطل؛ كقوله عز وجل:} وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون {[البقرة:169]} ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل {[البقرة:188] والنهي عن الشيء لا يجوز إلا إذا كان المنهي عنه متصورًا. أحدها: قصة معاذ، وأنه لم يجر فيها ذكر الإجماع، ولو كان ذلك مدركًا شرعيًا، لما جاز الإخلال بذكره عند اشتداد الحاجة إليه، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وثانيها: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي). وثالثها: قوله عليه الصلاة السلام: (لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعضٍ). ورابعها: قوله عليه السلام: (إن الله لا يقبض العلم؛ انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا). وخامسها: قوله عليه الصلاة والسلام: (تعلموا الفرائض، وعلموها الناس؛ فإنها أول ما ينسى. وسادسها: قوله عليه الصلاة والسلام: (من أشراط الساعة أن يرتفع العلم، ويكثر الجهل).

وهذه الأحاديث بأسرها تدل على خلو الزمان عمن يقوم بالواجبات. وأما المعقول: فمن وجهين: الأول: أن كل واحد من الأمة جاز الخطأ عليه، فوجب جوازه على الكل، كما أنه لو كان كل واحدٍ من الزنج أسود، كان الكل سودًا. الثاني: أن ذلك الإجماع: إما أن يكون لدلالة، أو لأمارة، أو لا لدلالة، ولا لأمارة، فإن كان لدلالة، فالواقعة التي أجمع عليها كل علماء العالم تكون واقعةً عظيمةً، ومثل هذه الواقعة مما تتوفر الدواعي على نقل الدليل القاطع الذي لأجله أجمعوا، فكان ينبغي اشتهار تلك الدلالة، وحينئذ لا يبقي للتمسك بالإجماع فائدة، وإن كان لأمارة، فهو محال؛ لأن الأمارات يختلف حال الناس فيها، فيستحيل اتفاق الخلق على مقتضاها، ولأن في الأمة من لم يقل بكون الأمارة حجة؛ فلا يمكن اتفاقهم؛ لأجل الأمارة، على حكم، وإن كان لا لدلالة، ولا لأمارة كان ذلك خطأ قادحًا في الإجماع، ولو اتفقوا عليه، لكانوا متفقين على الباطل، وذلك قادح في الإجماع. والجواب: قوله: (الآية تقتضي التوعد على إتباع غير سبيل المؤمنين بشرط المشاقة): قلنا: هذا باطل؛ لأن المعلق على الشرط، إن لم يكن عدمًا عند عدم الشرط، فقد حصل غرضنا. وإن كان عدمًا عند عدم الشرط، فلو كان التوعد على إتباع غير سبيل المؤمنين مشروطًا بالمشاقة، لكان عند عدم المشاقة إتباع غير سبيل المؤمنين جائزًا مطلقًا، وهذا باطلٌ؛ لأن مخالفة الإجماع، إن لم تكن خطًا، لكن لا شك في أنه لا يكون صوابًا مطلقًا، فبطل ما ذكروه.

قوله: (تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين مشروط بتبين الهدى): قلنا: لا نسلم؛ لأن تبين الهدى شرط في الوعيد عند المشاقة، لا عند إتباع غير سبيل المؤمنين، ولا نسلم أنه يلزم من العطف اشتراك إحدى الجملتين بما كانت الجملة الأخرى مشروطة به. سلمنا: أن العطف يقتضي الاشتراك في الاشتراط، لكن الهدى الذي نتبينه شرطًا في حصول الوعيد عند مشاقة الرسول، هو الدليل الدال على التوحيد والنبوة، لا الدليل الدال على أحكام الفروع، وإذا لم يكن تبين الدليل على مسائل الفروع شرطًا في لحوق الوعيد على مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجب ألا يكون ذلك شرطًا أيضًا في لحوق الوعيد على إتباع غير سبيل المؤمنين، وإلا لم تكن الجملة الثانية مشروطةً بالشرط المعتبر في الجملة الأولي، بل بشرطٍ لم يدل عليه الدليل أصلا. سلمنا: أن مقتضي العطف ما ذكرتموه، لكن معنا دليل يمنع منه؛ من وجهين: الأول: أن هذه الآية خرجت مخرج المدح للمؤمنين، وتمييزهم عن غيرهم، ولو حملناه على ما ذكره السائل، لبطل ذلك؛ ألا ترى أن اليهود والنصارى إذا عرفنا أن قولا من أقاويلهم هدى، فإنه يلزمنا أن نقول بمثله مع أنه لا تبعية لهم فيه. الثاني: أن إتباع المؤمنين هو الرجوع إلى قولهم؛ لأجل أنهم قالوه، لا لأنه صح ذلك بالدليل؛ ألا ترى أنا لا نكون متبعين لليهود والنصارى في قولنا بإثبات الصانع، ونبوة موسى وعيسي، عليهما السلام، وإن شاركناهم في ذلك الاعتقاد؛ لأجل أنا لم نذهب إلى ذلك؛ لأجل قولهم؟!

قوله: (لفظ الغير والسبيل ليس للجمع؛ فلا يقتضي تحريم كل ما كان غيرًا لكل ما كان سبيلا للمؤمنين): قلنا: العموم حاصل من حيث اللفظ، ومن حيث الإيماء: أما اللفظ: فلوجهين: الأول: أن القائل، إذا قال: 0من دخل غير داري، ضربته) فهم منه العموم؛ بدليل صحة الاستثناء لكل واحد من الدور المغايرة لداره. الثاني: أنا لو حملنا الآية على سبيل واحد، مع أنه غير مذكورٍ، صارت الآية مجملةً، ولو حملناها على العموم، لم يلزم ذلك، وحمل كلام الله، عز وجل، على ما هو أكثر فائدة أولى؛ لاسيما إذا كانت هذه اللفظة، إنما تستعمل في العرف؛ لإفادة العموم. أما الإيماء: فلما سيأتي في باب القياس، إن شاء الله عز وجل، أن ترتيب الحكم على الاسم مشعر بكون المسمي علة لذلك الحكم؛ فكانت علة التهديد كونه إتباعًا لغير سبيل المؤمنين؛ فيلزم عموم الحكم، لعموم هذا المقتضي. قوله: (إذا حملناه على الكل، سقط الاستدلال): قلنا: ذلك إنما يلزم، لو حملناه على الكل من حيث هو كل، أما لو حملناه على كل واحد، لم يلزم ذلك، ولا شك أنه هو المتبادر إلى الفهم؛ لأن من قال: (من دخل غير داري، فله كذا) لا يفهم منه أنه أراد به: من دخل جميع الدور المغايرة لداره. قوله: (المراد منه المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين فيما به صاروا غير مؤمنين، وهو الكفر):

قلنا: لا نسلم؛ بل الأصل إجراء الكلام على عمومه، وأيضًا: فلأنه لا معنى لمشاقة الرسول إلا إتباع سبيل المؤمنين فيما به صاروا غير مؤمنين، فلو حملنا قوله:} ويتبع غير سبيل المؤمنين {[النساء:115] على ذلك، لزم التكرار. قوله: (نزلت في رجلٍ ارتد): قلنا: تقدم بيان أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. قوله: (السبيل: هو الطريق الذي يحصل المشي فيه): قلنا: لا نسلم؛ لقوله تعالى:} قل هذه سبيلي {[يوسف:108] وقوله:} ادع إلى سبيل ربك {[النحل:125]. سلمناه؛ لكنا نعلم بالضرورة أن ذلك غير مراد هاهنا، ولا نزاع في أن أهل اللغة يطلقون لفظ (السبيل) على ما يختاره الإنسان لنفسه في القول، والعمل، وإذا كان ذلك مجازًا ظاهرًا، وجب حمل اللفظ عليه؛ لأن الأصل عدم المجاز الآخر؛ وحينئذ يحمل اللفظ على هذا المعنى؛ إلى أن يذكر الخصم دليلا معارضًا، وبه نجيب عن قولهم: (لا مناسبة بين الاتفاق على الحكم، وبين الطريق الذي يحصل المشي فيه). قوله: (لم لا يجوز أن يكون المراد وجوب متابعتهم في الاستدلال بالدليل الذي لأجله أثبتوا ذلك الحكم): قلنا: هب أن الأمر كذلك، ولكن لما أمر الله تعالى بإتباع سبيلهم في الاستدلال بدليلهم، ثبت أن كل ما اتفقوا عليه صواب، وأيضًا: فمن أثبت الحكم لدليل، لم يكن متبعًا لغيره. قوله: (لم قلت: إن لفظة (من) و (المؤمنين) للعموم)؟:

قلنا: لما تقدم في باب العموم. قوله: (لم قلت: إنه يلزم من حظر إتباع غير سبيلهم وجوب إتباع سبيلهم)؟ قلت: لأنه يفهم في العرف من قول القائل: لا تتبع غير سبيل الصالحين الأمر بمتابعة سبيل الصالحين، حتى لو قال: لا تتبع غير سبيل الصالحين، ولا تتبع سبيلهم أيضًا، لكان ذلك ركيكًا، بلى، لو قال: لا تتبع سبيل غير الصالحين، فإنه لا يفهم منه الأمر بمتابعة سبيلهم، ولذلك لا يستقبح أن يقال: لا تتبع سبيل غير الصالحين، ولا سبيلهم. وبالجملة: فالفرق معلوم بالضرورة في العرف بين قولنا: (لا تتبع غير سبيل الصالحين) وبين قولنا: (لا تتبع سبيل غير الصالحين). قوله: (يجب إتباع سبيل المؤمنين في كل الأمور، أو في بعضها): قلنا: بل في كلها، ولذلك يصح الاستثناء؛ لأنه لما ثبت النهي عن متابعة كل ما هو غير سبيل المؤمنين، وثبت أنه لا واسطة بينها، وبين إتباع سبيل المؤمنين، لزم أن يكون إتباع سبيل المؤمنين واجبًا في كل شيءٍ. قوله: (يلزم وجوب إتباعهم في فعل المباحات): قلنا: هب أن هذه الصورة مخصوصة للضرورة التي ذكرتموها، فتبقي حجةً فيما عداها. قوله: (الناس قبل حصول الإجماع كانوا مجمعين على التوقف في الحكم، وطلب الدليل): قلنا: الإجماع على ذلك مشروطٌ بألا لا يحصل الاتفاق.

قوله: (عدم الإجماع هو الاختلاف؛ فيلزم أن يكون جواز الاختلاف مشروطًا بوقوع الاختلاف). قلنا: هب أنه كذلك، فأي محالٍ يلزم منه؟ قوله: (لو جاز أن يكون هذا الإجماع مشروطًا، لجاز مثله في سائر الإجماعات): قلنا: ذلك جائز، ولكن أهل الإجماع حذفوا هذا الشرط عند حصول الاتفاق على الحكم، ولم يحذفوه عند الاتفاق على جواز الاختلاف. قوله: (أهل الإجماع أثبتوا ذلك الحكم بغير الإجماع، وإثباته بالإجماع مغاير لسبيل المؤمنين): قلنا: لما أثبتوا الحكم بدليل سوى الإجماع، فقد فعلوا أمرين: أحدهما: أنهم أثبتوا ذلك الحكم بدليلٍ. والآخر: أنهم تمسكوا بغير الإجماع، والآية لما دلت على وجوب متابعتهم في كل الأمور، كانت متناولة للصورتين، إلا أنه ترك العمل بمقتضي الآية في إحدى الصورتين، لانعقاد الإجماع على أنه لا يجب علينا الاستدلال بما استدل به أهل الإجماع، فبقي العمل بها في الباقي. قوله: (إذا قال: اتبع سبيل الصالحين، فهم منه إيجاب إتباع سبيلهم فيما به صاروا صالحين): قلنا: لا نسلم؛ لأن سبيل الصالح شيء مضاف إلى الصالح، والمضاف إلى الشيء خارج عنه، والصلاح جزء من ماهية الصالح، وداخل فيها، والخارج عن الشيء لا يكون نفس الداخل فيه.

سلمنا، لكن المتابعة في الصلاح ممكنة، أما في الإيمان، فلا؛ لأنه لا يحصل بالتقليد، وقد بينا أن الإتباع هو الإتيان بمثل فعل الغير، لأجل أن ذلك الغير فعله. قوله: (إذا حملناه على الإيمان، كان ذلك السبيل حاصلا في الحال، ولو حملناه على الإجماع، لم يكن حاصلا في الحال): قلنا: لما دللنا على أنه لا يجوز حمله على الإيمان، وجب حمله على ذلك. غايته أنه يفضي إلى المجاز، لكنه مجاز سائغ؛ لن تسمية الشيء باسم ما يئول إليه مشهور. قوله: (السلطان، إذا قال: (ومن يشاقق وزيري، ويتبع غير سبيل فلانٍ .....) ويعني به المطيعين لذلك الوزير، فهم منه أنه أراد بذلك سبيلهم في طاعته): قلنا: لا نسلم؛ فإن اللفظ يقتضي العموم، وما ذكرتموه قرينة عرفية، تقتضي الخصوص، والدلالة اللفظية راجحة على القرينة العرفية. قوله: (المراد إيجاب إتباع كل المؤمنين، أو بعضهم؟): قلنا: الكل. قوله: (كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى قيام الساعة): قلنا: هذا مدفوع؛ لوجهين: الأول: أن جميع المؤمنين هم الذين دخلوا في الوجود؛ لأن المؤمن: هو المتصف بالإيمان، والمتصف بالإيمان يجب أن يكون موجودًا، وما سيوجد في المستقبل، ولم يوجد في الحال، فهو غير موجودٍ.

قوله: (الموجودون في العصر الأول لا يصدق عليهم في العصر الثاني: أنهم كل المؤمنين): قلنا: لكن لما صدق عليهم في العصر الأول: أنهم كل المؤمنين، وهم في العصر الأول اتفقوا على أنه لا يجوز لأحد من سائر الأعصار مخالفتهم، وجب أن يكون ذلك الحكم منهم صدقًا في العصر الأول، فإذا ثبت في العصر الأول: أن ذلك الحكم حق في كل الأعصار، ثبت ذلك في كل الأعصار؛ غذ لو لم يكن حقًا في العصر الثاني، لما صدق في العصر الأول: أنه حق في كل الأعصار، مع أنا فرضنا أن ذلك حق. الثاني: أن الله عز وجل علق العقاب على مخالفة كل المؤمنين؛ زجرًا عن مخالفتهم، وترغيبًا في الأخذ بقولهم؛ فلا يجوز أن يكون المراد جميع المؤمنين إلى قيام الساعة؛ لأنه لا فائدة في التمسك بقولهم بعد قيام الساعة. قوله: (إذا كان المراد من (المؤمنين الموجودين في ذلك العصر، كانت الآية دالةً على أن إجماع الموجودين في وقت نزول الآية حجة): قلنا: لا يجوز أن يكون مراد الله تعالى إيجاب إتباع مؤمني ذلك العصر؛ لأن قول المؤمنين حال حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إن كان مطابقًا لقوله، كانت الحجة في قوله، لا في قولهم؛ فيصير قولهم لغوًا، ولما بطل ذلك، ثبت أن المراد إيجاب العمل بقول المؤمنين، في أي عصرٍ كان. قوله: (المراد: كل مؤمني العصر، أو بعضهم؟): قلنا: ظاهره الكل، إلا ما أخرجه الدليل المنفصل، وهم العوام، والأطفال والمجانين، فبقي غيرهم، وهم جمهور العلماء، داخلا تحت الآية.

قوله: (نحمله على الإمام المعصوم): قلنا: هذا باطل؛ لأن الوعيد على مخالفة المؤمنين، فحمله على الواحد ترك للظاهر. قوله: (المراد بالمؤمن: المصدق في الباطن، وهو غير معلوم الوجود): قلنا: المؤمن في اللغة هو: المصدق باللسان؛ فوجب حمله عليه إلى قيام المعارض. والذي يدل عليه: أنه تعالى، لما أوجب علينا إتباع سبيلهم، فلابد وأن نكون متمكنين من معرفتهم، والإطلاع على الأحوال الباطنة ممتنع؛ فوجب حمله على التصديق باللسان. قوله: (لم لا يجوز أن يكون المراد إيجاب اتباع السبيل الذي من شأنه أن يكون سبيلا للمؤمنين)؟: قلنا: هذا عدول عن الظاهر، من غير ضرورةٍ. قوله: (هذه الدلالة ظنية، فلا يجوز إثبات الحكم القطعي بها): قلنا: عندنا أن هذه المسألة ظنية، ولا نسلم انعقاد الإجماع على أنها ليست ظنية. قوله: (أعظيتم الفرع من القوة ما ليس للأصل): قلنا: نحن لا نقول بتكفير مخالف الإجماع، ولا بتفسيقه، ولا نقطع أيضًا به؛ وكيف، وهو عندنا ظني؟! قوله: (هذه الدلالة معارضة بالآيات الدالة على النهي عن الباطل):

قلنا: لا نسلم أن ذلك النهي خطاب مع الكل؛ بل خطاب مع كل واحدٍ منهم، والفرق بين الكل، وبين كل واحدٍ منهم معلوم، ونحن إنما ندعى عصمة الكل، لا عصمة كل واحد. سلمنا كونه خطابًا للكل لكن؛ النهي لا يقتضي إمكان المنهي عنه من كل وجه؛ لأن الله، عز وجل، ينهي المؤمن عن الكفر، مع علمه بأنه لا يفعله، وما علم أنه لا يوجد، فهو محال الوجود، وأما حديث معاذ: فهو إنما ترك ذكر الإجماع؛ لأنه لا يكون حجةً في زمان حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي): فهو يدل على حصول الشرار في ذلك الوقت، فأما أن يكونوا بأسرهم شرارًا، فلا، وكذا القول في سائر الأحاديث، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ترجعوا بعدى كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض): ففي صحته كلام. سلمناه؛ لكن لعله خطاب مع قومٍ مخصوصين. قوله: (جاز الخطأ على كل واحدٍ، فيجوز على الكل): قلنا: لا نسلم أن حكم المجموع مساو لحكم الآحاد، والمثال الذي ذكره يدل على أن ذلك قد يكون كذلك، ولا يدل على أنه لابد، وأن يكون كذلك. سلمنا أن حكم المجموع مساو لحكم الآحاد؛ ولكن عندنا يجوز الخطأ على الكل أيضًا، لكن ليس كل ما جاز وقع، والله - تعالى - لما أخبر عنهم أن ذلك لا يقع، علمنا أنهم لا يتفقون على الخطأ. قوله: (اتفاقهم: إما أن يكون لدلالة أو لأمارةٍ): قلنا: لم لا يجوز أن يكون لدلالةٍ إلا أنهم ما نقلوها اكتفاءً منهم بالإجماع؟ فإنه متى حصل الدليل الواحد، كان الثاني غير محتاج إليه، والله أعلم.

شرح القرافي: قوله: (خلافا للخوارج والنظام والشيعة)

المسألة الثالثة الإجماع حجة قال القرافي: قوله: (خلافًا للخوارج والنظام والشيعة): قلنا: كيف تستقيم حكاية الخلاف عن الشيعة، مع أنه بعد هذا يقول إنهم احتجوا على أن الإجماع حجة، بأن إجماعهم لا يخلو عن الإمام المعصوم؟ وطريق الجمع بين الكلامين، أنهم لا يقولون: الإجماع حجة لما هو إجماع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ بل لأجل المعصوم، فلولا هو لم يكن الإجماع حجة. ونحن نقول: الإجماع بما هو إجماع حجة، فتصور الخلاف، وتصور اعتقادهم أنه حجة لأجل المعصوم. فهذا وجه الجمع بين الكلامين. (فائدة) قال القاضي عبد الوهاب في (الملخص): قال النظام بالإجماع، وعند تأمل قوله يقتضي عدم القول به؛ لأنه يقول: (الإجماع الذي هو حجة هو كل خبر صادق، قل عددنا عليه أو كثر، إذا اضطر إلى القول به، وانفرد عن معارضة ما هو في رتبته). والإجماع الذي نقول نحن به إذا وقع عن تأويل يجوز خطؤه، إلا أن يكون عن خبر صحيح. والرافضة قالت: يجوز خطؤه، ومعه لا يجوز خطؤه، وإن خالفته الأمة أصاب، وأخطأت. وقالت الخوارج بالإجماع من الصحابة قبل حدوث الفرقة، وبالإجماع من بعدهم من أهل شيعتهم؛ لأنه لا يسمي مؤمنًا عندهم إلا هم، وإنما يعتبر

إجماع المؤمنين. قال ابن برهان في (الأوسط): (قالت المرجئة: الإجماع ليس بحجة). قوله: (لم لا يجوز أن يكون متابعة غير سبيل المؤمنين مشروطة بمشاقة الرسول؟): قلنا: نص النحاة على أن المعطوف يجب مشاركته للمعطوف عليه في أصل الحكم الذي سيق الكلام لأجله، دون الظروف، [و] المجرورات، والأحوال، والمتعلقات، فإذا قلت: (أكرمت زيدًا في الدار، أو أمامك، أو قائمًا، أو لأجل ولده). ثم تقول: (وعمرًا)، لا يشاركه عمرو إلا في أصل الإكرام دون هذه الأمور، فلذلك الشرط يمتنع أن تجب المشاركة فيه لأجل هذه القاعدة، فيقع الاشتراك في أصل التحريم دون متعلقاته. قوله: (بين القسمين واسطة، وهي عدم الإتباع): تقريره: أن المكلف إذا فعل مثل فعل الأمة لا لأنهم فعلوه، بل لأن

(فائدة) قلنا: لا نسلم أن اجتماع الأدلة على المدلول الواحد يزيد في غلبة الظن

الدليل ساقه إليه، لم يصدق عليه أنه متبع غير سبيل المؤمنين؛ لأن هذه سبيلهم، لم يكن أحد منهم يفعل؛ لأن الآخر فعل؛ بل لأجل الدليل، ولا متبع لغير سبيل المؤمنين؛ فإن غير المؤمنين لم يفعلوا هذا الفعل، فصدقت الواسطة. قوله: (أمر الله - تعالى - أبا لهب بالإيمان، ومن الإيمان تصديق الله - تعالى - في كل ما اخبر به عنه، ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن، فيكون أبو لهب مكلفًا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وذلك متعذر): قلنا: قد تقدم في تكليف ما لا يطاق في الأوامر. الجواب عن هذا الموضع مبسوطًا. قوله: (إذا تبين من الهدى): دليل المسألة لا يبقي في الإجماع. (فائدة) قلنا: لا نسلم أن اجتماع الأدلة على المدلول الواحد يزيد في غلبة الظن، لاسيما الإجماع يحصل القطع بالحكم، فضمه إلى دليل المسألة يصير العلم بدلا من الظن بسببه، وهذه فائدة جليلية، وما زال العلماء يذكرون على المطلب الواحد عدة أدلة لهذا الغرض. سلمنا أنه لا يجتمع مدركان، لكن لا تبقي تلك الفائدة؛ لأن الإجماع حينئذ يكون أولى من ذلك المدرك؛ لكونه قطيعًا. قوله: (لفظ (الغير)، ولفظ (السبيل) مفرد، لا يفيد العموم): قلنا: لكنه أضيف للمؤمنين، والسبيل، والقاعدة أن اسم الجنس إذا أضيف عم.

(تنبيه) اختلف العلماء في لفظ (غير)

(تنبيه) اختلف العلماء في لفظ (غير): هل ينصرف بالإضافة كسائر الأسماء، أو لا ينصرف كقول العرب: (مررت برجل غيرك) فتنعت به النكرات؛ لأن كل أحد يصدق عليه أنه غيرك، فكانت متوغلة في التنكير، أو الفرق بين أن تضاف لضدين لا ثالث لهما، فتنصرف كقولك: مررت بغير الساكن، فيتعين أنه المتحرك، وأيضًا لشيء لأضداده عدد كثير نحو: (غيرك) فلا تنصرف، ولهذا اختلف في قوله تعالى:} غير المغضوب عليهم {[الفاتحة:7] هل هو نعت لـ (الذين) أو بدل على هذه القاعدة؟ إذا تقرر هذا، فأمكن أن يقال: إن اسم الجنس إذا أضيف إنما يعم إذا كان المضاف يتعرف، أما إذا لم يتعرف فلا، ويكون العموم تابعًا للتعريف، كما كان الإطلاق تابعًا للتنكير. كما أننا لو تخلينا أن (لام) التعريف في الجمع المعرف زائدة، وأنها لم تفد تعريفًا، لم يحصل العموم، وأمكن أن يقال: إن عدم التعريف لا يُخيل بالعموم؛ لأن النكرة شيء مع لا، وهي للعموم. و (ما جاءني من أحد) نكرة، وهي للعموم، وإذا كان التعميم أعم من التعريف، لا يضر عدم التعريف؛ لأنه لا يلزم من عدم الأخص عدم الأعم، فهذا موضع نظر، فتأمله. قوله: (إن كانت للعموم يكون معناه إن كل من اتبع كل ما كان مغايرًا لكل ما كان من سبيل المؤمنين استحق العقاب، وهذا لا يقتضي منع البعض): قلنا: هذا بناء على أن صيغ العمومات كليات، وإنما هي كليات. وقد بينا في أول كتاب العموم- أن مدلول العموم لو كان كلا لتعذر الاستدلال بالعموم في النفي والنهي، وإذا كان مدلول العموم كلية لا كلا، كان الوعيد في البعض كالكل سواء.

قوله: (عندنا يحرم بعض ما غاير بعض سبيل المؤمنين، أو بعض ما غاير كل سبيل المؤمنين، أو كل ما غاير بعض سبيل المؤمنين): تقريره: أن الخصم يعتقد أن المراد بـ (سبيل المؤمنين) الإيمان لا الفروع، وبمغايرة الكفر، فيحرم بعض ما غاير بعض سبيل المؤمنين، فالبعض الأول الكفر، والثاني الإيمان، ويحرم بعض ما غاير كل سبيل المؤمنين، فالمراد بالبعض: الكفر، وبالكل: الإيمان وجميع الفروع والبعض الذي هو الكفر مغاير لهذا الكل، ويحرم كل ما غاير بعض سبيل المؤمنين، فالمراد بالبعض الإيمان، والمراد بالكل كل شيء يخالف الإيمان وينافيه، ولا شك أن كل ما ينافي الإيمان حرام. قوله: (من شرط صحة المجاز حصول المناسبة). قلنا: العلاقة - هاهنا - أن الطريق الحسي موصل للقصد من السفر وغيره، والإيمان وما يختاره الإنسان لنفسه موصل لمقصده من ذلك الذي اختاره، فالعلاقة كون كل واحد منهما مفضيًا للقصد. قوله: (التجوز إلى الدليل أولى): قلنا: بل الحكم أولى؛ لأن (السبيل) لغة: هو ما يختاره الإنسان لنفسه موصلا لمقصده، والدليل لا يختاره الإنسان، بل النظر يقود إليه، أما الحكم إذا دل الدليل عليه، فإن الإنسان يختاره حينئذ بعد صحة النظر؛ ولأن الحكم هو المقصد، والدليل وسيلة، والمقاصد أهم من الوسائل، فحمل كلام الشرع على الأهم أولى من التجوز. قوله: (بين إتباع سبيل المؤمنين، وإتباع سبيل غيره واسطة؛ لأن غير وإن كان للاستثناء، لكن أصله للصفة).

قلنا: كونها للاستثناء أو للصفة لا مدخل له هاهنا؛ فإنا وإن جعلناها صفة المنع متجه، فلا حاجة لهذه المقدمة. قوله: (فإن قلت: ترك متابعة سبيل المؤمنين غير سبيل المؤمنين، فمن ترك متابعة سبيلهم، فقد اتبع غير سبيلهم): قلنا: لا نسلم أنه غير سبيلهم؛ فإن كل واحد منهم لم يفت بما أفتى به لأجل الإتباع، بل لأجل الدليل، والإتباع إنما يكون بعد تقرر فتواهم، فالإتباع لغيرهم لا لهم، فترك المتابعة هو سبيلهم، وترك المتابعة أعم من المخالفة؛ فإنهم في أنفسهم لم يتبعوا أنفسهم، ولم يخالفوا أنفسهم، والمخالفة والموافقة إنما كانا بيانًا من الغير بالنسبة إليهم. قوله: (المفهوم من عدم حصول الإجماع حصول الخلاف): قلنا: لا نسلم، بل عدم الإجماع أعم؛ لأنه يكون بطريقين: أحدهما: أن يختلفوا. والثاني: ألا تقع المسألة ألبتة، أو تقع ولم يجدوا دليلا، وهم متفقون، فيصدق أنهم ما اجتمعوا ولا اختلفوا في هذه الصور كلها. فعدم الإجماع أعم من الاختلاف، والأعم لا يفسر الأخص به، ولا يلزم على هذا التقدير أن يكون الإجماع مشروطًا بتجويز الخلاف، بل توقفهم حالة النظر، واتفاقهم على ذلك مشروط بالإجماع على الحكم آخرًا، فهو إجماع مشروط بإجماع، لا إجماع مشروط بتجويز اختلاف. قوله: (الذين لم يوجدوا بعد فليسوا بمؤمنين):

قلنا: قد تقدم في (باب الاشتقاق) أول الكتاب أن المشتق على قسمين: محكوم به، ومتعلق للحكم. فمتعلق الحكم يكون حقيقة مطلقًا في الحال، والماضي، والمستقبل، بخلاف المحكوم به، لا يكون حقيقة إلا في الحاضر فقط، و (المؤمنين) في الآية متعلق الحكم، والحكم هو وجوب متابعتهم، فتكون الآية تتناول المؤمنين أبدًا غاية في جميعهم، بل تتناول كل ما في مادة الإمكان، ويسقط هذا البحث هناك في الاشتقاق. قوله: (الإجماع لا ينعقد إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -): قلنا: قد تقدم في باب النسخ إمكان إجماعهم على الحكم في حياته عليه السلام، وما المانع من ذلك، وقد شهد عليه السلام لأمته بالعصمة، وأمته غيره، وهي موجودة في زمانه؟ فإذا أفتوا كلهم بشيء كان حقا، وتصور الإجماع، وكما تصورنا الإجماع بعد وفاته - عليه السلام - مع أن فتياه - عليه السلام - ليست من جملة فتاويهم، فكذلك يتصور في زمانه عليه السلام ليس معهم، ويكون قولهم حينئذ حجة، ويمكنه الوقوع. قوله: (لم يثبت أن الذين كانوا موجودين في زمانه - عليه السلام - بقوا بعد وفاته - عليه السلام - فيحصل الشك في الإجماع): قلنا: هذا السؤال يقتضي إذا سلم عدم وقوع الإجماع، ونحن إنما نتكلم في أن الإجماع إذا وقع هل هو حجة أم لا؟ وهذا لا ينفيه ألبتة. قوله: (الإيمان: التصديق بالقلب، وهو غير معلوم، فكيف نعلم أنهم مؤمنون حتى نتبعهم؟): قلنا: قد يعلم ما في القلب بقرائن الأحوال، ولذلك نقطع بكثير من أحوال النفوس من الفرح والغضب، وغير ذلك، بسبب ما يظهر على أهلها من قرائن الأحوال، فكذلك الإيمان والكفر.

قوله: (خطؤهم يخرجهم عن استحقاق الثواب): قلنا: لا نسلم، بل المخطئ يؤجر؛ لقوله عليه السلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر)؛ ولأنهم بذلوا اجتهادهم في طاعة الله تعالى، وذلك عمل صالح يثابون عليه، وعلى نياتهم. قوله: (الفقهاء يثبتون الإجماع بظواهر العمومات، ولا يكفرون من خالف العمومات لتأويل، ويكفرون من خالف الإجماع، فيجعلون الفرع أقوى من الأصل): قلنا: الإجماع قطعي لأجل دلالة كل عموم، لا بالنظر إلى ذلك العموم وحده، بل جميع أصول الفقه مسائلة المشهورة قطعية، ومدرك القطع فيها يحصل لمن حصل له الاستقراء التام في نصوص الشريعة، وأقضيه الصحابة في فتاويهم ومناظراتهم، والإطلاع على كثرة واردات السنة في أعيان تلك المسائل، فيحصل القطع حينئذ، أما بمجرد آية أو خبر فلا، فهذا هو معنى قول العلماء: (مسائل أصول الفقه قطعية)، وليس في الممكن أن يوضع في كتاب جميع تلك الأمور التي تحصل العلم، كما أنا نقطع بسخاء حاتمٍ، وبشجاعة على؛ لكثرة الاستقراء لأخبارهما: ولو أنا لم نجد إلا كتابًا سطرت فيه حكايات كثيرة عنهما لم يحصل لنا القطع، فوضع العلماء في كتب أصول الفقه أصول المدارك دون نهاياتها تنبيهًا عليها، وحينئذ يتجه قولهم: إن مخالف الإجماع يكفر لمخالفته القطعي، ومخالف العموم لا يكفر لمخالفته الظني، وليس في ذلك ترجيح الفرع على الأصل؛ لأن أصل الإجماع في التحقيق إنما هو ذلك المجموع الذي أشرنا إليه، ولو خالف أحد ذلك المجموع كفرناه، وسوينا بين الفرع والأصل، بل نكفره بذلك الأصل القطعي بطريق الأولى؛ لكونه أصلا قطعيًا، وإذا لم نكفره بمخالفة عموم واحد نكون قد رجحنا الفرع على بعض أصله، ولا غرو في ذلك حينئذ،

فتأمل ذلك؛ فإن المصنف [قد] أكثر التشنيع في هذا المقام، وأداه صعوبة هذا الموضع إلى أن قال: الإجماع ظني، وهو خلاف إجماع من تقدمه كما حكاه هو هاهنا، وما سببه إلا عدم النظر في هذا البحث، فتأمله تخلص من هذه الضوائق إن شاء الله تعالى.

قوله: (عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي): قلنا: هذا لا ينافي كونهم في ذلك الوقت أجمعوا على واقعة واحدة، ويكونون شرارًا باعتبار كثرة فسوقهم؛ فإن الحكم للغالب كما أنا نقول: للصالحين: صالحون، وإن كان لهم هفوات كثيرة. قال الله تعالى:} إن ربك واسع المغفرة {[النجم:32]، سلمنا عدم اجتماعهم في ذلك الوقت، لكنا ندعى أن الإجماع إذا وجد كان حجة، ولا ندعى أنه واجب الدوام، ولا واجب الوقوع في صورة معينة، فلا يقدح ذلك في غرضنا، وهذا هو الجواب عن نفيه الأحاديث التي أوردها في هذا الموضع. قوله: (جاز الخطأ على كل واحد، فيجوز على الكل، كالزنج لما كان كل واحد أسود كان الكل أسود):

قلنا: الأحكام على قسمين: منها ما لا يثبت إلا للمجموعات، ولا يثبت للآحاد، كالعلم بعدد التواتر، والري بعد شرب القدح، لا يثبت لكل نقطة منه، والشبع بالرغيف، لا يثبت لكل لبابة منه، والجيش يشيل الصخرة العظيمة دون آحاده، وهو كثير في العالم في الأدوية، و [في] الأغذية، والعلاجات ونحو ذلك. ومنها ما يثبت للآحاد، ولا يثبت للمجموع، عكس الأول، كالألوان؛ فإن مجموع الصقلاب ليس أبيض، بل أفراده فقط؛ لأن البياض يعتمد جسمًا يقوم به، والمجموع فيه صورته ذهنية، لا وجود لها في الخارج، وما لا وجود له في الخارج يمتنع أن يقوم به البياض، وإنما توالي الأفراد في الخارج حتى يخلق الله - تعالى - عقيب ذلك التوالي علمًا في النفس من التواتر مثلا، أو ريا من توالي نقط الماء، أو شبعًا من توالي لباب الخبز، فهذا ممكن؛ لأنه يرجع إلى خلق الله - تعالى - موجودًا عند موجودات أخر، بخلاف قيام الأعراض، والألوان، والطعوم، والروائح، وجميع الصفات الحقيقية تعتمد موضوعات موجودة في الخارج، فتأمل هذا الموضع، وبه يظهر لك بطلان قولهم: (إن مجموع الزنج أسود)، وإن الخطأ إذا جاز على الآحاد جاز على المجموع، بل المجموع يخلق الله - تعالى - عقيبه العلم، ولا يخلقه عقيب الآحاد، ويخلق ظن الصواب عند الآحاد، وتجويز الخطأ، ولا يخلق ذلك عقيب التواتر، فهذا موضع غلط يقل التفطن له. قوله: (حال الناس تختلف في الأمارة، فيستحيل إجماعهم لأجلها): قلنا: الأمارة تارة تكون من النظر والاستنباط، فهذه يختلف الناس فيها، وتارة لا يكون الدليل قطعيًا، وتكون الأمارة الظنية خبرًا واحدًا، وقرينة حالية أو مقالية تعلم بالحس، ودلالتها في نفسها ظنية، فيتفق العقلاء عليها بالضرورة.

ومثاله: إذا روى في الواقعة حديث صحيح، والناس يسمعونه، وليس له معارض، فيستحيل على كل مؤمن إلا أن يعمل به، فيحصل الإجماع بالضرورة. قوله: (بعض الناس يقول: الأمارة ليست حجة): قلنا: هذا لا ينافي انعقاد الإجماع؛ لأن هذا القائل إما أن يكون مسبوقًا بالإجماع، فينعقد الإجماع على الحكم بأمارةٍ قبل طروء هذا المذهب، أو ينقرض هذا القائل، ولم يبق إلا من يقول بأن الأمارة حجة، فينعقد الإجماع حينئذ بالأمارة. قوله: (إن لزم من عدم الشرط عدم المشروط، كان إتباع غير سبيل المؤمنين جائزًا مطلقًا، وهو باطل؛ لأن مخالفة الإجماع وإن لم يكن خطأ، لكن لا يكون صوابًا مطلقًا): قلنا: هذا الكلام غير مفيد؛ لأن المعلق على الشرط هو التحريم، فينتفي التحريم عند انتفائه. فإن أردت بقولك: (لا يكون صوابًا مطلقًا) أنه لا سبيل إلى القول بعدم تحريم مخالفته، فهذه مصادرة؛ لأن مذهب الخصم أن مخالفة الإجماع لا تكون حرامًا في حالة من الأحوال ألبتة. وإن أردت أن التحريم ينتفي، ويبقي الندب للموافقة، فهذا لا يقدح في أن المشروط انتفى عند انتفاء الشرط، ولا يقدح في أن الإجماع لا يكون حجة، كما قاله الخصم، فلا يتحصل من هذا الكلام شيء. قوله: (الشرط في (المشافه) هو تبين الهدى، بمعنى الدليل الدال على التوحيد): تقريره: أن الشرط وإن كان لا يتناول إلا المستقبل، و (لام) التعريف

للعموم، لكن معنا في الآية ما يقتضي ذلك، وهو قوله تعالى:} تبين له الهدى {[النساء: 115] بلفظ الفعل الماضي، وهذا الماضي لا يكون معناه الاستقبال كقولك: (إن جاءني زيد أكرمته) تقديره: (إن يأتني أكرمه)، فلفظه ماضي، ومعناه مستقبل، وهاهنا ليس كذلك بسبب أن تبين الهدى هاهنا ليس مشروطا، بل خارج عنهما، كما تقول: (من يدخل داري بعد أن تقدم مني الإعلام أمس فله درهم)، فكأنك أوجبت الربط، واستحقاق الدرهم موصوفًا بأن ذلك الربط وقع بعد وقوع أمر آخر في الوجود، وكذلك هاهنا. وإذا كان لفظ (تبين) ماضيًا لفظًا ومعنى، وجب ألا يكون الألف واللام فيه للعموم؛ فإن جميع أفراد الهدى وأدلة الفروع لا يلزم أن تكون كلها [قد] وقعت ودخلت الوجود قبل نزول هذه الآية، بل العموم غير متناهٍ، وغير المتناهي لا يقضي عليه بالدخول في الزمن الماضي، إذا بطل العموم تعين العهد، وإن الهدى هو المعجزة الدالة على صدق الرسول عليه السلام، والأدلة الدالة على الوحدانية وغيرها من قواعد الديانات. قوله: ((الغير) و (السبيل) للعموم لصحة الاستثناء): قلنا: قد تقدم في (باب الاستثناء) أنه أربعة أقسام: ما لولاه لعلم دخوله، وما لولاه لظن دخوله، وما لولاه لجاز دخوله، وما لولاه لامتنع دخوله، فلعله هاهنا ما لولاه لجاز دخوله، فلا يبقي فيه حجة. قوله: (لو لم يحمل على العموم بقيت الآية مجملة): قلنا: لا نسلم، بل ذكر وصف الإيمان ينفي الإجمال، ويحمل على ما صاروا به مؤمنين.

قوله: (إذا أمر الله - تعالى - بإتباع سبيلهم في الاستدلال بالدليل، ثبت أن كل ما اتفقوا عليه صواب): تقريره: أنه إذا وجب إتباعهم في الأدلة كانت حقًا، ومتى كان الدليل حقًا كانت المدلولات والأحكام حقًا، وكان الجميع صوابًا. قوله: (لو قال: (غير سبيلهم، ولا يتبع سبيلهم)، كان ركيكًا، بل لو قال: لا يتبع غير سبيل الصالحين) لا يفهم منه إلا إتباع سبيلهم، ولذلك لا يستقبح: (لا تتبع سبيل غير الصالحين، ولا سبيلهم). تقريره: أن هذه أمور وفروق مستفادة من عرف الاستعمال، وبعضها من الوضع. فقولنا: (لا يتبع غير سبيل زيد) يفهم منه الأمر بإتباع سبيله، وقولنا: (لا يتبع غير سبيل زيد) يقتضي النهي عن إتباع سبيل زيد؛ لأن غير غير سبيل زيد هو سبيل زيد، وقولنا: ذلك الفرق فيه لغوي بخلاف قولنا: (لا يتبع زيد، وغير سبيل زيد). يفهم من الثاني الأمر بإتباع سبيله، ولا يفهم من الأول، وسببه أن لفظ (غير) أشد إشعارًا بالمغايرة للآخر، بخلاف لفظ (السبيل) فيجوز لا تتبع سبيل زيد، ولا سبيل زيد أيضًا، بل اترك الإتباع مطلقًا، وكن أصلا في نفسك، حيث اقتضى الدليل حكمًا أعمل به، بخلاف (لا تتبع غير سبيل زيد)، والفرق هاهنا عرفي. قوله: (أهل الإجماع حذفوا هذا الشرط في الإجماع على الحكم، دون الاختلاف والتوقف). تقريره: أن الأمة إذا كانت في مهلة النظر، أو اتفقت على قولين، فإن المصلحة لم تتعين لأحد النقيضين، بل هي دائرة بينهما، وإذا أجمعوا على

قول واحد، وأفتوا تعينت المصلحة فيما أفتوا به، فلا معنى لاشتراط شيء في هذا الإجماع، بل مخالف مخطئ قطعًا؛ لتعين المصلحة فيه، بخلاف القسم الأول، جاز أن تتعين المصلحة في حالة غير هذه الحالة التي هم فيها. فيقر هذه الحالة ما لم يظهر ما هو أرجح منها، فلذلك حسن الشرط، ولا حاله أحسن من اتفاقهم على الحكم الواحد؛ لتعين المصلحة فيه، فلم يحسن الشرط. قوله: (سبيل الصالحين شيء مضاف للصالحين، والمضاف غير المضاف إليه، والصلاح جزء من ماهية الصالح): قلنا: هذا غير متجه؛ فإن الخصم لم يقل: إن ما به صاروا صالحين هو عين الصالحين، حتى يتجه عليه أن المضاف غير المضاف إليه، بل قال: يجب متابعتهم في الذي أوجب وصولهم لهذه الغاية، لا في الحكم الذي أفتوا به. قوله: (إذا تعذر حمله على الإيمان يحمل على المتابعة في الصلاح مجازًا). قلنا: قد بينا فيما تقدم أن المشتق إذا كان متعلق الحكم لا يكون مجازًا، وإنما ذلك إذا كان محكومًا به. قوله: (جميع المؤمنين هم الذين دخلوا في الوجود): قلنا: لا نسلم، وإنما يلزم ذلك أن لو كان هذا المشتق محكومًا به، لكنه متعلق الحكم، فلا يختص بالموجود، ولا نفصل فيه بين الحال والاستقبال، إنما نفصل بينهما في المحكوم به. قوله: (لو كان قول المؤمنين من أهل عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - مطابقًا لقوله صار قولهم لغوًا):

قلنا: لا نسلم، بل تجتمع الحجتان وتضافر الأدلة ليس محالا، وقد شهد - عليه السلام - لأمته بالعصمة، وهو - عليه السلام - معصوم، فإذا تضافر القولان اجتمع المثلان من معصومين، فلم يلغ أحدهما. قوله: (ظاهر اللفظ الكل إلا ما أخرجه الدليل من الأطفال والمجانين) قلنا: قد تقدم في (باب العموم) أن مدلول العموم كلية لا كل، فادعاء الكل غير متجه، وإذا كان مدلول اللفظ الكلية يصير معنى الآية: وجوب إتباع كل واحد واحد من المؤمنين، وكل فرد على حياله يحرم مخالفته، وهذا لم يقل به أحد، بل يتعين أن يقال: صيغ المؤمنين متى استدل بها في كون الإجماع حجة يتعين أن يعتقد المستدل بها أنها استعملت مجازًا في غير موضوعها، وهو الكل من حيث هو كل، وهذا مجاز؛ لأن موضوعها الكلية، وهي مغايرة للكل كما تقرر في أول (العموم). قوله: (المؤمن في اللغة: هو المصدق باللسان): قلنا: لا نسلم، بل التصديق بالقلب، وإنما اللسان معرب عما في النفس، كما أن الكافر: من كفر بقلبه، ولم ينطق بلسانه، ولذلك يستحق الأول الخلود في الجنة، وإن لم ينطق إذا تعذر ذلك عليه، ولم يتسع له زمانه، والآخر يستحق النار إجماعًا، نطق أم لا. قوله: (النهي لا يقتضي إمكان المنهي عنه من كل وجه؛ لأن الله - تعالى - نهي المؤمن عن الكفر، مع علمه بأنه لا يفعله): قلنا: الخصم يقول: إن الأمة لو ورد فيها أنها معصومة تعذر ورود النهي لها عن المعاصي؛ لأن إخبار الله - تعالى - معلوم لنا بالوحي، وأما الامتناع الناشئ عن العلم، فهو أمر خفي لا يعلم إلا بوقوع أمره، فمن رأيناه على حاله علمنا أن الله - تعالى - علمها من ذلك الشخص، فلم لا يكون هذا الفرق كافيًا في الباب؟.

(تنبيه) غير سراج الدين وزاد، فقال: [إن المعلق بالشرط] إن لم يكن عدما عند عدمه حصل الغرض

قوله: (الحديث يقتضي أن الشرار يكونون في ذلك الوقت، إما أن يكونوا بأسرهم شرارًا أو لا): قلنا: هذه صيغة حصر تقتضي حصر الأول في الثاني، فينحصر قيام الساعة في الأشرار، فلا يوجد إلا شرير حينئذ كما إذا قلت: (لا تُصل إلا على طاهر). يقتضي حصر الصلاة في الطاهر. (تنبيه) غير سراج الدين وزاد، فقال: [إن المعلق بالشرط] إن لم يكن عدمًا عند عدمه حصل الغرض، وإن كان لم يكن حرمة إتباع غير سبيل المؤمنين مشروطة بمشاقة الرسول؛ لئلا يجوز إتباع كل ما هو غير سبيل المؤمنين عند عدم المشاقة. قال: ولقائل أن يقول: لا يلزم حصول الغرض من القسم الأول؛ لجواز أن يكون المعلق بالشرط عدمًا عند عدمه، ويكون حرمة إتباع غير سبيل المؤمنين عدمًا عند عدم مشاقة الرسول. وإن تردد في عدم هذه الحرمة عند عدم المشاقة لم يكن جواز المخالفة للإجماع في جميع الصور عند عدم المشاقة إن كانت الحرمة عدمًا عنده، إذ انتفاء حرمة كل إتباع لغير سبيل المؤمنين، لا يوجب جواز كل إتباع لغير سبيلهم. ثم إثبات القسم الثاني من الترديد الأول يحصل غرضه، وأيضًا لم يرد

المعترض بذلك تعليق الحرمة بالمشاقة، بل ترتيب الوعيد على المشاقة، والاتباع المذكورين مجموعًا، ولا يلزم منه ترتيبه على كل واحدٍ منهما منفردًا، وما ذكره ليس جوابًا عنه. وقال على قوله: (وهذا الشرط حذفه أهل الإجماع في الإجماع الثاني): ولقائل أن يقول: هذا جواب عن المقدمة بإثبات الحكم، وأما إثبات الحكم بدليل الإجماع، فالخصم يسلم أنه مخصوص. ثم قال: ولقائل أن يقول: الخصم لا يسلم أن إثبات الحكم بغير الإجماع مخصوص، فله أن يلزم ذلك. قلت: يريد بقوله: (إذا انتفى حرمة كل اتباع غير سبيل المؤمنين، لا يوجب جواز كل اتباع لغير سبيل المؤمنين) أن هذا الاستثناء ورد على موجبة كلية، وهو حرمة اتباع كل غير سبيل المؤمنين، وانتفاء الموجبة يكفي فيها الجزئية، فلا يلزم ثبوت الجواز في الكل. وقوله: (القسم الثاني يحصل الغرض)، يريد أنه كان بعينه، ويحصل مقصوده من غير حاجة للترديد، ويرد على سراج الدين: أن الخصم يمنع حينئذ لولا الترديد. قوله: (هذا جواب عن المقدمة بإثبات الحكم): يريد: أنه جواب عن سؤال البعض بالتزامه، فليس دفعًا له. قوله: (إثبات الحكم بدليل الإجماع، فالخصم يسلم أنه مخصوص): يريد: أن الدليل الدال لأهل الإجماع على جواز الاختلاف خص بصورة الإجماع الثاني، فإنه لا يجوز الخلاف حينئذ. قوله: (الخصم لا يسلم أن إثبات الحكم بغير الإجماع مخصوص):

يريد: أنه الخصم لا يعتقد الإجماع حجة، فيجوز عنده الخلاف بعد الإجماع الثاني. قال التبريزي: الشيعة وإن أذعنوا بالقبول، لكنهم مغالطون فيه؛ لأنهم يعتقدون أن الإمام المعصوم في غمارهم، والحجة في قوله لا في قولهم، وهذه الآية وهي قوله تعالى:} ومن يشاقق الرسول {[النساء:115] تمسك بها الشافعي. وقول المصنف: (إن الإجماع على المباح مخصوص من الدليل الدال على وجوب الإتباع) ضعيف؛ إذ لا تناقض بين اعتقاد وجوب الفعل من حيث هو متابعة، واعتقاده إباحته من حيث هو ذلك الفعل. كما لو أمر السيد عبده باتباعه في الاصطياد، فالاعتماد في التخصيص على الإجماع. وأما اتباع سبيلهم فهو واجب إلى حين الاتفاق؛ فإنه سبيلهم على هذا الوجه، وهو الجواب عن قوله: (سبيل الإجماع في الحكم أخذه من دليل لا بالإجماع (أن الحكم بمجرد دليل غير الإجماع سبيلهم في غير محل الإجماع، وقبل الإجماع، أما بعده فلا. ثم قال: (من لم يخلق لا يسمى مؤمنًا، ولهذا إذا حضر الموجودون من فقهاء العصر صح أن يقال: حضر كل الفقهاء): قلت: وقد علمت أن المؤمنين في الآية متعلق للحكم لا محكوم بإيمانهم، فلا يلزم ذلك. ثم قال: إن المصنف داع من دعوى القطع وتفسيق المخالف للإجماع، ومن المعلوم إطباق التابعين، وكل قائل للإجماع على القطع بأن الإجماع حجة قاطعة، ولو تطرق احتمال إلى دلالة الإجماع، أو دلالة دليل الإجماع لكان

قطعهم به خطأ قطعًا، وكان المخالف إذا فسقوه، وبدعوه وشددوا النكير عليه أن ينكر عليهم نكيرهم وتفسيقهم بتفسيقهم إياه. ويقول: هل ارتكبت إلا ترك [ما هو] ظاهر لما هو أظهر منه. في نظري كما يصنع كل مجتهد في مجرى اجتهاده؟ فما هذا النكير؟ وأي فرق بين ظاهر وظاهر؟ والجواب السديد أن يقال: إن المسألة قطعية، ولا سبيل إلى إثبات أصول الشريعة بالظن؛ فإنه تشريع، ولم يتعبد بالظن إلا في الفروع لاسيما إثبات أصل تقدم على نصوص الكتاب والسنة المتواترة، والألفاظ اللغوية قد تفيد القطع، وإنكار ذلك قدح في قواطع الكتاب والسنة، وهو بين كفر وبدعة. ثم يلزم منه عجز الأنبياء - عليهم السلام - عن تبليغ الرسائل على القطع، وفيه عجز مرسلهم عن تفهيم العباد الأحكام على القطع من طريق الوحي، وهو محال. نعم لا ننكر أن القطع لا يستند إلى مجرد العلم بالوضع؛ فإنه يحتمل الزيادة، والنقصان، والمجاز وغيره. لكن يحصل الأمر منبهًا بتأكيدات وتكريرات. وأما باعتبار حال المتكلم وهيئته وحركاته، والمعهود من عاداته، أو بأمر من خارج، أو بالمجموع، وذلك مما لا تحيط العبارة بتفاصيلها، كيف ولو أنها أحاطت لما أغنت؟ فإن حكايتها لا تقوم مقامها، فيستفيد المشاهدون لها القطع بالمشاهدة، والغائبون عنها بواسطة قطع المشاهدين، وقرائن تفيد القطع بأن قطعهم عن قاطع، كما في سائر قواطع الكتاب والسنة، ولو كلفنا أنفسنا أبدًا دليلا على ثبوت مباني الإسلام، وطهارات الأحداث والأخباث، وغير ذلك مما لا نجد للاحتمال فيه مجالا، وبذلنا فيه كل الوسع حتى اجتهدنا فيه بالفكر، والنظر لم نظفر بما بلغ من صرائح النصوص. كقوله تعالى:} فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا

موقوتًا {[النساء:103]،} كتب عليكم القصاص {[البقرة:178]،} ولله على الناس حج البيت {[آل عمران: 97]،} إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا {[المائدة:6]،} وإن كنتم جنبًا فاطهروا {[المائدة: 6]، (بني الإسلام على خمس)، وأمثالها. ولو جردنا النظر فيها إلى الوضع لم نرجع فيها إلى أكثر من ظاهر يقبل التأويل. فما هذا القطع، ولا قاطع؟ ولا يمكن إسناده إلى الإجماع؛ لأنه ليس بحجة قاطعة، ثم هو فرع دلالة اللفظ، ولا إلى عدد التواتر؛ فإنه لا أثر لكثرة الرواة في الدلالة. فالشافعي إنما ذكر أصل الدليل في المسألة؛ لأن مستند قطعه بمدلوله هو النظر إلى مقتضى الوضع فحسب، بل جاز أن يستند في ذلك إلى ما يطابق على مقتضاه من ألفاظ الكتاب والسنة صريحًا وإلى قرائن أخرى حسب ما فصلناه. ثم قال من الجواب عن قولهم: (الأمة منهية عن المعاصي، فلا يكونون معصومين). قد قال الله تعالى:} لئن أشركت ليحبطن عملك {[الزمر:65]،} ولا تدع مع الله إلهًا آخر {[القصص:88]، وهو - تعالى - يعلم عصمته - عليه السلام - بل لو لم يكن ممنوعًا عما عصم عنه لما كان ذلك عصمة، فليفهم ذلك. وعن قولهم: (الخطأ جائز على كل واحد، فيجوز على الكل): أن ذلك الجواب مشروط بالانفراد، وقد فقد الشرط حالة الإجماع. * * *

المسلك الثاني قال الرازي: التمسك بقوله، عز وجل:} وكذلك جعلناكم أمة وسطا؛ لتكونوا شهداء على الناس

المسلك الثاني قال الرازي: التمسك بقوله، عز وجل:} وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا؛ لتكونوا شهداء على الناس {[البقرة:143] الله تعالى أخبر عن كون هذه الأمة وسطًا و (الوسط) من كل شيءٍ خياره، فيكون الله عز وجل قد أخبر عن خيرية هذه الأمة، فلو أقدموا على شيءٍ من المحظورات، لما اتصفوا بالخيرية، وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيءٍ من المحظورات، وجب أن يكون قولهم حجةً. فإن قيل: الآية متروكة الظاهر؛ لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها، وخلاف ذلك معلوم بالضرورة؛ فلابد من حملها على البعض، ونحن نحملها على الأئمة المعصومين. سلمنا: أنها ليست متروكة الظاهر؛ لكن لا نسلم أن (الوسط) من كل شيءٍ خياره؛ ويدل عليه وجهان: الأول: أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات، واجتناب المحرمات، وهذا من فعل الرجل، وقد أخبر الله - تعالى - أنه جعلهم وسطًا؛ فاقتضى ذلك أن كونهم وسطًا من فعله تعالى، وذلك يقتضي أن يكون ذلك غير عدالتهم التي ليست من فعل الله تعالى. الثاني: أن (الوسط) اسم لما يكون متوسطًا بين شيئين، فجعله حقيقة في العدل يقتضي الاشتراك، وهو خلاف الأصل.

سلمنا أن (الوسط) من كل شيءٍ خياره؛ فلم قلتم: بأن خبر الله تعالى عن خيرية قوم يقتضي اجتنابهم عن كل المحظورات؟ ولم لا يجوز أن يقال: إنه يكفي فيه اجتنابهم عن الكبائر، فأما عن الصغائر، فلا. وإذا كان كذلك، فيحتمل أن الذي أجمعوا عليه، وإن كان خطًأ، لكنه من الصغائر، فلا يقدح ذلك في خيريتهم، ومما يؤكد هذا الاحتمال: أنه تعالى حكم بكونهم عدولا، ليكونوا شهداء على الناس، وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة. سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر، ولكن الله تعالى بين أن اتصافهم بذلك؛ إنما كان لكونهم شهداء على الناس، ومعلوم أن هذه الشهادة، إنما تكون في الآخرة، فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك؛ لأن عدالة الشهود، إنما تعتبر حالة الأداء، لا حالة التحمل، وذلك مما لا نزاع فيه؛ لأن الأمة تصير معصومة في الآخرة، فلم قلتم: إنهم في الدنيا كذلك؟ سلمنا وجوب كونهم عدولا في الدنيا؛ لكن المخاطبين بهذا الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية؛ لأن الخطاب مع من لم يوجد بعد محال. وإذا كان كذلك، فهذا يقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت، ولا يقتضي عدالة غيرهم. فهذه الآية تدل على أن إجماع أولئك حق، فيجب ألا نتمسك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه، لكن ذلك يقتضي حصول العلم بأعيانهم، والعلم ببقائهم إلى ما بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما كان ذلك مفقودًا، تعذر التمسك بشيءٍ من الإجماعات.

والجواب: قوله: (الآية متروكة الظاهر): قلنا: لا نسلم. قوله: (لأنها تقتضي كون كل واحد منهم عدلا): قلنا: لما ثبت أنه لا يجوز إجراؤها على الظاهر، وجب أن يكون المراد منه امتناع خلو هذه الأمة من العدول. قوله: (نحمله على الإمام المعصوم): قلنا: قوله} وكذلك جعلناكم أمة وسطًا {[البقرة: 143] صيغة جمعٍ: فحمله على الواحد خلاف الظاهر. قوله: (لم قلت: إن الوسط من كل شيءٍ خياره؟ ": قلنا: للآية، والخبر، والشعر، والنقل والمعنى: أما الآية: فقوله عز وجل:} قال أوسطهم {[ن:28] أي: أعدلهم. وأما الخبر: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (خير الأمور أوسطها) أي: أعدلها. وقيل: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أوسط قريشٍ نسبًا. وقال عليه السلام: (عليكم بالنمط الأوسط). وأما الشعر: فقوله [الطويل]: همو وسط يرضي الأنام بحكمهم وأما النقل: فقال الجوهري في الصحاح:} وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا {أي: عدولا.

وأما المعنى: فلأن (الوسط) حقيقة في البعد عن الطرفين، فالشيء الذي يكون بعيدًا عن طرفي الإفراط والتفريط، اللذين هما رديان، كان متوسطًا، فكان فضيلةً، ولهذا سمى الفاضل في كل شيءٍ وسطًا. قوله: (عدالتهم من فعلهم، لا من فعل الله تعالى): قلنا: هذا ممنوع على مذهبنا. قوله: (لم قلت: إن إخبار الله - تعالى - عن عدالتهم يقتضي اجتنابهم عن الصغائر): قلنا: من الناس من قال: لا صغيرة على الإطلاق، بل كل ذنب، فهو صغير، بالنسبة إلى ما فوقه، كبير بالنسبة إلى ما تحته؛ فسقط عنه هذا السؤال. وأما من اعتراف بذلك، فجوابه: أن الله - تعالى - عالم بالباطن والظاهر، فلا يجوز أن يحكم بعدالة أحد، وصحة شهادته، إلا والمخبر عنه مطابق للخبر، فلما أطلق الله تعالى القول بعدالتهم، وجب أن يكونوا عدولا في كل شيء؛ بخلاف شهود الحاكم؛ حيث تجوز شهادتهم، وإن جاز عليهم الصغائر؛ لأنه لا سبيل للحاكم إلى معرفة الباطن،؛ فلا جرم اكتفى بالظاهر. قوله: (الغرض من هذه العدالة أداء الشهادة في الآخرة وذلك يوجب عدالتهم في الآخرة، لا في الدنيا): قلنا: لو كان المراد صيرورتهم عدولا في الآخرة، لقال: (سنجعلكم أمة وسطًا)، ولأن جميع الأمم عدول في الآخرة، فلا يبقي في الآية تخصيص لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذه الفضيلة. قوله: (المخاطب بهذا الخطاب: هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية):

شرح القرافي: قوله: (الوسط من كل شيء خياره)

قلنا: مر الجواب عن مثل هذا السؤال في المسلك الأول، والله أعلم وأحكم. المسلك الثاني قال القرافي: قوله: (الوسط من كل شيء خياره): تقريره: قال اللغويون: إنما سمى الخيار وسطًا، لتوسطه بين طرفي الإفراط والتفريط. (فائدة) دخل عمر بن عبد العزيز على عبد الملك بن مروان، فقال له: كيف نفقتك في أهلك؟ فقال له: حسنه بين سيئتين يا أمير المؤمنين. يشير على قوله تعالى:} والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا {[الفرقان:67]. قلت: واعتبرت جميع الأشياء [كلها] من هذا الباب، فوجدتها كذلك، فالغضب ينبغي أن يكون كذلك. وكذلك الحلم، والشدة واللين، والحب والبغض، والزهد والسخاء، وجميع هذه الحقائق ينبغي للإنسان فيها ألا يفرط، ولا يفرط. (فائدة) قال النحاة: (وسط) بالفتح: اسم، و (وسط) بالتسكين: ظرف، مثل (بين) مسكن الوسط، فيمكن أن يقال: (تخرج الديون من وسط التركة) بالتسكين، ولا يمكن ذلك مع التحريك؛ لأنك إذا قسمت التركة نصفين على السوية بحيث لا يرجح أحدهما على الآخر، يستحيل أن يخرج من بين هذين شيئًا، وبهذا التفسير لا يمكنك أن تجلس في وسط الدار بالتحريك، وتجلس في وسط الدار بالتسكين.

قوله: (لو أقدموا على شيء من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية): قلنا: عليه ثلاثة أسئلة: الأول: إن صدق لفظ الخيرية، لا نسلم أنه مشروط بالعصمة، بل يصدق ذلك لغة على من كثر خيره، وكذلك أن كل ما هو موصوف في الدنيا بالخيرية لا يمكن أن يقال: هو خير محض لا يشوبه شر، بل لابد من الشوائب، لكن الحكم للغالب، وكذلك الموصوف بكونه شرًا، لابد من شائبة خير فيه. قال الشافعي - رضي الله عنه - لما سئل عن العدل: أدركت الناس فلم أر أحدًا فعل الخير فلم يمحضه بشر قط، ولا فعل الشر فلم يمحضه بخير قط، ولكن العدل من غلب خيره على شره، فأخس ما في العالم الحيات والعقارب، وفيها منافع جليلة، نص عليها الأطباء، لا توجد في غيرها حتى يقول المالكي في كتابه: (أكل لحوم الحيات على وضعه المخصوص يعيد عصر الشباب)، ومنافع هذه الحشرات كثيرة، ليس هذا موضعها، وأنفع شيء في العالم من الأدوية الترياق، وهو يقتل إذا استعمله الممتلئ، أو الصغير السن، أو استعمل منه نصف أوقية.

والغذاء والشراب أكثر الأشياء ملاءمة للإنسان، وهما سبب الأمراض والأسقام، وفي ذلك يقول الشاعر [الوافر]: عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تكثر فديتك من صحاب فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون عن الطعام أو الشراب الثاني: أنا إنما ادعينا جواز الخطأ، والخطأ ليس من باب المحظورات، بل قد يكون من الواجبات، فيثاب عليها، قال عليه السلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران). الثالث: أن صيغة (أمة وسطًا) نكرة في سياق الإثبات، فتكون مطلقة، فلا تعم أنواع الخيور. قوله: (وإذا لم يقدموا على شيء من المحظورات، وجب أن يكون قولهم حجة): قلنا: المدارك الشرعية تتوقف على نصب شرعي، فلا يلزم من عدم الخطأ كونه حجة حتى ينصبه الشرع. قوله: (إذا تعذر حمل الآية على كل واحد واحد، وجب حملها على البعض، وهم الأئمة المعصومون): قلنا: هاهنا محمل واحد، وهو الكل من حيث هو كل، وهو مقصودنا؛ فإن العصمة إنما تثبت للمجموع، لا لكل واحد واحد. قوله: (أخبر الله - تعالى - على أنه جعلهم خيرًا، فلا يكون ذلك من فعلهم): قلنا: لا يتأني؛ لأن الله - تعالى - هو خالق الطاعات في العبد،

ويصدق عليه أنه من فعله عادة ولغة، كما قال تعالى:} إنما تجزون ما كنتم تعملون {[الطور:16] إلى غير ذلك من النصوص. قوله: (الوسط): اسم لما يكون متوسطًا بين شيئين): قلنا: لا نسلم، بل ذل اسمه متوسط. أما الوسط فاسم لما ذكرناه. قوله: (جعلهم عدولا عند أداء الشهادة، وذلك في يوم القيامة، وذلك مما لا نزاع فيه): قلنا: لا نسلم أن الإنسان إذا كان في الدنيا ليس بعدل يصدق عليه في الآخرة أنه عدل، بل لا يكون يوم القيامة الفاسق إلا فاسقًا، كما أنه لا يكون الكافر إلا كافرًا. غير أن ذلك باعتبار ما مضى، كما قال الله تعالى:} إنه من يأت ربه مجرمًا {[طه:74]، فجعله يوم القيامة مجرمًا. وهذه الآية سبقت مساق المدح، فلا يحسن فيها ما يحصل في يوم القيامة من عدم المخالفات؛ لعدم القدرة عليها حينئذ. قوله: (الأمة معصومة يوم القيامة): قلنا: لا نسلم؛ لأن العصمة إنما تكون في إمكان المعصية، والنهي عنها، وكلاهما متعذر يوم القيامة، فلا عصمة كما لا يصدق على المجنون والصبي أنهما معصومان، وكذلك العاجز، لعدم القدرة تارة، ولعدم النهي أخرى. قوله: (الخطاب مع الموجودين عند الخطاب): تقريره: أن صيغة (كنتم) تقتضي وقوع ذلك بالفعل، فيكون من باب الحكم بالمشتق، لا أنه متعلق الحكم، فلا يصدق إلا على الموجود زمن الخطاب.

قوله: (يتوقف ذلك على العلم ببقاء أعيانهم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -): قلنا: لا نسلم أنه يشترط في الإجماع وفاته - عليه السلام - بل يمكن اجتماع أمته في حياته، وقد تقدم بيانه في (كتاب النسخ)، ونحن نقطع بأن الصحابة أجمعت على وجوب قتال الكفار في زمانه - عليه السلام - والصلوات الخمس، والزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت إلى غير ذلك من الأحكام المجمع عليها. قوله: (إذا تعذر حمله على ظاهره يحمل على امتناع خلو هذه الأمة عن العدول): تقريره: إذا كان بعضهم لا يخطئ فقوله حق، وقول البقية إذا أجمعوا موافق له، فيكون الجميع حقًا، وهو المطلوب. قوله: (دليلنا: قوله تعالى:} قال أوسطهم {[القلم:28]): قلنا: النزاع في لفظ (وسط) لا في لفظ (أوسط). وكذلك الجواب عن قوله عليه السلام: (خير الأمور أوسطها)، وبقية الاستشهادات. قوله: (لا صغيرة على الإطلاق): قلنا: لا خلاف أن المعاصي تختلف باختلاف مفاسدها، فليس قتل النفس كغصبٍ. فليس إجماعًا، إنما امتنع هذا القائل من إطلاق لفظ الصغر على معصية الله - تعالى - استعظامًا لها.

قوله: (لا يخبر الله - تعلى - بعدالتهم إلا أن يكونوا عدولا في كل شيء، بخلاف عدول الحاكم؛ فإن الحاكم يبني على الظاهر): قلنا: لا نسلم؛ لأن العدالة مقدار من الطاعة لا على وجه الاستيعاب، فإذا وجد صح الإخبار عنه كسائر الحقائق). * * *

المسلك الثالث قال الرازي: قوله تعالى:} كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر

المسلك الثالث قال الرازي: قوله تعالى:} كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر {[آل عمران: 110] ولام الجنس تقتضي الاستغراق؛ فدل على أنهم أمروا بكل معروف، ونهوا عن كل منكرٍ، فلو أجمعوا على خطأ قولا، لكان قد أجمعوا على منكر قولا، ولو كانوا كذلك، لكانوا آمرين بالمنكر، ناهين عن المعروف، وهو يناقض مدلول الآية. فإن قيل: الآية متروكة الظاهر؛ لأن قوله:} كنتم خير أمة {خطاب معهم، وهو يقتضي اتصاف كل واحد منهم بهذا الوصف، والمعلوم خلافه؛ فثبت أنه لا يمكن إجراؤها على ظاهرها، فنحملها على أن المراد من الأمة بعضهم، وعندنا أن ذلك البعض هو الإمام المعصوم. سلمنا: أنه يمكن إجراء الآية على ظاهرها؛ لكن لا نسلم أنهم كانوا يأمرون بكل معروفٍ؛ لما مر في باب العموم: أن المفرد المعرف لا يفيد الاستغراق. سلمنا العموم؛ لكن الآية تقتضي اتصافهم بالأمر بالمعروف في الماضي، أو الحاضر؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع؛ فلم قلتم بأنهم بقوا على هذه الصفة في الحال؟ فإن قلت: لأن هذه الآية خرجت مخرج المدح لهم في الحال، ولا يجوز أن يمدح إنسان في الحال بما فعله من قبل، إذا عدل عنه إلى ضده، فإن الناهي عن المنكر، إذا صار أمرًا به، استحق الذم. قلت: لا نسلم أن هذه الآية خرجت مخرج المدح؛ ولم لا يجوز أن يقال:

ليس فيها إلا بيان أن هذه الأمة كانوا قبل ذلك خيرًا من سائر الأمم، ومجرد الإخبار لا يقتضي المدح؟ سلمنا دلالتها على المدح؛ لكن لم لا يجوز أن يمدح الإنسان في الحال؛ بما صدر عنه في الماضي، وإن كان يستحق الذم في الحال؛ بما صدر عنه في الحال؟ فإن عندنا الجمع بين استحقاق الذم والمدح غير ممتنعٍ؛ على ما ثبت في مسألة الاحتياط. سلمنا دلالة الآية على حصول هذا الوصف في الحال؛ لكن قوله عز وجل:} كنتم خير أمة {[آل عمران:110] صريح في أن هذا الوصف، إنما حصل لهم في الزمان الماضي، ومفهومه يدل على عدم حصوله في الحال. سلمنا دلالة الآية على اتصافهم بتلك الصفة في الحال؛ فلم لا يجوز خروجهم عنها بعد ذلك؟ فإنه لا نزاع في أنه يحسن مدح الإنسان بما له من الصفات في الحال، وإن كان يعلم زوالها في المستقبل. فإن قلت: فيلزم أن يكون إجماعهم حجةً في ذلك الزمان. قلت: هب أنه كذلك؛ لكنا لا نقطع على شيءٍ من الإجماعات بأنه حصل في ذلك الزمان؛ وإذا وقع الشك في الكل خرج الكل، عن كونه حجةً. سلمنا اتصافهم بهذا الوصف في الماضي، والحال، والمستقبل؛ لكن الآية خطاب مع الموجودين في ذلك الوقت، فيكون إجماعهم حجةً، أما إجماع غيرهم، فلا يكون حجةً؛ على ما مر من تقرير هذا السؤال في المسلكين الأولين. والجواب: قوله: (الآية متروكة الظاهر):

قلنا: لا نسلم. قوله: (لأنها تقتضي أن يكون كل واحدٍ منهم آمرًا بالمعروف، وليس كذلك): قلنا: المخاطب بقوله تعالى:} كنتم خير أمةٍ {[آل عمران: 110] ليس كل واحدٍ من الأمة: أما أولا: فلأنه تعالى - وصف المخاطب بهذا الخطاب بكونه خير أمةٍ، فلو كان المخاطب بهذا الخطاب كل واحدٍ من الأمة، لزم وصف كل واحدٍ من الأمة بأنه خير أمة، وذلك غير جائزٍ؛ لأن الشخص الواحد لا يوصف بأنه أمة إلا على سبيل المجاز؛ كما في قوله تعالى:} إن إبراهيم كان أمةً {[النحل: 120] بدليل أن المتبادر إلى الفهم من قوله: (حكمت الأمة بكذا) المجموع. وأما ثانيا: فلأنه يلزم في كل واحد أن يكون خير أمةٍ أخرجت للناس؛ وإذا كان كل واحد خير أمة، وجب أن يكون كل واحد خيرًا من صاحبه، ولما بطل ذلك، ثبت أن المجموع هو المخاطب بهذا الخطاب، وهو يجري مجرى قول الملك لعسكره: (أنتم خير عسكرٍ في الدنيا: تفتحون القلاع، وتكسرون الجيوش) فإن هذا الكلام لا يفهم منه أن الملك وصف كل واحد من آحاد العسكر بذلك، بل إنه وصف المجموع بذلك؛ بمعنى أن في المعسكر من هو كذلك، فكذا هاهنا وصف الله تعالى مجموع الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بمعنى أن منهم من هو كذلك، وحملة على الإمام المعصوم غير جائز؛ لأنه واحد، ولفظ (الأمة) لفظ الجمع. قوله: (المفرد المعرف لا يفيد الاستغراق):

قلنا: كثير من الناس ذهب إلى أنه يقتضيه. وأيضًا: فلفظ (المعرف) لو لم نحمله على الاستغراق، لوجب حمله على الماهية، ويكفي في العمل به ثبوته في صورةٍ واحدة، فيكون معناه: أنهم أمروا بمعروف واحد، ونهوا عن منكر واحد، وهذا القدر حاصل في سائر الأمم؛ لأن كل واحدٍ منهم قد كان آمرًا بمعروفٍ واحدٍ، وهو الدين الذي قبله، وناهيًا عن منكرٍ واحدٍ، وهو الكفر الذي رده. وحينئذٍ: لا يثبت بذلك كون هذه الأمة خيرًا من سائر الأمم؛ لكن الله - تعالى - ذكره لبيان ذلك الحكم؛ فعلمنا أنه وجب حمله على الاستغراق؛ تحصيلا للغرض؛ فإنا لو لم نحمله على الاستغراق، ولم نحمله على الماهية كان ذلك مخالفًا للغة. قوله: (الآية تقتضي الاتصاف بهذا الوصف في الماضي، أو الحاضر)؟: قلنا: بل في الحاضر؛ لأن قوله:} تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر {[ال عمرن:110] لا يتناول الماضي. (قوله: لفظة} كنتم {تدل على الماضي). قلنا: لا نسلم؛ لأن قوله:} كنتم {(إما أن تكون ناقصة، أو زائدةً، أو تامةً، فإن كانت ناقصةً فنقول: إنه، وإن أفاد تقدم كونهم كذلك؛ لكن قوله:} تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر {[آل عمران:110] يقتضي كونهم كذلك في المستقبل، ودلالة قوله تعالى:} كنتم {على تقدم هذا الوصف لا يمنع من حصوله في المستقبل، فتبقي دلالة قوله:} تأمرون بالمعروف {على كونهم كذلك في المستقبل سليمةً عن المعارض، وأما الوجهان الآخران، فالاستدلال معهما ظاهر.

شرح القرافي: قوله: (لو أجمعوا على خطأ لكانوا قد أجمعوا على منكر)

قوله: (لم قلت: إنهم يكونون في الزمان المستقبل كذلك على هذه الصفة؟): قلنا: لأن صيغة المضارع بالنسبة إلى الحال، والاستقبال، كاللفظ العام؛ فوجب تناولها لهما معًا. قوله: (هذه الآية خطاب مع الحاضرين): قلنا: مر الجواب عنه في المسلك الأول، والله أعلم. المسلك الثالث قال القرافي: قوله: (لو أجمعوا على خطأ لكانوا قد أجمعوا على منكر): قلنا: لا نسلم، بل يؤجرون عليه للحديث المتقدم، والمنكر إنما يكون حيث التحريم، أما مع الاجتهاد فلا. ثم قوله تعالى:} تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر {[آل عمران:110] يقتضي غيرهم لا أنفسهم. فإن الإنسان إنما يأمر غيره، وينهي غيره. هذا هو المتبادر من هذا الكلام، وقد يأمر الإنسان بكل معروف، وهو يتركه، وينهي عن كل منكر - وهو يفعله، ولذلك قال الشاعر [الكامل]: لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله .... عار عليك إذا فعلت عظيم

فليس في ظاهر اللفظ إلا ما يقتضي مدهم بالأمر والنهي لغيرهم، أما في أنفسهم فلا. قوله: (الآية تقتضي اتصافهم بذلك في الماضي لا في الحاضر): قلنا: صيغة (كنتم) للماضي، و (تأمرون)، و (تنهون) فعل مضارع للحال والاستقبال. والظاهر منه - هاهنا - أنه للحال المستمرة كقولهم: فلان يعطي ويمنع، ويصل ويقطع. وقول خديجة لرسول الله - عليه السلام-: (لن يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتُعين على نوائب الحق). أي: هذا شأنك، وسجيتك أبدًا في الماضي، والحال، والمستقبل، كذلك هاهنا. أي: سجيتكم، وخلقكم أنكم تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، فلا يختص ذلك بالماضي.

وبهذا نجيب عن قولهم: إن مفهوم الآية يدل على عدم حصوله في الحال؛ لأن مفهوم (كنتم) معارض بظاهر الفعل المضارع. قوله: (لا نقطع بشيء من الإجماعات بأنه حصل في ذلك الزمان). قلنا: قد تقدم أن الإجماع في زمانه - عليه السلام - انعقد على أشياء من الأصول والفروع، وذلك معلوم بالضرورة في الصلاة، وتحريم القتل، والزنا ونحو ذلك مما لا يختلف فيه لا قديمًا ولا حديثًا. قوله: (لا يوصف الشخص الواحد بكونه أمةً إلا مجازًا لقوله تعالى:} إن إبراهيم كان أمةً {[النحل:120]): قلنا: قال صاحب كتاب (الزينة): الأمة في اللغة يراد به لغةً: المختص بصفة واحدة، كان واحدًا أو كثيرًا. فأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أمة لاختصاصهم بتصديقه - عليه السلام - وكذلك جميع الأمم، وإبراهيم - عليه السلام - أمة؛ لأن أحدًا لم يشاركه في أحواله في زمانه. وقال - عليه السلام - في قس بن ساعدة: (يبعث يوم القيامة أمة واحدةً)؛ لأنه في زمانه انفرد بالتذكير بالوحدانية، والوعظ، فكان إطلاق الأمة على الواحد حقيقة.

(سؤال) قوله: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)

وقال المفسرون: الأمة: الجماعة لقوله تعالى:} وجد عليه أمةً من الناس {[القصص:3]، والأمة: الزمان لقوله تعالى:} وادكر بعد أمةٍ {[يوسف:45] والأمة: أهل الصفة الواحدة. قوله: (لفظ الأمة الجمع، فلا تحمل على الواحد): قلنا: لا نسلم أنه لفظ جمع لما تقدم معناه، ولفظه مفرد إجماعًا. (سؤال) قوله: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) [آل عمران: 110] صيغة فعل تقتضي حصول فرد من أفراد النهي في كل منكر، فلا يحصل من ذلك دوام الأمر، ودوام النهي، فلا يحصل المقصود، وإن سلم أن (اللام) في (المعروف) للعموم. * * *

المسلك الرابع قال الرازي: التمسك بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أن أمته لا تجتمع على خطأ)

المسلك الرابع قال الرازي: التمسك بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أن أمته لا تجتمع على خطأ). والكلام هاهنا يقع في موضعين: أحدهما: إثبات متن الخبر. والثاني: كيفية الاستدلال به. أما الأول: فللناس فيه طرق ثلاثة: الطريق الأول: ادعاء الضرورة في تواتر معنى هذا الخبر؛ قالوا: لأنه نقل هذا المعني بألفاظ مختلفةٍ؛ بلغت حد التواتر: الأول: روى عنه، عليه الصلاة والسلام: أنه قال: (أمتي لا تجتمع على خطأ). الثاني: (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن). الثالث: (لا تجتمع أمتي على ضلالةٍ). الرابع: (يد الله على الجماعة) رواه ابن عمر، رضي الله عنهما. الخامس: (سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على الضلالة، فأعطيتها). السادس: (لم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة) ألا وروى: (ولا على خطأ). وروى عن الحسن البصري وابن أبي ليلى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الخبر، وكان الحسن يقول: إذا حدثني أربعة من الصحابة تركتهم، وقلت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:، وهذا الخبر من مراسيله.

السابع: (عليكم بالسواد الأعظم) وذلك جماعة الأمة؛ لأن كل من دونهم، فالأمة بأسرها أعظم منه. الثامن: أبو سعيد مرفوعًا: (يد الله على الجماعة، ولا نبالي بشذوذ من شذ). التاسع: (من خرج من الجماعة قيد شبرٍ، فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه). العاشر: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، مات ميتة جاهليةً). الحادي عشر: أبو أمامة مرفوعًا: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم). الثاني عشر: عمران بن الحصين مرفوعًا: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق حتى يقاتلها الدجال). الثالث عشر: قام ابن عمر في الناس خطيبًا، وقال: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق، حتى يأتي أمر الله). الرابع عشر: (ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن: إخلاص العمل لله، والنصح لأئمة المسلمين، ولزوم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم) رواه جبير بن مطعمٍ، وجابر. الخامس عشر: (من سره أن يسكن بحبوحة الجنة، فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد) خطب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخطب به أيضًا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في جماعة الصحابة، رضي الله عنهم.

السادس عشر: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق؛ لا يضرهم من ناوأهم إلى يوم القيامة). السابع عشر: ثوبان مرفوعًا: (لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله). الثامن عشر: أنس وقوم آخرون، عنه عليه الصلاة والسلام: (ستفترق أمتي كذا وكذا فرقةً، كلها في النار إلا فرقةً واحدةً، قيل: ومن تلك الفرقة؟ قال: (هي الجماعة). وهذه الأخبار كلها مشتركة في الدلالة على معنى واحد، وهو أن الأمة بأسرها لا تتفق على الخطأ، وإذا اشتركت الأخبار الكثيرة في الدلالة على شيءٍ واحد، ثم إن كل واحدٍ من تلك الأخبار يرويه جمع كثير، صار ذلك المعنى مرويا بالتواتر؛ من جهة المعنى. الطريق الثاني: الاستدلال وهو من وجهين: أحدهما: أن هذه الأخبار، لو صحت، لثبت بها أصل عظيم مقدم على الكتاب والسنة، وما هذا شأنه كانت الدواعي متوفرةً على البحث عنه بأقصى الوجوه؛ أما الأولياء؛ فلتصحح هذا الأصل العظيم بها، وأما الأعداء؛ فلدفع مثل هذا الأصل العظيم. فلو كان في متنها خلل، لاستحال ذهولهم عنه، مع شدة بحثهم عنه، وطلبهم له، فلما لم يقدر أحد على الطعن فيها، علمنا صحتها. وثانيهما: أنه قد ظهر من التابعين إجماعهم على أن الإجماع حجة، وظهر منهم استدلالهم على ذلك بهذه الأخبار، والاستقراء دل على أن أمتنا

لا يجمعون على موجب خبرٍ؛ لأجل ذلك الخبر، إلا ويكونون قاطعين بصحة ذلك الخبر؛ فهذا يدل على قطعهم بصحة هذا الخبر. الطريق الثالث: أنا نسلم أن هذه الأخبار من باب الآحاد، وندعى الظن بصحتها، وذلك مما لا يمكن النزاع فيه، ثم نقول: إنها تدل على أن الإجماع حجة؛ فيحصل حينئذٍ ظن أن الإجماع حجة. وإذا كان كذلك، وجب العمل به؛ لأن دفع الضرر المظنون واجب، وهذا الطريق أجود الطرق. فنقول: أما الطريق الأول، وهو ادعاء التواتر فبعيد؛ فإنا لا نسلم بلوغ مجموع هذه الأخبار إلى حد التواتر؛ لأن العشرين، بل الألف لا يكون متواترًا؛ لأنه ليس يستبعد في العرف إقدام عشرين إنسانًا على الكذب في واقعةٍ معينة بعباراتٍ مختلفةٍ، وبالجملة فهم مطالبون بإقامة الدلالة على أن مجموع هذه الروايات يستحيل صدوره عن الكذب. سلمنا حصول القطع بهذه الأخبار في الجملة؛ لكنكم: إما أن تدعوا القطع بلفظها، أو بمعناها: أما القط بلفظها: فهو أن يقال: إنا، وإن جوزنا في كل واحدٍ من هذه الأحاديث أن يكون كذبًا، إلا أنا نقطع بأن مجموعها يستحيل أن يكون كذبًا، بل لابد أن يكون بعضها صحيحًا. وأما القطع بمعناها: فهو أن يقال: إن هذه الألفاظ على اختلافها مشتركة في إفادة معنى واحدٍ، فذلك المشترك يصير مرويا بكل هذه الألفاظ؛ فيصير ذلك المشترك منقولا بالتواتر. فنقول: إن أردتم الأول: فهو مسلم؛ لكن المقصود لا يتم إلا إذا بينتم أن كل

واحد من هذه الألفاظ يدل على أن الإجماع حجة، دلالة قاطعةً؛ إذ لو وجد فيها ما يدل على المطلوب، لا على هذا الوجه، لم يحصل الغرض؛ لأن الذي ثبت عندكم ليس إلا صحة أحد هذه الأخبار، فيحتمل أن يكون الصحيح هو ذلك الخبر الذي لا يدل دلالةً قاطعةً على حقية الإجماع؛ لكنا نرى المستدلين بهذه الأخبار، بعد فراغهم من تصحيح المتن، يتمسكون بواحد منها على التعيين؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تجتمع أمتي على خطأ) ويبالغون فيه سؤالا وجوابًا، ومعلوم أنه باطل. وأما إن أردتم الثاني: فنقول: ذلك المعنى المشترك بين الأخبار: إما أن يكون هو أن الإجماع حجة، أو معنى يلزم منه كون الإجماع حجةً: فإن كان الأول: فقد ادعيتم أنه نقل نقلا متواترًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الإجماع حجة، ومعلوم أن ذلك باطل؛ وإلا لكان العلم بكون الإجماع حجةً جاريًا مجرى العلم بغزوة بدرٍ وأحدٍ، ولما وقع الخلاف فيه. وأيضًا: فإنا نراكم، بعد الفراغ من تصحيح متن هذه الأخبار، تتمسكون بلفظ خبر واحد، وتوردون عليه الأسئلة والأجوبة، ولو كان ذلك منقولا؛ على سبيل التواتر، لكان ذلك الاستدلال عبثًا. وبهذا: يظهر الفرق بين علمنا بشجاعة على، وسخاوة حاتم؛ بسبب الأخبار المتفرقة، وبين هذه المسألة، فإنا بعد سماع تلك الأخبار المتفرقة، لا نحتاج إلى الاستدلال ببعض تلك الأخبار على شجاعة على؛ بل يحصل العلم الضروري بذلك. أما هاهنا: فقد سلمتم أن بعد سماع هذه الأخبار، نفتقر إلى الاستدلال

ببعضها على هذا المطلوب؛ فعلمنا أن كون الإجماع حجةً ليس جزءًا من مفهوم هذه الألفاظ. وإن ادعيتم أن هذه الأخبار دالة على معنىً مشتركٍ بين كلها، وذلك المعنى يقتضي كون الإجماع حجةً: فلابد من الإشارة إلى ذلك المعنى، ثم من إقامة الدليل على أنه يلزم من ذلك المشترك كون الإجماع حجةً، وأنتم ما فعلتم ذلك. فإن قلت: (القدر المشترك بين هذه الأخبار تعظيم أمر هذه الأمة، وبعدها عن الخطأ، وما يجرى هذا المجرى): قلت: تدعون التواتر في مطلق التعظيم، أو في تعظيم، ينافي إقدامهم على الخطأ في شيءٍ ما. الأول: مسلم، ولا يفيد الغرض. والثاني: ادعاء للتواتر في نفس كون الإجماع حجةً، وقد تقدم إبطاله. وأما الطريق الثاني، وهو الاستدلال: فضعيف. قوله: (لو كانت هذه الأحاديث ضعيفةً لطعنوا فيها): قلت: وقد طعنوا فيها بأنها من الآحاد. فإن قلت: (إن أحدًا من الصحابة والتابعين لم يقل: إنها من الآحاد، بل اتفقوا على أنها متواترة). سلمنا أنهم طعنوا فيها من هذا الوجه، لكن كان يجب أن يطعنوا فيها على سبيل التفصيل.

قلت: الجواب عن الأول: أن النقل عن المؤمنين؛ أنهم جعلوها من باب التواتر، ثبت بالتواتر، أو بالآحاد؟ الأول: يقتضي كونها متواترةً عندنا؛ لأنه متى كان الخبر متواترًا، وصح عندكم بالتواتر كونها متواترة عندهم، لزم كونها متواترةً عندكم؛ لكنكم في هذا المقام سلمتم أنها ليست كذلك. والثاني: يقتضي أن تكون هذه الأخبار من الآحاد؛ لأن كونها متواترة عن الصحابة والتابعين، لما لم يثبت عندنا إلا بالآحاد، كانت عندنا من باب الآحاد؛ لأن استواء الطرفين والواسطة معتبر في التواتر. وعن الثاني: أن نقول: ليس كل من لا يعلم صحته وجب أن يعلم فساده؛ فالصحابة والتابعون ما عرفوا صحة هذه الأخبار، ولا فسادها، بل ظنوا صحتها؛ فلا يجب عليهم في هذه الحالة أن يطعنوا فيها على سبيل التفصيل. وأما الوجه الثاني في الاستدلال وهو قوله: (الصحابة والتابعون أجمعوا على صحة الإجماع، وإنما أجمعوا على صحته لهذه الأخبار، وعادة أمتنا أنهم لا يجمعون على موجب خبرٍ؛ لأجل ذلك الخبر إلا وكان الخبر مقطوعًا به): قلنا: المقدمات الثلاثة ممنوعة؛ فلا نسلم إجماع الصحابة والتابعين على صحة الإجماع. سلمناه، لكن لا نسلم أنهم إنما ذهبوا إلى ذلك لأجل هذه الأخبار، بل إنما قالوا به لأجل الآيات. فإن ادعوا التواتر في هذين المقامين، كان ذلك مكابرةً؛ فإن تلك الأخبار

أظهر بكثيرٍ من ادعاء هذين المقامين، ولما لم يدعوا التواتر في تلك الأخبار، فلأن لا يجوز ادعاؤه في هذين المقامين كان أولى. سلمنا هما، لكن لا نسلم أن عادتهم جارية بأنهم لا يجمعون على موجب خبر؛ لأجل ذلك الخبر، إلا وقد قطعوا بصحته؛ ألا ترى أن الصحابة أجمعوا على حكم المجوس؛ بخبر عبد الرحمن، وأجمعوا على أن المرأة لا تنكح على عمتها، ولا خالتها؛ بخبر واحد؟!. وبالجملة: فهم مطالبون بالدلالة على هذه العادة التي ادعوها. فثبت بما ذكرنا ضعف هذه الوجوه، وثبت أن الصحيح هو الطريق الثالث؛ وهو أن نجعلها من أخبار الآحاد؛ وعلى هذا لا نحتاج إلى تكثيرها، بل كل واحد منها يكفي في الاستدلال. المقام الثاني: في كيفية الاستدلال: التمسك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجتمع أمتي على خطأ) فإن قيل: إن كان المراد بقوله: (أمتي) - كل من يؤمن به إلى يوم القيامة، خرج الإجماع عن كونه حجةً. وإن كان المراد به الموجودين وقت نزول ذلك الخبر، دل ذلك على أن إجماعهم حجة؛ لكنا إنما نعرف إجماعهم، إذا عرفناهم بأعيانهم، وعرفنا بقاءهم إلى ما بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك غير معلومٍ؛ فحينئذٍ يخرج الإجماع عن كونه حجةً. سلمنا أن المراد بالأمة أهل كل عصر؛ لكن لم قلت: إن هذه اللفظة تدل على نفي الخطأ عنهم؟ لاحتمال أن قوله: (لا تجتمع أمتي على خطأٍ) جاء بسكون

العين؛ على أن يكون ذلك نهيًا منه - صلى الله عليه وسلم - لأمته عن أن يجتمعوا على خطأٍ، فاشتبه ذلك على الراوي، فنقله مرفوعًا؛ على أن يكون خبرًا. سلمنا كونه خبرًا؛ لكن لم قلت: إنه يدل على نفي الخطأ بأسره عنهم، ولا نسلم أن النكرة في النفي تعم؟! وإذا كان كذلك، فإما أن نحمله على نفي السهو، أو نفي الكفر؛ جمعًا بينه وبين الحديث المروى في هذا الباب، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمتي لا تجتمع على ضلالة). سلمنا كون الأمة مصيبين في كل أقوالهم وأفعالهم؛ فلم لا تجوز مخالفتهم؟ فإن المجتهد قد يكون مصيبًا، مع أن المجتهد الآخر يكون متمكنًا من مخالفته. والجواب: أما السؤال الأول فمدفوع بسائر الأحاديث الواردة في هذا الباب، وهي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) وقوله: (ما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن). وقوله: (من فارق الجماعة قيد شبرٍ فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه). قوله: (لعل هذا الحديث ورد على صيغة النهي): قلنا: عدالة الراوي تفيد ظن صحة تلك الرواية، ومطلوبنا هاهنا الظن، وإلا لو فتحنا هذا الباب لا نسد باب الاستدلال بأكثر النصوص. ثم أنه مدفوع بسائر الأحاديث، وأما أن النكرة في النفي تعم، فقد تقدم بيانه في باب العموم. قوله: (نحمله على نفي السهو):

شرح القرافي: قال صاحب (المجمل): الربقة: قلادة كالخيط

قلنا: اجتماع الجمع العظيم على عدم السهو ممتنع، فلا يمكن ذكره في معرض التعظيم، ولأنه لا يكون في تخصيص أمته بذلك فضيلة. قوله: (نحمله على نفي الكفر؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجتمع أمتي على ضلالة): قلنا: كل حديث مستقل بنفسه، ولأن الضلال لا يقتضي الكفر؛ قال الله تعالى:} ووجدك ضالا فهدى {[الضحى:7] وقال:} فغلتها إذن وأنا من الضالين {[الشعراء: 20]. قوله: (هب أن الأمة مصيبون في إجماعهم؛ فلم لا تجوز مخالفتهم)؟ قلت: لأن الأمة على قولين: منهم من قال: إن الإجماع حجة؛ لا تجوز مخالفته. ومنهم من قال: إنه ليس بحجة، فلو قلنا: إنه حجة، تجوز مخالفتها، لكان قولا خارجًا عن أقوال الأمة، فلو كان الحق، ذلك لكانت الأمة متفقين على الخطأ، وذلك باطل بالحديث. المسلك الرابع (فائدة) الربقة قال القرافي: قال صاحب (المجمل): الربقة: قلادة كالخيط. قوله في الطريق الثالث: (الناس يتمسكون بواحد من هذه الأخبار على التعيين) كقوله عليه السلام: (لا تجتمع أمتي على خطأٍ)، ويبالغون فيه سؤالا وجوابًا، ومعلوم أنه لا يفيد القطع).

قلنا: قد تقدم كلام التبريزي في المسلك الأول - أن معنى تمسك العلماء في هذه المسائل القطعية بالظاهر الواحد أن المقصود به دلالته بقيد ما يضاف إليه من السنة والكتاب، وقرائن الأحوال الحالية، والمقالية، فهو مقيد بقيد يقبل القطع معه. وكذلك القول في كل ظاهرٍ، المراد به ما هو معه من العواضد والمبهمات، وليس المقصود الاقتصار عليه وحده.

فهذا هو المحسن لتمسك العلماء بالظواهر في الأدلة القطعية، وهو جواب سعيد سديد.

(سؤال) قوله عليه السلام: (لا تزال طائفة من أمتي) ونحوه من النصوص - إن أريد بالأمة - هاهنا - أهل العقد والحل الذين هم مجتهدون، فقد انقطعوا من بعد ثلاثمائة، ولم يبق إلا المقلدون

(سؤال) قوله عليه السلام: (لا تزال طائفة من أمتي) ونحوه من النصوص - إن أريد بالأمة - هاهنا - أهل العقد والحل الذين هم مجتهدون، فقد انقطعوا من بعد ثلاثمائة، ولم يبق إلا المقلدون. فالواقع يمنع التمسك بهذا الخبر. وإن ادعيتم غيرهم، فهو غر مقصود، كما هو المراد لا يمكن حمل النص عليه، وما يحمل النص عليه غير مراد لكم. قوله: (لو كان الإجماع منقولا بالتواتر لحصل العلم الضروري به؛ لضرورة (بدر) وغيرها): قلنا: المتواترات تشترك في التواتر، ويختلف انتشار العلم الحاصل فيها، وعمومه للخلق. فالمؤذن إذا سقط يوم الجمعة من منار الجامع تواتر ذلك عند أهل الجامع، وبقية البلد لا علم عندهم من ذلك. ورب شيء متواتر في بلد دون غيره، وفي إقليم دون غيره من الأقاليم، فلا يلزم من حصول أصل التواتر عموم العلم به لجميع الخلائق، بل قد يخص ذلك قواعد أصول الفقه، فالقطع، والتواتر المعنوي حاصل بها لمن كثر

استقراؤه، وتوفر حفظه، واشتد اطلاعه، وهو قليل في الناس جدًا، فلا جرم لم يحصل العلم به لعموم الناس، بخلاف (بغداد)، ووقعة (بدر) وغيرها اتفق أن تواترت، وعم التواتر أكثر [على] المعموم، فلا يحصل التواتر ملزومًا لعموم العلم بذلك المتواتر لكل أحد. قوله: (يحتاجون في هذه الظواهر إلى بيان الاستدلال، ودفع الأسئلة عنها، ولو كان متواترًا لما احتاجوا إلى ذلك؛ لأنه عبث، كما أنا إذا ذكرنا شجاعة على، وسخاء حاتم لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه عبث). قلنا: نحن في أدلة الإجماع، إذا تمسكنا منها بظاهر، فنحن ندعى أنه له دلالة ظنية مضافة إلى غيره مما تقدم ذكره، فيكون باعتبار ذاته مفيدًا للظن، وباعتبار ما يضاف إليه مفيدا للقطع. فنحن في المقام الأول نبين أنه يفيد الظن، وأنه صالح للدلالة من حيث الجملة، فلذلك نورد عليه الأسئلة والأجوبة، حتى يتقرر فيه الظن السالم عن المعارض، فلا نلاحظه مضافًا لتلك الأمور، فيحصل القطع، ونظيره التواتر، كل واحد من المخيرين بالنظر إلى ذاته يفيد الظن، ومضاف لغيره يفيد القطع، فلابد أن يتقرر عندنا أولا أنه يفيد الظن؛ إذ لولا ذلك لاستحال وصولنا للعلم بإخبارات لا تفيد آحادها الظنون، فتأمل ذلك، أما شجاعة على ونحوها، فقد تقررت للضرورة تقررًا عامًا أغنت عن ذلك، بخلاف الضرورة - هاهنا - هي مخصوصة بمن كثر اطلاعه كما تقدم، فاحتجنا لتأسيس الظن، ثم نحيل على كثرة الاطلاع، فهذا هو الفرق. قال التبريزي: التفطن للمشترك في إخبار الشجاعة لا يفتقر إلى نظر وفكر، بخلاف قوله عليه السلام: (لا تجتمع أمتي على خطأ)، (وعليكم

بالسواد الأعظم)، فلذلك احتجنا للنظر لبيان المشترك بينهما وغيرهما. قوله: (إذا صح بالتواتر عندكم أنها متواترة عندهم، لزم كونها متواترة عندكم). قلنا: لا نسلم هذه الملازمة؛ لأن كون تلك الألفاظ متواترةً معنية عن كون الإجماع حجة. وكون التواتر متواترًا عندنا معنى آخر غير كون الإجماع حجة، فلا يلزم من تواتر الثاني تواتر الأول. وهذا كما يعلم بالضرورة أن كثيرًا من معجزاته - عليه السلام - وأحاديثه كانت متواترة عند الصحابة، ونحن نعلم ذلك بالضرورة، وما لزم من

حصول العلم الضروري لكونها كانت ضرورية عندهم - كونها ضرورية عندنا نحن، ولأن تلك المعجزات التي صارت اليوم تروى بأخبار الآحاد لم تصر ضرورية عندنا. وما سببه أن متعلق أحد الاعتقادين غير متعلق الآخر، فجاز أن يكون أحدهما ظنًا، والآخر علمًا، ولا يلزم أن يصير الأول معلومًا لنا، كما كان معلومًا لهم. قوله: (قد يكون المجتهد مصيبًا، والآخر متمكنًا من مخالفته): تقريره: أن المجتهد يجتهد في القبلة، فيصادفها، والآخر تعرض له شبهة تصرفه عنها، وفيجب عليه الصلاة للجهة التي دلت عليها الشبهة، فيتمكن من مخالفة المصيب، وكذلك في الأحكام الشرعية، ويرد عليه أن للمجتهد مخالفة المجتهد إذا لم يعلم أنه مصيب، وهاهنا إصابة الأمة معلومة بخلاف المجتهد، وهذا فرق حسن. * * *

المسلك الخامس قال الرازي: دليل العقل: وهو الذي عول عليه إمام الحرمين، رحمه ال

المسلك الخامس قال الرازي: دليل العقل: وهو الذي عول عليه إمام الحرمين، رحمه الله، فقال: (إجماع الخلق العظيم على الحكم الواحد يستحيل أن يكون، إلا لدلالة، أو أمارة: فإن كان لدلالة فقد كشف الإجماع عن وجود تلك الدلالة، فيكون خلاف الإجماع خلافًا لتلك الدلالة، وإن كان لأمارةٍ فقد رأينا التابعين قاطعين بالمنع عن مخالفة هذا الإجماع، فلولا اطلاعهم على دلالة قاطعةٍ مانعةٍ من مخالفة هذا الإجماع، وإلا لاستحال اتفاقهم على المنع من مخالفته). وهذه الدلالة ضعيفة جدًا؛ لاحتمال أن يقال: إنهم قد اتفقوا على الحكم لا لدلالة، ولا لأمارة، بل لشبهة، وكم من المبطلين مع كثرتهم وتفرقهم في الشرق والغرب قد اتفقت كلمتهم لأجل الشبهة. سلمنا الحصر؛ فلم لا يجوز أن يكون لأمارةٍ تفيد الظن؟ قوله: (رأينا الصحابة مجمعين على المنع من مخالفة هذا الإجماع، وذلك يدل على إطلاعهم على دليل قاطعٍ مانعٍ من مخالفة هذا الإجماع): قلنا: لا نسلم اتفاق الصحابة على ذلك. سلمناه؛ لكنك لما جوزت حصول الإجماع لأجل الأمارة، فلعلهم أجمعوا على المنع من مخالفة الإجماع الصادر عن الأمارة؛ لأمارةٍ أخرى. فإن قلت: إنهم لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن الأمارة، وقد تعصبوا في هذا الإجماع؛ فدل على أن هذا الإجماع ما كان عن أمارةٍ.

شرح القرافي: قوله: (لم لا يكون التابعون أجمعوا على المنع من مخالفة الإجماع لأمارة؟)

قلت: إذا سلمت أنهم لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن الأمارة، فقد بطل قولك: (إنهم منعوا من مخالفة هذا الإجماع). المسلك الخامس قال القرافي: قوله: (لم لا يكون التابعون أجمعوا على المنع من مخالفة الإجماع لأمارة؟): قلنا: الخصم ادعى أن التابعين كانوا قاطعين بالمنع، وعلمنا بالضرورة أن التابعين كانوا قاطعين بالضرورة من مخالفة الإجماع، يمنع من كون المستند أمارة؛ فإن الأمارة لا تفيد إلا الظن، والتقدير: أنا قاطعون بأنهم كانوا قاطعين، فلا يتم هذا السؤال. (سؤال) قوله: (إطباق الجمع العظيم إما أن يكون لدلالة، أو لأمارة): قلنا: نختار الدلالة، ولا يحصل المطلوب؛ لأن كون حكمهم لدلالة تقتضي كون ذلك الحكم حقًا لا يجوز مخالفته لأجل ذلك الدليل؛ وكونه حقًا في نفسه، والمطلوب المنع من مخالفة ذلك الحكم؛ لكونهم أفتوا به، لا لأجل دليل الحكم، فلا يحصل المطلوب. (سؤال) قال التبريزي: الاتفاق على العمل بخبر عبد الرحمن، وأمثاله ليس نقضًا على هذه القاعدة؛ لأنهم لو خالفهم واحد قبل الاتفاق لم يفسقوه. ولأن علمهم به استند إلى ما علموه على القطع من وجوب العمل بخبر

(سؤال) قال التبريزي: قوله: (دفع الضرر المظنون واجب) - ممنوع من حيث هو ضرر

الواحد، كالعلم الحاصل لوجوب العمل بشهادة العدلين مع تجويز الخطأ عليهما؛ ولأنهم إذا اتفقوا على العمل به قطعنا بصدقه، وأنهم عرفوا صدقه قطعًا، ولا يلزم من كونه خبر واحدٍ ألا يفيد اليقين. (سؤال) قال التبريزي: قوله: (دفع الضرر المظنون واجب) - ممنوع من حيث هو ضرر، ولو كان مقطوعًا به دنيويًا أو أخرويًا. أما الدنيوي: فإن السكوت عن دفع البهيمة يتلف ماله، أو نارٍ تحرق داره مع القدرة عليه ليس بحرام، بل الاستسلام للصائل المسلم جائز على قول. وإن كان أخرويًا أدى إلى التسلسل. فإنه كما يعاقب على ترك الصلاة نظرًا إلى كونها صلاة، يجب أن يعاقب أيضًا نظرًا على أنه ترك دفع ضرر العقاب اللازم عن تركها؛ فإنه غير ترك الصلاة، وهكذا إلى ما لا يتناهي. ولا يمكن أن يقال: يعاقب عقابًا واحدًا عليها؛ لأنه تعليل للحكم بعلتين، وهو عنده محال. ولأنه لا يعقل أن يعاقب على ترك دفع العقاب المقام بعينه، فإن الكلام فيه كالكلام في الأول، ويلزم التسلسل؛ ولأنه لا نسلم له أنه إذا ظن كونه حجةً، ولم يقطع به يتوقع للضرر من ترك العلم به؛ فإن لحوق الضرر بترك العمل به فرع ثبوت التكليف بالعمل به، وهو صورة النزاع. بل الخصم يقول: الضرر على التحقيق في العمل به، وترك النظر في الدليل. ولأنا نطالبه بالدليل على ذلك؛ فإنه ليس من القضايا الضرورية، ولا مجال للعقل في الأحكام الشرعية.

وأدلة الشرع: إما نص، أو إجماع، أو قياس، وهي منتفية هاهنا، ولا مطمع في نص قاطع. والمظنونات تحتاج إلى دليلٍ، وتمسكنا فيه بالإجماع ونظرنا الآن فيه، وكذلك القياس إن استند فيه إليه، وفيه إثبات للشيء بما لا يثبت إلا به، وهو دور مع أن ما ذكره منقوض بالطم والرم، كدعوى المدعى سكوت المدعى عليه، أو يمينه مع حسن حاله، واليمين على المبالغة. ورواية الفاسق والكافر، وشهادتهما وشهادة العدل الواحد، والنساء، والعبيد، والمراهقين، واتفاق معظم الأئمة على العقلاء من أهل الملل بأنه لا ينظر بالأمارات المغلبة على الظن صدق المتحدي بالنبوة، ولا يقال: إنا إذا لم نعلم صدقه بالمعجزة قطعنا بكذبه؛ لأن هذا إنما يصح أن لو انحصرت الدلالة في المعجزة. أما إذا ثبت وجوب العمل بالأمارة، فأي حاجة إلى المعجزة؟ * * *

المسألة الرابعة قال الرازي: أما الشيعة فقد استدلوا على أن الإجماع حجة؛ بأن زمان التكليف لا يخلو عن الإمام المعصوم

المسألة الرابعة قال الرازي: أما الشيعة فقد استدلوا على أن الإجماع حجة؛ بأن زمان التكليف لا يخلو عن الإمام المعصوم، ومتى كان كذلك، كان الإجماع حجةً. بيان الأول يتوقف على إثبات أمرين: الأول: أنه لابد من الإمام؛ والدليل عليه: أن الإمام لطف، وكل لطف واجب، فالإمام واجب، وإنما قلنا: إن الإمام لطف؛ لأنا نعلم أن الخلق، إذا كان لهم رئيس قاهر يمنعهم عن القبائح، ويحثهم على الواجبات، كان حالهم في الإتيان بالواجب، والاجتناب عن القبيح أتم من حالهم، إذا لم يكن لهم هذا الرئيس، والعلم بذلك بعد استقراء العادة ضروري. وإنما قلنا: إن اللطف واجب؛ لوجهين: الأول: أن اللطف كالتمكين؛ في كونه إزاحةً لعذر المكلف، فإذا كان التمكين واجبًا، فكذا اللطف، إنما قلنا: إن اللطف كالتمكين؛ لأنه يثبت في الشاهد أن أحدنا، إذا دعا غيره إلى طعام، وكان غرضه نفع ذلك الغير، وبقي على ذلك الغرض إلى وقت التناول ولم يبدله، وعلم أنه متى تواضع له، فغنه يتناول طعامه، ومتى لم يفعل ذلك، لم يتناوله، فإن تركه التواضع في هذه الحال، يجرى مجرى رد الباب عليه، والعلم به ضروري. الثاني: أن المكلف، لو لم يجب عليه فعل اللطف، لم يقبح منه فعل المفسدة أيضًا؛ لأنه لا فرق في العقل بين فعل ما يختار المكلف عنده القبيح، وبين ترك ما يخل المكلف عنده بالواجب.

فثبت أن اللطف واجب، وثبت أنه لابد في زمان التكليف من الإمام. الثاني: أن ذلك الإمام يجب أن يكون معصومًا، والدليل عليه أنه إنما احتاج الخلق إلى الإمام؛ لصحة القبيح عليهم، فلو تحققت هذه الصحة في الإمام، لافتقر الإمام إلى إمامٍ آخر، ولزم التسلسل، وهو محال. فثبت أنه يجب أن يكون معصومًا، وثبت أنه لابد في زمان التكليف من إمام معصومٍ، وإذا ثبت هذا، وجب كون الإجماع حجةً؛ لأنه مهما اتفق العلماء على حكمٍ، فلابد، وأن يوجد في أثناء قولهم قول ذلك المعصوم؛ لأنه أحد العلماء، بل هو سيدهم وإلا لم يكن ذلك قولا لكل الأمة، وقول المعصوم حق، فإذن: إجماع الأمة يكشف عن قول المعصوم الذي هو حق؛ فلا جرم؛ قلنا: الإجماع حجة. والسؤال عليه: أنا لا نسلم أنه لابد من إمامٍ، ولا نسلم أنه لفظ، ولا نسلم أن الخلق، إذا كان لهم رئيس يمنعهم عن القبائح، ويحثهم على الطاعات، كانوا أقرب إليها مما إذا لم يكن لهم هذا الرئيس. بيانه: أنكم تزعمون أن الله - عز وجل - ما أخلى العالم قط من رئيسٍ، فقولكم: (وجدنا، متى خلا عن الرئيس، حصلت المفاسد) باطل؛ لأنكم إذا لم تجدوا العالم خاليًا عنه قط، فكيف يمكنكم أن تقولوا: إنا وجدنا العالم، متى خلا عن الإمام، حصلت المفاسد؟ بل الذي جربناه أنه متى كان الإمام في الخوف والتقية، حصلت المفاسد؛ لكنكم لا توجبون ظهوره وقوته، فالذي

تريدونه من أن ظهور المفسدة عند عدمه أزيد مما وجدتموه عند خوفه وتستره - شيء ما جربتموه، والذي جربتموه وهو ظهور المفسدة عند ضعفه وخوفه، فأنتم لا تقولون به؛ فظهر فساد قولكم. سلمنا إمكان هذه التجربة؛ لكنا نقول: تدعون اندفاع هذه المفاسد بوجود الرئيس - كيف كان - أو بوجود الرئيس القاهر؟ الأول ممنوع؛ فلابد من الدلالة، واستقراء العرف لا يشهد لهم ألبتة؛ لأن الخلق إنما ينزجرون من السلطان القاهر، فأما السلطان الضعيف، فلا، بل الشخص الذي لا يرى، ولا يعرف، ولا يظهر منه في الدنيا أثر، ولا خبر، فإنه لا يحصل بسببه انزجار عن القبائح، ولا رغبة في الطاعات؛ فلم قلتم: إن مثل هذا الإمام يكون لطفًا؟. وإن أردتم الثاني، فهو مسلم؛ لكنكم لا توجبونه. فالحاصل: أن الذي عرف بالاستقراء كونه لطفًا، أنتم لا توجبونه، والذي توجبونه، لا يعرف بالاستقراء كونه لطفًا. فإن قلت: نحن الآن في إثبات وجوب أصل الإمام، فأما البحث عن كيفية، فذاك يتعلق بالفضل، ونحن الآن لا نتكلم فيه. ثم السبب في تستره ظاهر، وهو أن الإمام، لو أزيل عنه الخوف، لظهر، ولزجر الناس عن القبائح، ورغبهم في الطاعات، فحيث أخافوه، كان الذنب من قبلهم. قلت: إنكم ادعيتم وجوب نصب الإمام، كيف كان، سواء كان ظاهرًا، أو

مخفيًا، ودللتم على وجوبه بكونه لطفًا، ودللتم على كونه لطفًا بتفاوت حال الخلق معه في الطاعات والمعاصي، فلابد من إثبات هذه المقدمة عند وجود الإمام؛ كيف كان الإمام حتى يمكن الاستدلال به على وجود الإمام، كيف كان ونحن نمنع ذلك؛ فإن تمسكتم باستقراء أحوال العالم: قلنا: ذلك التفاوت إنما يحصل من الإمام القاهر، وأنت محتاج إلى بيان حصول التفاوت من وجود الإمام، كيف كان، فما لم تشتغلوا بإثبات هذه المقدمة، لا يتم دليلكم، فأي نفعٍ لكن هاهنا في أن تذكروا السبب في غيبته وخوفه؟ سلمنا: أن نصب الإمام يقتضي تفاوت حال الخلق، من الوجه الذي ذكرتموه، لكنه متى يجب نصبه؟! إذا خلال عن جميع جهات القبح، أو إذا لم يخل؟ الأول: مسلم؛ ولكن دليلكم لا يتم إلا إذا أقمتم الدلالة على خلوه عن جميع جهات المفسدة، وأنتم ما فعلتم ذلك. والثاني: ممنوع؛ لأن بتقدير اشتماله على جهة واحدة من جهات القبح لا يجوز نصبه؛ لأنه يكفي في كون الشيء قبيحًا اشتماله على جهة من جهات القبح، ولا يكفي في حسنه اشتماله على جهةٍ واحدةٍ من جهات الحسن، ما لم يعرف انفكاكه عن كل جهات القبح. فإن قلت: ما ذكرته مدفوع من أربعة أوجهٍ: أحدها: أنه لو جاز القدح في كون الإمام لطفًا بما ذكرته، جاز القدح في كون معرفة الله تعالى لطفًا بذلك؛ لأن الذي يمكننا في بيان أن معرفة الله تعالى لطف هو أنها باعثة على أداء الواجبات، والاحتراز عن القبائح العقلية.

فأما بيان خلوها عن جميع جهات القبح، فمما لم يوجبه أحد، فلو قدح هذا في كون الإمامة لطفًا، لقدح في كون معرفة الله تعالى لطفًا. وثانيها: أن ما ذكرته يفضي إلى تعذر القطع بوجوب شيء على الله تعالى؛ لكونه لطفًا؛ لأنه لا شيء يدعى كونه لطفًا إلا، والاحتمال المذكور قائم فيه. وثالثها: أنه لا دليل على اشتمال الإمامة على جهة قبحٍ، وما لا دليل عليه، وجب نفيه. ورابعها: أن جهات القبح محصورة، وهي: كون الفعل كذبًا، وظلمًا، وجهلا، وغيرها من الجهات، وهي بأسرها زائلة عن الإمامة؛ فوجب القطع بنفي اشتمالها على جهةٍ من جهات القبح. قلنا: أما الأول فغير لازمٍ؛ لأن هذا الاحتمال الذي ذكرناه في الإمامة، إن كان بعينه قائمًا في المعرفة من غير فرقٍ، وجب الجواب عنه في الموضعين، ولا يلزم من تعذر الجواب عنه في الصورتين الحكم بسقوطه من غير جوابٍ. وإن حصل الفرق بين الصورتين، بطل ما ذكرتموه. ثم إن الفرق أن معرفة الله، عز وجلن من الألطاف التي يجب علينا فعلها، فإذا علمنا اشتمال المعرفة على جهة مصلحة، ولم نعلم اشتمالها على جهة مفسدة، غلب على ظننا كونها لطفًا، والظن في حقنًا قائم مقام العلم، في اقتضاء العمل؛ فإنه كما يقبح الجلوس تحت الجدار المائل الذي يعلم سقوطه، كذلك يقبح إذا ظن ذلك؛ فلا جرم وجب علينا فعل المعرفة. أما الإمامة: فهي من الألطاف التي توجبونها على الله - عز وجل - ولا يكفي

في الإيجاب على الله تعالى ظن كونها لطفًا؛ لأنه، عز وجل، عالم بجميع المعلومات، فما لم يثبت خلو الفعل عن جميع جهات القبح لا يمكن إيجابه على الله، عز وجل، فظهر الفرق. وعن الثاني: أنا لا نقول في فعلٍ معينٍ: إنه لطف، فيكون واجبًا على الله، عز وجل؛ لأن الاحتمال المذكور قائم فيه؛ بل نقول: الذي يكون لطفًا في نفسه، فإنه يجب فعله على الله - عز وجل - وذلك لا يقدح فيه الاحتمال المذكور. وعن الثالث: أن نقول: ما المراد من قولك: (ما لا دليل عليه، وجب نفيه)؟. إن عنيت به: أن ما لا يعلم عليه دليل، وجب نفيه، فهذا باطل؛ وإلا وجب على العوام نفي أكثر الأشياء؛ لعدم علمهم بأدلتها، وإن عنيت: أن ما لا يوجد دليل عليه في نفس الأمر، وجب نفيه، فهذا أيضًا ممنوع، وبتقدير التسليم؛ لكن لا نسلم أنه لم يوجد عليه دليل، فعله وجد، وأنتم لا تعلمونه!! فإن قلت: (سبرت، وبحثت؛ فما وجدت): قلت: أقم الدلالة على أن عدم الوجدان يدل على عدم الوجود. وعن الرابع: أن صوم أول يوم من شوالٍ لم يشتمل على كونه ظلمًا، وجهلا، وكذبًا، مع أنه قبيح، فجوز هاهنا مثله، وبالجملة، فالتقسيم الذي يكون حجةً هو المنحصر، أما غيره فلا. سلمنا أنه لابد في القدح في كونه لطفًا، من تعيين جهة المفسدة؛ لكن هاهنا جهتان: إحداهما: أن نصب الإمام يقتضي كون المكلف تاركًا للقبيح، لا لكونه قبيحًا؛

بل للخوف من الإمام، وأما عند عدم الإمام، فالمكلف إنما يتركه؛ لقبحه، لا للخوف من الإمام. فإن قلت: هذا باطل بترتب العقاب على فعل القبيح؛ فإنه يقتضي أن يكون المكلف تاركًا للقبيح، لا لقبحه، بل للخوف من العقاب. قلت: أنا سائل، فيكفيني أن أقول: لم لا يجوز أن تكون هذه الجهة مفسدةً مانعةً؟ وعليك الدلالة على أنها ليست كذلك. ولا يلزم من قولنا: (ترتيب العقاب عليه لا يقتضي هذه الجهة من المفسدة) أن يكون نصب الإمام غير مقتضٍ لها؛ لاحتمال أن يكون حال كل واحدةٍ منهما بخلاف حال الآخر. والذي يحقق ذلك أن ترتيب العقاب على فعل القبيح لا يعلم إلا بالشرع، فقبل ورود الشرع يجوز أن تكون فيه مفسدة من هذه الجهة، فلما ورد الشرع به، علمنا أنه لا مفسدة فيه من هذه الجهة؛ لأن الشرع لا يأتي بالمفسدة، فنظيره في مسألتنا أن تقولوا: يجوز قبل ورود الشرع أن يكون نصب الإمام مفسدةً من هذه الجهة، فلما ورد الشرع به، علمنا أنه لم يكن مفسدةً من هذه الجهة؛ لكن على هذا التقدير يصير وجوب الإمامة شرعيا. وثانيهما: أن يقال: فعل الطاعة، وترك المعصية عند عدم الإمام أشق منهما عند وجوده، فيكون نصب الإمام سببًا لنقصان الثواب من هذا الوجه، وبتقدير هذا الاحتمال، فلا نسلم أنه يحسن نصب الإمام، فضلا عن وجوبه. سلمنا أن الإمام لطف؛ لكن في كل الأزمنة، أو في بعشها؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم.

بيانه: أن من الجائز أن يتفق في بعض الأزمنة وجود قوم يستنكفون عن طاعة الغير، ويعلم الله تعالى منهم أنه متى نصب لهم رئيسًا، قصدوه بالقتل، وإثارة الفتن العظيمة، وإذا لم ينصب لهم رئيسًا، فإنهم لا يقدمون على القبائح، ولا يتركون الواجبات، فيكون نصب الرئيس في ذلك الوقت مفسدةً، ثم هذا، وإن كان نادرًا، إلا أنه لا زمان إلا ويجوز أن يكون هو ذلك الزمان النادر؛ وحينئذٍ لا يمكن الجزم بوجوب نصب الإمام في شيءٍ من الأزمنة. فإن قلت: هذا مدفوع من وجهين: الأول: أن الاستنكاف إنما يكون عن الرئيس المعين، وليس الكلام الآن فيه، بل في مطلق الرئيس. الثاني: أن هذه مفسدة نادرة، والمفاسد الحاصلة عند عدم الإمام غالبة، وإذا تعارض الغالب والنادر، كان الغالب أولى بالدفع. قلت: الجواب عن الأول: أنه كما يتفق الاستنكاف عن طاعة رئيسٍ معين، فقد يتفق الاستنكاف عن طاعة مطلق الرئيس، وأيضًا: فإذا سلمتم أن الاستنكاف قد يقع عن طاعة الرئيس المعين، فيكون نصب ذلك المعين مفسدةً، ثم إذا لم يمكن تحصيل المطلق، إلا في ذلك المعين، كما هو قولكم في الإمامة في أشخاص معينين، كان ذلك المطلق أيضًا مفسدةً. وعن الثاني: هب أن الزمان الذي يقع فيه ذلك الاحتمال نادر، إلا أن كل زمانٍ، لما احتمل أن يكون هو ذلك النادر، لم يمكنا القطع بوجوب نصبه في شيءٍ من الأزمنة.

سلمنا أن الإمامة لطف في كل الأزمنة؛ لكنها لطف يقوم غيرها مقامها، أو لا يقوم؟ الأول: مسلم؛ ولكن لما قام غيرها مقامها، لم يمكن الجزم بوجوبها على التعين. والثاني ممنوع، فلابد من الدلالة عليه. ثم إنا نبين إمكان البدل على الإجمال؛ تبرعًا؛ فنقول: إنكم توجبون عصمة الإمام، وليست عصمة الإمام بإمامٍ آخر معصومٍ، وإلا وقع التسلسل. فإذن: له شيء سوى الإمام وقع لطفًا في الاحتراز عن القبائح، وأداء الواجبات. وإذا ثبت ذلك في الجملة، فلم لا يجوز أن يحصل للأمة لطف قائم مقام الإمام؟ وحينئذٍ لا يكون نصب الإمام واجبًا عينًا. سلمنا كون الإمام لطفًا على التعين؛ لكن في المصالح الدنيوية، أو الدينية؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع. بيانه: أن ما ذكرتموه من منفعة وجود الإمام ليس إلا في حصول نظام العالم، واندفاع الهرج والمرج، وذلك كله مصلحة دنيوية، وتحصيل الأصلح في الدنيا غير واجب على الله تعالى، فما يكون لطفًا فيه أولى ألا يجب. أو في إقامة الصلوات، وأخذ الزكوات، وذلك كله مصالح شرعية، فما يكون لطفًا فيه، لا يجب وجوده عقلا، وإن ادعيتم كونه لطفًا في شيءٍ آخر وراء ذلك، فهو ممنوع.

فإن قلت: الإمام لطف في المصالح الدينية العقلية؛ لأنه إذا زجرهم عن القبائح، وأمرهم بالواجبات العقلية مرةً بعد أخرى، تمرنت نفوسهم عليها، وإذا تمرنت نفوسهم عليها، تركوا القبائح؛ لقبحها، وأتوا بالواجبات؛ لوجه وجوبها، وذلك مصلحة دينية. قلت: لا نسلم تفاوت حال الخلق بسبب وجود الإمام في هذا المعنى؛ فإن بوجود الإمام ربما وقعت أحوال القلوب؛ على ما ذكرتموه، وربما صارت بالضد من ذلك؛ لأنهم إذا أبغضوه بقلوبهم، وعاندته نفوسهم، ازدادت المفسدة، وربما أقدموا على الأفعال والتروك؛ لمحض الخوف منه. وبالجملة: فالتفاوت الحاصل في أحوال الخلق، إنما يظهر فيما عددناه من المصالح الدنيوية، أو فيما عددناه من المصالح الشرعية. فأما فيما تعدونه من المصالح الدينية العقلية فهذا التفاوت ممنوع فيه، فإن الاحتمالات متعارضة فيها. سلمنا أنه لفظ؛ فلم قلت: إن كل لطف واجب؟ قوله في الوجه الأول: (فعل اللطف جار مجرى التمكين): قلنا: هذا قياس، وقد بينا أنه لا يفيد اليقين، ثم نقول: لا نسلم أن فعل اللطف جارٍ مجرى التمكين. قوله: (من قدم الطعام إلى إنسان، وأراد منه تناوله .....) إلى آخره: قلنا: لا نسلم أن ترك التواضع في تلك الحالة يقدح في تلك الإرادة على الإطلاق.

بيانه: أن الإرادات مختلفة، فقد يريد الإنسان من غيره أن يتناول طعامه إرادةً في الغاية، حتى يقرر مع نفسه أنه يفعل كل ما يعلم أن ذلك الضيف لا يتناول طعامه إلا عند فعله. وقد تكون الإرادة لا إلى ذلك الحد؛ كمن يقول: (أريد أن تأكل طعامي؛ لكن لا إلى حيث إنك لو لم تأكل طعامي، إلا عند تقبيلي رجلك، فعلته، بل إرادةً دون ذلك). إذا ثبت هذا، فنقول: إلاراد: إن كانت على الوجه الأول، كان ترك التواضع قادحًا في تحققها؛ لكن لو كانت على الوجه الثاني، لم يلزم من عدم التواضع عدمها. إذا ثبت هذا، فتقول: لم قلت: إن الله، عز وجل، أراد من المكلفين فعل الطاعات، والاجتناب عن القبائح إرادةً على الوجه؛ حتى يلزمه فعل اللطف؟. بيانه: أن التكليف تفضل وإحسان، والمتفضل لا يجب عليه أن يأتي بجميع مراتب التفضل. قوله في الوجه الثاني: (إن ترك اللطف كفعل المفسدة). قلنا: إنه قياس؛ فلا يفيد اليقين؛ لاحتمال أن ما به وقع التغاير يكون شرطًا، أو مانعًا. ثم نقول: الفرق أن فعل المفسدة إضرار، وترك اللطف ترك للإنفاع، وليس يلزم من قبح الإضرار قبح ترك الإنفاع؛ فإنه يقبح منا الإضرار بالغير، ولا يقبح ترك إنفاعه.

سلمنا أنه يجب فعل اللطف؛ لكن يجب فعل اللطف المحصل، أو فعل اللطف المقرب؟. الأول مسلم، والثاني ممنوع؛ فلم قلتم: إن الإمام لطف محصل؟. بيانه: أنه لا يمكن القطع بأنه عند وجود الإمام يقدم الإنسان على الطاعة، ويحترز عن المعصية لا محالة؛ بل الذي يمكن ادعاؤه: أن الإنسان عند وجود الإمام يكون أقرب إلى الطاعة، وأبعد عن المعصية؛ فيكون الإمام لطفًا مقربًا. وإذا كان كذلك؛ فلم قلت بوجوبه على الله تعالى؟ وخرج على هذه المسألة مسألة الضيف؛ فإن المضيف إنما يجب عليه التواضع للضيف، إذا علم أنه لو تواضع له، لأجابه إلى المقصود، أو ظن ذلك؟ فأما إذا علم قطعًا أنه لا يجيب به إليه، فلا نسلم أنه يحسن منه فعل ذلك التواضع، فضلا عن الوجوب. وعلى هذا: لا يبعد أن يوجد زمان علم الله أن نصب الإمام في ذلك الزمان لا يكون لهم لطفًا محصلا؛ فلم قلت: يجب على الله - عز وجل - نصب الإمام في ذلك الزمان؟. سلمنا أن اللطف واجب مطلقًا؛ لكن متى؟ إذا أمكن فعله، أو إذا لم يمكن؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع. بيانه: إذا علم الله، عز وجل، أن كل من خلقه في ذلك الزمان، فإنه يكون كافرًا؛ أو فاسقًا، فحينئذ لا يكون خلق المعصوم في ذلك الزمان مقدورًا له، وإذا كان كذلك، فلم قلت: (إنه لا يحسن التكليف في هذه الحالة) وإذا حسن هذا التكليف، جوزنا في كل زمانٍ أن يكون هو ذلك الزمان؛ فلا يمكننا القطع بوجوب الإمام في شيءٍ من الأزمنة.

وخرج عليه مسألة الضيف؛ فإن هناك إنما يجب عليه التواضع، إذا كان ذلك التواضع مقدورًا له، فأما إذا لم يكن مقدورًا له، لم يتوقف التماس المضيف تناول الطعام على فعل التواضع، بل حسن ذلك الالتماس بدون التواضع. سلمنا كل ما ذكرتموه؛ ولكنه بناء على التحسين والتقبيح العقليين، وإنه باطل؛ على ما ثبت في الكتب الكلامية، فهذا هو الاعتراض على مقدمات دليلهم على الترتيب. ثم نقول: دليلكم منقوض بصورٍ: إحداها: أنه لو كان القضاة والأمراء والجيوش معصومين، لكان حال الخلق في الاجتناب عن القبائح أقرب مما إذا لم يكن كذلك. وثانيتها: أنه لو وجد في كل بلدٍ إمام معصوم. وثالثتها: لو كان الإمام عالمًا بالغيوب، وقادرًا على التصرف في الشرق والغرب، والسماء والأرض. ورابعتها: لو كان بحيث لو شاء، لاختفى عن الأعين، ولطار مع الملائكة، فإن خوف المكلفين هاهنا يشتد منه؛ لأن كل أحدٍ يقول: (لعله معي، وإن كنت لا أراه) فكان انزجاره عن القبيح أشد. ولا خلاص عن هذه الإلزامات، إلا بأحد أمرين: الأول: أن يقال: إن هذه الأشياء، وإن حصلت فيها هذه المنافع، لكن علم الله - تعالى - فيها وجه مفسدةٍ، لا نعلمه نحن؛ ولذلك لم يجب على الله تعالى فعلها.

الثاني: أن يقال: إنها، وإن كانت خاليةً عن جميع جهات المفسدة، لكن لا يجب على الله تعالى فعلها، ثم إن كل واحدٍ من هذين الاحتمالين قائم فيما ذكروه؛ فيبطل به أصل دليلهم. سلمنا أنه لابد من الإمام؛ فلم قلت: إنه معصوم؟. قوله: (ولو لم يكن معصومًا، لافتقر إلى لطفٍ آخر). قلنا: نعم؛ لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك اللطف هو الأمة؟. فإنا قبل قيام الدلالة على أن الإجماع حجةٌ، نجوز كونه حجةً، وذلك التجويز يكفينا في ذلك المقام؛ لأنهم هم المستدلون؛ فيكفينا أن نقول: لم لا يجوز أن يكون الإمام لطفًا لكل واحدٍ من آحاد الأمة، ويكون مجموع الأمة لطفًا للإمام؟ فعليهم إقامة الدليل على أنه لا يجوز أن يكون مجموع الأمة معصومًا. ومعلوم أنه لا يكفي في ذلك قدحهم في أدلتنا على أن الإجماع حجة. سلمنا كونه معصومًا؛ فلم قلت: إن الإجماع يشتمل على قوله؟ وتقريره ما بيناه في أول الباب: أن العلم باتفاق كل الناس بحيث يقطع بأنه لم يشذ واحد منهم في الشرق والغرب - متعذر لا سبيل إليه. سلمنا وجود قوله؛ لكن لا نسلم أن قوله صواب؛ لأن عندهم يجوز أن يفتي الإمام بالكفر، والبدعة؛ على سبيل التقية والخوف، ويحلف بالله تعالى، والأيمان التي لا مخرج منها: أن الأمر كذلك، وإذا كان كذلك، فلعله لما رأي أهل العالم متفقين على ذلك القول، خاف من مخالفتهم، فأظهر الموافقة على ذلك الباطل.

شرح القرافي: قوله: (لا فرق في العقل بين عدم فعل اللطف وبين فعل المفسدة)

كيف، وعندهم: قد أظهر علي بن أبي طالبٍ، رضي الله عنه، مع جميع رهط الهاشميين، والأمويين، والأنصار التقية؛ خوفًا من أبي بكرٍ، ومن عمر، رضي الله عنهما، مع قلة أنصارهما، وأعوانهما، فإذا جاز الخوف، والتقية في هذه الصورة، فكيف لا يخاف الرجل الواحد جميع أهل العالم عند اتفاقهم على الباطل؟ سلمنا أنه أفتى به عن اعتقاد؛ فلم لا يجوز أن يكون ذلك خطأ من باب الصغائر، وعند ذلك يحتاجون إلى إقامة الدلالة على أنه لا تجوز الصغيرة على الأئمة، فإن عولوا فيه على حديث التنفير فهو ضعيف؛ لأن العجز الشديد، والفتوى بالكفر، والفسق، وإباحة الدماء، والفروج، مع الأيمان الغليظة - أدخل في باب التنفير من وقوع الصغيرة، فإذا جاز ألا يكون منزهًا عنه؛ فلم لا يجوز أن يكون منزهًا عن الصغيرة؟ فهذا ما على هذه الطريقة من الاعتراضات، ومن أحاط بها، تمكن من القدح في جميع مذاهب الشيعة أصولا وفروعًا؛ لأن أصولهم في الإمامة مبنية على هذه القاعدة، ومذاهبهم في فروع الشريعة مبنية على التمسك بهذا الإجماع، والله أعلم. المسألة الرابعة قال القرافي: قوله: (لا فرق في العقل بين عدم فعل اللطف وبين فعل المفسدة). قلنا: لا نسلم، بل العقلاء أجمعون يفرقون بين من لم يعطهم ماله وبين من سبهم فإنهم لا يتأذون من الأول، ويتأذون من الثاني. قوله: (يكفي في قبح الفعل اشتماله على جهة واحدة من جهات القبح):

قلنا: لا نسلم، بل القبح لا يثبت إلا للمفسدة الخالصة، أو الراجحة. أما المفسدة المرجوحة فلا، وكذلك الجهاد ليس بقبيح مع اشتماله على مفسدة ذهاب النفوس والأموال، وأذيته للأولياء، وشماتة الأعداء على تقدير الموت، وعدم النصر، ونظائره كثيرة، بل الصلاة كبيرة إلا على الخاشعين. والصوم فيه ترك اللذات، وغير ذلك من النظائر مما لا يحصي كثرةً. * * *

القسم الثاني قال الرازي: فيما أخرج من الإجماع، وهو منه

القسم الثاني قال الرازي: فيما أخرج من الإجماع، وهو منه المسألة الأولي: كل مسألةٍ فالحكم فيها: إما أن يكون بالإيجاب الكلي، أو بالسلب الكلي، أو بالإيجاب في البعض، والسلب في البعض، فهذه احتمالات ثلاثة لا مزيد عليها. فإذا اختلف أهل العصر الأول على قولين من هذه الثلاثة فهل لمن بعدهم أن يذكروا الثالث؟. الأكثرون منعوه. وأهل الظاهر جوزوه. والحق أن إحداث القول الثالث؛ إما أن يلزم منه الخروج عما أجمعوا عليه، أو لا يلزم: فإن كان الأول: لم يجز إحداث القول الثالث؛ مثاله: الأمة اختلفت في الجد مع الأخذ على قولين: منهم من جعل المال كله للجد، ومنهم من قال: إنه يقاسم الأخ. فالقول الثالث، وهو صرف المال كله إلى الأخ: غير جائزٍ؛ لأن أهل العصر الأول القائلين بالقولين الأولين اتفقوا على أن للجد قسطًا من المال، فالقول بصرف المال كله إلى الأخ يبطل ذلك. وأما الثاني: فإن إحداث القول الثالث فيه جائز؛ لأن المحذور مخالفة الإجماع، أو القول بما يلزم منه مخالفته.

فأما إذا لم يكن إحداث القول كذلك، وجب جوازه. واحتج المانعون بأمرين: أحدهما: أن الأمة لما اختلفت على قولين، فقد أوجب كل واحدٍ من الفريقين الأخذ: إما بقوله، أو بقول صاحبه؛ وتجويز القول الثالث يبطل ذلك. فإن قلت: إنهم إنما أوجبوا ذلك؛ بشرط ألا يظهر وجه ثالث، فإذا ظهر فقد زال شرط ذلك الإجماع. قلت: لو جوزنا هذا الاحتمال، لجوزنا أن يقال: إنما أوجبوا التمسك بالإجماع على القول الواحد؛ بشرط ألا يظهر وجه القول الثاني، فإذا ظهر، فقد زال شرط ذلك الإجماع، فيجوز الخلاف. وثانيهما: أن الذهاب إلى القول الثالث، إنما يجوز، لو أمكن كونه حقًا، ولا يمكن كونه حقًا، إلا عند كون الأولين باطلين؛ ضرورة أن الحق واحد، وحينئذٍ يلزم إجماع الأمة على الباطل. والجواب عن الأول: أن إيجاب الأخذ بأحد ذينك القولين مشروط بألا يظهر الثالث. قوله: (لو جاز ذلك، لجاز مثله في القول الواحد): قلنا: إنه جائز؛ لكنهم منعوا من اعتباره، فليس لنا أن نتحكم عليهم بوجوب التسوية. وعن الثاني: أن هذا الإشكال غير واردٍ على القول بأن كل مجتهدٍ مصيب؛ فإنه لا يلزم من حقية أحد الأقسام فساد الباقي.

شرح القرافي: قوله: (فإذا اختلف أهل العصر الأول على قولين من هذه الثلاثة)

وأما على القول بأن المصيب واحد، فلا يلزم من التمكن من إظهار القول الثالث كونه حقا؛ لأن المجتهد قد تمكن من العمل بالاجتهاد الخطأ، والله أعلم. القسم الثاني فيما أخرج من الإجماع، وهو منه قال القرافي: قوله: (فإذا اختلف أهل العصر الأول على قولين من هذه الثلاثة): تقريره: يقول بعضهم: لا يحل أكل لحوم السباع كلها، ويقول الآخر: تحل كلها، أو يقول: يحل أكل سباع الطير فقط، ويحرم سباع الوحش، ويقول الآخر بالعكس. فهذه صورة الإيجاب الكلي، والسلب الكلي، والإيجاب في البعض، والسلب في البعض. فنقول: يحدث القول الثالث مثلا تحريم البعض إن كان القولان بالإيجاب الكلي، والسلب الكلي. أو نقول: الثالث يحرم نوع من الطيور، ونوع من الوحش فقط. قوله: (لو جاز ألا يجوزوا القول الثالث بشرط ألا يظهر وجهه، لجاز ذلك في القول الواحد): قلنا: الفرق أن الإجماع بعد الخلاف يبين أن الحق في القول الذي أجمعوا

عليه، وقبل الإجماع كان الحق دائرًا بين القولين ولما كان الحق دائرًا بينهما، اشترطنا في تعينه إجماعهم، ولذلك إذا كانوا في مهلة النظر لم يتعين الحق، فجاز الانتقال إلى حالة أخرى يتعين فيها الحق. أما إذا أجمعوا على قولٍ واحدٍ، فقد تعين الحق، فلا معنى لجعله مشروطًا بظهور وجه آخر؛ لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال. فهذا هو سر الاشتراط في جميع هذه الصور دون الإجماع على القول الواحد. قوله: (هم منعوا من ذلك، وليس لنا أن نحكم عليهم بالتسوية): قلنا: مسلم، وليس لك الحكم عليهم، لكن يلزمكم بيان الفرق، وإلا يلزم الترجيح من غير مرجح، بل الفرق ما تقدم. قوله: (المجتهد قد يتمكن من الاجتهاد الخطأ): تقريره: أن الاجتهاد يقع في القبلة، والمصيب فيها واحد إجماعًا. ومع ذلك كل من اجتهد، وأخطأها وجب عليه أن يصلي بما أدى إليه اجتهاده. فقد تمكن من الخطأ، وكذلك في الأحكام الشرعية يخطئ المصلحة، والحكم الذي عينه الله - تعالى - في نفس الأمر، كما يخطئ الكعبة، ويجب عليه العمل بموجب ظنه. ولذلك قال عليه السلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران). (فائدة) قال النقشواني: مثال القول الثالث المستلزم المخالفة أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: إن ملك أخاه عتق عليه، وورثه.

قال الشافعي وأصحابه: لا يعتق عليه، ولا يرثه. فالقول بأنه يعتق ولا يرث، أو يرث ولا يعتق خلاف الإجماع السابق؛ لأن المدرك في المسألة واحد في الحكمين، والتفريق بينهما يلزم منه مخالفة الحق قطعًا؛ لأن المدرك واحد. أما إذا لم يكن المدرك في المسألتين واحدًا كما قال الحنفية: لا تجب الزكاة في مال الصبيان، ولا في حلى النساء. وقال الشافعية بالوجوب في مال الصبيان، وعدم الوجوب في حلى النساء. فهاهنا لو أدى اجتهاد مجتهد إلى الوجوب فيهما، أو عدم الوجوب فيهما جاز؛ إذ ليس يلزم منهما مخالفة الإجماع، وللعامي المستفتي أن يأخذ بأحد القولين بالوجوب في مال الصبي، وبقول الآخر بعدم الوجوب في الحلي؛ لأنه لا يلزم من القول الثالث بطلان القول الأول؛ لاشتمال الثالث على القولين الأولين. وجاز أن يقال: الحق هو المشتمل على القولين، وليس للعامي، ولا للمجتهد في الصورة الأولي ذلك. وقال أبو الحسين في (المعتمد): إن كان القولان في مسألتين، فإنه يتأني أن يقول بعضهم: لا يفتقر شيء من الطهارات إلى النية. ويقول الآخر: كل طهارة تفتقر إلى النية. فيقول الثالث: بعضها يفتقر، وبعضها لا يفتقر. أو في مسألةٍ واحدة، نحو مسألة الجد مع الأخ امتنع الثالث.

(تنبيه) قال التبريزي: إجماعهم على عدم حرمان الجد ليس التفاتا إلى أن القول بأقل ما قيل تمسك بالإجماع

(تنبيه) قال التبريزي: إجماعهم على عدم حرمان الجد ليس التفاتًا إلى أن القول بأقل ما قيل تمسك بالإجماع؛ فإن ذلك على خلافه، وإنما هذا لأن اختلافهم في المسألة تنازع في قدر مستحق الجد مع الاتفاق على أصل الاستحقاق، فهو كالنزاع في تنقيح حكم السبب، مع الاتفاق على اعتباره، كما في الغصب والرهن. قال: وكأنها ليست من هذه المسألة. قلت: يريد أن الإجماع على الأخذ بالأقل، كما في دية اليهودي أقل ما قيل فيه الثلث، فالثلث الأقل، وهو مجمع عليه. هذا إجماع على الحكم، فهل يكون مدركًا للمجتهد؟ سيأتي آخر هذا الكتاب إن شاء الله - تعالى - في المدارك المختلف فيها. وهذه المسألة: الإجماع على اعتبار السبب، وإلغاؤه إلغاء المجمع عليه قطعًا، وهو قرابة الجد كما يجمعون على اعتبار أصل الرهن، ويختلفون هل من شرطه دوام الجواز أم لا؟ فالقول بأن أصل الرهن لا يلزم مطلقًا - خلاف الإجماع، ولذلك أجمعوا على أن الغصب يوجب الضمان، واختلفوا في الزوائد، هل هي للغاصب أم لا؟ فالقول بأن الغصب لا يضمن خلاف الإجماع. ثم قال التبريزي: لا نسلم أنهم إذا اختلفوا على قولين أوجب كل واحد الأخذ بمذهبه عينًا - نظر إلى خصوص دليله المعين، بل بما يؤدي إليه اجتهاده، نظرًا إلى الدليل العام، ولا حصر عنده في هذا المقام، بل يقول: الاختلاف دليل فتح باب النظر، وعدم تعين الحق.

المسألة الثانية قال الرازي: الأمة لم تفصل بين مسألتين، فهل لمن بعدهم أن يفصل بينهما؟

المسألة الثانية قال الرازي: الأمة لم تفصل بين مسألتين، فهل لمن بعدهم أن يفصل بينهما؟ واعلم أن هذا يقع على وجهين: أحدهما: أن يقولوا: لا فصل بين هاتين المسألتين في كل الأحكام، أو في الحكم الفلاني؟. والآخر: ألا ينصوا على ذلك، لكن ما كان فيهم من فرق بينهما. أما القسم الأول: فإنه لا يجوز الفصل بينهما، ثم إنه على ثلاثة أقسامٍ: أحدها: أن تحكم الأمة في المسألتين بحكمٍ واحدٍ، إما بالتحليل أو بالتحريم. وثانيها: أن يحكم بعض الأمة فيهما بالتحريم، والبعض الآخر بالتحليل. وثالثها: ألا ينقل إلينا عنهم حكم فيهما، ففي هذه الصورة الثالثة، متى دل الدليل في إحدى المسألتين على تحليلٍ، أو تحريمٍ، وجب أن يكون الحال في الأخرى كذلك. وأما القسم الثاني: فقيل فيه: إن علم أن طريقة الحكم في المسألتين واحدة؛ فذلك جار مجرى أن يقولوا: لا فصل بينهما، فمن فصل بينهما، فقد خالف ما اعتقدوه. مثاله: من ورث العمة، ورث الخالة، ومن منع إحداهما منع الأخرى، وإنما جمعوا بينهما من حيث انتظامهما حكم ذوى الأرحام.

فهذا مما لا يسوغ خلافهم فيه؛ بتفريق ما جمعوا بينهما، إلا أن هذا الإجماع متأخر عن سائر الإجماعات في القوة. وأما إن لم يكن كذلك، فالحق جواز الفرق لمن بعدهم؛ لأنه لا يكون بذلك مخالفًا لما أجمعوا عليه، لا في حكمٍ، ولا في علة حكمٍ؛ ولأنه لو امتنع الفرق، لكان من وافق الشافعي، رضي الله عنه، في مسألةٍ؛ لدليلٍ، وجب عليه أن يوافقه في كل المسائل. احتج المانعون من الفصل مطلقًا بوجهين: الأول: أن الأمة إذا قال نصفها بالحرمة في المسألتين، وقال النصف الآخر بالحل فيهما، فقد اتفقوا على أنه لا فصل بين المسألتين، فيكون الفصل بينهما ردا للإجماع. الثاني: أن الأمة إذا اختلفت على قولين في مسألتين، فقد أوجبت كل واحدة من الطائفتين على الأخرى أن تقول بقولها، أو بقول الطائفة الأخرى، وحظرت ما سوى ذلك، وذلك بمنع من الفرق بين المسألتين. والجواب عن الأول: أنكم إن عنيتم بقولكم: (اتفقوا على أنه لا فصل بينهما): أنهم نصوا على استوائهما في الحكم، أو هما مستويان في علة الحكم - فليس كذلك؛ لأن النزاع ليس هاهنا. وإن عنيتم به: أن كل من قال بإحدى المسألتين، فقد قال أيضًا بالأخرى، فلم قلتم: إن ذلك يمنع من الفصل؟ فإن هذا أول المسالة.

شرح القرافي: الفرق بين هذه المسألة والتي قبلها

وعن الثاني: أنهم إنما أوجبوا ذلك؛ بشرط ألا يفرق بعض المجتهدين بين المسألتين، فإن ادعوا أنه لا التفات إلى هذا الشرط، فهذا عين المتنازع فيه. ومن الناس من جوز التفصيل مطلقًا؛ استدلالا بعمل ابن سيرين في زوجٍ وأبوين، أن للأم ثلث ما يبقي. وقال في امرأة وأبوين: للأم ثلث المال، فقال في إحداهما بقول ابن عباسٍ، وفي الأخرى بقول عامة الصحابة. والثوري قال: (الجماع ناسيًا يفطر، والأكل ناسيًا لا يفطر) وفرق بين المسألتين، مع أنه جمعتهما طريقة واحدة، والله أعلم. المسألة الثانية إذا لم تفصل الأمة بين مسألتين قال القرافي: الفرق بين هذه المسألة والتي قبلها، وإن كان الفاصل بين المسألتين قائلا بقول ثالث، فهو يعود على المسألة الأولي إذا حدث القول الثالث، قد يكون في فعل واحد، قال نصف الأمة فيه بالتحريم، والنصف الآخر بالإيجاب، فالقول بإباحته قول ثالث، وهو خطأ؛ وإلا لفات الأمة الصواب، وهو يقدح في عصمتهم. والقول الثالث متصور في الفعل الواحد. والمسألة الثانية مختصة بما إذا كان محل الحكم متعددًا، كانقسام الأمة على قولين في توريث ذوى الأرحام، منهم من يورث الخالة والعمة، ومنهم من يحرمهما، فالقائل بعدم توريث الخالة دون العمة خلاف الإجماع في الفعل فيما أجمعوا عليه. قوله: (لو امتنع الفرق لكان من وافق قول الشافعي في مسألة لدليل، وجب عليه موافقته في كل المسائل):

تقريره: أن مدارك الشافعي يجوز أن تكون صوابًا، وبعضها خطأ، فيجوز أن نوافقه فيما ظننا أنه صواب، ويخالفه في غيره، وليس في ذلك مخالفة الإجماع، ووجه التنظير أنه بعض الأمة. وموافقة بعض الأمة في جميع ما قالوه إنما يلزم إذا كان المدرك في جميع ما قالوه ذلك البعض واحد، كما قلنا في توريث ذوى الأرحام لما قال به بعض الأمة لمدرك واحد. وقال البعض الآخر بعدم التوريث لمدرك آخر. فقد أجمعت الأمة على طرد المدركين في جميع متعلقاتهما، ولم يقل أحد بأن أحد المدركين يتخصص ببعض مدلولاته، فالقائل بذلك يخالف الإجماع. فلو كان مدركهم في ذوى الأرحام متعددًا، جاز أن يورث بعض الأرحام دون بعض؛ بناء على تصحيح بعض تلك المدارك دون بعضها، كما عملنا مع للشافعي لما تعددت مداركه، ولو كان الشافعي لمسائله مدرك واحد، ولغيره من الأمة مدرك واحد فيما خالفوه فيه - لزم من متابعته في مسألة إتباعه في جميع مسائله، أو ابتاع مخالفه في مسألة إتباعه في جميع مسائله. كما قلنا في التوريث المذكور، فيحصل أنه متى تعدد الخلاف والمدارك - جازت المخالفة إجماعًا، ومتى ارتفع الخلاف، واتحد القول والمدرك امتنع الخلاف إجماعًا، ومتى تعدد الخلاف في الحكم، واتحد المدرك نفيًا وإثباتًا امتنع التفريق في تلك الأقوال، كما قلنا في التوريث. قوله: (ومنهم من جوز التفصيل مطلقًا استدلالا بقول ابن سيرين في زوجٍ وأبوين، أن للأم ثلث ما يبقي، وفي امرأة وأبوين: للأم ثلث المال، فقال في إحدى المسألتين بقول ابن عباس، وفي الأخرى بقول عامة الصحابة):

قلنا: مدرك الجمهور أن للأب والأم ذكرًا وأنثي اجتمعا في درجة، فيكون للذكر مثل حظ الأنثيين، فيكون لهما ثلث ما يبقي، وللأب ثلثا ما يبقي، ومدرك ابن عباس: التمسك بظاهر قوله تعالى:} فلأمه الثلث {[النساء:11]، وما ينقصها عنه إلا بالابن أو الإخوة، ولم يوجدوا بقول ابن سيرين وإدخال التخصيص في كلا المدركين مجمل كل مدرك على حالة دون حالة. وهذا التخصيص لم يقل به أحد قبله، فيكون خلاف الإجماع. هذا تقريره، لكن هذا المدرك لم يسلم ابن سيرين أنهم نصوا على أنه لا يجوز تخصيصها. فقال: الفرق من وجهين: الأول: أن مع الزوج يتوفر حظ الذكورية، فيرجح أحد الأبوين بجراء العصوبة إذا اجتمع منهم ذكر وأنثي في طبقة واحدة، فإن للذكر مثل حظ الأنثيين، فجعل للأم ثلث ما يبقي. وفي مسألة امرأة وأبوين نزلت الذكورية بالأنوثة بالمرأة فضعف جهة التعصيب، وقوى جهة الفرض، فأخذت ثلث المال بالنص. الوجه الثاني: أن في زوج وأبوين يحصل للمرأة السدس، وهو فرضها في صورة الإجماع، وهو اجتماعها مع الابن أو أخوين، وفي امرأة وأبوين يحصل لها مع الأب الربع، والأم لا ترث الربع في صورة، فأبطل هذه الصورة بخروجها عن قاعدة الأم، فدفع لها ثلث المال بالنص.

(تنبيه) قال التبريزي: إن اختلفوا في الحكم وقد جمعهما رابطة تجرى مجرى الحكم كالعمة والخالة تجمعهما رابطة المحرمية، فالأظهر أن الفصل بين القولين خرق للإجماع

وكذلك قول الثوري: الجماع ناسيًا يفطر، والأكل ناسيًا لا يفطر. ففرق بين المسألتين؛ لأنه لم يجد من الأمة نصًا في أنه لا يجوز تخصيص هذا المدرك ببعض صوره، فجوز أن يكون الفرق معتبرًا، وهو أن الجماع ناسيًا في غاية الندرة لطول مقامه واحتياجه لاثنين يجتمعان فيه، ويتقدمه أمور تطول، يندر معها نسيان الصوم، والأكل مقدمة واحدة من شخص واحد لا يندر النسيان معه، فكان الأول في معنى العمد فأفطر، بخلاف الثاني. (تنبيه) قال التبريزي: إن اختلفوا في الحكم وقد جمعهما رابطة تجرى مجرى الحكم كالعمة والخالة تجمعهما رابطة المحرمية، فالأظهر أن الفصل بين القولين خرق للإجماع؛ لإجماع الفريقين على إسقاط الفارق. وإنما اختلفوا في تعيين الحكم، وهذا يشترط أن يكون محل نظر الفريقين توريث المحارم وحرمانهم. أما إن كان النظر في توريث العمة والخالة، فيتجه أن يقال: الإجماع هو الاكتفاء بالقول في الحكم لا بما يلزم من مأخذ علة الحكم المعول، والفاصل بينهما توافق كل فريق في كل صورة حكمًا. وأما إذا لم يجمعهما رابطة، كمصير بعضهم إلى أن المسلم لا يقتل بالذمي، ولا الحر بالعبد، ومصير الباقين إلى أنهما يقتلان بهما، فلا خلاف في جواز الفصل. وأجاب عما نقل عن ابن سيرين والثوري بأن المسألة مجتهد فيها، ولا حجة في قول الآحاد. يريد: أن هذه النقول عن الإجماعات لم تثبت إلا بالآحاد، فلا يمنع ذلك الاجتهاد فيهان بخلاف إذا قطعنا بعدم الفصل.

المسألة الثالثة قال الرازي: يجوز حصول الاتفاق بعد الخلاف وقال الصيرفي: لا يجوز

المسألة الثالثة قال الرازي: يجوز حصول الاتفاق بعد الخلاف وقال الصيرفي: لا يجوز. لنا: إجماع الصحابة على إمامة أبي بكرٍ، رضي الله عنه، بعد اختلافهم فيها، واتفاق التابعين على المنع من بيع أمهات الأولاد، بعد اختلاف الصحابة فيه. احتج الخصم بأن أهل العصر الأول اتفقوا على جواز الأخذ بأي القولين كان، إذا أدى الاجتهاد إليه، فلو أجمعوا على أحد القولين، وجب أن يكون الإجماعات صوابًا، ويكون المتأخر ناسخًا للمتقدم، لكن ذلك باطل؛ على ما مر في باب النسخ. ولأنه لو جاز ذلك، لجاز أن يتفق أهل عصرٍ على قولٍ، ويتفق أهل عصرٍ ثانٍ على خلافه. والجواب: أن الإجماع على الأخذ بأي القولين شاء مشروط بعدم الاتفاق، فإذا حصل الاتفاق، زال شرط الإجماع؛ فزال لزوال شرطه. قوله: لو جاز ذلك، لجاز مثله عند الاتفاق. قلنا: مر الجواب عنه في المسألة الأولين والله أعلم. المسألة الثالثة يجوز حصول الاتفاق بعد الاختلاف

(تنبيه) قال التبريزي: الإجماع الأول لم ينعقد على كون كل واحد من القولين حقا

قد تقدم أن المصلحة إذا تعينت لم يجز أن تجعل مشروطة، وإذا لم تتعين جاز أن يكون نفيها مشروطًا، فكذلك إيجابهم الأخذ بأحد القولين، وجواز الانتقال للآخر مشروط بعدم تعين الحق في أحدهما، وإذا اتفقوا على قول واحد تعين الحق؛ لأنهم لا يفوتهم مأخذ الحق، فلا معنى للاشتراط بعد ذلك، بل يجب موافقة هذا القول إلى قيام الساعة، ولا نقول: (بشرط ألا يظهر مخالف)؛ لأن المخالف مخطئ قطعًا. (تنبيه) قال التبريزي: الإجماع الأول لم ينعقد على كون كل واحد من القولين حقًا؛ فإن ذلك متناقض على جواز الأخذ بأيهما كان؛ نظرًا إلى احتمال كونه حقًا، كما في القبلة والأواني، فإذا انحصر الحق بموجب الإجماع على أحدهما خرج الآخر عن مورد الإجماع؛ لأن اعتقد اندراجه تحته استند إلى ظن كونه جزئي مورده الكلي. فقد فات ذلك بفوات وصفه المظنون. قلت: يريد بقوله: (في القبلة والأواني): إذا اجتهد اثنان، فأدى كل واحد منهما اجتهاده إلى جهة أنه يجوز للثالث الذي لا يحسن الاجتهاد أن

يقلد أيهما شاء؛ لأن التخيير للمجتهدين في أنفسهما، بل الثالث في الأواني يقلد الأعمى، وإن لم يعلم حال الماء أحد المجتهدين. ويريد بقوله: (جزئي مورده الكلي)، يريد: أن التشخيص يزيد على المعنى الكلي، ويزيد الكلي هاهنا مفهوم أحد القولين لا بعينه، وكل واحد منهما بعينه جزئي بالنسبة إلى مفهوم أحد القولين. فلما خرج ذلك المعين بالإجماع لم يبق بظن الكل عنده. * * *

المسألة الرابعة قال الرازي: إذا اتفق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول، كان ذلك إجماعا، لا تجوز مخالفته

المسألة الرابعة قال الرازي: إذا اتفق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول، كان ذلك إجماعًا، لا تجوز مخالفته؛ خلافًا لكثيرٍ من المتكلمين، وكثيرٍ من فقهاء الشافعية والحنفية. لنا: أن ما أجمع عليه أهل العصر الثاني سبيل المؤمنين، فيجب إتباعه؛ لقوله عز وجل:} ويتبع غير سبيل المؤمنين {[النساء:115] ولأنه إجماع حدث بعد ما لم يكن، فيكون حجةً؛ كما إذا حدث بعد تردد أهل الإجماع فيه حال التفكر. واعلم أن هذا المقيس عليه ينقض على المخالف أكثر أدلته. احتجوا بأمورٍ: أحدها: قوله عز وجل:} فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول {[النساء:59] أوجب الرد إلى كتاب الله تعالى عند التنازع، وهو حاصل؛ لأن حصول الاتفاق في الحال لا ينافي ما تقدم من الاختلاف؛ فوجب فيه الرد إلى كتاب الله تعالى. وثانيها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) ظاهره يقتضي جواز الأخذ بقول كل واحدٍ من الصحابة، ولم يفصل بين ما يكون بعده إجماع، أو لا يكون. وثالثها: أن في ضمن اختلاف أهل العصر الأول الاتفاق على جواز الأخذ بأيهما أريد، فلو انعقد إجماع في العصر الثاني، لتدافع الإجماعان.

ورابعها: لو كان قولهم، إذا اتفقوا بعد الاختلاف حجةً، لكان قول إحدى الطائفتين، إذا ماتت الأخرى حجة، وفيه كون قولهم حجةً بالموت. وخامسها: لو كان اتفاق أهل العصر الثاني حجةً، لكانوا قد صاروا إليه؛ لدليلٍ، وذلك باطل؛ لأنه لو وجد ذلك الدليل، لما خفي على أهل العصر الأول. وسادسها: أن أهل العصر الثاني بعض الأمة؛ فلا يكون اتفاقهم وحدهم إجماعًا. وسابعها: أنه قد ثبت أن أهل العصر الأول، إذا اختلفوا على قولين، لم يجز لمن بعدهم إحداث قول ثالثٍ؛ وأهل العصر الأول، لما اختلفوا لم يكن القطع بذلك الحكم قولا لواحدٍ منهم؛ فيكون القطع بذلك إحداثًا لقولٍ ثالثٍ، وإنه غير جائزٍ. وثامنها: أن الصحابة - في الحادثة التي اختلفوا فيها - كالأحياء؛ ألا ترى أنه تحفظ في ذلك أقوالهم، ويحتج لها وعليها. وإذا لم ينعقد الإجماع مع تلك الأقوال حال حياة القائلين بها، وجب أيضًا ألا ينعقد حال وفاتهم. وتاسعها: أن هذا الإجماع لو كان حجةً، لوجب ترك القول الآخر، ولكان إذا حكم به حاكم، ثم انعقد الإجماع على خلافه، وجب نقضه؛ لكونه واقعًا على مضادة دليلٍ قاطعٍ، لكن ذلك باطل؛ لأن أهل العصر الأول اتفقوا على نفوذ هذا القضاء، فنقضه يكون على خلاف الإجماع. الجواب عن الأول: أن التعلق بالإجماع رد إلى الله والرسول، ولأن أهل

العصر الثاني، إذا اتفقوا، فهم ليسوا بمتنازعين، فلم يجب عليهم الرد إلى كتاب الله؟ لأن المعلق بالشرط عدم عند عدم شرطه. وعن الثاني: أنه مخصوص بتوقف الصحابة في الحكم حال الاستدلال، مع أنه لا يجوز الاقتداء به في ذلك بعد انعقاد الإجماع؛ فوجب تخصيص محل النزاع عنه، والجامع ما تقدم. وعن الثالث: ما مر غيره مرةٍ: أن ذلك الإجماع مشروط، ثم أنه منقوض باتفاقهم حال الاستدلال على التوقف، وتجويز الأخذ بأي قولٍ ساق الدليل إليه. ولأنكم إذا جوزتم ألا يكون اتفاق أهل العصر الثاني حجة؛ فلم لا يجوز ألا يكون اتفاق أهل العصر الأول حجةً؟ إذ ليس أحد الاتفاقين أولى من الآخر؟! وإذا لم يكن الاتفاق الأول حجةً، لم يلزم من حصول الاتفاق الثاني ما ذكرتموه من المحذور؛ فثبت أن هذه الحجة متناقضة. وعن الرابع: أنا نتبين بموت إحدى الطائفتين أن قول الطائفة الأخرى حجة؛ لاندراج قولهم تحت أدلة الإجماع، لا أن الموت نفسه هو الحجة. وعن الخامس: أنه لا يجوز أن يخفى ذلك الدليل على كلهم، لكن يجوز حفاؤه على بعضهم. عن السادس: أنه لو كان أهل العصر الثاني بعض الأمة، لوجب ألا يكون اتفاقهم الذي لا يكون مسبوقًا بالخلاف حجةً؛ وهذا يقتضي ألا يكون الحجة إجماع الصحابة فقط، بل إجماع الذين كانوا موجودين عند ظهور أدلة الإجماع، وهذا القائل لا يقول بهذه المذاهب.

شرح القرافي: قوله: (لأنه إجماع حدث بعد ما لم يكن، فيكون حجة، كما إذا حدث بعد تردد أهل الإجماع فيه حال التفكر)

وعن السابع: أنه لا يجوز إحداث قول ثالث، إذا كان الإجماع منعقدًا على عدم جوازه مطلقًا، أما إذا كان مشروطًا بشرطٍ، جاز ذلك عند عدم ذلك الشرط؛ كما ذكرنا أنهم حال الاستدلال مطبقون على جواز التوقف، وعدم القطع، مع أن ذلك لا ينافي اتفاقهم على القطع بعده. وعن الثامن: قوله: (أقوال الصحابة باقية بعد وفاتهم)؛ إن عني بذلك: كونها مانعةً من انعقاد الإجماع، فهذا عين النزاع. وإن عني به: علمنا بأنهم ذكروا هذه الأقوال، فلم قلت: إن ذلك ينفي انعقاد الإجماع؟ وإن عنيتم ثالثًا، فبينوه. وعن التاسع: أنا لا ننقض ذلك الحكم؛ لأنه صار مقطوعًا به في زمان عدم هذا الإجماع، ونحن إنما ننقض الحكم الذي حكم به القاضي، إذا وقع ذلك الحكم في زمن قيام الدلالة القاطعة على فساده، والله أعلم. المسألة الرابعة إذا اتفق العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول قال القرافي: قوله: (لأنه إجماع حدث بعد ما لم يكن، فيكون حجةً، كما إذا حدث بعد تردد أهل الإجماع فيه حال التفكر): قلنا: عليه أسئلة: الأول: أن هذا قياس، وهو أضعف من الإجماع، فيلزم إثبات الإجماع بالقياس الأضعف منه.

الثاني: سلمنا أن القياس ليس أضعف، لكن لا نسلم أن القياس الشبهي شرعه الشرع حجة إلا في الفروع. أما في قواعد أصول الفقه فلم قلتم: إن هذا القياس الشبهي شرعه الشرع حجة فيها؟ الثالث: سلمنا صحة التمسك بالقياس في قواعد الأصول، لكن الفارق أن في هذه المسألة صرح فيها بعض الأئمة، أو سطرها بقول مجزوم به بعد نظر معتبر، وبذلك جهدٍ ممن هو أهل للاجتهاد، فكان ظاهره الحق بخلاف مهلة النظر، لم يصرح فيها أحد بشيء. فلم يتقدم حق نلاحظه بعد ذلك لاسيما إذا قلنا: إن قول الميت معتبر. فالقائل في العصر الأول بالقول المتروك في العصر الثاني في تقدير كونه حيًا موجودًا، ولو كان موجودًا ما انعقد الإجماع بدونه، فكذلك إذا مات. قوله: (حصول الاتفاق في الحال لا ينافي ما تقدم من الاختلاف): تقريره: أن الآية في قوله تعالى:} فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله {[النساء:59]، وهذا الحكم المجمع عليه في العصر الثاني كان متنازعًا فيه

في العصر الأول، فيرد إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، إن دل منهما شيء عليه، ولا يتعين إتباع العصر الثاني فيه. قوله: (أهل العصر الثاني ليسوا متنازعين حتى يتعين الرد إلى الله - تعالى - وإلى رسوله). قلنا: الشرط في الآية إنما هو حصول المنازعة، وهذا الشرط قد حصل، فيترتب عليه التكليف بالرد إلى الله - تعالى - وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحصول الاتفاق بعد ذلك لا ينافي حصوله بعد ذلك، كما إذا قال السيد لعبده: إن خالفتني فأنت حر، وأمره، فخالف عتق وإن حصلت منه الموافقة بعد ذلك في كثير من الأوامر. قوله: (في قوله - عليه السلام -: (أصحابي كالنجوم): خص عنه توقف الصحابة في الحكم حال الاستدلال، مع أنه لا يجوز الاقتداء بهم في ذلك بعد انعقاد الإجماع): قلنا: يرد عليه سؤالان: الأول: أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، والتوقف في الاستدلال، وعدم التوقف حالتان لا يعمهما اللفظ، إذا بطل التعميم بطل التخصيص. الثاني: سلمنا العموم، لكن مقصود الخصم حاصل؛ لأنه لا يلزم من تخصيص العموم بصورة ألا يكون حجة في صورة النزاع؛ لأن الأصل التمسك بالعموم بحسب الإمكان. * * *

المسألة الخامسة قال الرازي: أهل العصر، إذا انقسموا إلى قسمين، ثم مات أحد القسمين، صار قول الباقين إجماعا

المسألة الخامسة قال الرازي: أهل العصر، إذا انقسموا إلى قسمين، ثم مات أحد القسمين، صار قول الباقين إجماعًا؛ لأن بالموت ظهر اندراج قول ذلك القسم وحده تحت أدلة الإجماع، وكذا القول إذا انقسموا إلى قسمين، ثم كفر أحدهما، فإنه يصير القول الثاني حجةً، والله أعلم المسألة الخامسة إذا انقسم أهل العصر على قسمين، ثم مات أحدهما، صار قول الباقين إجماعًا. قال القرافي: قلنا: ينبغي أن يتخرج على هذا أن قول الميت هل هو معتبر أم لا؟. فإن قلنا: معتبر، لا يكون الثاني إجماعًا. وإن قلنا: غير معتبر، صار إجماعًا. وقد قال الغزالي في (المستصفى): إذا اتفق التابعون على أحد قولي الصحابة - رضي الله عنهم - لم يصر القول الثاني مهجورًا، ولم يكن الذاهب إليه خارقًا للإجماع؛ خلافًا للكرخي، وبعض الحنفية والشافعية والقدرية كالجبائي وابنه؛ لأنه ليس مخالفًا لجميع الأمة.

فإن الذين ماتوا على ذلك المذهب هم من الأمة، والتابعون في تلك المسألة بعض الأمة، وإن صرحوا بتحريم القول الآخر، فنحن بين أمرين: إما أن نقول: هذا محال؛ لأنه يؤدي لتناقض الإجماعين؛ لأن الصحابة - رضوان الله عليهم - صرحوا بتجويز الخلاف، أو نقول: ممكن، وهم بعض الأمة، فيجوز عليهم الخطأ. وهم كل الأمة في مسألة لم يتحدث الصحابة فيها، وهذا الكلام من الغزالي يؤيد السؤال. * **

المسألة السادسة قال الرازي: أهل العصر، إذا اختلفوا على قولين، ثم رجعوا إلى أحد ذينك القولين، هل يكون ذلك إجماعا؟

المسألة السادسة قال الرازي: أهل العصر، إذا اختلفوا على قولين، ثم رجعوا إلى أحد ذينك القولين، هل يكون ذلك إجماعًا؟. أما من قال بانعقاد الإجماع في المسألتين السابقتين، فقوله به هاهنا أولى. ونثبت هذه الأولوية من وجهين: أحدهما: أن في المسألتين السابقتين: لقائل أن يقول: المجمعون ليسوا كل الأمة؛ فلا يكون اتفاقهم قولا لكل الأمة، فلا يكون حجةً. وأما هاهنا فهذه الشبهة زائلة؛ لأن الذين اتفقوا هم بعينهم الذين اختلفوا، فكان المجمعون كل الأمة. وثانيهما: أن في المسألتين السابقتين: ما صار القول الثاني مرجوعًا عنه أصلا، وهاهنا صار كذلك. وأما المنكرون لانعقاد الإجماع هناك، فقد اختلفوا هاهنا، فأما من اعتبر انقراض العصر، فإنه جوز ذلك؛ قال: لأن الانقراض، لما كان شرطًا في الإجماع، وهم لم ينقرضوا على ذلك الخلاف، فلم يحصل الإجماع على جواز الخلاف، فلم يكن الاتفاق حاصلا بعد الإجماع على جواز الخلاف. وأما من لم يعتبر الانقراض، فقد اختلفوا، فمنهم من أحال وقوعه، ومنهم من جوزه، وزعم أنه لا يكون حجةً، ومنهم من جعله إجماعًا يحرم خلافه؛ وهو المختار.

شرح القرافي: قال إمام الحرمين: الذي اختاره إن كان الرجوع بقرب الاختلاف، كان إجماعا، وإن كان بعد تطاول المدة، واستقرار النظر، فلا يكون ذلك إجماعا

لنا: ما تقدم من أن الصحابة، رضوان الله عليهم، اختلفوا في الإمامة، ثم اتفقوا بعد ذلك عليها، وإذا ثبت وقوعه، وجب أن يكون حجةً؛ لقوله عز وجل:} ويتبع غير سبيل المؤمنين {[النساء:115] والشبه التي يذكرونها هاهنا هي التي مرت، والله أعلم. المسألة السادسة إذا اختلف أهل العصر على قولين، ثم رجعوا إلى أحدهما قال القرافي: قال إمام الحرمين: الذي اختاره إن كان الرجوع بقرب الاختلاف، كان إجماعًا، وإن كان بعد تطاول المدة، واستقرار النظر، فلا يكون ذلك إجماعًا. فإن العادة تحيل عدم إدراك الخطأ في القول المرجوع عنه مع طول السنين في النظر فيه، بخلاف القرب؛ فإن ذلك كالخلاف الذي يعرض للرجل الواحد. (سؤال) ما الفرق بين هذه المسألة وبين المسألة الثالثة، وهي قوله: يجوز الاتفاق بعد الاختلاف؛ لأن رجوعهم إلى أحد قوليهم اتفاق بعد الاختلاف؟ والجواب: أن المراد بالثالثة خلاف غير مستقر، بل على وجه المنازعة، وطلب الدليل، وهو الذي كان بين الصحابة في الإمامة، والمراد هاهنا خلاف مستقر، واعتقد كل واحد من المخالفين صحة دليله، واستمر ذلك الحال، وتقرر الخلاف؛ كبيع أمهات الأولاد.

قوله: (ومن لم يشترط انقراض العصر فمنهم من أحال وقوع هذا الإجماع، ومنهم من جوزه): تقريره: أن حجة من أحاله أن العادة قاضية بأن الأقوال إذا انتشرت، وشاعت، وانطوت عليها القلوب يعسر الرجوع عنها. وهذه الحجة باطلة، بل هذا إنما يمتنع في غير المنصفين، أما من كان مطلبه الحق في سائر أحواله، فهو على الدوام في الفكر والنظر، فيجوز أن يفتح له اليوم ما خفي عنه أمس. حجة من جوزه قال: إنه ليس بحجة؛ لأن الإجماع إنما يكون حجة على غير أهله، فلو كان هاهنا حجة كان قول: الإجماع حجة على المجمعين أنفسهم؛ لأنا نمنعهم من الخلاف حينئذ. * * *

المسألة السابعة قال الرازي: انقراض العصر غير معتبر عندنا في الإجماع؛ خلافا لبعض الفقهاء والمتكلمين، منهم الأستاذ أبو بكر بن فورك

المسألة السابعة قال الرازي: انقراض العصر غير معتبرٍ عندنا في الإجماع؛ خلافًا لبعض الفقهاء والمتكلمين، منهم الأستاذ أبو بكر بن فورك. لنا: قوله تعالى:} وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا {[البقرة:143] وصفهم بالخيرية، وإجماعهم لا على الصواب يقدح في وصفهم بالخيرية. وأيضًا: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجتمع أمتي على الخطأ) ينافي إجماعهم على الخطأ، ولو في لحظةٍ واحدةٍ. ومما تمسكوا به في المسألة: أنا لو اعتبرنا الانقراض، لم ينعقد إجماع؛ لأنه قد حدث من التابعين في زمن الصحابة قوم من أهل الاجتهاد، فيجوز لهم مخالفة الصحابة؛ لأن العصر لم ينقرض، ثم الكلام في العصر الثاني كالكلام في العصر الأول؛ فوجب ألا يستقر إجماع أبدًا. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المعتبر انقراض عصر من كان مجتهدًا عند حدوث الحادثة، لا من يتجدد بعد ذلك. فلا يلزم اعتبار عصر التابعين، إذا حدث فيهم مجتهد بعد حدوث الحادثة؟ قلت: بتقدير أن يحدث في التابعين واحد من أهل الاجتهاد قبل انقراض عصر من كان مجتهدًا، عند حدوث الحادثة من الصحابة، ففي ذلك الوقت إجماع الصحابة غير منعقد؛ فوجب أن يجوز للتابعي مخالفتهم، وكذلك يحدث في تابعي التابعين قبل انقراض عصر من كان مجتهدًا من التابعين، وهلم جرا إلى زماننا؛ فيلزم ألا ينعقد الإجماع على ذلك التقدير.

ثم إنا نجوز هذا الاحتمال في كل الإجماعات، ولا نعلم عدمه؛ فوجب ألا ينعقد شيء من الإجماعات. واحتج المخالف بأمورٍ: أحدها: أن عليًا رضي الله عنه، سئل عن بيع أمهات الأولاد، فقال: (قد كان، رأيي، ورأي عمر ألا يبعن، ثم رأيت بيعهن). فقال له عبيدة السلماني: (رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك)؛ فدل قول عبيدة على أن الإجماع كان حاصلا، مع أن عليًا رضي الله عنه خالفه. وثانيها: أن الصديق كان يرى التسوية في القسم، ولم يخالفه أحد في زمانه، ثم خالفه عمر بعد ذلك. وثالثها: أن الناس ما داموا في الحياة يكونون في التفحص والتأمل؛ فلا يستقر الإجماع. ورابعها: قوله تعالى:} لتكونوا شهداء على الناس {[البقرة:143] ومذهبكم يقتضي أن يكونوا شهداء على أنفسهم أيضًا. وخامسها: أن قول المجمعين لا يزيد على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كانت وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - شرطًا في استقرار الحجة من قوله؛ فلأن يعتبر ذلك في قول أهل الإجماع أولى. والجواب عن الأول: أن قول السلماني: (رأيك في الجماعة) دل على أن المنع من بيعهن كان رأي جماعةٍ، ولم يدل على أنه كان رأي كل الأمة، وإنما أراد أن ينضم قول علي إلى قول عمر، رضي الله عنهما؛ لأنه رجح قول الأكثر على قول الأقل.

شرح القرافي: (فائدة) (فورك) قال المحدثون: الصحيح فيه ضم الفاء

وعن الثاني: أنا لا نسلم انعقاد الإجماع على فعل أبي بكرٍ، رضي الله عنه، بل نقل أن عمر - رضي الله عنه، نازعه فيه. وعن الثالث: أنهم إن أرادوا بنفي الاستقرار أنه لا يحصل الاتفاق، فهو باطل؛ لأن كلامنا في أنه لو حصل، لكان حجةً، وإن أرادوا به أنه بعد حصوله لا يكون حجةً فهو عين النزاع. وعن الرابع: أن كونهم:} شهداء على الناس {[البقرة:143] لا ينافي شهادتهم على أنفسهم. وعن الخامس: أنه جمع بين الموضعين من غير دليلٍ، وبالله التوفيق. المسألة السابعة انقراض العصر غير معتبرٍ قال القرافي: (فائدة) (فورك) قال المحدثون: الصحيح فيه ضم الفاء. قوله: (وصفهم بالخيرية؛ لقوله تعالى:} وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا {[البقرة:143] ينافي إجماعهم على الخطأ): قلنا: قد تقدمت الأسئلة عليه، في أن الإجماع حجةً، وتوجيه التمسك بهذه النصوص على عدم اشتراط انقراض العصر. أن اشتراطه إنما كان لاحتمال الرجوع قبل الانقراض عن الخطأ، فإذا كان قولهم صوابًا بظاهر النصوص، استحال الرجوع عنه، فلا معنى لاشتراط الانقراض، والمراد هاهنا بانقراض العصر موت المجمعين، لا انقراض تلك المائة من السنين.

(فائدة) قال سيف الدين: القائلون بانقراض العصر اختلفوا في إدخال من أدرك المجمعين

قوله: (لأنه قد حدث جماعة من التابعين في زمن الصحابة، فيجوز لهم مخالفة الصحابة، فلا يستقر إجماع). قلنا: المرتب على تقديرٍ جائزٍ لا يلزم وقوعه، بل المرتب على الجائز الوقوع يكون جائز الوقوع، لا أنه واقع، وتجويز المخالفة لا يلزم وقوعها. فعلى تقدير وقوعها يلزم ما ذكرتم، وعلى تقدير عدم وقوعها لا يلزم، فلم يصر دليلكم مستلزمًا لمطلوبكم، ثم إنا نتكلم في أن الإجماع إذا حصل وماتوا كان حجة. فإذا لم يقع ذلك لا يصيرنا في غرضنا؛ لأنا لا ندعى وقوع الإجماع جزمًا، وما ادعيناه ليس مُحالا، ويكفي ذلك في صحةً الدعوى، ولو وقع في مسألة واحدة. (فائدة) قال سيف الدين: القائلون بانقراض العصر اختلفوا في إدخال من أدرك المجمعين. قال ابن حنبل: (لا يدخل الشافعي في إجماع ذلك العصر) في إحدى الروايتين عنه. مع أنه يشترط انقراض العصر، وفائدة الاشتراط عنده إمكان رجوع المجمعين أو بعضهم لا وجود مجتهد آخر.

(فائدة) قال المحدثون: (عبيدة السلماني) من أصحاب علي - رضي الله عنه - وخواصه

وعلى هذا يندفع السؤال. قال إمام الحرمين في (البرهان): إن كان مستند الإجماع قطعيًا، فلا نشترط انقراض العصر، أو ظنيًا فلا ينبرم الإجماع حتى يطول الزمان مع اسمرارهم على الفكر، ولم ينقدح لواحد منهم خلاف، فهذا حينئذ يلتحق بالإجماع، مع أن العادة تحيل أن الظنون لا تتعين مع طول الزمان، غير أنه إذا وقع كان إجماعًا، فإن ماتوا على الفور بأن وقع عليهم سقف ونحوه، لم يكن إجماعًا. (فائدة) قال المحدثون: (عبيدة السلماني) من أصحاب علي - رضي الله عنه - وخواصه، وهو بفتح العين المهملة وكسر الباء بواحدة من تحتها، وبعدها ياء باثنتين من تحتها قبلها كسرة تحت الياء، ودال مفتوحة، والسلماني: بتشديد السين المهملة وفتحها، وسكون اللام، وفتح الميم، ونون مكسورة وياء مشددة. قال السمعاني في (كتابة ذلك) قال: ومن المحدثين من يفتح اللام و (سلمان): بطن من (مراد)، والمنسوب إليه اسمه: سلمان، وفتح اللام غير صواب. قوله: (دل قول عبيدة على أن الإجماع كان حاصلا مع أن عليًا - رضي الله عنه - خالفه).

قلنا: لفظ الجماعة لا يقتضي الإجماع، فقد قال عليه السلام: (الاثنان فما فوقهما جماعة)؛ ولأنها من الجمع والضم، فيكفي فيه اثنان. قوله: (كان الصديق - رضي الله عنه - يرى التسوية في القسم): تقريره: أن الظاهر أن مراده بالقسم قسم أموال بيت المال. وكذلك فسره البريزي، فإنه كان يسوى بين أهل الفضائل وغيرهم في القسم، ويقول: سابقة الإسلام وغيرها من الفضائل لها أجور ودرجات عند الله - تعالى - تقابلها، والدنيا ليست جزاء على ذلك، بل هي لسد الخلة وعبور الحياة، وكان يفرق بحسب الحاجة فقط. وكان عمر - رضي الله عنه - يقدم أهل الفضائل على غيرهم ترغيبًا فيها؛ لأن النفوس جبلت على الاستكثار فيما يظهر لهم جدواه، والإقبال عليه من ولاة الأمور. قوله: (الناس ما داموا في الحياة يكونون في الفحص والنظر): قلنا: لا نسلم أنه يمكن النظر بعد الإجماع؛ لتعين الحق حينئذ، فلا معني للنظر بعد ذلك. قوله: (ورابعها: قوله تعالى:} لتكونوا شهداء على الناس {[البقرة:143]، ومذهبكم يقتضي أنهم يكونون شهداء على أنفسهم أيضًا): قلنا: معنى قوله تعالى:} شهداء على الناس {أي: على الأمم يوم القيامة، كما جاء في الصحيح: إن نوحًا - عليه السلام - تجحده أمته البعثة إليهم، فيقول الله تعالى: هل لك من يشهد لك؟ فيأتي إلى هذه الملة

المحمدية، فيشهدون له، فتقول أمته: كيف يشهدون علينا وما رأونا؟ فتقول هذه الأمة: يا ربنا أنزلت علينا:} إنا أرسلنا نوحًا إلى قومه {[نوح:1]، فتتم شهادتهم عليهم)، وليس المراد كون الإجماع حجة، فلا تناقض بين شهادتهم وهذه المسألة. قول: (قول المجمعين لا يزيد على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - - وإذا كانت وفاته - عليه السلام - شرطًا في استقرار الحجة في قوله، فلأن يصير ذلك في قول أهل الإجماع أولى): قلنا: الفرق أن قوله - عليه السلام - قابل النسخ، والإجماع لا يقبله. قوله: (إنه جمع بين الموضعين من غير دليل): قلنا: لا نسلم، بل الجامع بينهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - معصوم، والإجماع معصوم، فالجامع العصمة، وعصمة الأنبياء مقدمة لاتفاق الأمة عليها في الجملة، بخلاف الإجماع؛ ولأن جميع الأنبياء معصومون، ولم يُعصم من الأمم إلا هذه الأمة؛ ولأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - - أصل الإجماع في عصمتها، ودليلها والأصول أقوى من الفروع. فهذا تقرير كون قول الرسول - عليه السلام - أولى. * * *

المسألة الثامنة قال الرازي: اختلفوا في أنا لو جوزنا انعقاد الإجماع عن السكوت، فهل يعتبر فيه الانقراض؟

المسألة الثامنة قال الرازي: اختلفوا في أنا لو جوزنا انعقاد الإجماع عن السكوت، فهل يعتبر فيه الانقراض؟. ذهب كثير ممن لم يعتبر الانقراض في الإجماع القولي إلى اعتباره هاهنا؛ لأن سكوته يمكن أن يكون للتفكر في حكم تلك الحادثة، فأما إذا مات عليه، علمنا حينئذ أن سكوته كان رضًا، وهذا ضعيفٌ؛ لأن السكوت إن دل على الرضا، وجب أن يحصل ذلك قبل الموت. وإن لم يدل عليه، لم يحصل ذلك أيضًا بالموت؛ لاحتمال أنه مات على ما كان عليه قبل الموت، والله أعلم. المسألة الثامنة هل يعتبر الانقراض في الإجماع السكوتي؟ قال القرافي: قوله: (السكوت إن دل على الرضا، فلا حاجة للموت، وإن لم يدل، فلا يؤثر الموت): قلنا: مسلم، لكن يمتنع الجزم مع السكوت طمعًا في إبداء ما في النفس. فإذا حصل الموت كان ظاهرًا بحال يقتضي أنه ما في نفسه شيء من المخالفة، وإلا أبداه مع أنه يجوز أن يموت على التوقف؛ لعدم الدليل. * * *

المسألة التاسعة قال الرازي: الإجماع المروى بطريق الآحاد حجة؛ خلافا لأكثر الناس

المسألة التاسعة قال الرازي: الإجماع المروى بطريق الآحاد حجة؛ خلافًا لأكثر الناس. لنا: أن ظن وجوب العمل به حاصل؛ فوجب العمل به؛ دفعًا للضرر المظنون، ولأن الإجماع نوع من الحجة، فيجوز التمسك بمظنونه، كما يجوز بمعلومه؛ قياسًا على السنة، ولأنا بينا أن أصل الإجماع قاعدة ظنية، فكيف القول في تفاصيله؟!. المسألة التاسعة المروى بأخبار الآحاد حجة قال القرافي: قوله: (العمل به يقتضي دفع الضرر بالمظنون). قلنا: قد تقدم أن الضرر المظنون كيف كان لا يجب دفعه، بل الضرر الخاص، فلم قلتم: إن هذا من القسم الذي يجب دفعه؟ وقد تقدم للتبريزي النقض على هذا المدرك بصور كثيرة، منها: شهادة الكفار، والصبيان، والفساق، والواحد العدل. فإن الظن حاصل في هذه الصور، ولا يجب دفعه، فلابد في الظن من مرتبة معينة هي المعتبرة، وغيرها غير معتبر. قوله: (الإجماع نوع من الحجة، فيستوي معلومة ومظنونه، كالسنة): قلنا: ليس العلة في الأصل كونه نوعًا من الحجة، وإلا لا ينقض بالعقليات؛ لأنها حجة في أصول الديانات، ولا يجوز التمسك بمظنونها، ولأنه تمسك بالقياس في إثبات أصل الإجماع، مع أن الإجماع أصل للقياس، فيكون إثبات الأقوى بالأضعف، والأصل بالفرع، فيلزم الدور.

(تنبيه) قال التبريزي على تمسكه: هذا قياس الإجماع، وليس بحجة في الأصول

(تنبيه) قال التبريزي على تمسكه: هذا قياس الإجماع، وليس بحجة في الأصول، والعمل بالسنة مأخوذ من الإجماع، ولا إجماع هاهنا. قال: والمعتمد أنا إذا ظننا كون الحكم مقولا به من أهل الإجماع، وعلمنا وجوب إتباع قولهم، صار الحكم مظنونًا بالمقدمتين؛ مظنونه ومقطوعة، فيجب العمل به في محل الاجتهاد أخذًا من سيرة الصحابة، ولا يلزم عليه القرآن المنقول على لسان الآحاد؛ لأنه ليس محل الاجتهاد، ولا نسلم حصول الظن بكونه من القرآن إذا كان أحادًا. * * *

القسم الثالث فيما أدخل في الإجماع، وليس منه

القسم الثالث فيما أدخل في الإجماع، وليس منه قال الرازي المسألة الأولي: إذا قال بعض أهل العصر قولا، وكان الباقون حاضرين، لكنهم سكتوا، وما أنكروه، فمذهب الشافعي - رضي الله عنه - وهو الحق أنه ليس بإجماع، ولا حجةٍ. وقال الجبائي: إنه إجماع وحجة بعد انقراض العصر. وقال أبو هاشمٍ: ليس بإجماعٍ، ولكنه حجة. وقال أبو علي بن أبي هريرة: إن كان هذا القول من حاكمٍ، لم يكن إجماعًا، ولا حجةً، وإن لم يكن من حاكمٍ، كان إجماعًا، وحجةً. لنا: أن السكوت يحتمل وجوهًا أخر، سوى الرضا، وهي ثمانية: أحدها: أن يكون في باطنه مانع من إظهار القول، وقد تظهر عليه قرائن السخط. وثانيها: ربما رآه قولا سائغًا أدى اجتهاده إليه، وإن لم يكن موافقًا عليه. وثالثها: أن يعتقد أن كل مجتهدٍ مصيب؛ فلا يرى الإنكار فرضًا أصلا. ورابعها: ربما أراد الإنكار، ولكنه ينتهز فرصة التمكن منه، ولا يرى المبادرة إليه مصلحةً. وخامسها: أنه لو أنكر، لم يلتفت إليه، ولحقه بسبب ذلك ذل، كما قال ابن عباسٍ في سكوته عن العول: (هبته، وكان والله مهيبًا).

وسادسها: ربما في مهلة النظر. وسابعها: ربما سكت؛ لظنه أن غيره يقوم مقامه في ذلك الإنكار، وإن كان قد غلط فيه. وثامنها: ربما رأي ذلك الخطأ من الصغائر، فلم ينكره. وإذا احتمل السكوت هذه الجهات، كما احتمل الرضا، علمنا أنه لا يدل على الرضا، لا قطعًا، ولا ظاهرًا، وهذا معنى قول الشافعي، رحمه الله: (لا ينسب إلى ساكتٍ قول). واحتج الجبائي: بأن العادة جارية بان الناس، إذا تفكروا في مسألة زمانًا طويلا، واعتقدوا خلاف ما انتشر من القول، أظهروه، إذا لم تكن هناك تقية، ولو كانت هناك تقية، لظهرت واشتهرت فيما بين الناس، فلما لم يظهر سبب التقية، ولم يظهر الخلاف، علمنا حصول الموافقة. وجوابه: ما بينا أن وراء الرضا احتمالات أخرى. واحتج أبو هاشمٍ: بأن الناس في كل عصرٍ يحتجون بالقول المنتشر في الصحابة، إذا لم يعرف له مخالف. وجوابه: أن ذلك ممنوع. واحتج أبو علي بن أبي هريرة: بأن هذا القول، إن كان من حاكمٍ، لم يدل سكوت الباقين على الإجماع؛ لأن الواحد منا قد يحضر مجالس الحكام فيجدهم يحكمون بخلاف مذهبه، وما يعتقده، ثم لا ينكر عليهم، وإن كان من غير الحاكم، كان إجماعًا، وهو ضعيف؛ لأن عدم الإنكار إنما يكون بعد

شرح القرافي: قوله: (مذهب الشافعي ليس إجماعا، ولا حجة على آخره)

استقرار المذهب، وأما حال الطلب، فالخصم لا يسلم جواز السكوت، إلا عن الرضا، سواء كان مع الحاكم، أو مع غيره، والله أعلم. القسم الثالث (فيما أدخل في الإجماع وليس منه) قال القرافي: قوله: (مذهب الشافعي ليس إجماعًا، ولا حجة على آخره): تقريره: أنه لما كان السكوت محتملا للمخالفة وغيرها، لم يبق إلا قول البعض، وهو ليس بإجماع ولا حجة. وقال الجبائي: إجماع وحجة؛ لأن السكوت دليل الرضا، فالمنطوق به قول الكل، فيكون إجماعًا وحجة. وقال أبو هاشمٍ: ليس بإجماع ألبتة، لأن السكوت لا يقوم مقام النطق؛ فلا يكون إجماعًا، وهو يفيد ظنًا قويًا؛ فيكون حجة لذلك. وقال ابن أبي هريرة: إن كان القائل حاكمًا لم يكن إجماعًا ولا حجة، وإلا فإجماع وحجة؛ لأن الحاكم كثير الفحص عن رعيته، فيعلم من الأسباب، والأحوال ما لم يطلع عليه غيره. فربما كان ظاهر حكمه على خلاف الإجماع؛ لأجل ما خفي عن غيره، وهو حق، فهو يعتمد في حكمه أسبابًا وأحوالا، ومدارك شرعية. وربما أداة إلى ترجيح ما هو مرجوح في غير هذه الصورة، وأما غير الحاكم فلا يحكم إلا بالأدلة الشرعية فقط. وغيره يشاركه في ذلك، فلو أخطأ لرد عليه غيره، ويتعدد الرد في حق الحاكم؛ لتعدد جهات حكمه.

قوله: (ربما رآه قولا سائغًا لمن أداه اجتهاده إليه، وإن لم يوافق عليه): تقريره: أن المصالح قد تتقارب، ولا يتعين الخطأ في أحدها، فلا نقول به لعدم الرجحان عنده، ولا ننكره لعدم تعين مفسدته. قوله: (قد يعتقد أن كل مجتهد مصيب): قلنا: هذا غير مانعٍ من الإنكار؛ لأنه وإن اعتقد ذلك، فهو يعتقد مع ذلك أن القائل وإن اجتهد فقد أخطأ الراجح والدليل بالكلية، فينكر عليه لذلك. وإن كان يعتقد أنه مكلف بما غلب على ظنه، فإنا وإن قلنا: كل مجتهد مصيب، فإنا لم نقل: إن الأدلة مستوية، ولا أن كل أحد لابد أن يصادف في اجتهاده مدركًا صحيحًا، بل قد يتفق خلاف ذلك على هذا التقدير. قوله: (ربما أراد الإنكار، ولكنه ينتظر الفرصة): تقريره: أنه يروى عن جعفر الصادق: (ما كل ما يعلم يقال ولا كل ما يقال حضر رجاله، ولا كل ما حضر رجاله حضر أوانه، ولا كل ما حضر أوانه حضرت أحواله، ولا كل ما حضرت أحواله أمن غوره، فاحذر لسانك ما استطعت، والسلام). قوله: (لو أنكر لحدث بسبب ذلك كما قال ابن عباس في سكوته عن القول: هبته، وكان مهيبًا) يعني: عمر - رضي الله عنهما. قلنا: هذا يتعين حمله على أن الدليل لم يكن في غاية الظهور عند ابن عباس، وكان الظهور في الدليل يحتاج لنظرة وإيضاح، والهيبة تمنع من ذلك، فلم يتعين الإنكار، أما لو ظهر الدليل ظهورًا تامًا، فالمعلوم من أخلاق الصحابة أنهم لا يسكتون على مثل هذا. قوله: (رأي ذلك الخطأ من الصغائر فلم ينكره):

(فائدة) قال القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص): هذه المسألة فيها أقسام

قلنا: هذا غير متجه فإن الإنكار واجب في الصغائر إجماعًا، وكذلك التعزيز، وإنما لا يفسق بها العدل فقط. قوله: (وإذا احتمل ذلك لم يدل على الرضا قطعًا، ولا ظاهرًا): قلنا: الأول مسلم. وأما الثاني فممنوع، بل الظن حاصل بالسكوت بشهادة العادل، والأصل عدم هذه الاحتمالات، وندرة بعضها يسقطه عن الاعتبار. قوله: 0يحضر أحدنا مجلس الحاكم، ويجده يحكم بخلاف مذهبه، ولا ينكر عليه): قلنا: هذا إنما يتأتي في المقلدين بعد اختلاف المذاهب، واستقرارها. أما لو كان الحاكم على مذهبنا أنكرنا عليه كونه ما حكم بمذهبنا. وإذا كان الحاكم والحاضر مجتهدين، فهو ينكر أيضًا؛ لأنه لم يتعين للمجتهد، ولا للحاضر مذهب، بل مقصود الجميع الدليل الراجح. فإذا غلب على ظن الحاضر مخالفة الراجح أنكره عليه. (فائدة) قال القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص): هذه المسألة فيها أقسام: الأول: أن ينتشر القول بين الصحابة، ويعلم أنه قول جميعهم بأن يكون بعضهم قائلا به، والبعض الآخر عاملا به، أو راضٍ به على وجهٍ لو استفتي لم يفت إلا به. فهذا إجماع يحرم خلافه.

الثاني: أن يظهر من الساكتين تصويب القائلين، ولا يفهم رضاهم بأنه قول لهم، ففيه خلاف، وأكثرهم على أنه إجماع، وهو مذهب المالكية، وأكثر الأصوليين على أنه ليس بحجة ولا إجماع. الثالث: إذا لم ينتشر، فأكثر الأصوليين على أنه ليس بإجماع ولا حجة. وقيل: إجماع. الرابع: إذا لم ينتشر عند الصحابة، ثم انتشر في التابعين، أو بعد التابعين. فإن رأي أهل ذلك العصر صحته، فهو إجماع. * * *

المسألة الثانية قال الرازي: اختلفوا فيما إذا قال بعض الصحابة قولا، ولم يعرف له مخالف

المسألة الثانية قال الرازي: اختلفوا فيما إذا قال بعض الصحابة قولا، ولم يعرف له مخالف، والحق أن هذا القول: إما أن يكون مما تعم به البلوى، أو لا يكون: فإن كان الأول؛ ولم ينتشر ذلك القول فيهم: فلابد، وأن يكون لهم في تلك المسألة قول: إما موافق، أو مخالف، ولكنه لم يظهر؛ فيجري ذلك مجرى قول البعض بحضرة الباقين، وسكوت الباقين عنه. وإن كان الثاني: لم يكن إجماعًا، ولا حجةً؛ لاحتمال ذهول البعض عنه. وبهذا التقدير: لا يكون للذاهلين فيه قول؛ فلا يكون الإجماع حاصلا. المسألة الثانية (إذا لم يعرف لبعض الصحابة مخالف) قال القرافي: الفرق بين هذه المسألة والتي قبلها - الساكت حاضر، وهاهنا القائل: لم يبلغنا أنه حضر أحد، غير أنه لم ينقل عن غير القائل فقط.

فإذا كان مما تعم به البلوى، فالغالب طلب الجمع الكبير له؛ لأجل عموم سبب فيهم. فيكون عندهم قول لم يبلغنا، فيكون كسكوت البعض. وأما إذا لم تعم به البلوى، فلعله لم يبلغ من لم ينقل عنه، بل لم يطرق سمعه ألبتة. * * *

المسألة الثالثة قال الرازي: إذا استدل أهل العصر بدليل، أو ذكروا تأويلا، ثم استدل أهل العصر الثاني بدليل آخر، أو ذكروا تأويلا آخر، فقد اتفقوا على أنه لا يجوز إبطال التأويل القديم

المسألة الثالثة قال الرازي: إذا استدل أهل العصر بدليلٍ، أو ذكروا تأويلا، ثم استدل أهل العصر الثاني بدليل آخر، أو ذكروا تأويلا آخر، فقد اتفقوا على أنه لا يجوز إبطال التأويل القديم؛ لأنه لو كان ذلك باطلا، وكانوا ذاهلين عن التأويل الجديد الذي هو الحق، لكانوا مطبقين على الخطأ؛ وهو غير جائزٍ. وأما التأويل الجديد: فإن لزم من ثبوته القدح في التأويل القديم، لم يصح، كما إذا اتفقوا على تفسير اللفظ المشترك بأحد معنييه، ثم جاء من بعدهم، وفسره بمعناه الثاني، لم يجز ذلك؛ لأنا قد دللنا على أن اللفظ الواحد لا يجوز استعماله لإفادة معنييه جميعًا، فصحة هذا التأويل الجديد تقتضي فساد القديم؛ وأنه غير جائزٍ. أو يقال: إنه تعالى تكلم بتلك اللفظة مرتين؛ وهو باطل؛ لانعقاد الإجماع على ضده. وأما إذا لم يلزم من صحة التأويل الجديد فساد التأويل القديم، جاز ذلك، والدليل عليه: أن الناس يستخرجون في كل عصرٍ أدلةً، وتأويلاتٍ جديدة، ولم ينكر عليهم أحد، فكان ذلك إجماعًا. وللمانع أن يحتج بأمورٍ: أولها: أن الدليل الجديد مغاير لسبيل المؤمنين؛ فوجب أن يكون محظورًا؛ لقوله تعالى:} ويتبع غير سبيل المؤمنين {[النساء:115].

شرح القرافي: قوله: (قد دللنا على أنه لا يجوز استعمال المشترك في معنييه)

وثانيها: أن قوله تعالى:} كنتم خير أمةٍ {[آل عمران:110] خطاب مشافهة؛ فلا يتناول إلا أهل العصر الأول. ثم قوله:} تأمرون بالمعروف {[آل عمران:110] يقتضي كونهم آمرين بكل معروفٍ، فكل ما لم يأمروا به، ولم يذكروه، وجب ألا يكون معروفًا؛ فكان منكرًا. وثالثها: أن الدليل الثاني، والتأويل الثاني لو كان صحيحًا لما جاز ذهول الصحابة مع تقدمهم في العلم - عنه. والجواب عن الأول: أن قوله:} ويتبع غير سبيل المؤمنين {[النساء:115] خرج مخرج الذم، فيختص بمن اتبع ما نفاه المؤمنون؛ لأن ما لم يتكلم فيه المؤمنون بنفيٍ، ولا بإثباتٍ، لا يقال فيه: إنه إتباع لغير سبيل المؤمنين. وأيضًا: فالحكم بفساد ذلك الدليل ما كان سبيلا للمؤمنين؛ فوجب كونه باطلا. وعن الثاني: أن قوله:} وتنهون عن المنكر {[آل عمران: 110] يقتضي نهيهم عن كل المنكرات، فكل ما لم ينهوا عنه، وجب ألا يكون منكرًا؛ لكنهم ما نهوا عن هذا الدليل الجديد؛ فوجب ألا يكون منكرًا. وعن الثالث: أنه لا استبعاد في أنهم اكتفوا بالدليل الواحد، والتأويل الواحد، وتركوا طلب الزيادة، والله أعلم. المسألة الثالثة (إذا ذكر أهل العصر تأويلا) قال القرافي: قوله: (قد دللنا على أنه لا يجوز استعمال المشترك في معنييه):

قلنا: وقد تقدم تقرير ضده أيضًا، وهو مذهب الشافعي ومالكٍ، وجماعة عظيمة من العلماء. فإذا فرعنا عليه جاز أن يفسره العصر الأول بأحد المعنيين المرادين للمتكلم، ولا يخطر لهم الآخر؛ لأنهم لم يكلفوا به لعدم حضور سببه، وإنما حضر سبب ما فسروه به، والأمة يجوز عليها أن تشترك في الجهل فيما لم تكلف به، وإنما المحذور الجهل بما كلفت به، أو تفتى بخلاف الواقع. أما ترك الواقع مع عدم التكليف، فلا يقدح في العصمة؛ فإنه ليس من لوازم العصمة الإحاطة بجميع المعلومات. ولما جاء العصر الثاني حضر سبب المعني الآخر، فألهمه الله - تعالى - للعصر الثاني، وأعرضوا عن الأول، لانعدام سببه. فتتجه حينئذ المسألة، وقد ذكرت آخر كتاب الإجماع مباحث من هذه المسألة عن القاضي عبد الوهاب تناسب هذه المسألة، فلتطالع من هناك. * * *

المسألة الرابعة قال الرازي: قال مالك: إجماع أهل المدينة وحدها حجة

المسألة الرابعة قال الرازي: قال مالك: إجماع أهل المدينة وحدها حجة. وقال الباقون: ليس كذلك. حجة مالك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن المدينة لتنفي خبثها؛ كما ينفي الكير خبث الحديد) والخطأ خبث؛ فكان منفيًا عنهم. فإن قيل: وجد في الخبر ما يقتضي كونه مردودًا؛ لأن ظاهره أن كل من خرج عنها، فإنه من الخبث الذي تنفيه (المدينة)؛ وذلك باطل؛ لأنه قد خرج منها الطيبون؛ كعلي، وعبد الله، رضي عنهما، بل ذكروا ثلاثمائةٍ ونيفًا من الصحابة الذين انتقلوا إلى (العراق) وهم أمثل من الذين بقوا فيها؛ كأبي هريرة وأمثاله. سلمنا سلامته عن هذا الطعن؛ لكنه من أخبار الآحاد؛ فلا يجوز التمسك به في مسألة علميةٍ. سلمنا صحة متنه؛ لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك محمولا على من خرج منها؛ لكراهية المقام بها، مع أن في المقام بها بركةً عظيمةً؛ بسبب جوار الرسول، وجوار مسجده - صلى الله عليه وسلم -، ومع ما ورد من الثناء الكثير على المقيمين بها؛ لأن الكاره للمقام بها، مع هذه الأحوال لابد وأن يكون ضعيف الدين، ومن كان كذلك، فهو خبث؟ سلمنا أن المراد كونها نافيةً للقول الباطل؛ لكن قوله: (لتنفي خبثها) ليس فيه صيغة عمومٍ.

سلمناه؛ لكن لم لا يجوز تخصيص هذا القول بزمانه، ويكون المراد بالخبث الكفار. ثم إنه معارض بأمور ثلاثة: الأول: أن الذي دل على كون الإجماع حجةً وارد بلفظين: لفظ (المؤمنين) في آية المشاقة، ولفظ (الأمة) في غيرها، وهاتان اللفظتان غير مخصوصتين ببلدة، دون بلدةٍ؛ فوجب اعتبار الكل. الثاني: أن الأماكن لا تؤثر في كون الأقوال حجةً. الثالث: أن القول به يؤدي إلى المحال؛ لأن من كان ساكن المدينة، كان قوله حجةً، فإذا خرج منها لا يكون قوله حجةً، ومن كان قوله حجةً في مكانٍ، كان قوله حجةً في كل مكانٍ؛ كالرسول - صلى الله عليه وسلم -. والجواب: قوله: (يقتضي أن كل من خرج من (المدينة)، فهو خبث): قلنا: لا نسلم؛ لأن الخبر يقتضي أن كل ما كان خبثًا، فإن (المدينة)، تخرجه؛ وهذا لا يقتضي أن كل ما تخرجه المدينة، فهو خبث. قوله: (إنه خبر واحدٍ، فلا يجوز التمسك به في العمليات): قلنا: لا نسلم أن هذه المسألة علمية، بل لما ثبت بهذا الخبر ظن أن إجماع أهل المدينة حجة، والعمل بالظن واجب - وجب العمل به. قوله: (نحمله على من كره المقام بالمدينة): قلنا: تقييد المطلق خلاف الأصل؛ ولو جاز ذلك، لجاز في قوله:} ويتبع غير سبيل المؤمنين {[النساء:115]

وفي قوله، عليه الصلاة والسلام: (لا تجتمع أمتي على خطأٍ) حمله على بعض الصور، ولما كان جواب الجمهور أن تخصيص العام، وتقييد المطلق خلاف الأصل، وأنه لا يجوز القول به من غير ضرورةٍ، فكذا هاهنا. قوله: (ليس في قوله: لتنفي خبثها صيغة عمومٍ): قلنا: لا نسلم؛ فإن الحقيقة لا تنتفي إلا عند انتفاء جميع أفرادها، فلولا انتفاء جميع أفراد الخبث عن (المدينة)؛ وإلا لما صح القول بأنها تنفي الخبث. قوله: (لم لا يجوز تخصيصه بزمانه؟): قلنا: لأن التخصيص خلاف الأصل. قوله: الأدلة على أن الإجماع حجة غير مختصة يقوم دون قومٍ. قلنا: تلك الأدلة لا تقتضي أن إجماع أهل (المدينة) حجة، ولكنها لا تبطل ذلك، فإذا أثبتناه بدليلٍ منفصلٍ، لم يلزمنا محذور. قوله: لا أثر للمكان. قلنا: لا استبعاد في أن يخص الله تعالى أهل بلدةٍ معينة بالعصمة؛ كما أنه لا استبعاد في أن يخص تعالى أهل زمانٍ معينٍ بالعصمة؛ فإنه تعالى خص أمتنا بالعصمة من بين سائر المم؛ بلي: العقل لا يدل على ذلك، وإنما الرجوع فيه إلى السمع. قوله: (من كان قوله حجة في مكانٍ، كان حجةً في كل مكانٍ؛ كالنبي - صلى الله عليه وسلم -): قلنا: هذا قياس طردي في مقابلة النص؛ فكان باطلا، والله أعلم.

شرح القرافي: قوله: (الأماكن لا تؤثر في كون الأقوال حجة)

فهذا تقرير قول مالك - رحمه الله - وليس بمستبعدٍ؛ كما اعتقده هو، وجمهور أهل الأصول، والله أعلم. المسألة الرابعة (إجماع المدينة حجة) قال القرافي: قوله: (الأماكن لا تؤثر في كون الأقوال حجة): قلنا: لم يقل مالك: إن إجماع (المدينة) حجة؛ لأجل البقعة، إنما اختلف أصحابه في تقرير مذهبه على قولين:

.........................................................................

......................................................................

............................................................................

.................................................................................

................................................................................

...........................................................................

منهم من يقول: إنما مقصوده تلك الأقوال المنقولة خاصة، إما عن قولٍ سمعوه من رسول الله - عليه السلام، أو عن فعل وضع كما كان في الصاع والمد، فينقل الأبناء عن الآباء، والإخلاف عن الأسلاف أن هذا هو المد الذي كانوا يؤدون به الزكاة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الأذان كان على هذه الصورة في زمانه - عليه السلام - كما قاله مالك لأبي يوسف، لما ناظره في الأذان، والصاع. والأوقاف. فسأل أبناء الصحابة، فأخبروه بذلك. فقال له: هذا أذان القوم، وهذا صاعهم، وهذه أوقاف الصحابة رضوان الله عليهم. فرجع أبو يوسف عن مذهب أبي حنيفة إلى ذلك، ومتى كان هذا هو المقصود خرج الحديث المنقول، والواقعة المنقولة عن حيز الظن والتخمين إلى حيز العلم، واليقين. فأقل أحوالها أن يرتقي عن رتبة الآحاد، فلا يختلف في تقديمه على الأحاديث الصحيحة المروية بالآحاد.

ومنهم من قال: بل المقصود ما هو أعم من هذا وهو أنهم اتفقوا على فعل، أو كانوا في أنفسهم يفعلون فعلا لا يعلم مستندهم فيه، فإنه يكون حجة، ويقدم على الأحاديث؛ لأن الظاهر من حالهم أنهم ما عدلوا عن الحديث مع طلاعهم عليه إلا وقد اطلعوا على ناسخ، وكذلك القول في الترك. كما قال مالك في خيار المجلس أن الساعات مما تتكرر، فلو كان خيار المجلس مشروعًا لكان ذلك متكررًا بـ (المدينة) مشتهرًا، فحيث لم يكن له عندهم أثر دل ذلك على عدم اعتبار بيع الخيار، وأنه نسخ بغيره، وعلى كل تقدير، فلا عبرة بالمكان، بل لو خرجوا من هذا المكان إلى مكان آخر كان الحكم على حاله، فهذا سر هذه المسألة عند مالك، لا خصوص المكان، بل العلماء مطلقًا خصوصًا أهل الحديث يرجحون الأحاديث الحجازية على العراقية، حتى يقول بعض المحدثين: إذا تجاوز الحديث (الحرة) انقطع نخاعه. وسببه أنه مهبط الوحي، فيكون الضبط فيه أيسر وأكثر، وإذا بعدت الشقة كثر الوهم والتخليط، فلو خرج أولئك الرواة بجملتهم وسكنوا غير

(الحجاز) كان الأمر بحاله لم يحصل فيه، وبذلك يندفع كثير من الأسئلة عن المسألة، كاستشكاله الفرق بينه وبين قوله - عليه السلام - إذا خرج من موضعه، فإنا نلتزم التسوية في أن الأمرين حجة في جميع المواطن. قال القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص): إجماع المدينة: نقل واجتهاد. فالأول: ثلاثة أقسام: نقل شرع مبتدأ بقول، أو فعل، أو إقرار. ونقل ترك كالصاع، والأذان، والأجناس، والمنبر. والثاني: كنقلهم العمل المتصل في عهدة الرقيق. والثالث: كترك أخذ الزكاة من الخضروات مع كثرتها بـ (المدينة)، ولم يأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء بعده منها زكاة، فهذه حجة عندنا اتفاقًا، يترك لأجلها الأخبار والقياس والاجتهاد، وإجماعهم بالنظر والاجتهاد. ففيه لأصحابنا ثلاثة أقوال: قال ابن بكير والأبهري، وأبو الفرج، وغيرهم: ليس بحجة، ولا يرجح به أحد الاجتهادين، وأنكروا أن يكون هذا مذهبًا لمالك وأصحابه. وقيل: ليس بحجة، ولا يرجح به أحد الاجتهادين. وقال ابن العدل، وابن بكير وغيرهما: هو حجة كالإجماع في النقل، ووقع لمالك في رسالته لليث بن سعد ما يدل عليه، وهذا مذهب أصحابنا المغاربة، ومتى كان الإجماع عن اجتهاد قوم الخبر عليه عند جمهور أصحابنا. وقال بعض العلماء: إجماع (البصرة) حجة، وكذلك (الكوفة). وقال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع: قيل: إجماع (الكوفة) مع (البصرة) حجة، فيتحصل فيهما ثلاثة أقوال:

المجموع، كل واحدة على حالها، (الكوفة) وحدها. قوله: (لا يقتضي الخبر أن كل ما خرج من (المدينة) فهو خبث): تقريره: أن الموجبة الكلية لا يجب انعكاسها، فقولنا: (كل خبث خارج من (المدينة)،) لا يقتضي أن كل خارج خبث، كما أنه إذا صدق: (كل إنسان حيوان) لا يلزم: كل حيوان إنسان، بل تنعكس جزئية لا كلية. فيصدق أن بعض الخارج خبث كما يصدق بعض الحيوان إنسان، وهو صحيح نقول به. قوله: (تقييد المطلق خلاف الأصل): قلنا: لا نسلم أنه مطلق، بل عام؛ لأنه اسم جنس أضيف، وقوله عليه السلام: (خبثها) كقوله عليه السلام: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) عام في جميع أفراد الماء والميتة. فالجواب المتجه أن نقول: الأصل عدم التخصيص، ولا نقول: الأصل عدم التقييد، وبينهما فرق كبير تقدم، وهو أن التخصيص عكس التقييد، لأن التخصيص تنقيص، والتقييد زيادة على المسمي، ولذلك لا حاجة إلى قولكم: (الحقيقة لا تنتفي إلا عند انتفاء جميع أفرادها)، بل الاستدلال بصيغة العموم أولى. قوله في الجواب عن قول السائل: لم لا يجوز تخصيصه بزمانه عليه السلام. قال: (التخصيص خلاف الأصل): قلنا: النص عام في جميع أفراد الخبث، مطلق في الأزمنة والأحوال، كما تقدم بيانه في تخصيص العموم، وإذا كان مطلقًا في الزمان لا يثبت التعميم، فلا يلزم التخصيص. قوله: (قياس طردي في مقابلة النص):

(سؤال) لا دلالة في الحديث؛ لأن الخبث في عرف الشرع هو ما نهي عنه

قلنا: ليس قياسًا طرديًا، بل الجامع فيه هو العصمة في الصورتين. (سؤال) لا دلالة في الحديث؛ لأن الخبث في عرف الشرع هو ما نهي عنه كقوله - عليه السلام: (كسب الحجام خبيث). فإنه يكره الكسب به. وقوله عليه السلام: (الكلب خبيث وخبيث ثمنه). والخطأ والنسيان لا يتعلق بهما نهي، ولا غيره من الأحكام الشرعية، بل هو في الشرع كفعل البهيمة لا يتعلق به ثواب ولا عقاب كقتل الخطأ، وفيه ثواب من غير نهي كخطأ الحاكم لقوله عليه السلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر). (فائدة) قال الغزالي في (المستصفى): قال قوم: إجماع الحرمين: (مكة) و (المدينة)، والمصرين: (الكوفة) و (البصرة) حجة. وقال ابن حزم في (مراتب الإجماع): قيل: إجماع أهل (الكوفة) حجة. والمدرك في الكل إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - في هذه المواطن. * * *

المسألة الخامسة قال الرازي: إجماع العترة وحدها ليس بحجة؛ خلافا للزيدية والإمامية

المسألة الخامسة قال الرازي: إجماع العترة وحدها ليس بحجةٍ؛ خلافًا للزيدية والإمامية. لنا: أن عليًا رضي الله عنه، خالفه الصحابة في كثير من المسائل، ولم يقل لأحد ممن خالفه: (إن قولي حجة، فلا تخالفني). احتجوا بالآية والخبر والمعني: أما الآية: فقوله تعالى:} إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهركم تطهيرًا {[الأحزاب:33]؛ والخطأ رجس؛ فيجب أن يكونوا مطهرين عنه. وأما الخبر: فقوله عليه الصلاة والسلام: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به، لن تضلوا: كتاب الله وعترتي). وأما المعنى: فإن أهل البيت مهبط الوحي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منهم وفيهم، فالخطأ عليهم أبعد.

والجواب عن الأول: أن ظاهر الآية في أزواجه - صلى الله عليه وسلم - لأن ما قبلها، وما بعدها خطاب معهن؛ لأنه تعالى قال:} وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي {[الأحزاب:33] ويجري هذا المجرى قول الواحد لأبنه: (تعلم وأطعني، إنما أريد لك الخير). ومعلوم أن هذا القول لا يتناول إلا ابنه، فكذا هاهنا. فإن قلت: هذا باطل من وجوهٍ: أحدها: أنه لو أرادهن، لقال: إنما يريد الله ليذهب عنكن الرجس. وثانيها: أن أهل البيت على، وفاطمة، والحسن، والحسين، رضوان الله عليهم؛ لأنه لما نزلت هذه الآية، لف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليهم كساء، وقال: (هؤلاء أهل بيتي). وثالثها: أن كلمة (إنما) للحصر، فهي تدل على أنه تعالى ما أراد أن يزيل الرجس عن أحد إلا عن أهل البيت؛ وهذا غير جائزٍ؛ لأنه تعالى أراد زوال الرجل عن الكل، وإذا تعذر حمله على ظاهره، وجب حمله على زوال بعض الرجس عنهم؛ لأن ذكر السبب لإرادة المسبب جائز، وزوال الرجس هو العصمة. فإذن هذه: الآية تدل على عصمة أهل البيت، وكل من قال ذلك، زعم أن المراد به علي، وفاطمة والحسن، والحسين، لا غير، فلو حملناه على غيرهم، كان ذلك قولا ثالثًا. قلت: الجواب عن الأول: أن التذكير لا يمنع من إرادتهن بالخطاب، وإنما يمنع من القصر عليهن. وعن الثاني: أنه معارض بما روى عن أم سلمة؛ أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

شرح القرافي: قوله: (إن عليا خالفه الصحابة)

(ألست من أهل البيت؟ فقال: بلى، إن شاء الله) ولأن لفظ (أهل البيت) حقيقة فيهن لغةً، فكان تخصيصه ببعض الناس خلاف الأصل. وعن الثالث: لا نسلم دلالة الآية على زوال كل رجسٍ؛ لأن المفرد المعرف لا يفيد العموم. والجواب عن التمسك بالخبر: أنه من باب الآحاد؛ وعند الإمامية لا يجوز العمل به؛ فضلا عن العلم. فإن قلت: بل هو صحيح قطعًا؛ لأن الأمة اتفقت على قبوله، بعضهم للاستدلال به على أن إجماع العترة حجة، وبعضهم للاستدلال به على فضيلتهم. قلت: قد تقدم أن هذا لا يفيد القطع بالصحة. سلمنا صحة الخبر؛ لكنه يقتضي وجوب التمسك بالكتاب، والعترة، وذلك مسلم؛ فلم قلتم: إن قول العترة وحدها حجة؟! والجواب عن التمسك بالمعنى: أنه باطل بزوجاته - صلى الله عليه وسلم -، فإنهن شاهدن أكثر أحواله، مع أن قولهن ليس وحده بحجةٍ. المسألة الخامسة (إجماع العترة) قال القرافي: قوله: (إن عليا خالفه الصحابة): قلنا: المدعى إجماع العترة، وعلى وحده ليس إجماعًا. قوله: (الخطأ رجس): قلنا: لا نسلم؛ لأن الخطأ ليس لله - تعالى - فيه حكم، بل معفو عنه، كفعل البهيمة.

والرجس في الشرع ما كان مستبعدًا شرعًا، كما تستبعد النجاسة طبعًا، فيكون منهيًا عنه لقوله تعالى:} فأعرضوا عنهم أنهم رجس {[التوبة:95] ونحو ذلك. قوله: (الآية في أزواجه عليه السلام): قلنا: (الكاف) و (الميم) لا تكون إلا للمذكر لغة وحقيقة، والأصل في الكلام الحقيقة. قال ابن عطية في تفسيره: أهل البيت هاهنا اختلف فيهم، فقال ابن عباس وعكرمة ومقاتل: (هم أزواجه خاصةً لا رجل معهن)، والمراد بالبيت: مساكن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الجمهور: أهل البيت: فاطمة، وعلي، والحسن والحسين. قال عليه السلام: (نزلت هذه الآية في خمسة: في وفي علي، وفاطمة، والحسن، والحسين). قال: وحجة الجمهور أن الضمير ضمير تذكير. وقال الثعلبي: هم بنو هاشم، فيكون المراد بالبيت بيت النسب. وقاله زيد بن أرقم. قوله: (كلمة (إنما) للحصر، فتدل على أنه - تعالى - ما أراد أن يزيل

الرجس عن أحد إلا عن أهل البيت، وذلك غير جائز؛ لأنه أراد أن يزيل الرجس عن الكل، وإذا تعذر حمله على ظاهره حمل على زوال بعض الرجس عنهم؛ لأن ذكر السبب لإرادة المسبب جائز. وزوال الرجس هو العصمة، وكل من قال بالعصمة قال: المراد على، وفاطمة، والحسن، والحسين فقط): قلنا: هذه الآية مشكلة، فينبغي بسطها قبل الحديث عليها، ووجه إشكالها أن فعل (أراد) يتعدى بنفسه. تقول: (أردت الخير)، وهاهنا عدى بـ (اللام) أو يكون المفعول محذوفًا، وكلاهما يحتاج لتقرير. أما تعديته بـ (اللام) فقد وقع له نظائر في القرآن كثيرة. منها: قوله تعالى:} يريدون ليطفئوا نور الله {[الصف:8]،} بل يريد الإنسان ليفجر أمامه {[القيامة:5]. قال الزمخشري في (الكشاف): دخلت (اللام) للتأكيد؛ لأن اللام إنما تكون في اللغة للغرض. والغرض الإرادة، فصار بينهما وبين الإرادة مناسبة، فدخلت تأكيدًا للإرادة؛ لأنها في معناها. والأصل: يريدون أن يطفئوا نور الله. فحذفت (أن) لأنها لا تثبت مع لام (كي) ونظيرها دخول (اللام) في الإضافة نحو: [الطويل]: ..................... ......... لا أبالك ............

لأن (اللام) في معنى الإضافة، فدخلت تأكيدًا للإضافة، وذلك يتجه هاهنا، ويتجه هاهنا أن يكون المفعول محذوفًا، وتكون (اللام) لام (كي) على بابها من غير تأكيد. تقديره: إنما يريد الله ذلك. إشارة إلى ما تقدم من قرارهن في بيوتهن، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وعدم التبرج. ويكون المراد بالإرادة الشرعية تقديره: إنما شرع لكم هذه المحاسن ليذهب عنكم العيوب، والإرادة تطلق للشرعية كما في قوله تعالى:} يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر {[البقرة:185]، أي يسر لكم ما تطيقون دون المعجوز عنه، كما عبر عن التكليف بالرضا بقوله تعالى:} ولا يرضى لعباده الكفر {[الزمر:7]، أي: لا يشرعه دينًا، وذلك من مجاز الملازمة؛ لأن من شرع شيئًا، فقد أراده ورضيه في العادة، فصار الرضا والإرادة لازمين للشرعية، فعبر بهما عن الشرعية، وكذلك صرح ابن عطية في (تفسيره) بحذف المفعول من قوله تعالى:} بل يريد الإنسان ليفجر أمامه {[القيامة:5]، وبالجملة الآية محتملة للوجهين، إذا تقرر هذا فعلى تقدير أن يكون المفعول محذوفًا، لا تدل الآية على أنه - تعالى - ما أراد إزالة الرجس عن أحد إلا عن أهل البيت، بل تدل على أنه - تعالى - إنما أراد شرعية تلك المحاسن لهذه الحكمة، وأنت إذا قلت: (إنما أعطيتك هذا المال ليتسع حالك) لا تدل على أنك لا توسع على غيره، بل على حصر غرضك في التوسعة عليه، لا أنك لا توسع على غيره، وكذلك إذا قلت: إنما اشتريت هذه السلعة لأربح فيها، لا تدل على أنك تقصد الربح في غيرها، وإن قلنا: (اللام) للتأكيد نقول: تقدير الكلام: إنما يريد الله أن يذهب الرجس عنكم، و (أن) مع الفعل بتأويل المصدر، فيصير التقدير:

(سؤال) تقدم في (باب الأفعال) الكلام على عصمة الأنبياء - عليهم السلام - وتحقيق معنى العصمة

إنما يريد الله إذهاب الرجس عنكم، فتدل على حصر إرادته - تعالى - في إذهاب الرجس عنهم لا على حصر زوال الرجس عنهم، لكن يلزمكم منه أنه لو أراد إزالة الرجس عن غيرهم، لكان مريدًا لذلك - سبحانه وتعالى - فلا تنحصر الإرادة في المذكور، والمقدر انحصارها، هذا خلف نتيجة المنع حينئذٍ، وللخصم أن يجيب عن المنع بالتزام حذف المفعول كما تقدم، وعبارة الكتاب نكرة؛ فإن قوله: 0إن أراد أن يزيل الرجس عن الكل) يحتمل كل المؤمنين، وهو الظاهر، ويحتمل كل الناس؛ فإن ما من أحد إلا وقد أزيل عنه عيب، ولقي معصية ونوعًا من الكفر والآثام، ولم يجتمع الجميع لأحد. وقوله (يحمل على زوال الرجس عنهم) أتي بالضمير، فصار ملبسًا في احتمال عوده على الكل، أو أهل البيت، والمراد به أهل البيت، فكان ينبغي له التصريح به، فيقول: فتحمل على العصمة، بل تلكلكت العبارة، واضطربت، ولابد لكل مصنف من وقت يكون فيه مغير الخاطر، فتتغير عبارته لذلك، ومن اعتبر تصانيف الناس وجد ذلك كثيرًا فيها. (سؤال) تقدم في (باب الأفعال) الكلام على عصمة الأنبياء - عليهم السلام - وتحقيق معنى العصمة، وأنها مختلفة الحقائق، وأنها في حق الأنبياء - عليهم السلام-، وتحقيق معنى العصمة، وأنها مختلفة، وأنها في حق الملائكة ومجموع الأمة واحدة، وهي ترجع إلى إخبار الله - تعالى - عن المعصوم بأنه قدر له الاستمرار على الاستقامة، واختبار الخطأ، وأنه علم ذلك، وأراده، وأنها ليست مفسرة بمطلق عدم العصمة، وإلا لكان كل أحد معصومًا؛ لأن ما من أحد إلا وقد عدمت منه معاصٍ، وعصمة الأنبياء

(سؤال) إذا تعذر حمل العموم على ظاهره، يحمل على التخصيص

ومجموع الأمة هو المراد في عصمة أهل البيت، وعلى هذا التقدير يكون ذهاب الرجس مسببًا للعصمة لا سببًا لهأ، فلا يستقيم قوله في الكتاب: (إنه من باب إطلاق السبب لإرادة المسبب)، بل هو العكس. (سؤال) إذا تعذر حمل العموم على ظاهره، يحمل على التخصيص، وهو زوال الرجس عن أهل البيت خاصة، والتخصيص من حمله على العصمة؛ لأنه من باب مجاز الملازمة، والتخصيص مقدم على المجاز كما تقدم في (اللغات). قوله: (التذكير لا يمنعهن بالخطاب). قلنا: استعمال المذكر في المؤنث، أو فيهما مجاز، الأصل عدمه، فهو يمنع بهذا الطريق. أو نقول: بل يمنعه بلفظه من جهة مفهومه؛ فإن مفهوم التذكير يمنع التأنيث. قوله: (نعارضهم بأن رسول الله - جعل أم سلمة من أهل البيت). قلنا: ليس في هذا معارضة؛ فإن لفظ الأهل مشترك. تقول العرب: تأهل الرجل إذا تزوج، وأهل الرجل امرأته، وأهل الرجل أيضًا: رهطه وأقاربه، وكذلك البيت مشترك بين بيت السكن، وبيت النسب، وإذا تقرر الاشتراك، فجاز أن تكون الآية نزلت في أحد المعنيين من المشترك، والحديث ورد في الآخر، ولا يلزم من استعمال المشترك في أحد معانيه ألا يستعمل مرة أخرى في معنى آخر. قوله: (لا تدل الآية على زوال الرجس).

(سؤال في الآية) إن قوله تعالى:} ليذهب {[الأحزاب:33] لفظ مستقبل لا يختص بزمان

قلنا: وإن سلم الخصم أن المفرد المعرف بـ (اللام) لا يعم، مع أنه له أن يمنعه؛ بناء على ما تقدم في العموم من أنه مذهب الفقهاء، فلا يرد عليه؛ لأن الرجس إن لم يرد به العموم يكون المراد به الماهية الكلية، ومعلوم بالضرورة أن الله - تعالى - لم تنحصر إرادته في إزالة مطلق الرجس عن أهل البيت خاصة، بمعنى أن ما من أحد إلا وقد أزال عنه فردًا من أفراد الرجس وإزالة الماهية التي يلزم من زوالها زوال كل فرد، فما حصل هذا لأهل البيت، ولا لغيرهم من المؤمنين، بمعنى أن الله - تعالى - لم تنحصر إرادته في هذا، بل إرادته - تعالى - تعلقت بأمور كثيرة غير هذا، فلا يتجه الجواب على كل تقدير. قوله: (تقدم أن هذا لا يفيد القطع بصحة الخبر). تقريره: أن الأمة إذا أجمعت على الاستدلال بالخبر، قد يكون ذلك لأنه مفيد للظن، ولا يتوقف استدلالهم به على إفادته للقطع، فلا يدل إجماعًا على الاستدلال به أنه قطعي. (سؤال في الآية) إن قوله تعالى:} ليذهب {[الأحزاب:33] لفظ مستقبل لا يختص بزمان، وليس فيه دلالة على عموم الأزمان، فلعل هذا في الدار الآخرة؛ فإن الرجس يطلق على العذاب لقوله:} رجزًا من السماء {[البقرة:59] أو في غير الآخرة، فلا يتعين محل النزاع. (سؤال) إذا كان لفظ (الأهل) مشتركًا، فلعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم منه أنه استعمل في مفهوميه، وهو الراجح؛ لأنه جمع بين الأحاديث.

(تنبيه) غير سراج الدين فقال في الجواب: ظاهر الآية يقتضي حصر إرادة إزالة الرجس في أهل البيت، وهو غير مراد

فقد قال لأم سلمة: (أنت من أهل البيت) إن شاء الله تعالى، وعلى هذا التقدير تكون الأزواج مع العترة حجة، ولا يلزم منه أن العترة وحدها حجة لبعض الأمة. (تنبيه) غير سراج الدين فقال في الجواب: ظاهر الآية يقتضي حصر إرادة إزالة الرجس في أهل البيت، وهو غير مراد، فيحمل على زوال الرجس حملا للسبب على المسبب، وإذا زال كل رجس عنهم لزمت عصمتهم. (فائدة) (عترة الرجل) بالتاء اليابسة: أقاربه الأدنون، وعشيرته الأخصون به. * * *

المسألة السادسة قال الرازي: إجماع الأئمة الأربعة وحدهم ليس بحجة

المسألة السادسة قال الرازي: إجماع الأئمة الأربعة وحدهم ليس بحجةٍ. وحكي أبو بكر الرازي: أن أبا خازمٍ القاضي كان يقول: إجماع الخلفاء الأربعة حجة، ولهذا لم يعتد بخلاف زيد بن ثابتٍ في توريث ذوى الأرحام، وحكم برد أموالٍ حصلت في بيت مال المعتضد إلى ذوى الأرحام، وقبل المعتضد فتياه، وأنفذ قضاءه، وكتب به إلى الآفاق، ومن الناس من جعل إجماع الشيخين حجةً. واحتج: أبو خازمٍ بقوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ). واحتج الباقون: بقوله عليه الصلاة والسلام: (اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكر وعمر) ولما لم يمكن الاقتداء بهما حال اختلافهما، وجب ذلك حال اتفاقهما. والجواب: أنه معارض بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) مع أن قول كل واحدٍ من الصحابةٍ وحده ليس بحجةً. المسألة السادسة إجماع الأربعة قال القرافي: قوله: (في الاستدلال بقوله عليه السلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي): قلنا: الخلفاء بـ (لام التعريف) تعم كل خليفة رشيد؛ فإن كل المراد

حقيقة اللغة من الكلية دون الكل؛ لأنه مدلول صيغة العموم، فيكون كل واحد وحده حجة، والخصم لا يقول به. وإن كان المراد الكل، فيكون المراد هو المجموع، وذلك يدل بمفهومه على أن البعض من الخلفاء ليس بحجة، فلا يكون الأربعة حجة. قوله: (نعارضه بقوله عليه السلام: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم). تقريره: أن الخصم يقول: إذا عارض أحد الصحابة قول هؤلاء الجماعة لا يصح الاقتداء بذلك وحده، والحديث يرد عليه. * * *

المسألة السابعة قال الرازي: إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين ليس بحجة خلافا لبعضهم

المسألة السابعة قال الرازي: إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين ليس بحجةٍ خلافًا لبعضهم. لنا: لو كان قول التابعي باطلا، لما جاز رجوع الصحابة إليه؛ لكنهم قد رجعوا إليه. عن ابن عمر، رضي الله عنهما؛ أنه سئل عن فريضةٍ، فقال: (سلوها سعيد ابن جبيرٍ؛ فإنه أعلم بها). وعن أنسٍ، رضي الله عنه: ربما سئل عن شيءٍ، فقال: (سلوا مولانا الحسن؛ فإنه سمع وسمعنا، وحفظ ونسينا). وسئل ابن عباسٍ عن (النذر بذبح الولد) فأشار إلى مسروقٍ، فأتاه السائل بجوابه، فتابعه عليه، وفي أمثال هذه الروايات كثرة. واحتج المخالف بالآية، والخبر، والأثر: أما الآية: فقوله تعالى:} لقد رضي الله عن المؤمنين؛ إذ يبايعونك تحت الشجرة {[البقرة:18] ولن يرضي عنهم، إلا إذا كانوا غير مقدمين على فعل شيءٍ من المحظورات، ومتى كان كذلك، كان قولهم حجةً. أما الخبر: فقوله عليه الصلاة والسلام: (لو أنفق غيرهم ملْ الأرض ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم، ولا نصفيه) وذلك يدل على أن التابعي، إذا خالف، فالحق ليس مع التابعي، بل معهم.

شرح القرافي: قوله: (احتجوا بقوله تعالى:} لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة

وأما الأثر: فهو أن عائشة - رضي الله عنها - أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن خلافه علي ابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها، وهي حامل، وقالت: (فروج يصيح مع الديكة). والجواب عن الأول: أن الآية مختصة بأهل بيعة الرضوان، وبالاتفاق لا اختصاص لهم بالإجماع. وعن الخبر: أنه يلزم منه أن الصحابي الواحد، إذا قال نقيض قول التابعي أن نقطع بأن الحق قول الصحابي. وعن الأثر: أن إنكارها على أبي سلمة، لعله كان لأنه خالف بعد الإجماع، أو في مسألة قطعية، أو لأنه خالف قبل أن كان أهلا للاجتهاد، أو لأنه أساء الأدب في المناظرة، ولأن قول عائشة، رضي الله عنها، ليس بحجةٍ. المسألة السابعة إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين ليس بحجة. قال القرافي: قوله: (احتجوا بقوله تعالى:} لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة {[الفتح:18]):

قلنا: هذه الآية على الخصم لا له؛ لأن لفظ (إذا) ظرف، وهو يدل بمفهومه على سلب الرضا في غير ذلك الزمان، كما إذا قلت: (رضيت عن زيد يوم الجمعة) مفهومه من جهة تخصيص الشيء بالذكر يدل على سلبه عن غير ذلك الزمان، ثم إن رضا الله - تعالى - عبارة عن معاملتهم معاملة الراضي، واللفظ لفظ المضي، فتكون الآية إخبارًا عن وقوع ذلك في الزمان الماضي؛ إذ لا يلزم من ذلك معاملتهم بذلك بعد ذلك. فلا حجة فيه، ولو عاملهم قد لا يمنع ذلك مباشرتهم الخطأ؛ فإن الله - تعالى - يثيب على الخطأ؛ لقوله عليه السلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر)، بل قد يعامل الله - تعالى - عبده معاملة الراضي، وهو على المعصية استدراجًا له؛ لقوله تعالى:} إنما نملى لهم ليزدادوا إيمًا {[آل عمران:178]،} أيحسبون أنما نمدهم به من مالٍ وبنين نسارع لهم في الخيرات {[المؤمنون:55، 56]. قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدكم ملْ الأرض ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه).

(سؤال) ما الفرق بين هذه المسألة، وبين مسألة اشتراط انقراض العصر

قلت: هذا الحديث يقتضي أن مواهب الله - تعالى - وثوابه للسابقين أكثر، ولا يقتضي أنه معصوم من الخطأ، بدليل أن عوام الناس لم يبلغ أحدهم نصف حال مالك والشافعي ونحوهما. ومع ذلك فليس قول كل واحد منهم حجة. قوله: (إن عائشة - رضي الله عنها - أنكرت على أبي سلمة): قلنا: لعل إنكارها كان لاطلاعها على مخالفة نص، أو قاعدة، لا لأن قول ابن عباس في نفسه حجة، بل المعلوم من حالها إنكارها على جماعة الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - عدة من الفروع، وذلك معلوم في السنن، وما ذلك إلا لاعتقادها مخالفتهم للدليل الشرعي، فهاهنا كذلك. قوله: (قول عائشة ليس بحجة): قلنا: مذهب مالك وجماعة من العلماء أن قول كل صحابي وحده حجة، لاسيما عائشة التي قال فيها عليه السلام: (خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء). (سؤال) ما الفرق بين هذه المسألة، وبين مسألة اشتراط انقراض العصر، فإنه قد قال فيها: (إن حدوث التابعين في زمان الصحابة لا يقدح في إجماع الصحابة)؟. جوابه: أن هذه المسألة خلاف التابعي موجود عند فتوى الصحابة، فلم توجد الفتوى لكل الأمة؛ لأن التابعي من الأمة، ثم لم يوجد مخالف حالة

(سؤال) على قوله: (رجع ابن عمر لسعيد بن جبير وغيره)، فإنه غير متجه

الفتوى، فكان المعني بها كل الأمة، فلا يصير خلافه بعد ذلك؛ لأن خلافه باطل. (سؤال) على قوله: (رجع ابن عمر لسعيد بن جبير وغيره)، فإنه غير متجه؛ لأن الدعوى أن إجماع الصحابة حجة، وإن خالفهم التابعون، وهذه المسألة ليس فيها إجماعهم، بل واحد منهم، فلا يتم المقصود. * * *

المسألة الثامنة قال الرازي: اختلفوا في انعقاد الإجماع، مع مخالفة المخطئين من أهل القبلة في مسائل الأصول

المسألة الثامنة قال الرازي: اختلفوا في انعقاد الإجماع، مع مخالفة المخطئين من أهل القبلة في مسائل الأصول، فإن لم نكفرهم اعتبرنا قولهم؛ لأنهم إذا كانوا من المؤمنين، ومن الأمة، كان قول من عداهم قول بعض المؤمنين؛ فلا يكون حجةً، وإذا كفرناهم، انعقد الإجماع بدونهم؛ لكن لا يجوز التمسك بإجماعنا على كفرهم في تلك المسائل؛ لأنه إنما ثبت خروجهم عن الإجماع بعد ثبوت كفرهم في تلك المسائل، فلو أثبتنا كفرهم فيها بإجماعنا وحدنا، لزم الدور. واعلم أن قول العصاة من أهل القبلة معتبر في الإجماع؛ لأن من مذهبنا أن المعصية لا تزيل اسم الإيمان؛ فيكون قول من عداهم قول بعض المؤمنين؛ فلا يكون حجةً. المسألة الثامنة اختلفوا في انعقاد الإجماع مع مخالفة المخطئ من أهل القبلة قال القرافي: قوله: (يثبت كفرهم بإجماعنا، وإلا لزم الدور): تقريره: أن تكفيرهم بإجماعنا فرع لكون إجماعنا حجة، وإنما يكون حجة إذا كفروا حتى ننفي نحن كل الأمة، فيلزم الدور. * * *

المسألة التاسعة قال الرازي: الإجماع لا يتم مع مخالفة الواحد والاثنين؛ خلافا لأبي الحسين الخياط من المعتزلة، ومحمد بن جرير الطبري، وأبي بكر الرازي

المسألة التاسعة قال الرازي: الإجماع لا يتم مع مخالفة الواحد والاثنين؛ خلافًا لأبي الحسين الخياط من المعتزلة، ومحمد بن جرير الطبري، وأبي بكر الرازي. لنا: أن جميع الصحابة أجمعوا على ترك قتال مانعي الزكاة، وخالفهم فيه أبو بكر، رضي الله عنه، وحده فيه، ولم يقل أحد: (إن خلافه غير معتد به)، بل لما ناظروه، رجعوا إلى قوله، وكذلك ابن عباسٍ، وابن مسعودٍ خالفا كل الصحابة في مسائل الفرائض، وخلافهما باقٍ إلى الآن. واحتج المخالف بأمورٍ: أحدها: أن لفظي (المؤمنين) و (الأمة) يتناولهم، مع خروج الواحد، والاثنين منهم؛ كما يقال في البقرة: (إنها سوداء)، وإن كانت فيها شعرات بيض، وكما يقال للزنجي: (إنه أسود) مع بياض حدقته وأسنانه. وثانيها: قوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالسواد الأعظم) وقوله: (الشيطان مع الواحد) وهذا يقتضي أن الواحد المنفرد بقوله مخطئ. وثالثها: أن الإجماع حجة على المخالف، فلو لم يكن في العصر مخالف، لم يتحقق هذا المعني. ورابعها: أن الصحابة أنكرت على ابن عباسٍ خلافه للباقين في الصرف. وخامسها: أن المسلمين اعتمدوا في خلافه أبي بكرٍ - رضي الله عنه - على الإجماع، مع مخالفة سعدٍ، وعلي بن أبي طالبٍ، رضي الله عنهم.

وسادسها: أن في رواية الأخبار يحصل الترجيح بكثرة العدد، فكذا في أقوال المجتهدين. وسابعها: أن اتفاق الجمع على الكذب ممتنع عادةً، واتفاق الجمع القليل على ذلك غير ممتنعٍ، فإذا اتفقت الأمة على الحكم الواحد، إلا الواحد منهم أو الاثنين، كان ذلك الجمع العظيم قد أخبروا عن أنفسهم بكونهم مؤمنين، وذلك لا يحتمل الكذب. وأما الواحد، والاثنان، لما أخبروا عن أنفسهم بكونهم مؤمنين، فذلك يحتمل الكذب، وإذا كان كذلك، كان ما اتفق عليه الكل سوى الواحد، والاثنين هو سبيل المؤمنين قطعًا؛ فوجب أن يكون حجةً. وثامنها: لو اعتبرنا مخالفة الواحد، والاثنين، لم ينعقد الإجماع قطعًا؛ لأنه لا يمكننا أن ندعى في شيءٍ من الإجماعات أنه ليس هناك واحد، أو اثنان يخالفون فيه. والجواب عن الأول: أن ألفاظ العموم لا تتناول الأكثر؛ على سبيل الحقيقة في اللغة؛ لأنه يجوز أن يقال لما عدا الواحد من الأمة: (ليسوا كل الأمة) ويصح استثناؤه عنهم. وعن الثاني: أن السواد الأعظم كل الأمة؛ لأن من عدا الكل، فالكل أعظم منه، ولولا ما ذكرناه، لدخل تحته النصف من الأمة، إذا زاد على النصف الآخر بواحدٍ. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (الشيطان مع الواحد) فذلك لا يقتضي أن يكون مع كل واحدٍ، وإلا لم يكن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحده حجةً.

وعن الثالث: أنه حجة على المخالف الذي يوجد بعد ذلك، ولو كان الأمر كما ذكرتم، لوجب في كل إجماعٍ أن يكون فيه مخالف شاذ. وعن الرابع: أن الصحابة ما أنكروا علي ابن عباسٍ مخالفته للإجماع؛ بل مخالفته خبر أبي سعيدٍ، رضي الله عنهما. وعن الخامس: أن الإمامة لا يعتبر في انعقادها حصول الإجماع؛ بل البيعة كافية. وعن السادس: لم قلتم: إن الحال في الإجماع كالحال في الرواية؟ فلو كان كذلك، لحصل الإجماع بقول الواحد، والاثنين؛ كالرواية. وعن السابع: أنا وإن عرفنا في ذلك الجمع كونهم مؤمنين، لكنا لا ندرى أنهم كل المؤمنين؛ فلا جرم لم يجب علينا أن نحكم بقولهم. وعن الثامن: أنا إنما نتمسك بالإجماع؛ حيث يمكننا العلم بذلك، كما في زمان الصحابة؛ رضي الله عنهم. * * *

شرح القرافي: قلت: لم يفهرس سيف الدين هكذا، بل قال: اختلفوا في انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل

المسألة التاسعة لا يتم الإجماع بمخالفة الواحد وأو الاثنين المسألة العاشرة قال الرازي: الإجماع إذا لم يحصل فيه قول من كان متمكنًا من الاجتهاد، وإن لم يكن مشهورًا، به لم يكن حجةً؛ لأن قول من عداه قول بعض المؤمنين؛ فلا يندرج تحت أدلة الإجماع، والله أعلم. قال القرافي: قلت: لم يفهرس سيف الدين هكذا، بل قال: اختلفوا في انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل. قال الأكثرون: لا ينعقد. وقال ابن جرير، وأبو بكر الرازي، وأبو الحسين الخياط من المعتزلة، وابن حنبل في إحدى الروايتين عنه: ينعقد. وقال قوم: إن بلغ الأقل عدد التواتر لم يعتد بالإجماع، وإلا اعتد به. وقال أبو عبد الله الجرجاني: إن استوعب الجماعة الاجتهاد في مذهب المخالف، فخلافه معتد به، وإلا فلا، كخلاف ابن عباس الجماعة في مسألة العول؛ فإنها محل اجتهاد.

وأنكر الناس الاجتهاد في خلاف ابن عباس في المتعة وربا الفضل، فلا يعتد به هاهنا. وقيل: الأكثر حجة لا إجماع. وقيل: إتباع الأكثر أولى، وإن جاز خلافه. فهذه خمسة مذاهب لم يحك الإمام منها إلا مذهبين. قوله: (في قوله عليه السلام: (عليكم بالسواد الأعظم): قلنا: هذا لنا؛ لأن مجموع الأمة هو الذي يصدق عليه الأعظم على الإطلاق، فيكون هو المراد، ويدل بمفهومه على عدم اعتبار غيره. * * *

القسم الرابع فيما يصدر عنه الإجماع

القسم الرابع فيما يصدر عنه الإجماع قال الرازي: المسألة الأولي: لا يجوز حصول الإجماع إلا عن دلالةٍ، أو أمارةٍ، وقال قوم: يجوز صدوره عن التبخيت. لنا: أن القول في الدين بغير دلالةٍ، أو أمارةٍ خطأ؛ فلو اتفقوا عليه، لكانوا مجمعين على الخطأ؛ وذلك يقدح في الإجماع. احتج المخالف بأمرين: الأول: أنه لو لم ينعقد الإجماع إلا عن دليلٍ، لكان ذلك الدليل هو الحجة، ولا يبقي في الإجماع فائدة. الثاني: أن الإجماع لا عن الدلالة، ولا عن الأمارة قد وقع؛ كإجماعهم على بيع المراضاة وأجرة الحمام. والجواب عن الأول: أن ذلك يقتضي ألا يصدر الإجماع عن دلالةٍ، لا عن أمارةٍ ألبتة، وأنتم لا تقولون به. ولأن فائدة الإجماع: أنه يكشف عن وجود دليلٍ في المسألة، من غير حاجةٍ إلى معرفة ذلك الدليل، والبحث عن كيفية دلالته على المدلول. وعن الثاني: أن الصور التي ذكرتموها، غايتكم أن تقولوا: لم ينقل إلينا فيها دليل، ولا أمارة، ولا يمكنكم القطع بأنهما ما كانا موجودين؛ فلعلهما كانا موجودين، لكن تركوا نقلهما للاستغناء بالإجماع عنهما.

شرح القرافي: قوله: (يجوز صدوره عن التبخيت)

القسم الرابع فيما عنه يصدر الإجماع قال القرافي: قوله: (يجوز صدوره عن التبخيت): قلت: هذه اللفظة اختلفت تأويلات الناس لها، ونقلتها في أنواع التصحيف. فقال سراج الدين: (لا يجوز صدور الإجماع عن الشبهة)، ففسرها بالشبهة، كأنه رأي أن معناها (التبحيت) بالحاء المهملة، ولا شك أن هذا مشكل؛ لأن الأمارة تصيب وتخطئ، وهو قد قال: لا يجوز صدور الإجماع عن غير دلالة وأمارة، فجعل محل النزاع فيما عدا الأمارة، مع أن الشبهة هي أمارة تحتمل الصواب والخطأ. هذا ما على هذا التفسير، ويعضد هذا التفسير قول المصنف بعد هذا في الجواب: (يلزم صدور الإجماع لا عن دلالة، ولا عن أمارة، وأنتم لا تقولون به)، فجعل قولهم لا يخرج عن الأمارة، وهو مناقض لما قاله في أول المسالة. وقال سيف الدين في (الإحكام): اتفق الكل على أن الأمة لا تجمع إلا عن مأخذ يوجب اجتماعهم خلافًا لمن شذ. فقال: يجوز الإجماع توفيق لا توقيف، بأن يوفقهم الله - تعالى - لاختيار الصواب من غير مستند، فصرح بما تقتضي الحاء المعجمة. وقال أبو الحسين في (المعتمد): (لا تجتمع الأمة تبخيتًا) كلفظ

المصنف، غير أنه قال بعده: (وأجازه قوم بالتوفيق لا بالتوقيف)، فكان المصنف، والله أعلم اقتصر على لفظه الأول دون الثاني، فدخله التصحيف والتحريف، وكذلك اقتصر عليه القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص). وقال: (لا يجوز إجماعهم لغير مدرك شرعي بالتبخيت)، وقال ابن برهان في (الأوسط): قال: جماعة من المتكلمين: يجوز أن يجمعوا لغير مستندٍ، بل يوفقهم الله - تعالى - للصدق والصواب. قوله: (القول في الدين بغير دلالة، أو أمارة خطأ9: قلنا: لا نسلم؛ لأن مذهب الخصم أن الله - تعالى - وفقهم للصواب، فلا خطأ حينئذ. قوله: (لو كان الإجماع عن دليل لم يبق فيه فائدة): قلنا: لا نسلم، بل الإجماع يكون قطعيًا، والمستند الذي لهم لا يفيد القطع، فحصلت الفائدة؛ ولأن الناس لم يزالوا يستدلون على المطلب الواحد بعدة أدلة، كان عقليًا، أو نقليًا، فلا يلزم من حصول دليل امتناع دليل آخر، هو الإجماع أو غيره، ثم إنه منقوض بقول الرسول عليه السلام؛ فإنه لا يقول ما نقوله إلا عن دليل، وهو حجة بالاتفاق. قوله: (ولأنهم أجمعوا لا عن دليل كبيع المراضاة، وأجرة الحمام): وزاد سيف الدين في هذه الحجة: ناصب الحباب على الطريق، وأجره الحلاق، وأخذ الخراج، ولم يذكر بيع المرضاة. وقال أبو الحسين في (المعتمد): أجمعوا على بيع المراضاة من غير عقد، والاستبضاع، وأجره الحمام، وأخذ الخراج، وأخذ زكاة من الخيل.

ثم قال: والجواب أن كل ذلك ما وقع إلا عن دليل، وإن لم ينقل، وأما الاستبضاع فقد كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكره، وتقريره - عليه السلام دليل، وبيع المراضاة جرت العادة به في الأخذ والإعطاء، وذلك يجري مجرى القول، وكذلك أجرة الحمام مقدرة بالعادة. وأما قسمة أراضي (العراق) فللإمام التصرف بحسب المصلحة، ولهذا لم يقسم عليه السلام منازل (مكة)، ولا آبار (هوازن)، وأما أخذ الزكاة من الخيل فغير مجمع عليه؛ ولأن من أوجبها بلغة حديث فيها. قلت: بيع المراضاة لا إجماع فيه؛ لأنه بيع المعاطاة، والشافعي وجماعة من العلماء يمنعونه، فلا إجماع حينئذ، ونصب الحباب من المعروف، فيدل عليه قوله تعالى:} وافعلوا الخير {[الحج:77]، ونحوه، وهو كثير في الكتاب والسنة. * * *

............................................................................

المسألة الثانية قال الرازي: القائلون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن طريق اتفقوا على جواز وقوعه عن الدلالة

المسألة الثانية قال الرازي: القائلون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن طريق اتفقوا على جواز وقوعه عن الدلالة. والحق عندنا: جواز وقوعه عن الأمارة أيضا، وقال ابن جرير الطبري: ذلك غير ممكن، ومنهم: من سلم الإمكان، ومنع الوقوع، ومنهم: من قال: الأمارة إن كانت جلية، جاز، وإلا، فلا. لنا: أن ذلك قد وقع؛ روي عن عمر، رضي الله عنه؛ أنه شاور الصحابة في حد الشارب، فقال علي، رضي الله عنه: (إذا شرب، سكر، وإذا سكر، هذى، وإذا هذى، افترى، وحد المفتري ثمانون). وقال عبد الرحمن بن عوف، رصي الله عنه" (هذا حد، وأقل الحد ثمانون). فإن قلت: لعلهم أجمعوا على تبليغ الحد ثمانين لنص، استغنوا بالإجماع عن نقله. قلت: هذا جائز، لو لم ينصوا على فزعهم إلى الاجتهاد في هذه المسألة. وأيضا: أثبتوا إمامة أبي بكر- رضي الله عنه- بالقياس على تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه في الصلاة، ثم أجمعوا عليها. واحتج المخالف بأمور: أحدها: أن الأمة، على كثرتها، واختلاف دواعيها لا يجوز أن تجمعها

الأمارة مع خفائها؛ كما لا يجوز اتفاقهم في الساعة الواحدة على أكل الزبيب الأسود، والتكلم باللفظة الواحدة، وهذا بخلاف إجماعهم على مقتضى الدليل والشبهة؛ لأن الدلالة قوية، والشبهة تجري مجرى الدلالة عند من صار إليها، وبخلاف اجتماع الخلق العظيم في الأعياد؛ لأن الداعي إليه ظاهر. وثانيها: من الأمة من يعتقد بطلان الحكم بالأمارة، وذلك يصرفه عن الحكم بها. وثالثها: أن ذلك يفضي إلى اجتماع أحكام متنافية؛ لأن الحكم الصادر عن الاجتهاد لا يفسق مخالفه، وتجوز مخالفته، ولا يقطع عليه، ولا على تعلقه بالأمارة. والحكم المجمع عليه بالعكس في هذه الأمور، فلو صدر الإجماع عن الاجتهاد، لاجتمع النقيضان فيه. والجواب عن الأول: أنه منقوض باتفاق أصحاب الشافعي، وأبي حنيفة، رحمهما الله، على قوليهما. وعن الثاني: أن الخلاف في صحة القياس حادث؛ ولأنه يجوز أن تشتبه الأمارة بالدلالة، فيثبت الحكم بالأمارة على اعتقاد أنه أثبته بالدلالة؛ ولأنه ينتقض بالعموم وخبر الواحد؛ فإنه يجوز صدور الإجماع عنهما، مع وقوع الخلاف فيهما. وعن الثالث: أن تلك الأحكام المرتبة على الاجتهاد مشروطة بألا تصير المسألة إجماعية، فإذا صارت إجماعية، فقد زال الشرط، فتزول تلك الأحكام، والله أعلم.

شرح القرافي: قوله: (قال ابن جرير: ذلك غير ممكن)

المسألة الثانية يجوز الإجماع عن الأمارة قال القرافي: قوله: (قال ابن جرير: ذلك غير ممكن): يعني عادة؛ فإن الناس إنما يجمعهم أمر قاهر، والأمارة تختلف الظنون فيها، ويختلف اعتبارها، فلا يحصل الإجماع. قوله: (ومنهم من سلم الإمكان، ومنع الوقوع): أي: أنه استقرأ فلم يجد ذلك وقع. قوله: (قال علي- رضي الله عنه-: (إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون): قلنا: قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: هذا الأثر مشكل؛ لأن القاعدة أن المظنة إذا قطعنا بعراها عن الحكمة لا نعتبرها، وإنما نعتبرها أو نحوها إذا لم نقطع، وهاهنا أوجب الحد على من سكر، مع أنه لم يقذف أحدا، ونقطع بأن القذف لم يصدر منه. قوله: (أثبتوا إمامة الصديق- رضي الله عنه) بالقياس على تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه في الصلاة): قلنا: لا نسلم الإجماع على إمامته؛ فإن الإمامة لا يشترط فيها الإجماع، فقد تأخر علي، وفاطمة، وجماعة من الصحابة، ورجع علي بعد ذلك، وما حصل العلم برجوع غيره من الأنصار الذين نازعوا، لاسيما من بويع له بالإمامة منهم، وسبق ذلك عليه. سلمنا حصول الإجماع، لكن لا نسلم أن مدركهم القياس، وإنما ذكر عمر- رضي الله عنه- ذلك تنبيها على أنه المتعين في القوم لجميع الأمور المهمة، وإلا فأين الصلاة من الإمامة؟.

(تنبيه) تقدم أول الكتاب الفرق بين: الدليل، والأمارة، والطريق

فإنه يشترط في الإمامة أمور عظيمة لا تشترط في إمامة الصلاة، ومع الاختلاف يكون القياس باطلا بالإجماع. قوله: (لا يجمعون على الأمارة كما لا يتفقون على الكلمة الواحدة): قلنا: قد تقدم الجواب في أول الكتاب في إمكان الإجماع. قوله: (من الناس من لا يرى بالأمارة): قلنا: هو مسبوق بالإجماع، فيمكن انعقاد الإجماع على الأمارة قبل طروء هذا المخالف، أو يكون قد مات، وبقى الفريق الآخر، فينعقد الإجماع عن الفريق الآخر. (تنبيه) تقدم أول الكتاب الفرق بين: الدليل، والأمارة، والطريق. * * *

المسألة الثالثة قال الرازي: قال أبو عبد الله البصري: (الإجماع الموافق لمقتضى خبر يدل على أن ذلك الإجماع؛ لأجل ذلك الخبر)

المسألة الثالثة قال الرازي: قال أبو عبد الله البصري: (الإجماع الموافق لمقتضى خبر يدل على أن ذلك الإجماع؛ لأجل ذلك الخبر). والحق أنه غير واجب؛ لأن قيام الدلائل الكثيرة على المدلول الواحد جائز؛ فلعلهم أثبتوا مقتضى الخبر؛ بدليل آخر سواه، والله أعلم. المسألة الثالثة الإجماع الموافق لمقتضى خبر لا يدل على أن ذلك الإجماع لأجله قال القرافي: قوله: (اجتماع الأدلة على المدلول الواحد جائز): قلنا: الأصل عدم دليل غير الحديث. (فائدة) قال القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص): في المسألة تفصيل: إن كان الخبر متواترا، فهو مستندهم، كما يجب إجماعهم على العمل بموجب النص، وكذلك تصرف الرسول- عليه السلام- بما يقتضيه النص يكون امتثالا، والخلاف في المسألة إنما هو في أخبار الآحاد، وهي أقسام: إن علم ظهور الخبر فيهم، وأنهم عملوا بموجبه، ولأجله، جزمنا بذلك، أو نعلم ظهوره فيهم، وعملهم عند ظهوره، ولا نعلم أن عملهم لأجله. والثالث: ألا يكون ظاهرا فيهم إلا أنهم عملوا بالحكم الذي يتضمنه، ففي القسم الثاني ثلاثة مذاهب: ثالثها: إن كان على خلاف القياس، فهو مستندهم.

وأما الثالث فلا يدل على أنهم عملوا لأجله، وهل يدل إجماعهم على موجب الخبر على صحته؟ خلاف، والصحيح دلالته؛ لئلا يجمعوا على الخطأ. وقيل: لا يدل، كحكم الحاكم لا يدل على صدق الشهود، والفرق أن السمع دل على عصمتها. * * *

القسم الخامس في المجمعين

القسم الخامس في المجمعين قال الرازي: قبل الخوض في المسائل لابد من مقدمة، وهي أن الخطأ جائز؛ عقلا، على هذه الأمة؛ كجوازه على سائر الأمم، لكن الأدلة السمعية منعت منه. وهي واردة بلفظين: أحدها: لفظ (المؤمنين) في آية المشاقة. والآخر: لفظ (الأمة) في سائر الآيات والخبر. فأما لفظ (المؤمنين) فقد مر في باب العموم: أنه للاستغراق. وأما لفظ (الأمة) فإنه يتناول كافة الأمة. فعلى هذا يجب أن يكون المعتبر قول كل المؤمنين، وقول كل الأمة؛ فإن خرج البعض، فلابد من دليل منفصل. وإن اكتفينا بالبعض، لم يمكن إثباته بهذه الأدلة؛ بل لابد من دليل آخر، إلا أن هذه الأدلة كما لا تقتضي ذلك الحكم في البعض لا تمنع من ثبوته في البعض؛ لأن ما يدل على ثبوت حكم في الكل، لا يمنع من ثبوته في البعض، ولا يلزم من انتفاء دليل معين انتفاء المدلول. المسألة الأولى: لا يعتبر في الإجماع اتفاق الأمة من وقت الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة؛ لأن الذي دل على الإجماع دل على وجوب الاستدلال به، وذلك الاستدلال: إما أن يكون قبل يوم القيامة، وهو محال على التقدير الذي قالوه، لجواز أن يحدث بعد ذلك قوم آخرون، أو بعده، وهو باطل؛ لأنه لا حاجة في ذلك الوقت إلى الاستدلال.

المسألة الثانية لا عبرة في الإجماع بقول الخارجين عن الملة؛ لأن آية المشاقة دالة على وجوب اتباع المؤمنين، وسائر الأدلة دالة على وجوب اتباع الأمة، والمفهوم من الأمة- في عرف شرعنا- الذين قبلوا دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

المسألة الثالثة لا عبرة بقول العوام، خلافا للقاضي أبي بكر، رحمه الله. لنا وجوه: أحدها: أن العالم، إذا قال قولا، وخالفه العامي، فلا شك أن قول العامي حكم في الدين، بغير دلالة، ولا أمارة، فيكون خطأ، فلو كان قول العالم أيضا خطأ، لكانت الأمة بأسرها مخطئة في مسألة واحدة، وإن كان ذلك الخطأ من وجهين، ولكنه غير جائز. وثانيها: أن العصمة من الخطأ لا تتصور إلا في حق من تتصور في حقه الإصابة، والعامي لا يتصور في حقه ذلك؛ لأن القول في الدين- بغير طريق- غير صواب. وثالثها: أن خواص الصحابة- رضي الله عنهم- وعوامهم أجمعوا على أنه لا عبرة بقول العوام في هذا الباب. ورابعها: أن العامي ليس من أهل الاجتهاد؛ فلا عبرة بقوله، كالصبي، والمجنون. احتج المخالف: بأن أدلة الإجماع تقتضي متابعة الكل. والجواب: إيجاب متابعة الكل لا يقتضي ألا يجب إلا متابعة الكل، والأدلة التي ذكرناها تقتضي وجوب متابعة العلماء؛ فوجب القول به.

شرح القرافي: قوله: (لفظ الأمة يتناول كافة الأمة)

القسم الخامس في المجمعين قال القرافي: قوله: (لفظ الأمة يتناول كافة الأمة): قلنا: على العبارة مناقشة لغوية، وهي أن النحاة قالوا: إن (كافة) و (قاطبة) لا يجوز إضافتها، بل لا يكونان إلا تابعين. نقول: (جاء الناس كافة وقاطبة)، وأنكروا على (الحريري) قاطبة الكتاب في (المقامات)، وعلى صاحب (المفصل) كافة الأبواب. قوله: (لفظ (المؤمنين) مر في باب العموم أنه للاستغراق، فعلى هذا يجب أن يكون المعتبر كل المؤمنين): قلنا: لا نسلم، بل يلزم من هذا أن يكون المعتبر قول واحد واحد لا المجموع، لما تقدم في باب العموم أنه كلية لا كلي. قوله: (لا يعتبر العوام في الإجماع): قلنا: قال القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص): في المسألة ثلاثة أقوال: ثالثها: الفرق بين المسائل المشهورة نحو كون الطلاق يحرم، ونحو ذلك، فيعتبرون، وبين دقائق المسائل، فلا يعتبرون.

وحكى في المجتهدين المشاركين لأهل الاجتهاد في النظر والعلم، غير أنهم لم يشتهروا به ولا تظاهروا به- قولين، وأنه لا عبرة بغير الفقيه الذي لم يتوسم بالفقه، وإن شارك الفقهاء في النظر ووجوه الاجتهاد، ولكنهم علماء بغير الفقه. قال: وقال قوم: لا عبرة بمن لا يقول بالقياس؛ لأنه أكثر مجال الفقه قال: وهو غير صحيح؛ فإنه إنما أهمل مدركا واحدا، ولو صح ذلك لم يعتبر قول منكري العموم والمراسيل، وصيغة الأمر، وغير ذلك. قوله: (قول العامي بغير مدرك خطأ؛ فيلزم اجتماع الأمة على الخطأ): قلنا: لا نسلم أنه خطأ؛ لأن الأمة معصومة لا يفوتها الحق، فمن قال بقولهم كان قوله صوابا، كما أن من قال بقول الأمة بعد تقرر الإجماع كان قوله صوابا، وإن جهل هو مدرك الأمة، كذلك العامي يقول بقول الأمة جاهلا للمدرك، وقوله صواب. سلمنا أن قوله خطأ، لكن لا نسلم الإجماع على الخطأ؛ لأن هاهنا أمرين: أحدهما الحكم، ومن عدى العامي قد حكم به لمستند صحيح، والآخر المدرك، وقد ظفر به العلماء ما عدا العامي، فالعلماء مصيبون في حكمهم، ومدركهم، فلم يوجد خطأ بالنسبة إلى كل واحد من أفراد الأمة حتى يحصل الإجماع على الخطأ. قوله: (أجمع الصحابة خواصهم وعوامهم على عدم اعتبار العوام): قلنا: لا نسلم هذا الإجماع، غايته أنهم أفتوا بما عندهم، ولم ينقل عنهم أنهم قالوا: قولنا بمفرده إجماع دون عوامنا. قوله: (لا عبرة بقول العامي كالمجنون): قلنا: إن الصبيان والمجانين كالبهائم لا يتصفون بالإيمان والإسلام الفعليين

الواجبين، وإن اتصفوا بالحكمتين، وأما العامي فمتصف بالإيمان الفعلي، والإسلام الفعلي، وأهل للتصور، فيتصور ما قاله الإجماع تصورا صحيحا، ونقول به على وجهه كما قاله العلماء، كما نقول نحن اليوم بقولهم، وإن كنا جاهلين بمستندهم. قوله: (أدلة الإجماع تقتضي متابعة الكل): قلنا: لا نسلم، بل كل واحد واحد فهو كلية لا كل، وإلا تعذر الاستدلال بها في النفي والنهي كما تقدم أول العموم، فالحقيقة حينئذ غير مرادة، والتجوز إلى البعض أولى من التجوز إلى الكلي الذي هو المجموع؛ لأنه أقرب للحقيقة من جهة أن اللفظ يقتضي حقيقة الإثبات لكل واحد، والواحد بعض. * * *

المسألة الرابعة قال الرازي: المعتبر بالإجماع في كل فن- أهل الاجتهاد في ذلك الفن، وإن لم يكونوا من أهل الاجتهاد في غيره

المسألة الرابعة قال الرازي: المعتبر بالإجماع في كل فن- أهل الاجتهاد في ذلك الفن، وإن لم يكونوا من أهل الاجتهاد في غيره. مثلا: العبرة بالإجماع في (مسائل الكلام) بالمتكلمين، وفي (مسائل الفقه) بالمتمكنين من الاجتهاد في مسائل الفقه؛ فلا عبرة بالمتكلم في الفقه، ولا بالفقيه في الكلام، بل من يتمكن من الاجتهاد في الفرائض، دون المناسك يعتبر وفاقه وخلافه في الفرائض، دون المناسك، ولا عبرة أيضا بالفقيه الحافظ للأحكام والمذاهب، إذا لم يكن متمكنا من الاجتهاد. والدليل على هذه المسائل: أن هؤلاء كالعوام فيما لا يتمكنون من الاجتهاد فيه، فلا يكون بقولهم عبرة. أما الأصولي المتمكن من الاجتهاد، إذا لم يكن حافظا للأحكام، فالحق أن خلافه معتبر؛ خلافا لقوم، والدليل عليه: أنه متمكن من الاجتهاد الذي هو الطريق إلى التمييز بين الحق والباطل؛ فوجب أن يكون قوله معتبرا؛ قياسا على غيره. المسألة الرابعة المعتبر في الإجماع في كل فن أهل الاجتهاد في ذلك الفن، وإن لم يكونوا أهل الاجتهاد في غير ذلك الفن

شرح القرافي: قلنا: هذه المسألة والمسألة التي بعدها في أن الفقيه الذي لا يعرف الأصول لا عبرة بقوله

قال القرافي: قلنا: هذه المسألة والمسألة التي بعدها في أن الفقيه الذي لا يعرف الأصول لا عبرة بقوله، ينبغي أن يتخرج على الخلاف مع القاضي القائل بتوقف الإجماع على العوام، فإن غاية هؤلاء أن يكونوا كالعوام؛ وقد حكى الشيخ في اللمع الخلاف في هذه المسألة، وقال: يشترط الإجماع مع الفقهاء والمتكلمين والأصوليين. قوله: (الأصولي المتمكن من الاجتهاد إذا لم يكن حافظا للأحكام يعتبر خلافه): قلنا: حكى الإمام في (البرهان) أن اعتبار الأصولي عن القاضي، وحكى عن الجمهور خلافه، وخالف هو أيضا القاضي فيها. قال الغزالي في (المستصفى): قال قوم: لا عبرة إلا بقول أئمة المذهب المشتغلين بالفتوى، كالشافعي ومالك ونحوهما من الصحابة والتابعين. ومنهم من ضم إلى الأئمة الفقهاء الحافظين للفروع الناهضين بها، وأخرج الأصولي الذي لا يعرف تفاصيل الفرع. قال: والصحيح أنه أولى من حافظ الفروع، وكيف يتصور أن يكون متمكنا من الاجتهاد، وهو غير حافظ للأحكام؟ مع نص العلماء على أنه من شرط المجتهد أن يكون عالما بمسائل الوفاق والخلاف، لئلا يفتي على خلاف الإجماع، فمن جهل الأحكام فاته هذا الشرط، فيفوته مشروطه، فيتعذر عليه الاجتهاد، فلا يكون متمكنا.

المسألة الخامسة لا يعتبر في المجمعين بلوغهم إلى حد التواتر

المسألة الخامسة لا يعتبر في المجمعين بلوغهم إلى حد التواتر؛ لأن الآيات والأخبار دالة على عصمة الأمة والمؤمنين، فلو بلغوا- والعياذ بالله- إلى الشخص الواحد، كان مندرجا تحت تلك الدلالة؛ فكان قوله حجة. فأما من أثبت الإجماع بالعقل؛ من حيث إن اتفاقهم يكشف عن وجود الدليل، فيعتبر فيه بلوغ المجمعين حد التواتر؛ لكنه باطل عندنا؛ على ما مر. المسألة السادسة إجماع غير الصحابة حجة؛ خلافا لأهل الظاهر. لنا: أن التابعين إذا أجمعوا، كان قولهم سبيلا للمؤمنين؛ فيجب اتباعه بالآية. فإن قلت: الآية إنما دلت على وجوب اتباع سبيل المؤمنين الذين كانوا حاضرين عند نزول الآية؛ لأنهم كانوا هم المؤمنين؛ أما الذين سيوجدون بعد ذلك، فلا يصدق عليهم في ذلك الوقت: أنهم مؤمنون. قلت: فهذا يقتضي أنه لو مات من أولئك الحاضرين واحد ألا ينعقد الإجماع بعد ذلك؛ لكن كثيرا منهم مات قبل وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإن لم نقطع بذلك؛ لكن لا يمكننا القطع ببقائهم بعد وفاته، فيكون الشك فيه شكا في انعقاد الإجماع.

احتج المخالف بأمور: أحدها: أن أدلة الإجماع لا تتناول إلا الصحابة؛ فلا يجوز القطع بأن إجماع غيرهم حجة. بيان الأول: أن قوله عز وجل: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143] وقوله: {كنت خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110] لاشك أنه خطاب مواجهة؛ فلا يتناول إلا الحاضرين. وأما قوله عز وجل: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء: 115] فكذلك؛ لأن من سيوجد بعد ذلك لا يصدق عليه في الحال اسم المؤمنين، فالآية لا تتناول إلا من كان مؤمنا حال نزولها. وكذا القول في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمتي لا تجتمع على خطأ). وإذا ثبت أن هذه الأدلة لا تتناول إلا الصحابة، وثبت أنه لا طريق إلى إثبات الإجماع إلا هذه الأدلة؛ وجب ألا يكون إجماع غير الصحابة حجة. وثانيها: أن أهل العصر الثاني، لو أجمعوا، لكان إجماعهم، إما أن يكون لقياس، أو لنص: والأول: باطل؛ لأن القياس ليس بحجة عند الكل؛ فلا يجوز أن يكون طريقا إلى صدور الإجماع من الكل؛ فيبقى الثاني، وهو أنهم إنما أجمعوا من جهة النص، والنص إنما وصل إليهم من الصحابة؛ فكان إجماع الصحابة على ذلك الحكم؛ لأجل ذلك النص- أولى، فلما لم يوجد إجماعهم، علمنا عدم ذلك النص.

وثالثها: أنه لابد في الإجماع من اتفاق الكل، والعلم باتفاق الكل لا يحصل إلا عند مشاهدة الكل، مع العلم بأنه ليس هناك أحد سواهم، وذلك لا يتأتى إلا في الجمع المحصور، كما في زمان الصحابة. أما في سائر الأزمنة: فمع كثرة المسلمين، وتفرقهم في مشارق الأرض ومغاربها يستحيل أن يعرف اتفاقهم على شيء من الأشياء. ورابعها: أن الصحابة أجمعوا على أن كل مسألة لا تكون مجمعا عليها، فإنه يجوز الاجتهاد فيها، فالمسألة التي لا تكون مجمعا عليها بين الصحابة، تكون محلا للاجتهاد؛ بإجماع الصحابة، فلو أجمع التابعون عليها، لخرجت عن أن تكون محلا للاجتهاد، وذلك يفضي إلى تناقض الإجماعين. وخامسها: أن الصحابة، إذا اختلفت على قولين، ثم أجمع التابعون على أحدهما- لا يصير القول الثاني مهجورا؛ كما تقدمت هذه المسألة، وإذا كان كذلك، فنقول: المسألة التي أجمع التابعون عليها، يحتمل أن يكون لواحد من الصحابة فيها قول يخالف قول التابعين؛ مع أن ذلك القول لم ينقل إلينا، ومع هذا الاحتمال لا يثبت الإجماع. فإن قلت: لو فتحنا هذا الباب، لزم ألا يبقى شيء من النصوص دليلا على شيء من الأحكام؛ لاحتمال طريان النسخ، والتخصيص. قلت: الفرق: أن حصول إجماع التابعين مشروط بأن لا يكون لأحد من الصحابة قول يخالف قولهم، فالشك فيه شك في شرط يتوقف ثبوت الإجماع عليه فيكون ذلك شكا في حدوث الإجماع، والأصل بقاؤه على العدم.

شرح قال إمام الحرمين في (ألبرهان): قال بعضهم: لا يجوز نقصان الأئمة عن حد التواتر

وأما في مسألة الإلزام: فاللفظ يقتضي العموم، والشك إنما وقع في طريان المزيل، والأصل عدم طريانه؛ فظهر الفرق. والجواب عن الأول: أن الذي ذكرتموه يقتضي أنه لما مات واحد من أولئك الحاضرين ألا يبقى إجماع الباقين حجة؛ وذلك يفضي إلى سقوط العمل بالإجماع؛ وهم لا يقولون به. وعن الثاني: أنه يحتمل أن تكون تلك الواقعة ما وقعت في زمن الصحابة، فلم يتفحصوا عما يمكن الاستدلال به عليها، ثم إنها وقعت في زمن التابعين، فتفحصوا عن الأدلة، فوجدوا بعض ما نقلته الصحابة دليلا عليه. وعن الثالث: أن حاصل ما ذكرتموه راجع إلى تعذر حصول الإجماع في غير زمان الصحابة، وهذا لا نزاع فيه؛ إنما النزاع في أنه لو حصل، كان حجة. وعن الرابع: ما مر من الجواب عنه فير مرة. وعن الخامس: أنه يلزمكم ألا يكون إجماع الصحابة حجة؛ لاحتمال أن يكون الصحابي الذي مات قبل وفاة الرسول- عليه الصلاة والسلام- له فيه قول، والله أعلم. المسألة الخامسة لا يعتبر في المجمعين التواتر قال إمام الحرمين في (ألبرهان): قال بعضهم: لا يجوز نقصان الأئمة عن حد التواتر؛ فإنهم حفظة الشريعة، وقد ضمن الله- تعالى- قيامها، وحفظها ليوم القيامة، وأقل من التواتر، يجوز تواطؤهم على الباطل، فلا يجزم بحفظهم للشريعة.

وقال الأستاذ: يجوز ذلك، ولم لم يبق إلا واحد قوله حجة. قال: والذي يرتضيه مع خلو الزمان عن العلماء وانتهاء الأمر إلى الفترة ما قاله. وأما قوله: (إن المنحط عن التواتر حجة) فغير مرضي؛ فإن الإجماع مستنده العادة، فمن تعذر الإجماع على الخطأ والقليل، لم يشهد له العادة. قوله: (إنما دلت الآية على اتباع المؤمنين الموجودين، والذين سيوجدون بعد ذلك لا يصدق عليهم أنهم مؤمنون): قلنا: قد تقدم في باب الاشتقاق المشتق متى كان متعلق الحكم لا يشترط فيه الحصول، وهذه الآية المشتق فيها متعلق وبسطه هنالك، ولذلك يمنعه. قوله: بعد هذا: (إن أدلة الإجماع لا تتناول غير الصحابة): بناء على هذا. قوله: (لو أجمع التابعون فيما أجمع الصحابة على جواز الاجتهاد فيه تناقص الإجماعان): قلنا: قد تقدم مرارا أن الإجماع الأول فيما هو مثل هذا مشروط بعدم طريان الإجماع، بخلاف الإجماع على القول الواحد، وتقدم الفرق مبسوطا. قوله: (إجماع التابعين مشروط بألا يكون لأحد الصحابة قول مختلف يخالف قولهم: قلنا: لا نسلم، بل إجماع التابعين يبطل قول الصحابي السابق الجزم بقول الإجماع الحادث، وإن ما عداه باطل، وقول الصحابي ليس معصوما، والإجماع معصوم عندنا كيف وقع. * * *

القسم السادس فيما عليه ينعقد الإجماع

القسم السادس فيما عليه ينعقد الإجماع قال الرازي: المسألة الأولى: كل ما لا يتوقف العلم بكون الإجماع حجة على العلم به أمكن إثباته بالإجماع. وعلى هذا: لا يمكن إثبات الصانع، وكونه تعالى قادرا عالما بكل المعلومات، وإثبات النبوة بالإجماع، أما حدوث العالم، فيمكن إثباته به، لأنه يمكننا إثبات الصانع بحدوث الأغراض، ثم نعرف صحة النبوة، ثم نعرف به الإجماع، ثم نعرف به حدوث الأجسام. وأيضا: يمكن التمسك به في أن الله، عز وجل، واحد؛ لأننا قبل العلم بكونه واحدا يمكننا أن نعلم صحة الإجماع. القسم السادس فيما عليه ينعقد الإجماع قال القرافي: قوله: (لا يمكن إثبات الصانع وقدرته وعلمه بجميع المعلومات والنبوة بالإجماع): تقريره: أن الرسالة فرع وجود المرسل وقدرته على الإرسال، وعلمه بمن يوجهه في الرسالة، والإجماع فرع النبوة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المخبر عن عصمة الأمة. قال إمام الحرمين في (البرهان): لا يكون الإجماع حجة في العقليات؛ فإن المتبع فيها أدلة العقول، وإنما أثر الإجماع في السمعيات، ولو أجمعوا

على فعل نحو: (أكل طعاما) كان إجماعهم حجة على إباحته لفعله- عليه السلام- إلا أن تدل قرينة على الندب أو الوجوب، وتقدم كلام أبي الحسين. قال أبو الحسين في (المعتمد): إجماعهم حجة في العقليات، نحو: جواز رؤية الله- تعالى- لا في جهة، ونفي الشريك عنه- تعالى-. وفي (اللمع) وغيره: لا يعتبر الإجماع في حدوث العالم؛ لتقدم العلم به على الإجماع، بخلاف ما ذكره المصنف. * * *

المسألة الثانية اختلفوا في أن الإجماع في الآراء والحروب، هل هو حجة؟ منهم من أنكره، ومنهم من قال: إنه حجة بعد استقرار الرأي، وأما قبله، فلا. والحق أنه حجة مطلقا؛ لأن أدلة الإجماع غير مختصة ببعض الصور. المسألة الثانية في الإجماع في الآراء قوله: (منهم من قال: إنه حجة بعد استقرار الرأي): تقريره: أن قبل استقراره يكون مختلفا فيه، فلا يكون إجماعا فيه. قال أبو الحسن في (المعتمد): صورة المسألة أن يجمعوا على الحرب في موضع معين. قال القاضي عبد الجبار: يجوز مخالفتهم، وليسوا بأعظم من النبي- عليه السلام- وقد كان يراجع في مواضع الحروب. وعنه أيضا: لا يجوز مخالفتهم؛ لأن الأدلة للإجماع تبعد من ذلك من أمور الدنيا وأمور الآخرة. والفرق بينهم وبين النبي- عليه السلام- أن الدال على صدقه- عليه السلام- المعجزة، وهي لا تتعلق بأمور الدنيا، وأدلة الإجماع عامة. * * *

المسألة الثالثة هل يجوز أن تنقسم الأمة إلى قسمين، وأحد القسمين مخطئون في مسألة، والقسم الآخر مخطئون في مسألة أخرى؟

المسألة الثالثة هل يجوز أن تنقسم الأمة إلى قسمين، وأحد القسمين مخطئون في مسألة، والقسم الآخر مخطئون في مسألة أخرى؟ مثل: إجماع شطر الأمة على أن القاتل لا يرث، والعبد يرث، وإجماع الشطر الآخر على أن القاتل يرث، والعبد لا يرث. والأكثرون على أنه غير جائز؛ لأن خطئهم في مسألتين لا يخرجهم عن أن يكونوا قد اتفقوا عل الخطأ، وهوي منفي عنهم. ومنهم: من جوزه؛ وقال: لأن الخطأ ممتنع عن كل الأمة، لا على بعض الأمة، والمخطئون في كل واحدة من المسألتين بعض الأمة. المسألة الثالثة يجوز انقسام الأمة لقسمين؛ كل قسم يخطئ في شيء. قوله: (خطؤهم في مسألتين لا يخرجهم عن أن يكونوا اتفقوا على الخطأ): قلنا: هذه المسألة لها ثلاث حالات؛ حالتان نتفق عليهما وحالة مختلف فيها، فالمتفق عليهما اتفاقهما على الخطأ في المسألة الواحدة، من الوجه الواحد لا يجوز إجماعا، واتفاقهم على الخطأ في مسألتين متباينتين مطلا يجوز إجماعا، فيحكي الشافعية والمالكية في مسألة في الجنايات، والحنفية والحنابلة في مسألة في العبادات هذا لم يقل أحد باستحالته، والمختلف فيها المسألة الواحدة ذات الوجهين، نحو المانع من الميراث؛ فإن القتل والرق كلاهما مانع من الميراث، غير أنه منقسم قسمين: رق، وقتل، فهل يجوز

أن يخطئ بعض في أحد قسمي هذا الحكم، فيقول: القاتل يرث، والعبد لا يرث؟ فيخطئ في الأول دون الثاني، فيكون القسمان من الأمة قد أخطأ في قسمين بشيء واحد، فمن لاحظ اجتماع الخطأ في شيء واحد باعتبار أصل المانع المنقسم منع المسألة. ومن لاحظ تنوع الأقسام وتعدده، وأعرض عن المنقسم، جوز ذلك؛ لأنه في شيئين من نوع المجمع عليه. قال أبو الحسين في (المعتمد): للمسألة أمثلة: أحدهما: أن يعتقد أحد القسمين الإمامة لرجل غير أهل لها، ويسكت الباقونّ، فيخطئ العاقد بالعقد، والساكت بالسكوت، فيجتمعون على الخطأ. قاله عبد الجبار. وقال: ولقائل أن يقول: هذه مسألة واحدة، وهي إمامة ذلك الشخص، والكل قد رضوا بها. وثانيها: أن يتفق نصف الأمة على مذهب المرجئة في غفران ما دون الشرك، ويتفق الباقون على مذهب الخوارج في المنع من غفران جميع المعاصي، وهذا اتفاق على الخطأ في المسألتين. قاله عبد الجبار. قال: ولقائل أن يقول: بل مسألة واحدة؛ لاتفاقهم على أن الصغيرة لا يجب سقوط العقاب عليها؛ لأن المرجئ وإن قال بسقوط العقاب فهو يجوزه؛ والخارجي يوجبه. قلت: قول أبي الحسين هذا بناء على أصله في الاعتزال في وجوب العقاب. * * *

المسألة الرابعة لا يجوز اتفاق الأمة على الكفر، وحكي عن قوم: أنه يجوز أن ترتد الأمة

المسألة الرابعة لا يجوز اتفاق الأمة على الكفر، وحكي عن قوم: أنه يجوز أن ترتد الأمة؛ لأنها إذا فعلت ذلك، لم يكونوا مؤمنين، ولا سبيل المؤمنين، وإذا كذبت الرسول، خرجت من أن تكون من أمته. وجه القول الأول: أن الله، عز وجل، أوجب اتباع سبيل المؤمنين، واتباع سبيلهم مشروط بوجود سبيلهم، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به، فهو واجب. هذا إذا حملنا لفظ المؤمنين على الإيمان بالقلب، أما إذا حملناه على التصديق باللسان، ظهر أن الآية دالة على أن المصدقين في الظاهر لا يجوز إجماعهم على الخطأ؛ وذلك يؤمننا من إجماعهم على الكفر. المسألة الرابعة يمتنع اتفاق الأمة على الكفر قوله: (إذا فعلت ذلك لم يكونوا مؤمنين): قلنا: نسلم، لكن القاعدة تقتضي أن وصف الإيمان يمنع إيراد المناهي الشرعية على مجموع من اتصف به، وهذا منهي، بل أعظم المنهيات لم يمنعه الإيمان من الورود على مجموع منا تصف به، فيلزم خلاف القاعدة. قوله: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب): قلنا: تقدم في الأوامر أن الفرق حاصل بالإجماع، بينما يتوقف عليه الواجب في وجوبه، فلا يجب إجماعا، بينما يتوقف عليه الواجب في

إيقاعه بعد تقرر الموجب، فهو صورة النزاع، وحصول الإجماع من القسم الأول؛ لأن الله- تعالى- لم يوجب علينا اتباع الإجماع إلا بعد حصوله، ولم يوجب علينا متابعته كيف كان موجودا، أو معدما، فموجود الإجماع من شرائط الوجوب، لا من شرائط ما يتوقف عليه إيقاع الواجب. * * *

المسألة الخامسة يجوز اشتراك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به

المسألة الخامسة يجوز اشتراك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به؛ لأن عدم العلم بذلك الشيء، إذا كان صوابا، لم يلزم من إجماعهم عليه محذور. المسألة الخامسة (في اشتراك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به) قلت: قد فهرس سيف الدين هذه المسألة بصورة أخرى، وقد نبهت عليه، ونقلته آخر الكتاب، فيكشف من هناك. قوله: (لو اجتمعوا على ذلك لكان سبيلهم، فيجب اتباعهم فيه): قلنا: قد تقرر أول كتاب الإجماع أن سبيل الإنسان ما ينتحله طريقا يوصله لمقصده، وهذا الجهل لم تنتحله الأمة سبيلا لها، بل هو حاصل بالضرورة البشرية؛ لأن البشر يجب له العجز عن جميع المعلومات، بل لا يمكن أن يعلم إلا البعض، فلا يصدق عليه حينئذ أنه سبيلهم. * * *

القسم السابع في حكم الإجماع

القسم السابع في حكم الإجماع قال الرازي: المسألة الأولى: جاحد الحكم المجمع عليه لا يكفر؛ خلافا لبعض الفقهاء. لنا: أن أدلة أصل الإجماع ليست مفيدة للعلم، فما تفرع عليها أولى ألا يفيد العلم؛ بل غايته الظن، ومنكر المظنون لا يكفر بالإجماع. وأيضا: فبتقدير أن يكون أصل كون الإجماع حجة- معلوما- لا مظنونا؛ لكن العلم به غير داخل في ماهية الإسلام؛ وإلا لكان من الواجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألا يحكم بإسلام أحد؛ حتى يعرفه أن الإجماع حجة، ولما لم يفعل ذلك، بل لم يذكر هذه المسألة صريحا طول عمره - صلى الله عليه وسلم -، علمنا أن العلم به ليس داخلا في ماهية الإسلام، وإذا لم يكن العلم بأصل الإجماع معتبرا في الإسلام، وجب ألا يكون العلم بتفاريعه داخلا فيه. القسم السابع في حكم الإجماع قال القرافي: قوله: (جاحد الحكم المجمع عليه لا يكفر، خلافا لبعض الفقهاء): قلنا: هذه الدعوى غير محررة؛ فإن المجمع عليه إن كان الإجماع فيه مرويا بطريق الآحاد، لو كان خفيا في الدين لا يعلمه إلا الخواص، وهو عند الخواص ثابت بالتواتر لا يكفر جاحده إجماعا، إنما الخلاف في قسم

(تنبيه) ليس تكفيره عند من كفره لأجل طعنه على الإجماع بتجويز الخطأ عليهم

ثالث، وهو إذا كان المجمع عليه ضروريا من الدين، فلو جحد إنسان جواز القراض لم نكفره، وهو مجمع عليه، كما قاله العلماء، لكنه غير مشهور كالإجماع على الصلوات والصوم والزكاة، ولا يدرك فرق بينه، وبين المساقاة والإجارة في ذلك، وهما مختلف فيهما، وهو مثلهما في الشهرة، ودون شهرة الصلاة ونحوها. قال ابن برهان في (الأوسط): الإجماع العام الذي يجمع عليه العوام والخواص، كما في الصلاة والصوم والحج مخالفه مستحلا كافر، وغير مستحل يبدع ويضلل؛ لأن أدلة هذه الأحكام قطعية، والإجماع الذي يختص به العلماء دون العوام كإجماعهم على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، وأن الجد يسقط أخوة الأم، وأولاد الأخوة على الإطلاق، فلا يكفر مخالفه مستحلا وغير مستحل، بل يبدع ويضلل؛ لأن أدلته مظنونة. (تنبيه) ليس تكفيره عند من كفره لأجل طعنه على الإجماع بتجويز الخطأ عليهم، وإلا لكفرنا النظام والشيعة، ومن معهم} لجحدهم الإجماع، ولكفرنا من يقول: (هو ظني؛ لأنه يجوز عليهم الخطأ)، بل مدرك التفكير كون الحكم لما صار ضروريا من الذين صار منكره رادا على الله حكمه الذي علم أنه حكمه.

ومن رد على الله- تعالى- ذلك كفر في الأحكام والأخبار، وجميع الرسائل، وبهذا البحث يظهر لك الفرق بين تكفيرنا لمن جحد الحكم، وعدم تكفيرنا لجاحد الإجماع، فإن جاحد الإجماع راد على الخلق، وطاعن عليهم، وجاحد الحكم راد على الله تعالى. فإن قلت: جاحد الإجماع راد على الله- تعالى- في إخباره عن عصمة الإجماع، وهذا الإخبار عندكم قطعي، فقد جحد قطعيا. قلت: مدرك الإجماع وإن كان قطعيا، غير أن الخصم لم يحصل له ذلك الاستقراء التام، كما يعذر من جحد الصلاة، وهو حديث الإسلام، فإنه يعذر، وإنما يتجه التكفير حيث ينتفي العذر. قوله: (أصول الإجماع لا تفيد العلم، فما يتفرع عليه أولى ألا يفيد العلم): قلنا: تقدم أن مدرك أصول الفقه قطيعة، وأن كل دليل ذكرنا، فنحن نريده مضافا لما معه في الشريعة من النصوص في الكتاب والسنة، وقرائن الأحوال، وأقضية الصحابة وذلك إذا حصل بالاستقراء أفاد القطع، فالإجماع قطعي، وأصله قطعي، لكن بعض مدركه ليس قطعيا، وذلك لا يقدح في أن المجموع يفيد القطع، ولا في أن المطلوب قطعي. سلمنا أن المدرك ظني، لكن لا يلزم أن المدلول لا يكون قطعيا، كما تقدم بيانه في الحكم معلوم، والظن واقع في طريقه، ويثبت هنالك أن المبني على الشك معلوم، فضلا عن المبني على الظن.

(تنبيه) قال إمام الحرمين في (البرهان): انتشر في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفر قال: وهذا باطل قطعا

(تنبيه) قال إمام الحرمين في (البرهان): انتشر في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفر قال: وهذا باطل قطعا؛ فإن من ينكر أصل الإجماع لا يكفر، نعم من اعترف بصدق المجتمعين في النقل كفر لتكذيبه كلام الشارع. قال: والضابط أن من أنكر طريقا في ثبوت الشرع لم يكفر، ومن اعترف بكون الشيء من الشرع، ثم جحده كفر لتكذيبه الشارع، وقد تقدم الرد على هذا. قوله: (العلم ليس داخلا في ماهية الإسلام): قلنا: لا يفيد ذلك المقصود؛ لأن الفرق ببين ما يحصل الإيمان، وبين مبطلات الإيمان، فالذي يبلغه- عليه السلام- أول الإسلام لمن يسلم إنما هو أركان الإيمان، أو مبطلاته فلا، ألا ترى أنه لا يبين له أن إلقاء المصحف في القاذورات يكفر، ولا أن تبديل معنى آية من آيات الله- تعالى- يكفر، وغير ذلك فيما يوجب الردة؟ وهو كثير مذكور في كتاب (الجنايات)، ولم يبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن كان يأتيه يسلم شيئا من ذلك؛ لأن المقصود حاصل بمعرفة الأركان دون المفسدات، ونظيره من الفقه أنه يشترط في إمام الصلاة معرفة أركانها وشروطها، دون مفسداتها وموانعها. * * *

المسألة الثانية قال الرازي: الإجماع الصادر عن الاجتهاد حجة؛ خلافا للحاكم صاحب (المختصر)

المسألة الثانية قال الرازي: الإجماع الصادر عن الاجتهاد حجة؛ خلافا للحاكم صاحب (المختصر). لنا: أنهم لما أجمعوا على ذلك الحكم، صار سبيلا لهم؛ فوجب اتباعه للآية. فإن قلت: ومن سبيلهم إثباته بالاجتهاد، وجواز القول بخلافه، إذا لاح اجتهاد آخر. قلت: ومن سبيلهم إثباته بطريق، كيف كان، فأما تعينه، فقد أجمعوا على أنه غير معتبر. وعن الثاني: أن تجويزهم القول بخلافه حاصل لا مطلقا، بل بشرط ألا يحصل الاتفاق. المسألة الثانية الإجماع الصادق عن الاجتهاد حجة قال القرافي: قلت: هذه المسألة راجعة لانعقاد الإجماع عن الأمارة، وقد تقدم، فعلى هذا يلزم التكرار، والأولى أن تحمل هذه على الاستدلال بنفي خاصية الشيء عليه ونحوه، وهنالك على انعقاده عن الأمارة، فيحصل الفرق والتباين، وهو الأولى. * * *

المسألة الثالثة قال الرازي: اختلفوا في أنه، هل يجوز انعقاد الإجماع، بعد إجماع على خلافه؟

المسألة الثالثة قال الرازي: اختلفوا في أنه، هل يجوز انعقاد الإجماع، بعد إجماع على خلافه؟. ذهب أبو عبد الله البصري إلى جوازه؛ لأنه لا امتناع في إجماع الأمة على قول، بشرط ألا يطرأ عليه إجماع آخر، ولكن أهل الإجماع، لما اتفقوا على أن كل ما أجمعوا عليه، فإنه واجب العمل به في كل الأعصار- فلا جرم أمنا من وقوع هذا الجائز. وذهب الأكثرون إلى أنه غير جائز؛ لأنه يكون أحدهما خطأ؛ لا محالة، وإجماعهم على الخطأ غير جائز، والقول الأول عندنا أولى. المسألة الثالثة (جواز الإجماع بعد الإجماع) قال القرافي: قوله: (وجوازه أولى): تقريره: إنما قالها الجمهور من لزوم أن أحدهما خطأ لا يلزم؛ لاحتمال أن ينزل الله- تعالى- نصوصا، ويقدم الإجماع الأول بعضها على بعض بالمناسبة للقواعد، ويكون ذلك مدرك الترجيح في ذلك العصر، وفي العصر الثاني تتغير المصالح لأجل أحوال ذلك القرن، فتتعين مصالحهم، فيرجح القرن الثاني النصوص الأخر، ويكون الكل صوابا تابعا للمصالح الشرعية؛ بناء على أن الشرائع كلها حكم ومصالح. * * *

المسألة الرابعة قال الرازي: إذا أجمعوا على شيء، وعارضه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -

المسألة الرابعة قال الرازي: إذا أجمعوا على شيء، وعارضه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإما أن يعلم أن قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلامه ما هو ظاهره، وقصد أهل الإجماع بكلامهم ما هو ظاهره، أو يعلم أحدهما دون الثاني، أو لا يعلم واحد منهما: والأول غير جائز؛ لامتناع تناقض الأدلة. وإن كان الثاني: قدمنا ما علم ظهوره. وإن كان الثالث: فإن كان أحدهما أخص من الآخر، خصصنا الأعم بالأخص؛ توفيقا بين الدليلين؛ بقدر الإمكان. وإن لم يكن كذلك، تعارضا؛ لأنا نقطع بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمة أراد أحدهما بكلامه غير ظاهره، لكنا لا نعلم أيهما كذلك؛ فلا جرم يتساقطان، والله أعلم. المسألة الرابعة (إذا تعارض الإجماع وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال القرافي: قلت: هذه المسألة يشترط فيها أن يكون السند متواترا، وإلا قدم الإجماع مطلقا؛ إذا كان معلوما، وإذا كان مرويا بأخبار الآحاد، فيتعارضان أيضا، ويعود التقسيم. (مسألة) قال سيف الدين: اختلفوا هل يكون وجود خبر أو دليل لا معارض له، وتشترك الأمة في عدم العلم به، فمنهم من جوزه؛ لأنهم غير مكلفين

(مسألة) قال إمام الحرمين في (البرهان): قال معظم الأصوليين: الورع معتبر في أصل الإجماع

بالعمل بما لم يظهر لهم، وليس مخالفته خطأ؛ لأن عدم العلم ليس من فعلهم، وخطأ المكلف من أوصاف فعله، ومنهم من أحاله؛ لأن اشتراكهم فيه سبيل لهم، فيجب على غيرهم اتباعه للآية، وأظن هذه المسألة التي ذكرها المصنف، وعبر عنها بقوله: (ويجوز اشتراك الأمة في عدم العلم فيما لم يكلفوا به)، فإن (سيف الدين) لم يذكر ما ذكره المصنف من تلك المسألة، بل لم يقل إلا هذه، والغالب أنها تلك، وعلى هذا يكون بين الفهرستين فرق كبير، مع أن القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص) قال: (يجوز دخولهم عما لم يكلفوا به؛ لأنه ليس إجماعا على خطأ؛ لأن ما لم يكلفوا بمعرفته لا يلزمهم العلم به، كان عليه دليل في نفس الأمر، أو لم يكن عليه دليل؛ لأن العلم به غير واجب)، فصرح القاضي عبد الوهاب أن هذه القسم مما لم يجب تعلمه، وجميع ما ورد في الشريعة يجب تعلمه وتبليغه، من كل قرن لمن بعده، فعلى هذا تكونان مسألتين مختلفتين. (مسألة) قال إمام الحرمين في (البرهان): قال معظم الأصوليين: الورع معتبر في أصل الإجماع، وأن الفسقة إذا بلغوا مبلغ الاجتهاد فلا يعتبر وفاقهم ولا خلافهم؛ فإنهم بفسقهم خارجون عن الفتوى؛ ولأن الفاسق غير مصدق فيما يقول. قال: وفيه نظر؛ لأن الفاسق المجتهد لا يلزمه أن يقلد غيره، بل يلزمه أن يتبع اجتهاده، وليس له أن يقلد، فكيف ينعقد الإجماع عليه في حقه، واجتهاده يخالف اجتهاد من سواه، وإذا استحال انعقاد الإجماع عليه في حقه، استحال تبعيض حكمه، حتى يقال: انعقد الإجماع من وجه، ولم ينعقد من وجه.

