نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي

أحمد الريسوني

مقدمة

مقدمة ... التشريع وحكمه عمومًا1. أما تناول الكلاميين للفقه المقاصدي فقد كان ذا آثار سلبية في الغالب2. و"المعهد العالمي للفكر الإسلامي" قد تأسس للعمل على محورين أساسيين: الأول: إصلاح مناهج الفكر لدى المسلمين وإعادة ترتيب وتشكيل أولويات العقل المسلم. الثاني: إعادة بناء النسق الثقافي الإسلامي وتقديم معرفة إنسانية واجتماعية معاصرة من منظور إسلامي. ومن أهم وسائل تحقيق الهدف الأول في "إصلاح مناهج الفكر لدى المسلمين" نقل العقل المسلم من الانشغال في الجزئيات إلى الكليات، ومن التوقف عند الرسوم والمباني إلى التوجه نحو الحقائق والمعاني ومن التقليد والتبعية إلى الإيداع والأصالة من الاستغراق التام بالوسائل إلى العمل معها على تحقيق المقاصد والغايات. وهذه الأهداف الكبرى لن يحدث الوعي الهادف المتحرك عليها إلا بعد جهود علمية متصلة توضح سائر جوانبها وتنير مختلف أبعادها. وعندما أصدرنا الكتاب الأول من سلسلة قضايا الفكر الإسلامي وهو كتاب "حجية السنة" لشيخنا العلامة عبد الغني عبد الخالق تغمده الله برحمته، قلنا في تقديمنا له: "إن المعهد ليأمل بعد صدور هذا السفر الجليل الذي يمثل كلمة فاصلة وحجة قاطعة ومصدرًا علميًّا لا يوازي في قضية "حجية السنة" أن يلتفت العلماء والباحثون بمثل هذا العمق والدقة العلمية إلى خدمة قضية أخرى هامة من قضايا السنة ألا وهي قضية مناهج فهم السنة ودراستها واستلهامها الحلول والتشريعات والمفاهيم الحياتية والنظم الاجتماعية بما يحقق غايات الإسلام ويعطي الأمة رؤية نيرة تقطع دابر الشك والعجز والتردد3.

_ 1 مثل كتاب إحياء علوم الدين ونحوه. 2 يمكن مراجعة بعض هذه الآثار في بحث صغير لنا نشر بعنوان "تعليل الأحكام الشرعية وموقف الحنابلة منه نشر في مجلة البحوث العلمية" الرياض. 3 حجية السنة ص18. الطبعة الأولى 1307هـ/ 1986م.

وعندما أصدر المعهد أيضًا الحلقة الأولى من سلسلة أبحاث علمية وهو بحث "أصول الفقه الإسلامي منهج بحث ومعرفة"، ألح البحث كثيرًا على: "الاهتمام بمعرفة مقاصد الشريعة وتنمية دراستها والعمل على وضع قواعد أو ضوابط لها"1. والكتاب الذي نصدره اليوم ضمن سلسلتنا الجديدة "مختارات من الرسال الجامعية" وهو أطروحة "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" للأستاذ أحمد الريسوني يحقق خطوة هامة وأساسية مما أملناه ورجوناه ويشكل لبنة أساسية في بناء الفكر المقاصدي المعاصر. ففيما يخص مناهج فهم الكتاب والسنة ودراستهما واستلهام هديهما، يقدم لنا هذا البحث عرضا ودراسة لنموذج متميز في هذا الباب ألا وهو الإمام أبو إسحاق الشاطبي "790 هـ" الذي أصبح اليوم كما يقول الشيخ مصطفى الزرقا: "نجما ساطعًا يستضاء به في بحوث أصول الشريعة ومقاصدها وتوضح به المحجة وتقام به الحجة"2. ولا مبالغة إذا قلنا: إن أهم ما قدمه لنا الشاطبي وبرز فيه بروزًا فريدًا هو مناهج فهم الكتاب والسنة فهما سليمًا متينًا، ولم يكن إبداعه في مقاصد الشريعة إلا ثمرة لتلك المناهج والقواعد. ولقد كان الشاطبي على بينة تمامًا من أهمية منهجه وقيمته العلمية فهو منذ تقديمه لكتاب "الموافقات" يلفت نظرنا إلى منهجه الاستقرائي المتين المبني على فهم الكتاب والسنة فيقول: "ولما بدا من مكنون السر ما بدا ووفق الله الكريم ملا شاء منه وهدى، لم أزل أقيد من أوابده، وأضم من شوارده تفاصيل وجملا، وأسوق من شواهده في مصادر الحكم وموارده مبينًا لا مجملًا، معتمدًا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية، ومبينا أصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية، حسبما أعطته الاستطاعة والمنة، في بيان مقاصد الكتاب والسنة"3.

_ 1 أصول الفقه الإسلامي منهج بحث ومعرفة، ص24. 2 من تقديمه لكتاب "فتاوى الإمام الشاطبي" للأستاذ محمد أبي الأجفان، ص8. وسيأتي نص كلامه في أواخر هذا الكتاب. 3 الموافقات: 1/ 23.

وقد عمل المؤلف الفاضل على تجلية هذا المنهج الاستقرائي عند الشاطبي وبيان قيمته ومدى الحاجة غليه. ومن الجوانب التي تضمنها هذا الكتاب والتي تخدم مناهج فهم الكتاب والسنة، بحثه المستفيض لمسألة تعليل الشريعة وتعليل أحكامها. ومن أهم ما ينبني على هذا البحث هو ما قرره المؤلف، ودافع عن صحته، من ضرورة أخذ النصوص بمقاصدها، وضرورة إدخال التفسير المصلحي في معانيها وأحكامها. ومن خلال هذا الكتاب تتضح قضية أخرى من منهاج فهم نصوص الشريعة، وهي أهمية الاعتماد على الكليات التشريعية وتحكيمها في فهم النصوص الجزئية وتوجيهها. وهو نوع من رد المتشابهات إلى المحكمات، والجزئيات إلى الكليات، فكليات الشريعة ومقاصدها العامة، هي أصول قطعية لكل اجتهاد ولكل تفكير إسلامي، فلا بد من إعادة الاعتبار إليها، ولا بد من وضعها في المقام الأول، ثم يرتب ما عداها عليها. وهذه خطوة ضرورية لإعادة تشكيل العقل المسلم ولإعادة ترتيب موازينه وأولوياته. ذلك أن من أهم مظاهر أزمة العقل المسلم: اختلال الموازين والأولويات التي وضعها الإسلام في نصابها. فوقع فيها -على مر العصور- تقديم وتأخير، وتضخيم وتقزيم، على خلاف وضعها الحق. ولعلل هذا ما نبه إليه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين قال لبعض أصحابه: "إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه1، تحفظ فيه حدود القرآن، وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون فيه الصلاة، ويقصرون الخطبة يبدون أعمالهم قبل أهوائهم2. وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده. كثير من يسأل قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة. يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم3. وما أكثر ما أصيبت حياتنا العلمية والعملية بأمثال هذه الاختلالات والانقلابات في القيم والأولويات. كثر الحفاظ وتزايد القراء وضعف الفقهاء الحكماء. وبولغ في ضبط

_ 1 أي أن حفاظ النصوص قليلون وحفظهم محدود، ولكن التفقه في النصوص ومعانيها كثير على خلاف من سيأتون بعدهم. 2 أي أن أعمالهم مقدمة على أهوائهم، فالأعمال متبوعة، والأهواء تابعة، على خلاف اللاحقين الذين تصير أعمالهم تابعة لأهوائهم. 3 رواه الإمام مالك بسنده إلى عبد الله بن مسعود. انظر: "الموطأ" باب جامع الصلاة.

الرسوم والألفاظ، وضيعت المعاني والأحكام، وروعيت المظاهر والأشكال، وأهملت المقاصد والجواهر، وطغت الجزئيات وتنوسيت الكليات. وأميتت سنن وقدمت مبتدعات. فهذه قضية كبيرة أمام علماء الإسلام ومفكريه ودعاته، قضية إعادة ترتيب الأولويات، وإعادة بناء منظومة الموازين والقيم ووضع كل في نصابه. وأما فيما يخص الأمر الثاني الذي دعونا إليه ورجونا الاهتمام به، وهو دراسة مقاصد الشريعة والعمل على وضع قواعد أو ضوابط لها. فإن هذا الكتاب من الكتب الرائدة في هذا المجال وقد قطع -فيما نرى- شوطًا أساسيًا اقتحم فيه عقبات وصعابًا مهيبة خطرة. ونحسب أنه قد حالفه الكثير من التوفيق والنجاح. فهو يقدم دراسة شاملة لنظرية المقاصد في مختلف جوانبها. كما يقدم دراسة دقيقة عن الفكر المقاصدي عند شيخ المقاصديين أبي إسحاق الشاطبي، إضافة إلى دراسة هامة عن الشاطبي نفسه. وهي دراسة جاءت بالكثير من الجديد المفيد عن حياة هذا الإمام وفكره ومنهاجه. أما القواعد والضوابط التي تنتظم مقاصد الشريعة وتضبطها فإن المؤلف قد قام بعمل في غاية الأهمية والإفادة. فهو قد نخل كتابي "الموافقات" و"الاعتصام" للشاطبي، واستخرج منهما ثروة نفيسة من "قواعد المقاصد" كما أبرز -من جهة أخرى- أهم الطرق التي يتوصل بها إلى معرفة مقاصد الشارع، وأهمها على الإطلاق: الاستقراء، الذي كان ديدن الشاطبي وسمته المنهجية البارزة1. كما خطا هذا البحث خطوة هامة في إطار الاستفادة من مقاصد الشريعة، وفي ضبط وجوه هذه الاستفادة منها، وذلك في الفصل المخصص للمقاصد والاجتهاد. وهذه -كما ذكر المؤلف- هي أهم ثمرة ترجى من كل اهتمام بالمقاصد ومن كل دراسة لها.

_ 1 ويمكن مراجعة هذه المسالك والطرق إضافة إلى مواضعها من الكتب الأصولية المعروفة في الموافقات 2/ 303 وما بعدها ومقاصد الشريعة لابن عاشور "19" ومسالك للكشف عن مقاصد الشريعة بين الشاطبي وابن عاشور، مجلة العلوم الإسلامية/ جامعة الأمير عبد القادر الجزائرية د. عبد المجيد النجار. والأهداف العامة للشريعة الإسلامية د. يوسف العالم رحمه الله مخطوط يعده المعهد للطباعة إن شاء الله.

ذلك أننا في أمس الحاجة إلى اجتهاد المقاصد وفقه المقاصد، وهو الفقه الذي وصفه ابن القيم بأنه "الفقه الحي الذي يدخل على القلوب بغير استئذان" ففي فصل له بعنوان "اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ"، نقل عن "مصنف وكيع" "أن عمر قضى في امرأة قالت لزوجها: سمني فسماها الطيبة. فقالت: لا. فقال لها: ما تريدين أن أسميك؟ قالت سمني خلية طالق، فقال لها فأنت خلية طالق. فأتت عمر بن الخطاب فقالت: إن زوجي طلقني. فجاء زوجها فقص عليه القصة، فأوجع عمر رأسها، وقال لزوجها: خذ بيدها وأوجع رأسها. وهذا هو الفقه الحي الذي يدخل على القلوب بغير استئذان. وقد تقدم أن الذي قال لما وجد راحلته: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح، لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر لكونه لم يرده"1. ولقد كان "مراد الشارع" و"قصد الشارع" ضالة المتقدمين ومن تبعهم من العلماء الراسخين، ولم تكن الألفاظ لتأسرهم إذا ظهر لهم وراءها من حكمة وقصد. وسيجد القارئ نماذج كثيرة جدا من هذا "الفقه الحي" في مختلف فصول هذا الكتاب، سيجدها جنبًا إلى جنب مع قواعدها وضوابطها خاصة في الفصل الأخير منه. ولقد أتى على فقهنا -في معظمه- حين من الدهر صار فيه أقرب إلى الجمود والعجز منه إلى الحياة والفعالية، ذلك أنه افتقد -فيما افتقده- روح المقاصد ونظرية المقاصد. وقد تعرض العلامة التونسي الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور لأسباب انحطاط الفقه وتخلفه، فعد منها "إهمال النظر في مقاصد الشريعة من أحكامها" ثم قال: "كان إهمال المقاصد سببًا في جمود كبير للفقهاء، ومعولًا لنقض أحكام نافعة. وأشأم ما نشأ عنه مسألة الحيل التي ولع بها الفقهاء بين مكثر ومقل"2. ومن هنا فإن إحياء فقه المقاصد هو عمل ضروري لتجديد الفقه وتقوية دوره ومكانته، يقول العلامة الأستاذ علال الفاسي: "وإن في ثلة الفقهاء المجددين على قلتهم ضمانًا للسير بالفقه الإسلامي إلى شاطئ النجاة حتى يصبح مرتبطًا بمقاصد

_ 1 إعلام الموقعين: 3/ 63. 2 أليس الصبح بقريب من ص200.

الشريعة وأدلتها، ومتمتعا بالتطبيق في محاكم المسلمين وبلدانهم"1. والفقه الإسلامي الذي ندعو ونعمل لأجل تجديده وتقويته وبعث صفاته وحيويته، وربطه بمقاصد الشريعة وكلياتها، هو من أفضل الضمانات لإيجاد ضوابط شرعية لحياة إسلامية معاصرة، ذلك أن الفقه الإسلامي بشموليته التي لا يحدها شيء، وبمصادره وضوابطه التي لا يشوب إسلاميتها شيء، هو أكثر العلوم الإسلامية إسلامية، وأبعدها عن كل تأثير أجنبي2، وقد نبه على هذه الملاحظة الهامة الأستاذ علال الفاسي وأكد عليها مرارًا في كتابه "دفاع عن الشريعة"3. فقد تسلم بتسرف التأثير الأجنبي إلى علوم إسلامية لها وزنها وخطرها -على تفاوت في ذلك- مثل جوانب من علم الكلام التي دخلتها التأثيرات اليونانية، وبضع جوانب من علم التصوف. كما أن بعض الأصوليين قد استهواهم المنطق اليوناني فولعوا به وحاولوا مزجه بعلم أصول الفقه، حتى ذهب الإمام الغزالي إلى أن من لم يتقن علم المنطق لا يوثق بعلمه4. وأما التفسير فكان مجالًا رحبًا لترويج مختلف الأقاويل والنحل من الإسرائيليات إلى الفلسفيات التي ذهب ابن رشد الحفيد إلى أن معرفتها لا بد منها لفهم مقاصد القرآن5. "ولكنك -كما يقول علال الفاسي- لا تجد أي أثر من آثار المدارس الفقهية الأجنبية في الفقه الإسلامي، سواء منه ما يتعلق بالعبادات أو ما يتعلق بالمعاملات وغيرها من أبواب الشريعة"6. "فإذا أردنا أن نعيد بناء الفكر الإسلامي على حقيقته، فما علينا إلا أن ندرس الفقه الإسلامين، ونعمل على تطبيقه في محاكمنا ومعاملاتنا"7. ونبني فقه المقاصد لنحقق هويتنا، ونبني أصالتنا المعاصرة، ونستعيد دورنا، ونشيد دعائم شهودنا الحضاري، على هدي من فقهنا الحضاري.

_ 1 مقاصد الشرعية الإسلامية ومكارمها. ص161. 2 نعم يشاركه في هذا الصفاء والنقاء من التأثيرات الخارجية علم الحديث -فهو أيضًا علم إسلامي خالص- ولكنه محدود الوظيفة والاختصاص. ومنهجه محتوى في مناهج الفقه وأصوله. 3 انظر الصفحات: 69-70-71-149. 4 انظر المستصفى: 1/ 10. 5 فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. 6 دفاع عن الشريعة ص70. 7 المرجع السابق ص71.

وسوف يوالي المعهد -إن شاء الله- تقديم الدراسات الجادة الهادفة التي تشكل اللبنات الحقيقية في بناء العقلية المسلمة الجديدة القادرة على مواجهة التحديات، واجتياز العقبات، والنهوض بالأمة إن شاء الله. والمعهد يهب بالباحثين والأساتذة وطلاب الدراسات العليا أن يوجهوا دراساتهم وجهة تجعل منها لبنات أساسية في بناء الأمة الفكري والثقافي والحضاري إن شاء الله تعالى. ويسعدنا أن نتبع هذه الرسالة بمجموعة متيمزة من هذه الرسائل الجامعية الجادة، سائلين العلي القدير أن يهيئ بها لهذه الأمة أمر رشد وأن يثيب معدها وينفع بها قارئيها وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. طه جابر العلواني

تمهيد في معنى المقاصد ونظرية المقاصد

تمهيد: في معنى المقاصد ونظرية المقاصد مقاصد الشارع، ومقاصد الشريعة، والمقاصد الشرعية، كلها عبارات تستعمل بمعنى واحد. وهو المعنى الذي أريد تعريفه وتحديده في هذا التمهيد. أما شيخ المقاصد، أبو إسحاق الشاطبي، فإنه لم يحرص على إعطاء حد وتعريف للمقاصد الشرعية، ولعله اعتبر الأمر واضحًا، ويزداد وضوحًا بما لا مزيد عليه بقراءة كتابه المخصص للمقاصد من "الموافقات" ولعل ما زهده في تعريف المقاصد كونه كتب كتابه للعلماء، بل للراسخين في علوم الشرعية. وقد نبه على ذلك صراحة بقوله: "لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد، حتى يكون ريان من علم الشريعة أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب"1. ومن كان هذا شأنه، فليس بحاجة إلى إعطائه تعريفا لمعنى مقاصد الشريعة، خاصة وأن المصطلح مستعمل ورائج قبل الشاطبي بقرون. وكذلك لم أجد تعريفًا فيما اطلعت عليه عند الأصوليين وغيرهم من العلماء الذين تعرضوا لذكر المقاصد قديمًا. إلا أني وجدت عند بعض علمائنا المحدثين تعريفات لمقاصد الشريعة. وأعني كلا من العلامة التونسي الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، والعلامة المغربي الأستاذ علال الفاسي، رحمهما الله.

_ 1 الموافقات، 1/ 87.

فالشيخ ابن عاشور يعرف المقاصد العامة للشريعة بقوله: "مقاصد الشريعة العامة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة. فيدخل في هذا: أوصاف الشريعة، وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها. ويدخل في هذا أيضًا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها"1. وقد ذكر وبين من هذه المقاصد العامة: حفظ النظام، وجلب المصالح، ودرء المفاسد، وإقامة المساواة بين الناس، وجعل الشريعة مهابة مطاعة نافذة، وجعل الأمة قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال. وفي قسم آخر في كتابه، تعرض للمقاصد الخاصة، ويعني بها: "الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة. ويدخل في ذلك كل حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس، مثل: قصد التوثق في عقدة الرهن، وإقامة نظام المنزل والعائلة في عقدة النكاح، ودفع الضرر المستدام في مشروعية الطلاق2. وقد جمع الأستاذ علال مقاصد الشريعة -العامة منها والخاصة- في تعريف موجز واضح، قال فيه: "المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها"3 فشطره الأول "الغاية منها"، يشير إلى المقاصد العامة. وبقيته تعريف للمقاصد الخاصة، أو الجزئية. وغير بعيد عما نص عليه ابن عاشور من مقاصد التشريع العامة، يقرر علال الفاسي، أن "المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به

_ 1 مقاصد الشريعة الإسلامية: 50. 2 مقاصد الشريعة الإسلامية: 154. 3 مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها: 3.

من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض، واستنباط لخيراتها، وتدبير لمنافع الجميع"1. وبعد استعراضه لمجموعة من الآيات المتضمنة والمشيرة لمرامي الشرائع الربانية، قال: "فمجموع هذه الآيات القرآنية يبين بوضوح أن الغاية من إرسال الأنبياء والرسل وإنزال الشرائع، هو إرشاد الخلق لما به صلاحهم وأداؤهم لواجب التكليف المفروض عليهم"2. وبناء على هذه التعريفات والتوضيحات لمقاصد الشريعة لكل من ابن عاشور وعلال الفاسي3، وبناء على مختلف الاستعمالات والبيانات الواردة عند العلماء الذين تحدثوا في موضوع المقاصد، يمكن القول: إن مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها، لمصلحة العباد. كما يمكن -لزيادة الوضوح- تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: 1- المقاصد العامة: وهي التي تراعيها الشريعة وتعمل على تحقيقها في كل أبوابها التشريعية، أو في كثير منها كما في الأمثلة المتقدمة عند ابن عاشور وعلال الفاسي. وكما سيأتي قريبًا عند الأصوليين، وهذا القسم هو الذي يعنيه غالبًا المتحدثون عن: "مقاصد الشريعة". وظاهر أن بعضه أعم من بعض. وما كان أعم فهو أهم. أي أن المقاصد التي روعيت في جميع أبواب الشريعة. أعم وأهم من التي روعيت في كثير من أبوابها. وهكذا الشأن مع القسمين التاليين.

_ 1 المرجع السابق: 41-42. 2 المرجع السابق: 43. 3 والغريب أن الدكتور وهبة الزحيلي، والدكتور عمر الجيدي، قد تبنيا -حرفيًا- تعريفي ابن عاشور وعلال الفاسي، دون أي تنبيه على ذلك، فالأول ركب تعريفه من التعريفين معًا، فقال: "مقاصد الشريعة: هي المعاني والأهداف الملحوظة للشرع في جميع أحكامه أو معظمها. أو هي الغاية من الشريعة، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها". والثاني اقتصر على تعريف علال الفاسي، فقال: "يراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها". - الزحيلي: أدلة الفقه الإسلامي: 2/ 1017. - الجيدي: التشريع الإسلامي، أصوله ومقاصده: 242.

2- المقاصد الخاصة: وأعني بها المقاصد التي تهدف الشريعة إلى تحقيقها في باب معين1، أو في أبواب قليلة متجانسة، من أبواب التشريع. ولعل الشيخ ابن عاشور هو خير من اعتنى بهذا القسم من المقاصد. فقد تناول منها: - مقاصد الشارع في أحكام العائلة. - مقاصد الشارع في التصرفات المالية. - مقاصد الشارع في المعاملات المنعقدة على الأبدان "العمل والعمال". - مقاصد القضاء والشهادة. - مقاصد التبرعات. - مقاصد العقوبات. 3- المقاصد الجزئية: وهي ما يقصده الشارع من كل حكم شرعي، من إيجاب أو تحريم، أو ندب أو كراهة, أو إباحة أو شرط أو سبب. وهي التي يشير إليها الأستاذ علال الفاسي بقوله: "والأسرار التي وضعها الشراع عند كل حكم من أحكامها" وهي التي تنطبق عليها أمثلة الشيخ ابن عاشور، من كون عقدة الرهن مقصودها التوثق، وعقدة النكاح مقصودها إقامة وتثبيت المؤسسة العائلية، ومشروعية الطلاق مقصودها وضع حد للضرر المستمر. وأكثر من يعتني بهذا القسم من المقاصد، هم الفقهاء. لأنهم أهل التخصص في جزئيات الشريعة ودقائقها. فكثيرًا ما يحددون، أو يشيرون إلى هذه المقاصد الجزئية في استنباطاتهم واجتهاداتهم. إلا أنهم قد يعبرون عنها بعبارات أخرى كالحكمة، أو العلة، أو المعنى، أو غيرها. ولهذا أقف قليلًا لتوضيح علاقة هذه الألفاظ بالدلالة على مقاصد الشريعة. الحكمة والعلة: أما الحكمة: فتستعمل مرادفًا -تمامًا- لقصد الشارع أو مقصوده. فيقال هذا مقصوده كذا، أو حكمته كذا، فلا فرق، وإن كان الفقهاء يستعملون لفظ

_ 1 أو فلنقل: في مجال معين، أو في مجالات.

الحكمة أكثر مما يستعملون لفظ المقصد. ومن أمثلة ذلك قول ابن فرحون يحدد مقاصد القضاء: "وأما حكمته: فرفع التهارج، ورد التواثب، وقمع المظالم، ونصر المظلوم، وقطع الخصومات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قاله ابن راشد وغيره"1. فذكر الفقهاء -أو غيرهم- للحكمة، هو ذكر لمقصود الشارع. ولهذا قال الونشريسي: "والحكمة في اصطلاح المتشرعين هي المقصود من إثبات الحكم أو نفيه، وذلك كالمشقة التي شرع القصر والإفطار لأجلها"2. وقد يبدو في هذا الكلام شيء من الأشكال، وهو: هل المشقة حكمة ومقصود؟ والجواب أن الكلام فيه حذف. ومراده أن رفع المشقة عن المسافر هو مقصود الحكم وحكمته. وقد نبه على هذا، الأصولي الحنفي، شمس الدين الفناري فقال: "أما ما يقال في رخص السفر: إن السبب السفر، والحكمة المشقة، وأمثاله، فكلام مجازي. والمراد: أن الحكمة الباعثة دفع مشقة السفر3. ويؤكد الشيخ بدران أبو العينين بدران، هذا التطابق بين مقصود الحكم وحكمته في اصطلاح الفقهاء -وغيرهم- فيقول: "على أن جمهور الفقهاء كانوا يذهبون في اجتهاداتهم إلى أن ما شرعه الله من أحكام، لم يشرعه الله إلا لمصلحة جلب منفعة لهم، أو دفع مضرة عنهم. فلهذا كانت تلك المصلحة هي الغاية المقصودة من التشريع. وتسمى حكمة"4. ثم قال: "أما حكمة الحكم، فهي الباعث على تشريعه، والمصلحة التي قصدها الشارع من شرعه الحكم"5. وقد تتبع الدكتور عبد العزيز الربيعة، استعمال لفظة الحكمة، عند الأصوليين، فلاحظ أنها تطلق عندهم بإطلاقين:

_ 1 تبصرة الحكام، في أصول الأقضية ومناهج الحكام: 1/ 8. 2 المعيار: 1/ 349. 3 فصول البدايع في أصول الشارئع: 2/ 371. عن: "السبب عند الأصوليين" للدكتور عبد العزيز الربيعة: 2/ 22. 4 أدلة التشريع المتعارضة ووجوه الترجيح بينها: 242-243. 5 المرجع السابق: ص242-243.

"الإطلاق الأول: هو أن الحكمة هي المعنى المقصود من شرع الحكم، وذلك هو المصلحة التي قصد الشارع بتشريع الحكم جلبها أو تكميلها، أو المفسدة التي قصد الشارع بتشريع الحكم درءها أو تقليلها"1. أما الإطلاق الثاني فيراد به: "المعنى المناسب لتشريع الحكم، أي المقتضي لتشريعه، وذلك كالمشقة"2. ولكن هذا الإطلاق -عند التحقيق والتدقيق- آيل إلى الإطلاق الأول، فهو إطلاق مجازي كما نبه على ذلك الفناري في قول السابق. ويؤكد هذا ما سيأتي من استعمال لفظ العلة. أما العلة: فهو مصطلح ذو شجون وقد استعمل استعمالات مختلفة، وكثر فيه الجدال والأخذ والرد، غير أن الذي يعنينا الآن هو أن لفظ "العلة"، مما يعبر به عن مقصود الشارع، فيكون على هذا مرادفًا لمصطلح "الحكمة". وهذا هو الاستعمال الأصلي والحقيقي لمصطلح العلة. ثم غلب استعماله فيما بعد بمعنى الوصف الظاهر المنضبط الذي تناط به الأحكام الشرعية، على أساس أن الحكمة، وهي مناط الحكم ومقصوده في حقيقة الأمر ترتبط غالبًا بذلك الوصف الظاهر المنضبط، الذي يسهل إحالة الناس عليه في تعرفهم لأحكام الشارع. ففي باب الرخص مثلًا، لا شك أن رفع المشاق عن الناس والتخفيف عنهم، هي الحكمة والمقصود، وهي العلة الحقيقية للرخص الشرعية. ولكن الشارع لا يقول للمكلفين: كلما وجدتهم عنتا فترخصوا. وإنما حدد لهم أمارات معروفة، وأسبابًا معينة، هي ما يسميه الأصوليون: الأوصاف الظاهرة المنضبطة "أو العلل"، فبناء عليها يقع الترخيص؛ كالسفر، والمرض، والعجز، والاضطرار، والإكراه. وأما ما سوى هذه من صور المشاق التي لا حصر لها، مما لم يسمه الشارع، فقد ترك تقديرها، وتقدير ما تستحقه من ترخيصات للمجتهدين والمفتين، الموقعين عن رب العالمين.

_ 1 السبب عند الأصوليين، 2/ 17. 2 المرجع السابق، 2/ 18.

ومن الأمثلة أيضَا: الطهارات بمختلف صورها، من وضوء واغتسال، واستياك وطهارة بدن ولباس، فلا شك أن إشاعة التطهير والتنظيف1 في حياة الناس، هي الحكمة والمقصود، وهي العلة الحقيقية لأحكام الطهارات، ولكن مع هذا لم يقل الشارع للناس: كلما اتسختم وتنجستم فتطهروا، لأن هذا أمر لا ينضبط لهم. ولهذا ناط أحكام الطهارات بأسباب وعلل ظاهرة منضبطة، تتكرر في حياة الناس بكيفية تفضي إفضاء كافيًا إلى تحقيق المقصود، وذلك كخروج شيء من السبيلين، والجنابة، والحيض، والنوم، والجمعة. فهذه الأوصاف -أو الأمارات- الظاهرة المنضبطة، يطلق عليها: العلل، أو الأسباب أحيانًا. بينما العلة الحقيقية، والسبب الحقيقي، هو مقصود الحكم وحكمته، من جلب مصلحة أو درء مفسدة، أو هما معًا. ولكن الشارع يربط الأحكام بأمارات ظاهرة منضبطة، تجنبا للميوعة والفوضى في التشريع. على أن تلك الإمارات تكون متلازمة عادة مع المصالح أو المفاسد التي هي علة التشريع الحقيقية، أو بإصطلاح القوم: تكون مظنة لها. قال الشاطبي: "نصب الشارع المظنة في موضع الحكمة ضبطا للقوانين الشرعية"2. وقد تتبع الدكتور محمد مصطفى شلبي استعمالات الأصوليين لمصطلح العلة، وحصرها في ثلاثة استعمالات فقال: "لفظة العلة أطلقت في لسان أهل الاصطلاح على أمور: - الأمر الأول: هو ما يترتب على الفعل من نفع أو ضرر. - الأمر الثاني: ما يترتب على تشريع الحكم من مصلحة أو دفع مفسدة. - الأمر الثالث: وهو الوصف الظاهر المنضبط، الذي يترتب على تشريع الحكم عنده مصلحة للعباد. فإنه يصح تسمية هذه الأمور الثلاثة بالعلة. ولكن أهل الاصطلاح -فيما بعد- خصوا الأوصاف باسم العلة، وإن قالوا إنها علة مجازًا، لأنها ضابط للعلة

_ 1 إلى جانب التهيؤ النفسي للعبادة. 2 الموافقات، 1/ 254.

الحقيقية، وسموا ما يترتب على الفعل من نفع أو ضرر حكمنة، مع اعترافهم بأنها العلة الحقيقية"1. ولهذا نجد الشاطبي -وهو الميال إلى إحياء المعاني القديمة الأصلية- قد اختار أن يعرف العلة ويستعملها بمعناها الحقيقي الأصلي "في الاصطلاح"، فقال: "وأما العلة، فالمراد بها2: الحكم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي فالمشقة3 علة في إباحة القصر والفطر في السفر4. والسفر هو السبب الموضوع سببًا للإباحة. فعلى الجملة: العلة هي المصلحة نفسها، أو المفسدة نفسها -لا مظنتها- كانت ظاهرة أو غير ظاهرة، منضبطة أو غير منضبطة. وكذلك نقول في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"5 فالغضب سبب6، وتشويش الخاطر عن استيفاء الحجج هو العلة7. على أنه قد يطلق هنا لفظ السبب على نفس العلة لارتباط ما بينهما. ولا مشاحة في الاصطلاح"8. وهذا الذي صنعه الشاطبي من تفسير العلة بالمصلحة والمفسدة المقصودة بالحكم، فضلًا عن موافقته للاستعمال الأول، هو اللائق بأهل المقاصد. لأن البحث في المقاصد هو بحث في العلل الحقيقية، التي هي مقاصد الأحكام، بغض النظر عن كونها ظاهرة أو خفية، منضبطة أو متفلتة عن الانضباط. وأما الظهور والانضباط، فيحتاج إليهما عند إجراء الأقيسة الجزئية وعند تقديم الأحكام لعموم المكلفين.

_ 1 تعليل الأحكام، 13. 2 أي عنده هو. 3 أي دفع المشقة، كما رأينا. 4 وعلى المصطلح المتأخر: السفر هو العلة، والمشقة حكمة. 5 قال العراقي: متفق عليه، وقال صاحب "التيسير" أخرجه الخمسة "من تعليقات الشيخ عبد دراز، الموافقات، 1/ 200". 6 اصطلاحًا وإلا فالسبب الحقيقي هو العلة نفسها. 7 أي دفع هذه المفسدة هو العلة. 8 الموافقات، 1/ 265.

وعلى أساس هذا المعنى الأصلي لمصطلح العلة، تفرع مصطلح "التعليل" بمعناه العام، وهو تعليل أحكام الشريعة بجلب المصالح ودرء المفاسد. والحقيقة أننا لو أردنا أن نضع لمصطلح التعليل مرادفًا واضحًا، يناسب موضوع المقاصد، ويبعد بنا عن الجدل الذي دار ذات يوم حول مسألة التعليل1، لكان هذا المرادف هو: مصطلح "التقصيد". لأن تعليل الأحكام -في حقيقته- هو تقصيد لها. أي تعيين لمقاصدها. فالتعليل يساوي التقصيد. وقد استعمل الشاطبي مصطلح "تقصيد" مرة واحدة، وإن كان ذلك في سياق مختلف قليلًا عما نحن فيه. وذلك في نهاية الجزء الثالث من "الموافقات" وفي سياق التحذير من الجرأة على تفسير كلام الله وتحديد معانيه، بمجرد الرأي. لأن تفسير المفسر للقرآن هو: "تقصيد منه للمتكلم، والقرآن كلام الله. فهو يقول بلسان بيانه: هذا مراد الله من هذا الكلام. فليتثبت أن يسأله الله تعالى: من أين قلت عني هذا؟ فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد. وإلا فمجرد الاحتمال يكفي، بأن يقول: يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا"2. المقاصد والمعاني: مصطلح "المعاني" -أو المعنى، في حالة الإفراد- هو أيضًا من الألفاظ التي كثيرًا ما يعبر بها عن المقاصد، وخاصة عند الفقهاء. فيقولون: شرع هذا الحكم لهذا المعنى، أو: المعنى المصلحي لهذا الحكم هو كذا. وقد رأينا -قبل قليل- أن الشيخ ابن عاشور يقول في تعريف المقاصد: "وهي المعاني والحكم". والتعبير عن المقاصد بالمعاني كثير عند الشاطبي، كما في قوله: "الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخرى، هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها"3.

_ 1 انظر ذلك في الفصل الأول من الباب الثالث. 2 الموافقات، 3/ 424. 3 الموافقات، 2/ 385 - انظر أيضًا: 144-154.

وهذا الاستعمال نجده عند الغزالي، كما في قوله: "وعلى الجملة: المفهوم من الصحابة اتباع المعاني، والاقتصار في درك المعاني على الرأي الغالب دون اشتراط درك اليقين"1. وقبل الغزالي، نجد هذا المصطلح بكثافة، عند شيخه أبي المعالي الجويني "إمام الحرمين"، وخاصة في كتاب الاستدلاك من "البرهان"، وإن كان يلاحظ أن يستعمل مصطلح المعنى، والمعاني بمفهوم أوسع، بحيث يدخل فيه -على وجه التقريب- ما يسمى اليوم بالمبادئ والقيم، كما يطلق على المصالح بصفة عامة. وقيل هؤلاء جميعًا، نجد الإمام الطبري يستعمل هذا المصطلح مرادفًا تمامًا للمقاصد، حيث حدد مقاصد الزكاة في مقصدين أساسيين، فقال: "والصواب من ذلك عندي: أن الله جعل الصدقة في معنيين، أحدهما: سد خلة المسلمين، والآخر: معونة الإسلام وتقويته"2. وسيأتي هذا النص بتمامه، في الفصل الأخير من هذا البحث إن شاء الله تعالى، مع توضيحه والتعليق عليه. ويبدو من خلال هذه النماذج التي قدمت وغيرها أن التعبير بالمعنى والمعاني كان هو السائد عند المتقدمين، ثم زاحمته، وحلت محله شيئًا فشيئًا ألفاظ: العلة والحكمة، والمقصود. ومما يؤكد هذا ما قاله فخر الإسلام البزدوي، ووضحه شارحه عبد العزيز البخاري. قال البزدوي، وهو يعرف الفقه ويذكر أقسامه: "والقسم الثاني: إتقان المعرفة به، وهو معرفة النصوص بمعانيها"3. قال الشارح: "والمراد من المعاني: المعاني اللغوية, والمعاني الشرعية، التي تسمى عللا. وكان السلف لا يستعملون لفظ العلة. وإنما يستعملون لفظ: المعنى، أخذا من قوله عليه السلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث "

_ 1 شفاء الغليل، 195. 2 جامع البيان، 10/ 113. 3 كشف الأسرار، عن أصول فخر الإسلام البزدوي، 1/ 12.

أي علل. بدليل قوله: إحدى، بلفظة التأنيث، وثلاث بدون الهاء"1. وقد أبى ابن حزم -بظاهريته الحازمة- أن يسكت عن استعمال لفظ المعاني للدلالة على حكم الشريعة وعللها، وكأنما رأى فيه استدارجًا من مستوى المعاني الظاهرية إلى نوع من التعليل والتقصيد لنصوص الشرعية. وفي ذلك نسف للظاهرية. ولذلك حمل بشدته المألوفة على الذين يعبرون عن العلل بالمعاني، فقال: "وقد سمى بعضهم العلل معاني. وهذا من عظيم شغبهم وفاسد متعلقهم. وإنما المعنى تفسير اللفظ، مثل أن يقول قائل: ما معنى الحرام فتقول: هو كل ما لا يحل فعله. أو يقول: ما معنى الفرض فتقول: هو كل ما لا يحل تركه. أو يقول: ما الميزان فتقول له: آلة يعرف بها تباين مقادير الأجرام. فهذا وما أشبههه هو المعاني"2. وعلى كل، فابن حزم يؤكد ضمنيا ما تقدم من إطلاق لفظ المعنى والمعاني على مقاصد الأحكام، بغض النظر عن إنكاره هو لهذا الإطلاق، حرصًا على ظاهريته. وبقيت هناك ألفاظ أخرى، تستعمل أحيانًا للتعبير عن المقاصد، وقد يأتي ذكر بعضها فيما بعد، مثل: الغرض، والمراد، والمغزى. على أننا لا نعدم فروقًا بين هذه الألفاظ، رغم أنها تستعمل للتعبير عن مضامين متقاربة ومتداخلة. ولست الآن معنيا بهذا التدقيق والتفريق. معنى نظرية المقاصد: مصطلح نظرية -وهو مصطلح حديث- يستعمل بمعان مختلفة. ذكر منها الدكتور جميل صليبا خمسة، أقربها إلى المعنى الذي أريد اثنان منها، وهما اللذان بينهما بقوله:

_ 1 كشف الأسرار، عن أصول فخر الإسلام البزدوي، 1/ 12. 2 الأحكام في أصول الأحكام، 8/ 101.

وعلى هذا يمكن القول: إن النظرية أعم وأوسع من القاعدة، وإن النظرية تنطوي على عدد من القواعد. ولكن نظرية المقاصد تندرج فيها النظريات الفقهية والقواعد الفقهية معًا، فضلًا عن الأحكام الجزئية. وإذا كانت النظرية الفقهية -كما يرى الدكتور جمال الدين عطية- هي عبارة عن "تصور يقوم بالذهن، سواء استنبط بالتسلسل الفكري المنطقي، أو استمد من استقراء الأحكام الفرعية الجزئية"1، فإن نظرية المقاصد تقوم على هذين الأساسين معًا، أي: التسلسل الفكري المنطقي، الذي ينبع من النظر العقلي ومن الأسس العقدية للإسلام، وكذا النتائج الاستقرائية. فنظرية المقاصد ينتجها النظر العقلي المنطقي القويم، الذي يرى أن شريعة الله، لا يمكن إلا أن تكون شريعة حكمة ورحمة، وشريعة عدل وإنصاف وشريعة تدبير موزون وتقدير مضبوط، لأن هذه سنة الله المطردة في كل مخلوقاته، ولأن هذا هو مقتضى كمالاته سبحانه. ونظرية المقاصد يسندها ويوقف عليها استقراء تفاصيل الشريعة، فإن من تصفح أحكام الشريعة ونصوصها في مختلف مناحيها ومجالاتها أدرك الكثير من حكمها وعللها ومراميها. ومن نظر في آثارها ونتائجها رأى ما وراءها من مصالح تجلبها ومفاسد تدفعها. ومن تأمل في هذه وتلك، خرج بتصور شامل متكامل عن مقاصد الشريعة ومراميها. وتلك هي: نظرية المقاصد. وفوق هذا وذاك، فإن نظرية المقاصد، تجد سندها القريب فيما نطقت به النصوص القطعية، ثبوتًا ودلالة، من تعليلات لإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع. وهي تعليلات تنبئنا أن الله تعالى إنما أراد بهذا كله الرحمة للعالمين، وتزكية الناس وتعليمهم، وإقامة القسط بينهم، وحفظ فطرتهم في إيمانها ومكارم أخلاقها. فعلى هذا الأساس تنبني نظرية المقاصد، لتصبح نظرية تحكم تفاصيل الشريعة، وتحكم كل فهم لها، وتوجه كل اجتهاد في إطارها. ونقطة الانطلاق في

_ 1 التنظير الفقهي، ص 9.

هذا هي: التسليم الجازم بكون الشريعة إنما وضعت لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم في الدنيا والآخرة. وللمصالح والمفاسد -كما تحددها مقاصد الشريعة- مفهوم خاص له مميزاته الخاصة. فالمصالح غير الأهواء الجامحة والنزوات العابرة، بل المصالح في الإسلام أبعد وأرقى من المفاهيم السطحية القاصرة السائدة. ومن هذه المنطلقات تحدد نظرية المقاصد سلم المصالح والمفاسد، الضرورية منها، ثم الحاجية والتكميلية، ثم تتشعب هذه النظرية لتلقي بظلالها الوارفة على جميع قضايا الشريعة وجزئياتها على ما سنرى، من خلال ما كتبه الشاطبي رحمه الله، ومن خلال التعقيبات والإضافات التي اقتضاها توضيح نظرية الشاطبي. هذه هي النظرية التي أفنى الشاطبي عمره، في رسم هيكلها، وإبراز معالمها، والدفاع عن أهميتها وضرورة العمل بمقتضاها. فكان رحمه الله خير من خاض لججها، وخير من قدم لنا دررها، وجنى لنا ثمرها. ومن هنا كان لا بد من البدء بالشاطبي، وبما قاله الشاطبي. ولم يكن من اللائق إنجاز بحث عن مقاصد الشريعة دون إنجاز بحث مفصل ودراسة معمقة لما انتهى إليه الشاطبي. ذلك أن البحث في مقاصد الشريعة إلى اليوم لما يتجاوز، أو لما يصل إلى ما وصل إليه الشاطبي. فأرجو أن يكون هذا البحث خطوة مفيدة في هذا الطريق، طريق الاستيعاب الكامل لنظرية المقاصد عند الشاطبي، ومواصلة السير في دراسة مقاصد الشريعة جملة وتفصيلًا. وقبل الدخول في عرض نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ودراسة بعضها الآخر، قبل ذلك قدمت بابا تمهيديا -ستتضح فائدته وضرورته- عرضت فيه لفكرة المقاصد عند الأصوليين، وفكرة المقاصد في المذهب المالكي. كما وضعت بين يدي نظرية الشاطبي فصلا عن الشاطبي نفسه، وهو أمر لا بد منه، خاصة وأن ما كتب وصدر عن الشاطبي حتى الآن ما يزال قليلًا وهزيلًا، بالرغم من التقدير الكبير والاهتمام البالغ، اللذين أصبح الشاطبي يحظى بهما. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم

الباب الأول: المقاصد قبل الشاطبي

الباب الأول: المقاصد قبل الشاطبي مدخل ... البالب الأول: المقاصد قبل الشاطبى رغم أن هذا البحث مخصص لنظرية المقاصد عند الإمام أبي إسحاق الشاطبي، فإن من المفيد جدًا، استطلاع الكلام في المقاصد قبل الشاطبي. وأهمية هذا الاستطلاع تتمثل في الفوائد التالية: 1- إعطاء مدخل تاريخي وموضعي لنظرية الشاطبي. فقبل أن نتوغل -مع الشاطبي- في قضايا المقاصد، وفي بعض تفصيلاتها، نمر مرورًا تدريجيا على بعض المقدمات، وبعض الجوانب من الموضوع. 2- نستبين -بصفة إجمالية- الخطوات التي تمت قبل الشاطبي في الكشف عن مقاصد الشريعة وبيان أهميتها، مما يسمح لنا بوضع الأمور في نصابها، وتقدير كل واحد قدره. 3- نضع أيدينا -بشيء من التفصيل والتحديد- على بعض جذور نظرية الشاطبي ومآخذها. وندرك حدود التقليد والتجديد يها. ولتحقيق الفائدتين الثانية والثالثة، لا بد من الانتباه والمقارنة طيلة فصول البحث, وإن كنت سأعمل على إبرازهما بإيجاز، في أواخر هذا البحث بحول الله تعالى. وبما أن العناية بمقاصد الشريعة، ميدانها الطبيعي هو الفقه، وأصول الفقه، يمارسها الفقهاء تطبيقًا وتفصيلًا، ويمارسها الأصوليون تنظيرًا وتأصيلًا، مما يحتم أن الشاطبي قد استفاد من هؤلاء وهؤلاء، وبنى على ما أصلوه ومهدوه، فقد كان لا بد أن ألتفت إلى الجانبين معًا. ولهذا جاء هذا الباب مكونًا من فصلين هما: 1- فكرة المقاصد عند الأصوليين. 2- فكرة المقاصد في المذهب المالكي. ولم أقل: فكرة المقاصد عند الفقهاء، لأن الجانب الفقهي عند الشاطبي منحصر-إلى حد كبير- في المذهب المالكي والفقه المالكي. فضلًا عما سيتضح -بحول الله- من خصوصية علاقة المذهب المالكي بمقاصد الشريعة. وقد آثرت -بعد تردد طويل- أن أبدأ بالأصوليين، رغم أن علم الفقه أسبق من علم الأصول، ورغم ما أصبحت مقتنعًا به، من كون الفقهاء أكثر دراية وعناية

بمقاصد الشريعة من الأصوليين. وإنما كان هذا الإيثار، لأن "إظهار" المقاصد، ولفت الانتباه إليها بشكل مستقل، جاء مع الأصوليين لا مع الفقهاء. فبينما كان الفقهاء منهمكين في بناء الفقه، وتطبيق مقاصده، قام الإصوليون يبرزون معالم ذلك البناء، ويصفون أسسه وأركانه. ولهذا افترض أن الشاطبي قد تنبه -أول ما تنبه- إلى مقاصد الشريعة، من خلال المؤلفات الأصولية. ذلك أن قارئ أي كتاب من أمهات الكتب الأصولية، أو حتى من مختصراتها وحواشيها، سيجد شيئًا اسمه "مقاصد الشريعة"، وأنه يفيد في ضبط كذا وكذا، وفي ترجيح كذا على كذا، بينما قارئ الفقه ودارسه، قد يدرس عشرات الكتب الفقهية، ويتقن عشرات الأبواب الفقهية، دون أن يكتشف -أو يكشف له- أن هناك روحا يسري في أبواب الفقه وجزئياته، يوجهها ويقيدها ويكيفها. ألا وهو: مقاصد الشارع في التشريع. وحتى إذا اكتشف -بعد مراس طويل- شيئًا من ذلك، فإنه يكتشفه غامضًا مجزءًا. فيحتاج إلى أشواط أخرى من الدراسة والنظر. وعلى أساس هذا الافتراض رجحت البداية بالأصوليين. ومما يزيد الأمر رجحانًا، أن التناول الإجمالي، والكلام الإجمالي في مقاصد الشريعة، هو عمل أصولي لا فقهي. وأيضًا، فإن البدء بالأصوليين هو بدء بالجانب المجمل الموطأ من مقاصد الشريعة، ثم تنتقل إلى شيء من التفصيل والتمثيل. وعلى كل حال فهذا ترجيح تنظيمي ليس إلا.

الفصل الأول: فكرة المقاصد عند الأصوليين

الفصل الأول: فكرة المقاصد عند الأصوليين مدخل ... الفصل الأول: فكرة المقاصد عند الأصوليين قبل التطرق لذكر أبرز الحلقات الأصولية، التي نجد فيها ذكر مقاصد الشريعة، وتوضيح بعض جوانبها، والتي سأبدأها -بحول الله تعالى- بحلقة: الجويني والغزالي، قبل ذلك أشير إلى أن هؤلاء الذين سأذكرهم، مسبوقون -ولا شك- في التفطن لمقاصد التشريع الإسلامي، كما هم مسبوقون بأشواط علمية عظيمة في الفقه وأصوله عمومًا. وإنما اقتصرت على ذكر نماذج وحلقات معينة من الأصوليين الذين تكلموا في مقاصد الشرعية، للأسباب التالية: 1- لأن هؤلاء قد جمعوا واستوعبوا في مؤلفاتهم الكثير جدًا مما راج قبلهم من آراء واجتهادات ونظريات. 2- لأن كثيرًا من المؤلفات الأصولية للقرنين الثالث والرابع، قد ضاعت، أو هي في حكم الضياع على الأقل. 3- لأن عنايتي -في هذا الفصل وغيره- متجهة إلى ما كتب في مقاصد الشرعية، أما ما لم يكتب، ولم يوضح في المؤلفات فليس بداخل في هذا التتبع، إلا أن تأتي الإشارة إليه من خلال بعض المؤلفات التي سيقع التعرض لها. 4- لأن ما سيأتي على ذكره، هو ما وصلت إليه يدي، وانتهى إليه علمي. والأمر يتعلق بقرون وقرون فيحتاج إلى جهود وجهود.