"مسألة" قال إمام الحرمين في "البرهان": اختلف الأصوليون في الإجماع في الأمم السالفة هل كان حجة؟

قال: فإن قيل: يصدق بينه وبين الله- تعالى- في حق نفسه دون غيره، فينقسم حاله، وينقسم الإجماع في حقه. قال: قلنا: هذا محال؛ لأن الفاسق لا يقطع بصدقه ولا بكذبه، فهو كعالم في غيبته، فإذا تاب فهو كما لو أتى الغائب. "مسألة" قال إمام الحرمين في "البرهان": اختلف الأصوليون في الإجماع في الأمم السالفة هل كان حجة؟ فقيل: لا، وهو من خصائص هذه الأمة. وقيل: إجماع كل أمة حجة، ولم يزل ذلك في الملل. وقال القاضي: لست أدري كيف كان الحال؟ قال الإمام: والذي أراه أن أهل الإجماع إن قطعوا بقولهم في كل أمة، فهو حجة؛ لاستناده إلى حجة قاطعة؛ لأن العادة لا تختلف في الأمم، وهذا أمر متلقى من جهة العادات، وإن كان المستند مظنونا، فالوجه التوقف كما قاله القاضي؛ لأنا لا ندرى هل الماضون كانوا يعينون من خالف الإجماع أم لا؟ قال الشيخ أبو إسحاق في "اللمع": الأكثرون على أن إجماع غير هذه الملة ليس بحجة، وقيل: حجة، وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني. "مسألة" قال الغزالي في "المستصفى" قال قوم: إجماع أهل الحرمين: "مكة" و"المدينة"، والمصرين: "الكوفة" و"البصرة" حجة؛ لأن هذه البقاع جمعت في زمن الصحابة أهل الحل والعقد.

"مسألة" قال أبو يعلى الحنبلي في "العمدة": المجمع عليه إذا تقدر حاله جاز تركه

"مسألة" قال أبو يعلى الحنبلي في "العمدة": المجمع عليه إذا تقدر حاله جاز تركه، قاله أحمد بن حنبل والحنفية خلافا لبعض الشافعية في قولهم: لا يجوز تركه إلا بإجماع آخر؛ كالمتيمم إذا دخل في الصلاة، ثم رأى الماء، وما يجرى هذا المجرى من المسائل؛ لأن غير الإجماع قد يكون حجة، فيعتمد عليه. احتجوا بأنه لو جاز ترك الإجماع بغير الإجماع لأدى ذلك إلى قيام الدلالة على خلاف الإجماع، وهو باطل. جوابه: أنه تغيرت صفته، فليس هذا هو المجمع عليه، ولأن ما ذكروه متعذر، فلو لم يجز تركه بغير الإجماع بأجل الإجماع لامتنع تركه بالإجماع؛ فإن الإجماع على خلاف الإجماع مستحيل". قلت: "الإجماع لا يجوز استصحابه"، وذكر نحو هذا. "مسألة" قال: القاضي عبد الوهاب المالكي، إذا استدل الإجماع بدليل، هل يجوز أن يستدل على ذلك الحكم بغيره؟ منعه قوم؛ لأن ذلك الغير لو كان حقا لما جاز تركهم للاستدلال به. قال: والحق أنه إن فهم منهم أن ما عداه ليس بدليل على ذلك الحكم، امتنع الاستدلال به، وإلا فلا يمتنع بمجرد استدلالهم؛ لأنه لا يجب عليهم ذكر ما يصلح للاستدلال، وهل يصح في كل دليل أن يجمعوا على أنه ليس

بدليل؟ يفصل في ذلك، فإن كان مما يقبل النسخ، أو التخصيص صح إجماعهم على عدم دلالته، وإلا لم يصح؛ لأنه لا يقبل ذلك، فيكون إجماعهم خطأ. وإذا قلنا: يجوز الاستدلال بغير ما استدلوا به، فيجوزا أن يستدل بعدة أدلة، وإن كانوا هم لم يستدلوا إلا بدليل واحد، وأن يستدل بدليل غير جنس دليلهم، ولا فرق بين الجنس الواحد، والجنسين، هذه هي الأدلة، فإن عللوا بعلة، فهل لنا أن نعلل بغيرها؟ لا يخلوا إما أن يكون الحكم عقليا أو شرعيا، فإن كان عقليا ل يجز بغير علتهم على أصولنا في أن الحكم العقلي لا يعلل بعلتين، بخلاف الاستدلال عليه بدليلين فأكثر، فإنه يجوز، وأما من جوز تعليله بعتلين جوز ذلك، وأما الحكم الشرعي فإن فرعنا على أنه لا يجوز تعليله بعلتين جوز ذلك، وأما الحكم الشرعي فإن فرعنا على أنه لا يجوز تعليله بعلتين أيضا، وإلا جاز بشرط إلا تنافى علتنا علتهم، لئلا يؤدى إلى خلافهم، وإن أجمعوا على المنع من التعليل بعلة، فهو كإجماعهم على المنع من دليل. قال: واعلم أن من الذاهبين إلى جواز تعليل الحكم بعلتين من قال: إذا نص صاحب الشرع على علة، أو الإجماع لا يجوز التعليل بغيرها؛ لأن العدول عن العلة الثانية عدم اعتبارها، فعلى هذا المذهب لا يجوز التعليل بغير ما اعتلت به الصحابة. قال: وهو ليس بشيء للروية في الدليل. قال: والقول في طرف المعدوم في الاستدلال والاعتدال، والزيادة في ذلك على ما سلكته الصحابة، كالقول في أصل الاستدلال، وجواز الزيادة عليه. ***

الكلام في الأخبار

الكلام في الأخبار قال الرازي: وهو مرتب على مقدمة وقسمين أما المقدمة: ففيها مسائل: المسألة الأولى: لفظ الخبر حقيقة في القول المخصوص، وقد يستعمل في غير القول؛ كقول الشاعر [الطويل]: تخبرني العينان ما القلب كاتم وكقول المعري [الطويل]: نبي من الغربان ليس على شرع .... يخبرنا أن الشعوب إلى الصدع وكقولهم: خبر الغراب بكذا؛ لكنه مجاز فيه؛ بدليل أن من وف غيره بأنه مخبر، أو أخبر- لم يسبق إلى فهم السامع إلا القول. "الكلام في الأخبار" قال القرافي: قوله: "الخبر حقيقة في القول المخصوص، مجاز في غيره": قلنا: الكلام وما يتعلق به من لفظ الخبر، والأمر، والنهي، والدعاء، والتصديق، والتكذيب، ونحو ذلك من أنواع الكلام للعلماء فيه ثلاثة مذاهب" حقيقة في النفساني مجاز في اللساني، حقيقة اللساني مجاز في النفساني، مشترك بينهما. قال إمام الحرمين في "الإرشاد": وهو مذهب الجمهور، وكذلك أشار إليه المصنف في كتاب "اللغات"، وجعله المشهور.

قال سيف الدين: الخبر يطلق على الإشارات الحالية، والدلائل المعنوية نحو:"عيناك تخبرني بكذا، والغراب يخبرني بكذا". ومنه قول المتنبي [الطويل]: وكم لظلام الليل عندك من يد .... تخبر أن المانوية تكذب يشير إلى أن "المانوية" المنسوبين إلى "مانا" المخترع لمذهبهم يقولون: الخير من النور، والشر من الظلمة، والشاعر يشير إلى زيارة أحبابه، إنما تتأتى له في الظلام وتتعذر عليه بالنهار، وذلك يكذب المانوية كما قال في موضع آخر [البسيط]: أزورهم وسواد الليل يشفع ليه .... وأنثني وبياض الصبح يغرى بي

قال: ويطلق على القول المخصوص، وهو مجاز في الأول حقيقة في الثاني، ثم القول المخصوص يطلق على الصيغة نحو: قام زيد، وعلى القائم بالنفس المعبر عنه بالصيغة. قال: والأشبه أنه حقيقة في الصيغة؛ لأنه المتبادر. قال إمام الحرمين في "البرهان": "الخبر: صنف من الكلام القائم بالنفس عند معتقدي كلام النفس"، ولم يذكر في "البرهان" غير هذا، وهذه النقول تدلك على ما تقدم ذكره. قوله [الطويل]: نبي من الغربان ليس على شرع .... يخبرنا أن الشعوب على صدع قلت: النبي هاهنا بمعنى المنبئ المخبر، وهو أحد القولين في اشتقاق اسم النبي من البشر. فقيل: هو من النبأ الذي هو الخبر؛ لأن الله أنبأه. وقيل: هو من النبوة التي هي الارتفاع؛ لأنه مرتفع القدر والمراد في بيت الشعر المخبر بكسر الباء، أي: هو يخبر بصياحه عن الفراق، فهو مجاز عن المخبر. وقوله: "ليس على شرع" ليعرف أن لفظ النبي شأنه أن يكون صاحبه على شريعة، وهذا نبي ليس له شريعة. وقوله: "الشعوب على صدع" يروي الشعوب بالباء، وهو الصحيح،

"فائدة" يقول أرباب علم البيان عن هذه المجازات: إخبار بلسان الحال، ويجعلونه قسيما للإخبار عن لسان المقال

وفي بعض نسخ "المحصول" بالراء، وهو تصحيف، وأكثر النسخ بصيغة على صدع بلفظ "علي"، وفي بعضها بلفظ "إلى"، وهو الأقل. والمراد بالشعوب: الالتئام والاجتماع من قولك: شعبت القصعة إذا جمعت فلقتيها والصدع: الفرقة، ومنه: انصدع الحائط إذا انشق، وافترقت أجزاؤه، ومنه سمي الفجر صديعا كأن الظلمة انشقت، وخرج ضوء النهار، فيصير المعنى يخبرنا الغراب أن الاجتماع على افتراق. كما تقول: هو على الموت، وهو على سفر أي: قاربه، وهو أبلغ في قرب الفرقة من لفظ "إلى"؛ لأنها تشعر بأن الاجتماع آيل إلى فرقة، ولا تشعر بقرب الفرقة. "فائدة" يقول أرباب علم البيان عن هذه المجازات: إخبار بلسان الحال، ويجعلونه قسيما للإخبار عن لسان المقال، ويعدون منه قول العرب:"امتلأ الحوض، وقال: قطني" أي: كفاني،: واشتكى جملي طول السري، وفي القرآن الكريم منه مواضع كثيرة. ***

المسألة الثانية قال الرازي: ذكروا في حده أمورا ثلاثة

المسألة الثانية قال الرازي: ذكروا في حده أمورا ثلاثة: أحدها: أنه الذي يدخله الصدق، أو الكذب. وثانيها: أنه الذي يحتمل التصديق، أو التكذيب. وثالثها: ما ذكره أبو الحسين البصري، وهو أنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور، إلى أمر من الأمور نفيا، أو إثباتا. قال: واحترزنا بقولنا: "بنفسه" عن الأمر؛ فإنه يفيد وجوب الفعل، لكن لا بنفسه؛ لأن ماهية الأمر استدعاء الفعل، والصيغة لا تفيد إلا هذا القدر، ثم إنها تفيد كون الفعل واجبا؛ تبعا لذلك. وكذا القول في دلالة النهي على قبح الفعل، فأما قولنا: "هذا الفعل واجب، أو قبيح": فإنه يفيد بصريحه تعلق الوجوب، أو القبح بالفعل. واعلم أن هذه التعريفات ردية. أما الأول: فلأن الصدق والكذب نوعان تحت الخبر، والجنس جزء من ماهية النوع وأعرف منها، فإذن: لا يمكن تعريف الصدق والكذب، إلا بالخبر، فلو عرفنا الخبر بهما، لزم الدور. واعترضوا عليه أيضا من ثلاثة أوجه: أحدها: أن كلمة "أو" للترديد، وهو ينافى التعريف، ولا يمكن إسقاطها هاهنا؛ لأن الخبر الواحد لا يكون صدقا وكذبا معا.

وثانيها: أن كلام الله، عز وجل، لا يدخله الكذب، فكان خارجا عن هذا التعريف. وثالثها: أن من قال: "محمد ومسيلمة صادقان" فإن هذا خبر، مع انه ليس بصدق، ولا كذب. ويمكن أن يجاب عن الأول: بأن المعرف لماهية الخبر أمر واحد، وهو إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه، وذلك لا ترديد فيه. وعن الثاني: أن المعتبر إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه، وخبر الله تعالى كذلك؛ لأنه صدق. وعن الثالث: أن قوله: "محمد ومسيلمة صادقان" خبران، وإن كانا في اللفظ خبرا واحدا؛ لأنه يفيد إضافة الصدق إلى محمد، عليه الصلاة والسلام، وإلى مسيلمة، وأحد الخبرين صادق، والثاني كاذب. سلمنا أنه خبر واحد، لكنه كاذب؛ لأنه يقتضى إضافة إليها معا، وليس الأمر كذلك؛ فكان كذبا لا محالة. وأما التعريف الثاني فالاعتراض عليه: أن التصديق والتكذيب عبارة عن الإخبار عن كون الخبر صدقا وكذبا، فقولنا: "الخبر ما يدخله التصديق والتكذيب" جار مجرى أن يقال: "الخبر: هو الذي يجوز الإخبار عنه بأنه صدق، أو كذب، فيكون هذا تعريفا للخير بالخير، وبالصدق والكذب. والأول: هو تعريف الشيء بنفسه. والثاني: تعريف الشيء بما لا يعرف إلا به.

وأما الثالث فالاعتراض عليه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن وجود الشيء عند أبي الحسين عين ذاته؛ فإذا قلنا: "إن السواد موجود" فهو خبر، مع أنه إضافة شيء إلى شيء آخر. فإن قلت: السؤال إنما يلزم أن لو قال: "إضافة أمر إلى أمر آخر" وإنه لم يقل ذلك، بل قال: "إضافة أمر إلى أمر" وهذا اعم من قولنا: "إضافة أمر إلى أمر آخر". وأيضا: فقولنا:"السواد موجود" معناه: أن المسمى بلفظ "السواد" مسمى بلفظ "الموجود". قلت: الجواب عن الأول: أن الإضافة مشعرة بالتغاير؛ إذ لو لم يكن ذلك معتبرا، لدخل اللفظ المفرد في الحد. وعن الثاني: أن موضع الإلزام ليس هو الإخبار عن التسمية، بل عن وجوده وحصوله في نفسه، ومعلوم أن من تصور ماهية المثلث، أمكنه أن يشك في أنه، هل هو موجود أم لا؟ فموضع الإلزام هاهنا، لا هناك. وثانيها: أنا إذا قلنا: "الحيوان الناطق يمشي" فقولنا: "الحيوان الناطق" يقتضى نسبة الناطق إلى الحيوان، مع أنه ليس بخبر؛ لأن الفرق بين النعت والخبر معلوم بالضرورة. فإن قلت: أزيد في الحد قيدا آخر؛ فأقول: "إنه الذي يقتضى نسبة أمر؛ إلى أمر بحيث يتم معنى الكلام" والنعت ليس كذلك. قلت: إن عنيتم بكون الكلام تاما: إفادته لمفهومه، فذاك حاصل في النعت مع المنعوت؛ لأن قول القائل: "الحيوان الناطق" يفيد معناه بتمامه.

وإن عنيتم به: إفادته لتمام الخبر، لم يعقل ذلك، إلا بعد تعقل الخبر، فإذا عرفتم به الخبر لزم، الدور، وإن عنيتم به معنى ثالثا، فاذكروه. وثالثها: أن قولنا: "نفيا وإثباتا" يقتضى الدور؛ لأن النفي: هو الإخبار عن عدم الشيء، والإثبات: هو الإخبار عن وجوده، فتعريف الخبر بهما دور. وإذا بطلت هذه التعريفات، فالحق عندنا أن تصور ماهية الخبر عني عن الحد والرسم؛ لدليلين: الأول: أن كل أحد يعلم بالضرورة معنى قولنا: "إنه موجود، وإنه ليس بمعدوم، وإن الشيء الواحد لا يكون موجودا، ومعدوما، ومطلق الخبر جزء من الخبر الخاص، والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء" فلو كان تصور مطلق ماهية الخبر موقوفا على الاكتساب، لكان تصور الخبر الخاص أولى أن يكون كذلك؛ فكان يجب ألا يكون فهم هذه الأخبار ضروريا، ولما لم يكن كذلك، علمنا صحة ما ذكرناه. والثاني: أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر، ويميزه عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر؛ ولولا أن هذه الحقائق متصورة تصورا بديهيا، وإلا لم يكن الأمر كذلك. فإن قلت: الخبر نوع من أنواع الألفاظ، والألفاظ ليست تصوراتها بديهية، فكيف قلت: إن ماهية الخبر متصورة تصورا بديهيا؟ قلت: حكم الذهن بين أمرين؛ بأن أحدهما له الآخر، أو ليس له الآخر، معقول واحد، لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وكل أحد يدركه من نفسه، ويجد التفرقة بينه وبين سائر أحواله النفسانية مع ألمه، ولذته، وجوعه، وعطشه.

شرح القرافي: قوله: "يحتمل التصديق والتكذيب"

وإذا ثبت هذا، فنقول: إن كان المراد من الخبر هو الحكم الذهني، فلا شك أن تصوره في الجملة بديهي، مركوز في فطرة العقل، وإن كان المراد منه اللفظة الدالة على هذه الماهية، فالإشكال غير وارد أيضا؛ لأن مطلق اللفظ الدال على المعنى البديهي التصور، يكون أيضا بديهي التصور. المسألة الثالثة قيل: لابد في الخبر من الإرادة؛ لأن هذه الصيغة قد تجيء ولا تكون خبرا: إما لصدورها عن الساهي والحاكي، أو لأن المراد منها الأمر مجازا؛ كما في قوله: {والجروح قصاص} [المائدة: 45] وإذا كانت الصيغة صالحة للدلالة على الخبرية، وعلى غيرها، لم ينصرف إلى أحد الأمرين، دون الآخر، إلا لمرجح، وهو الإرادة، أو الداعي. والكلام في هذا الأصل قد تقدم في أول "باب الأمر". وأيضا: فلا معنى لكون الصيغة خبرا، إلا أن المتلفظ تلفظ بها، وكان مقصوده تعريف الغير ثبوت المخبر به للمخبر عنه، أو سلبه عنه. وزعم أبو علي وأبو هاشم أن الصيغة- حال كونها خبرا- صفة معللة بتلك الإرادة، وإبطاله أيضا قد مضى في أول باب الأمر. المسألة الثانية "في حد الخبر" قال القرافي: قوله: "يحتمل التصديق والتكذيب": تقريره: أن الفرق بين الكذب والصدق، والتكذيب والتصديق أن الأولين يرجعان إلى نسبتين وإضافتين في نفس الأمر، وهما المطابقة في الصدق، وعدمها في الكذب على نوع من المخالفة للواقع، والمخالفة والمطابقة نسبتان

بين اللفظ ومدلوله، والاحتراز من الكلام اللساني أو النفساني على حسب ما يراد بهما، أي أخبرنا عن الصدق أو الكذب في ذلك الكلام، كإخبارنا عن ذلك هو التصديق أو التكذيب، فقد يوجد التصديق والتكذيب تبعا للصدق والكذب إن كان إخبارنا بذلك صادقا، وبدونها إن كان كاذبا، فقد يصدقوه وليس بصادق، ويكذبه وليس بكاذب، وكذلك يوجد الصدق والكذب بدون التصديق والتكذيب، فكل واحد أعم من الآخر، وأخص من وجه. قوله: "احترزنا بقولنا: بنفسه عن الأمر؛ فإنه يفيد وجوب الفعل لكن لا بنفسه؛ لأن ماهية الأمر استدعاء الفعل، والصيغة لا تفيد إلا هذا العدد، ثم إنها تفيد كون الفعل واجبا تبعا لذلك". قلنا: الصحيح عندنا أن الأمر موضوع للطلب الجازم، وهو الوجوب فهو يفيد بذاته الوجوب، وقولكم: "الاستدعاء الماهية يفيد الوجود" لا يتجه، بل لا يفيد الصيغة إلا الاستدعاء الخاص، الذي هو الوجوب، كما يفيد لفظ الإنسان الحيوان الخاص، الذي هو الناطق، وكذلك القول في النهي يفيد التحريم بذاته؛ لأنه موضوع لطلب الترك الجازم. قوله: "الصدق والكذب نوعان تحت جنس الخبر": قلنا: بل الصدق والكذب صفتان تعرضان للخبر على سبيل البدل، كالحركة والسكون للإنسان أو الحيوان، والصفة العارضة لا تكون نوعا من المعروض، نعم إذا وجد المعروض يفيد أحد العارضين كان نوعا، لكن ذلك يقال له: الصادق والكاذب. قوله: "الجنس أعرف من ماهية النوع": تقريره: أن كل شيء يتوقف عليه الجنس يتوقف عليه النوع لتوقفه على الجنس، وليس كل ما يتوقف عليه النوع يتوقف عليه الجنس، لجواز توقفه

على أمور ينشأ التوقف فيها عن خصوصه وفعله، وما كان أقل توقفا كان أدخل في الوجود، وأعرف؛ لقلة مقدماته. قوله: "لا يمكن تعريف الصدق والكذب إلا بالخبر": قلنا: قد تقدم أول الكتاب في تعريف العلم أن الحد شرح ما دل عليه اللفظ الأول بطريق الإجمال، فجاز أن يكون لفظ الخبر مجهولا لأي شيء وضع، ولفظ الصدق والكذب مسماه معلوم، فيعرف أحدهما بالآخر وكذلك بالعكس، وقد تقدم بسط هذا أيضا في حد الأمر، فلا دور حينئذ. قوله: ""أو" للترديد، وهو ينافى التعريف": قلنا: قد تقدم في حد الحكم الجواب عن هذا مبسوطا، وأنه حكم بالترديد لا ترديد في الحكم، وأن المنافع هو الثاني دون الأول. قوله: "خبر الله- تعالى- خارج عن هذا الحد؛ لعدم احتماله الكذب": قلنا: الحد إنما يتناول الخبر من حيث هو خبر، وقد يكون من حيث هو يقبل شيئا، ولا يقبله مضافا لغيره، كما نقول: "الواحد نصف الاثنين" لا يحتمل الكذب، و "الواحد نصف العشرة" لا يحتمل الصدق، فعلنا أن الخبر إنما يحد بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن المخبر به، والمخبر عنه، أما تقيد أحدهما، فقد يمتنع عليه ذلك، ولا عجب من ذلك؛ فإن العدد من حيث هو عدد يقبل الزوج والفرد، وإذا أخذ بكونه عشرة لا يقبل الفرد أو بقيد كونه خمسة لا يقبل الزوج، والحيوان من حيث هو هو يقبل جميع الفصول، وإذا أخذ بقيد كونه إنسانا لا يقبلها كلها، وكذلك القول في جميع الأمور العامة والحقائق الكلية، فاندفع السؤال. فإن قلت: فيتعين أن يريد في الحد من حيث هو كذلك. قلت: إن نطق به فهو حسن، وإن سكت عنه فهو المفهوم عند الإطلاق؛

"الفائدة" قال سيف الدين: أجاب الجبائي بأنه يفيد صدق أحدهما حال صدق الآخر

لأنه مطرد في جميع الحدود، وإنما يراد بها المحدود من حيث هو ذلك المحدود، وما كان مطردا عاما استغنى عن ذكره، لكثرة التفطن له في موارده مع كثرتها. قوله: "الخبر يقتضى إضافة الصدق لمسيلمة، ومن ذكر معه، وليس كذلك، فهو خبر كاذب". تقريره: أن الصدق هو المطابقة، والكذب عدم المطابقة، فيشبه الصدق ثبوت الحقيقة، والكذب نفيها، والقاعدة أنه يكفى في نفي الحقيقة نفي جزء منها أي جزء كان، ولا يشترط نفي جميع أجزائها، فإضافة الصدق إليهما ثبوت، ونفي هذا الثبوت يكفى فيه نفي الصدق عن احدهما، وهو كذلك في مسيلمة، فكان الحق أنه خبر كاذب، ويتجه بهذا التقرير أن يقال: إذا ركبنا كلامنا من خبر صادق وكاذب أي شيء يكون؟ نقول: كاذبا، كما أن المركب من الموجود والمعدوم معدوم، ومن الواجب والمستحيل مستحيل، ومن المتقدم والمتأخر متأخر، ومن الحرام والواجب حرام، ومن الممكن والواجب ممكن، ومن الممكن والمستحيل مستحيل؛ لتعذر دخول هذا المجموع الوجود ونحو ذلك. "الفائدة" قال سيف الدين: أجاب الجبائي بأنه يفيد صدق أحدهما حال صدق الآخر، ولو قال: أحدهما صادق حال صدق الآخر كان كاذبا. قال سيف الدين: "هما صادقان" أعم من "صدق أحدهما حال صدق الآخر"، بل يكون قبله أو بعده، والأعم غير مشعر بالأخص.

قال: وأجاب أبو هاشم بأنه بمنزلة خبرين: أحدهما صدق، والآخر كذب، والخبران لا يوصفان بالصدق ولا بالكذب، وإنما يوصف بها الخبر الواحد، ونحن إنما حددنا الخبر من حيث هو خبر لا يفيد كونه مركبا من خبرين. قال: وليس كما قال؛ لأن إضافة حكم الشخصين غير مانع من وصفه بالصدق والكذب، كقولنا: رجل موجود وحادث. وأجاب القاضي عبد الجبار: بأن اللغة لا تحرم أن يقال لقائله: صدقت أو كذبت. قال: وهو غير سديد؛ لأنه يرجع إلى التصديق والتكذيب، وهو غير الصدق والكذب. وقال أبو عبد الله البصري: إنه يفيد إضافة الصدق إليهما مع عدم إضافته إليهما. قال سيف الدين: وهو الحق. قلت: وهذه الكلمات كلها وجدتها نص "المتعمد" لأبي الحسين، فلك نقلها عن "الإحكام" وعن "المعتمد". قوله: "والأول: تعريف الشيء بنفسه". قلنا: تعريف الشيء بنفسه بغير اللفظ الأول لاسيما إذا لم يكن مرادفا؛ فإن قولنا: "هو الذي يحتمل التصديق والتكذيب" ليس في لفظ الحد لفظ الخبر، بل ألفاظ دالة على لوازم الخبر وخصائصه، وكذلك كل واحد.

فإن أردتم بتعريف الشيء بنفسه أن اللفظ الأول امتد، فليس كذلك، وإن أردتم أن المعنى امتد، فهو حق، لكن جميع الحدود كذلك لابد من المعنى في ألفاظ الحد، وإلا لم يكن حدا له، فقولنا في حد الإنسان: "هو الحيوان الناطق"، الإنسان معناه موجود في قولنا: "حيوان ناطق"، فإن مجموعها هو معنى الإنسان، ولا محدود في ذلك. قوله: "الثاني: تعريف الشيء بما لا يعرف إلا بعد معرفته": قلنا: تقدم الجواب عنه بما ذكر في الأمر. قوله: "وجود كل شيء عند أبي الحسين نفس ماهيته": قلنا: لكن في الخارج، أما في الذهن فهما متغايران عنده، وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وكذلك قولنا: "الخلق نفس المخلوق" أي في الخارج، أما في الذهن فالمعقول من الخلق التأثير، ومن المخلوق الأثر الذي وقع فيه التأثير كما يعقل قدرة ومقدورة أو نسبة بينهما، فالنسبة الخاصة هي الخلف، وإذا ثبت التغاير في الذهن صحت الإضافات؛ فإن الحدود إنما هي للماهيات الكلية، والماهية الكلية ذهنية، والتعذر فيها حاصل. قوله: "الفرق بين الخبر والنعت معلوم بالضرورة": معناه: أن الإضافة قد تكون إضافة تقييد، وقد تكون إضافة إسناد، والأول ثلاثة أقسام: تقييد الموصوف بالصفة نحو: "كان زيد لكاتب مسافرا"، فالكاتب صفة لا خبر. وتقييد المضاف بالمضاف إليه نحو: "غلام زيد منطلق"، فالإضافة لزيد ليست خبرا بل تقييد.

"فائدة" ينبغي في حد الخبر أن يقال: هو اللفظان فأكثر أسند بعض مسبباتهما لبعض إسنادا يحتمل التصديق والتكذيب

أو تقييد بالجزء نحو: "العشرة خمسة وخمسة"، فالمجموع خبر عن العشرة، وإضافة الخمسة والخمسة تقييد بالجزء. وأما تقييد الإسناد فقولنا: "زيد قائم"، هو الخبر الذي يحتمل التصديق والتكذيب، وقد اندرج الجميع في حد أبي الحسين، فكان غير مانع، فكان ينبغي أن يزيد قوله: إضافة تقبل التصديق أو التكذيب. قوله: "تعريف الخبر بالنفي والإثبات يقتضى الدور". قلنا: الجواب عنه ما تقدم ف تعريف الأمر بالمأمور والطاعة. قوله: "كل أحد يعلم بالضرورة أنه موجود": قلنا: هذا خبر نفساني، وأنتم إنما شرعتم في تعريف الخبر اللساني، وهو الذي يوصف بالاحتمال الصدق والكذب. وأما النفساني فلا يوصف الاحتمال، ثم الكلام إنما كان في اللساني، وهو الذي أفتيتم بأن اللفظ فيه حقيقة، فادعاء الضرورة ينبغي أن يكون فيه، لا في الخبر النفساني. قوله: "لا معنى للخبر إلا التلفظ به لتعريف الغير إسناد والخبر للمخبر عنه". قلنا: لنا مفهوم الخبر، ولنا إخبار الغير، فالخبر في نفسه هو الإسناد، والذي يتعلق بالغير هو الأخبار لا الخبر، فالخبر أعم من الإخبار، فكل إخبار في ضمنه خبر، وقد يكون خبرا بغير إخبار كما إذا أسند، ولا يرد إفادة غيره ذلك. "فائدة" ينبغي في حد الخبر أن يقال: هو اللفظان فأكثر أسند بعض مسبباتهما لبعض إسنادا يحتمل التصديق والتكذيب.

"فائدة" قال إمام الحرمين في اختصاره "الاقتصاد" للقاضي أبي بكر: ""الواو" في هذا الحد غلط؛ لأنها تشعر بقبول الضدين

"فائدة" قال إمام الحرمين في اختصاره "الاقتصاد" للقاضي أبي بكر: ""الواو" في هذا الحد غلط؛ لأنها تشعر بقبول الضدين، والمحل لا يقبل إلا أحدهما"، وليس كما قال؛ لأن القاعدة العقلية المقطوع بها أن الوجوب والاستحالة والإمكان لوازم لمحالها؛ فإنه يستحيل انقلاب الواجب ممكنا أو مستحيلا، والمستحيل واجبا أو ممكنا. إذا تقرر أن الإمكان لازم لمحله، وهو يعبر عنه بالقبول وبالصحة، امتنع أن يقال: المحل إنما يقبل أحد الضدين؛ لأنه حينئذ يكون قبوله للآخر مشروطا بزوال هذا الحاضر، وزوال هذا الحاضر ممكن، والمشروط بالممكن ممكن، فيلزم أن يكون القبول لذلك الضد ممكنا، فيكون الإمكان ممكنا، وقد تقدم أنه واجب الثبوت لمحله، لازم له، فيتعين أن المحل يقبل الضدين معا، كما يقبل النقيضين معا، وإنما المشروط بعدم هذا وقوع الآخر المقبول لا قبوله، وبالجملة هاهنا دقيقة، وهي الفرق بين اجتماع القولين، وبين اجتماع المقبولين، المحال وهو الثاني دون الأول، بل الأول واجب، والثاني مستحيل، فتأمل ذلك. "سؤال" قوله: "حقيقة الخبر ضرورية؛ لأن الخبر الخاص ضروري": يرد عليه أني أعلم نفسي بالضرورة، ونفسي نفس خاصة، فيكون مطلق النفس معلوما بالضرورة، مع أنها من أمر الله- تعالى- الذي استأثر بعلمها لقوله تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85]، والروح هي النفس، أو هي غيرها؟ هذا أيضا من المجهولات، وهو مما يؤكد السؤال، وأخبرني بعض الفضلاء أنه رأى كتابا فيه قول للعقلاء في حقيقة النفس، وكثرة الاختلاف تدل على كثرة الجهالة.

"سؤال" قال "النقشواني": قد يطلب تعريف الشيء تفصيلا من جميع وجوهه، وقد يطلب تعريفه من وجه

فإن قلت: هذا النقض يلزم منه أن يكون الأخص لا يستلزم الأعم، أو أن العلم بالكلي لا يستلزم العلم بالجزء، وكلاهما باطل بالضرورة؛ لأن العلم بالأخص إذا حصل بدون كسب، والأعم يفتقر للكسب، يلزم ألا يكون حاصلا، فيلزم عدم العلم به، فيلزم أحد الأمرين. قلت: ليس كذلك، بل جاز أن يكون المعلوم من الأخص وجها من وجوهه علما إجماليا، فلا يلزم العلم بالأعم؛ لأن معنى قولنا العلم بالكل يستلزم العلم بالجزء التفصيلي بجميع وجوه الحقيقة، أما العلم الإجمالي المتعلق ببعض وجوه الحقيقة فلا، وهذا معنى معرفة نفسي الخاصة أي: من وجه اختصاصها بي، واتصافها بأحوالي الخاصة بي لا من حيث ذاتها، وحقيقتها وهيئتها، وبهذا نقول له: جاز أن يكون الخبر الخاص معلوما من بعض وجوهه كالنفس، فلا يكون مطلق الخبر معلوما بالضرورة. "سؤال" قال "النقشواني": قد يطلب تعريف الشيء تفصيلا من جميع وجوهه، وقد يطلب تعريفه من وجه، وعلى الأول يلزم الدور بين الصدق والكذب، ومطلق الخبر، وعلى الثاني لا يلزم؛ لأن كل واحد منهما حينئذ إنما يقصد تعريف من وجه، فيكون الوجه المعروف من أحدهما للآخر لا يحتاج للمعرف به، وكذلك القول في الوجه من الجهة الأخرى، فلا يلزم الدور، وكذلك تندفع هذه الأدوار في السلب والإيجاب، والنفي والإثبات، وجميع ذلك إذا عرف به الخبر. "تنبيه" زاد التبريزي فقال: الصدق والكذب وصفان للخبر لا نوعان؛ فإنهما يرجعان إلى مطابقة الوجود، وعدم المطابقة، وما الشيء باعتبار الإضافة إلى

غيره لا يكون نوعا له ولآخر ماهيته، والوصف يصلح معرفا للموصوف، وإنما يكون الصدق معرفا للخبر إذا وصفنا به المتكلم لا الكلام. فقلنا: "صدق الرجل"، وليس هو المراد هاهنا. قلت: وهذا غير متجه فإن صفة المتكلم لا تكون نوعا من الكلام، بل ذلك أبعد عن النوعية فإن فصل الشيء لا يكون صفة لغيره، ثم قال: والجواب عن التصديق والتكذيب أن المراد بهما قولنا: "صدقت وكذبت" بما هو هذا القول من غير نظر إلى اعتبار حقيقته، ويمكن معرفة هذا القول بما هو دون الإحاطة بماهية الخبر. قال: والجواب عن سؤال المغايرة في الوجود الوارد على أبي الحسين أن التغاير يتحقق بالنظر إلى اختلاف الاعتبار، وهو جهة صحة معظم الأخبار، ففي الدعاء "اللهم أنت أنت، وأنا أنا، وفي الذكر: "يا من هو هو"، ويقول الإنسان: المسمى بالأسد هو المسمى بـ "الليث"، بل إذا قلنا: هذا زيد، لم يمكن تحقيق التغاير بين المبتدأ وخبره، إلا بأن نضع المبتدأ شيئا ما، مجهولا باعتبار ذاته معلوما بحكم اسم الإشارة، والخبر ذلك الغير الذي عرف لفظ زيد علما عليه؛ فإن المفهومين هما مختلفان في الاعتبار الذهني، متحدان في الوجود الحقيقي، وكذلك قولنا: السواد موجود، بل لو اعتقدنا تقرير قاعدة الأحوال لم يندفع الإشكال؛ فإنا إذا قلنا: "السواد لون"، لم يمكن أن يؤخذ اللون بما هو حقيقة الجنس جزئي الخبر، فإنه ينقسم إلى أنواع من جملها السواد، فكيف يكون هذا السواد دالا على أنه آخر جزئيات اللون عن السواد، وهو المبتدأ الذي أخبرنا عنه، فإذا اتحد المبتدأ والخبر، صار هو خبرا عن نفسه، ولكن باعتبار الحقيقة، أما بالإضافة إلى الاعتبارات الذهنية فلا.

قال: وعن الثاني الوارد على أبي الحسين أن قولنا: "الحيوان الناطق" لا يتضمن نفيا ولا إثباتا. وعن الثالث: أن المراد بالنفي والإثبات هو المصدر لا الفعل، وهو مفرد، فلا يكون خبرا. قال: وقوله: "حقيقة الخبر ضرورية ليتوقف الخبر الخاص على العام"- تمويه؛ فإن البحث إما أن يقع على لفظ لماذا وضع أو عن ماهية موضوعه، مع العلم بالوضع، فإن كان الأول فهو تصديق من باب السمع، فكيف يدرك بالضرورة أو بالنظر؟ وإن كان الثاني فلا شك انه قسم من أقسام الكلام، والكلام إن أخذ على أنه من قبيل النطق اللساني، وهو المقصود بالبحث في علم الأصول، فالعلم به علم بكيفية تركيب في أمر وضعي، فيكيف يكون ضروريا؟ وإن أخذ على أنه من النفساني، فقد اختلف العقلاء في أصل ثبوته، فكيف يكون وقوعه ضروريا وجدانيا؟ ثم برهان افتقاره للحد والرسم أنه أمر مركب؛ لان جزأه الأعم الذي هو أقرب أجناسه هو الكلام، وهو أيضا مركب، فيتقدم بالضرورة تصور جنسه على تصوره، وهو معنى الاكتساب بالحد. قلت: سؤال: إذا قلنا: "زيد قائم" ينبغي ألا يصح، وكذلك جميع الأخبار؛ لأن الخبر الذي هو قائم إما أن يكون عين زيد أو غيره، فإن كان عينه، فيكون مثل قولنا: "زيد زيد"، و "عمر عمرو"، فإنه لا يفيد شيئا، ومنه "الليل ليل"، و "النهار نهار"، وإن كان غيره فهو كقولنا: زيد عمرو، فإنه لا يصح؛ لأنه كذب على أحد المتباينين، لا يكون عين الآخر، فبطلت الإخبارات مطلقا.

"قاعدة" الحقائق أربعة أقسام

"قاعدة" الحقائق أربعة أقسام: متعددة في الذهن والخارج نحو: زيد وعمرو. ومتحدة فيهما نحو: زيد زيد، فإن الصورة في الذهن واحدة، وهو لا يغاير نفسه لا في الذهن، ولا في الخارج. ومتعددة في الذهن دون الخارج كقولنا: السواد عرض، والإنسان حيوان، فإن صورة الأعم في الذهن غير صورة الأخص، وهما في الخارج حقيقة واحدة. ومتعددة في الخارج متحدة في الذهن، وهذا لا يقع إلا غلطا وجهلا، نحو: اعتقاد النصارى أن الثلاثة المتغايرة في الخارج إله واحد. إذا تقررت الأقسام فنقول: أما القسم الأول: فلا يصح الحكم فيه، ولا تحصل الفائدة؛ لأنه كذب إلا أن يتخيل بينهما صفة عامة، وهي المماثلة في معنى، كقولنا: أبو يوسف أبو حنيفة، أي: مثله في الفقه ونحوه. وأما القسم الثاني، فيصح الحكم فيه؛ لوجوب ثبوت الشيء لنفسه، وتعدم الفائدة؛ لأنا لم نستفد باللفظ الثاني غير ما استفدناه من اللفظ الأول. والقسم الثالث فيه الحكم صحيح لوقوع الاتحاد في الخارج، وحصلت الفائدة لأجل التغاير في الذهن، كأنا قبلنا هذه الصورة الذهنية مع هذه الصورة الذهنية الأخرى واحدة في الخارج، والأعم ثابت للأخص في الخارج، ومتحد به، فيتقرر من هذا أن الاتحاد في الخارج شرط صحة الحكم، والتعدد الذهني شرط حصول الفائدة، فإن حصل الشرطان حصل الحكم والفائدة، وإن انتفى الشرطان انتفى الحكم والفائدة، وإن حل الاتحاد

الخارجي فقط صح الحكم فقط، وإن حصل التعدد الذهني فقط انتفت الفائدة لانتفاء الحكم لأجل التعدد في الخارج. فهذه القاعدة هي سر جميع القضايا، وعلى هذا نجيب عن السؤال بأنه عينه باعتبار الخارج، ولا يكون كـ "زيد زيد"؛ لأن زيدا زيدا متحد فيهما، أو يلتزم انه غيره، ولا يلتزم الكذب، وعدم الفائدة لحصول الاتحاد في الخارج يخالف زيد عمرو، وبهذه القاعدة يظهر أنه لابد من إضمار في قولنا: "اللهم أنت"، فيضمر في الثاني صفة تقديره: أنت أنت المعروف بصفات الكمال، يا من هو هو، وكذلك قال النحاة في قوله [الرجز]: أنا أبو النجم وشعري شعري أي: شعري شعري المعروف. وبهذه القاعدة يظهر تقرير أكثر كلام التبريزي. وقوله: (لو اعتبرنا قاعدة الأحوال لم يندفع الإشكال": يريد بالأحوال العموم ولخصوص؛ فإن الأمر العام حالة ذهنية اعتبارية في كل معين في الخارج؛ وبسط الأحوال في علم الكلام، وأظن أني قدمن منه جملة كثيرة في الشرح، وأنها قسمان: معللة كأحكام المعاني نحو: العالمية

والقادرية، وغير معللة نحو: كون السواد سوادا، والبياض بياضا، والجوهر جوهرا، فيطالع في موضعه لئلا نخرج عن المقصود. قوله: "قولنا: الحيوان الناطق لا يتضمن نفيا ولا إثباتا". قلنا: لا نسلم، بل من وصف شيئا بشيء، فقد أثبت تلك الصفة لذلك الموصوف، نعم ليس كلاما تاما يحسن السكون عليه، حتى أن العلماء- رضوان الله عليهم- أفتوا في القائل: اللهم ارحم زيدا العالم الفاضل، المجاهد المرابط، ولم يكن زيد موصوفا بشيء من ذلك- أنه آثم كاذب، ولولا الإثبات لم يصفوه بالإثم والكذب. قوله: "النفي والإثبات مصدر، فلا يكون خبرا". يريد: أن قول أبي الحسين: "نفيا أو إثباتا" إشارة على أن المحكوم به قد ينسب بالنفي، وقد ينسب المحكوم عليه بالثبوت نحو: زيد ليس بقائم زيد قائم، والخبر هو الإسناد بين المحكوم عليه والمحكوم بصفة الثبوت، أو صفة النفي، فهو حقيقة تصورية، فلا يكون خبرا إلا من الخبر وهو ذلك الإسناد الذي هو نسبة من المسند إليه والمسند، أما كل حالة واقعة في أحدهما، فليست خبرا، والنفي والإثبات حالتان واقعتان في الخبرية، فليست خبرا، بل حقيقة اللفظ الدال عليها عند النحاه تسمى مصدرا. وقوله: "وما هو فعل"- يريد أنا إذا قلنا: "ثبت أو انتفى" كان خبرا؛ لأجل الذي فيه من الإسناد، بخلاف الحالة الواقعة في المخبر به. ***

المسألة الرابعة قال الرازي: إذا قال القائل: العالم حادث فمدلول هذا الكلام حكمه بثبوت الحدوث للعالم

المسألة الرابعة قال الرازي: إذا قال القائل: العالم حادث فمدلول هذا الكلام حكمه بثبوت الحدوث للعالم، لا نفس ثبوت الحدوث للعالم؛ إذ لو كان مدلوله نفس ثبوت الحدوث للعالم، لكان حيثما وجد قولنا: "العالم محدث" كان العالم محدثا؛ لا محالة؛ فوجب ألا يكون الكذب خبرا. ولما بطل ذلك: علمنا أن مدلول الصيغة هو الحكم بالنسبة، لا نفس النسبة. بقى هاهنا البحث عن ماهية الحكم؛ فإنه لا يجوز أن يكون المراد منه الاعتقاد؛ لأن الإنسان قد يخبر عما لا يعتقد فيه ألبتة؛ لأن من لا يعتقد أن زيدا في الدار، يمكنه، والحالة هذه، أن يقول: "زيد في الدار"، ولا يجوز أن يكون المراد منه الإرادة؛ لأن الإخبار قد يكون عن الواجب والممتنع، مع أن الإرادة يمتنع تعلقها به، فلم يبق إلا أن يكون الحكم الذهني أمرا مغايرا لجنس الاعتقادات والقصود، وذلك هو كلام النفس الذي لا يقول به أحد إلا أصحابنا. المسألة الرابعة إذا قال القائل: العالم حادث. قال القرافي: قوله: "لو كان مدلول قولنا: العالم حادث نفس ثبوت الحدوث للعالم لكان، حيث وجد هذا القول، وجد حدوث العالم، فوجب ألا يكون الكذب خبرا": قلنا: هذا البحث ينبني على أن الألفاظ هل وضعت للصور الذهنية، أو للحقائق الخارجية، فيكون قولنا: العالم حادث مدلوله الحكم؛ لأنه الذهني، وأما قولهم: "يلزم حدوث العالم":

قلنا: لا نسلم، وإنما يلزم ذلك أن لو كان اللفظ نفس مدلوله، فيلزم من وجوده وجوده، أو يكون غيره، لكن دلالته عليه قطعية، فلا ينفك المدلول عن وجود الدليل، أما إذا كان مدلوله الأمر الخارج الذي هو وقوع الحدوث للعالم، وكانت الدلالة ظنية، فيجوز أن يوجد الدليل حينئذ بدون مدلوله. وقوله: "لا يكون الكذب خبرا": الأحسن تغيير العبارة، فنقول: لا يكون الخبر كذبا؛ لأن الكذب إذا تعذر لملازمة الدليل المدلول لا يتصف الخبر أبدا إلا بالصدق، فلا يكون الخبر كذبا؛ وأما الكذب في نفسه يكون متعذرا مطلقا فلا حاجة إلى قولنا: لا يكون الكذب خبرا؛ لان ذلك يوهم أنه قد يكون غير خبر، والمتعدد في نفسه على هذا التقدير لا يوجد مع الخبر، ولا مع غيره. قوله: "من لا يعتقد أن زيدا في الدار يمكنه أن يقول: زيد في الدار": قلنا: هذا لا يتجه مع قولكم: "إن مدلول اللفظ هو الحكم الذهني": لأن هذا القائل لم يحكم في ذهنه بأن زيدا في الدار ألبتة، بل قال ذلك بلسانه، وهو يعتقد بقلبه خلافه، فيفيدكم هذا أن اللفظ غير الاعتقاد، ومقصودكم أن الحكم الذي هو الخبر النفسي أحد أنواع الكلام غير الاعتقاد، ومقصودكم أن الحكم الذي هو الخبر النفسي أحد أنواع الكلام غير الاعتقاد، وهذا لا يفيده، بل إذا قصد تحقيق الكلام النفسي بهذا الطريق، فيؤخذ ما تقدم أول الكتاب من حكم الذهن بأمر على أمر إما أن يكون جازما، أو لا يكون إلى آخر التقسيم المتقدم، فيظهر أن الحكم الذي هو الإسناد أعم من العلم والظن والجهل، وجميع تلك الأقسام؛ لأنه مورد التقسيم فيها، ويؤخذ أيضا من قولنا: لو كان الواحد نصف العشرة لكانت العشرة اثنين، فقد أسندنا نصف العشرة للواحد، والاثنين للعشرة، ونحن لا نعتقده، وكذلك في براهين الخلف، وهي إثبات الدعوى بإقامة الدليل على إبطال نقيضها، كقولنا: العالم حادث؛ لأنه لو كان قديما للزم كذا وكذا، فقد

"تنبيه" غير سراج الدين فقال: "لا يكون الخبر كذبا"، ولم يقل كما قال المصنف: "لا يكون الخبر كذبا"

أسندنا العدم إلى العالم، ونحن لا نعتقده، وهذا الإسناد هو الخبر الذي هو أحد أنواع الكلام، وإذا وجد النوع وجد الجنس قطعا بدون هذه الأمور من الاعتقاد وغيره، فثبت كلام النفس. قوله: "الأخبار قد تكون في الواجب، والممتنع دون الإرادة": تقريره: أن الإرادة شأنها ترجيح أحد طرفي الجائز، والواجب متعين الوقوع، والمستحيل متعين للانتفاء، فلا يتصور منهما الترجيح. "تنبيه" غير سراج الدين فقال: "لا يكون الخبر كذبا"، ولم يقل كما قال المصنف: "لا يكون الخبر كذبا". وقال تاج الدين: "وإلا لكان كل خبر صدقا"، ووافق "المنتخب" المصنف، فقال: "لا يكون الكذب خبرا"، وسكت التبريزي عن هذه المسألة بالكلية. ***

المسألة الخامسة قال الرازي: اتفق الأكثرون على أن الخبر لابد وأن يكون: إما صدقا، وإما كذبا؛ خلافا للجاحظ

المسألة الخامسة قال الرازي: اتفق الأكثرون على أن الخبر لابد وأن يكون: إما صدقا، وإما كذبا؛ خلافا للجاحظ. والحق أن المسألة لفظية؛ لأنا نعلم بالبديهة أن كل خبر أن يكون مطابقا للمخبر عنه، أو لا يكون: فإن أريد بالصدق: الخبر المطابق، كيف كان، وبالكذب: الخبر الغير المطابق، كيف كان، وجب القطع بأنه لا واسطة بين الصدق والكذب، وإن أريد بالصدق: ما يكون مطابقا، مع أن المخبر يكون عالما بأنه غير مطابق- كان هناك قسم ثالث بالضرورة: وهو الخبر الذي لا يعلم قائله أنه مطابق، أم لا. فثبت أن المسألة لفظية، فنقول: للجاحظ أن يحتج على قوله بالنص، والمعقول: أما النص: فقوله تعالى؛ حكاية عن الكفار: {أفترى على الله كذبا أم به جنة} [سبا: 8] جعلوا إخباره عن نبوة نفسه: إما كذبا، وإما جنونا، مع أنهم كانوا يعتقدون أنه ليس برسول الله على التقديرين؛ وهذا يقتضى أن يكون إخباره عن نبوة نفسه، حال جنونه مع انه ليس بنبي عندهم- لا يكون كذبا؛ لأن المجعول في مقابلة الكذب، لا يكون كذبا. وأما المعقول: فمن وجهين: الأول: أن من غلب على ظنه أن زيدا في الدار، فأخبر عن كونه في الدار، ثم ظهر أنه ما كان كذلك، لم يقل أحد: إنه كذب في هذا الخبر.

شرح القرافي: قوله: "إذا قال: زيد في الدار مع أنه ليس في الدار، وهو يظن أنه في الدار لم يقل أحد: إنه كذب"

الثاني: أن أكثر العمومات والمطلقات مخصصة ومقيدة، فلو كان الخبر الذي لا يطابق المخبر كذبا، لتطرق الكذب إلى كلام الشارع. واحتج الجمهور: باتفاق الأمة على تكذيب اليهود والنصارى في كفرياتهم، مع أنا نعلم أن فيهم من لا يعلم فساد تلك المذاهب. ويمكن أن يجاب عنه بان أدلة الإسلام، لما كانت جلية قوية، كان حالهم شبيها بحال من أخبر عن الشيء، مع العلم بفساده. تنبيه: واعلم أن الخبر: إنا أن يقطع بكونه صدقا، أو بكونه كذبا، أو لا يقطع بواحد منهما، فلا جرم رتبنا هذا الكتاب على قسمين: القسم الأول في الخبر المقطوع به، وهو: إما أن يكون صدقا، أو كذبا: أما الصدق: فطريق هذا القطع: إما أن يكون هو التواتر، أو غيره: ونحن نتكلم أولا في التواتر، ثم في سائر الطرق المفيدة للقطع، ثم في الطرق التي يظن أنها تفيد القطع، وإن لم تكن كذلك. المسألة الخامسة الخبر إما صدق وإما كذب قال القرافي: قوله: "إذا قال: زيد في الدار مع أنه ليس في الدار، وهو يظن أنه في الدار لم يقل أحد: إنه كذب": قلنا: لا نسلم، بل جمهور أهل السنة لا يشترطون في الكذب الشعور بعدم المطابقة، بل يكفى عندهم في الكذب عدم المطابقة؛ لقوله عليه السلام: "من كذب علي عامدا متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" فدل بمفهومه على انه يمكنه أن يكذب غير متعمد.

وقوله عليه السلام: "كفى بالرجل كذبا أن يحدث بكل ما يسمع"، فجعله- عليه السلام- كذبا مع أن الإنسان ما يحدث إلا بما يعتقده غالبا. وقال عليه السلام: "بئس مطية الرجل زعموا"، وما ذلك إلا لأن ذلك قد يكون كذبا. قوله: "أكثر العمومات مخصصة، والمطلقات مفيدة، فلو كان غير المطابق كذبا لكانت كذبا". قلنا: لا نسلم، بل نحن نعني بالكذب أن يستعمل اللفظ في معنى على سبيل الحقيقة، أو المجاز، ولا يكون اللفظ مطابقا للذي استعمل اللفظ فيه فمن قال: "زيد في الدار، وليس في الدار"، فهو كذب، ومن قال: "هذا أسد"، ويريد استعمال اللفظ في مجازه على سبيل المجاز والمبالغة، وذلك الرجل الذي استعمل اللفظ فيه في غاية الجبن، كان كذبا لعدم المطابقة، فالعام المخصوص لم يستعمل اللفظ فيه إلا في الخصوص، والخصوص واقع، فالمطابقة حاصلة، والمطلق لم يستعمل إلا في المقيد، وهو واقع كذلك، أو في المطلق، ثم ارتدت الزيادة عليهن فلفظ المطلق المراد به

واقع، ولفظ الزيادة التي هي التقييد مدلوله واقع أيضا، فلا كذب ألبتة لأجل المطابقة لما استعمل اللفظ فيه. قوله: "لما قويت أدلة الإسلام كان حال الكفار حال الكاذب": قلنا: يلزم أن يكون قولنا بتكذيبهم مجازا، والأصل عدم المجاز. ***

القسم الأول في الخبر المقطوع به

الباب الأول في التواتر قال الرازي: المسألة الأولى: التواتر في أصل اللغة عبارة عن مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما- مأخوذ من قوله تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترا} [المؤمنون: 44] أي: رسولا بعد رسول بفترة بينهما، فكذا التواتر في المخبرين: المراد به مجيئهم على غير الاتصال. وأما في اصطلاح العلماء، فهو خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم. القسم الأول في الخبر المقطوع به قال القرافي: قوله: التواتر أصله مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما، من قوله تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترى} [المؤمنون: 44] أي واحدا بعد واحد بينهما فترة: قلنا: قال الجواليقي في "إصلاح ما تفسده العامة": تقول العامة: تواترت كتبك على، أي: اتصلت من غير انقطاع، وإنما التواتر الشيء بعد الشيء بينهما انقطاع، وهو تفاعل من الوتر، وهو الفرد، أصله قوله تعالى: {رسلنا تترى} [المؤمنون: 44]، أي: بين الرسل فترات، وأصلها "وترى" أبدلت التاء من الواو. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "لا بأس بقضاء رمضان تثرى" أي: منقطعا.

وقال ابن برى: التواتر مجيء الشيء بعد الشيء بعضه في إثر بعض وترا وترا، فتواتر الصوم أن يصوم يوما واحدا، ويفطر يوما أو يومين، فيأتي به وترا وترا، وقوله تعالى: {أرسلنا رسلنا تترى} أي: بعضها في أثر بعض وترا وترا، ومعنى قول أبي هريرة في قضاء رمضان أي: وترا وترا. ***

المسألة الثانية قال الرازي: أكثر العلماء اتفقوا على أن أمثال هذه الأخبار قد تفيد العلم

المسألة الثانية قال الرازي: أكثر العلماء اتفقوا على أن أمثال هذه الأخبار قد تفيد العلم، سواء أكان إخبارا عن أمور جديدة في زماننا؛ كالإخبار عند البلدان الغائبة، أو عن أمور ماضية؛ كالإخبار عن وجود الأنبياء والملوك الذين كانوا في القرون الماضية. وحكى عن السمنية: أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة في زماننا لا يفيد العلم اليقيني ألبتة، بل الحاصل منه الظن الغالب القوي. ومنهم: من سلم أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة في زماننا يفيد العلم؛ لكن الخبر عن الأمور الماضية في القرون الحالية لا يفيد العلم ألبتة. لنا: أنا نجد أنفسنا جازمة ساكنة بوجود البلاد الغائبة، والأشخاص الماضية؛ جزما خاليا عن التردد، جاريا مجرى جزمنا بوجود المشاهدات، فيكون المنكر لها كالمنكر للمشاهدات؛ فلا يستحق المكالمة. فال الخصم: أنا لا ننكر وجود الظن الغالب القوي الذي لا يكاد يتميز عند الأكثرين عن اليقين التام، لكن الكلام في أنه، هل حصل اليقين أو لا؟! والذي يدل على انه الحاصل ليس بيقين وجهان. الأول: أنا إذا عرضنا على عقولنا أن الواحد نصف الاثنين، وعرضنا على عقولنا وجود جالينوس وفلان وفلان، عند هذه الأخبار المتواترة، وجدنا الجزم الأول أقوى وآكد من الجزم الثاني، وقيام التفاوت يدل على احتمال تطرق

النقيض إلى الاعتقاد الثاني، وقيام هذا الاحتمال فيه، كيف كان، يخرجه عن كونه يقينا. الثاني: أن جزمي بوجود هذه المخبرات ليس أقوى من جزمي بأن ولدي الذي أراه في هذه الساعة هو الذي رأيته بالأمس، ثم هذا الجزم ليس بيقين؛ لأنه يجوز أن يوجد شخص مساو لولدي، في الشخص والصورة من كل الوجوه؛ إما لأن القادر المختار خلقه، أو لأن شيئا من التشكلات الفلكية يقتضي وجوده عند منكري القادر؛ فثبت أن هذا الجزم ليس بيقين، بل ظن، فكذلك الجزم الحاصل عقيب خبر التواتر. فإن قلت: لو جوزنا أن يكون هذا الشخص الذي أراه الآن غير الذي رأيته بالأمس أدى ذلك إلى الشك في المشاهدات. قوله: (لعل القادر خلق مثله، أو الشكل الغريب الفلكي اقتضاه): قلنا: بل هاهنا قام برهان مانع منه؛ وهو أن الله تعالى لو فعل ذلك، لأفضى إلى اشتباه الشخص؛ وذلك تلبيس، وهو على الله تعالى محال. قلنا: لا نسلم أن تجويزه يفضي إلى الشك في المشاهدات؛ لأن المشاهد هو وجود هذا الذي أراه الآن، فإما أن هذا هو الذي رأيته بالأمس، فهو غير مشاهد؛ فلا يلزم من تطرق الشك إلى هذا المعنى تطرقه إلى المشاهدات. وأما البرهان الذي ذكره على امتناع هذا الاحتمال: فلا يدفع الإلزام؛ لأن هذا الجزم لو كان بناء على ذلك البرهان، لكان الجاهل بذلك البرهان خالياً عن

شرح القرافي: قوله: (قيام التفاوت بين الجزمين يدل على احتمال تطرق النقيض)

ذلك الجزم؛ لكن العوام لا يعرفون هذا البرهان؛ فيجب ألا يحصل لهم ذلك الجزم. والجواب: أن هذا تشكيك في الضروريات، فلا يستحق الجواب، كما أن شبه منكري المشاهدات لا تستحق الجواب؛ لمثل هذا السبب. المسألة الثانية (التواتر يفيد العلم) قال القرافي: قوله: (قيام التفاوت بين الجزمين يدل على احتمال تطرق النقيض): قلنا: نحن نجد بالضرورة التفاوت بين الجزم يكون الواحد نصف الاثنين، وبين المشاهدات وجميع الحسيات، ومع ذلك فاليقين حاصل في الكل، فعلمنا أن التفاوت لا يخل باليقين، وهي مسألة خلاف بين العلماء: هل العلوم تقبل التفاوت أم لا؟ وكذلك قال أهل الحق: رؤية الله- تعالى- عبارة عن خلق علم به- تعالى- هو أخلق من مطلق العلم، نسبته إليه كنسبة إدراك الحس إلى الحسيات، وكذلك في سماع كلامه النفساني سبحانه وتعالى، وهذه عقائد لا تتأتى على القول بتفاوت العلوم، ووقعت هذه المسألة من أفضل الدين الخونجي، والشيخ عز الدين بن عبد السلام، واختار الشيخ عز الدين عدم التفاوت، وأفضل الدين التفاوت، قوله: (يجوز أن الله- تعالى- خلق مثل ولدي من كل الوجوه، فلا يحصل الجزم): قلنا: الاحتمالات العقلية لا تخل بالعلوم العادية، والعلوم العادية يقين

(تنبيه) قال سراج الدين على قوله: (كلامهم لا يستحق الجواب): بل جواب الأمل أن اليقينين يتفاوتان، وجواب الثاني أن ذلك الاحتمال يقين الارتفاع

مقطوع بها، وكذلك العلوم الحاصلة قرائن الأحوال قطعية ضرورية، ولا يخل بها الاحتمالات العقلية، وجزمنا بأن هذا النسخ الذي رأيناه هو الذي كنا نعرفه من العلوم العادية، فلا يقدح فيه الاحتمال العقلي. (تنبيه) قال سراج الدين على قوله: (كلامهم لا يستحق الجواب): بل جواب الأمل أن اليقينين يتفاوتان، وجواب الثاني أن ذلك الاحتمال يقين الارتفاع. * * *

المسألة الثالثة قال الرازي: العلم الحاصل عقيب خبر التواتر ضروري؛ وهو قول الجمهور

المسألة الثالثة قال الرازي: العلم الحاصل عقيب خبر التواتر ضروري؛ وهو قول الجمهور؛ خلافا لأبي الحسين البصري، والكعبي من المعتزلة، ولإمام الحرمين والغزالي منا. وأما الشريف المرتضى من الشيعة، فإنه كان متوقفا فيه. لنا: لو كان ذلك العلم نظريا، لما حصل لمن لا يكون من أهل النظر؛ كالصبيان والبله؛ ولما حصل ذلك لهم، علمنا أنه ليس بنظري. اعترض أبو الحسن والمرتضى على هذا الوجه بكلام واحد، وهو أن النظر في ذلك ليس إلا ترتيب العلوم بأحوال المخبرين، وهذا القدر حاصل للعامة والمراهقين؛ لأنه قد حصل في عقولهم علوم كثيرة، وهم يستنتجون من تركيبها علوما أخر. سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك؛ لكن معنا ما يبطله من ثلاثة أوجه: الأول: ما ذكره أبو الحسين البصري، وهو أن الاستدلال عبارة عن ترتيب علوم، أو ظنون يتوصل بها إلى علوم، أو ظنون، وكل اعتقاد توقف وجوده على ترتيب اعتقادات أخر، فهو استدلالي. والعلم الواقع بالتواتر، هذا سبيله؛ لأنا لا نعلم وجود ما أخبرنا أهل التواتر عنه، إلا إذا علمنا أنه لا داعي للمخبرين إلى الكذب، ولا لبس في المخبر عنه، وأنه متى كان كذلك، استحال كون الخبر كذبا، وإذا بطل كونه كذبا، ثبت

شرح القرافي: شبهة النظري أن الناس إذا كان في القضية أهوية، تطرق إليهم احتمال الكذب

كونه صدقا؛ فالسامع لخبر التواتر، ما لم يتقرر عنده كل واحدة من هذه المقدمات، لم يحصل له العلم، فكان ذلك العلم استدلاليا. الثاني: أن العلم الحاصل بالخبر المتواتر، لو كان ضروريا لكنا مضطرين إليه؛ بحيث لا يمكننا الانفكاك عنه؛ ولو كان كذلك، لعلمنا بالضرورة كوننا عالمين؛ على سبيل الاضطرار، بذلك، وكان ينبغي أن يعلم بالضرورة كل عاقل كون هذا العلم ضروريا، كما في سائر العلوم الضرورية؛ ولما لم يكن كذلك، علمنا أن هذا العلم ليس بضروري. الثالث: ذكره الكعبي، وهو أنه لو جاز أن يعلم ما غاب عن الحس بالضرورة، لجاز أن يعلم المحسوس بالاستدلال، ولما بطل هذا، بطل الأول. والجواب: قوله: (ذلك الاستدلال سهل يتأتى من كل أحد): قلنا: سنبين، أن شاء الله تعالى، في فصل مفرد: أن ذلك الاستدلال غامض جدا، وهو الجواب بعينه عن المعارضة الأولى. وعن الثاني: أن كون العلم ضروريا كيفية للعلم، ويجوز أن يكون أصل الشيء معلوما، وتكون كيفيته مجهولة. وعن الثالث: أنه لابد من الجامع. المسألة الثالثة (علم التواتر ضروري أو نظري)؟ قال القرافي: شبهة النظري أن الناس إذا كان في القضية أهوية، تطرق إليهم احتمال الكذب، فلابد أن يعلم سلامتهم عن الهوى، وذلك إنما يعلم بعد البحث؛ فيكون العلم به نظريا.

(سؤال) قال النقشواني: دعوى المنصف أنه ضروري صحيحة، ودليله ضعيف

قوله: (لابد أن يعلم أن المخبر عنه لا لبس فيه): تقريره: أن التواتر لا يفيد العم إلا في الأمور الحسية، وهو مراده أن المخبر عنه حسي؛ لأن العقلاء لو أخبر منهم جمع عظيم عن حدث العالم، أو عن حساب، أو هندسة، جوزنا عليهم الغلط حتى يظهر ذلك الدليل. (سؤال) قال النقشواني: دعوى المنصف أنه ضروري صحيحة، ودليله ضعيف؛ فإنه إن ادعى حصوله العلم بالتواتر للصبيان حالة طفولتهم منعناه، أو حالة كونهم مراهقين، فتلك الحالة فيها النظر والتمييز، وتحصيل العلوم بالفكر، وكذلك يقول في (البله) باعتبار الخالتين، وصعوبة الاستدلال في شيء معين لا تمنع باب الاستدلال؛ فإن الإنسان قد يستدل في العرفيات، والحسيات، والمتخيلات، وأمر المعاش، دون العقليات والإلهيات، بل ينبغي أن نقول: نحن نجد العلم يهجم على نفس السامع عقيب خبر التواتر، من غير أن يخطر بباله استدلال ألبتة، فدل على أنه ليس استدلاليا. (الفرع) قال سيف الدين: إذا قلنا: يفيد العلم، فاتفقت الأشاعرة والمعتزلة أنه لا يؤكد، خلافا لبعض الناس. لنا: أنه مخلوق لله- تعالى- كسائر المخلوقات، احتجوا بأنه لو كان مخلوقا لله- تعالى- لجاز ألا يخلقه الله تعالى، قلنا: وإنه كذلك، وإنما وجوبه عادي عند الإخبارات لا عقلي. * * *

المسألة الرابعة قال الرازي: استدل أبو الحسن البصري على أن خبر أهل التواتر صدق

المسألة الرابعة قال الرازي: استدل أبو الحسن البصري على أن خبر أهل التواتر صدق؛ وقال: لو كان كذبا، لكان المخبرون: إما أن يكونوا ذكروه مع علمهم بكونه كذبا، أو لا، مع علمهم بكونه كذبا، والقسمان باطلان، فبطل كونه كذبا، فتعين كونه صدقا، فكان مفيدا للعلم. إنما قلنا: إنه لا يجوز أن يذكره المخبرون، مع علمهم بكونه كذبا؛ لأنهم على هذا التقدير إما أن يكونوا قصدوا فعل الكذب؛ لغرض ومرجح، أو لا لغرض ومرجح: والثاني محال؛ أما أولا: فلأن الفعل لا يحصل في وقت دون وقت، إلا لمرجح؛ وإلا لزم ترجح أحد الطرفين على الآخر من غير مرجح، وهو محال. وأما ثانيا: فلأن كونه كذبا جهة قبح؛ وجهة القبح صارفة عن الفعل، ومع حصول الصارف القوي عن الفعل يستحيل حصول الفعل، إلا لداع أقوى من ذلك الصارف. وأما القسم الأول: وهو أنهم قصدوا فعل الكذب لغرض، فذلك الغرض إما نفس كونه كذبا، أو شيء آخر: والأول: باطل؛ لأن كونه كذبا جهة صرف، لا جهة دعاء. والثاني: باطل؛ لأن ذلك الغرض: إما أن يكون دينيا، أو دنيويا. وعلى التقديرين: فإما أن يكون رغبة، أو رهبة.

وعلى التقديرات: فإما أن يقال: كلهم كذبوا لداع واحد من هذه الأقسام، أو يقال: فعله بعضهم؛ لبعض هذه الدواعي، وبعضهم للبعض الآخر. وعلى كل التقديرات: فإما أن تحصل تلك الدواعي بالتراسل، أو لا بالتراسل، والأقسام كلها باطلة. أما أنه لا يجوز أن يكون للدين: فلأن قبح الكذب متفق عليه، سواء كان ذلك بالعقل، أو بالشرع، فكان ذلك صارفا دينيا، لا داعيا دينيا. وأما الرغبة الدنيوية: فقد تكون رجاء عوض على الكذب، أو لأجل أن يسمع غيره شيئا غريبا، وإن كان لا أصل له. والأول باطل: لأن كثيرا من الناس لا يرضى بالعوض الكثير في مقابلة الكذب، وإن احتاج إليه، وكذا القول في القسم الثاني. وأما الرهبة: فهي لا تكون إلا من السلطان، لكن السلطان لا يقدر على أن يجمع الجمع العظيم على الكذب؛ ألا ترى أن السلطان لا يمكنه ذلك في جميع أهل بغداد؛ لأنه لا يعلم كل واحد منهم؛ حتى يجعله مضطرا إلى ذلك الكذب، ولأن السلطان كثيرا ما يخوف الناس عن التحدث بكلام، مع أنهم، آخر الأمر، يقولونه؛ حتى يصير مشهورا بينهم. ولأنا نعلم في كثير من الأمور: أنه لا غرض للسلطان في أن يخبر عنه بالكذب، ولا يجوز أيضا أن يقال: (الجماعة العظيمة كذبوا؛ بعضهم للرغبة، وبعضهم للرهبة، وبعضهم للتدين) لأن كلامنا في جماعة عظيمة، أبعاضها جماعات عظيمة يمتنع تساوي أجزائها في قوة هذه الدواعي.

وأما القسم الثاني: وهو أنهم كذبوا، مع أنهم لم يعلموا كونهم كاذبين، فذاك لا يمكن، إلا إذا اشتبه عليهم الشيء بغيره؛ والاشتباه في الضروريات باطل؛ وشرط خبر التواتر أن يكون واقعا عما علم وجوده بالضرورة؛ وهذا إذا أخبر المخبرون عن المشاهدة. وأما عن توسط بين من أخبرنا، وبين من شاهد ذلك- واسطة واحدة، أو وسائط- فإنه لا يحصل العلم بخبرهم، إلا إذا علمنا كون الوسائط متصفين بالصفات المعتبرة في أهل التواتر؛ وذلك إنما يعلم بطريقين: الأول: أن يكون أهل التواتر الذين رأيناهم أخبروا أن أولئك الذين مضوا كانوا مستجمعين للشرائط المعتبرة في أهل التواتر. والثاني: أن كل ما ظهر بعد خفاء، وقوي بعد ضعف، فلابد، وأن يشتهر فيما بين الناس حدوثه، ووقت حدوثه؛ فإن مقالة الجهمية والكرامية لما حدثت بعد أن لم تكن، لا جرم اشتهر فيما بين الناس وقت حدوثها؛ فلما لم يظهر شيء من ذلك، علمنا أن الأمر كان كذلك في كل الأزمنة. هذا تمام الاستدلال، والاعتراض عليه أن يقال لأبي الحسين: إما أن يكون غرضك من هذا الاستدلال ظنا قويا بكون الخبر صدقا، فذلك مسلم، أو اليقين، فلا نسلم أن ما ذكرته يفيد اليقين؛ لأن التقسيم المفضي إلى اليقين يجب أن يكون دائرا بين النفي والإثبات، ثم نبين فساد كل قسم سوى المطلوب بدليل قاطع، وهذا الذي ذكره أبو الحسين ليس كذلك. فلنبين هذه الأشياء؛ فنقول: لم لا يجوز أن يقال: كذبوا، لا لغرض؟ قوله: (الفعل بدون المرجح محال):

قلنا: هذا لا يتم على مذهبك؛ لأنه يقتضي الجبر، وأنت لا تقول به. بيان أنه يقتضي الجبر: أن قادرية العبد صالحة للفعل والترك؛ وإلا لزم الجبر، فلو لم يترجح أحد الطرفين، إلا لمرجح، فذاك المرجح: إن كان من فعل العبد، عاد الطلب من أنه، لم فعل مرجح أحد الطرفين دون الآخر؟. وإن كان ذلك؛ لمرجح آخر من فعله، لزم التسلسل، أو ينتهي إلى مرجح ليس من فعله، فعند حصول ذلك المرجح الذي ليس من فعله: إما أن يكون ترتب أثره عليه واجبا، أو لا يكون واجبا: فإن كان الأول، لزم الجبر، وإن كان الثاني، فهو باطل، وبتقدير صحته: فالإلزام عليك وارد. أما أنه باطل: فلأنه إذا لم يجب ترتب أثره عليه، جاز حينئذ ألا يترتب عليه في بعض الأوقات ذلك الأثر، وجاز في وقت آخر أن يترتب؛ إذ لو لم يجز ذلك أصلا، لما كان ذلك مرجحا تماما، وكلامنا في المرجح التام، وإذا كان كذلك، فترتب الأثر عليه في أحد الوقتين دون الوقت الآخر: إما أن يكون لمزية يختص بها ذلك الوقت، دون الوقت الثاني، وإما ألا يكون كذلك: فإن كان الأول: فقبل حصول تلك المزية: ما كان المرجح التام حاصلا، لكنا قد فرضناه حاصلا، هذا خلف، ثم إننا ننقل الكلام إلى تلك المزية، فنبين أنها من فعل الله، عز وجل، وبعد حصولها، فإن وجب ترتب الأثر عليها، لزم الجبر. وإن لم يجب، افتقر إلى مزية أخرى، لا إلى نهاية؛ وهو محال. وأما إن لم يكن ترتب الأثر على ذلك المرجح في ذلك الوقت لأجل حصول مزية في ذلك الوقت، دون سائر الأوقات- كانت نسبة المزية إلى زماني

ترتب الأثر عليه، ولا ترتبه عليه- على السواء؛ ولا مرجح، ولا مخصص ألبتة؛ فيكون اختصاص ذلك الوقت بترتب ذلك الأثر على ذلك المرجح، دون الوقت الثاني- يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن المساوي على الآخر، من غير مرجح، وهو محال. وقد بان بهذا أنه ما لم يحصل للعبد مرجح من قبل الغير، يمتنع أن يكون فاعلا، وإذا حصل المرجح، وجب أن يكون فاعلا، وهذا هو الجبر، وأما بتقدير ألا يجب ذلك، فالإشكال وارد؛ لأن عند حصول مرجح الوجود، إذا جاز ألا يوجد الوجود، كان اللاوجود واقعا، لا عن مرجح أصلا، وإذا جوزت ذلك، بطل قولك: (الفعل لا يقع إلا عن الداعي) فلم لا يجوز إلا في أهل التواتر أن يكذبوا، لا لداع. وأما قوله ثانيا: (كونه كذبا جهة صرف، لا جهة دعاء): قلنا: هذا بناء على أن الكذب قبيح؛ لكونه كذبا، وقد مر الكلام في إبطاله في أول الكتاب. سلمناه؛ لكن عند حصول الصارف، لو وجب الترك، وأنت لا تقول به. وإن لم يجب: فقد جوزت عند حصول الصارف ألا يقع العدم، وجواز ألا يقع العدم يقتضي جوازه ألا يقع الوجود، فقد جوزت مع الصارف عن الفعل أن يوجد الفعل؛ فلم يلزم من كون الكذب جهة صرف امتناع أن يوجد الكذب؟!.

سلمنا أنه لابد من داع؛ فلم لا يجوز أن يوجد فيه شهوة متعلقة بالكذب؛ لكونه كذبا؟ ومتى كان كذلك أقدم العاقل على الكذب، لا لغرض آخر سوى كونه كذبا. فإن قلت: إنه من المحال: أن يشتهي العاقل الكذب، لمجرد كونه كذبا. وإن سلمنا جوازه، لكان في حق الواحد والاثنين، أما في حق الجمع العظيم فمحال، وهذا كما أنه جاز على كل واحد منهم وحده أن يأكل، في الساعة المعينة، من اليوم المعين، طعاما واحدا، لكن لا يجوز اتفاق الكل عليه. قلت: الجواب عن الأول: أنا لا نسلم امتناع ذلك، فما الدليل عليه، وكيف؛ ونرى جمعا اعتادوا الكذب؛ بحيث لا يصبرون عنه، وإن كانوا يعلمون أن ذلك يضرهم، عاجلا أو آجلا؟، وإذا كان، كذلك علمنا أن دعوى الضرورة باطلة. وعن الثاني: نسلم أن استقراء العادة يفيد ظنا قويا بأن الخلق العظيم لا يتفقون على أكل طعام معين، في زمان معين؛ لكن لا نسلم حصول اليقين التام بذلك، كيف، وذلك جائز على كل واحد منهم؟ وصدوره من كل واحد منهم لا يمنع صدوره عن الباقي، فيكون صدوره عن كلهم كصدوره عن كل واحد منهم، ومع هذه الحجة اليقينية على الجواز؛ كيف تدعى ضرورة الامتناع؟ سلمنا أنه لابد من غرض سوى كونه كذبا؛ فلم قلت: إن ذلك الغرض إما أن يكون دينيا أو دنيويا، أو رغبة أو رهبة، وما الدليل القاطع على الحصر؟ سلمناه؛ فلم لا يجوز أن يكون دينيا؟ قوله: (حرمة الكذب متفق عليها):

قلنا: مطلقا؟ لا نسلم؛ فإن كثيرا من الناس يعتقد أن الكذب المفضي إلى حصول مصلحة في الدين جائز؛ ولذلك نرى جمعا من الزهاد وضعوا أشياء كثيرة من الأحاديث في فضائل الأوقات، وزعموا: أن غرضهم منه حمل الناس على العبادات؛ وإذا كان كذلك؛ فلعلهم اتفقوا على الكذب؛ لما أنهم اعتقدوا فيه حصول مصلحة دينية، وإن كان الأمر بخلاف ما تخيلوه. سلمنا أنه ليس الغرض دينيا؛ فلم لا يجوز أن يكون لرغبة دنيوية؟ قوله: (الرغبة: إما أخذ المال، أو إسماع الغير كلاما غريبا): قلنا: أين الدليل على الحصر؟ ثم أين الدليل القاطع على فساد هذين القسمين؟. قوله: (الجماعات العظيمة لا يشتركون في الرغبة إلى الكذب؛ لأجل هذين الغرضين): قلنا: أن ادعيت الظن القوي، فلا نزاع؛ وإن ادعيت الجزم المانع من النقيض، فما الدليل عليه؟ فإنه إذا جاز ذلك في العشرة، أو المائة، ولم يكن ثبوت هذا الحكم للبعض مانعا من ثبوته للباقي؛ فلم قلت: إنه يمتنع كون الكل كذلك؟ والذي يؤكده: أنا لو قدرنا أن أهل بلدة علموا أن أهل سائر البلاد، لو عرفوا ما في بلدهم من الوباء العام، لتركوا الذهاب إلى بلدهم، ولو تركوا ذلك، لاختلت المعيشة في تلك البلدة، وقدرنا أن أهل تلك البلدة كانوا علماء حكماء، جاز في مثل هذه الصورة أن يتطابقوا على الكذب، وإن كانوا كثيرين جدا؛ فثبت بهذا إمكان اتفاق الخلق العظيم على الكذب؛ لأجل الرغبة، سلمنا ذلك، فلم لا يجوز أن يكون للرهبة؟

قوله: (السلطان لا يمكنه إسكات الكل): قلنا: إن ادعيت الظن القوي، فمسلم، وإن ادعيت اليقين، فما الدليل عليه؟ فإنه إذا جاز إسكات الألف، والألفين رهبة؛ فلم لا يجوز إسكات الكل، وما الضابط فيما يجوز، وفيما لا يجوز؟ فإن قلت: أجد العلم ضروري بذلك من غير دلالة. قلنا: هذا الاعتقاد ليس أقوى من الاعتقاد الحاصل بوجود محمد وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام؛ فلم لا تدعون الضرورة في ذلك؛ حتى تتخلصوا عن مثل هذه الدلالات الضعيفة؟!. سلمنا ذلك؛ فلم لا يجوز أن يقال: إنهم كذبوا؛ لدواع مختلفة، بعضهم للرغبة، وبعضهم للرهبة، وبعضهم بالمراسلة، وبعضهم بالمشافهة؟. قوله: (الكلام في جماعة عظيمة، بعضها جماعات عظيمة): قلنا: إما أن يكون من شرط أهل التواتر: أن يكون أبعاضهم بالغين حد التواتر، أو ليس من شرطهم ذلك: والأول باطل؛ وإلا لزم أن يكون كل واحد من أبعاض تلك الأبعاض كذلك؛ ولزم التسلسل. والثاني حق؛ ونحن نفرض الكلام فيما إذا كان الأمر كذلك؛ وحينئذ يبطل ما ذكروه. سلمنا: أنهم ما كذبوا عمدا؛ فلم لا يجوز أن يقال: كذبوا سهوا؛ لأن الأمر اشتبه عليهم، والاشتباه حاصل في المحسوسات؛ بدليل العقل والنقل:

أما العقل: فمن وجهين: الأول: أن الله تعالى قادر على أن يخلق شخصا آخر مثل زيد في شكله، وفي تخطيطه، وبهذا التقدير لا يبقي اعتماد على التواتر؛ لجواز أن يكونوا قد رأوا مثل زيد، فظنوه زيدا. ومما يؤكد ذلك: أن الأجسام المعدنية والنباتية قد تتشابه؛ بحيث يعسر تمييز بعضها عن بعض، وكذلك الحيوانات؛ لاسيما البرية والجبلية قد تبلغ مشابهة بعضها بعضا إلى حد يعسر التمييز. وإذا كان كذلك؛ فلم لا يجوز مثله في الناس؟ غايته أنه نادر، ولكن الندرة لا تمنع الاحتمال. فإن قلت: إن حكمته تعالى تمنعه من خلق شخص مثل زيد؛ لما فيه من التلبيس. قلت: قد سبق جوابه. الثاني: أن غلط الناظر أمر مشهور؛ فإن الإنسان قد يرى المتحرك ساكنا وبالعكس؛ ودلك يقتضي حصول اللبس في الحسيات. وأما النقل: فمن وجهين: الأول: أن المسيح، عليه السلام، شبه بغيره. فإن قلت: هذا لا يلزم؛ من وجوه: أحدها: أن ذلك كان في زمان عيسى، عليه السلام، وخرق العادة جائز في زمان الأنبياء، دون سائر الأزمنة.

وثانيها: أن المطلوب تتغير خلقته وشكله؛ يكون الاشتباه أكثر. وأما المباشرون لذلك العمل، فكانوا قليلين؛ فيجوز عليهم الكذب؛ عمدا. وثالثها: أنهم نظروا إليه من بعيد؛ وذلك مظنة الاشتباه. قلت: الجواب عن الأول: أنه لو جاز ذلك في زمان الأنبياء، لجاز مثله في سائر أزمنة الأنبياء؛ وحينئذ لا يمكننا القطع بأن الذي أوجب الصلوات الخمس هو المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لجواز أن يكون شخصا آخر شبه به. وأيضا: فلم لا يجوز انخراق العادات في هذا الزمان؛ ككرامات الأولياء؟ فإن منعوها قلنا: هذا لا يستقيم على قول أبي الحسين؛ فإنه لا يمنعها؛ ولأن بتقدير امتناعها، فليس ذلك الامتناع معلوما إلا بالبرهان، فقبل العلم بذلك البرهان، يكون التجويز قائما، والعلم بصحة خبر التواتر موقوف على فساد هذا الاحتمال؛ فوجب ألا يحصل العلم بخبر التواتر، لمن لم يعرف بالدليل امتناع الكرامات. وعن الثاني: أن التغيير إنما يكون بعد الصلب والموت؛ فأما حال الصلب، فلا، وعندكم: أن الاشتباه حصل حال الصلب؛ لأنهم لو ميزوا بين ذلك الشخص، وبين المسيح، عليه السلام، لما صلبوا ذلك الشخص. وعن الثالث: أن الذين مارسوا الصلب، كانوا قريبين منه، وناظرين إليه، ولأن النصارى يروون بالتواتر أنه بقى بعد الصلب، وقبل الموت مدة طويلة: بحيث رآه الجمع العظيم في بياض النهار؛ وذلك يبطل قولكم. الوجه الثاني: روي أن جبريل، عليه السلام، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، وأن الملائكة يوم بدر تشكلوا بأشكال الآدميين.

الوجه الثالث: أن الإنسان ربما يتشبح له عند الخوف الشديد، أو الغضب الشديد، أو الفكر الشديد صورة لا وجود لها في الخارج، وكل ذلك مما يؤكد احتمال الاشتباه. سلمنا صحة دليلكم في التواتر عن الأمور الموجودة؛ فلم قلتم: إن خبر التواتر عن الأمور الماضية في القرون الحالية قد وجدت هذه الشروط في كل الطبقات الماضية؟ قوله في الوجه الأول: (أهل التواتر في زماننا قد أخبرونا بأن أولئك الذين مضوا كانوا موصوفين بصفات أهل التواتر): قلنا: هذا بهت صريح؛ لأن الذين أخبرونا ما أخبرنا كل واحد منهم: أن الذين أخبروه كانوا بصفة أهل التواتر، وأن الذين أخبروا كل واحد ممن أخبره كانوا كذلك، بل الذين يمكن ادعاؤه عليهم: أنهم سمعوا هذا الخبر من أناس كثيرين، فأما أن يدعي عليهم ما ذكرتموه، فبهت؛ لأن أكثر الفقهاء والنحاة لا يتصورون هذه الدعوى على وجهها؛ فضلا عن العوام؛ فضلا عن أن يقال: (إنهم علموا ذلك بالضرورة). قوله: (لو كان حادثا، لظهر زمان حدوثه): قلنا: لا نسلم أن كل مقالة ظهرت بعد الخفاء فلابد وأن يشتهر فيما بين الخلق حدوث ظهورها، ووقت ظهورها؛ لجواز أن يضع الرجل الواحد مقالة، ثم إنه يذكرها لجماعة قليلين، ثم كل واحد من أولئك يذكر ذلك الخبر لجماعة أخرى، من غير أن يسنده إلى القائل الأول؛ إلى أن يشتهر ذلك الخبر

جدا، مع أن كل واحد منهم لا يعرف حدوث تلك المقالة، ولا زمان حدوثها، وبهذا الطريق تحدث الأراجيف بين الناس. وبالجملة: فعليهم إقامة الدلالة على فساد هذا الاحتمال. ثم الذي يفيد القطع بصحة ما ذكرنا: أن الوقائع الكبار التي وقعت لعظماء الملوك الذين كانوا قبل الإسلام، بل كيفية وقائع نوح، وإدريس، وموسى، وعيسى، عليهم السلام لم ينقل شيء منها إلينا نقل الآحاد؛ فضلا عن التواتر، مع كونها من الأمور العظام، فعلمنا أن وصول الأخبار إلينا غير واجب. فإن قلت: (ذلك):؛ لتطاول مدتها، أو لعدم الداعي إلى نقلها). قلت: فلابد من ضبط طول المدة وقصرها. وأيضا: فيلزم ألا يكون خبر التواتر بوجود نوح وإبراهيم وإدريس وغيرهم مفيدا للعلم؛ لأنه لا يفيد ما لم يثبت استواء الطرفين والواسطة في نقل الرواة، وذلك لا يثبت إلا بأنه لو كان موضوعا، لاشتهر الواضع، وزمان الوضع، فإذا لم يجب ذلك عند تطاول المدة، لم يفد ذلك الخبر العلم. سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن خبر التواتر يفيد العلم؛ لكن معنا ما يبطله من وجوه: الأول: لو أفاد خبر التواتر العلم، لأفاد إما علما ضروريا أو نظريا؛ والقسمان باطلان، فالقول بالإفادة باطل. إنما قلنا: إنه لا يفيد علما ضروريا؛ لأن العلم الضروري هو الذي لا يلزم من وقوع الشك في غيره من القضايا وقوعه فيه؛ وهاهنا يلزم من وقوع الشك

في غير هذه القضية وقوعه فيها؛ لأنا لو جوزنا أن يكذبوا، لا لغرض، أو لغرض؛ من رهبة أو رغبة، أو لوقوع التباس؛ فإن مع استحضار الشك في هذه المقدمات، لم يمكن الجزم بأن الأمر كما أخبروا عنه. وإذا كان كذلك، لم يكن هذا ضروريا، ولا جائز أن يكون نظريا؛ لأن النظر في الدليل لا يتأتى للصبيان والمجانين؛ فكان يجب ألا يحصل لهم العلم، لكن الاعتقاد الذي في هذا الباب للعقلاء لا يزيد في القوة على قوة اعتقاد الصبيان والبله؛ فإذا لم يكن اعتقادهم علما، فكذا اعتقاد العقلاء. الثاني: أن كون التواتر مفيدا للعلم يتوقف على عدم تطرق اللبس إلى الخبر؛ على ما مر بيانه؛ لكن اللبس يتطرق إليه؛ على ما مر؛ فوجب ألا يفيد العلم. الثالث: لو حصل العلم عقيب، لتواتر لحصل: إما مع الجواز، أو مع الوجوب: فإن حصل، مع جواز ألا يحصل، امتنع القطع بحصوله؛ فلا يمكن القطع بأن التواتر يفيد العلم؛ لا محالة، بل يجري حصول العلم عقيب خبر التواتر مجرى حصوله عند سماع صرير الباب، ونعيق الغراب، وإن حصل مع الوجوب، فالمستلزم: إما قول واحد، أو قول المجموع: الأول باطل، أما أولا: فلأنا نعلم بالضرورة أن قول الواحد لا يفيد العلم. وأما ثانيا: فلأن قول كل واحد منهم، إذا كان مستقلا بالاستلزام، فإن وجدت الأقوال دفعة، لزم أن يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة بالتأثير؛ وهو محال.

وإن وجدت على التعاقب، فإذا حصل الأثر بالسابق، استحال حصول ذلك الأثر بعينه باللاحق؛ لامتناع إيجاد الموجود، واستحال أيضا حصول مثله باللاحق؛ لاستحالة الجمع بين المثلين؛ فيلزم أن يبقى اللاحق خاليا عن التأثير، فتكون العلة القطعية منفكة عن المعلول؛ وهو محال. ولا جائز أن يكون المؤثر قول المجموع؛ أما أولا: فلأن قول كل واحد: إن بقى عند الاجتماع، كما كان عند الانفراد، ولم يحدث عند الاجتماع أمر زائد ألبتة- فكما لم يكن الاستلزام حاصلا عن الانفراد- وجب ألا يحصل عند الاجتماع. وإن حدث أمر ما؛ إما بالزوال، أو بالحدوث، فإن كان المقتضى لذلك الحدوث قول كل واحد، عاد المحذور المذكور. وإن كان المجموع: عاد التقسيم المذكور، وإن كان لحدوث أمر آخر، لزم التسلسل. وأما ثانيا: وهو أن المستلزمية نقيض اللامستلزمية التي هي أمر عدمي، فكانت المستلزمية أمرا ثبوتيا؛ فإذا كان الموصوف بها هو المجموع، لزم حلول الصفة الواحدة في الأشياء الكثيرة؛ وهو محال. وأما ثالثا: فلأن التواتر في الأكثر: إنما يكون بورود الخبر عقيب الخبر، وإذا كان كذلك، كان عند حصول كل واحد منهما حال وجود الثاني معدوما؛ فلا يكون للمجموع وجود في زمان أصلا، فيستحيل أن يكون المؤثر هو المجموع؛ لأن الشيء ما لم يوجد في نفسه، لا يقتضي وجود غيره.

وأما رابعا: وهو الكلام المشهور في هذه المسألة: أن قول كل واحد، لما لم يكن مؤثرا، وجب أن يكون قول الكل غير مؤثر؛ كما أن كل واحد من الزنج، لما لم يكن أبيض، استحال كون الكل أبيض. الوجه الرابع: في استحالة أن يكون خبر التواتر مستلزما للعلم؛ لأن المستلزم إما آحاد الحروف، وهو باطل، أو المجموع، وهو محال؛ لأن المجموع لا وجود له، وما لا وجود له، استحال أن يستلزم شيئا آخر. فإن قلت: الموجب هو الحرف الأخير؛ بشرط وجود سائر الحروف قبله، أو بشرط مسبوقية الحرف الأخير بسائر الحروف؟. قلت: الشرط لابد من حصوله حال حصول الشرط، والحروف السابقة غير حاصلة حال حصول الحرف الأخير. وعن الثاني: أن مسبوقية الشيء بغيره لا تكون صفة، وإلا كانت صفة حادثة، فتكون مسبوقيتها بالغير صفة أخرى؛ ولزم التسلسل، وإذا كانت المسبوقية أمرا عدميا استحال أن يكون جزء العلة أو شرطها. أما الذين سلموا أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة- يفيد العلم؛ لكنهم منعوا من كون التواتر عن الأمور الماضية- مفيدا للعلم، فقد احتجوا بأن التواتر عن الأمور الماضية وقع عن أمور باطلة؛ فوجب ألا يكون حجة. بيان الأول: أن اليهود، والنصارى، والمجوس، والمانوية على كثرة كل فرقة منهم، وتفرقهم في الشرق والغرب يخبرون عن أمور هي باطلة قطعا عند المسلمين؛ وذلك يقتضي القدح في التواتر.

فإن قلت: شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة؛ وهو غير حاصل في هذه الفرق؛ لأن اليهود قل عددهم في زمان بخت نصر، والنصارى كانوا قليلين في الابتداء، وكذا القول في المجوس والمانوية. قلت: صدقتم؛ حيث قلتم: لابد من استواء الطرفين والواسطة؛ لكن الطريق إليه: إما العقل، أو النقل، أو ما هو مركب منهما. والعقل المحض: لا يكفي. وأما النقل: فإما من الواحد، أو من الجمع؛ وقول الواحد: إنما يفيد، لو كان معصوما، وهو مفقود في زماننا. وأما الجمع: فهو أن يقال: إن أهل التواتر في زماننا على كثرتهم، يخبرون أنهم كانوا كذلك أبدا، لكن كما أن أهل الإسلام يدعون ذلك، فهذه الفرق الأخرى تدعي ذلك، فليس تصديق إحداهما، وتكذيب الأخرى أولى من العكس. وأما المركب منهما: فهو أن يقال: لو كان خبرا موضوعا، لعرفنا أن الأمر كذلك، وقد عرفت ضعف هذه الطريقة، ثم إن جميع الفرق يصححون قولهم بمثل هذه الطريقة، فليس قبول أحد القولين أولى من الآخر. فأما الذي يقال: إن بخت نصر قتل اليهود؛ حتى لم يبق منهم عدد أهل التواتر. قلنا: هذا محال؛ لأن الأمة العظيمة المتفرقة في الشرق والغرب يستحيل قتلها إلى هذا الحد. وأما النصارى: فلو لم يكونوا بالغين في أول الأمر إلى حد التواتر، لم يكن

شرح القرافي: قوله: (استدل أبو الحسن على صدق التواتر بقوله: يستحيل أن يكون الكذب لا لغرض ومرجح، وإلا لزم الترجيح من غير مرجح)

شرعه حجة إلى زمان ظهور محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه باطل باتفاق المسلمين، وهاهنا وجوه أخر من المعارضات مذكورة في (كتاب النهاية) فهذا تمام الاعتراضات. وأعلم أن بعض هذه الأسئلة والمعارضات، لا شك أن فسادها أظهر من صحتها؛ لكن ذلك إنما يكفي في إدعاء الظن القوي: لا في إدعاء اليقين التام، وكان غرضنا من الإطناب في هذه الأسئلة أن الذي قاله أبو الحسين؛ من أن الاستدلال بخبر التواتر على صدق المخبرين- أمر سهل هين مقرر في عقول البله والصبيان- ليس بصواب؛ بل لما فتحنا باب المناظرة، دق الكلام، ولا يتم المقصود إلا بالجواب القاطع عن كل هذه الإشكالات، وذلك لو أمكن، فإنما يمكن بعد تدقيقات في النظر عظيمة؛ ومن البين لكل عاقل: أن علمه بوجود مكة، ومحمد صلى الله عليه وسلم أظهر من علمه بصحة هذه الدلالة، وإبطال ما فيها من الأقسام سوى القسم المطلوب؛ وبناء الواضح على الخفي غير جائز؛ فظهر أن الحق ما ذهبنا إليه من أن هذا العلم ضروري؛ وحينئذ لا نحتاج إلى الخوض في الجواب عن هذه الأسئلة؛ لأن التشكيك في الضروريات لا يستحق الجواب. المسألة الرابعة قال القرافي: قوله: (استدل أبو الحسن على صدق التواتر بقوله: يستحيل أن يكون الكذب لا لغرض ومرجح، وإلا لزم الترجيح من غير مرجح): قلنا: قولكم: (لغرض ومرجح) إن أردتم الجمع بين الأمرين، وأن الغرض غير المرجح، فلا يلزم من عدم مجموعهما الترجيح من غير مرجح؛ لجواز ثبوت أحدهما، فيكون هو المرجح، وإن أردتم أن الثاني هو عين

الأول، وهو ظاهر كلامهم، فيكون المرجح عندهم هو الغرض، وحينئذ أنه يلزم من عدمه الترجيح من غير مرجح؛ لأن الغرض يرجع إلى العلم باشتمال العقل على ملاءمة العالم بذلك، ومناسبة حاله، ولا يلزم من عدم العلم بالمناسبة الترجيح من غير مرجح؛ فإن الإدارة شاهدا وغائبا ترجح لذاتها، من غير احتياجها لمرجح، وحينئذ يكون هذا الفعل واقعا لمجرد الإرادة من غير غرض، ولا يصدق عليه أنه وقع من غير مرجح. قوله: (كونه كذبا جهة صرف): قلنا: هذا في غالب طباع الناس، أما الطباع الخبيثة فهو جهة حث عندنا، وتلك الفرقة غير معلومة التمييز، فيجوز أن يكون هؤلاء المجيزون منهم أو بعضهم، وحينئذ لا يحصل العلم. سلمنا أنه جهة صرف الكل، لكن لا نسلم أنه ينتهي في الصرف إلى حد الاستحالة والقهر، فلعله مما تهجم الإرادة عليه من غير معارض له، وحينئذ لا يمتنع وقوعه. قوله لأبي الحسين: (لو توقف الفعل على الدواعي لزم الخبر، وأنت لا تقول به). قلنا: لا نسلم أنه لا يقول به؛ لأن الخبر الذي لا تقول به المعتزلة هو الخبر العادي، أما الخبر الفعلي فلا ينكره أحد، وقد تقدم الكلام على هذا المقام، وجميع المقامات أول الكتاب في مسألة الحسن. قوله: (مر الكلام على أن الكذب ليس بقبيح لكونه كذبا): قلنا: الذي تقدم ليس قبيحا لكونه كذبا، بمعنى إيجابه الثواب والعقاب ونحو ذلك، أما كونه منافرا للطبع فلم يتقدم إبطاله، ولا يردي أبو الحسين بأنه جهة صرف إلا ذلك. قوله: (صدور الكذب عن الواحد جائز، وصدوره عن الواحد لا يمنع

صدوره عن الثاني، فيكون صدوره عن الكل كصدوره عن الواحد، وهذه حجة يقينية في الجواز): قلنا: هذه حجة يقينية على عموم الجواز عقلا، والخصم يسلم ذلك عقلا، إنما هو يدعي الامتناع عادة، ولا تنافي بينهما؛ فإن العادة قد تجيز في الفرد، وتمنع في الكل كما تخبر العادة في كل فرد من الناس أنه من الأولياء المقربين، ويحيل ذلك في الكل، ويجيز في زيد المعين ألا يروى الآن بشر الماء، ويحيل ذلك في الكل، فمن المجاز عادة ألا يروى الماء أحد من الحيوانات إلى قيام الساعة، وتجيز العادة أن هذا الصغير يصير شيخا، ويحيل أن جميع صغار الدنيا يصيرون شيوخا، بل يقطع أنه لابد أن يموت من الناس خلق كثير قبل الهرم، ونظائره كثيرة، فحينئذ لا يلزم من الجواز العادي في البعض جوازه في الكل. قوله: (جمع من الزهاد وضعوا الأحاديث كذبا تدينا). قلت: قد بين ابن الجوزي في كتاب (الموضوعات) له في أسباب الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك. وقيل لبعضهم: ألم تسمع قوله عليه السلام: (من كذب علي عامدا متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) فأجاب بأن قال: (نحن كذبنا له ما كذبنا عليه) يشير قصدنا تكثير العبادات من الناس. قوله: (الحيوانات الجبلية تتشابه). تقريره: أن الحيوانات البرية يغلب عليها الاستواء في مرعاها، ومائها وهوائها، ومكانها، فتكون نطفها متشابهة الأجزاء، وأحوالها العارضة لها بعد الوضع من الماء والمكان وغيره متشابهة، فيغلب عليها التشابه، بخلاف الحيوانات الإنسية، فإنها مختلفة الأغذية، والأمكنة، وغالب الأحوال العارضة، فإن الناس في هيئة الدواب مختلفون فيما يحاولونه في داوبهم، فتكون نطفهم مختلفة، وأحوالهم العارضة بهم بعد الوضع مختلفة، فيغلب عليها الاختلاف.

قوله: (إن احتمال الاشتباه يمنع اليقين): قلنا: إن أخبرونا أن هذا المشاهد هو الذي كنا شاهدناه لم يحصل العلم ليس لأجل ما ذكرتموه، بل لأن هذا عدم فيه شرط التواتر، فإنهم أخبروا عن غير محسوس؛ فإن كون هذا ذاك مما لا يستفاد بالحس، بل القرائن الحالية والعادية، فإن العلم حاصل بأن ولدي هذا هو الذي كنت أعلمه، ورأيته قبل هذا، والتشكيك في ذلك بهذه الاحتمالات العقلية لا يمنع حصول العلم العادي، وإن أخبرونا بأن المشاهد لهم قال كلاما هو كذا، فهذا لا يقدح فيه ما ذكرتموه من الاحتمال؛ لأنهم لم يتعرضوا إلى أن المخبر لهم هو الذي كان بالأمس. فإن قلت: فالتواتر عن الرسل المعينة في الرسائل الربانية لا يتأتى إلا ببقاء أشخاصهم، والقطع بذلك، فكيف يحصل لنا العلم بأن الرسول المعين هو الذي قال هذا الكلام. قلت: المدرك في ذلك ما تقدم من أن العلوم العادية لا تقدح فيها الاحتمالات العقلية، ونحن نقطع يقينا جازما بأن آباءنا وأبنائنا هم الذين كنا نشاهدهم بالأمس، وكلك مساكننا وكتبنا، وآلات بيوتنا، فضلا عن الرسل الكرام- صلوات الله عليهم أجمعين-، فكذلك نقطع بأن الذي نقل عنه أهل التواتر هو الرسول المعين. فإن قلت: لو أخبرك من تعتقد فيه الولاية أن الله- تعالى- خرق له العادة في هذه الأمور، وأورد أنه يدل بظهورها على ذلك صدقناها كما في آية الصلب، فكيف دفعت القطع بالظن الناشئ عن ظاهر حال الولي، وظهور دلالة الآية، وكيف أمكن هجوم هذا الظن على النفس مع تكيفها باليقين السابق، والعادة تحيل ارتفاع الراجح عن النفس بالمرجوح لاسيما العلم بالظن؟.

قلت: هذه شبهة قوية أدت بعض المسلمين إلى اعتقاد الصلب، وهو كفر، ومنعت بعضهم من اعتقاد كرامات الأولياء. والجواب: أن متعلق القطع غير متعلق الظن؛ لأنا إنما قطعنا بالأمور العادية، مع بقاء الأسباب التي جرت بها العادة، ولم نقطع بأنه إذا حدث سبب آخر تبقى هذه الأمور على أوضاعها، فإنا نقطع بأن هذا الشيخ لم يولد شيخا؛ بناء على الأسباب العادية، وإحالة أمره على التوليد، والتناسل الصرف. وأما إذا عرض سبب آخر من إرادة الله- تعالى- كرامة ولي، أو معجزة نبي، فليس كذلك، وكذلك إذا أخبر الله- تعالى- أني أردت أن أشبه لبني إسرائيل، أو أن أفتنهم بأمر عيسى- عليه السلام- فنقول: هذا ليس من الأسباب التي كانت معنا في العادة، نحن إنما نقطع بشرط عدم الترديد في تلك الأسباب، والتغيير فيها، وحينئذ تكون هذه الحالة المتجددة لا علم فيها ولا ظن، فلذلك قبلنا فيها ظواهر الآيات، وأخبار الصلحاء، وتمكنت النفس من قبول هذا الظن، لأنها لم تتكيف نفيه بمانع كما يحيله السائل وهذا الكلام مبسوط في (شرح الأربعين في أصول الدين) للإمام فخر الدين، وليس هذا موضعه.

قوله: (ما جاز في زمن الأنبياء- عليهم السلام- جاز مثله في غيره من الأزمنة): قلنا: لا نسلم؛ فإن الأزمنة وإن كانت متماثلة، وما جاز على بعضها جاز على كلها، لكن الجائز قد تدل القرائن على امتناع وقوعه كما تقدم في جزمنا بأولادنا وأهلينا. قوله: (النصارى يروون بالتواتر أن عيسى- عليه السلام- بقى بعد الصلب، وقبل الموت مدة طويلة): قلنا: النصارى كاذبون في ذلك، ولم يحققوا شرائط التواتر، وهي منفية من جهة عدم بيان استواء الطرفين، والواسطة والمنقول عندهم أن الحواريين، وأصحابه السبعين هربوا إلا حواريا واحدا أخذ عليه البرطيل ثلاثين درهما، وحينئذ لم يبق إلا المأمورون بالصلب، ولعلهم كانوا قليلين، أو دون العشرة، فأين شرط التواتر؟ قوله: (جبريل- عليه السلام- كان يتلبس على الصحابة رضوان الله عليهم): قلنا: قد تقدم أن العلوم العادية إنما هي مبنية على الأسباب الخاصة، ولا يلزم ذلك عند تغير الأسباب، وهاهنا حدث سبب آخر، وهو أن أطوار الملائكة لها، وللجن التشكل بأي شكل أرادوا، وجعل لهم التقلب في الهيئات كما جعل لنا التقلب في الحركات، وهذا القسم خارج عن الأسباب التي يحصل فيها لنا بأن زيدا هذا هو الذي كنا نشاهده بالأمس، فإن معناها أن زيدا ما دام حال على نمط العادة فيستحيل عادة أن الله- تعالى- غيره بمثله، هذا نوع آخر ليس من ذلك.

قوله: (الخائف يرى صورا لا حقائق لها): قلنا: تلك الخبرة تهيج في الجسد لأجل الحركة النفسانية من الخوف، أو الغضب، أو المرض، فيصعد إلى العينين، فينطبع في صقال الرطوبة الجليدية، فيشاهد بالروح الباصر خارجا على نوع من الانعكاس في صفاء الهواء، على ما تقرر بسطه في علم المناظرة، وإن رأى أشكال الآدميين والأشجار فذلك؛ لأن القوة الحافظة أبرزت ما فيها من الصور المستحفظة إلى القوة المتخيلة في الرطوبة الجليدية، فيرى في الخارج على نوع من الانعكاس في جوهر الهواء، وقد بسطت ذلك في كتاب: (الاستبصار فيما تدركه الأبصار) ويرجع حاصل الجواب إلى أن هذا سبب آخر غير السبب العادي الذي جزم العقل لأجله. قوله: (لو حصل العلم عقيب التواتر، فإما مع وجوب أن يحصل، أو مع جواز أن يحصل): قلنا: مع وجوب أن يحصل. قوله: (المقتضي بذلك الوجوب، إما كل واحد واحد أو المجموع). قلنا: العلم الحاصل إنما هو بقدرة الله- تعالى- أجرى عادته- تعالى- أن يخلقه عقيب حصول هذه الإخبارات، فمتى حصل مجموع تلك الإخبارات في النفس خلق الله- تعالى- ذلك العلم على سبيل اللزوم العادي لا على سبيل الإيجاب من تلك الإخبارات، وخلقه- تعالى- العلم عقيب هذا المجموع، كخلقه- تعالى- الري عقيب مجموع قطرات الماء، والشبع عقيب مجموع اللبابات، وإنضاج الطعام عقيب توالي أفراد تلك التسخينات، ونظائره كثيرة في العالم، والكل بقدرة الله- تعالى- على سبيل اللزوم العادي، وكونه عقيب تلك الأمور من باب الربط الإلهي، ولو شاء الله- تعالى- لم يحصل ذلك الربط، وهو الخالق لهذه الآثار في

(سؤال) إن قول كل واحد لو أفاد العلم اجتمع متواترات لأشكل باجتماع الأدلة اليقينية

جميع هذه المواطن فكل ما يذكرون من التقسيم يجري فيها، فدل ذلك على بطلانه لجزمنا بصحة هذه الأمور. (سؤال) إن قول كل واحد لو أفاد العلم اجتمع متواترات لأشكل باجتماع الأدلة اليقينية. قوله: (المستلزمية نقيض اللامستلزمية التي هي أمر عدمي، فتكون المستلزمية أمرا ثبوتيا): قلنا: لا نسلم أنها ثبوتية؛ وذلك لأن حرف السلب كما يدخل على الثبوت فيحصل السلب، يدخل على أداة السلب، واسم السلب، فالأول كقولنا: (ليس زيد قائما) بتكرير ليس، فمتى تكررت مرتين كان ثبوتيا، ويكون زيد قائما، ومتى تكررت بالفرد كان نفيا، وكان زيد ليس بقائم، ولقد سمعت الخسرو شاهي يقول: (اجتمعت مع العميدي، فشرع يذكر لي نكتة كرر فيها لفظ (ليس) نحو خمسين مرة، فقلت له: لا يكثر على كل عدد فرد من ذلك نفي، وكل عدد زوج ثبوت، فخمسون ثبوت، وخمس وخمسون نفي، فقل ما شئت بعد ذلك) ودخوله على اسم السلب. قولنا: ليس عدم زيد في الدار، وليس نفيه في الدار، وليس سلبه في الدار، فيكون زيد في الدار جزما، إذا تقررت هذه القاعدة فنقول: المستلزمية عند الخصم المنازع في هذا المقام عدمية، فيكون حرف السلب دخل على اسم السلب، فيكون ثبوتا، فتكون المستلزمية أمرا عدميا، فتكون المستلزمية عدمية عكس مقصودكم، وهذه النكتة متكررة في كتب الإمام كثيرا، وهذا جوابها. قوله: (عند حصوله الخبر الثاني يكون الأول معدوما، فيلزم تأثير المعدوم في الموجود):

قلنا: أصوات المخبرين تنقطع من الخارج، ولا تبقى زمانين، لكن يبقى لها صور ذهنية في النفس، فتلك الصور التي في النفس باقية إما بالنوع إن قلنا: العرض لا يبقى زمنين أو بالشخص إن قلنا: يبقى، وهي المؤثرة، فما أثر إلا أمر موجود. سلمنا عدمها، لكن قد تقدم أن الربط عادي، فلله- تعالى- أن يربط آثار قدرته بما شاء من وجود شيء، أو عدمه؛ لأن قدرته- تعالى- هي الموجدة، وهذا الربط عادي، وإنما يلزم الإشكال أن لو كانت هذه الأشياء هي الموجدة. قوله: (كل واحد منفردا لو لم يكن مؤثرا لم يكن المجموع مؤثرا، كما أن كل واحد من أفراد الزنج لما لم يكن أبيض استحال أن يكون الجميع أبيض). قلنا: قد تقدم في هذا بحث غريب، وتفصيل حسن، وهو أن الصفات منها ما لا يثبت إلا للأفراد، وهي الصفات الحقيقية كالألوان، والطعوم، والروائح، والعلوم، والحركات ونحوها، ومنها ما لا يثبت للأفراد، وإنما يثبت للمجموع، وهي ما كان من باب الربط العادي، كما تقدم في الري والشبع ونحوه، وعلم التواتر من هذا القبيل لا من الأول، فليس التواتر من الزنجي في شيء. قوله: (الشرط لابد من وجوده حالة وجود المشروط، والحروف المتقدمة حالة وجود الحرف الأخير). قلنا: الشرط يجب حصوله حالة عدم الشرط على الوجه الذي جعل شرطا، والحروف المتقدمة لم نقل: إن ذواتها شروط، بل تقدمها، وسبقها على الحرف الآخر هو الشرط، فالحروف بوصف العدم، والتقدم هو

الشرط، وهذا المعنى مقارن، فأنتم إنما بنيتم أن ذوات الحروف معدومة، ونحن لم نقل: ذواتها شروط. قوله: (المسبوقية أمر عدمي، فلا يكون جزء العلة). قلنا: قد تقدم أن المؤثر إنما هو قدرة الله- تعالى- وإنما هاهنا ربط عادي، والربط يصح بالوجود بالعدم، وبالنسب، وبأي معلوم كان؛ لأن ذلك ليس فيه تأثير إنما هو أمر يبقى، إن تعلقت به الإرادة على ذلك الوجه، فلا يضر كيف كان. قوله: (المقيد بشرط حصول التواتر في استواء الطرفين، والواسطة إما العقل والنقل، أو المركب منها). قلنا: الحصر غير ثابت، بقيت قرائن الأحوال، والنقل مع قرائن الأحوال، أو العقل مع قرائن الأحوال، ونحن نجد من أنفسنا علما ضروريا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما توفى حتى كانت أمته أكثر من عدد التواتر ينقلون عنه أصل الدين والقرآن وغير ذلك، ومدركنا في هذا العلم إنما هو النقل، وقرائن الأحوال، وكذلك التواتر لا يكاد يحصل العلم فيه إلا بالنقل، وقرائن الأحوال، وكذلك اختلفت مراتب الأعداد في إفادة العلم بالمخبرية، فإن جميع الصالحين ليس كجميع الصالحين، فقد يحصل لنا العلم بخبر جماعة من الصلحاء، ولو كانوا فسقة لم يحصل العلم، وما ذلك إلا قرائن الأحوال. قوله: (الأمة العظيمة المتفرقة في الشرق والغرب يستحيل قتلهم). قلنا: قد تقدم التنبيه على هذا، وأن اليهود لم يفارقوا أرض (الشام) بالأرض المقدسة إلا بعد بخت نصر، وإنما فر منهم نحو الأربعين إلى أرض (مصر) مع دانيال- عليه السلام- وأخذهم (بخت نصر) من (مصر) وخربها، فهذا التهويل أصله باطل.

قوله: (لم يكن النصارى بالغين في ابتدائهم إلى حد التواتر ولم يكن شرعهم حجة إلى بعثة محمد عليه السلام). قلنا: اشتراط حصول العلم في الشرائع إنما هو وضع شرعي، ولله- تعالى- أن يكلف بالعلم مرة، وبغيره أخرى؛ لأجل تعذره، وكذلك تقدم قول التبريزي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في أول الإسلام يبعث رسله إلى القبائل يبلغونهم أصول الديانات والتوحيد، وغيره من العقائد التي يشترط في زماننا فيها العلم، وذلك للضرورة في ذلك الوقت؛ لأنه- عليه السلام- لو بعث لكل قبيلة عدد التواتر لم يبق عنده أحد، ولم يف عددهم بذلك، وإذا كان ذلك وقع في شرعنا الذي هو أتم الشرائع للضرورة، فأولى أن يقع في شريعة عيسى عليه السلام؛ لأنه لم يؤمر بالقتال، ولا انتشرت كلمته قبل مفارقته للنصارى، بل كانت أصحابه نحو السبعين، وتفرقوا في البلاد، وكذلك الحواريون، فلم يحصل في جهة منهم إلا واحد، أو اثنان، فلم يشترط التواتر للضرورة. * * *

المسألة الخامسة قال الرازي: في شرائط التواتر

المسألة الخامسة قال الرازي: في شرائط التواتر اعلم أن هذه الأخبار التي نعلم مخبرها- باضطرار- الحجة علينا فيها هو العلم، ولا حاجة بنا إلى اعتبار حال المخبرين، بل يجب أن يعتبر السامع حال نفسه، فإذا حصل له العلم بمخبر تلك الأخبار، صار محجوبا بها، وإلا فالحجة عنه زائلة، ثم إنه بعد وقوع العلم بمخبر خبرهم، صح أن نبحث عن أحوالهم، فنقول: لو لم يكونوا على هذه الصفة لما، وقع لنا العلم بخبرهم. واعلم أن هاهنا أمورا معتبرة في كون التواتر مفيدا للعلم، وأمورا ظن أنها معتبرة، مع أنها في الحقيقة غير معتبرة: أما القسم الأول: فنقول: إن تلك الأمور: إما أن تكون راجعة إلى السامعين، أو إلى المخبرين: أما الأمور الراجعة إلى السامعين فأمران: الأول: ألا يكون السامع عالما بما أخبر به اضطرارا؛ لأن تحصيل الحاصل محال، وتحصيل مثل الحاصل أيضا محال، وتحصيل التقوية أيضا محال؛ لأن العلم الضروري أيضا يستحيل أن يصير أقوى مما كان. مثاله: إذا كان العلم حاصلا بأن النفي والإثبات، لا يجتمعان، ولا يرتفعان- لم يكن للأخبار عنه أثير في العلم به. والثاني: قال الشريف المرتضى: يجب ألا يكون السامع قد سيق بشبهة، أو تقليد إلى اعتقاد نفي موجب الخبر، وهذا الشرط إنما اعتبره الشريف؛ لأن

عنده الخبر عن النص على إمامة على، رضي الله عنه، متواتر، ثم لم يحصل العلم به لبعض السامعين، فقال ذلك؛ لأنهم اعتقدوا نفي النص لشبهة. واحتج عليه بأن حصول العلم عقيب خبر التواتر: إذا كان بالعادة، جاز أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال، فيحصل للسامع، إذا لم يكن قد اعتقد نقيض ذلك الحكم قبل ذلك الحكم، ولا يحصل له إذا اعتقد ذلك. فإن قلت: يلزمكم عليه أن تجوزوا صدق من أخبركم بأنه لم يعلم وجود البلدان الكبار، والحوادث العظام بالأخبار المتواترة؛ لأجل شبهة اعتقدها في نفي تلك الأشياء. قلت: إنه لا داعي يدعو العقلاء إلى سبق اعتقاد نفي هذه الأمور، ولا شبهة في نفي تلك الأشياء أصلا. أما ما يرجع إلى المخبرين فأمران: الأول: أن يكونوا مضطرين إلى ما أخبروا عنه؛ لأن غير الضروري يجوز دخول الالتباس فيه؛ فلا جرم لا يحصل العلم به، ولذلك فإن المسلمين يخبرون اليهود بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يحصل لهم العلم بها. الثاني: العدد وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال القاضي أبو بكر: اعلم أن قول الأربعة لا يفيد العلم أصلا، وأتوقف في قول الخمسة. واحتج عليه: بأنه لو وقع العلم بخبر أربعة صادقين، لوقع بخبر كل أربعة صادقين؛ وهذا باطل؛ فذاك مثله.

بيان الملازمة: أنه لو وقع العلم بقول أربعة، ولا يقع بقول مثلهم، مع تساوي الأحوال والقائلين والسامعين في جميع الشروط، لم يمتنع أن تخبرنا قافلة الحاج بوجود مكة فنعرفها، ثم هم بأعيانهم يخبروننا بوجود المدينة، فلا نعرفها، ولما لم يجز ذلك، صح قولنا. وإنما قلنا: (إن العلم لا يحصل بخبر كل أربعة) لأنه لو وقع العلم بخبر كل أربعة، إذا كانوا صادقين، لكان يجب إذا شهد أربعة أنهم شاهدوا فلانا على الزنا- أن يستغنى القاضي عن التزكية؛ لأنهم إذا كانوا صادقين، وجب أن يحصل له العلم بقولهم؛ وحينئذ يستغنى عن التزكية. وإن لم يحصل له العلم بقولهم، قطع بكونهم كاذبين قطعا، وحينئذ يستغنى أيضا عن التزكية، ولما لم يكن كذلك، بل أجمعوا على وجوب إقامة الحد، وإن لم يضطر القاضي إلى صدقهم، علمنا أن العلم لا يحصل بخبر الأربعة. فإن قيل: الملازمة ممنوعة. قوله: (لو وقع العلم بخبر أربعة صادقين، ولا يقع بخبر أربعة صادقين آخرين، لزم كذا وكذا ...). قلنا: لم قلت: إنه يلزم ذلك؟ بيانه: أن العلم بمخبر الأخبار حاصل عن فعل الله تعالى عندكم؛ وإذا كان كذلك، جاز منه تعالى أن يخلق ذلك العلم عند خبر أربعة، ولا بخلقه عند خبر أربعة أخرى، ولا تجري العادة في ذلك على طريقة واحدة، وإن كانت العادة في أخبار الجماعات العظيمة جارية على طريقة واحدة، كما أن التكرار

على البيت الواحد ألف مرة سبب لحفظه في العادة المطردة وأما تكراره مرتين أو ثلاثا، فقد يكون سببا لحفظه، وقد لا يكون، والعادة فيه مختلفة. سلمنا أنه يلزم من اطراد العادة في شيء اطرادها في مثله؛ فلم قلت: يلزم من حصوله العلم عند رواية أربعة حصوله عند شهادة أربعة؟ بيانه: أن الشهادة، وإن كانت خبرا في المعنى، لكن لفظ الشهادة مخالف للفظ الخبر الذي ليس بشهادة؛ فلم لا يجوز أن يجري الله تعالى عادته بفعل العلم الضروري عند الخبر الذي ليس فيه لفظ الشهادة، ولا يفعله عند لفظ الشهادة، وإن كان الكل خبرا؟. سلمنا أن التفاوت بين لفظ الشهادة، وبين لفظ الخبر الذي ليس بشهادة- غير معتبر؛ فلم لا يجوز أن يقال: لما كان من شرط الشهادة أن يجتمع المخبرون عند الشهادة، وذلك الاجتماع يوهم الاتفاق على الكذب؛ فلا جرم لم يفد العلم؛ بخلاف الرواية؟. سلمنا أن ما ذكرته يوجب الجزم بأن قول الأربعة لا يفيد العلم؛ لكنه يوجب الجزم بان قول الخمسة لا يفيد أيضا؛ لأن قول الخمسة، لو أمكن أن يفيد، فإذا شهدوا، فإن كانوا صادقين، وجب أن يفيد العلم الضروري، وإن لم يحصل العلم بصدقهم، وجب القطع بكذبهم، فهذا يقتضي أن تكون الخمسة كالأربعة في القطع بأنها لا تفيد. سلمنا ذلك؛ لكن يلزمكم أن تقطعوا بأن عدد أهل القسامة لا يفيد العلم، لعين ما تقدم ذكره في الخمسة. والجواب: أما الأسئلة الثلاثة الأولى، فواردة؛ ولا جواب عنها.

وأما المعارضة بقول الخمسة، فالجواب: أنه لا يمتنع أن يقع العلم بخبر خمسة، والحاكم إنما لم يعلم صدق هؤلاء الخمسة، وإن وجب عليه إقامة الحد؛ لجواز أن يكون أربعة منهم شاهدوا ذلك، والخامس ما شاهده، فلزم إقامة الحد بقول أربعة منهم، وإن لم يعرفهم بأعيانهم، وكان الخامس كاذبا؛ فلا جرم وجب عليه البحث عن أحوالهم، وهذا بخلاف الأربعة؛ فإنه إذا لم يحصل العلم بقولهم؛ وجب أن يكون واحد منهم كاذبا. وبهذا التقدير: تسقط الحجة بقولهم، ولزم على الحاكم رد قولهم، وإقامة الحد عليهم؛ فظهر الفرق. واعلم أن هذا الجواب يقتضي القطع بكذب واحد من الخمسة، أو القطع بأن قول الخمسة لا يفيد العلم أصلا، أو القول بأنه لا يلزم من كون قول الخمسة مفيدا للعلم أن يكون قول كل خمسة مفيدا للعلم. قوله: (يلزمكم أن تقطعوا بأنه لا يقع العلم بخبر أهل القسامة): قلنا: أهل العراق يقولون: يحلف خمسون من المدعى عليهم؛ كل واحد منهم على أنه ما قتل، ولا عرف قاتلا، فكل واحد منهم يخبر عن غير ما يخبر عنه الآخر. وعند الشافعي- رضي الله عنه- يحلف خمسون من المدعين؛ كل واحد منهم بحسب ظنه، فخبر كل واحد منهم غير خبر الآخر. المسألة الثانية: الحق، أن العدد الذي يفيد قولهم العلم- غير معلوم؛ فإنه لا عدد يفرض إلا وهو غير مستبعد في العقل صدور الكذب عنهم، وإن الناقص عنهم بواحد، أو الزائد عليهم بواحد لا يتميز عنهم في جواز الإقدام على الكذب.

ومنهم من اعتبر فيه عددا معينا، وذكروا وجوها: أحدها: الاثنا عشر؛ لقوله تعالى: {وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا} [المائدة: 12]. وثانيها: العشرون، وهو قول أبي الهذيل؛ قال: لقوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65] أوجب الجهاد على العشرين، وإنما خصهم بالجهاد؛ لأنهم إذا أخبروا، حصل العلم بصدقهم. وثالثها: الأربعون: لقوله تعالى: {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [الأنفال: 64] نزلت في الأربعين. ورابعها: السبعون؛ لقوله تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلا} [الأعراف: 115]. وخامسها: ثلاثمائة وبضعة عشر؛ عدد أهل بدر. وسادسها: عدد بيعة الرضوان. واعلم أن كل ذلك تقييدات لا تعلق للمسألة بها، فإن قلت: (إذا جعلتم العلم معرفا لكمال العدد، تعذر عليكم الاستدلال به على الخصم): قلت: إنا لا نستدل ألبتة على حصول العلم بالخبر المتواتر، بل المرجع فيه إلى الوجدان؛ كما تقدم بيانه. فهذه هي الشرائط المعتبرة في خبر التواتر، إذا أخبر المخبرون عن المشاهدة، فأما إذا نقلوا عن قوم آخرين، فالواجب حصول هذه الشرائط في كل تلك الطبقات، ويعبر عن ذلك ب (وجوب) استواء الطرفين والواسطة).

وأما القسم الثاني: وهي الشرائط التي اعتبرها قوم، مع أنها غير معتبرة فأربعة: الأول: ألا يحصرهم عدد، ولا يحويهم بلد؛ وهو باطل؛ لأن أهل الجامع لو أخبروا عن سقوط المؤذن عن المنارة فيما بين الخلق، لكان إخبارهم مفيدا للعلم. الثاني: ألا يكونوا على دين واحد، وهذا الشرط اعتبره اليهود، وهو باطل؛ لأن التهمة، لو حصلت لم يحصل العلم، سواء كانوا على دين واحد، أو على أديان، وإن ارتفعت، حصل العلم، كيف كانوا. الثالث: ألا يكونوا من نسب واحد، ولا من بلد واحد، والقول فيه ما تقدم. الرابع: شرط ابن الرواندي وجود المعصوم في المخبرين؛ لئلا يتفقوا على الكذب، وهو باطل؛ لأن المفيد حينئذ قول المعصوم، لا خبر أهل التواتر. المسألة الثالثة: في خبر التواتر من جهة المعنى. مثاله: أن يروي واحد: أن حاتما وهب عشرة من العبيد، وأخبر آخر: أنه وهب خمسة من الإبل، وأخبر آخر: أنه وهب عشرين ثوبا، ولا يزال يروي كل واحد منهم من هذا الخبر شيئا،؛ فهذه الأخبار تدل على سخاوة حاتم من وجهين: الأول: أن هذه الجزيئات مشتركة في كلي واحد؛ وهو كونه سخيا؛ والراوي للجزئي بالمطابقة راو للكلي المشترك فيه بالتضمن، فإذا بلغوا حد التواتر، صار ذلك الكلي مرويا بالتواتر. الثاني: أن نقول: هؤلاء الرواة بأسرهم لم يكذبوا، بل لابد، وأن يكون

شرح القرافي: قوله: (من الشروط الراجعة إلى أحوال المخبرين أن يكونوا مضطرين إلى ما أخبروا عنه

الواحد منهم صادقا؛ وإذا كان كذلك، فقد صدق جزئي واحد من هذه الجزيئات المروية، ومتى صدق واحد منها ثبت كونه سخيا. والوجه الأول أقوى؛ لأن المرة الواحدة لا تثبت السخاوة. المسألة الخامسة في أن المعتبر هو حصول العلم لا غيره قال القرافي: قوله: (من الشروط الراجعة إلى أحوال المخبرين أن يكونوا مضطرين إلى ما أخبروا عنه؛ فإن غير الضروري يجوز حصول اللبس في): قلنا: هذه العبارة غير موفية بالمقصود، فقد يكونون مضطرين من جهة النظر، والاستدلال كما في الحدسيات، ومع ذلك لا يفيد خبرهم العلم، ولا مدخل للتواتر في مثل هذا، بل الذي صرح به الناس أن يكون أمرا حسيا؛ فلا يحصل التواتر في غير الأمور الحسية. قوله: (العلم التواتري عندكم من الأمور العادية، فجاز أن يخلقه الله- تعالى- عقيب أربعة، ولا يخلقه عقيب أربعة): تقريره: أن الإخبار لابد معه من قرائن أحوال حالية، وحينئذ جاز أن تتخلف تلك القرائن في بعض الصور، فلا يحصل العلم بقول الأربعة، ولا نسلم أن القاضي يحتاج إلى التزكية في قول كل أربعة، بل إنما يحتاج إليها حيث لا يحصل له العلم، ولا نسلم أن العلم يتعذر عليه في خبر كل أربعة، فقد حصل العلم لخزيمة في خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيع الفرس، وكذلك حصل العلم لغيره من الأمة بإخباره- عليه السلام- عن أمور الدين

وغيره، وإذا تصور حصول العلم بخبر الواحد في صورة جاز حصوله بالأربعة في عدة من الصور، فلا يحتاج الحاكم للتزكية. قوله: (يشترط في الشهادة اجتماع المخبرين عند الشهادة): قلنا: لا نسلم هذا الشرط؛ فإن المالكية لا تشترط اجتماع الشهود إلا في مسألتين: السرقة، والزنا. قوله: (لو لم يحصل العلم بصدق الخمسة لحصل العلم بكذبهم):

المسألة السابعة في عدد التواتر قوله: (منهم من اعتبر الاثنى عشر)

قلنا: لا نسلم أنه يلزم حصول العلم بالكذب، بل يحصل الشك في الصدق والكذب، أو ظن الصدق، وهو الغالب. أما هذه الملازمة فممنوعة. المسألة السابعة في عدد التواتر قوله: (منهم من اعتبر الاثنى عشر): قلت: حاصل هذه المسألة يرجع إلى جزء واحد، وهو أن كل طائفة عمدت إلى طائفة نسب الله- تعالى- إليها مزية حسنة، فجعلت هذه المزية سبب كون قولهم: يفيد العلم، وهذا باطل؛ فإنه لا يلزم من حصول مزية معينة حصول غيرها، وأين إفادة العلم من كونهم نقباء لموسى- عليه السلام- أو غير ذلك؟. قال سيف الدين: ومنهم من اعتبر الخمسة؛ لأن ما دونها يشترط تزكيته. وقال أبو الخطاب الحنبلي في كتاب (التمهيد): منهم من اعتبر الاثنين كالشهادة، وقيل: أربعة أعلى مراتب الشهادة. قوله: (وثانيها: العشرون لقوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} بالأنفال: 65]. قلنا: أما الاثنى عشر وغيرها كما ذكر، فخصوصيات تلك الأعداد قصدت، فأمكن أن يقال ذلك الخصوص، كما ارتبطت به تلك المزية ارتبط به حصول العلم. وأما العشرون في الجهاد، فخصوصها غير مقصود، بل المقصود وجوب

وقوف الواحد للاثنين، قل المؤمنون أو كثروا، فالعشرون لم تقصد في خصوصها؛ بخلاف اختيار موسى- عليه السلام- سبعين؛ لم ينتشر الاختيار في الزيادة على السبعين، وأما هاهنا، فلا فرق بين مائة ألف، وبين رجلين في هذا الحكم المقصود هاهنا. وقوله: (إنما خصهم بالجهاد، لأنهم يفيد خبرهم العلم) ممنوع، بل لا فرق بينهم وبين الرجلين في ذلك. قوله: (ويعبر عن ذلك باستواء الطرفين والواسطة). قلنا: التواتر أربعة أقسام: طرف فقط، كما إذا كان المخبرون لنا هم الشاهدين وطرفان فقط، إذا كان المخبرون لنا يخبرون عن المشاهدين، وطرفان ووسط إذا كان المخبرون لنا يخبرون عن طائفة أخبرتهم عن المشاهدين، وطرفان ووسائط إذا كثرت الفرق بين المخبرين والمشاهدين، وإذا تطاولت القرون كتواتر القرآن عندنا، وبيننا وبين الصحابة وسائط، فليس كل تواتر يشترط فيه استواء الطرفين والواسطة، بل القسمان الآخران فقط. قوله: (ألا يكونوا على دين واحد، اعتبره اليهود). تقريره: أنهم قالوا: إنما نازع المسلمون في تواتر السبت وغيره؛ لأنهم أهل دين واحد، فحصلت العصبية، أما إذا اختلفت الأديان بطلت العصبية، لعدم ضابط يجمعهم. قال سيف الدين: واشترط بعضهم أن يكونوا مسلمين عدولا؛ لأن من عداهم عرضة للكذب، واشترط بعضهم ألا يكونوا مكرهين بالسيف على الإخبار بالصدق؛ لأن الإكراه يخل بالعلم لمخبرهم. واشترطت الشيعة مع ابن الرواندي وجود المعصوم.

(فرع) قال سيف الدين: قال القاضي أبو بكر وأبو الحسين البصري: كل عدد وقع العلم بخبره في واقعة كشخص، لابد وأن يكون مفيدا للعلم في غير تلك الواقعة لغير ذلك الشخص

واشترط اليهود أن يكون مشتملين على أخبار أهل الذلة والمسكنة؛ لأن خوفهم من المؤاخذة على الكذب لضعفهم يمنعهم من الكذب. قال المازري في (شرح البرهان): قال ابن عبد الرحمن صاحب العلاف: أقل عدد التواتر خمسة معصومون من الأولياء مع سادس غير معصوم حتى لا يتميزوا الناس منه. (فرع) قال سيف الدين: قال القاضي أبو بكر وأبو الحسين البصري: كل عدد وقع العلم بخبره في واقعة كشخص، لابد وأن يكون مفيدا للعلم في غير تلك الواقعة لغير ذلك الشخص؛ بناء على أن موجب العلم نفس الخبر فقط، وهو ممنوع، بل لابد من القرائن. (تنبيه) قال التبريزي: لا يعتبر عدد مخصوص، بل التأثير للقرائن التي لا سبيل إلى ضبطها، وقال في عدد بيعة الرضوان: ألف وسبعمائة. قال: وكلام القاضي في الأربعة لا يفيد العلم، واحتياجهم للتزكية على أصله في أن القرائن غير معتبرة. (فائدة) قال سيف الدين: الشرائط المتفق عليها [منها] ما يرجع إلى المخبرين، وهي أربعة: العدد المستحيل تواطؤهم على الكذب، وأن يكونوا عالمين بما أخبروا به لا ظانين، وأن يكون مستندهم الحس لا الدليل العقلي، واستواء الطرفين والواسطة في هذه الشروط.

المسألة الثامنة خبر التواتر المعنوي

ومنها ما يرجع إلى المستمعين، وهي إسناد ألا يكونوا عالمين بالمخبر عنه قبل ذلك، لئلا يلزم تحصيل الحاصل. ومن قال: العلم بخبر الواحد نظري، اشترط تقدم العلم بهذه الأمور على حصول العلم بخبر التواتر. قال إمام الحرمين في (البرهان): لا يكفي أن يكون المستند لهم العقلي النظري؛ لأن النظر مضطرب العقول، ولهذا يقع الخلاف نفيا وإثباتا، ولا يحيط بجميع وجوه النظر عاقل، والعقلاء تختلف أطوارهم في النظر، ولذلك ينقسمون ويتحزبون أحزابا لاختلاف القرائح وأعراض القواطع قبل استكمال النظر، وقيد طوائف من الأصوليين التواتر بأن يكون مستنده حسيا، ولا معنى لهذا التقيد؛ فإن المطلوب صدور الخبر عن العلم الضروري، وقد يحصل عن الحسن، أو عن قرائن الأحوال، ولا أثر للحسن فيها؛ لأنه لا يميز بين احمرار الخجل ولا اصفرار الخائف من غيره، بل ذلك بالعقل، ووافق الغزالي الإمام على عدم تعين الحسن مدركا. المسألة الثامنة خبر التواتر المعنوي قلت: التواتر المعنوي ضابطه تغاير الألفاظ مع الاشتراك في معنى كلي، والتواتر اللفظي اشتراكهم في اللفظ. * * *

الباب الثاني قال الرازي: فيما عدا التواتر؛ من الطرق الدالة على كون الخبر صدقا

الباب الثاني قال الرازي: فيما عدا التواتر؛ من الطرق الدالة على كون الخبر صدقًا: القول في الطرق الصحيحة، وهى ثمانية: الأول: الخبر الذي عرف وجود مخبره بالضرورة. الثاني: الخبر الذي عرف وجود مخبره بالاستدلال. الثالث: خبر الله- تعالي- صدق، باتفاق أرباب الملل والأديان، ولكنهم اختلفوا في الدلالة عليه؛ بحسب اختلافهم في مسألتي الحسن والقبح والمخلوق، أما أصحابنا، فقد قال الغزالي- رحمه الله: يدل عليه دليلان: أقواهما: إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن امتناع الكذب على الله- تعالى- والثاني: أن كلامه- تعالى- قائم بذاته، ويستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل عليه الجهل؛ إذا الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم، والجهل على الله تعالى محال. ولقائل أن يتعرض على الأول: بأن العلم بصدق الرسول موقوف على دلالة المعجزة على صدقه - صلى الله عليه وسلم -، وذلك إنما كان؛ لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول. وإذا كان صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - مستفادًا من تصديق الله تعالى إياه، وذلك إنما يدل أن لو ثبت أن الله صادق؛ إذا لو جاز الكذب عليه، لم يلزم من تصديقه للنبي - صلى الله عليه وسلم - كونه صادقًا. فإذن: العلم بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - موقوف على العلم بصدق الله تعالى، فلو استفدنا العلم بصدق الله تعالى من صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، للزم الدور.

فإن قلت: لا نسلم أن دلالة تصديق الله تعالى للرسول على كونه صادقًا يتوقف على العلم بكون الله تعالى صادقًا؛ لأن قوله للشخص المعين: (أنت رسولي) جار مجرى قول الرجل لغيره: (أنت وكيلي) فإن هذه الصيغة، وإن كانت إخبارًا في الأصل؛ لكنها إنشاء في المعنى، والإنشاء لا يتطرق إليه التصديق والتكذيب. وإذا كان كذلك، فقول الله تعالى للرجل المعين: (أنت رسولي) يدل على رسالته، سواء قدر أن الله تعالى صادق، أو لم يقدر ذلك. وعلى هذا ينقطع الدور. قلت: هب أن قوله في حق الرسول المعين: (إنه رسولي) إنشاء ليس يحتمل الصدق والكذب؛ لكن الإنشاء تأثيره في الأحكام الوضعية، لا في الأمور الحقيقة، وإذا كان كذلك، لم يلزم من قول الله تعالى له: (أنت رسولي) أن يكون الرسول صادقًا في كل ما يقول؛ لأن كون ذلك الرجل صادقًا أمر حقيقي، والأمور الحقيقة لا تختلف باختلاف الجعل الشرعي. فإذن: لا طريق إلى معرفة كون الرسول صادقًا فيما يخبر عنه، إلا من قبل كون الله تعالى صادقًا؛ وحينئذ يلزم الدور. وعلى الثاني: أن البحث في أصول الفقه غير متعلق بالكلام القائم بذات الله تعالى، الذي ليس بحرف، ولا صوت، بل عن الكلام المسموع الذي هو الأصوات المقطعة؛ وإذا كان كذلك، لم يلزم من كون الكلام القائم بذاته تعالى صدقًا- كون هذا المسموع صدقًا؛ فعلمنا أن هذه الحجة مغالطة.

وأيضًا: يقال: لم قلت: إن الكلام القائم بذاته تعالى صدق؟ قوله: (لأنه تعالى ليس بجاهل, ومن لا يكون جاهلًا، استحال أن يخبر بالكلام النفساني خبرًا كاذبًا): قلنا: هذه القضية غير بديهية؛ فما البرهان؟ وأما المعتزلة, فهم ظنوا: أن هذا البحث ظاهر على قواعدهم؛ فقالوا: (الكذب قبيح, والله تعالى لا يفعل القبيح): والاعتراض أن نقول: إن البحث عن أن الله تعالى لا يصح علية الكذب يجب أن يكون مسبوقًا بالبحث عن ماهية الكذب؛ لأن التصديق مسبوق بالتصور؛ فنقول: إما أن يكون المراد من الكذب الكلام الذي لا يكون مطابقًا للمخبر عنه في الظاهر، سواء كان بحيث لو أضمر فيه زيادة، أو نقصان، أو تغيير، صح. وإما أن يكون المراد منه الكلام الذي لا يكون مطابقًا للمخبر عنه في الظاهر، ولا يمكن أن يضمر فيه ما عنده يصير مطابقًا. فإن أردتم بالكذب: المعنى الأول، لم يمكنكم أن تحكموا بقبحه، وبأنه لا يجوز ذلك على الله تعالى؛ لأن أكثر العمومات في كتاب الله مخصوص، وإذا كان كذلك، لم يكن ظاهر العموم مطابقًا للمخبر عنه. وكذا الحذف والإضمار واقعان باتفاق أهل الإسلام في كتاب الله تعالى حتى إنه حاصل في أوله؛ فإن الناس اختلفوا في معنى: {بسم الله الرحمن الرحيم} فمنهم من قدم المضمر، وهو الأمر، أو الخبر، ومنهم من أخره، وكذا {الحمد لله رب العالمين} قالوا: معناه: قولوا: (الحمد لله)، فالإضمار متفق عليه.

ولأن المعتزلة اتفقوا على حسن المعاريض؛ على أنه لا معنى لها إلا الخبر الذي يكون ظاهره كذبًا، ولكنه عند إضمار شرط خاص، وقيد خاص يكون صدقًا، وإذا كان كذلك، ثبت أنه لا يمكن تفسير الكذب الممتنع على الله تعالى بالوجه الأول. وأما التفسير الثاني: فنقول: نسلم أنه قبيح بتقدير الوقوع، ولكنه غير ممكن الوجود؛ لأنه لا خبر يفرض كونه كذبًا إلا، وهو بحال متى أضمرنا فيه زيادة، أو نقصانًا، صار صدقًا، وعلى هذا التقدير، يرفع الأمان عن جميع ظواهر الكتاب والسنة. فإن قلت: (لو كان مراد الله غير ظواهرها، لوجب أن يبينها، وإلا كان ذلك تلبيسًا؛ وهو غير جائز. ولأنا لو جوزنا ذلك، لم يكن في كلام الله تعالى فائدة، فيكون عبثًا؛ وهو غير جائز): قلت: الجواب عن الأول: ما الذي تريد بكونه تلبيسًا؟ إن عنيت به: أنه تعالى فعل فعلًا لا يحتمل إلا التجهيل والتلبيس، فهذا غير لازم؛ لأنه تعالى، لما قرر في عقول المكلفين: أن اللفظ المطلق جائز أن يذكر، ويراد به المقيد بقيد غير مذكور معه، ثم أكد ذلك بأن بين للمكلف وقوع ذلك في أكثر الآيات والأخبار؛ فلو قطع المكلف بمقتضى الظاهر، كان وقوع المكلف في ذلك الجهل من قبل نفسه، لا من قبل الله تعالى؛ حيث قطع، لا في موضع القطع، وهذا كما يقال في إنزال المتشابهات؛ فإنها، وإن كانت موهمة للجهل،

إلا أنها لما لم تكن متعينًة لظواهرها، بل كان فيها احتمال لغير تلك الظواهر الباطلة، لا جرم كان القطع بذلك تقصيرًا من المكلف، لا تلبيسًا من الله تعالى. وعن الثاني: أنا لو ساعدنا على أنه لابد لله تعالى في كل فعل من غرض معين؛ لكن لم قلت: إنه لا غرض من تلك الظواهر، إلا فهم معانيها الظاهرة؟ أليس أنه ليس الغرض من إنزال المتشابهات فهم ظواهرها؛ بل الغرض من إنزالها أمور أخرى؛ فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك؟ فإن قلت: (جواز إنزال المتشابهات مشروط بأن يكون الدليل قائمًا على امتناع ما أشعر به ظاهر اللفظ، فما لم يتحقق هذا الشرط، لم يكن إنزال المتشابهات جائزًا): قلت: لا شك أن إنزال المتشابه غير مشروط بأن يكون الدليل المبطل للظاهر معلومًا للسامع، بل هو مشروط بأن يكون ذلك الدليل موجودًا في نفسه، سواء علمه السامع لذلك المتشابه، أو لم يعلمه. وإذا كان كذلك، فما لم يعلم السامع أنه ليس في نفس الأمر دليل مبطل لذلك الظاهر، لا يمكنه إجراؤه على ظاهره. ثم لا يكفي في العلم بعدم الدليل العقلي المبطل للظاهر- عدم العلم بهذا الدليل المبطل؛ لأنا بينا في الكتب الكلامية: أنه لا يلزم من عدم العلم بالشيء العلم بعدم الشيء. إذا كان كذلك، فلا ظاهر نسمعه إلا ويجوز أن يكون هناك دليل عقلي، أو نقلى يمنع من حمله على ظاهره، وإذا كان هذا التجويز قائمًا، لم يقع الوثوق بشيء من الظواهر؛ على مذهب المعتزلة ألبتة.

ولما بينا ضعف هذه الطرق، فالذي نعول علية في المسألة: أن الصادق أكمل من الكاذب، والعلم به ضروري، فلو كان الله- تعالى جده، وتقدست أسماؤه- كاذبًا، لكان الواحد منا حال كونه صادقًا أكمل وأفضل من الله تعالى، وذلك معلوم البطلان بالضرورة؛ فوجب القطع بكون الله تعالى صادقًا، وهو المطلوب. الرابع: خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال الغزالي، رحمه الله: دليل صدقه دلالة المعجزة على صدقه، مع استحالة ظهور على يد الكذابين؛ لأن ذلك لو كان ممكنًا، لعجز الله تعالى عن تصديق رسله. ولقائل أن يقول: إذا كان يلزم من اقتدار الله تعالى على إظهار المعجز على يد الكاذب- عجزه تعالى عن تصديق الرسول- فكذا يلزم من الحكم بعدم اقتداره عليه- عجزه؛ فلم كان نفى أحد العجزين عنه أولى من الآخر؟. وأيضًا: إذا فرضنا أن الله تعالى قادر على إقامة المعجزة على يد الكاذب، فمع هذا الفرض: إما أن يكون تصديق الرسول ممكنًا، أو لا يكون: فإن أمكن، بطل قوله: إنه يلزم من قدرة الله تعالى على إظهار المعجز على يد الكاذب- عجزه عن تصديق الرسول. وإن لم يكن ذلك ممكنًا، لم يلزم العجز؛ لأن العجز إنما يتحقق عما يصح أن يكون مقدورًا في نفسه؛ ألا ترى أن الله لا يوصف بالعجز عن خلق نفسه. وأيضًا: فإذا استحال يقدر الله تعالى على تصديق رسله، إلا إذا استحال منه إظهار المعجزة على يد الكاذب، وجب أن ينظر أولًا: أن ذلك، هل هو محال، أم لا؟ وألا يستدل باقتداره على تصديق الرسل على عدم قدرته على إظهاره على يد الكاذب؛ لأن ذلك تصحيح الأصل بالفرع؛ وهو دور.

وأيضًا: إذا تأملنا، علمنا أن ذلك غير ممتنع؛ لأن قلب العصا حية، لما كان مقدورًا لله تعالى وممكنًا في نفسه، لم يقبح من الله تعالى فعله في شيء من الأوقات، وبشيء من الجهات؛ فبأن قال زيد كاذبًا: (أنا رسول الله) يستحيل أن ينقلب الممكن ممتنعًا، والمقدور معجوزًا. سلمنا ذلك؛ لكن المعجز يدل على كونه صادقًا في ادعاء الرسالة فقط، أو على صدقه في كل ما أخبر عنه؟!. الأول مسلم، والثاني ممنوع: بيانه: أن الرجل إذا أدعى الرسالة، وأقام المعجز، كان المعجز دالا على صدقه فيما ادعاه، وهو كونه رسولًا، لا على صدقه في غير ما ادعاه، فإن الرسول ما ادعى كونه صادقًا في جميع الأمور، أو لا يعلم أنه أدعى الصدق في كل الأمور. فإذن هذا المطلوب لا يتم إلا بإقامة الدلالة على أنه ادعى كونه صادقًا في جميع ما يخبر عنه، ثم أقام المعجزة عليه، وذلك لا يكفي فيه قيام المعجز على ادعاء الرسالة، وكيف، والعلماء اختلفوا في جواز الصغائر على الأنبياء، بل جوز بعضهم الكبائر عليهم، واتفقوا على جواز السهو والنسيان؟!. بل الصواب أن يقال: إن ظهر المعجز عقيب ادعاء الصدق في كل ما يخبر عنه، وجب الجزم بتصديقه في الكل؛ وإلا ففي القدر المدعى فقط. الخامس: خبر كل الأمة عن الشيء يجب أن يكون صدقًا؛ لقيام الدلالة على أن الإجماع حجة.

السادس: خبر الجمع العظيم عن الصفات القائمة بقلوبهم من الشهوة والنفرة لا يجوز أن يكون كذبًا. وأيضًا: الجمع العظيم البالغ إلى حد التواتر، إذا أخبر واحد منهم عن شيء غير ما أخبر عنه صاحبه، فلا بد، وأن يقع فيها ما يكون صدقًا، ولذلك نقطع بأن الأخبار المروية عنه - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الآحاد- ما هو قوله، وإن كنا لا نعرف ذلك بعينه. السابع: اختلفوا في أن القرائن، هل تدل على صدق الخبر أم لا؟ فذهب النظام وإمام الحرمين والغزالي إليه، والباقون أنكروه. احتج المنكرون بأمور: أولها: أن الخبر مع القرائن التي يذكرها النظام، لو أفاد العلم، لما جاز انكشافه عن الباطل، لكن قد ينكشف عنه؛ لأنا قد علمنا أن الخبر عن موت إنسان مع القرائن التي يذكرها النظام من البكاء عليه، والصراخ، وإحضار الجنازة والأكفان، قد ينكشف عن الباطل؛ فيقال: (إنه أغمى عليه، أو لحقته سكتة، أو أظهر ذلك؛ ليعتقد السلطان موته، فلا يقتله). فثبت أن هذه القرائن لا تفيد العلم. الثاني: لو كانت القرائن هي المفيدة للعلم، لجاز ألا يقع العلم عند خبر التواتر؛ لعدم تلك القرائن؛ ولما لم يجز ذلك، بطل قوله. الثالث: لو وجب العلم عند خبر واحد، لوجب ذلك عند خبر كل واحدٍ، كما أن الخبر المتواتر، لما اقتضاه في موضعٍ، اقتضاه في كل موضعٍ.

والجواب عن الأول: أن الذي ذكرتموه لا يدل إلا على أن ذلك القدر من القرائن لا يفيد العلم، ولا يلزم منه ألا يحصل العلم بشيء من القرائن؛ لأن القدح في صورة خاصة لا يقتضي القدح في كل الصور. وعن الثاني: أن النظام يلتزم، ويقول: خبر التواتر ما لم تحصل فيه القرائن؛ لم يفد العلم، ومن تلك القرائن أن يعلم أنه ما جمعهم جامع؛ من رغبةٍ، أو رهبةٍ، أو التباسٍ. سلمنا ذلك؛ لكن لا يلزم من قولنا: (القرائن تفيد العلم) قولنا: (إنها هي المفيدة) وبتقدير أن تكون هي المفيدة؛ فلم قلت: يجوز انفكاك خبر التواتر عنها؟!. وعن الثالث: أن خبر الواحد إنما يفيد العلم، لا لذاته فقط؛ بل بمجموع القرائن؛ فمتى حصل ذلك المجموع، مع أي خبرٍ كان، أفاد العلم. وأيضًا: فالعلم الحاصل عقيب خبر التواتر عندكم حاصل بالعادة؛ فيجوز أيضًا أن يكون حصوله عقيب القرائن بالعادة، وإذا كان كذلك، جاز أن تكون هذه العادة مختلفة، وإن كانت مطردة في التواتر. والمختار: أن القرينة قد تفيد العلم، إلا القرائن؛ لا تفي العبارات بوصفها؛ فقد تحصل أمور يعلم بالضرورة عند العلم بها كون الشخص خجلًا، أو وجلًا، مع أنا لو حاولنا التعبير عن جميع تلك الأمور، لعجزنا عنه، والإنسان إذا أخبر عن كونه عطشان، فقد يظهر على وجهه ولسانه من أمارات العطش ما يفيد بكونه صادقًا، والمريض إذا أخبر عن ألمٍ في بعض أعضائه، مع أنه يصيح،

شرح القرافي: قوله: اختلف أرباب الملل في الاستدلال على حسب اختلافهم في مسألتي الحسن والقبح والمخلوق)

وترى عليه علامات ذلك الألم، ثم إن الطبيب يعالجه بعلاج، لو لم يكن المريض صادقًا في قوله، لكان ذلك العلاج قاتلًا له، فهاهنا يحصل العلم بصدقه. وبالجملة: فكل من استقرأ العُرف، عرف أن مستند اليقين في الأخبار، ليس إلا القرائن؛ فثبت أن الذي قاله النظام حق. (الباب الثاني) في غير التواتر الدال على الصدق مثال، الضروري الإخبار مثال الاستدلال الإخبار عن كون العالم حادثًا قال القرافي: قوله: اختلف أرباب الملل في الاستدلال على حسب اختلافهم في مسألتي الحسن والقبح والمخلوق): تقريره: (أن الكلام هاهنا إنما هو في الكلام اللساني لا في النفساني، واختلف الناس في لفظ القرآن هل هو مخلوق أم لا؟ وفي الحسن والقبح العقليين، فمن قال بهما قال: الكذب قبيح، لما فيه من الإبهام والتضليل عن المصالح. ومن قال: إن الله- تعالى- له هداية الخلق أجمعين، وإضلالهم أجمعين لا يسأل عما يفعل- وهو مذهبنا- جوز أن يخلق أصواتًا في بعض مخلوقاته غير مطابقة، فيخلق في بعض الأحساب النطق بقول تلك الحيثية: الواحد نصف العشرة، ولفظ القرآن كله مخلوق في جبريل- عليه السلام- عندنا، ولا امتناع في خلق الكذب؛ فإن كل كذب في العالم عندنا مخلوق الله- تعالى- لأنه الخالق لكل شيء. هذا وجه التفريع على القبح العقلي، وأما المخلوق، فالمراد أن لفظ القرآن مخلوق أم لا؟ فمن قال إن: لفظ القرآن صفة ذاته، كما مذهب الحشوية وجماعة منهم، استحال فيه الكذب.

ومن قال: إنه ليس صفة ذاته؛ بل مخلوق في عباده جوز بالتفسير المتقدم، وكل من جوز ذلك لعدم قوله بالقبح، أو لاعتقاده أن لفظ القرآن مخلوق في الخلق، قال بالاستحالة لوجه آخر، وهو قرائن السياق، وتكرر الآيات وأمور حالية ومقالية أفادت القطع بأن المراد بالخبر ما يطابقه، ولهذا قال: كلام الله- تعالى- صدق باتفاق أهل الملل، مع أن الخلاف بينهم في القبح والمخلوق، فقد اتفقوا على المقصد، واختلفوا في المدرك الدال على ذلك. قوله: (يستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل الجهل عليه). تقريره: أن الله- تعالى- بكل شيء عليم، وتقرر في أصول الدين أن كل عالم يخبر عن معلومه، وذلك في غاية الظهور في العلوم التصديقية؛ لأنا إذا حكمنا أن العالم حادث، فلا بد أن يقوم بنفوسنا إسناد الحدوث إلى العالم، والإسناد خبر، فنحن مخبرون؛ لأنا عالمون. وأما في العلوم التصويرية فإنا إذا تصورنا حقيقية العالم، فلا بد أن نعلم أنا متصورون للعالم، أو يجوز علينا أن نعلم ذلك، والجائز في حق الله- تعالى- ذاته واجب الوقوع له، فيجب أن يعلم أن الله- تعالى- عالم بحقيقة العالم، وهذا تصديق، فقد تقدم تقرير لزوم الخبر له، فعلمنا أن الخبر لازم لمطلق العلم في حق الله- تعالى- كان العلم علمًا بالمفردات، أو بالتصديقات، فظهر وجوب قيام الصدق بذات الله- تعالى- على وفق العلم، فلو فرضنا ضده به إما أن يكون العلم بخلافه، فيلزم اجتماع الضدين وهو محال، أو لا مع العلم، فيلزم الجهل، وهو محال. قوله: (المعجز في حق الرسول- عليه السلام- قائم مقام التصديق). تقريره: أن العلماء اختلفوا في المعجزة هل هي قائمة مقام التصديق، أو تدل على الصدق فقط لا على تصديق غيره؟ وتقريره بالمثال الذي ذكروه أن الملك العظيم الجلالة والأبهة والعظمة إذا قام أحد في مجلسه بمحضر رعيته،

وقال: أيها الملك إني قلت لهذه الرعية: إني رسولك إليهم، فطلبوا مني دليلًا على صدقي في ذلك، وأنا أسألك أن تخالف عادتك، وتضع تاجك عن رأسك، أو تتحرك بحركة لم يجر عادتك بها، ففعل الملك ذلك عند سماع قوله، والرعية تعلم أنه سمعه في دعواه الرسالة عليه، وسؤاله ذلك منه، فإن الرعية عقيب ذلك الفعل يحصل لها العلم الضروري، بل الملك إنما فعل ذلك لإجابة دعوته، وأنه صدقه في دعواه عليه، فقد قام فعله مقام قوله: (صدق هذا في دعواه)، فهذا وجه قيام المعجزة مقام التصديق، أن الخارق قرينة تفيد في مجرى العادة القطع بصدق الرسول، وأنه لو لم يكن صادقًا لما خرق العوائد مضافًا إلى قرائن الأحوال من سجاياه الكريمة، وفرط ميله إلى الصدق بطبعه، وفرط نفوره من الكذب، وزهده في الدنيا، وبعده عن طلب الرئاسة إلى غير ذلك من القرائن الحالية التي هي وحدها تفيد العلم بصدقه، ولذلك لم يحتج الصديق- رضي الله عنه- في إيمانه غيرها، فقال له: أبعثت؟ فقال: نعم. قال: صدقت؛ لعلمه بأنه بالضرورة لا يقول إلا حقًا، وبهذه القرائن يحصل الفرق بين النبي والساحر وغيره، والقرينة قد تدل على صدق القائل، وإن لم تدل على تصديق غيره له، فإن من ادعى أنه تقدم له مرض، ورأيناه اشتد هزاله واصفراره، وضعف قواه إلى غير ذلك من هذه القرائن المفيدة للعلم قطعنا بصدقه، وإن لم يصدقه غيره، فعلمنا أن القرينة قد تفيد الصدق دون التصديق، ولما كان التصديق هو الإخبار عن الصدق توقف على كون المصدق لغيره متكلمًا، فلا يلزم الدور الذي قال: إنه يلزم من الاستدلال بالنبوة على صدق الرسل الدور، وأما الصدق فلا يلزم منه الدور؛ لأنه يثبت، سواء فرض المدعى عليه الرسالة متكلمًا صادقًا أم لا. فإن قلت: الرسالة لا تكون إلا كلامًا، فغير المتكلم لا تتأتى منه الرسالة، فالصدق حينئذ يتوقف على الكلام على التقديرين، فيلزم الدور على التقديرين.

قلت: الرسالة تتوقف على الكلام، والدور إنما لزم من توقف الرسالة على صدق المرسل لا على كونه متكلمًا، والرسالة قد تكون أوامر ونواهي، فلا يدخلها الصدق والكذب؛ لأنهما من خصائص الأخبار، ولو فرض المرسل لشخص ما أرسله بأخبارات كاذبة صحت الرسالة، وصدق الرسول، وإن كان مرسله غير صادق، فعلمنا أن الدور إنما يكون من توقف صدق المرسل على صدق الرسول وبالعكس، أما من توقف الرسالة والصدق فيها على الكلام فلا. قوله: (الرسالة تقوم مقام قول القائل: أنت وكيلي، وهذا إنشاء لا يدخله التصديق والتكذيب). تقريره: أن قوله: (أنت وكيلي) كقوله: بعت واشتريت، فكما أن بعت واشتريت لا يقبل التصديق، فكذلك أنت وكيلي، وقد تقدم الفرق بين الإخبار والإنشاء من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن الخبر يقبل التصديق والتكذيب، بخلاف الإنشاء. ثانيها: أن الخبر تابع لمدلوله، والإنشاء يتبعه مدلوله. ثالثها: أن الإنشاء سبب لمدلوله، والخبر لا يكون سببًا للمخبر عنه، فإن (بعت واشتريت) سبب لذلك وبيعه الملك. وقولنا: (قام زيد) ليس سببًا لقيامه، وهو يتبع قيامه. قوله: (كون الرسول- عليه السلام- صادقًا من الأوصاف الحقيقية، فلا يختلف بالجعل الشرعي، فلا طريق إلى صدق الرسول إلا بصدق المرسل، فيلزم الدور). قلنا: مسلم أن الصفة الحقيقية لا تقبل التغير من حيث الأحكام الشرعية، وإن قبلته من جهة تأثير القدرة في خلو ضدها، لكن لا يلزم حينئذٍ انحصار طرق الصدق في تصديق المرسل، بل بالقرائن الحالية كما تقدم بيانه.

قوله: (قولكم: الحكم إنما يكون ممن يتصور منه الجهل ليست قضية بديهية فما البرهان؟): قلنا: قد تقدم أنه لو لم يكن منشأ عن الجهل كان مع العلم، والعلم يلزمه الإخبار للصدق، فيجتمع الضدان، فهذا برهان على ذلك. قوله: (اختلفوا في الضمير في (بسم الله الرحمن الرحيم): تقريره: أن الجار والمجرور لا بد له من عامل، واختلف في ذلك العامل فقال البصريون: يضمر مبتدأ تقديره ابتداء في بسم الله الرحمن الرحيم. وقال الكوفيون: يضمر فعل تقديره: ابتدائي بسم الله الرحمن الرحيم. وقيل: يضمر أمر تقديره: ابتدئوا بسم الله الرحمن الرحمين. وقيل: لا بضمر إلا متأخرًا من جنس الفعل الذي يبسمل لأجله، فإن كان يأكل قال: بسم الله آكل، أو ينام قال: بسم الله أنام. وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يرجح هذا من وجهين: الأول: أنه الوارد في السنة في قوله عليه السلام: (اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت، اللهم باسمك ربى وضعت جنبي، وباسمك أرفعه) كان يقول ذلك عند النوم. والثاني: أن إضمارهم للابتداء، و (أبتدئ) إنما يتناول الفعل؛ لأنه

مبتدؤه، ويبقى بقية الفعل عريًا عن البركة، وعلى ما ذكرناه تكون البركة كاملة لجميعه، فهذه ثلاثة تقديرات خبر، وتقدير أمر. قوله: (الصادق أكمل من غير الصادق): قلنا: البحث إنما هو هاهنا عن الكلام اللساني، وقد تقدم أن خلقه غير مطابق من الجائزات على الله تعالى، وما ذكرتموه ينفي جوازه، فيكون باطلًا، ثم ما ذكرتموه ينتقض بأن الذي يغفر أفضل من الذي لا يغفر، والذي يعطى أفضل من الذي لا يعطى، والله- تعالى- قد لا يعطى، وقد لا يغفر، فيلزم أن يكون أحدهما أكمل، وذلك محال، فيلزم أن يكون عدم المغفرة، وعدم العطاء من الله- تعالى- محالًا، ولم يقل أحد به، فيتعين إنما كان من قبيل الجائزات على الله- تعالى- لا يصح ذلك فيه أصلًا، فلا يصح في صورة النزاع لما تقدم أنه من الجائزات. قوله: (خبر الجم الغفير عن الصفات القائمة بقلوبهم من الشهوة والنفرة لا يجوز أن يكون كذبًا): تقريره: أنهم إذا أخبروا عن كونهم ينفرون من هذا الشيء المعين، أفاد ذلك القطع بأن هذا الشيء اشتمل على ما يوجب النفرة عنه، وكذلك يجب اشتماله على ما هو يوجب أن يشتهي إن أخبروا عن أنهم يشتهونه، ولولا هذا الحرف فسد هذا الوضع؛ لأن كل واحد منهم إذا أخبر عن شهوة نفسه، أو نفرتها، فمخبر كل واحد منهم غير مخبر الآخر، فلا يحصل القطع بشيء من تلك الشهوات، ولا تلك النفرات؛ لأنه لم يجتمع في واحد منها اثنان، أو يحمل على أن فيهم من صدق فيما أخبر به من الشهوة قطعًا؛ لاستحالة اجتماعهم على الكذب بأجمعهم، وهو الذي تطابق تمثيله بالرواية عن النبي عليه السلام.

(فائدة) الجم: معناه الكثير، ومنه قول العرب: جاءوا الجم الغفير

(فائدة) الجم: معناه الكثير، ومنه قول العرب: جاءوا الجم الغفير؛ أي العدد الكثير الذي غطى الأرض؛ فإن الغفير من الغفر الذي هو الستر، ومنه المغفرة للذنوب، و (المغفر) للرأس؛ لأن الرأس تستتر به، والذنوب لا يظهر لها أثر. قوله: (قد تنكشف القرائن عن الكذب). قلنا: إنما يتجه هذا أن لو قلنا: إن كل قرائن تفيد العلم، بل إنما قلنا: بعضها، وحيث انكشف الأمر على خلاف الخبر كان ذلك من القسم الذي لا يفيد. (تنبيه) قال التبريزى على قول المصنف في الدور بين الاستدلال بدلالة المعجزة على صدق الرسول: إن دلالة الشعور بكيفية صفات الله- تعالى إجمالًا لا تفصيلًا، ولهذا يتصور البحث عنه بعد تفرد دلالة المعجزة على صدق الرسول. يريد: أن المعجزة إنما تدل على صدق المرسل دلالة إجمالية، ثم قال: ودلالة المعجزة لا تختص بدعوى الرسالة فقط. يريد: بل تعم الأوامر والنواهي، وجميع ما يبلغه عن الله- تعالى- من كلامه، فتحصل الدلالة على الصدق في جميع كلام الله- تعالى- ثم قال على قول المصنف: (البحث إنما وقع عن الكلام اللساني دون النفساني): إن اللساني إنما يستحق اسم الكلام من حيث إنه عبارة عن النفساني بدليل أن كلام المبرسم ومن اضطر إلى العبارات، فإنه لا يسمى متكلمًا، فيلزم

حينئذ من صدق أحدهما صدق الآخر، وإن فرض السؤال عن امتناع خلق عبارات مع تعبير إيهام عن القائم بالنفس، ولا يكون كذلك، فذلك يرجع إلى جواز الإضلال على الله- تعالى- وتلك مسألة أخرى. قال: وأما مطالبة المصنف بالبرهان، فهو أن الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم، فلو كان الخبر كذبًا، لم تكن النسبة مطابقة لما في الوجود، فلم تكن جميع أجزاء القضية علومًا؛ لأنه لم يكن على ما هو عليه، وهو جهل. قال: وأما ما اعتمد عليه فنقول: ما معنى الكمال ليمكننا تسليم أن الصادق أكمل من الكاذب أم لا؟ وإذا لم يمكن الانتهاء في تفهيمه إلى حد يضطر العقلاء إلى تسليمه إلا باعتبار الشبهة والإضافة، فكيف يمكن دعوى الضرورة في ثبوته لشيء في ذاته؟ ولأن البحث إذا كان عن الأصوات المسموعة، ونظمها على وجه مخصوص، ولم ينظر إلى نظمها علمًا وجهلًا، أو إرشادًا وضلالًا، وموافقة غرض، ومخالفته إلى جهة أخرى من جهات الحسن والقبح، فأي فرق يقتضيه العقل في الكمال بين صورتين متماثلتين في نظمهما: زيد في الدار اتفق الوجود على وفق أحدهما، وخلاف الأخرى، وهل هما إلا كما إذا رقم هذا النظم على لوح مرتين لامتحان، أو عبث، أو جرى على لسان نحوى في معرض المطارحة للتعليم والتمثيل؛ ولأن الكلام بهذا التفسير فعل، والكلام من صفات الذات، ويستحيل أن يعود من الفعل وصف كمال إلى الذات؛ ولأنا نقول: ما الدليل على وجوب اختصاص الباري- تعالى- بوصف الكمال من جميع الوجوه، ولا يدل عليه نقل؛ إذا فيه دور كما زعم؟ ودعوى الضرورة في هذا المقام محال مع مصير الفلاسفة إلى سلب الاختيار عن الباري- تعالى- والعلم بالجزئيات، والقدرة، والتأثير فيما عدا العقول الأول، ومصير المعتزلة إلى عجزه عما يقدر عليه العبد من العلوم والمعارف، ومحاسن الحركات والسكنات، وهي أشرف وأكمل من الألوان والطعوم، وكثير من الجواهر والأعراض، وكون العالم يتصرفون على خلاف مراده عندهم.

تنبيه) قال سراج الدين على قول المصنف: إذا كانت قدرته- تعالى- على تصديق الرسل

ثم قال في الرد على المصنف في رده على الغزالي في قوله: (دليل صدق الرسول- عليه السلام- إظهار المعجزة على يده مع استحالة ظهورها على يد الكاذب)، قال المصنف: (ليس أحد العجزين أولى من الآخر). قال التبريزي: الأصحاب إنما ادعوا استحالة ذلك في نفسه، ولا عدم اقتدار الباري- تعالى- عليه مع إمكانه، بل امتناع وقوعه لأدائه إلى ارتفاع التمييز، وسد باب التصديق بالفعل، فلا يؤدي إلى إثبات العجز في حق الله- تعالى- ولأن تصديق الرسول من المقدورات العقلية، ويفرض خلق المعجزة على يد الكذابين يخرج عن جائزات العقول. قلت: خلق التصديق للرسول في صدور الأمم من الأمور الممكنة التي لله- تعالى- أن يخلقها مع المعجزة، ولا مع المعجزة، فلو أراد الله- تعالى- أن يصدق رسله، ويهدى بريته من غير معجز فعل، وحينئذ لا يخرج هذا الجائز باستواء النبي، والكاذب في المعجزة، ثم قال: ودلالة المعجزة مسترسلة على كل ما يبلغه الرسول- عليه السلام- ويخبر به عن الله- تعالى- فإنه مضمون دعوى التحدي بالنبوة، وهو المقصود من ابتعاث الرسل، ولذلك لم يختلج هذا التردد في صدر أحد ممن اطمأن في تصديقه إلى دلالة المعجزة، ولولا ذلك لارتفع الإيمان، وبطلت فائدة أصل التصديق. تنبيه) قال سراج الدين على قول المصنف: إذا كانت قدرته- تعالى- على تصديق الرسل فرع عدم قدرته على إظهار المعجزة على يد الكاذب فلا يستدل باقتداره على تصديق الرسل على عدم قدرته على إظهار المعجزة على يد الكاذب؛ لأنه تصحيح الأصل بالفرع، وهو دور). قال: ولقائل أن يقول: نقيض كل لازم يستدل به على نقيض ملزومه مع الفرعية المذكورة، والممكن في نفسه قد يمتنع عند وجود غيره). * * *

القول في الطرق الفاسدة وهي خمسة

القول في الطرق الفاسدة وهي خمسة قال الرازي: الأول: إذا أخبر واحد بحضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، والرسول ترك الإنكار عليه، قال بعضهم: ذلك يدل على كون ذلك الخبر صدقًا. والحق أن يقال: ذلك الخبر: إما أن يكون خبرًا عن أمر يتعلق بالدين، أو بالدنيا: فإن كان عن الدين: فسكوته، عليه الصلاة والسلام، عن الإنكار يدل على صدقه، لكن بشرطين: أحدهما: ألا يكون قد تقدم بيان ذلك الحكم، والثاني: أن يجوز تغير ذلك الحكم عما بينه فيما قبل. وإنما وجب اعتبار هذين الشرطين؛ لأن بيان الحكم، لو تقدم، وأمنا عدم تغيره، كان فيما سبق من البيان ما يغنى عن استئناف البيان؛ ولهذا لا يلزمه، عليه الصلاة والسلام، تجديد الإنكار حالًا بعد حال على الكفار. وأما القسم الثاني؛ وهو الخبر عن أمر متعلق بالدنيا: فسكوته، عليه الصلاة والسلام، يدل على الصدق بأحد شرطين: أحدهما: أن يستشهد بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدعى عليه علمه بالمخبر عنه. وثانيها: أن يعلم الحاضرون علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بتلك القصة؛ ففي كل واحد من هذين الوجهين يجب صدق الخبر؛ إذ سكوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - هاهنا يوهم التصديق؛ فلو كان المخبر كاذبًا، لكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أوهم تصديقه؛ وإنه غير جائز. وأما إذا علمنا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم المخبر عنه، أو جوزنا ذلك، لم يلزم

حينئذ من السكوت عن التكذيب حصول التصديق؛ لأنه، عليه الصلاة والسلام، يجوز سكوته، لاحتمال كونه متوقفًا في الأمر. الثاني: قالوا: إذا أخبر الواحد بحضرة جماعة كثيرة عن شيء؛ بحيث لو كان كذبًا؛ لما سكتوا عن التكذيب، كان ذلك دليلًا على صدقه فيه؛ لأنهم: إما أن يكونوا سكتوا، مع علمهم بكذبه، أو لا مع علمهم بكذبه: والأول: باطل؛ لأن الداعي إلى التكذيب قائم، والصارف زائل ومع حصول هذين الشرطين يجب الفعل، فلما لم يوجد، دل على أنهم لم يعملوا كذبه. وإنما قلنا: (إن الداعي حاصل)؛ لأن من استشهد على خبر كذب، فأراد الصبر على التكذيب، وجد من نفسه مشقة على ذلك الصبر، وذلك يدل على حصول الداعي. وأما زوال الصارف، فإن ذلك الصارف: إما رغبة، أو رهبة، والجمع العظيم لا يعمهم من الرغبة أو الرهبة ما يحملهم على كتمان ما يعلمونه، ولهذا لا يجتمعون على كتمان الرخص والغلاء العظيمين. فأما القسم الثاني؛ وهو أن يقال: (سكتوا؛ لعدم علمهم بكذب القائل) فباطل؛ لأنه يبعد عن الجمع العظيم أن لا يطلع واحد منهم عليه. واعلم أن هذا الطريق لا يفيد اليقين؛ بل الظن؛ لأنه لا يمكننا القطع بامتناع اشتراك الجماعة الذين حضروا في رغبة، أو رهبة مانعة من السكوت، وإن سلمناه؛ لكن لا يستبعد غفلة الحاضرين عن معرفة كونه كذبًا؛ إذا ربما لم يتعلق لهم به غرض؛ فلم يبحثوا عنه.

الثالث: زعم أبو هاشم والكرخي وتلميذهما أبو عبد الله البصري: أن الإجماع على العمل بموجب الخبر يدل على صحة الخبر، وهذا باطل من وجهين: أحدهما: أن عمل كل الأمة بموجب الخبر لا يتوقف على قطعهم بصحة ذلك الخبر؛ فوجب ألا يدل على صحة ذلك الخبر. أما الأول: فلأن العمل بخبر الواحد واجب في حق الكل؛ فلا يكون عملهم به متوقفًا على القطع به. وأما الثاني: فلأنه لما لم يتوقف عليه، لم يلزم من ثبوته ثبوته. الثالث: أن عملهم بمقتضى ذلك الخبر يجوز أن يكون لدليلٍ آخر؛ لاحتمال قيام الأدلة الكثيرة على المدلول الواحد. واحتجوا: بأن المعلوم من عادة السلف فيما لم يقطعوا بصحته- أن يرد مدلوله بعضهم، ويقبله الآخرون. والجواب: هذه العادة ممنوعة؛ بدليل اتفاقهم على حكم المجوس بخير عبد الرحمن. الرابع: قال بعض الزيدية: بقاء النقل، مع توفر الدواعي على إبطاله، يدل على صحة الخبر؛ كخبر الغدير، والمنزلة؛ فإنه سلم نقلهما في زمان بني أمية، مع توفر دواعيهم على إبطالهما، وهذا أيضًا ليس بشيء؛ لاحتمال أنه كان من باب الآحاد أولًا، ثم اشتهر فيما بين الناس، بحيث عجز العدو عن إخفائه، ولأن الصوارف من جهة بني أمية، وإن حصلت، لكن الدواعي من جهة الشيعة حصلت، ولأن الناس، إذا منعوا من إفشاء فضيلة إنسانٍ كانت محبتهم له وحرصهم على ذكر مناقبه أشد مما لم يمنعوا.

شرح القرافي: قوله: (إذا أخبر بحضرة الرسول عليه السلام، وسكت عن الرد عليه، وقد استشهد به، وعلمنا علمه بذلك، وأمنا التغيير، فإن المخبر حينئذ يجب صدقه

الخامس: اعتمد كثير من الفقهاء والمتكلمين في تصحيح خبر الإجماع وأمثاله: بأن الأمة فيه على قولين: منهم من احتج به، ومنهم من اشتغل بتأويله؛ وذلك يدل على اتفاقهم على قبوله، وهو ضعيف أيضًا؛ لاحتمال أن يقال: إنهم قبلوه، كما يقبل خبر الواحد. ويمكن أن يجاب عنه: بأن خبر الواحد يقبل في العمليات، لا في العلميات، وهذه المسألة علمية، فلما قبلوا هذا الخبر فيها، دل ذلك على اعتقادهم في صحته. والجواب: لا نسلم أن كل الأمة قبلوه، بل كل من لم يحتج به في الإجماع طعن فيه؛ بأنه من باب الآحاد؛ فلا يجوز التمسك به في مسألة علمية، بل هب أنهم ما طعنوا فيه على التفصيل، لكن لا يلزم من عدم الطعن من جهة واحدة- عدم الطعن مطلقًا. القول في الطرق الفاسدة وهي خمسة قال القرافي: قوله: (إذا أخبر بحضرة الرسول عليه السلام، وسكت عن الرد عليه، وقد استشهد به، وعلمنا علمه بذلك، وأمنا التغيير، فإن المخبر حينئذ يجب صدقه؛ لأن سكوته- عليه السلام- يوهم التصديق له، فلو كان كاذبًا لأوهم تصديق الكاذب): قلنا: إن ادعيتم أن هذا يوجب ظن الصدق ظنًا قويًا فمسلم، وأما القطع فممنوع؛ لأنه- عليه السلام- غير معصوم من عوارض الأسقام، والأحوال المتعلقة بخصوص البشرية، ومن أين لنا القطع بأنه- عليه السلام- في تلك الحالة ما حصل له ذهول، وشاغل نفسي منعه من تأمل معنى كلام ذلك القائل؟ وبالجملة فالاحتمالات ها هنا فيها اتساع، والقطع ليس بظاهر.

قوله: (عمل الأمة بالخبر لا يتوقف على صحة الخبر؛ لأن خبر الواحد يجوز العمل به): قلنا: مسلم انه يجوز الإقدام على العمل بالخبر الذي لا يقطع بصدقه، لكن إذا عملوا به، وهو عندهم خبر واحد غير معلوم الصدق لهم صار معلوم الصدق لنا؛ لنهم معصومون عن العمل بالخطأ، فيقطع بصدق ما عملوا به، وهو الذي قاله أبو هاشم. قوله: (إن خبر الغدير والمنزلة بقى مع توافر الدواعي على إبطاله): تقريره: أما الغدير فهو موضع قال فيه النبي عليه السلام: (من كنت مولاه فغن عليا مولاه). وحديث المنزلة حديث آخر، وهو قوله- عليه السلام- لما خرج من (المدينة) واستخلف عليا- رضي الله عنه- فشق عليه ذلك لتأخره عن الجهاد فقال عليه السلام: (أنت منى بمنزلة هارون من موسى) إشارة إلى استخلاف موسى- عليه السلام- هارون- عليه السلام- على بني إسرائيل لما ذهب للمناجاة. قصد عليه السلام بذلك تسليته، وتسهيل القعود عليه.

الباب الثالث قال الرازي: في الخبر الذي يقطع بكونه كذبا، وهو أربعة

الباب الثالث قال الرازي: في الخبر الذي يقطع بكونه كذبًا، وهو أربعة: الأول: الخبر الذي ينافي مخبره وجود ما علم بالضرورة، سواء كان المعلوم بالضرورة حسيًا أو وجدانيًا، أو بديهيا. ومن هذا الباب قول القائل الذي لم يكذب قط: (أنا كاذب)؛ فهذا الخبر كذب؛ لأن المخبر عنه بكونه كاذبًا: إما أن تكون الأخبار التي وجدت قبل هذا الخبر، أو هذا الخبر. والأول: باطل؛ لأن تلك الأخبار، لما كانت كذبًا، فإخباره عن نفسه بكونه كاذبًا فيها- كذب. والثاني: باطل؛ لأن الخبر عن الشيء يتأخر في الرتبة عن المخبر عنه؛ فإن جعلنا الخبر عين المخبر عنه، لزم تأخر الشيء عن نفسه في الرتبة وهو محال. الثاني: الخبر الذي يكون مخبره على خلاف الدليل القاطع، ثم ذلك الخبر إما أن يحتمل تأويلًا صحيحًا، أو لا يحتمله: فإن احتمله فإما أن يحتمل تأويلًا قريبًا، أو تأويلًا متعسفًا: فإن كان قريبًا، جاز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تكلم به: لإرادة المعنى؛ كما في متشابهات الكتاب، وإن كان متعسفًا، حكم: إما بكذبه، وإما بأنه كان معه زيادة، أو نقصان يصح الكلام معه، مع أنه لم ينقل، وكذا القول فيما لا يقبل التأويل. الثالث: وهو في الحقيقة داخل تحت القسم الثاني: الأمر الذي، لو

وجد، لتوفرت الدواعي على نقله، على سبيل التواتر: إما لتعلق الدين به؛ كأصول الشرع، أو لغرابته؛ كسقوط المؤذن من المنارة، أو لهما جميعًا؛ كالمعجزات، ومتى لم يوجد ذلك، دل على كذبه، والخلاف فيه مع الشيعة؛ فإنهم جوزوا في مثل هذا الشيء ألا يظهر لأجل الخوف والتقية. لنا: لو جوزنا ذلك، لجوزنا أن يكون بين البصرة وبين بغداد بلدة أعظم منهما، مع أن الناس ما أخبروا عنها، ولجوزنا أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أوجب عشر صلوات، لكن الأمة ما نقلت إلا خمسة، ولما كان ذلك باطلًا، فكذا ما أدى إليه، فإن قيل: هذا الكلام ظلم؛ لأن العلم بعدم هذه الأمور: إما أن يكون متوقفًا على العلم بأنه لو كان، لوجب نقله، أو لا يكون متوقفًا عليه: فإن كان الأول: وجب أن يكون الشاك في الأصل شاكًا في هذه الفروع؛ لكن الناس، كما يعلمون بالضرورة وجود بغداد والبصرة، يعلمون بالضرورة عدم بلدة بينهما أكبر منهما، والعلم الضروري لا يكون متوقفًا على العلم النظري. وإن كان الثاني: فحينئذ: العلم بعدم هذه البلدة غير متوقفٍ على العلم بأنها، لو كانت، لنقلت؛ فلا يلزم من عدم هذا عدم ذاك. سلمنا توقف العلم بعدم هذه الأمور على العلم بأنها، لو كانت، لنقلت؛ لكن ما ذكرتموه مثال واحد، ولا يلزم من حصول الحكم في مثال واحد على وفق قولكم حصوله في كل الصور على وفق قولكم، فإن قستم سائر الصور على هذه الصورة، فقد بينا أن القياس لا يفيد اليقين؛ لاحتمال أن يكون ما به فارق الأصل الفرع- شرطًا في الأصل، أو مانعًا في الفرع.

ثم الذي يبين أن الأمر ليس كذلك في كل الصور أمور: أحدهما: أن إفراد الإقامة وتثنيتها من أظهر الأمور وأجلاها؛ ثم إن ذلك لم ينقل بالتواتر. وثانيها: القول في هيئات الصلاة؛ من رفع اليدين والجهر بالتسمية، كل ذلك أمور ظاهرة؛ مع أنها لم تنقل نقلًا متواترًا. وثالثها: انشقاق القمر، وتسبيح الحصى، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، ونبوع الماء من بين الأصابع أمور عظيمة؛ ثم إنها لم تنقل بالتواتر. فإن قلت: ذلك لأنهم استغنوا بنقل القرآن عن فقلها. قلت: لا نسلم حصول الاستغناء بنقل القرآن؛ لأن كون القرآن معجزًا أمر لا يعرف إلا بدقيق النظر، والعلم بكون هذه الأشياء معجزاتٍ علم ضروري؛ فكيف يقوم أحدهما مقام الآخر؟. فإن قلتم: لا نزاع في حصول التفاوت من هذه الجهة؛ ولكن لما كان القرآن دليلًا قاطعًا، جاز أن يصير ظهوره واشتهاره سببًا لفتور الدواعي عن نقل سائر المعجزات، وإن كانت أظهر من القرآن. فنقول: لم لا يجوز أن يقال: إن دلالة قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله} [المائدة: 55] ودلالة خبر الغدير، والمنزلة على إمامة علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- وإن كانت خفية، إلا أن ذلك صار سببًا لفتور الدواعي عن نقل النص الجلي؟. ورابعها: أن أقاصيص الأنبياء المتقدمين والملوك الماضين ما نقلن نقلًا متواترًا؛ وهو يقدح في قولكم.

والجواب: قوله: (العلم بعدم الواقعة العظيمة: إما أن يتوقف على العلم بأنها، لو كانت، لنقلت، أو لا يتوقف): قلنا: يتوقف عليه. قوله: العلم بعدم بلدة بين البصرة وبغداد أكبر منهما علم ضروري، وهذه القاعدة نظرية، والضروري لا يستفاد من النظري): قلنا: لا نسلم انه ضروري؛ ولذلك فإن كل من ادعى نفي هذه البلدة، إذا قيل له: (كيف عرفت عدمها؟) فلا بد، وأن يقول: (لأنها لو كانت موجودة، لاشتهر خبرها؛ كما اشتهر خبر بغداد والبصرة) فعلمنا أن ذلك العدم مستفاد من هذا الأصل. قوله: (ما ذكرته مثال واحد): قلنا: لم نذكر ذلك المثال لاختصاص دليلنا به، بل للتنبيه على القاعدة الكلية. قوله: (ينتقض بالإقامة): قلنا: اختلف أصحابنا في الجواب عنه على وجهين: الأول: وهو قول القاضي أبي بكر: لعل المؤذن كان يفرد مرة، ويثني أخرى. فإن قلت: (فكان يجب أن ينقل بالتواتر كونه كذلك): قلت: يحتمل أن الراوي روى بعض ما رأى، وأهمل الباقي؛ لاعتقاده أن التساهل في مثل هذا الباب سهل، ولا يتعلق به غرض أصلًا في الدين، نفيًا وإثباتًا.

والثاني: لعلهم عرفوا أن هذه المسألة من الفروع التي لا يوجب الخطأ فيها كفرًا ولا بدعة؛ فلذلك تساهلوا فيها، ولما تساهلوا فيها، نسوا ما شاهدوه؛ لا سيما وكانوا مشتغلين بالحروب العظيمة، والذين شاهدوها في زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قتلوا وقلوا؛ فصارت الرواية من باب الآحاد. وأما اختلافهم في الجهر بالتسمية، فعنه أيضًا جوابان: الأول: لعل فعله فيه كان مختلفًا. الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ابتدأ بالقراءة، أخفي صوته، ثم يعلو صوته على التدريج؛ وعلى هذا التقدير: يجوز أن يسمع جهره بالتسمية القريب دون البعيد، وأما سائر المعجزات قلنا: لعل الذين شاهدوا تلك الأشياء كانوا قليلين؛ فلا جرم ما حصل النقل المتواتر. فأما الذين سمعوا النص الجلي في الإمامة: فإن كانوا قليلين، صارت الرواية من الآحاد؛ فلا تكون حجًة قطعيًة، وإن كانوا بالغين حد التواتر، وجب ظهور النقل. وأما أقاصيص سائر الأنبياء: فإنما لم تنتقل بالتواتر؛ لأنه لا يتعلق بروايتها غرض أصلي في الدين؛ بخلاف النص الجلي في الإمامة. الرابع: الخبر الذي يروى في وقت قد استقرت فيه الأخبار، فإذا فتش عنه، فلم يوجد في بطون الكتب، ولا في صدور الرواة، علم أنه لا أصل له، وأما في عصر الصحابة، حين لم تكن قد استقرت الأخبار، فإنه يجوز أن يروي أحدهم ما لم يوجد عند غيره.

مسألة في أن الأخبار المروية عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالآحاد قد وقع فيها ما يكون كذبا

مسألة في أن الأخبار المروية عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالآحاد قد وقع فيها ما يكون كذبًا. ثم في بيان الداعي إلى وضع الكذب عليه؛ فهما، مقامان: أما المقام الأول: فالذي يدل عليه وجوه: أحدها: ما روى عنه- عليه الصلاة والسلام-: (سيكذب على) فهذا الخبر إن كان صدقًا، فلا بد من أن يكذب عليه، وإن كان كذبًا، فقد كذب عليه أيضًا. وثانيها: انه قد حصل في الأخبار مالا يجوز نسبته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يقبل التأويل، وإذا كان كذلك، وجب القطع بكونه كذبًا. وثالثها: ما روى عن شعبة: (أن نصف الحديث كذب). وأما المقام الثاني: وهو سبب الكذب: فاعلم أن ذلك: إما أن يكون من جهة السلف، أو من جهة الخلف، أما السلف: فهم منزهون عن تعمد الكذب، إلا أنه لو وقع ذلك، لوقع على وجوه: أحدها: أن يكون الراوي يرى نقل الخبر بالمعنى، فيبدل مكان اللفظ آخر لايطابقه في معناه، وهو يرى أنه يقوم مقامه. وثانيها: أنهم لا يكتبون الحديث في الغالب، فإذا قدم العهد، فربما نسى اللفظ، فأبدل به لفظًا آخر، وهو يرى أن ذلك اللفظ هو المسموع، وربما نسى زيادة يصح بها الخبر. وثالثها: ربما أدرك الرسول- عليه الصلاة والسلام- وهو يروي متن الخبر،

ولم يذكر إسناده إلى غيره، فيظن أن الخبر من جهته - صلى الله عليه وسلم - ولهذا كان- عليه الصلاة والسلام- يستأنف الحديث، إذا أحس بداخل؛ ليكمل له، ومن ذلك ما روى أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: (الشؤم في ثلاثة: المرأة، والدار، والفرس) فقالت عائشة- رضي الله عنها-: (إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك حكاية عن غيره). ورابعها: أنه ربما خرج الحديث على سبب، وهو مقصور عليه، ويصح معناه به، وما هذا سبيله ينبغي أن يروي مع سببه، فإذا لم يعرف سببه أوهم الخطأ كما روى أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: (التاجر فاجر)، فقالت عائشة رضي الله عنها:- (إنما قال ذلك في تاجر دلس). وخامسها: ما روى أن أبا هريرة كان يروى أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكعب يروي أخبار اليهود، والسامعون ربما ألبس عليهم ذلك، فرووا في الخبر: أنهم سمعوا من أبي هريرة، وإنما سمعوا من كعب. وأما سبب الكذب في الأخبار من جهة الخلف: فوجوه: أحدها: أن الملاحدة وضعوا الأباطيل، ونسبوها إلى الرسول- عليه الصلاة والسلام- تنفيرًا للعقلاء منه؛ كما يروي ذلك عن عبد الكريم بن أبي العوجاء. وثانيها: ما قيل: إن الإمامية يسندون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل ما صح عندهم عن بعض أئمتهم؛ قالوا: لأن جعفر بن محمد قال: (حدثني أبي، وحدثني جدي، وحديث أبي وجدي حديث رسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا حرج عليكم، إذا سمعتم مني حديثًا أن تقولوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وثالثها: أن يكون الراوي يرى جواز الكذب المؤدى إلى صلاح الأمة؛ فإن

من مذهب الكرامية: أنه إذا صح المذهب، جاز وضع الأخبار فيه؛ لأن ذلك سبب لترويج الحق؛ فوجب أن يكون جائزًا. ورابعها: الرغبة؛ كما وضعوا في ابتداء دولة بني العباس أخبارًا في النص على إمامة العباس وولده. مسألة: في تعديل الصحابة- رضي الله عنهم-: مذهبنا: أن الأصل فيهم العدالة، إلا عند ظهور المعارض للكتاب والسنة: أما الكتاب- فقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} [البقرة: 143] وقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين} [الفتح: 18] وقوله تعالى: {والسابقون الأولون} [التوبة: 100]. وأما السنة: فقوله- عليه الصلاة والسلام-: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) وقوله: (ولا تسبوا أصحابي) وقوله: (لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه) وقوله: (خير الناس قرنى). وقد بالغ إبراهيم النظام في الطعن فيهم؛ على ما نقله الجاحظ عنه في كتاب (الفتيا) ونحن نذكر ذلك مجملًا ومفصلًا. أما مجملًا: فإنه روى من طعن بعضهم في بعض أخبارًا كثيرة يأتي تفصيلها، وقال النظام: رأينا بعض الصحابة يقدح في البعض؛ وذلك يقتضى توجه القدح: إما في القادح، إن كان كاذبًا، وإما في المقدوح فيه، إن كان القادح صادقًا.

بيان المقام الأول من وجوه: (أ) قال عمران بن الحصين: (والله، لو أردت، لحدثت عن رسول الله- عليه الصلاة والسلام- يومين متتابعين، فإني سمعت، كما سمعوا، وشاهدت كما شاهدوا؛ ولكنهم يحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم). (ب) عن حذيفة: أنه يحلف لعثمان بن عفان على أشياء بالله: أنه ما قالها، وقد سمعناه قالها، فقلنا له فيه، فقال: (إني أشترى ديني بعضه ببعض؛ مخافة أن يذهب كله). (ج) ابن عباس- رضي اله عنهما- بلغه أن ابن عمر- رضي الله عنهما- يروي (إن الميت ليعذب ببكاء أهله) قال: ذهل أبو عبد الرحمن، إنما مر النبي- عليه الصلاة والسلام- بيهودي يبكي على ميت، فقال: (إنه ليبكي عليه، إنه ليعذب). (د) ابن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي- عليه الصلاة والسلام- قال في الضب: (لا آكله، ولا أحله، ولا أحرمه) فقال زيد الأصم: قلت لابن عباس: إن ناسًا يقولون: إنه- عليه الصلاة والسلام- قال في الضب: (لا آكله، ولا أحله ولا أحرمه) قال: (بئس ما قلتم، ما بعث الله النبي إلا محلا ومحرمًا). (هـ) عن ابن عمر: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على قليب بدر، فقال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟) ثم قال: (إنهم الآن يسمعون ما أقول) فذكروه لعائشة-

رضي الله عنها- فقالت: لا، بل قال: (إنهم ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق). قال النظام: وهذا هو التكذيب. (و) لما روت فاطمة بنت قيس: (أن زوجي طلقني ثلاثًا، ولم يجعل لي رسول الله- عليه الصلاة والسلام- سكنى، ولا نفقة) فقال عمر: (لا نقبل قول امرأة، لا ندرى، أصدقت أم كذبت). وقالت عائشة- رضي الله عنها-: (يا فاطمة، قد قتلت الناس) ومعلوم أنها كانت من المهاجرات، مع انها عند عمر وعائشة- رضي الله عنهما- كاذب. (ز) أراد عمر- رضي الله عنه- ضرب أبي موسى- رضي الله عنه- في خبر الاستئذان؛ حتى شهد له أبو سعيد الخدري. (ح) كان على- رضي الله عنه- يستحلف الرواة؛ فلو كانوا غير متهمين، لما استحلفهم؛ فإن عليا أعلم بهم منا). (ط) حميد بن عبد الرحمن الحميرى بعث ابن أخ له إلى الكوفة، وقال: (سل على بن أبي طالب عن الحديث الذي رواه عنه أهل الكوفة في البصرة، فإن كان حقا فخبرنا عنه) فأتى الكوفة، فلقي الحسن بن على- رضي الله عنهما- فأخبره الخبر، فقال له الحسن: (ارجع إلى عمك، وقل له: قال أمير المؤمنين (يعني أباه): إذا حدثتكم عن رسول الله، فإني لن أكذب على الله، ولا على رسوله، وإذا حدثتكم بر أبي، فإنما أنا رجل محارب) ويروى عنه هذا المعنى بروايات.

قال عمرو بن عبيد الله: وهاشم الأوقص يرى أن قوله: (أمرت أن أقاتل الناس، أو القاسطين، أو المارقين) من ذلك. وقوله في ذي الثدية: (ما كذبت ولا كذبت) فإنه ربما كان الشيء عنده حقًا، فيقول: إن الرسول أمرني به؛ لأن الرسول، كان آمرًا بكل حق. (ى) ورويتم عن أبي سعيد الخدري، وجابر، وأنس- رضي الله عنهم- قال: وذكر سنة مائة: (أنه لا يبقى على ظهرها نفس منفوسة). ثم يروي أن عليًا- رضي الله عنه- قال لأبي مسعود: (إنك تفتى الناس؟) قال: (أجل، واخبرهم أن الأخير شر، قال: (فأخبرني ما سمعت منه) قال: سمعته يقول: (لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف) فقال على: (أخطأت، وأخطأت في أول فتواك، إنما قال ذلك لمن حضره يومئذ، وهل الرجاء إلا بعد مائة)؟!!. (يا) أبو هريرة- رضي الله عنه-: أنه قال- عليه الصلاة والسلام-: (الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة) قال الحسن: (ما ذنبهما)؟ قال أبو هريرة: (أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وهذا من الحسن رد على أبي هريرة. (يب) - قال على لعمر- رضي الله عنهما- في قصة الجنين: (إن كان هذا جهد رأيهم، فقد قصروا، وإن كانوا قاربوك، فقد غشوك) وهذا من على- رضي الله عنه- حكم بجواز اللبس. (يجـ) أبو الأشعت قال: كنا في غزاة، وعلينا معاوية- رضي الله عنه- فأصبنا ذهبًا وفضًة، فأمر معاوية رجلًا ببيعها للناس في أعطياتهم، فتسارع الناس فيها،

فقام عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- فنهاهم، فردوها، فأتى الرجل معاوية، فشكا إليه، فقام خطيبًا، فقال: (ما بال رجال يحدثون عن رسول الله- عليه الصلاة والسلام- أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه، فلم نسمعها منه؟!!) فقام عبادة، وأعاد القصة، ثم قال: (والله، لنحدثن عن رسول- الله عليه الصلاة والسلام- وإن كره معاوية) أو قال: (وإن رغم، ما أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء). فهذا يدل: إما على كذب عبادة، أو كذب معاوية، ولو كذبنا معاوية، لكذبنا أصحاب صفين؛ كالمغيرة وغيره، وعلى أن معاوية، لو كان كذابًا، لما ولاه عمر، وعثمان على الناس. (يد) أن أبا موسى قام على منبر الكوفة، لما بلغه أن عليًا- رضي الله عنه- أقبل يريد البصرة، فحمد الله، وأنثى عليه، ثم قال: (يا أهل الكوفة، والله، ما أعلم واليًا أحرص على صلاح الرعية منى، والله، لقد منعتكم حقًا كان لكم بيمين كاذبة، فأستغفر الله منها). وهذا إقرار منه على نفسه باليمين الكاذبة. (يه) روى أبو بكر، وعمر- رضي الله عنهما- يوم السقيفة: أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: (الأئمة من قريش) ثم رويتم أشياء ثلاثة تناقضه: أحدها: قول عمر- رضي الله عنه- في آخر حياته: (لو كان سالم حيًا، لما تخالجني فيه شك)، وسالم مولى امرأة من الأنصار، وهي حازت ميراثه. وثانيها: أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: (اسمع، وأطع، ولو كان عبدًا حبشيًا.

وثالثها: قوله- عليه الصلاة والسلام-: (لو كنت مستخلفًا من هذه الأمة أحدًا من غير مشورة، لاستخلفت ابن أم عبد). (يو) لما روى أبو هريرة: أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: (إن المرأة والكلب والحمار يقطعن الصلاة) مشت عائشة- رضي الله عنها- في خف واحدة، وقالت: (لأحنثن أبا هريرة، فإني ربما رأيت الرسول- عليه الصلاة والسلام- وسط السرير، وأنا على السرير بينه وبين القبلة). (يز) روى أبو هريرة عنه: أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: (إن الميت على من غسله الغسل، وعلى من حمله الوضوء) فبلغ ذلك عائشة- رضي الله عنها- فقالت: (أنجاس موتاكم)؟ (يحـ) عن إبراهيم أن عليًا- رضي الله عنه- بلغه أن أبا هريرة يبتدئ بميامنه في الوضوء، وفي اللباس، فدعا بماءٍ، فتوضأ وبدأ بمياسيره، وقال: (لأخالفن أبا هريرة). (يط) إن أصحاب عبد الله، لما بلغهم خبر أبي هريرة: (من قام من منامه، فلا يغمس يده في الإناء؛ حتى يغسلها ثلاثًا) قالوا: إن أبا هريرة مكثار، فكيف نصنع بالمهراس)؟! (ك) لما قال أبو هريرة: (حدثني خليلي) قال له علي- رضي الله عنه-: (متى كان خليلك؟). وقال عمرو بن عبيد الله: كأنه ما سمع قوله- عليه الصلاة والسلام-: (لو كنت متخدًا خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا). (كا) لما روى أبو هريرة: (من أصبح جنبًا، فلا صوم له) أرسل مروان في

ذلك إلى عائشة، وحفصة- رضي الله عنهما- فقالتا: (كان النبي- عليه الصلاة والسلام- يصبح جنبًا، ثم يصوم) فقال لرسول: اذهب إلى أبي هريرة، فأخبره بذلك، فقال أبو هريرة: (أخبرني بذلك الفضل بن عباس). قال النظام: والاستدلال به من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه استشهد ميتًا وثانيها: أنه لو لم يكن متهمًا فيه، لما سألوا غيره، وثالثها: أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما- كذبتاه. (كب) ولما روى أبو سعيد الخدري (خبر الربا) قال ابن عباس: (نحن أعلم بهذا، وفينا نزلت آية الربا) فقال الخدري: (أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول لي ما تقول؟ والله، لا يظلني وإياك سقف بيتٍ) وهذا تكاذب بين ابن عباس وأبي سعيد. (كج) لما قدم ابن عباس البصرة، سمع الناس يتحدثون عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فكتب إليه، فقال أبو موسى: (لا أعرف منها حديثًا). (كد) روى أن عمر- رضي الله عنه- كان إذا ولى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الأعمال، وشيعهم، قال لهم عند الوداع: (أقلوا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال النظام: فلولا التهمة، لما جاز المنع من العلم. (كه) رووا عن سهل بن أبي حثمة في القسامة، ثم إن عبد الرحمن بن عبيد قال: (والله، ما كان الحديث كما حدث سهل، ولقد وهم، وإنما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل خيبر: إن قتيلًا وجد في أوديتكم فدوه) فكتبوا؛ يحلفون بالله، ما قتلوه، فوداه رسول اله من عنده).

وقال محمد بن إسحاق: سمعت عمرو بن شعيب في المسجد الحرام، يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: أن حديث سهلٍ ليس كما حدث). (كو) قال أصحاب الشعبي: (إنك لا ترى طلاق المكره، قال: أنتم تكذبون على، وأنا حي، فكيف لا تكذبون على إبراهيم، وقد مات). (كز) قال ابن أبي مليكة: (ألا تعجب؟! حدثني عروة عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: أهللت بعمرةٍ، وقال القاسم: إنها قالت بحجةٍ). (كح) قال صدقة بن يسار: (سمعت أنه- عليه الصلاة والسلام- قال في الذي يسافر، وحده، وفي الاثنين: (شيطان وشيطانان) فلقيت القاسم بن محمد، فسألته، فقال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث البريد وحده، وكان النبي وصاحبه وحدهما). فهذا من القاسم تكذيب بهذا الخبر. (كط) كان ابن سيرين يعيب الحسن في التفسير، وكان الحسن يعيبه في التعبير، ويقول: (كأنه من ولد يعقوب). (ل) ابن عباسٍ- رضي الله عنهما-: (الحجر الأسود من الجنة، وكان أشد بياضًا من الثلج؛ حتى سودته خطايا أهل الشرك) فسئل ابن الحنفية عن الحجر، وقيل: ابن عباسٍ يقول: (هو من الجنة) فقال: هو من بعض الأودية. قال النظام: لو كان كفر أهل الجاهلية يسود الحجر، لكان إسلام المؤمنين يبيضه، ولأن الحجارة قد تكون سوداء وبيضاء، فلو كان ذلك السواد من

الكفر، لوجب أن يكون سوادها بخلاف سائر الأحجار؛ ليحصل التمييز، ولأنه لو كان كذلك لاشتهر ذلك؛ لأنه من الوقائع العجيبة؛ كالطير الأبابيل. (لا) روى أبو سعيد الخدري: (أنه لا هجرة بعد الفتح، لكن جهاد ونية) فقال له مروان: كذبت، وعنده رافع بن خديجٍ، وزيد بن ثابت، وهما قاعدان على سريره، فقال أبو سعيد: لو شاء هذان، لعرفاك؛ ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة، فسكتا، فرفع مروان عليه الدرة، فلما رأيا ذلك، قالا: (صدق). (لب) عطاء بن أبي رباحٍ، قيل له: روى عكرمة عن ابن عباس: أنه قال: (سبق الكتاب الخفين)، قال: (كذب؛ أنا رأيت ابن عباسٍ يمسح على الخفين). (لج) قال أيوب لسعيد بن جبير: (إن جابر زيدٍ يقول: إذا زوج السيد العبد، فالطلاق بيد السيد) قال: (كذب جابر). (لد) قال عروة لابن عباس: (أضللت الناس يا بن عباس) قال: (وما ذاك، يا عروة؟) قال: (تأمرنا بالعمرة في هذه الأيام، وليست فيها عمرة) قال: (أفلا تسأل أمك عن هذا؛ فإنها قد شهدته؟) قال عروة: (فإن أبا بكرٍ، وعمر كان لا يفعلانه، قال: (هذا الذي أضلكم؛ أحدثكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحدثونني عن أبي بكر، وعمر) فقال عروة: أبو بكر، وعمر كانا أتبع لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعلم بها منك) وهذا تكذيب من عروة لابن عباس. (له) رويتم عن أبي بكر- رضي الله عنه-: أنه قال: (أي سماءٍ تظلني، وأي أرضٍ تقلني، إذا قلت في كتاب الله برأيي).

ثم رويتم: أنه سئل عن الكلالة، فقال: (أقول فيها برأيي؛ فإن كان صوابًا، فمن الله، وإن كان خطأ، فمني، ومن الشيطان) قال النظام: وهذان الأثران متناقضان. ثم رويتم: أن عمر رضي الله عنه قال-: (إني لأستحي أن أخالف أبا بكر) قال النظام: فإن كان عمر استقبح مخالفة أبي بكر؛ فلم خالفه في سائر المسائل؟ فإنه قد (خالفه في الجد، وفي أهل الردة، وقسمة الغنائم). ثم إن النظام قدح في ابن مسعود- رضي اله عنه- خاصة من وجوه: (أ) زعم أنه رأي القمر انشق، وهذا كذب ظاهر؛ لأن الله تعالى ما شق القمر له وحده، وإنما يشقه آيًة للعالمين؛ فكيف لم يعرف ذلك غيره، ولم يؤرخ الناس به، ولم يذكره شاعر، ولم يسلم عنده كافر، ولم يحتج به مسلم على ملحد؟!!. (ب) أنكر ابن مسعود كون المعوذتين من القرآن؛ فكأنه ما شاهد قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهما، ولم يهتد إلى ما فيهما من فصاحة المعجزة، أو لم يصدق جماعة الأمة في كونهما من القرآن!!. فإن كانت تلك الجماعة ليست حجة عليه، فأولى ألا تكون حجة علينا، فنحن معذورون في ألا نقبل قولهم. (جـ) اختار المسلمون قراءة زيد، وهو خالف الكل، ولم يقرأ بها. (د) لما صلى عثمان- رضي الله عنه- بمنًى أربعًا، عابة، فقيل له فيه، فقال: (الخلاف شر، والفرقة شر) ثم إنه عمل بالفرقة في أمور كثيرة. (هـ) وما زال يقدح القول في عثمان، ويسر القول فيه منذ اختار قراءة زيد.

(و) رأى أناسًا من الزط، فقال: (هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن). ثم قال علقمة: قلت لابن مسعود: (أكنت مع النبي- عليه الصلاة والسلام- ليلة الجن؟ فقال: ما شهدها منا أحد). (ز) سأله عمر- رضي اله عنه- عن شيء من الصرف، فقال: (لا بأس به). فقال عمر- رضي الله عنه-: (لكني أكرهه) فقال: (قد كرهته؛ إذ كرهته)؛ فرجع عن قول إلى قول بغير دليل. قال النظام: فقد ثبت قدح بعضهم في البعض، فإن صدق القادح، فقد توجه العيب، وإن كذب، فكذلك. أما الخوارج فقد طعنوا في الصحابة- رضي الله عنهم- ولعنوا مبغضيهم من وجوه: أحدها: قالوا: (رأيناهم قبلوا خبر الواحد، على مناقضة كتاب الله تعالى، وذلك يوجب القطع بفساد ذلك الخبر، والطعن في العامل به): بيانه: أن الله تعالى ذكر أنواع المعاصي من الكفر، والقتل، والسرقة، فلما ذكر الزنا، استقصى الكلام فيه؛ فإنه تعالى نهى عنه، فقال: {ولا تقربوا الزنا} [الإسراء: 32] ثم أوعد عليه بالنار، كما صنع وبجميع المعاصي، ثم ذكر الجلد، ثم خصه بإحضار المسلمين، وبالنهي عن رحمته، والرأفة عليه؛ بقوله: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور: 2]. ثم جعل على من رمى مسلمًا بالزنا ثمانين جلدة، ولم يجعل ذلك على من رماه بالقتل، ولا بالكفر، وهما أعظم، ثم قال: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا

وأولئك هم الفاسقون} [النور: 4] ثم ذكر من رمى به زوجته، وبين هناك أحكام اللعان، وقال: {والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك} [النور: 3]. ثم خصه بأن جعل الشهود عليه أربعًا، فمع هذه المبالغة العظيمة؛ كيف يجوز إهمال ما هو أجل أحكامها، وأعظم مراتبها وهو الرجم؟!!. ثم إنه تعالى ذكر آيات صريحة في نفي الرجم: أحدها: قوله: {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] وهذا صريح في وجوب الجلد على كل الزناة، وصريح في نفي الرجم. وثانيها: قوله: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] والرجم لا نصف له. وثالثها: وهو الدلالة العقلية: أن الرجم، لو كان مشروعًا، لوجب أن ينقل نقلًا متواترًا؛ لأنه من الوقائع العظيمة، فحيث لم ينقل، دل على أنه غير مشروع، ثم إنهم قبلوا خبر الواحد في الرجم مع كونه على مناقضة هذه الأدلة الشرعية والعقلية؛ فكان الطعن متوجهًا قطعًا. وثانيها: رويتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه خرج يومًا على أصحابه، وهم يكتبون أحاديث من أحاديثه، فقال: (ما هذه الكتب، أكتابًا مع كتاب الله تعالى؟ يوشك أن يقبض الله تعالى بكتابه، فلا يدع في قلبٍ، ولا رق منه شيئًا إلا أذهبه). ورويتم أيضًا أنه قال: (إذا حدثتم بحديث، فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فإن وافقه، فاقبلوه، وإلا فردوه) ثم إنكم مع ذلك مع ذلك جوزتم المسح على الخفين، مع صريح قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6].

وقلتم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) و (يحرم نكاح المرأة على عمتها، وخالتها، وبنت أخيها، وأختها) مع قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24]. وكيف يجلد العبد القاذف أربعين، مع قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} [النور: 4] ولم يذكر حرًا ولا عبدًا؟!. وكيف يجلد العبد على الزنا خمسين، وإنما ذكر الله تعالى الإماء دون العبيد، فقال: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25]. وكيف رددتم شهادة العبد مع قوله تعالى: {وأشهدوا ذوى عدل منكم} [الطلاق: 2] ومع قوله: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282]. وكيف منعتم من إمامة غير القرشي، مع قوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} [النساء: 59]؟. وثالثها: ما يروى من شتم بعضهم بعضًا، ولنذكر من ذلك حكايات: الحكاية الأولى: حكى ابن داب في مجادلات قريش، قال: اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص، وعتبة بن أبي سفيان، والوليد بن عقبة، والمغيرة بن شعبة، ثم أحضروا الحسن بن- على رضي الله عنهم- ليسبوه، فلما حضر، تكلم عمرو بن العاص، وذكر عليًا- رضي الله عنه- ولم يترك شيئًا من المساوئ إلا ذكر فيه، وفيما قال: (إن عليًا شتم أبا بكر، وشارك في دم عثمان) إلى (أن قال: اعلم أنك وأباك من شر قريش) ثم خطب كل واحد منهم بمساوئ علي، والحسن- رضي الله عنهما- ومقابحهما، ونسبوا عليًا إلى قتل عثمان، ونسبوا الحسن إلى الجهل والحمق.

فلما آل الأمر إلى الحسن- رضي الله عنه- خطب، ثم بدأ بشتم معاوية- رضي الله عنه- وطول فيه، إلى أن قال له:- إنك كنت ذات يومٍ تسوق بأبيك، ويقود به أخوك هذا القاعد، وذلك بعدما عمى أبو سفيان؛ فلعن رسول اله - صلى الله عليه وسلم - الجمل وراكبه وسائقه وقائده، فكان أبوك الراكب، وأخوك القائد، وأنت السائق). ثم قال لعمرو بن العاص: (إنما أنت سبة، كما أنت؛ فأمك زانية؛ اختصم فيك خمسة نفرٍ من قريشٍ، كلهم يدعى عليك أنك ابنه، فغلب عليك جزار قريش، من ألأمهم حسبًا، وأقلهم منصبًا، وأعظمهم لعنة، ما أنت إلا شانئ محمد، فانزل الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر: 3] ثم هجوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعين قافيًة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم، إني لا أحسن الشعر، فالعنة بكل قافية لعنة). وأما أنت يا بن أبي معيط: فوالله، ما ألومك أن تبغض عليًا، وقد جلدك في الخمر، وفي الزنا، وقتل أباك صبرًا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، وسماه الله تعالى في عشر آياتٍ مؤمنًا، وسماك فاسقًا، وأنت علج من أهل النورية. أما أنت يا عتبة: فما أنت بحصيف فأجييك، ولا عاقل فأعاتبك، وأما وعدك إياي بالقتل، فهلا قتلت الذي وجدت في فراشك مع أهلك؟. وأما أنت يا مغيرة بن شعبة، فمثلك مثل البعوضة؛ إذ قالت لنخلة: (استمسكي؛ فإني عليك نازلة) فقالت النخلة: والله ما شعرت بوقوعك على).

وأما زعمك: أنه قتل عثمان، فلعمري لو قتل عثمان ما كنت منه شيءٍ. وإنك لكاذب. قال الخوارج: فهذه المشاتمة العظيمة المتناهية التي دارت بينهم تدل على أنهم ما كانوا يمسكون ألسنتهم عن القذف والقدح في الدين والعرض؛ وذلك يوجب القدح العظيم في إحدى الطائفتين. الحكاية الثانية: أن عثمان- رضي الله عنه- أخر عن عائشة رضي الله عنها بعض أرزاقها، فغضبت، ثم قالت: (يا عثمان، أكلت أمانتك، وضيعت الرعية، وسلطت عليهم الأشرار من أهل بيتك، والله، لولا الصلوات الخمس، لمشى إليك أقوام ذوو بصائر، يذبحونك كما يذبح الجمل) فقال عثمان- رضي الله عنه-: {ضرب الله مثلًا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط} [التحريم: 10] الآية، فكانت عائشة- رضي الله عنها- تحرض عليه جهدها وطاقتها، وتقول: (أيها الناس، هذا قميص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبل، وقد بليت سنته، اقتلوا نعثلًا، قتل الله نعثلًا) ثم إن عائشة ذهبت إلى مكة، فلما قضت حجها، وقربت من المدينة، أخبرت بقتل عثمان، فقالت: ثم ماذا؟ فقالوا: بايع الناس على بن أبي طالب، فقالت عائشة: (قتل عثمان والله مظلومًا، وأنا طالبة بدمه، والله، ليوم من عثمان خير من على الدهر كله). فقال لها عبيد بن أم كلاب: ولم تقولين ذلك؟ فوالله ما أظن أن بين السماء والأرض أحدًا في هذا اليوم أكرم على اله من علي بن أبي طالبٍ، فم تكرهين ولايته؟ ألم تكوني تحرضين الناس على قتله؛ فقلت: (اقتلوا النعثل، فقد كفر)؟ فقالت عائشة: (لقد قلت ذلك، ثم رجعت عما قلت، وذلك أنكم

أسلمتموه حتى إذا جعلتموه في القبضة، قتلتموه، والله، لأطلبن بدمه). فقال عبيد بن أم كلاب: هذا، والله تخليط يا أم المؤمنين. الحكاية الثالثة: الخصومة العظيمة التي كانت بين عبد اله بن مسعود، وأبي ذر، وعمار، وبين عثمان، والخصومة التي كانت بين عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم- حتى آل الأمر إلى الضرب والنفي عند البلد واللعن، وكل ذلك يقتضي توجه القدح إلى عدالة بعضهم. الحكاية الرابعة: مقتل عثمان- رضي الله عنه- والجمل وصفين، ثم قالت الخوارج: رأينا هؤلاء المحدثين يجرحون الراوي بأدنى سبب، ثم إنهم مع علمهم بهذه القوادح العظيمة يقبلون روايات الصحابة، ويعلمون بروايات القادح والمقدوح فيه؛ وهذا ليس من الدين في شيء، بل هؤلاء المحدثون أتباع كل من عز، وعبيد كل من غلب، ويروون لأهل كل دولةٍ في ملكهم، فإن انقضت دولتهم، تركوهم. ومما رواه الكل: (أن إمامًا سيكون منهم، وأنه سيملأ الأرض عدلًا بعد أن ملئت جورًا) فروت الحسينية ذلك لنفسها، وروت العباسية لنفسها حتى سموا ولد المنصور مهديًا، وحتى روت الأموية مثل ذلك في السفياني، وسموا سليمان بن عبد الملك مهديًا، وحتى روت اليمانية في الأصغر القحطاني، إلى أن خرج ابن الأشعث على ذلك الطمع تارة، ويزيد بن المهلب أخرى. ورابعها: قالوا: إنا نعلم بالضرورة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - متى كان يشرع في الكلام، فالصحابة ما كانوا يكتبون كلامه من أوله إلى آخره لفظًا، وإنما كانوا يسمعونه، ثم يخرجون من عنده، وربما رووا ذلك الكلام بعد ثلاثين سنة.

ومن المعلوم أن العلماء الذين تعودوا تلقف الكلام، ومارسوه، وتمرنوا عليه، لو سمعوا كلامًا قليلًا مرة واحدة، فأرادوا إعادته في تلك الساعة بتلك الألفاظ من غير تقديم، ولا تأخير، لعجزوا عنه، فكيف الكلام الطويل بعد المدة المتطاولة، من غير تكرار ولا كتابة. ومن أنصف قطع بأن هذه الأخبار التي رووها ليس شيء من ألفاظها لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم من يعيد الكلام بعد هذه المدة لا يمكنه أن يعيد معناه بتمامه؛ فإن الإنسان مظنة النسيان؛ بل لا يعيد إلا بعضه. وإذا كان كذلك، لزم القطع بسقوط الحجة عن هذه الألفاظ؛ لا سيما وقد جربناهم، فرأيناهم يذكرون الكلام الواحد، في الواقعة الواحدة، بروايات كثيرةٍ، مع زيادات ونقصاناتٍ، وأحسن الأحوال في ذلك: أن نحمل ما قلناه من عدم حفظ الألفاظ، وتغيير التقديم والتأخير؛ بسبب طول المدة، وكل ذلك يوجب القدح في هذه الأخبار. والجواب: اعلم أن اعتماد أصحابنا في هذا الباب على حجةٍ واحدةٍ؛ وهي أن آيات القرآن دالة على سلامة أحوال الصحابة، وبراءتهم من المطاعن، وإذا كان كذلك، وجب علينا أن نحسن الظن بهم إلى أن يقوم دليل قاطع على الطعن فيهم. وأما هذه المطاعن التي ذكرتموها، فمروية بالآحاد، فإن فسدت رواية الآحاد، فسدت هذه المطاعن، وإن صحت، فسدت هذه المطاعن أيضًا، فعلى كل التقديرات هذه المطاعن مدفوعة؛ فيبقى الأصل الذي ذكرناه سليمًا.

شرح القرافي: قوله: (الخبر عن الشيء يتأخر في الرتبة عن المخبر عنه)

وأما طعن الخوارج: فهو بناء على أن تخصيص الكتاب بخبر الواحد لا يجوز وقد تقدم القول فيه. وأما قولهم: (إن الظاهر: أن هذه الألفاظ ليست ألفاظ الرسول- عليه الصلاة والسلام-): قلنا: لما ثبت أن الظاهر من حال الراوي العدالة، وقد أخبر بأنها ألفاظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجب تصديقه فيه ظاهرًا، والله أعلم. الباب الثالث في الخبر الذي يقطع بكذبه قال القرافي: قوله: (الخبر عن الشيء يتأخر في الرتبة عن المخبر عنه). تقريره: أنه إذا لم يكذب قط، وقال: أنا كاذب، وأراد هذا الخبر الذي نطق به الآن، وأنه كاذب فيه، فيكون هذا الخبر خبرًا ومخبرًا عنه، وتعدد الواحد محال، فلا يكون هذا الخبر في نفسه كذبًا؛ لعدم التعدد، والإخبار عنه بأنه كذب يكون كذبًا لا ينفي شرط ذلك، وهو التعدد. قوله: (لا نسلم أن عدم بلدة بين (بغداد) و (البصرة) ليس ضروريًا، بل يتوقف على النظر، ولهذا إذا قيل للقائل ذلك: لم قلته؟ يقول: لو كان لنقل): قلنا: هذا لا يدل على أنه متوقف على هذا الدليل؛ فإن هذا يقال لمعنيين: أحدهما: لأن المطلوب نظري. والثاني: بقصد إفحام الخصم وبيان عناده، وكذلك قال الإمام في (المحصل) في الاستدلال على أن الجزء أقل من الكل: إنه لو كان مساويًا لكان الجزئي الآخر وجوده وعدمه سواء، واستدل على أشياء كثيرة من الضروريات بهذا الطريق، فعلمنا أن الاستدلال لا يقتضي أن المستدل عليه نظري.

قوله: (حصل في الأخبار ما لا يجوز نسبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -): تقريره: أن الرافضة روت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان جالسًا ومعه عفريت من الجن، فدخل عليهما علي-رضي الله عنه- ففر العفريت، ثم خرج علي-رضي الله عنه- فرجع العفريت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: مالك فررت؟ فقال له: من علي؛ فإنه شجني في رأسي من أربعة آلاف سنة، فلما خرج العفريت عاد علي فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا علي أبعثت معنا ومع غيرنا؟ فقال: نعم. فهذا الحديث يعلم بالضرورة أنه كذب، وأن نسبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - متعذرة. قوله: (هذه المطاعن مرورية بروايات الآحاد، فإن بطلت روايات الآحاد بطلت هذه المطاعن، وإن صحت رواية الآحاد بطلت هذه المطاعن أيضًا): تقرير بطلانها على التقديرين: أن بتقدير صحة رواية الآحاد، ونحن لا ندفع الدليل الدال على عصمتهم إلا بدليل قطعي؛ لأنه قطعي، والقطع لا يعارضه الظن، فكذلك بطلت المطاعن على التقديرين. قوله: (وأما طعن الخوارج فمبنى على أن تخصيص الكتاب بخبر الواحد لا يجوز). تقريره: أن جمعًا من الصحابة-رضوان الله عليهم- خالفوا ظاهر الكتاب لأخبار آحاد اتصلت بهم، فجعلهم الخوارج عصاة لمخالفتهم ظاهر الكتاب، وليس كما زعموا؛ لأن تخصيص الكتاب بخبر الواحد جائز كما تقدم في (باب التخصيص). قوله: (ألفاظ الراوي هي الرسول؛ لظاهر عدالة الراوي).

تقريره: أن العلماء نصوا على أن الله-تعالى- لما سبق في قضائه وقدره بقاء هذه الشريعة، وظهور هذه الملة المحمدية على الحق جعل من جملة أسباب ذلك أن سلفها، وهم الصحابة-رضوان الله عليهم- وكثير من التابعين يحفظون من المرة الواحدة، ولا ينسبون ذلك مع تطاول السنين. ولذلك كان أبو هريرة إذا مر في السوق سد أذنه؛ لأنه كان أي شيء سمعه حفظه، وذلك كثير في الصحابة رضوان الله عليهم. وأما التابعون فحفظ [أبو] زرعة ستمائة ألف حديث بأسانيدها، وحفظ البخاري مائتي ألف حديث بأسانيدها، وما يتعلق بها، وحفظ مالك مائة ألف حديث على النحو الذي كان يختاره، فإنه كان لا ينقل إلا عن الرواة الفقهاء، وكان في أقضية الصحابة لا ينسى عبارة، وأملاه يومًا شيخه ربيعة أربعين حديثًا، فأدعاها عليه من مرة واحدة، وشك في واو هل واو أو فاء؟ فعاتبه ربيعة وقال له: دعنا ساء حفظ الناس اليوم، وقوله: ساء

(تنبيه) قال سراج الدين على قول أن القائل: أنا كاذب ولم يكن كذب قط

حفظ الناس يدل على أن أكثر من هذا الحفظ كان عامًا في الناس، فلا يستغرب أن هذه الألفاظ هي ألفاظ الرسول، وفي زمن يعقوب بن عبيد المؤمن بعث إلى الغبش يطلب منه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كتبه لجدهم هرقل الذي فيه (قل يا أهل الكتاب إلى قوله: أسلم تسلم، فإن توليت فإنما عليكم إثم الأريسين)، فوجده يعقوب على نص ما في البخاري لم يتغير منه شيء، وهذا يدل على حفظ الملة، وصون الرسالة المحمدية، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإناله لحافظون} [الحجر: 9]، والسنة هي من جملة المنزل، فهي محفوظة، ولله الحمد على ذلك. (تنبيه) قال سراج الدين على قول أن القائل: أنا كاذب ولم يكن كذب قط: لقائل أن يقول: لم لا يجوز اتحاد المخبر، والمخبر عنه يكذبه؛ فإن قول من لم يتكلم قط في يوم: (أنا كاذب في هذا اليوم) خبر اتحد مع المخبر عنه يكذبه، ثم الغرض يتأتى بالصدق أيضًا. نعم قوله: (كل إخباراتي كاذبة) كاذب؛ لأنه إن صدق خر منها كذب هذا، وإلا كذب هذا أيضًا.

(مسألة) في تعديل الصحابة قال سيف الدين: اختلفوا في الصحابي من هو؟

قلت: سؤاله غير متجه؛ لأن المصنف جعله كاذبًا إن أراد بقوله: أنا كاذب، الخبر الأخير لحصول الاتحاد مع أنا التعدد شرط، فلا يضره أن يكون هذا أيضًا كاذبًا إن لم يقل في يومه غير هذا الخبر، فالشرط عند المصنف أيضًا منفى، فهو كاذب في قوله: أنا كاذب؛ لعدم الشرط في صحة الكذب؛ لأجل اتحاد الخبر وانفارده، ولا يلزم من ذلك اتحاد المتعلق والمتعلق، وأن مثال المصنف يلزم صحة الصدق فيه لصحة الاتحاد، فلا يتجه السؤال. وقوله: (الغرض يتأتى بالصدف أيضًا) معناه: إذا قال: كل أخباري صادقة، وكان ما صدق قط، فيأتي الترديد الذي ذكره المصنف بعينه، فهذا من سراج الدين توسعة، وليس سؤلًا. وقوله: (كل إخباراتي كاذبة-إن صدق منها شيء كذب هذا الخبر، وإلا كذب هذا. معناه: أنه إذا لم يصدق منها خبر يكون هذا الخبر صادقًا باعتبار ما مضى من الأخبار، ويكون كذبًا؛ لأنه قال: كل إخباراتي، ومن جملتها هذا الخير، فقد أخبر عنه بالكذب، ومثل غير سراج الدين بالقائل في بيت لم يتكلم فيه قط: أنا كاذب في كل ما قلته في هذا البيت، فجعل البيت عوض تمثيل سراج الدين باليوم، ولذلك إذا لم يقل في البيت إلا صدقًا، فقال: كل ما قلته في هذا البيت صدق، وتقريره ما تقدم. (مسألة) في تعديل الصحابة قال سيف الدين: اختلفوا في الصحابي من هو؟ فقال أكثر الشافعية،

وأحمد بن حنبل: هو من رأى النبي-عليه السلام- وصحبه، ولو ساعة، وإن لم يختص به اختصاص المصحوب، ولا روى عنه، ولا طالت مدة صحبته. وقيل: من رآه عليه السلام-واختص به اختصاص المصحوب، وطالت مدة صحبته، وإن لم يرو عنه. وقال عمرو بن بحر: هو من طالت صحبته له-عليه السلام- وأخذ عنه العلم. قال المازري في (شرح البرهان): متى قلنا: الصحابة عدول، وإن الخبر إذا أسنده التابعي صحابي، فقد وجب العمل به، إنما يريد بالصحابة الذين لازموه، ونصروه، واتبعوا النور الذي جاء به، ولا يعنى بهم الذين رأوه اتفاقًا، أو لغرض ثم فارقوه. قلت: لا تنافي بين كلام سيف الدين والمازري؛ فإن سيف الدين نقل الخلاف فيمن يسمى صحابيًا كيف كان عجلًا أم لا، ـ ونقل المازري فيمن يحكم له بالعدالة، فلا ينبغي الخلاف في هذا. ***

القسم الثاني قال الرازي: في الخبر الذي لا يقطع بكونه صدقا أو كذبا، وفيه أبواب

القسم الثاني قال الرازي: في الخبر الذي لا يقطع بكونه صدقًا أو كذبًا، وفيه أبواب: الباب الأول في إقامة الدليل على أنه حجة في الشرع اختلف الناس فيه، فالأكثرون جوزوا التعبد به عقلًا، والأقلون منعوا منه عقلًا. أما المجوزون: فمنهم: من قال: وقع التعبد به. ومنهم من قال: لم يقع التعبد به. والذين قالوا: وقع التعبد به، اتفقوا على أن الدليل السمعي دل عليه، واختلفوا في أن الدليل العقلي، هل دل عليه؟ فذهب القفال وابن سريج منا وأبو الحسين البصري من المعتزلة: إلى أن دليل العقل دل على وقوع التعبد به. أما الجمهور منا ومن المعتزلة؛ كأبى على، وأبى هاشم، والقاضي عبد الجبار: فقد اتفقوا على أن دليل التعبد به السمع فقط. وهو قول أبي جعفر الطوسي من الإمامية. أما الذين قالوا: لم يرد التعبد به، فهم فرق ثلاث: الأولى: أنه لم يوجد ما يدل على كونه حجة، فوجب القطع بأنه ليس بحجة.

والثانية: أنه جاء في الأدلة السمعية ما يدل على أنه ليس بحجة. والثالثة: أن الدليل العقلي قائم على امتناع العمل به. ثم إن الخصوم بأسرهم اتفقوا على جواز العمل بالخبر الذي لا تعلم صحته؛ كما في الفتوى، وفي الشهادة، وفي الأمور الدنيوية. لنا النص، والإجماع، والسنة المتواترة، والقياس، والمعقول: أما النص: فوجهان: الأول: قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة؛ ليتفقهوا في الدين} [التوبة: 122] وجه الاستدلال: أن الله تعالى أوجب الحذر بإخبار الطائفة، والطائفة هاهنا عدد لا يفيد قولهم العلم، ومتى وجب الحذر بإخبار عدد لا يفيد قولهم العلم، فقد وجب العمل بالخبر الذي لا نقطع بصحته. وإنما قلنا: إنه أوجب الحذر عند إخبار الطائفة؛ لأنه أوجب الحذر بإنذار الطائفة، والإنذار هو الإخبار. وإنما قلنا: إنه أوجب الحذر بإنذار الطائفة؛ لقوله تعالى: {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة: 122] وكلمة (لعل) للترجي؛ وذلك في حق الله تعالى محال، وإذا تعذر حمله على ظاهره، وجب حمله على المجاز؛ وذلك لأن المترجي طالب للشيء، فإذا كان الطلب لازمًا للترجي، وجب حمل هذا اللفظ على الطلب؛ فيلزم أن يكون الله طالبًا للحذر، وطلب الله تعالى هو الأمر؛ فثبت أن الله تعالى أمر بالحذر عند إنذار الطائفة.

وإنما قلنا: إن الإنذار هو الإخبار؛ لأنه عبارة عن الخبر المخوف، والخبر داخل في الخبر المخوف؛ فثبت أن الله تعالى أوجب الحذر عند إخبار الطائفة. وإنما قلنا: (إن الطائفة هاهنا عدد لا يفيد قولهم العلم) لأن كل ثلاثة فرقة، والله تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة، والطائفة من الثلاثة واحد أو اثنان، وقول الواحد أو الاثنين لا يفيد العلم. وإنما قلنا: إنه تعالى، لما أوجب الحذر عند خبر العدد الذي لا يفيد قولهم العلم، وجب العمل بذلك الخبر؛ لأن قومًا إذا فعلوا فعلًا، وروى الراوي لهم خبرًا يقتضي المنع من ذلك الفعل: فإما أن يجب عليهم تركه عند سماع ذلك الخبر، أو لا يجب: فإن وجب، فهو المراد من وجوب العمل بمقتضى ذلك الخبر، وإذا ثبت وجوب العمل بمقتضى ذلك الخبر في هذه الصورة، وجب العمل به في سائر الصور، ضرورة ألا قائل بالفرق. وإن لم يجب الترك، لم يجب الحذر؛ وذلك ينافي ما دلت الآية عليه من وجب الحذر. فإن قيل: لا نسلم أنه تعالى أوجب الحذر عند إنذار الطائفة، وأما قوله تعالى: {لعلم يحذرون} قلنا: سلمتم أنه لا يمكن حمله على ظاهرة؛ فلم قلتم: إنه يجب حمله على ذلك المجاز؟ ولم لا يجوز حمله على مجاز آخر؟ لا بد فيه من الدليل. سلمنا: وجوب الحذر عند الإنذار؛ لكن لا نسلم أن الإنذار هو الإخبار؛ فإن الإنذار من جنس التخويف، فنحن نحمل الآية على التخويف الحاصل من

الفتوى، بل هذا أولى؛ لأنه أوجب التفقه؛ لأجل الإنذار، والتفقه إنما يحتاج إليه في الفتوى، لا في الرواية. فإن قلت: الحمل على الفتوى متعذر؛ لوجهين: الأول: أنا لو حملناه على الفتوى، لاختص لفظ (القوم) بغير المجتهدين؛ لأن المجتهد لا يجوز له العمل بفتوى المجتهد؛ لكن التقييد غير جائز؛ لأن الآية مطلقة في وجوب إنذار القوم، سواء كانوا مجتهدين، أو لم يكونوا كذلك. أما لو حملناه على رواية الخبر لا يلزمنا ذلك؛ لأن الخبر كما يروي لغير المجتهد، فقد يروى أيضًا للمجتهد. والثاني: أن من شرب النبيذ؛ فروى إنسان خبرًا يدل على أن شاربه في النار، فقد أخبره بخبر مخوف، ولا معنى للإنذار إلا ذلك فصح وقوع اسم (الإنذار) على الرواية، ثم بعد ذلك نقول: لا يخلو: إما ألا يقع اسم (الإنذار) الرواية لا الفتوى، وإن وقع، لم يجز جعله حقيقة فيها؛ دفعًا للاشتراك؛ فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك، وهو الخبر المخوف. وعلى هذا التقدير: يكون متناولًا للرواية والفتوى جميعًا؛ وذلك مما لايضرنا. قلت: الجواب عن الأول: أنه كما يلزم من حمل الإنذار على الفتوى تخصيص لفظ (القوم) بغير المجتهد، يلزم من حمله على الرواية تخصيص لفظ (القوم) بالمجتهد؛ لإجماعنا على أنه لا يجوز للعامي أن يستدل بالحديث،

فالتقييد لازم عليكم؛ كما أنه لازم علينا؛ فعليكم الترجيح، ثم إنه معنا؛ لأن غير المجتهد أكثر من المجتهد، والتقييد كلما كان أقل، كان أولى. وعن الثاني: أنه إذا كان المراد من (الإنذار) القدر المشترك بين الفتوى والرواية، والمأمور به إذا كان مشتركًا فيه بين صور كثيرة، كفى في الوفاء بمقتضى الأمر الإتيان بصورة واحدة من تلك الصور؛ لأنه إذا كان المطلوب إدخال القدر المشترك بين الفتوى والرواية في الوجود، وذلك المشترك يحصل في الفتوى-فالقول بكون الفتوى حجة يكفي في العمل بمقتضى النص؛ فلا تبقى للنص دلالة على وجوب العمل بالرواية. سلمنا أن المراد من (الإنذار) رواية الخبر فقط؛ لكن لم لا يجوز أن يكون المراد رواية أخبار الأولين، وكيفية ما فعل الله تعالى بهم؟ لأن سماع أخبارهم يقتضى الاعتبار؛ على ما قال الله تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب} [يوسف: 111] أو يكون المراد منه التنبيه على وجوب النظر والاستدلال. سلمنا أن الآية تقتضى وجوب الحذر عند خبر الطائفة؛ فلم قلت: إن (الطائفة) اسم لعدد لا يفيد قولهم العلم؟. قوله: (لأن كل ثلاثة فرقة، والخارج من الثلاثة واحد أو اثنان): قلنا: لا نسلم أن كل ثلاثة فرقة؛ فما الدليل؟. ثم إن الذي يدل على بطلانه وجهان: الأول: أنه يقال: الشافعية فرقة واحدة، لا فرق، ولو كان كل ثلاثة فرقة، لما كان الشافعية واحدة، بل فرقًا.

الثاني: أنه تعالى أوجب على كل فرقة: أن تخرج منها طائفة للتفقه، ولو كان كل ثلاثة فرقة، لوجب أن يخرج من كل ثلاثة واحد؛ وذلك باطل بالاتفاق. سلمنا أن (الطائفة) اسم لعدد لا يفيد قولهم العلم؛ فلم قلت: إنه يقتضى وجوب الحذر بقول عدد لا يفيد قولهم العلم؟. بيانه: (أن الطائفة) عندكم اسم للواحد، أو الاثنين، وقوله: {ولينذروا قومهم} [التوبة: 122] ضمير جمع، وأقل الجمع ثلاثة؛ على ما تقدم، فإذن: قوله: {ولينذروا} ليس عائدًا إلى كل واحد من تلك الطوائف؛ بل إلى مجموعها؛ فلم قلت: إن مجموع تلك الطوائف ما بلغوا حد التواتر؟. سلمنا أن الآية تقتضى وجوب الحذر عند خبر من لا يفيد قولهم العلم فلم قلت: إنها تقتضى وجوب العمل بذلك الخبر؟ فإنا إنما نوجب عليهم ذلك الترك للاحتياط؛ حتى إنه لو كان عاميًا وجب عليه الرجوع إلى المفتى، فإن أذن له، جاز له العود إليه، وإن كان مجتهدًا، نظر في سائر الأدلة، فإن وجد فيها ما يقتضى المنع من ذلك الفعل، امتنع منه، وإلا جاز له العود إليه. والجواب: قوله: (لم قلت: إنه يفيد وجوب الحذر؟): قلنا: لثلاثة أوجه: الأول: أنه لا يجوز حمله على ظاهره؛ فوجب حمله على الأمر به. قوله: (لم قلت: ليس هاهنا مجاز آخر؟): قلت: لأن الأصل عدم المجاز؛ فإذا وجد هذا المجاز الواحد، فالظاهر عدم سائر المجازات.

الثاني: أن قوله تعالى: {لعلهم يحذرون} [التوبة: 122] يقتضى إمكان تحقق الحذر في حقهم، والحذر هو التوقي من المضرة، والفعل الذي يقتضى خبر الواحد المنع منه، قد لا يكون مضرًا في الدنيا، فلا بد وأن يكون مضرًا في الآخرة، وإلا لم يكن الحذر ممكنًا، ولا معنى لمضرة الآخرة إلا العقاب، فإذا كان هو بحال يحذر عنه، وجب أن يكون بحال يترتب العقاب على فعله، ولا معنى لقولنا: (خبر الواحد حجة) إلا هذا القدر. الثالث: أن قوله تعالى: {لعلهم يحذرون}، إن لم يقتض وجوب الحذر فلا أقل من أن يقتضى حسن الحذر؛ وذلك يقتضى جواز العمل بخبر الواحد، والخصم ينكره،؛ صار محجوجًا به. قوله: (لم لا يجوز أن يكون المراد الفتوى)؟: قلنا: للوجهين المذكورين: أحدهما: أنا لو حملناه على الفتوى، لوم تخصيص (القوم) بغير المجتهد. قوله: (ولو حملناه على الرواية، لزم تخصيصه بالمجتهد): قلنا: لا نسلم؛ فإن الخبر كما يروى للمجتهد، فقد يروى لغير المجتهد، بلى، لا يجوز لغير المجتهد أن يتمسك به، ولكن ينتفع به من وجوه أخرى: منها: أنه ينزجر عن فعله، ويصير ذلك داعيًا له إلى الرجوع إلى المفتي، وربما بحث عنه، واطلع على معناه. الوجه الثاني: أنا نحمله على القدر المشترك. قوله: (يكفى في العمل به ثبوته في صورة واحدة):

قلنا: الجواب عنه من وجهين: الأول: أنه رتب وجوب الحذر على مسمى الإنذار الذي هو القدر المشترك؛ فوجب كون هذا القدر المشترك علة للحكم؛ فوجب أن يكون الحكم ثابتًا، أينما ثبت هذا المسمى. والثاني: أن قبل ورود هذه الآية: إما أن يقال: كان الأمر بقبول الفتوى واردًا، أو ما كان واردًا؟ فإن كان واردًا، ولم يجز حمل هذه الآية عليه؛ وإلا كان ذلك تكريرًا من غير فائدة. وإن قلنا: إنه ما كان واردًا، وجب حمله على الأمر بالصورتين؛ وإلا تطرق الإجمال إلى الآية؛ وهو خلاف الأصل. قوله: (لم لا يجوز أن يكون المراد من الإنذار رواية أخبار الأولين؟): قلنا: الجواب عنه كما تقدم على السؤال الأول. قوله: (لم قلت: كل ثلاثة فرقة؟): قلنا: لأن الفرقة في أصل اللغة (فعلة) من (فرق) أو (فرق)، كـ (القطعة) من (قطع) أو قطع). وكل شيء حصل الفرق أو التفريق فيه، كان فرقة، كما أن كل ما حصل القطع أو التقطيع فيه، كان قطعة؛ ولذلك من شق الخشبة، يقال: فرقها فرقًا. وإذا كان كذلك، فالفرقة في اللغة: تقع على كل واحد من الأشخاص حقيقة، إلا أنا خصصناها في هذه الآية بالثلاثة؛ حتى يمكن خروج الطائفة عنها؛ فوجب أن تبقى حقيقة في الثلاثة. قوله: (أصحاب الشافعي-رضي الله عنه- فرقة واحدة):

قلنا: ذلك لأنهم بحسب المذهب امتازوا عن غيرهم؛ فلأجل هذا الافتراق سموا فرقة واحدة أما بحسب الشخص، فهم فرق. قوله: (إن الله تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة للتفقه، ولا يجب ذلك على كل ثلاثة): قلنا: ترك العمل به في حق هذا الحكم؛ فيبقى معمولًا به في الباقي. قوله: (لم لا يجوز أن يكون المراد أن ينذر مجموع الطوائف قومهم؟): قلنا: هذا باطل؛ لقوله: {إذا رجعوا إليهم} [التوبة: 122]؛ لأنه لا يجوز أن يقال: فلان رجع إلى ذلك الموضع إلا بعد أن كان فيه؛ ومعلوم أن الطائفة من كل فرقة ما كانت في غير تلك الفرقة، ولا يمكن أن يقال: كل طائفة ترجع إلى كل الفرق؛ بل إنما يمكن رجوعها إلى فرقتها الخاصة. قوله: (الضمير في قوله: {ولينذروا} ليس ضمير الواحد والاثنين): قلنا: هذا لا يضرنا؛ لأنه تعالى قابل مجموع الطوائف بمجموع القوم، فيتوزع البعض على البعض. قوله: (لم قلت: إنه يدل على وجوب الترك بذلك الخبر؟): قلنا: لما تقدم. قوله: (يجب عليه الترك في الحال؛ ليستفتى إن كان عاميًا، وليتأمل، إن كان مجتهدًا): قلنا: هذا باطل؛ لأن العامي لا يجوز له الإقدام على الفعل، إلا بعد أن يعلم أولًا جواز ذلك الفعل من جهة المفتي، ومتى علم الفتوى، لم يجب عليه الاستفتاء مرة أخرى.

وأما المجتهد؛ فإن كان خبر الواحد حجة عليه، فهو المطلوب، وإن لم يكن دليلًا، لم يحب عليه التوقف؛ لانعقاد الإجماع على أن الذي لا يكون دليلًا لا يمنعه عن فعل ما ثبت له جواز فعله؛ بدليل متقدم. المسلك الثاني: لو وجب في خبر الواحد ألا يقبل، لما كان كون خبر الفاسق غير مقبول معللًا بكونه فاسقًا؛ لكنه معلل به؛ فلم يجب في خبر الواحد ألا يقبل؛ فإذا لم يجب ألا يقبل جاز قبوله في الجملة؛ وهو المقصود. بيان الملازمة: أن كون الراوي الواحد واحدًا أمر لازم لشخصه المعين، يمنع خلوه عنه عقلًا. وأما كونه فاسقًا: فهو وصف عرضي يطرأ ويزول؛ وإذا اجتمع في المحل وصفان أحدهما لازم، والآخر عرضي مفارق، وكان كل واحد منهما مستقلًا باقتضاء الحكم-كان الحكم؛ لا محالة، مضافًا إلى اللازم؛ لأنه كان حاصلًا قبل حصول المفارق، وموجبًا لذلك الحكم، وحين جاء المفارق، كان ذلك الحكم حاصلًا بسبب ذلك اللازم، وتحصيل الحاصل مرة أخرى محال، فيستحيل إسناد ذلك الحكم إلى ذلك المفارق. مثاله: يستحيل أن يقال: الميت لا يكتب؛ لعدم الدواة والقلم عنده؛ لأن الموت، لما كان وصفًا لازمًا مستقلًا بامتناع صدور الكتابة عنه، لم يجز تعليل امتناع الكتابة بالوصف العرضي، وهو عدم الدواة، والقلم. وإنما قلنا: إنه معلل به؛ لقوله تعالى: {يأيها الذين امنوا إن جاءكم فاسق بنبأ، فتبينوا} [الحجرات: 6] أمر بالتثبت؛ مرتبًا على كونه فاسقًا، والحكم المرتب على الوصف المشتف المناسب، يقتضى كونه معللًا بما منه الاشتقاق،

القسم الثاني فيما لا يقطع بكونه صدقا ولا كذبا

ولا شك في أن الفسق يناسب عدم القبول؛ فثبت بما ذكرنا: أن خبر الواحد، لو وجب ألا يقبل، لامتنع تعليل ألا يقبل خبر الفاسق، بكونه فاسقًا، وثبت أنه معلل به، فخبر الواحد لا يجب ألا يقبل؛ فهو إذن مقبول في الجملة. ومن الناس: من تمسك بالآية على وجه آخر؛ وهو أنه تعالى أمر بالتثبت؛ بشرط أن يكون الخبر صادرًا عن الفاسق، والمشروط بالشيء عدم عند عدم الشرك؛ فوجب ألا يجب التثبت، إذا لم يوجد مجيء الفاسق، فإذا جاء غير الفاسق ولم يتثبت: فإما أن يجزم بالرد؛ وهو باطل؛ وإلا كان خبر العدل أسوأ حالًا من خبر الفاسق، وهو باطل بالإجماع؛ فيجب القبول؛ وهو المطلوب. القسم الثاني فيما لا يقطع بكونه صدقًا ولا كذبًا قال القرافي: قوله: (الدليل على كونه حجة): قلت: هذه الفهرسة غير وافية بالمقصود؛ لاندراج المشكوك فيه فيها؛ فإنه لا يقطع بصدقه، ولا بكذبه، بل لا بد أن نقول: هو المفيد للظن من جهة العدل أو العدول، فقولنا: (المفيد للظن) خرج المشكوك فيه. وقولنا: (من جهة العدل) خرج إخبارات الكفرة والفسقة؛ فإنها تفيد الظن؛ لكونه غير معتبر، وليس مقصودًا لنا، وقولنا: (أو العدول) ليندرج خبر الجماعة إذا أفاد الظن؛ فإنا لا نعنى بخبر الواحد أنه خبر المنفرد، بل وقع الاصطلاح على أنه ما أفاد الظن، وإن كان خبر جماعة، وهذا وضع عرفي لا لغوي. (تنبيه) ينبغي أن نعلم أن أصل القسمة ثلاثة: تواتر، وآحاد، ولا تواتر ولا آحاد، وهو خبر الواحد إذا احتفت به القرائن، فليس تواترًا؛ لاشتراطنا في

التواتر العدد، فليس آحادًا؛ لاشتراطنا في الآحاد الظن، وهذا أفاد القطع بالقرائن، فلا يكون آحادًا. قوله: (الأقلون منعوا التعبد به عقلًا): تقريره: أن فيه احتمال الخطأ والضلال، والحكمة تمنع من تعبد الناس بمنع ذلك؛ بناء على قاعدة الحسن والقبح العقليين. قوله: (دليل العقل دل عليه .....). تقريره: أن صدقه غالب، وكذبه نادر، والحكمة تقتضى ألا تضيع المصلحة الغالية للمفسدة النادرة. قوله: (اتفقوا على العمل به في الفتوى والشهادات والأمور الدنيوية). تقريره: أن الفرق عنده الفتوى والشهادة حكم جزئي متعلق بجزئي، فعلى تقدير تضمنه لمفسدة الكذب، أو غيرها لا تعم؛ بخلاف إنشاء الأحكام بالاجتهاد، فإنها تعم الناس إلى يوم القيامة، فإن المراد بالفتوى كون العامي يقبل قول العالم الواحد، ويعتمد عليه، بخلاف ما يفتي به المجتهد في دين الله عمومًا. وأما الدنيويات، فكالطب، والعلاج، والأغذية، والأشربة يجوز أن يقبل منها خبر الطبيب الواحد، والمباشر الواحد لسلامة الغذاء والشراب عن المؤذيات، واشتماله على المقاصد، ونسافر في البحار، والقفار، ونسلك الأوعار بأخبار العدل بأسباب السلامة وحصول ما يعتمد عليه في ذلك. قوله: (لنا): قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ...} الآية [التوبة: 122].

اختلف العلماء فيها على قولين: أحدهما: أن المراد أن الفرقة النافرة هي المتفقة، وأن الله-تعالى- أمر أن يخرج من كل قبيلة من الأعراب، وأحياء العرب طائفة ليتفقهوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويرجعون إلى قومهم ينذرونهم، ويعلمونهم، وهو مقصود صاحب الكتاب. وقيل: بل المراد أن الفرق التي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كل فرقة طائفة إلى الجهاد، ويبقى بقيتهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتفقهون ف الدين؛ لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم منا لجهاد، فعلى هذه، الطائفة النافرة ليست هي المتفقهة، بل المنذرة، عكس القول الأول. قوله: (الترجي على الله-تعالى- محال، وكل مترج طالب، فيحمل على الطلب مجازًا). قلنا: قال سيبويه في قوله تعالى: {فقولا له قولًا لينا لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44]. معناه: (اذهبا أنتما في رجائكما) رجائك يريد أن الترجي أصله للمتكلم، فيصرف للمخاطب مجازًا؛ لأنه من لوازم المتكلم بالرجاء مع من يخاطبه، ويصير المعنى فعلًا معه فعل الراجي ليذكره؛ فإن من وعظ وهو آيس قصر بخلاف من وعظ من يرجوه، فإنه يبالغ في موعظته، فيصير المعنى بالغًا في الموعظة، فيكون أمرًا بالمبالغة في ذلك المعنى المذكور، وهذا الذي قاله سيبويه، إنما يتأتى إذا كان الفعل للسامع، فإن كان الله-تعالى- كقوله تعالى: {ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} [البقرة: 56] ونحوه مما هو فعل الله-تعالى- فيكون معناه: بالغنا في ذلك الفعل مبالغة الراجي، فيكون إخبارًا صرفًا عن المبالغة، فإن أمر الله-تعالى- نفسه

سيبويه، وما ينبغي فيها من التفصيل، وأما طريقة المصنف، فإنها للأمر مطلقًا، فهذا تقرير المجاز في هذه اللفظة حيث وقعت في القرآن مضافة إلى الله-تعالى- وكذلك (عسى) كقوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم} [البقرة: 216] إخبار من الله-تعالى- عن وقوع الخير، ويمكن صرفه للأمر بتوقع الخير في المكروه كما قاله المصنف. قوله: (والطائفة واحد أو اثنان، فلا يفيد خبرهم العلم): قلنا: هذا بناء على أن النافرة هي المتفقهة. وقلنا: منعه على القول الآخر أن النافرة هي النافية، وعددها غير معلوم، فلعله يحصل العمل بالخارجة للجهاد إذا عادت إليهم. قوله: (رتب وجوب الحذر على مسمى الإنذار الذي هو القدر المشترك، فوجب كون القدر المشترك علة، فيثبت الحكم حيث يثبت المشترك). قلنا: هذا تمسك بالقياس، وهو باطل لوجهين: الأول: أنكم شرعتم في التمسك بالنص، والعدول عنه للقياس انقطاع. الثاني: أن القياس أضعف من خبر الواحد، فيلزم إثبات الأقوى بالأضعف، بل هذا من أضعف أنواع الأقيسة؛ لأن علته بالإيماء لا بالنص؛ لا ترتيب الحكم على الوصف إيماء للعلة لا تصريح بها، بل احلق في هذا المقام أن قوله تعالى: {ولينذروا قومهم} [التوبة:122] (فعل) في سياق الإثبات، فيكون مطلقًا، والمطلق يكفى في العمل به صورة واحدة، فلا يتعين تناوله لصورة النزاع. قوله: (إن لم يحمل على الفتوى والرواية يتطرق الإجمال للآية، وهو خلاف الأصل). قلنا: لا نسلم؛ لأن المطلقات كلها لا تحمل على جميع صورها التي فيها

ذلك المشترك الذي هو ذلك المطلق، وما لزم الإجمال، بل يخرج المكلف عن العهدة بفرد منها، كقوله تعالى: {فتحرير رقبة} [النساء: 92] ما لزم من عدم تعميمه إجماله، ولذلك أيضًا لا تتناول الآية أخبار هذه الشرائع، بل تصدق بأخبار الأولين؛ لأنه من جملة أفراد المشترك. قوله: (إن الله-تعالى- قابل مجموع الطوائف لمجموع القوم). تقريره: أن (الواو) في قوله تعالى: {لينذروا} [التوبة:122] راجعة إلى مجموع المنذرين، لا بمعنى أنهم بمجموعهم ينذرون كل فرد، بل بمعنى أن ما أشتمل عليه (الواو) من العدد يتوزع على الفرق، فتذهب لكل فرقة طائفة، ونظيره قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38] فتوزع الأيدي على السارقين، وإن كانت صيغة الأيدي صيغة جمع، وكذلك قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ...} [المائدة: 6] صيغة الوجوه والأيدي، والمراد التوزيع، أي: ليغسل كل منكم وجهه ويديه، فكذلك هاهنا. ***

المسلك الثالث قال الرازي: السنة المتواترة

المسلك الثالث قال الرازي: السنة المتواترة وهو ما روى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث رسله إلى القبائل؛ لتعليم الأحكام مع أن كل واحد من أولئك الرسل ما كانوا بالغين حد التواتر. واعترض أبو الحسين البصري على هذه الدلالة بسؤال واقع، فقال: كان يبعثهم إلى القبائل للفتوى، أو لرواية الخبر؟. الأول مسلم، والثاني ممنوع: بيانه: أن العوام في القبائل، كانوا أكثر من المجتهدين، فكانت حاجتهم إلى الفتوى أشد من حاجتهم إلى من يروى لهم الخبر؛ ليحتجوا به. وبالجملة: هب أن هذا الاحتمال ليس أظهر؛ لكن لا بد من قيام الدلالة على قطع هذا الاحتمال، ليتم الاستدلال. (المسلك الثالث) قال القرافي: قوله: (كان عليه السلام يبعث رسله إلى القبائل، ولم يبلغوا حد التواتر): قلنا: تقدم للتبريزي سؤال في غير هذا الموضع، وهو أنه-عليه السلام- إنما كان يقتصر على ذلك للضرورة؛ لأنه لو بعث لكل طائفة من يحصل بخبرهم العلم لم يجده، ولم يبق عنده أحد. قال: ولذلك كانت رسله-عليه السلام- تبلغهم العقائد التي يشترط فيها العلم في زماننا، فعملنا أن تلك الحالة مستثناه للضرورة، بخلاف زماننا هذا.

المسلك الرابع قال الرازي: الإجماع: العمل بخبر الواحد الذي لا يقطع بصحته مجمع عليه بين الصحابة؛ فيكون العمل به حقا

المسلك الرابع قال الرازي: الإجماع: العمل بخبر الواحد الذي لا يقطع بصحته مجمع عليه بين الصحابة؛ فيكون العمل به حقًا. إنما قلنا: (إنه مجمع عليه بين الصحابة) لأن بعض الصحابة عمل بالخبر الذي لا يقطع بصحته، ولم ينقل عن أحد منهم إنكار على فاعله، وذلك يقتضى حصول الإجماع. وإنما قلنا: (إن بعض الصحابة عمل به) لوجهين: الأول: وهو أنه روى بالتواتر: أن يوم السقيفة، لما احتج أبو بكر-رضي الله عنه- على الأنصار بقوله-عليه الصلاة والسلام-: (الأئمة من قريش) مع أنه مخصص لعموم قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} [النساء: 59]. قبلوه: ولم ينكر عليه أحد، ولم يقل له أحد: (كيف تحتج علينا بخبر لا نقطع بصحته) فلما لم يقل أحد منهم ذلك، علمنا أن ذلك كان كالأصل المقرر عندهم. الثاني: الاستدلال بأمور لا ندعى التواتر في كل واحد منها؛ بل في مجموعها، وتقريره: أن نبين أن الصحابة عملوا على وفق خبر الواحد، ثم نبين أنهم إنما عملوا به، لا بغيره. أما المقام الأول، فبيانه من وجوه:

الأول: رجوع الصحابة إلى خبر الصديق في قول-عليه الصلاة والسلام-: (الأنبياء يدفنون حيث يموتون) وفي قوله: (الأئمة من قريش) وفي قوله: (نحن-معاشر الأنبياء لا نورث). وإلى كتابه في معرفة نصب الزكوات ومقاديرها. الثاني: روى أن أبا بكر-رضي الله عنه: (رجع في توريث الجدة إلى خبر المغيرة بن شعبة، ومحمد بن مسلمة). ونقل عنه أيضًا: أنه قضى بقضية بين اثنين، فأخبره بلال: أنه-عليه الصلاة والسلام- قضى فيها بخلاف قضائه- فرجع إليه. الثالث: روى أن عمر رضي الله عنه-كان يجعل في الأصابع نصف الدية، ويفصل بينها، فيجعل في الخنصر ستة، وفي البنصر تسعة، وفي الوسطى والسبابة عشرة عشرة، وفي الإبهام خمسة عشر) فلما روى له في كتاب عمرو ابن حزم: أن في كل أصبع عشرة، رجع عن رأيه. الرابع: وقال في الجنين: (رحم الله امرًا سمع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنين شيئًا) فقام إليه حمل بن مالك، فأخبره بأن الرسول-عليه الصلاة والسلام- قضى فيه بغرة، فقال عمر: (لو لم نسمع هذا، لقضينا فيه بغيره). الخامس: أنه كان لا يرى توريث المرأة من دية زوجها؛ فأخبره الضحاك: أنه-عليه الصلاة والسلام- كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع إليه. السادس: تظاهرت الرواية أن عمر قال في المجوس: (ما أدرى، ما أصنع

بهم) فقال عبد الرحمن بن عوف: (أشهد أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) فأخذ منهم الجزية، وأقرهم على دينهم. السابع: أنه ترك العمل برأيه في بلاد الطاعون؛ بخبر عبد الرحمن. الثامن: روى عن عثمان: أنه رجع إلى قول فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري حين قالت: جئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أستأذنه بعد وفاة زوجي في موضع العدة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (امكثي في بيتك حتى تنقضي عدتك)، ولم ينك عليها الخروج للاستفتاء؛ فأخذ عثمان بروايتها في الحال، وفي أن المتوفى عنها زوجها تعتد في منزل الزوج، ولا تخرج ليلًا، وتخرج نهارًا، إن لم يكن لها من يقوم بأحوالها. التاسع: اشتهر عن علي-رضي الله عنه-: (أنه كان يحلف الراوي) و (قبل رواية أبي بكر-رضي الله عنه- من غير حلف). وأيضًا: (قبل رواية المقداد ابن الأسود في حكم المذى). العاشر: رجوع الجماهير إلى قول-عائشة رضي الله-عنها في وجوب الغسل من التقاء الختانين. الحادي عشر: رجوع الصحابة في الربا إلى خبر أبي سعيد. الثاني عشر: قال ابن عمر: (كنا نخابر أربعين سنة، ولا نرى به بأسًا) حتى روى لنا رافع بن خديج نهيه-عليه الصلاة والسلام- عن المخابرة. الثالث عشر: قال أنس: (كنت أسقى أبا عبيدة، وأبا طلحة، وأبي بن كعب؛

إذ أتانا آت، فقال: حرمت الخمر، فقال أبو طلحة: (قم، يا أنس، إلى هذه الجرار، فاكسرها) فقمت فكسرتها. الرابع عشر: اشتهر عمل أهل قباء في التحول عن القبلة بخبر الواحد. الخامس عشر: قبل لابن عباس-رضي الله عنهما-: إن فلانا يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل، فقال ابن عباس: (كذب عدو الله، أخبرني أبي بن كعب، قال: خطب بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل). السادس عشر: عن أبي الدرداء: أنه لما باع معاوية شيئًا من أواني الذهب والفضة بأكثر من وزنها، قال أبو الدرداء: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنه) فقال معاوية: (لا أرى به بأسًا) فقال أبو الدرداء: (من يعذرني من معاوية؟ أخبره عن الرسول-عليه الصلاة والسلام- وهو يخبرني عن رأيه؛ لا أساكنك بأرض أبدًا). فهذه الأخبار قطرة من بحر هذا الباب، ومن طالع كتب الأخبار، وجد فيها من هذا الجنس ما لا حد له، ولا حصر، وكل واحد منها، وإن لم يكن متواترًا، لكن القدر المشترك فيه بين الكل، وهو العمل على وفق الخبر الذي لا تعلم صحته-معلوم؛ فصار ذلك متواترًا في المعنى. وأما المقام الثاني: وهو أنهم إنما عملوا على وفق هذه الأخبار؛ لأجلها: فبيانه من وجهين: الأول: لو لم يعملوا، لأجلها؛ بل لأمر آخر: إما لاجتهاد تجدد لهم، أو

ذكروا شيئًا سمعوه من الرسول-عليه الصلاة والسلام- لوجب من جهة العادة والدين: أن يظهروا ذلك. أما العادة: فلأن الجمع العظيم، إذ اشتد اهتمامهم بأمر قد التبس، ثم زال اللبس عنهم فيه؛ لدليل سمعوه، أو لرأى حدث لهم فيه فإنه لا بد لهم من إظهار ذلك الدليل، والاستبشار بسبب الظفر به، والتعجب من ذهاب ذلك عليهم، فإن جاز في الواحد ألا يظهر له ذلك، لم يجز في الكل. أما الدين: فلأن سكوتهم عن ذكر ذلك الدليل، وعملهم عند الخبر، بموجبه-يوهم أنهم عملوا؛ لأجله؛ كما يدل عليه عملهم بموجب آية سمعوها؛ على أنهم عملوا لأجلها؛ وإبهام الباطل غير جائز. كما أنه لو، قال لهم قائل: (احكموا في هذه المسألة بمجرد شهوتي)، فتذكروا عند ذلك خبرًا سمعوه من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يحسن من جهة الدين ألا يبينوا أنهم إنما حكموا؛ لذلك الدليل، لا لشهوة ذلك القائل. الثاني: أن طلب أبي بكر من المغيرة-رضي الله عنهما- شاهدًا في إرث الجدة دليل على أنه كان يرى أن الحكم متعلق بروايتهما، ولأن عمر-رضي الله عنه-قال في الجنين: (لولا هذا، لقضينا فيه برأينا) وترك رأيه في دية الأصابع؛ بالخبر الذي سمعه، وصرح ابن عمر برجوعهم عن المخابرة بخبر رافع، وصرحوا بأنهم رجعوا إلى وجوب الغسل بالتقاء الختانين؛ لأجل قول عائشة-رضي الله عنها- فثبت بمجموع هذين المقامين: أن بعض الصحابة عمل بالخبر الذي لم يعلم صدقه.

وأما بيان المقدمتين الباقيتين: وهو أنه لم يظهر من أحد منهم الإنكار، وأنه متى كان كذلك، انعقد الإجماع: فتقريره سيأتي-إن شاء الله تعالى (القياس). في مسألة القياس. فإن قيل: لا نسلم عمل بعض الصحابة على وفق الخبر الذي لم تعلم صحته. أما دعوى الضرورة، فممنوعة؛ قال المرتضى: إن الضرورة لا يختص بها البعض، مع المشاركة في طريقها. والإمامية، وكل مخالف في خبر الواحد-من النظام وجماعة من شيوخ المتكلمين- يخالفونهم فيما ادعوا فيه الضرورة، مع الاختلاط بأهل الأخبار، ويقسمون على أنهم لا يعلمون ذلك، ولا يظنونه، فإن كذبتموهم، فعلتم ما لا يحسن، وكلموكم بمثله. وأما الاستدلال: فضعيف؛ لأن الروايات التي ذكرتموها، وإن بلغت المائة والمائتين، فهي غير بالغة إلى حد التواتر، فلا تفيد العلم، ويرجع حاصله إلى إثبات خبر الواحد؛ بخبر الواحد. سلمنا صحة هذه الروايات؛ لكن لا نسلم أنهم عملوا بتلك الأخبار؛ ولم لا يجوز أن يقال: إنهم لما سمعوا تلك الأخبار، تذكروا دليلًا دلهم على تلك الأحكام؟. قوله: (لو كان كذلك، لوجب إظهاره من جهة الدين والعادة). قلنا: لا نزاع في أن ما ذكرتموه هـ الاحتمال الأظهر؛ لكن القطع بوجوبه على كل حال ممنوع، والمسألة قطعية؛ فلا يجوز بناؤها على مقدمة ظنية.

سلمنا عمل بعض الصحابة بهده الأخبار؛ لكن لا نسلم سكوت الكل عن الإنكار؛ فما الدليل عليه؟ ثم نقول: إنهم أنكروه في صور: إحداها: (توقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قبول خبر ذي اليدين؛ إلى أن شهد له أبو بكر، وعمر- (رضي الله عنهما-). وثانيتها: رد أبي بكر خبر المغيرة في توريث الجدة؛ حتى أخبره محمد بن مسلمة. وثالثتها: رد أبي بكر وعمر خبر عثمان فيما رواه؛ من إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رد الحكم بن أبي العاص؛ حتى طالباه بمن يشهد معه به. ورابعتها: رد عمر-رضي الله عنه- خبر أبي موسى الأشعري؛ حتى شهد له أبو سعيد الخدري. وخامستها: رد عمر خبر فاطمة بنت قيس. وسادستها: رد على خبر أبي سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق، وأيضًا: فقد ظهر عنه تحليف الرواة. وسابعتها: رد عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه. وثامنتها: أن عمر منع أبا هريرة من الرواية. سلمنا سكوتهم عن الإنكار؛ لكن السكوت إنما يدل على الإجماع، إذا صدر عن الرضا؛ فلم قلت: إن الأمر كذلك؟ بل هاهنا احتمالات أخر سوى الرضا؛ من التقية والخوف.

سلمنا إجماعهم على قبول الخبر الذي لا يعلم صحته؛ لكن دل على أنهم قبلوا جميع أنواع الخبر الذي يكون كذلك، أو على أنهم قبلوه في الجملة؟!. والأول: ظاهر الفساد، والثاني: يقدح في غرضكم؛ لأنهم لما اتفقوا على قبول نوع من أنواع الخبر الذي لا تعلم صحته، لم يلزم من إجماعهم على قبول ذلك النوع إجماعهم على قبول سائر الأنواع؛ لاحتمال أن يأمر الله تعالى بالعمل بذلك النوع، دون النوع الآخر. ثم إنه لما لم ينقل إلينا ذلك النوع الذي أجمعوا على قبوله، لم يعرف ذلك النوع. فإذن: لا نوع من أنواع خبر الواحد إلا ولا يدرى أنه، هل هو ذلك النوع الذي أجمعوا على قبوله، أو غيره؛ وإذا كان كذلك، وجب التوقف في الكل. سلمنا أن النوع الذي أجمعوا على العمل به معلوم؛ فلم قلت: إنه لما جاز لهم العمل بخبر الواحد، جاز لنا؟ بيانه: أن الصحابة كانوا قد شاهدوا الرسول-عليه الصلاة والسلام- وعرفوا مجارى كلامه، ومناهج أموره، وإشاراته، وعرفوا أحوال أولئك الرواة؛ في العدالة، وعدمها؛ في الأفعال الموجبة للعدالة، والأفعال المنافية لها. وإذا كان كذلك، كان ظنهم بصدق تلك الأخبار، وعدالة الرواة-أقوى من ظن من لم يشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ألبته، ولا سمع كلامه، ولم يشاهد حال أولئك الرواة، فلم يعرف عدالتهم، ولا فسقهم إلا بالروايات المتباعدة، والوسائط الكثيرة، وإذا كان كذلك؛ فلم قلت: إن انعقاد الإجماع على قبول الخبر الذي

لا يقطع بصحته عند حصول الظن القوي في صحته، يوجب قبوله عندما لا يحصل ذلك الظن القوي!؟. فإن قلت: (إن كل من قال بقبول بعض هذه الأنواع في بعض الأزمنة، قال: بقبوله في كل نوع، وفي كل زمان): قلت: هذه الحجة إنما تنفع في زمان التابعين، وقد بينا في أول (باب الإجماع) أنه لا سبيل إلى القطع بهذا الإجماع؛ لكثرة المسلمين وتفرقهم في الشرق والغرب. والجواب: أما دعوى الضرورة: فلما مر تقريرها من أنه نقل إلينا بالتواتر حضور أبي بكر مع الأنصار يوم السقيفة، وتمسكه عليهم بقوله-عليه الصلاة والسلام:- (الأئمة من قريش) ولم ينكر عليه أحد. فأما قول المرتضى: إن النظام، وجمعًا من شيوخ المعتزلة، والقاشاني، والإمامية ينكرون ذلك؛ يقسمون بالله: إنهم لا يجدون علمًا، ولا ظنًا): قلنا: رواية المذاهب لا تجوز بالتشهي واليمين، والنظام ما أنكر ذلك، بل سلم، إلا أنه قال: إجماع الصحابة ليس بحجة؛ على ما حكيناه قبل ذلك، وكذا قول سائر شيوخ المعتزلة. وأما الإمامية: فالأخباريون منهم-مع أن كثرة الشيعة في قديم الزمان ما كانت إلا منهم- فهم لا يعولون في أصول الدين؛ فضلًا عن فروعه إلا على الأخبار التي يروونها عن أئمتهم. وأما الأصوليون: فأبو جعفر الطوسي وافقنا على ذلك؛ فلم يبق ممن ينكر

العلم هذا إلا المرتضى، مع قليل من أتباعه؛ فلا يستبعد اتفاق مثل هذا الجمع على المكابرة في الضروريات. ومما يحقق ذلك: أنه قال: إنهم يقسمون بالله على أنهم لا يعلمون؛ بل لا يظنون، ونحن نعلم بالضرورة أن هذه الروايات، وإن تقاصرت عن العلم، إلا أنها ما تقاصرت عن الظن، فعلمنا أن غرض المرتضى مما ذكر محض المكابرة. قوله: (لم لا يجوز أن يقال: (إنهم عند سماع هذه الأخبار تذكروا دليلًا آخر؟): قلنا: لما ذكرنا: أن الدين والعادة يوجبان إظهار ذلك الدليل. قوله: (ما الدليل عليه)؟. قلنا: الرجوع فيه إلى العرف؛ فإنا نعلم بالضرورة أن الجمع العظيم، إذا اشتبه عليهم أمر منا لأمور، ثم إنهم عند سماع شيء يوهم أنه هو الدليل، تذكروا شيئًا آخر هو الدليل حقيقة؛ فإنه يستحيل اتفاقهم بأسرهم على السكوت عن ذكر ذلك الدليل، ورفع ذلك الوهم الباطل. قوله: (من الصحابة من رد خبر الواحد): قلنا: الجواب عنه من وجهين: الأول: أن الذين نقلتم عنهم: أنهم لم يقبلوا خبر الواحد، هم الذين نقلنا عنهم أنهم قبلوه، فلا بد من التوفيق، وما ذاك إلا أن يقال: إنهم قبلوا خبر الواحد، إذا كان مع شرائط مخصوصة، وردوها عند عدم تلك الشرائط. الثاني: أن الروايات التي ذكرتموها، كما دلت على ردهم خبر الواحد، دلت

شرح القرافي: قوله: (هذه الحجة إنما تعتبر في زمان التابعين)

على قبولهم خبر الاثنين والثلاثة، ونحن لم ندع في هذا المقام إلا قبول الخبر الذي لا يقطع بصحته. فأما الأسئلة الثلاثة الأخيرة: فالجواب عنها سيأتي في (مسألة القياس) إن شاء الله تعالى. (المسلك الرابع) قال القرافي: قوله: (هذه الحجة إنما تعتبر في زمان التابعين): تقريره: أن قولنا: لا قائل بالفرق بين الخبر الذي روى الصحابة وبين ما روى لغيرهم إنما يتأتى في زمن التابعين، ومن بعدهم؛ لأن الإجماع على عدم الفرق بين النوعين إنما يكون إذا وجد النوعان وأمكنا، والوجدان في زمن التابعين؛ لأن حينئذ يحدد النوع التالي. أما في زمان الصحابة، فليس إلا نوع واحد، فلا يتأتى قولنا: لا قائل بالفرق. قوله: (النظام سلم إجماع الصحابة على قبول هذه الرواية، وإنما هو يقول: إجماع الصحابة ليس بحجة، وكذلك شيوخ المعتزلة): قلنا: لم ينقل عن أحد من المعتزلة إنكار الإجماع، وإنما نقل عن الشيعة والخوارج والنظام. ***

المسلك الخامس (القياس)

المسلك الخامس (القياس) قال الرازي: أجمعوا على أن الخبر الذي لا يقطع بصحته مقبول في الفتوى، والشهادات؛ فوجب أن يكون مقبولًا في الروايات، والجامع تحصيل المصلحة المظنونة، أو دفع المفسدة المظنونة، بل الروايات أولى بالقبول من الفتوى؛ لأن الفتوى لا تجوز إلا إذا سمع المفتي دليل ذلك الحكم، وعرفت كيفية الاستدلال به، وذلك دقيق صعب يغلط فيه الأكثرون. أما الرواية: فلا يحتاج فيها إلا إلى السماع، فإذن الرواية أحد أجزاء الفتوى، فإذا كانت الفتوى مقبولة من الواحد؛ فلأن تكون الرواية مقبولة كان أولى. فإن قيل: هذا قياس؛ وإنه لا يفيد اليقين؛ على ما تقدم. ثم نقول: الفرق بين الفتوى، والشهادة، وقبول خبر الواحد من وجهين: الأول: وهو أن العمل بخبر الواحد يقتضى صيرورة ذلك الحكم شرعًا عامًا في حق كل الناس، والعمل بالشهادة والفتوى ليس كذلك. ولا يلزم من تجويز العمل بالظن الذي قد يخطئ وقد يصيب في حق الواحد-تجويز العمل به في حق عامة الخلق. الثاني: العمل بالفتوى ضروري؛ لأنه لا يمكن تكليف كل واحد في كل واقعة بالاجتهاد، وكذا الشهادة ضرورية في الشرع؛ لأجل تمييز المحق عن

شرح القرافي: (قوله: الفرق الأول ملغي؛ لأنه ينتقض بأصل الفتوى)

المبطل، أما العمل بخبر الواحد، فغير ضروري؛ لأنا إن وجدنا في المسألة دليلًا قاطعًا، عملنا بهن وإلا رجعنا إلى البراءة الأصلية. ولا يلزم من جواز العمل بالظن عند الضرورة جواز العمل به لا عند الضرورة؛ وإنه قياس فاسد. والجواب: أما السؤال الأول، فحق، وأما الفرق الأول، فملغي بشرعية أصل الفتوى؛ فإنه أمر لكل بإتباع الظن، وأما الفرق الثاني، فضعيف؛ لأنه لا ضرورة في الرجوع إلى الشهادة، والفتوى؛ لإمكان الرجوع إلى البراءة الأصلية. (المسلك الخامس) قال القرافي: (قوله: الفرق الأول ملغي؛ لأنه ينتقض بأصل الفتوى؛ لأنه أمر لجميع الخلق بإتباع الظن): قلنا: الفرق بني النقض وصورة النزاع أن أصل الفتوى عام لكل أحد في أمر غير عام، بل يختص بصورة جزئية، فهو عام في جزئيات فروعيت ثمرته وغايته، وهي الجزئيات المختصة، بخلاف الرواية أصل عام في أمور عامة. فالأصل العام وفروعه عامة، فكان الحظر فيه أكثر. قوله: (لا ضرورة في الرجوع الشهادة والفتوى لإمكان الرجوع إلى البراءة الأصلية): قلنا: لو فتح باب الرجوع إلى البراءة الأصلية في الحقوق التي تثبت بالشهادات ضاعت الأموال، وكثرت الغصوب، وضاعت الدماء والأموال، والأعراض، وذلك خلاف المعلوم بالضرورة من الملة المحمدية، واشتمالها على تكميل المصالح، ودرء المفاسد، ولولا الفتوى لضاع أمر العباد، ومتى

المسلك السادس (دليل العقل)

رجع إلى البراءة الأصلية بطلت الشريعة بجملتها؛ لأنها كلها على خلاف البراءة الأصلية، فلو صح ما ذكرتموه فسد المعاش والمعاد، وذلك في غاية البعد. ... المسلك السادس (دليل العقل) قال الرازي: وهو أن العمل بخبر الواحد يقتضى دفع ضرر مظنون؛ فكان العمل به واجبًا. بيان المقدمة الأولى: أن الراوي العدل، إذا أخبر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بهذا الفعل، حصل ظن أنه وجد الأمر؛ وعندنا مقدمة يقينية: أن مخالفة الأمر سبب لاستحقاق العقاب؛ فحينئذ يحصل من ذلك الظن، وذلك العلم ظن أنا لو تركنا قوله، لصرنا مستحقين للعقاب؛ فوجب أن يجب العمل به؛ لأنه إذا حصل الظن الراجح، والتجويز المرجوح: فإما أن يجب العمل بهما؛ وهو محال، أو يجب تركهما؛ وهو محال، أو يجب ترجح المرجوح على الراجل؛ وهو باطل بضرورة العقل، أو ترجيع الراجح على المرجوح؛ وحينئذ يكون العمل بمقتضى خبر الواحد واجبًا. واعلم أن هذه الطريقة يتمسك بها في مسألة القياس ونستقضى الكلام فيها سؤالاً وجوابًا-إن شاء الله تعالى-. وأما المنكرون، فمنهم: من عول على العقل، ومنهم: من عول على النقل.

أما العقل فمن وجوه: أحدها: لو جاز أن يقول الله تعالى: (مهما غلب على ظنكم صدق الراوي، فاعملوا بمقتضى خبره) جاز أن يقول الله تعالى أيضًا: (مهما غلب على ظنكم صدق المدعى للرسالة، فاقبلوا شرعه وأحكامه) لأنا في كلتا الصورتين نكون عاملين بدليل قاطع؛ وهو إيجاب الله تعالى علينا العمل بالظن، أو إيجاب العقل علينا ذلك، ولما لم يجز ذلك هناك، فكذا هاهنا. وثانيها: لو جاز التعبد بأخبار الآحاد في الفروع، لجاز التعبد بها في الأصول حتى يكتفي في معرفة الله تعالى بالظن. وثالثها: الشرعيات مصالح، والخبر الذي يجوز كذبه لا يمكن التعويل عليه في تحصيل المصالح. فإن قلت: (لم لا يجو أن تكون المصلحة هي إيقاع ذلك الفعل المظنون): قلت: كون الفعل مصلحة: إما أن يكون بسبب ذلك الظن، أو لا بسببه: والأول: باطل؛ لأنه لو جاز أن يؤثر ظننا في صيرورة ما ليس بمصلحة مصلحة، لجاز أن يؤثر ظننا بمجرد التشهي في ذلك؛ حتى يحسن من الله تعالى أن يقول: (أطلقت لك في أن تحكم بمجد التشهي، من غير دليل ولا أمارة) ومعلوم أنه باطل. وأما الثاني: فنقول: إذا كان كون الفعل مصلحة ليس تابعًا لظننا، فيجوز أن يكون الظن مطابقًا، وألا يكون فيكون، الإذن في العمل بالظن إذنًا في فعل ما لا يجوز فعله؛ وإنه غير جائز.

شرح القرافي: (قوله: العمل بخبر الواحد يفضى إلى دفع ضرر مظنون، فكان العمل به واجبا)

وأما المعولون على النقل: فقد تمسكوا بقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36] {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [البقرة: 169] {إن الظن لا يغنى من الحق شيئًا} [النجم: 28]. والجواب عن الوجوه العقلية: أنها منقوضة بالعمل بالظن في الفتوى، والشهادة والأمور الدنيوية؛ فإن من أخبر أن هذا الطعام مسموم، وحصل ظن صدقه؛ فإنه لا يجوز تناوله، ثم إنا نطالبهم فيها بالجامع العقلي اليقيني، ثم ببيان امتناع الجامع. وأيضًا: ينتقض بتعويل أهل العالم على الظن في أمر الأغذية، والأشربة، والعلاجات، والأسفار، والأرباح، وأما التمسك بالآيات فسيأتي الجواب عنها في القياس-إن شاء الله-. المسلك السادس قال القرافي: (قوله: العمل بخبر الواحد يفضى إلى دفع ضرر مظنون، فكان العمل به واجبًا): قلنا: ليس مطلق الظن معتبرٌا في الشرع؛ بدليل إخبار الفسقة والكفرة، وجماعة الصبيان، ونحو ذلك؛ فإنه ملغى مع الظن فيه، فحينئذ لا بد من مرتبة خاصة من الظن، وإذا خرج مطلق الظن عن الاعتبار، فلم قلتم: إن تلك المرتبة المعتبرة من الظن وجدت في صورة النزاع؟. قوله: (ترك العمل بالراجح والمرجوح): قلنا: لا نسلم؛ فإن العدل الواحد، وجماعة النساء في إثبات الدماء، والكفر، أو غيرهم يغلب على الظن صدقهم، ولا نقضى بالراجل من صدقهم، ولا بالمرجوح من كذبهم، بل يعرض عنهم، ولم يلزم محال،

فكذلك هاهنا. وإنما يلزم ما ذكرتموه أن لو كان ترك العمل بهما معسرًا بالقضاء باعتبار الراجح والمرجوح، فيقضى بالصدق والكذب معًا، أو يعدم ويحجم، أما الإهمال مطلقًا فلا يلزم بحال، وهو الذي ادعاه الخصم. قوله: (لو اعتبر ظن صدق الراوي لاعتبر صدق المدعى للرسالة): قلنا: الفرق أن المعجزة أصل الدين كله، فأشبه قواعد العقائد، فاشترط فيه اليقين، بخلاف فروع الدين أمرها أخف، فاكتفى فيها بالظن. قوله: (لو اكتفى بالظن في الفروع لاكتفى به في الأصول): قلنا: الفرق أن الظان في الفروع على تقدير خطئه، فهو ينسب إلى الله-تعالى- ما هو جائز عليه، فإن جميع الأحكام الشرعية ونقائضها، وأضدادها جائزة على الله-تعالى- ولوجود الظن في أصول الدينات، فعلى تقدير خطئه يكون الظان نسب إلى الله-تعالى- ما هو كفر، وما هو مستحيل عليه-سبحانه وتعالى- فلذلك لم نجز الظن في العقائد، بل ولا التقليد أيضًا لهذا السر، وهذا فرق عظيم بين البابين سمعته من الشيخ عز الدين بن عبد السلام. قوله: (لو كان الظن مؤثرًا في المصلحة، لجاز أن يعمل بجرد التشهي): قلنا: الفرق أن الظن إصابته غالبة، وخطؤه نادر، والعقلاء وصحاب الشرع يغلبون الغالب على النادر. قوله: (احتجوا بقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36] ونحوه). قلنا: هذه الآيات ظواهر وعمومات عارضتها عمومات أخر نحو قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ ....} [الحجرات: 6]، وما تقدم معه من العمومات، وإذا حصل التعارض وجب التوفيق بحمل آيات العلم على

(أسئلة) قال النقشواني في قوله تعالى: {يحذرون ...} (سلمنا حمله على الأمر، لكن لا نسلم أنه الطلب الجازم

قواعد الديانات، وأصول العقائد، وآيات الظن على الفروع لاسيما ما تقدم من عمل الصحابة، وإجماعهم على ذلك، هذا من حيث الإجمال، ونجيب من حيث التفصيل، فنقول: قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم ....} [الإسراء: 36] خطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده لغة، فلا يتناول غيره، ولا يلزم من إجماعنا على أن حكمه-عليه السلام- حكمنا في غير هذه الصورة-أن نوافق هاهنا؛ ولأن ثبوت المجاز في غير هذه الصورة في استعمال لفظ المفرد في الجمع هاهنا- المجاز فهذه الآية لا حجة فيها. وقوله تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئًا} [يونس: 36] عام في الظن، مطلق في أحواله، فيحمل على الظن الكاذب جمعًا بين الأدلة، والطلق إذا عمل به في صورة سقط الاستدلال به في غيرها، وقوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلموان} [الأعراف: 33] عام في الأقوال، مطلق في متعلقها، فنحمله على القول في أصول الديانات؛ فإنا لا يجوز عندنا القول فيها بغير علم، فتكون الفروع داخلة في هذا النص. (أسئلة) قال النقشواني في قوله تعالى: {يحذرون ...} (سلمنا حمله على الأمر، لكن لا نسلم أنه الطلب الجازم، ولا يمكن حمله عليه لئلا يترك مقتضى اللفظ بالكلية) يريد أن المتراخي غير جازم. قال: سلمنا حملة على أنه الجازم، لكن الطائفة تحتف بها القرائن، فيحصل العلم بخبرها، فإنهم إذا اتفقوا أقاموا البراهين على صدقهم، وظهر من قرائن أحوالهم لأجل فقههم وتدينهم ما يوجب العمل. وقال على المسلك الثاني: لم لا يجوز أن تكون الوحدة والفسوق سببين كل واحد منهما مستقل، فإذا فقد أحدهما أوجب الآخر التثبت إلى حيث

(تنبيه) قال التبريزي: سؤال أبي الحسين في أنهم كانوا محتاجين؛ ليس كذلك

تحصل من القرائن أو العدد ما يفيد العلم؟ وهذا بخلاف ما ذكره المصنف من التمثيل بالموت، والرواة بالنسبة إلى الكتابة؛ فإن الموت أمر يقطع معه بعدم أهلية الكتابة، لاسيما والمصنف يعتقد أن العلل الشرعية معرفات تخلف بعضها بعضًا، وتجمع على المعلول الواحد. وقال على المسلك الثالث: الذي كان يبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقبائل كانت القرائن محتفة به عند القبائل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبعث إلا من لا يخترع الشرع، فإنه في عامة الصدق والجلالة والتحري والتوقي والديانة، وأمور كثيرة كانت من أحوال الصحابة لا يمكن أن تحيط بها العبارة، فمجموع هذه القرائن تفيدهم العلم. وقال على المسلك الرابع: لا نسلم إجماع الصحابة يوم السقيفة، لأنه غاب منهم العباس وعلي-رضي الله عنهما- وهما من أجل الصحابة سوى من كان بـ (المدينة)، ومن كان بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القبائل قبل موته للفتاوى والتعليم فلا إجماع، أو نقول: حصل لهم العلم بقرائن أحوال احتفت بذلك الخبر من جهة أنهم فهموا أن الحاضرين من المهاجرين أيضًا كانوا سمعوا ذلك الخبر، غير أنهم اشتغلوا بوفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بقرائن أحوال أبي بكر، ووفور صدقه، وديانته، وفرط نصحه لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته، وما تقدم عندهم من أحواله، وظاهر بذلك على رءوس الأشهاد، فيحصل العلم فيما حكموا إلا بخبر مقطوع به. (تنبيه) قال التبريزي: سؤال أبي الحسين في أنهم كانوا محتاجين؛ ليس كذلك؛ لأن الذين كان يبعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا يبلغوا رتبة الاجتهاد، وربما كانوا حديثي عهد بالإسلام، ووفدوا عليه-صلى الله عليه وسلم- فحملهم-عليه السلام- صحف الوصايا، وكتب المناهي، وكتاب

الصدقات، وكتاب الأشربة، وكتاب الديات، وما لا مجال للاجتهاد فيه، ولذلك حرضهم على مراعاة اللفظ، فقال عليه السلام: (رحم الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه ليس بفقيه). ولأنه لا بد من تبليغ المجتهد أعيان النصوص وإن كانوا هم. ونعلم أنه-عليه السلام- ما كان يخص بإرسال عدد التواتر إلى رسله بالفقهاء. قال: وحديث السقيفة لا حجة فيه؛ لاحتمال كونهم نسوه، فذكرهم أبو بكر كما ذكرهم: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} [ل عمران: 144]. وحديث (قباء) احتفت قرائن كون المخبر بحضره-النبي - صلى الله عليه وسلم - فيعظم افتراؤه عليه. وأجاب عن أسئلتهم في المسلك السابع بالجواب عنه إجمالًا وتفصيلًا. أما إجمالًا، فلأن قبول خبر الواحد مرة يدل على جواز العمل بجنس الآحاد، وعدم قبولها مائة مرة لا يدل على امتناع العمل بجنسه، كرد شهادة مائة شخص لا يدل على عدم جواز العمل بقول الشاهد، ومن يوجب العمل بخبر الواحد لا يوجبه بكل خبر. وأما التفصيل فمن وجهين: أحدهما: أن ما نقلوه ليس برد، بل عمل بعد التثبت والاستظهار، فيدل على منع المبادرة لا على منع العمل؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عمل بخبر ذي اليدين بعد موافقة غيره.

وكذلك تلك الأخبار، فعمل بخبر المغيرة لموافقة محمد بن مسلمة، وخبر أبي موسى لموافقة أبي سعيد. وثانيهما: أن لموجب التوقف أسبابًا ظاهرة، فخبر ذي اليدين فلأن غيره كان شاركه لحضوره، فسكوته يوجب التوقف. وخبر عثمان بن عفان-رضي الله عنه- كان في معرض الاحتجاج لنفسه بعد المعاتبة، والاتهام لشغفه بأقاربه، وكان بينه وبين الحكم قرابة، وأراد أبو بكر وعمر الاستبراء، ونفى التهمة. وخبر أبي موسى ذكره في معرض الاحتجاج بعد التعرض لسخط عمر.

وخبر فاطمة بنت قيس صرح عمر بموجب رده من عدم الثقة؛ ومخالفته لكتاب الله-تعالى- وهو يدل على القبول لينتظم التعليل. وخبر أبي سنان مردود بتهمة الكذب، وكونه خبر أعرابي جلف بوال على عقبيه كما قال علي رضي الله عنه. وردت عائشة خبر ابن عمر؛ لأنها عرفت توهمه فيه، ومنع عمر أبا هريرة عن الرواية، فلا يجوز أن يحمل على عدم جواز العمل؛ فإنه قد صح منه العمل بخر الواحد، ولو لم يجز لوجبت الرواية لتكميل عدد التواتر، وللمنع أسباب، ولو لم تظهر لوجت تقديرها جمعًا بين النقلين. قال: وقولهم: النوع الذي عملوا به غير معلوم. قال: قلنا: خبر العدل هو الضابط، وهو المخبر، فيجب اطراده. قال: وشبهة القائل بالتعبد به من جهة العقل اثنتان: إحداهما: أن تبليغ الشرع واجب، وإرسال عدد التواتر لكل مستمع متعذر، فيجب التعبد بأخبار الآحاد. وثانيتهما: إذا تحققنا ظن الصدق في خبر العدل، فيجب العمل به؛ دفعًا للضرر المظنون. قال: والجواب عن الأولى لا نسلم أن تعميم الشرع واجب، بل حيث يمكن، سلمناه لكن ما لم يقم عليه دليل قاطع، فهو شرع. وعن الثانية: لا نسلم دفع الضرر؛ لأنه ليس مناط وجوب العمل به كونه صادقًا في نفسه؛ بدليل شهادة الفاسق والمرأة الواحدة، بل المناط ثبوت الصدق بدليل قاطع. فإذا لم يثبت كان العمل التزام ضرر مقطوع به لا دفع ضرر مظنون. ولو سلمنا فما الدليل على وجوبه؟.

الباب الثاني (في شرائط العمل بهذه الأخبار)

الباب الثاني (في شرائط العمل بهذه الأخبار) قال الرازي: وهذه الشرائط: إما أن تكون معتبرة في المخبر، أو المخبر عنه، أو الخبر: القسم الأول (في المخبر) وهو مرتب على فصول ثلاثة: الفصل الأول في الأمور التي يجب وجودها؛ حتى يحل للسامع أن يقبل روايته. والضابط فيه: كونه بحيث يكون اعتقاد صدقه راجحًا على اعتقاد كذبة، ثم نقول: تلك الأمور خمسة: الأول: أن يكون عاقلًا؛ فإن المجنون والصبي غير المميز لا يمكنه الضبط، والاحتراز عن الخلل. والثاني: أن يكون مكلفًا، وفيه مسألتان: المسألة الأولى: رواية الصبي غير مقبولة لثلاثة أوجه: الأول: أن رواية الفاسق لا تقبل؛ فأولى ألا تقبل رواية الصبي؛ فإن الفاسق يخاف الله تعالى، والصبي لا يخاف الله تعالى ألبته.

الثاني: أنه لا يحصل الظن بقوله؛ لا يجوز العمل به؛ كالخبر عنا لأمور الدنيوية. الثالث: الصبي، إن لم يكن مميزًا، لا يمكنه الاحتراز عن الخلل، وإن كان مميزًا، علم أنه غير مكلف؛ فلا يحترز عن الكذب. فإن قلت: (أليس يقبل قوله في إخباره عن كونه متطهرًا؛ حتى يجوز الإقتداء به في الصلاة؟): قلت: ذلك لأن صحة صلاة المأموم غير موقوفة على صحة صلاة الإمام. المسألة الثانية: إذا كان صبيًا عند التحمل، بالغًا عند الرواية، قبلت روايته؛ لوجوه أربعة: الأول: إجماع الصحابة؛ فإنهم قبلوا رواية ابن عباس، وابن الزبير، والنعمان بن بشير-رضي الله عنهم- من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ أو بعده. الثاني: إجماع الكل على إحضار الصبيان مجالس الرواية. الثالث: أن إقدامه على الرواية عند الكبر يدل ظاهرًا على ضبطه للحديث الذي سمعه حال الصغر. الرابع: أجمعنا: على أنه تقبل منه الشهادة التي تحملها حال الصغر؛ فكذا الرواية. والجامع: أنه حال الأداء مسلم عاقل بالغ، يحترز من الكذب. الشرط الثالث: أن يكون مسلمًا، فيه مسألتان:

المسألة الأولى: الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة: أجمعت الأمة على أنه لا تقبل روايته، سواء علم من دينه المبالغة في الاحتراز عن الكذب، أو لم يعلم. المسألة الثانية: المخالف من أهبل القبلة، إذا كفرناه؛ كالمجسم وغيره، هل تقبل روايته أم لا؟! الحق أنه: إن كان مذهبه جواز الكذب، لم تقبل روايته؛ وإلا قبلناها، وهو قول أبي الحسين البصري. وقال القاضي أبو بكر والقاضي عبد الجبار: لا تقبل روايتهم. لنا: أن المقتضى للعمل به قائم، ولا معارض؛ فوجب العمل به. بيان أن المقتضى قائم: أن اعتقاده تحريم الكذب يزجره عن الإقدام عليه؛ فيحصل ظن صدقه، فيجب العمل به؛ على ما بيناه. وبيان أنه لا معارض: أنهم أجمعوا على أن الكافر الذي ليس من أهل القبلة لا تقبل روايته، وذلك الكفر منتف هاهنا. واحتج أبو الحسين: بأن كثيرًا من أصحاب الحديث قبلوا أخبار سلفنا؛ كالحسن، وقتادة، وعمرو بن عبيد مع علمهم بمذهبهم، وإكفارهم من يقول بقولهم. واحتج المخالف بالنص، والقياس: أما النص: فقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} [الحجرات: 6] أمر بالتثبت عند نبأ الفاسق، وهذا كافر، فوجب التثبت عند خبره. وأما القياس: فقد أجمعنا على أن الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة لا تقبل روايته؛ فكذا هذا الكافر.

شرح القرافي: (رواية الصبي والمجنون لا تفيد الظن، فلا يجور العمل بهما كالخبر في أمور الدنيا)

والجامع: أن قبول الرواية تنفيذ لقوله على كل المسلمين، وهو منصب شريف، والكفر يقتضى الإذلال، وبينهما منافاة. أقصى ما في الباب أن يقال: هذا الكافر جاهل بكونه كافرًا؛ لكنه لا يصلح عذرًا؛ لأنه ضم إلى كفره جهلًا آخر، وذلك لا يوجب رجحان حاله على الكافر الأصلي. والجواب عن الأول: أن اسم الفاسق في عرف الشرع مختص بالمسلم المقدم على الكبيرة. وعن الثاني: الفرق بين الموضعين: أن كفر الخراج عن الملة أعظم من كفر صاحب التأويل، فقد رأينا الشرع فرق بينهما في أمور كثيرة، [و] مع ظهور الفرق لا يجوز الجمع. الباب الثاني في شرائط العمل بهذه الأخبار قوله: قال القرافي: (رواية الصبي والمجنون لا تفيد الظن، فلا يجور العمل بهما كالخبر في أمور الدنيا): وقوله: تقبل شهادته إذا تحملها في صغره، فكذلك روايته). قلنا: المقدمتان باطلتان؛ لأنه يفيد الظن، لكن ظن ألغاه الشرع. وقوله مقبول في الاستئذان، وقبول الهدية إذا حملها، وهما من الأمور الدنيوية، غير أن بعض العلماء قال: إنما جاز ذلك؛ لاحتفاف القرائن في تلك الصور. (فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان):

المسألة الثانية قوله: (تقبل شهادته إذا تحملها في صغره، فكذلك روايته)

اختلف الأصوليون في اشتراط البلوغ، والفقهاء أيضًا، وعليه بنوا اختلافهم المشهور في قبوله في رؤية الهلال. واشترطه القاضي، وهو المختار؛ لأن الصحابة لم يراجعوا الصبيان فيما دعت ضرورتهم إليه من الأحكام، ولا دون رواة الحديث عن صبي حديثًا. قال المازري في (شرح البرهان): اختلف المصنفون في اشتراط البلوغ فرآها القاضي أبو الطيب مسألة إجماع، وإمام الحرمين رآها مسألة خلاف. المسألة الثانية قوله: (تقبل شهادته إذا تحملها في صغره، فكذلك روايته): قلنا: تقدم الفرق أن ضرر الشهادة خاص، وضرر الرواية عام؛ لكونها شرعًا عامًا ليوم القيامة. الشرط الثالث: الإسلام. قوله: (اعتقاد المخالف في العقائد من أهل القبلة تحريم الكذب يمنعه من الإقدام عليه): قلنا: وكذلك الكافر الحربي المجمع على عدم قبوله؛ فإن من أهل الكتاب من يستقبح الكذب غاية الاستقباح، ومع ذلك فلا تقبل روايته إجماعًا. قوله: (الكافر الذي ليس من أهل القبلة أجمعوا على أنه لا تقبل روايته، وذلك الكفر منتف هاهنا). قلنا: نحن فرعنا البحث في هذه المسألة على أنهم كفار، فالاختلاف بعد ذلك في أنواع الكفر لا أثر له. ألا ترى أن كفر اليهود أخف من كفر النصارى، وكفر الفريقين أخف من كفر الوثنيين، مع أن الكل سواء إجماعًا.

قوله: كثير من أصحاب الحديث قبلوا أخبار سلفة المعتزلة مع اعتقادهم بكفرهم). قلنا: قول بعض المحدثين ليس بحجة إجماعًا. قوله: (لا تقبل رواية الكافر الأصلي، فكذلك هذا الكافر): قلنا: الكافر بالبدعة معظم للشريعة المحمدية، والقرآن الكريم، مؤمن بموسى وعيسى، وجميع الرسل، وهو من أشد الناس تعظيمًا لمحمد بن عبد الله-عليه السلام- وهذه مزايا توجب القرق والاختلاف في الأحكام، ألا ترى أن أهل الكتاب لما خالفوا الوثنيين في تعظيم الكتاب والرسل، خالف الله-تعالى- بينهم، وبين الوثنيين والمجوس في ذبائحهم، ونكاح نسائهم، فجعل نساء الوثنيين كالبهائم لا تنكح، وجعل ذبائحهم كالميتة، وهذا شاهد قوي بالاعتبار على الفرق. قوله: (اسم الفسق يختص بالمسلم): قلنا: يلزم عليه قبول الكافر بطريق الأولى، فتكون الآية دلت على صورة النزاع من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. ***

الشرط الرابع قال الرازي: العدالة وهي: هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفس بصدقه

الشرط الرابع قال الرازي: العدالة وهي: هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعًا حتى تحصل ثقة النفس بصدقه. ويعتبر فيها الاجتناب عن الكبائر، وعن بعض الصغائر؛ كالتطفيف في الحبة، وسرقة باقة من البقل-وعن المباحات القادحة في المروءة؛ كالأكل في الطريق، والبول في الشارع، وصحبة الأراذل، والإفراط في المزاح. والضابط فيه: أن كل ما لا يؤمن معه جرأته على الكذب، ترد به الرواية، وما لا فلا. ويتفرع على هذا نوعان من الكلام: النوع الأول في أحكام العدالة، وفيه مسائل: المسألة الأولى: الفاسق، إذا أقدم على الفسق: فإن على كونه فسق لم تقبل روايته بالإجماع، وإن لم يعلم كونه فسقًا، فكونه فاسقًا إما أن يكون مظنونًا، أو مقطوعًا، فإن كان مظنونًا، قبلت روايته بالاتفاق. قال الشافعي-رضي الله عنه-: (أقبل شهادة الحنفي، وأحده إذا شرب النبيذ) وإن كان مقطوعًا به، قبلت روايته أيضًا؛ قال الشافعي-رضي الله عنه- (أقبل رواية أهل الأهواء، إلا الخطابية من الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم).

وقال القاضي أبو بكر: لا تقبل. لنا: أن ظن صدقه راجح، والعمل بهذا الظن واجب، والمعارض المجمع عليه منتف؛ فوجب العمل به. واحتج الخصم: بأن منصب الرواية لا يليق بالفاسق، أقصى ما في الباب أنه جعل فسقه؛ ولكن جهله بفسقه فسق آخر؛ فإذا منع أحد الفسقين من قبول الرواية، فالفسقان أولى بذلك المنع. والجواب: أنه إذا علم كونه فسقًا، دل إقدامه عليه على اجترائه على المعصية؛ بخلاف ما إذا لم يعلم ذلك. المسألة الثانية: المخالف الذي لا نكفره-ولكن ظهر عناده- لا تقبل روايته؛ لأن المعاند يكذب مع علمه بكونه كذبًا، وذلك يقتضى جرأته على الكذب، فوجب ألا تقبل روايته. المسألة الثالثة: قال الشافعي-رضي الله عنه-: (رواية المجهول غير مقبولة بل لابد فيه من خبرة ظاهرة، والبحث عن سيرته وسريرته) وقال أبو حنيفة-رحمه الله- وأصحابه: (يكفي في قبول الرواية الإسلام، بشرط سلامة الظاهر عن الفسق). لنا أوجه: الأول: الدليل ينفى العمل بخبر الواحد؛ لقوله تعالى: {إن الظن لا يغنى من الحق شيئًا} [النجم: 28] خالفناه في حق من اختبرناه؛ لأن الظن هناك أقوى، فيبقى في المجهول على الأصل.

الثاني: الدليل ينفى جواز العمل بخبر الواحد، إلا إذا قطعنا بأن الراوى ليس بفاسق؛ ترك العمل به فيما غلب على ظننا: أنه ليس بفاسق؛ بسبب كثرة الاختبار؛ فيبقى فيما عداه على الأصل. بيان الثاني: أن عدم الفسق شرط جواز الرواية؛ فوجب أن يكون العلم به شرطًا لجواز الرواية. وإنما قلنا: (إن عدم الفسق شرط جواز الرواية) لقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} [الحجرات: 6] وهو صريح في المنع من قبول رواية الفاسق. وإنما قلنا: (إن عدم الفسق، لما كان شرطًا لجواز الرواية، وجب أن يكون العلم به شرطًا لجواز الرواية) لأن الجهل بالشرط يوجب الجهل بالمشروط. وبيان الفارق: أن العدالة أم كامن في الباطن، لا إطلاع عليه حقيقة بل الممكن فيه الاستدلال بالأفعال الظاهرة، وذلك، وإن لم يفد العلم؛ لكنه يفيد الظن، ثم الظن الحاصل بعد طول الاختبار أقوى من الظن الحاصل قبله، وإذا كان كذلك، لم يلزم من مخالفة الدليل عند وجود المعارض القوي-مخالفته عند وجود المعارض الضعيف. الثالث: أجمعنا: على أنه لما كان الصبا، والرق، والكفر، وكونه محدودً في القذف- مانعًا من الشهادة: لا جرم اعتبر في قبول الشهادة العلم بعدم هذه الأشياء ظاهرًا؛ فوجب أن يكون الأمر كذلك في العدالة، والجامع الاحتراز عن المفسدة المحتملة. الرابع: إجماع الصحابة-رضي الله عنهم- على رد رواية المجهول: رد عمر

-رضي الله عنه- خبر فاطمة بنت قيس؛ وقال: (كيف نقبل قول امرأة؛ لا ندري، أصدقت أم كذبت)؟!! ورد علي-رضي الله عنه- خبر الأشجعي في المفوضة، وكان علي بن أبي طالب-رضي الله- عنه يحلف الراوي، ثم إن أحدًا من الصحابة ما أظهر الإنكار على ردهم؛ وذلك يقتضى حصول الإجماع. واحتج المخالف بأمور أحدها: أنه يقبل قول المسلم في كون اللحم لحم المذكي، وفي كون الماء في الحمام طاهرًا، وفي كون الجارية المبيعة رقيقة، وفي كون المرأة غير مزوجة، ولا معتدة، وفي كونه على الوضوء، إذا أم الناس، وفي إخباره للأعمى عن القبلة، فكذا هاهنا. وثانيها: أن الصحابة قبلت قول العبيد والصبيان والنسوان؛ لأنهم عرفوهم بالإسلام، وما عرفوهم بالفسق. وثالثها: أنه-عليه الصلاة والسلام- قبل شهادة الأعرابي على رؤية الهلال، مع أنه لم يظهر منه إلا الإسلام. ورابعها: قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} [الحجرات: 6] والمعلق على شرط عدم عند عدم الشرط، فما لم يعلم فسقه، لم يجب التثبت. والجواب عن الأول: لم قلتم: إنه لما قبل قول المجهول في تلك الصور، قبل قول الرواية؟ والفرق أن منصب الرواية أعلى من تلك المناصب، فإن ألغوا هذه الزيادة بإيماء قوله-عليه الصلاة والسلام-: (نحن نحكم بالظاهر) قلنا: ترك العمل بهذا الإيماء في الكفر والحرية؛ فكذا هاهنا.

شرح القرافي: قوله: (المعتبر اجتناب الكبائر، وبعض الصغائر، كالتطفيف في الحبة، وسرقة باقة بقل)

وعن الثاني: لا نسلم أن الصحابة قبلت قول المجاهيل؛ فإن هذا هو نفس المسألة. وعن الثالث: لا نسلم: أنه-عليه الصلاة والسلام- ما كان يعرف من حال ذلك الأعرابي إلا مجرد الإسلام. وعن الرابع: لما وجب التوقف عند قيام المفسق، وجب أن نعرف أنه في نفسه، هل هو فاسق أم لا؛ حتى يمكننا أن نعرف أنه، هل يجب التوقف في قوله، أم لا!؟. الشرط الرابع العدالة قال القرافي: قوله: (المعتبر اجتناب الكبائر، وبعض الصغائر، كالتطفيف في الحبة، وسرقة باقة بقل): تقريره: أن من العلماء من يقول: كل معصية كبيرة، قال إمام الحرمين في (الإرشاد): وغيره مع موافقة هذا القائل على التفرقة في أمر العدالة بين أنواع المعاصي، وإنما ظاهر حاله أنه إنما منع تعظيمًا أن يقال لمخالفة الله تعالى: صغيرة، وإذا تقرر أنه لا بد من الفرق، فالجمهور على تسمية ما يسقط العدالة كبيرة. يؤيده قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تتهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31]، فأثبت الله-تعالى- السيئات. وقوله تعالى: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات: 7]، فجعل الله-تعالى- الفسوق رتبة بين اثنتين. وقال عليه السلام: (الكبائر تسع: الشرك بالله-تعالى- وقتل النفس المؤمنة، وقذف المحصنة والزنا، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل

(قاعدة) قال جماعة من العلماء: فالفرق بين الصغيرة والكبيرة يرجع إلى عظم المفسدة وصغرها

مال اليتيم، وعقوق الوالدين المسلمين، وأكل الربا). وفي بعض الطرق: والانقلاب إلى الأعراب بعد هجرة، والسرقة، وشرب الخمر). ولم يقل: كل معصية كبيرة. (قاعدة) قال جماعة من العلماء: فالفرق بين الصغيرة والكبيرة يرجع إلى عظم المفسدة وصغرها، فعظم المفسدة كبيرة، والآخر صغيرة، غير أن هذه الرتبة من العظم غير معلومة الحد، والحقيقة في المقدار. قالوا: فالطريق إلى ضبط ذلك أن كل ما نص الله-سبحانه وتعالى- عليه، ورتب فيه حدًا من الحدود، أو تهديدًا، أو وعيدًا فهو كبيرة، ويقاس ما لم يذكر على ما ذكر. فإن وجدت مفسدته كمفسدته لحق به، وإلا فلا، وكذلك يلاحظ ما ورد في السنة مما نص على أنه كبيرة، فما كان في معناه لحق به، وإلا فلا.

(سؤال) الإصرار على الصغيرة والكبيرة، فما ضابط الإصرار الذي يوصل للكبيرة؟

وكذلك يلاحظ ما جعله رسول الله-عليه السلام- صغيرة، وقبل الشهادة معه، فما كان في معناه لحق به، وإلا فلا. فقد روى عنه-عليه السلام- أنه قبل الشهادة ممن علم منه تقبيل امرأة أجنبية، فتكون مقدمات النكاح صغائر. (سؤال) الإصرار على الصغيرة والكبيرة، فما ضابط الإصرار الذي يوصل للكبيرة؟ (جوابه) إن داوم على الصغيرة مداومة تخل بالثقة به كما تخل به بالكبيرة كان كبيرة، وإلا فلا. وكذلك يقال: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار، هذا كله سمعته من الشيخ عز الدين بن عبد السلام. (تنبيه) وسمعته يقول: أجمعوا على أن غصب الحبة كبيرة، وسرقة الحبة كبيرة، وشهادة الزور كبيرة، وإن كان الضيع بها حقيرًا، فلوحظ في هذه الأبواب مفاسد الهيئات من غصب، وسرقة، وغيرها دون مفاسد الأفعال من تضييع المال العظيم وغيره، فلو كذب كذبة يضيع بها ما يضيعه شاهد الزور مع حقارته لم تسقط عدالته؛ لعظم مفسدة الباب لا لمفسدة المال. قوله: (الفاسق إذا أقدم على الفسق، فإن علم به فسق لا تقبل روايته): تقريره: أنه إذا كان يعلم أنه على معصية، فقد أقدم وهو بجرأة عظيمة تخل بالثقة به، بخلاف الذي لا يعتقد أنه على معصية لا جرأة عنده تخل به.

قوله: (قال الشافعي: أقبل شهادة الحنفي، واحده على شرب النبيذ): تقريره: أن الشافعي يقول: التأديبات تعتمد المفاسد لا المعصية؛ بدليل تأديب الصبيان، والمجانين، والبهائم استصلاحًا لهم لا لعصيانهم. فكذلك الحنفي هو غير عاص؛ لصحة تقليده، وهو موقع لمفسدة التوسل إلى إتلاف عقله؛ فإن القليل قد يؤدي إلى الكثير، فيسكر، فأحده لذلك، غير أنه وإن كان هذا مدركًا حسنًا سمعت الشيخ عز الدين يذكره، غير أنه يرد عليه أن التأديب المعهود في الشرح للاستصلاح مع عدم الذنب غير محدود بعدد، وما عهدنا في الشرع حدًا على مباح، وهذا حد عنده، فيتعين إما ألا يحده، أو يعصيه، ويحده كما قال مالك: أحده، وأرد شهادته، ومنشؤ الخلاف بين الإمامين أن الفتاوى قسمان: منها ما يجوز التقليد فيه، ومنها ما لا يجوز، وهو ما كان على خلاف أحد أربعة: الإجماع، أو القواعد، أو النص، أو القياس الجلي إذا سلمنا هذه الثلاثة عن المعارض؛ لأن الحاكم لو حكم بما هو على خلاف هذه الثلاثة نقض حكمه، فما لا نقره شرعًا إذا تقرر بحكم الحاكم أولى ألا نقره إذا لم يتصل بما يؤكده. ثم يختلف بعد ذلك في بعض المسائل، هل هي من القسم الأول أو من الثاني؟. فالشافعي يرى مسألة النبيذ من الأول. ومالك يراها من الثاني؛ لتضافر النصوص في الباب من السنة بتحريم قليل ما أسكر كثيره، ولا معارض لها، والقياس على الخمر جلي؛ ولأن القواعد تقتضى سد الذرائع في مثل هذا. فهذه الصورة على خلاف الثلاثة، وواحد منها كاف في إبطال التقليد منها، فكيف بها كلها؟.

(فائدة) قال المازري في (شرح البرهان): المعتزلة نفاة العلم، والخوارج وغيرهم إذا لم نقل بتكفيرهم فسقناهم

قوله في المعلوم الفسق: (إن ظن صدقه راجح، والعمل بالراجح واجب). قلنا: قد تقدم مرارًا أن مطلق الظن والراجح غير معتبر، بل لم يعتبر صاحب الشرع إلا مراتب معينة من الظن، فلم قلتم: إن هذه الرتبة منها؟ (فائدة) قال المازري في (شرح البرهان): المعتزلة نفاة العلم، والخوارج وغيرهم إذا لم نقل بتكفيرهم فسقناهم. قوله: (قال الحنفية: تقبل رواية المجهول؛ بشرط سلامة الظاهر من الفسق). تقريره: أني اجتمعت بأعيان الحنفية، فقالوا في هذه المسألة: التزكية عندنا في الشهادة وغيرها إنما تقع حقًا للعبد لا لله-تعالى- فإن طلب الخصم التزكية من الحاكم وجب عليه إجابته لذلك، وإلا فلا. وعند غير الحنفية ثبوت العدالة حق الله-تعالى- فلا يجوز قبول شهادة ولا رواية إلا من عدل، ورأيت متأخريهم يقولون: إنما قال أبو حنيفة ذلك في صدر الإسلام حيث كان الغالب على الناس العدالة، فألحق النادر بالغالب، ولما كثر الفساد، وقل الرشاد، ألحق الغالب بالنادر، فتكون العدالة شرطًا، ولا بد من التزكية. ومثل هذا روى عن عمرو بن شعيب، فروى عنه أنه قال: (المسلمون كلهم عدول بعضهم على بعض)، واستدل به الحنفية، ثم قال بعد ذلك لما اطلع على كثرة المفاسد: (لا يوثق أحد في الإسلام بغير العدول).

قال إمام الحرمين في (البرهان): الحنفية وإن باحوا بقبول شهادة الفاسق لم يجروا أن يبوحوا بقبول روايته. قال المازري: اضطرب النقل عنهم في قبول شهادته، غير أنهم أجازوا النكاح بشهادة فاسقين. وبعضهم منع ذلك، وقال: إنما يقضى بهما، عند التجاحد فيجب القضاء بما حينئذ. وقال أبو المعالي: المتحصل من مذهبهم أن قبول شهادة الفاسق موكول إلى اجتهاد الإمام إن غلب على ظنه صدقه أمضى شهادته، وإلا فلا. وسلموا أن حد الزنا لا يقام بالفساق، ولا تقبل روايتهم، ومن أثبت به النكاح عند التجاحد، فقد أبعد؛ لأنه قضاء صرف، بخلاف انعقاد النكاح بهم. قال الغزالي في (المستصفى): مذهب أبي حنيفة: أن الكفر والفسق لا يسلبان الأهلية، بل يوجبان التهمة، وقبل شهادة الذمي بعضهم على بعض.

(قاعدة) عدم المانع ليس بشرط، وعدم الشرط ليس بمانع، خلافا لما يتخيله كثير من الفقهاء

قال القاضي: كلاهما يسلب الأهلية. وقال الشافعي: الكفر يسلب، والفسق يوجب الرد للتهمة. قال الغزالي: وهو ظاهر. قوله: (الدليل ينفى جواز العمل بخبر الواحد إلا إذا قطعنا بأن الرواي ليس بفاسق). يريد بالقطع: غلبه الظن، وإلا فالقطع ليس شرطًا إجماعًا. قوله: (إن عدم الفسق شرط جواز الرواية؛ لقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ} [الحجرات: 6]): قلنا: بل لعل الفسق مانع. (قاعدة) عدم المانع ليس بشرط، وعدم الشرط ليس بمانع، خلافًا لما يتخيله كثير من الفقهاء؛ لأن الشك في عدم الشرط يمنع ترتب الحكم، والشك في المانع لا يمنع ترتب الحكم؛ لأن القاعدة أن المشكوكات كالمعدومات، فكل شيء شككنا في وجوده، أو عدمه جعلناه معدومًا، وكذلك إذا شككنا في السبب لا نرتب الحكم؛ لأنا نصيره معدومًا، فلو كان عدم الشرط مانعًا، أو عدم المنع شرطًا للزم من الشك فيه أن يرتب الحكم؛ لأن مانع، وألا يرتبه؛ لأنه شرط، فيرتبه ولا يرتبه، وهو جمع بين النقيضين. فإن قلت: ما مقتضى لفظ الآية؟ هل هو مانع أو شرط؟ قلت: ليس مقتضاها أن يكون واحدًا منهما، بل مقتضاها أن يكون سببًا؛ لأن القاعدة أن التعاليق اللغوية أسباب.

(المسألة الثانية) رواية المجهول غير مقبولة عند الشافعي، خلافا للحنفية

وقد علق علم التثبيت، وإذا كان سببًا، فنقول أيضًا: عدم السبب ليس شرطًا؛ لأن عدم السبب المعين لا يلزم من عدمه العدم، لجواز أن يخلفه سبب آخر، ولو كان شرطًا لترتب ضد الحكم وللزم من الشك فيه ألا نرتب ضد الحكم. لكنا عند الشك فيه نرتب ضد الحكم؛ لأن سبب الضد يجري مجرى المانع، وقد تقدم أن الشك في المانع لا يمنع، فتأمل هذه المواضع؛ فإنها تلتبس على كثير من الفقهاء. قوله: (لما وجب التوقف عند قيام المفسق وجب أن يعرف أنه في نفسه هل هو فاسق أم لا؟): قلنا: قد تقدم أن الحكم بقوله ضد التثبت فيه، وأن انتفاء سبب الضد مانع، والمانع يكفي الشك فيه، ويرتب الحكم عكس الشرط والسبب، لأن المشكوك فيه كالمعدوم، كما تقدم تقريره، والمجهول مشكوك في فسقه، فتقبل روايته، ولا نتثبت. (المسألة الثانية) رواية المجهول غير مقبولة عند الشافعي، خلافًا للحنفية. قال المازري في (شرح البرهان): قبلت الحنفية روايته، وقبلت شهادته أيضًا في الأموال دون الحدود والفروج، وخرج بعضهم من قول الشافعي: (إن النكاح ينعقد بالمستورين) قبول رواية المجهولين، فهو مذهب الشافعي حينئذ؛ لأجل هذا التخريج. وأنكر بعضهم ذلك، وقال: إنما وزان الرواية إثبات النكاح بالمجهول، وهو لم يقل به. * * *

النوع الثاني قال الرازي: في طريق معرفة العدالة والجرح وهو أمران

النوع الثاني قال الرازي: في طريق معرفة العدالة والجرح وهو أمران: أحدهما: الاختبار. وثانيهما: التزكية، والمقصود هاهنا بيان أحكام التزكية والجرح، وفيه مسائل: المسألة الأولى: شرط بعض المحدثين العدد في المزكى والجارح؛ في الرواية، والشهادة. وقال القاضي أبو بكر: لا يشترط العدد في تزكية الشاهد، ولا في تزكية الراوي، وإن كان الأحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكى. وقال قوم: يشترط في الشهادة، دون الرواية، وهو الأظهر؛ لأن العدالة التي تثبت بها الرواية لا تزيد على نفس الرواية، وشرط الشيء لا يزيد على أصله؛ فالإحصان يثبت بقول اثنين؛ وإن لم يثبت الزنا إلا بقول أربعة، وكذلك نقولك تقبل تزكية العبد والمرأة في الرواية؛ كما يقبل قولهما. المسألة الثانية: قال الشافعي- رضي الله عنه-: يجب ذكر سبب الجرح، دون التعديل؛ لأنه قد يجرح بما لا يكون جارحًا؛ لاختلاف المذاهب فيه، وأما العدالة، فليس لها إلا سبب واحد. وقال قوم: يجب ذكر سبب التعديل، دون الجرح؛ لأن مطلق الجرح يبطل الثقة، ومطلق التعديل لا يحصل الثقة؛ لتسارع الناس إلى الثناء على الظاهر؛ فلا بد من سبب.

وقال قوم: لابد من السبب فيهما جميعًا؛ أخذًا بمجامع كلام الفريقين. وقال القاضي أبو بكر: لا يجب ذكر السبب فيهما جميعًا؛ لأنه إن لم يكن بصيرًا بهذا الشأن، لم تصح تزكيته، وإن كان بصيرًا، فلا معنى للسؤال. والحق: أن هذا يختلف باختلاف أحوال المزكي، فإن علمنا كونه عالمًا بأسباب الجرح والتعديل، اكتفينا بإطلاقه. وإن علمنا عدالته في نفسه، ولم نعرف إطلاعه على شرائط الجرح والتعديل، استخبرناه عن أسباب الجرح والتعديل. المسألة الثالثة: إذا تعارض الجرح والتعديل، قدمنا الجرح؛ لأنه اطلاع على زيادة، لم يطلع عليها المعدل، ولا نفاها، فإن نفاها، بطلت عدالة المزكي؛ إذ النفي لا يعلم؛ اللهم إلا إذا جرحه بقتل إنسان، فقال المعدل: (رأيته حيًا) فهاهنا يتعارضان، وعدد المعدل، إذا زاد، قيل: إنه يقدم على الجارح، وهو ضعيف؛ لأن سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على زيادة؛ فلا ينتفي ذلك بكثرة العدد. المسألة الرابعة: للتزكية مراتب أربعة:: أعلاها: أن يحكم بشهادته، والثانية: أن يقول: هو عدل؛ لأني عرفت منه كيت وكيت، فإن لم يذكر السبب، وكان عارفًا بشروط العدالة، كفى. والثالثة: أن يروي عنه خبرًا، واختلفوا في كونه تعديلًا. والحق: أنه إن عرف من عادته، أو بصريح قوله: أنه لا يستجيز الرواية إلا عن عدل، كانت الرواية تعديلًا، وإلا فلا؛ إذ من عادة أكثرهم الرواية عن كل من سمعوه، ولو كلفوا الثناء عليهم، سكتوا.

شرح القرافي: قوله: (شرط بعضهم العدد في المزكي والجارح في الرواية، والشهادة)

فإن قلت: (لو عرفه بالفسق، ثم روى عنه، كان غاشًا في الدين): قلت: إنه لم يوجب على غيره العمل به، بل قال: (سمعت فلانًا يقول كذا) وصدق فيه، ثم لعله لم يعرفه بالفسق، ولا بالعدالة؛ فروى، ووكل البحث إلى من أراد القبول. والرابعة: العمل بالخبر: إن أمكن حمله على الاحتياط، أو على العمل بدليل آخر، وافق الخبر- فليس بتعديل، وإن عرف يقينًا: أنه عمل بالخبر- فهو تعديل؛ إذ لو عمل بخبر غير العدل، لفسق. المسألة الخامسة: ترك الحكم بشهادته لا يكون جرحًا في روايته؛ وذلك لأن الرواية والشهادة مشتركان في هذه الشرائط الأربعة، أعني: العقل، والتكليف، والإسلام، والعدالة، واختصت الشهادة بأمور ستة؛ هي غير معتبرة في الرواية وهي: عدم القرابة، والحرية، والذكورة، والبصر، والعدد، والعداوة، والصداقة. فهذه الستة تؤثر في الشهادة، لا في الرواية؛ لأن الولد له أن يروي عن والده بالإجماع، والعبد له أن يروي أيضًا، والضرير له أن يروي أيضًا، ذلك لأن الصحابة رووا عن زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أنهم في حقهن كالضرير. (لنوع الثاني في العدالة) قال القرافي: قوله: (شرط بعضهم العدد في المزكي والجارح في الرواية، والشهادة). قلت: هذا الكلام فرع تصور حقيقة الشهادة والرواية؛ فإن الحكم على

الشيء فرع تصوره، ولقد أقمت ثماني سنين، وأنا أجد في فروع الفقه، أن منشأ الخلاف في هذه المسألة دورانها بين الشهادة والرواية، واسأل من أجده من الفضلاء يقول: الفرق بينهما أن الشهادة يشترط فيها العدد، والحرية، والذكورة في بعض الصور، والرواية ليست كذلك في الجميع، فأقول لهم: التزام هذه الشروط فيها فرع تصورهما؟ فكيف يستفاد تصورهما من فروعهما، فلا يحصل في ذلك تصورهما، ولم ازل كذلك حتى وجدته في شرح المازري لـ (البرهان)، فقال: "قاعدة": الخبر يعم الشهادة والرواية، فمتعلق ذلك الخبر وفائدته إن كان عامًا في الأمصار، والأعصار إلى يوم القيامة، فهو الرواية، وغن كان خاصًا بشخص معين، فهو الشهادة، وبهذا السر يظهر اشتراط العدد؛ لأن الشاهد إذا أخبر عن ضرر شخص معين احتمل أن يكون عدوًا له، وما شعرنا به، فاستظهرنا بالعدد لتبعد التهمة، ففي الرواية لا يعادي العدل الخلائق إلى يوم القيامة، فلام نشترط العدد، وبه ظهر اشتراط الحرية؛ فإن إثبات سلطان العبيد على الشخص المعين يتضرر به ذلك المعين، وحكم يعم الخلق أجمعين لا يتضرر به أحد؛ لأنه لم يستشعر أن العبد قصده، والمعين مقصود، فيتألم، ثم المواطن ثلاثة أقسام: قسم اتفق على أنه من باب العموم الصرف، فهو رواية اتفاقًا، كقوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات). وقسم خصوص صرف، فهو شهادة اتفاقًا، كإخبار العدل من ثبوت الدين على زيد. وقسم اختلف العلماء فيه، لتردده بين العموم والخصوص، هل هو شهادة أو رواية؟ كشهادة هلال رمضان من جهة أنه يخص هذا العام، فيشبه الشهادة، ومن جهة أنه لا يختص ببلد معين عموم، فيشبه الرواية، ففيه لأجل الشائبة قولان.

(فائدة) رأيت لبعض المشايخ الذين اجتمعت بهم أن العبد لو روى حديثا يتضمن عتقه قبلت روايته، ولا يكون ذلك تهمة توجب رده

وكذلك القائف، والمقوم، والترجمان عند الحاكم، ونحوهم، من جهة أن الحاكم نصبهم نصبًا عامًا للناس شائبة عموم، ومن جهة أن أقضيتهم إنما تقع في جزء معين، فهو جهة خصوص، لا جرم كان في اشتراط العدد في تلك المواطن للعلماء قولان. وكذلك المزكي كونه بخبر عن أمر يتعلق بالمزكي، ويثبت له أمرًا في نفسه كنسبه وحريته، أشبه بالشهادة، ومن جهة انه إذا زكى صارت شهادة عامة على الناس لا تختص بأحد- أشبهت الرواية. وكذلك جميع الصور التي يختلف فيها العلماء، هل هي رواية أو شهادة؟ تخرج بهذا السر وتقريره. فهذا تلخيص قاعدة الشهادة والرواية، فرحم الله- تعالى- العلماء أجمعين. والله لقد سررت بها سرورًا كثيرًا لما وجدتها بعد تعب شديد، فتأملها أنت؛ فإنها حسنة، والموضع صعب، وقل من يتعرض له. (فائدة) رأيت لبعض المشايخ الذين اجتمعت بهم أن العبد لو روى حديثًا يتضمن عتقه قبلت روايته، ولا يكون ذلك تهمة توجب رده. ولو شهد شهادة تتضمن عتق نفسه ردت شهادته، وما ذلك إلا لفرط العموم في الرواية، فتبعد التهمة بأنه يترتب شرعًا عامًا، ويضر بالخلق إلى يوم القيامة لأجله هو. * * *

الشرط الخامس قال الرازي: أن يكون الراوي بحيث لا يقع له الكذب والخطأ

الشرط الخامس قال الرازي: أن يكون الراوي بحيث لا يقع له الكذب والخطأ؛ وذلك يستدعى حصول أمرين: أحدهما: أن يكون ضابطًا. والآخر: ألا يكون سهوه أكثر من ذكره، ولا مساويًا له. أما ضبطه: فلأنه إذا عرف بقلة الضبط، لم تؤمن الزيادة والنقصان في حديثه، ثم هذا على قسمين: أحدهما: أن يكون مختل الطبع جدًا، غير قادر على الحفظ أصلًا، ومثل هذا الإنسان لا يقبل خبره البتة. والثاني: أن يقدر على ضبط قصار الأحاديث، دون طوالها، وهذا الإنسان يقبل منه ما عرف كونه قادرًا على ضبطه، دون ما لا يكون قادرًا عليه. أما إذا كان السهو غالبًا عليه ما لم يقبل حديثه؛ لأنه يترجح أنه سها في حديثه، وأما إذا استوى الذكر والسهو، لم يترجح أنه ما سها، والفرق بين ألا يكون ضابطًا، وبين أن يعرض له السهو، أن من لا يضبط لا يحصل الحديث حال سماعه، ومن يعرض له السهو قد يضبط الحديث حال سماعه وتحصيله، إلا أنه قد يشذ عنه بعارض السهو. فإن قلت: (لم لا يجوز أن يقبل حديثه؟ لأنه لو لم يكن ضبطه، أو ضبطه، ثم سها عنه، لم يروه مع عدالته): قلت: عدالته تمنع من الكذب والخطأ عمدًا، لا سهوًا، فجاز أن يتصور مع

عدالته فيما لم يضبطه: أنه ضبطه، وانه لم يسه فيما سها عنه؛ فوجب ألا يقبل حديثه. الفصل الثاني (في الأمور التي يجب ثبوتها؛ حتى يحل للراوي أن يروي الخبر). اعلم أن لذلك مراتب: فأعلاها: أن يعلم أنه قرأه على شيخه، أو حدثه به، ويتذكر ألفاظ قراءته، ووقت ذلك- فلا شبهة في أنه يجوز له روايته، والأخذ به. وثانيها: أن يعلم انه قرأ جميع ما في الكتاب، أو حدثه به، ولا يتذكر ألفاظ قراءته، ولا وقت ذلك- فيجوز له روايته؛ لأنه عالم في الحال: أنه سمعه. وثالثهما: أن يعلم أنه لم يسمع ذلك الكتاب، ولا يظن أيضًا أنه سمعه، أو يجوز الأمرين تجويزًا على السوية- فلا تجوز له روايته؛ لأنه لا يجوز له أن يخبر بما يعلم أنه كاذب فيه، أو ظان، أو شاك فيه. ورابعها: ألا يتذكر سماعه، ولا قراءته لما فيه لكنه يظن ذلك، لما يرى منه خطه. وهاهنا اختلفوا فيه: فعند الشافعي- رضي الله عنه- تجوز له روايته، وهو قول أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله-. وقال أبو حنيفة- رحمه الله-: لا تجوز. لنا الإجماع، والمعقول: أما الإجماع: فهو أن الصحابة- رضي الله عنهم- كانت تعمل على كتب

شرح القرافي: قوله: (لم يذكر سماعه، ولا رأى خطه، فعند الشافعي: تجوز روايته)

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ نحو كتابه لعمرو بن حزم، من غير أن يقال: إن راويًا روى ذلك الكتاب لهم، وإنما علموا ذلك؛ لأجل الخط، وأنه منسوب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فجاز مثله في سائر الروايات. وأما المعقول: فلأن الظن حاصل هاهنا، والعمل بالظن واجب. احتج أبو حنيفة- رحمه الله-: بأنه إذا لم يعلم السامع، لم يؤمن الكذب. جوابه: أنه يروى بحسب الظن؛ وذلك يكفي في وجوب العمل. (الشرط الخامس) قال القرافي: قوله: (لم يذكر سماعه، ولا رأى خطه، فعند الشافعي: تجوز روايته): قلت: الفرق عنده في الاعتماد على الخطوط في الرواية، مع أنه لا يجيز الشهادة على الخطوط؛ لأن الشهادة مظنة التزوير؛ لأنها موطن المقاصد الدنيوية من الأموال والأعراض والنفوس، وتراحم الرغيات. والرواية بعيدة عن ذلك، فإنها لا تحصل للمزور شيئًا من هذه المقاصد. قوله: (كانت الصحابة يعتمدون على كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمجرد الخط). قلنا: الكتاب المنسوب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه من الهيبة المانعة من التزوير، وقرائن الأحوال المحصلة للعلم، أو الظن القريب من العلم ما ليس في كتب غيره. ومع الفرق بطل الاعتبار. * * *

الفصل الثالث قال الرازي: (فيما جعل شرطا في الراوي، مع أنه غير معتبر)

الفصل الثالث قال الرازي: (فيما جعل شرطًا في الراوي، مع أنه غير معتبر): والضابط في هذا الباب: كل خصلة لا تقدح في غالب الظن بصحة الرواية، ولم يعتبر الشرع تحقيقها تعبدًا؛ فإنها لا تمنع من قبول الخبر، وفيه مسائل: المسألة الأولى: رواية العدل الواحد مقبولة؛ خلافًا للجبائي؛ فإنه قال: (رواية العدلين مقبولة، وأما خبر العدل الواحد، فلا يكون مقبولًا إلا إذا عضده ظاهر، أو عمل بعض الصحابة، أو اجتهاد، أو يكون منتشرًا فيهم) وحكى عنه القاضي عبد الجبار: أنه لم يقبل في الزنا إلا خبر أربعة؛ كالشهادة عليه. لنا وجهان: الأول: إجماع الصحابة: عمل أبو بكر على خبر بلال، وعمل عمر على خبر حمل بن مالك، وعلى خبر عبد الرحمن في المجوس، وعمل على خبر المقداد، وعملت الصحابة على خبر أبي سعيد في الربان وعملت على خبر رافع بن خديج في المخابرة، وعلى خبر عائشة في التقاء الختانين، وكان على يقبل خبر أبي بكر- رضي الله عنهم أجمعين-. فإن قلت: (لعلهم قبلوا ما قبلوه؛ لأن الاجتهاد عضده): قلت: إنهم كانوا يتركون اجتهادهم بهذه الأخبار، وكانوا لا يرون بالمخابرة بأسًا؛ حتى روى لهم رافع بن خديج نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها.

الثاني: أن العمل بخبر الواحد العدل يتضمن دفع ضرر مظنون؛ فيكون واجبًا. احتج الخصم بأمور: أحدها: أنته- عليه الصلاة والسلام- لم يقبل خبر ذي اليدين؛ حتى شهد له أبو بكر وعمر- رضي الله عنهم-. وثانيهما: أن الصحابة اعتبرت العددة فإن أبا بكر لم يقبل خبر المغيرة في الجدة حتى رواه معه محمد بن مسلمة، ولم يعمل عمر على خبر أبي موسى في الاستئذان؛ حتى رواه أبو سعيد الخدري، ورد خبر فاطمة بنت قيس، ورد أبو بكر وعمر خبر عثمان رضي الله عنهم أجمعين في رد الحكم بن العاص. وثالثهما: قياس الرواية على الشهادة، بل أولى؛ لأن الرواية تقتضي شرعًا عامًا، والشهادة شرعًا خاصًا؛ فإذا لم تقبل رواية الواحد في حق الإنسان الواحد، فلأن لا تقبل في حق كل الأمة كان أولى. ورابعها: الدليل ينفي العمل بالخبر المظنون؛ لقوله تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئًا} ترك العمل به في خبر العدلين؛ والعدل الواحد ليس في معناه؛ لأن الظن هناك أقوى مما هاهنا؛ فوجب أن يبقى على الأصل. والجواب عن الأول: أن ذلك، إن دل، فإنما يدل على اعتبار ثلاثة، أبي بكر، وعمر، وذي اليدين- رضي الله عنهم-؛ ولأن التهمة كانت قائمة هناك؛ لأنها كانت واقعة في محفل عظيم، والواجب فيها الاشتهار.

وعن الثاني: أنا بينا أنهم قبلوا خبر الواحد، وهاهنا اعتبروا العدد؛ فلابد من التوفيق، فنقول ما ذكرناه من الروايات يدل على أن العدد ليس بشرط في أصل الرواية، وما ذكروه دل على أنهم طلبوا العدد؛ لقيام تهمة في تلك الصور. وعن الثالث: أنه منقوض بسائر الأمور التي هي معتبرة في الشهادة لا في الرواية كالحرية، والذكورة، والبصر، وعدم القرابة. وعن الرابع: لا نسلم: أن قول الله تعالى: {إن الظن لا يغنى من الحق شيئًا} يمنع من التعلق بخبر الواحد؛ فإنا لما علمنا أن الله تعالى أمرنا بالتمسك، كان تمسكنا به معلومًا، لا مظنونًا. المسألة الثانية: زعم أكثر الحنفية: أن راوي الأصل إذا لم يقبل الحديث، قدح ذلك في رواية الفرع. والمختار أن نقول: راوي الفرع: إما أن يكون جازمًا بالرواية، أو لا يكون: فإن كان جازمًا، فالأصل: إما أن يكون جازمًا بفساد الحديث، أو بصحته، أو لا يجزم بواحد منهما: فإن كان الأول: فقد تعارضا؛ فلا يقبل الحديث؛ ولأن قبول الحديث من الفرع لا يمكن إلا بالقدح في الأصل وذلك يوجب القدح في الحديث. وأما الثاني: فلا نزاع في صحته. وأما الثالث: فإما أن يقول: الأغلب على ظني: أني ما رويته، أو الأغلب: أني رويته، أو الأمران على السواء، أو لا يقول شيئًا من ذلك؛ ويشبه أن يكون الخبر في كل هذه الأقسام مقبولًا؛ لأن الفرع جازم، ولم يوجد في مقابلته جزم يعارضه؛ فلا يسقط به الاستدلال.

وأما إذا لم يكن الفرع جازمًا، بل يقول: (أظن أني سمعته منك) فإن جزم الأصل بـ (أني ما رويته لك) تعين الرد. وإن قال: (أظن أني ما رويته لك) تعارضًا، والأصل العدم. وغن ذهب إلى سائر الأقسام، فالأشبه قبوله. والضابط: أنه حيث يكون قول الأصل معادلًا بقول الفرع، تعارضًا؛ وحيث ترجع أحدهما على الآخر، فالمعتبر هو الراجح. واحتج المانعون مطلقًا: بأن الدليل ينفي قبول خبر الواحد؛ سلمناه فيما إذا لم يوجد هذا المعنى؛ لأن الظن- هناك؛ فيبقى فيما عداه على الأصل. والجواب: ما تقدم. المسألة الثالثة: لا يشترط كون الراوي فقيهًا، سواء كانت روايته موافقة للقياس، أو مخالفة له؛ خلافًا لأبي حنيفة - رحمه الله - فيما يخالف القياس. لنا: الكتاب، والسنة، والعقل: أما الكتاب: فقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} فوجب ألا يجب التبين في غير الفاسق، سواء كان عالمًا، أو جاهلًا. أما السنة: - صلى الله عليه وسلم -: (نضر الله امرءًا سمع مقالتي، فوعاها ...) إلى قوله: (فرب حامل فقه ليس بفقيه). وأما العقل: فهو أن خبر العدل يفيد ظن الصدق؛ فوجب العمل به؛ لما تقدم من أن العمل بالظن واجب. واحتج الخصم بوجهين:

الأول: أن الدليل ينفي جواز العمل بخبر الواحد، خالفناه إذا كان الراوي فقيهًا؛ لان الاعتماد على روايته أوثق. الثاني: أن الأصل ألا يرد الخبر على مخالفة القياس، والأصل أيضًا صدق الراوي، فإذا تعارضا، تساقطا، ولم يجز التمسك بواحد منهما. وأيضًا: فبتقدير صدق الراوي: لا يلزم القطع بكون ذلك الخبر حجة؛ لأنه إذا جرى حديث منافق عند الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإذا جاء ذلك الرجل، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (اقتلوا الرجل) علم الفقيه أن الألف واللام هاهنا ينصرف إلى المعهود، والعامي ربما ظن أن المراد منه الاستغراق. والجواب عن الأول: ما مر. وعن الثاني: أن في التعارض تسليمًا بصحة أصل الخبر. قوله: "يجوز أن يشتبه عليه المعهود بالاستغراق. قلنا: التمييز بين الأمرين لا يتوقف على الفقه، بل كل من كانت له فطنة سليمة أمكنه التمييز بين الأمرين. وأيضًا: فإن ذلك يقتضي اعتبار الفقه في رواة خبر التواتر. المسألة الرابعة: إذا عرف منه التساهل في أمر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا خلاف في أنه لا بقبل خبره. وأما إذا عرف التساهل في غير حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرف منه الاحتياط جدًا في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجب قبول خبره؛ على الرأي الأظهر؛ لأنه يفيد الظن، ولا معارض؛ فوجب العمل به.

شرح القرافي: قال ابن العربي في (المحصول) له: اشترط الجبائي في قبول الخبر اثنين، وشرط على الاثنين اثنين إلى أن ينتهي الخبر إلى التاسع

المسألة الخامسة: لا يعتبر في الراوي أن يكون عالمًا بالعربية، وبمعنى الخبر؛ لأن الحجة في لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والأعجمي والعامي يمكنهما حفظ اللفظ، وكذلك يمكنهما حفظ القرآن، ولا يعتبر أيضًا أن يكون ذكرًا، أو حرًا أو بصيرًا، وهو مجمع عليه. المسألة السادسة: تقبل رواية من لم يرو إلا خبرًا واحدًا. فأما إذا أكثر من الروايات، مع قلة مخالطته لأهل الحديث، فإن أمكن تحصيل ذلك القدر من الأخبار في ذلك القدر من الزمان، قبلت أخباره، وإلا توجه الطعن في الكل. المسألة السابعة: لا يجب كون الراوي معروف النسب، بل إذا حصلت الشرائط المعتبرة المذكورة فيه، قبل خبره، وإن لم يعرف نسبه، وأما إذا كان له اسمان، وهو بأحدهما أشهر، جازت الرواية عنه. وأما إذا كان مترددًا بينهما، وهو بأحدهما مجروح، وبالآخر معدل، لم يقبل؛ لأجل التردد. الفصل الثالث (فيما جعل شرطًا في الراوي مع أنه غير معتبر). (فائدة) قال القرافي: قال ابن العربي في (المحصول) له: اشترط الجبائي في قبول الخبر اثنين، وشرط على الاثنين اثنين إلى أن ينتهي الخبر إلى التاسع، وهذا التقيد لم يتعرض له المصنف. قوله: (العمل بخبر الواحد العدل يتضمن رفع ضرر متوهم، فيكون واجبًا):

(سؤال) على قول الجبائي في اشتراط العدد: فلا يقبل الحديث إلا من اثنين

قلنا: قد تقدم أن مطلق الظن غير معتبر شرعًا، وإنما يعتبر مرتبة معينة بدليل أن الفاسق والكافر والصبيان تفيد رواياتهم وشهاداتهم الظن، وهي ملغاة اتفاقًا. قوله: (إذا علمنا أن الله - تعالى - أمرنا بالتمسك بخبر الواحد كان تمسكنا به معلومًا لا مظنونًا): قلنا: كون الله- تعالى- أمر بالتمسك به هو موضع النزاع. قوله: "إذا كان له اسمان هو معدل بأحدهما، مجروح بالآخر لم تقبل روايته. تقريره: أنه يكون له اسمان: أحدهما اسم لرجل فاسق، والآخر اسم لرجل عدل، أو له خاصة فلا تقبل روايته؛ لأنه إن روى عنه بالاسم المجروح، فظاهر أنها ترد؛ لجواز أن يكون ذلك الشخص المجروح. وإن روى عنه بالاسم المعدل، فلا تقبل؛ لأن الحديث قد يكون مرويًا عن الشخص المجروح، فأسمعه شيخه ذلك بذلك الاسم، فنظر الراوي أنه اسم العدل، فيبدله بالاسم الخاص به؛ لأنهما عند السامع مترادفان، ولا حرج عليه في وضع أحدهما مكان الآخر؛ فلهذا الاحتمال تسقط الرواية مطلقًا. (سؤال) على قول الجبائي في اشتراط العدد: فلا يقبل الحديث إلا من اثنين، ويلزم كل واحد منهما ألا يقبله إلا عن اثنين، فيحتاجان في الرتبة الثانية إلى أربعة، وتحتاج الأربعة إلى ثمانية في الثالثة، وفي الرابعة إلى ستة عشر، ويصعب الحال، فلا يروي من السنة إلا ما كان يرويه من الصحابة الخلق العظيم، وهو خلاف ما علم من الصحابة في حديث المجوس، والتقاء الختانين وغيرهما.

(سؤال) على قوله: لا يشترط أن يكون الراوي فقيها

(سؤال) على قوله: لا يشترط أن يكون الراوي فقيهًا، واستدل بقوله تعالى: {إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا}. فعند عدم الفسق لا يجب التثبت، ويرد عليه: ان عدم التثبيت له طريقان: أحدهما: الجزم بالعمل. والثاني: الجزم بالرد. فلا يتعين الأول، فيقول الخصم بموجب الآية، وكذلك يقول بموجب قوله عليه السلام: (رحم الله امرءًا سمع مقالتي فأداها كما سمعها)؛ لأنه يدل على جواز التحمل لغير الفقيه، لا على جواز قبول الرواية عنه كما يؤمر الصبيان بالتحمل، وحسن الضبط، وإن كانت رواياتهم لا تقبل، وكذلك الفاسق والكافر يصح تحملهما. (المسألة السادسة) تقبل رواية من لم يرو إلا خبرًا واحدًا قال المازري في (شرح البرهان): هذا مذهب المحققين، وربما أنكر بعض المحدثين روايته؛ لأن إقلاله يدل على عدم اهتمامه بدينه، وهو قادح فيه. * * *

القسم الثاني (في البحث عن الأمور العائدة إلى المخبر عنه)

القسم الثاني (في البحث عن الأمور العائدة إلى المخبر عنه) قال الرازي: اعلم أن الشرط العائد إلى المخبر عنه في العمل بالخبر: هو عدم دليل قاطع يعارضه، والمعارض على وجهين: أحدهما: أن ينفي أحدهما ما أثبته الآخر؛ على الحد الذي أثبته الآخر؛ كما إذا قال في أحدهما: (ليصل فلان في الوقت الفلاني على الوجه الفلاني) وينهي في الثاني عن ذلك الحد، في ذلك الوقت. وثانيهما: أن يثبت أحدهما ضد ما أثبته الآخر؛ على الحد الذي أثبته الآخر؛ مثل ان يوجب عليه صلاة أخرى، في عين ذلك الوقت، في غير ذلك المكان. والدليل القاطع ضربان: عقلي، وسمعي: فإن كان المعارض عقليًا: نظرنا: فإن كان خبر الواحد قابلاً للتأويل، كيف كان، أولناه، فلم نحكم برده، وإن لم يقبل التأويل، قطعنا بفساده، لأن الدلالة العقلية غير محتملة للنقيض. فإذا كان خبر الواحد غير محتمل للنقيض في دلالته، وهو محتمل للنقيض في متنه- قطعنا بوقوع ذلك المحتمل، وإلا فقد وقع الكذب من الشرع؛ وإنه غير جائز. وأما أدلة السمع: فثلاثة: الكتاب، والسنة المتواترة، والإجماع. واعلم أنه لا يستحيل عقلًا: أن يقول الله تعالى: (أمرتكم بأن تعملوا

بالكتاب) والسنة المتواترة، والإجماع؛ بشرط أن لا يرد خبر واحد على مناقضته، فإذا ورد ذلك، فيكفيكم أن تعملوا بخبر الواحد، لا بهذه الأدلة). لكن الإجماع عرفنا أن هذا المحتمل لم يقع؛ لأن الإجماع منعقد على أن الدليلين، إذا استويا، ثم اختص أحدهما بنوع قوة غير حاصل في الثاني- فإنه يجب تقديم الراجح. فهاهنا: هذه الأدلة الثلاثة لما كانت مساوية لخبر الواحد في الدلالة، واختصت هذه الأدلة الثلاثة بمزيد قوة، وهي بكونها قاطعة في متنها- لا جرم: وجب تقديمها على خبر الواحد، وأما أن خبر الواحد، هل يقتضي تخصيص عموم الكتاب، والسنة المتواترة، فقد تقدم القول فيه. * * *

(القول فيما ظن أنه شرط في هذا الباب وليس بشرط)

(القول فيما ظن أنه شرط في هذا الباب وليس بشرط) المسألة الأولى: خبر الواحد، إذا عارضه: القياس فإما أن يكون خبر الواحد يقتضي تخصيص القياس، أو القياس يقتضي تخصيص خبر الواحد، وإما أن يتنافيا بالكلية: فإن كان الأول: فمن يجيز تخصيص العلة، يجمع بينهما، ومن لا يجيزه، يجرى هذا القسم مجرى ما إذا تنافيا بالكلية. وإن كان الثاني: كان ذلك تخصيصًا لعموم خبر الواحد بالقياس؛ وإنه جائز؛ لان تخصيص عموم الكتاب، والسنة المتواترة بالقياس، لما كان جائزًا، فهاهنا أولى. وأما الثالث: وهو ما إذا كان كل واحد منهما مبطلًا لكل مقتضيات الآخر: فنقول: ذلك القياس لابد وان يكون أصله قد ثبت بدليل، وذلك الدليل: إما أن يكون هو ذلك الخبر، أو غيره: فإن كان الأول: فلا نزاع أن الخبر مقدم على القياس. وإن كان الثاني: فهذا يحتمل وجوهًا ثلاثة؛ وذلك أن القياس يستدعي أمورًا ثلاثة: أحدها: ثبوت حكم الأصل. وثانيها: كونه معللاً بالعلة الفلانية. وثالثها: حصول تلك العلة في الفرع. ثم لا يخلو كل واحد من هذه الثلاثة: إما أن تكون قطعية، أو ظنية، أو بعضها قطعي، وبعضها ظني:

فإن كان الأول: كان القياس مقدمًا على خبر الواحد؛ لا محالة؛ لأن هذا القياس يقتضي القطع، وخبر الواحد يقتضي الظن، ومقتضى القطع مقدم على مقتضى الظن. وإن كان الثاني: كان الخبر؛ لا محالة، مقدمًا على القياس؛ لان الظن، كلما كان أقل، كان بالاعتبار أولى. وإن كان الثالث: فهذا يحتمل أقسامًا كثيرة، ونحن نعين منها صورة واحدة؛ وهي: أن يكون دليل ثبوت الحكم في الأصل قطعيًا، إلا أن كونه معللًا بالعلة المعينة، ووجود تلك العلى في الفرع ظنيًا، فها هنا اختلفوا: فعند الشافعي- رضي الله عنه-: الخبر راجح، وعند مالك- رحمه الله- القياس راجح. وقال عيسى بن أبان: إن كان راوي الخبر ضابطًا، عالمًا- وجب تقديم خبره على القياس؛ وإلا كان في محل الاجتهاد. وقال أبو الحسين البصري: طريق ترجيح أحدهما على الآخر الاجتهاد؛ فإن كانت أمارة القياس أقوى عنده من عدالة الراوي، وجب المصير إليها؛ وإلا فبالعكس، ومن الناس من توقف فيه. لنا وجوه: الأول: أن الصحابة كانوا يتركون اجتهادهم لخبر الواحد: من ذلك: قصة عمر- رضي الله عنه- في الجنين؛ حتى قال: "كدنا نقضي فيه برأينا، وفيه سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وأيضًا: ترك اجتهاده في المنع من توريث المرأة من دية زوجها. وأيضًا قال: (أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها؛ فقالوا بالرأي؛ فضلوا وأضلوا).

وأيضًا: فإن أبا بكر- رضي الله عنه- نقض حكمًا حكم فيه برأيه؛ لحديث سمعه من بلال. فإن قلت: (إن ابن عباس رد خبر أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه ...) حتى قال: (فما نصنع بمهراسنا؟!): قلت: ظاهر هذا القول لا يقتضي رد الخبر، وإنما هو وصف للمشقة في العمل بموجبه؛ مع عظم المهراس. سلمنا أنه ترك هذا الحديث؛ لكن إنما تركه؛ لأنه لا يمكن الأخذ به، من حيث لا يمكن قلب المهراس على اليد. فإن قلت: (ليس فيه تكليف ما لا يطاق؛ لأنه كان يمكنهم غسل أيديهم من إناء آخر، ثم إدخالها في المهراس): قلت: ومن أين يعلم أن قياس الأصول يقتضي غسل اليدين من ذلك الإناء؛ حتى يكون قد رد الخبر لذلك القياس. الثاني: أن قصة معاذ تقتضي تقديم الخبر على القياس. الثالث: أن التمسك بالخبر لا يتم إلا بثلاث مقدمات: إحداها: ثبوته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وثانيتها: دلالته على الحكم. وثالثتها: وجوب العمل به. والمقدمة الأولى: ظنية، والثانية والثالثة: يقينية. وأما التمسك بالقياس: فلا يتم إلا بخمس مقدمات:

شرح القرافي: (من قال بتخصيص العلة قال بتقديم الخبر على القياس)

إحداها: ثبوت حكم الأصل. وثانيتها: كونه معللاً بالعلة الفلانية. وثالثتها: حصول تلك العلة في الفرع. ورابعتها: عدم المانع في الفرع عند من يجيز تخصيص العلة. وخامستها: وجوب العمل بمثل هذه الدلالة. والمقدمة الأولى والخامسة: يقينية، وأما الثانية والثالثة والرابعة: فظنية؛ وإذا كان كذلك، كان العمل بالخبر أقل ظنًا من العمل بالقياس؛ فوجب أن يكون الخبر راجحًا. فإن قلت: (إذا كانت الأمارة الدالة على ثبوت الخبر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضعيفة، والأمارات الدالة على المقدمات الثلاثة الظنية في جانب القياس- قوية؛ بحيث يتعارض ما فر احد الجانبين من الكمية، بما في الجانب الآخر من الكيفية -فها هنا يتعين الاجتهاد، والرجوع غلى الترجيح): قلت: لو خلينا والعقل، لكان الأمر كما ذكرت، إلا أن الدليلين الأولين منعا منه. القسم الثاني في البحث عن الأمور العائدة إلى المخبر عنه ثم انتهى الكلام إلى قوله: (القول فيما ظن أنه شرط في هذا المعنى، وليس شرطًا). قوله: قال القرافي: (من قال بتخصيص العلة قال بتقديم الخبر على القياس):

تقريره: أن تخصيص العلة عبارة عن وجودها بدون حكمها، وهو النقض على العلة، فيبطل الحكم عنها في الصور التي يتناولها الخبر، فيحصل تخصيصها. قوله: (إن كان أصل القياس هو ذلك الخبر قدم الخبر على القياس). تقريره: أن القياس إذا نافى أصله بالكلية، فقد بطل أصله إن اعتبرناه، وإذا بطل أصله بطل القياس في نفسه، فإذا عاد على نفسه ببطلان صار باطلًا على كل تقدير، فتعين عدم اعتباره. قال سيف الدين: قال أبو الحسين البصري: إن كانت على القياس منصوصة بنص مقطوع عمل بالعلة؛ لأن النص على العلة نص على حكمها، والنص مقدم على خبر الواحد؛ لأنه مظنون، وإن كان نص العلة غير مقطوع، وحكم الأصل غير مقطوع وجب الرجوع لخبر الواحد؛ لاستواء النصين في الظن، واختصاص خبر الواحد بالدلالة على الحكم بصريحه من غير واسطة، بخلاف النص الدال على العلة يدل على الحكم بواسطة العلة، فإن كان حكمها ثابتًا قاطعًا، فذلك موضع الاجتهاد. فإن كانت العلة مستنبطة، وحكمها ثابت بخبر الواحد قدم الخبر، وإن كان ثابتًا قطعًا، فينبغي أن يكون هذا موضع الاختلاف بين الناس، فيكون محل الاجتهاد. قال سيف الدين: والمختار أن متن خبر الواحد إن كان قطعيًا، والعلة منصوصة، وقلنا: إن التنصيص على علة القياس لا يخرجه عن القياس، فالنص الدال عليها إما أن يكون مساويًا في الدلالة بخبر الواحد، أو راجحًا

عليه، فإن ساواه فالخبر أولى لدلالته من غير واسطة، وإن كان راجحًا، فوجود العلة في الفرع إن كان مقطوعًا به قدم القياس، أو مظنونًا فالوقف. قوله: (إذا كانت مقدمات القياس ظنية، وهي ثبوت الحكم في الأصل، وكونه معللًا، وجود تلك العلة في الفرع كان الخبر مقدمًا عليه). قلنا: مالك وأبو حنيفة قالا بتقديم القياس مطلقًا في أحد القولين لهما. وتقريره: أن النصوص إنما ترد تابعة لاقتضاء الحكم والمصالح، وإذا تعارض النص والقياس كانت المسلحة مع القياس؛ لأنه لابد فيه من المناسبة، وإن كانت الحكمة والمصلحة في القياس وجب ألا يكون في الخبر؛ لأن المصلحة الخالصة، أو الراجحة يستحيل أن تكون في الطرفين، فتعين تقديم القياس على الخبر. قوله: (من أين يعلم أن قياس الأصول يقتضي غسل اليدين من ذلك الإناء حتى يكون) قد رد الخبر لذلك القياس؟). تقريره: أن السائل قال: ابن عباس يقدم القياس على خبر الواحد، قال له المستدل: إنما رده؛ لأن قلب المهراس على اليد متعذر، فما رد الخبر لمظنون، بل لمقطوع، والنزاع إنما وقع في الأول. أما ترك الخبر للقطع، فلا نزاع فيه. قال السائل: ليس ما ذكرته من باب التعذر، بل بغسل اليد من إناء آخر. فقال له المستدل: فحينئذ عندك ترك الخبر لا لأجل ترك الغسل من الإناء؛ لأنه متعذر كما سلمته، بل لأنه يغسلها من إناء آخر، فإنك لم تجب عن القطع إلا بهذا الجواب، فيصير الخبر إنما ترك للغسل من إناء آخر، والغسل من إناء آخر ليس هو قياسًا؛ لعدم أصل يقتضي ذلك، فكأنه يلزم الخصم أحد الأمرين على تقدير ترك الخبر.

(فائدة) المهراس: إناء تهرس فيه الحبوب حتى يزول قشرها ونحو ذلك

إما أن يكون ترك الغسل من الإناء، وهو متعذر، فما ترك الخبر إلا لتعذر امتثاله قطعًا، أو لا ينكر الخصم، بل الغسل من إناء آخر. وذلك ليس قياسًا جليًا يشهد له أصل حتى يكون ترك الخبر لأجله، ويصير أيضًا السائل قد التزم أن ابن عباس قد ترك الخبر مع إمكان تحصيل مقتضاه من إناء آخر غير المهراس، فعلى هذا لا يكون ترك الخبر، وهو متناقض، وإنما ترك الخبر باعتبار خصوص المهراس لا باعتبار أصل غسل اليد من إناء في الجملة. وهذا هو المحسن لإيراد السائل هذا السؤال، وإلا فكيف يتجه أن يقول: إنه ترك الخبر، وهو يقول: إنه يغسل اليدين من الإناء الآخر؟ بل إنما مقصوده في ترك الخبر باعتبار خصوص المهراس، فألزمه الإمام أن الترك حينئذ إنما كان لتركه مع الغسل من إناء آخر، وهذا ليس لنا أصل نقيس عليه قياسًا، يترك هذا الخبر لأجله. واعلم أن هذا الموضع من المواضع النكرة التوجيه في (المحصول)، وقد بسطت لك القول فيه كذلك. (فائدة) المهراس: إناء تهرس فيه الحبوب حتى يزول قشرها ونحو ذلك، ثم إنه عمل للوضوء، يملأ ماء، ويجتمع الناس حوله فيتوضئون، فلذلك قال: ما يصنع بمهراسنا؟ أي كيف تستطيع أن تقلبه وهو كبير على ذلك. قوله: (التمسك بالخبر لابد فيه من ثلاث مقدمات: سنده، ودلالته، ووجوب العمل به، والأخيران يقينان): تقريره: أن الدلالة هي الفهم من اللفظ، أو إفهام اللفظ، وأيما كان، فنحن نقطع في اللفظ الذي يدل بظهوره أن له ظهورًا، وهذا هو مراده باليقين؛ لأن دلالته يقينية، وأن اللفظ يفيد القطع.

وأما وجوب العمل فمجمع عليه، فحصل القطع فيه، فإن قلت: فنحن نقطع أيضًا بالمقدمة الأولى؛ لأنا نقطع بأنه روى. قلت: ليس المقصود أنه روى، إنما مقصوده بأنها ظنية، نسبتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي مظنونة من رواية الآحاد. قوله: (التمسك بالقياس يتوقف التمسك به على خمس مقدمات: ثبوت حكم الأصل، وكونه معللًا بكذا، وحصول تلك العلة في الفرع، وعدم المانع فيه، ووجوب العمل بمثل هذه الدلالة، والأولى والخامسة يقينية، والثاني ظني): تقريره: أننا نفرض الحكم مجمعًا عليه، أو ثابتًا بنص معلوم؛ لأنه إذا كان ثابتًا بخبر الواحد كان مرجوحًا، ووجوب العمل بمثل هذا معلوم عندنا بالإجماع، فهما معلومان. وكون الحكم معللًا إنما يعلم بالمناسبة ونحوها، وذلك لا يفيد الظن. هذا هو الغالب، غير انه قد تكون العلة منصوصًا عليه نصًا قطعيًا، وعلى تخصيصها بأنها هي العلة، فيرد سؤالًا على المصنف، فلا تكون العلة بما هي علة حاصلة في الفرع، بل بعضها، أو يكون لها شرط في الأصل موجود في الفرع، إما لعدم الشرط أو لقيام المانع، وكذلك عدم المانع ظني؛ لأنه لا يلزم من عدم الوجدان عدم الوجود. * * *

المسألة الثانية قال الرازي: إذا روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه عمل بخلاف موجب الخبر

المسألة الثانية قال الرازي: إذا روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه عمل بخلاف موجب الخبر، فالخبر: إما أن يكون متناولاً للرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو غير متناول له، فإن لم يتناوله، لم يخل: من أن يكون قد قامت الدلالة على أن حكمنا وحكمه - صلى الله عليه وسلم - فيه سواء، أو لم تقم الدلالة على ذلك، فإن لم يقم عليه دليل، جاز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - مخصوصًا بذلك الحكم؛ وعلى هذا التقدير: لا يكون بين فعله، وبين الخبر تناف فلا يرد الخبر لأجله، وإن قامت الدلالة على أن حكمه - صلى الله عليه وسلم - وحكمنا فيه سواء: نظر في الخبرين؛ فإن أمكن تخصيص أحدهما بالآخر، فعل، وإن لم يمكن كان احدهما متواترًا- عمل بالتواتر. وإن لم يكونا متواترين، عمل فيهما بالترجيح. * * *

المسألة الثالثة عمل أكثر الأمة بخلاف الخبر لا يوجب رده

المسألة الثالثة عمل أكثر الأمة بخلاف الخبر لا يوجب رده، وعمل أكثر الأمة بموجب الخبر لا يوجب قبوله؛ لان أكثر الأمة بعض الأمة، وقول بعض الأمة ليس بحجة؛ إلا أن ذلك، وإن لم يكن حجة، فإنه من المرجحات. * * *

المسألة الرابعة الحفاظ، إذا خالفوا الراوي في بعض ذلك الخبر، فقد اتفقوا على أن ذلك لا يقتضي المنع من قبول ما لم يخالفوه فيه

المسألة الرابعة الحفاظ، إذا خالفوا الراوي في بعض ذلك الخبر، فقد اتفقوا على أن ذلك لا يقتضي المنع من قبول ما لم يخالفوه فيه؛ لان ظاهر حالة الصدق، ولم يوجد معارض؛ فوجب قبوله. وأما القدر الذي خالفوه فيه، فالأولى ألا يقبل؛ لأنه وإن جاز أن يكونوا سهوا، وحفظ هو؛ لكن الأقوى أنه سها، وحفظوا هم؛ لأن السهو على الواحد أجوز منه على الجماعة. * * *

المسألة الخامسة خبر الواحد، إذا تكاملت شروط صحته، هل يجب عرضه على الكتاب؟

المسألة الخامسة خبر الواحد، إذا تكاملت شروط صحته، هل يجب عرضه على الكتاب؟ قال الشافعي- رضي الله عنه -: لا يجب؛ لأنه لا تتكامل شروطه، إلا وهو غير مخالف للكتاب. وعند عيسى بن أبان: يجب عرضه عليه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا روى لكم عني حديث، فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فإن وافقه فاقبلوه؛ وإلا فردوه). * * *

المسألة السادسة لا شبهة في أن الناسخ يجب أن يكون غير مقارن للكتاب

المسألة السادسة لا شبهة في أن الناسخ يجب أن يكون غير مقارن للكتاب، فإن علم أن خبر الواحد غير مقارن للكتاب، لم يقبل؛ لما ثبت أن نسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز. وإن شك فيه، قبل عند القاضي عبد الجبار؛ قال: لأن الصحابة رفعت بعض أحكام القرآن لأخبار الآحاد، ولم تسأل، هل كانت مقارنة أم لا!!. (المسألة الثانية) إذا روى عنه- عليه السلام- أنه عمل بخلاف موجب الخبر). قال القرافي: هذه المسألة تقدم بسط الكلام عليها في أفعاله- عليه السلام- إذا عارض قوله فعله. فلتنظر من هناك. * * *

المسألة السابعة قال الرازي: اختلفوا فيما إذا كان مذهب الراوي بخلاف روايته

المسألة السابعة قال الرازي: اختلفوا فيما إذا كان مذهب الراوي بخلاف روايته: فالأول: هو قول بعض الحنفية: الراوي للحديث العام، إذا خصه رجع إليه؛ لأنه لما شاهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كان أعرف بمقاصده، ولذلك حملوا رواية أبي هريرة في ولوغ الكلب: "أنه يغسل سبعًا" على الندب؛ لأن أبا هريرة كان يقتصر على الثلاث. الثاني: وهو قول الكرخي: أن ظاهر الخبر أولى. والثالث: أنه إن كان تأويل الراوي بخلاف ظاهر الحديث، رجع إلى الحديث، وإن كان هو أحد محتملات الظاهر، رجع إلى تأويله. وهو ظاهر مذهب الشافعي- رضي الله عنه-. والرابع: وهو قول القاضي عبد الجبار: إن لم يكن لمذهبه وتأويله وجه، إلا أنه علم بالضرورة قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه- وجب المصير إليه، وإن لم يعلم ذلك؛ بل جوزنا أن يكون قد صار إليه؛ لنص، أو قياس- وجب النظر في ذلك: فإن اقتضى ما ذهب إليه، صير إليه، وإلا فلا، وكذا إن كان الحديث مجملًا، وبينه الراوي، كان بيانه أولى. حجة الشافعي- رضي الله عنه-: أن المقتضي- وهو ظاهر اللفظ- قائم، والمعارض الموجود- وهو مخالفة الراوي- لا يصلح أن يكون معارضًا؛ لاحتمال أن يكون قد تمسك في تلك المخالفة بما ظنه دليلًا؛ مع أنه لا يكون كذلك.

شرح القرافي: قلت: المراد بالراوي المباشر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة

فإن قلت: (الظاهر من دينه: أنه لا يخالف إلا لدليل): قلت: دينه يمنعه عن الخطأ عمدًا، لا سهوًا، وغلطًا، وليس هاهنا ظاهر يدل على أنه كان من العلم؛ بحيث لا يعرض له ذلك الخطأ. المسألة السابعة (إذا خالف مذهب الراوي روايته) قال القرافي: قلت: المراد بالراوي المباشر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة. أما مالك وغيره من التابعين، فلا مدخل له في هذه المسألة. قوله: (إذا خصه رجع إليه عند بعض الحنفية، كما روى عن أبي هريرة أن الإناء يغسل من ولوغ الكلب سبعًا، ومذهبه أنه يغسل سبعًا على الندب، ويقتصر على ثلاث): قلنا: لفظ السبع من صيغ الأعداد لا من صيغ العموم، وعندكم صيغ الأعداد نصوص لا يدخلها المجاز، فلا يدخلها التخصيص؛ لأنه مجاز، فليس هذا المثال من مادة المسألة. وأما حمله السبع على الندب، فليس من التخصيص في شيء، بل هذا تصرف في صيغة الأمر، وصرفها عن الوجوب للندب لا تصرف في عموم. قوله: قال الشافعي: إن خالف ظاهر الحديث قدم الحديث، أو حمله على أحد محتملاته قبل المذهب): تقريره: أنه إذا خالف الظاهر فمذاهب العلماء ليست حجة، وإنما الحجة في كلام صاحب الشرع، فيقدم الظاهر على مذهب الراوي، وإن كان مذهبه في تعيين التأويل، كما إذا ورد لفظ (القرء) المشترك بين الحيض والطهر، فحمله على الطهر سمع منه؛ لأنه لم يخالف ظاهر الحديث؛ لأنه

لا ظاهر له، فلم يبق إلا مجرد اجتهاد، وهو أعلم بمقاصد الرسول من غيره. قوله: (دينه يمنعه عن الخطأ عمدًا لا سهوًا): قلنا: ومع ذلك فالمقصود حاصل؛ لأن ظاهر حاله من دينه، واجتهاده، ومكانته من العلم أنه لا يفوته الصواب في نفس الأمر. * * *

المسألة الثامنة قال الرازي: خبر الواحد: إما أن يقتضي علما، أو عمل

المسألة الثامنة قال الرازي: خبر الواحد: إما أن يقتضي علمًا، أو عملاً: فإن اقتضى علماً فإما أن يكون في الأدلة القاطعة ما يدل عليه، أو لا يكون: فإن كان الأول: جاز قوله؛ لأنه لا يمتنع أن يكون- عليه الصلاة والسلام- قاله، واقتصر به على آحاد الناس، واقتصر بغيرهم على الدليل الآخر. وإن كان الثاني: وجب رده، سواء اقتضى مع العلم عملًا، أو لم يقتضه؛ لأنه لما كان التكليف فيه بالعلم، مع أنه ليس له صلاحية إفادة العلم -كان ذلك تكليفًا بما لا يطاق، اللهم إلا أن يقال: لعله- عليه الصلاة والسلام- أوجب العلم به على من شافهه؛ دون من لم يشافهه؛ فإن ذلك جائز، فأما إذا اقتضى عملًا، وكان البلوى به عامًا، فعندنا: لا يجب رده، وعند الحنفية: يجب رده. لنا وجوه: أحدها: عموم قوله تعالى: {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} وقوله: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا}. وثانيها: أن خبر الواحد العدل في هذا الباب يفيد ظن الصدق فيكون العمل به دافعًا لضرر مظنون؛ يكون واجبًا. وثالثها: رجوع الصحابة إلى عائشة- رضي الله عنها- في التقاء الختانين، مع أن ذلك مما تعم به البلوى. ورابعها: أن البلوى عام؛ بمعرفة أحكام القئ، والرعاف، والقهقهة في

شرح القرافي: قوله: (إن لم يكن في الأدلة القاطعة ما يدل عليه، فيجب رده؛ لئلا يلزم تكليف ما لا يطاق)

الصلاة، ووجوب الوتر، مع أنهم يقبلون خبر الواحد فيه، وليس يعصمهم من ذلك أنه قد تواتر النقل بالوتر؛ لأن وجوبها تعم به البلوى، ولم يتواتر نقله. واحتجوا بالإجماع والمعقول: أما الإجماع: فهو أن أبا بكر رد حديث المغيرة في الجدة، ورد عمر خبر أبي موسى في الاستئذان. وأما المعقول: فهو أنه لو كان صحيحًا، لأشاعه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولأوجب نقله على جهة التواتر؛ مخافة ألا يصل إلى من كلف به، فلا يتمكن من العمل به، ولو فعل ذلك، لتوافرت الدواعي إلى نقله، على جهة التواتر. والجواب عن الأول: أنه إنما كان يجب ذلك الذي قلتم، لو لم يقبلوا فيه إلا خبرًا متواترًا؛ فأما إذا لم يقبلوا خبر الواحد، وقبلوا خبر الاثنين- فلا، وقد قبلوا خبر الاثنين في؛ فلم ينفعكم ذلك. وعن الثاني: أن ذلك يجب أن لو كان يتضمن علمًا، أو أوجب العمل به على كل حال. فأما إذا أوجبه؛ بشرط أن يبلغه، فليس فيه تكليف ما لا طريق إليه، ولو وجب ذلك فيما تعم به البلوى لوجب في غيره؛ لجواز ألا يصل إلى من كلف به. فإن قلتم هناك: (إنه كلف العمل به، بشرط أن يبلغه): قيل لكم مثله فيما تعم به البلوى. المسألة الثامنة خبر الواحد إن اقتضى علمًا قال القرافي: قوله: (إن لم يكن في الأدلة القاطعة ما يدل عليه، فيجب رده؛ لئلا يلزم تكليف ما لا يطاق):

قلنا: تكليف ما لا يطاق جوازه هو الحق. سلمنا امتناعه، لكن يشكل بالتواتر؛ فإن دلالته ظنية لا تحصل العلم، ولا يمكن رده لتواتره. سلمنا أن المتواتر لا يرد، لكن لا سبيل إلى عدم الدليل العقلي إلا بالطلب، وقد علمت أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، فلعل ثم دليلاً عقليًا لم نطلع عليه. قوله: "لنا: قوله تعالى: {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم}: قلنا: هذا فعل في سياق الإثبات، فيكون مطلقًا لا عموم فيه، فلا يتناول جميع الموارد، فنحمله على ما لا تعم البلوى. وكذلك قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ} مطلق؛ لان (جاء) فعل في سياق الإثبات، و (نبأ) نكرة في سياق الإثبات غير أن النكرة إذا وردت مع الشرط فيها الخلاف المتقدم في العموم، فإذا سلم العموم أمكن أن يقال: هو مطلق في الأحوال، فلا يتناول حالة البلوى. قوله: (العلم به يفيد دفع ضرر مظنون). قلنا: قد تقدم أن مطلق الظن لم يعتبره صاحب الشرع، بل مراتب خاصة؛ بدليل شهادة الفاسق، وجماعة الكفار، وإنما اعتبر الشرع مراتب خاصة، فلم قلتم: إن هذا منها محل النزاع؟. قوله: (رجعوا إلى خبر عائشة، وهو ما تعم به البلوى). قلنا: ذلك حين احتفت به قرائن عظيمة، وهو سؤال الصحابة، وعلم عائشة بذلك مع قرائن أحوال عائشة، ومكانتها من الدين.

وقوله عليه السلام: (خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء)، والأحوال شواهد لا تفي بها العبارات. فلم قلتم: إنما نحن فيه كله كذلك؟. قوله:؟ (البلوى عامة في القئ، والرعاف، والقهقهة في الصلاة، والوتر، ولم يتواتر نقله، وقالوا بها. قلنا: لا نسلم أن أبا حنيفة لم تكن هذه الأحاديث متواترة في زمانه، ولا يلزم من عدم تواترها عندنا عدم تواترها عنده؛ لأنه أدرك الصدر الأول، وعشرة من الصحابة، وهو المجتهد في هذه الأحكام، وأصحابه بعده مقلدون لا يلزمهم هذا السؤال؛ لأنه لا يلزمهم تصحيح مدرك من قلدوه، بل ذلك يقع منهم مناظرة. وهذا الجواب أمكن أن يقولوه في المناظرة عن إمامهم. والقاعدة: أن التواتر قد يصير آحادًا من غير عكس، فلا يرد عليهم ما قلتموه. قوله: (إنما كان يجب الإشاعة أن لو تضمن علمًا). قلنا: ولو تضمن علمًا لا يلزم حصوله بالإشاعة؛ لأن غايته أن يكون متواترًا كالقرآن، فيبقى يفيد الظن؛ لأجل الدلالة، لا لأجل السند. قوله: (لو وجب ذلك فيما تعم به البلوى لوجب في غيره). قلنا: الملازمة ممنوعة؛ لان ما تعم به البلوى الحاجة من المكلفين إليه أشد،

(فرع) قال أبو الحسين في (المعتمد): يقبل خبر الواحد في العمليات، وإن كان عبادة مبتدأة، أو ركنا، أو حدا، أو ابتداء نصاب أو تقدير

فتتوفر دواعيهم على نقله، فيصير متواترًا، أو تكون داعيته- عليه السلام- أوفر لإلقائه للناس؛ لأن البيان يجب بحسب الحاجة وتتبعها، ولذلك قلنا، إن البيان في وقت الحاجة متعين. وقلنا في المفهوم: لعله بين لمن يحتاج، وسكت عن النوع الآخر من الغنم المعلوفة وغيرها؛ لأن مالكها المحتاج إلى البيان، ولم يحضر. (فرع) قال أبو الحسين في (المعتمد): يقبل خبر الواحد في العمليات، وإن كان عبادة مبتدأة، أو ركنًا، أو حدًا، أو ابتداء نصاب أو تقدير. ومنع أبو عبد الله من قبوله في الحدود؛ لأنها تندفع بالشبهة، وفي ابتداء الحدود، وابتداء النصب، وأن الصلوات بخلاف بواقي النصب، فيقبل في النصاب الزائد على خمسة أوسق؛ لأنه فرع، ولا يقبله في ابتداء العجاجيل والفصلان؛ لأنه أصل عنده، ويقبل في إسقاط الحدود دون ثبوتها. * * *

القسم الثالث (في الأخبار) وفيه مسائل)

القسم الثالث (في الأخبار) وفيه مسائل) المسألة الأولى: في كيفية ألفاظ الصحابة في نقل الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو على سبع مراتب: المرتبة الأولى: أن يقول الصاحبي: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا، أو أخبرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو شافهني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). المرتبة الثانية: أن يقول: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا) فهذا ظاهره، النقل إذا صدر عن الصحابي، وليس نصا صريحا؛ إذ قد يقول الواحد منا: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) اعتمادا على ما نقل إليه، وإن لم يسمعه منه - صلى الله عليه وسلم -، أما إذا صدر عن غير الصحابي، فليس ظاهره ذلك. المرتبة الثالثة: أن يقول: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا، أو نهى عن كذا (وهذا يتطرق إليه الاحتمال الأول، مع احتمال آخر، وهو أن مذاهب الناس في صيغ الأوامر والنواهي مشهورة، فربما ظن ما ليس بأمر أمرا؛ ولأجله اختلف الناس في أنه، هل هو حجة، أم لا؟ والأكثرون على أنه حجة؛ لأن الظاهر من حال الراوي ألا يطلق هذا اللفظ إلا إذا تيقن مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولقائل أن يقول: (لم لا يكفي فيه الظن؟): فإن قلت: (لأن هذه الصيغة حجة، فلو أطلقه الراوي مع تجويزه خلافه، لكان قد أوجب على الناس ما يجوز واجبا عليهم؛ وذلك يقدح في عدالته):

فنقول: على هذا؛ لا يمكنكم العلم بأن هذا الراوي ما أطلق هذه اللفظة إلا بعد علمه بمراد الرسول، إلا إذا علمتم أنه حجة، وأنتم إنما أثبتم كونه حجة بذلك؛ فلزم الدور. وفي المسألة احتمال ثالث، وهو أن قول الراوي: (أمر الرسول بكذا) ليس فيه لفظ يدل على أنه أمر الكل، أو البعض، دائما أو غير دائم -فلا يجوز الاستدلال به إلا إذا ضم إليه قوله -عليه الصلاة والسلام-: (حكمي على الواحد حكمي على الجماعة). المرتبة الرابعة: أن يقول الصحابي: (أمرنا بكذا، أو أوجب كذا، ونهينا عن كذا، وأبيح كذا): قال الشافعي -رضي الله عنه-: (إنه يفيد أن الآمر هو الرسول -عليه الصلاة والسلام-) والكرخي خالف فيه. لنا وجهان: الأول: إن من التزم طاعة رئيس، فإنه متى قال: (أمرنا بكذا) فهم منه أمر ذلك الرئيس؛ ألا ترى أن الرجل من خدم السلطان، إذا قال في در السلطان: (أمرنا بكذا) فهم كل أحد من كلامه أمر السلطان. الثاني: أن غرض الصحابي: أن يعلمنا الشرع؛ فيجب حمله على من صدر الشرع عنه، دون الأئمة، ودون الولاة؛ فلا يحمل هذا القول على أمر الله تعالى؛ لأن أمره تعالى ظاهر للكل، لا نستفيده من قول الصحابي، ولا على أمر جماعة الأمة؛ لأن ذلك الصحابي من الأمة، وهو لا يأمر نفسه.

المرتبة الخامسة: أن يقول الصحابي: (من السنة كذا) فهم منه سنة الرسول -عليه الصلاة والسلام- للوجهين المذكورين. فإن قلت: (هذا غير واجب؛ للخبر، والعقل: أما الخبر: فقوله -عليه الصلاة والسلام-: (من سن سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها) وعنى به سنة غيره. وأما العقل: فهو أن السنة مأخوذة من الاستنان، وذلك غير مختص بشخص دون شخص): قلت: لا يمتنع ما ذكرتموه بحسب اللغة، ولكن بحسب الشرع يفيد ما قلنا. المرتبة السادسة: أن يقول الصحابي: (عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) فقال قوم يحتمل أن يقال: إنه أخبره إنسان آخر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو لم يسمعه منه. وقال آخرون: بل الأظهر أنه سمعه منه. المرتبة السابعة: قول الصحابي: (كنا نفعل كذا) فالظاهر: أنه قصد أن يعلمنا بهذا الكلام شرعا، ولن يكون كذلك، إلا وقد كانوا يفعلونه في عهد النبي، - صلى الله عليه وسلم - مع علمه بذلك، ومع أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان ينكر ذلك عليهم؛ وهذا يقتضى كونه شرعا عاما. فأما إذا قال الصحابي قولا -لا مجال للاجتهاد فيه- فحسن الظن به يقتضي أن يكون قاله عن طريق، فإذا لم يمكن الاجتهاد، فليس إلا السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. القسم الثالث في الإخبار قال القرافي: قوله: (إذا قال: أمر رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بكذا، فيه

(فائدة) قال القاضي عبد الوهاب في (الملخص): قال جماعة من العلماء: قول الصحابي: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا، أو نهى عن كذا، أو فرض كذا لا يقبل

احتمال، وهو أن مذاهب الناس في صيغ الأوامر مشهورة، فربما ظن ما ليس بأمر أمرا): قلنا: لم يختلف الناس في أن الأمر هل وضعت له هذه الصيغة، أو هذه الصيغة؟ بل اتفق الجميع على أنه لا يسمى أمرا من الألفاظ إلا صيغ مخصوصة نحو: صم، وقم، ونحوه. فإذا قال: عليه السلام: (صوموا لرؤيته). يقول الناس أجمعون: إن رسول الله -عليه السلام- أمر بالصوم من غير خلاف. إنما يختلفون هل المراد الوجوب أم لا؟ وهذا شيء يرجع إلى المعنى دون اللفظ. والمستفاد من الرواية إنما هو اللفظ، بخلاف الناسي لا تقدح في روايته، غير أنكم إن جوزتم أن يكون سمع لفظ الخبر، فسماه أمرا، أو نحو ذلك. فهذا قدح في الراوي؛ لأن الشرط في الرواية توفية اللفظ، وعدم تبديله إلا بما يراد فيه، ولا يغير معناه، لكن ظاهر العدالة يأبى ذلك. (فائدة) قال القاضي عبد الوهاب في (الملخص): قال جماعة من العلماء: قول الصحابي: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا، أو نهى عن كذا، أو فرض كذا لا يقبل؛ لأنه رواية بالمعنى، فلا بد من ذكر لفظ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بعينه. قوله: لو أوجب على الناس ما يجوز ألا يكون واجبا عليهم قدح ذلك في عدالته). قلنا: لا نسلم القدح، بل يكفيه في صحة الإسناد والنسبة إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - أن يغلب على ظنه. إنما نسبته إله مرادة ما القطع فليس شرطا، وأين اليقين مع احتمال

المجاز، والاشتراط والتخصيص، ونحوه من الأمور العشرة التي تقدم ذكرها في الإخلال بالمعنى من اللفظ؟ فاشتراط القطع لا سبيل إليه في الفعل. نعم قد تحصل قرائن تفيد اليقين، لكن لا نسلم أن حصولها شرط. ولذلك قال -عليه السلام-: (رحم الله امرءا سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها)، ولم يشترط اليقين. قوله: (لا يمكنكم العلم بأن هذا الراوي ما أطلق هذه اللفظة إلا بعد علمه بمراد الرسول - - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا علمتم كونه حجة، وأنتم إنما أثبتم كونه حجة بذلك، فيلزم الدور): تقريره: أن الملجأ لاعتقادنا ذلك في حق الراوي هو اعتقادنا أن روايته حجة، وكونه حجة يتوقف عليه، فيلزم الدور. ويرد عله أنا لم نستفد أنه لم يطلق اللفظ إلا بعد اعتقاده قطعه بمراد الرسول -عليه السلام- من كون روايته حجة، بل من ظاهر حال، فتيقنه مراد الرسول -عليه السلام- مستفاد من ظاهر حاله، ومتوقف على ظاهر الحال، وكون روايته حجة على تيقنه مراد الرسول، فهاهنا ثلاثة أمور ظاهر: متوقف عليه مطلقا، وكونه حجة متوقف مطلقا، وتيقنه مراد الرسول -عليه السلام- متوقف عليه، فلا دور حينئذ. قوله: (عن النبي قال قوم: يحتمل أنه أخبره إنسان): تقريره: أن هذه الصيغة تحتمل في العامل في المجرور أمرين: أحدهما: تقديره: روايته عن النبي مشافهة. وثانيهما: نقل لي عن الني عليه السلام. والأول ظاهر حال الصحابي؛ لأن النفوس مجبولة على طلب علو السند، ورسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم، والصحابي متمكن من سؤاله، فلا يتركه تحصيلا لزيادة الظن أو اليقين.

قوله: (قول الصحابي: كنا نفعل كذا، إنما يقصد به أن يعلمنا شرعنا، وليس يكون ذلك إلا وقد كانوا يفعلونه في عهد النبي عليه السلام). قلنا: يكفي في تنبيهنا على شرعيته أن الرواي رأى السواد الأعظم يفعله، فيغلب على ظنه أنهم على الصواب، فيخربنا بذلك، سواء اطلع على علم النبي -عليه السلام- أم لا. وقد كان مالك وجماعة من العلماء يعتمدون على أقضية الصحابة، وإن صدر ذلك من بعضهم، من غير أن ينضم إليه علم النبي - - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ لقوله عليه السلام: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، فلعل هذا مدرك الراوي. * * *

المسألة الثانية (في كيفية رواية غير الصحابي)

المسألة الثانية (في كيفية رواية غير الصحابي) قال الرازي: وهذا أيضا على سبع مراتب: المرتبة الأولى: أن يقول الراوي: (حدثني فلان، أو أخبرني فلان، أو سمعت فلانا)، فالسامع يلزمه العمل بهذا الخبر، وأما أن السامع كيف يروي؟ فنقول: إن الراوي: إن قصد إسماعه خاصة ذلك الكلام، أو كان هو في جمع، قصد الراوي إسماعهم -فله أن يقول ها هنا: (أخبرني، وسمعته يحدث عن فلان (. أما إن لم يقصد إسماعه، لا على التفصيل، ولا على الجملة -فله أن يقول: (سمعته يحدث عن فلان (لكن ليس له أن يقول: (أخبرني) ولا (حدثني)، لأنه لم يخبره، ولم يحدثه. المرتبة الثانية: أن يقال للراوي: هل سمعت هذا الحديث عن فلان؟ فيقول: (نعم) أو يقول بعد الفراغ من القراءة عليه: (الأمر كما قرئ علي) فها هنا العمل بالخبر لازم على السامع. وله أيضا أن يقول: (حدثني، أو أخبرني، أو سمعت فلانا) ألا ترى أنه لا فرق في الشهادة على البيع بين أن يقول البائع، وبين أن يقرأ عليه كتاب البيع؛ فيقول: (الأمر كما قرئ علي). المرتبة الثالثة: أن يكتب إلى غيره: بـ (إني سمعت كذا من فلان) فللمكتوب

إليه أن يعمل بكتابه، إذا علم أنه كتابه، وإذا ظن أنه خطه، جاز له ذلك أيضا؛ لكن ليس له أن يقول: (سمعت، أو حدثني) لأنه ما سمع، ولا حدث؛ بل يجوز أن يقول: (أخبرني) لأن من كتب إلى غيره كتابا؛ يعرفه فيه واقعة، جاز له أن يقول: (أخبرني). المرتبة الرابعة: أن يقال له: (هل سمعت هذا الخبر؟ فيشير برأسه، أو بأصبعه) فالإشارة ها هنا كالعبارة في وجوب العمل، ولا يجوز أن يقول: (حدثني، أو أخبرني، أو سمعته) لأنه ما سمع شيئا. المرتبة الخامسة: أن يقرأ عليه: (حدثك فلان) فلا ينكر، ولا يقر بعبارة، ولا بإشارة -فها هنا: إن غلب على الظن: أنه ما سكت؛ إلا لأن الأمر كما قرئ عليه، وإلا كان ينكره- لزم السامع العمل به؛ لأنه حصل ظن أنه قول الرسول عليه -الصلاة والسلام- والعمل بالظن واجب. واختلفوا في جواز الرواية: فعامة الفقهاء والمحدثين جوزوه، والمتكلمون أنكروه. وقال بعض أصحاب الحديث: ليس له إلا أن يقول: (أخبرني قراءة عليه. وكذا الخلاف فيما لو قال القارئ للراوي بعد قراءة الحديث عليه: (أرويه عنك؟) فقال: (نعم). فالمتكلمون قالوا: لا تجوز له الرواية عنه ها هنا أيضا. حجة الفقهاء: أن الإخبار -في أصل اللغة- لإفادة الخبر والعلم، وهذا السكوت قدا أفاد العلم بأن هذا المسموع كلام الرسول -عليه الصلاة والسلام، فوجب أن يكون إخبارا. وأيضا: فلا نزاع في أن لكل قوم من العلماء اصطلاحات مخصوصة

يستعملونها في معان مخصوصة؛ إما لأنهم نقلوها بحسب عرفهم إلى تلك المعاني، أو لأنهم استعملوها فيها على سبيل التجوز، ثم صار المجاز شائعا، والحقيقة مغلوبة؛ ولفظ (أخبرني، وحدثني) ها هنا كذلك؛ لأن هذا السكوت شابه الإخبار في إفادة الظن؛ والمشابهة إحدى أسباب المجاز. وإذا كان هذا الاستعمال مجازا، ثم استقر عرف المحدثين عليه، صار ذلك كالاسم المنقول بعرف المحدثين، أو كالمجاز الغالب، وإذا ثبت ذلك، وجب جواز استعماله قياسا على سائر الاصطلاحات. حجة المتكلمين: أنه لم يسمع من الراوي شيئا؛ فقوله: (حدثني، وأخبرني، وسمعت) كذب. والجواب: ما تقدم من أنه بعد هذا النقل العرفي، لا نسلم أنه كذب. المرتبة السادسة: المناولة: وهي أن يشير الشيخ إلى كتاب يعرف ما فيه، فيقول: قد سمعت ما في هذا الكتاب؛ فإنه يكون بذلك محدثا، ويكون لغيره أن يروي عنه، سواء قال له: (أروه عني) أو لم يقل له ذلك، فأما إذا قال له: (حدث عني ما في هذا الجزء) ولم يقل له: (قد سمعته) فإنه لا يكون محدثا له؛ وإنما جاز التحدث له، وليس له أن يحدث به عنه؛ لأنه يكون كاذبا. وإذا سمع الشيخ نسخة من كتاب مشهور، فليس له أن يشير إلى نسخة أخرى من ذلك الكتاب، ويقول: (سمعت هذا) لأن النسخ تختلف، إلا أن يعلم أنهما متفقتان. المرتبة السابعة: الإجازة، وهي: أن يقول الشيخ لغيره: (قد أجزت لك أن تروي ما صح عني من أحاديثي).

المسألة الثالثة ذهب الشافعي -رضي الله عنه- إلى أن المرسل غير مقبول

واعلم أن ظاهر الإجازة يقتضي أن الشيخ أباح له أن يحدث بما لم يحدثه به، وذلك إباحة الكذب، لكنه في العرف يجري مجرى أن يقول: (ما صح عندك أني سمعته، فاروه عني). المسألة الثالثة ذهب الشافعي -رضي الله عنه- إلى أن المرسل غير مقبول. وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور المعتزلة: إنه مقبول. لنا: أن عدالة الأصل غير معلومة؛ فلا تكون روايته مقبولة، إنما قلنا: (إن عدالة الأصل غير معلومة) لأنه لم توجد إلا رواية الفرع عنه، ورواية الفرع عنه لا تكون تعديلا له؛ إذ المعدل قد يروي عمن لو سئل عنه، لتوقف فيه، أو لجرحه، وبتقدير أن يكون تعديلا: لا يقتضي كونه عدلا في نفسه؛ لاحتمال أنه لو عينه لنا، لعرفناه بفسق لم يطلع عليه المعدل؛ فثبت أن عدالته غير معلومة، وإذا كان كذلك، وجب ألا تقبل روايته؛ لأن قبول روايته يقتضي وضع شرع عام في حق كل المكلفين من غير رضاهم، وذلك ضرر، والضرر على خلاف الدليل؛ ترك العمل به فيما إذا علمت عدالة الراوي؛ فيبقى في الباقي على الأصل. فإن قيل: (لا نسلم أن عدالته غير معلومة): قوله: (لم يوجد إلا رواية الفرع عنه، ورواية الفرع عنه لا تكون تعديلا له؛ لأنه قد يروي عن العدل وغيره (: قلنا: لا نزاع في جوازه في الجملة؛ لكن لم لا يجوز أن يقال: (روايته عن العدل أرجح من روايته عن غيره؟):

وبيانه من وجهين: الأول: أن الفرع مع عدالته لا يجتزئ أن يخبر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا وله الإخبار بذلك، ولا يكون له ذلك إلا وهو عالم، أو ظان بكونه قولا للرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لو استوى الطرفان، لحرك الإخبار، ولا يكون عالما، ولا ظانا بكونه قولا للرسول، إلا إذا علم، أو ظن عدالة الأصل. الثاني: أن الفرع مع عدالته ليس له أن يوجب شيئا على غيره، أو يطرحه عنه، إلا إذا علم أنه -عليه الصلاة والسلام- أوجب ذلك، أو ظنه؛ فثبت بهذين الدليلين رجحان هذا الاحتمال؛ وهذا يقتضي كون الأصل عدلا ظاهرا؛ فوجب قبول روايته؛ كما في سائر العدول، وهذه هي النكتة التي عولوا عليها في وجوب قبول المرسل. ثم ما ذكرتموه من الدليل معارض بالنص، والإجماع، والقياس: أما النص: فعموم قوله تعالى: {ولينذروا قومهم} (التوبة: 122) وقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (الحجرات: 6) فإذا جاء من لا يكون فاسقا، وجب القبول؛ والراوي للفرع ليس بفاسق؛ فوجب قبول خبره. وأما الإجماع: فإن البراء بن عازب قال: (ليس كل ما حدثناكم به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعناه منه، غير أنا لا نكذب) وروى أبو هريرة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: (من أصبح جنبا، فلا صوم له) ثم ذكر أنه أخبره به الفضل ابن عباس. وروى ابن عباس -رضي الله عنهما- عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا ربا إلا في

النسيئة) ثم أسنده إلى أسامة، وروى أيضًا (ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي؛ حتى رمى جمرة العقبة) ثم ذكر أنه أخبره به الفضل بن عباس -رضي الله عنهما-، وهذه الروايات تدل على جواز قبول المرسل. وأما القياس: فلأنه لو لم يقبل المرسل، لما قبل ما يجوز كونه مرسلًا، فكان ينبغي إذا قال الراوي: (عن فلان) ألا يقبل؛ لأنه لا يجوز أن يكون أخبر عنه. والجواب: قد بينا أن العدل يروي عن العدل، وعن من لا يكون عدلًا. قوله: (لم لا يجوز أن يقال: (روايته عن العدل أرجح من روايته عمن ليس بعدل؟). قلنا: لأنه إذا ثبت أنه لا منافاة بين كونه عدلًا، وبين روايته عمن ليس بعدل- كان ذلك ممكنًا بالنسبة إليه من حيث هو هو، والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر، إلا بمرجح منفصل، فقيل حصول ذلك المرجح: لا يبقى إلا أصل الإمكان. قوله أولًا: (الفرع مع عدالته أخبر عن الرسول، ولا يجوز له ذلك الإخبار إلا وقد اعتقد عدالة الراوي): قلنا: الفرع إذا قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فهذا يقتضي الجزم بأن هذا القول قول رسول الله، والجزم بالشيء مع تجويز نقيضه كذب، وذلك يقدح في عدالة الراوي؛ فإذن: لا بد من صرف هذا اللفظ عن ظاهره؛ فليسوا بأن يقولوا: (المراد منه: أني أظن: أنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أولى من أن نقول نحن: (المراد منه: أني سمعت أنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ومعلوم أنه لو صرح بهذا القدر، لم يكن فيه تعديل للأصل؛ لأنه لو سمعه من كافر متظاهر بالكفر،

لحل أن يقول: (سمعت أنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فعلمنا سقوط ما ذكروه. قوله ثانيًا: (الفرع مع عدالته ليس يجوز له أن يوجب شيئًا على غيره، إلا إذا علم، أو ظن: أنه- عليه الصلاة والسلام- أوجبه): قلنا: روايته إنما توجب على الغير شيئًا، لو ثبت كون الراوي عدلًا، فإذا بينتم إثبات كونه عدلًا؛ بأن هذه الرواية توجب على غيره شيئًا- لزم الدور، ثم نقول: ينتقض ما ذكرتموه من الوجهين بشاهد الفرع، إذا لم يذكر شاهد الأصل، فإن ما ذكرتموه قائم فيه، مع أنه لا تقبل شهادته. فإن قلت: (الفرق من وجهين: الأول: أن الشهادة تتضمن إثبات حق على عين، والخير يتضمن إثبات الحق على الجملة من دون تخصيص، ويدخل من التهمة في إثبات الحقوق على الأعيان على ما لا يدخل في إثباتها على الجملة- فجاز أن تؤكد الشهادة بما لا تؤكد به الرواية؛ كما أكدنا باعتبار العدد فيها، دون الرواية. الثاني: أن شهود الأصل لو رجعوا عن شهادتهم، لزمهم الضمان؛ على قول بعض الفقهاء، فإذا لم يؤمن أن يؤدى اجتهاد الحاكم إلى ذلك، لو رجعوا، وجب أن يعرفهم بأعيانهم؛ ليتأتى إلزامهم الضمان، إن هم رجعوا (: قلت: الجواب عن الأول: أن إثبات الحق على الأعيان، لو ترجح على إثبات الحق في الجملة من ذلك الوجه، فهذا يترجح على ذلك من وجه آخر؛ وهو أن الخبر يقتضي شرعًا عامًا في حق جميع المكلفين إلى يوم القيامة، فالاحتياط فيه أولى من الاحتياط في إثبات الحكم في حق مكلف واحد.

وعن الثاني: أنه ملغي بما إذا كان شاهد الأصل قد مات، ولم يبق له في الدنيا دينار، ولا درهم؛ فكيف يمكن تضمينه؟!. وأما المعارضة الأولى: فجوابها: أن هذه النصوص خصصت في الشهادة؛ فوجب تخصيصها في الرواية؛ والجامع الاحتياط. وعن الثاني: أن هذه المسألة عندنا اجتهادية؛ فلعل بعض الصحابة كان قائلًا به، ومخالفوهم ما أنكروه عليهم؛ لكون المسألة اجتهادية. وأيضًا: فالصحابي الذي رأى الرسول، إذ قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كان الظاهر منه الإسناد، وإذا كان كذلك، وجب على السامع قبوله، ثم بعد ذلك، إذا بين الصحابي أنه كان مرسلًا، ثم بين إسناده، وجب أيضًا قبوله، ولم يكن قبوله في إحدى الحالتين دليلًا على العمل بالمرسل. وعن الثالث: أن مدار العمل بهذه الأخبار على الظن، فإذا قال الراوي: (قال فلان عن فلان) وقد أطال صحبته؛ كان ذلك دليلًا على أنه سمعه منه، ومتى لم يعلم أنه صحبه، لم يقبل حديثه. فروع: الأول: قال الشافعي- رضي الله عنه-: لا أقبل المرسل، إلا إذا كان الذي أرسله مرة، أسنده أخرى؛ أقبل مرسله، أو أرسله هو، وأسنده غيره؛ وهذا إذا لم تقم الحجة بإسناده، أو أرسله راو آخر، ويعلم أن رجال أحدهما غير رجال الآخر، أو عضده قول صحابي، أو فتوى أكثر أهل العلم، أو علم أنه لو نص، لم ينص إلا على من يسوغ قبول خبره ... (قال: (وأقبل مراسيل سعيد بن

المسيب؛ لأني اعتبرتها، فوجدتها بهذه الشرائط) قال: (ومن هذه حاله، أحببت قبول مراسليه، ولا أستطيع أن أقول: إن الحجة تثبت به، كثبوتها بالمتصل). قالت الحنفية: أما قوله: (أقبل مراسيل الراوي، إذا كان أسنده مرة): فبعيد؛ لأنه إذا أسند، قبل لأنه مسند، وليس لإرساله تأثير. وأما قوله: (يقبل مرسل الراوي، إذا كان قد أسنده غيره (فلا يصح؛ لما ذكرنا، ولأن ما ليس بحجة لا يصير حجة، إذا عضدته الحجة. وأما قوله: (أقبل المرسل، إذا كان أرسله اثنان، وشيوخ أحدهما غير شيوخ الآخر): فلا يصح؛ لأن ما ليس بحجة، إذا انضاف إليه ما ليس بحجة لا يصير حجة، إذا كان المانع من كونه حجة عند الانفراد قائمًا عند الاجتماع، وهو الجهل بعدالة راوي الأصل، وهذا بخلاف الشاهد الواحد؛ فإن المانع من قبول شهادته الانفراد، وهو يزول عند انضمام غيره إليه. والجواب: أن غرض الشافعي -رضي الله عنه- من هذه الأشياء حرف واحد، وهو: أنا إذا جهلنا عدالة راوي الأصل، لم يحصل ظن كون ذلك الخبر صدقًا، فإذا انضمت هذه المقويات إليه، قوي بعض القوة، فحينئذ: يجب العمل به؛ إما دفعًا للضرر المظنون، وإما لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (أقضي بالظاهر) - فظهر فساد هذا السؤال. الثاني: إذا أرسل الحديث، وأسنده غيره، فلا شبهة في قبوله عند من يقبل المرسل، وكذا عند من لا يقبله؛ لأن إسناد الثقة يقتضي القبول، إذا لم يوجد مانع، ولا يمنع منه إرسال المرسل؛ لأنه يجوز أن يكون أرسله؛ لأنه سمعه

مرسلًا، أو سمعه متصلًا؛ لكنه نسي شيخ نفسه، وهو يعلم أنه ثقة في الجملة،. وكذا القول فيما إذا أرسله مرة، وأسنده أخرى؛ لأنه يجوز أن يوجد بعض ما ذكرنا. الثالث: إذا ألحق الحديث بالنبي، ووافقه غيره على الصحابي، فهو متصل؛ لأنه يجوز أن يكون الصحابي رواه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرة، وذكر عن نفسه على سبيل الفتوى مرة، فرواه كل واحد منهما بحسب ما سمعه، أو سمعه أحدهما يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنسي ذلك، وظن أنه ذكره عن نفسه. الرابع: إذا وصله بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مرة، ووقفه على الصحابي أخرى، فإنه يجعل متصلًا؛ لجواز أن يكون سمعه من الصحابي يرويه مرة عنه -عليه الصلاة والسلام- ومرة عن نفسه، أو سمعه وصله بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فنسي ذلك، وظن أنه ذكره عن نفسه، فأما إذا أرسله، أو أوقفه زمانًا طويلًا، ثم أسنده أو وصله بعد ذلك فإنه لا يبعد أن ينسى ذلك الزمان الطويل، إلا أن يكون له كتاب يرجع إليه، فيذكر ما قد نسيه الزمان الطويل. الخامس: من يرسل الأخبار، إذا أسند خبرًا، هل يقبل أو يرد؟ أما من يقبل المراسيل، فإنه يقبله، وأما من لا يقبلها، فكثير منهم قبله أيضًا؛ لأن إرساله مختص بالمرسل، دون المسند؛ فوجب قبول مسنده. ومنهم من لم يقبله؛ قال: لأن إرساله يدل على أنه إنما لم يذكر الراوي؛ لضعفه؛ فستره له- والحالة هذه- خيانة. واختلف من قبل حديث المرسل، إذا أسنده، كيف يقبل؟ فقال الشافعي-

المسألة الرابعة (في التدليس)

رضي الله عنه-: (لا يقبل من حديثه إلا ما قال فيه: (حدثني، أو سمعت فلانًا، ولا يقبل، إذا أتى بلفظ موهم). وقال بعض المحدثين: لا يقبل إلا إذا قال: (سمعت فلانًا). وهؤلاء يفرقون بين أن يقال: (حدثني فلان،) و (أخبرني) فيجعلون الأول دالًا على أنه شافهه بالحديث، ويجعلون الثاني مرددًا بين المشافهة، وبين أن يكون إجازة له، أو كتب إليه، وهذه عادة لهم، وإن لم يكن بينهما فرق في اللغة. المسألة الرابعة (في التدليس) إذا روى الراوي الحديث عن رجل يعرف باسم، فلم يذكره بذلك، وذكره باسم لا يعرف به، فإن فعل ذلك؛ لأن من يروى عنه ليس بأهل أن يقبل حديثه، فقد غش الناس؛ فلا يقبل حديثه، وإن لم يذكر اسمه؛ لصغر سنه، لا لأنه ليس بثقة، فمن يقول: (يكفي ظاهر الإسلام في العدالة) قبل هذا الحديث، ومن يقول: (لا بد من التفحص عن عدالته بعد إسلامه): فمن لا يقبل المراسيل؛ فإنه لا يقبله؛ لأنه لم يتمكن من التفحص عن عدالته؛ حيث لم يذكر اسمه، فهو كالمرسل، ومن يقبل المراسيل، ينبغي أن يقبله؛ لأن عدالته تقتضي أنه لولا أنه ثقة عنده، لما ترك ذكر اسمه؛ فصار كما لو عدله. المسألة الخامسة (يجوز نقل الخبر بالمعنى) وهو مذهب الحسن البصري وأبي حنيفة والشافعي -رضي الله عنهم- خلافًا لابن سيرين وبعض المحدثين؛ ولكن بشرائط ثلاث:

أحدها: ألا تكون الترجمة قاصرة عن الأصل؛ في إفادة المعنى. وثانيها: ألا تكون فيها زيادة، ولا نقصان. وثالثها: أن تكون الترجمة مساوية للأصل في الجلاء، والخفاء؛ لأن الخطاب تارة: يقع بالمحكم، وتارة: بالمتشابه؛ لحكم وأسرار استأثر الله بعلمها؛ فلا يجوز تغييرها عن وضعها. لنا وجوه: الأول: أن الصحابة نقلوا قصة واحدة، بألفاظ مختلفة مذكورة في مجلس واحد، ولم ينكر بعضهم على بعض فيه؛ وذلك يدل على قولنا. الثاني: أنه يجوز شرح الشرع للعجم بلسانهم، فإذا جاز إبدال العربية بالعجمية، فبأن يجوز إبدالها بعربية أخرى كان أولى، ومن أنصف علم أن التفاوت بين العربية وترجمتها بالعربية أقل مما بينها وبين العجمية. الثالث: روي أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: (إذا أصبتم المعنى، فلا يأس) وعن ابن مسعود: أنه كان إذا حدث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، أو نحوه). الرابع؛ وهو الأقوى: أنا نعلم بالضرورة أن الصحابة الذين رووا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الأخبار ما كانوا يكتبونها في ذلك المجلس، وما كانوا يكررون عليها في ذلك المجلس، بل كما سمعوها تركوها، وما ذكروها إلا بعد الأعصار والسنين؛ وذلك يوجب القطع بتعذر روايتها على تلك الألفاظ. احتج المخالف: بالنص، والمعقول: أما النص: فقوله- عليه الصلاة والسلام-: (رحم الله امرءًا سمع مقالتي،

فوعاها، ثم أداها كما سمعها (قالوا: وأداؤها كما سمعها: هو أداء اللفظ المسموع، ونقل الفقه إلى من هو أفقه منه معناه، والله أعلم: أن الأفطن ربما فطن؛ بفضل فقهه من فوائد اللفظ لما لم يفطن له الراوي؛ لأنه ربما كان دونه في الفقه. وأما المعقول: فمن وجهين: الأول: أنه لما جربنا، رأينا: أن المتأخر ربما استنبط من فوائد آية أو خبر ما لم يتنبه له أهل الأعصار السالفة من العلماء والمحققين، فعلمنا أنه لا يجب في كل ما كان من فوائد اللفظ: أن يتنبه له السامع في الحال، وإن كان فقيهًا ذكيًا، فلو جوزنا النقل بالمعنى، فربما حصل التفاوت العظيم، مع أن الراوي يظن أنه لا تفاوت. الثاني: أنه لو جاز للراوي تبديل لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلفظ نفسه، كان للراوي الثاني تبديل اللفظ الذي سمعه بلفظ نفسه، بل هذا أولى؛ لأن جواز تبديل لفظ الراوي أولى من جواز تبديل لفظ الشارع، وكذا في الطبقة الثالثة والرابعة، وذلك يفضي إلى سقوط الكلام الأول؛ لأن الإنسان وإن اجتهد في تطبيق الترجمة؛ لكن لا ينفك عن تفاوت، وإن قل، فإذا توالت هذه التفاوتات، كان التفاوت الأخير تفاوتًا فاحشًا؛ بحيث لا يبقى بين الكلام الأخير وبين الأول نوع مناسبة. والجواب عن الأول: أن من أدى تمام معنى كلام الرجل، فإنه يوصف بأنه أدى كما سمع، وإن اختلفت الألفاظ، وهكذا الشاهد والترجمان يقع عليهما الوصف بأنهما أديا كما سمعا، وإن كان لفظ الشاهد خلاف لفظ المشهود عليه، ولغة المترجم غير لغة المترجم عنه.

المسألة السادسة الراويان، إذا اتفقا على رواية خبر، وانفرد أحدهما بزيادة، وهما ممن يقبل حديثهما

وعن الثاني والثالث: ما تقدم من قبل. المسألة السادسة الراويان، إذا اتفقا على رواية خبر، وانفرد أحدهما بزيادة، وهما ممن يقبل حديثهما: فإما أن يكون المجلس واحدًا، أو متغايرًا: فإن كان متغايرًا، قبلت الزيادة؛ لأنه لا يمتنع أن يكون الرسول- عليه الصلاة والسلام- ذكر الكلام في أحد المجلسين مع زيادة، وفي المجلس الثاني بدون تلك الزيادة، وإذا كان كذلك فنقول: عدالة الراوي تقتضي قبول قوله، ولم يوجد ما يقدح فيه فوجب قبوله، وإن كان المجلس واحدًا، فالذين لم يرووا الزيادة: إما أن يكونوا عددًا لا يجوز أن يذهلوا عما يضبطه الواحد، أو ليسوا كذلك: فإن كان الأول: لم تقبل الزيادة، وحمل أمر راويها على أنه يجوز مع عدالته: أن يكون قد سمعها من غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وظن أنه قد سمعها منه. وإن كان للثاني: فتلك الزيادة: إما ألا تكون مغيرة لإعراب الباقي، أو تكون: فإن لم تغير إعراب الباقي، قبلت الزيادة عندنا إلا أن يكون الممسك عنها أضبط من الراوي لها؛ خلافًا لبعض المحدثين. لنا: أن عدالة راوي الزيادة تقتضي قبول خبره، وإمساك الراوي الثاني عن روايتها لا يقدح فيه؛ لاحتمال أن يقال: إنه كان حال ذكر الرسول- عليه الصلاة والسلام- تلك الزيادة عرض له سهو أو شغل قلب، أو عطاس، أو دخول إنسان أو فكر أهذله عن سماع تلك الزيادة، وإذا وجد المقتضي لقبول الخبر خاليًا عن المعارض، وجب قبوله. فإن قلت: (كما جاز السهو على الممسك، جاز أيضًا على الراوي):

قلت: لا نزاع في الجواز- على الجملة لكن الأغلب على الظن: أن راوي الزيادة أبعد عن السهو؛ لأن ذهول الإنسان عما سمعه أكثر من توهمه فيما لم يسمع أنه سمعه؛ بلى، لو صرح الممسك بنفي الزيادة، وقال: إنه- عليه الصلاة والسلام- وقف على قوله: (فيما سقت السماء العشر) فلم يأت بعده بكلام آخر، مع انتظاري له- فها هنا يتعارض القولان؛ ويصار إلى الترجيح. أما إذا كانت الزيادة مغيرة لإعراب الباقي؛ كما إذا روى أحدهما: (أدوا عن كل حر، أو عبد صاعًا من بر) ويروي الآخر: (نصف صاعٍ من بر) فالحق: أنها لا تقبل؛ خلافًا لأبي عبد الله البصري. لنا: أنه حصل التعارض؛ لأن أحدهما، إذا رواه (صاعًا) فقد رواه بالنصب، والآخر، إذا روى (نصف صاع) فقد روى الصاع بالجر، والنصب ضد الجر، فقد حصل التعارض، وإذا كان كذلك، وجب المصير إلى الترجيح. فرع: الراوي الواحد، إذا روى الزيادة مرة، ولم يروها غير تلك المرة: فإن أسندهما إلى مجلسين، قبلت الزيادة، سواء غيرت إعراب الباقي، أو لم تغير، وإن أسندهما إلى مجلس واحد، فالزيادة: إن كانت مغيرة للإعراب، تعارضت روايتاه؛ كما تعارضتا من راويين. وإن لم تغير الإعراب: فإما أن تكون روايته للزيادة مرات أقل من مرات الإمساك، أو بالعكس، أو يتساويان: فإن كانت مرات الزيادة أقل من مرات الإمساك، لم تقبل الزيادة؛ لأن حمل الأقل على السهو أولى من حمل الأكثر عليه، اللهم إلا أن يقول الراوي: إني سهوت في تلك المرات، وتذكرت في هذه المرة، فها هنا: يرجح المرجوح على الراجح؛ لأجل هذا التصريح.

شرح القرافي: قوله: (السكون يفيد العلم)

وإن كانت مرات الزيادة أكثر، قبلت لا محالة؛ لوجهين: أحدهما: ما ذكرنا: أن حمل الأقل على السهو أولى. والثاني: ما ذكرنا: أن حمل السهو على نسيان ما سمعه أولى من حمله على توهم أنه سمع ما لم يسمعه. وأما إن تساويا: قبلت الزيادة؛ لما بينا: أن هذا السهو أولى من ذلك، والله أعلم. المسألة الثانية (في كيفية رواية غير الصحابي) قال القرافي: قوله: (السكون يفيد العلم): تقريره: أنه يريد بالعلم الظن، كما في قوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات} [الممتحنة: 10] أي: ظننتموهن. فإن الإيمان أمر باطن يظن بظاهر الحال، ولا يعلم. قوله: (صار هذا الاصطلاح كالاسم المنقول، أو كالمجار الراجح): قلنا: كل مجاز راجح منقول، كما تقدم في كتاب اللغات، فلا معنى للترديد بينهما، إلا أن يريدوا بالمنقول النقل لأمر لا علاقة فيه، فيكون منقولًا غير مجاز راجح؛ لانتفاء أصل العلاقة، التي هي شرط في المجاز، كما في لفظ الجوهر والذات، وقد تقدم بسطه عند الكلام على المجاز الراجح والمنقول. قال إمام الحرمين في (البرهان): إن كان الشيخ يحيط بما يقوله الراوي، ولو عرض تصحيف، أو غيره لرده، فسكوته كنطقه بالحديث. ويكفي أن يكون عنده نسخة متقنة، ولا يشترط حفظ الأحاديث، وإن كان

(مسألة) قال الغزالي في (المستصفى): إذا كان في مسموعاته عن الزهري حديث شك في سماعه عنه

لا ينظر في النسخة، ولو دلس عليه لما شعر، فهو سماع باطل؛ لأنه لا فرق بين سماعه أصواتًا، وبين سماعه أجراسًا. وتردد القاضي فيه إذا كانت النسخة بيد غير الشيخ، والناظر فيها عدل مؤتمن لا يقصر في اجتهاده، والأظهر أنه لا يصح؛ لأن الشيخ لم ينتهض فيهما، والرواية فهم وإفهام، والشيخ هاهنا لم يفهم، ولم يحمل شيئًا، ولم يتحمل عنه. والإجازة مراتب، أعلاها الإشارة إلى الكتاب، وربطه إجازة الرواية به مع الإخبار عن صحة السماع فيه، وقد يؤكد بعض المحدثين هذا القسم بالمناولة للكتاب المتحمل عنه، ويقول: دونك هذا فاروه عني. قال: وليس في ذلك تأكيد. وثانيها: أن يفوض إليه تصحيح المسموعات، ولم ينص عليها، فهذا عسر، ويتطرق إليه في التصحيح احتمالات تحزم الثقة. وثالثها: أن يعول المتلقي على خطوط مشتملة على سماع الشيخ، فلا يكفي ذلك إلا أن يتحقق سماعًا موثوقًا به، وهو بعيد. وإذا روى الذي أجيز، ذكر أن جهة تلقيه الإجازة؛ لأنه أدفع للبس. (مسألة) قال الغزالي في (المستصفى): إذا كان في مسموعاته عن الزهري حديث شك في سماعه عنه،

(مسألة) قال الغزالي في (المستصفى): إذا غلب على ظنه أن الحديث من مسموعاته من الزهري لم يجز له الرواية بالظن

فلا يجوز له نسبته للزهري، وإن اختلط بغيره امتنعت روايته لتلك الأحاديث كلها. (مسألة) قال الغزالي في (المستصفى): إذا غلب على ظنه أن الحديث من مسموعاته من الزهري لم يجز له الرواية بالظن. وقيل: يجوز قياسًا على الشهادة؛ لأنها تجوز بالظن. (مسألة) قوله: (عدالة الأصل غير معلومة): قلنا: إن أردتم العلم على بابه، فهو غير مشترط في العدالة، بل يكفي الظن.

(فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): (العمدة في قبول المرسل التفصيل)، فحيث حصلت غلبة الظن قبل

وإن أردتم الظن، فلا نسلم أنه غير حاصل، بل ظاهر حال الراوي أنه لما روى عنه، وسكت عنه كان ذلك دليل عدالته، وإلا لكان ذلك قدحًا في الدين، ومنافيًا للعدالة. وإذا كان يعتقد عدالة الأصل الذي روى عنه، فالظاهر أنه عدل في نفس الأمر؛ لأن هذا هو غاية اعتقادنا نحن العدالة؛ لأنه فحص كما نفحص نحن عنه. قوله: (المعدل قد يروي عمن لو سئل عنه لتوقف فيه أو جرحه): قلنا: ذلك إذا صرح باسمه، أما إذا سكت عنه فقد التزم عدالته، ولم يفوضها إلينا لننظر فيها، والظاهر أنه إنما يذممه، وقد رضيه. (فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): (العمدة في قبول المرسل التفصيل)، فحيث حصلت غلبة الظن قبل. فإن قال الراوي: سمعت رجلًا لم نقبل، أو سمعت عدلًا موثوقًا به

رضا، والراوي ممن يقبل تعديله- قبل هذا المرسل؛ لأنا لا نشترط في الراوي أن يعرفه كل أحد. وكذلك إذا قال الإمام الراوي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو بالغ في ثقة من روى عنه (وعلى هذا النحو قال: ورأيت في كلام الشافعي ما يوافق هذا. قال: وقد سمى الأستاذ أبو بكر قول التابعي: قال رسول الله -عليه السلام- (مسندًا (، وقول تابعي التابعي: قال الصحابي (منقطعًا (، وذكر الواسطة إجمالًا (مرسلًا) نحو: سمعت رجلًا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي كلام الشافعي إشارة إلى هذا، وهو اصطلاح. قوله: (حجة الخصم قوله تعالى: {ولينذروا قومهم} [التوبة: 122]): تقريره: أن الله -تعالى- اعتبر في الآية مطلق الإنذار، فيكون هو سبب التكليف حيث وجد، وقد وجد في المرسل، فثبت التكليف. ويرد عليه أن الصيغة مطلقة لا عموم فيها، والمطلق لا عموم فيه، فلا يتناول جميع الصور، فلا يتناول صورة النزاع. قوله: (لا منافاة بين كون الفرع عدلًا، وبين روايته عمن ليس بعدل): قلنا: إن أردتم عدم المنافاة قطعًا فمسلم، لكن تكفي المنافاة ظاهرًا، وأنها حاصلة، فإن ظاهر حاله يقتضي أنه لا يتذمم إلا من هو عدل، فيكون كونه غير عدل منافيًا لظاهر حاله. قوله: (إذا قال الراوي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك يقتضي الجزم على أن معناه: (أني أظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (بأولى من حمله على أن معناه: (أني سمعت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

قلنا: لا نسلم أنه ليس أحدهما أولى؛ لأن قوله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي إسناد القول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أما (سمعت) فليس فيه تنقية لاعتقاده ذلك الإسناد؛ فإنه مع هذه العبارة قد يقطع بكذب القائل للمسلمين: سمعت الكافر يقول: إن الله قال كذا؛ لما نقطع بكذبه، وليس في هذه العبارة إلا إسناد سمعه لذلك القائل، فهي أبعد عن المجاز عن الجزم بالإسناد، فكانت أولى. قوله: (رواية الراوي إنما توجب على الغير شيئًا أن لو ثبت كون الراوي الأصل عدلًا، فإذا أثبتم أنه عدل بأن هذه الرواية توجب على الغير شيئًا لزم الدور (. قلنا: لا يلزم الدور؛ لأن الإيجاب على الغير استفدناه من عبارته؛ لأنه أسند الإيجاب علينا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإسناده هو الموجب لا عدالة الأصل. وهاهنا ثلاثة أمور: أولها: إسناده الإيجاب علينا، المرتب على إسناده. وثانيها: ظاهر الحال الناقل إلينا، وهو المفيد لعدالة الراوي بسبب تذممه له وعدالة الراوي متوقفة عليه. وثالثها: عدالة الراوي، فلا دور. قوله: (شاهد الفرع لا بد أن يذكر شاهد الأصل). قلنا: للفرق بينه وبين الرواية أن شاهد الفرع كالنائب والوكيل في تبليغ تلك الشهادة، ولذلك إذا فسق الأصل بطلت شهادة الفرع، ولا يشهد الفرع حتى يقول له الأصل: اشهد علي؛ فإني أشهد على فلان بكذا، وأذنت لك في النقل، وأما الفرع في الرواية، فليس نائبًا عن أصله؛ لأنه لا يشترط إذنه

(سؤال) المرسل في الاصطلاح هو أن يسقط من السند صحابي، والإرسال خاص بالتابعين

في النقل عنه، بل إذا سمعه يحدث نقل عنه، وإن لم يقصده؛ غايته أنه لا يقول: حدثني، لكنه يقول سمعته. ولو فسق الأصل بعد صحة التحمل جازت الرواية؛ لأن الخلق أجمعين مأمورون بتبليغ الشرائع إلى يوم القيامة، فليس أحد فيها ينوب عن أحد، بل كل واحد يقوم بالواجب عليه. (سؤال) المرسل في الاصطلاح هو أن يسقط من السند صحابي، والإرسال خاص بالتابعين. والقاعدة: أن الصحابة كلهم عدول، فكيف يتأتى على هذا التقدير الخلاف في قبول المرسل؟ لأن المسكوت عنه معلوم العدالة، فلا فرق بين ذكره والسكوت عنه، وإنما يفيد ذكره إذا كان محتملًا لعدم العدالة. فإن قلت: احتمل أن يروي التابعي عن صحابي، وعن تابعي، فصار في ذكر الراوي الأصل، قلت: هذا هو المنقطع في اصطلاح المحدثين، فينبغي أن تفهرس المسألة بالمنقطع لا بالمرسل. فإن قلت: الصحابة عدول إلا عند قيام المعارض؛ لأنهم ليسوا بمعصومين، فلعل الذي روى التابعي عنه من الصحابة لو صرح به لوجدناه قد حدث له موجب الرد. كما اتفق لماعز والغامدية، وسارق رداء صفوان، وقذفة المغيرة. قلت: هذا وإن كان محتملًا إلا أنه بعيد نادر، والاحتمال النادر لا يوجب رد الحديث، فلا يرد المرسل لهذا الاحتمال النادر. كما أن العدل إذا ثبت عدالته بالتزكية، أو الإخبار يجوز الاعتماد على

روايته، مع احتمال أن يكون قد طرأ عليه بعد إخبارنا، أو بعد التزكية سبب الرد لروايته. لكن ذلك ملغى إجماعًا، فكذلك هاهنا. وفي آخر الكتاب تتمة هذا البحث، وذكر جمل الاصطلاحات في المرسل، والمنقطع، والمقطوع، والمعضل، وغير ذلك مما يتسعان به على هذه المسألة ونحوها من هذا الكتاب، فيطالع من آخر كتاب الأخبار. مع أن سيف الدين قال: (صورة المرسل أن من لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) - فلم يفرق بين المعضل والمرسل، ثم قال: قبله أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وجماهير المعتزلة. وقبل ابن أبان مراسيل الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، ومن هو من أئمة النقل مطلقًا دون من عدا هؤلاء. قال: (والمختار قبول مرسل العدل مطلقًا)، وهذا الكلام يشعر بأن الاصطلاح في هذه المسألة عند الفقهاء والأصوليين غير اصطلاح المحدثين، وأن المرسل لا يختص بالتابعين، فيتأتى الخلاف حينئذ. حتى قال سيف الدين: إذا أرسل العدل في زماننا قبل. قال إمام الحرمين في (البرهان): للمرسل صور: يقول التابعي: قال رسول الله- عليه السلام، أو بعض الرواة في الأعصار المتأخرة عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

(مسألة) يجوز نقل الخبر بالمعنى

أو يقول أحد من أهل عصر: قال فلان وما لقيته. أو يقول الراوي: أخبرني رجل، أو فلان، ولم يسمه، أو أخبرني موثوق به، ولم يسمه. ومن الصور: الكتب التي كتب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجهل بناقلها. (مسألة) يجوز نقل الخبر بالمعنى. قال سيف الدين: يحرم نقله بالمعنى الشافعي، ومالك، وأبو حنيفة، وابن حنبل، والحسن البصري، وأكثر الأئمة [قالوا] إن كان الناقل غير عارف بدلالات الألفاظ، ومواقع دلالتها [فلا]. فإن كان عارفًا بذلك فالأولى له النقل لنفس اللفظ. وقال ابن سيرين وجماعة من السلف: يجب نقل اللفظ مطلقًا. وقيل: يجوز إبدال اللفظ بمرادفه، ولا يجوز فيما عدا ذلك.

قوله: (يجوز بثلاث شرائط: ألا تكون عبارة الراوي قاصرة، ألا يزيد ولا ينقص، وأن يساوي في الجلاء والخفاء). تقريره: أن هذا الشرط الأخير ينبغي أن يكون أولًا، ويكون التقرير هكذا: أن العبارة النبوية إن كانت مجملة، وجب أن تكون هذه مجملة خفية، أو دالة جلية، وجب أن تكون الأخرى كذلك؛ لئلا يفوت مقصود صاحب الشرع من امتحان المكلفين بالخطاب بالمجمل للتثبيت، وبالواضع للمبادرة لتحصيل مصلحة الفعل، وإذا كانت العبارة الأصلية دالة، فلا تكون الثانية أقل دلالة منها، بل مثلها أو أزيد؛ فإن إحدى العبارتين قد تكون أكثر استعمالًا، فيقوى جلاؤها، وقد تكون أقل استعمالًا، فيقل جلاؤها. وإذا استويا في الجلاء أو زادت الترجمة، فلا يجوز أن تكون الترجمة أزيد في المعنى، ولا أنقص، فقد تستوي العبارتان في الجلاء، وتكون إحداهما أزيد، أو أنقص كما تقول: إن لفظ العشرة مساو للعشرين في الجلاء؛ لأن ألفاظ الأعداد كلها نصوص جلية، و (العشرون (أزيد معنى، و (العشرة) أنقص، وكما نقول: (المشركون) عام، و (اليهود) عام، وهما لفظان مستويان في الظهور؛ لكون كل واحد منها من صيغ العموم، ومع ذلك لفظ المشركين أزيد، ولفظ الرهبان أنقص، فينبغي أن يكون الثالث أولًا، والأول ثانيًا، والثاني ثالثًا في مقتضى الترتيب الطبيعي في صحة الوضع. قوله: (يجوز تفسير الشرع للعجمي بالعجمية، فترجمة العربي بالعربية أولى؛ لأن المخالفة أقل). قلنا: ليس أولى؛ لأن العجم لا يفهمون لسان العرب، كما ينبغي، أو لا يفهمونه البتة، فدعت الضرورة لذلك، ولا ضرورة في تغيير لفظ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - للعرب، فيكون الفرع قاصرًا عن الأصل؛ لأنه أولى بالثبوت.

قوله: (الصحابة -رضوان الله عليهم- رووا هذه الأخبار بعد السنين والأعصار، فلا يكون اللفظ عندهم، بل المعنى). قلنا: قد تقدم أن الله -تعالى- جعل من جملة خصائص هذه الأمة المحمدية أن سلفها كانوا يحفظون الكلام الطويل من السماع الواحد، ولا ينسونه مع تطاول الأعصار، حتى كان أبو هريرة -رضي الله عنه- يسد أذنه إذا مشى في السوق؛ لأنه كان متى سمع شيئًا حفظه، وما يريد أن يعلق بنفسه ما لا يشتهيه، وكان جل الصحابة على ذلك، وبذلك صاروا بحار علوم، وسادات المجتهدين من غير درس، ولا تكرار، ولا مطالعة كتاب حتى قال الحسن البصري، وهو من سادات التابعين علمًا وعملًا: أدركت أقوامًا كانت نسبة أحدنا إليهم كنسبة البقلة إلى النخلة، وكان التابعون على نحو من ذلك، فقد أملى ربيعة على مالك أربعين حديثًا بأسانيدها مرة واحدة، فأعادها عليه مالك، وغلط في (واو (، فقال لربيعة أو قال على وجه الشك، فقال له ربيعة: (دعنا، ساء حفظ الناس اليوم (وأحاديثهم أعظم من ذلك لا يسمح هذا الموضع ذكرها، فلا عجب أن يرووا بعد السنين أن التشبيه بين اللفظ واللفظ أقوى من التشبيه بين اللفظ والمعنى، ويرد عليه أن (المقالة (أصلها أن تكون موضع القول مثل: مسبعة ومذابة مكان السباع والذئاب، يقال ذلك للمكان الذي يكثر فيه ذلك. وأصلها مقولة، ومكان القول إنما هو المعنى، وإلا لكان اللفظ مكانًا لنفسه، وهو محال. فيكون التشبيه على هذا أن السامع عند التحمل انطبع في ذهنه من الكلام صورة، فأمر أن يحصل في ذهن السامع منه صورة ذهنية مساوية للصورة التي حصلت له في ذهنه عند التحمل، فيكون المراد بالحديث التشبيه في المعنى

(فائدة) قال النقشواني: هذه المسألة مختلفة الوضع

لا في اللفظ، فعلى الأول يكون معنى قوله عليه السلام: (..... حامل فقه إلى من هو أفقه منه). أن الثاني فهم من اللفظ ما لم يفهمه الأول، وعلى الثاني يكون معناه: الثاني فهم من لوازم ذلك المعنى ما لم يفهمه الأول؛ فإنه قد تستوي الصورتان في ذهن الرجلين، ويكون أحدهما أفهم للوازم ذلك المعنى أكثر من الآخر. قوله: (المتأخرون ربما استنبطوا من معاني الألفاظ ما لم يخطر للمتقدمين، فلو جوزنا أن يأتي بلفظ بدل ما فهمه من المعنى، لكان قد ترك ما عساه يفهمه المتأخر من اللفظ الأول لو نقله له (. قلنا: نحن اشترطنا أن يعلم الراوي أنه لا تفاوت بين المعنيين، فيكون النزاع في تحقق الشرط. هل تحقق أم لا؟. لا في جواز النقل بالمعنى. فهذه مسألة أخرى ترجع إلى غير تحقق الشرط في كثير من الصور. لكن ذلك لا يمنعه في كثير من الصور. وبه نجيب عن قوله: (إذا تكررت الروايات، وكل منهم ينزل شيئًا يسيرًا، فيبعد الأخير من الأول جدًا). (فائدة) قال النقشواني: هذه المسألة مختلفة الوضع؛ فإن السامع إذا لم يكن عالمًا، وسمعه من غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وأراد أن يرويه للمجتهد، فلا يجوز له

(فائدة) قال المازري في (شرح البرهان): إذا اعتقد مراد المتكلم ما اعتقده، لكن من جهة الاستنباط امتنع النقل بالمعنى

إبدال اللفظ؛ لأنه توقيف له عن دلالات اللفظ، واختلاف وجوه تراكيبها، وإن سمع العالم من النبي -عليه السلام- وذكره للعامي على سبيل الإفتاء، والتعليم، فله أن يشرح ذلك على أي وجه قدر على تفهيمه. وأما إن ذكره لعالم آخر يرويه، فالأولى ألا يبدل اللفظ؛ لاختلاف الناس في استنباط المعاني، بخلاف الفتيا والتعليم لا يجب اللفظ؛ لأن المقصود إنما هو المعنى، فيوصل لذهن المستفتي بما هو أليق به. وعلى هذا التفصيل يختلف الحال فيما ذكره من الشروط الثلاثة باعتبار هذه الأحوال. (فائدة) قال المازري في (شرح البرهان): إذا اعتقد مراد المتكلم ما اعتقده، لكن من جهة الاستنباط امتنع النقل بالمعنى، كما إذا سمع: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) فأداه صناعة النحو، وشواهد الحال إلى أن يذكى مثل ذكاة أمه، فيعبر عما اعتقده بعبارة ناصة، فيحرم إجماعًا. قال: وانفرد القاضي فقال: يجوز النقل بالمعنى في الأحاديث الطوال؛ للضرورة دون القصار. قال: وفيه تفصيل، وهو أن الحديث الطويل إن أورده غير قاصد نقله عنه؛ لكونه لا يتعلق به حكم كحديث جريج الراهب، أو لا تمس الحاجة لنقله، أو حكمه خاص بالسامعين، فلا يبعد جريان الخلاف في جواز نقله بالمعنى؛ لعدم الحاجة لتعيين اللفظ. (فرع) قال المازري: قال أحمد: لا ينقل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى، بخلاف حديث الناس.

(مسألة ((إذا انفرد الراوي بزيادة)

(مسألة ( (إذا انفرد الراوي بزيادة) قال المازري في (شرح البرهان): إذا انفرد بحديث دون التلامذة، أو بإسناده مرسلًا، أو باتصال موقوف. قال المحققون: إن ذلك غير قادح. وقيل: يتوقف عن قبوله، فإن انفرد بزيادة لفظ في حديث دون التلامذة، فخمسة أقوال: ثالثها: إن لم يتعلق به حكم قبل، وإلا فلا. ورابعها: إن تعلق به حكم ناسخ لغيره قبل، وإلا فلا. وخامسها: إن كانت الزيادة من الذي كان رواه ناقصًا لم تقبل الزيادة، وإن كانت غيره قبلت. (فائدة) قال القاضي عبد الوهاب في (الملخص): قال جماعة: قول الصحابي: أمر النبي -عليه السلام- بكذا، أو نهى عن كذا، أو فرض كذا، ونحوه لا يقبل؛ لأنه رواية بالمعنى حتى يذكر لفظه. (فوائد) تتعلق بكتاب الأخبار ينبغي أن تكون على خاطر الأصولي، يستعين بها على معرفة المرسل، والتدليس، وغيرها. الأولى: الموقوف.

قال الحاكم في كتابه الموسوم بـ (علوم الحديث): الموقوف هو الذي لا يرفع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل ينتهي إلى صحابي، ومنه ما حدثناه الزبير بن عبد الواحد الحافظ قال: حدثنا محمد بن أحمد الزبيقي قال: أخبرنا زكريا ابن يحيى المتغربي قال: أخبرنا الأصمعي قال: أخبرنا كيسان مولى هشام بن حسان، عن محمد بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن المغيرة بن شعبة قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرعون بابه بالأظافير. فهذا موقوف على صحابي حكى عن أقرانه من الصحابة -رضوان الله عليهم- فضلًا، وليس بمسند، ويتوهمه من لا يدري الحديث أنه مسند لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال غير الحاكم: ومنه ما خرجه مالك أن عمر بن الخطاب قال: (لا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها لبول أو غائط)، ولم يقل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أنه قد رفع، وأسند من طريق آخر لرسول الله عليه السلاة. الثانية: قال الحاكم: لا تختلف مشايخ الحديث أن المرسل هو الذي يرويه المحدث بأسانيد متصلة إلى التابعي، فيقول التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول الصحابي: قال: وأصح المراسيل مراسيل سعيد بن المسيب؛ لأنه من أولاد الصحابة أدرك جماعة منهم. الثالثة: المنقطع موضع الإرسال.

الرابعة: المسند. قال الحاكم: هو المتصل العنعنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الخامسة: المسلسل. قال الحاكم: هو السماع الظاهر الذي لا غبار عليه، مثل أن يقول: سمعت فلانًا قال: سمعت فلانًا إلى آخر السند، أو يحكي الرواة فعلًا من الأفعال (ما) يذكره كل منهم عن صاحبه بعينه. كما يقول: قال لي: [أبو منصور] قم فصب علي حتى أريد وضوء منصور، فإن منصورًا قال لي: قم فصب علي حتى أريك وضوء إبراهيم؛ فإن إبراهيم قال لي: قم فصب علي حتى أريك وضوء علقمة؛ فإن علقمة قال لي: قم فصب علي حتى أريك وضوء ابن مسعود؛ فإن ابن مسعود قال لي: قم فصب علي حتى أريك وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لي: قم فصب علي حتى أريد وضوء جبريل -عليه السلام- فقلت لأبي جعفر: كيف توضأ؟ فقال: ثلاثًا ثلاثًا. السادسة: المقطوع.

قلت: قال لي بعض مشايخي الذين اشتغلت عليهم في علم الحديث: المقطوع في التابعين مثل الموقوف في الصحابة، فالمنتهي إلى صحابي، وينسب إليه في ظاهر اللفظ، كما اتفق في حديث عمر المتقدم يسمى موقوفًا، ومثله مع التابعي مقطوعًا، وهو غير المنقطع. فإن المنقطع: ما سكت فيه عن راوٍ تابعي، ورأيت بعضهم يقول: المقطوع أعم من المرسل، وهو ما سكت فيه عن راوٍ مطلقًا، فقد يكون مرسلًا إن كان صحابيًا، وإلا فلا. السابعة: المعضل. قال الحاكم: قال علي بن عبد الله المديني فمن لمن بعده: المعضل هو الذي يكون المرسل إلى رسول الله -عليه السلام- أكثر من رجل، فلا يختص بالتابعين. قلت: وأصل هذه اللفظة المنع، ومنه قوله -تعالى-: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} أي: لا تمنعوهن، ومنه الداء العضال: الذي يمنع الأطباء مداواته لعظمه، وهذا الحديث معضل بفتح الصاد. من قولهم: أعضلني الأمر، وأنا معضل، فالراوي أعضل الحديث نحو: أنهكه المرض، فالراوي مال على الحديث ميلًا كثيرًا بسبب ما أسقط منه في السند. الثامنة: المدرج.

قال الحاكم: هو أن يدرج في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان من كلام الصحابة، كما روى قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من أعتق نصيبًا له في عبد أو شقصًا، فخلاصه عليه في ماله، إن كان له مال، وإلا قوم العبد قيمة عدل ثم استسعى في قيمته غير مشفوق عليه)، فذكر الاستسعاء من قول قتادة، ونحو ذلك. التاسعة: الغريب. قال الحاكم: وهو ينقسم إلى الغريب في الصحيح، وهو أن يكون الرواة في غاية العدالة إلا أنه معنى غريب، كما روي في حديث (الخندق) أنه وجدت فيه كذانة وهي الجبل، فقيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كذانة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رشوا عليها الماء). وإلى الغريب في الشيوخ، كمن يروي عن شيخ على خلاف عادته. وإلى غريب في المتن، مثل أن يكون المتن لذلك الحديث غريبًا.

العاشرة: التدليس. قال الحاكم: التدليس ستة أجناس. الأول: الثقات المدلسون، فيروون عن الثقات، وغرضهم الدعوة إلى الله -تعالى- كما كان سفيان يروي عن جابر، وإنما روايته عن جابر من كتاب سليمان اليشكري. الثاني: قوم يقولون: قال فلان، وإذا نوقشوا وسئلوا: هل سمعته من فلان؟ قال: لا، ولكن أخرج إلي كتابًا، فدفعه إلي. الثالث: من المدلسين قوم يحدثون عن قوم مجهولين، كما حدثنا إسحاق قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا علي، قال: حدثني حسين الأشقر، قال: حدثني شعيب عن أبي بكر بن عبد الرحمن، قال: بت عند علي ... فذكر كلامًا. قال ابن المديني: فحدثني حسين، فقلت له: ممن سمعته؟ قال: حدثني به شعيب عن أبي عبد الله عن أبي بكر بن عبد الرحمن، فقلت لأبي عبد الله: من حدثك به؟ فقال: أبو عبد الله الجصاص. قلت: عمن؟ قال: عن حماد القصار، فلقيت حمادًا، فقلت: من حدثك بهذا؟ فقال: بلغني عن فرقد السبخي فدلس عن ثلاثة. والحديث بعد منقطع. وأبو عبد الله الجصاص مجهول، وكذلك حماد القصار، والذي بلغه مجهول [عن فرقد وفرقد لم يدرك نوفا ولا رآه].

الرابع: قال الحاكم: دلسوا أحاديث عن المجروحين، فغيروا أسماءهم، وكناهم حتى لا يعرفون. الخامس: قال الحاكم: قوم دلسوا عن قوم سمعوا منهم الكثير، وفاتهم اليسير، فيدلسونه. السادس: قال الحاكم: قوم رووا عن شيوخ، ولم يروهم قط، ولم يسمعوا منهم، إنما قالوا: قال فلان، فحمل ذلك عنهم على السماع، وليس عندهم عنهم سماع. الحادية عشرة: سمعت من كنت أجتمع به في علم الحديث يقول: الفرق بين الحسن والصحيح أن الصحيح ما كانت رواته في غاية العدالة، والحسن ما كانت رواته في أول رتبها. فالحسن والصحيح تقوم به الحجة، والصحيح أقوى من الحسن. (مسألة) قال سيف الدين: اختلفوا في خبر الواحد العدل هل يفيد العلم؟ فقيل: يفيده من غير قرينة، وهو مطرد في خبر كل واحد. قاله بعض أهل الظاهر، وهو مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه. وقيل: في بعض الأخبار فقط. قاله بعض أصحاب الحديث. ومنهم من قال: يفيده إذا اقترنت به قرينة، قاله النظام وأتباعه.

(مسألة) قال سيف الدين: إذا سمع الراوي خبرا، فأراد نقل بعضه، وحذف بعضه، فلا يخلو إما أن يكون الخبر متضمنا لأحكام لا يتعلق بعضها ببعض أو ل

وقيل: لا يفيده بقرينة، ولا بغير قرينة. وقيل: يفيد العلم بمعنى أنه يسمى علمًا. والمراد: الظن، كما قال الله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات} [الممتحنة: 10]، أي: ظننتموهن. (مسألة) قال سيف الدين: إذا سمع الراوي خبرًا، فأراد نقل بعضه، وحذف بعضه، فلا يخلو إما أن يكون الخبر متضمنًا لأحكام لا يتعلق بعضها ببعض أو لا. فإن كان الأول جاز، كقوله -عليه السلام: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم؛ لأنه بمنزلة أحاديث متعددة. والأولى نقل الخبر بتمامه، كقوله عليه السلام: (رحم الله امرءًا سمع مقالتي، فأداها كما سمعها). وإن كان الثاني نحو كون الخبر مشتملًا على ذكر غاية، كنهيه -عليه السلام- عن بيع الطعام حتى يحوزه التجار إلى رحالهم، وكنهيه -عليه

السلام- عن بيع الثمار حتى تزهى، أو شرط، كقوله عليه السلام: (من بال أو رعف أو أمذى فليتوضأ وضوءه للصلاة). أو استثناء، كقوله عليه السلام: (لا تبيعوا البر بالبر، إلى قوله -عليه السلام-: (إلا سواء بسواء مثلًا بمثل). فلا يجوز الاقتصار على البعض دون الغاية، والشرط، والاستثناء لما فيه من تغيير الحكم، وتبديل الشرع. ونقل الإمام في (البرهان) عن بعضهم المنع مطلقًا. قال المازري في (شرح البرهان): إذا اقتصر على كلام مفيد، فأربعة أقوال: ثالثها: إن تقدم من الناقل روايته تامًا، أو من غيره جاز، وإلا فلا. ورابعها: إن كان الباقي في تتمة لما قبله، ومتعلقاته، كالشرط ونحوه امتنع، وإلا فلا. وهو الذي عليه الخلاف، ويتعين [.......] لأنه يسد باب القياس عليه، فكأنه خصص العام بفساد نقله. قال: والذي قاله متجه، إذا كان يلزم من ارتفاع العلة ارتفاع الحكم، فلما سكت الراوي عن العلة صار الحكم مؤيدًا.

(مسألة) قال سيف الدين: اتفقت الشافعية، والحنابلة، وأبو يوسف، وأبو بكر الرازي، وأكثر الناس على قبول خبر الواحد فيما يوجب الحد

(مسألة) قال سيف الدين: اتفقت الشافعية، والحنابلة، وأبو يوسف، وأبو بكر الرازي، وأكثر الناس على قبول خبر الواحد فيما يوجب الحد، وما يدرأ بالشبهة خلافًا لأبي عبد الله البصري، وأبي الحسين الكرخي، فقالا: الاحتمال في خبر الواحد شبهة، فيدرأ بالحد، وهو ينتقض بالشهادة، فإنها محتملة، وليس احتمالها شبهة. (مسألة) قال إمام الحرمين في (البرهان): قال الأستاذ أبو إسحاق: المستفيض واسطة بين التوتر والآحاد، وهو ما أفاد العلم بالنظر، والتواتر يفيد العلم بالضرورة. قال إمام الحرمين: وهذا لا يصح؛ فإنا لا نجد نظرًا يؤدي إلى القطع بالصدق، بل لظن الصدق. ومثله الأستاذ بما يتفق عليه أئمة الحديث. (مسألة) قال إمام الحرمين في (البرهان): إذا وجد الناظر حديثًا مسندًا في كتاب مصحح، ولم يسترب في ثبوته، وتبين عدم اللبس فيه، وانتفى الريب، ولم يسمع الكتاب من شيخ، فلا يروه.

(مسألة) قال الإمام في (البرهان): ظاهر مذهب الشافعي أن القراءة الشاذة المنقولة بأخبار الآحاد لا تنزل منزلة خبر الواحد، واحتج به أبو حنيفة

قال: وأرى أنه يتعين عليه العمل به، ولا يتوقف وجوب العمل على المجتهدين على انتظام الأسانيد، بل الثقة؛ لأن الذين كانوا يرد عليهم كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يجب عليهم العمل، ومن بلغه ذلك، وإن لم يسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من مستمعين، ولذلك لو وجد في مسند البخاري حديثًا يثق أنه لم يرتب أنه من النسخة الأصلية؛ لأن المقصود حصول الثقة، وهذا لا يوافق عليه المحدثون؛ فإن فيه سقوط منصب الرواية عند ظهور الثقة، وهم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول. (مسألة) قال الإمام في (البرهان): ظاهر مذهب الشافعي أن القراءة الشاذة المنقولة بأخبار الآحاد لا تنزل منزلة خبر الواحد، واحتج به أبو حنيفة. ولذلك جرى الخلاف بينهم في اشتراط التتابع في كفارة اليمين؛ لأنها قرئت: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات). فنفى الشافعي التتابع، وأثبته أبو حنيفة بهذه القراءة الشاذة. لنا: أن مثل هذا تتوفر الدواعي على نقله لو كان صحيحًا لحملة القرآن، وهذا بخلاف القراءات، فإنها متواترة. قال المازري في (شرح البرهان): أصل المسألة أن القراءة الشاذة هل هي مما يقطع بكذب ناقلها، لكونها تتواتر لتوفر الدواعي على نقلها عادة أم لا؟. ووقع الاتفاق أنها لا تقرأ في المحاريب، ولا تكتب في المصاحف؛ لأن ذلك عنوان الثقة بها، والقطع عليها.

وخبر الواحد لا يوجب القطع، وإنما الخلاف فيها بالعمل بها في الحلال والحرام ونحوهما من الأحكام، قال: ونقل الإمام عن الشافعي، وأبي حنيفة فيه نظر؛ لأن الشافعي جاز أن يعتمد على دليل آخر لا سيما، وقد قال بالعدد في خمس رضعات من حديث عائشة: (إن الرضعات المحرمات كن عشرًا، فنحن بخمس (. فقد عول على قراءة شاذة، وقرآن بأخبار الآحاد. وأما أبو حنيفة: فيحتمل أن سنده دليل آخر أيضًا، ولم يعرج على قراءة ابن مسعود؛ لأنه قد ورد في القرآن اشتراط التتابع في بعض الكفارات كالظهار، والقتل. فلعله حمل المطلق على المقيد، أو القياس. قال الأبياري في (شرح البرهان): القول برد القراءة الشاذة لكذب رواتها لم يقل به أحد، بل أكثر الصحابة نقل القراءة الشاذة غير أنها حروف متباينة. فلو اجتمع أولئك النقلة على حرف واحد كان متواترًا، ونقل الشواذ في الدين والقرآن كنقل شجاعة علي، وسخاء حاتم. واتفق الناس على عدم تكذيب رواة القراءة الشاذة. قال: قال مكي في كتاب (الإبانة): القراءات ثلاثة أقسام: قسم نقرأ به، واجتمع فيه ثلاث خلال: النقل عن الثقات إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

(مسألة) خبر الواحد إذا خالف الأصول، قال القاضي عبد الوهاب في (الملخص: قبله الحنفية، والشافعية، ومتقدمو المالكية

والاتجاه في العربية التي نزل بها القرآن، وموافقته لخط المصحف. فهذا مقطوع به؛ لأخذه عن الإجماع، ويكفر جاحده. وقسم صح نقله ووجهه في العربية، وخالف لفظ المصحف، فيقرأ ولا نقرأ به؛ لعدم الإجماع فيه، وهو من أخبار الآحاد، ولا يثبت قرآن بخبر واحد؛ ولأنه مخالف لما أجمع عليه، فلا نقطع على تعينه وصحته، فلا يكفر جاحده. والقسم الثالث: ما نقله غير ثقة، أو ثقة، ولا وجه له في العربية، فلا يقبل، وإن وافق خط المصحف. (مسألة) خبر الواحد إذا خالف الأصول، قال القاضي عبد الوهاب في (الملخص: قبله الحنفية، والشافعية، ومتقدمو المالكية. وقال أبو الفرج، وأبو بكر الأبهري وغيرهما: قياس الأصول أولى إن تعذر الجمع. وقال عيسى بن أبان: إن كان الراوي مشهورًا بالضبط قدم الخبر، وإلا فقياس الأصول.

(مسألة) قال ابن العربي في (المحصول (: إذا ورد خبر بثبوت مستحيل مضاف إلى الله -تعالى- إن قبل التأويل أول

(مسألة) قال ابن العربي في (المحصول (: إذا ورد خبر بثبوت مستحيل مضاف إلى الله -تعالى- إن قبل التأويل أول، كقوله عليه السلام: (لن تمتلئ جهنم حتى يضع الجبار فيها رجله). يؤول بـ (الرجل) عن الهوان، وإلا رد، كما يروي أن الله -تعالى- خلق خيلًا، فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من عرقها. ولا تقدر الملحدة على اختراع كذب إلا قالته. (مسألة) قال ابن برهان في كتاب (الأوسط): الرواية في النفي عند الشافعي مقبولة، خلافًا للحنفية، كقول الراوي: إنه -عليه السلام- لم يفعل كذا، ولم يقل كذا. قال: ولا بد من تفصيل، فإن كان النفي لا يمكن ضبطه، ومعرفته، كما إذا قال: (ما فعل كذا) لم يقبل، أو يمكن معرفته والإحاطة به قبلت، كما روى أسامة بن زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت، ولم يصل. فيمكن الإحاطة بهذا، وكذلك رواية ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما صلى على شهداء (أحد)، فيمكن ضبطه؛ لأنه قتل أقاربه فيهم. وليس من صورة المسألة قوله -عليه السلام-: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل)، (ولا ربا إلا في النسيئة)، ونحوه. احتجوا بأن الشهادة على النفي غير مقبولة، فكذا الرواية. وجوابه: يمنع الحكم في الأصل؛ لأن النفي المنضبط تسمع الشهادة فيه. قلت: قاعدة النفي ثلاثة أقسام:

(فائدة) قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في (اللمع): أبو بكرة ومن جلد معه في القذف تقبل رواياتهم؛ لأنهم إنما أخرجوا ألفاظهم مخرج الشهادة، وجلده عمر -رضي الله عنه- باجتهاده، فلا ترد روايتهم

معلوم قطعًا كما يعلم أنه ليس يحضر بنا فيل أو شجرة عظيمة. ومظنون ظنًا قويًا لانضباطه غالبًا، كالشهادة على التفليس بعدم المال، وعدم وارث مشارك للورثة الموجودين، فإن الخلطة إذا كثرت أفادت ظنًا قويًا بهذا. والقسم الثالث منتشر لا ضابط له مثل كون زيد لم يبع هذا الدار طول عمره، أو لم يطلق امرأته؛ فإن وقوع ذلك ممكن، من غير أن يطلع عليه الشاهد، فإخباره عن النفي كذب، بخلاف ما إذا أضاف النفي ليوم معين، فإنه يمكن ضبطه بأن يكون عنده، وهو نائم، أو لم يدخل إليه ونحو ذلك. ففي القسمين الأولين تصح الشهادة، والرواية، والقسم الثالث: لا يصحان فيه، وهو المراد بقول العلماء: الشهادة على النفي تسمع. (فائدة) قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في (اللمع): أبو بكرة ومن جلد معه في القذف تقبل رواياتهم؛ لأنهم إنما أخرجوا ألفاظهم مخرج الشهادة، وجلده عمر -رضي الله عنه- باجتهاده، فلا ترد روايتهم. (فائدة) إذا اشترك رجلان في الاسم والنسب، وأحدهما عدل، والآخر فاسق، فإذا روي عن هذا الاسم لم يقبل حتى يعلم أنه عن العدل؛ لاحتمال كونه عن الرجل الآخر. * * *

الكلام في القياس

الكلام في القياس قال الرازي: وهو مرتب على مقدمة وأربعة أقسام أما المقدمة: ففيها مسائل: المسألة الأولى: في حد القياس: أسد ما قيل في هذا الباب؛ تلخيصًا: وجهان: الأول: ما ذكره القاضي أبو بكر، واختاره جمهور المحققين منا: (أنه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما، بأمر جامع بينهما من إثبات حكم، أو صفة، أو نفيهما عنهما). وإنما ذكرنا لفظ (المعلوم): ليتناول الموجود، والمعدوم؛ فإن القياس يجري فيهما جميعًا، ولو ذكرنا الشيء، لاختص بالموجود على مذهبنا، ولو ذكرنا الفرع، لكان يوهم اختصاصه بالموجود. وأيضًا: فلا بد من معلوم ثان يكون أصلًا؛ فإن القياس عبارة عن التسوية، وهي لا تتحقق إلا بين أمرين؛ ولأنه لولا الأصل، لكان ذلك إثباتًا للشرع بالتحكم. وأيضًا: فالحكم قد يكون نفيًا، وقد يكون إثباتًا، وأيضًا: فالجامع قد يكون أمرًا حقيقيًا، وقد يكون حكمًا شرعيًا: وكل واحد منهما قد يكون نفيًا، وقد يكون إثباتًا. هذا شرح هذا التعريف. والاعتراض عليه من وجوهٍ:

أحدها: أن نقول: إن أردت بحمل أحد المعلومين على الآخر: إثبات مثل حكم أحدهما للآخر، فقولك بعد ذلك: (في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما): إعادة لعين ذلك؛ فيكون ذلك تكريرًا من غير فائدة، وإن كان شيئًا آخر، فلا بد من بيانه. وأيضًا: فبتقدير أن يكون المراد منه شيئًا آخر؛ لكن لا يجوز ذكره في تعريف القياس؛ لأن ماهية القياس تتم بإثبات مثل معلوم لمعلوم آخر بأمر جامع، وإذا تمت الماهية بهذا القدر، وكان ذلك المعلوم الزائد خارجًا؛ فلا يجوز ذكره. وثانيها: أن قوله: (في إثبات حكم لهما) مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع مثبت بالقياس؛ وهو باطلٌ؛ فإن القياس فرع على ثبوت الحكم في الأصل، فلو كان ثبوت الحكم في الأصل فرعًا على القياس، للزم الدور. وثالثها: أنه كما يثبت الحكم بالقياس، فقد تثبت الصفة أيضًا بالقياس؛ كقولنا: (الله عالم) فيكون له علمٌ؛ قياسًا على الشاهد، ولا نزاع في أنه قياسٌ؛ لأن القياس أعم من القياس الشرعي، والقياس العقلي، وإذا كان كذلك، فنقول: إما أن تكون الصفة مندرجة في الحكم، أو لا تكون: فإن كان الأول: كان قوله: (بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة أو نفيهما عنه): تكررًا؛ لأن الصفة لما كانت أحد أقسام الحكم، كان ذكر الصفة بعد ذكر الحكم تكرارًا. وإن كان الثاني: كان التعريف ناقصًا؛ لأنه ذكر ما إذا كان المطلوب ثبوت الحكم، أو عدمه، ولم يذكر ما إذا كان المطلوب وجود الصفة، أو عدمها، فهذا التعريف: إما زائدٌ أو ناقصٌ.

ورابعها: أن المعتبر في ماهية القياس: (إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر؛ بأمر جامع) فأما أن ذلك الجامع تارة يكون حكمًا، وتارة يكون صفة، وتارة يكون نفيًا للحكم، وتارة يكون نفيًا للصفة - فذاك إشارة إلى ذكر أقسام الجامع؛ والمعتبر في تحقق ماهية القياس الجامع؛ من حيث إنه جامع، لا أقسام الجامع؛ بدليل أمرين: الأول: أن ماهية القياس قد توجد منفكة عن كل واحد من أقسام الجامع بعينه، وإن كان لا بد لها من قسم ما؛ وما ينفك عن الماهية لا يكون معتبرًا في تحقق الماهية. الثاني: أن الجامع كما ينقسم إلى الحكم والصفة ونفيهما، فكذا الحكم ينقسم إلى الوجوب والحظر وغيرهما؛ والوجوب ينقسم إلى الموسع والمضيق، والمخير والمعين وغيرها، فلو لزم من اعتبار الجامع في ماهية القياس ذكر أقسامه، لوجب من ذكر كل واحد من تلك الأقسام ذكر ما لكل واحد من الأقسام. وخامسها: أن كلمة (أو) للإبهام، وماهية كل شيء معينة؛ والإبهام ينافي التعيين. فإن قلت: (كونه بحيث يلزمه أحد هذه الأمور حكم معين): قلت: فالمعتبر إذن في الماهية ملزوم هذه الأمور، وهو كونه جامعًا؛ من حيث إنه جامع، فيكون ذكر هذه الزوائد لغوًا. وسادسها: هو أن القياس الفاسد قياس، وهو خارج عن هذا التعريف: أما الأول: فلأن القياس الفاسد قياس مع كيفية؛ فيكون قياسًا، وأما الثاني:

فلأن قوله: (بأمر جامع): دليل على أن هذا القائل يعتبر في حد القياس حصول الجامع، ومتى حصل الجامع، كان القياس صحيحًا، فيكون القياس الفاسد خارجًا عنه؛ وإنه غير جائز، بل يجب أن يقال: بأمر جامع في ظن المجتهد؛ فإن القياس الفاسد حصل فيه الجامع في ظن المجتهد، وإن لم يحصل في نفس الأمر. التعريف الثاني: ما ذكره أبو الحسين البصري؛ وهو: (أنه تحصيل حكم الأصل في الفرع؛ لاشتباههما في علة الحكم، عند المجتهد) وهو قريب. وأظهر منه أن يقال: (إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر؛ لأجل اشتباهما في علة الحكم عند المثبت) فلنفسر الألفاظ المستعملة في هذا التعريف. أما الإثبات: فالمراد منه: القدر المشترك بين العلم، والاعتقاد، والظن، سواء تعلقت هذه الثلاثة بثبوت الحكم، أو بعدمه، وقد يطلق لفظ الإثبات، ويراد به الخبر باللسان؛ لدلالته على الحكم الذهني. وأما المثل: فتصوره بديهي؛ لأن كل عاقل يعلم بالضرورة كون الحار مثلاً للحار في كونه حارًا ومخالفًا للبارد في كونه باردًا، ولو لم يحصل تصور ماهية التماثل والاختلافإلا بالاكتساب، لكان الخالي عن ذلك الاكتساب خاليًا عن ذلك التصور؛ فكان خاليًا عن هذا التصديق. ولما علمنا أننا قبل كل اكتساب نعلم بالضرورة هذا التصديق المتوقف على ذلك التصور، علمنا أن حصول ذلك التصور غنى عن الاكتساب. وأما الحكم: فقد مر في أول الكتاب تعريفه.

وأما المعلوم: فلسنا نعني به مطلق متعلق العلم فقط، بل: ومتعلق الاعتقاد، والظن؛ لأن الفقهاء يطلقون لفظ المعلوم على هذه الأمور. وأما العلة: فسيأتي تفسيرها، إن شاء الله تعالى. وقولنا: (عند المثبت) ذكرناه؛ ليدخل فيه القياس الصحيح والفاسد. فإن قيل: هذا التعريف ينتقض بقياس العكس، و (قياس التلازم)، والمقدمتين والنتيجة. أما قياس العكس: فكقولنا: (لو لم يكن الصوم شرطًا لصحة الاعتكاف، لما كان شرطًا له بالنذر؛ قياسًا على الصلاة؛ فإنها لما لم تكن شرطًا لصحة الاعتكاف، لم تكن شرطًا له بالنذر، فالمطلوب في الفرع: إثبات كون الصوم شرطًا لصحة الاعتكاف، والثابت في الأصل: نفى كون الصلاة شرطًا له، فحكم الفرع ليس حكم الأصل، بل نقيضه). وأما قياس التلازم: فكقولنا: (إن كان هذا إنسانًا، فهو حيوان، لكنه إنسان، فهو حيوان، لكنه ليس بحيوان؛ فليس بإنسان). وأما المقدمتان: فكقولنا: (كل جسم مؤلف، وكل مؤلف محدث؛ فكل جسم محدث). فإن قلت: لا أسمي هاتين الصورتين قياسًا؛ لأن القياس عبارة عن التسوية وهي لا تحصل إلا عند تشبيه صورة بصورة، وليس الأمر كذلك في التلازم، وفي المقدمتين والنتيجة. قلت: بل التسوية حاصلة في هذين الموضعين؛ لأن الحكم في كل واحدة

من المقدمتين معلوم، والحكم في النتيجة مجهول، فاستلزام المطلوب من هاتين المقدمتين يوجب صيرورة الحكم المطلوب مساويًا للحكم في المقدمتين؛ في صفة المعلومية. والجواب: أما الشيء الذي سميتموه بـ (قياس العكس) فهو في الحقيقة تمسك بنظم التلازم، وإثبات لإحدى مقدمتي التلازم بالقياس؛ فإنا نقول: (لو لم يكن الصوم شرطًا في صحة الاعتكاف، لما صار شرطًا له بالنذر، لكنه يصير شرطًا له بالنذر، فهو شرط له مطلقًا) فهذا تمسك بنظم التلازم، واستثناء نقيض اللازم لإنتاج نقيض الملزوم، ثم إنا نثبت المقدمة الشرطية بلقياس، وهو أن ما لا يكون شرطًا للشيء في نفسه لم يصر شرطًا له بالنذر؛ كما في الصلاة، وهذا قياس الطرد، لا قياس العكس، وأما الصورتان الباقيتان، فلا نسلم أنه قياس؛ لما بيَّنَّا. قوله: (معنى التسوية حاصل فيه من الوجه المذكور): قلنا: لو كفى ذلك الوجه في إطلاق اسم القياس، لوجب أن يسمى كل دليل قياسًا؛ لأن المتمسك بالنص جعل مطلوبه مساويًا لذلك النص في المعلومية، ولو صح ذلك، لامتنع أن يقال: (ثبت الحكم في محل النص بالنص، لا بالقياس). فإن أردنا أن نذكر عبارة في تعريف القياس؛ بحيث تتناول كل هذه الصور فنقول القياس قول مؤلف من أقوال، إذا سلمت، لزم عنها لذاتها قول آخر. وتحقيق القول في هذا التعريف مذكور في كتبنا العقلية.

المسألة الثانية في الأصل والفرع

المسألة الثانية في الأصل والفرع إذا قسنا الذرة على البر؛ في تحريم بيعه بجنسه متفاضلاً، فأصل القياس: إما أن يكون هو البر، أو الحكم الثابت فيه، أو على ذلك الحكم، أو النص الدال على ثبوت ذلك الحكم. فالفقهاء جعلوا الأصل اسمًا لمحل الحكم المنصوص عليه. والمتكلمون جعلوه اسمًا للنص الدال على ذلك الحكم. أما قول الفقهاء: فضعيف؛ لأن أصل الشيء ما تفرع عنه غيره، والحكم المطلوب إثباته في الذرة غير متفرع على البر؛ لأن البر، لو لم يوجد فيه ذلك الحكم، وهو حرمة الربا، لم يمكن تفريع حرمة الربا في الذرة عليه. ولو وجد ذلك الحكم في صورة أخرى، ولم يوجد في البر، أمكن تفريع حكم الربا في الذرة، عليه. فإذن الحكم المطلوب إثباته غير متفرع أصلاً على البر؛ بل على الحكم الحاصل ف يالبر؛ فالبر إذن لا يكون أصلاً للحكم المطلوب. وأما قول المتكلمين: فضعيفٌ أيضًا؛ من هذا الوجه؛ لأنا لو قدرنا كوننا عالمين بحرمة الربا في البر بالضرورة، أو بالدليل العقلي، لأمكننا أن نفرع عليه حكم الذرة، فلو قدرنا أن النص على حرمة الربا في صورة خاصة، لم يمكن أن نفرع عليه حكم الذرة تفريعًا قياسيًا، وإن أمكن تفريعًا نصيًا. وإذا كان كذلك، لم يكن النص أصلاً للقياس، بل أصلاً لحكم محل

الوفاق؛ ولما فسد هذان القولان، بقى أن يكون أصل القياس هو الحكم الثابت في محل الوفاق، أو علة ذلك الحكم، ولا بد فيه من تفصيل؛ فنقول: الحكم: أصل في محل الوفاق، فرع في محل الخلاف، والعلة: فرع في محل الوفاق، أصل في محل الخلاف. وبيانه: أنا ما لم نعلم ثبوت الحكم في محل الوفاق لا نطلب علة، وقد نعلم ذلك الحكم، ولا نطلب علته أصلاً، فلما توقف إثبات علة الحكم في محل الوفاق على إثبات ذلك الحكم، ولم يتوقف إثبات ذلك الحكم على إثبات علة الحكم في محل الوفاق - لا جرم كانت العلة فرعًا على الحكم في محل الوفاق، والحكم أصلاً فيه. وأما في محل الخلاف: فما لم نعلم حصول العلة فيه، لا يمكننا إثبات الحكم فيه قياسًا، ولا ينعكس؛ فلا جرم كانت العلة أصلاً في محل الخلاف، والحكم فرعًا فيه، وإذا عرفت ذلك، فنقول: إن لقول الفقهاء والمتكلمين وجهًا أيضًا؛ لأنه إذا ثبت أن الحكم الحاصل في محل الوفاق أصل، وثبت أن النص أصل لذلك الحكم، فكان النص أصلاً لأصل الحكم المطلوب، وأصل الأصل أصل، فيجوز تسمية ذلك النص بالأصل على قول المتكلمين. وأيضًا: فالحكم الذي هو الأصل محتاج إلى محله، فيكون محل الحكم أصلاً للأصل، فتجوز تسميته بالأصل أيضًا على ما هو قول الفقهاء، وهاهنا دقيقة؛ وهي: أن تسمية العلة في محل النزاع أصلاً أولى من تسمية محل الوفاق بذلك؛ لأن العلة مؤثرة في الحكم، والمحل غير مؤثر في الحكم، فجعل علة الحكم أصلاً له أولى من جعل محل الحكم أصلاً له؛ لأن التعلق الأول أقوى من الثاني.

شرح القرافى: قال سيف الدين: القياس في اللغة التقدير

وأما الفرع: فهو عند الفقهاء عبارة عن محل الخلاف، وعندنا عبارة عن الحكم المطلوب إثباته؛ لأن محل الخلاف غير متفرع على الأصل، بل الحكم المطلوب إثباته فيه هو المتفرع عليه. وهاهنا دقيقة؛ وهي: أن إطلاق لفظ الأصل على محل الوفاق أولى من إطلاق لفظ الفرع على محل الخلاف؛ لأن محل الوفاق أصل للحكم الحاصل فيه، والحكم الحاصل فيه أصل للقياس؛ فكان محل الوفاق اصل أصل القياس. وأما هاهنا: فمحل الخلاف أصل للحكم المطلوب إثباته فيه، وذلك الحكم فرع للقياس؛ فيكون محل الخلاف أصل فرع القياس، وإطلاق اسم الأصل على أصل أصل القياس أولى من إطلاق اسم الفرع على أصل الفرع. واعلم: أنا بعد التنبيه على هذه الدقائق نساعد الفقهاء على مصطلحهم، وهو أن الأصل محل الوفاق، والفرع محل الخلاف؛ لئلا نفتقر إلى تغيير مصطلحهم. * * * الكلام في القياس قال القرافى: قال سيف الدين: القياس في اللغة التقدير، ومنه: قست الأرض بالقصبة، والثوب بالذراع، أي قدرته بذلك، فهو يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة، فهو نسبة وإضافة بين شيئين، ولهذا يقال: فلان يقاس بفلان، ولا يقاس بفلان، أي: يساويه. قال إمام الحرمين في (البرهان): القياس مناط الاجتهاد، وأصل الرأي، ومنه يتشعب الفقه، وهو المستقل بتفاصيل أحكام الوقائع التي هي

غير متناهية؛ لأن نصوص الكتاب والسنة محصورة، ومواقع الإجماع معدودة متناهية، والوقائع لا نهاية لها، والمختار عندنا أنه لا تخلو واقعة عن حكم شرعي، فالمسترسل على جميعها القياس، فهو أحق الأصول باعتناء الطالب، ومن عرف تقاسيمه، وصحيحه، وفاسده، والاعتراضات عليه، مايصح منها وما يفسد، ومراتبها جلاءً وخفاءً، فقد احتوى على مجامع الفقه. (المسألة الأولى) (في حد القياس) قوله: (في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما). مثالهما: راجح المصلحة، فيباح، راجح المفسدة، فلا يباح. قوله: (بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة). مثالهما: نجس، فيحرم، مسكر، فيحرم؛ لأن النجاسة حكم شرعي، والإسكار صفة حقيقية. قوله: (أو نفيهما عنه). وقع في بعض النسخ: (أو نفيهما عنه)، وفي بعضها: (نفيه عنهما)، والأول الصحيح. تقريره: أن الحكم قد يجمع بثبوته كما تقدم، وقد يجمع بنفيه، كقولنا: ليس بنجس، فيباح بيعه، وكذلك الصفة، كقولنا: ليس بمسكر، فيباح تناوله. قوله: (القياس يجرى ف يالموجود، والمعدوم). مثالهما: منتفع به، فيباح، ليس بعاقلٍ، فلا يصح تصرفه كالصبي؛ فإن الحكم كما يكون وجوديًا يكون عدميًا، كقولنا: لا يصح تصرفه.

والجامع قد يكون وجوديًا، وقد يكون عدميًا، صفة أو حكمًا، فتكون الأقسام ثمانية: وجود الصفة مع وجود الحكم أو عدمه. وعدمها معهما. ووجود الحكم معهما، وعدمه معهما، ومثلهما كما تقدم. قوله: (لو ذكرنا الفرع لأوهم اختصاصه بالموجود). تقريره: أن التفريع أصله من فرع الشجرة، وإنما يتصور ذلك في العالم في شجرة موجودة. وقد يقال: عدم الملزوم متفرع على عدم اللازم، وعدم المشروط متفرع على عدم الشرط، وهو كثير، غير أنه قليل بالنسبة إلى الموجودات، فلذلك قال: (يوهم اختصاصه بالموجود). وأيضًا: يلزم من ذلك الدور؛ لأن الصورة إنما تكون فرعًا إذا تعين لها أصل، فالفرع والأصل فرع القياس، فلو عرف بهما القياس لزم الدور. قوله: (في إثبات حكم لهما). مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع مثبت بالقياس. تقريره: أن اللغة تقتضي أنا متى حكمنا على تثنيةٍ أو جمعٍ أو ضميرٍ، فإن المحكوم عليه كلية لا كل. فإذا قلنا: أكرمتهما، معناه: أكرمت كل واحد منهما، وكذلك أكرمتهم، أو أكرمت الرجال، ولا تريد العرب المجموع المركب الذي هو الكل، وقد تقرر ذلك في (باب العموم). وحينئذ تقتضى هذه العبارة أن يكون الحكم ثابتًا لكل واحد منهما، وهو المدعى. ويرد عليه: أن الكل كما يبطل بعدم الجزء، ويوجد بوجود جميع أجزائه، فكذلك الكلية تعدم بعدم الجزئية، وتوجد عند تكامل جميع الأفراد، فإذا

كان الحكم ثابتًا في بعض الأفراد تكون جزئية، فإذا ثبت في البعض الآخر حصلت الكلية بالجزئية الأخيرة، فكذلك هاهنا، تكمل الكليةُ في الفردين ثبوت الحكم في الفرد الآخر الذي هو الفرع، وكذلك لو جعلنا أن معنى الضمائر والجموع في لسان العرب كلا لا كلية لم يرد السؤال أيضًا، إنما يتجه إذا جعلناه كلية؛ لأن اتحاد المجموع قد يكون باتحاد جزئه الآخر. قوله: (هذا التعريف إما زائد أو ناقص) تقريره: أن الصفة إن أغنى عن ذكرها ذكر الحكم، لزم أن يكون ذكرها في الجامع زيادة في الحد، والحد يصان عن الزيادة؛ لأنها توجب تطويلاً، وقد لا يسع الذهن المعنى الكبير، واللفظ الطويل؛ فيختل الفهم، فيضيع المقصود من الحد. وإن لم يغن ذكر الحكم عن ذكر الصفة - مع أن القياس يدخل في إثبات الصفة - كان نوعًا من القياس لم يتعرض له الحد، فيكون غير جامع، وهو باطل أشد من بطلان الزيادة. قوله: (كلمة (أو) للإبهام فتنافى الحدود؛ لأن المراد بها البيان). قلنا: قد تقدم أول الكتاب في حد الحكم، أن (أو) قد تكون للحكم بالترديد، وقد تكون للترديد في الحكم، والثاني هو المنافى للحدود؛ لأن معناه الشك، بخلاف الأول؛ لأن معناه التنويع، وقد تقدم أن لهذه الكلمة خمسة معان:

أحدها: التنويع كقولنا: العدد إما زوج أو فرد، فلا شك حينئذ في هذه القضية العددية، بخلاف قولنا: جاءني زيد أو عمرو، فالمراد في الحدود إنما هو الحكم بالترديد، لا الترديد في الحكم. غير أنه يبقى سؤال: وهو أن اللفظة إذا كانت لخمسة معانٍ، كانت مشتركة، والمشترك مجمل، والمجمل مخل بالحدود، والحدود للبيان. ويمكن أن يجاب عنه بأن قرينة التحديد تعين التنويع، فلا إجمال مع القرينة، كما نص عليه الغزالي في مقدمة (المستصفى): أن المجاز مع القرينة يجوز في الحدود؛ لحصول المقصود بالقرينة. قوله: (القياس الفاسد قياس مع كيفية). قلنا: لا نسلم؛ فإن الفساد إنما يكون لخلل شرط، أو ركن، وكلاهما يخل ثبوت الماهية، وإذا اختلت الماهية كانت معدومة، فيمتنع قولكم: (إنها ثابت مع صفة الفساد)، بل قولنا: قياس فاسد مثل قولنا: صلاة فاسدة، مع أن الصلاة الشرعية التي هي المطلوبة لا تتحقق مع وصف الفساد، وذلك مجاز توسع؛ لحصول الشبه في الصورة، أو إشارة إلى الصلاة اللغوية، كذلك هاهنا، إما مجاز تشبيه لحصول الشبه في الصورة، أو إشارة إلى القياس اللغوي، وليس هو المقصود بالحد هاهنا.

قوله: (متى حصل الجامع كان القياس صحيحًا). قلنا: ممنوع؛ لأن الفساد قد يكون مع ثبوت الجامع، لكونه على خلاف الإجماع، أو النصوص القطعية؛ لمناسبة الجامع للعكس في المدعى وأسباب الفساد كثيرة في القياس غير عدم الجامع. قوله: (يجب أن يقال: بأمر جامع في ظن المجتهد؛ لأن القياس الفاسد حصل فيه الجامع في ظن المجتهد). قلنا: هذا إنما يستقيم إذا انحصر الفساد في عدم الجامع، وليس كذلك كما تقدم، بل نقول غير هذا التقرير وهو: أن ربا الفضل اختلف العلماء في علته على مذاهب: الطعم، والكيل، والاقتيات، والمالية، والجنس، وغير ذلك من المذاهب.

................................................................................................

.................................................................................................

...............................................................................................

(سؤال) قياس لا فارق يرد على حد القياس؛ فإنه ليس فيه جامع

واتفق الناس على أنها إذا قيس بها كلها أقيسة، وليس تعيين بعضها للصحة أولى من الآخر، فيتعين أن نقول: (في ظن المجتهد)؛ لندرج فيه هذه الأقيسة. (سؤال) قياس لا فارق يرد على حد القياس؛ فإنه ليس فيه جامع. (سؤال) قال النقشواني: سؤال المصنف الأول غير وارد؛ لأن الحمل كالجنس، فقد يكون في الحكم الثابت الآخر، وقد يكون في غيره، بل الحمل هو التسوية، وقد يكون في حكم شرعي، أو عقلي، أو صفة حسية، أو غير حسية، أو عدم هذه الأشياء، والمطلوب هاهنا إنما هو الحكم الشرعي، فلذلك حسن أن يقال بعد ذكر الحمل: (في إثبات حكم الفرع) حتى يندفع عنه إيهام إثبات الحكم في الأصل بالقياس. وأجاب عنه: بأن المقصود التسوية التي هي معنى القياس، والتسوية إنما تكون بين شيئين؛ فلذلك ذكرهما. (تنبيه) قال التبريزي: المراد بـ (الحمل) اعتقاد استواء أحد المعلومين

بالآخر في معنى، وهذا إطلاق يحتاج إلى تفصيل، وتفصيله: (في إثبات حكم لهما)، ثم لا يتضمن ذلك ثبوت حكم الأصل بالقياس، بل الحمل في الإثبات غير الإثبات، ويجوز أن يخلو عن الإثبات في نفس الأمر؛ فإن المفهوم منه هو التسوية في استحقاق الثبوت لا غير، ثم إذا دل دليل الإجماع على تحقق الثبوت فيما هو الأصل لزم منه الثبوت فيما هو الفرع؛ وفاءً بمقتضى التسوية، ولفظ الحكم يتناول كل حكم، وإن كان صفةً حقيقية، فكونه صفةً لا يخرجه عن كونه حكمًا عند الإطلاق، فإذا استعمل في المقابلة اختص بأحد القبيلين، كلفظ الفعل، والنص، والمفهوم في تناول القول، والظاهر، والمنطوق، ثم إذا لم يكن تكرارًا فلا شك أنه زيادة على الماهية، لكن قصد به الإيضاح؛ لأنه قد يفهم من الجامع كونه صفة ثبوتية كالعلل العقلية، وبه يندفع الإشكال الخامس. وأما القياس الفاسد فمندرج لأن الجامع أعم من كونه علة، أو دليلاً، أو شرطًا، أو حقيقة، ومهما خرج الجامع عنها فالقياس فاسد، ولا يجوز أن يقال فيه: (في ظن المجتهد)؛ لوجهين: أحدهما: أن كونه جامعًا في نفسه، أو في ظن المجتهد. الثاني: أنه يلزم من هذا التقييد أن يخرج المحقق وجوده، والمحقق انتفاؤه، كما لو قال في الأكل: عبادة مفتقرة إلى النية ككنايات الطلاق، ولفظ القياس يشمله؛ إذ الاعتبار بالصورة والتركيب لا بصحة المواد، وإلا لاختص اسم القياس باسم الصحيح منه. قلت: قوله: (كلفظ الفعل، والنص، والمفهوم). معناه: أن لفظ الفعل يتناول القول؛ لأنه جعل باللسان، فيتناول الظاهر والمنطوق، وكذلك النص مأخوذ من الظهور، فيتناول الظاهر والمنطوق لما

فيها من الظهور، والمفهوم هو الذي أدركه الفهم، وهو يتناول: القول، والظاهر، والمنطوق؛ لأنها أمور معقولة مفهومة. قوله: (الجامع أعم من كونه علة، أو دليلاً، أو شرطًا، أو حقيقة). معناه: أن هذه هي الجوامع الشرعية والعقلية في أصول الدين. فالجمع بالعلة، كقولنا: علة العالمية في الشاهد العلم، والله - سبحانه - عالم، فيكون له علم؛ عملاً بتحقق المعلوم المستلزم لحصول العلم. وبالدليل، كقولنا: الاتفاق في الشاهد دليل العلم، والله - تعالى - أفعاله متقنة، فيكون عالمًا؛ عملاً بالدليل العقلي. وبالشرط، كقولنا: العلم في الشاهد مشروط بالحياة، والله - تعالى - عالم فيكون حيًا. وبالحقيقة، كقولنا: حقيقة المريد من قامت به الإرادة، والله - تعالى - مريد، فيكون له إرادة. وقوله: (المحقق ثبوته، والمحقق انتفاؤه). يريد: المحقق في نفس الأمر الذي غفل عنه المجتهد، فالمحقق ثبوته، كقولنا في الطلاق: إنه لا يخل بالعصمة، فلا يفتقر إلى النية كالأكل؛ فإن الواقع في نفس الأمر ثبوت كونه مخلاً بالعصمة. وقوله في الأكل الذي مثل به: (الواقع أنه ليس بعبادة، فهو مثل المنفى)، ولم يمثل الثابت. ولقائل أن يمنعه [أن الجامع إذا عرى عن نفس المجتهد أن يكون فيما لا يجوز أن يقال: (في ظن المجتهد)؛ لأن كونه جامعًا أعم من كونه في نفسه أو في ظن المجتهد، ولقائل وأن يمنعه] ذلك؛ لأن القياس إذا عرى عن نفس المجتهد لا يسمى قياسًا في العرف، ونحن إنما حددنا القياس في عرف الأصوليين الذي هو التسوية الخاصة، أما ما لم يتعرض إليه بالتسوية، ولا بالتقدير، فلا نسلم أنه قياس.

(التعريف الثاني) قوله: (إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر)

قوله: (ويخرج عنه المحقق أيضًا). معناه: يخرج عنه المعلوم الثبوت؛ فإن الظن لا يتناول العلم، والجامع قد يكون معلومًا، كقولنا في العبد: إنه آدمى؛ فتجب ديته كالحر، أو متمول فتجب قيمته كالفرس. (التعريف الثاني) قوله: (إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر): تقريره: أن حكم الله - تعالى - هو خطابه الذي له تعلق بالفعل، أو الترك، أو التسوية، فلا تتحقق حقيقة الحكم إلا بالتعلق، وهو نسبة بين الفعل والكلام النفسي، فالنسبة بين الكلام والأصل، غير النسبة بين الكلام والفرع، ولذلك نقول: إنَّ علم الله - تعالى - واحد، وله بكل معلوم تعلق خاص، ونسبة خاصة، فإذا كانت النسبة متعددة، فالحكم هو الكلام مع تلك النسبة، والمركب من الحقيقة الواحدة التي هي الكلام، والمتعددات التي هي التعلقات متعددة، فيكون كلام الله - تعالى - بقيد تعلقه بالصورة المعينة غير كلام الله - تعالى - المتعلق بالصورة الأخرى، فصحت النكتة بهذا الطريق. قوله: (ينتقض بقياس العكس):

تقريره: أنه سمى عكسًا؛ لأنك تقيس فيه نقيض مطلوبك، ومطلوبك الذي هو مناقض لما قسته؛ فإن مطلوبك إثبات شرطية الصوم في الاعتكاف، وأنت تقيس عدمها. ووجه وروده: أن حكم الأصل والفرع يختلف عندك في نفس الأمر،

(فائدة) قال أبو الحسن البصري في كتابه الذي صنفه في القياس خاصة، وسماه كتاب (القياس)

وأنت اشترطت التسوية، فقد وجد المحدود بدون الحد، فيكون الحد غير جامع. (فائدة) قال أبو الحسن البصري في كتابه الذي صنفه في القياس خاصة، وسماه كتاب (القياس): قياس العكس هو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع باعتبار على. وقياس الطرد: إثبات حكم الأصل في الفرع؛ لاجتماعهما في علة الحكم.

(فائدة) قوله: (ينتقض بالمقدمتين والنتيجة)

قوله: (وقياس التلازم). تقريره: أن كل ما حسن فيه (لو) فهو ملزوم، وما حسن فيه (إلا) فهو لازم، كقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22]. والملزوم له نقيضان: وجود، وعدم. واللازم له نقيضان: وجود، وعدم، فهي أربعة: اثنان منتجان، واثنان عقيمان. فالمنتجان: وجود الملزوم، وعدم اللازم، كقولنا: لو كان العدد عشرة لكان زوجًا، لكنه ليس بزوج، فلا يكون عشرة. والعقيمان: عدم الملزوم، ووجود اللازم، كقولنا: ليس بعشرة لا يقتضى أنه زوج؛ لاحتمال أن يكون خمسة، ولا غير زوج؛ لاحتمال كونه ثمانية، وكلاهما غير عشرة. ووجود اللازم، كقولنا: لكنه زوج، فلا يفيد أنه عشرة؛ لاحتمال كونه ثمانية، ولا غير عشرة؛ لاحتمال كونه عشرة. فقياس التلازم الصحيح، هو القسمان المنتجان، والفاسد هو العقيمان، أو تكون أصل الملازمة بينهما باطلة. (فائدة) قوله: (ينتقض بالمقدمتين والنتيجة): قال الأدباء: النتيجة لحن، وإنما هي المنتوجة. تقول العرب: نتج الشيء كذا، فهو (كذا) منتوج، ونتجت الناقة ولدها، فالناقة منتوجة، وولدها منتوج، وفعله دائمًا مبنى لما لم يُسم فاعله

(قاعدة) النذر لا يؤثر إلا في نقل المندوبات إلى الواجبات كما تقرر في الفقه

ثلاثيًا، كذلك حكاه ثعلب، في (الفصيح)، وابن قوطية في كتاب (الأفعال) وغيرهما. ونقل ابن قوطية لغة شاذة: (أنتجت الناقة) على البناء للفاعل، فعلى هذا - أيضًا - يكون الولد منتجًا، مثل أكرمه فهو مكرم، و (نتيجة) فعيلة إنما تكون من مفعول كـ (قتيلة) [بمعنى مقتولة، و (جريحة) بمعنى مجروحة]. قوله: (لو لم يكن الصوم شرطًا لصحة الاعتكاف ولا صار شرطًا بالنذر). تقريره: قاعدة: أن الفعلين قد يكونان مطلوبين للشرع في أنفسهما، ولا يكون الجمع بينهما مطلوبًا، وقد يكون الجمع بينهما مطلوبًا. فالأول: كقراءة القرآن، والركوع، مطلوبان في أنفسهما، والجمع بينهما منهى عنه؛ لقوله عليه السلام: (نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا). والثاني: كالدعاء، والسجود، فإنهما مطلوبان في أنفسهما، والجمع بينهما مطلوب؛ لقوله عليه السلام: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم). (قاعدة) النذر لا يؤثر إلا في نقل المندوبات إلى الواجبات كما تقرر في الفقه، فإذا لم يكن الفعل مطلوب الوجود على وجه الندب لا يؤثر النذر فيه.

إذا تقررت القاعدتان فنقول: لو لم يكن الجمع بين الصوم والاعتكاف مطلوبًا للشارع، لما وجب الجمع بينهما إذا نذر ذلك، كما لو نذر الجمع بين الصلاة والصوم؛ فإنه لا يجب؛ لأن الجمع بين الصلاة والصوم غير مطلوب، بل المطلوب كل واحد منهما من حيث هو هو، فهذا تقرير هذا التلازم وهذا القياس. فجعلنا عدم لزوم الجمع بين الاعتكاف والصوم لازمًا لعدم كونه مطلوبًا في أصل الشرع، وهذا العدم منفى الذي هو اللازم؛ للاتفاق على لزوم الجمع بالنذر في الاعتكاف والصوم، فيبقى ملزومه، وهو عدم كونه مطلوبًا في أصل الشرع حالة عدم النذر، فاللازم والملزوم هاهنا عدميان، والملازمة تقع على أربعة أقسام: اللازم والملزوم عدميان كما تقدم، ووجوديان، كقولنا: (لو كان العدد عشرة لكان زوجًا)، والملزوم وجودىّ واللازم عدمىّ، كقولنا: (لو كان العدد عشرة لم يكن فردًا)، وعكسه كقولنا: (لو لم يكن العدد زوجًا لكان فردًا. هذا تقرير هذا الموضع) ويرد عليه أن إذا سلم هذا البحث ينتج أن الجمع بينهما مطلوب، لكن الطلب قد يكون على وجه الندب، والخصم يقول به، ومقصود المستدل إنما هو الوجوب، وهو غير لازم من هذا البحث، ولا يمكن المستدل أن يقول: إذا ثبت النذر ثبت الوجوب؛ لأنه لا قائل بالفرق؛ لأن الخصم قائل بالفرق، وهو الندب دون الوجوب، ولو أنه إلا للخروج من الخلاف على سبيل الورع. قوله: (ما لا يكون شرطًا للشيء في نفسه لا يصير شرطًا له بالنذر): قلنا: ممنوع، بل يكون مندوبًا ليس بشرط، فإذا نذر انتقل من الندب للوجوب كما تقرر في الفقه. قوله: (وهذا قياس الطرد لا قياس العكس). تقريره: أن مطلوب المستدل في هذا المقام إنما هو عدم لزومه بالندب،

(سؤال) قال سيف الدين: يرد على الحد إشكال لا محيص عنه، وهو أن الحكم في الفرع نفيا أو إثباتا متفرع على القياس إجماعا

لتثبت الملازمة، وقد قاسه على العدم في صورة الإجماع، فاستوت الصورتان عنده في مطلوبية العدم، وكان قياس الطرد. قوله: (القياس قول مؤلف من أقوال إذا سلمت لزم عنها قول آخر): تقريره: أن المراد بالأقوال أقل الجمع اثنان؛ لأن القياس، أعنى الدليل، أقل ما يكون من مقدمتين لا يمكن الزيادة عليهما، ولا النقصان عنهما، كما تقرر أول الكتاب في البحث في النظر. والبحث مفرع على أحد المذهبين في أن أقل الجمع اثنان. والمراد بالقول الآخر: النتيجة، كقولنا: (كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، فكل إنسان جسم)، فالذي تدخل عليه الفاء هو النتيجة، وهو لازم عن المقدمتين الأوليين. وإذا تقرر هذا في القياس المنطقي، اندرج القياس الشرعي؛ فإنه لا بد فيه من ثبوت الثلاثة، فاندرج في هذا الحد جميع صور الأقيسة والأدلة، وهو المطلوب. (سؤال) قال سيف الدين: يرد على الحد إشكال لا محيص عنه، وهو أن الحكم في الفرع نفيًا أو إثباتًا متفرع على القياس إجماعًا، وليس هو ركنًا في القياس؛ لأن نتيجة الدليل غير الدليل، ولا يكون ركنًا منه لما فيه من الدور، فيلزم من أخذ إثبات الحكم ونفيه في الفرع في حد القياس أن يكون ركنًا في القياس، وهو دور، وقد أخذه في حد القياس، حيث قال: (في إثبات حكم لهما) أو (إثبات حكم معلوم لمعلوم).

(المسألة الثانية) (في الأصل والفرع)

قال (بل المختار أنه عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في العلة المستنبطة من حكم الأصل): قلت: هول سيف الدين في هذا السؤال، وهو غير واردٍ؛ لأن التعريف يكون بالحدود تارة، وبالرسوم أخرى، وهو الغالب في هذه المواطن، والتعريف بالرسم هو التعريف باللوازم الخارجية، وغاية النتيجة والمسبب أن يكون خارجًا لازمًا، فالتعريف بالنتيجة تعريف بما هو لازم، فلا دور، إنما يلزم الدور إذا كان هذا التعريف من باب الحدود؛ فإن التعريف حينئذ يكون بالأركان كما قال، فتكون الحقيقة متوقفة عليه، وهو غير متوقف عليها، والنتيجة إن توقفت على القياس فهي لازم خارجي، واللازم الخارجي يكون متوقفًا على الملزوم، ويصح التعريف به، كما تقول في الإنسان: إنه الضاحك، مع أن قوة الضحك متوقفة على وجود الإنسان، وكذلك الكاتب، وسائر الرسوم من هذا النوع، فسؤاله مبنىُّ على أن التعريف وقع بالحد، لا بالرسم، وهو ممنوع، بل بالرسم، وهو صحيح كما تقرر. قال إمام الحرمين في (البرهان): هذا التعريف رسم، وكيف يستقيم أن يكون حدًا، وقد جمع فيه بين النفي والإثبات، والنفي لا يكون ركنًا، ولا جزءًا من الموجود؟. (المسألة الثانية) (في الأصل والفرع) قوله: (تسمية العلة في محل النزاع أصلاً، أولى من تسمية الحكم في الوفاق أصلاً؛ لأا العلة مؤثرة في الحكم، والمحل غير مؤثر فيه):

(تنبيه) قال التبريزي: قوله: (الحكم أصل في محل الوفاق فرع في محل الخلاف)

تقريره: أنه قد وقع في بعض النسخ (محل الحكم) قبل ذكر (الحكم)، وهو الذي ينتظم مع تعليله، لقوله: (المحل غير مؤثر). وفي بعض النسخ: (الحكم) من غير ذكر (محله)، وهو مشكل غير متجه مع بقية كلامه. قوله: (وإطلاق الأصل على أصل أصل القياس، أولى من إطلاق اسم الفرع على أصل الفرع): تقريره: أن أصل القياس لما كان أصل أصل القياس صار أصلاً من وجهين: من جهة أنه أصل، ومن جهة أنه فرع أصل، فتكررت فيه الأصالة. وأما الصورة المقيسة التي تسمى فرعًا - وهي أصل الحكم المتفرع على حكم الأصل فهي فرع أصل فرع، فلم تتكرر فيها الفرعية، كما تكررت الأصلية في الجهة الأخرى، فضعفت فرعيتها، وقويت أصلية ذلك الأصل، وهذه الإطلاقات تتخرج على الخلاف الذي حكاه فيما هو المسمى بالأصل والفرع، هل هو محل الحكم، أو غيره؟ (تنبيه) قال التبريزي: قوله: (الحكم أصل في محل الوفاق فرع في محل الخلاف) إلى آخره، ذهاب عظيم عن مقصود البحث؛ إذ ليس المقصود

(فائدة) قال سيف الدين: يطلق الأصل على أمرين

بيان ما يصح أن يسمى أصلاً في الجملة؛ فإن ذلك معلوم، وله اعتبارات، فالنص أصل باعتبار، والحكم أصل باعتبار، والعلة أصل باعتبار، ولكن المطلوب بيان الأصل الذي يقابل الفرع في التركيب القياسي، ولا شك بهذا الاعتبار أنه محل الحكم الثابت بنص، أو إجماع، كما قاله الفقهاء. ولهذا كان حد القياس: (حمل معلوم على معلوم) نعني به: الفرع، والأصل، ولا يمكن تفسير المعلوم الثاني بالنص، ولا بالعلة، ولا بالحكم، وعن هذا قالوا: فلا بد من معلوم ثانٍ؛ ليكون أصلاً، وأبدلوا في اختصار التعريف لفظ (المعلوم) بالفرع والأصل، فقالوا: القياس: (رد فرع إلى أصل) هكذا. واشتهر في لسان النظار: لا نسلم الحكم في الأصل، ولا نسلم وصف العلة في الفرع، وكل ذلك إشارة إلى ما ذكرناه، ويقولون في الاستعمال: قياسًا على البر، قياسًا على الخمر. (فائدة) قال سيف الدين: يطلق الأصل على أمرين:

الأول: ما يبنى عليه غيره، كقولنا: معرفة الله - تعالى - أصل معرفة الرسالة. الثاني: ما عرف بنفسه من غير افتقار لغيره، وإن لم يبن عليه غيره، كقولنا: تحريم الربا في النقدين أصل، وإن لم يبن عليه غيره، وهذا منشأ الخلاف في أصل القياس بين الخمر والنبيذ، هل الأصل الخمر، أو النص، أو الحكم الثابت في الخمر؟ واتفق الكل على أن العلى ليست أصلاً، والأشبه مذهب الفقهاء أن المحل هو الأصل؛ لافتقار الحكم والنص إليه من غير عكسٍ. * ... * ... *

شرح القرافى: قوله: (إلغاء الفارق يسميه الغزالي تنقيح المناط)

المسألة الثالثة قال الرازي: إذا اعتقدنا كون الحكم في محل الوفاق معللاً بوصف، ثم اعتقدنا حصول ذلك الوصف بتمامه في محل النزاع - حصل، لا محالة، اعتقاد أن الحكم في محل النزاع مثل الحكم في محل الوفاق، فإن كانت المقدمتان قطعيتين، كانت النتيجة كذلك، ولا نزاع بين العقلاء في صحته. أما إذا كانتا ظنيتين، أو كانت إحداهما فقط ظنية، فالنتيجة تكون ظنية، لا محالة، وهذا: إما أن يكون في الأمور الدنيوية، أو في الأحكام الشرعية، فإن كان في الأمور الدنيوية، فقد اتفقوا على أنه حجة. وأما في الشرعيات: فهو محل الخلاف، والمراد من قولنا: (القياس حجة): أنه إذا حصل ظن أن حكم هذه الصورة مثل حكم تلك الصورة، فهو مكلف بالعمل به في نفسه، ومكلف بأن يفتى به غيره. واعلم: أن الجمع بين الأصل والفرع، تارة يكون بإلغاء الفارق، والغزالي يسميه تنقيح المناط. وتارة باستخراج الجامع، وهاهنا لا بد من بيان أن الحكم في الأصل معلل بكذا، ثم من بيان وجود ذلك المعنى في الفرع، والغزالي يسمى الأول: تخريج المناط، والثاني: تحقيق المناط. * * * المسألة الثالثة قال القرافى: قوله: (إلغاء الفارق يسميه الغزالي تنقيح المناط):

تقريره: أن لنا تنقيح المناط، وتحقيق المناط، وتخريج المناط.

والمناط هو: العلة، لأنه اسم مكان من النياطة، وهي التعليق، كما قال حسان بن ثابت [الطويل]: وأنت زنيم نيط في آل هاشم .... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد أي كما علق القدح خلف الراكب. وقال حبيب [الطويل]: بلاد بها نيطت على تمائمي .... وأول أرض مس جلدي ترابها أي علقت على حروزي التي فيها الرقاء والعود. وناط عكس ماط: فناط إذا علق، وماط إذا طرح، ومنه: أماط الله عنك الأسوأ، أي: أزالها. و (تنقيح المناط) فيه مذهبان: قال الغزالي: هو إلغاء الفارق، كقولنا: لا فارق بين الأمة والعبد في إزالة ضرر العتق بالتشقيص، فتقوَّم الأمة على الشريك، كما يقوم العبد الذي هو مورد النص؛ فإن قوله عليه السلام: (من أعتق شركًا له في عبد) لا يتناول الأمة، فلا فارق بين العبيد والإماء في تشطير الحدود،

فيشطر عليهم قياسًا على الإماء التي ورد النص فيهن، وهو قوله تعالى: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}. وقال الحصكفى، والتبريزي، وغيرهما من الجدليين: هو تعيين وصف للعلة من أوصاف مذكورة في دليل الحكم، كما في الحديث: أن الأ'رابي كان يضرب صدره، وينتف شعره، ويقول: (هلكت وأهلكت، واقعت أهلي في نهار رمضان)، فهذه عدة أوصاف مذكورة يتعين منها الجناية على الصوم، فهذا تنقيح المناط؛ لأنه تعيين العلة من أوصاف مذكورة. وتحقيق المناط هو: أن يتفق على علة، ويطلب تحقيقها في صورة النزاع،

(فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): اختلف في الإلحاق بنفي الفارق هل هو قياس أم لا؟ كإلحاق الأمة بالعبد في تقويم العتق

كما يتفق على أن القوت المعين - غالبًا - هو علة الربا، ويبحث في التين، هل هو كذلك أم لا؟. وتخريج المناط هو: تعيين العلة من أوصاف غير مذكورة في نص الحكم، كقوله عليه السلام: (لا تبيعوا البر بالبر إلا مثلاً بمثلٍ)، فننظر نحن في أوصافه التي لم ترد في الحديث، من الطعم، والقوت، والجنس، والمالية، وغير ذلك مما قال به العلماء، ونعين منها وصفا علة، فهذا هو تخريج المناط؛ لأنا أخرجناه من غيب، بخلاف تنقيح المناط، إنما هو اختيار في موجود، فليس فيه إخراج، فهذه هي الفروق والخلاف في هذه المواطن. (فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): اختلف في الإلحاق بنفي الفارق هل هو قياس أم لا؟ كإلحاق الأمة بالعبد في تقويم العتق. (فائدة) قال المصنف: (إلغاء الفارق تنقيح المناط عند الغزالي)، والذي قاله الغزالي في (المستصفى) أن تنقيح المناط تعيين العلة من أوصاف مذكورة، ومثله بحديث الأعرابي؛ فإن تعيين العلة فيه بإفساد الصوم هو تنقيح المناط. ومثل تخريج المناط بتعيين العلة من أوصاف غير مذكورة، ومثله بتعيين على تحريم الخمر. وتحقيق المناط بطلب المناط المتفق عليه في صورة النزاع، ولم أجد الغزالي خالف الجماعة في الاصطلاح، كما تقدمت الحكاية عنهم، وما أدري كيف هذا النقل.

(فائدة) قال سيف الدين: للقياس عشرة شروط

(فائدة) قال سيف الدين: للقياس عشرة شروط: الأول: أن يكون الحكم شرعيًا. الثاني: أن يكون ثابتًا غير منسوخ حتى يمكن التفريع عليه. الثالث: ألا يكون حكم الأصل متفرعًا على أصل آخر، قاله أكثر الشافعية والكرخي خلافًا للحنابلة، وأبي عبد الله البصري.

لنا: أن العلة الجامعة إن كانت واحدة في الجميع، فالأصل هو الأول لا الثاني، والزيادة تطويل بغير فائدة، كقولنا في قياس التفاح على السفرجل، والسفرجل على البر. وإن كانت غير الأخرى، امتنع القياس، كما نقول في الجذام: إنه سبب يثبت الفسخ به في البيع، فيثبت به الفسخ في النكاح: كالرتق، والقرن مع أنهما مقيسان على الجب والعنة بواسطة منع الاستمتاع. الرابع: أن يكون دليل الحكم شرعيًا، وإلا لما كان الحكم شرعيًا. الخامس: ألا يكون حكم الأصل تعبديًا. السادس: أن يكون متفقًا عليه، وهل بين الأمة أو بين الخصمين؟ خلاف، والثاني يسمى قياسًا مركبًا، والقياس المركب أن يكون الحكم في الأصل غير منصوص عليه، ولا مجمع عليه بين الأمة، وهو قسمان: الأول: مركب الأصل، والثاني: مركب الوصف. أما مركب الأصل: فهو أن يعين المستدل علة في الأصل ويجمع بها، فيعين المعترض علة أخرى، كقولنا في قتل الحر بالعبد: عبدٌ، فلا يقتل به الحر كالمكاتب والمكاتب غير منصوص عليه، ولا مجمع عليه بين الأمة؛ لاختلاف الناس في وجوب القصاص على قاتله، إنما هو متفق عليه بين الشافعي وأبي حنيفة، فللحنفي أن يقول: العلة في المكاتب جهالة المستحق من السيد أو الورثة، فسمى مركبًا لاختلاف الخصمين في علة الأصل، قاله بعضهم، وليس كذلك، وإلا لكان كل قياس اختلف في علة أصله، وإن كان منصوصًا عليه، أو متفقًا عليه بين الأمة - مركبًا، وليس كذلك، بل سمى مركبًا لاختلاف الخصمين في تركيب الحكم على أي العلتين.

وأما مركب الوصف فهو: ما وقع الاختلاف فيه في وصف المستدل، هل له وجود في الأصل أم لا؟ كما في تعليق الطلاق بالنكاح تعليق، فلا يصح قبل النكاح، كما لو قال: زينب التي أتزوجها طالق، يقول السائل: لا أسلم وجود التعليق في الأصل، بل تنجيز، فإن سلمته، قلت: يلزمه الطلاق، ولا إجماع فيه، ولا نص يمنع من منع الحكم، وسمى مركب الوصف؛ لأنه خلاف في نفس الوصف الجامع. إذا تقرر معنى القياس المركب وأقسامه، فالناظر إن كان المجتهد، وله مدرك في ثبوت حكم الأصل سوى النص والإجماع. فالقياس صحيح؛ لأنه إذا غلب على ظنه صحة القياس، فلا يكابر نفسه فيما يوجبه ظنه، وإن لم يكن له مدرك سوى النص والإجماع تعذر القياس؛ لتعذر إثبات حكم الأصل. وإن كان الناظر في ذلك مناظرًا لا مجتهدًا، فالمختار في إبطال ما يعارض به الخصم في القسم الأول من التركيب، وتحقيق وجود ما يدعيه في الأصل في القسم الثاني منه - إنما هو التفصيل، وهو أن الخصم إما أن يكون مجتهدًا أو مقلدًا، فإن كان مجتهدًا وظهر في نظره إبطال المدرك الذي بنى عليه حكم الأصل، فله منع حكم الأصل، فيبطل القياس، أو مقلدًا فليس له منع الحكم في الأصل، وتخطئةُ إمامه فيه؛ بناء على عجزه عن تمشيه الكلام مع المستدل؛ لاحتمال أن يكون ما يمشيه ليس هو المدرك عند إمامه. السابع: ألا يكون الدليل الدال على ثبوت حكم الأصل دالاً على ثبوت حكم الفرع، وإلا لما كان جعل أحدهما أصلاً والآخر فرعًا أولى من العكس.

فرع قال سيف الدين: اختلف الشافعية والحنفية هل حكم الأصل ثابت بالعلة

فرع قال سيف الدين: اختلف الشافعية والحنفية هل حكم الأصل ثابت بالعلة، وهو قول الشافعية؟، أو بالنص وهو قول الحنفية؟. احتجوا بأن الحكم في الأصل مقطوع به، والعلة المستنبطة منه مظنونة، فلا تفيد القطع؛ ولأنها فرع عنه فلا يثبت، ولأنه قد يثبت بغير علة. والجواب: أنا لا نريد بأنه ثابت بها أنها معرفة بالقياس السائل أن الحكم شرع لأجلها، فالخلاف لفظي. الثامن: خلو الفرع عن معارض راجح على العلة، على القول بجواز تخصيص العلة. التاسع: مماثلة حكم الأصل في عينه، كوجوب القصاص في النفس المشترك بين المثقل والمحدد، أو جنسه كإثبات الولاية على الصغيرة في النكاح كما في مالها، فالمشترك إنما هو جنس الولاية لا عينها، فإن خرج عن القسمين بطل القياس. العاشر: ألا يكون حكم الفرع متقدمًا على حكم الأصل، كقياس الوضوء على التيمم في الافتقار إلى النية؛ لأنه يلزم منه أن يكون الحكم ثابتًا في الفرع قبل كون العلة الجامعة في قياسه جامعة، إلا أن يكون ذلك على سبيل الإلزام للخصم، واشترط قوم أن يكون حكم الفرع ثابتًا بالنص إجمالاً لا تفصيلاً، وهو باطل؛ لأن الصحابة قاسوا قوله: (أنتِ علىَّ حرام) على الطلاق، واليمين، والظهار، وليس في الفرع نص، لا جملة ولا تفصيلاً. * ... * ... *

القسم الأول قال الرازي: في إثبات أن القياس حجة اختلف الناس في القياس الشرعي، فقالت طائفة: العقل يقتضى جواز التعبد به في الجملة، وقالت طائفة: العقل يقتضي المنع من التعبد به. والأولون قسمان: منهم من قال: وقع التعبد به، ومنهم من قال: لم يقع. أما من اعترف بوقوع التعبد به: فقد اتفقوا على أن السمع دل عليه، ثم اختلفوا في ثلاثة مواضع: أحدها: أنه، هل في العقل ما يدل عليه؟ فقال القفال منا، وأبو الحسين البصري - من المعتزلة -: العقل يدل على وجوب العمل به. وأما الباقون منا، ومن المعتزلة: فقد أنكروا ذلك. وثانيها: أن أبا الحسين البصري زعم أن دلالة الدلائل السمعية عليه ظنية، والباقون قالوا: قطعية. وثالثها: القاشاني والنهرواني ذهبا إلى العمل بالقياس في صورتين: إحداهما: إذا كانت العلة منصوصة بصريح اللفظ، أو بإيمائه: والثانية: كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف. أما جمهور العلماء فقد قالوا بسائر الأقيسة. وأما القائلون بأن التعبد لم يقع به، فمنهم: من قال: لم يوجد في السمع ما

يدل على وقوع التعبد به؛ فوجب الامتناع من العمل به، ومنهم: من لم يقنع بذلك؛ بل تمسك في نفيه بالكتاب والسنة، وإجماع الصحابة، وإجماع العترة. وأما القسم الثاني: وهم الذين قالوا بأن العقل يقتضي المنع من التعبد به فهم فريقان: أحدهما: خصص ذلك المنع بشرعنا؛ وقال: لأن مبنى شرعنا على الجمع بين المختلفات، والفرق بين المتماثلات، وذلك يمنع من القياس، وهذا قول النظام؟ وثانيهما: الذين قالوا: يمتنع ورود التعبد به في كل الشرائع، وهؤلاء فرق ثلاث: إحداها: الذين قالوا: يمتنع أن يكون القياس طريقًا إلى العلم والظن. وثانيها: الذين سلموا أنه يفيد الظن، لكنهم قالوا: لا يجوز متابعة الظن؛ لأنه قد يخطيء، وقد يصيب. وثالثتها: الذين سلموا أنه يجوز متابعة الظن في الجملة، ولكن حيث يتعذر النص؛ كما في قيم المتلفات وأروش الجنايات، والفتوى والشهادات؛ لأنه لا نهاية لتلك الصور، فكان التنصيص على حكم كل واحد منها متعذرًا. أما في غير هذه الأحكام: فإنه يمكن التنصيص عليها، فكان الاكتفاء بالقياس؛ اقتصارًا على أدنى البابين، مع القدرة على أعلاهما؛ وإنه غير جائزٍ، وهذه طريقة داود وأتباعه من أهل الظاهر.

فهذا تفصيل المذاهب، والذي نذهب إليه، وهو قول الجمهور من علماء الصحابة والتابعين أن القياس حجة في الشرع. لنا: الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول: أما الكتاب: فقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر: 2] وجه الاستدلال به: أنَّ الاعتبار مشتق من العبور، وهو المرور؛ يقال: عبرت عليه، وعبرت النهر، والمعبر: الموضع الذي يعبر عليه، والمعبر: السفينة التي يعبر فيها؛ كأنها أداة العبور، والعبرة: الدمعة التي عبرت من الجفن، وعبر الرؤيا، وعبرها: جاوزها إلى ما يلازمها. فثبت بهذه الاستعمالات كون الاعتبار حقيقة في المجاوزة؛ فوجب ألا يكون حقيقة في غيرها؛ دفعًا للاشتراك. والقياس: (عبور) من حكم الأصل إلى حكم الفرع؛ فكان داخلاً تحت الأمر. فإن قيل: لا نسلم أن الاعتبار هو المجاوزة، فوجب ألا يكون حقيقة في غيرها؛ دفعًا للاشتراك. والقياس: (عبور) من حكم الأصل إلى حكم الفرع؛ فكان داخلاً تحت الأمر. فإن قيل: لا نسلم أن الاعتبار هو المجاوزة، بل هو عبارة عن الاتعاظ؛ لوجوه: أحدها: أنه لا يقال لمن يستعمل القياس العقلي: إنه معتبر. وثانيها: أن المتفكر في إثبات الحكم من طريق القياس، إذا لم يتفكر في أمر معاده، يقال: إنه غير معتبر، أو قليل الاعتبار. وثالثها: قوله تعالى: {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} [آل عمران: 13، والنور: 44]، {وإن لكم في الأنعام لعبرة} [النحل: 66، النحل: المؤمنين: 21] والمراد به: الاتعاظ. ورابعها: يقال: (السعيد من اعتبر بغيره) والأصل في الكلام الحقيقة،

فهذه الأدلة تدل على أن الاعتبار حقيقة في الاتعاظ، لا في المجاوزة؛ فحصل التعارض بين ما قلتم، وما قلناه؛ فعليكم الترجيح، ثم الترجيح معنا؛ فإن الفهم أسبق إلى ما ذكرنا. سلمنا أن ما ذكرتموه حقيقة؛ ولكن شرط حمل اللفظ على الحقيقة ألا يكون هناك ما يمنع منه، وقد وجد هاهنا ما يمنع؛ فإنه لو قال: (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فقيسوا الذرة على البر) كان ركيكًا؛ لا يليق بالشرع. وإذا كان كذلك ثبت أنه وجد ما يمنع من حمل اللفظ على حقيقته، سلمنا أنه لا مانع من حمله على المجاوزة؛ لكن لا نسلم أن الأمر بالمجاوزة أمر بالقياس الشرعي. وبيانه: أن كل من تمسك بدليل على مدلول، فقد عبر من الدليل إلى المدلول، فمسمى الاعتبار مشترك فيه بين الاستدلال بالدليل العقلي القاطع، وبالنص، وبالبراءة الأصلية، وبالقياس الشرعي؛ فكل واحد من هذه الأنواع يخالف الآخر بخصوصيته، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، وغير مستلزم له، فاللفظ الدال على ما به الاشتراك غير دال على ما به الامتياز، لا بلفظه ولا بمعناه؛ فلا يكون دالاً على النوع الذي ليس إلا عبارة عن مجموع جهة الاشتراك، وجهة الامتياز، فلفظ (الاعتبار) غير دال على القياس الشرعي، لا بلفظه، ولا بمعناه. فإن قلت: القدر المشترك بين أنواع مخصوصة لا يوجد إلا عند وجود واحد منها، والأمر بالشيء أمر بما هو من ضروراته، فالأمر بإدخال الاعتبار في الوجود أمر بإدخال أحد أنواعه في الوجود، ثم ليس تعيين أحد أنواعه أولى من

تعيين الباقي؛ لأن نسبة القدر المشترك بين أنواع مخصوصة إلى كل واحد منها على السوية؛ فإما ألا يجب شيء منها، وهو باطل؛ لأن تجويز الإخلال بجميع أنواع الماهية يستلزم تجويز الإخلال بتلك الماهية؛ فيلزم ألا يكون مسمى الاعتبار مأمورًا به، وهو باطل. أو يجب جميع أنواع الاعتبار المأمور به في الآية، فيكون القياس الشرعي مندرجًا فيه. قلت: لا نسلم أنه ليس بعض الأنواع أولى من بعض؛ لأن الاعتبار المأمور به في الآية لا يمكن أن يكون هو القياس الشرعي فقط، وإلا لصار معنى الآية: (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فقيسوا الذرة على البر) ومعلوم أنه غير جائز؛ بل لا بد من الاعتراف بأن الاعتبار المأمور به يفيد نوعًا غير القياس الشرعي، وهو الاتعاظ مثلاً، إلا أنا نقول: إنه يفيد الاتعاظ فقط، وأنتم تقولون: يفيد الاتعاظ والقياس الشرعي. فظهر بهذا أن الأمر بالاعتبار يستلزم الأمر بالاتعاظ، ومسمى الاعتبار حاصل في الاتعاظ؛ ففي إيجاب الاتعاظ حصل إيجاب مسمى الاعتبار، فلا حاجة إلى إيجاب سائر أنواعه، وأيضًا: فنحن نوجب اعتبارات أخرى: أحدها: إذا نص الشارع على علة الحكم، فهاهنا: القياس عندنا واجب. وثانيها: قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف. وثالثها: الأقيسة العقلية. ورابعها: الأقيسة في أمور الدنيا؛ فإن العمل بها عندنا واجب.

وخامسها: أن نشبه الفرع بالأصل؛ في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص. وسادسها: الاتعاظ والانزجار بالقصص والأمثال. فثبت بما تقدم: أن الآتي بفرد من أفراد ما يسمى اعتبارًا، يكون خارجًا عن عهدة هذا الأمر، وثبت أنا أتينا به في صور كثيرة؛ فلا تبقى فيه دلالة البتة على الأمر بالقياس الشرعي. سلمنا أن اللفظ يقتضي العموم؛ لكن حمله علي هاهنا يفضي إلى التناقض؛ لأن التسوية بين الفرع والأصل في الحكم نوع من الاعتبار، والتسوية بينهما في أنه لا يستفاد حكم الفرع، إلا من النص؛ كما أنه في الأصل - كذلك. ولأنه نوع آخر من الاعتبار، والأمر بأحد الاعتبارين مناف للأمر بالآخر فإجراء اللفظ على ظاهره يقتضي الأمر بالمتنافيين معًا؛ وهو محالٌ، ثم ليس إخراج أحد القسمين من تحت ظاهر العموم لإبقاء الآخر أولى من العكس، وعليكم الترجيح، ثم إنه معنا؛ لأن تشبيه الفرع بالأصل؛ في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص عمل بالاحتياط، واحتراز عن الظن الذي (لا يغني من الحق شيئًا). سلمنا بأن حمله على العموم لا يفضي إلى التناقض؛ لكنه عام دخله التخصيص؛ فوجب ألا يكون حجة. بيان الأول من وجوه: أحدها: أن الرجل لا يكون مأمورًا بالاعتبار عند تعادل الأمارات، وفي الأشياء التي ما نصب الله تعالى عليها دليلاً؛ كمقادير الثواب والعقاب، وأجزاء

السموات والأرض، وفي الأشياء التي عرف حكمها بالاعتبار مرة، فالمكلف بعد ذلك لا يكون مأمورًا باعتبار آخر. وثانيها: لو قال لوكيله: (أعتق غانمًا؛ لسواده) فليس للوكيل أن يعتق سالمًا؛ لسواده. وثالثها: أن عند قيام النص في المسألة لا يكون الرجل مأمورًا بالعمل بالقياس. ورابعها: الأقيسة المتعارضة لا يتناولها الأمر؛ فثبت أن هذا العام مخصوص، ومثل هذا العام ليس بحجة؛ على ما سبق بيانه في باب العموم، سلمنا أنه حجة؛ لكن حجة قطعية، أو ظنية؟. الأول ممنوع، والثاني مسلم: بيانه: أنكم، إنما بينتم كون الاعتبار اسمًا للمجاوزة بتلك الاشتقاقات، ولا شك أن التوسل بالاشتقاقات إلى تعيين المسمى دليل ظني، ومسألة القياس مسألة يقينية، وبناء اليقيني على الدليل المبني على المقدمة الظنية لا يجوز، سلمنا: أنه يفيد اليقين؛ لكنه أمر، والأمر لا يفيد التكرار؛ فلا يتناول كل الأوقات. سلمنا أنه يتناول كل الأوقات؛ ولكنه خطاب مشافهةٍ، فيختص بالحاضرين في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والجواب: قلنا: جعله حقيقة في المجاورة أولى؛ لوجهين: الأول: أنه يقال: (فلان اعتبر فاتعظ)، فيجعلون الاتعاظ معلول الاعتبار، وذلك يوجب التغاير. الثاني: أن معنى المحاوزة حاصل في الاتعاظ؛ فإن الإنسان ما لم يستدل بشيء آخر على حال نفسه لا يكون متعظًا.

إذا ثبت هذا، فنقول: لو جعلناه حقيقة في المجاوزة، لكان حقيقة في الاتعاظ وغيره، على سبيل التواطؤ. أما لو جعلناه حقيقة في الاتعاظ، كان استعماله في غيره: إما بالاشتراك، أو بالمجاز؛ وهما على خلاف الأصل. وعلى هذا التقرير: لا يضرنا قولهم: إن لفظ (الاعتبار) مستعمل في الاتعاظ، فأما قوله: (لا يقال لمن يستعمل القياس: (إنه معتبر): قلنا: لا نسلم؛ فإنه يصح (أن يقال: إن فلانًا يعتبر الأشياء الفعلية بغيرها) بلى من أتى بقياس واحد لا يقال: (إنه معتبر على الإطلاق)، كما أنه لا يقال له: (إنه قائس على الإطلاق) لأن لفظ المعتبر والقائس على الإطلاق، لا يستعمل إلا في المكثر منه. قوله: (المكثر من حمل الفروع على الأصول، إذا لم يتفكر في أمر آخرته لا يقال له: (إنه معتبر): قلنا: لما كان الغرض الأعظم من الاعتبار هو العمل للآخرة، فإذا لم يأت بما هو المقصود الأصلي، قيل: (إنه غير معتبر) على سبيل المجاز، كما يقال لمن لا يتدبر في الآيات: (إنه أعمى وأصم). وأما قوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة} [النحل: 66]. قلنا: معنى المجاوزة حاصل فيه؛ لأن النظر في خلقها يفيد العلم بوجود صانعها. قوله: (سلمنا أنه حقيقة في المجاوزة، ولكن وجد ما يمنع من حمله عليها): قلنا: لا نسلم. قوله: (لو قال: (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فقيسوا الذرة على البر) كان ركيكًا):

قلنا: لا نزاع في أنه لو نص على هذه الصورة، كان ركيكًا؛ لأنه لا مناسبة بين خصوص هذا القياس، وبين قوله تعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} [الحشر: 2] لكن لم قلت: إنه لو أمر بمطلق (الاعتبار) الذي يكون القياس الشرعي أحد جزئياته، كان ركيكًا؟. مثاله: لو سألأه عن مسألة، فأجاب بما لا يتناول تلك المسألة، كان باطلاً، أما لو أجاب بما يتناول تلك المسألة، وغيرها، كان حسنًا. قوله: (الأمر بالاعتبار لا يقتضي إلا إدخال فرد من أفراد هذه الماهية في الوجود): قلنا: بل يقتضي العموم؛ لدليلين: الأول: أن ترتيب الحكم على المسمى يقتضي أن علة ذلك الحكم هو ذلك المسمى، وذلك يقتضي أن علة الأمر بالاعتبار هو كونه اعتبارًا؛ فيلزم أن يكون كل اعتبار مأمورًا به. الثاني: أنه يحسن أن يقال: (اعتبر إلا الاعتبار الفلاني) وقد بينا في (باب العموم) أن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحت اللفظ، فعلمنا أن كل الاعتبارات داخلة تحت هذا اللفظ. قوله: (لو حملناه على العموم، لأفضى إلى التناقض): قلنا: هب أنه كذلك؛ لكنا نقول: لا يجوز أن يكون المراد منه تشبيه الفرع بالأصل؛ في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص؛ وذلك لوجهين:

الأول: أن الاعتبار المذكور هاهنا لا بد، وأن يكون معناه لائقًا بما قبل هذه الآية وما بعدها؛ وإلا جاءت الركاكة، والذي يليق به هو التشبيه في الحكم، لا المنع منه؛ وإلا لصار معنى الآية: (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فلا تحكموا هذا الحكم في حق غيرهم إلا بنص وارد في حق ذلك الغير) ومعلوم أن ذلك باطل، وإذا بطل حمل الآية عليه، وجب حملها على التشبيه في الحكم؛ عملاً بعموم اللفظ. الثاني: هو أن المتبادر إلى الفهم من لفظ (الاعتبار): هو التشبيه في الحكم، لا المنع منه؛ ولذلك فإن السيد إذا ضرب بعض عبيده على ذنب صدر منه، ثم قال للآخر: (اعتبر به) فهم منه الأمر بالتسوية في الحكم، لا الأمر بالمنع منه. قوله: (إنه عام مخصوص): قلنا: هذا مسلم؛ لكنا بينا في (باب العموم): أن العام المخصوص حجة. قوله: (بعض مقدمات هذه الدلالة ظنية): قلنا: هذا السؤال عام في كل السمعيات؛ فلا يكون له تعلق بخاصية هذه المسألة. قوله: (الأمر لا يفيد التكرار): قلنا: إنه لما كان أمرًا بجميع الأقيسة، كان متناولاً، لا محالة لجميع الأوقات، وإلا قدح ذلك في كونه متناولاً لكل الأقيسة. قوله: (هو خطاب مع أولئك الذين كانوا في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فلم قلتم: إنه يتناولنا؟): قلنا: للإجماع على عدم الفرق.

القسم الأول في إثبات كون القياس حجة

القسم الأول في إثبات كون القياس حجة قال القرافى: قال إمام الحرمين: منع بعضهم القياس عقليًا ونقليًا، وهو مذهب منكرى النظر. وقال الأصوليون والقياسيون والفقهاء بإثباتهما. وقيل: المعتبر القياس العقلي دون الشرعي، وهو مذهب النظام وطوائف من الروافض، والإباضية، والأزارقة، ومعظم فرق الخوارج. وقيل: يحرم القياس النظري، ويجب القياس الشرعي، قاله ابن حنبلٍ والمقتصدون من أتباعه، ولا ينكرون إفضاء النظر للعلم، بل ينهون عن ملابسته. وقال الغزالي في (المستصفى): أما تحقيق مناط الحكم فلا خلاف بين الأمة في جوازه إذا وقع في تحقيق مناط الحكم، كتعيين القيم، وتعين من يصلح للإمامة. وتنقيح مناط الحكم أقر به أكثر منكري القياس، كإيجاب العتق في حديث الأعرابي المفسد لصومه. وتخريج المناط هو: استنباط علة الحكم من محل لم يتعرض فيه للمناط، كتحريم الخمر والربا في البر، فتعليله بالإسكار والطعم هو الذي عظم فيه الاختلاف. قوله: (الاعتبار دال على القدر المشترك، فلا يدل على النوع الذي ليس إلا عبارة عن مجموع جهة الاشتراك، وجهة الامتياز):

قلنا: هذه عبارة فيها بعد، وهو يريد بجهة (الاشتراك) العلة الشرعية، وجهة (الامتياز) كون الأصل متفقًا على ثبوت الحكم فيه، والفرع مختلفًا فيه، وهو القياس الشرعي، فكان يكفيه أن يقول: (القياس الشرعي) من غير تطويل، ولا عبارة بعيدة. قوله: (لا بد للماهية من نوع تصير فيه إلى الوجود، وليس البعض أولى من البعض): قلنا: يكون ذلك كالأمر بجميع المطلقات، كقوله تعالى: {فتحرير رقبة} [النساء: 92] يتخير المكلف بين رقاب الدنيا، ولا يلزم التعميم، ولا التعطيل، وكذلك شاة من أربعين، ودينار من أربعين دينارًا. قوله: (والآية عامة؛ لأن ترتيب الحكم على المسمى يقتضي أن علة ذلك الحكم هو ذلك المسمى): قلنا: ادعيتم العموم اللفظي، وأبيتم عموم الحكم بالعلة، وهذا غير العموم اللفظي، بل هو قياس، فيلزم منه إثبات بالقياس بل بأضعف أنواع القياس، وهو أن ترتيب الحكم على الوصف، إنما هو من باب افيماءات التي هي أضعف في إثبات العلة من التنصيص على العلة، بل الصحيح أن الآية فعل في سياق الإثبات، فيكون مطلقًا لا عموم فيه، بل القدر المشترك الذي لا دلالة فيه على خصوص نوع من جهات ذلك المشترك. قوله: (يحسن أن يقال: (اعتبروا إلا الاعتبار الفلاني): قلنا: قد تقدم أن الاستثناء أربعة أقسام: ما لولاه لعلم اندراجه، كالاستثناء من النصوص. وما لولاه لظن اندراجه، كالاستثناء من العمومات. وما لولاه لجار اندراجه، من غير علم ولا ظن، كالاستثناء من محال

المدلول، نحو: أكرم رجلاً إلا زيدًا، وعمرًا، وخالدًا، أو أزمانه، نحو: صل إلا عند الزوال، وبقاعه نحو: صلِّ إلا [على] المزبلة، ومن الأحوال كقوله تعالى: {لتأتنني به إلا أن يحاط بكم} [يوسف: 66]، وقد تقدم بسطه في الاستثناء والعمومات. وهاهنا هو من المحال، فلا حجة فيه على الاندراج الذي ادعيتموه، فلا عموم، بل عموم الصلاحية لا عموم الشمول، ومقصودكم الثاني دون الأول. قوله: (السؤال عام في كل السمعيات، فلا يكون له تعلق بخاصية هذه المسألة): قلنا: تقدم كلام التبريزي أن مسائل الأصول قطعية، ونحن نستدل عليها بظواهر النصوص، والمصحح لذلك أنا نريد بكل نص منها ذلك الظاهر بقيد إضافته لما معه من الأمور الحاصلة بالاستقراء التام من النصوص، وأقضية الصحابة، ومناظراتهم وفتاويهم، وتصرفات أحوالهم في الأحكام الشرعية؛ فإن الاستقراء التام في هذه الأمور من الكتاب والسنة وأحوال السلف يفيد القطع، فكل ظاهر نحن نريد الدلالة به يفيد إضافته لهذا الأمر، فيكون كل ظاهر مفيدًا للقطع حينئذ، وليس في الممكن وضع تلك الأمور كلها في كتاب، فتعينت الإشارة إليها فقط، فالمسائل قطعية، والمدرك كذلك، غير أن الإشارة إليها حاصلة في الكتب لا جملتها، فلا تنافى بين كون الظواهر المذكورة تفيد الظن، وكون المطلوبات قطعية، وقد تكرر هذا البحث مرارًا، وهو يحتاج إليه في هذا العلم؛ لأن الجمهور مجمعون على أن المسائل الأصولية قطعية، ولا يتقرر إلا بهذا الطريق، فليضبط.

(سؤال) قال النقشواني: الاعتبار: المجاوزة

قوله: (لما كانت الآية عامة في الأقيسة، كانت عامة في الأزمنة): قلنا: الصحيح أن صيغ العموم عامةٌ في الأشخاص، مطلقة في الأحوال، والأزمنة، والبقاع، والأحوال، فما لزم من العموم استيعاب الأزمنة، فلا يحصل من هذا أن الأمر في الآية للتكرار. (سؤال) قال النقشواني: الاعتبار: المجاوزة، ولكنها حقيقة في الأجسام، بدليل تعذر سلبها، كمن خرج من (بغداد) إلى (مصر)، لا يقال: إنه لم يتجاوز (بغداد)، وإذا تجاوزت شجرة، لا يقال: إنها لم يتجاوزها، وإذا كان اللفظ حقيقة في مجاوزة الآثار، فتحمل الآية عليه، ويكون المراد السير في الأرض للاتعاظ، كما قال تعالى في غير موضع: {قل سيروا في الأرض} [الأنعام: 11]، {أو لم يسيروا في الأرض} [الروم: 9] أما المجاوزة بالفكر فمجازٌ، الأصل عدمه. (تنبيه) قال التبريزي: الآية تمسك بها جماعة من علماء الأصول، وهي مطلقة بالنسبة إلى مسمى الاعتبار، فيحصل الامتثال بواحدٍ من مسمى الاعتبار.

وقال سراج الدين على إثباته العموم: ترتيب الحكم على الوصف، إنه إثبات للقياس بالقياس. وغير تاج الدين فقال في الجواب: (إن المسألة علمية، وهذه الدلالة ظنية)، فقال: لا نسلم أن المسألة علمية، بل ظنية. وقد تقدم في مواضع من الكتاب أن هذا الجواب باطلٌ، وأن مسائل الأصول قطعية. وسكت صاحب (المنتخب) عن هذا الجواب بالكلية. * ... * ... *

المسلك الثاني قال الرازي: التمسك بخبر معاذ، وهو مشهور؛ روى أنه - صلى الله عليه وسلم - أنفذ معاذًا وابا موسى الأشعري - رضي الله عنهما - إلى اليمن، فقال عليه الصلاة والسلام لهما: (بم تقضيان؟) فقالا: (إذا لم نجد الحكم في السنة، نقيس الأمر بالأمر، فما كان أقرب إلى الحق عملنا به) فقال عليه الصلاة والسلام: (أصبتما). وقال عليه الصلاة والسلام لابن مسعود: (اقض بالكتاب والسنة، إذا وجدتهما، فإن لم تجد الحكم فيهما، فاجتهد برأيك). فإن قيل: لا نسلم صحة الحديث، وبيانه من وجهين: الأول: أنه مشتمل على الخطأ، فوجب ألا يكون صحيحًا. بيان الأول من وجوه: أحدهت: أن فيه قوله: (فإن لم تجد في كتاب الله) وهو يناقض قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] وقوله تعالى: {ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59]. وثانيها: أن في الحديث أنه، عليه الصلاة والسلام، صوبه على قوله: (أجتهد رأيى) وهو خطأ؛ لأن الاجتهاد في زمان الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام لا يجوز؛ على ما سيأتي دليله، إن شاء الله تعالى. وثالثها: أنه، عليه الصلاة والسلام، سأله عما به يقضي، والقضاء هو الإلزام، فيكون السؤال واقعًا عن الشيء الذي يجب الحكم به، والسنة لا تصلح جوابًا عن ذلك؛ لأنها تذكر في مقابلة الفرض؛ هذا سنة، وليس بفرض.

ورابعها: أن الحديث يقتضي أنه سأله عما به يقضي، بعد أن نصبه للقضاء، وذلك لا يجوز؛ لأن جواز نصبه للقضاء مشروط بصلاحيته للقضاء، وهذه الصلاحية إنما تثبت لو ثبت كونه عالمًا بالشيء الذي يجب أن يقضي به، والشيء الذي لا يجب أن يقضي به. وخامسها: أن مقتضى الحديث: أنه لا يجوز الاجتهاد إلا عند عدم وجدان الكتاب والسنة؛ وهو باطلٌ؛ لأن تخصيص الكتاب والسنة بالقياس جائز. الوجه الثاني في بيان ضعف الحديث: روى أن معاذًا لما قال: (أجتهد رأيى) قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (اكتب إلىَّ، أكتب إليك) وليس لأحد أن يقول: إنا نصحح الروايتين؛ لأنهما نقلا في واقعة واحدة، فإنه لا يمكن الجمع بينهما. سلمنا سلامة المتن عن هذه المطاعن؛ لكن لا نزاع بين المحدثين في كونه مرسلاً، والمرسل ليس بحجة؛ على ما تقدم بيانه. سلمنا: أنه ليس بمرسل؛ ولكنه ورد في إثبات القياس والاجتهاد، وإنه أصل عظيم في الشرع، والدواعي تكون متوفرة على نقل ما هذا شأنه، وما يكون كذلك، وجب بلوغه في الاشتهار إلى حد التواتر، فلما لم يكن كذلك، علمنا أنه ليس بحجة. والحاصل أنه مرسلٌ؛ فوجب ألا يكون حجة عند الشافعي رضي الله عنه. وأنه خبر وارد فيما تعم به البلوى، فوجب ألا يكون حجة عند أبي حنيفة. سلمنا سلامته عن هذا الأمر، لكنه خبر واحد؛ فلا يجوز التمسك به في المسائل القطعية.

فإن قلت: الدليل على صحته أن مثبتي القياس كانوا أبدًا متمسكين به في إثبات القياس، والنفاة كانوا مشتغلين بتأويله، وذلك يدل على اتفاقهم على قبوله. قلت: قد تقدم بيان ضعف هذا الوجه. سلمنا صحته؛ فلم يدل على كون القياس حجة؟ أما قوله: (أجتهد رأيى) قلنا: الاجتهاد: (عبارة عن استفراغ الجهد في الطلب) فنحمله على طلب الحكم من النصوص الخفية. فإن قلت: (إنما قال: (أجتهد رأيى) بعد أن كان لا يجده في الكتاب والسنة، وما دلت النصوص الخفية عليه لا يجوز أن يقال: إنه غير موجود في الكتاب والسنة): قلنا: لا نسلم أن قوله: (فإن لم تجده) يقتضي العموم؛ بيانه: أنه يصح أن يستفهم؛ فيقال: أتعني بقولك: (فإن لم تجد) عدم الوجدان في صرائحه فقط، أم فيه، وفي جميع وجوه دلالته. سلمنا أنه بظاهره للعموم؛ لكن هاهنا لا يمكن حمله على العموم؛ لأن العمل بالقياس مفهوم عندكم من الكتاب والسنة، فكيف يصح حمل قوله: (فإن لم تجد) على العموم. سلمنا أنه يمكن حمله على العموم؛ لكن قوله: (أجتهد رأيى) يكفي في العمل بمقتضاه نوع واحد من الاجتهاد، فنحمله على التمسك بالبراءة الأصلية، أو على التمسك بما ثبت في العقل؛ من أن الأصل في الأفعال الإباحة أو الحظر.

سلمنا أنه لا يجوز حمله عليه؛ فلم قلتم: إنه لما لم يجز حمله على النص الخفي، وعلى دليل العقل، وجب حمله على القياس الشرعي، وما الدليل على الحصر؟. فإن هاهنا طرقًا أخرى سوى القياس؛ كالتمسك بالمصالح المرسلة، والتمسك بطريقة الاحتياط في تنزيل اللفظ على أكثر مفهوماته، أو أقل مفهوماته، أو قول الشارع: (احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب) وبالجملة: فلا بد من دليل على الحصر. سلمنا: أنه يتناول القياس الشرعي، ولكن يكفي في العمل بمقتضاه إثبات نوع واحد من أنواع القياس الشرعي، ونحن نقول به؛ فإن مذهب النظام: أن الشرع إذا نص على علة الحكم، وجب القياس، ورد الأمر بالقياس، أو لم يرد، ويجب أيضًا قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف. سلمنا أنه يدل على جواز العمل بالقياس الشرعي؛ لكن في زمان حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو بعده على الإطلاق؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع: بيانه: أن شرط العمل بالقياس عدم الوجدان في الكتاب والسنة، وذلك إنما يمكن في زمان حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لعدم استقرار الشرع، فأما بعد نزول قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] فإن ذلك متعذر؛ لأن الدين إنما يكون كاملاً أن لو بين فيه جميع ما يحتاج إليه، وذلك إنما يكون بالتنصيص على كليات الأحكام. وإذا كان جميع الأحكام موجودًا في الكتاب والسنة، وكان العمل بالقياس مشروطًا بعدم الوجدان فيهما، لم يجز العمل بالقياس بعد زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

والجواب: قوله: (هذا الحديث مناف لكتاب الله تعالى): قلنا: لا نسلم، وأما قوله تعالى: {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] وقوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38]. قلنا: هذه الأدلة تدل على اشتمال الكتاب على كل الأمور ابتداء، أو بواسطة؟. الأول باطل؛ لخلو ظاهر كتاب الله تعالى عن دقائق الهندسة والحساب، وتفاريع الحيض والوصايا. والثاني: لا يضرنا؛ لأن كتاب الله تعالى، لما دل على وجوب قبول قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقول الرسول دل على أن القياس حجة، والقياس دل على هذه الأحكام كان كتاب الله تعالى دالاً على هذه الأحكام. قوله: (الحديث يدل على جواز الاجتهاد في زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم -): قلنا: وأي محذور يلزم منه؟ فإن الواقعة التي لا يمكن تأخير الحكم فيها إلى مدة يذهب الرجل من اليمن إلى المدينة، ويرجع عنها - لا يكون تحصيل النص فيها ممكنًا؛ فوجب جواز الرجوع إلا القياس. قوله: (ذكر السنة جوابًا عما به يقضي غير جائز): قلنا: لا نسلم؛ لأن السنة عبارة عن الطريقة كيف كانت. قوله: (لا يجوز نصبه للقضاء إلا بعد العلم بأنه يعرف التمييز بين ما يجوز به القضاء، وبين ما لا يجوز):

قلنا: المراد بقوله: (لما بعث معاذًا إلى اليمن): لما عزم على أن يبعثه. قوله: (الحديث يمنع من تخصيص الكتاب والسنة بالقياس): قلنا: كثير من الناس ذهب إليه. قوله: نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال: (اكتب إلى، أكتب إليك). قلنا: روايتنا مشهورة، وروايتكم غريبة؛ لم يذكرها أحد من المحدثين؛ فلا يحصل التعارض. وأيضًا: فكيف يجوز أن يقول عليه الصلاة والسلام: (أكتب إلىَّ، أكتب إليك) وقد يعرض من الحكم ما لا يجوز تأخيره، وأيضًا: يمكن الجمع بينهما، وإن وردا في واقعة واحدة؛ وهو أن يقال: الحادثة، إن احتملت التأخير، وجب عرضها، وإن لم تحتمل وجب الاجتهاد. قوله: (إنه مرسل): قلنا: هب أنه كذلك؛ لكنه مرسل تلقته الأمة بالقبول؛ ومثله حجة عندنا. قوله: (وارد فيما تعم به البلوى؛ فوجب بلوغه إلى حد التواتر): قلنا: وروده فيما تعم به البلوى لا يوجب كونه متواترًا؛ بدليل المعجزات المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (إنه خبر واحد): قلنا: هب أنه كذلك؛ لكن لا نثبت به القطع بكون القياس حجة، بل ظن كونه حجة.

قوله: (نحمله على طلب النص الخفي): قلنا: قوله: (فإن لم تجد): يقتضي نفي النص، جليًا كان أو خفيًا. قوله: (لا نسلم أن قوله: (فإن لم تجد) للعموم): قلنا: الدليل الدال على أنه للعموم جواز الاستثناء. قوله: (لما دل الكتاب والسنة على العمل بالقياس، كان دليلاً على الحكم الثابت بالقياس): قلنا: هب أنه كذلك؛ ولكن الحكم الذي هو مدلول القياس لا يكون حاصلاً فيهما؛ وهذا القدر يكفي في جواز أن يقال: إنه غير موجود في الكتاب والسنة، وقول معاذ: (أحكم بكتاب الله) أراد به: ما دل عليه الكتاب بنفسه، لا بواسطة؛ إذ لو أراد به كل ما دل عليه الكتاب، سواء كان ابتداءً، أو بواسطة، لكان القول بأنه، إذا لم يوجد في الكتاب، حكمت بما في السنة خطأ. قوله: (نحمله على البراءة الأصلية): قلنا: البراءة الأصلية معلومة لكل أحدٍ؛ فلا حاجة في معرفتها إلى الاجتهاد؛ فلا يجوز حمل قوله: (أجتهد) عليه. قوله: (نحمله على القياس الذي نص الشرع على علته، أو على ما يكون مثل قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف): قلنا: الشرع إنما سكت عند قوله: (أجتهد) لعلمه بأن الاجتهاد وافٍ بجميع الأحكام، فلو حملناه على ما ذكرتموه من القياس، لم يكن ذلك وافيًا بمعرفة عشر عشير الأحكام؛ فكان يجب ألا يسكت عليه، كما لم يسكت عند قوله: (أقضي بالكتاب والسنة).

شرح القرافى: قوله: (سأله عما به يقضي بعد أن بعثه مع أن العلم بصلاحيته للقضاء شرط)

قوله: (ما الدليل على الحصر؟): قلنا: أجمعت الأمة على الحصر؛ فوجب القطع به. * * * المسلك الثاني قال القرافى: قوله: (سأله عما به يقضي بعد أن بعثه مع أن العلم بصلاحيته للقضاء شرط): قلنا: يكفي في صحة الولاية العلم بالصلاحية على سبيل الإجمال، فإذا وقع السؤال بعد ذلك على سبيل التفصيل لا ينافي ذلك. قوله: (الحديث يقتضي ألا يجوز الاجتهاد إلا عند عدم الكتاب، مع أن تخصيص الكتاب والسنة بالقياس جائز): قلنا: قوله: (أجتهد رأيى) فعل في سياق الإثبات، فيكون مطلقًا لا عموم فيه، فلا يتناول جميع أنواع الاجتهاد، حتى يتعين تخصيص الكتاب بالقياس، وإذا لم يتناول إلا فردًا، فيحمل على القياس الذي لا تخصيص فيه. قوله: (خبر واحدٍ، فلا يتمسك به في المسائل القطعية): قلنا: قد تقدم كلام التبريزي أنَّا إنما نستدل بكل ظاهر مضافًا لما معه من الاستقراء التام في الأحاديث، والآيات، وأقضية الصحابة، وهذه الضميمة توجب العمل قطعًا لمن حصل له الاستقراء التام. قوله: (مثبتو القياس تمسكوا به، ونفاته أولوه): قلنا: لا نسلم أن جميع مثبتي القياس تمسكوا به، ولا جميع نفاته أولوه، بل من الناس من يقول بالقياس، وقالوا: الحديث غير صحيح، لا يصح التمسك به، وهم الأكثرون، وكذلك أكثر نفاة القياس لم يشغلوا بتأويله، بل نفوا صحته، وبعض المحدثين يقول: هو من الحسان، لم ينهض إلى حد الصحة، وما لا إجماع فيه لا حجة فيه إلا أن تثبت صحته.

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: ومن سياقات سماعه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يبعث معاذا إلى (اليمن)، قال له: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء)؟

قوله: (صحة الاستفهام دليل العموم): قلنا: لا نسلم، بل يكفي في حسن الاستفهام دفع الاحتمال الخفي. قوله: (تلقته الأمة بالقبول): قلنا: بل بعض الأمة، وهم الأقلون، فلا يفيد ذلك صحته. قوله: (هو للعموم؛ بدليل صحة الاستثناء): قلنا: قد تقدم أن الاستثناء أربعة أقسام: ما لولاه لجاز دخوله من غير علم ولا ظن، ولعل هذا من هذا القسم. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: ومن سياقات سماعه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يبعث معاذًا إلى (اليمن)، قال له: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاءٌ)؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: (فإن لم تجد في كتاب الله)؟، قال: فبسنة رسول الله، قال: (فإن لم تجد)؟ قال: أجتهد برأيى، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدره، وقال: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله). وقال في قولهم: (نحمله على النص الخفي): إنَّ ما لا يقتضيه النص بصريحه لا بدَّ فيه من مقدمات أخرى، والذي يقتضيه المركب لا يكون مقتضيًا للمفرد، فلا يكون مدلولاً للنص. ثم قال: قولهم: (إنه فيما تعم به البلوى): قلنا: لا جرم استفاض واشتهر، ولم يبق في رتبة الآحاد - وهو العلة في إرساله - اكتفاء بشهرته، والعلم بصحته، كما جرت، عادة الحسن البصري.

ثم قال: قولهم: (نحمله على بذل الجهد في التفطن لمقتضيات الخطاب، والمفهومات، وغيرها): قلنا: ذلك كله من دليل الخطاب، وتمسك بالنص، وقولهم: (نحمله على الاجتهاد في زمانه - عليه السلام - لأن الدين لم يكمل): قلنا: إذا ثبت أية دليل في وقت ثبت مطلقًا حتى يثبت النسخ، وعدم النص ليس شرطًا في القياس. وقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] أي بتقرير قاعدة القياس. * * *

المسلك الثالث قال الرازي: روى أن عمر - رضي الله عنه - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قبلة الصائم؟ فقال: (أرأيت لو تمضمضت بماءٍ، ثم مججته، أكنت شاربه؟!). وجه الاستدلال به: أنه - عليه الصلاة والسلام - استعمل القياس، وذلك يوجب كون القياس حجة. إنما قلنا: (إنه استعمل القياس) لأنه - عليه الصلاة والسلام - حكم بأن القبلة من دون الإنزال لا تفسد الصوم؛ كما أن المضمضة من دون الازدراد لا تفسد الصوم، وإيراد هذا الكلام يدل على أن الجامع بينهما ما يفهمه كل عاقل عند سماع هذا الكلام؛ من أنه لم يحصل عند المقدمتين ما هو الثمرة المطلوبة؛ فوجب ألا يكون حكم المقدمة؛ كحكم الثمرة المطلوبة، وإنما قلنا: (إنه - عليه الصلاة والسلام - لما استعمل القياس، وجب أن يكون حجة) لوجهين: الأول: أن التأسي به واجب. الثاني: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أرأيت) خرج مخرج التقرير، فلولا أنه - عليه الصلاة والسلام - قد مهد عند - عمر رضي الله عنه - التعبد بالقياس، لما قرر ذلك عليه!! ألا ترى أن الإنسان لو حكم بحكم من الكتاب، جاز أن يقول لمن سأله عنه: (أليس قد قال الله تعالى كذا وكذا؟) إذا كان الكتاب عنده، وعند من يخاطبه حجة، ولا يجوز أن يقول ذلك، إذا كان هو ومن يخاطبه لا يعتقدان كونه حجة. ولا يقول الإنسان في حكم حكم به؛ لأجل القياس: أليس أنَّ القياس يقتضيه؟ مع أنه ومن خاطبه لا يعتقدان كون القياس حجة!!

فإن قيل: هذا خبر واحدٍ، فلا يجوز بناء المسألة العلمية عليه. سلمنا ذلك؛ لكن لم قلت: إنه - عليه الصلاة والسلام - نبه هاهنا على العلة؟ ومثل هذا القياس عندنا حجة. سلمنا دلالة الحديث على أنَّ القبلة تجري مجرى المضمضة؛ لكن ليس فيه أن النص أوجب ذلك أو القياس، وإذا احتملا، لم يجز القطع على أحدهما بغير دليل. والجواب: قوله: (هذا خبر واحد): قلنا: سبق الجواب عنه. قوله: (نبه على العلة). قلنا: إنه - عليه الصلاة والسلام - ما نص على العلة، ولكنه لم يفعل إلا أنه ذكر أصل القياس؛ بلى، العلة متبادرة إلا الأفهام، والتنصيص على أصل القياس لا يكون تنصيصًا على العلة. قوله: (إنه ليس في الحديث: أنه - عليه الصلاة والسلام - أجرى القبلة مجرى المضمضة؛ لأجل نص أو لأجل قياس!!): قلنا: بيَّنَّا أنَّ المفهوم من قوله عليه الصلاة والسلام: (أرأيت لو تمضمضت) هو أن كل واحد منهما لم يحصل الثمرة المطلوبة بذلك الفعل، ولو أن بعض العامة؛ فضلاً عن أهل العلم استفتى فقيهًا في صائم قبل ولم ينزل، فقال له الفقيه: (أرأيت لو تمضمضت بماءٍ، ثم مججته) لاكتفى المستفتي بذلك في أن القبلة لا تفسد صومه، ولعلم أنه أجرى أحدهما مجرى الآخر؛ من الوجه

الذي ذكرناه؛ فبطل أن يقال: إن هذا الكلام لا يدل على الوجه الجامع بينهما، وأنه لا يمتنع أن يكون بعض الظواهر اقتضى الجمع. المسلك الرابع: التمسك بقوله - عليه الصلاة والسلام - للخثعمية: (أرأيت لو كان على أبيك دينٌ قضيته، أكان يجزي؟) فقالت: نعم، قال: (فدين الله أحق بالقضاء). ووجه الاستدلال به كما في قبلة الصائم من غير تفاوت. المسلك الثالث قال القرافى: قوله: (خبر واحدٍ، فلا يعتمد عليه في هذه المسألة):

(سؤال) قال النقشواني: رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - استعمل القياس، ولم يقل: (إن القياس حجة، وبينهما فرق عظيم؛ لأنه - عليه السلام - إذا استعمل القياس كانت مقدماته سالمة عن المطاعن قطعا

قلنا: وقد تقدم أنَّ المراد من كل دليل ظني من أدلة أصول الفقه هو يقيد إضافته لما معه من الأدلة الناشئة عن الاستقراء التام في جميع السنة والكتاب، وأقضية الصحابة، ومناظراتهم وفتاويهم، ونحو ذلك، فالمجموع المركب من الدليل مع هذه الإضافة يفيد القطع. (سؤال) قال النقشواني: رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - استعمل القياس، ولم يقل: (إن القياس حجة، وبينهما فرق عظيم؛ لأنه - عليه السلام - إذا استعمل القياس كانت مقدماته سالمة عن المطاعن قطعًا؛ لوفور اطلاعه - عليه السلام - فيكون هذا القياس مقدماته قطعية، وهذا لا نزاع فيه، إنما النزاع إذا كانت مقدماته ظنية، وقصورنا عن رتبته يوجب حصول الظن لنا فقط. قلت: ويمكن أن يقال: إنه - عليه السلام - لما احتج به على عمر - رضي الله عنه - دل ذلك على أن أصل القياس مقرر عند عمر، وإذا كان أصل القياس معلومًا عند عمر، كان معلومًا عند الصحابة، فيكون حجة مطلقًا. ويمكن أن يجاب عنه بأن الذي تقرر عند عمر القياس الذي مقدماته قطعية فقط، وعلم أن هذا القياس كذلك؛ لصدوره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكونه معصومًا عن الخطأ بخلاف غيره. وهذا السؤال يهدم أكثر الأجوبة والتقريرات في هذا المسلك، والذي بعده. * ... * ... *

المسلك الخامس قال الرازي: الإجماع؛ وهو الذي عول عليه جمهور الأصوليين؛ وتحريره: أن العمل بالقياس مجمع عليه بين الصحابة، وكل ما كان مجمعًا عليه بين الصحابة، فهو حق؛ فالعمل بالقياس حق. أما المقدمة الثانية: فقد مر تقريرها في باب الإجماع، وأما المقدمة الأولى: فالدليل عليها أن بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به، ولم يظهر من أحد منهم الإنكار على ذلك، ومتى كان كذلك، كان الإجماع حاصلاً. فهذه مقدمات ثلاث: المقدمة الأولى: في بيان أن بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به، والدليل عليه وجوه أربعة: الوجه الأول: ما روى عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري في رسالته المشهورة (اعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك) وهذا صريح في المقصود. الوجه الثاني: أنهم صرحوا بالتشبيه؛ لأنه روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه أنكر على زيد قوله: (الجد لا يحجب الإخوة) فقال: (ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب الأب أبًا)؟ ومعلوم أنه ليس مراده تسمية الجد أبًا؛ لأن ابن عباس - رضي الله عنهما لا

يذهب عليه، مع تقدمه في اللغة: أن الجد لا يسمى أبًا حقيقة؛ ألا ترى أنه ينفى عنه هذا الاسم؛ فيقال: (إنه ليس أبًا للميت، ولكنه جده) فلم يبق إلا أن مراده: أن الجد بمنزلة الأب في حجبه الإخوة؛ كما أن ابن الابن بمنزلة الابن في حجبهم، وعن على وزيد: أنهما شبهاهما بغصنى شجرةٍ، وجدولى نهرٍ، فعرفا بذلك قربهما من الميت، ثم شركا بينهما في الميراث. الوجه الثالث: أنهم اختلفوا في كثير من المسائل، وقالوا فيها أقوالاً، ولا يمكن أن تكون تلك الأقوال إلا عن القياس. وأعلم أن الأصوليين أكثروا من تلك المسائل، إلا أن أظهرها أربع: إحداها: مسألة الحرام؛ فإنهم قالوا فيها خمسة أقوال: فنقل عن على وزيد وابن عمر - رضي الله عنهم -: أنه في حكم التطليقات الثلاث، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه في حكم التطليقة الواحدة، إما بائنة أو رجعية؛ على اختلاف بينهم، وعن أبي بكر وعمر وعائشة - رضي الله عنهم -: أنه يمين تلزم فيه الكفارة، وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه في حكم الظهار، وعن مسروق رحمه الله: أنه ليس بشيء؛ لأنه تحريم لما أحله الله تعالى، فصار كما لو قال: هذا الطعام على حرام، والمرتضى روى هذا القول عن علي - رضي الله عنه. وثانيتها: أنهم اختلفوا في الجد مع الإخوة، فبعضهم ورث الجد مع الإخوة، وبعضهم أنكر ذلك. والأولون اختلفوا: فمنهم من قال: إنه يقاسم الإخوة، ما كانت المقاسمة خيرًا له من الثلث؛ فأجراه مجرى الأم، ولم ينقص حقه عن حقها؛ لأن له مع الولادة تعصيبًا، ومنهم من قال: إنه يقاسم الإخوة؛ ما كانت المقاسمة خيرًا له من السدس، وأجرأه مجرى الجدة في ألا ينقص حقها من السدس.

وثالثتها: اختلافهم في مسألة (المشتركة) وهي: زوج، وأم وإخوة لأم، وإخوة لأب وأم: حكم عمر - رضي الله عنه - فيها بالنصف للزوج، وبالسدس للأم، وبالثلث للإخوة من الأم، ولم يعط للإخوة من الأب والأم شيئًا، فقالوا: (هب أن أبانا كان حمارًا، ألسنا من أم واحدة؟) فشرك بينهم وبين الإخوة من الأم في الثلث. ورابعتها: اختلافهم في الخلع، هل يهدم من الطلاق شيئًا، أو يبقى عدد الطلاق على ما كان، ففي إحدى الروايتين عن عثمان - رضي الله عنه -: أنه طلاق، والرواية الأخرى: أنه ليس بطلاق، وهو محكى عن ابن عباس. وإذا عرفت هذه المسائل، فنقول: إما أن يكون ذهاب كل واحد منهم إلى ما ذهب إليه، لا عن طريق، أو عن طريق: والأول: باطل؛ لأن الذهاب إلى الحكم، لا عن طريق - باطل، فلو اتفقوا عليه كانوا متفقين على الباطل؛ وإنه غير جائز. وأما إن ذهبوا إليها عن طريق، فذلك الطريق: إما أن يكون هو العقل أو السمع، والأول باطلٌ؛ لأن حكم العقل في المسألة شيء واحدٌ، وهو البراءة الأصلية؛ وهذه أقاويل مختلفة، أكثرها يخالف حكم العقل. وأما الثاني: فلا يخلو: إما أن يكون ذلك الدليل نصًا، أو غيره: أما النص: فسواء كان قولاً، أو فعلاً، وسواء كان جليًا أو خفيًا، فالقول به باطل؛ لأنهم لو قالوا بتلك الأقاويل؛ لنص، لأظهروه، ولو أظهروه، لاشتهر، ولو اشتهر، لنقل، ولو نقل، لعرفه الفقهاء والمحدثون، ولما لم يكن كذلك، علمنا أنهم لم يقولوا بتلك الأقاويل؛ لأجل نص.

وإنما قلنا: إنهم لو قالوا بتلك الأقاويل؛ لأجل نص؛ لأظهروه؛ لأنا نعلم بالضرورة: أنه كان من عادتهم إعظام نصوص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، واستعظام مخالفتها؛ حتى نقلوا منها ما لا يتعلق به حكم؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام -: (نعم الإدام الخل) وكان من عاداتهم أيضًا التفحص عن نصوص الرسول - عليه الصلاة والسلام - والحث على نقلها إليهم؛ ليتمسكوا بها، إن كانت موافقة لمذاهبهم، أو ليرجعوا عن مذاهبهم، إن كانت مخالفة لها؛ وليس يجوز فيمن هذه عادته - أن يحكم في قضية بحكم لنص، ثم يسكت عن ذكر ذلك النص، وذلك معلوم بالضرورة. وبهذا الطريق: ثبتت المقدمة الثانية، وهي قولنا: (لو أظهر النص، لاشتهر، ولو اشتهر لنقل، ولو نقل، لعرفه الفقهاء والمحدثون. وأما أن ذلك لم ينقل: فلأنا بعد البحث التام، والطلب الشديد، والمخالطة للفقهاء والمحدثين: ما وجدنا في ذلك ما يدل على نقلها، وذلك يدل على عدمها؛ فثبت أنهم لم يقولوا بتلك الأقاويل؛ لأجل نص، وإذا بطل ذلك، ثبت أنه لأجل القياس. الوجه الرابع: نقل عن الصحابة القول بالرأي، والرأي هو القياس؛ وإنما قلنا: (إنهم قالوا بالرأي) لأنه روى عن أبي بكر: أنه قال في الكلالة: (أقول فيها برأيى). وفي الجنين، لما سمع الحديث: (لولا هذا، لقضينا فيه برأينا) وقول عثمان لعمر (رضي الله عنهما) في بعض الأحكام: (إن اتبعت رأيك، فرأيك رشيد، وإن تتبع رأي من قبلك، فنعم ذو الرأي كان) وعن علي - رضي

الله عنه -: (اجتمع رأيى ورأي عمر في أم الولد على ألا تباع، وقد رأيت الآن بيعهن) وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - في قصة (بروع): (أقول فيها برأيي). وإنما قلنا: (إن الرأي عبارة عن القياس) لأنه يقال للإنسان: أقلت هذا برأيك، أم بالنص؟ فيجعل أحدهما في مقابلة الآخر؛ وذلك بدل على أن الرأي لا يتناول الاستدلال بالنص، سواء كان جليًا، أو خفيًا؛ فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن بعض الصحابة ذهب إلى القول بالقياس والعمل به. وأما المقدمة الثانية؛ وهي: أنه لم يوجد من أحدهم إنكار أصل القياس؛ فلأن القياس أصل عظيم في الشرع نفيًا وإثباتًا، فلو أنكر بعضهم، لكان ذلك الإنكار أولى بالنقل من اختلافهم في مسألة الحرام والجد؛ ولو نقل، لاشتهر، ولوصل إلينا، فلما لم يصل إلينا، علمنا أنه لم يوجد، وتقرير مقدمات هذا الكلام ما تقدم مثله في المقدمة الأولى. وأما المقدمة الثالثة؛ وهي: أنه لما قال بالقياس بعضهم، ولم ينكره أحد منهم، فقد انعقد الإجماع على صحته، فالدليل عليه أن سكوتهم: إما أن يقال: إنه كان عن الخوف، أو عن الرضا: والأول: باطلٌ؛ لأنا نعلم من حال الصحابة شدة انقيادهم للحق؛ لا سيما فيما لا يتعلق به رغبة ولا رهبة في العاجل أصلاً؛ وذلك يمنع من حمل السكوت على الخوف. وأيضًا: فلأن بعضهم خالف البعض في المسائل التي حكيناها، ولو كان هناك خوف يمنعهم من إظهار ما فب قلوبهم، لما وقع ذلك؛ فثبت أن سكوتهم كان

عن الرضا، وذلك يوجب كون القياس حجة؛ وإلا لكانوا مجمعين على الخطأ؛ وإنه غير جائز؛ هذا تحرير الأدلة. فإن قيل: لا نسلم ذهاب أحد من الصحابة إلى القول بالقياس، والوجوه الأربعة المذكورة لا يزيد رواتها على المائة والمائتين، ذلك لا يفيد القطع بالصحة؛ لاحتمال تواطؤ هذا القدر على الكذب؛ كيف والأحاديث التي يتمسك بها أهل الزمان في المسائل الفقهية مشهورة فيما بين الأمة، إلا أن روايتها في الأصل، لما انتهت إلى الواحد والاثنين، لا جرم لم نقطع به؛ فكذا هاهنا. فإن قلت: الأمة في هذه الروايات على قولين: منهم: من قبلها، واعترف بدلالتها على القياس، ومنهم: من اشتغل بتأويلها؛ وذلك يدل على اتفاقهم على قبولها. قلت قد مر غير مرة: أن هذا الطريق لا يفيد الجزم بصحتها. سلمنا صحة هذه الراويات؛ لكن لا نسلم دلالتها على ذهابهم إلى القول بالقياس والعمل به. وأما الوجه الأول: وهو قول - عمر رضي الله عنه -: (اعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك): قلنا: التمسك: إما أن يكون بقوله: (اعرف الأشباه والنظائر) أو بقوله: (قس الأمور برأيك): أما الأول: فلا حجة فيه؛ لأن الله تعالى، لما نص على حكم كل جنس ونوع، وجب على المستدل معرفة الأشباه والنظائر؛ لئلا يخرج منه ما هو من جنسه،

ولا يدخل فيه ما هو من غير جنسه، وقد يشتبه الشيء بالشيء، فلا بد من التأمل الكثير؛ ليعرف أنه من جنسه، أو من غير جنسه. وأما الثاني: وهو قوله: (قس الأمور برأيك): فلا يدل أيضًا على الغرض؛ لأن القياس في أصل اللغة: عبارة عن التسوية، فقوله: (قس الأمور برأيك) معناه: اعرض الأشياء على فكرتك وتأملك؛ لأن التفكر في الشيء لا معنى له إلا استحضار علوم، أو ظنون؛ ليتوصل بها إلى تحصيل علوم، أو ظنون، فالمتفكر كأنه يريد التسوية بين المطلوب المجهول، وبين المقدمات المعلومة؛ ليصير المجهول معلومًا. وهذا التأويل متعين؛ لأن الرأي هو الروية، فقوله: (قس الأمور برأيك) معناه: سو الأشياء برويتك، وتسوية الأشياء بالروية ليست إلا ما ذكرنا؛ فيرجع حاصل الأمر إلى أنه أمره بأن لا يحكم بمجرد التشهي والتمني؛ بل بالاستدلال والنظر، وذلك ليس من القياس الشرعي في شيء. سلمنا أن المراد منه الأمر بتشبيه الفرع بالأصل؛ لكن يحتمل أن يكون المراد التشبيه في ثبوت ذلك الحكم، وأن يكون المراد منه التسوية في أنه كما لا يثبت حكم الأصل إلا بالنص، فكذا حكم الفرع لا يثبت إلا بالنص؛ فلم قلت: إن الاحتمال الأول أولى من الثاني؟ وأما الوجه الثاني: وهو تشبيه ابن عباس: قلنا: لم قلت: إن المراد: أنه جمع بين الأمرين بعلة قياسية؟ ولم لا يجوز أن يكون ذلك لأجل أنه كما سمى - النافلة - بالابن مجازًا، واكتفى بهذا الاسم المجازي في اندراج (النافلة) تحت عموم قوله تعالى: {يوصيكم الله في

أولادكم} [النساء: 11]؟ وكذلك سمى الجد أبًا مجازًا؛ حتى يكفي هذا في اندراجه تحت عموم قوله تعالى: {وورثه أبواه} [النساء: 11]. والذي يؤكد هذا الاحتمال: أن ابن عباس نسب زيدًا إلى مفارقة التقوى، وتارك القياس لا يكون كذلك، بل تارك النص يكون كذلك؛ وإنما يكون زيد تاركًا للنص، لو كان الأمر على ما قلنا. وأما الوجه الثالث: فالكلام عليه: أنه لم لا يجوز أن يقال: إن ذهاب كل واحد إلى ما ذهب إليه في تلك المسائل؛ كان لتمسكه بنص ظنه دليلاً على قوله، سواء أصاب في ذلك الظن، أو أخطأ فيه؟!. قوله: (لو كان كذلك، لأظهروا ذلك النص، ولاشتهر، ولنقل، ولوصل إلينا، فلما لم يصل إلينا، علمنا عدمه): قلنا: هذه المقدمات بأسرها ممنوعة. قوله: (علمنا بالضرورة شدة تعظيمهم لنصوص الرسول - عليه الصلاة والسلام - ويمتنع ممن هذه حاله أن يحكم بحكم؛ لأجل نص، ثم إنه لا يذكره): قلنا: لا نسلم أن شدة تعظيمهم للنص يقتضي إظهار النص الذي لأجله ذهبوا إلى ذلك القول. بيانه: أن شدة التعظيم إنما تقتضي إظهار النص عند الحاجة إلى إظهاره، وهم ما احتاجوا إليه؛ لأن الحاجة: إما أن تكون عند المناظرة، أو مع المستفتي: والأول: باطلٌ؛ لأنهم لم يجتمعوا في محفلٍ؛ لأجل المناظرة في تلك

المسائل، وما كانت عادتهم جارية بالاجتماع على المناظرات والمجادلات، وأما المستفتي فلا فائدة من ذكر الدليل معه. سلمنا أن شدة تعظيمهم للنص تقتضي إظهار النص؛ ولكن بشرط أن يكون السامع بحيث يمكنه الانتفاع به، ولم يوجد هذا الشرط هناك؛ لأنه إذا روى ذلك النص، كان ذلك النص خبر واحد في حق السامع، وخبر الواحد ليس بحجة؛ فلا فائدة إذن في إظهار هذا النص. سلمنا أنه يجب إظهاره؛ ولكن إذا كان النص جليًا، أو مطلقًا، سواءٌ كان جليًا أو خفيًا؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع: بيانه: أن الإنسان إنما يدعوه الداعي إلى إظهار دليل مذهبه، إذا كان ذلك الدليل ظاهرًا قويًا؛ أما إذا كان خفيًا، فقد لا يدعوه الداعي إلى إظهاره. وبالجملة: فأنتم المستدلون، فعليكم إقامة الدلالة على أنه يجب إظهاره، سواء كان قويًا أو ضعيفًا. سلمنا ما ذكرتموه؛ لكن نعارضه؛ فنقول: لو كان ذهابهم إلى مذاهبهم لأجل القياس، لوجب عليهم إظهاره؛ ولكن لم ينقل عن أحد من الصحابة القياس الذي لأجله ذهب إلى ما ذهب إليه. فإن قلت: (الفرق: أن القياس لا يجب اتباع العالم فيه، والنص يجب اتباعه فيه: قلت: القياس إذا كان ظاهرًا جليًا، فلا نسلم أنه لا يجب الاتباع فيه، ولولا ذلك، لما حسنت المناظرة فيه بين القائسين. سلمنا أنهم لو تمسكوا بالنصوص، لأظهروها؛ فلم قلت: إنهم لو أظهروها،

لاشتهر؟ فإن ذلك ليس من الوقائع العظام التي يمتنع ألا تتوفر الدواعي على نقلها. فإن قلت: (لما توفرت دواعيهم على نقل مذاهبهم، مع أنه لا فائدة فيها؛ فلأن تتوفر دواعيهم على نقل تلك الأدلة، مع ما فيها من الفوائد - كان أولى): قلت: إنا لم نقل: إن الأمور التي لا تكون عظيمة يمتنع نقلها؛ حتى يكون ما ذكرتموه لازمًا علينا، بل قلنا: إنه لا يجب نقلها، ولا يمتنع أيضًا. سلمنا أنه من الوقائع العظيمة؛ لكن لم قلت: إنه يجب نقله؟ والدليل عليه: أن معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - على جلالة قدرها، وأمر الإقامة في الإراد والتثنية على نهاية ظهورها، لم ينقله إلا الواحد والاثنان، وإذا جاز ذلك، فلم لا يجوز ألا ينقله ذلك الواحد أيضًا؟. سلمنا أنها لو اشتهرت، لنقلت؛ لكن لا نسلم أنها ما نقلت. قوله: (لو نقلت، لعرفناها): قلنا: إما أن تدعيَ أنَّ كل ما نقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجميع أصحابه، فلا بد وأن تعلمه أنت، أو تدعي أنه لا بد وأن يوجد في زمانك من يعلمه!!. أما الأول: فلا يقول به إنسان سليم العقل. وأما الثاني: فمسلم؛ ولكن كيف عرفت أنه ليس في زمانك من يعلم تلك النصوص؟ فإن كل أحد إنما يعلم حال نفسه، لا حال غيره. سلمنا: أنه لو نقل، لعرفه كل واحد منا؛ لكن لا نسلم أنَّا لا نعرفه، فلنتكلم في مسألة الحرام، فنقول: أما من ذهب إلى كونه يمينًا، فيحتمل أنه إنما ذهب

إليه؛ استدلالاً بقوله تعالى: {يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1] إلى قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 2] وأنه - عليه الصلاة والسلام - حرم على نفسه مارية القبطية، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وسماه يمينًا. ومن ذهب إلى أنه لا اعتبار به، تمسك بقوله تعالى: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة: 87] والنهي يدل على الفساد، أو بالبراءة الأصلية. ومن ذهب إلى أنه للطلقات الثلاث، زعم أنه قد يجعل كناية عن الطلقات الثلاث؛ فوجب تنزيله على أعظم أحواله، وهو الطلقات الثلاث، ثم أدخله تحت قوله تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1]. ومن ذهب إلى أنه للطلقة الواحدة، نزله على أقل أحواله، ومن جعله ظهارًا، جعله كناية عنه، والكنايات في اللغة ليست عبارة عن القياس الشرعي. سلمنا أن قولهم بتلك المذاهب ليس للنص؛ فلم قلتم: إنه لا بد وأن يكون للقياس، فما الدليل على نفي الواسطة؟ ثم إنا نتبرع بذكر الوسائط: منها: تنزيل اللفظ على أقل المفهومات، أو على الأكثر، ومنها استصحاب الحال، ومنها: المصالح المرسلة الخالية عن شهادة الأصول، ومنها: الاستقراء؛ والفرق بينه وبين القياس: أن الاستقراء عبارة عن إثبات الحكم في كليٍّ؛ لثبوته في بعض جزئياته، والقياس عبارة عن إثباته في جزئي؛ لأجل ثبوته في جزئي آخر، ومنها: أنه كان من مذهبه أن مجرد قوله حجة، ومستند ذلك الوهم إلى أن قول بعض الأنبياء حجة؛ فيكون قول هذا العالم حجة!!. بيان الأول: قوله تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا إسرائيل على نفسه} [آل عمران: 93] أضاف التحريم إليه.

بيان الثاني: قوله - عليه الصلاة والسلام -: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) فهذه الشبهة تقتضي أن يكون مجرد قول العالم حجة؛ فلعل هذه الشبهة خطرت ببالهم، ومنها الإجماع. فإن قلت: (حصول الإجماع في محل الخلاف محالٌ): قلت: المقصود من ذكر الإجماع بيان ثبوت الواسطة بين النص والقياس في الجملة، فهذا هو الكلام على الوجه الثالث. وأما الوجه الرابع: وهو أن الصحابة قالت بالرأي، والرأي هو القياس: فنقول: لا نسلم أن الرأي هو القياس؛ والدليل عليه وجوه: الأول: أنه يقال: رأى يرى رؤية ورأيًا؛ فدل هذا على أنه مرادف للرؤية، فإذا ثبت ذلك، وجب ألا يكون حقيقة في القياس؛ دفعًا للاشتراك، وإذا ثبت أنه ما كان في أصل اللغة للقياس، وجب ألا يكون في عرف الشرع له؛ لأن النقل خلاف الأصل. الثاني: لو كان الرأي اسمًا للقياس، لكان اللفظ المشتق منه دليلاً على القياس، وكان يجب أن يكون قولنا: (فلان يرى كذا) معناه: أنه يقيس، ومعلوم أن ذلك باطلٌ؛ لأن من يذهب إلى الرؤية، والصفات، وخلق الأعمال، يجوز أن

يحكي عن نفسه: (إني أرى القول بهذه الأشياء) وعمن يشاركه في المذهب: (إنه يرى القول بها). الثالث: أنكم رويتم عن أبي بكر - رضي الله عنه -: أنه قال في الكلالة: (أقول فيها برأيي) ومعلوم أن تفسير اللفظة اللغوية لا يكون بالقياس. فثبت بهذه الوجوه الثلاثة: أن الرأي ليس اسمًا للقياس. وأما الذي تمسكتم به؛ من أنه يقال: أقلت هذا عن رأيك، أو عن النص؟ قلنا: أقصى ما في الباب؛ أن يدل هذا الاستعمال على أن الرأي غير النص؛ لكن من أين يدل على أنه لما كان غير النص، وجب أن يكون قياسًا؟. بيانه: أن النص: هو اللفظ الدال على الحكم دلالة ظاهرة جلية، فما لا يكون كذلك لا يكون نصًا؛ فلا يلزم من كون الرأي خارجًا عن النص: ألا يكون ذلك الاستدلال لفظيًا؛ لاحتمال أنه لما كان خفيًا، لا جرم لا يسمى بالنص. سلمنا أن مسمى الرأي ليس هو النص؛ فلم قلتم: إنه هو القياس؛ وما الدليل على هذا الحصر؟ فهذا هو الكلام المختصر على الوجوه الأربعة المذكورة في تقرير المقدمة الأولى. سلمنا أن بعض الصحابة قال بالقياس، أو عمل به؛ فلم قلت: إن أحدًا منهم ما أنكره؟!. قوله: (لو أنكروه، لاشتهر، ولنقل، ولوصل إلينا): قلنا: الكلام على هذه المقدمات قد مر.

والذي نقوله الآن: أنَّا لا نسلم أنه ما وصل ذلك الإنكار إلينا؛ فإنه نقل عنهم تارة: إنكار الرأي، وأخرى: إنكار القياس، وأخرى: ذم من أثبت الحكم لا بالكتاب والسنة، روى عن أبي بكر - رضي الله عنه -: أنه قال: (أي سماءٍ تظلني، وأي أرض تُقلني، إذا قلت في كتاب الله برأيي؟). وعن عمر - رضي الله عنه -: (إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي؛ فضلوا وأضلوا) وعنه - رضي الله عنه -: (إياكم والمكايلة) قيل: وما المكايلة؟ قال: (المقايسة) وعن شريحٍ قال: (كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يومئذ من قبله قاضٍ -: (اقض بما في كتاب الله تعالى، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، فاقض بما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن جاءك ما ليس فيها، فاقض بما أجمع عليه أهل العلم، فإن لم تجد، فلا عليك أن تقضي). وعن علي: (لو كان الدين يؤخذ بالقياس، لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره) وروى عنه: (من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم، فليقل في الجد برأيه). وهذا أيضًا يروى عن عمر - رضي الله عنه. وعن ابن عباس: (يذهب قراؤكم وصلحاؤكم، ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم) وقال: (إذا قلتم في دينكم بالقياس، أحللتم كثيرًا مما حرمه الله تعالى وحرمتم كثيرًا مما حلل الله) وقال: (إن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فأحكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 48] ولم يقل: (بما رأيت) وقال: (لو جعل لأحدكم أن يحكم برأيه، لجعل ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن قيل له: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] وقال: (إياكم والمقاييس؛ فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس).

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: (السنة: ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لا تجعلوا الرأي سنة للمسلمين) وعن مسروق: (لا أقيس شيئًا بشيء، أخاف أن تزل قدمي بعد ثبوتها) وكان ابن سيرين يذم القياس، ويقول: (أول من قاس إبليس) وقال الشعبي لرجل: (لعلك من القياسيين) وقال: (إن أخذتم بالقياس، أحللتم الحرام، وحرمتهم الحلال). فثبت بهذه الروايات تصريح الصحابة والتابعين بإنكار الرأي والقياس. فإن قلت: هؤلاء الذين نقلت عنهم المنع من القياس هم الذين دللنا على ذهابهم إلى القول به، فلا بد من التوفيق، وذلك بأن نصرف الروايات المانعة من القياس إلى بعض أنواعه؛ وذلك حق؛ لأن العمل بالقياس لا يجوز عندنا إلا بشرائط مخصوصة. قلت: هب أن الذين نقلنا عنهم المنع من القياس: هم الذين دللتم على أنهم كانوا عاملين به، إلا أنا نقلنا عنهم التصريح بالرد والمنع على الإطلاق من غير تقييد بصورة خاصة، وأنتم ما نقلتم عنهم التصريح بالقول، بل رويتم عنهم أمورًا، ثم دللتم بوجوه دقيقة غامضة على أن تلك الأمور دالة على قولهم بالقياس، ومعلوم أن التصريح بالرد أقوى مما ذكرتموه؛ فكان قولنا راجحًا. سلمنا عدم الترجيح من هذا الوجه؛ لكن كما أن التوفيق الذي ذكرتموه

ممكن، فهاهنا توفيق آخر؛ وهو أن يقال: إن بعضهم كان قائلاً بالقياس، حين كان البعض الآخر منكرًا له، ثم لما انقلب المنكر مقرا، انقلب المقر أيضًا منكرًا. وعلى هذا التقدير: يكون كل واحد منهم مادحًا للقياس، وذامًا له من غير تناقض، مع أنه لا يحصل الإجماع. سلمنا أن بعض الصحابة قال بالقياس وأن أحدًا منهم ما أظهر الإنكار؛ فلم قلتم: يحصل الإجماع؟. وبيانه: أن السكوت قد يكون للخوف والتقية. قوله: (القول بالقياس ليس سببًا لنفع دنيوي؛ فكيف يحصل الخوف من إنكار الحق فيه): قلنا: لا نسلم عدم الخوف هناك. قال النظام في هذا المقام: الصحابة ما أجمعوا على القياس، بل القائل به قوم معدودون، وهم: عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبىٌّ، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء وأبو موسى، وأناس قليل من أصاغر الصحابة؛ والباقون ما كانوا عاملين به، ولكن لما كان فيهم عمر وعثمان وعلي، وهؤلاء لهم سلطان، ومعهم الرغبة والرهبة، شاع ذلك في الدهماء، وانقادت لهم العوام، فجاز للباقين السكوت على التقية؛ لأنهم قد علموا أنَّ إنكارهم غير مقبول. قال: والذي يدل عليه: أنه قال في الفتيا عبد الله بن عباس، والعباس أكبر منه،

ولم يقل في الفتيا شيئًا من غير عجز، ولا عيٍّ، ولا غيبة عن شيءٍ شهده ابنه، وقال في الفتيا عبد الله بن الزبير، والزبير أعظم منه، ولم يقل فيه شيئًا، وكان أبو عبيدة، ومعاذ بن جبل بالشام، فقال معاذٌ، ولم يقل أبو عبيدة؛ مع أن أبا عبيدة أعظم منه؛ فإنه قال - عليه الصلاة والسلام -: (أبو عبيدة أمين هذه الأمة) وكيف يقال: كان الخوف زائلا، وابن عباس قال: (هبته، وكان - والله - مهيبًا). وأيضًا: فإن الرجل العظيم؛ إذا اختار مذهبًا، فلو أن غيره أبطل ذلك المذهب عليه، فإنه يشق عليه غاية المشقة؛ ويصير ذلك سببًا للعداوة الشديدة. قوله: (لو كان الخوف مانعًا من المخالفة لما خالف بعضهم بعضًا في مسألة الجد والحرام): قلنا: القياس أصل عظيم في الشرع؛ نفيًا وإثباتًا، فكان النزاع فيه أصعب من النزاع في فروع الفقه؛ ولذلك نرى في المختلفين في مسألة القياس يضلل بعضهم بعضًا، والمختلفين في الفروع لا يفعلون ذلك. سلمنا أن أسباب الخوف ما كانت ظاهرة، ولكن أجمع المسلمون على أنهم ما كانوا معصومين؛ فكيف يمكننا القطع باحترازهم عن كل ما لا ينبغي، غاية ما في الباب حسن الظن بهم، ولكن ذلك [لا] يكفي في القطعيات. سلمنا زوال الخوف؛ ولكن لعلهم سكتوا؛ لأنه ما ظهر لهم كون القياس حقًا، ولا باطلاً؛ فكان فرضهم السكوت، أو أنهم عرفوا كونه خطأ؛ لكنهم اعتقدوا أنه من الصغائر، فلا يجب الإنكار على العامل به، ولأن كل واحد منهم اعتقد في غيره أنه أولى بإظهار الإنكار.

سلمنا: أنهم بأسرهم رضوا؛ لكن حصل الرضا دفعة واحدة، أو لا دفعة واحدة: الأول: مما لا يعرفه إلا الله تعالى؛ لأنهم ما جلسوا في محفل واحدٍ قاطعين بصحته دفعة واحدة. والثاني: لا يفيد الإجماع؛ لأنه ربما كان الأمر بحيث لما صار البعض راضيًا بقلبه، صار الآخر متوقفًا فيه، أو منكرًا عليه بالقلب؛ وذلك يمنع من انعقاد الإجماع. فإن قلت: (هذا الاحتمال يمنع من انعقاد الإجماع): قلت: لا نسلم؛ فإن أهل الإجماع كانوا قليلين في زمان الصحابة، وكان يمكنهم أن يجتمعوا في محفل واحدٍ، ويقطعوا بالحكم، فيكون ذلك الإجماع خاليًا عن هذا الاحتمال. أما إذا لم يجتمعوا في محفل واحد، فإذا سئل بعضهم، فأفتى به، ثم أنه سئل إنسان آخر، في بلد آخر، فلعل المفتي الأول رجع عن فتواه حينما أفتى به المفتي الثاني؛ وحينئذ لا يتم الإجماع، وهذا سؤال أهل الظاهر، ولهذا قالوا: لا حجة إلا في إجماع الصحابة. سلمنا انعقاد الإجماع على قياس ما؛ لكن لم ينقل إلينا أنهم أجمعوا على النوع الفلاني من القياس، أو على كل أنواعه، ولم يلزم من انعقاد الإجماع على صحة نوع انعقاده على صحة كل نوع؛ فإذن: لا نوع إلا ويحتمل أن يكون النوع الذي أجمعوا عليه هو هذا النوع، وأن يكون غيره، وإذا كان كذلك، صار كل أنواه مشكوكًا فيه؛ فلا يجوز العمل بشيء منه.

فإن قلت: (الأمة على قولين: منهم: من أثبت القياس، ومنهم: من نفاه، وكل من أثبته، فقد أثبت النوع الفلاني مثلاً، فلو أثبتنا قياسًا غير هذا النوع، كان خرقًا للإجماع): قلت: لا نسلم أن كل من أثبت نوعًا من القياس، أثبت نوعًا معينًا منه؛ لأن القياس إما أن يكون مناسبًا، أو لا يكون: وكل واحد من القسمين مختلف فيه: أما المناسب: فرده قومٌ؛ قالوا: لأن مبناه على تعليل أحكام الله تعالى بالحكم والأغراض؛ وإنه غير جائز. وأما غير المناسب: فقد رده الأكثرون؛ فثبت أنه ليس هاهنا قياس مقبول بإجماع القائسين. سلمنا انعقاد إجماع القائسين على نوع واحدٍ؛ ولكن لم لا يجوز أن يكون ذلك هو قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف، وما إذا نص الله تعالى على العلة؛ فإن هذا القياس عندنا حجة؟!. سلمنا انعقاد الإجماع على جواز العمل بالقياس في زمان الصحابة؛ فلم [لا] يجوز في زماننا؟. والفرق: أن الصحابة، لما شاهدوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - والوحي، فربما عرفوا بقرائن الأحوال: أنَّ المراد من الحكم الخاص بصورة معينة - رعاية الحكمة العامة؛ فلا جرم جاز منهم التعبد به، وأما غير الصحابة، فإنهم لما لم يشاهدوا الوحي والرسول والقرائن، لم يكن حالهم كحال الصحابة. فإن قلت: (كل من جوز العمل بالقياس للصحابة، جوزه لغيرهم): قلت: كيف يقطع بأنه ليس في فرق الأمة، على كثرتها، أحدٌ يقول بهذا

الفرق مع وضوحه؛ غايته: أنا لا نعرف أحدًا قاله؛ لكن عدم العلم بالشيء لا يقتضي العلم بعدمه. والجواب: أن أصحابنا ذهبوا إلى أن الروايات المذكورة في اختلافهم في مسألة: الجد، والحرام، والمشركة، والإيلاء، والخلع، وتقدير الحد بشرب الخمر، وقياس العهد على العقد، وقول الصحابة بالتشبيه والرأي، وما نقل من الأحاديث في القياس؛ كخبر معاذ وابن مسعود، وخبر الخثعمية، والسؤال عن قبلة الصائم، وأمر عمر أبا موسى بالقياس، وقول ابن عباس بالتشبيه - قد بلغ مجموعها إلى حد التواتر؛ فإن من خالط أهل الأخبار، وطالع كتبهم، قطع بصحة شيء من هذه الأخبار؛ فإنها باسرها يمتنع أن تكون كذبًا، وأي واحد منها صح القول بالقياس، وهذا الذي قاله الأصحاب جيد، إلا أن الخصم، لو كابر، وقال: لا أسلم خروج هذا المجموع عن كونه خبر واحد. قلنا: هب أنه كذلك، فأيش يلزم؟. قوله: (المسألة علمية قطعية؛ فلا يجوز إثباتها بدليل ظني): قلنا: لا نسلم أنها قطعية؛ بل هي عندنا ظنية؛ لأن هذه المسألة عملية، والظن قائم مقام العلم في وجوب العمل؛ ألا ترى أنه لا فرق بين أن يعلم بالمشاهدة وجود الغيم الرطب المنذر بالمطر، الذي يجب التحرز منه، وبين أن يخبر بوجود مثل هذا الغيم مخبر لمن لا يمكنه مشاهدة الغيم في أنه يلزمه التحرز منه، فكذا هاهنا؛ لا فرق بين أن يتواتر النقل عن الشرع في أنَّا مأمورون بالقياس، وبين أن يخبرنا به من يظن صدقه؛ في وجوب العمل بالقياس، وإن لم نعلم صدق المخبر بذلك؛ وهذا الجواب قاطع للشغب بالكلية.

قوله على الوجه الأول: (لا يجوز أن يكون المراد من قول عمر: (اعرف الأشباه والنظائر) - الأمر بمعرفة ماهية كل جنس؛ لئلا يدخل تحت النص المذكور في ذلك الجنس - ما ليس منه، ولا يخرج عنه ما هو منه): قلنا: مقدمة هذا الكلام ومؤخرته تبطل هذا الاحتمال؛ وهو قول عمر - رضي الله عنه -: (الفهم عندما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في كتاب الله، ولا سنة نبيه، ثم اعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك عند ذلك، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله تعالى، وأشبهها بالحق فيما ترى) فمن تأمل هذا الكلام، عرف أنه صريح في الأمر بالقياس الشرعي. وهو الجواب أيضًا عن قوله: (لم لا يجوز أن يكون المراد منه تشبيه الفرع بالأصل في أنه لا يثبت حكمه إلا بالنص). قوله على الوجه الثاني: (لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنه، لم لا يسمى الجد أبًا مجازًا؛ حتى يدخل تحت قوله: {وورثه أبواه} [النساء: 11] كما سمى النافلة ابنًا؛ حتى دخل تحت قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11]؟): قلنا: لا يجوز أن يكون إنكار ابن عباس على زيد؛ لأجل امتناعه من المجاز في أحد الموضعين دون الثاني؛ لأن حسن المجاز في أحد الموضعين لا يوجب حسنه في الموضع الثاني. وبتقدير التساوي في الحسن؛ لكن القطع به في أحد الموضعين لا يوجب القطع به في الموضع الثاني. وإذا ثبت أن هذا الإنكار غير متوجه على التفرقة في إطلاق الاسم المجازي،

ثبت أنه متوجه على التفرقة في الحكم الشرعي، فيكون ذلك تصريحًا بالقياس الشرعي. قوله: (لو كان المراد هو الحكم الشرعي، لما نسبه إلى مفارقة التقوى): قلنا: لعل هذا القياس كان جليًا عند ابن عباس، وكان من مذهبه أن الخطأ في مثل هذا القياس يقدح في التقوى. وأيضًا: فذلك محمول على المبالغة. قوله على الوجه الثالث: (لم قلت: إن مبالغتهم في تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - توجب إظهار النص؟): قلنا: استقراء العرف يشهد به؛ فإن من حكم بحكم غريب يخالفه فيه جمعٌ، يوافقونه على تعظيم شخص معين، ووجد ذلك الإنسان حجة من قول ذلك الإنسان العظيم؛ فإنه لا بد أن يذكر لهم ذلك القول ويصرح به. قوله: (إنما يذكر عند الحاجة إلى ذكره): قلنا: والحاجة إلى ذكره حاصلة مطلقًا؛ لأن من يعتقد أن مذهبه ثابت بالنص، فلا بد أن يعلم: أن مخالفه: إنما خالفه إما لا لطريق، أو لطريق مرجوح بالنسبة إلى طريقه، أو مساوٍ له، أو راجح عليه: وعلى التقديرين الأولين؛ كان مخالفه مخالفًا للنص. وعلى التقدير الثالث: يكون فرض كل واحدٍ منهما التوقف؛ فتكون الفتوى بأحدهما محظورًا. وعلى التقدير الرابع: يكون هو مخالفًا للنص، فإذن: من أثبت مذهبه بالنص، فإنه لا بد وأن يعتقد فيمن خالفه، أو في نفسه - كونه مخالفًا للنص؛

لكن شدة إنكارهم على مخالفة النص تقتضي شدة احترازهم عنها، ولا طريق إلى ذلك الاحتراز إلا بذكر ذلك النص؛ فثبت أن شدة تعظيمهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - توجب عليهم: أن يذكروا نصوصه على الإطلاق. وبهذا ظهر الجواب عن قوله: (إنه لا يجب ذكر النصوص الخفية؛ لأن الدليل الذي ذكرناه مطرد في الكل). قوله: (لو أثبتوا مذاهبهم بالقياس، لوجب عليهم أن يذكروه): قلنا: الفرق من وجوه: أحدها: أن إنكارهم على مخالف النص أقوى من إنكارهم على مخالف القياس؛ فلم يلزم من ترك أقل الإنكارين ترك أعظمها؟!. وثانيها: أن الخواطر مستقلة بمعرفة العلل القياسية؛ فلا يجب التنبيه عليها، وهي غير مستقلة بمعرفة النصوص؛ وذلك يقتضي وجوب التنبيه عليها. فإن قلت: (لو لم يجب التنبيه على العلل القياسية، لما حسنت المناظرات): قلت: ليس كل ما لا يجب لا يحسن. وثالثها: أن النصوص يجب اتباعها؛ فيجب نقلها، والأقيسة لا يجب اتباعها فلا يجب نقلها؛ لأن عندنا: كل مجتهد مصيبٌ. ورابعها: أن النصوص يمكن الإخبار عنها على كل حال، وأما الأمارات: فقد يتعذر التعبير عنها، وإن كانت مفيدة للظن؛ مثل الأمارات في قيم المتلفات، وأروش الجنايات؛ ولذلك لا يتمكن المقوم من أن يذكر أمارة ملخصة في تقدير القيمة بالقدر المعين.

فإن قلت: (أليس أن فقهاء هذا الزمان يعبرون عن هذه الأمارات؟): قلت: المتأخر في كل علم يلخص ما لم يلخصه المتقدم. سلمنا أنه يجب عليهم ذكر تلك الأقيسة؛ لكن يجب ذكرها صريحًا، أو تنبيهًا؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم: وهاهنا قد نبهوا على العلل بالإشارة إلى الأصول التي ذكروها: بيانه: أنهم اتفقوا على أن حكم قوله: (أنتِ عليَّ حرامٌ) إما أن يكون حكمه حكم الطلاق، أو الظهار، أو اليمين، وعلة ذلك ظاهرة، وهي أن قوله: (أنتِ عليَّ حرامٌ) لفظ موضوع للتحريم، فيؤثر فيه إذا توجه إلى الزوجة؛ كهذه المسائل، ثم إن كل واحد منهم رجح الأصل الذي اختاره؛ فمنهم: من رجح الاحتياط؛ فجعله طلاقًا ثلاثًا، ومنهم: من رجح بالمتيقن؛ فجعله طلقة واحدة. ومنهم: من جعله ظهارًا؛ لمشابهته إياه في اقتضاء التحريم ومباينته لصرائح الطلاق، وكناياته، ثم جعل كفارته كفارة الظهار؛ أخذًا بالاحتياط؛ لأنها أغلظ من كفارة اليمين، ومنهم: من رجح بأن كفارة اليمين أقل الكفارات؛ فيوجبها؛ أخذًا بالأقل؛ فظهر أن ذكر هذه الأصول منبه على كيفية قياساتهم. قوله: (لم قلت: لو أظهروا تلك النصوص، لوجب اشتهارها؟): قلنا: لأن هذه المسائل من المسائل التي يكثر وقوعها؛ فكانت الحاجة إلى معرفة حكم الله تعالى فيها بالدليل شديدة؛ وما كان كذلك، فإن الدواعي تتوفر على حفظ النصوص الواردة فيها، فهذا إن لم يفد القطع، فلا أقل من الظن. قوله: (تدعي أن تلك النصوص، لو نقلت، لعرفتها أنت أو لعرفها أحد ممن في هذا الزمان؟!):

قلنا: ندعي قسمًا ثالثًا، وهو أن يكون مشهورًا في الكتب؛ بحيث يجده كل من حاول طلبه. قوله: (من ذهب إلى أنه يمين، تمسك بقوله تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك} .... إلى قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 1 - 2]): قلنا: إن قوله تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 2] لا يدل على أنه إذا حرم، فماذا حكمه؟!. ثم إذا دل، فإنما يدل على مذهب مسروق. وأما قوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 2] فنقول: ليس في الآية إلا أنه - عليه الصلاة والسلام - حرم ما أحل الله له، فيجوز أن يكون قد حرمه بلفظ اليمين؛ بأن كان قد حلف بأنه لا يقرب مارية، بل هذا أولى؛ لأن اليمين هو القسم بالله، ولا شبهة في أن قوله: (أنت عليَّ حرام) ليس قسمًا بالله؛ فثبت أن هذه الآية لا دلالة فيها على حكم هذه المسألة. وأيضًا: فلو نزلت هذه الآية بسبب قوله لمارية: (أنت عليَّ حرام) لكان ذلك نصًا في الباب؛ وذلك يمنع من ذهاب كل واحد منهم في هذه المسألة إلى قول آخر؛ لما بينا أن شدة إنكارهم على من خالف نصوصه يمنع منه. قوله: (من حمله على الطلقات الثلاث، جعله ككنايات الطلاق): قلنا: لا شك أن قوله: (أنت عليَّ حرام) ليس من صرائح الطلاق، وما أجمعوا على أنه من كنايات الطلاق؛ فإذن: لا بد وأن يقال: إن حكم هذا

الكلام مثل حكم الصرائح والكنايات؛ وهذا التشبيه نفس القياس؛ بل لا نزاع في أنه بعد ثبوت هذه المشابهة يندرج تحت قوله: {إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1] وقوله: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229]. قوله: (من حمله على الطلقة الواحدة، فإنما حمله عليها؛ أخذًا بالمتيقن): قلنا: هذا إنما يثبت بعد أن نجعله من صرائح الطلاق أو كناياته؛ وحينئذ فلا بد فيه من القياس. قوله: (من حمله على الظهار، فقد أجراه مجرى الظهار): قلنا: إن أردتم به أنه أجراه مجرى الظهار في الحكم، فهذا هو القياس، وإن أردتم غيره، فبينوه. قوله: (إن مسروقًا تمسك بالبراءة الأصلية): قلنا: لا نسلم؛ بل قاسه على قصعة من ثريد؛ فإنه حكى عنه أنه قال: (لا فرق عندي بينه وبين قصعة من ثريد). وأيضًا: فإن مسروقًا كان من التابعين، فإما أن يقال: إنه عاصر الصحابة حين اختلفوا في هذه المسألة، أو ما عاصرهم في ذلك الوقت: فإن كان الأول: كانت الصحابة تاركين للبراءة الأصلية؛ بسبب القياس؛ لما بيَّنَّا أنهم ما ذهبوا إلى مذاهبهم؛ لأجل النص؛ وذلك يقتضي عمل بعض الصحابة بالقياس، ولا مطلوب في هذا المقام إلا ذلك. وإن كان الثاني: كان إجماعهم حجة عليه.

قوله: (هب أنهم ما ذهبوا إلى تلك المذاهب؛ لأجل النص، فلم قلت: ذهبوا إليها للقياس؟): قلنا: لأن كل من قال: الصحابة لم يرجعوا في تلك الأقاويل إلى البراءة الأصلية، ولا النصوص الجلية أو الخفية - قال: إنهم عملوا فيها بالقياس. هذا تمام الكلام في الوجه الثالث. قوله على الوجه الرابع: (إن الرأي في أصل اللغة ليس للقياس): قلنا: هذا مسلم؛ لكنا ندعي أنه في عرف الشرع اختص بالقياس، وهذا وإن كان خلاف الأصل؛ لكن الدليل قام عليه؛ فإنكم رويتم عنهم كلامًا كثيرًا في ذم الرأي، وقد ساعدنا خصومنا على أن المراد منه ذم القياس، فعلمنا أن عرف الشرع يقتضي تخصيص اسم الرأي بالقياس، وهذا تمام الكلام في المقدمة الأولى. قوله: (إنهم صرحوا بالإنكار): قلنا: نعم؛ ولكن التوفيق ما ذكروا. قوله: (روايات الإنكار صريحة، وروايات الاعتراف غير صريحة): قلنا: هب أنها غير صريحة لفظًا؛ لكنها صريحة بحسب الدلالة المذكورة؛ فلم قلت: إنه يبقى ما ذكرتموه من الترجيح؟. قوله: (لعل المنكر انقلب مقرا وبالعكس): قلنا: لو وقع ذلك، لاشتهر؛ لأنه من الأمور العجيبة؛ فحيث لم يشتهر، دل على أنه لم يقع.

قوله: (لعلهم سكتوا؛ خوفًا): قلنا: استقراء حال الصحابة يفيد ظنًا غالبًا بشدة انقيادهم للحق. وأما قدح النظام فيهم: فقد سبق الجواب عنه في (باب الأخبار). قوله: (يجوز أن يكون سكوتهم؛ لعدم علمهم بكونه حقًا أو باطلاً): قلت: هب أنهم كانوا متوقفين فيه في أول الأمر؛ ولكن الظاهر أن بعد انقضاء الأعصار يظهر لهم كونه حقًا أو باطلاً. قوله: (لعل كل واحد منهم اعتقد أن غيره أولى بالإنكار): قلنا: لا بد وأن يكون واحد منهم أولى بذلك، أو يكون الكل في درجة واحدة، وكيفما كان، فإجماعهم على ترك الإنكار إجماع على الخطأ. قوله: (حصل الرضا دفعة، أو لا دفعة؟): قلنا: الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان. قوله: (لا نعلم أنهم بأي أنواع القياس تمسكوا): قلنا: الإجماع الظاهر حاصل في أن القياس المناسب حجة. قوله: (لم قلت: إنه يلزم من جواز العمل بالقياس للصحابة جوازه لنا؟): قلنا: لا نعرف أحدًا قال بالفرق؛ فيكون الإجماع حاصلاً ظاهرًا. فهذا تمام الكلام في هذه الطريقة، وإنما استقصينا القول فيها جوابًا وسؤالاً؛ لأنَّا رأينا الأصوليين يعولون عليها في كثير من مسائل هذا العلم، قد ذكرناها أيضًا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، فأردنا أن نعرف مقدار قوتها، وقد

ظهر أنها لو أفادت شيئًا ما أفادت إلا ظنًا ضعيفًا، وأنه ليس الأمر كما يعتقده الجمهور؛ من أنه يفيد إجماعًا قاطعًا. المسلك السادس: تقرير الإجماع على وجه آخر، فنقول: نعلم بالضرورة اختلاف الصحابة في المسائل الشرعية، فإما أن يكون ذهابهم إلى ما ذهبوا إليه، لا لطريق فيكون ذلك إجماعًا على الخطأ؛ وإنه غير جائز، أو لطريق؛ وهو: إما أن يكون عقليًا أو سمعيًا، لا يجوز أن يكون عقليًا؛ لأن العقل لا دلالة فيه إلا على البراءة الأصلية، ويستحيل أن يكون قول كل واحد من المختلفين قولاً بالبراءة الأصلية؛ فثبت أنه كان سمعيًا، وهو إما أن يكون قياسًا، أو نصًا، أو غيرهما: أما القياس: فهو المطلوب. وأما النص: فغير جائز؛ لأن مخالف النص يستحق العقاب العظيم؛ لقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها} [النساء: 14] ونحن نعلم بالضرورة أن المختلفين منهم في المسائل الشرعية ما كان كل واحد منهم يعتقد في صاحبه كونه مستحقًا للعقاب العظيم؛ بسبب تلك المخالفة. وأما الذي ليس بنص، ولا قياس: فباطل؛ لأن كل من قال من الأمة: (إنهم لم يتمسكوا في تقرير أقوالهم بشيءمن النصوص الجلية والخفية، ولا بالبراءة الأصلية) قال: إنهم تمسكوا بالقياس، فلو قلنا: إنهم قالوا بتلك الأقاويل بشيء غير هذين القسمين، كان ذلك قولاً غير قولي كل الأمة؛ وهو باطل. فهذه الدلالة، وإن كان يتوجه عليها كثير مما توجه على الوجه الذي قبله، إلا أن كثيرًا من تلك الأسئلة ساقط عنها.

شرح القرافى: قوله: (وعن علي وزيد أنهما شبهاهما بغصني شجرة، وجدولى نهر)

المسلك الخامس قال القرافى: قوله: (وعن علي وزيد أنهما شبهاهما بغصني شجرة، وجدولى نهر): تقريره: أن الجد يقول: أنا أبو أبيه، والأخ يقول: أنا ابن أبيه، فيجتمعان معًا في أبي الميت، فأبو الميت هو الشجرة، وهما غصناها، والنهر، وهما جدولاه. قوله: (اختلفوا في مسائل، ولا يمكن أن يكون تلك الأقوال إلا عن القياس): قلنا: أما قول علي: إن الحرام كالطلاق الثلاث، وقول ابن مسعود: طلقة بائنة أو رجعية، فلا يتعين أن يكون المدرك القياس؛ لإمكان أن يكون ذلك لاختلافهم في نقل العرف لهذه اللفظة، كما قاله المالكية. فمن رأى أن العرف نقلها للثلاث ألزم الثلاث، أو الواحدة مع البيبونة ألزمها، أو لأصل الطلاق فقط ألزمه، فكانت رجعية. وقول الصديق: يلزمه الكفارة فقط؛ فلقوله تعالى: {يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1]، فروى أنه حرم طعامًا، فأمر بالتكفير كفارة يمين، وبه قال أبو حنيفة. وقول ابن عباس: إنه ظهار؛ فلنقل العرف له كذلك. وقول مسروق: إنه ليس بشيء؛ فلعدم مشروعيته سببًا لشيء؛ لأن الأصل عدم المشروعية. فهذه كلها مدارك محتملة، لا يتعذر أن تكون مدارك هذه الأقوال، فلا يتعين القياس.