حلقات سابقة

حلقات سابقة: وقبل أن ننطلق مع السلسلة الأصولية التقليدية، التي تسلسلت بشكل متصل واضح من الغزالي وشيخه الجويني، إلى ابن السبكي، وشيخه السبكي حلقات سابقة: وقبل أن ننطلق مع السلسلة الأصولية التقليدية، التي تسلسلت بشكل متصل واضح من الغزالي وشيخه الجويني، إلى ابن السبكي، وشيخه السبكي

الأب. قبل ذلك، لا بد من وقفة للتعريف والتنبيه على حلقات أصولية وعلمية سابقة على هذه السلسلة. وأقتصر فيها على بعض مشاهير العلماء والأصوليين، الذين كان لهم أثر واضح في موضوعنا، أو كان لهم أثر كبير على من بعدهم ممن تكلموا في موضع المقاصد، مما يحتم علينا الافتراض بأن ما قاله اللاحقون عن مقاصد الشريعة، يحتمل أن يكون بعضه قد قاله، أو مهد له، سابقوهم. الترمذي الحكم "أبو عبد الله محمد بن علي": وقد اختلف في سنة وفاته اختلافًا كبيرًا. ولكن المتفق عليه، هو أنه من أهل القرن الثالث. والخلاف في: هل عاش إلى أواخره؟ وهل عاش إلى أوائل القرن الرابع؟ والحكيم الترمذي: قد لا يعد فقيهًا ولا أصوليا "بالمعنى التخصصي"، فهو قد عرف صوفيا فيلسوفًا "= الحكيم"، ولكنه مع هذا، يستحق أن يذكر، بل ينبغي أن يذكر، في مقدمة العلماء الذين اعتنوا بمقاصد الشريعة، ولو على طريقته الخاصة. فهو من أكثر العلماء عناية بتعليل أحكام الشريعة وبحثًا عن أسرارها. وهو من أقدم العلماء الذين استعملوا لفظ "المقاصد"، ولعله أقدم من وضع كتابًا خاصًا في المقاصد الشرعية، ووضع لفظ المقاصد في عنوان كتابه، وأعني بهذا كتابه: "الصلاة ومقاصدها". وهو -لحسن الحظ- موجود ومطبوع1. فهو كتاب في صميم موضوعنا، وإن كان صاحبه ينحو في تعليلاته منحى ذوقيا إشاريا، أكثر منه منحى علميا منضبطًا. وهذه نماذج من تعليله لمقاصد الصلاة أقوالًا وأفعالًا: "فبذكر الله يرطب القلب ويلين، وبالشهوات يقسو القلب وييبس، فإذا اشتغل القلب عن ذكر الله بذكر الشهوات كان بمنزلة شجرة إنما رطوبتها ولينها من الماء، فإذا منعت الماء يبست عروقها وذبلت أغصانها. وإذا منعت السقي أصابها حر القيظ، فيبست الأغصان، فإذا مددت غصنًا منها إلى نفسك لم ينقد

_ 1 حققه الأستاذ حسني نصر زيدان.

لك وانكسر. فلا تصلح هذه الشجرة إلا أن تقطع فتصير وقودًا للنار. فكذلك القلب إنما ييبس إذا خلا من ذكر الله، وأصابته حرارة النفس وملاذ الشهوات، فامتنعت الأركان من الطاعة. فإذا مددتها انكسرت ولا تصلح إلا أن تكون حطبًا للنار الكبرى"1. ثم يقول: "فكل صلاة هي توبة، وما بين الصلاتين غفلة وجفوة، وزلات وخطايا: فبالغفلة يبعد من ربه، فإذا بعد أشر وبطر، لأنه يفتقد الخشية والخوف، وبالجفوة يصير أجنبيا، وبالزلة يسقط وتنزلق قدمه فتنكسر، وبالخطايا يخرج من المأمن فيأسره العدو. فأفعال الصلاة مختلفة على اختلاف الأحوال من العبد: فبالوقوف يخرج من الآباق، لأنه لما انتشرت جوارحه، نقصت تلك العبودية وأبق من ربه. فإذا وقف بين يديه فقد جمعها من الانتشار ووقف للعبودية، فخرج من الآباق. وبالتوجه إلى القبلة يخرج من التولي والإعراض. وبالتكبير يخرج من الكبر. وبالثناء يخرج من الغفلة، وبالتلاوة يجدد تسليمًا للنفس وقبولًا للعهد. وبالركوع يخرج من الجفاء، وبالسجود يخرج من الذنب، وبالانتصاب للتشهد يخرج من الخسران. وبالسلام يخرج من الخطر العظيم"2. ثم أخذ في تفصيل هذه الإشارات المجملة في بقية فصول الكتاب. وللترمذي الحكم كتاب آخر يبدو أنه على غرار كتابه السابق، وهو: "الحج وأسراره". ورغم أن هذا الكتاب لم يتم تحقيقه ونشره، فقد طمأننا أحد الباحثين على وجوده مخطوطًا3.

_ 1 الصلاة ومقاصدها، 9-10. 2 الصلاة ومقاصدها، 12. 3 ذكر ذلك الأستاذ محمد على البجاوي، في مقدمة لتحقيق كتاب الترمذي الأمثال من الكتاب والسنة، "ص12-13" وأنه ضمن مجموع من مؤلفات الترمذي، يوجد له أصلان: أحدهما في المكتبة الوطنية باريس، بخط مغربي، والآخر بمكتبة عاشر أفندي بالأستانة. وتوجد صورة لهما بدار الكتب المصرية.

ولعل أهم ما كتبه في موضوعنا هو كتابه الذي يذكر باسم: "العلل" و"علل الشريعة" و"علل العبودية"، ويذكر الأستاذ محمد عثمان الخشت أنه "حاول فيه تعليل الفرائض تعليلًا عقليا"1. ولعل الأستاذ الخشت اعتمد في هذا على ما جاء في "دائرة المعارف الإسلامية" وهو: "وقد أراد الترمذي أن يخرج تخريجًا عقليا الفرائض الشرعية في كتبه: علل العبودية، وشرح الصلاة، والحج وأسراره"2. والمؤسف أن كتاب "علل العبودية" الذي سماه السبكي "علل الشريعة" لا يذكر له وجود، فيما رأيت. وكل ما يذكر أنه كان -هو وكتاب ختم الولاية3- سبب محنته وإخراجه من "ترمذ"4، ولعله، لهذا السبب، قد وقع إتلافه في زمن مبكر. ومن مؤلفات الحكيم الترمذي، التي تؤكد زيادته بصفة عامة، كتابه "الفروق"، قال عنه السبكي: "ليس في بابه مثله: يفرق فيه بين المداراة والمداهنة، والمحاجة والمجادلة، والمناظرة والمغالبة، والانتصار والانتقام، وهلم جرا من أمور متقاربة المعنى"5. والظاهر أن القرافي قد أخذ فكرة كتابه واسمه من ههنا! أبو منصور الماتريدي "ت 333": والإمام الماتريدي غني عن أي تعريف، فحسبه أن جماهير عريضة من علماء المسلمين وعامتهم، ينتسبون إليه وإلى مذهبه الكلامي: "الماتريدية". والأحناف كلهم على مذهب الماتريدي في الكلام، كما يوافقهم غيرهم من أهل العلم. والمهم عندي الآن، هو أن هذا الإمام الجليل من أئمة أهل السنة، له مؤلفات أصولية، هي في حكم الضياع. ومكانة الماتريدي وإمامته، تجعلنا نتطلع

_ 1 في مقدمة تحقيقه لكتاب المنهيات للترمذي، ص13. 2 نقله الأستاذ البجاوي، في مقدمته سالفة الذكر، ص12. 3 يذكرهما الأستاذ البجاوي على أنهما كتاب واحد، رغم الاختلاف الواضح في الموضوعين، وقد ذكرها السبكي -وغيره- كتابين مفترقين. 4 السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، 2/ 20. 5 السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، 2/ 20.

إلى مؤلفاته الأصولية بكثير من التقدير، وخاصة في هذه المرحلة المتقدمة. ولعل أهم تلك المؤلفات هو كتابه "مأخذ الشرائع". وحسب شهادة أحد الدارسين المهتمين بأبي منصور وبتراثه العلمي، فإن كتابه هذا -وغيره من الكتابات الأصولية له- يعد ضمن القسم المفقود من مؤلفات الماتريدي. فقد تكلم الدكتور فتح الله خليف عن مؤلفاته، وعن تفسيره "تأويلات أهل السنة"، ثم قال: "حفظ لنا الزمن هذا التفسير، كما حفظ لنا كتاب التوحيد وكتاب المقالات. أما كتبه الأخرى، فقد ضاعت كلها"1. أبو بكر القفال الشاشي "القفال الكبير" "ت 365": وهو من كبار الأصوليين المتقدمين، وإمام الشافعية في وقته بلا منازع، وهو أحد شراح رسالة الشافعي. ومن مؤلفاته، "أصول الفقه" و"محاسن الشريعة". وظاهر أن الكتاب الثاني -بصفة خاصة- ذو صلة وطيدة بموضوع مقاصد الشرعية. إذ لا يتأتى إبراز محاسن الشريعة إلا بكشف حكمها ومقاصدها. ومما يؤكد أهمية هذا الكتاب أن الإمام ابن القيم ذكره وأثنى عليه الثناء الحسن2. وهذا يرجح أن الكتاب كان موجودًا إلى زمن ابن القيم على الأقل. أبو بكر الأبهري "ت 375": وأهم ما يستلفت قارئ ترجمته3 هو: أنه جمع بين الرسوخ في الفقه وفي الأصول. وألف فيهما معًا. قال الخطيب البغدادي: "وله التصانيف في شرح مذهب مالك والاحتجاج له، والرد على من خالفه"4. ومن مؤلفاته الأصولية: "كتاب الأصول" و"كتاب إجماع أهل المدينة"، ويبدو لي أن منها أيضًا كتابه: "مسألة الجواب والدلائل والعلل".

_ 1 عن مقدمته لكتاب التوحيد، للماتريدي. وهو الذي قام بتحقيق هذا الكتاب. 2 في كتابه: مفتاح دار السعادة، ومنشور ولاية العلم والإرادة، 2/ 42. 3 انظرها في ترتيب المدارك، وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض: 6/ 183-192. 4 المرجع السابق، 188.

وإذا صح أن كتابه الأخير في الأصول -وهو الظاهر- فإن لكلمة "العلل" أهميتها الخاصة في موضوعنا. كما يستلفتنا في ترجمته، ذلك التقدير الكبير الذي كان يحظى به لدى علماء كل المذاهب الفقهية، حتى ذكر -مما ذكر فيه- أن أصحاب الشافعي وأبي حنيفة، كانوا إذا اختلفوا في أقوال أئمتهم، يسألونه فيرجعون إلى قوله1. وأما المالكية فقد كان إمامهم بلا منازع. ولكن أهم ما استوقفني في ترجمته، هو أنه قد تخرج على يديه فوج كبير من فطاحل الفقهاء والأصوليين، ممن كان لهم أثر بعيد في عصرهم، وفيما بعد عصرهم. حتى قال القاضي عياض "ولم ينجب أحد بالعراق من الأصحاب -بعد إسماعيل القاضي- ما أنجب أبو بكر الأبهري"2. ومن أشهر أصحابه: الإمام الأصيلي، وابن خويز منداد، وأبو الحسن بن القصار، والقاضي عبد الوهاب، والقاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني، وهو أشهرهم وأهمهم في موضوعنا. الباقلاني "ت 403": وهو الملقب بشيخ السنة ولسان الأمة، إمام وقته3، ويعد مجدد المائة الرابعة. ولعل هذه الإشارات وحدها، كافية في الدلالة على مكانة الرجل، وحياته الحافلة بالجهاد العلمي بمختلف جبهاته. ولكن الذي يعنينا -على وجه الخصوص- هو منزلته الأصولية. ويبدو لي أنه يمثل المنعطف الثاني في مسيرة علم الأصول، بعد المنعطف الأول الذي يمثله الإمام الشافعي.

_ 1 ترتيب المدارك، 6/ 185. 2 ترتيب المدارك 6/ 187- 188. 3 ترتيب المدارك، 7/ 44.

فإذا كان الشافعي قد أدخل علم أصول الفقه في مرحلة التأليف والتدوين، فإن الباقلاني قد انتقل بالتأليف الأصولي إلى مرحلة التوسع الشمولي، وإلى مرحلة التمازج والتفاعل مع علم الكلام1. وهو تفاعل كانت له فوائده وأضراره. ومن القرائن والإشارات الدالة على التحول الذي عرفه علم الأصول على يد الباقلاني، ما يلي: 1- كتابه الضخم "التقريب والإرشاد في ترتيب طرق الاجتهاد". ومما يدل على ضخامته، أنه هو نفسه اختصره مرتين، وجعل منه "الإرشاد المتوسط" و"الإرشاد الصغير". ونقل الدكتور محمد حسن هيتو2، عن ابن السبكي قوله عن هذا الكتاب: "وهو أجل كتب الأصول، والذي بين أيدينا منه هو المختصر الصغير، ويبلغ أربع مجلدات، ويحكى أن أصله كان في اثني عشر مجلدًا". وهو توسع كبير في التأليف الأصولي، لم يسبق مثله، وقل نظيره حتى بعد ذلك. وله أيضًا3: "المقنع في أصول الفقه" و"الأحكام والعلل" و"كتاب البيان عن فرائض الدين وشارئع الإسلام" وكلها كتب لها صلة، ويمكن أن يكون لها تأثير فيما قيل بعد ذلك من مقاصد الشريعة. 2- ومما يدل على التأثير الكبير للباقلاني، في عصره، وفيما بعد عصره، أن مؤلفاته وآراءه الأصولية قد شغلت الأصوليين وهيمنت على كتاباتهم: فإمام الحرمين اختصر كتابه "التقريب" في كتاب سماه "التلخيص". وهو حيثما تكلم في كتابه "البرهان" إلا وتجد "القاضي" حاضرًا، وتجد آراءه محور كلام الجويني تأييدًا، أو معارضة، أو توضيحًا، أو استدراكًا. وقريب من هذا نجده في مؤلفات القرن الخامس الأخرى، كما عند الشيرازي والغزالي وغيرهما، ثم مؤلفات العصور اللاحقة.

_ 1 هذا لا يعني أن الاحتكاك والتأثير بين علمي الأصول والكلام لم يبدأ إلا مع الباقلاني، لكن المفروض والظاهر أن ذلك معه على نطاق واسع، لما سيأتي، ولكونه قد جمع الإمامة في الفقه وأصوله "على المذهب المالكي" والإمامة في علم الكلام "على المذهب الأشعري". 2 في مقدمته لكتاب المنخول، ص8. 3 ترتيب المدارك، 7/ 69-70.

3- ونقل الشيخ مصطفى عبد الرزاق عن "البحر المحيط" "مخطوط" للزركشي قوله -وهو يسجل تطور التأليف الأصولي بعد الشافعي-: "وجاء من بعده، فبينوا وأوضحوا، وبسطوا وشرحوا، حتى جاء القاضيان: قاضي السنة أبو بكر بن الطيب، وقاضي المعتزلة عبد الجبار. فوسعا العبارات، وفكا الإشارات، وبينا الإجمال، ورفعا الإشكال، واقتفى الناس بآثارهم"1. وإذا علمنا أن القاضي الباقلاني، متقدم على القاضي عبد الجبار "ت 415"، وأنه توسع في أصول الفقه أكثر -بكثير- من القاضي عبد الجبار، علمنا أن التحول الذي يشير إليه الزركشي يصدق على الباقلاني قبل غيره، وأكثر من غيره. كما يصدق عليه -أكثر مما يصدق على عبد الجابر- ما ذهب إليه الشيخ مصطفى عبد الرزاق، من: "أن المتكلمين -منذ القرن الرابع الهجري- وضعوا أيديهم على علم أصول الفقه، وغلبت طريقتهم فيه طريقة الفقهاء، فنفذت إليه آثار الفلسفة والمنطق واتصل بهما اتصالًا وثيقًا"2. فكون الباقلاني من أهل القرن الرابع مسألة لا غبار عليها، أما القاضي عبد الجبار فقد عاش في القرن الخامس شوطًا ذا بال. فلا غرو أن يعد من أهله. على أن كتاب "العمد" للقاضي عبد الجبار، قد تم حفظه، من خلال شرحه "المعتمد"، لأبي الحسين البصري المعتزلي "ت 436". وقد نظرت في مختلف مباحثه، فلم أجد فيه شيئًا من مقاصد الشريعة. وأنتقل الآن إلى الحلقات البارزة، من الأصوليين، الذين تعرضوا لذكر مقاصد الشرعية، بقدر أو بآخر، لأقدم أهم ما ذكروه في الموضوع، مما أمكنني الوقوف عليه:

_ 1 تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، 249. 2 تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، 249.

إمام الحرمين "ت 478 هـ": يعتبر إمام الحرمين "أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني" حلقة كبيرة، ومحطة بارزة، في مسيرة علم أصول الفقه، وهذه حقيقة معروفة مسلمة في تاريخ هذا العلم. ولا تحتاج إلى برهان أكثر من "البرهان"1 نفسه. فقد أصبح "البرهان" منطلق الكتابة والتأليف في أصول الفقه لمن بعده، مثلما كانت "الرسالة" للإمام الشافعي، منطلق الكتابات الأصولية خلال القرنين الثالث والرابع، بل إلى أيام أبي المعالي، حيث إن والده -المتوفى سنة 438- هو أحد شراح "الرسالة". وحسبنا من أهمية إمام الحرمين في علم أصول الفقه، أنه صاحب أكثر تأثير وأعمقه، عن تلميذه الإمام أبي حامد الغزالي، الذي فاق شيخه شهرة ومكانة، وأول المؤلفات الأصولية للغزالي -وهو "المنخول"- ليس إلا ملخصات أمينة لآراء أبي المعالي2.

_ 1 هو أهم الكتب الأصولية لإمام الحرمين. وقد حققه قبل بضع سنوات الدكتور عبد العظيم الديب، وطبع في مجلدين. 2 صرح بهذا الغزالي نفسه، في نهاية المنخول حيث قال: "هذا تمام القول في الكتاب مع الإقلاع عن التطويل، والتزام ما فيه شفاء الغليل، والاقتصار على ما ذكره إمام الحرمين رحمه الله في تعاليقه، من غير تبديل وتزييد".

الحلقات الشهيرة

2- الحلقات الشهيرة: وأما في موضوعنا -مقاصد الشريعة-، فإن للجويني -حتى الآن- ريادة لا ينازعه فيها أحد. وحتى ريادة الغزالي في هذا الباب، فهي مدينة -إلى حد كبير- لشيخه "الإمام". وريادة الجويني في موضوع المقاصد تتجلى -أولًا- في كثرة ذكره لها، وتنبيهه عليها؛ فقد استعمل لفظ المقاصد، والمقصود، والقصد، عشرات المرات، في كتابه "البرهان"، كما أنه كثيرًا ما يعبر عن المقاصد بلفظ الغرض، والأغراض. ومن أمثلة ذلك أنه تعرض لتعليل الطهارات و"الغرض" منها، ثم انتقل إلى التيمم -وهو "طهارة" يصعب تعليلها- فقال بلسان الفقهاء: "التيمم أقيم بدلًا غير مقصود في نفسه، ومن أمعن النظر ووفاه حقه، تبين أن الغرض من التيمم: إدامة الدربة في

إقامة وظيفة الطهارة، فإن الأسفار كثيرة الوقوع في أطوار الناس1، وإعواز الماء فيها ليس نادرًا. فلو أقام الرجل الصلاة من غير طهارة، ولا بدل عنها، لتمرنت نفسه على إقامة الصلاة من غير طهارة. والنفس ما عودتها تتعود. وقد يفضي ذلك إلى ركون النفس إلى هواها، وانصرافها عن مراسم التكليف ومغزاها"2. ومن تنبيهاته على أهمية مراعاة المقاصد، أنه -في سياق الرد على الكعبي المعتزلي الذي اشتهر بإنكار المباح في الشريعة3- قال: "ومن لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي، فليس على بصيرة في وضع الشريعة"4. غير أن أهم ما أسهم به أبو المعالي في لفت الانتباه إلى مقاصد الشريعة، وفي تحريك الكلام فيها، هو ما أورده في باب: تقاسيم العلل والأصول، من كتاب القياس5. فبعد أن عرض آراء العلماء فيما يعلل وما لا يعلل من أحكام الشرع، وذكر نماذج لتعليلاتهم، وأثر كل ذلك في إجراء الأقيسة في الأحكام قال: "هذا الذي ذكره هؤلاء أصول الشريعة. ونحن نقسمها خمسة أقسام"6. وظاهر من عبارته الإشعار بأن هذا التقسيم من وضعه، وأنه غير مسبوق به. وقبل أن أذكر تقسيمه الخماسي للعلل والمقاصد الشرعية، أشير إلى أنه أتى به ليبين من خلاله ما يصح إجراء القياس فيه وما لا يصح. أما الأقسام الخمسة للعلل -أو التعليلات- الشرعية، فهي: - القسم الأول: ما يتعلق بالضرورات، مثل القصاص، فهو معلل بحفظ الدماء المعصومة، والزجر عن التهجم عليها7.

_ 1 ومثلها الأمراض. 2 البرهان، 2/ 913. 3 انظر مبحث المباح في فصل قادم بعنوان: أبعاد النظرية. 4 البرهان، 1/ 295. 5 البرهان، 2/ من 923 إلى 964. 6 البرهان، 2/ 923. 7 البرهان، 2/ 923 و927.

- القسم الثاني: ما يتعلق بالحاجة العامة، ولا ينتهي إلى حد الضرورة. وقد مثله بالإجارات بين الناس1. - القسم الثالث: ما ليس ضروريا ولا حاجيا حاجة عامة. وإنما هو من قبيل التحلي بالكرامات، والتخلي عن نقائضها. وقد مثله بالطهارات2. - القسم الرابع: وهو أيضًا لا يتعلق بحاجة ولا ضرورة، ولكنه دون الثالث، بحيث ينحصر في المندوبات3. "فهو -في الأصل- كالضرب الثالث، الذي انتجز الفراغ منه، في أن الغرض المخيل: الاستحثاث على مكرمة لم يرد الأمر على التصريح بإيجابها، بل ورد الأمر بالندب إليها"4. - القسم الخامس: هو ما لا يظهر له تعليل واضح ولا مقصد محدد، لا من باب الضرورات، ولا من باب الحاجات، ولا من باب المكرمات، قال: "وهذا يندر تصوره جدا"5 أي أن هذا الصنف نادر جدا في الشريعة. لأن كل أحكامها -تقريبًا- لها مقاصد واضحة وفوائد ملموسة. ولهذا فإنه رغم تمثيله هذا القسم الذي لا يعلل، بالعبادات البدنية المحضة، التي "لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية"6، أي لا يظهر فيها درء مفسدة ولا جلب مصلحة، فإنه سرعان ما نبه على أن هذه العبادات، يمكن تعليلها تعليلًا إجماليًّا، وهو أنها تمرن العباد على الانقياد لله تعالى، وتجديد العهد بذكره، مما ينتج النهي عن الفحشاء والمنكر، ويخفف من المغالاة في اتباع مطالب الدنيا، ويذكر بالاستعداد للآخرة. قال: "فهذه أمور كلية، لا ننكر على الجملة أنها غرض الشارع في التعبد بالعبادات البدنية، وقد أشعر بذلك نصوص من القرآن العظيم في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 7، 8.

_ 1 البرهان، 2/ 924 و930. 2 البرهان، 2/ 924 و937. 3 البرهان، 2/ 925 و947. 4 البرهان، 2/ 947. 5 البرهان، 2/ 926. 6 البرهان، 2/ 926. 7 سورة العنكبوت، 45. 8 البرهان، 2/ 958.

فلم يبق إذن، إلا بعض أحكامها التفصيلية، مما يعسر تعليله ويتعذرالقياس عليه، كهيئات الصلاة. وأعداد ركعاتها، وكتحديد شهر الصوم ووقته1. ولنعد إلى التقسيم الخماسي للعلل والمقاصد الشرعية، فقد سبق التنبيه -واعتمادا على كلام الإمام نفسه- على أن القسمين الثالث والرابع، يمكن دمجهما في قسم واحد. ويؤكد هذا أنه عندما ذكر القسم الخامس نص على أنه لا يدخل لا في الضرورات، ولا في الحاجات، ولا في المحاسن2. فحصر الأقسام الأخرى في ثلاث. ثم إذا جئنا إلى هذا القسم الخامس، نجد أنه قد قسمه -ضمنيًا- إلى ما يعلل تعليلًا إجماليًا، وإلى ما لا تعليل له. وإذن، فما وقع تعليله، فيجب إلحاقه بأحد الأقسام الثلاثة، فهو إما من الضروريات، وإما من الحاجات، وإما من المحاسن. وما تعذر تعليله، فهو ليس مما نحن فيه، أي تقسيم العلل. فلا يبقى عند التحقيق إلا ثلاثة أقسام. والذي أريد أن أخلص إليه من هذا: هو أن إمام الحرمين رحمه الله، هو صاحب الفضل والسبق في التقسيم الثلاثي لمقاصد الشارع "الضروريات - الحاجايات - التحسينيات"، وهو التقسيم الذي سيصبح من أسس الكلام في المقاصد. كما أنه صاحب فضل وسبق في الإشارة إلى الضروريات الكبرى في الشريعة، وهي التي سيتم حصرها فيما بعد تحت اسم "الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال". ومن تنبيهاته في هذا الصدد، ما جاء في قوله: "فالشريعة متضمنها: مأمور به، ومنهي عنه، ومباح. فأما المأمور به: فمعظمه العبادات وأما المنهيات: فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر

_ 1 البرهان، 2/ 958. 2 لمزيد من التفصيل، انظر الفضل المخصص لمسألة التعليل من الباب الثالث.

وبالجملة: الدم معصوم بالقصاص. والفروج معصومة بالحدود. والأموال معصومة عن السراق بالقطع1. أبو حامد الغزالي "ت 505 هـ": الإمام الغزالي -كما أشرت قبل قليل- هو امتداد لشيخه أبي المعالي. فقد تشيع بفكره وآرائه، واصطبغ كثيرًا بمنهجه واختياراته. ولكنه -مع هذا كله- لم يقف عند حدود ما وقف عنده الإمام، سواء في علم أصول الفقه عمومًا، أو في مقاصد الشريعة خصوصًا. بل نقح وحور، وأضاف وطور. فصار -هو أيضًا- صاحب فضل وسبق، وصاحب المكانة المرموقة في مسيرة علم أصول الفقه، وفي العناية بمقاصد الشرعية على وجه الخصوص. وأصبحت منزلته بالنسبة إلى شيخه، يصدق عليها ما قاله شيخه نفسه، وهو يلتمس المرجحات لمذهب الشافعي على غيره2. حيث قال: "السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس والتأصيل، فللمتأخر الناقد حق التتميم والتكميل. وكل موضوع على الافتتاح، قد يتطرق إلى مبادئه بعض التثبيج3، ثم يتدرج المتأخر إلى التهذيب والتكميل فيكون المتأخر أحق أن يتبع لجمعه المذاهب إلى ما حصل السابق تأصيله. وهذا واضح في الحرف والصناعات، فضلًا عن العلوم"4. وإذا كان الإمام الغزالي لم يأت بجديد يذكر، في مؤلفه الأصولي الأول -وهو "المنخول من تعليقات الأصول"- فإنه قد تقدم كثيرًا في التنقيح والتطوير، في كتابه "شفاء الغليل، في بيان الشبه والمخيل، ومسالك التعليل" ثم انتهى إلى ما هو أوضح وأنضج في كتاب "المستصفى من علم الأصول". أما في "شفاء الغليل"، فقد تعرض لذكر المقاصد في سياق كلامه على "مسلك المناسبة" من مسالك التعليل. وهذا المسلك يقوم على أساس تعليل

_ 1 البرهان، 2/ 1151. 2 وخاصة على المذهبين الحنفي والمالكي. 3 الغموض والاضطراب. 4 البرهان، 2/ 1147.

الأحكام الشرعية بما تتضمنه وتفضي إليه من جلب مصلحة أو دفع مفسدة. ولهذا قال: "المعاني المناسبة: ما تشير إلى وجوه المصالح وأماراتها. والمصلحة ترجع إلى جلب منفعة أو دفع مضرة. والعبارة الحاوية لها: أن المناسبة ترجع إلى رعاية أمر مقصود"1. فالمناسبات المصلحية التي يصح التعليل بها، هي التي تتضمن رعاية مقصود من مقاصد الشارع، "وما أنفق عن رعاية أمر مقصود فليس مناسبًا. وما أشار إلى رعاية أمر مقصود، فهو مناسب"2. وهذا التقييد الذي وضعه للتعليل المصلحي -أو التعليل بالمناسبة- بأنه ينبغي أن يتضمن رعاية مقصود من مقاصد الشارع، نجده في "المستصفى" أصرح وأوضح. وذلك عند تعرضه لحجية الاستصلاح -أو المصلحة المرسلة- حيث عرف المصلحة المعتد بها بقوله: "نعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشارع"3 ثم عاد في نهاية بحثه للمصلحة المرسلة ليقرر ما يمكن اعتباره فصل الخطاب في مدى حجية الاستصلاح، فقال رحمه الله: "فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع4، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلاتئم تصرفات الشرع، فهي باطلة مطرحة. وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودًا بالكتاب والسنة والإجماع، فليس خارجًا من هذه الأصول. لكنه لا يسمى قياسًا، بل مصلحة مرسلة"5 إلى أن قال: "وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف في اتباعها. بل يجب القطع بكونها حجة"6. وفي "شفاء الغليل"، كما في "المستصفى"، حدد لنا أمهات المقاصد الشرعية، التي عليها مدار كل مقصود، شرعي، وكل مصلحة شرعية: ففي

_ 1 شفاء الغليل، 159. 2 شفاء الغليل، 159. 3 المستصفى، 1/ 286. 4 الأصوب -فيما رأى- أن يقال: فهم من الكتاب أو السنة أو الإجماع، ولعل هذا ما يقصده. 5 المستصفى، 1/ 310-311. 6 المستصفى، 1/ 311.

الكتاب الأول نجده يقسم مقصود الشرع إلى ديني ودنيوي1، ثم ينص على أنه "قد علم على القطع أن حفظ النفس، والعقل، والبضع، والمال، مقصود في الشرع"2. ثم أورد لكل مقصود من هذه المقاصد الأربعة، ما يدل عليه: - حفظ النفس، يدل عليه شرع القصاص في القتل. - وحفظ العقل دل عليه تحريم الخمر. - وحفظ البضع واضح في تحريم الزنى والعقوبة عليه. - والمال محفوظ بمنع التعدي على ملك الغير، وإيجاب الضمان، والقطع في السرقة. ثم قال: "وقد نبه على مصالح الدين في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، وما يكف عن الفحشاء فهو جامع لمصالح الدين. وقد تقترن به مصلحة الدنيا أيضًا"3. وفي "المستصفى" أعاد هذه المقاصد الجامعة، ولكن بشكل أكثر إحكامًا وتنقيحًا، فلم يقسمها إلى دينية ودنيوية، ربما لأنه أحس بإمكان الاعتراض عليه، بأن هذه المقاصد كلها دينية ودنيوية في آن واحد. خاصة وأنه قد أشار إلى هذا في نهاية قوله السابق. فالنهي عن الفحشاء والمنكر، هو نفسه النهي عن القتل، وعن السكر، وعن الزنى، وعن السرقة. ولهذا، فبدل وضعه المصالح الدينية، بإزاء المصالح الدنيوية، جعل في مقدمة المقاصد الشرعية الضرورية: "حفظ الدين" ومصلحة الدين -أو ضرورة الدين- هنا تعني: أصل الدين، وهو المتمثل في الإيمان بالله وتوحيده وعبادته. ودليل هذا أنه قال: "ومثاله أي حفظ الدين: قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم"4.

_ 1 شفاء الغليل، 159. 2 شفاء الغليل، 160 3 شفاء الغليل، 161. 4 المستصفى، 1/ 287.

وبهذا خرج عن الإشكال، وتجنب الاعتراض على تقسيم المصالح إلى دينية ودنيوية. كما أنه عدل عن لفظ "البضع"، الذي استعمله في "شفاء الغليل" إلى لفظ أكثر دقة ووضوحًا، وهو لفظ "النسل" وهكذا أصبحت صياغة المقاصد الأساسية كما يلي: "ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو: أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم"1. ومن آرائه التي نجد أصلها في "شفاء الغليل"، ثم أحكامها في "المستصفى، ما يتعلق بحفظ هذه الضروريات في الشرائع السابقة، فقد قال في "الشفاء" عن حفظ النفوس: "وهو الذي لا يجوز انفكاك شرع عنه عند من يقول بتحسين العقل وتقبيحه"2، ويعني بهم المعتزلة، ولكنه سرعان ما تبنى هذا الرأي دون حاجة إلى نسبته إلى أهل التحسين والتقبيح، فقال عن حفظ العقل وتحريم المسكر لأجله: "فهذا أيضًا مما لا يجوز أن تنفك عنه عقول العقلاء، ولا أن يخلو عنه شرع مهد بساطه لرعاية مصلحة الخلق في الدين والدنيا. فلم تشتمل ملة قط على تحليل مسكر، وإن اشتملت على تحليل القدر الذي لا يسكر من جنس المسكر. وكذلك القول في مقصود البضع والمال وما يقع على هذه الرتبة"3. ثم قرر في "المستصفى" -بعبارة جامعة حاسمة- أن حفظ الأصول الخمسة: "يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق. ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنى، والسرقة، وشرب المسكر"4. وسيرا على خطى شيخه إمام الحرمين، فقد قسم المصالح الشرعية حسب درجة قوتها ووضوحها، وعلى هذا الأساس فإن المصالح منها ما هي في رتبة

_ 1 المستصفى، 1/ 287. 2 شفاء الغليل، 162. 3 شفاء الغليل، 164. 4 المستصفى، 1/ 288.

الضرورات، ومنها ما هي في رتبة الحاجات، ومنها ما هي في رتبة التحسينيات والتزيينات. ولكل مرتبة مكملات"1. وقد جاء هذا التقسيم عند الإمام الغزالي على درجة كبيرة من الوضوح والاستقرار، مع إبرازه لما بين المراتب الثلاث من تفاضل وتكامل، وإعطائه الأمثلة الكافية لكل مرتبة، ولمكملات كل مرتبة، من المراتب الثلاث، وإن كانت مسألة تصنيف الأحكام الشريعة في هذه المراتب، وفي مرتبتي الحاجات والتحسينات بصفة خاصة، إنما هو عمل اجتهادي تقريبي ليس إلا. وقد أصبحت هذه الخطوات التي خطاها الإمام الغزالي، وأصبحت هذه المبادئ التي نقحها وحررها في مقاصد الشريعة، هي المبتدأ والمنتهى لعامة الأصوليين الذين جاءوا بعده. حتى نصل إلى الإمام الشاطبي، الذي يمثل المنعطف الثالث في تاريخ علم أصول الفقه. ولعل من الأسباب التي خلدت كلمات الإمام الغزالي عن مقاصد الشريعة، وجعلت الأصوليين -لعدة قرون- لا يتجاوزون تكرارها، هو أنها جاءت تتويجًا لما سبقه من الإشارات والتنبيهات في هذا الموضع، وتتويجًا لخطواته هو نفسه. ولهذا اتسمت -كما سبقت الإشارة- بدرجة عالية من التنقيح والتركيز والوضوح. أعني: في كتابه الأخير "المستصفى". فخر الدين الرازي "ت 606": يمكن القول -باختصار- إن الإمام الرازي قد أورد في كتابه "المحصول" كل ما سبق عند الجويني والغزالي. ولا غرابة في هذا، فكتابه إنما هو تلخيص لكتب "المعتمد"، لأبي الحسين البصري، و"البرهان" للجويني، و"المستصفى" للغزالي. ومما يذكر في ترجمته أنه كان يحفظ "المعتمد" و"المستصفى" عن ظهر قلب2.

_ 1 شفاء الغليل، 161-172. والمستصفى، 1/ 286-293. 2 انظر: نهاية السول، للأسنوي، 1/ 4.

على أن مما يمكن أن يذكر للرازي -رحمه الله- هو أنه أطال وأجاد في الدفاع عن تعليل الأحكام، في وقت كانت فيه فكرة التعليل قد بدأت تتعرض للتراجع والتشكيك. وسيأتي ذكر موقفه هذا في مناسبة قادمة1. كما يلاحظ أنه لا يلتزم ترتيب الغزالي للضروريات الخمس بل لا يلتزم فيها ترتيبًا واحدًا. فهو تارة يذكرها على هذا النحو: النفس، والمال، والنسب، والدين، والعقل2. وتارة يذكرها كما يلي: النفوس، والعقول، والأديان، والأموال، والأنساب3. ولاحظ أيضًا أنه يعبر بالنسب بدل النسل. بينما التعبير بالنسل أصح. فحفظ النسب هو المقصود، وهو الذي يرقى إلى مرتبة الضرورات العامة، أما حفظ النسب، فهو من مكملات حفظ النسل. سيف الدين الآمدي "ت 631": وكتاب الآمدي "الإحكام في أصول الأحكام"، هو تلخيص آخر للكتب الثلاثة السابقة: "المعتمد، والبرهان، والمستصفى". إلا أن الجديد المفيد عند الآمدي، هو أنه أدخل المقاصد في باب الترجيحات، وبالذات في الترجيح بين الأقيسة المتعارضة. وهو ما سيصبح سنة حسنة فيمن بعده من الأصوليين. فقد نص على ترجيح المقاصد الضرورية على الحاجية، وترجيح هذه على التحسينية. كما ترجح المصالح الأصلية على مكملاتها، وترجح مكملات الضروريات على مكملات الحاجيات4.

_ 1 انظر ذلك في نهاية الفصل الأول من الباب الثالث. 2 المحصول، الجزء 2، القسم 2/ 217-218. 3 المرجع السابق، ص612. 4 الإحكام، 4/ 376.

ثم تطرق -وربما لأول مرة- إلى بيان كيفية ترتيب الضروريات الخمس والترجيح بينها بناء على ذلك، ودافع عن الترتيب الذي اختاره. ورغم أنه عندما ذكر هذه الضروريات للمرة الأولى، ذكرها على ترتيب الغزالي، فقال: "المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل، ولا شريعة من الشرائع هي: الدين والنفس، والعقل، والنسل، والمال"1. فإنه عند تفصيل القول في الترجيح بينها، اختار تقديم حفظ النسل على حفظ العقل، كما هو الشأن في تقديم حفظ النفس على حفظ العقل. لأن حفظ العقل إنما هو فرع لحفظ النفس والنسل. فبحفظهما يقع حفظ العقل، وبفواتهما يفوت العقل أيضًا. أما حفظ العقل فلا يتضمن حفظ النفس والنسل، بل لا يتصور هو نفسه بدون حفظهما2. وقد أطال -رحمه الله- في الدفاع عن تقديم حفظ الدين على حفظ النفس، ومما قاله في ذلك: "فما مقصوده حفظ أصل الدين يكون أولى، نظرا إلى مقصوده وثمرته من نيل السعادة الأبدية في جوار رب العالمين. وما سواه من حفظ الأنفس والعقل والمال وغيرها. فإنما كان مقصودًا من أجله، على ما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3". ثم رد بتفصيل على احتمال القول بتقديم حفظ النفس على حفظ الدين، وأبطل ما يمكن أن يستدل به على ذلك. ومن النقط الجديدة عند الآمدي، تنصيصه صراحة على كون الضروريات منحصرة في هذه الخمسة، حيث قال: "والحصر في هذه الخمسة الأنواع إنما كان نظرًا إلى الواقع، والعلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة4". وبعده

_ 1 الإحكام، 3/ 394. 2 الإحكام، 4/ 380. 3 الإحكام، 4/ 377. 4 الإحكام، 3/ 394.

أخذ الأصوليون يصرحون بانحصار الضروريات في هذه الخمسة، وأن الاستقراء دل على ذلك، بينما الإمام الغزالي -الذي سمى هذه الضروريات- اقتصر على حصرها ضمنيا، ولم يصرح بذلك. وعلى كل، فحصر الضروريات في هذه الخمسة، وإن كان قد حصل فيه ما يشبه الإجماع، يحتاج إلى إعادة النظر والمراجعة، وليس هذا مقام ذلك. وقد تأتي إشارات أخرى، في مواضع قادمة من هذا البحث إن شاء الله تعالى. وبعد الرازي والآمدي، توقفت عقارب الساعة, وأصحبت التآليف الأصلية التقليدية1 عبارة عن مختصرات لما سبق، وشروح للمختصرات، وتلخيصات للشروح، وتعليقات على التلخيصات. وقد يجهد أحدهم نفسه فيحول بعض ذلك نظمًا، ثم يتطوع آخر -أو هو نفسه- فينشر ذلك النظم. وهكذا حتى نصل إلى "جمع الجوامع"، أو -على الأصح- إلى "جمع الموانع"، أعني موانع التجديد والتغيير والمراجعة والتقدم العلمي وموانع حتى من التعامل المباشر مع مؤلفات المتقدمين، فلم يبق بعد "جمع الجوامع" إلا حفظه والتحشية عليه. ابن الحاجب "ت 646": وهو دائر في فلك الآمدي، يقول: "والمقاصد ضربان: ضروري في أصله، وهي أعلى المراتب كالمقاصد الخمسة التي روعيت في كل ملة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وغير ضروري، وهو ما تدعو الحاجة إليه في أصله، كالبيع والإجارة"2. وعندما تعرض للترجيحات، نص على ترجيح الضروريات على الحاجيات. إلى آخر ما عند الآمدي.

_ 1 إشارة إلى وجود استثناءات خارجة عن هذه السلسلة التقليدية. وهي الاستثناءات التي توجهها الإمام الشاطبي، موضوع هذا البحث، وسيأتي إلى ذكر نماذج من هذه الاستثناءات التي ظلت تنبض بالحياة، ولا تزال طائفة. 2 منتهى الوصول والأمل، في علمي الأصول والجدل، 182.

ثم تطرق إلى الترجيح فيما بين الضروريات نفسها. فنص على ترجيح ضرورة الدين على بقية الضروريات، ثم قال: "وقد يرجح العكس، بأن حق الآدمي -لتضرره- مرجح على حق الله، لعلوه عن الضرر"1. ثم رد على هذا الرأي، مختصرًا ما قاله الآمدي بالضبط. وكذلك تابعه في تقديم حفظ النسل على حفظ العقل. البيضاوي "ت 685"- كالرازي- يقسم المقاصد إلى أخروية ودنيوية. فالأخروية كتزكية النفس. والدنيوية: إما ضرورية "كحفظ النفس بالقصاص، والدين بالقتال، والعقل بالزجر عن المسكرات، والمال بالضمان، والنسب بالحد على الزنا"2، وإما مصلحية كنصب الولي للصغير، وإما تحسينية كتحريم القاذورات. وأما الأسنوي "ت 772"، فلم يعلق على هذا الترتيب للضروريات بشيء. بل التزم به في شرحه للفقرة المتقدمة3. ولكنه ذكرها في موضع آخر على هذا النحو: "الضروريات الخمس، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب"4. واكتفى في باب التجريحات، بحكاية ترتيب الآمدي وابن الحاجب، دون أن يعلق بشيء أيضًا5. وهكذا تأرجح الأصوليون، في ترتيبهم للضروريات الخمس، ما بين ترتيب الغزالي، وتريتب الآمدي، أو عدم التزام ترتيب معين. وترتيب الغزالي والآمدي يتفقان في تقديم الدين، فالنفس، وفي تأخير المال. ويختلفان في النسل والعقل، أيهما يقدم وأيهما يؤخر؟ والأقرب إلى المنطق ما ذهب إليه الآمدي، علمًا بأن الغزالي لم يعلل ترتيبه ولم يدافع عنه.

_ 1 المرجع السابق، 227-228. 2 منهاج الوصول إلى علم الأصول، مع شرحه، 4/ 75. 3 نهاية السول في شرح منهاج الأصول، 4/ 82-84. 4 المرجع السابق، 388. 5 المرجع السابق، 515.

وإذا ثبت هذا، فلأعرج على بعض الأقوال التي تحتاج إلى تصحيح في موضوعنا هذا، وأعني ما قاله كل من: الدكتور وهبة الزحيلي، والدكتور محمد سعيد البوطي. - فالدكتور الزحيلي يقول: "يرتب المالكية والشافعية هذه الأصول، أو الضروريات الخمس على النحو الآتي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. ويرتبها الحنفية على النحو التالي: الدين، ثم النفس، ثم النسب، ثم العقل، ثم المال"1. والحقيقة أن ربط ترتيب هذه الضروريات بالمذاهب الفقهية، هو مجرد إقحام لا مسوغ له. فالمسألة، لا صلة لها -أصلًا- بالمذاهب. ثم إن نسبة ترتيب ما- أيا كان- إلى الحنفية، هو مجرد تكلف لا يقوم على أساس. فليس للحنفي دخل في هذه المسألة، ولا حتى للمالكية، وإن كان ابن الحاجب المالكي قد تابع ترتيب الآمدي، كما تابعه غيره. وقد أحالنا الدكتور الزحيلي في قوله السابق على مرجع حنفي هو "مسلم الثبوت". وهذا المرجع لا حجة فيه من جهتين: من جهة أن صاحبه متأخر جدا "ت 1119هـ"، ومن جهة أنه لم يضع ذلك الترتيب من عنده، ولا قدمه باسم المذهب الحنفي. وإنما تابع فيه الأصوليين الشافعية لا غير. ومعلوم أن "مسلم الثبوت" من المؤلفات الجامعة بين طريقتي الحنفية والشافعية، وهو عندما ذكر الضروريات لأول مرة، ذكرها وفق ترتيب الغزالي -وهو شافعي- أي بتقديم العقل على النسب2، وعندما أوردها في باب الترجيحات، اختار -على غرار صنيع الآمدي- أسبقية النسب على العقل3. والآمدي شافعي أيضًا. وإذن، فالترتيبان معًا، من وضع الأصوليين الشافعية، ثم تابعهم المالكية والحنفية. مع أن المسألة لا علاقة لها بالتمذهب الفقهي. وإنما هي محض اجتهاد شخصي.

_ 1 أصول الفقه الإسلامي 2/ 752-753. 2 مسلم الثبوت، مع شرح فواتح الرحموت، 2/ 262، مع التذكير بأن الغزالي يعبر بالنسل لا بالنسب. 3 المرجع السابق، 326.

- وأما الدكتور البوطي، فقد تبنى ترتيب الغزالي، وعلله من وجهة نظره، وبنى على ذلك ما بدا له من الأمثلة الفقهية، وكل هذا من حقه، ولا غبار عليه. ولكنه جازف وتكلف عندما قال: "الترتيب بهذا الشكل بين الكليات الخمسة، محل إجماع"1. وأظن أنني لست بحاجة إلى بيان ما في هذا الحكم من مجازفة، بعد كل ما أوردته سابقًا في الموضوع، فهو حسبي. ابن السبكي: "ت 771" ذكر الضروريات الخمس، حسب ترتيب الغزالي، إلا أنه -كالرازي وغيره- استبدل "النسب" بالنسل. ثم زاد إلى الخمسة سادسًا، حيث قال: "والضروري": كحفظ الدين، فالنفس، فالعقل، فالنسب، فالمال، والعرض"2. قال البناني في حاشية عليه: "وهذا -يقصد العرض- زاده المصنف، كالطوفي. وعطفه بالواو، إشارة إلى أنه في رتبة المال. وعطف كلا من الأربعة قبله بالفاء، لإفادة أنه دون ما قبله في الرتبة3. وإضافة العرض إلى الضروريات الخمس، ذكرها قبل الطوفي "المتوفي سنة 716"، القرافي "المتوفي سنة 684"، وهو يحكيها عمن قبله. قال: "الكليات الخمس، وهي: حفظ النفوس، والأديان، والأنساب، والعقول، والأموال. وقيل: الأعراض"4. وظاهر أن القرافي -بخلاف السبكي- لا يتبنى هذه الإضافة. وقد دافع الشوكاني عن هذه الزيادة إلى الضروريات الخمس فقال: "وقد زاد بعض المتأخرين سادسًا وهو: حفظ الأعراض؛ فإن عادة العقلاء بذل نفوسهم

_ 1 ضوابط المصلحة، 250. 2 جمع الجوامع، بحاشية البناني، 2/ 280. 3 جمع الجوامع، بحاشية البناني، 2/ 280. 4 شرح تنقيح الفصول، 391.

وأموالهم دون أعراضهم. وما فدي بالضروري فهو بالضرورة أولى. وقد شرع في الجناية عليه بالقذف، الحد. وهو أحق بالحفظ من غيره. فإن الإنسان قد يتجاوز عمن جنى عليه نفسه أو ماله، ولا يكاد أحد أن يتجاوز عمن جنى على عرضه ولهذا يقول قائلهم: يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول1 والحقيقة أن جعل "العرض" ضرورة سادسة، توضع إلى جانب ضرورات: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، إنما هو نزول بمفهوم هذه الضرورات، وبمستوى ضرورتها للحياة البشرية، كما أنه نزول عن المستوى الذي بلغه الإمام الغزالي، في تحريره المركز والمنقح لهذه الضرورات الكبرى. فبينما جعل الضروري هو حفظ النفس، نزل "بعض المتأخرين" إلى التعبير بالنسب، ثم إلى إضافة العرض! وهل حفظ الأنساب، وصون الأعراض إلا خادمان لحفظ النسل؟ ثم إن حفظ العرض، ينقصه الضبط والتحديد. فأين يبدأ وأين ينتهي؟ وما هو الحد الفاصل بين حفظ العرض وحفظ النسب؟ ولو جاز لنا أن نضيف ضرورة النسب وضرورة العرض، لجاز لنا أن نضيف -من باب أولى- ضرورة الإيمان، وضرورة العبادة، وضرورة الكسب، وضرورة الأكل إلى غير ذلك من الضرورات الحقيقية، المندرجة في الضرورات الخمس، والخادمة لها. وقد اعترض الشيخ ابن عاشور، على من جعلوا حفظ العرض من الضروريات، واعتبره من الحاجيات فقط. كما أنه لم يقبل جعل حفظ النسب من الضروريات إلا باعتباره يفضي إلى حفظ النسل2. والحق أن ما كان هذا شأنه، فهو مكمل للضروري، كما أشرت من قبل

_ 1 إرشاد الفحول، 216. 2 مقاصد الشريعة الإسلامية، 81-82.

وأعود إلى ذكر بعض العلماء، الذين خرجوا عن سلسلة التقليد والتكرار، ولعلل مما ساعد على تحررهم وتميزهم أنهم لم يكونوا أصوليين بالمعنى الضيق لهذا اللقب. بل كانوا أصوليين فقهاء. ولست أعني بهم الأصوليين الأحناف، الذين يعرفون أيضًا باسم "الأصوليين الفقهاء"، وتنعت طريقتهم في التأليف الأصولي بطريقة الفقهاء، أو بطريقة الأحناف، مقابل طريقة المتكلمين -وهي التي كنا معها- وأكثرهم شافعية. لست أعني الأصوليين الأحناف، لأنهم أقل التفاتا إلى مقاصد الشريعة من المتكلمين. وقد راجعت عددًا من مصنفاتهم، ما بين متقدم ومتأخر، فلم أجد فيها ما يستحق الذكر1. مع أن الفقهاء الحنفية من أكثر الفقهاء تعليلًا لأحكام الشريعة: معاملات وعبادات. والتفاتهم إلى العلل والمقاصد أكثر بكثير من الفقهاء الشافعية. ولكن هذا في الفقه وجزئياته. أما الأصوليون الفقهاء الذين أعنيهم -الآن- فهم بالتحديد: عز الدين بن عبد السلام وتلميذه القرافي، وابن تيمية وتلميذه ابن القيم. ومعلوم أن هؤلاء -بالإضافة إلى الشاطبي- هم من العلماء والمفكرين القدماء الذين غزوا عصرنا وذاعت كتبهم وأفكارهم ذيوعًا كبيرًا، وأصبح لهم حضور قوي في الكتابات المعاصرة، سواء في الفقه، أو أصول الفقه، أو مقاصد التشريع الإسلامي، أو في الفكر بصفة عامة, وما ذلك إلا لما اتسموا به من صدق واستقامة ووضوح وتحرر، في تفكيرهم ومواقفهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

_ 1 راجعت منها: - الفصول في الأصول، لأبي بكر الجصاص "ت 370". - تأسيس النظر، لأبي زيد الدبوسي "ت 432". - أصول البزدوي، فخر الإسلام "ت 482" وشرحه كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري "ت 730". - أصول السرخسي "ت 490". - التوضيح في حل غوامض التنقيح، لصدر الشريعة "ت 747"، وهو دائر في فلك البزدوي. وأما المتأخرون عن الشاطبي فلا داعي لذكرهم في هذا السياق.