قوله: (لم ينتقص الجد من الثلث كالأم؛ لأنه يرث مع البنين): قلنا: لا يلزم أن يكون المدرك هذا القياس؛ بل لأنه حجب الإخوة للأم عن الثلث، فاستحقه، لا بالقياس على شيء آخر. قوله: (ومنهم من قال: للجد السدس لا ينقص منه، ويقاسم مطلقًا ما لم ينقص منه قياسًا على الجدة): قلنا: بل المدرك عند هذا القائل أن يكون هو الأخذ بأقل ما قيل؛ فإن الجد لايسقط ألبتة، فالسدس لا بد منه، فأمكن أن يكون هذا هو المدرك، لا القياس على الجدة. قوله: (شرك عمر - رضي الله عنه - بين الإخوة الأشقاء وإخوة الأم في الثلث في مسألة المشركة): قلنا: المدرك يمكن أن يكون وجود السبب المقتضى للميراث وهو إخوة الأمومة لا شيئًا آخر، وهو الذي صرحوا به في حجبهم، وهذا ليس بقياس، بل سبب منصوص عليه، كوجوب الظهر لزوال الشمس. قوله: (قال عثمان: الخلع طلاق): قلنا: المدرك أنه تلفظ بلفظ الطلاق، فهو حكم سببه الشرعي، لا أنه قياس. وقوله: (إنه فسخ لا طلاق)؛ فلأنه تخيل فيه اتفاق المتعاوضين على رد ما خرج من أيديهما إليهما، وهذا هو حقيقة الفسخ والإقالة، وترتيب الحكم لوجود سببه الخاص لا يكون قياسًا. قوله: (إذا ثبت أنهم ما قالوا بهذه الأقاويل لأجل نص، فيتعين القياس): قلنا: لا نسلم الحصر، وقد تقدم - أن ثم - غير القياس، والنص،

وهو ترتيب للحكم على الأسباب، وملاحظة القواعد الشرعية، وهو غير الأمرين. قوله: (وعن ابن مسعود في قصة بروع): تقريره: قال التبريزي: قال ابن مسعود في بروع بنت واشق، وقد فوضت بضعها بعد أن تردد السائل شهرًا: أقول فيها برأييـ فإن أصبت فمن الله - تعالى - وإن أخطأت فمني ومن الشيطان: أرى لها مثل مهر نسائها، لا وكس، ولا شطط. قال سراج الدين: قال ابن مسعود: (في قصة البروع): فعرف بلام التعريف، والظاهر أن هذا الاسم علم، فتعريفه بلام التعريف غير صواب، وجميع النسخ، وكلام التبريزي وغيره بغير (لام)، وهو الصةاب إن شاء الله تعالى، وسكت تاج الدين، و (المنتخب) عن هذا الموضع. قوله: (الرأي: القياس؛ لقولهم: (قلت هذا برأيك أم بالنص)؟ فيجعلون القياس قسيم النص): قلنا: مسلم، لكن الذي يجعل قسيم الشيء قد يكون أعم من المدعى هذا زوج أو فرد، فيجعل الزوج قسيم الفرد، مع أن الفرد أعم من الخمسة، فمن أدعى أن قسيم الزوج الخمسة ليس إلا، منعناه. كذلك هاهنا - الرأي أعم من القياس؛ لأنه يندرج فيه القياس، والاستدلال بنفي اللازم على نفي الملزوم، ونفي الشرط على نفي المشروط، وتخريج الفروع على القواعد، كما تقدم، وأنواع كثيرة من الاستحسان وغيره، فما تعين من القول بالرأي القول بالقياس.

قوله: (القياس أصل عظيم في الشرع نفيًا وإثباتًا). يريد نفي القياس وإثباته، لا إثبات الحكم به ونفيه به. قوله: (سكوت البعض إما أن يكون عن الخوف، أو عن الرضا، والأول باطل): قلنا: لا نسلم الحصر، لأن السكوت قد يكون لأنه في مهلة النظر لم يتضح له سبب الإنكار، أو لظنه أن غيره قام بذلك الإنكار، وغير ذلك من الوجوه التي تقدم ذكرها في الإجماع السكوتي. قوله: (لو أبدى الصحابي في تلك المسائل لكان خبر واحدٍ في حق السامع فلا يقيد): قلنا: لا نسلم أنه لا يفيد، بل خبر الواحد حجة. قوله: (الاستقراء إثبات الحكم في كلى؛ لثبوته في بعض جزئياته، والقياس إثباته في جزئي؛ لثبوته في جزئي آخر): تقريره: أن مراده بالكلى الكلية، مثل أن تجد هذه البغلة لا تلد، وهي جزئية بالنسبة إلى ذلك النوع، وتلك البغلة- أيضًا- لا تلد، وكذلك صور كثيرة، فيحصل لنا علم عادي أن كل بغلة لا تلد، فثبت الحكم بالكلية؛ لثبوته في الجزئيات. والقياس نحو: ثبوت التحريم في النبيذ، وهو جزئي؛ لثبوته في الخمر، وهو جزئي آخر. قال الإمام في (المحصل): الاستدلال إما بجزئي على كلى، وهو الاستقراء، أو بكلى على جزئي، وهو القياس المنطقي، أو بالأمرين، وهو القياس الفقهي، أما الأول فتقدم بيانه.

وأما الثاني: إذا قلنا: كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، فالمقدمة الكبرى كلية، ويلزم من ثبوت الجسم لموضوعها، وهو (الحيوان)، ثبوته للإنسان؛ لأنه بعض الكلية، التي هي الحيوان، فاستفدنا ثبوت الحكم في الجزئي من الكلى. وأما الثالث؛ فلأنا نستدل بورود التحريم في الخمر، وهو جزئي، على أن كل مسكر حرام، فقد استفدنا الكلى من الجزئي، ثم يلزم من تلك الكلية التي استفدناها أن النبيذ يحرم، وحينئذ يحصل القياس الشرعي من ثبوت الحكم من جزئي الكلي، ومن كلي الجزئي، وهو معنى ما قاله، فظهر أن القياس الفقهي مركب من الاستقراء، والقياس المنطقي، وهو تلخيص حسن ذكره في (المحصل)، ولا ينافي قوله- ها هنا- فإنه- ها هنا- اختصر ذلك، وأخذ الجزئي، وأسقط الكلية المتوسطة. قوله: (يقال: رأى يرى رؤية ورأيا، والرأي مرادف للرؤية): قلنا: إن أردتم أنه مرادف لرؤية القلب، فمسلم، أو لرؤية العين، فممنوع، والأول يحتمل القياس؛ لأنه فكر واعتبار بالقلب، فلا بد من مقدمة، وهو أن يقول: ورؤية البصر قدر عام، وإذا كان اللفظ حقيقة في العام، لا يكون حقيقة في أحد أنواعه بخصوصه، وإلا لزم المجاز أو الاشتراك. وإنما يصدق لفظ العام على أحد أنواعه من حيث اشتماله على ذلك المعنى العام، لا من حيث خصوصه، كما أنه لا يصدق لفظ الحيوان على الإنسان إلا من حيث اشتماله على الحيوانية، لا من حيث إنه ناطق. قوله: (قال الصديق- رضي الله عنه-: (أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله رأيي)، وذكر معه آثارًا أخرى:

قلنا: المعنى بهذه الآثار نفي الرأي الكائن عن الهوى بغير مدرك شرعي، وإلا فكل دليل لابد فيه من فكرة من جهة العقل، ورأى في أي شيء ينتهي أمر ذلك النظر إليه. وقول علي- رضي الله عنه-: (لو كان الدين يؤخذ قياسًا، لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره). جوابه: أن الدين- بلام التعريف- للعموم، ونحن نقول: ليس الدين كله يؤخذ بالقياس، بل بعضه. قوله: (قال الله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49]، ولم يقل: بما رأيت، وعن ابن عباس: (لو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -): قلنا: معناه: وأن أحكم بينهم بما أنزل الله فيما فيه وحي منزل، وهو الذي يفهم عند سماع هذا القول، وبقي ما لا وحي فيه مسكوت عنه، فتتناوله أدلة القياس. وقول ابن مسعود: (لا أقيس شيئًا بشيء مخافة أن تزل قدم بعد ثوبتها). محمول على القياس الخفي؛ فإن الخوف إنما يتحقق فيه، وليس في ذلك نص على أنه كان يخاف من القياس الجلي. قوله: (اعتقدوا أنه من باب الصغائر، فلم ينكروا):

قلنا: الإنكار واجب في ترك كل واجب، وفعل كل محرم، صغيرة كانت أو كبيرة، وما علمت في هذا خلافًا. قوله: (احتمال الرجوع لا يقدح في الإجماع؛ لأن الصحابة كان يمكنهم الاجتماع في محفل واحد، ويصرحوا بالحكم، فيزول احتمال رجوع البعض الأول عند فتيا الثاني بخلاف القياس): قلنا: لم ينقل عن الصحابة أنهم اجتمعوا في محفل واحد قط، فليلزم على ذلك ألا يحصل إجماع البتة، مع أن ذلك إن صح فيمكنه فرضه في القياس، فيجمعوا ويصرحوا بأن القياس حجة، من غير احتمال انقلاب الراضي منكرًا، والمنكر راضيًا. قوله: (قياس العهد على العقد): تقريره: أن الذي تقدم في الإمامة للصديق إنما هو عقد البيعة، ثم إن الصديق- رضي الله عنه- عهد لعمر بن الخطاب، وهذا العهد ليس بعقد بيعة، فألحقه الصحابة بالعقد الواقع للصديق؛ في معناه، من جهة أن الإمام وكيل الأمة، وولي لهم، فإذا أبرم أمرًا، فهم أبرموه من حيث المعنى. قوله: (هذه المسألة عندنا ظنية): قلنا: هذا خلاف ما عليه الأصوليون، بل أصول الفقه كل مسائله قطعية، ومداركها قطعية. قوله: (كما سمى النافلة ابنًا): تقريره: أن الابن يسمى نافلة، لأن النافلة الزيادة، ومنه قوله تعالى: {فتهجد به نافلة لك} [الإسراء: 79]، أي زيادة على فرضك، وابن الابن رائد على الابن.

قوله: (النصوص يجب اتباعها بخلاف الأقيسة): قلنا: لا نسلم الفرق، بل كل حجة راجحة أو سالمة عن المعارض يجب اتباعها عند من ظهرت له، ولا تجب عند من لم تظهر له، كان نصًا أو غيره، فلا فرق، فالتفرقة باطلة. قوله: (أنت على حرام، ليس من صريح الطلاق، وأجمعوا على أنه من كناياته، فجعلوا حكمه مثل حكم الصريح، وهذا التشبيه قياس، وبعد المشابهة يندرج تحت قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1]). قلنا: بل إنما لزم الطلاق بالتحريم؛ لأن لفظ (التحريم) انتقل إلى الطلاق بالعرف، أو قصد بالنية، إن وقفنا اللزوم به على النية. أما لو استعمل لفظ (التحريم) في نفس التحريم، لم يلزمه طلاق بنطقه بهذه الصيغة كالظهار، وسببه أنها إنشاء، والإنشاء لا يدخله الكذب ولا الصدق؛ لأنه ليس خيرًا، وهما من خواص الخبر، فحينئذ لابد من النقل العرفي لمعنى الطلاق، أو القصد إليه بالنية. أما استعماله في موضوعه اللغوي فلا، وهذا الموضع قل أن يتنبه له في الفقه، فاعلمه. ثم قوله بعد: (التشبيه يندرج في الآية) ممنوع؛ لأن اللفظ إنما يتناول ما وضع له حقيقة دون المجاز، والتقدير أنه إنما يتناول الطلاق مجازًا، فلا يتناوله حتى يدل دليل من خارج على أن اللفظ استعمل في حقيقته ومجازه، لا بمجرد اللفظ.

(تنبيه)

(تنبيه) قال التبريزي: هذه المواطن التي صرح الصحابة فيها بالرأي، ما خاضوا فيها إلا بعد اعترافهم بعد النص، واتفاقهم على العجز عنه؛ ولأنهم رددوا الرأي بين الصواب والخطأ على وجل واستشعار، وأضافوا الخطأ لأنفسهم، والصواب إلى الله تعالى، ولم تجز عادتهم بمثل ذلك في النصوص، بل يطلقون الحكم ويسندونه للنص، ويشنعون على مخالفيهم بالتقصير. ومن أبلغ الوقائع استفتاء عمر- رضي الله عنه- في مسألة المغيبة؛ فإنها تدل على أن عمر والصحابة- رضوان الله عليهم- اعتقدوا كون القياس حجة. أما الصحابة، فلأنهم شرعوا يعللون لا مستمسكين بنص؛ فإن انتفاء الضمان على الوالي، والمؤدب، ليس منصوصًا عليه، ولو كان لاعتصموا به في موضع التخطئة، وعرفه عمر، فاستغنى عن المشاورة. وأما عمر؛ فلأنه أصغى إليهم مع أنهم لم يسندوه إلى نص، ولم يقل: إنه شرع بالتشهي كما يقوله من يخالفنا بالقياس. وأما علي- رضي الله عنه- فلأنه لم ينكر أصل الرأي كما رد الحكم؛ ولأنه علل بقوله: (أنت أفزعتها)، والإفزاع ليس منصوصًا عليه، ولا متدرجًا تحت نص في تضمين الجنين على من أفرغ أمة، ولا يفهم من تضمينه على من ضرب بطن أمة، تضمينه على من أفزعها، بل رأي أن الإفزاع في معنى الضرب؛ لاشتراكهما في السببية، وصلاحيته للإفضاء إلى الإلقاء، وإن كان أحدهما قولاً والآخر فعلاً، وإن تقاربا في غلبة الإفضاء وندرته؛ لأن المعتبر قرب الإفضاء لا الظهور البالغ، وكونه مؤدبًا غايته أنه مؤثر في جواز الفعل، وجوازه لا ينافي الضمان كأكل مال الغير عند المخمصة، ورأي

الصحابة أن الوالي نائب عن الشرع، فهو كالمحمول بأمر الشرع، فيكون فعله كفعل مستنيبه، وإذا انقطع الفعل عنه انقطع الضمان. وأما قول الخصم: إن قول أبي بكر في الكلالة تفسير للفظ، وهو لا يكون بالقياس. فجوابه: أن البحث إنما وقع عن محل استحقاق أولاد الأم الثلث أو السدس؛ لينزل عليه الخطاب، فلاحظ- رضي الله عنه- قاعدة التوريث، والحجب، وأن الإخوة لا يرثون مع وجود الأبناء، وحمل لفظ (الكلالة) عليه لا بمحض الوضع؛ فإنه لا يسمى رأيًا. ولأنهم- رضي الله عنهم- نقل عملهم بالرأي تفصيلاً، فمن ذلك حكم الصحابة بإمامة أبي بكر بالاجتهاد، ومن حيث إنه طريق في حفظ المصالح الكلية، كسائر الطرق المحافظة للمصالح، بل هو أولى، ونحن نقطع بعدم النصوص في حق الصديق، وعلي، والعباس؛ فإنه لو وجد لأظهر؛ لأنه موضع الحاجة والداعية، كما أظهروا: (الأئمة من قريش)، وانكف الأنصار وغيرهم بذلك. وقد أجمعوا على وجوب إمام، واختلفوا في التعيين، فلو قال أحدهم: إن هذا عينه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأذعنوا له. ومنذ ذلك إلحاق العهد بالبيعة. وإلحاق الصديق الزكاة بالصلاة، في كونها حقًا من حقوق الكلمة، ورجوعهم إليه. واتفاقهم على كتب القرآن؛ قياسًا على الدراسة؛ لاشتراكهما في طريق

الحفظ، فاقترحه عمر أولاً، ثم شرح صدر أبي بكر له بعد قوله: (كيف أفعل ما لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وفي هذه الكلمة اعتبار لمن تدبر، وأن أبا بكر- رضي الله عنه- ما عمل بالرأي إلا وهو عالم على القطع بأنه من مدارك الشرع؛ فإن من يتقيد بالاتباع حتى في كتب القرآن كيف يخترع من قبل نفسه الحكم بالرأي؟ ومن ذلك مسألة الجد الإخوة، اجتهدوا فيها، واختلفت أقيستهم فيها، والاعتراف بعدم النص. وقول بعض الأنصار وقد ورث أم الأم دون أم الأب: (لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها، وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت)، فرجع أبو بكر إلى التشريك بينهما في السدس. واختلاف أبي بكر وعمر في التسوية والمفاضلة في العطاء. ومن ذلك رجوع عمر إلى الاشتراك في مسألة المشتركة؛ لقولهم: (هب أن أبانا كان حمارًا، ألسنا من أم واحدة؟). ومن ذلك - لما بلغه أن سمرة أخذ الخمر من تجار اليهود في العشر، وخللها وباعها-: قاتل الله سمرة! أما سمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله اليهود حرم الله عليهم الشحوم، فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها). قاس الخمر على الشحم في تحريم الثمن؛ لاشتراكهما في تحريم العين. ومن ذلك قضاء عثمان- رضي الله عنه- في توريث المبتوتة في مرض الموت بالرأي؛ معارضة له بنقيض قصده كالقاتل. وتصريح علي- رضي الله عنه- بتكميل الحد في الشرب بقوله: متى

سكر هذي ومن هذي افترى، فأرى عليه حد المفتري)، وهو أبعد أنواع القياس؛ فإنه ألحق مظنة الافتراء مع بعده بنفس الافتراء في حكم الزجر؛ لأن الشرع صرف مظنة الحديث بالحدث في انتقاض الوضوء، وشغل الرحم بنفس الشغل في إيجاب العدة. وقول ابن عباس لما سمع نهيه- عليه السلام- عن بيع الطعام قبل أن يقبض (لا أحسب كل شيء إلا مثله).

وقوله في المتطوع بالصوم إذا بدا له: إنه كالمتبرع أراد التصدق بما له، فتصدق ببعضه، ثم بدا له. قال: فإن قيل: إن إلقاء الجنين بالسبب معلوم بالنص، وإمامة الصديق لم يجمعوا عليها، بل معظمهم لم يحضر، ومن وافق مستنده ظواهر نصوص أفادت عنده القطع؛ لتقديمه عليه السلام- أبا بكر للصلاة. وقوله عليه السلام لعبد الرحمن: (ائتني بلوح، أو كتف أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه). وقوله- عليه السلام- للمرأة حين قالت له: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول: الموت، قال- عليه السلام-: (فإن لم تجديني فأت أبا بكر). بل نقول: علم ضرورة من مقاصده- عليه السلام- وقواعد سيرته في الشريعة استحالة إهمال هذه الأمة وتركهم سدى، فرجع حاصل نظرهم إلى تعيين من تجب طاعته مع القطع بوجوبها، فهو كتعيين جهة القبلة مع العلم بوجوب استقبالها، وتعيين الشاهد، وقدر كفاية القريب، وجزاء الصيد.

وإما إقدامه على قتال مانعي الزكاة، فهو تمسك بالنص، وهو قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] والأخذ من الممتنع دون قتاله ممتنع، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، وأبو بكر نائب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلزمه ما يلزمه، وأما الجد فورثه بالنص، فكيفما قلبوا أمرهم ورثوا بالنص، وحرمان أحدهم عمل بنص استحقاق الآخر، والمقاسمة أو التفضيل عمل بكل واحد من النصين. قال: قلنا: أما الجنين فلم يرد النص إلا في ضربه، وإمامة الصديق فلا شك في اتفاق الكل آخر الأمر، ثم تعيينه لم يكن إلا باجتهاد، لم ينازع أحد في ذلك، وإنما نازع في إصابته في الاجتهاد. وقولهم: (فيه نصوص) باطل؛ لأن أحدًا لم يذكره في معرض التمسك، مع أن أبا بكر يقول: (ذروني فلست بخيركم). وقول القائل: (رضيك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا؟)، فيجعله من باب القياس، وإلحاق الأدنى بالأعلى، ولو كان ثم نص لأظهروه، كما في تعيين الجنس بالوصف في قوله- عليه السلام: (الأئمة من قريش). وأما قوله- عليه السلام-: (إيت أبا بكر) إخبار عن موجب ما يقع، لا أنه تولية، ولم يصرح- عليه السلام- بقوله: (نصبت لكم أفضلكم وأعلمكم، فاجتهدوا أنت في تعيينه) حتى يكون مثل القبلة وغيرها.

وأما قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} [التوبة: 103]، فخطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يتعدى لغيره إلا بالرأي، وهو القياس. والجد لو فهم أنه أب من لفظ (الأب) لما اختلفوا فيه، كما لو يختلفوا فيه مع اجتماعه مع الابن. وقد اختلفوا فيه كثيرًا، حتى قال عبيدة السلماني: (أحفظ لعمر- رضي الله عنه- في الجد مائة قضية يخالف بعضها بعضًا). قلت: ينبغي أن يعلم من كلامه أمرين: أحدها: أن كثيرًا من استدلاله يرجع إلى القواعد لا إلى القياس، والاستدلال بالقواعد، وبوجود خاصية الشيء عليه، وبانتفاء لازمه على انتفائه، وغير ذلك- إنما هو تنازع في القياس، وهو غير هذه الأمور؛ لأنه يفتقر إلى صورتين تلحق إحداهما بالأخرى، وهذه الأمور لا تحتاج إلى ذلك. وثانيهما: أن النظائر التي ذكرها شديدة الدلالة على اعتبار الصحابة المصالح المرسلة؛ فإن البيعة والعهد، وجمع القرآن، ونحو ذلك، لا يمكن تخريجه إلا عليها، فإنها مصالح عظيمة لم يرد فيها نص ولا نهي عن اعتبارها، وهذا هو المصلحة المرسلة. ***

المسلك السابع قال الرازي: وهو المعقول: أن القياس يفيد ظن دفع الضرر؛ فوجب جواز العمل به

المسلك السابع قال الرازي: وهو المعقول: أن القياس يفيد ظن دفع الضرر؛ فوجب جواز العمل به. بيان الوصف: أن من ظن أن الحكم في الأصل معلل بكذا، وعلم أو ظن حصول ذلك الوصف في الفرع، وجب أن يحصل له الظن بأن حكم الفرع مثل حكم الأصل، ومعه علم يقينين بأن مخالفة حكم الله تعالى سبب العقاب، فتولد من ذلك الظن، وهذا العلم: ترك العمل به سبب للعقاب؛ فثبت أن القياس يفيد ظن الضرر. بيان التأثير: أن العاقل يعلم ببديهة عقله: أنه لا يمكنه الخروج عن النقيضين ولا يمكنه الجمع بينهما، بل يجب، لا محالة: ترجيح أحدهما على الآخر، ونعلم بالضرورة، أن ترجيح ما غلب على ظنه خلوة على المضرة؛ على ما غلب على ظنه اشتماله على المضرة- أولى من العكس، ولا معنى لجواز العمل بالقياس إلا هذا القدر. فإن قيل: دليلكم مبني على إمكان ما يدجل على أن الحكم في الأصل معلل بعلة؛ ثم على وجود ذلك الوصف في الأصل، ثم على إمكان ما يدل على حصول ذلك الوصف في الفرع، ثم على أنه يلزم من حصول ذلك الوصف في الفرع ظن حصول ذلك الحكم فيه؛ وتقرير هذه المقامات الخمس سيأتي في الأبواب الآتية، إن شاء الله تعالى. سلمنا حصول هذا الظن؛ فلم قلتم: إن العمل به واجب؟

قوله: (لأن ترجيح الخالي عن الضرر على المشتمل عليه متعين في بديهة العقل): قلنا: هذا منفوض بما أنه لا يجب على القاضي أن يعمل بقول الشاهد الواحد، إذا غلب على ظنه صدقة، وأن يعمل في الزنا بقول الشاهدين، إذا غلب على ظنه صدقهما، وبما إذا ظهرت مصلحة لا يشهد باعتبارها حكم شرعي البتة، وبما إذا أدعى الرجل الذي غلب على الظن صدقه للنبوة، وبما إذا غلب على ظن الدهري، واليهودي والنصراني والكافر قبح هذه الأعمال الشرعية، فإن غلبة الظن حاصلة في هذه الصورة، ولا يجوز العمل بها. فإن قلت: المظنة إنما تفيد الظن، إذا لم يقم دليل قاطع على فسادها؛ وفي هذه الصور قد قامت الدلالة على فسادها؛ فلا يبقى الظن. قلت: فعلى هذا التقدير: القياس إنما يفيد ظن دفع الضرر، إذا لم يوجد دليل يدل على فساد القياس؛ فيصير نفي ما يدل على فساد القياس جزءًا من المقتضى لظن الضرر؛ فعليكم أن تثبتوا أنه لم يوجد ما يدل على نفي القياس، حتى يمكنكم ادعاء حصول ظن الضرر، وبعد المجاوزة عن النقض تقول: متى يجب الاحتراز عن الضرر المظنون، إذا أمكن تحصيل العلم به، أم إذا لم يمكن؟. الأول: ممنوع؛ فإن الشيء، إذا أمكن تحصيل العلم به، فالاكتفاء بالظن- مع جواز كونه خطأ- إقدام على ما لا يؤمن كونه قبيحًا مع إمكان الاحتراز عنه؛ وهو غير جائز بالاتفاق. والثاني: مسلم؛ ولكن إنما يجوز الاكتفاء بالظن في الوقائع الشرعية، إذا

بينتم أنه لا طريق إلى تحصيل العلم بها البتة، وذلك إنما يصح لو ثبت أنه لم يوجد في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أحكام تلك الوقائع، ولم يوجد في الزمان إمام المعصوم يعرفنا تلك الأحكام؛ فإن بتقدير وجود أحد هذه الأمور، كان تحصيل اليقين بالحكم ممكنًا. سلمنا أنه لا طريق إلى تحصيل العلم بها؛ لكن لم قلت: إنه لم يوجد ما يقتضي ظنًا هو أقوى من الظن الحاصل بالقياس؟ فإن بتقدير إمكان ذلك، كان التعويل على القياس اكتفاء بأضعف الظنين مع القدرة على تحصيل الأقوى؛ وإنه غير جائز. ثم نقول: إن دل ما ذكرتموه على صحة القياس، فمعنا ما يدل على فساده، وهو الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، وإجماع العترة، والمعقول: أما الكتاب: فقوله تعالى: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات: 1] والقول بالقياس تقديم بين يدي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وقوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [البقرة: 196، والأعراف: 33] {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36} والقول بالحكم في الفرع لأجل القياس قول بالمظنون، لا بالمعلوم. وأيضًا: قال الله تعالى: {وأن أحكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] والحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله تعالى. وأيضًا: قال الله تعالى: {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] {وما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] فهذه الآية دالة على اشتمال الكتاب على الأحكام الشرعية بأسرها، فإذن: كل ما لبس في الكتاب،

وجب ألا يكون حقًا، وعند ذلك نقول: ما دل عليه القياس، إن دل عليه الكتاب، فهو ثابت بالكتاب، لا بالقياس. وإن لم يدل عليه الكتاب، كان باطلاً، وأقوى ما تمسكوا به من الآيات قوله تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئًا} [يونس: 36] وجه الاستدلال به: أن في القياس الشرعي لابد وأن يكون تعليل الحكم في الأصل، وثبوت تلك العلة في الفرع ظنيًا، ولو وجب العمل بالقياس، لصدق على ذلك الظن: أنه أغنى من الحق شيئًا؛ وذلك يناقض عموم النفي. فإن قلت: (يشكل التمسك بهذه النصوص بالفتوى، والشهادات، وأمارات القبلة): قلت: تخصيص العام- في بعض الصور- لا يخرجه عن كونه حجة. وأما السنة: فخبران: الأول: قوله- عليه الصلاة والسلام-: (تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب، وبرهة بالسنة، وبرهة بالقياس، فإذا فعلوا ذلك، فقد ضلوا). الثاني: قوله- عليه الصلاة والسلام-: (تفترق أمتي على بعض وسبعين فرقة، أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحرمون الحلال، ويحللون الحرام). فإن قلت: (خبر الواحد لا يعارض الدليل العقلي الذي ذكرناه): قلت: الدليل الذي ذكرتموه هو أن القياس يفيد الضرر المظنون؛ فيجب

الاحتراز عنه، ولا شك أن خبر الواحد يفيد الظن، فإذا ورد في المنع من القياس، أفاد ظن أن التمسك به سبب الضرر؛ وذلك يوجب الاحتراز عنه. وأما إجماع الصحابة: فهو أنه نقل عن كثير منهم التصريح بذم القياس؛ على ما تقدم بيانه، ولم يظهر من أحد منهم الإنكار على ذلك الذم، وذلك يدل على انعقاد الاجتماع على فساد القياس. فإن قلت: (هذا معارض بأنه نقل عنهم: أنهم اختلفوا في مسائل، مع أنه لا طريق لهم إلى تلك المذاهب إلا القياس): قلت: ما ذكرناه أولى؛ لأن التصريح راجح على ما ليس بتصريح. وأما إجماع العترة: فلأنا، كما نعلم بالضرورة بعد مخالطة أصحاب النقل: أن مذهب- الشافعي رضي الله عنه- وأبي حنيفة ومالك- رحمهما الله-: القول بالقياس، فكذا نعلم بالضرورة أن مذهب أهل البيت؛ كالصادق، والباقر: إنكار القياس، وقد تقدم في- باب الإجماع- أن إجماع العترة حجة. وأما المعقول: فمن وجوه: الأول: لو جاز العمل بالقياس، لما كان الاختلاف منهيًا عنه؛ لكنه منهي عنه؛ فالعمل بالقياس غير جائز. بيان الملازمة: أن العمل بالقياس اتباع الأمارات، وذلك يقتضي وقوع الاختلاف؛ لا محالة، ووقوع ذلك شاهد على صحة ما قلناه. بيان أنه لا تجوز المخالفة: قوله تعالى: {ولا تنازعوا؛ فتفشلوا، وتذهب ريحكم} [الأنفال: 46].

الثاني: أن الرجل، لو قال: (أعتقت غانمًا لسواده، فقيسوا عليه) لم يعتق سائر عبيده السود؛ فضلاً عما إذا لم يأمر بالقياس. فإذا قال الله تعالى: {حرمت الربا في البر} فكيف يجوز القياس عليه؟ فهذا كله كلام من لم يمنع القياس عقلاً. أما المانعون منه عقلاً: فقد ذكرنا أن منهم: من خص ذلك المنع بهذا الشرع، ومنهم: من منعه في كل الشرائع. أما الأول: فهو قول النظام؛ واحتج عليه بأن مدار هذا الشرع على الجمع بين المختلفات، والفرق بين المتماثلات، وذلك يمنع من القياس في هذا الشرع. بيان الأول بصور: إحداها: أنه جعل بعض الأزمنة والأمكنة أشرف من بعض، مع استواء الكل في الحقيقة؛ قال الله تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 3] وفضل الكعبة على سائر البقاع. وثانيتهما: جعل التراب طهورًا، مع أنه ليس بغسال، بل يزيد في تشويه الخلقة. وثالثتهما: فرض الغسل من المني، والرجيع أنتن منه. ورابعتها: نهانا عن إرسال السبع على مثله، وأقوى منه، ثم أباح إرساله على البهيمة الضعيفة. وخامستها: نقص من صلاة المسافر الشطر مما كان عدده أربعًا، وترك ما كان ركعتين.

وسادستها: أسقط الصوم والصلاة عن الحائض، ثم أوجب عليها قضاء الصوم، مع أن الصلاة أعظم قدرًا من الصوم. وسابعتها: جعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن، والمائة من الجواري الحسان لا يحصن. وثامنتها: حرم النظر إلى شعر العجوز الشوهاء، مع أنها لا تفتن الرجال الشبان البتة، وأباح النظر إلى محاسن الأمة الحسناء، مع أنها تفتن الشيخ. وتاسعتها: قطع سارق القليل، وعفا عن غاصب الكثير. وعاشرتها: جلد بالقذف بالزنا، ولم يجلد بالقذف بالكفر. وحادية عشرها: قبل من الكفر والقتل شاهدين، ولم يقبل في الزنا إلا أربعة، وهو دونهما. وثانية عشرها: جلد قاذف الحر الفاجر، وعفا عن قاذف العبد العفيف. وثالثة عشرها: أوجب على الصبية المتوفى عنها زوجها العدة، وفرق في العدة بين الموت والطلاق، مع أن حال الرحم لا يختلف فيهما. ورابعة عشرها: جعل استبراء الأمة بحيضة، والحرة المطلقة بثلاث حيض. وخامسة عشرها: يخرج الريح من موضع الغائط، وفرض تطهير موضع أخر، مع أن غسل ذلك المكان أولى. إذا ثبت هذا، فنقول: إن مدار القياس على أن الصورتين لما تماثلتا في الحكمة والمصلحة، وجب استواؤهما في الحكم؛ لكن هذه المقدمة لو كانت حقة، لامتنع التفريق بين المتماثلات، والجمع بين المختلفات في تلك الصور،

فلما لم يمتنع ذلك، علمنا فساد تلك المقدمة، وإذا فسدت تلك المقدمة، بطل القول بالقياس. وأما الذين منعوا من القياس في كل الشرائع، فقد عرفت أنهم ثلاث فرق: الفرقة الأولى: الذين أنكروا كون القياس طريقًا إلى الظن، وهؤلاء قد تمسكوا بوجوه: أحدها: أن البراءة الأصلية معلومة، والحكم الثابت بالقياس، إما أن يكون على وفق البراءة الأصلية، أولاً على وفقها: فإن كان على وفقها، لم يكن في القياس فائدة، وإن كان على خلافها، كان ذلك القياس معارضًا للبراءة الأصلية؛ لكن البراءة الأصلية دليل قاطع، والقياس دليل ظني، والظني إذا عارض اليقيني كان الظني باطلاً؛ فيلزم كون القياس باطلاً. وثانيها: أن القياس لا يتم في شيء من المسائل، إلا إذا سلمنا أن الأصل في كل شيء بقاؤه على ما كان؛ إذ لو لم يثبت ذلك، فهب أن الشارع أمر بالقياس، ولكن كيف يعرف أنه بقي ذلك التكليف، وإذا نص على حكم الأصل، فكيف يعرف أن ذلك الحكم باقٍ في هذا الزمان؛ فثبت أن القياس لا يتم إلا مع المساعدة على هذا الأصل. إذا ثبت ذلك، فنقول: الحكم المثبت بالقياس: إما أن يكون نفيًا أو إثباتًا: فإن كان نفيًا، فلا حاجة فيه إلى القياس؛ لأنا علمنا أن هذا الحكم، كان معدومًا في الأزل، والأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان، فيحصل لنا الظن ذلك العدم، فيكون إثبات ذلك الظن بالقياس مرة أخرى عبثًا. فإن قلت: (ثبوته بدليل لا يمنع من ثبوته بدليل آخر).

قلت: نعم؛ ولكن بشرط ألا يفتقر الدليل الثاني إلى الأول، وأما إذا افتقر إليه، كان التمسك بالدليل الثاني تطويلاً محضًا من غير فائدة، وأما إن كان الحكم المثبت بالقياس إثباتًا، فنقول: قد بينا أن قولنا: (إن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان): يقتضي ظن عدم ذلك الحكم في الحال، فلو اقتضى القياس ثبوته في الحال، مع أن القياس متفرع على تلك المقدمة لزم وقوع التعارض بين تلك المقدمة التي هي الأصل، وبين القياس، الذي هو الفرع، ولا شك أن في مثل هذا التعارض يجب ترجيح الأصل على الفرع؛ فوجب القطع ها هنا بسقوط القياس. وثالثها: أن القياس لا يفيد ظن الحكم إلا إذا ظننا كون الحكم في الأصل معللاً بالوصف الفلاني، وذلك الظن محال؛ لما سيأتي في الباب الثاني: أن تعليل الحكم الشرعي محال. الفرقة الثانية: الذين سلموا أن القياس يفيد الظن؛ لكنهم قالوا: لا يجوز التكليف باتباع الظن؛ قالوا: لأن الظن قد يخطئ، وقد يصيب؛ فالأمر به أمر بما يجوز أن يكون خطأ؛ وذلك غير جائز. الفرقة الثالثة: الذين قالوا: يجوز التكليف بإتباع الظن؛ لكنه غير جائز ها هنا؛ قالوا: لأن الاكتفاء بالقياس اقتصار على أدون البابين، مع القدرة على أعلاهما؛ وذلك غير جائز، إنما قلنا: (إنه اقتصار على أدون البابين) لأنا نعلم بالضرورة أن تنصيص صاحب الشرع أظهر في باب البيان من التفويض إلى القياس، وإنما قلنا: (إنه مع القدرة على أعلاهما) لأنه لا امتناع في التنصيص على أحكام القواعد الكلية.

واحترزنا بهذا عن الشهادة، والفتوى، وقيم المتلفات، وأروش الجنايات، والتمسك بالأمارات في معرفة القبلة، والأمراض، والأرباح، والأمور الدنيوية؛ لأن هذه الأشياء تختلف باختلاف الأشخاص، والأوقات، والأمكنة، والاعتبارات، فالتنصيص عليها كالتنصيص على ما لا نهاية له؛ وهو محال. وإنما قلنا: (إن الاقتصار على أدون البابين، مع القدرة على أعلاهما غير جائز) لأنه إذا لم يقع البيان على أقصى الوجوه، حسن من المكلف أن يحمل اليقين على صعوبة البيان، لا على تقصير نفسه؛ فالإتيان بكمال البيان إزاحة لعذر المكلف، فيكون كاللطف وترك المفسدة في الوجوب. والجواب: أما النقوض، فقد ذكرنا أن الدليل الشرعي، لما قام على عدم الالتفات إلى تلك المظان- لم يبق الظن. قوله: (فحينئذ يصير عدم الدليل المبطل للقياس جزءًا من المقتضى). قلنا: ليس كل ما وجوده يمنع من عمل المقتضى، كان عدمه جزءًا من المقتضى؛ فإن الذي يمنع الثقيل من النزول لا يصير عدمه جزء المقتضى للنزول؛ لاستحالة كونه العدم من العلة الوجودية. قوله: (جواز الرجوع إلى الظن في الشرعيات مشروط بعدم التمكن من تحصيل العلم): قلنا: لا نسلم، فإنه إذا حصل الظن الغالب بسبب القياس؛ باشتمال أحد الطرفين عل المفسدة، والآخر على المصلحة- فإلى أن يستقصى في طلب العلم، لابد في الحال من أن يرجح أحد الطرفين على الآخر؛ لامتناع ترك

النقيضين، وصريح العقل يشهد بأنه لا يجوز ترجيح المرجوح؛ فتعين ترجيح الراجح، وهو الجواب أيضًا عن الإمام المعصوم. وأما المعارضات: فنقول: أما التمسك بالآيات، فالجواب عنها: أن الدلالة لما دلت على وجوب العمل بهذا الظن، صار كأن الله تعال قال: مهما ظننت أن هذه الصورة تشبه تلك الصورة في علة الحكم، فأعلم قطعًا: أنك مكلف بذلك الحكم، وحينئذ يكون الحكم معلومًا، لا مظنونًا البتة. وأما الأحاديث: فهي معارضة بالأحاديث الدالة على العمل بالقياس، وطريق التوفيق: أن نصرف الأمر بالقياس إلى بعض أنواعه، والنهي إلى نوع آخر، وأما إجماع الصحابة، فقد سبق الجواب عنه، وأما إجماع العترة، فممنوع، وروايات الإمامية معارضة بروايات الزيدية،؛ فإنهم ينقلون عن الأئمة جواز العمل بالقياس. قوله: (العمل بالقياس يستلزم وقوع الاختلاف). قلنا: وكذا العمل بالأدلة العقلية والنصوص يستلزم وقوع الخلاف؛ فما هو جوابكم هناك، فهو جوابنا ها هنا. قوله: (لو قال لوكيله: (اعتق غانمًا لسوداه)، فإنه لا يعتق عليه كل عبيده السود): قلنا: إنه لو صرح بعد ذلك، فقالك قيسوا عليه سائر عبيدي، لم يعتق عليه سائر عبيده، ولو نص الله تعالى على حكم، ثم قال: (قيسوا عليه)، فلا نزاع في جواز القياس؛ فظهر الفرق بين الصورتين، والسبب فيه أن حقوق العباد

مبنية على الشح والضنة، لكثرة حاجاتهم، وسرعة رجوعهم عن دواعيهم، وصوارفهم. وأما شبهة النظام: فجوابها: أن غالب أحكام الشرع معلل برعاية المصالح المعلومة، والخصم إنما بين خلاف ذلك في صور قليلة جدًا، وورود الصور النادرة على خلاف الغالب لا يقدح في حصول الظن؛ كما أن الغيم الرطب، إذا لم يمطر نادرًا، لا يقدح في ظن نزول المطر منه. قوله: (البراءة الأصلية معلومة، والقياس دليل ظني، والظن لا يعارض اليقين): قلنا: ينتقض ذلك بجواز العلم بالفتوى، والشهادة، وتقويم المقومين، وبجواز العمل بالظن في الأمور الدنيوية. قوله: (القياس: إما أن يرد على وفق حكم الأصل، أو على خلافه): قلنا: ينتقض بالأمور المذكورة. قوله: (الظن قد يخطئ، وقد يصيب): قلنا: ينتقض بالأمور المذكورة. قوله: (الاكتفاء بالقياس اكتفاء بأدون البابين، مع القدرة على أعلاهما): قلنا: إنه كذلك؛ فلم لا يجوز؟. فإن قالوا: لأنه لطف، واللطف واجب. قلنا: الكلام على هذه الطريقة سبق في باب الإجماع على الاستقصاء.

شرح القرافي: قوله: (القياس يفيد ظن الضرر، فيجب العمل به .....)

المسلك السابع قال القرافي: قوله: (القياس يفيد ظن الضرر، فيجب العمل به .....) إلى آخره. قلنا: سلمنا أنه يفيد ظن الضرر، لكن لم قلت: إن ظن الضرر معتبر؟ وبيانه: أن العمل بالشاهد الواحد يفيد ظن الضرر، وكذلك النساء منفردات في أحكام الأموال والدماء، وجماعة الكفار والفساق والصبيان، مع وجود هذا الظن، وهو ملغي، فعلمنا أن الشرع لم يعتبر مطلق الظن كيف كان، بل لابد من دليل شرعي يدل على النوع المراد لصاحب الشرع، وأما هذه المقدمة بمفردها، فغير مفيدة. وأما قوله: (الجمع بين النقيضين ورفعهما محال، وترجيح المرجوح على الراجح مدفوع ببديهية العقل) فلا يتجه؛ لأن الفرق حاصل بين ارتفاع النقيضين وبين عدم الحكم بارتفاع النقيضين، فقد يجهل الواقع منهما أو يشك فيه، وكذلك الحكم في صورة النزاع، فإنا لا نحكم بالراجح ولا بالمرجوح؛ لأنا نقضي بارتفاع الراجح والمرجوح، ولا محال حينئذ. قوله: (لو قال: (أعتقت غانمًا لسواده، فقيسوا عليه) لم يعتق سائر عبيده السود): قلنا: ما سبب ذلك إلا أن العتق حكم شرعي، والقاعدة أن حكم كل أحد يتبع علته التي هي معتمدة في ذلك الحكم، وهذه العلة لم ينصبها صاحب الشرع، فلا تكون علة له، ولم نقل: كل ما جعله المكلف علة كان علة شرعية، فالعتق حكم شرعي، فلا يتبع إلا ما نصبه الشرع علة، فلو قال المكلف: قد جعلت الخروج من المنزل سبب الطلاق، أو الشتم سبب وجوب الصدقة على، وغير ذلك لم يصر شيء من ذلك علة شرعية؛ لعدم جعل الشارع لها.

نظيره أن يقول لعبده: (إن صديقي إذا دخل عندي، فإني أكره حضورك أو غيبتك)، فإن ذلك يتكرر كلما جاء صديقه؛ لأن العلة والحكم ليس فيهما شرعي، والعلة الشرعية يتبعها الحكم الشرعي، ولا يتبعها حكم غير صاحب الشرع، والعلة التي ليست شرعية يتبعها حكم واضعها، لا حكم الشرع، وعلى هذه القاعدة خرجت هذه المسألة. قوله: (فرق بين الأزمنة المتساوية): قلنا: نحن إنما ندعي حسن القياس في الأحكام الشرعية الخمسة، أما التفضيلات، ومقادير الثواب، وغير ذلك، فلا مدخل لقياس فيه، فلا يرد نقضًا. قوله: (شرع التيمم مع أنه ليس منفيًا). قلنا: علل الشرع يخلف بعضها بعضًا، ولا ينافي ذلك القياس. بل تقريره: والعلة التي خلفت- ها هنا- هي ضبط العادة على المكلف إلا يقدم على الصلاة إلا بنقل يتقدمها، فلا تشق عليه الطهارة بعد ذلك عند وجود الماء. وكذلك الغسل من المني دون الرجيع؛ لأن المني يخرج من جملة الجسد، بخلاف الرجيع، فهو على قاعدة التعليل. وإرسال اكلب على الصيد معلل بأنه يقبل التعليم، فلا تغلبه عليه قوته، فيصير بذلك كالآلة للصائد، بخلاف السبع على سبع آخر؛ فإنه تعذيب الحيوان لغير المأكلة، مع غلبة المفاسد المانعة من جعله آلة للصائد. وتخصيص الأربع دون الاثنين في صلاة المسافر؛ لأن الأربع تكثير، بخلاف الاثنين، وسقوط قضاء الصلاة عن الحائض دون الصوم؛ لأن الصلاة تتكرر دون الصوم، فتعظم مشقة قضائها؛ بخلاف الصوم لا يأتي إلا

مرة في السنة، ولعلها لا يصادفها حيض فيه، فلا مشقة حينئذ، والحرة تحصن وإن كان شوهاء، دون الجارية الحسناء؛ بناء على مراعاة العلة في الجنس؛ فإن أصل الإماء أن يردن للخدمة دون الوطء، فوطؤهن على خلاف الدليل، ومقاصد ذوي المروءات، والاتفاق على استيلاء الرقيق لدناءة الأصول، فوطؤهن ليس فيه من كمال النعمة ما في الحرائر. والرجم إنما هو على من عظمت رتبته بعظيم نعمة الله- تعالى- عليه، فناسب حينئذ تحصبن هذه دون تلك؛ مراعاة للجنس، واعتبار العلة في الجنس من قواعد القياس. وهو السر في تحريم النظر للحرة الشوهاء، دون الأمة الجميلة؛ نظرًا لعلة في الجنس؛ فإن الإماء جنسهن المالية الغالبة عليهم دون الآدمية، وهو سبب قول جماعة عظيمة: إن القيمة فيهن دون الدية؛ تغليبًا للمالية، والمال لا يحرم النظر إليه. وقطع السارق دون الغاصب؛ لأن السارق يأخذ المال بخفية، فلا يحتاج لمزيد قوة ولا عصبية ولا مشاهدة، والغصب يحتاج إلى ذلك، فيندر بالنسبة إلى السرقة، فتكثر السرقة، فناسب الزجر عنها بالعقوبة دونه، يكتفي فيه بالتعزيز، لظهوره وندرته، فهذه كلها تعاليل من قواعد القياس. ورد الشاهدين في الزنا؛ لعلة طلب الستر. وفي القتل لم يحسن إلا إثباته صونًا للدماء والأموال، ولا عار فيه، بخلاف الزنا، وجلد القاذف بالزنا دون الكفر؛ لعدم العار في اكفر؛ لأنه من باب التدين، لا من باب الفواحش.

وقاذف الحر الفاجر يحد، بخلاف العبد العفيف؛ نظرًا إلى شرف الحرية، فهو ملاحظة العلية في الجنس، دون الصور الجزئية. والتفرقة في العدة بين الموت والطلاق؛ لأن الموت غاب فيه صاحب النسب، فاحتاط له الشارع بالإحداد، وتعميم العدة وتكثيرها، والطلاق صاحب النسب فيه مودود يحفظ عرضه ونسبه، فخفف الشرع فيه؛ لعلة قلة الحاجة لذلك. واستبراء الحرة ثلاث، والأمة واحدة؛ لأن الحرة أشرف، ونسبها أشرف، فاحتيط للشريف أكثر من الوضيع، فهو على قاعدة التعليل عاضد للقياس لا مناقض له. والوضوء من الريح دون غسل الموضع لا فائدة فيه؛ لأنه لو غسل لكان لموضع التنجيس، وحينئذ يجب على الثياب كلها كلما خرج ريح، وذلك مشقة عظيمة، مع أن الذي يصحب الريح من النجاسة إنما هو (النتن) لا جوهر له، ولا جرم يستقذر، بخلاف نجاسة الأجرام الحسية. وأما الوضوء فقال بعض العلماء: إنما وجب من جميع هذه الأشياء ملاحظة لإبليس، وما يقع من إغوائه على أكل الشجرة، واستقرت في المعدة، فأوجبت (النتن) لمكان المعصية، وكان المناسب أن يغسل الباطن في كل حين يحدث فيه مثل ذلك، غير أن الشارع أمر بوضع الوضوء دائرًا حوال موضع (النتن) لتعذر وضعه في موضع (النتن)، فأمر بوضعه في الرجلين والرأس، وهما الطرفان، واليدين وهما الجناحان، وصار ذلك كدائرة حول موضع (النتن) ومستقر أثر المعصية. فهذه كلها تعاليل حسنة مقوية لطلب الحكم ومشروعية القياس، واعتبار المصالح تحصيلاً، والمفاسد دفعًا.

ومن اعتبر الشرائع كلها وجدها مصالح للعباد حاثة على القياس، وتتبع المصلحة في جميع صورها، فما أورده النظام نقوضًا، فهو نصوص على القياس لا نقوض عليه. قوله: (إن كان القياس على وفق البراءة الأصلية لم يكن فيه فائدة، لأن قوله: (البراءة) دليل قاطع، والقياس ظني): قلنا: البراءة مقطوع بأصلها، لا لشمولها جميع الأزمنة، بل هي في ذلك مظنونة أضعف من ظن القياس، فتقديم القياس عليها تقديم للظن القوى على الظن الضعيف، ولذلك قدمنا البينة وخبر الواحد عليها؛ لأن ظنها أقوى، ونسبتها للأزمنة والأحوال كنسبة العموم للأشخاص، فكما يخصص العموم المقطوع بأصله بسبب التواتر بخبر الواحد والقياس، كذلك ترفع البراءة الأصلية بهما. قوله: (إن كان القياس يفيد النفي وهو ثابت في الأزل، فإثباته بالقياس عبث): قلنا: قد تقدم أنه يفيد قوة الظن فلا عبث، وافتقار القياس لبقاء الشيء على ما كان عليه لا يمنع ذلك؛ فإن بقاء الشيء على ما كان عليه قد يكون في الثبوت، وقد يكون في العدم، فهذه مقدمة مشتركة بين الأدلة، وليست نفس البراءة الأصلية، ثم إن المفتقر للشيء قد يفيد تقويته، فإن الكل مفتقر لجزئه، وهو يقوى وجود الجزء، لأنه يستلزمه، وكذلك المعلول مع العلة، والمشروط مع الشرط.

(تنبيه) قال التبريزي: معنى قوله: (هبته وكان مهيبا)، هي هيبة تعظيم وتوقير، لا هيبة خوف وسراية ضرر

قوله: (يقع التعارض بين المقدمتين، فيقدم الأصل على الفرع). قلنا: الاستصحاب في البراءة الأصلية ظنه ضعيف، فيقدم عليه القياس، وإن كان فرعًا، لقوة ظنه، والحكم للغالب. قوله: (لابد في الحال من أن يرجح أحد الطرفين؛ لامتناع ترك النقيضين): قلنا: قد تقدم أن ترك الراجح والمرجوح ولا علم بأحدهما ليس تركًا للنقيضين، بدليل الشاهد الواحد في الزنا، فإن الراجح صدقه، ولم نحكم بموجب صدقه، ولا بموجب كذبه، وكذلك كل ظن هو ملغي شرعًا وعرفًا، يفرق بين ارتفاع النقيضين، وبين ارتفاع الحكم بالنقيضين، والأول المحال، دون الثاني. قوله: (عند القياس يصير الحكم معلومًا). قلنا: قد تقدم تقريره أول الكتاب سؤالاً وجوابًا في حد الحكم. قوله: (حقوق العباد مبنية على اشح والضنة): قلنا: هذا الجواب ضعيف، وقد تقدم الجواب الصحيح عند السؤال، وإلا فالقياس قد جرى في حقوق العباد في الدماء، والأموال، ولم يمنع القياس كونه حقًا للعبد. قوله: (الكلام على وجوب اللطف تقدم): تقريره: أنه مبنى على مسألة الحسن والقبح، وهو ممنوع على أصولنا. (تنبيه) قال التبريزي: معنى قوله: (هبته وكان مهيبًا)، هي هيبة تعظيم وتوقير، لا هيبة خوف وسراية ضرر؛ استعظامًا للرد في محل الاجتهاد على من هو أكبر منه رتبة وسنًا، كما يستحي الواحد منا عن الرد فيما يظنه على

من يعظم في نظره، ويسلك نفسه باستعظام الخطأ إلى ذلك العظيم، مع أن ذلك الذي تأخر عنه ابن عباس لا يكاد ينكتم. ودعواهم إجماع العترة غير صحيح، والصادق والباقر- رضي الله عنهما- ليسا كل العترة في زمانهما، ولا كل علماء العترة، وهذه أمور نقلها المؤرخون، ثم نقول لهم: إجماع كل العترة إن لم يكن حجة، فلا كلام، وإن كان، فكيف يكون على خلاف إجماع الصحابة، وحينئذ يلزم تخطئة أحد الإجماعين، وهو محال، وما أشاروا إليه من النهى عن الاختلاف المراد به: في الحرب؛ لقوله: {فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال: 46] لا في الأحكام الشرعية، فلا يضر الاختلاف الناشئ عن القياس. وقوله: (أعتقت غانمًا لسواده)، فمن أصحابنا من منع، وقال: يلزم سراية العتق إلى كل من شاركه في ذلك، كما لو قال: أعتقت كل أسود، وهو على قاعدة النظام ألزم، ولكنه غير مرضي؛ لأن العتق لا يحصل بمجرد إرادة العتق، بل لابد من لفظ يدل عليه، وللشرع تعبد في تعيين صيغ التصرفات، بخلاف الأحكام الشرعية، بخلاف الأحكام الشرعية، فإنه يكفي في إثباتها فهم إرادة الثبوت من الشرع بأي طريق كان، فهذا هو الفرق، وهو الجواب، حتى لو قال المالك: (فمن كان في معناه؛ فقد أذنت لكم في أعتاقه)، صح التوكيل، ونفذ العتق من الوكيل. قلت: وإذا تأملت ما تقدم في هذا الموضع من أن العلل إنما يتبعها أحكام ناصبها عللاً، وجدته أمس من هذا الجواب، وأقعد بقواعد الأصول. قال: وأما ما ذكره النظام فمعظمه تهويل، ولا يلزم منه امتناع القياس حيث عقل المعنى، فقد اتفق العقلاء على التعليل في الإلهيات، والطبيعيات، والعقليات مع ما فيها مما لا تهتدي إليه العقول كخواص الطبائع، والصفات

(فائدة) قال سيف الدين: القائلون بأن السماع دل على القياس، قالوا كلهم: إن ذلك الدليل قطعي، إلا أبا الحسن البصري، فإنه قال: ظني. قال: وهو المختار

النفسية، والتابعة للحدوث في العقل، وكذلك الحس الظاهر قد يكل عن إدراك أشياء كثيرة، ويتطرق إليه غلط كثير، ولم يمنع ذلك سقوط الثقة بأصله. قلت: يريد بـ (التابع للحدوث): لزوم الألوان، وأحد الألوان، وأحد الطعوم في الأجسام، والافتقار للمحل في الأعراض. قال: وقول النظام، إنما يلزم أن لو قلنا: التماثل يوجب المساواة في الحكم مطلقًا، أما في الأغلب، فلا انتقاض، وهو كافٍ، لتضمنه غلبة الظن بالحكم. قال: وأما البراءة الأصلية، فإنا نقطع بها إلى حين قيام دليل النقل، فإذا شككنا في الدليل فقد شككنا في البراءة الأصلية كما في جانب النقل. قلت: الدليل مانع من إعمال البراءة الأصلية، والشك في المانع يجب عنده العمل بالسبب، أو بالدليل السابق، لا أنه يصير مشكوكًا فيه، كما إذا شك في الطلاق استصحب العصمة، أو الظهار، فاستصحب الحدث، فما ذكره من الشك غير لازم، إنما ذلك في الشك في الشرط أو السبب، أما في المانع، فلا. (فائدة) قال سيف الدين: القائلون بأن السماع دل على القياس، قالوا كلهم: إن ذلك الدليل قطعي، إلا أبا الحسن البصري، فإنه قال: ظني. قال: وهو المختار. (فائدة) قال ابن حزم في كتاب (النكت) له في إبطال الأمور الخمسة:

التقليد، والقياس، والرأي، والاستحسان، والتعليل، فذكر نكتًا وأسئلة تتعلق بإبطال القياس، فأحببت ذكرها تكميلاً للفضيلة؛ فإنه اتفق الناس عل جودة حفظه، وعظيم نقله، إنما اختلفوا في جودة تصرفه، ثم إنه يذكر مدارك للقياس، ويجيب عنها، فنسلمها، وننازع في أجوبته. قال ابن حزم: أحدث قوم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشياء، ووفق الله آخرين فتركوها، وثبتوا على الكتاب والسنة، وهي: الرأي، والقياس، والاستحسان، والتعليل، والتقليد. فحدث الرأي في القرن الأول من الصحابة- رضوان الله عليهم- مع أنه لم يقطع بالنقل عنهم، وهو: الحكم بما هو أحوط عند المفتي من غير نص. ثم حدث القياس في القرن الثاني. والاستحسان في القرن الثالث. تم التقليد، والتعليل في القرن الرابع. والتقليد: أن يفتي؛ لأن الصحابي أو التابعي أفتى بذلك، وهذه كلها قول في الدين بلا دليل. والتعليل: استنباط علة من مورد النص، وهو باطل؛ لأنه إخبار عن الله- تعالى- بأنه شرع لذلك بغير نص ورد عن الله، فهو كذب عليه. وقد صح عن كثير من الصحابة الفتيا بالرأي، ولم يصح عن أحد منهم القول بالقياس إلا في الرسالة المنسوبة إلى عمر، وفيهاك (وقس الأمور، وأعرف الأشباه، ثم أعمد إلى أولادها بالحق، وأحبها إلى الله- تعالى- فاقض به). وهي لم تصح عنه، إنما جاءت من طريق عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه، وكلاهما متروك الحديث.

ومن طريق عبد الله ابن أخي سعيد، وهو مجهول. ثم إن فيها ما يستحيل نسبته إليه، وهو قوله: (أحبها إلى الله)، ومن أين يعرف أحب الأشياء إلى الله إلا بنص عن الله؟. وما روى عن علي وزيد بن ثابت من الاختلاف في الميراث في الجد والإخوة فلا يصح؛ لأن رواية عيسى الخياط عن الشعبي منقطعة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ساقط. وما روى عن ابن عباس في التحكيم: أنه قال للخوارج: إن الله- تعالى- أمر بالتحكيم في أرنب قيمتها ربع درهم، فكيف لا يصح التحكيم في صلاح الأمة؟ فلا يصح براوية مجهول. وأيضًاك لا يتوقف حكم من الأحكام على التحكيم، سوى الصيد، وشقاق المرأة، فلو استدل به على منع القياس لصح. ورووا عن ابن عباس أنه قال: ألا اعتبرتم ذلك بالأسنان، وديتها سواء). فلا حجة فيه؛ لعدم الاتفاق على الحكم في (الأسنان)، والأصابع حتى يقاس أحدهما على الآخر. وأيضًا: النص وارد في الأسنان، كما هو وارد في الأصابع، فلا قياس؛ إذ من شرطة إلحاق مسكوت بمنطوق، وإنما أراد ابن عباس: هما سواء

منصوص عليهما، ولم يقل أحد بالاستحسان قبل أبي حنيفة ومالك في النادر، ثم حدث التقليد في حسوة هذين الرجلين، فكل طائفة لا تقلد غير صاحبها في فتاويه وإن اختلفت، ولا يعرف هذا عن أحد قبل هاتين الطائفتين، ثم حدث التقليد في الشافعية، ولم تزل طائفة من الصحابة إلى زماننا ينكرون هذه الأمور، بل روى القيسيون أخبارًا مكذوبة، واتبعهم مقلدوهم عليها، ثم كثر ذلك حتى طبق الأرض، وتركت من أجله أحكام القرآن والسنة جهارًا، وصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وعودى طلاب السنن الثابتون على ما كان عليه الصحابة والتابعون- رضي الله عنهم- من الوقوف عند أحكام القرآن والسنة. واحتجوا على الرأي بما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أنا أقضي فيكم برأيي فيما لم ينزل على فيه شيء)، وهو غير صحيح؛ لأن رواية أسامة الليثي، وهو ضعيف؛ ولأن رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق لا يلحق به غيره؛ لأنه لا ينطق عن الهوى. وقال الله- تعالى-: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105]. وحديث معاذ غير صحيح؛ لأن راوية الحارث بن عمرو، وهو مجهول، وكيف يقول- عليه السلام- له: (إن لم تجد في كتاب الله) وهو- عليه السلام- قد سئل عن (الحمر)، فقال: (ما أنزل على فيها شيء غير هذه الآية الفاذة: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره)، ولم يحكم فيها- عليه السلام- بغير الوحي، فكيف يجيز ذلك لغيره؟!.

ورووا أن الصديق- رضي الله عنه- كان إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله- تعالى- فإن وجد ما يقضى به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله- تعالى- نظر في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن وجد فيها ما يقضى به قضى به، فإذا أعياه ذلك سأل الناس، هل علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيها بقضاء؟ فربما قام إليه القوم، فيقولون: قضى بكذا، فإن لم يجد سنة، جمع رؤساء الناس وعلماءهم، فاستشارهم: فإذا أجمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر يفعل ذلك، ويسأل: هل قضى أبو بكر- رحمه الله- فيها بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به، وإلا جمع علماء الناس واستشارهم، فإذا أجمع رأيهم على شيء قضى به، وأن ابن مسعود أكثروا عليه ذات يوم، فقال: إنه قد أتى علينا زمان لسنا نقضى، ولسنا هنالك، إن الله- تعالى- بلغنا ما ترون، فمن عرض له بعد اليوم قضاء، فليقض بكتاب الله- تعالى- فإن جاء أمر ليس في كاتب الله- تعالى- ولا قضى به نبيه- عليه السلام- ولم يقض به الصالحون، فليجتهد رأيه، ولا يقل: إني أرى وإني أخاف؛ فإن الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وقد أمر الله- تعالى- بالشاهد واليمين) وإنما هو غلبة الظن. وحديث عمر لا يصح؛ لأن راويه ميمون بن مروان، وولد سنة أربعين بعد موت عمر- رضى الله عنه- بسبع عشرة سنة.

وحديث ابن مسعود صحيح ثابت، غير أنه عليهم؛ لأن معنى اجتهاده: طلب السنة حتى يجدها، ولذلك قال: (لا يقول: إني أرى). واستدلوا بقوله- تعالى- لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وشاروهم في الأمر} [آل عمران: 159] يدل على أنه اتباع الرأي. وجوابه: أنه إنما أمر بذلك؛ لحسن العشرة معهم، ولذلك قال له: {فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران: 159]. وبقوله تعالى: {ومن يحي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} [يس: 79]. وبقوله تعالى: {كذلك يحيي الله الموتى} [البقرة: 73]. وبقوله تعالى: {كذلك النشور} [فاطر: 9]. وبقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} [الأسراء: 23]، وغير التأفيف مقيس عليه. وبقوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره} [الزلزلة: 7] فما دون الذرة مقيس عليه. وقوله تعالى: {ولحم الخنزير} [البقرة: 173] شحمه مقيس عليه. وقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95]. وقوله تعالى: {وأشهدا ذوى عدل منكم} [الطلاق: 2] ورد في المال، فقيس عليه غيره. وبقوله- عليه السلام- للأعرابي: (هل لك من إبل)؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها)، قال: حمر، قال: (هل فيها من أورق)؟

قال: نعم، قال: (فأني ذلك؟)، قال: لعله نزعه عرق؟ قال: (فلعل ابنك هذا نزعه). وبقوله- عليه السلام-: (من أعتق شركًا له في عبد)، فألحقت به الأمة قياسًا، وألحق العبد بالأمة في آية تشطير العذاب. وبقوله- عليه السلام- لما قال له السائل: هششت فقبلت، فقال له- عليه السلام-: (أر أيت لو تمضمضت بماء)؟. وبقوله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43]. قال: والجواب عن الآيات الأول: أنها تدل على إلحاق المعاد الجسماني بالبداءة، وهذا عقلي، إنما النزاع في الشرعي؛ ولأنها تشبيهات وقعت بالنصوص، والواقع بالنص لا نزاع فيه.

وأما تحريم غير التأفيف، فبقوله تعالى: {وبالوالدين إحسانًا} [الإسراء: 23]، {وقل لهما قولاً كريمًا} [الإسراء: 23]، {وقل رب ارحمهما} [الإسراء: 24]. فاقتضى ذلك الإحسان مطلقًا لا بالقياس. ودون الذرة، بقوله تعالى: {أني لا أضيع عمل عامل} [آل عمران: 195]، {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} [غافر: 17]. وحرمة جملة الخنزير، بقوله تعالى: {فإنه رجس} [الأنعام: 145]، والضمير يعود على الجملة. وسائر الحقوق تثبت الشهادة فيها بقوله عليه السلام: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) فعم ذلك جميع الأحكام. وآية الصيد تبطل القياس؛ لأن من لا يملك النعم لا يجب عليه دفع المثل. والجواب عن الحديث الأول: أنه- عليه السلام- لم يجعل لا تفاق الصفات ولا لاختلافهما أثرًا، فهو يدل على بطلان القياس. وعن حديث العتق: أنه ورد (من أعتق شقصًا في مملوك، ومن أعتق شيئًا من إنسان) خرجه النسائي وغيره، فتناول العموم الجميع. وعن قوله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس} [العنكبوت: 43] أنه معارض بقوله تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال} [النحل: 74]. قال: واحتجوا على التعليل بأن الله- تعالى- نص على أنه حكم بأشياء من أجل أشياء، كقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179].

وأجمعت الأمة على أن على الحدود الزجر. وقوله عليه السلام: (أينقص الرطب إذا جف؟). قال: والجواب: أن ما نص الله- تعالى- ورسوله- عليه السلام- عليه، فهو ثابت لأجل النص، إنما النزاع في العلل التي يذكرونها بالعقول والاستنباط. وقولهم: (الحدود للزجر) ممنوع، لوجوب الحد في الزنا دون إتيان البهيمة، وفي القذف دون الرمي بالكفر، وهو أعظم منه، وفي سرقة عشرة دراهم دون غصب ألف، وفي يسير الخمر دون البول، وكلاهما نجس. قلت: فهذه نبذة من كلامه، ولم أرد عليه في أجوبته؛ لأن أكثرها ظاهر، فخشيت التطويل، والتأمل كاف فيها. ***

المسألة الثانية قال الرازي: قال النظام: (النص على علة الحكم يفيد الأمر بالقياس)

المسألة الثانية قال الرازي: قال النظام: (النص على علة الحكم يفيد الأمر بالقياس) وهو قول أبي الحسن البصري، وجماعة من الفقهاء، ومنهم: من أنكره؛ وهو المختار. وقال أبو عبد الله البصري: إن كانت العلة علة في الفعل، لم يكن التنصيص عليها تعبدًا بالقياس، وإن كانت علة في الترك، كان التنصيص عليها تعبدًا بالقياس. لنا: أن قوله: (حرمت الخمر؛ لكونها مسكرة) يحتمل أن تكون العلة هي الإسكار، وأن تكون العلة هي إسكار الخمر، وأن تكون العلة هي إسكار الخمر، بحيث يكون قيد كونه مضافًا إلى الخمر معتبرًا في العلة؛ وإذا احتمل الأمرين، لم يجز القياس إلا عند أمر مستأنف بالقياس. فإن قيل: لا نسلم أن قيد كون الإسكار في ذلك المحل يحتمل أن يكون جزءًا من العلة، فإنا لو جوزنا ذلك، للزمنا تجويز مثله في العقليات؛ حتى نقول: هذه الحركة. إنما اقتضت المتحركية؛ لقيامها بهذا المحل، فالحركة القائمة لا بهذا المحل، لا تكون على للمتحركية. سلمنا إمكان كونه معتبرًا في الجملة؛ لكون العرف يدل على سقوط هذا القيد عن درجة الاعتبار؛ لأن الأب، إذا قال لابنه: (لا تأكل هذه الحشيشية؛ لأنها سم) يقتضي منعه عن أكل كل حشيشة تكون سمًا.

وإذا أثبت ذلك في العرف، ثبت مثله في الشرع، لقوله- عليه الصلاة والسلام:- (ما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن). سلمنا: أنه غير ساقط في العرف؛ إلا أن الأغلب على الظن سقوطه؛ لأن علة الحكم وجب أن تكون منشأ الحكمة، ولا مفسدة في كون الإسكار قائمًا بهذا المحل، أو بذاك، بل منشأ المفسدة كونه المفسدة كونه مسكرًا فقط؛ فإذا غلب على ظننا ذلك، وجب الحكم به؛ احترازًا عن الضرر المظنون. سلمنا: أن هذا القيد غير ظاهر؛ لكن دليلكم إنما يتمشى فيما إذا قال الشارع: (حرمت الخمر؛ لكونها مسكرة) أما لو قال: (علة حرمة الخمر: إنما هي الإسكار) لا يبقى ذلك الاحتمال. سلمنا: أن دليلكم يمنع من القياس؛ لكن ها هنا ما يدل على جوازه، فإن قول الشارع: (حرمت الخمر؛ لكونها مسكرة) يقتضي إضافة الحرمة إلى الإسكار، وذلك يدل على أن العلة هي الإسكار؛ فوجب أن يترتب الحكم عليه أينما وجد. وأما من فرق بين الفعل والترك، فقد قال: (إن من ترك أكل رمانة، لحموضتها، وجب عليه أن يترك أكل كل رمانة حاضمة، أما من أكل رمانة، لحموضتها لا يجب عليه أن يأكل كل رمانة حامضة): والجواب: قوله: (هذا الاحتمال قائم في الحركة): قلنا: إن عنيت بالحركة: معنى يقتضي المتحركية، فهذا المعنى يمتنع فرضه بدون المتحركية، وإن عنيت بالحركة؛ شيئًا أخر؛ بحيث يبقى فيه هذا الاحتمال، فهناك نسلم أنه لابد في إبطال ذلك الاحتمال من دليل منفصل.

قوله: (العرف يقتضي إلغاء هذا القيد): قلنا: ذاك إنما عرف بالقرينة؛ وهي أن شفقته تمنع من تناول كل ما يقتضي ضررًا، فلم قلت: إن هذا المعنى حاصل في العلة المنصوصة؟ قوله: (الغالب على الظن إلغاء هذا القيد): قلنا: هب أن الأمر كذلك؛ ولكن إنما يلحق الفرع بالأصل؛ لأنه لما غلب على ظننا كونه في معناه، ثم لدليل دل على وجوب الاحتراز من الضرر المظنون، فحينئذ يجب علينا أن نحكم في الفرع بمثل حكم الأصل؛ ولكن هذا هو الدليل الذي دل على كون القياس حجة، فالتنصيص على علة الحكم لا يقتضي إثبات مثله في الفرع إلا مع الدليل الدال على وجوب العمل بالقياس. قوله: (لو صرح بأن العلة هي الإسكار، لا يبقى فيه هذا الاحتمال): قلنا: في هذه الصورة نسلم أنه أينما حصل الإسكار، حصلتا الحرمة؛ لكن ذل ليس بقياس؛ لأن العلم بأن الإسكار؛ من حيث هو إسكار، يقتضي الحرمة يوجب العمل بثبوت هذا الحكم في كل محالة، ولم يكن العلم بحكم الحرمة يوجب العلم بثبوت هذا الحكم في كل محالة، ولم يكن العلم بحكم بعض تلك المحال متأخرًا عن العلم بالبعض؛ فلم يكن جعل البعض فرعًا، والآخر أصلاً أولى من العكس؛ فلا يكون هذا قياسًا، بل إنما يكون قياسًا، لو قال: (حرمت الخمر؛ لكونها مسكرة) فحينئذ يكون العلم بثبوت هذا الحكم في الخمر أصلاً للحكم به في النبيذ، ومتى قال؛ على هذا الوجه، انقدح الاحتمال المذكور. قوله: (إن قوله: (حرمت الخمر؛ لكونها مسكرة) يقتضي إضافة الحرمة إلى نفس الإسكار):

شرح القرافي

قلنا: لا نسلم؛ فالعل قيد كون الإسكار فيه معتبر في العلية؛ على ما حققناه. قوله: (من ترك أكل رمانة، لحموضتها، يجب عليه أن يترك الكل): قلنا: لا نسلن؛ لاحتمال أن يكون الداعي له إلى الترك، لا مطلق حموضة الرمانة، بل حموضة الرمانة؛ وإنها غير حاصلة في سائر الرمانات. سلمناه؛ ولكن لا فرق في ذلك بين الفعل والترك. قوله: (من أكل رمانة؛ لحموضتها، لا يجب عليه أن يأكل كل رمانة حامضة): قلنا ذاك لأنه ما أكلها؛ لمجرد حموضتها؛ بل لأجل حموضتها، مع قيام الاشتهاء الصادق لها، وخلو المعدة عن الرمان، وعلمه بعدم تضرره بها، وهذه القيود بأسرها لم توجد في أكل الرمانة الثانية. المسألة الثانية قال القرافي: قال النظام: (النص على علة الحكم يقيد الأمر بالقياس)، وهو قول أبي الحسين البصري، وجماعة من الفقهاء. ومنهم من أنكره، وهو المختار. وقال أبو عبد الله البصري: إن كانت [العلة] علة في الفعل، لم يكن التنصيص عليها تعبدًا بالقياس، وإن كانت علة في الترك، كان تعبدًا بالقياس. تقريره: أن الفعل قد يقصد منه المرة الواحدة؛ كسقي الماء للعطش، فلو

(سؤال) قال النقشواني: إذا قطعنا بنفي الفوارق وجب الإلحاق للضرورة

تكرر ربما أضر. والترك يقصد دوامه من غير حرج، فيعم الحكم جميع صور العلة. وهذا الفرق يلاحظ ما تقدم أن الأمر لا يقتضي التكرار، والنهي يقتضيه؛ لأن الانتهاء دائمًا يمكن بخلاف الفعل دائمًا. قوله: (لو قال: علة حرمة الخمر هي الإسكار لا يبقى احتمال، بخلاف حرمتها؛ لكونها مسكرة): تقريره: أن قوله: (لكونه مسكرًا) إضافة الحكم لأمر كائن فيه، لقوله: (لكونه مسكرًا) وقوله: (الإسكار) - بالألف واللام- إشارة (للإسكار) مجردًا من غير إضافة للمحل، فلذلك عم. قوله: (إذا قال: (حرمت الخمر للإسكار) ليس بقياس؛ لأنه ليس جعل البعض أصلاً، والبعض الآخر فرعًا أولى من العكس): قلنا: هذا يقتضي عدم القياس في إقراره الحكم. أما ثبوت الحكم في النبيذ، والمزر، والسكر له، والبتع، وغيرها من المسكرات، فإنه قياس ضرورة؛ لأن النص لا يتناوله. وإنما يتجه ما قلتموه إذا قال: (الإسكار علة التحريم في جميع موارده). لكن السائل لم يورد السؤال هكذا، بل قال: حرمت الخمر للإسكار. (سؤال) قال النقشواني: إذا قطعنا بنفي الفوارق وجب الإلحاق للضرورة كما قلنا: (هذه النار محرقة)، لا يجوز أن يكون الإحراق لخصوصيات هذه النيران التي نشاهدها، بل نقطع بأن كل نار محرقة؛ للقدر المشترك بينهما، وكذلك في كل محل قطعنا بإلغاء الفوارق أو عدمها.

(جوابه) لا نسلم أنه أمر بالقياس، بل نقطع بنفي الفوارق

(جوابه) لا نسلم أنه أمر بالقياس، بل نقطع بنفي الفوارق، ولا يلحق النبيذ بالخمر، وإن قطعنا بنفي الفوارق، حتى يتمحض أنا إذا لم نفعل ذلك فقد خالفنا مقصود الشرع. وكون الشرع له مقصود- في القياس- فرع دلالة الدليل على القياس، فحينئذ لا بد مع ذلك من دليل يدل على القياس، وأما أنا نقطع بأن كل نار محرقة، فذلك بدليل العادة والاستقراء المحصل للقطع العادي، لا المشترك بين أفراد النيران، وكلك العلل العقلية حصل القطع بترتب أحكامها في جميع صور عللها؛ لدلالة الدليل العقلي على ذلك، لا لمجرد العلة. (سؤال) قال النقشواني: الفرق بين الفعل والترك قوى؛ لأن القائل: (أعط هذا الفقير لفقره)، لا يلزم منه إعطاء كل فقير؛ لاحتمال أن يكون القصد إعطاء قدر م المال لهذه العلة، فلا يزاد عليه. وكذلك إذا قال لوكيله: (اشتر هذا العبد لكونه تركًا) لا يشتري كل عبد لكونه تركيًا بخلاف قوله: (لا تشتر هذا العبد لكونه أسود)؛ فإنه لا يشتري شيئًا من العبيد السود. (جوابه) أن ذلك معلم بالعرف مع العلة؛ فإن العادة اقتضت أن الإنسان لا يخرج جميع أمواله لهذا الغرض، بل يقيد واحد موصوف بصفة خاصة، ولا تتبع تلك الصفة في جميع مواردها. (تنبيه) غير التبريزي العبارة، فقال:

تنبيه: قال النظام: التنصيص على العلة ينزل منزلة اللفظ العام في وجوب تعميم الحكم

قال النظام: التنصيص على العلة ينزل منزلة اللفظ العام في وجوب تعميم الحكم، فلا فرق بين قوله: (حرمت الخمر لشدتها)، وبين أن يقول: (حرمت كل مشتد)، فقاس حيث لا يقيس، مع إنكاره القياس، وإنما أنكر تسميته قياسًا. وقال سيف الدين: قال النظام، وأحمد بن حنبل، والقاساني، والنهراوني، وأبو بكر الرازي- من الحنفية- والكرخي: يكفي نص الشارع على علة الحكم في تعدية الحكم بها إلى غير محل الحكم المنصوص دون ورود التعبد بالقياس. وقال أبو إسحاق الإسفراييني، وأكثر الشافعية، وجعفر بن مبشر، وجعفر بن حرب، وبعض أهل الظاهر: لا يكفي ذلك. قال القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص): اختلف في النص الوارد مقرونًا بالعلة، هل يجب إجراؤه في جميع موارد تلك العلة، وإن لم يرد التعبد بالقياس؛ لأنه كلالفظ العام بسبب العلة، ولا يجب ذلك إلا بعد التعبد بالقياس؟ وعلى الأولى كثير من نفاة القياس، نحوك (حرمت الخمر لكونها مسكرة) فكأنه قال: (حرمت كل مسكر)، ومنهم: النظام، وبعض الظاهرية، وبعض الشافعية، والجمهور على خلافهم أنه لابد من التعبد بالقياس في ذلك. وفصل بعض المتأخرين بين أن يكون الحكم المعلل تركًا، فيعم من غير الأمر بالقياس، أو فعلاً، فلا يهم حتى يرد الأمر بالقياس. وهذا يوافق كلام التبريزي، ويدل على أن عبارة المصنف غير ناصة على المقصود. ***

المسألة الثالثة قال الرازي: إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه قد يكون ظاهرا جليا، وقد لا يكون كذلك

المسألة الثالثة قال الرازي: إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه قد يكون ظاهرًا جليًا، وقد لا يكون كذلك: فالأول: كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف، ومن الناس: من قال: المنع من التأفيف منقول بالعرف عن موضوعه اللغوي إلى المنع من أنواع الأذى. لنا وجهان: الأول: أن المنع من التأفيف، لو دل عليه، لد لعليه: إما بحسب الموضوع اللغوي، أو بحسب الموضوع العرفي: والأول: باطل بالضرورة، لأن التأفيف غير الضرب؛ فالمنع من التأفيف لا يكون منعًا من الضرب. والثاني أيضًا: باطل؛ لأن النقل العرفي خلاف الأصل. وأيضًا: فلو ثبت هذا النقل في العرف، لما حسن من الملك، إذا استولى على عدوه: أن ينهى الجلاد عن صفعه، والاستخفاف به، وإن كان يأمره بقتله، وإذا بطلت دلالة اللفظ عليه، علمنا أن تحريم الضرب مستفاد من القياس. واحتج المخالف بأمور: أحدها: لو كان ذلك مستفادًا من القياس، لوجب فيمن لا يقول بصحة القياس ألا يعلم ذلك.

وثانيها: أنه يلزم ألا يعلم العاقل حرمة ضربهما، لو متعه الله عن القياس الشرعي. وثالثها: أجمعنا على ان قوله: (فلان لا يملك حبة) يفيد في العرف أنه لا شيء له البتة، وكذا قولهم: (لا يملك نقيرًا، ولا قطميرًا) يفيد أنه ليس له شيء البتة، وإن كان النقير في أصل اللغة عبارة عن النقرة التي على ظهر النواة، والقطمير عبارة عما في شق النواة. وكذلك قولهم: (فلان مؤتمن على قنطار) فإنه يفيد في العرف كونه أمينًا على الإطلاق، وإنما حكمنا في هذه الألفاظ بالنقل العرفي؛ لتسارع الفهم إلى هذه المعاني العرفية؛ فوجب أن تكون حرمة التأفيف موضوعة في العرف؛ للمنع من الإيذاء؛ لتسارع الفهم إليه. والجواب عن الأول: أن القياس قد يكون يقينًا، وقد يكون ظنيًا. أما الأول: تكمن علم علة الحكم في الأصل، ثم علم حصول مثل تلك العلة في الفرع، فإنه لابد وأن يعلم ثبوت الحكم في الفرع. أما الثاني: فكما إذا كانت إحدى المقدمتين، أو كلاهما- مظنونة، والقياس في هذه المسألة من النوع الأول؛ فلا جرم لا يمكن أن يكون القادح في صحة القياس الظني قادحًا في صحة هذا القياس. وهذا هو الجواب بعينه عن الثاني. أما الثالث: فقوله: (ليس لفلان حبة) يفيد نفي الأكثر من الحبة، لأن الأكثر من الحبة يوجد فيه الحبة، أما ما نقص من الحبة فلا يتعرض له كلامه.

شرح القرافي

وأما النقير والقطمير، فقد حكمنا فيه بالنقل العرفي للضرورة، ولا ضرورة في مسألتنا. وأما قوله: (فلان مؤتمن على قنطار) فإنما يفيد كونه مؤتمنًا على ما دون القنطار؛ لأن ما دون القنطار داخل في القنطار، فأما ما فوقه، فلا يدخل فيه. المسالة الثالثة قال النقشواني: إلحاق المسكوت عنه، بالمنصوص عليه قد يكون ظاهرًا [جليًا، وقد لا يكون كذلك. فالأول: كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف. ومن الناس من قال: المنع من التأفيف منقول بالعرف عن موضوعه اللغوي إلى المنع من أنواع الأذى. لنا وجهان: الأول]: فائدة فيما ذكره المصنف: النقير: ما في ظهر النواة. والقطمير: ما في شقها. وبقي الفتيل: وهو القشرة الرقيقة المحتفة بها. قوله: (أما النقير، والقطمير، فقد حكمنا فيه بالنقل العرفي)، ولو يقل ذلك في الحبة، بل قال: (الحبة في الأكثر)، فلذلك يلزم من نفيها نفي الأكثر. والفرق عنده: أن (النقير) ونحوه موضوع ليس فيها نقير، بخلاف الحبة. ويرد عليه: أن الحبة- أيضًا- اسم لأحد الحبوب من النبات، فلا يلزم من نفيها نفي الذهب الكثير.

(فائدة) قال إمام الحرمين في (الرهان): قال معظم الأصوليين: ليس هذا الفحوى معدودا من الأقيسة، بل متلقى من اللفظ

فإن قال: التقدير ليس عنده زنة حبة، على تقدير المضاف. قلنا: الأصل عدم الحذف، إلا أن يدعى انه قد اشتهر في العرف؛ فيلزم النقل، ويستوى البابان. قوله: (فلان يؤتمن على قنطار، إنما يفيد الأمانة على ما دون القنطار؛ لأنه داخل فيه). قلنا: من الناس من يخون في المحتقرات؛ لاستهزائه بها، دون الأمور العظيمة، ويكذب في سعة الكلام دون الشهادة، وأخلاق الناس تختلف. فما يلزم من قولنا: (لا يخون في القنطار) ألا يخون في اليسر. (فائدة) قال إمام الحرمين في (الرهان): قال معظم الأصوليين: ليس هذا الفحوى معدودا من الأقيسة، بل متلقى من اللفظ، والمستفاد من فحوى اللفظ وتنبيهه كالمستفاد من صيغته. وهذا المذهب الذي هو المشهور لم ينقله المصنف ألبتة. فتحصل من نقله مع نقل (البرهان) ثلاثة مذاهب: الحكم ثابت بالقياس. باللفظ اللغوي. بالنقل العرفي. وغير (البرهان) وافق (البرهان) أيضا. * * *

المسألة الرابعة قال الرازى: ثبوت الحكم في الأصل: إما أن يكون يقينيا، أو لا يكون

المسألة الرابعة قال الرازى: ثبوت الحكم في الأصل: إما أن يكون يقينيا، أو لا يكون: فإن كان يقينيا؛ استحال أن يكون ثبوت الحكم في الفرع أقوى منه؛ لأنه ليس فوق اليقين درجة، أما إذا لم يكن يقينيا، فثبوت الحكم في الفرع: إما أن يكون أقوى من ثبوته في الأصل، أو مساويا له، أو دونه: مثال الأول: قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف؛ فإن تحريم الضرب، وهو الفرع، أقوى ثبوتا من تحريم التأفيف، الذي هو الأصل. ومثال الثاني: قوله - عليه الصلاة والسلام -: (لا يبولن أحدكم في الماء الراكد) فإنا نقيس عليه ما إذا بال في الكوز، ثم صبه في الماء الراكد، ولا تفاوت بين الحكم في الأصل والفرع، وهذا هو الذي يسمى بالقياس في معنى الأصل. ومثال الثالث: جميع الأقيسة التي يتمسك الفقهاء بها في مباحثهم، وأما مراتب التفاوت، فهي بحسب مراتب الظنون، ولما كانت مراتب الظنون محصورة، فكذا القول في مراتب هذا التفاوت. المسألة الرابعة قال: (إن كان الحكم في الأصل يقينا استحال أن يكون الفرع أقوى): قلنا: لا نسلم؛ لأنا قد بينا أن اليقينيات قد تختلف في الجلاء، بدليل أن (الواحد نصف الاثنين أجلى) من غيره من الحسابيات المعلومة بالضرورة، والحسيات أجلى من (الواحد نصف الاثنين)، والمرئيات أجلى من الملموسات.

قوله: (قد يكون ثبوت الحكم في الفرع أقوى، كتحريم الضرب من تحريم التأفيف): قلنا: لا نسلم أن الثبوت أقوى، بل أضعف بالضرورة، وإذا أنصفنا أنفسنا وجدنا أن المستلزم لثبوت الشيء يكون ثبوته أقوى من ثبوت ذلك الشيء؛ لأنه يلزم من عدمه عدمه من غير عكس. والمتعرف ثبوته على ثبوت الشيء لا يكون أقوى من ثبوت الشيء ضرورة. إنما جاء الخلاف في هذا الفرع من جهة أن مفسدة الضرب أقوى، لا أن ثبوت التحريم أقوى، فإن عنيتم أن مفسدة الفرع أجلى عند الفعل فمسلم. لكن قوة المفسدة وجلاءها، غير ثبوت التحريم المرتب عليها، فلا يلزم أن تكون قوة أحدهما هي عين قوة الأخرى. قوله: (مثال المساوى: قياس صب البول في الماء على البول فيه): تقريره: أن الحديث ورد: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم). قال العلماء: علته أن ذلك ربما توالى على الماء إلى أن يؤدى إلى تنجيسه، والتشكك فيه على مستعمليه، فقاسوا عليه صب البول من الإناء. وقال أهل الظاهر: لا يكون الصب منهيا عنه؛ لأنه غير مورد النص.

(تنبيه) قال التبريزي: الحكم للأقوى: كقياس الأعمى على الأعرج في الأضحية في عدم الإجزاء

ويرد ها هنا - أيضا - أن ثبوت الحكم - ها هنا - ليس مساويا لثبوت الحكم في الأصل، بل أضعف، لأنه فرع على ثبوت الحكم في الأصل، ومختلف فيه، والأول متفق عيه، لكن للمساواة في المفسدة، فمفسدة الصب كمفسدة البول سواء، وقد تقدم في القسم الأول أن أحوال المفاسد غير أحوال الأحكام. قوله: (والثبوت للأضعف كأقيسة الفقهاء): قلنا: إن أردتم الضعف في المصالح والمفاسد، فهذا إشارة إلى قيام الفروق، ولا قياس مع الفرق، فهذا قدح في جميع أقيسة الفقهاء. وإن أردتم الضعف في نفس الثبوت، فهذا مشترك في القسمين الأولين، فيلزم أن يكون قسيم الشيء قسيما له، وهو محال. (تنبيه) قال التبريزي: الحكم للأقوى: كقياس الأعمى على الأعرج في الأضحية في عدم الإجزاء، والخنزير على الكلب في منع البيع بعلة النجاسة، ووطء البالغ على وطء الصبي في إفساد الحج. والمساوى: كقياس المرأة على الرجل في جواز رجوع البائع عند الموت والفلس، والأمة على العبد في سراية العتق. والأضعف: كقياس العمد على الخطأ في وجوب الكفارة، والمرأة على الرجل في صحة النكاح. ويرد ما تقدم على المصنف أن الفقهاء أكثروا من التمثيل في المساوى بالأمة والعبد في السراية، وفي تشطير العقوبة في الحدود وغيرها، مع أن لقائل أن

يقول: السراية في الأمة فيها مانع، وهو أن الأنثى ربما أفضى عتقها لحاجتها، واكتسابها بفرجها وفرط ضعفها عن تحصيل مؤنتها، ودفع العار عنها، فيكون هذا مانعا من الإلحاق. وكذلك التشطير في العقوبات، فيه رفق ورحمة، وهي بالإناث أنسب، فإلحاق العبد بالأمة يكون مع قيام الفارق حينئذ، فلا يصح، ولا تكون المساواة حاصلة. * * *

القسم الثاني قال الرازي: في الطرق الدالة على كون الوصف المعين علة للحكم في الأصل

القسم الثاني قال الرازي: في الطرق الدالة على كون الوصف المعين علة للحكم في الأصل. قد عرفت أن حاصل القياس يرجع إلى أصلين: أحدهما: أن الحكم في محل النص معلل بالوصف الفلاني. وثانيهما: أن ذلك الوصف حاصل في الفرع. والأصل الأول أعظمهما وأولاهما بالبحث والتدقيق، والكلام في هذا القسم مرتب على مقدمة وأربعة أبواب: أما المقدمة: ففي تفسير العلة في هذا الموضع، قال نفاة القياس: إما أن يكون المراد من العلة ما يكون مؤثرا في الحكم، أو ما يكون داعيا للشرع إلى إثباته، أو ما يكون معرفا له، أو معنى رابعا، والثلاثة الأول باطلة، والرابع لا بد من إفادة تصوره، لننظر فيه، هل يصح أم لا؟. أما الأول؛ وهو الموجب: فهو باطل من وجوه: أحدها: أن حكم الله تعالى - على قول أهل السنة - مجرد خطابه الذي هو كلامه القديم، والقديم يمتنع تعليله؛ فضلا عن أن يعلل بعلة محدثة، وأما على قول من يقول: الأحكام أمور عارضة للأفعال معللة بوقوع تلك الأفعال؛ على جهات مخصوصة، فهو قول المعتزلة في الحسن والقبح العقليين، وقد أبطلتموه.

وثانيها: أن الواجد هو الذي يستحق العقاب على تركه، واستحقاق العقاب وصف ثبوتي؛ لأنه مناقض لعدم الاستحقاق، وتركه هو ألا يفعله، وهو عدمي، ولو كان ذلك الاستحقاق معللا بهذا الترك، لكان الوجود معللا بالعدم؛ وهو محال. فإن قلت: (لم لا يجوز أن يقال: (القادر لا ينفك عن فعل الشيء، أو فعل ضده، فإذا ترك الواجب، فقد فعل ضده، واستحقاق العقاب معلل بفعل ضده؟): قلت: هذا لا يستقيم؛ على رأي أبي هاشم، وأبي الحسين وأتباعهما؛ لأنه يجوز عندهما خلو القادر من الأخذ والترك. وأيضا: ففعل الضد، لو لم يستلزم الإخلال بواجب، لم يستلزم استحقاق الذم والعقال، ولو فرضنا وقوع الإخلال بالواجب من غير فعل الضد، لاستلزم استحقاق الذم والعقاب؛ فعلمنا أن المستلزم بالذات لهذا الاستحقاق: هو ألا يفعل الواجب، لا فعل ضده. وثالثها: أن العلة الشرعية، لو كانت مؤثرة في الحكم، لما اجتمع على الحكم الواحد علل مستقلة؛ لكن قد يحصل هذا الاجتماع، فالعلة غير مؤثر. بيان الملازمة: أن الحكم مع علته المستقلة واجب الحصول، وما كان واجب الحصول لذاته، استحال وقوعه؛ لأن الواجب لذاته لا يكون واجبا لغيره، فإذا اجتمعت عليه علل مستقلة، كان لكونه مع هذا منقطعا عن الآخر، وبالعكس؛ فيلزم استغناؤه عن الكل حال احتياجه إلى الكل؛ وهو محال. بيان استثناء نقيض التالي: ما إذا زنا وارتد، أو لمس ومس معا؛ فإن الحكم ها هنا واحد؛ لامتناع اجتماع المثلين.

وبتقدير جوازه: فإنه لا يكون استناد أحد الحكمين إلى أحد العلتين أولى من استناده إلى العلة الأخرى، ومن استناد الحكم الآخر إليها، فيعود إلى كون كل واحد من الحكمين معللا بكل واحدة من العلتين؛ وهو محال. ورابعها: أن كون القتل العمد العدوان قبيحا، وموجبا لاستحقاق الذم والقصاص، لو كان معللا بكونه قتلا عمدا، عدوانا والعدوانية صفة عدمية؛ لأن معناها: أنها غير مستحقة - لزم أن يكون العدم جزءا من علة الأمر الوجودي؛ وهو محال. فإن قلت: (لم لا يجوز أن يكون هذا العدم شرطا لصدور الأثر عن المؤثر؟): قلت: لأن عليه العلة ما كانت حاصلة قبل حصول هذا الشرط، ثم حدثت عند حصوله، فتلك العلية أمر حادث لا بد له من مؤثر، وهو الشرط، فلو جعلنا الشرط عدما، لزم جعل العدم علة لتلك العلية؛ وهو محال. ومن الفقهاء: من قال: هذه الإشكالات إنما تتوجه على من يجعل هذه الأوصاف عللا مؤثرة لذواتها في هذه الأحكام، ونحن لا نقول بذلك؛ بل كونها عللا لهذه الأحكام أمر ثبت بالشرع؛ فهي لا توجب الأحكام لذواتها؛ بل لأن الشرع جعلها موجبة لهذه الأحكام. وهذا هو الذي عول عليه الغزالي في (شفاء الغليل)، فيقال له: إن أردت بجعل الزنا علة موجبة للرجم، أن الشرع قال: (مهما رأيتم إنسانا يزني، فاعلموا أني أوجبت رجمه) فهذا صحيح؛ ولكن يرجع حاصله إلى كون الزنا معرفا لذلك الحكم، وهو غير ما نحن الآن فيه، وإن أردت به: أن الشرع جعل الزنا مؤثرا في هذا الحكم؛ فهو باطل من وجهين:

الأول: أنه معترف بأن الحكم ليس إلا خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، وذلك هو كلامه القديم؛ فكيف يعقل كون الصفة المحدثة موجبة للشيء القديم، سواء كانت الموجبة بالذات، أو بالجعل؟. الثاني: أن الشارع، إذا جعل الزنا علة، فخال ذلك الجعل: إن لم يصدر عنه أمر البتة، لم يكن جاعلا البتة، وإن صدر عنه أمر، فلذلك الأمر: إما الحكم، أو ما يؤثر في الحكم، أولا الحكم، ولا ما يؤثر في الحكم: فإن كان الصادر هو الحكم: كان المؤثر في الحكم هو الشارع، لا الوصف، وقد فرض أن المؤثر هو الوصف هذا خلف. وإن كان الصادر ما يؤثر في الحكم: كان تأثير الشارع في إخراج ذلك المؤثر من العدم إلى الوجود، ثم إنه بعد وجوده يؤثر في الحكم لذاته، فتكون موجبيته لذاته، لا بالشرع. وإذا كان الصادر لا الحكم، ولا ما يؤثر فيه البتة: لم يحصل الحكم حينئذ، وإذا لم يحصل الحكم، لم يجعل الشرع ذلك الوصف موجبا لذلك الحكم، وقد فرض كذلك؛ هذا خلف. التفسير الثاني: الداعي، وهو بالحقيقة أيضا: موجب؛ لأن القادر، لما صح منه فعل الشيء، وفعل ضده، لم تترجح فاعليته للشيء على فاعليته لضده، إلا إذا علم أن له فيه مصلحة، فذلك العلم هو الذي لأجله؛ صار القادر فاعلا لهذا الضد؛ بدلا من كونه فاعلا لذلك الضد؛ لكن العلم موجب لتلك الفاعلية، ومؤثر فيها، فمن قال: (أكلت؛ للشبع) كان معناه ذلك. إذا عرفت هذا، فنقول: هذا في حق الله تعالى محال؛ لوجهين:

الأول: أن كل من فعل فعلا؛ لغرض، فإنه مستكمل بذلك الغرض، والمستكمل بغيره ناقص بذاته؛ وذلك على الله تعالى محال. وإنما قلنا: (إن فعل فعلا؛ لغرض، فإنه مستكمل بذلك الغرض) لأنه إما أن يكون حصول ذلك الغرض، ولا حصوله بالنسبة إليه في اعتقاده على السواء، وإما أن يكون أحدهما أولى به في اعتقاده: فإن كان الأول: استحال أن يكون غرضا، والعلم به ضروري بعد الاستقراء والاختبار. وإن كان الثاني: كان حصول تلك الأولوية معلقا بفعل ذلك الغرض، وكل ما كان معلقا على غيره، لم يكن واجبا لذاته، فحصول ذلك الكمال غير واجب لذاته؛ فهو ممكن العدم لذاته؛ فلا يكون كمال الله تعالى صفة واجبة؛ له؛ بل ممكنة الزوال عنه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فإن قلت: (حصول ذلك الغرض، ولا حصوله بالنسبة إليه تعالى على السواء؛ ولكن بالنسبة إلى غيره، لا على السواء؛ فلا جرم أن الله تعالى يفعل، لا لغرض يعود إليه؛ بل الغرض يعود إلى عبده): قلت: كونه تعالى فاعلا للفعل الذي هو أولى بالعبد، وكونه غير فاعل له: إما أن يتساويا بالنسبة إليه تعالى من جميع الوجوه، أو لا يتساويا: فإن كان الأول: استحال أن يكون ذلك داعيا لله تعالى إلى الفعل. وأيضا: فكيف يعقل هذا، مع أن المعتزلي يقول: لو لم يفعل، لاستحق الذم، ولما كان مستحقا للمدح، ولصار سفيها غير مستحق للإلهية، وإن كان أحدهما أولى، عاد الإشكال.

الثاني: أن البديهة شاهدة بأن الغرض والحكمة ليس إلا جلب المنفعة، أو دفع المضرة؛ والمنفعة: عبارة عن اللذة، أو ما يكون وسيلة إليها، والمضرة: عبارة عن الألم، أو ما يكون وسيلة إليه، والوسيلة إلى اللذة: مطلوبة بالعرض، والمطلوب بالذات: هو اللذة. وكذا الوسيلة إلى الألم: مهروب عنها بالعرض والمهروب عنه بالذات: ليس إلا الألم؛ فيرجع حاصل الغرض والحكمة إلى تحصيل اللذة، ورفع الألم؛ ولا لذة إلا والله تعالى قادر على تحصيلها؛ ابتداء من غير شيء من الوسائط، ولا ألم إلا والله تعالى قادر على دفعه؛ ابتداء من غير شيء من الوسائط وإذا كان الأمر كذلك، استحال أن تكون فاعليته لشيء؛ لأجل تحصيل اللذة، أو دفع الألم؛ لأن الشيء إنما يكون معللا بشيء آخر، إذا كان يلزم، من عدم ما فرض علة، وعدم كل ما يقوم مقامها ألا تكون العلية حاصلة البتة؛ وبهذا الطريق: علمنا أن نعيق الغراب، وصرير الباب ليس علة لوجود السماء والأرض، ولا بالعكس. وإذا ثبت هذا، فنقول: لما لم تكن فاعلية الله تعالى لتحصيل اللذات، ودفع الآلام - متوقفة البتة على وجود هذه الوسائط، لم تكن أبضا فاعليته للوسائط - متوقفة على فاعليته لتلك اللذات، والآلام - استحال تعليل أحدهما بالآخر، وإذا بطل التعليل، بطل كونها داعية؛ لما بينا أن الداعي علة لعلية الفاعلية. التفسير الثالث للعلة: المعرف: فنقول: إنه أيضا باطل؛ لأنا إذا قلنا: الحكم في الأصل معلل بالعلة الفلانية، استحال أن يكون مرادنا من العلة المعرف؛ وإلا لكان معنى الكلام: (أن الحكم في الأصل، إنما عرف ثبوته بواسطة

شرح القرافي: قال الغزالي في (شفاء الغليل): قال قوم: إقامة الدليل على عدم الأصل غير واجب

الوصف الفلاني) وذلك باطل؛ لأن علية الوصف لذلك الحكم لا تعرف إلا بعد معرفة ذلك الحكم؛ فكيف يكون الوصف معرفًا؟ والجواب: أما المعتزلة: فإنهم يفسّرون العلّة الشرعيّة: تارة بالموجب، وتارة بالدّاعي، فيحتاجون إلى الجواب عن هذه الكلمات التي سبقت، والكلام في ذلك طويل. وأما أصحابنا: فإنهم يفسرونه بالمعرف وأما قوله: (الحكم معرّف بالنص، فلا يمكن كون الوصف معرفًا له): قلنا: ذلك الحكم الثابت في محل الوفاق فردٌ من أفراد ذلك النوع من الحكم، ثم بعد ذلك يجوز قيام الدلالة على كوْن ذلك الوصف معرفًا لفرد آخر من أفراد ذلك النوع من الحكم؛ وعلى ذلك التقدير: لا يكون تعريفًا للمعرف، ثم إذا وحدنا ذلك الوصف في الفرع، حكمنا بحصول ذلك الحكم؛ لما أنا الدليل لا ينفك عن المدلول. القسم الثاني في الدّال على العلّة قال القرافي: قال الغزالي في (شفاء الغليل): قال قوم: إقامة الدليل على عدم الأصل غير واجب؛ لأنه قد تحقق صورة القياس لمجرد الجمع، والأصل أن كل وصف يذكر في الأصل علة، إلا أنه يمنع [منه] مانع. قال: وهو باطٌل؛ لأن الأصول تنقسم إلى: تعبّد ومعلل، والمعلل احتمل أن يكون بغير هذا الوصف.

(فائدة) قال القاضي عبد الوهاب في (الملخص)، والشيخ أبو إسحاق في (اللمع): العلة لها معنيان: لغوى واصطلاحي

قوله: (والمراد بالعلة إما المؤثر، أو الداعي، أو المعرف): تقريره: أن المؤثر هو المحصل للوجود، والناقل للمكن من حيّز العدم إلى حيز الوجود، كما تقول الفلاسفة في الطبائع وغيرها. والداعي هو: العلم باشتمال الفعل على جلب مصلحة، أو دفع مفسدة، فيدعو ذلك العلم من قام به لفعل ذلك الفعل. والمعرّف هو: العلامة على الشيء والمرشد له، كتعريف كلّ جزء من أجزاء العالم بوجود الله- تعالى- وصفاته العلى، كما تقرر في أصول الدين. (فائدة) قال القاضي عبد الوهّاب في (الملخص)، والشيخ أبو إسحاق في (اللمع): العلة لها معنيان: لغوى واصطلاحي. فهو اعتبار اللغة مأخوذ من ثلاثة أشياء: علّة المرض: وهو الذي يؤثر فيه عادة. والداعي: من قولهم: علّة إكرام زيد لعمرو، علمه وإحسانه. وقيل: من الدّوام والتكرر، ومنه العلل لشرب بعد الري، يقال: شرب عللاً بعد نَهَل. وفي اصطلاح المتكلمين: العلة: ما اقتضى حكمًا لمن قام به، كالعلم علّة للعالمية. وعند الفقهاء: ما ثبت الحكم لأجله. قوله: (حكم الله- تعالى- عند أهل السنة مجرد خطابه الذي هو كلامه القديم، فيمتنع تعليله): قُلنا: لابُدّ مع الكلام القديم من التعلق بالاقتضاء أو التخيير، وبدون هذا

التعلق لا يتصور من الكلام حكم، والحكم هو مجموع المركب من الكلام القديم، والتعلق عدمي؛ لأنه نسبة بين الكلام وأفعال المكلفين، والنسب والإضافات كلها عدمية عند أهل الحق، فيكون الحكم عدميًا؛ لأن المركب من الوجود والعدم عدم، وإذا كان الحكم بهذا الاعتبار عدميًا، أمكن أن يترتب تحقيقه على غيره، ولا تمتنع إضافة محققة للغير، وإنما يمتنع ذلك في الواجب الموجود بجميع أجزائه. قوله: (وأما على قول من يقول: الأحكام أمور عارضة للأفعال معلّلة بوقوع تلك الأفعال على جهاتٍ مخصوصة، فهو قول المعتزلة، وقد أبطلناه): تقريره: أن المعتزلة لا تقول بالكلام النفساني، والأحكام عندهم أوامر الشرع ونواهيه الدالة على إرادة عدم ذلك المحرم، ووجود ذلك الواجب؛ لأجل اشتمال المحرم على المفسدة، والواجب على المصلحة، فتلق هذه الألفاظ الخاصة بالأفعال أمور عارضة للأفعال؛ لأجل المصالح والمفاسد، هذا بعد ورود الشرائع بصيغ النصوص. وأما قبلها، فالأحكام عندهم ثابتة مع أنه لا لفظ من قبل الشرع حينئذ؛ بل المتعلق الإرادة فقط، وتلك الإرادة متعلقة بالفعل في الواجب، والترك في المحرم، والتخيير في المباح، وتعلقت- أيضًا- بالعقاب والثواب على حسب مراتب الأفعال، فهذه هي الأمور العارضة للأفعال. قوله: (الاستحقاق أمر ثبوتي؛ لأنه مناقضٌ لعدم الاستحقاق): قلنا: هذا لا يتم؛ لأن الاستحقاق نسبة وإضافة بين المستحق الذي هو العذاب، والمستحق به الذي هو المعصية، والنسب كلها عدمية، وإن كان لفظها لفظ ثبوت، كما تقول: البنوة نقيضها عدم البنوة، وكذلك الأبوة، والفوقية، والتحتية، والتقدم، والتأخر، وغير ذلك من النسب العدمية،

ويمكن أن يقال فيها كلها: هي نقيض عدمها، ولا يقتضي ذلك أنها وجودية في الخارج، وإذا كان الاستحقاق عدميًا، أمكن تعليله بالعدم الذي هو ترك الواجب، ثم هذا لا يتم في المحرم؛ فإن الاستحقاق فيه بالفعل، وهو وجودي، فدليلكم لا يعم جميع صور النزاع. قوله: (الحكم مع علته المستقلة واجب الحصول لذاته): تقريره: أن كل مؤثر إذا استجمع لكل ما لا بد منه في التأثير، وجب أثره ضرورة؛ لأنه لو لم يجب لجاز ألا يقع في تلك الحالة، فليفرض وقوعه تارة، وعدم وقوعه تارة أخرى، فاختصاص زمان الوقوع بالوقوع لا بد له من مرجّح، وإلا لزم الترجيح من غير مرجح وهو محال. فإذا حصل ذلك المرجح، وإن وجود الفعل لحصل المطلوب، وإلا عاد البحث، ولزم التسلسل، وهو محال، فحينئذ لا بد من حصول الأثر عند الاستجماع من الأسباب، والشروط، وانتفاء جميع الموانع، وهو المراد بالعلة المستقلة. ومثاله: أن الكاتب (للألف) لا بد له من دواة، وقرطاسٍ، وقلم، وحركة بالإصبع على القرطاس، ومتى حصلت الأسباب كلها والشروط، وانتفت الموانع، وجب حصول (الألف) ضرورة، ولا تتأخر إلا لفقدان بعض ما فرضت وقوعه الآن، وهذا يوضح لك هذا المطلب العقلي. غير أن قول المصنف: (واجب الحصول لذاته) إن كان الضمير في ذاته عائدًا على الأثر، فليس كذلك، بل هو واجب الحصول لغيره لا لذاته. وإن كان عائدًا على العلة المستجمعة صح، والأول: هو ظاهر لفظه. ويمكن تصحيح عبارته بطريق: وهو أن المعلول الذي استجمعت علته لوقوعه يجب وجوده لذاته، من حيث أنه مستجمع له، لا بالنظر إلى ذاته

من حيث هو هو، مع قطع النظر عن الاستجماع، ومن هذا الوجه لا يحتاج إلى مؤثر يوقعه؛ لأنه أخذ بقيد مؤثره، فلو احتاج إلى غيره لزم تحصيل الحاصل. قوله: (بيان نقيض التالي): تقريره: أن التالي: هو اللازم، وكأن اللازم معناه: عدم اجتماع العلل على الحكم الواحد في قوله: (إن العلة الشرعية لو كانت مؤثرة لما اجتمع على الحكم الواحد علل)، ونفي اللازم يقتضى نفي الملزوم، فاستثناء نقيض اللازم معناه بيان عدم اللازم، حتى يلزم منه عدم الملزوم. قوله: (عليه العلة ما كانت حاصلة قبل هذا الشرط، ثم حدثت عند حصوله، فتلك العلية أمر حادث لابد له من مؤثر، وهو الشرط): قلنا: العليّة: هي كون العلة بالنظر إلى ذاتها، وهذا الوصف لا يتوقف ثبوته لها على الشرط، إنما الذي يتوقف على الشرط ترتب معلولها عليها، ولذلك نقول: السم سبب وجود القتل في نفسه، وإن كان في بعض المحال قد يتأخر لمانع، وعدم شرط، ولو سلمنا ذلك: فالعلية نسبة وإضافة؛ لأنها ترجع إلى التأثير، وهو نسبة بين الأثر والمؤثر. والحق في هذه المواضع أن المتوقف هو ترتب الأثر على العلة، وهو نسبة عدمية أمكن تعليله بالشرط العدمي. أو نقول: الترتب- أيضًا- مضاف لذات العلة، لكن بشرط حصول ذلك العدم، فلا يكون الشرط مؤثرًا مطلقًا، كان شرطًا في الترتيب أو في العلّية. قوله: (الصادر عن الشارع إما الحكم أو ما يؤثر فيه): قلنا: الحق في القسم الثالث؛ لأنه قد تقدم منع سراج الدين أول الكتاب

أن الصادر عن الشرع هو المؤثر به، وهي غير المؤثر؛ لأنها صفة المؤثر، وهذه الصفة وحدها نسبة وإضافة لا تستقل بالتأثير، فإذا جعل الشرع الوصف مؤثرًا، فقد حصل له مؤثر به، وهي غير المؤثر، وحينئذ يمنع كلامه في الأخير، أنه إن كان الواقع هذا القسم لم يحصل الحكم، بل يحصل لاستلزام المؤثر به بواسطة المؤثر في ذلك الحكم. قوله: (الداعي موجب لكون الفاعل فاعلًا): تقريره: أن الموجب هو الذي يلزم عنه الأثر، كان ذلك الأثر وجوديًا كالنور بالنسبة إلى الشمس في مجرى العادة، أو عدميًا كأحكام المعلل، فإنها أحوال ونسب وإضافات ليست وجودية، والمعاني موجبة لها كالعالمية مع العلم، والقادرية مع القدرة، ونحو ذلك. وكون الفاعل فاعلًا من باب النسب والإضافات، فلا يشكل عليك جعل الداعي موجبًاً بالنسبة إليه؛ لتخيلك أن الموجب وهو الوجود، ولا وجود هاهنا. قوله: (الفاعل للغرض مستكمل بذلك الغرض، ناقص بدونه): قلنا: لا نسلم؛ لأن الغرض قد يكون مما له أن يفعله، وله ألا يفعله، والأمران على السواء، ويكون المرجح لأحد الأمرين على الآخر الإرادة؛ لأنها صفة شأنها الترجيح لأحد المتساويين على الآخر لذاتها، من غير احتياج لمرجٍح آخر. فالله- تعالى- له أن يفعل لمرجح، ولا لمرجح، وإرادته الأزلية مرجح أحدهما على الآخر لا لمرجح. وإنما يلزم النقض إذا كان ذلك يرجع إلى صفة ذاتية أو معنوية قائمة به- تعالى- وأما ما هو من قبيل الأفعال وعللها، وما يبنى عليه، فذلك كله من قبيل الجائزات عندنا وجودًا وعدمًا.

قوله: (إنّ ذلك في حصوله وعدمه على السواء في اعتقاده إن كان الأول استحال أن يكون غرضًا، والعلم به ضروري). قلنا: كونه سواء في اعتقاده له ثلاثة معان: أحدهما: أن يكون سواء بالنسبة إلى الفاعل، راجحًا بالنسبة إلى المفعول له، وهذا ليس محالًا، بل هو الواقع غالبًا في الشرائع، والأفعال الربانية. وثانيها: أن يكون سواء- مطلقاً- بالنسبة إلى الفاعل والمفعول له، ووقوع مثل هذا مرتبًا عليه الفعل ليس محالًا، والمرجح الإرادة، فله أن يوجد ما فيه مصلحة وما لا مصلحة فيه، وأن يرتب الفعل على ما هو مصلحة في نفسه، ويكون ترتيب الفعل على هذا وترتيبه على غير سواء في لمه، ويكون المرجح الإرادة، ويكون ترتبه عليه كاقتران اتحاد العالم بزمان وجوده المعيّن مع إمكان اقتران وجوده بغيره، والأمران على السواء، ضرورة استواء الأزمنة، ومع ذلك رجحت الإرادة أحدهما على الآخر في الترتيب. وثالثها: أن يكون ذلك المرتب عليه لم يترجح الترتيب عليه بالإرادة ولا عدم الترتيب، بل هما في العلم على السواء، فهذا هو الذي نسلم أنه يستحيل أن يكون مرتبًا عليه؛ لأنه لو كان مرتبًا عليه، لعلمه مرتبًا عليه، ورجّح ذلك في علمه، فحيث لم يرجح في علمه لا يكون مرتبًا عليه ضرورة، فهذه المقدمة مهملة بين هذه الأقسام، والحق منها هو الثالث، ولم يدعيه بل الأول اعتقادًا، والثاني يدعيه بحثًا ومناظرة، ولا مدخل لهذا الغرض في الكمال الشرحي، فلزم منه عدم النقض. ثم قوله بعد ذلك: (كونه غرضًا متعلقًا بالغير إما أن يكون سواء النسبة إليه أم لا):

قلنا: يعود فيه التقسيم التقدم، وما المراد بالتسوية على تلك الأقسام الثلاثة، ويختار القسم الأول كما تقدم، والثاني جدلًا. وقوله: (إن المعتزلي يقول): ما حكاه عنه، فذلك مذهب باطل عندنا، لا يلزمنا ما يلزم عليه. قوله: (الحكمة لذة أو سببها، أو دفع مضرة أو سببها): تقريره: أنا إذا قلنا: الزنا حرم لحكمة حفظ الأنساب عن الاختلاط، فمعناه أن النسب إذا اختلط تألم صاحبه، وكذلك تحريم المسكرات لمفسدة زوال العقل، معناه: أن زوال العقل مفسدة شأنه أن يؤلم الطبع السليم، هذا في المحرمات، والواجبات، كوجوب الزكاة؛ لحكمة شكر النعمة، وسد الخلة معناه أن الفقير يلتذّ به بسبب سد خلته، والمحسن شأنه أن يلتذ بشكر نعمته، غير أن اللذة على الله- تعالى- محال، فتعود اللذة إلى أن الشاكر يلتذ بكونه حصل الشكر، وقام بما يليق به، وقس على ذلك جميع موارد الشرع. قوله: (الله- تعالى- قادر على تحصيل اللذة بغير واسطة، فيستحيل أن يكون ذلك معللًا بشيء): قلنا: إذا كان قادرًا يلزم من ذلك جوازه، لا وجوبه ولا امتناعه، وإرادته- تعالى- ترجّح أحد الجائزين على الآخر، فلا استحالة. وقوله: (إنما يكون الشيء معللاً بشيء آخر إذا كان يلزم من عدم فرض علة عدمه): قلنا: ذلك إنما يلزم فيما هو علة باعتبار ذاته، أما ما هو علة بجعله علّة على سبيل الجواز، فلا يلزم فيه ذلك.

وأما ما ذكره من نعيق الغراب، وصرير الباب، فإنا نجزم بعدم علته لذلك، وإنما ذلك لعدم الجعل، ولو جعله صاحب الشرع لاعتقدناه العلة، غايته أنا لا نجد فيه مصلحة، فيكون ذلك تعبدًا كما يقوله في الأحكام التعبدية، ومقادير النصب، والصلوات. * * *

الباب الأول قال الرازي: في الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل، وهي عشرة

الباب الأول قال الرازي: في الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل، وهي عشرة: النص، والإيماء، والإجماع، والمناسبة، والتأثير، والشبه، والدوران، والسبر والتقسيم، والطرد، وتنقيح المناط، وأمور أخرى اعتبرها قوم، وهي عندنا ضعيفة. الفصل الأول (في النص) ونعنى بالنص: (ما تكون دلالته على العلية ظاهرة، سواء كانت قاطعة، أو محتملة: أما القاطع: فما يكون صريحًا في المؤثرية، وهو قولنا: لعلة كذا، أو لموجب كذا، أو لأجل كذا؛ كقوله تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل}. وأما الذي لا يكون قاطعاً: فألفاظ ثلاثة: (اللام) و (إن) و (الباء): أما اللام: فكقولنا: ثبت لكذا؛ كقوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. فإن قلت: (اللام ليست صريحة في العلية؛ ويدل عليه وجوه: الأول: أنها تدخل على العلة، فيقال: ثبت هذا الحكم لعلة كذا، ولو كانت اللام صريحة في التعليل، لكان ذلك تكرارًا.

شرح القرافي: قوله: ([الأصل] القاطع في الدلالة على المؤثرية كقولنا: العلة كذا، أو لسبب كذا، أو لموجب كذا، أو لأجل أنه كذا)

الثاني: أنه تعالى قال: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس} وبالاتفاق: لا يجوز أن يكون ذلك غرضًا. الثالث: قول الشاعر [الوافر]: لدوا للموت وابنوا للخراب ................................. وليست اللام هاهنا للغرض. والرابع: يقال: (أصلى لله تعالى) ولا يجوز أن تكون ذات الله تعالى غرضًا): قلت: أهل اللغة صرحوا بأن اللام للتعليل، وقولهم حجة؛ وإذا تبت ذلك، وجب القوم بأنها مجاز في هذه الصور. وثانيها: (إن) كقوله- عليه الصلاة والسلام-: (إنها من الطوافين عليكم) (إنه دم عرق). وثالثها: (الباء): كقوله تعالى: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} واعلم: أن أصل (الباء) الإلصاق، وذات العلة، لما اقتضت وجود المعلول، حصل معنى الإلصاق هناك، فحسن استعمال الباء فيه مجازًا. الباب الأول في الطرق الدالة على علية الوصف قال القرافي: قوله: ([الأصل] القاطع في الدلالة على المؤثرية كقولنا: العلة كذا، أو لسبب كذا، أو لموجب كذا، أو لأجل أنه كذا): قلنا: لا نسلم أن هذه دلالة قاطعة؛ لاحتمال المجاز، والإضمار، والاشتراك، وغير ذلك من الأمور القادحة في إفادة الألفاظ القطع، إنما هذه

(فائدة) قال النحاة: اللام هذه لها سبعة معان

ظواهر، غير أنها أظهر من غيرها، لا سيما والإمام قد سلم أنها غير قاطعة، وهي موجودة في قولنا: لأجل كذا. قوله: (اللام) كقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}): قلت: قالت المعتزلة: هذه الآية من أعظم الأدلة على أن الله- تعالى- ما أراد من خلقه كلهم؛ لأن اللام للغرض، وهو الإرادة، فيكون مريدًا للعبادة من الجميع. وأجاب العلماء عنه بوجوه: قال ابن عباس: عبر بالمأمور عن الأمر، من باب التعبير بالمتعلق- بفتح اللام- عن المتعلق- بكسر اللام- وتقدير الكلام: لآمرهم بعبادتي، فعبر بالعبادة عن الأمر بها. وقال غيره: هو عام مخصوص، وقد عبده البعض من الفريقين. أو تكون (اللام (لام العاقبة والصيرورة، كقوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا}، وإن لم يريدوا ذلك في جعلهم العداوة والحزن. قوله: (لو كانت (اللام) للعلة لزم التكرار في قولنا: لعلة كذا): تقريره: أن هذه اللام ليست للتعليل، بل للاختصاص، أي هذا المعلول مختص بهذه العلة دون غيرها، وكذلك في بقية المثل التي ذكرها. (فائدة) قال النحاة: اللام هذه لها سبعة معانٍ: الملك: نحو: المال لزيد. والاستحقاق: نحو: سرج للدابة.

(فائدة) قال ابن جني في (المسائل الدمشقيات): (إن) لها سبعة معان

والاختصاص: نحو: ابن لزيد. والتشريف: كقوله- عليه السلام- حكاية عن الله تعالى: {إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به} والذم: نحو: هذا الشيطان والتعليل: نحو اتجرت للربح، وشربت للري. ولبيان السرف: نحو قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء}. فإن كان إطلاقها بطريق الاشتراك على هذه المعاني، فلا دلالة، فضلًا عن الصراحة؛ لأن المشترك مجمل. وإن كانت حقيقة في التعليل مجازًاً في غيره بالقرائن، استقامت الصراحة. (فائدة) قال ابن جني في (المسائل الدمشقيات): (إن) لها سبعة معانٍ: التأكيد: نحو: إنه قائم، والتعليل نحو: (إنها من الطوافات).

(فائدة) الباء: قال النحاه: لها خمسة معان

وبمعنى نعم، كقول بعض العرب [مجزوء الكامل]: ويقلن شيب قد علا .... ك وقد كبرت فقلت إنه وقال محمد بن السرى: الهاء اسمها، الخبر محذوف، أي إنه كذلك. قال: وهو ضعيف؛ لأن خبر (إن) لا يحذف تشبيهاً بالفاعل، وحيث وقع فهو ضعيف. وفعل الأمر من الأنين نحو: إن في مرضك. وفعل ماض مبني لما لم يسم فاعله من الأنين- أيضًا- وتكسر فاء الفعل على لغة ما قال: شد الحبل- بالكسر- نظراً لالتقاء الساكنين، وهي لغة مشهورة، وقرئ بها في قوله: {ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه}، وفعل لجماعة المؤنث من الأنن، وهو التعب، نحو: النساء قد إن مثل بعن ونحو: يا نساء إن، أي: اتعبن مثل سرن ويعن. والسابع تقول العرب: إن قائم أي أن أنا قائم، حذفت همزة (أنا) تخفيفًا، وألقيت حركتها على نون (إن) الخفيفة، التي بمعنى (ما) النافية، فانفتحت فصارت: إننا ثم أدغمت، ومنه قوله تعالى: {لكنا هو الله ربي}: أي لكن إنما هو الله ربي. (فائدة) الباء: قال النحاه: لها خمسة معانٍ: للإلصاق: نحو: مررت بزيد. والتعليل: نحو: سعدت بطاعة الله تعالى. والمصاحبة: نحو: خرج زيد بقماشه. والاستعانة: نحو: كتبت بالقلم.

(تنبيه) غير التبريزي العبارة فقال: النص ينقسم إلى صريح، وإيماء

وبمعنى (في) نحو: زيد بمصر، أي فيها. (تنبيه) غير التبريزي العبارة فقال: النص ينقسم إلى صريح، وإيماء. وعنى بالصريح ما يدل عليه لفظًا كان موضوعًا له، أو لمعنى يتضمنه فالأول كقوله: لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لأجله. وكي لا يكون: كقوله تعالى: {كي لا يكون دولة}، و {كي نسبحك كثيراً}. وأن المخففة المفتوحة [فإنها] تفيد معنى لأجل، كقوله تعالى: {إن كان ذا مال وبنين}. ومنه قول القائل: (أنت طالق إن دخلت الدار (، يقع في الحال، (ولا جرم) إذا جاء بعد الوصف، كقوله تعالى: {لا جرم أن لهم النار}. واللام للتعليل، وقد تستعمل للملك، فيما يقبله، وإذا أضيفت إلى الوصف تعينت للتعليل، وأما التأقيت، فهو بعيد، وقوله تعالى: {ليكون لهم عدوًا وحزنًا}. وقولهم [الوافر]: لدوا للموت وابنوا للخراب .......................

فسببه أن مآل الشيء لما كان مشبهاً بالمفعول له- وهو العلة الغائبة- أقيم مقام العلة، فاستعمل فيه حرف العلة. وقولهم: فعليته لعلة كذا، زيادة ومجاز؛ إذ لا فرق في المعنى بين أن يقول: لكذا، أو لعلة كذا. وأما الثاني: فكـ (باء الإلصاق (؛ فإنها لإلصاق السبب بالمسبب أظهر، وجميع أدوات الشرط والجزاء، كقوله تعالى: {فإن كنتم جنباً فاطهروا}، {فمن كان منكم مريضاً}، (ومن أحيا أرضًا ميتة فهي له).

وكذلك حرف (إذا)؛ فإن فيها معنى الشرطية، قال الله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا}. و (إن) المكسورة المشددة عدوها من هذا القسم، كما في قوله: (إنها من الطوافين) عليكم والطوافات). والحق أنها لتحقيق الفعل، وليس لها في التعليل حظ، ولهذا يحسن استعمالها ابتداء من غير سابقة حكم، والتعليل في الحديث مفهوم من قرينة سياق الكلام، وتعينه فائدة الذكر. قلت: لم يتعرض للقطع، فلا يرد عليه ذلك السؤال.

وقوله: (كان موضوعًا للتعليل، أو لمعنى يتضمنه): فالموضوع للتعليل لفظ العلة، والمتضمن نحو: (لا جرم) - بمعنى حقًا- أن لهم النار)، وفي ضمنه التعليل. وقوله: (وقد تستعمل اللام للملك) يدل على أن الأصل عنده التعليل؛ لأن (قد) حرف تقليل. وقوله: (فيما يقبله) لأن عرف الشرف فرق بين قولنا: (المال للقراض). فالأول: لما كان قابلًا للملك ثبت له الملك، وهي حجة المالكية في أن العبد يملك، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (من باع عبدًا وله مال). وقوله: (إذا أضيفت للوصف تعينت للتعليل) ليس كذلك، فإن (صليت لله تعالى) مضاف للوصف، وكذلك (الصلاة لله)، ولا تعليل. قوله: (التأقيت يفيد) مثاله: {فطلقوهن لعدتهن} وقدمت لعشر بقين أي في هذا الوقت، وإذا حققت وجدت الاختصاص، فلا جرم كان بعيدًا. وقوله: {ليكون لهم عدواً وحزناً} ونحوه من مجاز التشبيه): قال غيره: [و] وهو من باب التعبير باسم الكل عن الجزء؛ لأن العلة فيها أمران:

(فائدة) قال سيف الدين: ومن الصريح (من) كقوله تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل}

كونها غرضًا للفعل، وتترتب بعد الفعل، نحو: اتجرت للربح؛ لأنها العلة الغائية التي تترتب على الفعل، ولا يترتب عليها، فهي معلولة في الأعيان، علة في الأذهان، كما تقدم بسطه في أقسام المجاز، وإذا كان التعليل مركبًا من هذين الأمرين فإذا استعمل اللفظ الدال عليه في مجرد الترتيب والتعقيب، وهو جزء من ذلك المجموع، كان من باب التعبير باسم الكل عن الجزء. وقوله: (لا فرق أن يأتي بالعلة بغير لام) فنقول: لا فرق بين العلة كذا، وبين العلة كذا، بـ (لام) التعريف في الثاني، وعدمه في الأول. وقوله: (جميع أدوات الشرط .....) ترجع إلى قاعدة تقدمت في الاستثناء والشرط، وهي أن التعاليق اللغوية أسباب، بخلاف الشروط العقلية والشرعية والعادية، والسبب علة، فلذلك صارت الشروط دالة على العلة. وقوله: (إن ليس لها في التعليل حظ) بعيد؛ فإن السابق إلى الفهم من قوله تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزع بينهم} التعليل، وبذلك مثل المحصول وغيره، والغالب عليها التأكيد كما قاله. (فائدة) قال سيف الدين: ومن الصريح (من) كقوله تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل}. ثم قال: وهذه الألفاظ: (اللام) و (الباء) و (إن) و (من) و (كي) وأخواتها حقيقة في التعليل، مجاز في غيره.

(فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان (: نص الشارع على تعليل الحكم على وجه لا يتطرق التفصيل والتأويل إليه

وقال إمام الحرمين في (البرهان): ما يتضمن التعليل كقوله- عليه السلام- بعد السؤال: (أينقص الرطب إذا جف)؟ [فقال السائل: نعم، فقال -عليه السلام-:] فلا إذًا) فإنه نفي متضمن للتعليل. (فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان (: نص الشارع على تعليل الحكم على وجه لا يتطرق التفصيل والتأويل إليه، وقد ثبت لفظ الشارع قطعًا، فإذا ثبت الحكم، واستند إلى النص القاطع في تعليله، قال القياسون: هذا قياس. وقال الأستاذ أبو بكر: ليس بقياس، بل تمسك بالنص، وهو عموم في موارد التعليل، وكذلك اختلف إذا ألحق به الفرع من غير علة، بل لأنه لا فارق بينهما، هل هو قياس أم لا؟. * * *

الفصل الثاني (في الإيماء) قال الرازي: وهو على خمسة أنواع

الفصل الثاني (في الإيماء) قال الرازي: وهو على خمسة أنواع: الأول: تعليق الحكم على العلة بحرف (الفاء) وهو على وجهين: الأول: أن تدخل (الفاء) على حرف العلة، ويكون الحكم متقدمًا؛ كقوله- عليه الصلاة والسلام- في المحرم الذي وقصت به ناقته: (لا تقربوه طيبًا، فإنه يحشر يوم القيامة ملبيًا). الثاني: أن تدخل (لفاء) على الحكم، وتكون العلة متقدمة، وذلك أيضًا على وجهين: أحدهما: أن تكون (الفاء) دخلت على كلام الشارع؛ مثل قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} وثانيهما: أن تدخل على رواية الراوي؛ كقول الراوي: (سها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسجد) (زنا ماعزٌ، فرُجم).

فرعان: الأول: الحكم المرتب على الوصف مشعر بكون الوصف علة، سواء كان ذلك الوصف مناسبًا لذلك الحكم، أو لم يكن مناسبًا لذلك الحكم، وقال قوم: لا يدل على العلية إلا إذا كان مناسبًا. لنا وجهان: الأول: أن الرجل، إذا قال: (أكرموا الجهّال، واستخفوا بالعلماء) يستقبح هذا الكلام في العرف، فلا يخلو: إما أن يكون الاستقباح جاء؛ لأنه فُهم منه، أنه حكم يكون الجاهل مستحق للإكرام بجهله، ويكون العالم مستحقًا للاستخفاف بعلمه، أو لأنه فُهم منه: أنه جعل الجاهل مستحقًا للإكرام، والعالم مستحقاً للاستخفاف. والثاني: باطلٌ؛ لأن الجاهل قد يستحق الإكرام بجهة أخرى؛ نحو نسبه، أو شجاعته، أو سوابق حقوقه، والعالم قد يستحق الاستخفاف؛ لفسقه، أو لسبب آخر. وإذا بطل هذا القسم ثبت الأول، وذلك يدل على أن ترتيب الحكم على الوصف يفيد كون الوصف علة للحكم، سواء تحققت المناسبة، أو لم تتحقق

فإن قلت: (لم لا يجوز أن يقال: إن الاستقباح، إنما جاء؛ لأن الجهل مانع من الإكرام، والعلم مانع من الاستخفاف، فلمّا مر بإكرام الجاهل، فقد أثبت الحكم مع قيام المانع. وأيضًا: فهب أن الحكم في هذا المثال كذلك؛ فلم قلت: إنه في سائر الصور يجب أن يكون كذلك؟): قلت: الجواب عن الأول: أنا قد بيّنا: أنه قد يثبت استحقاق الإكرام، مع الجهل؛ فوجب أن يكون الجهل مانعًا منه؛ لئلا يلزم مخالفة الأصل. وعن الثاني: أنه لما ثبت ما ذكرناه في بعض الصور، وجب ثبوته في كل الصور؛ وإلا وقع الاشتراك في هذا النوع من التركيب، والاشتراك على خلاف الأصل. الوجه الثاني في المسألة: أنه لابد لهذا الحكم من علة، ولا علة إلا لهذا الوصف، أما الأول: فلأنه لو ثبت الحكم بدون العلة والدّاعي، كان عبثًا؛ وهو على الله تعالى محال. وأما الثاني: فلأن غير هذا الوصف كان معدومًا، والعلم بأنه كان معدومًا، يوجب ظن بقائه على ذلك؛ على ما سيأتي تقرير هذا الأصل، وإذا بقى على العدم، امتنع أن يكون علة؛ فثبت أن غيره يمتنع أن يكون علة؛ فوجب أن تكون العلة ذلك الوصف. الفرع الثاني: قد ذكرنا أن دخول (الفاء) يقع على ثلاثة أوجه؛ ولا شك أن قول الشارع أبلغ في الإفادة العلية من قول الراوي؛ لأنه يجوز أن يتطرق إلى كلام الراوي من الخلل ما لا يجوز تطرقه إلى كلام الشارع.

وأما القسمان الباقيان: فيشبه أن يكون الذي تقوم العلة فيه على الحكم أقوى في الإشعار بالعلية من القسم الثاني؛ لأن إشعار العلة بالمعلول أقوى من إشعار المعلول بالعلة؛ لأن الطرد واجب في العلل، والعكس غير واجب فيها. النوع الثاني: أن يشرّع الشارع الحكم عند علمه بصفة المحكوم عليه، فيعلم أنها علة الحكم، فإذا قال القائل: (يا رسول الله أفطرت) فيقول: (عليك الكفارة) فيعلم أن الكفارة وجبت؛ لأجل الإفطار. وإنما قلنا: (إن ذلك مشعرٌ بالعلية) لأن قوله: (عليك بالكفارة) كلام يصلح أن يكون جوابًا عن ذلك السؤال، والكلام الذي يصلح أن يكون جوابًا عن ذلك السؤال، إذا ذكر عقب السؤال، فيفيد الظن بأنه إنما ذكره جوابًا عن السؤال، وإذا ذكره جوابًا عن السؤال، كان السؤال كالمعاد في الجواب، فيصير التقدير: (أفطرت؛ فاعتق، وحينئذ يلتحق هذا بالنوع الأول. فإن قلتم لا نزاع في أن هذا الكلام صالحٌ لأن يكون جوابًا عن ذلك السؤال؛ لكن لا نسلم أن مثل هذا الكلام: إذا ذُكر عقيب السؤال، حصل ظن أنه ذُكر؛ ليكون جوابًا عن ذلك السؤال؛ فإنه ربما ذكره جوابًا عن سؤال آخر، أو لغرض آخر، أو زجرًا له عن هذا السؤال؛ كما أن العبد إذا قال لسيده: (دخل فلان دارك)، فيقول له السيد: (اشتغل بشأنك، فمالك، وهذا الفضول؟! (ولا يمكن إبطال هذا الاحتمال بما قاله بعضهم: من أنه لو لم يكن هذا الكلام جوابًا عن ذلك السؤال، لكان تأخرًا للبيان عن وقت الحاجة؛ وإنه لا يجوز؛ لاحتمال أنه- عليه الصلاة والسلام- عرف أنه لا حاجة بذلك المكلف إلى ذلك الجواب في ذلك الوقت فلا يكون إعراض الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ذكر الجواب تأخيرًا للبيان عن وقت الحاجة.

سلمنا أن ما يقوله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، جوابا عن السؤال- مشعر بالتعليل؛ فلم قلتم: إن الذي يزعم الراوي أنه جواب عن السؤال مشعر به؟ لاحتمال أنه اشتبه الأمر على الراوي، فظنّ ما لم يكن جوابًا جوابًا. قلت: الجواب عن الأول: أن الأكثر على أن الكلام الذي يصلح أن يكون جوابًا عن السؤال، إذا ذكر عقيب السؤال، فإنما يذكر جوابًا عنه، والصورة التي ذكرتموها نادرة، والنادر مرجوح. وعن الثاني: أن العلم بكون الكلام المذكور بعد السؤال جوابًا عنه، أو ليس جوابًا عنه- أمرٌ ظاهر يعرف بالضرورة عند مشاهدة المتكلم، ولا يفتقر فيه إلى نظر دقيق. النوع الثالث: أن يذكر الشارع في الحكم وصفًا، لو لم يكن موجبًا لذلك الحكم، لم يكن في ذكره فائدة، وهذا يقع على أقسام أربعة: أحدها: أن يدفع السؤال المذكور في صورة الإشكال بذكر الوصف؛ كما روي أنه- عليه الصلاة والسلام- امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب، فقيل له: إنك تدخل على فلان، وعنده هرة، فقال: (إنها ليست بنجسة؛ إنما من الطوافين عليكم والطوّافات) فلو لم يكن لكونها من الطوافين أثر في طهارتها، لم يكن لكونها من الطوافين أثر في طهارتها، لم يكن لذكره عقيب الحكم بطهارتها فائدة. وثانيها: أن يذكر وصفاً في محل الحكم لا حاجة إلى ذكره ابتداًء، فيُعلم أنه إنما ذكره لكونه مؤثرًا في الحكم؛ كما روى أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: (ثمرة طبية وماءٌ طهور). وثالثها: أن يقرر النبي - صلى الله عليه وسلم - على وصف الشيء المسئول عنه؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -:

(أينقُصُ الرطب، إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: فلا؛ إذن (فلو لم يكن نقصانه باليبس علة في المنع من البيع، لم يكن للتقرير عليه فائدة؛ وهذا أيضًا يدل على العلية؛ من حيث الجواب بـ (الفاء). ورابعها: أن يقرر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على حكم ما يشبه المسئول عنه، وينبه على وجه الشبه؛ فيعلم أن وجه الشبه هو العلة في ذلك الحكم؛ كقوله- عليه الصلاة والسلام- لعمر- رضي الله عنه- وقد سأله عن قبلة الصائم: (أرأيت لو تمضمضت بماء، ثم مججته) فنبه بهذا على أنه لا يفسد الصوم بالمضمضة والقبلة؛ لأنه لم يحصل ما هو الأثر المطلوب منهما. النوع الرابع: أن يفرق الشرع بين شيئين في الحكم؛ بذكر صفة؛ فيعلم أنه لو لم تكن تلك الصفة علة، لم يكن لذكرها فائدة، وهو ضربان: أحدهما: ألا يكون حكم أحدهما مذكورًا في الخطاب؛ كقوله- عليه الصلاة والسلام-: (القاتل لا يرث) فإنه قد تقدم بيان إرث الورثة، فلما قال: (القاتل لا يرثُ) وفرق بينه وبين جميع الورثة؛ بذكر القتل الذي يجوز كونه مؤثرًا في نفي الإرث- علمنا أنه العلة في نفي الإرث. وثانيهما: أن يكون حكمهما مذكورًا في الخطاب، وهو على خمسة أوجه: أحدهما: أن تقع التفرقة بلفظ يجرى مجرى الشرط؛ كقوله- عليه الصلاة والسلام-: (فإذا اختلف الجنسان، فبيعوا كيف شئتم يدًا بيد) بعد نهيه عن بيع البر بالبر متفاضلًا؛ فدلّ على أن اختلاف الجنسين علّة في جواز البيع. وثانيها: أن تقع التفرقة في الغاية؛ كقوله تعالى: {ولا تقربوهنّ حتّى يطهرْن}.

وثالثها: أن تقع بالاستثناء؛ كقوله تعالى: {إلا أن يعفون}. ورابعها: أن تقع بلفظ يجرى مجرى الاستدراك؛ كقوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} فدلّ على أن التعقيد مؤثر في المؤاخذة. وخامسها: أن يستأنف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الأخرى، ونكون تلك الصفة مما يجوز أن يؤثر؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (للراجل سهم، وللفارس سهمان (وأعلم أن الاعتماد في هذين النوْعين على أنه لا بدّ لتلك التفرقة من سبب، ولا بدّ في ذكر ذلك الوصف فائدة، فإذا جعلنا الوصف سببا للتفرقة، حصلت الفائدة. النوع: النهي عن فعل يمنع ما تقدم وجوبه علينا؛ فيعلم أن العلة في ذلك النهي كونه مانعًا من ذلك الواجب؛ كقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} فإنه لما أوجب علينا السعي، ونهانا عن البيع، مع علمنا بأنه لو لم يكن النهي عن البيع؛ لكونه مانعًا من السعى، لكان ذكره في هذا الموضع غير جائز؛ وذلك يدلّ على أنه إنما نهانا عنه؛ لأنه يمنع من الواجب، وكتحريم التأفيف؛ فإن العلة فيه كونه مانعًا من الإعْظام الواجب؛ فهذه جملة أقسام الإيماءات. مسألة: الظاهر من هذه الأقسام، وإن دلّ على العلية؛ لكنْ قد يترك هذا الظاهر عند قيام الدليل عليه؛ مثاله: قوله- عليه الصلاة والسلام-: (لا يقض القاضي، وهو غضبان) ظاهره يدلّ على أن العلة هي الضغب؛ ولكن لما

شرح القرافي: قوله: (الجهل لا يكون مانعا من الإلزام؛ لئلا يلزم مخالفة الأصل)

علمنا أن الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الفكر لا يمنع من القضاء، وأن الجوع المبرح، والألم المبرح يمنع- علمنا أن علة المنع ليْست هي الغضب، بل تشويس الفكر. وقول من يقول: (الغضب: هو العلّة؛ لكن لكونه مشوشًا خطأ؛ لأن الحكم لما دار مع تشويش الفكر وجودًا وعدمًا، وانقطع عن الغضب وجودًا وعدمًا، وليس بين التشويش والغضب ملازمة أصلًا؛ لأن تشويش الفكر قد يوجد حيث لا غضب، والغضب يوجد حيث لا تشويش- علمنا أنه ليس بينهما ملازمة؛ وحينئذ: نعلم أنه لا يمكن أن يكون الغضب علة، بل العلة إنما هو التشويش فقط؛ إلا أنه يجوز إطلاق لفظ الغضب؛ لإرادة التشويش؛ إطلاقًا) لاسم السبب على المسبب، ويجب أن يعلم أن الذي به يصرف اللفظ عن ظاهره لابدّ وأن يكون أقوى، وجهات القوة ستأتي في باب الترجيح، إن شاء الله تعالى. الفصل الثاني في الإيماء قال القرافي: قوله: (الجهل لا يكون مانعًا من الإلزام؛ لئلا يلزم مخالفة الأصل):

قلنا: يريدون بمخالفة الأصل حصول التعارض وأنه لازم؛ لأنا لا نعنى بالمانع إلا الوصف الذي إذا جرد النظر إليه اقتضى العدم، والجهل كذلك؛ فإنه مناسب لعدم الإلزام. قوله: (إذا ثبت أن حقيقة في هذه الصورة، وجب كونه حقيقة في جميع الصور؛ لئلا يلزم الاشتراك في هذا التركيب): قلنا: هذا الكلام لا يتم حتى تسلموا أن العرب كما وضعت المفردات وضعت المركبات؛ فإن المجاز والاشتراك في اللفظ فرع الوضع، وأنتم قلتم: إن المجاز المركب عقلي ولا لغوي، ومقتضاه عدم الوضع، وليس لهذا جواب إلا أحد أمرين: إما أن تقولوا: هذا إلزام للخصم؛ لأنه مذهبه. أو تقولوا: إنا لم نفرع على مذهبنا، بل على مذهب الجماعة في وضع المركبات. قوله: (ثبوت الحكم بدون علّته عبث؛ وهو على الله- تعالى- محال): قلنا: هذا مذهب المعتزلة، ونحن لا نقول به. قوله: (يتطرّق إلى كلام الرّاوى ما لا يتطرّق لكلام الشّارع): يريد من السّهو والغلط. قوله: (يشبه أن يكون الذي تقدم العلة فيه على الحكم أقوى في الإشعار بالعلية من العكس؛ لأن إشعار العلة بالمعلول أقوى من إشعار المعلول بالعلة؛ لأن الطرد واجب في العلل، والعكس غير واجب فيها): قلت: هذا الوضع من المشكلات في تقريره؛ لأن العلة إذا تقدمت نحو {والسّارق والسّارقة فاقطعوا}، دلت هذه الصيغة على التعليل.

وكذلك: (لا تقربوه طيبًا؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا (هما سواء، والترجيح مشكل، بل المترجح إنما يحسن ويسهل في أن ذات العلة أدل على المعلول من ذات المعلول، من جهة أن العلة تقتضى عين المعلول، وكقولنا: (لامس) فإنا نقول: وجب عليه الوضوء، بخلاف لو قلنا: (وجب عليه الوضوء) لا يتعين أنه لامس؛ لأن علل الحكم يختلف بعضها بعضًا، فمن هذا الوجه يحسن الترجيح. والكلام- هاهنا- ليس في هذا، إنما الكلام في جملتين من الكلام مركبتين على متقدم تمثيله، وذلك المجموع دلالته على العلية كدلالة المجموع الآخر؛ لأن في كليهما العلة، والمعلول، والفاء، والربط، فيعسر التفاوت بين المجموعين. غير أن- هاهنا- وجهًا: وهو أنه إذا نطق بالعلة أولًا، تعين أن يترتب عليها معلولها؛ لأنه يقتضيه عينًا. أما إذا تقدم المعلول في تركيب الكلام لا يقتضى عين علته، لكنّ الفاء ببعد ذلك تعيّنه. وفي المثال الأول لفظ (الجزاء) المتقدم مع الفاء، فتظافرت الأدلة. فإن قلت: في كلا الصورتين تظافرت الأدلة، غير أن المتقدم متأخر، والمتأخر متقدم، وأما التظافر فحاصل فيهما. قلت: نسلم أن العلة مشعرةٌ بعليتها تقدمت أو تأخرت؛ لضرورة طرد العلل، وهو وجوب ترتب معلولاتها عليها في جميع الصور، غير أن المقصود هو أنه إذا لم ينطق بالعلة أولًا كانت معدومة في أوّل الكلام، فيشعر السامع أن هذا المعلول الذي نطق به أولًا قبل النّطق بعلّته، أنه مرتب على

(تنبيه) زاد التبريزي فغير، وقال: (قد قال قوم بمجرد الترتيب على الوصف كاف دون المناسبة، وهو باطل

علة أخرى، ولا يزال هذا التوهم في النفس حتى ينطق بآخر الكلام، فإذا سمع العلة في آخر الكلام زال الوهم عنه. أما إذا نطق بالعلة أولًا لا يكون هذا الوهم حاصلًا ألبتة، فسلم الكلام من أوله إلى آخره عن وهم يخل بالعلّية. ولأجل ضعف الفرق قال المصنّف: (يشبه أن يكون أقوى)، وما جزم وإنما التعب في إبداء فرق ييوجب أصل الرّجحان وإن قلّ، وهذا القدر كاف فيه، وهو غير مشترك بين الجملتين المذكورتين، ويناسبه قوله: (الطرد واجبٌ، والعكس غير واجب)؛ لأن الطرد ترتب الحكم على العلّة في جميع صورها، والعكس ترتب عدم المعلول في جميع صور عدمها. (تنبيه) زاد التبريزي فغيّر، وقال: (قد قال قوم بمجرد الترتيب على الوصف كافٍ دون المناسبة، وهو باطل؛ فإن ذكر الوصف قد يكون تعريفًا لمحل الحكم، وقد يكون تعليلًا، فلا بدّ من ترجيح، وعدم ظهور المناسبة دليل عدم العلية؛ إذ لو كان علّة لكان مناسبًا، ولو كان مناسبًا لظهر على ما هو الغالب). قلت: وهذا رد على المصنّف. (سؤال) قال النقشواني: اختار المصنف فيما تقدم أن العلّة الشرعية معرفة، وغير التعريف لا يتأتى فيها، و-هاهنا- جميع ما بينه علل غائبة، والعلل الغائية مؤثرة داعية في النفس لوقوع الفعل في الخارج، فيتناقض قوله.

(سؤال) قال: قوله: (تقدم العلة على الحكم أقوى إشعارا بالعلية) الأمر بالعكس

(سؤال) قال: قوله: (تقدم العلة على الحكم أقوى إشعارًا بالعلية) الأمر بالعكس؛ فإن الكلام إنما وقع في وصف لم يعرف كونه علّة، فكيف يقال: هو أشدّ إشعارًا بمعلوله؟ وإنما إذا تقدم الحكم بقيت النفس متشوّقة لعلّة ذلك الحكم غاية الشوق، فإذا ذكرت العلة بعد ذلك، سكنت النّفس، ولم تطلب غير هذا الوصف المتقدم؛ لأن هنا معنى آخر أشبه منه. قلت: وسر هذا السؤال: أن النفس أشد بحثًا عن علّة الحكم من حكم العلّة؛ لأن العقول طالبة للحكم، وهي في ضمن العلل، فلذلك أمكن العدول عن العلّة السابقة، وهذا الذي قال مشترك فيما إذا تأخّرت العلّة أمكن أن يقال: المذكور الآن ليس بعلّة أيضًا. (فائدة) قال الغزالي في (شفاء الغليل (: قد يجرى الاسم على اللّسان ولا يكون مقصودًا، ويعرف ذلك بالعادة في النظم، كقوله- عليه السلام-: (من أعتق شرْكًا له في عبدٍ)، (وأيما رجل مات أو أفلَسَ، فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه)، فالرجل والعبد لا أثر له في الحكم، بل عادة يسبق اللسان إليه؛ لأن العادة تغليب الذكور في التلفظ على الإناث. ومنه: قوله تعالى: {ولحم الخنزير}؛ لأن المستعمل دون الشحم والجلد ونحوهما، فهو كقوله تعالى: {والخنزير}، وتخصيص اللحم للعادة.

(تنبيه) قال التبريزي: لا يدل على أن كل المدلول علة، بل على أن فيه علة

ومنه: قوله عليه السلام: (لا يبولنّ أحدكم في الماء الراكد) وألحق الفقهاء به الصّب؛ لأن الإنسان بطبعه يمتنع من صب النجاسات في المياه، بل الذي يغلب في العادة البول. النوع الثاني: الجواب عقيب السؤال، كقوله- عليه السّلام- للأعرابي: (أعتق رقبة) بعد أن قال للأعرابي ما قال. (تنبيه) قال التبريزي: لا يدلّ على أن كل المدلول علّة، بل على أن فيه علّة؛ إذ لا يقدر في الجواب إلا إعادة ما هو العلّة، فلا جرم احتاج إلى نوع نظرٍ وتنقيح. قلت: يريد أن جميع كلام الأعرابي ليس العلة هو جميعه، بل بعض تلك الأوصاف، وهو قوله: (واقعت أهلي في شهر رمضان) فلا يقدر غير ذلك الوصف المناسب في الجواب، ويترك غيره لا يقدّر. (النوع الثالث) قوله: (لو لم يكن كونها من الطوّافين والطّوّافات مؤثرًا في طهارتها لم يكن في ذكره فائدة): قلنا: أمكن أن يكون مقصود هذا الكلام الإشارة إلى نفْى المانع، لا ثبوت العلّة، وتقديره: أنها لو كانت نجسة لامتنع- عليه السّلام- من الدخول، فلا يكون هذا النمط من الدّال على العلّة. (تنبيه) قال التريزي: الصحيح- هاهنا- أن التعليل مفهومٌ من المناسبة، أو

(سؤال) لا يجمع بـ (الواو والنون) أو (الياء والنون) إلا صيغة من يعقل

قرينة قصد التعليل؛ إذ لولاهما لما فهم الكلام؛ لأنه لا استقباح في ذكر جمل من أحكام الهرّة، وإن لم يكن بعضها علّة للبعض كما لو قال: (إنها من السّباع، إنها تأكل الخشاش)، ويدل على ذلك أنه لو تخللها (واو) لم يفهم التعليل، وإنْ لم يختلف حسن الذكر وقبحه بذكر الواو وعدمها. (سؤال) لا يجمع بـ (الواو والنون) أو (الياء والنون) إلا صيغة من يعقل، فلا نقول: جذوع مائلين، وكذلك لابدّ من مذكر، فلا نقول: نساءٌ خارجين، بل خارجات. وهاهنا جعل- عليه السلام- الهرّة من الطّوّافين، وإنما هي من الطّوّافات، فيصير مثاله: زيد من بني آدم والخيل، وإنما هو من بني آدم فقط. جوابه: أن المقصود الإشارة إلى جنس من يطوف، مع قطع النظر عن خصوص من يطوف، هل هو ذكر أو أنثى، وذكر- عليه السلام- النوعين من الجنس لبيانه، لا لقصْد الأنواع، ومعنى الكلام: إنها من جنس من يطوف. قوله: (كما روى عنه- عليه السّلام- أنه قال: (ثمرة طيبة وماء طهور):

(تنبيه) زاد التبريزي إيضاحا فقال: قال- عليه السلام- لابن مسعود: (ثمرة طيبة وماء طهور)

قلنا: أمكن- أيضًا- أن يقال: مقصود هذا الكلام الإشارة إلى نفي المانع، وأن الثّمرة لو كانت نجسةً، والماء لو كان نجسًا لامتنع الحكم؛ لقيام المانع، ومقصودكم إنما هو العلّة لا المانع. ولكم أن تقولوا: المانع علّة العدم، كما أن العلّة علّة الثبوت، فما خرجنا عن العلّة، غير أنكم قلتم: هذا هؤثر في الحكم، وهو ظاهر في الموجود، دون المعدوم. (تنبيه) زاد التبريزي إيضاحًا فقال: قال- عليه السّلام- لابن مسعود: (ثمرة طيبة وماءٌ طهور)، فدلّ على أن المقصود من ذكره يفهم تعليل جواز الوضوء به، وهو بدلّ- إن صح الحديث- أنه كان ماء نبذ فيه تميرات لتجتذب ملوحته، ولو كان نبيذ التمر لم يكن واضحًا. قوله- في الخامس-: عنه عليه السّلام: (للرّاجل سهمٌ وللفارس سهمان)، ليس هو من القسم الذي يبحث فيه؛ لأن هذا الحديث ليس فيه ذكر الغنيمة، وهو إنما بحث فيما إذا كان الحكم مذكورًا في الخطاب. فإن أراد بالخطاب الذي ورد فيه التعليل ورد السؤال؛ لأن الغنيمة في القرآن في قوله تعالى: {واعلموا أنّما غنمتم من شئ فإن لله خمسه} [الأنفال: 41]

(تنبيه) قال التبريزي في هذا القسم الذي لم يكن الحكم مذكورا فيه: في هذا المثال (القاتل لا يرث): يتجه أن يقال: إن فهم العموم من اللفظ الفارق

وإن أراد أنه مذكور من حيث الحكم، فيشكل عليه بقوله في قسيم هذا القسم: (إذا لم يكن الحكم مذكورًا)، وجعله قسيمًا لما إذا كان الحكم مذكورًا، ومثله بقوله عليه السّلام: (القاتل لا يرث) مع أن حكم الميراث في القرآن. (تنبيه) قال التبريزي في هذا القسم الذي لم يكن الحكم مذكورًا فيه: في هذا المثال (القاتل لا يرث): يتجه أن يقال: إن فهم العموم من اللفظ الفارق، فالحكم في الأحاديث مستفاد من اللفظ، وإن لم يفهم منه العموم، فالتعليل موقوف على فهم المناسبة، أو قريبة أخرى. قال: وليس من هذا القبيل عليه السّلام: (فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم)؛ فإنه لا يلزم أن يكون تعليله للجواز بالاختلاف، بل

الفصل الثالث قال الرازي في بيان (علية الوصف بالمناسبة) وهو مرتب على فنين: الأول: في المقدمات، وفيه مسائل: المسألة الأولى: في تعريف المناسبة: الناس ذكروا في تعريف المناسب شيئين: الأول: أنه: الذي يفضى إلى ما يوافق الإنسان تحصيلًا وإبقاًء، وقد يعبر عن

(التحصيل) بجلب المنفعة، وعن (الإبقاء) بدفع المضرة؛ لأن ما قصد إبقاؤه، فإزالته مضرة، وإبقاؤه دفع المضرّة. ثم هذا التحصيل والإبقاء: قد يكون معلومًا، وقد يكون مظنونًا، وعلى التقديريْن: فإما أن يكون دينيًا، أو دنيويًا. والمنفعة عبارة: عن اللذة، أو ما يكون طرفًا إليها، والمضرة عبارة: عن الألم، أو ما يكون طريقًا إليه، واللذة قيل في حدّها: إنها إدراك الملائم، والألم: إدراك المنافي. والصواب عندي: أنه لا يجوز تحديدهما؛ لأنهما من أظهر ما يجده الحي من نفسه، ويدرك بالضرورة التفرقة بين كل واحد منهما، وبينهما وبين غيرهما، وما كان كذلك يتعذّر تعريفه بما هو أظهر منه. الثاني: أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات؛ فإنه يقال: (هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة) أي: الجمع بينهما في سلك واحد متلائم، و (هذه الجبة تناسب هذه العمامة) أي: الجمع بينهما متلائم.

الفصل الثالث في المناسبة

والتعريف الأول: قول من يعلل أحكام الله تعالى بالحكم والمصالح، والتعريف الثاني: قول من يأباه. الفصل الثالث في المناسبة قال القرافي: قوله: (اللذة إدراك الملائم، والألم إدراك المنافي): قلنا: اللذة والألم عرضان من أعراض النفس غير المعلوم، بل هي كأنواع الطعوم والروائح، وإدراكها غيرها، فتفسيرها بالإدراك الخاص تفسير الشيء بما يلازمه، فيكون رسمه ناقصًا، وهو جائز في التعريف، لكنه لا ينبغي لك أن تعتقد أن اللذة نفس إدراكها؛ فهو خطأ، وهو كما لو قيل: السواد إدراك المفرق للبصر. وقال قطب الدين المصري- في (شرح المحصل) - وغيره من العلماء: إن من الناس من يقول: اللذة عدمية، وهي عدم المنافي، فلذة الجماع هي عدم المزاحمة المني في أوعيته، ولذة الأكل زوال الجوع، وكذلك جميع صور اللذة. قال قطب الدين: فإن قلت: نحن نجد أنفسنا نلتذ بالنظر إلى وجه جميل لم يكن قط في بالنا، ولا نحن مشتاقون إليه، حتى يقال: ذهب عنا برؤيته ألم الشوق، فعلمنا أن اللذة غير دفع الألم. وأجاب عنه: بأن كل نفس فاضلة مائلة إلى رؤية الجمال من حيث الجملة، فإذا رأت هذه الصورة اندفع عنها ذلك الشوق. * * *

المسألة الثانية قال الرازي: في تقسيم المناسب، وذلك من أوجه

المسألة الثانية قال الرازي: في تقسيم المناسب، وذلك من أوجه: القسم الأول: المناسب: إما أن يكون حقيقيًا، أو إقناعيًا: أما الحقيقي: فنقول: كون المناسب مناسبًا: إما أن يكون لمصلحة تتعلق بالدنيا، أو لمصلحة تتعلق بالآخرة: أما التقسيم الأول: فهو على ثلاثة أقسام؛ لأن رعاية تلك المصلحة: إما أن تكون في محل الضرورة، أو في محل الحاجة، أو لا في محل الضرورة، ولا في محل الحاجة: أما التي في محل الضرورة: فهي التي تتضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمسة، وهي حفظ النفس، والمال، والنسب والدين، والعقل: أما النفس: فهي محفوظة بشرع القصاص؛ وقد نبه الله تعالى عليه بقوله: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179]. وأما المال: فهو محفوظ بشرع الضمانات والجدود. وأما النسب: فهو محفوظ بشرع الزواجر عن الزنا؛ لأن المزاحمة على الأبضاع تفضي إلى اختلاط الأنساب، المفضي إلى انقطاع التعهد عن الأولاد، وفيه التوثب على الفروج بالتعدي والتغلب؛ وهو مجلبة الفساد والتقاتل. وأما الدين: فهو محفوظ بشرع الزواجر عن الردة، والمقاتلة مع أهل

الحرب؛ وقد نبه الله تعالى عليه بقوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} [التوبة: 29]. وأما العقل: فهو محفوظ بتحريم المسكر؛ وقد نبه الله تعالى عليه بقوله: {... أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر ...} [المائدة: 91]. فهذه الخمسة هي المصالح الضرورية. وأما التي في محل الحاجة: فتمكين الولي من تزويج الصغيرة؛ فإن مصالح النكاح غير ضرورية لها في الحال إلا أن الحاجة إليه بوجه ما حاصلة، وهي تقييد الكفء الذي لو فات، فربما فات لا إلى بدل. وأما التي لا تكون في محل الضرورة، ولا الحاجة: فهي التي تجري مجرى التحسينات؛ وهي تقرير الناس على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، وهذا على قسمين: منه ما يقع، لا على معارضة قاعدة معتبرة؛ وذلك كتحريم تناول القاذورات، وسلب أهلية الشهادة عن الرقيق؛ لأجل أنها منصب شريف، والرقيق نازل القدر، والجمع بينهما غير متلائم، ومنه: ما يقع على معارضة قاعدة معتبرة؛ وهو مثل الكتابة؛ فإنها وإن كانت مستحسنة في العادات، إلا أنها في الحقيقة بيع الرجل ماله بماله؛ وذلك غير معقول. وأما الذي يكون مناسبًا لمصلحة، تتعلق بالآخرة: فهي الحكم المذكورة في رياضة النفس، وتهذيب الأخلاق، فإن منفعتها في سعادة الآخرة. فرع: إن كل واحدة من هذه المراتب قد يقع فيه ما يظهر كونه من ذلك القسم، وقد يقع فيه ما لا يظهر كونه منه، بل يختلف ذلك؛ بحسب اختلاف الظنون، وقد استقصى إمام الحرمين- رحمه الله- في أمثلة هذه الأقسام،

ونحن نكتفي بواحد منها: قال- رحمه الله-: قد ذكرنا أن حفظ النفوس بشرع القصاص من باب المناسب الضروري، ومما نعلم قطعًا: أنه من هذا الباب شرع القصاص في المثقل؛ فإنا كما نعلم أنه لولا شرع القصاص في الجملة، لوقع الهرج والمرج، فكذلك نعلم أنه لو ترك في المثقل، لوقع الهرج، ولأدى الأمر إلى أن كل من أراد قتل إنسان، فإنه يعدل عن المحدد إلى المثقل؛ دفعًا للقصاص عن نفسه؛ إذ ليس في المثقل زيادة مؤنة ليست في المحدد، بل كان المثقل أسهل من المحدد ... وعند هذا: قال- رحمه الله-: لا يجوز في كل شرع تراعى فيه مصالح الخلق- عدم وجوب القصاص بالمثقل. قال- رحمه الله-: فأما إيجاب قطع الأيدي باليد الواحدة، فإنه يحتمل أن يكون من هذا الباب؛ لكنه لا يظهر كونه منه. أما وجه الاحتمال: فلأنا لو لم نوجب قطع الأيدي باليد الواحدة، لتأدى الأمر إلى أن كل من أراد قطع يد إنسان، استعان بشريك؛ ليدفع القصاص عنه، فتبطل الحكمة المرعية بشرع القصاص. وأما أنه لا يظهر كونه من هذا الباب: فلأنه يحتاج فيه إلى الاستعانة بالغير، وقد لا يساعده الغير عليه، فليس وجه الحاجة إلى شرع القصاص من هاهنا مثل وجه الحاجة إلى شرعه في المنفرد. وأما المناسب الإقناعي: فهو: الذي يظن به في أول الأمر كونه مناسبًا؛ لكنه إذا بحث عنه حق البحث، يظهر أنه غير مناسب؛ مثاله: تعليل الشافعية تحريم بيع الخمر والميتة والعذرة بنجاستها، وقياس الكلب والسرجين عليه. ووجه المناسبة: أن كونه نجسًا يناسب إذلاله، ومقابلته بالمال في البيع يناسب

إعزازه، والجمع بينهما متناقض، وهذا وإن كان يظن به في الظاهر أنه مناسب؛ لكنه في الحقيقة ليس كذلك؛ لأن كونه نجسًا معناه: أنه لا يجوز الصلاة معه، ولا مناسبة ألبتة بين المنع مع استصحابه في الصلاة، وبين المنع من بيعه. التقسيم الثاني: الوصف المناسب: إما أن يعلم أن الشارع اعتبره، أو يعلم أنه ألغاه، أو لا يعلم واحد منهما: أما القسم الأول: فهو على أقسام أربعة؛ لأنه: إما أن يكون نوعه معتبرًا في نوع ذلك الحكم، أو في جنسه، أو يكون جنسه معتبرًا في نوع ذلك الحكم أو في جنسه: مثال تأثير النوع في النوع: أنه إذا ثبت أن حقيقة السكر اقتضت حقيقة التحريم، كان النبيذ ملحقًا بالخمر؛ لأنه لا تفاوت بين العلتين، وبين الحكمين إلا اختلاف المحلين، واختلاف المحل لا يقتضي ظاهرًا اختلاف الحالين. مثال تأثير النوع في الجنس: أن الأخوة من الأب والأم نوع واحد يقتضي التقدم في الميراث، فيقاس عليه التقدم في النكاح؛ والأخوة من الأب والأم نوع واحد في الموضعين، إلا أن ولاية النكاح ليست كولاية الإرث؛ لكن بينهما مجانسة في الحقيقة. ولا شك أن هذا القسم دون القسم الأول في الظهور؛ لأن المفارقة بين المثلين بحسب اختلاف المحلين أقل من المفارقة بين نوعين مختلفين. مثال تأثير الجنس في النوع: إسقاط قضاء الصلاة عن الحائض؛ تعليلًا بالمشقة، فإنه ظهر تأثير جنس المشقة في إسقاط قضاء الصلاة، وذلك مثل تأثير المشقة في السفر في إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين.

مثال تأثير الجنس في الجنس: تعليل الأحكام بالحكم التي لا تشهد لها أصول معينة: مثل أن عليًا- رضي الله عنه-: (أقام الشرب مقام القذف) إقامة لمظنة الشيء مقامه؛ قياسًا على إقامة الخلوة بالمرأة مقام وطئها؛ في الحرمة. ثم أعلم أن للجنسية مراتب، فأعم أوصاف الأحكام كونها حكمًا، ثم ينقسم الحكم إلى تحريم وإيجاب وندب وكراهة. والواجب ينقسم إلى عبادة وغيرها، والعبادة تنقسم إلى صلاة وغيرها، والصلاة تنقسم إلى فرض ونفل، فما ظهر تأثيره في الفرض أخص مما ظهر تأثيره في الصلاة، وما ظهر تأثيره في الصلاة أخص مما ظهر وتأثيره في العبادة. وكذا في جانب الوصف: أعم أوصافه كونه وصفًا تناط به الأحكام؛ حتى تدخل فيه الأوصاف المناسبة، وغير المناسبة. وأخص منه: المناسب، وأخص منه: المناسب الضروري، وأخص منه: ما هو كذلك في حفظ النفوس. وبالجملة: فالأوصاف إنما يلتفت إليها، إذا ظن التفات الشرع إليها، وكل ما كان التفات الشرع إليه أكثر، كان ظن كونه معتبرًا أقوى، وكلما كان الوصف والحكم أخص، كان ظن كون ذلك الوصف معتبرًا في حق ذلك الحكم آكد؛ فيكون لا محالة مقدمًا على ما يكون أعم منه. وأما المناسب الذي علم أن الشرع ألغاه، فهو غير معتبر أصلًا، وأما المناسب الذي لا يعلم أن الشرع ألغاه، أو اعتبره، فذلك يكون بحسب أوصاف أخص من كونه وصفًا مصلحيًا، وإلا فعموم كونه وصفًا مصلحيًا مشهود له بالاعتبار. وهذا القسم هو المسمى بـ (المصالح المرسلة).

واعلم أن كل واحد من هذه الأقسام الأربعة، مع كثرة مراتب العموم والخصوص، قد يقع فيه كل واحد من الأقسام الخمسة، المذكورة في التقسيم الأول، ويحصل هناك أقسام كثيرة جدًا، وتقع فيما بينها المعارضات والترجيحات، ولا يمكن ضبط القول فيها؛ لكثرتها والله تعالى هو العالم بحقائقها. التقسيم الثالث: الوصف باعتبار الملاءمة، ووقوع الحكم على وفق أحكام أخر، وشهادة الأصل- على أربعة أقسام: الأول: ملائم شهد له أصل معين، وهو الذي أثر نوع الوصف في نوع الحكم، وأثر جنسه في جنسه، وهذا متفق على قبوله بين القايسين؛ وهو كقياس المثقل على الجارح في وجوب القصاص؛ فخصوص كونه قتلًا معتبر في خصوص كونه قصاصًا، وعموم جنس الجناية معتبر في عموم جنس العقوبة. وثانيها: مناسب لا يلائم، ولا يشهد له أصل معين، فهذا مردود بالإجماع؛ مثاله: حرمان القاتل من الميراث معارضة له بنقيض قصده، لو قدرنا أنه لم يرد فيه نص. وثالثها: مناسب ملائم، لا يشهد له أصل معين بالاعتبار، يعني: أنه اعتبر جنسه في جنسه، لكن لم يوجد له أصل يدل على اعتبار نوعه في نوعه، وهذا هو (المصالح المرسلة). ورابعها: مناسب شهد له أصل معين، ولكنه غير ملائم، أي: شهد نوعه لنوعه، لكن لم يشهد جنسه لجنسه؛ كمعنى الإسكار؛ فإنه يناسب تحريم

تناول المسكر؛ صيانة للعقل، وقد يشهد لهذا لمعنى الخمر باعتباره، لكن لم تشهد له سائر الأصول، وهذا هو المسمى بـ (المناسب الغريب). المسألة الثانية في تقسم المناسب قال القرافي: قوله: (المناسب الضروري ما تضمن حفظ المقاصد الخمسة: النفس، والمال، والنسب، والدين، والعقل): قلت: غيره عد عوض (الدين) (العرض) فيحصل من ذلك أنه ستة. (تنبيه) قال التبريزي: المناسبة ملاءمة بين الوصف والحكم في نظر رعاية المصالح، وإنما يكون ذلك إذا تضمن ترتيب الحكم عليه للإفضاء إلى ما يوافق الإنسان في معاده أو معاشه، والموافق له في الدارين، هو جلب المنفعة، أو دفع مضره، والمنفعة هي اللذة والطريق إليها، والمضرة الألم أو الطريق إليه، وهما المسميان بالمصلحة والمفسدة، ولا حاجة إلى ذكر الطريق؛ فإن طريق اللذة ملذ، وطريق الألم مؤلم، وكل واحد من الجلب والدفع قد يكون تحصيلًا، وقد يكون تكميلًا، وقد يكون إدامة، وقد تفسر المناسب بالملائم لأفعال العقلاء، وعلى هذا تكون المناسبة وصفًا للحكم لا حكمًا للوصف، ثم هو على التحقيق إجمال لما فصلناه. ثم قال في تقسيم المناسب إلى: الضرورة، والحاجة: والتتمة من القسم الثالث منع إنشاء النكاح عن المرأة، وحفظ العرض بحد القذف، وجاز أن يعد من التكميل في حفظ النفس من نظر ذوي المروءات في دينه عزة النفس.

شرح القرافي: قلت: معنى قوله: (الطريق يكون مؤديا، ومكملا، ومديما)

ثم قال: يتعلق بأذيال كل مرتبة ما يجرى منها مجرى التتمة والتكملة، كتحتيم قتل المرتد، وشرع القصاص بالشركة، وتحريم القليل من الخمر، والخلوة بالأجنبية، وجواز الذب عن المال بالقتل، وقطع يد السارق من قسم الضرورات. واعتبار الكفاءة ومهر المثل في تزويج الصغيرة، وشرع الخيار العيب، وخيار الخلف، وخيار الشرط في البيع قسم الحاجات. وكراهة كسب الحجام، وعدم انعقاد الجمعة بالعبد من (التتمات) هذا ما يتعلق بالدنيا. وأما ما يتعلق بالآخرة: فدخول الجنة، والزحزحة عن النار. قال: ثم المناسب ينقسم إلى: مقطوع، ومظنون، وموهم. فالأول: كشرعية القصاص في المثقل؛ فإنا نعلم بالضرورة أن الضرر عن النفس لا يندفع بدون شرعية القصاص في المثقل؛ لأنه لا يعجز أحد عنه في الانتقام من العدو. والثاني: كالقصاص على الجماعة بقتل الواحد؛ فإنه موقوف على داعية الغير. والثالث: تعليل الربا في المنصوصات بالطعم؛ توسيعًا للمطعوم على الخلق؛ فإن حاصل الوسع يرجع إلى امتناع القدر الذي كان يتوقع من بيع الجنس متفاضلًا، مع ندرته في بيع الجنس بخلاف الجنس أو بالنقد، ولا يخفى تصوير هذا القدر في التوسع، ثم يقدر ما يتسع على مالك الجنس، فيضع على مالك الجنس. قلت: معنى قوله: (الطريق يكون مؤديًا، ومكملًا، ومديمًا): مثلها: إزالة الرأس محصل لمفسدة الموت، ومصلحة القصاص. وتكمل اللذة- الذي يوجد أصلها اشتراط الكفاءة في النكاح- تكمل

(فائدة) قال سيف الدين: قال أبو زيد: المناسبة ما لو عرض على العقلاء تلقته بالقبول

لمصلحة النساء، وتحريم الوثنيات مكمل لمصلحة الرجال؛ لخساسة الوثنية بمعصيتها. والمديم للذة إيجاب النفقات، ودرء الحاجات عن النساء بتوظيف ذلك على الرجال. وقوله: (الملائم لأفعال العقلاء وصف الحكم لا حكم الوصف): مثاله: تحريم القتل، ملائم للأفعال المرضية للعقلاء، وإيجاب إنقاذ الغرقى ملائم وجوده لفعل العقلاء، بخلاف غير العقلاء الذين هم مفسدون، فالملاءمة حينئذ صفة للتحريم والإيجاب، لا وصف للقتل والإنقاذ. (فائدة) قال سيف الدين: قال أبو زيد: المناسبة ما لو عرض على العقلاء تلقته بالقبول، وهو لا يفيد في المناظرة؛ لأن الخصم منع فيما تعين مناسبًا، بل المناسب وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودًا من شرع ذلك الحكم، كان الحكم نفيًا أو إثباتًا، كان المقصود مصلحة، أو دفع مفسدة. وشرع الحكم قد يكون محصلًا للمقصود ابتداء، أو دوامًا، أو تكميلًا. فالأول: كالحكم بصحة التصرف الصادر من الأهل في المحل؛ تحصيلًا لأصل المقصود المتعلق به من الملك، أو المنفعة كما في البيع والإجارة. والدوام: كالحكم بتحريم القتل، وإيجاب القصاص، فتدوم الحياة. والتكميل: كوجوب اشتراط الشهادة، ومهر المثل في النكاح. ومصلحة الآخرة كالثواب والعقاب اللذين يفضى إليهما إيجاب العبادات، ووجوب الحدود والزواجر.

(فائدة) قال سيف الدين: لم تخل ملة من الملل، ولا شريعة من الشرائع عن رعاية الكليات الخمس

ثم المقصود: قد يحصل من الحكم يقينًا أو ظنًا أو شكًا، أو يرجح عدم الحصول. فالأول: كالحكم بصحة البيع، يقتضي الملك قطعًا. والثاني: كالقصاص؛ فإن الغالب حصول الزجر به. والثالث: يندر في الشرع، ومثاله على التقريب: إيجاب الحد في الشرب؛ فإن الممتنعين منه يقاربون المقدمين عليه. والرابع: الحكم بصحة النكاح لمصلحة الولد والتناسل، والإفضاء إليه مرجوح. والقسمان الأولان متفق على التعليل بهما. والمرجوح والمساوي للاتفاق واقع على التعليل بهما في آحاد الصور، إذا كان المقصود ظاهرًا من الوصف في غالب صور الجنس، وإلا فلا؛ لصحة نكاح الآيسة؛ فإن التولد منها بعيد، إلا أنه ظاهر فيما عداها، فإذا خلا الوصف الذي ترتب عليه الحكم عن المقصود قطعًا، وإن كان ظاهرًا في غالب صور الجنس- كما في لحوق النسب في نكاح المشرقي للمغربية، وشرع الاستبراء في شراء الجارية ممن باعها منه في مجلس البيع- فلا يكون مناسبًا، ولا يصح التعليل به، خلافًا للحنفية. (فائدة) قال سيف الدين: لم تخل ملة من الملل، ولا شريعة من الشرائع عن رعاية الكليات الخمس، الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.

(فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): قد يكون ما هو معلل من وجه دون وجه كنصب الزكوات والسرقات

قال: فالدين كقتل الكافر المضل، وعقوبة الداعي إلى البدع. (فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): قد يكون ما هو معلل من وجه دون وجه كنصب الزكوات والسرقات، فكونه مالاً يحصل الإرفاق يناسب، ومن حيث خصوص المصدر لا يعلل. والفرق بين الخسيس والنفيس مناسب، غير أن التمييز بينهما عسير؛ لاختلاف النفوس في علو المهمة وخستها، فقد يكون [النفيس خسيسًا] والخسيس نفيسًا عند آخر. ثم المناسب خمسة أقسام: في محل الضرورة، كالقصاص، وكذلك البيع؛ فإن انتقال الأملاك ضروري للناس، وإذا تقرر في الشريعة أصل ضروري أو غيره، فلا يطلب تحقيقه في آحاد النوع. القسم الثاني: في محل الحاجة العامة كالأجازة؛ لحاجة الناس إلى المساكن، لضنة ملاكها بعاريتها، وقصور كثير من الناس عن تملكها، فهي حاجة بالغة قاصرة عن الضرورة، وحاجة الجنس قد تبلغ الضرورة في شخص معين. القسم الثالث: غير ضروري ولا حاجي، بل مكرمة، كطهارة الأحداث والأخباث. القسم الرابع: دون الثالث، تتمة مندوبة، كالكتابة. القسم الخامس: ما لا يلوح فيه تكرمة، فهو دون الرابع، كالعبادات البدنية المحضة.

ويمكن أن يقال: تواصل الوظائف يوجب انقياد العباد، وتجديد العهد بالله- تعالى- والنهي عن الفحشاء والمنكر، وهو يقع على الجملة. ويجوز القياس الضروري على الضروري، والحد الواجب بالقصاص، وعقد تمس الحاجة إليه بالبيع. والقسم الثاني وهو الحاجة كالإجارة، فيقاس بعضه على بعض، وقياس غير ذلك الأصل من هذا القسم بأصل آخر بجامع الحاجة منعه الجمهور؛ لأن الإجارة على خلاف الأصول؛ لأنه بيع معدوم يمتنع تسليمه، فمقابلته بالموجود خلاف الأصل، وقياس النكاح [وغيره عليه] قد يمنع. والقسم الثالث: الذي ينسب إلى مكارم الأخلاق، فلا يقاس غيره عليه؛ لأنه وضع للاستصلاح، وتعميمه على الخلق في جميع الأوقات يعسر الوفاء به. والذي يحصل به الاستصلاح لا ينضبط في النظر، ولذلك أثبت الشارع فيه وظائف تحصل المقصود كما علمه الله تعالى، وهذا كالوضوء، فيه نظافة، ومكرمة، فأوجبه الشرع في أوقات، وعلم أن أرباب العقول لا ينقلون إلى أعضائهم الأوساخ في خلال تلك الأوقات، فكانت تلك الأوقات كافية في المكرمة مع نفي التضييق، والنجاسة أولى في المكارم من الطهارة؛ لما فيها من الاستقذار ومنافاة المروءة. ولذلك قال طوائف من الفقهاء: يحرم ملابسة النجاسة من غير حاجة ماسة. وتردد الشافعي في لبس جلود الميتة، والكلاب والخنازير، ولما كان هذا الباب مكرمة معقول المعنى من وجه، وموكولًا في أوقات شرعية إلى علم الله من وجه اشترطت النية في الطهارة لما فيها من التعبد، وانفراد الشارع بالغيب فيه، فهو منضبط في علم الله- تعالى- دون علمنا، بل ظننا،

فيتعذر علينا القياس عليه، بخلاف القسمين الأولين، أمرهما بين منضبط، فيتيسر القياس، مع أن الضرورة والحاجة قد لا يكتفي الشارع بحصولها في الجنس؛ لفحش ذلك الفعل، بل لابد من وقوعه للشخص كأكل الميتة، وقد يشتد القبح فلا يباح مع الضرورة في [مورد الشرع]، بل يوجب الانقياد للهلكة؛ لفرط القبح، كالمكره على الزنا والقتل، لا يباحان له. فتحصل أن الضرورة ثلاثة أقسام: منها ما يكتفي فيه بالجنس كالبيع، أو الشخص كالميتة، أو لا يباح مطلقًا كالإكراه على القتل. ويتخلص- أيضًا- أن القياس في الأحداث متعذر؛ لما تقدم أن فيها شائبة التعبد بالغيب، واختصاصها ببعض الأوقات، وبقية الأقسام قد يتأتى القياس عليها، إن تحقق الجامع سالمًا عن المعارض، وقد يمتنع إذا تعذر ذلك. التقسيم الثاني: الوصف إما أن يعتبره الشارع أو يلغيه. قوله: (إما أن يعتبر نوعه في نوع الحكم): تقريره: أن النوع ما كانت أفراده لا تختلف إلا بالشخص والمحال، كالإنسان بالنسبة إلى أفراده، والجنس ما اختلف في محاله بأمور زائدة على الشخص، كاختلاف الحيوان في الإنسان والفرس بالناطق والجاهل، وكذلك- هاهنا- جعل التحريم في الخمر والنبيذ نوعًا، والتقديم في الإرث والنكاح جنسًا؛ لتباين البابين. وضابط (النوع) في المنطق هو: (المقول على كثيرين مختلفين في العدد فقط، في جواب ما هو قولًا غير ذاتي).

(قاعدة) الكليات خمسة: النوع، والجنس، والفصل، والخاصة، والعرض العام

فقولنا: (بالعدد فقط) احترازًا من الجنس: وقولنا: (في جواب ما هو) احترازًا من الخاصة، كالضاحك بالنسبة إلى الإنسان. وقولنا: (قولًا غير ذاتي) احترازًا من الفصل، كالناطق في الإنسان. والجنس: هو المقول على كثيرين مختلفين بالحقيقة في جواب ما هو. فقولنا: (مختلفين بالحقيقة) احترازًا من النوع. وقولنا: (في جواب ما هو) احترازًا من العرض العام، كالماشي بالنسبة إلى الإنسان. (قاعدة) الكليات خمسة: النوع، والجنس، والفصل، والخاصة، والعرض العام. فالنوع: كالإنسان. والجنس: كالحيوان. والفصل: كالناطق. والعرض العام: كالماشي. والخاصة: كالضاحك. ومن خواض الخاصة والعرض العام: أنهما خارجان عن الحقيقة، والجنس والفصل داخلان في الحقيقة، والنوع مجموع الجنس والفصل. (تنبيه) قال التبريزي: المناسب إما أن يعلم اعتبار عينة في عين الحكم أو جنسه، أو اعتبار جنسه في عين الحكم أو جنسه، أو لا يعلم شيء من ذلك.

الأول: هو المؤثر، والثلاثة الأخر هي الملائم. والخامس: إن اقترن به ذلك الحكم فهو الغريب، وإن لم يقترن، فإن اقترن نقيضه فهو الملغي، وإلا فهو المرسل. مثال المؤثر: قياس الصغير على الصغيرة في ولاية النكاح بجامع الصغر، فإنه المؤثر في الأصل بالإجماع. ومثال الملائم في الرتبة الأولى: قياس ولاية النكاح على ولاية المال بجامع الصغر؛ لاختلاف الولايتين. وفي المرتبة الثانية إسقاط قضاء ركعتين عن المسافر بالقياس على الحائض بجامع المشقة؛ لاختلاف المشقتين. ومثاله في الرتبة الثالثة: قياس المريض على المسافر في تخفيف الصلاة بجامع المشقة؛ لاختلاف المشقتين والتخفيفين. مثال الغريب: تعليل حد الشرب بالإسكار لمناسبة زوال العقل، وتعليل حرمان القاتل بالقتل؛ لأجل استعجال حكم السبب على وجه محظور؛ معارضة له بنقيض قصده. هذا إذا لم نقدر إضافة الحكم إليها بنص أو إجماع. ومثال الملغي: مناسبة لذة السكر، ومنافع الخمر لحل الشرب، بل مناسبة السكر لإيجاب الحد يجمع الأمثلة بالتصوير؛ فإنا إذا قدرنا تحريم الحد في ابتداء الإسلام، فهي ملغاة، وإن قدرنا تحريمه ووجوبه جميعًا، فهي مرسلة، وإن قدرنا الورود به من غير إضافة إليها، فهي غريب، إن علل بزوال العقل، وإن علل بكونه ردعًا عن جناية الشرب، فهي ملاءمة، لورود الشرع باعتبار جنس الجنايات في جنس العقوبات، وإن قدرنا الإضافة إليها- أيضًا- مع الورود به، فهي المؤثر.

واعلم أنه لا يكفي في استحقاق وصف الملاءمة ظهور تأثير أعم أوصافه في أعم أوصاف الحكم؛ إذ يؤدي إلى تعذر المرسل للعلم باعتبار جنس المناسبات في جنس الأحكام، بل لابد من ظهور تأثيره في رتبة هي أخص. وقال الغزالي في (المستصفى): المؤثر مقبول باتفاق القياسيين، وهو ما اعتبر في الحكم بالإجماع أو النص، وإذا ظهر فلا يحتاج للمناسبة، كقوله عليه السلام: (من مس ذكره فليتوضأ). والملائم: ما اعتبر جنسه في جنس الحكم. والغريب: الذي لم يظهر تأثيره ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع، كتحريم الخمر؛ لكونها خمرًا.

(فائدة) قال سيف الدين: إن كان اعتبار الوصف بنص أو إجماع فهو المؤثر

والمناسب ينقسم إلى: مؤثر، وملائم، وغريب. وقال في (شفاء الغليل): المؤثر هو الذي دل النص أو الإجماع على كونه علة الحكم في محل النص، وفي غير محل النص. وقال- أيضًا- في (شفاء الغليل): المعنى بشهادة أصل معين للوصف أنه مستنبط منه من حيث إن الحكم ثبت شرعًا على وفقه. (فائدة) قال سيف الدين: إن كان اعتبار الوصف بنص أو إجماع فهو المؤثر، أو بترتيب الحكم على وفقه في صورة، فإما [أن يكون معتبرًا بخصوص] وصفه، أو بعموم وصفه، أو بهما. فإن اعتبر خصوصه فقط، فإما في عين الحكم، أو جنسه، أو عينه وجنسه. وإن اعتبر عمومه، فإما في عين الحكم، أو جنسه، أو عينه وجنسه. وإن اعتبر عمومه [وخصوصه] فإما في عين الحكم أو جنسه، أو عينه وجنسه، فهذه تسعة أقسام. وإن لم يكن الوصف معتبرًا، فإما أن يلغى أولًا، فهذه جملة الأقسام الممكنة، غير أن الواقع خمسة فقط. الأول: اعتبار خصوص الوصف في خصوص الحكم، وعموم الوصف في عموم الحكم في أصل آخر، كإلحاق المثقل بالمحدد، بجامع القتل العمد العدوان؛ لظهور تأثير عين القتل العمد العدوان في عين الحكم في المحدد،

وظهر تأثير جنس القتل من حيث هو جناية في القصاص في القتل والأيدي، وهذا هو المعبر عنه بالملائم، وهو متفق عليه بين القياسيين، واختلفوا فيما عداه. قلت: خالف سيف الدين التبريزي؛ لأن التبريزي جعل الملائم قسيم المؤثر، وهو جعله صادقًا على المؤثر في هذا القسم، وكذلك كلام التبريزي بعد هذا، والظاهر صوابهما دونه والغزالي كما تقدم بيان كلامه، فانظر في كلام الجماعة، وكلام المصنف. الثاني: اعتبار خصوص الوصف في خصوص الحكم، من غير أن يظهر اعتبار عينه في جنس ذلك الحكم في أصل آخر متفق عليه، ولا جنسه في عين ذلك الحكم، ولا جنسه في جنسه، ولا دل على كون علته نص ولا إجماع ولا إيماء، كالإسكار يناسب تحريم تناول النبيذ، وقد ثبت اعتبار عينه في عين التحريم في الخمر، ولم يظهر تأثير عينه في جنس ذلك الحكم، ولا جنسه في عينه، ولا جنسه في جنسه، ولا إجماع عليه، فلو قدرنا انتفاء النصوص الدالة على كون الإسكار علة، فهذا هو المناسب الغريب، وأنكر بعضهم التعليل به. قال: والصحيح اعتباره؛ لأنه يفيد ظن العلية. الثالث: اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم، ولم يعتبر عينه في عينه، ولا عينه في جنسه، ولا جنسه في عينه، ولا نص ولا إجماع، فهو- أيضًا- من جنس المناسب الغريب مختلف فيه، وهو دون القسم الثاني؛ لأن اعتبار الخصوص أقوى من النفس، كاعتبار المشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في جنس التخفيف؛ فإن عين مشقة الحائض ليست عين مشقة المسافر، وتخفيف أصل الصلاة عن الحائض [ليس] عين التخفيف بإسقاط ركعتين.

(فائدة) قال الغزالي في (شفاء الغليل): المناسب: الذي لا يلائم نقل وجوده

(فائدة) قال الغزالي في (شفاء الغليل): المناسب: الذي لا يلائم نقل وجوده؛ فإن المناسب لا ينفك عن التفات الشرع إلى جنسه في غالب الأمر. قال: ويظهر لي مثل أربعة: الأول: سقوط إجبار الثيب بالممارسة؛ فإنه وإن عد من الملائم، فهو من المناسب الغريب. الثاني: تعليل الربا بالطعم غريب، لا يلائم معاني الشرع. الثالث: تعليل منع القاتل من الميراث؛ معاقبة له بنقيض قصده عند من يراه؛ لأنه لا نظر له في الشرع. الرابع: تعليل الترتيب في الوضوء، بكونه أدخل ممسوحًا بين مغسولين؛ فإنه غريب لم يعهد. (فائدة) قال الغزالي في (شفاء الغليل): المناسب ينقسم إلى حقيقي، وإقناعي، وخيالي. فالحقيقي: هو الذي لا يزداد بالبحث إلا ظهورًا. والإقناعي: يضمحل بالنظر، كتعليل منع البيع بالنجاسة في العذرة والميتة ونحوها؛ فإن معنى النجاسة منع ملابستها في الصلاة، وليس لذلك تعلق بالبيع نفيًا ولا إثباتًا، وقد يقال: منع البيع يبعد الملابسة، وكذلك تعليل الربا في المطعومات بالطعم؛ لعدتها في نفسها تضييقًا لطريق التحصيل منها بكثرة الشروط فيها، وهو إقناعي؛ لأن العزيز المحترم يصان عن السرف

والإتلاف، أما تحصيله بطريق تمليك التمليك فلا، بل ينبغي تسهيل مسلكه؛ لمسيس الحاجة إليه. الرابع: المسكوت عنه من المناسب، وهو المرسل. الخامس: الذي ظهر من الشرع على العادة [إلغاؤه] في صوره، واتفق العلماء على إبطاله، كقوله بعضهم لملك جامع في رمضان وهو صائم: يجب عليك صوم شهرين متتابعين، فلما أنكر عليه- حيث لم يأمره بعتق رقبة مع اتساع ماله- قال: لو أمرته بذلك لسهل عليه ذلك، واحتقر الإعتاق فلا ينزجر، فهذا مناسب لم يشهد له شاهد باعتباره، مع ثبوت إلغائه بنص الكتاب. قال السهروردي في (التنقيحات): المناسب: إما مؤثر، أو مناسب، أو غريب. فالمؤثر: ما اعتبر عينه في عين الحاكم، وجنسه في جنسه. والملائم: ما اعتبر جنسه في جنس الحاكم دون العين في العين. والغريب: ما لم يظهر تأثيره ولا ملاءمته لجنس تصرفات شرعية، بل اقترن بمناسبة حكم شرعي، فغلب على الظن أن العلة، وإن لم يعهد في جنسه أو نوعه. قال: فإن قيل: التعليل به حكم من غير دليل يشهد بإضافة الحكم إليه، ويجوز أن يكون خصوص الأصل معتبرًا معه. قيل: القرائن مع المناسبة تفيد ظن العلية، والأصل عدم اعتبار الخصوص.

ومثال هذه الأقسام: رئيس عادته إكرام الفضلاء، فأكرم فاضلًا، فهذا مقبول اتفاقًا. وآخر ما عرف من عادته ذلك، فأكر فاضلًا، فيغلب على الظن أنه أعطاه لفضيلته. فإن قيل: غالب عادة الرؤساء ذلك. قيل: وأغلب عادات الشرع اعتبار المصالح. ومثال ما ألغى: رئيس عادته الإحسان للمحسن والمسيء، فإذا أحسن لا يدل ذلك على تقدم إحسان. قال: وإذا اعتبرت لا تجد الغريب في الشرعيات. وتمثيلهم بالمطلقة ثلاثًا في مرض الموت أنها ترث؛ لأن الزوج قصد الفرار، فيعاقب بنقيض قصده كالقاتل، وأنه غريب، فليس كذلك؛ لأنا نجد فيه مناسبة أعم بإزاء أعم، وإن لم يكن إلا العدوان والدفع، ولابد أن يقع من قسم من الأقسام الخمسة الشرعية، وتقييدهم تمثيل الملائم بقضاء الصلوات، فيقال: قضاء مشتمل على حرج، فإذا شهدت أصول بالجنس وأصل واحد بالعين، فما وراء ذلك تكثير للنظائر لا يخل بالتأثير عدمه، وإذا تعرض للخصوص، فيحصل تأثر بجنس المشقة في جنس التخفيف، حتى في رخص الصيام في قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]، فيناسب جنس المشقة حسن التخفيف في العبادات، بل في جميع أحكام الشرع، ويناسب مشقة قضاء الصلاة خصوص إسقاط القضاء؛ لحصول مشقة في خصوص التكرار، وكذلك إذا اعتبرت جميع ما يمثلون به، فليس إلا المؤثر، وكل ما وجدت في عمومه مصلحة عامة، إذا اعتبرت خصوصه وجدت في خصوصه مصلحة خاصة، وليس ضابط الجنس والعين

التقسيم الثالث الوصف باعتبار الملاءمة

عندهم إلا خصوص وعموم، ولا ينبغي أن يكتفي بالمناسبة الخاصة في الحكم الخاص المتساوية النسبة إلى أشباهه، بل مناسبة خاصة- أيضًا- فلا يقتصر على أن العمد العدوان جناية، فيناسب العقوبة؛ إذ ليس فيه مناسبة تعيين القصاص، بل مناسبة تعيينه أنه إثم العقوبات البدنية، فيقابل بإثم جناياتها. قال: ولقد أحسن رئيس القوم ومحصلهم القاضي أبو زيد، حيث لم يعتبر غير المؤثر، وإذا ضبطت هذه الطريقة منعتهم صحة التقسيم، وتمسكهم بقول علي: (إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فأرى عليه حد المفتري)؛ لأنه لا يصح إثباتًا للقياس بنفسه؛ إذ ليس فيه رد فرع إلى أصل وجامع، فضلًا عن الملائم، وهو أجود ما يحتج به للمصلحة المرسلة؛ لأنه إقامة مظنة الشيء مقامه، ولكن وضع المظان ضعيف. التقسيم الثالث الوصف باعتبار الملاءمة. قلت: عبارته في هذا مخالفة لعبارات الجماعة، وقد نقلت لك في التقسيم الثاني عبارتهم في الملائم والمؤثر، وكلامه يخالفهم. فكلامه في التقسيم الأول: (إذا شهد العين للعين، والجنس للجنس) يشعر بأنه ملائم، وليس كذلك، بل هو المؤثر الذي هو قسيم الملائم، وهو قد جعل أصل التقسيم في الملائم.

(تنبيه) قال سراج الدين: المناسب إما ملائم، وهو ما وقع حكمه على وفق حكم آخر، وإما غير ملائم

قوله: (وثانيها مناسب لا يلائم، ولا يشهد له أصل): قلنا: إن أراد بالأصل العين للعين فمسلم، يصدق حينئذ الملائمة باعتبار تأثير الجنس في الجنس، لكن ليس هذا مردودًا بالإجماع. قلت: وإذا فرضنا كما قال: (لم يرد نص في حرمان القاتل) كيف يستقيم حكاية الإجماع مع القول باعتبار المصلحة المرسلة، وقد قال بها خلق كثير من العلماء العظماء، وأقل مراتب هذا أن يكون مصلحة مرسلة. وكذلك تفسيره المصلحة المرسلة على خلاف تفسير الجماعة؛ لاشتراطه الملاءمة، وكذلك تفسيره الغريب يخالف الجماعة؛ لاشتراطه الشهادة لمعين ونوع لنوع، وبالجملة هذا التقسيم مختبط، لا ينطبق على الاصطلاح الذي في الكتب كما نقلته لك. (تنبيه) قال سراج الدين: المناسب إما ملائم، وهو ما وقع حكمه على وفق حكم آخر، وإما غير ملائم، وعلى التقديرين فإما أن يشهد له أصل معين، أو لا. والأول مقبول وفاقًا، كالقتل للقصاص، فإنه اعتبر خصوصه في خصوصه وعمومه [في عمومه] وهو جنس العقوبة. والرابع: مردود وفاقًا، كحرمان الميراث بالقتل. والثاني: كتحريم المسكر صيانة للعقل. والثالث: المصلحة غير الملائم الذي شهد له أصل.

(تنبيه) وقع بيني وبين أهل العصر بحث في معنى شهادة الأصل المعين هل يكفي فيه صورة النزاع وإن ورد نص فيها

وقال تاج الدين: الثالث إما معتبر النوع والجنس، في نوع الحكم وجنسه، فهو مقبول اتفاقًا، أو غير معتبر النوع والجنس، في نوع الحكم وجنسه، فمردود اتفاقًا، أو معتبر الجنس في الجنس دون النوع في النوع، وهو المرسل، أو معتبر النوع في النوع دون الجنس في الجنس، وهو المناسب الغريب. وسكت صاحب (المنتخب) عن هذه المباحث بالكلية. (تنبيه) وقع بيني وبين أهل العصر بحث في معنى شهادة الأصل المعين هل يكفي فيه صورة النزاع وإن ورد نص فيها، غير أن الخصم ينازع في ثبوت الحكم فيها، أو لابد من أصل متفق على ثبوت الحكم فيه؟ والذي يظهر لي هو القسم الثاني. أما إذا لم يوجد المناسب غير صورة النزاع، فهذا هو المصلحة المرسلة، وليس لهذا الشاهد إلا أن يتفق على ثبوت الحكم فيه. * * *

المسألة الثالثة قال الرازي: في أن المناسبة لا تبطل بالمعارضة

المسألة الثالثة قال الرازي: في أن المناسبة لا تبطل بالمعارضة، والدليل عليه: أن كون الوصف مناسبًا، إنما يكون لكونه مشتملًا على جلب منفعة، أو دفع مضرة، وذلك لا يبطل بالمعارضة. أما الأول: فظاهر، وأما الثاني: فيدل عليه وجوه: الأول: أن المناسبتين المتعارضتين: إما أن تكونا متساويتين، أو إحداهما أرجح من الأخرى: فإن كان الأول: لم يكن بطلان إحداهما بالأخرى أولى من العكس، فإما أن نبطل كل واحدة منهما بالأخرى؛ وهو محال؛ لأن المقتضى لعدم كل واحدة منهما وجود الأخرى، والعلة لابد وأن تكون حاصلة مع المعلول، فلو كان كل واحدة منهما مؤثرة في عدم الأخرى، لزم أن تكونا موجودتين حال كونهما معدومتين؛ وذلك محال. وإما ألا تبطل إحداهما بالأخرى عند التعارض؛ وذلك هو المطلوب، وأما إن كانت إحدى المناسبتين أقوى، فها هنا: لا يلزم التفاسد أيضًا؛ لأنه لو لزم التفاسد، لكان لما بينهما من المنافاة؛ لكنا بينا في القسم الأول: أن لا منافاة بينهما؛ لأنهما اجتمعا، وإذا زالت المنافاة، لم يلزم من وجود أحدهما عدم الآخر. الثاني: أن المفسدة الراجحة إذا صارت معارضة بمصلحة مرجوحة، فإما أن ينتفي شيء من الراجح؛ لأجل المرجوح، أو لا ينتفي:

والأول: باطل؛ وإلا لزم أن تكون المفسدة المعارضة بمصلحة مرجوحة مساوية للمفسدة الخالصة عن شوائب المصلحة، وذلك باطل بالبديهة. والثاني أيضًا: باطل: لأن القدر الذي يندفع من المفسدة بالمصلحة يكون مساويًا لتلك المصلحة، فيعود التقسيم الأول في ذينك التقديرين المتساويين؛ في أنه ليس اندفاع أحدهما بالآخر أولى من العكس، فإما أن يندفع كل واحد منهما بالآخر؛ وهو محال، أو لا يندفع واحد منهما بالآخر؛ وهو المطلوب. وأيضًا فليس اندفاع بعض أجزاء الطرف الراجح بالطرف المرجوح، وبقاء بعضه- أولى من اندفاع ما فرض باقيًا، وبقاء ما فرض زائلًا؛ لأن تلك الأجزاء متساوية في الحقيقة. الثالث: وهو أنه تقرر في الشرع إثبات الأحكام المختلفة؛ نظرًا إلى الجهات المختلفة؛ مثل الصلاة في الدار المغصوبة؛ فإنها من حيث إنها صلاة سبب الثواب، ومن حيث إنها غصب سبب العقاب، والجهة المقتضية للثواب مشتملة على المصلحة، والجهة المقتضية للعقاب مشتملة على المفسدة، وعند ذلك: نقول: المصلحة والمفسدة: إما أن يتساويا، أو تكون إحداهما راجحة على الأخرى، فعلى تقدير التساوي: يندفع كل واحد منهما بالآخر، فلا تبقى لا مصلحة، ولا مفسدة؛ فوجب ألا يترتب عليها لا مدح، ولا ذم، وقد فرضنا ترتبهما عليها؛ هذا خلف. وإن كانت الجهتين راجحة، كانت المرجوحة معدومة، فيكون الحاصل: إما المدح وحده، أو الذم وحده، وقد فرضنا حصولهما معًا؛ هذا

خلف، واعلم أن هذا الوجه مبني على قول الفقهاء: الصلاة في الدار المغصوبة عبادة من وجه، معصية من وجه. الرابع: العقلاء يقولون في فعل معين: (الإتيان به مصلحة في حقي، لولا ما فيه من المفسدة الفلانية) ولولا صحة اجتماع وجهي المفسدة والمصلحة، وإلا لما صح هذا الكلام، والله أعلم). الفن الثاني من هذا الفصل في إقامة الدلالة على أن المناسبة دالة على العلية: فنقول: المناسبة تفيد ظن العلية، والظن واجب العمل به. بيان الأول من وجهين: الأول: أن الله تعالى شرع الأحكام؛ لمصلحة العباد، وهذه مصلحة؛ فيحصل ظن أن الله تعالى إنما شرعه لهذه المصلحة، فهذه مقدمات ثلاث، لابد من إثباتها بالدليل: أما المقدمة الأولى: فالدليل عليها وجوه: أحدها: أن الله تعالى خصص الواقعة المعينة بالحكم المعين؛ لمرجح، أو لا لمرجح: والقسم الثاني باطل؛ وإلا لزم ترجيح أحد الطرفين على الآخر، لا لمرجح؛ وهذا محال؛ فثبت القسم الأول. وذلك المرجح: إما أن يكون عائدًا إلى الله تعالى، أو إلى العبد: والأول باطل؛ بإجماع المسلمين؛ فتعين الثاني، وهو: أنه تعالى إنما شرع الأحكام؛ لأمر عائد إلى العبد، والعائد إلى العبد: إما أن يكون مصلحة العبد، أو مفسدته، أو يكون لا مصلحته، ولا مفسدته:

والقسم الثاني والثالث: باطل؛ باتفاق العقلاء؛ فتعين الأول؛ فثبت أنه تعالى إنما شرع الأحكام؛ لمصالح العباد. وثانيها: أنه تعالى حكيم؛ بإجماع المسلمين، والحكيم لا يفعل إلا لمصلحة؛ فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثًا، والعبث على الله تعالى محال؛ للنص والإجماع، والمعقول: أما النص: فقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} [المؤمنون: 115] {ربنا ما خلقت هذا باطلًا} [آل عمران: 191] {ما خلقناهما إلا بالحق} [الدخان: 39]. وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على أنه تعالى ليس بعابث. وأما المعقول: فهو أن العبث سفه، والسفه صفة نقص، والنقص على الله تعالى محال؛ فثبت أنه لابد من مصلحة، وتلك المصلحة يمتنع عودها إلى الله تعالى؛ كما بينا؛ فلابد من عودها إلى العبد؛ فثبت أنه تعالى شرع الأحكام؛ لمصالح العباد. وثالثها: أن الله تعالى خلق الآدمي مشرفًا مكرمًا؛ لقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء: 70] ومن كرم أحدًا، ثم سعى في تحصيل مطلوبه، كان ذلك السعي ملائمًا لأفعال العقلاء، مستحسنًا فيما بينهم؛ فإذن: ظن كون المكلف مكرمًا يقتضى ظن أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له. ورابعهما: أن الله تعالى خلق الآدميين للعبادة؛ لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] والحكيم إذا أمر عبده بشيء، فلابد وأن يزيح عذره وعلته، ويسعى في تحصيل منافعه، ودفع المضار عنه؛

والقسم الثاني والثالث: باطل؛ باتفاق العقلاء؛ فتعين الأول؛ فثبت أنه تعالى إنما شرع الأحكام؛ لمصالح العباد. وثانيها: أنه تعالى حكيم؛ بإجماع المسلمين، والحكيم لا يفعل إلا لمصلحة؛ فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثًا، والعبث على الله تعالى محال؛ للنص والإجماع، والمعقول: أما النص: فقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} [المؤمنون: 115] {ربنا ما خلقت هذا باطلًا} [آل عمران: 191] {ما خلقناهما إلا بالحق} [الدخان: 39]. وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على أنه تعالى ليس بعابث. وأما المعقول: فهو أن العبث سفه، والسفه صفة نقص، والنقص على الله تعالى محال؛ فثبت أنه لابد من مصلحة، وتلك المصلحة يمتنع عودها إلى الله تعالى؛ كما بينا؛ فلابد من عودها إلى العبد؛ فثبت أنه تعالى شرع الأحكام؛ لمصالح العباد. وثالثها: أن الله تعالى خلق الآدمي مشرفًا مكرمًا؛ لقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء: 70] ومن كرم أحدًا، ثم سعى في تحصيل مطلوبه، كان ذلك السعي ملائمًا لأفعال العقلاء، مستحسنًا فيما بينهم؛ فإذن: ظن كون المكلف مكرمًا يقتضى ظن أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له. ورابعهما: أن الله تعالى خلق الآدميين للعبادة؛ لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] والحكيم إذا أمر عبده بشيء، فلابد وأن يزيح عذره وعلته، ويسعى في تحصيل منافعه، ودفع المضار عنه؛

وسادسها: أنه وصف نفسه بكونه رءوفًا رحيمًا بعباده، وقال: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156] فلو شرع ما لا يكون للعبد فيه مصلحة، لم يكن ذلك رأفة ولا رحمة. فهذه الوجوه الستة دالة على أنه تعالى ما شرع الأحكام إلا لمصلحة العباد. ثم اختلف الناس بعد ذلك: أما المعتزلة: فقد صرحوا بحقيقة هذا المقام، وكشفوا الغطاء عنه، وقالوا: إنه يقبح من الله تعالى فعل القبيح، وفعل العبث؛ بل يجب أن يكون فعله مشتملًا على جهة مصلحة وغرض. وأما الفقهاء: فإنهم يصرحون بأنه تعالى إنما شرع هذا الحكم لهذا المعنى، ولأجل هذه الحكمة، ولو سمعوا لفظ الغرض، لكفروا قائله؛ مع أنه لا معنى لتلك (اللام) إلا الغرض. وأيضًا: فإنهم يقولون: إنه وإن كان لا يجب على الله تعالى رعاية المصالح، إلا أنه تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة لعباده؛ تفضلًا منه وإحسانًا لا وجوبًا، فهذا هو الكلام في تقرير هذه المقدمة.

أما المقدمة الثانية: وهي أن هذا الفعل مشتمل على هذه الجهة من المصلحة، فظاهر؛ لأنا إنما نحكم بعلية الوصف، إذا بينا كونه كذلك. أما المقدمة الثالثة: وهي أنا لما علمنا أنه لا يشرع إلا لمصلحة، وعلمنا أن هذا المعنى مصلحة، حصل لنا ظن أن الداعي له تعالى إلى شرع ذلك الحكم هو هذه المصلحة؛ فقد استدلوا عليه من وجهين: الأول: وهو أن المصلحة المقتضية لشرع هذا الحكم: إما هذه المصلحة أو غيرها: ولا جائز أن يكون غيرها؛ لأن ذلك الغير: إما أن يقال: إنه كان مقتضيًا لذلك الحكم في الأزل، أو ما كان مقتضيًا له في الأزل؛ والأول باطل؛ وإلا لكان الحكم ثابتًا في الأزل؛ لكن التكليف بدون المكلف محال؛ فتعين الثاني؛ وهو أنه ما كان مقتضيًا لهذا الحكم في الأزل، وذلك يفيد ظن استمرار هذا السلب؛ لما سنبين، إن شاء الله تعالى: أن العلم بوقوع أمر على وجه مخصوص يقتضى ظن بقائه على ذلك الوجه أبدًا، وإذا ثبت ظن أن غير هذا الوصف ليس علة لهذا الحكم ثبت ظن أن هذا الوصف هو العلة لهذا الحكم، ونحن ما ادعينا إلا الظن. الثاني: أن الظن بكون الحاكم حكيمًا، مع العلم بأن هذا الحكم فيه هذه الجهة من الحكمة، يفيد في الشاهد ظن أن ذلك الحكيم إنما شرع ذلك الحكم لتلك الجهة؛ وإذا كان الأمر كذلك في الشاهد، وجب أن يكون في الغائب مثله. بيان المقام الأول: أنا إذا اعتقدنا في ملك البلدة: أنه لا يفعل فعلًا إلا لحكمة، فإذا رأيناه يدفع مالًا إلى فقير، وعلمنا أن فقره يناسب دفع المال إليه، ولم

تخطر ببالنا صفة أخرى فيها مناسبة لدفع المال إليه، غلب على ظننا أنه إنما دفع المال إليه؛ لفقره، نعم لا ننكر أنه يجوز أن يكون له غرض سوى ما ذكرناه؛ لكته تجويز مرجوح، لا يقدح في ذلك الظن الغالب. أما إذا ظهر وجهان من المناسبة؛ مثل أن كان ذلك الفقير فقيهًا، فها هنا إن تساوى الوجهان في القوة، لا يبقى ظن أنه أعطاه لهذا الوصف، أو لذلك، أولهما جميعًا؛ فثبت أن العلم بكون الفاعل حكيمًا، مع العلم بحصول جهة معينة في الحكم، ومع الغفلة عن سائر الجهات يقتضى ظن أن ذلك الفاعل إنما فعل لتلك الحكمة. بيان المقام الثاني: أن في الشاهد: دار ذلك الظن مع حصول ذنيك العلمين وجودًا وعدمًا، والدوران دليل العلية ظاهرًا؛ فيحصل ظن أن العلم بكون الفاعل حكيمًا، مع العلم باشتمال هذا الفعل على جهة مصلحة، ومع الغفلة عن سائر الجهات- علة لحصول الظن بأن ذلك الحكيم، إنما أتى بذلك الفعل لتلك الحكمة، والعلة أينما حصلت، حصل الحكم، فإذا حصل ذلك العلمان في أفعال الله تعالى وأحكامه، وجب أن يحصل ظن أنه تعالى، إنما شرع ذلك الحكم لتلك المصلحة؛ فثبت بهذا أن المناسبة تفيد ظن العلية. الوجه الثاني: في بيان أن المناسبة تفيد ظن العلية: أن نسلم أن أفعال الله وأحكامه يمتنع أن تكون معللة بالدواعي والأغراض، ومع هذا فندعي أن المناسبة تفيد ظن العلية. وبيانه: أن مذهب المسلمين: أن دوران الأفلاك، وطلوع الكواكب وغروبها، وبقاءها على أشكالها وأنوارها غير واجب؛ ولكن الله تعالى، لما أجرى عادته

بإبقائها على حالة واحدة، لا جرم يحصل ظن أنها تبقى غدًا، وبعد غد على هذه الصفات، وكذلك نزول المطر عند الغيم الرطب، وحصول الشبع عقيب الأكل، والري عقيب الشرب، والاحتراق عند مماسة النار غير واجب؛ لكن العادة لما اطردت بذلك، لا جرم حصل ظن يقارب اليقين باستمرارها على مناهجها. والحاصل: أن تكرير الشيء مرارًا كثيرة يقتضي ظن أنه متى حصل، لا يحصل إلى على ذلك الوجه. إذا ثبت هذا، فنقول: إنما لما تأملنا الشرائع، وجدنا الأحكام والمصالح متقارنين؛ لا ينفك أحدهما عن الآخر، وذلك معلوم بعد استقرار أوضاع الشرائع. وإذا كان كذلك، كان العلم بحصول هذا مقتضيًا ظن حصول الآخر، وبالعكس، من غير أن يكون أحدهما مؤثرًا في الآخر، وداعيًا إليه؛ فثبت أن المناسبة دليل العلية، مع القطع بأن أحكام الله تعالى لا تعلل بالأغراض. أما المقدمة الثانية من أصل الدليل، وهي: أن المناسبة لما أفادت ظن العلية، وجب أن يكون ذلك القياس حجة، فالاعتماد فيه على ما ذكرنا: أن العمل بالظن واجب؛ لما فيه من دفع الضرر عن النفس، وهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل. فإن قيل: (لا نسلم أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد): قوله: (تخصيص الصورة المعينة لابد وأن تكون لمرجح، وذلك المرجح يمتنع أن يكون عائدًا إلى الله تعالى، فلابد وأن يكون عائدًا إلى العبد):

قلنا: إما أن تدعي أن التخصيص لابد له من مخصص، أو لا تدعي ذلك: وعلى التقديرين: لا يمكن القول بتعليل أحكام الله تعالى بالمصالح: أما على القول بأن التخصيص لابد له من مخصص: فلأن أفعال العباد: إما أن تكون واقعة بالله تعالى، أو بالعبد: فإن كان الأول: كان الله تعالى فاعلًا للكفر والمعصية، ومع القول بذلك يستحيل القول بأنه لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للعبد. وإن كانت واقعة بالعبد الفاعل للمعصية مثلا، إما أن يكون متمكنًا من تركها، أو لا يكون: فإن لم يكن متمكنًا من تركها، وتلك القدرة والداعية مخلوقة لله تعالى، كان الله تعالى قد خلق في العبد ما يوجب المعصية، ويمتنع عقلًا انفكاكه عنها، ومع هذا: لا يمكن القول بأن الله تعالى يراعي مصالح العباد، وإن كان العبد متمكنًا من تركها فنقول: لما كان كونه فاعلًا للمعصية، وتاركًا لها أمرين ممكنين، لم يترجح أحدهما على الآخر، إلا لمرجح؛ لأنا نتكلم الآن تفريعًا على تسليم هذه المقدمة، فذلك المرجح: إن كان من فعل العبد، عاد التقسيم الأول، وإن كان من فعل الله تعالى: فإما أن يجب الترجيح عند حصول ذلك المرجح من الله تعالى أو لا يجب: فإن وجب، عاد الأمر إلى أنه تعالى فعل فيه ما يوجب المعصية، ومع هذا: لا يمكن القول بأن الله تعالى يراعي المصالح، وإن لم يجب، كان حصول الترجيح مع ذلك المرجح ممكنًا أن يكون، وألا يكون؛ فيفتقر إلى مرجح آخر، فإما أن يتسلل؛ وهو محال، أو ينتهي إلى الوجوب، فيعود الإشكال. فإن قلت: (عند حصول المرجح يصير الترجيح أولى بالوقوع؛ لكنه لا ينتهي إلى حد الوجوب):

قلت: حصول الترجيح، ولا حصوله مع ذلك القدر من الأولوية، إن كان ممكنين، فلنفرض وقوعهما، فنسبة ذلك القدر من الأولوية إلى الترجيح، واللاترجيح- على السواء، فاختصاص أحد زماني حصول تلك الأولوية بالوقوع دون الزمان الثاني، يكون ترجيحًا للمكن المساوي من غير مرجح؛ وهو محال؛ لأنا نتكلم الآن؛ تفريعًا على هذه المقدمة؛ فثبت أن القول بافتقار التخصيص إلى المخصص يمنع من تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح. وأما أن القول بأن التخصيص لا يفتقر إلى المخصص يمنع من القول بتعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح- فذلك ظاهر. فثبت أن تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح باطل. وهذا الكلام كما أنه اعتراض على ما قالوه، فهو دلالة قاطعة ابتداء في المسألة؛ وبه يظهر فساد سائر الوجوه التي عولوا عليها؛ لأنها أدلة ظنية، وما ذكرناه برهان قاطع. ثم نقول: إن دل على ما ذكرتموه على أن تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح واقع، فمعنا أدلة قاطعة مانعة منه؛ وهي من وجوه: الأول: أنه خالق أفعال العباد، وذلك يمنع من القول بأنه تعالى يراعي المصالح؛ إنما قلنا: إنه تعالى خالق أفعال العباد لوجوه: أحدها: أن العبد لو كان موجدًا لأفعاله، لكان عالمًا بتفاصيل أفعاله، واللازم باطل؛ فالملزوم مثله. بيان الملازمة: أن فعل العبد واقع على كيفية مخصوصة وكمية مخصوصة،

مع جواز وقوعه على خلاف تلك الكيفية والكمية؛ فلابد وأن يكون ذلك الاختصاص لمخصص؛ إذ لو عقل الاختصاص، لا لمخصص، لعقل اختصاص حدوث العالم بوقت معين، وقدر معين، مع جواز وقوعه، لا على هذا الوجه، لا لمخصص، وذلك يقتضي القدح في دليل إثبات الصانع؛ فثبت أنه لابد لفعل العبد من مخصص، والتخصيص مسبوق بالعلم؛ فإن التخصيص عبارة عن القصد إلى إيقاعه؛ على ذلك الوجه، والقصد إلى إيقاعه على ذلك الوجه مشروط بالشعور بذلك الوجه، فالغافل عن الشيء استحال منه القصد إلى إيقاعه، فثبت أنه لو كان موجدًا لأفعال نفسه، لكان عالمًا بتفاصيل أفعاله. وإنما قلنا: (إنه غير عالم بتفاصيل أفعاله) لأن النائم فاعل، مع أنه لا يخطر بباله شيء من تلك التفاصيل، بل اليقظان يفعل أفعالًا كثيرة، مع أنه لا يخطر بباله كيفية تلك الأفعال؛ فإن من فعل حركة بطيئة، فذلك البطء: إنما أن يكون عبارة عن تحلل السكنات، أو عن كيفية قائمة الحركة: فإن كان الأول: فالفاعل للحركة البطيئة فاعل في بعض الأحيان حركة، وفي بعضها سكونًا، مع أنه لم يخطر بباله ذلك. وإن كان الثاني: كان قد فعل حركة، وفعل فيها عرضًا آخر. ثم ذلك البطء له درجات مختلفة، فهو قد فعل عرضًا مخصوصًا في عرض آخر، مع جواز أن يحصل سائر مراتب البطء، مع أنه لم يخطر بباله شيء من ذلك، فعلمنا أنه قد يفعل ما لم يخطر بباله؛ فثبت بهذه الدلالة أن العبد غير موجد لأفعال نفسه.

الثاني: أن موجد العبد مقدور لله تعالى، فيجب وقوعه بقدرة الله تعالى. إنما قلنا: إن مقدور العبد لله تعالى؛ لأنه في نفسه ممكن، والإمكان مصحح للمقدورية. وإنما قلنا: (إنه لما كان مقدورًا لله تعالى، وجب وقوعه بقدرة الله تعالى؛ لأنا لو قدرنا قدرة العبد صالحة للإيجاد، فإذا فرضنا أن كل واحد منهما أراد الإيجاد؛ فحينئذ: يجتمع على ذلك الفعل مؤثران مستقلان بالإيجاد؛ وذلك محال؛ لأن الأثر مع المؤثر المستقل به يصير واجب الوقوع، وكل ما كان واجب الوقوع في نفسه، استحال استناده إلى غيره، وحينئذ يلزم أن يستغنى بكل واحد منهما عن كل واحد منهما؛ فيلزم انقطاع ذلك المقدور عنهما حال استناده إليهما معًا؛ وهو محال. والثالث: إذا فرضنا أن العبد أراد تحريك المحل حال ما أراد الله تعالى تسكينه، فإذا كانت قدرة العبد مستقلة في الإيجاد، وقدرة الله تعالى أيضًا مستقلة به- لم يكن وقوع أحد المقدورين أولى من وقوع الآخر، فإما أن يمتنعا؛ وهو محال؛ لأن المانع من وجود كل واحد منهما وجود الآخر، فالمانع حاصل حال تحقق الامتناع؛ فيلزم وجودهما عند عدمهما؛ وهو محال، أو يقعا جميعًا؛ فيلزم حصول الضدين؛ وهو محال. فإن قلت: (قدرة الله تعالى أقوى، فكانت أولى بالتأثير): قلت: إنها أقوى بمعنى أنها مؤثرة في أمور أخرى لا تؤثر فيها قدرة العبد، أما فيما يرجع إلى التأثير في ذلك المقدور الواحد، فيستحيل التفاوت؛ لأن ذلك المقدور شيء واحد؛ لا يقبل التفاوت، وإذا لم يكن هو في نفسه قابلًا للتفاوت استحال وقوع التفاوت في التأثير فيه.

الرابع: لو قدر العبد على بعض المقدورات الممكنات، لقدر على الكل؛ لأن المصحح للمقدورية ليس إلا الإمكان، وهو قضية واحدة؛ فيلزم من الاشتراك فيه الاشتراك في المقدورية؛ لكنه غير قادر على كل الممكنات؛ لأنه لا يقدر على خلق السموات والأرض؛ فوجب ألا يقدر على الإيجاد البتة؛ فثبت بمجموع هذه الوجوه: أن العبد غير موجد لأفعاله، بل موجدها هو الله- عز وجل- وإذا كان كذلك، فكل ما حصل من الكفر والمعاصي، فهو من فعل الله تعالى، ولا شك أن الغالب على أهل العالم الكفر والمعاصي، ومع هذا القول: لا يمكن القول بأن الله تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للعبد. فإن قلت: هب أن الله تعالى هو الخالق لفعل العبد، ولكن المكلف مخير في اختيار الكفر والإيمان، والله تعالى أجرى عادته أن يخلق الشيء على وفق اختيار المكلف، فإن اختار المكلف الكفر، خلق فيه الكفر، وإن اختار الإيمان، خلق في الإيمان، فمنشأ المفسدة هو اختيار المكلف. قلت: حصول اختيار الكفر بدلًا عن اختيار الإيمان، إن كان من المكلف، لا من الله تعالى، لم يكن الله تعالى فاعلًا لكل أفعال العباد، وإن كان من الله تعالى، فقد بطل الاختيار، وتوجه الإشكال. الدليل الثاني: على أنه لا يجوز تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح: أن القادر على الكفر، إن لم يقدر على الإيمان، لزم الجبر، وذلك يقدح في رعاية المصالح، وإن قدر عليهما، فلابد وأن ينتهي إلى مرجح واقع بفعل الله تعالى، وعند حصول ذلك المرجح يجب وقوع الكفر، فيكون الجبر لازمًا، وذلك يقدح في رعاية المصالح، وتقرير هذا الوجه قد تقدم.

الدليل الثالث: أنه قد وقع التكليف بما لا يطاق، وذلك يمنع من القول برعاية المصالح. بيان الأول من وجوه: الأول: أنه كلف بالإيمان من علم أنه لا يؤمن، فصدور الإيمان منه يستلزم انقلاب العلم جهلًا؛ وهذا الانقلاب محال؛ والمفضي إلى المحال محال؛ فكان هذا التكليف تكليفًا بالمحال. وثانيها: أنه: إما أن يكلفه حال استواء الدواعي إلى الفعل والترك، أو حال رجحان أحدهما على الآخر: والأول محال؛ لأن الاستواء ما دام يكون حاصلًا، امتنع الرجحان، فالأمر بالترجيح حال حصول الاستواء أمر بالجمع بين الضدين. والثاني: محال؛ لأن حال الترجيح يكون الراجح واجب الوقوع، والمرجوح ممتنع الوقوع، فحال الرجحان: إن كان مأمورًا بترجيح المرجوح، كان مأمورًا بالجمع بين الضدين، وإن كان مأمورًا بترجيح الراجح، كان مأمورًا بإيقاع الواقع، وكل ذلك تكليف بما لا يطاق. وثالثها: القدرة إذا حصلت في العبد: فإما أن يؤمر بإيقاع الفعل في ذلك الزمان، أو في الزمان الثاني: والأول: محال؛ لأنه إذا وجد المقدور في ذلك الزمان، فلو أمر الله تعالى العبد بإيقاعه في ذلك الزمان، كان هذا أمرًا بإيجاد الموجود؛ وإنه محال. والثاني أيضًا: محال؛ لأنه في الزمان الأول، لما لم يكن متمكنًا من الفعل البتة، كان أمره بالفعل أمرًا لمن لا يقدر.

فإن قلت: (إنه ما أمره في الحال بإيقاع الفعل في الحال؛ حتى يلزم ما قلته، بل أمره في الحال بأن يوقعه في الزمان الثاني): قلت: هل لقولك: (يوقعه) مفهوم زائد على الفعل أم لا؟. فإن لم يكن له مفهوم زائد: لم يكن لقولك: (إنه أمره في الحال بإيقاع الفعل في الزمان الثاني) معنى إلا أنه أعلم في الحال بأنه لابد وأن يكون في الزمان؛ بحيث يصدر عنه الفعل، ففي هذا الزمان: لم يحصل إلا الإعلام، فأما الإلزام، فلا يحصل إلا في الزمان الثاني، فيعود الأمر إلى أنه أمره بإيقاع الفعل حال وقوعه فيه. وإن كان لقولك: (يوقعه) مفهوم زائد على مفهوم الفعل: فذلك الزائد، هل حصل في الزمان الأول، أو ما حصل؟ فإن حصل في الزمان الأول، وقد أمر في الزمان الأول به؛ فحينئذ: يلزم كونه مأمورًا بالشيء حال حصوله، وإن لم يحصل في الزمان الأول، بل في الزمان الثاني، عاد ما ذكرنا؛ من أن الحاصل في الزمان الأول إعلام، لا إلزام، والإلزام لا يحصل إلا في الزمان الثاني؛ فيعود ما ذكرنا؛ من أنه أمر بالفعل حال وقوعه. ورابعها: أن الله تعالى قال: {إن الذين كفروا سواء عليهم، أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6] فأولئك الذين أخبر الله عنهم بهذا الخبر كانوا مأمورين بالإيمان، ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه، فإذن: كانوا مأمورين بأن يصدقوا الله تعالى في إخباره عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة، وذلك تكليف ما لا يطاق.

وخامسها: ما بينا: أن فعل العبد لا يحصل إلا إذا خلق الله في داعية تلجئه إلى فعله إلجاء ضروريًا، فالكافر إذن ملجأ إلى فعل الكفر، فإذا كلف بالإيمان، كان ذلك تكليف ما لا يطاق. وسادسها: أن الله تعالى أمر بمعرفته، وذلك تكليف ما لا يطاق؛ لأن الأمر إما أن يتوجه على العبد حال كونه عارفًا بالله تعالى، أولا في هذه الحالة: فإن كان الأول: كان العارف مأمورًا بتحصيل المعرفة؛ فيكون ذلك أمرًا بتحصيل الحاصل؛ وهو محال. وإن كان الثاني: فحال كونه غير عارف بالله تعالى، استحال أن يكون عارفًا بأمر الله تعالى، فحال كونه بحيث يستحيل عليه أن يعرف أمر الله تعالى لما توجه عليه الأمر، كان ذلك تكليفًا بما لا يطاق. وسابعها: أنا أمرنا بالترك، والأمر بلترك أمر بما لا قدرة لنا عليه؛ لأنا إذا تركنا الفعل، فلا معنى لهذا الترك إلا أنه بقى معدومًا كما كان، والعدم المستمر لا قدرة لنا عليه: وبيانه من وجهين: الأول: أن العدم نفي محض، والقدرة مؤثرة؛ فالجمع بينهما متناقض. وثانيهما: أن العدم، لما كان مستمرًا، لا يمكن التأثير فيه؛ لأن التأثير في الباقي محال. فإن قلت: (الترك عندي أمر وجودي، وهو فعل الضد): قلت: الإلزام ها هنا قائم؛ لأن الواحد منا قد يؤمر بترك الشيء الذي لا

يعرف له ضدًا، فلو أمرنا في ذلك الوقت بفعل ضده، لكنا قد أمرنا بفعل شيء لا نعرف ماهيته، فيكون ذلك أيضًا قولاً بتكليف ما لا يطاق؛ فثبت بهذه الوجوه السبعة وقوع تكليف ما لا يطاق، ولا شك أن ذلك يقدح في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بمصالح العباد. الدليل الرابع: أن تخصيص خلق العالم بالوقت الذي خلق فيه، دون ما قبله، وما بعده- يستحيل أن يكون معللًا بغرض؛ لأن قبل حدوث العالم، لا وقت، ولا زمان، بل ليس إلا الله تعالى والعدم الصرف، ويستحيل أن يحصل في العدم الصرف وقت يكون منشأ المصالح، ووقت آخر يكون منشأ المفاسد. الدليل الخامس: أن تقدير السموات والكواكب المعينة، وتقدير البحار والأرضين بمقاديرها المعينة لا يجوز أن يكون رعاية لغرض الخلق، فإنا نعلم أنه لو ازداد في خلق لفلك الأعظم مقدار جزء لا يتجزأ، فإنه لا يتغير بذلك البتة شيء من مصالح المكلفين، ولا من مفاسدهم. الدليل السادس: أنه تعالى خلق الكافر الفقير بحيث يكون في الدنيا من أول عمره إلى آخره في المحنة، وفي الآخرة يكون في أشد العذاب أبد الآبدين ودهر الداهرين، وأنه تعالى كان عالمًا من الأزل إلى البد أنه، إذا خلقه، وكلفه بالإيمان، فإنه لا يستفيد من الخلق والتكليف إلا زيادة المحنة والبلاء، فكيف يقال: إنه تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للمكلف؟! الدليل السابع: أنه تعالى خلق الخلق، وركب فيهم الشهوة والغضب، حتى إن بعضهم يقتل بعضًا، وبعضهم يفجر ببعض، ولقد كان تعالى قادرًا على أن يخلقنا في الجنة ابتداء، ويغنينا بالمشتهيات الحسنة عن القبيحة.

فإن قلت: (إنه تعالى، إنما فعل ذلك ليعطيه العوض في الآخرة، وليكون لطفًا لمكلف آخر): قلت: أما العوض: فلو أعطاه ابتداء، كان أولى، وأما اللطف: فأي عاقل يرضى بأن يقال: إنما حسن إيلام هذا الحيوان؛ ليكون لطيفًا بذلك الحيوان؟! الدليل الثامن: دلت الوجوه المذكورة في أول هذا القسم على أنه يستحيل أن يكون شيء من أفعاله وأحكامه معللًا بالمصالح، فظهر بهذه الوجوه: أنه ليس الغالب في أفعال الله تعالى رعاية مصالح الخلق، وإذا كان كذلك، لم يغلب على الظن أن أحكامه معللة بمصالح الخلق، فإنا إذا رأينا شخصًا يكون أغلب أفعاله رعاية المصالح، ثم رأيناه حكم بحكم غلب على ظننا اشتمال ذلك الحكم على مصلحة، أما إذا رأينا شخصًا يكون أغلب أفعاله عدم الالتفات إلى المصالح، ثم رأيناه حكم بحكم؛ فإنه لا يغلب على ظننا اشتمال ذلك الحكم على مصلحة البتة، هذا في حق الإنسان الذي يكون محتاجًا إلى رعاية المصلحة، أما الإله- سبحانه وتعالى- لما كان منزهًا عن المصالح والمفاسد بالكلية، ثم رأينا أن الغالب في أفعاله ما لا يكون مصلحة للخلق، كيف يغلب على الظن كون أفعاله وأحكامه معللة بالمصالح؟! سلمنا: أن أحكامه تعالى معللة بالمصالح، وأن هذا الفعل مصلحة من هذا الوجه؛ فلم قلت: إن هذا القدر يقتضي ظن كون ذلك الفعل معللًا بهذه المصلحة؟ أما الوجه الأول: فالاعتماد فيه على أن الاستصحاب يفيد الظن. وأما الوجه الثاني: فالاعتماد فيه على أن الدوران يفيد الظن، والكلام في

هذين الموضعين سيأتي- إن شاء الله تعالى- ثم نقول على الوجه الثاني خاصة: لم قلت: لما حصل الظن في المثال المذكور، وجب حصوله في حق الله تعالى؟! قوله: (الدوران يفيد الظن): قلنا: لكن بشرط ألا يظهر وصف آخر في الأصل، وها هنا قد وجد، وبيانه من وجهين: الأول: أنا إنما حكمنا بذلك في حق الملك؛ لعلمنا بأن طبعه يميل إلى جلب المصالح، ودفع المفاسد، وذلك في حق الله تعالى مفقود. الثاني: أن المعتبر ليس دفع عموم الحاجة، بل دفع الحاجة المخصوصة، فمن عرف عادة الملك، وأنه يراعي هذا النوع، أو ذاكـ لا جرم: يحصل له ظن أن غرض الملك من هذا الفعل هذا المعنى، أو ذاك، وأما عادات الله تعالى في رعاية أجناس المصالح، وأنواعها، فمختلفة؛ ولذلك قد يكون الشيء قبيحًا في عقولنا، وإن كان حسنًا عند الله تعالى، وقد يكون بالعكس؛ ولهذا المعنى نقطع الآن بقبح جميع الشرائع الواردة في زمان موسى وعيسى- عليهما السلام- وبحسن شريعتنا، وإن كان التفاوت فيه غير معلوم لنا الآن، وإذا كان كذلك، ظهر الفرق بين الصورتين. سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم؛ لكنه معارض بأمور: أحدها: أن أفعال الله تعالى وأحكامه، لو كانت لدفع حاجة العبد، لكانت الحاجات بأسرها مدفوعة، واللازم باطل؛ فالملزوم مثله. بيان الملازمة: أن الحاجات المختلفة مشتركة في أصل كونها حاجات،

ومتباينة بخصوصياتها؛ وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، فما به يمتاز كل واحد من أنواع الحاجة عن الآخر منها لا يكون حاجة. وإذا كان كذلك، كان التعليل بكونه حاجة يوجب سقوط تلك الزوائد عن العلية، وارتباط الحكم بمسمى الحاجة الذي هو القدر المشترك بين كل أنواعه، فإذا كان ذلك المسمى علة؛ لشرع ما يصلح أن يكون دافعًا له، لزم من هذا كون جميع الحاجات مدفوعة، ولما لم يكن كذلك، علمنا أن التعليل بالحاجة غير جائز. وثانيها: أن تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح يفضى إلى مخالفة الأصل، وذلك لأن العبادات التي كانت مشروعة في زمان موسى وعيسى- عليهما السلام- كانت واجبة وحسنة في تلك الأزمنة، وصارت قبيحة في هذا الزمان، فلابد وأن يكون ذلك لأنه حصل شرط في ذلك الزمان، لم يحصل الآن، أو وجد الآن مانع ما كان موجودًا في ذلك الزمان، لكن توقف المقتضى على وجود الشرط، أو تخلف حكمه؛ لأجل المانع- خلاف الأصل. وثالثها: أن الحكم: إما أن يكون معللًا بنفس الحكمة، أو بالوصف المشتمل على الحكمة. والأول: باطل؛ لأن الحكمة غير مضبوطة، فلا يجوز ربط الأحكام بها. والثاني: باطل؛ لأن الوصف: إنما يكون علة للحكم؛ لاشتماله على تلك الحكمة، فيعود الأمر إلى كون الحكمة علة لعلية الوصف؛ فيعود المحذور المذكور.

شرح القرافي: قوله: (إن كانت إحدى المناسبتين أقوى لا يلزم التفاسد؛ لأنا بينا عدم المنافاة)

والجواب: قد بينا أن أحكام الله تعالى مشروعة لأجل المصالح، فأما الوجوه العقلية التي ذكرتموها: فهي لو صحت، لقدحت في التكليف، والكلام في القياس نفيًا وإثباتًا فرع على القول بالتكليف؛ فكانت تلك الوجوه غير مسموعة في هذا المقام. وهذا هو الجواب المعتمد الكافي في هذا المقام عن كل ما ذكرتموه وأما الفرقان اللذان ذكرتموهما بين الشاهد والغائب، فذلك إنما يقدح في قول من يقول: يجب عقلًا تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح. أما من يقول: إن ذلك غير واجب؛ ولكنه تعالى فعله على هذا الوجه تفضلًا وإحسانًا، فذلك الفرق لا يقدح في قوله، وأما المعارضات الثلاث الأخيرة، فهي منقوضة بكون أفعالنا معللة بالدواعي والأعراض؛ مع أن جميع ما ذكروه قائم فيها. المسألة الثالثة المناسبة لا تبطل بالمعارضة قال القرافي: قوله: (إن كانت إحدى المناسبتين أقوى لا يلزم التفاسد؛ لأنا بينا عدم المنافاة): قلنا: بينتم عدم المنافاة في المتساويين، فلقائل أن يقول: ذلك لعدم المساواة وعدم الأولية.

أما إذا رجحت إحداهما؛ فلعل الراجح يقوى على المرجوح فيفسد، المرجوح، فلابد من دفع هذا الاحتمال، وحينئذ يتعين ما قاله تاج الدين في (الحاصل) عدل عن هذه العبارة وقال: (إن انعدمت المرجوحة، فهو محال؛ للزوم انقلاب الراجح مرجوحًا).

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: العقلاء مجمعون على حسن ركون البحر عند غلبة السلامة

وحينئذ: فإما ألا ينعدم من الراجحة شيء، وهو محال؛ لمعارضة المرجوحة لما ساواها من الراجحة، وعدم أولوية العدم بإحداهما، وإن اعدم من الراجحة ما ساوى المرجوحة، فهو- أيضًا- محال؛ لأنهما لو عدمتا لوجدتا؛ لكون علة عدم كل واحدة منهما وجود الأخرى. وأما سراج الدين فقال: إذا لم يعدم المساوي المساوي فالمرجوح أولى ألا يعدم الراجح. ويرد عليه أنه بقى عليه أن الراجحة تعدم المرجوحة؛ لأن الدعوى كانت عامة. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: العقلاء مجمعون على حسن ركون البحر عند غلبة السلامة؛ لظهور الريح الكثير، وحسن التعليل بالريح، وحسن الامتناع منه خوف الهلاك. ولو انخرمت المناسبة بالمعارض لما عقل الجمع بينهما، ولذلك يستحسن قتل الجاسوس مع استحسان المن عليه استكشافًا لسر الخصم، وكذلك الإقدام على السلم، وبيع الغائب، والامتناع منهما. قال: فإن قيل: استحسان الطرفين بناء على أن مصالح الأعيان والأشخاص تختلف باختلاف أحوالهم، ولا سبيل إلى درك دقائق مصالح الخلق، وإذا ظهر أصل المصلحة في فعل العاقل، كفى ذلك عذرًا في حسن المباشرة؛ حملًا للإقدام على تعين الأهم في نظره؛ لأنه عاقل، وهو أعلم به. قال: قلنا: يلزم ألا يسفه أحد في تصرفاته؛ فإنه لا يخلو عن مصلحة، وإن قلت: وهو أعلم بالأهم عنده.

ولأنه يحسن من العقلاء سؤال الجازم بأحدهما الإتيان بالآخر، كسؤال الجازم بركوب البحر ألا يركبه، وسؤال الجازم بقتل الجاسوس ألا يقتله، ولو كان كما قلتم، لكان سؤاله حملًا له على السفه؛ وهو قبيح. ولأن ما ذكرتموه إنما يصح أن لو صرح ببناء تصرفه عليه، أما مجرد إقدامه، فلعله بناه على معنى آخر، فلا يلزم تعيينه ليبنى عليه اعتقاد الرجحان، وقد حصل المقصود؛ إذ المقصود سقوط المطالبة بالترجيح لتحقيق المناسبة، وقد حصل. ولأن الشرع ورد بالرخص: كالقصر، والفطر، وأجمع العلماء على تعليلها، مع العلم بأنها لو انعكست لكانت- أيضًا- معقولة المعنى، بل هو جابر في كثير من العزائم: كقطع يد السارق، وقتل الجماعة بالواحد، ولو تقيدت المناسبة بالرجحان لاستحال ذلك؛ لانحصار الرجحان في أحد الطرفين. ولأنه يلزم منه ألا يصلح انتفاء تعليل الحكم بالمانع، وقد صح. بيان الأول: أن اقتضاء السبب ينخرم بالمانع، وانتفاء الحكم عند انتفاء السبب الواجب، فتمتنع إضافته إلى غيره. وبيان الثاني: [نقرره في مسألة] بيان تخصيص العلة. قال: ولو سلمنا انخرام المناسبة بالمعارضة- ومع ذلك- فيدعى رجحانها في محل التعليل إجمالًا؛ لأن حجة الرجحان ضعيفة تدق، وتخفى، وتتعذر، فقد يترجح المهم على الأهم في جنسه؛ لتفاوتهما في الكلي والجزئي، والإبطال والإبدال، والنقض والإهمال والظهور والاحتمال، ومراتب المقدار، ولهذا قطع يد السارق حفظًا للمال، وأبيح الدفع عنه بالقتال،

وترك الصوم والصلاة بالإكراه، والفطر والقصر في السفر، وركوب البحر لغرض التجارة، وإذا ثبت ذلك فالشارع أعلم بدقائق هذه الأمور، واحتمال التفاوت قائم في كل مورد، فيجب اعتقاده تنزيلًا للحكم الشرعي على وفق العقول؛ فإن احتمال خفاء معنى آخر هو مبنى الحكم أبعد من احتمال خفاء وجه الرجحان، وإن طال البحث. قال: واستدلال المصنف باطل بالأمزجة المختلفة، والطبائع إذا اجتمعت وباصطكاك الأجرام؛ فإنه لابد وأن يتأثر أحدهما بالآخر مع قيام هذا التقسيم، ثم هو بعيد عن التحقيق؛ لأن الكلام في بطلان المناسبة، لا في مطلق المصلحة والمفسدة، والمناسبة حكم المصلحة والمفسدة لا عينها. ثم لا يلزم من عدم المناسبة عدم الحكم، لجواز ثبوته بعيدًا. ولأن من شرط الانخرام التعاند في الاقتضاء؛ ليتعذر الوفاء بحكم كل واحد منهما، وإنما يتحقق ذلك بالإضافة إلى حكم واحد، وفي الصلاة في الدار المغصوبة مفسدة الغصب تقتضي تحريم الغصب، وهو تهديد يتعلق بالفعل المتوقع، ومصلحة الصلاة تقتضي الاجتزاء بالواقع المتضمن لها، فلم يتوارد تعلقًا ولا اقتضاء، فإذن لا تعارض؛ لأن مفسدة الغصب لا تندفع بعد وقوعها بنفي إجزاء الصلاة، ولا مصلحة الصلاة- التي هي في ضمن الواقع- تتأثر بالمنع السابق على الوقوع. نعم لا ننكر أنه ربما اختل مقصود الزجر عن الغصب بإجزاء الصلاة من حيث فوات تأكيد داعية الامتناع من ذلك الوجه، وربما اختل مقصود التقرب بالصلاة بارتكاب المنهي عنه في مطاوى الامتثال، ولكن لا يخفى أن كل واحد منهما يقتضي نفي حكم الآخر تكميلًا لمقصوده، ومبالغة فيه، فيكون

مرجوحًا بالإضافة إلى الاقتضاء المتأصل لحكمه المقصود، فلا جرم يلغي كل واحد منهما من الوجه المرجوح، ويعتبر من الوجه الراجح؛ وفاء بتحقيق مناسبة الراجح، وانخرام المرجوح. هذا وجه [تقرير] أن المناسبة لا تنخرم بالمعارض، وهو الأشهر. وأما بيان الانخرام فمن أوجه خمسة تقدم عليها مقدمة، وهي أن المناسبة التي ندعي انخرامها هي ملاءمة بين الوصف والحكم توجب حسن إسناده إليه في نظر العقلاء، وحينئذ نقول: مفسدة الفعل منافية لتلك الملائمة لا محالة، ويستحيل حصول الأثر مع قيام المنافي إلا إذا ترجح المؤثر. والثاني: أن العقلاء متفقون على استقباح الورود به، وإنما الخصم يزعم إسناده للمعارض، وهذا باطل لوجهين: أحدهما: أن الاستقباح ضد الاستحسان، الذي هو إخبار عن تلك الملائمة، فكيف يجتمعان؟ الثاني: لو كان كذلك لوجب ألا يثبت الاستقباح- أيضًا- كما لم يثبت الاستحسان الذي هو مقتضى المصلحة تسوية بينهما في الإعمال. الثالث: المصلحة إذا صارت معارضة بمفسدة، فلا فائدة في الفعل؛ لاستواء الترك معه في صلاح حال المكلف؛ فإنا نعلم أن حال وضع درهم في الكيس وأخذ مثله، يساوي حال عدم الوضع والأخذ في عدم الفائدة، ولا خفاء في عدم المناسبة ما لا فائدة فيه. الرابع: العقلاء حصروا الأفعال في: المصلحة، والمفسدة، والعبث الذي لا مصلحة فيه ولا مفسدة فيه، ولا يمكن أن يقال: إن المصلحة هي المتضمنة نفعًا ولا ضرر فيه، ولا أن المفسدة ما تمحض ضررًا لا نفع فيه؛ لأن المحض لا وجود له في عالم الكون والفساد، فما من فعل يسمى مصلحة إلا ويتضمن

(فائدة) قال سيف الدين: في انخرام المصلحة بالمفسدة كانت مساوية أو راجحة قولان

مفسدة وإن قلت، وكذا العكس، فأكل الشيء الشهي اللذيذ مع صدق الحاجة، وتيقن النفع لا يخلو عن مشقة المضغ، والتزام كلف الشراء، والجرح ولسع العقرب والحمى لا يخلو عن تبريد وتسخين، يوافق المزاج من بعض الوجوه، فإذا تبين أن الاعتبار بالأغلب، فما غلب منهما كان الحكم له والاعتبار به في نظر العقلاء، وعند التساوي يكون معدودًا من العبث، كما لو خلا منهما، ومثاله: إلقاء البذر في الأرض؛ فإنه تعفين وتحصيل، فحيث استحقر البذر بالإضافة إلى الزرع المتوقع عد تحصيلًا، واضمحل التعفين، وحيث استحقر الزرع عد تفويتًا، واضمحل التحصيل، وحيث تساويا كان عبثًا، فإن لم تستقبح مباشرته فلا أقل من ألا يستحسن، وإذا بطل النماء بطلت المناسبة، وفيه تنبيه على مغلطة، وهي: أن الفقهاء أبدًا يطلبون المناسبة بين ذلك القدر من المصلحة، وبين شرع طريق التحصيل، ولا شك أن ذلك أبدًا يلائم نظر العقلاء، والواجب طلب المناسبة بين الوصف والتضمن لها والحكم المشروع؛ لأن المناسب هو الوصف المتضمن للمصلحة لا نفس ما يتضمنه، فيجب طلب المناسبة بين إلقاء البذر، وبين وجوبه واعتباره، لا بين ما يحصل منه الزرع وبين الحكم، وعند هذا لا يخفى ألا يلزم من كون الزرع المتوقع مصلحة، فتفطن لها. الخامس: أن المناسب لو لم ينخرم بالمعارض للزم أن يكون معظم أحكام الشريعة- لا بل كلها- على خلاف الدليل؛ إذ ما من حكم شرعي إلا ويتضمن الإعراض عن مصلحة أو مفسدة تقتضي نقيض ذلك الحكم، وهو على خلاف الإجماع؛ فإن الخلاف في جواز المخالفة ووقوعها، لا في لزومها ووجوبها. قال: وقد تركت الجواب عن هذه الأوجه؛ ليستعمل المتفطن فكرة فيها. (فائدة) قال سيف الدين: في انخرام المصلحة بالمفسدة كانت مساوية أو راجحة قولان.

القسم الثاني في الدلالة على المناسبة

القسم الثاني في الدلالة على المناسبة قوله: (لابد للحكم المعين من مرجح): قلنا: يكفى في الترجيح الإرداة؛ لتخصيص العالم بالواجب المعين، وهذا أمر عائد إلى الله- تعالى- دون العبد. سلمنا أنه غير الإرادة، لكن قولكم: (إن كونه عائد إلى الله- تعالى- خلاف إجماع الأمة) ممنوع؛ فإن المعتزلة يقولون: من كمال حكمته- تعالى- رعاية المصالح، ورعايتها كمال، وعدم رعايتها نقص، والكمال راجع إلى الله- تعالى- فدعواكم الإجماع لا يصح. قوله: (الله- تعالى- حكيم، والحكيم لا يفعل إلا المصلحة): قلنا: مسلم أنه حكيم، لكن الاتفاق في الإطلاق، والاختلاف في المعنى. فعندنا: أن حكيم، بمعنى أنه- تعالى- موصوف بصفات الكمال: العلم الشامل، وغيره من الصفات السبعة المعنوية. وعند المعتزلة: أنه حكيم، بمعنى أنه يراعي المصالح على حسب إطلاق الحكيم في العادة، فقولكم إنما يتم على رأيهم. وأما على رأي أهل السنة، فلا يلزم ذلك لأنه لا يلزم من وصفه بالصفات السبعة رعاية المصالح، بل يرجح- تعالى- أحد الجائزين على الآخر بمجرد إرادته التي شأنها أن ترجح لذاتها، من غير احتياجها لمرجح. قوله: (العبث عليه- تعالى- محال؛ لقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} [المؤمنون: 115]): قلنا: معنى الآية: أفحسبتم أنما خلقناكم لغير التكليف، ونحن نقول:

إن الله- تعالى- ما خلق الجن والإنس إلا لتكليفهم بالعبادة، ولا يلزم من ذلك رعاية المصالح. وكذلك قوله تعالى: {ما خلقت هذا باطلًا} [آل عمران: 191] أي: لم تخلقه إلا للتكليف. وقوله تعالى: {ما خلقناهما إلا بالحق} [الدخان: 39] أي: لسبب التكليف. قوله: (أجمع المسلمون على أنه- تعالى- ليس بعابث): قلنا: أجمعوا على امتناع إطلاق هذا اللفظ، لما فيه من إيهام النقص العادي؛ لأن العابث في العرف ناقص بين العقلاء، أما الخلق لغير معنى، فجائز عليه- تعالى- ولا إجماع فيه. قوله: (العبث سفه): قلنا: لا نسلم إذا فسر بالخلق، والشرع لغير مصلحة إنما يكون سفهًا من المخلوق إذا أفسد في ملك الله- تعالى- وملك خلقه بغير إذن شرعي، وهذا لا يمكن فرضه في حق الله تعالى. قوله: (كون الآدمي مكرمًا يفي ظن أنه تعالى- إنما يشرع ما يكون مصلحة له): قلنا: لا نسلم أن كل ظن معتبر، وقد تقدم أن شهادة الفسقة، والكفرة، والنسوان، والصبيان، وغير ذلك مما يفيد الظنون القوية، ولم يعتبرها الشرع. قوله: (إن الله- تعالى- خلق الآدمي للعبادة؛ لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. قلنا: قال ابن عباس: الآية ليست على ظاهرها، بل لأمرهم بعبادتي.

قوله: (والحكيم إذا أمره عبده بشيء، فلابد وأن يزيح عذره): قلنا: قد تقدم أن الحكمة في حق الله- تعالى- مفسرة بخلاف تفسيرها في العرف، وأنها لا يلزم منها هذه المناسبات، بل إنما تلزم هذه من الحكمة العادية. وقولكم: (إن ذلك يفيد الظن أنه- تعالى- إنما يشرع ما يكون مصلحة): قد تقدم أن مطلق الظن غير معتبر. قوله: (قال الله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]: قلنا: هذه الآية عند أهل السنة معناها: يأمركم الله- تعالى- باليسر، ولا يأمركم بالعسر، وعبر بلفظ (الإرادة) عن المراد من الشرائع. قوله: (قال الله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 56]: قلنا: المراد- هاهنا- بالرحمة الإرادة؛ لاستحالة حقيقة الرحمة عليه- تعالى- التي هي رقة الطبع، ولذلك وصفها- تعالى- بالوسع إشارة إلى التعلق؛ لأن الصفة المتعلقة محيطة بمتعلقها، كإحاطة الظرف الذي وسع مظروفه بما فيه، وإلا فأكثر الخلق خلقوا للنار والبوار، ومعلوم أن كل أحد لا يؤثر ذلك لنفسه. قوله: (إن كان المعنى مقتضيًا للحكم في الأزل، يلزم أن يكون الحكم ثابتًا في الأزل، لكن التكليف بدون المكلف محال): قلنا: تقدم أن الأحكام أزلية، وأن التكليف ثابت بالأزل، على تقدير وجود المكلف، خلافًا للمعتزلة- وغيرهم- القائلين بعدم الكلام النفساني.

وهذا السؤال إنما ورد من جهة إطلاقكم العبارة من غير تجويز المقصود، وهو في التحقيق غير وارد؛ لأن معنى قولنا: (الحكم أزلي) أن الإنسان مكلف على تقدير وجوده بجميع الشرائط، لا أنه في الأزل إن لم يفعل حينئذ استحق العقاب، هذا لم يقل به أحد، والمراد- هاهنا- في هذه الملازمة أن المعنى لو كان في الأزل، لوقع التكليف في الأزل، بحيث لو لم يفعل لعوقب، والتكليف بهذا التفسير لم يقل أحد بعدمه، غير أن- هاهنا- سؤال آخر، وهو أنه لم لا يجوز أن يقال: اقتضاؤه في الأزل مشروط بشرط حادث، والموجب بالذات قد يقتضي شيئًا اقتضاء متقدمًا بشرط متأخر كما نقول في مجارى العادات: إن وضع البذر في الأرض المحروثة المسقية يقتضي أن يخرج منها ثمرة ذلك الحب في غاية الكمال، بشرط أن تتوالى عليه الأغذية، والأسباب المواتية، وتنصرف الموانع المؤذية المتأخرة إلى آخر كمال تلك الثمرات والحبوب، بل يقتضي أن تؤكل منه العصائد، والكعك، وأنواع ما يعمل من الحبوب، بشروط مستقبلة، إن حصلت حصل ذلك وإلا فلا، فكذلك هاهنا؟ فلابد لكم في هذا المقام من دليل يدل على بطلان هذا الاحتمال، ولا يفيدكم دليل حدوث العالم؛ لأنكم فرضتم قدم المعنى وأزليته، ووقع البحث منكم على هذا التقدير، فلا يمكن جحده وإن كان باطلًا؛ لأنه قاعدة البحث والنظر. قوله: (ونحن ما ادعينا إلا الظن): قلنا: قد تقدم أن أصل الظن غير معتبر، وأنه لابد من نوع مخصوص دل الدليل الشرعي على اعتباره، وهاهنا نحن ننازع في الأدلة على هذا الظن.

قوله: (العلم بكون الحاكم حكيمًا، مع العلم بأن هذا الحكم فيه هذه الجهة من المصلحة، يفيد [في الشاهد] ظن أن هذا الحكيم إنما شرعه لتلك الحكمة، فيكون في الغائب كذلك): قلنا: تقدم أن معنى الحكيم في الشاهد والغائب مختلف التفسير. وحينئذ: يبطل هذا البحث من أصله، والظن- أيضًا- تقدم منع اعتبار أصله. قوله: (إذا خلق في العبد ما يوجب المعصية، يمنع أن يقال: إنه- تعالى- يراعي مصلحة العبد): قلنا: لا نسلم؛ لجواز أن يجبره على مصلحته، ولا تنافي بين أن تكون المعاصي وأفعال العباد لا مصلحة لهم فيها، وبين أن الأحكام معللة، ولم ندع إلا تعليل الشرائع وأنها مصالح للخلق، ولم ندع أن جميع ما يقع [في] العالم مصلحة للخلق؛ فإن الواقع من الفساد أكثر، والعالم أكثره كفار وضلال ومفسدون، والشرائع كلها مصالح للخلق بالاستقراء، ولم نجد منها حكمًا مفسدته راجحة ولا خالصة، فالبابان مفترقان، مع أن هذه الثلاثة عليها أسئلة تقدمت في الحسن والقبح أول الكتاب. قوله: (ذلك المرجح إن كان من فعل العبد عاد التقسيم): قلنا: يكون من فعل الله- تعالى- وفعل العبد، فلا يكون التقسيم منحصرًا. سلمنا انحصاره، لكن يعود السؤال المتقدم في أنه [هل] لا تنافي بين الجبر بهذا التفسير، وأن الحكم على وفق المصلحة، ولذلك يكون الفعل واقعًا اتفاقًا، وتكون الأحكام على وفق المصالح.

وإذا قال القائل: (اتفق العبد أو أكره على مصلحته)، لم يكن متناقضًا، كما نجد إنسانًا يحصل له مرض يكون سببًا لعافيته من مرض آخر أعظم منه، ويتفق أن يحصل في البلد هواء يحصل به مصالح الخلق. قوله: (بطء الحركة إما أن يكون لتخلل السكنات أو كيفية قائمة بالحركة): تقريره: أن مذهبنا القول بالجوهر الفرد. فالجسم مؤلف من الجواهر المفردة، والزمان مركب من الإناث المفردة، والحركة مركبة من الحركات المفردة، وأن البطء فيها لتخلل السكنات. ومذهب الفلاسفة: الجميع لا فرد فيه، بل الحركة البطيئة كيفيتها السرعة من غير تخلل سكنات، وكذلك الجسم العظيم عندنا لكثرة الجواهر، وعندهم لا لذلك، بل هو عظيم في نفسه يقبل التقسيم إلى غير النهاية، فقسم كلامه ترديدًا بين المذهبين. قوله: (والإمكان مصحح للمقدورية): تقريره: أن الواجب يستحيل التأثير فيه؛ لأن وجوده من ذاته لا يفتقر فيه إلى غيره. والمستحيل يمتنع التأثير فيه؛ لعدم قبوله للوجود، فلم يبق إلا الممكن. فالإمكان إذا علة للصحة، والاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في المعلول. والممكنات مشتركة في الإمكان، مشتركة في صحة تأثير الله- تعالى- فيها. وإذا صح إضافة الجميع لقدرة الله- تعالى-، فلو أضيف البعض لقدرته

دون البعض لكان لمرجح، وإلا لزم الترجيح من غير مرجح، ذلك المرجح نسبته إلى الكتاب نسبة واحدة لتساويهما؛ لأن الكلام قبل التأثير والاتحاد، وقبل الاتحاد لا اختلاف، وإلا لكانت المعدومات موجودة. هذا خلف، فتستوي نسبة المرجح معها، فإما أن يمنع الجميع، فلا يكون الله- تعالى- مؤثرًا، وهو مؤثر. أو يكون مؤثرًا في الجميع، بألا يمنع هذا المرجح شيئًا منها، وهو محال، فلا يكون مؤثرًا البتة. قوله: (إذا فرضنا كل واحد منهما أراد إيجاد ذلك الفعل، يلزم اجتماع مؤثرين مستقلين): قلنا: فرضكم الإرادة أمر ممكن الوجود والعدم، فجاز أن يكون الواقع نقيض ما فرضتموه أبدًا؛ لأن المرتب على تقدير منتف عند انتفاء ذلك التقدير، فلا يحصل مطلوبكم، وهذا أصل كبير، وهو أنه لا يلزم من ثبوت الاستحالة على تقدير ثبوتها في نفس الأمر، إلا أن يكون ذلك التقدير واجب الوقوع، أو يكون اللزوم للوقوع، لقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22]، أي من لوازم الوقوع الوقوع، فدل عدم وقوع اللازم على عدم وقوع الملزوم، وكذلك لا ينبغي أن يثبت برهان الوحدانية من فرض إرادة أحدهما تحريك زيد، والآخر تسكينه؛ لأن هذا الفرض قد لا يكون واقعًا في نفس الأمر، فيلزمنا تجويز الشريك؛ لأن التقدير جائز، بل نقول: ما تقدم إذا كان المؤثر يجب أن يكون واحدًا استحال الشريك؛ لأنا لا نعني بالوحدانية إلا أن الإله الموصوف بصفات التأثير ليس له نظير في ذلك. قوله: (ذلك المقدور الواحد لا يقبل التفاوت، فلا تكون إحدى القدرتين أقوى بالنسبة إليه):

قلنا: جاز أن يكون المقدور لا يقبل التفاوت، ويكون الترجيح لا من قبله بل من قبل المؤثر فيه، فتكون القدرة القديمة لكونها واجبة الوجود أزلية أبدية، ليست من قبيل الأعراض تقتضي لذاتها أنها إذا عارضها غيرها اندفع بها، ويكون ذلك من قبلها لا من قبل الأثر. قوله: (لابد من الانتهاء إلى مرجح من قبل الله- تعالى- فيلزم الجبر): قلنا: بل يكون الجبر مركبًا منهما، كما تقوله المعتزلة؛ فإن الله- تعالى- هو الخالق لمزاج الشباب، وآلة الجماع، والشهوة، والجمال في النساء، وإذا حصل هذا من قبل الله- تعالى- يكمل المرجح بعد العبد ودواعيه، فيحصل الفعل حينئذ. سلمنا صحة التقسيم، لكن لا يلزم من ذلك ألا يكون الفعل غير متضمن للمصلحة كما تقدم تقريره. قوله: (كلف من علم أنه لا يؤمن، فلو أمره لزم انقلاب العلم): قلنا: العلم بعدم وقوع الإيمان الواجب فرع عدم الوقوع، الذي هو فرع للتكليف، فالتكليف سابق على تعلق العلم بمراتب، فلا يمنعه العلم. ولأن التكليف أصل العلم وشرطه، فلا ينافيه. قوله: (إن كلفه حالة الاستواء لزم إجماع الضدين): قلنا: تقدم- بسطة- في (باب الأوامر) أنها لا تتعلق إلا بمعدوم مستقبل، وذلك الزمان لم يقع فيه- بعد- استواء ولا رجحان؛ لأن وجودهما فرع وجود الزمان، والمستقبل لم يوجد بعد. فحينئذ: التكليف واقع في زمان غير الزمان الذي يقع فيه الفعل، فجاز أن يكون الواقع في زمان التكليف التساوي، وزمان الفعل ليس فيه شيء، فهو أمر- الآن- بتحصيل الرجحان في الزمان المستقبل، أو المرجوحية في

زمان التكليف، وأمر بتحصيل الراجحية في الزمان المستقبل، أو الراجحية في زمان التكليف، وأمر بتحصيل راجحية أخرى في زمان الفعل، فلا يجتمع المثلان، ولا الضدان، ولا يلزم محال البتة. هو الجواب عن القدرة؛ فإن القدرة تكون حاصلة زمان التكليف، ويؤمر بتحصيل مثلها في زمان الفعل، فلا يلزم تحصيل الحاصل، ولا اجتماع المثلين. أو تكون القدرة معدومة حال التكليف، وأمر بتحصيلها زمان الفعل، فلا يلزم تكليف ما لا يطاق؛ ولا محال البتة. والسر في الجميع: أن زمان التكليف غير زمان الفعل المكلف به، وزمان الفعل معدوم، لم يتعين فيه لا ترجيح، ولا قدرة، والمكلف متمكن من اشتغاله بأي شيء شاء بدلًا عن نقيضه وضده، ويكون الحاصل في الزمان تكليفًا لا إعلامًا، ولا يلزم شيء من المحالات، ولا يكون مأمورًا بالشيء حال حصوله. قوله: (الذين أخبر الله- تعالى- عنهم أنهم لا يؤمنون بقوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم ... الآية} [البقرة: 6]): قلنا: قد تقدم الكلام عليها في تكليف ما لا يطاق، وأن هذا الخبر مانع لا ينافي، كما تقدم في بسطه هنالك. قوله: (الداعية تلجئ العبد للفعل، فيكون تكليفه تكليفًا بما لا يطاق): قلنا: تلك الداعية لا يحصل الفعل بها، حتى يحصل العدم والتأثير، وجميع ما يتوقف عليه الفعل، فيكون الفعل- حينئذ- واقعًا باختيار العبد، فيحسن تكليفه، ولا يكون تكليفًا بما لا يطاق، بل بما يطاق. قوله: (إن توجه الأمر بالمعرفة على العارف بالله- تعالى- يلزم تحصيل الحاصل):

قلنا: بل تحصيل مثل الحاصل- الآن- في الزمان المستقبل، وحصول المثلين في زمانين ليس تحصيل الحاصل، ولا جمعًا بين المثلين، وكل مؤمن هو مأمور بأن يعم الأزمنة المستقبلة كلها بالإيمان، ولا محال، ولذلك يؤمر غير العارف بالمعرفة، ويكون قد عرف من بيان الله- تعالى- وصفاته كونه كلفه فقط، فيحصل من المعرفة العلم بالذات والصفات التي لم يكن عارفًا بها. وكذلك لو جاءنا شخص فقال: (إن خلف هذا الجبل ملكًا يأمركم أن تقدموا عليه)، أمكننا امتثال هذا الأمر، مع أنا لم نعلم أكثر من هذا القول الوارد علينا. قوله: (يؤمر الواحد منا بترك الشيء الذي لا يعرف له ضدًا): قلنا: ممنوع، بل الفعل إن كان له ضد واحد، فهو يعلمه؛ لانحصار الضد فيه. وإن كانت له أضداد كالحلاوة، فإن أضدادها المرارة، والملوحة، وغير ذلك من الطعوم التسعة، فالواجب عليه أن يفعل واحدًا منها لا بعينه. ومن شرط التكليف العلم، فحيث لا علم، يمنع ورود التكليف حينئذ؛ بناء على منعنا تكليف ما لا يطاق. قوله: (وقت إيجاد العالم لا مرجح له): قلنا: تقدم أن التعليل واقع في الشرائع دون الأفعال، وهو المدعى، فلا تضرنا الأفعال، لعدم توقف القياس عليها. وهو الجواب عن بقية الأدلة، والوجوه المذكورة بعد هذا. قوله: (نقطع بقبح الشرائع الواردة في زمن موسى- عليه السلام- وعيسى- عليه السلام- وحسن شرعنا): قلنا: هذه عبارة رديئة، بل نقطع بحسن الشرائع كلها، وأن شرعنا أحسن وأتم في رعاية المصالح، أما القبح فلا.

(سؤال) قال النقشواني: لم لا يجوز أن يقال: إن أفعال الله- تعالى- وأحكامه كلها خيرات

قوله: (لو كانت أفعال الله- تعالى- وأحكامه لدفع حاجة العبد، اندفعت جميع الحاجات): قلنا: نحن لا ندعي أن الله- تعالى- يدفع كل حاجة، بل إنه- تعالى- ما شرع شرعًا إلا لدفع حاجة، ولا يلزم من ذلك استيعاب دفع الحوائج. كما أن قولنا: (ما أعطى الملك أحدًا اليوم شيئًا إلا بسبب فقره)، أن يكون استوعب الفقراء، ولا نصفهم. (سؤال) قال النقشواني: لم لا يجوز أن يقال: إن أفعال الله- تعالى- وأحكامه كلها خيرات، والمفاسد إنما جاءت من قبل العبد، كما أن النار تذيب الحديد والشمع، وتعقد البيض، والشمس تسود الوجه، وتبيض الثوب. فخلق الله- تعالى- القدرة- في العبد- على الفعل وأنواعه مصلحة، وهو يستعملها في الفساد، فهو من قبله، لا من قبل الله تعالى؟. (تنبيه) قال سراج الدين على قوله: (لو كان الحكم عين هذا الوصف- وهو في الأزل كان الحكم أزليًا): لقائل أن يقول: هو معارض بمثله، ودفعه يعرف بالتأمل. قلت: تقريره: أن هذا الوصف- أيضًا- لو كان مقتضيًا للحكم، فإما في الأزل، فيلزم القدم، أو لا في الأزل، فيلزم استصحاب العدم، وقد تقدم دفع هذا السؤال. وقال على قوله: (اختيار المكلف إن كان من فعل الله- تعالى- لزم الجبر، ويعود المحذور):

لقائل أن يقول: إنه يشعر بذلك عند الإيجاد، لكنه لا يبقى، ولا نسلم أن الإمكان علة المقدورية، بل شرطها، ثم تعلق إرادة أحد القادرين بالمقدور مشروطة بالشعور، فإذا عدم الشرط عدم المشروط، فلا يكون عزمه واختياره منشأ المفسدة، وأما الإمكان فلا شك أن التأثير متوقف عليه، والمتوقف على وجوده: إما سبب أو شرط؛ لأن المانع متوقف على عدمه، فكذلك منع سببية الإمكان بأن يكون شرطًا. وجوابه: أنه لو كان شرطًا لكان غير السبب، وغير الإمكان قبل الإيجاد. أما الوجوب والاستحالة- وكلاهما مانع من التأثير- فلا يكون أحدهما سبب التأثير. وجوابه عما أورده في المؤثرين: أن كليهما صالح للتأثير، فيس عدم إرادة أحدهما، وثبوت إرادة الآخر أولى من العكس، فيلزم تعلقهما، ومنه ينشأ المحال. وقال التريزي أول المسألة: المناسب الغريب حجة، خلافًا لبعضهم. قال: ولا خلاف بين القياسين في المؤثر والملائم؛ فإن أبا زيد وإن حصر المعتبر في المؤثر، لكنه ذكر في أمثلته ما يدل على أنه سمى الملائم مؤثرًا. ثم قال: لو كان الحكم معللًا بغير الوصف المقارن لظهر. ومنهم من قال: غيره لم يكن علة في الأزل وإلا لزم قدم الحكم، والأصل استمراره على العدم، وهو باطل؛ لأنه ينقلب علينا في الوصف الظاهر. قال: وقد أكثر المصنف في القدح في الغريب؛ استنادًا إلى امتناع تعليل أفعال الله- تعالى- شغفًا بالقدح في القياس، ويرجع حاصل الكل إلى سلب الفعل الاختياري بالكلية أو من العبد؛ لوقوع أفعاله بقدرة الله- تعالى-

ومعلوم أن النزاع في هذه المسألة مسبوق بتسليم قاعدة القياس وكونه حجة، ومن ضرورتها صحة تعليل أحكام الشرع برعاية مصالح العباد، فكيف يصح إنكاره من القائلين بالقياس؟ ثم يلزم منه امتناع التعليل بالملائم وبالمؤثر، بل يمتنع دعوى التأثير والملاءمة. على أنا قد أثبتنا الأفعال الاختيارية، وامتناع التكليف بالمحال، نفتدلك الآن على تعليل أفعال الله- تعالى- وأحكامه وقوعًا لا وجوبًا بقوله تعالى: {المص} إلى قوله: {لتنذر به وذكرى} [الأعراف: 2]، {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} [النساء: 64]، وفي آية أخرى: {إلا بلسان قومه ليبين لهم} [إبراهيم: 4]، {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، {وما أمروا إلا ليعبدوا الله} [البينة: 6]، {يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم} إلى قوله: {لنبين لكم} [الحج: 5] إلى ما يكثر عدده من هذا. ويخصص مصالح العبد قوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29]، {فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره} [إبراهيم: 32]. {وأنزلنا من السماء ماء طهورًا لنحيي به بلدة} [الفرقان: 48]، {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل} إلى قوله: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام} [الأنفال: 11]، و {فجرنا فيها من العيون} [يس: 34]، {ليأكلوا من ثمره} [يس: 35]، {أنا صببنا الماء صبًا} إلى قوله: {متاعًا لكم ولأنعامكم} [عبس: 32].

{أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها} [النازعات: 31، 32]، ولو جمع مثل هذا من القرآن لبلغ جزء. [وأما المعقول فأوجه: أحدها: أن الله- تعالى- رءوف، وليس من صفة الرءوف الإعراض عن مهام المحاويج، وأرباب الضرورات في حالة اضطرارهم، مع العلم بحالهم والقدرة على قضائها، لاسيما إذا لم ينقص به من خزائنه شيء] * * *

الفصل الرابع (في المؤثر)

الفصل الرابع (في المؤثر) قال الرازي: وهو أن يكون الوصف مؤثرًا في جنس الحكم في الأصول دون وصف آخر، فيكون أولى بأن يكون علة من الوصف الذي لا يؤثر في جنس ذلك الحكم، ولا في عينه؛ وذلك كالبلوغ الذي يؤثر في رفع الحجر عن المال، فيؤثر في رفع الحجر عن النكاح دون الثيابة؛ لأنها لا تؤثر في جنس هذا الحكم، وهو رفع الحجر، وكقولهم: (إذا قدم الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب في الميراث، فينبغي أن يقدم عليه في ولاية النكاح). فإن قلت: (لم قلت: لما أثرت الأخوة من الأب والأم في التقديم في الإرث، أثرت في التقديم في النكاح؟): قلت: ذكروا أن يتبين ذلك بـ (المناسبة)، وبأن يقال: لا فارق بين الأصل والفرع إلا كذا، وهو ملغي. وعند هذا يظهر أن هذه الطريقة لا تنشأ إلا بعد الرجوع إلى طريق (المناسب)، وطريق (السبر). الفصل الرابع في المؤثر قال القرافي: قوله: (هو أن يكون الوصف مؤثرًا في جنس الحكم- في الأصول- دون وصف آخر، فيكون بالعلية أولى من الوصف الذي لا يؤثر في جنس ذلك الحكم، ولا في عينه): قلت: قد تقدم تحرير المؤثر، وأنه المؤثر في العين والجنس، فإنه قسيم الملائم على الخلاف الذي تقدم نقله عند الكلام على هذه الحقائق والعبارة هاهنا غير محررة.

الفصل الخامس (في الشبه) والنظر في ماهيته ثم في إثباته

الفصل الخامس (في الشبه) والنظر في ماهيته ثم في إثباته قال الرازي: أما الماهية: فقد ذكروا في تعريفها وجهين: الأول: ما قاله القاضي أبو بكر- رحمه الله- وهو أنه قال: إن الوصف إما أن يكون مناسبًا للحكم بذاته، وإما ألا يناسب بذاته، لكنه يكون مستلزمًا لما يناسبه بذاته، وإما ألا يناسبه بذاته، ولا يستلزم ما يناسبه بذاته: فالأول هو: الوصف المناسب، والثاني هو: الشبه، والثالث هو: الطرد. الثاني: الوصف الذي لا يناسب الحكم: إما أن يكون قد عرف بالنص تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم، وإما ألا يكون كذلك: فالأول هو: الشبه؛ لأنه من حيث هو غير مناسب يظن أنه غير معتبر في حق ذلك الحكم، ومن حيث علم تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم- مع أن سائر الأوصاف ليس كذلك- يكون ظن إسناد الحكم إليه أقوى من ظن إسناده إلى غيره. واعلم: أن الشافعي- رضي الله عنه- سمى هذا القياس (قياس غلبة الأشباه). وهو: أن يكون الفرع واقعًا بين أصلين، فإذا كانت مشابهته لإحدى الصورتين أقوى من مشابهته للأخرى، ألحق لا محالة بالأقوى. فأما الذي يقع فيه الاشتباه، فالمحكي عن الشافعي- رضي الله عنه-: أنه كان يعتبر الشبه في الحكم؛ كمشابهة العبد المقتول للحر، ولسائر المملوكات، وعن

ابن علية: أنه كان يعتبر الشبه في الصورة؛ كرد الجلسة الثانية في الصلاة إلى الجلسة الأولى؛ في عدم الوجوب. والحق: أنه متى حصلت المشابهة فيما يظن أنه علة الحكم، أو مستلزم لما هو علة له، صح القياس، سواء كان ذلك في الصورة، أو في الأحكام. النظر الثاني: في أنه حجة، قال القاضي أبو بكر: ليس بحجة. لنا: أنه يفيد ظن العلية؛ فوجب العمل به. بيان الأول: أنه لما ظن كونه مستلزمًا للعلية، كان الاشتراك فيه يفيد ظن الاشتراك في العلة. وعلى التفسير الثاني: أنه لما ثبت أن لحكم لابد له من علة، وأن العلة: إما هذا الوصف، وإما غيره؛ ثم رأينا أن جنس هذا الوصف أثر في جنس ذلك الحكم، ولم يوجد هذا المعنى في سائر الأوصاف- فلا شك أن ميل القلب إلى إسناد الحكم إلى هذا الوصف أقوى من ميله إلى إسناده إلى غير ذلك الوصف؛ وإذا ثبت أنه يفيد الظن، وجب أن يكون حجة؛ لما بينا أن العمل بالظن واجب. واحتج القاضي بوجهين: الأول: الوصف الذي سميتموه شبهًا: إن كان مناسبًا، فهو معتبر بالاتفاق، وإن كان غير مناسب، فهو الطرد المردود بالاتفاق. الثاني: أن المعتمد في إثبات القياس عمل الصحابة، ولم يثبت عنهم أنهم تمسكوا بـ (الشبه).

شرح القرافي: قوله: (الذي لا يناسب بذاته، ولا يستلزم ما يناسب بذاته الطرد)

والجواب عن الأول: لا نسلم أن الوصف، إذا لم يكن مناسبًا، كان مردودًا بالاتفاق، بل ما لا يكون مناسبًا: إن كان مستلزمًا للمناسب، أو عرف بالنص تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم، فهو عندنا غير مردود، وهذا أول المسألة. وعن الثاني: أنا نعول في إثبات هذا النوع من القياس على عموم قوله تعالى: {فاعتبروا} أو على ما ذكرنا أنه يجب العمل بالظن، والله أعلم. الفصل الخامس في الشبه قال القرافي: قوله: (الذي لا يناسب بذاته، ولا يستلزم ما يناسب بذاته الطرد): قلت: اشتهر على ألسنة الجماعة من النظار من الأصوليين والجدليين أن هذا اسمه الطردي بياء مشددة. والطرد: هو اقتران الحكم بسائر صور الوصف، وهو أحد الطرق الدالة على علية الوصف على الخلاف فيه. فالطرد غير الطردي، والمصنف سوى بينهما في العبارة. قوله: (الشبه في الحكم كمشابهة العبد المقبول الحر، وكسائر المملوكات): تقريره: أن الملكية حكم شرعي؛ لأن الملك إذن من الشرع في استيفاء المنافع على وجه مخصوص، إلا أن يقوم مانع الحجر.

(تنبيه) قال التبريزي بعد ذكره الحدين الذين في (المحصور): وقيل: هو الأخذ بأقوى المشبهين، فجعل قول الشافعي تفسيرا تاليا، وهو الظاهر من قول الشافعي

فمشابهة العبد المملوكات، في كونه مملوكًا، شبه في حكم شرعي. وأما شبه بالحر، فليس إلا في كونه آدميًا، وهو أمر حقيقي لا حكم ضدها، فلم يبق الشبه إلا في الآدمية فقط. فمراد المصنف القسم الثاني دون الأول. قوله: (العمل بالظن واجب): قلنا: تقدم أن مطلق الظن ملغي إجماعًا، إنما اعتبر الشرع مواطن وأنواعًا مخصوصة، فما الدليل على أن هذا منها؟ وقد تقدم بسطه مرارًا. مثال هذا: الفصل المناسب نحو: إسكار الخمر. والطردي ما يعينه. والمستلزم للمناسب نحو قولنا: (مائع لا تبنى القنطرة على جنسه)، يشعر بعلته وعلة مشروعية الماء بشاربه، وعدم مشروعية غيره؛ لأجل العلة رفقًا بالعباد، فظهر أن عدم بناء القنطرة على جنسه مستلزم للعلة. قوله مستندًا في قياس الشبة: (قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر: 2]): قلنا: قد تقدم أن هذا النص ليس عامًا حتى يتناول هذا النوع من القياس. (تنبيه) قال التبريزي بعد ذكره الحدين الذين في (المحصور): وقيل: هو الأخذ بأقوى المشبهين، فجعل قول الشافعي تفسيرًا تاليًا، وهو الظاهر من قول الشافعي.

(فائدة) قال سيف الدين: اسم الشبه يتناول كل قياس لأجل مشابهة الفرع لأصله في جامعه

قال: وقيل: هو الذي يوهم اشتماله على الحكمة، وهو قريب من قولهم: يناسب العلية دون الحكم. قال: وأبعد التعريفات هو الأول؛ إذ ليس من شرط المناسب أن يكون منشأ، فأكثر المناسبات مستلزمات. (فائدة) قال سيف الدين: اسم الشبه يتناول كل قياس لأجل مشابهة الفرع لأصله في جامعه، غير أنه- في عرف الأصوليين- لأخص من ذلك. فمنهم من فسره: بالمتردد بين أصلين شبه أحدهما أكثر من الآخر، فيلحق بالأكثر مشابهة له، كالعبد يشبه الحر في كونه آدميًا مكلفًا مثابًا معاقبًا، ويشبه الفرس في أنه يباع ويملك. فلحوقه بالحر [أولى]؛ لكثرة الشبه؛ وليس هذا من الشبه في شيء؛ بل مناسب وقع فيه الترجيح. ومنهم من فسره: بما عرف المناط فيه قطعًا، غير أنه يفتقر في آحاد الصور إلى الحقيقة، كطلب المثل في جزاء الصيد بعد أن عرف أن المثل واجب، وليس هذا- أيضًا- من الشبه؛ لأنه بحث في تحقيق المحكوم به وهو المثل، والشبه يكون الطلب للمناط وهو- هاهنا- معلوم بالنص، وهو مقطوع به، والشبه مختلف فيه. ومنهم من فسره بما اجتمع فيه مناطان مختلفان بحكمين ليسا متمحضين، إلا أن أحدهما غلب على الآخر كاللعان، يشبه الشهادة واليمين، وليسا متمحضين؛ لأن الملاعن مدع، والمدعي لا تقبل شهادته لنفسه ولا يمينه، وهذا وإن كان أقرب من الأولين، غير أنه إذا غلب أحد الشبهين كانت

(فرع) قال بعض أصحابنا: الشبه إذا اعتبر جنسه في جنس الحكم دون اعتبار عينه في عين الحكم لا يكون حجة، بخلاف المناسب

المصلحة ملازمة له في نظرنا، فنحكم بها، وليس خارجًا عن التعليل بالمناسبة. وقال القاضي أبو بكر: هو قياس الدلالة، وهو الجمع بين الفرع والأصل بما لا يناسب الحكم، [و] لكن يستلزم ما يناسب الحكم. ومنهم من فسره بما يوهم المناسبة من غير اطلاع عليها؛ لأن الشرع التفت إليه في بعض الأحكام ولم نعلم ذلك هاهنا، فشابه الطردي من وجه، والمناسب من وجه، فسمى شبهًا؛ كقول الشافعي: طهارة لأجل الصلاة، فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث، فالجامع الطهارة، ومناسبتها لتعيين الماء فيها بعد البحث التام غير ظاهرة. وقد اعتبرها الشرع في بعض الأحكام، كمس المصحف، والصلاة، والطواف يوهم اشتمالها على المناسبة. والاصطلاح الأخير أقرب لقواعد الأصول، ويليه مذهب القاضي. (فرع) قال بعض أصحابنا: الشبه إذا اعتبر جنسه في جنس الحكم دون اعتبار عينه في عين الحكم لا يكون حجة، بخلاف المناسب؛ لأن الشبه إذا اعتبر عينه في عين الحكم كان الظن المستفاد منه في أدنى مراتب الظن، فإذا انحط إلى اعتبار الجنس في الجنس، فقد ذهب الظن بالكلية؛ لأن ما دون أدنى درجات الظن ليس بظن، بخلاف المناسب؛ لأن الظن المستفاد منه في اعتبار العين في العين قوي جدًا، فإذا نزل عن هذه المرتبة بقى أصل الظن، وهو حجة. قال: والمقدمة الأولى ممنوعة.

(فائدة) قال الغزالي في (المستصفى): الشبه من شرطه احتياجه إلى ضرورة في استنباط مناط الحكم

(فائدة) قال الغزالي في (المستصفى): الشبه من شرطه احتياجه إلى ضرورة في استنباط مناط الحكم، فإن لم تكن ضرورة، قال قوم: لا يجوز اعتماده. قال: وليس بعيدًا عندي في أكثر المواضع؛ فإنه إذا أمكن قصر الحكم على المحل، وكان المحل معرفًا بوصف مضبوط، فلا حاجة إلى طلب ضابط آخر ليس بمناسب، فتمام النظر أن يقال: لابد من علامة كالربا في الدقيق، والعجين، فلابد من ضابط، وهو الطعم، والضرب على العاقلة في النفس، والطرف، فلابد من ضابط، وهو الجناية على الآدمي، ففارق المال، هذا بخلاف المناسب؛ فإنه يحرك الظن بنفسه، فلا يحتاج إلى ضابط، فلا ضرورة فيه، وهاهنا ثلاثة تظن من الشبه وليست منه: الأول: ما عرف منه مناط الحكم قطعًا، وافتقر إلى تحقيق، كطلب المثل في جزاء الصيد، وبه فسر بعضهم الشبه، وهو خطأ؛ لأن صحته مقطوع به. الثاني: ما عرف فيه مناط الحكم، واجتمع فيه مناطان متعارضان، فيرجح أحدهما. مثاله: بدل المال غير مقدر، وبدل النفس مقدر، والعبد نفس ومال، فيرجح أيهما يغلب. الثالث: إذا لم يتمحض المناطان وقد وجدا، فيحكم بالأغلب كتركب اللعان من الشهادة واليمين، ولم يتمحضا؛ لأن يمين المدعي لا تقبل، وشهادة الإنسان لنفسه لا تقبل، فإن غلبت اليمين لاعن العبد؛ لأنه من أهل اليمين دون الشهادة.

(فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): قال أحمد بالشبه في الصورة، وأبو حنيفة قال به- أيضا-

(فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): قال أحمد بالشبه في الصورة، وأبو حنيفة قال به- أيضًا- في قوله: تشهد؛ فلا يجب كالتشهد الأول، كما قال أحمد في الجوسين. وفي الشرع تعبد بالنظر إلى الأشباه الحسية الخلقية كجزاء الصيد والقيافة، وقياس الشبه إن كان إلحاقًا بالمنصوص [عليه بكونه] في معناه، فهو مقبول مقطوع به، كان المنصوص عليه معللًا، أم لم يطلع على علته، أو كان يبعد عن الأصل غير أنه مائل إليه. ودرجات الظنون تتفاوت، فهو دون الأول أو كان بحيث يستوي فيه الحكم ونقيضه، فهذا الطرد المردود. [فإذا تناهى العبد، وصار بحيث لا يلوح مقتضى ظن، ولا موجب علم، فهو أيضًا الطرد المردود. والشبه ذو طريفين: أدناه قياس في معنى الأصل مقطوع به، وأبعده لا يستند إلى علم ولا ظن]. مثال ذلك كله: [لو ثبت مثلًا كون] النية شرطًا في [التيمم لكان الوضوء] في معناه قطعًا، فهذا هو الأول. وقول القائل: (طهارة حكمية دون الأول)، وقول الحنفي: (طهارة بالماء) فأشبهت إزالة النجاسة) طرد محض. ولو قال: (طهارة بالماء، فافتقرت إلى النية)، لم يكن بعيدًا عن نفس النية، حتى يقال: نفي النية أليق باللفظ.

(فرع) قال إمام الحرمين في (البرهان): قال جماعة من المتأخرين: القياس ثلاثة

وجعل القاضي من الشبه كون العبد يملك أم لا؟ لشبهه بالآدمي، فيملك، أو الأعيان المملوكة، فلا يملك. قال: وهو عندي ليس من قياس الشبه، بل من قياس المعنى؛ لأن كون الحر عاقلًا متصرفًا مناسب، والمملوك لا يستقل بنفسه، وغيره مستول عليه، مناسب لعدم الملك. (فرع) قال إمام الحرمين في (البرهان): قال جماعة من المتأخرين: القياس ثلاثة: قياس معنى: وهو الذي يرتبط الحكم فيه بمعنى مخيل. وقياس دلالة: وهو الذي يشتمل على ما لا يناسب بنفسه، ويدل على معنى جامع. وقياس الشبه: وهو الذي لا يشعر بمعنى مناسب، ولا هو في نفسه مناسب. والأقيسة خمسة: إلحاق حكم الفحوى كالضرب بالتأفيف، وهل هو قياس أم لا؟ وهو قول الجمهور، بل ثابت باللفظ عندهم التزامًا وتنبيهًا. وما نص الشرع عليه نصًا لا يحتمل التأويل. ومنع الأستاذ أنه قياس، وأثبته غيره، وإلحاقه به لعدم الفارق، لا لثبوت الجامع، كإلحاق الأمة بالعبد في العتق، وهل هو قياس؟ قولان. وقياس المعنى المناسب، وهو الباب الأعظم من القياس. وقياس الشبه، وقياس الدلالة، ولا معنى لعده قسمًا؛ لأنه تارة يكون بمعنى مناسب، وتارة شبهًا.

ثم قياس المعنى ينقسم إلى: الجلي، والخفي، وكل رتبة متوسطة فهي جلية بالنسبة إلى ما تحتها، خفية بالنسبة إلى ما فوقها، وكل ما قرب من الأصول القطعية فهو الجلي، وهو الأجلى والأرجح من الأشباه للشبه المقصود، فإن كان مدرك المسألة لشبه الحكم كان الترجيح لشبه الحكم، أو الصورة الحسية كان الترجيح بها. وقياس الدلالة مقدم على الشبه المحض؛ لأجل إشعاره بالمعنى، والثابت بالطرد والعكس مقدم على الشبه، والمخيل مقدم على الطرد والعكس لأنه معتمد الصحابة- رضوان الله عليهم- وقد تناهى قياسي المعنى حتى يقدم عليه الطرد وقد يتقدم الشبه الجلي على المعنى الخفي. وقال القاضي أبو بكر: لا يقدم قياس على قياس، بل الظنون على حسب الاتفاقات، وبناه على أصله في أنه ليس في مجال الظن مطلوب هو مقصود الطالبين، وهذا صعب جدًا لو قاله غير القاضي لعتب عليه؛ لأنه يؤول إلى أنه لا أصل للاجتهاد، وهو باطل قطعًا. قال الغزالي في (المستصفى) أدنى الأقيسة الطردي الذي لا ينبغي أن يقول به قايس. وأعلاها القياس في معنى الأصل؛ لأن القياس أربعة: المؤثر، ثم المناسب، ثم الشبه، ثم الطرد. والذي هو في معنى الأصل هو الذي اعتبر عينه في عين الحكم، وهو مستغن عن السبر؛ لثبوته بنص أو إجماع، فهو مقطوع به، وربما أقر به منكر القياس. * * *

الفصل السادس: (في الدوران)

الفصل السادس (في الدوران) وقال الرازي: ومعناه: أن يثبت الحكم عند ثبوت وصف، وينتفي عند انتفائه، وذلك يقع على وجهين: الأول: أن يقع ذلك في صورة واحدة: فإن العصير، لما لم يكن مسكرا في أول الأمر، لم يكن حراما، فلما حدث وصف الإسكار، فيه حدثت الحرمة، فلما صار خلا، وزالت المسكرية، زالت الحرمة أيضا. والثاني: أن يوجد ذلك في صورتين، وعندنا أنه يفيد ظن العلية. وقال قوم من المعتزلة: إنه يفيد يقين العلية، وقال آخرون: إنه لا يفيد يقين العلية، ولا ظنها. لنا وجهان: الأول: أن هذا الحكم لا بد له من علة، والعلة: إما هذا الوصف، أو غيره: والأول هو المطلوب. والثاني: لا يخلو إما أن يكون ذلك الغير كان موجودا قبل حدوث هذا الحكم، أو ما كان موجودا قبله: فإن كان موجودا قبله، وما كان هذا الحكم موجودا، لزم تخلف الحكم عن العلة؛ وهو خلاف الأصل، وإن لم يكن موجودا، ـ فالأصل في الشيء بقاؤه على ما كان؛ فيحصل ظن أنه بقى كما كان غير علة؛ وإذا حصل ظن أن غيره ليس بعلة، حصل ظن كون هذا الوصف علة؛ لا محالة.

فإن قلت: (ذلك الحكم كما دار مع حدوث ذلك الوصف وجودا وعدما، فكذلك دار مع تعين ذلك الوصف، ومع حدوث حصول ذلك الوصف في ذلك المحل؛ فيجب أن يكون تعينه وحدوثه في ذلك المحل معتبرا في العلية، وذلك يمنع من التعدية). قلت: تعين الشيء: معناه: أنه ليس غيره، وهذا أمر عدمي؛ إذ لو كان وجوديا لكان ذلك الوجود مساويا لسائر التعينات القائمة بسائر الذوات في كونه تعينا، ويمتاز عنها بخصوصيته، فيلزم أن يكون للتعين تعين آخر إلى غير نهاية؛ وهو محال. وأما حصول الوصف في ذلك المحل: فيستحيل أن يكون أمرا وجوديا؛ وإلا لكان ذلك وصفا لذلك الوصف، فكونه وصفا للوصف زائد عليه؛ فيلزم التسلسل، وإذا ثبت أن التعين أمر عدمي، والحصول في المحل المعين أمر عدمي، استحال كونه علة، ولا جزء علة. أما أنه لا يكون علة: فلأن قولنا في الشيء المعين: (إنه علة) نقيض لقولنا: (إنه ليس بعلة) وقولنا: (إنه ليس بعلة) يصح وصف المعدوم به في الجملة، ووصف المعدوم لا يكون موجودا، فقولنا: (ليس بعلة) أمر عدمي، وقولنا: (علة) مناقض له، ومناقض العدم ثبوت، فمفهوم قولنا: (علة) أمر ثبوتي، فلو وصفنا العدم به لزم قيام الصفة الموجودة بالموصوف الذي هو نفي محض؛ وذلك محال. وأما أنه لا يجوز أن يكون جزء علة: فلأنا لو فرضنا حصول سائر الأجزاء بدون هذا الجزء الواحد: فإما أن تحصل العلية، أو لا تحصل: فإن حصلت العلية، كان سائر الأجزاء بدون هذا الجزء تمام العلة؛ فلا يكون هذا الجزء

جزء العلة، وإن لم تحصل العلية عند عدم هذا الجزء، وحصلت عند حصوله، كانت العلية: إنما حدثت لأجل هذا الجزء، فجزء العلة علة تامة لعلية العلة، وقد عرفت أن العدم لا يكون علة؛ فوجب ألا يكون العدم جزءا من العلة؛ وهو المطلوب .. الوجه الثاني: في أن الدوران يفيد ظن العلية، وهو: أن بعض الدورانات يفيد ظن العلية؛ فوجب أن يكون كل دوران كذلك مفيدا لهذا الظن. بيان الأول: أن من دعي باسم، فغضب، ثم تكرر الغضب، مع تكرر الدعاء بذلك الاسم، حصل هناك أنه إنما غضب لأنه دعي بذلك الاسم، وذلك الظن: إنما حصل من ذلك الدوران؛ لأن الناس، إذا قيل لهم: لم اعتقدتم ذلك؟ قالوا: لأجل أنا رأينا الغضب مع الدعاء بذلك الاسم مرة بعد أخرى، فيعللون الظن بالدوران. بيان الثاني: قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90]. والعدل هو: التسوية، ولن تحصل التسوية بين الدورانات إلا بعد اشتراكها في إفادة الظن. واحتج المنكرون بأمرين: الأول: أن بعض الدورانات لا يفيد ظن العلية؛ فوجب ألا يفيد شيء منها ظن العلية. بيان الأول من وجوه: أحدها: أن العلة والمعلول قد يكونان متلازمين نفيا وإثباتا، والدوران مشترك بين الجانبين، والعلة غير مشتركة بين الجانبين؛ لأن المعلول لا يكون علة لعلته.

وثانيها: أن الفصل لابد أن يكون مساويا للنوع، والنوع إذا أوجب حكما، فالدوران كما حصل مع العلة التي هي النوع، حصل مع الفصل الذي هو جزء العلة، مع أن العلة ليس بعلة. وثالثهما: أن العلة قد يكون اقتضاؤها للمعلول موقوفا على شرط، فالدوران حاصل مع شرط العلة، مع أنه ليس بعلة. ورابعها: أن العلة قد يكون لها معلولان: إما معا عند من يجوز ذلك، أو على الترتيب؛ فالدوران حاصل في علة العلة، ومعلول العلة، مع أنه لا علية هناك ألبتة. وخامسها: أن الجوهر والعرض متلازمان نفيا وإثباتا، وذات الله تعالى وصفاته كذلك، وكل واحدة من صفاته مع سائر الصفات كذلك، ولا علية هناك. وسادسها: أن المضافين متلازمان معا نفيا وإثباتا؛ كالأبوة والبنوة، والمولى والعبد، ويمتنع كون أحدهما علة للآخر؛ لأن العلة متقدمة على المعلول، والمضافان معا، ولا شيء من المع متقدم. وسابعها: أن المكان والمتمكن والحركة والزمان لا ينفك واحد منها عن الآخر، مع عدم العلية. وثامنها: أن الجهات الست لا ينفك بعضها عن بعض، مع عدم العلية. وتاسعها: أن علم الله تعالى دائر مع كل معلوم وجودا وعدما؛ فإنه لو كان المعلوم جوهرا، لعلمه جوهرا، ولو لم يكن المعلوم جوهرا، فإن الله تعالى لا

يعلمه جوهرا، فالعلم دائر مع المعلوم وجودا وعدما، مع أنه يستحيل أن يكون أحدهما علة للآخر. أما أنه لا يكون العلم علة للمعلوم: فلأن شرط كونه علما: أن يتعلق بالشيء على ما هو به، فما لم يكن المعلوم في نفسه واقعا على ذلك الوجه، استحال تعلق العلم به على ذلك الوجه؛ فإذن: تعلق العلم به على ذلك الوجه مشروط بوقوعه على ذلك الوجه، فلو كان وقوعه على ذلك الوجه متوقفا على تعلق العلم به، لزم الدور. وأما أنه يستحيل أن يكون المعلوم علة للعلم: فلأن علم الله تعالى صفة أزلية؛ واجبة الوجود، وما كان كذلك، يستحيل أن يكون معلول علة؛ فثبت أنه وجد الدوران ها هنا بدون العلة، ثم إن علم الله تعالى متعلق بما لا نهاية له من المعلومات، فها هنا دورانات لا نهاية لها بدون العلية. وعاشرها: أن الأعراض عند أهل السنة لا تبقى، فهذه الألوان والأشكال تحدث حالا بعد حال، فحين فني ذلك اللون، وذلك الشكل عن ذلك الجسم، فنيت الألوان، والأشكال، وسائر الأعراض عن جميع الأجسام، وحين حدث فيه لون، وشكل، حدث فيه سائر الأعراض في جميع الأجسام، فقد حصلت هذه الدورانات الكثيرة بدون العلية. وحادي عشرها: أن الفلك، إذا تحرك تحرك بجميع أجزائه، فحركة كل واحد من أجزائه، إنما حدثت عند حركة جميع أجزائه، وحين كانت تلك الحركة معدومة عن ذلك الجزء، كانت حركات سائر الأجزاء معدومة؛ فقد حصلت هذه الدورانات الكثيرة بدون العلية.

وثاني عشرها: أن جميع الحيوانات تتنفس، ولا شك أن كل واحد منها: إما أن يتنفس مع كون الآخر متنفسا، أو عقيبه بلحظة قليلة؛ فقد وجدت هذه الدورانات بدون العلية. وثالث عشرها: أن الحكم، كما دار مع الوصف وجودا وعدما، فقد دار أيضا مع تعين الوصف، وخصوص المحل وخصوص وقوعه في الزمان المعين، والمكان المعين، وشيء من ذلك لا يصلح للعلية؛ لما ذكرتم أنها أمور عدمية؛ والعدم غير صالح للعلية. ورابع عشرها: أن الحد دائر مع المحدود وجودا وعدما، والرائحة الفائحة في الخمر دائرة مع الحرمة وجودا وعدما، مع أنه لا علية هناك. واعلم: أنا لو أردنا استقصاء القول في الدورانات المنفكة عن العلية، لطال الكلام، ولكن فيما ذكرنا كفاية. وإنما قلنا: إن بعض الدورانات، لما انفكت عن العلية، وجب ألا يحصل ظن العلية في شيء منها، لأنه إذا حصل دوران ما منفكا عن العلية، فلو قدرنا أن دورانا آخر يستلزم العلية، لكان كونه مستلزما للعلية: إما أن يتوقف على انضمام شيء آخر إليه، أو لا يتوقف: فإن توقف، كان المستلزم للعلية هو المجموع الحاصل من الدوران، ومن ذلك الشيء، لا الدوران وحده، وكلامنا الآن في الدوران وحده. وإن لم يتوقف، مع أن مسمى الدوران حاصل في الموضعين جميعا: لزم ترجح أحد طرفي الجائز على الآخر، لا لمرجح: وهو محال، هذا تمام تقرير هذا الدليل.

شرح القرافي: قوله: (غير هذا الوصف إما أن يكون موجودا قبل الحكم، فيلزم تخلف الحكم عن علته، وهو خلاف الأصل، أو غير موجود، فالأصل بقاؤه على العدم)

الوجه الثاني: وهو الذي عول عليه المتقدمون في القدح، قالوا: الاطراد وحده ليس طريقا إلى علية الوصف بالاتفاق، وأما الانعكاس: فإنه غير معتبر في العلل الشرعية، وإذا كان كل واحد منهما لا يدل على العلية، كان مجموعهما أيضا كذلك. والجواب عن الأول: أن ذلك إنما يقدح في قول من يقول: الدوران وحده يوجب ظن العلية، ونحن لا نقول به، بل ندعي: أن الدوران يفيد ظن العلية بشرط ألا يقوم عليه دليل يقدح في كونه علة، وإذا لخصنا الدعوى على هذا الوجه، سقط ما ذكرتموه من الاستدلال. وعن الثاني: لم قلت: إن كل واحد منهما، لما لم يفد ظن العلية، وجب في المجموع أن يكون كذلك؟ فإنا نعلم أن حال المجموع قد يكون مخالفا حال كل واحد من أجزائه. الفصل السادس في الدوران قال القرافي: قوله: (غير هذا الوصف إما أن يكون موجودا قبل الحكم، فيلزم تخلف الحكم عن علته، وهو خلاف الأصل، أو غير موجود، فالأصل بقاؤه على العدم):

قلنا: هنا تعيينه ينقلب في الوصف المدعى علة، فيلزم الخلو عن التعليل. فإن قلت: إن الوصف المدعي علته أجمعنا على مخالفة الأصل فيه، وارتفاع عدمه، بخلاف غير المدعى. قلت: مخالفة الأصل المقتضي لبقاء الشيء على عدمه إما أن يكون محذورا أم لا. فإن كان الأول لزم المحذور فيما ادعيتموه علة، فيكون طعنا عليه. وإن كان الثاني، بطل جعلكم استصحاب العدم دليلا على العدم؛ لأن ذلك الأصل لا عبرة به. قوله: (التعين معناه ليس غيره، فهو عدمي): قلنا: العين قد تكون بالثبوت: كالطول، والقصر، والألوان، وغيرها. وقد تكون بالعدم كتعين الجزء على الكل، وامتيازه عليه بأنه ليس معه ذلك الجزء الآخر.

وقد تكون بهما، كالحيوان الأبيض، يمتاز على الأسود بأنه ليس أسود، وبالبياض. قوله: (يلزم أن يكون للتعين تعين، فيلزم التسلسل): قلنا: لا نسلم؛ لأن الحقائق المختلفة يجب اختلافها في اللوازم، ولا يزم اتفاقها، وتعين التعين مخالف لتعين الجسم، وإذا كانا مختلفين فجاز أن يكون لتعين الجسم مثلا تعين، وتعين التعين ليس له تعين، فلا يلزم التسلسل. وكذلك القول في حصول الوصف في المحل، وكونه وصفا للوصف يمكن أن يقال: وصف الوصف عدمي، وحصول الوصف في المحل ثبوتي، ولا يلزم التسلسل. قوله: (العلية إنما حصلت لأجل الجزء العدمي، فجزء العلة العدمي علة تامة للعلية، وقد عرفت أن العدم لا يكون علة): قلنا: العلية غير العلة؛ لأن العلية هي نسبة خاصة ترجع إلى التأثير، والتأثير من باب النسب والإضافات العدمية. والعلة في نفسها وجودية تعرض لها هذه النسبة، وكل مؤثر وجودي هكذا موثريته عدمية، وهو وجودي، فلا يلزم من الامتناع في العلة الامتناع في العلية. سلمنا أن العدم لا يكون جزءا، فلم لا يجوز أن يكون شرطا، ولم يتعرضوا لإبطاله مع أن عدم الضد من المحل شرط للتأثير في وجود الضد الآخر؟. قوله: (بعض الدورانات تفيد ظن العلية، فيكون الكل كذلك؛ لقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90]، والعدل: التسوية):

قلنا: هذه النكتة تنقلب، فنقول: بعض الدورانات لا تفيد العلية قطعا، كالنصوص المذكورة بعدها، فيكون الكل كذلك للآية. قوله: (الدوران مشترك بين العلة والمعلول، مع أن المعلول ليس بعلة): تقريره: العلم مع العالمية متلازمان وجودا وعدما، مع أن العالمية ليست علة للعلم، والعلم علة للعالمية. قوله: (النوع إذا وجب لا يوجبه فصله): تقريره: أن الإسكار نوع بالنسبة إلى الوصف، فمجموعه علة التحريم، وكل جزء من أجزائه ليس علة التحريم. قوله: (العلة قد يكون لها معلولان): تقريره: أن الإحراق، والإسراف، معلولان للنار.

قوله: (الاطراد وحده ليس طريقا لعلية الوصف، والانعكاس لا يشترط في العلل الشرعية): تقريره: أن الدوران مركب من اقتران الحكم بالوصف وجودا. والاطراد: هو اقتران الحكم بالوصف في جميع صوره. فالدوران حصل فيه صورة الاقتران، وإن لم يحصل فيه الاطراد المدعي هنالك. وإذا كان الاطراد في جميع الصور غير معتبر على الخلاف فيه، ففي صورة واحدة لا يكون دليلا. والدوران مركب- أيضا- من اقتران العدم بالعدم، وهذا هو العكس في العلة، وهو عدم حكمها عند عدمها، وهو غير لازم؛ لأنه لا يلزم من عدم علة وجوب الغسل- التي هي الإنزال- ألا يجب الغسل بانقطاع الحيض وغيره، ولا يلزم من [عدم] الردة الوصية لإباحة الدم ألا يباح الدم بالزنا والقتل. قوله: (في النقوض الحركة مع الزمان): تقريره: أن من الناس من يقول: الزمان: هو الحركة نفسها، قاله بعض الفلاسفة، فعلى هذا لا يصح التمثيل به. ومن الفلاسفة من يقول: الزمان قطع المسافة بالحركة، فيصح التمثيل.

تنبيه: قال النقشواني: الدوران عين التجربة

وقال المتكلمون: هو اقتران حادث، وقال المازري في (شرح التلقين): الزمان اقتران حادث جلي بحادث خفي، كقول القائل: متى تأتيني؟ فتقول: طلوع الشمس، فطلوع الشمس زمان، الإتيان مظروفه، فلو كان في مطموره لا يعلم بطلوع الشمس، فسأل عنه، فقلت له: طلوعها عند إتياني إليك كان الإتيان الزمان، وطلوع الشمس مظروفا، فالجلي أبدا هو الزمان، وعلى هذا التقدير ينفك الزمان عن الحركة؛ فإنه ليس من لوازم اقتران حادثين في الوجود وجود الحركة؛ لجواز حصول الاقتران مع السكون. تنبيه: قال النقشواني: الدوران عين التجربة، وقد تكثر التجربة فتفيد القطع، وقد لا تصل إلى ذلك، كما نقطع بأن قطع الرأس مستلزم للموت، ونظنه مع السم، فهذا منشأ الخلاف في أن الدوران يفيد اليقين عند قوم، أو الظن عند قوم، أو لا يفيد ألبتة؛ نظرا للنقوض، وأنه لابد من ضميمة إليه، ويكون التكرر مرة أو مرتين، فيكون الحق التفصيل بين كثرة التكرر وقلتها، وألا يطلق القول في ذلك. سؤال: قال النقشواني: قوله: (غير هذا الوصف لم يكن موجودا قبل، وإلا لتخلف الحكم عن علته): طريقه لا يتوقف على الدوران، ويستغني بها عن الدوران، بل يدعى أن هذا الوصف علة، ولا يذكر الدوران ألبتة. سؤال: قال النقشواني: ما ذكره في هذا الوجه يقتضي أن الحكم حادث، مع أن الحكم قديم على ما تقدم. قلت: جوابه أنه يعني بالعلة المعرف، والحادث يعرف القديم.

سؤال: قال: ولأنه في هذا الموضع احتج بالاستصحاب

سؤال: قال: ولأنه في هذا الموضع احتج بالاستصحاب، فالدوران متوقف على الاستصحاب، فالاستصحاب إن توقف عليه لزم الدور، وإلا [لكان] الاستصحاب أقوى من الدوران؛ لتوقفه عليه من غير عكس، وحينئذ يمنع دفع الاستصحاب القياس. قلت: جوابه أنه أقوى منه من هذا الوجه، والقياس أقوى من الاستصحاب من جهة أنه ناسخ له، والناسخ مقدم على المنسوخ. سؤال: قال النقشواني: قوله: (بعض الدورانات تفيد الظن؛ فيكون الكل كذلك [للآية]) غير متجه؛ لأن الله- تعالى- إنما يأمر بمقدور، وكون الشيء مفيدا للظن غير مقدور، بل العمل بالظن هو المقدور، فلا يتجه استدلاله. تنبيه: قال سراج الدين: علل الشرع معرفات، فجاز أن يكون العدم علة وجزء علة. وقال التبريزي: الدوران هو الطرد والعكس، الذي هو الوجود عند الوجود أينما كان، والعدم عند العدم أينما كان. وقد يطلق على مجرد الحدوث عند الحدوث، والزوال عند الزوال، [ولو] في صورة واحدة، كالشدة مع التحريم. وهو يفيد الظن على التقديرين، وقد يفيد اليقين كما في التجريبيات.

وإنما يوجبه على التدريج، [ومن] ضرورته [تقدم] ظن غالب قبل بلوغه الكمال. وتفصيل القول فيه: أن الذهن يطالب بسبب الاقتران، فإذا استبعد الاتفاق لأجل الكثرة، حمل على أمر يوجب التلازم ظنا أو يقينا، بحسب إمكان الاتفاق وعدمه؛ [ولأن] الحدوث عند الحدوث نوع ملاءمة للعلية؛ فإنه مقتضاها، فيسبق الذهن إلى فهم العلية؛ لأن الذهن سباق إلى فهم الملزوم من [اللازم]، فإذا انضم إليه الزوال عند الزوال، صار السبق ظنا لاستبعاد الاتفاق. ويرد على مدرك المصنف الأول: أن طريقة الحصر طريقة مستقلة تستغني عن الدوران، والمقصود إنما هو إفادة الدوران. ويرد عليه- أيضا- فيه منع الحصر. وقوله: (إن كان موجودا قبل الحكم تخلف الحكم): إنما يلزم إذا اعتقدناه كل العلة، أما إذا اعتقدناه ضميمة إلى الحادث، فلا يلزم. ويرد على قوله: (التعين العدمي): أنا نعني به خصوص الوصف الذي لا يشاركه فيه غيره، وهو أمر وجودي، وكذلك الإضافة للمحل كيف يكون عدميا، وظهور أثر العلة في المحل يتوقف عليه، فهو [إما] جزء العلة، أو علة علية العلة، ثم الدليل على أنهما وجوديان أن نقيضهما- وهو لا عينية ولا حصوله عدميان؛ لأنه يصح حملهما على العدم، ونقيض العدم وجود، وإلزام التسلسل تشكيك وسفسطة، ونظيره من الضروريات أن تقول: كونه موجودا عدمي؛ لأنه لو كان موجودا لكان وصفا للمحل، وكان كونه وصفا للمحل وصفا له، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

سلمنا أنهما عدميان، لكن لا يضاف الحكم إليهما. قوله: (الوجودي لا يتصف بالعدم): ينتقض بالمعلومية والمذكورية، والموجودية، وكونه محكوما به أو عليه؛ فإنها أمور وجودية لما ذكر من الدليل، ويوصف به العدم. ثم نفصل القول، فنقول: الدوران دليل العلية بمعنى التأثير أو التعريف. الأول باطل بالعلم والرم. والثاني علم لا يجوز أن يتوقف التعريف على أمر عدمي، على أنا نقول: إذا دار الحكم مع وصف عدمي، فإن لم يكن علة، فقد [انتقض الدوران] أو علة، فقد بطل دليل نفي العلة عنه، وبطل- أيضا- الدوران. وقوله: (لا يكون العدم جزء العلة وإلا لكان علة للعلية): الكلام عليه من أوجه: الأول: أنه استدلال بالدوران بالتفسير الثاني، وسنبطله. الثاني: أنه اعترف أنه إنما يدل بشرط عدم دليل يدل على أنه ليس بعلة، فقد يساعدنا في هذا المقام على قيام الدليل على امتناع كون العدم علة. الثالث: أنه منقوض بجزء الماهية وبجزء الجملة؛ فإنه ليس علة للماهية، والجملة مع التوقف عليه. الرابع: أن العلم حاصل بأن العلية حكم مجموع أجزاء الماهية، لا حكم ذلك الجزء العدمي. الخامس: أن ما ذكره من الدوران وإن دل على لزوم كون ذلك العدم علة العلية،

لكنه معارض [بلزوم] استحالة اجتماع علل على حكم واحد؛ فإن الدوران قائم بالنسبة إلى كل جزء كان عدما أو وجودا. ثم إنه اعتراف بقصور الدوران عن إفادة ظن العلية؛ لأنه قدر مشترك بين المدار الوجودي والعدمي، ولم يفد في العدمي مع وصف الصلاحية، فلا يكون هو المفيد في الوجودي، والفائت في العدمي هو صلاحية العلية، فإذا الدوران مع وصف صلاحية المدار دليل العلية؛ فإن [عدم] الصلاحية لا يمكن أن يكون مانعا من الإفادة؛ فإن المانع علة المنع، والعدم لا [يصح] أن يكون علة، فعلى هذا الدوران مع صلاحية الوصف دليل [العلية]، ولا يلزم من مجرد الوجود الصلاحية؛ لانقسام الوجودي للمصالح وغير المصالح، فإذا لابد من التعرض لمزيد، وفيه ترك طريقة الدوران بالكلية. وأما مسلكه الثاني، فنقول- امتحانا للبيان لا اعتقادا-: لا نسلم أن دورانا [ما] يفيد ظن العلية، وفي الصورة المفروضة نعارضه بمعنى في الاسم صورة [أو] معنى، أو بمعنى في ضمير الداعي، أو اختلال في المدعو، فإن لم يفرض شيء من ذلك منعنا حصول الغضب، فضلا عن ظن الإسناد إليه. وقد يدل على صحة المعارضة أمران: أحدهما: أن عاقلا ما لو دعي بذلك الاسم لم يغلب على الظن غضبه، ولو غضب لوبخ، ولو ثبتت [عليته] للغضب، لوجب أن يفيد وجوده حصول الغضب، وأن يستحسن ذلك من العقلاء. الثاني: هو أنه إذا دعى به غيره لم يغضب، [وإذا] دعي هو غضب، فدار الغضب عند الدعاء بذلك الاسم عند خصوص ذلك الشخص وجودا عدما، والدوران دليل العلية على زعمهم، فيكون خصوص ذلك الشخص علة علية الدعاء بذلك الاسم المغضب للغضب.

وقوله: (إن أخبر العاقل عن إسناد حصول ظنه إليه لم يستقبح): قلنا: إن صح ذلك دل على ترشيح إفادة الدوران ظن العلية، وهو أمر كلي، فأي حاجة إلى المقدمة الثانية؟ وثانيا: لم قال: إن كل دوران يجب أن يكون كذلك؟ وأما التمسك بالآية، ففي غاية الضعف، ولولا صدوره عن مثله، وولوع أبناء الزمان بأمثاله، لكان الإعراض عنه أولى من الاعتراض عليه؛ إذ يعز على أهل النظر الشديد صرف الزمان إلى ما بيده العاقل فساده. لكني أقول مكرها لا بطلا: تفسير العدل بالتسوية المطلقة ظلم؛ لأنه يلزم منه جهل كل إنسان، وحمارية كل حيوان، وإمكان كل معلوم، ووقع كل ممكن، ونبوة كل متحد، وكذب كل مدع، وحل كل مأكول، وإباحة كل قتل، وجسمية كل صانع، وبطلان كل دين، وقدم كل موجود، إلى غير ذلك مما لا يعد كثرة لأن بعضها كذلك عملا بالآية، ثم يؤدي إلى التناقض؛ لأن جزئيات مطلق الأجناس متناقضة الأحكام والخصائص، فيلزم أن يحكم على كل واحد من الدائرين أنه علة للآخر عملا بالتسوية بينهما، وتوهم أن هذا من قبيل تخصيص العموم من أفسد الخيالات، ثم هو معارض بحد آخر، وهو إقامة الحق، والعمل بالواجب، وهو أولى؛ فإن من سوى بين الحق والباطل في جواز الفعل لا يسمى عادلا، بل حائرا، وإن وجدت منه التسوية. ومن وجد منه التفرقة بين المحسن والمسيء في المجازاة، والعالم والجاهل في الإكرام، والحق والباطل في التمكن، سمي عادلا، وإن لم يسو بين هذه الأمور. وثالثا: إن التسوية بين الدورانات حقيقة [في نفس الأمر ليس من فعل

البشر، فلا يرد به الأمر، واعتقاد التسوية لازم الحقيقة]، يستحيل التكليف به بتقدير الوجود والعدم. ورابعا: إن بعض الدورانات لا يفيد ظن العلية؛ عملا بالنقوض التي ذكرها، فوجب أن يكون الكل كذلك عملا بالآية. وقوله: (الدوران من حيث هو هو لا يفيد ظن العلية): ممنوع بل يفيد، ولكن في بعض المواطن قام مانع من حصول الظن كسائر العلل الشرعية، والطبيعية، والعرفية. وما التزمه هو لا يصح؛ لأنه التزام لأحد قسمي الإشكال؛ لأن معنى قولنا: الدوران وحده لا يفيد ظن العلية، هو معنى قولنا: إن العلية موقوفة على أمر وراء القدر المشترك، وما أجاب عنه بشيء. ثم على هذا عدم ما يقدح يكون علة لعلية الدوران، أو جزء العلة في إفادة الظن، وقد بني تقرير الدوران على أن العدم لا يجوز أن يكون علة ولا جزءها، ومقتضى كلامه يلزم أن يكون معلوم دليل وعلة لكل معلوم، بشرط عدم المانع في كونه دليلا، ولا يخفى فساده. وأما البحث على وجه النظر فوجهان: أحدهما: أنه [إذا ثبت] بهذه الصورة تعدد جهات الملازمة والدوران، فتعيين جهة العلة يحتاج إلى دليل؛ لأن الدليل لابد وأن يكون له اختصاص بالمدلول؛ إذ ليس كون الدوران دليلا على بعض هذه الجهات بأولى من كونه دليلا على غيره. الثاني: أن جهة العلية أخص من مسمى الدوران، والاستدلال بالأعم على الأخص ينافي كونه أعم، ولا يرد شيء من ذلك على طريقتنا؛ لوجهين:

أحدهما: أنا ندعي الدوران على لغلبة الظن بوجود أحدهما عند وجود الآخر، وهذا لا نقض عليه. الثاني: أنا نعني بكونه علة المعرف لثبوته، سواء كان بجهة العلة أو بجهة ملازمة العلة، وهو أيضا مطرد. قلت: وفي كلامه مواضع فأتكلم عليها. الأول: قوله: (الذهن سباق لفهم الملزوم من اللزوم): يريد بالملزوم العلية، ولا شك أن الملازمة إذا حصل في الفعل العلم بها، لزم منها العلم باللازم، والملزوم تصورهما لا وقوع واحد منهما في الوجود، والعلم بحصول اللازم لا يوجب العلم بحصول الملزوم. وأما العلم بحصول الملزوم، فلا سبيل إليه من الملازمة، بل بدليل منفصل، ومراده- هاهنا- حصول الملزوم، ووجوده في الصورة المعينة، فلا يتم كلامه حتى يغير العبارة، ويجعل العلية لازمة للدوران، والدوران ملزوم لها، فإذا حصل العلم بالملزوم، الذي هو الدوران، حصل العلم باللازم، الذي هو العلية، فيتم حينئذ الكلام. وأما جعلها ملزوما فلا فإنه لا يلزم من وجود الملازمة ولا اللازم، حصول الملزوم باتفاق العقلاء. الثاني: قوله: (إذا اعتقدنا الوصف الآخر ضميمة للعلة فلا يلزم): [و] تقريره: أن الوصف المدعى عدمه لا يلزم من وجوده قبل الحكم تخلف الحكم عن علته إذا كان جزء العلة؛ لأن التخلف عن الجزء ليس تخلفا عن العلة. الثالث: قوله: (كيف تكون الإضافة [إلى] المحل عدمية، وظهور أثر العلة في المحل يتوقف عليه، فهو من أجزاء العلة، أو علة علية العلة.

قلت: الحصر غير ثابت، فقد يكون المتوقف عليه شرطا. الرابع: قوله: (العلية حكم مجموع أجزاء الماهية لا حكم ذلك الجزء العدمي) لا يتم؛ لأن المركب من الوجودي والعدمي عدمي، فصارت العلية وصفا للعدمي، وإن لم تكن من أحكام ذلك الجزء العدمي. الخامس: قوله: (أقول مكرها لا بطل): هذا مثل أصله أن معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنه- ألزم خروج شخص لقتال علي- رضي الله عنه- فلما برز لقتاله خشى أن عليا يقتله، فألقى بنفسه، وقال لعلي- رضي الله عنه-: (مكره أخوك لا بطل) فترك علي- رضي الله عنه- قصده بالقتل والقتال، فصار مثلا. السادس: قوله: (ما ذكره ينتقض بجهل كل إنسان) وما ذكره من الصور لا يلزم؛ لأن العام المخصوص حجة بعض التخصيص، ولو عظمت صور التخصيص كثيرة. وقوله: (يوهم أنه من تخصيص العموم) فاسد ممنوع، بل (العدل) مفرد معرف بلام التعريف، فيكون عامل دخله التخصيص بما ذكره من الصور. السابع: قوله: (قام المانع كما في العلل الشرعية والطبيعية). قلنا: يلزم منه التعارض بين المانع والمقتضي، والتعارض خلاف الأصل، وما ذكره المصنف لا يلزم منه التعارض، فكان أرجح؛ ولأن القاعدة أن إحالة عدم الحكم على عدم المقتضى أولى من إحالته على قيام المانع؛ لئلا يلزم التعارض. الثامن: قوله: (المدعي كون الدوران علة لغلبة الظن بوجود أحدهما عند وجود الآخر، وهذا لا نقض عليه):

قلنا: ممنوع، بل النقوض التي ذكرها المصنف كلها ترد على هذا المدعي؛ لوجوده فيها. وكذلك قوله: (إنه معرف لثبوته [سواء] كان بجهة العلة أو ملازمتها وأنه مطرد) ليس كذلك، بل قد عرت النقوض المذكورة عن العلة وملازمتها، فتكون نقضا على الدوران؛ لوجوده بدون المدعى، ولا نعني بالنص وعدم الاطراد إلا ذلك. * * *

الفصل السابع: (في السبر والتقسيم)

الفصل السابع (في السبر والتقسيم) قال الرازي: التقسيم: إما أن يكون منحصرا بين النفي والإثبات، أو لا يكون: فالأول: هو أن يقال: الحكم إما أن يكون معللا، أو لا يكون معللا، فإن كان معللا: فإما أن يكون معللا بالوصف الفلاني، أو بغيره، وبطل ألا يكون معللا، أو يكون معللا بغير ذلك الوصف؛ فتعين أن يكون معللا بذلك الوصف، وهذا الطريق عليه التعويل في معرفة العلل العقلية. وقد يوجد ذلك في الشرعيات؛ كما يقال: (أجمعت الأمة على أن حرمة الربا في البر معللة، وأجمعوا على أن العلة: إما المال، أو القوت، أو الكيل، أو الطعم، وبطل التعليل بالثلاثة الأول؛ فتعين الرابع. وكما يقال: أجمعت الأمة على أن ولاية الإجبار معللة: إما بالصغر، وإما بالبكارة: والأول باطل، وإلا لثبتت الولاية في الثيب الصغيرة؛ لكنها لا تثبت؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام-: (الثيب أحق بنفسها من وليها) فتعين التعليل بالبكارة.

وأما التقسيم المنتشر: فكما إذا لم ندع الإجماع؛ بل نقتصر على أن نقول: حرمة الربا في البر: إما أن تكون معللة بالطعم، أو الكيل، أو القوت، أو المال، والكل باطل إلا الطعم، فيتعين التعليل به. فإن قيل: لا نسلم أن حرمة الربا معللة؛ فإن الأحكام، منها ما لا يعلل؛ بدليل أن علية العلة غير معللة، وإلا لزم التسلسل، وإذا ثبت هذا، فلم لا يجوز أن يقال: هذا من جملة ما لا يعلل؟. سلمنا كونه معللا؛ فما الدليل على الحصر؟. فإن قلت: لو وجد وصف آخر لعرفه الفقيه البحاث. قلت: لعله عرفه، لكنه ستره، وأيضا: فعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، سلمنا الحصر؛ لكن لا نسلم فساد الأقسام. سلمنا فساد المفردات؛ لكن لم لا يجوز أن يقال: مجموع وصفين أو ثلاثة منها علة واحدة. سلمنا فساد سائر الأقسام مفردا ومركبا؛ لكن لم لا يجوز أن ينقسم هذه القسم الثاني إلى قسمين؛ فتكون العلة أحد قسميه فقط؟. والجواب: لا نزاع في أن التقسيم المنتشر لا يفيد اليقين؛ لكنا ندعي أنه يفيد الظن. أما قوله: (لم لا يجوز ألا يكون هذا الحكم معللا؟): قلت: لما سبق في باب (المناسبة): أن الدلائل العقلية، والسمعية دلت على تعليل أحكام الله تعالى بالحكم والمصالح؛ فكان هذا الاحتمال مرجوحا.

قوله: (ما الدليل على الحصر؟): قلنا: الجواب عنه من وجهين: الأول: أن المناظر تلو الناظر، فلو اجتهد الناظر، وبحث عن الأوصاف، ولم يطلع إلا على القدر المذكور، ووقف على فساد كلها، إلا على الواحد- فلا شك أن حكم قلبه بربط ذلك الحكم بذلك الوصف أقوى من ربطه بغير ذلك الوصف، وإذا حصل الظن، وجب العمل به، وإذا ثبت ذلك في حق المجتهد، وجب أن يكون الأمر كذلك في حق الناظر؛ لأنه لا معنى للمناظرة إلا إظهار مأخذ الحكم. الثاني: لو سلمنا أنه لابد من الدليل على الحصر، فنقول: لا شك أن جميع الأوصاف كانت معدومة، وكانت بحيث يصدق عليها: أنها لا توجب هذا الحكم، والأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان، فهذا القدر يفيد ظن عدم سائر الأوصاف، فيحصل ظن الحصر، ومطلوبنا هاهنا هذا القدر. قوله: (لا نسلم فساد سائر الأقسام): قلنا: يمكن إفسادها بجميع المفسدات من النقض، وعدم التأثير، وأنواع الإيماءات؛ بلي لا يمكن إفسادها هاهنا بعدم المناسبة؛ لأنه حينئذ يحتاج إلى أن يبين خلو ما تدعيه علة عن هذا المفسد، وذلك لا يتم إلا ببيان مناسبته، ولو بين ذلك، لاستغني عن طريقة (السبر). قوله: (لم لا يجوز أن يكون المجموع هو العلة): قلنا: لانعقاد الإجماع على ثبوت الحكم حيث لم يوجد المجموع.

شرح القرافي: قلت: السبر أصله الاختبار

قوله: (لم لا يجوز أن تكون العلة طعما مخصوصا؟): قلنا: لأن كل من اعتبر الطعم لم يعتبر طعما مخصوصا، فكان القول به خرقا للإجماع. الفصل السابع في السبر والتقسيم قلت: السبر أصله الاختبار، ومنه السبار الذي يختبر به غور الجرح؛ ليقتص بمثله، وقولهم: بهذا الكلام يسبر العقل: أي يختبر.

فالسبر- هاهنا- اختبار الوصف بالقوانين الشرعية عل يصلح للعلية أم لا؟. والتقسيم: هو قولنا: العلة إما كذا وكذا، ثم نقول: وكذا لا يصلح، فتعين الوصف الفلاني، فهذا الأخير هو السبر.

سؤال: قال النقشواني: قوله: (الأصل بقاء غير هذا الوصف على العدم) يقتضي أن هذه الطريقة مفتقرة إلى للاستصحاب

ومقتضى هذا أن تكون العبارة عند الأصوليين: التقسيم والسبر، لأن التقسيم يقع أولا، والاختبار بعده، فتكون العبارة عن المتقدم متقدمة، وعن المتأخر متأخرة، لكن قدموا السبر في العبارة؛ لأنه أهم، وهو عادة العرب تقدم الأهم في [التعبير] على غيره، والتقسيم إنما هو وسيلة للاختبار، فأخر لذلك في عباراتهم. قوله: (لعله عرفه لكن ستره): قلنا: الظاهر من الديانة ومرتبة العلم اتباع الحق حيث كان، وإظهاره وتبليغه المكلف. قوله: (عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود): قلنا: إن ادعيتم نفي الدلالة القطعية فمسلم، أو الظنية فممنوع، لاسيما مع سعة العلم، وجودة الفطنة. قوله: (إذا حصل الظن وجب العمل به): قلنا: قد تقدم أن الشارع لم يعتبر من الظن إلا مراتب مخصوصة، فلم قلتم: إن هذه المرتبة منها؟ قوله: (وهذا الظن يفيد ظن عدم سائر الأوصاف): قلنا: هذا غير متجه؛ لأنا نتكلم في أوصاف موجودة في المحل قسمنا احتمال العلة إليها، ثم اخترت منها أنت وصفا معينا، فكيف يقال بنفي الأوصاف على العدم؟ بل اللائق أن يقول: الأصل بقاء عدم عليتها لا عدمها؛ فإن عليتها لم يتفق عليها، بخلاف ذواتها. سؤال: قال النقشواني: قوله: (الأصل بقاء غير هذا الوصف على العدم) يقتضي أن هذه الطريقة مفتقرة إلى للاستصحاب، فيكون الاستصحاب أقوى من القياس، وهو خلاف الإجماع؛ لأن القياس يقدم على كل استصحاب.

(جوابه) ما تقدم أن القياس وإن افتقر إلى الاستصحاب من هذا الوجه، لكن القياس أقوى منه من وجه آخر

(جوابه) ما تقدم أن القياس وإن افتقر إلى الاستصحاب من هذا الوجه، لكن القياس أقوى منه من وجه آخر، وهو أنه ناسخ للاستصحاب، والناسخ مقدم على المنسوخ. (سؤال) قال التبريزي: قوله: (لا يبين بالمناسبة؛ لئلا يحتاج إليها فيما يدعيه علة) لا يلزم، بل يلزم أن يكون مناسبا من غير بيان المناسبة؛ لئلا يخلو الحكم عن الحكمة ضرورة [للحصر]، وعدم مناسبة الغير، نعم إذا اعتمد في نفي المناسبة عن الغير على عدم الاطلاع لزم الإشكال. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: إذا لم يكن التركيب مجمعا عليه، ينفى التركيب في العلة بأنه على خلاف الأصل؛ لما فيه من إبطال استقلال كل واحد منهما، والتعليل بعلة قاصر، فإن لم يقدر على تقريره، فليعترض له ابتداء ثم يبطله. قلت: يريد أن يقول: ابتداء العلة إما هذا المفرد وحده، أو ذلك وحده، أو المركب من ذا [وذلك]، إلى أن يستوعب الاستدلال. (سؤال) قال إمام الحرمين في (البرهان): قال القاضي: السبر أقوى الطرق في إثبات العلة، وهو مشكل جدا؛ فإن من أبطل معاني لا يلزم من إبطالها إثبات ما لم يتعرض له لإبطال؛ لاحتمال بطلانه أيضا؛ لأنه لا يمكن

تعليل كل حكم، فيمكن أن يكون لذلك الحكم علة أخرى؛ لجواز تعليل الحكم بعلل، ولو قام الدليل على اعتبار معنى لا يتوقف اعتباره على إبطال غيره، فلا حاجة إلى السبر والتقسيم في إثبات العلل ألبتة. * * *

الفصل الثامن (في الطرد)

الفصل الثامن (في الطرد) قال الرازي: والمراد منه: الوصف الذي لم يعلم كونه مناسبا، ولا مستلزما للمناسب، إذا كان الحكم حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع، فهذا هو المراد من الاطراد والجريان، وهذا قول كثير من قدماء فقهائنا. ومنهم: من بالغ فقال: مهما رأينا الحكم حاصلا مع الوصف في صورة واحدة، حصل ظن العلية. احتجوا على التفسير الأول بوجهين: الأول: أن استقراء الشرع يدل على أن النادر في كل باب ملحق بالغالب، فإذا رأينا الوصف في جميع الصور المغايرة بمحل النزاع مقارنا للحكم، ثم رأينا الوصف حاصلا في الفرع، وجب أن يستدل به على ثبوت الحكم؛ إلحاقا لتلك الصورة الواحدة بسائر الصور. الثاني: أنا إذا رأينا فرس القاضي واقفا على باب الأمير، غلب على ظننا كون القاضي في دار الأمير؛ وما ذاك إلا لأن مقارنتهما في سائر الصور أفاد ظن مقارنتهما في هذه الصورة المعينة. واحتج المخالف بأمرين: أحدهما: أن الاطراد عبارة عن كون الوصف بحيث لا يوجد إلا ويوجد معه الحكم، وهذا لا يثبت إلا إذا ثبت أن الحكم حاصل معه في الفرع، فإذا أثبتم

حصول الحكم في الفرع؛ يكون ذلك الوصف علة، وبينتم عليته؛ بكونه مطردا- لزم الدور؛ وهو باطل. وثانيهما: أن الحد مع المحدود، والجوهر مع العرض، وذات الله تعالى مع صفاته، حصلت المقارنة فيها، مع عدم العلية. والجواب عن الأول: أنا لا نستدل بالمصاحبة في كل الصور على العلية؛ حتى يلزم الدور، بل نستدل بالمصاحبة في كل صورة غير الفرع على العلية؛ وحينئذ: لا يلزم الجور. وعن الثاني: أن غاية كلامكم حصول الطرد في بعض الصور منفكا عن العلية، وهذا لا يقدح في دلالته على العلية ظاهرا، كما أن الغيم الرطب دليل المطر، ثم عدم نزول المطر في بعض الصور لا يقدح في كونه دليلا. وأيضا: المناسبة، والدوران، والتأثير، والإيماء قد ينفك كل واحد منها عن العلية، ولم يكن ذلك قدحا في كونها دليلا على العلية ظاهرا، فكذا هاهنا. وأما التفسير الثاني: وهو أضعف التفسيرين: فقد احتجوا عليه: بأنا إذا علمنا أن الحكم لابد له من علة، وعلمنا حصول هذا الوصف، وقدرنا خلو ذهننا عن سائر الأوصاف، فإن علمنا بأنه لابد للحكم من علة، مع علمنا بوجود هذا الوصف- يقتضيان اعتقاد كون هذا الحكم معللا بذلك الوصف؛ إذ لو لم يقتض ذلك، لكان ذلك: إما لأجل أنه لا يسند ذلك الحكم إلى شيء، أو لأجل أنه يسنده إلى شيء آخر، والأول محال؛ لأن اعتقاد أنه لابد من علة مناقض لعدم الإسناد. والثاني محال؛ لأن إسناد الذهن ذلك الحكم إلى غير ذلك الوصف مشروط

بشعور الذهن بغير ذلك الوصف، وتحقق ذلك حال خلو الذهن عن الشعور بغير ذلك الوصف- محال. فثبت بهذا: أن مجرد ذينك العلمين يقتضيان ظن العلية؛ بلى عند الشعور بوصف آخر يزول ذلك الظن، ولكن الشعور بالغير كالمعارض لما يقتضي ذلك الظن، ونفي المعارض ليس على المستدل. حجة المنكرين من وجهين: الأول: أن تجويزه يفتح باب الهذيان، كقولهم في إزالة النجاسة: (مائع لا تبنى القنطرة على جنسه؛ فلا تجوز إزالة النجاسة به؛ كالدهن): وقال بعضهم في (مسألة اللمس): طويل مشقوق، فلا تنتقض الطهارة بلمسه؛ كالبوق. الثاني: أن تعين الوصف المعين للعلة، مع كونه مساويا لسائر الأوصاف قول في الدين لمجرد التشهي، فيكون باطلا؛ لقوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59]. والجواب عن الأول: أن ذلك الكلام يدل على جهل قائله بصورة المسألة؛ لأنا نقول: مجرد المقارنة يفيد ظن العلية؛ ولكن بشرط ألا يخطر بالبال وصف آخر هو أولى بالرعاية منه، ولكن هذا الشرط ساقط عن المعلل؛ لأن نفي المعارض ليس من وظيفته؛ وفي هذين المثالين: إنما يبطل ذلك؛ لأن العلم الضروري حاصل بوجود وصف آخر هو أولى بالاعتبار من الوصف المذكور؛ لأنا متى علمنا كون الدهن لزجا غير مزيل للنجاسة، علمنا أن هذا الوصف أولى بالاعتبار من كونه بحيث لا تبنى القنطرة على جنسه.

القرافي: قلت: تقدم الفرق بين الطرد والطردي

فإن قلت: فهل يكفي في القدح في مثل هذا التعليل خطور وصف آخر بالبال؟ قلنا: لا؛ لأن ذلك الوصف الآخر: إما أن يكون متعديا إلى الفرع، أو لا يكون: فإن كان متعديا إلى الفرع، فلم يضرنا؛ لأن غرضنا من العلة المعرف، وقيام معرف آخر لهذا الحكم لا يمنع من كون ما ذكرته معرفا له، وإن لم يكن متعديا إلى الفرع كان التعليل بالوصف الذي ذكرته أولى؛ لأنا أمرنا بالقياس في قوله تعالى: {فاعبتروا} [الحشر: 2] والأمر بالقياس أمر بما هو من ضروراته، ومن ضرورات القياس تعليل حكم الأصل بعلة متعدية؛ فكان التعليل بما ذكرناه أولى من التعليل بما ذكره الخصم، اللهم إلا أن يذكر الخصم وصفا آخر، ويعديه إلى فرع غير الفرع الذي وقع الخلاف فيه؛ فهناك يجب على المعلل الاشتغال بالترجيح. وعن الثاني: أنا بينا أن مجرد المقارنة دليل العلية ظاهرا؛ فلم يكن القول به مجرد التشهي. الفصل الثامن في الطرد قال القرافي: قلت: تقدم الفرق بين الطرد والطردي: أن الطرد ثبوت الحكم في جميع صور العلة. والطردي عدم المناسبة. والطرد والاطراد بمعنى واحد. قال الغزالي: الطرد سلامة العلة عن النقض، وهو أعم أوصاف العلة

وأضعفها في الدلالة على الصحة، فإن انضاف إليه مناسبة الوصف لعلة الحكم، وإن لم ينسبه إلى مناسبة الحكم سمي شبها. فالشبه: وصف يوهم حصول المصلحة، و [إن] لم يطلع على ذلك، كالتعليل بكونه لا يبنى على جنسه القنطرة؛ فإنه يوهم المناسب. قوله: (النادر في كل باب ملحق بالغالب): قلنا: على هذا الموطن سؤال قوي، وهو: أن غالب الكلام المجاز، حتى قال ابن جني: كلام العرب كله مجاز، ومع ذلك إذا جاءت لفظة دائرة بين الحقيقة والمجاز، فإنا نحملها على الحقيقة النادرة أو المعدومة. وكذلك الغالب على العمومات التخصيص، حتى قال ابن عباس: ما من عام إلا وقد خص، إلا قوله تعالى: {والله بكل شيء عليم} [التغابن: 11]. ومع ذلك إذا وردت صيغة العموم، حملناها على العموم، حتى يرد التخصيص، مع أن الغالب التخصيص. جوابه: أنه سؤال قوي، ولقد أوردته على أعيان الفضلاء فلم يجيبوا عنه، ووجهوا له سبب إهمال تحقيق قولنا: (الدائر بين النادر والغالب يحمل على الغالب) فإن لذلك شرطا، وهو أن يكون الدائر بينهما مساويا لحقيقتهما، من حيث وقعت الغلبة والندور. وتقريره بالمثال: أن الثياب الآتية من عند القصار، الغالب عليها الطهارة؛ كونها جاءت من عند القصار، لا لوصف آخر ألبتة، فلا جرم إذا ورد ثوب منها دار بين أن يكون طاهرا من جنس الغالب الطاهر، أو من النادر الذي طرأ عليه بول حيوان، ولم نعلم به، فنحمله على الغالب، ولو كنا إنما نقضي بطهارتها لا لكونها أتت من عند القصار، بل لأنا نغسلها بعد ذلك

بالماء، لم نقض على الثواب المتردد بين الطهارة وعدمها بالطهارة لكونه جاء من عند القصار؛ لأن السبب الموجب للطهارة الذي هو الغسل لم يوجد، بل هذا الثوب الذي لم يغسل لم يوجد له جنس فيه طهارة على هذا التقدير، فلا غالب، ولا غيره يلحق به. كذلك- هاهنا- إنما قضينا بالمجاز في جميع الصور؛ لاقتران القرينة الصارفة عن الحقيقة إلى المجاز، ولم نقض في صورة بالمجاز ولا بتخصيص العموم بغير صارف، وهذه الصورة المترددة ليس فيها صارف؛ فلم تكن من جنس الغالب، فلا جرم لم نلحقها به. وإنما يتجه اللحوق أن لو كنا قضينا في تلك الصور بالمجاز والتخصيص؛ لمجرد اللفظ الموجود- هاهنا- من غير صارف، حتى تكون هذه الصور مساوية لذلك الغالب، بل هذه الصورة لم يوجد لها نظير ألبتة في كونها تحمل على المجاز من غير صارف، فضلا عن كون لها غالب، فهذا هو السر في الباب، وقد تقدم في تقريره أيضا. قوله: (المقارنة تفيد ظن العلية، بشرط ألا يخطر بالبال وصف آخر، ولكن هذا الشرط لا يلزم المعلل؛ لأن نفي المعارض ليس من وظيفته): قلنا: هذا الكلام حق، غير أن تسمية عدم المانع شرطا ولع به كثير من الفقهاء والفضلاء، وهو يفضي إلى الجمع بين النقيضين؛ لأن القاعدة أن الشك يمنع من ترتيب الحكم، والشك في المانع لا يمنع، فمتى حصل الشك في مانع على هذا التقدير، فقد حصل في عدمه- أيضا- وعدمه شرط، فيلزم ثبوت الحكم من جهة أنه شك في المانع، وعدم ثبوته؛ لأنه شك في الشرط الذي هو عدم المانع، وذلك محال، فيتعين ألا يكون عدم المانع شرطا، بل الشرط أمور أخر غير الموانع، فتأمل ذلك. (سؤال) على قوله: (إذا رأينا الوصف حاصلا في جميع الصور المغايرة للفرع

(سؤال) قال النقشواني: إن أراد أنه يلزم من المقارنة التأثير فممنوع

غلب على الظن كونه علة)؛ فإنه قد تقدم أن مطلق الظن لا يفيد، وأن الشرع إنما اعتبر- من الظنون- مراتب مخصوصة؛ بدليل إلغاء الظن في شهادة الفسقة، والصبيان، والكفار، وغير ذلك من الظنون، فلم قلتم: إن هذا الظن المخصوص مما اعتبره الشرع؟ (سؤال) قال النقشواني: إن أراد أنه يلزم من المقارنة التأثير فممنوع، حتى في المثال الذي ذكره، وإن أراد المعرف اندفعت النقوض التي ذكرها: من الجوهر مع العرض وغير ذلك؛ لحصول التعريف هنالك؛ إنه مهما حصل الشعور بأحد تلك الأمور، علم حصول الآخر. (تنبيه) قال سراج الدين على قوله: (لو لم يحصل ظن العلية لما أسند إلى علة، وهو باطل، أو أسند إلى غيره، وهو يقتضي الشعور بالغير). قال: لقائل أن يقول: الإسناد إلى الغير يقتضي الشعور به جملة، والمقدر عدم الشعور به تفصيلا، بل دليله ما سبق مرارا. قلت: أما قوله: (الإسناد إلى الغير يقتضي الشعور به جملة) فممنوع، بل لابد في الإسناد إلى الوصف من الشعور بخصوصه، ولا يكفي الإجمال، وهو أن ثم وصفا ما. وأما قوله: (بل الدليل ما سبق مرارا) فيريد أن غير هذا الوصف كان معدوما، والأصل بقاؤه على العدم. وقال التبريزي: الذي يجب القطع به أن الطرد المحض ليس بحجة في نفسه- لا في نظرنا فحسب، كما صار إليه القاضي- لأمور:

أحدها: أن الحكم إنما يثبت لحكمة، والعلة ما تضمنت تلك الحكمة، فإذا جزمنا بخلو الطردي عن الحكمة، لزم الجزم بأنه ليس بعلة ولا يرد عليه [الدورانات] والتجريبيات لأوجه: أحدها: أن المستفاد منها الملازمة بواسطة الكثرة البالغة، ولو وجد مثله في الطرد لم ينكر قبول الظن بالملازمة. الثاني: أن الجزم بانتفاء التأثير غير ممكن في التجريبيات. الثالث: أن لابد في الدوران والتجربة من التعين، والتعين في الطردي محال؛ لما سيأتي. الثاني: أن المناسب إذا اقترن به مثله امتنع التعليل به عينا إلا بأمر زائد، والطردي لا ينفك عن معارضة مثله، فإذا لم تعتبر إلا الملازمة فتكثر اللوازم؛ إذ ما من شيء إلا وتحف به آثاره ومؤثراته، وأجناسه ومميزاته، وعوارضه وأجزاء فصله، والذهن لا ينفك عن العلم، فأولى أن يمتنع التعليل بواحد منها عينا. الثالث: أنه لو صح الطرد لفسد سؤال الإلغاء؛ لأن أقصى مراتب الإلغاء أنه من جنس ما لم يلتفت إليه الشارع في جنس الأحكام. فإن صح هذا في الطردي، لم يزل عنه باطراده. وإن لم يصح بطل هذا القسم من الأوصاف. وهذا النوع من الإلغاء، وهو مقبول بالاتفاق. وأما قولهم: (المعهود إلحاق النادر بالغالب)، فالكلام عليه من وجوه: الأول: أن دعواه مطلقا باطلة؛ فإن بيع الطير في الهواء، والسمك في الماء، وسرقة حبة من حرز منيع، ونكاح المجوسية، والمرتدة، والخنثى المشكل- من النوادر، ولم يلحق بالغالب من أجناسها، وإن ادعى في البعض فلابد من تعينه بقصد فارق، وبيان أن محل النظر في معناه.

الثاني: أنهم إن ادعوا ثبوت الحكم في تلك النوادر بلا علة، كان محالا مع أنه لا يفيد المطلوب؛ فإن المطلوب إثبات وصف العلية للطردي الجامع، وإسناد الحكم، وإن اعترفوا بثبوته بناء على علة، فليبحث عن عينها، فإن كانت هي وصف الجنس المشترك، كان ذلك طردا للحكم لاطراد علته، فلا يكون إلحاق النادر بالغالب. وإن كانت العلة هي كونه نادرا من الجنس، فلا ينتظم تعليل غير ذلك الحكم به؛ لثبوته في الجنس مع انتفاء وصف الندرة. وإن علل بها عموم كونه حكما للجنس لا خصوص ذلك الحكم، فلابد له من دليل. ولا يمكن إثباته بالاطراد؛ فإنه إثبات للشيء بنفسه. ثم هو غير مطرد على ما ذكرناه، بل الصور التي ألحق الشارع النادر فيها بالغالب من جنسها كالنادر بالإضافة إلى ما لم يلحق، وهو معارض بعسر تتبع الآحاد بالنظر لطلب الحكمة، مع اشتماله على وصف المظنة، والتعليل بالطرد خال عن ذلك. الثالث: أن فيما ذكروه اعترافا ببطلان التعليل بالوصف الطردي لوجهين: أحدهما: أن الطارد يعلل الحكم في جميع صور الجنس بالوصف الطردي، وليس ذلك من قبيل إلحاق نادر بغالب، بل ربما كانت صور الإلحاق أكثر من الملحق به، كإلحاق سائر الموزونات بالنقدين، وسائر المكيلات بالمنصوصات، وكل ما لا تبنى على جنسه القنطرة بالزيت. الثاني: هو أن إلحاق النادر بالغالب اعتراف بتعذر التعليل بالقدر المشترك؛ إذ لو صح لكان الإلحاق طردا للحكم وتوفيرا له لا سحبا لحكم غيره عليه. وأما الاستدلال بفرس القاضي، فليس من قبيل قياس الطرد، بل بقرائن

(فائدة) قال سيف الدين: إثبات العلة بالطرد والعكس اختلف القائلون بدلالته على علية الوصف

الأحوال، وترجيح احتمال على احتمال، حتى لو لم نجده إلا مرة- أعني على الهيئة المخصوصة- لحصل الظن به، ولو رأى بعد ذلك ملازمة الفرس باقتران نعيق الغراب، أو نهيق الحمار، لم يتحرك بع الظن. هذا على التفسير الأول. وأما الثاني، ففي غاية الفساد، وما مثلهم فيما يفسقوه من الشبهة إلا كمن [أغلق] إحدى عينيه، ونظر بالأخرى في أنبوبة تحصر ضوء عينه على شخص واحد، ثم يقول: ما ثقب هذه اللؤلؤة إلا هذا الشخص؛ لاستحالة حصول الأثر من غير مؤثر، واستحالة إسناد الأثر إلى من لم يخطر بالبال، هذا مع عدم الإحاطة [بتمكن] المشاهد، والقطع بأن بحضرته خلقا لو فتح عينيه ونظر بهما لأدرك، ولا يخفى فساد هذا [التمثيل]. ثم الاعتراض عليه أن نقول: تعذر إسناد الذهن حكما إلى ما لا شعور له به، لا يوجب تعذر الإسناد إليه في نفسه، بل يوجب تعذر علمه بالإسناد، وهو مسلم، وعدم العلم إنما يكون حجة بعد البحث عن جميع المدارك بقدر الوسع ممن هو أهل، والأهل لو بحث عن غير ما عينه من الوصف الطردي لوجد غيره أعدادا، فلا يكون جهله عذرا. (فائدة) قال سيف الدين: إثبات العلة بالطرد والعكس اختلف القائلون بدلالته على علية الوصف. فقال بعض المعتزلة: يدل قطعا. وقال القاضي أبو بكر، وبعض الأصوليين، وأكثر أصحابنا: يدل ظنا.

(تنبيه) مثار الخلاف في هذه المواطن ملاحظة أن ما [رده] الصحابة- رضي الله عنهم-[رددناه]، وما أعملوه أعملناه

وأكثر أهل زماننا، والمحققون من أصحابنا، وغيرهم: أنه لا يدل مطلقا، وهو المختار. قال: ومثاله تعليل الخمر بالإسكار؛ بناء على وجوده مع التحريم، وعدمه عند عدمه. قال الغزالي: حاصل الاطراد سلامة العلية عن النقض، وسلامتها عن مفسد واحد لا يوجب سلامتها عن كل مفسد، وعلى تقدير السلامة عن كل مفسد لا تلزم العلية؛ لأن عدم المفسد لا يوجب الصحة، والعكس ليس شرطا في العلل الشرطية. قال: وحجة الغزالي ضعيفة؛ لاحتمال أن يكون مجموع الأمرين موجبا، وأن كل واحد منفردا غير موجب. قال إمام الحرمين في (البرهان): ذهب القاضي في أحد أقواله، وكل من يعزى إليه الجدل [إلى] أن الطرد والعكس أقوى ما تثبه به العلل. (تنبيه) مثار الخلاف في هذه المواطن ملاحظة أن ما [رده] الصحابة- رضي الله عنهم-[رددناه]، وما أعملوه أعملناه، وما لم يتعرضوا له أعرضنا عنه، وقياس الشبة، والطرد، ونحو ذلك مما لم ينقل عنهم فيه عمل، فتتركه. أو نقول: الصحابة علم من سيرتهم اتباع المخاييل، فحيث وجدت مخيلة أو مظنة لارتباط الحكم، اعتبرناه، وهو رأي الإمام في (البرهان)، والأول رأي القاضي أبي بكر.

الفصل التاسع (في تنقيح المناط)

الفصل التاسع (في تنقيح المناط) قال الرازي: قال الغزالي- رحمه الله-: إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه قد يكون باستخراج الجامع، وقد يكون بإلغاء الفارق، وهو أن يقال: لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وكذا، وذلك لا تأثير له في الحكم ألبتة، فيلزم اشتراك الفرع والأصل في ذلك الحكم، وهذا هو الذي يسميه أصحاب أبي حنيفة- رحمه الله- بالاستدلال، ويفرقون بينه وبين الناس. واعلم: أن هذا يمكن إيراده على وجهين: الأول: أن يقال: هذا الحكم لابد له من مؤثر، وذلك المؤثر: إما القدر المشترك بين الأصل والفرع، أو القدر الذي امتاز به الأصل عن الفرع: والثاني: باطل؛ لأن الفارق ملغى فثبت أن المشترك هو العلة فيلزم من حصوله في الفرع ثبوت الحكم، فهذا طريق جيد، إلا أنه استخراج العلة بطريق السبر؛ لأنا قلنا: حكم الأصل لابد له من علة، وهي: إما جهة الاشتراك، أو جهة الامتياز، والثاني باطل؛ فتعين الأول. وجهة الاشتراك حاصلة في الفرع، فعلة الحكم حاصلة في الفرع؛ فيلزم تحقق الحكم في الفرع، فهذا هو طريقة السبر والتقسيم من غير تفاوت أصلا. وثانيهما: أن يقال: هذا الحكم لابد له من محل، ولا يمكن أن يكون ما به الامتياز جزءا من محل هذا الحكم، فالمحل هو القدر المشترك، فإذا كان ذلك المحل حاصلا في الفرع، وجب ثبوت الحكم فيه؛ مثل أن يقال: ما به امتاز

شرح القرافي: قلت: قد تقدم الفرق بين تنقيح المناط، وتحقيق المناط، وتخريج المناط

الإفطار بالأكل عن الإفطار بالوقاع ملغى، فمحل الحكم هو المفطر، فأينما حصل المفطر، وجب حصول الحكم. وهذا الوجه ضعيف؛ لأنه لا يلزم من ثبوت الحكم في المفطر ثبوته في كل مفطر؛ فإنه إذا صدق أن هذا الرجل طويل، صدق أن الرجل طويل؛ لأن الرجل جزء من هذا الرجل، ومتى حصل المركب، حصل المفرد، ثم لم يلزم من صدق قولنا: (الرجل طويل) قولنا: (كل رجل طويل)، فكذا هاهنا. الفصل التاسع في تنقيح المناط قال القرافي: قلت: قد تقدم الفرق بين تنقيح المناط، وتحقيق المناط، وتخريج المناط، والخلاف في الاصطلاح عليها. قوله: (هذه الطريقة ترجع للسبر والتقسيم): قلنا: بينهما فرق. إنكم- هاهنا- أشرتم إلى المشترك بما هو مشترك، ولم تعينوه باسم يخصه. وفي باب السبر نعين الأوصاف بأسماء تخصها، فنقول: العلة في الربا إما: الطعم، أو الكيل، أو الجنس، أو المال، والكل باطل إلا الطعم. غير أن هذه الطريقة وإن فارقت طريق السبر فهي مغايرة- أيضا- لتنقيح المناط؛ لأن طريق تنقيح المناط ليس فيها إلا إلغاء الفارق من غير تعرض لمشترك ألبتة، ولا لعلة، وهاهنا وقع التعرض لتلك العلة إجمالا. قوله: (هذا الحكم لابد له من محل): تقريره: أن المحل أعم من المؤثر؛ لأنا نريد به ما يناط له الحكم على الوجه

(تنبيه) أما الحصر فقد يتوصل إليه بعدم الوجدان، ويجري في التعبدات بعد البحث التام

الأعم، كان مؤثرا، أو معرفا، أو داعيا، أو غير ذلك، [وإضافة] الحكم له تصيره محلا له، فلذلك جعلهما طريقين: قوله: (لا يلزم من ثبوت الحكم في الفطر ثبوته في كل مفطر): تقريره: أن الأمور الكلية إذا ثبتت في محل، لا يلزم أن تثبت في كل محل، فلا يلزم من ثبوت الإنسان في بعض البقاع ثبوته في كل بقعة، ولا من ثبوت مفهوم وجوب الوجود في بعض أفراد الموجودات ثبوته في كل موجود، ونظائره لا تعد ولا تحصى. ويرد عليه أن الحكم إذا ثبت لمعنى كلي، ودل الدليل على أن ذلك المعنى الكلي علة، وجب ثبوت ذلك في جملة صور الكلي. أما إذا لم يدل الدليل على عليته اقتصرنا على فرد من ذلك الكلي. ومحل النزاع من القسم الأول، دون الثاني. (تنبيه) أما الحصر فقد يتوصل إليه بعدم الوجدان، ويجري في التعبدات بعد البحث التام، ويجب أن يصدق فيه في المناظرات، أو ينبه على ما لم يطلع عليه؛ فإن القسم الثالث بين تكذيب، وكذب، وكتمان حرام، وشغب مذموم، وقد يحتج عليه باستصحاب العدم، ونفرض المسألة فيه، كما يقول المناظر: لا أفرض الكلام إلا فيما لم يفقد إلا الرؤية مثلا، فإذا هي الفارق

ولا يتجه في مثله أن يقال: إذا فقدت الرؤية فقد طريق العلم بمالية المبيع، ومعرفة اشتماله على الصفات المطلوبة، فإذا ما انحصر الفارق في الرؤية- لأن هذه أمور منشؤها الرؤية- فهي وجود اعتبارها لا معارضاتها وقسيماتها، فقسيم الشيء ما يجاوره لا ما يتضمنه، ومعاني الشيء وصفاته لا تقاسم الشيء. نعم في مقام الأثر لو اعتمد على نفي المناسبة بالنظر إلى ذاتها، من حيث إنها عبارة عن إحاطة، أشعر الناظر بظاهر سطح الجسم، فهو من باب إيصال جسم بجسم، أو تعلق معنى بعرض، فيقال: إنه ليس من شرط المناسبة أن تنبعث من ذات الشيء، [وتنشأ منه، بل يكفي أن تكون بحيث تلزم منه]، والرؤية كذلك، ومورد تلك المعاني في معرض التنبيه على وجه اعتبار الرؤية، وقد يدل على الحصر بلزوم ثبوت الحكم على تقدير انتفائه، إما بالإجماع، أو القياس، كما نقول في وطء الثيب، ومسألة تفريق الصفقة، والدليل على حصر الفارق في الوطء، وضرر التشقيص: إنه لولاهما للزم جواز الرد؛ لتضمنه دفع ضرر العيب القديم على المشتري من غير إلحاق ضرر أجنبي بالبائع، كما في غيرهما من الصور. وأما نفي أثره، فله طرق أربعة: أحدها: بيان أنه من جنس ما عهد عدم الالتفات إليه من الشارع في جنس الأحكام؛ كطول الشخص وقصره، وسواده وبياضه، وخصوص الأزمنة والأمكنة. الثاني: بيان عدم اعتباره في جنس ذلك الحكم كالذكورة والأنوثة في سراية العتق وصحة البيع، وجواز الرجوع إلى عين المبيع بفلس المشتري.

الثالث: بيان عدم اعتباره في غير ذلك الحكم بإظهار ثبوته بدونه في بعض الصور، فيدل على استقلال ما عداه، أو ثبوته مع وجوده، إن كان من قبيل المانع، وهو الإلغاء. الرابع: بيان عدم المناسبة. ويتوجه على طريقة الإلغاء سؤال، وهو أن يقال: تسليم حصر المانع فيه يوجب نفي المانعية عما عدله، ولا يوجب ثبوت وصف المانعية بما هو هو، فيجوز أن يكون مانعا بوصفه الأخص، فلا يلزم إلغاؤه من إلغاء وصفه الأعم، مثاله: إذا صح للشافعي حصر الفارق في مسألة المديون، فليس له إلغاؤه بدين الصداق، وديون الكفارات؛ فإن للحنفي أن يقول: أنا وإن سلمت أن المانع ليس أمرا وراء الدين، لكن لم أسلم أن الدين بمطلقه هو المانع، بل دين الآدميين بوصف خاص، وهذا لا وجود له في صورة الإلغاء. * * *

الفصل العاشر (في الطرق الفاسدة) وهو طريقان

الفصل العاشر (في الطرق الفاسدة) وهو طريقان قال الرازي: الأول: قال بعضهم: الدليل على أن هذا الوصف علة- عجز الخصم عن إفساده، وهو ضعيف؛ لأنه ليس جعل العجز عن الإفساد دليلا على الصحة أولى من جعل العجز عن التصحيح دليلا على الفساد، بل هذا أولى؛ لأنا لو أثبتنا كل ما لا نعرف دليلا على فساده، لزمنا إثبات ما لا نهاية له؛ وهو باطل. أما لو لم نثبت كل ما لا نعرف دليلا على صحته، لزمنا ألا نثبت ما لا نهاية له، وهو حق. الثاني: قال بعضهم: هذا الذي ذكرته عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع؛ فوجب دخوله تحت قوله تعالى: {فاعتبروا} [الحشر: 2] وربما قيل: هذا تسوية بين الأصل والفرع؛ فيكون مأمورا به؛ لقوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل} [النحل: 90] وهذا ضعيف أيضا؛ لأن أقصى ما في الباب عموم اللفظ في هاتين الآيتين، وتخصيص العموم بالإجماع جائز. وأجمع السلف على أنه لابد من دلالة ما على تعين الوصف للعلية، وللمخالف أن ينكر هذا الإجماع. الفصل العاشر في باقي الطرق الفاسدة قال القرافي: قلت: هذه الفهرسة تقتضي أن يكون قد تقدم له طرق

فاسدة، وهذه بقيتها، وليس كذلك؛ فإن باقي الشيء يدل على تقدم بعضه، ولا يمكن جعل الفاسدة نعتا للذي في هذا الباب خاصة؛ لأن على هذا التقدير تكون الفاسدة نعتا للمضاف الذي هو (باقي) للمضاف إليه الذي هو (الطرق)، وعلى هذا التقدير يتعين حذف تاء التأنيث، ونقول: (الفاسد) نعتا (لباقي) لأنه مذكر، وجميع النسخ التي رأيتها بتاء التأنيث. وقال تاج الدين في (الحاصل): العبارة الحسنة: (العاشر في الطرق الفاسدة)، ولم يذكر الباقي. وقال سراج الدين: (خاتمة): أبعد من قال كذا. وسكت (المنتخب)، والتبريزي عن الفصل بالكلية. * * *

الباب الثاني: في الطرق الدالة على أن الوصف لا يكون علة، وهي خمسة

الباب الثاني قال الرازي: في الطرق الدالة على أن الوصف لا يكون علة، وهي خمسة: النقض، وعدم التأثير، والقلب، والقول بالموجب، والفرق. الفصل الأول (في النقض) وفيه مسائل: المسألة الأولى: وجود الوصف مع عدم الحكم يقدح في كونه علة وزعم الأكثرون أن علية الوصف، إذا ثبتت بالنص لم يقدح التخصيص في عليته. وزعم آخرون أن علية الوصف، وإن ثبتت بالمناسبة، أو الدوران؛ لكن إذا كان تخلف الحكم عنه لمانع، لم يقدح في عليته، أما إذا كان التخلف لا لمانع فالأكثرون على أنه يقدح في العلية، ومنهم من قال: لا يقدح أيضا. لنا وجوه: الأول: أن اقتضاء العلة للحكم: إما أن يعتبر فيه انتفاء المعارض، أو لا يعتبر، فإن اعتبر، لم يكن علة إلا عند انتفاء المعارض؛ وهذا يقتضي أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ليس تمام العلة، بل بعضها، وإن لم يعتبر، فسواء حصل المعارض، أو لم يحصل، كان الحكم حاصلا، وذلك يقدح في كون المعارض معارضا، فإن قيل: لم لا يجوز أن يتوقف الاقتضاء على انتفاء المعارض؟ قوله: (هذا يدل على أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ما كان تمام العلة؛ بل جزءا منها):

قلنا: لا نسلم؛ ولم لا يجوز أن يكون هذا العدم شرطا لتأثير العلة في الحكم؟!. تقريره: العلة: إما أن تفسر بالداعي، أو المؤثر، أو المعرف: أما المؤثر: فإما أن يكون قادرا، أو موجبا: أما القادر: فيجوز أن يتوقف صحة تأثيره على انتفاء المعارض؛ لأمور: الأول: أن الفعل في الأزل محال؛ لأن الفعل ما له أول؛ والأزل ما لا أول له، والجمع بينهما محال. فإذن: تتوقف صحة تأثير قدرة الله تعالى في الفعل على نفي الأزل، فالقيد العدمي لا يجوز أن يكون جزءا من المؤثرات الحقيقية، فهو إذن شرط صحة التأثير. وثانيهما: أن إشالة القادر الثقيل إلى فوق يقتضي الصعود إلى فوق؛ بشرط ألا يجره قادر آخر إلى أسفل، فالقيد العدمي لا يكون جزءا من المؤثر الحقيقي. وثالثهما: أن القادر لا يصح منه خلق السواد في المحل إلا بشرط عدم البياض فيه، والعدم لا يكون جزءا من المؤثر الحقيقي. أما الواجب: فهو أن الثقل يوجب الهوى؛ بشرط عدم المانع، وسلامة الحاسة توجب الإدراك؛ بشرط عدم الحجاب. وأما الداعي: فمن أعطى إنسانا لفقره، فجاء آخر، فقال: لا أعطيه؛ لأنه يهودي؛ فعدم كون الأول يهوديا لم يكن جزءا من المقتضى في إعطاء الأول؛ لأنه حين أعطى الفقير الأول، لم تكن اليهودية خاطرة بباله؛ فضلا عن عدمها،

وما لا يكون خاطرا بالبال، لم يكن جزءا من الداعي؛ فعلمنا أن عدم كون الأول يهوديا، لم يكن جزءا من المقتضى. أما المعرف: فالعام المخصوص دليل على الحكم، وعدم المخصص ليس جزءا من المعرف، وإلا كان يجب ذكره عند الاستدلال؛ فثبت بما ذكرنا أن عدم المعارض، وإن كان معتبرا، لكنه ليس جزءا من العلة. سلمنا كونه جزءا، ولكن يرجع الخلاف في المسألة إلي بحث لفظي لا فائدة فيه؛ لأن من جوز تخصيص العلة، ومن لم يجوزه، اتفقوا على أن اقتضاء العلة للحكم لابد فيه من ذلك العدم، وأنتم أيضا سلمتم أن المعلل، لو ذكر ذلك القيد في ابتداء التعليل، لاستقامت العلة؛ فلم يبق الخلاف إلا في أن ذلك القيد العلمي، هل يسمى جزء العلة أم لا؟. ومعلوم أن ذلك مما لا فائدة فيه. والجواب: قد بينا أنه لو توقف اقتضاء العلة للحكم على انتفاء المعارض، لم يكن الحاصل عند وجود المعارض تمام العلة، بل جزءها. قوله: (لو كان كذلك، لزم جعل القيد العلمي جزءا من علة الوجود): قلنا: إن فسرنا العلة بالموجب أو الداعي، امتنع جعل القيد العدمي جزءا من علة الوجود؛ فحينئذ: لا نقول: إن عدم المعارض جزء العلة، بل نقول: إنه يدل على أنه حدث أمر وجودي انضم إلى ما كان موجودا قبل؛ وحينئذ: صار ذلك المجموع علة تامة، فلم يلزم من قولنا: (العلة التامة؛ إنما وجدت حال عدم المعارض) أن يجعل عدم المعارض جزءا من العلة.

وإن فسرنا العلة بالمعرف، لم يمتنع جعل القيد العدمي جزءا من العلة، بهذا التفسير، كما أنا نجعل انتفاء المعارض جزءا من دلالة المعجز على الصدق. قوله: (لو كان عدم المخصص جزءا من المعرف، لوجب على المتمسك بالعام المخصوص ذكر عدم المخصصات): قلنا: لا شك أنه لا يجوز التمسك بالعام إلا بعد ظن عدم المخصصات، فأما أنه لم يجب الذكر في الابتداء، فذلك يتعلق بأوضاع أهل الجدل، والتمسك بها في إثبات الحقائق غير جائز. قوله: (إنه يصير الخلاف لفظيا): قلنا: لا نسلم؛ فإنا إذا فسرنا العلة بالداعي أو الموجب، لم نجعل العدم جزءا من العلة، بل كاشفا عن حدوث جزء العلة، ومن يجوز التخصيص لا يقول بذلك، وإن فسرناها بالأمارة، ظهر الخلاف في المعنى أيضا؛ لأن من أثبت العلة بالمناسبة، بحث عن ذلك القيد العدمي، فإن وجد فيه مناسبة، صحح العلة، وإلا أبطلها. ومن يجوز التخصيص لا يطلب المناسبة ألبتة من هذا القيد العدمي. الحجة الثانية في المسألة: أنه لابد وأن يكون بين كون المقتضي مقتضيا اقتضاء حقيقيا بالفعل، وبين كون المانع مانعا منعا حقيقيا بالفعل- منافاة بالذات، وشرط طريان أحد الضدين انتفاء الضد الأول؛ فلا يجوز أن يكون انتفاء الضد الأول لطريان اللاحق، وإلا وقع الدور، فلما كان شرط كون المانع مانعا خروج المقتضي عن أن يكون مقتضيا بالفعل- لم يجز أن يكون خروجه عن كونه مقتضيا بالفعل، لأجل تحقيق المانع بالفعل، وإلا وقع الدور، فإذا المقتضي إنما

خرج عن كونه مقتضيا لا بالمانع؛ بل بذاته، وقد انعقد الإجماع على أن ما يكون كذلك، فإنه لا يصلح للعلية. الحجة الثالثة: الوصف وجد في الأصل مع وجود الحكم، وفي صورة التخصيص مع عدم الحكم، ووجوده مع الحكم في صورة التخصيص يقتضي القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم، ثم إن الوصف الحاصل في الفرع، كما أنه مثل الوصف الحاصل في الأصل، فهو أيضا مثل الوصف الحاصل في صورة التخصيص؛ فليس إلحاقه بأحدهما أولى من إلحاقه بالآخر؛ ولما تعارضا، لم يجز إلحاقه بواحد منهما؛ فلم يجز الحكم عليه بالعلية. قال المجوزون: الأصل في الوصف المناسب مع الاقتران أن يكون علة، فعند ذلك: إذا رأينا الحكم متخلفا عنه في صورة، وعثرنا في تلك الصورة على أمر يصلح أن يكون مانعا- وجب إحالة ذلك التخلف على ذلك المانع؛ عملا بذلك الأصل. أجاب المانعون: بأن الأصل ترتب الحكم على المقتضى؛ فحيث لم يترتب الحكم عليه، وجب الحكم بأنه ليس بعلة؛ عملا بهذا الأصل، فصار هذا الأصل معارضا للأصل الذي ذكرتموه، وإذا تعارضا، وجب الرجوع إلى ما كان عليه أولا، وهو عدم العلية. قال المجوزون: الترجيح معنا من وجهين: الأول: أنا لو اعتقدنا أن هذا الوصف غير مؤثر، يلزمنا ترك العمل بالمناسبة مع الاقتران من كل وجه، ولو اعتقدنا أنه مؤثر، عملنا بما ذكرتم من الدليل، من بعض الوجوه؛ لأن ذلك الوصف يفيد الأثر في بعض الصور، ولا شك أن ترك العمل بالدليل من وجه أولى من ترك العمل بالدليل من كل الوجوه.

الثاني: هو: أن الوصف الذي ندعي كونه مانعا في صورة التخصيص يناسب انتفاء الحكم، والانتفاء حاصل معه، فيغلب على الظن: أن المؤثر في ذلك الانتفاء هو ذلك المانع، وإذا ثبت استناد ذلك الانتفاء إلى المانع، امتنع استناده إلى عدم المقتضي. إذا ثبت هذا، فنقول: معكم أصل واحد، وهو أن الأصل ترتب الحكم على العلة، ومعنا أصلان: أحدهما: أن المناسبة مع الاقتران دليل على كون الوصف في الأصل علة لثبوت الحكم فيه. الثاني: أن المناسبة مع الاقتران في صورة التخصيص دليل على كون المانع علة؛ لانتفاء الحكم فيها، ومعلوم أن العمل بالأصلين أولى من العمل بالأصل الواحد. أجاب المانعون عن الأول: بأنا لا نسلم أن المناسبة مع الاقتران دليل العلية؛ بل عندنا: المناسبة مع الاقتران والاطراد دليل العلية، فإن حذفتم الاطراد عن درجة الاعتبار، فهو أول المسألة. وعن الثاني: أنا لا نسلم أن انتفاء الحكم في محل التخصيص يمكن تعليله بالمانع؛ لأن ذلك الانتفاء كان حاصلا قبل حصول ذلك المانع، والحاصل لا يمكن تحصيله ثانيا. أجاب المثبتون عن هذا من وجهين: الأول: أن العلل الشرعية معرفات؛ فلا يمتنع كون المتأخر علة للمتقدم بهذا التفسير.

الثاني: أن المانع علة لنفي الحكم، لا لانتفائه، والنفي عبارة عن منعه من الدخول في الوجود، بعد كونه بعرضية الدخول. أجاب المانعون عن الأول: بأنه إذا كان المراد من العلة المعرف، لم يلزم من تعليل ذلك الانتفاء بعدم المقتضي تعذر تعليله أيضا بالمانع؛ لجواز أن يدل على المدلول الواحد دليلان: أحدهما وجودي، والآخر عدمي. وعن الثاني: أن تأثير المانع ليس في إعدام شيء؛ لأن ذلك يستدعي سابقة الوجود؛ وهاهنا: الحكم لم يوجد ألبتة، فيمتنع إعدامه، فعلم أن المستند إلى المانع ليس إلا ذلك العدم السابق. احتج من جوز تخصيص العلة بوجوه: أحدها: أن دلالة العلة على ثبوت الحكم في محالها؛ كدلالة العام على جميع الأفراد، وكما أن تخصيص العام لا يوجب خروج العام عن كونه حجة، فكذا تخصيص العلة لا يقدح في كونها علة. وثانيها: أن اقتضاء الوصف لذلك الحكم في هذا المحل، إما أن يتوقف على اقتضاء الحكم في ذلك المحل الآخر، أو لا يتوقف، والأول محال؛ لأنه ليس توقف أحدهما على الآخر أولى من العكس؛ فيلزم افتقار كل واحد منهما إلى الآخر؛ فيلزم الدور، وإن لم يفتقر واحد منهما إلى الآخر؛ فحينئذ: لا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الآخر، فلا يلزم من انتفاء كون الوصف مقتضيا لذلك الحكم في هذا المحل- انتفاء كونه مقتضيا لذلك الحكم في المحل الآخر. وثالثها: العقلاء أجمعوا على جواز ترك العمل بمقتضى الدليل في بعض

الصور؛ لقيام دليل أقوى من الأول فيه، مع أنه يجوز التمسك بالأول عند عدم المعارض؛ فإن الإنسان يلبس الثوب لدفع الحر والبرد، وإذا اتفق لبعض الناس أن قال له ظالم: (إن لبست هذا الثوب، قتلتك) فإنه يترك العمل بمقتضي الدليل الأول في هذه الصورة، وإن كان يعمل بمقتضاه في غيرها من الصور. وإذا ثبت حسن ذلك في العادة، وجب حسنه في اضرع؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام-: (ما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن). ورابعها: أن العلة الشرعية أمارة، فوجودها في بعض الصور دون حكمها لا يخرجها عن كونها أمارة؛ لأنه ليس من شرط كون الشيء أمارة على الحكم: أن يستلزمه دائما، فإن الغيم الرطب في الشتاء أمارة المطر، ثم عدم المطر في بعض الأوقات لا يقدح في كونه أمارة. وخامسها: أن الوصف المناسب بعد التخصيص يقتضي ظن ثبوت الحكم؛ فوجب العمل به. بيان الأول: أنا إذا عرفنا من الإنسان كونه مشرفا مكرما مطلوب البقاء، غلب على ظننا حرمة قتله، وإن لم يخطر ببالنا في ذلك الوقت ماهية الجناية؛ فضلا عن عدمها، فعلمنا أن مجرد النظر إلى الإنسانية مع مالها من الشرف- يفيد ظن حرمة القتل، وأن عدم كونه جانيا ليس جزءا من المقتضي لهذا الظن، وإذا كان كذلك، فأينما حصلت الإنسانية، حصل ظن حرمة القتل، وإذا ثبت أنه يفيد ظن الحكم وجب العمل به؛ لأن العمل بالظن واجب. وسادسها: أن بعض الصحابة قال بتخصيص العلة: روي عن ابن مسعود:

أنه كان يقول: (هذا حكم معدول به عن القياس) وعن ابن عباس مثله؛ ولم ينقل عن أحد: أنه أنكر ذلك عليهما؛ وذلك يفيد انعقاد الإجماع. وسابعها: أنه وجد في الأصل المناسبة مع الاقتران في ثبوت الحكم. وفي صورة التخصيص: المناسبة مع الاقتران في انتفاء الحكم، فلو أضفنا في صورة التخصيص انتفاء الحكم إلى انتفاء المقتضي، كنا قد تركنا العمل بذينك الأصلين، لكنا عملنا بأصل واحد، وهو: أن الأصل: أن يكون عدم الحكم لعدم المقتضي. أما لو أضفنا في صورة التخصيص انتفاء الحكم إلى حصول المانع، كنا عملنا بذينك الأصلين، وخالفنا أصلا واحدا، وهو أن يكون عدم الحكم لعدم المقتضي؛ ومعلوم أن مخالفة الأصل الواحد لإبقاء أصلين أولى من العكس، فإحالة انتفاء الحكم على المانع أولى من إحالته على عدم المقتضي. والجواب عن الأول: أن نقول: ما الجامع؟! ثم الفرق أن دلالة العام المخصوص على الحكم، وإن كانت موقوفة على عدم المخصص، إلا أن عدم المخصص، إذا ضم إلى العام، صار دليلا على الحكم. أما العلة: فإن دلالتها موقوفة على عدم التخصص، وذلك الهدم لا يجوز ضمه إلى العلة؛ على جميع التقديرات. أما أولا: فلأن منهم من منع كون القيد العدمي جزءا من علة الحكم الوجودي، والذين جوزوه قالوا: إنما يجوز ذلك بشرط أن يكون مناسبا؛ فلا جرم وجب ذكره في أول الأمر؛ ليعرف أنه، هل يصلح لأن يكون جزءا لعلة الحكم، أم لا؟.

وعن الثاني: أنا إن فسرنا العلة بالموجب، أو الداعي، كان بشرط كونه علة للحكم في محل أن يكون علة لذلك الحكم في جميع المحال؛ لأن العلة إنما توجب الحكم لماهيتها، ومقتضى الماهية أمر واحد، فإن كانت تلك الماهية موجبة لذلك الحكم في موضع، وجب كونها كذلك في كل المواضع، وإلا فلا. وعن الثالث: أنه لا نزاع فيما قالوه، لكنا ندعي أنه ينعطف من الفرق بين الأصل، وبين صورة التخصيص قيد على العلة، وهم ما أقاموا الدلالة على فساد ذلك. وعن الرابع: أن النظر في الأمارة إنما يفيد ظن الحكم، إذا غلب على الظن انتفاء ما يلازمه انتفاء الحكم؛ فإن من رأي الغيم الرطب في الشتاء بدون المطر في بعض الأوقات، ثم رآه مرة أخرى، فإنه لا يغلب على ظنه نزول المطر؛ إلا إذا غلب على ظنه انتفاء الأمر الذي لازمه عدم نزول المطر في المرة الأولى، وذلك لا يقدح في قولنا. وعن الخامس: أنه مسلم؛ لكنا ندعي أنه ينعطف من الفرق بين الأصل وصورة التخصيص قيد على العلة. وعن السادس: هب أنهم قالوا ذلك؛ لكنهم لم يقولوا ذلك: التمسك بذلك القياس جائز أم لا؟. وعن السابع: ما ذكرناه في الحجة الثالثة من جانبنا. الباب الثاني في الطرق الدالة على أن الوصف لا يكون علة قال القرافي: قوله: (إن لم يعتبر انتفاء المعارض، فسواء حصل المعارض

أو لم يحصل، كان ذلك الحكم حاصلا، [و] ذلك يقدح في كون المعارض معارضا): تقريره: أن دعواه عدم علية الوصف المنقوض، وقد استفاد دعواه على التقديرين: أما التقدير الأول: فلأنه لزم على تقدير كون الوصف علة تامة، أنه ليس علة تامة، وهو جمع بين النقيضين، فيكون هذا التقدير مستلزما لاجتماع النقيضين، فيكون محالا، فلا يكون الوصف علة؛ لأنه التقدير. وأما التقدير الثاني: فلأنه لزم أن يكون المعارض معارضا، والمقدر أنه معارض؛ لأن الترديد إنما وقع فيما هو معارض، فيكون تقدير علية الوصف- أيضا- مستلزما للجمع بين النقيضين، فبطل كونه علة مطلقا؛ لانحصاره في هذين التقديرين، وهو المطلوب. قوله: (الثقل يوجب الهوى بشرط عدم المانع): قلنا: - على رأي أهل الحق- هذه الأمور ليست موجبة بالذات، بل الله- تعالى- هو محرك الثقيل إلى أسفل وغيره. وإن أردتم أنه موجب في العادة، لا في العقل صح. وكذلك تمثيلكم المؤثر بشيل القادر الحجر إلى فوق، وإنما الله- تعالى- هو الخالق لحركات السائلين، بل ذلك في العادة صحيح، دون الحقيقة العقلية. قوله: (ما لم يكن خاطرا بالبال، لا يكون جزءا من الداعي): تقريره: أن الداعي هو الحامل على تحصيل الفعل، وهو السبب الغائي. فتصور الإنسان لمصلحة في الفعل تبعثه وتدعوه إلى الإقدام، أو مفسدة تحجبه على الإحجام، فهذا هو الداعي.

قوله: (عدم المانع يدل على أنه حدث أمر وجودي انضم إلى ما كان موجودا قب): قلنا: لا نسلم أنه يلزم من عدم المعارض أمر وجودي، فقد يكون عدم وعدم ضده دائمين من الأول إلى الأبد. ولو كان يلزم من عدم المعارض وجود أمر آخر، مع أن المعارض كان معدوما في الأزل، أن يكون ذلك الوجودي في الأزل، وذلك يقتضي قدم العالم، وهو محال. ثم إن هذا البحث يلزم منه خلاف المقدر؛ لأنا تكلمنا في وصف أنه تمام العلة أو المؤثر أو الداعي، فجعله مع ذلك الوجودي- الذي حدث- تمام العلة؛ خلاف الفرض المقدر. قوله: (كونه لا يجب نفي المعارض من أوضاع الجدل): تقريره: أن المجتهد لابد أن يفحص عن عدم المخصص في التمسك بالعموم، غير أن المناظرة بين أهل العصر منعوا من ذكر ذلك في المناظرات، سدا لباب الشغب، وحسم مادة النزاع؛ إسراعا لظهور الحق، ونفيا للجاج، فهو وضع جدلي لا وضع شرعي للمجتهد. ويرد عليه- هاهنا- ما تقدم في باب العموم والخصوص، أنه رجح التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص، وهاهنا ادعي أنه لابد من الفحص عنه، وتقدم- هنالك- أن تلك الدعوى خلاف الإجماع، وإيضاح ذلك. قوله: (بين المقتضي والمانع منافاة بالذات): قلنا: لا منافاة بين العلة والمانع، بل المنافاة بين أثريهما.

ألا ترى أن البنوة مع الرق لا منافاة بينهما، بل بين التوريث وعدمه، والزوال والحيض لا منافاة بينهما، بل بين وجوب الصلاة وعدمها، فكذلك جميع الموانع الشرعية. وإذا تقرر هذا لا يلزم من طريان الرق والقتل المانعين من الإرث- انتفاء البنوة التي هي سبب الإرث إجماعا. قوله: (لما كان شرط كون المانع مانعا- خروج المقتضي عن أن يكون مقتضيا بالفعل، لم يجز أن يكون خروجه عن كونه مقتضيا بالفعل؛ لأجل تحقق المانع): قلنا: إن أردتم بالاقتضاء الفعل، والمنع بالفعل الوصف بقيد استلزامه لحكمه- الذي هو الثبوت في العلة، والعدم في المانع- فلا شك أن أحد الوصفين بهذين القيدين يوجب التضاد بينهما. لكن المقتضى بقيد أثره أخص منه، من جهة أنه مقتضى، كما يصدق على البنوة أنها مقتضية للإرث من حيث إنها بنوة. والقتل العمد العدوان موجب لوجوب القصاص، مع قطع النظر عما يعرض من الموانع، واللازم من قولكم- حينئذ- إنما هو انتفاء الأخص، ولا يلزم من انتفاء الأخص انتفاء الأعم، ولم يدع الخصم إلا ثبوت الأعم الذي هو المقتضى من حيث هو مقتضى، لا المقتضي بقيد ثبوت أثره. ونقول: امتنع ترتب الأثر لأجل المانع، لا للاقتضاء الذاتي فبطل لأجل المانع. هذا هو مذهب الخصم. وعلى هذا خرج المقتضي عن أن يكون مقتضيا بالفعل لأجل المانع، ولم يخرج عن كونه مقتضيا بذاته كما قلتم. وإن أردتم بالاقتضاء بالفعل ما في ذات المقتضي من حيث هو مقتضي، من

اقتضاء الأثر إذا جرد النظر إليه، فلا تضاد ولا بطلان حينئذ؛ لطريان المانع ألبتة، بل الاقتضاء بالذات حاصل مع وجود المانع كما نقول: وصف البنوة مع قيام الفعل هو بحيث إذا جرد النظر إليه اقتضى الأثر شرعا ومناسبة. قوله: (وجد الوصف في الأصل مع وجود الحكم، وفي صورة التخصيص مع عدم الحكم): تقريره: أن صورة النقض تسمى صورة التخصيص، وتسمى العلة مخصوصة كذلك، كما يسمى النص مخصوصا؛ لأن التخصيص في النصوص إخراج بعض الصور التي تناولها النص عن أن يثبت فيها الحكم، وكذلك- هاهنا- خرج بعض صور وجود العلة عن أن يثبت فيها الحكم، وهو صورة النقض نصا، والكل تخصيصا. قوله: (وجود الوصف مع الحكم لا يقتضي القطع بكونه علة): تقريره: أنه يجوز أن يكون وصف آخر ما اطلعنا عليه، وهو علة الحكم. غايته أن الأصل عدمه، والأصل مقدمة ظنية لا يحصل معها القطع. قوله: (وجوده مع عدم الحكم في صورة التخصيص يقتضي القطع بأنه ليس بعلة): قلنا: لا نسلم حصول القطع، بل القطع في عدم ترتب الحكم عليه في صورة النقض إن كان مجمعا على عدم الحكم فيها، وإلا فلا قطع. وهذا مصادرة على مذهب الخصم؛ فإن الخصم جازم بأنه علة في صورة النقض وغيرها بالنظر إلى ذاته، ولا يلزم عنده من عدم ترتب الأثر عليه خروجه عن كونه علة في ذاته، فدعواكم القطع مصادرة محضة لا تسمع بغير دليل.

قوله: (ليس إلحاق الوصف بصورة التخصيص أولى من إلحاقه بصورة الأصل): قلنا: لا نسلم، بل إلحاقه بالأصل أولى؛ لأجل أن الأصل عدم التخصيص كما قلناه في النصوص؛ فإنا نلحق في العام المخصوص من صورة النزاع بصورة عدم التخصيص عملا بالعموم، ولا نلحقها بصورة التخصيص؛ لأن المخصص لم يتناولها، كذلك هاهنا لم يتناولها المانع القائم في الفرع، ويتناولها اقتضاء العلة وشمولها، فظهرت الأولوية. قوله: (تأثير المانع ليس في إعدام شيء؛ لأن ذلك يستدعي سابقة الوجود): قلنا: لا نسلم استدعاء سابقة الوجود، بل يعرض للوجود كما تقدم كلام الخصم، كما أن الماء تحت السفينة يمنعها من الوصول إلى الأرض؛ لأنها تعرضه [للصوق] بالأرض لولا الماء الحامل، كذلك هاهنا. قوله: (إن توقف الاقتضاء هاهنا على الاقتضاء هنالك لزم الدور (: قلنا: لا نسلم، وقد تقدم في العام المخصوص من هذا الدور. والجواب عنه بأن التوقف توقفان: توقف سبقي، توقف معي، فالدور لازم في الأول دون الثاني، فإن القائل لغيره: (لا أخرج حتى تخرج قبل)، ويقول الآخر كذلك، فيلزم الدور جزما. والقائل: (لا أخرج حتى تخرج معي)، ويقول الآخر كذلك يخرجان معا، ولا يلزم الدور مع حصول التوقف بين الطرفين، وكذلك هاهنا. والتوقف من الطرفين معي لا سبقي، فلا يحصل المقصود، ولا يلزم الدور.

قوله: (وجب حسنه في الشرع؛ لقوله عليه السلام: (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن). قلنا: قد تقدم السؤال على التمسك به مرارا، وهو أن الشيء إذا كان حسنا في العادة، فما استحسنه المسلمون إلا فيها، فيكون عند الله- تعالى- حسنا فيها لا في الشرع، والمقصود إنما هو حسنه في الشرع. ومن شرط هذه المادة استواء الأحوال، فإذا كان زيد يرى لبس الجباب في الشتاء حسنا، وقلنا: ما رآه زيد حسنا، فهو عند عمرو حسن، يقتضي أن يكون عمرو- أيضا- إنما يستحسن الجباب في الشتاء؛ إذ لو استحسنها في الصيف لكان غير ما استحسنه زيد لا عينه. فيفيد الحديث أن هذه حسنة عند الله- تعالى- في العادة كما رآه المسلمون حسنا في العادة، وجوابه بقاعدة، وهي: أن كلام الشارع إذا دار بين إنشاء حكم شرعي أو عقلي، فالأول أولى؛ لأنه- عليه السلام- إنما بعث لبيان الشرعيات، فإذا حملناه على ما قاله السائل، يرجع حاصله إلى أمر الله- تعالى- أنه حسن في العادة؛ إذ ليس يتعلق بالعادة شرعي، بل العلم والإرادة والقدرة وهي كلها أمور عقلية.

أما إذا جعلنا معناه: (فهو عند الله- تعالى- حسن) أي مشروع، كان ذلك حكما شرعيا، فكان أولى. قوله: (المناسب يفيد ظن العلية): قلنا: قد تقدم أن مطلق الظن ليس معتبرا شرعا، بل لابد من دليل شرعي يفيد اعتباره، ولم يذكروا دليلا على اعتبار هذه المرتبة المخصوصة من الظن، فلم يحصل المطلوب. قوله: (لو أضفنا الانتفاء في صورة التخصيص لحصول المانع كما علمنا بذينك الأصلين، وخالفنا أصلا واحدا، وهو أن يكون عدم الحكم لعدم المقتضى): قلنا: بل خالفتم أصلين: ما ذكرتم، وأصلا آخر. وهو أن الأصل عدم المعارض، وقد ألزمتموه في صورة التخصيص بين المقتضى والمانع، فقد اعتبرتم أصلين، وخالفتم أصلين، فلم يحصل الترجيح. قوله: (عدم المخصص إذا ضم إلى العام صار المجموع دليلا): قلنا: لا نسلم، بل الدليل العام فقط، كما أن الموجب للإرث هو البنوة، لا البنوة مع عدم الرق. ثم إنا نسلم ما ذكرتم، ونقول به في العلم: المجموع هو المعرف لثبوت العلم. وقولكم: (إن ذلك لا يتم على رأي بعضهم): قلنا: وكذلك العام المخصوص ليس حجة على رأي بعضهم، والضم عنده لا يتم.

(فائدة) الفرق بين النقض، والعكس، والكسر؛ فإن الفقيه محتاج لذلك

قوله: (إذا كانت العلة موجبة للحكم لذاتها، وجب أن توجب الحكم في جميع المحال): قلنا: وإنه كذلك، لكن إن أردتم بإيجابها: أنها بالنظر إلى ذاتها توجب في جميع المحال فمسلم، وهو عندنا كذلك في صورة النقض، غير أن المعارض وجد فيها. وإن أردتم الاقتضاء بالفعل المفسر بوجود الأثر منها، منعنا تفسير الاقتضاء بذلك. قوله: (ينعطف من الفرق بين [الفرع والأصل] فيدل على العلة): قلنا: الأصل عدم الانعطاف، وقد تقدم أنه لا ينعطف من المانع أمر وجودي، وإلا لزم قدم العالم، والمراد- هاهنا- بالفرع صورة النقض، وقد تقدم الكلام عليه. قوله: (الأمارة لا تفيد الظن إلا إذا غلب على الظن انتفاء ما يلازمه انتفاء الحكم): قلنا: لا نسلم، بل العلة التي هي الأمارة، إذا جرد النظر لذاتها حصل الظن، ولا يحتاج الظن لانتفاء المانع، بل لو جهل مطلقا حصل الظن. قوله: (لم يقولوا: التمسك بهذا القياس جائز أم لا): قلنا: إذا قال الصحابي رضي الله عنه: (هذا على خلاف القياس) فلا يفهم إلا القياس الشرعي، ومتى كان [شرعيا] كان معمولا به ضرورة، والقياس المنطقي والفاسد، لا يشير الصحابي إليه، ولا يتأسف على فواته بقوله: (هذا على خلاف القياس). (فائدة) الفرق بين النقض، والعكس، والكسر؛ فإن الفقيه محتاج لذلك.

فالنقض: وجود العلة بدون المعلول، أو الحد بدون المحدود، أو الدليل بدون المدلول، بحسب ما يكون النقض علة من علة أو غيرها. والعكس: وجود المعلول بدون العلة، أو المحدود بدون الحد، أو المدلول بدون الدليل، وهو غير وارد في العلل والأدلة؛ لأن العلل الشرعية يخلف بعضها بعضا، وكذلك الأدلة ووارد في الحدود؛ لأن الحد لابد أن يكون جامعا مانعا، فكونه جامعا يمنع من وجود المحدود بدونه. قال سيف الدين: فإن اتفق المتناظران على اتحاد العلة ورد العكس أيضا على العلة. والكسر: نقض على المعنى دون الوصف، كنقض تعليل الرخص في السفر، من حيث إنه مشقة بمشقة المريض والحمال. والصحيح [أنه] غير لازم؛ لأن العلة هي الوصف لا ذلك المعنى. ولو عللنا بذلك المعنى أو جعلناه علة لعلية الوصف، فهو لخصوص ذلك المعنى المضبوط قدرا أو جنسا، فكيف ينقض بغيره؟ وإنما يطلق عند ذكر رابطة التعليل؛ لاستقلال الجنس بإفادة أصل المناسبة، قال التبريزي. وقال غيره: صورته كمن يقول: صلاة يجب قضاؤها؛ فيجب أداؤها، كصلاة الأمن، فيحذف المعترض قيد كونها صلاة، ويقول: ينتقض بصوم الحائض؛ فإنه يجب قضاؤه دون أدائه. (تنبيه) زاد سراج الدين فقال: لقائل أن يقول: ما الدليل على أن الحاصل

قبل المعارض لا يكون تمام العلة؟ وأورده على الجواب الأول من أجوبة الأسئلة. وأورد على الجواب عن الثاني فقال: لقائل أن يقول: إن عنيت بالشرط معنى يقتضي تقدمه على المشروط، فليس شرط أحد المتنافيين انتفاء الآخر، وإلا كان كل واحد من النقيضين مشروطا بنفسه، ضرورة أن انتفاء كل واحد منهما عين ثبوت الآخر. وإن عنيت بالشرط ما ينعدم المشروط عند عدمه، لم يلزم الدور. وقال التبريزي: وجود وصف التعليل بدون الحكم يوجب الفساد مطلقا عند قوم. وشرط عدم الإيماء إليه عند قوم، وشرط ألا يظهر في محل التخلف ما يصلح مستندا له عند قوم، وشرط أن ينعطف عليه قيد من محل التخلف عند قوم، وشرط ألا يكون مستثنى من قاعدة الأصل عند قوم، ولا يدل على الفساد أصلا عند قوم، وإليه صار أبو زيد، والمختار هو الثالث. ثم احتج فقال على الانتفاء: الانتفاء إما أن يضاف إلى انتفاء العلة، أو وجود معارض، والأول راجح؛ فإن الثاني على خلاف الدليل من وجوه: أحدها: اعتبار معنى فيه منافاة حكم العلة، وفيه التزام التعارض بتقدير ما الأصل عدمه. الثاني: فرض وجوده في محل النقض، والأصل عدمه. الثالث: تقدير اعتبار وصف العلة؛ ليمكن إضافة وصف الانتفاء إلى المعارض، وهو مسبوق [بالعدم].

الرابع: ترك العمل بالعلة. الخامس: تغيير النفي الأصلي يقتضي العلة، والأصل استمراره. السادس: رفع ذلك المقدر، الأصل بقاؤه. السابع: مخالفة وضع العلل في المعقولات بوضع الموانع، وليس في نفي العلة عنه إلا مخالفة أصلين: أحدهما: تقدير أمر آخر هو العلة في الأصل. والآخر: عدم اعتبار مناسبة الوصف، والأصل اعتبارها. الوجه الثالث: إما أن يجوز المعلل نفي حكم العلة في الأصل من غير معارض، فليجوزه في الفرع، وإلا فليس بمعارض. ثم احتج للاعتبار فقال: يجب اعتبار العلة تقديرا [على وفق] المعهود؛ ليكون أقرب إلى القبول؛ لكونه أظهر في [المعقول]، وبه يندفع قولهم: (إنه تأثير [وضعي])؛ لأنه وإن كان وضعيا، لكنه يجب تطبيقه على الحقيقة، ويشهد له قوله عليه السلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)؛ فإنه لولا وجود ما يستند إليه الحكم بتقدير عدم المشقة لم انتظم هذا الكلام، كيف وإضافة عدم المعارض إلى تمام العلة مناقضة لوجه اقتضاء الملاءمة؛ فإنها [ترتبط] بطرق وجود المفسدة لانتفاء الحكم، لا بطرق عدمها لثبوت الحكم، فالإعراض عن اعتبار الوجود في الانتفاء إلى اعتبار العدم في الثبوت يكون مراغمة لها. وقولهم: (إنه ينعطف عليه قيد وجودي من محل التعليل) يرد عليه أنه إن انقدح ذلك فهو أولى، ولا نزاع فيه؛ فإنه إذا تعارض وجها الاعتبار، وكان العطف متأيدا بنفي المخالفة كان أولى.

مثاله: تعليل اعتبار تعيين النية في صوم القضاء بكونه عبادة مع تخلف الحكم عنه في النقل؛ إذ يمكن أن تكون مشقة [النقل] لتكرره، وعدم تأكيد الداعية إليه مانعة بحكم العلة، مع كونه مقتضيا بالفعل عدم المانع، وإنما انعدم هذا الشرط بوجود المانع. وقولهم: (لابد للمؤثر من أثر، والمعرف من تعريف): قلنا: إذا كان المراد بالمعرف والمؤثر ما من شأنه أن يؤثر أو يعرف بشرط عدم المانع، تصور أن يتخلف عنهما التأثير والتعريف. ثم قال: وأما التقييد بعدم كونه مستثنى عن قاعدة، [فيرجع] حاصله إلى الاستظهار بالاستثناء على اختصاص محل التخلف بمعارض منع حكم العلة، فيستغنى عن إبدائه تفصيلا. مثال: إيراد الحج نقضا على تعليل تعيين النية بكونه عبادة مفروضة، وإيراد لبن المصراة على تعليل ضمان المثل بتماثل الأجزاء في الخلقة والمنفعة، وإيراد بيع العرايا على تعليل الربا بالطعم، وحالة الاضطرار على تعليل تحريم الميتة بالخبث، وتعليل تحريم الخمر بالشدة. ويعلم كونه مستثنى تارة بالإجماع، وتارة بلفظ الراوي، كقوله: (وأرخص في السلم)، وتارة بجريان علة الخصم فيه كما في هذه

(فائدة) قال سيف الدين: جوز أكثر الحنفية، ومالك وابن حنبل، تخصيص العلة المستنبطة، ومنعه أكثر الشافعية، وروي المنع عن الشافعي

الصورة؛ فإن الحج وإن كان قضاء يستغنى عن التعيين، والكيل- أيضا- موجود في العرايا، وأمثال ذلك. ثم احتج للاعتبار مطلقا: [أنه] لو فسد المنقوض لفسد الغريب، فالللام منتف لما سبق من اعتبار الغريب، فالملزوم منتف. بيان الملازمة: أن العلية حكم المناسبة، وقران الحكم في الغريب كما أن الحكم [الأصلي] المعين حكم العلة المعينة، فلو كان تخلف الحكم عن العلة يوجب فسادها، لاشتركا في الفساد كما اشتركا في علة الفساد، وذكر [ملاحظات] ومباحث ليس فيها كثير فائدة، وهي في ضمن ما تقدم، وتركتها خشية السآمة والملال، وقد نقلت ما فيه فائدة جليلة. (فائدة) قال سيف الدين: جوز أكثر الحنفية، ومالك وابن حنبل، تخصيص العلة المستنبطة، ومنعه أكثر الشافعية، وروي المنع عن الشافعي. ثم اتفق المجوزون في المستنبطة على الجواز في المنصوصة، واختلفوا في المستنبطة إذا لم يوجد في صورة النقض مانع، ولا عدم شرط، فمنعه الأكثرون. والمانعون للتخصيص في المستنبطة اختلفوا في المنصوصة.

قال: والمختار التفصيل: وهو أن العلة الشرعية إما أن يكون قطعية، أو ظنية. فالقطعية لا يمكن تخلف الحكم عنها بغير دليل؛ لأن الحكم بغير دليل محال، أو بدليل ظني وهو لا يعارض القطعي، وتعارض قاطعين محال. والعلة الظنية إن تخلف حكمها على سبيل الاستثناء فلا يقتضي بطلانها، منصوصة كانت أو مستنبطة، أو لا على سبيل الاستثناء وهي منصوصة، فإن أمكن حمل النص على أن الوصف بعض العلة كتعليل انتقاض الوضوء بالخارج من غير السبيلين من قوله عليه السلام: (الوضوء مما خرج)، فإذا تخلف عنه الوضوء في الحجامة، أمكن أخذ قيد الخارج من السبيلين في العلة، وتأويل النص بصرفه عن عموم الخارج النجس إلى الخارج من المخرج المعتاد، أو حمله على تعليل حكم آخر غير الحكم المصرح به؛ لقوله تعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المسلمين} [الحشر: 2] [معللا بقوله تعالى]: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} [الحشر: 4] فإن الحكم المعلل المصرح بتعليله هو خراب البيت، وليس كل من شاق الله ورسوله يخرب بيته، فأمكن حمل الجواب على استحقاق الخراب، ومهما أمكن تأويل النص فهو أولى، جمعا بين دليل التعليل، ودليل إبطال العلة.

وإن لم يمكن تأويله بغير الوصف المذكور، والحكم المرتب عليه فغايته امتناع إثبات حكم العلة لمعارضة النص، والعلة المنصوصة في معنى النص، فكما أن تخلف حكم النص عنه لا يبطله، كذلك العلة المنصوصة والمستنبطة لا يفسدها التخلف لمانع، أو عدم شرط، كتخلف القصاص للأبوة والسيادة، جمعا بين المانع، والدال على علية الوصف. * * *

المسألة الثانية (في كيفية دفع النقض)

المسألة الثانية (في كيفية دفع النقض) قال الرازي: هذا لا يمكن إلا بأحد أمرين: أحدهما: المنع من حصول تمام تلك الأوصاف في صورة النقض. والثاني: المنع من عدم الحكم. أما القسم الأول: ففيه أبحاث: أحدها: المستدل: إذا منع من وجود الوصف في صورة النقض، لم يمكن المعترض من إقامة الدليل على وجوده فيها؛ لأنه انتقال إلى مسألة أخرى، بل لو قال المعترض: (ما دللت به على وجود المعنى في الفرع، يقتضي وجوده في صورة النقض) فهذا لو صح، لكان نقضا على دليل وجود العلة في الفرع، لا على كون ذلك الوصف علة للحكم؛ فيكون انتقالا من السؤال الذي بدأ به إلى غيره. وثانيها: أن المنع من وجود الوصف في صورة النقض: إنما يمكن لو وجد قيد في العلة يدفع النقض، وذلك القيد إما أن يكون له معنى واحد، أو معنيان؛ فإن كان معناه واحدا، فإما أن يكون وقوع الاحتراز به ظاهرا، أو لا يكون: مثال الظاهر: قولنا: (طهارة عن حدث، فتفتقر إلى النية؛ كالتيمم، فنقضه بإزالة النجاسة غير وارد؛ لأنا نقول: (عن حدث)، وإزالة النجاسة لا تكون عن حدث). مثال الخفي: قولنا في السلم الحال: (عقد معاوضة، فلا يكون الأجل من شرطه؛ كالبيع، ولا ينتقض بالكتابة؛ لأنها ليست معاوضة؛ لكنها عقد إرفاق.

أما إذا كان اللفظ له معنيان: فإما أن يكون مقولا عليهما بالتواطؤ، أو بالاشتراك: مثال التواطؤ: (قولنا: عبادة متكررة، فتفتقر إلى تعيين النية؛ كالصلاة): فإن قيل: (ينتقض بالحج؛ فإنه يتكرر على زيد وعمرو): قلنا: التكرار مقول على التكرار في الزمان، وعلى التكرار في الأشخاص، والأظهر هو الأول، وهو مردانا هاهنا. مثال الاشتراك: قولنا: (جمع الطلاق في القراء الواحد لا يكون مبتدعا؛ كما لو طلقها ثلاثا في قرء واحد، مع الرجعة بين الطلقتين). فإن قيل: (ينتقض بما لو طلقها في الحيض): قلنا: أردنا بالقرء الطهر. وثالثها: أنه، هل يجوز دفع النقض بقيد طردي؟. أما الطاردون: فقد جوزوه، وأما منكرو الطرد: فمنهم من جوزه، والحق: أنه لا يجوز؛ لأن أحد أجزاء العلة، إذا لم يكن مؤثرا، لم يكن مجموع العلة مؤثرا، ولأنه لو جاز تقييده بالقيد الطردي، لجاز تقييده بنعيق الغراب، وصرير الباب، وبالشخص والوقت؛ ولا نزاع في فساده. القسم الثاني: في منع عدم الحكم، وفيه أبحاث: أحدها: أن انتفاء الحكم: إن كان مذهبا للمعلل، والمعترض معا، كان متوجها، وإن كان مذهبا للمعلل فقط، كان متوجها أيضا؛ لأن المعلل، إذا لم يف بمقتضى علته في الاطراد، فلأن لا يجب على غيره كان أولى، وإن كان

مذهبا للمعترض فقط، لم يتوجه؛ لأن خلاف المعترض في تلك المسألة كخلافه في المسألة الأولى وهو محجوج بذلك الدليل في المسألتين معا. وثانيها: أن المنع من عدم الحكم قد يكون ظاهرا، وهو معلوم، وقد يكون خفيا، وهو على وجهين: الأول: كقولنا في السلم الحال: (عقد معارضة، فلا يكون الأجل من شرطه). فإن قيل: (ينتقض بالإجارة): قلنا: الأجل ليس شرطا في الإجارة؛ بل تقدير المعقود عليه. الثاني: كقولنا: (عقد معاوضة، فلا ينفسخ بالموت؛ كالبيع). فإن قيل: (ينتقض بالنكاح): قلنا: هناك لا ينتقض بالموت؛ لكن انتهى العقد. وثالثها: أن الحكم: إما أن يكون مجملا، أو مفصلا، وكل واحد منهما: إما في طرف الثبوت، أو في طرف الانتفاء، فهذه الأقسام أربعة: الأول: الإثبات المجمل: والمراد: أنا ندعي ثبوته، ولو في صورة ما، فهذا لا ينتقض بالنفي المفصل؛ وهو النفي عن صورة معينة؛ لأن الثبوت المجمل يكفي فيه ثبوته في صورة واحدة، والثبوت في صورة واحدة لا يناقضه النفي في صورة معينة. الثاني: النفي المجمل: ومعناه: أنه لا يثبت ألبتة، ولا في صورة واحدة، فهذا ينتقض بالثبوت المفصل؛ لأن ادعاء النفي عن كل الصور بناقضه في صورة معينة. الثالث: الإثبات المفصل: لا يناقضه النفي المفصل؛ لأن الثبوت في صورة

شرح القرافي: قوله: (لا يمكن ألا تمنع العلة في صورة النقض أو عدم الحكم)

معينة لا يناقضه النفي في صورة أخرى، لكن يناقضه النفي المجمل؛ لأن الثبوت في صورة واحدة يناقضه النفي المجمل. الرابع: النفي المفصل: لا يناقضه الإثبات المفصل؛ لما تقدم، ولا الإثبات المجمل؛ لأنه في قوة الإثبات المفصل، بل يناقضه الإثبات العام. ورابعها: أن الحكم الذي لا يكون ثابتا تحقيقا، لكنه يكون ثابتا تقديرا، هل يكون ذلك دافعا للنقض؟. مثاله إذا قال: (ملك الأم علة لرق الولد) قيل: ينتقض ذلك بولد المغرور بحرية الجارية، فإنه ينعقد ولده حرا فهاهنا انتفى ملك الولد تحقيقا، ولكنه موجود تقديرا؛ بدليل أن الغرم يجب على المغرور، ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع، وإلا لما وجبت قيمة الولد. المسألة الثانية في دفع النقض قال القرافي: قوله: (لا يمكن ألا تمنع العلة في صورة النقض أو عدم الحكم): تقريره: أن النقض وجود العلة دون الحكم، فماهيته مركبة من وجود وعدم. والقاعدة أن الماهية المركبة تنتفي بانتفاء أي جزء كان من أجزائها، فمتى منع عدم الحكم، أو مجموع الأوصاف، اندفع النقض. ومن الخلافيين من أجاب بوجه ثالث: وهو التزام خطئه، في صورة النقض، وقال: أنا قلت بعدم الحكم في صورة النقض، ولكني أخطأت في ذلك، ولا يلزم من خطئي هنالك التزام الخطأ هاهنا.

قوله: (إذا قال: دليل العلة موجود في صورة النقض يكون ذلك انتقالا): تقريره: أن السائل إذا قال: الدليل على وجود العلة في صورة النقض أن الدليل الذي دللت به على العلة في الأصل موجود في صورة النقض، وهو المناسبة- مثلا- أو غيرها، فيصير معناه: أن المناسبة قد وجدت في صورة النقض. فأنت تقول: العلة ليست معها، فهو نقض عليها. وهو يقول: بل العلة معها، فلا نقض عليها. فهذا بحث في نقض على المناسبة لا على علة الحكم، فهو انتقال من نقض إلى نقض، والمناظرة مبنية على حسم مادة النزاع وتفرق الخصام. نعم هذا إذا عرض للمجتهد تعين عليه اعتباره؛ لأن مقصوده استيفاء النظر في موارده، حيث صح. قوله: (إذا كان للفظ معنيان؛ فإما أن يكون مقولا عليهما بالتواطؤ، أو بالاشتراك): قلنا: معنى اللفظ هو مسماه؛ لأنه تقدم أول الكتاب أن أصله معنى على وزن (مفعل) اسم مكان للعناية- أي موضع قصد الواضع بالوضع له. ومتى كان اللفظ متواطئا كان لمعنى مشترك بينهما؛ فمسماه حينئذ واحد، فجعله من باب ماله معنيان غير مستقيم. وكذلك في المثال الذي ذكرتموه من التكرر؛ فإنه معنى واحد، وإنما التعدد في محاله. قوله: (الأجل ليس شرطا في الإجارة، بل تقديرا للمعقود عليه):

تقريره: أن المنافع لا يمكن استيفاؤها إلا موزعة على الزمان، فلا يمكن تسليم سكنى شهر في ساعة، فجاء الأصل من ضرورة المنفعة لا أنه شرط، بل الشرط ما يمكن حذفه وثبوته. أما ما لابد منه فهو كزمن الوزن في الصرف، لا يمكن أن يقال: هو يجوز اشتراط الأجل فيه؛ لأنه ضروري، بل إنما يقال ذلك فيما يمكن حذفه عن العقد. قوله في النكاح: (لم ينفسخ بالموت، بل انتهى): تقريره: أن عقد النكاح اقتضى دوامه إلى أقصر الزوجين عمرا، فإذا مات أحدهما فقد فرغ مقتضاه، كالإجارة شهرا، إذا فرغ الشهر، لا يقال: انفسخت، بل انتهت. قوله: (النفي المجمل ينتقض بالثبوت المفصل؛ لأن النفي عن كل الصور يناقضه الثبوت في صورة): قلنا: النهي عن كل الصور عام لا إجمال فيه، وإنما يسمى مجملا إذا قيل: حصل النفي في صورة لم يعينها اللفظ؛ ليحصل الإجمال حينئذ، أما مع العموم فلا. وكذلك قوله بعد هذا: (إن النفي المجمل يناقض الثبوت المفصل). ثم قوله: (النفي المفصل، والإثبات المفصل) يصدق بطريقتين: أحدهما: الاقتصار على صورة واحدة على وجه التعيين والتفصيل. والثاني: أن يعم الثبوت، أو النفي في جميع الصور على وجه التفصيل بتعيين كل واحد منهما بالذكر، فيكون مفصلا، ولا يحصل التناقض الذي ذكره، بل يناقضه المطلق من النقيض الآخر، فلا يستقيم إطلاق ما في

(سؤال) قال النقشواني: لا ينحصر دفع النقض بما ذكره

الكتاب على إطلاقه، بل كان يقول: (الإثبات في صورة معينة، والنفي في صورة معينة)، فهو أولى من ذكر الإجمال. (سؤال) قال النقشواني: لا ينحصر دفع النقض بما ذكره، بل يندفع بالمانع في صورة النقض. قال: ثم قوله: (لا يتمكن المعترض من إقامة الدليل على وجود

(تنبيه) قال التبريزي: ما يقع الاحتراز به عن النقض هل يجب ذكره في الدليل؟

الوصف؛ لأنه انتقال) لا يتجه، ولو فتح هذا الباب تعذر إيراد النقد؛ لأن المستدل لا يعجز عن مثل هذا، ولو بالمكاثرة. ولأنه معارض بأن للمعترض أن يمنع الوصف في صورة الفرع، ويطالب بالدليل، فإذا قام الدليل كان انتقالا. قال: ولئن قال المستدل: ألتزم تمام القياس، ومن جملته بيان الوصف في الفرع. قلنا: والمعترض التزم إيراد النقض، ومن جملته إبداء العلة في النقض، بل لو أخذ المستدل قيدا في العلة موجودا في الفرع دون النقض، فأراد المعترض إبداء وصف آخر في النقض يقوم مقام ذلك القيد، لا يقبل عند من لا يعلل بنفس الحكمة، وهو الحق؛ لأن الحكمة إنما انضبطت بهذا الوصف مع هذا القيد لا بقيد لآخر، ويقبل عند من يعلل بالحكمة؛ لأن المقتضى هو نوع تلك الحكمة، ولا مدخل لخصوص الوصف في ذلك. وأما إذا تمسك المعترض بغير ما تمسك به المستدل في وجود الوصف في الفرع، فلا نزاع في قبوله، وهو نقض على العلة بأقوى الطرق، وليس بانتقال. (تنبيه) قال التبريزي: ما يقع الاحتراز به عن النقض هل يجب ذكره في الدليل؟ كقولنا: مقتضى الدليل كذا، غير أنا خالفناه لكذا. قيل: يجب؛ لأن التعريف يتوقف على المجموع. وقيل: لا يجب؛ لأن الحكم لا يستند إليه، والأمر فيه اصطلاحي.

والدليل قد يكون مجملا، وقد يكون منفصلا، نفيا أو إثباتا، فهي أربعة أقسام: ونعني بالمجمل المطلق، كقولنا: يجب القصاص بالمثقل، ويصح بيع الغائب، ويقتل المسلم الذمي. والإثبات المجمل لا يناقضه النفي المفصل، [والمفصل من النفي أو الإثبات لا يناقضه المفصل] من الطرف الآخر. قلت: تفسيره المجمل بالمطلق غير مطابق أيضا؛ لأن المجمل ما فيه لبس، وما ذكره لا لبس فيه، بل هذه كلها مفصلات، فغير عبارته، وما سلم من سؤال. وقال سراج الدين: إثبات الحكم إن كان في صورة معينة، فهو المفصل، وإلا فالمجمل. ونفى الحكم عن كل صورة نفي مجمل، أو عن بعضها مفصل. وأنت تعرف أي الأربعة تناقض أيها. قلت: وقوله هذا قصد به موافقة المصنف في عبارته غير موفية؛ لأن قوله: (إثبات الحكم في صورة معينة) هو المفصل، وإلا فالمجمل: فيه تلفيف وإجمال؛ لأنه يريد بالمجمل صورة ما كيف كانت كما قاله (المحصول)، وعبارته يندرج تحتها الثبوت في كل صورة، والثبوت في صورة غير معينة، فأطلق في موضع التفصيل. وقوله: (وأنت تعلم أي هذه الأربعة تناقض أيها) - يريد ما تقرر غير مرة أن القضايا أربعة: موجبة كلية. وسالبة كلية.

(فائدة) قال سيف الدين: اختلفوا في النقض المكسور

وموجبة جزئية. وسالبة جزئية، وأن الإيجاب الكلي العام لا يناقضه إلا السلب الجزئي. والسلب العام لا يناقضه إلا الإيجاب الجزئي. ولا تناقض بين كليتين، وإن حصل التضاد. ولا بين جزئيتين؛ لإمكان الاجتماع، كقولنا: بعض العدد فرد، وبعضه ليس بفرد؛ لأن النقيضين هما اللذان لا يجتمعان، ولا يرتفعان، فكل شيئين [اجتمعا، أو ارتفعا]، فليسا نقيضين. وتاج الدين عبارته منطبقة على عبارة (المحصول). وسكت (المنتخب) عنه بالكلية، أعني هذه الأقسام الأربعة. (فائدة) قال سيف الدين: اختلفوا في النقض المكسور، وهو النقض على بعض أوصاف العلة، كقولنا في بيع الغائب: مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد، فلا يصح بعده كما لو قال: (بعتك عبدا) فينتقض بما لو تزوج امرأة ولم يرها؛ فإنها مجهولة، وإبطال التعليل ببعض أوصاف العلة لا يكون إبطالا لجملة العلة، إلا أن يبين المعترض أنه لا تأثير للوصف الذي وقع به الاحتراز عن النقض، لا بانفراده، ولا مع ضميمة إلى الوصف الآخر، [فإن] بقى المستدل على التعليل بمجموع الوصفين، فقد بطل التعليل بما علل به لعدم التأثير لا بالنقض. وإن ترك كلامه على التعليل بالوصف المنقوض، فقد بطل التعليل بالنقض؛ لكونه واردا على كل العلة.

(فائدة) قال أبو يعلى الحنبلي في (العمدة): إذا وقع النقض بتفسير علته بما يدفع النقض بتفسير مطابق للفظ العلة قبل منه

(فائدة) قال أبو يعلى الحنبلي في (العمدة): إذا وقع النقض بتفسير علته بما يدفع النقض بتفسير مطابق للفظ العلة قبل منه، أو مخالفا للفظ علته لم يقبل. فالمطابق: كقوله: متولد بين أصلين؛ فلا تجب فيه الزكاة، كما إذا كانت الأمهات من الظباء، فينتقض بالمتولد بين المعلوفة والسائمة. فيقول: أردت لا زكاة فيها بحال، (والمعلوفة) الزكاة فيها بحال. وغير المطابق كقوله: مكيل، فيحرم التفاضل كالبر، فينتقض بالجنسين. ويقول: أردت إذا [كانت] جنسا واحدا. وإذا كانت العلة للجواز فلا تنتقض بأعيان المسائل، كقوله: حر مسلم؛ فيجوز وجوب الزكاة في ماله كالبالغ، فينتقض [بالعبيد]، وما دون النصاب فلا يرد؛ فإن الجواز لا يستلزم الوقوع في جميع الصور. وإذا نقضت علته فقال: قصدت التسوية بين الأصل والفرع، جاز. وقال الحنفية- خلافا للشافعية- كقولنا في المسح على العمامة: عضو سقط في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين، فينتقض بالرأس في الغسل في الجنابة، فيقول: قصدت التسوية بين الرأس والقدمين؛ فإنهما كذلك في الغسل. ولا يجوز النقض بأصل نفسه، وجوزه القاضي أبو بكر بن الباقلاني، قال: لنا أن أصل الإنسان لا يكون حجة على غيره. * * *

المسألة الثالثة قال الرازي: وهي مشتملة على فرعين من فروع تخصيص العلة

المسألة الثالثة قال الرازي: وهي مشتملة على فرعين من فروع تخصيص العلة: الفرع الأول: إذا تخلف الحكم عن العلة، لا لمانع، فهل يقدح ذلك في صحة العلة أم لا؟. قال قوم: لا يقدح؛ لأنا لم ندع في مثل هذه العلة كونها مستلزمة للحكم قطعا، بل ادعينا كونها مستلزمة للحكم ظاهرا، فتخلف الحكم عنها في بعض الصور لا يقدح في كونها مستلزمة له غالبا؛ فوجب ألا يكون مفسدا للعلة، والحق أنه مفسد للعلة؛ لأن ذات العلة: إما أن تكون مستلزمة للحكم، أو لا تكون: فإن كانت مستلزمة له، وجب كونها كذلك أبدا، ولو كانت كذلك أبدا، لما زال هذا الحكم إلا لمزيل؛ وذلك المزيل هو المانع؛ فحيث زالت تلك المستلزمية، لا لمزيل، علمنا أن تلك الذات غير موصوفة بتلك المستلزمية؛ فوجب ألا تكون علة. الفرع الثاني: المتمسك بالعلة المخصوصة، هل يجب عليه في ابتداء الدليل ذكر نفي المانع، أم لا؟ أما الذين قالوا: لا يجب ذكره في الابتداء قالوا: لأن المستدل مطالب بذكر ما يكون موجبا للحكم، ومؤثرا فيه، والموجب لذلك الحكم هو ذلك الوصف، وأما نفي المانع، فليس له دخل في التأثير، وإذا كان كذلك، لم يجب ذكره في الابتداء.

شرح القرافي: قوله: (تخلف الحكم في بعض الصور لا يقدح في كونها مستلزمة له غالبا)

والذين قالوا: (يجب): احتجوا بأن المستدل مطالب بذكر ما يكون معرفا للحكم، والمعرف للحكم ليس تلك الأمارة فقط، بل تلك الأمارة، مع عدم المخصص؛ وإذا كان كذلك، وجب ذكرهما معا، فمقتضى هذا الدليل بيان نفي كل الموانع ابتداء، إلا أن إيجاب ذلك يفضي إلى العسر والمشقة، أما إيجاب نفي الموانع المتفق عليها، فلا يفضي إلى ذلك؛ فوجب أن يجب ذكره. المسألة الثالثة (فيها فرعان) قال القرافي: قوله: (تخلف الحكم في بعض الصور لا يقدح في كونها مستلزمة له غالبا): قلنا: بل يقدح، وما يعتمد عليه من أن القطر يتأخر عن السحاب في بعض الصور، ولا يقد ذلك فيه، وكذلك الإرواء عن الماء، والشبع عن الطعام، فلا مستند فيه؛ لأن التخلف في تلك الصور كلها لابد فيه من مرجح مناسب للتخلف، وإلا لزم الترجيح من غير مرجح، ونحن نتكلم في هذه المسألة على تقدير عدم المعاني الكلية، فلا يتجه إلا ما قاله الإمام- بعد هذا- أنه يدل على عدم الاستلزام بالكلية، غير أن المصنف ذكر دليلا مستقلا، ولم يبد وجه الطعن في حجة الخصم، وهذا وجه الطعن فيها. * * *

المسألة الرابعة قال الرازي: في أن النقض: إذا كان واردا على سبيل الاستثناء، هل يقدح في العلة أم لا؟

المسألة الرابعة قال الرازي: في أن النقض: إذا كان واردا على سبيل الاستثناء، هل يقدح في العلة أم لا؟. قال قوم: إنه لا يقدح، سواء كانت العلة معلومة، أو مظنونة: أما المعلومة: فلأنا نعلم أن من لم يقدم على جناية لا يؤاخذ بضمانها، ثم هذا لا ينتقض بضرب الدية على العاقلة، وأما المظنونة: فكالتعليل بالطعم؛ فإنه لا ينتقض بمسألة العرايا؛ فإنها وردت على سبيل الاستثناء رخصة. واعلم أنا إنما نعلم ورود النقض على سبيل الاستثناء، إذا كان لازما على جميع المذاهب؛ مثل مسألة العرايا؛ فإنها لازمة على جميع العلل؛ كالقوت، والكيل، والمال، والطعم. وإنما قلنا: (إن الوارد مورد الاستثناء لا يقدح في العلة) لأن الإجماع لما انعقد على أن حرمة الربا لا تعلل إلا بأحد هذه الأمور الأربعة، ومسألة العرايا واردة عليها أربعتها، فكانت هذه المسألة واردة على علة قطعنا بصحتها؛ والنقض لا يقدح في مثل هذه العلة، وأما أنه، هل يجب الاحتراز عنه في اللفظ، فقد اختلفوا فيه، والأولى الاحتراز منه. المسألة الرابعة النقض الوارد على سبيل الاستثناء قال القرافي: قوله: (نعلم أن من لم يقدم على الجناية لا يؤاخذ بضمانها، فلا ينتقض بضرب الدية على العاقلة):

قلنا: هذا على التحقيق ليس نقضا بل عكس، والعكس غير وارد؛ لأن علل الشرع يخلف بعضها بعضا، فإبداء الحكم مع عدم العلة لا يرد، وهذا كذلك؛ لأن الجناية سبب الضمان توجب الضمان بدون الجناية، والعلة- هاهنا- الرفق بالجاني، وضبطا للدية؛ لأنها بكثرتها تجحف بالجاني، وهو لم يعص الله- تعالى- لأنه مخطئ، والمخطئ غير عاص، فإن أخذت منه أجحفت به، وإن عجز عنها ضاعت الدية بالإعسار، فهذه علة أخرى غير الجناية، وليست من باب النص، بل من باب العكس. * * *

المسألة الخامسة في الكسر

المسألة الخامسة الكسر نقض يرد على المعنى، دون اللفظ؛ كما إذا قال في وجوب صلاة الخوف: (صلاة يجب قضاؤها، فيجب أداؤها قياسا على صلاة الأمن) فيظن المعترض أنه لا تأثير لكون العبادة صلاة في هذا الحكم، وأن المؤثر هو وجوب القضاء، فينقضه بصوم الحائض؛ فإنه يجب قضاؤه، ولا يجب أداؤه. واعلم أن المعترض ما لم يبين إلغاء القيد الذي به وقع الاحتراز عن النقض- لا يمكنه إيراد النقض على الباقي، فيكون ذلك في الحقيقة قدحا في تمام العلة؛ لعدم التأثير في جزئها بالنقض. المسألة الخامسة في الكسر قال القرافي: قال التبريزي: مثاله: تعليل الرخص في السفر من حيث إنه مشقة، فننقضه بمشقة المريض، والحمال. والصحيح [أنه] غير لازم؛ فإن العلة هي الوصف لا ذلك المعنى، ولو علل بذلك المعنى أو جعل علة لعلية الوصف، فهو بخصوص ذلك المعنى المضبوط بالوصف قدرا وجنسا، فكيف ينقض بغيره؟ وإنما يطلق عند ذكر رابطة التعليل؛ لاستقلال الجنس بإفادة أصل المناسبة. قال سيف الدين: الكسر تخلف الحكم المعلل عن معنى العلة، وهي الحكمة المقصودة من الحكم، واختلفوا هل تبطل العلة أم لا؟.

مثال: العاصي بسفره مسافر، فيترخص كغير العاصي في سفره؛ لأن السفر مشقة مناسبة للترخص، فينقضه السائل بالحمال، وأرباب الصنائع الشاقة في الحضر. والأكثرون على أنه غير مبطل للعلة؛ لأن هذه حكمة غير منضبطة أقام الشرع مظنتها مقامها، فيمتنع التعليل بها دون ضابطها، فلا يرد النقض عليها؛ لأنها في نفسها ليست علة. قال: فإن قيل: المقصود من شرع الأحكام إنما هو الحكمة دون ضابطها، فيحتمل أن تكون في صورة النقض مساويا لصورة التعليل أو زائدة، فيثبت الحكم في صورة النقض، أو أنقض، فلا يلزم الثبوت، غير أن وقوع تقديرين أغلب على الظن من وقوع تقدير واحد. قلنا: الحكمة وإن كانت هي المقصودة من الأحكام، لكن على وجه تكون منضبطة، وغير المنضبط لا يعتبره الشارع؛ نفيا [للحرج] عن الخلق. قال: فإن قيل: إذا فرض وجود الحكمة في صورة النقض قطعا، فما المختار فيه؟ قال: قلنا: ذلك مما يمتنع وقوعه، وبتقدير وقوعه، قال بعض أصحابنا: لا يلتفت إليه؛ لأن معرفتها في آحاد الصور حرج، فأسقط الشرع اعتبارها نظرا لجنسها، ويعتمد على الضوابط الكلية. قال: ولقائل أن يقول: ذلك وإن كان حرجا، غير أن المقصود الأصلي هو الحكمة، فإذا لم يثبت حكمها، فحيث قطعنا بوجودها، ولم نقل بالتعليل بها لزم منه انتفاء الحكم مع وجود حكمته قطعا، وذلك ممتنع كما امتنع إثبات الحكم مع انتفاء حكمته قطعا فيما عدا الصورة النادرة، وكذلك لو لم نقل بإلغائها عند تخلف الحكم عنها مع تيقنها، يلزم إثبات الحكم بها مع الضابط مع كونها ملغاة قطعا.

(فائدة) سمعت الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول: اتفقوا على أنه إذا قطع بانتفاء الحكمة لا يثبت الحكم

ومعلوم أن محذور إثبات حكم الحكمة الملغاة، أو نفي الحكم مع وجود حكمته يقينا، أعظم من محذور البحث عن الحكمة في آحاد الصور. (فائدة) سمعت الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول: اتفقوا على أنه إذا قطع بانتفاء الحكمة لا يثبت الحكم. وأشكل بهذا قول علي: (إذا سكر هذي وإذا هذي افترى)، فيقيم الحد على من يقطع بأنه لم يقذف، فهو إثبات الحكم حيث قطعنا بانتفاء الحكمة، وكان يستشكل هذا الأثر لهذه القاعدة. وكلام سيف الدين- هاهنا- يشعر بالاتفاق على نفي الحكم عند القطع بعدم الحكمة. ورأيت الغزالي في (شفاء الغليل) قال- بعد ذكره لهذا المثال-: إن قلت: ليس كل من سكر يقذف، فإيجاب حد جريمة على من لم يجرم غريب، لا يشهد له نظير. قال: قلنا: ليس كذلك؛ لأنهم امتنعوا أولا أن يعاقبوه عقوبة لم تعهد، ولو كان الأمر كما قلتم لما افتقروا إلى الشبه بحد مشروع، ثم لم يوجبوا حد جريمة على من لم يجرمها، وطلبوا مناسبة بين جريمتين، وقد عهدوا في الشرع إقامة المظان مقام المظنون المقصود في إفادة الحكم، كما أقيم النوم مقام خروج الحدث، وإن لم يخرج الحدث، ومغيب الحشفة مقام الإنزال وإن لم يوجد، والبلوغ مقام العقل، وإن لم يتزيد عنده عقلي، ونظير الأثر الوارد في الشرب قولنا: من غيب الحشفة أنزل، ومن أنزل اغتسل. * * *

الفصل الثاني (في عدم التأثير)

الفصل الثاني (في عدم التأثير) وهو عبارة عما إذا كان الحكم يبقى بدون ما فرض علة له، وأما العكس، فهو أن يحصل مثل ذلك الحكم في صورة أخرى؛ لعلة تخالف العلة الأولى، إذا عرفت هذا، فنقول: الدليل على أن عدم التأثير يقدح في كون الوصف علة: هو أن الحكم، لما بقي بعد عدمه، وكان موجودا قبل وجوده، علمنا استغناءه عنه، والمستغني عن الشيء لا يكون معللا به. واعلم أن هذا حق، إذا فسرنا العلة بالمؤثر، أما إذا فسرناها بالمعرف فلا؛ لجواز أن كون الحادث معرفا لوجود ما كان موجودا قبله، ويبقى موجودا بعده؛ كالعالم مع الباري تعالى. وأما أن العكس غير واجب في العلل، فهو قولنا وقول المعتزلة، وأما أصحابنا، فإنهم أوجبوا العكس في العلل العقلية، وما أوجبوا في العلل الشرعية، والدليل على عدم وجوبه في العلل العقلية: أن المختلفين يشتركان في كون كل واحد منهما مخالفا للآخر، وتلك المخالفة من لوازم ماهيتهما، واشتراك اللوازم مع اختلاف الملزومات يدل على قولنا. والذي يدل على جواز ذلك في العلل الشرعية: أنا سنقيم الدلالة على جواز تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة في الشرعيات، وذلك يوجب القطع بأن العكس غير معتبر.

شرح القرافي: قوله: (هو بقاء الحكم بدون ما فرض علة له)

الفصل الثاني في عدم التأثير قال القرافي: قوله: (هو بقاء الحكم بدون ما فرض علة له):

(فائدة) قال الإمام في (البرهان): قال الجدليون: عدم التأثير في الوصف، وعدم التأثير في الأصل

تقريره: أنه يريد في الصورة الواحدة، ولهذا أشار في العكس أنه يكون باعتبار صورتين. مثاله: عدم التأثير: إذا عللنا تحريم الخمر بغليانه في إنائه، ثم طال الزمان، وسكن الغليان، وبقى الإسكار، فإن التحريم ثابت مع انتفاء الغليان، فدل ذلك على أنه ليس بعلة له. قوله: (لما بقى الحكم بعده، وكان موجودا قبله، علمنا استغناءه عنه): قلنا: هذه زيادة في عدم التأثير مالها ضرورة، وهو موجود الحكم قبل الوصف وبعده، بل يكفي [تقريره] في تلك الصورة بدون ذلك الوصف سابقا أو لاحقا، فيدل ذلك على عدم اعتباره، أما مجموع الأمرين، فلا حاجة إليه. (فائدة) قال الإمام في (البرهان): قال الجدليون: عدم التأثير في الوصف، وعدم التأثير في الأصل.

فالأول: قول في العكس. والثاني: ذكر صفة في الأصل لا تستقل علة، وعلة الأصل تستقل دونها. قال: وأرى أن القسمين ينشآن من الأصل، فإن فرض حكم الأصل معللا بعلل، فالعلة الواحدة لا يتضمن انتفاؤها انتفاء الحكم، وهذا منشؤه من تعدد [العلة] في الأصل، فإذا اتحدت العلة لزم العكس. قوله: (الاشتراك في اللوازم مع اختلاف الملزومات يدل على أن العكس في العلل العقلية غير لازم): فلنا: أما اختلاف المختلفات، وتضاد المتضادات، وغير ذلك، فلا حجة فيه؛ لأنا نمنع التعليل في هذه الصورة، بل هذه اللوازم عندنا لازمة لذاتها غير معللة، كما نقول: الزوجية لازمة لوصف العشرة، والأربعة لذاتها غير معللة، وإذا انتفى التعليل بطل مقصودكم، وقد اشتهر في كلام القدماء: أن اللوازم معلولات. وشبهتهم في ذلك أن الملزوم يقتضي وجوده وجود اللازم، كما أن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم، وإذا كان الوجود يقتضي الموجود، كان الوجود المقتضى علة؛ لأنا لا نعني بالعلة إلا ذلك. ووافقهم الإمام على ذلك. والجواب: أن العلم بوجود الملزوم، يلزم منه العلم بوجود اللازم، كما أن العلم بالمشروط يلزم منه العلم بوجود الشرط من غير تعليل ألبتة، بل هي ملازمات بين علوم في العقول، إما لذواتها، وإما لأسباب خارجية، من غير تعليل بينها، كما أن متى علمنا وجود العرض، علمنا أن هناك جوهرا متحيزا، وليس العرض علة للجوهر بالاتفاق، وكذلك العلم [بالعالم] يوجب العلم بالصانع، مع أن الصانع واجب الوجود، شديد البعد من التعليل، والصفة لا تكون علة لصانعها، وكذلك العلم بالمعلول، يلزم منه العلم بعلته؛ والمعلول لا يكون علة، وإلا لزم الدور.

(سؤال) قال النقشواني: ما ذكره في العلل الشرعية لا يرد على من يعلل بنفس الحكمة

سلمنا: أن ما استلزم وجوده وجود غيره يكون علة له، لكن لا نسلم أن المخالفة، والمماثلة ونحوها، يصلح أن يكون معلولة؛ لأنها من باب النسب والإضافات، والنسب والإضافات موجودة في الأذهان دون الأعيان، وما لا يكون موجودا في الخارج، امتنع كونه معلولا في الخارج، لاسيما والمعلول يكون لازما لذات العلة، فما ليس مع ذاتها، لا يكون معلولا لها. (سؤال) قال النقشواني: ما ذكره في العلل الشرعية لا يرد على من يعلل بنفس الحكمة؛ لأنه يمنع ثبوت الحكم بدونها، واختلاف الأوصاف لا يضر؛ لأنها مقاربة للحكمة، والمقارب قد يفارق مع بقاء أصل الحكمة، والحكمة الواحدة بالنوع جاز أن يكون لها ضوابط مختلفة، ومن يعلل بالوصف يرد عليه ذلك. (تنبيه) زاد التبريزي فقال: العكس إنما يلزم عند اتحاد العلة، وقد أجمعوا على جواز تعددها في الشرع، وأما في العقل، فقد أنكره معظمهم، وجوزه الأقل، واختاره المصنف. واستدل بالمختلفات ونحوها، وليس هو من قبيل العلل والمعلولات؛ فإن الاختلاف اشتمال أحدهما على ما لم يشتمل عليه الآخر من أحد الجانبين، أو من كلا الجانبين، وهو جزء الجملة، فلو جعلنا الماهية علة للاختلاف، لزم أن يكون الشيء علة لجزء ماهية نفسه، ويدل عليه أن الاختلاف لو كان معنى زائدا على ماهيتها، لكان قائما بنفسه، أو بهما، أو بأحدهما، أو بثالث، [و] الأول باطل؛ فإن المعنى لا يقوم بنفسه، وكذلك الرابع؛ فإن

(فائدة) قال سيف الدين: العكس لغة: رد أول الأمر إلى آخره، وآخره إلى أوله

اختلافهما باختلاف قائم بغيرهما ليس [بأولى] من اختلاف غيرهما به، ومحال [أن يقوم] بأحدهما؛ فإن الاختلاف يعمهما، ومحال أن يخالف الشيء غيره باختلاف قائم بغيره؛ ولأنه ليس تقدير قيام الاختلاف بأحدهما بأولى من تقدير قيامه بالآخر، ومحال أن يقوم بهما، لكنه إما أن يقوم بهما لاختلاف واحد، وفيه قيام معنى واحد بمحلين، ثم إن تعليل كل اختلاف بالماهية التي قام لها، أو كلاهما بكل واحدة من الماهيتين، أو بمجموعهما. والأول: تعليل بحكمين مختلفين. والثاني: اجتماع مؤثرين على كل واحد من الأثرين. والثالث: قيام بجزء العلة، لا بمحل قيام الحكم. وإن كانا متماثلين كان التماثل- أيضا- أمرا زائدا، وتسلسل. ثم إن علل كل واحد [بماهيته] لزم تحققه مع تقدير عدم الخلاف الآخر، وهو محال؛ فإن الاختلاف أمر إضافي لا يعقل مع فرض انتفاء المضاف إليه، وإن علل بهما فقد علل بما لم يقم بمحل قيامه، وهو أيضا محال. ثم ما ذكره يبطل بالعام والخاص؛ فإنهما مختلفان، وماهية أحدهما جزء ماهية الآخر، ولو كانت الماهية علة الاختلاف، لكان الخاص مخالفا لنفسه، لاشتماله على ماهية العام. (فائدة) قال سيف الدين: العكس لغة: رد أول الأمر إلى آخره، وآخره إلى أوله، من تعاكس البعير بخطامه إلى ذراعه. وفي اصطلاح الحكماء: جعل اللازم ملزوما، والملزوم لازما، مع بقاء

كيفية القضية بحالها من السلب والإيجاب، كقولنا: "لا شيء من الإنسان بحجر"، فعكسه "لا شيء من الحجر بإنسان". وعند الفقهاء والأصوليين، له اعتباران: أحدهما: مثل قول الحنفي: لما لم يجب القصاص بصغير المثقل لم يجب [بكبيره]، بدليل عكسه في المحدد: لما وجب [بكبيره]، وجب بصغيره. وثانيهما: انتفاء الحكم عند انتفاء العلة، وهو المقصود بالخلاف هاهنا. والمختار التفصيل: إن لم يكن للحكم سوى علة واحدة، كتعليل جنس القصاص بالقتل العمد العدوان، فالعكس لازم. أوله علل، كإباحة الدم بالقتل، والردة، والزنا، فلا يلزم العكس، ولا يبقى الحكم إلا عند انتفاء جميعها. قال: قلنا: العلة وإن كانت دليل الحكم، فإنا لا نعني بانتفاء الحكم إلا انتفاء العلم به أو الظن، وكذلك في الصنعة مع الصانع. قال الإمام في "البرهان": إذا اعتقد المعلل اتحاد العلة، ولم يقم عنده دليل توقيف في انتفاء الحكم عند انتفاء العلة، فإنه يعتقد انتفاء الحكم عند انتفاء العلة، ويلتزم ذلك، غير أنه لا [يلزم] في أوضاع الجدل أن يبدى توقيفا مقتضاه منع الانعكاس. ***

الفصل الثالث "في القلب" وفيه مسائل

الفصل الثالث "في القلب" وفيه مسائل: قال الرازي: المسألة الأولى: في حقيقته، وحقيقته أن يعلق على العلة المذكورة في قياس- نقيض الحكم المذكور فيه، ويرد إلى ذلك الأصل بعينه، وإنما شرطنا اتحاد الأصل؛ لأنه لو رد إلى أصل آخر، لكان ذلك الأصل الآخر: إما أن يكون حاصلا في الأصل الأول، أو لا يكون: فإن كان الأول، كان رده إليه أولى؛ لأن المستدل لا يمكنه منع وجود تلك الصلة فيه، ويمكنه منع وجودها في أصل آخر. وإن كان الثاني: كان أصل القياس الآخر نقضا على تلك العلة؛ لأن ذاك الوصف حاصل فيه، مع عدم ذلك الحكم. المسألة الثانية: منهم من أنكر إمكانه؛ لوجهين: الأول: أن الحكم الذي علقه القالب على العلة، لابد وأن يكون مخالفا للحكم الذي علقه القائس عليها؛ وإلا لما كان إلا تكريرا في اللفظ، ثم إن ذينك الحكمين: إما أن يمكن اجتماعهما، أو لا يمكن: فإن كان الأول، لم يقدح ذلك في العلة؛ لأنه لا امتناع في أن يكون للعلة الواحدة حكمان غير متنافيين. والثاني محال؛ لأنا بينا أن الأصل الذي يرد إليه القالب والقائس لابد وأن يكون واحدا، والصورة الواحدة يستحيل أن يحصل فيها حكمان متنافيان. الثاني: أن العلة المستنبطة لابد وأن تكون مناسبة للحكم، والوصف الواجد يستحيل أن يكون مناسبا لحكمين متنافيين.

والجواب عن الأول: أن ها هنا احتمالا آخر، وهو ألا يكون الحكمان متنافيين؛ فلا جرم يصح حصولهما في الأصل، لكن دل دليل منفصل على امتناع اجتماعهما في الفرع، فإذا بين القالب: أن الوصف الحاصل في الفرع ليس بأن يقتضي أحد الحكمين أولى من الآخر، كان الأصل شاهدا لهما الاعتبار؛ لما بينا أنه لا منافاة بينهما في الأصل- ويقتضي امتناع حصول الحكم في الفرع لما أنه ليس حصول أحدهما أولى من الآخر، وقد قامت الدلالة على امتناع حصولهما في الفرع، وهذا الكلام كما أنه جواب عن شبهة المنكر، فهو دليل ابتداء على إمكان القلب. وعن الثاني: أن المناسبة قد لا تكون حقيقة، بل إقناعية، فبالقلب ينكشف أنها ما كانت حقيقة. المسالة الثالثة: القلب معارضة، إلا في أمرين: أحدهما: أنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة، وفي سائر المعارضات يمكن. الثاني: أنه لا يمكن منع وجود العلة في الفرع والأصل؛ لأن أصله وفرعه هو أصل المعلل وفرعه، ويمكن ذلك في سائر المعارضات. وأما فيما وراء هذين الوجهين، فلا فرق بينه وبين المعارضة؛ فعلى هذا: للمستدل أن يمنع حكم القالب في الأصل، وأن يقدح في تأثير العلة فيه بالنقض، وعدم التأثير، وأن يقول بموجبه، إذا أمكنه بيان أن اللازم من ذلك القلب لن ينافي حكمه، وأن يقلب قلبه، أذا لم يكن قلب القالب مناقضا للحكم؛ لأن قلب القالب، إذا فسد بالقلب الثاني، سلم أصل القياس من القلب.

المسألة الرابعة: القالب: إما أن يذكر القلب؛ لإثبات مذهبه أو لإبطال مذهب خصمه: والأول: مثل أن يقول الحنفي في أن الصوم شرط في صحة الاعتكاف: "لبث مخصوص، فلا يكون بدون الصوم قربة؛ كالوقوف بعرفة" فيقول القالب: "لبث مخصوص، فلا يعتبر القوم في كونه قربة؛ كالوقوف بعرفة" فالحكمان المذكوران في الأصل والقلب لا يتنافيان في الأصل، ويتنافيان في الفرع. وأما الثاني: فإما أن يدل القالب على فساد مذهبه صريحا، أو ضمنا، وهو أن يدل على فساد لازم من لوازم مذهب الخصم. مثال الأول: قول الحنفي في المسح: "ركن من أركان الوضوء؛ فلا يكتفي فيه بأقل ما يقع عليه الاسم؛ كالوجه، فيقول القالب: "فوجب ألا يتقدر الفرض فيه بالربع؛ كالوجه" وهذان الحكمان لا يتناقضان في ذاتيهما؛ لأنهما حصلا في الوجه، ولكن يتنافيان في الفرع بواسطة اتفاق الإمامين. مثال الثاني: قولهم في بيع الغائب: "عقد معاوضة، فينعقد مع الجهل بالعوض؛ كالنكاح" فيقول القالب: "فلا يثبت فيه خيار الرؤية؛ كالنكاح، ويلزم من فساد خيار الرؤية فساد البيع" وهذا الحكمان غير متنافيين في الأصل؛ لأنه اجتمع في النكاح الصحة وعدم الخيار؛ لكن لا يمكن اجتماعهما في الفرع. وقال بعضهم: هذا النوع منن القلب غير مقبول؛ لأن دلالة الوصف على ثبوت الحكم، لا بواسطة- أظهر من دلالته على انتفاء الحكم بواسطة.

شرح القرافي: قوله: "الوصف الواحد لا يناسب المتنافيين"

واعلم أنه يقع في هذا النوع شيء يسمى قلب التسوية؛ مثاله: أن يقول الحنفي في طلاق المكره: "مكلف مالك للطلاق، فيقع طلاقه؛ كالمختار" فيقول القالب: "فوجب أن يستوي حكم إيقاعه وإقراره كالمختار": وبعضهم قدح فيه بأن قال: "الحاصل: اعتبارهما معا في الثبوت في الأصل وفي الفرع عند القالب- عدم وقوعهما معا؛ فكيف تتحقق التسوية؟ ": جوابه: أن عدم الاختلاف بين الحكمين حاضر في الفرع والأصل؛ لكن في الفرع في جانب العدم، وفي الأصل في جانب الثبوت، وذلك لا يقدح في الاستواء في الأصل. الفصل الثالث في القلب قوله: "الوصف الواحد لا يناسب المتنافيين":

قلنا: لا نسلم، فقد ذكر الأصوليون والفقهاء جمع: الفرق، وهو ترتيب النقيضين على مناسبة وصف، ومثلوه بأن صون مال المحجور عليه على مصالحة يقتضي رد تصرفاته، وتنفيذ وصاياه نقيضها- أيضا- صون ماله على مصالحه. فصار صون المال على المصالح يناسب التنفيذ وعدمه، وهما نقيضان، لكن باعتبار حالتي المحجور، ونظائره كثيرة. قوله: "لبث مخصوص، فلا يكون بدون الصوم قربة كالوقوف بـ "عرفة": تقريره: أن هذا الكلام لا يتقل بنفسه؛ لأن الوقوف بـ "عرفة" لا يفتقر الصوم، بل أصل التقدير أن يقال: "لبث في مكان مخصوص، فلا يستقل بنفسه قربة، كالوقوف بـ "عرفة"، وإذا لم يستقل بنفسه تعين صوم غيره إليه، وكل من قال: يضم عبادة أخرى إليه، قال: هي الصوم، فيجب الصوم".

"سؤال" قال النقشوانى: ما ذكره في القلب معارضة في حكم المسألة

قوله في المكره: "يستوي إقراره وإيقاعه كالمختار": تقريره: أن الحنفية قالت: يلزم المكره الإنشاء دون الإقرار؛ لأن الإنشاء متضمن السبب الموجب؛ [لأنه] آلة العصمة، والأصل ترتب المسببات على أسبابها، والإقرار إنما هو دال على تقدم السبب، لا أنه سبب في نفسه، فضعف اعتباره؛ لرجحان الكذب بالإكراه، وعدم تعين السبب، بخلاف إذا تعين السبب تعين اعتباره. قوله: "ويعضهم قدح فيه بأن قال: "الحاصل اعتبارهما معا [في الثبوت في الأصل]، وفي الفرع عند الغالب: عدم وقوعهما معا، فكيف تتحقق التسوية؟ ": قلت: هكذا رأيته في عدة نسخ، ويحتاج إلى زيادة بعد قوله: "الحاصل وهي قولنا: في الأصل"، فيكون الكلام هكذا: "الحاصل في الأصل اعتبارهما معا، وفي الفرع عدم وقوعهما، فلا تتحقق التسوية". ولم أجد في "الحاصل"، و"المنتخب"، و"التحصيل" إلا كما ذكرته- مكملا- من غير خلل، وهو بدل على أن الخلل خاص بالنسخ التي حضرتني. "سؤال" قال النقشوانى: ما ذكره في القلب معارضة في حكم المسألة، لا في إبطال عليه الوصف، وقد صرح المؤلف بذلك، مع أن عده من الطرق الدالة على كون الوصف ليس بعلة. قال: جوابه: أن القلب وإن كان معارضة- كما قال- لكنه قدح في العلة، من جهة أن الوصف إذا أمكن أن يصحب النقيضين: الحكم المدعى، وعدمه، ضعف التزامه للمدعى [عندنا]، وإذا ضعف استلزامه، كان ذلك قدحا فيه، فاتجه به أن القلب من القوادح في الوصف.

"تنبيه" زاد التبريزي فقال: يشترط في القلب الرد إلى أقل المعلل

"تنبيه" زاد التبريزي فقال: يشترط في القلب الرد إلى أقل المعلل. وقيل: لا يشترط؛ فإن وجه القدح به بيان عدم الاختصاص بالحكم المنوط [به]، وهو لا يتوقف على اتحاد الأصل. وزاد في مثل قلب التسوية، فقال: إذا قال: ينتفض الوضوء بالخارج من غير السبيلين، كالخارج منهما. يقول القالب: يل يستوي قليله وكثيره كالأصل. قال: ويرجع قلب التسوية إلى إلزام الوفاء بتمام الحكم؛ لأنه المناط كما زعم؛ لأن حكم علة الأصل في البيع الانعقاد بوصف اللزوم، وإيجاب الخارج للوضوء وإن قل. "فائدة" قال الباجي في "الفصول": "لا يصح قلب القلب". وقال بعض المالكية، وبعض الشافعية: يصح؛ لأن القلب نقض، والقض لا ينقض؛ ولأن القلب مفسد للعلة. احتجوا: بأنه معارضة، والمعارضة تعارض، وهذا الخلاف لم يحكه المصنف. "فائدة" قال سيف الدين: القلب قلبان: قلب الدعوى، وقلب الدليل.

وقلب الدعوى ضربان؛ لأن الدعوى إما أن يكون الدليل مضمرا فيها، أو لا يكون. فالأول: كقول الأشعري: "أعلم- بالضرورة- أن موجودا مرئي. فهذه دعوى فيها الدليل مضمر، تقديره: لأنه موجود؛ لأن الوجود هو المصحح للرؤية عنده. فيقول المعتزلى: أعلم- بالضرورة- أن كل ما ليس في جهة، لا يكون مرئيا. فهذه الدعوى تقابل الأولى، من حيث إن الموجود ينقسم إلى: ما هو في جهة، وإلى ما ليس في جهة. فالقول بأن ما ليس في جهة لا يكون مرئيا، يقابل قول القائل: "كل موجود مرئي"، ودليلها مضمر فيها، تقديره: أن انتفاء الجهة مانع من الرؤية. وأما إن لم يكن الدليل مضمرا، فكما لو قال القائل في مسألة إفضاء النظر إلى العلم، أو مسألة التحسين والتقبيح: أعلم- ضرورة- أن النظر [لا] يفضى إلى العلم أو الكفر قبيح لعينه، والشكر حسن لعينه. فيقول المعترض: أعلم- بالضرورة- أن النظر يفضى إلى العلم، وأن الكفر ليس قبيحا لعينه، [ولا الشكر حسنا لعينه]. فهذا عين مقابلة الفاسد بالفاسد، والمقصود منه استنطاق المدعى باستحالة دعوى الضرورة من جهة خصمه في محل الخلاف، فيقال: وهذا لازم لك أيضا. وقد أورد الجدليون- أيضا- قلب الاستبعاد في الدعوى. وذلك كما لو قال الشافعي- في إلحاق الولد بأحد الأبوين باختيار الولد له إذا تداعياه: ذاك تحكم بلا دليل.

فيقول الحنفي: تحكيمهم القائف فيه- أيضا- تحكم بلا دليل. والمقصود- أيضا- استنطاق المدعى بأن ما ذكره ليس تحكما بل له مأخذ صحيح. فيقول المعترض: فذلك ما ذكرته. وهو في غاية البعد؛ فإنه إما أن يعترف المستدل بأن ما ذهب إليه تحكم، أو يبين مأخذه فيه. فإن كان تحكما، فلا يعني معارضة المعترض بتحكمه [في] مذهبه في إبطال دعواه التحكم في مذهب خصمه. وإن بين له مأخذا، فهو الجواب، ولا حاجة إلى القلب. ثم قال: قول المستدل في اشتراط الصوم في الاعتكاف: "لبث محض؛ فلا يكون قربة بنفسه" ليس تعليلا بمناسب يقتضي نفي القربة، بل بانتفاء المناسب؛ لأن الليث المحض لا يناسب القربة. وتعليل المعترض بقوله: "لبث محض، فلا يشترط الصوم [في صحته] كالوقوف بـ "عرفة"". تعليل بأمر طردي؛ فإنه لا مناسبة في أللبث المحض لنفي القوم، هذا هو التحقيق، ثم قال: أعلى أنواع القلب ما بين فيه انه يدل على المستدل، [و] لا [يدل] له. ثم يليه: أن يبين أن يدل له وعليه. وأعلى مراتب هذا النوع ما صرح في بإثبات مذهب المعترض، وهو القسم الأول منه. ثم ما صرح فيه بإبطال مذهب المستدل؛ لأنه لا يلزم منه تصحيح مذهبه، فيكون دون الأول.

ثم ما بين فيه عدم الدلالة بطريق الالتزام؛ لأنه لم يقدح في دلالة المستدل، بل بين دلالة أخرى منه تدل على نقيض مطلوبه، فكان [شبيها] بالمعارضة، وإن فارقها من جهة أنه من نفس الدليل المستدل. واختلفوا في قبول القلب مطلقا. فقبله قوم من جهة أنه يشير إلى ضعف الدليل؛ لدلالته على نقيض مذهبه. ومنعه آخرون، من جهة أن المعترض إما أن يتعرض في دليله لنقيض حكم المستدل، أو إلى غيره. فإن كان الأول، فقد تعذر عليه القياس على أصل المستدل؛ لاستحالة اجتماع حكمين مجمع عليهما في صورة واحدة. وإن كان الثاني، فلا يكون ذلك اعتراضا على الدليل. قال: والحق في ذلك أنه إن تعرض في الدليل لحكم يقابل بحكم المستدل صريحا، فقد لا يمتنع الجمع بينهما في أصل واحد، كما تقدم في المثل. قال إمام الحرمين في "البرهان": اختلفوا في القلب، [ومجوزوه] له عندهم مزية على المعارضة؛ لأن العلتين المتعارضتين تضاف كل علة منهما إلى أصل لا يشهد للعلة الأخرى، وفي القلب يتحد الأصل، فكان أبين في التناقض. ثم قال: قول المستدل والمعترض في مسح الرأس: "عضو من أعضاء الوضوء" وصف طردي من الجانبين، وليس من باب تعارض الشبهين؛ لأن أعضاء الوضوء غير متشابهة في المقادير المفروضة، ولا في الكيفية. قال: والذي اختاره وأقول به- في قبول القلب-: قول ثالث، وهو أنه إذا كان القلب في طرف لا يناسب العلة، بل اتفق مذهب الخصمين في

النفي والإثبات، ولا يمتنع إثبات ثالث دونهما، بل وقع الحصر اتفاقا، فهو قلب غير قادح، كما تقدم مثاله في قلب مسح الرأس، فإن كونه عضوا من أعضاء الوضوء لا يناسب الربع، ولا الاقتصار على ما أمكن، وإن كان له إحالة من وجه سمع، كقولهم: "مكث؛ فلا يشترط فيه الصوم" قدح؛ لأن المعلل ذكرا أمرا لا يستقل بإثبات مذهبه؛ لأنه لا يكتفي في أي عبادة إلى الاعتكاف، ولم يتأت له التصريح، فافهم مقصوده، بل أثبت طرفا من مذهبه تلويحا، فقدح القادح فيه تصريحا، فكان مقبولا. ويؤكده أن الصوم عبادة مستقلة، فضمه لغيره خلاف الأصل، هذا هو القلب المصرح به. والقلب المبهم ينقسم إلى: إبهام من غير تسوية، وإلى إبهام التسوية. فالإبهام من غير تسوية، قول الحنفي: صلاة يشرع فيها الجماعة؛ فلا يثنى فيها الركوع في ركعة واحدة، كصلاة العيد، [فيقول] القالب: "فتختص بالزيادة، كصلاة العيد؛ لأن فيها تكبيرات زائدة" فهذا قلب مبهم، وقد أفتى القاضي ببطلانه، وقال: قلب القالب ينقلب عليه، فيقول الحنفي: فلا تختص بزيادة، هي ركوع كصلاة العيد. قال الإمام: وقول القاضي لا يتجه؛ لأن [القلب]- ها هنا- إعادة للعبة لا زائد عليها، ولا قلب إلا وهو بهذه الصفة، وغرض القالب أن يورد ما يقتضي تعارضا، فإذا ذكر المعلل علته في معرض القلب، فهو مقدر لوجه التعارض، وهو القادح، وهو كما لو عورضت علة بعلة أخرى، وأعاد المجيب علته على [صيغة] المعارضة لما عورض به، فتم به اعترافه بتعارض العتلين. وقال القاضي أيضا: الصريح مقدم على المبهم، فلو كان القلب معارضة لسقط؛ لترجح الصريح عليه.

قال الإمام: وهذا الترجيح معارض بأن رب مبهم أفقه من صريح، فلا يفتى بتقديم كل صريح على كل مبهم. قلت: يؤخذ من هذا البحث مثار قلب القلب الذي أشار إليه- في "المحصول"- ولم يمثله، وأن فيه الخلاف، وهذا مدرك الخلاف. قال الإمام: وقلب التسوية ما يذكره الحنفية في المكره. قال: وهو مختلف فيه، وفيه البحث المتقدم لما فيه من الإبهام، بل بعض من قبل المبهم رد قلب التسوية؛ لمخالفة الأصل الفرع؛ لأن المختار ثبوت صرف، والمكره نفى صرف عند القادر. وجوز الأستاذ قلب التسوية، وهو المختار عندنا. قال: ولينظر الناظر في منازل القلب نظرا أوليا في الطرد والمناسبة، ثم ينظر ثانيا في التلاقي على التناقض، وعدم التلاقي، وهل هو من الشبه أم لا، أو مبهما، أو مصرحا؟ ***

الفصل الرابع "في القول بالموجب"

الفصل الرابع "في القول بالموجب" قال الرازي: وحده تسليم ما جعله المستدل موجب العلة، مع استبقاء الخلاف، وهو يقع في جانب النفي على وجه، وفي جانب الإثبات على وجه آخر. أمال في جانب النفى: فإذا كان المطلوب نفى الحكم، واللازم من دليل المعلل كون شيء معين غير موجب لذلك الحكم؛ كما لو قال الشافعي في المثقل: "التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص؛ كالتفاوت في المتوسل إليه" فيقول السائل: "إن التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص؛ فلم لا يمتنع وجوب القصاص بسبب آخر؟ ". ثم إن المستدل لو بين بعد ذلك: أنه يلزم من تسليم ذلك الحكم تسليم محل النزاع، كان مقطعا أيضا؛ لأنه ظهر أنه ما ذكر الدليل به، بل ذكر أحدا أجزاء الدليل. وأما في جانب الثبوت: فكما لو كان المطلوب إثبات الحكم في الفرع، واللازم من دليل المعلل ثبوته في صورة ما من الجنس؛ كما لو قال في وجوب الزكاة في الخيل: "حيوان تجوز المسابقة عليه، فيجب فيه الزكاة؛ قياسا على الإبل" فقال: "أقول بموجبه: أنه تجب فيه زكاة التجارة، والخلاف واقع في زكاة العين، ومقتضى دليلك: وجوب أصل الزكاة".

شرح القرافي: قال: "وحده: تسليم ما جعله المستدل موجب علته، مع استبقاء الخلاف"

الفصل الرابع القول بالموجب قال: "وحده: تسليم ما جعله المستدل موجب علته، مع استبقاء الخلاف":

تقريره: أن القول بالموجب معناه: التزام صحة مقتضى ما ذكره المستدل، كان علة، أو نصا، كما لو قال: الزكاة واجبة في الحلي؛ لقوله تعالى: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] فيقول المعترض: أقول بموجبه؛ لأن موجب هذا اللفظ "التوحيد"، ولا يلزم من تسليمه وجوب الزكاة في الحلى. هذا في النص. ومثاله في العلل: قول المستدل: عبادة؛ فتكون معتبرة في الاعتكاف، كالأذكار. فيقول الشافعي: أسلم موجب هذه العلة، والصوم عندي معتبر على وجه الندب، وهو يوفى معنى الاعتبار، وإنما النزاع في الشرطية على وجه اللزوم. قوله: "التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص، كالتفاوت في المتوسل إليه": تقريره: أن الحنفي لا يوجب القصاص في المثقل، ويوجبه بالمحدد، والمحدد والمثقل وسيلتان لزهوق الروح. وواثق الحنفي الشافعي أن قتل الصغير، والكبير، والشريف، والوضيع، سواء في وجوب القصاص، فقاس الشافعي الاختلاف في الوسيلتين على الخلاف بين المقتولين، في عدم اقتضاء أحدهما نفى القصاص. قوله: "التفاوت في الوسيلة لا يمنع [وجوب القصاص]، فلم قلتم إنه لا يمنع [وجوب القصاص] بسبب آخر؟ ": تقريره: أن قول الشافعي: "هذا التفاوت لا يوجب عدم القصاص"، كقولنا: شرب الماء لا يوجب عدم القصاص، وكذلك التنفس في الهواء، ونظائره كثيرة.

"سؤال" "القلب" و"القول بالموجب" معارضة في الحكم، لا قدح في العلة

وعدم إيجاب هذه الأمور لعدم القصاص لا يوجب عدم إيجاب غيرها، مثل كون المثقل لم يجعل في الغالب لزهوق الأرواح، أو لأنه شبهة؛ فسقط بها الحد. "سؤال" "القلب" و"القول بالموجب" معارضة في الحكم، لا قدح في العلة، والمصنف جعلهما من جملة الطرق الدالة على عدم العلة. جوابه: أما "القلب" فقد تقدم جوابه عنه. وأما "القول بالموجب" فلأنه بيان عدم استلزام العلة للمطلوب، وبيان عدم استلزامها قدح فيها. "تنبيه" زاد التبريزي فقال: "القول بالموجب" في المنقول خلافه في المعقول؛ فإنه في المنقول تحقيق وجه دلالته والاعتراف به، كما يقال في حديث خيار المجلس، المراد به خيار القبول؛ بدليل كذا وكذا، وأنا أقول به. وفي المعقول تسليم عين وجه دلالته والاعتراف به، كما يقال في حديث خيار المجلس، المراد به خيار القبول؛ بدليل كذا وكذا، وأنا أقول به. وفي المعقول تسليم عين ما رتبه المعلل على علته، حقا كان أو باطلا، مع استيفاء الخلاف في المسألة، كما لو قال الشافعي: "مسلم؛ فلا يلزمه القصاص بقتل الذمى". فيقول الحنفي: "أقول: إنه لا يتقل بقلته، فلم لا يتقل إذا قتله بنقض العهد"؟ فلو قال بدل مسلم: مكلف، أو قاتل، أو حائط كان الواجب تسليم عين الحكم المرتب، لا ما يقتضيه الوصف. ومنشأ وروده الحيد في نصب الدليل عن محل الخلاف، أو بان يقيد الحكم

كما ذكرناه، أو يعدل إلى المأخذ، فيقول: القتل بالمثقل لا يمنع وجوب القصاص، أو الدين لا يمنع وجوب الزكاة، أو يطلق في مقام التقييد، وكان مذهب الخصم مفيدا بقيم آخر، كما لو قال الحنفي، "الخيل حيوان يتسابق عليه؛ فتجب عليه الزكاة"، فيقول الشافعي: "زكاة التجارة وقد يغنى عن القول بالموجب بأن الدليل غير منصوب في محل الخلاف؛ فإن الخلاف في كذا؛ لأنه هو جهة المؤاخذة لا يمكن خلل في الدليل، لكنه إذا ورد كان انقطاعا، ولا ينفعه بيان لزوم المتنازع فيه من تسليم ما رتبه؛ فإن مؤاخذة الجيد لا تندفع به، ويلتزم به عدم ذكر تمام الدليل في مقام مطالبته به؛ ليبين أن ما ذكره أولا إحدى مقدمتي دليل الحكم المطلوب، يل ينبغي أن يسفر كلامه بما يتضمن دعوى محل النزاع، فقول: أعنى به أن الزكاة لا تمتنع عند ركوب الدين، والقصاص لا يمتنع عند كون القتل بالمثقل، وبالزكاة المذكورة- بالألف واللام- ذلك المعهود. واعلم أنه متى كان السؤال ابتداء عن هذه الأمور، امتنع إيراد القول بالموجب، وكان تسليما للحكم المطلوب. قلت: تفريقه أولا بين المعقول والمنقول غير متجه، بل المنقول تارة نقول بموجبه، بعد تأويل نعضده بدليل، وتارة ابتداء. وكذلك العلة: تارة نقول بموجبها، بعد بيان تحقيقه، وتارة ابتداء. وقوله: "لو قال بدل قوله: مسلم: مكلف، أو قاتل": مراده: يأتي بوصف طردي فنسلم الحكم، وهو أن هذا الوصف لا يلزم به قصاص؛ لأن الوصف يقتضيه؛ لأنه طردي. وقوله: " [ولا] ينفعه بيان لزون المتنازع فيه مما رتبه": يريد: أن المستدل إذا قال: هو وإن كان حيدا وعدولا إلا أن محل النزاع يثبت مما رتبته.

"فائدة" قال سيف الدين: القول بالموجب تسليم ما جعله المستدل حكما لدليله على وجه لا يلزم منه تسليم الحكم المتنازع فيه، فينقطع المستدل؛ لأن ما نصبه دليلا ليس بدليل، وهو على قسمين؛ لأن المستدل إما أن ينصب دليله على تحقيق مذهبه المنقول عن إمامه، أو إبطال ما يظنه مدرك مذهب خصمه. فالأول: كقول الشافعي في الملتجئ إلى الحرم: وجد سبب استيفاء القصاص؛ فجاز استيفاؤه. فيقول الحنفي بموجبه؛ فإن القصاص عنده جائز، إنما النزاع في هتك حرمة الحرم. والثاني: كقول الشافعي في استيلاد الأب جارية ابنه: وجوب القيمة لا يمنع من إيجاب المهر كاستيلاد أحد الشريكين، أو في القتل بالمثقل: اختلاف الوسيلة لا يمنع إلى آخره، ولا يلزم من إبطال مدرك معين إبطال جميع المدارك. وهو أغلب ورودا من الأول في المناظرات وأكثر؛ لأن خفاء المدارك أغلب من خفاء الأحكام؛ لكثرة المدارك وتشعبها وما هو معتمد الخصم منها، ولهذا يشترك في نقل الأحكام الخواص والعوام دون المدارك. [وقد] اختلف الجدليون في [وجوب] تكليف المعترض بأن مستند القول بالموجب في [هذا النوع]، فقال بعضهم: لا بد من ذلك؛ لاحتمال أن يكون هذا [هو] المدرك عنده، فإذا علم أنه هو لا

يكلف إبداء مدرك عند إيراد القول بالموجب، [فقد] يقول بذلك عنادا؛ ليوقف كلام خصمه، فيكلفه أن يصون الكلام عن الخبط. [وقيل: لا يكلف كلام خصمه، فيكلفه أن يصون الكلام عن الخبط]. وقيل: لا يكلف بذلك بعد وفائه بشرط القول بالموجب، وهو استبقاء الخلاف بعد التسليم. قال: وهو الأظهر؛ لأنه عاقل متدبر، فهو أعرف بمذهبه ومدركه، فظاهره الصدق؛ ولأن تكليفه ذلك يصير المستدل معترضا، والمعترض مسدلا، وفيه خبط. ولدفع القول بالموجب بالمعنى الأول طرق: الأول: أن يقول: المسالة مشهورة بالخلاف فيما فرضت فيه الكلام. الثاني: تبين أن محل النزاع ثابت فيما فرض الكلام فيه، كما لو كان حكم دليله أنه لا يجوز قتل المسلم بالذمى، فقال المعترض: هو عندي غير جائز، بل واجب. فيقول المستدل: أعني بعدم الجواز: لزوم التبعية بفعل الواجب. الثالث: أن يقول المستدل: القول بالموجب فيه تغيير كلامي عن ظاهره، فلا يرد، كما يقول في زكاة الخيل: كلامي ظاهر في زكاة العين؛ لقرينة الحال؛ ولأن لفظ "الزكاة" يعم القسمين؛ لأنه معرف باللام، فالقول بالموجب في صورة واحدة غير متجه؛ لأن القول ببعض الموجب لا يكون قولا بالموجب، وكذلك في قوله: مانع لا يزيل الحدث؛ فلا يزيل الخبث كالمرق. فيقول: أقول بموجبه؛ فإن الخل النجس لا يزيل الخبث.

فيقول: كلامي ظاهر في الخل الظاهر، وما غير طاهر كلام المستدل لا يكون قولا بالموجب، بل بغير الموجب. ولدفع القول بالموجب في القسم الثاني طرق: الأول: أن يكون المستدل قد أفتى بما وقع مدلولا لدليله، وفرض الكلام معه فيه. الثاني: أن يبين أن لقب [المسألة] مشهور بذلك. الثالث: أن يبين أن محل النزاع لازم من مدلول دليله، بأن يكون المعترض قد ساعد على وجود المقتضى لوجوب القصاص، وكانت الموانع التي وافق المستدل عليها منتفية، والشرائط متحققة، فإذا بطل ذلك المانع، يلزم منه الحكم المتنازع فيه. وقال إمام الحرمين في "البرهان": الأصوليون يقولون تارة: القول بالموجب ليس اعتراضا. قال: وهو كما قالوا؛ فإنه لا يبطل العلة؛ لأنها سلمت وسلم حكمها، إنما المستدل منقطع؛ لأنه قصد أن يثبت فيها المتنازع فيه، وقد تبين خلافه. قلت: ومن هذا الوجه ضعفت، وكان القول بالموجب اعتراضا؛ لأن تلك العلة وإن كانت علة صحيحة باعتبار حكم، فهي غير صحيحة باعتبار صورة النزاع، فالقدح فيها من هذا الوجه. ***

الفصل الخامس "في الفرق"

الفصل الخامس "في الفرق" قال الرازي: والكلام فيه مبني على أن تعليل الحكم الواحد بعلتين، هل يجوز أم لا؟ وفي مسألتان: المسألة الأول: يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين؛ خلافا لبعضهم. لنا: أن الردة، والقتل، والزنا: كل واحد منها، لو انفرد، كان مستقلا باقتضاء حل القتل، ثم إنه اجتماعها، فعند اجتماعها: يكون حل الدم حاصلا بها جميعا. فإن قيل: لا تسلم أن هناك حكما واحدا، بل أحكاما كثيرة؛ فإن حل القتل بسبب الردة غير حله بسبب القتل؛ والدليل عليه وجهان: الأول: أن الرجل، إذا عاد إلى الإسلام، زالت الإباحة الحاصلة بسبب الردة، وبقيت الإباحة الحاصلة بسبب القتل والزنا، ثم إذا عفا ولي الدم، زالت الإباحة الحاصلة بسبب القتل، وبقيت الإباحة الحاصلة بسبب الزنا. الثاني: أن القتل المستحق بسبب القتل يجوز العفو عنه لولى الدم، والقتل المستحق بسبب الردة لا يتمكن الولي من إسقاطه، وذلك يدل على تعاير الحكمين. سلمنا أن الحكم واحد؛ ولكن لا نسلم أنه يمكن حصول هذه الأسباب الثلاثة دفعة واحدة؛ ولم لا يجوز أن يقال: لا بد وأن يحصل منها واحد قبل حصول البواقي؟.

وحينئذ: يكون الحكم محالا على السابق. سلمنا إمكان حصولها دفعة واحدة؛ لكن لم لا يجوز أن يقال: إنها بأسرها مشتركة في وصف واحد، والعلة هو ذلك المشترك، فتكون علة الحكم شيئا واحدا. سلمنا أنه ليس هناك قدر مشترك؛ لكن لم لا يجوز أن يقال: شرط كون كل واحد منها علة مستقلة انتفاء الغير، فإذا وجد الغير، زال شرط الاستقلال بالعلية، فحينئذ لا يكون كل واحد منها علة تامة عند الاجتماع، بل بصير كل واحد منها الاجتماع جزء العلة، والمجموع هو العلة التامة. سلمنا أن ما ذكرته يدل على تعليل الحكم الواحد بعلتين؛ لكن معنا ما يمنع منه، وهو وجوه ثلاثة: الأول: أن جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين يفضى إلى نقض العلة، وذلك باطل؛ على ما مر، فما أفضي إليه مثله. بيان الملازمة: أنه إذا كان للحكم الواحد علل كثيرة، فإذا وجد منها واحدة؛ حتى حصل الحكم، ثم وجدت العلة الثانية بعد ذلك، فهذه الثانية: إما أن توجب حكما يماثل الحكم الأول، أو يخالفه، أو لا توجب حكما أصلا: والأول يقتضي اجتماع المثلين، وهو محال والثاني والثالث يوجب النقض؛ أنه وجدت تلك العلة من غير ذلك الحكم. الثاني: أن العلة الشرعية مؤثرة بجعل الشرع إياها مؤثرة في ذلك الحكم، فإذا اجتمع على المعلول الواحد علتان، فإما أن تكون كل واحدة من العلتين مؤثرة في بعض ذلك الحكم، أو في كله:

والأول محال، أما أولاً: فلأن الحكم الواحد لا يتبعض. وأما ثانياً: فلأن ذلك إخراج لكل واحدة من العلتين عن أن تكون موجبة للحكم. وأما ثالثاً: فلأن على هذا التقدير: معلول كل واحدة منهما غير معلول الأخرى. وأما الثاني: فباطل أيضاً؛ لأن الحكم لما وقع بإحدى العلتين، استحال وقوعه بالأخرى، لاستحالة إيقاع الواقع. الثالث: أن العلة لابد وأن تكون مناسبة للحكم، فلو كانت علة لحكمين، لكانت مناسبة لشيئين مختلفين؛ فيلزم كون الشيء الواحد مساوياً لمختلفين، والمساوي لمختلفين مختلف، فالشيء الواحد يكون مخالفاً لنفسه؛ وهو محال. والجواب: قوله: «لا نسلم وحدة الحكم»: قلنا: الدليل عليه أن إبطال حياة الشخص الواحد أمر واحد؛ وهذا الأمر الواحد إما أن يكون ممنوعاً عنه من قبل الشرع بوجه ما، أو لا يكون ممنوعاً عنه بوجه ما: والأول هو الحرمة، والثاني هو الحل، فإذا كانت الحياة واحدة، كانت إزالتها أيضاً واحدة، فكان الإذن في تلك الإزالة واحداً، فإن قلت: الفعل الواحد يجوز أن يكون حراماً من وجه، حلالاً من وجه، وإذا كان كذلك، جاز أن يتعدد الحل، لتعدد جهاته، فيكون الشخص الواحد مباح الدم من حيث إنه مرتد، ومن حيث إنه زان، ومن حيث إنه قاتل

قلت: القول بان الفعل الواحد حرام م وجه، حلال من وجه- غير مقبول؛ لان الحل أن يقول الشارع: "مكنتك من هذا الفعل، ولا تبعة عليك في فعله أصلا" وهذا المعنى إنما يتحقق، إذا لم يكن فيه وجه يقتضي المنع أصلا؛ بل ليس من شرط الحرمة أن يكون حراما من جميع جهاته؛ لأن الظلم حرام، مع أن كونه حادثا، وحركة، وعرضا- لا يقتضي الحرمة. إذا ثبت ذلك، فتقول: حل الدم على هذا الوجه يستحيل أن يتعدد، والعلم بذلك ضروري. قوله: "الدليل على التغاير: أنه لو أسلم، زال أحد الحلين، وبقى الآخر": قلنا: لا نسلم أنه يزول أحد الحلين، بل يزول كون ذلك الحل معللا بالردة، فالزائل ليس هو نفس الحل، بل وصف كونه معللا بالردة. فإن قلت: إذا كان الحل باقيا، سواء وجدت الردة، أو زالت، كان ذلك الحل عنيا في نفسه عن الردة، والغنى عن الشيء لا يكون معللا به. قلت: لما كانت العلة عندي عبارة عن المعرف، زال عني الإشكال. قوله: "ولي الدم مستقل بإسقاط أحد الحكمين": قلنا: لا نسلم؛ بل هو متمكن من إزالة أحد الأسباب، فإذا زال ذلك السبب، زال انتساب ذلك الحكم إلى ذلك السبب، فأما أن يزول الحكم نفسه، فهذا ممنوع. قوله: "لا نسلم جواز اجتماع هذه العلل":

قلنا: هذا مكابرة؛ لأنه لا منافاة بين ذوات هذه الأمور، فيصح اجتماعها، ونحن نبني الكلام على تقدير وقوع ذلك الجائز. قوله: "العلة هي القدر المشترك بين كل هذه الأمور": قلنا: هذا باطل؛ لان الأمة مجمعة على أن الحيض من حيث هو حيض- مانع من الوطء، وكذا العدة والإحرام، والقول بأن العلة هي القدر المشترك- مخالف لهذا الإجماع، وأما ثانيا: فلأن الحيض وصف حقيقي، والعدة أمر شرعي، والأمر الحقيقي لا يشارك الأمر الشرعي إلا في عموم أنه أمر، فلو كان هذا القدر هو العلة للمنع من الوطء لانتقض بالطم والرم. قوله: "شرط كون كل واحد منها علة مستقلة عدم الآخر": قلنا: هذا باطل؛ لأن الأمة مجمعة على أن الحيض يمنع من الوطء شرعا، وذلك يقتضي أن تكون علة، سواء وجد هذا القيد العدمي، أم لا؟. أما المعارضة الأولى: فجوابها: أن الحكم الحاصل بالعلة السابقة: إنما يمتنع حصوله بالعلة اللاحقة، إذا فسرنا العلة بالمؤثر. أما إذا فسرناها بالمعرف؛ فلم قلت: إنه يمتنع؟. وأما الثانية: فهي مبنية على أن ما لا يكون مؤثرا في الحكم لذاته يجعله الشارع مؤثرا فيه، وقد تقدم إبطال هذه القاعدة. وأما الثالثة: فلا نسلم أن المناسبة شرط العلية، ولو سلمناها؛ فلم لا يجوز أن يشترك الحكمان في جهة واحدة، ثم إن العلة تناسبهما بحسب ذلك الوجه الواحد.

واعلم أنه يمكن فرض الكلام في صورة يسقط هنا كثير من الأسئلة، وهي ما إذا جمعت لبن زوجة أخيك وأختك، وجعلته في حلق المرتضعة دفعة واحدة؛ فإنها تحرم عليك؛ لأنك خالها وعمها، ولا تتوجه في هذه الصورة أكثر تلك الأسئلة. المسألة الثانية: الحق أنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين؛ والدليل عليه وجهان: الأول: أن الإنسان، إذا أعطى فقيرا فقيها، احتمال أن يكون الداعي له إلى الإعطاء كونه فقيرا فقط، أو كونه فقيها فقط، أو مجموعهما، أو لا لواحد منهما: فهذه الاحتمالات الأربعة متنافية؛ لأن قولنا: "الداعي له إلى الإعطاء هو الفقير لا غير": ينافى أن يكون غير الفقر داعيا، أو جزءا من الداعي. وإذا كانت هذه الاحتمالات متنافية، فإن بقيت على حد التساوي، امتنع الحصول؛ لظن حصول كل واحد منها على التعيين؛ فلا يجوز الحكم بكونه علة- وإن ترجح بعضها، فلذلك الترجيح يحصل بأمر وراء المناسبة والاقتران؛ لأن ذلك مشترك بين الأربعة؛ وحينئذ: يكون الراجح هو العلة، دون المرجوح. الثاني: أن الصحابة أجمعوا على قبول الفرق؛ لأن عمر، لما شاور عبد الرحمن في قضية المجهضة، قال: "إنك مؤدب، ولا أرى عليك شيئا" فقال على: "إن لم يجتهد، فقد غشك، وإن اجتهد، فقد أخطأ، أرى عليك الغرة". وجه الاستدلال به: أن عبد الرحمن شبهه بالتأديب المباح، وأن عليا فرق بينه وبين سائر التأديبات؛ بأن التأديب الذي يكون من جنس التعزيزات لا تجوز فيه

المبالغة المنتهية إلى حد الإتلاف، وذلك يدل على إجماعهم على قبول الفرق، وهو يقدح في جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين، والله أعلم. الفصل الخامس الفرق قال القرافي: قوله: "الكلام فيه مبنى على أن تعليل الحكم بعلتين هل يجوز أم لا؟ ":

تقريره: أن السائل إذا أبدى الفارق، يقول المستدل: الفارق لا يضرني؛ لأن هذا الفارق معنى في الأصل مع المعنى الذي عللت به، وكلاهما علة مستقلة، والحكم في الأصل معلل بعلتين" إحداهما: الفرق، والأخرى: المشترك. وشأن الحكم إذا علل بعلتين، إن اجتمعتا رتب الحكم عليهما. وإن انفردت إحداهما ترتب الحكم عليها. فعدم إحداهما مع وجود الأخرى لا يضر، فعدم الفارق من صورة النزاع لا يضر في ثبوت الحكم؛ بناء على المشترك. وهذا إنما اتجه بناء على جواز التعليل بعلتين. أما لو فرعنا على منعه لم يتجه كلام المستدل، وورد سؤال الفرق. ويرد عليه: أن هذا التخريج غير متجه، بل يرد الفرق وإن فرعنا على التعليل بعلتين؛ لأن الفارق قسمان: منه ما يصلح للاستقلال؛ فيتحه فيه السؤال، ويكون علة تامة وحده، ومنه ما لا يصلح كالفارق بمزيد المشقة، ومزيد الضرر، وكثرة الحاجة ونحو ذلك، فهذه أمور لا تصلح للاستقلال، وإيرادها فارقا يفيد المعترض، فظهر أن الفرق يمكن أن يتوجه على المذهبين، وتعذر الورود في بعض الصور لا يقدح في الورود؛ فإن كل شيء وارد قد يمنع من وروده في بعض الصور مانع، ومع ذلك فهو وارد متفق على وروده في الجملة.

قوله: "الشارع إنما يتحقق إذا لم يكن فيه وجه يقتضي المنع": قلنا: لا نسلم بل الإباحة تثبت مضافة إلى سببها كما تقدم البحث في الدار المغصوبة إذا صلى فيها، فإذا اجتمع الوجوب والتحريم هنالك، اجتمع التحريم والإباحة هاهنا، لأن الوجوب مستلزم لنفي الحرج، بل الحق ما قاله السائل في هذه المسألة أنه يجتمع إباحات، كل إباحة مضافة [إلى] سببها، كما تجتمع تحريمات لتعدد الأسباب، وذلك قال بعض العلماء في قوله تعالى: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} [البقرة: 230]: ومقتضى الغاية أن ينفى ما قبلها بعد حصولها، وإذا نكحت زوجا غيره هي مخرجة- أيضا- فلم يحصل مقتضى الغاية. وأجاب بان تحريم الثلاث انتفى بعقد الزوج، وبقى تحريم آخر، وهو كونها زوجة الغير، أو كونها أجنبية، وتحريم كونها أجنبية كان من تحريم الطلاق، ذهب إحدى الحرمتين، وبقيت الأخرى. فالحرمات، والوجوبات، والإباحات تجتمع بناء على تعدد الأسباب. ثم إنه نقض كلامه بقوله: "الظلم حرام، وكونه: حادثا، وعرضا، وحركة، لا يقتضي الحرمة"، فقد أثبت التحريم من وجه دون وجه، فكذلك الإباحة تختص بعض الوجوه، ويكون الوجه الآخر إن عرض له سبب الإباحة ثبتت إباحة أخرى، بحسب اتحاد الأسباب وتعددها. قوله: "الزائل كون الحل معللا بذلك السبب": قلنا: إذا زالت الإباحة المستفادة من نفس الردة؛ فإنه قد تقدم ما يوضح هذا البحث أول الكتاب، وهو أن الحكم الشرعي لا يكفي فيه الكلام النفساني فقط، بل لا بد من التعلق الخاص، فإن تعلق بإلزام الفعل كان للوجوب، أو إلزام الترك كان للندب، أو التخيير بينهما كان للإباحة،

فصار الحكم إنما تكمل حقيقته حكما بسبب التعلق، والتعلق نسبة مخصوصة، والإضافة إلى الأسباب نسب أيضا، فكما أوجبت النسب حقيقة الحكم، أوجبت تعدده، فإن كل نسبة مع الكلام النفساني يكون حكما مستقلا، وهذا ظاهر لمن تأمله. قوله: "لم لا يجوز أن يشترك الحكمان في جهة واحدة، والعلة تناسبهما بذلك الوجه الواحد؟ ": تقريره: ما تقدم من جمع الفرق، وهو أن يترتب على العلة الواحدة الضدان أو النقيضان، كقولهم في المحجور عليه: إنه ترد تصرفاته؛ صونا لماله على مصالحه، وتنفيذ تصرفاته في الوصايا؛ صونا لماله على مصالحه؛ لأنا لو رددنا وصاياه بقى المال للوارث، ففاتت على المحجور مصالحه في الوصايا، فصار صون المال على المصالح يناسب الرد والإطلاق، وهما ضدان أو نقيضان. "فائدة" قوله: "ينتقض بالطم والرم": الطم والرم- بالفتح- مصدران، من: طم يطم طما إذا ردم حفيرة، و: "رم يرم" إذا صار رميما، أس درست عظامه بالبلاء. وبالكسر: هو: الشيء المرموم والمطموم به، مثل: الخبر، والطحن- بالكسر- الشيء المخبوز والمطحون- وكذلك الذبح ونحوه بمعنى هذا المثل، أنه جاء بجمع التراب الذي [طم]، والرميم الذي طم عليه التراب، فلم يترك في القبر شيئا البتة، وثير ذلك مثلا لمن جاء بالعام المستوعب، فهو مثل للكثرة العظيمة.

قوله: "إذا أعطى الفقير الفقيه، فالداعي أما الفقير فقط، أو الفقيه فقط، أو هما أولا واحد مهما": قلنا: القسمة غير منحصرة، بسبب أن قولكم يقابله أمران" أحدهما: أن غيره ليس علة مطلقا. والثاني: أن غيره علة مستقلة، وهو- أيضا- مستقلة؛ فإن كون الفقر علة يفسر بأمرين: أحدهما: أنه علة من حيث هو هو، مع قطع النظر عن الغير، هل هو على أم لا؟. والثاني: أنه علة، وغيره غير علة. فقولكم بعد هذا: "أو لا واحد منهما"- يحتمل إلا واحد منهما لا يوصف كونه علة فقط وحده، أو لا يوصف بأنه علة من حيث الجملة، والثاني أعم من الأول؛ لما تقدم أن كونه علة يحتمل أن غيره- أيضا- كذلك، فمن هذا الوجه ثبت عدم الحصر. ومذهب الخصم هو أن واحدة منهما على من حيث هي هي، فيصح أن يكون الداعي مجموعهما، وكل [واحدة] منهما علة مستقلة؛ لأن قولنا: "العلة مجموعهما" أعم من كون كل واحدة منهما جزء علة، فظهر عدم الحصر، وعدم الإنتاج. قوله: "الصحابة- رضوان الله عليهم- مجمعون على قبول الفرق، وهو يقدح في جواز تعليل الحكم بعلتين": قلنا: المقدمتان ممنوعتان: أما الإجماع؛ فلأن ما ذكرتموه من قضية على- رضي الله عنه- فلم قلتم: إن بقية الصحابة تساعد على ذلك؟.

وأما استلزام الفرق لعدم التعليل بعلتين، فقد تقدم الرد عليه. "قاعدة في الاستنباط" إذا نظر المستنبط في محل الحكم فوجد وصفا واحدا مناسبا، اقتصر عليه. أو وصفين فأكثر مناسبة، كان المجموع علة مركبة، ويكون كل واحد من تلك الأوصاف جزء تلك العلة. فإن وجد بعض تلك الأوصاف قد انفرد، والحكم ثابت معه، اعتقد أنه علة مستقلة. فإن استقل واحد من تلك الأوصاف بالحكم منفردا كانت عللا، واعتقدنا أنها لما اجتمعت كان الحكم فيها معللا بعلل متعددة، لا أنها أجزاء علل، والأصل أنها أجزاء، وأنها لا تستقل حتى نجدها منفردة ذلك. ومتى وجدنا صاحب الشرط أناط الحكم بوصفين مناسبين قلنا: المجموع علة، وكل وصف جزء لها، إلا أن نجده استقل، فيكون على تامة. فإن كان احد الوصفين مناسبا في نفسه، والآخر مناسبته في غيره، جعلنا المناسب في نفسه هو العلة، والآخر شرط، كملك النصاب مع الحول، الزكاة متربة عليهما، والنصاب مناسب في نفسه، والحول مناسبته في النصاب بالتمكن من التنمية [طوال] الحول. فهذه القاعدة تظهر الفرق بين جزء العلة، والوصف الذي هو علة تامة، وبين الوصفين اللذين أحدهما شرط والآخر سببه، والوصفين اللذين هما جزء العلة، وينبني على هذه القاعدة مراتب في القياس والمناظرات، وتحقيق الأسئلة والأجوبة فيها.

"سؤال" قال النقشواني: تمثيله العلل المنصوصة بالردة، والقتل، والزنا، غير متجه؛ لأن هذه الأوصاف إنما تثبت عليتها بإيماءات النصوص، والمناسبة، وقد جعل هذه الأمور غير النص لما ذكر الطرق الدالة على العلة. "سؤال" قال النقشواني: ما ذكره في المستنبطين لازم في المنصوصتين؛ لأنا نقول بأن إباحة الدم بالردة- فقط- غير إباحته بالزنا- فقط-، فالعلة إما هذا وحده، أو ذاك، أو مجموعهما، أو لا واحد منهما، ويكمل البحث إلى آخره. "تنبيه" قال التبريزي: الفرق إبداء وصف في الأصل [ضما] إلى المذكور، أو استقلالا [بالتعليل] فقال قوم: يقبل في الأول دون الثاني، فإن تعليل الحكم بعلتين مستقلتين جائز. وأجاب عن قولهم: إما أن يضاف الحكم إلى كل واحدة من العلتين، وهو تحصيل حاصل ... " إلى آخره- بأنه ينتفض بأول جزء تتعلق به الرؤية، فالمدرك بكل عين كله أو بعضه، أو ببعض كل عين بعضه، [والكل] باطل إلا الأول. وعن قولهم: "العلة لا بد أن تكون مناسبة" بأن الحكم الواحد يفي بحكم مختلفة في ضمن أسباب مختلفة، فلا تتحد جهة الاقتضاء [بينها]، كالعتق، يفي بحكمة الظهار، والوقاع في رمضان، والقتل، واليمين، ثم إنه ينتفض [باجتماع] نواقض الوضوء.

ثم استدل على امتناع العلتين المستنبطتين بأن شهادة قرآن الحكم للوصل المناسب افتقاره إلى مستند، فإذا قدر فرض اقترانه بما يستقل به استغنى عن غيره، فتنقطع الشهادة؛ لأنا نعلم بالضرورة من حال العاقل انخرام ظنه المستفاد من صلاحية الوصف، وقران الحكم بظهور صالح آخر في مجاري تصرفات العقلاء يجد ذلك كل عاقل من نفسه، فيقبل الفرق مطلقا إذا كان صالحا للاعتبار، وليس من شرطه المساواة في الصلاحية حتى لا يعارض مناسب إلا بمناسب، بل المعهود من الشرع تقييد اعتبار المناسبات بالأشباه، كتقييد اعتبار السرقة بحرز المثل، والاستبراء بمظنة الاستحلال. ثم الجواب عن الفرق تارة بمنع الصلاحية، وتارة بإثبات الاستقلال فيما اختاره بإيماء، أو شهادة أصل آخر خلا من مزاحمته، فإن ظهر فيه مزاحم آخر التحق بالأصل الأول، وامتنع الاستشهاد به، أو بإبداء الترجيح في تعليله، وليس من الترجيح التعدية على الصحيح، وليس على المعارض في الأصل بيان انتفاء ما عارض به في الفرع، فإذا صح اعتباره في الأصل، فعلى القياس بيان علة الأصل في الفرع، ثم يكون منقطعا في مقام التعليل. "فائدة" قال سيف الدين: الفرق عند أبناء زماننا لا يخرج عن المعارضة في الأصل أو الفرع، إلا أنه عند بعض المتقدمين عبارة عن مجموع الأمرين حتى لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقا. ولهذا اختلفوا، فمنهم من قال: إنه غير مقبول؛ لما فيه من الجمع بين أسئلة مختلفة، وهي المعارضة في الأصل، والمعارضة في الفرع. وقيل: يقبل

والقائلون بقبوله اختلفوا في كونه سؤالا أو سؤالين. فقال ابن سريج: هو سؤالان، جوز الجمع بينهما لكونه أدل على الفرق. وقيل: سؤال واحد لاتحاد مقصوده، وهو الفرق، وإن اختلفت صيغته. ومن المتقدمين من قال: سؤال الفرق ليس هو هذا، بل معنى في الأصل له مدخل في التعليل، ولا دخول له في الفرع، فرجع إلى بيان انتفاء علة الأصل في الفرع، فينقطع الجمع. وقال إمام الحرمين في "البرهان": قالت طوائف من الأصوليين: الفرق ليس باعتراض. وقال جماهير الفقهاء: هو من أقوى الاعتراضات. مستند الأولين: أن الجامع [لم يلتزم] بجامعه مساواة الفرع الأصل في كل الأمور، بل في الوجه الذي يقتضيه، فإذا حصل ذلك لا يضر الافتراق؛ لأن المستدل اعترف بذلك، وأن ثم أمورا وقع الافتراق فيها، وما اعترف به المستدل لا يرد عليه إلا ما ناقض مقصوده. قال: التفصيل، وهو أن [الفارق] إن الحق الجامع بالطرد، ولولاه لكان الجمع قويا فيقبل؛ لأنه حينئذ من الفروض التي لا يختلف فيها. مثاله أن يقول الحنفي في البيع الفاسد: مبايعة جرت على تراض؛ فتفيد الملك التام كالصحيح. [فيقول] الفارق: المعنى في الأصل معاوضة محضة جرت على وفق الشرع، فنقلت الملك، ومن خصائصه التصريح فيه بالعوض، لا على سبيل الفرق.

فيقول: لا تعويل على التراضي، بل المتبع الشرع في الطرق الناقلة. ويقول الحنفي: طاهرة الماء، فلم تفتقر إلى النية كإزالة النجاسة. فيقول الفارق: المعنى في الأصل أنها طهارة عينية، والوضوء طهارة حكمية، فيصير الجامع طرديا. وكقول المالكي: الهبة عقد تمليك بالإيجاب والقبول، فيترتب عليها الملك كالبيع، فيقول الفارق: البيع يتضمن النزول عن المعوض والرضا بالعوض، وذلك يحصل بنفس العقد، والتبرع بدل لا يقابله عوض، فيشترط فيه الإقباض المشعر بنهاية الرضا، فإن لم يبطل تفرقه شذ الجمع، فهذا مما تنازع فيه الأصوليون. ثم نقول: إذا تعارض الفرق والجمع، فإن استويا أمكن أن يقال: هما كالعلتين المتناقضتين. وأمكن أن يقال: الجمع مقدم؛ لوقوع الفرق بعده غير مناقض له، ولم يلتزم الجامع عدم جميع المعاني، كقول الرادين للفرق مطلقا. [ومذهب] الجدليين ثلاثة: رد الفرق مطلقا، وإنما يتم هذا المذهب إذا قالوا برد المعارضة في علة الأصل، فإن الفارق قد يكون علة معارضة. ومال الأستاذ أبو إسحاق وابن سريج إلى أن الفرق ليس سؤالا غير المعارضة، بل هو معارضة العلة بعلة أخرى مستقلة، والمعارضة عندهما مقبولة. الثالث: وهو المختار عندنا وعن المحققين من الأصوليين والفقهاء- أنه وإن اشتمل على المعارضة، غير أنها غير مقصودة.

ثم الصحيح المقبول ينقسم إلى: ما يبطل فقه الجامع، ويصيره طرديا، وإلى ما لا يخل بفقه الجامع، غير أنه مشتمل على فقه مناقض لقصد الجامع، ثم هو قد يكون أكثر إحالة من الجامع، أو يساويه، فإذا صح الفرق. "فرع" قال إمام الحرمين في "البرهان": إذا كان الفارق معنى في الفرع، هل يشترط رده إلى أصل يشهد له بناء على قول الفارق؟ فقال طوائف من الجدليين. فقاله طوائف: لا يشترط. ومنشأ الخلاف: الاعتماد على أن القول بالاستدلال صحيح، وهو قد استدل بعدم العلة على عدم الحكم، فلا [يلزم] إبداء أصل، ولا يحتاج ذلك في الأصل؛ فإن الخصم سلم صحة استدلاله بما في الأصل. ومن منع الاستدلال، وجعله معارضة، اشترط فيه ذلك. ويلاحظ الأول- أيضا- أن المقصود ليس المعارضة حتى يشترط [فيها] ما يشترط في المعارضات، بل إبداء معنى يضاد الجامع. وذهب ذاهبون- من الذين اشترطوا استناده في الفرع إلى أصل أن الفارق الذي يبديه المعترض في الأصل لا بد له من رده إلى أصل- أيضا- فيحتاج للفرع والأصل أصلين، وهذا قول من ينكر الاستدلال، ولا يراه حجة. وقالت طائفة: يشترط في الفرع دون الأصل. وقيل: يشترط مطلقا بناء على أن المعارضة مضادة للجامع، وإذا قلنا بالاحتياج إلى أصل، فتقبل المعارضة في ذلك بأصل آخر، ويستمر

الأمر لذلك، وهو ظاهر البطلان، وقد قيل بالتزامه، ولا بد من الانتهاء إلى أصل يتحد معناه، ولا يمكن معارضته، وهو بعيد. ومن لاحظ ما تقدم في معنى الفرق لم يشترط في الفرق إلا ما يليق به وهو المضادة فقط. هذا إذا أبدى معنى في الأصل، وعكسه في الفرع. فإن أبدى مزيدا في الفرع، فاختلف الجدليون فيه: فمن اعتقد الفرق معارضة لم يمنع الزيادة [فيقتضى كلامه أن الزيادة ممتنعة]. ومن رأى الفارق إنما هو معنى يضاد الجامع، يكفي فيه إثباته في الأصل، ونفيه من الفرع، وهذه الزيادة في الفرع ليس لها في جانب الأصل ثبوت، ولا حاجة إليها. "فرع" قال إمام الحرمين في "البرهان": يذكر على صورة الفرق وليس فرقا، وإن كان مبطلا للعلة، كقول الحنفي في [منع] اشتراط تعيين النية: [ما تعين أصله لم يشترط فيه تعيين النية] كرد الغصوب والودائع. يشترط المعترض: أصل النية ليس مرعيا في الأصل، وهو معتبر في محل النزاع، وهذا ليس فرقا بل الجامع باطل؛ فإن الكلام في تفصيل النية فرع لتسليم أصلها. وأبو حنيفة لا يراعي التعيين مع اشتراط أصل النية؛ لأن أصل النية عنده كاف، مغن عن التفصيل والتعيين، فكيف يتمسك [بما لا يشترط] أصل النية فيه، ولا يعد من قبيل القربات؟ فهذا إذا باطل من قصد الجامع، وصيغة الفرق تقرر الجمع، ويفرق بأمر وراءه أخص منه.

"فرع" قال إمام الحرمين في "البرهان": يعترض على الفارق مع قبوله في الأصل بكل ما يعترض به على العلل المستقلة، وإن كان ليس معارضة على الصحيح عندنا، لكنه في صورة المعارضة، وتلك الصورة في النفي والإثبات تثبت خاصة كما تقدم، وإذا بطل مستند الفرق بطل الفرق. "فرع" قال إمام الحرمين في "البرهان": والقائل بأن الحكم لا يعلل بعلتين لا يلزم من ذلك جوابا عن الفرق، بل عليه أن يبين عدم إشعاره بإثارة الفرق، وترجيح مسلك الجامع من طريق الفقه. "فرع" قال إمام الحرمين: إذا لم يكن الفارق معنى، بل حكما شرعيا كقوله: "من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم"، فإذا وقع الفرق على هذه الصفة والعلة كذلك، قبل وقوع الكلام في الترجيح، وتقريب الأشباه. وإن كان القياس معنويا، وجرى الفارق على صفة إلحاق حكم بحكم، فهذا من المعترض محاولة معارضة المعنى بالشبه، فلا يقبل؛ لأن أدنى المعاني المناسبة مقدم على أجلاء الأشباه. "فائدة" اصطلاح العراقيين في زماننا اليوم في الفرق: إبداء معنى في الأصل والفرع.

والبخاريون يسمون ما في الأصل فارقا، وما في الفرع حائزا للفرق. إذا ذكر بعده من جهة المستدل معارضة للفارق، والعراقيون يسمون هذا معارضة، والبخاريون يسمونه حائزا، أي حرما، وهي من العلة بسبب الفرق. "فائدة" قال إمام الحرمين في "البرهان": في التعليل بعلتين ثلاثة أقوال: الجواز للجماهير. والمنع لطوائف. وقال المقتصدون: يمتنع في المستنبط دون المنصوص، وهو رأي القاضي. احتج المانعون بإجماع القياسيين على اتحاد علة الربا، وكل فريق يبطل علة خصمه، ويرجح علته، والترجيح فرع الصحة، فلو كان الجمع ممكنا لم يكن حاجة إلى الترجيح؛ لأنه إنما يكون عند التعارض، ولا تعارض. وجوابهم: أنا نمنع أن مانع التعليل خارق للإجماع؛ فإن ابن عباس قائل بالقياس، ولم يعللها. أو نقول: دليل العلة الإيماء؛ لقوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام". والنزاع في تحقيق إيماء النص، ثم حصول الإجماع في صورة لا يمنع من تعليل الحكم في صورة أخرى إلى علتين. "تنبيه" ذكر المصنف الاعتراضات الواردة على العلة خمسة، أخرها الفرق، وستة اعتراضات ذكرها الجماعة أذكرها. الاعتراض الأول: قال سيف الدين: الاستفسار إذا كان اللفظ

مجملا فهو أول الاعتراضات؛ لأن غيرها مبنى عليه ويقع بـ "هل"، و "الهمزة"، "وأي"، ونحوها، ويتعين جوابه؛ لأنه سؤال حق. الثاني: قال سيف الدين: فساد الاعتبار: وهو بيان أن هذا القياس لا يمكن اعتباره في هذا الحكم، لا لفساد فيه؛ بل لكونه مخالفا للنص. وجوابه نمنع صحة السند في النص، أو منع ظهوره، أو التأويل، أو القول بالموجب، أو المعارضة بنص آخر؛ ليسلم القياس، أو يبين أن هذا القياس مما يجب ترجيحه على النص بوجوه الترجيح. "الاعتراض الثالث" فساد الوضع بأن يكون ترتيبه في نفسه، ووضعه على خلاف وضع القياس، كترتيب الحكم من وضع يقتضي ضده، كالتضييق من التوسع، والتخفيف من التغليظ، والإثبات من النفي، [وبالعكس]، والإشعار بالنقيض، كقولهم في النكاح بلفظ الهبة: لفظ ينعقد به غير النكاح، فلا ينعقد به النكاح، كلفظ الإجارة، فإن كونه ينعقد به غيره يناسب أن ينعقد هو به لا عدم الانعقاد، فكل فاسد الوضع فاسد الاعتبار، ولا ينعكس، وكذلك تقدم سؤال فساد الاعتبار؛ لأن النظر في الأعم مقدم على النظر في الأخص. "الاعتراض الرابع" منع حكم الأصل. ولما كان [منع حكم الأصل] من النظر في تفصيل القياس تأخر عما تقدم، كقول الشافعي في إزالة النجاسة: مائع لا يرفع الحدث؛ فلا يزيل

حكم النجاسة كالدهن، فيقول الحنفي: لا نسلم أن الدهن لا يزيل النجاسة، بل يزيلها عندي. واختلف في أنه انقطاع للمستدل أم لا؟ فإنه إن شرع في الدلالة على حكم الأصل كان انتقالا لمسألة أخرى، وإن لم يشرع لم يتم دليله. وقيل: بل دلالته على حكم الأصل تتميم لمقصوده لا رجوعا عنه، بل هو يثبت ركن قياسه، وهو حكم الأصل، كما يبحث في تحقيق علة الأصل. ومنهم من فصل، فقال: إن كان المانع ظاهرا فهو انقطاع، أو خفيا فلا؛ لأنه معذور، وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني. ومنهم من قال: يتبع عرف ذلك البلد الذي هو فيه، وهو اختيار الغزالي. والمختار عدم الانقطاع إذا دل على موضع المنع. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: لا يفتقر إلى دلالة على محل المنع، بل يقول: إنما قست على أصل، وهو غير متجه؛ لأن الخصم يمنع المقيس عليه، كما يمنع المقيس، وإنما يتجه الاستغناء عن الدلالة إذا كان لفظ الأصل يتناول صورا بعضها يتجه فيه المنع، وبعضها لا، كالدهن، يشمل الطاهر وهو يتجه في المنع، والنجس، وهو لا يتجه المنع فيه، فله أن يقول: قست على النجس، وإن كان قياسي يتناولهما، فيكون قياسيا على أصلين إن منع أحدهما بقى الآخر. وإذا دل على موضع المنع دليل منهم من حكم بانقطاع المعترض؛ لظهور فساد المنع، وحسما لمادة التطويل. وقيل: ليس انقطاعا؛ لبقاء وجه محاولة وجوه الاعتراضات. "الاعتراض الخامس" التقسيم بأن يردد اللفظ بين معنيين: أحدهما ممنوع، والآخر مسلم.

ولا بد أن يكون اللفظ محتملا لهما غير ظاهر في أحدهما، ولولا ذلك لترك اللفظ على ما هو ظاهر فيه، كما لو قال في البيع بشرط الخيار: وجد سبب الملك للمشترى؛ فيثبت له. [فيقول المعترض]: السبب هو مطلق بيع، أو البيع المطلق الذي لا شرط فيه. الأول: ممنوع، والثاني: مسلم. لكن لم قلت بوجوده، وليس من شرط التقسيم أن يكون أحدهما ممنوعا، والآخر مسلما، بل [جائز] أن يكونا مسلمين، لكن الذي يرد على أحدهما غير ما يرد على الآخر؛ إذا لو اتحد ما يرد لم يكن للتقسيم معنى، ولا خلاف أنه لا يجوز أن يكونا ممنوعين؛ لأن التقسيم لا يكون مفيدا، وعلى هذا لو أراد المعترض تصحيح تقسيمه اكتفى بإطلاق اللفظ بإزاء احتمالين من غير تكليف بيان التساوي، في دلالة اللفظ عليهما. "وجوب التقسيم من وجهين" الأول: أن يعين المستدل بعض محامل اللفظ، أو يبين أن اللفظ له حقيقة لغوية، أو شرعية، أو مجاز مشهور، أو يدفع [الاحتمال] بأنه على خلاف الأصل. الثاني: أن يبين احتمالا لم يتعرض له المعترض. "الاعتراض السادس" منع العلة في الأصل. وهو بعد التقسيم؛ لأن منع العلة في الشيء بعد تسليمه، كقول الشافعي: حيوان يغسل الإناء من ولوغه سبعا؛ فلا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير. فيقول الخصم: لا أسلم أن الخنزير يغسل الإناء من ولوغه سبعا.

وجوابه: بإثبات ذلك بنص أو غيره. وإن فسر لفظه بما لا يحتمله لغة، فالمشهور منع قبوله. وقال بعض المتأخرين: يقبل؛ لأن مقصود اللغة إنما هو الإفهام، فتفسير اللفظ بما لا يصلح له نقض [للعلة]. "الاعتراض السابع" منع عليه الوصف بعد تسليمه. قال: وهو أعظم الأسئلة الواردة على القياس، لعموم وروده على كل وصف، واتساع طرق إثباته وتشعبها. واختلف في قبوله، والمختار قبوله؛ لأن الحكم لا بد له من جامع، وهو [العلة]. احتجوا: بأنه لو قبل، لاستدل عليه بما يمكن منع المناسبة فيه ويتسلسل. الثاني: أنا لم نجد إلا هذه العلة، فعلى المعترض القدح فيها. الثالث: أن الإفراد دليل العلية. والجواب على الأول: أنه إذا ذكر ما يفيد ظن التعليل وجب التسليم، ولا تسلسل. وعن الثاني: الطعن في الاستقراء. وعن الثالث: منع الاكتفاء بالاقتران، بل لا بد من المناسبة. "الاعتراض الثامن: عدم التأثير" وهو إبداء وصف في الدليل مستغنى عنه في إثبات الحكم أو نفيه، وقسمه الجدليون أربعه أقسام: الأول: عدم التأثير في الوصف، وهو بيان أن الوصف طردي.

الثاني: عدم التأثير في الأصل، وهو أن يكون الوصف قد استغنى عنه في إثبات الحكم في الأصل بغيره، كما إذا قال المستدل في بيع الغائب: مبيع غير مرئي؛ فلا يصح بيعه، كالطير في الهواء، فإن ما وجد في الأصل- من العجز عن التسليم- مستقل بالحكم. واختلف في هذا النوع، فرده الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وغيره؛ لأن إثبات علة أخرى لا يمنع عليه هذه العلة. وقيل: يقبل؛ بناء على منع تعليل الحكم بعلتين. الثالث: عدم التأثير في الحكم بأن الوصف لا يؤثر في الحكم، كما لو قال في المرتدين إذا أتلفوا أموالنا: طائفة كافرة؛ فلا يجب عليهم الضمان في دار الحرب كأهل الحرب؛ فإن الإتلاف بدار الحرب لا تأثير له في نفس الضمان، ضرورة الاستواء في الحكم بين دار الإسلام، ودار الحرب. وهذا القسم يرجع [إلى] عدم التأثير في الوصف بالنسبة إلى الحكم. الرابع: عدم التأثير في محل النزاع بان الوصف لا يطرد في جميع صور النزاع، وإن كان مناسبا، كقوله في عقد المرأة: امرأة زوجت نفسها من غير كفء؛ فلا يصح نكاحها؛ لأن النزاع إذا زوجت نفسها من الكفء. وهذا- أيضا- اختلف في قبوله، فمنعه قوم، بناء على منع الفرض، والتنافي في الدليل. وجوزه قوم لم يمنعوا الفرض، وهو المختار. "الاعتراض التاسع" القدح في مناسبة الوصف لما يلزم من ترتيب الحكم عليه من المفسدة المساوية لمصلحة الوصف، أو راجحة عليها. "الاعتراض العاشر" القدح في إفضاء الحكم إلى ما علل به من المقصود.

كقوله في حرمة المصاهرة: إنما وقعت على التأبيد لأجل الحاجة إلى ارتفاع الحجاب بين الرجال والنساء سدا لباب الفجور بقطع الطمع. فيقول المعترض: هذا الحكم غير صالح لتحصيل هذا المقصود؛ فإن قطع الطمع بسد الباب بالكلية يوجب شدة الحرص، فيقع الفجور. "الاعتراض الحادي عشر" ادعاء أن الوصف خفي، كما إذا علل بالرضا، أو القصد؛ لأنها أوصاف باطنة خفية، فلا تصلح لتعريف الحكم. وجوابه: أن يبين ضبط الرضا بما يدل عليه من الصيغ والأفعال. "الاعتراض الثاني عشر" أن الوصف غير منضبط، كالتعليل بالحكم، والمقاصد، والحرج، والمشقة، والزجر، والردع، فإن هذه الأمور تختلف باختلاف الأشخاص، والأزمنة، والبقاع، والأحوال، وما هذا شأنه فإن الشارع رد الناس فيه إلى المظان المنضبطة؛ دفعا للعسر في البحث عن الخفي الذي لا ينضبط؟ وجوابه: أنه مضبوط، وتبين ذلك. "الاعتراض الثالث عشر" المعارضة في الأصل بما هو مستقل بالتعليل؛ كمعارضة الكيل بالطعم في الربا. أو غير مستقل على أنه جزء العلة؛ كزيادة الجارح إلى القتل العمد كمعارضة من علل وجوب القصاص في القتل بالمثقل، بالقتل العمد العدوان. مسألة القتل بالمثقل، واختلف الجدليون في قبوله، فمنع منعا للتعليل بعلتين.

وأجيز بناء على جواز ذلك، وهل يجب على [المعترضين] نفى ما أبداه معارضا في الأصل عن الفرع؟. اختلفوا فيه، فقيل: لا يجب؛ لأنه إن كان في الفرع افتقر المستدل إلى بيانه فيه ليصح الإلحاق، وإن لم يبين ذلك الفرق فلا بد من نفيه وإلا فلا؛ لأنه يقول: إن لم يكن موجودا فيه فهو قوى، وإلا فالمستدل لم يذكر إلا بعض العلة، وعلى التقديرين فلا بد من إشكال، هذا إن كان المقيس عليه أصلا واحدا، فإن كان أصولا فقيل: لا يرد؛ لأن الاكتفاء بأصل آخر غير هذا حاصل. وقيل: يرد؛ لأنه أقوى في إفادة الظن، والقائلون الورود اختلفوا في الاقتصار في المعارضة على أصل واحد، فقيل: يكفي؛ لأن المستدل قصد جميع الأصول، فإذا ذهب أصل واحد ذهب غرضه، وقيل: لا بد من الجمع؛ لأن المستدل يكتفي بأصل واحد، والقائلون بالتعميم اختلفوا؛ فمنهم من شرط إيجاد المعارض في الكل دفعا لانتشار الكلام، وقيل: لا يلزم؛ لجواز ألا يساعده في الكل علة واحدة، ثم اختلف هؤلاء؛ فقيل: يقتصر المستدل في الجواب عن أصل واحد؛ لأن به يتم مقصوده، وقيل: لا بد من الجواب عن الكل؛ لأنه التزم القياس على الكل. وجواب المعارضة من وجوه: الأول: منع وجود الوصف المعارض به. الثاني: المطالب بتأثيره إن كان طريق المستدل المناسبة أو الشبه دون السبر. والتقسيم الثالث: بيان أن العلة الغاية [في جنس] الأحكام كالطول والقصر. الرابع: أنه ملغي في هذا الحكم خاصة. الخامس: أن الحكم استقل في صورة بدونه. السادس: رجحان ما ذكره المستدل.

"فائدة" قال ابن عقيل الحنبلي في "الواضح": من الناس من قال لا تقبل المعارضة؛ لأنها ليست مسألة ولا جوابا. "الاعتراض الرابع عشر" سؤال التعدية بـ "أن" تعين في الأصل معنى يعارضه ثم يقول: قد تعدى إلى فرع مختلف فيه، وليس أحدهما أولى من الآخر كقول الشافعي: بكر؛ فجاز إجبارها كالصغيرة. فقال المعترض: البكارة وإن تعدت إلى البكر البالغ، فالصغر متعد إلى البنت الصغيرة. وهذا- أيضا- اختلف فيه، والحق أنه لا يخرج عن سؤال المعارضة في الأصل مع بيان التسوية في التعدية. وجوابه: حذفه عن درجة التعدية. "الاعتراض الخامس عشر" منع وجود العلة في الفرع. وجوابه: منعه في الأصل. "الاعتراض السادس عشر" المعارضة في [الفرع] إنما تقتضي نقيض حكم المستدل، بنص، أو إجماع، أو مانع، أو عدم شرط. واختلف في قبوله [فمنعه قوم] بناء على أن بيان المعترض أن يكون هادما

لا بانيا، وقبله الأكثرون، لأنه طريق الهدم، وقد يتعين طريقا للهدم، فلو لم يقبل لبطل مقصود المناظرة والبحث والاجتهاد. وجوابه: بالقدح بما يرد على تلك المواد إن كانت من جهة المستدل. واختلفوا في دفعه بالترجيح، فمنع؛ لأنه وإن كان مرجوحا، فلا يخرج عن كونه اعتراضا. والمختار جوازه؛ لأنه موطن [تعارض]، وهل يجب على المستدل أن يذكر في أصل دليله ما به الترجيح؟ [منهم من أوجبه]؛ لأنه لو تركه أولا، لكان ذكرا أولا لبعض الدليل. وقليل: لا يجب للمشقة. قال: والمختار التفصيل، فإن الترجيح إن كان وصفا من أوصاف العلة تعين ذكره، وإلا فلا؛ لأنه قد أتى بكمال الدليل، والترجيح أجنبي عنه. "الاعتراض السابع عشر" اختلاف الضابط بين الأصل والفرع مع اتحاد الحكمة، كقوله في شهود القصاص: تسببوا للقتل عمدا عدوانا؛ فلزمهم القصاص زجرا لهم عن السبب كالمكره، فالمشترك بين الأصل والفرع إنما هو الحكمة، وهي الزجر، والضابط في الفرع الشهادة، وفي الأصل الإكراه، ولا يمكن التعدية بالحكمة وحدها، وضابط الفرع يحتمل أن يكون مساويا لضابط الأصل في الإفضاء إلى المقصود، ويحتمل ألا يكون. وجوابه: أن يبين أن التعليل إنما هو بعموم ما اشترك فيه الضابطان من التسبب المضبوط عرفا، أو يبين [أن] المساواة في الإفضاء، وإفضاء الضابط في الفرع أكثر.

"الاعتراض الثامن عشر" أن يتحد الضابط، [ويختلف] جنس المصلحة، كقوله في مسألة اللواط: أولج فرجا في فرج مشتهى طبعا، [ويحرم] شرعا؛ فيجب الحد كالزنا. فيقول السائل: حكمة [الفرع] صيانة النفس عن رذيلة اللواط، وهي مخالفة لحكمة الأصل، وهي دفع محذور اختلاط الأنساب، فلا يلزم من اعتبار ضابط الأصل اعتبار ضابط الفرع. وجوابه: أن نقول: التعليل إنما وقع الضابط المشترك المستلزم لدفع المحذور اللازم من عموم الجماع، والتعرض لحد الخصومات عن الاعتبار بطرق الحذف الدالة على الإلغاء. "الاعتراض التاسع عشر" أن يقال: حكم الفرع مخالف لحكم الأصل، فلا قياس؛ لأن القياس التعدية في غير الحكم. وجوابه: ببيان الاتحاد، إما عينا كما في قياس وجوب الصوم على وجوب الصلاة، وصحة البيع على صحة النكاح، وأن الاختلاف إنما هو في المحل. وإما جنسا، كقياس وجوب قطع الأيدي باليد الواحدة على وجوب قتل النفس بالنفس الواحدة، وأن الاختلاف إنما هو في غير الحكم، وحصل الاشتراك في نفس العلة، فإن اختلف الحكم جنسا ونوعا كما في إلحاق الإثبات في النفي أو الوجوب بالتحريم، فاختلف في صحته، والمختار عدمها.

"فائدة" قال: إذا اجتمعت الأسئلة الواردة على القياس، فإن كانت من جنس واحد كالنقوض، والمعارضة في الأصل أو الفرع، فاتفق الجدليون على جواز إيرادها من غير ترتيب؛ لأنه لا تناقض، ولا نزول عن سؤال إلى سؤال. وإن كانت أجناسا مختلفة كالمنع، والمطالبة، والنقض، والمعارضة ونحوه، فإن كانت الأسئلة غير مرتبة، فأجمعوا على جواز الجمع بينها، سوى أهل "سمرقند"، فإنهم أوجبوا الاقتصار على سؤال واحد؛ لقربه إلى الضبط، وبعده عن الخبط، ويلزمهم على ذلك ما كان من الأسئلة المعتادة من جنس واحد؛ فإنها وإن أفضت إلى الانتشار، فالجمع بينهما مقبول من غير خلاف. وإن كانت مرتبة فقد منع منه أكثر الجدليين؛ لأن المطالبة بتأثير الوصف بعد منه وجوده نزول عن المنع، (ويشعر) تسليم وجوده؛ لأنه لو بقى مصرا على منع وجود الوصف، فالمطالبة بتأثير ما لا وجود له محال، وعند ذلك فلا يستحق غير جواب الأخير من الأسئلة. وقيل: لا يمتنع ذلك مصدرا؛ لتسليم وجود الوصف بأن يقول: وإن سلم عن المنع تقديرا، فلا يسلم عن المطالبة وغيرها، ولا شك أنه أولى؛ لعدم إشعاره بالمناقضة، والعود إلى منع ما سلم وجوده، وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق. وإذا قيل بالترتيب في الأسئلة، فأولها الذي يبدأ به الاستفسار، ثم فساد الاعتبار، ثم فساد الوضع، ثم منع حكم الأصل؛ لأن الحكم مقدم على العلة؛ لان استنباط العلة بعده، ثم منع وجود العلة في الأصل، ثم النظر في علية الوصف كالمطالبة، وعدم التأثير، والقدح في المناسبة والتقسيم، وعدم ظهور الوصف وانضباطه، وكون الحكم غير صالح للإفضاء لذلك المقصود، ثم النقض والكسر؛ لكونهما معارضة للدليل، ثم المعارضة في المقصود، ثم النقض والكسر؛ لكونهما معارضة للدليل، ثم المعارضة في

الأصل؛ لأنها معارضة للعلة، [فكان] متأخرا عن معارض دليل العلة، والتعدية والتركيب؛ لأن حاصلهما يرجع إلى المعارض في الأصل، ثم بعده ما يتعلق بالفرع، كمنع وجود العلة في الفرع، ومخالفة حكمه لحكم الأصل، ومخالفته الأصل في الضابط، والحكمة، والمعارضة في الفرع، وسؤال القلب، ثم القول بالموجب؛ لتضمنه تسليم كل ما يتعلق بالدليل. ***

الباب الثالث فيما يظن أنه من مفسدات العلة، مع أنه ليس كذلك

الباب الثالث فيما يظن أنه من مفسدات العلة، مع أنه ليس كذلك قال الرازي: وقبل الخوض في تلك الأشياء، نذكر تقسيمات العلة: التقسيم الأول: كل حكم ثبت في محل، فعلة ذلك الحكم: إما نفس ذلك المحل، أو ما يكون جزءا من ماهيته وداخلا فيه، أو ما يكون خارجا عنه، والخارج: إما أن يكون أمرا عقليا، أو شرعيا، أو عرفيا، أو لغويا: والعقلي: إما أن يكون صفة حقيقية، أو إضافية، أو سلبية أم ما يتركب من هذه الأقسام، وهي الصفة الحقيقية مع الإضافية، أو مع السلبية: مثال التعليل بالصفة الحقيقية فقط: "مطعوم؛ فيكون ربويا": مثال الإضافية: قولنا: "مكيل؛ فيكون ربويا". مثال السلبية: قولنا في طلاق المكره: "لم يرض به؛ فلا يقع". مثال: الحقيقية مع الإضافية: قولنا: "بيع صدر من الأهل في المحل". مثال الحقيقية مع السلبية: قولنا: "قتل بغير حق". مثال الحقيقية والإضافية والسلبية معا: قولنا: "قتل عمد عدوان". مقال الوصف الشرعي: قولنا في المشاع: "يجوز بيعه، فتجوز هبته".

مثال العرفي: قولنا في بيع الغائب: "إنه مشتمل على جهالة مجتنبة في العرف". مثال الاسم: قولنا في النبيذ: "إنه مسمى بالخمر؛ فيحرم؛ كالمعتصر من العنب". واعلم أن التعليل بجزء مسمى المحل؛ إن كان بعلة قاصرة، وجب أن يكون بالجزء الذي يمتاز ذلك المحل به عن غيره، وألا يحصل الحكم في ذلك المشارك، فتصير القاصرة متعدية، وإن كان بعلة متعدية، وجب التعليل بالجزء الذي يشارك غيره، وإلا لم توجب تلك العلة في غيره، فتصير العلة المتعدية قاصرة. التقسيم الثاني: العلة والحكم: إما أن يكونا ثبوتيين، أو عدميين، وهذان القسمان لا نزاع في صحتهما، وإما أن يكون الحكم ثبوتية، والعلة عدمية، وفيه نزاع، وإما أن يكون الحكم عدميا، والعلة ثبوتية، وهذا يسميه الفقهاء تعليلا بالمانع، واختلفوا في أنه، هل من شرطه وجود المقتضى؟. التقسيم الثالث: العلة: إما أن تكون فعلا للمكلف؛ كالقتل الموجب للقصاص، أو لا تكون؛ كالبكارة في ولاية الإجبار عندنا. التقسيم الرابع: الوصف المجعول علة: إما أن يكون لازما للموصوف؛ ككون البر مطعوما، أو لا يكون، فحينئذ: يكون متجددا، وذلك المتجدد: إما أن يكون ضروريا بحسب العادة؛ وهو مثل انقلاب العصير خمرا، والخمر خلا، أو لا يكون وهو: إما أن يكون متعلقا باختيار أهل العرف؛ ككون البر مكيلا، أو باختيار الشخص الواحد؛ كالردة والقتل.

التقسيم الخامس: العلة: إما أن تكون ذات أوصاف؛ كقولنا: "قتل عمد عدوان" أو لا تكون؛ كقولنا: "التفاح مطعوم؛ فيكون ربويا". التقسيم السادس: العلة قد تكون وجه المصلحة؛ ككون الصلاة ناهية عن الفحشاء، وكون الخمر موقعة للبغضاء، وقد تكون أمارة المصلحة؛ كما إذا جعلنا جهالة أحد البدلين علة في فساد البيع، مع أنا نعلم أن فساد البيع في الحقيقة معلل بما يتبع الجهالة مع تعذر التسليم. ألا ترى أن جواز البيع ثابت؛ حيث لا تمنع الجهالة من صحة التسليم؛ كبيع صبرة من الطعام مشار إليها لصحة تسليمها، وإن كان مجهول القدر. التقسيم السابع: الوصف قد يعلم وجوده بالضرورة؛ ككون الخمر مسكرا، أو مطربا، وذلك إما أن يعلم بالضرورة كونه من الدين؛ ككون الجماع في نهار رمضان مفسدا للصوم، وقد لا يكون كذلك، وأمثلته ظاهرة. المسألة الأولى: اختلفوا في جواز التعليل بمحل الحكم: والحق أن العلة إما أن تكون قاصرة، أو متعدية: فإن كان الأول: صح التعليل بمحل الحكم، سواء كانت العلة منصوصة، أو مستنبطة؛ لأنه لا استبعاد في أن يقول الشارع: "حرمت الربا في البر؛ لكونه برا، أو يعرف كون البر مناسبا لحرمة الربا. فإن قلت: "لو كان محل الحكم، علة للحكم لكان الشيء الواحد فاعلا وقابلا معا، وهو محال؛ لوجهين: الأول: أن المفهوم من كونه قابلا غير المفهوم من كونه فاعلا؛ ولذلك صح تعقل كل واحد منهما مع الذهول عن الآخر، فهذان المفهومان: إما أن يكونا داخلين في ذلك الشيء، أو خارجين عنه، أو أحدهما داخلا، والآخر خارجا:

فإن كان الأول: كان ذلك الشيء مركبا في نفسه، والجزء الذي هو ملحوق الفاعلية غير الجزء الذي ملحوق القابلية؛ فلا يكون الشيء الواحد قابلا وفاعلا. وإن كان الثاني: كان هذان الأمران الخارجان عن تلك الماهية لاحقين لها، وكل لاحق معلول، فيعود الأمر في أن المفهوم من كون تلك الماهية علة لأحد اللاحقين غير المفهوم من كونه علة للاحق الآخر، ويكون الكلام في هذين المفهومين كما في الأول؛ فيلزم التسلسل؛ وهو محال. وإن كان أحدهما داخلا في الماهية، والآخر خارجا عنها، لزم كون الماهية مركبة؛ لأن كل ماله جزء، فهو مركب، ولزم أن يكون: إما الفاعلية، أو القابلية- جزءا منن الماهية؛ وذلك محال؛ لأن الفاعلية والقابلية نسبة بين الماهية وبين غيرها، والنسبة بين الشيء وبين غيره خارجة عن الماهية، والخارج عن الشيء لا يكون داخلا فيه؛ فلا يمكن أن تكون القابلية أو الفاعلية داخلة في الماهية. الثاني: وهو أن نسبة القابل إلى المقبول نسبة الإمكان، ونسبة المؤثر إلى الأثر نسبة الوجوب، فلو كان الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد مؤثرا وقابلا، لزم كون النسبة الواحدة موصوفة بالوجوب وبالإمكان معا؛ وهو محال": قلت: قد بينا في كتبنا العقلية ما في هذين الوجهين من المغالطة. وأما إن كانت العلة متعدية، لم يصح أن يكون محل الحكم علة للحكم؛ لأن العلة المتعدية هي التي توجد في غير مورد النص، وخصوصية مورد النص يستحيل حصولها في غيره؛ لان الشيء لا يكون نفس غيره.

الباب الثالث فيما ظن أنه من مفسدات العلة قوله: "الإضافية كقولنا: مكيل؛ فيكون ربويا": تقريره: أن الكيل أمر لا يعقل إلا بين شيئين: كيل ومكيل، وكائل، فكان إضافيا. قوله: "مثال المركب من الحقيقي والإضافي، قولنا: بيع صدر من أهله في محله": تقريره: أن البيع حقيقي، والأهل لا يعقل إلا بالقياس إلى شيء هو متأهل بالنسبة إليه، وكذلك لا يعقل المحل إلا بالقياس إلى حال. قوله: "والإضافي والسلبي قولنا: عمد عدوان": تقريره: أن العمد هو القصد، ولا بد فيه من مقصود يضاف إليه، والعدوان معناه غير مستحق، فهو سلبي. قوله: "لا تمنع الجهالة إلا إذا منعت التسليم؛ لجواز البيع معها في الصبرة المشار إليها؛ لصحة التسليم مع الجهالة بالقدر": قلنا: لا نسلم أن الصبرة مجهولة القدر، بل معلومة بطريق الحرز والتقدير، فالخطأ فيها نادر وقليل، ولو كان جاهلا بالحرز والتقدير امتنع البيع، بل الجهالة في نفسها مانعة لإخلالها بالرضا بانتقال المالية؛ لأن الرضا بغير المعلوم متعذر، [و] لأنها وإن رضي بها العاقد قد تخل بالمالية؛ لجواز انكشاف العيب عن نقص مخل بالمال.

"المسألة الأولى" اختلفوا في جواز التعليل بمحل الحكم، والحق أن العلة إما أن تكون قاصرة أو متعدية. يريد: أنا إما أن نفرع على جواز التعليل بالقاصرة أم لا، فإن فرعنا جاز. قوله: "لا يستبعد أن يقول صاحب الشرع: حرمت الربا في البر لكونه برا، ويعرف كون البر مناسبا لحرمة الربا": تقريره: أن طريق معرفة ذلك أن يقال: إن فيه من الحرارة والرطوبة الملائمة لبدن الإنسان في الغذاء ما ليس غير غيره، فيعظم قدره لذلك، فيمنع الشرع من بذل كثيره في قليله؛ لأن بذل الكثير في القليل هوان بالكثير، والشرف يمنع الهوان. قوله: "لو كان المحل علة لكان الشيء الواحد قابلا وفاعلا معا، وذلك محال؛ لأن المفهومين إذا كانا داخلين لزم أن يكون الواحد مركبا": قلنا: ولم قلتم: إن مفهوم المحل "كالبر" مثلا واحدا، بل يجب أن يكون كثيرا؛ لأن البر لا يتصور من مطلق الجوهر، ولا من مطلق العرض، بل لابد فيه من جواهر وأعراض من الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، وحصول العناصر الأربعة وعلية بعضها على بعض، فنسب إلى ما غلب عليها. وقولنا: "جاز" لا يقتضي أنه ليس فيه حر بارد، بل فيه ضرورة، غير أن تأثيره في بدن الإنسان التسخين والترطيب، وكذلك جميع ما يحكم عليه من النبات والحيوان والجماد، ولا بد من امتزاج بين تلك العناصر، والوحدة بعيدة من البر، وغيره من أجزاء العالم. سلمنا الوحدة، لكن لا نسلم أن الواحد لا يكون قابلا وفاعلا؛ لأن هاتين نسبتان، والنسب والإضافات لا توجب التركيب في الخارج؛ لعدمها في الخارج، بل وجودها في الذهن فقط.

ثم ينتقض ذلك بمركز الدائرة، فإنها تسامت كل نقطة من نقط المحيط، فكل مسامتة غير المسامتة الأخرى، فالمسامتان إما داخلتان، أو خارجتان إلى آخر التقسيم. وكذلك الواحد نصف الاثنين، وثلث الثلاثة، وربع الأربعة إلى غير ذلك من اللوازم. فملازمة الواحد لأحد اللوازم، غير ملازمته للازم الآخر، فهاتان الملازمتان إما داخلتان أو خارجتان، فيلزم التركيب في الواحد، وجميع ما ذكرتموه، وهذه هي الأمور التي أشار المصنف أنه ذكرها في كتبه على هذا الوضع. قوله: "نسبة [المؤثر إلى الأثر] نسبة الوجوب": تقريره: أن المؤثر لا يؤثر حتى يستجمع لكل ما لا بد منه في أثره من الشروط، وانتفاء الموانع، ومتى استجمع لذلك، وجب أثره بالضرورة؛ إذ لو نفى يمكن عدم الوقوع بعد ذلك؛ لفرضنا وقوعه، وعدم وقوعه مع الاستجماع، وحينئذ يلزم الترجيح من غير مرجح في زم الوقوع. فإن كان لابد من مرجح، فلذلك المرجح هو من جملة ما يتوقف عليه التأثير، فحينئذ ما استجمع، وقد فرضناه استجمع، هذا خلف، فتعين [ألا] يقع الأثر إلا واجبا. قوله: "يلزم أن تكون النسبة الواحدة موصوفة الإمكان، والوجوب معا، وهو محال": قلنا: لا نسلم أنه محال؛ فإن النقيضين؛ والضدين، يجوز اجتماعهما معا باعتبار إضافتين متعددتين، لما تقرر في علم المنطق أن من شروط التناقض اتحاد الإضافة، وأن الشروط ثمانية:

أحدها: الإضافة. والوجوب- هاهنا- بالإضافة إلى البابين، والإمكان بالنسبة إلى القبول. فهما جهتان، والإضافة إليهما متعددة، فلا تناقض حينئذ. "تنبيه" زاد التبريزي: فقال: يشهد لأن المحل قد يتضمن حكمة تقتضي الورود به- أن العلم شريف لكونه علما، وكذلك كل حالة شرعية، أو حقيقية ثابتة للشيء من حيث هو هو، كالتحير للجوهر، ووجوب الفناء للعرض، وافتقاره للمحل؛ فإنا نعنى بالتعليل حسن قولنا: إنه يثبت له. وأجاب عن قولهم: "المفهومان إما داخلان أو خارجان عن الماهية": بأن المفهومين يثبتان لشيء واحد بالإضافة إلى حكم؛ لأنهما لا يدخلان في ماهية شيء؛ لأنهما نسبتان بين الماهية وغيرها. ونسلم هذا، ونقول: لم لا يكونا حالتين وحكمين لماهية واحدة؟ وقولهم: "يكونان لاحقين، واللاحق يحتاج إلى علة": قلنا: مسلم، وعليته نفس الذات؛ لأنه لو افتقر [كل] إلى لاحق لعلة لاحقة تسلسل، فالصفات التابعة للحدوث كلها لواحق مستحقة للذات بنفس الماهية الموجودة. ثم ليس هذا إشكالا على اجتماع العلية والقابلية لشيء واحد، بل على نفس ثبوت العلية لشيء، وهو باطل بالإجماع. ثم نقول: إن كان الكم وضعيا، فقد عرضت له العلية بعد القابلية، ويبدل الإمكان بالوجوب.

وإن كان عقليا، فالإمكان مع تحقق الذات؛ فإن شرط الإمكان عدم فرض العلة، فإذا كانت العلية [حالية للذات] لم يكن فرض عدمها، فينقلب الإمكان للشيء لذاته وما بالذات الشيء لا يكون مشروطا لصحبة غيره؛ لأنه واجب، وشرطيته بالعارض تصيره ممكنا، والإمكان واجب الممكن، بل الحق أن الإمكان ثابت مع وجود العلة، ويجتمع الإمكان بالذات، والوجوب بالغير، وكذلك كل أثر مع مؤثره، بل أجزاء العالم كلها ممكنة لذاتها، وواجبة؛ لتعلق العلم والإرادة، والخبر النفساني بوجودها، فلا تناقض بين الإمكان بالذات، والوجوب بالغير، وظهر أن الإمكان غير مشترط ألبتة. "فائدة" قال سيف الدين: قال الأكثرون: لا يجوز التعليل بمحل الحكم، ولا بجزئه. وقيل: يجوز. والمختار التفصيل: فيجوز بالجزء، دون المحل. ***

المسألة الثانية قال الرازي: الوصف الحقيقي إذا كان ظاهرا مضبوطا، جاز التعليل به، أما الذي لا يكون كذلك؛ مثل الحاجة إلى تحصيل المصلحة، ودفع المفسدة، وهي التي يسميها الفقهاء بالحكمة، فقد اختلفوا في جواز التعليل به، والأقرب جوازه. لنا: أنا إذا ظننا استناد الحكم المخصوص في مورد النص إلى الحكمة المخصوصة، ثم ظننا حصول تلك الحكمة في صورة أخرى تولد؛ لا محالة، من ذينك الظنين- ظن حصول الحكم في تلك الصورة، والعمل بالظن واجب؛ على ما تقدم. فإن قيل: لا نزاع في أنه لو حصل ظن تعليل الحكم في الأصل بتلك الحكمة، ثم حصل ظن حصول تلك الحكمة في صورة أخرى- أنه يلزم حصول مثل حكم الأصل في تلك الصورة الأخرى، لكن النزاع في أن ذينك الظنين، هل هما ممكنا الحصول، أم لا؟ وأنتم ما دللتم على جوازه، ونحن نبين امتناعه من وجوه: الأول: أن الحكم: إما أن يعلل بالحاجة المطلقة، أو يعلل بالحاجة المخصوصة: والأول: باطل؛ وإلا لكان كل حاجة معتبرة. والثاني أيضا: باطل؛ لأن الحاجة أمر باطن؛ فلا يمكن الوقوف على مقاديرها، وامتياز كل واحدة من مراتبها التي لا نهاية لها عن المرتبة الأخرى، وإذا تعذر، تعيينه تعذر التعليل بذلك المتعين.

الثاني: لو صح تعليل الحكم بالحكمة، لما صح تعليله بالوصف، وتعليله بالوصف جائز، فتعليله بالحكمة غير جائز. بيان الملازمة: أن شرع الحكم لابد وأن يكون لفائدة عائدة إلى العبد، لانعقاد الإجماع على أن الشرائع مصالح، إما وجوبا؛ كما هو قول المعتزلة، أو تفضلا؛ كما هو قولنا. وإذا كان كذلك، فالمؤثر الحقيقي في الحكم هو الحكمة: أما الوصف، فليس بمؤثر ألبتة، وإنما جعل مؤثرا؛ لاشتماله على الحكمة التي هي المؤثرة، إذا ثبت هذا، فنقول: لو أمكن استناد الحكم إلى الحكمة، لما جاز استناده إلى الوصف؛ لان كل ما يقدح في استناده إلى الحكمة يقدح في استناده إلى الوصف؛ لأن القادح في الأصل قادح في الفرع، وقد يوجد ما يقدح في الوصف، ولا يكون قادحا في الحكمة؛ لأن القادح في الفرع قد لا يكون قادحا في الأصل، فاستناد الحكم إلى الوصف، مع إمكان استناده إلى الحكمة- تكثير لإمكان الغلط من غير حاجة إليه؛ وإنه لا يجوز، ولما رأينا أنه جاز التعليل بالوصف علمنا أنه إنما جاز؛ لتعذر التعليل بالحكمة. الثالث: لو جاز التعليل بالحكمة، لوجب طلب الحكمة، والطلب لها غير واجب، فالتعليل بها غير جائز. بيان الملازمة: أن المجتهد مأمور بالقياس عند فقدان النص، ولا يمكنه القياس إلا عند وجدان العلة، ولا يمكنه وجدانها إلا بعد الطلب، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب؛ فإذن: طلب العلة واجب، وإذا كانت الحكمة علة، كان طلبها واجبا.

بيان أن طلب الحكمة غير واجب: أن الحكمة لا تعرف إلا بواسطة معرفة الحاجات، والحاجات أمور باطنه لا يمكن معرفة مقاديرها إلا بمشقة شديدة؛ فوجب ألا تكون هذه المعرفة واجبة؛ لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78]. الرابع: أن استقراء الشريعة يدل على أن الأحكام معللة بالأوصاف، لا بالحكم؛ لأنا لو فرضنا حصول الأوصاف الجلية؛ كالبيع، والنكاح، والهبة- عارية عن المصالح- لاستندت الأحكام إليها، ولو فرضنا حصول المصالح، دون هذه الأوصاف، لم تثبت بها الأحكام الملائمة لها؛ وذلك يدل ظاهرا على امتناع التعليل بالحكم. الخامس: الدليل ينفي التمسك بالعلة المظنونة؛ لقوله تعالى: {ن بعض الظن إثم} [الحجرات:12] وقوله: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} [النجم: 28] خالفناه في الأوصاف الجلية؛ لظهورها، والحاجات ليست كذلك؛ فتبقى على الأصل. السادس: أن الحكمة تابعة للحكم؛ لأن الزجر تابع لحصول القصاص، وعلة الشيء يستحيل تأخيرها عن الشيء؛ فالحكمة لا تكون على للحكم. والجواب: قوله: "ما الدليل على جواز أن يحصل لنا ظن أن الحكم في الأصل معلل بالحكمة؟ ": قلنا: لا نزاع في أن المناسبة طريق كون الوصف علة، والمعنى بذلك: أنا نستدل بكون الوصف مشتملا على المصلحة؛ على كونه علة؛ فلا يخلو: إما أن يكون الدال على عليته اشتماله على مطلق المصلحة، أو اشتماله على مصلحة معينة:

والأول: باطل؛ وإلا لكان كل وصف مشتمل على مصلحة، فكيف كانت- علة لذلك الحكم. ولا بطل القسم الأول، تعين الثاني: فنقول: إما أن يمكن الإطلاع على المصلحة المخصوصة، أو لا يمكن: فإن امتنع الإطلاع على المصلحة المخصوصة، امتنع الاستدلال بكون الوصف مشتملا عليها؛ على كونه علة؛ لأن العلم باشتمال الوصف عليها موقوف على العلم بها، وحيث لم يمتنع هذا الاستدلال، علمنا أن الاطلاع على خصوصيتها ممكن، وبهذا الحرف ظهر الجواب عن قوله: "المصالح أمور باطنه؛ فلا يمكن الاطلاع عليها". قلنا: التعليل بالحكمة، وإن كان راجحا على التعليل بالوصف؛ من الوجه الذي ذكرت، فالتعليل بالوصف راجح على التعليل بالحكمة من وجه آخر؛ وهو الاطلاع على الوصف، وعسر الاطلاع على الحكمة، فلما كان كل واحد منهما راجحا على الآخر من وجه، مرجوحا من وجه آخر- حصل الاستواء. قوله: "لو صح التعليل بالحكمة لوجب طلبها": قلنا: نحن، وإن اختلفنا في جواز تعليل الحكم، لكنا اتفقنا على أن كون الوصف علة للحكم- معلل بالحكمة، فإن لم يقتض ذلك وجوب طلب الحكمة، فقد بطل قولك؛ وإن اقتضى وجوب طلبها، فقد بطل قولك أيضا. قوله: "الاستقراء دل على تعليل الأحكام بالأوصاف، لا بالحكمة": قلنا: لا نسلم؛ بل التعليل بالحكم حاصل في صور كثيرة؛ مثل التوسط في إقامة الحد بين المهلك والزاجر، وكذا الفرق بين العمل اليسير والكثير.

قوله: "النافي للقياس قائم، ترك العمل به في الوصف؛ لظهوره": قلنا: الحكمة علة لعلية الوصف؛ فأولى أن تكون علة للحكم. قوله: "الحكمة ثمرة الحكم": قلنا: في الوجود الخارجي، لا في الذهن، ولهذا قيل: أول الفكر آخر العمل. نكتة أخرى في المسألة: الحكمة علة لعلية العلة، فأولى أن تكون علة للحكم. بيانه: أن الوصف لا يكون مؤثرا في الحكم، إلا لاشتماله على جلب نقع، أو دفع مضرة، فكونه علة معلل بهذه الحكمة؛ فإن لم يمكن العلم بتلك الحكمة المخصوصة، استحال التوصل به إلى جعل الوصف علة، وإن أمكن ذلك، وهو مؤثر في الحكم، والوصف ليس بمؤثر، كان إسناد الحكم إلى الحكمة المعلومة التي هي المؤثرة أولى من إسناده إلى الوصف الذي هو في الحقيقة ليس بمؤثر. المسألة الثانية الوصف الحقيقي إذا كان ظاهرا منضبطا جاز التعليل به قال القرافي: قوله: "إذا ظننا [استناد] الحكم في مورد النص إلى الحكمة، وظننا حصولها في الفرع، ظننا حصول الحكم في الفرع، والعمل بالظن واحد": قلنا: قد تقدم أن الشرع لم يعتبر مطلق الظن، بل مراتب مخصوصة؛ بدليل شهادة الكفار، والفساق، والصبيان، وغير ذلك من الأمارات التي ألغاها الشارع، فلم قلتم: إن هذا الظن من الرتب التي اعتبرها الشرع؟ هذا أول المسألة. قوله: "الشرائع مصالح بالإجماع":

قلنا: المنكرون للقياس يمنعون أن المصالح مرعية ألبتة. وجماعة من المتكلمين- ويعزى إلى الأشعري- أن حكم الله- تعالى- يستحيل تعليله بالمصالح، بل أفعاله يستحيل أن تكون معللة، فأين الإجماع؟. قوله: "لو جاز التعليل بالحكمة لوجب طلبها؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وطلبها غير واجب؛ لأنها غير منضبطة، فيكون طلبها مشقة، فلا يجب طلبها؛ لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. قلنا: إحدى المقدمتين باطلة، إما عدم لزوم وجوب الطلب، وإما أن اللازم غير منفى؛ لأن طلب الحكمة إما أن يكون مقدورا يحسن التكليف به، أو لا. فإن كان الأول: بطل نفي اللازم؛ لأنه لا مشقة حينئذ. وإن كان الثاني: بطلت الملازمة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به إنما يجب إذا لم يكن كذلك، فظهر أن إحدى المقدمتين باطلة، إما بطلان الملازمة، أو نفي اللازم. قوله: "الحكمة تابعة للحكم؛ لأن الزجر تابع لحصول القصاص": قلنا: مسلم، لكنه تقدم في المجاز أن الأسباب، والعلل أربعة أقسام: فاعلية، وصورية، ومادية، وغائية. والمراد- هاهنا- الغائية التي تسبق في النفس، وتتأخر في الوقوع.

"فائدة" قال النقشواني: العلة في الحقيقة الحكمة؛ لكنها إنما تنضبط بمقاديرها، وإنما يضبط ذلك الوصف، فكون الوصف علة في الشرع معناه: أنه علامة للحكمة، ودليل عليها، فالحكمة هي العلة الغائية الباعثة للفاعل، والوصف هو المعرف، فإذا قلنا: في الشرع علل معرفة، نريد بذلك الوصف المعرفة للعلة الحقيقية المؤثرة، فزالت الشبه، واجتمعت الأقوال. "سؤال" يلزم على التعليل بالحكمة أن من أكل من لحم امرأة قطعت حرمت عليه وصارت أمه؛ لأن حكمة التعليل بالرضاع، هو لحكمة كون جزء الرضيعة صار جزء المرضعة؛ لأن لبنها جزؤها، وقد صار لحما للرضيع، فصار جزؤها جزءا، ولذلك قال عليه السلام: "الرضاع لحمة كلحمة النسب"

أي لما كان أصل النسب أن منيها- الذي هو جزؤها- مع منى الرجل، نشأ منهما الجنين، وصار منهما [جزءا]، فكذلك اللبن. وكذلك يلزم أن من سرق صبيانا صغارا، وغيبهم عن آبائهم، حتى كبروا، والتبسوا على آبائهم، واختلطت أنسابهم، كذلك يجب عليه الرجم حد الزنا؛ لأنه أتى بحكمة الزنا التي هي اختلاط الأنساب. واعلم أن مثل هذا كما هو وارد على التعليل بالحكم، فهو- أيضا- وارد على المدرك المانع من التعليل الذي هو عدم الانضباط؛ فإن هذه حكم منضبطة؛ لأن كون جزئها صار جزءه أمر منضبط، وكذلك اختلاط الأنساب في المثال الآخر. "فائدة" قال سيف الدين: قال الأكثرون: يمتنع التعليل بالحكمة المجردة عن الضابط. وجوزه الأقلون. ومنهم من فصل بين الحكمة الظاهرة المنضبطة بنفسها، والخفية المضطربة، فيجوز بالأولى دون الثانية؛ لاتفاقنا على أن الوصف المنضبط المشتمل على الحكمة يصح التعليل به؛ لانضباطه، وإن لما يكن هو المقصود، فالحكمة أولى إذا كانت منضبطة، والخفية [التي] لا تنضبط لا يعلل بها، بل بضابطها كمشقة السفر، ولذلك لم يرخص للحمال المشقوق عليه في الحضر، وإن زادت مشقته على مشقة السفر في كل يوم ربع فرسخ، وهو في غاية الرفاهية؛ لأجل الاضطراب. ***

المسألة الثالثة قال الرازي: المعللون بالحكمة، لما قيل لهم: إن الحكمة مجهولة القدر؛ فإن حاجة الإنسان في مبدأ زمان الجوع، دون حاجته في مقطع زمان الجوع، وما كان الغالب فيها التفاوت، لم يكن القدر الموجود في الأصل ظاهر الوجود قي الفرع؛ فلم يصح القياس. فمن الناس: من أجاب عنه: بأنا نعلل بالقدر المشترك بين الصورتين؛ لأنه حصل في الأصل قدر معين من المصلحة، وفي الفرع قدر معين، وكل مقدارين؛ فلابد وأن يكون بينهما اشتراك في قدر معين، وذلك القدر المشترك يناسب التعليل به؛ لكونها مصلحة مطلوبة الوجود. فإن قيل لهم: إنه ينتقض بالحاجة الفلانية؛ فإنها غير معتبرة، قالوا: نحن إنما عللنا بالقدر المشترك بين الأصل والفرع، ونحن لا نسلم أن ذلك القدر المشترك حاصل في صورة النقض. واعلم أن هذا الكلام ضعيف؛ وذلك لأنه يحتمل ألا يكون بين القدر المشترك الحاصل في الأصل، والحاصل في الفرع- اشتراك، إلا في مسمى كونه مصلحة، والتعليل بهذا المسمى غير ممكن؛ وإلا حصل النقض بجميع المصالح المنفكة عن هذا الحكم، وأما الاشتراك بين القدرين في أمر آخر وراء عموم كونه مصلحة، فغير معلوم، ولا مظنون؛ وإذا كان وجوده غير ظاهر، لم يكن التعليل به ظاهرا.

"تنبيه" زاد سراج الدين فقال: الاقتصار على المشترك، وإن كان جائزا، لكنه غير لازم

المسألة الثالثة المعللون بالحكمة إذا قيل لهم: هي مجهولة القدر قال القرافي ك قوله: "يحتمل ألا يكون بين القدر المشترك الحاصل في الأصل، والحاصل في الفرع اشتراك إلا في مسمى كونه مصلحة"، والتعليل بهذا غير ممكن؛ لما عليه من النقوض بجميع المصالح المنفكة عن هذا الحكم، والاشتراك في غير المشترك غير مظنون": قلنا: لا نسلم أنه مظنون، بل معلوم بالضرورة؛ فإن اللواط والزنا، قد اشتركا في قدر مشترك من المفسدة أما في الزنا، فللاختلاط، وأما في اللواط؛ فلأنه قد يعتاد، فيترك النساء بالكلية. وهذه مفاسد لم توجد في القذف، ولا في السرقة، ولا في الشرب، وهو كثير، وأن بينهما مشتركا أخص من مطلق المشترك بالضرورة. "تنبيه" زاد سراج الدين فقال: الاقتصار على المشترك، وإن كان جائزا، لكنه غير لازم. يريد: أنه غير متعين، فلا يتعين إيراد السؤال. وقال التبريزي: إذا أمكن تصور الحكمة، وتعرفها في صورة بواسطة وصف، أمكن معرفتها في صورة أخرى بواسطة وصف آخر قطعا أو ظنا.

والقول بالتعليل بالوصف مع إمكان التعليل بالحكمة مستنده إما خصوص منوط بعينه، أو تسهيل أمر اكتفاء باحتمال الحكمة، وسعيا في تحصيلها ما أمكن، وهذا المعنى يناقضه إهمالها عند اليقين. وأما لزوم الحرج في طلبها، فيقتضي جواز الاكتفاء بالوصف الضابط لإهمال نفس الحكمة بعد الظفر بها. قال: وجواب المصنف عن النقض بمنع حصول المشترك في صورة النقض باطل؛ فإن من المعلوم اشتراك الأصل والفرع في مسمى تلك الحكمة، وهو معلوم للوجود في صورة النقص، وكما لا دليل على اختصاص الأصل بزائد بالإضافة إلى الفرع، لا دليل على اختصاصه بزائد بالإضافة إلى صورة النقض، فإن كان هو العلة يلزمهم حكمها في صورة النقض. ***

المسألة الرابعة قال الرازي: يجوز التعليل بالعدم؛ خلافا لبعض الفقهاء

المسألة الرابعة قال الرازي: يجوز التعليل بالعدم؛ خلافا لبعض الفقهاء. لنا: أنه قد يحصل دوران الحكم مع بعض العدمات، والدوران يفيد ظن العلية، والعمل بالظن واجب. احتجوا على أن العدم لا يصلح للعلية بوجوه: أحدها: أن العلية مناقضة للاعلية المحمولة على العدم، فاللاعلية عدمية، والعلية ثبوتية، فلو حملناها على العدم المحض، كان النفي المحض موصوفا بالصفة الوجودية، ولو جوزنا ذلك، لما أمكننا أن نستدل بكون الجدار وكثافته، وحصوله في الجيز على كون الموصوف بهذه الصفات موجودا، وهو سفسطة. وثانيها: أن العلة لابد وأن تتميز عما ليس بعلة، سواء أريد بها المؤثر، أو المعرف، أو الداعي، والتمييز عبارة عن كون كل واحد من المتميزين مخصوصا في نفسه؛ بحيث لا يكون تعين هذا حاصلا لذلك، ولا تعين ذلك حاصلا لهذا، وهذا غير معقول في العدم الصرف؛ لأنه نفى محض، ولأنه لو جاز وقوع التمييز فيه، لجاز أن يقال: "المؤثر في العالم عدم صرف" لست أقول: "ذات معدومة" على ما ذهب إليه القائلون بأن المعدوم شيء؛ لأن ذلك عندهم ثابت، بل الإلزام أن نجعل النبي المحض الذي لا يكون ذاتا، ولا عينا، ولا أمرا من الأمور- مؤثرا في العالم، وذلك مما يسد باب إثبات الصانع، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وثالثها: أن العدم: إما أن يكون عاريا عن النسبة من كل الوجوه أو لا يكون: فإن كان الأول: لم يكن له اختصاص بذات، دون ذات، وبوقت، دون وقت؛ فلا يجوز جعله علة لحكم معين، في وقت معين، وفي شخص معين، وإن كان له انتساب بوجه ما، كان ذلك الانتساب أمرا ثبوتيا ضرورة كونه نقيضا للانتساب؛ فيلزم وصف العدم بالوجود؛ وهو محال. ورابعها: أن المجتهد، إذا بحث عن على الحكم، لم يجب عليه سبر الأوصاف العدمية، فإنها غير متناهية، مع أنه يجب عليه سبر كل وصف يمكن كونه علة، وذلك يدل على أن الوصف ألعدمي لا يصلح للعلية. وخامسا: قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39] والعدم نفي محض؛ فلا يكون من سعيه؛ فوجب ألا يترتب عليه حكم؛ فإن كل حكم يثبت، فإنه يحصل للإنسان بسببه: إما جلب منفعة، أو دفع مضرة؛ فثبت أن الوصف ألعدمي لا يمكن أن يكون علة. فإن قلت: "الامتناع عن الفعل عدم، مع أنه قد يكون مأمورا به، ويكون منشأ للمصالح، ودفع المفاسد": قلت: الامتناع عن الفعل عبارة عن أمر يفعله الإنسان، فيترتب عليه عدم ذلك الشيء؛ فثبت أن الامتناع ليس عدما محضا. والجواب عن الأول: ما ذكرتموه من الدالة على أن العلية صفة ثبوتية- معارض دليل آخر، وهو: أنها لو كانت ثبوتية، لكانت من عوارض ذات العلة؛ فكانت مفتقرة إلى تلك الذات؛ وكانت ممكنة؛ وكانت مفتقرة إلى العلة؛ فكانت علية العلة لتلك العلة زائدة عليها؛ ولزم التسلسل.

وعن الثاني: نسلم أنه لا بد وأن تكون العلة متميزة عما ليس لعلة، لكن لا نسلم أن التميز يستدعى كون المتميز ثبوتيا؛ فإن عدم أحد الضدين عن المحل يصحح حلول الضد الآخر فيه، وعدم ما ليس بضد ليس كذلك، وأيضا عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم، وعدم ما ليس بلازم لا يقتضي ذلك؛ فقد حصل الامتياز في العدمات. وعن الثالث: أن العلة عدم مخصوص. قوله: "فالخصوصية صفة قائمة بالنفي المحض": قلنا: لا نسلم أن الخصوصية أمر ثبوتي؛ فإنها لو كانت أمرا ثبوتيا، لكانت في نفسها أمرا مخصوصا؛ فلزم التسلسل. وعن الرابع: لا نسلم أن المجتهد لا يبحث في السير والتقسيم عن الأوصاف العدمية. سلمنا ذلك؛ لكن إسقاط ذلك التكليف؛ لتعذره؛ فإن العدمات غير متناهية. وعن الخامس: أنا نعلم بالضرورة كوننا مكلفين بالامتناع؛ فدل على أن العدم قد يكون متعينا. قوله: "الامتناع عبارة عن فعل يترتب عليه العدم": قلنا: لو كان الامتناع عبارة عن فعل يترتب عليه العدم، لكان الممتنع عن الفعل فاعلا؛ وذلك محال.

شرح القرافي: قوله: "إنه يفيد ظن العلية، والعمل بالظن واجب"

المسألة الرابعة يجوز التعليل بالعدم قال القرافي: قوله: "إنه يفيد ظن العلية، والعمل بالظن واجب": قلنا: قد تقدم أن مطلق الظن غير معتبر؛ بديل شهادة الفساق والكفار، وإلغاء كثير من المصالح والمفاسد في الأفعال المباحة، بل لا بد من رتبة معينة، فلم قلتم: إن هذا الظن من الرتب التي اعتبرها الشارع؟. قوله: "اللاعلية محمولة على العدم": تقريره: أن بعض المقدمات يصدق أن يقال فيها: ليس بعلة إجماعا، كعدم إصبع رائدة ليس علة للربا إجماعا. [أو] الصفة الوجودية لا تكون صفة للعدم، يدل على أن العلية وجودية. ويرد عليه جميع النسب والإضافات، كالقبلية، والبعدية، والتقدم، والتأخر، ونحو ذلك؛ فإنها يصدق أن القبلية وجودية؛ لأنها تقتضى اللاقبلية المحمولة على العدم؛ فإنه يصدق على جميع الأعلام المتأخرة أنها ليست قبلا، فيلزم أن تكون هذه الإضافات وجودية مع أنها لا وجود لها في الأعيان، بل عدمية في الخارج، كذلك العلية هي من باب النسب الكائنة بينهما وبين المعلول، كالتأثير بين المؤثر والأثر. قوله: "العدم لا يكون من سعي الإنسان": قلنا: لا نسلم، بل نحن مأمورون بدرء المفاسد، وعدمها إنما هو بتحصيل أضدادها، فإذا حصلنا أضدادها، خرجنا عن العهدة في درء المفاسد، فيكون العدم مكتسبا التزاما.

"سؤال" قال النقشواني: قوله- هاهنا-: "يجوز التعليل بالعدم_ يناقضه ما تقدم له

قوله: "يلزم التسلسل من علية العلة": قلنا: جاز أن تكون العلية أمرا ثبوتيا، وعلة عليتها أمرا عدميا؛ لأنها مخالفة لها، والأمور المختلفة بالذات يجب اختلافها في اللوازم والصفات الذاتية، فجاز أن يكون علية أحدهما زائدة عليه، وعلية الأخرى ليست زائدة عليه، فلا يلزم التسلسل. سلمنا: أن كليهما زائد، لكن قولكم: "إن علية العلة أمر ممكن، فيفتقر إلى علة أخرى": قلنا: ممنوع، بل الممكنات مضافة إلى قدرة الله تعالى- والله تعالى- في ذاته ليس علة، ولا محتاجا إلى على فلا تسلسل أيضا. قوله: "لو كان الامتناع عن فعل يترتب عليه العدم، لكان الممتنع من الفعل فاعلا، وهو محال". قلنا: لا نسلم أنه محال، بل هو فاعل من حيث ملابسته للضد المستلزم لذلك العدم، وممتنع من جهة تلك المفسدة التي لزم عدمها لهذا الفعل. والنقيضان باعتبار إضافتين لا يمتنع اجتماعهما، إنما المحال بالشروط الثمانية المذكورة في علم المنطق، ومن جملتها اتحاد الإضافة. "سؤال" قال النقشواني: قوله- هاهنا-: "يجوز التعليل بالعدم_ يناقضه ما تقدم له: "أن العدم لا يجوز [له] أن يكون علة ولا جزء علة".

"تنبيه" زاد التبريزي قال: "لا يجوز التعليل بالعدم" خلافا للمصنف

قال: بل التحقيق أن التعليل في الحقيقة إنما هو بالحكمة والمصلحة، والأوصاف علامات لها، وضوابط لها، وهذه الأوصاف والضوابط تارة تكون صفة حقيقية، وتارة تكون إضافية، وتارة تكون سببية، فلا يرد شيء من الأسئلة أصلا، بل ذلك إنما يرد [عليه] على القول بان الأوصاف مؤثرة. "تنبيه" زاد التبريزي قال: "لا يجوز التعليل بالعدم" خلافا للمصنف. وأورد عليه أن العلية عند مثبتي الحال حالة إضافية، لا توصف بالوجود، ولا بالعدم، ولا تعقل فارقا بين الموجود والثابت، وعنده الأمور الإضافية كلها عدم، فيوصف بها العدم. قال: قوله: "إنه نقيض اللاعلية" مسلم، ولكنه لا يدل على أنها أمر ثبوتي؛ فإن كل مفهوم وضع له لفظ يقبل دخول حرف النفي [عليه، سواء] كان ثبوتيا أو عدميا، كالخلاء، والفناء، والانفراد، والقدم، والاستحالة، والعدم، ولا يلزم أن يكون مفهومه ثبوتيا، ثم العدم لا يقبل الاتصاف بأمر ثبوتي؛ وأما الوصف بأمر ثبوتي فيقبله؛ فإنه معلوم ومذكور، ومخبر به وعنه، ومتميز في الذهن عن الوجود، والممكن منه من المحال، والمضاف منه عن المحض، ومضاف آخر. فإذا ثبت هذا، فنقول: لا نعني بكونه عدم إلا كونه محال يمتنع في العقل تقدير حصوله دون ترتيب حصول ما أضيفت إليه بالمعلومية. ثم هذه الحالة إن كانت ثابتة له لمعنى في ذاته، امتنع إثباته للعدم؛ لأن العدم يمتنع أن يكون محل قيام المعاني.

وإن كانت مستفادة من الوضع أمكن إثباته للعدم؛ لأنه تبع للقول، والعدم يقبل الأوصاف القولية، ثم هو قد سلم ذلك في العدم المنسوب، ولا نزاع إلا فيه. وجعله النسبة أمرا ثبوتيا لا يدفع الإشكال، بل يؤيده؛ لأن التعليل بالعدم المنسوب لا بالنسبة، وقد قبل العدم النسبة التي هي أمر ثبوتي. وقوله في دليل الجواز: "إن الدوران يفيد ظن العلية" باطل لوجوه: الأول: أن أصحاب الدوران قيدوا دلالته بشرط عدم ما يدل على عدم العلية؛ تخلصا من تلك الإشكالات، وكونه عدما مما ينفي كونه علة، فإن منعوا فهو أول المسألة. الثاني: أن الدوران إنما يدل على الملازمة، وهي أعم من العلية؛ فإنه القدر المشترك بين الدورانات. الثالث: أنه لا يمكن حصول الأطراف في عدم معين؛ فإنه ما من شيء إلا ويقترن به عدم أشياء، فإن لم ينظر إلى ملائمة، فلا فرق بين عدم وعدم. قلت: قوله: "العدم لا يقبل الاتصاف بأمر ثبوتي، وأما الوصف بأمر ثبوتي فيقبله": معناه: أن اتصاف العدم بألثبوتي عنده قيام ألثبوتي به، وهو محال. ووصفه به معناه أعم من ذلك، فيكفي فيه أن يكوم متعلق ألثبوتي؛ لأن الخبر والعلم ونحوهما أمور ثبوتية، وتتعلق بالعدم، وقد تقدم في حد الحكم هذه القاعدة مبسوطة، وهي أن الشيء قد يوصف بما هو قائم به، ويوصف بما ليس قائما به.

فالأول: كالألوان، والطعوم، ونحوها. والثاني: قولنا: معلوم ونحوه؛ فإنا نصف المعلوم بالعلم، وهو قائم بالعالم، فبهذه [الطريقة] أمكن الوصف بألثبوتي العدم، وهو معنى قوله: "العدم يقبل الأوصاف القولية؛ لأن القول يقوم بالعدم، بل يقال في العدم: إنه معلوم ونحوه. وقوله: "أهل الدوران اشترطوا عدم ما يدل على عدم العلية؛ تخلصا من تلك الإشكالات": يريد بالإشكالات النقوض التي مر ذكرها على الدوران مع انتفاء العلية فيها؛ لقيام الدليل على عدم العلية فيها. ***

المسألة الخامسة قال الرازي: للمانعين من التعليل بالعدم: أن يمنعوا من التعليل بالأوصاف الإضافية

المسألة الخامسة قال الرازي: للمانعين من التعليل بالعدم: أن يمنعوا من التعليل بالأوصاف الإضافية؛ محتجين بأنها عدم، والعدم لا يكون علة. وإنما قلنا: إنها عدم؛ لأن مسمى الإضافة ليس أمرا وجوديا؛ وإذا لم يكن المسمى وجوديا امتنع أن يكون شيء من الإضافات المخصوصة أمرا وجوديا. وإنما قلنا: إن مسمى الإضافة ليس أمرا وجوديا؛ لأنه لو كان هذا المسمى وجوديا لكان أينما حصل هذا المسمى كان وجوديا، فإذا فرضنا في إضافة ما كونها أمرا وجوديا، كانت لا محالة، صفة لمحل؛ فكان حلولها في ذلك المحل إضافة بينها وبين ذلك المحل؛ فكان مسمى الإضافة حاصلا في حلول تلك الإضافة في ذلك المحل. وإذا كان ذلك المسمى أمرا وجوديا، كانت إضافة الإضافة أمرا وجوديا زائدا على الإضافة إلى غير نهاية؛ فثبت أن مسمى الإضافة يمتنع أن يكون وجوديا. وإذا ثبت ذلك، وجب ألا يكون شيء من الإضافات المخصوصة وجوديا؛ لأن الإضافة المخصوصة ماهية مركبة من الإضافة، ومن الخصوصية، فلو كان أمرا وجوديا لكان الوجود: إما قيد الإضافة، أو قيد الخصوصية: والأول: باطل؛ لما تقدم، والثاني أيضا: باطل؛ لأن خصوصية الإضافة صفة للإضافة، لو كانت الخصوصية أمرا ثبوتيا، لزوم حلول الوجود في النفي المحض؛ وهو محال؛ فثبت أن سائر الإضافات يمتنع أن يكون موجودا؛ فهو معدوم، والتعليل بالعدم غير جائز؛ على ما تقدم.

شرح القرافي: قوله: "لو كان مسمى الإضافة وجوديا، كانت إضافة الإضافة وجودية، ولزم ما لا نهاية له"

والجواب: لا نسلم أن الإضافات أمور عدمية، والتسلسل مدفوع؛ لاحتمال أن تكون الإضافة إلى محلها لذاتها، وإن سلمنا أنها عدمية في الحقيقة، لكنها ثبوتية في المعتقدات؛ فيحسن جعلها علة للأحكام الشرعية. وإن سلمنا كونها عدمية مطلقا، ولكن لا تسلم أن الأمور الذهنية لا تصلح للعلية، والله أعلم. المسألة الخامسة للمانع من التعليل بالعدم أن يمنع من التعليل بالإضافة؛ لأنها عدم قال القرافي: قوله: "لو كان مسمى الإضافة وجوديا، كانت إضافة الإضافة وجودية، ولزم ما لا نهاية له": قلنا: جاز أن تكون الإضافة منقسمة إلى: إضافة الحقائق غير [الإضافية]، فيكون ثبوتيا، وإلى إضافة، فتكون عدمية. ويكون المشترك بينهما عدميا. والنزاع يكون واقعا في أحد النوعين الذي هو إضافة الحقائق، دون إضافة الإضافة، ولا يلزم ذلك في إضافة الإضافة؛ لأنها مخالفة لإضافة الحقائق، ومع الاختلاف في الحقائق لا يلزم الاتفاق في اللوازم، فيبطل هذا البحث. وقوله: "الإضافة المخصوصة مركبة من الإضافة ومن الخصوصية". قلنا: قد يكون المشترك بين الإضافة وإضافة الإضافة، [و] ليس جزءا داخلا، بل لازما خارجا، وتكون الإضافة في نفسها وجودية صرفة بسيطة أو مركبة،

"تنبيه" زاد التبريزي فقال: ليس من فروع المنع من التعليل بالعدم امتناع التعليل بالأوصاف الإضافية

وإضافة الإضافة عدمية صرفة، ومسمى الإضافة الذي هو قدر مشترك بينهما لازم خارج عنها، ولا تركيب حينئذ من العدم والوجود. "تنبيه" زاد التبريزي فقال: ليس من فروع المنع من التعليل بالعدم امتناع التعليل بالأوصاف الإضافية؛ لأنها أمور محصلة، وهي منشأ الملاءمة التي

هي جهة التأثير في الأكثر، فلو قطعنا النظر عن التخصصات وخصوص وصف الإضافات، لطاحت معظم المناسبات، فلم يتميز بعض الأفعال عن بعض إلا بصفات الأجناس كالقتل، والضرب، والغصب، أما قتل عن قتل، وضرب عن ضرب فلا، ونحن نعلم أن الفعل من حيث هو فعل وحركة لا مناسبة فيه للحكم، إن لم يكن يتضمن مصلحة ولا مفسدة، ولا حسنا ولا قبحا، وكما نعلم اختصاص القتل بمزيد ملائمة عن الضرب في اقتضاء الزجر؛ لتميزه عنه بصفة تعيينه، نعلم اختصاص قتل المسلم عن مسمى القتل بمزيد ملائمة لتمييزه بهذه الصفة، وكذا إذا [فرضناه] في محرم أو حرم، أو شهر حرام، وإن رجع ذلك إلى محض الإضافة إلى زمان، ومكان، ومحل، فلا يغرنك تشكيك القائل: إن الإضافة لو كانت وجودية، لكانت صفة للمضاف، وكانت مضافة، ولزم عدم التناهي. ووجه بطلانه: أن العقل الصحيح يشهد أن زيادة علم بمعلوم يحصل عند الإحاطة بكون الحركة قبلا، وكون الجوهر مؤلفا، وعالما، وذا كون، فكذلك يحصل علم معلوم عند الإحاطة بكون الفعل واقعا في شخص معين أو موصوف. وقوله: "يلزم إضافة الإضافة" كقول القائل: لو كان الفعل قتلا، أو كون الجوهر مؤلفا أمرا وجوديا، لكان صفة له، وكان كونه موصوفا به صفة أخرى، ولزم التسلسل في جميع الحقائق، والأمور الوجودية، حتى في الوجود، وهو باطل قطعا. ***

المسألة السادسة قال الرازي: تعليل الحكم الشرعي جائز؛ خلافا لبعضهم

المسألة السادسة قال الرازي: تعليل الحكم الشرعي جائز؛ خلافا لبعضهم. لنا: أن الدوران يفيد ظن العلية، فإذا حصل في الحكم الشرعي، حصل ظن العلية. واحتج المانعون: بأن قالوا: الدوران لا يفيد ظن العلية فيما لا صلاحية العلة، ولا نسلم أن الحكم الشرعي يصلح أن يكون علة للحكم الشرعي؛ وبيانه بأمور: أحدها: أن الحكم الشرعي الذي فرض علة: يحتمل كونه متقدما على الحكم الذي جعل معلولا، ويحتمل كونه متأخرا، ويحتمل كونه مقارنا، وعلى تقدير التقدم: لم يصلح للعلية؛ وإلا يزم تخلف الحكم عن علته، وعلى تقدير التأخر: لم يصلح للعلية؛ لأن المتأخر لا يكون علة للمتقدم، وعلى تقدير المقارنة: يحتمل أن تكون العلة هو، وأن تكون غيره. فإذن: هو على التقديرات الثلاثة؛ لا يكون علة، وعلى تقدير واحد؛ يكون علة، ولا شك أن العبرة في الشرع بالغالب، لا بالنادر؛ فوجب الحكم بأنه ليس علة. وثانيها: أن تفسير العلة: إما بالمعرف، أو الداعي، أو المؤثر: فإن فسرناها بالمعرف، امتنع تعليل حكم الأصل بحكم آخر؛ لأن المعرف لحكم الأصل هو النص، لا غيره.

وأما الثاني والثالث: فباطلان؛ لأن من يقول بالمؤثر، والداعي يقول: "المؤثر والداعي جهات المفاسد والمصالح، فالقول بأن الحكم الشرعي مؤثر، أو داع- خرق للإجماع؛ وهو باطل". وثالثها: أن شرط العلة التقدم على المعلول، وتقدم أحد الحكمين على الآخر غير معلوم، فإذن: شرط العلية مجهول؛ فلا يجوز الحكم بالعلية. ورابعها: أن الشرع إذا أثبت حكمين في صورة واحدة، فليس لأحدهما مزية على الآخر في الوجود، والافتقار، والمعلومية، فليس جعل أحدهما علة للآخر أولى من العكس، فإما أن نحكم بكون كل واحدة منهما علة للآخر؛ وهو محال، أو لا يكون واحد منهما علة للآخر؛ وهو المطلوب. والجواب عن الأول: لا نسلم أن بتقدير التأخر لا يصلح للعلية؛ لأن المراد من العلة المعرف، والمتأخر يجوز كونه معرفا للمتقدم. وعن الثاني: أنا نفسر العلة بالمعرف. قوله: "الحكم في محل النص معرف بالنص، لا بغيره": قلنا: سبق الجواب عنه في مقدمة الباب الثاني. وعن الثالث: لا نسلم أن التقدم شرط العلية؛ على ما بيناه. وعن الرابع: نقول: قوله: "ليس جعله علة للآخر بأولى من العكس": قلنا: لا نسلم؛ فإنه ربما لا تتأتى المناسبة من الجانب الآخر. وإن سلمنا ذلك، فنقول: إنه يجوز كون كل واحد منهما علة لصاحبة؛ بمعنى كون كل واحد منهما معرفا لصاحبه. فرع: إذا جوزنا تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي، فهل يجوز تعليل

شرح القرافي: قوله: "الدوران يفيد الظن"

الحكم الحقيقي بالحكم الشرعي؟ ومثاله: أن نعلل إثبات الحياة في الشعر؛ بأنه يحرم بالطلاق، ويحل بالنكاح؛ فيكون حيا؛ كاليد والحق أنه جائز؛ لأن المراد من هذه العلة المعرف؛ ولا يمتنع أن يجعل الحكم الشرعي معرفا للأمر الحقيقي المسألة السادسة يجوز تعليل الحكم بالحكم قال القرافي: قوله: "الدوران يفيد الظن": قلنا: قد تكرر منع مثل هذا، وأن الشرع لم يعتبر من الظن إلا مرتبة معينة، فلم قلتم: إن هذا الظن من المراتب التي اعتبرها الشرع؟ قوله: "العبرة في الشرع بالغالب": يريد بالغالب- هاهنا- الكثرة؛ لأن الاحتمالات الثلاث أكثر من احتمال، وهذا لا يتم؛ لأن الغالب الذي اعتبره الشرع هو الكثرة في الوقوع باعتبار الزمن، فالذي تكون أزمنة وقوعه أكثر هو الغالب، والذي تكون أمنة وقوعه أقل هو النادر القليل، وهاهنا الزمان واحد، والكثرة في الاحتمالات، فليس هذا الموضع الذي اعتبره الشرع، فلا حجة فيه. بل إذا اجتمع احتمالات يعارضها احتمال واحد، يجوز الواحد أرجح من الكثير، فإذا رأينا زيدا قد قتله السلطان، ولم يكن للسلطان عدة متفق عليها، فإنه لا يمكن ترجيح بعض هذه الاحتمالات على بعض الكثرة ولا بالقلة، بل بعلة خارجية، أو عادة متقدمه، أو نحو ذلك، وهاهنا لم يساعد على علية عدم التعليل ولا التعليل، فلم يحصل مستند باعتبار الوقوع.

"سؤال" كيف يتصور في الأحكام الشرعية التقدم والتأخر مع أنها كلها قديمة

قوله: "لا يمكن [تعليل] حكم الأصل [بحكم آخر]؛ لأنه معلوم بالنص". قلنا: المراد بأن العلة معرفة: أنا عرفناها بالنص في الأصل، وهي تعرفنا ثبوت الحكم في الفرع؛ لأنها معرفة لحكم الأصل. قوله: "كل واحد منهما معرف لصاحبه": قلنا: يلزم الدور؛ فإن العلم بالمعرف يجرب تقدمه على العلم بالمعرف، فيتقدم كل واحد منهما على الآخر، ويلزم الدور. وإنا الجواب أن نقول: أحد الحكمين معرف بالنص، أو بحكم آخر ينتهي إلى النصوص، والمعرف بالنص يعرف هذا الحكم المقيس حينئذ، والمقيس معرف على الإطلاق، ولم يعرف غيره ألبتة، فلا دور. ثم إن الحكم الذي هو العلية لابد وأن يكون مناسبا الحكم المعلل، كقولنا: نجس فيحرم بيعه، وطاهر فتجوز الصلاة فيه، فالطهارة والنجاسة حكمان شرعيان، وحينئذ تتعين العلة والمعلوم، ويظهر ما هو أولى من الآخر بالعلية. "سؤال" كيف يتصور في الأحكام الشرعية التقدم والتأخر مع أنها كلها قديمة، والقديم لا يتأخر عن القديم. "جوابه" أن المراد تكامل شروط التعلق؛ فإن الحكم غي الأزل إنما يتعلق بشرط وجود المكلف، وسبب الحكم، وإرسال الرسل، وتنزل الوحى، فجاز أن يكون تنزل الوحى في أحدهما قبل الآخر، فتكمل شروطه في الآخر، فهذا هو [التقديم].

"تنبيه" زاد التبريزي فقال: نحن نعلل جواز الانتفاع، وصحة البيع، ووجوب الزكاة، ونفقة المملوك بالملك، وهو حكم شرعي

"تنبيه" زاد التبريزي فقال: نحن نعلل جواز الانتفاع، وصحة البيع، ووجوب الزكاة، ونفقة المملوك بالملك، وهو حكم شرعي. ونعلل التوارث، ووجوب النفقة، والتمكن من الوطء، وصحة الطلاق، والظهار، وأمثالها، بالزوجية. ونعلل بطلان البيع، والصلاة، ووجوب الغسل، بالنجاسة. ونعلل [بالرق] والحرية أحكاما، وهي أحكام شرعية. وليس من شرط العلة أن تكون معنى يقتضي حكما لأجله، بل يجوز أن يكون عارضا، والحكم في هذا المعنى كالوصف بل أبلغ؛ فإن خلو الوصف عن الحكمة جائز، وخلو الحكم عن الحكمة غير جائز، فالحكم كالوصف في تضمنه المصالح والحكم، والتعريف إنما يطلق على العلة باعتبار الفرع لا باعتبار الأصل. ولا فرق في ذلك بين الحكم والوصف. "فائدة" قال سيف الدين: المختار أنه يجوز أن يكون الحكم علة بمعنى المعرف للحكم، لا في أصل القياس، بل في غيره؛ فإنه لا يمتنع أن يقول الشارع: بهما حرمت كذا فقد حرمت كذا. ***

المسألة السابعة قال الرازي: يجوز التعليل بالأوصاف العرفية

المسألة السابعة قال الرازي: يجوز التعليل بالأوصاف العرفية، وهي الشرف والخسة، والكمال والنقصان؛ ولكن بشرطين: أحدهما: أن يكون مضبوطا متميزا عن غيره. والثاني: أن يكون مطردا؛ لا يختلف باختلاف الأوقات؛ فإنه لو لم يكن كذلك لجاز ألا يكون ذلك العرف حاصلا في زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ وحينئذ: لا يجوز التعليل به. المسألة السابعة يجوز التعليل بالأوصاف العرفية قال القرافي: قوله: "شرطه الاطراد في جميع الأوقات، وإلا احتمل ألا يكون في زمانه عليه السلام": قلنا: قد يعلم وجوده في زمانه- عليه السلام- ثم يعلم انقطاعه، ثم يعلم وجوده في زماننا، فيتجه القياس مع عدم عمومه في الأوقات. ***

المسألة الثامنة قال الرازي: يجوز بالتعليل بالوصف المركب عند الأكثرين، وقال قوم: لا يجوز

المسألة الثامنة قال الرازي: يجوز بالتعليل بالوصف المركب عند الأكثرين، وقال قوم: لا يجوز. لنا: أن المناسبة مع الاقتران والدوران تفدي ظن العلية؛ فيجب العمل به. احتج المنكرون بأمور ثلاثة: أحدها: أن جواز التركيب في العلة يوجب تطرق النقض إلى العلة العقلية، واللازم محال؛ فالملزوم مثله. بيان الملازمة: أن كل ماهية مركبة؛ فإن عدم كل واحد من أجزائها علة لعدم عليه تلك الماهية؛ لأن كون الماهية علة صفة من صفات الماهية، وتحقق الصفة يتوقف على تحقق الموصوف. وإذا كان كذلك، كان عدم كل واحد من أجزاء الماهية علة تامة؛ لعدم علية تلك الماهية، فإذا عدم جزء من أجزائها، فقد عدمت العلية، فإذا عدم بعد ذلك جزء آخر، لم يكن عدم هذا الجزء الثاني علة لعدم علية تلك الماهية؛ لأن ذلك قد حصل عند عدم الجزء الأول؛ فلا يحصل مرة أخرى بعدم الجزء الثاني، فقد حصل عدم جزء الماهية، مع انه لم يترتب عليه عدم علية تلك الماهية، فقد وجد النقض في العلة العقلية؛ لأن كون عدم جزء الماهية علة لعدم علية الماهية- أمر حقيقي، سواء كانت علية الشيء عقلية، أو وضعية؟ فإن قلت: "فهذا يقتضى ألا يكون في الوجود ماهية مركبة؛ لأن عدم كل واحد من أجزائها علة مستقلة لعدم تلك الماهية، ويعود المحال":

قلت: ليست الماهية أمرا وراء مجموع تلك الأجزاء، فلم يكن عدم أحد تلك الأجزاء علة عدم شيء آخر. وأما علية الماهية، فهي حكم زائد على ذات الماهية، وعدمها معلل بعدم كل واحد من أجزاء الماهية؛ فظهر الفرق. وثانيها: أن كون الشيء علة لغيره صفة لذلك الشيء، سواء حصلت له تلك الصفة بذاته، أو بالجعل، فإذا كان الموصوف بالعلية أمرا مركبا فإما أن يقال: حصلت تلك الصفة بتمامها لكل واحد من تلك الأجزاء، وهو محال، أما أولا فلأنه يلزم كون الصفة الواحدة في المحال الكثيرة، وهو محال. وأما ثانيا: فلأنه يلزم كون كل واحد من تلك الأجزاء علة تامة؛ لأنه لا معنى لكون الشيء علة إلا حصول العلية فيه، وإما أن يقال: "حصل في كل واحد من أجزاء العلة جزء من تلك العلية" وهذا أيضا محال؛ لأنه يقتضى انقسام الصفة العقلية؛ حتى يكون للعلية نصف، وثلث وربع؛ وهو محال. وثالثها: أن كل واحد من تلك الأجزاء لم يكن علة، فعند انضمامها: إما أن يكون قد حدث أمر لم يكن، أو ما كان كذلك: فإن حدث أمر، فالمقتضى لحدوث ذلك الأمر: إما كل واحد من تلك الأجزاء، أو مجموعها: فإن كان الأول: كان كل واحد من الأجزاء مستقلا باقتضاء العلية؛ فوجب كون كل واحد منها علة تامة؛ وذلك محال. وإن كان الثاني: كان الكلام في اقتضاء ذلك المجموع لذلك الأمر الحادث، كالكلام في اقتضاء ذلك المجموع للعلية؛ فيلزم أن يكون بواسطة حدوث شيء آخر؛ ولزم التسلسل؛ وهو محال.

وإن قلنا: إنه لم يحدث أمر، لم يكن حاصلا، فتلك الأجزاء حالة الاجتماع- كهي حالة الانفراد، ولكنها- حالة الانفراد- ما كانت علة، فكذا عند الاجتماع. والجواب عن الأول: أن النقض إنما يلزم لو جعلنا عدم جزء الماهية علة؛ لعدم علية الماهية؛ وهو بناء على كون العدم علة؛ وهو ممنوع. وعن الثاني: أن العلية ليست صفة ثبوتية؛ وإلا لزم التسلسل؛ على ما قررناه، وإذا لم تكن صفة ثبوتية، امتنع القول بأنها: إما أن تحل كل واحد من الأجزاء بتمامها، أو تنقسم بحسب انقسام أجزاء الماهية. وعن الثالث: أنه منقوض بكل واحد من العشرة؛ فإنه ليس بعشرة، وعند اجتماعها: يكون المجموع عشرة، فكذا هاهنا. فرعان: الأول: نقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي- رحمه الله- عن بعضهم، أنه قال: "لا يجوز أن تزيد الأوصاف على سبعة" وهذا الحصر لا أعرف له حجة. والثاني: في الفرق بين جزء العلة ومحلها، وشرط ذات العلة وشرط عليتها: وقبل الخوض فيه لابد من حد الشرط، وذكروا فيه وجهين: الأول: انه الذي يلزم من عدمه عدم الحكم، ولا يكون جزءا من العلة، والثاني: أنه الذي يلزم من عدمه مفسدة دافعة لوجود الحكم. إذا عرفت ذلك، فمن الناس من أنكر هذا الفرق، ومنهم المثبتون للطرد، والمنكرون لتخصيص العلة. واحتجوا عليه: بأن العلة الشرعية ما يكون معرفا للحكم، وهو إنما يكون

معرفاً للحكم عند اجتماع كل القيود؛ من الشرط، والإضافة إلى الأهل والمحل؛ فيكون كل واحد من هذه القيود جزءا من المعرف للحكم؛ فيكون جزءا من العلة. بلى، لا ننكر أن بعض هذه القيود أقوى في الوجود من بعض؛ فإن القتل له ذات وحقيقة، ثم له صفة، وهي إضافته إلى القاتل وإلى المقتول، وذات القتل أقوى في الوجود من هذه الإضافات؛ لاحتياجها إليه في الوجود. وقد يكون بعض تلك القيود مناسبا، دون البعض، أو يكون بعضها أقوى في المناسبة من بعض؛ ولكن مع تسليم هذا المقام، فالمعتبر في تعريف الحكم: هو المجموع: وحينئذ لا يبقى بين جزء العلة وبين شرطها فرق. وفائدة هذا البحث: أنه إذا صدر بعض تلك الأجزاء عن إنسان، وصدر الثاني عن إنسان آخر، فإن كانت تلك الأجزاء متساوية في القوة والمناسبة؛ اشتركا؛ وإلا نسب الفعل إلى فاعل الجزء الأقوى، وهذه الفائدة حاصلة، سواء سميناه جزء العلة، أو شرطها. ومن الناس من سلم الفرق؛ وزعم أن العلة إنما تعرف عليتها بالنص، أو بالاستنباط. فإن كان الأول: فالقدر الذي دل النص على كونه مناطا للحكم، هو العلة، وسائر القيود التي عرف اعتبارها بدلائل منفصلة نجعلها شرائط. وإن كان الثاني: فالذي يكون مناسبا، هو العلة، والذي يكون معتبرا في تحقق المناسبة، ولا يكون كافيا فيها، هو جزء العلة، والذي لا يكون مناسبا، ولا جزءا منه، فهو الشرط.

شرح القرافي: قوله: "الاقتران أو الدوران يفيد ظن العلية، والعمل بالظن واجب"

هذا إذا عرفنا علية الوصف بالمناسبة، أما إذا عرفناها بسائر الطرق، لم يتجه هذا الفرق. المسألة الثامنة يجوز التعليل بالوصف المركب قال القرافي: قوله: "الاقتران أو الدوران يفيد ظن العلية، والعمل بالظن واجب": قلنا: قد تقدم أن مطلق الظن ملغى إجماعا، فلا بد من إثبات أن المرتبة التي اعتبرها الشارع موجودة هاهنا. قوله: "إذا عدم الجزء فعدمت الماهية، ثم عدم الجزء الثاني لا يوجب عدم تلك الماهية؛ فيلزم النقض على العلة العقلية": قلنا: الذي نسلمه أن عدم ما هو جزء بالفعل لماهية موجودة يكون عدمه يوجب عدمها. وهاهنا الجزء الثاني لم يبق جزءا للماهية الأول، بل جزء للماهية الباقية، فلا جرم كان عدمه علة لعدم الماهية الباقية، كما إذا عدم أحد العشرة عدمت العشرة، وبقيت التسعة، فإذا عدم واحد بعد ذلك عدمت التسعة، وليس هو جزء العشرة حينئذ، بل تسميته جزءا للعشرة مجاز باعتبار ما كان عليه. والمعتبر إنما هو الجزء بالفعل؛ لأن الجزء بالقوة لا يوجب عدمه عدم الماهية؛ فإن كل كم في العالم هو جزء للقميص بالقوة، مع أنه لا يلزم من عدمه عدم القميص، بل من عدم الكم الذي هو جزء بالفعل فقط.

قوله: "ليست الماهية أمرا وراء تلك الأجزاء، فلم يكن عدم أحد تلك الأجزاء علة لعدم شيء آخر": قلنا: إن أردت أنها ليس غير تلك الأجزاء باعتبار الوجود الخارجي، فمسلم، لكن العلية- أيضا- كذلك من باب النسب والإضافات لا وجود لها في الأعيان، بل في الأذهان، وإن أردت أنها ليست عين الأجزاء باعتبار الذهن، فممنوع. وأيضا: يلزم خلاف ما اجمع عليه العقلاء أن هدم جزء الماهية يوجب عدمها، مع إجماعهم على أن عدم جزء لا يوجب عدم جزء آخر، فلم يبق إلا الماهية، وهي غير الأجزاء، وحينئذ يتجه المنع والسؤال. قوله: "إن اقتضاء الأمر الزائد مجموع الأجزاء عاد الكلام فيه": قلنا: العلة أمر ذهني إضافي، يوجبه مجموع الأجزاء الخارجية، وللعقل أن يخترع المجموع الذي هو الصورة الذهنية مجموعا آخر، وللمجموع مجموعا، وهلم جرا، ولا يلزم التسلسل؛ فإن الاختراعات العقلية كالتأثيرات، فكما لا يستحيل بعد كل أثر أثر كنعيم أهل الجنة، لا يستحيل للعقل اختراع بعد اختراع، ولا يجب الوقوف فيه عند غاية. قوله: "استلزام عدم الجزء عدم الماهية مبني على أن العدم علة، وهو ممنوع". قلنا: ليس المراد- هاهنا- التأثير، بل الملازمة، وهي أن عدم الجزء يستلزم عدم الماهية، كما يستلزم عدم الشرط عدم المشروط، وعدم اللازم عدم اللزوم، ولنزاع في أن عدم الجزء يوجب عدم الكل جحد لضرورات العقول؛ فإنا نقطع أن عدم واحد من العشرة يوجب عدمها ضرورة. قوله: "الشرط يلزم من عدمه عدم الحكم، ولا يكون جزءا للعلة":

قلنا: يبطل بكمال العلة، فإنه يلزم من عدمه عدم الحكم، وليس هو جزء نفسها. وشرط العلة قبول النصاب للملك والانتفاع؛ فإنه سبب جعله سبب وجوب الزكاة. والعلة للحكم غير الحكم، فلا يكون الحد جامعا. ولان الشرط قد يكون لا في حكم ولا علة، بل الصفة حقيقية، كـ "الحياة شرط للعلم، والعلم شرط للإرادة" ونحوه. وبهذه الأسئلة تعرف فساد التعريف الثاني، بل الحق ما تقدم في خطاب الوضع، وهو أن الشرط ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. فالقيد الأول: احتراز من المانع؛ فإنه لا يلزم من عدمه شيء. والقيد الثاني: احتراز من السبب؛ فإنه يلزم من وجوده الوجود. و"لذاته" احترازا من أن يقارن وجوده تقدم السبب؛ فيلزم الوجود كالحول بعد النصاب، أو يقارن وجوده عدم السبب، أو قيام المانع؛ فيلزم العدم، لكن لا لذاته، بل لمقارنة عدم السبب أو المانع. ويندرج في هذا الحد جميع أنواع الشروط التي تقدمت نقضا على ذلك الحد، ولا يبقي خلل ألبتة. قوله: "ومن الناس من أنكر هذا الفرق": تقريره: أن الأستاذ إبا إسحاق وغيره قالوا: ينبغي أن نجعل العلة الشرعية كالعلة العقلية، لا يتخلف عنها أثرها ألبتة، فنقول: العلة مجموع ما يستلزم الحكم، فيندرج في العلة جزؤها، وشروطها، وجميع ما تتوقف عليه، فلا فرق حينئد.

"تنبيه" زاد سراج الدين فقال على قوله: "إن العدم ليس علة ثبوتية دفعا للتسلسل": لقائل أن يقول: في هذين الجوابين نظر نبهنا عليه فيما تقدم

وقد تقدم في خطاب الوضع الفروق الكائنة بين هذه الحقائق، والبحث فيها هنالك مستوفى، فالشرط مناسبته في غيره، وجزء الماهية مناسبته في نفسه، ومجموع العلة أقوى مناسبة من جزئها، كما أن ملك جميع النصاب أقوى مناسبة لإيجاب الزكاة من مناسبة دفع النصاب للزكاة. "تنبيه" زاد سراج الدين فقال على قوله: "إن العدم ليس علة ثبوتية دفعا للتسلسل": لقائل أن يقول: في هذين الجوابين نظر نبهنا عليه فيما تقدم. قلت: يشير إلى ما ورد على هذين مما تقدم من الأسئلة. وقال التبريزي: التركيب جائز في العلل؛ لأن الحكمة الداعية إلى الحكم يجوز ألا يتضمنا وصف واحد، بل أوصاف كالقتل العمد العدوان، وملك المسلم نصابا ناميا حولا كاملا، بل هو الأكثر في أساليب التعليل. وأجاب عن لزوم النقض على العلة العقلية بأن العدم ليس علة- كما قال المصنف. ثم قال: لو قدرنا جواز التعليل به، فعلة عدم العلية عدم الماهية، وعدم الماهية لازم عدم جزء الماهية. فإن عللتم به فقد التزمتم الإشكال، وإلا فقد اندفع الإشكال. يريد انه وجد عدم بعد عدم، فما يجعلونه جوابا، هو جوابنا هاهنا. قال: وقد طلب المصنف الخلاص من هذا الإشكال بالالتجاء إلى منع كون العلية صفة ثبوتية؛ لئلا تؤدى إلى التسلسل، وهو هرب إلى غير ملجأ.

قلت: وما قاله غير متجه أيضا؛ لأن العلية والمناسبة، والملائمة، والتأثير، ونحوها نسب وإضافات ذهنية، لا وجود لها في الخارج، فلا تقوم في الماهية، ولا بما تقوم به الماهية؛ فإن الماهية لا تقوم بالنفس، بل المصالح والمفاسد في ضمن الأوصاف. ثم قال في الجواب عن الثالث: أنه منقوض بكل ماهية مركبة. ثم قال: نقول عند الاجتماع: تكاملت المصلحة المطلوبة بالحكم أو بالقوة المؤثرة بإجراء الله- تعالى- العادة كما في اجتماع الجراحات والأقداح من الخمر، على أن حاصل العلل العرفية والطبيعية يرجع إلى اطراد العادة الإلهية بخلق الأثر عقيبها، فيجوز أن تستقر هذه العادة عند التركيب لا عند الانفراد. وقال في حصر أوصاف التركيب السبعة: يمكن تقريبه من جهة أن أقصى ما يتوقف عليه الحكم بحكمة، ومعنى يقتضيه، إما مطلقا، أو مشروطا بوجود أو [عدم]، وهو وجود الشرط، وانتفاء المانع، وقد يتعلق المعنى المقتضى بالفاعل، فتعتبر أهليته، وأقصاها العقل والبلوغ، ثم [قد] لا يستقل به الشخص الواحد كصيغ المعاوضات، فيحتاج إلى غيره، فيكون مجموع ما يتوقف عليه الحكم: إيجاب وقبول قدرا من العاقل البالغ في المحل مع قران الشرط وانتفاء المانع، وهي سبعة- التي نقلها الشيرازي- وكل ما زاد على ذلك فهي تفاصيل هذه الجمل، فيمكن رده إليها وعدم الرد عن عجز وعى.

ثم قال في الفرع الأخير: جزء العلة هو الوصف المعتبر لإتمام ما يتضمن المعنى الذي لأجله يشرع الحكم. والمحل هو الذي هو بحال إذا ثبت الحكم فيه يفضى إلى تحصيل مقصوده، فكانت المحلية شرط إفضاء الحكم إلى حكمته. والشرط هو الوصف [الذي]. يتضمن الأمن [عن] مفسدة مانعة، أو مصلحة خارجة عن مصلحة الحكم، إما عائدة إلى تكمليها، أو أجنبية عنها يطلب تحصيلها بتوقف الحكم على وجود نظير ما يدفع المفسدة المانعة اعتبار القبض في بيع المبيع. يريد أن من شرطه ألا يبيعه قبل قبضه. قال: واعتبار رضا المرتهن في نفوذ البيع من الراهن.

ونظير التكميل اعتبار القدرة على التسليم في الحال، واعتبار الرؤية، واعتبار رضا العبد في التزويج منه. ونظير المصلحة الأجنبية اعتبار الحرية في نفوذ الشهادة، ويختلف ذلك في الأكثر، بحسب اختلاف مأخذ يظهر للمجتهد. والمقصود من المثال تقريبه من الفهم، وحده الجامع: (ما يلزم من انتفائه انتفاء الحكم)، ولا ينتقض هذا الحد بالسبب وجزئه؛ فإن الحد شرطه أن يكون متحققا في آحاد أجزاء المحدود، والمسمى لا يلزم من انتفائه انتفاء الحكم؛ فإنه بتقدير أن يكون له سبب آخر يجوز ثبوته بناء عليه، وإن لم يكن له سبب، فانتفاؤه لازم انتفاء مسمى السبب، لا لازم انتفاء ذلك المسمى سببا، وفي الشرط مهما انتفى المعنى المسمى شرطا لزم من انتفائه انتفاء الحكم، وإن كان له شروط أخر، وأسباب كائنة متحققة، وبهذا التفهيم يستغنى عن التطويل في الحد بقيود لا حاجة إليها. وأوفى منه بالغرض أن نقول: الشرط ما اعتبر انتفاؤه في انتفاء الحكم. فيتميز عن السبب وجزئه؛ لأن شرط إمكان اعتباره في انتفاء الحكم إمكان ثبوت الحكم، ويتوقف على مجمد السبب بكماله. ثم قال: الدافع للمفسدة إنما يجعل شرطا في الثبوت إذا لم يمكن ضبط تلك المفسدة بأمر وجودى؛ لئلا يبطل قسم المانع، فإن أمكن فهو على التعارض، ويحتاج إلى الترجيح، ونظيره مفسدة المفاضلة مع المماثلة الدافعة لها، وقد ثبت رجحان اعتبار المماثلة شرطا بدليل الصبرة بالصبرة جزافا عند ظن المماثلة، فإنه لا يصح؛ لأن الظن في الشرط ظن في المشروط. قلت: أما تقريبه لكلام الشيخ أبي إسحاق، فبعيد جدا؛ لأن الكلام في

العلة يصل تركيبها إلى سبعة أوصاف [بعد، و] الشرط وانتفاء المانع والمتعاقدان هذه أمور لا يمكن أن تكون أجزاء العلة، بل هي أجزاء ما يتوقف عليه الحكم، والكلام إنما وقع في العلة خاصة لا فيما يتوقف عليه الحكم. وقوله: (جزء العلة هو الوصف المعتبر) - يشكل بالشرط؛ فإنه يوصف معتبر لإتمام ما يتضمن الغير؛ لأنه يريد بتمام ما يتضمن المعنى العلة التامة. وقوله: (الشرط ما يلزم من انتفائه انتفاء الحكم) ينتقض بالسبب وجزئه. وجوابه عن هذا: بأن الأسباب يخلف بعضها بعضا لا يتم؛ فإنا ننقض عليه بالسبب الذي لا بد له، ويكفي في النقض صورة واحدة، ثم إن جزء السبب لم يجب عنه، بل عن السبب فقط، وكذلك يبطل بهذا أيضا حده. وجوابه أن الانتفاء يتوقف على وجود السبب، لا يدفع النقض، ولا يحصل به الجواب؛ لأنا لا نسلم التوقف، وإن سلمناه فالسبب- أيضا- يعتبر انتفاؤه في انتفاء الحكم، وأجمع القياسون وغيرهم أن العالمية تنتفى لانتفاء العلم، ووجوب الزكاة ينتفى لانتفاء الغنى وغير ذلك، حتى نقول: إن عدم العلة علة لعدم المعلول. * * *

المسألة التاسعة قال الرازى: اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم

المسألة التاسعة قال الرازى: اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم؛ مثل تعليل تحريم الخمر بأن العرب سمته خمرا؛ فإنا نعلم بالضرورة: أن مجرد هذا اللفظ لا أثر له، فإن أريد به تعليله بمسمى هذا الاسم؛ من كونه مخامرا للعقل؛ فذلك يكون تعليلا بالوصف، لا بالاسم. المسألة التاسعة التعليل بالاسم قال القرافى: اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم. قال النقشوانى: إذا فسرنا العلة بالمعرفة ما المانع من ذلك؛ فإن فيه تعريفا؟. قلت: ويقوى سؤاله على القول بأن مجرد الطرد كاف في العلة. ويضعف مع اشتراط المناسبة، أو الشبه في الصورة، أو الحكم. قال الباجى في كتاب (الفصول): يصح أن يجعل الاسم علة للحكم. قاله أكثر المالكية والشيخ أبو إسحاق.

وقال بعض الشافعية: لا يجوز. وجوزه بعضهم إن كان مشتقا، ومنعه إن لم يكن مشتقا. [قال: والدليل على ما نقول أن ما جاز أن يعلق الحكم عليه نطقا، جاز أن يستنبط، ويعلق عليه كالصفات، المعانى. ودليل آخر: وهو أن العلل الشريعة علامات، وأمارات، وليست بموجبة لأحكامها، ولا يمتنع أن تجعل الأسماء علامة على أحكام في أعيان، كما تجعل الصفات إذا لم يكن معناها إيجاب الحكم، وإنما يكون معناها الدلالة على الحكم بضرب من المواضعة]، فهذه ثلاثة أقوال لم يحكهما المصنف. وقال أبو يعلى في (العمدة)، وأبو الخطاب الحنبليان: مذهب ابن حنبل جوازه؛ كان مشتقا، أو علما، أو لقبا. ***

المسألة العاشرة قال الرازى: مذهب الشافعي- رضي الله عنه-: أنه يجوز التعليل بالعلة القاصرة؛ وهو قول أكثر المتكلمين

المسألة العاشرة قال الرازى: مذهب الشافعي- رضي الله عنه-: أنه يجوز التعليل بالعلة القاصرة؛ وهو قول أكثر المتكلمين. وقال أبو حنيفة: لا يجوز، ووافقونا في العلة المنصوصة. لنا: أن صحة تعدية العلة إلى الفرع موقوفة على صحتها في نفسها، فلو توقفت صحتها في نفسها على صحة تعديتها إلى الفرع، لزم الدور، وإذا لم تتوقف على ذلك، فقد صحت العلة في نفسها، سواء كانت متعدية، أو لم تكن. فإن قيل: (لم لا يجوز أن يقال: (إن صحتها في نفسها لا تتوقف على صحة تعديتها، بل على صحة وجودها في غير الأصل؛ وحينئذ ينقطع الدور): سلمنا ذلك؛ ولكن وجد ها هنا ما يدل على فساد العلة القاصرة، وهو من وجوه: الأول: إن العلة القاصرة لا فائدة فيها، وما لا فائدة فيه كان عبثا، وهو على الحكيم غير جائز. وإنما قلنا: إنه لا فائدة فيها: لأن الفائدة من العلة التوسل بها إلى معرفة الحكم، وهذه الفائدة مفقودة ها هنا؛ لأنه لا يمكن في القاصرة أن يتوسل بها إلى معرفة الحكم في الأصل؛ لأن ذلك معلوم بالنص، ولا يمكن التوسل بها إلى معرفة الحكم في غير الأصل؛ لأن ذلك يمكن أن لو وجد ذلك الوصف في غير الأصل، فإذا لم يوجد، امتنع حصول تلك الفائدة.