عز الدين بن عبد السلام "ت 660": وقد اشتهر الإمام ابن عبد السلام -أكثر ما اشتهر- بكتابه الفريد "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، وهو كتاب يكاد يكون خاصًا في مقاصد الشريعة، سواء باعتبار كلامه الصريح في مقاصد الأحكام، أبو باعتبار أن الكلام في المصالح والمفاسد، هو كلام في مقاصد الشريعة، التي تتلخص في جلب المصالح ودرء المفاسد. والغريب أن صاحب "نيل الابتهاج" ذكر لابن عبد السلام كتابًا آخر -غير معروف له- في هذا الموضوع، اسمه "كتاب المصالح والمفاسد"، وأن الإمام ابن مرزوق الحفيد "ت 842"، درسه لبعض طلابه! وكان من الممكن الظن بأن هذا الكتاب هو نفسه كتاب "القواعد" لولا أنه ذكرهما معًا، جنبًا إلى جنب1. كما أن له كتابًا آخر، سماه السبكي "شجرة المعارف"، وقال عنه: "حسن جدا"2، ولكنه لم يذكر عن موضوعه شيئًا. غير أن الشيخ ابن عاشور، عند تفسيره للآية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 3. نقل عن "السيرة الحلبية": "أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام ألف كتابًا سماه "الشجرة" بين فيه أن هذه الآية اشتملت على جمع الأحكام الشرعية في سائر الأبواب الفقهية"4. وهذا يعني أن الكتاب في الفقه والتشريع، بل في أسس الفقه وفلسفة التشريع. والآية التي بنى عليها كتابه هذا، جامعة لمقاصد الشريعة الإسلامية، لأنها أمرت بجوامع المصالح، ونهت عن جوامع المفاسد، حتى قال عنها ابن مسعود: هي أجمع آية في القرآن5.

_ 1 نيل الابتهاج، 295. 2 طبقات الشافعية، 5/ 103. 3 سورة النحل، 90. 4 التحرير والتنوير، 14/ 260. 5 المرجع السابق، 259.

فالمفروض إذن، أن ابن عبد السلام قد عمل في هذا الكتاب، على ربط الأحكام الشرعية بأصولها ومقاصدها المجموعة في هذه الآية. وهذا عمل جليل فريد من نوعه. فهل يكون هذا الكتاب، والكتاب السابق، باقيين على قيد الحياة؟ سؤال لا أملك إلا أن أضعه بين أيدي المختصين وذوي الهمم من الباحثين. وأعود إلى الكتاب المتوفر بين أيدينا، وهو "قواعد الأحكام" لأقدم بعض فقراته الجامعة في موضوع المقاصد: ومنذ بداية الكتاب نجده ينص على أن: "معظم مقاصد القرآن: الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها"1. وهو ممن يرون أن الشريعة الإسلامية كلها، معللة بجلب المصالح ودرء المفاسد، سواء منها ما وقع النص على تعليله أو ما لم ينص عليه. فما نص على تعليله فيه تنبيه على ما لم ينص عليه. ويوضح هذا بقوله: "والشريعة كلها مصالح: إما تدرؤ مفاسد أو تجلب مصالح. فإذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرًا يحثك عليه، أو شرا يزجرك عنه، أو جمعًا بين الحث والزجر. وقد أبان في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد، حثا على اجتناب المفاسد، وما في بعض الأحكام من المصالح حثا على إتيان المصالح"2. ويؤكد -في موضع آخر- هذه "الكلية" في تعليل أحكام الشرع، وأنها -كلها-تقصد مصلحة العباد، فيقول: "التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم. والله غني عن عبادة الكل، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين"3. ويعرف كلا من مصالح الآخرة ومفاسدها، ومصالح

_ 1 قواعد الأحكام، 1/ 8. 2 قواعد الأحكام، 1/ 11. 3 قواعد الأحكام، 2/ 73

الدنيا ومفاسدها: "فمصالح الآخرة: الحصول على الثواب، والنجاة من العقاب. ومفاسدها: الحصول على العقاب، وفوات الثواب وأما مصالح الدنيا: فما تدعو إليه الضروريات أو الحاجات، أو التتمات والتكملات. وأما مفاسدها. ففوات ذلك بالحصول على أضداده"1. ويحدد المقصود من العبادات بقوله: "والمقصود من العبادات كلها: إجلال الإله وتعظيمه ومهابته والتوكل عليه والتفويض إليه"2. وأما التعليلات والمقاصد الجزئية للأحكام الشرعية، فالكتاب مليء بها. وانظر في ذلك -بصفة خاصة- الفصل الذي سماه: "قاعدة في اختلاف أحكام التصرفات لاختلاف مصالحها"3 لتجد عشرات من المقاصد الجزئية، ولترى كيف تدور الأحكام مع مقاصدها ومصالحها. وأكتفي بهذا القدر، فالكتاب أصبح رائجًا متداولًا، ثم إني سأعرض لبعض محتوياته في مناسبات قادمة. وأخيرًا، فإن ذكر ابن عبد السلام، يجر إلى ذكر تلميذه ووارث علمه وفكره، الإمام شهاب الدين القرافي، فهو من حسناته. غير أني -بعد تأمل ما قاله من المقاصد والمصالح- وجدته لا يكاد يخرج عما قاله شيخه، وإن فاقه ضبطًا وتحريرًا وتنظيمًا للقواعد والنظريات. وهذا التنبيه يكفي. ابن تيمية "ت 728": الإمام تقي الدين أحمد بن تيمية، لا يكاد يخلو كلام له عن الشريعة وأحكامها من بيان حكمها ومقاصدها، وإبراز مصالحها، ومفاسد مخالفتها وما سأذكره من كلامه في المقاصد ليس إلا قليلًا من كثير جدا. ففتاوى الرجل، وكتاباته الفقهية مليئة من مثل هذا:

_ 1 قواعد الأحكام، 2/ 72. 2 قواعد الأحكام، 2/ 72. 3 قواعد الأحكام، 2/ 143 وما بعدها.

فهو لا يفتأ يؤكد ويثبت "أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. وأنها ترجح خير الخيريين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وندفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما1. ثم يمضي يفصل الأمثلة من الأحكام الشرعية مطبقة على هذه القواعد الجامعة. وقد أمر الله العباد بأن يبذلوا غاية وسعهم في التزام الأصلح فالأصح، واجتناب الأفسد فالأفسد، وهذا هو الأساس الأكبر للتشريع الإسلامي: "فإن مدار الشريعة على قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} المفسر لقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" أخرجاه في الصحيحين، وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما، هو المشروع"2. ونأخذ نموذجًا تطبيقيا لكلامه في المقاصد، وهو بيانه لمقاصد الولايات الشرعية، من خلافة، وقضاء، وحسبة، وفي هذا يقول "أصل ذلك أن تعلم أن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله -سبحانه وتعالى- إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون"3. وفي موضع آخر يقول: "فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق، الذي متى فاتهم، خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم"4. ومقاصد الولايات الشرعية، إنما هي امتداد لوظيفة النبوات، وفرع لها، فمقاصد الولايات هي مقاصد النبوات. ولهذا نجده يربط بين الأمرين في قوله:

_ 1 مجموع الفتاوى، 20/ 48. 2 مجموع الفتاوى، 28/ 284. 3 مجموع الفتاوى، 28/ 61. 4 مجموع الفتاوى، 28/ 262.

"فالمقصود أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا. وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه. وهكذا قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} فالمقصود من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، أن يقوم الناس بالقسط، في حقوق الله وحقوق خلقه"1. وبناء على معرفة مقاصد الولايات الشرعية، ومعرفة ما تختص به وتتميز به كل ولاية ينبغي أن يتم تحديد من يصلح لكل ولاية: فإذا كان هذا هو المقصود، فإنه يتوسل إليه بالأقرب فالأقرب. وينظر إلى الرجلين، أيهما كان أقرب إلى المقصود ولي"2. ولهذا فعندنا تكون مقاصد الحكام هي مقاصد الشرع، فإنهم يسيرون على هدي هذا القانون, ويختارون للمناصب والولايات أصلح الناس لتحقيق مقاصدها الشرعية. فإذا اختلفت مقاصدهم عن مقاصد الشرع، فإنهم يختارون من يناسب مقاصدهم. وفي هذا يقول: "وأهم ما في هذا الباب: معرفة الأصلح. وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية، ومعرفة طريق المقصود. فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر. فلهذا لما غلب على أكثر الملوك قصد الدنيا دون الدين، قدموا في ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد، وكان من يطلب رئاسة نفسه، يؤثر تقديم من يقيم رئاسته3. ولابن تيمية رحمه الله، استدراك على الأصوليين في حصرهم لمقاصد الشرعية في المقاصد الخمسة المعروفة، حيث يرى أنها لا تشتمل مقاصد سامية عظيمة في الشريعة، وفي هذا يقول: "وقوم من الخائضين في أصول الفقه، وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة، إذا تكلموا في المناسبة، وأن ترتيب الشارع للأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد، ودفع

_ 1 مجموع الفتاوى، 28/ 263. 2 مجموع الفتاوى، 28/ 264. 3 مجموع الفتاوى، 28/ 620.

مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان: أخروية، ودنيوية، جعلوا الأخروية: ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم. وجعلوا الدنيوية: ما تضمن حفظ الدماء، والأموال، والفروج، والعقول، والدين الظاهر. وأعرضوا عن العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وأحوال القلوب وأعمالها: كمحبة الله, وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجا لرحمته ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة. وكذلك فيما شرعه من الوفاء بالعهود، وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه: حفظًا للأحوال السنية، وتهذيب الأخلاق، ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح"1. وهذا النص -لا شك- يشير تساؤلات عدة، ويستدعي تعليقًا مطولًا، ونقاشًا مفصلًا. ولكني في هذا الفصل المدخل، أعرض أكثر مما أعلق وأناقش. وقد قدمت من قبل إشارة تتعلق بإمكان المراجعة لما ساد عند الأصوليين من حصر المقاصد الضرورية في الخمس المعروفة. وإيرادي لنص ابن تيمية هو إشارة أخرى في الموضوع2. والمسألة تحتاج إلى بحث خاص. وأخيرًا، فإن ما قلته عن القرافي مع شيخه ابن عبد السلام يصدق تمامًا على ابن القيم "ت 751" مع شيخه ابن تيمية. على أن أمامنا مناسبات أخرى لا يراد بعض أقوال الرجلين والتعرف على بعض عطائهما في الموضوع.

_ 1 مجموعة الفتاوى، 32/ 234. 2 وللعلامة ابن فرحون المالكي "ت 799"، كلام يتوافق -نوعًا ما- مع كلام ابن تيمية، حيث قسم مقاصد الأحكام الشرعية إلى خمسة أقسام، ولم يجعل حفظ الضروريات الخمس إلا قسمًا واحدًا منها. "تبصرة الحكام، 2/ 105" ورغم أن كلام ابن فرحون -ككلام ابن تيمية أو أكثر- ينقصه التحرير والإحكام، فإنه يساعد على التفكير في مراجعة الحصر المشهور لأمهات المقاصد الشرعية.

الفصل الثاني: فكرة المقاصد في المذهب المالكي

الفصل الثاني: فكرة المقاصد في المذهب المالكي مدخل ... الفصل الثاني: فكرة المقاصد في المذهب المالكي تخصيص هذا الفصل للمذهب المالكي دون غيره من المذاهب الأخرى، يرجع إلى سببين: الأول: لأن هذا الفصل -كسابقه- هو مدخل لدراسة نظرية المقاصد عند الشاطبي، يساعدنا على فهمها وفهم أسسها، وتلمس جذورها. ومعلوم أن الشاطبي مالكي، بل نشأ في إحدى البيئات التي ساد فيها المذهب المالكي سيادة مطلقة، وأصبحت من أكثر البيئات الإسلامية انغلاقًا على مذهبها، وبعدا عن بقية المذاهب الأخرى. والثاني: هو ما وقفت عليه من خصائص المذهب المالكي التي جعلته أكثر المذاهب عناية بمقاصد الشريعة ورعاية لها. وهو ما لم يكن عندي أي فكرة عنه، قبل الدخول في شعاب هذا البحث، وتتبع خيوطه ومعطياته. ولكني، شيئًا فشيئًا، وجدت هذه الحقيقة تتكشف لي بوضوح متزايد، ووجدت أدلتها تتراكم بين يدي، ورأيت أثرها جليا فيما صنعه الشاطبي رحمه الله. وقبل أن أعرض أهم تلك الخصوصيات التي جعلت المذهب المالكي هو مذهب المقاصد الأول، أريد أن أوضح أمرًا، أزيح به بعض الالتباس الذي قد يحصل في الموضوع. وهذا الأمر هو في نفسه أولى الميزات التي بوأت المذهب المالكي مكانته في مراعاة المقاصد. والأمر الذي أريد البدء بتوضيحه هو:

ماذا أعني بالمذهب المالكي

ماذا أعني بالمذهب المالكي: فعادة عندما ينسب مذهب من المذاهب إلى شخص -ما كالمذهب الحنفي، والمذهب الشافعي، والمذهب الماتريدي، والمذهب الأشعري- فإن هذه

النسبة تشير إلى الدور التأسيسي، الذي اضطلع به ذلك الشخص، وإلى أن ذلك الشخص هو صاحب النظريات والأسس التي قام عليها ذلك المذهب. ولكن الأمر يختلف في نسبة المذهب المالكي إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله. ذلك أنه لم يؤسس مذهبه، ولم يضع أصوله وقواعده. وإنما وجد كل ذلك جاهزًا مستقرا، وورثه تاما ناضجًا، فسار عليه، واجتهد في إطاره. ومن هنا فإن قولنا: "المذهب المالكي" لا يكون سليمًا إلا بمعنى أن المذهب المالكي هو المذهب الذي ينتسب إليه مالك، وليس المذهب الذي ينسب إلى مالك. وبيان ذلك أن الإمام مالكًا -كما هو معلوم- ورث علم علماء المدينة، وبه كان يفتي، وعليه كان يبني. و"الموطأ" خير شاهد على هذا، فهو مليء بمثل هذه العبارات: الأمر المجتمع عليه عندنا، والأمر عندنا، وببلدنا، وأدركت أهل العلم، والسنة عندنا، وسمعت أهل العلم، والذي أدركت عليه الناس، وهذا أحب ما سمعت، أو أحسن ما سمعت. وكلها عبارات صريحة في أن الإمام كان يصدر عن "مذهب" قائم مستقر، علمًا وعملًا, وهذا أمر مقرر معلوم عند الدارسين لتاريخ الفقه الإسلامي. ومما هو معلوم ثابت أيضًا، أن هذا "المذهب" ليس إلا ما ورثه أتباع التابعين -ومنهم مالك- عن التابعين، وورثه هؤلاء عن الصحابة، وذلك في تسلسل جماعي، ومن خلال الرواية والتطبيق معًا. ولنتأمل هذا النص الذي نقله ابن فرحون في "الديباج" "ص25" حيث جاء فيه: "وقال ابن أبي أويس: قيل لمالك: قولك في الكتاب: الأمر المجتمع عليه، والأمر عندنا وببلدنا، وأدركت أهل العلم، وسمعت بعض أهل العلم. فقال: أما أكثر ما في الكتاب فرأي، فلعمري ما هو برأي، ولكن سماع من غير واحد من أهل العلم والفضل والأئمة المهتدى بهم الذين أخذت عنهم، وهم الذين كانوا يتقون الله تعالى، فكثر علي فقلت رأيي وذلك رأيي، إذ كان رأيهم رأي الصحابة الذين أدركوهم عليه، وأدركتهم أنا على ذلك. فهذا وراثة توارثوها قرنا عن قرن إلى زماننا. وما كان رأيا فهو رأي جماعة ممن تقدم من الأئمة. وما كان.

فيه: الأمر المجتمع عليه، فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم لم يختلفوا فيه. وما قلت: الأمر عندنا، فهو ما عمل به الناس عندنا وجرت به الأحكام وعرفه الجاهل والعالم. وكذلك ما قلت فيه ببلدنا. وما قلت فيه: بعض أهل العلم، فهو شيء أستحسنه من قول العلماء. وأما ما لم أسمع منهم، فاجتهدت ونظرت على مذهب من لقيته حتى وقع ذلك موقع الحق أو قريبًا منه حتى لا يخرج عن مذهب أهل المدينة وآرائهم. وإن لم أسمع ذلك بعينه فنسبت الرأي إليَّ بعد الاجتهاد، مع السنة وما مضى عليه عمل أهل العلم المقتدى بهم والأمر المعمول به عندنا منذ لدن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأئمة الراشدين مع من لقيت. فلذلك رأيهم ما خرجت إلى غيره". وجاء في "ترتيب المدارك": "قال حميد بن الأسود: كان إمام الناس عندنا بعد عمر: زيد بن ثابت، وبعده عبد الله بن عمر. قال علي بن المديني: وأخذ عن زيد -ممن كان يتبع رأيه- أحد وعشرون رجلًا، ثم صار علم هؤلاء إلى ثلاثة: ابن شهاب، وبكير بن عبد الله، وأبي الزناد. وصار علم هؤلاء كلهم إلى مالك بن أنس1. وقد نقل العلامة محب الدين الخطيب2، عن علامة الهند الكبير: ولي الله الدهولي، أنه كان يرى أن الفقه في عصر الصحابة كان منبعه -أساسًا- مجموعة معينة من الصحابة، وكان إمامهم ومركز حركتهم: عمر بن الخطاب، رضي الله عنهم أجمعين. ثم انتقل فقه عمر والصحابة إلى "فقهاء المدينة السبعة"، وهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.

_ 1 ترتيب المدارك: 1/ 77. 2 في كلمة له، منشورة بآخر كتاب "الموطأ"، طبعة محمد فؤاد عبد الباقي. وهي الطبعة المعتمدة في هذا الفصل.

وورث علمَ هؤلاء تلاميذهم من أمثال: ابن شهاب الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وزيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب، ونافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وربيعة الرأي، وأبي الزناد. وانتقل علم هؤلاء جميعًا إلى الإمام مالك بن أنس الأصبحي. وليس بين هذا القول وسابقه أي تعارض، فكل منهما يكشف جانبًا من الحلقات الجماعية التي تسلسل فيها فقه أهل المدينة. كما أن القولين معًا، يتفقان في أمر ذي بال، وهما طرفا هذه السلسلة: فهي تبتدئ من عمر بن الخطاب، وتنتهي إلى مالك بن أنس. ويؤكد الإمام ابن تيمية هذا -ويزيد عليه- بقوله: "وكان أهل المدينة فيما يعملون: إما أن يكون سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإما أن يرجعوا إلى قضايا عمر بن الخطاب. ويقال: أن مالكًا أخذ جل الموطأ عن ربيعة، وربيعة عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن المسيب عن عمر، وعمر محدث. وفي الترمذي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر". وفي الصحيحين عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد، فعمر" وفي السنن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر". وكان عمر يشاور أكابر الصحابة: كعثمان وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن، وهم أهل الشورى. ولهذا قال الشعبي: انظروا ما قضى به عمر فإنه كان يشاور"1. وإلى هذا وذاك، فعمر بن الخطاب هو رجل الدولة الكبير، رجل الدولة في سياستها، واقتصادها، وحربها وسلمها، وفي تشريعها وقضائها، وفي تعليمها وتربيتها. هو رجل الدولة الكبير، منذ قيامها على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى لحظة استشهاده رضي الله عنه، سنة 23 للهجرة. وهذا يعطي بلا بد، المرتبة العليا، في فقه الدين والدنيا.

_ 1 مجموع الفتاوى: 20/ 312-313.

فكيف إذا كان الرجل ملهمًا محدّثًا؟ وكيف إذا اعتصم بالسنة وتحصن بالشورى؟ عمر بن الخطاب هذا، هو الحلقة الأولى في المدرسة الفقهية لأهل المدينة، على ما رأينا. والذي يتصفح "الموطأ" -مجرد تصفح- يدرك بسهولة أن فقه عمر، وأقضية عمر، وفتاوى عمر، وسنن عمر مهيمنة عليه، بعد سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكذلك فإن الذين يتكلمون عن الأصول التي يتميز بها المذهب المالكي، لا يجدون أي صعوبة في إدراك أن تلك الأصول، إنما هي أصول "عمرية" قبل أن تكون أصولا "مالكية": فعمل أهل المدينة يرجع في كثير منه إلى عهد عمر، فضلا عما يرجع منه إلى السنة النبوية نفسها، وإلى سنن الخلفاء الراشدين عموما. وأما "المصالح المرسلة" و"سد الذرائع"، فعمر رائدها، وسياسته أحسن تطبيق لهما. فإذا كان لا بد أن ينسب "المذهب المالكي" إلى فرد، فليس هناك أحق من عمر. ولكن الأمر -مع هذا- أوسع من عمر واجتهادات عمر. الأمر يرجع قبل كل شيء إلى الإسلام نفسه. فكل ذلك متأصل فيه نابع منه، ثم جاءت تجربة عمر ومدرسة عمر، مدعمة بالرأي الجماعي للصحابة رضي الله عنهم، ثم توالت الحلقات العلمية الاجتهادية لفقهاء المدينة، ثم كانت حلقة مالك بن أنس. والاسم الذي يجمع فقه عمر، وفقه مالك، وما بينهما، هو: "مذهب أهل المدينة". وهو الاسم الذي كان يطلق إلى زمان مالك، وبعده، حتى حل محله -شيئًا فشيئًا- اسم "مذهب مالك"، ثم "المذهب المالكي"، بعد أن انتشرت العدوى وعمت البلوى بالانتساب إلى الأفراد والتقيد بهم. وهو باب من أبواب الجمود والانحطاط.

يقول العلامة عبد الحي بن الصديق: "كانت بدعة تقليد رجل واحد سببًا في حدوث بدعة أخرى أعظم قبحًا من سابقتها، تلك هي قيام كل أتباع مذهب بنصرة مذهبهم، والدعوة إلى وجوب تقليده وتحريم تقليد غيره من المذاهب. ومنهم من خرج عن حد الاعتدال وأولج في ذلك إلى حد الإفراط ولمز بعض الأئمة بما لا يجوز عند عاقل"1. فكلامي في هذا الفصل -أو في غيره- عن "المذهب المالكي" إنما هو كلام عن مذهب جماعي، جماعي قبل مالك وبعده، وإن كان الذي يعنيني أساسًا، هو ما قبل مالك، ومرحلة مالك. وذلك هو: "مذهب أهل المدينة". وإذا كان الأمر يتعلق بمذهب أهل المدينة، الذي يرجع إلى جمهور الصحابة والخلفاء الراشدين، وأبرزهم عمر، فهذا "المذهب" في غنى تام عن أي تكلف للدفاع عنه والانتصار له، وخاصة من مثلي. ولكن التذكير بالحقائق المسلمة، أو على الأقل الواضحة، أمر لا بد منه، وخاصة بعد أن تطاول العهد بها. ومما هو قريب المنال في هذا الصدد، ما كتبه الإمام ابن تيمية -وهو لحسن الحظ غير محسوب على "المذهب المالكي"- فقد كتب فصلًا مطولًا في أزيد من مائة صفحة، للتعريف بمذهب أهل المدينة وبيان أفضليته وأرجحيته أصولًا وفروعًا2. ومما جاء فيه قوله: "مذهبهم في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم، أصح مذاهب أهل المدائن شرقًا وغربًا، في الأصول والفروع"3. وقوله: "ثم من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة، وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد"4.

_ 1 نقد مقال في مسائل من علم الحديث والفقه وأصوله وتفضيل بعض المذاهب: ص85. 2 مجموع الفتاوى: 20/ من 294 إلى 396. 3 المرجع السابق: 294. 4 نفسه: 328.

ورغم أنه أطال وفصل في الموضوع، فقد قال: "وهذا باب يطول تتبعه. ولو استقصينا فضل علماء أهل المدينة وصحة أصولهم، لطال الكلام"1. ثم قال: "إذا تبين ذلك، فلا ريب -عند أحد- أن مالكًا رضي الله عنه، أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا. فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه"2. وإذن، فقد ظهر ماذا أعني بالمذهب المالكي، وظهر أنه مذهب ينتسب إليه مالك بن أنس، وأن هذا الإمام، ليس إلا حلقة من حلقاته، غير أنه كان -في عصره وفيما بعد عصره- أجمع الناس له رواية، وأكثرهم به دراية. فإذا تكلمت بعد هذا، عن بعض أصول المذهب المالكي وبعض قواعده، فلست أعني أن هذه الأصول ملك لمالك، وإنما مالك ملك لها، في فقهه واجتهاده.

_ 1 نفسه: 320. 2 نفسه: 320.

أصول المذهب المالكي والمقاصد

أصول المذهب المالكي والمقاصد المصلحة المرسلة ... أصول المذهب المالكي والمقاصد: وأعرض فيما يلي -بصفة خاصة- أهم الأصول المالكية، ذات الصلة القوية برعاية مقاصد الشريعة: 1- المصلحة المرسلة: ولا أريد أن أشتغل بتعريف المصلحة المرسلة، ومناقشة حجيتها، وتحقيق من يقول بها ومن لا يقول، إلى غير ذلك من المسائل التي تكفلت كتب الأصول ببيانها. وخصصت لها -في زمننا- كتابات ورسائل جامعية كثيرة. وسيأتي بعض من ذلك في مواضعه المناسبة من هذا البحث. وإنما أريد أن أنصرف إلى ما له صلة مباشرة بموضوعنا. وأول ذلك أن تحكيم المصلحة، والاحتجاج بها، مرجعه إلى الصحابة رضي الله عنهم. ورأسهم في ذلك عمر، وهو أمر متواتر عنهم. ولهذا قال الغزالي -رغم

شافعيته-: "الصحابة رضي الله عنهم هم قدوة الأمة في القياس، وعلم قطعًا اعتمادهم على المصالح"1. وهو في هذا يكرر ما قاله شيخه أبو المعالي -في مبحث الاستدلال، من كتابه: "البرهان"- حيث سلم بحجيته الاستدلال المصلحي، لأن ذلك من عمل الصحابة رضي الله عنهم، وهو كثير في فقهم وفتاويهم. ومن هنا أخذ به، مشترطًا أن تكون المصلحة شبيهة بما اعتبره الشارع من المصالح. وهو تحصيل حاصل عند القائلين بالمصلحة. والذي يهمنا أكثر، هو علاقة المصلحة بمقاصد الشارع، فقد اتضح من خلال الفصل السابق -وسيأتي ذلك بمزيد من التفصيل- أن العبارة الجامعة لمقاصد الشارع كلها، هي: جلب المصالح ودرء المفاسد. وهذا مطرد في جميع أحكام الشريعة. واطراده أظهر ما يكون في أحكام العادات والمعاملات. ومن هنا، يجب أن يكون الاجتهاد الفقهي قائمًا على أساس الاستصلاح، وأن يكون فهم النصوص والاستنباط منها قائمًا على أساس أن مقاصدها: جلب المصالح ودرء المفاسد، وأن يكون القياس عليها مراعيًا لهذا الأساس أيضًا. وهذا معنى مراعاة المصلحة في المذهب المالكي، فهو ليس مجرد الأخذ بالمصلحة المرسلة حيث لا نص ولا قياس. بل هو استحضار المصلحة عند فهم النص، وعند إجراء القياس، فضلًا عن حالات إعمال المصلحة المرسلة. وإنما عنونت هذه الفقرة بالمصلحة المرسلة، جريا على ما هو شائع ومعروف من تميز الأصول المالكية بأصل " المصلحة المرسلة". وإلا فإن المصلحة عندهم أبعد أثرًا من هذا. والأمر كذلك أيضًا في سائر المذاهب إلا الظاهرية، غير أن المذهب المالكي، كان أصرح وأوضح في مراعاته للمصالح، باعتبارها المقصد العام للشريعة، والمقصد الخاص لكل حكم من أحكامها، وخاصة في أبواب المعاملات والعبادات، بينما مراعاة المصلحة في المذاهب الأخرى، يشوبها نوع من التردد والغموض. ولتمام توضيح المسألة، أنتقل إلى ذكر أمثلة لها:

_ 1 المنخول: 353.

فمن المعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن كثير من البيوع، لما يكتنفها من جهالة ومخاطرة، ولما تفضي إليه من غرر وغبن، في حق أحد المتبايعين. وهذا يقتضي الوضوح التام، والتحديد المضبوط، في المبيعات وصفاتها، وفي الأثمان، والآجال، وكل هذا معلل، ومصلحته واضحة. ولكن هناك حالات كثيرة جدا، يتعذر فيها -أو يعسر جدا- توفير هذه الشروط والالتزام بها، فتصبح مصلحة المتبايعين -التي هي المقصودة بتلك الشروط- تستدعي التساهل فيها، والتغاضي عن بعضها، مما هو متعذر أو عسير. وههنا -بصفة عامة- اتجاهان متباينان: اتجاه يميل إلى هذا التساهل والتغاضي، رعاية للمصلحة ودفعا للحرج والضرر، ويمثله الفقه المالكي، فالحنفي. واتجاه يميل إلى المحافظة على الشروط الأصلية للبيوع، والتمسك بشكلياتها مهما يكن من أمر. ويمثله الفقه الشافعي: "ومن هذا الباب: أن مالكًا يجوز بيع المغيب في الأرض، كالجزر، واللفت، وبيع المقاثي جملة. كما يجوز هو والجمهور، بيع الباقلاء ونحوه في قشره. ولا ريب أن هذا هو الذي عليه عمل المسلمين من زمن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا التاريخ. ولا تقوم مصلحة الناس بدون هذا. وما يظن أن هذا نوع غرر، فمثله جائز في غيره من البيوع، لأنه يسير والحاجة داعية إليه. وكل واحد من هذين يبيح ذلك. فكيف إذا اجتمعا"1. فهذا الاتجاه الفقهي إذن، يستند إلى كون الغرر يسيرا، وإلى كون المصلحة تدعو إليه. ومعنى هذا أن النهي عن الغرر محمول -من جهة- على الغرر الكثير، ومن جهة أخرى، على ألا يكون فيه ضرر يفوق الضرر المقصود بالنهي. وفي معنى الغرر المنهي عنه في الأحاديث، يقول الحافظ ابن عبد البر "المالكي": "وجملة معنى الغرر: أنه كل ما يتبايع بها المتبايعان مما يدخله الخطر

_ 1 ابن تيمية، مجموع الفتاوى: 20/ 346.

والقمار وجهل معرفة المبيع والإحاطة بأكثر أوصافه، فإن جهل منها اليسير، أو دخلها الغرر في القليل، ولم يكن القصد إلى مواقعة الغرر، فليس من بيوع الغرر. المنهي عنها، لأن النهي إنما يتوجه إلى من قصد الشيء واعتمده"1. وهذا تأكيد لما سبق من أن الغرر اليسير، والذي تدعو الحاجة إلى مواقعته -من غير أن يكون مقصودًا من أحد المتبايعين- خارج عن مقتضى النهي. لأن الشارع لا ينهى عما فيه مصلحة راجحة. ومن هذا المنطق المصلحي، المراعي لمقاصد الشارع، يجوز المالكية -خلافًا للشافعية- بيع العين الغائبة الموصوفة. والبيع لازم إذا جاء المبيع على ما وصف به. والحنفية، وإن جوزوا هذا البيع، فإنهم يثبتون فيه خيار الرؤية، حتى ولو كان الموصوف كما وصف. وبهذا أبطلوا فائدته وفوتوا مقصوده. ومن هذا القبيل أيضًا: ما نقله الشاطبي في بعض فتاويه، على كتاب "العتبية" من سماع ابن القاسم قال: "وسألت مالكًا عن معاصر الزيت، زيت الجلجلان والفجل: يأتي هذا بأرادب2، وهذا بأخرى. حتى يجتمعوا فيها، فيعصرون جميعًا. قال: إنما يكره هذا لأن بعضه يخرج أكثر من بعض. فإذا احتاج الناس إلى ذلك، فأرجو أن يكون خفيفًا لأن الناس لا بد لهم مما يصلحهم. والشيء الذي لا يجدون عنه بدا ولا غنى، فأرجو أن يكون لهم في ذلك سعة إن شاء الله، ولا أرى به بأسًا. قال: والزيتون مثل ذلك. قال ابن رشد: خففه للضرورة إلى ذلك، إذ لا يتأتى عصر اليسير من الجلجلان والفجل على حدته3. وهذا النص للإمام مالك، ليس مجرد مثال فقهي لمراعاة المصلحة وبناء الأحكام عليها، ولكنه -إذا تؤمل- يؤصل ويقعد للمسألة ونظائرها.

_ 1 الكافي في فقه أهل المدينة: 2/ 735. 2 الأرداب: جمع إردب، وهو مكيال ضخم، يقال: إنه يضم أربعة وعشرين صاعًا "المحقق: أبو الأجفان". 3 فتاوى الإمام الشاطبي: 159.

ولهذا نجد الشاطبي قد بنى عليه فتواه في تجويز ما كان يفعله الناس من خلط ألبانهم للاشتراك والتعاون على استخلاص جبنها، تجنبًا لكثرة المشقة والكلفة1 مع أن هذا العمل-كسابقه- لا يخلو من غبن وتفاضل. وقد ختم الشاطبي فتواه بقوله: "والظاهر جوازه عملًا بهذا الأصل المقرر في المذهب"، مما يؤكد أن هذا المسلك الاستصلاحي عريق في المذهب المالكي. وقد قرر الشاطبي هذه الحقيقة في موضع آخر، فقال عن منهج الإمام مالك، في تقرير الأحكام المتعلقة بقسم المعاملات والعادات: "فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية، نعم، مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه، ولا يناقض أصلا من أصوله"2. وقبل الشاطبي نجد القاضي عياضًا، يسجل أن أحد الاعتبارات المرجحة لمذهب مالك، هو النظر المصلحي، القائم على مقاصد الشريعة وقواعدها، فيقول: "الاعتبار الثالث: يحتاج إلى تأمل شديد، وقلب سليم من التعصب سديد، وهو الالتفات إلى قواعد الشريعة ومجامعها وفهم الحكمة المقصودة بها من شارعها"3. ويميل أحد الباحثين المعاصرين -وهو الدكتور محمد المختار ولد أباه- إلى اعتبار هذه الميزة، هي أهم مميزات المذهب المالكي"4. وإذا كان الإمام الشافعي قد تردد في أخذه بالمصلحة5، والإمام أبو حنيفة

_ 1 المرجع السابق: من 156 إلى 160. 2 الاعتصام: 2/ 133. 3 ترتيب المدارك: 1/ 92. 4 مدخل إلى أصول الفقه المالكي: 93. 5 تردد الإمام الشافعي في الأخذ بالمصلحة، هو ما يستفاد من كثير من المؤلفات الأصولية الشافعية. وقد كان الإمام الغزالي صريحًا في هذا حيث قال في المنخول "ص354" "فاسترسل مالك رضي الله عنه على المصالح. وللشافعي رضي الله عنه مسلكان: يحصر في أحدهما التمسك في الشبه أو المخيل، الذي يشهد له أصل معين، ويرد كل استدلال مرسل، وفي المسلك الثاني يصحح الاستدلال المرسل، ويقرب فيه من مالك، وإن خالفه في مسائل". وأكد هذا في "شفاء الغليل" "ص188"، حيث قال: ومذهب مالك مشير إلى اتباع المصالح المرسلة. وللشافعي فيه تردد رأي".

أخذ بها على شكل "استحسان" مبهم نوعًا ما، فإن الإمام مالكًا لم يقع في شيء من هذا، لأنه لم يؤسس مذهبه، بل وجده تاما مستقرا. والغريب أن الشيخ مصطفى الزرقاء اعتبار أن نظرية الاستصلاح المالكية، هي تطوير وإنضاج للاستحسان الحنفي، يقول: "ولكن المذهب المالكي لتأخره عن الحنفي في التاريخ، تركزت فيه الصياغة الفنية لقاعدة المصالح المرسلة وشرائطها، فبرزت فيه واشتهر بها"1. وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما قدمته عن حقيقة "المذهب المالكي"، فإن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى توضيح. ولكن حتى إذا أغفلنا ذلك كله، فإن كلام الأستاذ الزرقاء لا يمكن قبوله إلا في سياق قلب الحقائق! لأن الثابت عيانًا هو استفادة المذهب الحنفي -بل سائر المذاهب الثلاثة الأخرى- من المذهب المالكي وأصوله، ومن الإمام مالك خاصة. وإذا كانت رواية أبي حنيفة عن مالك، واطلاعه على موطئه، مما قد يشك فيه2، فإن الاستفادة الكبيرة لقطبي المذهب الحنفي: محمد بن الحسين، وأبي يوسف، من الإمام مالك مباشرة، أمر لا غبار عليه. والظاهر أن الأستاذ الكريم اعتمد في ظنه على كون الإمام أبي حنيفة "ت 150" متقدمًا في العمر على الإمام مالك "ت 179"، وهذه مسألة لا قيمة لها، وخاصة إذا نظرنا إليها في جملة معطيات وحقائق أخرى.

_ 1 المدخل الفقهي العام: 1/ 114. 2 أما كون أبي حنيفة من الرواة عن مالك، فتذكره المصادر المالكية بلا تردد "انظر الانتقاء لابن عبد البر ص12، وترتيب المدارك لعياض 2/ 174" بينما تكتفي المصادر الحنفية بذكر شهادة مالك لأبي حنيفة وذكائه المفرط "انظر نصب الراية للزيلعي 1/ 37، والمبسوط للسرخسي 12/ 28". وقد حاول الشيخ زاهد الكوثري التشكيك في صحة حديثين عن أبي حنيفة عن مالك. ونقل عن ابن حجر عدم ثبوت رواية أبي حنيفة عن مالك "على هامش الانتقاء من 12 - 13 - 14". وعلى كل فالتلاقي بين الرجلين تتفق عليه المصادر المذكورة وغيرها.

ومما هو جدير بالتأمل في هذا الصدد، ما أورده الأستاذ الزرقاء نفسه، مباشرة بعد كلامه السابق، حيث قال: "ثم ظهر الاجتهاد الشافعي بإنكار نظريتي الاستحسان والمصالح المرسلة". فلست أدري لماذا لم يكن للتأخر الزمني دوره -هذه المرة- في التقدم العلمي؟ ولماذا لم تتقدم "الصياغة الفنية" لنظرية الاستصلاح، خاصة أن الإمام الشافعي هو صاحب الريادة المعروفة في هذا المجال؟ والحقيقة: أن مستقر الإسلام الأصح الأتم، كان هو المدينة، هي مستقرة ومنطلقة: رواية ودراية وتطبيقًا، وبعد العصر النبوي، كانت فترة الخلفاء وسنة الخلفاء الراشدين، هي النموذج الأمثل الذي ينبغي أن يستلهم ويقتدي به، وينهج على نهجه، وكل هذا احتضنته المدينة، واستوعبه أهل المدينة وعلماء المدينة أحسن استيعاب. ثم كان النقل إلى مختلف الجهات الإسلامية. ونشأ علماء مسلمون هنا وهناك، وتلقوا ما شاء الله أن يتلقوا من تلك الوراثة المدنية، واستوعبوا منها، واجتهدوا في فهمها، واجتهدوا في تطبيقها، واجتهدوا في الاهتداء بها والقياس عليها، فتفاوت قربهم من الصورة المثلى، بتفاوت قرائحهم وعقلياتهم ومدى استيعابهم للصورة المثلى في كلياتها وجزئياتها، إلى ظروف ومؤثرات عديدة. وإذا كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله، قد نفذ بصره إلى إدراك المقاصد المصلحية لشريعة الإسلام، فعبر عنها بكثير من تعليلاته، وعبر عنها بفكرة الاستحسان، فإن ذلك لم يخل من غموض، على الأقل في توضيح ذلك للآخرين، وقد ظل الاستحسان الحنفي يكتنفه هذا الغموض زمنا غير قصير، حتى عسر على الأحناف أنفسهم الاتفاق والاستقرار على تعريف واحد واضح له. وهذا الغموض هو ما أدى بالإمام الشافعي رحمه الله إلى مهاجمته الشديدة للاستسحان، بينما نجده يتقبل أشكالًا من الاستصلاح، مما يجعله -على كل حال- آخذًا بالمصلحة، على تحفظ وتردد في التوسع فيها توسع مالك والمالكية.

وإذن، فنظرية المصلحة في مذهب مالك، لم ينضجها التأخر الزمني، بل أنضجها التقدم الزمني، أي أنها في الأصل نظرية ناضجة في شريعة الإسلام وأبرزها أكثر التطبيق النبوي، ثم ازدادت بروزًا واتساعًا عندما اشتدت الحاجة إليها بعد توقف الوحي، وذلك من خلال سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. وأبرزهم في ذلك عمر. ثم كان للتأخر الزمني، والبعد المكاني، عن هذه الصورة النموذجية أثرهما في التشويش والتضبيب. وبلغ ذلك إلى حد أن بعض المالكية أنفسهم أنكروا حجية المصلحة المرسلة، كالباقلاني، وابن الحاجب! والاستحسان الحنفي إنما هو قبس من نظرية المصلحة في الشريعة الإسلامية. ولست أعني -بالضوررة- أنه مأخوذ من مذهب معين أو اجتهاد معين، بل الظاهر أنه فهم أوتيه الإمام الأعظم، مباشرة لنصوص الشريعة وأحكامها ولكنه -كما أشرت- جاء أقل وضوحًا واتساعًا مما كان عليه الشأن، عند إمام المدينة. فالاستحسان عند مالك، يعني شيئًا واحدًا واضحًا محددًا: هو رعاية المصلحة. وما رواه عنه أصحابه من أن "الاستحسان تسعة أعشار العلم"1 لا يمكن أن يعني إلا مراعاة المصلحة في الأحكام الاجتهادية. وفي هذا يقول ابن رشد "الحفيد": "ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال: هو الالتفات إلى المصلحة والعدل"2. فإذا كان الاستحسان -في نظر الإمام مالك- يمثل تسعة أعشار الاجتهاد الفقهي، وكان معنى الاستحسان هو مراعاة المصلحة والعدل، فهذا يعني أن على

_ 1 نسبة هذا القول إلى الإمام مالك متداولة في كتب المالكية. وقد ذكره الشاطبي مرارًا وأورده ابن حزم بسند متصل إلى مالك، فقال: روى العتبي محمد بن أحمد، قال: ثنا أصبغ بن الفرج قال: سمعت ابن القاسم يقول: قال مالك: تسعة أعشار العلم الاستحسان، قال أصبغ بن الفرج: الاستحسان في العلم يكون أغلب من القياس. ذكر ذلك في كتاب أمهات الأولاد من "المستخرجة". الإحكام: 6/ 16. 2 بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 2/ 154.

الفقيه ألا يغيب عنه الالتفات إلى مقصود الشارع، وهو المصلحة والعدل: فإذا وجد مصالح مهملة ومضيعة، فالاستحسان يقتضيه أن يجتهد ويقرر ما يعد لها اعتبارها ويحقق حفظها. وإذا رأى أضرارًا قائمة، فالاستحسان أن يجتهد ويفتي بمنع تلك الأضرار. وإذا رأى نصوصًا شرعية تفهم على نحو يفضي إلى حصول ضرر محقق، أو إلى تفويت مصلحة محترمة في الشرع، استحسن إعادة النظر في ذلك الفهم، وإذا وجد قياسًا خرج على خلاف مقصود الشارع في العدل والمصلحة، فليعلم أنه قياس غير سليم، أو في غير محله، فيستحسن ألا يتقيد به، وأن يرجع إلى القواعد العامة للشريعة. وبهذا يكون الاستحسان -فعلًا- تسعة أعشار العلم. ومن هذا القبيل أن ابن عبد البر نقل عن مالك أحكامًا واجتهادات تتعلق بالمعاملات وحسن الجوار، ثم قال: "وهذا كله استحسان واجتهاد في قطع الضرر"1. فالاستحسان المالكي -إذن- هو الحرص على جلب المصلحة ودرء المفسدة "وكلمة الاستحسان عند مالك تعني حكم المصلحة عند عدم وجود نص شرعي. ولهذا كان مالك يترك القياس إذا خالف المصلحة الملائمة لمقاصد الشارع"2. ويقول الدكتور وهبة الزحيلي: "والحقيقية أنني لو تعقبت جميع أنواع الاستحسان، لما وجدت فيها ما يدعو إلى جعل الاستحسان دليلًا مستقلا قائمًا بذاته. وأكثر ما يعتمد على المصالح المرسلة"3. ثم قال بعد ذلك: "وإن أكثر ما يعتمد عليه الاستحسان، هو المصلحة المرسلة، وهو الاستحسان المصلحي الذي قال به المالكية"4.

_ 1 الكافي في فقه أهل المدينة: 2/ 938. 2 المدخل للتشريع الإسلامي: 255. 3 أصول الفقه الإسلامي: 2/ 747. 4 المرجع السابق: 751.

فهذه لمحات عن مكانة مراعاة المصالح المقصودة للشارع، في المذهب المالكي. وقد بلغ من شدة وضوح الاربتاط بين مقاصد الشارع، ومصالح الخلق، أن نجد أحد كبار الفقهاء المالكية يقرر أن قواعد المعاملات وأسس المعارضات أربعة، هي: - قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. - وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 2. - وأحاديث الغرر. - واعتبار المقاصد والمصالح3. وأختم هذه الفقرة بإيراد بعض التعليلات المنقولة عن الإمام مالك، وهي تعليلات تربط الأحكام بمصالحها، وتفهم النصوص بمقاصدها "فضلا عما تقدم، وما سيأتي في بقية الفقرات". فمن ذلك ما أورده القرطبي في تفسيره، عن حكم الضيافة التي جاء الأمر بها في الأحاديث، ومتى تجب ومتى لا تجب؟ قال: "اختلف العلماء فيمن يخاطب بها، فذهب الشافعي ومحمد بن الحكم إلى أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. قال سحنون: إنما الضيافة على أهل القرى، وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر"4. ومعنى هذا أن مالكًا أدار الحكم على مقصوده وحكمته، وهي سد حاجة المسافر والمهاجر، فإذا كان يجد لنفسه أماكن للإقامة والمبيت وغير ذلك من ضروراته، فقد سقط وجوب استضافته، ويبقى التفضل والإحسان. وإذا لم يجد ذلك وجب على أهل البلد استضافته، وهو واجب كفائي طبعًا. بينما الشافعي

_ 1 سورة البقرة: 188. 2 سورة البقرة: 275. 3 أحكام القرآن، للقاضي أبي بكر بن العربي: 1/ 96. 4 الجامع لأحكام القرآن: 9/ 64.

تمسك بظاهر الأمر، ولم يفرق بين حالة وحالة. واعتبر الضيافة واجبة في جميع الحالات. ومن ذلك أيضًا، ما جاء في الحديث من أن الاستئذان ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا انصرف. ولكن مالكًا لم يجمد عند ظاهر الحديث وإنما نظر إلى مقصوده، ففي تفسير القرطبي: قال ابن وهب قال مالك: الاستئذان ثلاث، لا أحب أن يزيد أحد عليها، إلا من علم أنه لم يسمع، فلا أرى بأسًا أن يزيد"1. ومن ذلك ما جاء في الحديث من الحث على السواك عند كل صلاة. قال ابن العربي: "اختلف العلماء في السواك: - فقال إسحاق: إنه واجب. ومن تركه عمدا أعاد الصلاة. - وقال الشافعي: سنة من سنن الوضوء. - واستحبه مالك في كل حال يتغير فيها الفم"2. وفي مسألة التنشيف بعد الوضوء، ذكر ابن العربي اختلاف العلماء ما بين قائل بالكراهة في الوضوء والغسل، وقائل بالكراهة في الوضوء دون الغسل، وقائل بالجواز مطلقًا، وهذا القول الثالث "قاله مالك لما تقدم من الأحاديث، ولأن المقصود من العبادة قد حصل. فمسحه بعد ذلك لا يؤثر"3.

_ 1 المرجع السابق: 12/ 214. 2 عارضة الأحوذي، بشرح صحيح الترمذي: 1/ 39. 3 المرجع السابق: 1/ 69.

سد الذرائع

2- سد الذرائع: وهذا أصل آخر من الأصول التي حمل لواءها المذهب المالكي، وعمل بها أكثر من غيره، وعلى نحو أوضح من غيره. ثم تابعته فيه المذاهب الأخرى، بمقدار ما. وأقلهم في ذلك المذهب الشافعي. وهذا الأصل أيضًا من الأصول العُمَرية الواضحة. فقد عرف عمر رضي الله عنه بسياسته الوقائية وإجراءاته الردعية.

وهذا الأصل أيضًا، هو وجه آخر من وجوه رعاية مقصود الشارع في حفظ المصالح، ودرء المفاسد. وهذه النقطة الأخيرة، هي ما يعنيني الآن. أما المباحث الأخرى، المتعلقة بسد الذرائع، فليس من الضروري أن أقحمها في هذا السياق. وحسبنا فيها ما هو مكتوب من قبل. فقد كتب الإمام ابن القيم فصلا مهمًّا، أظهر فيه المنزلة الكبيرة لمبدأ سد الذرائع في الدين. وانتهى فيه إلى أن سد الذرائع هو أحد أرباع التكليف1، ثم بنى عليه بحثًا مطولًا جدا في تحريم الحيل، باعتباره سدا للذريعة أيضًا. وقيل ابن القيم، أفرد شيخه الإمام ابن تيمية هذين الموضوعين بمؤلف خاص لا أدري إن كان محفوظًا أو ضائعًا، فقد قال: "وقد بسطنا الكلام على قاعدة إبطال الحيل وسد الذرائع، في كتاب كبير مفرد، وقررنا فيه مذهب أهل المدينة بالكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار"2. كما أن الموضوع تناوله بالبحث عدد من الكتاب الأصوليين اليوم، وأكتفي بذكر أوسع ما رأيته من ذلك، وهو بحث الأستاذ محمد هشام برهاني: "سد الذرائع في الشريعة الإسلامية". وقاعدة سد الذرائع تقوم مباشرة على المقاصد والمصالح، فهي تقوم على أساس أن الشارع ما شرع أحكامه إلا لتحقيق مقاصدها، من جلب المصالح ودرء المفاسد. فإذا أصبحت أحكامه تستعمل ذريعة لغير ما شرعت له، ويتوسل بها إلى خلاف مقاصدها الحقيقية، فإن الشرع لا يقر إفساد أحكامه وتعطيل مقاصده، ولا يجوز لأهل الشريعة أن يقفوا مكتوفي الأيدي، أمام هذا التحريف للأحكام عن مقاصدها، بدعوى عدم مخالفة ظواهرها ورسومها.

_ 1 أعلام الموقعين: 3/ 135-159. 2 مجموع الفتاوى: 20/ 349.

وقبل أن أذكر بعض الأمثلة الفقهية الاجتهادية -من الفقه المالكي خاصة- أذكر مثالا من السنة، أوضح من خلاله الأساس الذي يقوم عليه مبدأ سد الذرائع، وهو حكم الهدية: فالتهادي بين الناس -أقارب، وأصدقاء، وجيرانًا، وغير ذلك- من الأعمال المشروعة والمرغب فيها، لما فيه من بث المودة والألفة والتعاون. ولكن، قد تستعمل الهدية ذريعة إلى أمر غير محمود، في حاله أو مآله. وفي هذا جاء الحديث النبوي، بمنع الهدية للعمال "الموظفين"، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم، استعمل رجلا لجمع الزكاة. "فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا. والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه: بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار. أو شاة تيعر". ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال: "اللهم هل بلغت، مرتين". والتعليل النبوي واضح، فإن الهدايا لم تقدم لهذا الرجل، لذاته، ولا لعلاقة خاصة بينه وبين أصحابها، ولا لأن ذلك جار بينه وبينهم من قبل، وإنما أهدى له لأجل مهمته "منصبة"، "عسى أن ينفعنا"، وهذا باب من أبواب الفساد والانحراف والمحاباة. يبدأ خفيًا خفيفًا، ثم يستفحل ويستشري. وليس الخبر كالعيان. فكيف إذا اجتمع الخبر والعيان؟. وفي هذا يقول ابن القيمِ: "الوالي، والقاضي، والشافع، ممنوع من قبول الهدية. وهو أصل فساد العالم، وإسناد الأمر إلى غير أهله، وما ذاك إلا لأن قبول الهدية ممن لم تجر عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته. وحبك الشيء يعمي ويصم، فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته مكافأة له"1. وعلى هذا الأساس سار الفقه المالكي، مثلما سار قبله فقه عمر وسياسته الراشدة، فبالغ في سد ذرائع الفساد وتضييق مسالك الانحراف، وفي قمع المقاصد

_ 1 أعلام الموقعين: 3/ 142.