وإنما قلنا: إن ما لا فائدة فيه عبث، وإن العبث غير جائز؛ فذلك للإجماع. الثاني: الدليل ينفى القول بالعلة المظنونة؛ لأنه اتباع الظن؛ وهو غير جائز، لقوله تعالى: {إن الظن لا يغنى من الحق شيئا} [النجم: 28] ترك العمل به في العلة المتعدية؛ لأن فيها فائدة، وهي التوسل بها إلى معرفة الحكم في غير محل النص، وهذه الفائدة مفقودة في القاصرة؛ فوجب بقاؤها على الأصل. الثالث: العلة الشرعية أمارة؛ فلا بد وأن تكون كاشفة عن شيء، والعلة القاصرة لا تكشف عن شيء من الأحكام؛ فلا تكون أمارة؛ فلا تكون علة والجواب: قوله: لم لا يجوز أن يقال: (صحة كونها علة موقوفة على صحة وجودها في غير ذلك المحل): قلنا: لأن الحاصل في محل آخر لا يكون هو بعينه؛ لاستحالة حلول الشيء الواحد في محلين، بل يكون مثله، وإذا كان كذلك فنقول: كل ما يحصل له من الصفات عند حلول مثله في محل آخر يكون ممكن الحصول له عند عدم حلول مثله في محل آخر؛ لأن حكم الشيء حكم مثله، فإذا أمكن حصول كل تلك الأمور، فبتقدير تحقق ذلك، وجب أن تكون علة؛ لأن تلك العلية ما حصلت إلا بسبب تلك الأمور. وأما تلك المعارضة الأولى، وهي: (أنه لا فائدة فيها): قلنا: لا نسلم. قوله: (الفائدة أن يتوسل بها إلى معرفة الحكم) " قلنا: نسلم أن معرفة الحكم فائدة؛ لكن لا نسلم أنه لا فائدة إلا هي؛ فما الدلالة على هذا الحصر؟ ثم إنا نبين فائدتين أخريين:

الأولى: أن نعرف أن الحكم الشرعي مطابق لوجه الحكمة والمصلحة، وهذه فائدة معتبرة؛ لأن النفوس إلى قبول الأحكام المطابقة للحكم والمصالح أميل، وعن قبول التحكم الصرف والتعبد المحض أبعد. الثانية: أنه لا فائدة أكثر من العلم بالشيء؛ لأنا إذا علمنا الحكم، ثم اطلعنا على علته، صرنا عالمين، أو ظانين بما كنا غافلين عنه، وذلك محبوب القلوب، ولا يمتنع أيضا أن يكون لنا فيه مصلحة. سلمنا أنه لا بد وأن يتوسل بالعلة إلى معرفة الحكم؛ لكن من جانب الثبوت، أو في جانب العدم؟. الأول ممنوع، والثاني مسلم، وها هنا أمكن التوسل به إلى عدم الحكم. بيانه: أنه إذا غلب على ظننا كون حكم الأصل معللا بعلة قاصرة، امتنعنا من القياس عليه؛ فلا يثبت الحكم في الفرع. فإن قلت: (يكفى في الامتناع من القياس ألا نجد علة متعدية، فأما التعليل بالعلة القاصرة، فلا حاجة إليه في الامتناع من القياس): قلت: يجوز أن يوجد في الأصل وصف متعد مناسب لذلك الحكم، فلو لم يجز التعليل بالعلة القاصرة، لبقى ذلك الوصف المتعدي خاليا عن المعارض؛ فكان يجب التعليل به؛ وحينئذ: كان يلزم ثبوت الحكم في الفرع. أما لو جاز التعليل بالوصف القاصر، صار معارضا لذلك الوصف المتعدى؛ وحينئذ: لا يثبت القياس، ويمتنع الحكم. سلمنا أنه لا فائدة فيها؛ فلم قلتم: إنها تكون باطلة؛ فإنه لا يمتنع كونها علة

مؤثرة في الحكم، مع أن الطالب لها يكون طالبا لما لا ينتفع به، حين يتشاغل بطلب ما هو مستغن عنه. سلمنا أن ما لا فائدة فيه لا يجوز إثباته، ولكن لا يجوز ذلك قبل أن يعلم أنه لا فائدة فيه، أو بعد أن يعلم ذلك؟! وها هنا المستنبط للعلة- حال طلبه لها- لا يعلم أن تلك العلة متعدية، أو قاصرة؛ فلا يمكن منعه عن ذلك الطلب، وبعد وقوفه على العلة القاصرة: لا يمكن منعه عن معرفتها؛ لأن ذلك خارج عن وسعه. سلمنا كل ما ذكروه، ولكنه منقوص بالتنصيص على العلة القاصرة؛ فإن كل ما ذكروه حاصل فيها، مع جوازها. قوله: (الدليل ينفي القول بالعلة المظنونة): قلنا: لا نسلم؛ والتمسك بالآية سبق الجواب عنه في مسألة إثبات القياس. وأيضا: قد بينا أن العلة المتعدية كما أنها وسيلة إلى إثبات الحكم، فالعلة القاصرة وسيله إلى نفي الحكم؛ فوجب كون القاصرة صحيحة؛ لأنها على وفق النافي، والمتعدية على خلافها. قوله: (هذه الأمارة لا تكشف عن حكمة): قلنا: لا نسلم؛ بل تكشف عن المنع من استعمال القياس. سلمناه؛ لكنه يكشف عن حكمة الحكم، سلمناه؛ لكنه منقوض بالعلة القاصرة المنصوصة. فرع: اختلفوا في أن الحكم في مورد النص ثابت بالنص، أو بعلة النص؟! فقالت الحنفية: لا يمكن ثبوته بالعلة؛ لأن الحكم معلوم، والعلة مظنونة،

شرح القرافي: قوله: (الكائن في المحل الآخر هو مثل الكائن في محل الأصل

والمظنون لا يكون طريقا إلى المعلوم، وأصحابنا جوزوه، والخلاف فيه لفظي؛ لأنا نعني بالعلة ها هنا أمرا مناسبا، يغلب على الظن أن الشرع أثبت الحكم لأجله، وذلك مما لا يمكن إنكاره. المسألة العاشرة يجوز التعليل بالعلة القاصرة قال القرافي: قوله: (الكائن في المحل الآخر هو مثل الكائن في محل الأصل، فكل ما حصل لأحد المثلين عند حصول المثل الآخر، يكون ممكن الحصول عند عدم المثل الآخر): قلنا: العلة عندنا القدر المشترك بين المثلين، لا هذا ولا ذاك، فلا معنى لهذا البحث في الأمثال. وللشارع أن يعتبر المشترك علة كما [اعتبر] متعلق الحكم في الأفعال، فلم يوجب إلا مطلق أربع ركعات في الظهر، أما إيقاعها هنا أو هناك فلا. وكذلك جميع الأفعال المطلوبة، أو المخير فيها. سلمنا أن العلة في الأصل هو المثل بما هو مثل، لكن قولكم: (ما ثبت له مع مثله، جاز ثبوته له مع عدم مثله) لا يفيد مقصودكم؛ لأن هذا الجواز إنما نسلمه عقلا، وذلك غير محل النزاع، إنما النزاع في الجواز الشرعي، ولا تنافي بين الجواز العقلي والامتناع الشرعي، كما يجوز ثبوت حكم الإجزاء والكمال للركعة الواحدة في الظهر، والواقع شرعا للامتناع، فحينئذ لا بد من دليل شرعي يدل على الصحة الشرعية، ولم تذكروه، بل قولكم: (حكم الشيء حكم مثله) مدرك عقلي لحكم عقلي.

قوله: (يجوز أن يوجد في الأصل وصف متعد يناسب ذلك الحكم): تقريره: أن الفرع يكون قد اتفق على عدم الحكم فيه؛ لأن البحث وقع على هذا التقدير، وبين هذا الفرع والأصل وصف مشترك. وفي الأصل وصف آخر قاصر. فإذا عللنا بالقاصر اتجه القول بالعدم في الفرع مضافا لانتفاء العلة القاصرة، ويكون ذلك عذرا عن الوصف المتعدي. فنقول: إنما لم يثبت الحكم به في الفرع؛ لأن التعليل في الأصل وقع بالعلة القاصرة، وعدمها يعارض [التعدي] في الفرع. واعتبار عدمه راجح على اعتبار ثبوت [التعدي] ويبن ذلك بطريقة. أو يكون مساويا له، ويكفي في عدم الحكم حصول التعارض على التساوي. قوله: (تكون القاصرة مؤثرة في الحكم مع أن الطالب لها يكون طالبا لما لا ينتفع به): تقريره: أن تأثيرها هو كونها الداعي إلى ورود النص بذلك الحكم، فلا يحصل للطالب بها إثبات حكم في الأصل؛ لأنه ثابت بالنص، بل العلم بأنها الباعث والداعي لذلك الحكم. قوله: (القاصرة تقتضي عدم الحكم، فهي على خلاف المتعدية): قلنا: هذا يقتضي عدم اعتبار القاصرة؛ لأنها لم تفد فائدة؛ لحصول تلك الفائدة بالبراءة الأصلية. والمتعدية مفيدة فائدة زائدة، فكانت أرجح منها، كما قلناه في النصوص والبيانات الواقعة والمقررة.

(سؤال) قال النقشواني: قوله: (تكشف عن المنع من القياس) لا يتم

سلمناه: لكن الأمر قد ينعكس، وأن الحكم قد يكون إباحة، وردا إلى الأصل، فتكون القاصرة تمنع من ثبوت ذلك الرد إلى الأصل، ومن تلك الإباحة. وأما المتعدية، فتنشئ حكمي الإباحة والرد إلى الأصل. (سؤال) قال النقشواني: قوله: (تكشف عن المنع من القياس) لا يتم؛ لاحتمال أن يوجد في الأصل أوصاف كثيرة كلها معرفات، ويتعدى الحكم بواحد منها، وبقيتها لا يمنع؛ لأن تعليل الحكم بالعلل الكثيرة، لا يمنع عدم بعضها التعليل الموجود منها. وقوله: (إن العلة القاصرة تكشف عن حكمة الحكم) فإنما يتجه على مذهب من يجعل المعرف معرفا للحكمة أو الحكم. أما من يجعله معرفا للحكم فقط، فلا يصح هذا الجواب. وقوله: (إنه منقوض بالعلة القاصرة)، إنما يليق بأصل من يعلل بالحكمة؛ لأنه المجوز للقاصرة؛ لأنها معرفة بحكمة الحكم. أما من يجعلها كلها معرفات للحكم فقط، فلا يتأتى له هذا الجواب. (تنبيه) زاد سراج الدين فقال على قوله: (حكم الشيء حكم مثله؛ لأن عليته إنما هي باعتبار تلك الصفات الحاصلة). قال: لقائل أن يقول: لا نسلم أن [عليتها] باعتبار تلك الصفات، بل [بها و] بوجودها في غير الأصل، فإن لم تعتبرها، فهو أول المسألة.

(فائدة) قال سيف الدين: الخلاف في القاصرة إذا لم تكن منصوصة

وقال التبريزي: إن منعوا التعليل بالقاصرة، فقد أبعدوا؛ فإنه لا يمتنع أن يقول الشارع: ثبت هذا الحكم لهذا المعنى المخصوص، فلا تقيسه عليه. ويقول لأبي بردة: (يجزئ عنك ولا يجزئ عن غيرك)، و (إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفت). وإن جوزوا ذلك، فلا يمتنع أن يغلب ذلك على ظن المجتهد بطريقة. (فائدة) قال سيف الدين: الخلاف في القاصرة إذا لم تكن منصوصة، [و] لا مجمعا عليها، كتعليل الشافعية حرمة الربا في النقدين بجوهرية الثمنية، فأجازه الشافعي وأصحابه، وابن حنبل، والقاضي أبو بكر، والقاضي عبد الجبار، وأبو الحسين البصري، وأكثر الفقهاء، والمتكلمين. ومتعه أبو حنيفة وأصحابه، وأبو عبد الله البصري، والكرخي. قال: واحتج الأولون بأن القاضي وجد فيه الاقتران والمناسبة، فيكون علة كالمتعدي. ولأنها علة بالنص، فتكون بالاستنباط. قال: والجواب عن الأول: أنه قياس في الأسباب، وهو ممنوع. وعن الثاني: أن النص أقوى من الاستنباط في البعد عن الخطأ. ***

المسألة الحادية عشرة قال الرازي: الحق أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة؛ خلافا لبعض الفقهاء العصريين

المسألة الحادية عشرة قال الرازي: الحق أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة؛ خلافا لبعض الفقهاء العصريين؛ مثاله: قولهم: (الملك معنى مقدر شرعي في المحل، أثره إطلاق التصرفات) وربما قالوا: (الملك الحادث يستدعي سببا حادثا، وذلك هو قوله: بعت واشتريت، وهاتان الكلمتان مركبتان من الحروف المتوالية، وكل واحد من تلك الحروف لا يوجد عند وجود الحرف الآخر، فإذن: ليس لهاتين الكلمتين وجود حقيقي؛ لكن لهما وجودا تقديريا؛ وهو أن الشارع قدر بقاء تلك الحروف إلى حين حدوث الملك؛ ضرورة أنه لا بد من وجود السبب، حال حصول المسبب) وقد يذكرون هذا التقدير في جانب الأثر؛ فيقولون: (إن من عليه الدين، يكون ذلك الدين مقدرا في ذمته). واعلم أن الكلام من جنس الخرافات؛ لأن (الوجوب) إما أن يكون مفسرا بمجرد تعلق خطاب الشرع؛ على ما هو مذهبنا، أو يكون الفعل في نفسه؛ بحيث يكون للإخلال به مدخل في استحقاق الذم؛ على ما هو قول المعتزلة. فإن كان الأول: لم يكن لتعلق الخطاب حاجة إلى معنى محدث، يكون علة له؛ لأن ذلك التعلق قديم أزلي؛ فكيف يكون معللا بالمحدث؟. وإن كان الثاني: فالمؤثر في الحكم جهات المصلحة والمفسدة؛ فلا حاجة فيه إلى بقاء الحروف. وأيضا: فالمقدر يجب أن يكون على وفق الواقع، والحروف لو وجدت مجتمعة، لخرجت عن أن تكون كلاما، فلو قدر الشرع بقاء الحروف التي

شرح القرافي: قوله: (إطلاق التصرف معلل بالملك، والملك معلل بصيغة الإيجاب والقبول، والدين مقدر في الذمة)

حصل منها قوله: (بعت واشتريت) لم يحصل عند اجتماعها هذا الكلام، وأما تقدير المال في الذمة، فهو ساقط جدا، بل لا معنى له إلا أن الشرع مكنه، إما في الحال، أو في الاستقبال؛ من أن يطالبه بذلك القدر من المال، فهذا معقول شرعا وعرفا. فأما التقدير في الذمة، فهو من الترهات التي لا حاجة في العقل والشرع إليها. المسألة الحادية عشرة في التعليل بالمقدرات قوله: (إطلاق التصرف معلل بالملك، والملك معلل بصيغة الإيجاب والقبول، والدين مقدر في الذمة): قلنا: فهرسة المسألة إن أريد بها ظاهرها، وهو العلة الشرعية، فهذه المثل ليست مطابقة؛ لأن الملك والتصرف ونحوها ليست عللا يصح بها القياس. وإن أريد أنه لا يجوز التقدير في الشريعة، فهو غير مستقيم لوجهين: الأول: أن هذا البحث لا تعلق له بالقياس، ونحن في كتاب القياس ومسألة، فيصير الكلام غير موجه. الثاني: أن هذه الدعوى باطلة في نفسها؛ لأن الشريعة مملوءة من التقادير، حتى إنها في جميع أبواب الفقه، فكيف ينكر؟ وقد أكثرت من بيان ذلك في كتاب (الأمنية)، وأذكر- ها هنا- طرقا من ذلك، فأقول: التقدير الشرعي هو إعطاء الموجود حكم المعدوم، والمعدوم حكم الموجود. فمن الأول: النجاسة اليسيرة، والضرر اليسير، والصور النادرة في كل باب، هي معدومة في نظر الشرع، ونحو ذلك.

ومن الثاني: الإعتاق عن الغير، فيكون له الولاء، [و] إنما يستقيم ذلك إذا قدر له الملك، يتجه ثبوت الولاء المرتب على العتق المرتب على الملك المقدر له، وإلا فثبوت أحد هذه بدون الآخر غير ممكن في قواعد الشرع. وكذلك التوريث من دية الخطأ لا يتناوله الميراث، وهو لا يملك حتى يزهق نفسه؛ لأن الزهوق هو السبب؛ فيتعين التقدير. وتقدير المنافع في الإجارات موجودة، وأعيان السلم حتى يصح إصدار العقد؛ فإن العقد لا بد له من متعلق محققا، كبيع المرئيات. أو مقدرا، كبيع المعدومات. وتجد ذلك إذا أمعنت النظر في القراض، والمساقاة، والصلح، والعارية، والوديعة، وغير ذلك. قوله: (الوجوب مجرد تعلق خطاب الشرع عندنا): قلنا: ليس كذلك، بل الخطاب المتعلق، لا مجرد التعليق، وبينهما فرق كبير. قوله: (التعلق قديم، فلا يحتاج إلى أمر محدث): قلنا: لا نسلم إنما تعلق مرتبا على هذا المحدث، كما تعلق بالمكلف على تقدير وجوده وحدوثه، كما تعلق خطاب الله- تعالى- بوجوب الظهر علينا إلا مرتبا على تقدير حدوثنا وحدوث الزوال، وغير ذلك من الشروط وانتفاء الموانع، أما تعلقه في الأزل مطلقا، فلا. ثم هذا الكلام يبقى تعلقه بالمحقق المحدث: كالزوال، ورؤية الهلال، وملك النصاب وغير ذلك، وهو خلاف الإجماع. قوله: (وإن كان الثاني، فالمؤثر جهات المصلحة والمفسدة، فلا حاجة إلى بقاء الحروف):

قلنا: لا تنافي بين كون المؤثر المصلحة، وبين أن تكون الحروف ضابطة للمصلحة، والمعرفة بها، ثلم المصلحة في نفسها حادثة، فيلزم فيها ما قلتموه في الحروف. قوله: (المقدر يجب أن يكون على وفق المحقق، والحروف لو اجتمعت لخرجت عن أن تكون كلاما): قلنا: نقدرها مجتمعة على وجه يصدق عليها أنها كلام، وتكون كأنها الآن مترتبة في الحس، وهي موجودة في أزمانها، موصوف جميعها [بالحدوث]، [وكذلك] الآدمي مرتبا أعضاؤه في بقاعها، وليس من شروط التقدير أن يكون المقدر ممكن الوقوع، بل قد يكون مستحيلا كما قدر الله- تعالى- الشريك في قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] مع استحالة الشريك، وإذا لم تمنع الاستحالة التقدير، صح ما قلناه؛ لأن غايته أنه مستحيل. قوله: (لا معنى للتقدير إلا تمكين الشارع للإنسان من المطالبة بذلك المال). قلنا: المطالبة لا بد لها من مطلوب، ويكون ذلك المطلوب متميزا بقدره، ومحله، وجهته، وصفاته عن غيره، ولا نعني بالتقدير إلا كونه مفروضا في ذمة المطالب، مختصا به على الوجه المخصوص، وكذلك الذمة صفة مقدرة في المحل تقبل الإلزام والالتزام، كما نقول: البالغ الرشيد المكلف في نظر الشرع له صلاحية أنه إذا أتلف شيئا ترتب عليه قيمته، وإذا باع أو اشترى لزمه التسليم، أو الثمن. وهذه الصلاحية نقطع بانتفائها شرعا عن البهيمة، والطفل في المهد ونحو ذلك.

(سؤال) قال النقشواني: الملك في العرف، والشرع

وهذه الصلاحية الخاصة هي الذمة، وهي صفة شرعية يقدرها الشارع في محل دون محل، ويقضي بارتفاعها بعد ثبوتها في الميت ونحوه. (سؤال) قال النقشواني: الملك في العرف، والشرع. أما الأول: فيقولون: هذا ملك فلان؛ فيتصرف فيه، ويعللون عدم التصرف بعدم الملك؛ فيقولون: باع ما لم يملك، ويقولون: عقد صدر من أهله في محله؛ فيفيد الملك، ويقولون: تصرف صادف ملك الغير بغير إذنه؛ فلا ينفذ وعكسه. ويقولون: ثبت ملكه؛ فحل له التصرف، وزال ملكه؛ فمنع، ومثاله لا يحصى في ألسنة العلماء، والمناظرين. وأما الثاني: فلقوله تعالى: {إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك} [الأحزاب: 50]، وأمثال ذلك كثير في الكتاب والسنة. وإذا عرفنا الشارع حل التصرف بملك اليمين، فلا بد أن يكون الملك مغايرا لجواز التصرف؛ ولأن الملك ثبت للمحجور، وليس له تصرف، وثبت التصرف بدون الملك كالإمام، والحاكم، والولي، والوكيل. (تنبيه) زاد سراج الدين فقال: لقائل أن يقول: لما فسرت الوجوب بتعلق الخطاب، وقد اعترفت أول الكتاب بحدوثه- افتقر إلى سبب حادث، وكون الحكمة مؤثرة في الحكم لا ينافي كون الوصف مؤثرا لما قاله، [وكون] التقدير على وفق الواقع، وليس معناه أن [المقدر] يعطي حكمه لو كان موجودا، بل معناه أنه يعطي حكم مؤثر موجود.

قال التبريزي: الحكم الشرعي قد يرجع إلى معنى يقدر صفة للمحل، كالعصمة، والملك، والنجاسة، والطهارة، فإذا جوزنا التعليل بالحكم الشرعي دخل فيه هذا القبيل. وأنكر جماعة التقدير في الشرع تصورا، فضلا عن التعليل به. والممارس للشريعة والقواعد السمعية لا يقدر على دفع الحال، وعموم المعاني وكليتها، ويدل عليه أمور: الأول: أنه لا سبيل إلى إنكار الرق، والحرية، والعصمة، والملك، والحقوق كحق الشفعة والخيار، ولا يمكن تفسيرها بنفس الأغراض والثمرات، ولا بالأسباب كالبيع والنكاح؛ إذ هي صفات المحل حقيقة، وأما الثمرات؛ فلأوجه ثلاثة: الأول: أنها معللة بها؛ فيقال: مملوك؛ فيجوز الانتفاع به، ومعصوم؛ فيضمن، ونجس؛ فلا يجوز بيعه، وحر؛ فتقبل شهادته، وينفذ أمانه، وتنعقد به الجمعة. الثاني: أن الثمرات قد تختلف، وتنتفي بالكلية مع بقاء الملك، كما في الجحش الصغير، والمطعوم، والمرهون، والعبد الآبق، والدرة الملقاة في البحر.

فإن قيل: غرضية الانتفاع حاصلة، والسبب قائم، فقد يكبر الجحش، وينفك الرهن، وتعود الدرة والعبد، كيف والجحش يباع والآبق يعتق؟: قلنا: غرضية الانتفاع إما أن تكون هي الاستعداد، فلا وجود له في الجحش، والدرة، والمرهون والآبق أمر حقيقي، لا حكم شرعي. وإن كانت عبارة عن توقع الانتفاع، فلينقل لفظ الانتفاع إلى الملك، فنقول: ليس بمملوك في الحال، وإنما يملك في ثاني الحال، ولا شك أن هذا خلف في موقع الغرض، ثم الفرضية متحققة في الخمر، وجلد الميتة، وفي الصيد قبل التعقل، وذرارى الكفار قبل الاستيلاء، وهو أقرب من توقع عود الدرة من البحر، ولا يطلق عليها اسم الملك، وأما صحة البيع ونفوذ العتق، فلا يجوز [تفسير] الملك بها؛ فإن الإجماع منعقد على توقف نفوذ البيع والعتق على الملك؛ فيتمانعان.

الوجه الثالث: أم الانتفاع بجهة التوسل لا يجوز أن يكون من مسمى الملك، والانتفاع بالعين قد يتوقف على الموصى له بمنافع الدار والدابة على وجه اللزوم في مدة بقاء المحل دون الورثة، والملك في الدار مضاف للورثة دون الموصى عليه. وأما التفسير بالأسباب فلوجهين: أحدهما: أن الملك معلل بتلك الأسباب، فيقال: ملك بالبيع، ملك بالهبة، ملك بالوصية. الثاني: أن الأسباب ذواتها أمور حسية، واعتبارها إن رجع إلى مجرد ترتيب الآثار لم يكن أمرا ثالثا. وإن رجع إلى أمر آخر، فنقول: هو أمر محصل أم لا؟ والثاني ليس بثابت، وإن كان محصلا، فليس حقيقيا، فليزم بالضرورة أن يكون شرعيا، فيكون مقدرا، ثم الاعتبار أمر مضاف، فما الذب اعتبر فيه السبب: فإن كان نفس الثمرات، فقد بينا بطلانه طردا وعكسا. أو أمر آخر، فهو الذي نعني بالملك، وليس بمحقق، فيلزم أن يكون مقدرا. الأمر الثاني: هو أن المسلم فيه، والدين المؤجل، إما أن يكون شيئا مستحقا أو لا، فإن لم يكن فقد خرج عقد المعاوضة عن العوض، ثم يلزم ألا يصح الإبراء منه، ولا الاعتياض عنه، وهو خلاف الإجماع، أو شيئا مستحقا، فاستحقاقه إما أن يكون ثابتا في الحال، أو في المال، والثاني باطل لوجهين: أحدهما: لزوم تعليق حكم المعاوضة. الثاني: ألا ينفذ الإبراء عنه، أو يخرج على قولي الإبراء عما جرى سبب

ثبوته، ولم يثبت، ثم لا يجري فيما إذا قال: أبرأتك عما هو مستحق لي عليك، ثم لو فرض فالاستحقاق المتأخر يثبت حالة الحلول، أو حالة التسليم. حالة التسليم باطل لوجهين: أحدهما: أنها مجهولة، والسلم لا يقبل الأجل المجهول. الثاني: أنه يلزم منه ألا يطالب بشيء قبل التسليم؛ فإنه ما استحق عليه شيء. وأما حالة الحلول: فقد تخلو عن التسليم، فبأي شيء يتعلق الاستحقاق؟ ولا خلاف في أنه [لم] يثبت في عين من الأعيان [على الوجه الموصوف]، [فإن ثبت في الموصوف فهو المقدر، فإن قيل: الحكم هو وجوب تسليم عين من الأعيان على الوجه الموصوف]. قلنا: ما توجبون تسليمه هل يثبت استحقاقه أم لا؟ فإن لم يثبت لم يجب تسليمه؛ فأن تسليم ما ليس بمستحق ليس بواجب، وإن ثبت استحقاقه، فمتعلقه هو العين التي يقع فيها التسليم أم أمر أعم؟ الأول: باطل؛ لأنه مجهول حالة العقد؛ ولأنه لم يتناوله العقد بالإضافة، ولهذا كان يجوز له ألا [يسلمه] ذلك بعينه. وإن كان أمرا أعم على ما هو المذكور عند العقد، فلا شك في أنه لم يثبت استحقاقه في شيء من الأعيان، وهو لا يقوم بنفسه، فيكون مقدرا، وإذا بطل تأخر الاستحقاق المتأخر، فيجب أن يتعلق بالموصوف المقدر، ثم الاستحقاق على هذا لا يمكن أن يكون إيجابا؛ فإنه لا يتعلق بالذوات بل بأفعال المكلفين، ثم لا خلاف في انتفائه، فيتعين أن يكون معنى شرعيا مقدرا، ولا بد للمستحق من محل يقوم به؛ فإنه لا يقوم بنفسه، وهو الذمة، وهو أيضا أمر مقدر عرفي قدره [الشرع].

والأمر الثالث: الأخبار، فمنها قوله- عليه السلام-: (من ترك حقا أو مالا فلورثته)، الحديث أضاف الترك إلى الحق المقدر إضافته إلى المال المحقق، فيستدعي وجودا، وليس بمحقق؛ فيكون مقدرا، ولا يمكن حمل الترك- ها هنا- على عدم الفعل؛ فإن ترك بهذا التفسير ليس مجرد الإرث إجماعا كتمليك المباحات، وتطليق الزوجات، وإنشاء العقود. وقوله عليه السلام: (من ملك ذا رحم محرم عتق عليه) فإنه يدل على أن الملك معنى مقدر؛ فإن جواز الانتفاع هو المحذور الذي شرع العتق لنفيه بإسقاط مبناه، ولم يترتب على شراء القريب أصلا بالإجماع، ومع جعله الملك شرط العتق. وقوله عليه السلام: (النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته). فإنه يدل على أن النكاح معنى يقوم بالمرأة على مثال قيام الرق بالعبد؛ إذ لا يمكن إطلاق الرق على العقد، ولا [على] الوطء وحله. الرابع: الأحكام منها: اختلاف العلماء في أن الفسخ رقع للعقد من أصله أو حينه، ولا معنى للانتفاء [بينهما] إلا بتقدير أحدهما عند الآخر، ثم المرتفع هو العقد المحقق أو المقدر، لا سبيل إلى الأول، فإن ما وجد من المحقق لا يمكن أن يقال: ما وجد لا وجود له حقيقة في الدوام ليرتفع.

ومنها: اتفاقهم على تقدير النية عند انعقاد الصوم، واختلفوا في أن جهة تقدير بقاء المحققة استصحابا، أو فرض وجودها ابتداء عند الصوم؛ لينبني عليه إمكان التصحيح بنية من النهار. ومنها تقدير المنافع حالة عقد الإجازة؛ ليرد عليها العقد؛ إذ لا بد من معوض يستحق قبالة الأجرة، إذ لا يمكن أن يكون حكمها ملك [العين]، ولا [بالاستعدادات]؛ لأنه ينافيه التأقيت، والانفساخ بعد التسليم، ولا جواز صرف إذا استوفيت إلى المستأجر، بل إلى مالك العين، كما في بدل الوطء بالشبهة. ومنها: إجماعهم على تقدير ملك الأب في الجارية المملوكة للابن قبل العلوق أو مع الوطء؛ ليظهر أثره في نفي المهر أيضا. ومنها: تقدير ملك الابن فيما يمهر عنه الأب، حتى لو عاد بفسخ، أو طلاق بعد الكبر عاد إلى ملك الأب. ومنها: تقدير الملك في المعجل زكاة عن أربعين حتى تصور وقوعه زكاة، وقوله: (الخطاب قديم يستغنى في تعلقه عن توسط حادث)، فقد بينا أن ذلك التعلق غير كاف في تحقيق حكم الشرائع، وإنما يرجع إلى مجرد صلاحية الكلام القديم المتعلق بالأفعال الحادثة، فهو كتعلق القدرة القديمة بسائر الممكنات في الأزل، وذلك غير كاف في وقوع الحوادث، بل لا بد من تعلق أخص من ذلك في تنجز الأحكام الشرعية، ولهذا انتظم أن نقول: لا حكم للأفعال قيل ورود الشرع، وأن تحريم الخمر حكم حادث، لا بد له من سبب حادث ونحو ذلك، ثم إذا حصرنا الأحكام الشرعية في التكاليف، فلو زوج الجد أحد حفيديه بالآخر، فما حكم هذا العقد؟ والصبي ليس أهلا لتعلق الخطاب بفعله، ولا يتعلق بالولي غير وجوب النفقة، وربما لا تجب النفقة في مثل هذا النكاح، ثم إن لم نفرض سابقة استحقاق على

الصبي في ماله كيف نتصور ابتداء إيجاب إخراج مال الصبي على الولي؟ فإذا لا حكم لهذا العقد في الحال، والنكاح لا يقبل التعليق لينعقد مفيدا لجواز الوطء بعد البلوغ، ثم يلزم منه ألا يتوارثا قبل البلوغ، وألا تحرم الصغيرة على أب الصغير إذا مات قبل نفوذ النكاح. فإن قيل: ما أثبتموه من المعاني المقدرة إن كانت نفيا محضا، فليست بشيء. أو ثبوتيا، فهل هو معلوم محقق أو متخيل موهوم؟ فإن كان الأول: فقد تجدد في المحل صفة حقيقة معقولة، وهو معلوم البطلان بالضرورة. وإن كان الثاني: فو وهم كاذب، وفتح هذا يؤدي إلى التشكيك في الضروريات. قلنا: المقدر ينقسم إلى: ما سبق العلم به قبل التقدير، وما لم يسبق العلم به. والذي يسبق العلم به ينقسم إلى: ما يحس به، وما لا يحس به. والأول ينقسم إلى: الأجسام، والأعراض. أم الأجسام: فكالمبيع المقدر بقاؤه بعد تلفه قبل القبض، والنصاب المقدر بقاؤه بعد الإتلاف عند الحنفي. [وأما] الأعراض: فكالأقوال، وعقود التصرفات، والنية المستصحبة في العبادات. فأما ما لا يحس، فينقسم إلى: معقول، ومشروع. فالمعقول: كالحياة المقدرة في النطفة، والموت المقدر في المرتد. والمشروع: كتقدير بقاء الملك في معجل الزكاة، فهو تقدير مقدر في

نفسه، وتقدير الدراهم دينا هل هو تصور حقائقها لتعلق الاستحقاق بها؛ فيكون من المعقول؟ أو تقدير أعيانها؛ فيكون من المحسوس؟ فيه خلاف، وأما ما لم يسبق العلم به قبل التقدير، فكثبوت الملك، والاستحقاق، والتخصيصات، وسائر أحكام الشرع من الطهارة، والنجاسة، والزوجية، والعصمة، والمقصود أن ما يرجع إلى ما سبق العلم به، فحاصل تقديره يرجع إلى تصوير حقيقته حال عدمه في بناء أحكامه عليه، وليس ذلك وهما كاذبا، فإن الوهم هو الذي يغالط فيه قوة الوهم قوة العقل مع شعوره بعدمها لا الوهم، وصور المعقولات لا ينكر خطورها للنفس، ولكن قد تقتضي المحبة أو التعظيم تأثر النفس بتصورها حسب تأثيرها بتحققها، فكذلك في الشرع مثلا خلوص النية حال تحققها يشعر بالاستمرار، والتجديد في كل لحظة، لولا العجز البشري والغفلة المستولية، فراعي الشارع ذلك الإخلاص في مقتضاه بتصويره على الدوام، حتى يرتب عليه حكمه، ويتصل بمقصوده. وأما ما يرجع إلى ما لم يسبق العلم به قبله، فهو إثبات حالة مضاهية في العقل للعالمية والقادرية، وكون الجوهر متحيزا، وفي العرف يضاهي الجهة والعظمة، والوقار، والمهانة، والحقارة، ولا شك أن لها أسبابا وآثارا، وهي وسائط بين الآثار والأسباب، وليست عين السبب، ولا عين الأثر، والمنكر للمعاني إذا نظر في مناظر العقل بعين الإمكان، بنبغي أن يطالب بتطبيقها على [الأحوال التي هي أحكام المعاني، لا] نفس المعاني؛ فإن ذلك صول، بل إذا أرسلنا طلاب الحقاق في مجاري ضيق العبارة، قلنا لهم: ما معني التعلق الذي جعلتموه جزء ماهية الحكم؟

أهو ثبوتي زائد على نفس الفعل والخطاب أم لا؟ فإن كان، فهل له تعلق بهما أو بأحدهما؟ فإن لم يكن، فليس بمؤثر فيهما. وإن كان، فهو إذا صفة حقيقة ثابتة للفعل من الخطاب، أو الخطاب من الفعل، أولهما، وإن لم يكن ثبوتيا، فهو وهم كاذب. قلت: التعلق من باب النسب والإضافات التي لا وجود لها في الأعيان، وهو حكم ثابت قطعا، كالحكم بالبنوة والأبوة، والتقدم والتأخر في بعض الحقائق، وإن كانت نسبة عدمية. وقوله قبل: (هذا الكلام متعلق بالقوة كالقدرة) لا يصح، بل بالفعل كالعلم، وكما يخيل العقل ف الأزل علما بلا معلوم، يخيل أمرا بلا مأمور، ونهيا بلا منهي. وكما أن تعلق العلم في الأزل فعلي، فكذلك أنواع الكلام، وقد تقدم تقريره. ***

المسألة الثانية عشرة قال الرازي: ها هنا أبحاث

المسألة الثانية عشرة قال الرازي: ها هنا أبحاث: الأول: العلة قد يكون لها حكم واحد، وهو ظاهر، وقد يكون حكمها أكثر من واحد، وتلك الأحكام: إما أن تكون متماثلة، أو مختلفة غير متضادة، أو مختلفة متضادة: فالأول إما أن يكون في ذات واحدة، أو في ذاتين: والأول محال؛ لامتناع اجتماع المثلين، والثاني جائز، وهو: كالقتل الذي حصل بفعل زيد وعمرو؛ فإنه يوجب القصاص على كل احد منهما. وأما الثاني: وهو أن توجب أحكاما مختلفة، غير متضادة فهو جائز؛ كتحريم الإحرام، ومس المصحف، والصوم والصلاة بالحيض. وأما الثالث: وهو أن توجب العلة أحكاما متضادة، فلا يخلو: إما أن يتوقف إيجابها لها على شرط، أو لا يتوقف. فإن كان الأول: فالشرطان: إما ألا يجوز اجتماعهما، أو يجوز: فإن لم يجز، جاز أن تكون العلة موجبة لحكمين متضادين، عند حصول شرطين لا يجتمعان، وإن كان يجوز اجتماعهما، فهو محال؛ لأنهما إذا تقتضيهما جميعا؛ وهو محال، أو لا تقتضي واحدا منهما، وحينئذ تخرج العلة عن أن تكون علة، وبهذا البيان: يظهر أيضا أنه لا يجوز أن يتوقف اقتضاء العلة معلوليها المتضادين على شرط.

شرح القرافي: قوله: (إن جاز اجتماع الشرطين فهو محال)

الثاني: من شرط العلة اختصاصها بمن له الحكم، وإلا لم يكن اقتضاء حصول الحكم لشيء أولى من اقتضائه لغيره. الثالث: أن اقتضاءها معلولها قد يكون موقوفا على شرط؛ مثل الزنا؛ فإنه لا يوجب الرجم إلا بشرط الإحصان، وقد لا يكون؛ وهو ظاهر. الرابع: العلة قد تكون علة لإثبات الحكم في الابتداء؛ كالعدة في منع الحل، وقد تكون علة في الابتداء والانتهاء؛ كالرضاع في إبطال النكاح، وقد تكون العلة قوية على الدفع، لا على الرفع؛ مثل العدة والردة؛ فإنهما يدفعان النكاح، ولا يرفعانه، وقد تكون قوية عليهما معا. المسألة الثانية عشرة العلة يكون لها حكم وحكمان قال القرافي: قوله: (إن جاز اجتماع الشرطين فهو محال): قلنا: قد يجوز اجتماعهما، وإذا وقع الاجتماع امتنع إيجاب العلة للضدين، وتعين الترجيح، فيقضي المجتهد بلزوم الراجح منهما؛ لاستحالة اقتضاء العلة لها، وإن لم يجتمع الشرطان قضي بوقوع ما حصل من شرطه. فالقول بأن ذلك محال مطلقا باطل.

(سؤال) قال النقشواني: لم يبين أن العلة واحدة بالنوع، أو بالشخص

وهذا بخلاف اقتضائها لهما بشرط واحد؛ لتعذر الترجيح دائما، والمرجوح دائما لا عبرة به، بخلاف الشرطين أمكن أن يقضي بوقوع المرجوح إذا حصل شرطه وحده. قوله: (قد تكون علة لإثبات الحكم في الابتداء كالعدة): قلنا: العدة من قبيل الموانع التي تقتضي العدم لا الإثبات، وكذلك الرضاع. قال العلماء تقسيما أوجه من هذا، وهو أن الموانع الشرعية ثلاثة أقسام: منها ما يمنع ابتداء وانتهاء كالرضاع، يمنع ابتداء النكاح، ويقطعه بعد وقوعه. وما يمنع ابتداء فقط، كالاستبراء؛ فإنه يمنع ابتداء العقد، وإذا زنت امرأة أو أكرهت وجب استبراؤها، ولا يندفع النكاح. والثالث الذي اختلف فيه هل هو من الأول، أو الثاني؟ كالطول يمنع ابتداء النكاح على الأمة، وإذا طرأ بعده هل يبطل؟ خلاف، والماء بعد التيمم، والإحرام إذا طرأ ويده على الصيد، هل يمنع بقاء اليد كما يمنع ابتداءها؟ كل ذلك مختلف فيه، فهذا أشبه من تقسيمه. (سؤال) قال النقشواني: لم يبين أن العلة واحدة بالنوع، أو بالشخص؛ فإن العلة الواحدة بالنوع يمكن أن توجب أحكاما متماثلة في المحل الواحد بالنوع وبالشخص- أيضا- في أوقات. وظاهر كلامه العلة الواحدة بالشخص، وبقى عليه من التقسيم إذا أوجبت حكمين متضادين، وأحدهما ليس له شرط ألبته، ولم يذكر هذا القسم. وقوله: (لابد من اختصاص العلة بمن له الحكم) يبطل بأن القتل الصادر

(فائدة) قال سيف الدين: اختلفوا في العلة الواحدة الشرعية، هل يكون لها حكمان شرعيان؟

من زيد يوجب سلطنة الطلب للولي، ولم تقم العلة به، ولا صدرت عنه، وقت الخطأ يوجب الدية على العاقلة. (فائدة) قال سيف الدين: اختلفوا في العلة الواحدة الشرعية، هل يكون لها حكمان شرعيان؟ والمختار جوازه؛ لأنها أمارة، أو باعث، وذلك لا يمنع تعدد المدلول بتلك العلة، ويبعث الوصف الواحد على المختلفات، كالسكر للتحريم والتنجيس. ***

المسألة الثالثة عشرة قال الرازي: قد يستدل بذات العلة على الحكم، وقد يستدل بعلية العلة على الحكم

المسألة الثالثة عشرة قال الرازي: قد يستدل بذات العلة على الحكم، وقد يستدل بعلية العلة على الحكم. فالأول: مثل أن يقال: (قتل عمد عدوان؛ فيكون موجبا للقصاص). والثاني أن يقال: (القتل العمد العدوان سبب لوجوب القصاص. وقد وجد؛ فيجب القصاص). فالأول صحيح، والثاني باطل؛ لأنه لا فرق بين ماهية القتل، وبين كونه سببا للقصاص؛ فإنه قد يفهم كونه قتلا مع الذهول عن السببية، وقد تفهم السببية مع الذهول عن كونه قتلا، والسببية أمر إضافي، والأمور الإضافية يتوقف ثبوتها على ثبوت كل واحد من المضافين؛ فدعوى كون القتل سببا لوجوب القصاص يتوقف على ثبوت القتل، وثبوت وجوب القصاص؛ لأن قولنا: (هذا سبب ذلك) يستدعي تحقق هذا، وتحقق ذاك؛ حتى يحكم على هذا بأنه سبب لذاك، وإذا كانت دعوى السببية متوقفة على ثبوت الحكم. أولا: فلو استفدنا ثبوت الحكم من ذكر السببية، لزم الدور؛ وإنه محال؛ فعلمنا أنه لا يمكن الاستدلال بعلية الوصف وسببيته على ثبوت الحكم. المسألة الثالثة عشرة قد يستدل بذات العلة على الحكم قوله: (الأمور الإضافية يتوقف ثبوتها على كل واحد من المضافين): قلنا: ظاهر هذه العبارة مشكل؛ فإن تعلق العلم بالمعلوم نسبة بين العلم والمعلوم، وقد يكون المعلوم مستقبلا معدوما لم تثبت حقيقته، وقد تكون

(سؤال) قال النقشواني: كلامه متناقض

النسبة بين أمرين مستحيلين لا ثبوت لهما، ولا يقبلان الثبوت، كالملازمة التي بين الشريك وفساد العالم، على تقدير عدم فساده؛ فإن اللازم- ها هنا- إنما هو الفساد على تقدير عدم الفساد، فاللازم اجتماع النقيضين، والملزوم الشريك، وكلاهما مستحيل. بل معنى هذا الكلام أن النسبة يتوقف ثبوتها على كون المنسوبين كذلك من الوجه الذي وقعت النسبة لهما. أما ثبوتها: فتعلق العلم بالمعلوم فرع ثبوت المعلوم على ما هو عليه ممكنا أو مستحيلا. والعلم بغروب الشمس اليوم فرع [تقرير] الغروب اليوم، وهو معنى قول العلماء: العلم تابع للمعلوم، أما الثبوت المحقق، فليس شرطا. (سؤال) قال النقشواني: كلامه متناقض؛ لأنه قال: (السببية موقفة على ثبوت [الحكم]) وقال: (قد تعقل السببية بدون القتل، والقتل بدون السببية): جوابه: أن مرداه: أن السببية تعقل بدون القتل؛ لكون السببية عارضة لغير القتل من الجنايات، فلا تكون السببية حينئذ للقتل، بل لذلك الذي عرضت له.

(تنبيه) زاد سراج الدين فقال: لقائل أن يقول: صدق قولنا: القتل سبب لوجوب القصاص لا يتوقف على وجوب القصاص

(تنبيه) زاد سراج الدين فقال: لقائل أن يقول: صدق قولنا: القتل سبب لوجوب القصاص لا يتوقف على وجوب القصاص. سلمنا: لكن لما فسرته [بالمعرف] انقطع الدور. قلت: النسبة كالتعريف سواء، فتعريف الشيء للشيء يقتضي نسبة بينهما متوقفة عليهما كما تقدم، فيعود الدور. ***

المسألة الرابعة عشرة قال الرازي: تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي لا يتوقف على بيان ثبوت المقتضي لذلك الحكم

المسألة الرابعة عشرة قال الرازي: تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي لا يتوقف على بيان ثبوت المقتضي لذلك الحكم، وهذه المسألة من تفاريع جواز تخصيص العلة؛ فإنا إذا أنكرناه، امتنع الجمع بين المقتضي والمانع، أما إذا جوزناه، جاء هذا البحث. والحق أنه غير معتبر لدليلين. الأول: أن الوصف الوجودي إذا كان مناسبا للحكم العدمي، أو كان دائرا معه وجودا وعدما، حصل ظن أن ذلك الوصف علة لذلك العدم، والظن حجة. الثاني: أن بين المقتضي والمانع معاندة ومضادة، والشيء لا يتقوى بضده؛ بل يضعف به، وإذا جاز التعليل بالمانع حال ضعفه، فلأن يجوز ذلك حال قوته، وهو حال عدم المقتضي، كان أولى. واحتج المخالف بأمور: أحدها: أنا إذا عللنا انتقاء الحكم بالمانع، فالمعلل: إما عدم مستمر، أو عدم متجدد: والأول باطل؛ لأن العدم المستمر كان حاصلا قبل حصول هذا المانع، بل قبل الشرع، والحاصل قبل يمتنع تعليله بالحاصل بعد. والثاني: تسليم المقصود؛ لأن عدم الحكم لا يحصل فيه التجدد إلا إذا امتنع من الدخول في الوجود بعد أن كان بعرضية الدخول في الوجود، وذلك لا يتحقق إلا عند قيام المقتضي.

وثانيها: أن انتفاء الحكم؛ لانتفاء المقتضي أظهر عند العقل من انتفائه لحصول المانع. وإذا كان كذلك، فإما أن يكون ظن تحقق انتفاء المقتضي مثل ظن تحقق وجود المانع، أو أقوى منه، أو أضعف منه: فإن كان الأول: امتنع تعليل عدم الحكم بوجود المانع؛ لأن عدم المقتضي ووجود المانع، لما استويا في الظن، واختص عدم المقتضي بمزية، وهي أن ظن إسناد عدم الحكم إليه أقوى من ظن إسناده إلى وجود المانع- كان ظن تعليل عدم الحكم بعدم المقتضي أقوى من تعليله بوجود المانع، والأقوى راجح؛ فيلزم ألا يجوز تعليل عدم الحكم بالمانع، وأما إن كان ظن عدم المقتضي أظهر، فالتقدير المذكور أظهر. وأما إن كان ظن عدم المقتضي مرجوحا بالنسبة إلى وجود المانع، فظن العدم إنما يكون مرجوحا، لو كان ظن الوجود راجحا، وذلك يدل على أن التعليل بالمانع يتوقف على رجحان وجود المقتضي، وهو المطلوب. وثالثها: أن التعليل بالمانع يتوقف على بيان المقتضي عرفا، فيتوقف عليه شرعا: أما الأول: فلأن من قال: (الطير إنما لا يطير؛ لأن القفص يمنعه) فهذا التعليل موقوف على العلم بكون الطير حيا قادرا؛ فإن بتقدير موت الطير يمتنع تعليل عدم الطيران بالقفص، وكذا من علل عدم حضور زيد في السوق بحضور غريم له هناك: لابد أن يبين أنه كان قادرا على الحضور؛ وإلا لما صح ذلك التعليل عرفا.

وأما الثاني: فلقوله- عليه الصلاة والسلام-: (ما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا، فهو عند الله قبيحا). ورابعها: أن عدم المقتضي مستلزم لعدم الحكم، فلو حصل عدم المقتضي، لامتنع إسناد ذلك العدم إلى وجود المانع؛ لأن تحصيل الحاصل محال؛ فثبت أنه لابد من بيان وجود المقتضي. والجواب عن الأول: أن العلة الشرعية معرفة، والمعرف يجوز تأخيره عن المعرف. قوله: (إنما يصير الحكم شرعيا، إذا كان بحيث لو سكت الشرع، لما ثبت): قلنا: نحن لا نعني بكون هذا الانتفاء شرعيا، إلا أنه لم يعرف إلا من قبل الشرع؛ وذلك حاصل بدون ما قلتموه. وعن الثاني: أن مجرد النظر إلى وجود المانع يقتضي ظن عدم الحكم، بدون الالتفات إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرتموها. وعن الثالث: أنا لا نسلم أن ظن إسناد عدم الحكم إلى وجود المانع يتوقف على العلم بوجود المقتضي عرفا؛ ألا إذا علمنا وجود سبع في الطريق، فهذا القدر يكفي في حصول ظن أنه لا يحضر، وإن كان لا يخطر ببالنا في ذلك الوقت سلامة أعضائه، بل نجعل ذلك القدر دليلا لنا ابتداء؛ فنقول: (مجرد النظر إلى المانع يفيد ظن عدم الحكم عرفا، فليفده شرعا؛ للحديث). وعن الرابع: أن ترادف الدلائل والمعرفات على الشيء الواحد لا نسلم أنه خلاف الأصل.

(فرع) لو سلمنا أن التعليل بالمانع يتوقف على وجود المقتضي؛ لكن لا حاجة إلى ذكر دليل منفصل على وجود المقتضي، بل يكفي أن يقال: إما ألا يكون المقتضي موجودا في الفرع؛ وحينئذ يلزم عدم الحكم في الفرع، أو قد حصل المقتضي في الفرع؛ لكنه إنما ثبت فيه؛ تحصيلا لمصحلته، ودفعا لحاجته، وهذا المعنى قائم في الأصل؛ فيلزم ثبوت المقتضي في الأصل، وإذا ثبت ذلك، فقد صح جواز تعليل عدم الحكم فيه بالمانع. المسألة الرابعة عشرة تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي لا يتوقف على بيان ثبوت المقتضي. قال القرافي: قلنا: هذه المسألة المراد بها أن تعليل انتفاء الحكم بالمانع لا يتوقف على ثبوت المقتضي، وعبارتها أوسع وأعم؛ فإن الحكم العدمي قد يكون لقيام المانع كما يقولون، وهو صورة النزاع- ها هنا- وقد يكون لعلة في الشرع نصبها الشرع أمارة على العدم؛ لأنها من قبيل الموانع كما في كل علة بنفي الحظر، كاختلاف الأجناس في الربا؛ فلا يحرم، وكذلك جميع علل الإباحة وانتفاء التكاليف. وكما انقسمت الأدلة إلى (النافي)، و (المثبت)، انقسمت العلل إلى النافي والمثبت، وهذا القسم ليس محل النزاع، إنما النزاع إذا علم من الشارع علة الثبوت، وحصل العدم في صورة تلك المادة التي شأنها الثبوت، هل يتوقف ذلك على قيام المانع أم لا؟ فقد أدرجتم في المسألة ما ليس منها. قوله: (المناسبة أو الدوران يفيد الظن، والظن حجة):

قلنا: قد تقدم مرارا أن مطلق الظن ليس معتبرا شرعا، بل لم يعتبر الشرع إلا مراتب مخصوصة، فلم قلتم: إن هذه [المرتبة] منها؟ قوله: (بين المقتضي والمانع مضادة، فإذا جاز التعليل بالمانع حالة ضعفه بضده، فأولى حالة قوته بسلامته عن ضده): قلنا: ليس بينهما مضادة، بل التضاد بين أثريهما فقط. فإن الدين مع النصاب لا [يتناقضان]، بل وجوب الزكاة وعدم وجوبها. والحيض والزوال لا يتنافيان، بل وجوب الصلاة وعدم وجوبها. قوله: (انتفاء الحكم عند انتفاء المقتضي أظهر عند العقل)، ثم قال: (فإن استوي ظنه وظن وجود المانع ترجح عدم المقتضي):

وهذا يقتضي ظاهره التناقض؛ فإنه فرض أولا الرجحان، ثم فرض التساوي، ثم قضى بالرجحان على تقدير التساوي. ومعناه: أن عدم المقتضي من حيث هو عدم المقتضي راجح في إضافة عدم الحكم إليه. هذا بالنظر إلى ذلك العدم من حيث هو. ثم الأمارات الدالة على هذا العدم قد تساوي الأمارات الدالة على وجود المانع، وقد ترجح، فيكون المتساوي باعتبار الأمارة الدالة على وقوع هذا العدم، والرجحان بالنسبة إلى ذات ذلك العدم من حيث هو هو. وقد يكون الدال على الراجح مرجوحا، والدال على المرجوح راجحا، كالحقيقة راجحة، ويرجح على دليلها دليل المجاز المرجوح، ونظائره كثيرة، فاندفع التناقض. قوله: (في قوله عليه السلام: (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن): قلنا: قد تقدم أن الاستدلال بهذا الحديث مشكل من جهة أن المسلمين إنما رأوا ذلك في دنياهم ومعاشهم، فيلزم أن يكون عند الله- تعالى- كذلك لا باعتبار الأحكام الشرعية؛ لأن الضمير يجب عوده على المتقدم بصفاته، كما إذا قلنا: زيد يرى لبس الصوف في الشتاء، وما رآه زيد حسنا، فهو عند عمرو حسن، فلابد أن يكون عمرو يراه حسنا في الشتاء؛ إذ لو كان يراه حسنا في الصيف، لم يحسن هذا الكلام، فيبطل الاستدلال بهذا الحديث. غير أن لنا قاعدة، وهي أن لفظ الشرع متى دار بين أن يفيد فائدة شرعية أو عقلية، فالأول أولى، ولو حملناه على الظاهر لزم أن يكون عند الله- تعالى- كذلك، فيكون معناه أنه يعلمه حسنا عندهم في معاشهم، وتعلق علمه- تعالى- حكم عقلي. أما إذا حملنا التعبد به- ها هنا- على شرعه حكما شرعيا، حصلت

فائدة شرعية، فكان الحمل عليه أولى، فبهذه القاعدة يتم الاستدلال، وإلا فهو مشكل. قوله: (النظر إلى وجود المانع يقتضي عدم الحكم، بدون الالتفات إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرتموها): تقريره: أنه لابد أن يكون مناسبا، فمناسبته تقتضي ظن عدم الحكم، وإن عقل عنه الأقسام الثلاثة المذكورة. قوله: (إن سلمنا أن التعليل بالمانع يتوقف على وجود المقتضي، فلا حاجة إلى ذكر دليل على وجود المقتضي، بل نقول: إما ألا يكون المقتضي موجودا في الفرع، فيعدم الحكم من الفرع. أو وجد لكنه إنما ثبت تحصيلا لمصلحته، وهذا المعنى قائم في الأصل، فيلزم ثبوت المقتضي في الأصل، وإذا ثبت ذلك، فقد صح تعليل عدم الحكم فيه بالمانع): قلنا: هذه العبارة غير ملخصة ولا مبينة عن المقصود، وقد غيرها تاج الدين في (الحاصل). فقال: يكفي أن يقال: لو ثبت الحكم في الفرع لانضاف إلى المشترك بينه وبين الأصل، وحينئذ يتم بيان قيام المانع. وقال سراج الدين: يكفي أن يقال: لو لم يوجد المقتضي في الفرع انتفى الحكم عنه، وإن وجد كان ذلك لمصلحة كذا، وأنها موجودة في الأصل، فيكون عدم الحكم فيه معللا بالمانع. وسكت (المنتخب) عن هذه المسألة بالكلية. وكلام الإمام إنما التبس في هذه المسألة من جهة قياس الضمائر ولفظ الأصل والفرع. وإيضاحه: أن- ها هنا- أصلان، وفرعان، وحكمان يثبتان.

فالمانع: وصف وجودي يقاس به فرع على أصل، ففرعه هو الذي يحاول عدم الحكم فيه. وأصله صورة أخرى يثبت فيها اعتبار ذلك المانع بدليل. وهذا المانع اختلفوا فيه، هل من شرطه قيام المقتضي أم لا؟ ومعناه: نقيض للثبوت في الصورة التي يحاول فيها إثبات العدم، حتى يقع التعارض بينهما فيها. فلهذا الوصف المقتضى للثبوت أصل ثبت فيه اعتباره. وفرع، وهو الصورة التي يحاول فيها إثبات العدم بالمانع. فتلخص لنا أصلا لوصفين. أحدهما: يقتضي العدم، وهو المانع. والآخر: [نقيضه] الثبوت، وهو المقتضي المعارض للمانع، والفرع فرع لهما مشترك بينهما، فهو [بمعنى] فرعين؛ لأجل إضافته إلى الوصفين. إذا تحرر هذا فقوله: (إن ما يثبت تحصيلا لمصلحته) الضمير في قوله: (يثبت) عائد على عدم الحكم، لا على ثبوته، فهو يقول: لو ثبت عدم الحكم في الفرع لكان مضافا للقدر المشترك بين الفرع والأصل الذي هو أصل المانع لا أصل المقتضي، وقد ثبت اعتبار هذا الوصف في هذا العدم في الصورة التي هي أصل المانع، فثبت العدم بها في الفرع عملا بوجود ما ثبت اعتباره، وهو معنى قول تاج الدين: (لانضاف إلى المشترك بينه وبين الأصل) يريد أصل المانع لا أصل المقتضي، لكن لما شابه لفظ الأصل والفرع، والتبست الضمائر في قوله: (ثبت) هل هو عائد على ثبوت الحكم، أو عدم، أو على المقتضى، أو على الحكم، أشكل الكلام، وإنما الضمير عائد على عدم الحكم لا على غيره. ***

المسألة الخامسة عشرة قال الرازي: قال بعضهم: (وجود الوصف الذي يجعل علة في الأصل لابد وأن يكون متفقا عليه). وهذا ضعيف؛ لأنه لما أمكن إثباته بالدليل، حصل الغرض، بل الحق أن ذلك قد يكون معلوما بالضرورة، وقد يكون معلوما بالبرهان اليقيني، وقد يكون معلوما بالأمارة الظنية، وهذا آخر الكلام في العلة. المسالة الخامسة عشرة قال بعضهم: الوصف الذي جعل علة في الأصل لابد أن يكون متفقا عليه. قلت: المراد بالأصل- ها هنا- أصل المانع المقتضي للعدم، لا أصل الوصف المقتضي للثبوت [العارض] للمانع. (تنبيه) قال التبريزي: (تعليل انتفاء الحكم بالأمر الوجودي يتوقف على ظهور المقتض له)، وخالف اختياره المصنف. ثم قال: وقولهم: (الطرد والمناسبة) يفيد العلية. فجوابه: أنه إنما يغلب على الظن إضافة ما يصح إضافته، ولا نسلم أن النفي الأصلي يصح إضافته. وتمثيلهم بأنا: (إذا علمنا حضور السبع في الطريق أضفنا عدم حضور زيد إليه، وإن لم نعلم المقتضي).

فجوابه: أنه لا نزاع في ظن عدم الحضور، بل قد نقطع، إنما النزاع في ظن إضافته إلى السبع، ومن يظن فإنما يظن [لأنه] بسلامة الأعضاء، من غير شعور بما يقتضي حضوره، ولا يخفي أن من نسب عدم حضور قاضي البلد في بعض القفار إلى [سبع] رآه، فإنه يعد سفها. وأجاب عن أن المقتضي ضد المانع بأنه وإن كان ضدا في الاقتضاء، ولكنه يحصل شرط، فنقول: الإضافة والأثر مع قيام المنافي ممكن، ومع انتفاء الشرط غير ممكن، وهو كقول القائل: (النقض لا يستدعي البناء)؛ فإنه يضاد النقض، ولا يخفي فساده. (فائدة) قال سيف الدين: المختار اشتراط وجود المقتضي في التعليل بالمانع، وكذلك عدم الشرط. وقد تم كلام (المحصول) في هذا الباب، وبقيت فوائد في غيره متعلقة به، أنقلها إن شاء الله تعالى. (فوائد ست) (الفائدة الأولى) قال سيف الدين: اختلفوا في أن العلة هل تكون أمارة مجردة؟ والمختار أنها لابد أن تكون مشتملة على حكمة صالحة للحكم بالمناسبة. (الفائدة الثانية) قال سيف الدين: إذا كانت العلة في القياس بمعنى الباعث، فشرطها أن تكون ضابط الحكمة، بحيث لا يلزم منه إثبات الحكم مع تيقن انتفاء الحكمة

في صورة؛ فإن ثبوت الحكم بدون الحكمة خلاف القواعد، كما يقال: حكمة القصاص صيانة النفس المعصومة عن الفوات، فمن جعل الضابط بالجرح لا غير، دون المثقل كما يقول أبو حنيفة، يلزمه شرع القصاص في حق من جرح ميتة؛ لوجود الضابط، مع أنا نقطع بانتفاء الحكمة حينئذ. أو نفي الحكم مع وجود علته، وهو ممتنع. (الفائدة الثالثة) قال سيف الدين: قال جماعة: شرط ضابط الحكمة أن يكون جامعا، بحيث لا توجد الحكمة يقينا في صورة دونه؛ لأنه إن ثبت الحكم في تلك الصورة لزم استقلال الحكمة دون الضابط، وهو ممنوع. وإن لم يثبت الحكم لزم إهمال الحكمة. مثاله: [ضابط] الحنفي العمد باستعمال الجارح، يلزم إلغاء العمدية إذا ألقاه في البحر، أو رض رأسه بحجر عظيم. قال: ولقائل أن يقول: يجوز تعليل الحكم بعلتين في صورتين. (الفائدة الرابعة) قال سيف الدين: اختلفوا في جواز تأخير علة الأصل عن الحكم في الوجود، كتعليل إثبات الولاية للأب على الصغير الذي عرض له الجنون- بالجنون؛ فإن الولاية ثابتة قبل الجنون، والمختار امتناعه؛ لأن الحكم إذا تقدم استغنى وعرف، فلا معنى للتعريف بعد ذلك، ولا الباعث. (الفائدة الخامسة) قال سيف الدين: يجب ألا تكون العلة المستنبطة من الحكم المعلل بها

مما يرجع على الحكم المستنبط منه بالإبطال، كتعليل وجوب دفع [الشاة في باب] الزكاة بدفع [حاجة الفقير، لما فيه من دفع وجوب الشاة بدفع] القيمة؛ لأنها تسد الخلة. وألا تكون طردية، كالطول والقصر. وألا يكون لها في الأصل معارض لا تحقق له في الفرع. وألا تكون مخالفة للنص، وهذه شروط متفق عليها. واختلف في اشتراط كونها لا تتضمن زيادة على النص، وإنما يلزم ذلك أن لو كانت الزيادة منافية لمقتضى النص، وألا تكون مخصصة لعموم القرآن. وألا يعارضها علة أخرى تقتضي نقيض حكمها، وإنما يتجه ذلك أن لو كانت العلة الأخرى راجحة عليها، أو يمتنع تخصيصها، وقد عرف ما في منع التخصيص في العلل في مسألة النقض، وأن تكون منتزعة من أصل مقطوع به، وليس كذلك، بل يجوز القياس على المختلف فيه على الصحيح إذا وافق عليه الخصم. [وألا تكون مخالفة لمذهب الصحابي، وليس كذلك، بل جاز أن يكون للصحابي علة أخرى، وأن يكون وجودها في الفرع مقطوعا به، وليس كذلك، فإن الظن يكفي في الفرع]. (الفائدة السادسة) قال سيف الدين: اختلفوا في الدال على العلة. فقيل: يشترط ألا يكون متناولا لثبوت الحكم في الفرع، كقول الشافعي في الفواكه: مطعوم؛ فيحرم فيه الربا كالبر، ودل على كون الطعم علة بقوله عليه السلام: (لا تبيعوا الطعام بالطعان إلا مثلا بمثل)؛ لأنه يتناول الفواكه.

وقد يتناول الدليل خصوص الفرع وحده دون الأصل، كقول الحنفي- في الخارج من غير السبيلين: (خارج نجس)؛ فينقض كالخارج من السبيلين)، ثم دل على كون الخارج النجس علة، بقوله عليه السلام: (من قاء أو رعف أو [أمذى] فليتوضأ وضوءه للصلاة)، فإن القيءـ، والرعاف، والمذى من حيث هو خارج نجس، مناسب لنقض الوضوء، فيدل النص على التعليل؛ فإن النص يكفي، فذكر القياس تطويل من غير فائدة. قال: ولقائل أن يقول: هذا من مراسم الجدل، وهو لا يقدح في القياس. ***

القسم الثالث في المباحث المتعلقة بالحكم والأصل والفرع

القسم الثالث في المباحث المتعلقة بالحكم والأصل والفرع، وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول في مباحث الحكم: وفيه مسائل: قال الرازي: المسالة الأولى: اتفق أكثر المتكلمين على صحة القياس في العقليات، ومنه نوع يسمونه (إلحاق الغائب بالشاهد). قالوا: ولابد من جامع عقلي، والجامع أربعة: العلة، والحد، والشرط، والدليل. أما الجمع بالعلة: فكقول أصحابنا: إذا كانت (العالمية) شاهدا فيمن له العلم، معللة بالعلم، وجب أن يكون كذلك غائبا. وأما الجمع بالحد: فكقول القائل: حد العالم شاهدا: من له العلم؛ فيجب طرد. الحد غائبا. وأما الجمع بالشرط: فكقولنا: العلم مشروط بالحياة شاهدا؛ فكذلك غائبا ذلك. وأما الجمع بالدليل: فكقولنا: التخصيص والأحكام يدلان على العلم والإرادة شاهدا؛ فكذلك غائبا. واعلم أنه لما كان الجمع بالعلة أقوى الوجوه، وجب علينا أن نتكلم فيه، فنقول: اعتماد القياس على مقدمتين: إحداهما: أن الحكم ثبت في الأصل لعلة كذا. وثانيها: أن تلك العلة حاصلة بتمامها في الصورة الأخرى.

فهاتان المقدمتان: إن حصل العلم بهما، حصل العلم بثبوت الحكم في الفرع، وإن حصل الظن بهما حصل الظن بثبوت الحكم في الفرع. وإنما قلنا: (إنه يلزم من حصول العلم بتينك المقدمتين- حصول العلم بالنتيجة؛ وذلك لأنه إذا ثبت أن ذلك المعنى مؤثر في ذلك الحكم، ثم ثبت ذلك المعنى في صورة أخرى، فنقول: كون ذلك المعنى مؤثرا في ذلك الحكم في تلك الصورة، إما أن يعتبر في تلك المؤثرية كونه حاصلا في تلك الصورة، أو كونه غير حاصل في هذه الصورة، وإما ألا يعتبر فيها ذلك. فإن كان الأول: لم يكن ذلك المعنى إتمام العلة؛ لأن مرادنا من تمام العلة كل ما لابد منه في المؤثرية، فإذا كان لابد من قيد كون المعنى هناك، أو قيد كونه ليس هناك- فذاك المعنى ليس وحده تمام العلة؛ على التفسير الذي ذكرناه. وإن كان الثاني: فتمام المؤثر حصل في الأصل مستلزما للحكم، وفي الفرع غير مستلزم للحكم، مع انه لم يختلف حاله ألبتة في الصورتين، لا بحسب زوال شيء عنه، ولا بحسب انضمام شيء إليه؛ فيلزم حينئذ ترجح أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجح؛ وهو محال. فثبت بهذا البرهان الباهر: أنه يلزم من العلم بتينك المقدمين حصول العلم بثبوت الحكم في الفرع، وإذا ثبت هذا ظهر أن بتقدير حصول هاتين المقدمتين في العقليات، كان القياس حجة فيها. فإن قلت: حاصل الكلام فيما ذكرته هو الاستدلال بحصول العلة على حصول المعلول، وليس هو بقياس. قلت: بل هذا هو القياس؛ فإنا رأينا الحكم حاصلا في صورة معينة، ثم

قامت الدلالة على أن المؤثر في ذلك الحكم، هو الوصف الفلاني، ثم قامت الدلالة على أن ذلك الوصف حاصل في هذه الصورة الثانية- لزم القطع بحصول الحكم في الصورة الثانية، بل تحصيل اليقين لهاتين المقدمتين أمر صعب؛ وذلك لأنا وإن بينا أن الحاصل في الفرع مثل الحاصل في الأصل، فالمثلان لابد وأن يتغايرا بالتعين والهوية؛ وإلا فهذا عين ذاك، وذاك عين هذا؛ فيكون كل واحد منهما عين الآخر، فالاثنان واحد، هذا خلف. وإذا حصل التغاير بالتعين والهوية، فلعل ذلك التعين في أحد الجانبين جزء العلة، أو شرط العلية، وفي الجانب الآخر: يكون مانعا من العلية، ومع هذا الاحتمال: لا يحصل القطع. واعلم أن للمتكلمين طرقا في تعيين العلة: أحدها: التقسيم الذي لا يكون منحصرا، فإذا قيل لهم: لم لا يجوز وجود قسم آخر؟ قالوا: اجتهدنا في طلبه، فما وجدناه، وعدم الوجدان بعد الاستقصاء في الطلب يدل على عدم الوجود؛ كالمبصر، إذا طلب شيئا في الدار، ونظر إلى جميع جوانبها في النهار، فلم يجد- قطع العدم، وهذا ضعيف؛ إذ رب موجود ما عرفناه بعد الطلب، والقياس على نظر العين قياس من غير جامع، وبتقدير ذكر الجامع، فهو إثبات القياس بالقياس؛ وهو باطل. وثانيها: الدوران الخارجي، وقد تقدم بيان أنه لا يفيد الظن؛ فضلا عن اليقين. وثالثها: الدوران الذهني؛ كقولهم: متى عرفنا كون التكليف أمرا بالمحال، عرفنا قبحه، وإن لم نعرف شيئا آخر، ومتى لم نعرف كونه أمرا بالمحال، لم نعرف قبحه، وإن عرفنا سائر صفاته، فإذن: العلم بالقبح دائر، مع العلم بكونه بالتكليف بالمحال في الذهن.

فهذا الدوران الذهني يفيد الجزم بأن المؤثر في القبح، هو نفس كونه أمرا بالتكليف. فنقول: كلامكم يشتمل على أمري: أحدهما: أنه لما لزم من العلم بكونه أمرا بالمحال- العلم بقبحه، لزم أن يكون كونه أمرا بالمحال علة لقبحه. والثاني: أنه لما لم يلزم من العلم بسائر صفاته- العلم بكونه قبيحا، وجب ألا يكون سائر صفاته علة لكونه قبيحا، وأنتم منازعون في هذين المقامين، فلابد من الدلالة عليهما؛ فإن العلم بهما ليس من العلوم الضرورية؛ كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، وما رأيت أحدا من المتكلمين ذكر في تقرير هذين المقامين شيئا؛ على أن الأول منقوض بجميع الإضافات؛ فإنا متى علمنا كون هذا الشخص أبا، علمنا كون هذا الآخر ابنا، وكذا بالعكس من أنه يستحيل أن يكون كون هذا أبا لذاك علة لكون ذلك ابنا لهذا؛ لأن المضافين معا، والعلة قبل المعلول؛ (والمع) لا يكون قبل. وأما الثاني: فلأنه لا يمكن القطع بأنا إذا عرفنا سائر صفاته، فإنه لا يحصل العلم عند ذلك بكونه قبيحا إلا إذا عرفنا كل صفة، فكيف يمكننا أن نقطع بأنا عرفنا كل صفاته؟ فإنا إذا جوزنا أن يكون من الصفات ما لم نعرفه، جوزنا في بعض تلك الصفات التي لم نعرفها أن يجب عند العلم به العلم بكونه قبيحا، ومع هذا التجويز: لا تتم هذه المقدمة. سلمنا أنه لا يلزم من العلم بسائر الصفات العلم بكونه قبيحا؛ فلم يدل هذا القدر على أن سائر الصفات لا يجوز أن تكون مؤثرة في القبح؟.

واعلم أن الكلام في تقرير هاتين المقدميتن مأخوذ من الفلاسفة؛ فإنهم زعموا أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول، فعلى هذا: كل ما كان علة للقبح، يلزم من العلم به العلم بالقبح. وزعموا أن العلم اليقيني بوجود المعلول لا يحصل إلا من العلم بعلته، فلما لزم الجزم بالقبح عند العلم بكونه أمرا بالتكليف المحال، علمنا أن علة القبح ذلك، ولكنا قد نقلنا في كتبنا الكلامية دلائلهم على هاتين المقدمين، وبينا ضعفهما وسقوطهما، فلا نعيدهما ها هنا، وبالله التوفيق. القسم الثالث في مباحث الحكم والأصل والفرع وفيه ثلاثة أبواب الباب الأول [في مباحث الحكم] قال القرافي: قوله: يجوز أن يكون خصوص المحل شرطا، ومع الاحتمال فلا يقين): قلنا: قد يقطع الناظر بعدم اعتبار خصوصيات المحل عادة، وشرطا، وعقلا. أما العادة: فلأنا نعلم أن زيدا إنما احترقت خشبته بهذه النار لكونها نارا، وأن خصوصها، وخصوص الخشبة لا مدخل له في الإحراق. وأما شرعا: فلأنا نقطع أن هذا الزاني إنما رجم لما صدر منه من مفهوم الزنا المشترك بينه وبين غيره من الزناه، وأن خصوص زناه غير معتبر. وأما عقلا: فلأنا نقطع أن المحل إنما يصير أسود، أو أبيض، أو عالما، لأصول هذه المعاني دون شخصياتها، وهذا أمر ضروري عند العقل، فتحصيل اليقين ليس عسرا، بل كثير جدا. نعم بعض المواطن لا يحصل فيه اليقين، وذلك لا يقدح في حصول اليقين في البعض الآخر.

قوله: (القياس على نظر العين قياس من غير جامع، وبتقدير الجماع فهو إثبات القياس بالقياس): قلنا: بل الجامع حاصل، وهو أن البصيرة إذا نظرت في مفهوم العشرة، حصل الجزم بأنها ليس فيها ما يمنع أن يكون ثيابا، أو دراهم، ولا ما يوجب أنها فرد، وهذه ضرورة تحصل لا يمكن دفعها عن النفس، كما لا يمكن رفع العلم بوجود من نشاهده عن أنفسنا، فحصول العلم الضروري بعد التأمل بالبصر، أو البصيرة هو الجامع. وقولكم: (إثبات القياس بالقياس): قلنا: لا نسلم؛ فإن الصورة قد تذكر ليقاس عليها. وقد تذكر للتمثيل والتنبيه على وجود الحق في صورة النزاع. ولذلك إنه يحسن منا في هذا المقام أن تكون الدعوى عامة، والدليل صورة جزئية، وإثبات الكلية بالجزئية خطأ، وما ذلك إلا لأن المراد التنبيه والتمثيل كما يقول القائل: البغال لا تلد، ويدلك على ذلك أن جميع ما رأيناه منها لا تلد، فيتفطن السامع لوجه الاستقراء في ذلك، فيحصل له العلم بأن كل بغلة لا تلد. قوله: (الدوران الخارجي لا يفيد الظن، فضلا عن اليقين): قلنا: (بل الدوران قد يفيد اليقين عقلا، كدوران العلم مع العالمية. وعادة، كدوران الموت مع قطع الرأس والعنق. وقد يفيد الظن: كدوران الري مع شرب الماء، والإسكار مع تحريم الخمر. وقد لا يفيد شيئا؛ كدوران الجوهر مع العرض، فتعميم القول بأن الدوران لا يفيد الظن مطلقا غير متجه.

قوله: (إذا لم يعرف كونه أمرا بالمحال لم يعلم قبحه، وإن علمنا سائر صفاته): قلنا: قد لا نعلم كونه تكليما بالممكن الذي ليس بمحال، ونعلم قبحه لتضمنه [للكذب]، أو ذهاب نفس، أو غير ذلك من المفاسد التي هي أسباب القبح، فلم يحصل الدوران حالة العدم). قوله: (العلم اليقيني بالمعلول لا يحصل إلا من العلم بعلته): قلنا: قد يحصل العلم [اليقيني] بالحقيقة [في] غير علتها، كما نقطع بحصول الحياة عند حصول العلم، وإن كان العلم ليس علة للحياة، ولذلك نقطع بالعلم إذا علمنا بالإرادة، وبالمحل إذا قطعنا بالحال مع أن شيئا من هذه ليس بعلة للآخر. ثم إن العلة قد يتخلف عنها أثرها لمانع، أو تخلف شرط، كما أن الثقل في طبيعة الحجر عندهم يقتضي الهبوط بشرط عدم المعاوق، والنار تقتضي التسخين بشرط قبول المحل، إلى غير ذلك مما هو مذكور في الطبيعيات عندهم. فإذا علمنا بوجود العلة لا يمكننا الجزم بالمعلول؛ لجواز تخلف الشرط وقيام المانع، ومع الاحتمال لا جزم، فبطل قولهم: إن الجزم إنما يحصل من قبل العلة، بل غير العلة يحصل العلم، والعلة قد لا يحصل معها العلم، فبطل طردا وعكسا، وهذا ما أشار إليه المصنف في كتبه العقلية. (تنبيه) نسب الدوران الذهني إلى القبح العقلي المتكلمون مع أن المتكلمين لا

يقولون بالقبح العقلي، وما ذلك إلا أنه يريد المتكلمين- هاهنا- المعتزلة؛ فإن اسم المتكلمين كان أولا لهم قبل ظهور الأشعرية، ولذلك قال الشافعي: لو وجدت المتكلمين لضربتهم بالجريد، ولم يكن في زمان الشافعي أحد من الأشاعرة، إنما جاءوا بعده بزمان طويل. وبهذا نجيب- أيضا- عمن يذم الأشاعرة بهذا النقل عن الشافعي، بأن نقول: نحن نضرب أولئك بالسيوف فضلا عن الجريد؛ فإن منهم عمرو بن عبيد من غلاة المعتزلة الذي نقل عنهم ما أوجب اختلاف العلماء في تكفيرهم، كجحد الصفات، وعدم إرادة الكائنات، وغير ذلك كم كبائرهم المنقولة عنهم. (سؤال) قال النقشواني: قوله: (هذا إثبات القياس بالقياس) ليس كذلك، بل القياس ثبت بالبحث السابق عن أن العلة إذا كانت معلومة في الأصل وفي الفرع إلى آخره، وهذا الكلام بعد ذلك استدلال بالقياس، لا إثبات للقياس، فلو كان إثباتا له لزم الدور. * * *

المسألة الثانية الحق جواز القياس في اللغات، وهو قول ابن سريج منا، ونقل ابن جني في (الخصائص): أنه قول أكثر علماء العربية؛ كالمازني وأبي علي الفارسي، وأما أكثر أصحابنا وجمهور الحنفية فينكرونه. لنا وجوه: الأول: أنا رأينا أن عصير العنب لا يسمى خمرا قبل الشدة الطارئة، فإذا حصلت تلك الشدة، سميت خمرا، فإذا زالت الشدة مرة أخرى، زال الاسم؛ والدوران يفيد ظن العلية، فيحصل ظن أن العلة لذلك الاسم هو الشدة، ثم رأينا الشدة حاصلة في النبيذ، فيحصل ظن أن علة هذا الاسم حاصلة في النبيذ، ويلزم من ظن حصول علة الاسم ظن حصول الاسم، فإذا حصل ظن أنه مسمى بالخمر، وعلمنا أو ظننا أن الخمر حرام- حصل ظن أن النبيذ حرام، والظن حجة، فوجب الحكم بحرمة النبيذ. فإن قيل: الدوران إنما يفيد ظن العلية فيما يحتمل العلية، وهاهنا لم يوجد الاحتمال؛ لأنه ليس بين شيء من الألفاظ، وشيء من المعاني مناسبة أصلا؛ فاستحال أن يكون شيء من المعاني داعيا للواضع إلى تسميته بذلك الاسم، وإذا لم يوجد احتمال العلية هاهنا، لم يكن الدوران هاهنا مفيدا لظن العلية. سلمنا أنه حصل ظن العلية؛ ولكن إنما يلزم من حصول العلة في الفرع حصول ذلك الحكم، إذا ثبت أن تلك العلة إنما صارت علة لأن الشارع جعلها علة؛ ألا ترى أنه لو قال: (أعتقت غانما لسواده) فإذا كان له عبد آخر أسود،

لم يعتق عليه؛ لأن ما يجعله الإنسان علة لحكم لا يجب أن يتفرع عليه الحكم، أينما وجد؟! فكذا هاهنا لا يلزم من كون الشدة علة لذلك الاسم حصول ذلك الاسم، أينما حصلت الشدة، إلا إذا عرفنا أن واضع الاسم هو الله تعالى. والجواب عن الأول: أنه لا يمكن جعل المعنى علة للاسم، إذا فسرنا العلة بالداعي، أو المؤثر. أما إذا فسرناها بالمعرف، فلا يمتنع؛ كما أن الله تعالى جعل الدلوك علة لوجوب الصلاة، لا بمعنى كون الدلوك مؤثرا، أو داعيا، بل بمعنى: أن الله تعالى جعله معرفا، فكذا هاهنا. وعن الثاني: أنا بينا أن اللغات توقيفية. الثاني: وهو الذي اعتمد عليه المازني، وأبو علي الفارسي- رحمهما الله- أنه لا خلاف بين أهل اللغة أن كل فاعل رفع، وكل مفعول نصب، وكذلك القول في كل وجوه الإعراب، وأن كل ضرب منها اختص بأمر انفرد به، ولم يثبت ذلك إلا قياسا؛ لأنهم لما وصفوا بعض الفاعلين به، واستمروا على ذلك، علم أنه ارتفع الفاعل؛ لكونه فاعلا، وانتصب المفعول؛ لكونه مفعولا. فإن قلت: (كيف يصح ذلك، وقد وجد المفعول غير منتصب، وكذا الفاعل قد لا يرتفع؛ لعارض؟): قلت: تخلف الحكم عن العلة لمانع لا يقدح في العلية عند من يقول بتخصيص العلة، ومن لا يقول به يجعل ذلك القيد العدمي جزءا من العلة. الثالث: وهو: أن أهل العربية أجمعوا على أن ما لم يسم فاعله، إنما ارتفع؛

لكونه شبيها بالفاعل في إسناد الفعل إليه، ولم تزل فرق النحاة من الكوفيين والبصريين يعللون في الأحكام الإعرابية بأن هذا يشبه ذاك في كذا؛ فوجب أن يشبهه في الإعراب، وإجماع أهل اللغة في المباحث اللغوية حجة. الرابع: أن نتمسك بعموم قوله تعالى: {فاعتبروا} [الحشر: 2] فإنه يتناول كل الأقيسة، واعتمادهم في الفرق على أن المعاني لا تناسب الألفاظ؛ فامتنع جعل المعنى علة للاسم؛ بخلاف الأحكام الشرعية؛ فإن المعاني قد تناسبها، لكنا قد بينا سقوط هذا الفرق. واحتج المخالف بأمور: أحدها: قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31] دلت الآية على أنها بأسرها توقيفية؛ فيمتنع في شيء منها أن يثبت بالقياس. وثانيها: أن أهل اللغة لو صرحوا، وقالوا: (قيسوا) لم يجز القياس؛ كما إذا قال: أعتقت غانما لسواده، ثم قال: (قيسوا) فإنه لا يجوز القياس؛ فإذا لم يجز القياس عند التصريح بالأمر بالقياس، فلأن لا يجوز ذلك مع أنه لم ينقل عن أهل اللغة نص في ذلك- كان أولى. وثالثها: أن القياس إنما يجوز عند تعليل الحكم في الأصل، وتعليل الأسماء غير جائز؛ لأنه لا مناسبة بين شيء من الأسماء، وبين شيء من المسميات، وإذا لم يصح التعليل، لم يصح القياس ألبتة. ورابعها: أن وضع اللغات ينافي جواز القياس؛ فإنهم سموا الفرس الأسود (أدهم) ولم يسموا الحمار الأسود به، وسموا الفرس الأبيض (أشهب) ولم

يسموا الحمار الأبيض به، وسموا صوت الفرس (صهيلا) وصت الحمار (نهيقا) وصوت الكلب (نباحا). وأيضا: القارورة إنما سميت بهذا الاسم؛ لأجل الاستقرار، ثم إن ذلك المعنى حاصل في الحياض والأنهار، مع أنها لا تسمى بذلك؛ والخمر إنما سميت بهذا الاسم؛ لمخامرتها العقل، ثم المخامرة حاصلة في الأفيون وغيره، ولا يسمى خمرا. والجواب عن الأول: أنه ليس في الآية أنه تعالى علم آدم الأسماء كلها توقيفا؛ فيجوز أن يكون علم البعض توقيفا، والبعض تنبيها بالقياس، ولأنه يجوز أن يدرك آدم علمها توقيفا، ونحن نعلمها قياسا كما أن جهات القبلة قد تدرك حسا، وقد تدرك اجتهادا. وعن الثاني: أنا ندعي أنه نقل إلينا بالتواتر عن أهل اللغة: أنهم جوزوا القياس؛ ألا ترى أن جميع كتب النحو، والتصريف، والاشتقاق مملوءة من الأقيسة، وأجمعت الأمة على وجوب الأخذ بتلك الأقيسة. فإنه لا نزاع أنه لا يمكن تفسير القرآن، والأخبار إلا بتلك القوانين؛ فكان ذلك إجماعا معلوما بالتواتر. وعن الثالث: ما قد بينا: أنا نفسر العلة بالمعرف، لا بالداعي، ولا المناسب، وحينئذ لا يقدح عدم المناسبة فيه. وعن الرابع: أن أقصى ما في الباب: أنهم ذكروا صورا لا يجري فيها القياس، وذلك لا يقدح في العمل بالقياس؛ كما أن النظام لما ذكر صورا كثيرة في الشرع لا يجزي فيها القياس، لم يدل ذلك على المنع من القياس في الشرع.

(المسألة الثانية) في جواز القياس في اللغات قال القرافي: قوله: (إذا زالت الشدة زال اسم الخمر، فتكون الشدة علة هذا الاسم، فيتأتى القياس في النبيذ): قلنا: لا نزاع أن الحكم ينتفي لانتفاء مسماه، وانتفاء جزء مسماه. فإذا سمت العرب الحيوان الناطق بالإنسان، فزال الناطق، أو الحيوان، زال استحقاقه للفظ الإنسان لغة. وكذلك لفظ العشرة موضوع لمجموع الخمستين، فإذا زال بعض تلك الأفراد زال استحقاق اسم العشرة. فزوال الاسم لزوال مسماه أو جزئه لا خلاف فيه، إنما النزاع في إثبات استحقاق الاسم لمعنى آخر غير المنقول لغة لمعنى مشترك بينه وبين الوضع الذي نقل أهل اللغة الوضع له، وما ذكرتموه ليس من ذلك، فلا يد لكم على مطلوبكم. قوله: (لا يلزم من كون الشدة علة لذلك الاسم حصول ذلك الاسم أينما حصلت الشدة، إلا إذا عرفنا أن واضع الاسم هو الله تعالى): قلنا: ولو علمنا أن واضع الاسم هو الله- تعالى- لا يلزم ذلك، حتى يرد الأمر بالقياس من جهة الله- تعالى- فلولا الأمر بالقياس ورد في الشرع ما قسنا، ولو فهمنا التعليل. قوله: (ما بينا أن اللغات توقيفية): قلنا: المختار- هنالك- إنا هو التوقف، لا أنها توقيفية. سلمنا ذلك، لكن لم قلتم: إن الله- تعالى- إذا وضع اللفظ، لمعنى يلزم أن نقيس عليه حتى تتبينوا أن الله- تعالى- امر بالقياس؟.

قوله: (اعتمد أبو علي وغيره على أن كل فاعل مرفوع، وكل مفعول منصوب، وغير ذلك من وجوه الإعراب): قلنا: هذا لا حجة فيه؛ لأن العرب تضع الجزئيات كتسمية الحيوان المخصوص بالفرس، وهو كلية في نفسه، ولكنه جزئي بالقياس إلى الحيوان. وتارة تضع الكلية كقولهم: كل فاعل مرفوع، كما قالوا: كل جسم حساس اسمه حيوان، فليس هاهنا قياس ألبتة، بل كل فاعل يرفع بالوضع الأول لا بالقياس، كما أن كل [جسم] حساس يسمى حيوانا بالوضع الأول لا بالقياس، كما إذا قال الشارع: (اقتلوا كل مشرك)؛ فإنا نقتل ما نجده منهم بنص الشارع لا بالقياس، فالكليات اللغوية أو الشرعية لا يدخلها القياس، إنما يفيد إذا ألحقنا غير محل [الوضعي] به، ولم يبينوه. قوله: (أجمعوا على أن ما لم يسم فاعله، إنما رفع لكونه شبيها بالفاعل، والبصريون والكوفيون يعللون الأحكام الإعرابية). قلنا: هذا لا حجة فيه؛ لأن النحاة تعلل الوضع الأول، ويقولون: وضع هذا للمعنى الفلاني لأجل كذا. هذا مسلم، وبقيت مقدمة أخرى ما نقلتموها عنهم، وهو أنهم قالوا: إذا كان الوضع لأجل كذا، فقد جوزت العرب أن يلحق به ما في معناه، لا بمعنى الكليات المتقدم ذكرها، بل بمعنى القياس، وهذا موضع النزاع، وما نقلتموه، فلم يحصل المطلوب. وتعليل الوضع ليس كافيا في ذلك حتى قال بعض الفضلاء: العلل العقلية، والشرعية، والعادية، تتبعها أحكامها. والعلل اللغوية [بعكس] ذلك، تتبع أحكامها. فننظر أي شيء وضعوا عللناه، لا أنا نثبت وضعا لأجل علة، وهذا فرق عظيم بين الأبواب، فتأمله.

قوله: (الرابع): قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار {[الحشر: 2]). قلنا: هذه الآية، وإن سلمت الدلالة منها، فإنها إنما تفيد أن قياس اللغة شرعي، والبحث في هذه المسألة إنما وقع الأدباء في كونه لغويا من مقتضى اللغة، قبل بعثته- عليه السلام- فلا مدخل للنصوص الشرعية في هذا الباب، إنما تدخل النصوص في الأحكام الشرعية. قوله: (احتجوا بقوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31]): قلنا: قد تقدم أول الكتاب البحث في هذه الآية. قوله: (لو صرح أهل اللغة فقالوا: قيسوا لم يجز القياس، كما إذا قال: أعتقت غانما لسواده، ثم قال: قيسوا): قلنا: الفرق أنه إذا قال: (أعتقت غانما لسواده)، ثم قال: (قيسوا) لا يصح؛ لأن العتق حكم شرعي يستدعي علة شرعية منصوبة من قبل الشارع؛ فإنا لا نخرج الأحكام الشرعية إلا على العلل الشرعية، والأحكام اللغوية على العلل اللغوية، والأحكام العقلية على العلل العقلية، فلو أن لهذا القائل: (أعتقت غانما لسواده) أحكاما تخصه لا للشرع، ونص على علة، وقال: (قيسوا باعتبارها) قسنا، لكن المثال ليس كذلك فيه ترتيب للأحكام الشرعية على علة رجل من الناس، وهذا ليس مطابقا. قوله: (سميت الخمر خمرا لمخامرتها العقل، والمخامرة حاصلة في الأفيون، ولا يسمى خمرا): قلنا: إنما سميت [خمرا] للمخامرة بقيد سرور النفس فانبساطها كما قال [الوافر]:

ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللقاء والأفيون إنما هو ساتر فقط، فلم يوجد المعنى في الأفيون، بل الفرق حاصل بين المسكر، والمرقد، والمفسد للعقل مع بقاء الحواس من غير نشوة. وتمتاز الثلاثة على المسكر بثلاثة أحكام: عدم الحد، والطهارة، وحل اليسير منها. وفي المسكر: الحد، والتنجيس، وتحريم اليسير، فهذه فروق ظاهرة لغة وشرعا. قوله: (كتب النحو والتصريف والاشتقاق مملوءة من الأقيسة): قلنا: ليست تلك الأقيسة المتنازع عليها، إنما هو إدراج جزئي تحت كلي لغة، وإدراج الفرد تحت الكلية ليس من باب القياس في شيء، كما تقدم بيانه في الفاعل والمفعول، و (اقتلوا كل مشرك). قوله: (تلك لصور لا تدل على المنع من القياس، كما [أن ما] ذكره النظام من الصور- في الشرع- لم يمنع ذلك من القياس في الشرع): قلنا: بل الدلالة حاصلة في الصورتين بسبب أن هذه [الصورة] لو ترك فيها القياس لا لمرجح، لزم الترجيح من غير مرجح. وإن كان لمرجح لزم التعارض بينه وبين الدال على القياس، والتعارض على خلاف الأصل، فتعين ألا يكون القياس مشروعا في البابين نفيا للتعارض.

غير أن هذه المقدمة وجدناها في القياس الشرعي لإجماع الصحابة وغيره من النصوص مما يجب تقديمه عليها. وأما في القياس اللغوي فلم قلتم: إنه وجد ما تقدم عليها، ولو وجد ما تقدم عليها لم تنتف الدلالة؟ فإن ترك الدليل لمعارض لانتفى كونه دليلا، وإلا لما صدق قولنا: حصل التعارض بين الدليلين بخروج كل واحد منهما عن كونه دليلا. (فائدة) صورة المسألة المتنازع فيها لم يذكرها المصنف، ومثالها: تسمية النباش سارقا؛ لمشاركته السارق لغة في أخذ المال على وجه الخفية، واللائط زانيا لوجه في محل حيوان، وإن كان لفظ الزنا والسرقة إنما وضع لخصوص تلك المحال، ولذلك لم يسم الغاصب سارقا، ولا الخائن، ولا الجاحد لأمانته. (تنبيه) زاد سراج الدين فقال على قوله: (اللغات توقيفية): لقائل أن يقول: أنت اخترت التوقف، فبطل الجواب. وقال التبريزي: القول المرضي امتناع القياس في اللغات، ويدل عليه أمور: الأول: أن أسماء الأجناس [الصفات والمعاني] ألقاب [لها، كأسماء الأعلام للذوات، ومقصودها التعريف]، وعلتها الحاجة للتفاهم. الثاني: أن العلة المستنبطة لا تزيد على المنصوصة، ولو قال: سميت ابني هذا زيدا لسواده، أو لزيادته، لم يصر غيره من أولاده يسمى زيدا، وإن كان أسود، فكذلك في الأجناس. الثالث: أن القياس فرع صحة التعليل، وتعليل وضع الاسم لمسماه باطل لوجوه:

الأول: أن طريق إثبات العلة بالاستنباط: السبر، أو المناسبة، أو الدوران. ودليل الحصر أن العلة لابد أن تتميز عن غيرها، وإلا لم تكن أولى من غيرها، والتميز إما بالوجود، أو [بزائد] عليه. والأول إما في صورة معينة أو صور. فالوصف الزائد هو المناسبة. والتعين في الوجود في العين هو السبر، وفي الجنس هو الدوران. وإذا ثبت الحصر فنقول: لا سبيل إلى المناسبة؛ إذ لا مناسبة بين الألفاظ ومعانيها، وما يتخيل من إشعار الاشتقاق ينبني على ثبوت استحقاق المشتق منه لمعناه، وللكلام فيه كيف، والمعنى المعبر عنه بلفظ المخامرة لو عبر عنه بلفظ التغطية والساتر والسبر لم يثبت فيه؟، فنسبته إلى الخمر في الاقتضاء كنسبته إلى الغطاء، والساتر لم يمنع، والسبر والدوران ممتنعان؛ فإن خصوص محل التسمية لازم للقدر المشترك، فلم يتعين في الوجود، ولا يلزم عليه التعليل الشرعي لوجهين: أحدهما: هو أن الإذن في القياس من واضع الحكم معلوم، ومن ضرورته إلغاء خصوص المحال. الثاني: أن الحكم الشرعي معلوم المصالح والمفاسد، ولا أثر لخصوص المحال فيها، وأما الوضع اللغوي فهو معلول الحاجة للتعريف، والحاجة لتعريف المعنى لخصوصه، كالحاجة لتعريف المطلق بل أبلغ. الوجه الثاني: هو أن القدر المشترك من مقاصد الأوضاع منقوض أبدا، كمعنى المخامرة بالبنج، ومعنى المنع بالصخر والنحاس، ولا سبيل إلى دعوى المانع؛ إذ لا مانع للإطلاق من حيث اللغة إلا عدم الوضع، والوضع لا مانع له أصلا.

الوجه الثالث: أن ما يعلل به من القدر المشترك نعارضه بالحاجة إلى التعريف علما، وبصرف خصوص وجه الاشتقاق إلى تعيين ذلك اللفظ من بين سائر الألفاظ. المسلك الرابع: أن تعليل الأوضاع اللغوية يؤدي إلى التناقض وبيانه من وجوه: الأول: أن من شروط صحة التعليل تسليم حكم الأصل، وهو كون اللفظ موضوعا للمعتصر من العنب، كما أنه ليس موضوعا للموز. الثاني: أن القياس إنما يعلل حكم النص، والمعلوم بالنص إما كون اللفظ موضوعا للمعين، أو القدر المشترك. فإن كان الأول: فالقياس يناقضه. والثاني: غير محتاج إليه. والثالث: أنه يلزم منه صحة قياس الخمر على النبيذ في [تسميتها] نبيذا، فإنها أيضا نبيذ، وكذا قياس الخابية على القارورة، والقارورة على الخابية، لاشتراك كل [واحدة] منهما فيما وضع له. الوجه الرابع: أنه يؤدي إلى تعذر وضع اسم الأعيان؛ لأنه مهما قال: وضعت هذا الاسم لهذا المسمى عللته بعموم وجه الاشتقاق، وجعلته عاما في القدر المشترك إلا أن نقول: هو لهذا لا غير، ومعلوم أن قوله: لا لغيره تأكيد، فدل على استقلال قوله: هو لهذا بأصل المعنى، وهو عام في كل وضع. المسلك الخامس: أنه لو صح القياس في طرف المسمى لصح في طرف الاسم؛ نظرا إلى عين التعليل؛ لأنه إذا ثبت أن المعتصر من العنب إنما يسمى خمرا؛ لأنه يخامر العقل، فكما أن مسمى النبيذ يشارك مسمى الخمر في هذا المعنى، فلفظ الخمار [والخمير] يشارك لفظ الخمر في هذا الإشعار، فإن

صح تسميته النبيذ خمرا للمشاركة في المعنى صحت تسمية الخمر خمارا أو خميرا للمشاركة في المعنى، ويؤيده القياس الشرعي؛ فإنه لما كان صحيحا اعتبر في طرف الحكم كما اعتبر في طرف المحكوم عليه، فكما نقيس مخرج البول والثقبة المنفتحة دون المعدة على مخرج الغائط في جواز الاستنجاء بالحجر؛ للمشاركة في المعنى، نقيس الخرق والخشب على الحجر في جواز الاستنجاء؛ للمشاركة في المعنى، بل بطريق الأولى، فإن احتمال التفاوت بين الأعيان في المقاصد الشرعية قائم، واحتمال التفاوت في الإشعار ومقصود التعريف غير قائم، بل نقول: الخمار يخمر الرأس، والغطاء يخمر الكوز، ولا يسمى خمرا. فلئن قلت: خصوص المغطى داخل في المسمى، وهو كونه عقليا. قلنا: وكذلك خصوص [المغطى] داخل في المسمى، وهو كونه معتصرا من العنب، ولا فصل بينهما. المسلك السادس: هو أن الوضع من التصرفات العينية، فلا يقبل النقل بالتعليل كرقوم الكتابة، وسكة الدينار، والتنصيص بالذكر؛ فإذا رأينا العاقل كتب رقوما، أو ضرب سكة، أو ذكر شخصا، وعرفنا مشاركة غيره له في علة الكتابة، والسكة، والذكر، فلا يلزم إلا وجوب الكتابة والذكر؛ لوجود الحاجة إليه، أما نفس الكتابة والذكر فلا، ولهذا في القياس الشرعي لا نقول: إن السفر جل لما كان في معنى البر فقد ذكره- عليه السلام- مع البر، وإنما يكون أراد تحريم بيعه متفاضلا كما أراد تحريم بيع البر، غير أن إثبات الحكم على وفق إرادة الشارع شرع، وإن لم ينطق [به]، فليفهم هذه الدقيقة. المسلك السابع: أن الحكم كما لابد له من علة؛ فلابد له من فائدة، وحكمة الوضع التعريف، فإذا وضع اللفظ لشيء، فلابد أن يفيد الإطلاق تعريفه، ومهما قسنا معنى آخر عليه في التسمية بطلت إفادة اللفظ تعريفه عند

الإطلاق؛ لأنه ضار مشتركا، أو للقدر المشترك، وهذا فارق آخر بين القياس في الشرع، وبين القياس في اللغة؛ فإن الزجر المقصود بالقصاص في المحدد لا يبطل بشرع القصاص في المثقل وأمثاله، وقد حصل الجواب بما ذكرنا عن حجتهم الأولى. وأما الثانية والثالثة فنقول: هما يرجعان إلى التتبع، ويصرف الوضع بالاستقراء من مجاري الاستعمال، واستنباط معاني عن محل النص للفهم لا للتعدية، ويدل عليه أن هذه الألقاب- أعني: الرفع، والنصب والجر- اصطلاحات حادثة من المصنفين، فلا يمكن إسنادها إلى نطق العرب، بل ربما لو سمعوا هذه الألفاظ لم يدركوا معناها المقصود في محاوراتنا، فإذا هو تعبير عما فهموه من استعمالهم، وإخبار على وفق العلم الحاصل من الاستقراء. ومن هذا القبيل قولهم: إنما رفع ما لم يسم فاعله لاستناد الفعل إليه تشبيها بالفاعل؛ فإنه حكاية عن الواقع نصا، وإنما يكون قياسا أن لو جهلوا حكمه أولا، ثم ألحقوه بالفاعل للاشتراك في هذا المعنى، أما إذا كان رفعه منصوصا عليه من أهل الشأن، فالتنبيه على المعنى تصحيح لم استنبطوه من المعنى ببيان الاطراد. وأما تعميم الحكم في بيان رفع الفاعل، فذلك لأنه لما عسر على المصنفين تفصيل كل فاعل [ضبطوا ما خرج عن القاعدة، وأحالوا ما عداه على القاعدة الكلية المفهومة بالاستعمال المنطوق به، فقالوا: الفاعل] بأصله يستحق الرفع إلا إذا امتنع لمانع وذكروه؟. ثم لو سلمنا أن ذلك كله قياس، ولكنه في الإعراب، فلم قالوا: إنه يلزم منه صحة القياس في نفس اللغة؟. والفرق ما مر من الفرق بينه وبين القياس الشرعي، وهو أن رفع ما لم يسم فاعله لا يرفع كون الفاعل مرفوعا. وتسمية كل [ما يخامر العقل] خمرا ينفي كون المعتصر من العنب يسمى خمرا.

المسألة الثالثة قال الرازي: المشهور أنه لا يجوز إجراء القياس في الأسباب. والدليل عليه: أنا إذا قسنا اللواط مثلا على الزنا في كونه موجبا للحد: فإما أن نقول: إن كون الزنا موجبا للحد؛ لأجل وصف مشترك بينه وبين اللواط، وإما ألا نقول ذلك: فإن كان الأول: كان الموجب للحد هو ذلك المشترك؛ وحينئذ: يخرج الزنا واللواط عن كونهما موجبين للحد؛ لأن الحكم لما أسند إلى القدر المشترك، استحال مع ذلك إسناده إلى خصوصية كل واحد منهما؛ فإذن شرط القياس بقاء حكم الأصل، والقياس في الأسباب ينافي بقاء حكم الأصل؛ بخلاف القياس في الأحكام؛ فإن ثبوت الحكم في الأصل لا ينافي كونه معللا بالقدر المشترك بينه وبين الفرع، وأما إن قيل: كون الزنا موجبا للحد ليس لأجل وصف مشترك بينه وبين اللواط، استحال قياس اللواط عليه؛ لأنه لابد في القياس من الجامع. فإن قلت: (الجامع بين الوصفين لا يكون له تأثير في الحكم، بل تأثيره في علية الوصفين، وأما الحكم، فإنما يحصل من الوصفين): قلت: هذا باطل؛ لأن ما صلح لعلية العلة، كان صالحا لعلية الحكم؛ فلا حاجة حينئذ إلى الواسطة.

المسألة الثالثة القياس في الأسباب قال القرافي: قوله: (يكون الموجب للحد هو ذلك المشترك لا الزنا): قلنا: المشترك بين الزنا واللواط لا علة للحد، وسببيات الأسباب غير مسببات الأسباب. كما نقول: اختلاط الأنساب سبب كون الزنا سببا للحد. وقد اشترك الزنا واللواط في الإيلاج في الفرج المحرم الموجب لفساد النسب، إما باختلاط، أو بحسم مادة إيجاده. وهذا المعنى لا يمكن أن يكون علة للحد؛ لأن من جمع صغار الصبيان سنين طويلة حتى اختلطوا والتبسوا على آبائهم، فإنه لا يجب عليهم الحد أو من قبل النساء حتى تعذر النسل، أو سقاهن دواء يوجب بطلان التوليد، لا يقول أحد بوجوب رجمه، وبهذا يظهر أن ما يصلح علة العلة قد لا يصلح علة للحكم. (سؤال) قال النقشواني: علة العلية هي الحكمة، والوصف ضابطها، فإذا صلحت علة الحكم، فلم لا تصلح- أيضا- علة العلة؟؛ فإنه لا تنافي بين تعليل أحكام بعلة واحدة، ويضاف الحكم إليها إضافة الحكم لمؤثره، والوصف إضافة الحكم لضابطه ومعرفه، بل الواقع في جميع الأحكام هو ذلك، وعدم انضباط بعض الحكم يقتضي منع القياس في تلك الصورة، والمنع من القياس في بعض الصور لا يقتضي المنع مطلقا كما نقول في الصورة التعبدية في الفروع، بل نقول: قد يكون القياس في السبب بطريق الأولى؛ فإنا إذا عللنا الزنا باختلاط الأنساب، فإبطالها أولى بالزجر؛ فإن وضع الماء في غير محل التوليد يبطل النسب بالكلية.

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: احتج المخالف بأن السببية حكم شرعي- كما سبق أول الكتاب، فجاز تعليله كسائر الأحكام. وأجابوا عن الإشكال بأن ذلك المعنى إنما يناسب السببية لا الحكم، فلا يمكن إضافة الحكم إليه. والجواب هو أن الفرق ما ذكرناه من لزوم رفع حكم الأصل وإلغاء خصوصه، وأن المعنى وإن لم يناسب الحكم لم يمكن تعليل السببية به. قلت: هذا ممنوع، بل لا يناسب الحكم، ويناسب السببية كما نقول: مصالح العبد في تخليص الاكتساب، وتكميل العبادات، والمناصب سبب مشروعية العتق، والعتق سبب الإرث، ومصالح العبد لا تناسب أن يؤخذ ماله عنه بعد موته، وخوف الزنا سبب الزواج، والزواج سبب وجوب النفقة، وتغليظ الجريمة في الحد بالرجم، مع أن سد ذريعة الزنا لا يناسب الرجم، والنفقة، والسفه سبب الحجر، والحجر سبب صون المال، والسفه لا يناسب صون المال، بل إفساده، والقتل سبب التكفير بالعتق، والعتق سبب الإرث، والقتل لا يناسب الإرث، والكفر سبب الرق، والرق سبب التخفيف بسقوط الجمعات والجهاد والحج، مع أن الكفر لا يناسب ذلك بل التغليظ، وكم سبب لا يناسب مسبب سببه، فأمكن ذلك في الحكم، ونحن لم ندع وقوع القياس في كل صورة، بل إن وجدنا شروطه حاصلة قسنا، وإلا فلا، وللخصم منع ذلك بالكلية، فكان الحق معنا. (فائدة) قال سيف الدين: قال أكثر أصحاب الشافعي: يجوز القياس في

الأسباب، ومنع من ذلك أبو زيد وأصحاب أبي حنيفة، وهو المختار في الأسباب والشروط، فنص على الشروط في مسألة أخرى بعد هذه في (الإحكام) ولم ينص عليه في (المحصول). قال: لأن الجامع بين الأسباب هي الحكمة، وهي إن كانت منضبطة ظاهرة جلية، وفرعنا على جواز التعليل في الأحكام فالحكمة استقلت بإثبات الحكم، ولا حاجة إلى الوصف. وإن فرعنا على المنع امتنع تعليل الحكم بها. وأما إن كانت خفية مضطربة، فإن كانت مضبوطة بضابط، فذلك الضابط هو السبب، ويسقط خصوص كل واحد منهما، فيمتنع القياس بين السببين، وإن لم تكن مضبوطة امتنع الجمع بها إجماعا؛ لاحتمال التفاوت بين الأصل والفرع. قال: فإن قيل: احتمال التساوي أرجح؛ لأنها إما مساوية أو راجحة، أو مرجوحة، وعلى التقديرين الأولين: يكون التساوي حاصلا وحده، أو مع زيادة، واحتمالا من احتمالين أرجح من احتمال واحد. قلنا: إن كان هذا القدر كافيا، [فيجمع] بين الأصل والفرع في الحكمين به، ولا حاجة إلى السبب، وإلا فهو ساقط. قلت: وقد تقدم جواب هذا الكلام من كلام النقشواني، ومن كلامي. * * *

المسألة الرابعة الحكم الذي طلب إثباته بالقياس: إما النفي الأصلي، أو الحكم الثبوتي المعلوم، أو المظنون: فلنتكلم في هذه الثلاثة، فنقول: افي أن النفي الأصلي، هل يمكن التوصل إليه بالقياس أم لا؟ بعد اتفاقهم على أن استصحاب حكم العقل كاف فيه. والحق أنه يستعمل فيه قياس الدلالة، لا قياس العلة. أما قياس الدلالة: فهو: أن يستدل بعدم آثار الشيء وعدم خواصه على عدمه، وأما تعذر قياس العلة، فلأن الانتفاء الأصلي حاصل قبل الشرع؛ فلا يجوز تعليله بوصف يوجد بعد ذلك. ولقائل أن يقول: علة الشرع لا معنى لها إلا المعرف، وتأخر الدليل عن المدلول جائز. وأعلم أن هذا الكلام يختص بالعدم، فأما الإعدام، فإنه حكم شرعي يجري فيه القياس. وأما الذي طريقه العلم فقد اختلفوا في أنه، هل يجوز استعمال القياس فيه؟ وعندي: أن هذا الخلاف لا ينبغي أن يقع في الجواز الشرعي؛ فإنه لو أمكن تحصيل اليقين بعلة الحكم، ثم تحصيلا اليقين بأن تلك العلة حاصلة في هذه الصورة- لحصل العلم اليقيني بأن حكم الفرع مثل حكم الأصل، بل البحث ينبغي أن يقع في أنه، هل يمكن تحصيل هذين اليقينين في الأحكام الشرعية، أم لا؟ وأما الذي طريقه الظن: فلا نزاع في جواز استعمال القياس فيه.

المسألة الرابعة (القياس في العدم) قال القرافي: قوله: (الإعدام يجري فيه [القياس]): تقريره: أن الإعدام هو تحصيل العدم بعد الوجود، والسعي في إذهاب الوجود إنما يكون لمفسدة فيه، وهو قياس العلة، أو لذهاب [خاصية]، وهو قياس الدلالة. (سؤال) قال النقشواني: قوله: (اتفقوا على أن الاستصحاب كاف في النفي الأصلي) يناقضه قوله أول الكتاب: (إن ما لم يرد الشرع فيه بشيء هل الحكم فيه الحظر أو الإباحة أو التوقف)؟ فإن أراد بالنفي الأصلي: الإباحة أو الحظر، فلا اتفاق فيهما، ولا على أن الاستصحاب كاف، وكذلك التوقف لا يكفي فيه الاستصحاب؛ ولأن التوقف ليس نفيا أصليا. قال: فلئن قال: تلك المسألة قبل ورود االشرائع، وهذه بعدها. قال: قلت: لا تفاوت بينهما في المعنى. قلت: جوابه أن القول بكفاية الاستصحاب لا يأباه ما ذكره من المذاهب؛ فإن القائل بتلك المذاهب لو قال بالبراءة الكلية من الأحكام كما يقوله أكثر الفقهاء- كفاه الاستصحاب، وإنما لم يقل به لمعارض عنده أداه للحظر أو غيره، وترك الدليل [المعارض] لا يمنع كونه كافيا في تحصيل مقصود من المقاصد؛ لأنا لا نعني بالكفاية إلا أنه بحيث إذا جرد النظر إليه كان كافيا في ذلك المقصود، ولو كان الدليل إنما يكون كافيا إذا لم يكن له معارض لم

يكن النص كافيا؛ لأنه يعارضه معارض، بل الكفاية معناها ما ذكرناه، فلا يضر الخلاف المذكور. (سؤال) قال النقشواني: قوله: (يدخله قياس الدلالة، وهو الاستدلال بعدم آثار الشيء عليه، وعدم [خواصه على عدمه]) لا يتجه؛ لأن هذا ليس قياسا عند الفقهاء، ولا يندرج في حدود القياس. وتقريره: أن كون الشيء أثرا للشيء وخاصة، إن علم بدليل شرعي بنص أو قياس كانت هذه الصورة مما ورد الشرع فيها بحكمها. وإن لم يعلم بأدلة الشرع، فإما ألا يعلم أصلا، فيتعذر فيه قياس الدلالة، فإن علم بدليل عقلي فالأحكام الشرعية لا تثبت بالأدلة العقلية عند المصنف. وقوله: (علة [الشرع] معرفة): قلنا: قد تقد أن الوصف لا يكون معرفا للحكم لا بواسطة كونه معرفا للمؤثر والداعي. * * *

المسألة الخامسة قال الرازي: اختلفوا في أنه، هل يمكن إثبات أصول العبادات بالقياس، أم لا؟ فقال الجبائي والكرخي: لا يجوز؛ وبنى الكرخي عليه أنه لا يجوز إثبات الصلاة بإيماء الحاجب؛ بالقياس. واعلم: أن هذا الخلاف يمكن حمله على وجهين: الأول: أن يقال: (الصلاة بإيماء الحاجب، لو كانت مشروعة، لوجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبينها بيانا شافيا، وينقله أهل التواتر إلينا؛ حتى يصر ذلك معلوما لنا قطعا، فلما لم يكن كذلك، علمنا أن القول بها باطل). والثاني: أن يقال: (لا ندعي أنها لو كانت مشروعة، لحصل العلم بها يقينا، ولكنا مع ذلك نمنع من استعمال القياس فيه). أما الأول: فهو باطل بالوتر؛ فإنه واجب عندهم، مع أنه لم يعلم بوجوبه قطعا. فإن قلت: (إذا جوزت في ذلك ألا يبلغ مبلغ التواتر؛ فلعله- عليه الصلاة والسلام- أوجب صوم شوال، ولم ينقل ذلك بالتواتر. قلت: المعتمد في نفيه الإجماع. وأما الثاني: فتحكم محض؛ لأنه إذا جاز الاكتفاء فيه بالظن، فلم لا يكتفي بالقياس؟ ثم إنا نستدل على جوازه بعموم قوله تعالى: {فاعتبروا} [الحشر: 2] أو بما أنه يفيد ظن الضرر؛ فيكون العمل به واجبا.

المسألة الخامسة اختلفوا هل يمكن إثبات أصول العبادات بالقياس؟ (سؤال) قال القرافي: قال النقشواني: لعل الكرخي والجبائي لا يقولون بوجوب المؤثر، أو يقولان، لكنه كان النقل عندهما فيه متواترا، ثم خفي في زماننا أو عندهما في زمانهما؛ فإن التواتر قد يختص ببعض الناس. (سؤال) قال النقشواني: قوله: (المعتمد فيه الإجماع) فيه نظر؛ لأنه فرق بين ما لم يقل به أحد من أهل الإجماع، وبين ما قال به أهل الإجماع. فالحجة في الثاني، دون الأول، ولم يوجد إلا الأول. قال: فإن قلت: بل ورد قوله عليه السلام: (لا إلا أن تطوع). وانعقد الإجماع على وفقه فقد وجد الأول. قال: قلنا: إذا انعقد الإجماع على هذه الصورة امتنع القياس على خلافه، وهو مقصود الخصم. (سؤال) قال النقشواني: قوله: (إذا جاز الاكتفاء في هذا بالظن، فيجوز القياس) للخصم أن يمنع أن أصول العبادات تثبت بأخبار الآحاد.

(سؤال) قال النقشواني: تمثيله المسألة بصلاة الإيماء، لا يتجه؛ لأنها ليست عبادة أخرى، بل الصلاة الأصلية إذا عجز عنها كهذه الحالة يختلف العلماء، هل يكتفي منه بهذا؛ لقوله عليه السلام: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) أو سقط بالكلية؛ لقصوره عن المأمورية؟ كما اختلفوا في من لم يبق معه إلا القدرة على النية، هل يأتي بها أم لا؟ فليس هذا المثال مطابقا. * * *

المسألة السادسة قال الرازي: مذهب الشافعي- رضي الله عنه-: أنه يجوز إثبات التقديرات، والكفارات، والحدود، والرخص بالقياس. وقال أبو حنيفة وأصحابه- رحمهم الله-: إنه لا يجوز. وحاصل الخلاف: أنه، هل في الشريعة جملة من المسائل يعلم أنه لا يجوز استعمال القياس فيها، أوليس كذلك، بل يجب البحث عن كل مسألة أنه، هل يجري القياس فيها أم لا؟. لنا: التمسك بعموم قوله تعالى: {فاعتبروا} [الحشر: 2]- وبإطلاق قول معاذ: (أجتهد)؛ مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صوبه في إطلاقه- وبأنه يجب العمل بالصواب المظنون. فإن ادعوا أنه لا يمكننا وجدان العلة في هذه المسائل؛ فلذلك إنما يظهر بالبحث عن كل واحدة من هذه المسائل، فإن وجدنا العلة فيها، صح القياس، وإلا فلا، ولكن هذا المعنى غير مختص بهذه المسائل، بل كل مسألة لا نجد العلة فيها، تعذر علينا القياس. واعلم: أن الشافعي- رضي الله عنه- ذكر مناقضاتهم في هذا الباب، فقال: (أما (الحدود): فقد كثرت أقيستهم فيها؛ حتى تعدوها على الاستحسان؛ فإنهم زعموا في شهود الزوايا: أن المشهود عليه يجب رجمه بالاستحسان؛ مع أنه على خلاف العقل، فلأن يعمل به وافق العقل كان أولى، وأما

(الكفارات): فقد قاسوا الإفطار بالأكل، على الإفطار بالوقاع، وقاسوا قتل الصيد ناسيا، على قتله عمدا، مع تقييد النص بالعمد في قوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95]. فإن قلت: (ليس هذا بقياس؛ وإنما هو استدلال على موضع الحكم بحذف الفوارق الملغاة): قلت: إنكم لما لم تبينوا: أن الحكم في الأصل يجب أن يكون معللا، وأن العلة: إما الذي به الاشتراك بين الأصل والفرع، أو الذي به الامتياز، وباطل ألا يكون معللا، وباطل أن يكون معللا بما فيه الامتياز؛ فوجب التعليل بما به الاشتراك؛ ويلزم من حصول ذلك المعنى في الفرع حصول الحكم فيه، وهذا نفس القياس، واستخراج العلة بطريق السبر والتقسيم. وأما (المقدرات): فقد قاسوا فيها؛ حتى إنهم ذهبوا إلى تقديراتهم في (الدلو والبئر). وأما (الرخص): فقد قاسوا فيها، وبالغوا؛ فإن الاقتصار على الأحجار في الاستنجاء من أظهر الرخص، ثم حكموا بذلك في كل النجاسات نادرة كانت أو معتادة؛ وانتهوا فيها إلى نفي أيجاب استعمال الأحجار. وقالوا أيضا: العاصي بسفره يترخص، فأثبتوا الرخصة بالقياس، مع أن القياس ينفيها؛ لأن الرخصة إعانة، والمعصية لا تناسب الإعانة). احتج الخصم بقوله- عليه الصلاة والسلام-: (ادرءوا الحدود بالشبهات) والقياس لا يفيد؛ فتحصل الشبهة. وأما (المقدرات): فهي كالنصب في الزكوات، والمواقيت في الصلوات، وقالوا: العقول لا تهتدي إليها.

وأما "الرخص": فقالوا: إنها منح من الله تعالى؛ فلا يعدل بها عن مواضعها. وأما "الكفارات": فإنها على خلاف الأصل؛ لكونها منفية بالنص النافي للضرر. والجواب عنها: أنها تشكل بالمسائل التي ذكرها الشافعي- رضي الله عنه- ثم نقول: هذه الأدلة خصت بخبر الواحد؛ فإنه يجوز إثبات هذه الأشياء بخبر الواحد، مع أنه لا يفيد العلم، وما لأجله صار خبر الواحد مخصصا لها- قائم في القياس الخاص- فوجب تخصيصها بالقياس. المسألة السابعة قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي- رحمه الله-: ما طريقة العادة والخلقة كأقل الحيض وأكثره، وأقل النفاس وأكثره- لا يجوز إثباته بالقياس؛ لأن أسبابها غير معلومة، لا قطعا، ولا ظاهرا فوجب؛ الرجوع فيها إلى قول الصادق. المسألة السادسة في القياس في المقدرات قال القرافي: قوله: "لنا قوله تعالى: {فاعتبروا} [الحشر: 2]، وقول معاذ: "أجتهد رأيي": قلنا: قد تقدم أنهما مطلقان لا دلالة لهما على خصوصيات محل النزاع. قوله: "يجب العمل بالضرر المظنون": قلنا: لا نسلم أن مطلق الظن يعمل به، بل مراتب خاصة، فلم قلتم: إن هذا منها؟.

قوله: "ليس هذا بقياس، بل استدلال على موضع الحكم بخلاف الفوارق": قلنا: هذا فيه خلاف هل هو قياس أم لا؟ وعامة الحنفية على أنه ليس بقياس. قوله: "ما بينتم أن الحكم في الأصل يجب أن يكون معللا، وهو بالفارق، وأن العلة إما الذي به الامتياز، أو المشترك، والأول باطل": قلنا: لا تحتاجون إلى ذكر التعليل أصلا، بل تقولون: نحن لا نعلم علة هذا الحكم أصلا، ونجزم بنفي الفارق، كما نجزم بالتسوية بين الأزمان، وأنه لا فارق بينهما، وأن الله- تعالى- إنما فضل بعضها على بعض بإرادته لذلك، لا لمعنى في المفضل. قوله: "ذهبوا إلى التقدير في الدلو والبئر": تقريره: أنهم فرقوا في سقوط الدواب في الآبار فتموت، فقال في الدجاجة: تنزح البئر عددا من الدلاء، وفي الفأرة أقل من ذلك، وجعلوا لكل حيوان [مقدارا] من الدلاء، وهو مجرم تحكيم بغير نص في ذلك. قوله: "احتجوا بقوله عليه السلام: "ادرءوا الحدود بالشبهات":

قلنا: الحديث ليس بصحيح. سلمنا: صحته لكن [الشبه مأخوذ] من الاشتباه، وهو تعارض موجبين: احدهما: يقتضي وجوب الحد، والآخر يقتضي عدمه، كما نقول في الأمة المشتركة: نصيب الواطئ يقتضي سقوط الحد، ونصيب الشريك يقتضي الحد، فاشتبه الأمران، فسقط الحد. وكذلك واطئ الأجنبية معتقدا أنها مباحة له، اعتقاده يقتضي عدم الحد، وأجنبيتها تقتضي الحد، فاشتبه الأمران. ونكاح المتعة فيه دليلان: أحدهما: يقتضي ثبوت الحد، والآخر يقتضي عدمه. وهذه الثلاثة هي أنواع الشبهات. إما في الواطئ كاعتقاده الحل. أو في الموطوءة [كالمشتركة]، أو الطريق، وهو اختلاف العلماء. أما القياس إذا لم يفد القطع فالراجع منه موجب، والمرجوح ملغي في جميع مراتب الظنون، فلم يتعارض موجبان حتى تحصل الشبهة.

قوله: "العقل لا يهتدي لمقادير نصب الزكاة": قلنا: محل النزاع إنما هو إذا اهتدى. قوله: "الرخص منح من الله- تعالى- فلا يدخلها القياس": قلنا: هذه مصادرة، بل إذا فهمنا أن الله- تعالى- منح عباده منحة لأجل معنى مشترك بينهما وبين صورة أخرى، جعلنا تلك الصورة الأخرى منحة من الله- تعالى- بالقياس تكثيرا لمنح الله- تعالى- وحفظا لحكمة الوصف عن الضياع. قوله: "الكفارة على خلاف الأصل؛ لأنها ضرر": قلنا: إذا كانت المصلحة تقتضي مخالفة الأصل في صورة، ووجدنا صورة أخرى مساوية لها في تلك المصلحة، خالفنا الأصل- أيضا- تكثيرا لتلك المصلحة الراجحة في الأصل، وما قدمه الله- تعالى- على غيره في صورة كان الأصل تقديمه عليه مطلقا. "تنبيه" زاد التبريزي فقال: [قال] الحنفية: المشهود عليه بالزنا في زوايا البيت يرجم استحسانا. فزاد ذكر الزوايا على "المحصول". وصورتها: أنه شهد أربعة على أنه زنا بفلانة, غير أن كل شاهد عين زاوية من زوايا البيت، فقالت: الأحسن رجمه؛ لأنه قد اتفق على أصل الزنا، ويجوز أنه كان يدور بها في أركان البيت، فرؤى في الزوايا الأربع. وقال في الجواب [عن] مداركهم: "إن على مذهب التصويب لا يتصور الخطأ في القياس".

يريد أن كل مجتهد مصيب، فيقطع بالصواب في القياس. قال: وأما المقدرات، فلا نقيس في نفس التقدير، بل في نقل المقدر بسببه، وكذلك الرخص والكفارات. "فائدة" قال إمام الحرمين "في البرهان": قال الحنفية بالاستحسان في مسألة شهود الزوايا: إن المشهود عليه يرجم بالاستحسان: قلت: وهذه العبارة تقتضي أن عبارة "المحصول" تصفحت على النساخ، وأصلها "الزوايا"، فكتبوا "الزنا"؛ استبعادا للفظ "الزوايا" عن الصحة، لاسيما و "البرهان" هو أحد الأصول التي ألف منها "المحصول"، وكشفت عدة نسخ فلم أجد إلا قوله: "الزنا"، بغير واو وألف بعدها. ***

المسألة الثامنة قال الرازي: الأمور التي لا يتعلق بها عمل لا يجوز إثباتها بالقياس؛ كقران النبي - صلى الله عليه وسلم - وإفراده، ودخوله مكة صلحا أو عنوة؛ فإن مثل هذه الأمور تطلب لتعرف، لا ليعمل بها؛ فلا يجوز الاكتفاء فيها بالظن. المسألة التاسعة القياس إذا ورد بخلاف النص: فالنص إما أن يكون متواترا، أو آحادا: فإن كان متواترا: فالقياس إن نسخه، كان مردودا، وإن خصصه، فقد ذكرنا الخلاف فيه في باب العموم والخصوص، وإن كان آحادا: فهو ما إذا ورد خبر الواحد على خلاف القياس، وقد شرحنا الحال فيه في باب الخبر. المسألة العاشرة يجوز التعبد بالنصوص في كل الشرع، فإنه يمكن أن ينص الله تعالى على أحكام الأفعال على الجملة، ويدخل تفصيلها فيها؛ كما إذا نص على حرمة الربا في كل مطعوم؛ فيدخل فيه كل مطعوم. وأما التعبد بالقياس في الكل، فمحال؛ لأن القياس لا يصح إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل، لكن أحكام الأصول شرعية؛ لأن العقل لا يدل إلا على البراءة الأصلية، فما عداها لا يثبت إلا بالشرع، فلو كانت تلك الأحكام مثبتة بالقياس، لزوم الدور؛ وهو محال.

المسألة الثامنة الأمور التي لا يتعلق بها عمل لا تثبت بالقياس، كقران النبي- صلى الله عليه وسلم- وإفراده، ودخوله "مكة" صلحا، أو عنوة: قال القرافي: قلنا: هذه يتعلق بها عمل؛ لأن الذي فعله- عليه السلام- يكون أفضل، فيكون القران مثلا أفضل، والعنوة يتعلق بها وقف الأراضي عند مالك، وجماعة من العلماء، وهدم الكنائس، وغير ذلك من الأحكام، بل يتعذر القياس في هذه لمعنى آخر، وهو أنها تثبت بنوع من النظر المصلحي غير القياسي، اقتضته تلك الحالة الحاضرة، فيتعذر القياس لذلك. ثم قوله: "لا يجوز الاكتفاء فيها بالظن"- مشكل، بل يجوز إثباتها بخبر الواحد، وكذلك إثبات أمثالها؛ لأنها قصص وتواريخ. المسألة العاشرة لا يجوز أن تثبت الشريعة بالقياس: قال سيف الدين في "الإحكام": اختلفوا في جواز إجراء القياس في جميع الأحكام الشرعية، فأثبته بعض الشذوذ [مصيرا منه إلى] أن جميع الأحكام جنس واحد يدخل تحت حد واحد، وما جاز على أحد المثلين جاز على الآخر. قال: وجوابه من وجهين: قال: وجوابه من وجهين: أحدهما: أن الجائز على أفراد النوع قد يمتنع في بعضها [المعارض] من

خارج، كما امتنع على بعض الآدمين المعصية لدلالة الدليل على العصمة، كما في هذه الأمة دون غيرها من الأمم، وهاهنا دل الدليل من خارج، وهو لزوم أصل يقاس عليه، فلو ثبت كل أصل بأصل لزم التسلسل. وثانيهما: أن من الأحكام ما لا يمكن تعليله ألبتة؛ فيتعذر القياس. "خاتمة لهذا الباب" قال سيف الدين: القياس ينقسم إلى: فرض عين، وكفاية، ومندوب: فالأول: من نزلت به نازلة من القضاة والمجتهدين، ولا يقوم غيره فيهما مقامة، وضاق الوقت. والثاني: أن يكون كل مجتهد فيها يقوم مقام الآخر. والثالث: ما يجوز حدوثه من الوقائع، ولم يحدث. وهذا الكلام بعينه في "المعتمد" لأبي الحسين، وكأن سيف الدين نقله منه. قال سيف الدين: وهل يوسف القياس بأنه دين لله تعالى؟. فوصفه به القاضي عبد الجبار. ومنه أبو الهذيل من ذلك مطلقا. وفصل الجبائي بين الواجب، فوصفه بالدين، وبين المندوب، فلا يوصف. قال: والمختار أنه إن عنى بالدين ما هو حكم [مقصود] أصالة، كوجوب الفعل وحرمته، ونحوه، فالقياس ليس من الدين؛ لأنه مقصود لغيره لا لنفسه. وإن عنى بالدين ما تعبد به كان مقصودا في نفسه أم لا؟، فهو من الدين، فالمسألة لفظية.

الباب الثاني في شرائط الأصل

الباب الثاني في شرائط الأصل قال الرازي: أعلم: أن الحكم في المقيس عليه: إما أن يكون على وفق قياس الأصول، أو على خلاف قياس الأصول، فلنذكر حكم كل واحد من هذين القسمين، ثم نذكر ما ظن أنه شرط في هذا الباب، مع أنه ليس بشرط. القسم الأول في شرائط الأصل، إذا كان حكمه على وفق قياس الأصول، وهي ستة: الأول: ثبوت حكم الأصل؛ لأن القياس عبارة: عن تشبيه الفرع بالأصل في الحكم، وذلك لا يمكن إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل. الثاني: أن يكون الطريق إلى معرفة ذلك الحكم سمعيا، وهو ظاهر على مذهبنا: أن جميع الأحكام لا تعرف إلا بالسمع، أما على مذهب من يثبت هذه الأحكام عقلا، فقد احتجوا عليه؛ بأنه لو كان ذلك الطريق عقليا، لكانت معرفة ثبوت الحكم في الفرع عقلية، فكان القياس عقليا، لا سمعيا. وهذا ضعيف؛ لأن ثبوت الحكم في الفرع يتوقف على ثبوت الحكم في الأصل، وعلى كون ذلك الحكم معللا بالوصف الفلاني، وعلى حصول ذلك الوصف في الفرع، فبتقدير أن تكون معرفة الأول عقلية: يحتمل أن تكون المعرفتان الباقيتان سميعتين؛ وحينئذ: لا يمكن معرفة حكم الفرع إلا بمقدمات سمعية، والمبني على السمعي سمعي فيكون ثبوت الحكم في الفرع سمعيا.

الثالث: ألا يكون طريق ثبوت الحكم في الأصل هو القياس؛ لأن العلة التي يلحق بها الأصل القريب بالأصل البعيد: إما أن تكون هي التي بها يلحق الفرع بالأصل القريب، أو غيرها: فإن كان الأول: أمكن رد الفرع إلى الأصل البعيد، فيكون دخول الأصل القريب لغوا. وإن كان الثاني: لزم تعليل حكم الأصل القريب بعلتين؛ وهو محال. وأما ثانيا: فلأنه لا يمكننا إثبات الحكم في الأصل القريب إلا بأن يتوصل إليه بالعلة الموجودة في الأصل البعيد، ومتى توصلنا إلى ثبوته بتلك العلة، امتنع تعليله بالعلة الموجودة في الفرع؛ لأن تلك العلة إنما عرفت بعد أن عرف تعليل الحكم بعلة أخرى، ومتى عرف ذلك، كانت العلة الثانية عديمة الأثر؛ فيكون التعليل بها ممتنعا. الرابع: ألا يكون الدليل الدال على حكم الأصل دالا بعينه على حكم الفرع، وإلا لم يكن جعل أحدهما أصلا، والآخر فرعا- أولى من العكس. الخامس: لابد وأن يظهر كون ذلك الأصل معللا بوصف معتبر؛ لأن رد الفرع إليه لا يصح إلا بهذه الواسطة. السادس: قالوا: يجب ألا يكون حكم الأصل متأخرا عن حكم الفرع؛ وهو كقياس الوضوء على التيمم في وجوب النية؛ لأن التعبد بالتيمم، إنما ورد بعد الهجرة.

والحق أن يقال: لو لم يوجب على حكم الفرع دليل إلا ذلك القياس، لم يجز تقدم الفرع على الأصل؛ لأن قبل هذا الأصل لزم أن يقال: "كان هذا الحكم حاصلا من غير دليل، وهو تكليف ما لا يطاق، أو ما كان حاصلا ألبتة، فيكون ذلك كالنسخ" وأما إن وجد قبل ذلك دليل آخر سوى القياس بدل على ذلك الحكم فجائز؛ فإن ترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز. الباب الثاني في شرائط الأصل القسم الأول قال القرافي: قوله: "متى عرف الحكم بعلة أخرى كانت العلة الثانية عدمية الأثر؛ فيكون التعليل بها ممتنعا": قلنا: اجتماع المعرفات بعد تقدم بعضها غير ممتنع، لاسيما والعلة الأخرى تشهد لها المناسبة والاقتران. "فائدة" قال القاضي عبد الوهاب المالكي في "الملخص": قال جماعة: يجوز القياس على فرع الأصل بعلته الأولى، أو بعلة، كقياس الذرة على الأرز المقيس على البر؛ لأن العلة إن كانت واحدة فقد حصل أصلان بتخير القياس بينهما للأرز والبر، قالوا: ولأن الحكم إذا ثبت في الأرز بعلة البر صار أصلا في نفسه أمكن أن يوجد فيه علة أخرى بينه وبين [الذرة] يقاس عليها الذرة، وتكون العلة الأولى كالنص يقع التعبد به بغيرها في الذرة. وقال أبو الخطاب الحنبلي في "التمهيد" وأبو يعلى الحنبلي في "العمدة": مذهب الحنابلة جواز القياس على الفرع.

القسم الثاني قال الرازي: إذا كان الحكم في المقيس عليه على خلاف قياس الأصول. فقال قوم من الشافعية والحنفية: يجوز القياس عليه مطلقا، وقال الكرخي: لا يجوز إلا لإحدى خلال ثلاث: إحداها: أن يكون قد نص على علة ذلك الحكم؛ لأن النص كالتصريح بوجوب القياس عليه. وثانيها: أن تجمع الأمة على تعليله، وإن اختلفوا في تعليله؛ فا يجوز القياس عليه. وثالثها: أن يكون القياس عليه موافقا للقياس على أصول أخرى. والحق أن يقال: ما ورد بخلاف قياس الأصول: إما أن يكون دليلا مقطوعا به، أو غير مقطوع به: فإن كان مقطوعا به، كان أصلا بنفسه؛ لأن مرادنا بالأصل في هذا الموضع هذا، فكان القياس عليه كالقياس على غيره؛ فوجب أن يرجح المجتهد بين القياسين. يؤكده أنه إذا لم يمنع العموم من قياس يخصه فأولى ألا يكون القياس على العموم مانعا من قياس يخالفه؛ لأن العموم أقوى من القياس على العموم. احتج الخصم: بأن الخبر يخرج من القياس ما ورد فيه، وما عداه باق على قياس الأصول. والجواب: أنه إذا أخرج ما ورد فيه، ودلت أمارة على عليته- اقتضى إخراج ما شاركه في تلك العلة، ثم ليس بأن لا يخرج لشبهه بالأصول أولى من أن يخرج لشبهه بالمنصوص عليه.

أما إذا كان غير مقطوع به، فإما أن تكون علة حكمه منصوصة، أو لا تكون منصوصة: فإن لم تكن منصوصة، ولا كان القياس عليه أقوى من القياس على الأصول، فلا شبهة في أن القياس على الأصول أولى من القياس عليه؛ لأن القياس على ما طريق حكمه معلوم- أولى من القياس على ما طريق حكمه غير معلوم. وإن كانت منصوصة، فالأقرب أنه يتسوي القياسان؛ لأن القياس على الأصول يختص بأن طريق حكمه معلوم، وإن كانت علة حكمه غير معلومة، وهذا القياس طريق حكمه مظنون، وعلته معلومة؛ فكل واحد منهما قد اختص بحظ من القوة. القسم الثاني قال القرافي: قوله: "إذا لم يمنع العموم من قياس يخصصه، فأولى ألا يكون القياس على العموم مانعا من قياس يخالفه": قلنا: القياس إذا خصص العموم لم يكن فيه مخالفة أصل شرعي، بل القياس بين المراد من عموم، ولم يبطل مرادا. أما القياس على العموم الموافق للأصول إذا عارضه قياس على رخصة مخالفة [للأصول]، ينبغي أن يكون القياس على ما هو على وفق الأصول مانعا من القياس على حكم نص الرخصة [لكونه] أقعد بالشريعة، وليس من باب الأول لهذا الفرق.

القسم الثالث فيما جعل شرطا في هذا الباب، مع أنه ليس بشرط، وهو ثلاثة: الأول: زعم عثمان البتى: أنه لا يقاس على الأصل، حتى تقوم الدلالة على جواز القياس عليه، وهو باطل من ثلاثة أوجه: أحدها: أن عموم قوله تعالى: {فاعتبروا} [الحشر: 2] ينفي هذا الشرط. وثانيها: أنا إذا ظننا كون الحكم في الأصل معللا بوصف، ثم علمنا، أو ظننا حصوله في الفرع- حصل ظن أن حكم الفرع مثل حكم الأصل؛ والعمل بالظن واجب. وثالثها: أن الصحابة حين استعلموا القياس في مسألة الحرام والجد وغيرهما، لم يعتبروا هذا الشرط. الثاني: زعم بشر المريسي: "أن شرط الأصل انعقاد الإجماع على كون حكمه معللا، أو ثبوت النص على عين تلك العلة" وعندنا: أن هذا الشرط غير معتبر؛ والدليل عليه الوجوه الثلاثة المذكورة. الثالث: قال قوم: الأصل المحصور بالعدد لا يجوز القياس عليه؛ حتى قالوا في قوله- عليه الصلاة والسلام-: "خمس يقتلن في الحل والحرم" لا يقاس عليه، والحق: جوازه؛ للوجوه الثلاثة.

واحتجوا: بأن تخصيص ذلك العدد بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه، وأيضا: جواز القياس عليه يبطل ذلك الحصر. والجواب: يبطل ذلك بجواز القياس على الأشياء الستة؛ في تحريم ربا الفضل؛ وهذا أيضا دليل في أول المسألة. القسم الثالث قال القرافي: قوله: "الصحابة- رضوان الله عليهم- استعملوا هذا القياس في مسألة الحرام والجد، ولم يعتبروا هذا الشرط": تقريره: أن عثمان البتى يشترط إذا كان القياس في النكاح- مثلا- أن يدل الدليل على جواز القياس خصوص النكاح، أو الطلاق أن يدل دليل لذلك، والصحابة- رضوان الله عليهم- اختلفوا في مسألة الحرام: فمنهم من ألحقه باليمين بالله تعالى- فأوجب فيه كفارة يمين؛ شبها له بالامتناع الناشئ عن اليمين. ومنهم من جعله تشبيها بالتحريم الناشئ، عن الطلاق فيما إذا قال: أنت حرام، أو الحرام يلزمني، وقاسوا الجد على ابن الابن، ويرد عليه أن المعلوم أن الصحابة قاسوا في هذه المواطن،

أما أن الشرط المذكور حاصل أم لا؟ فلم يدل عليه دليل، فلعلهم اعتبروا هذا الشرط، وهو حاصل، فلم قلتم: إن الأمر ليس كذلك؟. قوله: "تخصص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما ما عداه، ولأنه يبطل فائدة الحصر". قلنا: هذا اعتماد على المفهوم، والقياس راجح عليه. ***

الباب الثالث "في الفرع"

الباب الثالث "في الفرع" قال الرازي: وشرطه: أن يوجد فيه مثل علة الحكم في الأصل من غير تفاوت ألبتة لا في الماهية، ولا في الزيادة، ولا في النقصان؛ لأن القياس عبارة عن تعدية الحكم من محل إلى محل، والتعدية لا تحصل إلا إذا كان الحكم المثبت في الفرع مثل المثبت في الأصل. فإن قلت: "هذا يقتضي ألا يكون قياس العكس حجة": قلت: قد بينا في أول كتاب القياس: أن قياس العكس عبارة عن التمسك بنظم التلازم ابتداء، ثم إنا نثبت مقدمته الشرطية بقياس الطرد. وأما الأمور التي اعتبرها قوم في الفرع مع أنها ليست معتبرة، فهي ثلاثة: الأول: قال بعضهم: يجب أن يكون حصول العلة في الفرع معلوما لا مظنونا، وهذا باطل للنص، والحكم، والمعقول: أما النص: فهو أن عموم قوله تعالى: {فاعتبروا} [الحشر: 2] يقتضي حذف هذا الشرط. وأما الحكم: فهو: أن الزنا والسرقة، إذا ظهرا عند القاضي، قضى بوجوب الحد؛ لأن الطريق إليه شهادة الشهود، وهي لا تفيد العلم. وأما المعقول: فهو أنه إذا حصل ظن كون الحكم معللا بذلك الوصف، ثم

حصل ظن الثبوت ذلك الوصف في الفرع، حصل ظن أن الحكم في الفرع مثل الحكم في الأصل، والعمل بالظن واجب مطلقا؛ على ما بيناه, الثاني: قال أبو هاشم: الحكم في الفرع يجب أن يكون مما ثبت جملة حتى يدل القياس على تفصيله، ولولا أن الشرع ورد بميراث الجد؛ وإلا لما استعملت الصحابة القياس في توريثه مع الإخوة؛ وهذا باطل؛ لأن أدلة القياس تحذف هذا القيد. الثالث: ألا يكون الفرع منصوصا عليه، وهو على قسمين؛ لأن الحكم الذي دل النص عليه: إما أن يكون مطابقا للحكم الذي دل عليه القياس، أو مخالفا: فإن كان الأول: جاز استعمال القياس فيه عند الأكثرين؛ لأن ترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز، ومنعه بعضهم؛ استدلالا بأن معاذا إنما عدل إلى الاجتهاد بعد فقدان النص؛ فدل على أنه لا يجوز استعماله عند وجوده. وأيضا: فالدليل ينفي جواز العمل بالقياس؛ لكونه اتباعا للظن {وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} [النجم: 28] ترك العمل به فيما إذا لم يوجب النص للضرورة؛ فيبقى حال وجود النص على مقتضى الأصل. الجواب عن الأول: أن قصة معاذ دالة على أن التمسك بالقياس عند فقدان النص جائز، فأما عند وجود النص، فليس فيه دليل لا على جوازه، ولا على بطلانه. وعن الثاني: ما تقدم مرارا من أن العمل بالقياس ليس على خلاف الدليل. خاتمة لهذا الباب ها هنا نوع آخر من القياس يستعمله أهل الزمان؛ وهو أن يقال: "لو ثبت

الحكم في الفرع، لثبت في الأصل؛ لأن بتقدير ثبوته في الفرع، وجب أن يكون ثبوته لأجل المعنى الفلاني؛ لمناسبته واقتران الحكم به، وذلك المعنى حاصل في الأصل؛ فيلزم ثبوت الحكم فيه. فثبت أن الحكم، لو ثبت في الفرع، لثبت في الأصل، فلما لم يثبت في الأصل، وجب ألا ثبت في الفرع". ويمكن أن يذكر ذلك على وجه آخر أشد تلخيصا؛ وهو أن يقال: "ثبوت الحكم في الفرع يفضى إلى محذور؛ فوجب ألا يثبت". إنا قلنا: إنه يفضى إلى محذور؛ لأنه لو ثبت الحكم في الفرع، لكان إما أن يكون معللا بهذا الوصف الذي يشترك الفرع والأصل فيه، أو لا يكون معللا به. فإن كان الأول: لزم النقض؛ لأنه غير ثابت في الأصل. وإن كان الثاني: لزم النقض؛ لأن المناسبة والاقتران دليل العلية، فحصولها بدون العلية يوجب النقض، وهذا آخر كلامنا في القياس، وبالله التوفيق. الباب الثالث "في الفرع" قال القرافي: قوله: "خبر معاذ يدل على التمسك بالقياس عند فقدان النص، أما عند وجوده فلا دليل فيه على عدمه ولا وجوده": قلنا: بل مفهوم الشرط الذي هو قوله: {فإن لم تجدوا} [المجادلة: 12] يقتضى عدم جواز التمسك بالقياس. "خاتمة" في قياس يستعمله أهل الزمان، فيقولونّ: لو ثبت الحكم في الفرع لثبت في الأصل:

تقريره: أن مقصود القياس يكون عدم الحكم، ويكون هنالك صورة أجمعنا على عدم الحكم فيها، فنقيس المختلف فيه على المتفق على ثبوت العدم فيه، ونقول: لو ثبت الربا في الأرز لكان المشترك بينه وبين الجوز، أو اللوز، أو بعض العقاقير من الطعم أو الوزن أو غيره، وليس ما ينافى الأصل، فلا يثبت في الفرع. "تنبيه" زاد التبريزي: فقال: شرط الحكم أن يكون ممائلا لحكم الأصل؛ ليتأدى بها ما يتأدى بحكم الأصل، وهو الذي عرف كونه مقصودا. ثم قال العلماء: قياس البيع على النكاح لا يخل بهذا الشرط، ولا وجوب الأكل على وجوب الصلاة؛ فإن الصحة والوجود لهما حقيقة واحدة لا تختلف باختلاف المتعلق. قال: وحصل من ذلك إشكال؛ فإن المعلل لابد وأن يرد قياسه إلى أصل وحد فيه ما رتبه على وصف تعليله، فيكون مماثلا؛ فإن الاختلاف فيما وراء ذلك القدر من (المتعلقات) لا يقدح في مماثلها من الوجه الذي جمع، فيحتاج إلى زيادة اعتبار. فنقول: الذي يرتبه المعلل على علته قد يكون مخالفا لما في الأصل حقيقة، ولكن اللفظ يشملهما بالاشتراك التركيبي، كقولهم في اشتراط الأجل في السلم: الأجل في المسلم فيه عوض في السلم؛ فوجب أن يبلغ به أقصى مراتب جنسه، كرأس المال؛ فإن المراد بهذا اللفظ اشتراط قبض رأس المال في المجلس، وفي الفرع اعتبار الأجل في المسلم فيه، ولا اشتراك بينهما إلا في اللفظ، وقد يشاركه فيما هو مقتضى اللفظ بطريق التواطؤ، ولكن لا ينبئ

مفهومه عن حكم شرعي، كقول النوقاني- رحمه الله- في مسألة التعيين: معنى اعتبر في الصوم في الجملة، لا يختلف حكمه باعتبار القضاء والأداء، فوجب ألا يختلف اعتباره بالقضاء والأداء؛ قياسا لوصف النية على أصلها؛ فإن الحكم الشرعي هو الاعتبار حيث تحقق سببه، أما كونه في إحدى الصورتين مخالفا للأخرى، أو موافقا، فليس من الأحكام الشرعية، بل هو من الأمور الضرورية المستفادة من نظر العقل؛ فإن التماثل والاختلاف عقلي، وإن كان ما فيه التماثل شرعيا، وقد ينبئ عن حكم شرعي، ولكن لا يثبت تمام ماهية الحكم الثابت في الأصل، وهذا القسم يقع كثيرا، وله صور: منها: قول أصحابنا في العقيقة: مأدبة؛ فيكون مأمورا بها كالوليمة، مع أن الحكم في الأصل الوجوب، وفي الفرع الندب، وفي مسألة التفريط: تلف ماله بعد استحقاق المطالبة فيبقي [مطالبا] به كما لو أتلفه، فيقول الحنفي: الحكم في الأصل المطالبة بضمان ما أتلفه، وقد ينشأ الخلاف بين الحكمين من الاختلاف في المحكمة، واختلاف المتعلق إذا كان مؤثرا في المقصود. ونظير الأول إيجاب عتق الرقبة كفارة ونذرا، وعقوبة ومحوا. ونظير الثاني وجوب قطع اليد مع وجوب الجلد، أو الصوم، أو الصلاة، وهو أكبر ما يستند إليه اليوم من المناظرات. (فائدة) قال التبريزي: القياس له ألقاب بحسب اختلاف الجامع، وألقاب بحسب اختلاف طرق تقرير الجامع. أما الأول: فكقياس العلة، وقياس الدلالة، والقياس في معنى الأصل، وهو المسمى بقياس لا فارق.

قال: ووجه الحصر أن الحكم تبع للعلة، والعلة في الفرع إما أن تستبان تفصيلا بعد التنصيص عليها في الأصل، أو إجمالا من غيرها. ثم ذلك الغير الدال عليها إما أن يكون ثبوتا، أو نفيا. والأول: قياس العلة. والثاني: قياس الدلالة. والثالث: قياس لا فارق. وأما الألقاب [الأخرى]، فهي [شعب] قياس العلة؛ فإنها إن قررت بالمناسبة فهو قياس الإحالة، أو بشبه فهو قياس الشبه، ولا لقب للقياس باعتبار طريق آخر من طرق العلة. نعم العلة إن استنبطت من محل التنصيص على الحكم لا غير فهي مستنبطة، والطريق تخريج وإن لخصت من محل الإيماء بحذف ما وراءها، فهي مومئ إليها، والطريق تنقيح. وإن لم يكن للقياس مؤنة سوى معرفة وجود العلة في الفرع لكونها معلومة في نفسها، فهو تحقيق المناط خصص به تمييزا، وإن كان لابد من تحقيق المناط في كل قياس، قلت: وقد تقدم هذا البحث في تحقيق المناط، وتخريج المناط، وتنقيح المناط، حيث حكاه عن الغزالي، وجلبت الخلاف فيه هنالك، وسمى الغزالي (قياس لا فارق): تنقيح المناط. وقال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): القياس ثلاثة: قياس دلالة.

وقياس شبه. وقياس علة. فقياس العلة: الجمع بالعلة التي لو سئل صاحب الشرع لأجاب بها، وقد تكون معلومة لنا، كالشدة في الخمر، وقد لا تعلم الحكمة فيه، كالتعليل بالطعم والقوت في الربا. وقياس العلة ينقسم إلى جلي، وخفي. فالجلي: ما عرفت علته بقاطع، أو بالنص، أو بالإجماع، أو السببية، وبعضها أجلى من بعض على مراتبها في القوة. والخفي ما عرفت علته بمحتمل بالإيماءات البعيدة، وكقول عائشة رضي الله عنها: (إن بريرة عتقت، وكان زوجها عبدا).

وكالإشارة إلى الطعم في بعض الأحاديث في الربا، وبعضها أقوى من بعض. وقياس الدلالة: أن يجمع بغير العلة، بل بما يدل عليها، كقوله عليه السلام: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) فجعل الحيض دليل العلة. وأجلاه الاستدلال بخصيصة من خصائص الحكم، كقولنا في سجود التلاوة: إنه نفل؛ لكونه يجوز فعله على الراحلة، والعلة غير هذا الوصف. أو بالنص على النظير كقولنا: من وجبت الزكاة في زرعه وجبت في ماله، وهي تجب في زرع الصبي. وقياس الشبه: هو الجمع بشبه في الحكم والصورة. (فائدة) قال التبريزي: مباحثه ينكشف بها حقيقة قياس الدلالة، وطريق تقريره:

اعلم أن قياس الدلالة لما كان عبارة عن الجمع بدليل الحكم لا بعلة الحكم، فكل قياس كان الجامع فيه دليلا، فهو قياس الدلالة، حتى الجمع بالبيع؛ فإن المؤثر في الملك هو الحاجة، والبيع دليلها، ولكن العلل الشرعية لما كانت وضعية كانت كلها في معنى الأمارة والدليل، وإن كانت منشأ الحكمة، فخصوا اسم قياس الدلالة بالجمع بالحكم الذي هو في الرتبة الثانية من الدلالة؛ فإنه يدل على الوصف ثم على الحكم. أما تقريره: فله طريقان: أحدهما: إقامة الحكم مقام الوصف في ضبط المعنى، كقولهم: قتل حرام؛ فيوجب القصاص كالقتل بالمحدد، ونجس، فلا يصح بيعه كالجيفة، ونجيب عن المطالبة بأنه إذا كان حراما [كان] جناية، أي مفسدة مطلوبة [الانتفاء]، فيناسب القصاص زجرا، وإن كان نجسا كان مستقذرا مستحقرا، فيناسب سلب رتبة المقابلة بالمال الشريف، فيجريه مجرى الوصف في تنشئة المناسبة مما تتضمنه، وأكثر [المترسمين] لا يعدون هذا النوع من قياس الدلالة لهذا المعنى، مع أنه لو قال: (قتل يوجب التحريم، فيوجب القصاص قياسا على المحدد لم يستريبوا في كونه قياس دلالة؛ لأنهم لم يضبطوا من قياس الدلالة إلا صورة هذا الشكل، وهو أعم منه؛ لما ذكرنا من الضابط، وإنما قلنا: إنه قياس دلالة؛ لأن كونه حراما ليس علة لوجوب القصاص، بل هو- أيضا- حكم ما هو علة لوجوب القصاص، وهو كونه تفويتا عمدا لمحل من صفته كيت وكيت وإنما استدل عليها بوجود التحريم. الطريق الثاني: وهو المشهور أن يدعي لزوم اشتراك الأصل والفرع في الحكم المطلوب لاشتراكهما في حكم آخر، هو من أثر المؤثر في الحكم المطلوب، فنقول: محل صين بالقصاص عن المنفردين؛ فيصان عن المشاركين كالنفس، أو محل يأثم بإتلافه خمدا؛ فيضمنه كالعصير، وسائرـ

أموال الذمي، ويصح طلاقه؛ فيصح ظهاره كالمسلم، ويجلد بالزنا بكرا؛ فيرجم به ثيبا كالمسلم، ويوجب القصاص إذا جرى في المحاربة؛ فكذا في غيرها كالمحدد، وصوم يعتبر في صحته أصل النية؛ فيعتبر [فيه] التعيين والتبييت كالقضاء ونحو ذلك، وعند هذا يجب أن يقول بإسنادهما إلى مؤثر واحد؛ ليدل وجود أحدهما على وجود الآخر بواسطة الدلالة على مؤثره من غير أن يصرح بالمؤثر، كيلا يكون منقطعا بالانتقال، ويضيع استعمال أحد الحكمين، إما الأصل أو الجامع. فنقول: صيانته على المنفرد يدل على كونه مطلوب البقاء في القصاص، فيناسب الصيانة عن الشركاء؛ مبالغة في الصيانة، وحسما للذريعة كما في الأصل، فيذكر الحكمة جملة لوجه الارتباط لا غير، وكذا في أمثاله، فلو قال في جواب المطالبة: (لأن إيجاب القصاص حالة الانفراد [يدل] على اعتبار التفويت الواقع في إيجابه، وذلك التفويت بعينه موجود حالة الاشتراك) كان منقطعا بالانتقال إلى قياس العلة، ويضيع حكم الأصل في الاستشهاد؛ لاستقلال حالة الانفراد بالاعتبار. (بحث آخر) قال: أرى بعض الفقهاء في المناظرات إذا فرق بين حالة الانفراد، وحالة الاشتراك- مثلا- يقول: هذا فرق بين الحكم والوصف يجب أن يكون بين الأصل والفرع؛ فلا يسمع، ويسجل بهذا على القاعدة تمسكا بهذا اللفظ تعبدا من غير أن ينظر في الفرق المذكور. والحق أن هذا النوع من الفرق لا يقدح في الطريقة الأولى؛ إذ المقصود من الحكم الجامع دلالة على معنى ثبوته يتوصل به إلى إثبات المتنازع فيه، ولا يشترط في دليل ذلك المعنى أن يكون حكما، فضلا عن أن يكون مماثلا له. وأما على الطريقة الثانية، فيختلف باختلاف الإيراد، فإن قال: القتل من المنفرد أغلب، أو مفسدته أعظم، أو إفضاء القصاص في حقه إلى الزجر

أبلغ، وما شاكل ذلك، لم يسمع؛ لأن كل ذلك [معترف] به، وإنما احتاج إلى الحكم الثاني حكم الفرع؛ لبيان إلغاء ذلك، واستقلال القدر المشترك، وأما إذا قال: القصاص في حالة الانفراد شرع زجرا، ومقابلة للإساءة بمثلها، ولا يتحقق ذلك في حالة الاشتراك؛ فإن قطع البعض ليس بممكن، وقطع الكل ليس جزاء بالمثل، فهذه إشارة إلى اختلاف مبنى الحكمين، ويتعذر به إسنادهما إلى مؤثر واحد، فيجب التزام الجواب عنه، فإن أقل ما فيه منع ما ذكره من الحكمة [و] معارضتها بحكمة أخرى، إلا أن حكمة المعلل أولى؛ لاطرادها في حالة الانفراد والاشتراك في النفس، فلا يؤدي إلى اختلاف الوضع، إلا أن يبين المعترض- أيضا- اطراد حكمته في شركاء النفس بدعوى صدور قتل كامل من كل واحد، فيحتاج المعلل إلى تصحيح التعليل بما عينه بطريقة؛ [ليندفع] السؤال. (فائدة) قال التبريزي: قد تستعمل صورة هذا الشكل من القياس، ويكون قياس علة لا قياس دلالة، ويتبين ذلك بالتقرير، فلا يكون منتقلا، وقد استعملت مثله في حضرة شيخنا جمال الدين بن فضلان في شهادة الفاسق فقلت: نقض بسلب الولاية؛ فيسلب الشهادة كالرق، وقررته بمناسبة النقض كسلب المناصب الدينية اعتبارا بالرق، وهو الجامع بين الفسق والرق؛ فيكون علة، وأما ذكر سلب الولاية، فإنما جرى مجرى تقييد النقض بالرتبة المعتبرة؛ فإن له مراتب، [ويتعذر] ضبطها بالوصف الحقيقي، نعم لو قلنا: شخص سلب الولاية، فيسلب الشهادة كالرقيق؛ لأن سلب الولاية كان إظهارا لنقيصة، وسقوط رفعه بعزله عن أهلية المناصب، [وأشرف] المراتب؛ تقريرا لاستحسان معالي الأمور من صفات الفضائل، واستقباح

الرذائل، وفي ضم سلب الشهادة إليه مبالغة في تقريره، فوجب أن يكون مشروعا كما في الرقيق لكان دلالة؛ لأن الجامع دليل كما ترى، وليس بعلة، بل العلة النقيض الذي أوجبها، فليلعم ذلك. (قاعدة) قال ابن برهان في كتاب (الأوسط): للأحكام الشرعية أربعة أقسام: الأول: قسم ثبت لعلة توجد في معظم الخلائق، وإن لم توجد في حق الكل، كالرخصة لعلة مشقة السفر؛ فإنها لا توجد المشقة في حق الملك العظيم المترفه بسفر، ويجوز له الرخصة؛ اعتبارا بوجود العلة في الأغلب، وفي الشرع في تمهيد القواعد لا ينظر إلى آحاد الصور النادرة. الثاني: حكم ثبت لعلة توجد في الكثير قطعا، وتعدم في القليل منه قطعا، كتحريم الخمر للإسكار الذي نقطع بوجوده في كثيره، ونقطع بعدمه في القطرة منه، فتحرم- أيضا- وإن فقد الإسكار، فحرمه الشرع، لأن القليل منه يدعو للكثير، فيحرم الكثير، للإسكار، والقليل؛ لأنه وسيلة إليه. الثالث: قسم ثبت لعلة حاصلة للبعض، وغيرهم تبع لهم، كقوله تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157]، والمراد أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما ينفر عنه طباعهم، فهو الخبائث، أو يميل إليه، فهو الطيبات، وغيرهم تبع لهم في ذلك؛ لأنه لو اعتبر كل أحد، فربما يفر زيد مما يميل إليه عمرو، فتتناقض الأحكام. قلت: قيل: المراد النفوس الكريمة أين كانوا في كل عصر، فالمستخبث عندها هو الخبيث، والمألوف عندها هو الطيب. وعلى هذا- أيضا- وإن لم يختص بالصحابة- رضوان الله عليهم- فغير النفوس الكريمة تبع لهم، فما خرج عما قاله ابن برهان، غير أن البعض اختلف فقط.

قال: وكذلك الاستجمار في الأحجار جعلت العرب أصلا فيه؛ لأن الضرورة العامة إنما توجد في حقهم؛ لأنهم في غالب أمرهم في الصحاري، فيعسر عليهم الماء. ومن هذا الباب بعثة كل نبي بما هو موجود في بعض أمته، فغالب العرب الفصاحة، فبعث إليهم- عليه السلام- بمعجز من الكلام الفصيح، وجعل غير الفصيح من الأمة تبعا لهم. وبعث عيسى- عليه السلام- بإبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى؛ لأنه غلب في زمنه الطب. وبعث موسى- عليه السلام- بقلب العصا ثعبانا؛ لغلبة السحر في زمانه، [و] غير أولئك تبع لهم. الرابع: حكم ثابت بعلة في زمان النبي- عليه السلام- ثم زالت تلك العلة، [كالرمل]، شرع لإظهار الجلد للكفار؛ ولقولهم عن المؤمنين- لما قدموا (مكة) -: وهنتهم حمى يثرب، فأمر- عليه السلام- بالإسراع في الحركة؛ إظهارا للقوة، ثم بقى ذلك بعد ذهاب تلك العلة. قلت: ونظيره ما حكى في سبب رفع اليدين في تكبيره الإحرام بسبب ما كانت المنافقون يعملون الأصنام تحت آباطهم. وأن رمي الجمار كان بدؤه أن الكبش الذي فدى الله به إسحاق- عليه السلام- هرب من إبراهيم- عليه السلام- حين أراد ذبحه، فرجمه بالحجارة الصغار في ذلك الموضع، فبقى ذلك سنة بعده. قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله: إن السبب في بقاء هذه الأحكام بعد ذهاب أسبابها، إنما هو اختلاف تلك الأسباب بأسباب [أخرى]، وهي أنا نذكر في زماننا بسبب هذه الأفعال أسبابها المتقدمة؛

لأن النفس لا بد أن تطلب التعليل، فيطلع على السبب الأول، فيعلم حينئذ أن الله- تعالى- كثرنا بعد القلة، وأعزنا بعد الذلة، وأن الإسلام أظهره الله- تعالى- على الدين كله، وصدق ذلك وعده، ونصر عبده، ونتذكر أحوال السلف الصالح من الأنبياء وغيرهم، وما كانوا فيه من الصبر على واردات الحق، وصفات الصدق [وأصفياء] خيار الله- تعالى- فنقتدي بهم، فبسبب بقاء هذه الآثار هو هذا، لاسيما وقد ورد دعاء إبراهيم- عليه- السلام {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} [الشعراء: 84]. قال المفسرون: أي ثناء [جميلا]، وهو ما تقدم ذكره وغيره، فلم تبق هذه الأحكام بغير علة، بل خلفت علة علة أخرى في ذلك الحكم. (قاعدة) قال ابن برهان في كتاب (الأوسط): الأحكام أربعة أقسام: القسم الأول: شرع لبقاء الجنس وجبلته، كالعقود والمعاملات؛ فإن جبلة الإنسان لا تبقى إلا بالطعام، والشراب، واللباس، والمساكن التي تؤي من السباع وأسباب الفساد، وإن خليت هذه الأمور همجا بغير عقود أدى ذلك إلى القتل والقتال، وذهاب النفوس بسبب تجاذب الدواعي كل عين من هذه الأعيان، فيذهب الجنس، وتتولد الأحقاد، وسفك الدماء. القسم الثاني: شرع لدفع ضرورة الجنس بعد بقائه؛ للضرورة العامة كالسلم، والرهن، والقراض، والمساقاة، والإجارة، فلولاها تحصلت المشتاق العظيمة للخلق. قال: ومن قال: إنها خلاف القياس، فقد أخطأ وبطل القياس، وإنما هو دفع الحاجة، والحاجة مندفعة بها، فإن أراد أنها على خلاف غيرها من العقود في البيع، وغيره من جهة ما سومح فيها من الغرر والجهالة، فصحيح.

القسم الثالث: شرع للسياسة والزجر كالحدود، والقصاص، والتعازير، والقتال للخوارج وغيرهم زجرا للجناة، وردعا للطغاة، وصيانة للنفوس والأموال، وصونا للذراري والعيال، وحفظا للنظام، ودفعا للضرر العام. القسم الرابع: ما شرع لكسر النفس الأمارة بالسوء كالعبادات؛ لما فيها من الخضوع والتذلل، والخشوع لله- تعالى- المستحق للتعظيم؛ فإن النفوس البشرية متمردة عاصية طاغية، والعبادات استصلاح لها، ثم العبادات بدنية، ومالية. فالبدنية يحصل بها الانكسار والتذلل. والمالية يحصل [بها] ذلك مع إيصال منافع الأعيان. [وفي] البدنية- أيضا- ما يكون نفعا للغير كإنقاذ الغرقى، وتخليص الهلكي، وأمثال ذلك، فهذا جملة الشريعة منحصر في هذه الأقسام الأربعة. (مسألة) قال ابن برهان في كتاب (الأوسط): التمسك بعدم العلة جائز، وهو من جملة الأدلة، كقولنا: لم يجن؛ فلا يعاقب، بشرط اتحاد العلة. أما لو تعددت؛ كقولنا: لم يرتد؛ فلا يقتل، لا يستقيم؛ فإنه يباح دمه بسبب آخر، كترك الصلاة، والقصاص، والحرابة، وغير ذلك. (مسألة) قال ابن برهان في (الأوسط): التمسك بالأولى جائز، وهو التمسك بالعلة مع الزيادة، كقوله- تعالى-: {قل نار جهنم أشد حرا} [التوبة: 81]، [والعلة] مع الزيادة أولى من أصل العلة.

(مسألة) قال ابن برهان: التمسك بالأصل جائز، كقولنا: هذا على خلاف القواعد، أو القاعدة الفلانية، فلا يثبت. (مسألة) قال الباجي المالكي في كتاب (الفصول): يجوز القياس على أصل مجمع عليه. [و] قال بعض الشافعية: لا يجوز. لنا: أن القياس على الأصل الثابت بخبر الواحد جائز، وهو مظنون، والثابت بالإجماع معلوم، فالقياس عليه أولى. احتجوا بأن الإجماع لابد له من دليل، فلعله يشمل الفرع، فيستغنى عن القياس، فيجب طلب ذلك الدليل قبل القياس. جوابهم: أن تضافر الأدلة جائز، فإذا كان قياس مع نص، فلا يضر ذلك، ووافقه ابن برهان على نقل هذه المسألة، وذكر الخلاف فيها عن جماعة من الفقهاء. (مسألة) قال الباجي في كتاب (الفصول): الاتفاق والاختلاف هل يجوز أن يكون علة؟ فعندنا يجوز أن يكون الاختلاف علة، وقاله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، ومنعه بعض الفقهاء. لنا إنه إنما جاز أن يكون علة بالنطق، [وما جاز أن يكون علة بالنطق] جاز أن يكون علة بالاستنباط.

ولو قال صاحب الشرع: (ما اختلف في جواز أكله، فإنه يطهر بالدباغ)، لكان ذلك صحيحا، فيجوز ذلك استنباطا. احتجوا بأن الاختلاف حدث بعد موته- عليه السلام- والحكم ثبت في زمانه- عليه السلام- والحكم لا يتقدم علته. والجواب: أن الإجماع حادث، ويثبت به الأحكام. ولأن معنى قولنا: (مختلف فيه)، أنه يسوغ فيه الاجتهاد، والاجتهاد سائغ في زمانه عليه السلام. (مسألة) قال الباجي في (الفصول): قياس التسوية جائز عند المالكية خلافا لقوم، كما تقول: سوى الشرع في الطهارة بين الجامد والمائع [في النية]، فيستوي في النية جامدها ومائعها، كما أن ما لا يشترط النية في جامده لا يشترط في مائعه، كإزالة النجاسة. احتجوا بأنه قياس الشيء على ضده، وشأن القياس المماثلة. جوابهم: أنهما سواء في اشتراط النية، وإنما اختلف محلها. (مسألة) قال أبو الخطاب الحنبلي في كتاب (التمهيد): إذا كانت أوصاف الأصل غير مؤثرة في الأصل، ومؤثرة في موضع آخر من الأصول، لم تكن علة عند أحمد بن حنبل، وأبي حنيفة. وللشافعية قولان: أحدهما: أنه علة لصحتها في أصل معتبر من حيث الجملة، كقولنا في

المرتد: يجب عليه قضاء الصلوات؛ لأنه تركها لمعصية، فأشبه ما إذا تركها بالسكر. فيقول المعترض: لا تأثير للوصف في الأصل؛ فإن السكران لو لم يكن عاصيا مثل أن يكره على الشرب، فإنه يقضى الصلاة. فيقول المستدل: المعصية مؤثرة في القضاء في موضع؛ لأنه لو شرب دواء لزوال عقله وجب القضاء، ولو زال عقله بعلة سقط القضاء، وقيل: ليس [هذا] بعلة؛ لعدم اعتبارها في خصوص الأصل المقيس عليه. أما إذا كان الوصف غير مؤثر في الأصل، ولا في غيره، وإنما أخذ الاحتراز من البعض، لم يعتبر، كقولهم في الاستجمار: عبادة تفعل بالأحجار، ولم يتقدمها معصية؛ فاعتبر فيها عدد مخصوص، كرمي الجمار. فيقول المعترض: لا أثر لقولك: لم يتقدمها معصية. فيقول المعترض: لا أثر لقولك: لم يتقدمها معصية. فيقول: احترزت به من رجم المحصن، يقول له: ولا أثر له هنالك- أيضا- في عدم حصر العدد، بل لما كان المقصود فوات النفس لم ينحصر بعدد. (مسألة) قال أبو يعلي الحنبلي في (العمدة): جميع ما يحكم به من جهة القياس على أصل منصوص، فهو مراد من ذلك النص، خلافا لبعض المتكلمين؛ لأنه مطيع لله- تعالى- بذلك، ولا طاعة إلا موافقة الأمر، بخلاف القياس على مجمع عليه، إما ثبت بالقياس أو الفحوى. قلت: ودعواه ضعيفة؛ لجواز أن يكون الحكم في [الفرع] مرادا من النصوص الدالة على القياس، فيكون مطيعا لذلك لا للنص الدال على أصل ذلك الفرع، ويقيد الفول الفواكه، والقطاني، مراده بلفظ البر في قوله- عليه السلام: (لا تبيعوا البر بالبر إلا مثلا بمثل).

(مسألة) قال أبو الحسين البصري في كتابه المسمى بـ (كتاب القياس): إن كانت العلة موجودة في جميع الأصل صح القياس، أو في بعضه، والمعلل يريد رد الفرع إلى جميع الأصل، فإن جاز أن يكون ذلك البعض معللا وحده، جاز القياس، وإن لم يجز أن يكون الأصل إلا علة واحدة، بطل القياس. مثاله: منع أصحاب الشافعي قياس الجص على البر بعلة أنه مكيل، بقولهم: إن علة الربا في البر واحدة، والكيل ليس شائعا في جميع البر؛ لأن الحبة والحبتين لا يكالان. وأجاب أصحابنا الحنفية بأن المحرم من البر ليس إلا علة واحدة، وهي الكيل، وما لا يتأتى فيه الكيل لا ربا فيه، ولذلك ينظر في الفرع، هل العلة موجودة فيه كله أو في بعضه؟ * * *

الكلام في التعادل والترجيح

الكلام في التعادل والترجيح قال الرازي: وهو مرتب على أربعة أقسام القسم الأول في التعادل، وفيه مسألتان: المسألة الأولى: اختلفوا في أنه هل يجوز تعادل الأمارتين؟ فمنع منه الكرخي مطلقا. وجوزه الباقون، ثم المجوزون اختلفوا في حكمه عند وقوعه، فعند القاضي أبي بكر منا، وأبي على وأبي هاشم من المعتزلة: حكمه التخيير، وعند بعض الفقهاء: حكمه أنهما يتساقطان، ويجب الرجوع إلى مقتضى العقل. والمختار أن نقول: تعادل الأمارتين: إما أن يقع في حكمين متناقضين، والفعل واحد، وهو كتعارض الأمارتين على كون الفعل قبيحا، ومباحا، وواجبا، وإما أن يكون في فعلين متنافيين، والحكم واحد؛ نحو وجوب التوجه إلى جهتين قد غلب على ظنه أنهما جهتا القبلة. أما القسم الأول: فهو جائز في الجملة؛ لكنه غير واقع في الشرع: أما أنه جائز في الجملة: فلأنه يجوز أن يخبرنا رجلان بالنفي والإثبات، وتستوي عدالتهما وصدق لهجتهما؛ بحيث لا يكون لأحدهما مزية على الآخر- وأما أنه في الشرع غير واقع؛ فالدليل عليه أنه لو تعادلت أمارتان على كون هذا الفعل محظورا ومباحا: فإما أن يعمل بهما معا، أو يتركا معا، أو يعمل بإحداهما دون الثانية:

والأول محال؛ لأنه يقتضي كون الشيء الواحد في الوقت الواحد من الشخص الواحد محظورا مباحا؛ وهو محال. والثاني أيضا: محال؛ لأنهما لما كانتا في نفسيهما؛ بحيث لا يمكن العمل بهما البتة، وكان وضعهما عبثا، والعبث غير جائز على الله تعالى. وأما الثالث، وهو أن يعمل بإحداهما دون الأخرى: فإما أن يعمل بإحداهما على التعيين، أولا على التعيين: والأول: باطل؛ لأنه ترجيح من غير مرجح؛ فيكون ذلك قولا في الدين بمجرد التشهي؛ وإنه غير جائز. والثاني أيضا: باطل؛ لأنا إذا خيرناه بين الفعل والترك، فقد أبحنا له الفعل، فيكون هذا ترجيحا لأمارة الإباحة بعينها على أمارة الحظر، وذلك هو القسم الذي تقدم إبطاله؛ فثبت أن القول بتعادل الأمارتين في حكمين متنافيين، والفعل واحد يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة؛ فوجب أن يكون باطلا. فإن قيل: (لم لا يجوز العمل بإحدى الأمارتين على التعيين؛ إما لأنها أحوط، أو لأنها أخذ بالأصل؟!): سلمنا ذلك؛ فلم لا يجوز أن يكون مقتضى التعادل هو التخيير؟. قوله: (القول بالتخيير إباحة الفعل؛ فيكون ذلك ترجيحا لأمارة الإباحة): قلنا: لا نسلم أن الأمر بالتخيير إباحة. بيانه: أنه يجوز أن يقول الله تعالى: أنت مخير في الأخذ بأمارة الإباحة، وبأمارة الحظر، إلا أنك متى أخذت بأمارة الإباحة، فقد أبحت لك الفعل،

وإن أخذت بأمارة الحرمة، فقد حرمت الفعل عليك؛ فهذا لا يكون إذنا في الفعل والترك مطلقا، بل إباحة في حال، وحظرا في حال أخرى؛ ومثاله في الشرع: أن المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا، وبين أن يترك ركعتين، فالركعتان واجبتان، ويجوز تركهما بشرط أن يقصد الترخص. وأيضا: من أستحق أربعة دراهم على غيره، فقال: (تصدقت عليك بدرهمين، إن قبلت؛ وإن لم تقبل، وأتيت بالأربعة، قبلت الأربعة عن الدين الواجب) فإن شاء قبل الصدقة، وأتى بدرهمين، وإن شاء، أتى بالأربعة عن الواجب، فكذا في مسألتنا، إذا سمع قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء: 23] حرم عليه الجمع بين المملوكتين، وإنما يجوز له الجمع، إذا قصد العمل بموجب الدليل الثاني، وهو قوله تعالى: {إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء: 24] كما قال عثمان- رضي الله عنه-: (أحلتهما آية، وحرمتهما آية). سلمنا ذلك؛ لكن هذه الدلالة إنما تتم عند تعارض أمارة الحظر والإباحة، وأما عند تعارض أمارة الحظر والوجوب، إذا قلنا بالتخيير، لم يلزم ترجيح إحداهما على الأخرى؛ فدليلكم على امتناع التعادل غير متناول لكل الصور. سلمنا فساد القول بالتخيير؛ فلما لا يجوز التساقط؟ قوله: (لأنه عبث) قلنا: لا نسلم؛ ولم لا يجوز أن يقال: إن لله تعالى فيه حكمة خفية لا يطلع عليها. وأيضا: فهب أن التعادل في نفس الأمر ممتنع؛ لكن لا نزاع في وقوع التعادل؛ بحسب أذهاننا، فإذا جاز ألا يكون التعادل عبثا فلم لا

يجوز ألا يكون التعادل الخارجي عبثا أيضا؟! ثم ما ذكرتموه يشكل بما إذا أفتى مفتيان: أحدهما بالحل، والآخر بالحرمة، واستويا في ظن المستفتي، ولم يوجد الرجحان؛ فإنما بالنسبة إلى العامي كالأمارة. والجواب: قوله: (لما لا يجوز العمل بإحداهما؛ لأنه أحوط، أو لأنه أصل): قلنا: إن جاز الترجيح بهاتين الجهتين، فوجوده ينافي التعادل؛ وإن لم يجز، فقد بطل كلامك. قوله: (لم قلت: (إن التخيير إباحة؟): قلت: لأن المحظور هو الذي منع من فعله؛ والمباح هو الذي لم يمنع من فعله؛ فإذا حصل الإذن في الفعل، فقد ارتفع الحجر، فلا يبقى الحظر ألبتة، ولا معنى للإباحة إلا ذلك. قوله: (ذلك الفعل محظور بشرط أن يأخذ بأمارة الحظر، ومباح بشرط أن يأخذ بأمارة الإباحة): قلنا: هذا باطل من وجهين: الوجه الأول: هو أن أمارة الإباحة، وأمارة الحظر إما أن تقوم على ذات الفعل وماهيته؛ باعتبار واحد، أو ليس كذلك؛ بل تقوم أمارة الإباحة على الفعل المقيد بقيد، وتقوم أمارة الحظر على الفعل المقيد بقيد آخر: فإن كان الثاني: كان ذلك مغايرا لهذه المسألة التي نحن فيها؛ لأن هذه المسألة هي أن تقوم الأمارتان على إباحة شيء واحد وحظره، وعلى التقدير الذي قالوا: قامت أمارة الإباحة على شيء، وأمارة الحظر على شيء آخر؛ فإنهم لما قالوا:

عند الأخذ بأمارة الحرمة يحرم الفعل عليه؛ فمعناه: أن أمارة الحرمة قائمة على حرمة هذا الفعل حال الأخذ بأمارة الحرمة، وأمارة الإباحة قائمة على إباحة هذا الفعل حال عدم الأخذ بأمارة الحرمة، فالأمارتان إنما قامتا على شيئين متنافيين غير متلازمين، لا على شيء واحد؛ وكلامنا في قيام الأمارتين على حكمين متنافيين: في شيء واحد، لا في شيئين. وإذا بطل هذا القسم، ثبت القسم الأول؛ وهو: أن أمارة الحظر، وأمارة الإباحة قامتا على ذات الفعل وماهيته؛ باعتبار واحد، فإن رفعنا الحظر عن ماهية الفعل، كان ذلك إباحة، فيكون ترجيحا لإحدى الأمارتين بعينها، وإن لم نرفع ذلك كان ذلك حظرا؛ فيكون ترجيحا للأمارة الأخرى بعينها. الوجه الثاني في الجواب: أن نقول: ما المراد بالأخذ بإحدى الأمارتين؟. إن عنيتم بهذا الأخذ: اعتقاد رجحانها، فهذا باطل؛ لأنها إذا لم تكن راجحة، كان اعتقاد رجحانها جهلا. وأيضا: فنفرض الكلام فيما إذا حصل العلم بأنه لا رجحان، ففي هذه الصورة يمتنع حصول اعتقاد الرجحان، وإن عنيتم بهذا الأخذ: العزم على الإتيان بمقتضاها، فذاك العزم: إما أن يكون عزما جزما، بحيث يتصل بالفعل لا محالة، أو لا يكون كذلك: فإن كان الأول: كان الفعل في ذلك الوقت واجب الوقوع، فيمتنع ورود الإباحة والحظر؛ لأنه يكون ذلك إذنا في إيقاع ما يجب وقوعه، أو منعا عن إيقاع ما يجب وقوعه، وإن كان الثاني: وهو أن يكون العزم عزما فاترا، فها هنا يجوز له الرجوع؛ لأنه إذا عزم عزما فاترا على الترك، فلو أراد الرجوع عن هذا العزم، وقصد الإقدام على الفعل- جاز له ذلك؛ فلعمنا أن ما قالوه فاسد.

قوله: (هذه الدلالة لا تطرد عند تعارض أمارتي الوجوب والحظر): قلنا: لا قائل بالفرق. وأيضا: فالإباحة منافية للوجوب والحظر، فعندما تعادل أمارتي الوجوب والحظر: لو حصلت الإباحة، لكان ذلك قولا بتساقطهما، وإثباتا لحكم لم يدل عليه دليل أصلا. قوله: (لم) يجوز أن يكون في التساقط حكمة خفية؟): قلنا: لأن المقصود من وضع الأمارة أن يتوسل بها إلى المدلول، فإذا كان هو في ذاته بحيث يمتنع التوسل به إلى الحكم، كان خاليا عن المقصود الأصلي منه، ولا معنى للعبث إلا ذلك، وهذا بخلاف وقوع التعارض في أفكارنا؛ لأن الرجحان لما كان حاصلا في نفس الأمر، لم يكن واضعه عابثا، بل غايته أنا لقصورنا، أو تقصيرنا، ما انتفعنا به. أما إذا كان الرجحان مفقودا في نفس الأمر، كان الواضع عابثا. وأما القسم الثاني: وهو تعادل الأمارتين في فعلين متنافيين، والحكم واحد، فهذا جائز، ومقتضاه التخيير، والدليل على جوازه وقوعه في صور: إحداهما: قوله-عليه الصلاة والسلام- في زكاة الإبل: (في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة) فمن ملك مائتين، فقد ملك أربع خمسينات، وخمس أربعينات، فإن أخرج الحقاق، فقد أدى الواجب؛ إذ عمل بقوله: (في كل خمسين حقة) وإن أخرج بنات اللبون، فقد عمل بقوله- عليه الصلاة والسلام-: (في كل أربعين بنت لبون) وليس أحد اللفظين أولى من الآخر؛ فيتخير.

وثانيها: من دخل الكعبة، فله أن يستقبل أي جانب شاء؛ لأنه كيف فعل، فهو مستقبل شيئا من الكعبة. وثالثها: أن الولي، إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه، ولو قسمه عليهما، أو منعهما، لماتا، ولو سقى أحدهما؛ فها هنا: هو مخير بين أن يسقي هذا، فيهلك ذاك، أو ذاك، فيهلك هذا، ولا سبيل إلا التخيير. ورابعها: أن ثبوت الحكم في الفعلين المتنافيين-نفس إيجاب الضدين؛ وذلك يقتضي إيجاب فعل كل واحد منهما بدلا عن الآخر. واحتج الخصم على فساد التخيير؛ بأن أمارة وجوب كل واحد من الفعلين اقتضت وجوبه على وجه لا يسوغ الإخلال به، والتخيير بينه وبين ضده يسوغ الإخلال به، فالقول بالتخيير مخالف لمقتضى الأمارتين معا. والجواب: أما أمارة وجوب الفعل، فتقتضي وجوبه قطعا، وأما المنع من الإخلال به على كل حال: فموقوف على عدم الدلالة على قيام غيره مقامه، وإذا كان كذلك، لم يكن التخيير مخالفا لمقتضى الأمارتين. فرع: هذا التعادل: إن وقع للإنسان في عمل نفسه، كان حكمه فيه التخيير، وإن وقع للمفتي، كان حكمه أن يخير المستفتي في العمل بأيهما شاء، كما يلزمه ذلك في أمر نفسه، وإن وقع للحاكم، وجب عليه التعيين؛ لأن الحاكم نصب لقطع الخصومات، فلو خير الخصمين، لم تنقطع خصومتهما؛ لأن كل واحد منهما يختار الذي هو أوفق له، وليس كذلك حال المفتى. فإن قلت: (فهل للحاكم أن يقضي في الحكومة بحكم إحدى الأمارتين، إذا كان قد قضى فيها من قبل بالأمارة الأخرى):

قلت: لا يمتنع ذلك عقلا؛ كمن يجوز لمن استوى عنده جهتا القبلة: أن يصلي مرة إلى جهة، ومرة إلى جهة أخرى، إلا أنه منع منه دليل شرعي؛ وهو ما روي أنه- عليه الصلاة والسلام- قال لأبي بكرة- رضي الله عنه-: (لا تقضين في شيء واحد بحكمين مختلفين) فأما ما روي عن- عمر رضي الله عنه-: أنه قضى في (المسألة الحمارية) بحكمين، وقال: (ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي) فيجوز أن يكون ذلك ليس لتعادل الأمارتين؛ بل لأنه ظن في المرة الأولى قوة تلك الأمارة، وفي المرة الثانية قوة هذه الأمارة. الكلام في التعادل والترجيح (فائدة) قال القرافي: قال سيف الدين: الترجيح اقتران أحد الصالحين للدلالة على المطلوب مع تعارضهما بما يوجب العمل به، وإهمال الآخر. وقولنا: (الصالحين): احتراز عن غير الصالح؛ فإن الترجيح فرع تحقق الصالح. وقولنا: (المتعارضان) احتراز عن غير المتعارضين؛ فإن الترجيح إنما يطلب عند التعارض. وقولنا: (بما يوجب العمل بأحدهما، وإهمال الآخر) احتراز عما اختص به أحد الدليلين من الصفات الذاتية، أو العرضية، ولا مدخل له في التقوية والترجيح

(فائدة) قال سيف الدين: ويدل على أن العمل بالراجح واجب إجماع الصحابة، والسلف في المنقول من الوقائع كتقديمهم خبر عائشة في التقاء الختانين على خبر أبي هريرة في قوله عليه السلام: (إنما الماء من الماء). وما روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يصبح جنبا وهو صائم على ما رواه أبو هريرة من قوله عليه السلام: (من أصبح جنبا فلا صوم له). لكونها أعرف بحال النبي- عليه السلام- وكانوا لا يعدلون إلى الآراء والأقيسة إلا بعد البحث عن النصوص، واليأس منها، ومن استقرأ أحوالهم- رضوان الله عليهم- علم أن ذلك دأبهم بالضرورة. ويدل أيضا حديث معاذ على ذلك؛ لأنه- عليه السلام- قرره على تقديم الراجح؛ لأن مناسبة العقل تقتضي تقديم الراجح. قال إمام الحرمين في (البرهان): حكى القاضي البصري الملقب

بـ (جعل) إنكار الترجيح، ولم أره في شيء من مصنفاته مع بحثي عنها، مع أنه قد أجمع الأولون على الترجيح قبل اختلاف الآراء. واستدل القاضي لمنكري الترجيح بأنه غير معتبر في البينات، وهو غير متجه؛ فإن بعض العلماء يراه، ثم لو سلم فلعله يرى أن فيها تعبدات توقيفية. (فائدة) قال الغزالي في (المستصفى): (يجب على المجتهد في كل مسألة أن ينظر في النفي الأصلي قبل ورود السمع، ثم يبحث عن الأدلة السمعية المغيرة للنفي الأصلي، فينظر أولا في الإجماع، ثم في الكتاب والسنة؛ فإنهما يقبلان النسخ، والإجماع لا يقبله، ثم في الكتاب والسنة؛ المتواترة فهما على رتبة واحدة؛ لأن كل واحد يفيد العلم القاطع، والتعارض في العقليات محال إلا بالنسخ، ثم ينظر بعد ذلك في العمومات الكتابية وظواهرها، ثم في مخصصات العموم من أخبار الآحاد والأقيسة، فإن فقد ذلك نظر في القياس).

(المسألة الأولى) اختلفوا في تعادل الأمارتين هل يجوز؟ (فائدة) قال أبو الحسين في (المعتمد): قال المتكلمون: كل ما أفاد النظر فيه الظن فهو أمارة، كان عقليا أو شرعيا. وقال الفقهاء: القياس وخبر الواحد أدلة، ولا يسمون الأمارات العقلية أدلة، كالنظر في القبلة، وقيم المتلفات. قوله: (منع الكرخي تعادل الأمارتين): تقريره: أن المراد بالتعادل تساوي الظنين الحاصلين عنهما، والأمارتان لابد وأن يكونا من نوعين، وبينهما اختلاف بوجه ما. وحينئذ لابد لذلك الوجه من مدخل في التأثير، فيمتنع الاستواء في الظنين الناشئين عنهما. ووجه التجويز أن العادة قاضية بأن شهادة شاهدين متعارضين يجد الإنسان في نفسه الظني في أحدهما مثل الظن من أخبار الآخر إذا استويا في العدالة، والاستواء في العدالة في ظن الحاكم أيضا شهدت به العادة، وكذلك [الشخص] الواحد إذا روي حديثين متعارضين بسند واحد، يجد الظن منهما سواء بأن يكونا سواء في العموم والخصوص، وفصاحة اللفظ، ونحو ذلك، وبالجملة فالمحكم في هذه المسألة العادة، وما هو الواقع فيها. قوله: (قال القاضي بالتخيير):

تقريره: أن المجتهد إذا عمل بأحد الأمارتين، فقد عمل بمدرك شرعي، والمحذور إنما هو أن الحكم بالقوى أو قبل بذل الجهد، وهذا قد بذل جهده، فلا إثم حينئذ، والقول ىلآخر مبني على قاعدة، وهي أن الحجاج المعتبر منها إنما هو الظن الناشئ في ظنون المجتهدين؛ فإن الله- تعالى- نهى أن نقفو ما ليس لنا به علم؛ لأن غير المعلوم بصدد الخطأ والجهل بعذر حصول العلم في كثير من الصور أقام الشرع الظن مقامه؛ لغلبة صوابه، وندرة خطئه. فإذا لم يحصل ظن امتنع الحكم، ومع التساوي لا ظن، فلا حكم، فيرجع إلى البراءة الأصلية، كأنه لم يجد سببا ألبتة كتساقط البينتين. قوله: (تعادلهما في حكمين متنافيين في فعل واحد غير واقع في الشرع) ثم ذكر الدليل. قلنا: ترك العمل بهما غير محال؛ لأنا إذا أعرضنا عنهما، وجعلناهما كالعدم الصرف الذي لم يرد، واعتبرنا البراءة الأصلية كان ذلك تركا للعمل بهما. وقوله: (يكون وضعهما عبثا): قلنا: التعادل إنما هو بحسب ظن المجتهد، وقد يستويان في ظن مجتهد دون غيره، فيكون الوضع ليس عبثا لأجل من يحصل في ذهنه الترجيح، سلمناه، ولكن العبث هو قاعة المعتزلة. ونحن لا نقول به، فالمحال مبني عليه غير لازم. قوله: (إما أن يعمل بأحدهما على التعيين أو لا): تقريره: أن الحكم قد يكون بالتخيير بأحدهما عينا، فيلزم الترجيح من غير مرجح. قوله: (إذا خيرناه بين الفعل والترك، فيكون إباحة للقتل، فيكون

ترجيحا لأمارة الإباحة بعينها، فيلزم الترجيح من غير مرجح): قلنا: الدعوى عامة في تعارض الأمارتين، فقد لا تكون أحداهما الإباحة، بل إحداهما التحريم، والأخرى للوجوب، أو الكراهة والندب، أو الكراهة والوجوب، فما ذكرتموه إنما يلزم في بعض الصور القليلة بالنسبة إلى بقية المسألة، تفكون الدعوى عامة، والدليل خاصا، فلا يفيد كمن قال: الحيوان كله حرام؛ لأن الخنزير حرام. سلمنا أن الدليل عام، لكن لا يلزم الترجيح من غير مرجح؛ لأنا حينئذ إنما أبحنا له الفعل من جهة التخيير بينهما، لا من جهة قصدنا إلى أمارة الإباحة، فهي إباحة أدى إليها حكم التخيير، لا أمارة ألتخيير. بل اتفق أن حكم التخيير وافق أحدهما، فلا يقتضي ذلك ترجيحهما على الأخرى من غير مرجح. كما إذا أقرعنا بين الرجلين لو شهدت البينة لأحدهما، فإنما نقضي بوجوب إرادته، ومقصوده في بعض الصور إذا صادف ذلك. ولا يقال: إنا رجحناه على خصمه من غير مرجح؛ لأن ذلك نشأ عن سبب أقتضى حصول مقصوده؛ لأن المعتمد نفس مقصوده. سلمنا دليلكم بجملته، لكنه يقتضي أن وقوعهما يلزم منه تكليف ما لا يطاق؛ بسبب اجتماع النقيضين بالعمل بهما، أو الترجيح من غير مرجح إذا عينا إحداهما، والتكليف بما لا يطاق جائز عندنا، وهو الذي اختاره المصنف في ذلك. قوله: (المراد بالأخذ بإحدى الأمارتين إما أن يكون اعتقاد رجحانها، أو العزم على الإتيان بمقتضاها): قلنا: هذا ترديد بين المراتب التي هي غير منحصرة، فلا يفيد مع أن الحق لم يذكر فيها؛ لأن الأخذ بالدليل هو اعتقاد موجبه، وذلك غير اعتقاد

رجحانه؛ وغير العزم على الإتيان بمقتضاه. أما أنه مغاير لاعتقاد الرجحان، فلأن اعتقاد مقتضاه قد يكون مع التساوي، كما قال القاضي؛ فقد وجد بدون الرجحان، وأما ثانيا: فلأنه يترتب على رجحان الدليل في نفسه، والمترتب على الشيء غيره. وأما أنه غير العموم على الإتيان بمقتضاه؛ فلأنه قد يقتضي الإباحة، ولا عزم حينئذ على الفعل ضرورة التخيير، ولذلك قد يقتضي التحريم، أو الكراهة، فلا عزم على الإتيان بمقتضى الحكم الشرعي، بل بمقتضى العصيان والمخالفة. ثم قوله: (إذا كان العزم فاترا جاز له الرجوع)،ولم يبين ما يلزم من ذلك من المفاسد، وهو لا يلزم عليه شيء وهو احد الأقسام. فللسائل التزامه، فيبطل الاستدلال بهذا التقسيم. (سؤال) قال النقشواني: تنافي الحكمين قد يكون في طرف الثبوت والانتفاء، كما إذا دلت أمارة على أن هذا لفعل بعينه غير ممنوع عنه، بمعنى لا حرج على فاعله، ودلت أمارة على أنه ممنوع، وقد يكون تنافيهما في طرف الثبوت كدلالة الأمارة على أن هذا الفعل واجب، والأخرى على انه مباح، أو في طرفي الانتفاء فقط، كدلالتها على وجوب صرف درهم لزيد، والأخرى على صرف درهم لعمرو. وأما الثالث: فلا تعارض فيه وليس له ترك واحد منهما، ولا سبيل إلى الجمع بينهما في الأول. وأما الثاني: فيمكن إعمالهما من وجه؛ لأن كل واحدة تقتضي أن الفعل ليس محظورا، فيحرم الحظر، ويتوقف في الزائد عليه إلى ظهور المرجح،

فإن عنى المصنف بقوله: (في المتنافيين والفعل واحد)؛ ليتنافيا ثبوتا وانتفاء، فلا يكون تمثيله بدلالة إحداهما على انه قبيح، ودلالة الأخرى على أنه مباح مطابقا؛ لعدم حصول التنافي ثبوتا وانتفاء من كل وجه، فيمكن أن يعمل بهما في اعتقاد عدم الوجوب. ويتوقف في الحظر والإباحة إلى ظهور المعارض، وكذلك في أمارتي الوجوب والإباحة، وأمارتي الوجوب والحظر. فالحظر والإباحة ترادفت أمارتهما على جواز الفعل، فترجحت أمارة الإباحة إذا اجتمعت مع الوجوب والحظر؛ لاعتضادها بالطرفين. فإن قيل: أمارة الوجوب والحظر تنفيان الإباحة فترادفتا على نفيها، وحينئذ يحصل التعادل من هذا الوجه. قلنا: لم تجتمع أمارتا الحظر والوجوب على محل واحد بالنسبة إلى نفي الإباحة، بل دلالة كل واحد منهما بواسطة دلالتها على شيء غير مدلول الدلالة الأخرى، فكانت دلالة أمارة الإباحة أقوى فينتفي التعادل. (سؤال) قال النقشواني: في كلامه تناقض؛ لأنه حكم بالجواز، واحتج بأن تعيينها يلزم منه الترجيح من غير مرجح، والترجيح من غير مرجح يلزم منه الامتناع، وهو يناقض الامتناع. هذا في القسم الأول، وفي القسم الثاني فرض التعادل، وحكم بالتخيير، فالحكم بالتخيير إن كان ترجيحا من غير مرجح فقد وقع الترجيح من غير مرجح، فتناقض قوله في القسم الأول، وإن لم يكن ترجيحا من غير مرجح، فلا يتم الاستدلال في القسم الأول. (سؤال)

قال النقشواني: جعل من المثل تعارض الحديثين في الزكاة، وليس كذلك؛ لأنه من شرط التعادل أن يلزم من العمل بأحد الأمارتين ترك الأخرى، وها هنا هما مترادفتان على معنى واحد في المعنى، ومتى عمل بأحدهما فقد عمل الآخر. وأما مثاله بالكعبة، فلم يوجد فيه أمارتان. بل الواجب التوجه من أي جهة كان، وإلى أي جهة كان، بل ذلك كصلاة الظهر في أي مكان شاء. (تنبيه) قال التبريزي: لا خلاف في جواز تعارض دليلين عند إتحاد الحكم، واختلاف المتعلق، كوجوب استقبال كل جانب من جوانب الكعبة على الداخل، ووجوب إخراج الحقاق وبنات اللبون من نصاب المائتين. أما عند اختلاف الحكم، واتحاد المتعلق، فإن كان في نظرنا، فهو أيضا جائز، وأما في نفس [الأمر] فقد أنكره الكرخي. قال: وأجاب عن السؤال الثاني، بأن إذا رفعنا الحرج عن الفعل، فقد عملنا بدليل الإباحة أو أثبتناه، فقد عملنا بدليل الحظر. قال: وهذا غلط عظيم؛ لأن هذا هو وجه التزييف؛ لأنه مهما ثبت أن مقتضى خطاب الإباحة رفع الحرج عن الفعل مطلقا بالنظر إلى ذات الفعل، فرفع الحرج بشرط قيد زائد وراء نفس الفعل لا يكون موافقا لمقتضى الخطاب، فلا يكون عملا بمقتضى الخطاب، ثم لا ننكر أن رفع الحرج بهذا التقدير يدخل أيضا تحت اقتضائه، فتكون موافقة له من وجه، لكن مثل هذا ثابت بالإضافة إلى خطاب التحريم، فلا يكون تقديما عليه في العمل، وهذا جواب واقع، وبه اندفع الإشكال عن مذهب الجمهور، وأجاب عن الثالث

بأنه لا قائل بالفرق، وهو ضعيف. وأجاب عن الرابع بأن حكمة نصب الأمارة التوصل بها إلى المدلول، وهذا الحصر أيضا غير مسلم. قلت: يريد بقول: (إنه وجه التزييف) أن رفع الحرج عن الفعل هو وجه من دليل الإباحة، لا مجموع دليل الإباحة. وكذلك دليل الحظر يقتضي رفع الحرج عن الترك، وهو وجه في الإباحة، فليس في ذلك إعمال أحد الدليلين عينا، فهذا وجه تغليطه له. * * *

المسألة الثانية قال الرازي: إذا نقل عن المجتهد قولان: فإما أن يوجد له في المسألة قولان في موضع واحد، أو في موضعين: فإن وجد القولان في موضعين؛ بأن يقول في كتاب؛ بتحريم شيء، وفي كتاب أخر، بتحليله: فإما أن يعلم التاريخ، أو لا يعلم: فإن علم التاريخ: فالثاني منهما رجوع عن الأول ظاهرا- وإن لم يعلم التاريخ: حكي عنه القولان، ولا يحكم عليه بالرجوع إلى أحدهما بعينه- وإن وجد القولان في الموضع الواحد؛ بأن يقول: (في المسألة قولان) فإما أن يقول عقيب هذا القول ما يشعر بتقوية أحدهما، فيكون ذلك قولا له؛ لأن قول المجتهد ليس إلا ما ترجح عنده، وإن لم يقل ذلك، فهاهنا من الناس: من قال: إنه يقتضي التخيير إلا أنا أبطلنا ذلك. وأيضا: فتقدير صحته يكون له في المسألة قول واحد، وهو التخيير، لا قولان. بل الحق: أن ذلك يدل على أنه كان متوقفا في المسألة، ولم يظهر له وجه رجحان، والمتوقف في المسألة لا يكون له فيها قول واحد؛ فضلا عن القولين، أما إذا لم يعرف قوله في المسألة وعرف قوله في نظيرها، فهل يجعل قوله في نظيرها قولا له فيها؟ فنقول إن كان بين المسألتين فرق يجوز أن يذهب إليه ذاهب، لم يحكم بأن قوله في المسألة كقوله في نظيرها؛ لجواز أن يكون قد ذهب إلى الفرق وإن لم يكن بينهما فرق ألبتة، فالظاهر: أن قوله في إحدى المسألتين قول له في الأخرى.

وأما الأقوال المختلفة عن الشافعي- رضي الله عنه- فهي على وجوه: أحدهما: أن يكون قد ذكر في كتبه القديمة شيئا، وفي كتبه الجديدة شيئا أخر، والناس نقلوهما دفعة واحدة، وجعلوهما قولين له: فالمتأخر كالناسخ للمتقدم، وهذا النوع من التصرف يدل على علو شأنه في العلم والدين: أما في العلم: فلأنه يعرف به أنه كان طول عمره مشتغلا بالطلب، والبحث، والتدبر. وأما في الدين: فلأنه يدل على أنه متى لاح له في الدين شيء، أظهره؛ فإنه ما كان يتعصب لنصرة قوله، وترويج مذهبه، بل كان منتهى مطلبه به إرشاد الخلق إلى سبيل الحق. وثانيها: أن يكون قد ذكر القولين في موضع واحد، ونص على الترجيح، كقوله في بعض ما ذكر فيه قولين: (وبهذا أقول، وهذا أولى، وبالحق أشبه). وأيضا، فقد يفرغ على أحدهما، ويترك التفريع على الأخر؛ فيعلم أن الذي فرع عليه أقوى عندهم. وأيضا: فربما نبه في أخر كلامه على الترجيح؛ لكن المطالع قد لا يتبع كلامه إلى آخره، وقد يمل فلا؛ ينتبه لموضع الترجيح. وثالثها: أن يقول: (في هذه المسألة قولان) ولا ينبه على الترجيح ألبتة، فها هنا احتمالان: أحدهما: أنه قال: (في هذه المسألة قولان) ولم يقل: (لي فيها قولان) فيمكن أن يكونا قولين لبعض الناس؛ وإنما ذكرهما، لينبه الناظر في كتابه على مأخذهما، وإيضاح القول فيما لكل واحد منهما وعليهما، ولأنه لو لم يذكرهما، فربما خطر ببال إنسان وجه في قوته، إلا أنه لا يمكنه القول به؛

لظنه أنه قول حادث، خارق للإجماع؛ فإذا نقله عرف أن المصير إليه ليس خرقا للإجماع، ثم جاء الناقل؛ فجعلها قولين للشافعي، فهذا لا يكون عيبا على الشافعي، بل على الناقل؛ فإن الشافعي لم يقل: (لي فيها قولان)، بل قال: فيها قولان، فإذا جزم الراوي بكونها قولين للشافعي، كان العيب على الناقل. وثانيهما: لعل مراد الشافي بقوله: (فيهما قولان) أن في المسألة احتمالين يمكن أن يقول بهما قائل، وذلك إذا كان ما سوى ذينك القولين ظاهر البطلان، فأما ذانك القولان، فكونان قويين؛ بحيث يمكن نصرة كل واحد منهما بوجوه جلية ظاهرة، ولا يقدر على تمييز الحق منهما عن الباطل إلا البالغ في التحقيق؛ فلا جرم؛ أفردهما بالذكر، دون سائر الوجوه، وكما أنه يجوز أن يقال للخمر التي في الدن: (إنها مسكرة) وللسكين التي لم تقطع: (إنها قاطعة) والمراد منه: الصلاحية، لا الوقوع، فكذلك ها هنا، ثم إنه لم يرجح أحدهما على الآخر؛ لأنه لم يظهر له فيه وجه الترجيح. ونقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن الشيخ أبي حامد الإسفراييني أنه قال: (لم يصح عن الشافي- رضي الله عنه- قولان على الوجه إلا في سبع عشرة مسألة. أقول: وهذا أيضا يدل على كمال منصبه في العلم، والدين: أما العلم: فلأن كل من كان أغوص نظرا، وأدق فكرا، وأكثر إحاطة بالأصول والفروع، وأتم وقوفا على شرائط الأدلة، كانت الإشكالات عنده أكثر. أما المصر على الوجه الواحد عمره في المباحث الظنية؛ بحيث لا يتردد فيه فذاك لا يكون إلا من جمود الطبع، وقلة الفطنة، وكلال القريحة، وعدم الوقوف على شرائط الأدلة والاعتراضات.

وأما الدين: فمن وجهين: الأول: أنه لما لم يظهر له فيه وجه الرجحان، لم يستح من الاعتراف بعدم العلم، ولم يشتغل بالترويج والمداهنة، بل صرح بعجزه عما هو عاجز فيه، وذلك لا يصدر إلا عن الدين المتين، كيف وقد نقل عن عمر- رضي الله عنه-: اعترافه بعدم العلم، في كثير من المسائل، وجميع المسلمين عدوا ذلك من مناقبه وفضائله؛ فكيف جعلوه عيا ها هنا؟!. والثاني: وهو أنه- رضي الله عنه- لم يقل ابتداء: (إني لا أعرف هذه المسألة) بل وجد المسألة واقعة بين أصلين، فذكر وجه وقوعهما بينهما، وكيفية اشتباههما بهما، ثم لما لم يظهر له الرجحان، تركها على تلك الحالة؛ ليكون ذلك بعثا له على الفكر بعد ذلك، وحثا لغيره من المجتهدين على طلب الترجيح، وهذا هو اللائق بالدين المتين، والعقل الرصين، والعلم الكامل؛ بل من أنصف واعترف بالحق، علم أن ذلك مما يدل على رجحان حاله، على حال سائر المجتهدين في العلم والدين. المسألة الثانية (إذا نقل عن المجتهد قولان) قال القرافي: قوله: (بل الحق أن ذلك يدل على أنه متوقف في المسألة) فيه إشكال من جهة أنه لا قول مع التوقف، والتقدير أنه حكى عنه قولان. وطريق الجمع أنه بالقولين عن الاحتمالين، كما بينه آخر المسألة. * * *

القسم الثاني قال الرازي: في مقدمات الترجيح، وفيه مسائل: المسألة الأولى: الترجيح: (تقوية أحد الطرفين على الآخر؛ ليعلم الأقوى، فيعمل به، ويطرح الآخر) وإنما قلنا: (طريقين) لأنه لا يصح الترجيح بين أمرين إلا بعد تكامل كونهما طريقين، لو انفرد كل واحد منهما [،لكان طريقا] فإنه لا يصح ترجيح الطريق على ما ليس بطريق. المسألة الثانية: الأكثرون اتفقوا على جواز التمسك بالترجيح، وأنكره بعضهم؛ وقال عند التعارض: يلزم التخيير أو التوقف. لنا وجوه: الأول: إجماع الصحابة على العمل بالترجيح؛ فإنهم قدموا خبر عائشة- رضي الله عنها- في (التقاء الختانين) على قول من روى: (إنما الماء من الماء) وخبر من روت من أزواجه: (أنه كان يصبح جنبا) على ما روى أبو هريرة: (أنه من أصبح جنبا، فلا صوم له) وقوى على خبر أبو بكر، فلم يحلفه، وحلف غيره، وقوى أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة، بموافقة محمد بن مسلمة، وقوى عمر خبر أبي موسى في الاستئذان؛ بموافقة أبي سعيد الخدري. الثاني: أن الظنين، إذا تعارضا، ثم ترجح أحدهما على الأخر، كان العمل بالراجح متعينا عرفا؛ فيجب شرعا؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام-: (ما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن). الثالث: أنه لو لم يعمل بالراجح، لزم العمل المرجوح، وترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في بدائه العقول.

القسم الثاني (في مقدمات الترجيح)

واحتج المنكر بأمرين: الأول: أن الترجيح، لو اعتبر في الأمارات، لاعتبر في البينات في الحكومات؛ لأنه لو اعتبر، لكانت العلة في اعتباره ترجيح الأظهر على الظاهر، وهذا المعنى قام ها هنا. الثاني: أن إيماء قوله تعالى: {فاعتبروا} [الحشر: 2] وقوله- عليه الصلاة والسلام-: (نحن نحكم بالظاهر) يقتضي إلغاء زيادة الظن. والجواب عن الأول والثاني: أن ما ذكرته دليل ظني، وما ذكرناه قطعي، والظني لا يعارض القطعي. القسم الثاني (في مقدمات الترجيح) قال القرافي: قوله: الترجيح: تقوية أحد الطرفين): قلنا: قد تقدم أول الباب كلام السيف في هذا المعنى، فيضم إلى هذا المسألة الثانية الأكثر، وإن اتفقوا على جواز الترجيح. قوله: (قوى أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة؛ لموافقة محمد بن مسلمة. قلنا: لم يتعارض في الجدة خبران، وليس هذا موطن الترجيح، بل اتفق أن ابن مسلمة روى مع المغيرة، وكذلك خبر أبي موسى في الاستئذان بموافقة أبي سعيد لم يكن تعارضا، وأنتم اشترطتم أول الباب التعارض في حقيقة الترجيح. وهاهنا أوردتموه بغير تعارض بل فعل ذلك عمر- رضي الله عنهم أجمعين- لا لقصد الترجيح، بل لسد الذريعة في الجرأة على الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

قوله: (الترجيح حسن في العرف، فيكون حسنا في الشرع؛ لقوله عليه السلام: (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن): قلنا: قد تقدم مرارا السؤال على هذا الحديث وهو أنه إذا كان زيد يرى الماء البارد حسنا في الصيف، وقلنا: ما رآه زيد حسنا، فهو عند عمر حسن. ما نريد إلا الماء البارد في الصيف على ذلك الوجه، وتلك الحالة في ذلك المعنى، وأهل العرف إنما رأوا ذلك حسنا في دنياهم، فيكون عند الله حسنا في الدنيا، فيبطل الدليل على أنه حسن في الشريعة. وقد تقدم الجواب بان اللفظ من الشارع إذا دار بين فائدة شرعية، أو عقلية، فالأول أولى؛ لأنه- عليه السلام- بعث لبيان الشرعيات، وكونه عند الله مثل ما هو عند الناس في الدنيا- يرجع ذلك إلى كونه- تعالى- عاملا فقط، وذلك معنى عقلي، وكونه عنده كذلك بمعنى أنه شرعه تكون فائدة الكلام الشرعية، فيكون أولى. قوله: (لو لم يعمل بالراجح علم بالمرجوح): قلنا: لا نسلم، بل عند الخصم يعمل بالمشترك بينهما مع قطع النظر عن الترجيح، فلا يصدق، أما علمنا بالراجح ولا المرجوح، هذا إذا قلنا بالتخيير. وإن قلنا بالتوقف سقطتا معا، كما يسقط اعتبار الراجح في خير العدل المنفرد؛ فإن الراجح صدقه، والمرجوح كذبه، ومع ذلك فلا يحكم الحاكم بصدقه، ولا كذبه، وما لزم العمل بالمرجوح عند عدم العمل بالراجح، وكذلك كل ظن ألغاه الشرع، فإن الوهم معه ملغي. قوله: (لو اعتبر الترجيح في الأمارات لاعتبر في الحكومات): قلنا: وإنه معتبر عند مالك، وجماعة من العلماء في الأموال دون الدماء.

ثم الفرق أن البينات أشد خطرا، ولذلك اشترط فيه العدد وغيره؛ لاحتمال العداوة الباطنة التي لم يطلع عليها الخلق، وإذا عظم خطره تعين ألا يعمل فيه إلا بسبب سالم عن المعارض فضلا عن الترجيح؛ لأن الترجيح اشتمل على نقضين: أحدهما: أنه لا يكون إلا مع التعارض. والثاني: أن أحد المتساويين يسقط بمثله، ويبقى الاعتماد على الترجيح، وهو أضعف من أصل السبب، إنما هو ضميمة لطيفة، ولذلك يحسن في الرواية دون الشهادة لعظم الحظر فيها. قوله: (لا يعتبر الترجيح؛ لقوله تعالى: {فاعتبروا} [الحشر: 2]، ولقوله عليه السلام: (نحن نحكم بالظاهر): قلنا: الآية لا تقتضي عدم اعتبار الترجيح، بل دلت على القدر المشترك من الصور والاستدلال، والدال على الأعم غير دال على الأخص نفيا ولا إثباتا. وأما الحديث وإن دل على اعتبار المرجوح لكونه ظاهرا بالنظر إلى ذاته، فهو يدل أيضا على اعتبار الراجح لكونه ظاهرا بالاعتبارين: باعتبار ذاته، وباعتبار ما حصل له من الترجيح، فهو يتناول الجميع؛ لأن الأظهر ظاهر قطعا، فهو متناول له بعمومه. (سؤال) قال النقشواني: جواب المصنف ضعيف بالنسبة إلى الوجه الأول؛ لأن الوجه متفرد بعين ما ذكره المستدل في اعتبار الترجيح بزيادة الظن، فإن كان ذلك قطعيا فهو في جانب المعترض أيضا قطعي، وإن لم يكن قطعيا فقد سقط الجواب.

(تنبيه) قال التبريزي: يمتنع عدم اعتبار زيادة الظن في الشهادات؛ فإنا نرجح بالتاريخ، وبزيادة العمل، وباليد، والجرح، والتعديل، وإنما لا يرجح في مواضع مخصومة؛ لقيام الدليل على إلغاء تلك الزيادة كما في زيادة العدد. كما لا يعتبر أصل الظن في مواضع، ثم كيف يترك الإجماع بقياس الرواية على الشهادة؟ وأما الخبر؛ فالمراد به استقلال الظن بوجوب العمل، لا إلغاء الزيادة عند التعارض. ثم مقتضاه العمل بالراجح، فإنه هو الظاهر، وقد خالفتموه بالنظر إليه، وإلى معارضيه جميعا على أن أظهر معانيه تخصيص نفوذ الحكم بالظاهر دون الباطن على مقتضى مذهبنا. (فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): معظم الأصوليين على منع الترجيح بغير تمسك بدليل مستقل. وقيل: يجوز الاكتفاء بالترجيح. قاله بعض أصحاب عبد الجبار، وهو باطل؛ لأن الترجيح ينشأ عن الدليل، فحيث لا دليل لا ترجيح. * * *

المسألة الثالثة قال الرازي: الترجيح لا يجري في الأدلة اليقينية؛ لوجهين: الأول: أن شرط الدليل اليقيني: أن يكون مركبا من مقدمات ضرورية، أو لازما عنها لزوما ضروريا، إما بواسطة واحدة، أو بوسائط شأن كل واحدة منها ذلك، وهذا لا يتأتى إلا عند اجتماع علوم أربعة: أحدها: العلم الضروري بحقيقة المقدمات؛ إما ابتداء، أو استنادا. وثانيها: العلم الضروري بصحة تركيبها. وثالثها: العلم الضروري بلزوم النتيجة عنها. ورابعها: العلم الضروري بأن ما يلزم عن الضروري لزوما ضروريا، فهو ضروري، فهذه العلوم الأربعة يستحيل حصولها في النقيضين معا؛ وإلا لزم القدح في الضروريات، وهو سفسطة، وإذا استحال ثبوتها، امتنع التعارض. الثاني: أن الترجيح عبارة عن التقوية، والعلم اليقيني لا يقبل التقوية؛ لأنه إن قارنه احتمال النقيض، ولو على أبعد الوجوه، كان ظنا، لا علما، وإن لم يقارنه ذلك، لم يقبل التقوية. المسألة الرابعة اشتهر في الألسنة: أن العقليات لا يجري الترجيح فيها، وهذا فيه تفصيل؛ فإنا إن لم نكلف العوام بتحصيل العلم بالمعتقدات، بل قنعنا منهم بالاعتقاد الجازم على سبيل التقليد لم يمتنع تطرق التقوية إليه.

المسألة الثالثة (لا ترجيح في الأدلة اليقينية) قال القرافي: قوله: (الأول: العلم الضروري بحقيقة المقدمات ابتداء [أو] إستادا): يريد بالابتداء: أن تكون بديهية. وبالإسناد: أن تكون نظرية استفدناها من مقدمات بديهية. قوله: (الثاني: العلم بحصة تركيبها): يريد: ما اشترطه المنطقيون في شروط الشكل الأول، وغيره من الشرائط على ما بسط في موضعه. قوله: (الثالث: العلم بوجوب النتيجة عنها): تقريره: أنه قد تكون المقدمات ضرورية، وتركيبها ضروري صحيح، ومع ذلك قد تكون النتيجة غير نتيجة ذلك التركيب غلطا من الناظر. كقولنا: كل هب عين، وكل عين يبصر بها، ينتج: كل ذهب يبصر به، وهو غلط جاء عن الشركة اللفظية؛ فإن الذهب يسمى عينا، والحدقة تسمى عينا، فاغتر بصورة اللفظ، فحصل الغلط. قوله: (العلم اليقين لا يقبل التقوية): قلنا: قد اختلف العقلاء: هل العلم يقبل التفاوت أم لا؟ واستدلوا على التفاوت بأن العلوم الحسية أجلى عند العقل من البديهية، والبديهية أجلى من النظرية. فإن العلم بأن الواحد نصف الاثنين أظهر عند العقل من العلم بأن المرتفع من سبعة في سبع تسع وأربعون، وقالوا: إن رؤية الله- تعالى- في الآخرة.

معناه: خلق علم ضروري للبشر تكون نسبته إليه- تعالى- كنسبة العلم الحاصل من فتح العين على زيد إليه. وهذا كله يفيد التفاوت في العلم. قوله: (احتمال النقيض على البعد يخل بالعلم): قلنا: هذا ليس على إطلاقه، بل الاحتمال العقلي يخل بالعلوم العقلية، ولا يخل بالعلوم العادية؛ فإنا نقطع بأن (دجلة) لم تنقلب زيتا، وإن (أحدا) لم ينقلب ذهبا، ومع ذلك فنحن نجوز ذلك عليهم عقلا. وإنما يخل بالعلوم العادية للاحتمال العادي، لا للاحتمال العقلي. كما أن زيدا يحتمل عادة أن يعيش مائة وعشرين سنة، فلا جرم لا نجزم بموته قبل ذلك. * * *

المسألة الخامسة قال الرازي مذهب الشافعي- رضي الله عنه- حصول الترجيح بكثرة الأدلة. وقال بعضهم: لا يحصل. ومن صور المسألة: ترجيح أحد الخبرين على الآخر لكثرة الرواة. لنا وجهان: الأول: أن الأمارات متى كانت أكثر، كان الظن أقوى، ومتى كان الظن أقوى، تعين العمل به. بيان الأول من وجوه: أحدهما: أن الرواة إذا بلغوا في الكثرة حدا حصل العلم بقولهم، وكلما كانت المقاربة إلى ذلك الحد أكثر، وجب أن يكون اعتقاد صدقهم أقوى. وثانيها: أن قول كل واحد منهم يفيد قدرا من الظن، فإذا اجتمعوا، استحال ألا يحصل إلا ذلك القدر الذي كان حاصلا بقول الواحد، وإلا فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان، وهو محال؛ فإذن: لابد من الزيادة. وثالثها: أن احتراز العدد عن تعمد الكذب أكثر من احتراز الواحد، وكذا احتمال الغلط والنسيان على العدد أبعد. ورابعها: أن احتراز العاقل عن كذب يعرف اطلاع غيره عليه أكثر من احترازه عن كذب لا يشعر به غيره. وخامسها: أنا إذا فرضنا دليلين متعارضين يتساويان في القوة في ذهننا، فإذا

وجد دليل آخر يساوي أحدهما، فمجموعهما لابد وأن يكون زائدا على ذلك الآخر؛ لأن مجموعهما أعظم من كل واحد منهما، وكل واحد منهم مساو لذلك الآخر، والأعظم من المساوي أعظم. وسادسها: اجتماع الصحابة على ّأن الظن الحاصل بقول الاثنين أقوى من الظن الحاصل بقول واحد؛ فإن الصديق: لم يعمل بخبر المغيرة في مسألة الجدة؛ حتى شهد له محمد بن مسلمة. وعمر: لم يقبل خبر أبي موسى؛ حتى شهد له أبو سعيد الخدري، فلولا أن لكثرة الرواة أثرا في قوة الظن، وإلا لما كان كذلك؛ فثبت بهذه الوجوه أن الظن إذا كان أقوى، وجب أن يتعين العمل به؛ وذلك لأنا أجمعنا على جواز الترجيح بقوة الدليل، وجواز الترجيح بقوة الدليل إنما كان لزيادة القوة في أحد الجانبين، وهذا المعنى حاصل في الترجيح بكثرة الأدلة. بلى؛ إذا كان الترجيح بالقوة، حصلت الزيادة مع المزيد عليه، ولا في فرق إلا أن في الترجيح بالقوة، وجدت الزيادة مع المزيد عليه. وفي الترجيح بالكثرة: حصلت الزيادة في محل، والمزيد عليه في محل آخر، والعلم الضروري حاصل بأنه لا أثر لذلك. الوجه الثاني في المسألة: أن مخالفة كل دليل خلاف الأصل، فإذا وجد في أحد الجانبين دليلان، وفي الجانب الآخر دليل واحد، كانت مخالفة الدليلين أكثر محذورا من مخالفة الدليل الواحد؛ فاشترك الجانبان في قدر من المحذور، واختص أحدهما بقدر زائد، ولم يوجد في الطرف الآخر، ولو لم يحصل

الترجيح، لكان ذلك التزاما، لذلك القدر الزائد من المحذور من غير معارض؛ وإنه غير جائز. واحتج الخصم بالخبر، والقياس: أما الخبر: فقوله- عليه الصلاة والسلام-: (نحن نحكم بالظاهر) فهذا بإيمائه يدل على أن المعتبر أصل الظهور، وأن الزيادة عليه ملغاة، ترك العمل به في الترجيح بقوة الدليل؛ لأن هناك الزيادة مع المزيد عليه حاصلان في محل، والقوى حال اجتماعهما تكون أقوى منها حال تفرقها؛ بخلاف الترجيح بكثرة الدليل؛ فإن هناك الزيادة في محل، والمزيد عليه في محل آخر؛ فلا يحصل كمال القوة. أما القياس: فقد أجمعنا على أنه لا يحصل الترجيح بالكثرة في الشهادة والفتوى، فكذا هاهنا. وأيضا: اجمعنا على أن الخبر الواحد، لو عارضه ألف قياس، فإنه يكون راجحا على الكل، وذلك يدل على أن الترجيح لا يحصل بكثرة الأدلة. الجواب عن الأول: أن ذلك الإيماء ترك العمل به في الترجيح بالقوة؛ فوجب أن يترك العمل به في الترجيح بالكثرة؛ لأن المعتبر قوة الظن، وهي حاصلة في الموضعين. أما قوله: (إن في الترجيح بالقوة: تحصل الزيادة مع المزيد في محل واحد، وللاجتماع أثر): قلت: نحن نعلم أنه، وإنه كان محل الزيادة مغايرا للأصل، لكن مجموعهما مؤثر في تقوية الظن؛ فإنه إذا أخبرنا مخبر عدل عن واقعة، حصل ظن ما، فإذا أخبرنا ثان، صار ذلك الظن أقوى، وإذا أخبرنا ثالث، صار ذلك الظن أقوى، ولا تزال القوة تزداد بازدياد المخبرين؛ حتى ينتهي إلى العلم؛ فعلمنا أن ما ذكروه من الفرق لا يقدح في كونه مقويا للظن.

وأما فصل الشهادة: فعند مالك- رحمه الله-:يحصل الترجيح فيها بكثرة الشهود. والفرق أن الدليل يأبى اعتبار الشهادة حجة؛ لما فيه من توهم الكذب والخطأ، وتنفيذ قول شخص على شخص مثله، إلا أنا اعتبرناها فصلا للخصومات؛ فوجب أن تعتبر حجة على وجه لا يفضي إلى تطويل الخصومات؛ لئلا يعود على موضوعه بالنقض، فلو أجرينا فيه الترجيح بكثرة العدد، لزم تطويل الخصومة؛ فإنهما إذا أقاما الشهادة من الجانبين على السوية، كان لأحدهما أن يستمهل القاضي؛ ليأتي بعدد آخر من الشهود، فإذا أمهله من إقامتها بعد انقضاء المدة، كان للآخر أن يفعل ذلك، ويفضي ذلك إلى ألا تنقطع الخصومة ألبتة، فأسقط الشرع اعتبار الترجيح بالكثرة؛ دفعا لهذا المحذور. وأما الترجيح بكثرة المفتين، فقد جوزه بعض العلماء. وأما قوله: (الخبر الواحد يقدم على القياسات الكثيرة): قلنا: إن كانت أصول تلك القياسات شيئا واحدا، فالخبر الواحد يقدم عليها؛ وذلك لأن تلك القياسات لا تتغاير، إلا إذا عللنا حكم الأصل في كل قياس بعلة أخرى، والجمع بين كلها محال؛ لما عرفت أنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين، وإذا لعلمنا أن الحق منها ليس إلا الواحد، لم تحصل هناك كثرة الأدلة. أما إن كان أصول تلك القياسات كثيرة، فلا نسلم أنه لا يحصل الترجيح.

المسألة الخامسة الترجيح بكثرة الأدلة قال القرافي: قوله: (قال عليه السلام: (نحن نحكم بالظاهر) يدل على اعتبار أصل الظهور فقط، وأن الزيادة ملغاة): قلنا: لا نسلم، بل (الألف) و (اللام) فيه لاستغراق كل ما يصدق عليه أنه ظاهر. والأظهر يصدق عليه أنه ظاهر، فيتناوله عموم اللفظ. (فائدة) قال إمام الحرمين: قال الأكثرون بالترجيح بكثرة الرواة، وهو مذهب الفقهاء، منعه بعض المعتزلة. قال القاضي: والتقديم بكثرة الرواة لا أراه من المسائل القطعيات، بل من مسائل الاجتهاد. قال الإمام: بل إذا روى أحد الحديثين واحد، وروى الأخر جمع، فإنا نقطع بأن الحكم تقديم ما رواه الجمع إذا استوت أحوال الرواة، وهو طريق الصحابة رضوان الله عليهم. أما قياس وخبران متعارضان كثرت رواة أحدهما، فالمسألة ظنية؛ فإن الخبر الذي نقله الواحد يضعف الظن بالذي يعارضه، فيبعد أن يستقل دليلا.

والذي يقتضيه هذا المسلك النزول عنها، والتمسك بالقياس، وترجيح القياس الذي يعضده الخبر الذي يرويه الجمع، ولو تجرد القياس في الجانب الأخر، فهو مستمسك الحكم، ولكن قد يظن أن الصحابة كانوا يقدمون الخبر الذي يرويه الجميع، ويضربون عن القياس؛ تعظيما للنصوص، ولا نقطع بذلك، ولا تثبت أصول الشريعة إلا بمستند قطعي، فما قطعنا به أثبتناه، وما ظنناه ترددنا فيه، وألحقناه بالمظنونات، وإن وافق القياس الخبر الذي يرويه الواحد، فالمسألة ظنية أيضا. والي يرويه الجمع فلا يشك في العمل بالقياس، واختصاص إحدى الروايتين بمزيد قوة كاختصاص أحد الخبرين بكثرة الرواة. فإن كان الراوي ثقة، وراوي الخبر الأخر جمع لا يبلغ آحادهم ثقة [هذا] الراوي، فمن أهل الحديث من يقدم مزيد العدد. ومنهم من يقدم مزيد الثقة، وهي مسألة ظنية أيضا، والغالب على الظن تقديم الثقة إذا ظهرت. فإن الصديق- رضي الله عنه- المعلوم من حال الصحابة- رضي الله عنهم- تقديمه على الجمع. (فائدة) قال سيف الدين: الأكثر رواة أرجح، خلافا للكرخي، ولم يحك خلافا عن غيره. فدل على أنه المشهور، بخلاف (المحصول) لم يعين ذلك.

وقال الإمام في (البرهان): مذهب الفقهاء والأكثرين الترجيح بكثرة الرواة، ومنعه بعض المعتزلة. فإن عارض ثقة عدد من الرواة لا يبلغ آحادهم مبلغ الثقة في المنفرد كالصديق- رضي الله عنه- مع جمع غيره: فقيل: يقدم مزيد الثقة. وقيل: مزيد العدد. والأول اظهر. (فائدة) قال ابن برهان في كتاب (الأوسط): [إذا اختلفت] رواية الحديث اختلفوا هل يتنزل ذلك منزلة كثرة الرواة أم لا؟ لأن أحد الطريقين عين الآخر أم لا يتنزل؟ قولان. * * *

المسألة الخامسة قال الرازي: إذا تعارض الدليلان، فالعمل بكل واحد منهما من وجه، دون وجه- أولى من العمل بأحدهما، دون الثاني؛ لن دلالة اللفظ على جزء مفهومه دلالة تابعة لدلالته على كل مفهومه، ودلالته على كل مفهومه دلالة أصلية. فإذا علمنا بكل واحدة منهما بوجه، دون وجه- فقد تركنا العمل بالدلالة التبعية، وإذا عملنا بأحدهما، دون الثاني، فقد تركنا العمل بالدلالة الأصلية، ولا شك أن الأول أولى. فثبت أن العمل بكل واحد منهما من وجه دون وجه- أولى من العمل بأحدهما من كل وجه، دون الثاني. إذا ظهر ذلك، فنقول: العمل بكل واحد من وجه ثلاثة أنواع: أحدهما: الاشتراك والتوزيع، إن كان قبل التعارض، يقبل ذلك. وثانيها: أن يقتضي كل واحد منهما حكما ما، فيعمل بكل واحد منهما في حق بعض الأحكام. وثالثها: العامان، إذا تعارضا، يعمل بكل واحد منهما في بعض الصور؛ كقوله- عليه الصلاة والسلام-: (ألا أخبركم بخير الشهداء؟! قيل: بلى، يا رسول الله، قال: (أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد) وقوله- عليه الصلاة والسلام-: (ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد) فيعمل بالأول في حقوق الله، والثاني في حقوق العباد.

المسألة الخامسة (في تعارض الدليلين) قال القرافي: قوله: (إذا عملنا بكل دليل من وجه دون وجه، فقد تركنا العمل بالدلالة التبعية): قلنا: ظاهر الحال يقتضي أن العمل بكل واحد منهما من وجه أن المدلول مطابقة ترك فيها؛ لأنه لم يعتبر في أحدهما مسماة بكماله، وهو المدلول مطابقة، وإنما اعتبر البعض، وهو المدلول تضمنا، فقد قدم التضمن التبع على المدلول مطابقة المتأصل. غير أن مراده الترجيح في جانب النفي، لا في جانب الثبوت، فإذا عملنا بأحدهما بجملته، فقد ألغينا الآخر بجملته، فدخل النفي والإلغاء على المدلول مطابقة. وإذا عملنا بكل واحد منهما من وجه، فقد ألغينا بعض المسمى، ولم نلغه كله، فصيانة الكل عن الإلغاء أرجح، مع أن للخصم أن يرجح مذهبه بجهة الثبوت. ونقول ما ذكرتموه لا تثبت المطابقة فيهما، وفي إلغاء أحدهما بجملته تثبت المطابقة في أحدهما، وثبوت الراجح في صورة أولى من إلغائه مطلقا، كما أن ثبوت الحقيقة في صورة أولى من ثبوت المجاز مطلقا. قوله: (الوجه الأول: الجمع بالاشتراك والتوزيع): تقريره: أن المحكوم عليه في الخبرين قد يكون بسيطا لا جزء له، وقد يكون ذا أجزاء. فالأول كالقذف ونحوه، إذا تعارضت فيه النيات؛ فإنه لا يمكن العمل ببعض القذف، أو بعض القتل، فيقل البعض دون البعض.

والثاني: نحو الدار قال التبريزي: للجمع طرق، منها توزيع تعلق الحكم إن أمكن، كما تقسم الدار المدعى لها، وتوفير بعض الأحكام على كل واحد عند العدد، والتنزيل على بعض الأحوال، أو بعض الصور عند الإطلاق والعموم، كتنزيل قوله عليه السلام: (ألا أخبركم بخير الشهداء)؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد). وقال في الحديث الآخر: (شر الشهداء من شهد قبل أن يستشهد). فيحمل الأول على حقوق الله- تعالى-، والثاني على حقوق الآدميين. قوله: (وثانيها: أن يقتضي كل واحد منهما حكما ما، فيعمل بكل واحد منهما في حق بعض الأحكام): تقريره: أن ذلك كقوله عليه السلام: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم).

وقوله عليه السلام: (من توضأ للجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل). فيحمل الأول على الندب، والثاني على نفي الحرج، الذي لا يمكن اجتماعه مع الندب؛ فإن المندوب لا حرج في تركه. وكذلك نهيه- عليه السلام- عن الشرب قائما، والبول قائما. وروى عنه- عليه السلام- انه فعل ذلك. فيحمل الأول على الكراهة، والثاني على نفي الحرج، فيكون بيانا للأول. قوله: (وثالثها: العامان إذا تعارضا عمل بكل واحد منهما في بعض الصور): تقريره: أن طرق الجمع التي ذكرها ثلاثة: تارة يجمع بالحمل على جزءين، وهو الأول، أو حكمين، وهو الثاني، أو حالين، وهو الثالث.

(تنبيه) زاد التبريزي فقال: دلالة اللفظ على مجموع مفهومه نص، وعلى بعض ذلك المفهوم عموم، وترك العام أهون من ترك النص. قال: وقد غير بعضهم هذا المعنى بأن دلالته على جزء مفهومه تبع دلالته على كل مفهومه، ومخالفة التابع أسهل. وقال تاج الدين بعد ذكر هذا البحث: هذا على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك الحكم متبعضا، فيثبت بعضها دون البعض. وثانيها: أن يفيد أحكاما، ويثبت بعضها دون البعض. وثالثها: أن يكونا عامين: أحدهما يفيد سلبا كليا، والآخر إيجابا كليا، فيجب البعض دون البعض. قلت: وهذه عبارة رديئة؛ لأن الحكم لا يبعض، بل المحكوم عليه. وقوله في الثاني: يثبت بعضها دون البعض، الكل ثابت، وإنما هذا في حكم، والآخر في حكم، وعبارته تقتضي الترك مطلقا. وقوله في لثالث: (يجب البعض دون البعض) باطل. بل السلب ثابت كله في حال، والإيجاب في حال، وعبارته تشعر ببعض السلب وبعض الإيجاب. * * *

المسألة السابعة قال الرازي: إذا تعارض دليلان: فإما أن يكونا عامين، أو خاصين، أو أحدهما عاما، والآخر خاصا، أو كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه: وعلى التقديرات الأربعة: فإما أن يكونا معلومين، أو مظنونين، أو أحدهما معلوما، والآخر مظنونا؛ وعلى التقديرات كلها: فإما أن يكون المتقدم ملعوما والمتأخر معلوما، أولا يكون واحد منهما معلوما. فلنذكر أحكام هذه الأقسام: القسم الأول: أن يكونا عامين، فإما أن يكون معلومين، أو مظنونين، أو أحدهما معلوما، والآخر مظنونا. النوع الأول: أن يكونا معلومين: فإما أن يكون التاريخ معلوما، أو لا يكون: فإن كان ملعوما: فإما أن يكون المدلول قابلا للنسخ، أو لا يكون: فإن قبله، جعلنا المتأخر ناسخا للمتقدم سواء كانا آيتين، أو خبرين، أو أحدهما آية والآخر خبرا متواترا. فإن قلت: (فما قول الشافعي هاهنا مع أن مذهبه: أن القرآن لا ينسخ بالخبر المتواتر، ولا بالعكس؟!): قلت: هذا التقسيم لا يفيد، إلا أنه لو وقع لكان، المتأخر ناسخا للمتقدم، والشافعي يقول: (لم يقع ذلك)، فليس بين مقتضى هذا التقسيم، وبين قول الشافعي منافاة.

وإن كان مدلولهما غير قابل للنسخ، فيتساقطان؛ ويجب الرجوع إلى دليل آخر. هذا إذا علم تقدم أحدهما على الآخر. فأما إذا علم أنهما تقارنا، فإن أمكن التخيير فيهما، تعين القول به؛ فإنه إذا تعذر الجمع، لم يبق إلا التخيير، ولا يجوز أن يرجح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد؛ لما عرفت أن المعلوم لا يقبل الترجيح، ولا يجوز الترجيح بما يرجع إلى الحكم أيضا؛ نحو كون أحدهما حاظرا، أو مثبتا حكما شرعيا؛ لأنه يقتضي طرح المعلوم بالكلية؛ وإنه غير جائز. وأما إذا لم يعلم التاريخ: فهاهنا يجب الرجوع إلى غيرهما؛ لأنا نجوز في كل واحد منهما أن يكون هو المتأخر، فيكون ناسا للآخر. النوع الثاني: أن يكونا مظنونبن، فإن نقل تقدم أحدهما على الآخر، كان المتأخر ناسخا، وإن نقلت المقارنة، أو لم يعلم شيء من ذلك، وجب الرجوع إلى الترجيح؛ فيعمل بالأقوى، وإن تساويا، كان التعبد فيهما التخيير. النوع الثالث: أن يكون أحدهما معلوما، والآخر مظنونا: فإما أن ينقل تقدم أحدهما على الآخر، أو لا ينقل ذلك، فإن نقل: وكان المعلوم هو المتأخر، كان ناسخا للمتقدم، وإن كان المظنون هو المتأخر، لم ينسخ المعلوم، وإن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر، وجب العمل بالمعلوم؛ لأنه إن كان هو المتأخر، كان ناسخا، وإن كان هو المتقدم، لم ينسخه المظنون، وإن كان مقارنا كان المعلوم راجحا عليه؛ لكونه معلوما.

القسم الثاني: من الأقسام الأربعة: أن يكونا خاصين، والتفصيل فيه كما في العامين من غير تفاوت. القسم الثالث: أن يكون كل واحد منهما عاما من وجه، خاصا من وجه؛ كما في قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء: 23] مع قوله: {إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء: 24]. وكما في قوله- عليه الصلاة والسلام-: (من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها، إذا ذكرها) مع نهيه- عليه الصلاة والسلام- عن الصلاة في الأوقات الخمسة المكروهة، فإن الأول عام في الأوقات، خاص في صلاة القضاء. والثاني عام في الصلاة، خاص في الأوقات، فهذان العمومان: إما أن يعلم تقدم أحدهما على صاحبه، أو لا يعلم: فإن علم، وكانا معلومين، أو مظنونين، أو كان المتقدم مظنونا والمتأخر معلوما- كان المتأخر ناسخا للمتقدم على قول من قال: العام ينسخ الخاص المتقدم؛ لأنه إذا كان عندهم أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، فما لم يثبت كونه أعم من اللفظ المتقدم أولى بأن يكون ناسخا. وإن كان المتقدم معلوما، والمتأخر مظنونا، لم يجز عندهم أن ينسخ الثاني الأول؛ ووجب الرجوع فيهما إلى الترجيح. فأما من يقول: (إن العام المتأخر يبنى على الخاص المتقدم، والخاص المتأخر يخرج بعض ما دخل تحت العام المتقدم) فاللائق بمذهبه ألا يقول في شيء من هذه الأقسام- بالنسخ؛ بل يذهب إلى الترجيح؛ لأنه ليس يتخلص كون المتأخر أخص من المتقدم؛ حتى يخرج من المتقدم ما دخل تحت المتأخر، وأما إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر: فإن كانا معلومين، لم يجز ترجيح أحدهما

على الآخر بقوة الإسناد، لكن يجوز الترجيح بما يتضمنه أحدهما من كونه حاظرا، أو مثبتا حكما شرعيا؛ لأن الحكم بذلك طريقه الاجتهاد، وليس في ترجيح أحدهما على الآخر اطراح الآخر؛ بخلاف ما إذا تعارضا من كل وجه، فإن لم يترجح أحدهما على ألآخر، فالحكم التخيير. وأما إذا كانا مظنونين، جاز الترجيح كل واحد منهما على الآخر بقوة الإسناد، وبما تضمنه الحكم. وإذا لم يترجح، فالحكم التخيير. وأما إن كان أحدهما معلوما، والآخر مظنونا- جاز ترجيح المعلوم على المظنون؛ لكونه معلوما، فإن ترجح المظنون عليه بما يتضمن الحكم؛ حتى حصل التعارض؛ فإن الحكم ما قدمناه. القسم الرابع: إذا كان أحدهما عاما، والآخر خاصا: فإن كانا معلومين، أو مظنونين، وكان الخاص متأخرا- كان ناسخا للعام المتقدم، وإن كان العام متأخرا، كان ناسخا للخاص المتقدم عند الحنفية. وعندنا أنه يبنى للعام على الخاص، وإن وردا معا، خص العام بالخاص إجماعا، وإن جهل التاريخ، فعندنا يبنى العام على الخاص. وعند الحنفية يتوقف فيه. وأما إن كان أحدهما معلوما، والآخر مظنونا- فقد اتفقوا على تقديم المعلوم على المظنون، إلا إذا كان المعلوم عاما، والمظنون خاصا، ووردا معا؛ وذلك مثل تخصيص الكتاب، والخبر المتواتر؛ بخبر الواحد، والقياس، وقد ذكرنا أقوال الناس فيهما في (باب العموم).

(المسألة السابعة) (إذا تعارض دليلان فإما عامان، أو خاصان) قوله: (إما أن يكون المدلول قابلا للنسخ أو لا يكون): تقريره: أن الخبر الصرف كقوله تعالى: {إنا أرسلنا نوحا} [نوح: 1]. لا يقبل النسخ، وإنما يقبل الخبر النسخ إذا كان متضمنا للحكم الشرعي، كقوله: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [البقرة: 225] ونحو ذلك؛ فإنه نسخ. وفي الحقيقة النسخ إنما هو في الحكم، وهذا هو الصحيح في نسخ الخبر، وفيه مذاهب تقدمت في النسخ. قوله: (لا يمكن الترجيح في المتقارنين بأن أحدهما حاظر، أو مثبت حكما شرعيا؛ لأنه يؤدي إلى طرح المعلوم بالكلية): قلنا: قد قلتم: إنه يتخير بينهما، والتخيير يفضي إلى ترك أحدهما بمجرد التشهي، فترك أحدهما بموجب معتبر أولى. فإن الترجيح بالحظر ونحوه مرجح معتبر، غير أن له أن يقول: الترجيح يقتضي إطراح المرجوح دائما، والتخيير يوجب صحة الأخذ بالآخر في كل وقت، فلم يسقط منهما شيء على الإطلاق، فكان أولى، واندفع السؤال. (تنبيه) التخيير في هذا القسم، وفي القسم الذي بعده إذا كانا مظنونين ينبغي أن يتخرج على مذهب القاضي والجماعة في التخيير بين الأمارتين إذا تعارضا، ويجري القول الآخر الشاذ بالتساقط كما تقدم هنالك؛ لأن [من] مدرك التساقط حصول التساوي، وعدم العلم والظن، وأنه يكون حكما بالتشهي، وهو متحقق هاهنا.

قوله: (إن كان المظنون المتأخر لم ينس المعلوم المتقدم): تقريره: أنه قد تقدم في النسخ أنا نشترط في الناسخ أن يكون مساويا للمنسوخ، أو أقوى، ويمتنع بالأضعف، والمظنون أضعف، فلا ينسخ المعلوم. قوله: (إن كانا خاصين، فكالعامين من غير تفاوت): تقريره: أن الخاص ينطلق على الشخص الجزئي، فهذا لا عموم فيه على الإطلاق، فيكون قسما للعام محققا، وهو الذي ينبغي أن ينزل عليه كلامه هاهنا. وينطلق على أنواع من العمومات، لكنها خاصة بالنسبة إلى غيره من العموم. كما تقول: (الرهبان) خاص بالنسبة إلى (المشركين) و (الغرر) خاص بالنسبة إلى عموم (البيع). فهذه النصوص الخاصة لا يمكن أن تكون مرادة هاهنا؛ لأنهما عامان لا يكونان قسمين للعامين، بل الحكم الأول تناولهما، فتعين القسم الأول. قوله: (القسم الثالث أن يكون كل واحد منهما خاصا من وجه، عاما من وجه): تقريره: أن الحقائق أربعة أقسام: متباينان، ومتساويان، وعام مطلقا، وخاص مطلقا، وعام من وجه خاص من وجه، فالأول هما اللذان لا يصدق واحد منهما على الآخر في صورة كـ (الإنسان) و (الفرس). والمتساويان هما اللذان يلزم من وجود كل واحد منهما وجود الآخر، ومن عدمه عدمه كـ (الإنسان) و (الناطق)، وكل نوع مع فصله، وملزوم مع لازمه [المساوي] كـ (الإنسان) و (الضاحك).

والعام مطلقا هو الذي يوجد مع كل أفراد الأخص وبدونه كـ (الحيوان) و (الناطق)، وكل جنس مع نوعه، وكل لازم أعم مع ملزومه، كالزوجية مع العشرة، فإذا شمل كل أفراد حقيقة الآخر، ووجد بدونه كان أعلم مطلقا، والآخر أخص مطلقا. والأعم من وجه والأخص من وجه هما اللذان يجتمعان في صورة، وينفرد كل واحد منهما بنفسه في صورة كـ (الحيوان) و (الأبيض) اجتمعا في (الإنسان) و (الأبيض)، وانفرد (الحيوان) و (الزنج)، وغيره من الحيوانات بدون (الأبيض)، وانفرد (الأبيض) بـ (الجير) و (الثلج) وغيرهما دون الحيوان. هذا في الحقائق، ومثله في النصوص، فقد تتباين المدلولات كالمؤمنين والكافرين، وقد يتساويان كـ (الإنسان) و (البشر). وقد يكون أعم مطلقا كـ (الكفار) و (الرهبان). وقد يكون أعم من وجه كالآية المحرمة للجمع بين الأختين مع الآية المبيحة لملك اليمين؛ فإن ملك اليمين يوجد مع تحريم الأختين في الأختين المملوكتين، وينفرد الملك دون الإباحة في موطوءات الآباء وغيرهن. وتنفرد الإباحة دون الملك بالحرائر. قوله: (المتأخر ناسخ للمتقدم على قول من يقول: العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم): تقريره: أن ها القائل هو الحنفية، وقد تقدم البحث معهم في ذلك. قوله: (ما لم يثبت كونه أعم من المتقدم أولى أن يكون ناسخا): قلنا: التقدير أنه أعم من وجه، فلا معنى لقولكم: إنه لم يثبت، بل العبارة الصحيحة التي يمكن أن تقال: ما لم يكن عاما مطلقا أولى أن يكون ناسخا؛ لأنه خاص من وجه، فهو أقوى، مع أنه يرد عليه أن العلم مطلقا آت على جملة أفراد الخاص المتقدم، فتعين النسخ عندهم.

أما في الأعم من وجه أمكن أن يقال: التعارض إنما وقع في البعض المشترك بين النصين. فإذا أبطلنا الحكم فيه بالنص المتأخر أمكن أن يكون ذلك تخصيصا؛ لأنه إخراج بعض الأول، ولم يتعين أنه مراد، ولا عمل بالنص السابق مطلقا حتى يتعين النسخ، بخلاف العام مطلقا حصلت المعارضة في جملة الأفراد، فتعين النسخ. فهذا فرق قوي يمنع هذا التخريج على أصول الحنفية. قوله: (إن كان المتأخر مظنونا امتنع النسخ عندهم، ووجب الترجيح): قلنا: هذا الكلام يشعر بطلب الترجيح بأمر خارج، وأن المتعين الوقف حتى يتبين الترجيح، وليس كذلك، بل التعارض إنما وقع في البعض، وقد شاركه دليل ملعوم ودليل مظنون، فيتعين إعمال المعلوم المتقدم من غير توقف، ولا طلب الترجيح، وإن كان مقصودكم بالترجيح هذا القدر، فكان ينبغي أن تكون العبارة تعين المعلوم وتقدمه على المظنون من غير إيهام هذا التوقف، والترجيح الخارجي. قوله: (من يقول: العام المتأخر ينبني على الخاص المتقدم، فاللائق بمذهبه ألا يقول في شيء من هذه الأقسام بالنسخ، بل بالترجيح): قلنا: هذا الإطلاق لا يتأتى على هذا المذهب، بل صاحب هذا المذهب يقدم المعلوم على المظنون، ولا يحتاج إلى الترجيح إلا في المعلومين، أو المظنونين. فهذا الإطلاق يجب فيه هذا التفضيل. قوله: (إذا لم يترجح أحدهما على الآخر، فالحكم التخيير): قلنا: هذا على مذهب القاضي، والمشهور في تعارض الأمارتين.

أما على القول القليل المحكي ن بعضهم في التساقط يلزم التساقط هاهنا. قوله: (إذا كان أحدهما عاما، والآخر خاصا، وهما معلومان أو مظنونان، وتأخر الخاص نسخ العام المتقدم): قلنا: عليه سؤالان: الأول: أن شرط النسخ التعارض، والتعارض هاهنا إنما وقع في البعض من العام الذي تناوله الخاص، وما عداه لم يحصل فيه تعارض، فلا نسخ فيه. فإطلاق القول بنسخ العام يقتضي نسخ جملته، وهو باطل. الثاني: أن العام وإن تقدم، لكنه قد لا يعمل به، فيكون قابلا للتخصيص، فيخرج منه أفراد الخاص المتأخر، ولا نسخ بل بيان؛ لأن المراد بالعام المتقدم ما عدا الخاص المتأخر، والتخصيص مهما أمكن الحمل عليه كان أولى من النسخ. أما إذا علم بالعام المتقدم تعذر أن يقال: إن الخاص بيان له، بل نسخ لما وقع فيه التعارض، وهو أفراد الخاص. هذا على القول بامتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة المبني على امتناع تكليف ما لا يطاق، والحق جواز تكليف ما لا يطاق، فيجوز التخصيص مطلقا، ويبطل النسخ مطلقا. إلا أن يعلم الإرادة بجميع أفراد العموم. أما مجرد العمل به غير كاف على هذه الطريقة مع أن المصنف في بناء العام على الخاص حكى عن الأصحاب بناء العام على الخاص، وتقدم أو تأخر. وهاهنا ترك ذلك، وكان اللائق ملاحظة ما تقدمت حكايته. قوله: (إن جهل التاريخ، فالتوقف عند الحنفية):

تقريره: أنه يجوز أن يكون العام متأخرا، فيكون ناسخا للخاص المتقدم على قاعدتهم أو متقدما، وقد عمل به، فيكون الخاص ناسخا، أو متقارنين، فيكون الخاص مخصصا، فقد دار الخاص بين أن يكون ناسخا أو منسوخا أو مخصصا، وكذلك العام دائر بين أن يكون ناسخا أو منسوخا، فيجب التوقف. غير أنه ينبغي أن يقال: الأفراد التي في العام لم يتناولها الخاص، فصار العام بها عاما لم يحصل فيها تعارض، فينبغي عدم التوقف فيها. إنما حصل التعارض في الأفراد التي يتناولها الخاص، وأيضا فقد يعلم عدم العلم بالعام، فلا يكون الخاص ناسخه. فإطلاق القول بالتوقف لمجرد الجهل بالتاريخ غير سديد. قوله: (اتفقوا بالتوقف تقديم المعلوم على المظنون، إلا إذا كان المعلوم عاما ووردا معا): تقريره: أنه إذا كان الخاص هو المعلوم بأن فرض تقدمه، خصص العموم المتأخر المظنون، أو تأخره فإن لم يعمل بالعام خصصه، أو عمل به نسخه؛ لأنه أقوى منه، أو معا خصصه مقدم الخاص المعلوم على العام المظنون مطلقا. أما إذا كان المعلوم هو العام، فإن تأخر عن الخاص نسخه عند الحنفية حينئذ. وعندنا يخصصه، فلا إجماع في تقديم المعلوم؛ لأنا نقدم المظنون على العام المعلوم. وإن وردا معا قدم المظنون الخاص على العام المعلوم، فيخصصه، فلا إجماع.

فلذلك استثنى هذه الصورة عن الإجماع في تقديم المعلوم فيها على المظنون. (سؤال) قال النقشواني: (قوله: إن كان مدلولهما غير قابل للنسخ يتساقطان، ويرجع إلى دليل آخر) لا يستقيم، بل يمتنع العمل بالمتأخر، ويعمل بالمتقدم كما كان قبل ورود المتأخر؛ لعدم صلاحية المتأخر للنسخ. (سؤال) قال النقشواني: (قوله في المعلومين: إن أمكن التخيير بينهما تعين)، يرد عليه: أنه لم يذكر حكم تعذر التخيير بينهما، والقول بالتخيير يفضي إلى ترك العمل بكل واحد منهما؛ ولأن مدلول أحدهما إذا لم يكن قابلا للنسخ كالأخبار والآيات الواردة في صفات الله- تعالى- فيتعين العمل بأحدهما عينا، ويترك الآخر، فلا تخيير. (سؤال) قال النقشواني: قوله: (إن جهل التاريخ وجب الرجوع إلى غيرهما). يرد عليه: أن التخيير عنده علم بكل واحد من الدليلين بحسب الإمكان، فيكون هاهنا أولى من تركهما مطلقا كما في البيتين؛ لأنه لا فرق في البينات بين العلم بمقارنتهما، وبين جهل التاريخ بينهما. فكذلك هاهنا. وقوله: (إن كل واحد منهما قد يكون متأخرا، فيكون ناسخا) يرد عليه: أن المدلول قائم، فلا يكون قابلا للنسخ). (سؤال) قال النقشواني: إذا كانا مظنونين، ولم يعلم التاريخ، وتساويا في القوة، فقد احتمل في كل واحد منهما أن يكون ناسخا بان كان متأخرا.

وقد حكم في هذا الاحتمال في المعلومين بالتساقط، فلم لا يحكم به هاهنا؟ لأجل احتمال النسخ؛ فإنه إن كان موجبا للتساقط تعين هاهنا عملا بالواجب، أو لا يكون موجبا، فلا يحكم بالتساقط في المعلومين مع أن طرح المعلوم أشد. وقد حكم به، مع أنه يمكن الترجيح في المعلومين؛ لأن المراد بالمعلوم معلوم السند، وقد يكون للعاملين عوارض نجد كون أحدهما مخصوصا دون الآخر، أو أحدهما أكثر قبولا للتخصيص من الأخر لكثرة صوره، أو لفظ التعميم في أحدهما (لام) التعريف، وفي الآخر (كل) و (أجمع). أو أحدهما مذكورا بـ (ما)، والآخر بـ (كل)، ولفظ (كل) هو أقوى دلالة على العموم. وقد تكون دلالة أحدهما نصا، والآخر ظاهرا، والسند معلوم فيهما، فمتى وقع التعارض بين معلومين، أو مظنونين وقع الترجيح بهذه الأمور، أو بين مقطوع ومظنون، ودلالة المقطوع ظاهرة، والمظنون نص؛ لأن ما في أحدهما من القوة يصير جابرا لما فيه من الضعف، فيتعادلان. وعلى هذا لا يكون تقسيم المصنف حاصرا. وبهذا يظهر أن قوله: (إن كان خاصين، فالتفصيل فيه كما في العامين) لا يتم على ما ذكرناه من أن العامين فيهما وجوه من الترجيح كما تقدم. ولا تنافى في الخاصين من جهة الاختلاف في صيغ العموم كما تقدم. (سؤال) قال النقشواني: لم يحكم في القسم الثالث بالتساقط، مع أن على رأي القائلين بالنسخ ينبغي التساقط؛ لاحتمال النسخ في كل واحد منهما، ويجب

الرجوع إلى غيرهما كما قاله فيما تقدم من الأقسام، وحيث حكم بالتخيير مطلقا، كان مناقضا لما تقدم. (تنبيه) قال التبريزي: إذا تعارضا فإما أن يكونا عامين، أو خاصين، أو أحدهما عام مطلقا أو من وجه، وعلى الأقسام كلها، فإما ان يكونا معلومين أو مظنونين، أو أحدهما معلوم والآخر مظنون في التناول فحسب. وفي نسخة: (في الدلالة فحسب)، وهو معنى التناول. ثم قال: وعلى الأقسام إما أن يعلم المتقدم عينا أو لا، فهذه أربعة وعشرون قسما تتشعب من الأربعة الأقسام، وذكر الترجيح والأحكام التي ذكرها المصنف إلى أخرها. ثم قال: هذا بالنظر إلى أعيان الأدلة. أما بالنظر إلى أجناسها، فلا ترجيح إلا للإجماع، ويقدم مظنونه على مظنون النقد عند من يراه حجة. قلت: قوله في التناول أو الدلالة باطل. فإن البحث هاهنا في المعلومين والمظنونين، إلا بحسب السند؛ فإنه يكون متواترا معلوما أو آحادا مظنونا، أما الدلالة فظنية قطعا في صيغ العموم، فكيف يصح تقسيمها إلى [معلومة] الدلالة؟ أما بحسب السند فيصح أن يكون معلوما، فلذلك صح التقسيم إلى المعلوم منه في العموم إلا أن يريد أن العموم قد يعلم أنه مراد من العام بأمر خارجي من القرائن، أو غيرها كما يعلم أن العموم مراد من قوله تعالى: {والله بكل شيء عليم} [التغابن: 11]، وكذلك وجدته على بعض الحواشي في نسخة من نسخ التنقيح لبعض المشايخ، ومع هذا فلا يتم، ولا يصلح؛

لأن العلم بإرادة العموم لا مدخل له في دلالة اللفظ، ولا مصير لها قطعية، ولا إن كانت مفقودة، ألا ترى أن المجمل قد يعلم المراد منه بدليل منفصل، ومع ذلك لا يصير اللفظ دالا بذلك. كما أن الدال إذا قطع بعدم سماعه بعدم إرادة مدلوله لا يطل دلالته؛ لأن الدلالة هي إشعار اللفظ بالمعنى عند سماعه، وذلك لا يزيد بالأدلة الخارجية. ولا يبطل كما تقول: إن عموم قوله تعالى: {تدمر كل شيء} [الأحقاف: 25] غير مراد بالضرورة، ومع ذلك لا يبطل إشعار اللفظ بالاستغراق، فظهر أن دلالة العموم لا تصير قطعية أبدا، وإن قطع بإرادة العموم. وقال تاج الدين في قوله في آخر المسألة مع تخصيص الكتاب والخبر المتواتر بخبر الواحد. وهو كتخصص الكتاب بخبر الواحد، وقد تكلمنا فيه. وقال في (المنتخب): مثل تخصيص الكتاب، والخبر المتواتر بخبر الواحد، ولم يذكر ضعفه مع تنبيه يقتضي هذه المسألة أن تتوزع أربعة وعشرين نوعا، كما أشار إليه التبريزي أنها أربعة وعشرون. ونتكلم على كل مسألة يحكها، وحينئذ يكمل البحث فيها، وإلا فلا. * * *

القسم الثالث في تراجيح الأخبار

القسم الثالث في تراجيح الأخبار قال الرازي: ترجيح الخبر: إما أن يكون بكيفية إسناده أو بوقت وروده، أو بلفظه، أو بحكمه، أو بأمر خارج عن ذلك: القول في التراجيح الحاصلة في الإسلام واعلم: أن الترجيح إما أن يقع بكثرة الرواة؛ أو بأحوالهم: أما الواقع بكثرة الرواة: فمن وجهين: أحدهما: أن الخبر الذي رواته أكثر راجح على الذي لا يكون كذلك، وقد تقدم بيانه. الثاني: أن يكون أحدهما أعلى إسنادا؛ فإنه مهما كانت الرواة أقل، كان احتمال الكذب والغلط أقل، ومهما كان ذلك أقل، كان احتمال الصحة أظهر، وإذا كان أظهر، وجب العمل به. فعلو الإسناد راجح من هذا الوجه؛ لكنه مرجوح من وجه أخر، وهو كونه نادرا. أما التراجيح الحاصلة بأحوال الرواة، فهي: إما العلم، أو الورع، أو الذكاء، أو الشهرة، أو زمان الرواية، أو كيفية الرواية: أما التراجيح الحاصلة بالعلم، فهي على وجوه:

أحدها: أن رواية الفقيه راجحة على رواية غير الفقيه. وقال قوم: هذا الترجيح؛ إنما يعتبر في خبرين مرويين بالمعنى؛ أما المروي باللفظ، فلا. والحق أنه يقع به الترجيح مطلقا؛ لأن الفقيه يميز بين ما يجوز، وبيم ما لا يجوز، فإن حضر المجلس، وسمع كلاما لا يجوز إجراؤه على ظاهره، بحث عنه، وسأل عن مقدمته، وسبب وروده؛ فحينئذ: يطلع على الأمر الذي يزول به الإشكال. أما من لم يكن عالما: فإنه لا يميز بين ما يجوز، وبين ما لا يجوز فينقل القدر الذي سمعه، وربما يكون ذلك القدر وحده سببا للضلال. وثانيها: إذا كان أحدهما أفقه من الآخر، كانت رواية الأفقه راجحة؛ لأن الوثوق باحتراز الأفقه عن ذلك الاحتمال المذكور أتم من الوثوق باحتراز الأضعف منه. وثالثها: إذا كان أحدهما عالما بالعربية، كانت روايته راجحة على من لا يكون كذلك؛ لأن الواقف على اللسان يمكنه من التحفظ من مواضع الزلل، ما لا يقدر عليه غير العالم به. ويمكن أن يقال: بل هو مرجوح؛ لأن الواقف على اللسان يعتمد على معرفته؛ فلا يبالغ في الحفظ؛ اعتمادا على خاطره والجاهل باللسان يكون خائفا، فيبالغ في الحفظ. ورابعها: رواية الأعلم بالعربية راجحة على رواية العالم بها؛ والوجه ما تقدم في الأفقه.

وخامسها: أن يكون أحدهما صاحب الواقعة في ما يروي، فيكون خبره راجحا؛ ولهذا أوجبنا الغسل بالتقاء الختانين؛ بحديث عائشة- رضي الله عنها- في ذلك، ورجحناه على رواية غيرها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الماء من الماء) لأن عائشة كانت أشد علما بذلك. ورجح الشافعي رواية أبي رافع، على رواية ابن عباس في تزويج ميمونة؛ لأن أبا رافع كان السفير في ذلك؛ فكان أعرف بالقصة. وسادسها: رواية من مجالسته للعلماء أكثر، أرجح. وسابعها: رواية من مجالسته للمحدثين أكثر، أرجح. وثامنها: أن يكون طريق إحدى الروايتين أقوى؛ وذلك إذا روى ما يقل اللبس؛ كما إذا روى أنه شاهد زيدا ببغداد وقت السحر، والآخر يروي أنه شاهده وقت الظهر بالبصرة؛ فطريق هذا أظهر، والاشتباه على الأول أكثر. أما التراجيح الحاصلة بالورع، فهي على وجوه: أحدها: رواية من ظهرت عدالته بالاختبار- راجحة على رواية مستور الحال عند من يقبلها. وثانيها: رواية من عرفت عدالته بالاختبار- أولى من رواية من عرفت عدالته بالتزكية؛ إذ ليس الخبر كالمعاينة. وثالثها: رواية من عرفت عدالته بتزكية جمع كثير- أولى من رواية من عرفت عدالته بتزكية جمع قليل. ورابعها: رواية من عرفت عدالته بتزكية من كان أكثر بحثا في أحوال الناس، واطلاعا عليها- أولى من رواية من عرفت عدالته بتزكية من لم يكن كذلك.

وخامسها: رواية من عرفت عدالته بتزكية الأعلم الأورع أولى من رواية من عرفت عدالته بتزكية العالم الورع. وسادسها: رواية من عرفت عدالته بتزكية المعدل؛ مع ذكر أسباب العدالة- أولى من رواية من زكاه المعدل، بدون ذكر أسباب العدالة. وسابعها: المزكى، إذا زكى الراوي، فإن عمل بخبره، كانت روايته راجحة على ما إذا زكاه، وروى خبره. وثامنها: رواية العدل الذي لا يكون صاحب البدعة- أولى من رواية العدل المبتدع، سواء كانت تلك البدعة كفرا في التأويل، أو لم تكن. أما التراجيح الحاصلة بسبب الذكاء، فهي على وجوه: أحدها: رواية الأكثر تيقظا، والأقل نسيانا- راجحة على رواية من لا يكون كذلك. وثانيها: إذا كان أحدهما أشد ضبطا؛ لكنه أكثر نسيانا، والآخر يكون أضعف ضبطا؛ لكنه أقل نسيانا، ولم تكن قلة الضبط، وكثرة النسيان، بحيث تمنع من قبول خبره؛ على ما بينا في الأخبار- فالأقرب التعارض. وثالثها: أن يكون أحدهما أقوى حفظ لألفاظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غيره؛ فإن الحجة بالحقيقة ليست إلا في كلام الرسول- عليه الصلاة والسلام-. ورابعها: أن يجزم أحدهما - صلى الله عليه وسلم -، ويقول الآخر: (كذا قال فيما أظن). وخامسها: أن يكون الراوي قد اختلط عقله في بعض الأوقات، ثم لا يعرف أنه روى هذا الخبر حال سلامة العقل، أو حال اختلاطه.

وسادسها: إذا كان أحدهما حفظ لفظ الحديث، والآخر عول على المكتوب، فالأول أولى؛ لأنه أبعد عن الشبهة، وفيه احتمال. أما التراجيح الحاصلة بسبب شهرة الراوي، فأمور: أحدها: أن يكون من كبار الصحابة؛ لأن دينه، لما منعه عن الكذب، فكذا منصبه العالي يمنعه عنه؛ ولذلك كان علي- رضي الله عنه- يحلف الرواة، وكان يقبل رواية الصديق من غير التحليف. وثانيها: صاحب الاسمين مرجوح بالنسبة إلى صاحب الاسم الواحد. وثالثها: رواية معروف النسب راجحة على رواية مجهول النسب. ورابعها: أن يكون في رواة أحد الخبرين رجال تلتبس أسمائهم بأسماء قوم ضعفاء، ويصعب التمييز؛ فيرجح عليه الخبر الذي لا يكون كذلك. أما التراجيح الراجعة إلى زمان الرواية، فأمور: أحدها: إذا كان قد اتفق لأحدهما رواية الحديث في زمان الصبا، وغير زمان الصبا- فروايته مرجوحة بالنسبة إلى رواية من لم يرو إلا في زمان البلوغ. وثانيها: إذا كان أحدهما قد تحمل الحديث في الزمانين، ولم يرو إلا في حالة البلوغ، فهو مرجوح بالنسبة إلى من لم يتحمل، ولم يرو إلا في الكبر. وثالثها: من احتمل فيه هذان الوجهان كان مرجوحا بالنسبة إلى من لم يوجد ذلك فيه. أما التراجيح العائدة على كيفية الرواية، فأمور.

أحدها: أن يقع الخلاف في أحدهما: أنه موقوف على الراوي، أو مرفوع إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالمتفق على كونه مرفوعا أولى. وثانيها: أن يكون أحد الخبرين منسوبا إليه قولا، والآخر اجتهادا؛ بأن يروي أنه وقع ذلك في مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكر عليه. فالأول أولى؛ لأنه أقل احتمالا. وثالثها: أن يذكر أحدهما سبب نزول ذلك الحكم، ولم يذكره الآخر، فيكون الأول راجحا؛ لأنه يدل على أنه كان له من الاهتمام بمعرفة ذلك الحكم ما لم يكن للآخر. ورابعها: أن يروي أحدهما الخبر بلفظه، والآخر بمعناه، أو يحتمل أن يكون قد رواه بمعناه، فالأول أولى. وخامسها: أن يروي أحدهما حديثا يعضد الحديث الأول، فيترجح على ما لا يكون كذلك. وسادسها: إذا أنكر راوي الأصل، فقد ذكرنا فيه تفصيلا، وكيف كان، فهو مرجوح بالنسبة إلى ما لا يكون كذلك. وسابعها: لو قبلنا المرسل، فإذا أرسل أحدهما، وأسند الآخر، فعندنا المسند أولى. وقال عيسى بن أبان: المرسل أولى. وقال القاضي عبد الجبار: يستويان. لنا: أنه إذا أرسل، فعدالته معلومة لرجل واحد، وهو الذي يروي عنه، وإذا

أسند، صارت عدالته معلومة للكل؛ لأنه يكون كل واحد متمكنا من البحث عن أسباب جرحه وعدالته، ولا شك أن من لم تظهر عدالته إلا لرجل واحد يكون مرجوحا بالنسبة إلى من ظهرت عدالته لكل أحد؛ لاحتمال أن يكون قد خفي حال الرجل على إنسان واحد؛ ولكن يبعد أن يخفى حاله على الكل؛ فثبت أن المسند أولى. احتج المخالف بأمرين: الأول: أن الثقة لا يقول: (قال الرسول ذلك) فيحكم عليه بالتحليل والتحريم، ويشهد به إلا وهو قاطع، أو كالقاطع بذلك؛ بخلاف ما إذا أسند الحديث، وذكر الواسطة؛ فإنه لم يحكم على ذلك الخبر بالصحة، فلم يزد على حكاية أن فلانا زعم أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- قال ذلك؛ فكان الأول أقوى. الثاني: روي أن الحسن قال: (إذا حدثني أربعة نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديث، تركتهم وقلت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). فأخبر عن نفسه أنه لا يستجيز هذا الإطلاق إلا عند فرط الوثوق. والجواب عن الأول: أن قول الراوي: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لا يمكن إجراؤه على ظاهره؛ لأنه يقتضي الجزم بصحة خبر الواحد، وهو جهل، وغير جائز؛ فوجب حمله على أن المراد منه: (أني أظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) وإذا كان كذلك، كان الإسناد أولى من الإرسال؛ لأن في الإسناد يحصل ظن العدالة للكل، وفي الإرسال لا يحصل ذلك الظن إلا للواحد، وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه الثاني.

فرعان: الأول: لو صح رجحان (المرسل) على (المسند) فإنما يصح لو قال الراوي: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أما إذا لم يقل ذلك، بل قال: (عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) فالأظهر أنه لا يترجح؛ لأنه في معنى قوله: (روي عن الرسول). الثاني: رجح قوم بالحرية والذكورة؛ قياسا على الشهادة، وفيه احتمال. [القسم الثالث] القول في الترجيح بالسند قال القرافي: قوله: (صاحب الاسم مقدم على صاحب الاسمين): تقريره: أن صاحب الاسمين يقرب اشتباهه بغيره ممن ليس بعدل بأن يكون هنالك غير عدل يسمى بأحد اسميه، فتقع الراوية عن ذلك الذي ليس بعدل، فيظن السامع أن هذا العدل. فإذا كان اسمه واحدا، قل احتمال اللبس. وكلما كثرت الأسماء، كثر احتمال اللبس. قوله: (رواية معلوم النسب مقدمةّ): تقريره: أن معلوم النسب يذكر نسبه مع اسمه، فيقوى تمييزه، ومجهول النسب يقتصر على اسمه، فيضعف تمييزه، ويقرب اللبس منه. أما إذا اقتصر على اسم المشهور دون نسبه بطل هذا الترجيح، وبقى أن يقال: مجهول النسب ربما وقع في ذكر نسبه مع اسمه تلبس يوجب إيهام غيره ممن ليس بعدل، فكان نوعا من الخلل سلم عنه معلوم النسب. قوله: (قول الراوي: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يمكن إجراؤه على ظاهره؛ لأنه يقتضي الجزم بصحة خبر الواحد، وهو جهل):

قلنا: لا نسلم أنه يقتضي الجزم؛ فإن قوله: قال رسول الله- عليه السلام- يقتضي إسناد القول لرسول الله- عليه السلام- والإسناد أعم من كونه مع الجزم أو بدون، كما تقدم أول الكتاب تقسيم حكم الذهن بأمر على أمر إلى العلم والظن وغيرهما، والدال على الأعم غير دال على الأخص، ثم إن هذا مشترك في السند؛ فإنه لا يحصل الجزم؛ لأنه خبر واحد، وعدالة الرواة غير معلومة، والمستفاد من الظن ظن، فكلاهما على هذا التقدير محتاج للتأويل، بل قد يجزم مع الإرسال أكثر بأن يكون الراوي المسكوت عنه أقوى عدالة عنده من الراوي المصرح باسمه؛ لأن الكلام هاهنا في الراوي لا في السامع، والراوي يعلم حال المرسل عنه، كما يعلم المسند حال المسند عنه. قوله: (رجح قوم بالحرية والذكورة قياسا على الشهادة): قال: وفيه احتمال. تقريره: أن باب الشهادة أشد؛ لقوة احتمال العداوة فيه للمشهود عليه باطنا، ونحن لا نعلم، وعداوة الخلق إلى يوم القيامة في رواية الحديث في غاية الندور، فلذلك احتيط في الشهادة بالعدد وغيره. ومع هذا الفرق ينقطع الإلحاق أو يقال: إنما ذكرت هذه الأوصاف في معرض الترجيح لا معنى الشرطية، وهي أوصاف كمال؛ لأن الحرية توجب شرف النفس، [فيبعد] عن الكذب، والذكورة مظنة وفور العقل، ووفور العقل مظنة التثبت وعدم الغلط. فكانت هذه الأوصاف مرجحة. وهذا متجه أكثر من الأول. (سؤال) قال النقشواني: بقى قسم في الإسناد لم يتعرض له، وهو كيفية الإسناد.

سؤال: قال النقشواني: دعواه الندرة في علو الإسناد ليست على الإطلاق

نحو قول الراوي: أخبرني، أو حدثني، أو سمعت فلانا يحدث، أو أجاز لي رواية هذا الكتاب عنه، أو ناولني هذا الكتاب. فإنها أمور مختلفة الرتب يقع بها الترجيح. ثم الترجيح بكثرة الرواة قسمان: أحدهما: يوجب الرجحان دون الآخر؛ فإن الجمع العظيم إذا سمعوا عن النبي- صلى الله عليه وسلم- ونقل عن كل واحد منهم جمع عظيم أيضا، كان ذلك يوجب الرجحان، وكثرة الرواة باعتبار طول السند يوجب المرجوحية، فكان الأولى بالمصنف أن يذكر هذا التفصيل في كثرة الرواة. (سؤال) قال النقشواني: دعواه الندرة في علو الإسناد ليست على الإطلاق، بل نقل الصحابي للتابعي بغير واسطة ليس نادرا، وكذلك التابعي لتابع التابعي. * * *

القول في التراجيح الراجعة إلى حال ورود الخبر

القول في التراجيح الراجعة إلى حال ورود الخبر قال الرازي: وهي ثمانية: الأول: أن تكون إحدى الآيتين، أو الخبرين مدنيا، والآخر مكيا، فالمدني مقدم؛ لأن الغالب في المكيات ما كان قبل الهجرة، والمدني لا محالة مقدم عليه، أما المكيات المتأخرة عن المدنيات، فقليلة، والقليل ملحق بالكثير؛ فيحصل الرجحان. الثاني: الخبر الذي يظهر وروده بع قول الرسول-عليه الصلاة والسلام- وعلو شأنه، راجح على الخبر الذي لا يدل على ذلك؛ لأن علو شأنه كان في آخر أمره - صلى الله عليه وسلم -، فالخبر الوارد في هذا الوقت، حصل فيه ما يقتضي تأخره عن الأول. والأولى أن يفصل؛ فيقال: إن دل الأول على علو الشأن، والثاني على الضعف- ظهر تقديم الأول على الثاني. أما إذا لم يدل الثاني، لا على القوة، ولا على الضعف- فمن أين يجب تقديم الأول عليه؟. الثالث: أن يكون راوي أحد الخبرين متأخر بالإسلام، فيقدم الأول؛ لأنه أظهر تأخرا. والأولى أن يفصل؛ فيقال: المتقدم إذا كان موجودا مع المتأخر- لم يمتنع أن تكون روايته متأخرة عن رواية المتأخر.

وأما إذا علمنا أنه مات المتقدم قبل إسلام المتأخر، أو علمنا أن أكثر روايات المتقدم متقدم على رواية المتأخر- فها هنا نحكم بالرجحان؛ لأن النادر يلحق بالغالب. الرابع: أن يحصل إسلام الراويين معا؛ كإسلام خالد، وعمرو بن العاص، لكن يعلم أن سماع أحدهما بعد إسلامه، ولا يعلم ذلك في سماع الآخر، فيقدم الأول؛ لأنه أظهر تأخرا. الخامس: أن يكون أحد الخبرين مؤرخا بتاريخ محقق، والآخر يكون خاليا عن التاريخ؛ فيقدم الأول؛ لأنه أظهر تأخرا. مثاله: ما روي أنه- علبه الصلاة والسلام- في مرضه الذي توفى فيه (خرج فصلى بالناس قاعدا، والناس قيام). فهذا يقتضي جواز اقتداء القائم بالقاعد. وقد روي: أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: (إذا صلى الإمام قاعدا، فصلوا قعودا أجمعين) وهذا يقتضي عدم جواز ذلك؛ فرجحنا الأول؛ لأنه كان في آخر أحوال النبي- عليه الصلاة والسلام-. وأما الثاني، فيحتمل أنه كان قبل المرض. السادس: أن يكون أحدهما مؤقتا بوقت متقدم، والآخر يكون خاليا عن الوقت، فيقدم الخالي؛ لأنه أشبه بالمتأخر. السابع: أن تكون حادثة كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يغلظ فيها؛ زجرا لهم عن العادات القديمة، ثم خفف فيها نوع تخفيف؛ فيرجح التخفيف على التغليظ؛ لأنه أظهر

شرح القرافي: قوله: (الغالب في الآيات المكيات ما كان قبل الهجرة)

تأخرا، وهذا ضعيف؛ لاحتمال أن يقال: (بل يرجح التغليظ على التخفيف؛ لأنه- عليه الصلاة والسلام- ما كان يغلظ إلا عند علو شأنه، وذلك متأخر). الثامن: عمومان متعارضان: أحدهما وارد إبتداء، والآخر على سبب، فالأول أولى؛ لأن من الناس من قال: الوارد على السبب يختص به، ولا يعم، لكن ذلك، وإن لم يجب، فلا أقل من أن يفيد الترجيح. واعلم: أن هذه الوجوه في التراجيح ضعيفة، وهي لا تفيد إلا خيالا ضعيفا في الرجحان. (القول في الترجيح بحال ورود الخبر) قال القرافي: قوله: (الغالب في الآيات المكيات ما كان قبل الهجرة): تقريره: أن المكي قد يكون بعد المدني، كوقوعه في حجة الوداع بـ (مكة) لكنه قليل بالنسبة إلى غيره. قوله: (أما إذا لم يدل الثاني على القوة، ولا على الضعف من أين يجب تقديم الأول عليه)؟: قلنا: الأول غير محتمل للضعف. والثاني يحتمله، والسالم عن الاحتمال مقدم على المحتمل. وهذا السؤال أيضا على قوله في الثالث بعدها: إن الراوي إذا كان موجودا مع المتأخر لم يمتنع أن تكون روايته متأخرة عن رواية المتأخر الإسلام؛ لأنا نقول: التقدير أن روايته علم تأخرها عن إسلام المتأخر الإسلام، فلا احتمال فيه، بخلاف الآخر فيه الاحتمالان قائمان، ويعضد هذا السؤال في جميع هذه الموارد.

فائدة: قال سيف الدين: رواية متقدم الإسلام مقدمة لقوة أصالته في الإسلام ..

قوله: (إذا أسلما معا، وعلم بآخر سماع أحدهما بعد إسلامه أنه تقدم على من جهل حاله؛ لقيام الاحتمال)، وكذلك قوله في المؤرخ ومتروك التاريخ. (فائدة) قال سيف الدين: رواية متقدم الإسلام مقدمة لقوة أصالته في الإسلام، فهو أشرف قدرا، والوارد على سبب مقدم على غيره إن كان التعارض في ذلك السبب؛ لأن سببه أولى، ويقدم عليه غيره إن كان التعارض في غير السبب. قلت: وهذا تفصيل حسن، ونقل ما نقل الإمام فيه (المحصول) من أن رواية متأخر الإسلام مقدمة على متقدم الإسلام. وطريق الجمع بين قوليه إذا علم تأخر رواية متقدم الإسلام، رجحت بقدم هجرته، وإن جهل تقدمها وتأخرها، قدم المتأخر الإسلام، فهذا وجه الجمع. * * *

القول في التراجيح الراجعة إلى اللفظ

القول في التراجيح الراجعة إلى اللفظ (وهي من وجوه) قال الرازي: الأول: أن يكون اللفظ في أحدهما بعيدا عن الاستعمال، وفيه ركاكة، والآخر فصيح. فمن الناس: من رد الأول؛ لأنه- عليه الصلاة والسلام- كان أفصح العرب؛ فلا يكون ذلك كلاما له. ومنهم: من قبله؛ وحمله على أن الراوي رواه بلفظ نفسه، وكيف ما كان؛ فأجمعوا على ترجيح الفصيح عليه. وثانيها: قال بعضهم: يقدم الأفصح على الفصيح، وهو ضعيف؛ لأن الفصيح لا يجب في كل كلامه أن يكون كذلك. وثالثها: أن يكون أحدهما عاما، والآخر خاصا، فيقدم الخاص على العام. وقد تقدم دليله في (باب العموم). ورابعها: أن يكون أحدهما حقيقة، والآخر مجازا، فتقدم الحقيقة؛ لأن دلالتها أظهر، وهذا ضعيف؛ لأن المجاز الغالب أظهر دلالة من الحقيقة؛ فإنك لو قلت: (فلان بحر) فهو أقولا دلالة من قولك: (فلان سخي). وخامسها: أن يكونا حقيقتين، إلا أن أحدهما أظهر في المعنى؛ إما لكثرة ناقليه، أو لكون ناقله أقوى وأتقن من ناقل غيره، ويجري ها هنا كل ما ذكرناه في ترجيح الخبر؛ نظرا إلى حال الراوي.

وسادسها: أن يكون وضع أحدهما لمسماه متفقا عليه، ووضع الآخر مختلفا فيه. وسابعها: أن الذي يكون محتاجا إلى الإضمار مرجوح بالنسبة إلى الذي لا يحتاج إليه. وثامنها: الذي يدل على المقصود بالوضع الشرعي، أو العرفي-أولى مما يدل عليه بالوضع اللغوي. وها هنا تفصيل؛ فإن اللفظ الذي صار شرعيا: حمله على المعنى الشرعي أولى من حمله على اللغوي. فأما الذي لم يثبت ذلك فيه؛ مثل أن يدل أحد اللفظين بوضعه الشرعي على حكم، واللفظ الثاني بوضعه اللغوي على حكم، وليس للشرع في هذا اللفظ اللغوي عرف شرعي، فلا نسلم ترجيح الشرعي على هذا اللغو؛ لأن هذا اللغوي، إذا لم ينقله الشرع، فهو لغوي عرفي شرعي. وأما الثاني، فهو شرعي، وليس بلغوي، ولا عرفي، والنقل على خلاف الأصل؛ فكان اللغوي أولى. وتاسعها: إذا تعارض مجازان، فالذي يكون أكثر شبها بالحقيقة، أولى، وأيضا: إذا تعارض خبران، ولا يمكن العمل بأحدهما إلا بمجازين، والآخر يمكن العمل به بمجاز واحد، كان هذا راجحا على الأول؛ لأنه أقل مخالفة للأصل. وعاشرها: أن يكون أحدهما دخله التخصص، والآخر لم يدخله

التخصيص؛ فالذي لم يدخله التخصيص، يقدم على الأول؛ لأن الذي دخله التخصيص، قد أزيل عن تمام مسماه، والحقيقة مقدمة على المجاز. وحادي عشرها: أن يدل أحدهما على المراد من الوجهين، والآخر من وجه واحد، يقدم الأول؛ لأن الظن الحاصل منه أقوى. وثاني عشرها: أن يكون أحد الحكمين مذكورا مع علته، والآخر ليس كذلك؛ فالأول أقوى. ومن هذا القبيل: أن يكون أحدهما مقرونا بمعنى مناسب، والآخر يكون معلقا بمجرد الاسم فيكون الأول أولى. وثالث عشرها: أن يكون أحدهما تنصيصا على الحكم، مع اعتباره بمحل آخر، والآخر ليس كذلك- يقدم الأول في المشبه به جميعا؛ لأن اعتبار محل بمحل إشارة إلى وجود علة جامعة. مثاله: قول الحنفية في قوله-عليه الصلاة والسلام-: (أيما إهاب دبغ، فقد طهر) كالخمر تخلل فتخل، رجحناه في المشبه على قوله-عليه الصلاة والسلام-: (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب) وفي المشبه به في مسألة تحليل الخمر على قوله: (أرقها). ورابع عشرها: أن تكون دلالة أحدهما مؤكدة، ودلالة الأخرى لا تكون مؤكدة فتقدم الأولى؛ كقوله-عليه الصلاة والسلام-: (فنكاحها باطل، باطل، باطل). وخامس عشرها: أن يكون أحدهما تنصيصا على الحكم، مع ذكر المقتضي لضده؛ كقوله-عليه الصلاة والسلام-: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها). يقدم على ما ليس ذلك؛ لأن اللفظ يدل على ترجيح ذلك على ضده،

شرح القرافي: قوله: (ترجيح الحقيقة على المجاز ضعيف

ولأن تقديمه يقتضي النسخ مرة، وتقديم ضده يقتضي النسخ مرتين، فيكون الأول أولى. وسادس عشرها: يقدم أن يكون أحد الدليلين مقرونا بنوع تهديد؛ فإنه على ما لا يكون كذلك؛ كقوله- عليه الصلاة والسلام-: (من صام يوم الشك، فقد عصي أبا القاسم). وكذا القول، لو كان التهديد في أحدهما أكثر. وسابع عشرها: أن يكون أحد الدليلين يقتضي الحكم بواسطة، والآخر يقتضيه بغر واسطة، فالثاني يرجح على الأول؛ كما إذا كانت المسألة ذات صورتين، فالمعلل إذا فرض الكلام في صورة، وأقام الدليل عليه، فالمعترض إذا أقام الدليل على خلافه في الصورة الثانية، ثم توسل إلى الصورة الأخرى بواسطة الإجماع، فيقول المعلل: (دليلي راجح على دليلك؛ لأن دليلي بغير واسطة، ودليلك بواسطة، فيكون الترجيح معي؛ لأن كثرة الوسائط الظنية تقتصي كثرة الاحتمالات، فيكون مرجوحا بالنسبة إلى ما يقل الاحتمال فيه). وثامن عشرها: المنطوق مقدم على المفهوم، إذا جعلنا المفهوم حجة؛ لأن المنطوق أقوى دلالة على الحكم من المفهوم. (القول بالترجيح باللفظ) قال القرافي: قوله: (ترجيح الحقيقة على المجاز ضعيف؛ لأن المجاز الغالب أظهر دلالة من الحقيقة؛ لأن قولنا: (فلان بحر) أقوى من دلالة قولنا: (سخي). قلنا: المجاز الغالب حقيقة عرفية، فيرجح من جهة أنه حقيقة ناسخة للحقيقة اللغوية، والناسخ مقدم على المنسوخ

ثم تمثيله بالبحر والسخي ليس من المجاز الغالب؛ فقد تردد قوله: (فإن كان مراده ما دل عليه مثاله)، فليكن كلامه أن المجاز أظهر في المبالغة، ولا يذكر لفظ الغلبة، وإن كان مراده المجاز الغالب، فليأت بمثال من الحقائق العرفية، أو الشرعية؛ فإنها [للمجازات] الغالبة، أما الجمع بين هذه الدعوى، وبين هذا المثال فمتنافر. قوله: (الدال بالوضع الشرعي، أو العرفي أولى مما يدل بالوضع اللغوي): تقريره: أن الوضع الشرعي والعرفي ناسخان للوضع اللغوي؛ لطروئهما بعده، ومناقضتهما له في صورة ما كان عليه. والناسخ مقدم على المنسوخ. قوله: (اللفظ إذا لم ينقله الشرع، فهو لغوي عرفي شرعي): تقريره: أنه إذا لم ينقل فالشارع وأهل العرف يستعملونه في اللغوي، فهو معنى قوله: إنه شرعي عرفي. أي: هو آلة للأبواب الثلاثة، كالألفاظ الخصيصة لتلك الأبواب. قوله: (النقل على خلاف الأصل، فكان اللغوي أولى): قلنا: الترجيح عند التعارض، والتعارض إنما يكون إذا كان صاحب الشرع هو الوارد بهما، وحينئذ نقول: إن الظاهر أن من له معنى في وضعه، فالظاهر أنه إنما يريد المعاني المنسوبة إليه، لا أنه أنسب بحاله، فترجح الشرعي. وقوله: (النقل خلاف الأصل يعارضه أن الناسخ مقدم على المنسوخ، غير أن التقدير أن هذا اللغوي لم ينسخ، فلا يتأتى هذا الترجيح في غير ذلك اللفظ، بل في جنسه.

فنقول: جنس النقل ناسخ، بخلاف اللغوي جنسه منسوخ، فحصل الترجيح، بخلاف إذا وقع [التغيير] في اللفظة الواحدة يقع النسخ فيعينها، ويكون الترجيح أقوى. قوله: (تقديم المذكور مع ضده يقتضي النسخ مرة، وتقديم ضده يقتضي النسخ مرتين): تقريره: أن قوله عليه السلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور والآن فزوروها). إذا قدمنا الإباحة لزم أن تكون البراءة الأصلية ارتفعت بالنهي، والنهي ارتفع بالإباحة، فما ارتفع الحكم الشرعي إلا مرة، وهو رفع النهي السابق. وإذا رجحنا النهي كان هو المتأخر، فيكون قد نسخ الإباحة، والإباحة مؤكدة للبراءة الأصلية، فما لزم أيضا النسخ في الحكم الشرعي إلا مرة واحدة، وعلى هذا يكزن كلامه لا يتم؛ لأنه إن أراد النسخ في الحكم الشرعي، فهو مرة فيهما. وإن أراد النسخ اللغوي الذي هو مطلق الرفع حتى في البراءة الأصلية التي لا يسمي الفقهاء رفعها نسخا، فينعكس عليه الحال، ويكون تقديم الإباحة يلزم منها النسخ مرتين؛ لأنها رافعة للنهي، والنهي رافع للبراءة. أما ترجيح النهي وهو الضد، فيلزم أن يكون رافعا للإباحة، والإباحة مؤكدة للبراءة الأصلية، فلا يلزم النسخ إلا مرة واحدة، وهذا يؤدي إلى ترجيح ضده عليه. ثم قوله في الكتاب: (إن تقديمه يقتضي النسخ مرة) يصدق التقديم بطريقين.

أحدهما: تقديمه بالزمان. والآخر: تقديمه في العمل. فإن كان مراده الأول صح قوله: إنه يلزم منه النسخ مرة، لكن يبطل قوله: إنه أولى؛ لأنه حينئذ يكون منسوخا بالنهي بعده، وإن أراد الثاني صح قوله: إنه أولى. غير أنه يشكل قوله: إنه يلزم منه النسخ. وأما سراج الدين فقال: ولأنه يلزم منه النسخ مرتين، ولم يقل: إن ذلك في ضده ولا فيه، ولم يذكر النسخ مرة، بل مرتين فقط. ولا يتلخص من كلام الجميع حسن ذكر النسخ مرتين في ترجيح الإباحة أصلا. فإنه لازم عنها ليس إلا، والأكثر نسخا لا يكون أرجح. قوله: (أن يكون أحد الدليلين يقتضي الحكم بواسطة مثل أن تكون المسألة ذات صورتين. فالمعلل إذا فرض الكلام في صورة، وأقام الدليل عليه، فالمعترض إذا أقام الدليل على خلافه في الصورة الثانية، ثم توصل إلى الصورة الأخرى بواسطة الإجماع، يقول المعلل: دليلي أرجح لعدم الحاجة للواسطة. قلنا: هذا الكلام مستحيل في وضع الشريعة؛ لأن المعترض إذا قال: إنه إذا ثبت الحكم في هذه الصورة، وجب أن يثبت في الصورة الأخرى؛ لأنه لا قائل بالفرق.

فلابد من أن يكون الإجماع انعقد على عدم الفرق بينهما، وحينئذ لابد للمستدل من أن يقول أيضا: لا قائل بالفرق؛ لأنه لا يمكنه إفراد أحدهما بالحكم ضرورة انعقاد الإجماع على عدم الفرق، ولا يخلص المستدل في مثل هذا إلا أن يأتي بدليل شامل للصورتين. لكنه غير ما فرضه المصنف؛ فإن فرضه أثبت في صورة واحدة، فيلزم أحد أمور ثلاثة: إما بطلان ما ذكره المعترض من الإجماع. أو احتياج المعلل له. أو يكون دليل المستدل شاملا للصورتين بغير وسط. ودليل المعترض يحتاج للوسط، فحينئذ يحسن الترجيح. * * *

القول في التراجيح الراجعة إلى الحكم

القول في التراجيح الراجعة إلى الحكم قال الرازي: وهي من وجوه خمسة: الأول: إذا كان أحد الخبرين مقررا لحكم الأصل، والثاني يكون ناقلا، فالحق: أن يجب ترجيح المقرر. وقال الجمهور من الأصوليين: إنه يجب ترجيح الناقل. لنا: أن حمل الحديث على ما لا يستفاد إلا من الشرع- أولى من حمله على ما يستقل العقل بمعرفته، فلو جعلنا المبقي مقدما على الناقل، لكان واردا حيث لا يحتاج إليه؛ لأنا في ذلك الوقت نعرف ذلك الحكم بالعقل، فلو قلنا: إن المبقي ورد بعد الناقل، لكان واردا حيث يحتاج إليه؛ فكان الحكم بتأخره عن الناقل أولى من الحكم بتقدمه عليه. واحتج الجمهور على قولهم بوجهين: الأول: أن اعتبار الناقل أولى؛ لأنه يستفاد منه مالا يعلم إلا منه، وأم المبقي، فغن حكمه معلوم بالعقل، فكان الناقل أولى. الثاني: أن في القول بكون الناقل متأخرا تقليل النسخ؛ لأنه يقتضي إزالة حكم العقل فقط، وفي القول بكون المقرر متأخرا تكثير النسخ؛ لأن الناقل أزال حكم العقل، ثم المقرر أزال حكم الناقل مرة أخرى. والجواب عن الأول: ما ذكرناه في الدليل؛ وهو: أنا لو جعلنا المبقي متأخرا، لكنا قد استفدنا منه ما لا يستقل العقل به، ولو جعلنها متقدما، لكنا قد استفدنا منه ما يتمكن العقل من معرفته.

وعن الثاني: أن ورود الناقل بعد ثبوت حكم الأصل ليس بنسخ؛ لأن دلالة العقل مقيدة بشرط عدم دليل السمع، فإذا وجد، فلا يبقى دليل العقل؛ فلا يكون دليل السمع مزيلا لحكم العقل، بل مبينا لانتهائه؛ فلا يكون ذلك خلاف الأصل. وأيضا: فما ذكرتموه معارض بوجه آخر، وهو: أنا لو جعلنا المبقي مقدما، لكان المنسوخ حكما ثابتا بدليلين: دليل العقل، ودليل الخبر؛ فيكون هذا أشد مخالفة؛ لأنه يكون ذلك نسخا للأقوى بالأضعف؛ وهو غير جائز. وأما على الوجه الذي قلناه، فلا يكون المنسوخ إلا دليلا واحدا. فرع: فإن قيل: أفتجعلون العمل بالناقل؛ على ما ذكره الجمهور، أو بالمقرر؛ على ما ذكرتموه في باب الترجيح؟! قلنا: قال القاضي عبد الجبار: إنه ليس من باب الترجيح، واستدل عليه بوجهين: الأول: أن نعمل بالناقل على أنه ناسخ، والعمل بالناسخ ليس من باب الترجيح. الثاني: أنه لو كان العمل بالناقل ترجيحا، لوجب أن يعمل بالخبر الآخر لولاه؛ لأن هذا حكم كل خبرين رجحنا أحدهما على الآخر، ومعلوم أنه لولا الخبر الناقل، لكنا إنما نحكم بموجب الخبر الآخر؛ لدلالة العقل، لا لأجل الخبر. ويمكن أن يجاب عن الأول: بأنا لا نقطع في الأصول بأن الناقل عن حكم الأصل متأخرا وناسخ، وإنما نقول: الظاهر ذلك، مع جواز خلافه؛ فهو إذن: داخل في باب الأولى؛ وهذا ترجيح. وعن الثاني: أنه لولا الخبر الناقل، لعلمنا بموجب الخبر الآخر لأجله، إلا

ترى أنا نجعله حكما شرعيا؟ ولهذا لا يصح رفعه إلا يصح النسخ به، ولولا أنه بعد ورود الخبر، صار شرعيا، وإلا لما كان كذلك. الثاني: قال القاضي عبد الجبار: الخبران، إذا كان أحدهما نفيا، والآخر إثباتا، وكانا شرعيين، فإنهما سواء، وضرب لذلك أمثلة ثلاثة: أحدها: أن يقتضي العقل حظر الفعل، ثم ورد خبران في إباحته ووجوبه. وثانيها: أن يقتضي العقل وجوب الفعل، ثم ورد خبران في حظره وإباحته. وثالثها: أن يقتضي العقل إباحة الفعل، ثم ورد خبران في وجوبه وحظره. واعلم أن هذا لا يستقيم على مذهبنا في أن العقل لا يستقل في شيء من الأحكام بالقضاء؛ بالنفي والإثبات، بل ذلك لا يستفاد إلا من الشرع؛ وحينئذ: لا يكون لأحدهما مزية على الآخر، وأما على مذهب المعتزلة، فلا يتم ذلك؛ لأنه لا بد في كل نفي وإثبات متواردين على حكم واحد أن يكون أحدهما عقليا. بيانه: أن الإباحة تشارك الوجوب ففي جواز الفعل، وتخالفه في جواز الترك، وتشارك الحظر في جواز الترك، وتخالفه في جواز الفعل، فهي تشارك كل واحد من الوجوب والحظر بما به تخالف الآخر، وإذا ثبت هذا، فنقول: إذا اقتضى العقل الحظر، فقد اقتضى جواز الترك أيضا؛ لأن ما صدق عليه أنه محظور، فقد صدق عليه أنه يجوز تركه، فإذا جاء خبر الإباحة والوجوب، فالإباحة: إنما تنافى الوجوب من حيث إن الإباحة تقتضي جواز الترك، لا من حيث إنها تقتضي جواز الفعل؛ لكن جواز الفعل هاهنا، كما عرفت: حكم عقلي؛ فثبت أنه لابد هاهنا في النفي والإثبات من كون أحدهما عقليا فيه، فليعمل فيه كما في المثال الأول.

وأما المثال الثاني، وهو ما إذا اقتضى العقل الوجوب، وجاء خبران في الحظر والإباحة، فالكلام فيه كما في المثال الأول. وأما المثال الثالث؛ وهو ما إذا اقتضى العقل الإباحة، ثم جاء خبران في الحظر والوجوب: فنقول: لما ثبت أن الإباحة تشارك كل واحد من الوجوب والحظر بما به تخالف الآخر، وإذا كانت مقتضى العقل، لزم أن يكون الوجوب مقررا لحكم العقل من وجه، وناقلا من وجه آخر، وكذا القول في الحظر، فهاهنا أيضا: لابد في النفي والإثبات المتواردين على أمر واحد: أن يكون أحدهما عقليا، وإذا ثبت انه لابد في النفي والإثبات من كون أحدهما عقليا- رجع الترجيح إلى ما تقدم من أن الناقل أرجح أم المبقى؟!. فرع: إذا كان مقتضى العقل الحظر، ثم ورد الخبران في الإباحة والوجوب، والإباحة تشارك الحظر من وجه، وتخالفه من وجه آخر، فخبر الإباحة يقتضي بقاء حكم العقل من وجه، والنقل من وجه، وأما الوجوب: فإنه يخالف الحظر في القيدين معا، فيكون الوجوب مقتضيا للنقل من وجهين، فمن رجح الخبر الناقل على المبقى، رجح الخبر الوجوب، ومن رجح المبقى على الناقل، فبالعكس. وكذا القول فيما إذا اقتضى العقل الوجوب، وجاء خبران في الحظر والإباحة، فأما إذا اقتضى العقل الإباحة، وجاء خبران في الحظر والوجوب، فكل واحد منهما يشارك في الإباحة من وجه، ويخالفها من وجهه آخر؛ فإذن: كل واحد منهما ناقل من وجه، ومبق من وجه آخر، فيحصل التساوي، ولا يحصل الترجيح. الثالث: إذا تعارض خبران في الحظر والإباحة، وكانا شرعيين، فقال أبو هاشم وعيسى بن أبان: إنهما يستويان.

وقال الكرخي وطائفة من الفقهاء: خبر الحظر راجح، واحتجوا على الترجيح للحظر؛ بالخبر، والحكم، والمعنى: أما الخبر: فقوله- عليه الصلاة والسلام-: (ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال) وقال- عليه الصلاة والسلام-: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) وجواز الفعل يريبه؛ لأنه بين أن يكون حراما، وبين أن يكون مباحا، فما يريبه جواز فعله؛ فيجب تركه، وروي عن عمر- رضي الله عنه- أنه قال في الأختين لمملوكتين: (أحلتهما آية، وحرمتهما آية، والتحريم أولى). وأما الحكم: فإنه من طلق إحدى نسائه، ونسيها، حرم عليه وطء جميع نسائه، وكذلك لو أعتق إحدى إمائه. وأما المعنى: فهو أنه دار بين أن يرتكب الحرام، أو يترك المباح، وترك المباح أولى؛ فكان الترجيح للمحرم احتياطا. فإن قلت: ولا يمتنع أيضا أن يكون مباحا، فيكون باعتقاده الحظر مقدما على مالا يأمن كونه جهلا): قلت: إنه إذا استباح المحظور، فقد أقدم على محظورين: أحدهما الفعل، والثاني: اعتقاد إباحته، وليس كذلك، إذا امتنع من المباح؛ لاعتقاد حظره؛ لأنه محظور واحد، والغرض هو الترجيح بضرب من القوة. الرابع: المثبت للطلاق والعتاق يقدم على المنافي لهما؛ عند الكرخي، قال قوم: يسوى بينهما. وجه الأول: أن ملك النكاح واليمين مشروع على خلاف الأصل؛ فيكون

القرافي: قوله: (لو جعلنا المبقى متقدما على الناقل، لكان واردا حيث لا يحتاج إليه)

زوالهما على وفق الأصل، والبر المتأيد بموافقة الأصل راجح على الواقع على خلاف الأصل. الخامس: النافي للحد مقدم على المثبت له؛ عند بعض الفقهاء، وأنكره المتكلمون. وجه الأول من وجوه: أحدها: أن الحد ضرر؛ فتكون شرعيته على خلاف الأصل، والنافي له على وفق الأصل؛ فيكون النافي له راجحا. وثانيها: أن ورود الخبر في نفي الحد، إن لم يوجب الجزم بذلك النفي، فلا أقل من أن يفيد شبهة فيه، إذا حصلت الشبهة، سقطت الحدود؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام-: (ادرءوا الحدود بالشبهات). وثالثها: إذا كان الحد يسقط بتعارض البينتين مع ثبوته في أصل الشرع، فلأن يسقط بتعارض الخبرين في الجملة، ولم يتقدم له ثبوت- أولى. (القول في الترجيح بالحكم) قال القرافي: قوله: (لو جعلنا المبقى متقدما على الناقل، لكان واردا حيث لا يحتاج إليه): تقريره: إنه يريد بالتقدم في التاريخ والزمان، وإن الناقل ورد بعده، فيتقدم على رأي الجمهور. وإذا ورد بعد الناقل يكون ناسخا للإباحة، والنسخ لا يعلم إلا من جهة الشرع، فكان أولى عندهم عنده على العكس، ورد الناقل أولا، فرفع البراءة الأصلية، ثم ورد المقرر للنسخ، فرفع التحريم أو الوجوب، فأفاد كل دليل أنشئ عن عقلي، فكان أولى، وعليه ينبني بحث النسخ مرة أو مرتين.