الفاسدة، رعاية للمقاصد الشرعية والمصالح المشروعة، حتى أن الإمام مالكًا -كما قرر الشاطبي- حكم قاعدة سد الذرائع في أبواب الفقه1. وهذا ما أكده الأستاذ محمد هشام البرهاني، صاحب البحث الجامع في موضع سد الذرائع، حيث قال: "سد الذرائع من أصول الاستنباط الفقهي المهمة عند المالكية. وليس في المذاهب الفقهية الأربعة المنتشرة، ولا في غيرها، من بلغ في أخذه بهذا الأصل مبلغ المذهب المالكي. ولهذا كان العمل بالمصلحة المرسلة أصلا مستقلا من أصول التشريع عنده. وليس سد الذرائع إلا تطبيقا عمليا من تطبيقات العمل بالمصلحة. ولذلك عدوه ضمن أصولهم وأعملوه في استنباطاتهم وتخريجاتهم، في جمع أبواب الفقه، وفي كثير من المسائل العملية. وبالغوا في ذلك حتى عد بعض الفقهاء سد الذرائع من خصوصيات مذهب إمام دار الهجرة"2. ولعل أكثر الأبواب الفقهية التي حكم فيها مالك والمالكية سد الذرائع هي أبواب البيوع، والعقوبات، والمناكحات. ففي مجال البيوع، يبطل المالكية -ومعهم الحنابلة- البيوع التي يظهر فيها القصد الفاسد، المخالف لقصد الشارع: كبيع العينة، فإنه يفضي إلى مفسدة الربا. وكبيع العنب لعاصر الخمر، وبيع السلاح لأعداء المسلمين، أو لأهل الفتنة والعدوان، وبيع أرض لتتخذ كنيسة: لما تجره هذه البيوع من مفاسد وأضرار ظاهرة. أما الحنفية والشافعية، ففرقوا بين صحة العقد وفساد القصد. فالعقد عندهم صحيح ما دام مستوفيًا لشروطه الظاهرية، والقصد أمره إلى الله. ومن أمثلة العينة، أن يبيع أحد سلعة بعشرة مؤجلة، ثم يشتريها بخمسة معجلة، قال القاضي أبو بكر بن العربي -بعد أن أيد تحريم هذا البيع- "فإن قيل: وأنت إنما حرمت هذا خوفًا من القصد، وأنت لم تعلم قصده. قلنا: هذه نكتة المسألة وسرها الأعظم: وذلك أنه لما كان هذا أمرًا مخوفًا، حسم الباب فيه، ومنع من صورته، لتعذر الوقوف على القصد فيه. والشريعة إذا علقت الأحكام

_ 1 الموافقات: 4/ 198. 2 سد الذرائع في الشريعة الإسلامية: 615.

بالأسباب الباطنة، أقامت الظاهر مقامها، كالمشقة في السفر التي علقت عليها الرخص، فلما لم تنضبط، علقت على صورة السفر"1. وأما في باب النكاح، فقد حكم المالكية سد الذرائع، في أحكام كثيرة: فمنعوا نكاح المريض مرض الموت، ومنعوا التوارث به إذا وقع، وعكس ذلك يورثون المطلقة فيه ولو بانت. وقد روى الإمام مالك -في باب طلاق المريض من موطئه- آثارًا عن عثمان وعلي -رضي الله عنهما- في توريث المطلقة ثلاثًا في مرض الموت، ثم قال " قال مالك: وإن طلقها وهو مريض قبل أن يدخل بها، فلها نصف الصداق ولها الميراث، ولا عدة عليها. وإن دخل بها ثم طلقها، فلها المهر كله، والميراث، البكر والثيب في هذا عندنا سواء"2. وهذه الوجهة في الاجتهاد عند مالك -وعند أهل المدينة، والصحابة قبلهم- إنما مستندها سد الذريعة، ومنع الإضرار بالزوجة، أي رعاية مصلحتها وحقها. ومن سد الذرائع في النكاح، أن المالكية -واعتمادًا على اجتهاد عمر رضي الله عنه- يحرمون تحريما مؤبدًا الزواج بين الرجل والمرأة إذا تزوجها وهي ما زالت في العدة: "فإن كان قد دخل بها وحصل منه استمتاع، والعدة لم تفرغ، فالتحريم المتأبد حاصل من غير افتقار إلى حكم حاكم به، لنص عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ذلك. وهو المشهور والمعمول به في مذهب مالك، وإن لم يكن منه دخول ولا استمتاع إلا بعد فراغ العدة، ولم يقع في العدة إلا العقد خاصة، فهو موضع احتمال في كلام عمر. واختلف قول مالك فيه على روايتين مشهورتين"3. ورغم هذا المنحى المتشدد في المذهب -سدا لباب الفساد والاستخفاف بأحكام الشرع- فإن المفتي -أبا سعيد بن لب- اختار أنه إذا لم يقع الدخول إلا بعد انقضاء العدة، وكانت هناك ضرورة تخص الزوجين، أو تتعلق بوجود حمل أو

_ 1 عارضة الأحوذي: 5/ 201. 2 الموطأ: 2/ 573. 3 "المعيار للونشريسي: 2/ 199-200" من فتوى للشيخ أبي سعيد بن لب مفتي غرناطة وشيخ شيوخها في وقته "ت 782".

ولد بينهما، اختار الأخذ لهما بالتحليل، وهو القول المخفف في المذهب. وهذا وجه آخر من وجوه النظر المصلحي في المذهب المالكي، يستند إلى قاعدة من قواعد المذهب، وهي قاعدة "مراعاة الخلاف"، أي أنه اختار القول بالتحليل، للمصلحة المذكورة، ومراعاة لكون هذا هو قول جمهور العلماء من أهل المذاهب الأخرى. وقد سئل هذا الإمام عن رجل له بنت في حضانة مطلقته، فزوجها وهي سن العاشرة لينزعها من حضانة أمها ويسقط النفقة الواجبة عليه: "فأجاب: لا تسقط حضانة الأم ولا الفرض الواجب للبنت إلا بدخول الزوج بها، مع كونها تطيق الوطء، ولا تسقط بعقد النكاح على البنت، ولا يمكن الزوج منها وهي غير مطيقة للوطء، لأن ذلك إضرار بها، وحيلة على إسقاط حق الأم في حضانتها، ولا تنتزع الابنة من أمها إلا بالتزويج مع كونها تطيق الوطء"1. وقد أفتى عدد من فقهاء المذهب، فيمن هرب بامرأة وأقام معها على الزنى، ثم طلب الزواج بها، أنها تحرم عليه تحريمًا مؤبدًا، قال الشيخ العلمي: "وما ذلك منهم إلا مراعاة للقاعدة الجارية في سد الذرائع، وحسم مادة الفساد، وهي من أصول المذهب المالكي"2. والغريب أن القول المشهور في المذهب -في هذه المسألة- على خلاف هذا، مع أن هذه الحالة أولى بتأييد التحريم3 من حالة من تزوج امرأة ودخل بها قبل انقضاء عدتها، ولهذا فإن الفقهاء الذين أفتوا بتأبيد التحريم في حالة الهروب والزنى، أذهب مع قواعد المذهب امن أصحاب القول المشهور. وأما في باب العقوبات -وقد اقتربنا منه- فإن المذهب المالكي هو أشد المذاهب، وأكثرها توسعًا في الزجر، وفي سد المنافذ على المعتدين والمفسدين، حتى

_ 1 المعيار: 3/ 195-196. 2 نوازل العلمي: 2/ 92. 3 وإن كنت أفضل في مثل هذه الأحكام الاجتهادية الوقائية استعمال لفظ "المنح" بدل "التحريم".

قال الونشريسي: "التشديد على الظلمة والمجترئين من أهل العتو والفساد، مهيع مألوف في الشرع وقواعد المذهب. ومنه في المذهب المالكي غير قليل. وقد أتيت في بعض ما قيدت من هذه النمط على الكثير والجم الغفير"1، وهو يشير إلى ما جمعه في موسعته "المعيار" من الفتاوى المالكية في هذا الصدد. وتشدد المذهب المالكي في العقوبات، إنما يراعي في ذلك مقصودها الأول، وهو الزجر وقطع دابر الفساد والبغي إلى أقصى حد ممكن. وما أظن أن هذا الباب -على وجه الخصوص- يحتاج مني إلى ضرب الأمثلة وسرد الاستشهادات، فحيثما نظر القارئ في أحكام الحدود، والقصاص، والتعازير، والسياسة الشرعية، فسيجد ذلك واضحًا، وسيرى التميز المالكي لائحًا. على أن الذي أحب التنبيه عليه -ولو من باب التذكير- هو أن هذا المنحى المالكي، يرجع أيضًا إلى فقه عمر وسياسته وأقضيته. فقد اشتهر، رضي الله عنه، بتوسعه في الزواجر والتعازير، وبشدته على أهل الفساد والانحراف والظلم.

_ 1 المعيار: 12/ 25.

مراعاة مقاصد المكلفين

3- مراعاة مقاصد المكلفين: ولهذا الأصل تداخل كبير مع الأصل المتقدم "سد الذرائع"، ولكن هذا أعم وأوسع. فبينما سد الذرائع يراعى فيه -وقد لا يراعى- القصد الفاسد، فإننا في هذا الأصل، بإزاء مراعاة مقاصد المكلفين عمومًا، وأثر ذلك في التصرفات والمعاملات. ورغم أن قاعدة: "الأمور بمقاصدها"، تعتبر في كل المذاهب الفقهية إحدى أمهات القواعد، وقد افتتحت "مجلة الأحكام العدلية" قواعدها التسع والتسعين، بهذه القاعدة، ثم أتبعتها ببنتها، وهي: "العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني".

أقول: رغم هذا وذاك، فإن المذهب المالكي، يظل رائد المذاهب في مراعاة مقاصد المكلفين وبناء الأحكام عليها، كما سيتضح قريبًا. بإذن الله تعالى. وأما علاقة مراعاة مقاصد المكلفين، بمراعاة مقاصد الشارع، فإنها تتمثل في أمرين: الأول، هو أنهما ينبعان من منبع واحد ويشتركان في أصل واحد، وهو: مراعاة المقاصد، وعدم الاقتصار على الظواهر والأشكال. فمن أخذ بهذا في كلام الشارع وأحكامه وتصرفاته، أخذ به أيضًا في كلام الناس وعقودهم وتصرفاتهم، ومن قصر في هذا قصر في هذا، فالنظرة واحدة والمنهج واحد. وأما الأمر الثاني الذي تتمثل فيه العلاقة بين مقاصد المكلف ومقاصد الشارع، فأترك بيانه للإمام الشاطبي، وسيأتي ذلك في حينه بحول الله تعالى. وأعود إلى مراعاة مقاصد المكلفين في المذهب المالكي، وريادته في ذلك. وقد مر معنا -من قريب- أن المالكية يبطلون البيوع والأنكحة التي يظهر فيها القصد الفاسد. وليس هذا إلا جانبًا من الأصل العام، وهو اعتبار العقود بمقاصد أهلها ونياتهم، وفي هذا يقول ابن تيمية: "والعقود: من الناس من أوجب فيها الألفاظ، وتعاقب الإيجاب والقبول ونحو ذلك. وأهل المدينة جعلوا المرجع في العقود إلى عرف الناس وعادتهم. فما عده الناس بيعًا فهو بيع، وما عدوه هبة فهو هبة. وهذا أشبه بالكتاب والسنة والعدل"1. ومن الأمثلة الفقهية في هذا الباب، ما يعرف ببيع المعاطاة، ويدخل فيه كثير من البيوع الصغيرة والمعتادة عند الناس، بحيث يكتفي كل من المتبايعين بالمعاطاة، أي: هذا يعطي الثمن، والآخر يعطي السلعة. بدون إيجاب وقبول، وربما بدون كلام أصلًا، أو بكلام لا يستوفي شروط التعاقد الصحيح، أو بكلام أحدهما دون الآخر. فهذا النوع من البيوع -وقد كثر اليوم، واتسعت دائرته- اتساعًا كبيرًا جدا- في تصحيحه وإبطاله ثلاثة مذاهب2:

_ 1 مجموع الفتاوى: 20/ 345. 2 ملخصًا عن: "الفقه الإسلام وأدلته" للدكتور وهبة الزحيلي: 4/ 100-101.

1- مذهب الشافعية والظاهرية والشيعة: وهو الإبطال، لعدم توفر الإيجاب والقبول الدالين على التراضي! 2- مذهب الحنفية والحنابلة: وهو التصحيح بشرط أن يكون الثمن محددًا معلومًا، وألا يصرح أحد العاقدين بما ينافي العقد. 3- مذهب المالكية: وهو التصحيح مطلقًا، بحيث "ينعقد العقد بالفعل أو بالتعاطي، متى كان واضح الدلالة على الرضا، سواء تعارفه الناس أم لا. وهذا الرأي أوسع من سابقه وأيسر على الناس. فكل ما يدل على البيع، أو الإجارة، أو الشركة، أو الوكالة، وسائر العقود الأخرى -ما عدا الزواج- ينعقد العقد به. لأن المعول عليه: وجود ما يدل على إرادة المتعاقدين من إنشاء العقد وإبرامه والرضا به"1. وعلق الدكتور الزحيلي -أيضًا- في كتابه "نظرية الضرورة الشرعية" على مذهب الشافعية في هذه العقود بقوله: "ص70": "والحق يقال: إن هذه نظرة سطحية". وفي معيار الونشريسي، أن الإمام الشاطبي سئل عن هذا النوع من التبايع "فأجاب: بأن مذهب مالك عدم الاعتبار باللفظ في العقود"2. ويؤكد ابن العربي - قبل الشاطبي- على هذا الأصل المالكي فيقول: "ولا تتعلق الأحكام بالألفاظ، إلا أن ترد على موضوعاتها الأصلية في مقاصدها المطلوبة، فإن ظهرت في غير مقصدها لم تعلق عليها مقاصدها. ألا ترى أن البيع والشراء معلوم اللفظ والمعنى، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآية"3.

_ 1 المرجع السابق: 100. 2 المعيار: 6/ 71. 3 أحكام القرآن: 3/ 1500.

وإذن، فمتى ظهرت المقاصد، أخذ بها وبني عليها، ولا عبرة باللفظ. ومتى ثبت اللفظ، وتردد بين معنيين أو أكثر، حمل على المعنى الموافق للقصد. ومن أمثلة هذا -عند ابن العربي أيضًا- أنه وقف عند قوله تعالى في الآية 11 من سورة النساء: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} ، وتساءل عن لفظ الأولاد، هل يدخل فيه أولاد الأولاد كأن يحبس أحد على أولاده، فهل ينتقل ذلك التحبيس إلى أولاد الأولاد؟ وكأن يجعل أحد شيئًا من ماله صدقة لأولاده، هل تقتصر الصدقة على الأولاد الحقيقيين، أم تشمل أولادهم؟ وجوابه على هذا وذاك، يرجع إلى المقاصد، قال: "كلام الناس يرتبط بالأغراض والمقاصد، والمقصود من الحبس، التعقيب، فدخل فيه ولد الولد. والمقصود من الصدقة: التمليك، فدخل فيه الأدنى خاصة، ولم يدخل فيه من بعد إلا بدليل"1. ومن الأبواب الفقهية التي دأب المالكية فيها، على تحكيم المقاصد والنيات، باب الإيمان وما قد تشتمل عليه من التزامات. ومن أمثلة ذلك أن القاضي الفقيه أبا الوليد بن رشد سئل عن امرأة توفي عنها زوجها، وهو أمير البلدة، وكانت تسكن معه دار الإمارة. فحلفت -بعد وفاته- بأغلظ الأيمان ألا تسكن تلك الدار بعده، وأنها يلزمها كذا وكذا إذا رجعت إليها. ثم تزوجها بعد ذلك الأمير الجديد، الذي سكن تلك الدار، دار الإمارة فأرغمها على السكنى فيها معه، فماذا عليها؟ فأجاب بأن "لا حنث على هذه المرأة الحالفة في رجوعها إلى سكنى دار الإمارة مع زوجها الأمير في ذلك البلد، لأن الظاهر من أمرها أنها كرهت الرجوع إليها على غير الحال التي كانت عليها مع زوجها المتوفى. فلا شيء عليها في رجوعها على الحال التي كانت عليها مع زوجها المتوفى، إذ لم تحلف على ذلك.

_ 1 أحكام القرآن: 1/ 334.

هذا الذي أراه وأقول به في ذلك وأتقلده. لأن الإيمان تحمل على بساطها، وعلى المعاني المفهومة من قصد الحالف بها لا على ما تقتضيه ألفاظها في اللغة. وهو أصل مذهب مالك رحمه الله"1. وقد دعم فتواه بنظائر لها عن الإمام مالك، وتلميذه ابن القاسم، ثم قال: "وأهل العراق يخالفون في ذلك ويرون الحالف حانثًا، لما لفظ به في يمينه، ولا يعتبرون في ذلك نية ولا بساطا ولا معنى. وذلك خطأ بين في الفتوى. لأن الأحكام إنما هي لمعاني الألفاظ المعتبرة المفهومة منها، دون ظواهرها. ولو اتبعت ظواهرها دون معانيها المفهومة منها في كل موضع لعاد الإسلام كفرا، والدين لعبًا"2. ثم مثل لهذا المآل الشنيع الذي يفضي إليه التمسك بالظاهر، وإهمال المقاصد، بقوله تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} 3، بحيث إذا أخذ على ظاهره أدى إلى الكفر والشرك ولكن مقصوده النهي والوعيد. وذكر نظائر أخرى لهذا، من الآي الكريمة. ومثل الحلف: النذر، فإنه لا يلزم عند مالك بمجرد اللفظ الخالي عن القصد الصحيح. ومن ذلك ما رواه ابن حبيب، أن أعرابيا نفرت ناقته وهربت، فقال لها: أنت بدنة، يعني هديا إلى بيت الله. ثم سأل مالكًا، فقال له مالك -ليتأكد من قصده قبل إفتائه-: أردت زجرها بذلك؟ فقال: نعم. قال: لا شيء عليك. قال: أرشدك يابن أنس. وعلق ابن رشد على فتوى مالك هذه بقوله: "لم يوجب إخراجها، إذ لم تكن له نية في ذلك، إنما قصد زجرها لا القربة إلى الله تعالى في إخراجها. وهو الأظهر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"4. ومن الأحكام التي بناها المالكية على مراعاة قصد المكلف: إبطالهم نكاح المحلل، خلافًا للحنفية والشافعية، لأن القصد في نكاح المحلل قصد فاسد، ليس

_ 1 المعيار: 2/ 65-66. 2 المعيار: 2/ 66. 3 سورة الزمر: 15. 4 المعيار: 2/ 100، من فتوى لأبي سعيد بن لب.

من مقاصد النكاح الصحيح في شيء، قال ابن تيمية: "وأما المناكح: فلا ريب أن مذهب أهل المدينة في بطلان نكاح المحلل، وكاح الشغار، أتبع للسنة ممن لم يبطل ذلك من أهل العراق، فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له. وثبت عن أصحابه، كعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، أنهم نهوا عن التحليل، لم يعرف عن أحد منهم الرخصة في ذلك. وهذا موافق لأصول أهل المدينة، فإن من أصولهم: أن المقصود في العقود معتبرة"1. ومن أقوال الإمام مالك المراعية لقصد المكلف في الفعل، ما جاء في الموطأ، في: باب القصاص في القتل "قال مالك في الرجل يمسك الرجل للرجل، فيضربه فيموت مكانه: أنه إن أمسكه، وهو يرى أنه يريد قتله، قتلا به جميعًا. وإن أمسكه وهو يرى أنه إنما يريد الضرب مما يضرب به الناس، لا يرى أنه عمد لقتله، فإنه يقتل القاتل، ويعاقب الممسك أشد العقوبة، ويسجن سنة، لأنه أمسكه، ولا يكون عليه القتل". ومرة أخرى: فإن هذا النظر إلى مقاصد المكلفين في أفعالهم وأقوالهم، دون الاقتصار على ظواهرها، إنما هو منهج عمر، وجمهور الصحابة رضي الله عنهم. وقد روى مالك في موطئه: "أن رجلين استبا في زمان عمر بن الخطاب. فقال أحدهما للآخر: والله ما أبي بزان ولا أمي بزانية. فاستشار في ذلك عمر بن الخطاب. فقال قائل: مدح أباه وأمه. وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا. نرى أن تجلده الحد. فجلده عمر الحد ثمانين. قال مالك: لا حد عندنا إلا في نفي، أو قذف، أو تعريض يرى أن قائله إنما أراد بذلك نفيًا أو قذفًا. فعلى من قال ذلك: الحد تاما"2. وهذا النص يلخص لنا ما حاولت بيانه في هذا الفصل برمته: - ففيه أن الإمام مالكًا يصدر عن مذهب قائم: لا حد عندنا

_ 1 مجموع الفتاوى: 20/ 377-378. 2 الموطأ: 2/ 829-830، باب الحد في القذف والنفي والتعريض.

- وفيه أن المذهب يأخذ بالاحتياط وسد الذرائع. - وأنه ينظر إلى مقاصد الأقوال والأفعال ولا يقف عند ظاهرها. - وأن هذا المذهب يستمد من عمر وأفعاله. - وأن عمر كان يستند إلى رأي أهل الشورى من الصحابة. - وفيه معنى عام: هو أن الناس في نظرهم إلى الأمور نوعان، أو مرتبتان: مرتبة من يقفون عند ظواهر الأقوال والتصرفات "فقال قائل"، ومرتبة من يتطلعون إلى البواطن وينظرون إلى المقاصد "وقال آخرون"، وأن هذا التمايز كان في الصحابة كما هو سائر الناس. غير أن عمر وجمهور الصحابة كانوا من أهل المرتبة الثانية، ولم يقف عند المرتبة الأولى إلا واحد منهم، إن كان صحابيا. وقد صاغ الفقيه المالكي الكبير أبو عبد الله المقري، بعض جوانب التوجه المالكي في مراعاة المقاصد، في شكل قواعد ضمنها كتابه الضخم في "قواعد الفقه"1 ومنها: القاعدة 296: "من أصول المالكية: المعاملة بنقيض المقصود الفاسد، كحرمان القاتل من الميراث، وتوريث المبتوتة في المرض المخوف". القاعدة 723: "كل ما خرج على قصد المبالغة أو الكناية، فالمعتبر معناه لا لفظه". القاعدة 1082: "لسان الحال يتنزل منزلة لسان المقال عند المالكية، خلافًا للأئمة". وبعد هذا كله، فما أظن أن الأستاذ عبد الله الداودي، كان مجرد ناصر منتصر لمذهب وإمامه، حين قال: "مالك العالم الجليل، الإمام برئاسته في الحديث والأثر، وبزعامته المشهودة في الاجتهاد والرأي، وهو فقيه الإسلام الذي أفاض على الفقهاء في عصره والعصور بعده من نور المعرفة بمقاصد الشريعة وحكمها"2 ولكن بشرط واحد هو اعتبار ما قدمته عن حقيقة "مذهب مالك".

_ 1 حققه الدكتور الدردابي، أطروحة دكتوراه مرقونة بدار الحديث الحسنية بالرباط". 2 من مقال له حول: "أصول المذهب المالكي: الإجماع، عمل أهل المدينة" منشور بمجلة الفقه المالكي والتراث القضائي بالمغرب، العددان: 5-6.

الباب الثاني: الشاطبي ونظريته

الباب الثاني: الشاطبي ونظريته الفصل الأول: تعريف بالشاطبي مدخل ... الباب الثاني: الشاطبي ونظريته الفصل الأول: تعريف بالشاطبي لعل أوسع ترجمة منشورة -اليوم- عن الشاطبي، هي تلك التي أعدها الأستاذ محمد أبو الأجفان، وقدم بها لكتابي: "الإفادات والإنشادات" للشاطبي، و"فتاوي الإمام الشاطبي" التي جمعها وحققها"1. وقد استقصى -جهده- المصادر والمراجع التي ترجمت للشاطبي، أو تحدثت عنه، كثيرًا أو قليلًا، وقدم لائحة بها2. وحسب الأستاذ أبي الأجفان فإن أهم من ترجموا للشاطبي هما: تلميذه أبو عبد الله المجاري في "برنامجه" الذي حققه أبو الأجفان نفسه، وأحمد بابا التنبكتي في كتابيه "نيل الابتهاج" و"كفاية المحتاج". وحديثي-في هذا الفصل- لن يقف طويلًا مع المعلومات المعروفة عن الشاطبي، وخاصة بعد أن جمعها ويسرها الأستاذ أبو الأجفان. بل سأكتفي بذكر سريع لأهمها، ثم أنصرف إلى غيرها، مما هو غير معروف، أو غير محرر، حتى تكون لهذا الجهد فائدته وإضافته. وسيتم تعريفي بالشاطبي من خلال الفقرات التالية: 1- خلاصة ترجمة الشاطبي. 2- الشاطبي يتحدث عن نفسه. 3- مراسلات الشاطبي.

_ 1 هذا التعريف التمهيدي لا يتطرق إلى موضوع المقاصد عند الشاطبي، لأن هذا هو موضوع الفصول اللاحقة. 2 فتاوي الإمام الشاطبي: 22-23.

خلاصة ترجمة الشاطبي

1- خلاصة ترجمة الشاطبي: هو: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي، الغرناطي، أبو إسحاق، الشهير بالشاطبي "الإمام العلامة المحقق القدوة الحافظ الجليل المجتهد"1 إلى نعوت أخرى كثيرة من هذا القبيل. وبمثلها بصفة مترجموه اللاحقون كالشيخ مخلوف2، والأستاذ الحجوي3، وغيرهم، على ما سيأتي. لم يذكر أحد من مترجميه لا زمان ولادته ولا مكانها. أما سنة ولادته، فقد اجتهد الأستاذ أبو الأجفان في تقديرها. والأمر لا يكتسي أي أهمية. وأما مكان ولادته -وهو أهم- فقد تحاشى الأستاذ أبو الأجفان التعرض له -ربما لعدم توفر شيء عن الموضوع- حيث قال: "وبغرناطة نشأ الشاطبي وترعرع"4. والذي جعلني أتساءل عن مكان ولادته، هو اسمه المشهور "الشاطبي" نسبة إلى "شاطبة"5، فلم ينسب إليها؟ وعلى كل، فالأظهر أنه ولد بغرناطة. وأما كونه نشأ بها وقضى فيها كل حياته، فأمر لا يذكر غيره؛ فلا تذكر له أسفار ولا رحلات، ولا يذكر هو أيضًا شيئًا من هذا القبيل. بل حتى الرحلة المعتادة للعلماء، ولغيرهم -وهي رحلة الحج- لا نجد لها ذكرًا!

_ 1 نيل الابتهاج بتطريز الديباج، لأحمد التنبكتي السوداني ص46. 2 شجرة النور الزكية، في طبقات المالكية ص231. 3 الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 4/ 248. 4 فتاوي الإمام الشاطبي: 32. 5 شاطبة "Sative"، تقع جنوب غرب بلنسية، قريبًا من البحر الأبيض المتوسط، وكانت في العهد الإسلامي عامرة مزدهرة. وإليها ينسب عدد من العلماء "الشاطبيين" وإن كان صاحبنا هو أشهرهم.

شيوخ الشاطبي: ميز الأستاذ أبو الأجفان بين شيوخه الغرناطيين، وشيوخه الوافدين على غرناطة وهو تمييز له فائدته. فمن جهة، يتأكد لنا أن الشاطبي لم يتتلمذ خارج غرناطة. ومن جهة أخرى ينبهنا إلى الجهات التي تلقى منها الشاطبي علومه1، إلى جانب غرناطة نفسها. فمن شيوخه الغرناطيين: 1- ابن الفخار البيري: وصفه التنبكتي بأنه: الإمام المفتوح عليه في العربية بما لا مطمح فيه لسواه، وذكر أن الشاطبي لازمه إلى أن مات2. وقرأ عليه بالقراءات السبع في سبع ختمات3. 2- أبو جعفر الشقوري: وهو نحوي، وفقيه فرضي. 3- أبو سعيد بن لب: مفتي غرناطة، وخطيبها، ومدرسها الشهير. وقد كان للشاطبي معه خلافات مشهورة سيأتي ذكر بعضها. 4- أبو عبد الله البلنسي: مفسر ونحوي. ومن شيوخه الوافدين على غرناطة: 1- أبو عبد الله، الشريف التلمساني: الإمام المحقق، أعلم أهل وقته4. وهو صاحب كتاب: "مفتاح الوصول، إلى بناء الفروع على الأصول". 2- أبو عبد الله المقري "وهو تلمساني أيضًا". صاحب الكتاب الجليل "قواعد الفقه"5 وغيره.

_ 1 ويأتي في مقدمتها تلمسان وفاس. 2 نيل الابتهاج: 47. 3 برنامج المجاري: 119 "عن مقدمة أبي الأجفان للفتاوي ص34". 4 نيل الابتهاج: 47. 5 حققه الدكتور محمد الدردابي، أطروحة دكتوراه بدار الحديث الحسنية بالرباط.

3- أبو القاسم السبتي، وصفة التبكتي بأنه رئيس العلوم اللسانية1. 4- أبو علي الزواوي: درس ببجاية وتلمسان، وهو شيخ الشاطبي في الأصول. قال الشاطبي: "حدثنا شيخنا الأصولي أبو علي الزواوي"2. وقال في موضع آخر: "مثل لنا شيخنا الأستاذ العالم أبو علي الزواوي في أثناء القراءة عليه لكتاب ابن الحاجب الفروعي"3. ونقل الأستاذ أبو الأجفان عن "برنامج المجاري" "ص119"، أنه قرأ عليه المختصر الأصولي أيضًا لابن الحاجب4. 5- ابن مرزوق الخطيب "الجد"، وهو تلمساني أيضًا، وصفة الونشريسي بأنه "مالك" زمانه ومكانه5، ولقبه في موضع آخر بشيخ الإسلام6. سمع منه الشاطبي موطأ مالك، وصحيح البخاري، بقراءة ابن عبد الله الحفار7. ويمكن الاطلاع على أسماء شيوخ آخرين يذكرهم الشاطبي، أو يروي عنهم، وذلك في كتابه "الإفادات والإنشادات". تلاميذ الشاطبي: وقد ذكر منهم التنبكتي ثلاثة8، وهم: 1- أبو يحيى بن عاصم، العلامة الشهيد في ساحة المعركة9، يوصف بأنه "صاحب الإمام أبي إسحاق الشاطبي ووارث طريقته"10.

_ 1 نيل الابتهاج: 47. 2 الإفادات والإنشادات: 163. 3 الإفادات والإنشادات: 169. 4 الإفادات والإنشادات: 23. 5 المعيار: 6/ 572. 6 المعيار: 7/ 317. 7 فتاوي الإمام الشاطبي: 37. 8 نيل الابتهاج: 49. 9 انظر ترجمته وقصة استشهاده في "نيل الابتهاج" 285. 10 نيل الابتهاج: 285. وما بعدها.

2- أخوه القاضي الفقيه أبو بكر بن عاصم، صاحب المنظومة الفقهية الشهيرة "تحفة الحكام". 3- الشيخ الفقيه أبو عبد الله البياني. وأضاف الأستاذ أبو الأجفان1، إلى هؤلاء الثلاثة تلميذين آخرين هما: - أبو جعفر القصار، الذي يذكر أن الشاطبي كان أثناء تأليفه لكتاب "الموافقات"، يعرض عليه بعض مسائله، ويباحثه فيها، ثم يدونها. - وأبو عبد الله المجاري، السالف ذكره أول هذا الفصل. مؤلفات الشاطبي: أ- المطبوعة: لا شك أن أهم ما خلفه الشاطبي من مؤلفات هو كتابه الشهير "الموافقات"2 ذكر في مقدمته أنه كان قد اختار له اسم "عنوان التعريف بأسرار التكليف" نظرا لما تضمنه من "الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية"، ثم عدل عن هذا الاسم إلى اسم "الموافقات" بناء على رؤيا رآها أحد الشيوخ من ذوي الحظوة والاحترام عنده3. وقد جعله خمسة أقسام، هي: - القسم الأول: في المقدمات المحتاج إليها في تمهيد المقصود. - القسم الثاني4: في الأحكام وما يتعلق بها من حيث تصورها والحكم بها

_ 1 فتاوي الإمام الشاطبي: 41. 2 لست أدري لماذا يتكلف بعض المحدثين الزيادة في عنوان الكتاب؟ فهو في طبعة الشيخ دراز "الموافقات في أصول الشريعة" وفي طبعة محي الدين عبد الحميد "الموافقات في أصول الأحكام"، وكذلك الشأن في الطبعة التي صدرت بإشراف كل من الأستاذ محمد الخضر التونسي والشيخ حسنين مخلوف. مع أنه لا يذكر عند صاحبه ولا في المصادر القديمة إلا باسم الموافقات فقط. 3 الموافقات: 1/ 24. 4 هو والقسم الأول، يدمجان في الجزء الأول من الكتاب مطبوعًا. والقسم الثالث "كتاب المقاصد" هو الجزء الثاني، وهكذا.

أو عليها، كانت من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف. - القسم الثالث: في المقاصد الشرعية وما يتعلق بها من الأحكام. - القسم الرابع: في حصر الأدلة الشرعية1، وبيان ما ينضاف إلى ذلك فيها على الجملة وعلى التفصيل، وذكر مآخذها وعلى أي وجه يحكم بها على أفعال المكلفين. - القسم الخامس: في أحكام الاجتهاد والتقليد والمتصفين بكل واحد منهما، وما يتعلق بذلك من التعارض والترجيح، والسؤال والجواب. وقد حظي كتاب الموافقات، بالتقدير الكبير، والعناية الفائقة، قديمًا وحديثًا، وإن لم يأخذ مكانته الحقيقية إلا حديثًا، وما زال يسمو يومًا بعد يوم. فقديمًا، ومنذ عصر الشاطبي، قام تلميذه أبو بكر بن عاصم بتلخيصه، وسمي تلخيصه "المنى في اختصار الموافقات" وقام تلميذ آخر له بنظمه، وسمي منظومته: "نيل المنى من الموافقات"2. وقد وصفه أحمد بابا التنبكتي بأنه: جليل القدر جدا، لا نظير له. يدل على إمامته وبعد شأوه في العلوم، سيما علم الأصول3". وقد طبع وصدر في مطلع القرن الهجري الماضي بتونس "صدر سنة 1302هـ". وعلى إثر ذلك قام الشيخ ماء العينين بن مامين بنظمه. وسمي منظومته

_ 1 اقتصر في تناوله للأدلة الشرعية على الكتاب والسنة؛ قال بعد انتهائه من: "الطرف الأول: في الأدلة على الجملة"، قال: الطرف الثاني: في الأدلة على التفصيل، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والرأي. ولما كان الكتاب والسنة هما الأصل لما سواهما اقتصرنا على النظر فيها" الموافقات: 3/ 345. هذا مع العلم أنه صرح في الجزء الأول بما يفيد أنه يستناول القياس. فقد قال -وهو يتحدث عن علاقة العقل بالنص-: "وهذا مبين في موضعه من كتاب القياس" "الموافقات": 1/ 89. وأكد هذا العزم في الجزء الثاني حيث جاء "ولعله يشار إليه في كتاب القياس إن شاء الله" 2/ 392. 2 انظر: فتاوي الإمام الشاطبي: 47، وقد نقل الأستاذ أبو الأجفان أن هذه المنظومة ما زالت موجودة بمكتبة دبر الأسكريال بإسبانيا برقم 1164. 3 نيل الابتهاج: 48.

"موافق الموافقات" ثم شرح المنظومة وسمي الشرح "المرافق على الموافق". وطبع هذا الشرح وصدر بفاس عام 1324هـ. الاعتصام: في جزئين، وهو في البدع والمحدثات. عالج موضوعه بمنهاج أصولي رصين، وضمنه مباحث نفيسة في أصول الفقه كمبحث المصالح المرسلة والاستحسان1. وقد نشره لأول مرة الشيخ محمد رشيد رضا، وقدم له، وراجع نصوصه. وهي مراجعة مستعجلة غير كافية. وقد ذكر في نهايته أنه لم يتمه. الإفادات والإنشادات2: "فيه طرف وتحف وملح أدبية وإنشادات" وقد حققه -كما تقدم- الأستاذ أبو الأجفان، وصدر منذ بضع سنوات. هذا كل ما هو مطبوع ومعروف اليوم من مؤلفات الشاطبي. أما "فتاوي الإمام الشاطبي" التي جمعها وحققها الأستاذ محمد أبو الأجفان، فليست مؤلفًا للشاطبي، وإنما هي فتاوٍ متفرقة أجاب بها الشاطبي سائليه، وسجلت هنا وهناك من كتب النوازل، وفي مقدمتها معيار الونشريسي. ب- غير المطبوعة: أما كتبه غير المطبوعة، فأكثرها لا يذكر له اليوم وجود. ولعل أهمها هو: "كتاب المجالس" الذي شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري. وأهمية هذا الكتاب تتجلى فيما قاله عنه صاحب "نيل الابتهاج": "فيه من الفوائد والتحقيقات ما لا يعلمه إلا الله". وتتجلى أيضًا في كونه الكتاب الوحيد الذي يذكر للشاطبي في الفقه. ومن هنا أظن أن منزلته ستكون مباشرة بعد منزلة "الموافقات"؛ فهذا في الأصول ومقاصد الشريعة، والآخر في التطبيق الفقهي.

_ 1 الاعتصام: 2/ 111- 150. 2 وردت تسميته غلطًا "الإشارات والإفادات" في "نفح الطيب" بتحقيق الدكتور إحسان عباس: 7/ 279.

وقد بحثت، وسألت عنه عددًا من الخبراء في المخطوطات فلم أجد عندهم شيئًا عنه. وأرجو -مع ذلك- أن يقيض الله له من فرسان هذا الميدان من يكشف عنه، ويخرجه للمسلمين، ولطلاب العلم خاصة. على أن الشاطبي نفسه، لم يذكره نهائيا في كل ما هو منشور له الحد الآن. وهذا يفيد أنه ربما كتبه في أواخر عمره. وهناك احتمال آخر معاكس، وهو أن يكون ألفه في وقت مبكر من حياته1، ثم أتلفه مثلما أتلف غيره. فقد ذكر التنبكتي ضمن مؤلفاته: "عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق" وكتاب "أصول النحو" ثم قال: "وقد ذكرهما معًا في شرح الألفية، ورأيت في موضع آخر أنه أتلف الأول في حياته وأن الثاني أتلف أيضًا"2. وشرح الألفية، الذي يشير إليه التنبكتي، وهو أيضًا في النحو، فهو شرح لألفية ابن مالك المعروفة. وقد ذكر الأستاذ أبو الأجفان أن نسخة خطية منه، توجد بالخزانة الملكية بالرباط برقم 276. وأن مركز البحوث بجامعة أم القرى بمكة يقوم بتحقيقه ونشره3. "شرحه الجليل على الخلاصة في النحو في أسفار أربعة كبار. لم يؤلف عليها مثله بحثًا وتحقيقًا فيما أعلم"4. وقد ختم التنبكتي كلامه عن مؤلفات الشاطبي بقوله: "وله غيرها، وفتاوي كثيرة"5. وهذا يفتح باب التساؤل عن هذه المؤلفات الأخرى التي لم يذكرها على أن الشاطبي قد ذكر في "الاعتصام" أنه يعتزم تأليف كتاب في بيان حقيقة التصوف وكيف كان أئمته المتقدمون. قال: "وفي غرضي -إن فسح الله في المدة، وأعانني بفضله ويسر لي الأسباب- أن ألخص في طريقة القوم أنموذجًا

_ 1 وإن كانت شهادة التنبكتي له توحي بخلاف هذا. 2 نيل الابتهاج: 49. 3 الإفادات والإنشادات: 28. 4 نيل الابتهاج: 48. 5 نيل الابتهاج: 49.

يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى، وأنه إنما داخلتها المفاسد، وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم، عن عهد ذلك السلف الصالح، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي، ولا فهم لمقاصد أهلها"1. وفي موضع آخر من "الاعتصام" عبر عن عزم أقوى وأوضح على تأليف هذا الكتاب فقال: "وإن فسح الله في المدة، وأعان بفضله، بسطنا الكلام في هذا الباب، في كتاب "مذهب أهل التصوف" وبينا ما أدخل فيه مما ليس بطريق لهم"2. وإذا علمنا أنه -رحمه الله- لم يتم كتاب "الاعتصام" نفسه، لم يبق أمامنا إلا أن نتساءل: هل عاجلته المنية قبل تأليف هذا الكتاب؟ أم يكون ألفه وهو يؤلف الاعتصام؟ أم يكون جمع مادته، أو شرع فيه دون أن يتمكن من إتمامه؟ وأخيرًا: فلا خلاف أن وفاته -رحمه الله- كانت عام تسعين وسبعمائة "سنة 1388 ميلادية" ونص التنبكتي أنها كانت في شعبان3.

_ 1 الاعتصام: 1/ 90. 2 الاعتصام: 1/ 219. 3 نيل الابتهاج: 49.

الشاطبي يتحدث عن نفسه

2- الشاطبي يتحدث عن نفسه: ألمحت في أول هذا الفصل إلى عدم توفر ترجمات مطولة لإمامنا أبي إسحاق، وأن ما كتبه عنه السبقون -لو جمع- لا يتجاوز بضع صفحات، على ما فيها من تنويه كبير بإمامة الشاطبي وبمؤلفاته الفريدة. وهذا ما يدعو إلى التنقيب وإمعان النظر فيما كتبه الشاطبي نفسه، لعلنا نوسع دائرة معرفتنا بمعالم شخصية هذا الرجل الفذ. ومن هذا المنطلق كانت هذه الفقرة، وكان التوقف عند هذه اللقطات مما كتبه الشاطبي.

معالم في مسيرته العلمية: روى الشاطبي في "الإفادات" قال: "كثيرا ما كنت أسمع الأستاذ أبا علي الزواوي يقول: قال بعض العقلاء: لا يسمى العالم بعلم ما، عالمًا بذلك العلم على الإطلاق، حتى تتوفر فيه أربعة شروط: أحدها: أن يكون قد أحاط علمًا بأصول ذلك العلم على الكمال. والثاني: أن تكون له قدرة على العبارة عن ذلك العلم. والثالث: أن يكون عارفًا بما يلزم عنه. والرابع: أن تكون له قدرة على دفع الإشكالات الواردة على ذلك العلم. قلت: وهذه الشروط رأيتها منصوصة لأبي نصر، محمد بن محمد الفارابي الفيلسوف في بعض كتبه"1. ولا شك أن الشاطبي كان يضع هذه الوصية، نصب عينيه ويعمل -في طلبه العلم -بمقتضاها. فهي وصية من أحد أكبر شيوخه، وكان هذا الشيخ يكثر من إسماعه إياها وتذكيره بها. وإلى هذا، فهو قد قرأها في بعض كتب الفيلسوف الكبير، أبي نصر الفارابي، الملقب بالمعلم الثاني. والشاطبي يصرح -أو يكاد- بوفائه وتمسكه بهذه الشروط، المطلوبة في العالم بأي علم. ولا شك أنه قد حقق -أكثر ما حقق- هذه الشروط، في علم الشريعة أصولًا وفروعًا، وقد رأينا أنه يشترط في قارئ "الموافقات" أن يكون ريان من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، هذا عن قارئ الكتاب، فكيف بمؤلفه! ويتحدث -في مقدمته "الاعتصام"- عن هذا الموضوع، فيقول: "وذلك أني -ولله الحمد- لم أزل منذ فتق للفهم عقلي، ووجه شطر العلم طلبي، أنظر في

_ 1 الإفادات والإنشادات: 107.

عقلياته وشرعياته، وأصوله وفروعه، لم أقتصر منه على علم دون علم، ولا أفردت من أنواعه نوعًا دون آخر، حسبما اقتضاه الزمان والإمكان، وأعطته المنة المخلوقة في أصل فطرتي، بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة، وأقدمت في ميادينه إقدام الجريء إلى أن منَّ عليَّ الرب الكريم، الرءوف الرحيم، فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسابي. فمن هنالك قويت نفسي على المشي في طريقه بمقدار ما يسر الله فيه، فابتدأت بأصول الدين عملًا واعتقادًا، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول1. ولا شك أن هذا السير المتأني الصبور، وهذا السعي الحريص على الإحاطة والإتقان، لا شك أن هذه الصفات -بعد توفيق الله الذي لا يفتأ يذكره- هي التي هيأت له ذلك السمو وذلك النضج، اللذين تميزت بهما كتاباته، وخاصة في "الموافقات". ومما رواه الشاطبي في "الإفادات" أن أبا الحسين البصري -الأصولي النظار المعتزلي - كان يقول فيه بعض الشيوخ: إذا خالف أبو الحسين البصري في مسألة، صعب الرد عليه فيها2. وهذا لا يكون -طبعًا- إلا إذا أتقن الرجل مسألته وأحكم حججه. وقد سقت هذه لأقول: إن الشاطبي أيضًا -بتأنيه وإتقانه وإحاطته- إذا قرر أمرًا، صعبت زعزعته، فضلًا عن إبطاله. ولعل هذا هو ما يفسر لنا قلة مؤلفات الشاطبي -بالنسبة إلى مكانته العلمية- وكونه أتلف بعضها بنفسه، لأنه -ربما- كتبها في وقت متقدم من حياته، ثم رآها لا تستوفي الشروط المطلوبة لبثها في الناس.

_ 1 الاعتصام: 1/ 24- 25. 2 الإفادات والإنشادات: 101.

ولعل هذا أيضًا، هو سر هذا القبول الواسع، الذي يحظى به الشاطبي اليوم، وبشكل متزايد. على أن من المعالم المشعة -أيضًا- في حياة الشاطبي العلمية طريقته في التأليف، والتي تمتاز بأمرين، يعتبران امتداد لما تقدم، وهما: 1- التأني والتتبع على مدى طويل، قبل الإقدام على التأليف. 2- المشاورة في ذلك. ففيما يخص تأليف "الموافقات" أشار إلى معاناته الطويلة في ذلك، ثم قال: "ولما بدا من مكنون السر ما بدا، ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى، لم أزل أقيد من أوابده، وأضم من شوارده، تفاصيل وجملا، وأسواق من شواهده في مصادر الحكم وموارده، مبينًا لا مجملا، معتمدًا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية، ومبينًا أصولها النقلية، بأطراف من القضايا العقلية، حسبما أعطته الاستطاعة والمنة، في بيان مقاصد الكتاب والسنة. ثم استخرت الله تعالى في نظم تلك الفرائد، وجمع تلك الفوائد، إلى تراجم تردها إلى أصولها، وتكون عونًا على تعقلها وتحصيلها. فانضمت إلى تراجم الأصول الفقهية، وانتظمت في أسلاكها السنية البهية، فصار كتابًا منحصرًا في خمسة أقسام"1. ثم قال في آخر المقدمة: "وعند ذلك فحق على الناظر المتأمل، إذا وجد فيه نقصًا أن يكمل. وليحسن الظن بمن حالف الليالي والأيام، واستبدل التعب بالراحة، والسهر بالمنام، حتى أهدى إليه نتيجة عمره، ووهب له يتيمة دهره"2. وفي قصة تأليفه لكتاب "الاعتصام" نجده يقول: "لم أزل أتتبع البدع التي نبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذر منها.

_ 1 الموافقات: 1/ 23. 2 الموافقات: 1/ 26.

وعلى طول العهد، ودوام النظر، اجتمع لي في البدع والسنن أصول قررت أحكامها الشريعة، وفروع طالت أفنانها، لكنها تنتظمها تلك الأصول، وقلما توجد على الترتيب الذي سنح في الخاطر، فمالت إلى بثها النفس"1. وأما مشاوراته فيما يؤلف ويكتب، فقد تقدم منها "في الفقرة السابقة" أنه كان أثناء تأليفه "الموافقات" يطالع تلميذه النبيه أبا جعفر القصار ببعض مسائلها ويباحثه فيها، قبل أن يدونها. وعندما بدأ يفكر في تأليف كتاب "الاعتصام"، وتردد في ذلك بين الإقدام والإحجام، أخذ يستشير في الأمر بعض أحبائه وخواصه، من أهل العلم. وحكى ذلك بقوله: "ثم إني أخذت في ذلك مع بعض الإخوان، الذين أحللتهم من قلبي محل السويداء، وقاموا لي في عامة أدواء نفسي مقام الدواء. فرأوا أنه من العمل الذي لا شبهة في طلب الشرع نشره، ولا إشكال في أنه -بحسب الوقت- من أوجب الواجبات، فاستخرت الله تعالى في وضع كتاب2. محنة الشاطبي: ومحنة الشاطبي، هي أيضًا مما نستفيده -أساسًا- من كتاباته. فمترجمه الرئيسي -أحمد بابا التنبكتي- لم يذكر عن الموضوع إلا إشارة خاطفة، هي التي تضمنها قوله عنه: "ومن شعره لما ابتلي بالبدع: بليت يا قوم والبلوى منوعة ... بمن أداريه حتى كاد يرديني دفع المضرة لا جلب لمصلحة ... فحسبي الله في عقلي وفي ديني3

_ 1 الاعتصام: 1/ 30-31. 2 الاعتصام: 1/ 34. 3 نيل الابتهاج: 49.

وقد تحدث الشاطبي عن محنته مع البدع وأهلها في مقدمة كتابه "الاعتصام"1: وذلك أنه قد تولى بعض خطط الجمهور، من الخطابة والإمامة ونحوهما. وأراد أن يسير فيها على ما يقتضيه العلم والحق. ولكنه اصطدام بما فشا في الناس من سيئ العادات، ومنكر البدع المحدثات. ووجد ذلك كله قد رسخ واستقر، فشب عليه الصغير وشاب عليه الكبير. ووقف حائرًا مترددًا: هل يساير الناس على ما هم عليه، ويستسلم لعاداتهم وبدعهم، أم يتمسك بالأدلة وما تقتضيه، وينتصر للسنة وما تمليه؟ ولم يظل به التردد، فالحق أبلج. وهكذا قام لأداء رسالته، وقد أيقن -كما يقول- "إن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة. وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئًا، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور. فقامت عليَّ القيامة، وتواترت عليَّ الملامة، وفوق إليَّ العتاب سهامه، ونسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل البغاوة والجهالة"2. وتوالت عليه الاتهامات والتلفيقات: 1- فقد نسب إليه القول بأن الدعاء لا ينفع، ولا فائدة فيه، بينما هو -فقط- لم يلتزم الدعاء الجماعي في إمامته للناس. 2- ونسب إلى التشيع والرفض وبغض الصحابة، فقط لأنه لم يلتزم ذكر الخلفاء الراشدين، في الخطبة على الخصوص. 3- ونسب إليه تجويز الخروج على الأئمة، لأنه لا يذكرهم في الخطبة، كما كان شأن السلف.

_ 1 الاعتصام: 1/ 25-35. 2 الاعتصام: 1/ 27.