فتأخر الناقل يقتضي أن المقرر تقدمته أجلاء العقل، ولم تنسخه، ولم يحصل إلا نسخ المبيح الموكد للعقل. وتأخر المبيح يقتضي رفع المحرم الرافع للبراءة، فيلزم النسخ مرتين. قوله: (دلالة العقل مفيدة بشرط عدم دليل السمع، وإذا وجد لا يبقى دليل العقل): قلنا: هذا مشترك في السمع أيضا؛ لأن دلالة كل سمع مشروطة بعدم ورود ناسخه، فزال عند الناسخ؛ لزوال شرطه، فلا يكون نسخا، فإن كان هذا كافيا في عدم النسخ، فهو مشترك. بل الجواب أن رفع العقل ليس نسخا؛ لأنا نشترط في النسخ رفع الحكم الشرعي. أما البراءة الأصلية، فرفعا ليس نسخا؛ لأنا لا نعد ورود الشرائع ابتداء نسخا، ولذلك نرفعها بخبر الواحد والقياس، وأيسر الأدلة، بخلاف إذا تقدم. قوله: (لا يصح رفعه إلا بما يصح النسخ به): تقريره: أن الخبر المقرر للعقل قد يكون متواترا، أو آية كتابية، فلا يرفعها إلا متواترا؛ لأنا نشترط في الناسخ أن يكون مساويا أو أقوى. قوله: (إذا ثبت أنه لابد في النفي والإثبات في الخبرين من كون أحدهما عقليا رجع الترجيح إلى ما تقدم من أن الناقل أرجح أم لا): قلنا: ادعيتم أولا أن الخبرين في النفي والإثبات لابد أن يكون أحدهما عقليا، ولم يتخلص من البيان الذي ذكرتموه إلا أنه عقلي من وجه لا أن موجبه كله عقلي، وإذا كان عقليا من وجه ناقلا من وجه، وهذا قدر المشترك بين الخبرين، فلم يرجع هذا إلى القاعدة من أن الناقل أرجح أم لا؟.

فائدة: قال بعض العلماء: في الأحكام يقدم الحظر؛ لأن النهي يعتمد المفاسد

لأن كل واحد منهما حينئذ ناقل من وجه، وليس من هذا الباب. قوله: (النكاح وملك اليمين على خلاف الأصل): تقريره: أن ملك اليمين فيه حجر أحد الآدميين على الآخر واستباحته لأكسابه ومنافعه، فهو نوع من العقوبات التي هي من جرائر الكفر، والأصل عدم ذلك، والتسوية بين الناس. وأما النكاح فلما فيه من الحجر وجعل المرأة كالبلاعة مصب القاذورات والمهانات، وذلك على خلاف الأصل. قوله: (يسقط الحد لقوله عليه السلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات) قلنا: قال المحدثون: لم يصح هذا الحديث. (فائدة) قال بعض العلماء: في الأحكام يقدم الحظر؛ لأن النهي يعتمد المفاسد. والأمر والإباحة يعتمدان المصالح في الأمر، وعدمها أو مساواتها في الإباحة. وعناية العقلاء، وصاحب الشرع بدرء المفاسد أكثر؛ ولأن تقديم الحظر يفضي إلى الترك، والترك على وفق الأصل، والأمر والإباحة يفضيان إلى الفعل، وهو على خلاف الأصل؛ لأن الأصل عدم الفعل؛ لأنه من الحوادث، والموافق للأصل أرجح. حجة التسوية أن الإباحة تستلزم نفى الحرج، وهو الأصل؛ فإن الأصل براءة الذمة، فالمبيح معضود بالأصل. والمحرم يستلزم الحرج على تقدير الفعل، وهو على خلاف الأصل، فيكون مرجوحا من هذا الوجه، راجحا من الوجه الذي تقدم، فيحصل التسوية. وحكى القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص) أن الإباحة مقدم. والمسكر مقدم؛ لأن الكل أحكام شرعية، واختاره هو.

وقال سيف الدين: يقدم المفيد للحكم الشرعي على الحكم العقلي، ومثاله قوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة"، و"الطواف بالبيت صلاة". هل هما خبران عن حصول مفهوم الجمع، والدعاء، أو عن حكم الجماعة؛ وأنه يحصل بالاثنين، وأن الطهارة شرط في الطواف، والثاني مقدم على الأول. ***

القول في الترجيحات الحاصلة بالأمور الخارجة

القول في الترجيحات الحاصلة بالأمور الخارجة قال الرازي: وهي من وجوه: أحدها: الترجيح بكثرة الأدلة، وقد سبق القول فيه. وثانيها: أن يقول بعض أئمة الصحابة، أو يعمل بخلافه، والخبر لا يجوز خفاؤه عليه، وهذا عند البعض يحمل على نسخه، أو أنه لا أصل له؛ إذ لولاه، لما خالف، وعند الشافعي- رضي الله عنه-: لا يحمل على ذلك؛ لكن إذا عارضه خبر لا يكون كذلك، كان راجحا عليه. وثالثها: إذا عمل بأحدهما أكثر السلف ممن لا يجب تقليدهم. قال عيسى بن أبان: يجب ترجيحه؛ لأن الأكثر يوفقون للصواب ما لا يوفق له الأصل، وقال آخرون: لا يحصل الترجيح؛ لأنه لا يجب تقليدهم. ورابعها: أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى يكون مرجوحا؛ إما لاختلاف المجتهدين في قبوله، أو لأن كونه مما تعم به البلوى، إن لم يوجب القدح فيه، فلا أقل من إفادته المرجوحية. واعلم أن بعض ما يرجح به الخبر قد يكون أقوى من بعض؛ فينبغي إذا استوي الخبران في كمية وجوه الترجيح: أن تعتبر الكيفية، فإن كان أحد الجانبين أقوى كيفية، وجب العمل به، وإن كان أحد الجانبين أكثر كمية، وأقل كيفية، والجانب الآخر على العكس منه- وجب على المجتهد أن يقابل ما في أحد الجانبين بما في الجانب الآخر، ويعتبر حال قوة الظن، والكلام في قوة كثير من وجوه الترجيحات طريقه الاجتهاد.

شرح القرافي: لم أجد في هذا القسم للمصنف ما يحتاج الكلام عليه

القول في الترجيح بالأمور الخارجة قال القرافي: لم أجد في هذا القسم للمصنف ما يحتاج الكلام عليه، غير أن سيف الدين ذكر أشياء أذكرها: قال سيف الدين وجوها: أحدها: إذا كان أحد الروايين ينقل عن شيخه، غير معتمد على نسخة [سماعه، أو خط نفسه بخلاف] الآخر على نسخة، فهو أرجح؛ لأنه يكون أبعد عن السهو. وثانيها: أن يكون أحدهما أقرب للنبي- عليه السلام- حالة السماع، فيقدم على البعيد في المجلس، كرواية الإفراد في حجة الوداع مقدمة على رواية القران؛ لأن ابن عمر ذكر أنه كان تحت ناقته؛ فهو أقرب. وثالثها: أن يكون أحد الراويين روايته عن حفظ، والآخر من كتاب، فيقدم الأول؛ لأنه أضبط. ورابعها: المسند إلى كتب المحدثين مقدم على المشهور؛ لأن المشهور قد ينص المحدثون على عدم صحته. وخامسها: رواية المناولة مقدمة على رواية الإجازة؛ لأن في المناولة لابد وأن يقول: حدث به عني، فهو إجازة وزيادة، والمناولة أولى من الرواية عن الخط؛ لاحتمال التزوير في الخط. وسادسها: الرواية من غير حجاب مقدمة على الرواية من وراء حجاب.

كرواية القاسم بن محمد عن عائشة من غير حجاب؛ لكونها عمته: أن بريرة عتقت، وكان زوجها عبدا، تقدم على رواية أسود عنها أن زوجها كان حرا. وسابعها: رواية السامع من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مقدمة على الرواية عما جرى في زمانه- عليه السلام- وسكت عنه. وثامنها: أن يكون أحد الخبرين خطره في السكوت عنه أعظم من خطر الآخر في السكوت عنه، فيقدم، فيكون الظن في تقرير الأخطر أغلب. أحدها: أن الطلب فيه أكثر؛ فإن أكثر من قال: يكفي في الأمر المرة الواحدة نازع في النهي. وثانيها: أن يردد الأمر بين محامل كثيرة أكثر من محامل النهي. وثالثها: أن النهي يعتمد المفسدة، والأمر يعتمد المصلحة، ودفع المفسدة أعظم عند العقلاء. وعاشرها: أن يكون أحدهما أمرا، والآخر خبرا، فيرجح الخبر لثلاثة أوجه: أحدها: أن مدلول الخبر متحد، بخلاف الأمر.

الثاني: أن الخبر أقوى في الدلالة؛ لامتناع نسخه. الثالث: أن مخالفة الخبر يلزمها محذور الكذب، وهو أشد من مخالفة الأمر بالنسبة إلى المتكلم بهما. وحادي عشرها: يقدم الخبر على النهي لذلك. وثاني عشرها: يقدم الخبر على النسخ لذلك. وثالث عشرها: اللفظ [الذي] مدلوله مفرد مقدم على اللفظ المشترك، فإن كانا مفردين، وأحدهما أشهر قدم الأشهر. ورابع عشرها: يقدم ما يلزم منه مجاز واحد على ما يلزم منه مجازان. وخامس عشرها: تقدم دلالة المطابقة على دلالة الالتزام. وسادس عشرها: أن يكونا معا يدلان بالاقتضاء، غير أن أحدهما لضرورة صدق المتكلم، والآخر لضرورة وقع الملفوف به عقلا أو شرعا، فيقدم الأولان على الثالث. وسابع عشرها: أن يكونا معا دالين على العلة بالإيماء، غير أن أحدهما لو لم يكن المواد منه التعليل لزم منه العبث، فيقدم على ما لا يلزم منه ذلك. وثامن عشرها: يمكن ترجيح الموافقة على مفهوم المخالفة؛ لأنه متفق عليه عند الأكثرين، وقد يرجح مفهوم المخالفة من وجهين: أحدهما: أن مفهوم المخالفة أدخل في باب التأسيس، والموافقة أدخل في باب التأكيد. وتاسع عشرها: دلالة الاقتضاء مقدمة على دلالة الإشارة؛ لأن المتكلم يقصدها، بخلاف دلالة الإشارة، ولذلك تقدم على دلالة التنبيه، والإيماء؛ لوقوع الاتفاق عليها.

والعشرون: أن يكونا عامين، فيمكن تقديم العموم المستفاد من الشرط على النكرة المنفية؛ لأن الحكم فيه المعلل، بخلاف النكرة، والمعلل أولى. ولذلك لو قال: لا رجل في الدار، وفيها رجل استهجن، فإن كان الآخر من عموم صيغة الجمع قدم الشرط؛ لأن كثيرا ممن خالف في الجمع وافق على العموم في الشرط، ويقدم الجمع المعرف على المفرد المعرف، والجمع المنكر؛ لأن العموم فيه أقوى منهما، واسم الجمع المعرف مقدم على اسم الجنس المعرف؛ فكان أقوى و "من" و "ما" في العموم مقدم على اسم الجنس المعرف؛ لاحتماله العهد. الحادي والعشرون: أن يشتمل أحدهما على زيادة لم يتعرض لها الآخر. الثاني والعشرون: أن يكونا إجماعين دخل في أحدهما جميع أهل العصر، والآخر لم يدخل فيه سوى أهل العقد والحل، فالأول أولى؛ لأنه ابعد عن الخلاف فيه، أو يدخل في أحدهما الأصوليون الذين ليسوا فقهاء، ويخرج العوام، والآخر بالعكس. فالأول أولى لقربهم من معرفة المدارك، أو دخل فيه المجتهد المبتدع الذي ليس بكافر، ولم يدخل في الآخر، فالثاني أولى؛ لأنه أقرب للصدق، ولبعده عن الخلاف، أو دخل فيه المجتهد المتبع دون العوام، والفروعيون الذين ليسوا أصوليين، والأصوليون الذين ليسوا فروعيين، والآخر بعكسه. فما دخل فيه المجتهد المبتدع أولى؛ لأن خلله إنما هو في اعتقاده، والخلل غير غيره من جهة اجتهاده في تلك المسألة. ويقدم إجماع الصحابة- رضي الله عنهم- على إجماع التابعين،

والإجماع الذي انقرض عصره على ما لم ينقرض عصره، والذي لم يسبق بالمخالفة أولى؛ لأنه أبعد عن الخلاف فيه. ويقدم ما لم يرجع فيه بعض المجتهدين إلى بقية الأمة على ما فيه رجوع بعض المجتهدين؛ لبعده عن المناقضة، والخلاف فيه. ويقدم إجماع الصحابة الذي لم يدخل فيه غير المجتهدين على إجماع التابعين الذي دخل فيه جميع أهل عصرهم، وما دخل فيه جميع أهل العصر، وإن لم ينقرض عصرهم مقدم على ما لم يدخل فيه جميع أهل العصر، إلا أنه انقرض عصرهم؛ لأن الرجوع بسبب عدم انقراض العصر موهم، وإجماع النطق مقدم على إجماع الانقسام على قولين، وإن لم ينقرض عصره، والانقسام على قولين الذي لم يسبق بمخالفة، والآخر بعكسه، فالأول مقدم. قلت: والإجماعات لا يتأتى فيها التعارض حتى يتأتى الترجيح بل أحدهما خطأ، وإنما ذلك إذا فرع بين قاعدتين مجمع عليهما بإجماعين مختلفين، فترجح إحدى القاعدتين على الأخرى، أو يكون الإجماعان ظنيين؛ إما بقوة الخلاف، أو لكونهما منقولين بطريق الآحاد؛ فيتجه الترجيح. فهذه أنواع من الترجيحات ليست في "المحصول". الثالث والعشرون: الحظر مقدم على الوجوب؛ لما تقدم من الترجيح في النهي والأمر؛ ولأن النهي أفضى إلى مقصوده؛ لأنه يحصل بمجرد الترك، ولو مع الغفلة، وعدم الشعور، وعدم المشقة. الرابع والعشرون: أن يكون أحدهما دالا على التكليف؛ فيقدم على ما يدل على الحكم الوضعي؛ لما فيه من الثواب. الخامس والعشرون: خطاب المشافهة، كقوله تعالى: {يا أيها الناس}

[البقرة: 21]، {يا أيها الذين آمنوا} [البقرة: 178] إذا عارضه خطاب الغيبة، كقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم} [المجادلة: 3]، {ومن دخله كان آمنا} [آل عمران: 97]. إن تعارضا في حق من وردت المخاطبة به، قدم خطاب المشافهة، أو في الآخر، قدم الآخر كما تقدم في الوارد على سبب. السادس والعشرون: الذي لا يتطرق النسخ إليه يقدم على ما يتطرق النسخ إليه. السابع والعشرون: العام المتفق على العمل به في صورة مقدم على المختلف في العمل به، لتطرق التعطيل إليه. الثامن والعشرون: يقدم الذي لا يستلزم نقص بعض الصحابة على المقتضى لذلك، كحديث القهقهة في الصلاة. التاسع والعشرون: يقدم ما فسره الراوي على متروك التفسير؛ لأنه أعلم بمقصود المتكلم، هذا كله في الأحكام، وقال في الكتاب الموضوع له في الترجيح خاصة. الثلاثون: العام المختلف في تخصيصه، كقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء: 23]. مقدم على المتفق على تخصيصه، كقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} [النساء: 3]. الحادي والثلاثون: قال: ما هو على خلاف القياس، وإن ظن أنه أولى مما هو على وفق القياس؛ لعدم إسناد القول فيه إلى الاجتهاد، فإن مفسدة احتمال الكذب عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فيهما سواء فلا يتحقق الترجيح، لا سيما والغالب على الشرائع موافقة القياس، فيكون الموافق مقدما.

ولأن مخالفة القياس إذا قد يلزم منه مخالفة النقل، والقياس، والآخر إنما يلزم منه مخالفة النقل فقط. وخالفه إمام الحرمين في "البرهان"، فقال: قدم الشافعي ما عضده القياس [لرجحانه] بالعاضد. وقال القاضي: يتساقط الخبران، ويعمل بالقياس؛ لأن الخبر مقدم على القياس، فلا يقدم خبر على خبر مما يسقطه. الثاني والثلاثون: قال سيف الدين: أن يكونا دخلهما التخصيص، إلا أن أحدهما تخصيصه بعيد في العادة، فيقدم الآخر. الثالث والثلاثون: قال إمام الحرمين: إذا تعارض الخبر المتواتر والإجماع قدم الإجماع، وإن كان تصويره عسرا، وهو غير واقع، لكن [المتواتر] يحتمل النسخ دون الإجماع. الرابع والثلاثون: قال في "البرهان": إذا تعارض خبر الواحد، وأقضية الصحابة، قدم مالك أقضية الصحابة- رضي الله عنهم- على النص الصريح، كما قدم عمل أهل "المدينة". وقال الشافعي: يقدم الخبر؛ لأنهم محجوجون بالخبر، والمحجوج لا يعارض الحجة، ولو عاصرتهم لحاججتهم، وجادلتهم العين العين، ولا

يتغير ذلك بانقراضهم، بل أقدم القياس على قولهم، فكيف الخبر المقدم على القياس، وإذا حسن الظن بهم، فبخبر الشارع أولى. قال الإمام: والذي أراه أن يقول: إن تحققنا بلوغ الخبر طائفة من الصحابة- رضي الله عنهم- وهو نص لا يقبل التأويل قدمنا عملهم؛ لأنه لا مستند لهم إلا النسخ، وهم مبرءون من الاستهانة بالأخبار إجماعا. وليس هذا تقديما لقضائهم على الخبر، بل تمسك الإجماع على وجوب حمل عملهم على وجه سائغ، فالخبر عارضه الإجماع؛ فيقدم على الخبر. وليس في تطرق النسخ الخبر غض من منصبه، فإن لم يبلغهم، أو غلب على الظن ذلك الخبر. قال: وحسن الظن بدقة نظر الشافعي- رضي الله عنه- في أصول الشريعة أنه إنما قدم الخبر في هذه الصورة وإن غلب على الظن أنه بلغهم. قال: فهو عندي محل التوقف والبحث. فإن وجدنا في الحادثة متعلقا سوى الخبر، والأقضية الصحابية، وإلا تعلقنا بالخبر. قال: وينبغي أن يعلم أن أقضية الصحابة- رضوان الله عليهم- من غير إجماع لا يتمسك بها. فإن نقلت معارضة لنص لا يقبل التأويل تمسكنا بها؛ لأنه تعلق بما صدرت المذاهب عنه. قال: وما ذكرناه في أئمة الصحابة- رضوان الله عليهم- يطرد في أئمة التابعين، وأئمة كل عصر، فإذا روى مالك خبر الخيار ولم يعمل به، قدمنا الخبر عليه، ولو أن جمعا بلغهم خبر، وعملوا بخلافه، وجوزنا ذهولهم خرج على التقاسم كما سبق، وكذلك المجتهد الواحد الموثوق به، وبديانته

وعدالته، فلو عمل بالخبر جمع وتركه جمع، والفريقان ذاكران للخبر، ولا احتمال إلا النسخ، قال: فالذي أرى تقديم عمل المخالفين؛ لاحتمال عدم اطلاع العاملين على الناسخ، وهذا إذا لم يبد المخالفون مستندهم. الخامس والثلاثون: قال في "البرهان": إذا تعارض الخبران من غير ترجيح، ولا احتمال نسخ، فالحكم عند الأصوليين التوقف واللحوق بما قبل الشرائع. قلت: وهذا لا يخالف ما حكاه صاحب "المحصول" أن الجمهور في الأمارتين على التخيير؛ لأن الأمارتين ظن، والتقدير هاهنا النصوص، وعدم التأويل. السادس والثلاثون: قال في "البرهان": إذا تعارض ظاهران: أحدهما من الكتاب، والآخر من السنة. قيل: يقدم الكتاب. وقيل: السنة. وقيل: هما متعارضان؛ نظرا لحديث معاذ، أو لأن السنة مبينة، أو لتعارض المدركين. قال: والصحيح التعارض. وقال القاضي: إذا تعارض ظاهر الكتاب وظاهر خبر الواحد، فهما متعارضان، قال: ولست أراه، بل يقدم الكتاب، لاختصاصه بأن نقله متواتر.

تنبيه: تقدم رواية أهل الحرمين وبعض المفهومات على بعض، فليطالع من هناك

"تنبيه" تقدم رواية أهل الحرمين وبعض المفهومات على بعض، فليطالع من هناك. السابع والثلاثون: قال ابن برهان في كتاب "الأوسط" يقدم رواية أهل الحرمين على غيرهم؛ لأنهم أعلم بحاله- عليه السلام- من أهل "العراق" وغيرهم. وذلك قال بعض المحدثين: إذا جاوز الحديث الحرمين انقطع نخاعه، يعني: "المدينة". ***

القسم الرابع: في تراجيح الأقيسة

القسم الرابع قال الرازي: في تراجيح الأقيسة وهي: إما أن تكون بحسب ماهية العلة، أو بحسب ما يدل على وجودها، أو بحسب ما يدل على عليتها، أو بحسب ما يدل على ثبوت الحكم في الأصل، أو بحسب محل ذلك الحكم، أو بحسب محالها، أو بحسب أمورٍ منفصلةٍ عن ذلك: النوع الأول: في التراجيح المعتبرة بحسب ماهية العلة: فنقول: إنا بينا أن الحكم الشرعي: إما أن يكون معللاً بالوصف الحقيقي، أو بالحكمة، أو بالحاجة، أو بالوصف العدمي، أو بالوصف الإضافي، أو بالوصف التقديري، أو بالحكم الشرعي، وعلى كل التقديرات: فالعلة إما أن تكون مفردة، أو مركبة من قيدين أو أكثر، واعتمد بعضهم في الترجيح الواقعة في هذا الباب على أمرين: أحدهما: أن كل ما كان أشبه بالعلل العقلية، فهو راجح على ما لا يكون كذلك؛ لأن العقل أصل النقل، والفرع كلما كان أشبه بالأصل، كان أقوى. وثانيهما: أن كل ما كان متفقًا عليه، فهو أولى مما يكون مختلفًا فيه، وكل ما كان الخلاف فيه أقل، فهو راجح على ما يكون الخلاف فيه أكثر؛ والسبب فيه: أن وقوع الخلاف فيه يدل على حصول الشك والشبهة، وهذان المأخذان ضعيفان جدًا إلا في شيء واحد؛ وهو: أن كل ما كان متفقًا عليه، فهو أولى مما يكون مختلفًا فيه؛ وذلك لأن المقدمة إذا كانت مجمعًا عليها، كانت يقينية، والقياس الذي يكون بعض مقدماته يقينيًا، وبعضه ظنيًا أقوى من الذي يكون

كل مقدماته ظنيا؛ لأن الاحتمال في الأول أقل مما في الثاني، ومتى كان الاحتمال أقل كان الظن أقوى، إذا عرفت هذا الأصل، فلنرجع إلى التفصيل، وفيه مباحث: أحدهما: أن التعليل بالوصف الحقيقي أولى من التعليل بسائر الأقسام؛ لأن جواز التعليل بالوصف الحقيقي مجمع عليه؛ بين القائسين، والتعليل بسائر الأقسام مختلف فيه؛ فيكون القياس الذي يكون الحكم في أصله معللاً بالوصف الحقيقي - أقوى مما لا يكون كذلك. وثانيها: التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالعدم، وبالوصف الإضافي، وبالحكم الشرعي، وبالوصف التقديري: أما أنه أولى من العدم: فلأن العلم بالعدم لا يدعو إلى شرع الحكم إلا إذا حصل العلم باشتمال ذلك العدم على نوع مصلحةٍ، فيكون الداعي إلى شرع الحكم في الحقيقة هو المصلحة؛ لا العدم وإذا كانت العلة هي المصلحة، لا العدم - كان التعليل بالمصلحة أولى من التعليل بالعدم. فإن قلت: (فهذا يقتضى أن يكون التعليل بالمصلحة أولى من التعليل بالوصف". قلت: كان الواجب ذلك، إلا أن الوصف أدخل في الضبط من الحاجة، فلهذا المعنى ترجح الوصف على المصلحة، والعدم المطلق لا يتقيد إلا إذا أضيف إلى الوجود، فهو في نفسه غير مضبوط، فالعدم ليس بمؤثرٍ في الحقيقة، وليس بضابط في نفسه؛ فظهر الفرق. وإذا ثبت أن التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالعدم، وقد ثبت أن الإضافات ليست أمورًا وجودية - لزم أن يكون التعليل بالحكمة أولى من

التعليل بالإضافات، وأما أنه أولى من الحكم الشرعي، والوصف التقديري: فلأن التعليل بالحاجة تعليل بنفس المؤثر، وهذا يمنع من التعليل بغيره، ترك العمل به في الوصف الحقيقي بالإجماع، ولأنه اشتبه بالعلل العقلية، فيبقي في هذه الصورة على الأصل. وثالثها: التعليل بالعدم أولى، أم بالحكم الشرعي؟ يحتمل أن يقال: العدم أولى؛ لأنه أشبه بالأمور الحقيقية، ويحتمل أن يقال: بل بالحكم الشرعي أولى؛ لأنه أشبه بالوجود. ورابعها: التعليل بالعدم أولى، أم بالصفات التقديرية؟ والأشبه هو الأول؛ لأن المقدر معدوم أعطى حكم الموجود، فكل ما في المعدوم من المحذورات، فهو حاصل في المقدر، مع مزيد محذورٍ آخر، وهو: أنه مع كونه معدومًا أعطي حكم الموجود؛ فكان المعدوم أولى. وخامسها: تعليل الحكم الوجودي بالعلة الوجودية أولى من تعليل الحكم العدمي، بالوصف العدمي، ومن تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي، والحكم الوجودي بالوصف العدمي؛ لأن كون العلة والمعلول عدميين يستدعي تقدير كونهما وجوديين؛ لأنا بينا أن العلة والمعلول وصفان ثبوتيان، فحملهما على المعدوم لا يمكن إلا إذا قدر المعدوم موجودًا، وتعليل العدم بالعدم أولى من القسمين الباقيين للمشابهة، وأما أن تعليل العدم بالوجود أولى، أم تعليل الوجود بالعدم؟ ففيه نظر. وسادسها: التعليل بالحكم الشرعي أولى من التعليل بالوصف المقدر؛ لأن الأول على وفق الأصل، والثاني على خلاف الأصل.

شرح القرافي: قوله: (الترجيح بالشبه بالعقل، وقلة الاختلاف ضعيف جدا"

وسابعها: التعليل بالعلة المفردة أولى من التعليل بالعلة المركبة؛ لأن الاحتمال في المفردة أقل مما في المركب؛ لأن المفرد لو وجد، لوجد بتمامه، ولو عدم، لعدم بتمامه، وأما المركب، فليس كذلك؛ لأن المركب من قيدين فقط يحتمل في جانب الوجود احتمالات ثلاثة، وهي أن يوجد الجزء بدلاً عن ذالك، وذاك بدلاً عن هذا، ويوجد المجموع. وكذا القول في جانب العدم المركب من قيود ثلاثة، يوجد فيه احتمالات سبعة في طرف الوجود، وسبعة في طرف العدم؛ ومعلوم أن ما كان الاحتمال فيه أقل، كان أولى، فهذه جملة التراجيح العائدة إلى ماهية العلة. القسم الرابع "في ترجيح الأقيسة" قال القرافي: قوله: (الترجيح بالشبه بالعقل، وقلة الاختلاف ضعيف جدًا": تقريره: أن الشرائع ليست ناشئة عن العقل، فلا تكون فرعًا له، حتى يقول: كل ما كان أشبه بالأصل كان أرجح، وإنما يتجه ذلك على قاعدة المعتزلة في أن أصل الشرائع العقل بالتحسين والتقبيح. قوله: (العدم أولى من الحكم؛ لأنه أشبه بالأمور الحقيقية": تقريره: أن النقيضين العدم والوجود. العدم والوجود معلومان حقان، يقع أحدهما عند انتفاء الآخر، ولذلك يستحيل ارتفاعهما، فهما محققان. فالعدم محقق بهذا الطريق، لا أنه وجودي، وإذا كان محققًا، وليس معلولاً، فيقدم على الحكم؛ لأن شأنه أن يكون معلولاً، وشأن المعلول ألا يكون علة. قوله: (المقدر أعطي حكم الموجود، فكان العدم أولى":

تقريره: أن إعطاء حكم الموجود تقرير على خلاف الواقع، والتقرير مطلقًا على خلاف الأصل، فضلاً عن كونه على خلاف الواقع، ومحالفة الأصل توجب المرجو حية، والعدم ليس فيه مخالفة الأصل؛ فرجح. قوله: العلة والمعلول وصفان ثبوتيان": قلنا: بل العلية والمعلولية عدميان؛ لأنهما نسبتان عدميتان؛ لأن التأثير والتأثر من باب النسب، والإضافات، وليس في الخارج إلا الفاعل والمفعول، والمؤثر والأثر. أما تأثير المؤثر في الأثر، وتأثير الأثر عنه، فلا وجود لهما إلا في الذهن، فهما عدميان. قوله: تعليل العدم بالعدم أولى من تعليل العدم بالوجود، والوجود بالعدم للمشابهة. قلنا: يمكن أن يقال: إنكم قلتم: إن العلية والمعلولية وجوديان، وقيام الوصف الموجود بالعدم مستحيل، فإذا كان أحدهما موجودًا كان أقرب للأصل، فيرجح. قوله: (وأما أن تعليل الوجود بالعدم، أو العدم بالموجود، ففيه نظر": قلنا: يمكن أن يقال: إن تعليل العدم بالوجود أولى؛ لأن العلة تشبه المؤثر، والمؤثر بالموجود أولى؛ لأن المؤثر الوجودي قد يكون أثره إعدام شيء، كما قال القاضي أبو بكرٍ في أصول الدين: إن القدرة تتعلق بالإعدام، ولم يقل أحد: إن العدم يكون مؤثرًا، ففرضه علة أبعد عن الأصول، فيكون مرجوحًا بالنسبة إلى جعل المعلول عدمًا. قوله: (التعليل بالحكم الشرعي أولى من المقدر؛ لأن المقدر على خلاف الأصل، والحكم ليس على خلاف الأصل".

"سؤال" قال النقشواني: قوله: (التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالإضافي"

قلنا: وشأن الحكم الشرعي أن يكون معلولاً، فانقلابه علة على خلاف الأصل، فقد اشتركا في مخالفة الأصل. قوله: (التعليل بالعلة المفردة أولى": قلت: قال إمام الحرمين في (البرهان": قال بعض الجدليين: ذات الوصف الواحد أولى؛ لأنها تكثر فروعها، ولأنها يقل الاجتهاد فيها، فيقل الخطأ. قال: والمدركان باطلان؛ لأن الترجيح لا يقع بكثرة الفروع كما سيأتي في القاصرة والمتعدية، وكثرة الاجتهاد أمر خارج عن ذات العلة؛ فلا معنى لهذا [.........]. وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص": قيل: الكثيرة الأوصاف أولى؛ لأنها أكثر شبهًا بالأصل، وقيل: الأقل أولى؛ لأنها أقل فسادًا. قال: وعندي هما سواء. "سؤال" قال النقشواني: قوله: (التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالإضافي": لا يتجه لعدم المنافاة؛ لأن التعليل بالحكمة تعليل بالمؤثر، وبالوصف كان وجوديًا أو عدميًا تعليل بالمعرف، فلا يتأتي؛ فلا ترجيح. جوابه: أن عدم التنافي إنما يكون إذا كانا في حكم واحد، ولم يرده المصنف، إنما المراد في حكمين متضادين، أو حكم ونقيضه، ومع النظر أيهما يثبت بدلاً عن الآخر، والحكمة في جهة، والوصف في جهة أخرى.

"سؤال" قال النقشواني: التعليل بالعدم إنما يعلل به إذا اشتمل على حكمة

"سؤال" قال النقشواني: التعليل بالعدم إنما يعلل به إذا اشتمل على حكمة، فلا ترجح عليه الحكمة بمجردها، وإنما يسلم ذلك إذا تجرد العدم، لكن العدم المجرد لم يعلل به. "جوابه" أنا نعلل عدم المعلول بعدم العلة، ونكتفي بذلك. ونقول: لا موجب له، فلا يثبت استصحابًا للبراءة، وأصل العدم، وليس في هذا [خلل]، فأمكن الترجيح فيما قاله المصنف. *************

النوع الثاني قال الرازي: (القول في التراجيح العائدة إلى ما يدل على أن ذات العلة موجودة"

النوع الثاني قال الرازي: (القول في التراجيح العائدة إلى ما يدل على أن ذات العلة موجودة": اعلم أن العلم بوجود تلك الذوات: إما أن يكون بديهيا، أو حسيا، أو استدلاليا، والاستدلال: إما أن يفيد العلم، أو الظن، وعلى التقديرين: فذلك الدليل: إما أن يكون عقليًا محضًا، أو نقليا محضًا، أو مركبًا منهما: فلنتكلم في هذه الأقسام: فنقول: أما إذا كان الطريق مفيدًا لليقين، سواء كان بديهيًا، أو حسيًا، أو استدلاليا يقينيا، وسواء كان عقليا محضا، أو نقليا محضًا، أو مركبًا منهما، وسواء كثرت المقدمات، أو قلت، فإنه لا يقبل الترجيح، وكلام أبي الحسين يدل على أنه يقبل - أما أن القطعيات لا تقبل الترجيح: فلما تقدم. فإن قلت: الضروري أولى من النظري؛ لأن الضروري لا يقبل الشك والشبهة، والنظري يقبل ذلك. قلت: النظري واجب الحصول عند حصول جميع مقدماته المنتجة له، كما أن البديهي واجب الحصول عند حصول تصور طرفيه، وكما أن النظري يزول عند زوال أحد الأمور التي لابد منها في حصول جميع مقدماته المنتجة له - فكذلك الضروري يزول عند زوال أحد التصورات التي لابد منها؛ فإذن: لا فرق في وجود الجزم عند حضور موجباته في البابين، بل الفرق هو أن النظري يتوقف على أمور أكثر مما يتوقف عليه الضروري؛ فلا جرم كان زوال النظري أكثر من زوال الضروري، فأما وجوب الوجود، وامتناع العدم عند حصول كل

ما لابد منه: فلا فرق بين الضروري والنظري فيه ألبتة؛ أما إذا كان الطريق الدال على وجود العلة ظنيا: فقد قيل: كلما كانت المقدمات المنتجة لذلك الظن أقل، كان القياس أقوى؛ لأن المقدمات، متى كانت أقل، كان احتمال الخطأ أقل، ومتى كان احتمال الخطأ أقل، كان ظن الصواب أقوى. واعلم أن هذا الكلام على عمومه ليس بحق؛ لأن الظن يقبل التفاوت في القوة والضعف، فإذا فرضنا دليلاً كانت مقدماته قليلة، إلا أن كل واحدة منها كانت مظنونة ظنًا ضعيفًا، ودليلاً آخر ظنيًا معارضًا للأول مقدماته كثيرة إلا أن كل واحدة منها، كانت مظنونة ظنا قويا، فالقوة الحاصلة في أحد الجانبين بسبب قلة الكمية قد تصير معارضة من الجانب الآخر؛ بسبب قوة الكيفية، وقد تكون قوة الكيفية في أحد الجانبين، أزيد من قلة الكمية في الجانب الآخر؛ حتى إن الدليل الظني الذي يكون مركبًا من مائة مقدمةٍ قد يفيد ظنًا أقوى من الظن الحاصل من الدليل المركب من مقدمتين؛ فإذن لابد من اعتبار هذا التفصيل الذي ذكرناه. إذا عرفت هذا، فنقول: الدليل الظني الذي يدل على وجود العلة: إما أن يكون نصًا، أو إجماعًا، أو قياسًا: أما القياس: فالكلام فيه كما في الأول، ولا يتسلسل، بل ينتهي إلى النص، أو الإجماع. أما النص: فطرق الترجيح فيه ما تقدم في القسم الثالث من هذا الكتاب. وأما الإجماع: فإن كانا قطعيين، لم يقبل الترجيح، وإن كان أحدهما قطعيًا، والآخر ظنيًا، لم يقبل الترجيح؛ لأن الإجماع المعلوم مقدم على المظنون، أما إذا كانا مظنونين، فهذا يقع على وجهين.

شرح القرافي: قوله: (العلم بوجود العلة قد يكون بديهيا، أو حسيا، أو استدلاليا بعقل محض، أو نقل محض، أو مركب منهما"

أحدهما: الإجماعان المختلف فيهما عند المجتهدين كالإجماع الذي يحدث عن قول البعض، وسكوت الباقين. وثانيهما: الإجماع المنقول بطريق الآحاد، فهذان القسمان في محل الترجيح. وأما الذي يقال: إن أحدهما متفق عليه، والآخر مختلف فيه: فإن أريد به عدم الاختلاف في أحدهما، ووقوعه في الآخر، فذلك ليس من باب الترجيح؛ لأن تقدم المعلوم على المظنون قطعي، وإن عنى به قلة الاختلاف في أحدهما، وكثرته في الآخر، فلا نسلم أن هذا القدر يوجب الترجيح. ولنختم هذا الفصل بشيء، وهو: أنه إذا تعارض قياسان، وكان وجود الأمر الذي جعل علة لحكم الأصل في أحد القياسين معلومًا، وفي الآخر مظنونًا - كان الأول راجحًا؛ لما بينا: أن القياس الذي بعض مقدماته معلوم - راجح على ما كان كل مقدماته مظنونًا. "القول في الترجيح بدليل العلة" قال القرافي: قوله: (العلم بوجود العلة قد يكون بديهيا، أو حسيا، أو استدلاليا بعقل محض، أو نقل محض، أو مركب منهما": تقريره: أن البديهي كالعلم بكون سم الأفاعي علة الضرر للحيوان في العادة والحس، كإزالة العنق؛ فإنه يعلم وجوده بالحس، وهو علة الموت والعقل الصرف، نحو: كون العلم علة العالمية. وكذلك كل معنى مع حكمه في محلة من الأعراض وغيرها، والنقل كقوله تعالى:} كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم {. والمركب منهما كما إذا دل السمع على أن القلتين في الماء يدفعان الخبث، ودل العقل بالحرز أن هذا الماء قلتان فأكثر.

وكذلك الحدود علل الزجر بالسمع، ومقاديرها يغلب حصولها بالعقل؛ فإن مراتب الأعداد لا تحس، بل تعقل. قوله: (الظن يقبل التفاوت في القوة والضعف". قلنا: هذا مقام مشكل؛ فإن القواعد تقتضي أن العرض لا يقوم بالعرض، وقوة الشيء وضعفه صفة له، ونحن نجد الظن [يتزايد] حتى يقارب العلم، وكذلك الرجاء، والخوف، واللذة، والجوع، والعطش، والشجاعة، والبخل كلها تقبل الزيادة والنقص. فهل ذلك بسبب أن هذه المعاني تقبل القوة، ويوصف بها دون غيرها؟ كما أن العلوم الحسية أجلى من العقلية لذاتها، أو قوة هذه الأمور ترجع إلى كثرة أفرادها في جوهر النفس، فيزيد الظن عبارة عن قيام فرد آخر بجوهر آخر. وكذلك بقية المعاني حتى يصل إلى حد يجب الانتقال منه إلى العلم، فيقوم فرد من أفراد العلم بجوهر واحد. وتقدم تلك الأفراد من الظنون حينئذ، وهذا في خبر التواتر وغيره، وهذا هو الذي أجده قريبًا للعقل والقواعد، ولكنه لا يتم على القول بأن النفس ذات [جوهر]، وهو قول الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، وغيره يخالفه في ذلك، فيعسر عليهم الجواب. قوله: (الأقل مقدمات أرجح": قلنا: اشترط المحققون أن الأقل إنما يرجح على الأكثر إذا كان بعض الأكثر حتى يكون ثم مقدمات مشتركة، ويختص أحد الجانبين بمزيد أما القليل الأجنبي، فقد يكون الكثير أرجح منه. فإن من وجد ألف دينار في جدارٍ يكتفي بمقدمة واحدة، وهي أخذ تلك الألف بيده من الجدار.

وتحصيلها بالزراعة، أو بالمتجر يحتاج إلى مقدمات كثيرة جدا، ومع ذلك فإنا نجد المحصلين لذلك بالمتجر كثيرًا، ولم نر أحدًا حصله بتلك المقدمة الواحدة. فكون الوجدان في الجدار بعض مقدمات المتجر كان المتجر أعسر، ومرجوحًا قطعًا. قوله: (إن أريد بالاتفاق والاختلاف وقوع الاختلاف في أحدهما دون الآخر، فليس من باب الترجيح؛ لأن تقديم المعلوم على المظنون قطعي، وإن أريد أن قلة الخلاف أرجح من كثرته، فلا نسلم أن ذلك يوجب الترجيح": قلنا: إن أردت بتقديم المعلوم تقديمه لكونه أرجح، فتقديم الراجح على المرجوح مطلقًا معلوم بالإجماع، ومن ضروريات الدين، وإن أردت أن المظنون يصير باطلاً، ويتعين المعلوم، والترجيح على الباطل لا يتأتي فصحيح، لكن لا نسلم تعين هذا القسم؛ لأن المعلوم يقبل النسخ. فلعلة نسخ بغير هذا المطنون، وبقي هذا المطنون سالمًا عن المعارض، لكن الأصل عدم النسخ. ولما كانت هذه المقدمة ظنية، فصار في المعلوم مقدمة ظنية تقبل الترجيح. وقولكم: قلة الخلاف لا توجب الترجيح - ممنوع، بل كثرة الخلاف توجب كثرة تطرق الخطأ باعتبار كل قول على حياله. وقلة الخطأ توجب الرجحان ********************

"القول في التراجيح الحاصلة بسبب الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل"

النوع الثالث "القول في التراجيح الحاصلة بسبب الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل" وقد ذكرنا في كتاب القياس: أن الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل: إما الدليل النقلي، أو العقلي: أما الدليل النقلي: فإما أن يكون نصا أو إيماء: أما النص: فقد يكون بحيث لا يحتمل غير العلية، وهو ألفاظ ثلاثة، وهي قوله: (لعلة كذا"، أو لسبب كذا، أو لأجل كذا" فهذا مقدم على جميع الطرق النقلية، وأما الذي يحتمل غير العلية، ولكنه ظاهر جدا فألفاظ ثلاثة، وهي: اللام، وإن، والباء" وحرف اللام مقدم على (إن والباء"؛ لأن (اللام" ظاهر جدًا في التعليل، وأما لفظ (إن" فقد يكون للتأكيد، ولفظ (الباء" قد يكون للإلصاق؛ كقولك: (كتبت بالقلم"، وقد يفيد كونه محكومًا به؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام -: (أنا أقضى بالظاهر". أما حيث تأتي لا للألة، ولا لأن تكون محكومًا به - كان مرادفًا لـ"اللام" فإنه لا فرق بين أن يقال: (قتلته لجنايته" و (قتلته بجنايته". وأما (الباء" و"إن" أيهما المقدم؟ ففيه احتمال. وأما الإيماءات، ففيها أبحاث: أحدها: أنا بينا أن دلالة الإيماء على علية الوصف في الأصل لا تتوقف على كونه مناسبًا، ولكن الوصف الذي يكون مناسبًا راجح على ما لا يكون كذلك.

وثانيها: أن إيماء الدلالة اليقينية راجح على إيماء الدلالة الظنية، لما عرفت: أن الدليل الذي بعض مقدماته بقيني، والبعض ظني - راجح على ما يكون كل مقدماته ظنيًا، وأما إذا ثبتت عليه الوصفين بإيماء خبر الواحد، فوجوه الترجيح فيه ما ذكرناه في باب (خبر الواحد". وثالثها: أن الجمهور اتفقوا على أن ما ظهرت عليته بالإيماء - راجح على ما ظهرت عليته بالوجوه العقلية؛ من المناسبة، والدوران، والسير. وهذا فيه نظر؛ وذلك لأن الإماء لما لم يوجد فيه لفظ يدل على العلية، فلابد وأن يكون الدال على عليته أمرًا آخر سوى اللفظ، ولما بحثنا، لم نجد شيئًا يدل على عليتها إلا أحد أمور ثلاثة: المناسبة، والدوران، والسير؛ على ما مر ذلك في (باب الإيماءات"، وإذا ثبت أن الإيماءات لا تدل إلا بواسطة أحد هذه الطرق الثلاثة - كان الأصل لا محالة أقوى من الفرع، فكان كل واحدٍ من هذه الثلاثة أقوى من الإيماءات. ورابعها: أنا قد ذكرنا أن أقسام الإيماءات خمسة، وكل واحد من تلك الأقسام يندرج تحته أقسام كثيرة، واستيفاء القول في هذا يقتضي أن نتكلم في تفاصيل كل واحد من أقسام تلك الأقسام، مع ما يشاركه في جنسه، ومع ما هو خارج من جنسه؛ لأنه لا يبعد أن يكون أحد الجنسين أقوى من الجنس الآخر، ويكون بعض أنواع الضعيف أقوى من بعض أنواع القوى؛ لكنا تركنا هذا؛ لطولها وكثرتها. أما الطرق العقلية، فقد ذكرنا منها ستة؛ وهي: المناسب، والمؤثر، والشبه، والدوران، والطرد، والسير، فلنتكلم في تفاصيل هذه الأجناس، ثم في تفاصيل أنواع كل واحدٍ من هذه الأجناس، أما تفاصيل هذه الأجناس: ففيها أبحاث.

أحدها: أن المناسبة أقوى من الدوران، وقال قوم: الدوران أقوى، وعبروا عن ذلك بأن العلة المطردة المنعكسة أقوى مما لا يكون كذلك. لنا: أن الوصف إنما يؤثر في الحكم لمناسبته، فالمناسبة علة لعلية العلة، وليس تأثير الوصف في الحكم لدورانه معه؛ لأن الدوران في الحقيقة ليس من لوازم العلية؛ لأن العلة إذا كانت أخص من المعلول كانت العلية متفكة هناك عن الدوران، وقد ينفك الدوران عن العلية؛ كما في الصور التي عددناها في باب الدوران، وإذا كان كذلك، كان الاستدلال بالمناسبة على العلية، أقوى من الاستدلال بالدوران عليها. احتج المخالف بوجهين: الأول: أن العلة المطردة المنعكسة أشبه بالعلل العقلية، فتكون أقوى. الثاني: أنهم أجمعوا على صحة المطرد المنعكس، ومن الناس من أنكر العلة التي لا تكون منعكسة. والجواب عن الأول: لا نسلم أن العكس واجب في العلل العقلية، وقد بيناه في كتبنا العقلية. سلمناه؛ لكن لا نسلم أن الأشبه بالعلل العقلية أولى. وعن الثاني: أن ذلك يقتضي ترجيح المناسب المطرد المنعكس، على المناسب الذي لا يكون مطردًا منعكسًا، ولا نزاع فيه، أما أنا لا نقضي بترجيح الدوران المنفك عن المناسبة، على المناسب المنفك عن الدوران: فلأنه إذا وجد الدوران بدون المناسبة، فقد لا تحصل العلة؛ كرائحة الخمر، مع حرمتها.

وثانيها: أن المناسبة أقوى من التأثير؛ لأنه لا معنى للتأثير إلا أنه عرف تأثير هذا الوصف في نوع هذا الحكم، وفي جنسه، وكون الشيء مؤثرًا في شيء لا يوجب كونه مؤثرًا فيما يشاركه في جنسه، أما كونه مناسبًا: فهو الذي لأجله صار الوصف مؤثرًا في الحكم؛ فكان الاستدلال بالمناسبة على العلية أقوى من الاستدلال بالتأثير عليها. وثالثها: أن السير: إما أن يكون قاطعًا في مقدماته، أو مظنونًا في مقدماته، أو قاطعًا في بعض مقدماته، ومظنونًا في البعض: فإن كان قاطعًا في كل مقدماته، كان العمل به متعينًا، وليس هذا بترجيح، أما إذا كان مظنونًا في كل مقدماته؛ مثل أن يدل دليل ظني على أن الحكم معلل، ودليل آخر ظني على أن العلة: إما هذا الوصف، أو ذاك، ودليل آخر ظني على أن العلة ليست ذلك الوصف: فيحصل ها هنا ظن أن العلة ليست إلا هذا الوصف، فهاهنا: العمل بالمناسبة أولى من العمل بهذا السبر، وذلك لأن الدليل الدال على هذه المقدمات الثلاث التي لابد منها في السبر: إما النص، أو الإيماء، أو الطرق العقلية. فإن كان هو النص: صارت تلك المقدمات يقينية، وقد فرضناها ظنية؛ هذا خلف، وإن كان إيماًء: فقد عرفت أن الإيماء مرجوح بالنسبة إلى المناسبة، وأما الطرق العقلية: فالمناسبة أولى من غيرها؛ لأن المناسبة مستقلة بإنتاج العلية، والسبر لا ينتج العلية إلا بعد مقدماتٍ كثيرةٍ، والمثبت لتلك المقدمات: إما المناسبة، أو غيرها: فإن كان الأول: كانت المناسبة أولى من السبر؛ لأن في إثبات الحكم بالمناسبة تكفي المناسبة الواحدة في الإنتاج، وفي السبر لابد من ثلاث مقدمات، والكثرة دليل المرجوحية.

وإن كان الثاني: كانت المناسبة أولى؛ لأن المناسبة علة لعلية العلة، وغير المناسبة ليس كذلك؛ فالاستدلال بالمناسبة على العلية أولى، وأما إن كان السبر مظنونًا في بعض المقدمات، مقطوعًا في البعض: عاد الترجيح المذكور في تلك المقدمات المظنونة. ورابعها: أن المناسبة أقوى من الشبه والطرد، وذلك واضح؛ لا حاجة به إلى الدليل. فهذا هو الكلام في تراجيح هذه الطرق الستة العقلية؛ بحسب الجنس، ولنتكلم الآن في أنواع كل واحدٍ منها، وفيه مسائل: المسألة الأولي: ترجيح بعض المناسبات على بعضٍ: إما أن يكون بأمورٍ عائدةٍ إلى ماهياتها، أو بأمورٍ خارجةٍ عنها: أما القسم الأول: فتقريره أنك قد عرفت أن كون الوصف مناسبًا: إما أن يكون لأجل مصلحة دنيوية، أو دينية: والمصلحة الدنيوية: إما أن تكون في محل الضرورة، أو في محل الحاجة، أو في محل الزينة والتتمة: وظاهر أن لمناسبة التي من باب الضرورة راجحة على التي من باب الحاجة، والتي من باب الحاجة مقدمة على التي من باب الزينة، ثم قد عرفت أن المناسبة التي من باب الضرورة خمسة: وهي مصلحة النفوس، والعقول، والأديان والأموال والأنساب؛ فلابد من بيان كيفية ترجح بعض هذه الأقسام على بعضٍ، ثم عرفت أن الوصف المناسب للحكم قد يكون نوعه مناسبًا لنوع الحكم، وقد يناسب جنسه نوع الحكم، وقد يناسب نوعه جنس الحكم، وقد يناسب جنسه جنس الحكم، ولا شك في تقدم الأول على الثلاثة الأخيرة، والثاني والثالث.

وأما الثاني والثالث: فهما كالمتعارضين، ولاشك في تقدمهما على الرابع. ثم الجنس: قد يكون قريبًا، وقد يكون بعيدًا، والمناسبة المتولدة من الجنس القريب تقدم على المناسبة المتولدة من الجنس البعيد، ثم المناسبة في كل قسمٍ من هذه الأقسام قد تكون جلية، وقد تكون خفية: أما الجلي: فهو: الذي يلتفت الذهن إليه في أول سماع الحكم؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام-: (لا يقضي القاضي، وهو غضبان) فإنه يلتفت الذهن عند سماع هذا الكلام إلى أن الغضب إنما منع من الحكم؛ لكونه مانعًا من استيفاء الفكر. وأما الخفي: فهو: الذي لا يكون كذلك، ولا شك في تقدم الجلي على الخفي. وأما القسم الثاني: وهو ترجيح بعض المناسبات على بعضٍ، بأمورٍ خارجةٍ عنها، فذلك على وجوهٍ: أحدها: أن المناسبة المتأيدة بسائر الطرق؛ أعني: الإيماء، والدوران، والسبر - راجحة على ما لا يكون كذلك، ويرجع حاصله إلى الترجيح بكثرة الأدلة. وثانيها: المناسبة الخالية عن المعارض - راجحة على ما لا يكون كذلك؛ فإن المناسبة، وإن كانت لا تبطل بالمعارضة - لكنها مرجوحة بالنسبة إلى ما لا تكون معارضة. وثالثها: الذي يناسب الحكم من وجهين - راجح على ما لا يناسب إلا من وجه واحدٍ؛ وعلته ظاهرة، وأيضًا: كلما كانت الجهات أكثر، كانت أرجح.

مسألة: الدوران الحاصل في صورة واحدة - راجح على الحاصل في صورتين

مسألة: الدوران الحاصل في صورة واحدة - راجح على الحاصل في صورتين؛ لأن احتمال الخطأ في الدوران الحاصل في الصورة الواحدة أقل من احتماله في الدوران الحاصل في صورتين، ومتى كان احتمال الخطأ أقل، كان الظن أقوى. بيان الأول: أن العصير، لما لم يكن مسكرًا في الزمان الأول، فلم يكن محرمًا، ثم صار مسكرًا بعد ذلك، فصار محرمًا، ثم لما زالت المسكرية مرة أخرى، زالت الحرمة؛ فهاهنا نقطع بأن شيئًا من الصفات الباقية في الأحوال الثلاثة لا يصلح لعلية هذا الحكم؛ وإلا لزم وجود العلة بدون الحكم، وأما الدوران في صورتين: فهو كما يقول الحنفي في مسألة الحلي: (كونه ذهبًا موجب للزكاة؛ لأن (التبر) لما كان ذهبًا، وجبت الزكاة فيه، والثياب لما لم تكن ذهبًا، لم تجب الزكاة فيها) فهاهنا لا يمكن القدح في علية الصفات الباقية، بمثل ما ذكرناه في الصورة الأولي؛ فثبت أن احتمال المعارض في الصورة الأولي أقل؛ فكان الظن فيها أقوى. مسألة: قد ذكرنا أن الشبه قد يكون شبهًا في الحكم الشرعي، وقد يكون شبهًا في الصفة، واختلفوا في الراجح، والأظهر أن الشبة في الصفة أولى؛ لأنها أشبه بالعلل العقلية. القسم الثالث (في الترجيح بالدال على علية الصوف) قال القرافي: قوله: (النص الذي لا يحتمل قوله لعلة أو بسبب كذا، أو لأجل كذا):

قلنا: هذه محتملة أنواعًا من المجاز، فلا يكون نصًا غير محتمل؛ لأنه قد يسمي علة الفعل علة، وجزء العلة علة من باب إطلاق الكل على الجزء، أو يسمي اللازم المسوي علة؛ للزوم وجود الحكم عند وجوده، وعدم الحكم عند عدمه من باب الاستعارة لأجل المشابهة. وكذلك القول في السبب، وكذلك قوله: (لأجل كذا) قد يكون قوله: (كذا) من هذه المجازات الثلاثة، وقد يكون مانعًا من الحكم في الألفاظ الثلاثة، وأطلق عليه لفظ العلة، وغيره من باب إطلاق لفظ أحد الضدين على الآخر، وإذا استقرئت أنواع المجاز الأثني عشر احتملت هذه الألفاظ كثيرًا منها، فلا نص حينئذ فيها، غير أن ظهورها قوى جدًا، أما النص فلا. قوله: (اللام) أظهر؛ فإن (الباء) قد تكون للإلصاق، والتأكيد): قلنا: لا يتم أنها أظهر منها حتى يستقرأ جميع موارد كل واحد منها، وتكون "اللام" أقل. أما مجرد احتمال في كل واحد منها، فلا يفيد ظهورها؛ لأن (اللام) أيضًا قد تستعمل في أنواع غير التعليل، بل للاختصاص المطلق، نحو: الملك لله، والتشريف المطلق، نحو قوله - تعالى - في الحديث: (إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به). والاستحقاق المطلق نحو: هذا السرج للدابة. والعاقبة المطلقة التي لا تعليل فيها - كقوله تعالى:} ليكون لهم عدوا وحزنًا {. وللملك الشرعي نحو: المال لزيد. وهذه الاحتمالات كلها ليست في (أن) ولا (الباء)، فلا يستقيم الترجيح إلا باستقراء الجميع في محاملها. ويكون الأول أقوى ظهورًا.

قوله: (اتفق الجمهور على أن ما ظهرت عليته بالإيماء راجح على ما ظهرت عليته بالوجوه العقلية): تقريره: أن مراده هاهنا بالوجوه العقلية ما أدرك العقل على سبيل النظر من المناسبة وغيرها، لا ما هو قطعي، والقطعي هو المتبادر للفهم من الأدلة العقلية ولم يرده، وأما وجه التقديم أن الإيماء دلالة منسوبة إلى السمع، والمناسبة العقلية ونحوها هي اجتهاد من العقل في قواعد الشرع الكلية، ورعاية الصالح وغيرها من السمعيات مقدمة في الأحكام الشرعية على اجتهادات العقول، ولذلك يقدم الخبر الواحد على القياس على قول ربما هو قول الجمهور أيضًا، فهذا هو مدرك الترجيح. وقوله: (فيه نظر؛ لأن الإيماء إنما يدل بواسطة المناسبة وغيرها، والأصل مقدم على الفرع): يرد عليه أن الدال هو المجموع، وما دل عليه مجموع أمرين أولى من الذي يدل عليه أحدهما فقط، مع أنا نمنع توقف الإيماء على المناسبة؛ فإنه قد قال: إن ترتيب الحكم على الوصف لا يتوقف على مناسبة الوصف. قاله في القياس. وإذا اكتفى بمجرد الترتيب كان الإيماء وحده كافيًا. قوله: (إذا كانت العلة أخص من المعلول، كانت العلية منفكة عن الدوران): قلنا: كون العلة أخص معناه أن الحكم قد يوجد بدونها، ولو في صورة، ويكون معللاً بعلتين فصاعدًا، والعلل الشرعية يخلف بعضها بعضًا. وهذا لا يمنع من وجود الدوران مع تلك العلة الأخص؛ فإن الدوران يكفي فيه صورة واحدة يقترن فيها الوجود بالوجود، والعدم بالعدم، فيتحقق

الدوران بتلك الصورة، ويكون الحكم بوجه في صورة أخرى غير تلك الصورة بغير تلك العلة، فيتحقق أيضًا عموم الحكم، كما تقول: الحياة علة طهارة الحيوان لدورانها مع الحياة وجودًا في الأنعام الحية، وعدمها في الأنعام الميتة حتف أنفها، فهذا دوران، مع أن الحكم الذي هو الطهارة ثبت في أنواع الجهاد، والثبات مع عدم الحياة لعلة أخرى، وهي عدم علة التنجيس. فإن القاعدة أن النجاسة حكم شرعي راجع للتحريم، وعلة التحريم أبدًا عدمها علة الإباحة، والطهارة إباحة، فكانت معللة بعدم علة التحريم، واستقر ذلك في الفروع الفقهية، فلا نطول بهذا الباب في غير موضعه: قوله: (لا نسلم لزوم العكس في العلل العقلية). تقريره: أن الحركة بسبب عقلي في حصول ذلك الجسم في ذلك الحيز، بعد أن كان في غيره. وقد تقدم هذه العلة، ويحصل في ذلك الحيز بأن يعدمه الله - تعالى - من هاهنا، ويوجده هنالك، فلم يلزم من عدم العلة العقلية عدم حكمها. وكذلك التضاد والاختلاف، والتماثل والتناقض معلل في أحد الضدين بذلك الضد، وفي الضد الآخر بالضد الآخر، وهو غير ضده، وما لزم من عدم أحدهما عدم ذلك الحكم، فضدية السواد معللة في السواد بالسواد، وليس السواد في البياض، والضدية حاصلة فيه معللة بالبياض. وكذلك القول في جميع هذه الموارد المتقدم ذكرها من التناقض [وغيرها]. قوله: (المناسبة أولى من السبر: لكثرة مقدمات السبر في الإثبات والنفي): قال سيف الدين: السبر أولى؛ لأنه مشتمل على ثبوت المقتضي، ونفي المعارض في الأصل.

(مسألة) الدوران الحاصل في صورة راجح على الحاصل في صورتين

قوله: (لا نسلم أن الأشبه بالعقلية أولى): تقريره: أن هذا إنما يتم إذا قلنا: العقل له مدخل في الشرائع، كما قاله المعتزلة حتى يكون الأشبه بالأصل مقدمًا. أما إذا قلنا بأن العقل معزول عن الشرائع، وإن الحسن والقبح العقلين باطلان، فالأشبه بالساقط المعزول لا يكون أرجح، بل ساقط غير معتبر. (مسألة) الدوران الحاصل في صورة راجح على الحاصل في صورتين: تقريره: أن في الصورة الواحدة يعدم الحكم مع بقاء بقية الأوصاف موجودة مع عدم الحكم، فيصدق أن يقال: لو كان بعض تلك الأوصاف علة لما عدم الحكم، لوجود علته. فلما ثبت عدم الحكم مع وجود تلك الأوصاف جزمنا بعدم عليتها. وأما في الصورتين، وقع عدم الحكم في صورة أخرى، غير الصورة التي حصل فيها وجود الحكم. فلعل غير الوصف المعين للعلة في صورة الوجود هو العلة، ولم يتفق اقتران عدم بوجوده حتى يستدل بعدم الحكم معه على عدم عليته. فقد سلم كل وصف من أوصاف صورة الوجود عن دلالة الدليل على عدم علية، فاحتمل أن يكون القضاء بعدم عليته خطأ، بخلاف الصورة الواحدة وجد فيها دليل عدم علته غير الوصف المعين للعلية، فكان خطأ، وباقي عدم اعتباره أقل مع أن السابق إلى فهم الفقيه أن الدوران في صورتين أرجح؛ لأنه يقول: كثرة الأدلة توجب الرجحان، وصورتان تتعاضدان في الدوران كتعاضد الدليلين، مع أن الأمر بالعكس لما تقدم تقريره في الشرح في (المحصول)، وإنما قصدت زيادة بيانه؛ لأنه مشكل على الطلبة كثيرًا.

النوع الرابع (في الترجيح الحاصلة بسبب دليل الحكم في الأصل)

النوع الرابع (في الترجيح الحاصلة بسبب دليل الحكم في الأصل) قال الرازي: فنقول: هذا الطريق لاشك أنه يكون دالا، ثم ذلك الطريق: إما أن يكون في القياسين المتعارضين قطعيًا، أو ظنيًا، أو يكون في أحدها قطعيًا، وفي الآخر ظنيًا، فإن كان قطعيًا فيهما معًا، استحال الترجيح في ذلك؛ لما عرفت، وإن كانا ظنيين فالدليل الدال عليهما، إما أن يكون لفظًا، أو إجماعًا، أو قياسًا: فلنتكلم في تفاصيل هذه الأجناس، ثم في تفاصيل أنواع كل واحدٍ من هذه الأجناس: أما البحث الأول فيشتمل على مسألتين: إحداهما قالوا: القياس الذي ثبت الحكم في أصله بالإجماع، أقوى من الذي ثبت الحكم في أصله بالدلائل اللفظية؛ لأن الدلائل اللفظية تقبل التخصيص والتأويل، والإجماع لا يقبلهما، وهذا مشكل؛ لأنا حيث أثبتنا الإجماع؛ إنما أثبتناه بالدلائل اللفظية؛ والفرع، كيف يكون أقوى حالاً من الأصل؟!. المسألة الثانية: قد تقدم في (كتاب القياس) أن الحكم في الأصل لا يجوز أن يكون مثبتًا بالقياس، وإن كان قد جوزه قوم، والمجوزون اتفقوا على أن القياس الذي ثبت الحكم في أصله بالنص - راجح على الذي ثبت الحكم في أصله بالقياس؛ لأن ذلك القياس لا يتفرع على قياس آخر إلى غير نهاية، بل لابد من الانتهاء إلى أصل ثبت حكمه بالنص، وإذا كان كذلك، فالنص أصل القياس، والأصل راجح على الفرع.

شرح القرافي: (بينا أن مسائل أصول الفقه القطعية يستدل فيها بالظواهر

البحث الثاني: في تفاصيل أنواع كل واحدٍ من هذه الأجناس الثلاثة: فنقول: أما الدلائل اللفظية: فإما أن تكون متواترة، أو آحادًا: فإن كانت متواترًة، لم يمكن ترجيح بعضها على بعضٍ إلا بما يرجع إلى المتن، وإن كانت آحادًا، أمكن ترجيح بعضها على بعض بما في المتن، وبما في الإسناد، وتلك الوجوه قد ذكرناها فيما تقدم؛ فلا فائدة في الإعادة. وبالجملة: فكلما كان ثبوت الحكم في الأصل أقوى، كان القياس أرجح. فإن كان ثبوت الحكم في أحد القياسين مقطوعًا، وفي الآخر (مظنونًا) كان الأول أولى؛ لما تقدم أن القياس الذي بعض مقدماته مقطوع، والبعض مظنون -راجع على ما كل مقدماته مظنون. وأيضًا: فإذا ثبت الحكم في أحد الأصلين بإيماء خبر متواترٍ - فهو راجح على ما ثبت بإيماء خبر الواحد؛ ولكن بشرط التعادل في الإيماءين، ولو ثبت الحكم في الأصل بخبر الواحد، فالذي هو مدلول حقيقة اللفظ - راجح على ما هو مدلول مجازه. القول في التراجيح بسبب دليل الحكم قال القرافي: (بينا أن مسائل أصول الفقه القطعية يستدل فيها بالظواهر، والمقصود تلك الظواهر معضود كل واحد منها بالاستقراء التام من نصوص الكتاب والسنة، وأقضية الصحابة رضي الله عنهم، وفتاويهم، ومناظراتهم، ومتى حصل الاستقراء التام حصل القطع ضرورة، ولا يعلم ذلك إلا من حصله، وغير المحصل له مقلد للمحصل. وليس عجز العاجز حجة على المحصل، ولا مخلا بحصول العلم له،

وقد تقدم كلام التبريزي في ذلك، وليس المقصود كل ظاهر على حياله من غير إضافة الاستقراء إليه. فالإجماع في الحقيقة فرع مجموع الاستقراء، وهو قطع، فلم يكن الفرع أقوى من أصله، بل القطع فرع القطع. **************

النوع الخامس القول في التراجيح الحاصلة بسبب كيفية الحكم

النوع الخامس القول في التراجيح الحاصلة بسبب كيفية الحكم وهي على وجوه: أحدها: القياس الذي يوجب حكمًا شرعيًا راجح على ما يوجب حكمًا عقليًا؛ لأن القياس دليل شرعي؛ فيجب أن يكون حكمه شرعيًا، إلا أنا لو قدرنا تقديم العلة المثبتة للحكم الشرعي على المثبتة للحكم العقلي - لزم النسخ مرتين، ولو قدرنا تقديم العقل، لزم النسخ مرة. فإن قلت: (كيف يجوز أن يستخرج من أصلٍ عقلي علة شرعية؟!): قلت: يجوز ذلك إذا لم ينقلنا عنه الشرع، فنستخرج العلة التي لأجلها لم ينقلنا عنه الشرع، أما إذا كان أحد الحكمين نفيًا، والآخر إثباتًا، وكانا شرعيين: فقيل: إنهما يتساويان؛ لكنا ذكرنا في (باب ترجيح الأخبار): أنه لابد وأن يكون أحدهما عقليًا. وثانيها: الترجيح بكون أحد الحكمين في الفرع حظرًا، فذلك الحظر: إما أن يكون شرعيًا أو عقليًا: فإن كان شرعيًا: فهو راجح على الإباحة؛ لأنه شرعي، ولأن الأخذ بالحظر أحوط، وإن كان عقليًا، فكونه حظرًا جهة الرجحان، وكونه عقليًا جهة المرجوحية؛ فيجب الرجوع إلى ترجيحٍ آخر، ولابد في الحظر والإباحة من كون أحدهما عقليًا؛ على ما تقدم. وثالثها: أن يكون حكم إحدى العلتين العتق، وحكم الأخرى الرق: فالمثبتة للعتق أولى؛ لأن للعتق مزيد قوةٍ، ولأنه على وفق الأصل.

ورابعها: إذا كان حكم إحداهما في الفرع إسقاط الحد، وحكم الأخرى إثباته؛ فالمسقطة أولى؛ لأن ثبوته على خلاف الأصل، فإن قلت: (المثبت للعقوبات يثبت حكمًا شرعيًا، والدارئ يثبت حكمًا عقليًا، فالمثبت للحكم الشرعي أولى؟!): الجواب: أن الشرع إذا ورد بالسقوط، صار السقوط حكمًا شرعيًا، ولذلك لا يجوز نسخه إلا بما ينسخ الحكم الشرعي. وخامسها: الترجيح بكون أحد حكمى العلة أزيد من حكم الآخر؛ بأن يكون حكم أحدهما الندب، وحكم الآخر الإباحة، فالمثبت للندب أولى؛ لأن في الندب معنى الإباحة وزيادًة، فكانت أولى؛ إذ كانت الزيادة شرعية. وسادسها: العلة إذا كان حكمها الطلاق، كانت راجحًة؛ لما ثبت من قوة الطلاق. وسابعها: القياس على الحكم الوارد على وفق قياس الأصول - أولى من القياس على الحكم الوارد بخلاف قياس الأصول؛ وعلته كون الأول متفقًا عليه، والثاني مختلفًا فيه، ولأن الأول خالٍ عن المعارض، والثاني مع المعارض؛ فيكون الأول أولى. وثامنها: القياس على أصلٍ أجمع على تعليل حكمه - أولى مما لا يكون كذلك، وعلته أن على التقدير الأول تكون إحدى مقدمات القياس يقينية، وهي كون الحكم في الأصل معللاً، فيكون ذلك القياس راجحًا على ما لا يكون شيء من مقدماته يقينيًا. وتاسعها: الترجيح بشهادة الأصول للحكم، وقد يراد بها دلالة الكتاب،

شرح القرافي: قوله: (المثبت بحكم شرعي راجح على المثبت بحكم عقلي)

والسنة، والإجماع؛ على ذلك الحكم، وهذه، وإن كانت صريحة، فهي الأصل في إثبات الحكم؛ فلا يجوز الترجيح بها، وإن مسها احتمال شديد، جاز ترجيح القياس بها. وعاشرها: يقع الترجيح بقول الصحابي؛ لأنه أعرف بمقاصد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك إذا عضدت العلة علة أخرى؛ كما ترجح أخبار الآحاد بعضها ببعضٍ. وحادي عشرها: أن يلزم من ثبوت الحكم في الفرع محذور؛ كتخصيص عمومٍ، أو ترك العمل بظاهر، أو ترجيح مجازٍ على حقيقة، وفرق بين هذا الترجيح، وبين ما ذكرناه من شهادة الأصول؛ لأن الحكم الشرعي قد يكون بحيث يوجد في الشرع أصول تشهد بصحته، وأصول أخر تشهد ببطلانه، فالقوة الحاصلة بسبب وجود الأصول التي تشهد بصحته غير القوة الحاصلة بسبب عدم ما يشهد ببطلانه، ومن هذا الباب: أن يكون الحكم لازمًا للعلة في كل الصور، فإن من يجوز تخصيص العلة، يسلم أن العلة المطردة أولى من المخصوصة. القول في التراجيح بكيفية الحكم قال القرافي: قوله: (المثبت بحكم شرعي راجح على المثبت بحكم عقلي): تقريره: أن الحكم العقلي - هاهنا - براءة الذمة، ورفع التكليف في تلك الصورة مستفاد من البراءة، فالقياس حينئذ مولد لا منشئ، والأصل في الأدلة الشرعية أن تكون منشأة لحكم شرعي، ويرد عليه أنا قبل هذا القياس يجوز أن يرد الشرع بالتكليف هنالك. وبعد القياس يقضي بعدم الورود، فقد حصل الإنشاء في أمر من قبل الشرع، ولأنا لا نرفع عدم الحكم بعد هذا القياس إلا بقياس أرجح منه.

وقبل ذلك كنا نثبت التكليف بأي قياس؛ فإن البراءة ترتفع بمطلق الدليل الشرعي. والقصد أن يعلم أن هذا القياس أيضًا أثبت أمرًا شرعيًا، ولا ننازع في مرجوحيته بالنسبة إلى القياس الموجب للتكليف. قوله: (الحظر مقدم على الإباحة): قال القاضي عبد الوهاب في (ترجيح الأخبار): رجح قوم الحظر على الإباحة؛ بناًء على أن الإباحة حكم عقلي، وهذا ينظر فيه، فإن كانت الإباحة شرعية فهي أولى. وليس كل إباحة تكون عقلية. قلت: المدرك ليس متعينًا فيما ذكره القاضي، بل الحظر يعتمد المفاسد ودرء المفاسد أولى؛ ولأن الحظر مشتمل على زيادة، والمثبت للزيادة أولى. وحكى القاضي في (الملخص) أنهما سواء عند أكثر الشافعية، وعيسي ابن أبان إذا كانا شرعيين قال: وكذلك النافي والمثبت أكثر الفقهاء على أن المثبت أولى. قال: وينبغي التفصيل، إن كان النفي يرجع إلى حكم شرعي، فهما سواء. وإن كان هو البقاء على حكم العقل، فالناقل أولى، وكذلك النافي للحد أولى عند أكثر أهل (العراق). قال: والصحيح أن المثبت أولى؛ لإفادته حكمًا شرعيًا. قوله: (يجوز أن يستخرج من أصل عقلي علة شرعية إذا لم ينقلنا عنه الشرع):

تقريره: أن براءة الذمة من التكليف في كثيرٍ من الصور تعلم بالمدارك الشرعية أن سببه استواء المصلحة والمفسدة فيه، أو عدمها، فإذا شاركها صورة أخرى في ذلك سوينا بينهما في الحكم. لكن على هذا التقدير يبقي قول المصنف: (إذا لم ينقلنا عنه الشرع ضائعًا؛ فإن هذا المعنى معقول لنا، نقلنا عنه الشرع أم لا. قوله: (إذا كان أحدهما نفيًا، والآخر إثباتًا، لابد وأن يكون أحدهما عقليًا): تقريره: أنه يريد بالنفي التحريم، وبالإثبات الإيجاب، وبالعقل الإباحة، ونفي الحرج. ولا شك أن المحرم لا حرج في تركه. والواجب لا حرج في فعله، فصار نفي الحرج الذي هو لازم لكل واحدٍ منهما، إما في جهة العقل، أو الترك يوجب دخول الحكم العقلي فيهما من وجه، وقد تقدم في ترجيح الأخبار الكلام على هذا الموضع. قال إمام الحرمين: لا معنى للترجيح بالإثبات؛ لأن النفي قد يكون أغلب على الظن، وبالعكس، فينبغي الترجيح بتتبع مسالك الشريعة، مع قطع النظر عن النفي والإثبات. قوله: (الحظر في الفرع إما أن يكون شرعيًا أو عقليًا): قلنا: كون الحظر عقليًا إنما يكون على مذهب المعتزلة، أما عندنا فلا. قوله: (المسقطة للحد أولى": قال الباجي المالكي في (الفصول): هما سواء.

(سؤال) قال النقشواني: في قوله هاهنا: لو قدرنا تقديم العلة المثبتة للحكم الشرعي لزم النسخ مرتين، يناقضه ما تقدم له في تعارض خبرين

قوله: (إذا ورد الشرع بسقوط الحد صار حكمًا شرعيًا): قلنا: فيلزمكم هذا فيما تقدم في ترجيح الحكم الشرعي على العقلي؛ لأن الجميع شرعي حينئذ. لكن الجواب أنه يصير شرعيًا هاهنا مضافًا لكونه على وفق الأصل؛ فإن الأصل سلامة المؤمن الملزم عن الهوان والرق. فإذا لم يكن معضودًا بهذا كان المسئ مقدمًا عليه، فهذا وجه الجمع. قوله: (علة الطلاق علة راجحة): تقريره: أن النكاح على خلاف الأصل؛ لما فيه من الاستيلاء على بنت آدم المكرمة، وجعلها مصب القاذورات، وموضع الفضلات كالبلاعات، فمزيل هذا يكون راجحًا على مثبته. قوله: (الكتاب والسنة والإجماع إن كانت صريحة فهي الأصل في إثبات الحكم، فلا يجوز الترجيح بها): قلنا: هذا مشكل؛ لأنكم إن أردتم أنها تقابلت من الجهتين، فقد حصل القطع مشتركًا، ولا ترجيح في القطعيات فمسلم، لكن ظاهر كلامكم يقتضي اختصاصها بجهة واحدة، مع أنكم قدمتم أن القياس إذا كانت بعض مقدماته بقينية كانت أرجح؛ فيلزم الترجيح هاهنا بذلك. (سؤال) قال النقشواني: في قوله هاهنا: لو قدرنا تقديم العلة المثبتة للحكم الشرعي لزم النسخ مرتين، يناقضه ما تقدم له في تعارض خبرين: أحدهما: ناقل عن حكم العقل. والآخر: مقرر؛ فإنه أوجب تقديم الناقل عن حكم العقل، وتأخير

المقرر، وهاهنا عكس الأمر، وزيف هاهنا ما قرره ثمت من لزوم النسخ مرتين، مع أن رفع البراءة الأصلية ليس نسخًا في الاصطلاح، بل في اللغة؛ ولذلك يرفعه بأي دليل كان. *********************

النوع السادس في التراجيح الحاصلة بسبب مكان العلة

النوع السادس في التراجيح الحاصلة بسبب مكان العلة وهو إما الأصل، أو الفرع، أو مجموعهما: أما الأصل: فبأن تشهد للعلة الواحدة أصول كثيرة؛ وذلك لأن شهادة الأصل دليل على كون تلك العلة معتبرة، وكل شهادةٍ دليل مستقل، فالترجيح بالشهادات الكثيرة ترجيح بكثرة الدلائل. وأما الفرع: ففيه صور: إحداها: أن العلة المتعدية أولى من القاصرة عند الأكثرين؛ خلافًا لبعض الشافعية. لنا: أن المتعدية أكثر فائدة، ولأنها متفق عليها، والقاصرة مختلف فيها؛ فالأخذ بالمتفق عليه أولى؛ فكانت المتعدية أولى. احتج المخالف بأن التعدية فرع الصحة، والفرع لا يقوى الأصل: والجواب: لكنه يدل على قوته. وثانيتها: إذا كانت فروع إحدى العلتين أكثر من الأخرى، قال بعضهم: هو أولى، وقال آخرون: لا يحصل به الرجحان. حجة الأولين: أنها إذا كثرت فروعها، كثرت فوائدها، فكانت أولى. فإن قلت: (إنما يكون إذا كثرت فوائدها الشرعية، وكثرة فروعها ترجع إلى كثرة ما خلق الله تعالى من ذلك النوع، وليس ذلك بأمرٍ شرعي):

قلت: كثرة وجود الفروع ليس بأمر شرعي؛ لكن الفروع، لما كثرت، لزم من جعل هذا الوصف علة - كثرة الأحكام؛ فكان أولى. احتج الآخرون بوجوه: الأول: لو كان أعم العلتين أولى من أخصهما، لكان العمل بأعم الخطابين أولى من أخصهما. الثاني: التعدية فرع صحة العلة في الأصل، فلو توقفت صحتها على التعدية، لزم الدور. الثالث: كثرة الفروع ترجع إلى كثرة ما خلق الله تعالى من ذلك النوع، وليس ذلك بأمر شرعي؛ بخلاف كثرة الأصول. والجواب عن الأول: إنما لم يكن العمل بأعم الخطابين أولى؛ لأن فيه طرحًا لأخصهما، وليس كذلك العمل بأخصهما. أما العلة: فإذا انتهي الأمر إلى الترجيح، وترجيح إحداهما يوجب طرح الأخرى؛ فكان طرح ما تقل فائدته أولى، وعن الثاني والثالث: ما تقدم. وثالثتهما: العلة إذا كانت مثبتة للحكم في كل الفروع، فهي راجحة على ما تثبت الحكم في بعض الفروع. وسبب الرجحان أن الدال على الحكم في كل الفروع يجري مجري الأدلة الكثيرة؛ لأن العلة تدل على كل واحد منها. وأيضًا: دلالته على ثبوت الحكم في كل واحد من تلك الفروع يقتضي ثبوته في البواقي؛ ضرورة أن لا قائل بالفرق، فهذه العلة العامة قائمة مقام الأدلة

شرح القرافي: قوله: (طرح ما قلت فائدته أولى)

الكثيرة، وأما العلة الخاصة في الصورة الواحدة فهي دليل واحد فقط؛ فكان الأول أولى. وأما الترجيح الراجع إلى الأصل والفرع معا: فهو أن تكون العلة يرد بها الفرع إلى ما هو من جنسه، والأخرى يرد بها الفرع إلى خلاف جنسه؛ مثاله: قياس الحنفية (الحلى) على (التبر) أولى من قياسه على سائر الأموال؛ لأن الاتحاد من حيث الجنسية ثابتة بينهما، وهذا آخر الكلام في التراجيح. (القول في الترجيح بمكان العلة) قال القرافي: قوله: (طرح ما قلت فائدته أولى): تقريره: أن تقديم العلة القليلة الفروع يلزم منه ترك العلة الكثيرة الفروع، فلزم هاهنا من اعتبار الأخص أطراح الأعم، واعتبار الأخص في النصوص لا يلزم منه اطراح الأعم، بل يبقي معملاً به فيما عدا صور الأخص، فهذا هو المقصود بالفرق. قوله: (العلة المثبتة الحكم في كمال الفروع راجحة على المثبتة في البعض): تقريره: أن العلة الشرعية قد تشمل جميع صور ذلك الحكم المعلل بها، كما تقول: وجوب الزكاة معلل بشكر النعمة على الأغنياء، وسد خلة الفقراء، فلا زكاة إلا وفيها هذان الوصفان. وأما تعليل إباحة الدم بالقتل العمد العدوان، فلم يعم صور الإباحة؛ فإن الإباحة تكون بعلة الردة، والزنا، وترك الصلاة، ونحو ذلك. فالشاملة لجميع الصور أرجح؛ لكثرة الفائدة فيها. قوله: (دلالة العلة الشاملة على ثبوت الحكم في كل واحد من تلك الفروع - يقتضي ثبوته في البواقي ضرورة ألا قائل بالفرق):

(سؤال) وقع له في هذا الباب ترجيح المتعدية على القاصرة، مع أن القاصرة لا قياس فيها، ولا تعدية

تقريره: أن الحكم إذا ثبت بالعلة الشاملة في صورة واحدة من صورها، فقد ثبت اعتبارها علة شرعية، وكل من قال باعتبارها علة شرعية قال بثبوتها في جميع تلك الصور التي شملتها تلك العلة، هذا إذا كانت المادة تساعد على ذلك، وقد تكون العلة. وقال بعض العلماء بإلغائها في بعض تلك الصور لفارق رآه، فلا تتم هذه المقدمة. قوله: (الترجيح بسبب الأصل والفرع هو رد الفرع إلى جنسه): تقريره: أن قياس فرع من فروع النكاح على فرع من فروع النكاح أرجح من قياسه على البيع؛ لاتحاد الجنس. وقياس التيمم إلى المرفق على الوضوء أولى من قياسه على القطع في السرقة، فيقتصر على الكوع، بجامع أن النص أطلق فيهما، ولم يقيد بغاية، ونحو ذلك. (سؤال) وقع له في هذا الباب ترجيح المتعدية على القاصرة، مع أن القاصرة لا قياس فيها، ولا تعدية، فكيف يصح أن يقع الترجيح عليها في باب ترجيح أحد القياسين على الآخر مع انتفاء أصل القياس؟. فالسؤال ظاهر، غير أنه مستطرد في ترجيح العلل من حيث الجملة، وأعرض عن ترجيح الأقيسة، وأمكن أن يقال: إن الذاكر للعلة القاصرة يستدل بعدمها على عدم الحكم في الفرع المتنازع فيه، ونقيس العدم في الفرع المتنازع فيه على عدمه في صورة أخرى، ونجمع بعدم العلة القاصرة، فيقع الترجيح بين القياسين، لكنه يقع التعارض بين تعليل بعدم، وتعليل بوجود، لا بين وجود من أحدهما علة قاصرة.

(فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): في ذلك ثلاثة مذاهب

(فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): في ذلك ثلاثة مذاهب: المشهور ترجيح المتعدية، ورجح الأستاذ أبو إسحاق القاصرة، وسوى بينهما القاضي. ولابد من تصوير المسألة. فإن وجدتا في نص واحد، فذلك ينبني على تعليل الحكم بعلتين. فإن لم يمتنع اجتماعهما، فلا معنى للترجيح إلا أن نقول: لا يعلل الحكم بعلتين. وحجة ترجيح المتعدية أن النص يغني عن القاصرة. وحجة من رجح القاصرة أنها متأيدة بالنص. وقال القاضي: الثمرات والآثار بعد صحة العلة، قال: وهو الراجح عندي. (سؤال) قال النقشواني: ترجيحة العلة للأكثر فروعًا على الأقل - يقتضي ترجيح التعليل بالمشترك على الفاروق، وهو باطل. (جوابه) أن إضافة الحكم للفاروق تكون إضافة له، وللمشترك، فلم يلزم إلغاء أحد المناسبتين، والجمع بين المناسبات أولى، بخلاف صورة المسألة في الكتاب يلزم من اعتبار الأقل فروعًا إلغاء الأكثر.

(فائدة) قال سيف الدين: في ترجيح الأقيسة ترجيحات

فالإلغاء لما كان لازمًا كان إلغاء القليلة الفروع أولى؛ فظهر الفرق. (فائدة) قال سيف الدين: في ترجيح الأقيسة ترجيحات: أحدها: المتفق على عدم النسخ في أصله راجح على ما اختلف في نسخ أصله. وثانيها: الذي قام دليل خاص على وجوب تعليل جواز القياس عليه مقدم على ما ليس كذلك. وثالثها: يقدم الحكم الظني الموافق لسنن القياس على الحكم القطعي المخالف لسنن القياس. ورابعها: يقدم ما حكم أصله قطعي، وإن لم يقم دليل خاص على وجوب تعليله، وجواز القياس عليه على الظنى الذي قام الدليل الخاص فيه على ذلك؛ لبعده عن الخلل بسبب القطع. وخامسها: يقدم الظني المتفق على تعليله على القطعي الذي لم يتفق على تعليله؛ لأن العلة هي عدة القياس. وسادسها: ما دليل أصله أرجح مقدم وإن اختلف في نسخه على المرجوح المتفق على عدم نسخه؛ لأن العلتين في النسخ تتقابلان، ويبقي رجحان الوصف، وكذلك يقدم ما قام دليل خاص على وجوب تعليله، وجواز القياس عليه، بخلاف ما اتفق على تعليله؛ فإنه يقدم عليه لما تقدم. وسابعها: يقدم ما لم يعدل به عن القياس على المتفق على عدم نسخه؛ لأن طرد القياس في باب القياس أولى به من عدم النسخ.

وكذلك يقدم ما قام دليل خاص على تعليله إذا كان معدولاً به عن القياس في القاعدة العامة. وثامنها: يقدم المتفق على تعليله، وإن كان معدولاً به عن القواعد على الجاري على القواعد، إذا اختلف في تعليله؛ لأن الخلل في التعليل يبطل القياس، والمعدول عن القواعد لا يبطله. وتاسعها: يقدم ما قطع بنفي الفارق في أصله على ما لم يقطع به. وعاشرها: يقدم ما ضابط حكمه أصله، جامعًا لها مانعًا على ما لا يكون كذلك. وحادي عشرها: تقدم العلة التي لا تقتضي رفع الحكم التي استنبطت منه على ما يقتضي ذلك كما يعلل النهي عن بيع اللحم بالحيوان بأن المراد مفسدة المزابنة، والربا بين اللحمين ببيع المجهول بالمعلوم، وإن المراد لأجل ذلك الحيوان الذي يقصد منه اللحم دون التربية، فيخرج الحيوان المقصود للتربية، فقد عكرت هذه العلة على نفسها بالبطلان. وثاني عشرها: يقدم مكملات الحاجات الضرورية على ما هو من أصول الحاجات، وإن كان مانعًا؛ لأنه يعطي حكم أصله ومتبوعه. وثالث عشرها: تقدم العلة المقتضية حفظ أصل الدين على غيرها من الضروريات وغيرها؛ لأن الدين أهم الكليات الخمسة. ورابع عشرها: يقدم الجامع الذي هو علة حكم الأصل على الجامع الذي هو دليل علة حكم الأصل، وهو قياس الدلالة، تقدم تمثيله في القياس. وخامس عشرها: تقدم العلة الملائمة على الغريب؛ لأنه أبعد عن الخلاف. وسادس عشرها: تقدم العلة المنقوضة التي في صورة نقضها مانع، أو فوات شرط على المنقوضة التي ليست كذلك.

(فائدة) قال سيف الدين: من الترجيحات ترجيح الحدود، وذلك من وجوه

وسابع عشرها: تقدم التي تخلف عنها حكمها على سبيل الاستثناء على التي تخلف عنها لا لذلك؛ لقربها للصحة، ولقلة الخلاف فيها. ثامن عشرها: تقدم العلة التي لا مزاحم لها في أصلها على التي لها مزاحم. تاسع عشرها: يقدم ما لا يشير إلى نقيض المطلوب بوجه المناسبة على ما يشير إليه. العشرون: تقدم العلة التي يعم مقصودها جميع المكلفين على ما يختص مقصودها بآحادهم. الحادي والعشرون: يقدم القياس المتأخر فرعه عن أصله على المتقدم فرعه على أصله؛ لبعدد عن الخلاف. هذا آخر كلامه في (الإحكام)، وذكر في كتابه المعروف بـ (الترجيحات) ترجيحات كثيرة نشأت من ضرب بعض هذه الوجوه مع بعض فأخذ كل صفة توجب الرجحان مع أخرى من موجبات الرجحان، وكل موجب للمرجوحية مع موجب آخر للمرجوحية، فيقع الترجيح بينهما بما تقدم من التعاليل المتقدمة، فمن ضبط ما نقلته سهل عليه ما تركته، فلا أطول به حتى تحصل السامة والملال. وقواعد المناسبة والترجيحات كافية عن ذلك. (فائدة) قال سيف الدين: من الترجيحات ترجيح الحدود، وذلك من وجوه: أحدها: يقدم الحد الفصيح للألفاظ الناصة على الغرض من غير مجاز، ولا استعارة، ولا اشتراك ولا غرابة، ولا اضطراب، ولا ملازمة على ما لا يكون كذلك.

وثانيها: يقدم ما هو أشد تعريفًا على الآخر. وثالثها: يقدم المعبر عنه بالأمور الذاتية على المعرف بالأمور العرضية. ورابعها: يقدم الحد الأعم؛ لكونه متناولاً محدود الآخر وزيادة، فهو أكثر فائدة، ويحتمل أن يقال: الأخص أولى؛ لحصول الاتفاق على مدلوله؛ لأن الزيادة مختلف فيها. وخامسها: يقدم الذي فيه جميع الذاتيات على الذي فيه بعضها مع التمييز. وسادسها: بكون أحدهما على وفق النقل السمعي؛ فيقدم على مخالف النقل لبعده عن الخلل. وسابعها: يقدم الذي طريق اكتسابه أرجح من طريق الآخر. وثامنها: يقدم الموافق للوضع اللغوي، أو الأقرب إليه على ما لا يكون كذلك؛ لأن الأصل عدم التغيير. وتاسعها: يقدم ما عمل به أهل (المدينة) الخلفاء الراشدون، أو جماعة من الأمة، أو واحد من المشاهير بالاجتهاد، والعدالة والثقة. وعاشرها: يقدم ما يلزم منه تقرير الحظر على ما يلزم منه تقرير الوجوب، أو الكراهة، أو الندب. حادي عشرها: يقدم المقرر للنفي على المقرر للثبوت. وثاني عشرها: يقدم الذي يلزم منه تقرير حكم معقول على ما يلزم منه حكم غير معقول؛ لأن المعلل أرجح. وثالث عشرها: يقدم الذي يلزم منه درء الحد، والعقوبة على ما يلزم منه إثباته.

(فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): إذا عضد أحد القياسين قول صحابي، إن علمنا مذهب الصحابي حجة كان ذلك انضمام دليل إلى دليل

رابع عشرها: يقدم ما يلزم منه الحرية، والطلاق على ما يلزم منه الرق والطلاق. قال: وقد يتشعب من هذه الترجيحات ترجيحات لا نهاية لها بحسب القواعد، فيحال ذلك على الناظر فيها. هذا آخر كلامه في (الإحكام)، وقال في كتاب (الترجيحات): خامس عشرها: يقدم ما هو على الوضع الطبيعي بأن يقدم الحسن فيه على المميز على ما لا يكون كذلك. سادس عشرها: يقدم المشتمل على الدنيا العامة على ما هو واقع على الوضع الطبيعي؛ لأن التعريف به حاصل أكثر. سابع عشرها: يقدم الواقع على الوضع الطبيعي على ما هو داخل فيه. وثامن عشرها: يقدم ما لا يلزم منه تخصيص عام، ونحوه على ما يلزم منه ذلك. (فائدة) قال إمام الحرمين في (البرهان): إذا عضد أحد القياسين قول صحابي، إن علمنا مذهب الصحابي حجة كان ذلك انضمام دليلٍ إلى دليل، فيقدمان على القياس المنفرد، ويختلف هل يسمي ضم الدليل المستقل ترجيحًا أم لا؟ وإن قلنا: ليس بحجة، فهو كقول بعض العلماء: إلا أن يكون الشارع شهد له بمزية في ذلك الفن، كقوله عليه السلام: (أفرضكم زيد)،

فيرجح به على المذهب الظاهر، وأما قوله - عليه السلام - في الصديق: (اقتدوا بالذين من بعدي)، فهو أعم من الشهادة لزيدٍ بمزيد الفرض، ولعلي - رضي الله عنه - بكونه أقضاهم بحجة، فلا يبعد أن يرجح به مجتهد؛ لأنه إن قاله عن توقيف فهو أولى، أو عن قياس فهو أولى بفهم مقصود الشرع، ويجوز ألا يترجح عند مجتهد. وفي (المحصول) رجح المصنف بقول الصحابي مطلقًا، وكذلك الشيخ أبو إسحاق في (اللمع). وثانيها: قال إمام الحرمين في (البرهان): قال بعض الجدليين: إذا كانت إحدى العلتين محسوسة، والأخرى حكم قدم (المحسوسة) لكونه قطعيًا، وهذا باطل عندنا؛ لأن الحكم عندنا مقطوع، وهذا الترجيح باطل. وثالثها: قال إمام الحرمين في (البرهان): (قال بعض الجدليين): إذا كانت إحدى العلتين تعم الأحوال، كتعليل منع بيع الكلب بالنجاسة، وحل البيع بالانتفاع به في الصيد. فقيل: يقدم ما يعم (الأصول) قال: لأن النجاسة شبهي، والانتفاع معني فقهي، ولكنه منقوض، والشبه المطرد مقدم على المعني المخيل المنتقض. ورابعها: قال الغزالي في (المستصفى): إذا وافق القياس خبرًا مرسلاً، أو مردودًا عند القائسين، لكن قال به بعض العلماء، فهو مرجح بشرط ألا يقطع ببطلان مذهب المخالف، بل يراه في محل الاجتهاد.

وخامسها: قال الغزالي في (المستصفى): إذا كانت إحدى العلتين حكمًا شرعيًا، نحو كونه حرامًا أو نجسًا، والأخرى وصفًا حقيقيًا، وعمومًا إن رد الحكم إلى الحكم أولى، حتى أن تعليل الحكم بالرق والحرية أولى من تعليله بالتمييز والعقل، وتعليله بالتكليف أولى من تعليله بالإنسانية. قال: وهو من أكثر الترجيحات الضعيفة. وسادسها: قال الغزالي في (المستصفى): كون أحدهما سببًا، أو مثبتًا للسبب - كجعل الزنا والسرقة موجبًا للحد - أولى من جعل أخذ مال الغير على سبيل الخفية علة، ومن جعل إيلاج الفرج في الفرج علة حتى يتعدى إلى النباش واللائط؛ لأن تلك العلة استندت إلى الاسم الذي ظهر الحكم به. وسابعها: العلة التي لا تخصص، (وتوافق) العموم مقدمة على ما تخصصه، كما في قوله تعالى:} أو لامستم النساء {فعلة توافق العموم أولى من العلة التي تقتضي إخراج المحرم والصغيرة. وقيل: المخصص أولى؛ لأنها عرفت ما لم تعرفه الأخرى. قال: وهو ضعيف؛ لأن السلامة عن المعارض أولى. وثامنها: قال الغزالي في (المستصفى): ورجح علة توجب حكمًا أخف؛ لأن الشريعة خفيفة سهلة، ورجح آخرون موجبة الأشق؛ لأن التكليف شاقً. قال: وهذه ترجيحات ضعيفة. *************

الكلام في الاجتهاد

الكلام في الاجتهاد قال الرازي: والنظر في ماهية الاجتهاد، والمجتهد، والمجتهد فيه، وحكم الاجتهاد. الركن الأول في الاجتهاد وهو في اللغة عبارة: عن استفراغ الوسع في أي فعلٍ كان؛ يقال: استفرغ وسعه في حمل الثقيل، ولا يقال: استفرغ وسعه في حمل النواة، وأما في عرف الفقهاء، فهو: (استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم، مع استفراغ الوسع فيه). وهذا سبيل مسائل الفروع؛ ولذلك تسمي هذه المسائل مسائل الاجتهاد، والناظر فيها مجتهد، وليس هذا حال الأصول. قال القرافي: قلت: فرقت العرب بين الجهد: بفتح الجيم، وضمها، فبالفتح: استفراغ الوسع، واستيفاء القدرة في السعي، وبالضم: الطاقة. قال صاحب (المجمل): (الجهد: بالفتح، المشقة، يقال: جهدت، نفسي، وأجهدت، وبالضم: الطاقة. قال الله - تعالى:} والذين لا يجدون إلا جهدهم {، و (التاء) في لسان العرب في (اجتهد) لفرط المعاناة، وهي تدل أبدًا على تعاطي الشيء بعلاجٍ، وإقبال شديد عليه، نحو (اقتلع)، و (اقترع)، و (اكتسب) هو أبلغ من (كسب)؛ لأجل التاء.

قوله: (في عرف الفقهاء: استفراغ الوسع في النظر، فما لا يلحقه فيه لوم، مع استفراغ الوسع فيه): تقريره: أن الضمير في قوله: (فيما لا يلحق فيه): إن أعدناه: على (استفراغ الوسع) فيكون: معناه: أن الاجتهاد ليس يأثم فاعله، وهو صحيح؛ لأن الواجب لا إثم فيه، ويشمل كلامه المندوب من الاجتهاد، والمباح؛ فإن المجتهد قد لا يتعين عليه الاجتهاد، فندب إليه، أو يعارضه مصلحة مساوية، فيباح له؛ لأن الحكم عند التساوي التخيير، والإباحة والقدر المشترك بين الجميع عدم اللوم الشرعي.

وإن أعدنا الضمير على لفظ (ما): وهو المجتهد فيه، فالاجتهاد قد يقع في الواجب والمندوب، والمباح، والمكروه، والأربعة اشتركت في عدم اللوم، وأما المحرم ففيه اللوم. فيكون الضمير - على هذا التقدير - يوجب خللاً في الحد - بكونه يصيره غير جامع، مع أن عوده على لفظ (ما) هو الظاهر من كلامه، فيكون - على هذا - ظاهر كلامه البطلان، وعبارة الجماعة أحسن. قال التبريزي: (هو بذل الجهد في تعرف الأحكام الفروعية التي هي مجاري الظنون)، فلهذا لا يسمى الناظر في الأصول مجتهدًا، فهذا كلام لا يرد عليه ذلك السؤال، ويوجب سؤالاً على المصنف من جهة أن حده يتضمن دخول الاجتهاد في الأصلين في حده، وليس هو مقصودًا عرفًا، وهو إنما تعرض لبيان الاجتهاد في العرف. ويندرج أيضًا في حد المصنف الاجتهاد في قيم المتلفات، وأورش الجنايات، والأواني، والثياب في الطهارة، وفي الكعبة في تعيين أحد الجهات، وتعيين الزوج من بين الأكفاء، وغيرهم في الزوجات، وتعيين خليفةٍ، أو قاضٍ، أو غير ذلك من أرباب الولايات؛ وفنون التصرفات، وكل ذلك لا يسمى الناظر فيه مجتهدًا بالوضع العرفي الفقهي الذي تعرض المصنف لتحديده؛ بل بالوضع اللغوي. وكلام التبريزي يرد عليه بعضها؛ لأن الأواني، والثياب، والأئمة، والنواب للحكم، وغيره، وقيم المتلفات ترد عليه؛ لأنها أحكام فرعية. وقال سيف الدين: (هو استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من

الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه) فقولنا: (في طلب الظن) ليخرج القطعية. وقولنا: (الشرعية) ليخرج المعقولات والمحسوسات وغيرها. وقولنا: (بحيث يحس من النفس العجز عن المزيد فيه). ليخرج المقصر؛ فإنه لا يعد في عرف الأصوليين اجتهادًا. قلت: هذا القيد الأخير، يكفي عنه القيد الأول، وهو استفراغ الوسع فإن المقصد غير مستفرغ. ويرد عليه ما ورد على التبريزي. وقال الغزالي في (المستصفى): (هو بذل الجهد في طلب العلم في الأحكام الشرعية). قلت: إن أراد بالعلم العلم الحاصل من الإجماع بأنه ما أدى إليه اجتهاده، فهو حكم الله في حقه، وحق من قلده، إذا قام سببه، كما تقرر أول الكتاب، فهذا العلم هو متقرر في الشريعة لكل مجتهد لا يتأتي طلبه لتقريره؛ بل المطلوب ما هو شرط في حصوله، وهو الحاصل بعد الاجتهاد التام من ظن، أو علم حتى يحكم الإجماع حينئذ. وقد يقول الغزالي: السعي في تحصيل الوسيلة سعى في تحصيل المقصد، فطلب شرط العلم الإجماعي سعى في ذلك العلم، وعلى هذا فليس بينه وبين سيف الدين خلاف؛ بل مقصود سيف الدين: الوسيلة، ومقصود الغزالي: القصد. ثم إن الاقتصار على الظن لا سبيل إليه؛ فإن المجتهد يطلب أحد الأمرين فأيهما ظفر به أفتى به. فتقييده بالظن يقتضي عدم الجميع، فيبطل، فالذي أراه أنه (بذل الوسع في الأحكام الفروعية الكلية ممن حصلت له شرائط الاجتهاد.

فقولنا: (الفروعية) لإخراج الأصلين. (والكلية) لإخراج قيم المتلفات وما ذكر معها؛ فإنها أمور جزئية لا تتعدى تلك الصور المعينة، بخلاف الفتاوى؛ فإنها عامة على الخلق إلى يوم القيامة. والقيد الآخر: ليخرج اجتهاد العام، ونحوه. ********

الركن الثاني في المجتهد

الركن الثاني في المجتهد قال الرازي: وفيه مسائل: مسألة: قال الشافعي - رضي الله عنه - يجوز أن يكون في أحكام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما صدر عن الاجتهاد، وهو قول أبي يوسف - رحمه الله-.

...............................................................

..................................................................

وقال أبو على وأبو هاشمٍ: إنه لم يكن متعبدًا به، وقال بعضهم: كان له أن يجتهد في الحروب، وأما في أحكام الدين، فلا، وتوقف أكثر المحققين في ذلك. أما المثبتون فقد احتجوا بأمورٍ: أحدها: عموم قوله تعالى:} فاعتبروا يا أولي الأبصار {وكان - عليه الصلاة والسلام - أعلى الناس بصيرة، وأكثرهم اطلاعًا على شرائط القياس، وما يجب ويجوز فيها؛ وذلك إن لم يرجح دخوله في هذا الأمر على دخول غيره، فلا أقل من المساواة؛ فيكون مندرجًا تحت الآية، فكان مأمورًا بالقياس، فكان فاعلاً له، وإلا قدح في عصمته. وثانيها: أنه إذا غلب على ظنه كون الحكم في الأصل معللاً بوصف، ثم علم أو ظن حصول ذلك الوصف في صورةٍ أخرى - فلابد أن يظن أن حكم الله تعالى في الفرع مثل حكمه في الأصل، وترجيح على المرجوح من مقتضيات بدائه العقول؛ على ما قررناه في (كتاب القياس) وهذا يقتضي أن يجب عليه العمل بالقياس. وثالثها: أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بالنص، فيكون أكثر ثوابًا؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - (أفضل العبادات أحمزها) أي: أشقها؛ ولو لم يعمل الرسول - عليه الصلاة والسلام - بالاجتهاد، مع أن أمته عملوا به - كانت الأمة أفضل منه في هذا الباب وإنه غير جائزٍ. فإن قلت: (فهذا يقتضي ألا يعمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا بالاجتهاد؛ لأن ذلك أفضل):

وأيضًا: فإنما يجب اتصافه بهذا المنصب، لو لم يجد منصبًا أعلى منه؛ لكنه وجده؛ لأنه يستدرك الأحكام وحيًا، وهذا المنصب أعلى من الاجتهاد). قلت: الجواب عن الأول: أن ذلك غير ممكنٍ؛ لأن العمل بالاجتهاد مشروط بالنص على أحكام الأصول، وإذا كان كذلك، تعذر العمل في كل الشرع بالاجتهاد. وعن الثاني: أن الوحي، وإن كان أعلى درجة من الاجتهاد، لكن ليس فيه تحمل المشقة في استدراك الحكم، ولا يظهر فيه أثر دقة الخاطر، وجودة القريحة، وإذا كان هذا نوعًا مفردًا من الفضيلة، لم يجز خلو الرسول عنه بالكلية. ورابعها: قوله - عليه الصلاة والسلام -: (العلماء ورثة الأنبياء) وهذا يوجب أن تثبت له درجة الاجتهاد؛ ليرثوه عنه؛ إذ لو ثبت لهم ذلك ابتداءً، لم يكونوا وارثين عنه. فإن قلت: (أراد به في إثبات أركان الشرع): قلت: إنه تقييد من غير دليلٍ. وخامسها: أن بعض السنن مضافة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان الكل بالوحي، لم يبق لتلك الإضافة مزيد فائدة، كما أن الشافعي - رضي الله عنه - إذا أثبت حكمًا بالنص الظاهر الجلي الذي لا يفتقر فيه ألبتة إلى اجتهاد، لا يقال: (إن ذلك مذهب الشافعي) فلا يقال: مذهب الشافعي - رضي الله عنه - وجوب الصلوات الخمس) وأما الذي يثبته بضربٍ من اجتهادٍ، فإنه يضاف إليه، فكذا ها هنا.

وأما الذي يدل على أنه كان مجتهدًا في أمر الحروب: أنه اجتهد في أخذ الفداء عن أساري بدرٍ، بعدما كان راجعهم في تلك الحال) وذلك لا يمكن إلا مع الاجتهاد. واحتج المانعون بأمورٍ: أحدها: قوله تعالى:} وما ينطق عن الهوى {. وثانيها: أن بعض الصحابة راجعه في منزلٍ نزله، وقال: (إن كان هذا بوجي الله تعالى، فالسمع والطاعة، وإلا فليس هو بمنزل مكيدة) فدل هذا على جواز مراجعته في اجتهاد، ولا تجوز مراجعته في أحكام الشرع؛ فيلزم ألا يكون فيها ما هو باجتهاده. وثالثها: أن الاجتهاد لا يفيد إلا الظن، وأنه (عليه الصلاة والسلام) كان قادرًا على تلقيه من الوحي، والقادر على تحصيل العلم لا يجوز له الاكتفاء بالظن؛ كالمعاين للقبلة؛ لا يجوز له أن يغمض عينيه، ويجتهد فيها. ورابعها: أن مخالفه - عليه الصلاة والسلام - في الحكم يكفر؛ لقوله تعالى:} فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم {والمخالف في هذه المسائل الشرعية لا يكفر؛ لأن الرجل إذا اجتهد وأخطأ فيها، فله أجر واحد، والمستوجب للأجر لا يمكن تكفيره. وخامسها: لو جاز له العمل بالاجتهاد، لما توقف في شيءٍ من الأحكام الشرعية على الوحي؛ لأن حكم الوحي في الكل كان معلومًا له، وطرق الاجتهاد كانت مظنونًة له، فعند وقوع الواقعة التي ما أنزل عليه فيها وحي، كان مأمورًا بالاجتهاد، فكان ينبغي ألا يتوقف إلى نزول الوحي؛ لكنه توقف كما في مسألة الظهار، واللعان.

وسادسها: لو جاز له الاجتهاد، لجاز لجبريل - عليه السلام - وحينئذٍ: لا يعرف أن هذا الشرع الذي جاء به إلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - من نص الله تعالى، أو من اجتهاد جبريل - عليه السلام -. والجواب عن الأول: أن الله تعالى، متى قال له: (مهما ظننت كذا، فاعلم أن حكمي كذا) فها هنا العمل بالظن عمل بالوحي، لا بالهوى. وعن الثاني: أنه يدل على جواز مراجعته في الآراء والحروب، والأحكام خارجة عن ذلك. وعن الثالث: أنا إنما نجوز الاجتهاد فيما لم يوجد فيه نص من الله تعالى، ولم يكن متمكنًا من معرفة الحكم بالنص. وعن الرابع: أنه لا يمتنع أن يقال: الحكم، وإن كان مظنونًا أولاً، إلا أنه - عليه الصلاة والسلام - لما أفتى به، وجب القطع به؛ كما قلنا في الإجماع الصادر عن الاجتهاد. وعن الخامس: أن العمل بالاجتهاد مشروط بالعجز عن وجدان النص، فلعله - عليه الصلاة والسلام - كان يصبر مقدار ما يعرف به أن الله - تعالى - لا ينزل فيه وحيًا. وعن السادس: أن ذلك الاحتمال مدفوع بالإجماع. مسألة: إذا جوزنا له - صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد، فالحق عندنا أنه لا يجوز أن يخطئ.

وقال قوم: يجوز بشرط ألا يقر عليه. لنا: أنا مأمورون باتباعه في الحكم؛ لقوله تعالى:} فلا وربك، لا يؤمنون؛ حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت {فلو جاز عليه الخطأ، لكنا مأمورين بالخطأ، وذلك ينافي كونه خطأ. واحتج المخالف بقوله تعالى:} عفا الله عنك؛ لم أذنت لهم {فهذا يدل على أنه أخطأ فيما أذن لهم، وقال تعالى في (أساري بدرٍ):} لولا كتاب من الله سبق، لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم {فقال - عليه الصلاة والسلام -: (لو نزل عذاب من الله، لما نجا إلا ابن الخطاب) وهذا يدل على أنه أخطأ في أخذ الفداء، ولأنه تعالى قال:} قل إنما أنا بشر مثلكم {فلما جاز الخطأ على غيره، جاز أيضًا عليه، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنكم تختصمون لدي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من غيره، فمن قضيت له بشيءٍ من حق أخيه، فلا يأخذنه إنما أقطع له قطعة من النار) فلو لم يجز أن يقضي لأحد إلا بحقه، لم يقل هذا، ولأنه يجوز أن يغلط في أفعاله، فيجوز أن يغلط في أقواله؛ كغيره من المجتهدين. والجواب عن هذه الوجوه مذكور في الكتاب الذي صنفناه في (عصمة الأنبياء) فلا فائدة في الإعادة. مسألة: اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما في زمان الرسول - عليه الصلاة والسلام - فالخوض فيه قليل الفائدة؛ لأنه لا ثمرة له في الفقه. ثم نقول: المجتهد: إما أن يكون بحضرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - أو يكون غائبًا عنه: أما إن كان بحضرته، فيجوز تعبده بالاجتهاد عقلاً؛ لأنه لا

يمتنع أن يقول الرسول - عليه الصلاة والسلام - له: (لقد أوحي إلى بأنك مأمور بأن تجتهد، أو مأمور بأن تعمل على وفق ظنك). ومنهم من أحاله عقلاً، واحتج عليه: بأن الاجتهاد في معرض الخطأ، والنص آمن منه، وسلوك السبيل المخوف، مع القدرة على سلوك السبيل الآمن قبيح عقلاً. وجوابه: أن الشرع لما قال له: (أنت مأمور بأن تجتهد، وتعمل على وفق ظنك) كان آمنًا من الغلط؛ لأنه بعد الاجتهاد، يكون آتيًا بما أمر به. وأما وقوع التعبد به، فمنعه أبو علي وأبو هاشمٍ، وأجازه قوم بشرط الإذن، وتوقف فيه الأكثرون. احتج المانعون بوجهين: الأول: أن الصحابة، لو اجتهدوا في عصره، كما اجتهدوا بعده، لنقل؛ كما نقل اجتهادهم بعده. الثاني: أن الصحابة كانت تفزع في الحوادث إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو كانوا مأمورين بالاجتهاد، لما فزعوا إليه. واحتج القائلون بالوقوع بأمورٍ: الأول: أنه - عليه الصلاة والسلام - حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، فحكم بقتل مقاتليهم، وسبي ذراريهم، فقال - عليه الصلاة والسلام -: (لقد حكمت بحكم الله - تعالى من فوق سبعة أرقعةٍ). الثاني: أنه - عليه الصلاة والسلام - قال لعمرو بن العاص، وعقبة بن عامرٍ

الجهني، لما أمرهما أن يحكما بين خمصين: (إن أصبتما، فلكما عشر حسناتٍ، وإن أخطأتم، فلكما حسنة واحدة). الثالث: أنه - عليه الصلاة والسلام - كان مأمورًا بالمشاورة؛ لقوله تعالى:} وشاورهم في الأمر {ولا فائدة في ذلك إلا جواز الحكم على حسب اجتهادهم. والجواب عن الأول: لعلة قل اجتهادهم في حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلم ينقل؛ لقتله. وأيضًا: فقد نقل اجتهاد سعد بن معاذٍ، وعمرو بن العاص. وعن الثاني: لعلهم فزعوا إليه فيما لم يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد، ولعلهم تركوه؛ لصعوبته، وسهولة وجدان النص. وعن الثالث: وهو خبر سعد وعمرو: أنه خبر واحدٍ؛ فلا يجوز التمسك به إلا في مسألة عملية، وهذه المسألة لا تعلق لها بالعمل. وعن الرابع: أن ذلك في الحروب ومصالح الدنيا، لا في أحكام الشرع. وأما الغائب عن حضرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - فلا شك في جواز أن يتعبده الله تعالى بالاجتهاد، لا سيما عند تعذر الرجوع، وضيق الوقت. وأما وقوع التعبد به، فقال به الأكثرون؛ والاعتماد فيه على خبر معاذٍ. مسألة في شرائط المجتهد: اعلم: أن شرط الاجتهاد أن يكون المكلف بحيث يمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام، وهذه المكنة مشروطة بأمورٍ:

أحدها: أن يكون عارفًا بمقتضى اللفظ ومعناه؛ لأنه لو لم يكن كذلك، لم يفهم منه شيئًا، ولما كان اللفظ قد يفيد معناه - لغةً، وعرفًا، وشرعًا - وجب أن يعرف اللغة، والألفاظ العرفية والشرعية. وثانيها: أن يعرف من حال المخاطب: أنه يعني باللفظ ما يقتضيه ظاهره، إن تجرد، أو ما يقتضيه مع قرينة، إن وجدت معه قرينه؛ لأنه لولا ذلك، لما حصل الوثوق بخطابه؛ لجواز أن يكون عنى به غير ظاهره، مع أنه لم يبينه. قالت المعتزلة: وذلك إنما يعرف بحكمة المتكلم، أو بعصمته، والحكم بحكمة الله تعالى مبني على العلم بأنه تعالى عالم بقبح القبيح، وعالم بغناه عنه. وأما أصحابنا: فإنهم قالوا: الشيء، وإن كان جائز الوقوع قطعًا، لكنه قد نقطع بأنه لا يقع، فإنا نجوز انقلاب ماء جيحون دمًا، وانقلاب الجدران ذهبًا، وتولد الإنسان لا من الأبوين دفعةً واحدةً، ومع ذلك نقطع بأنه لا يقع، فكذا هاهنا نحن، وإن جوزنا من الله تعالى كل شيء؛ لكنه تعالى خلق فينا علمًا بديهيًا؛ بأنه لا يعني بهذه الألفاظ إلا ظواهرها؛ فلذلك أمنا من وقوع التلبيس. وثالثها: أن يعرف مجرد اللفظ، إن كان مجردًا، وقرينته إن كان مع قرينة؛ لأنا لو لم نعرف ذلك، لجوزنا في المجرد أن تكون معه قرينة تصرفه عن ظاهره، ثم القرينة قد تكون عقلية، وقد تكون سمعية: وأما القرينة العقلية: فإنها تبين ما يجوز أن يراد باللفظ مما لا يجوز. وأما السمعية: فهي الأدلة التي تقتضي تخصيص العموم في الأعيان، وهو المسمي بالتخصيص، أو في الأزمان، وهو النسخ.

والذي يقتضي تعميم الخاص، وهو القياس؛ وحينئذٍ: يجب أن يكون عارفًا بشرائط القياس؛ ليميز ما يجوز عما لا يجوز. ثم هذه الأدلة السمعية غائبة عنا، فلابد من نقلها، والنقل: إما تواتر أو آحاد، فلابد وأن يكون عارفًا بشرائط كل واحد مننهما، ثم عند الإحاطة بأنواع الأدلة، لابد وأن يكون عارفًا بالجهات المعتبرة في التراجيح. فإن قال قائل: (فصلوا العلوم التي يحتاج المجتهد إليها): قلنا: قال الغزالي - رحمه الله-: مدارك الأحكام أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل: فلابد من العلم بهذه الأربعة، ولابد معها من أربعةٍ أخرى: اثنان مقدمان، واثنان مؤخران، فهذه ثمانية لابد من شرحها: أما كتاب الله تعالى: فلابد من معرفته، وفيه تحقيقان: أحدهما: أنه لا يشترط معرفة جميعه، بل ما يتعلق منه بالأحكام، وهو خمسمائة آية. والثاني: أنه لا يشترط حفظها، بل أن يكون عالمًا بمواقعها؛ حتى يطلب منها الآية المحتاج إليها عند الحاجة. وأما السنة: فلابد من معرفة الأحاديث التي تتعلق بها الأحكام، وهي، مع كثرتها، مضبوطة في الكتب، وفيها التحقيقان المذكوران؛ إذ لا يلزمه معرفة ما يتعلق من الأخبار بالمواعظ، وأحكام الآخرة. والثاني: أنه لا يلزمه حفظها؛ بل أن يكون عنده أصل مصحح مشتمل على الأحاديث المتعلقة بالأحكام.

وأما الإجماع: فينبغي أن يكون عالمًا بمواقع الإجماع؛ حتى لا يفتي بخلاف الإجماع. وطريق ذلك: ألا يفتي إلا بشيءٍ يوافق قول واحد من العلماء المتقدمين، أو يغلب على ظنه: أنه واقعة متولدة في هذا العصر، ولم يكن لأهل الإجماع فيها خوض. وأما العقل: فيعرف البراءة الأصلية، ويعرف أنا مكلفون بالتمسك بها، إلا إذا ورد يصرفنا عنه، وهو نص، أو إجماع، أو قياس؛ على شرائط الصحة، فهذه هي العلوم الأربعة. وأما العلمان المقدمان: فأحدهما: علم شرائط الحد والبرهان على الإطلاق، وثانيهما: معرفة النحو، واللغة، والتصريف؛ لأن شرعنا عربي، فلا يمكن التوسل إليه إلا بفهم كلام العرب، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، ولابد في هذه العلوم من القدر الذي يتمكن المجتهد به من معرفة الكتاب والسنة. وأما العلمان المتمان فأحدهما: يتعلق بالكتاب، وهو علم الناسخ والمنسوخ، والآخر: بالسنة، وهو علم الجرح والتعديل، ومعرفة أحوال الرجال. واعلم: أن البحث عن أحوال الرجال في زماننا هذا مع طول المدة، وكثرة الوسائط - أمر كالمتعذر، فالأولي: الاكتفاء بتعديل الأئمة الذين اتفق الخلق على عدالتهم؛ كالبخاري، ومسلم، وأمثالهما. وقد ظهر مما ذكرنا: أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه، وأما سائر العلوم، فغير مهمة في ذلك؛ أما الكلام: فغير معتبر؛ لأنا لو فرضنا إنسانًا جازمًا بالإسلام تقليدًا، لأمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام.

قوله: (يجوز أن يكون في أحكام الرسول عليه السلام ما صدر عن اجتهاد)

وأما تفاريع الفقه: فلا حاجة إليها؛ لأن هذه التفاريع ولدها المجتهدون بعد أن فازوا بمنصب الاجتهاد، فكيف تكون شرطًا فيه؟!. واعلم: أن الإنسان كلما كان أكمل في هذه العلوم التي لابد منها في الاجتهاد - كان منصبه في الاجتهاد أعلى وأتم، وضبط القدر الذي لابد منه على التعيين - كالأمر المتعذر. مسألة: الحق أنه يجوز أن تحصل صفة الاجتهاد في فن، دون فن؛ بل في مسألة دون مسألة؛ خلافًا لبعضهم. لنا: أن الأغلب من الحادثة في الفرائض: أن يكون أصلها في الفرائض، دون المناسك، والإجارات، فمن عرف ما ورد من الآيات، والسنن، والإجماع، والقياس في باب الفرائض - وجب أن يتمكن من الاجتهاد. وغاية ما في الباب أن يقال: لعله شذ منه شيء؛ ولكن النادر لا عبرة به؛ كما أن المجتهد المطلق، وإن بالغ في الطلب، فإنه يجوز أن يكون قد شذ عنه أشياء. (الركن الثاني: المجتهد) قوله: (يجوز أن يكون في أحكام الرسول عليه السلام ما صدر عن اجتهاد): قال القرافي: تقريره: أن المراد ها هنا - بالأحكام: الأحكام الصادرة عنه - عليه السلام - بطريق الفتوى. أما ما صدر عنه - عليه السلام - بتصرف القضاء، وفصل الخصومات - مجمع عليه أنه لا يفتقر إلى الوحي، وإن كان حكمًا شرعيًا. فلذلك قال - عليه السلام -: (فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيءٍ من حق أخيه، فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار). فلو كان بالوحي لما توقف على السماع، ولما استوجب الأخذ النار؛ فإنه مأذون فيه من قبل الله تعالى.

وهذا الأخير فيه نظر؛ فإن إعطاء أهل الحرب فداء الأساري مأمور به إجماعًا من قبل الله تعالى، والكفار آثمون بأخذه، بناء على أنهم مخاطبون بالفروع، وقاطع الطريق إذا عجز عنه إلا بإعطاء التافه اليسير جاز الإعطاء له، وهو حرام عليه. وكذلك من عجز عن منعه من الزنا بامرأة إلا بدفع مال وجب الدفع، والأخذ عليه حرام. وبالجملة: التصرف في الأحكام الشرعية بالقضاء، لا يتوقف على الوحي، وليس هو المراد - هاهنا - إجماعًا. قوله: (احتجوا بقوله تعالى:} فاعتبروا ....... {): قلنا: قد تقدم ما هو على هذا الموضع في كتاب (القياس). قوله: (فيكون مأمورًا بالقياس، وإلا قدح في عصمته): قلنا: هذا كلام غير منتظم، إنما ينتظم إن لم يقسم مع أنه مأمور حتى يكون عاصيًا؛ فيقدح ذلك في العصمة، أما كونه ليس مأمورًا لا يقدح ذلك في العصمة، وكم من شيء نحن مأمورون به، وليس هو - عليه السلام - مأمورًا به. فإنا مأمورون بالتقليد للعلماء، وبرواية نصوص الدين، والنظر في التخريج، والتعديل، وتدوين العلوم والقرآن والقراءات وكتب النحو واللغة، وغير ذلك من الأحكام؛ مع أنه - عليه السلام - لم يؤمر بشيء من ذلك، ولم يقدح ذلك في عصمته، وكيف يقدح عدم التكليف في العصمة؟ إنما يقدح ترك المكلف به بعد التكليف. قوله: (ترجيح الراجح على المرجوح من مقتضيات العقول): قلنا: لا نسلم؛ فإن إخبار العدل الواحد في الدماء وغيرها راجح صدقه على كذبه، ولم يحكم بموجب صدقه، ولا بكذبه؛ بل تركنا القسمين، ولم يقض العقل، ولا الشرع فيهما بشيء.

فكذلك الجماعة من الصبيان، والنسوان، والكفار، والفساق، وقرائن الأحوال والتهم الظاهرة في السراق وغيرهم، كل ذلك ملغى عقلاً وشرعًا. فإن أردتم بالترجيح الحكم بموجب الراجح، بطل بهذه النقوض. وإن أردتم بالترجيح أنه يرجح عند العقل، فمسلم، لكنه لبس صورة النزاع، إنما النزاع في القسم الأول. قوله: (أفضل العبادات أحمزها): قلنا: إن الله - تعالى - لم يطلب المشقة من العباد، إنما طلب منه تحصيل المصالح، فإن لم تحصل إلا بمشقة عظم الأجر؛ لصعوبة الطريق في تحصيل تلك المصلحة؛ ولأنه يكون حظ النفس فيه بعيدًا، فيفوت

الإخلاص، أما لو كان للجامع، أو للحج طريقان: أحدهما أشق، فأراد أن يفعل الأشق سلوكًا لتكثير ثوابه، كان غالطًا؛ بل هذا منهي عنه، لا ثواب فيه. وربما كان فيه العقاب على قدر مفسدة المشقة. وكذلك: لو تيسر له ماء ساخن في البرد للطهارة، والغسل، فأراد تركه، واستعمال البارد بالثلج؛ ليكون ذلك أشق عليه نهي عنه؛ لقوله - تعالى -:} ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة {، وقوله عليه السلام: (إن لنفسك عليك حقًا). وإنما تحسن المشقة إذا تعينت طريقًا للمصلحة، وأما المشقة من حيث هي مشقة فلا فائدة. (أحمزها) بالحاء المهملة، والزاي المعجمة. وكثير من الفقهاء يقولونها (بالجيم)، وهو غلط نقله صاحب (الصحاح)، وغيره. قوله: (لو لم يعمل بالاجتهاد كانت الأمة أفضل منه في هذا الباب): قلنا: قد تقدم أن الأمة عملت بأوامر لم تتوجه جهته - عليه السلام - فما هو جوابكم هو جوابنا.

والجواب الصحيح في ذلك كله - أن القاعدة: أن المفضول يجوز أن يختص بما ليس للفاضل، كما قال - عليه السلام -: (أقرؤكم أبي، وأقضاكم على، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبلٍ، وأفرضكم زيد، والصديق - رضي الله عنه - أفضل من الجميع). مع اختصاصهم بالأفضلية في هذه الصفات. وكذلك آدم - عليه السلام - أبو البشر، ونوح أنذر قومه نحو ستمائة سنة، وغير ذلك من الصفات التي حصلت للكثير من الأنبياء، دونه - عليه السلام - وهو أفضل من الجميع. وكل شريف عامي أفضل من الأئمة الأربعة: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد في نسبه، وكل واحد منهم أفضل. وكل شريفة عامية حصل لها من النسب ما لم يحصل لعائشة، وخديجة، وغيرهما مع القطع بالأفضلية فيهن، وهو كثير، فكذلك هاهنا. قوله: (في كل الأحكام بالاجتهاد متعذر؛ لأنه لابد من النص في الأصول):

قلنا: قد تقدم في القياس - الخلاف في إثبات جملة الشريعة بالقياس، فيمتنع بناء على ذلك الخلاف. قوله: (إنه - عليه السلام - قال: (العلماء ورثة الأنبياء)، فيثبت له عليه السلام - الاجتهاد حتى يرثوه): قلنا: هذا لا يتجه، فإنا إذا قلنا: زيد وارث عمرو - يقتضي أن ما ثبت لعمرو ينتقل لزيد، أما أن كل ما لزيد لابد أن يثبت لعمرو فباطل جزمًا؛ فإن الوارث قد يكون له أموال لم تكن لمورثه قط. وهذا في البطلان فيه شبه بقول المنطقين: (إن الموجبة الكلية لا تنعكس). فإذا قلنا: (كل إنسان حيوان) لا تنعكس كل حيوان إنسان) كذلك هاهنا لا تنعكس كل ما للوارث للموروث فيه شبه به وإن لم يكن منه، فظهر أن هذا الموضع غير مفيد المطلوب. وقوله: (إنه تقييد من غير دليل): غير متجه؛ بل ليس هاهنا تقييد، ولا تخصيص، بل النص غير مقيد بغير ذلك.

قوله: (بعض السنن مضافة للنبي - عليه السلام -، فلو كان الكل بالوحي لم يختص ذلك به - عليه السلام): قلنا: الوحي قسمان: وحي تعبدنا بتلاوته، وهو معجزة، وهو القرآن. ووحي لم يتعبد بتلاوته، ولا هو معجزة. فالحكم الثابت بهذا الوحي هو المضاف له - عليه السلام -؛ لأن الوحي ربما لم يبده لنا فأضفنا الحكم له. فإن أردتم غير هذا، فهو ممنوع. قوله: (إنه - عليه السلام (اجتهد في فداء أساري بدر): تقريره: أنه نزل عقيب هذا قول تعالى:} ما كان لبني أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض {. وفي مسلم قال - عليه السلام لعمر - رضي الله عنه: (عرض على عذاب قومك أدني من هذه الشجرة) أي: في أمر الفداء ...... الحديث بطوله، ولو كان بالوحي كان مأذونًا فيه، ولم يكن إنكار، ولا عذاب،

والعذاب هاهنا لم يكن إلا أنه كان مع النبي - عليه السلام - فيما قاله بالاجتهاد. قال العلماء: اختصوا بالعذاب، وإن ساووا في الاجتهاد؛ لأنهم قصروا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقصر. وإذا اجتهد الحاكم، ولم يصب كان له أجر من غير عقوبة. وكان عمر - رضي الله عنه - مجتهدًا مصيبًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجتهدًا مطيعًا، وأولئك الجماعة مجتهدون مقصرون.

قوله: (بعض الصحابة - رضوان الله عليهم - راجعه في منزل نزله، والأحكام الشرعية لا تجوز مراجعته فيها): قلنا: إذا كانت عن اجتهاد، فلمن ظهر في نظره معارض راجح أو سؤال صحيح على ذلك المدرك الذي تمسك به المجتهد أن يسير إليه؛ لينتقل ذهنه إليه، ويكون ذلك من باب التعاون على المعروف والطاعة. ونحن: مأمورون بالنصح معه - عليه السلام - ومع الخلق كلهم برهم وفاجرهم، في جميع الأحوال؛ لاسيما في الأمور المهمة من الدين، فلا تنافي بين المراجعة والأحكام الشرعية. قوله: (الاجتهاد لا يفيد إلا الظن، وهو - عليه السلام - قادر على تلقيه من جهة الوحي، والقادر على العلم لا يجوز له الاكتفاء بالظن): قلنا: لا نسلم هذا لا طردًا، ولا عكسًا؛ لأن الاجتهاد، قد تكون له مقدمات يقينية، فيحصل العلم - كما تقدم في القياس - أنه قد يعلم تعليل الأصل بكذا، ويعلم وجود العلة في الفرع، فيحصل اليقين. وأما الوحي: فقد يكون بالظاهر، وقد يكون بالنص. والظاهر: لا يفيد اليقين، وسماعه - عليه السلام - من جبريل كسماع الصحابة من النبي - عليه السلام - والصحابي إذا سمع الظاهر، لم يقطع بأنه المراد منه ظاهره إلا بقرائن خارجه عن دلالة اللفظ، وقد لا تحصل تلك القرائن؛ بل الأصل عدمها في الموطنين، فلا يحصل إلا الظن في الجهتين. وبه: ظهر الفرق بين معاين القبلة، وبين هذه المسألة. قوله: (لو جاز له - عليه السلام - الاجتهاد، لجار لجبريل عليه السلام). قلنا: الفرق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكلف بسياسة الأمة، وتحصيل مصالح الدنيا والآخرة للخلق إجمالاً وتفصيلاً.

وقد يعجزه ذلك في البعض بالنص، فيحصله بالاجتهاد، وجبريل - عليه السلام - لم يكلف بشيء من أمور الخلق بل بالتبليغ فقط، وهو نقل صرف، لا مدخل للاجتهاد فيه. قوله: (إذا أفتى - عليه السلام - بالحكم صار مقطوعًا به؛ كما في الإجماع): تقريره: أن الحكم يكون مدرك النبي - عليه السلام - ومدرك الإجماع فيه ظنيًا، فإذا أفتى به حصل القطع من جهة الدليل الدال على العصمة، وإن ذلك حق قطعًا، فيحصل في ذلك الحكم القطع من جهة الدليل الدال على العصمة، لا من جهة الدليل الظني، ولا مانع أن يحصل ما دل عليه الظن دليل يفيد القطع، كما يقول الفقهاء: هذه المسألة يدل عليها الكتاب والسنة والإجماع، والقياس، فيجمعون بين أخبار الآحاد، والقياس، والإجماع، والأولان ظنيان، والإجماع قطعي. قوله: (لو جاز عليه - عليه السلام - الخطأ، لكنا مأمورين باتباعه فيه): قلنا: قوله عليه السلام: (فمن قضيت له بشيءٍ من حق أخيه، فلا يأخذه، وإنما أقطع له قطعة من النار) يقتضي أنه قد يقضي لزيد بما لا يستحق مع أن مخالفته في جميع أقضيته - عليه السلام - مستوف أوامر، ونحن مأمورون بالتسلم له - عليه السلام - في جميع أحكامه. قوله: (احتجوا بقوله تعالى:} عفا الله عنك لم أذنت لهم {): قلنا: قال القاضي عياض في (الشفاء): (إن معنى هذه الآية: أن الله - تعالى - كان خيره بين الإذن لهم وعدمه، فاختار الإذن لهم، فأعلمه الله - تعالى - أن المصلحة كانت تقتضي عدم الإذن، حتى يتبين له

(سؤال) قوله: (إنه - عليه السلام - قادر على الوحي)

أمرهم، فالحكم الشرعي كان التخيير، والمصلحة مختلفة، كما خير الله - تعالى - بين خصال الكفارة، مع اختلاف مصالحها، وخير - عليه السلام - ليلة الإسراء بين اللبن والخمر، مع أن الخمر يغوى، واللبن يهدى - كما جاء في الحديث. وإذا كان الحكم التخيير، فلا خطأ في حكم شرعي حينئذ. قوله: (إنكم تختصمون إلى ......) الحديث: قلنا: النزاع في هذه المسألة، إنما هو في غير فصل الخصومات، فلا حجة في الحديث. قوله: (يجوز عليه ذلك، كغيره من المجتهدين): قلنا: الفرق أنه - عليه السلام - واجب الاتباع علينا، وغيره من المجتهدين لا يجب اتباعه عينًا؛ بل يجتهد بينه وبين غيره، والخطأ مع التعيين ألجأ للاتباع في الخطأ. (سؤال) قوله: (إنه - عليه السلام - قادر على الوحي): قلنا: لا نسلم؛ لأنه قد يضيق الوقت عليه، وليس في قدرته - عليه السلام - إنزال جبريل عليه في أي وقت أراد، فقد تأخر عنه اثني عشر يومًا، لما سأله أهل الكتاب عن أهل الكهف، وذي القرنين.

(سؤال) قوله: (مخالف الرسول - عليه السلام - كافر)

(سؤال) قوله: (مخالف الرسول - عليه السلام - كافر): قلنا: لا نسلم؛ بل فيما علم أنه من الدين ضرورة، أما ما دل عليه ظاهر لفظه، مما يحتمل التأويل، فأوله بعض السامعين، فلا يلزم تكفيره، والمعلوم بالضرورة أيضًا لا يكفر جاحده، إلا إذا اطلع على أنه ضروري. أما حديث العهد بالإسلام ممن نشأ بأرض الحرب فلا. (سؤال) لو قلنا: إن الله - تعالى - جعل لجبريل - عليه السلام - الاجتهاد، كما جعله للنبي - عليه السلام - لم يلزم منه مفسدة؛ لأن المقصود هو الاطلاع على ما قام بذات الله - تعالى - من الأحكام الشرعية، فسواء دل عليه نص، أو يقول الله تعالى: (مهما اجتهد فيه جبريل، وقاله، فهو حكمي، فإني لأجري على قلبه، ولسانه إلا ما دلالته مطابقة لحكمي) صح ذلك من غير مفسدة. بل لو قال الله تعالى: (إذا هبت الريح، فاعلموا أني قد أوجبت عليكم صلاة هي كذا)، صح، وقطعنا عند هبوب الريح بوجوب تلك الصلاة. (سؤال) قوله: (لو جاز عليه الخطأ، لكنا مأمورين بالخطأ): قلنا: لا يلزم؛ لأن الكلام في الجواز، ولا يلزم من الجواز الوقوع، ونحن إنما نؤمر باتباعه، فيما وقع، فلعل الواقع كله صواب. (تنبيه) قال التبريزي (بدل قوى المصنف: وقال بعضهم: كان يجتهد في

الحروب دون أحكام الدين، قال بعضهم. يجوز ذلك في الفروع لا في الأحكام) وهذه عبارة ردية؛ لأن الفروع من أحكام الدين. ثم قال في الجواب عن حججه: (إن الآية - وهي قوله تعالى:} فاعتبروا ...... {عموم ضعيف الدلالة على جواز أصل الاجتهاد. وقال: وأما قوله: (الاجتهاد أشق) - فهو مثل قول القائل: يجب سلب كمال العقل عن الأنبياء، ونفاذ البصيرة؛ ليكون درك الحق عليهم أشق، حتى لا يكون بله الأمة أفضل منهم. وأما قوله عليه السلام: (العلماء ورثة الأنبياء) فيقتضي أنهم ورثوا منه شيئًا استحقوا به اسم الوراثة، لا ألا يملكوا شيئًا إلا إرثًا منه). كيف واسم الوراثة - هاهنا - مجاز، فيكفي في الوقاية إثبات مشابهة الوارثة في المعنى؟. قال: بل المعتمد إن فهم تحريم النبيذ إذا كان مقصودًا من تحريم الخمر نصًا، ورد التكليف به من الله - تعالى - والعمل به، فالنبي - عليه السلام - أحق بمعرفة هذه الملازمة والقصد، فإذا سئل عن تحريم النبيذ، فإن شاء قال: هو حرام؛ إسنادًا إلى ما فهم من النص الوارد في الخمر. أو يقول: أرأيت الخمر كيف حرمت؟ فيأذن له أن يقيس هو، وعند هذا يقول: لا فرق بين الأصول والفروع؛ فإن الأصول، وإن افتقرت إلى اليقين، فالقياس قد يفيد اليقين. وقال على قوله: (القادر على اليقين لا يتبع الظن): إن ذلك ممنوع؛ لأن القادر على الوضوء من ماء البحر، يجوز له التوضؤ من الأواني، ونحن إنما أوجبنا طلب النص - قبل الاجتهاد - حذرًا من مخالفة النص،

والنبي - عليه السلام - آمن من ذلك؛ لأنه يعلم عدم النص في تلك الواقعة). وعن اجتهاد جبريل - أنه مبلغ لا مشرع - قال: ثم لا محذور في عدم التمييز؛ لأن الكل شرع واجب الاتباع، وهل الأصح تحمله بغير واسطة، أو بواسطة ميكائيل، أو مطالعة اللوح المحفوظ؟ قال: ودليل جواز عدم الخطأ عليه - وإن قلنا بالاجتهاد - أن تجويزه يقتضي إيهام الخطأ ي تفهيم الأحكام بألفاظ ظاهرة، والمراد خلافها. قال: وقول المصنف - (إنه لو جاز لكنا مأمورين بالاتباع في الخطأ) منقوض باتباع فتوى المفتي على العامي، والراوي عن المفتي، والشاهد على القاضي. وأجاب عن حجاج المجوزة: بأن تلك الحجاج - كلها - في مصالح الحروب، وتدبير أمور الدنيا، والحكم، والفتوى، بمقتضي السؤال، وما ينتهي إليه من الوقائع، وكل ذلك جائز، على أن لا خطأ في الحكم والفتوى؛ لأنه تنبيه على أن تكون الوقائع على ما ظهر له، وإنما الممتنع إمكان الخطأ فيما يبلغه من الشرع. قلت: قوله: (إن الآية عموم ضعيف) لا يتم؛ لأن الآية مطلقة، لا عامة؛ لأنها فعل في سياق الإثبات، فتكون مطلقة. وقوله: (إن العلماء ورثوا شيئًا استحقوا به اسم الوراثة): معناه: أن (وارث) صيغة اسم فاعلٍ، فهو مطلق في التوريث، كـ (صائم) لا يقتضى أنه صام عدة أيام؛ بل أصل الصوم، ولو يوم. وقوله: (القادر على الوضوء من ماء البحر قادر على اليقين) - ممنوع، فإنه ما من جريةٍ من البحر إلا ويجوز أن يكون فيها خروء سمكة، وهو مختلف في نجاسته، ومع الاختلاف لا يقين.

(فائدة) قال سيف الدين: (يدل على اجتهاده - عليه السلام - قوله تعالى:} وشاورهم في الأمر {

وقوله: (هل الأصح مطالعته بغير واسطة)؟ إشارة إلى اختلاف العلماء في ابتداء الوحي، هل كان جبريل - عليه السلام - ينقل له ملك عن الله تعالى؟ أو يخلق له هو علم ضروري - بأن الله - تعالى طلب منه أن يأتي محمدًا، أو غيره من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بسورة كذا؟ أو يخلق له علمًا ضروريًا، بأن يأتي اللوح المحفوظ، فينقل منه كذا؟، هذه ثلاثة مذاهب منقولة في ابتداء وحي الشرائع. (فائدة) قال سيف الدين: (يدل على اجتهاده - عليه السلام - قوله تعالى:} وشاورهم في الأمر {، وقوله تعالى:} ففهمناها سليمان {، فدل على أن ذلك جائز على الأنبياء من حيث الجملة. وروى الشعبي: أنه - عليه السلام - كان يقضي القضية، وينزل القرآن - بعد ذلك - بغير ما قضى به، فيترك ما كان قضى به على حاله، ويستقبل ما نزل به القرآن، والحكم بغير القرآن لا يكون إلا بالاجتهاد، وقال عليه السلام في قضية (مكة): (لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها)، فقال

العباس: (إلا الإذخر)؟، فقال عليه السلام: (إلا الإذخر)، والحالة لا تحتمل نزول الوحي، فكان الاستثناء بالاجتهاد. قال الغزالي ي (المستصفى): (الصحيح جواز الاجتهاد عليه - صلى الله عليه وسلم). وكذلك قاله سيف الدين. قال الغزالي: فإن قلت: إذا قاس - عليه السلام - فرعًا على أصل، إن قستم على ذلك الفرع، فكيف يجوز القياس على الفرع؟ وإن منعتم، فكيف تمنعون القياس عليه، مع أنه منصوص عليه؟ قلت: يجوز القياس عليه، وعلى كل فرعٍ أجمعت الأمة على إلحاقه بأصل؛ لأنه صار أصلاً بالإجماع، والنص. وقد جوزه بعض العلماء، وإن لم توجد علة النص. قال الغزالي: هذا البحث في الجواز، وأما الوقوع فقيل: وقع، وقيل: لا، وقيل بالوقف. قال: وهو الأصح؛ لأنه لم يثبت فيه قاطع. قال: واحتجوا على الوقوع بقضية الإذخر، وغيره، والجواب: لعلة كان نزل الوحي ألا يستثنى الإذخر، إلا عند قول العباس، أو كان جبريل - عليه السلام - حاضرًا، فأشار إليه، فأجابه العباس.

(مسألة) في الاجتهاد لغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قال الغزالي: فهل تجوزون التعبد بوضع العبادات، ونصب الزكاوات، وتقديرها بالاجتهاد؟. قال: قلنا: لا نحيل ذلك، ولا بعد في أن يجعل الله - تعالى - صلاح عباده فيما يؤدي إليه اجتهاد رسوله. (مسألة) في الاجتهاد لغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: (سلوك الطريق المخوف مع القدرة على الآمن قبيح عقلاً):

............................................................

قلنا: هذا بناءً على قاعدة الحسن والقبح، وقد أبطلناها. قوله: (إذ أمر بأن يعمل بمقتضى ظنه، فقد أمن الغلظ): قلنا: ليس هذا على إطلاقه: فإنه إذا قيل له: أمرت بالاجتهاد في تعيين الراجح بالنسبة إلى القواعد الشرعية، وقد يخطئه، وكذلك إذا أمر بالاجتهاد في طلب الحكم المعين في نفس الأمر - على القول بأن المصيب واحد - فقد يخطئه.

(سؤال) هذا الكلام مشكل؛ فإنه حكى المنع من الوقوع مطلقا، ثم قال: وأجازه قوم بشرط الإذن

أما إذا قيل له: لا نكلفك بشيءٍ من ذلك، بل ما غلب على ظنك كيف كان، فهو الحكم الشرعي ععليك، فحينئذ يسد باب الخطأ عنه. فالأحوال حنيئذ ثلاثة: يمكنه خطؤه في وجهين منها. قوله: (أجاز قوم وقوع الاجتهاد في زمنه - عليه السلام - بشرط الإذن): يريد: أن يأذن له الشرع في الاجتهاد، أما إن سلب عن ذلك، فحرام؛ لأن الأصل أنه لا يتصرف في الشرائع إلا بالإذن، وبغير الإذن حرام، إلا على رأي المعتزلة المحكمين للعقل، في ترتيب الأحكام بالعقل على المصالح والمفاسد؛ فإن عندهم العقل دل على أن الله - تعالى - أمر بذلك، وأذن فيه، بمقتضى الحكمة، لا بإذن متجدد على ألسنة الرسل. (سؤال) هذا الكلام مشكل؛ فإنه حكى المنع من الوقوع مطلقًا، ثم قال: وأجازه قوم بشرط الإذن. والإجازة بشرط الإذن ليس بحثًا في الوقوع. بل نختار في الجواب والتقدير أنه فرع نم البحث في الجواز. ثم قال: وأما الوقوع فمنعه قوم، وأجازه قوم بشرط الإذن، فلا يحسن أن يكون القول الثاني قسيمًا للأول؛ بل قسمان من أقسام الجواز المتقدم قبل هذا البحث. قوله: (هذا خبر واحد، فلا نتمسك به): في قول التبريزي: إنما نتمسك بالظواهر في مسائل أصول الفقه، مضمومة إلى الاستقراء التام في نصوص الكتاب والسنة وأقضية الصحابة -

(فائدة) قال سيف الدين: الأكثرون على جواز الاجتهاد لمن عاصره - صلى الله عليه وسلم - ومنعه الأقلون

رضوان الله عليهم -وفتاويهم، ومن اطلع على ذلك - حق الاطلاع عليه - فقد حصل له العلم بهذه المسائل. قوله: (تمسكنا بظاهر): فمرادنا ذلك الظاهر مضافًا لهذا الاستقراء؛ لأنه دليل بمجرده، فاندفع السؤال عن الجميع. قوله: (إن قوله تعالى:} وشاورهم في الأمر {محمول على الحروب والآراء، دون مصالح الدين): قلنا: الأمر معرف بالألف واللام، فيقتضي العموم في كل ما يسمي أمرًا من الفعل، أو القول. إن قلنا: إن صيغة الأمر مشتركة، أو في كل ما كان طلبًا، إن قلنا بعدم الاشتراك فيها. وعلى هذين التقديرين: تندرج الأحكام الشرعية؛ لأنه لا قائل بالفرق بين حكم فيه طلب، وغيره. (فائدة) قال سيف الدين: الأكثرون على جواز الاجتهاد لمن عاصره - صلى الله عليه وسلم - ومنعه الأقلون، واختلف المجوزون في ثلاثة أمور: الأول: منهم من جوزه للقضاة والولاة في غيبته، دون حضوره، ومنهم من جوزه مطلقًا. الثاني: منهم من جوز ذلك مطلقًا إذا لم يوجد من ذلك منع، ومنهم: من قال: لا يكتفي بمجرد عدم المنع؛ بل لابد من الإذن، ومنهم: من قال: السكوت عنه مع العلم بوقوعه كافٍ.

(مسألة) في شرائط المجتهد

الثالث: اختلفوا في وقوع التعبد به سمعًا. فقيل: وقع، وتوقف الجبائي في ذلك مطلقًا، وتوقف القاضي عبد الجبار في حق من حضر دون من غاب. والمختار: جواز ذلك مطلقًا، ووقوعه في حضوره - عليه السلام - وغيبته. وهذا النقل بعينه - نقل المسطرة - هو في (المستصفى) حرفًا حرفًا. (مسألة) في شرائط المجتهد قوله: (والحكم بحكمة الله - تعالى - مبني على العلم بأنه - تعالى - عالم بقبح القبيح، وعالم بغناه عنه): قلنا: المبني على هذين المقامين ظهور أثر الحكمة، والعمل بها، أما الحكمة فهي هيئة وحالة الحكم، وهي عبارة عن كونه بحيث إذا اطلع على قبيح تركه، أو حسنٍ حسن منه فعله. وقد يتفق له الاطلاع على ذلك، وقد لا يتفق له الاطلاع عليه، فالحكم بالحكمة على القول بها مبني على هذه الحيثية، على ذنيك المقامين. قوله: (خلق فينا علمًا ضروريًا، بأنه لا يريد هذه الألفاظ إلا ظواهرها): تقريره: أن هذا العلم له سبب عادي، وهو تكرر ذلك منه - تعالى - وقرائن أحوال السياق، وغيرها من القرائن الواردة، مع اختلاف الأمم، والشرائع وتعاقب الأعصار، فصار ذلك سببًا للعلم الضروري؛ إن حسن استقراؤه لذلك.

قوله: (القرينة السمعية هي التي تقضي تخصيص العموم في الأعيان، وهو المسمي بالتخصيص، او في الأزمان، وهو النسخ): قلنا: هذا الكلام يقتضي أن القرينة العقلية ليست كذلك؛ لقولكم فيها: إنها الدالة على ما يجوز أن يراد باللفظ، ولم تذكروا هذا التفصيل فيها، ثم ذكرتم التفصيل في القرينة السمعية، وضدها. والعقلية: هي - أيضًا - تقتضي التخصيص، كما في قوله تعالى:} الله خالق كل شيء {. وقد تقدم للمصنف في النسخ - أن الفعل يكون ناسخًا - أيضًا في حق من قطعت رجلاه؛ فإن حكم الوضوء يسقط عنه، فاستوى العامان، فلا معنى لتخصيص السمعية بالتخصيص والنسخ. قوله: (الذي يقتضي تعميم الخاص هو القياس): تقريره: أن القياس إذا اعتبر في خصوص قوله عليه السلام: (لا تبيعوا البر بالبر)، اقتضى تعميمه في كل مطعوم، فقد صار الخاص الذي هو

حكم الحديث عامًا في موارد العلة، فالعموم حصل في حكم النص، لا في النص، ثم كلامه يقتضي أنه قسيم للقرينة العقلية، والسمعية؛ لجعله إياه ثالثًا بعدهما، مع أنه لا يخرج شيء عن العقل والنقل، والحق أنه سمعي عقلي. سمعي: باعتبار الدليل الدال على أن القياس حجة، والنص الوارد في أصل القياس؛ لتوقف القياس عليه أيضا. وعقلي: لتوقفه على تصرف العقل في استنباط العلة، وتحقق شروط القياس. قوله: (الذي تتعلق به الأحكام الشرعية خمسمائة آية): قلت: قال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): (آيات الأحكام)، ولم يحصره، غير أنه قال: لا يلزمه آيات المواعظ، ونحوها، وكذلك ابن برهان، وغيره لم يحصرها، وحصرها صاحب "الروضة"، وصاحب "التمهيد".

قال ابن برهان في (الأوسط): يشترط فيه معرفة الكتاب العزيز، ناسخه ومنسوخه، وأسباب نزوله، ومجمله، ومفصله، وعامه، ومجملة في آيات التكاليف، دون المواعظ، وغيرها وعالمًا بالسنة: متنًا وإسنادًا، والصحيح، والسقيم، والعدل، والمجروح.

ولم يذكر ما ذكره في (المحصول): من الاقتصار على تجريح غيره، وتعديله، كمسلم، والبخاري. وقد قال جماعة من العلماء: إن البناء على الفعل، أو الفاعل، أو وسيلة الفعل وسببه، أو ذكر الجزاء على الفعل، أو العقاب على تركه، يدل على طلب ذلك الفعل، وكذلك ذم الفعل، أو الفاعل، أو وسيلة الفعل، أو ذكر الثواب على تركه، والعقاب في فعله؛ يقتضى النهي عن ذلك الفعل، وكذلك ذكر التهديد، ونحوه دليل التحريم، والامتنان دليل الإباحة. وهذه الأمور كلها غير الأوامر، والنواهي، وصيغ التخيير، فإذا اعتبرت هذه الجهات مع دلالة الالتزام، وأنواعها من المفهومات، وغيرها، والتضمنات، والاقتضاءات حصل من ذلك أحكام كثيرة.

وقد قال بعض العلماء: كل قصة مذكورة في كتاب الله - تعالى - فالمراد بذكرها الانزجار عما في تلك القصة من المفاسد التي لابسها أولئك الرهط، والأمر بتلك المصالح التي لابسها المحكي عنه. وكل قسم في كتاب الله - تعالى - متضمن الأمر بتعظيم المقسم به، وكل نداء بصفة الخير يدل على الأمر بتلك الصفة، أو بصفة الشر يقتضي النهي عن تلك الصفة، نحو:} يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم {،} يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون {، فإذا استوفيت هذه الأقسام بوجوه الاعتبار لم يبق في كتاب الله - تعالى - آية إلا وفيها حكم شرعي. فلا معنى لتخصيص موارد الأحكام بخمسمائة آية. وهذا البحث بعينه يطرد في الأحاديث، فيندرج فيها ما ينبغي اندراجه من أخبار المواعظ، وأحكام الآخرة. قوله: (يعرف مواقع الإجماع، والخلاف): قلت: من هذا الموضع يحصل الجواب عن سؤال كبير، وهو أن الاجتهاد من فروض الكفايات، وقد فقد الاتصاف به - في هذا العصر - فتكون الأمة - الآن - قد اجتمعت على ترك السعي في تحصيل صفة واجبة التحصيل، فتكون مجمعة على المعصية، والإجماع على المعصية مخل بعصمة الأمة. وجوابه: أن الوجوب مشروط بالإمكان، فإذا تعذر الشرط سقط الوجوب، وإذا كان العلم بالإجماع والخلاف شرطًا في جواز الاجتهاد، وقد انتشرت المذاهب - في هذا الوقت - بكثرة التفاريع، والتصانيف انتشارًا شديدًا، بحيث يتعذر ضبط المذهب الواحد بتصانيفه وفروعه، فضلاً عن جميع المذاهب.

وإذا تعذر الاجتهاد سقط وجوبه، فلا يعصى الناس بترك الاجتهاد. قوله: يشترط معرفة شرائط الحد، والبرهان على الإطلاق): قلنا: لا يكمل معرفة ذلك إلا بإيعاب علم المنطق؛ فإنه ليس فيه إلا ذلك، فيكون المنطق شرطًا في منصب الاجتهاد، فلا يمكن - حينئذ - أن يقال: الاشتغال به منهي عنه. وأن العلماء المتقدمين كالشافعي، ومالك لم يكونوا عالمين به؛ فإن ذلك يقدح ذلك في حصول منصب الاجتهاد لهم. نعم هذه العبارات الخاصة، والاصطلاحات المعنية في زماننا لا يشترط معرفتها، بل معرفة معانيها فقط. قوله: (العلمان المتمان، أحدهما: متعلق بالكتاب، وهو علم الناسخ والمنسوخ): قلنا: هذا ليس خاصًا بالكتاب؛ بل الناسخ والمنسوخ في السنة أيضًا. قوله: (أهم العلوم للمجتهد: أصول الفقه، وسائر العلوم غير مهمة): قلنا: عليه مناقشة لفظية، من جهة أن قولكم: إن أصول الفقه أهم - يقتضي أن غيره مهم؛ إلا أنه زاد في الاهتمام؛ لأن (أفعل) التفضيل تقتضي المشاركة. فقولكم بعد ذلك: (إن غيره غير مهم) يناقضه. قوله: (التفاريع الفقهية لا يحتاج إليها): قلنا: قال سيف الدين وغيره: الفروع الفقهية يحتاج فيها أمران في أصول الفقه:

تصورها: لأن أصول الفقه أدلة مضافة للفقه، ومعرفة المضاف فرع معرفة المضاف إليه. وثانيهما: التمثيل بالفروع، والاستشهاد، والاحتجاج، والنقض على الخصوم، وعلى الأدلة. كما نقول: لو كان الأمر للوجوب لانتقض بالكتابة، وغيرها من المأمورات، ولو كان القياس حجة للزم العمل حيث أجمعنا على ترك المناسب، كتركنا لتحريم زراعة العنب؛ لسد ذريعة الخمر، وتحريم التجاور في المنازل خشية الزنا، ونحو ذلك. فإذا كان منصب الاجتهاد متوقفًا على أصول الفقه، وأصول الفقه متوقف على الفروع من وجهين، لزم توقف منصب الاجتهاد - من هذين الوجهين - على الفروع. وأما قوله قبل هذا: (إن معرفة اللغة، والنحو، والتصريف شرط). فتقريره: أما اللغة: فلتعلم مسميات الألفاظ، وترتب عليها مقتضاها؛ لأن القرآن الكريم عربي. وأما النحو: فإن تغيير الإعراب تغير المعنى، ألا ترى إلى قوله عليه السلام: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة). وقعت المناظرة فيه بين سني، وإمامي: فاستدل السني به على أن فاطمة - رضي الله عنها - لا ترث؛ لإخباره - عليه السلام - في هذا الحديث: أن ما تركه يكون لمصالح المسلمين. فقال له الإمامي: هذا منك بناء على أن لفظ (الصدقة) مرفوع؛ وإنما هو منصوب، ومعنى الكلام: إنا لا نورث، فما تركناه صدقةً، أي: لا نورث أوقافنا؛ بل تتأبد وقفيتها.

حتى استدل الحنفية: على أن وقف غير الأنبياء - عليهم السلام - يورث بطريق المفهوم، فلا يكون في الحديث على هذا حجة لعدم توريثها مطلقًا. فقال السني وكان لا يعرف النحو: لا أدري ما صدقة، ولا صدقة، ولكن هذا الحديث قيل لمن هو أعلم منك باللغة، وكلام العرب، وهو فاطمة - رضي الله عنها - لما ذكره لها أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فاعترفت به، ولم تقل ما قلت. ولو كان ما قلته صحيحًا لقالته - رضي الله عنها-، فانقطع الإمامي، فلو لم يوفق الله - تعالى - السني لهذا الجواب لانقطع بسبب تغير المعنى بتغير الإعراب. ونظيره: قوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر) بالخفض على البدلية، فيكونان هما المقتدى بهما. والإمامية: يرون بزعمهم بالنصب على النداء: يا أبا بكر وعمر، فيكونان على هذا التقدير مأمورين بالاقتداء بغيرهما؛ لا أن غيرهما مأمور باتباعهما، فيختلف المعنى؛ لأجل اختلاف الإعراب، ونظائره كثيرة. وأما التصريف: فلأنه إنما يفتى بجلد الزاني، والزانية، إذا علم أن اسم الفاعل من زنا يزنى: زانٍ وزانية. أما لو جوزنا: أن يكون هذا اللفظ لغير ذلك، لاختلف الحكم، وكذلك إنما يفتي بقتل المشركين، إذا علم أن اسم الفاعل من أشرط: مشرك، ونظائره كثيرة، وهذا من باب التصريف. وأما الحد والبرهان: فلأن الحدود هي التي تضبط بها الحقائق التصورية، فمن علم ضابط شيء، فهو مستضئ بذلك الضابط، فأي محل وجد الضابط عليه، قضى بأنه تلك الحقيقة، وما لا فلا، وهو معنى قول بعض العقلاء:

(تنبيه) قال التبريزي: يكفي من النحو واللغة الذي يحصل الفهم من مقاصد الكلام دون التغلغل في مشكلات سرائره

إذا اختلفتم في الحقائق، فحكموا الحدود، فمن لا يعلم صحة الضابط من سقمه، لا يعرف كيف يستضيئ به، والمجتهد يحتاج في كل حكم لذلك؛ لأن الذي يجتهد فيه إن كان حقيقة بسيطة، فلا يضبطها إلا الحد، وإن كان الذي يجتهد فيه تصديقًا ببعض الأمور الشرعية، وكل تصديق، فهو مفتقر لتصورين، فيحتاج لمعرفة ذينك التصورين بضابطهما، فهو محتاج للحد كيف اتجه في اجتهاده. وشرائطه معلومة في علم المنطق: وهو وجوب الاطراد، والانعكاس، وألا يحد بالأخفى، ولا بالمساوي في الخفاء، ولا بما لا يعرف المحدود إلا بعد معرفته، وألا يأتي باللفظ المجمل، ولا بالمجاز البعيد، وأن يقدم الأعم على الأخص. وأما شرائط البرهان: فيحتاج إليها؛ لأن المجتهد لابد له من دليل يدله على الحكم قطعي، أو ظني، وكل دليل فله شروط محررة في علم المنطق، متى أخطأ شرطًا منها، فسد عليه الدليل، وهو يعتقده صحيحًا، وتلك الشروط تختلف بحسب موارد الأدلة، وضروب الأشكال القياسية، وبسط ذلك في علم المنطق. (تنبيه) قال التبريزي: يكفي من النحو واللغة الذي يحصل الفهم من مقاصد الكلام دون التغلغل في مشكلات سرائره. وحصر الغزالي المحتاج إليه في خمسمائة مشكل؛ لأن العلم بحصر دلائل الأحكام يتوقف على جميع استقراء جمل الكتاب والسنة، وفهم مقاصدها، فكيف يجوز له الاقتصار على بعضها؟، وكيف يأمن أن يكون وراء ما

حوى وحصر أدلة يمكن استفادة حكم الواقعة منها؟ إلا أن يجوز له التقليد فيه. وهو أيضًا مشكل؛ لأن وجوه دلالة الدلائل، قد تختلف باختلاف نظر المجتهدين، فيخص البعض بدرك ضروب منها، ولهذا عد من خاصية الشافعي التفطن لدلالة قوله عليه السلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء، حتى يغسلها ثلاثًا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده) على نجاسة الماء القليل، بوقوع النجاسة فيه من غير تغيير. ودلالة قوله عليه السلام: (تقعد إحداهن شطر عمرها لا تصلى) على تقدير أكثر مدة الحيض بخمسة عشر يومًا.

(فائدة) قال سيف الدين: وشرط المجتهد أن يكون عالما بوجود الله - تعالى - وما يجب له من الصفات

ودلالة قوله تعالى:} وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدًا إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبدًا {على أن من ملك ولده عتق عليه، وما أظن أن أهل الحصر عدوًا هذه الآي من أدلة الأحكام. هذا مع اختلافهم في المراسيل، وما أنكره راوي الأصل، وأمثاله. (فائدة) قال سيف الدين: وشرط المجتهد أن يكون عالمًا بوجود الله - تعالى - وما يجب له من الصفات، وما يستحق من الكمالات، وأنه واجب الوجود، حي، قادر، عالم، مريد، متكلم، حتى يتصور منه التكليف، وأن يكون مصدقًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من الشرائع، وما ظهر على يده من المعجزات؛ ليكون فيما يسنده إليه من الأقوال محقًا، ولا يشترط أن يكون مستند علمه بذلك الدليل المفصل، حتى يتمكن من المناظرة عنه؛ بل الدليل من حيث الجملة. وأن يكون عالمًا بالمدارك الشرعية، ووجوه الدلالات، واختلاف رتبها، وتقريرها، والانفصال عن الاعتراضات عليها، وإنما يتم ذلك بأن يكون عارفًا بالرواة، وطرق الجرح، والتعديل، والصحيح، والسقيم لا كأحمد ابن حنبل)، و (يحيي بن معين)، وعارفًا بأسباب النزول.

قال الغزالي في (المستصفى): من شرطه أن يكون محيطًا بمدارك الشرع، وأن يكون عدلاً مجتنبًا للمعاصي القادحة في العدالة. وهذا يشترط لجواز الاعتماد على قوله. ومن ليس عدلاً لا تقبل فتواه إلا لصحة الاجتهاد، ولا يشترط حفظ جميع مواقع الإجماع، والخلاف، بل كل مسألة يفتى فيها بعلم أن فتواه فيها ليست على خلاف الإجماع، أما بأن يعلم أنه موافق لمذهب ذي مذهب من العلماء، أو يعلم أنها متولدة في عصره لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض. ويشترط فيه أن يعرف حدوث العالم، وافتقاره إلى محدث موصوف بما يجب له - تعالى - من الصفات، وما يستحيل عليه، وأنه متعبد عبادة ببعثة الرسل، ومصدق لهم بالمعجزات، عارفًا بصدق الرسول عليه السلام. ويكفيه الاعتقاد الجازم؛ إذ به يصير مسلمًا، ولو بالتقليد. ومن شرطه: أن يكون عارفًا بالناسخ والمنسوخ، في الكتاب، والسنة، ولا يشترط أن يكون ذلك كله على خاطره، بل ينبغي أن يعلم أن تلك الآية والحديث الذي يتمسك به لا نسخ فيه. ********************

الركن الثالث المجتهد فيه

الركن الثالث المجتهد فيه قال الرازي: وهو: (كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع) واحترزنا (بالشرعي): عن العقليات، ومسائل الكلام. وبقولنا: (ليس فيه دليل قاطع): عن وجوب الصلوات الخمس، والزكوات، وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع. وقال أبو الحسين البصري - رحمه الله -: المسألة الاجتهادية هي التي اختلف فيها المجتهدون من الأحكام الشرعية، وهذا ضعيف؛ لأن جواز اختلاف المجتهدين فيها مشروط بكون المسألة اجتهادية، فلو عرفنا كونها اجتهادية بـ (اختلافهم فيها) لزم الدور. الركن الثالث المجتهد فيه قال القرافي: قوله: (اخترزنا بقولنا: ليس فيه دليل قاطع من وجوب الصلوات الخمس، ونحوها): قلنا: قد يكون فيه دليل قاطع في نفس الأمر، لم يطلع عليه المجتهد،

فيكون فرضه الاجتهاد، بل ينبغي أن يقول: احترزنا به عن شعائر الإسلام الظاهرة التي استغنت عن الاجتهاد. قوله: (عن أبي الحسين المسألة الاجتهادية: هي التي اختلف فيها المجتهدون): قلنا: قد تقع مسألة لم يتقدم فيها اختلاف، فيجتهد فيها، فلا يقع فيها الخلاف، لعدم اطلاع مجتهد آخر على تلك الصورة، لحصول الاتفاق عليها، لظهور مدركها، وعدم معارض له. *******************

الركن الرابع حكم الاجتهاد

الركن الرابع حكم الاجتهاد قال الرازي: وفيه مسائل: مسألة: ذهب الجاحظ وعبيد الله بن الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد في الأصول مصيب، وليس مرادهم من ذلك مطابقة الاعتقاد؛ فإن فساد ذلك معلوم بالضرورة، وإنما المراد نفي الإثم، والخروج عن عهدة التكليف، واتفق سائر العلماء على فساد هذا القول. حجة الجمهور أمور: الأول: أن الله تعالى وضع على هذه المطالب أدلة قاطعة، ومكن العقلاء من معرفتها؛ فوجب ألا يخرجوا عن العهدة إلا بالعلم. الثاني: أنا نعلم بالضرورة: أنه - عليه الصلاة والسلام - أمر اليهود والنصاري بالإيمان به، وذمهم على إصرارهم على عقائدهم، وقاتل بعضهم، وكان يكشف عمن بلغ منهم، ويقتله، ونعلم قطعًا أن المعاند العارف مما يقل، وإنما الأكثر مقلدة عرفوا دين آبائهم تقليدًا، ولم يعرفوا معجزة الرسول وصدقه. الثالث: التمسك بقوله تعالى:} ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار {وقوله تعالى:} وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم {. وعلى الجملة: ذم المكذبين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكفار مما لا ينحصر من الكتاب والسنة.

أجاب الخصم عن الأول: بأنا لا نسلم بأنه - تعالى - وضع على هذه المطالب أدلة قاطعة، ومكن العقلاء من معرفتها، وكيف لا نقول ذلك، ونرى الخلق مختلفين في الأديان والعقائد؛ من زمان وفاة الرسول - عليه الصلاة والسلام-؟. وإذا نظرنا في أدلة المختلفين في هذه المسائل، وأنصفنا، لم نجد واحدًا منهم مكابرًا قائلاً بما يقطع العقل بفساده. سلمنا ذلك، لكن لا نسلم أن ذلك يقتضي كونهم مأمورين بالعلم؛ ولم لا يجوز أن يقال: إنهم أمروا بالظن الغالب، سواء كان مطابقًا، أو غير مطابقٍ؟. وعلى هذا التقدير: يكون الآتي به معذورًا؛ ثم الذي يدل على أن التكليف، لم يقع إلا بالظن الغالب وجهان: الأول: أن اليقين التام المتولد من الدليل المركب من المقدمات البديهية تركيبًا معلوم الصحة بالبديهة - إن أمكن، فهو عزيز نادر الوجود، لا يفي به إلا الفرد بعد الفرد؛ فلا يجوز أن يكون ذلك تكليفًا لكل الخلق؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - قال (بعثت بالحنيفية السهلة السحمة) وأي حرج فوق أن يكلف الإنسان في الساعة الواحدة معرفة ما عجز الخلق عن معرفته في خمسمائة سنة؟!. الثاني: أنا كما نعلم بالضرورة: أن الصحابة ما كانوا متبحرين في دقائق الهندسة، والهيئة، والأرثماطيفي، نعلم بالضرورة: أنهم ما كانوا عالمين بهذه الأدلة والدقائق، والجواب عن شبهات الفلاسفة، مع أنه - عليه الصلاة والسلام حكم بصحة إيمانهم؛ فدل ذلك على أن التكاليف ما وقع بالعلم.

سلمنا أنهم كلفوا بالعلم في هذه الأصول؛ فلم قلت: إن المخطئ فيه معاقب؛ ودعوى الإجماع فيه غير جائزةٍ؛ لأنها دعوى لإجماعٍ في محل الخلاف؟!. وعن الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام - كان يقبلهم؛ لجهلهم بالحق، أو لإصرارهم على ترك التعلم، وطلب المعرفة؟. الأول ممنوع، والثاني مسلم؛ فلعله - عليه الصلاة والسلام - لما بالغ في إرشادهم إلى الحق، ثم إنهم لم يلتفتوا إلى بيانه، واشتغلوا باللهو والطرب، وأصروا على ترك الطلب - قتلهم، وأما من بالغ في الطلب والبحث، ولكن عجز عن الوصول؛ فلم قلت: إنه - عليه الصلاة والسلام - قتل مثل هذا الإنسان؟!. سلمنا أنه قتله؛ لكن لم قلت: إنه لابد وأن يكون معاقبًا؟. وعن الثالث: أنه ذم الكافر، والكفر في أصل اللغة هو: الستر، ومعنى الستر لا يتحقق إلا في حق المعاند الذي عرف الدليل، ثم أنكره، أو في حق المقلد المصر الذي يعرف من نفسه أنه لا يعرف الدليل على صحة الشيء، ثم إنه يقول به. فأما العاجز المتوقف الذي بالغ في الطلب، فلم يصل، فهذا لا يكون ساترًا لشيء ظهر عنده؛ فلا يكون كافرًا. ثم احتجوا على صحة قولهم: بأنه - تعالى - رحيم كريم، واستقراء أحكام الشرع يدل على أن الغالب على الشرع هو التخفيف والمسامحة؛ حتى إنه لو احتاج إلى أدني تعب في نفسه، أو في ماله في طلب الماء - سقط عنه فرض الوضوء، وأبيح له التيمم، فهذا الكريم الرحيم؛ كيف يليق بكرمه ورحمته، وعظم فضله أن يعاقب من أفنى طول عمره في الفكر والبحث والطلب؟!.

هذا حاصل كلامهم؛ إلا أن الجمهور ادعوا انعقاد الإجماع على مذهبهم قبل حدوث هذا الخلاف. مسألة: اختلفوا في تصويب المجتهدين في الأحكام الشرعية، وضبط المذاهب فيه على سبيل التقسيم: أن يقال: المسالة الاجتهادية إما أن يكون لله تعالى فيها قبل الاجتهاد حكم معين، أو لا يكون: فإن لم يكن لله تعالى فيها حكم، فهذا قول من قال: (كل مجتهد مصيب) وهم جمهور المتكلمين منا؛ كالأشعري والقاضي أبي بكر، ومن المعتزلة: كأبي الهذيل، وأبي علي، وأبي هاشم، وأتباعهم، ثم لا يخلوا: إما أن يقال: إنه وإن لم يوجد في الواقعة حكم، إلا أنه وجد ما لو حكم الله تعالى بحكم، لما حكم إلا به. وإما ألا يقال بذلك أيضًا: والأول: هو القول بالأشبه، وهو منسوب إلى كثيرٍ من المصوبين. والثاني: قول الخلص من المصوبين. أما إن قلنا: إن في الواقعة حكمًا عند الله، فذلك الحكم: إما ألا يكون عليه أمارة، ولا دلالة، أو عليه أمارة، وليس عليه دلالة، أو عليه دلالة: أو القول الأول: وهو أنه حصل الحكم؛ ولكن من غير أمارةٍ، ولا دلالة: فهو قول طائفة من الفقهاء والمتكلمين، ونقل عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال: (في كل واقعة ظاهر وإحاطة، ونحن ما كلفنا بالإحاطة. وهؤلاء زعموا أن ذلك الحكم مثل دفين يعثر عليه الطالب بالاتفاق، فلمن عثر عليه أجران، ولمن اجتهد، ثم غاب عنه - أجر واحد، وذلك الأجر على ما تحمل من الكد في الطلب، لا على نفس الخيبة.

وأما القول الثاني: وهو: أن عليه دليلاً ظنيًا فها هنا أيضًا قولان: أحدهما: أن المجتهد لم يكلف بإصابته؛ لخفائه وغموضه، فلذلك كان المخطئ معذورًا، ومأجورًا، وهو قول كافة الفقهاء، وينسب إلى الشافعي، وأبي حنيفة - رضي الله عنهما-. وثانيهما: أنه مأمور بطلبه أولاً: فإن أخطأ، وغلب على ظنه شيء آخر، فهناك يتعين التكليف، ويصير مأمورًا بأن يعمل بمقتضى ظنه؛ ويسقط عنه الإثم تحقيقًا. وأما القول الثالث: وهو: أن عليه دليلاً قاطعًا: فهؤلاء اتفقوا على أن المجتهد مأمور بطلبه؛ لكنهم اختلفوا في موضعين: أحدهما: أن المخطئ، هل يستحق الإثم والعقاب، أم لا؟ فذهب بشر المريي من المعتزلة: إلى أنه يستحق الإثم، والباقون اتفقوا: على أنه لا يستحق. الثاني: أنه هل ينقض قضاء القاضي فيه؟. قال الأصم: ينقض، وقال الباقون: لا ينقض، فهذا تفصيل المذاهب. والذي نذهب إليه: أن لله تعالى في كل واقعةٍ حكمًا معينًا، وأن عليه دليلاً ظاهرًا، لا قاطعًا، وأن المخطئ فيه معذور، وقضاء القاضي فيه لا ينقض. فلتكلم أولاً في بيان أن لله تعالى في كل واقعةٍ حكمًا معينًا: لوجوه: الأول: أن أحد المجتهدين، إذا اعتقد رجحان الأمارة الدالة على الثبوت، والمجتهد الثاني اعتقد رجحان الأمارة الدالة على العدم - فنقول: أحد هذين الاعتقادين خطأ، والخطأ منهي عنه.

بيان الأول: أن إحدى الأمارتين: إما أن تكون راجحة على الأخرى، أو لا تكون: فإن كانت إحداهما راجحة على الأخرى كان اعتقاد رجحانه صوابًا. أما اعتقاد رجحان الجانب الآخر، يكون غير مطابق للمعتقد؛ فيكون خطأ، وإن لم تكن إحداهما راجحة على الأخرى، كان كل واحدٍ من الاعتقادين غير مطابقٍ للمعتقد. وعلى كل التقديرات: لا يكون الاعتقادان مطابقين، بل أحدهما يكون مطابقًا للمعتقد، فثبت أنه: كل مجتهدٍ ليس بمصيبٍ، بمعنى كون اعتقاده مطابقًا للمعتقد. وهذه إحدى صور الخلاف، فإن اكتفينا به، جاز. وإن أردنا بيان أن الكل ليس بمصيب بمعنى أنهم ما أتوا بما كلفوا به، قلنا: الدليل عليه أن الاعتقاد الذي لا يكون مطابقًا للمعتقد - جهل، والجهل بإجماع الأمة غير مأمورٍ به؛ فثبت أيضًا أن الكل ليسوا بمصيبين، بمعنى الإتيان بالمأمور به. فإن قيل: (لا نسلم أن أحد الاعتقادين خطأ): قوله: (لأن أحدهما اعتقد فيما ليس براجحٍ، أنه راجح وذلك خطأ): قلنا: اعتقد فيما ليس براجحٍ أنه راجح في نفسه، أو أنه راجح في ظنه؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم: بيانه: أن المجتهد لا يعتقد كون أمارته راجحة على أمارة صاحبه في نفس الأمر، ولكنه يعتقد كونها راجحة في ظنه، والرجحان في ظنه حاصل؛ فكان

الاعتقاد مطابقًا للمعتقد؛ غايته أنه لم يوجد الرجحان الخارجي؛ لكن عدم الرجحان الخارجي لا يوجب عدم الرجحان الذهني. فثبت أن كل واحدٍ من الاعتقادين يمكن أن يكون صوابًا. سلمنا أن كل واحد منهما اعتقد الرجحان في نفس الأمر، ولكنه لم يجزم بذلك الرجحان؛ بل جوز خلافه؛ فلم قلت: (إن الاعتقاد إذا وجد معه هذا التجويز، كان منهيًا عنه، وخرج عليه الجهل؛ فإنه اعتقاد مخالف للمعتقد، مع الجزم): والجواب: قوله: (اعتقد كونه راجحًا في ظنه، أو في نفس الأمر؟): قلنا: الرجحان في الذهن: إما أن يكون نفس اعتقاد رجحانه في الخارج، أو أمرًا لا يثبت إلا معه؛ لأنا نعلم بالضرورة أنا لو اعتقدنا في الشيء كون وجوده مساويًا لعدمه، فمع هذا الاعتقاد: يمتنع أن يكون اعتقاد وجوده راجحًا على اعتقاد عدمه، فعلمنا أنه لابد عند حصول هذا الظن من اعتقاد كونه راجحًا في نفسه؛ إما لأن الظن نفس هذا الاعتقاد، أو لأنه لا ينفك عنه، وعلى كلا التقديرين، فالمقصود حاصل. قوله: (هذا الاعتقاد، وإن كان غير مطابقٍ، لكنه غير جازمٍ): قلنا: بل هو جازم؛ لأن اعتقاد كون الشيء أولى بالوجود - غير اعتقاد كونه موجودًا، واعتقاد كونه أولى بالوجود - حاصل مع الجزم - فإن المجتهد يقطع بأن أمارته؛ نظرًا إلى هذه الجهة، أولى بالاعتبار. بلى؛ إنه غير جازمٍ بالحكم؛ لكن الجزم بالأولوية لا يقتضي الجزم بالوقوع؛

كما أنا نقطع بأن الأولى بالغيم الرطب في زمان الخريف أن يكون ممطرًا، مع أنه قد لا يوجد المطر، وعدم المطر لا يقدح في تلك الأولوية، بل تلك الأولوية مقطوع بها، فكذا ها هنا؛ فثبت أنه حصل لأحد المجتهدين اعتقاد جازم غير مطابق؛ فيكون خطأ وجهلاً، ومنهيًا عنه. الطريقة الثانية: المجتهد: إما أن يكون مكلفًا بالحكم؛ بناء على طريقٍ، أو لا بناءً على طريقٍ: والثاني باطل؛ لأن القول في الدين بمجرد التشهي باطل؛ بإجماع المسلمين؛ فإذن: لابد من طريق. فذلك الطريق إما أن يكون خاليًا عن المعارض، أو لم يكن خاليًا عنه: فإن كان الأول: وهو كونه خاليًا عن المعارض، تعين ذلك الحكم بإجماع الأمة، فيكون تاركه مخطئًا، وإن كان له معارض: فإما أن يكون أحدهما راجحًا على الآخر، أو لا يكون: فإن كان أحدهما راجحًا على الآخر، وجب العمل بالراجح؛ لأن الأمة مجمعة على أنه لا يجوز العمل بالأضعف عند وجود الأقوى، فيكون مخالفة مخطئًا، وإن لم يكن أحدهما رجحًا، فحكم تعارض الأمارتين: إما التخيير، أو التساقط، والرجوع إلى غيرهما: وعلى كلا القولين فحكمه معين؛ فمخالفة يكون مخطئًا. فثبت أن المصيب واحدٌ على كل التقديرات؛ فإن قيل: (لم لا يجوز أن يكون مكلفًا بالحكم، لا على طريق؟):

قوله: (الحكم في الدين بمجرد التشهي غير جائزٍ): قلنا: غير جائزٍ، في موضعٍ وجد فيه الدليل، أو في موضعٍ لم يوجد فيه الدليل؟. الأول مسلم، والثاني ممنوع: بيانه: أن العمل بالدليل مشروط بوجود الدليل، وإلا كان ذلك تكليفًا بما لا يطاق، وفي هذه المسائل الاجتهادية لا دليل؛ لأنه لو وجد، لكان تارك العمل به تاركًا للمأمور به، فيكون عاصيًا، فيكون مستحقًا للنار على ما مر تقريره في مسألة أن الأمر للوجوب، ولما أجمعوا على أنه لا يستحق النار، علمنا أنه لا دليل، وإذا لم يوجد الدليل، جاز العمل بمجرد الحدس والتوهم؛ كمن اشتبهت عليه أمارات القبلة، فإنه يجوز له العمل بمجرد الحدس والتوهم. سلمنا أنه أمر بالحكم؛ بناءً على طريق؛ لكن لم لا يجوز أن يحصل في مقابلته طريق آخر؛ فيكون أحدهما راجحًا على الآخر؟. قوله: (أجمعوا على وجوب العمل بالراجح): قلنا: العمل بالراجح واجب على من علم ذلك الرجحان، أو على من لم يعلم؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع: بيانه: أن الأمارة الراجحة يجب العمل بها على من اطلع عليها، أما من لم يطلع عليها، فجاز أن يكلفه العمل بالأضعف؛ فإنه غير مستبعد في العقل أن تكون مصلحة أحد المجتهدين في العمل بأقوى الأمارات، ومصلحة الآخر في

العمل بأضعفها، ومتى كان كذلك، فإن الله تعالى يخطر على قلب من مصلحته العمل بأقواها - وجوه الترجيح، ويشغل الآخر عنها، فيظن أنها أقوى الأمارات؛ لأن مصلحته العمل على أضعف الأمارات، والظن بكونها أقوى الأمارات مع كونها في نفسها أضعف الأمارات - لا يقبح؛ ألا ترى أنه لا يقبح الظن بكون زيد في الدار، وإن لم يكن فيها، وإذا ثبت أن هذا الذي قلنا جائز عقلاً؛ فما الدليل على أنه غير واقعٍ؟. والجواب: قوله: (إنما يجب العمل به عند وجود الدليل، وها هنا لا دليل): قلنا: الدليل على وجود الدليل الظاهر إجماع الأمة على وجود الترجيح بأمور حقيقية، لا خيالية، ووجود الترجيح يستدعي وجود أصل الدليل؛ أعني: القدر المشترك بين الدليل اليقيني، والدليل الظاهري. قوله: (يجوز العمل بالأضعف، إذا لم يعرف الأقوى): قلنا: مقدار رجحان القوي على الضعيف: إما أن يكون الاطلاع عليه ممكنًا، أو لا يكون: فإن لم يكن ذلك، لم يكن ذلك القدر معتبرًا في حق المكلف؛ وإلا كان تكليفًا بما لا يطاق؛ فيكون القدر المعتبر بين الأمارتين في حق المكلف مساويًا، لا راجحًا. وإن أمكن الاطلاع عليه، فإما أن يجب على المكلف تحصيل العلم بتلك الأمارة إلى أقصى الإمكان، أو لا يجب: فإن كان الأول: كان من لم يصل في معرفتها إلى أقصى الإمكان تاركًا للواجب، فيكون مخطئًا.

وإن كان الثاني: فهو محال؛ لأنه: إما أن يكون هناك حد ما، متى لم يصل إليه لم يكن معذورًا، وإذا وصل إليه، لم يكلف بالزيادة عليه، وإما ألا يكون الأمر كذلك: فإن كان الأول: وجب أن يكون من لم يصل إلى ذلك الحد المعين مخطئًا، ومن وصل إليه، يكون مصيبًا، وهذا خلاف الإجماع؛ لأنه لم يدع أحد من الأمة حدًا معينًا في الاجتهاد بحيث إن المجتهد، متى لم يصل إليه، كان مخطئًا، وغير معذور، ومتى وصل إليه، كان مصيبًا. وأما الثاني، وهو: ألا يكون هناك حد معين؛ فحينئذ: لا تكون التخطئة عند بعض المراتب أولى منها عند بعضٍ، فإما ألا يخطئ أصلاً؛ فيكون العمل بالظن، كيف كان، ولو مع ألف تقصير مصيبًا؛ وهذا باطل بالإجماع، أو لا يكون مخطئًا؛ إلا إذا وصل إلى النهاية الممكنة؛ وهو المطلوب. الطريقة الثالثة: المجتهد يستدل بشيءٍ على شيءٍ، والاستدلال عبارة عن استحضار العلم بأمور يلزم من وجودها وجود المطلوب، واستحضار العلم بالشيء متوقف على وجود ذلك الشيء، فالاستدلال متوقف على وجود الدليل، ووجود ما يدل على الشيء متوقف على وجود ذلك الشيء، والاستدلال على الشيء يتوقف على وجود المدلول؛ لن دلالته عليه نسبة بينه وبين المدلول، والنسبة بين الأمرين متوقفة في الثبوت على كل واحدٍ منهما، فوجود المطلوب متقدم على الاستدلال بمراتب، والظن متأخر عن الاستدلال؛ لأنه نتيجته وأثره، فلو كان الحكم لا يحصل إلا بعد الظن، كان المتقدم على الشيء بمراتب - نفس المتأخر عن الشيء بمراتب؛ وهو محال.

الطريقة الرابعة: المجتهد طالب، والطالب لابد له من مطلوب متقدمٍ في الوجود على وجود الطلب؛ فلابد من ثبوت حكمٍ قبل وجود الطلب؛ وإذا كان كذلك، كان مخالف ذلك الحكم مخطئًا. فإن قلت: (لا نسلم أن المجتهد يطلب حكم الله - تعالى - بل إنما يطلب غلبة الظن: ومثاله: من كان على ساحل البحر، فقيل له: إن غلب على ظنك السلامة، أبيح لك الركوب، وإن غلب على ظنك العطب، حرم عليك الركوب، وقبل حصول الظن لا حكم لله تعالى عليك، وإنما حكمه يترتب على ظنك بعد حصوله، فهو يطلب الظن دون الإباحة، والتحريم): قلت: المجتهد إما أن يطلب الظن، كيف كان، أو ظنًا صادرًا عن النظر في أمارة تقتضيه؟. الأول: باطل بإجماع الأمة؛ فثبت أنه يطلب ظنًا صادرًا عن النظر في الأمارة، والنظر في الأمارة متوقف على وجود الأمارة، ووجود الأمارة متوقف على وجود المطلوب؛ فثبت أن طلب الظن متوقف على وجود المدلول بمراتب، فلو كان وجود المدلول متوقفًا على حصول الظن، لزم الدور، وهذا غير ما قررنا في الطريقة الثانية. واحتج القائلون بأنه لا حكم لله تعالى في الواقعة بأمورٍ: أحدهما: لو كان في الواقعة لله حكم، لكان: إما أن يكون عليه دليل؛ وأعني بالدليل: القدر المشترك بين ما يفيد الظن، وبين ما يفيد اليقين، أو لا يكون:

والقسمان باطلان؛ فبطل القول بثبوت الحكم، أما الملازمة فظاهرة؛ وإنما قلنا: (إنه لا يجوز أن يكون عليه دليل) لأنه لو كان عليه دليل، لكان المكلف متمكنًا من تحصيل العلم، أو الظن به؛ فكان الحاكم بغيره حاكمًا بغير ما أنزل الله تعالى، فيلزم تكفيره؛ لقوله تعالى:} ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الكافرون {وتفسيقه؛ لقوله تعالى:} ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون {والقطع بأنه من أهل النار؛ لأنه يكون تاركًا لما أمر الله به، وتارك المأمور به عاص، والعاصي من أهل النار؛ لقوله تعالى:} ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها {ولما أجمعت الأمة على فساد هذه اللوازم، علمنا أنه ليس على الحكم دليل. فإن قلت:) هذه العمومات مخصوصة؛ لأن أدلة هذه الأحكام غامضة، فيكون التكليف باتباعها حرجًا، وذلك منفي؛ بقوله تعالى:} وما جعل عليكم في الدين من حرجٍ {. قلت: غموض أدلة هذه الأحكام لا يزيد على غموض أدلة المسائل العقلية، مع كثرة مقدماتها، وكثرة الشبه فيها، وكون الخطأ فيها كفرًا وضلالا، فكذا هاهنا. وإنما قلنا: (إنه لا يجوز ألا يكون عليه دليل) لأنه لو كان كذلك، لكان التكليف به تكليفًا بما لايطاق؛ وإنه غير جائز؛ فثبت بما ذكرنا فساد القسمين، ويلزم من فسادهما القطع بأنه لا حكم في الواقعة البتة. وثانيها: أن الأمة مجمعة على أن المجتهد مأمور بأن يعمل على وفق ظنه، ولا

معنى لحكم الله إلا ما أمر به، وإذا كان مأمورًا بالعمل بمقتضى ظنه، فإذا عمل به، كان مصيبًا؛ لأنه يقطع بأنه عمل بما أمره الله به؛ فوجب أن يكون كل مجتهدٍ مصيبًا. وثالثها: لو وجد الحكم، لوجد عليه دليل قاطع، لكن لم يوجد عليه دليل قاطع؛ فوجب ألا يوجد الحكم ألبتة. بيان الملازمة: هو أن بتقدير وجود الحكم: إما أن يوجد عليه دليل، أو لا يوجد عليه دليل: فإن لم يوجد عليه دليل ألبتة، كان التكليف بذلك الحكم تكليف ما لا يطاق، وإن وجد عليه دليل، فذلك الدليل: إما أن يكون مستلزمًا لذلك المذكور، قطعًا أو ظاهرًا، أو لا قطعًا ولا ظاهرًا، والقسمان الأخيران باطلان: أما أنه لا يجوز ألا يستلزمه قطعًا: فالأمر فيه ظاهر؛ لأن الذي يكون كذلك، استحال أن يتوصل به إلى ثبوت المدلول. وأما أنه لا يجوز ألا يستلزمه ظاهرًا: فلأن هذا الدليل: إما أن يمكن وجوده بدون المدلول، أو لا يمكن: فإن لم يكن، كان مستلزمًا له قطعًا لا ظاهرًا، وإن أمكن وجود الدليل بدون ذلك المدلول في بعض الصور، فلو استلزمه في صورة أخرى، فلا يخلوا: إما أن تتوقف صيرورته مستلزمًا على انضمام قيد إليه أو لا تتوقف: فإن توقف على انضمام قيد إليه، كان المستلزم للمدلول ذلك المجموع، لا ذلك الذي فرضناه أولاً دليلاً، وإن لم يتوقف على انضمام قيد إليه، فذلك الشيء تارة ينفك عن المدلول، وأخرى يستلزمه من غير انضمام قيدٍ إليه، لا

بالنفي ولا بالإثبات؛ فيلزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح؛ وذلك محال. وإذا ثبت أن المستلزم هو ذلك المجموع، فذلك المجموع: إن أمكن انفكاكه عن المدلول، استحال أن يستلزم المدلول إلا بقيد آخر، فإما أن يتسلسل؛ وهو محال، أو ينتهي إلى شيءٍ يمتنع انفكاكه عن المدلول؛ فحينئذٍ: يكون دليلاً قطعيًا لا ظاهرًا. فإن قلت: (الدليل الظاهر: هو الذي يستلزم كون المدلول أولى بالوجود، أو كونه غير منته إلى الوجوب، وهذا المعنى ملازم له أبدًا!!): قلت: الأولوية التي لا تنتهي إلى حد الوجوب ممتنعة؛ لأن مع تلك الأولوية: إن امتنع العدم، فذلك هو الوجوب، وإن لم يمتنع، فتلك الأولوية يمكن حصولها مع الوجود تارة، ومع العدم أخرى، ورجحان أحدهما على الآخر، إن توقف على انضمام قيدٍ زائدٍ، لم يكن الحاصل أولاً كافيًا في الرجحان. وإن لم يتوقف، لزم رجحان الممكن من غير مرجحٍ، وهو محال؛ فثبت بهذا البرهان القاطع أن الذي لا يستلزم الشيء قطعًا، استحال أن يستلزمه بوجه من الوجوه، لا ظنًا، ولا ظاهرًا؛ فثبت أنه لو وجد في الواقعة حكم معين، لوجد عليه دليل قاطع ولما انعقد الإجماع على أنه ليس كذلك، علمنا أنه ليس في الواقعة حكم ألبتة. ورابعها: لو حصل في الواقعة حكم معين، لكان ما عداه باطلاً، ولو كان كذلك، لزم أمور أربعة. أحدها: يلزم ألا يجوز لأحدٍ من الصحابة أن يولي بعضهم بعضًا؛ مع

علمهم بكونهم مخالفين لهم في مذاهبهم؛ لأن التمكين من ذلك تمكين من ترويج الباطل؛ وإنه غير جائز، لكنه قد وقع ذلك؛ روي أن أباب بكرٍ - رضي الله عنه - ولي زيدًا، مع أنه كان يخالفه في الجد. وولي علي - رضي الله عنه - شريحًا، مع أنه كان يخالفه في كثيرٍ من الأحكام. وثانيها: يلزم ألا يمكنه من الفتوى، وقد كانوا يفعلون ذلك. وثالثها: كان يجب أن ينقضوا أحكام مخالفيهم، وأن ينقض الواحد منهم حكم نفسه الذي رجع عنه؛ لأن كثيرًا منهم قضي بقضايا مختلفةٍ، لكن لم ينقل عن أحد منهم: أنه نقض حكم غيره، ولا حكم نفسه عند رجوعه عنه. ورابعها: أنهم اختلفوا في الدماء والفروج، والخطأ في ذلك يكون كبيرًا، لأنه لا فرق بين أن يمكن غيره بفتواه بالباطل؛ من القتل، وأخذ المال، وبين أن يقتل ويأخذ المال، ويصرفه إلى غير المستحق، ابتداءً من كونه كبيرًا، ويجب تفسيق فاعله، والبراءة عنه، ولما لم يوجد شيء من هذه اللوازم الأربعة، علمنا أنه لا حكم في الواقعة أصلاً. فإن قلت: (فلم لا يجوز أن يقال: ذلك الخطأ كان من باب الصغائر؛ فلا جرم لم يجب الامتناع عن التولية، ولا المنع من الفتوى، ولا البراءة، ولا التفسيق؟): سلمنا أنه كبيرة؛ فلم لا يجوز أن يقال: هذه الأمور إنما تلزم لو حصل في هذه المسائل طريق مقطوع به، أما إذا كثرت وجوه الشبه، وتزاحمت جهات التأويلات والترجيحات - صار ذلك سببًا للعذر، وسقوط اللوم؟. سلمنا صحة دليلكم؛ لكنه معارض بوجوهٍ: الأول: ما روي عن الصحابة من التصريح؛ روي عن الصديق الأكبر -

رضي الله عنه - أنه قال في الكلالة: (أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا، فمن الله تعالى، وإن كان خطأ، فمني، وأستغفر الله) وعن عمر - رضي الله عنه - أنه حكم بحكمٍ، فقال له بعض الحاضرين: (هذا، والله، هو الحق) وحكم بحكم آخر، فقال له الرجل: (هو، والله، الحق) فقال له عمر: (إن عمر لا يعلم أنه أصاب الحق، لكنه لا يألو جهدًا) وقال أيضًا لكاتبه: (اكتب: (هذا ما رأي عمر، فإن كان صوابًا، فمن الله، وإن كان خطأ، فمنه). وقال علي لعمر في قصة المجهضة: (إن قاربوك، فقد غشوك، وإن اجتهدوا، فقد أخطئوا) وقال ابن مسعود في المفوضة: (أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا، فمن الله، وإن كان خطأ، فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان) ونقل: أن جماعة الصحابة خطئوا ابن عباسٍ في إنكار العول، وقال ابن عباسٍ: (ألا يتقي الله زيد بن ثابتٍ). الثاني: أن الصحابة اختلفوا قبل العقد لأبي بكر - رضي الله عنه - فقالت الأنصار: (منا أمير، ومنكم أمير) وكانوا مخطئين؛ لمخالفتهم قوله - عليه الصلاة والسلام - (الأئمة من قريشٍ) ولم يلزم من ذلك الخطأ إظهار البراءة والتفسيق، فكذا ها هنا. الثالث: اختلفوا في أن مانع الزكاة، هل يقاتل؟! وقضي عمر في الحامل المعترفة بالزنا بالرجم، وكان ذلك على خلاف النص، ولم يلزم تفسيق عمر، فكذا هاهنا!. وأما قوله في الوجه الرابع: (إنهم اختلفوا في الدماء والفروج، والخطأ فيها كبير):

قلنا: لا نسلم؛ فإنه لما لم يمتنع أن تكون الأقوال المختلفة صوابًا؛ على مذهبكم؛ فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيها صغيرًا؟. وقوله: (لا فرق بين القتل والغصب ابتداء، وبين التمكين منهما بالفتوى الباطلة): قلنا: لا نسلم؛ ولم لا يجوز أن يكون تمسكه في ذلك بما يشبه الدليل سببًا لسقوط العقاب والتفسيق؟. قلت: أما الجواب عن الأول: فالذي يدل على أنه لو كان خطأ، لكان من الكبائر، لا من الصغائر: أن تارك العمل به تارك للعمل المأمور به؛ فيكون عاصيًا؛ فيكون مستحقًا للنار. وعن الثاني: أن غموض الأدلة، وكثرة الشبه فيها ها هنا أقل مما في العقليات مع أن المخطئ فيها كافر، أو فاسق. وعن الثالث: أن نقول: ترك البراءة والتفسيق مع التمكين من الفتوى والعمل منقول عن هؤلاء الذين نقلتم عنهم التصريح بالتخطئة؛ فلابد من التوفيق، وقد تعذر صرفه إلى كون الخطأ صغيرًا؛ لما بينا فساده؛ فإذن: لا طريق في التوفيق إلا صرف ما نقلناه إلى قسمٍ، وما نقلتموه إلى قسمٍ آخر؛ وذلك لأنا لا ندعي التصويب في كل المسائل الشرعية؛ حتى يضرنا ما ذكرتموه، أما أنتم فتدعون الخطأ في كل الاختلافات، فيضركم ما ذكرناه، فنحمل التخطئة على ما إذا وجد في المسألة نص قاطع، أو على ما إذا لم يستقص المجتهد في وجوه الاستدلال، وقوله: (إن يكن صوابًا، فمن الله، وإن يكن خطأ، فمني، ومن

الشيطان) معناه: إن استقضيت في وجوه النظر والاستدلال، فمن الله، وإن قصرت، فمني، ومن الشيطان. وأما المعارضة الثانية، فجوابها: أن الأنصار ما سمعوا ذلك الحديث؛ فلا جرم لم يستحقوا التفسيق والبراءة؛ بخلاف هذه المسائل؛ فإن كل واحدٍ من المجتهدين عرف حجة صاحبه، وأطلع عليها، فلو كان مخطئاً، لكان مصرًا على الخطأ بعد اطلاعه عليه، فأين أحد البابين من الباب الآخر؟. وهذا هو الجواب أيضًا عن اختلافهم في مانعي الزكاة، وقصة المجهضة. قوله على الوجه الرابع: لما جاز أن تكون المذاهب المختلفة في الدماء والفروج خفيةً؛ فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيها صغيرًا، لا كبيرًا؟): قلنا: قد ذكرنا الدليل على أن الخطأ في هذا الباب لابد وأن يكون كبيرًا، ولأنه روي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: (من سعي في دم مسلمٍ، ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه: آيس من رحمة الله). فهذا وأمثاله من الأحاديث التي لا حد لها يدل على أنه لو كان المفتي في هذه الوقائع مخطئًا، لكان خطؤه كبيرةً، لا صغيرةً. وخامسها: لو كان المجتهد مخطئًا، لما حصل القطع بكون الخطأ فيه مغفورًا، وقد حصل ذلك، فهو ليس بمخطئ. بيان الملازمة: أنه لو حصل القطع بكون الخطأ مغفورًا، لكان في ذلك الوقت: إما أن يجوز المخطئ كونه مخلاً بنظرٍ يلزمه فعله، أو لا يجوز ذلك: فإن لم يجوز ذلك، كان كالساهي عن النظر الزائد، فلم يكن مكلفًا بفعله،

وإذا لم يكن مكلفًا بفعله، لم يستحق العقاب بتركه؛ فلا يكون مخطئًا؛ وقد فرض مخطئًا؛ هذا خلف. وإن جوز كونه مخلاً بنظرٍ زائدٍ، لم يخل: إما أن يعلم في تلك الحالة: أنه مغفور له إخلاله بذلك النظر الزائد، أو لا يعلم ذلك: فإن علم ذلك، لم يصح؛ لأن المجتهد لا يعلم المرتبة التي إذا انتهي إليها، غفر له ما بعدها؛ لأنه إن اقتصر على أول المراتب، لم يغفر له ما بعدها وما من مرتبةٍ ينتهي إليها، إلا ويجوز ألا يغفر له ما بعدها، ولا تتميز بعض تلك المراتب من بعضٍ، ولأنه لو عرف تلك المرتبة، لكان مغري بالمعصية؛ لأنه علم أنه لا مضرة عليه في ترك النظر الزائد، مع كونه مثابًا عليه. فثبت أنه لا يعرف تلك المرتبة، وإذا لم يعرفها، جوز ألا يغفر له إخلاله بما بعدها من النظر، وجوز أيضًا في كل مخطئ من المجتهدين: أنهم ما انتهوا إلى المرتبة التي يغفر لهم ما بعدها؛ وفي ذلك تجويز كونهم غير مغفورٍ لهم. فثبت أنه لو كان مخطئًا، لما حصل القطع بكونه مغفورً له؛ لكنه حصل القطع بذلك؛ لأنهم اتفقوا من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا: أن ذلك مغفور لهم، فعلمنا أن المجتهد ليس بمخطئٍ. وسادسها: قوله - عليه الصلاة والسلام-: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم، اهتديتم) خير الناس في تقليد أعيان الصحابة، وكان الصحابة مختلفين في المسائل، فلو كان بعضهم مخطئًا في الحكم، أو الاجتهاد، لكان قد حثهم على الخطأ والمصير إليه، وإنه لا يجوز. وسابعها: قوله - عليه الصلاة والسلام - لمعاذٍ، لما رتب الاجتهاد على

السنة، والسنة على الكتاب: (أصبت)؛ حكم بتصويبه مطلقًا، ولم يفصل بين حالة وحالةٍ، فعلمنا أن المجتهد مصيب على الإطلاق. والجواب عن الأول: أن على الحكم دليلاً ظاهرًا، لا قطعيا. قوله: (لزم كفر تاركه، وفسقه؛ بالآيات): قلنا: عندنا أن المجتهد قبل الخوض في الاجتهاد كان تكليفه أن يطلب ذلك الحكم الذي عينه الله تعالى، ونصب عليه الدليل الظاهر، فإذا اجتهد، وأخطأ، ولم يصل إلى ذلك الحكم، وغلب على ظنه شيء آخر، تغير التكليف في حقه، وصار مأمورًا بأن يعمل بمقتضى ظنه، وعلى هذا التقدير: يكون حاكمًا بما أنزل الله - تعالى لا بغير ما أنزل الله، فيسقط ما ذكروه من الاستدلال. وهذا هو الجواب أيضًا عن الحجة الثانية؛ لأنا نسلم أن المجتهد بعد أن اجتهد، وغلب على ظنه أن الحكم كذا؛ فإنه يكلف بأن يعمل بمقتضى ذلك الظن، وحكم الله تعالى في هذه الحالة في حقه ليس إلا ذلك؛ لكن لم لا يجوز أن يقال: (إنه قبل الخوض في الاجتهاد كان مأمورًا بذلك الحكم الذي عينه الله تعالى، ونصب عليه الدليل؛ لكنه بعد الاجتهاد ووقوع الخطأ، تغير التكليف) وما ذكروه لا ينفي هذا الاحتمال. وأيضًا: فهذه الدلالة منقوضة بما إذا كان النص موجودًا في المسألة، والمجتهد طلبه، ولم يجده، ثم غلب على ظنه بمقتضى القياس خلاف ذلك الحكم، فإن كان تكليفه في هذه الحالة أن يعمل بمقتضى ذلك القياس، مع انعقاد الإجماع على

كونه مخطئًا في هذه الصورة، فما جعلوه جوابًا لهم عن هذه الصورة، فهو جوابنا عما قالوه. واعلم أن من المصوبة من منع التخطئة في هذه الصورة، والمعتمد ما قدمناه. وهو الجواب عن الوجه الثالث الذي ذكروه وعن الوجه الرابع؛ لأنه إنما يجب البراءة والتفسيق، لو كان عاملاً بغير حكم الله تعالى، لكنه بعد الخطأ مكلف بأن يعمل بمقتضى ظنه، فيكون عاملاً بحكم الله تعالى؛ فلا يلزم شيء مما ذكروه. وعن الخامس: أن المرتبة التي عندها يحكم بكونه مغفورً هي: أن يأتي بما يقدر عليه من غير تقصيرٍ. وعن السادس: أنه معارض بقوله - عليه الصلاة والسلام - (من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد). وأيضًا: فهو خبر واحد، وما ذكرناه دلائل قاطعة؛ فلا يحصل التعارض، وهو الجواب عن الوجه السابع. واعلم أنا نريد أن نتكلم في فروع القول بالتصويب: مسألة: الذين قالوا: ليس في الواقعة حكم معين، منهم: من قال بالأشبه؛ على التفسير الذي لخصناه، ومنهم: من لم يقل به، وهو الحق. لنا: أن ذلك الأشبه: إما أن يكون هو العمل بأقوى الأمارات، أو غيره: فإن كان الأول: فأقوى الأمارات: إما أن يكون موجودًا، أو لا يكون: فإن

كان موجودًا، كان الأمر به واردا؛ لإجماع الأمة على وجوب العمل بأقوى الأمارات؛ فحينئذٍ: يكون الحكم بذلك الأشبه واردًا؛ وقد فرضناه غير واردٍ؛ هذا خلف. وإن كان أقوى الأمارات غير موجودٍ، لم يكن الأشبه أيضًا موجودًا؛ لأنا فرضنا أن الأشبه هو نفس أقوى الأمارات. وأما إن كان الأشبه شيئًا غير العمل بأقوى الأمارات: فإما أن تكون مفسدة للمكلف، أو مصلحة له، أو لا مفسدة ولا مصلحة: والأول: باطل؛ لأنه ليس في الأمة أحد يقول: إنه يجب أن يكون في كل واقعة حكم، لو نص الله تعالى على الحكم، لنص عليه، مع أنه يكون مفسدةً. وأما الثاني: وهو أن يكون مصلحةً: فإما أن تجب على الله - تعالى - رعاية المصالح، أو لا تجب: فإن وجبت، وجب عليه التنصيص على ذلك الحكم؛ ليتمكن المكلف من استيفاء تلك المصلحة، وإن لم تجب عليه رعاية المصلحة، جاز منه - تعالى - أن ينص على غير ذلك الحكم، وذلك يبطل القول بأنه لو نص على الحكم لما نص إلا عليه. وأما الثالث: وهو: أن يكون ذلك الأشبه لا مصلحةً، ولا مفسدةً، فهذا إنما يمكن لو قلنا: (إنه لا تجب عليه رعاية المصالح) وكل من قال بهذا القول قال: إنه لا يتعين عليه تعالى أن يحكم على وجهٍ معينٍ، بل له أن يحكم كيف شاء، وذلك يمنع من القول بتعين الأشبه. واحتج القائلون بالأشبه بالنص، والمعقول: أما النص: فقوله - عليه الصلاة والسلام -: (إذا اجتهد الحاكم، وأخطأ، فله

أجر واحد) صرح بالتخطئة، وهذه التخطئة ليست لأجل مخالفة حكمٍ واقع؛ لأنا قد دللنا على أنه لا حكم؛ فلابد وأن يكون لأجل كونه مخالفًا لحكمٍ مقدر، وهو الأشبه. وأما المعقول: فهو: أن المجتهد طالب، والطالب لابد له من مطلوبٍ، ولما لم يكن المطلوب معينًا وقوعًا، وجب أن يكون معينًا تقديرًا. والجواب: أن ذلك الأشبه، إن كان هو العمل بأقوى الأمارات، فهو حق، وهو قولنا. وإن كان غيره، مع أن الله - تعالى - لم ينص عليه - ولا أقام عليه دلالة، ولا أمارة - فكيف يكون مخطئًا بالعدول عنه، وكيف ينقص ثوابه، إذا لم يظفر بما لم يكلف بإصابته، ولا سبيل إلى إصابته، وهذا هو بعينه الجواب عن الوجه المعقول. مسألة: القائلون بأن المصيب واحد احتجوا: بأن القول بتصويب الكل يفضي إلى وقوع منازعةٍ لا يمكن قطعها، وهذا كما إذا نكح رجل امرأةً، وكانا مجتهدين، ثم قال: (أنت بائن) ثم راجعها، والزوج شافعي يري الرجعة، والمرأة حنفية ترى الكنايات بواثن، فها هنا الزوج متمكن شرعًا من مطالبتها بالوطء، والمرأة مأمورة بالامتناع، وهذه منازعة لا يمكن قطعها. قال المصوبون: هذا الإشكال وارد عليكم أيضًا؛ فإن أهل التحقيق منكم ساعدوا على أنه يجب على المجتهد العمل بموجب ظنه، إذا لم يعرف كونه مخطئًا، فهذا الإلزام أيضًا واردٌ عليكم.

ولما كان هذا الإشكال واردًا على المذهبين، وجب أن نذكر تقسيمًا في باين الحوادث النازلة بالمكلفين؛ ليظهر أنه لا نزاع فيها؛ فنقول: الحادثة: إما أن تنزل بمجتهدٍ، أو بمقلدٍ: فإن نزلت بمجتهد: فإما أن يختص به، أو تتعلق بغيره: فإن اختصت به، عمل بما يؤديه إليه اجتهاده، فإن استوت عنده الأمارات، تخير بينها، أو يعاود الاجتهاد إلى أن يظهر الرجحان، وإن تعلقت بغيره؛ فإن كان يجري فيه الصلح؛ نحو التنازع في مالٍ - اصطلحا فيه، أو رجعا إلى حاكمٍ يفصل بينهما، إن وجد، فإن لم يوجد، رضيا من يحكم بينهما، ومتى حكم، لم يكن لهما الرجوع عنه. وإن لم يجر الصلح فيه؛ كما ذكرنا في مسألة الكنايات - فإنهما يرجعان إلى من يفصل بينهما، سواء كان صاحب الحادثة مجتهدًا وحاكمًا، أو لم يكن؛ فإن الحاكم لا يجوز له أن يحكم لنفسه على غيره، بل ينصب من يقضي بينهما. وإن كان مقلدًا: فإن كانت الحادثة تخصه، عمل على ما اتفق عليه من الفتوى، وإن اختلفوا، عمل بفتوى الأعلم الأورع، فإن استويا، تخير بينهما، وإن كانت تتعلق بغيره، عمل - كما بيناه - في حق المجتهدين. مسألة: في نقض الاجتهاد: المجتهد إذا تغير اجتهاده، ففيه بحثان: الأول: أن المجتهد، كيف يعمل؟. والثاني: أن العامي الذي عمل بفتواه، كيف يعمل؟. أما الأول فنقول: المجتهد إذا أفضى اجتهاده إلى أن الخلع فسخ؛ فنكح امرأةً

شرح القرافي: قوله: (وضع الله - تعالى - على هذه المطالب أدلة يقينية، ومكن العقلاء من معرفتها)

خالعها ثلاثًا، ثم تغير اجتهاده: فإما أن يكون قد قضى القاضي بصحة ذلك النكاح قبل تغير اجتهاده، أو ما قضى بذلك: فإن كان الأول: بقي النكاح صحيحًا؛ لأن قضاء القاضي، لما اتصل به، فقد تأكد، فلا يؤثر فيه تغير الاجتهاد. وإن كان الثاني: لزم تسريحها، ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده. وأما الثاني: وهو ما إذا أمسك العامي زوجته بفتوى المفتي؛ بأن الخلع فسخ، فإذا تغير اجتهاد المفتي، فالصحيح: أنه يجب عليه تسريحها؛ كما إذا تغير اجتهاد متبوعة عن القبلة في أثناء الصلاة، فإنه يتحول إلى الجهة الأخرى؛ بخلاف قضاء القاضي؛ فإنه متى اتصل بالحكم المجتهد فيه، استقر. واعلم أن قضاء القاضي لا ينتقض؛ بشرط ألا يخالف دليلاً قاطعًا، فإن خالفه، نقضناه. الركن الرابع حكم الاجتهاد قال القرافي: قوله: (وضع الله - تعالى - على هذه المطالب أدلة يقينية، ومكن العقلاء من معرفتها): قلنا: أما الوضع فمسلم، وأما تمكين جميع العقلاء فممنوع؛ لأن التمكين عبارة عن كون الإنسان بحيث لو تحرك بجميع قوته في النظر والفكر وصل إلى ذلك المطلوب غالبًا. وهذا إنما يكون مع صلاحية المزاج، وجودة العقل، وأما البهيمية فليس لها التمكن من معرفة دقائق الأدلة العقلية؛ بل ولا ظواهرها، والبلهان كثير، والنسوان قريب من البهائم، فلا مكنة لهم، وإن أردتم أن الله - تعالى - مكن بعض العقلاء، فمسلم، ولكن النزاع في الكلية لا في الجزئية.

قوله: (إذا نظرنا في أدلة المخالفين لم نجد واحدًا منهم مكابرًا، قائلاً بما يقطع العقل بفساده). قلنا: أما المكابرة فتندر، وهي موجودة. وأما قطع العقل بفساد المدرك فضروري، غير أن ذلك القطع بالفساد يفتقر إلى نظر من عارف بقواعد الأدلة، وكونه قطعيًا بعد النظر لا يمنع كونه قطعيًا، فهذه الدعوى باطلة قطعًا. بل القطع حاصل بفساد أدلة الفرق الزائغة. قوله: (لم لا يجوز أن يقال: أن يكونوا مأمورين بالظن الغالب؟): قلنا: لأن النصوص وردت في ذم الظن - كما تقدم - فتعين ألا يكون مأمورًا به. قوله: (اليقين التام هو المتولد من الدليل المركب من المقدمات البديهية): قلنا: لا نسلم توقف اليقين على ذلك؛ بل يحصل من المقدمات النظرية الناشئة عن البديهات، كما يحصل اليقين في مسائل الحساب في الجبر والمقابلة، وغيره بمقدمات نظرية راجعة إلى مقدمات بديهية، ويطول الخطب، وتكثر المقدمات النظرية، ومع ذلك - في آخر الأمر - يحصل القطع بمقدار ذلك الحساب، فليس اليقين موقوفًا على مقدمات كلها بديهية. قوله: (يكلف الإنسان في الساعة الواحدة معرفة ما عجز الخلق عن معرفته في خمسمائة سنة، وذلك ينافي ما بعث به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحنيفية السهلة السمحة): قلنا: هذه المقدمات كلها غير صحيحة. أما تكليفه في الساعة الواحدة، فلم يقل به، النظر في زمان يحتاجه لذلك النظر، بحسب طوله وقصره.

وأما عجز الخلق عن ذلك، فتهويل بالباطل؛ فإن ما وقع به التكليف من قواعد العقائد لم يعجز الخلق كلهم عنه؛ بل من تصدى إليه من أهل النظر حصله، وإنما يقع العجز عنه من التقصير. بل المعجوز عنه هو المطالب التي وراء رتبة التكليف، كالمعرفة بكنه حقيقة الله - تعالى - وجميع صفات الله - تعالى - على التفصيل بحيث لا يشذ منها شيء، ونحو ذلك. هذا هو المعجوز عنه. أما وجود الصانع - تعالى - وصفاته السبعة التي دلت عليها الصنعة، وصفاته الذاتية، كوجوب الوجود، والأزلية، والأبدية، والصفات السلبية، نحو كونه - تعالى - ليس بجوهر، ولا عرض، ونحو ذلك. فهذا هو مورد التكليف، ولم يحصل العجز عنه؛ بل تعداه الفضلاء إلى مراتب أخرى من هذا الفن، وحصل لهم العلم فيها. أما كون الشريعة سهلة سمحة، فذلك خاص بالفروع الشرعية. أما أصول الديانات، فلم يطرد ذلك فيها، بل المعلوم من الدين بالضرورة، أن الطوائف الذين لا أهلية لهم في النظر، ولا تحصيل العلوم كفار مخلدون. نحو: يأجوج، ومأجوج، وما قاربهم من بلاد الأتراك من المغول، والتتار، والبلغار ونحو ذلك من البلاد الشمالية الخارجة عن الاعتدال، بسبب توغلها في الشمال، وكذلك الأمم التي توغلت في الجنوب، نحو الزنج، وأكثر بلاد التكرور وغيرهم من الطوائف المشوهين الخلق، المنحرفين الطباع، لا يألفون، ولا يؤلفون في الجزر من البحر الملح وغيره. فهؤلاء - كلهم - في غاية البعد عن النظر في المعجزة - فضلاً - عن غيرها.

ومع ذلك فمن المعلوم بالضرورة أنهم كفار يقاتلون، ويقتلون ويغتمون ويؤسرون، وغير ذلك من أحكام الكفار الجارية عليهم. ومن المعلوم أن السهولة، والتخفيف يأبي هذه الأحوال، فدل على أن أصول الديانات مختصة بأحكام دون فروعها. وكذلك شرع الإكراه بالقتل والقتال، وأخذ الذراري، والأموال، والجلاء عن الأوطان، في تحصيل الإيمان منهم، ويعتد به منهم - في هذه الحالة - بإجراء أحكام الإسلام عليهم. والفروع مع الإكراه لا تعتبر، ولا يجرى في أحكامها، فاختصت الأصول بالإكراه، وأن المصيب فيها واحد، وأن الظن فيها والتقليد غير معتبر، وأن العاجز غير معذور، والمخطئ آثم. وسبب ذلك: عظم خطرها، وعلو منصبها؛ لتعلقها بجهة الحق - سبحانه وتعالى - والفروع مصالح للعباد، فخف أمرها، وكانت السهولة مختصة بها في أضداد الفروع المتقدمة. قوله: (الصحابة - رضوان الله عليهم - ما كانوا متبحرين في دقائق الهندسة، والهيئة، والأرثماطيقي، ولا هذه الأدلة الدقيقة، ولا الجواب عن شبهات الفلاسفة): قلنا: المعلوم لأهل الاطلاع على أحوال الصحابة خلاف ذلك من جل الصحابة رضوان الله عليهم. فقد روي عن علي: أنه قال له ابن عباس بـ (البقيع) ليلة: حدثني - في (الحمد لله رب العالمين) - فقال له: إن الوقت لا يسع، فقال له في (بسم الله الرحمن الرحيم). فقال له: إن الوقت لا يسع، فقال له: في (الباء).

قال: فأخذ يحدثني في (الباء) من العشاء إلى أن طلع الفجر. وكان علي - رضي الله عنه - يستخرج وقائع (صفين) من قوله - تعالى-:} حم، عسق {. وكان يقول: إني لأعلم بطرق السماء من طرق الأرض، ولو انكشف الغطاء ما ازددت يقينًا. وكان من أعلم الناس بالأرثماطيقي، حكاياته في علم الفرائض في ذلك مشهورة حيث قال حين سئل عن زوجة، وأبوين، وبنتين، فقال: (صار ثمنها تسعًا؛ لأن أصلها من أربعة وعشرين؛ لاجتماع السدس والثمن، ويعال للزوجة بثمانية، وهي الثمن، فتصير سبعة وعشرين، فيصير ثمنها تسعًا). قال الشعبي: لم أر أحسب من علي بن أبي طلاب - رضي الله عنه - ووقفت له امرأة فقالت: إن أخي قد مات، وترك ستمائة دينار، فلم يعطني عاملك إلا دينارًا. فقال لها: لعل أخاك قد ترك ابنتين، وزوجة، وجدة، واثني عشر أخًا وأنت؟ فقالت: نعم. فقال: ليس لك إلا دينار. يريد - رضي الله عنه - أن الثلثين أربعمائة للابنتين، والسدس للجدة مائة، والثمن للزوجة خمسة وسبعون يبقي خمسة وعشرون بين الإخوة:} للذكر مثل حظ الأنثيين {، فينوب كل أخٍ ديناران، وينوبها دينار. وحكايته في الفرائض، وغيرها كثيرة جدًا. فالصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا بحار علوم، فكيف يدعى عليهم عدم المعرفة بالحساب، وغيره؟.

بل كانوا متبحرين في كل فن؛ فإن الموجب لعلومهم ليس الدرس، والتكرار، ومطالعة الكتب حتى يقال: لم يشتغلوا إلا بالكتب الفلانية، فيختص عليهم بتلك الكتب، بل الموجب هو نور النبوة، ونسبته إلى جميع العلوم نسبة واحدة، فيكونون متبحرين في جميع العلوم. نعم هذه العبارات والاصطلاحات الحادثة، لا يلزم أن يكونوا عالمين بها، والجهل بها لا يخل بالعلوم، ولذلك شهد عليه السلام لهم، فقال: (أقضاكم علي، وأفرضكم زيد، وأقرؤكم أبي، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبلٍ، ورضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبدٍ) - يعني عبد الله بن مسعود، و (خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء) - يعني: عائشة رضي الله عنها. قوله: (سلمنا أنه قتل مثل هذا الإنسان، لكن لم قلت: إنه يعاقب؟): تقريره: أن القتل قد يكون بدون العقاب، كالمرجوم - بعد التوبة عن

(سؤال) الآيات الواردة في ذم الظن يرد عليها أن الاعتقاد الجازم، وإن لم يطابق، فصاحبه لا يجوز خلافه

الزنا؛ لأنه لا يعاقب، أو يكون قتله؛ لأنه لم يتعين عجزه عن الوصول إلى الحق، وهو في نفس الأمر قد عجز عنه. قوله: (الكفر لا يتحقق إلا في حق المعاند الذي عرف الدليل، ثم أنكره): قلنا: الكفر الحقيقي هو ستر جسم بجسم، وهو منفى في حق الجميع، فلم يبق سوى المجاز؛ فإن ستر الحق بالباطل من باب ستر المعاني للمعاني، وهو مجاز، والمعاند - كما قلتم - وكذلك الذي لم يظهر الحق - بعد اجتهاده؛ لأن جهله بالحق ساتر للحق سترًا مجازيًا، فلا يختص المجاز بالمعاند، فلا يلزم من كون المعاند العلاقة فيه أرجح أن يتعين المجاز - لاسيما - والمعاند بالنسبة إلى الكفار قليل جدًا، فيلزم تخصيصات العموم، لا يرتاب ذو بصيرة في ذلك. قوله: (الله - تعالى - رحيم كريم): قلنا: قد تقدم - الجواب - عن هذا في العجم، والأقاليم المنحرقة، وورد الحديث الصحيح: (أن الله - تعالى - يخلق أقوامًا يوم القيامة، فيدخلهم النار)، وكما أن الله - تعالى - لشأن الرحمة، فشأنه أيضًا العقوبة العظيمة، فلا غضب أشد من غضب الله - تعالى - نسأله العافية في الدنيا والآخرة، وأن يعاملنا بلطفه في الأمر كله. (سؤال) الآيات الواردة في ذم الظن يرد عليها أن الاعتقاد الجازم، وإن لم يطابق، فصاحبه لا يجوز خلافه، والظن يجوز صاحبه خلافه، فأمكن ذمه؛ لأن وقوعه عنده تقصير، وبالجملة فهذه النصوص تتناول المظنون دون الاعتقادات الجازمة، فتكون الدعوى عامة، والدليل خاص، فلا يفيد كقولنا: كل طعام حرام؛ لأن الخنزير حرام.

(تنبيه) قال التبريزى على قوله: (إن الله - تعالى - نصب على هذه المطالب أدلة قطعية): إنه ضعيف

(تنبيه) قال التبريزى على قوله: (إن الله - تعالى - نصب على هذه المطالب أدلة قطعية): إنه ضعيف؛ لجواز عدم الظفر بسبب الختم والطبع والصرف، وكيف لا يقيم عذره كثرة الشبهات التي لا يكاد يميز بينها، وبين الأدلة إلا بعد إفضاء النظر، ولعل عذره في عدم الظفر بها أوسع من عذر المجتهد في عدم الظفر بأمارات الفروع؟، ثم إنا إذا فرضنا أن قد استعمل فكره، واستفرغ جهده، وفاته الحق لكلال نظره، وبلادة خاطره وجب أن يكون معذورًا؛ لأن المانع من غيره على أن ما ذكروه منقوض بما لو توهم أجنبية حليلته بخيال، أو انتباه من نوم، فإنه لا يأثم بوطئها، وإن كان عليه أدلة قاطعة، فإذن الاعتماد فيه على السمع. قلت: أما عذره بخطئه، فلا يحصل؛ لما تقدم من أن عقائد الدين شدد فيها ما لم يشدد في غيرها، وأما كون الزنا قطعيًا، وتحريمه من ضروريات الدين فمسلم، غير أن إباحته جائزة على الله - تعالى -، فله - سبحانه وتعالى - أن يراعي الأصلح للعباد، وألا يراعيه، غير أن عادته - تعالى - التفضل على عباده بشرع يحصل المصالح، ويدرأ المفاسد، على سبيل التفضل. أما أصول الديانات، فالذي يعتقده المخطئ فغير جائز على الله - تعالى - فهذا هو الفرق. قالوا: وهو السر في كون أصول الدين لا يجوز الاعتماد فيه على الظن؛ فإن الظان فيه يجوز على الله - تعالى - ما هو مستحيل عليه، بخلاف الظن في الفروع، إذا جوز خلاف الحكم المظنون؛ فإنه جائز على الله - تعالى - وهذا فرق عظيم بين البابين.

(فائدة) قال الغزالي في (المستصفى): مسائل أصول الفقه نحو كون الإجماع حجة ..

(فائدة) قال الغزالي في (المستصفى): مسائل أصول الفقه نحو كون الإجماع حجة، والقياس حجة، وخبر الواحد حجة، ومن جملها خلاف من جوز خلاف الإجماع المنبرم قبل انقضاء العصر، وخلاف الإجماع الحاصل عن اجتهاده، ومنع المصير إلى أحد قولي الصحابة - رضوان الله عليهم - وكذلك التابعون - عند اتفاق الأمة بعدهم - على القول الآخر، وكون المصيب واحدًا في الظنيات. فهذه مسائل أدلتها قطعية، والمخالف فيها آثم مخطئ، كما قلنا في مسائل أصول الدين، والقطعيات من الفقهيات: كـ (الصلاة) ن (والزكاة)، (والحج)، (والصوم)، و (تحريم الزنا)، و (القتل)، و (السرقة)، (والشراب)، وكل ما علم قطعًا من الدين، فالحق فيها واحد، وهو المعلوم، والمخالف فيه آثم؛ فإن أنكر ما علم ضرورة: كتحريم الخمر؛ فهو كافر، أو بطريق الظن، نحو كون الإجماع حجة، والقياس وخبر الواحد، وكذلك الفقهيات المعلومة بالإجماع، لا يكون المنكر لذلك كافرًا، بل آثم مخطئ، والظنيات لا إثم فيها - هذا مذهب الجماهير. وسوى بشر المريسي، فألحق الفروع بالأصول، فأثم المخطئ. والجاحظ، والعنبري عكسا القضية، وألحقا الأصول بالفروع، فلم يؤثما. وقال العنبري: كل مجتهد في الأصول مصيب، وليس فيها حق متعين. وقال الجاحظ: الحق متعين، لكن المخطئ معذور. قلت: وهذا التصريح عن العنبري لم يصرح به في (المحصول)،

(مسألة) اختلفوا في تصويب المجتهدين

وكذلك أشار سيف الدين إلى ذلك في (الإحكام)، وإلى الفرق بين مذهب العنبري والجاحظ. (مسألة) اختلفوا في تصويب المجتهدين قوله: (إن لم يكن في الواقعة حكم معين لله - تعالى - فهذا قول من يقول: كل مجتهدٍ مصيب): تقريره: أن الإجماع منعقد على أن ما ظهر على ألسنة المجتهدين هو حكم الله - تعالى - حتى حكى الغزالي في (المستصفى): أن المجتهد إذا غلب على ظنه ما هو خلاف الإجماع وجب عليه أن يعمل بذلك، حتى يطلع على الإجماع. ونظير هذه المسألة المجتهدون في القبلة إذا أدى اجتهادهم إلى عشر جهات، كل واحد إلى جهة؛ فإن كل واحد منهم يجب عليه أن يصلى إلى ما غلب على ظنه من الجهات، وإن كان مخطئًا؛ فإن الكعبة من المحال أن تكون في عشر جهات، بل ولا في جهتين، ولو قال أحدهم لبقيتهم: يجوز لي أن أترك اجتهادي، وأتبع جهتك التي اجتهدت فيها أنت، لقال له الكل: بل يحرم عليك أن تتبعنا، وتترك ما أدي إليه اجتهادك. فالكل من هؤلاء يجمع على أن كل واحد منهم يحرم عليه الرجوع عما أدى إليه اجتهاده، والرجوع إلى غيره. كذلك العلماء في الأحكام: يفتي كل واحدٍ منهم الآخر بوجوب اتباعه، لما أدي إليه اجتهاده، وأنه يحرم عليه اتباع غيره، فإذا كان كل واحدٍ منهم يجب عليهم اتباع ما غلب على ظنه من الحكم، فهو مصيب باعتبار ما غلب على ظنه، وليس مخطئًا باعتبار عين ذلك الحكم. إذًا التفريغ على أنه ليس في نفس الأمر حكم آخر، فانتفي عنه الخطأ مطلقًا، وثبت له الإصابة مطلقًا.

فهو معنى قوله: (إنه على التقديرين: كل مجتهدٍ مصيب). أما إذا قلنا في نفس الأمر: حكم الله - تعالى - معين، والمجتهدون يطلبون، فبعضهم في مسائل الخلاف أخطأه قطعًا، ولا يمكن أن يقال: الكل أصابوه؛ لأن التقدير أنهم أفتوا بأحكام مختلفة، والواحد لا يكون أحكامًا مختلفة، ولا يمكن أن يقال: الكل أخطأه؛ لدلالة القاطع على أن الحق لا يفوت الأمة، وأنها معصومة عن فوات الصواب. فحينئذ يتصور أن يقال: إن بعض المجتهدين مخطئ، وإن المصيب واحد، أما على الطريق الأول فلا. قوله: (إن وجد في نفس الأمر ما لو حكم الله - تعالى - لما حكم إلا به، وهو القول بالأشبه): تقريره: أن في زماننا نقطع بأنه لا نبي لله - تعالى - في الأرض، ولا يجوز أن يكون، ومع ذلك فنقول: لو أن الله - تعالى - ترك باب النبوة مفتوحًا، وأراد أن يبعث منا نبيًا إلينا، بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلانًا ونشير إلى أن من يعتقد أنه خير أهل زماننا مفتوحا، وأراد أن يبعث منا نبيًا إلينا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك هاهنا: إذا فرعنا على أنه - لا حكم لله - تعالى - في نفس الأمر، فهل في نفس الأمر ما هو راجح في المصلحة، أو دارئ للمفسدة؛ بحيث لو أن لله - تعالى - حكمًا لعينه، والأحوال مستوية، فليس فيها أرجح. والاستواء هو مذهب من لم يقل بالأشبه، ولا بالحكم بالتصويب مطلقًا، فالقول بالأشبه هو حكم بالفرض والتقدير، لا بالتحقيق كما تقرر. قوله: (والثاني: في قول الخلص من المصوبين): تقريره: أن الخلص جمع خالص، أي أخلصوا كما في التصويب؛ فإن القول بالأشبه فيه شائبة عدم التصويب المطلق، وشبه التخطئة باعتقاد الأشبه.

قوله: (كون الحكم لا دلالة عليه، ولا أمارة، هو قول طائفة من الفقهاء والمتكلمين، وقد نقل عن الشافعي - رحمه الله - أن في كل واقعة ظاهرًا وإحاطة، ونحن ما كلفنا بالإحاطة، وهؤلاء زعموا أن ذلك الحكم مثل دفين يعثر عليه الطالب بالاتفاق): قلنا: هذا النقل غير ملخص في ظاهر العبارة؛ فإنه ذكر القول بعدم الدلالة والأمارة، وحكى عن الشافعي ما حكاه، ثم قال: وهؤلاء قالوا: إنه كدفينٍ يعثر عليه، وذلك يقتضي أن الشافعي من جملة من قال بعدم الدلالة والأمارة، مع أنه حكى عنه الظاهر والإحاطة، وهما أمارتان، فبقي في النقل مناقضة، وتدفاع. وقال التبريزي: في هذا الموضع قال بعض المصوبة: لله - تعالى - حكم معين، لكن منهم من قال: لا أمارة عليه، ولا دليل؛ بل هو كدفين يعثر عليه، ومنهم من قال: عليه أمارة ظنية، ما كلفنا بها لخفائها، وهو قول كافة الفقهاء، والمنسوب إلى الشافعي، وأبي حنيفة. وقد نقل عن الشافعي أنه قال: في كل واقعة ظاهر وإحاطة، وإنا كلفنا بالإحاطة، ومنهم من قال: كلفنا بها أولاً، وعند الخطأ يتعين التكليف. فجعل التبريزي قول الشافعي قولاً مخالفًا للقول بأن الحكم لا أمارة عليه، وحكى عنه الأمارة، وحكى عنه في التكليف بها قولين. فهذا نقل مستقيم؛ فإنه لم يدخل الشافعي فيمن قال بعدم الأمارة، بل جعله قسيمًا لهم. وقال سيف الدين: من قال: عليه دليل ظني ومنهم من قال: فمن ظفر به، فله أجران، وهو مصيب، ومن لم يصبه فهو مخطئ،

وله أجر واحد، وهو مذهب ابن فورك، والأستاذ أبي إسحاق، ومنهم من نقل عنه القولان في التخطئة والتصويب، كالشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد ابن حنبلٍ، والأشعرى. وهذا أيضًا نقل حسن؛ لأنه نقل مذهب الشافعي في القسم الذي قال: عليه أمارة. وكذلك قال: سراج الدين في اختصاره غير لفظ الأصل. فقال: قال بعض الفقهاء والمتكلمين: لله - تعالى - في كل واقعة حكم معين، لكن ليس عليه أمارة، ولا دلالة، والطالب يعثر عليه اتفاقًا، فله أجران، وللخائب أجر واحد للمشقة. وقال كافة الفقهاء: عليه أمارة فقط، لكن لم يكلف بإصابتها لخفائها، وكان المخطئ معذورًا، مأجورًا. وينسب للشافعي، وابي حنيفة. وقيل: مكلف، وعند الخطأ يتغير التكليف. وهذا نقل لا شبهة فيه. وإذا اتضحت هذه النقول، فيتعين أن الشافعي - رحمه الله - ليس من القائلين بعدم الأمارة، بل من القائلين بها، وأن المصنف أراد بحكايته أنه قسيم للذين يقولون بعدم الأمارة لا قسم منهم، ومراده بالظاهر دليل لفظي في دلالته ظهور، وبالإحاطة ضابط من جهة القواعد يرشد إليه، فلا يخلو الحكم عن نص أو قياس. هذا تلخيص كلامه.

قال أبو الحسين في (المعتمد): من الناس من قال: المصيب واحد، وغيره مصيب في اجتهاده، مخطئ في الحكم، وهم القائلون بالأشبه؛ لأنهم جعلوه مطلوب المجتهد، ولم يكلف به. قال: وعن الشافعي أن في كل مسألة ظاهرًا وإحاطة، وكلف المجتهد الظاهر، ولم يكلف الإحاطة. فنقل الإحاطة بصيغة (أو) كما في (المحصول)، والذي وجدته للتبريزي - (بالواو)، وبينهما فرق كبير. ثم إنه صرح بالتكليف بالظاهر، دون الإحاطة، وفي (المحصول) لم يتعرض للظاهر. ثم قال: لم يختف المصوبة القائلون بالأشبه أنه ما كلف إصابته، ولم يقل أحد: إن المجتهد مخطئ في اجتهاده مصيب في الحكم، لكن اختلفوا، فقيل: اجتهاد المجتهدين صواب. وقيل: الصواب منه واحد، والقائل بأن الكل صواب اختلفوا، فمنهم من قال: أحكام تلك الاجتهادات كلها صواب. وقيل: واحد منها صواب، وهو الأشبه، والقائلون بأن الأحكام كلها صواب؛ قالوا: الاجتهادات كلها صواب، والقائلون بأن بعض الأحكام خطأ اختلفوا، فقيل: الاجتهادات كلها صواب، أو واحد منها فقط. والظاهر أن هذا معنى كلام المصنف: إن الإصابة في الأمارة هو أحد صور النزاع. قوله: (قال الأصم: ينقض قضاء القاضي إذا خالفه):

قلنا: هذا الموضع مشكل؛ لأجل أن الحكم المعين - في نفس الأمر - غير معلوم للبشر، فدليله - أيضًا - القطعي يكون غير معلوم. فإن كان الأصم يقول: إن دليل هذا الحكم ظاهر للناس، ظهورًا جليا، يلزم أن يقول: الحكم المعين - أيضًا - ظاهر ظهورًا جليًا، وهو خلاف الضرورة. وإن قال: إنه غير ظاهر للناس، فكيف ينقض قضاء القاضي؟ ونقض الحكم إنما يكون مع العلم بوجود موجب نقضه، وغير المعلوم كيف ينقض به، فعلى التقديرين هذا المذهب مشكل. غير أن أبا الحسين في (المعتمد)، حكى عنهم أنهم قالوا: على الحق دليل يعلم به المستدل أنه قد وصل إلى الحق. فإن أراد أنه إذا لم يعلم الوصول إلى الحق ينقض، فلاشك أن هذا معلوم، وهذه لفظة لم ينقلها صاحب "المحصول". غير أنه يلزم على هذا نقض كل حكم مظنون، وهو أكثر الشريعة، فهو وإن يخرج من هذا الوجه أشكل من الوجه الآخر. وقد يلتزمون نقض أكثر الشريعة، فيندفع الإشكال مطلقًا. قوله: (وهذه إحدى صور الخلاف): قلنا: لم يخالف أحد في أن كل مجتهد مصيب؛ للرجحان في الأمارة في نفس الأمر، كما أنهم لم يقولوا: إن كل مجتهد مصيب باعتبار الحكم الصادر عن اجتهاده، لا باعتبار الحكم المعين في نفس الأمر. والصواب: باعتبار نفس الأمر، لم يقل به أحد - فيما علمت - لا في أمارة، ولا في حكم.

وكيف يمكن القول به، مع أن أحد المتنافيين متى كان راجحًا، كان الآخر مرجوحًا بالضرورة؟ قوله: (فإن اكتفينا بهذا القدر جاز): قلنا: لا يمكن الاكتفاء به؛ فإنكم إنما بنيتم الخطأ باعتبار ما في نفس الأمر، وهو لم ينازع فيه أحد؛ بل قالوا به باعتبار الراجح من الأمارات، إنما اختلفوا في الخطأ في الحكم. والفرق: أن الحكم قد نوزع في وجوده في نفس الأمر، فالخطأ فيه فرع ثبوته، فإذا لم يثبت، فلا خطأ، وأما الأمارتان فموجودتان قطعًا، فيتعين الخطأ باعتبار نفس الأمر في حق أحد المجتهدين ضرورة. قوله: (الاعتقاد الذي ليس بمطابق جهل، والجهل بإجماع الأمة غير مأمور به): قلنا: لا نسلم أن الجهل غير مأمور به إجماعًا، بل الجهل المركب باعتبار رجحان الأمارة في نفس الأمر، لا باعتبار ظن المجتهد متفق على الأمر به. كما اتفق الناس على وجوب العمل بالظن في الأحكام، مع القطع بأن الأمارتين ليستا موصوفتين، يكون كل واحد منهما هي الأرجح، وكذلك في المجتهدين في القبلة، والمياه، والأثواب الملتبسة نجسها بطاهرها، والتقويم في أروش الجنايات، وقيم المتلفات، وجزاء الصيد، وغير ذلك من الصور. يحكم في كل واحدة بما غلب على ظنه، وإن حكم الآخر بضد ما حكم به، مع القطع بعدم اشتراك تلك المدارك في أن كل واحد منها أرجح من الآخر، بل الراجح منها متعين في نفس الأمر قطعًا، فالجهل المركب مأمور به في كثير من الصور بالإجماع. فكيف يدعى الإجماع على عدم الأمر به؟.

غايته: أنه لم يقل: المكلف اتبع الجهل؛ بل قيل له: اتبع ما غلب على ظنك وإن كان في نفس الأمر جهلاً، فذلك لا يلزمك. وعلى هذا التقدير: يكون الجميع مصيبين آتين بما أمروا به، وإصابتهم باعتبار ما في ظنونهم، والأحكام المتوجهة عليهم. قوله: (الرجحان في الذهن، إما أن يكون نفس اعتقاد رجحانه في الخارج، أو أمرًا لا يثبت إلا معه): تقريره: أن المجتهد إذا اعتقد رجحان الأمارة في ذهنه، إنما ثبت له ذلك الاعتقاد؛ لأنه يعتقد رجحانها في نفس الأمر؛ فإنه إنما يجتهد في ذلك، ويطلب ما هو الراجح عند الله - تعالى - في شرعه، وكذلك - أيضًا - المجتهدون في أمور الدنيا، إنما يطلب الراجح في نفس الأمر. فصح أن اعتقاد الرجحان في الذهن هو نفس الرجحان في نفس الأمر، ولما كان السائل أورد السؤال على هذا المقام، وظهر منه الشك في صحته، ادعى المصنف أحد أمرين، فقال: إما أن يكون نفسه، أو أمرًا لا يتم إلا به، يعني: لازمًا له. ومعنى قوله: (إذا اعتقدنا المساواة امتنع رجحان الوجود على العدم)، أي في نفس الأمر - فاعتقاد الرجحان في نفس الأمر مع اعتقاد المساواة في الذهن، لا يجتمعان أبدًا. فدل ذلك على أن المجتهد، إنما يطلب ويعتقد ما في نفس الأمر لذلك، نعم قد يكون مطابقًا، وقد لا يكون. قوله: (اعتقاد المجتهد جازم؛ لأن اعتقاد كون الشيء أولى بالوجود، غير اعتقاد كونه موجودً): قلنا: هاهنا اعتقادان:

أحدهما: اعتقاد كون حكم الله - تعالى - هو الحرمة مثلاً. والثاني: كون أمارته راجحة، فهو يقطع برجحان الأمارة، ولا يقطع بأن الحكم الحرمة. والسائل: إنما أورد السؤال في اعتقاد الحكم لا في اعتقاد رجحان أمارته. ونظيره أن الشاك يقطع بأنه شاك، ولا يمنع ذلك الشك فيما هو شاك فيه. فالجواب حائد عن موضع السؤال، والخصم يسلم الجزم باعتبار الأمارة. قوله: (إن كان الدليل خاليًا عن المعارض، تعين ذلك الحكم بالإجماع، فيكون تاركه مخطئًا): قلنا: إما أن تريدوا بالدليل القاطع، أو الظني: فإن أردتم القاطع، لم تكن التسمية منحصرة؛ لخروج الظن عن القسمة، وهو الذي يغلب وقوعه في مدارك المجتهدين: وإن أردتم الظنى، فنحن نلتزمه. ثم نقول: إن أردتم سلامته عن المعارض في نفس الأمر، أو في ظن المجتهد إن أردتم في نفس الأمر - لا يفيدكم بعينه، ولا بعين حكمه؛ لاحتمال وقوع التعارض في ظن المجتهد، لا في نفس الأمر. فنقول للمعارض في ظن ذلك المجتهد، ويعمل به مرسله في ظن عن المعارض، وعلى هذا يكون كل مجتهد مصيبًا؛ لأن كلامهم إنما عمل بالسالم عن المعارض الراجح في ظن؛ ولا غيره عندنا بالسلامة في نفس الأمر، إنما تعتبر السلامة في ظن المجتهد، وكذلك الرجحان. وبهذا التفصيل يبطل هذا الطريقة من أولها إلى آخرها.

قوله: (لو كان فيها دليل لكان تارك العمل به تاركًا للمأمور به، فيكون عاصيًا): قلنا: إنما يكون عاصيًا بترك ما هو دليل في اعتقاده، لا في نفس الأمر: قوله: (فلما أجمعوا على أنه لا يستحق النار علمنا أن لا دليل). قلنا: أما أولاً: فلأنهم لم يجمعوا؛ لما تقدم من حكاية الخلاف في العقاب عن بشر المريسي. وأما ثانيًا: فلأن عدم العقاب إنما كان عند الخصم؛ لأن كل واحد مكلف بما غلب على ظنه من الدليل والحكم، فلا يستحق العقاب إلا إذا ترك ما غلب على ظنه. والذي في المظنون أمارة شرعية محققة، وهي غير الوهم الذي قلتموه. قوله: (الراجح إنما يجب العمل به على من اطلع عليه): قلنا: لا يعني بالراجح إلا في الظن، فلا يوجد أبدًا إلا مطلعًا عليه، ولا عبرة بما في نفس الأمر وبهذا نجيب عن قوله: قوله: (مصلحة أحد المجتهدين في العمل بالاجتهاد متى لم يصل إليه كان مخطئًا): قلنا: هذا ممنوع، بل الذي عليه العلماء أن كل مجتهد يجب عليه أن يصل إلى حد من الاجتهاد باعتبار محفوظاته واطلاعه وأهليته، حتى يحس من نفسه العجز، وهل يشترط قطعه بالعجز؟ أو يكفي الاعتقاد الجازم؟ أو الظن الغالب؟ تقدم - في ذلك - ثلاثة أقوال في العمل بالعام قبل طلب التخصيص، كما نقله الغزالي في (المستصفى)، وحكى الإجماع عليه، فكيف يحكون الإجماع فيما هو ثابت بالإجماع؟.

ولا يعني بالحد إلا هذا القدر، فما الدليل على الغاية؟ وليس الواقع حدا - في نفس الأمر بالنسبة إلى كل مجتهد. قوله: (وجود المطلوب متقدم على الاستدلال بمراتب): قلنا: الاستدلال: طلب دليل يترتب عليه حكم شرعي، فإذا عرض - بعد هذا الطلب - مقدمات وقعت في الذهن، حصل العلم بها متأخرًا عن وقوعها؛ لأن المقدمات خلق من خلق الله - تعالى - يخلقه في الذهن عقيب الطلب بجاري العادة، فإذا وقع الخلق حصل العلم بوجوده. وتلك المقدمات يتبعها الحكم؛ لأن الله - تعالى - إنما يكلفه بما يقع في ظنه، فالظن سبب التكليف، والتكليف متأخر عنه، فالحكم الذي هو المطلوب متأخر عن الاستدلال بمراتب، لا أنه متقدم عليه بمراتب. ولم يتقدم الحكم شيء ألبتة، إلا النسب الحاصلة بينه، وبين تلك المقدمات؛ لوجوب آخر النسبة عن طرفيها، وهذه بالنسبة ليست للاستدلال، بل متأخرة عنه، وعن وقوع المقدمات في الذهن. وبهذا يبطل قوله: إن الاستدلال متوقف على وجود الدليل؛ لأن الاستدلال لطلب، والطلب إنما يتعلق بالمعدوم لا بالموجود، عكس ما قاله، بل لو وجد الدليل في الذهن استحال طلبه؛ لأنه تحصيل الحاصل. نعم إن أراد أن في نفس الأمر دليلاً، المجتهد يطلبه، منعناه، بل لا دليل إلا ما يخلقه الله - تعالى - في جاري عادته في ذهن المجتهد عقيب الطلب أو متأخرًا عنه، وليس في نفس الأمر شيء. قوله: (النظر في الأمارة متوقف على وجود المدلول بمراتب): قلنا: لا نسلم: بل المدلول هو الحكم الشرعي، وهو عندنا مانع للظن، وليس - عندنا - في نفس الأمر دليل، ولا حكم إلا ما ثبت عند الظن في

نفس المجتهد، ولذلك جعلنا المجتهد طالبًا للأمارة، والحكم معًا؛ لأنهما مطلوبان، والطلب لا يتعلق إلا بمعدوم، والموجود يستحيل طلبه. قوله: (وهذا غير ما قررناه في الطريقة الثالثة): تقريره: أن العلماء ذكروا ضابطًا لتغاير الأدلة والأقيسة؛ لفائدة ينبني عليه في احتياج المجيب إلى تعدد الأجوبة في الأدلة، والأقيسة في الفوارق؛ لأنه بتقدير أن يكون القياسان واحدًا كفى فرق واحد، أو قياسين يحتاج إلى فرقين، وكذلك يحتاج إلى جواب واحد في الدليلين، بمعنى دليلٍ واحد لجوابين إن كانا دليلين. فقالوا: ينظر في الأقيسة إلى الجوامع، إن كان الجامعان واحدًا، فالقياسان واحد، وإن اختلف المقيس عليه، فإن العبرة في القياس، إنما هو الجامع، وإن تعدد الجامع تعدد القياس. وكذلك ينظر إلى الدليلين، فإن كان اللازم عنهما لواحد، فهما دليل واحد، واللازم عن هذا غير اللازم عن هذا، فهما دليلان. إذا تقرر الضابط فنقول: اللازم عن الطريقة الثالثة - أن المتقدم عين المتأخر، وهذا محال، واللازم عن الطريقة الرابعة الدور، وهو محال آخر لازم عن اللازم الأول، وإذا تعددت اللوازم كانا طريقين، وإنما كان يلزم الاتحاد أن لو كان اللازم عنهما الدور، أو كون الشيء في نفس غيره فيهما. قوله: (يكون الحكم بعد ذلك الدليل حكمًا بغير ما أنزل الله، فيلزم تكفيره؛ لقوله تعالى:} ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44]

قلنا: هذا عليه أسئلة: أحدها: أن ذلك الدليل لم يتعين أنه مما أنزل الله - تعالى - لجواز أن يكون قياسًا عقليا، أو مركبًا من العقل والنقل. وثانيها: سلمنا أنه يتعين أن يكون مما أنزل الله - تعالى - لكن المنزل ظاهر في عرف الشرع في القرآن؛ لقوله تعالى:} لتبين للناس ما نزل إليهم {، وحيث ورد التنزل، فالمراد به القرآن والسنة، وإن كانت وحيًا منزلاً، لكن غلب الاستعمال في القرآن، وحينئذ جاز أن يكون دليل الحكم من السنة. وثالثها: سلمنا أن المنزل يعم الكتاب والسنة، لكن اللفظ يقتضي أن من لم يحكم بكل ما أنزل الله، فهو كافر، وهذا لم يقل به أحد؛ فإن المجتهد لابد أن يترك المنسوخ والمرجوح لمعارض عارضه، فلابد لكل مجتهد من ذلك، والقول بالعموم خلاف الإجماع؛ مع أن ظاهر عموم "ما" يقتضيه؛ فإنها من صيغ العموم. ورابعها: أن يقول: المراد من لم يحكم بما أنزل الله - تعالى - بمعنى أنه لم يحكم بشيء منه، وإلقاء جميع المنزل، فهو كافر. فلم قلت: إن المجتهد إذا ترك دليل الحكم ترك كل منزل، بل بقى أدلة التوحيد والبعث، وغير ذلك من السمعيات. وخامسها: أن هذه الصيغة عامة في أفراد الأدلة المنزلة المطلقة في المدلول، كما تقدم في (باب العموم). فنحن نقول بموجبه؛ لأن من لم يحكم بما أنزل الله في قواعد العقائد، فهو كافر، وهذا صحيح. قوله: (غموض أدلة هذه الأحكام لا يزيد على غموض أدلة المسائل العقلية، والخطأ فيها كفر):

قلنا: الفرق أن المخطئ في الفروع، إذا حكم بغير حكم الله المقرر في نفس الأمر، فقد أضاف إلى الله - تعالى - ما هو جائز عليه؛ فإن الله - تعالى - يجوز عليه أن يكون في شرعه التحريم بدلاً عن التحليل، وبالضد. أما المخطئ في الأصول، فيجوز على الله - تعالى - ما هو مستحيل عليه، وما هو قدح في الربوبية، فذلك أشد الحرج، وعظم الخطر، ولم يقدر المكلف منها، وهذا فرق عظيم، فلا يلزم من نفي الحرج في الفروع عدمه في الأصول؛ ولأن مسائل الأصول منضبطة، أعنى المسائل التي كلف الله - تعالى - بها عباده في أصول الدين، لا تكاد تزيد على الخمسين مسألة - والقليل يمكن ضبطه، وإتقانه توجه الفكر إليه التوجيه التام، والفروع لا تعد، ولا تحصى، فلا يمكن ضبطها، فيعذر الإنسان فيها، وهذا - أيضًا - فرق حسن. ولهذه الفروق جوز الشرع التمسك في الفروع بالظن دون الأصول، وهو - أيضًا - فرق ثالث. قوله: (لو لم يكن عليه دليل، لزم تكليف ما لا يطاق): قلنا: ونحن نقول بجوازه، وهو المشهور من مذهب المتكلمين. قوله: (الأمة مجمعة على أن المجتهد يعمل على وفق ظنه، فيكون مصيبًا): قلنا: ليس الخلاف في إصابة المجتهد الحكم الجاري في الظنون؛ فإن ذلك مجمع على الإصابة فيه، بل يتعذر خلافها. إنما النزاع في حكم الله - تعالى - الكائن في نفس الأمر الذي يطلبه المجتهدون، هل ذلك حق حتى تتصور الإصابة فيه، والخطأ، وليس في نفس الأمر شيء، فلا خطأ ألبتة حينئذ؟.

فالإصابة، والخطأ ليس النزاع فيهما إلا باعتبار حكم آخر في نفس الأمر لا باعتبار ما في ظنون المجتهدين. فاكتفاؤكم بحصول الصواب فيما في الظنون لا يفيدكم شيئًا، ولا خلاف بين الناس أن لله - تعالى - في الظنون أحكامًا. إنما اختلفوا هل وراء هذه الأحكام أحكام أخر في نفس الأمر أم لا؟. وأنه أمر مع هذه الأحكام التي في الظنون بطلب أحكام أخر في نفس الأمر، كما تطلب الكعبة، فيصيبها، ويخطئها، مع اتفاقنا في الكعبة - أيضًا - أنه يجب أن يصلى إلى الجهة التي غلبت على ظنه، فكما أمر في الكعبة بها في نفس الأمر، وبما غلب على ظنه، وإن أخطأ، كذلك هاهنا مأمورون. وكما أن ثم مأمورين، والخطأ إنما يتصور باعتبار الكائن في نفس الأمر فيها دون ما أدى إليه اجتهاده إلا أن يسهو عنه، فيفعل غيره نسيانًا، فيصلى لغير الجهة التي أدى إليها اجتهاده، وبقى تعين الحكم الذي أدي إليه اجتهاده سهوًا إلى ما إذا عمل بمقتضى الاجتهاد، فهو مصيب قطعًا؛ لما في الاجتهاد يحتمل الإصابة لما في نفس الأمر من غير جزمٍ. قوله: (استلزام الأمارة للحكم، إما أن يتوقف على انضمام قيد أم لا)، فإن توقف امتنع أن تكون تلك الأمارة أمارة لذلك الحكم؛ لأن المستلزم هو المجموع): قلنا: عليه سؤالان: الأول: أن هذا ينفي الأمارة كلها في أمور الدنيا والدين، لا ما يتردد فيها بعين ما ذكرتم، وهو خلاف الضرورة؛ فإنا مجمعون على الاستدلال بالغيم الرطب على المطر، وبأمارات الخوف، والأمن، وغضب زيد، وجوعه، وفرحه، ولذته.

ويعتمد على ذلك في مداواة الأبدان، والمزارع، والمتاجر، وغيرها من أمور الدنيا، ويستدل بخبر الواحد، وبعموم الكتاب، وبحمل اللفظ على الحقيقة دون المجاز، وعلى العموم دون التخصيص، والاستقلال دون الإضمار، والإفراد دون الاشتراك. وغير ذلك من المدارك الشرعية، وما ذكرتموه يبطله كله. الثاني: أن كون الشيء في ذاته بحيث يكون استلزامه الشيء أرجح من عدم استلزامه أمر ثابت له في ذاته، وجد معه عدم المانع من ذلك أم لا؛ فإن الماء يستلزم الري في الحيوان ظاهرًا، والخبز الشبع، والنار الإنضاج للطعام، وغير ذلك من الأغذية، والأدوية، والأسباب الممرضة والمصحة قد يقترن بها مانع، فلا يثبت معها الحكم المنسوب إليها، وقد لا يقترن بها فيثبت، ولا يخرجها ذلك عن الاستلزام الظني لذلك الحكم؛ فإن عدم المانع ليس معتبرًا في اقتضاء المقتضى، إنما هو معتبر في الترتب، ولا مدخل له في الاقتضاء. كذلك الأمارة في ذاتها تناسب الحكم، وتستلزمه ظاهرًا حتى يمنعها مانع، ففي الحقيقة المستلزم للمجموع المركب للأمارة، مع عدم المانع، لكن عدم المانع لا مدخل له في الاقتضاء، كما أن عدم المخصص لا مدخل له في كون الحقيقة هي الراجعة. قوله: (ذلك الخطأ من الصغائر، فلا جرم لم يجب الامتناع عن التولية": قلنا: اتفقوا على أن كل مجتهد مأجور، إما أجرًا إن كان مخطئًا، أو أجرين إن كان مصيبًا، والمأجور لا يكون عاصيًا، والصغيرة عصيان، فلا يجتمع معه الاجتهاد.

سلمنا أنها صغيرة، لكن ملابسها مصر عليها، ولا صغيرة مع إصرار، كما أن لا كبيرة مع الاستغفار، فلا معنى لهذا الكلام أصلاً. قوله: (في قول الصديق رضي الله عنه: (إن كان خطأ فمنى، وأستغفر الله): قلنا: قرينة الاستغفار تقتضي أن الخطأ هاهنا باعتبار توهم التقصير في الاجتهاد، ونحن نقول: إن كل من اجتهد، ولم يبذل وسعه، فهو مخطئ آثم. إنما النزاع إذا استفرغ وسعه، هل يتصور منه الخطأ باعتبار حكم عينه الله تعالى - في نفس الأمر أم لا؟ وأنتم لم تتعرضوا لبيان ذلك. سلمنا: أن الصديق لم يرد ذلك، بل أراد الخطأ مع بذل الجهد، لكن يمكن حمل الخطأ على عدم مصادفة وجه المناسبة الراجحة والخالصة، وإن كان الاجتهاد بين القواعد، فيكون باعتباره عدم مصادفة القاعدة التي هي أولى بهذا الفرع. ويضيف للقاعدة البعيدة دون القريبة، وإن كان عند تعارض الأدلة، فيكون الخطأ باعتبار عدم الإضافة إلى الدليل الراجح، وهذه كلها أنواع من الخطأ، غير الخطأ في مصادفة الحكم المعين في نفس الأمر. وعلى هذه الأنواع يحمل جميع ما نقلتموه من ذكر الصحابة - رضي الله عنهم - الخطأ. قوله: (لو كان خطأ لكان من الكبائر): قلنا: تقدم الجواب عنه، وأنه مأجور إجماعًا. قوله: (الشبهات هاهنا أولى من العقليات):

قلنا: تقدم الجواب: أن الخطأ في العقليات فيه جناية عظيمة على جهة الربوبية بخلاف الخطأ في الفروع. قوله: (أحد المجتهدين عرف حجة صاحبه، واطلع عليها، فلو كان مخطئًا لكان مصرًا على الخطأ): قلنا: لا يكون مصرًا على الخطأ إلا إذا عرف رجحان دليل خصمه، أما إذا اعتقد رجحان دليل نفسه لشبهة عرضت له، وقد استفرغ جهده، فهو مأجور غير مصر على الخطأ. قوله في الجواب: (قال عليه السلام: (من سعى في دم امرئٍ مسلمٍ، ولو بشطر كلمةٍ جاء يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه آيس من رحمة الله). قلنا: هذا محمول - بالإجماع - على من سعى بما يعتقد أنه حرام، أو يعتقد إباحته، مع تقصيره في الاجتهاد، أما مع بذل الجهد، فلو قتل مسلمًا في صف الكفار عليه شعار الكفار، كان له أجر عظيم، فضلاً عن الإثم. قوله: (إن لم نجوز كونه مخلاً بنوع من النظر يلزمه فعله، كان كالساهي فيكون غير مكلف، فلا يكون مخطئًا): قلنا: لا يلزم من عدم التكليف عدم الخطأ؛ لأن عدم التكليف عند الخصم للعجز عن وصل الحق، فيسقط التكليف للعجز، ويثبت الخطأ؛ لعدم مصادفته الحق، فعدم التكليف لا يأبي الخطأ بمعني عدم الإصابة. إنما يأبي الخطأ من الخطيئة، ومنه قوله - تعالى -:} إنا كنا خاطئين {أي: مذنبين.

ومن النوع الأول: قوله تعالى:} .... أن يقتل مؤمنًا إلا خطًا {أي: لم يطلع على حقيقة المقتول، فذلك القتل من غير قصد لقتله على ذلك الوجه. قوله: (لا نعلم الرتبة التي إذا وصل إليها علم أنه معفو عنه): قلنا: بل نعلمها بضابطها، وهو العجز مع بذل الجهد؛ فإن الإنسان يحس من نفسه العجز، كما يحس الجوع والعطش، وغيرهما. ومتى علم العجز بالوجدان، قطع سقوط الإثم بالإجماع، فصار عالمًا بأنه في تلك الرتبة غير مكلف. قوله: (لو عرف تلك المرتبة لكان مقرا بالمعصية؛ لأنه علم أنه لا مضرة عليه في ترك النظر الزائد مع كونه مثابًا عليه): قلنا: لا يلزم من ذلك إغراؤه بالمعصية، إنما يلزم ذلك أن لو لم يصل إلى رتبة العجز، فهو يعلم العجز، ويعلم أنه لو وصل لتلك الرتبة لأثيب، ولا يلحقه ضرر في تلك الرتبة، غير أنه كيف يقدر أن يصل إلى ما هو منفعة له، ومثوبة غير مضرة له؟ العجز أقعده عن ذلك كله. قوله: (قال عليه السلام: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) مع أنهم كانوا مختلفين فلا يكون فيهم مخطئ): قلنا: المجتهدون كلهم اتباعهم هدى؛ فإن كل مجتهد قوله طريق إلى الله - تعالى - وسبب السعادة، من اتبعه كان على منهج من الحق، ما لم يخالف المجتهد قاطعًا، أو ما ينقض قضاء القاضي إذا قضى بخلافه. ووجه تخصيص الصحابة - رضي الله عنهم - من وجوه امتازوا بها على غيرهم: أحدها: أن أقوال كل واحد منهم، وأفعاله تكون مدركًا شرعيا مستقلاً

بنفسه؛ كالقياس، وخبر الواحد، ويجوز للمجتهد أن يعتمد عليه إذا لم يظفر بما هو أرجح منه، وهو مذهب مالك، وجماعة من العلماء، ويعضدهم هذا الحديث. وثانيها: أنهم أقرب للصواب، ومصادفة القواعد الشرعية، وضبط الألفاظ النبوية، والأسرار القياسية، فيكونون بذلك أولى من غيرهم بذكر الهداية. وثالثها: أن هذا الحديث يدل على خصيصة لهم لم تحصل لغيرهم. وهذه الوجوه كلها لا تقتضى عدم الخطأ في مصادفة الحكم المعين في نفس الأمر، كما تقول لمن لا يحسن الاستدلال على الكعبة، إذا اجتهد غيره في الكعبة، وصلى كل منهم إلى جهة غير الجهة التي صلى إليها الآخر: فأي رجل من هؤلاء اقتديت به اهتديت في صلاتك، وبرئت ذمتك مع القطع بخطأ تسعة منهم في إصابة العاشر، لجواز احتمال أن تكون الجهة في غير تلك العشرة. قوله: (أنه - عليه السلام - حكم بتصويب معاذٍ على الإطلاق، ولم يفصل بين حالة وحالة):

..............................................................

.............................................................

قلنا، إنما حكم بتصويبه باعتبار ترتيبه بين الكتاب والسنة، والقياس لا باعتبار مصادفة الحق دائمًا في جميع الصور. قوله: (أقوى الأمارات، إن كان موجودًا كان الأمر به واردًا بالإجماع قلنا: هذا إذا كان موجودًا في نفس المجتهد؟ أما في نفس الأمر فلا، وهو مذهب الخصم - أن الأشبه في نفس الأمر يصيبه المجتهد، ويخطئه. قوله: (إن فرعنا على وجوب رعاية المصالح على الله - تعالى - وجب عليه التنصيص على الأشبه). قلنا: جاز أن يكون جعل الأشبه ملتبسًا بغيره أوفق للمكلف؛ ليحصل له رتبة الاجتهاد، وذلك كإخفاء ليلة القدر، وساعة الجمعة، وتستجاب الدعوة من الأولياء والصالحين بالصالحين، وخلق الأهوية والشبهات لدفعه عن الحق:} ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة {:،} أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين {، فالتفريع على وجوب رعاية المصالح قد يقتضى إخفاء الأشبه؛ لما ذكرناه. قوله: (إن لم يجب عليه - تعالى - رعاية المصالح جاز أن ينص - تعالى - على عين ذلك الحكم، وهو يبطل القول بأنه لو نص لنص على الأشبه):

قلنا: إذا فرعنا على عدم وجوب رعاية المصالح جاز رعايتها على سبيل التفضل، فلا يتعين النص على غير الأشبه، وقوله: (لو نص لنص على الأشبه) أي في عادته - تعالى - في تفضله على عباده، بجعله الشرائع كلها مصالح. قوله: (قال - عليه السلام -: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر): قلنا: ليس خطؤه باعتبار الحكم المقدر - كما قلتم - بل هو عند الخصم المصوب مطلقًا، باعتبار الخطأ في الأسباب، بأن يقضي على شخص بالقصاص، ولم يكن قتل، أو بقطع في السرقة، ولم يكن سرق، أو بالرجم، ولم يزن، أو بالدين، ولم يستسلف. فهذه كلها مخالفة للأسباب والخطأ فيها إجماعًا، ولا تعلق لها بالأحكام في نفس الأمر، ولا بالأشبه. قوله: (لما لم يكن المطلوب معينًا وقوعًا تعين أن يكون معينًا تقديرًا): قلنا: هاهنا قسم ثالث، وهو تعينه وقوعًا في الاجتهاد، لا في نفس الأمر؛ لأن الوقوع نوعان، فالحصر ليس ثابتًا.

قوله: (كيف يكون مخطئًا بالعدول عن الأشبه)، وكيف ينقص ثوابه، إذا لم يظفر؟ ما لم يكلف بإصابته، ولا سبيل له إلى إصابته لعدم الدلالة والأمارة): قلنا: لأنه - عند الخصم - كدفين يعثر عليه بالبحث، وبالسعادة لا بالأمارة، فيحصل الخطأ؛ لعدم مصادفته؛ لأنه لم يصادف الذي هو الأرجح عند الله تعالى. وأما نقصان الثواب مع عدم التكليف فغير بعيد من قواعد الشرع؛ لأن الحائض ينقص ثوابها بعدم الصلاة والصوم؛ لقوله عليه السلام: (وأما نقصان دينهن، فتمكث إحداهن شطر عمرها لا تصلي) مع أنها غير مكلفة بالصلاة، والصوم. ولأن العاجز عن رتبة المتصدقين، لا يحصل له ثوابهم، كما جاء في الحديث الصحيح، لما شكا الفقراء الأغنياء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: نصلى ويصلون، ونصوم ويصومون، ويتصدقون ولا نجد فأمرهم - عليه السلام - بالأذكار المشهورة عقيب الصلوات، ففعل ذلك الأغنياء، فشكا ذلك الفقراء لرسول الله عليه السلام: فقال:} ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء {، وكذلك سائر الرتب العلية، يفوت ثوابها العاجزين عنها، وهم مكلفون بها، وأراد بذلك الرسالة والنبوة، وما دونهما. قوله: (إن استوت الأمارات عند المجتهد، يخير بينها، أو يعاود الاجتهاد): قلنا: هذا التخريج على الخلاف المتقدم، فالتخير هو المشهور، ومراجعة الاجتهاد هو الشاذ المحكي - عن بعض الفقهاء - كما تقدم.

(تنبيه) مذهب القياسين والفقهاء أن الراجح مصالح

(تنبيه) مذهب القياسين والفقهاء أن الراجح مصالح، وأن الله - تعالى - إنما يثبت حكمًا لمصلحة خالصة، أو راجحة، أو مفسدة خالصة، أو راجحة إن كان الحكم مساويًا. القاعدة الشرعية: أن الراجح يستحيل أن يكون هو النقيضين؛ بل متى كان أحدهما راجحًا، كان الآخر مرجوحًا، وهذه القاعدة تقتضي أن يكون المصيب واحدًا فقط، وهو من أفتى بالراجح، وغيره يتعين أنه إنما أفتى بالمرجوح، فيكون مخطئًا بحكم الله؛ لأنه بالراجح ليس إلا. وعلى هذا تتناقض قاعدة القائل بأن كل مجتهد مصيب، مع القول بالقياس، وأن الراجح تابعه المصالح الخالصة الراجحة. سمعت الشيخ عز الدين - رحمه الله - يذكر هذا السؤال، ثم يقول عقيبه: يتعين على هؤلاء أن يقولوا: هذه القاعدة إنما تكون في الأحكام الإجماعية، أما في مواطن الخلاف فلم يكن الصادر عن الله - تعالى - أن الحكم تابع للراجح في نفس الأمر من المصالح، بل ما في الظنون فقط كان راجحًا في نفس الأمر، أو مرجوحًا، فقاعدة التصويب تأبي قاعدة مراعاة المصالح؛ لتعين الراجح. وكان - رحمه الله - يقول: والقائل بتصويب الجميع يتعين عليه أن يصرف الخطأ الوارد في حديث الحاكم إلى الأسباب - كما تقدم بيانه - ويكون أرجح بما قاله الخصم؛ لأنه متفق عليه. أعني: اتفق على أن الخطأ يقع في الأسباب، وحمل كلام الشارع على المتفق عليه أولى. (تنبيه) قال التبريزي: نلزم المصوبة، فنقول: إن المصوبة إذا أجمعوا على

تصويب كل مجتهد، اعترفوا بإصابتنا في أن الحق متعين، فيصير مجمعًا عليه، وخلاف المجمع عليه باطل إجماعًا. ثم نقول: إذا عينا حكمًا، واعتقدنا أنه حكم الله - تعالى - بموجب اجتهادنا، وأنه الذي وجب طلبه على كل مجتهد. فهم بين أمرين: إما أن يصوبونا، أو لا؟ وعلى التقديرين يبطل قولهم بتصويب كل مجتهد. فإن قيل: الإلزام يندفع لأوجه: الأول: أنا إذا قلنا بتصويب كل مجتهد في الفروع التي هي مسألة اجتهادية عملية، وهل لله - تعالى - في الواقعة حكم معين؟ مسألة عملية أصولية، والمصيب فيها واحد. وهذا هو الاعتراض على التفصيل؛ فإنه إذا اعتقد في الحكم المعين أنه حكم الله - تعالى - فإنما نصوبه في أصله، ووجوب العمل بموجبه في الجملة لا نفس هذا الاعتقاد بخصوصه؛ لأنه من باب العلم، لا من باب العمل. الثاني: هو أنا وإن صوبناه في عين هذا الاعتقاد، لكن بالإضافة إليه، أو في أصل كونه حقًا، وهو أعم من كونه في نفسه حقا، أو بالإضافة إليه، ولا يلزم من التصويب في الأعم التصويب في الأخص. وتحقيقه: أنا إنما نصوبه فيما يأتي به من الاجتهاد، وحكمه حكم الاجتهاد المعين، كون ما أدى إليه حقا. أما أنه حق في نفسه وغيره لا يجوز أن يكون حقا معه، فهو موجب نظر آخر. الثالث: أن تصويبه في ذلك الاجتهاد على التفصيل خلاف الإجماع، أو

مقتضاه تعين الحكم فيه، وهو خلاف الإجماع، فإن من يقول: الحق متعين يجوز أن يكون غيره. والجواب عن الأول: هو أنكم سلمتم تعين الحق في مسألة التصويب، فلا يخلو إما أن يعتقدوا أن عليه دليلاً أولا؟. ومحال ألا يكون عليه دليل مع تعينيه، والتكليف بإصابة عينه، فإذا كان عليه دليل، فإما مقطوع، أو مظنون، ومحال أن يكون مقطوعًا مع نفي التأثيم، والتبديع؛ لمخالفته كما في الأصول. وإن كان مقطوعًا فقد سلمتم المسألة؛ لأن النزاع في جواز التكليف بالحق المعين حيث لا قاطع يدل عليه، وقد سلمتموه. وقولهم: نتيجة الإجماع، وهو مقطوع به، وليس بموجب اجتهاده، وإنما موجب اجتهاده كون ذلك المعتقد حقا، وحكمًا لله - تعالى - فيجب أن تصويره فيه، وبه يندفع الوجه الثاني؛ فإن موجب اجتهاده كونه حقًا في نفسه؛ لأنه تبع للأمارات الدالة عليه، ولا يفسد في مقدمات تلك الأمارات. وقولهم: (اعتقاد كونه حقا على التعيين خلاف الإجماع): قلنا: خلاف الإجماع اعتقاد كونه حقًا على التعيين، أما على الظاهر فلا. والتحقيق: أن نقول: لنا وجوه: الأول: أن الاجتهاد طلب، وهو مكلف به، وطلب ما لا وجود له في حق العالم به محال. قال: فإن قيل: هو مكلف بتحصيل غلبة الظن؟ قلنا: تحصيل غلبة الظن بما لا وجود له محال، ولا يتصور في حق العالم إلا أن يتسلط الوهم والخيال عليه، مع علمه بأنه كاذب. الثاني: أن معنى الاجتهاد كد الخاطر في التنبيه لوجه دلالة الدليل، وهو

لابد أن يكون قبل نظر الناظر، بحيث إذا نظر فيه أفضى به إلى العلم بشيءٍ، أو الظن به؛ ليتميز عما ليس بمدركه؛ فإن النظر لا يكسب المنظور فيه صفة، بل يطلعه منه على ما منه يدل، فلابد أن يكون مقدمًا على نفس النظر، ولابد أن يرتبط ذلك الوجه بمتعين؛ ليتميز مدلوله عما ليس بمدلوله الثالث: أن المجتهد إنما يعلل حكم النص، أو الإجماع، وهو حق متعين في حق كل أحد، فإذا أضافه إلى وصف، فإنما يضيفه إليه لصلاحية يعتقدها فيه، تقتضي الإضافة، وإذا وجد ذلك الوصف في موضع آخر، فإنما يعتقد ثبوت ذلك الحكم لثبوت تلك العلة. ويعتقد لزوم ذلك الحكم لثبوت تلك العلة؛ لوجود الصلاحية المقتضية للعلية، فيكون المؤثر في الثبوت - أعني ثبوت الحكم الثبوت أعني ثبوت العلة - وفي الاعتقاد - أعني اعتقاد الحكم، واعتقاد العلة. فعلى هذا إن كانت العلة متحققة في الفرع، فالحكم ثابت، وإلا فلا؟. وإن كانت الصلاحية متحققة، كما ظن، فهو علة، وإلا فلا شك أن الأمر منحصر في أن تكون العلة موجودة، أو لا تكون؟ فيكون الحق واحدًا أبدًا. ولهذا لا يجد المجتهد لنفسه قصد إناطة الحكم به في حق نفسه على الخصوص، بل يسترسل في إضافة الحكم للوصف بما هو حكم في نفس الأمر منزل من الله تعالى. وأما أن عليه دليلاً ظنيًا أن المجتهد ليس مأمورًا بالظفر به كيف كان، بل بطريقة حتى لو حاد عن الطريق، فظفر به اتفاقًا لم تعتبر إصابته. ولهذا لو أصاب القبلة لا عن نظرٍ في دليلها، بطلت صلاته، ولو أصاب الجاهل في الحكم نقض قضاؤه، ولا يجوز الاعتماد على فتواه.

(فائدة) قال سيف الدين: (وافق بشر المريسي على التأثيم ابن علية، وأبو بكر الأصم، ونفاة القياس كالظاهرية، والإمامية

وإذا ثبت أنه لابد من الطريق، فلابد أن يتميز عن غيره بما منه يؤدي إلى المطلوب، وهذا هو حد الدليل، ثم ذلك المنظور فيه، قد يؤدي إليه قطعًا أو ظاهرًا، والأول خلاف الإجماع، فتعين الثاني. قال: وبشر في التأثيم، والأصم مستويان بالإجماع. (فائدة) قال سيف الدين: (وافق بشر المريسي على التأثيم ابن علية، وأبو بكر الأصم، ونفاة القياس كالظاهرية، والإمامية، وقال: الحق متعين في كل مسألة، وعليه دليل قاطع من أخطأه أثم من غير كفر، ولا فسق). وكذلك نقله الغزالي في "المستصفى"، ونقل عنهم أنه لا يجوز أن يكون في مسألة دليل ظني، بل قطعي. وحجة الجمهور: أنه خلاف المعلوم من السلف بالضرورة. وقال: فهرسة المسالة تفصيلاً لم يقله في (المحصول)، فقال: المسألة الظنية من الفقهيات،: إما ألا يكون فيها نص؟ أو يكون؟ فإن لم يكن فيها، فحكى فيها الخلاف الذي حكاه في (المحصول) من التصويب والتخطئة، والتأثيم، وكون عليه دليلاً قطعيًا أو ظنيًا. ثم قال: وإن كان فيها نص، فإن قصر في طلبه، فهو آثم؛ لتقصيره، فيما كلف به من الطلب، وإن لم يقصر، لكن تعذر الوصول عليه لبعد المسافة، أو لإخفاء الراوي له، وعدم تبليغه، فلا إثم. وهل هو مخطئ أو مصيب؟.

قال: فيه الخلاف المتقدم. وقال: والمختار عدم التصويب لكل مجتهد. قال: لكن القائلين بهذا المذهب احتجوا بحجج ضعيفةٍ: أحدها: قوله تعالى:} وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث {إلى قوله:} ففهمناها سليمان {. دلت على عدم فهم داود عليه السلام. وقوله تعالى:} لعلمه الذين يستنبطونه منهم {. وقوله تعالى:} وما يعلم تأويله إلا الله {. ولولا أن محل الاستنباط حكم معين، ولما كان كذلك. وقال: ويرد على الآية الأولي: أنها تدل بالمفهوم، وهو ليس بحجة. وسلمناه: لكن روى أن الواقعة كان فيها نص نسخه الله - تعالى - وأعلم سليمان به داود، فهذا هو الفهم الذي أضيف إليه، أو يكون فيها نص اطلع عليه سليمان، دون داود عليهما السلام. قال: ونحن نسلم الخطأ في مثل هذه الصورة، وإنما النزاع إذا كان بالاجتهاد، وليس فيها نص. وعن بقية الآيات أنها محمولة على القطعيات. قال: (ومن الحجج أن الأمة مجمعة على جواز المناظرة من المجتهدين، ولو كان كل مجتهد مصيبًا لم يكن للمناظرة معنى). قال: (ويرد عليه أن فائدتهما معرفة انتفاء الدليل القاطع الذي يسوغ مع عدمه الاجتهاد، ومعرفة سلوك الاجتهاد والقوة على الاستدلال، وتنقيح الذهن، وتحريك الهمم إلى رتبة الاجتهاد).

(مسألة)

قال الغزالي في (المستصفى): يلزم القائل بأن المصيب واحد - إلا يخير العامي في الاستفتاء بين المجتهدين، وقد التزمه بعض معتزلة (بغداد)، وقال: يجب طلب الدليل. قال: والذي اختاره تصويب المجتهدين، وأقطع بخطأ المخالف في ذلك. (مسألة) قال الغزالي في (المستصفى): (إذا تعارض دليلان عند المجتهد، وعجز عن الترجيح، ولم يجد دليلاً من موضع آخر، فغير المصوبة يقول: هذا من عجزه، وليس في أدلة الشرع تعارض من غير ترجيح، ويلزم التوقف، والأخذ بالاحتياط، أو تقليد مجتهد آخر عثر على الترجيح، واختلف المصوبة: فمنهم قائل بالوقف؛ لأنه متعبد باتباع الظن، ولم يوجد. قال: وهذا هو الأسلم الأسهل. وقال القاضي: يتخير، فيعمل أيهما شاء، كما يتخير في خصال الكفارة، والتخيير تارة يكون بالنص، وتارة يكون بالاستصحاب. (فائدة) قال بعض المشايخ: إن السيف الآمدي قال: (الدليل على أن المصيب واحد، أن بعض المجتهدين أداه اجتهاده إلى أنه ليس كل مجتهد مصيبًا، فإن كان مصيبًا، فليس كل مجتهد مصيبًا؛ لأنه مجتهد، وليس مصيبًا): قلت: وجوابه: أن المجتهد في هذه المسألة مجتهد في مسألة أصولية قطعية، فنحن نلتزم أنه مخطئ، ولا يلزم أن يكون بعض المجتهدين في الفروع مخطئًا، وهو محل النزاع، لا كل مجتهد كيف كان.

(فائدة) قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله: (معنى قوله عليه السلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران) - أن الخطأ محمول على الخطأ في الأسباب

(فائدة) قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله: (معنى قوله عليه السلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران) - أن الخطأ محمول على الخطأ في الأسباب - كما تقدم بيانه في هذه المسألة - فمن حكم بالقصاص على من قتل في نفس الأمر، فله أجران: أحدهما: على تحصيل مصلحة دفع الجناية، وحصر الأولياء بالتشفي، واستدامة الحياة بقتل الجناة. والآخر: على سعيه، واجتهاده، وإذا حكم بالقصاص على من لم يقتل، لأن الشهود زور ولم يعلم، أو نحو ذلك، فله أجر سعيه واجتهاده فقط. ولم يحصل مصلحته في نفس الأمر، فلم يكن له غير أجر واحدٍ بخلاف المصيب له السعي، وتحصيل المصلحة، فله أجران. (مسألة) في نقض الاجتهاد قوله: (إذا اتصل بالاجتهاد قضاء القاضي، فقد تأكد): تقريره: أن الله - تعالى - جعل الأحكام على قسمين: منها: ما قرره في أصل شرعه، ومنها: ما لم يقرره. فالذي قرره كالصلوات الخمس، ونحوها، وما لم يقرره قسمان: منه ما وكله [للمكلف]، وهو نوع واحد: إيجاب المندوب بطريق واحد، وهو النذر، فمن شاء نذر مندوبًا صار واجبًا عليه. والقسم الثاني: أقضية الأحكام في مواقع الاجتهاد، حيث تتقارب الأدلة،

وتختلف الفتاوى بجعل الشارع للحاكم، أن ينشئ حكمًا في تلك المواطن بما يراه من تلك الاحتمالات، أو الفتاوى المجتهد فيها، ويكون ذلك حكمًا على الخلق كلهم، اقتضى ذلك حكمه رفع الخصومات، وسد باب المشاجرات، فيستقر ما حكم به الحاكم، ولا يتمكن المفتى - بعد ذلك - من إباحة نقض، ولا إثبات ضده. ولا يمكن رفع الخصومات من العالم إلا بذلك؛ إذ لو بقي باب القسامة مفتوحًا، لكان للخصم التمسك بقول المفتى الآخر، فهذه الحكمة الموجبة لجعل ذلك للحكام. فحكم الحاكم في ذلك بيانه عن الله - تعالى - بإذن الله - تعالى - له في ذلك إجماعًا، فهو كنص وارد من الله - تعالى - وخصوص تلك الواقعة تقدم على دليل المجتهد العام، ويبقي المجتهد في غير هذه الصورة على مقتضى دليل عمومه. مثاله: دل الدليل عند الشافعي - رحمه الله - على أن قول القائل للمرأة: إن تزوجتك فأنت طالق، على أن هذا الطلاق لا يلزم بحكم حاكم بوقوع الطلاق فيه في امرأة معينة. فقول الشافعي هذا نص خاص قد ورد في خصوص هذه المرأة، فأفتى بعدم الطلاق فيما عدا هذه الصورة تمسكًا بالعموم بحسب الإمكان، وتقديمًا للخاص على العام، كما إذا قال الله تعالى:) لا تقتلوا زيدًا المشرك) بعد قوله تعالى:} فاقتلوا المشركين {؛ فإنا لا نقتله إجماعًا ويتمسك بالعموم في غيره، فكذلك هاهنا. وهذا الذي ينشأ عن الحكم هو إلزام للفعل، أو الترك، أو إباحة، ولا يتصور فيه الندب، والكراهة؛ لعدم مناسبتها لدفع الخصومات.

(تنبيه) قال التبريزي: (يجب على المجتهد ترك موجب اجتهاده لأجل حكم الحاكم في الظاهر، وفيما يحل له في الباطن)

فالإلزام في الفعل كالقضاء بوجوب الشفعة في البناء القائم، وغيره من المسائل التي اختلف العلماء في الشفعة فيها. والتزام الترك: كالقضاء بصحة الوقف في المنقول، والمشاع، وفسخ النكاح، ونحوه. والإباحة: كالقضاء بصيرورة الأرض على حكم الموات، إذا انقضت عمارة المحيي لها، كما نقوله، ونحوه. وهذا الحكم إنشائي نفساني يقوم بنفس الحاكم، ثم يخبر عنه بلفظ لساني وهو تفسير قول العلماء: إن الحكم إلزام لكلام النفس لا بالصورة الظاهرة، فقد يحكم الحاكم العديم القدرة على الملك العظيم متى تقدر الإلزام الحسي، بل المراد ما ذكرته، ونسبة الحاكم إلى الشارع، ونسبة المفتى إليه ككاتب الحاكم، ومترجمه، فالمفتى مترجم مخبر عما وقع في الشريعة. والحاكم منشئ الأحكام، لم ينقلها عن صاحب الشرع، بل يؤدي إليها اجتهاده من القواعد ونحوها. وهذه مسألة عويصة، ولها فروع وتحقيقات تتعلق بها قد جمعت فيها كتابًا سميته كتاب (الإحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام، وتصرف القاضي والإمام) وذكرت هاهنا هذه النبذة لتعلقها بهذا الموضوع في تقريره. (تنبيه) قال التبريزي: (يجب على المجتهد ترك موجب اجتهاده لأجل حكم الحاكم في الظاهر، وفيما يحل له في الباطن). (تنبيه) وقع في (التنبيه) للشيخ أبي إسحاق ما يشير إلى إمكان النقض، وقد أوله

(تنبيه) الفرق بين ما يحدث من الحكم بالنذر، وبين ما يحدث بحكم الحاكم

عليه شراحه، وحكوا الإجماع في عدم النقض، وهل إذا لم ننقضه، هل ينفذه الحاكم الثاني الذي يرفع إليه؟. حكى شارح (الوجيز) قولين: أحدهما: قول الشافعي: إنه لا ينفذه، ولا ينقضه، ولا يتعرض له ألبتة إذا كان يعتقد خلافه. والآخر: أنه يجب عليه تنفيذه. قال: وهو الذي عليه العمل. قال: وعلى هذا إذا حكم، ثم تغير اجتهاده - بعد الأول - يعد تغييرًا للاجتهاد، وهو مقتضى ما تقدم من القاعدة، وأنه نص خاص ورد من جهة الشرع. (تنبيه) الفرق بين ما يحدث من الحكم بالنذر، وبين ما يحدث بحكم الحاكم، وإن كان كلاهما قبل حصول هذين السببين لم يكن ثابتًا من وجهين: أحدهما: أن النذر لمصالح جزئية تتعلق بالناذر، وقضاء القاضي للمصالح العامة في درء الخصومات. والحاكم يتعين للحكم إجماعًا، ويفسق بعدمه، إذا تركه بغير عذر؛ لأن مصلحته من الضروريات، أو من الحاجيات، فلما عظمت مصلحتها، تعين وجوبها. قوله: (لا ينقض قضاء القاضي إلا إذا خالف دليلاً قاطعًا): تقريره: أن الذي ينقض له قضاء القاضي أربعة: الإجماع، والقواعد، والنص، والقياس الجلي، إذا خالف أحد هذه الأربعة، لغير معارض ورد

(فائدة) قال سيف الدين: (اتفقوا على أن حكم الحاكم لا يجوز نقضه في المسائل الاجتهادية، لمصلحة الحكم

من جهة الشارع احترازًا من القول بالقراض وغيره، وإن كان على خلاف القواعد والنصوص لمعارضة الإجماع، أو النصوص؛ فإن القراض والمساقة مستثنيان من الغرر والجهالة، وكذلك السلم، والصيد مستثني من قواعد الزكاة، والمستثنيات في الشرع كثيرة، تركت القواعد، والنصوص، والقياسات فيها لمعارضات اقتضتها. (فائدة) قال سيف الدين: (اتفقوا على أن حكم الحاكم لا يجوز نقضه في المسائل الاجتهادية، لمصلحة الحكم؛ فإنه لو جاز نقضه لنقض النقض، فلا يستقر شيء، وينتفي الوثوق بحكم الحاكم، وهو خلاف - المصلحة التي نصب الحكام لها، وإنما ينقض حيث يخالف قاطعًا من نص، أو إجماع، أو قياس جلى، وهو ما كانت العلة فيه منصوصة، أو قطع فيه بنفي الفارق، ولا ينقض ما خالف دليلاً ظنيًا من نص أو غيره؛ لتساويهما في الرتبة، ولو حكم على خلاف اجتهاده مقلدًا لمجتهد آخر، فقد اتفقوا على امتناعه، وإبطال حكمه. فلو كان الحاكم مقلدًا لإمامه، وحكم بحكم مخالف مذهب إمامه، فإن قضينا بصحة حكم المقلد ضرورة عدم المجتهدين في زماننا، فنقض حكمه ينبني على الخلاف في انه هل يجوز له تقليد غير إمامه؟. فإن منعنا نقضنا، وإلا فلا، وإذا اجتهد، وأفتى، ثم تغير اجتهاده، فاختلفوا هل يجب على المقلد ترك ما قلده فيه؟ والحق وجوب الترك، كما إذا تغير اجتهاد من قلده في القبلة.

قال الغزالي في (المستصفى): (قال الفقهاء: ينقض ما خالف القياس، فإن أرادوا ما في معنى الأصل، مما يقطع به صح، وإن أرادوا قياسًا مظنونًا مع كونه جليًا، فلا وجه له. ومن حكم على خلاف خبر الواحد، أو أن صيغة الأمر للوجوب، أو النهي يفيد الفساد، مع أنا قطعنا بالعمل بخبر الواحد، وأن الأمر يدل على الوجوب. فالضابط: أنه متى حكم على خلاف قاطع نقض، وإلا فلا. وهذه المسال لعله حكم بغير هذه المدارك بدليل آخر ظهر له غير الأمر، وخبر الواحد، فلا ينبغي أن ينقض، مع الاحتمال؛ فإن المقطوع به خبر الواحد حجة، لا أنه يتعين لهذه المسألة. قال: (وغلا قوم غلوا كبيرًا، فقالوا: لا يحل القضاء شيئًا، بل يبقي على ما كان عليه، وإن كان القضاء في محل الاجتهاد، فقال قوم: يؤثر في محل الاجتهاد، ويتغير الحكم باطنًا، ولا يؤثر حيث قال أبو حنيفة: يؤثر في العقود والفسوخ إذا قضى بالفسخ، وشهادة الزور، وهي احتمالات فقهية لا يستحيل منها شئ، ويختار منها ما شاء). قلت: وظاهر هذا النقل أن القضاء لا يغير الفتاوى، وهو خلاف ما قررت مدركه، فليعلم أنه موضع خلاف. قال: (وإذا نكح المقلد بفتيا مفتٍ، ثم تغير اجتهاد المفتى، ربما يتردد فيه، والصحيح أنه يبطل الحل السابق، كما إذا تغير اجتهاد من يقلده في القبلة). وأشار به إلى التردد، ولم يتعرض له في (المحصول)، بل جزم بالنقض. ****************

الكلام في المفتي والمستفتي

الكلام في المفتي والمستفتي والنظرية فيه يتعلق بالمفتي، والمستفتي، وما فيه الاستفتاء. القسم الأول في المفتي، وفيه مسائل: مسألة: إذا أفتى المجتهد بما أدي إليه اجتهاده، ثم سئل ثانيًا عن تلك الحادثة: فإما أن يكون ذاكرًا لطريق الاجتهاد الأول، أو لا يكون: فإن كان ذاكرًا له، فهو مجتهد، وتجوز له الفتوى.

وإن نسيه، لزمه أن يستأنف الاجتهاد، فإن أداه اجتهاده إلى خلاف فتواه في الأول أفتى بما أداه اجتهاده إليه ثانيًا، ثم الأحسن به أن يعرف من استفتاه أولاً: أنه رجع عن ذلك القول؛ لأن ذلك المستفتي إنما يعول على قوله، فإذا ترك هو قوله، بقي عمل المستفتي به بعد ذلك عملاً من غير موجب. روي عن ابن مسعود" أنه كان يقول في تحريم أم المرأة: (مشروط بالدخول بالمرأة)، فلقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذاكرهم، فكرهوا أن يتزوجها: فرجع ابن مسعودٍ إلى من كان أفتاه قال: (سألت أصحابي، فكرهوا). وأما إن لم يستأنف الاجتهاد، لم تجز له الفتوى. ولقائل أن يقول: (لما كان الغالب على ظنه أن الطريق الذي تمسك به أولاً، كان طريقًا قويا، حصل له الآن ظن أن ذلك القوي حق جاز له الفتوى به؛ لأن العمل بالظن واجب. مسألة: اختلفوا في أن غير المجتهد، هل تجوز له الفتوى بما يحكيه عن الغير؟!. فنقول: لا يخلو: إما أن يحكي عن ميتٍ، أو عن حي: فإن حكى عن ميتٍ: لم يجز الأخذ بقوله؛ لأنه لا قول للميت؛ بدليل أن الإجماع لا ينعقد مع خلافه حيا، وينعقد مع موته، وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته. فإن قلت: (فلم صنفت كتب الفقه، مع فناء أربابها): قلت: لفائدتين: إحداهما: استفادة طريق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث، وكيفية بناء بعضها على بعضٍ.

شرح القرافي: قوله: (إذا سئل ثانيا، وهو ذاكر للطريق الأول، فهو مجتهد يجوز له الفتيا)

والأخرى: معرفة المتفق عليه، من المختلف فيه. ولقائل أن يقول: إذا كان الراوي عدلاً ثقةً متمكنًا من فهم كلام المجتهد الذي مات، ثم روى للعامي قوله - حصل للعامي ظن صدقه. ثم إذا كان المجتهد عدلاً ثقةً، فذلك يوجب ظن صدقه في تلك الفتوى؛ وحينئذٍ: يتولد للعامي من هذين الظنين ظن أن حكم الله - تعالى - ما روى له هذا الراوي الحي، عن ذلك المجتهد الميت، والعمل بالظن واجب؛ فوجب أن يجب على العامي العمل بذلك. وأيضًا: فقد انعقد الإجماع في زماننا هذا على جواز العمل بهذا النوع من الفتوى؛ لأنه ليس في الزمان مجتهد، والإجماع حجة. وأما إن حكى عن حي من أهل الاجتهاد؛ فإما أن يكون سمعه مشافهة، أو يرجع فيه إلى كتاب، أو حكاية حال: فإن كان سمعه منه مشافهة، جاز أن يعمل به، وجاز أن يعمل الغير أيضًا بقوله، ولهذا يجوز للمرأة أن تعمل في حكم حيضها بحكاية زوجها عن المفتين. (ورجع علي - رضي الله عنه - إلى حكاية المقداد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأن المذي). وإن رجع في ذلك إلى حكاية من يوثق بقوله، فحكم ذلك حكم السماع، وإن رجع إلى كتاب، فإن كان كتابًا موثوقا به، جرى مجرى المكتوب من جواب المفتي؛ في أنه يجوز العمل به؛ وإلا فلا؛ لكثرة ما يتفق من الغلط في الكتب. (الكلام في المفتى والمستفتي) قال القرافي: قوله: (إذا سئل ثانيًا، وهو ذاكر للطريق الأول، فهو مجتهد يجوز له الفتيا):

قلنا: يجوز أن يقال في هذا المقام: لا يكفي في جواز إقدامه على الفتيا استحضاره للطريق الأول؛ لأن الله - تعالى - خالق للفكر على الدوام، والأوقات تختلف، قرب وقتٍ نهضت القريحة، ورب وقتٍ قصرت. فمن المتعين في دفع التقصير النظر والفكر- بعد استحضار الطريق؛ لتوقع نوع من الاجتهاد لم يكن قد حضر له أولاً، وترك مثل هذا مع القدرة تقصير. فإن الزمان الأول قد وقع فيه ما أمكن، والزمن الثاني لم يقع فيه فكر أصلاً، والفكرة مستجلبة لم تبعث بالفكر، ولم تشرع فيه. والغالب في تجدد الزمان تجدد الفكر، ولذلك صار للعلماء الأقوال الكثيرة، والرجوع إلى الأقوال الأول، وانتشرت العلوم؛ فيتعين القول بالتقصير إذا أفتى من غير فكرٍ، وإن استحضر الطريق. وقد قال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع) في هذه المسألة: هل يفتي بالاجتهاد الأول، أو يحتاج إلى اجتهاد جديد؟. فيه قولان: والاحتياج هو الصحيح؛ لأن المصلى في اليوم الأول، لا يجوز له أن يصلى إلى الجهة التي عينها اجتهاد اليوم الأول؛ بل لابد من تجديد الاجتهاد. قوله: (إذا تغير اجتهاده، الأحسن له أن يعرف الذي استفتاه ليرجع): قلنا: قد تقدم - في نقض الاجتهاد - أن العامي يجب عليه ترك ما أفتاه، كمن قلد في الصلاة في القبلة، ثم تغير اجتهاده، والصورتان سواء، وهنالك قلتم بوجوب الرجوع، وهاهنا باستحبابه، فما الفرق والباب واحد؟

(فائدة) قال سيف الدين: التقليد هو العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة

غير أنكم - ثمت - قلتم: الصحيح أن يترك، فهو إشارة إلى الخلاف، فينبغي أن تصرحوا بالصحيح في الموضعين، وقد تقدمت - إشارة الغزالي إلى الخلاف - أيضًا. قوله: (إذا غلب على ظنه أن الطريق الذي تمسك به كان طريقًا قويًا جاز له الفتوى به؛ لأن العمل بالظن واجب): قلنا: قد تقدم - مرارًا - أن مطلق الظن لم يعتبره صاحب الشرع، بل رتبا خاصة؛ بدليل شهادة الفساق، والكفار، والصبيان، والنسوان، والعدل الواحد في القصاص، وغير ذلك من قرائن الأحوال، وغيرها مع حصول الظن القوى، فعملنا - حينئذٍ - أن المقصود هو ظن خاص عن أسباب خاصة. فلم قلتم: إن ذلك قد حصل هاهنا؟ (فائدة) قال سيف الدين: التقليد هو العمل بقول الغير من غير حجةٍ ملزمة، وهو مأخوذ من تقليد القلادة، وجعلها في عنقه). قال أبو الخطاب في (التمهيد): فالمفتى جعل الفتيا فلادًة في عنق السائل.

(فائدة) قال سيف الدين: (يشترط في المفتى شروط الاجتهاد مع العدالة حتى يوثق به

قال سيف الدين: (فيندرج في هذا الحد الأخذ بقول العامي، وأخذ المجتهد بقول المجتهد، ويكون الرجوع إلى قول النبي- صلى الله عليه وسلم - وإلى قول الإجماع، ورجوع العامي إلى المجتهد، وعمل القاضي بقول الشهود العدول ليس تقليدًا لعدم عروه عن الحجة الملزمة من المعجزة في حق الرسول - عليه السلام - ودليل عصمته الإجماع، ووجوب تقليد العامي للمفتي، وفي هذه الصور كلها حجة تلزمه. فإن سمى ذلك تقليدًا بعرف الاستعمال، فلا مشاحة في اللفظ. (فائدة) قال سيف الدين: (يشترط في المفتى شروط الاجتهاد مع العدالة حتى يوثق به، ويستحب له أن يكون قاصدًا للإرشاد وهداية العامة، مجتنبًا للرياء، والسمعة، متصفًا بالسكينة والوقار؛ ليرغب المستمع في قوله، مقتنعًا بما عنده عما في أيدي الناس): قلت: اجتنابه الرياء والسمعة واجب لا مستحب، وهو مراده، غير أنه استطرد في عبارته. (فائدة) قال سيف الدين: (اختلفوا في جواز الاستفتاء والتقليد في المسائل العلمية الأصولية في العقائد. فجوزه عبيد الله بن الحسن العنبري، والحشوية، والتعليمية، وربما قال بعضهم: هو الواجب على المكلف، ويحرم عليه النظر، ومنعه النافون، وأوجبوا النظر، وهو المختار.

لأنه لما نزل قوله تعالى:} إن في خلق السموات، والأرض .... {. قال صلى الله عليه وسلم: (ويل لمن لاكها بين لحييه، ولم يتفكر فيها) ولأنه إجماع السلف. ولأن الله - تعالى - ذم التقليد في مواضع من كتابه، وأوجب النظر، وأمر بالعلم. احتجوا بقوله تعالى:} ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا {، والنظر يفضى إلى فتح باب الجدل. وروى عنه عليه السلام أنه رأي الصحابة يتكلمون في مسألة القدر، فقال: (إنما هلك من كان قبلكم بخوضهم في هذا). وقال - عليه السلام -: (عليكم بدين العجائز).

(فائدة) قال سيف الدين: (إذا أفتى، ثم حدث مثل تلك الواقعة اختلفوا

ولأنه لم ينقل عن احد من الصحابة - رضي الله عنهم - الخوض في هذا، والإنكار على العوام بترك النظر، بل يحكمون بإسلامهم، مع أن العوام أكثر الخلق، ولأن النظر يفضي إلى الوقوع في الشبهات والضلال، والسلامة في ترك ذلك، والجواب عن المعارضة الأولي: أن المراد الجدال بالباطل، لقوله تعالى:} وجاد لهم بالتي هي أحسن {. وهذا الجواب عن الجدال في القدر، وحديث دين العجائز لم يثبت. سلمنا صحته، لكنه محمول على التسليم لله - تعالى - فيما مضاه، وأمضاه جمعًا بين الأدلة. وإنما لم ينكر الصحابة، ولا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على العامة حصول دليل المعرفة لهم من حيث الجملة. وكما يفضي النظر إلى الشبهات، يفضي التقليد إليها، فيعمل بظاهر النصوص الدالة على وجوب النظر. (فائدة) قال سيف الدين: (إذا أفتى، ثم حدث مثل تلك الواقعة اختلفوا،

(مسألة) (هل يجوز لغير المجتهد الفتوى بما يحكيه)؟

فقيل: لابد من الاجتهاد ثانيًا؛ لاحتمال تغير الاجتهاد، والاطلاع على ما لم يطلع عليه أولاً. وقيل: لا يجب، ولا حاجة إلى اجتهاد آخر؛ لأن الأصل عدم الاطلاع على ما يعجز عنه. قال: والمختار التفصيل بين أن يكون ذاكرًا للاجتهاد الأول، فلا حاجة للاجتهاد ثانيًا، كما لو كان مجتهدًا في الحال، أو غير ذاكر، فلابد من الاجتهاد؛ لأنه في حكم من لم يجتهد. (مسألة) (هل يجوز لغير المجتهد الفتوى بما يحكيه)؟ قوله: (ينعقد الإجماع مع موته): قلنا: لا نسلم انعقاد الإجماع؛ فإنه - قد تقدم الخلاف - إذا ماتت إحدى الطائفتين، وبقيت الأخرى هل ينعقد قول الباقين إجماعًا، أو لا؟. فنحن نمنع؛ بناء على الخلاف. قوله: (يحصل للعامي ظنان يتولد منهما ظن ثالث، والعمل بالظن واجب): قلنا: قد تقدم السؤال على هذا مرارًا، وأن الشرع إنما اعتبر مراتب خاصة من الظن، لا مطلق الظن. قوله: (يجوز للمرأة أن تعمل بما ينقله إليها زوجها من أمر الحيض): قلنا: يمكن أن نقول هذا من المستثنيات، فقد قال المالكية: وإن قلنا: هلال رمضان لابد فيه من عدلين؛ فلأن إخبار الرجل لأهل بيته يكفي، فجعلوه مما يستثنى، فلذلك أمكن ذلك هاهنا.

(سؤال) الموجب لاعتبار قول الميت، والاعتماد عليه صدوره عمن اتصف بأهلية الاجتهاد، وذلك لا يضاد طريان الغفلة

قوله: (عمل علي - رضي الله عنه - بما نقله له المقداد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم): قلنا: هذا نقل عن معصوم بطريق الرواية، فيحصل الفرق من وجهين: أحدهما: أن الوثوق بالمعصوم أعظم، فيكفي بخبر العدل عنه؛ لأن الاحتمال إنما هو في الراوي فقط، أما غير المعصوم، فيحصل الاحتمال في الناقل والمنقول عنه، فيعظم الخطر. وثانيهما: أن الإجماع ينعقد على صحة الرواية، والاتباع فيما يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، والمجتهد إذا مات أنتم تقولون: لا يجوز الاعتماد على قوله بعد الموت، وذلك دليل التفاوت؛ ولأن النقل عن الرسول - عليه السلام - إنما يشبهه النقل عن الإجماع بجامع العصمة، ونقل الإجماع معتبر إجماعًا، أما المجتهد فيحصل فيه ظنان كما تقدم. (سؤال) الموجب لاعتبار قول الميت، والاعتماد عليه صدوره عمن اتصف بأهلية الاجتهاد، وذلك لا يضاد طريان الغفلة، والنوم في وقت آخر. غاية ما في الباب - أن يقال: هو إذا كان حيا كان ناظرًا في اجتهاده، ويتفقد هل أخطأ أم لا؟. فمتى كان فيه خطأ اطلع عليه. والميت ليس له تلك الأهلية، وهذا ليس بشيء. لأنا نقول: توقع الطلاق على الخطأ توقع لوجود المعارض، أو المانع، وانعقد للإجماع على أن انعقاد الأسباب الشرعية لا يمنع من إعمالها توقع موانعها، ومعارضتها؛ بل يعمل السبب حتى يدل دليل على تحقق المعارض،

(سؤال) قال النقشواني: (علي - رضي الله عنه - مجتهد، ورواية المقداد له من باب روايات الأخبار للمجتهدين، وذلك ليس من باب الفتوى)

أو المانع، فكذلك هاهنا بذل الجهد في الفتوى ممن له أهلية الاجتهاد سبب لوجوب العمل بما أدى إليه اجتهاده في حق المجتهد، وحق من قلده، فلا يزال العمل بهذا السبب حتى يثبت - عندنا - خطؤه، ويؤكد ذلك أن الفتوى إذا نقلت من بلد إلى بلد آخر وجب العمل بها، وإن كان يجوز أن المجتهد قد تغير اجتهاده عقيب الإخبار بها، وما ذلك إلا أن الاعتماد على أن الأصل عدم الخطأ، وعدم الرجوع. (سؤال) قال النقشواني: (علي - رضي الله عنه - مجتهد، ورواية المقداد له من باب روايات الأخبار للمجتهدين، وذلك ليس من باب الفتوى). (تنبيه) قال التبريزى: قد يحتج في المجتهد؛ قال عليًا - رضي الله عنه - قبل قول المقداد في حكاية فتوى النبي - صلى الله عليه وسلم - في سقوط الغسل عن خروج المذى). ويصح أن يقال: إن فتوى النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع، فهو كسائر أخباره التي لا فرق فيها بين أن يبلغ في حياته - صلى الله عليه وسلم - أو بعد وفاته، بخلاف المجتهد. وإن حكى العدل قول الميت، فالمشهور أنه لا يجوز تقليده. قال: ويتجه أن يقال: مذهب الميت متعبد به، ولهذا كان إجماع الصحابة بعد انقضاء عصرهم حجة، ولو بطل مذهب المجتهد بموته؛ لكانت الواقعة - بعد انقراض عصرهم خالية عن فتوى المفتين، ومذهب أحد من المجتهدين، فكان لا يمنع فيها الاجتهاد، والأخذ بخلاف أقوالهم؛ ولو مات

(فائدة) قال سيف الدين: (من ليس بمجتهد، هل يجوز له الفتوى بمذهب الجمهور كما في زماننا)؟

المخالف لم يصر اتفاق من عداه حجة؛ ولو بطل مذهبه بموته لكان قول الباقين كل الأمة فيه، كما لو مات قبل الخوض في الحادثة. ويتأيد ما ذكرنا بعمل علماء الأعصار من سنين. قلت: قوله: (في سقوط الغسل عن خروج المذي) - يشعر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أفتى بعدم الغسل من المذى، والواقعة ليست كذلك، إنما أفتى - عليه السلام - بوجوب الغسل في الذكر والأنثيين. (فائدة) قال سيف الدين: (من ليس بمجتهد، هل يجوز له الفتوى بمذهب الجمهور كما في زماننا)؟. منعه أبو الحسين البصري، وجماعة من الأصوليين؛ لأنه إنما يسأل عما عنده، لا عما عند غيره.

.....................................................

(فائدة) ينبغي أن يحذر مما وقع في زماننا من تساهل بعض الفقهاء بالفتوى من الكتب الغريبة التي ليس فيها رواية المفتى عن المجتهد بالسند الصحيح

وقيل: يجوز إذا ثبت عنده ذلك بنقل من يوثق بقوله. قال: والمختار أنه إن كان مجتهدًا في المذهب مطلعًا على مأخذ المجتهد المطلق الذي يقلده، وهو قادر على التفريع على قواعد إمامه، وأقواله، متمكن من الفرق، والجمع، والنظر، والمناظرة، فله الفتوى تمييزًا له عن العامي، ولانعقاد الإجماع على هذا النوع، وإلا فلا. (فائدة) ينبغي أن يحذر مما وقع في زماننا من تساهل بعض الفقهاء بالفتوى من الكتب الغريبة التي ليس فيها رواية المفتى عن المجتهد بالسند الصحيح، ولأقام مقام ذلك شهرة عظيمة، تمنع من التصحيف، والتحريف بسبب الشهرة. وبالغ بعضهم في التساهل حتى صار إذا وجد حاشية على كتاب أفتى بها، وهذا عدم دينٍ، وبعد شديد عن القواعد. ***********************

القسم الثاني في المستفتي

القسم الثاني في المستفتي قال الرازي: مسألة: يجوز للعامي أن يقلد المجتهد في فروع الشرع؛ خلافًا لمعتزلة بغداد، وقال الجبائي: يجوز ذلك فيما كان من مسائل الاجتهاد. لنا وجهان: الأول: إجماع الأمة قبل حدوث المخالف؛ لأن العلماء في كل عصرٍ لا ينكرون على العامة الاقتصار على أقاويلهم، ولا يلزمونهم أن يسألوهم عن وجه اجتهادهم. الثاني: أن العامي إذا نزلت به حادثه من الفروع، فإما ألا يكون مأمورًا فيها بشيءٍ، وهو باطل بالإجماع؛ لأنا نلزمه إلى قول العلماء، والخصم يلزمه الرجوع إلى الاستدلال، وإما أن يكون مأمورًا فيها بشئ، وذلك: إما بالاستدلال، أو بالتقليد: والاستدلال: باطل؛ لأنه: إما أن يكون هو التمسك بالبراءة الأصلية، أو التمسك بالأدلة السمعية: والأول باطل بالإجماع. والثاني أيضًا: باطل؛ لأنه لو لزمه أن يستدل، لم يخل من أن يلزمه ذلك حين كمل عقله، أو حين حدثت الحادثة: والأول باطل؛ لوجهين: أحدهما: أن الصحابة ما كانوا يلزمون من لم يشرع في طلب العلم، ولم

يطلب رتبة المجتهد في أول ما يكمل عقله، وثانيهما: أن وجوب ذلك عليه يمنعه من الاشتغال بأمور الدنيا، وذلك سبب لفساد العالم. والثاني أيضًا: باطل؛ لأنه يقتضي أن يجب عليه اكتساب صفة المجتهدين عند نزول الحادثة؛ وذلك غير مقدور له. ولقائلٍ أن يقول على هذا الوجه: القائلون بأنه لا يجوز التقليد في الشرع لا يقولون بالإجماع، ولا بخبر الواحد، ولا بالقياس، ولا يجوزون التمسك بالظواهر المحتملة. وإذا كان كذلك، سهل الأمر عليهم؛ فإنهم قالوا: قد تقرر في عقل كل عاقلٍ أن الأصل في اللذات الإباحة، وفي المضار الحرمة: فإن جاء في بعض الحوادث نص قاطع المتن، قاطع الدلالة يوجب ترك ذلك الأصل العقلي - قلنا به. وإن لم يوجد ذلك، وجب البقاء على حكم العقل، وإذا ثبت هذا: فالعامي، إذا وقعت له واقعة: فإما أن يكون فيه شيء من الذكاء، أو لا يكون؛ بل يكون في غاية البلادة: فإن كان فيه شيء من الذكاء، عرف حكم العقل فيه، وإن كان في غاية البلادة، نبهه المفتي على حكم العقل. وليس لأحد أن يقول: الاشتغال بذلك يمنعه عن عمل المعاش؛ لأنه إذا جاز تكليفه بمعرفة الأدلة الدقيقة في مسائل الأصول، ولا يمنعه ذلك عن المعاش، فكيف تمنعه معرفة هذا القدر من طلب المعاش؟!. ثم إذا عرف العامي حكم العقل، وأن ما في الواقعة نص يوجب ترك العمل

بحكم العقل، قاطع المتن، قاطع الدلالة - نبهه المفتي عليه، ولا حاجة في فهم مثل هذا النص إلى تدقيق يمنعه من عمل المعاش، وإن لم يوجد فيه مثل هذا النص، وجب عليه العمل بحكم العقل. فثبت أن المنع من التقليد: إنما يصعب على قول من يوجب العمل بالقياس وخبر الواحد، أما من لا يقول بذلك، فلا صعوبة عليه ألتبة. وأيضًا: فهذه الدلالة: لو صحت لوجب القول بجواز التقليد في مسائل الأصول؛ لأنا نعلم أن الوقوف على تلك الدلائل لا يحصل إلا بعد الكد الكثير، ونحن نعلم من حال الصحابة: أنهم ما كانوا يلومون من لم يتعلم علم الكلام في أول زمان بلوغه. وأيضًا: الاشتغال بتحصيله يمنع من الاشتغال بأمر المعاش. أجابوا: بأن الذي يجب على المكلف معرفة أدلة التوحيد والنبوة على طريق الجملة، لا على طريق التفصيل، ومعرفة تلك الأدلة على سبيل الإجمال أمر سهل هين، يحصل بأدني سبب؛ بخلاف الاجتهاد في فروع الشرع؛ فإنه لابد فيه من علومٍ كثيرةٍ، وتبحرٍ شديدٍ. واعلم أن هذا الفرق: إنما يتلخص، إذا سلمنا لهم الفرق بين مباحث الجملة، ومباحث التفصيل. وعندي أن هذا الفرق باطل، وذلك لأن الدليل، إذا كان مركبًا مثلاً من مقدمات عشرٍ، فالمستدل إن كان عالمًا بها بأسرها، وجب حصول العلم النظري له؛ لا محالة، وإن امتنعت الزيادة عليه؛ لأن تلك المقدمات العشر، إذا

كانت مستقلة بالإنتاج، فلو انضمت مقدمة أخرى إليها، استحال أن يكون له أثر ألبتة. وأما إن لم يحصل العلم بأسرها؛ مثل أن يحصل العلم بتسع منها، ولم تكن المقدمة العاشرة معلومةً بالضرورة، ولا بالدليل، بل مقبولة؛ على سبيل التقليد - فتكون النتيجة المتولدة عن مجموع تلك العشر تقليدًا، لا يقينًا. فثبت أن التمسك بالدليل لا يقبل الزيادة والنقصان ألبتة؛ مثاله أنهم يقولون: (صاحب الجملة يكفيه الاستدلال بحدوث الحوادث من البرق والرعد، والحر والبرد؛ على وجود الصانع): فنقول: هذا لا يكفي؛ لأنا نقول: هذه الحوادث لابد لها من مؤثرٍ، وذلك المؤثر يجب أن يكون فاعلاً مختارًا. أما المقدمة الأولي: فمعلومة للعوام. وأما الثانية: فغير معلومة لهم؛ لأنه ما لم يثبت أن ذلك ليس أثرًا لمؤثرٍ موجب، لم يجب أن يكون إسناده إلى المختار، فإذا قطع العامي بأن ذلك المؤثر يجب أن يكون مختارًا؛ من غير دليلٍ عليه - كان مقلدًا، في هذه المقدمة وإذا كان مقلدًا فيها، لم يكن محققًا في النتيجة. وأيضًا: إذا رأي حدوث فعل خارقٍ للعادة على يد مدعي النبوة، فلو قطع عند ذلك بنبوته، كان ذلك تقليدًا؛ لأن قبل الدليل يجوز أن يكون ذلك الحادث ليس فعلا لله تعالى، بل خاصية لنفس الرسول، أو خاصية لدواء، أو فعلاً من أفعال الجن، وبتقدير أن يكون فعلاً لله تعالى، لكن يجوز ألا يكون لله - تعالى - فيه غرض.

وإن كان له فيه غرض، جاز أن يكون ذلك الغرض شيئًا سوى التصديق، فلو قطع العامي بأن ذلك الفعل الخارق للعادة، لابد وأن يكون دالا على صدق المدعي؛ من غير دليل يدل على فساد هذه الأقسام - كان مقلدًا في اعتقاد هذه المقدمة؛ فلم يكن محققًا في النتيجة؛ فظهر بهذا فساد ما قالوا من الفرق بين صاحب الجملة، وبين صاحب التفصيل؛ وحينئذٍ: لا يبقي إلا أحد أمرين: إما أن يقال: بأن الإحاطة بأدلة الدين على تفصيلها وتدقيقها شيء سهل هين، وذلك مكابرة، وإما أن يقال: يجوز فيه التقليد، كما جوزوا في فروع الشرع التقليد؛ وحينئذٍ: لا يبقي بينهما فرق ألبتة. واحتج منكرو التقليد في فروع الشرع؛ بأمورٍ: أحدها: قوله تعالى:} وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون {. وثانيها: أن الله تعالى ذم أهل التقليد بقوله تعالى:} إنا وجدنا آباءنا على أمة {. وثالثها: قوله - عليه الصلاة والسلام -: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) توافقنا على خروج بعض العلوم عن هذا العموم، فبقي العلم بفروع الشرع وأحكامه. ورابعها: القول بجواز التقليد يفضي إلى بطلانه؛ لأنه يقتضي جواز تقليد من يمنع من التقليد، وما يفضي ثبوته إلى عدمه، كان باطلاً. وخامسها: قوله - عليه الصلاة والسلام -: (اجتهدوا؛ فكل ميسر لما خلق له) أمر بالاجتهاد مطلقًا.

وسادسها: أن العامي، إذا قلد، لم يأمن من جهل المفتي وفسقه؛ فيكون فاعلاً للمفسدة. وسابعها: لو جاز التقليد في فروع الشرع؛ لكان ذلك لأنه حصلت أمارات توجب ظن صدق المفتي، وهذا المعني قائم في أصول الدين؛ فوجب الاكتفاء بالفتوى في الأصول أيضًا. والجواب عن الأول: أنه منقوض بكل ظن وجب العمل به؛ كما في أحوال الدنيا، وقيم المتلفات، وأروش الجنايات، وبخبر الواحد والقياس، إن سلموا جواز العمل بهما. وعن السادس والسابع: أن تذكر الفرق الذي تقدم. وأما الدليل على أن للعامي أن يقلد في مسائل الاجتهاد، وغير مسائل الاجتهاد: أنا لو كلفناه أن يفصل بين البابين، لكنا قد ألزمناه أن يكون من أهل الاجتهاد؛ لأنه إنما يفصل بينهما أهل الاجتهاد؛ فيعود المحذور المذكور. واحتج المخالف: بأن ما ليس من مسائل الاجتهاد، فالحق فيها واحد، فلو قلدنا فيها، لم نأمن أن نقلد في خلاف الحق، وليس كذلك مسائل الاجتهاد؛ لأن كل قوم فيها حق. والجواب: أنا لا نأمن أيضًا في مسائل الاجتهاد ألا يجتهد المفتي، أو يقصر في اجتهاده، أو يفتيه؛ بخلاف اجتهاده. فإن قلتم: (إن مصلحة العامي هي أن يعمل بما يفتيه المفتي): قلنا: وكذلك الأمر في تقليده فيما نحن فيه، وإن كان غير مصيبٍ. مسألة: في شرائط الاستفتاء. اتفقوا على أنه لا يجوز له الاستفتاء إلا إذا غلب على ظنه أن من يفتيه من أهل

الاجتهاد، ومن أهل الورع، وذلك إنما يكون إذا رآه منتصبًا للفتوى بمشهد الخلق، ويرى اجتماع المسلمين على سؤاله، واتفقوا على أنه لا يجوز للعامي أن يسأل من يظنه غير عالمٍ، ولا متدينٍ، وإنما وجب عليه ذلك لأنه بمنزلة نظر المجتهد في الأمارات. ثم هاهنا بحث، وهو أن أهل الاجتهاد، إذا أفتوه: فإن اتفقوا على فتوى، لزم المصير إليها، وإن اختلفوا؛ فقال قوم: وجب عليه الاجتهاد في أعلمهم، وأورعهم؛ لأن ذلك طريق قوة ظنه (وهو) يجري مجرى قوة ظن المجتهد، وقال آخرون: لا يجب عليه هذا الاجتهاد؛ لأن العلماء في كل عصر لا ينكرون على العوام ترك النظر في أحوال العلماء. ثم بعد الاجتهاد: إما أن يحصل ظن الاستواء مطلقًا، أو ظن الرجحان مطلقًا، أو ظن رجحان كل واحدٍ منهما على صاحبه من وجهٍ، دون وجهٍ: فإن حصل ظن الاستواء مطلقًا، فهاهنا طريقان: أحدهما أن يقال: هذا لا يجوز وقوعه؛ كما لا يجوز استواء أمارتي الحل والحرمة. والآخر أن يقال: يسقط عنه التكليف؛ لأنا جعلنا له أن يفعل ما يشاء، وأما إذا حصل ظن الرجحان مطلقًا، تعين العمل به، وأما إذا حصل ظن رجحان كل واحد منهما على صاحبه، من وجهٍ دون وجهٍ، فهاهنا صور: إحداها: أن يستويا في الدين، ويتفاضلا في العلم، فمنهم: من خيره، ومنهم: من أوجب الأخذ بقول الأعلم؛ وهو الأقرب لمزيته؛ ولهذا يقدم في إمامة الصلاة.

وثانيتها: أن يتساويا في العلم، ويتفاضلا في الدين، فهاهنا: وجب الأخذ بقول الأدين. وثالثتها: أن يكون أحدهما أرجح في علمه، فقيل: يؤخذ بقول الأدين، والأقرب: ترجيح قول الأعلم؛ لأن الحكم مستفاد من علمه، لا من ديانته. فإن قلت: العامي ربما اغتر بالظواهر، وقدم المفضول على الفاضل، فإن جاز له أن يحكم بغير بصيرةٍ في ترجيح بعض العلماء على بعضٍ، فليجز له أن يحكم في نفس المسألة بما يقع له ابتداًء؛ وإلا فأي فرقٍ بين الأمرين؟. قلت: من مرض له طفل، وليس له طبيب، فإن سقاه دواًء برأيه، كان متعديا مقصرًا، ولو راجع طبيبًا، لم يكن مقصرًا. فإن كان في البلد طبيبان، وقد اختلفا في الدواء، فخالف الأفضل - عد مقصرًا، ثم إنه يعلم كون أحدهما أعلم من الآخر؛ بالأخبار، وبإذعان المفضول له، وبأمارات تفيد غلبة الظن، فكذلك في حق العلماء: يعلم الأفضل بالتسامع والقرائن، دون البحث عن نفس العلم، والعامي أهل له، فلا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي. مسألة: الرجل الذي تنزل به الواقعة: فإما أن يكون عاميًا صرفًا، أو عالمًا لم يبلغ درجة الاجتهاد، أو عالمًا بلغ درجة الاجتهاد، فإن كان عاميًا صرفًا، حل له الاستفتاء، وإن كان عالمًا بلغ درجة الاجتهاد: فإن كان قد اجتهد، وغلب على ظنه حكم، فهاهنا أجمعوا على أنه لا يجوز له أن يقلد مخالفه، ويعمل بظن غيره. أما إذا لم يجتهد: فهاهنا قد اختلفوا، فذهب أكثر أصحابنا إلى أنه لا يجوز

للعالم تقليد العالم ألبتة، وقال أحمد بن حنبلٍ وإسحاق بن راهويه وسفيان الثوري - رحمهم الله - بجوازه مطلقًا. ومن الناس: من فصل، وذكر فيه وجوهًا: أحدها: أنه يجوز لمن بعد الصحابة تقليد الصحابة، ولا يجوز تقليد غيرهم، وهو القول القديم للشافعي - رضي الله عنه -. وثانيها: أنه يجوز تقليد العالم للأعلم، وهو قول محمد بن الحسن رحمه الله. وثالثها: أنه له التقليد فيما يخصه، دون ما يفتي به. ورابعها: أنه يجوز له التقليد فيما يخصه، إذا كان بحيث لو اشتغل بالاجتهاد، لفاته الوقت، وهو قول ابن سريجٍ. لنا وجهان: الأول: أن هذا المجتهد أمر بالاعتبار في قوله تعالى:} فاعتبروا يا أولي الأبصار {ولم يأت به، فيكون تاركا للمأمور به، فيكون عاصيًا، فيستحق النار، ترك العمل به في حق العامي؛ لعجزه عن الاجتهاد، فيبقي معمولاً به في حق المجتهد. الثاني: أنه متمكن من الوصول إلى حكم المسألة بفكرته؛ فوجب أن يحرم عليه التقليد؛ كما في الأصول، والجامع وجوب الاحتراز عن الضرر المحتمل عند القدرة على الاحتراز عنه. فإن قلت: (المعتبر في الأصول اليقين؛ وإنه لا يحصل بالتقليد؛ بخلاف

الفروع؛ فإن البغية فيها الظن، ويمكن حصوله بالتقليد؛ ولذلك جاز للعامي أن يقلد في الفروع، دون الأصول. وأيضًا: فما ذكرتموه ينتقض بقضاء القاضي؛ فإنه لا يجوز خلافه، وإن كان متمكنًا من معرفة الحكم؛ فإنه لا معني للتقليد إلا وجوب العمل عليه من غير حجةٍ. وينتقض أيضًا بمن دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه متمكن من الوصول إلى حكم المسألة؛ مع أنه يجوز أن يسأل من أخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: أما الجواب عن الأول: فهو: أنا إنما أوجبنا على المكلف تحصيل اليقين؛ لأنه قادر، والدليل حاضر؛ فوجب عليه تحصيله؛ احترازًا عن الخطأ المحتمل، وهذا المعني حاصل في مسألتنا؛ لأن المكلف قادر، والدليل المعين للظن الأقوى حاصل؛ فوجب عليه تحصيله؛ احترازًا عن الخطأ المحتمل في الظن الضعيف. وعن الثاني: أنه لما دلت الدلالة على أن الحكم الذي قضي به القاضي لا يمكنه نسخه بالاجتهاد، فلم يكن العمل به تقليدًا؛ بل عملاً بذلك الدليل. وعن الثالث: أنه لا نسلم جواز الاكتفاء بالسؤال من غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند القدرة. واحتج المخالف بأمورٍ: أحدها: قوله تعالى:} فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون {والعالم قبل أن يجتهد لا يعلم؛ فوجب أن يجوز له السؤال.

وثانيها: قوله تعالى:} أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم {والعلماء من أولي الأمر؛ لأن أمرهم ينفذ على الأمراء والولاة. وثالثها: قوله تعالى:} فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين {أوجب الحذر بإنذار من تفقه في الدين مطلقًا؛ فوجب على العالم قبوله؛ كما وجب على العامي ذلك. ورابعها: إجماع الصحابة: روي أن عبد الرحمن بن عوفٍ قال لعثمان: (أبايعك على كتاب الله، وسنة رسوله، وسيرة الشيخين) فقال: (نعم) وكان ذلك بمشهد من عظماء الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، فكان ذلك إجماعًا. فإن قلت: (إن عليًا خالف فيه): قلت: إنه لم ينكر جوازه؛ لكنه لم يقبله، ونحن لا نقول بوجوبه؛ حتى يضرنا ذلك. وخامسها: أنه حكم يسوغ فيه الاجتهاد؛ فجاز لمن لم يكن عالمًا به تقليد من علمه؛ كالعامي، والجامع وجوب العمل بالظن الحاصل بقول المفتي. وسادسها: أجمعنا على أنه يجوز للمجتهد أن يقبل خبر الواحد عن مجتهدٍ آخر، بل عن عامي، وإنما جاز ذلك؛ اعتمادًا على عقله ودينه، فهاهنا: إذا أخبر المجتهد عن منتهي اجتهاده بعد استفراغ الوسع، والطاقة، فلأن يجوز العمل به كان أولى. وسابعها: أن المجتهد، إذا أدي اجتهاده إلى العمل بفتوى مجتهد آخر، فقد حصل ظن أن حكم الله - تعالى - ذلك، وذلك يقتضي أن يحصل له ظن أنه لو لم يعمل به، لاستحق العقاب؛ فوجب أن يجب العمل به؛ دفعًا للضرر المظنون.

والجواب عن الأول: أن ظاهر الآية يقتضي وجوب السؤال، وإنه غير واجب بالاتفاق. وأيضًا: فقوله:} إن كنتم لا تعلمون {يقتضي أن يجب على المجتهد بعد اجتهاده استفتاء غيره؛ لأنه بعد اجتهاده ليس بعالمٍ، بل هو ظان؛ وبالإجماع لا يجوز ذلك. وأيضًا: فإنه أمر بالسؤال، وليس فيه تعيين ما عنه السؤال، فنحن نحمله على السؤال عن وجه الدليل. وعن الثاني: أن الأصول دلت على وجوب الطاعة؛ لكنها لا تدل على وجوب الطاعة في كل شيءٍ، فنحن نحملها على وجوب الطاعة في الأقضية والأحكام؛ والدليل على أن الآية لا تتناول محل النزاع: أنها لو تناولته، لوجب ذلك التقليد، وبالإجماع: التقليد غير واجبٍ. وعن الثالث: أن الآية تدل على وجوب الحذر عند إنذارٍ، لا عند كل إنذارٍ، ونحن نقول بالأول فإنا نوجب العمل بروايته. وعن الرابع: أنه يحتمل أن يكون المراد من سيرة الشيخين طريقتهما في العدل، والإنصاف، والانقياد للحق، والبعد عن الدنيا. وعن الخامس: أن الفرق هو أن العامي قاصر؛ فجاز له العمل بالتقليد، والعالم ليس بقاصرٍ. وعن السادس: أن المفتي ربما بني اجتهاده على خبر واحدٍ، فإذا تمسك به المجتهد ابتداء كان الاحتمال فيه أقل مما إذا قلد فيه غيره.

شرح القرافى: قوله: (لو صحت تلك الدلالة لوجب القول بجواز التقليد في مسائل الأصول؛ لأنا نعلم أن الوقوف على تلك الدلائل لا يحصل إلا بعد الكد الكثير)

وعن السابع: أن مجرد الظن واجب العمل به؛ لكن إذا لم يقم دليل سمعي يصرفنا عنه، وما ذكرناه من الدلائل السمعية يوجب العدول عن هذا الظن. القسم الثاني في المستفتى قال: القرافى: قوله: (لو صحت تلك الدلالة لوجب القول بجواز التقليد في مسائل الأصول؛ لأنا نعلم أن الوقوف على تلك الدلائل لا يحصل إلا بعد الكد الكثير): قلنا: القائلون بأنه لا يجوز التقليد في أصول الدين، قالوا: يكتفي فيها بليل فرد على مطلب من حيث الجملة، دون الجواب عن الشبهات، ونحوها، والمطالب المكلف بها نحو أربعين مطلبًا، وأكثرها في الطباع، والمحتاج فيها إلى الفكر قليل، ولا يشغل ذلك عن المعاش. ولا يقاس عليه الأدلة في الأحكام الشرعية الفروعية؛ فإنها تحتاج إلى

استعداد شديد في معرفة المصالح، والمفاسد، وتقديم بعضها على بعض، وذلك لا يحصل إلا بعد اشتغال كبير يحصل منه كيفية توجب فهم نفس الشارع في ذلك. قوله: (الفرق بين التفصيل والإجمال باطل؛ لأن المقدمات إذا حصلت كلها حصل العلم، وإلا فلا): قلنا: هذا لا ينفى الفرق؛ لأنهم يريدون بالإجمال: عدم التبحر، وعم استحضار الشبهات، والجواب عنها. وبالتفصيل: الجواب عن الشبهات، والتوسع في قواعد تلك الأدلة، فما ذكرتموه هو الإجمال لا التفصيل. قوله: (احتجوا بقوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33]: قلنا: هذا محمول على أصول الديانات): جمعًا بينه وبين الأدلة الدالة على جواز التقليد، لاسيما وهو إجماع السلف، وهو الجواب الثاني. وقوله: عليه السلام: (طلب العلم فريضة على كل مسلم، ومسلمة).

جوابه: أن طلب العلم قسمان: فرض عين، وفرض كفاية. ففرض العين: قال الشافعي -رحمة الله -: (هو علمك بحالك التي أنت فيها). فمن كان يباشر صرفًا وجب عليه أن يتعلم الأحكام المتعلقة بالصرف، وكذلك الإجارات، وغيرها من الحالات التي تعرض للإنسان. وفرض الكفاية: هو ما يقع من الوقائع حيث فرض على الكفاية، غير أن فرض الكفاية واجب على الكل ابتداء هنا لخطاب المجهول، وقد تقدم في (الواجب المخير) الفرق بين خطاب المجهول والخطاب بالمجهول وهذان القسمان مجمع عليهما، والإجماع متى حصل في شيء صار معلومًا، فيكون العلم حاصلاً في القسمين لمن اتصف بهما. والإجماع سابق على هذا الخلاف، فلا عبرة به. أو نقول: هو محمول على قواعد العقائد؛ جمعًا بينه وبين الأدلة الدالة على الاستثناء. قوله: (جواز التقليد يفضى إلى بطلانه؛ لأنه تقليد من يمنع التقليد؛ فيتناقض): قلنا: إنما نقول بجواز التقليد بشرط عدم التناقض. قوله: (وخامسها: قوله عليه السلام: (اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له): قلنا: المراد الاجتهاد في فعل الطاعات؛ لأن صدر الحديث يقتضيه؛ لقول الصحابة -رضوان الله عليهم -لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -لما سألوا عن القدر، فأخبرهم به - عليه السلام -فقالوا: ففيم العمل؟ فقال -عليه السلام -: (اعملوا، وقاربوا، وسددوا؛ فكل ميسر لما خلق له).

وهو المراد بالاجتهاد -هاهنا - ولأنه مطلق؛ لأنه فعل في سياق الإثبات، فيكفى في العمل به صورة، ونحن قد عملنا به، إما في الأعمال الصالحة، وإما في أصول الديانات، وأيما كان فقد خرجنا عن عهدة هذا النص، ولم يبق فيه حجة. قوله: (العامي لا يأمن جهل المفتى وفسقه): قلنا: ظاهر الحال يأباه، وجاز ذلك، كما جاز للمجتهد أن يعمل بظواهر النصوص، مع احتمال النسخ، وغيره من الأمور العشرة التي تتوقف إفادة النصوص القطع عليها. قوله: (وعن السادس): قلنا: تقدمت سبعة حجاج للخصم، لم يجب إلا عن الأول، وذكر الجواب عن السادس، وإنما هو عن السابع، ولم يذكر بقية الأجوبة، وهذا خلل عظيم: وكشفت عدة نسخ، فوجدتها هكذا، ولا أدرى هل ذلك من المصنف، أو من النساخ؟ والله أعلم بذلك. قوله: (مسائل الاجتهاد كل قول فيها حق):

(تنبيه) قال التبريزى: (الشيعة هم الذين قالوا بحصر كل مدرك إلا الدليل السمعي القاطع ...

قلنا: هذا يتخرج على أن كل مجتهد مصيب، أما على القول بأن المصيب واحد، فلا. (تنبيه) قال التبريزى: (الشيعة هم الذين قالوا بحصر كل مدرك إلا الدليل السمعي القاطع، والمضار إليه إذا لم يضم إليهم غيرهم، بل عينهم لهذا المذهب، ثم قال: نقول: لهم حصر مدارك العقول فيما ذكرتم بديهي أم نظري؟ وبديهي أنه ليس ببديهي، وفي إثباته بالنظر شغل شاغل، وإن قنع بسببه المفتى، فهو تقليد، فلنقلد في الحكم. قال سراج الدين في الجواب عن الحجاج السبع، (والجواب عن الأخير بالفرق المذكور، وعن غيره بالنقض بالعمل بالظن في أمور الدنيا، والقيم، والأروش، وخبر الواحد، والقياس، إن سلمنا). قلت: وهذا جواب مستوعب، ولعله مراد المصنف حتى قال بعضهم: إن قوله -في (المحصول) -: (والجواب عن (الأول)، إنما هو (الأول) بتخفيف الواو، وضم الهمزة على صيغة (الجمع) وهو تصحيف حسن يحصل به المقصود غير أنه باطل بقوله: إنه منقوض، ولم يقل: إنها منقوضة، ولو كان المراد الجمع لقال ذلك على هذا الوجه. وقال صاحب (المنتخب): (إذا نزلت الحادثة بالعامي، وأمر بالاستدلال، فإمام أن يكون هو التمسك بالبراءة الأصلية، أو الدلائل السمعية، والأول باطل بالإجماع؛ ولأن ذلك يمنعه من الاشتغال بأمور دنياه).

(فائدة) قال سيف الدين: (العامي، ومن ليس له أهلية الاجتهاد إذا كان محصلا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد يلزمه اتباع قول المجتهد

قلت: وهذا الكلام باطل، وهو خلاف لفظ (المحصول)؛ فإن (المحصول) إنما ادعى ذلك في الأدلة السمعية فقط، لا في هذا القسم. وقال تاج الدين في (الحاصل): واحتج الجبائى بأن المصيب في الأحكام غير الاجتهادية واحد، فلم يجز التقليد؛ لجواز الخطأ بخلاف الاجتهادية؛ فإن كل مجتهد فيها مصيب، فجاز التقليد. جوابه: أن المصيب في الاجتهادية -أيضًا -واحد. فلم يذكر من الحجاج السبع إلا هذه، وخصص الاحتجاج بالجبائى، وذكر الجواب كما ترى. (فائدة) قال سيف الدين: (العامي، ومن ليس له أهلية الاجتهاد إذا كان محصلاً لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد يلزمه اتباع قول المجتهد. وقال بعض المعتزلة البغدادية: لا يجوز له اتباعه، إلا بعد أن يبين له صحة اجتهاده بدليله، وأباح الجبائى ذلك في مسائل الاجتهاد دون غيرها، كالعبادات الخمس. قال الغزالي في (المستصفى): (العامي يجب عليه الاستفتاء، واتباع العلماء). وقال بعض القدرية: يلزمه النظر في الدليل، واتباع الإمام المعصوم. وقال: فإن قيل: فقد أبطلتم التقليد. قال: قلنا: التقليد هو قبول قول بلا حجة.

وهؤلاء وجب عليهم ما أفتى به المفتى بدليل الإجماع، كما وجب قبول الشهود، وقبول خبر الواحد عند ظن الصدق، والظن معلوم، والعمل عند الظن معلوم بدليل قاطع، فهذا الحكم قاطع: والتقليد جهل، وتسميته اتباعنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - تقليدًا مجاز وتوسع. * * *

القسم الثالث فيما فيه الاستفتاء

القسم الثالث فيما فيه الاستفتاء قال الرازي: مسألة: لا يجوز التقليد في أصول الدين، لا للمجتهد، ولا للعوام. وقال كثير من الفقهاء بجوازه. لنا: أن تحصيل العلم في أصول الدين واجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فوجب أن يجب علينا، وإنما قلنا: إنه كان واجبًا على الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19] وإنما قلنا: (إنه لما كان واجبًا على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجب أيضًا على أمته) لقوله تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 158]. فإن قيل: لا نسلم أنه يمكن إيجاب العلم بالله تعالى، وذلك لأن المأمور إن لم يكن عالمًا بالله تعالى، فحالما لا يكون عالمًا بالله، استحال أن يكون عالمًا بأمر الله تعالى، وحالما يمتنع كونه عالمًا بأمر الله تعالى، يمتنع كونه مأمورًا من قبله؛ وإلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق، وإن كان عالمًا بالله -تعالى -استحال أمره به؛ لأن تحصيل الحاصل محال. سلمنا: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان مأمورًا بذلك؛ فلم قلت: إنه يلزم من كون الرسول مأمورًا كون الأمة مأمورين به؟ وما ذكرتم من الدليل معارض بأمور:

أحدها: أن الأعرابي الجلف العامي كان يحضر، ويتلفظ بكلمتى الشهادة، وكان الرسول -عليه الصلاة والسلام -يحكم بصحة إيمانه، وما ذاك إلا التقليد. وثانيها: أن هذه الدلائل لا يمكن الاطلاع عليها، إلا بعد ممارسة شديدة؛ وإنهم لم يمارسوا شيئًا من هذا العلم؛ فيمتنع اطلاعهم عليه، وإذا كان كذلك، تعين التقليد. وثالثها: أنه -عليه الصلاة والسلام -لم يقل لأحد ممن تلفظ بكلمتي الشهادة: (هل علمت حدوث الأجسام، وأنه تعالى مختار، لا موجب -فدل هذا على أن خطور هذه المسائل بالبال، غير معتبر في الإيمان، لا تقليدًا، ولا علمًا. ومنهم: من عول في هذه المسألة على طريقة أخرى؛ فقال: (أجمعت الأمة على أنه لا يجوز إلا تقليد المحق، لكن لا يعلم أنه محق إلا إذا عرف بالدليل أن ما يقوله حق، فإذن: لا يجوز له أن يقلد إلا بعد أن يستدل، ومتى صار مستدلا، امتنع كونه مقلدًا) فيقال لهم: هذا معارض بالتقليد في الشرعيات؛ فإنه لا يجوز له تقليد المفتي، إلا إذا كان المفتي قد أفتى؛ بناًء على دليل شرعي. فإن قلت: (الظن فيه كاف؛ فإن أخطأ، كان ذلك الخطأ محطوطًا عنه): قلت: فلم لا يجوز مثله في مسائل الأصول؟. واعلم أن في هذه المسألة أبحاثًا دقيقة مذكورة في كتبنا الكلامية. والأولى في هذه المسألة أن يعتمد على وجه، وهو أن يقال: دل القرآن على ذم التقليد في الشرعيات؛ فوجب صرف الذم إلى التقليد في الأصول، وإذا قد وفقنا الله تعالى بفضله؛ حتى تكلمنا في جميع أبواب أصول الفقه؛ فلتتكلم الآن فيما اختلف فيه المجتهدون أنه، هل هو من أدلة الشرع، أو ليس كذلك؟!.

شرح القرافى: قوله: (منهم من أوجب الأخذ بقول الأعلم، وهو الأقرب)

مسألة في شرائط الاستفتاء قال القرافى: قوله: (منهم من أوجب الأخذ بقول الأعلم، وهو الأقرب): تقريره: أن القاعدة الشرعية: أنه يقدم في كل ولاية من هو أقوم بمصالحها، فيقدم في القضاء من هو أعلم بوجوه الأقضية من التفطن لوجوه الحجاج، ومكايد الخصوم. وفي الحروب من هو أعلم بمكايد الحروب، وسياسات الجيوش. وفي كفالة الأيتام: من هو أعرف بيتمه والأموال، ومقادير الفروض. وفي جباية الصدقات: من هو أعلم بالنصب، وأحكام الزكاة. وربما كان المقدم في باب مؤخرًا في باب، فتقدم المرأة في الحضانة؛ لوفور شفقتها، وكثرة صبرها بالنسبة إلى الرجل؛ فإن أنفة الرجولية تأبى الصبر على الأطفال، فتقدم المرأة لذلك. وتؤخر في الجهاد؛ لخور طبعها في الحروب، وملاقاة الأعداء، وأسباب الموت والفناء. ولذلك قدم الفقيه في إمامه الصلاة؛ لكونه أعلم بتوقيعها، وعوارضها من القارئ، وكذلك -هاهنا -محط الفتيا، وسوغها، إنما هو العلم، فالأعلم يقدم. قال الشيخ أبو إسحاق -في (اللمع): (إذا استويا ثلاثة أقوال: التخيير، تعيين الأرجح، يجتهد فيهما). وقال أبو الخطاب الحنبلي في (التمهيد): (وقيل: يأخذ بالأشد، ويترك الأخف، إن كان فيهما أخف، وإذا قلنا بالتخيير، قال بعض الشافعية: ليس له أن يختار الأخف).

وقال ابن برهان في كتاب (الأوسط): (قيل: يأخذ بالأشد؛ لأنه أحوط، وقيل: بالأخف؛ لأن الشريعة مبنية على المساهلة، وقيل: يرجع إلى فتوى قلبه، لقوله عليه السلام: (استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك). وقيل: يتخير، وهو الأصح. قوله: (وثانيهما: أن يستويا في العلم، ويتفاضلا في الدين، فيقدم الأدين): قلنا: الذي يخير عند الاستواء في الدين، والتفاضل في العلم، يلزمه أن يخير هاهنا بطريقة الأولى؛ لأن العلم مدرك الفتيا، وعمادها، والتفاضل فيه لا يمنع التخيير. فأول التخيير، لكن المصنف لم يحكه في هذا القسم. قوله: (وثالثها: أن يكون أحدهما أرجح في علمه، فقيل: يؤخذ بقول الأدين، والأقرب ترجيح قول الأعلم): قلنا: كان أصل التقسيم يستحق كلامًا آخر، فنقول: أحدهما أرجح في دينه، والآخر أرجح في علمه، ثم يحكى الخلاف. لكن الواقع في نسخ عدة هو ذكر القسم الأول فقط. فلعله تركه اكتفاًء بالمفهوم.

(فائدة) قال سيف الدين: (اتفقوا على جواز تقليد العامي لمن عرفه بالعلم، وأهلية الاجتهاد، وعلى امتناع اتباعه لمن عرفه بالضد، واختلفوا في جواز استفتاء من لم يعرفه بعلم، ولا جهالة)

وأما وجه تقديم الأدين؛ فلأن الدين يحث على استيعاب النظر، فيأمن من الخطأ. (فائدة) قال سيف الدين: (اتفقوا على جواز تقليد العامي لمن عرفه بالعلم، وأهلية الاجتهاد، وعلى امتناع اتباعه لمن عرفه بالضد، واختلفوا في جواز استفتاء من لم يعرفه بعلم، ولا جهالة). قال: والحق امتناعه. وكذلك حكي هذا الخلاف الغزالي في (المستصفى)، وأختار ما اختاره سيف الدين. (مسألة) الرجل الذي تنزل به الواقعة إما أن يكون عاميا صرفًا. قوله: (إن كان عاميًا صرفًا حل له الاستفتاء): قلنا: هذا يتخرج على الخلاف المتقدم مع القدرية والجبائى. قوله: (يجوز تقليد غير الصحابة لهم): تقريره: قوله عليه السلام: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم). فجعلهم هداة لغيرهم، ولم يجعل غيرهم كذلك. قوله: (يجوز له التقليد فيما يخصه): تقريره: أنه ضرورة بخلاف ما لا يتعلق به. قوله: (لنا: قوله تعالى: {فاعتبروا} [الحشر: 2]: قلنا: قد تقدم الكلام على هذه الآية في القياس.

قوله: (يحرم عليه التقليد كما في أصول الدين). قلنا: الفرق أن أصول الدين إذا أخطأ فيه، اعتقد ما لا يجوز على الله -تعالى -وإذا أخطأ في الفروع، اعتقد ما هو جائز على الله -تعالى -وهذا فرق عظيم. وأيضًا فإن أصول الين منحصرة، أمكنة تحصلها من أول عمره، أمنا الفروع فغير معلومة، ولا منضبطة، ولا متناهية، وفيها عسر، وهذا فرق آخر. قوله: (المطلوب في الفروع الظن، وهو حاصل بالتقليد): قلنا: ق تقم كلام الغزالي في أن اتباع المجتهدين ليس من باب التقليد، وأن التقليد هو أخذ القول بغير حجة، وأن أخذ قول المفتى بحجة هو الإجماع. وكذلك تقم النقل فيه عن سيف الدين. قوله: (يتنقص بقضاء القاضي؛ فإنه لا يجوز له خلافه، وإن كان متمكنًا من معرفة الحكم، فإنه لا معنى للتقليد، إلا وجوب العمل عليه غير حجة): قلنا: لا نسلم أنه متمكن من معرفة الحكم؛ فإنه قد يحصر عليه المدارك في البينة. سلمنا: أنه متمكن، لكن لا نسلم أنه مقلد؛ لأن الإجماع قام على وجوبه للعدول، فهو ليس تقليدًا كما تقدم نقله عن سيف الدين أول هذا الباب. ثم قولكم: (لا معنى للتقليد إلا وجوب العمل من غير حجة): قلنا: التقليد غير وجوب العمل، بل التقليد هو أخذ القول عن قائله بغير

حجة ملزمة، وقد يجب العمل به، وقد لا يجب، بل قد يحرم كما في تقليد الكفار لأحبارهم. وكذلك: الجواب عن قوله: (إن من دنا من رسول -صلى الله عليه وسلم -يجوز أن يسأل من غير الرسول - صلى الله عليه وسلم -). قوله: (حديث المقداد مع على -رضي الله عنه -في أمر المذى الذي تقدم يقتضى جوازه): ويمكن أن يقال: تلك حالة ضرورة من وجوه: أحدها: أن سؤال علي -رضي الله عنه - مع أن ابنته -عليه السلام -تحته مؤذ له -عليه السلام -وسوء أدب، بل معصية كبيرة. وثانيهما: أن فيه ضررًا كبيرًا على علي -رضي الله عنه - من جهة فرط الحياء من ذلك، لاسيما مع سيد الأولين والآخرين. وثالثهما: احترام فاطمة -عليها السلام -فإن سؤال الرجال عن المذى وكثرته، يدل على فرط المجامعة، والحاجة لذلك، وذوو الأقدار ينفرون من الحديث في هذا، ويتأذون به. وقد قال عليه السلام: (إن فاطمة بضعة منى يؤذيني ما يؤذيها)، فيعود ذلك إلى القسم الأول. قوله: (في حجج الخصم: قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43]:

قلنا: هذا وإن سلمنا أنه عام في الأشخاص، فهو يطلق في الأحوال، فيحمل على حالة عم الاجتهاد، وعدم أهليته، وكذلك: قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} [النساء: 59]. وكذلك: الجواب عن قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} [التوبة: 122]. قال: (فإن قلت: إن عليا خالف فيه): تقريره: أن عليا -رضي الله عنه -كان من أهل الشورى الذين عينهم عمر رضي الله عنه. ويروى أن عبد الرحمن بن عوف بدأ به في البيعة قبل عثمان، فقال له: (أبايعك على كتاب الله -تعالى -وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وسيرة الشيخين). فقال: لا كراهية فيه؛ لظاهر اللفظ؛ لأنه يشعر أنه يلزمه ألا يجتهد، وأن يكون تابعًا لهما فيما اجتهد فيه مع أهلية الاجتهاد، وذلك لا يجوز. فتركه عبد الرحمن بن عوف، وبعث إلى عثمان، فقال له تلك المقالة، فقلبها؛ لأنه فهم من السيرة اتباع العدل، والإنصاف، والحجة البيضاء، وعدم اتباع الهوى، وهذا هو واجب عليه فيما اشترط عليه، إلا ما يجب عليه فعله، قبل ذلك القول، ولكل وجه حسن رضي الله عنهم أجمعين: قوله: (يجب العمل بالظن، دفعًا للضر المظنون). قلنا: قد تقدم الجواب عن هذا مرارًا، وأن الشرع لم يعتبر من الظنون إلا مراتب خاصة، فلم قلتم: إن هذا منها؟. قوله: (الآية تقتضى وجوب السؤال، وهو غير واجب بالاتفاق):

(سؤال) على استدلالهم بقوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم}

قلنا: لا نسلم عدم وجوبه مطلقًا، بل إذا تعينت الضرورة، والواقعة متعلقا به وجب السؤال. وكذلك يجب السؤال على العامي، ومنها وجوب السؤال في حالين. قوله: (المجتهد - بعد اجتهاده - ليس بعالم): قلنا: لا نسلم، بل عالم؛ لأن الإجماع آخره أنه حكم الله -تعالى - في قه، وحق من قلده، فقد اجتمع على حكمه دليل ظني، وهو الذي أفاد ظنه من خبر الواحد، أو القياس أو نحوه، ودليل قطعي، وهو الإجماع. ومتى اجتمع على المطلب الواحد ظني وقطعي، حصل القطع، كما تقرر أول الكتاب أن كل حكم شرعي معلوم. (سؤال) على استدلالهم بقوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} [النساء: 59]. وهو أن طاعتنا لهم فرع أمرهم لنا حالة كوننا مجتهدين باتباعهم، ونحن نمنع أنهم يأمروننا بذلك؛ لأنه عندما غير جائز. ثم إنه معارض بنهى من نهى منهم عن الإتباع؛ فإنهم تجب طاعتهم عملاً بالآية، وليس أحدهما أولى من الآخر، بل طاعة الناهي أولى؛ لأن النهى يعتمد المفاسد، والأمر يعتم المصالح، وعناية صاحب الشرع والعقلاء بدرء المفاسد أقوى. وهذا السؤال بعينه يرد على بقية الآيات المذكورة بعد هذا. (سؤال) على قوله: (الآيات دالة على الوجوب) -أن للخصم أن يقول: كل ما

(تنبيه) زاد التبريزى: فقال: (المجتهد لو جوز أن يكون عند غيره نص يل على حكم الواقعة، وجب عليه طلبه، ولم يجز له الاجتهاد

دل على الوجوب دل على الجواز، ومتى دل النص على أمرين، وانتفاء أحدهما بالإجماع بقى النص دليلاً على الآخر، فالدلالة قائمة. (تنبيه) زاد التبريزى: فقال: (المجتهد لو جوز أن يكون عند غيره نص يل على حكم الواقعة، وجب عليه طلبه، ولم يجز له الاجتهاد؛ لاحتمال أن يكون النص على خلاف ما ظهر له. وكذلك اجتهاده بعد الفراغ منه مانع من العمل باجتهاد غيره، والقدرة عليه وجب أن تكون مانعة؛ فإن احتمال المانع عند القدرة على تحصيل العلم به مانع لتحقيقه). وقال في الجواب عن الآية: (إن الآية حملت على الوجوب في حق العامي، ولا خلاف في عدم الوجوب في حق المجتهد، فخرج عن مقتضاها). يريد -والله أعلم - لئلا يصير اللفظ مستعملاً في حقيقته ومجازه، وهو مجاز مختلف فيه؛ فإن الأمر حقيقة في الوجوب، مجاز في غيره. قال: (ولأنه من أهل الذكر؛ فيكون مسئولا سائلاً). قال: (وآية الإنذار يعمل بها في الإنذار في الرواية في حق المجتهد). وقال في قول المصنف: (إن سيرة الشيخين هي الحكم بالعدل، والإنصاف، والإعراض عن الدنيا): وهذا ضعيف؛ لأنه لو كان هو المراد، لما تأبى على -رضي الله عنه - عن قبولها، وقد عرضت عليه أولاً، بل الجواب الصحيح أن ذلك يدل على أنه مذهبهما، ولا ينعقد به إجماع مع مخالفة على.

(مسألة) (لا يجوز التقليد في أصول الدين)

قال وقوله: (ما أنكره، وإنما لم يقبله). لم يتم؛ لأنه لو اعتقد جواره لقبل؛ فإنه كان طالبا لها بلا خلاف). قال: (واحتجاج من خصص بالصحابة، بقوله عليه السلام: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) لا يصح؛ لأنا نرى هذه المنزلة في الشرع لآحاد العلماء من المجتهدين، ولكن الكلام في أن المخاطب به من هو؟ ونحن نقول: هم عوام عصره -صلى الله عليه وسلم -فإنه خطاب مشافهة ونداء للذين يخبرهم به -عليه السلام -إلى العلماء، وغيرهم، وقد ساعدوا على أن بعضهم لا يقلًد بعضًا، فتعين أن يكون الخطاب لغيرهم في الاقتداء بهم. (مسألة) (لا يجوز التقليد في أصول الدين) قوله: (العلم واجب على النبي -صلى الله عليه وسلم -لقوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19]: قلنا: هذا يخص الوحدانية فقط، فتكون الدعوى عامة، والدليل خاصًا، فلا يفيد، كم قال: اللحم كله حرام؛ لأن لحم الخنزير حرام. وكذلك قوله -تعالى -في الآية الأخرى: {واتبعوه} [الأعراف: 158] مطلق؛ لأنه فعل في سياق الإثبات، فيفيد اتباعه في شيء واحد، فلا يعم الملة، وأيضًا فالإتباع ظاهر فيما فعله الذي يتبع، وإيجاد العلم ليس من فعله، بل من فعل الله -تعالى -فلا يتناوله الإتباع إلا بمقدمة زائدة على الآية، وهى أن يقول: إنه -عليه السلام -امتثل أمر ربه علمًا بظاهر حاله، وحصل في نفسه العلم، فيتبعه في ذلك. قوله: (المكلف إن كان عالمًا بالله -تعالى- استحال تكليفه بالعلم؛ لئلا

يلزم تحصيل الحاصل، وإن لم يكن عالمًا استحال أن يكون عالمًا يأمر الله تعالى). قلنا: نلتزم القسمين، ولا يلزم المحال، فيكون عالمًا بالله -تعالى - علمًا إجماليًا، وتكليف العلم بالتفصيل، أو يكون عالمًا تفصيلاً، ويكلف بدوامه، ويحصل مثله في الأزمنة المستقبلة، كما أنا مأمورون باستدامة الإيمان في الأزمنة المستقبلة إلى الممات، وإن كنا في الحال مؤمنين. سلمنا: أنه لا يكون عالمًا بالله -تعالى -لكن يكفى في علمه بأمر الله -تعالى -كونه قيل له: إنه موجود، أما أنت لا تعلمه، ولا تعرفه قد أمرك بكذا، فإنه يمكنه أن يبحث عن ذلك، ويسعى في معرفته؛ لأنه قد صار معلومًا له من جهة أنه مسمى له، ومذكور له، وأنت غير معلوم له. كما يقول: المجهول مطلقًا يمتنع الحكم عليه، فيحكم عليه بعدم الحكم، مع أنه مجهول مطلقًا، لكنه معلوم من جهة أنه مجهول مطلقًا، كذلك هاهنا يكفي في معرفته لأمر الله -تعالى -هذا الوجه، ويكون غير عالم بالله -تعالى -من غير هذا الوجه. قوله: (هذه الدلائل لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعد ممارسة شديدة، وأنتم لم تمارسوا شيئًا من هذه العلوم): قلنا: قد تقدم -أول هذا الباب -كلام سيف الدين على هذه المسألة، وأن المطلوب إنما هو العلم الإجمالي، وأنه مذكور في الطباع السليمة، والغائب عنها يحتاج إلى نظر لطيف، أما التبحر، والإطلاع على دقائق أصول الدين، فلم يوجبه أحد. قوله: (وفي هذه المسألة أبحاث دقيقة -ذكرناها في كتبنا الكلامية): تقريره: أنه ذكر في كتبه، أن التصورات غير مكتسبة؛ لأنها إما أن تكون

(تنبيه) قال التبريزى: استدلال المصنف باطل من وجهين

مشعورًا، فلا يمتنع طلبها، أو غير مشعور بها، فيمتنع طلبها - كما تقدم -وإذا كانت التصورات غير مكتسبة، كان لزوم التصديقات عنها غير مكتسبة أيضًا؛ لأنه إما أن يكون مشعورًا، فلا يمكن كسبه؛ لئلا يلزم تحصيل الحاصل، أو غير مشعور به، فيمتنع طلبه -لما تقدم -وإذا كانت التصورات والتصديقات غير مكتسبة كان الدليل غير مكتسب، ولا يكون العلم ممكن التحصيل، فلا يجب. وذكر -أيضًا -أمورًا أخرى لا أطول بذكرها -هاهنا -لأنه ليس موضعها. قوله: (الأول الاعتماد على وجه واحد، وهو أن القرآن ذم التقليد، وثبت جوازه في الشرعيات، فيتعين صرفه إلى الأصول): قلنا: هذا المدرك لا بد فيه من الجواب -عما تقدم - من كونه -عليه السلام - كان لا يسأل الناس عن العلم بالعقائد؛ بل يكتفي بالشهادة. وكذلك ما تقدم من الأسئلة للخصم، فما لم يحصل الجواب عنها لا يتم هذا الدليل، بل يحصل التعارض، فلا يحصل المقصود؛ بل وقوف النفس، وسكونها إلى ما حكى الخصم، ثم عن سيرته -عليه السلام -وسيرة السلف أقوى نم سكونها إلى هذه النكتة. (تنبيه) قال التبريزى: استدلال المصنف باطل من وجهين: أحدهما: أن الآية نفسها إعلام بالتوحيد، وأمر بالتثبيت عليه؛ لا أنه تكليف بالتوصل إليه؛ لقول القائل: اعلم أنى أخوك، واعلم أنى قادر عليك. وبيانه من وجهين: أحدهما: أن فهم الكلية يتوقف على العمل بالتكليف، وعم حصول المكلف به، وهما يتحدان هاهنا.

والثاني: هو أنه يلزم منه أن النبي -عليه السلام -لم يكن عالمًا بالتوحيد، وهو محال. الثاني: هو أنه وإن سلم -جدلاً -فما الدليل على وجوبه على غيره؟ قوله تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 158] دلالته على وجوب التقليد له أقرب من دلالته - على وجوب مساواته في التصدي لمنصب النظر والاجتهاد، ولهذا لو قال لواحد من الجمع: أوجبت عليك طلب القبلة بالنظر، والاجتهاد، وقال لمن عداه: أوجبت عليكم اتباعه، كان السابق منه إلى الفهم وجوب الأخذ بقوله، والتوجه إلى حيث يتوجه هو باجتهاده. قال: والجواب عما استدل به الفقهاء على عدم وجوب العلم بذلك أن القناعة بنفس الكلمة من غير مطالبة باعتقاد هذه القضايا، وإن كانت من الجلف الجافي وضع السيف عنه، لا يدل على عدم وجوب تحصيل المعارف حقيقة؛ فإنه لا خلاف في وجوب موافقة القلب لمقتضى الكلمة، واعتقاد صحة مضمونها مع القناعة بنفس الكلمة في عصمة الدم، وثبوت أحكام الدنيا مع العلم بانتفاء العقيدة، كما في حق المنافقين، أو الجهل بثبوتها كما في حق من أسلم تحت ظلال السيوف. فإن قيل: ولكن نبه على وجوب الاعتقاد، وذم النفاق، وأوعد المنافقين أشد العقاب. قلنا: وكذلك نبه؛ بل صرح بوجوب تحصيل هذه المعارف بالنظر. قال تعالى: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض} [يونس: 101]، {قل سيروا في الأرض} [الأنعام: 11]، {أفلم يسيروا في الأرض} [غافر: 82]، أي: بالاعتبار والفكر في القرون الماضية، {الله الذي خلق سبع سموات، ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12] إلى آخر السورة.

{أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} [الغاشية: 17]، {أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء} [الروم: 37]، {أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق} [الرمز: 52]، {ذلك لتعلموا أن الله يعلم} [المائدة: 97]، {وما خلقت الجن، والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] أي: يعرفون. (كنت كنزًا مخفيا لم أعرف، فأحببت أن أعرف، فخلفت خلقًا ليعرفوني). وشواهد ذلك لا تحصى في الكتاب والسنة. قلت: قوله: (الآية إعلام بالتوحيد، لا يكلف به) -لا يتم؛ لأن الأمر ظاهر في الوجوب. وكذلك نقول في قول القائل: (اعلم أني أخوك): اقتضاء لتحصيل العلم بذلك، وكونها دالة على التوحيد، لا ينافى أنها دالة على وجوب تحصيل العلم به، كما إذا قلنا: اعلم أن زيدًا في الدار؛ فإنه أمر بتحصيل العلم بذلك، هو إعلام بكونه في الدار؛ فإن العلم لا يحصل بوقوع الشيء في نفس الأمر، إلا إذا كان واقعًا فيه. قوله: (ذلك يتوقف على معرفة المكلف، وعدم حصول المكلف به) -ممنوع؛ لأن المكلف الذي هو الأمر يكون معلومًا إجمالاً -كما تقدم -في المثال بالمجهول، غيره. وأما عدم المكلف به، فإن أراد عدم نوعه فممنوع؛ لأن نوعه، قد يكون حاصلاً في الحال، والمطلوب إفراد ذلك النوع في المستقبل -كما تقدم -في الإيمان. وإن أراد شخصه فمسلم، لكن لا يحصل مقصوده من جهة أن الآية لم تدل على وجوب. وقوله: (وهما متحدان هاهنا) -ممنوع، بل المكلف هو الله -تعالى -

(مسألة) قال سيف الدين: إذا اتبع العامي مجتهدا في حكم صلاته، وعمل بقوله، اتفقوا على أن ليس له الرجوع عنه في ذلك الحكم

والمكلف به هو العلم بانتفاء غيره المشابه له، في كمال بقائه، وعلو شأنه، وانتفاء نظير الشيء غير الشيء، والعلم بالشيء غير العلم بعدم نظيره. وقوله: (يلزم أن يكون النبي -عليه السلام -غير عالم بالتوحيد) - ممنوع، بل يكون عالمًا في الحال، وهو مأمور بتحصيل أفراد ذلك النوع من العلم في المستقبل، كما تقدم في الإيمان). وقوله: (الآية دالة على وجوب التقليد): قلنا: تقدم أن التقليد هو الاتباع الذي لا حجة فيه، واتباعه -عليه السلام -فيه حجج المعجزة وغيرها، ومنها هذه الآية؛ فهذا ليس تقليدًا. (مسألة) قال سيف الدين: إذا اتبع العامي مجتهدًا في حكم صلاته، وعمل بقوله، اتفقوا على أن ليس له الرجوع عنه في ذلك الحكم. واختلفوا في رجوعه إلى غيره في غير ذلك الحكم، واتباع غيره فيه، فمنع وأجيز، وهو الحق نظرًا لإجماع الصحابة -رضوان الله عليهم -في تسويغهم للعامي الاستفتاء لكل عالم في كل مسألة، ولم ينقل عن أحد من السلف الحجر على العامة في ذلك، ولو كان ذلك ممتنعًا لما جاز من الصحابة -رضوان الله عليهم -إهماله، والسكوت عن الإنكار عليه؛ ولأن كل مسألة لها حكم نفسها، فكما لم يتعين الاتباع في المسألة الأولى إلا بعد سؤاله، فكذلك في المسألة الأخرى. أما إذا عين العامي مذهبًا معينًا، كمذهب الشافعي، أو أبى حنيفة أو غيره

-وقال: أنا على مذهبه، وملتزم له، فجوز قوم اتباع غيره في مسألة من المسائل نظرًا إلى أن التزام ذلك المذهب غير ملزم له. ومنعه آخرون؛ لأن التزامه ملزم له كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة، والمختار التفصيل: وهو أن كل مسألة من مذهب الأول اتصل عمله بها، فليس له تقليد الغير فيها، ومل لم يتصل عمله بها، فلا مانع من اتباع غيره. (فائدة) (كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام -رحمة الله -يذكر في هذه المسألة إجماعين على أن من أسلم لا يجب عليه اتباع إمام معين، بل هو مخير،

(فائدة) كان الشيخ عز الدين يقول: (حيث قلنا بجواز التقليد، والانتقال في المذاهب؛ فإنما نقول به فيما لا ينقض فيه قضاء القاضي

فإذا قلد إمامًا معينًا، وجب أن يبقى ذلك التخيير المجمع عليه حتى يحصل ليل على رفعه، لاسيما الإجماع لا يرفع إلا بما هو مثله في القوة). (فائدة) كان الشيخ عز الدين يقول: (حيث قلنا بجواز التقليد، والانتقال في المذاهب؛ فإنما نقول به فيما لا ينقض فيه قضاء القاضي، وأنما لم نقره شرعًا إنا تأكد بقضاء القاضي أولى ألا نقره شرعًا إذا لم يتأكد، والذي ينقض فيه قضاء القاضي أحد أربعة: ما خالف الإجماع، أو القواعد، أو النص، الذي لا يحتمل التأويل، أو القياس الجلي). وبهذا الضابط يخرج كثير من فروع المذاهب، فلا يجوز أن يتبع فيها قائلها إلا أل مذهبه، ولا غير أهل مذهبه؛ لأنا لا نقرها شرعًا، والاتباع في غير ما هو شرع غير مشروع. (فائدة) إذا لم نجعله شرعًا، وكان في المسألة قولان: هل يصير القول الأخير مجمعًا عليه، حتى يكون مخالفه مخالفًا للإجماع. الحق أنه ليس كذلك؛ لأن قائله يصير كالساكت. والإجماع لا ينعقد بدون السكت، ولا يمكن أن يقال أيضًا: إنه إجماع سكوتى على الرضا بما نطق به في الفريق الآخر، ففي هذه الصورة ساكت صرح ببطلان ما قاله خصمه، وأفتى بضه، فلا يكون إجماعًا سكوتيا. (فائدة) إذا قلنا بجواز الانتقال والتقليد، وهو اختيار الشيخ عز الدين، وسيف الدين -كما تقدم -وجماعة من العلماء، فمن شرطه: ألا يجمع بين المذاهب على وجه يكون خارقًا للإجماع.

(فائدة) قال بعض العلماء: (لا يجوز اتباع رخص المذاهب، بل يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله)

مثاله: ما سألني عنه بعض الناس في جواز تقليد مالك في طهارة ما خرز بشعر الخنزير؟ فقلت: يجوز؛ غير أنى أخشى عليك أن تمسح بعض رأسك، أو تترك التدلك في طهارتك، فيجتمع الإمامان على الفتيا ببطلان صلاتك، يبطلها مالك لعدم التدلك، والشافعي لنجاسة شعر الخنزير، فإذا أردت اتباع مالك في هذه المسألة، فلا توقع في صلاتك ما يقول: إنه مبطل لصلاتك، وإلا فابق على مذهب الشافعي مطلقًا. وقس على ذلك نظائره. (فائدة) قال بعض العلماء: (لا يجوز اتباع رخص المذاهب، بل يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله). فإن أراد ما هو على خلاف تلك الأمور الأربعة، التي ينقض فيا قضاء القاضي فمسلم. وإن أراد ما فيه توسعة على المكلف -وإن لم يكن على خلاف ذلك. فلم قال: إنه ممنوع؟ بل قوله عليه السلام: (بعثت بالحنيفية السمحة السهلة) يقتضى جواز ذلك؛ لأنه نوع من اللطف، والشريعة لم تر لمقصد إلزام العباد المشاق، بل بتحصيل المصالح الخاصة، أو الراجحة، وإن شقت عليهم. (فائدة) قال ابن برهان في كتابه (الأوسط): (يتخرج على الخلاف في هذه المسألة تقليد الصحابة -رضوان الله عليهم -لأن مذاهبهم لم يكثر فروعها، حتى تكفى المكلف طول عمره فتوى ذلك الصحابي؛ بخلاف مذاهب المتأخرين، كل مذهب منها لاتساعه يكفى المكلف طول عمره).

(مسألة) قال إمام الحرمين في (البرهان): (أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذهب أعيان الصحابة -رضي الله عنهم -بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة

(مسألة) قال إمام الحرمين في (البرهان): (أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذهب أعيان الصحابة -رضي الله عنهم -بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة، الذين سروا، ونظروا، وبوبوا الأبواب، وذكروا أوضاع المسائل، وتعرضوا الكلام على مذاهب الأولين؛ والسبب فيه أن الذين درجوا وإن كانوا قدوة للمسلمين، فإنهم لم يعتنوا بتهذيب مسائل الاجتهاد، وإيضاح طرق النظر، والذين بعدهم من أئمة المسلمين كفوا من بعدهم النظر في مذاهب الصحابة -رضي الله عنهم -فكان العامي مأمورًا باتباع مذهب السائرين والسابقين، وإن كان له حق الوضع، والتأسيس، والتأصيل، فللمتأخر حق التكميل، وكل موضع على الافتتاح، فقد يتطرق إلى مبادئه بعض النسخ، ثم يندرج المتأخر إلى التهذيب، والتكميل، فيكون المتأخر أحق أن يتبع؛ لجمعه المذاهب، وبيانها. وهذا واضح في الحرف، والصناعات، فضلاً عن العلوم، ومسالك الظنون). قلت: رأيت للشيخ تقي الدين بن الصلاح ما معناه: أن التقليد يتعين لهذه الأئمة الأربعة دون غيرهم من الصحابة -رضي الله عنهم -وغيرهم. وعلل ذلك بغير طريقة الإمام، وقال: إن مذاهب هؤلاء انتشرت، وانبسطت، حتى ظهر فيها تقييد مطلقها، وتخصيص عامها، وشروط فروعها. فإذا أطلقوا حكمًا في موضع وج تكميله في موضع آخر. أما غيرهم، فتنقل عنه الفتاوى مجرة، فلعل لها مكملاً، ومقيدًا، أو

(مسألة) قال سيف الدين: (اختلفوا هل يجوز خلو عصر من الأعصار عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه؟

مخصصًا لو انبسط كلام قائله لظهر، فيصير في تقليده على غير ثقة، بخلاف هؤلاء الأربعة. وهذا توجيه حسن فيه من الأدب ما ليس في كلام إمام الحرمين، غير أن عليه سؤلاً تخلص عنه إمام الحرمين، وهو أنه على هذا التقدير يتعذر علينا نقل مذاهبهم في أي مسألة حاولنا ذلك، بل نلزم أحد الأمرين: إما عدم جواز النقل عنهم لمذاهبهم؛ لعم انضباطها أو جواز النقل؛ للضبط مع جواز التقليد، أما منع التقليد لتوهم عدم ضبط شروط تلك المسائل، فذلك بعينه يمنع النقل عنهم. فلعل ما ننقله عنهم لو جمعت شروطه جاز، وفرعه لمن يجزم بنقله له خلاف، ويمكن الجواب عنه: بأن أمر النقل خفيف بالنسبة إلى العمل؛ فإنه ق يكون المقصود منه الاطلاع على وجوه الفقه، والمبنية للمدارك، وعدم الوفاق، فيوجب ذلك التوقف عن أمور، والحث على أمور. وقال ابن برهان في كتاب (الأوسط): (تقليد الصحابة -رضي الله عنهم -يخرج على جواب الانتقال في المذاهب، فمن منعه قال: مذاهب الصحابة لم يكثر فروعها حتى لا يمكن الاكتفاء بها، فيؤديه ذلك إلى الانتقال، وهو ممنوع، ومذاهب المتأخرين تمهدت، فيكفى المذهب الواحد المكلف طول عمره، فيكمل بهذا الحكم، وهو منع تقليد الصحابة. (مسألة) قال سيف الدين: (اختلفوا هل يجوز خلو عصر من الأعصار عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه؟.

منع منه قوم كالحنابلة وغيرهم، وجوزه آخرون، وهو المختار؛ لأن الأصل عم المنع، وعم الدليل على ذلك. احتجوا بقوله عليه السلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق، حتى يأتي أمر الله، وحتى يظهر الدجال). وبقوله عليه السلام: (العلماء ورثة الأنبياء). ولأن التفقة فرض كفاية؛ فلو اتفق الكل على تركه لأثموا، فيندموا على الخطأ، وهو محال على الأمة. ولأن الاجتهاد طرق معرفة الأحكام؛ فلو تعذر تعذرت معرفة الأحكام. قال: والجواب عن النصوص معارضتها بما يدل على ضد ذلك من قوله عليه السلام: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فأفتوا بغير علم،

(مسألة) قال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): من اجتمعت فيه شرائط الفتوى؛ فإن كان في الإقليم غيره، لم يتعين عليه الفتيا، والتعليم؛ بل هو فرض كفاية

فضلوا وأضلوا)، وقوله عليه السلام: (لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) ... والأحاديث في هذا كثيرة. وعن المعقول: أنه إنما يكون فرضًا إذا لم يمكن أن يعتمد العوام على الأحكام المنقولة عن المجتهدين المتقدمين، فلا يغلب على الظن، أما إذا أمكن فلا. (مسألة) قال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): من اجتمعت فيه شرائط الفتوى؛ فإن كان في الإقليم غيره، لم يتعين عليه الفتيا، والتعليم؛ بل هو فرض كفاية، وإلا تعين عليه الفتيا والتعليم، ويجب عليه أن يبين الجواب. فإنه كان المستفتى هو صاحب الواقعة سأله، فأفتاه، بما يثبت عنده من المسألة، وإن لم يكن حاضرًا، والمسألة تحتاج لتفصيل فصل الجواب، وإن لم يعلم لسان المفتى للمستفتى قبل فيه ترجمة عدل؛ لأن طريقه الخبر، قيقبل فيه خبر الواحد.

(مسألة) قال الشيخ: أبو إسحاق في (اللمع): (لا يجوز للمستفتى أن يستفتى كل من يتزيا بزى أهل العلم

(مسألة) قال الشيخ: أبو إسحاق في (اللمع): (لا يجوز للمستفتى أن يستفتى كل من يتزيا بزى أهل العلم، ويدعيه، ويعتزى إليه، كالقضاة، وغيرهم؛ لأنا لا نأمن أن يكون المسئول غير فقيه، أو غير أمين يتساهل في الأحكام، بل لا بد أن يعرف حال المفتى في الفقه، والأمانة، ويكفيه في ذلك خبر عدل؛ لأن طريقه الخبر، وكذلك قاله الباجى المالكي في (الفصول). وقال ابن برهان في كتاب (الأوسط): (اختلفوا في الطرق التي عليها يعتمد: فقيل: يجتهد بانتشار اسمه وصفته. وقيل: يسأله هل أنت أهل للتقليد أمن لا؟ فإن أقر بذلك قلده. وقيل: يحلفه على ذلك، وقد كان على بن أبي طالب -رضي الله عنه -يحلف الرواة عن رسول الله عليه السلام. (مسألة) قال أبو الخطاب الحنبلي في (التمهيد): (لله -تعالى -على الأحكام أدلة من الكتاب، أو السنة، أو القياس، خلاف لمن قال: لا دليل على الحكم سوى ظن المجتهد. لنا: قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59]؛ ولحديث معاذ، ولإجماع الناس على أنهم يفزعون عند نزول الحوادث إلى هذه المدارك ومناظرات بعضهم بعضًا بها. كما احتجوا بأنه لو كان عليه أمارة متعينة من كتاب أو سنة، أو قياس لوجب إذا نظر فيها المجتهد أن يؤديه إلى ما قاله خصمه، كمن سلك طريقًا إلى مقصد؛ كل من سلكه أداه إليه جوابه أن أحدهما قد يقتصر في اجتهاده.

(مسألة) قال أبو الخطاب الحنبلي في (التمهيد): (إذا أفتاه، ولم يعمل بفتواه حتى مات المفتى، فهل يجوز له العمل بما أفتاه؟

(مسألة) قال أبو الخطاب الحنبلي في (التمهيد): (إذا أفتاه، ولم يعمل بفتواه حتى مات المفتى، فهل يجوز له العمل بما أفتاه؟ يحتمل أنه لا يجوز، لأنه لا يدرى أنه لو عاش هل يرجع عن ذلك الحكم أم لا؟. أو يجوز له العمل؛ لأنه بالموت زال عن المفتى التكليف. قلت: هذا الكلام احتمال، وليس جزمًا. وأما العالمي من الحنفية: فقد حكي الخلاف صريحًا، واختار الجواز. قال: وهو الصحيح. (مسألة) قال العالمي الحنفي في كتابه: إذا اعتدل القولان عن المفتى اختلفوا فيه: فقيل: يفتى بأيهما شاء، وقيل: يخير المستفتى بين القولين؛ لأنه إنما يفتيه بما يراه، والذي يراه هو التخيير. (مسألة) قال ابن برهان في كتاب (الأوسط): (إذا استفتى العامي في حادثة، ثم حدثت تلك الحادثة مرة أخرى، هل يجوز له الاكتفاء بتلك الفتوى؟ أم يجب عليه تجديد السؤال؟ قولان. قلت: وهذا يتجه إذا كان المفتى مجتهدًا، أو كان في زماننا. لكن المسألة وقع فيها اجتهاد، وتخريج، حتى يحتمل تغير الاجتهاد. أما الفتيا بالنقل الصرف الذي لا يحتمل تغير الاجتهاد، فلا حاجة للسؤال، غير أن المستفتى قد لا يعلم الحال، فيسأل لاحتمال أنها اجتهادية، أما إذا علم فلا؟.

(مسألة) قال ابن برهان في كتاب (الأوسط): (لا يجوز تقليد المجتهد الميت، مع وجود المجتهد الحى؛ لأن الحى أولى)

قال: ويجوز للعامي أن يرسل من يسأل له إذا كان موثوقًا. (مسألة) قال ابن برهان في كتاب (الأوسط): (لا يجوز تقليد المجتهد الميت، مع وجود المجتهد الحى؛ لأن الحى أولى). (مسألة) قال ابن برهان: (من كان مقلدًا لصاحب مذهب، وقد أحاط بنصوص ذلك المذهب، وكان مجتهدًا بالقياس، كان مجتهدًا في ذلك المذهب ولا يشترط حفظه للنصوص، ومعرفته بالقياس، بل لا بد من معرفته قواعد ذلك المذهب، ومداركه. فإنها أصول تلك النصوص التي يقيس عليها الحوادث ليست منصوصة، فمتى وجد بين الحادثة والقاعدة فرقًا، يمكن أن يقول به إمامه: امتنع عليه القياس. أما إحاطة المفتى بالنصوص من غير قواعد، فذلك يمنعه من القياس. (مسألة) قال ابن برهان في كتاب (الأوسط): لا شك أن أهل العترة من أهل الاجتهاد؛ لأن بعضهم ولى الخلافة، ولا يليها إلا مجتهد. ومنهم من انتشرت فتاواه، وأقر عليها، ولا يقر عليها إلا مفت. وكذلك من انتشرت فتاواه كابن مسعود، ابن عباس، وعائشة، وغيرهم. وقال الحنفية: أبو هريرة، وابن عمر، أنس، وجابر ليسوا فقهاء؛ بل رواة، وهو باطل؛ لأن ابن عمر أفتى في زمن الصحابة، وأبو هريرة ولى القضاء، وأنس وجابر أفتيا في من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

واختلف أصحابنا، وأصحاب أبى حنيفة في المزني، وأبى يوسف، ومحمد بن الحسن، أبى العباس بن سريج: فقيل: مجتهدون مطلقًا. وقيل: بل في المذهب. * * *

الكلام فيما اختلف فيه المجتهدون من أدلة الشرع

الكلام فيما اختلف فيه المجتهدون من أدلة الشرع وفيه المسائل: المسألة الأولى: في حكم الأفعال: اعلم أنا بينا في أول هذا الكتاب أنه لا حكم قبل الشرع، أجبنا عن شبه المخالفين، ونريد الآن أن نبين أن الأصل في المنافع الإذن، وفي المضار المنع بأدلة الشرع؟ فإن ذينك أصلان نافعان في الشرع: أما الأصل الأول: فالدليل عليه وجوه: المسك الأول: التمسك بقوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29] واللام تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع. فإن قيل: لا نسلم أن اللام تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع؛ والدليل عليه قوله تعالى: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7] {لله ما في السموات والأرض} [البقرة: 284] ففي هاتين الآيتين يمتنع أن تكون اللام للاختصاص بالمنافع، ولأن النحاة قالوا: اللام للتمليك، وهو غير ما قلتموه. سلمنا ذلك؛ ولكنه يفيد مسمى الانتفاع، أو يفيد كل الانتفاعات؟. الأول مسلم، ويكفي في العمل بها حصول فرد واحد من الانتفاعات، وهو الاستدلال بها على الصانع تعالى. والثاني ممنوع؛ فما الليل؟ سلمنا أنه يفيد كل الانتفاعات، لكن بالخلق؛ لأن اللام داخلة على الخلق؛ فلم قلت: إن المخلوق كذلك؟.

سلمنا أنه يفيد الانتفاع بالمخلوق؛ لكن لكل واحد في حال واحد؛ لأن هذا مقابلة الجمع بالجمع، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد فقط. سلمنا أنه يفيد العموم؛ لكن كلمة (في) للظرفية، فيدل على إباحة كل ما في داخل الأرض، وهو الركاز المعادن؛ فلم قلتم: إن ما على الأرض كذلك؟ سلمنا إباحة كل ما على الأرض؛ لكن في ابتداء الخلق؛ لأن قوله: {خلق لكم} [البقرة: 29] يشعر بأنه حالما خلقها إنما خلقها لنا؛ فلم قلتم: إنه بقي في الدوام كذلك؟. فإن قلت: (الأصل في الثابت البقاء): قلت: هذا فيما يحتمل البقاء؛ لكن كونه مباحًا صفة، والصفة لا تبقى. سلمنا الإباحة حدوثًا وبقاًء؛ لكن، لمن كان موجودًا وقت ورود هذا الخطاب؛ لأن قوله تعالى: {خلق لكم} خطاب مشافهة؛ فيختص بالحاضرين. سلمنا أنه يدل على اختصاصها بنا؛ لكن قوله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض} [البقرة: 284] ينافي ذلك. والجواب: الدليل على أن اللام تفيد المنفعة قوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] وقال -عليه الصلاة والسلام -: (النظرة الأولى لك، والثانية عليك) وقال -عليه الصلاة والسلام -: (له غنمه، وعليه غرمه) ويقال: (هذا الكلام لك، وهذا عليك). غاية ما في الباب أنها جاءت في سائر المواضع لمطلق الاختصاص، فنقول:

لو جعلناه حقيقة في الاختصاص النافع، أمكن جعله مجازًا في مسمى الاختصاص؛ لأن مسمى الاختصاص جزء من الاختصاص النافع، والجزء لازم للكل، واللفظ الدال على الشيء يصح جعله مجازًا عن لازمه، أما لو جعلناه حقيقة لمسمى الاختصاص لم يكن الاختصاص النافع لازمًا؛ لأن الخاص لا يكون لازمًا للعام، وإذا لم يوجد اللوم لم يجز جعله مجازًا عنه. وأما قول النحاة: (اللام للتمليك) فلم يريدوا أنها حقيقة للملك؛ وإلا لبطل بقوله: (الجل للفرس) بل مرادهم: الاختصاص النافع، وهو عين ما قلناه. قوله: (يكفي حصول فرد من أفراد الانتفاعات، وهو الاستدلال بها على الصانع تعالى): قلنا: لا يمكن حمل الآية على هذا النفع؛ لأن هذا النفع حاصل لكل مكلف من نفسه، فإنه يمكنه الاستدلال بنفسه على الصانع، وإذا حصل له هذا النفع من نفسه، كان تحصيل هذا الجنس من النفع من غيره ممتنعًا؛ لأن تحصيل الحاصل محال. قوله: (اللام داخله على الخلق؛ فلم قلت: المخلوق كذلك؟): قلنا: الخلق هو المخلوق؛ لقوله تعالى: {هذا خلق الله} [لقمان: 11] أي مخلوق الله، وبتقدير أن يكون الخلق غير المخلوق؛ لكن لا نفع للمكلف في صفة الله تعالى، فوجب أن يكون المراد ها هنا من الخلق المخلوق. قوله: (مقابلة الجمع بالجمع تقتضي مقابلة الفرد بالفرد): قلنا: لا نسلم أن هذا مقابلة الجمع بالجمع، بل هذا يجري مجرى تمليك

الدار الواحدة لشخصين؛ فكما أن ذلك يقتضي تعلق حق كل واحد منهما، لا بجزء معين من الدار؛ بل بجميع أجزاء الدار؛ فكذا ها هنا. قوله: (كلمة: (في) لا تتناول إلا ما كان في باطن الأرض). قلنا: لا نسلم؛ بدليل قوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30]. قوله: (وهب أنه ثبت هذا الحكم في الابتداء؛ فلم قلت: إنه يدوم؟): قلنا: لأن الأصل فيم يثبت بقاؤه. قوله: (هذا الاختصاص صفة؛ فلا تقبل الدوام): قلنا: لكن حكم الله تعالى صفة؛ فهي واجبة الدوام. قوله: (وهب أن هذا الحكم ثبت للمخاطبين بهذا الخطاب؛ فلم قلت: إنه يثبت في حقنا؟): قلنا: لأن الله تعالى، لما حكم بذلك في حقهم، وقد حكم به الرسول أيضًا في حقهم؛ فوجب أن يكون قد حكم به أيضًا في حقنا؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام - (حكمي في الواحد، حكمي في الجماعة). قوله: هذا معارض بقوله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض} [البقرة: 284]. قلنا: التعارض إنما يثبت أن لو ثبت في الموضعين بمعنى واحد؛ وهو محال؛ لأن الذي أثبتناه في حقنا هو الاختصاص النافع؛ وذلك في حق الله -تعالى - محال، فإذن: لا تعارض، بل ذلك الاختصاص ليس إلا بجهة الخلق والإيجاد.

المسلك الثاني: قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32] أنكر الله -تعالى -على من حرم زينة الله؛ فوجب ألا تثبت حرمة زينة الله، وإذا لم تثبت حرمة زينة الله، امتنع ثبوت الحرمة في كل فرد من أفراد زينة الله؛ لأن المطلق جزء من المقيد، فلو ثبتت الحرمة في فرد من أفراد زينة الله تعالى لثبتت الحرمة في زينة الله تعالى؛ وذلك على خلاف الأصل، وإذا انتفت الحرمة بالكلية، ثبتت الإباحة. المسلك الثالث: أن -الله -تعالى قال: {أحل لكم الطيبات} [المائدة: 4] وليس المراد من الطيب الحلال؛ وإلا لزم التكرار؛ فوجب تفسيره بما يستطاب طبعًا، وذلك يقتضى حل المنافع بأسرها. المسلك الرابع: القياس: وهو أنه انتفاع بما لا ضرر فيه على المالك قطعًا، ولا على المنتفع ظاهرًا؛ فوجب ألا يمنع؛ كالاستضاءة بضوء سراج الغير، ولاستظلال بظل جداره. وإنما قلنا: إنه لا ضرر فيه على المالك؛ لأن المالك هو الله تعالى، والضرر عليه محال، وأما ملك العباد، فقد كان معدومًا، والأصل بقاء ذلك العدم، ترك العمل به فيما وقع اتفاق الخصم على كونه مانعًا، فيبقى في غيره على الأصل. فإن قيل: (فهذا يقتضى القول بإباحة كل المحرمات؛ لأن فاعلها ينتفع بها، ولا ضرر فيها على المالك، ويقتضى سقوط التكاليف بأسرها، ولا شك في فساده. وأيضًا: بالقياس على الاستضاءة والاستظلال غير جائز؛ لأن المالك لو منع

من الاستضاءة والاستظلال، قبح ذلك منه؛ والله -تعالى -لو منع، من الانتفاع، لم يقبح): والجواب عن الأول: أنا احترزنا عنه بقولنا: (ولا ضرر على المنتفع ظاهرًا) وهاهنا في فعل ما نهى الله عنه، ترك ما أمر به ضرر، أما على قول المعتزلة: فلأنه لولا اشتمال الفعل والترك على جهة؛ لأجلها حصل النهى، وإلا لما جاز ورود النهى، وأما عندنا: فلأن الله -تعالى -لما توعدنا بالعقاب عليه، كان مشتملاً على الضرر؛ فلم يكن واردًا علينا. وعن الثاني: أنه لا يجب أن يكون الفرع مساويًا للأصل من كل الوجوه؛ بل يكفى حصول المساواة فيه من الوجه المقصود. المسلك الخامس: وهو أن الله -تعالى -خلق الأعيان: إما لا لحكمة، أو لحكمة. والأول باطل؛ لقوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين} [الدخان: 38] وقوله: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} [المؤمنون: 115] ولأن الفعل الخالي عن الحكمة عبث، والعبث لا يليق بالحكيم. وأما إن كان خلقها لحكمة، فتلك الحكمة: إما عود النفع إليه، أو إلينا. والأول: محال؛ لاستحالة الانتفاع عليه، فتعين أنه -تعالى -إنما خلقها؛ لينتفع بها المحتاجون؛ وهذا يقتضى أن يكون المقصود من الخلق نفع المحتاج، وإذا كان كذلك؛ كان نفع المحتاج مطلوب الحصول، أينما كان، فإن منع منه؛ فإنما يمنع، لأنه بحيث يلزمه رجوعه ضرر إلى محتاج.

فإذا نهانا الله تعالى عن بعض الانتفاعات، علمنا أنه تعالى، إنما منعنا منها؛ لعلمه باستلزامها للمضار: إما في الحال، أو في المال؛ ولكن ذلك على خلاف الأصل؛ فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة. وهذا النوع من الكلام هو اللائق بطباع الفقهاء، والقضاة، وإن كان تحقيق القول فيه لا يتم إلا مع القول بالاعتزال. أما الأصل الثاني؛ وهو أن الأصل في المضار الحرمة: فهذا يستدعى بحثين: أحدهما: البحث عن ماهية الضرر، والثاني: إقامة الدليل على حرمته. أما الأول: فقد قالوا: الضرر ألم القلب؛ لأن الضرب يسمى ضررًا، وتفويت منفعة الإنسان يسمى إضرارًا، والشتم والاستخفاف يسمى ضررًا، ولابد من جعل اللفظ اسمًا لمعنى مشترك بين هذه الصور؛ دفعًا للاشتراك، وألم القلب معنى مشترك؛ فوجب جعل اللفظ حقيقة فيه. فإن قيل: (أتعنى بألم القلب الغم والحزن، أم شيئًا آخر؟: الأول: باطل؛ لأن من خرق ثوب إنسان، أو خرب داره، وكان المالك غافلاً عن هذه الحالة، يقال: أضر به، مع أنه لم يوجد الغم والحزن، وإن عنيت به شيئًا آخر، فبينه، نزلنا عن الاستفسار؛ فلم قلت: (الضرر ألم القلب؟): قوله: (لابد من معنى مشترك في مواضع الاستعمال): قلنا: هذا مسلم؛ لكن لم قبلت: إنه لا مشترك إلا ألم القلب؛ بل هاهنا مشترك آخر؛ وهو تفويت النفع؛ فما الدليل على أن ما ذكرتموه أولى؟ ثم الذي يدل على أن ما ذكرناه أولى: أن النفع مقابل الضرر، والنفع تحصيل المنفعة؛ فوجب أن يكون الضرر إزالة المنفعة.

وإذا ثبت ذلك، وجب ألا يكون حقيقة فيما ذكرتموه؛ دفعًا للاشتراك. سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الضرر ألم القلب؛ لكنه معارض بوجهين: الأول: أن من خرب دار إنسان، وكان المالك غافلاً عنه، يقال: (أضر به) مع أنه لم يوجد هناك ألم القلب؛ لأن ألم القلب لا يحصل إلا بعد الشعور به. الثاني: قوله تعالى: {قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئًا ولا يضركم} [الأنبياء: 66] أخبر أن عبادة الأصنام لا تضرهم، مع أنها تؤلم قلوبهم يوم القيامة؛ لأنهم يعاقبون بذلك. فثبت أن الضرر ليس ألم القلب. والجواب: أن القلب إذا ناله غم وحن، انعصر دم القلب في الباطن، وانعصار دم القلب في الباطن؛ إنما يكون لانعصار القلب في نفسه، وانعصار العضو مؤلم له؛ لأن أي عضو عصرته، فإنه يحصل منه ألم، فالمراد من ألم القلب تلك الحالة الحاصلة له عند ذلك الانعصار، فظهر بهذا أن ألم القلب مغاير للغم، وإن كان مقارنًا له، وغير منفك عنه. وأما من خرق ثوب إنسان، فإنما يقال: (أضر به على معنى أنه أوجد ما لو عرفه، لحصل الضرر؛ لا محالة؛ وهو في الحقيقة إطلاق اسم المسبب على السبب مجازًا. قوله: (لم قلت: لا مشترك سواه): قلنا: لأن المشترك الآخر كان معدومًا، والأصل بقاؤه على العدم.

شرح القرافي: قوله: (قال النحاة: (اللام للتمليك)

قوله: (تفويت النفع أيضًا مشترك): قلنا: لا يجوز جعله مسمى الضرر؛ لأن البيع الهبة حصل فيما تفويت النفع؛ لأن البائع فوت على نفسه الانتفاع بعين المبيع، مع أن ذلك لا يسمى ضررًا. قوله: (الضرر في مقابلة النفع): قلنا: هب أنه كذلك؛ لكن النفع عبارة عن تحصيل اللذة، أو ما يكون وسيلة إليها، والضرر عبارة عن تحصيل الألم، أو ما يكون وسيلة إليه. وأما الآية: فنقول: لا نسلم أن الأصنام تضرهم في الدنيا، ولا في الآخرة؛ بل الذي يضرهم في الآخرة عبادتها؛ فزال السؤال. المقام الثاني: في إقامة الدلالة على حرمة الضرر، والمعتمد فيه قوله -عليه الصلاة والسلام -: (لا ضرر، ولا إضرار في الإسلام). والكلام على التمسك بهذا النص اعتراضًا وجوابًا مشهور في الخلافيات الكلام فيما اختلف فيه المجتهدون، هل من أدلة الشرع؟. قال القرافي: قوله: (قال النحاة: (اللام للتمليك): تقريره: أن (اللام) في اللغة: تكون (ساكنة)، و (ومفتوحة)، و (مكسورة). والمكسورة: التي هي المقصودة -هنا -تكون للملك: إذا أضافت ما يصلح للملك لمن يصلح له الملك، نحو: (المال لزيد)، وإلا فلا. وللاستحقاق: إذا أضافت لغير من يقبل الملك، بل العادة جرت به نحو: سرج للدابة، وباب للدار؛ لأن العادة اقتضت أن يكون للدابة سرج، وللدار باب.

والاختصاص: نحو: ابن لزيد، أي هو مختص به دون سائر الناس؛ لأنه لا يكون له إلا أب واحد. وللتشريف: نحو: قوله تعالى: (إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزى به). وللذم نحو: هذا حزب للشيطان. وللتعليل: نحو: اتجرت لأربح. والجحود: إذا تقدمت (كان) مع النفي نحو: ما كنت لأسافر. ولام العاقبة: نحو: قوله تعالى: {ليكون لهم عدوا وحزنًا} [القصص: 8]. ولام الأمر: نحو: ليقم زيد. ولام الاستغاثة: نحو: يا لزيد لعمرو. ولتعدية الفعل: نحو: أكلت لزيد الطعام. فهذه أحد عشر موضعًا. والمفتوحة: تكون مستعملة استعمالات مكسورة في معانيها مع المضمرات، كما تكون مع الظواهر نحو: المال له. وللتأكيد: نحو: إن زيدًا لقائم. وجواب القسم: نحو: {وإن ربك ليحكم بينهم} [النحل: 124].

وللقسم: نحو: لعمرك إنه لقادم. وللمستغاث به -كما تقدم -فيفتح لام المستغاث نحو: يا لزيد، يا لله. فهذه خمسة مواضع. والساكنة: تكون في التعريف نحو: الرجل، والمال، والأمر. ومع حرف العطف المتقدم عليها: نحو: قوله تعالى: {وليوفوا نذورهم وليطوفوا} [الحج: 29]. وأما قوله تعالى: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7]، فبمعنى (على) وكذلك قوله عليه السلام، (واشترطي لهم الولاء) أي عليهم على أحد الأقوال، فهذا مجاز لا يعد في الحقيقة. وفي قوله تعالى: {لله ما في السموات} [البقرة: 284] للتمليك. قوله: (يفيد الانتفاع بالخلق؛ لأن اللام داخلة عليه): تقريره: أن الغرض قد يتعلق بنفس الفعل، ون ما يترتب عليه، نحو: قتل العدو؛ فإن نفس الفعل هو الشافي، وهو مقصودك، وأما يترتب عليه، فلا. وكذلك تقول: أخرجته لجلده وقتله؛ لأن المقصود نفس الفعل عندك. وقد يكون لمقصود ما يترتب على الفعل، لا نفس الفعل، نحو: شرب الأدوية، وصنع الأغذية؛ فإن المقصود ليس نفس الشرب، ولا طبخ الطعام، بل ما يترتب عليه حتى لو تصور -عندك -حصول المقصود منهما، بدون الفعل، والمباشرة، كان أحب إليك، بخلاف قتل العدو، وقد تكون المباشرة هي المقصودة. ونظيره في الشرعيات: ذبح الضحايا، والهدايا؛ فإن مباشرتها مقصودة،

بخلاف دفع الديون، والزكوات المباشرة ليست مقصودة، بل وصول الحق لمستحقه. فهاهنا أمكن أن يقال: المعلل باللام هو الفعل، لا ما يترتب عليه، فلا يكون انتفاعنا بالأعيان له مدخل في التعليل غير أن قوله: (اللام) داخلة على الخلق) عبارة فيها اتساع؛ فإن (اللام) لم تدخل إلا على الضمير الذي هو العباد الذي خلق لأجلهم، لا على الخلق، ولا عل المخلوق الذي المقصود الانتفاع به، بل معناه أن المعلل في الصورة الظاهرة إنما هو فعل الخلق لا المخلوق؛ لقوله تعالى: {خلق لكم} [البقرة: 29]، ولم يقل تعالى: هذه المخلوقات لكم، فكان حق العبارة أن يقول: لأن الذي علل (باللام) هو الخلق، لا المخلوق لكنه لما وجد المختص بالتعليل قال: (اللام) داخلة عليه، أي لأجله، فكأنه استعمل (على) بمعنى (اللام) مجازًا. وحروف الجر ينوب بعضها مناب بعض نحو قوله تعالى: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7]. قوله: (الصفة لا تبقى): قلنا: لا نسلم، بل هذا خلاف الإجماع، بل الذي قيل به أن الأعراض لا تبقى أفرادها الشخصية، أما أنواعها فلا خلاف أنها تبقى، وأن الثوب يدوم وصفه بالبياض الذي هو عرض الدهر الطويل، أما أن ذلك البقاء لبقاء الفرد الواحد، أو لتجرد الأفراد في كل زمان -هذا موضع الخلاف. وعلى هذا التقدير: الصفة دائمة الدوام، المقصود في هذه المسألة، وهو صادق لغة، وعرفًا -هذا في المحدث. أما الإباحة التي هي صفة قديمة، فظاهر أنها لا تقبل العدم.

قوله: (لكن قوله تعالى: {لله ما في السموات، وما في الأرض} [البقرة: 284] ينافى ذلك): تقريره: أنه ذكر هذه الآية أولاً، وآخرًا، وليس ذلك تكرارًا، بل ذكرها أولاً للمعارضة في (اللام)، وأنها لا تكون للاختصاص بالنفع. وثانيًا: للمعارضة في كون النفع لنا؛ بل هو لله -تعالى -بعد تسليم أنها للاختصاص. فالأول: في (اللام)، والثاني: في (النفع). أي ليس النفع لنا؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنه لله. غايته أن الدليل دل على أن الله -تعالى -منزه عن المنافع. وإذا خرج اللفظ عن ظاهره في أن الله -تعالى -ينتفع، بقيت مستعملة في عدم انتفاعنا نحن؛ لأن اللفظ دل على أمرين، انتفاع الله -تعالى -ويلزم من اختصاصه عدم نفعنا نحن. قوله: (لو جعلناه حقيقة في مسمى الاختصاص، لم يمكن جعله مجازًا في الاختصاص النافع بعدم اللزوم). قلنا: قد تقدم -مرارًا -أن هذا مستدرك، وأنه ليس من شرط المجاز اللزوم؛ فإن من جملة أنواع المجاز التي عددتموها التعبير بالجزء عن الكل، بالضد عن الضد، وبالأسد عن زيد، وليس شيء من ذلك يلزمه المحل المتجوز إليه. وهذه النزعة -تقدم -أنها من أصل القياس بالدلالة باللفظ. تقدم الفرق بينهما في أقسام الدلالة من خمسة عشر وجهًا. بل اللائق هنا: أن يقولوا: يكون المجاز مرجوحًا بالنسبة إلى القسم

الآخر؛ فإن المجاز مع اللزوم أقوى، ويحصل المقصود، ولا حاجة للتصريح بعد الجواز. قوله: (النحاة لم يريدوا حقيقة الملك): قلنا: بل صرحوا بذلك، وجعلوها لفظة مشتركة بين تلك المعاني المتقدمة، ولا ينتقض عليهم بقولهم: الجل للفرس، ومع النقل عنهم لا يبقى نزاع. قوله: (الانتفاع بالخلق حاصل للإنسان من نفسه، فلو جعل من غيره كان ممتنعًا): قلنا: هو غير ممتنع؛ فإنه يرجع إلى ترادف الأدلة على وجود الصانع -تعالى -وصفاته العلى، وكل جزء من أجزاء العالم وإن قل دليل على ذلك، فكما اجتمعت هذه الأدلة، جاز اجتماع دلالة الإنسان من نفسه، ومن غيره، ويكون ذلك من باب ترادف الأدلة، وإنما كان يمتنع ذلك إذ لو كان كل واحد مؤثرًا، لكن هذا الباب لا تأثير فيه. ولذل قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم} [فصلت: 53]. فجمع بينهما وقال الشاعر [المتقارب]: وفي كل شيء له آية .... تدل على أنه واحد وليس هذا من باب تحصيل الحاصل في شيء. قوله: (الخلق هو المخلوق؛ لقوله تعالى: {هذا خلق الله} [لقمان: 11]: قلنا: الخلق غير المخلوق اتفاقًا، وإنما قال الأشعري وغيره من المحققين: الخلق نفس المخلوق أي: ليس زائدًا عليه في الخارج؛ لأن الخلق والتأثير من

باب النسب والإضافات التي لا وجود لها في الأعيان؛ بل فذ الأذهان فقط. والنسب الذهنية مغايرة للأمور الخارجية قطعًا، ويكفى في ذلك أن أحدهما ذهني، والآخر خارجي. ولذلك غلط من ألزم الأشعري أنت يعرب (السموات والأرض) في قوله تعالى: {خلق السموات والأرض} [الأنعام: 1] لأن الخلق مصدر اتفاقًا. وهو عنده نفس المخلوق، فالمخلوق مصدر، والمخلوق هو السموات والأرض، فهي مصدر، وهو خلاف إجماع النحاة. وجوابه: ما تقدم أنه نفسه في الخارج، بمعنى أنه ليس زائدًا عليه. ولفظ المصدر موضوع -هاهنا -لنسبة ذهنية، كالتقدم، والتأخر، ونحوهما. فتلك النسبة هي تعرب لفظها مصدرًا، أما في الخارج فلا. وكذلك في الخلق مع المخلوق تغاير لفظًا، ومعنى، وأحدهما ذهني، والآخر خارجي، وهو ليس زائدًا على الخارجي. أما أنه نفسه في العقل، والمفهوم، فلم يقل أحد، وهو خلاف الضرورة أيضًا: قوله تعالى: {هذا خلق الله} [لقمان: 11]، مجاز باتفاق النحاة، وأنه من باب التعبير بالمصدر عن المفعول، نحو: ضرب الأمير، ونسيج اليمن، ورجل عدل، ورضا. أي مضروب الأمير، ومنسوج اليمن، وعادل، ومرضى. قوله: (لا نفع للمكلف في صفات -الله -تعالى): قلنا: صفات الله -تعالى -أربعة أقسام: ذاتية: نحو: أزلي، أبدى.

ومعنوية: نحو: العلم، والإرادة. وسلبية: نحو: ليس بجسم، ولا عرض. وفعلية: نحو: الخلق، والرزق، وجميع ما يحدثه الله -تعالى -من المواهب من النعم الظاهرة، والباطنة، ولذلك سمى -تعالى -نفسه الوهاب، والفتاح، والرزاق، ونحوها. فهذا القسم من الصفات ينتفع العبد به، بل لا ينتفع في الدنيا، ولا في الآخرة إلا به، وهو المقصود من صورة النزاع. قوله: (لا نسلم أن هذا من مقابلة الجمع بالجمع): تقريره: أن مقابلة الجمع بالجمع لها أحوال: تارة: يكون الجمع ثابتًا لكل واحد من أفراد الجمع، كقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات} [البروج: 11] أي لكل واحد من أفراد المؤمنين ثلاث جنات. وتارة: يقتضى توزيع الجمع على الجمع، كقوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة} [البقرة: 283]. أي: كل واحد منكم يأخذ رهنًا، فالجمع مورد على الجمع. وتارة: يكون الجمع يحتمل الأمرين كهذه الآية، وليس في اللغة ما يقتضى شيئًا من ذلك، بما هي لغة، إنما يعلم ذلك من القرآن، فمن استدل باللفظ معناه؛ لتعارض الاحتمالات. قوله: (لا نسلم أن (في) لما في باطن الأرض لقوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30]):

تقريره: أن الأصل في المجرور بلفظة (في) أن يكون هو الظرف المحيط، هذا هو الحقيقة اللغوية. غير أنه صار من المنقول العرفي لما في فوق الأرض، مما قاربها، فو مجاز راجح منقولة من باب التعبير بالشيء عما يقاربه، ثم اشتهر في العرف، فصار منقولاً، ومنه قوله تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل: 20]. الكل من باب المنقولات، والنقل مقدم على أصل اللغة في حمل اللفظ عليه؛ لأنه ناسخ، والناسخ مقدم على المنسوخ. قوله: (حكم الله -تعالى -صفته، فهي واجبة الدوام): قلنا: قد تقدم أن الأحكام الشرعية لا بد فيها -مع الكلام النفسي -من التعلق -وأن التعلق نسبى، فيكون الحكم من حيث هو حكم مركب من وجودي الذي هو الكلام النفسي، وعدمي الذي هو التعلق، والمركب من الوجودي، والعدمى عدمي، فيكون الحكم من حيث هو عدميًا، وإن كان كلام الله -تعالى -وجديًا، والعدمى يمكن رفعه. وأيما كان يستحيل رفعه، لو كان الحكم لم يدخل في اعتباره قيد عدمي، ولولا ما ذكرته لتعذر النسخ، وتبدل الحرمة بالحل، بعقد النكاح، والحل بالحرمة بالطلاق، وهو كثير، بل قد تبين -أول الكتاب -أن الحكم بما هو حكم أمر ممكن؛ لأجل أحد أجزائه الذي هو التعلق الممكن يفيد الرفع، والبقاء، والتأثير، والتعليل. قوله: (في قوله عليه السلام: (حكمي على الواحد حكمي على الجماعة):

قلنا: هذا الحديث يقتضى أنه متى حكم على واحد حكم على جماعة، والجماعة تصدق بثلاثة، أما ما يتناهى إلى يوم القيامة فلم قلتم: إن اللفظ يتناوله؟ فإن قلت: الجماعة، و (اللام) عام في جميع أفراد الجماعات؛ لأن (اللام) للعموم فيما دخلت عليه، فلتعم أفراد الجماعات إلى قيام الساعة، وهو المطلوب؟

قلت: ينبغي أن يسوى بين (اللام) في الواحد، وبينها في الجماعة حتى يناسب اللفظ، و (اللام) في الواحد لو كانت للاستغراق والعموم، لدخلت الجماعات فيها، وكل من يصدق عليه أنه واحد، فيضيع قوله عليه السلام: (حكمي على الواحد)، ويتحد المرتب، والمرتب عليه، ويبقى معنى الحديث: (حكمي على كل فرد حكمي على فرد)، فيلزم التكرار، وهو على خلاف الأصل. فيتعين أن (اللام) في الواحد لحقيقة الجنس، فيكون في الجماعة كذا تحصيلا للمناسبة بين اللفظين، يحصل في هذا الكلام فائدة زائدة؛ لأن معنى الكلام -حينئذ -متى حكمت على حقيقة هى واحد، فقد حكمت على حقيقة هي جماعات من غير إشعار بعموم فيهما، وإلا ضاعت المناسبة، ولزم التأكيد، فيبطل الاستدلال بالحديث، على عموم الناس، إلى قيام الساعة بحكمه -عليه السلام -على واحد؛ لأن (اللام) عن ذلك الحكم، أنه حكم على جماعة، فيصدق بثلاثة إجماعًا، ويبقى ما عداه مسكوتًا عنه. قوله: (يمتنع ثبوت الحرمة في فرد من أفراد زينة الله؛ لأن المطلق جزء من المقيد): قلنا: ظاهر كلامكم يقتضى أن لفظ زينة الله -هاهنا -مطلق مع أنه اسم جنس أضيف؛ فيعم كقوله -عليه السلام -: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، فعم بالإضافة في اسم الجنس جميع أفراد ميتات البحر، ومياهه.

وعلى هذا يكون الإمكان ثابتًا في كل فرد من أفراد الزينة باللفظ، ولا حاجة إلى هذا البحث. بل الحاجة إليه تبطل المقصود من جهة أنا إذا جعلناه مطلقًا، فلا يلزم من عدم تحريم المطلق وإباحته أنواعه وأفراده، كما يصدق أن الله -تعالى -حرم مطلق الحيوان الذي هو المشترك بين أنواعه. ومع ذلك يناقضه تحريم بعض الأنواع من الخنزير، وغيره. ولذلك لم يحرم الله -تعالى -مطلق المشروب، وحرم بعض أنواعه الذي هو الخمر. وهذه قاعدة مطردة، وهى أنه لا يلزم من عدم تحريم الأعم عدم تحريم الأخص، ولا من تحرم الأخص تحريم الأعم، ويلزم من تحريم الأعم تحريم الأخص. وما نحن في من باب عدم تحريم الأعم لا من تحريم الأعم، فلا يفيد البحث شيئًا، ويرد المنع في قولكم: إن المطلق إذا لم يحرم لم يحرم المقيد، بل يحرم المقيد مع إباحة المطلق، ولم يلزم من تحريم الأم والبنت تحريم مطلق المرأة، بل التحريمات تنشأ عن الخصوص. أما إذا سلكتم طريق العموم اللفظي المستفاد من إضافة اسم الجنس، اندفع هذا السؤال.

غير أن هاهنا احتمالاً أوردته في باب العموم، وهو أن اسم الجنس قد لا يصدق على الكثير نحو: الدرهم، والدينار، والرقبة، فلا يقال: للكثير من الدراهم والدنانير والرقاب: درهم، ولا دينار، ولا رقبة. وقد يصدق على الكثير، نحو: الماء، والمال، واللحم، والعسل، فيقال للكثير: ماء، ومال، وعسل، فأمكن أن يقال: اسم الجنس إذا أضيف إنما يعم إذا كان يصدق على الكثير والجمع، أما ما لا يصدق، فلا. لكن هذا تفصيل لم أر أحدًا تعرض له، وفي نفسي منه احتمال. وقد تقدم النقل -في باب العموم -عن الغزالي -في المحدد بالتاء، وأنه لا يعم إذا عرف بـ (اللام)، لأنه يختص بالواحد، فهو يقوى هذا الاحتمال في الإضافة -كما نقله -في تعريف (اللام). فعلى تقدير: أن هذه الصيغة ليست للعموم؛ لأن مفردها الذي هو رتبة لا يصدق على جماعة الرتبات، يبطل البحث، ويعسر التقرير؛ لأنه يكون -حينئذ -مطلقًا، فيرد عليه ما تقدم. قوله: (وإذا انتفت الحرمة بالكلية ثبتت الإباحة): قلنا: لا نسلم؛ لأن عدم الحرمة أعم، ولا يلزم من ثبوت الأعم، ثبوت الأخص؛ فقد أجمعنا على عدم ثبوت التحريم في النائم، والساهي، والبهائم. ومع ذلك لم يخاطبوا بالإباحة، وعدم الحرمة ثابت قبل الشرع في أفعال جميع المكلفين، ولم تثبت الإباحة قبل الشرع على الصحيح؛ بل مطلق الحكم منفى. قوله: (إن لله -تعالى -لما تواعدنا بالعقاب كان مشتملاً على الضرر): قلنا: ويمكن أن يقال -على أصولنا نحن -أيضًا: إن النهى، والتوعيد

يتبعان المفاسد، والمفاسد ضرر على المكلف غير العقوبة التابعة للمخالفة في النهى، ويستوي في تخريج السؤال مذهبنا، ومذهب المعتزلة. غير أن المفسدة عندهم يكون دفعها وجوبًا، وعندنا يكون دفعها تفضلاً، ويكفى في القياس استواء الفرع، والأصل في الوجه المقصود، لكن ما ذكره الخصم معنى مناسب مزاحم في صورة أصل القياس: أمكن أن يكون هو العلة، أو جزء العلة، فيبطل القياس؛ لعدم تعين الجامع، فإن كون العبد يقبح منه ذلك في عرضه، ومروءته عادة -أمكن أن تكون الإباحة لدفع هذه المفسدة الداخلة على العرض والمروءة، وهذه العلة منتفية في حق الله -تعالى -فيبطل القياس. قوله: (العبث لا يليق بالحكيم): قلنا: هذا إنما يتم على قاعدة المعتزلة في الحسن والقبح. أما عندنا: فلا يجب تعليل أفعاله -تعالى -بالأغراض، فله -تعالى -أن يفعل لمصلحة، وليس ذلك مستحيلاً عليه -تعالى -وحكمته -تعالى -التعلق، والإرادة الواجبة النفوذ، والقدرة العاملة التأثير، ونحو ذلك من صفاته العلى، لا باعتبار مراعاته للمصالح، وإن كان -تعالى -لم يبعث الشرائع إلا مصالح، على أنها على سبيل التفضل، فنحن نساعد المعتزلة في إطلاق الحكمة، والحكم عليه، ونخالفهم في التفسير؛ فإنه يفسرون ذلك بمراعاة المصالح وجوبًا، ونحن نمنعه. وأما قوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} [المؤمنون: 115]، {ما خلقناهما إلا بالحق} [الدخان: 39]، وحيث تكرر ذكر الحق في الخلق فمعناه التكليف، أي: ما خلقناهما إلا للتكليف. وخلق السموات والأرض؛ ليكلفنا بمعرفته بسببها أي: يستدل بها على

ما كلفنا بمعرفته، وقد صرح بذلك في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. قال ابن عباس: لآمرهم بعبادتي. والتكليف غير إباحة المنافع، فلا يكون في هذه الآيات حجة على هذا التقدير. قوله: (هذا الكلام لا يتم إلا مع الاعتزال): قد تقدم التنبيه عليه. قوله: (إذا حرق داره يقال: أضر به، وإن لم يشعر بذلك): قلنا: إنما سموه إضرارًا؛ لأنه بحيث إذا شعر به تضرر وانغم، وأنه لو احتاج لداره لم يجدها. أما لو فرضناه لا يحتاج إلى داره ألبتة، ولا يعرض له ذلك، فلا نسلم أنه يصدق عليه الإضرار. قوله: (إذا حزن انعصر القلب): تقريره: أن النفس مجبولة على الهرب من المؤذى، فإذا استشعرت المؤذى، أو المخوف، رب الحبار الغريزي، والدماء، والأرواح، لمجارى العادي إلى باطن الجسد. ولهذا قيل: صفرة الوجل؛ لأن الوجل: الخوف، فيصفر ظاهر الجسد بخلوه من الدماء بسبب الهروب من المنافي، وينعصر الجسم كله إلى داخل. عكسه الغضب: يبرز النفس لطلب الانتصار، فتبرز الدماء، والأرواح، والقوى إلى خارج في مجارى العادات؛ لأنها أجناد النفس، فيحمر ظاهر الجسد، وتنفتح الأوردة.

وحالة الخجل مركبة من الحالين؛ لأنه يذكر المؤلم المخجل، فيصفر، ثم يستقبله، أو يطلب الانتصار لنفسه، فيحمر، فيبقى في الخجل يحمر، ويصفر. وفي الوجل يصفر فقط، وفي الغضب يحمر فقط. قوله: (البائع فوت على نفسه النفع، وكذلك الواهب): قلنا: وهو من حيث هو كذلك ضرر، وإنما لم يظهر الألم، ولم يوجد، لوجود معارض راجح عنده، وهو الثمن في البيع، والمودة في الهبة، والثواب في الصدقة، ولا يلزم من انتفاء الشيء لوجود معارض ألا يكون نفسه موجودًا. قوله: (في قوله عليه السلام): (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام): قلنا: هذه صيغة الخبر، واختلف: هل هما عبارتان مترادفتان لمعنى واحد، أو الضرر للإنسان في نفسه والإضرار بغيره، فيكونان متباينين، وقيل بالعكس وقوله عليه السلام (في الإسلام) يمكن أن يكون لفظ (في) للظرفية، أي: لم يقع هذا في الشريعة؛ فيحصل مقصود المصنف، ويمكن أن يكون للسببية، أي: لا يضر أحد بسبب الإسلام، ويكون هذا من باب الموادعة التي نسختها آية السيف، ويكون الأول راجحًا لوجهين: الأول: أن ظاهر (في) الظرفية، دون السببية، بل السببية أنكرها جماعة كما تقدم في كتاب (اللغات). والثاني: أن يلزم النسخ، وعلى الأول لا يلزم، لكن يلزم التخصيص؛ فإن المشروعات في الإسلام من الحدود، والتعاذير، والقصاص، والغرامات، والجاد، وبذل النفس والمال، ومقاومة السلطان الجائر، ونحو ذلك كلها أضرار مشروعة، لكن التخصيص أولى من النسخ، فهذه ى المباحث التي يشير إليها في الخلافيات سؤالاً وجواباً.

(سؤال) على استدلاله بالآية

(سؤال) على استدلاله بالآية. أولاً: أن جعل اللفظ حقيقة في الأعم أولى؛ لأن الأعم أكثر أفرادًا، فيكون أكثر فائدة، فتعارض الفائدة فائدة المجاز على زعمه. سؤال عليه -أيضًا -أن قوله تعالى: {خلق لكم} [البقرة: 29] يقتضى اختصاص بني آدم بالمنافع والانتفاع، وذلك لا يدل على عدم الحجر. وتقريره: أن ذلك يقتضى أن ذلك الانتفاع لا يصدر إلا متى كان مباحًا، أو محرما، فجاز أن يصدق الاختصاص بالانتفاع، ويثاب على تركه، أو ترك بعضه، أو على فعل بعضه، كما هو الواقع. كما نقول: وطء النساء خاص ببني آدم، لم يحصل لغيرهم في الوجود، ومع ذلك هم يعاقبون على بعضه دون بعضه. (سؤال) على قوله: (تلك الحكمة إما عود النفع إليه، أو إلينا): فتقول: الحكمة أعم من النفع، فجاز أن يكون ليس له، ولا لنا. وتقريره: أن نقول: أمكن أن يقال: إن من صفات الكمال مراعاة وجود المصالح، كما يقوله المعتزلة، ومن المصلحة أن يخلق الله -تعالى -خلقًا يعرفونه، يظهر فيهم بدائع الإيجاد، وأسرار الاختراع، ونظام المملكة. ولولا الخلق لم يظهر شيء من ذلك، فإذا كان الإيجاد من صفات الكمال، وصفة الكمال فيه عائدة إلى الله -تعالى -، وهذا المذكور حكمة عظيمة، ولا يمكن أن يقال: فإن عنى بالمنفعة ما يرجع إلى صفات الكمال، فلا نسلم امتناع عودها على الله -تعالى -فإن كماله -تعالى -خاص به، تقدست أسماؤه، وصفاته عن المشابهة.

(تنبيه) قياسه -في هذه المسألة -في قوله: (انتفاع لا ضرر فيه على المالك قطعا، ولا على المنتفع ظاهرا، فيباح، كالاستصباح بسراج الغير)

سلمنا أن تلك المنفعة عائدة علينا. لكن لا نسلم أنها تستلزم الإذن في المباشرة؛ لجواز أن يكون هي الاستدلال بها على وجوده -تعالى -وصفاته العلى. والاستدلال لا يتوقف على المباشرة بدليل استدلالنا بالأول، والأفلاك، والكواكب على وجود الصانع. ونحن لا نباشرها، ومقصود المستدل إنما هو إثبات المباشرة لتثبت الإباحة. (تنبيه) قياسه -في هذه المسألة -في قوله: (انتفاع لا ضرر فيه على المالك قطعًا، ولا على المنتفع ظاهرًا، فيباح، كالاستصباح بسراج الغير): هذا القياس سالم عن السؤال الوارد على هذا القياس نفسه في حكم الأشياء قبل ورود الشرع؛ فإن الحكم المقيس -ثمت -عقلي، فللمانع أن يمنع -هنالك - أن يكون الحكم المقيس عليه، والمقيس عقليين، أو شرعيين؛ فإن المدعى -هنا -ثبوت الإباحة شرعًا، وقاسه على المباح شرعًا، فاتحد الحكم، وهناك المدعى أن العقل يقتضى ذلك. وقاسه على حكم شرعي، فقاس الشرعي على العقلي، فلم يتحد الباب، فلم يصح القياس، مع أنه يرد عليه فيه أنه قال: فوجب ألا يمنع. وقد تقدم أن عدم المنع أعم من ثبوت الإباحة؛ لفعل البهائم، وغيرها؛ فلا تثبت الإباحة. (سؤال) على الاستدلال بالحديث: أن لفظ (في) إن كان للسببية، فلا حجة فيه -كما تقدم -لأنه يكون منسوخًا، أو للظرفية، فلا حجة فيه؛ لأنه يكون معناه أن نفس الإسلام لا يتضرر أحد به، كما تقول: نعيم الجنة لا ضرر فيه، وهذا لا يدل على عدم تحريم غيره من الضرر.

(تنبيه) قال التبريزى: (النفع هو الزيادة من الوجه الموافق للمصلحة

سلمنا: أنه يدل على عدم التحريم مطلقًا، لكن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، والأزمنة، والبقاع، والأحوال. والدعوى عامة في جميع الأزمنة، والبقاع، والأحوال، فتكون الدعوى عامة، والدليل عليها خاصًا، فلا يسمع عند النظار. (تنبيه) قال التبريزى: (النفع هو الزيادة من الوجه الموافق للمصلحة، والضرر هو النقصان من الوجه المخالف، وقيل: الضرر ألم القلب، ولا شك أن ألم القلب أثر الصدر. ولهذا يصح أن يقال: تضرر؛ فتألم قلبه، وقد لا يقترن به الألم؛ إما لعدم أهلية المدرك، كما في حق الصبي، والمجنون؛ أو لكمال قوة النفس، كما في حق الزاهد المعرض، أو الكريم الذي تأبى نفسه الالتفات إلى الأعراض، ولا يوجب ذلك خروج احتراق دورهم، وتلف أموالهم عن كونها ضررًا -في حقهم -عند العقلاء). ثم قال في الآية: (يتعين حملها على عموم الانتفاع في حق عموم الأشخاص؛ لأن النظر والاستدلال حاصل بوجودها، فيضيع فائدة الامتنان بالحق له، ومقابلة الفرد بالفرد تخصيص ينافيه الإطلاق). ثم قال: وكلام المصنف غير واف بالمقصود؛ فإن اختصاصنا بالنفع لا يوجب إباحة الانتفاع، بمعنى الاستعمال؛ فإن المفهوم منه كون المقصود من خلقه، أو الحامل على خلقه نفع العباد، فيحصل الانتفاع لهم، وهذا لا يلزم من إباحة التصرف؛ فإنه متوقف على العلم بكيفيته.

ويحصل النفع المطلوب منها، واستعمالها على الوجه المفضي إلى المقصود، وقد يوجد ذلك فيها، وقد لا يوجد. ولهذا ينتظم من الأب، والسيد، أن يقول لولده، أو عبده: اشتريت لك هذا المتاع، ولتنقل، وإما أن تتصرف فيه؛ لأن زمانه لم يحضر، كالفحم في الصيف. ويقول الطبيب للمريض: (جعلت لك هذه العقاقير) فيزيل ملكها، ولا يلزم منه الإذن في إيقاع فعل الانتفاع، حتى يتبين له كيفية الانتفاع بتفصيل وجه التركيب، وتعين قدر الاستعمال، ووقته، فكذلك في الشرع؛ فإن درك وجوه المصالح الطيبة من آحاد العقاقير، وقصور نظر المكلف عن مبلغ نظر الشارع له أبلغ من قصور نظر الصغير، والمريض عن مبلغ نظر الولي. قلت: قوله: (الضرر هو النقصان من الوجه المخالف): ينبغي أن يقول: من الوجه الموافق بأن نقصان المخالف نفع. ويحمل قوله: من الوجه المخالف أي: من وجه يكون مخالفًا لطبعه، أي النقص يخالف الطبيعة. وقوله: (الاستدلال حاصل بوجودها، فتضيع فائدة الامتنان) -لا يتجه؛ لأن الاستدلال من أعظم الوجوه التي يمن به، وبتهيئة سببه. وقوله: (مقابلة الفرد بالفرد تخصيص، وتقييد ينافيه الإطلاق) -لا يتم؛ لأن الإطلاق لا ينافى التقييد، وإلا لما اجتمع المطلق مع المقيد، وكان جزءه، ولا ينافى الإطلاق -أيضًا -مقابلة الفرد بالفرد؛ لأن الإطلاق يحتمله -كما تقدم -أن مقابلة الجمع بالجمع وقع في اللغة على وجوه، فهو يحتملها لا ينافيها. * * *

المسألة الثانية في استصحاب الحال

المسألة الثانية في استصحاب الحال المختار عندنا: أنه حجة، وهو قول المزني وأبى بكر الصيرفي من فقهائنا؛ خلافًا للجمهور من الحنفية والمتكلمين.

لنا: أن العلم بتحقق أمر في الحال يقتضى ظن بقائه في الاستقبال، والعمل بالظن واجب، ولا معنى لكونه حجة إلا ذلك؛ إنما قلنا: (إن العلم بتحقق أمر في الحال يقتضى ظن بقائه في الاستقبال) لأن الباقي مستغن عن المؤثر، والحادث مفتقر إليه، والمستغنى عن المؤثر راجح الوجود بالنسبة إلى المفتقر إليه. إنما قلنا: (إن الباقي مستغن عن المؤثر) لأنا لو فرضنا له مؤثرًا، فذلك المؤثر: إما أن يقال إنه: صدر عنه أثر، أو ما صدر عنه أثر: والثاني محال؛ لأن فرض المؤثر بدون الأثر متناقض. وأما الأول، فأثره: إما أن يكون شيئًا، ما كان موجودًا، أو كان موجودًا، فإن قلنا: إنه ما كان موجودًا كان الأثر حادثًا، لا باقيًا، وإن قلنا: إنه كان موجودًا كان ذلك تحصيلاً للحاصل؛ وهو محال؛ فثبت أن الباقي مستغن عن المؤثر.

وإنما قلنا: (إن الحادث مفتقر إليه) لأن إجماع المسلمين، بل إجماع جمهور العقلاء منعقد عليه، والاستقصاء فيه مذكور في كتابنا المسمى بـ (الخلق والبعث). وإنما قلنا: (إن المستغنى عن المؤثر راجح بالنسبة إلى المفتقر إليه) لوجهين: الأول: وهو أن المستغنى عن المؤثر لابد أن يكون الوجود به أولى؛ إذ لو كان الوجود مساويًا للعدم، لاستحال الرجحان إلا بمنفصل، وكان يلزم افتقاره إلى المؤثر؛ لكنا فرضناه مستغنيًا عنه؛ هذا خلف. فإذن: وجود الباقي راجح على عدمه، وأما الحادث، فليس أحد طرفيه راجحًا على الآخر؛ إذ لو كان راجحًا، لاستحال افتقاره إلى المرجح، وإلا لكان ذلك المرجح مرجحًا لما هو في نفسه مترجح؛ فكان ذلك تحصيلاً للحاصل؛ وهو محال. فثبت أن الباقي أولى بالوجود، وأن الحادث ليس أولى بالوجود، ولا معنى لظن وجوده إلا اعتقاد أن وجوده أولى؛ فثبت أن الباقي راجح الوجود؛ بالنسبة إلى الحادث. الثاني: وهو أن الباقي لا يعدم إلا عند وجود المانع، والمفتقر إلى المؤثر كما يعدم عند وجود المانع، فقد يعدم أيضًا عند عدم المقتضى، وما لا يعدم إلا بطريق واحد، يكون أولى بالوجود مما يعدم بطريقين، ولا معنى للظن إلا اعتقاد أنه أولى بالوجود. وإنما قلنا: (إن العمل بالظن واجب) لقوله -عليه الصلاة والسلام) -: (نحن نحكم بالظاهر).

ولأنه لو لم يجب، لزم جواز ترجيح المرجوح على الراجح، وإنه غير جائز في بديهة العقل، ولأن العمل بالقياس، وخبر الواحد، والشهادة، والفتوى، وسائر الظنون المعتبرة؛ إنما وجب ترجيحًا للأقوى على الأضعف. وهذا المعنى قائم هاهنا؛ فيلزم ثبوت الحكم هاهنا أيضًا، وهو وجوب العمل به. فإن قيل: (لا نسلم أن العلم بتحقق أمر في الحال يقتضى ظن بقائه في الاستقبال): قوله: (لأن الباقي مستغن عن المؤثر): 'ن عنيتم به: أن كونه: باقيًا مستغن عن المؤثر، فهذا ممنوع. وأيضًا: فهو مناقض لقولكم: _الحادث مفتقر إلى المؤثر؛ لأن كونه باقيًا، لم يكن حاصلاً حال حدوثه، ثم حصل بعد أن لم يكن؛ فيكون حادثًا، وأنتم قد اعترفتم أن الحادث لابد له من مؤثر. وإن عنيتم بقولكم: (الباقي مستغن عن المؤثر) شيئًا آخر، فبينوه؛ لننظر فيه، نزلنا عن الاستفسار؛ فلم لا يجوز أن يقال: الباقي له مؤثر؛ ولذلك المؤثر أثر؟. قوله: (ذلك الأثر: إما أن يكون شيئًا، ما كان حاصلاً، أو كان حاصلاً): قلنا: لم لا يجوز أن يقال: ما كان حاصلاً؟ وذلك لأنه لا معنى لبقائه إلا حصوله في هذا الزمان بعد أن كان حاصلاً في زمان آخر قبله؛ لكن حصوله في هذا الزمان ما كان حاصلاً قبل حصول هذا الزمان؛ فإذن: كونه باقيًا أمر حادث، فأثر المبقى هو ذلك الأثر.

فإن قلت: (فعلى هذا التقدير: يكون أثر المبقى أمرًا حادثًا؛ فلا يكون مبقيًا، بل محدثًا): قلت: مرادنا من قولنا: (الباقي يفتقر إلى المبقى): أن حصوله في الزمان الثاني لابد فيه من شيء آخر، وقد ثبت أنه لا يكون باقيًا ما لم يحصل في الزمان الثاني، وحصوله في الزمان الثاني مفتقر إلى مؤثر؛ فإذن: يمتنع أن يصدق عليه كونه باقيًا إلا لمؤثر. فيعد ذلك البحث عن الواقع بذلك المؤثر، وكونه أمرًا مستمرًا، أو جديدًا -بحثًا عن شيء خارج عن المقصود. سلمنا فساد هذا القسم؛ فلم لا يجوز أن يقال: (أثره شيء كان حاصلاً؟): قوله: (تحصيل الحاصل محال): قلنا: إن عنيت بتحصيل الحاصل: أن يجعل عين الشيء الذي كان موجودًا في الزمان الأول حادثًا في الزمان الثاني؛ فلا نزاع في أن ذلك محال؛ لكن لم قلت: إن إسناد الباقي إلى المؤثر يوجب ذلك؟ وإن عنيت به: أن الوجود الذي صدق عليه في الزمان الأول: أنه إنما ترجح لهذا المؤثر صدق عليه في الزمان الثاني أيضًا: أنه ترجح لهذا المؤثر؛ فلم قلت: إن ذلك محال؟. سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على استغناء الشيء حال بقائه عن المؤثر؛ لكن هاهنا ما يعارضه، وذلك لأن هذا الباقي كان بقاؤه ممكنًا، وكل ممكن، فله مؤثر؛ فالباقي حال بقائه له مؤثر. وإنما قلنا: (إنه ممكن) لأنه في زمان حدوثه ممكن، وإلا لم يفتقر إلى

المؤثر، وإمكانه من لوازم ماهيته، وما كان من لوازم الماهية، فهو واجب الحصول في جميع زمان تحقق الماهية، فكان الإمكان حاصلاً في زمان البقاء؛ وإنما قلنا: إن الممكن مفتقر إلى المؤثر؛ لأن الممكن قد استوي طرفاه، وما كان كذلك، افتقر إلى المرجح. فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: (الإمكان إنما يحوج إلى المقتضى؛ بشرط الحدوث، وهذا الشرط فائت في زمان البقاء؛ فلا يتحقق الافتقار؟): قلت: لا يجوز جعل الحدوث مؤثرًا في تحقق الاحتياج؛ لأن الحدوث عبارة عن مسبوقية وجود الشيء بالعدم، ومسبوقية الوجود بالعدم صفة ونعت له، وصفة الشيء متوقفة على الشيء، فالحدوث متوقف على الوجود المتأخر عن التأثير المؤثر فيه، المتأخر عن احتياج المؤثر إليه، المتأخر عن علة احتياجه إليه، فلو كان الحدوث مؤثرًا في ذلك الاحتياج: إما بأن يكون علة، أو جزء علة، أو شرط علة -لزم الدور؛ وهو محال. سلمنا استغناء الباقي عن المؤثر، وافتقار الحادث إليه؛ قلم قلت: (إن المستغنى راجح عن المفتقر؟): قوله في الوجه الأول: (إن الباقي أولى بالوجود، والحادث ليس أولى، ولا معنى للظن إلا اعتقاد أنه أولى): قلنا: إن عنيت بهذه الأولوية: أن العم عليه ممتنع، فهذا باطل؛ لأن هذا الباقي يقبل العدم، وإن عنيت به أمرًا آخر فلابد من بيانه. فإن قلت: (المراد منها درجة متوسطة بين الاستواء، الذي هو مسمى الإمكان، والتعيين المانع من النقيض الذي هو مسمى الضرر):

قلت: هذا محال؛ لأن مع ذلك القدر من الأولوية، إن امتنع النقيض، فهو الضرورة؛ وقد فرضنا أنه ليس كذلك. وإن لم يمتنع، فمع ذلك القدر من لأولوية يصح عليه الوجود تارة، والعدم أخرى، فحصول أحدهما بدلاً عن الآخر: إن توقف على انضمام قيد إليه لم يكن الحاصل قبله كافيًا في تحقق الأولوية، وإن لم يتوقف، كانت نسبة ذلك القدر من الأولوية إلى طرفي الوجود والعدم؛ على السوية، فترجيح أحدهما على الآخر، لا لمرجح زائد -يكون ترجيحًا لأحد طرفي الممكن على الآخر، لا لمرجح؛ وهو محال. وأما الوجه الثاني: فغاية ما في الباب: أنه يمكن تحقق عدم الحادث بطريقين، ولا يمكن تحقق عدم الباقي إلا بطريق واحد؛ فلم قلت: إن هذا القدر يقتضى أن يكون الباقي راجحًا في الوجود على الحادث؟. سلمنا أن ما ذكرتموه يقتضى رجحان الباقي على الحادث من ذلك الوجه؛ لكنه يقتضى عدم الرجحان من وجه آخر. بيانه: أن الباقي لا يصدق عليه كونه باقيًا، إلا إذا حصل في الزمان الثاني، فحصوله في الزمان الثاني أمر حادث، فإذا لم يكن وجود الحادث راجحًا، فالمتوقف على ما لا يكون راجح الوجود، لم يكن هو أيضًا راجح الوجود؛ فيلزم ألا يكون الباقي راجح الوجود. سلمنا أن الباقي راجح الوجود؛ ولكن ما لم يتحقق كونه باقيًا، لا يتحقق كونه راجح الوجود، وهو إنما يصدق عليه كونه باقيًا، إذا حصل في الزمان الثاني، فالحاصل أنا ما لم نعرف وجوده في الزمان الثاني، لا نعرف كونه

راجح الوجود، وأنتم جعلتم رجحان وجوده دليلاً على وجوده في الزمان الثاني؛ فيكون دورًا. سلمنا أن الباقي راجح في الوجود الخارجي على الحادث؛ فلم قلت: يجب أن يكون راجحًا عليه في الظن؟ ولابد لهذا من دليل. سلمنا حصول هذا الظن وأن العمل به واجب؛ ولكنه معارض بدليل آخر يمنع من التمسك بالاستصحاب، وهو أن من سوى بين الوقتين في الحكم: فإما أن يقال: إنما سوى بينهما؛ لاشتراكهما فيما يقتضي ذلك الحكم، أو ليس الأمر كذلك: فإن كان الأول: فهو قياس، وإن كان الثاني: كان ذلك تسوية بين الوقتين، في الحكم، من غير دليل؛ وإنه باطل بالإجماع. والجواب: قوله: (ما المراد من قولكم: (الباقي مستغن عن المؤثر؟): قلنا: لاشك في أن الباقي: هو الذي حصل في زمان، بعد أن كان بعينه حاصلاً في زمان آخر قبله، وهذا يقتضي أن تكون الذات الحاصلة في هذا الزمان عين الذات الحاصلة في ذلك الزمان الآخر. إذا ثبت هذا، فنقول: هذه الذات التي صدق عليها أنها حصلت بعينها في الزمانين: إما أن يقال: حصل فيها في الزمان الثاني أمر لم يكن حاصلاً في الزمان الأول، أو لم يحصل. فإن كان الأول: كان الأمر المتجدد متغايرًا للذات الباقية؛ فيكون الباقي في الحقيقة هو الذات، لا هذه الكيفية المتجددة، فنحن ندعى أن ذلك الشيء الذي

هو الباقي يستحيل إسناده إلى المؤثر، حال بقائه؛ وعلى هذا التقدير: لا يكون إسناد تلك الكيفية المتجددة قادحًا في قولنا: (الباقي غير مستند إلى المؤثر؛ لأن أحدهما غير الآخر). وإن قلنا: إنه لم يحدث في الزمان الثاني أمر متجدد؛ بل الحاصل في الزمان الثاني ليس إلا الذات التي كانت حاصلة في الزمان الأول -فعلى هذا التقدير بطل قولهم: (إن كونه باقيًا كيفية حادثة، وإنها مفتقرة إلى المؤثر). فثبت: أن على التقديرين السؤال ساقط. قوله: (حصوله في الزمان الثاني كيفية زائدة على الذات، وهي مفتقرة إلى المؤثر): قلنا: هذا باطل، وبتقدير ثبوته فهو غير قادح في دليلنا: أما أنه باطل؛ فلأن حصوله في الزمان الثاني، لو كان كيفية زائدة على الذات، لكان حصول ذلك الزائد في ذلك الزمان كيفية أخرى؛ فلزم التسلسل؛ وهو محال. ولأن العدم قد يصدق عليه أنه باق، فلو كان تحققه في الزمان الثاني كيفية ثبوته، لزم قيام الصفة الموجودة بالموصوف الذي ونفى محض؛ وإنه محال، وأما أن بتقدير ثبوته، فالمقصود حاصل؛ فذلك لأن حصوله في الزمان الثاني، لما كان أمرًا حادثًا، كان إسناده إلى المؤثر إسنادًا للحادث إلى المؤثر، لا إسنادًا للباقي؛ وكلامنا ليس إلا في لباقي. قوله: (ما الذي تعنى بتحصيل الحاصل؟): قلنا: نعنى به أن الشيء الذي حكم العقل عليه بأنه كان حاصلاً قبل ذلك

يحكم عليه بأن حصوله الآن لأجل هذا الشيء، وهذا محال بالبديهة؛ لأنه لما كان حاصلاً قبل ذلك، فلو أعطاه الآن هذا المؤثر حصولاً، لكان قد حصل نفس ما كن حاصلاً؛ وإنه محال. قوله: (الباقي حل بقائه ممكن، والممكن مفتقر): قلنا: لا نسلم أن الممكن؛ إنما يفتقر إلى المؤثر بشرط كونه حادثًا. قوله: الحدوث متأخر): قلنا: لا نريد به أن كونه حادثًا -للافتقار؛ بل نريد به أن كونه بحيث لو وقع بالمؤثر، لكان حادثًا؛ بشرط افتقار الأثر إلى المؤثر، وكونه بهذه الصفة أمر متقدم. قوله: (ما المراد من الأولوية): قلنا: درجة متوسطة بين التساوي والتعيين المانع من النقيض. قوله: (هذا محال؛ لأنه يقتضى ترجيح أحد المتساويين على الآخر، لا لمرجح): قلنا: لا نسلم أن ذلك ممتنع مطلقًا؛ بل ذلك إنما يمتنع بشرط الحدوث. قوله على الوجه الثاني: (لم قلت: (إنه لما أمكن حصول عم الحادث بطريقين، وعدم الباقي لا يحصل إلا بطريق -كان وجود الحادث مرجوحًا): قلنا: لأن عدم حصول الحادث أكثر من عدم الباقي؛ لأنه يصدق على ما لا نهاية له: أنه لم يحدث، وأما عدم الباقي بعد حدوثه، فمشروط بوجوده، فإذا كان الوجود متناهيًا، كان العدم بعد الوجود متناهيًا، وإذا كان عدم حدوث

الحادث أكثر من عم الباقي بعد وجوده، والكثرة موجبة للظن -ثبت أن عدم حدوث الحادث غالب على عدم الشيء، ولا معنى للظن إلا ذلك. واعلم: أنه يمكن الاستدلال بهذه النكتة ابتداء. قوله: (كونه باقيًا يتوقف على حدوث حصوله في الزمان الثاني، فكونه باقيًا يتوقف على الحدوث الذي ليس براجح، والموقوف على ما لا يكون راجحًا ليس براجح): قلنا: هذا إنما يلزم لو كان حصوله في الزمان الثاني كيفية وجودية؛ وقد دللنا على أن ذلك محال؛ لأنه يوجب التسلسل، ثم إن سلمنا صحة ذلك، لكنا نقول: لما ثبت أن الحدوث مرجوح، فالذات إذا كانت حاثة، فهناك أمران حادثان: أحدهما: الذات، والآخر: حصول الذات في ذلك الزمان. وأما إذا كانت الذات باقية، الحادث أمر واحد؛ وهو حصوله في ذلك الزمان، أما الذات، فهي ليست بحادثة في نفسها؛ فإذن: الحادث مرجوح من وجهين، والباقي من وجه واحد؛ فوجب أن يكون الباقي راجحًا على الحادث من هذا الوجه. قوله: (ما لم يعرف كونه باقيًا، لا يثبت رجحانه): قلنا: لا حاجة إلى ذلك؛ بل نقل: هذا الذي وج لا يمتنع عقلاً أن يوجد في الزمان الثاني، وأن يعدم، لكن احتمال الوجود راجح على احتمال العدم من الوجه الذي ذكرناه؛ فالعالم بوجوده في الحال يقتضي اعتقاد رجحان وجوده على عدمه قي ثاني الحال.

فإذن: العلم بالأولوية مستفاد من العلم بوجوده في الحال، وعلى هذا التقدير: يسقط الدور. قوله: (هب أنت الباقي راجح على الحادث في الوجود الخارجي؛ فلم قلت: (يجب أن يكون راجحًا عليه في الذهن؟): قلنا: لأن الاعتبار الذهني مطابق للاعتبار الخارجي، وإلا كان جهلاً. قوله: (التسوية بين الزمانين، إن لم يكن بالقياس، كان ذلك تسوية بين الزمانين من غير دليل): قلنا: القياس دليل واحد من أدلة الشرع، وليس يلزم من عدم دليل معين عدم الدليل بالكلية، بل نحن سوينا بين الزمانين في الحكم؛ بناًء على ما ذكرنا من أن العلم بثبوته في الحال يقتضي ظن ثبوته على ذلك الوجه في الزمان الثاني، والعمل بالظن واجب. واعلم أن القول باستصحاب الحال أمر لابد منه في الدين، والشرع، والعرف. أما في الدين: فلأنه ل يتم الدين إلا بالاعتراف بالنبوة، ولا سبيل إليه إلا بواسطة المعجزة، ولا معنى للمعجزة إلا فعل خارق للعادة، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا عند تقرر العادة، ولا معنى للعادة إلا أن العلم بوقوعه على وجه مخصوص في الحال، يقتضى اعتقاد أنه لو وقع، لما وقع إلا على ذلك الوجه؛ وهذا عين الاستصحاب. وأما في الشرع: فلأنا إذا عرفنا أن الشرع تعبدنا بالإجماع، أو بالقياس، أو بحكم من الأحكام -فلا يمكننا العمل به إلا إذا علمنا، أو ظننا عدم طريان الناسخ.

فإن علمنا ذلك بلفظ آخر، افتقرنا فيه إلى اعتقاد عدم النسخ أيضًا، فإن كان ذلك بلفظ آخر أيضًا، تسلسل إلى غير النهاية؛ وهو محال؛ فلابد أن ينتهي آخر الأمر إلى التمسك بالاستصحاب؛ وهو أن علمنا بثبوته في الحال يقتضي ظن وجوده في الزمان الثاني. وأيضًا: فالفقهاء بأسرهم، على كثرة اختلافهم اتفقوا على أنا متى تيقنا حصول شيء، وشككنا في حدوث المزيل -أخذنا بالمتيقن؛ وهذا عين الاستصحاب؛ لأنهم رجحوا بقاء الباقي على حدوث الحادث. وأما العرف: فلأن من خرج من داره، وترك أولاده فيها على حالة مخصوصة، كان اعتقاده لبقائهم على تلك الحالة التي تركهم عليها -راجحًا على اعتقاده لتغير. تلك الحالة، ومن غاب عن بلده، فإنه يكتب إلى أحبابه وأصدقائه عادة في الأمور التي كانت موجودة حال حضوره؛ وما ذاك إلا لأن اعتقاده في بقاء تلك الأمور راجح على اعتقاده في تغيرها، بل لو تأملنا، لقطعنا بأن أكثر مصالح العالم، ومعاملات الخلق مبنى على القول بالاستصحاب. فرع: من قال: (النافي لا دليل عليه): إن أراد: أن العلم بذلك العدم الأصلي يوجب ظن دوامه في المستقبل، فهذا حق؛ كما بيناه. وإن أراد به غيره، فهو باطل؛ لأن العلم بالنفي، أو الظن به -لا يحصل إلا لمؤثر. المسألة الثانية في الاستصحاب قال القرافى: الاستصحاب استفعال، وأصل لطلب الفعل، كالاستسقاء لطلب السقي، والاستفهام لطلب الفهم.

فالاستصحاب: لطلب الصحبة، فما في الماضي يطلب صحبته في الحال، وما في الحال يطلب صحبته في الاستقبال، حتى يدل دليل على رفعه. قوله: (لو لم يجب لزم جواز ترجيح المرجوح على الراجح): قلنا: لا نسلم؛ فإنه قد لا يتعين الراجح، ولا يجوز ترجيح المرجوح عليه، بل يلغيان معًا، كما في الشاهد العدل، إذا لم تستقل الحجة به؛ فإنا لا نحكم بموجب صدقه، ولا بكذبه، فألغينا الراجح والمرجوح معًا. وكذلك كل ظاهر ألغاه الشارع عنه: شهادة النسوان، والصبيان، والكفار، والفساق. قوله: (العمل بخبر الواحد، ونحوه إنما وجب؛ لكونه ترجيحًا للأقوى على الأضعف، وهذا المعنى قائم هاهنا): قلنا: لا نسلم، بل بخصوص تلك الرتبة من الظن؛ صونًا للمدرك الشرعي عن النقض؛ فإنه لو كان مطلق الراجح، أو الظن مدركًا شرعيًا -لزم انتفاضه بجميع هذه الوجوه المتقدمة، وغيرها. أما إذا قلنا: الشرع إنما اعتبر مراتب خاصة لم يلزم انتفاضها، فكان أولى. قوله: (إن كون الباقي مستغنيًا عن المؤثر مناقض لقولكم: الحادث مفتقر للمؤثر؛ لأن البقاء حادث): قلنا: لا ينتقض؛ لأنا لا نعنى باحتياج الحادث للمؤثر الحادث الوجودي بالأزمان، والاقتران نسبة وإضافة بين الوجود والأزمنة، والنسبة عدمية، لا وجود لها في الأعيان. وما لا وجود له في الأعيان لا يفتقر إلى مؤثر؛ فإن المؤثر لابد له من أثر في الخارج.

شرح القرافي: قوله: (الباقي كان ممكنا، والإمكان لازم له، فكل ممكن مفتقر للمؤثر)

ولهذه القاعدة قال المتكلمون: (لله -تعالى -باق بلا بقاء، وإن كان عالمًا بعلم؛ أي: ليس البقاء زائدًا على الذات في الخارج. وعلى هذا التقدير لا نقض. واتضح قولنا: الباقي مستغن عن المؤثر، واندفع قول السائل: إن عنيتم بأن الباقي مستغنٍ عن المؤثر شيئًا آخر، فبينوه، وقد بيناه. ويمكن أن يقال: المؤثر يحتاج إليه الباقي من وجه آخر لا من جهة كونه باقيًا، كما نقول الأعراض شرط في بقاء الجواهر، والأعراض لا تبقى زمانين، فيفتقر بقاء الجواهر لمؤثر يؤثر في تجدد الأعراض، حتى يحصل شرط بقائها، فتبقى، وهذا وجه وجودي يصح إسناده إلى المؤثر، يتوقف عليه الباقي، ويصدق بطريقه أن الباقي مفتقر إلى المؤثر من حيث الجملة. فهذا هو روح البحث في هذه النكتة، فخرج بقيتها عليه. قوله: (الباقي كان ممكنًا، والإمكان لازم له، فكل ممكن مفتقر للمؤثر): قلنا: كل ممكن مفتقر إلى المؤثر، معناه: أن الاستواء في الوجود والعدم، من ضرورته ألا يترجح أحد طرفه إلا لمرجح، والإمكان ثابت حالة البقاء، وكن الرجحان يفتقر إلى المؤثر حاصل؛ لأن الطرف الراجح حالة البقاء الذي هو الوجود لم يكن إلا لمؤثر رجحه، لكن ترجيحه كان حالة الحدوث، واستمر ذلك الحكم. وإنما يلزم ما قاله الخصم أن لو صدق أن كل ممكن مفتقر؛ ليحصل الترجيح من المؤثر في كل زمان صدق فيه الإمكان، حتى يلزم دوام التأثير بدوام الأثر، ونحن نمنع ذلك. بل نقول: الإمكان إنما يقتضى أن الترجيح لا يحصل إلا بمرجح مؤثر في الوجود إن كان الراجح هو الوجود، أو بمرجح مؤثر إن كان الراجح هو

العدم، بأن يكون ذلك المرجح هو الإدارة، فاللام للإمكان أصل الترجيح لا دوامه، فإذا حصل أصله صدق ما هو اللازم للإمكان، أما دوام التأثير، والترجيح، فليس بلازم -عندنا -فيمنعه الخصم إذا ادعاه. وكما نقول في الشرعيات: إن من لوازم الصلاة فعل الطهارة، والستارة، والنية، أما دوامها فلا. ومن لوازم عصمة الدماء والأموال: الإيمان، أما أنه دائمًا نفس الإيمان في كل زمان صدقت فيه العصمة فلا. فالشرط واللازم عقلاً وشعًا، قد يكون لازمًا لأصل الشيء، دون دوامه، وقد يكون لازمًا لهما، كالحياة شرط في أصل العلم دون دوامه. وتقدم العدم شرط لتأثير المؤثر للفاعل المختار دون دوام أثره. فالفاعل المختار لا يمكن أن يقصد إلى إيجاد أثره إلا حالة عدمه، فتقدم العدم شرط في أصل التأثير لا في دوام الأثر. فالعالم مسبوق بعدمه، وذلك السبق لما صدق اكتفى بذلك، ولم يشترط دوام العدم، وكذلك الأول شرط تقدمه من حيث الجملة في التأثير، ولا يشترط أن يصدق الأزل في جملة أزمنة وجود العالم؛ بل الأزل من المحال وجوده فيما لا يزال، وكذلك الأزل شرط في الأبد، ولا يوجد الأزل مع الأبد. ولبعثة شرط في التكاليف، ولا يشترط دوام البعثة. والإرسال شرط في أن المكلف رسول، ثم يستمر وصف كونه رسولاً، وإنشاء الرسالة لا يتكرر، بل يقع أولاً فقط. والتقدم شرط في التأخر، ولا يوجد مع المتأخر. والبقاء مع المؤثر -عندنا -هكذا يشترط ابتداءًا لا دوامًا، والإمكان يحوج

لهذا لابتداء فقط، وفي جميع الأزمنة ذلك الحكم الصادق، وهو أنه إنما يرجح لمرجح فيما فات لازم الإمكان. قوله: (إن صح مع الأولوية الوجود والعدم، إن توقف إلصاق الوجود إليها إلى ضميمة، فلا يكون الحاصل أولاً هو الكافي في تحقق الأولوية): قلنا: تحقيق القول في هذه الأولوية أن سبب الوجود محقق، فيتحقق الوجود، وذلك الوجود قابل للاندفاع بالمانع الطارئ. فمن جهة أنه قابل للاندفاع لا يكون ضروريًا، ومن جهة أنه تحقق لتحقق سببه يكون وجوده راجحًا، فالوجود لا يتوقف حصوله على ضميمة شيء، بل العدم هو المحتاج؛ لطريان المانع. والأولوية -أيضًا -غير محتاجة لشيء، بل هي حاصلة لتحقق سبب الوجود. قوله: (المتوقف على ما لا يكون راجح الوجود لم يكن هو أيضًا راجح الوجود): قلنا: لا يلزم من كون النافي متوقفًا على ما لا يكون راجح الوجود ألا يكون راجح الوجود؛ لأن ما لا يكون راجحًا في نفسه قد يفيد الرجحان لغيره، وليس من شرط إفادة الشيء لمعنى أن يكون هو موصوفًا به. فإن المانع يفيد العدم، وهو ليس موصوفًا بالعدم في نفسه، والقذف يوجد الحد، وليس هو حدا، والردة توجب القتل، وليست قتلاً في نفسها، والقدرة القديمة تحدث الجماد، والحيوان، والنبات، وليست واحدًا منها. فجاز أن يكون هذا الحادث الذي هو البقاء ليس راجحًا في نفسه، وهو يوجب الرجحان الباقي، ولا تناقض في ذلك.

قوله: (سلمنا رجحان الباقي في نفس الأمر، فلم قلتم: إنه يجب رجحانه في الظن؟): تقريره: أن الراجح في نفس الأمر قد لا يكون راجحًا في الظن، كما نقول: الراجح في الغيم الرطب في الشتاء الأمطار، وقد لا يظن الجاهل ذلك؛ لعدم دربته بالسحب، والغالب على العقرب الأذى، وقد يظن ذلك من لم يرها قط. فصحت المطالبة بأن الراجح -في نفس الأمر -قد لا يكون راجحًا في الظن؛ فيحتاج ذلك لدليل. قوله: (الباقي -في الحقيقة -الذات لا هذه الكيفية المتجددة): قلنا: الباقي هو الذات الموصوفة بالبقاء، والبقاء هو مقارنة وجودها للزمان الثاني، فحينئذ لا يصدق الباقي على الصفة المتجددة، ولا على الذات، بل المجموع، فبطل قولكم الباقي هو الذات التي كانت في الزمان الأول. قوله: (الحصول في الزمان لو كان كيفية لزم التسلسل): قلنا: يشكل عليكم الحصول في الحيز؛ فإنه وجودي، وهو المسمى بالكون، وهو ينقسم إلى الحركة، والسكون، والاجتماع، والافتراق. مع أنا يمكننا أن نقول: لو كان وجوديًا لكان حصوله في الحيز وجوديًا، ولزم التسلسل بعين ما ذكرتم، فما الفرق؟ فإن قلت: حصول الحصول غير حصول الجوهر، ومخالف له، والمختلفان لا يجب اشتراكهما في اللوازم، فجاز أن يكون حصول الجوهر وجوديًا، وحصول حصوله ليس زائدًا عليه، بل عدميًا، فلا يلزم التسلسل.

قلت: هذا بعينه ينقله إلى الحصول في الزمان، ونقول: الجسم في الزمان وجودي، وحصول حصوله عدمى مخالف، والمختلفان لا يجب اشتراكهما في الزمان، وتبقى المطالبة بالفرق قائمة. بل الفرق المحقق أن الزمان أمر خارج عن الجسم؛ لأنه قرار حادث بحادث، أو ذوات الأملاك على ما تقرر في موضعه، فالنسبة بينه وبين الجوهر إضافة لأمر خارج، نحو: كون الجسم تحت السماء، أو محاذيًا للجبل، ونحو ذلك، والنسب والإضافات عدمية، أما حلول الجسم في الحيز، فهو شيء دون نسبته، لا أنه نسبة. والفرق بينهما: أن العلم، والإرادة، وأنواع الإدراكات أمور ذوات نسبة لا تضاف إلى متعلقاتها المخصوصة، وتلك الإضافة نسبة، والإدراكات وجودية بالضرورة. والنسبة الصرفة مثل البنوة، والتقدم، والتأخر، فهي نسب صرفة، ونحن نقطع بالضرورة أن الحركة وجودية. إنما الوهم، والخلاف في السكون، هل هو وجودي، أو عدم الحركة؟ ولا معنى للحركة إلا مجموع حصولين في حيزين، فلو كان الحصول في الحيز عدميًا كانت الحركة عدمية صرفية، وهو خلاف الضرورة، ولذلك نحملها على المعدوم، والمستحيل، والعدم لا يستحيل أن يكون صفة للعدم، ومروج الفرق يرجع إلى الفرق بين النسبة، وبين الأمر الذي هو ذو نسبة، وقد اتضح الجمع، فاندفع السؤال. قوله: (الاعتبار الذهني مطابق للاعتبار الخارجي، وإلا كان جهلاً): قلنا: لا يضره ذلك؛ لأنه غير قابل به، وخصمه عنده حاصل في القول، والاستصحاب. (سؤال) على قوله: (الحادث مفتقر للمؤثر) -أن نقول: الحادث مستغن عن

(سؤال)

المؤثر؛ لأن الحادث الموجود في أول أزمنة وجوده، وأول أزمنة الوجود هو أول صدوره عن المؤثر، ولا يصدر عن المؤثر إلا إذا استجمع لكل ما لابد منه في التأثير، وإذا استجمع لكل ما لابد منه في التأثير وجب الأثر. والواجب مستغن عن المؤثر من حيث هو واجب، فالحادث -حينئذ -فيه اعتبارا: إن اعتبرناه من حيث ذاته، فو ممكن قابل للوجود، والعدم مفتقر إلى المؤثر، وهو من هذا الاعتبار ليس بحادث. وإن اعتبرناه من حيث هو موجود حادث كان واجبًا مستغنيًا عن المؤثر، فظهر أن الحدث بما هو حادث مستغن، فيبطل قولكم: الحاث مفتقر إلى المؤثر. (سؤال) على قوله: (عدم حدوث الحادث أكثر من عدم الباقي؛ لأنه يصدق على ما لا نهاية له أنه لم يحدث بخلاف عدم الباقي بعلة حدوثه): بأن نقول: إذا كان عدم ما لم يوجد أكثر من عم ما وج يقتضي ذلك، أنا إذا تحققنا وقوع عدم، وجهلنا هل هو عدم من عدميات ما لم يوج، أو من عدميات ما وجد؟ غلب على ظننا أنه من عدميات ما لم يوج؛ لأن الدائر بين الغالب، والنادر يحكم العقل بإضافته إلى الغالب، وليس يقتضي ما ذكرتموه أنا إذا تصورنا وجود الباقي وعدمه، رجح -عندنا -وجوده على عدمه. والنزاع إنما هو في مرجوحية عدم الباقي بالنسبة إلى وجوده، لا في مرجوحية عدم الباقي بالنسبة إلى عدم ما لم يوجد، فأين أحدهما من الآخر؟ فما تتنازع فيه لا يفيده دليلكم، وما يفيده دليلكم لا يتنازع فيه. (تنبيه) قال التبريزى: (الاستصحاب ينقسم إلى:

استصحاب الدليل من عموم، أو إطلاق، وهو حجة؛ فإن حاصله يرجع إلى التمسك بذلك الدليل، وإجراءاته على ظاهره. وإلى استصحاب الإجماع المتفقة على انعقاد الصلاة بالتيمم قبل وجود الماء إلى حالة وجود الماء، وهذا ممنوع؛ لأن الإجماع يناقضه نفس الخلاف، فكيف يمكن دعوى شموله حالة وجود الماء؟ وإلى استصحاب حالة معهودة من ثبوت، أو انتفاء فيما بعد. وقد اختلفوا فيه، والمختار أنه حجة، وإليه ذهب المزني، وغيره. ثم قال: وقول المصنف: (إن الاستصحاب لابد منه في الدين، والعرف والشرع)، غلو كبير، وخروج عن محل النظر. فإن النظر في أن مجرد العلم بحالة، هل يوجب رجحان اعتقاد البقاء عليها؟ وإلا فل شك في أنه يقترن بالوجود ما يوجب ما يوجب رجحان اعتبار بقائه، وليس استقرار العوائد؛ بمجرد العهد بالوجود ما لم يتكرر تكررًا ينفى احتمال الاتفاق قطعًا، ولهذا وجب الجزم، حتى لو طرًا خلفه في معرض المعجزة جزم بكذبه، وأما عدم الناسخ فلا يستند إلى مجرد العلم بعدمه السابق، بل لابد فيه من بحث يوجب الاطلاع عليه بتقدير الوجود قطعًا، أو ظنًا؛ ليدل عدم الاطلاع. وأما الغائب عن الأهل، والوطن، فلو اعتقد بقاء كل حالة على ما عهدها من قبل، نسب إلى سلامة القلب، بل يشك في البعض، ويجزم في البعض، ويظن في البعض، ويقطع بالتغيير في البعض، على حسب ما أنس من العوائد المعهودة في الموت، والحياة، والصحة، والسقم، والنوم، ودخول الحمام، وتناول الطعام.

(فائدة) قال سيف الدين: (في الاستصحاب مذهب ثالث، وهو الترجيح به دون كونه دليلا)

ويشهد لما ذكرنا: أن الوجود قد مشترك بين الجواهر، والأعراض، وكذلك العدم. وإذا كان المعهود وجود عرض في جوهر، وعدم ما يماثلها، ويخالفها وجب أن يكون اعتقاد بقاء الوجودين، والعدمين، على وتيرة واحدة وليس الأمر كذلك، بل نقطع بعدم بقاء العرض، وتجدد أمثاله المعدومة، وبقاء المخالف له على العدم، ونظن بقاء الجوهر. يوضح أن استحقاق البقاء، والبقاء مستفاد من أمر آخر عن الوجود، والوقوع. (فائدة) قال سيف الدين: (في الاستصحاب مذهب ثالث، وهو الترجيح به دون كونه دليلاً). وقال: المختار أنه دليل، كان الاستصحاب في أمر وجودي، أو عدمي، عقلي، أو شرعي. واختلفوا في استصحاب حكم الإجماع في محل الخلاف، فنفاه جماعة من الأصوليين كالغزالي، وغيره، وأثبته آخرون، وهو الانتحار. وقوام الإجماع مع محل الخلاف لا يجتمع، فلابد من دليل، فالجواب عنه أن نقول: متى يفتقر الحكم في بقائه إلى دليل إذا كان بمنزلة الجواهر، أو الأعراض؟. الأول: ممنوع، بل هو باق بعد ثبوته بالإجماع. والثاني: مسلم، لكن يكفي في الدليل الاستصحاب.

قال إمام الحرمين في (البرهان): القائلون بأن الاستصحاب حجة، قالوا: إنه متأخر عن الأقيسة، وهو آخر المتمسكات، ولابد من تصويره. فإن الحكم إذا ثبت بدليل، ولم يتبدل مورد الحكم، فليس هو من مواقع الاستصحاب؛ لاعتماد الحكم على ذلك الدليل. وقد يقول من لا يحيط بالحقائق: لا يمتنع تقدير نسخ، فينفي الاستصحاب، فهذه مناقشة لفظية، فله أن يسميه استصحابًا، ولكنه ليس من هذا الفصل. أما إذا ثبت حكم في صورة، ثم تغيرت، وحالت، ورام الناظر طرد الحكم الثابت في الحالة الثانية، فإن لم يكن لها تعلق بالحالة الأولى، فلا استصحاب، كاستصحاب صدقة البقر من صدقة الغنم، وإن تغيرت، وأثبت في الخلفة عليها، فعند ذلك نقول: فإنا قائلون: يستصحب الحكم الثابت في الصورة الأولى في الثانية، وهذا باطل -عندنا -لأجل التغاير. وإن ثبتت إحداهما بصور، أو خلفه، فلا معنى لأجل ثبوت التغير في المورد، والمحل، كما قيل عند أبي حنيفة في زكاة الإبل، وقد اطردت فريضة الإبل على نصب معلومة، فينبغي أن يستصحبها وراء المائة والعشرين، حتى لا يوجبها إلا على ذلك القياس. وقد عورضوا بأن فريضة الإبل إذا ثبتت وجب استصحابها، وذلك يمنع العود إلى الشاة، وهذا القائل ذهل عن الحقيقة، ولا معنى للاستصحاب من القبيلين؛ لأن الشاة أثبتت ابتداء اجتنابًا للتشقيص في إيجاب البعير. أما من تيقن الطهارة، وشك في الحدث أوشك في الطلاق ففي (استصحاب غير أن قول الفقيه: استصحب عين الطهارة) مجاز؛ لأن اليقين لا يكون مع الشك.

(فرع) قال في (المحصول): (النافي لا دليل عليه)

وضابط الباب أنه إذا طرأ شك، فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يرتبط بعلامة بينة، فالاجتهاد فيه هو المتبع، ولا التفات على ما تقدم. أو بعلامة خفية، كالعلامات التي يقع بها التمييز بين الطاهر، والنجس في الأواني، والثياب، فيمكن التمسك بالاستصحاب. وإن تساوت العلامة الجلية، والخفية، فيستصحب ما تقدم. (فرع) قال في (المحصول): (النافي لا دليل عليه): قال أبو يعلى الحنبلي في (العمدة): النافي للحكم عليه الدليل. وقيل: لا دليل عليه في العقليات، والشرعيات. وقيل: عليه الدليل في العقل دون الشرع. قال: إن من نفى يعتقد ما نفاء، كما يعتقد ما أثبته ثانيًا، فيتعين عليه الدليل.

المسألة الثالثة في الاستحسان

المسألة الثالثة في الاستحسان المحكي عن الحنفية القول بالاستحسان.

.........................

.........................

.........................

.........................

ومخالفوهم: أنكروا ذلك عليهم؛ لظنهم أنهم يعنون به الحكم من غير دليل، والذي حصله المتأخرون في تحديده وجهان:

الأول: قال الكرخى: الاستحسان هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى يقتضى العدول عن الأول، وهذا يلزم عليه أن يكون العدول عن العموم إلى التخصيص، وعن المنسوخ إلى الناسخ -استحسانًا. الثاني: قال أبو الحسين: (الاستحسان: ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ؛ لوجه أقوى منه، وهو في حكم الطارئ على الأول). قال: ولا يلزم عليه العدول عن العموم إلى القياس المخصص؛ لأن العموم لفظ شامل، ولا يلزم عليه أن يكون أقوى القياس استحسانًا؛ لأن الأقوى ليس في حكم الطارئ على الأضعف، فإن كان طارئًا، فهو استحسان. فإن قلت: فقد قال محمد بن الحسن في غير موضع من كتبه: تركنا الاستحسان؛ للقياس؛ كما لو قرأ آية السجدة في آخر السورة، فالقياس يقتضي أن يجتزئ بالركوع، والاستحسان ألا يجزئ به، بل يسجد لها، ثم إنه قال بالمقياس. فهذا الاستحسان، إن كان أقوى من القياس، فكيف تركه؟ وإن لم يكن أقوى منه، فقد بطل حدكم): قلت: ذلك المتروك إنما يسمى استحسانًا؛ لأنه وإن كان الاستحسان وحده أقوى من القياس وحده، لكن اتصل بالقياس شيء آخر، صار ذلك المجموع أقوى من الاستحسان؛ كما في المسألة التي ذكرتموها؛ فإن الله -تعالى -أقام الركوع مقام السجود في قوله تعالى: {وخر راكعًا وأناب} [سورة ص: 24].

فهذا تقرير هذا الحد الذي ذكره أبو الحسين -رحمه الله -. واعلم: أن هذا يقتضى أن تكون الشريعة كلها استحسانًا؛ لأن مقتضى العقل هو البراءة الأصلية، وإنما يترك ذلك؛ لدليل أقوى منه، وهو نص، أو إجماع، أو قياس، وهذا الأقوى في حكم الطارئ لأول؛ فيلزم أن يكون الكل استحسانًا، وهم لا يقولون به؛ لأنهم يقولون: تركنا القياس للاستحسان، وهذا يقتضى أن يكون القياس مغايرًا للاستحسان، فالواجب أن يزاد في الحد قيد آخر؛ فيقال: (ترك وجه من وجوه الاجتهاد مغاير للبراءة الأصلية، والعمومات اللفظية، لوجه أقوى منه، وهو في حكم الطارئ على الأول). إذا عرفت هذا، فنقول: اتفق أصحابنا على إنكار الاستحسان، وهذا الخلاف: إما أن يكون في اللفظ، أو في المعنى: لا يجوز أن يكون في اللفظ؛ لأنه قد ورد في القرآن، والسنة، وألفاظ سائر المجتهدين: هذه اللفظة. أما القرآن: فقوله تعالى: {وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} [الأعراف: 172]، {فيتبعون أحسنه} [الرمز: 18]. وأما السنة: فقوله -عليه الصلاة والسلام -: (ما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن). وأما ألفاظ سائر المجتهدين: فلأن الشافعي -رضي الله عنه -قال في باب المتعة: (أستحسن أن تكون ثلاثين درهمًا) وفي باب الشفعة: (أستحسن أن يثبت للشفيع الشفعة إلى ثلاث أيام)؛ وقال في المكاتب: (أستحسن أن يترك عليه شيء). فثبت بهذا: أن الخلاف ليس في اللفظ، وإنما الخلاف في المعنى؛ وهو أن

القرافي: قال النقشواني: أما ترتيبه كما ذكره أبو الحسين، ففيه نظر

القياس إذا كان قائمًا في صورة الاستحسان في سائر الصور، ثم ترك العمل به في صورة الاستحسان، وبقى معمولاً به في غير تلك الصورة -فهذا هو القول بتخصيص العلة، وهو عند الشافعي وجمهور المحققين باطل، وقد تقدمت هذه المسألة؛ فظهر أن القول بالاستحسان باطل. المسألة الثالثة في الاستحسان قال القرافي: قال النقشواني: أما ترتيبه كما ذكره أبو الحسين، ففيه نظر؛ لأن البراءة الأصلية ليست من وجوه الاجتهاد، ولا يعد العمل بها من العمل بالاجتهاد؛ بل يرد عليه وجوه أخر. وهو أن قوله: (من وجوه الاجتهاد)، إما أن يندرج فيها التمسك بالنص، أو يخص بالقياس، ونحوه، فإن اندرج حسن منه ذكر هذا القيد، وهو قوله: (غير شامل شمول الألفاظ): -لكن يجب أن يقيد هذا القيد في قوله: (لوجه أقوى منه): لأن الاجتهاد إذا كان فيما يشمل النص، فمن ترك العمل بالقياس لنص يعارضه يجب أن يكون مستحسنًا، وهم لا يسمون ذلك استحسانًا. وإن اختص الاجتهاد بغير النصوص، فقوله: (غير شامل شمول الألفاظ) يصير زائدًا في الحد. والإشكال الثاني: هو أن هذا الحد يقتضى أن الاستحسان معمول به أبدًا، ويكون ما يعارضه -أبدًا -متروكًا؛ لأن ترك المعارض مأخوذ في الحد، فمتى انتفى واحد من هذين القيدين بطل الحد، والمحدود. ثم ما نقله عن محمد بن المحسن يرد إشكالاً على هذا الحد؛ لأنه اشتمل على العمل بالاستحسان وعلى العمل بالمعارض، فقد انتفى فيه القيدان، ومع ذلك سماه استحسانًا.

والجواب الذي ذكره ضعيف؛ لأن القياس إذا اقترن به ما يقتضى تقويته، لا يخرج عن كونه عملاً بالقياس؛ لأن ما اقترن بالقياس لا يمكن أن يكون لفظًا على ما ذكر أن اللفظ لا يكون مقابله الاستحسان على ما ذكره في الحد؛ لأنه اشترط ألا يكون لفظًا؛ وإن لم يكن لفظًا فإنما يتحقق الاستحسان على هذا الحد أن ل كان أقوى من القياس مع تقاربه، وتقويته. وأما مجرد كونه أقوى من القياس بمجرد النظر إليه لا يجعله استحسانًا، وإذا كان الاستحسان أقوى من القياس مع ما يقترن به يجب العمل به، فلا يصير الاستحسان متروكًا لأجل القياس. ولئن قال: يترك القياس أولاً لأجل الاستحسان، ثم بعد ذلك ورد ما يقوى العمل بالقياس، فترك العمل بالاستحسان لا لأجل القياس وحده؛ بل لأجل المجموع. أو يقال: القياس مع الاستحسان هما بحيث لو نظر إليهما على مجردهما لكان الاستحسان أقوى، فكان يجب ترك القياس لأجله، لكن إنما يترك الاستحسان لا لأجل القياس، بل بالنظر إلى المجموع، والمعنى الأول يكفى في تحقيق معنى الاستحسان. قلنا: أما الأول فيناقض ما ذكره، حيث شرط في الاستحسان أن يكون في حكم الطارئ على المعارض، وما ذكره يقتضى طريان المعارض عليه. وأما الثاني: فلا يصح عذرًا؛ لأنه شرط ترك المعارض، والعمل بالاستحسان بالفعل لا بالتقدير. وأما اختيار المصنف ففيه تكرير لقوله: ترك وجه من وجوه لاجتهاد، فقد خرج عن المنصوص؛ لأن المنصوص دلائل مقطوعة المتن، وقد شرط ألا يوجد فيه دليل مقطوع مغاير للعمومات اللفظية.

وقوله: (هذا الخلاف راجع إلى القول بتخصيص العلة) فيه نظر؛ لأن تخصيص العلة هو العمل بالمانع، وترك المقتضى. وهاهنا -وجد ما سموه استحسانًا عملاً بالدليل الشرعي مثل: نص، أو إجماع، أو قياس. فأنكر عليهم تسميته بالاستحسان -خاصة -في هذا الموضع. وتارة وجد ما سموه استحسانًا لم يساعد عليه دليل شرعي، بل جرى ذلك الاستحسان مجرى اتباع الهوى. وتارة وجد دليل شرعي غير معارض بدليل، وقياس. وهم سموه استحسانًا، وكونه على خلاف القياس. مثلا الأول: قولهم: إنا نحكم بأن من سبقه الحدث يتوضأ، ويبنى على صلاته، بخلاف المتعمد للحدث، وهذا على خلاف قياس الأحداث؛ لأن فيها يقتضى التسوية بين العمد والسبق. فقل المنكرون: أما أولاً: فهذا عمل بالحديث بأن من سبقه الحدث يتوضأ ويبنى، فيخصص اسم الاستحسان بالعمل في هذا الموضع خاصة؛ دون غيره لا معنى له، ولا يسلم أنه على خلاف قياس الأحداث؛ لأن قياسها يقتضى عدم التفرقة في انتفاض الطهارة، وحصول الحدث بين العمد، والسبق، وذلك حاصل معمول به، وعدم البناء في العمد لم يقع على خلاف القياس، وإن ادعوا القياس في عدم البناء في السبق، والعمد، فذلك ممنوع. والفرق: أن المسبوق معذور دون التعمد. ومثال الثاني: قولهم في شهود الزنى: وجب الرجم استحسانًا، والقياس يقتضى وجوب الحد، فلم يساعدهم دليل شرعي؛ لأنه تعذر إيراد شهاداتهم على زينة واحدة، فصار كما لو شهدوا على الزنى في بيوت؛ فإنه

(تنبيه) قال التبريزي: الكلام في صحة الاستحسان وفساده ينبني على فهم حقيقته

لا يثبت الحد اتفاقًا، وليس لهم أن يقولوا: استحسان تصديق الشهود؛ لأن تصديق الشهود لا يقتضى الحد جزمًا، وقد ذكروا من جملة صور الاستحسان أخذ لماء من السقاء من غير تقدير له. وكذلك إراقة الماء في الحمام من غير تقدير. قال المنكر: هذه الصور ليست من قبيل المعاوضات، بل من قبيل الإباحة، كتقديم الطعام للضيف، ولما ظهرت المشقة في ذلك سومح فيه. (تنبيه) قال التبريزي: الكلام في صحة الاستحسان وفساده ينبني على فهم حقيقته. والسابق إلى الذهن منه هو هجوم العقل على الحكم بحسن الشيء من غير دليل؛ فإن مقتضى الأدلة كلها مستحسنة، فلابد للتخصيص من تمييز، وعلى هذا لا يخفى فساده؛ لأنه شرع بغير دليل. ولهذا قال الشافعي: (من استحسن فقد شرع) وقيل في حده: إنه دليل في نفس المجتهد لا تساعده عليه العبارة. وهو أيضًا بهذا التفسير باطل؛ فإن جميع الأدلة يمكن التعبير عنها، وما عدا ذلك، فهو خيال فاسد. * * *

المسألة الرابعة قال الرازي: الحق أن قول الصحابي ليس بحجة، وقال قوم: إنه حجة مطلقا

المسألة الرابعة قال الرازي: الحق أن قول الصحابي ليس بحجة، وقال قوم: إنه حجة مطلقًا، ومنهم من فصل، وذكروا فيه وجوهًا: أحدها: أنه حجة، إن خالف القياس. وثانيها: أن قول أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما -: حجة فقط. وثالثها: أن قول الخلفاء الأربعة، إذا اتفقوا: حجة. لنا: النص، والإجماع، والقياس: أما النص: فقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولى الأبصار} [الحشر: 2] أمر بالاعتبار؛ وذلك ينافى جواز التقليد. وأما الإجماع: فهو أن الصحابة أجمعوا على جواز مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة؛ فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما، ولا كل واحد منهما على صاحبه فيما فيه اختلفا. وأما القياس: فهو أنه متمكن من إدراك الحكم بطريقه؛ فوجب أن يحرم عليه التقليد؛ كما في الأصول. واحتج المخالف بوجوه: أحدها: قوله -عليه الصلاة والسلام -: (أصحابي كالنجوم؛ بأيهم اقتديتم، اهتديتم) جعل الاهتداء لازمًا للاقتداء بأي واحد كان منهم، وذلك يقتضي أن يكون قوله حجة.

وثانيها: إن لم يجز اتباع كل واحد منهم؛ فيجب اتباع أبى بكر وعمر -رضي الله عنهما -للخبر والإجماع. أما الخبر: فقوله -عليه الصلاة والسلام -: (اقتدوا باللذين من بعدى، أبى بكر وعمر). وأما الإجماع: فقد ولى عبد الرحمن عثمان الخلافة؛ بشرط الاقتداء بسيرة الشيخين، فقبل، ولم ينكر ذلك على عثمان، وكان ذلك بمحضر من أكابر الصحابة؛ فكان إجماعًا. وثالثها: إن لم يجب اتباع أبي بكر وعمر وحدهما، وجب اتباع الخلفاء الأربعة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى) وقوله: (عليكم) للإيجاب؛ وهو عام. ورابعها: أن الصحابي، إذا قال ما يخالف القياس، فلا محمل له إلا أنه اتبع الخبر. والجواب عن الأول: أن قوله -عليه الصلاة والسلام -: (بأيهم اقتديتم، اهتديتم) خطاب مشافهة؛ فلعل ذلك كان خطابًا للعوام. وعن الثاني: أن السنة هي الطريقة، وهي عبارة عن الأمر الذي يواظب الإنسان عليه؛ فلا تتناول ما يقوله الإنسان مرة واحدة. وعن الثالث: أنا نقول بموجبه؛ فيجوز الاقتداء بهما في تجويزهما لغيرهما مخالفتهما بموجب الاجتهاد. وأيضًا: لو اختلفا كما اختلفا في التسوية في العطاء؛ فأيهما يتبع؟.

وعن الإجماع: أن قول عثمان معارض بقول علي -رضي الله عنهما -. وعن الرابع: أن الصحابي لعلة قال بما يخالف القياس؛ لنص ظنه دليلاً، مع أنه في الحقيقة ما كان دليلاً. نعم: لو تعارض قياسان، والصحابي مع أحدهما، فيجوز الترجيح بقول الصحابي، فأما جعله حجة، فلا. فرعان: الأول: اختلف قول الشافعي -رضي الله عنه -في تقليد الصحابي؛ فقال في القديم: (يجوز تقليده، إذا قال قولاً، وانتشر، ولم يخالف) وقال في موضع آخر: (يقلد، وإن لم ينتشر). وقال في الجديد: (لا يقلد العالم صحابيا؛ كما لا يقلد عالمًا آخر) وهو الحق المختار؛ لأن الدلائل المذكورة مطردة في الكل. فإن قلت: (كيف لا نفرق بينهم، وبين غيرهم مع ثناء الله تعالى، وثناء رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليهم؛ حيث قال الله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين} [الفتح: 18] وقال: {السابقون الأولون من المهاجرين} .. إلى قوله: {رضي الله عنهم} [التوبة: 100] وقال -عليه الصلاة والسلام:- (خير القرون قرني): قلت: هذا كله ثناء يوجب حسن الاعتقاد فيهم، ولا يوجب تقليدهم؛ بدليل أنه ورد أمثالها في حق آحاد الصحابة، مع إجماع الصحابة على جواز مخالفتهم؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح) وقال: (إن الله ضرب بالحق على لسان عمر). وقال: (والله، ما سلكت فجا، إلا سلك الشيطان فجا غير فجك).

وقال في حق علي: (اللهم؛ أدر الحق مع على حيث دار) وقال: (رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عب) وقال أبي بكر وعمر: (لو اجتمعتما على شيء، ما خالقتكما) وكل ذلك ثناء لا يوجب الاقتداء. الثاني: في تفاريع القول القديم للشافعي -رضي الله عنه -وهي سبعة. أحدها: قال الشافعي -رضي الله عنه -في كتاب (اختلف الحديث): (روى عن على: (أنه صلى في ليلة ست ركعات، في كل ركعة ست سجدات) قال: لو ثبت ذلك عن على؛ لقلت به؛ فإنه لا مجال للقياس فيه، فالظاهر أنه فعله توفيقًا). وثانيها: قال في موضع: (قول الصحابي، إذا انتشر، ولم يخالف، فهو حجة) قال الغزالي -رحمه الله -: (وهو ضعيف؛ لأن السكوت ليس بقول؛ فأي فرق بين أن ينتشر، أو لا ينتشر؟) والعجب من الغزالي: أنه تمسك بمثل هذا الإجماع على أن خبر الواحد حجة، والقياس حجة. وثالثها: نص الشافعي -رضي الله عنه -على أنه إذا اختلفت الصحابة، فالأئمة الأربعة أولى، فإن اختلف الأئمة، فقول أبى بكر وعمر أولى) وكل ذلك للأحاديث المذكورة. ورابعهما: نص في موضع آخر: (أنه يجب الترجيح بقول الأعلم، والأكثر قياسًا؛ لأن زيادة علمه تقوى اجتهاده، وتبعده عن التقصير). وخامسها: إن اختلف الحكم والفتوى عن الصحابة، فقد اختلف قول الشافعي -رضي الله عنه-فقال مرة: (الحكم أولى؛ لأن العناية به أشد) ونقال مرة: (الفتوى أولى؛ لأن سكوتهم عن الحكم محمول على الطاعة).

القرافي: قوله: (أمر الله -تعالى -بالاعتبار، وذلك ينافى التقليد)

وسادسها: هل يجوز ترجيح أحد القياسين بقول الصحابي؟. والحق: أنه في محل الاجتهاد؛ فربما يتعارض ظنان، والصحابي في أحد الجانبين؛ فتميل نفس المجتهد إلى موافقة الصحابي، ويكون ذلك أغلب على ظنه. وسابعها: إذا حمل الصحابي لفظ الخبر على أحد معنييه: منهم من جعله ترجيحا، وقال القاضي أبو بكر: إذا لم يقل: (علمت ذلك من قصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقرينة شاهدتها لم تكن ذلك ترجيحًا. المسألة الرابعة في قول الصحابي قال القرافي: قوله: (أمر الله -تعالى -بالاعتبار، وذلك ينافى التقليد): قلنا: ليس هذا من باب التقليد، بل قوله عليه السلام: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) يقتضى الشهادة لهم بإصابة الحق، كشهادته عليه السلام -لمجموع الأمة، فكما أن العمل بالإجماع وسائر الأدلة المنصوبة ليس تقليدًا، فكذلك هاهنا. قوله: (لم ينكروا على من خالفهم): قلنا: عدم الإنكار على المخالفة لا يأبى نصب أقوالهم، وأفعالهم أدلة؛ فإن الدليل قد يخالف لمعارض أرجح فكما أن عدم الإنكار على من خالف القياس لا يقتضى عدم كونه دليلاً، فكذلك هذا. فإن قلت: (لم ينكروا على من خالفهم لغير معارض) -منعنا ذلك مطلقًا في أقوالهم، وجميع مدارك الشرع. قوله: (احتجوا بقوله عليه السلام): (أصحابي كالنجوم .. الحديث):

قلنا: الحديث إنما دل على أن الاقتداء بهم موصل إلى الله -تعالى -وهذا أمر مجمع عليه في حقهم، وفي حق غيرهم من المجتهدين، وأن المجتهدين كلهم -طرق إلى الله -تعالى -وأسباب السعادة، وإن تفاوتت مراتبهم، فكما أن قول غيرهم ليس بحجة، فكذلك قولهم، بل فائدة التنصيص عليهم التشريف، وأنهم أولى بذلك من غيرهم، وبالجملة فالحديث يرد عليه القول بالموجب؛ فإنه إذا صرح فيه بأن تقليد هم هداية، وأنه مجمع عليه إنما النزاع في أنه مدرك المجتهد إذا سلم عن المعارض، وهذا لم يفده الحديث، وكذلك السؤال على قوله عليه السلام: (اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر). وكذلك يرد على قول عبد الرحمن في (البيعة): (أبايعك على سيرة الشيخين). ويرد على الاستدلال بقوله عليه السلام: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى). أن السنة هي: الطريقة، فيحمل على طريقهم في العمل بالدليل الراجح،

والعدل، والإنصاف، وفرط البعد عن الهوى، وهذا غير محل النزاع، ثم إن هذا إشارة إلى المجموع. ونحن نقول: متى اجتمع سننه، وأقوال الصحابة الخلفاء وجب الانقياد لما فيه من سننه -عليه السلام -ويكون وجه اعتبار قول الخلفاء، أنهم إذا وافقوا دل ذلك على عدم الناسخ، والمخصص، والمجاز، ونحوه. فيقوى العمل بالحديث والسنة، ولا يمكن ضمها لسنته -عليه السلام -طرديا، ولا يكون حجة بانفراده. قوله: (وعن الثالث: أنا نقول بموجبه؛ فيجوز الاقتداء بهما في تجويزهما لغيرهما مخالفتهما): قلنا: نمنع من ذلك أنه اسم جنس أضيف؛ فيعم، فيتناول صورة النزاع، ولا يقتصر به على ما ذكرتم. قوله: (الثناء عليهم لا يوجب الاقتداء): قلنا: لا نسلم، بل يوجب ظهور أن الحق معهم، فيغلب على الظن مصادفة أقوالهم، وأفعالهم له، فعند عدم المعارض يتعين المصير إليه، ولا نعنى بكونه مدركًا شرعيًا إلا هذا. قوله: (لعله خطاب مع العوام): قلنا: هذا باطل لوجوه: أحدها: أن المعهود في الشرع في قوله -تعالى -: (وأموال) -كزكاة -وسائر هذه الموارد، إنما هو للأمة إلى أن تقوم الساعة، فخروج هذا عن القاعدة تحكم.

(فائدة) قال سيف الدين: (اتفقوا على أن مذهب الصحابي -في مسائل الاجتهاد -لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين

وثانيها: أن نشبههم بالنجوم يقتضى عدم الاختصاص بالعامي، بل الاستدلال أولى؛ لأن العامي ليس له أهلية الاستدلال بالنجوم. وثالثها: أن اهتداء العوم بالاقتداء ليس خاصا بالصحابة؛ بل عام في العلماء إلى أن تقوم الساعة. (فائدة) قال سيف الدين: (اتفقوا على أن مذهب الصحابي -في مسائل الاجتهاد -لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين، إماما كان أو حاكمًا، أو مفتيًا. واختلفوا في كونه حجة على التابعين، ومن بعدهم من المجتهدين، فقالت الأشاعرة، والمعتزلة، والشافعي -في أحد قوليه -وأحمد بن حنبل -في أحد قوليه، والكرخى: إنه ليس بحجة. وقال مالك بن أنس، والرازي، والبردعى من الحنفية، والشافعي، وأحمد في أحد قوليهما: إنه حجة مقدمة على القياس. (فائدة) قال الشيخ موفق الدين الحنبلي في كتاب (الروضة): (إذا اختلف الصحابة على قولين، لم يجز للمجتهد الأخذ بقول بعضهم من غير دليل، وجوزه بعض الحنفية، وبعض المتكلمين، ما لم ينكر على القائل قوله؛ لأن اختلافهم إجماع يسوغ الخلاف، والأخذ بول كل واحد من القولين، وهو باطل؛ لأن اختلافهم لا يزيد على تعارض الكتاب، والسنة، ولا يعمل في ذلك بغير دليل، وطلب الترجيح).

وقال العالمي الحنفي في كتابه: (قول الصحابي إن انتشر، ولم يظهر له مخالف، فهو إجماع على ما تقدم في الإجماع). وإن عرف له مخالف لا يكون حجة؛ لأن القول الآخر يناقضه، وإن قال قولاً، ولم ينتشر، ولم يعرف له مخالف، ليس من أهل العلم، والاجتهاد لا يكون قوله حجة، وإن كان من أهل الاجتهاد، وهو حكم لا يدرك بالقياس؛ فهو حجة وإن كان يدرك بالقياس، فقال أبو الحسين الكرخى، وجماعة من أصحابنا: لا يكون حجة. وقال بعض مشايخنا: هو حجة. * * *

المسألة الخامسة قال الرازي: اختلفوا في أنه، هل يجوز أن يقول الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو للعالم: (احكم، فإنك لا تحكم إلا بالصواب؟)

المسألة الخامسة قال الرازي: اختلفوا في أنه، هل يجوز أن يقول الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو للعالم: (احكم، فإنك لا تحكم إلا بالصواب؟): فقطع بوقوعه مويس بن عمران. وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه، وتوقف الشافعي - رضي الله عنه - في امتناعه وجوازه، وهو المختار؛ وصحة هذا التوقف لا تظهر إلا بالاعتراض على أدلة القاطعين. أما المانعون: فقد تعلقوا تارة بما يدل على امتناع وقوعه، وأخرى بما يدل على عدم وقوعه. أما الوجه الأول: فتقريره: أن من أجاز هذا التكليف: إما أن يجعل الاختيار مما تتم به المصلحة، أو يجعل الفعل مصلحة في نفسه، ثم يختاره المكلف. والأول باطل؛ لوجهين: أحدهما: أن على هذا التقدير: يسقط التكليف؛ لأن المكلف، متى قال: (إن اخترته، فافعله، وإن لم تختره، فلا تفعله) فهذا محض إباحةٍ. وثانيهما: أن المكلف لا ينفك عن الفعل والترك، ولا يجوز تكليف المرء بما لا يمكنه الانفكاك عنه؛ بخلاف التخيير في الكفارات الثلاث؛ فإنه يمكنه الانفكاك عنها أجمع. وأما الثاني: فهو باطل من وجوهٍ أربعةٍ:

أولها: أنه إما أن يجوز له الحكم على هذا الوجه في الحوادث الكثيرة، أو في الحادثة والحادثتين: والأول: محال؛ لأنه يمتنع حصول الإصابة بالاتفاق في الأشياء الكثيرة؛ ولهذا لا يجوز أن يقال للأمي: (اكتب مصحفًا، فإنك لا تخط بيمينك إلا ما يطابق ترتيب القرآن) وللجاهل: (أخبر؛ فإنك لا تخبر إلا بالصدق) ولولا ما ذكرناه، لبطلت دلالة الفعل المحكم على علم فاعله، وبطلت دلالة أخبار الغيب على النبوة. وأما الوجه الثاني؛ وهو أن يجوز ذلك في القليل، دون الكثير: فهو باطل؛ لأن كل من جوزه في القليل، جوزه في الكثير، ومن منع منه في الكثير، منع منه في القليل؛ فالقول بالفرق خرق للإجماع. وثانيها: وهو أنه إنما يحسن القصد إلى الفعل، إذا علم، أو ظن كونه حسنا؛ فلابد وأن يتميز له الحسن من القبح قبل الإقدام على الفعل، فإذا لم تتقدم هذه الأمارة المميزة، كان التكليف باختيار الحسن دون القبيح، تكليفًا بما لا يطاق. فإن قلت: (إنما يميز بين الحسن والقبيح) بأن يقال له: (قد علمنا بأنك لا تختار شيئًا إلا وهو حسن): قلت: فهذا يقتضي أنه إنما يعلم حسنه بعد فعله له، وهو إذا فعله، زال التكليف عنه. فالحاصل: أن التمييز بين الحسن والقبيح لابد وأن يكون متقدمًا على الاختيار؛ وإلا وقع التكليف بما لا يطاق.

وإذا قال الله تعالى: (إنك لا تحكم إلا بالصواب): فهاهنا التمييز بين الحسن والقبيح لا يحصل إلا بعد الفعل، والشيء الذي يجب أن يكون متقدمًا، ليس هو الذي يجب أن يكون متأخرًا. وثالثها: لو جاز أن يقول له: (احكم؛ فإنك لا تحكم إلا بالصواب) لجاز أن يكلفه تصديق النبي، وتكذيب المتنبي، من غير دليل ألبتة، بل يكله فيه على رأيه، ولجاز ذلك في الإخبار؛ فيقول: (أخبر؛ فإنك لا تخبر إلا عن حق) ولجاز أن يصيب في مسائل الأصول من غير تعلم ألبتة، ولجاز أن يفوض إليه تبليغ أحكام الله تعالى من غير وحي نزل عليه، وكل ذلك باطل بالإجماع. ورابعها: لو جاز ذلك في حق العالم، لجاز في حق العامي؛ وبالإجماع لا يجوز. أما الذي يدل على عدم الوقوع: فأمران: الأول: لو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مأمورًا بأن يحكم على وفق إرادته من غير دليلٍ، لما كان منهيا عن اتباع هواه؛ لأنه لا معنى لاتباع الهوى إلا الحكم بكل ما يميل قلبه إليه؛ لكنه كان منهيًا عن اتباع الهوى؛ لقوله تعالى:} ولا تتبع الهوى {} وما ينطق عن الهوى {. فإن قلت: لما قيل له: (احكم؛ فإنك لا تحكم إلا بالصواب) كان ذلك نصا من الله تعالى على حقية كل ما يميل قلبه إليه؛ فلا يكون ذلك اتباعًا للهوى). قلت: فعلى هذا التقدير: صار اتباع الهوى في حقه غير ممكنٍ، ولو كان كذلك؛ فلم نهي عنه؟. الثاني: لو قيل له: (احكم؛ فإنك لا تحكم إلا بالصواب) لما قيل له: (لم

فعلت كذا؟) لكن قد قيل له:} عفا الله عنك لم أذنت لهم {فلم يثبت ذلك في حقه. وأما مويس: فإنه تعلق بأمورٍ: بعضها يدل على الوقوع، وبعضها يدل على الجواز فقط: أما الدال على الوقوع: فإما أن يدل على وقوع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو على وقوعه من غيره: أما الأول: فقد ذكر مويس فيه عشرة أوجهٍ: أحدها: أن منادي النبي - عليه الصلاة والسلام - نادي يوم فتح مكة (أن اقتلوا مقيس بن حبابة، وابن أبي سرحٍ، وإن وجدتموهما متعلقين بأستار الكعبة) لقوله: (من تعلق بأستار الكعبة، فهو آمن). ثم عفا عن ابن أبي سرحٍ بشفاعة عثمان - رضي الله عنه - ولو كان الله تعالى أمر بقتله، لما قبل شفاعة أحد فيه إلا بوحيٍ آخر، ولم يوجد وحي آخر؛ لما أن نزول الوحي له علامات كانوا يعرفونها، وما ظهر في ذلك الوقت شيء من ذلك. وثانيها: أنه قام يوم الفتح: (إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، لا يختلي خلاها، ولا يعضد شجرها) فقال العباس: (يا رسول الله، إلا الإذخر، فقال: إلا الإذخر) فهذا الحكم ما كان بالوحي؛ لأنه لم تظهر علامة نزول الوحي. وثالثها: أنه - عليه الصلاة والسلام - نادى مناديه: (لا هجرة بعد الفتح) حتى استفاض ذلك، فبينما المسلمون كذلك، إذا أقبل مجاشع بن مسعود

بالعباس بن عبد المطلب شفيعًا؛ ليجعله مهاجرًا بعد الفتح، فقال - عليه الصلاة والسلام -: (اشفع عمي؛ ولا هجرة بعد الفتح). ورابعها: أنه لما قتل النضر بن الحارث، جاءته قتيلة بنت النضر، فأنشدته: (الكامل): أمحمد، ولأنت ضنء نجيبةٍ ..... في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما .... من الفتي، وهو المغيظ المحنق فقال - عليه الصلاة والسلام-: (أما إني لو كنت سمعت شعرها، ما قتلته) ولو كان قتله بأمر الله، لقتله، ولو سمع شعرها ألف مرةٍ. وخامسها: قوله: (عفوت لكم عن الخيل والرقيق). وسادسها: قوله - عليه الصلاة والسلام -: (أيها الناس، كتب عليكم الحج) فقال الأقرع بن حابسٍ: (أكل عامٍ، يا رسول الله) يقول ذلك ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساكت، فلما أعاد ذلك، قال: (والذي نفسي بيده، لو قلتها، لوجبت، ولو وجبت، ما قمتم بها، دعوني ما ودعتكم). وسابعها: أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (أخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء ذات ليلة، فخرج ورأسه يقطر، فقال: (لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقت هذه الصلاة هذا الحين). وثامنها: روى جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن عشت - إن شاء الله - لأنهين أمتي أن يسموا نافعًا، وأفلح وبركة)، وهذا الكلام يدل على أنه له.

وتاسعها: قال جابر: لما قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن ماعزًا رجم، فقال: (هلا تركتموه؛ حتى أنظر في أمره) فلو لم يكن حكم الرجم إليه، لما قال ذلك. وعاشرها: قوله - عليه الصلاة والسلام-: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، وعن لحوم الأضاحي، ألا فانتفعوا بها). وأما الذي يدل على وقوع ذلك من غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقوله تعالى:} كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه {. وأما الذي يدل على الجواز فقط: فأمور: أحدها: أن الواجب من خصال الكفارة ليس إلا الواحد بالدلائل التي تقدم ذكرها في مسألة الواجب المخير، ثم أنه تعالى فوضها إلى المكلف، لما علم أنه لا يختار إلا ذلك الواجب؛ فدل على أن ذلك جائز. وثانيها: أن الواجب في التكليف أن يكون المكلف متمكنًا من الخروج عن العهدة، فإذا قال الله تعالى له: (احكم؛ فإنك لا تنفك عن الصواب) علم أن كل ما يصدر عنه صواب؛ فكان متمكنًا من الخروج عن العهدة؛ فوجب القطع بجوازه. وثالثها: إذا استوي عند المستفتي مفتيان، وأحدهما يفتي بالحظر، والآخر بالإباحة - فهو متمكن شرعًا من الأخذ بقول أيهما أراد، ولا فرق في العقل بين أن يقال: (افعل ما شئت؛ فإنك لا تفعل إلا الصواب) وبين أن يقال: (خذ بقول أيهما شئت؛ فإنك لا تفعل إلا الصواب).

والجواب عن أدلة المانعين: أن نقول: أما الوجه الذي تمسكوا به أولاً في امتناع ذلك عقلاً؛ فهو مبني على أن أحكام الله تعالى متفرعة على رعاية المصالح، ونحن لا نقول بهذا الأصل؛ فتلك الوجوه بأسرها ساقطة عنا، ثم إنا نسلم لهم هذا الأصل، ونبين ضعف كل واحد من تلك الوجوه: أما قوله أولاً: (من أجاز هذا التكليف: إما أن يجعل الاختيار مما تتم به المصلحة، أو يجعل الفعل مصلحة في نفسه، ثم يختاره المكلف): قلنا: اخترنا القسم الأول. قوله: (هذا يكون إسقاطًا للتكليف): قلنا: لا نسلم؛ وذلك لأنه قال للرسول: إن اخترت الفعل، فاحكم على الأمة بالفعل؛ وإن اخترت الترك، فاحكم على الأمة بالترك، فهذا لا يكون إسقاطًا للتكليف، بل يكون مكلفًا بأن يأمر الخلق بمتعلق اختياره. قوله: (الفعل والترك لا ينفك المكلف عنهما): قلنا: لكن الحكم على الخلق بالفعل، والحكم عليهم بالترك - قد ينفك عنهما؛ فلم لا يجوز ورود التكليف به؟ ثم يشكل ما ذكروه بالمستفتى، إذا أفتاه مفتيان: أحدهما بالحظر، والآخر بالإباحة: فكل ما يقولونه هناك، فهو قولنا هاهنا. سلمنا فساد هذا القسم؛ فلم لا يجوز القسم الثاني؟. قوله: (إما أن يكون مأمورًا بذلك في الأفعال الكثيرة، أو القليلة. قلنا: لم لا يجوز في الكثيرة؟. قوله: (الاتفاقي لا يكون أكثريا):

قلنا: لا نسلم؛ فإن حكم الشيء حكم مثله عقلاً، وشرعًا، وعرفًا، فلما جاز ذلك في الأفعال القليلة، جاز في الأفعال الكثيرة أيضًا، فإن لم يفد هذا الكلام القطع بالجواز، فلا أقل من ألا يحصل معه القطع البديهي بالامتناع. وأما الأمثلة التي ذكروها: فنقول: إن كان الحال فيها، كما هنا - احتاج الفرق بين القليل والكثير إلى دليل؛ وإلا فيمتنع القياس؛ على أنا قد بينا في هذا الكتاب: أن القياس لا يفيد اليقين ألبتة. سلمنا أن الاتفاقي لا يدوم؛ ولكن إذا كان الاتفاقي ببعض الجهات معلوم السبب بسائر الجهات، أو إذا لم يكن؟!. الأول ممنوع، والثاني مسلم: بيانه: أن من الجائز أن يعلم الله تعالى: أن أكل الطعام الحلو في هذه السنة مصلحة للمكلفين، ويعلم أنهم خلقوا على وجهٍ لا يشتهون إلا الطعام الحلو، فإذا كان تناول الطعام الحلو مصلحًة طول عمره، لم يكن جهله بكون الفعل مصلحة - مانعًا له في هذه الصورة من الإقدام عليه في أكثر أوقاته. سلمنا تعذر ذلك في الكثير؛ فلم لا يجوز في القليل؟ والإجماع الذي ذكروه ممنوع. أما قوله ثانيًا: (التمييز بين الحسن والقبيح لابد وأن يتقدم على الفعل): قلنا: لا نسلم. وبيانه: بالوجهين المذكورين في الجواب عن الوجه الأول. سلمنا ذلك؛ ولكنه حاصل هاهنا لأن الغرض أن يأمن المكلف من أن يفعل

قبيحًا أو مفسدًة يستحق به الذم، فأي فرق بين أن يجعل الله تعالى له على ذلك أمارة قبل أن يفعل، وبين أن يجعل الأمارة على ذلك نفس الفعل؟!. وعلى الوجهين جميعًا: هو آمن من القبيح، ومتخلص من الذم، وليس يلزم ما قالوا؛ من أن الأمارة، إذا لم تتقدم على الفعل، كان مقدمًا على ما لا يأمن كونه قبيحًا؛ لأنه قبل أن يفعل، لما قيل له: (إنك لا تختار إلا الصواب) فهو آمن من الإقدام على القبيح. وأما الوجه الثالث والرابع: فجوابه: أن الله تعالى، لما نص في تلك الصورة بأن المكلف لا يختار فيها إلا الصواب؛ فلم قلت: لا يجوز ورود الأمر بمتابعة إرادته؟. وليس إذا لم يلزم مويس، لم يجز لغيره التزامه. وأما الوجهان اللذان تمسكوا بهما في نفي الوقوع: فالجواب عنهما: أن قوله تعالى لمحمد - عليه الصلاة والسلام -: (إنك لا تحكم إلا بالصواب)، لعله ورد في زمانٍ متأخرٍ، وما ذكروه ورد في زمانٍ متقدمٍ؛ فلا يتناقضان. وأما الوجوه العشرة التي تمسك بها مويس في الوقوع، فضعيفة؛ لاحتمال أن يقال: ورد الوحي بها قبل تلك الوقائع مشروطًا؛ مثل أن يقال: لو استثنى أحد شيئًا، فاستثنى له ذلك؛ وكذا القول في سائر الصور. سلمنا أنه ما كان بالوحي؛ فلعله كان بالاجتهاد، وبهذا التقدير: لا يصح قول الخصم. وأما قوله تعالى:} إلا ما حرم إسرائيل على نفسه {. [آل عمران: 93]

شرح القرافي: قوله: (إذا جعل الاختيار فيما تتم به المصلحة، وخيره بين الفعل والترك، سقط التكليف)

قلنا: يحتمل أن يكون حرم ذلك على نفسه بالنذر، أو بالاجتهاد؛ ويكون إثبات التحريم بالنذر جائزًا في شرعهم. وأما الوجه الأول: من الوجوه التي تمسكوا بها في الجواز فجوابه: أنه مبني على أن الواجب في خصال الكفارة واحد معين عند الله تعالى؛ لكنا لا نقول به. وأما الوجهان الباقيان: فمبنيان على تشبيه صورة بصورةٍ، وقد عرفت أن هذا لا يفيد اليقين؛ فثبت بما ذكرنا ضعف أدلة القاطعين؛ فظهر أن الحق ما ذهب إليه الشافعي - رضي الله عنه - من التوقف. المسألة الخامسة في تفويض الحكم قال القرافي: قوله: (إذا جعل الاختيار فيما تتم به المصلحة، وخيره بين الفعل والترك، سقط التكليف): قلنا: التقدير في أصل المسألة أن الذي يحكم به صواب، والصواب أعم من التكليف؛ فإن الإباحة واختيار خصوص الفعل دون الترك، أو الترك بدلاً عن الفعل يمكن أن يكون صوابًا، وقد لا يكون الصواب في ذلك الفعل إلا الإباحة، واختيار أحدهما بدلاً عن الآخر.

نعم لو التزمنا في أصل المسألة أنه يكون واجبًا، أو محرمًا امتنع. قوله: (لا يجوز تكليف الإنسان بما لا ينفك عنه): قلنا: خصوص الفعل، أو خصوص الترك يمكن الانفكاك عنه، مع أنا قد بينا أن الصواب أعم من التكليف. قوله: (يمتنع الاتفاق في الأشياء الكثيرة): قلنا: أما بالنسبة إلى مقاصد الإنسان والحيوانات، فتحيله العادة باعتبار الاختيار الحيواني. وأما بالنسبة إلى الجواز العقلي، وما يقبله بيان الربوبية في الشرائع، فغير محل النزاع؛ لأن العقل يجوز أن يقع ذلك في العوائد في الأفعال البشرية. وإنما العوائد قد تعين أحد الجائزين بالوقوع، كما تعين بقاء البحر ماء مع جواز انقلابه زيتًا، ونحوه. ولذلك عينت أن الشيخ الذي شاهدناه - الآن - لم يولد شيخًا؛ بل طفلاً، ثم متدرجًا في الأسنان حتى صار شيخًا؛ مع جواز خلقه في العقل شيخًا، ونظائر ذلك كثيرة. والبحث ما وقع في هذه المسألة إلا عن الجواز، وأنتم تصديتم للاستجالة، وإثباتها. وما ذكرتموه لا يكفي فيها، بل جواز هذا على الله - تعالى - لجواز بعثه الرسل بالشرائع، والمعجزات الخوارق، وهذا كله خارج عن نمط العادة، فكذلك هاهنا. وبهذا ظهر الجواب عن قوله في كتابة المصحف من الجاهل، ونحوه؛ فإن تلك احتمالات عادية، يجوز على الله - تعالى - أن يغيرها، فهي من قبيل الجائزات على الله - تعالى - مما نحن فيه.

وإنما يمنع ذلك قبل أن يغيرها الله تعالى، وكذلك هاهنا تمتنع هذه المسألة إذا لم يفعلها الله - تعالى - لأحد. وإنما الكلام هل يجوز عليه أن يفعل ذلك أم لا؟ وأنتم أحلتم ذلك. قوله: (ولولا ذلك لبطل الاستدلال بالاتفاق على العلم، والأخبار بالغيب على النبوة): قلنا: لا نسلم أن دلالة الاتفاق على العلم قطعية، لا يجوز خلافها، وامتناع كتابة الجاهل بالمصادفة للمصحف اتفاقي عادي، فإن الله - تعالى - أجرى عادته به، وهو جائز أن يكون خلافه، بخلاف الاتفاق لا يجوز خلافه. وأما ما ينسب إلى العاقل، والجاهل، والحيوانات السمية من مسدسات بيوت النحل، وشبهها؛ فليس بشيء من أولئك فاعلاً إنما الفاعل هو الله - تعالى - فما صدر فعل من غير معين. قوله: (القصد إلى الفعل فرع كونه حسنًا، فإذا لم يتميز كان تكليفًا بما لا يطاق): قلنا: لا نسلم لزوم تكليف ما لا يطاق؛ لأن الله - تعالى - أذن له في اختيار أي شيء شاء. والإرادة شاءها لذاتها أنها مستغنية في تعلقها عن المرجح - كما تقرر في أصول الدين - فإذا علق إرادة بفعل علم أنه حسن؛ لأن الله - تعالى - أخبره أن متعلق إرادته لا يكون إلا حسنًا. فتأخر التمييز عن تعلق الإرادة، فيكون المكلف به مقدورًا، كما لو قال النبي - عليه السلام - لمن ضاعت له ضالة: (ارحل أي مكان شئت؛ فإنك تجدها فيه)، فإنه يبادر فيختار بغير سفه مكانًا فيجدها فيه، والتكليف واقع بالإجبار، فيجب تقدمه على الاختيار، لا على الحكم بالحسن.

قوله: (يزول التكليف بالفعل): مسلم، ونحن لم ندع أن التكليف ثبت بعده؛ بل قبل الاختيار ويزول بالفعل، كما قال، ولا تناقض. قوله: (لو جاز ذلك لجاز أن يقول الله تعالى: احكم؛ فإنك لا تحكم إلا بالحق، ولذلك يفرق بين النبي، والمتنبي، باختياره، ويصيب في مسائل الأصول من غير تعليم): قلنا: هذا كله جائز عقلاً وفي شأن الله - تعالى - وله أن يقول: أي شيء اخترته من العقائد فهو الحق، وهو تعالى يعلم أنه لا يختار إلا الحق بقضائه، وقدره السابق في أزله. وكذلك يقول له: اعتقد أي رجل شئت من أهل زمانك؛ فإنه النبي الذي بعثته، والله - تعالى - عالم أنه لا يختار إلا النبي بعينه، فليس في هذا التهويل محذور على الخصم، وله إلزامه. غايته: أنه سكت عنه، ولم يدعه. وقولكم: إنه باطل بالإجماع - ممنوع. وكذلك نقول: إن جميع ذلك جائز على الله - تعالى - بالنسبة إلى العامي. قوله: (يصير اتباع الهوى في حقه غير ممكن، فيتعذر نهيه عنه، وقد نهي عنه): قلنا: أمكن أن يكون وقوع ذلك في بعض الفتاوى دون بعض، فنهي عن الهوى باعتبار البعض الآخر، أو باعتبار الفتاوى، دون الأحكام. أو نقول: النهي إنما يعتمد عدم إمكان الشيء عادة، كالطيران في الهواء،

أما المتعذر عقلاً، فلا يجوز كفر الكافر؛ فإنه معلوم لله - تعالى - فيتعذر الإيمان منه، ومع ذلك نهي عنه. وكذلك التعذر بإخبار الشرع كما قال تعالى:} سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون {. } وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين {. فصار الإيمان منهم متعذرًا؛ لأجل هذا الخبر؛ لاستحالة الخلف على الله - تعالى -ومع ذلك فالكفر المتعذر عدمه بهذا الحد منهي عنه كذلك - هنا - إنما أوجب التعذر إخبار الله - تعالى - أنه لا يتبع الهوى، فلا يمنع ذلك النهي عن اتباع الهوى. قوله: (لو وقع ذلك لما قال الله تعالى:} عفا الله عنك لم أذنت لهم {: قلنا: نقل القاضي عياض في (الشفاء): (أن الله - تعالى - خيره في هذه الواقعة، فالحكم الشرعي الإباحة، ولا عبث، غير أن الشرع قد يخير بين شيئين، ويكون الجزم في أحدها، كما أن الإنسان يخير بين السفر والإقامة، والجزم في الإقامة، ويخر بين كراء الجمال، والحمير، والجزم في الجمال في البراري. كذلك - هاهنا - الجزم ألا يأذن لهم؛ ليتبين المنافق من غيره، فالحكم واحد، ولا ذنب، ولا إثم، وذكر العفو لطف من الله - تعالى - لأنه قد يتخيل الذنب من قوله:} أذنت لهم {فيعظم مصيبته، فبدأ بذكر العفو لطفًا به صلى الله عليه وسلم. قوله: (أنشدته (الكامل): أمحمد ولأنت ضنء نجيبةٍ .... في قومها والفحل فحل معرق قلنا: أنشد هذا البيت ابن السراج، واستشكل أنه منادي، وقد نون،

وهو علم، وشأن العلم البناء، والمبني لا ينون، وهذا النوع يكون في الشعر، نحو: يا سيدًا، يا ساجدًا، فينونون، مع أنه معين شأنه البناء. وقال ابن السراج: وللنحاة فيه مذهبان: منهم من يرفعه، ويقول: ضمه للبناء، والتنوين للضرورة. ومنهم من يقول: أصل المنادي النصب، فإذا دعت ضرورة الشعر للتنوين نصبنا، فإن السامع التنوين لا يجتمعان، وذكر أن البيت روى بالرفع، وبالنصب، والمغيظ بكسر الغين وفتح الميم. قيل: المتبع؛ لأنه معتل العين مثله. والمحنق: بضم الميم، وفتح النون من أحنق، مبني لما لم يسم فاعله، إذا أخذه الحنق، نحو: أعجب، فهو معجب بفتح الجيم، وهو من الأفعال التي بنتها العرب لما لم يسم فاعله ابتداء، نحو: عنيت بحاجتك، ونتجت الناقة. والجواب عن الاستدلال به أن الأنبياء - عليهم السلام - مأمورون بحفظ - غرض النبوة، وصونها عن نسبة اللوم، وإذا مدح فاستعطف، فلم يعطف كان سببًا للطعن، فكذلك قال عليه السلام ما قال؛ للأمر الكلي السابق من الله - تعالى - لا لأنه يحكم بإرادته. قوله: (في قوله عليه السلام: (عفوت لكم عن الخيل، والرقيق)

قلنا: قوله صلى الله عليه وسلم: (عفوت لكم) (وعفا الله عنكم) - سواء؛ فإن الله - تعالى - أقامه مبلغًا عنه، كما يقول نائب الملك: أوجبت عليكم، وعفوت عنكم، ويكون ذلك بإيجاب الملك، وعفوه، وأمره له في ذلك. وأما قوله - عليه السلام - في الحج: (لو قلتها لوجبت)، وروى: (ما تركتكم). فهذا يقتضي أنهم إذا تعرضوا له - عليه السلام - بالسؤال، وغيره أوجب ذلك عليهم شرعًا. وهو مشكل الظاهر من جهة أن الله - تعالى - إذا لم يشرع، فسؤال الناس لا يحدث شيئًا، بل يقول عليه السلام: لا أعلم في ذلك شرعًا، وفي هذا الباب قوله - عليه السلام - في قيام الليل، لما لم يخرج في الليلة الثالثة، أو الرابعة: (خشيت أن يفرض عليكم)؛ فإن مواظبته - عليه السلام - في قيام الليل كيف يؤدي إلى الوجوب؟ بل إن أوجب الله - تعالى - وجب، لازموه أم لا؟.

وإن لم يوجبه لم يجب، فالموضع مشكل. والذي أرى في هذه المواضع - أن الله - تعالى - شرع المصالح بحسب القدرة عليها، وتواطن النفس بها، واستقرارها على السكون للعمل بها، فإذا أراد الله - تعالى - شرعًا خلق في النفوس ذلك، وجعله سبقًا عادمًا لورود الشرائع، وإذا خلق في الوجود الضعف في نفوس الخلق جعل ذلك سببًا لتخفيف التكليف، فصارت الخمسون صلاة خمسًا، وعلى هذا القياس عادة الله - تعالى - في خلقه. إذا تقرر هذا ظهر الجواب عن صلاته القيام؛ فإن المداومة عليها إظهار صورة القوة على هذه المصلحة، فيوجبها الله - تعالى - لأن مصلحتها مصلحة إيجاب، ومصلحة الإيجاب قد ترك إيجابها للمشقة؛ لقوله عليه السلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك) أخبرهم - عليه السلام - أن مصلحة السواك مصلحة إيجاب، وتركه الإيجاب للمشقة. ولذلك إذا أظهروا الميل إلى الفعل، أو نوع من العبادات كان ذلك إظهارًا للقوة، فربما جعل الله - تعالى - ذلك سببًا عاديًا لتحقيق الوجوب، فنهي عن ذلك، وأمرنا بالموادعة، وترك التعرض لإظهار القدرة، والجلد؛ لئلا يعظم التكليف. وأما قوله عليه السلام: (لو قلتها لوجبت) فسهل؛ لأنه يخبر عن الله - تعالى - في الشرائع، وقوله قول الله - تعالى - ولذلك قال الله تعالى:} إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله {،} من يطع الرسول فقد أطاع الله {. وقوله عليه السلام: (لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقت هذه الصلاة هذا الوقت) - يشير إلى ثلث الليل، كما قال في السؤال.

فتقديره: لجعل الله - تعالى - ذلك؛ لأن إخباره عن نفسه إخبار عن الله - تعالى - كما تقدم. وأما قوله عليه السلام: (عسيت - إن شاء الله - أن أنهي أمتي أن يسموا نافعًا، وأفلح، وبركة). فلا يتعين لهذه المسألة، بل يظهر أنه من مسألة أخرى، وهي أنه - عليه السلام - قد فوض إليه الاجتهاد؛ فإن هذا من باب المفاسد التي تقارب النهي؛ فإن السائل يقول: أين بركة؟، فيقول سيده: ما بركة هنا، وهذا اللفظ يشعر بخروج البركة من المنزل؛ فيكره التلفظ بهذا اللفظ، فنهي عما يؤدي إليه. فمتى كانت الفتاوي تبع المصالح والمفاسد، فهذه مسألة الاجتهاد، وهذه المسألة معناها أنه يختار أي شيء أراد اختياره، فيصادف الصواب في نفس الأمر، من غير اعتبار البناء على مصلحة أو مفسدة. فهذا هو الفرق بين المسألتين، فينبغي أن يضبط؛ فإن المسألتين تلتبسان على كثير من الناس. وأما قوله - عليه السلام - في ماعز: (كنتم تركتموه حتى أنظر في أمره): فمعناه أنه أهل يرجع عن إقراره، فيكون ذلك شبهة تدرأ الحد عنه؛ لأنه أوحى إليه أن الحدود تدرأ بالشبهات، فليس من هذه المسألة. وقوله عليه السلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)، وعن لحوم الأضاحي: (ألا فانتفعوا بها):

فالأول: من باب النسخ بالوحي، فليس في اللفظ ما يقتضي أنه من قبله عليه السلام. وأما الثاني: ففي (مسلم) قال عليه السلام: (إنما كنت نهيتكم لأجل الدفة - يعني الطائفة - التي كانت قدمت المدينة)، فأمر - عليه السلام - بالتصدق بلحوم الأضاحي؛ ليتوسع القادمون، وانتفاء الحكم لانتفاء علته، لا ينافي ثبوت ذلك ابتداء بالوحي، وانتفاؤه انتهاء بانتفاء العلة، وليس ذلك من قبله عليه السلام. قوله: (يدل على وقوعه من غير النبي - عليه السلام - قوله تعالى:} إلا ما حرم إسرائيل على نفسه {): قلنا: لا دليل فيه؛ فإن من شرعنا أن الإنسان يوجب على نفسه ما ليس بواجب في أصل الشريعة بالنذر، فيصير المنذور واجبًا بالنذر، وهو أوجبه على نفسه.

فلعل شريعته كانت تحرم الامتنان فيها على نفسه، إما بالنذر، أو بسبب غيره، ويصدق عليه أنه حرمه على نفسه، كما يقال في شريعتنا: أوجبه على نفسه، وليس في ذلك أنه من قبيل إسرائيل عليه السلام. قوله: (وأما الأمثلة التي ذكروها، فنقول: إن كان الحال فيها كما هاهنا احتاج الفرق بين القليل والكثير إلى دليل، وإلا فيمتنع القياس): تقريره: أن المثل التي ذكروها، إن استوت كلها في الجواز العقلي، كما استوت الأفراد في مسألتنا، فوقوع أحد الجائزين دون الآخر، مع الاستواء في الجواز العقلي يحتاج لمرجح، وإلا لزم الترجيح من غير مرجح، فلابد من دليل يخصص القليل بالوقوع دون الكثير، وإذا ثبت في تلك الصورة طالبنا الخصم بوجود معنى؛ لأنه إن لم يكن موجودًا تعذر الفرق في صورة النزاع بين القليل والكثير؛ لاختصاص الفارق الذي هو الدليل المرجح بتلك الصورة. فنحن من وراء مطالبته بذلك حتى يتبين، وإن كان الحال - هنالك - ليس مثل الحال في صورة النزاع، منعنا القياس؛ لأن من شرطه التماثل، فأحد الأمرين لازم. أما تعذر القياس للاختلاف، أو اختصاص الدليل المخصص بتلك الصورة. قوله: (بينا أن القياس لا يفيد اليقين): قلنا: وقد تقدم الجواب عنه، وأنه يفيد اليقين. قوله: (سلمنا أن الاتفاقي لا يدوم، ولكن إذا كان الاتفاقي ببعض الجهات معلوم السبب بسائر الجهات، أو إذا لم يكن؛ الأول ممنوع، والثاني مسلم):

(فائدة) قال أبو يعلى الحنبلي في (العمدة): هذه المسألة مبنية على أنه - عليه السلام - هل له أن يجتهد أم لا؟

تقريره: من المثال الذي ذكره أن الله - تعالى - إذا خلق الناس على مزاج يعلم منهم أنه يقتضي منهم الميل إلى الخلق، وأنه مصلحتهم، فإن ميلهم للخلق، وفعلهم له يقع أكثر باقتصار فوت المصلحة اتفاقًا في الأكثر؛ لأن السبب معلوم الوقوع في جميع جهات العالم، وهو مزاجهم الخاص المقتضى لطلب الخلق، وفعله. أما إذا خص السبب ببعض الجهات، أو ببعض الأشخاص، فإنه لا يعم؛ فلا يكون أكثريا، وهو الاتفاق الواقع في العالم، كمن يمشي في جبل، فيجد كنزًا اتفاقًا؛ فإن السبب الباعث لذلك الشخص الماشي في ذلك المكان لا يعم أكثر الناس، بل قد لا يوجد إلا فيه. (فائدة) قال أبو يعلى الحنبلي في (العمدة): هذه المسألة مبنية على أنه - عليه السلام - هل له أن يجتهد أم لا؟ فإذا قلنا: له الاجتهاد، فهل له أن يختار ما يخطر بباله من غير مدرك، ويكون صوابًا؛ لأن الله - تعالى - أخبره بذلك، أم لا؟ قال: ومذهبنا جوازه. قال ابن برهان الشافعي في كتاب (الأوسط): (مذهبنا جواز هذه المسألة ووقوعها، وهو خلاف ما نقل المصنف عن الشافعي من التوقف في الجواز. وقال أبو الخطاب الحنبلي في (التمهيد): (المنقول عن الشافعي في (الرسالة) أنه لما علم الله - تعالى - من نبيه - عليه السلام - أن الصواب يتفق منه جعل ذلك إليه، ولم يقطع به. بل جوزه، وجوز غيره. وقال بعض المحققين من أصحابه لا يصح ذلك عن الشافعين وقوله في (الرسالة) مؤول بجواز الاجتهاد لا بهذه المسألة. **************

المسألة السادسة مذهب الشافعي - رضي الله عنه -: أنه يجوز الاعتماد في إثبات الأحكام على الأخذ بأقل ما قيل

المسألة السادسة مذهب الشافعي - رضي الله عنه -: أنه يجوز الاعتماد في إثبات الأحكام على الأخذ بأقل ما قيل؛ فإنه حكى اختلاف الناس في دية اليهودي: فمنهم من قال: بمساواتها لدية المسلم، ومنهم من قال: هي نصف دية المسلم، ومنهم من قال: هي الثلث منها، فهو - رضي الله عنه - أخذ بالأقل. واعلم أن هذه القاعدة مفرعة على أصلين: الإجماع، والبراءة الأصلية: أما الإجماع: فلأنا لو قدرنا أن الأمة انقسمت إلى أربعة أقسامٍ: أحدها: يوجب في اليهودي مثل دية المسلم، وثانيها: يوجب النصف، وثالثها: يوجب الثلث، ورابعها: لا يوجب شيئًا لم يكن الأخذ بأقل ما قيل واجبًا؛ لأن ذلك الأقل قول بعض الأمة؛ وذلك ليس بحجةٍ. أما إذا لم يوجد هذا القسم الرابع، كان القول بوجوب الثلث قولاً لكل الأمة؛ لأن من أوجب كل دية المسلم، فقد أوجب الثلث، ومن أوجب نصفها، فقد أوجب الثلث أيضًا، ومن أوجب الثلث، فقد قال بذلك؛ فيكون إيجاب الثلث قولا قال به كل الأمة؛ فيكون حجة. وأما البراءة الأصلية: فلأنها تدل على عدم الوجوب في الكل، ترك العمل به في الثلث، لدلالة الإجماع على وجوبه؛ فيبقي الباقي كما كان، ولهذه النكتة شرطنا في الحكم بأقل ما قيل عدم ورود شيءٍ من الدلائل السمعية؛ فإنه إن ورد شيء من ذلك، كان الحكم لأجله، لا لأجل الرجوع لأقل ما قيل؛ ولهذا

السر اختلف الناس في العدد الذي تنعقد به الجمعة، فقال قائلون: أربعون، وقال قائلون: ثلاثة. فالشافعي - رضي الله عنه - لم يأخذ بأقل ما قيل؛ لأنه وجد في الأكثر دليلاً سمعيًا، فكان الأخذ به أولى من الأخذ بالبراءة الأصلية، وكذلك اختلفوا في عدد الغسل من ولوغ الكلب؛ فقال بعضهم: سبعة، وقال آخرون: ثلاثة فالشافعي - رضي الله عنه - لم يأخذ بالأقل؛ لأنه وجد في الأكثر دليلاً سمعيا. فإن قلت: (لم لا يجوز أن يقال: (كان يجب الأخذ بأكثر ما قيل؛ لأنه قد ثبت في الذمة شيء واختلفت الأمة في الكمية؛ فقال قوم: هو كل الدية، وقال آخرون: بل نصفها، وقال آخرون: بل ثلثها، فإذا لم تحصل مع واحدٍ من هذه الأقوال دلالة سمعية، تساقطت. ولا يحصل براءة الذمة باليقين إلا عند أداء كل دية المسلم؛ فوجب القول به؛ ليحصل الخروج عن العهدة بيقينٍ): والجواب: أنه لما كان الأصل براءة الذمة، امتنع الحكم بكونها مشغولة إلا بدليل سمعي، فإذا لم يوجد دليل سمعي سوى الإجماع، والإجماع لم يثبت إلا في أقل المقادير - لم يثبت شغل الذمة إلا بذلك الأقل. فإن قلت: (هب أنه لم يوجد دليل سوى الإجماع؛ لكنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول؛ فلعله ثبت في الذمة حق أزيد من أقل ما قيل، فإذا كان هذا الاحتمال قائمًا، لم يثبت الخروج عن العهدة باليقين، إلا بأكثر ما قيل): قلت: لما لم يوجد سوى الإجماع، والإجماع لم يدل إلا على أقل ما قيل

شرح القرافي: قوله: (الثلث قال به كل الأمة)

فيه - كان الزائد على ذلك الأقل، لو ثبت، لثبت من غير دليلٍ؛ وذلك غير جائز؛ لأنه يصير ذلك تكليف ما لا يطاق. وأيضًا: فإن الله تعالى تعبدنا بالبراءة الأصلية، إذا لم نجد دليلاً سمعيا يصرفنا عنها، فإذا لم يوجد دليل سمعي يدل على الزيادة، علمنا أن الله تعالى تعبدنا بالبراءة الأصلية؛ وحينئذٍ: يحصل القطع بأنه لا يجب إلا ذلك القدر الذي هو أقل المقادير. (المسألة السادسة) الأخذ بالأخف يجوز الأخذ بالأخف قال القرافي: قوله: (الثلث قال به كل الأمة): قلنا: عليه سؤالان: الأول: أنه لم يقل به اقتصارًا لوجود الخلاف في الزائد، بل قال بثبوته من حيث الجملة. الثاني: أنه على هذا التقدير المسند في هذه المسألة - الإجماع، والبراءة الأصلية، وكلاهما متفق على التمسك به، فلا معني لجعل هذه المسألة في المدارك المختلف في اعتبارها.

(فائدة) قال القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص): (صورة هذه المسألة أن يجني رجل على سلعة، فيختلف المقومون في تقويمها

(فائدة) قال القاضي عبد الوهاب المالكي في (الملخص): (صورة هذه المسألة أن يجني رجل على سلعة، فيختلف المقومون في تقويمها، أو يجرح جراحة ليس فيها تقدير، فيختلف في أرشها أرباب الخبرة في ذلك، فيأخذ الشافعي بأقل ما قيل. واختلف في تعليله، فقيل: لأن الاختلاف ليس بدليل، فيسقط الزائد، وقيل: لأنه مشكوك فيه، والشك ليس بحجة، فيبقي الزائد. قال: ومذهبنا التفصيل في هذه المسألة، فتارة يأخذ بالأقل، وتارة لا يأخذ به. فقال أصحابنا: إذا أوصى له بمائة وخمسين في كتاب واحدٍ بوصيتين. فقيل: يعطي الأكثر، وقيل: نصف كل واحدٍ منهما، وعلى قول أشهب: يعطي الأقل. وكذلك في التقويم، يؤخذ الوسط عندنا، وكذلك الخنثى المشكل يعطيه نصف الميراثين، وكذلك إذا اختلف الورثة في المولود، فقال بعضهم: ذكر، وقال بعضهم: أنثى، وقد مات بالدفن، يتخرج على الأقوال الثلاثة المتقدمة، وأوضح المثل قيمة المتلف. قال: وهذه المسألة: تتعلق باستصحاب الحال أكثر من تعلقها بالإجماع؛ لأن غير الإجماع يقوم مقامه في الشغل، ونفى الزائد، وهو بالأصل المقتضى لبراءة الذمة. قال: والدليل على أنه لا يؤخذ بالأقل أن الأخذ به يؤدي إلى اطراح الاجتهاد من الفريق الآخر في القيمة. والأصل ألا يطرح الاجتهاد ليس البعض أولى من البعض، والاجتهاد دليل

ظاهر في الإصابة - لاسيما - والأصل عدم مصادفة القائل بالأقل، كقيمة السلعة، وأن الذي زاد اطلع على ما لم يطلع عليه القائل بالأقل من رغبات الناس. واتفقنا على تقديم المثبت على النافي في البينات، وغيرها، والذمة قد اشتغلت بقيمة المتلف. ونحن نشك في براءتها بالأقل، فكما لم نجد دليلاً على المشتغل لم نجد دليلاً على المبرئ للذمة. قلت: وهذه المثل، والمباحث توضح المسألة، وتعين مدركًا يمكن وقوع الخلاف فيه؛ لأن المقومين للسلعة ليسوا كل الأمة حتى يكون متفقا على كونه مدركًا. بخلاف ما في (المحصول)، لا يتصور منه أن يكون مختلفًا فيه، كما تقدم السؤال. *************************

المسألة السابعة قال الرازي: قال قوم: يجب على المكلف الأخذ بأخف القولين؛ للنص والمعقول

المسألة السابعة قال الرازي: قال قوم: يجب على المكلف الأخذ بأخف القولين؛ للنص والمعقول: أما النص: فقوله تعالى:} يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر {وقوله تعالى:} وما جعل عليكم في الدين من حرجٍ {وقوله - عليه الصلاة والسلام-: (لا ضرر في الإسلام) وقوله: (بعثت بالحنيفية السهلة السمحة) وكل ذلك ينافي شرع الشاق الثقيل. وأما القياس: فهو: أنه تعالى كريم غني، والعبد محتاج فقير، وإذا وقع التعارض بين هذين الجانبين، كان التحامل على جانب الكريم الغني أولى منه على جانب المحتاج الفقير، وربما قالوا: (الأخذ بالأخف أخذ بالأقل؛ فوجب العمل به). واعلم أن هذا المذهب يرجع حاصله إلى أن الأصل في الملاذ: الإباحة، وفي الآلام: الحرمة، وقد تقدم الكلام فيه. فأما قوله: (الأخذ بالأخف أخذ بالأقل): قلنا: هذا ضعيف؛ لأنا إنما نوجب الأخذ بأقل ما قيل، إذا كان ذلك جزءًا من الأصل؛ كما ذكرناه في المثال؛ فإن الثلث جزء من النصف ومن الكل، والموجب للكل والنصف موجب للثلث؛ فيصير وجوب الثلث بهذا الطريق مجمعًا عليه. أما إذا كان الأخف ليس جزءًا من ماهية الأصل، لم يصر الثلث مجمعًا عليه، فلا يجب الأخذ به.

شرح القرافي: قوله: (وأما القياس، والتحامل على المعنى أولى من الفقير)

وقال قوم: يجب الأخذ بأثقل القولين؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: (الحق ثقيل قوى، والباطل خفيف وبي). وهذه الدلالة ضعيفة؛ لأنه لا يلزم من قولنا: (كل حق ثقيل) أن يكون كل ثقيل حقا. ولا من قولنا: (الباطل خفيف) أن يكون كل خفيف باطلاً، وهاهنا طريقة أخرى يسمونها طريقة الاحتياط، وهي: إما الأخذ بأكثر ما قيل، أو بأثقل ما قيل، ولما تقدم الكلام فيها، فلا فائدة في الإعادة. المسألة السابعة (الأخذ بأخف القولين) قال القرافي: قوله: (وأما القياس، والتحامل على المعنى أولى من الفقير): قلنا: هذا ليس قياسًا؛ بل استدلال بالمناسبة المطلقة، والقياس لابد فيه من أصل يقاس عليه، ولا أصل هنا فلا قياس. قوله: (يدل عليه قوله تعالى:} يريد الله بكم اليسر {،} وما جعل عليكم في الدين من حرجٍ {. وقوله عليه السلام: (بعثت بالحنيفية السمحة) (لا ضرر ولا ضرار): قلنا: الجواب عن الأول من وجهين: أحدهما: أن هذه الآية لا يمكنكم العمل بظاهرها؛ لأن الله - تعالى - إنما أخبر عن نفي الإرادة، لا عن نفي المشروعية والحكم، والمشروعية عندكم غير الإرادة. وثانيهما: أن الذي يصدق عليه أنه عسير لغة، وعرفًا، هو ما يثقل حمله، فقد يكون القولان يمكن حمل كل واحدٍ منهما من غير ضررٍ، ولا عسر، وإن كان أحدهما أخف، فلا تتناول الآية واحدًا منهما.

والجواب عن الثاني: أن الحرج هو نوع مخصوص من الأفعال، فقد يكون أخف، والخفيف من القولين ليس بحرجٍ؛ بل سهل على النفس، فلا تتناوله الآية، كما نقول: تحريك الإنسان أصابعه فقط أخف من تحريك يده بجملتها، ومع ذلك فليس في ذلك كله حرج لا عرفًا، ولا عادًة. وهو الجواب عن قوله عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار)، (وبعثت بالحنيفية السهلة)؛ فتكون هذه الأدلة خاصة ببعض أنواع الثقل، والدعوى عامة، فلا تسمع عند النظار. *********************

المسألة الثامنة الاستقراء المظنون: هو إثبات الحكم في كلى؛ لثبوته في بعض جزئياته

المسألة الثامنة الاستقراء المظنون: هو إثبات الحكم في كلى؛ لثبوته في بعض جزئياته. مثاله قول أصحابنا في الوتر: (إنه ليس بواجبٍ؛ لأنه يؤدي على الراحلة، ولا شيء من الواجب يؤدي على الراحلة): أما المقدمة الأولي: فثابته بالإجماع، وأما الثانية: فنثبتها بالاستقراء، وهو: أنا لما رأينا القضاء وسائر أصناف الواجبات، لا تؤدي على الراحلة - حكمنا على كل واجبٍ لا يؤدي على الراحلة. وهذا النوع لا يفيد اليقين؛ لأنه يحتمل أن يكون الوتر واجبًا؛ بخلاف سائر الواجبات في هذا الحكم، ولا يمتنع عقلاً أن يكون بعض أنواع الجنس مخالفًا لحكم النوع الآخر من ذلك الجنس. وهل يفيده الظن، أم لا؟ الأظهر: أن هذا القدر لا يفيد إلا بدليلٍ منفصلٍ، ثم بتقدير حصول الظن: وجب الحكم بكونه حجة؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام-: (أقضى بالظاهر). المسألة الثامنة: الاستقراء المظنون قال القرافي: قوله: (هو إثبات الحكم في كلى؛ لثبوته في بعض جزئياته):

......................................................

(سؤال) الاستدلال على عدم وجوب الوتر بكونه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤديه على الراحلة مشكل

قلنا: قد تقدم - أول الكتاب - الفرق بين الكل، والكلية، والكلي، والجزء، والجزئية، والجزئي. فالكل: هو القدر المشترك، والمراد - هاهنا - أن ثبوت الحكم في بعض الجزئيات يقتضي ثبوته في الكلية، هذا هو المطلوب. أما ثبوته في الكل إذا ثبت في جزئي فضروري؛ لأن الأعم في الأخص، لكن الكلية ليست في ضمن الجزئي. قوله: (الوتر ليس بواجب؛ لأنه يؤدي على الراحلة، أما المقدمة الأولي فبالإجماع، وأما الثانية فبالاستقراء؛ لأنا رأينا أنواع الفرض من القضاء، والأداء لا يؤدي على الراحلة): قلنا: هذه العبارة مشكلة؛ لأنها تقتضي أن الوتر ليس بواجب بالإجماع؛ لأنها المقدمة الأولي فيما ذكر. والثانية: قولكم: يؤدي على الراحلة. وهذه لم يثبتوها بالاستقراء؛ لأنكم ذكرتم في استقراء أنواع الواجب، وهذا ليس بواجب. وتقريره: أن إحدى المقدمتين حذفها المصنف؛ لأجل فهم السامع، وأصل الكلام أن الدعوى أن الوتر ليس بواجبِ، وعلى هذا يتم قوله. (سؤال) الاستدلال على عدم وجوب الوتر بكونه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤديه على الراحلة مشكل؛ لأن المنقول أن الوتر كان واجبًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما أدى على الراحلة إلا واجبًا. جوابه: أن الوتر لم يكن واجبًا على النبي - عليه السلام - فصح الاستدلال. ************************

المسألة التاسعة في المصالح المرسلة

المسألة التاسعة في المصالح المرسلة اعلم أن المصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام: أحدها: ما شهد الشرع باعتباره، وهو: القياس الذي تقدم شرحه. وثانيها: ما شهد الشرع ببطلانه؛ مثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك، لما جامع في نهار رمضان: عليك صوم شهرين متتابعين، فلما أنكر عليه؛ حيث لم يأمره بإعتاق رقبةٍ، قال: لو أمرته بذلك، لسهل عليه، ولاستحقر إعتاق رقبة في قضاء شهوته. واعلم أن هذا باطل؛ لأنه حكم على خلاف حكم الله تعالى؛ لمصلحة تخيلها الإنسان بحسب رأيه، ثم إذا عرف ذلك من جميع العلماء، لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم، وظنوا أن كل ما يفتون به، فهو تحريف من جهتهم بالرأى. القسم الثالث: ما لم يشهد له بالاعتبار، ولا بالإبطال نص معين، فنقول: قد ذكرنا في كتاب القياس: أن المناسبة: إما أن تكون في محل الضرورة، أو الحاجة، أو التتمة: فقال الغزالي - رحمه الله-: أما الواقع في محل الحاجة، أو التتمة، فلا يجوز الحكم فيها بمجرد المصلحة؛ لأنه يجري مجرى وضع الشرع بالرأي، وأما الواقع في رتبة الضرورة، فلا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد. ومثاله: أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أساري المسلمين، فلو كففنا عنهم، لصدمونا، واستولوا على دار الإسلام، وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس، لقتلنا مسلمًا لم يذنب؛ وهذا لا عهد به في الشرع.

ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين، فيقتلونهم، ثم يقتلون الأساري. فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حالٍ، فحفظ كل المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع من حفظ المسلم الواحد. قال: وإنما اعتبرنا هذه المصلحة؛ لاشتمالها على ثلاثة أوصافٍ، وهي: أنها ضرورية، قطعية، كلية. واحترزنا بقولنا: (ضرورية) عن المناسبات التي تكون في مرتبة الحاجة، أو التتمة. وبقولنا: (قطعية) عما إذا لم نقطع بتسلط الكفار علينا، إذا لم نقصد الترس، فإن هاهنا: لا يجوز القصد إلى الترس، وكذلك: قطع المضطر قطعة من فخذه لا يجوز؛ لأنا لا نقطع بأنه يصير ذلك سببًا للنجاة، وبقولنا: (كلية) عما لو تترس الكافر في قلعة بمسلمٍ، فإنه لا يحل رمي الترس؛ إذ لا يلزم من عدم استيلائنا على تلك القلعة فساد يعم كل المسلمين. وكذا: إذا كان جماعة في سفينة، ولو طرحوا واحدًا، لنجوا، وإلا، غرقوا بجملتهم، فهاهنا لا يجوز؛ لأن ذلك ليس أمرًا كليا؛ فهذا محصل ما قاله الغزالي - رحمه الله-. ومذهب مالك - رحمه الله -: أن التمسك بالمصلحة المرسلة جائز. واحتج عليه بأن قال: كل حكمٍ يفرض: فإما أن يستلزم مصلحة خاليةً عن المفسدة، أو مفسدةً خالية عن المصلحة، أو يكون خاليًا عن المصلحة والمفسدة بالكلية، أو يكون مشتملاً عليهما معًا:

وهذا على ثلاثة أقسامٍ: لأنهما إما أن يكونا متعادلين، وإما أن تكون المصلحة راجحة، وإما أن تكون المفسدة راجحة، فهذه أقسام ستة: أحدها: أن يستلزم مصلحة خالية عن المفسدة، وهذا لابد وأن يكون مشروعًا؛ لأن المقصود من الشرائع رعاية المصالح. وثانيها: أن يستلزم مصلحة راجحة، وهذا أيضًا لابد وأن يكون مشروعًا؛ لأن ترك الخير الكثير، لأجل الشر القليل - شر كثير. وثالثها: أن يستوى الأمران، فهذا يكون عبثًا؛ فوجب ألا يشرع. ورابعها: أن يخلو عن الأمرين؛ وهذا أيضًا يكون عبثًا؛ فوجب ألا يكون مشروعًا. وخامسها: أن يكون مفسدةً خالصة؛ ولا شك أنها لا تكون مشروعة. وسادسها: أن يكون ما فيه من المفسدة راجحًا على ما فيه من المصلحة؛ وهو أيضًا غير مشروعٍ؛ لأن المفسدة الراجحة واجبة الدفع بالضرورة. وهذه الأحكام المذكورة في هذه الأقسام الستة: كالمعلوم بالضرورة أنها دين الأنبياء؛ وهي المقصود من وضع الشرائع؛ والكتاب والسنة دالان على أن الأمر كذلك تارةً بحسب التصريح، وأخرى بحسب الأحكام المشروعة؛ على وفق هذا الذي ذكرناه. غاية ما في الباب: أنا نجد واقعة داخلة تحت قسمٍ من هذه الأقسام، ولا يوجد لها في الشرع ما يشهد لها بحسب جنسها القريب؛ لكن لابد وأن يشهد الشرع بحسب جنسها البعيد على كونه خالص المصلحة، أو المفسدة، أو غالب المصلحة، أو المفسدة؛ فظهر أنه لا توجد مناسبة، إلا ويوجد في الشرع ما يشهد لها بالاعتبار: إما بحسب جنسه القريب، أو بحسب جنسه البعيد.

شرح القرافي: قوله: (ومن المصالح ما شهد الشرع ببطلانه

إذا ثبت هذا، وجب القطع بكونه حجة؛ للمعقول والمنقول: أما المعقول: فلأنا إذا قطعنا بأن المصلحة الغالبة على المفسدة - معتبرة قطعًا عند الشرع، ثم غلب على ظننا أن هذا الحكم مصلحته غالبة على مفسدته - تولد من هاتين المقدميتن ظن أن هذه المصلحة معتبرة شرعًا؛ والعمل بالظن واجب، لقوله - عليه الصلاة والسلام-: (أقضى بالظاهر). ولما ذكرنا أن ترجح الراجح على المرجوح من مقتضيات العقول؛ وهذا يقتضي القطع بكونه حجة. وأما المنقول: فالنص، والإجماع. أما النص: فقوله تعالى:} فاعتبروا {أمر بالمجاوزة، والاستدلال بكونه مصلحة على كونه مشروعًا مجاوزة؛ فوجب دخوله تحت النص. وأما الإجماع: فهو أن من تتبع أحوال مباحثات الصحابة، علم قطعًا أن هذه الشرائط التي يعتبرها فقهاء الزمان في تحرير الأقيسة، والشرائط المعتبرة في العلة، والأصل، والفرع - ما كانوا يلتفتون إليها؛ بل كانوا يراعون المصالح؛ لعلمهم بأن المقصد من الشرائع رعاية المصالح؛ فدل مجموع ما ذكرنا على جواز التمسك بالمصالح المرسلة. المسألة التاسعة في المصالح المرسلة قال القرافي: قوله: (ومن المصالح ما شهد الشرع ببطلانه مثاله: إفتاء

...............................................................

...................................................................

............................................................

الملك في إفساد صوم رمضان شهرين متتابعين؛ إذ لو أفتى بعتق رقبة، لسهل عليه ذلك): قلنا: هذا المثال قد يتخيل فيه أنه ليس مما أبطله الشرع؛ لقيام الفارق بين الملوك وغيرهم، وأن الكفارة إنما شرعت زجرًا، والملوك لا تنزجر بالإعتاق، فتعين ما هو زجر في حقهم. فهذا نوع من النظر المصلحي الذي لا تأباه القواعد. وأظهر منه انعقاد الإجماع على عدم منع زراعة الكرم، وإن أدى المنع لعدم الخمر، وعدم منع الاشتراك في المساكن، وإن أدى المنع لعدم الزنا المتوقع من قرب الدار، فسد ذريعة الخمر، والزني مصلحتان، وقد ألغيتا هاهنا إجماعًا. قوله: (لا نحكم بالمصلحة المرسلة في محل الحاجة، والتتمة؛ لأنه إثبات شرع بالرأي): قلنا: عليه سؤالان: أحدهما: المنع، بل ما ثبت ذلك إلا باجتهاد صحيح، وأن الاستقراء دل على أن الشرائع مصالح، وأن الرسل - عليهم السلام - إنما بعثوا بالمصالح ودرء المفاسد، فمن أثبت ضرورة، أو حاجة، أو تتمة بالمصالح، فقد اعتمد على قاعدة الشرائع، فلا يكون إثباتًا للشرع بالهوى. وثانيهما: أنه إن كان إثباتًا بالهوى، فينبغي أن يمنع ذلك في الضرورة بطريق.

الأولي؛ فلأن الضروريات أهم الديانات، فإذا منعنا اتباع الهوى فيما خف أمره أولى أن نمنعه فيما عظم أمره. قوله: (إن كان مفسدة خالصة، أو راجحة، فهو غير مشروع): قلنا: هذه العبارة عليها مناقشة؛ لأن المشروع أعم من المأمورات والمباحات؛ لأن المحرمات، والمكروهات مشروعة، بل ينبغي أن نقول: لا يكون مأذونًا في فعلها، بل مطلوبه العدم، فتكون مشروعة بالنهي، لا بالأمر والإذن. قوله: (استقراء أحوال الصحابة يقتضي أنهم كانوا إنما يعتبرون المصالح، ولا يعرجون على الأصل، والفرع، وهذه الشرائط): تقريره: أنهم - رضي الله عنهم - حددوا أمورًا بالمصالح المرسلة، وأجمعوا عليها: ومنها: تجديد ولاية العهد من الصديق لعمر رضي الله عنهما. ومنها: جمع القرآن، وتعيين الوقت الذي أخرجت فيه اليهود من جزيرة العرب؛ فإن النص إنما دل على أنه لا يبقي دينان في جزيرة العرب مطلقًا، أما تعين هذا الوقت لإخراجهم، فللمصلحة الموجبة لإبقائهم أولاً، وإخراجهم فيه. ومنها: تدوين القرآن في زمان عمر رضي الله عنه. ومنها: جعل أذانين للجمعة في زمن عثمان رضي الله عنه. ومنها: توسيع مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ الأوقاف المجاورة له، وضمها إليه، وإبطال الوقفية فيها، فعله - عثمان - رضي الله عنه - وجمع عمر - رضي الله عنه - الناس على أبي في قيام رمضان. ومنها: الشورى في أمور الإمامة، فعلها - عمر - رضي الله عنه - في

سنته، فمن اتفقوا عليه كان الخليفة، وهي غير البيعة والعقد. ومنها: قضي عمر - رضي الله عنه - بأن من اتجر من أهل (المدينة) بالزيت، والطعام إلى (المدينة) يخفف عنه، بخلاف ما يتجر فيه من غيرهما؛ توسعة على أهل (المدينة) في الطعام، وترغبة لأهل الذمة في حمله. ومنها: تقدير الجزية بأربعة دنانير، وأنواع من الطعام، والضيافة، وغيرها، قدره عمر رضي الله عنه. ومنها: أن عمر - رضي الله عنه - كان يأكل الشعير، ويفرض لعامله نصف شاة. وأمور كثيرة لا تعد ولا تحصى لم يكن في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيء منها، بل اعتمد الصحابة فيها على المصالح مطلقًا، سواء تقدم لها نظير أم لا؟. وهذا يفيد القطع باعتبار المصالح المرسلة مطلقًا كانت في مواطن الضرورات، أو الحاجات، او التتمات. (تنبيه) قال التبريزي: عند إمعان النظر ينكشف الصواب في هذا؛ فإن كل مصلحة ليست مطلوبة بكل طريق، ولا بواسطة كل حكم، فالمال المحفوظ يحفظ عن السارق بقطع يده، بجلد ظهره، بحبسه، بتغريمه. لا سبيل لتعيين شيء من ذلك بالرأي، ثم مقصود الحفظ لا يختلف بأن يكون الأخذ سرقة، أو مكابرة من غير إبطال الحرز، سواء له أو بانفراد أو أتلفه في الحرز، أو أخرجه، والحكم مختلف. فإذن الحكم الذي يثبته المجتهد لم يكن ورد الشرع به أصلاً، فلا سبيل إلى اختراعه، وإن ورد به الشرع.

.........................................

أنواع شهادة الحكم باعتبار المعنى. وأما صورة التترس، فحفظ الإسلام، وقهر الكفار - مقصود مطلقًا بأدلة قاطعة لا تحتاج إلى استشهاد بأصل، لكن عارض تحصيل هذا المقصود الإفضاء إلى سفك جم امرئ مسلم لم يذنب، وهذا أيضًا مقصود الاجتناب بأدلة لا شك فيها. وعند تعارض الأدلة: يجب العمل بالراجح المتعين بأدلة، سنها سيرة الصحابة - رضي الله عنهم - ثم له شواهد، كقطع اليد المتآكلة حفظًا للجملة؛ بل جواز الفصد، والحجامة؛ فإنه إفساد للبعض لإصلاح الكل. قال إمام الحرمين في (البرهان): (الاستدلال بهذه الطريقة أمر عسر، وهو معنى معتبر في الحكم مناسب له في مقتضى العقل من غير أصل متفق عليه مسند إليه هذا المناسب. وقد منعه القاضي، وطوائف من المتكلمين، والأصحاب، وبالغ مالك في أعمال المصالح حتى أفرط، وخرج عن المصالح المألوفة في الشرع، وأفضى به ذلك إلى استحلال القتل، وأخذ المال، وأخذ بمصالح يقتضيها غالب الظن من غير مستند إلى أصل. وجوز الشافعي ومعظم الحنفية اعتبار المصالح، وإن لم تستند إلى أصل متفق عليه، لكن بشرط عدم البعد، والإفراط، بل ما يشبه المصالح المعتبرة وفاقًا، فتصير المذاهب ثلاثة: المنع مطلقًا، بالاقتصار على المصالح التي لها أصول. والجواز مطلقًا، وإن بعدت المصالح، ما لم يعارضها كتاب أو سنة، أو إجماع.

ومذهب الشافعي: التوسط المتقدم، وهو اعتبار ما قرب من معاني الأصول. احتج القاضي أبو بكر للمنع، بأن قبح هذا الباب ليس له أصل، ويفضى إلى أن يبقي أهل النظرية بمنزلة الأنبياء - عليهم السلام - ولم ينسب ما يرونه إلى الشريعة، وهو ذريعة إلى إبطال أئمة الشريعة، وإلى أن يفعل كل واحد ما يرى. ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان، والمكان، وأصناف الخلق، فيبطل ما درج عليه الأولون؛ ولأنه لو جاز ذلك لكان العاقل ذوي الرآي العالم بوجوه السياسات إذا راجع المفتين في حادثة، وأعلموه أنها ليست منصوصة، ولا أصل لها يضاهيها - يجوز له حينئذ العمل بالأصوب عنده، واللائق بطريق الاستطلاح، وهذا صعب لا يستجرئ عليه متدين، ولو ساغ ما قاله مالك، لاتخذ الناس أيام كسرى أنوشروان في العدل والسياسة معتبرهم، وهذا ممنوع، وتجرؤ على الانحلال عن الدين بالكلية. وقد اعتمد ذلك في أقضية الصحابة - مع أنه لا يشق غبار فيها على أمور كان ينبغي له أن يتناولها: فبلغه أن رجلاً مد يده إلى لحية عمر - رضي الله عنه - ليزيل شيئًا منها، فخشى عمر - رضي الله عنه - أن ذلك قصد به الاستهانة للأئمة. فقال: إن لم ترني ما أحدثت، وإلا أبنت يدك. فجعل مالك هذا أصلاً في إباحة الدماء بالنظر المصلحى، وبلغه عن عمر - رضي الله عنه - أنه شاطر عماله، فجعل ذلك أصلاً في استباحة الأموال بالنظر المصلحي.

وكان ينبغي له أن يؤول الأول، بأن مقصود عمر التعزير بالقول، دون تحقق الفعل، ويؤول الثاني، بأنه اطلع من عماله على أنهم تناولوا من بيت المال ما يستحقونه، وعمر - رضي الله عنه - أجل من أن يخفى عليه ذلك، وهم لم يكونوا معصومين. قلت: أما قوله: (يصير العقلاء أنبياء)، إن أراد أنهم ورثتهم، فهو حق، وإن أراد أنهم يحكمون بالهوى، والعقل المحض، فلا نسلم أن الأنبياء كذلك، فلا معنى لهذا الكلام. وأما قوله: العالم بالسياسة إذا أخبره المفتون بعدم الأصول، فيكون له الأخذ برأيه. قلنا: لا يلزم ذلك؛ فإن مالكًا يشترط في المصلحة أهلية الاجتهاد؛ ليكون الناظر متكيفًا بأخلاق الشريعة، فينبو عقله وطبعه عما يخالفها، بخلاف العالم بالسياسات إذا كان جاهلاً بالأصول، فيكون بعيد الطبع عن أخلاق الشريعة، فيهجم على مخالفة أخلاق الشريعة من غير شعور. وأما ما نقله من إباحة الدماء، والأموال بما قاله، فالمالكية لا يساعدونه على صحة هذا النقل عن مالكٍ. وكذلك ما نقله عن الإمام في (البرهان) من أن مالكًا يجيز قتل ثلث الأمة لصلاح الثلثين. المالكية ينكرون ذلك إنكارًا شديدًا، ولم يوجد ذلك في كتبهم، إنما هو في كتب المخالف لهم، ينقله عنهم، وهم لم يجدوه أصلاً. وأما أخذ الأموال، ومصادرة العمال، فقد ذكر هذه المسألة أبو الوليد الطرطوشي، في كتابه ((سراج الملوك)، وقال: (إنما شاطر عمر عماله؛ لأنهم كانوا يتجرون بجاه العمل، والجاه للمسلمين)، فصار أصل المال

لمالكيه، وجاه المسلمين، كالعامل في القراض، فأشبه متجرهم القراض، فجعل قراضا، فكان النصف للمسلمين، والنصف لرب المال، وهذا مدرك حسن ليس فيه اتهام الصحابة - رضوان الله عليهم - بأخذهم مالا يستحقونه من بيت المال، ولم يخونوا، ولم يخرج مالك عن هذا. ولا يوجد لمالك مصادرة أحد؛ لأنه متهم أصلاً. وكذلك جعل الطرطوشي قول عمر لابنيه عبد الله، وعبيد الله، لما دفع لهما أبو موسى الأشعري من بيت مال (العراق) مالاً، قال: اتجرا فيه، وأديا رأس المال لعمر، وخذوا فائدته، فقال عمر: (أكل الجيش فعل معه ذلك)؟، فقال: لا، فقال: ابنا أمير المؤمنين أديا المال وربحه، فقال عبيد الله: يا أمير المؤمنين لو هلك المال ضمناه. فقال: أديا المال وربحه. وكثرت المراجعة بينهما، فقال له: عبد الرحمن بن عوفٍ: (اجعله قراضًا يا أمير المؤمنين، فجعله قراضًا)، فكانت هذه الواقعة أصلاً للقراض عند العلماء، حتى إنه لا يعلم في القراض كتاب، ولا سنة تدل على مشروعية القراض غير هذا الموضع. غير أن الإجماع انعقد على جوازه بناء على هذه الواقع'، أو غيرها؟، الله أعلم بذلك، حكاه ابن حزم في كتابه (الإجماع)؟ وكيف يجعل عمر، أو جميع الصحابة الذين كانوا عنده ما كان قرضًا مضمونًا قراضًا غير مضمون؟ وكيف يحل أخذ نصف ربح مال القراض؟. قال الطرطوشي: جعلوه قراضًا؛ لأن ولدى أمير المؤمنين إنما تمكنا من ذلك بجاه أبيهما الذي هو جاه المسلمين، فكان للمسلمين النصف - كما تقدم في العمال - حرفًا بحرف، وليس في هذا خروج عن القواعد، ولم يبح مالك دمًا ولا مالاً بغير دليل شرعي.

(سؤال) قال بعض علماء العصر: إذا قلتم بالمصلحة المرسلة، فكيف تصنعون في العمومات، والأدلة؟

وأما قوله: (لو صح قول مالك - اتبع الناس أيام كسرى أنوشروان) فالجواب عنه كالجواب عن العامل العالم بالسياسات الذي تقدم أن سياسات الفرس، وإن كانوا أهل عدل، وفطنه، ويقظة، وأخلاق كريمة، غير أنهم لم يتكيفوا بقواعد صاحب الشرع الذي هو العالم بالأسرار، والخفيات، وما لا يهتدي إليه العقل، فلم يكونوا يتصرفون إلا بالعقل الصرف، سواء أصابوا قوانين الشريعة، أو أخطئوها. ومالك إنما يعتبر النظر من المتكيف بقواعد الشرع حتى يكون ظنه، ونظره ينفر عن مخالفتها، ويميل لموافقتها. فهذا فرق عظيم، وجواب ساد لا مدفع له، بل هو دافع للتشنيع بالكلية. (سؤال) قال بعض علماء العصر: إذا قلتم بالمصلحة المرسلة، فكيف تصنعون في العمومات، والأدلة؟ فإنها متعارضة نفيًا، وإثباتًا؛ فإنه ما من مصلحة في إقدام، أو إحجام إلا ويجد عامًا يردها مثل: قوله تعالى:} وما جعل عليكم في الدين من حرج {،} خلق لكم ما في الأرض {،} يريد الله بكم اليسر {. ونظائره كثيرة، فأي عموم تنفون مخالفته؟ وما ضابط ذلك؟ وإذا لاحظتم الظواهر المانعة من الإقدام، والإحجام لم تبق مصلحة مرسلة إلا ولها معارض من النصوص، وأنتم تشترطون في المصلحة السلامة عن معارضة الأدلة؟. جوابه: أنا نعتبر من النصوص الأصول، ما هو خاص بذلك الباب في نوعه دون ما أهو أعم منه، فإذا كانت المصلحة في الإجارات، اعتبرنا نصوص الإجارات، أو في الجنايات اعتبرنا نصوص الجنايات.

(سؤال) ما الفرق بين المصلحة المرسلة، والاستحسان

أما نص يشمل ذلك الباب، وغيره، فلا عبرة به؛ لأن هذه المصلحة أخص منها، والأخص مقدم على الأعم - لاسيما - إذا كان النص يشمل جميع الشريعة، فقد كثر تخصيصه، فضعف التمسك به. (سؤال) ما الفرق بين المصلحة المرسلة، والاستحسان، فقد جعلتموهما مدركين مع أنه لا معنى للاستحسان إلا مصلحة خالصة، أو راجحة تقع في نفس الناظر؟ جوابه: الاستحسان أخص؛ لأنا نشترط فيه أن يكون له معارض مرجوح، ويرجح الاستحسان عليه، وكذلك قلنا فيه: هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد لوجه أقوى منه. والمصلحة المرسلة لا يشترط فيها معارض؛ بل قد يقع تسليمه عن المعارض؛ لأن المعارض - هاهنا - يريد به الخاص بذلك الباب، وهو متعين في - الاستحسان دون المصلحة المرسلة. (تنبيه) يحكى أن المصلحة المرسلة من خصائص مذهب مالك. وليس كذلك، بل المذاهب كلها مشتركة فيها؛ فإنهم يعلقون، ويفرقون في صور النقوض، وغيرها، ولا يطالبون أنفسهم بأصل يشهد لذلك الفارق بالاعتبار؛ بل يعتمدون على مجرد المناسبة، وهذا هو عين المصلحة المرسلة. ثم إن الشافعية يدعون أنهم أبعد الناس عنها، وأقربهم إلى مراعاة الأصول، والنصوص، وقد أخذوا من المصلحة المرسلة أو في نصيب، وحظ، حتى لم يجاوز فيها.

هذا إمام الحرمين: قيم مذهبهم، وصاحب (نهاية مطلبهم) , واضع كتابه (الغياثي) ضمنه أمورًا من المصالح المرسلة التي لم نجد لها في الشرع أصلاً يشهد بخصوصها، بل بجنسها، وهذا هو المصلحة المرسلة. فمن ذلك: أنه قال: إذا ضاق بيت المال يجوز أن يجعل على الزرع، والثمار مال دار مستقر، يجبي على الدوام، يستعين به الإمام على حماية الإسلام من غير أن يتوسع فيه، ببنائه القصور، والزخارف، والشهوات. وهذا ليس له أصل في الشرع؛ بل النصوص دالة على نفيه، كقوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا عن طيب نفسٍ منه)، (ولا ضرر، ولا ضرار)، وغير ذلك. وقال عليه السلام: (ليس في المال حق سوى الزكاة).

وقد ترك هذه الأصول كلها؛ لأجل هذه المناسبة التي لم يتقدم في الإسلام اعتبارها. وقال: (قد يستعين الإمام بمال أهل الفسوق والعدوان في بعض الأحوال؛ ليكون ذلك نفعًا للمسلمين، وردعًا للفاسقين إذا دعت الحاجة إليه). وقال: (يجوز إقامة إمام ليس بقرشي عند تعذر القرشي، وليس في هذا نص، بل هو على خلاف قوله عليه السلام: (الأئمة من قريشٍ). وقال: (وإذا ولينا غير قرشي، ثم وجدنا قرشيا، أو نشأ قرشي

صالح، فإن أمكن عزل الأول عزلناه؛ ليعطي الأمر أهله، وإن تعذر لامتناعه تركناه إمامًا، وأعرضنا عن القرشي، وينفذ من إحكامه ما ينفذ من أحكام القرشي. وقال: وكذلك إذا تعذر المجتهد أقيم من ليس بمجتهد، وينفذ من أحكامه ما ينفذه من أحكام المجتهدين. قال: وإذا لم نجد إلا فاسقًا متبعًا للشهوات، وأنواع الفسوق، واللذات، فإن أمنا عائلته على الإسلام، وليناه الإمامة الكبرى، وإلا فلا، وإذا وليناه مكناه من شهوته؛ لأن مفسدة بقاء المسلمين بغير راعٍ أعظم من مفسدة شهوته. وإذا تعارض قرشي غير كافٍ، وغير قرشي كافٍ، قدم الكافي، ثم فرع في (الغياثي) على هذا الباب أشياء كثيرة جدا، لم توجد للمالكية، ولو سئلوا عنها ما جسروا على كثير منها. وكذلك فعل المارودي في (الأحكام السلطانية) وكف ولاية المظالم، وجعل ولايتها مخالفة لولاية القضاء، والإمامة، والوزارة، والحسبة، ونوع ولاية الوزارة إلى أنواع: وزارة التفويض، وزارة التنفيذ، وجعل لكل ولاية شروطًا تخالف الأخرى، وأباح في ولاية المظالم ما لم يبحه للقضاة، والأئمة، من الأخذ بالتهم، والتعزير بالعقوبات، عند نظر الأمارات، وتوسع في هذا الباب وسعات كبيرة لم يوجد للمالكية منها إلا اليسير جدا. وكل هذه التفاريع، غير أنها مصلحة شهد الشرع باعتبار جنسها فقط، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك. فلو قيل للشافعية: هم أهل المصالح المرسلة، دون غيرهم، لكان ذلك هو الصواب، والإنصاف. ************************

المسألة العاشرة الاستدلال بعدم ما يدل على الحكم؛ على عدم الحكم - طريقة عول عليها بعض الفقهاء

المسألة العاشرة الاستدلال بعدم ما يدل على الحكم؛ على عدم الحكم - طريقة عول عليها بعض الفقهاء. وتحريره: أن الحكم الشرعي لابد له من دليل، والدليل إما نص، أو، إجماع أو قياس، ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة؛ فوجب ألا يثبت الحكم. إنما قلنا: (إن الحكم الشرعي لابد له من دليل) لأن الله - تعالى - لو أمرنا بشيءٍ، ولم يضع عليه دليلا، لكان ذلك تكليف ما لا يطاق؛ وإنه غير جائزٍ. وإنما قلنا: (إن الدليل: إما نص، أو إجماع، أو قياس) لثلاثة أوجه: أحدها: قصة معاذ؛ فإنها تدل على انحصار الأدلة في الكتاب، والسنة، والقياس، زدنا فيه الإجماع بدليلٍ منفصلٍ؛ فيبقي الباقي على الأصل. وثانيها: أن الأدلة الدالة على الأحكام كانت معدومة في الأزل، وقد بينا أن الأصل في كل أصلٍ تحقق بقاؤه على ما كان، فهذا الدليل يقتضي ألا يوجد شيء من أدلة الأحكام، ترك العمل به في النص، والإجماع، والقياس؛ فوجب أن يبقي فيما عدا هذه الثلاثة على الأصل. وثالثها: أنه لو حصل نوع آخر من الأدلة، لكان ذلك من الأمور العظام؛ لأن ما يجب الرجوع إليه في الشرع، نفيًا، وإثباتًا في الوقائع الحاضرة، والمستقبلة - لا شك أنه من الأمور العظام، فلو كان ذلك موجودًا، لوجب اشتهاره، ولو كان كذلك، لعرفناه بعد البحث والطلب؛ فلما لم نجد شيئًا آخر، سوى هذه الثلاثة - علمنا الانحصار، وإنما قلنا: (إنه لم يوجد واحًد من هذه الثلاثة) لما سنبينه.

أما النص؛ فلوجهين: أحدهما: أنا اجتهدنا في الطلب، فما وجدنا، وهذا القدر عذر في حق المجتهد بالإجماع؛ فوجب أن يكون عذرًا في حق المناظر؛ لأنه لا معنى للمناظرة إلا بيان ما لأجله قال بالحكم. وثانيهما: أنه لو وجد في المسألة نص، لعرفه المجتهدون ظاهرًا، ولو عرفوه، لما حكموا على خلافه ظاهرًا؛ فحيث حكموا على خلافه، علمنا عدمه. أما الإجماع: فهو منفي؛ لأن المسألة خلافية، ولا إجماع مع الخلاف. وأما القياس: فمنفي لوجهين: أحدهما: أن القياس لابد فيه من أصلٍ، والأصل هو الصورة الفلانية، والفارق الفلاني موجود، ومع الفارق لا يمكن القياس؛ أقصى ما في الباب أن يقال: لم لا يجوز القياس على صورةٍ أخرى؟ ز فنقول: لأنا بعد الطلب لم نجد شيئًا يمكن القياس عليه، إلا هذه الصورة، وهذا القدر عذر في حق المجتهد؛ فوجب أن يكون عذرًا في حق المناظر؛ على ما بيناه. وثانيهما: أن سائر الأصول كانت معدومة؛ فوجب بقاؤها، على العدم؛ تمسكًا بالاستصحاب؛ فهذا تمام تقرير هذه الدلالة. واعلم أن كل مقدمةٍ لا يمكن تمشية الدليل إلا بها، فلو كانت تلك المقدمة مستقلة بالإنتاج، كان التمسك بها في أول الأمر أولى. ورأينا أن هذه الدلالة لا يمكن تمشيتها إلا بإحدى مقدمتين: إحداهما: أن عدم الوجدان بعد الطلب يدل على عدم الوجود.

وثانيهما: أن الأمر الفلاني كان معدومًا؛ فيحصل الان ظن بقائه على العدم. وهاتان المقدمتان، لو صحتا، لكانتا مستقلتين بإنتاج المطلوب؛ فإنه يقال في أول المسألة: (الحكم الشرعي لابد له من دليلٍ، ولم يوجد الدليل؛ لأني اجتهدت في الطلب، وما وجدته؛ وذلك يدل على عدم الوجود) أو يقال: (ولم يوجد الدليل؛ لأن هذه الدلائل كانت معدومة في الأزل، والأصل في كل معدومٍ بقاؤه على عدمه). وإذا ثبت هذا، فقد حصل ظن عدم الدليل؛ فيتولد منه القطع بأنه لو وجد الحكم، لوجد الدليل، مع ظن أنه لم يوجد ظن عدم الحكم؛ والعمل بالظن واجب. فتقرير هذه الدلالة على هذا الوجه أقل مقدماتٍ، وأشد تلخيصا؛ فكان إيرادها على هذا الوجه أولى. فإن قيل: قوله: (الدليل: إما نص، أو إجماع، أو قياس: قلنا: هذا لا يتم على قولك؛ لأنك ذكرت هذه العبارة دليلاً في هذه المسألة الشرعية؛ وإنها ليست بنص، ولا إجماعٍ، ولا قياسٍ؛ وعند هذا: يلزم أحد محذورين؛ وهو: أنه إما ألا يكون هذا الكلام دليلاً في المسألة؛ حتى يتم الحصر، أو يبطل الحصر؛ حتى يتم هذا دليلاً في المسألة: فإن قلت: الكلام عليه من وجهين: أحدهما: أني أقول: (دليل الحكم الشرعي: إما نص، أو إجماع، أو قياس، ومدلول دليلي انتفاء الصحة؛ فإن هذا الانتفاء كان حاصلاً قبل الشرع،

فالإخبار عنه يكون إخبارًا عن أمرٍ لا تتوقف معرفته على الشرع؛ فلا يكون شرعيًا. وثانيهما: أني لا أنفي الصحة إلا بالإجماع؛ لأن الإجماع منعقد على أنه متى لم يوجد شيء من هذه الأشياء، وجب نفي الحكم؛ فيكون الدليل في الحقيقة هو الإجماع): قلت: أما الجواب عن الأول: فهو أنه لما ثبت انتفاء الصحة، لزم ثبوت البطلان، ضرورة تعذر القول بالوقف؛ فيكون كلامك دليلا على البطلان بواسطة دلالته على انتفاء الصحة؛ فيكون دليلاً على حكمٍ شرعي؛ فيعود المحذور المذكور. وعن الثاني: أن الإجماع لم يدل على عدم الصحة ابتداء؛ بل دل على أنه مهما عدم النص، والإجماع، والقياس، لزم عدم الحكم؛ فيكون الإجماع دليلا على أن عدم هذه الثلاثة دليل على عدم الحكم، وعدم هذه الثلاثة مغاير لهذه الثلاثة؛ فيعود الكلام المتقدم. السؤال الثاني: أنك جعلت عدم الثبوت دليل العدم؛ فهل تجعل عدم دليل العدم دليل الثبوت، أم لا؟!. فإن لم يقل به، فقد ناقض؛ لأن نسبة دليل الثبوت إلى الثبوت؛ كنسبة دليل العدم إلى العدم!! فإن لزم من عدم دليل الثبوت عدم الثبوت - لزم من عدم دليل العدم عدم العدم. وإن لم يلزم هاهنا، لم يلزم هناك أيضًا؛ إذ لا فرق بينهما في العقل، وإن اعترف بذلك، لزم المحذور من وجهين:

أحدهما: أن عدم دليل العدم دليل على عدم العدم، وعدم العدم وجود؛ فعدم دليل العدم دليل على الوجود؛ فقد حصل سوى النص، والإجماع، والقياس - دليل آخر على الوجود؛ فيبطل حصرهم. والثاني وهو: أنه إذا كان عدم دليل العدم دليلاً على الوجود؛ لم يلزم انتفاء الوجود إلا ببيان عدم دليل العدم، وعدم العدم وجود: فإذن: لا يلزم انتفاء الوجود إلا بوجود دليل العدم؛ لكنك لو ذكرت دليل العدم، لاستغنيت عما ذكرت من الدلالة. السؤال الثالث: أنك لو اقتصرت في نفي النص على عدم الوجدان، فهذا الطريق إن صح، وجب الاكتفاء به في نفي القياس؛ لأنه حاصل فيه، وإن لم يصح، لم يجز التعويل عليه في هذا المقام. فإن قلت: (إنما تعرضت لنفي قياسٍ معينٍ؛ لأن المخالف يعتقده قياسًا ودليلاً، وليس في النصوص ما يعتقده دليلاً): قلت: المخالف كما يعتقد في قياسٍ كونه حجة له، فكذلك قد يعتقد في بعض النصوص كونه حجةً له؛ فكان يلزم التعرض للأمرين. السؤال الرابع: لم قلت: إنه لما وجد الفرق بين الصورتين، تعذر القياس، وذلك لأن الفرق إنما يكون قادحا، لو لم يجز تعليل الحكم الواحد بعلتين، فأما إذا كان جائزًا، احتمل كون الحكم في الأصل معللاً بالوصف الذي تعدي إلى الفرع، وبالوصف الذي لم يتعد غليه معًا؛ فلا يكون ذلك قادحًا في القياس. السؤال الخامس: أن هذا النظم لا ينفك عن القلب؛ فإن المستدل إذا قال مثلاً في بيع الغائب: (لا نص، ولا إجماع، ولا قياس في صحته؛ فوجب ألا تثبت صحته):

فيقال: وتحريم أخذ المبيع من البائع بعد جريان هذا البيع على المشتري، أو تحريم أخذ الثمن من المشتري على البائع - حكم شرعي؛ فلا يثبت إلا بنص، أو إجماعٍ، أو قياسٍ، ولم يوجد ذلك؛ فوجب ألا يثبت): والجواب: هذه الدلالة لا تتم إلا مع التمسك بأن الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان، وأنه إنما يجوز العدول عن هذا الأصل، إذا وجد دليل يوجب العدول عنه، وذلك الدليل لا يكون إلا نصا، أو إجماعًا، أو قياسًا. وعلى هذا: يسقط السؤال؛ وذلك لأنا نقول مثلاً في مسألة بيع الغائب: 0لا شك أن قبل جريان هذا البيع، كان المبيع ملكًا للبائع، والأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان، إلا أنا نترك التمسك بهذا الأصل عند وجود نص، أو إجماع، أو قياس يدل على خلافه، ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة؛ فلم يوجد ما يوجب العدول عن التمسك بذلك الأصل، وإذا كان كذلك، وجب الحكم ببقائه على ما كان. وحاصل الكلام: أني إنما ادعيت الحصر فيما يدل على تغيير الحكم عن مقتضى الأصل، والحكم الذي أنتجته من هذا الدليل ليس من باب تغير الحكم، بل هو من باب إبقاء ما كان على ما كان؛ فلم يكن إدعاء الحصر في تلك الصورة قادحًا في صحة هذه الدلالة. وإذا عرفت هذا، فالعبارة الصحيحة عن هذا الدليل: أن يقال: حكم الشرع إبقاء ما كان على ما كان، إلا إذا وجدت دلالة شرعية مغيرة، والدلالة المغيرة: إما نص، أو إجماع، أو قياس، ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة، فلم توجد الدلالة المغيرة؛ فوجب بقاؤه على ما كان.

فإن قلت: (التمسك باستصحاب الأصل كافٍ فأي حاجةٍ إلى هذا التطويل؟): قلت: المناظر تلو المجتهد، ومعلوم أن المجتهد لا يجوز له التمسك باستصحاب حكم الأصل، إلا إذا بحث واجتهد في طلب هذه الأدلة المغيرة. فإذا لم يجد في الواقعة شيئًا منها، حل له فيما بينه وبين الله تعالى: أن يحكم بمقتضى الاستصحاب، فأما قبل البحث عن وجود هذه الدلائل المغيرة، فلا يجوز له التمسك بالاستصحاب أصلاً، فلما ثبت أن الأمر في المجتهد كذلك، وجب أن يكون في حق المناظر كذلك؛ لأنه لا معنى للمناظرة المشروعة إلا بيان وجه الاجتهاد. وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو: أن الاستدلال بعدم المثبت أولى من الاستدلال بعدم النافي على الوجود؛ وبيانه من وجوهٍ: أحدها: أنا لو استدللنا بعدم المثبت على العدم، لزمنا عدم مالا نهاية له؛ وذلك غير ممتنعٍ، أما لو استدللنا بعدم النافي على الوجود، لزمنا إثبات ما لا نهاية له؛ وهو محال. وثانيها: أنا نستدل بعدم ظهور المعجز على يد الإنسان، على أنه ليس بنبي، ولا نستدل بعدم ما يدل على أنه ليس برسولٍ، على كونه رسولاً. وثالثها: أنه لا يقال: (إن فلانًا ما نهاني عن التصرف في ماله؛ فأكون مأذونًا في التصرف) ويقال: (إنه لم يأذن لي في التصرف في ماله؛ فأكون ممنوعًا). ورابعها: أن دليل كل شيءٍ على حسب ما يليق به؛ فدليل العدم العدم، ودليل الوجود الوجود.

شرح القرافي: قوله: (قصة معاذ تدل على انحصار الأدلة في الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس)

سلمنا أنه ليس أحد الطريقين أولى من الآخر؛ لكن ذلك يقتضي أن يتعارضا، ويتساقطا؛ وحينئذٍ: يبقي مقتضى الأصل، وهو بقاء ما كان على ما كان. وأما السؤال الثالث: فليس سؤالاً علميا، بل هو شيء يتعلق بالوضع، والاصطلاح؛ فلا يليق الخوض في أمثاله في الكتب العلمية. وأما السؤال الرابع: فجوابه: أنا بينا في هذا الكتاب: أنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين، وأن سؤال الفرق سؤال قادح. وأما السؤال الخامس: فساقط؛ لأنا لم نقل: إنه يلزم من عدم النص، والإجماع، والقياس - بقاء ما كان على ما كان، إلا بعد أن بينا أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان، فمعارضة الخصم إنما تلزم لو ثبت أن الأصل في الشيء ألا يبقي على ما كان؛ ولما كان ذلك باطلاً، كانت معارضته باطلة. المسألة العاشرة الاستدلال بعدم الدليل على عدم الحكم قال القرافي: قوله: (قصة معاذ تدل على انحصار الأدلة في الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس): قلنا: قوله: (اجتهد برأيي) أعم من القياس، فلا يثبت الحصر؛ لأن الاستدلال بالمصلحة المرسلة، وبعدم اللازم على عدم الملزوم، وبوجود الملزوم على وجود اللازم - ليس بقياس، وهو من الاجتهاد. وهذا هو السؤال على الوجه الثالث: أنه لو كان دليل آخر لاشتهر، فنقول: قد اشتهر، وهو هذا ونحوه.

قوله: (لو دل دليل انتفاء الصحة): تقريره: أن مدلول هذا الدليل عدم صحة ما يصلح أن يكون دليلاً شرعيًا، وعدم الصحة من العدميات الأزلية. فيستصحب قوله: (كلامك دليل على البطلان بواسطة دلالته على انتفاء الصحة، فيكون دليلاً على حكم شرعي، فيعود المحذور): تقريره: أن النافي للصحة يستلزم البطلان والمنع، فيكون المعنى: أن الشرع يمنع من الاستدلال بغير هذه الثلاثة، والمنع حكم شرعي، استنفدته من هذه الدلالة المغايرة للنص، والإجماع، والقياس، فبطل الحصر به. ***********************

المسألة الحادية عشرة في تقرير وجوه من الأدلة التي يمكن التمسك بها في المسائل الفقهية

المسألة الحادية عشرة في تقرير وجوهٍ من الأدلة التي يمكن التمسك بها في المسائل الفقهية اعلم أن الحكم الملتزم إثباته: إما أن يكون عدميا، أو وجوديا: فإن كان عدميا أمكن أن يذكر فيه عبارات: إحداها: أن يقال: هذا الحكم كان معدومًا، وذلك يقتضي ظن بقائه على العدم؛ والعمل بالظن واجب. إنما قلنا: (إنه كان معدومًا) لأن المحكوم عليه كان معدومًا في الأزل؛ فوجب ألا يكون الحكم ثابتًا في الأزل؛ لأن ثبوت الحكم من غير ثبوت المحكوم عليه عبث وسفه؛ وهو غير جائزٍ على الله تعالى. فإن قلت: (فهذا يقتضي أن يكون كلام الله تعالى حادثًا): قلت: لا نسلم؛ لأن المراد من الحكم كون الشخص مقولاً له: (إن لم تفعل هذا الفعل، في هذه الساعة، عاقبتك) ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المعنى لم يكن متحققًا في الأزل، وأما بيان أنه لما كان معدومًا، حصل ظن تحقق ذلك العدم في كل زمانٍ - فلما بيناه في مسألة الاستصحاب. وثانيتها: أنه لو ثبت الحكم، لثبت بدلالةٍ أو أمارةٍ. والأول: باطل؛ لأن الأمة مجمعة على أنه ليس في المسائل الشرعية دلالة قاطعة.

والثاني أيضًا: باطل؛ لن اتباع الأمارة ابتاع الظن؛ وهو غير جائزٍ؛ لقوله تعالى:} إن الظن لا يغني من الحق شيئًا {وقول على الله بما لا نعلم؛ وهو غير جائزٍ؛ لقوله تعالى:} وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون {. وثالثتها: لو ثبت الحكم، لثبت: إما لمصلحةٍ، أو لا لمصلحةٍ: والثاني: عبث؛ والعبث غير جائزٍ على الحكيم. والأول لا يخلو: إما أن تكون المصلحة عائدةً إلى الله - تعالى - أو إلى العبد: والأول: محال؛ لامتناع النفع والضرر عليه تعالى. والثاني أيضًا: محال؛ لأن المصلحة لا معنى لها إلا اللذة، أو ما يكون وسيلة إليها، والمفسدة لا معنى لها إلا الألم، أو ما يكون وسيلة إليه، ولا لذة إلا والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداًء؛ فيكون توسط شرع الحكم عبثًا؛ وكذا القول في المفسدة. فهذا الدليل ينفي شرع الحكم، ترك العمل به فيما توافقنا على وقوعه؛ فبقي في المختلف فيه على وفق الأصل. ورابعتها: أن هذه الصورة تفارق الصورة الفلانية التي ثبت الحكم فيها في وصف مناسب؛ فوجب أن تفارقها في هذا الحكم: بيان المفارقة في الوصف المناسب هو أنه وجد في الأصل ذلك الوصف الفلاني، وأنه مناسب ذلك، ويبين ذلك الحكم بطريقه. وبيان أن هذا القدر يمنع من المشاركة في الحكم: وذلك لأن هاتين الصورتين

لو اشتركتا في الحكم، لكان: إما أن يكون الحكم الثابت في الصورتين معللاً بوصفٍ مشتركٍ بين الصورتين، أو لا يكون كذلك. فإن كان الأول: لزم إلغاء الوصف المناسب المعتبر الذي اختص الأصل به؛ وإنه غير جائزٍ. وإن كان الثاني: لزم تعليل الحكمين المتماثلين بعلتين مختلفتين؛ وهذا غير جائز؛ لأن إسناد أحد دينك الحكمين إلى علته: إن كان لذاته، أو للوازم ذاته، لزم في الحكم الذي يماثله إسناده أيضًا إلى تلك الماهية، لا إلى ماهية أخرى - وإن لم يكن لذاته، ولا للوازم ذاته، كان الحكم في نفسه غنيًا عن تلك العلة، والعني عن الشيء لا يكون مستندًا إليه؛ فوجب في ذلك الحكم ألا يكون مستندًا إلى تلك العلة، وقد فرضناه مستندًا إليها؛ هذا خلف. وخامستها: أن الحكم لو ثبت في هذه الصورة، لثبت في الصورة الفلانية؛ لأن بتقدير ثبوته في هذه الصورة كان ذلك لدفع حاجة المكلف، وتحصيل مصلحته؛ وهذا المعنى قائم هناك؛ فيلزم ثبوت الحكم هناك، فلما لم يوجد هناك، وجب ألا يوجد هاهنا. وسادستها: أن هذا الحكم كان منتفيًا من الأزل إلى الأبد؛ فكان منتفيًا في أوقات مقدرةٍ غير متناهيةٍ؛ فوجب أن يحصل ظن الانتفاء في هذه الأوقات؛ لأن الأوقات الغير متناهيةٍ أكثر من الأوقات المتناهية، والكثرة مظنة الظن؛ فوجب أن يكون الحكم في هذه الأوقات المتناهية مثل الحكم في تلك الأوقات الغير متناهية؛ وذلك يوجب النفي. وسابعتها: شرع هذا الحكم يفضي إلى الضرر، والضرر منفي بالنص؛ وإنما

قلنا: (إنه يفضي إلى الضرر) لأنه إن فعل خلافه، استحق العقاب، وإن لم يفعل؛ بقى في صورة تارك المراد؛ فثبت كونه ضررًا؛ فوجب ألا يكون مشروعًا؛ لقوله (- صلى الله عليه وسلم -): (لا ضرر، ولا ضرار). وثامنتها: لو ثبت هذا الحكم، لثبت بدليل؛ وإلا كان ذلك تكليف ما لا يطاق؛ وإنه غير جائزٍ، لكنه لا دليل؛ لأن ذلك الدليل إما أن يكون هو الله تعالى، أو غيره: والأول: باطل؛ وإلا لزم من قدم الله تعالى قدم الحكم؛ وإلا لزم النقيض؛ وهو خلاف الدليل، لكن قدم الحكم عبث، ولا جائز أن يكون غير الله تعالى؛ لأن ذلك الغير: إن كان قديمًا، عاد الكلام، وإن كان محدثًا، فقد كان معدومًا، والأصل بقاؤه على العدم. وأيضًا: فلأن شرط كونه دليلاً أن توجد ذاته، وأن يوجد له وصف كونه دليلاً؛ فإذن: كونه دليلاً مشروط بحدوث هذين الأمرين، ويكفي في ألا يكون دليلاً عدم أحدهما، والمتوقف على أمرين مرجوح بالنسبة إلى ما يتوقف على أمرٍ واحد؛ فإذن: كونه دليلاً مرجوح في الظن؛ فوجب ألا يكون دليلاً، وأما إن كان الحكم وجوديا فللطرق الكلية فيه وجوه: أحدها: أن المجتهد الفلاني قال به؛ فوجب أن يكون حقا؛ لقوله (- صلى الله عليه وسلم -): (ظن المؤمن لا يخطئ). ترك العمل بهذا في ظن العوام؛ لأن ظنونهم لا تستند إلى وجهٍ صحيحٍ؛ فيبقي معمولاً به في حق ظن المجتهد. فإن قلت: (فقول المجتهد المثبت معارض بقول المجتهد النافي!!):

قلت: قول المثبت أولى؛ لأن قول المثبت ناقل عن حكم العقل، وقد ذكرنا في باب التراجيح: أن الناقل أولى. وأيضًا: فالنافي يحتمل أنه إنما نفي؛ لأنه وجد له ظن النفي، ويحتمل أنه إنما نفي؛ لأنه لم يوجد له ظن الثبوت، وعدم وجود الظن لا يكون ظنا بخلاف المثبت؛ فإنه لا يمكنه الإثبات إلا عند وجود الثبوت؛ فإنه لو لم يوجد له هذا الظن؛ لكان مكلفًا بالبقاء على حكم العقل، وإذا كان كذلك، ثبت أن قول المثبت أولى من قول النافي. وثانيها: أن نقول: ثبت الحكم في الصورة الفلانية؛ فيجب ثبوته هاهنا. وبيانه بالآية، والخبر، والأثر، والمعقول: أما الآية: فمن وجهين: أحدهما: قوله تعالى:} فاعتبروا {، دلت الآية على الأمر بالمجاوزة، والاستدلال بثبوت الحكم في محل الوفاق، على ثبوته في محل الخلاف - مجاوزة؛ فكان داخلاً تحت الأمر. وثانيهما: قوله تعالى:} إن الله يأمر بالعدل والإحسان {والعدل هو: التسوية، فالله تعالى أمر بالتسوية، وهذا تسوية؛ فيكون داخلاً تحت الأمر. وأما الخبر: فهو أنه - عليه الصلاة والسلام-: (شبه القبلة بالمضمضة) في حكم شرعي؛ فوجب علينا أيضًا تشبيه الحكم بالحكم؛ لقوله تعالى:} فاتبعوه {وهذا الذي عملناه تشبيه صورةٍ بصورةٍ؛ فكان داخلاً تحت الأمر.

وأما الأثر: فهو أن أبا بكر - رضي الله عنه - (شبه العهد بالعقد) وأن عمر - رضي الله عنه-: أمر أبا موسى بالقياس؛ في قوله: (قس الأمور برأيك) وإذا ثبت أنهما فعلا ذلك، وجب علينا مثله؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام-: (اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكرٍ وعمر). وأما المعقول: فهو: أن نعين محل الوفاق؛ فنقول: الحكم هناك إنما ثبت؛ لحاجته ومصلحته، وذلك المعني قائم هاهنا؛ فورود الشرع بالحكم هناك، يكون ورودًا به هاهنا. وثالثها: أجمعنا على أن حكمًا ما في علم الله تعالى ثبت، ولا شك أن ذلك الحكم إنما ثبت لمصلحةٍ، وهذا الحكم بتقدير الثبوت محصل لنوع مصحلةٍ؛ فلابد وأن يشتركا في قدرٍ مشتركٍ؛ فيعلل بالقدر المشترك؛ وذلك يقتضي ثبوت الحكم. ورابعها: أن هذا الحكم بتقدير الثبوت يتضمن تحصيل مصلحة المكلف، ودفع حاجته؛ فوجب أن يكون مشروعًا؛ لأن جهة كونه مصلحة جهة الدعاء إلى الشرعية، فلو خرجت عن الدعاء إلى الشرعية، لكان ذلك الخروج لمعارض؛ والأصل عدم المعارض. وخامسها: أن أحد المجتهدين قال بثبوت الحكم، والآخر قال بعدمه: فالثبوت أولى؛ لأن المسلمين أجمعوا على أنه إذا ورد خبران؛ أحدهما ناقل عن حكم العقل، والآخر مبقٍ له؛ فإن الناقل أولى؛ فكذا هاهنا. فإن قلت: (فالنفى بتقدير وروده بعد الثبوت يكون ناقلاً أيضًا):

القرافي: قوفه: (المحكوم عليه كان معدوما في الأزل، فلا يكون الحكم ثابتا في الأزل؛ لأن ثبوت الحكم صفة الله - تعالى - وكلامه النفسي القديم

قلت: لكن على هذا التقدير: يتوالى نسخان، وبالتقدير الأول: لا يحصل إلا نسخ واحد؛ وتقليل النسخ أولى. واعلم أنا إنما جمعنا هذه الوجوه؛ لأن أكثر مناظرات أهل الزمان في الفقه دائرة على أمثال هذه الكلمات. ولما وصلنا إلى هذا الموضع، فلنقطع الكلام حامدين الله تعالى، ومصلين على أنبيائه ورسله، ونسأل الله حسن العاقبة والخاتمة، وأن يجعل ما كتبنا حجة لنا، لا علينا؛ إنه هو الغفور الرحيم، الجواد الكريم. المسألة الحادية عشرة في وجوهٍ من الأدلة قال القرافي: قوفه: (المحكوم عليه كان معدومًا في الأزل، فلا يكون الحكم ثابتًا في الأزل؛ لأن ثبوت الحكم صفة الله - تعالى - وكلامه النفسي القديم، بل هو كثبوت العلم في الأزل بدون المعلوم، والله - تعالى - يطلب من عباده في الأزل على تقدير وجودهم - ووجوب أسباب التكليف، وشرائطه في العقل المكلف به، وليس في ذلك عبث. فإن قلت: انعقد الإجماع على أن الإنسان قبل بلوغه غير مكلف، وبعد البلوغ مكلف، والأسباب الموجبة للتكليف أيضًا حادثة. قلت: مسلم، ولا يقتضي ذلك حدوث الحكم؛ لأنه تعلق من الأزل بالشخص المعين في الحالة المعينة.

ومقتضى هذا ألا يقال: الأصل عدم تعلق الحكم. فضلاً عن الحكم؛ لأن التعليق قديم أيضًا؛ لأن كما يستحيل علم بغير معلوم، يستحيل أمر بلا مأمور، وإباحة بغير مباح، وتحريم بغير محرم، فالكلام والتعليق قديمان، ولابد في هذا المقام من مراجعة ما تقدم أول الكتاب من أن الله - تعالى - لا يجب عليه خلق العالم، فبخلقه من الجائزات، فعلى تقدير عدم خلق العالم، لا يكون هنالك شرائع، ولا تكاليف ألبتة، فصار كون الأحكام من جملة الكلام النفسي أمرًا جائزًا عليه، لا واجبًا، وهذا الجائز لابد له من مرجح، وهو إرادة الله - تعالى - التي تعلقت بإيجاد العالم، وأنه إذا وجد يكون مكلفًا على الأوضاع المخصوصة. فينبغي أن يقول: الأصل عدم الحكم، وتعلقه بمعنى أن الأصل ألا يوجد العالم، وألا تتعلق به إرادة التكليف، ولا التكليف بالنظر إلى ذات الحكم، وذات العالم، لا بالنظر إلى تقدم علم سابق يستصحبه؛ فإن لم يتقدم في الأزل عدم الحكم ألبتة، بل هو بالنظر إلى ما يستحقه لذاته الحكم من عدم الاستحقاق. فعلى هذا الوجه يصح أن يقال: الأصل عدم الحكم، أما يعني أن هنالك عدمًا سابقًا، هو الأصل، فلا. قوله: (لا يثبت بالأمارة؛ لقوله تعالى:} إن الظن لا يغني من الحق شيئًا {). قلنا: النص عام في الظن، والحق مطلق فيما فيه يقع العباد؛ فإنه لم ينطق به، فنحن نحمله على قواعد العقائد؛ فإن الظن لا يغني فيها، وإذا عمل بالمطلق في صورة سقط الاستدلال به فيما عداها. قوله: (ثبوت الحكم لغير مصلحةٍ عبث غير جائز على الحكيم): قلنا: هذا لا يصح إلا على قاعدة المعتزلة في الحسن، والقبح.

وأما على أصولنا، فلا يليق أن نقول إلا أنه على خلاف المعهود من عوائد الله - تعالى - في شرائعه؛ فإنها مصالح. أو نقول: أحكام الله - تعالى - لا تعلل، فلا عبث، إلا حيث يجب التعليل، ولذلك إن خلق العالم في الوقت المعين، لا مرجح له، ولم يكن عبثًا. قوله: (يستحيل عود المصلحة على الله تعالى): قلنا: عند المعتزلة مراعاة المصلحة من الحكمه، وصفات الكمال، وصفة الكمال عائدة على الله - تعالى -، فبهذا التفسير يمتنع عودها على الله تعالى. قوله: (يمكن إيصال المصلحة للعبد بدون هذه الوسائط): قلنا: من قواعدهم - أعني المعتزلة - أن الإحسان لغير المحسن محال، فلابد من هذه الوسائط؛ لأن المستحيل لا يتعلق به القدرة، ولا يكون الإنسان محسنًا حتى يؤمر؛ فيمتثل. وقيل: تعلق الأوامر لا إحسان، ولا إساءة. قوله: (إن لم يكن معللاً بوصف مشترك لزم تعليل الحكمين المتماثلين بعلتين مختلفتين): قلنا: لا نسلم، بل يجوز أن الفاروق علة تامة، والمشترك علة تامة، ويكون الحكم مضافًا لهما حيث اجتمعا، وإلى المشترك حيث افترقا، ولا يلزم إلغاء الوصف المناسب؛ لأجل اعتبار الفاروق مع المشترك. قوله: (إن أضيف الحكم لذات الوصف، لزم ذلك فيما لا يلازمه، وإن كان لا لذاته ولا للوازم ذاته كان غنيًا عنه عقلاً، فهو لا يليه عقلاً):

(تنبيه) قال التبريزي: (الحكم الشرعي لابد له من دليل شرعي، وهو قول الشارع

قوله: (ظن المجتهد)، فيثبت لقوله عليه السلام: (ظن المؤمن لا يخطئ): قلنا: تقدم في (باب العموم) أن العام في أفراده مطلق في أحواله، وأزمانه وبقاعه، ومتعلقاته، فالحديث يقتضي أنه لا يخطئ في بعض الصور. ونحن نقول بموجبه؛ فإن بعض الظن يصيب قطعًا، ولا يلزم حصول المطلوب في محل النزاع. قوله: (الحكم - هناك - إنما ثبت لحاجةٍ، وذلك المعنى قائم هاهنا): قلنا: هذا ينقلب في الأصل المدعى، فتعين النفي في صورة، ونقول: إنما ورد النفي في تلك الصور لمصلحة هي قائمة هنا. وهذه وجوه جدلية أجراها الجدليون، وأهل صناعة الخلاف، والتحقيق يأباها، ولكن من بحث مع قوم ينبغي أن يبحث باصطلاحهم، ويسلم ما سلموه، ويمنع ما منعوه، ولا يخالفهم في قواعدهم، وإلا بقى قوله منكرًا من القول وزورًا. وإنما أوردت هذه الأسئلة على هذه الموضع؛ تنبيهًا على موضع التحقيق، وما يمكن أن يقال. (تنبيه) قال التبريزي: (الحكم الشرعي لابد له من دليل شرعي، وهو قول الشارع، أو ما يقوم مقامه بنفسه، أو بدلالة الحال، فيدخل فيه الإجماع، والفعل، ومجمع ذلك يرجع للنقل، لكن النقل تارة يدل بالضرورة

على ثبوت ما يلازمه، وانتفاء ما يعانده، والملازمة والمعاندة قد تكون باعتبار نفس الذات، أو باعتبار النظر إلى أمر خارج. والملازمه الذاتية: هي الملازمة بين الشيء وأجزاء ماهيته من الجنس، والفصل، وأعراضه، وتوابع وجوده الثابتة له من حيث هو ذلك الشيء، ويرجع ذلك إلى السبب، والشرط، ويدخل فيه الكل، والجملة، ودليل الحصر فيها وجوب ثبوت الحكم بتقدير استجماعهما لولا المعاند مع فرض عدم كل ما عداها، والتي هي بالنظر إلى أمر آخر هي التي لابد في جهة ملازمتها من توسط بعض اللوازم الذاتية، وإذا فهم هذا في طرف التلازم فهو في طرف التعاند. أعني: الفرق بينهما هو بالذات، وبين ما هو بالتوسط. ثم إذا كان النظم في ثبوت مثل حكم النقل في محل آخر، فلا يتصور ذلك إلا بثبوت ما هو مبناه في محل النقل فيه، وطريقة التفصيل للتوصل إلى معرفته عينًا، بما هو قيوده، وأوصافه، ثم معرفة وجوده في محل النظر. والإجمالي: أن بين إنما هو الفارق بين الصورتين، لا أثر له في الفرق في الحكم، فيلزم منه الاشتراك في المبني، ومن ضرورته الاشتراك في الحكم، وأن بين له لازم آخر من أثره أو غيره، فيلزم من اشتراكهما من ذلك اللازم اشتراكهما في المبني، إذا أثبت اللازم في الحكمين، وجودًا، وعدمًا، فمن ضرورية التنافي بين وجود أحدهما، ونفي الآخر. وعند هذا يفرع التصرف المعنوي، وينتقل إلى صيغ التحرير، فيمكن أن يرد إلى نمط القياس، وإلى نمط التلازم، وإلى نمط التعاند، ثم لكل واحد من هذه الأقسام صيغة مخصوصة، ومعنية مخصوص. فأما نمط القياس، فصيغته المصطلح عليها:

قتل عمد محض عدوان، فيلزم القصاص، كالمحدد. وهو على وزانه. ومعناه المخصوص أن نقول: ما باعتباره ثبت الحكم في الأصل موجود هاهنا أو اشترك المحلان في المبني، فيشتركان في الحكم، أو ما يؤدي إلى هذا المعني. وأما نمط التلازم، فصيغته: لو ثبت في كذا لثبت في كذا، وقد ثبت في كذا، أعني المجعول لازمًا، أو ولم يثبت في كذا، فلا يثبت في كذا. ومعناه: أن نقول: لازم الانتفاء منتفٍ، فينبغي، أعني: الانتفاء. أو ملزوم الثبوت ثابت، فيثبت. أو الحكم ثمت مع الحكم - هاهنا- متلازمان، وقد ثبت أحدهما، فيثبت الآخر، وما في معناه. وأما نمط التعاند: فصيغته أن نقول: إما أن يثبت - هاهنا - أو ينتعي في الأصل، والثاني يمتنع؛ فيتغين الأول. فيعاند بين الأصل والثبوت هنا - ليلزم الثبوت فيهما، أو الانتفاء فيهما، ثم إذا كان أحدهما خلاف الإجماع تعين الآخر، وكذلك نقول: إما أن يثبت فيهما، أو ينتفي عنهما. والثاني: باطل، ويفيد هذا قولهم مطلقًا: إما أن يثبت، أو لا يثبت. ومعناه: أن نقول: الثبوت - هنا - والانتفاء - ثم - مما لا يجتمعان، أو يتنافيان، أو الانتفاء - هنا - ينافي الثبوت ثم أولا يجامعه إلى غير ذلك مما يؤدي لهذا المعني، ثم نقول: وأحد المتنافين ثابت، فيلزم منه: انتفاء التالي. ثم يعد ذلك يتفاوت النظار في حسن التلفظ في تخفيف مؤنه التقرير

بحسب تفاوتهم في الحذق، ودقة النظر في مراسم الجدل، فمن خائض في الفقه كاشف عن ماهيته يستفيد الملازمة - كما سبق - في مقام القياس. ومن متطرق يوري متن الطريق، ويأخذ بأطراف الكلام متمسكًا بالظواهر من القواعد الجميلة، ويطالب بتخريج الأمور على وفق الأصول. فنقول: دليل الملازمة هو أن تقدير اختصاص أحدهما بالثبوت مستلزم اختصاص محل الثبوت لمؤثر، إذ بتقدير عدمه دليل القياس يقتضي التسوية في الثبوت، والأصل وجوب العمل بالدليل، وإذا لزم اختصاص بتقدير فرض التخصيص في الحكم فبيان الاختصاص هو أن الاختصاص يستدعي تقدير أمر مخصص، وتقدير اعتباره، وكل واحد منهما على خلاف الظاهر، لأن مسبوق بالعدم، والأصل بقاء ما كان على ما كان. فيتمسك به إلى أن يدل دليل على خلافه، وهو أيضًا - على خلاف الدليل؛ إذ الأصل عدمه، ولئلا يلزم منه التعارض، وإذا ثبتت الملازمة فهي مادة التعاند من كل واحد منهما، ونقيض الآخر. فيتقرر به - أيضًا - نمط التعاند، هذا إذا كان النظر في ثبوت الحكم، فإن كان النظر في انتفاء الحكم، فلتلازم بين الثبوت في محل النظر والثبوت في محل الانتفاء، بالإجماع بناء على نفي اختصاص محل النظر مما يدخل في المؤثر بالطريق الذي ذكرناه إليه الخبرة في صناعة التصوير في أي نمط شاء، فهذان بالطريق حقيقيان يطردان في جميع أحكام الفروع نفيًا، وإثباتًا من الطرفين، وليس يرجع إلى اللعب، ولا إلى مناكرة الحبس، ولا مكابرة العقول، بل هو بلطف في إلجاء الخصم إلى طريق المعارضة؛ ليستريح هو إلى مجرد مؤنة التقرير فيها، ومن واجب هذا النظر أن يوضع حيث لا ينتشر على الخصم إظهار ما يخالف هذا الأصل تفصيلاً؛ فإنه إذا جاء التفصيل طاش هذا الإجمال. والله الموفق للصواب آمين.

كمل الجزء الثالث، وهو آخر (نفائس الأصول في شرح المحصول) تأليف الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي القرافي تغمده الله برحمته على يد العبد الفقير المعترف بالذنب والتقصير أصغر عبيد الله تعالى محمد بن أيوب بن وحش العلوي الشافعي - عرف بالسهيلي بلدًا، غفر الله له ولمالكه ولمن نظر فيه ودعا له بالمغفرة والغناء عن الناس، ووافق الفراغ من نسخه في ليلة بسفر صبيحتها السادس من رجب الفرد من شهور سنه تسع وسبعمائه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. *************

§1/1