4- واتهم بالغلو والتشديد، وإنما ذلك، لأنه كان يلتزم الفتوى بمشهور المذهب، ويتجنب الفتوى بالأقوال الضعيفة والشاذة، وهو ما عليه أهل العلم في المذهب. 5- واتهم بمعاداة أولياء الله الصالحين، وهو لم يزد على الإنكار على "الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية، ولم يتشبهوا بهم"1. 6- كما رمي بمخالفة السنة والجماعة. "بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها -وهي الناجية- ما عليه العموم. ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان"2. ورغم هذه الحملة الشعواء، وهذه الاتهامات الخطيرة، فإن الشاطبي لم ينثن عن مواقفه التي يمليها عليه وفاؤه لعلمه واستشعاره لواجبه. ففي هذا الجو المشحون ضده، عمد إلى تأليف كتابه "الاعتصام" الذي يعتبر أهم ما كتب في موضوع البدع3. وفي هذا الكتاب نجد مناقشة مطولة لأحد "شيوخ العصر" في فتوى أصدرها ضد "إمام مسجد" ترك الدعاء الجماعي في أدبار الصلوات زاعمًا أن ذلك ليس من عمل النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة. فتصدى له الشيخ المشار إليه، ورد عليه ردا "أمرع فيه على خلاف ما عليه الراسخون، وبلغ من الرد -على زعمه- إلى أقصى غاية ما قدر عليه4. والغريب أن الشاطبي لم يسم هذ االشيخ نهائيا، رغم أن المناقشة له استغرقت نحو عشرين صفحة5.

_ 1 الاعتصام: 1/ 28. 2 الاعتصام: 1/ 28. 3 بهذا يشهد كثير من العلماء والكتاب، ومنهم الشيخ محمد رشيد رضا الذي قال ضمن ما قال: "وما رأينا أحدًا منهم -أي ممن كتبوا في البدع- هدي إلى ما هدي إليه أبو إسحاق الشاطبي من البحث العلمي الأصولي في هذا الموضوع" الاعتصام: 1/ 4. 4 الاعتصام: 1/ 353-354. 5 الاعتصام: من 1/ 354- إلى: 2/ 6.

والحقيقة أن هذا الشيخ، ليس سوى شيخه أبي سعيد بن لب، مفتي غرناطة الشهير، الذي ورد ذكر رده على الإمام المذكور، في السؤال السابع من الأسئلة الثمانية الموجهة لابن عرفة والتي سيأتي الحديث عنها قريبًا، في الفقرة التالية "مراسلات الشاطبي". فكلام ابن لب المذكور هناك1، هو الكلام نفسه الذي يفنده الشاطبي في "الاعتصام"، جملة جملة، ودليلًا دليلًا. ومنه قولته الطريفة في تسويغ البدع وتحسينها: "كما تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما أحدثوا من الفتور2. وفي هذا الجو المشحور يستمر أيضًا في فتاويه المنكرة للبدع. وقد أورد منها صاحب "المعيار" الشيء الكثير، وخاصية في الجزء الحادي عشر3. ويبدو أن موقف الشاطبي هذا كان قد أصبح معروفًا في زمانه، فقد قال -جوابًا لبعض سائليه4: "وقد عرفتم مذهبي في هذه المحدثات فلا أعيده5". ويبدو -أيضًا- أن مواقف الشاطبي في إنكار المنكر، والذب عن السنة، كانت ذات أثر ملموس في حياته. فقد أورد الونشريسي مكاتبات أخرى، كانت تجري بين الشاطبي و"بعض أصحابه" في هذا الشأن، من ذلك قوله: "وكتب الأستاذ أبو إسحاق لبعض أصحابه: أما سائر ما كتبتم به في الكتاب، من طوارق عرضت، وامتحانات تواترت واعتراضات أوردت، فحاصله راجع إلى ضرب واحد، وهو أن طالب الحق في زماننا غريب، والقائل به مهتم الجانب فلنا في سلفنا الصالح أسوة6.

_ 1 المعيار: الونشريسي: 6/ 370. 2 الاعتصام 1/ 41. وقد أعاد إيراد هذه القولة وفندها في أول الجزء الثاني، ودون أن يسمي صاحبها أيضًا. وهذه القولة أوردها صاحب المعيار "6/ 370" منسوبة إلى صاحبها أبي سعيد بن لب، شيخ الشاطبي وصديقه وخصمه! 3 وانظر ما جمعه منها الأستاذ أبو الأجفان في "فتاوي الإمام الشاطبي" 189-214. 4 والسائل هو أبو عبد الله الحفار، الذي وصفه صاحب "المعيار" بالأستاذ الشهير الكبير، أحد الشيوخ الأعلام: 7/ 108. 5 المعيار: 7/ 111. 6 المعيار: 11/ 139.

"ثم وصلني بعد ذلك أنكم أخرتم عن الإمامة بموضعكم وتقديم غيركم. وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم. وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا. وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم. والله يعلم وأنتم لا تعملون"1. وقد حث الشاطبي صاحبه على الاستمرار في إعلان الحق وأداء أمانة العلم ما دام يجد له قابلا، ويرى لذلك أثرًا، فقال: "وقد ظهر لكلامكم في كثر من هذه الأمور أثر2 صالح، فكيف لنا بالسكوت عن الحق! هذا لا يسمع حتى لا تجد أحدًا يقبل الحق، عياذًا بالله من ذلك الزمان أن نصل إليه"3. وبلغه عن بعض أصحابه أنه ترك السنة بعد أن كان التزمها، وعاد إلى مسايرة الجمهور في بدعته، فكتب إليه في ذلك كتابًا جاء فيه "فإن كان ذلك لأنكم ظهر لكم الصواب فيه، فما بالكم لم تعرفوا محبكم بوجه صوابه، فيكون تعاونًا على البر والتقوى. وإن كان ذلك لأجل المعيشة، فقد اتهمتم الرب سبحانه في ضمان الرزق، أو لغير ذلك، فعرفوني به"4. ثم قال الونشريسي: "وكان رحمه الله يحمل أصحابه على الصبر على البلاء في بث الحق، ويقوي عزيمتهم: كتب إليه بعض أصحابه متشكيًا بما لقيه في هذا الغرض، فأجابه: فلا عليكم، فإن الله معكم ما قصدتم وجه الله بأعمالكم، وثابرتم على اتباع الحق والمشي على طريق الصواب. ورضي المخلوق لا يغني من الله شيئًا. والله سبحانه يتولاني وإياكم بما تولى به عباده الصالحين"5.

_ 1 المعيار: 11/ 140. 2 الكلمة في الكتاب "أكثر" والصواب ما أثبته، والله أعلم. 3 المعيار: 11/ 141. 4 المعيار: 11/ 141. 5 المعيار: 11/ 141.

مراسلات الشاطبي

3- مراسلات الشاطبي: ومراسلات الشاطبي، ظاهرة تستلفت قارئ "الموافقات" و"الاعتصام". فهو مرارًا يذكر أنه راسل بعض الشيوخ، أو راسل شيوخ المغرب وإفريقية "تونس" في مسألة كذا، أو مسألة كذا. ورغم أن التنبكتي قد ذكر محاورة الشاطبي لعدد من علماء وقته، فإنه لم يصرح بأن ذلك كان -أو كان كثير منه على الأقل- عن طريق المكاتبة. بل إن عبارته توحي أن الحوار كان مباشرًا، فهو يقول: "وتكلم مع كثير من الأئمة في مشكلات المسائل، من شيوخه وغيرهم، كالقباب، وقاضي الجماعة الفشتالي، والإمام ابن عرفة، والولي الكبير أبي عبد الله بن عباد. وجرى له معهم أبحاث ومراجعات أجلت عن ظهوره فيها وقوة عارضته وإمامته"1. وبالمتابعة والتحقيق يتبين أن التكلم مع هؤلاء وغيرهم -من أهل المغرب وإفريقية- قد تم عن طريق المراسلة، كما سيتضح ذلك من خلال الصفحات التالية. وقد استفزني أمر هذه المراسلات، لمتابعته والنظر فيه، خصوصًا وأنها -كما يشير التنبكتي- تناولت مشكلات المسائل، وجرت فيها أبحاث ومراجعات، وكل هذا مع أئمة المذهب في زمانهم. ومما أصفى على الموضوع أهمية خاصة، هو كون الشاطبي -كما قدمت- يتعرض كثيرًا لهذه المكاتبات، ويؤسس عليها قواعد وآراء في غاية الأهمية. ولكنه -مع هذا- لا يذكر منها أو عنها، إلا لقطات وإشارات! ومن هنا وجدتني مدفوعًا إلى متابعة هذه المراسلات، وجمع ما تيسر من خيوطها.

_ 1 نيل الابتهاج: 48.

وقد استفدت الفائدة العظمى -في هذا الموضوع- من كتاب "المعيار"1، لأبي العباس الونشريسي. ولنبدأ من جزئه السادس، حيث نجد ما يلي: "هذه أسئلة كتب فيها بعض فقهاء غرناطة بمدينة تونس للسيد الفقيه الإمام العالم العلامة المفتي الخطيب المدرس المقرئ المحقق الأكمل أبي عبد الله محمد بن محمد بن عرفة رضي الله عنه"2. غير أن هذا التقديم، قد ترك -كما هو واضح- عدة تساؤلات: هل هذه الأسئلة كتبها واحد أو أكثر؟ ومن هو أو من هم؟ وهل الأسئلة كتبت "بمدينة تونس"؟ أم أن هذا مجرد خطأ؟ 3 وتبدأ الأسئلة -أو المسائل- الثمانية وتنتهي، وتبدأ أجوبة ابن عرفة عليها4، ثم تنتهي، دون ذكر صاحب الأسئلة. ولكن، بعد قراءة الأسئلة، وإعادة قراءتها، ومقارنتها بغيرها، تجمع لي من الأدلة والقرائن ما جعلني أجزم -بكل اطمئنان- أن صاحب الأسئلة، هو أبو إسحاق الشاطبي5. ونظرًا لأهمية الأسئلة، فيما تكشفه لنا من اهتمامات الشاطبي، ومن شخصيته العلمية، ولأهميتها الذاتية، لأنها ليست أسئلة فحسب، بل هي وجهات نظر، مدعمة بأقوى الأدلة، في مسائل علمية هامة، "وإن كان بعضها قد نقصت أهميته اليوم" نظرًا لهذه الأهمية، أقدم فيما يلي خلاصة لها:

_ 1 واسمه الكامل "المعيار المعرب، والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب" خرجة جماعة من الفقهاء بإشراف الدكتور محمد حجي. 2 المعيار: 6/ 364. 3 وهذا هو الظاهر، خاصة وإن الكتاب في طبعته المشار إليها مليء بالأغلاط الفادحة من كل الأنواع. وقد سبق، وسيأتي، التنبيه على بعضها. 4 من قبيل ما أشرت إليه في الهامش السابق، هذه العبارة التي تبتدئ بها أجوبة ابن عرفة: "الحمد لله، هذه أجوبة سؤالات صدر اقتراح وارد فيها عن أجوبتها". 5 توضيح ذلك، سيأتي في ثنايا الصفحات المقبلة، بحول الله.

- المسألة الأولى: أن فقهاء المذهب المالكي، يجدون في المسألة الواحدة أقوالًا متعارضة، كلها مروي عن إمام المذهب، وقد تصل هذه الأقوال إلى ثلاثة أو أربعة، وهم يفتون بجميع هذه الأقوال، ويعتمدونها على ما بينها من تعارض يقتضي أن بعضها مرجوع عنه، فلا عمل به، فهو كالدليل الشرعي المنسوخ، مع أن أهل الأصول متفقون على أنه إذا ورد من العالم قولان متضادان، ولم يعلم المتقدم من المتأخر، لم يؤخذ له بواحد منهما، لاحتمال أن يكون المأخوذ به هو المرجوع عنه. - المسألة الثانية: وهي شبيهة بالأولى، ومبنية عليها، وهي: إذا اختلفت الروايات في المذهب، فهل يصح للقائل أن يقول: هذا مذهب مالك في المسألة، وهو إنما يعني إحدى تلك الروايات فقط؟ وهل يكون في ذلك بريء الذمة، في نسبة ما نسب إلى مالك، وهو غير متأكد منه؟ - المسألة الثالثة: كثيرًا ما يعمد الفقهاء إلى أقوال "المدونة" أو غيرها، فيستنبطون من ألفاظها ما تحتمله، ويأخذون بمفهوماتها، بل كثيرًا ما يستدلون بمفهوم كلام ابن القاسم وغيره، فضلا عن مالك. مع العلم أن الأخذ بالمفهوم -في كلام الشارع- فيه ما هو معلوم من الخلاف، فكيف بكلام البشر وفيه ما فيه من القصور والغفلة والحشو؟ - المسألة الرابعة: اشتهر عن مالك ومذهبه، مراعاة الخلاف، وأن ذلك من الأصول التي قد تبنى عليها بعض الفتاوي المالكية. ومراعاة الخلاف، هي أن يكون المذهب في المسألة: كذا وكذا. فإذا وقعت على خلاف ما في المذهب، ولكن على وفق ما في مذهب آخر، أو قول آخر من أقوال أهل العلم، فإن الفتوى في المذهب -بعد الوقوع- تكون بتصحيح ما وقع وإمضائه1، عملا بالمذهب المخالف الذي يصحح ذلك أصلًا.

_ 1 هذا على القول بأن مراعاة الخلاف، إنما تكون فيما قد وقع من الأفعال والنوازل، وهو ما تؤكده أكثر الأقوال، وتؤيده أكثر الفروع التطبيقية لهذا الأصل. على أن من العلماء من يرى أن مراعاة الخلاف -في مذهب مالك- تكون فيما بعد الوقوع وفيما قبله أيضًا، بشرط واحد هو أن يكون دليل المخالف قويا. وعلى كل، فالمسألة تحتاج إلى استقصاء ودراسة، ليس لهما مكان في هذا البحث.

والإشكال الوارد هنا -من الشاطبي طبعًا- هو أن المالكي -في هذه الحالة- يتنازل عن الدليل الذي يعتقد صحته -أو رجحانه على الأقل- ويعمل بدليل يعتقد بطلانه -أو مرجوحيته على الأقل- ويجوز -بعد الوقوع- ما لم يكن جائزًا قبله! - المسألة الخامسة: أن الغزالي وابن رشد، وغيرهما كالقرافي، جعلوا من الورع، الخروج من الخلاف، بناء على أن الأمور المختلف فيها "أي في جوازها وعدمه" هي نوع من الشبهات التي جاء في الحديث الحث على اتقائها، فيكون من الورع واتقاء الشبهات: الخروج من الخلاف، بترك ما اختلف فيه. وهذا الرأي يؤدي إلى إشكالات وصعوبات: منها أننا سنجعل قسمًا كبيرًا من الشريعة، من المتشابهات، مع العلم أن المتشابهات إنما هي استثناءات في الشريعة؟ ومنها الحرج الكبير الذي سيقع فيه المكلفون من أجل أن يكونوا ورعين، والحرج الكبير العسير منفي عن الشريعة قطعًا؟ - المسألة السادسة: قد يعمل المكلف عملًا، بالجهل، ومجرد التخمين، من غير علم بالحكم الشرعي فيما عمل -سواء كان ذلك في العبادات أو في غيرها- ويجبيء عمله على صورة يصححها بعض العلماء، ويبطلها بعضهم. فهل يكون عمله ذاك مجزئًا تبرأ به ذمته أم لا؟، علمًا بأن ذمته مشغولة -يقينًا- بذلك العمل. - المسألة السابعة: أن إمامًا -بغرناطة1- ترك الدعاء الجماعي في أعقاب الصلوات، على أساس أن تلك الهيئة بدعة مخالفة لما هو معروف من فعل النبي

_ 1 بمقارنة مضمون هذا السبؤال والذي بعده، بما فيه كلام الشيخ أبي سعيد بن لب، مع ما تقدم في فقرة "محنة الشاطبي" من تولة الإمامة والخطابة، واجتنابه لما اعتراهما من بدع. وكونه أتهم بالرفض، و ... ، و ... ، بمقارنة هذا وذلك يتأكد أن الإمام المذكور في هذا السؤال والسؤال التالي هو الشاطبي نفسه.

صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده، وأن الأستاذ أبا سعيد بن لب قد رد على ذلك الإمام بكتاب سماه: "لسان الأذكار والدعوات مما شرع في أدبار الصلوات" ذهب فيه إلى اعتبار الدعاء الجماعي عقب الصلوات ما له أصل على الجملة، وأن عدم وجوده في عمل السلف لا يدل على منعه، وإن كان يدل على جواز تركه، وذهب إلى أنه من البدع المستحسنة المفيدة للناس. والإشكال في هذا: أن أي بدعة تحدث في الدين يمكن أن يحتج لها صاحبها بمثل هذه الاحتجاجات، وأن يجعلها بدعة مستحسنة. وهكذا يصبح هذا التأليف حجة لكل مبتدع، وينعدم كل ضابط للتمييز بين الأفعال المشروعة والبدع المحرمة! - المسألة الثامنة: أن خطيبًا ترك ذكر الصحابة والدعاء لهم في آخر الخطبة كما هو معتاد، واقتصر على ذكرهم حين يروي عنهم الأحاديث. كما ترك -أيضًا- ذكر السلطان في الخطبة، زاعمًا أن ذلك كله بدعة، واستشهد بكلام لابن عبد السلام الشافعي يرى فيه أن ذلك بدعة. وقد قام الطلبة يبحثون في ذلك، فتحققوا أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة لم يأتوا بشيء من ذلك، ولا أحد من ولاتهم في خلافتهم. ولكنهم قالوا: العمل مستمر على هذا، فلعل له أصلًا، وأن المسألة بلغت الأستاذ أبا سعيد بن لب، فأنكر أشد الإنكار على ذلك الإمام، ورماه بالرفض، وانتصر لما عليه الناس، وأنه يكفي إجماع المسلمين على استحسانه. والإشكال في هذا هو: هل في كل مرة وجدنا ما عليه الناس بخلاف ما جاء في الشريعة وما جاء عن السلف الصالحين والعلماء المجتهدين صححنا ما عليه الناس، وتركنا الشريعة وعمل المتقدمين؟ فكيف يبقى للسنة -مع هذا- أثر؟ وهل الإجماع الخالي من المجتهدين -كما هو شأن الأزمان المتأخرة- يعتبر حجة؟ وحتى ولو خالف إجماع الأولين من الصحابة وغيرهم؟ هذه سؤالات الشاطبي أو مسائلة1، وهي -في الحقيقة- أجوبة أكثر منها

_ 1 المعيار: 6/ 364-373.

أسئلة. وهي تظهر مدى تمسكه ووفائه لمقتضيات الأدلة الشرعية والمقررات الأصولية. وبعد انتهاء أجوبة الإمام ابن عرفة1، قال المصنف: "قلت: وسئل الشيخ أبو القاسم السيوري عن ذكر السلاطين في الخطب، والدعاء لهم: هل يبطلها فأجاب"2، وبعد انتهاء جوابه قال: "وكتب بعضهم3 للشيخ أبي العباس سيدي أحمد القباب سؤالًا في مسألة مراعاة الخلاف المتقدمة الذكر"4. ومرة أخرى لم يسم السائل، ولكنه ساق السؤال مختصرا عن السؤال الرابع "المسألة الرابعة" من الأسئلة الثمانية السابقة الموجهة لابن عرفة. بل بين السؤالين عبارات متطابقة، وهي العبارات الرئيسية في السؤالين، ومنها: "فإن الذي يظهر أن الدليل هو المتبع، فحيثما صار صير إليه، ومتى ترجح للمجتهد أحد الدليلين على الآخر -ولو بأدنى وجه من وجوه الترجيح- وجب التعويل عليه، وإلغاء ما سواه، على ما هو مقرر في الأصول. فإذا، رجوعه -أعني المجتهد- إلى قوله الغير، إعمال لدليله المرجوع عنده، وإهمال للدليل الراجح عنده، الواجب عليه اتباعه"5. ولم يورد مباشرة جواب الشيخ المسئول هنا -وهو القباب- ولكنه قال قبل ذلك: "قلت: وقد اعتمد هذه المسألة بالتحقيق، واعتنى بالسؤال عنها الشيخ الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله، فكتب فيها -ابتداء ومراجعة- لمن عاصره من علماء فاس وإفريقية بما ضمن البحث فيه كل سديد من الرأي، وأصيل من النظر.

_ 1 المعيار: 16/ 373-385. 2 المعيار: 6/ 385. 3 لاحظ إبهام السائل! 4 المعيار: 6/ 387، ولاحظ تصريحه بأن هذه المسألة هي التي سبق ذكرها، أي في الأسئلة الثمانية المتقدمة. 5 المعيار: 6/ 387. وهذه العبارات نفسها واردة في السؤال الرابع من الأسئلة الثمانية المذكورة قارن مع: 6/ 367، من المعيار.

فأجاب الإمام أبو عبد الله بن عرفة رحمه الله بما تقدم نصه. وأجاب الفقيه أبو العباس القباب بما نصه1. فها قد ظهر إذًا أن الذي اعتنى بهذه المسألة، وكاتب فيها، هو أبو إسحاق الشاطبي، وأن المسألة هي المسألة نفسها التي وردت في الأسئلة الثمانية. فهذا دليل أول على أن صاحب السؤالين "أو السؤال" هو الشاطبي. وأقوى من هذا دلالة: تطابق السؤالين هنا وهناك، تطابقًا لفظيا، في أهم الفقرات، كما مر. وأصرح من هذا وذاك، قول الونشريسي: "فأجاب الإمام أبو عبد الله بن عرفة رحمه الله بما تقدم نصه" والذي تقدم نصه هو جوابه لصاحب الأسئلة الثمانية وإذًا فصاحب الأسئلة الثمانية، هو نفسه صاحب هذه المسألة الموجهة لعلماء فاس "القباب" وإفريقية "ابن عرفة". والشاطبي نفسه يذكر أنه راسل في مسألة: مراعاة الخلاف2 جماعة من الشيوخ. ففي الموافقات: ذكر الإشكال الوارد في المسألة، ثم قال: "وقد سألت عنها جماعة من الشيوخ الذين أدركتهم"3. وفي "الاعتصام" قال: "ولقد كتبت في مسألة مراعاة الخلاف إلى بلاد المغرب، وإلى بلاد إفريقية، لإشكال عرض فيها من وجهين"4. ثم أورد استشكاله، بنفس الصيغة التي أوردت نصها عن المعيار في الموضعين. ثم قال: "فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد"5 إلا أني راجعت بعضهم بالبحث، وهو أخي ومفيدي أبو العباس ابن القباب رحمة الله عليه، فكتب إليَّ بما نصه"6.

_ 1 المعيار: 6/ 387. 2 اقتصر على ذكر هذه المسألة من مراسلته، لأن ذكرها جاء في سياق تعرضه لهذا الموضوع: "مراعاة الخلاف". 3 الموافقات: 1/ 151. 4 الاعتصام: 2/ 146. 5 يبدو من عباراته وقرائن أخرى أن "الأقرب"، هو جواب القباب، وأن "الأبعد" هو جواب ابن عرفة. 6 الاعتصام: 2/ 146.

ويمكن أن يفهم من كلامه هذا، ومما ذكره في "الموافقات" من كونه كتب إلى جماعة من الشيوخ، أنه لم يقتصر في مراسلته على ابن عرفة والقباب، وإنما كاتب غيرهم، من علماء فاس وتونس خاصة1. وأرجع إلى مسألة كون الشاطبي هو صاحب الأسئلة الثمانية الموجهة لابن عرفة. وبالذات إلى السؤال الخامس "المسألة الخامسة"، حيث نجد صاحب الأسئلة في استشكاله قول الغزالي وابن رشد والقرافي بأن من الورع: الخروج من الخلاف، باجتناب ما اختلف فيه نجده يقول: "أن جمهور مسائل الفقه مختلف فيه اختلافًا مقتدي به2 فالمسائل المجتمع عليها بالنسبة إلى المختلف فيها قليلة، فلذا إذًا، قد صار جمهور مسائل الشريعة من المتشابهات، وهو خلاف وضع الشريعة. وأيضًا فقد صار الورع من أشد الحرج الذي جاءت به الشريعة، من حيث لا تخلو لأحد عبادة ولا معاملة، ولا أمر من أمور التكليف، من خلاف يطلب الخروج عنه. وفي هذا ما فيه"3. وفي "الموافقات" نجد الشاطبي يورد ما يلي: "فإن كثيرًا من المتأخرين يعدون الخروج عنه4 -في الأعمال التكليفية- مطلوبًا، وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها. ولا زالت منذ زمان أستشكله، حتى كتبت فيها إلى المغرب وإلى إفريقية، فلم يأتني جواب بما يشفي الصدر. بل كان من جملة الإشكالات الواردة5: أن

_ 1 وللتذكير فإن التنبكتي قد سمى -في قوله المتقدم إلى جانب ابن عرفة والقباب- كلا من القاضي الفشتالي. والولي الكبير ابن عباد. فأما مكاتبته لابن عباد فسيأتي ذكرها في هذه الفقرة. وأما مراسلته للقاضي الفشتالي، فلم أقف على شيء منها، إلا أن تكون هي المشار إليها في رد الشاطبي على جواب القباب في مسألة مراعاة الخلاف، حيث قال فيه: "وقد حاول القاضي أبو عبد الله الفشتالي الجواب عن الإشكال بتقرير آخر فقال" المعيار: 6/ 391. 2 الصواب "معتدا به"، أو "يعتد به" كما في نص "الموافقات" الآتي. 3 المعيار: 6/ 368-369. 4 أي عن الخلاف. 5 قارن من الآن مع نص المعيار السابق.

جمهور مسائل مختلف فيها اختلافًا يعتد به. فيصير إذا أكثر مسائل الشريعة من المتشابهات، وهو خلاف وضع الشريعة. وأيضًا، فقد صار الورع من أشد الحرج، إذ لا يخلو لأحد -في الغالب- عبادة، ولا معاملة، ولا أمر من أمور التكليف، من خلاف يطلب الخروج عنه. وفي هذا ما فيه1. وأما الجواب الذي لم يشف صدره فقد أورد نصه وهو: "فأجاب بعضهم بأن المراد بأن المختلف فيه من المتشابه: المختلف فيه اختلافا دلائل أقواله متساوية أو متقاربة. وليس أكثر مسائل الفقه هكذا، بل الموصوف بذلك أقلها، لمن تأمل من محصلي مواد التأمل. وحنيئذ لا يكون المتشابه منها إلا الأقل. وأما الورع من حيث ذاته، ولو في هذا النوع فقط، فشديد مشق، لا يصلحه إلا من وفقه الله إلى كثرة استحضار لوازم فعل المنهي عنه. وقد قال عليه السلام "حفت الجنة بالمكاره" هذا ما أجاب به. فكتبت إليه"2. وبالرجوع إلى جواب ابن عرفة -في المعيار- على السؤال الخامس من الأئمة الثمانية، ومقارنته مع هذا الجواب الذي أورده الشاطبي، يتضح يقينًا أن الجواب هنا هو نفسه الجواب الوارد هناك. مثلما اتضح -بمقارنة السؤالين- أن صاحبهما واحد؛ فالسائل الشاطبي. والمجيب ابن عرفة. ولتسهيل المقارنة أورد فيما يلي الفقرة المعنية من جواب ابن عرفة: "مرادهم3 بأن المختلف فيه من المتشابهات: هو المختلف فيه اختلافًا دلائل أقواله متساوية أو متقاربة. وليس أكثر مسائل الفقه هكذا. بل الموصوف بذلك أقلها لمن تأمل من محصلي مواد التأمل. فحينئذ يكون4 المتشابه منها إلا أقل الأقل.

_ 1 الموافقات: 1/ 103-104. 2 الموافقات: 1/ 104. وانظر نص ما راجعه به: 104-106. 3 يعني الغزالي وابن رشد والقرافي، من أصحاب الرأي محل النزاع، وهم المذكورون في السؤال. 4 الصواب: لا يكون.

وقوله1 أيضًا: صار الورع من أشد الحرج. جوابه: أن هذا من عيب بنائه على أن أكثر مسائل الفقه من المتشابه، وقد بينا بطلانه. وأما الورع من حيث ذاته، ولو في هذا النوع فقط، فشديد مشق، لا يحصله إلا من وفقه الله إلى كثرة استحصال لوازم فعل المنهي عنه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره" 2. وقد ورد في ترجمة أحمد بابا التنبكتي للإمام ابن عرفة أنه -أي ابن عرفة- سئل من غرناطة عن قول الإمام المرجوع عنه3. ولم يذكر صاحب هذا السؤال. وبالمقارنة يظهر أن هذا السؤال الوارد لابن عرفة من غرناطة: هو نفسه السؤال الأول من الأسئلة الثمانية. أي أن الأمر يتعلق بسؤال الشاطبي. غير أن الجواب الذي أورده التنبكتي -لابن عرفة- فيه زيادات على الجواب الذي أورده صاحب المعيار. وهذا السؤال نفسه وجه -ومن غرناطة أيضًا- إلى الإمام أبي عبد الله الشريف التلمساني، "نيل الابتهاج: 262"، ولم يذكر صاحب السؤال، ومعلوم أن الشريف التلمساني هو أحد كبار شيوخ الشاطبي، الذين زاروا غرناطة. وفي الجزء الأول من "المعيار" أيضًا، ما يلي: "وسئل الشيخ الحافظ أبو العباس أحمد بن قاسم القباب، من أئمة فاس، عن حكم الدعاء إثر الصلاة"4.

_ 1 أي السائل. 2 المعيار: 6/ 381. ويمكن أيضًا -فيما يخص صاحب هذه الأسئلة الثمانية- مقارنة السؤال الخامس، بما تناوله الشاطبي في "الموافقات" 1/ 296. 3 نيل الابتهاج: 262. 4 المعيار: 1/ 283.

ورغم أن السائل مبهم تمامًا. بل حتى السؤال نفسه مبهم. فليس هناك لا نص السؤال- مثلما في الأسئلة السابقة- ولا شيء من تفاصيله. ورغم أن الجواب لا يكشف عن شيء مما يتعلق بالسائل أو حاله، أو جهته، رغم هذا وذاك، فقد استوقفني تصديره للجواب بهذا الحكم الحاسم: "الذي عندي: ما عند أهل العلم في ذلك من أن ذلك بدعة قبيحة"1 مع أن ظاهر السؤال يتعلق بمطلق الدعاء عقب الصلاة، وهو أمر مشروع ومندوب لا شك في ذلك. فلا يمكن أن يكون هذا الحكم في مطلق الدعاء إثر الصلاة. ويساعد على هذا أن أدلة الجواب جاءت متعلقة بدعاء الإمام. ولما كنت أعلم أن للشاطبي انشغالا كثيرًا بهذه المسألة، خصوصًا وأنه قد وقع فيها بنفسه عندما دخل "في بعض خطط الجمهور، من الخطابة والإمامة ونحوها"، وكنت أعلم أيضًا ماله من مكاتبات مع "أخيه ومفيده" أبي العباس القباب، فقد خطر لي -مجرد خطور- أن يكون صاحب هذا السؤال هو الشاطبي. ثم ساقني الله لأقف على ذلك يقينًا. ففي بعض مراجعاتي "للاعتصام" وجدت الشاطبي يستشهد بنفس الأدلة الواردة في جواب الشيخ القباب، ويستعمل نفس عباراته2. وبعد أن أورد معظم ذلك قال: "قال بعض شيوخنا الذين استفدنا منهم"3. ثم أورد ما بقي من جواب القباب وأدلته، ثم قال: "هذا ما نقله الشيخ بعد أن جعل الدعاء بإثر الصلاة بهيئة الاجتماع، دائمًا4 بدعة قبيحة"5.

_ 1 الموضع السابق. 2 انظر الاعتصام: 1/ 352-353. 3 الاعتصام: 1/ 343. ولاحظ أنه لم يسمه. 4 وبهذا تظهر حقيقة موضوع السؤال، وهو الدعاء الجماعي الذي يبادر به الإمام، عقب الصلاة، مع المداومة على ذلك، كما هو معروف. 5 الاعتصام: 1/ 343. والسياق هو سياق التمهيد لمناقشة موقف الشيخ أبي سعيد بن لب، في رده العنيف على "الإمام" الذي ترك الدعاء الجماعي. على ما تقدم.

وفي الجزء الحادي عشر من "المعيار" أيضًا، نجد سؤالًا آخر "مجهول المصدر" أيضًا، حيث قال المصنف: "وسئل أبو العباس القباب عن مسألة تظهر من جوابه. فأجاب: الحمد لله. وبعد، يا أخي حفظ الله ودك، وأدام بمنه جدك، فقد وصلني مكتوبكم متضمنًا ما جرى عندكم من المناظرة في شأن سلوك طرق الصوفية من غير شيخ، وما احتج به الفريقان من ذلك. وطلبتم مني آخر ذلك كله أن أكتب لكم بما هو الحق عندي في ذلك، مفصلًا على فصول المناظرة المذكورة، ملخصًا آخرًا، ليرجع جميعكم إلى ما أرسمه في ذلك كله، وأكدتم الطلب بالسؤال بالله تعالى، ولا يخفى عليكم ما في السؤال بالله"1. وإذا كان واضحًا مقدار ما يكنه هذا "السائل المجهول" من تعظيم وتسليم للشيخ القباب، في حدود ما كشفه ولخصه الشيخ المسئول فقط، فقد أظهر هو أيضًا، من تعظيم السائل وتقديره ما لا مزيد عليه. قال الشيخ القباب في ديباجة جوابه: "ولو أن غيركم كان المخاطب بهذا الخطاب، لقطعت قطعًا أنه في2 ساخر، وبما ضمنه من علوم القوم علي فاخر، لكن حسن3 بأخوتكم يصرف عندي هذا التأويل، ويجعله من قبيل المستحيل. لقد استسمنت ذا ورم ونفخت في غير ضرم. أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشيخ فيمن شحمه ورم وبحسب ما لي في جهتكم من الحب وحسن الاعتقاد، وعلمي أن مثلكم يقيل العثرة، ويستر من أخيه الزلة. أرجع إليكم بما عندي في هذه القضية -لأنه علم لا ينشر، بل إنه شيء يقصر ويستر- لما وجب علي من إجابة عظيم القسم بالله تعالى، الذي لا يحل إهماله، ثم توفية لحق أخوتكم4.

_ 1 المعيار: 11/ 117. 2 الظاهر أن الصواب: مني "لا يسخر قوم من قوم". 3 الظاهر أن أصلها: حسن الظن. 4 المعيار: 11/ 117-118.

وتمهيدا للوصول إلى المقصود، أذكر خلاصة جواب الشيخ القباب، وهي أن من أراد سلوك طريق الصوفية، ومعرفة المقامات والأحوال، وأخذ النفس بتلك الصفات، وملاحظة الخواطر ومدافعة العوارض. لا بد له من شيخ في ذلك، ولا تكفيه كتب القوم، فإن في هذا الطريق مخاوف ومهالك. على أن سلوك هذا الطريق ليس محتمًا، وإنما هو تطلب لمزيد من الربح "وليس شأن العقلاء المخاطرة في طلب ربح، بسلوك طريق مخوفة بغير دليل إلا وصفًا من كتب1. وأما الخوض في طريق معرفة ما فيه قوام المعاملة وتصفيتها من الشوائب المفسدة، ومعرفة عيوب النفس ومداواة عللها، فهو خوض متأكد لا غنى لأحد عنه. فمن وجد فيه مرشدًا فليلزمه ومن لم يجد فعليه بالكتب. لأنه فرض على كل واحد، ومن اشتغل به لم يسعه -غالبًا- التفرغ لسواه "ويا عجبا كيف يفني عمره في البحث عن المقامات والأحوال، قبل مطالبة النفس بالتخلص من التباعات المالية والعرضية، وقبل البحث عما يلزمه فرضا مجمعًا عليه، وهو ألا يقدم على فعل ولا قول ولا حركة ولا سكون، حتى يعرف حكم الله تعالى عليه في ذلك. ثم إذا أحاط به علمًا، طالب نفسه باتباع الواجب منه حتمًا، والانكفاف عن المحرم في الاعتقادات والضمائر والحركات والسكنات، وسائر الأحوال. ويقوم بالواجب عليه من قول الحق، حيث وجب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث ما تعين، ويتفقد جوارحه في كل لحظة. ويحاسب نفسه صباح2 ومساء"3 إلى أن قال -هو بيت القصيد-: "وإذا شغله شاغل عن لحظة في صلاته فرغ سره منه، بالخروج عنه، ولو كان يساوي خمسين ألفًا، كما فعله المتقدمون4. ثم استمر صفحات أخرى، انتهى فيها إلى الاعتذار للسائل عن تتبع فصول المسألة واحدًا واحدًا كما طلب منه ذلك، ومعترفًا -في تواضع مدهش غريب

_ 1 المعيار: 11/ 119. 2 الخطأ ظاهر: فإما أنها: صباح مساء، أو صباحا ومساء. 3 المعيار: 11/ 120. 4 المعيار: 11/ 120.

"بالتقصير حالا ومآلا اعترافًا حقيقا، وأنا أحض الناس على الحق، ولا أقوم بواجبه، وأدعو إليه وأنا أبعد الناس منه. أسأل الله العفو بمنه"1. وهكذا يمر السؤال والجواب، دون أي ذكر للسائل، رغم ما هو واضح من مكانته المرموقة، حتى لكأن السائل أعلم من المسئول، كما أشار إلى ذلك الشيخ القباب في أول جوابه، كما تقدم، مما كان يقتضي من المصنف -رحمه الله- أن يحرص على معرفة السائل وتعريفه ما أمكن ولعله قد فعل2. والمهم أني -بتوفيق محض من الله- قد وقفت على أن السائل هو إمامنا أبو إسحاق الشاطبي. وذلك أنه قد تعرض للفقرة التي قلت إنها بيت القصيد، من جواب الشيخ القباب، فقال: "كتب إلى بعض شيوخ المغرب3 -في فصل يتضمن ما يجب على طالب الآخرة النظر فيه، والشغل به- فقال فيه:4 وإذا شغله شاغل عن لحظة في صلاته، فرغ سره منه، بالخروج عنه، ولو كان يساوي خمسين ألفًا، كما فعله المتقون5. وقد رد الشاطبي على القباب -في هذه المسألة- بمراسلة ثانية أورد نصها في "الموافقات"، وذكر أنه لما وصله الرد كتب إليه "أي القباب" بما يقتضي التسليم6. ورد الشاطبي في المسألة، رد طريف مفحم7، خلاصته: أن القول بأن

_ 1 المعيار: 11/ 123. 2 وإن كان الذي يبدو أن الونشريسي -وهو بفاس- قد أمكنه الحصول على جواب القباب "الفاسي" وحده. والجواب -كما رأينا- لا يتضمن اسم السائل. 3 لم يسمه هو أيضًا. 4 قارن من الآن، وكلمة "المتقون" في آخر النص وردت في نص "المعيار": "المتقدمون" ولعلها من تصحيف بعض الأيدي المتعاقبة عليه. 5 الموافقات: 1/ 102. 6 الموافقات: 1/ 103. 7 وشبيه به رده أيضًا على القشيري "الصوفي" في مسألة الاشتراط على المريد أن يخرج عن ماله انظر "الاعتصام" 1/ 214-215.

من شغله شيء في صلاته، فعليه أن يتخلص منه ويتخلى عنه، قول لا يستقيم لا في قواعد الشرع ولا في الواقع. لأنه إذا كان الأمر كذلك، فإن على جميع الناس أن يخرجوا عن جميع ممتلكاتهم وأهليهم! وقد يكون أشد من الأول! ثم ماذا نقول فيمن كان شاغله في صلاته، هو الفقر وعدم وجدان شيء؟! وهذا مع التسليم طبعًا أن المكلف مطالب بأن يجاهد الوساوس التي تنتابه في صلاته ما أمكنه، وأن يتخذ لذلك ما يمكنه، من الأسباب1. وقد بني الشاطبي على هذه المسألة، وعلى مسألة الخروج عن الخلاف ورعا، وجواب ابن عرفة فيها، بنى على ذلك كله قاعدة علمية في غاية الأهمية والمتانة، وهي: "أن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه، إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعًا أو عقلا، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد. فلا يستمر الإطلاق2. ثم قال: "فاحتفظ بهذا الأصل، فهو مفيد جدا، وعليه ينبني كثير من مسائل الورع وتمييز المتشابهات، وما يعتبر من وجوه الاشتباه وما لا يعتبر3. ومن مراسلات الشاطبي التي تسعفنا بها موسوعة الونشريسي "المعيار"، مكاتبته لابن عباد، وهي أيضًا تتعلق بمسألة سلوك طريق التصوف، ومدى ضرورة الشيخ في ذلك4، يقول صاحب المعيار: "سؤال في علم التصوف كتب من غرناطة -قاعدة الأندلس- الشيخ العالم العارف المحقق سيدي أبو إسحاق الشاطبي -رحمه الله- للشيخ المحقق العالم الصالح الرباني، أبي عبد الله، سيدي محمد بن إبراهيم بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى بن عباد النفري الرندي5.

_ 1 الموافقات: 1/ 103. 2 الموافقات: 1/ 102. 3 الموافقات: 1/ 106. 4 بمعنى أن الشاطبي قد راسل في الموضوع نفسه، كلا من القباب وابن عباد. 5 المعيار: 12/ 293.

فهذه المرة، نجد الونشريسي قد سمى السائل1، وحلاه بالشيخ العالم العارف، المحقق، سيدي. كما أنه ترجم على السؤال بقوله: سؤال في علم التصوف. إلا أن ترجمته هذه تحتاج إلى تنبيهين: الأول: أن الأمر لا يتعلق بسؤال واحد، ومراسلة واحدة، بل إن ابن عباد -صاحب الجواب- يشير إلى مراسلتين في الموضوع. حيث يقول في أول جوابه: "قد قرأت كتابيكم، وفهمت مضمنهما، ولا يمكنني أن أتكلم على جميع فصولها بتصحيح أو إبطال، لأن الكلام فيها قد طال وتشعب، وذهب كل مذهب2. والثاني: يظهر -أيضًا- من قول ابن عباد هذا -كما يظهر من قبل في جواب القباب- وهو أن مراسلة الشاطبي، ليست -فحسب- عبارة عن "سؤال"، وإنما هي مراسلة مطولة، ذات مسائل وفوصل، وأنها تعرض مناظرات كانت جارية بغرناطة، وتعرض حجج الفريقين وآراءهما، وضمنهم الشابطي طبعًا. وأن هذه المراسلة -وهما اثنتان لابن عباد- قد تشعبت قضاياها إلى حد اعتذار المجيبين معًا عن متابعة فصولها، وحتى قال القباب: "فأعرضت عن تتبع الفصول، معترفًا بالتقصير حالا ومالا، اعترافًا حقيقيا3. فمن المؤسف، غاية الأسف، أن تكون رسائل لها كل هذه القيمة العلمية والتاريخية قد ضيعت. وبعد هذه الوقفة مع الشاطبي، وبعض معالم شخصيته وحياته واهتماماته، أنتقل إلى صميم هذا البحث، وهو: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي.

_ 1 الظاهر أنه استفاد اسم السائل من جواب ابن عباد، الذي جاء فيه -خلافًا لجواب القباب-: "من محمد بن عباد، لطف الله به، إلى أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي، وصل الله حفظه" المعيار 12/ 293. 2 المعيار: 12/ 293. 3 المعيار: 1/ 123. وقد تقدم تمام النص، قريبًا.

والمدخل الطبيعي إلى هذه النظرية، هو تقديم خلاصة ميسرة لها، وهو ما خصصت له الفصل التالي، قبل أن أدخل في الدراسة والمناقشة والتتميم لبعض جوانبها وقضاياها، خلال الفصول اللاحقة.

الفصل الثاني: عرض النظرية

الفصل الثاني: عرض النظرية مدخل ... الفصل الثاني: عرض النظرية غير خاف أن المكان الرئيسي الذي بسط فيه الشاطبي نظرية المقاصد، هو القسم الثالث من أقسام "الموافقات" الخمسة أو هو الجزء الثاني من الأجزاء الأربعة، حسب التقسيم الذي يطبع عليه الكتاب. وهذه الخلاصة التي أقدمها في هذا الفصل، إنما هي أساسًا لهذا الجزء من "الموافقات". على أن سأخصص -بحول الله- فصلًا آخر، لرصد امتدادات نظرية المقاصد في بقية الأجزاء، وفي سائر كتابات الشاطبي، المنشورة طبعًا. وسأعمل، في هذه الخلاصة، على إبراز معالم نظرية الشاطبي أكثر من العمل على إبراز المباحث والمعلومات التفصيلية. كما أني سأحرص على الجمع والتوفيق بين ما يقتضيه التلخيص من الإيجاز والتكثيف، وما يتطلبه الوضوح من البيان والتفصيل. وهي مهمة لا تخفى صعوبتها. فأرجو أن أكون بين ذلك قوامًا. وسأتحاشى -في هذه الخلاصة- التعقيبات والمناقشات إلا ما جاء خفيفًا لا يعكر الغرض، لأن لمناقشة والتعليق على نظرية الشاطبي، مجالا آخر سيأتي في حينه. فإلى نظرية المقاصد، في: كتاب المقاصد، من "الموافقات".

تعليل الشريعة 1: قبل أن يشرع الشاطبي في تناول موضوع المقاصد وتفصيل الكلام فيه، قدم له بمقدمة وصفها بأنها "كلامية". تعرض فيها -باقتضاب- لمسألة تعليل الشريعة وأحكامها. ونص فيها على "أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا" وأن هذا هو قول المعتزلة قاطبة، وهو اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين، خلافًا للرازي الذي "زعم أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك". ثم نص على أن استقراء الشريعة يفيد علمًا قطعيا بأن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد، وأن هذا التعليل "مستمر في جميع تفاصيل الشريعة" موردًا بين هذا وذاك طرفًا من النصوص المتضمنة لتعليل الشريعة، تعليلًا عاما، أو تعليلًا جزئيا لبعض أحكامها. فمن الأولى قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 2 ومن الثانية قوله سبحانه بعد آية الوضوء {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 3. تقسيمه للمقاصد: قسم الشاطبي المقاصد إلى قسمين: قصد الشارع، وقصد المكلف. وقسم القسم الأول إلى أربعة أنواع هي: النوع الأول: قصد الشارع في وضع الشريعة. النوع الثاني: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام. النوع الثالث: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها. النوع الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة.

_ 1 نظرا للأهمية الأساسية لهذه المسألة في موضوع المقاصد، ونظرًا لكون الشاطبي قد أوجز فيها إيجازًا شديدًا، فسأعود إليها -إن شاء الله- في فصل خاص، "هو الفصل الأول من الباب الثالث". 2 سورة الأنبياء: 107. 3 سورة المائدة: 6.

وأما القسم الثاني المتعلق بمقاصد المكلف، فلم يقسمه إلى أنواع، وإنما بحثه في مسائل فقط. وفيما يلي عرض مركز لأهم محتويات القسمين، أو الأنواع الخمسة، من المقاصد، تبعًا لتقسيمها وترتيبها المذكورين، لكون دوام الالتزام بترتيب المسائل والأفكار المندرجة تحتها، قاصدًا من هذا وذاك "أي التزام ترتيب المؤلف من جهة، وعدم التزامه من جهة أخرى" حسن إبراز نظرية الشاطبي في المقاصد.

القسم الأول: مقاصد الشارع

القسم الأول: مقاصد الشارع النوع الأول: قصد الشارع في وضع الشريعة هكذا سماه في العنوان، ولكنه عندما كان -في المقدمة- يذكر تقسيمه للمقاصد قال عنه: "قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء" وهذه الكلمة الأخيرة لها أهميتها في توضيح ما يعنيه بهذا النوع، وتمييزه عن الأنواع الثلاثة الأخرى. ومن هنا بني عليها الشيخ عبد الله دراز توضيحًا مهمًا قال فيه: "أي بالقصد الذي يعتبر في المرتبة الأولى، ويكون ما عداه كالتفصيل له. وهذا القصد الأول. هو أنها وضعت لمصالح العباد في الدارين1. وأما الشاطبي فيفتتح بيانه لهذا النوع، أو لهذا القصد الأول لأحكام الشريعة بقوله: "تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: ضرورية وحاجية وتحسينية" ثم شرع في تعريف هذه المراتب الثلاث: فالضرورية هي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، ويترتب على فقدانها اختلال وفساد كبير في الدنيا والآخرة. وبقدر ما يكون من فقدانها، بقدر ما يكون من الفساد والتعطل في نظام الحياة.

_ 1 الموافقات: 2/ 5.

وأما المقاصد الحاجية -أو المصالح الحاجية- فهي التي يتحقق بها رفع الضيق والحرج عن حياة المكلفين، والتوسعة فيها. وأما التحسينية، فهي المصالح التي لا ترقى أهميتها إلى مستوى المرتبتين السابقتين، وإنما شأنها، أن تتم وتحسن تحصيلهما، ويجمع ذلك: محاسن العادات ومكارم الأخلاق والآداب. والمقاصد الضرورية، أو المصالح الضرورية، ثبت بالاستقراء أنها خمسة هي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال، وحفظ العقل1، وهي التي جاء حفظها في كل ملة. وحفظ الشريعة للمصالح، الضرورية وغيرها، يتم على وجهين، يكمل أحدهما الآخر، وهما: 1- حفظها من جانب الوجود، أي بشرع ما يحقق وجودها وتثبيتها، ويرعاه. 2- حفظها من جانب العدم، أي بإبعاد ما يؤدي إلى إزالتها، أو إفسادها، أو تعطيلها، سواء كان واقعًا أو متوقعًا. فحفظ الدين مثلًا، تحققه من جانب الوجود العقائد الأساسية، والعبادات الرئيسية، من صلاة وزكاة. ويحفظ من جانب العدم بالجهاد، وقتل المرتدين، ومنع الابتداع. وأحكام العادات والمعاملات تؤدي إلى حفظ بقية الضروريات من جانب الوجود، وأحكام الجنايات تؤدي إلى حفظها في جانب العدم. والمصالح الضرورية الخمس المذكورة، تعتبر أصول المصالح وأسسها. والمصالح الحاجية إنما هي خادمة ومكملة للضرورية، مثلما أن التحسينية خادمة

_ 1 ذكرها هنا على مذاهب الترتيب، وهو الترتيب الذي استعمله أول ما ذكر هذه الضروريات "1/ 38" وانظر الموضوع بتفصيل في الفصل التالي الأول. وراجع أيضًا أواخر الفصل الأول من الباب الأول.

ومكملة للحاجية. فالكل إذن، حائم حول الضروريات، يقويها ويكملها ويحسنها. وتنبني على هذا الترتيب مبادئ مهمة جدا، في الأولوليات وفي الترجيح بين المصالح عند تعارضها. فمن ذلك أن: "كل تكملة، فلها -من حيث هي تكلمة- شرط، وهو ألا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال1. وبيان ذلك، أن الصلاة -مثلًا- لها شروط ومكملات، كالطهارة واستقبال القبلة. فإذا تعذرت هذه الشروط أو بعضها، وبقينا -مع ذلك- مصرين على توفير هذه المكملات، فإن الأصل نفسه سيضيع ونبقى بغير صلاة، فيكون اعتبار المكمل قد عاد على أصله بالإبطال. وهذا ما لا يجوز. ولهذا يجب -في هذه الحالة- التمسك بالأصل، ولو بتضييع مكملة، أو مكملاته. ومن أمثلة ذلك في المعاملات: البيع، فمن شروطه انتفاء الغرر. لكن توفير هذا الشرط، قد يكون -في بعض البيوع- متعذرًا أو عسيرًا، ولا سيما إزالة الغرر بصفة تامة. فنكون بين أن نعطل هذه البيوع -التي لا بد فيها من قدر من الغرر- وبين أن نمضيها مع تقليل الغرر ما أمكن. ولا شك أن الثاني هو الصواب، بناء على القاعدة المتقدمة، وهي قاعدة مستقرأة من أدلة الشرع. فالشارع -سبحانه- جعل المصالح يكمل بعضها بعضًا، ويخدم بعضها بعضًا، وجعل الأدنى تابعًا للأعلى ومتأخرًا عنه في الاعتبار، فلا ينبغي أن تستعمل في تعطيل بعضها بعضًا، وخاصة تعطيل الأعلى بالأدنى. بل هي موضوعة ليقوي بعضها البعض، ويجلب بعضها البعض، ويحمي بعضها البعض.

_ 1 الموافقات: 2/ 13.

وعلى هذا الأساس بنى الشاطبي المسألة الرابعة من هذا النوع. فبعد أن قرر أن "المقاصد الضرورية أصل للحاجية والتحسينية" فصل ذلك في خمسة قواعد، هذه تراجمها: 1- الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميي. 2- اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق1. 3- لا يلزم من اختلال الباقيين اختلال الضروري. 4- قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق، أو الحاجي بإطلاق، اختلال الضروري بوجه ما. 5- ينبغي المحافظ على الحاجي والتحسيني للضروري. ومرماه من تقرير هذه القواعد وترتيبها، وهو الوصول إلى النتيجة المقررة في القاعد الخامسة، والمبنية بدورها على القاعدة الرابعة. وذلك أنه -لأجل حفظ الضروريات- لا بد من المحافظة على الحاجيات والتحسينيات "بصفة عامة"، لأن: "في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكد منه، ومدخلًا للإخلال به. فصار الأخف كأنه حمى للآكد، والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه فالمجترئ على الأخف بالإبطال معرض للتجرؤ على ما سواه. فإذا، قد يكون في إبطال الكمالات بإطلاق، إبطال الضروريات بوجه ما2. وأكتفي -الآن- بتلخيص هذا القدر من مسائل النوع الأول من مقاصد الشارع. وأما بقية المسائل، فمنها ما سيأتي في فصل: المصالح والمفاسد "كالمسألتين الخامسة والثامنة" ومنها ما سيدمج في فصل: بماذا تعرف مقاصد الشارع؟ "كالمسألة التاسعة". وإنما أرجأت هذه المسائل، لأني مضطر للتعرض لها في المباحث المشار إليها، وسيكون لذكرها هناك ما يناسب أهميتها من التفصيل والبيان والتعليق.

_ 1 أي اختلالا تاما لا يبقى معه وجود، يقابله الاختلال الجزئي، "بوجه ما". 2 الموافقات: 2/ 21-22.

النوع الثاني: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام

النوع الثاني: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام هذا النوع هو أقصر الأنواع الخمسة، حيث لم تزد مسائله على خمس، ويمكن إرجاعها إلى مسألتين هما حسب تعبيره: - هذه الشريعة المباركة عربية1. - هذه الشرعية المباركة أمية2. وعلاقة المسألتين بموضوع المقاصد، هي أن الفهم السليم للشريعة ومقاصدها، لا يكون إلا من خلال هاتين المسلمتين، أما الأولى، فلأن "القرآن نزل بلسان العرب فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة. وهذا هو المقصود من المسألة. أما كون الشريعة أمية "فلأن أهلها كذلك، هو أجرى على اعتبار المصالح" "أي فإن تنزيل الشريعة على مقتضى حال المنزل عليهم أوفق برعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم3. ورغم أن المسائل الخمس تحتوي على مبادئ قيمة وضرورية في فهم القرآن والسنة وتحصيل مقاصدها، فإني لا أرى أن هذا هو مكان التعرض لها، بل لا أستسيغ جعله لهذه المسائل نوعًا من مقاصد الشارع. وإنما هي ضوابط لفهم مقاصد الشارع. وقد سماها في كتابه "الاعتصام" "بالأدوات التي بها تفهم المقاصد4. وعلى هذا أرجئ عرضها وتوضيحها إلى حين التعرض لكيفية فهم المقاصد، في الفصل المخصص لذلك "وهو الفصل الثالث من الباب الثالث".

_ 1 المسألة الأولى. 2 المسألة الثانية. 3 التوضيح للشيخ عبد الله دراز، على الهامش: 2/ 69. 4 الاعتصام: 2/ 293.

النوع الثالث: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها

النوع الثالث: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها في هذا النوع تناول الشاطبي مقاصد الشارع في التكليف، وحدود ما قصده مما لم يقصده في تكاليفه للعباد. وقد وزع أبحاثه على اثنتي عشرة مسألة، تمثيل المسألة السابعة نصف حجمها. ويمكن جمع مباحث هذا النوع في موضوعين هما: 1- التكليف بما لا يطاق. 2- التكليف بما فيه مشقة. فأما الأول فمنفي عن الشريعة إجماعًا، ومن هنا، لم يطل فيه، وإنما أنصب بحثه على الحالات المشتبهة، في التكليف نفسه، أي في دخولها وعدم دخولها في مقدور المكلفين. ففيما يخص التكاليف الشرعية، فإنه "إذا ظهر في بادئ الرأي، القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد، فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه، أو لواحقه، أو قرائنه". فإذا أمر الشارع المؤمنين بالتحابب -مثلًا- فإن المقصود ما يؤدي إلى الحب من أسباب سابقة، أو مقارنة ولاحقة، تقويه وترسخه، وليس المقصود بالتكليف حصول الحب ذاته. فإن هذا خارج عن قدرة الناس، وهكذا كل ما كان من هذا القبيل. وأما مشتبهات الأفعال "أي التي لا يدرى هل هي داخلة في التكليف أم أنها مما لا يطاق، فينصرف التكليف إلى سوابقها ولواحقها" فتتمثل خاصة في الصفات الباطنة كالكبر والحسد وحب الدنيا، والحلم والأناة والشجاعة والجبن.

وقد بحثها بحثًا عميقًا مفصلًا، في المسألة الثالثة، والمسألة الرابعة. وهي بحث -على نفاسته- جاء على هامش موضوع المقاصد. وكأنما أحس الشاطبي بهذا، فقال بعد إثارته لإشكال من إشكالات الموضوع "ويحتمل تحقيقه بسطًا أوسع من هذا، ولا حاجة إليه في هذا الموضع1. وأما الموضوع الثاني "التكليف بما فيه مشقة"، فهو الموضوع الأهم في هذا النوع. لأنه إذا كان موضوع التكليف بما لا يطاق واضحًا مسلمًا، فإن مسائل المشقة في التكليف مما يكثر فيه الغموض والالتباس والحيرة. وبقدر ما للموضوع من أهمية، وما فيه من صعوبة، بقدر ما كان الشابطي متحكمًا فيه، موفقًا في تجليه قضاياه. فبعد أن مهد بتعريف المشقة، وذكر أنواعها ودرجاتها، بدأ يقرر أحكامها، ومقاصد الشارع فيها: وأول ذلك "أن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالمشقة والإعنات فيه2 يدل على هذا: النصوص الكثيرة النافية للحرج، والمصرحة باليسر والسماحة، في أحكام الشريعة ومقاصدها. كما يدل عليه: الرخص الكثيرة الواردة في تكاليف الشرع، فلو كان الشرع قاصدًا إلى المشقة لما وضع الرخص، والأمر -بعد هذا وذاك- محل الإجماع. ثم انتقل إلى المسألة السابعة -أطول مسائل النوع- ليقرر في مطلعها "أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما، ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة، كما لا يسمى في العادة مشقة، طلب المعاش بالتحرف وسائر الصنائع، لأنه ممكن معتاد، لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد، بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان، ويذمونه بذلك "فكذلك المعتاد في التكاليف". ورغم أن معظم التكاليف الشرعية لا تخلو من قدر من المشقة وأن الشارع قد قصد وضع هذا النوع من التكاليف، فإن الشارع غير قاصد نفسه المشقة التي

_ 1 نهاية المسألة الرابعة. 2 بداية المسألة السادسة.

فيها. فهي جميع الحالات، الشارع لا يقصد المشقة، بل يقصد "ما في ذلك من المصالح العائدة للمكلف". ويترتب على هذا أصل آخر: وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظرا إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل". ولهذا كان قصد المشقة قصدا باطلًا، ومضادًا لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به. وكلما كانت المشقة عير عادية وفادحة، كان القصد إليها أبلغ في البطلان ومضادة قصد الشارع "لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببًا للتقرب إليه، ولا لنيل ما عنده" وهذا طبعًا فيما إذا كان المكلف هو الذي سعى إلى المشقة وقصد الدخول فيها، أما إذا كانت من لوازم العمل فيصح الدخول فيها، وحكمها حكم ذلك العمل، كما في مشقة الجهاد مثلًا. وحيث إن السياق اقتضى كثيرة الحديث عن قصد الشرعية إلى رفع الحرج والمشقة -إلا فيما لا بد منها فيه - فإن الشاطبي تطرق في أحد الفصول الملحقة بالمسألة السابعة إلى علة هذا الحرص الشرعي على رفع الحرج، وقد أجاد وأفاد، وعلة ذلك تتلخص في أمرين: "أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى، الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله. والثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد، المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده، إلى تكاليف آخر تأتي في الطريق. فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلًا عنها، وقاطعًا بالمكلف دونها، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء، فانقطع عنهما".

فإذا كان مقصود الشارع رفع الإحراج والمشقة عن تكاليفه، فإن مقصود مقصوده هنا، هو المداومة على العمل، والتوازن في أداء الواجبات دون إفراط في بعض والتفريط في بعض آخر. وقد أطال النفس في بيان هاتين العلتين، في ترتيب منطقي بديع، مع دفع الشبهات والاعتراضات المفترضة. كل ذلك مع النصوص المكثفة الحاسمة في الموضوع. ثم انتقل في -المسألة الثامنة- إلى حكم نوع آخر من "المشقة"، وهي مشقة مخالفة الهوى: "ذلك أن مخالفة ما تهوى الأنفس شاق عليها، وصعب خروجها عنه" فقرر أن الشرع لا يقيم وزنا، ولا يعطي اعتبارًا لهذه المشقة لأن "الشارع إنما قصد بوضع الشريعة إخراج المكلف عن اتباع هواه، حتى يكون عبد الله. فإذا مخالفة الهوى ليست من المشقات المعتبرة في التكليف، وإن كانت شاقة في مجاري العادات". ثم عاد ليفصل القول -في المسألة الحادية عشرة- في المشقة التي يقصد الشارع رفعها عن المكلفين، والتي لا يقصد إلى رفعها، وإن كان أيضًا لا يقصد حصولها؟ وضابط ذلك هو أنه: "حيث تكون المشقة الواقعة بالمكلف خارجة عن معتاد المشقات في الأعمال العادية، حتى يحصل بها فساد ديني أو دنيوي، فمقصود الشرع فيها: الرفع على الجملة. وأما إذا لم تكن خارجة عن المعتاد، وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها من الأعمال العادية، فالشارع وإن لم يقصد وقوعها، فليس بقاصد لرفعها أيضًا، والدليل على ذلك أنه لو كان قاصدًا لرفعها لم يمكن بقاء التكليف معها، لأن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزم تعبًا وتكليفًا على قدره، قل أو جل". ثم نبه على أمر هام في المسألة، وهو أن المشقة التي تستحق أو لا تستحق التخفيف، إنما تقاس وتقدر بالنظر إلى العمل الذي يستلزمها ومدى ضرورته ومدى أهميته. فلا نقيس -مثلًا- المشقة في ركعتي الضحى "وهي نافلة" كما نقيسها في صلاة الصبح "وهي من آكد الصلوات"، ولا مشقة هاتين "وهي خفيفة غالبًا"

بالمشقة اللازمة في الحد. ولا تقاس هذه المشاق الثلاث بمشقة الجهاد. فمشقة الصلاة والصوم، قد لا يعد مثلها في الحج مشقة. ومشاق الحج قد لا تعتبر شيئًا في الجهاد. فقياس المشاق أمر نسبي، ينظر فيه غلى طبيعة العمل، وضرورته ومصلحته، وإلى حال المكلف، وبناء على هذا كله يكون الترخيص أو لا يكون. وختامًا لمباحث المشقة والتيسير، أتى بالمسألة الثانية عشرة، وهي إحدى نوادره، ومظهر من مظاهر عبقريته، وسمو فقهه للشريعة. ومضمونها: أن التشريع في الإسلام، ينزل -في الأصل- "على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ بين الطرفين1 بقسط لا ميل فيه" وعلى هذا جاءت معظم التكاليف، كتكاليف الصلاة، والصيام، والزكاة, وكتحريم معظم المحرمات، فقد جاء كل هذا في اعتدال يناسب عامة المكلفين. ولكن إذا جاء التشريع لمواجهة ومعالجة انحراف في المكلفين فإنه يتسم بميل مضاد لانحراف المكلفين. فإذا كان انحرافهم قد وقع في اتجاه الانحلال والتفسخ واتباع الأهواء والشهوات. فإن التشريع يأتي مائلًا إلى جهة الزجر والتشديد لإرجاع الناس إلى الاعتدال. وإذا كان الانحراف إلى جهة الإفراط والغلو في الدين، والمبالغة في الزهد وتطلب الشداد. فإن التشريع يأتي مائلا إلى جهة التيسير والتخفيف والترخيص، والترغيب في متع الحياة ونعمها. وقد صاغ -رحمه الله- هذه القضية في عبارات محكمة ناصعة فقال: "فإذا نظرت في كلية الشريعة، فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر.

_ 1 وهما طرف التخفيف، وطرف التشديد.

فطرف التشديد -وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين. وطرف التخفيف -وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد. فإذا لم يكن هذا ولا ذاك، رأيت التوسط لائحًا، ومسلك الاعتدال واضحًا، وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه".

النوع الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة

النوع الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة هذا النوع هو أطول أنواع القسم الأول "مقاصد الشارع". بل هو يعدل في طوله -تقريبًا- الأنواع الثلاثة المتقدمة مجتمعة، ولعل ما أسهم في إطالة هذا النوع هو الاستطرادات الطويلة الخارجة عن موضوع المقاصد، وإن كانت لا تعدم صلة بمباحث هذا النوع. وأعني بهذه الاستطرادات خاصة المسائل من التاسعة إلى السادسة عشرة. وأهم ما يربط أبحاث هذه المسائل الثمانية، يقصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة هو أنه لا يستثنى أحد ولا تستثنى حالة، ولا يخرج شيء أبدًا عن أحكام الشريعة. فالناس عامتهم وخاصتهم، والوقائع معهودها وغريبها، والأحوال ظاهرها وباطنها، كل ذلك يجب إخضاعه لأحكام الشريعة، وإدخاله في الامتثال لها. ففي رأي المسألة التاسعة يقول: "الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة: بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يتحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة". وفي رأس المسألة الثانية عشرة يضيف: "إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين، وجارية على مختلفات أحوالهم، فهي عامة أيضًا بالنسبة إلى عالم الغيب

والشهادة من جهة كل مكلف، وإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن، كما نرد إليها كل ما في الظاهر". كما أن المسائل السابعة عشرة، والثامنة عشرة، والتاسعة عشرة وإن كانت ذات صلة وثيقة بقصد الشارع في دخول المكلفين تحت التكليف، إلا أن صلتها بمواضع أخرى أوثق وربطها بها أنسب. فالمسألة السابعة عشرة تدخل في باب المصالح والمفاسد، وكيفية الترجيح بينها، وهو الموضوع الذي أرجأت التعرض له لكثرة تشعباته. وأما المسألتان الثامنة عشرة والتاسعة عشرة فتتعلقان، بموضوع تعليل الشريعة وأحكامها، وهو الموضوع الذي تعرض له باقتضاب "في المقدمة، كما سبق"، وقد وعدت بالتفصيل فيه، في سياق التعليقات والمناقشات. فإلى هناك بحول الله. فهذه عشر مسائل هي نصف مسائل هذا النوع. وبقيت عشر أخرى، هي التي تمثل صميم الموضوع. فلنعد إليها: مسائل هذا النوع الرابع من مقاصد الشارع جعل لها -كما مر- عنوان "قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة". وعند افتتاح المسألة الأولى غير في العبارة ليوضح مراده أكثر فقال: "المقصد الشرعي من وضع الشريعة" وتعبيره هذا يدعونا للمقارنة مع تسميته للنوع الأول، حيث قال هناك: قصد الشارع في وضع الشريعة. وقد تنبه الشيخ عبد الله دراز لهذا التماثل في العبارتين، وما قد يثيره من تساؤل عن العلاقة والفرق بين النوعين الأول والرابع، فعلق بقوله: "فالنوع الأول معناه وضع نظام كافل للسعادة في الدنيا والآخرة لمن تمسك به، والرابع أن الشارع يطلب من العبد الدخول تحت هذا النظام والانقياد له، لا لهواه"1.

_ 1 الموافقات: 2/ 168.

ويتضح الفرق جليا بين النوعين من النظر في مباحث كل منهما. ولكن العبارات التي افتتح بها الكلام في كل من النوعين كافية أيضًا في التفريق بينهما أما عبارة الافتتاح للنوع الأول فقد تقدمت في مكانها. وأما تتمة افتتاحه لهذا النوع، فهي: "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارًا" ثم قال بعد سرده لعدد من النصوص الدالة على ذم الهوى، وأهل الأهواء: "فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى، والدخول تحت التعبد للمولى". وهو -كعادته في تقريبر المقاصد- يحشر من الأدلة النقلية والعقلية، ويرد من الاعتراضات الواردة أو المفترضة، ما يجعل تقريره قطعيًا لا غبار عليه. وكذلك فعل في إثبات قصد الشارع إلى إخراج المكلفين عن هيمنة أهوائهم، وإدخالهم تحت هيمنة الشريعة وأحكامها. وهذا لا ينافي ما تقرر في النوع الأول من كون الشارع قاصدا إلى حفظ مصالح المكلفين. لأن مصالحهم -وإن كانت تنال إلى حد ما مع اتباع الأهواء- فإنها لا تنال على أكمل وجه، إلا من خلال أحكام الشرع، وهذا لا يتحقق إلا بالتحرر من الأهواء والنزوات، وطلب المصالح الحقيقية وفق ما قرر الشارع. ثم قال: "فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد: منها: أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق، من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير، فهو باطل بإطلاق، لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه، وداع يدعو إليه، فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل، فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق. وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق: الأمر أو النهي أو التخيير، فهو صحيح وحق. وأما إن امتزج فيه الأمران، فكان معمولًا بهما، فالحكم للغالب والسابق". ومنها: أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم، وإن جاء في ضمن المحمود ذلك أن الاسترسال في إرضاء هوى النفس، ولو كان في فعل

الخيرات والمباحات، من شأنه أن يؤجج في الإنسان هواه، ويعوده العمل في إرضاء نفسه، دون التقيد بقيود الشرع. فإذا حصل هذا جره هواه إلى تجاوز أحكام الشريعة، والدخول في المحظورات. هذه خلاصة المسألة الأساسية في هذا النوع، وهي المسألة الأولى وما بناه عليها من فصول. أما المسائل الخمس الموالية لها "أي من الثانية إلى السادسة"، فهي امتداد لموضوع المسألة الأولى، وتعميق للبحث فيه. وينطلق ذلك من تقسيمه للمقاصد الشرعية إلى مقاصد أصلية ومقاصد تبعية: "فأما المقاصد الأصلية فهي التي لا حظ فيها للمكلف، وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة". والضروريات المعتبرة في كل ملة هي -كما تقدم- حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وإنما اعتبر أنها لا حظ فيها للمكلف، لكونه ملزمًا بحفظها رضي بذلك أو لم يرض، بل إنه إذ فرط فيها، يحجر عليه ويكره على حفظها، ويعاقب على تضييعها في الدنيا والآخرة. وعلى هذا فإن حفظ الضروريات لا يرجع فيه إلى رغبة المكلف واختياره وميله. وهذا هو معنى كونها لم يراع فيها حظ المكلف. وأما المقاصد التابعة، فهي التي روعي فيها حظ المكلف، فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نبيل الشهوات، والاستمتاع بالمباحث، وسد الخلات" ويتمثل هذا في أوجه الاستمتاع المباحة، وفي التوسع في الاستمتاع والتنعم، في حدود ما رسمه الشرع من حدود وقيود1.

_ 1 كما كان مناسبًا أن يمثل لهذا ويوضحه بآية آل عمران14: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} الآية، وإن كان قد استشهد بآيات أقل تفصيلًا منها، كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الأعراف: 32.

وواضح أن هذه المقاصد التبعية -إلى جانب ما فيها من تمتيع وتنعيم للمكلفين، وهو ما يعبر عنه بالحظ- تعتبر "خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها". كما أن المقاصد الأصلية -وإن كانت في الأصل مفروضة على المكلف دون اعتبار لقبوله أو رفضه- فهي تفضي إلى نتائج فيها حظوظ ومنافع له. وقد قال بعد بيان تداخل وتكامل المقاصد الأصلية مع المقاصد التبعية "فقد تحصل من هذا أن ما ليس فيه للمكلف حظ بالقصد الأول، يحصل له فيه حظه بالقصد الثاني من الشارع. وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل فيه العمل المبرأ من الحظ". ومن أمثلة ذلك أن المكلف حين يعمل على حفظ نفسه ونسله "وهما من المقاصد الأصلية التي لم يراع في حفظها حظه"، يجني في نفس الوقت متعًا وحظوظًا تعتبر من قبيل المقاصد التبعية. بل حتى العبادات -وهي أبعد التكاليف عن مراعاة الحظوظ- فإنها تحقق-إلى جانب المقصد الأصلي منها- فوائد تبعية من قبيل الحظوظ، كاحترام الناس وثقتهم. وفي الجانب الآخر، فإن جميع الحظوظ والنعم والمتع التي أذن فيه االشارع، داخلة في حفظ الضروريات، أي المقاصد الأصلية: "فأكل المستلذات، ولباس اللينات، وركوب الفارهات، ونكاح الجميلات، قد تضمن سد الخلات، والقيام بضرورة الحياة. وقد مر إن إقامة الحياة -من حيث هو ضروري- لا حظ فيه". ورغم هذا، أي زعم أن عمل المكلفين بمقتضى المقاصد الأصلية يجلب لهم ويحقق المقاصد التبعية، وعملهم بمقتضى المقاصد التبعية يخدم المقاصد الأصلية، فإن الأفضل أن العمل بمقتضى المقاصد الأصلية، ولأجلها. ووجوه هذا التفضيل كثيرة1، ويمكن تلخيصها فيما يلي: 1- لأنه أكثر انسجامًا مع ما سبق تقريره في أول هذا النوع من أن قصد الشارع بالتشريع: إخراج المكلف عن داعية هواه.

_ 1 انظر تفصيلاتها وأدلتها في المسألة الخامسة والفصول المبنية عليها. وأما خلاصتها المعروضة هنا فهي من خلال عبارات الشاطبي نفسها، وليس فيها إلا تصرف طفيف مني.

2- ولأن المقاصد الأصلية إذا روعيت أقرب إلى إخلاص العمل وصيرورته عبادة، وأبعد عن مشاركة الحظوظ التي تغبر في وجه محض العبودية. 3- ولأن البناء على المقاصد الأصلية يصير تصرفات المكلف كلها عبادات، كانت من قبيل العبادات أو العادات. 4- ولأن المقصد الأول "أي المقصد الأصلي" إذا تحراه المكلف يتضمن تحقيق المقاصد التبعية، بشكل تلقائي. لأنه أعم وأهم. 5- ولأن العمل على المقاصد الأصلية يصير الطاعة أعظم، وإذا خولفت كانت معصيتها أعظم ومن هنا تظهر قاعدة أخرى، وهي: أن أصول الطاعات وجوامعها إذا تتبعت وجدت راجعة إلى اعتبار المقاصد الأصلية، وكبائر الذنوب إذا اعتبرت وجدت في مخالفتها1. 6- كما أن البناء على المقاصد الأصلية ينقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب، من حيث كانت حفظًا للأمور الضرورية في الدين. والعمل في إطار الواجبات خير من العمل في غيرها. ورغم هذه الوجوه -المهمة جدا- التي ترجح العمل بمقتضى المقاصد الأصلية، فإن هذا لا ينفي مشروعية العمل بدافع من المقاصد التبعية وما فيها من قصد لنيل الحظوظ والتمتع بها، ولكن بشرط أن يكون العمل لأجل المقاصد التبعية مصحوبًا -ولو بالدرجة الثانية- بقصد تحقيق المقاصد الأصلية، وأما إذا كان العمل -فقط- لأجل نيل الشهوات وتلبية النزوات، فهو عمل بمجرد الحظ والهوى. فلا قيمة له ولا ثواب فيه عند الله. ومن هنا أنجر الشاطبي -في المسألة السادسة- إلى استطراد طويل، في غاية العمق والدقة، عالج في مسائل الإخلاص والتشريك في الأعمال، عبادات وعادات. وهو من المباحث النفيسة التي أبان فيها -رحمه الله- عن نظر فلسفي قوي، وعن نفس طويل في الحوار العلمي الرفيع، وخصوصًا عندما تعرض

_ 1 أي أن العمل إذا وقع لأجل المقاصد الأصلية، يدخل في أركان الدين وكبريات الطاعات.

للخلاف بين نظرة الغزالي للإخلاص -وهي نظرة بطبعها التشدد الوصفي- ونظرة تلميذه ابن العربي، وهي نظرة يطبعها التدقيق الفقهي. ولئن كان متعذرًا على تقديم خلاصة للقضية بكل تشعباتها وآثارها1، فلا يفوتني أن أقدم إحدى أهم النتائج التي قررها بعد تمهيد طويل من النقاشات الرصينة. وهي النتيجة التي توج بها ترجيحاته الخفية لموقف ابن العربي على موقف الغزالي حيث قال: "فحظوظ النفوس المختصة بالإنسان2 لا يمنع اجتماعها مع العبادات. غير أنه لا ينازع في أن إفراد قصد العبادة عن قصد الأمور الدنيوية أولى، ولذلك إذا غلب قصد الدنيا على قصد العبادة كان الحكم للغالب، فلم يعتد بالعبادة، فإن غلب قصد العبادة فالحكم له". بقيت المسألتان السابعة والثامنة. أما السابعة، فقد خصصها لموضوع النيابة في الأعمال وهو موضوع داخل في صميم قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام التكليف: فالأعمال التي هي من قبيل المعاملات، كعقد العقود، وتنفيذها وحلها، وأداء الالتزامات المالية، تصح النيابة فيها شرعًا، "لأن الحكمة التي يطلب بها المكلف في ذلك كله صالحة أن يأتي بها سواه". وإذن، فصحة النيابة في الأعمال رهينة بتحقيق حكمتها، أو مقصودها، فحيثما تحققت الحكمة من النائب صحت النيابة. وحيثما توقف تحقيق الحكمة على المكلف الأصلي لم تصح النيابة.

_ 1 من جهة لأن البحث دقيق ومرصوص بكيفية لا تسمح بأي تلخيص، ومن جهة أخرى فأنا أريد لهذه الخلاصة أن تكون تقديمًا وتقريبًا لنظرية الشاطبي في أساسياتها، فلا أريد إغراقها في التفريعات المعقدة. 2 وهي التي ليس فيها مراءاة الآخرين، بل محصورة بينه وبين نفسه كمن يقصد في صومه الحمية، وفي اغتساله التبرد، وفي حجة التفسح، وهذا مع وجود قصد التعبد أيضًا. المهم أنه ليس في عمله مراعاة الآخرين، ولكن له مقاصد مصلحية غير مقاصد التعبد وهذا هو "التشريك".

وعلى هذا الأساس نفسه قرر بطلان النيابة في العبادات، بحيث "لا يقوم فيها أحد عن أحد، ولا يغني فيها عن المكلف غيره" واعتبر أن هذا الأصل قطعي نقلا وتعليلًا: فأما أدلتة النقلية فعدد كثير من الآيات، مثل {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} . وأما أدلته النظرية1، فيأتي في مقدمتها تحكيم المقاصد، وذلك "أن مقصود العبادات الخضوع لله والتوجه إليه، والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة القلب بذكره، حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرًا مع الله، ومراقبًا له غير غافل عنه، وأن يكون ساعيًا في مرضاته وما يقرب إليه حسب طاقته. والنهاية تنافي هذا المقصود وتضاده. ثم أورد -كعادته- الاعتراضات الممكنة على منع النيابة في العبادات2، وأهملها الأحاديث التي تفيد صحة النيابة في الحج والصيام. فناقش الاستدلال بها جملة وتفصيلًا، ثبوتًا ودلالة. وختم ردوده على المستدلين بها بقوله: "هذه الأحاديث-على قلتها- معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي. كما تقرر أن خبر الواحد لا يعمل به إلا إذا لم يعارضه أصل قطعي، وهو أصل مالك بن أنس وأبي حنيفة. وهذا الوجه هو نكتة الموضع، وهو المقصود فيه. وأما المسألة الثامنة، فقد قرر فيها وحرر مقصودًا آخر من مقاصد الشارع في دخول المكلفين تحت التكليف، وهو أن "من مقصود الشارع في الأعمال: دوام المكلف عليها، والدليل على ذلك واضح. "فقد مدح الله "المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون" وفي الحديث "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" إلى غيرها من النصوص.

_ 1 أي التي تقوم على النظر والفكر. 2 مع العلم أن النيابة في بعض العبادات كالحج والصيام، يقول بها عدد من العلماء، لوجود أحاديث تفيد ذلك وتجيزه.

ولأجل التمكين من المداومة على الأعمال "وضعت التكاليف على التوسط، وأسقط الحرج، ونهي عن التشديد"، وهو معنى سبق التعرض له في مباحث المشقة من النوع الثالث. ملاحظة أخيرة حول مسائل هذا النوع -الذي هو آخر أنواع مقاصد الشارع- وهي: أن مباحثه -أبو بعضها على الأقل1- ذات تشابه وتقارب، مع مباحث القسم الثاني "مقاصد المكلف". وفيها نوع من التمهيد لها. وسيتجلى هذا بعد استعراض مباحث "مقاصد المكلف". فيما يلي:

_ 1 خاصة منها المسألتان الخامسة والسادسة.

القسم الثاني: مقاصد المكلف في التكليف

القسم الثاني: مقاصد المكلف في التكليف تطرق الشاطبي -وهو يتناول مقاصد الشريعة- إلى مقاصد المكلف، هو مظهر آخر من مظاهر تعمقه وتمكنه في موضوع المقاصد. ذلك أنه ما لم تتم العناية بمقاصد المكلف، فستظل مقاصد الشارع جبرا على ورق، أو فكرة في أذهان العلماء. فلا بد من تحرير القول في مقاصد المكلف وعلاقتها -إيجابًا وسلبًا- مع مقاصد الشارع. وذلك ما فعله إمامنا في القسم الثاني من قسمي المقاصد. هذا القسم تناوله من خلال اثنتي عشرة مسألة، ولم يخل هو أيضًا من الاستطرادات الخارجة عن صميم الموضوع، ويتمثل هذا خاصة في المسائل: السادسة، والسابعة، والتاسعة. المسألة الأولى -من مسائل القسم- جاءت بمثابة تمهيد للقواعد التي ستعقبها. ففيها قرر أمرًا بدهيا في الدين، قرره -كما قلت- على سبيل التذكير والتمهيد، وهو: "أن الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرفات، من العبادات والعادات".

فقصد الفاعل في فعله، يجعل عمله صحيحًا أو باطلا، ويجعله عبادة أو رياء، ويجعله فرضا أو نافلة، بل يجعله إيمانًا أو كفرًا -وهو نفس العمل- كالسجود لله، أو لغير الله. و"أيضًا فالعمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية، وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها، كفعل النائم والغافل والمجنون". وبعد هذا التمهيد، يأتي تقريره لصلب الموضوع -وذلك في المسألتين: الثانية والثالثة- وهو: 1- "قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل، موافقًا لقصده في التشريع". فإذا كانت الشريعة -كما مر- موضوعة لمصالح العباد، فالمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك من أفعاله، "وأيضًا فقد مر أن قصد الشارع: المحافظة على الضروريات وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينات، وهو عين ما كلف به العبد. فلا بد أن يكون مطلوبًا بالقصد إلى ذلك، لأن الأعمال بالنيات" ثم، لما كان الإنسان مستخلفًا عن الله -في نفسه وأهله وماله وكل ما وضع تحت يده- "كان المطلوب منه أن يكون قائمًا مقام من استخلفه: يجري أحكامه ومقاصده مجاريها". والوجه الآخر لهذه القضية هو: 2- "كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها، فعمله -في المناقضة- باطل. فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له، فعمله باطل. ولئن كان المطلوب من المكلف -بصفة إجمالية- أن يجعل قصده في العمل موافقًا لقصد الشارع من التشريع، فإن عامة المكلفين قد لا يعرفون -بالتفصيل- مقاصد الشارع في كثير من أحكامه وتكاليفه. فكيف يفعلون حتى يكون قصدهم -في كل عمل- موافقًا -غير مخالف- لقصد الشارع في ذلك العمل، ويكونوا على اطمئنان من ذلك.

والجواب على هذا السؤال نجده في المسألة الثامنة، حيث وضع أمام المكلف ثلاثة خيارات، مشروعة كلها: 1- أن يقصد بعمله ما فهمه من قصد الشارع فيه، غير أنه لا ينبغي أن يخلي عمله هذا عن قصد التعبد، حتى لا يغفل عن الله، وحتى لا يخرج عن قصده ما قد يكون جهله من مقاصد ذلك التكليف. 2- أن يقصد ما عسى أن يكون الشارع قصده، من غير تحديد وهذا أشمل وأكمل من سابقه. 3- أن يقصد مجرد امتثال أمر الشارع، والخضوع لحكمه. وهذا أكمل وأسلم. وهو في هذه الحالات كلها، موافق لقصد الشارع، وفي مأمن من مناقضته. وأما بقية المسائل1 فهي عبارة عن قواعد تطبيقية، وتطبيقات لما تقدم. ففي المسألة الرابعة حصر لحالات الموافقة والمخالفة بين المكلف والشارع، وحكم كل حالة. وهي منحصرة في ست: الحالة الأولى2: أن يكون المكلف موافقا3 للشارع: قصدا وفعلا، والعمل على هذه الحالة لا إشكال في صحته. الحالة الثانية: أن يكون مخالفًا للشارع: قصدا وفعلًا والعمل على هذه الحالة لا إشكال في بطلانه. الحالة الثالثة: أن يكون موافقًا للشارع في الفعل، مخالفًا له في القصد، وهو لا يعلم بالموافقة الفعلية، فهو آثم في حق الله بسوء قصده، وغير آثم في حق الخلق لعدم إتيانه مفسدة ولا تفويته مصلحة.

_ 1 وهي الرابعة، والخامسة، والعاشرة، والحادية عشرة، والثانية عشرة. 2 انظر التفصيلات والأمثلة التطبيقية في المسألة المذكورة. 3 في فعله أو تركه.

الحالة الرابعة: مثل السابقة، إلا أنه يكون عالمًا بالموافقة، فهذا أشد من سابقه، لأنه داخل تحت الرياء والنفاق والتحايل على أحكام الله. الحالة الخامسة: أن يكون مخالفًا للشارع في الفعل، موافقًا له في القصد، مع علمه بالمخالفة الفعلية، وصاحب هذه الحالة غالبا ما يكون متأولًا لعمله، معتمدًا على حسن قصده. وهذا شأن المبتدعين "والذي يتحصل هنا أن جميع البدع مذمومة، لعموم الأدلة في ذلك". الحالة السادسة: مثل سابقتها، غير أنه هنا غير عالم بالمخالفة. وفي هذه الحالة وجهتان من النظر: - الوجه الأولى: النظر إلى كونه موافقًا في نيته وقصده، وإنما الأعمال بالنيات، وأما مخالفته فجاءت عن غير قصد، وعن غير علم منه. - الوجهة الثانية: النظر إلى كونه مخالفًا -عمليا- للشارع، ولهذا فإن قصده لم يحقق قصد الشارع، الذي لا يتحقق بمجرد النيات، وإنما يتحقق بالفعل، والفعل هنا مخالف. ومن هنا "صار هذا المحل غامضًا في الشريعة. وكانت المسمألة مشكلة جدا". وقد انتهى به الأمر -بعد تقليب المسألة طويلًا- إلى الميل نحو اعتبار الوجهين معًا، بحيث يكون لكل من الموافقة القصدية، والمخالفة الفعلية أثره في الحكم على الفعل وما يترتب عنه1. وأما المسألة الخامسة فقد تضمن قواعد أخرى أكثر تفصيلًا ضبط بها وجوه التعارض -وعدمه- بين مصالح ومفاسد المكلف الفرد، ومصالح غيره ومفاسده، مع مراعاة القصد وعدمه، ويمكن تسمية هذه المسألة: قانون التعارض والترجيح بين مصالح الناس ومضارهم.

_ 1 انظر الأدلة، والأمثلة، في نهاية المسألة الرابعة.

وفيما يلي، يعرض علينا الشاطبي الحالات الثمانية التي حصر فيها التعارضات بين مصالح الناس، والتي تولي -بعد ذلك- تفصيلها، وتقعيد قواعدها، ورسم ضوابطها: "جلب المصلحة ودفع المفسدة إذا كان مأذونًا فيه على ضربين: "أحدهما" أن لا يلزم عنه إضرار بالغير و"الثاني" أن يلزم عنه ذلك، وهذا الثاني ضربان: "أحدهما" أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه، وصحبه قصد الإضرار بالغير. و"الثاني" أن لا يقصد إضرار بأحد. وهو قسمان "أحدهما" أن يكون الإضرار عاما، كتلقي السلع، وبيع الحاضر للبادي، والامتناع من بيع داره أو فدانه وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع أو غيره. و"الثاني" أن يكون خاصا، وهو نوعان: "أحدهما" أن يلحق الجالب أو الدافع -بمنعه من ذلك- ضرر، فهو محتاج إلى فعله، كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره، أو يسبق إلى شراء طعام. عالمًا أنه إذا حازه استضر غيره بعدمه، ولو أخذ من يده استضر. و"الثاني" أن لا يلحقه بذلك ضرر. وهي على ثلاثة أنواع: "أحدها" ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا أعني القطع العادي1، كحفر بئر خلف باب الدار في الظلام، بحيث يقع الداخل فيه بلا بد، وشبه ذلك. "والثاني" ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرًا، كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبًا إلى وقوع أحد فيه، وأكل الأغذية التي غلبها أن لا تضر أحدا، وما أشبه ذلك. "والثالث" ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لا نادرًا، وهو على وجهين: "أحدهما" أن يكون غالبًا، كبيع السلاح من أهل الحرب، والعنب من الخمار وما يغش به ممن شأنه الغش، ونحو ذلك. "والثاني" أن يكون كثيرًا لا غالبًا، كمسائل بيوع الآجال. فهذه ثمانية أقسام". ثم شرع في تفصيل أحكامها وقواعدها واحدًا بعد الآخر، بعقلية تشريعية مدهشة. وقد ترددت كثيرًا في تقديم -أو عدم تقديم- تلخيص لذلك. وبعد أن

_ 1 يقصد بالقطع العادي، ما يمكن تخلفه، ولكن في حالات نادرة جدا، يقابله القطع العقلي، وهو ما يستحيل تخلفه أبدًا. فإن تخلف لم يعتبر قطعيا.

هممت بهذا العمل وجدت أن فيه إخلالًا لا يحتمل، ذلك أن ما أردت تلخيصه يحتاج إلى مزيد من الشروح والتوضيحات، لا إلى حذف وتلخيص، فانظر المسألة الخامسة برمتها. وقد ختم هذا القسم بالتطرق إلى موضوع الحيل، أو التحايل على الأحكام الشرعية، حيث يقصد به -عادة- إسقاط الأحكام الشرعية، أو قلبها من حكم إلى حكم، أو التهرب من آثارها. هذا الموضوع تناوله في المسائل الثلاث الأخيرة. فمهد له في المسألة العاشرة بتعريف التحيل. وقرر في الحادية عشرة أن "الحيل في الدين بالمعنى المذكور غير مشروعة في الجملة1 ثم أورد آيات وأحاديث كثيرة، يستفاد من مضمونها العام إبطال الحيل والنهي عنها، ثم قال "وعليه عامة الأمة من الصحابة والتابعين". وأما المسألة الثانية فهي جوهر الموضوع، حيث تضمنت ربط الحيل وحكمها بمقاصد الشارع، ذلك "أن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخر، هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها. فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع2، فليس على وضع المشروعات. "وعلى هذا نقول في الزكاة -مثلًا-: أن المقصود بمشروعيتها رفع رذيلة الشح، ومصلحة إرفاق المساكين، وإحياء النفوس المعرضة للتلف. فمن وهب في آخر الحول ماله هروبًا من وجوب الزكاة عليه، ثم إذا كان في حول آخر أو قبل ذلك استوهبه، فهذا العمل تقوية لوصف الشح وإمداد له، ورفع لمصلحة إرفاق المساكين. فمعلوم أن صورة هذه الهبة، وليست هي الهبة التي ندب الشرع إليها، ولأن الهبة إرفاق وإحسان للموهوب له، وتوسيع عليه، غنيا كان أو فقيرًا، وجلب لمودته ومآلفته. وهذه الهبة على الضد من ذلك. ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقًا لمصلحة الإرفاق والتوسعة، ورفعًا لرذيلة الشح، فلم يكن هروبًا عن أداء الزكاة. فتأمل كيف كان القصد المشروع في العمل لا يهدم قصدًا شرعيا، والقصد غير الشرعي هادم للقصد الشرعي".

_ 1 قوله "في الجملة" يشير إلى بعض الحالات التي يسوغ فيها التحايل حيث لا يناقض ذلك أصلًا أو مقصدا شرعيا. وقد تطرق إليها في "فصل" ملحق المسألة. 2 حيث تحايل على الحكم الشرعي، فحافظ على ظاهره، ولم يحافظ على جوهره ومقصوده. بل سعى به لغاية أخرى.

خاتمة الكتاب بماذا يعرف مقصود الشارع

خاتمة الكتاب: بماذا يعرف مقصود الشارع ختم الشاطبي كتاب المقاصد بـ "فصل" قال فيه: "ولكن لا بد من خاتمة تكر على كتاب المقاصد بالبيان، وتعرف بتمام المقصود فيه بحول الله. فإن للقائل أن يقول: إن ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبني على المعرفة بمقصود الشارع، فبماذا يعرف ما هو مقصود للشارع مما ليس بمقصود؟ ". وقبل أن يذكر وبين "الجهات الأربع" التي يعرف منها مقصود الشارع، قسم الناس -في موقفهم من المقاصد وكيفية تعرفها- إلى ثلاثة أصناف1. 1- صنف يرى أن لا سبيل إلى معرفة مقاصد الشارع إلا من خلال التنصيص عليها صراحة، من الشارع نفسه. وهذا مذهب الظاهرية. 2- صنف على النقيض من هذا، وهو على ضربين: أ- من لا يعتدون -نهائيا- بظواهر النصوص، بل يعتبرون أن مقاصد النصوص، هي -دائمًا- شيء آخر، وهو الباطن، "وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة، وهم الباطنية". ب- المبالغون في القياس، المقدمون له على النصوص. ولم يسم من هؤلاء أحد ولا مذهبا. 3- صنف يرى الجمع بين اعتبار النصوص وظواهرها، وبين النظر إلى

_ 1 إذا تأملت وجدت أنهم أربعة لا ثلاثة.

معانيها وعللها، "وهو الذي أمَّه أكثر العلماء الراسخين، فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع". وبناء على هذا المبدأ العام، حدد الجهات التي يعرف منها مقصود الشارع في أربع هي: 1- مجرد الأمر والنهي، الابتدائي التصريحي. 2- اعتبار علل الأمر والنهي. 3- اعتبار المقاصد التابعة "الخادمة للمقاصد الأصلية". 4- سكوت الشارع مع توفر داعي البيان والتشريع. ونظرا لما لهذا الموضوع من أهمية قصوى، باعتباره مفتاح علم المقاصد وميزانه. ونظرًا لحاجة الموضوع إلى عرض يكون أكثر بيانًا وتوضيحًا مما سرت عليه في هذه الخلاصة، وحاجته -أيضًا- إلى جمع ما نثره الشاطبي من متفرقات لا تقل أهمية عن هذا الفصل الختامي، وذلك في أجزاء الموافقات والاعتصام. ونظرًا لما يتطلبه من مناقشة وتتميم، فإني أرجئ هذا كله إلى فصل قادم، خاص بهذا الموضوع: "بماذا تعرف مقاصد الشارع" وهو الفصل الثالث من الباب الثالث.

الفصل الثالث: أبعاد النظرية

الفصل الثالث: أبعاد النظرية مدخل ... الفصل الثالث: أبعاد النظرية نظرية المقاصد عند الشاطبي، ليست منحصرة في الجزء المخصص لها في "الموافقات"، وهو "كتاب المقاصد" الذي قدمت خلاصته في الفصل السابق. ولكنها تمتد وتوجد في جل كتابات الشاطبي1. ومن هنا فكتاب المقاصد، غير كاف وحده في بيان حقيقة نظرية المقاصد. وبيان أبعادها وآثارها. فالشاطبي، حيثما تكلم، نجد المقاصد مرافقة له، حاضرة في كلامه، ومؤثرة على آرائه، تزيده عمقًا وسدادًا، ويزيدها تجلية وتوضيحًا، حتى ليكاد دارس الشاطبي، يزعم أنه لم يكتب إلا في المقاصد وآثارها. ولبيان امتدادات نظرية المقاصد في كتابات الشاطبي، كان هذا الفصل، الذي هو -في الحقيقة- تتميم لسابقه. فنحن -إذًا- ما زلنا في "عرض النظرية". وسأتناول فيه آثار المقاصد -بشيء من التفصيل والاستقصاء- من خلال ثلاثة مواضيع نموذجية هي: 1- الضروريات الخمس "في غير كتاب المقاصد"2. 2- مسائل المباح "من الأحكام التكليفية". 3- الأسباب والمسببات "من الأحكام الوضعية".

_ 1 وأعني خاصة أجزاء "الموافقات" و"الاعتصام". 2 ذلك أن تناوله المباشر للضروريات الخمس وغيرها من المصالح المقصودة للشارع من التشريع، قد تقدم تلخيصه أول الفصل السابق، وذلك اعتمادًا على "كتاب المقاصد".

الضروريات الخمس

1- الضروريات الخمس: منذ المقدمات الأولى لكتاب "الموافقات"1 بدأ الشاطبي يثير مسائل المقاصد، ويتكئ عليها في تدعيم وتوضيح آرائه الأصولية. ففي المقدمة الأولى، التي خصصها للقول بأن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية2، جعل أقوى حججه على هذا القول، هو كون أصول الفقه راجعة إلى كليات الشريعة. وكليات الشريعة لا يمكن أن تكون إلا قطعية. قال: "وأعني بالكليات هنا: الضروريات، والحاجيات والتحسينيات3. وقطعية هذه الكليات مسألة لا يرقى إليها جدال، بل هي في أعلى درجات القطع: "فقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري4. ومن المقدمات ننتقل إلى كتاب الأدلة "الجزء الثالث حسب تقسيم الطبعات"، حيث نجده يضع القواعد العامة للنظر في الأدلة الشرعية. ومن ذلك

_ 1 وهي ثلاث عشرة مقدمة، قال عنها: "تمهيد المقدمات المحتاج إليها قبل النظر في مسائل الكتاب". 2 الخلاف في هذه القضية يبدو أنه راجع إلى عدم تحرير محل النزاع فقط، فالقائلون بأن "أصول" الفقه قطعية، لا تحتمل الظنيات -ومنهم الشاطبي- يقصدون "أصول الأدلة" والقواعد الكلية للشريعة، ويعتبرون ما سوى ذلك من المباحث التفصيلية والاتجتهادات التطبيقة، ليس من "أصول" الفقه، وإن بحث في علم أصول الفقه وكتبه. وأما القائلون بأن أصول الفقه تشتمل على كثير من الظنيات، فإنما يتكلمون عن "علم أصول الفقه"، حيث أدرجت فيه كثير من الظنيات. ودليل ظنيتها، كثرة الخلاف فيها، وهو ما سعى الشاطبي إلى إقصائه من "أصول الفقه"، وافتتح كتابه بالتأكيد على أن أصول الفقه قطعية لا ظنية، وانظر في هذا: "البرهان" لإمام الحرمين: 1/ 85-86. 3 الموافقات: 1/ 30. 4 الموافقات: 1/ 38.

ما قرره في المسألة الثامنة بقوله: "إذا رأيت في المدينات1 أصلًا كليات فتأمله تجده جزئيا بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلًا لأصل كلي، وبيان ذلك أن الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال2. ومراده من هذا الكلام أن التشريعات التي جاءت بالمدينة، وإن وجد فيها ما يعتبر أصلًا كليا، وقاعدة عامة، فإنها تعتبر فروعًا للكليات الأعم والأهم، وهي التي نزلت -لأهميتها- بمكة. فمقاصد التشريع العليا، وأسسه الكبرى، تم إرساؤه في القرآن المكي، جنبا إلى جنب مع أصول العقيدة وأسسها. ثم بين ذلك رحمه الله، بإرجاع الأصول الخمسة إلى أدلتها من القرآن المكي: أما حفظ الدين وتصحيح الإيمان وتثبيته في القرآن المكي، فمسألة أشهر وأوضح من أن تحتاج إلى دليل أو مثال، حتى لقد شاع -خطأ- أن القرآن المكي لا يحتوي إلا على هذا. وهي الفكرة التي يصححها الإمام الشاطبي من خلال بيان ما اشتمل عليه القرآن المكي لا يحتوي إلا على هذا. وهي الفكرة التي يصححها الإمام الشاطبي من خلال بيان ما اشتمل عليه القرآن المكي من قواعد وكليات تشريعية من قبيل ما يلي: وأما حفظ النفس، فقد نص عليه في كثير من الآيات المكية كقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} 3 وقوله: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 4، وغيرهما. وحفظ النفس يتضمن حفظ العقل. وأما "تكميل" حفظ العقل، فقد جاء في المدينة بتحريم المسكرات، وإقامة الحد عليها. فالحفظ الأول أساس الحفظ الثاني، وهذا هو المراد بيانه في هذا السياق.

_ 1 أي الأحكام التي شرعت بالمدينة، فهي امتداد وتفصيل لما جاء بمكة. وينبغي النظر إليها وفهمها على هذا الأساس. 2 الموافقات: 3/ 46-47. 3 الأنعام: 151. 4 سورة التكوير: 8.

وحفظ النسل، أيضًا، جاء بمكة، بتحريم الزنى، والأمر بحفظ الفروج عن الحرام. وكذلك حفظ المال، يحققه ما جاء في المكي من تحريم الظلم، وأكل مال اليتيم والإسراف، والبغي، ونقص المكيال والميزان، والفساد في الأرض. ومن هذا الباب أيضًا: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما ضروريان لحفظ الأصول المتقدمة، قد جاء النص عليهما بمكة، كما في الآية: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1. وما الجهاد الذي شرع بالمدينة إلا فروع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر2. وعندما انتقل إمامنا أبو إسحاق، إلى موضوع "النسخ"، استصحب معه مقاصده وكلياته: فأعاد التذكير -في المسألة الأولى من مسائل النسخ- بأن "القواعد الكلية هي الموضوعة أولا، والتي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم تبعها أشياء بالمدينة، كملت بها القواعد التي وضع أصلها بمكة3. وليس هذا من الشاطبي مجرد تكرار لفكرته عن التشريع بين المكي والمدني، على أهميتها، وإنما أعاد الفكرة هنا، وفصل فيها أكثر، لما يريد أنه يبينه عليها في موضوع النسخ، وذلك قوله -في المسألة الثانية-: "لما تقرر أن المنزل بمكة من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية، والقواعد الأصولية في الدين، على غالب الأمر، اقتضى ذلك أن النسخ فيها قليل لا كثير4. لأن النسخ لا يكون في الكليات وقوعًا، وإن أمكن عقلًا. ويدل على ذلك الاستقراء التام، وأن الشريعة مبينة على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء، بل إنما أتى بالمدينة ما

_ 1 سورة لقمان: 17. 2 الموافقات: 3/ 102. 3 المرجع نفسه. 4 لا يعني أن النسخ في الكليات المكية قليل، بل سينفيه -في الأسطر التالية- نفيًا باتا ولكنه يعني أن في التشريع المكي بعض الأحكام الجزئية، وأن منها ما نسخ. ويمكن أن أمثل لذلك بالصلاة، التي كانت بمكة ركعتين ركعتين، ثم زيدت الزيادات المعروفة.

يقويها ويحكمها ويحصنها. وإذا كان كذلك. لم يثبت نسخ لكلي البتة. ومن استقرى كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى. فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها، والجزئيات المكية قليلة1. وعند تطرقه إلى الحديث عن السنة -بعد الحديث عن القرآن- وقف وقفة أخرى، استخدم فيها النظرة "المقاصدية"2، في الربط بين أدلة الشريعة، قرآنا وسنة، وفي الربط بين مناحي البناء التشريعي بكلياته وجزئياته. فكما أنه -رحمه الله- لاحظ أن القرآن المدني بتفصيلاته، قد بني على القرآن المكي وكلياته، لاحظ أيضًا -وبين- أن السنة قد بنيت -بشكل تام- على القرآن الكريم، لأن مدارهما واحد، هو مقاصد الشريعة في إقامة المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية. ورغم أني أتحاشى النقول الطويلة، فإني الآن لا أجد بدا من نقل هذا النص الطويل الرابع المفصل، وهو تفصيل لا نجده حتى موضعه الطبيعي، وهو كتاب المقاصد. ومنطلق النص: بيان أوجه الترابط والتكامل بين القرآن والسنة، وكيف أن القرآن هو أصل السنة، وأن السنة نابعة منه، ومنبنية عليه، ففي سياق تعداد هذه الأوجه وبيانها، قال: "ومنها: النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة، وأنه موجود في السنة على الكمال، زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح، وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبًا لها، والتعريف بمفاسدهما دفعًا لها. وقد مر أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام، وهي: الضروريات، ويلحق بها مكملاتها.

_ 1 الموافقات: 3/ 104-105. 2 أضعها بين قوسين لما هو معروف عند أهل اللغة من عدم صحة النسبة إلى الجمع، ولكني مضطر إلى ذلك، مثلما اضطروا قديمًا إلى القول: "أصولي" نسبة إلى أصول و "أعرابي" نسبة إلى أعراب، وما أشبه ذلك.

والحاجيات، ويضاف إليها مكملاتها. والتحسينيات، ويليها مكملاتها. ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد. وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور. فالكتاب أتى بها أصولًا يرجع إليها، والسنة أتت بها تفريعًا على الكتاب وبيانًا لما فيه منها. فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام. فالضروريات الخمس كما تأصلت في القرآن تفصلت في السنة: - فإن حفظ الدين: حاصلة في ثلاثة معان، وهي: الإسلام، الإيمان، والإحسان، فأصلها في الكتاب، وبيانها في السنة. ومكملة ثلاثة أشياء، وهي: الدعاء1 إليه بالترغيب والترهيب، وجهاد من عانده أو رام إفساده، وتلاقى النقصان الطارئ في أصله. وأصل هذه في الكتاب. وبيانها في السنة على الكمال. - وحفظ النفس: حاصلة في ثلاثة معان، وهي: إقامة أصله بشعرية التناسل. وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود، من جهة المأكل والمشرب -"وذلك ما يحفظه من داخل"- والملبس والمسكن، "وذلك ما يحفظه من خارج"2. وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة. ومكمله ثلاثة أشياء: وذلك حفظه عن وضعه في حرام كالزنى، وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح، ويلحق به كل ما هو من متعلقاته كالطلاق والخلع واللعان وغيرهما، وحفظ ما يتغذى به أن يكون مما لا يضر أو يقتل أو يفسد، وإقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به، من الذبائح والصيد، وشرعية الحد والقصاص، ومرعاة العوارض اللاحقة، وأشباه ذلك. - وقد دخل حفظ النسل في هذا القسم، وأصوله في القرآن، والسنة بينتها. - وحفظ المال راجع إلى مراعاة دخوله في الأملاك وتنميته أن لا يفي.

_ 1 أي الدعوة. 2 هل ذكرت المعاني الثلاثة التي فيها حفظ النفس، أم ذكر اثنين منها فقط؟ انظر تعليق الشيخ دراز: 4/ 27.

ومكمله: دفع العوارض، وتلافي الأصل بالزجر والحد والضمان، وهو في القرآن والسنة. - وحفظ العقل يتناول ما لا يفسده، وهو في القرآن. ومكمله: شرعية الحد، أو الزجر، وليس في القرآن له أصل على الخصوص، فلم يكن له في السنة حكم على الخصوص أيضًا. فبقي الحكم فيه إلى اجتهاد الأمة. - وإن ألحق بالضروريات حفظ العرض، فله في الكتاب أصل، شرحته السنة في اللعان والقذف. وإذا نظرت إلى الحاجيات: اطرد النظر أيضًا فيها على ذلك الترتيب أو نحوه. فإن الحاجيات دائرة على الضروريات. وكذلك التحسينيات. وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن وفي السنة، فلم يتخلف عنها شيء، والاستقرار يبين ذلك ويسهل على من هو عالم بالكتاب والسنة. ولما كان السلف الصالح كذلك قالوا به، ونصوا عليه حسبما تقدم عن بعضهم فيه. ومن تشوف إلى مزيد، فإن دوران الحاجيات: على التوسعة والتيسير، ورفع الحرج، والرفق: فبالنسبة إلى الدين: يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة: كالتيمم، ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها. وفي الصلاة بالقصر، ورفع القضاء في الإغماء، والجمع، والصلاة قاعدًا وعلى جنب. وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض. وكذلك سائر العبادات. فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل كالتيمم والقصر والفطر، فذاك. وإلا، فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية ولمجتهد إجراء القاعدة، والترخص بحسبها. والسنة أول قائم بذلك. وبالنسبة إلى النفس أيضًا، يظهر في مواضع منها مواضع الرخص: كالميتة للمضطر، وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها، وإباحة الصيد وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتي بالذكاة الأصلية.

وفي التناسل، من العقد على البضع من غير تسمية صداق، وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على تركه المشاحة كما في البيوع، وجعل الطلاق ثلاثًا دون ما هو أكثر، وإباحة الطلاق من أصله، والخلع، وأشباه ذلك. وبالنسبة إلى المال أيضًا، في الترخيص في الغرر اليسير، والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب، ورخصة السلم والعرايا، والقرض، والشفعة، والقراض، والمساقاة ونحوها. ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك ما هو فوق الحاجة منها، والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد، من غير إسراف ولا إقتار. وبالنسبة إلى العقل، في رفع الحرج عن المكره، وعن المضطر1 على قول من قال به في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك. وكل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج، لأن أكثره اجتهادي، وبينت السنة ما يحتذى حذوه، فرجع إلى تفسير ما أجمل من الكتاب. وما فسر من ذلك في الكتاب فالسنة لا تعدوه ولا تخرج عنه. وقسم التحسينيات جار أيضًا كجريان الحاجيات. فجميع هذا له أصل في القرآن، بينه الكتاب على إجمال، أو تفصيل، أو على الوجهين معًا. وجاءت السنة قاضية على ذلك بما هو أوضح في الفهم، وأشفى في الشرح. وإنما المقصود هنا التنبيه، والعاقل يتهدى منه لما لم يذكر، مما أشير إليه. وبالله التوفيق2. وعندما تناول مباحث الأمر والنهي، اعتمد كثيرًا، كعادته على المقاصد، ورجح بها آراءه الأصولية في الموضوع. من ذلك اعتماده على ما هو مسلم عند العلماء من تقسيم المصالح والأحكام الشرعية إلى: ضروريات، وحاجيات،

_ 1 أي في تناول المسكرات. 2 الموافقات: 4/ 27-32.

وتحسينيات، للقول بأن الأوامر والنواهي الشرعية، ليست ذات درجة واحدة، وليست في الأهمية سواء: "فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضرورية ليست كالأوامر المتعلقة بالأمور الحاجية، ولا التحسينية، ولا الأمور المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها، بل بينهما تفاوت معلوم، بل الأمور الضرورية ليست في الطلب على وزان واحد1 ومثل لهذا بما هو معلوم من تقديم الدين على النفس، وتقديم النفس على العقل. ونتيجة هذا، أن على المكلف في نفسه، وعلى المجتهد في اجتهاده، أن يراعي هذا الترتيب، وهذا التفاوت، في فهم الأوامر والنواهي الشرعية، قصد إنزال كل شيء منزلته، وتقديم ما حقه التقديم وتأخير ما حقه التأخير، وإعطاء الأولوية لما يستحقها. وأما إذا أهملنا هذا النظر -وقد اعتبره الشارع- فإننا سنقع في أغلاط جسيمة وحرج كثير، فضلا عن مخالفة هدي الشارع بإهمال مفاضلته وترتيبه فليست الأوامر الشرعية بنفس الدرجة وتعطي نفس الحكم، وكذلك الشأن في النواهي. وحتى بالنسبة للأوامر التي تفيد الوجوب، والنواهي التي تفيد التحريم، ليست على درجة واحدة. فالواجبات الشرعية درجات، والمحرمات كذلك. وقد استصحب الشاطبي هذه الفكرة وهو يعالج موضوع البدع في كتابه الاعتصام، حيث قال: "إن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر. ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات. فإذا كانت في الضروريات فهي أعظم الكبائر، وإن وقعت في التحسينيات فهي أدنى رتبة بلا إشكال. وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين. ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمل، ولا يمكن في المكمل أن يكون في رتبة المكمل. فإن المكمل مع المكمل في نسبة الوسيلة مع القصد. ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد، فقد ظهر تفاوت رتب المعاصي والمخالفات.

_ 1 الموافقات: 3/ 209، وانظر أيضًا في نفس المعنى ص153 و255.

وأيضًا، فإن الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه. فليست مرتبة كمرتبة الدين. أو ليس تستصغر حرمة النفس في جنب حرمة الدين، قبيح الكفر الدم؟ والمحافظة على الدين، مبيحة لتعريض النفس للقتل والإتلاف في الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين. ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس"1. ثم ينتقل من هذا التمهيد "المقاصدي"، إلى موضوعه الأصلي -وهو البدع- ليطبق عليه ما تقرره مقاصد الشريعة فيقول: "وإذا كان كذلك، فالبدع من جملة المعاصي، وقد ثبت التفاوت في المعاصي، فكذلك يتصور مثله في البدع. فمنها ما يقع في الضروريات "أي أنه إخلال بها" ومنها ما يقع في رتبة الحاجيات، ومنها ما يقع في رتبة التحسينيات. وما يقع في رتبة الضروريات: منه ما يقع في الدين أو النفس أو النسل، أو العقل، أو المال"2. وبناء على هذا التفاوت في المصالح والمفاسد، وفي الأوامر والنواهي الشرعية -تبعًا لذلك- يقرر أن: "الفعل يعتبر شرعًا بما يكون عنه3 من المصالح أو المفاسد. وقد بين الشرع ذلك، وميز بين ما يعظم من الأفعال مصلحته فجعله ركنا، أو مفسدته فجعله كبيرة. وبين ما ليس كذلك سماه في المصالح إحسانًا، وفي المفاسد صغيرة. وبهذه الطريقة يتميز ما هو من أركان الدين وأصوله، وما هو من فروعه وفصوله، ويعرف ما هو من الذنوب كبائر، وما هو منها صغائر، فما عظمه الشرع في المأمورات فهو من أصول الدين، وما جعله دون ذلك، فمن فروعه وتكميلاته. وما عظم أمره في المنهيات، فهو من الكبائر، وما كان دون ذلك، فهو من الصغائر، وذلك على مقدار المصلحة أو المفسدة"4.

_ 1 الاعتصام: 2/ 38. 2 الاعتصام: 2/ 39. 3 أي: يقيم الفعل بما يترتب عنه. 4 الموافقات: 1/ 213 وانظر أيضًا: 2/ 299، فقد حاول هناك إعطاء ضبط أكثر دقة للفرق بين الضروريات والحاجيات، من الأوامر والنواهي.

مسائل المباح

2- مسائل المباح: من الأبواب الثابتة في المؤلفات الأصولية -وخاصة من القرن الخامس فما بعده- باب الحكم الشرعي، أو الأحكام الشرعية، يحيث تقسم هذه الأحكام -كما هو معروف- إلى: الأحكام التكليفية، والأحكام الوضعية. والمباح -أو الإباحة- هو أحد الأحكام التكليفية الخمسة "حسب تقسيم الجمهور". ومعنى هذا أن عامة الأصوليين المتأخرين على الخصوص1 يتطرقون في مؤلفاتهم إلى مباحث المباح. غير أن تناول الشاطبي للموضوع -كشأنه في سائر المواضيع- يختلف اختلافًا كبيرا عن تناول غيره. وأساس ذلك هو "تأثره" بنظرية المقاصد, وهيمنتها على تفكيره. وقد افتتح الشاطبي "كتاب الأحكام" بالكلام على المباح، وتناوله في خمس مسائل، ومعها ستة "فصول"، أولها ملحق بالمسألة الأولى، والخمسة الأخرى ملحقة بالمسألة الثانية. وقبل عرض محتوى المسائل الخمس الأولى، المتعلقة بالمباح، أقف قليلا عند المسألة السادسة، حيث بدا لي أنها كان ينبغي أن تكون هي المسألة الأولى من مسائل الأحكام التكليفية، لأنها عامة فيها، وأن تكون هي المسألة الأولى من مسائل المباح خاصة، لأن ما قرره فيها -وإن كان يعم الأحكام التكليفية كلها- قد اعترض عليه من جانب المباح خاصة2. فلو بدأ بها لجمع بين الأمرين، ما دام قد بدأ بالمباح. وأما ما قرره فيها، فهو أن: "الأحكام الخمسة3 إنما تتعلق بالأفعال

_ 1 بل يبدو أن بعض مسائل المباح قد جرى فيها النقاش منذ وقت مبكر، من ذلك ما اشتهر به الكعبي -من أئمة المعتزلة- من اعتباره المباح واجبًا، لأنه يجنب الحرام. وما يجنبنا الحرام فهو واجب. والكعبي توفي سنة 317. وقد رد عليه الأصوليون في مختلف العصور، بما فيهم الشاطبي نفسه "الموافقات 1/ 124 وما بعدها". 2 انظر الموافقات: 1/ 150. 3 وهي: الإباحة، والندب، والإيجاب، والكراهة، والتحريم.

والتروك، بالمقاصد1 أي أن أفعال المكلفين وتروكهم، إنما تتعلق بها الأحكام الشرعية التكليفية، إذا توفر فيها "القصد" وأما ما وقع من غير قصد ولا عمد ولا نية ولا وعي، فهو "بمثابة حركات العجماوات والجمادات"2. وكأن هذا منه استدراك على التعريف الذي استقر عند الأصوليين للحكم الشرعي بأنه: "خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين" فخطاب الله تعالى -حسب الشاطبي- لا يتعلق بأفعال المكلفين إذا كانت خالية من القصد3. وملاحظة أخرى، تتعلق أيضًا بترتيب مسائل المباح؛ وهي أن الشاطبي بعد أن خصص له المسائل الخمس الأولى، ثم تطرق بعدها إلى الأحكام التكليفية الأخرى، عاد في آخر حديثه عن الأحكام التلكيفية، ليخصص المسألتين الثانية عشرة والثالثة عشرة، لجانب آخر من المباح4. وعلى كل حال، فمهما تفرقت مسائل الشاطبي وتباعدت، فإن "خيط المقاصد" يجمعها ويقرب بينها، ويذكرك بأولها وأنت في آخرها. فأول ما قرره في مسائل المباح هو أن: "المباح -من حيث هو مباح- لا يكون مطلوب الفعل ولا مطلوب الاجتناب5 ثم عبر عن هذا المعنى بلغة المقاصد فقال: "وأن فعله وتركه في قصد الشارع بمثابة واحدة"6. والكلام هنا إنما هو في حقيقة المباح، وهو الذي يوصف عند العلماء بأنه مستوي الطرفين، أي استوى فيه طرف الفعل وطرف الترك، وأن حكمه التخيير. فهذا هو معنى المباح المجرد عن الملابسات والمؤثرات. وهذا لا يكون للشارع قصد في فعله ولا في تركه. فليس مطلوب الفعل ولا مطلوب الترك. لأنه إذا اعتبر

_ 1 الموافقات: 1/ 149. 2 الموافقات: 1/ 149. 3 انظر أدلته، ورده على الاعتراضات الممكنة: الموافقات: 1/ 149-151. 4 وسيأتي ذكره في آخر هذه الفقرة. 5 الموافقات: 1/ 109. 6 الموافقات: 1/ 115.

مطلوب الفعل أو مطلوب الترك، فقد ألحق بأحد الأحكام الأربعة الأخرى، ولم يبق مباحًا. والشاطبي بتقريره هذا يرد على رأيين، هما: 1- الرأي القائل بأن المباح مطلوب الترك، وأن تركه أولى من فعله، وأن على المكلف أن يتقلل منه ما أمكن. 2- الرأي القائل بأن المباح مطلوب الفعل، وأنه مطلوب طلب وجوب. لأن كل مباح، ما فعله ترك محرم. وترك المحرم واجب. ففعل المباح واجب، لما فيه من ترك المحرم. وهذا الرأي الأخير، هو رأي أبي القاسم الكعبي من المعتزلة. وهو رأي مردود عليه منذ القديم، ولهذا لم يحفل به الشاطبي كثيرًا، ولم يتجاوز رده عليه صفحتين1. وأما الرأي الأول فقد اعتنى الشاطبي ببسط أدلته ومناقشتها بتفصيل تام2، مما يدل على "وجاهته" وسعة انتشاره. ومن مستندات هذا الرأي: أن الاشتغال بالمباحات يلهي عما هو أهم من فعل الطاعات والنوافل، وقد يلهي حتى عن الواجبات، وقد يوقع في بعض الممنوعات، ومن هنا جاء ذم الدنيا ومتاعها وفتنتها. وقد نقل عن السلف الصالح تورعهم عن كثير من المباحات وزهدهم فيها، حتى أصبح الزهد في الدنيا شعار الصالحين، ومنهج المتقين. وجواب الشاطبي على هذه المستندات، هو أن الكلام إنما هو في "المباح" في حد ذاته. وأما المباح الذي يلهي عما هو خير منه، أو يوقع في بعض المحاذير الشرعية، فهذا موضوع آخر؛ وهو المباح الذي لابسته عوامل خارجية، واتخذ ذريعة ووسيلة إلى غيره، ومعلوم أن الوسائل تعطي حكم المقاصد.

_ 1 الموافقات: 1/ 124-125. 2 من: 109 إلى: 130.

فالاشتغال بالمباحات، والتمتع بها، عمل مباح في أصله. فإذا ألهى صاحبه عن واجب، أو أوقعه في محرم، تغير حكمه تبعًا لهذا الطارئ. ولكن الطوارئ التي تدخل على المباح، كما تكون مذمومة، فتصيره مذمومًا، كذلك قد تكون محمودة فتصيره محمودًا. فليس ترجيح الترك بأولى من ترجيح الفعل مطلقًا. فتكثير من المباحات تكون عونًا لصاحبها على فعل الواجبات، واجتنبات المحرمات، والاستكثار من الخيرات. بل هذا هو الأصل فيها. وفي الحديث: "نعم المال الصالح للرجل الصالح1 وأيضًا: "ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلا، والنعيم المقيم"2. وأما أن ترك المباحات، هو طريق الزهاد والصالحين، فغير مسلم: من جهة، لأن حقيقة الزهد ترك ما طلب تركه. والمباح المحض ليس من هذا القبيل. ومن جهة أخرى، فإن ترك بعض المباحات، إذا اعتبرناه زهدًا، فلأجل ما في ذلك من قصد حسن، واشتغال بما هو أولى فقد آل إلى اتخاذه وسيلة فخرج عن دائرة الإباحة: "فهو فضيلة من جهة ذلك المطلوب، لا من جهة مجرد الترك. ولا نزاع في هذا"3. وهذا يجرنا إلى جانب آخر من مباحث المباح -فيه توضيح وتفصيل لما سبق- وهو: "أن المباح يصير غير مباح بالمقاصد والأمور الخارجة"4. فقد يصير محبوبًا ومطلوبًا فعله: إذا كان "خادمًا لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي5 كالتمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب والملبس، ونحو هذا: فهذه

_ 1 قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث "الإحياء" رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني. بسند جيد "حاشية عبد الله دراز، الموافقات 1/ 114". 2 رواه مسلم. 3 الموافقات: 1/ 123. 4 الموافقات: 1/ 128. 5 الموافقات: 1/ 128.

النعم والمتع مباحات باعتبارها نعمًا ومتعا، وباعتبارها جزئيات معينة يختار منها الإنسان ما شاء، ويدع منها ما شاء، وكيف شاء. ولكنها، بصفتها العامة -أو بصفتها الكلية- تعتبر خادمة لأصل ضروري، هو إقامة الحياة. فهي من هذه الناحية، مأمول بها، فخرجت عن الإباحة إلى الطلب. وقد يصير المباح مكروهًا مطلوب الترك: إذا صار فيه ضرر على أصل من الأصول الثلاثة. كالطلاق لغير موجب، فالطلاق مباح ومشروع لما يناسبه من الحالات. فإذا صار يستعمل لغير ما شرع له، فقد صار مضرا بعدة ضروريات وحاجيات. ومن هنا صار مبغضًا. وهكذا الشأن -أيضًا- في اللهو واللعب والراحة، هي أمور مباحة، إذا لم يكن شيء منها محظورًا بعينه. ولكنها إذا كثرت، صارت مذمومة، وقد كان العلماء والسلف يكرهون أن لا يرى الرجل في إصلاح معاش، ولا في إصلاح معاد. وإذا لم يكن هذا ولا ذاك، فهو المباح الباقي على أصل الإباحة. وقد أدى هذا النظر بالشاطبي إلى أن يقسم المباح تقسيمًا رباعيًا، أي أنه -رغم إباحته الأصلية- قد تعتريه الأحكام الأربعة الأخرى. وذلك بحسب الجزئية أو الكلية، أي بحسب الحالات الجزئية المعينة لاستعمال المباحات في الحياة اليومية للأفراد، أو بحسب النظر إلى هذه المباحات في عمومها وشمولها، للفرد والمجتمع، ودورها العام في ذلك، ويتضح هذا -أكثر- من خلال تقسيمه وتمثله للأقسام الأربعة التي قد يؤول إليها المباح، وهي: 1- مباح بالجزء، مندوب بالكل وذلك كالتمتع بالطيبات من المآكل والمشارب والملابس، فيما زاد عن حد الضرورة1. فالتوسع في هذه النعم والتمتع بها أمر مباح، بحسب الجزئية؛ أي هو في حق الأفراد، وفي مختلف الحالات، وبالنسبة لنماذج معينة من هذه النعم، يمكن أن يفعل وألا يفعل. لا حرج في هذا ولا ذاك. ولكنه بالنسبة لمجموع الناس، في مجموع حياتهم، أمر مطلوب، مرغوب لهم فعله. فهو بحسب الكلية مندوب، وبحسب الجزئية مباح.

_ 1 لأن حد الضرورة من ذلك، غير داخل في موضوعنا، لأنه واجب أصلًا، وليس من المباح.

2- مباح بالجزء، واجب بالكل: كالأكل والشرب، ووطء الزوجات، والبيع والشراء، وسائر الحرف والمهن. فهي من الناحية الجزئية مباحات: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 1 {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} 2 {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} 3 فالإنسان إذا أكل أو شرب في هذه الحالة، أو لم يفعل، وإذا لبس كذا، أو كذا من الثياب، كل ذلك تصرفات مباحة، لا مانع من فعلها كما لا مانع من تركها. هذا بحسب الجزئية. ولكن: "لو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك، لكان تركا لما هو من الضروريات المأمور بها، فكان الدخول فيها واجبًا بالكل4 وكذلك اختيار حرفة معينة، وأداؤها في هذا الوقت أو ذاك، وعلى هذه الكيفية أو تلك، كل هذا يدخل في دائرة الإباحة، لا بأس في فعله ولا في تركه. لكن، إذا ترك ذلك جملة، كان تاركًا لواجب، فالإباحة بمقتضى الجزئية، والوجوب بمقتضى الكلية. 3- مباح بالجزء، مكروه بالكل: وقد مثله بالتنزه في البساتين وسماع الغناء المباح وتغريد الحمام، وسائر أنواع اللعب المباحة، "فمثل هذا مباح بالجزء فإذ فعل يومًا أو في حالة ما، فلا حرج فيه. فإن فعل دائمًا، كان مكروهًا"5. 4- مباح بالجزء، محرم بالكل: كالمباحات التي تقدح في العدالة المداومة عليها. فلولا أن العلماء اعتبروا المداومة عليها مما يدخل في التحريم، لما جرحوا صاحبها وأجروه مجرى الفساق. والشاطبي لم يمثل لهذا النوع بأي مثال، كما لم يستدل عليه بشيء، إلا ما كان من قول الغزالي "إن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة، كما أن المداومة على الصغيرة تصيرها كبيرة"6.

_ 1 سورة البقرة: 275. 2 سورة النساء: 26. 3 سورة المائدة: 1. 4 الموافقات: 1/ 131-132. 5 الموافقات: 1/ 131-132. 6 الموافقات: 1/ 131-132.

وهذا النوع الأخير، قد يصعب التسليم به، خاصة وأنه أورده بلا أمثله ولا أدلة. كما يصعب التفريق بينه وبين سابقيه، ففي كل منهما: "المداومة على بعض المباحات"، إلا أن نقول: إنها "أي تلك المباحات" تصير محرمة بالإدمان عليها والإفراط فيها. لأنها -حينئذ- تصير هوى متبعًا، وآفة مستحكمة، ومضيعة للعمر. وفي هذا من موجبات التحريم ما لا يخفى. ومن الأمثلة الجلية على هذا: احتراف بعض الناس -اليوم- لبعض أنواع اللعب، فيصير الإنسان، حرفته، "لاعب" وتصير حياته لعبًا في لعب! وقريب من هذا، ما يداوم عليه بعض الناس من قطع الساعات الطوال -من كل أيامهم أو معظمها- في المقاهي، وما أشبهها من توافه الأمور وسفاسفها. وهذا التفريق الذي اعتمده الشاطبي بين الأفعال والتروك، بحسب الكلية والجزئية فيها، إنما هو نظر مصلحي مقاصدي. وقد استدل على صحة هذا التفريق بعدة أدلة، ولكن أهمها وجوهرها هو: "أن الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق. وتقرر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات. إذ مجاري العادات كذلك جرت الأحكام فيها. ولولا أن الجزئيات أضعف شأنا في الاعتبار لما صح ذلك"1. وأنتقل إلى الجانب الآخر -الذي سبقت الإشارة إليه- من جوانب المباح، وهو الذي أخره حتى ختم به مسائل الأحكام التكليفية. وهذا الجانب، هو المباح الذي يكون طلبه من قبيل الضروريات أو الحاجيات، وتعترض تحصيله عوارض مضادة لأصل الإباحة. أو بتعبير أوضح: إذا كان المكلف، في طريقه لتحصيل ما أحل الله له، أو أثناء تحصيله لذلك، يضطر للوقوع في بضع المحرمات، فهل تبقى تلك المبحات على أصل الإباحة بحيث يستمر المكلف في السعي إليها وتحصيلها رغم ما يقع فيه بسببها من آثام، أم أن هذه العوارض تؤثر في حكمها، فيصبح هو التحريم؟

_ 1 الموافقات: 1/ 139.

ومن أمثلتها: المرور في الطرقات والأسواق إذا كان فيه سماع محرم أو رؤيته. ومخالطة الناس إذا كانت توقع في سماع الغيبة والكذب والفحش. والمساكنة إذا كانت تعرض لبعض المحرمات، والزواج إذا كان سيجر إلى بعض الشبهات أو المحرمات، وطلب العلم إذا كان محفوفًا ببعض المنكرات. وهذه المسألة تعرض لها غير ما مرة، في غير سياقنا الذي نحن فيه1. وعالجها -كعادته- بناء على ما تقرر عنده في المقاصد، فجعل حكم هذه المباحات مع عوارضها المحرمة، يختلف باختلاف مرتبتها في سلم المقاصد: 1- فإذا كانت من قبيل الضروريات -التي تقدم أنها مباحة بالجزء وواجبة بالكل- صح للمكلف السعي في تحصيها، ولم تؤثر فيه العوارض. لأن "إقامة الضرورة معتبرة، وما يطرأ عليها من عارضات المفاسد مغتفر في جنب المصلحة المجتبلة"2. ثم إنه قد تقرر في المقاصد أن المكمل إذا عاد على أصله بالإبطال أهمل، وحوفظ على الأصل بدون ذلك المكمل. وما نحن فيه يدخل في هذا الباب أيضًا. فإن السلامة من العوارض، هي مكملة بالنسبة إلى طلب الضروريات فلا يصح إبطال هذه الضروريات وتعطيلها لأجل هذه العوارض. 2- وإذا لم تكن من قبيل الضروريات، ولكن يلحق المكلف إذا تركها حرج في حياته: "فالنظر يقتضي الرجوع إلى أصل الإباحة، وترك اعتبار الطوارئ، إذ الممنوعات قد أبيحت رفعًا للحرج كما سيأتي لابن العربي في دخول الحمام، وكما إذا كثرت المناكر في الطرق والأسواق، فلا يمنع ذلك التصرف في الحاجات، إذ كان الامتناع من التصرف حرجا بينا {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 3، 4.

_ 1 من ذلك: 3/ 231-235 و4/ 210-211. 2 الموافقات: 1/ 182. 3 سورة الحج: 78. 4 الموافقات: 1/ 181.

وأما قول ابن العربي الذي أشار إلى أنه سيأتي، فقد أتى به في الجزء الثالث، في نفس الموضوع، لكن في سياق آخر، حيث قال الشاطبي هناك: "القواعد المشروعة بالأصل إذا داخلتها المناكر، كالبيع والشراء والمخالطة والمساكنة، إذا كثر الفساد في الأرض واشتهرت المناكر، بحيث صار المكلف عند أخذه في حاجته، وتصرفه في أحواله، لا يسلم في الغالب من لقاء المنكر أو ملابسته، فالظاهر يقتضي الكف عن كل ما يؤديه إلى هذا. ولكن الحق يقتضي أن لا بد له من اقتضاء حاجته، كانت مطلوبة بالجزء أو بالكل، وهي إما مطلوب بالأصل، وما خادم المطلوب بالأصل. لأنه إن فرض الكف عن ذلك أدى إلى التضييق والحرج، أو تكليف ما لا يطاق. وذلك مرفوع عن هذه الأمة. فلا بد للإنسان من ذلك، لكن مع الكف عما يستطيع الكف عنه. وما سواه فمعفو عنه لأنه بحكم التبعية لا بحكم الأصل. وقد قال ابن العربي في مسألة دخول الحمام بعدما ذكر جوازه: فإن قيل: فالحمام دار يغلب فيه المنكر، فدخولها، إلى أن يكون حرامًا أقرب منه إلى أن يكون مكروهًا، فكيف أن يكون جائزًا؟ قلنا: الحمام موضع تداو وتطهر، فصار بمنزلة النهر، فإن المنكر قد غلب فيه بكشف العورات، وتظاهر المنكرات، فإذا احتاج إليه المرء دخله، ودفع المنكر عن بصره وسمعه ما أمكنه. والمنكر اليوم في المساجد والبلدان، فالحمام كالبلد عمومًا، وكالنهر خصوصًا. هذا ما قاله، وهو ظاهر في هذا المعنى"1. 3- وأما إذا كانت هذه المباحات التي تعترضها عوارض المنع، لا ترقى إلى مرتبة الضروريات، ولا يحصل بتركها حرج، فهي في محل الاجتهاد. ومرجعها إلى الخلاف في "تعارض الأصل الغالب" فالتمسك بالأصل يؤدي إلى إبقائها على الإباحة. والتمسك بالغالب يؤدي إلى ترجيح جانب العوارض، والحكم بالمنع. وقد ساق حجج الوجهتين من النظر، ثم انتهى إلى القول: "وأوجه الاحتجاج من الجانبين كثيرة، والقصد التنبيه على أنها اجتهادية، والله أعلم"2.

_ 1 الموافقات: 3/ 232-233. 2 الموافقات: 1/ 187.

وهذا ما قرره -أيضًا- في الجزء الثالث، حيث قال: "ففي المسألة نظر، ويتجاذبها طرفان"1. ولكنه في الجزء الرابع لم يلتفت إلى هذا التفريق بين المراتب، وتمسك بأصل الإباحة في المراتب الثلاث، حيث قال: "الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية. إذا اكتنفها من خارج، أمور لا ترضى شرعًا، فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح، على شرط التحفظ، بحسب الاستطاعة من غير حرج2. وقد ذكر أمثلة مختلطة، منها ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما قد يكون من المرتبة الثالثة، كشهود الجنائز3. غير أنه -في الجزء الثالث- أخرج عن أصل الإباحة، ما كان مباحًا بالجزء، مطلوب الترك بالكل4، فإنه إذا اعترضه أو لابسه منكر، لم يجز الإقدام عليه، وذلك كالغناء المباح، أو أنواع اللهو المباحة، فلا يجوز الإقدام عليها بدعوى الإباحة، بينما يكتنفها شيء من الحرام.

_ 1 الموافقات: 3/ 233. 2 الموافقات: 4/ 210. 3 الموافقات: 4/ 210. 4 راجع ما تقدم قريبًا من تقسيم المباح بحسب الجزئية والكلية، وخصوصًا النوعين الثالث والرابع، هما المعنيان هنا.

الأسباب والمسببات

3- الأسباب والمسببات: مباحث السبب عند الشاطبي هي أطول مباحث الأحكام الوضعية، بل هي أطول مباحث الأحكام عمومًا، تكليفية ووضعية. كما أنها الأكثر تأثرًا واصطباغا بصبغة المقاصد. وتكاد هذه المباحث تنحصر في علاقة الأسباب بمسبباتها. ومن هنا جاءت تسميتي لهذه الفقرة.

وأما ارتباطها بالمقاصد، فهو من حيث قصد الشارع، وقد المكلف، في الأسباب والمسببات، غير أن ارتباطها بمقاصد المكلف أكثر. وقيل التطرق إلى ما يهمنا من الموضوع، أشير إلى أن الشاطبي، وإن كان قد قسم الأسباب -وسائر الأحكام الوضعية- إلى ما هو مقدور للمكلف، وإلى ما ليس في مقدوره، فإنه ركز في "مسائله" الثلاث عشرة -المخصصة للأسباب- على الأسباب المقدورة للمكلفين. ومن هذه الأسباب التي تتركز حولها مسائله وتقريراته: الكسب "من بيع وشراء، وزراعة، واحتراف" باعتباره سببًا في إقامة الحياة، وسببًا في صحة الأملاك، وسببًا في حلية الاستمتاع. النكاح، باعتباره سببًا في حلية استمتاع الزوجين أحدهما بالآخر، وسببًا في التناسل، وسببًا للتوارث بينهما، وسببًا في حرمة المصاهرة. وكما بنى تقريراته وقواعده على مثل هذه الأسباب المشروعة، فإنه بنى ذلك أيضًا على الأسباب الممنوعة، مثل القتل، والزنى، والغصب. فكل هذه أسباب يترتب عنها كثير من الأحكام والآثار، أي: المسببات. وأنتقل إلى القواعد والأحكام، التي قررها بمقتضى النظر المقاصدي: فمن ذلك أن الشارع بوضعه للأسباب، يكون قاصدًا إلى مسبباتها، وبتعبيره هو: "وضع الأسباب يستلزم قصد الواضع إلى المسببات، أعني الشارع1 وذلك لأنه لا يعقل أن يضع الأسباب، دون أن يقصد نتائجها. وقد تقرر في المقاصد "أن الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح أو درء المفاسد، وهي مسبباتها قطعًا. فإذا كنا نعلم أن الأسباب إنما شرعت لأجل المسببات، لزم من القصد إلى الأسباب، القصد إلى المسببات"2. فمشروعية الأسباب تدلنا على قصد الشارع إلى مسبباتها "نتائجها".

_ 1 المسألة الرابعة: الموافقات 1/ 194. 2 الموافقات: 1/ 195.

وهذه القاعدة تفيدنا جدا، في موضوع سيأتي التفصيل فيه، إن شاء الله، وهو "بماذا تعرف مقاصد الشارع؟ "1. غير أنه -ونحن في مسائل الأسباب- من الضروري أن نصل بين هذه المسألة "الرابعة"، وبين مسألتين أخريين تأخرتا عنها كثيرًا، وكان ينبغي اتباعها بهما، وهما المسألتان الثانية عشرة والثالثة عشرة2. لأن مضمونهما فيه تفصيل وتقييد لما اتسمت به هذه المسألة من إجمال وإطلاق. فالذي قد يفهم من المسألة الرابعة، هو أن كل ما يترتب عن الأسباب من مسببات، فهو مقصود لواضع الأسباب، وهو الله سبحانه. وهذا تعميم خطيرًا. وأما في المسألتين المشار إليهما، فنجد أن: "المسببات -بالنظر إلى أسبابها- ضربان: أحدهما: ما شرعت الأسباب لها، إما بالقصد الأول -وهي متعلق المقاصد الأصلية، أو المقاصد الأول أيضًا- وإما بالقصد الثاني، وهي متعلق المقاصد التابعة، وكلا الضربين3 مبين في كتاب المقاصد4. والثاني: ما سوى ذلك، مما يعلم أو يظن أن الأسباب لم تشرع لها، أو لا يعلم ولا يظن أنها شرعت لها أو لنم تشرع لها. فتجيء الأقسام ثلاثة5. فلأقسام الثلاثة إذًا هي: 1- المسببات التي عرفنا أن الأسباب شرعت لأجلها. 2- المسببات التي عرفنا أن الأسباب لم تشرع لها. 3- المسببات التي لم نعرف إن كانت الأسباب شرعت لها أم لا.

_ 1 الفصل الثالث من الباب الثالث. فضم ما هنا إليهما سيأتي هناك، حتى لا أقع في التكرار. 2 الموافقات: 1/ 243 إلى 258. 3 أي المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية، وهما معا داخلان في الضرب الأول من المسببات، وهي التي شرعت الأسباب لأجلها. 4 انظر المسألة الثانية من النوع الرابع، أو راجع في ذلك الفصل السابق من هذا البحث. 5 الموافقات: 1/ 243-244.

وظاهر أن ما قرره وأطلقه في المسألة الرابعة إنما يصدق على القسم الأول من هذه الأقسام الثلاثة. أما القسمان الآخران من المسببات، فلهما شأن آخر. فالقسم الأول من المسببات غير مقصود للشارع، والقسم الثالث ينبغي فيه التوقف والبحث. فإما أن يظهر قصد الشارع فيه، وإما أن نبقى على التوقف1. وكون الشارع قاصدًا بالأسباب إلى المسببات، لا يعني أن هذه المسببات داخلة تحت التكليف. فالمكلف مطالب بالأسباب لا بالمسببات. ولهذا فهو حين يتعاطى الأسباب "المشروعة طبعًا"، ليس ملزمًا بالقصد إلى مسباباتها. وهذا ما قرره في المسألة الثالثة: "وهي أنه لا يلزم في تعاطي الأسباب من جهة المكلف، الالتفات إلى المسببات ولا القصد إليها، بل المقصود منه الجريان تحت الأحكام الموضوعة لا غير، أسبابًا كانت أو غير أسباب، معللة كانت أو غير معللة2، أي أن المكلف يكفيه أن يأتي بالأسباب على وجهها الصحيح المشروع، وليس مكلفًا بالقصد إلى مسبباتها، لأنه غير مكلف بالمسببات "النتائج". فالله تعالى هو الذي يتولى أمر المسببات، ويرتبها على أسبابها. "فإذا: قصد الشارع لوقوع المسببات لا ارتباط له بالقصد التكليفي، فلا يلزم قصد المكلف إليه، إلا أن يدل على ذلك دليل، ولا دليل عليه3 "فليس في الشرع دليل ناص على طلب القصد إلى المسبب"4. ومرة أخرى فإن هذا الإطلاق، يدعو إلى التوقف والتأمل، فقد قرر في كتاب المقاصد "مقاصد المكلف" أن "قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في التشريع"5 فهذا يقتضي أن يقصد المكلف بالأسباب، ما

_ 1 وانظر في ذلك الموافقات 2/ 394-396. 2 الموافقات: 1/ 193. 3 الموافقات: 1/ 197-198. 4 الموافقات: 1/ 197. 5 الموافقات: 2/ 331.

شرعت لأجله من المسببات. فالقصد إلى المسببات، وعلى وفق ما قصده الشارع بها، مطلوب -إذًا- من فاعل الأسباب، بينما الذي سبق تقريره أن المكلف غير ملزم بهذا؟! والشاطبي لم يكن غافلا عن هذا "التناقض" بين ما قرره في كتاب الأحكام وما قرره في كتاب المقاصد. ولهذا نجده في كتاب الأحكام يرود على نفسه الاعتراض بما في كتاب المقاصد "على طريقة الفنفلة: فإن قيل"، كما نجده، بعد أن قرر ما قرره في كتاب المقاصد يقول: "فصل: وإذا حققنا تفصيل المقاصد بالنسبة إلى المكلف، وجدناها ترجع إلى ما ذكر في كتاب الأحكام، وفي مسألة دخول المكلف في الأسباب1، إذ مر هنالك خمسة أوجه منها يؤخذ القصد الموافق والمخالف. فعلى الناظر هنا مراجعة ذلك الموضع، حتى يتبين له ما أراد إن شاء الله2. والمسألة التي يحيلنا عليها -وهي المسألة السادسة من مسائل الأحكام الوضعية- مبنية على التي قبلها، وهي التي افتتحها بقوله: "إذا ثبت أنه لا يلزم القصد إلى المسبب، فللمكلف ترك القصد إليه بإطلاق، وله القصد إليه3 فلما انتهى من إثبات الخيرة للمكلف، في القصد أو عدمه إلى المسببات، انتقل إلى المسألة التي أحالنا عليها، حيث قال في مطلعها: "إذا تقرر ما تقدم4، فلدخول في الأسباب مراتب تتفرع على القسمين. فالالتفات إلى المسببات له ثلاث مراتب5.

_ 1 هي المسألة السادسة من مسائل الأحكام الوضعية. وقد غلط المرحوم عبد الله دراز، فأحالنا على المسألة السادسة من النوع الرابع من كتاب المقاصد، بينما إشارة الشاطبي إلى ما قدمت. 2 الموافقات: 2/ 332. 3 الموافقات: 1/ 196. 4 وهو أن المكلف له الخيرة في الالتفات أو عدم الالتفات إلى المسببات حين دخوله في الأسباب. 5 الموافقات: 1/ 201.

وملخصها ما يلي: 1- أن يدخل في الأسباب، وفي اعتقاده أنه الفاعل المؤثر، وأنه صانع المسببات، أو أن المسببات لازمة من أسبابها ضرورة لزومًا ذاتيا "وهذا شرك، أو مضاه"1 فهذا -بطبيعة الحال- لا يجوز اعتقاده أبدًا. 2- أن يدخل في الأسباب على أساس أنها عادة تفضي إلى مسببات معينة، وإن هذه طبيعة الأشياء التي عليها خلقت. وهذه المرتبة، عليها عامة الناس، ولا بأس بها، وإن كانت مفضولة بالمرتبة الثالثة، هي: 3- أن يدخل في الأسباب، على أساس أن الله تعالى هو الذي ينتج عنها مسبباتها إن شاء، ويعطلها إن شاء. وهذه المرتبة أفضل من سابقتها، لأن السابقة يغلب فيها اعتبار العادة، والركون إليها مما ينتج، الغفلة عن المسبب الحقيقي وهو الله تعالى. فهذه مراتب الالتفات والقصد إلى المسببات. وأما ترك ذلك، فله أيضًا ثلاث مراتب2. 1- أن يدخل في الأسباب على أنها ابتلاء للعباد. فهو مكلف بها ابتلاء من الله وامتحانًا له كيف يعمل، ولا يهمه أكثر من هذا. 2- أن يدخل في الأسباب ويتصرف فيها على أساس أنه عبد الله، فهو قائم بمقتضى العبودية، لا يهمه سبب، ولا مسبب، ولا سببية. فهو عبد لله، يجري على ما أراد مولاه. 3- الدخول في الأسباب، على أنها أسباب مشروعة ومأذون فيها شرعًا، وعلى أن لها مسببات يجريها خالقها، سبحانه، إن شاء. وعلى أنها ابتلاء وتمحيص

_ 1 الموافقات: 1/ 201. 2 ومعنى هذا أن مجموع المراتب ست. ونلاحظ أنه عندما أحالنا على هذه الأوجه -على ما تقدم قبل قليل- ذكر أنها خمسة. وهذا إما خطأ دخل على الكلمة، وإما لأنه لم يعد الوجه الأخير "السادس" لأنه يتكون من الأوجه السابقة له، كما سيأتي.

للمكلفين، "فصار هذا القصد شاملا لجميع ما تقدم. لأنه توخى قصد الشارع من غير نظر في غيره. وقد علم قصده في تلك الأمور، فحصل له كل ما في ذلك التسبب ما علم ومما لم يعلم، فهو طالب للمسبب من طريق السبب، وعالم بأن الله هو المسبب، وهو المبتلي، ومتحقق في صدق التوجه به إليه. فقصده مطلق وإن دخل فيه قصد المسبب. لكن ذلك كله منزه عن الأغيار، مصفى من الأكدار1. وحيث إن الشاطبي جعل هذه المرتبة جامعة لمحاسن المراتب الخمس السابقة، ومنزلة عما في بعضها من "الأغيار والأكدار"، مع أنها تتضمن قصد المكلف للمسببات، فمعنى هذا أنها المرتبة المفضلة لديه. وهذا يدلنا على أنه إنما جعل للمكلف الخيرة في الالتفات إلى المسببات أو عدمه، مع التسوية التامة بين الأمرين، لأجل ما قد يقع في الالتفات إلى المسببات والتعلق بها من "الأغيار والأكدار". ولأجل هذا امتدح كل مراتب عدم الالتفات إلى المسببات، ولم يمتدح من مراتب الالتفات إليها إلا المرتبة الثالثة. وذلك أن المرتبة الأولى فيها كفر بالله، وفي المرتبة الثانية غفلة عن الله. وهذا ما يعنيه بالأغيار والأكدار. فإذا تبرأ قصد المكلف منها، صار التفاته وقصده إلى المسببات أولى من عدمه. وبهذا نخرج من "التناقض"، ونصل إلى التوافق مع ما قرره في كتاب المقاصد من أن قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في التشريع، كما تقدم قريبًا. وهذا الاحتياط من وقوع المكلف في الأغيار والأكدار، هو الذي جعل الشاطبي يعود إلى الموضوع بعد المسألة التاسعة. ليلحق بها خمسة "فصول"2 رجح فيها للمكلف عدم الالفتات إلى المسببات وتفويض أمرها إلى الله عز وجل: "لأن الفاعل للسبب عالمًا بأن السبب ليس إليه، إذا وكله إلى فاعله وصرف نظره عنه، كان أقرب إلى الإخلاص والتفويض والتوكل على الله تعالى، والصبر على

_ 1 الموافقات: 1/ 205. 2 الموافقات: 1/ 219 إلى 227.

الدخول في الأسباب المأمور بها، والخروج عن الأسباب المخظورة، والشكر، وغير ذلك من المقامات السنية والأحوال المرضية1. وذلك أن التعلق بالمسببات، قد ينسينا المسبب الحقيقي، أو ينسينا شكره على ما أعطي من نتائج وثمرات، وقد يكون مرهقًا لصاحبه، لشدة همه وفرث حرصه على المسببات، وخوفه من عدم حصولها، أو حزنه لعدم مجيئها على ما يؤمل. وكل هذه أكدار وأغيار تبعد المكلف عن "المقامات" السنية والأحوال المرضية. فإذا تخلص الإنسان من هذه الآفات، واعتدال في التفاته إلى المسببات، واستحضر أن أمرها بيد الله، وصار بتسببه كأنما "يطلب من المسبب2 مقتضى السبب، فكأنه يسأل المسبب باسطًا يد السبب، كما يسأله الشيء باسطًا يد الضراعة3، فقد خرج عن التعلق المذموم بالمسببات، لأن منبع هذه الآفات هو "طلب المسبب من نفس السبب"، والاعتقاد "أن السبب هو المولد للمسبب. فهذا المخوف الذي هو حر بتلك المفاسد المذكورة4. وكأني بالشاطبي لما اطمأن إلى أنه قد نبه التنبيه الكافي على الآفات التي تنتج عن التعلق المبالغ فيه بالمسببات، عاد إلى ترجيح الكفة الأخرى -ولعلها هي الأصل عنده- وإلى بيان مزاياها وفوائدها، وأعني بها: الالتفات إلى المسببات عند تعاطي أسبابها. ومن ذلك: 1- أن المكلف يكون -بالتفاته إلى المسببات- على بال من النتائج التي يفضي إليها تسببه، سواء كانت حسنة، أو سيئة. وهذا نوع من اعتبار مآلات الأفعال،

_ 1 الموافقات: 1/ 219. 2 وهو الله تعالى. 3 الموافقات: 1/ 227. 4 الموافقات: 1/ 227.

وهو أصل مسلم في الشريعة. وقد نص في القرآن على أن {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} 1 وجاء في الحديث: "ما من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها، لأنه أول من سن القتل" 2، وفي الحديث أيضًا: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يظن أنها تبلغ ما بلغت، يرفعه الله بها في الجنة, وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفًا" 3 والحديث مشهور في: "من سن في الإسلام سنة" 4. وهذه كلها نصوص تدل على طلب الالتفات إلى المسببات5، وأخذها بعين الاعتبار حين الدخول في الأسباب. وقد نقل كلامًا طويلًا للغزالي في هذا الصدد6، وفي ضمنه الاستدلال بنصوص أخرى من القرآن الكريم، ثم عقب بقوله: "فإذا نظر المتسبب إلى مآلات الأسباب، فربما كان باعثًا له على التحرز من أمثال هذه الأشياء7. 2- "أن الله عز وجل جعل المسببات في العادة على وزان الأسباب في الاستقامة والاعوجاج. فإذا كان السبب تاما، والتسبب على ما ينبغي، كان المسبب كذلك. والضد. ومن هنا: إذا وقع خلل في المسبب نظر الفقهاء إلى التسبب: هل كان على تمامه أم لا؟ فإن كان على تمامه، لم يقع على المتسبب لوم، وإن لم يكن على تمامه،

_ 1 سورة المائدة: 32. 2 رواه في التيسير عن الخمسة إلا أبا داود "عبد الله دراز - هامش الموافقات 1/ 140". 3 رواه مالك والترمذي، وقال: حسن صحيح، والنسائي وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد "دراز: 1/ 228". 4 رواه مسلم والنسائي، كما في التيسير "دراز: 1/ 140". 5 تقدم عن الشاطبي أنه ليس هناك دليل على أن المكلف ملزم بالقصد إلى مسببات الأسباب. ولست أدري ما رأيه في هذه النصوص التي أوردها بنفسه! 6 الموافقات: 1/ 228-230. 7 الموافقات: 1/ 230.

رجع اللوم والمؤاخذة عليه. ألا ترى أنهم يضمنون الطبيب والحجام والطباخ، وغيرهم من الصناع، إذا ثبت التفريط من أحدهم، أما بكونه غر من نفسه، وليس بصانع، وأما بتفريط، بخلاف ما إذا لم يفرط، فإنه لا ضمان عليه. فمن التفت إلى المسببات من حيث كانت علامة على الأسباب في الصحة أو الفساد، لا من جهة أخرى1، فقد حصل على قانون عظيم يضبط به جريان الأسباب على وزان ما شرع أو على خلاف ذلك. ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع، دليلا على ما في الباطن. فإن كان الظاهر منخرمًا، حكم على الباطن بذلك. أو مستقيمًا حكم على الباطن بذلك أيضًا. وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات. بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جعله الشريعة جدا. بل هو كلية التشريع، وعمدة التكليف، بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية، الخاصة والعامة2. وأخيرًا، فإن الشاطبي -كما أشرت من قبل- لم يغفل عن كونه وجه المسألة وجهتين مختلفتين -إن لم نقل متناقضتين- تقتضي أولاهما صرف النظر والقصد عن المسببات، وتقتضي الثانية الالتفات إليها وإدخالها في الاعتبار، عند ممارسة الأسباب. بل لقد أورد على نفسه السؤال والاستشكال: "فإن قيل". وللخروج من تعارض الوجهين، وضع ضابطًا للتميز بين الحالات التي ينبغي فيها الالتفات إلى المسببات، لما في ذلك من المصلحة، والحالات التي لا ينبغي فيها ذلك، لما فيه من المفسدة. فقال: "إن كان الالتفات إلى المسبب من شأنه التقوية للسبب، والتكملة له، والتحريض على المبالغة في إكماله، فهو السبب الذي يجب المصلحة، وإن كان من شأنه أن يكر على السبب بالإبطال، أو بالإضعاف، أو بالتهاون به، فهو الذي يجلب المفسدة3.

_ 1 يشير إلى الأوجه المذمومة في الالتفات إلى المسببات، وهي التي تقدم الكلام عنها، ووصفها بأنها "أغيار وأكدار". 2 الموافقات: 1/ 232-233. 3 الموافقات: 1/ 234.

وتفصيل هذا هو ما تقدم، إلى تفصيلات أخرى تلت هذه القاعدة والذي يهمنا هو أن القاعدة إلى نظر مصلحي مقاصدي واضح؛ فما يخدم المصالح والمقاصد فهو مطلوب مقصود. وما يضر بها فهو مذموم مردود.

الباب الثالث: القضايا الأساسية لنظرية الشاطبي عرض ومناقشة

الباب الثالث: القضايا الأساسية لنظرية الشاطبي عرض ومناقشة مدخل ... الباب الثالث: القضايا الأساسية لنظرية الشاطبي عرض ومناقشة تمهيد: بعد هذا العرض الذي حاولت فيه اعتصار نظرية المقاصد كما صاغها الشاطبي في "كتاب المقاصد" من "الموافقات"، وبعد أن عملت على بيان أبعاد هذه النظرية وامتداداتها في الفكر الأصولي لأبي إسحاق، مما يكشف في آن واحد عن مدى أهمية مقاصد الشريعة في تكييف الفكر الإسلامي وتوجيهه، بعد هذا أنتقل إلى الدراسة والمناقشة لبعض الجوانب الأساسية لنظرية المقاصد. ذلك أن التعليق المفصل والمناقشة التامة لكل ما قاله الشاطبي عن مقاصد الشريعة أمر إن لم يكن متعذرًا علي، فهو مرهق وممل بغير ضرورة، فحسبنا أن نتوقف ونمعن النظر ونناقش الأمور الكبرى في نظرية الشاطبي. وقد اخترت لهذا الباب ثلاث قضايا أعتبرها أخطر القضايا في موضوع المقاصد عمومًا، وعند الشاطبي خصوصًا. على أن هذه الباب سيتبعه -بحول الله تعالى- باب أخير يتناول جوانب أخرى متممة، ويتضمن تقييمًا عاما لنظرية المقاصد.

الفصل الأول: مسألة التعليل

الفصل الأول: مسألة التعليل أحكام الشريعة بين التعليل والتعبد ... الفصل الأول: مسألة التعليل سبقت الإشارة1 إلى "المقدمة الكلامية" التي افتتح بها الشاطبي كتاب المقاصد، وتعرض فيها لكون الشريعة معللة -جملة وتفصيلًا- برعاية مصالح العباد. وأعود الآن لهذا الموضوع لسببين هما: 1- كون تلك المقدمة جاءت قصيرة جدا "في صفحتين" بل يمكن اعتبارها قاصرة، بالنظر إلى الأهمية الكبرى لمسألة التعليل التي تشكل الأساس لنظرية المقاصد. فهي -لهذا- تحتاج إلى بسط أكثر مما جاء فيه هذه المقدمة المقتضبة. 2- أنه أثار فيها -رغم اقتضابها أو ربما بسبب اقتضابها- أمورًا غير مسلمة، وتحتاج إلى مناقشة وتحقيق، وذلك عند إشارته إلى القائلين وغير القائلين بالتعليل. أحكام الشريعة بين التعليل والتعبد: جاء في أول المقدمة المشار إليها من كتاب المقاصد قول الشاطبي: "ولنقدم قبل الشروع في المطلوب مقدمة كلامية مسلمة في هذا الموضع، وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا. وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادًا. وليس هذا موضع ذلك.

_ 1 راجع بداية الفصل الثاني من الباب الثاني.

فقد وصف هذه المقدمة بأنها "مسلمة"، وهذا يعني أنه لا خلاف فيها. ومع ذلك فقد احتاج إلى القول: "وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادًا"، وليس هذا شأن المسلمات ثم لست أدري ما عني بقوله: "وليس هذا موضع ذلك"؟ مع أن هذا هو أنسب موضع لذلك. ثم هو قد أقام البرهان فعلًا على صحة القضية وإن كان بإنجاز شديد. ولعله يشير إلى أن البراهين المفصلة للمسألة ستأتي مثبوتة في مواضع أخرى من الكتاب. ثم استمر في مناقضة قوله "مسلمة"، فذكر أن هذه المسألة "قد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة. كما أن أفعاله كذلك. وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين" فكيف يجتمع هذا مع قوله "مسلمة"؟ إلا أن يقصد أنها مسلمة عنده، أو أنها مسلمة وإن خالف فيها من خالف. وهذا هو الأقرب، ولكن كان ينبغي توضيحه. فأما كونها مسلمة عنده، فهذا لا شك فيه، بل إنه يعتبرها قضية قطعية، معتمدا في ذلك -كعادته- على الاستقراء. وقد أورد في المقدمة المذكورة طرفًا من هذا الاستقراء الذي يستفاد منه كون الشريعة -جملة وتفصيلا- وضعت لمصالح العباد. ثم قال: "وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدًا للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة". وفي مواضع متفرقة، ومناسبات مختلفة يعود ليؤكد ويوضح هذه القضية. ففي المسألة السابعة من النوع الأول يقول: "إذا ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، وذلك على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات. فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال. وكذلك وجدنا الأمر فيها والحمد لله".

وعلى هذا الأساس يمضي في كل أجزاء الموافقات، يقرر ويعيد -بعبارات جازمة- كون الأحكام الشرعية كلها، إنما هي لمصالح العباد. ومن ذلك أيضًا قوله في كتاب الأحكام: "والمعلوم من الشريعة أنها شرعت لمصالح العباد. فالتكليف كله إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أو لهما معًا1. ولاستكمال موقفه من مسألة التعليل لا بد من ذكر أنه كثيرا ما يفرق بين أحكام العادات والمعاملات، وأحكام العبادات، فالأصل في الأولى هو التعليل والالتفات إلى المصالح. والأصل في الثانية التعبد وعدم التعليل: أما الأول، فتدل عليه أمور: "أولها الاستقراء، فإنا وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد. والأحكام العادية2 تدور معها حيث دارت. فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة فإذا كان فيه مصلحة جاز3. والثاني أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله. وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول4. -وأما الثاني- وهو أن الأصل في العبادات التعبد والتزام الحدود المنصوصة -فأول دليل له عليه: الاستقراء أيضًا5، بحيث إن الكثير جدا من أحكام العبادات، في كيفياتها ومقاديرها ومواقيتها وشروطها، لا يمكن تعليله تعليلا عقليا، وتحديد وجه المصلحة فيه؛ كما في موجبات الطهارة، وحدودها فإن الطهارة

_ 1 الموافقات، 1/ 199. 2 أي الأحكام المتعلقة بالعبادات، نظير الأحكام العبادية. 3 يمكن التمثيل لهذا بالتسعير، كما سيأتي توضيحه في الفصل التالي، فقرة: "التفسير المصلحي للنصوص". 4 الموافقات، 2/ 305-306. 5 أنظر الموافقات، 2/ 300-304.

الواجبة تتعدى مكان النجاسة. وقد تلزم الإنسان وهو على غاية النظافة. وقد يكون متسخًا ولا تجب عليه. والتيمم يقوم مقام الطهارة المائية، ولا معنى لذلك لولا التعبد. ومثل هذا يجري في كثير من أحكام العبادات، فالتعليل والمناسبة فيها استثناء. واعتمادًا على هذا الأصل عنده -وهو عدم التعليل في العبادات إلا استثناء- اعتبر أن ما يقوم به بعضهم من إعطاء تعليلات وتعيين "حكم وأسرار" لبعض الأحكام العبادية، غير قائم على أساس. ولهذا لم يعده من "صلب العلم" وإنما هو من "ملح العلم" لا غير، فقد مثل لملح العلم بأمثلة: "أحدها: الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه، على الخصوص في التعبدات، كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والركوع والسجود، وكونها على بعض الهيئات دون بعض، واختصاص الصيام بالنهار دون الليل1، وتعيين أوقات الصلوات في تلك الأحيان المعينة دون ما سواها من أحيان الليل والنهار، واختصاص الحج بالأعمال المعلومة، وفي الأماكن المعروفة، وإلى مسجد مخصوص، إلى أشباه ذلك مما لا تهتدي العقول إليه بوجه، ولا تطور2 نحوه، فيأتي بعض الناس فيطرق3 إليه حكمًا يزعم أنها مقصود الشارع من تلك الأوضاع، وجميعها مبني على ظن وتخمين غير مطرد في بابه، ولا مبني عليه عمل4. هذا هو مجمل موقف الشاطبي من مسألة التعليل. ويمكن تلخيصه -أكثر- في أنه يعتبر تعليل الشريعة برعاية المصالح، مسألة قطعية مسلمة. وأن هذا يصدق على جملتها وجزئياتها، بلا استثناء.

_ 1 لو قال: اختصاص الصيام بشهر معين دون سواه من الشهور، لكان وجيهًا ودالا عما يريد، أما الصوم بالنهار دون الليل، فالمسألة واضحة. 2 أي لا تحوم جهته، من الطور وهو الحوم حول الشيء: "دراز". 3 أي يدخل تلك الحكم ويقحمها على تلك الأحكام وينسبها إليها. 4 الموافقات، 1/ 80.

إلا أن جانب العبادات -من الشريعة- ينبني على أساس التسليم والتعبد، بغض النظر عن العلل والحكم. فكان الأصل فيه عدم التعليل. وإن كان في باطن الأمر معللا عند الله تعالى. وإذا كان الشق الأول لا غبار عليه، وسيزداد وضوحًا وانحسامًا خلال الصفحات القادمة، فإن الشق الثاني يحتاج إلى توقف ونظر. وقبل ذلك، أشير إلى أن الشاطبي ليس وحده يرى أن الأصل في العبادات عدم التعليل، بل يقول بهذا الجمهور الغفير من العلماء، وهو كثيرا ما ينسب هذا الأصل إلى الإمام مالك1. وجعله المقري "شيخ الشاطبي" من أصول الإمام الشافعي، خلافًا لأبي حنيفة الذي يرى أن: "الأصل التعليل حتى يتعذر"2 ثم قال "والحق أن ما لا يعقل معناه، تلزم صورته وصفته" وأكد هذا في مواضع أخرى من قواعده، من ذلك قوله في القاعدة 296: "نصوص الزكاة في بيان الواجب3 غير معللة عند مالك ومحمد4، لأن الأصل في العبادات ملازمة أعيانها كما مر فالواجب أعيانها5. وقال النعمان6: معللة بالمالية الصالحة لإقامة حق الفقير. فهل هذا الأصل سالم مسلم؟ أي: أن الأصل في العبادات أن تؤخذ على ظاهرها، وتطبق بحذافيرها دون نظر إلى مقاصدها وحكمها ومعانيها؟ وهل -حقا- عدم التعليل هو الغالب في أحكام العبادات، والتعليل شيء استثنائي؟ هذه المسائل وغيرها تحتاج إلى التوضيحات التالية:

_ 1 انظر الموافقات، 2/ 304، والاعتصام، 2/ 132. 2 قواعد الفقه، القاعدة 73. 3 أي المقادير الواجبة من كل صنف من أصناف المال. 4 يريد الإمام محمد بن إدريس الشافعي. 5 أي إخراج ما حدده الشارع ولا يجوز إخراج بدل عنه، أو قيمته. 6 هو الإمام أبو حنيفة النعمان.

وأولها أننا نجد كل العبادات معللة في أصل شرعها وفرضيتها، وتعليلالتها منصوصة، لا مستنبطة ولا مظنونة: ففي الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 1 {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 2. وفي الصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} 3. وفي الحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَج ... لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} 4. وفي الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 5 وهذا جانب فقط من التعليل، اعتبره أبو حنيفة المقصود الأول من شرع الزكاة، حيث يرى أنها "شرعت ارتياضًا للنفس بتنقيص المال، من حيث إن الاستغناء بالمال سبب للطغيان والوقوع في الفساد"6. أما الجانب الآخر من تعليل شرح الزكاة فهو المشار إليه في الحديث: "تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"7 وهو الذي توضحه وتفصله آية مصارف الزكاة8. فهي واضحة في أن مقصود الزكاة سد حاجات الأصناف الثمانية، أو من وجد منها. وفي اعتقاد جماهير العلماء أن هذا هو المقصود الأول للزكاة. وبه أخذ

_ 1 سورة طه، 14. 2 سورة العنكبوت، 45. 3 سورة البقرة، 183. 4 سورة الحج، 27-28. 5 سورة التوبة، 103. 6 انظر: تخريج الفروع على الأصول، للزنجاني، ص111 وما بعدها، وتجد في ذلك الأحكام الفرعية التابعة لهذا التعليل ولغيره. 7 رواه مسلم. 8 سورة التوبة: 60.

وعليه بنى الإمام الشافعي -وهو من المقلين في التعليل عمومًا، وفي تعليل العبادات خاصة- يقول عنه شهاب الدين الزنجاني "الشافعي المذهب": "معتقد الشافعي رضي الله عنه أن الزكاة مئونة مالية1، وجبت للفقراء على الأغنياء، بقرابة الإسلام، على سبيل المواساة. ومعنى العبادة تبع فيها، وإنما أثبته الشرع ترغيبًا في أدائها، حيث كانت النفوس مجبولة على الضنة والبخل، فأمر بالتقرب إلى الله تعالى بها، ليطمع في الثواب، ويبادر إلى تحقيق المقصود2. وهل يجهل أحد يتردد في كون أحكام الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -وهي معدودة عندهم ضمن العبادات- كلها معللة، معقولة، جملة وتفصيلًا؟ على أن الشاطبي نفسه لا ينكر أن العبادات معللة في أصلها وجملتها، وإن كان يرى أن التفاصيل يغلب فيها عدم التعليل. وفي هذا يقول: "وقد علم أن العبادات وضعت لمصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة على الجملة، وإن لم يعلم ذلك على التفصيل. ويصح القصد إلى مسبباتها3 الدنيوية والأخروية على الجملة4. وقوله: "في الدنيا أو في الآخرة" ليس شكا منه في وجود فوائد ومصالح دنيوية للعبادات، وإنما هو مجرد احتياط لبعض الجزئيات، ولبعض الحالات التي لا تظهر لها مصلحة دنيوية عاجلة. فقد تعرض -على سبيل المثال- لمقاصد الصلاة وفوائدها المشروعة، فذكر أن مقصودها الأول هو "الخضوع لله سبحانه، بإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة بين يديه وتذكير النفس بالذكر له"5.

_ 1 أي أنها نفقة من النفقات المالية الواجبة على المكلف في ماله. 2 تخرج الفروع على الأصول: 110. 3 وهي ثمراتها وفوائدها المرجوة. 4 الموافقات، 1/ 201. 5 الموافقات، 2/ 399.

ثم ذكر من مقاصد التابعة -المنصوص عليها-1: النهي عن الفحشاء والمنكر والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا، وطلب الرزق بها، وإنجاح الحاجات وطلب الفوز بالجنة، والدخول في خفارة الله تعالى ونيل أشرف المنازل. ثم قال: "وكذلك سائر العبادات، فيها فوائد أخروية، وهي العامة، وفوائد دنيوية، وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية2. وإذًا فمجال العبادات ليس مجالا مغلقًا محظورا عن التعليل المصلحي، بل للتعليل فيه مدخل، أو مداخل. ومن هذه المداخل أيضًا، أن الرخص الواردة في أحكام العبادات كلها معللة، معقولة المعنى. وقد اعترف الشاطبي بشيء من هذا، ولكنه أغلق الباب بسرعة، حيث قال: "وأيضًا فإن المناسب3 فيها "يعني في العبادات" معدود عندهم فيما لا نظير له، كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره، والجمع بين الصلاتين، وما أشبه ذلك"4. وفي مسألة شبيهة بمسألة الرخص، صرح الشاطبي بتعليلها، تعليلا مناسبًا، وذلك في شأن النواهي النبوية -لبعض الصحابة- عن المبالغة في بعض العبادات إلى حد الإرهاق والملل. قال "هذا كله معلل معقول المعنى، بما دل عليه ما تقدم، من السآمة والمل، والعجز وبغض الطاعة وكراهيتها. وإذا كان كذلك فالنهي دائر مع العلة وجودًا وعدمًا"5. وفي تفاصيل الطهارات وأحكام المياه، لا نستطيع التغاضي عن كون المناسب هو الغالب الظاهر، ولا يمكن أن يعد مما لا نظير له. ومن هذا القبيل "أي معقولية أحكام الطهارات والنجاسات" ما قرره المقري، وجعله قاعدة مطردة

_ 1 انظر تلك النصوص -إن شئت- في الإحالة التالية. 2 الموافقات، 2/ 400. 3 وهو ما كانت له علة مفهومة وحكمة مناسبة تدركها العقول وتقر بها. 4 الموافقات، 2/ 302. 5 الموافقات، 2/ 137-138.

بقوله: "ما يعاف في العادات يكره في العبادات: كالأواني المعدة بصورها للنجاسات، والصلاة في المراحيض1 والوضوء بالمستعمل، فإنه كالغسالة2 فلولا غلبة التعليل في هذا الباب، ما ساغ له أن يقرر هذه القاعدة بهذا التعميم. وأظهر من هذا ما ذكره إمام الحرمين قال: "ذهب طوائف من الفقهاء إلى أنه يحرم على الإنسان التضمخ بالنجاسات من غير حاجة ماسة3 وما ذلك إلا لمنافاته للتعليل الوارد عقب ذكر الوضوء والاغتسال في الآية: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} 4 فتعليل الوضوء والغسل بقصد التطهير لا غبار عليه، وإن لم يكن المقصود الوحيد. وفي تفاصيل الصلاة: من لا يستطيع أن يدرك أن مواقيتها ووجوب المحافظة على تلك المواقيت، قصد به -مما قصد- أن تكون الصلاة وآثارها مهيمنة على كل أوقات المصلي، من يقظته إلى منامه، ومن تخفى عليه حكم صلاة الجماعة، والجمعة، والعيدين. والآذان والإقامة ناطقان بمقصودهما. وفي هيئة الصلاة من قيام وركوع وسجود، ما لا يخفى من مظاهر الخضوع لله والتذلل بين يديه. ولما كان السجود هو أكثر تلك الهيئات تعبيرًا عن هذا المعنى، اعتبر المصلي -وهو في سجوده- على غاية التقرب إلى الله، ففي الحديث الصحيح "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء" 5. والآية مشيرة إلى هذا: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} 6. ولشدة ظهور ما يتضمنه الركوع والسجود من معنى الذلة والخضوع من العبد، تعظيمًا للرب سبحانه، فقد جزم الإمام الغزالي بهذا المقصد فيهما، فقال: "وأما الركوع والسجود، فالمقصود بهما التعظيم قطعًا7.

_ 1 وهي طاهرة. 2 قواعد الفقه، القاعدة العاشرة. 3 البرهان، 2/ 939. 4 سورة المائدة، 6. 5 صحيح مسلم. 6 سورة العلق، 19. 7 الإحياء، 1/ 160.

وما لنا نذهب بعيدًا، والشاطبي نفسه يسعفنا بتعليلات أكثر تفصيلًا في الأحكام التي نعى هو على غيره تعليلها وذكر حكمها، يقول: "وذلك أن الصلاة مثلًا: إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم1. فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه، فإذا أحضر نية التعبد أثمر الخضوع والسكون. ثم يدخل فيها على نسقها، بزيادة السورة خدمة لفرض أم القرآن، لأن الجميع كلام الرب المتوجه إليه. وإذا كبر وسبح وتشهد فذلك كله تنبيه للقلب، وإيقاظ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه والوقوف بين يديه. وهكذا إلى آخرها. فلو قدم قبلها نافلة كان ذلك تدريجًا للمصلي، واستدعاء للحضور، ولو أتبعها نافلة أيضا لكان خليقًا باستصحاب الحضور في الفريضة. وفي الاعتبار في ذلك أن جعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل، ليكون اللسان والجوارح متطابقة على شيء واحد، وهو الحضور مع الله فيها بالاستكانة والتعظيم والانقياد. ولم يخل موضع من الصلاة من قول أو عمل، لئلا يكون ذلك فتحًا لباب الغفلة ودخول وساوس الشيطان"2. فهذا توسع ظاهر، يقدم عليه الشاطبي، في تعليل تفاصيل أكثر العبادات تعبدية، وهي الصلاة. فكيف يقال -رغم هذا- إن "المناسب" في العبادات مما لا نظير له وأن الأصل في العبادات عدم التعليل. نعم، سنجد ولا شك أحكامًا في العبادات مما يصعب تعليله تعليلًا معقولًا ظاهرًا، من قبيل ما أشار إليه الغزالي في قوله "مبنى العبادات على الاحتكامات، ونعني بالاحتكام: ما خفي علينا وجه اللطف فيه، لأنا نعتقد أن لتقدير الصبح بركعتين، والمغرب بثلاث، والعصر بأربع سرًا3، وفيه نوع لطف وصلاح

_ 1 هذا تعليل آخر من تعليلات الطهارة. 2 الموافقات، 2/ 24. 3 أي أن لهذه التقديرات سرا، ولطفًا من الله، في وضعها.

للخلق، استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، ولم نطلع عليه. فلم نستعمله، واتبعنا فيه الموارد"1. ولكن، أيهما الغالب الذي نتخذه أصلًا، ونعتبر ما سواه استثناء: ما يعقل معناه ويمكن تعليله وإدراك حكمته، أم ما لا تدرك له حكمة ولا مصلحة؟ مع التذكير أن الأصل العام في الشريعة هو تعليلها برعاية مصالح العباد، كما تقدم، والسؤال الآن إنما يتعلق بأحكام العبادات فقط. وإذا نظرنا في فقه الزكاة، لم نكد نجد حكمًا من أحكامها إلا وقد أدخل عليه الفقهاء التعليل. إن لم يعلله هذا، علله غيره2. وكلها تعليلات مصلحية واضحة. وقد استعملوا القياس في أحكامها رغم أنها عبادة، وعلى هذا الأساس سار فقيه الزكاة: الدكتور يوسف القرضاوي، وبين ذلك بقوله: "لقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من بعض الحبوب والثمار، كالشعير والتمر والزبيب، فقاس الشافعي وأحمد وأصحابهما كل ما يقتات، أو غالب قوت أهل البلد، أو غالب قوت الشخص نفسه، ولم يجعلوا هذه الأجناس المأخوذة مقصودة لذاتها تعبدًا، فلا يقاس عليها. وكذلك في زكاة الزروع والثمار، ذهب جمهور الأئمة إلى قياس كثير من الحبوب على ما وردت به النصوص. ولم يقصروا الزكاة على ما جاء في بعض الأحاديث من الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وقد جاء عن عمر أنه أدخل القياس في باب الزكاة. لما تبين له أن فيها ما يبلغ قيمة الفرس الواحدة منه ثمن مائة ناقة، فقال: نأخذ من أربعين شاة ولا نأخذ من الخيل شيئًا! وتبعه في ذلك أبو حنيفة بشروط معلومة. وهذا ما جعلنا نقيس العمارات المؤجرة للسكن ونحوها، على الأرض الزراعية، ونقيس ... ، ونقيس ... " "فقه الزكاة: 1/ 28-29".

_ 1 شفاء الغليل، 204.

وقد ذهب ابن القيم بعيدًا في تعليل الأحكام، بما في ذلك الأحكام العبادية والتعبدية1: فقد علل جعل التيمم بدلا عن الطهارة المائية، وعلل الاقتصار فيه على عضوين، وعلل كون الحجامة تفطر الصائم، وعلل كون المني يوجب الغسل بينما البول لا يوجب إلا الوضوء، وعلل كون خروج الريح يوجب غسل أعضاء لا صلة لها بذلك. وعلل أحكامًا كثيرة من هذا القبيل، كما علل أضعافًا لها في مجال المعاملات2. ورغم أن ابن القيم -بسبب إصراره على تعليل كل شيء- قد وقع في تعليلات ضعيفة، كما في تعليله للفرق بين بول الصبي وبول الصبية3، وكما في تعليله لكون صلاة النهار سرية وصلاة الليل جهرية4. ورغم أنه اعترف بشيء مما ذهب الشاطبي والغزالي، فقال: "وبالجملة، فللشارع في أحكام العبادات أسرار لا تهتدي العقول إلى إدراكها على وجه التفصيل، وإن أدركتها جملة"5. رغم هذا وذاك، فإنه -على خلاف الشاطبي- اتخذ التعليل أصلًا، وعدم التعليل استثناء. وهو بهذا يوافق -من جهة- الأصل العام في أن الشريعة معللة برعاية المصالح، بغض النظر عن التفريق بين العبادات وغيرها، وهو الأصل الذي سبق أن الشاطبي يعتبره مسألة مسلمة قطعية. ويعبر عنه المقري بقوله: "الأصل في الأحكام: المعقولية لا التعبد، لأنه أقرب إلى القبول، وأبعد عن الحرج"6.

_ 1 الأحكام التعبدية هي التي لا تدرك حكمها، ولو كانت في مجال المعاملات. 2 انظر: أعلام الموقعين، الجزء الثاني في أوله. 3 أعلام الموقعين، 2/ 78-79. 4 أعلام الموقعين، 2/ 137-138. 5 أعلام الموقعين، 2/ 107. 6 قواعد الفقه، القاعدة 72.

كما أنه يؤيد -من جهة أخرى- ما كنت بصدد بيانه قبل قليل، وهو أن الأحكام المعللة والمعقولة المعنى في مجال العبادات، كثيرة جدا، وأن القليل منها هو الذي قد يتعذر تعليله تعليلًا واضحًا. فإذا أضيف هذا إلى الأصل السابق، ظهر بجلاء أكثر، أن الأصل في الأحكام الشرعية -العادية والعبادية- هو التعليل. وأن ما خرج عن هذا فهو الاستثناء. وقد اعترف الجويني بأن ما ليس له معنى معقول نهائيا من الأحكام الشرعية "يندر تصويره جدا"1. وهذا ما يوافق نصوص القرآن التي نصت على تعليل الدين كله، والشريعة كلها، دون تفريق ولا استثناء، من ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 2. قال العضد الإيجبي: "وظاهر الآية التعميم، أي يفهم منه مراعاة مصالحهم فيما شرع لهم من الأحكام كلها، إذ لو أرسل بحكم لا مصلحة لهم فيه لكان إرسالًا لغير الرحمة، لأنه تكليف بلا فائدة، فخالف ظاهر العموم3. على أن ما ورد في الأحكام الشرعية، العبادية والتعبدية، من تحديدات، وهيئات، ومقادير، مثل: عدد الصلوات وعدد الركعات في كل صلاة، والجهر والإسرار، ومثل جعل الصيام شهرًا، وفي شهر معين، وكونه يبتدئ من طلوع الفجر وليس من طلوع الشمس مثلًا، ومثل هذا بعض تفاصيل الحج، وكذا أحكام الكفارات ومقاديرها، ومثل هذا أيضًا العقوبات المحددة، المسماة بالحدود، من حيث نوعها ومقاديرها. أقول: هذه التحديدات -أو التقنيات إن شئنا- هي من الحاجات الملحة للحياة العامة واستقامتها. إنها -فضلا عما في التزامها من معاني التعبد والخضوع-

_ 1 البرهان، 2/ 926. 2 سورة الأنبياء، 107. 3 شرح مختصر ابن الحاجب، 2/ 238، "نقلا عن أصول الفقه الإسلامي، للدكتور وهبة الزحيلي، 2/ 762".

تحقق مصلحة ظاهرة في تنظيم الحياة وتسهيل سيرها، وضبط واجباتها وحدودها. فإذا سلمنا بالحكم العامة في الطهارة والصلاة، فلا بد من وضع تفصيلات يسير الناس عليها، تساعدهم على التزام الحد اللازم والمحافظة عليه. وإذا سلمنا بالحكمة العامة للزكاة، فلا بد من تحديد الأنصبة وتقدير المقادير، حتى يعرف كل واحد حقه أو واجبه. وإذا سلمنا بحكمة الصيام، فينبغي رسم حده ومقداره، وبدايته ونهايته، بكيفية تلائم عموم الناس. وإذا سلمنا بحكمة الحج أو حكمه، فلا بد لتحقيق هذا الحكم من جعل الحج في وقت معلوم: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 1 {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} 2 ولا بد له من مراسيم محدودة، ينتظم الناس يها، وينضبطون بها، حتى لا يبقى الحجيج هملا، يموج بعضهم في بعض، وينازع بعضهم بعضًا. وإذا سلمنا بمبدأ زجر المعتدين والمفرطين ومعاقبتهم، فلا بد من تفصيل ذلك وبيانه، حتى يكون الناس على بينة من أمرهم. ولولا هذه التقنيات، وهذه الضوابط، لضاعت تلك الأركان والأسس المسلم بها؛ لضاعت بسبب غموضها والتباسها على الناس، ولضاعت بسبب اختلافاتهم فيها، ولضاعت بسبب التهاون في تقديرها وتنفيذها، ولضاعت بالتسويف والمماطلة لعدم توقيتها. والشاطبي -مرة أخرى- يسعفنا بما يؤيد هذه التعليلات لما "لا يعلل! " فهو يقول: "وأما العاديات، وكثير من العبادات أيضًا، فلها معنى مفهوم، وهو ضبط وجوه المصالح، إذ لو ترك والنظر، لانتشر3 ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي. والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل. فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة لا تتعدى، كالثمانين في القذف، والمائة وتغريب العام في الزنا على

_ 1 سورة البقرة، 197. 2 سورة الحج، 28. 3 أي لتشتت وكثر فيه الخلاف والتفرق.

غير إحصان. وخص قطع اليد بالكوع، وفي النصاب المعين1 وجعل مغيب الحشفة حدا في أحكام كثيرة. وكذلك الأشهر والقروء في العدد، والنصاب والحول في الزكوات. وما لا ينضبط رد إلى أمانات المكلفين، وهو المعبر عنه بالسرائر2. ومثل هذه التحديديات والضوابط يلجأ إليها المجتهدون في فتاويهم، ويلجأ إليها الحكام في تقنيناتهم، بل يلجأ إليها الناس أنفسهم، في شكل أعراف وتقاليد يحترمونها، وينقادون لها، لأنها تضبط معاملاتهم في حظ ما، لأن المعروف عرفًا، كالمشروط شرطًا، بل كالمشروع شرعًا إذا لم يتناف مع الأحكام الشرعية ومقاصدها. إذًا، فالضبط والتقنين والتحديد مصلحة معلومة يحتاج إليها جمهور الناس. فهذا جانب معقول مناسب، يمكن القول به في تعليل كثير من الأحكام الشرعية وهذا ليس نفيًا لمعنى التعبد فيها. بل إن التعليل عمومًا لا يتنافى مع التعبد. ومن هنا قالوا إن جانب التعبد "حق الله" لا يخلو منه حكم من الأحكام الشرعية3، سواء أكان تعبديا أو معللا. وسواء كان في العبادات أو في غيرها. بل إن التعبد في الأحكام، هو نفسه ضرب من التعليل المصلحي الذي لا يخلو عنه حكم من أحكام. فكل حكم يعلم الناس ويدربهم على الانقياد للشرع، وعلى الخضوع لله، ففيه مصلحة. وسيأتي -في الفصل التالي- للشاطبي أن الشريعة تتضمن مصالح جزئية، ومصلحة كلية. وأن المصلحة الكلية هي "أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته وأقواله واعتقاداته4 وهذا مع إيماننا بأن لكل حكم علته وحكمته الخاصة به، علمها من علمها، وجهلها من جهلها. أو كما تقدم عن الغزالي، فإن لكل حكم سرا، ونوع لطف

_ 1 يعني نصاب القطع في السرقة. 2 الموافقات، 2/ 308-309. 3 انظر الفرق 22 من فروق القرافي، والموافقات، 2/ 310. 4 الموافقات، 2/ 386.

وصلاح وكما قال أيضًا: "وكأن العقول مشيرة إلى إحالة كل حكم على معنى. والاعتراف بالتحكم ضرورة العجز. فإذا وجد وجه -سوى الوجوه الخفية الضعيفة- وجب التعليل به"1. على أن للتعليل -كما هو معلوم- مسالكه وقوانينه المذكورة في علم أصول الفقه. فلا بد من مراعاتها. فليس لأحد أن يعلل بذوقه وتخمينه، وليس لأحد أن يحكم في شرع الله ظنونه وتوهماته، لأن ذلك معناه: القول على الله، وتقصيده ما لم يقصد. وقد لخص الفقيه الكبير أبو عبد الله المقري -الذي تقدم عنه أن الأصل في الأحكام العقولية لا التعبد- لخص الموقف السليم من ممارسة التعليل، فقال: "التدقيق2 في تحقيق حكم المشروعية3: من ملح العلم لا من متينه عند المحققين، بخلاف استنباط علل الأحكام وضبط أماراتها. فلا ينبغي المبالغة في التنقير عن الحكم، لا سيما فيما ظاهره التعبد. إذ لا يؤمن فيه من ارتكاب الخطر والوقوع في الخطأ. وحسب الفقيه من ذلك ما كان منصوصًا، أو ظاهرًا، أو قرير من الظهور. فلا يقال4: الزوال وقت الانقلاب إلى العادة5، فطلب عنده البداية بالعبادة. والعصر وقت الانتشار في طلب المعاش، فقيل لهم: تزودوا قبل ذلك المعاد. والمغرب وقت الانقلاب إلى العادة أيضًا"6.

_ 1 الغزالي: شفاء الغليل، 205. 2 أي المبالغة. 3 أي الحكم التي لأجلها شرعت الأحكام. 4 في تعليل مواقيت الصلوات مثلًا فهو يقدم نموذجًا للإفراط في التعليل. 5 أي الرجوع للغذاء والراحة، كما هي العادة. 6 القاعدة 158 من قواعد الفقه.

الرافضون للتعليل

الرافضون للتعليل: كما سبقت الإشارة، يفهم من مقدمة الشاطبي المذكورة أن تعليل الشريعة فيه خلاف ما. فقد ذكر -صراحة- أن هذه المسألة اختلف فيها "في علم الكلام"، وأن رأي الرازي هو أن أحكام الله وأفعاله لا تعلل بعلة البتة. ثم أشار -ضمنيا-

إلى وجود مخالفين آخرين، عندما ذكر اتفاق المعتزلة على القول بالتعليل، وأن هذا قول أكثر الفقهاء المتأخرين، مما يشعر بأن غير المعتزلة ليسوا متفقين على هذا، وأن الفقهاء المتقدمين وبعض المتأخرين ليسوا على هذا؟! هذا مع أن الشاطبي -كما تقدم- اعتبر تعليل الشريعة مسألة مسلمة والأمر في حقيقته كذلك، كما تم توضيحه على الصفحات السابقة. فمن هم المنكرون للتعليل إذن؟ وما سندهم في هذا الإنكار؟ ذكر شهاب الدين الزنجاني أن عدم التعليل برعاية المصالح هو مذهب والشافعي رضي الله عنه وجماهير أهل السنة" وأن الأحكام الشرعية عندهم "أثبتها الله تحكمًا وتعبدًا، غير معللة، وما يتعلق بها من مصالح العباد، فذلك ضمنًا وتبعًا، لا أصلًا ومقصودًا". واستثنى من هذا، الأصوليين الأحناف الذين يرون أن الأحكام الشرعية "أثبتها الله تعالى وشرعها معللة بمصالح العباد لا غير"1. فالزنجاني، وهو في مجال الفقه وأصوله، ينسب هذا المذهب "أي عدم التعليل" إلى الإمام الشافعي وجماهير أهل السنة!! دون أن يقدم على هذا التعميم والإطلاق أي دليل. نعم أورد بعض الفروع التي عللها أبو حنيفة ولم يعللها الشافعي، ولكن هذا لا يدل في شيء على إنكار التعليل جملة، مع نسبته إلى جماهير أهل السنة! بل يقدم لنا الزنجاني ما ينقض دعواه هذه. فقد قدمت قبل بضع صفحات ما نسبه للإمام الشافعي في تعليل شرعية الزكاة، تعليلًا مصلحيا، وأن معنى العبادة يها تبع2. هذا عن الإمام الشافعي إمامه. وأما عن جماهير أهل السنة، فالأمر أوضح، وأوغل في الإدعاء المحض، وفيما تقدم وما سيأتي مزيد بيان لذلك.

_ 1 تخريج الفروع على الأصول، 38-40. 2 المرجع السابق، 110، وانظر أيضًا موقفًا تعليليا آخر للشافعي في نفس كتاب الزنجاني، ص299 وما بعدها.

أما تاج الدين السبكي، فكان أقرب إلى التدقيق في حكاية المسألة حيث قال: "المشتهر عن المتكلمين أن أحكام الله تعالى لا تعلل، واشتهر عن الفقهاء التعليل1. وأما ابن النجار الحنبلي، فجاء كلامه أكثر تفصيلًا وتدقيقًا من سابقيه، دون أن يرفع الغموض واللبس عن المسألة. حيث قال: "وفعله تعالى وأمره، لا لعلة ولا لحكمة، في قول اختاره الكثير من أصحابنا، وبعض المالكية والشافعية، واختاره الظاهرية والأشعرية والجهمية. والقول الثاني أنهما لعلة وحكمه. اختاره الطوفي والشيخ تقي الدين، وابن القيم، وابن قاضي الجبل، وحكاه عن إجماع السلف. وهو مذهب الشيعة والمعتزلة. قال الشيخ تقي الدين: لأهل السنة في تعليل أفعال الله وأحكامه قولان. والأكثرون على التعليل2. والحقيقة أن المسألة -كما قال الشاطبي- اختلف فيها في علم الكلام. ثم انتقل أثرها إلى الميدان الأصولي، لا سيما أن عددًا من كبار المتكلمين ألفوا في علم أصول الفقه، أو - بعبارة أخرى- كانوا أصوليين متكلمين، كما هو معروف. وأما إذا تركنا جانبًا علم الكلام ومعاركه وتأثيراته، فإننا لن نجد إلا القول بالتعليل، وممارسة التعليل تطبيقًا، في الفقه وأصوله. وكلما رجعنا إلى الوراء، حيث ينعدم أو يتضاءل تأثير علم الكلام في المجال الفقهي الأصولي، كلما وجدنا التعليل مسألة "مسلمة" كما قال الشاطبي. حيث ينظر إلى الشريعة على أنها رحمة، وخبر، وصلاح، وعدل، وتزكية. وأنها لم تترك خيرًا إلا دلت عليه، ولم تترك شرا إلا نهت عنه وسدت طريقه، وأن هذه غايتها وعلتها. فتعليل الأحكام هو -أولًا- مسلك القرآن والسنة. وقد سرد ابن القيم عشرات الأمثلة من تعليلات القرآن والسنة3. وقال في كتاب "مفتاح دار

_ 1 الإبهاج في شرح المنهاج، 3/ 41. 2 شرح الكوكب المنير، 1/ 312. 3 انظر في إعلام الموقعين، 1/ 196-200.

السعادة" ما نصه: "والقرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوءان من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحكم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان. ولو كان هذا في القرآن والسنة نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة"1 ثم نبه على عدد كثير من صيغ التعليل المستعملة في القرآن. وقد علل الصحابة بفطرتهم السليمة، وبتلقائية لا تكلف فيها، ولا معارض لها. وبنوا اجتهاداتهم على ما فهموه من العلل والمقاصد. وسار على هذه المحجة البيضاء التابعون، ثم الأئمة المتبعون. ثم ابتلي الناس بعلم الكلام. فجاء التعقيد والخلاف والجدل. وقد قام الدكتور محمد مصطفى شلبي بتقصي وجمع كثير من تعليلات السلف واجتهاداتهم المبنية عليها2، ثم تطرق إلى ما ظهر من "خلاف" في المسألة، حيث قال: "وما كنت بحاجة إلى هذا البحث بعدما تقدم من عرض نصوص التعليل في القرآن والسنة، ومسلك الصحابة والتابعين وتابعيهم فيه، غير متخالفين، ولا متنازعين، وفيه الحجة القاطعة على أن أحكام الله معللة بمصالح العباد، وقد وجد إجماع أو شبه إجماع على هذه الدعوى قبل أن يولد المتخاصمون فيها"3. على أن ما تردد فيه الدكتور سلبي من انعقاد الإجماع، أو شبه إجماع، لدى المتقدمين، في مسألة التعليل، قد جزم فيه غير واحد من العلماء بانعقاد الإجماع ومن هؤلاء الآمدي -وهو أصولي، شافعي، متكلم- حيث نص على أنه لا يجوز القول بوجود حكم لا لعلة: "إذ هو خلاف إجماع الفقهاء على أن الحكم لا يخلو من علة"4.

_ 1 مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، 2/ 22. 2 انظر الباب الأول من رسالته تعليل الأحكام. 3 المرجع السابق، 96. 4 الإحكام، 3/ 380.

ثم أكد في موضع آخر أن "أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله تعالى لا تخلو من حكمة ومقصود"1. وبمثل هذا صرح ابن الحاجب: "فإن الأحكام شرعت لمصالح العباد، بدليل إجماع الأئمة"2. ونقل المقري عن أشهب: "إن القائسين مجمعون على التعليل، وإن اختلفوا في عين العلة"3. والشاطبي نفسه -الذي ذكر صراحة وضمنا وجود مخالفين في المسألة- نجده ينص أيضًا: على وجود إجماع على التعليل، وإن كان في عباراته شيء من التحفظ. فهو يقول: "والإجماع على أن الشارع يقصد بالتكليف المصالح على الجملة4 ويقول أيضًا "الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق5. وقد انتقد العلامة شاه ولي الله الدهلوي منكري التعليل وأنكر عليهم ظنهم أن الشريعة ليست سوى اختبار وتعبد لا اهتمام لها بشيء من المصالح، ثم قال: "وهذا ظن فاسد تكذبه السنة وإجماع القرون المشهود لها بالخير6. نعم، الإجماع المذكور في هذه الأقوال منصرف أساسًا إلى السلف من جهة وإلى الفقهاء والأصوليين من جهة أخرى. ولكن هذا لا يغض من قيمته في شيء، بل يزيدها؛ لأنه إجماع السلف المقتدي بهم، ولأنه إجماع أهل الاختصاص بعد ذلك. ومن هنا، فإن خرق بعض المتكلمين، في زمن متأخر لهذا الإجماع، لا يقدح فيه، بل الإجماع قادح فيما ابتدعوه من النظريات والمقولات الجدلية.

_ 1 الإحكام، 3/ 411. 2 منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل، 184. 3 قواعد الفقه، القاعدة 864. 4 الموافقات، 2/ 126. 5 الموافقات، 1/ 139. 6 حجة الله البالغة، 1/ 6.

ومن هنا أيضًا، فلا عبرة بما قاله ابن السبكي وهو يعقب على قول البيضاوي "الاستقراء دل على أن الله تعالى شرع أحكامه لمصالح عباده تفضلًا وإحسانًا"، حيث قال في الشرح1: "وقد ادعى بعضهم الإجماع على أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد. وهذه الدعوى باطلة، لأن المتكلمين لم يقولوا بتعليل الأحكام لا بطريق الوجوب، ولا الجواز"2. ولعلنا نتساءل: لماذا أنكر المتكلمون -أو بعضهم على الأصح- القول بالتعليل؟ وما دليلهم على هذا الإنكار؟ ورغم أني أعتبر أن موقف المتكلمين هذا ليس له كبير أهمية في مجالنا موضوعنا، ولا سيما بعد كل ما قدمته عن صحة التعليل وبداهته، فإني أقف قليلًا عند هذا التساؤل، وذلك لأجل "تصفية" المسألة، ومحو كل شبهة حولها، حتى تكون "مسلمة" كما قال الشاطبي. وأترك ابن السبكي -أحد المنكرين للتعليل- يتمم كلامه السابق حيث يقول: "لأن المتكلمين لم يقولوا بتعليل الأحكام بالمصالح، لا بطريق الوجوب ولا الجواز. وهو اللائق بأصولهم. وقد قالوا: لا يجوز أن تعلل أفعال الله تعالى، لأن من فعل فعلًا لغرض، كان حصوله بالنسبة إليه أولى، سواء كان الغرض يعود إليه أم إلى الغير، وإذا كان كذلك، يكون ناقصًا في نفسه مستكملًا في غيره. ويتعالى الله سبحانه عن ذلك3. هذا هو "الدليل" الذي يتردد عند المتكلمين الأشاعرة كلما ذكر إنكارهم للتعليل. وقد تعرض هذا المنطق لنقد كثير من العلماء وردوه جملة وتفصيلًا، حتى قال العلامة محمد الطاهر ابن عاشور: "والحاصل أن الدليل الذي استدلوا به، يشتمل على مقدمتين سسفسطائيتين: أولاهما قولهم: إنه لو كان الفعل لغرض للزم

_ 1 أي في شرح على "المنهاج" للبيضاوي، وهو المسمى الإبهاج في شرح المنهاج. 2 الإبهاج، 3/ 62. 3 الإحالة السابقة.

أن يكون الفاعل مستكملا به. وهذه سفسطة شبه فيها الغرض النافع للفاعل، بمعنى الداعي إلى الفعل والراجح إلى ما يناسبه من الكمال، لا توقف كماله عليه. والثانية قولهم: إذا كان الفعل لغرض، كان الغرض سببًا يقتضي عجز الفاعل. وهذا شبه فيه السبب الذي هو بمعنى الباعث، بالسبب الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدم العدم. وكلاهما يطلق عليه سبب1. وقد رد عليهم -فيمن ردوا- الأصولي الحنفي ابن الهمام الإسكندري، بأن ما يقال فيما أنعم الله به على عباده، يقال فيما شرع لهم من أحكامه، فإذا كان سبحانه قد أسبغ علينا نعمه من خلق وتقويم وصحة ورزق. لمصلحتنا، فكذلك شرع أحكامه لمصلحتنا. فيما يقال هناك يقال هنا ولا فرق2. ورد حنفي آخر -وبشدة- على هذا المنطق الجدلي، وهو القاضي عبيد الله بن مسعود، المعروف بصدر الشريعة، فقال: "وما أبعد عن الحق قول من قال: إنها غير معللة، فإن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لاهتداء الخلق، وإظهار المعجزات لتصديقهم. فمن أنكر التعليل فقد أنكر النبوة. وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ودالة على ما قلنا. وأيضًا لو لم يفعل لغرض أصلًا، يلزم العبث3. وإذا كان التعليل على هذه الدرجة من الثبوت والوضوح فما سر هذا الاختلاف الكبير بين المثبتين والمنكرين؟! سؤال محير حقا. وجوابه -مهما يكن- مؤسف جدا. لأنه لا بد وأن يكشف عن جانب -أو جوانب- من الخلل الذي تطرق إلى التفكير الكلامي، والمنطق الكلامي، حتى أصبحت المسلمات التي تواترت بها النصوص، وأجمع عليها المتقدمون، أصبحت محل جدل طويل عند المتكلمين، وعند الأصوليين المتكلمين.

_ 1 التحرير والتنوير، 1/ 380. 2 تيسير التحرير، 3/ 304. 3 التوضيح في حل غوامض التنقيح، 2/ 63.

وقد اهتم عدد من العلماء بهذا "التناقض" وعملوا على رفعه أو تفسيره على الأقل. ومن هؤلاء ابن السبكي "عبد الوهاب" الذي تبنى "مخرجًا" نقله عن أبيه "علي بن عبد الكافي"، حيث قال: "وما زال الشيخ الإمام، والدي رحمه الله أطال الله عمره، يستشكل الجمع بين كلاميهما1. إلى أن جاء ببديع من القول. فقال في مختصر لطيف كتبه على هذا السؤال وسماه "ورد العلل في فهم العلل": ولا تناقض بين الكلامين: لأن المراد2 أن العلة باعثة على فعل المكلف. مثاله: حفظ النفوس، فإن علة باعثة على القصاص الذي هو فعل المكلف المحكوم به من جهة الشرع. فحكم الشرع لا علة له، ولا باعث عليه"3. وواضح أن هذا التوفيق ليس إلا تأكيدًا لإنكار التعليل. بل هو خروج عن الموضوع، لأن الناس يتكلمون في تعليل أحكام الشارع لا في تعليل أفعال المكلف. فهذا التأويل للتعليل عند الفقهاء يبدو أشبه بالهزل منه بالجد. وقد تعقبه العطار في حاشيته فقال: "وما قاله صاحب جمع الجوامع، مخترع لوالده، لا معنى له، لأن البعث للحاكم4 على شرع الحكم لا للمكلف5. وأما ابن الهمام "الحنفي"، فقد حاول تقريب الشقة بقوله: "والأقرب إلى التحقيق أن الخلاف لفظي، مبني على معنى الغرض. فمن فسره بالمنفعة العائدة إلى الفاعل، قال: لا تعلل. ولا ينبغي أن ينازع في هذا. ومن فسره بالعائدة إلى العباد. قال: تعلل، وكذلك لا ينبغي أن ينازع فيه"6. غير أن هذا التوفيق يفقد قيمته حين نجد بعضهم يصر على رفض التعليل حتى باعتبار المنفعة عائدة على العباد.

_ 1 أي كلام الفقهاء القائلين بالتعليل، وكلام المتكلمين المنكرين له. 2 في كلام الفقهاء، والمعللين عمومًا. 3 الإبهاج، 3/ 41 وانظر أيضا جمع الجوامع، 2/ 233. 4 وهو الله سبحانه. 5 عن سلم الوصول لشرح نهاية السول، للشيخ محمد بخيت المطيعي "الحنفي"، 4/ 55. 6 تيسير التحرير، 3/ 304-305.

وقد مال ابن عاشور -شيئًا ما- إلى مثل هذا التوفيق، فقال: "والمسألة مختلف فيها بين المتكلمين اختلافًا يشبه أن يكون لفظًا. فإن جميع المسلمين اتفقوا على أن أفعال الله تعالى ناشئة عن إرادة واختيار، وعلى وفق علمه. وأن جميعها مشتمل على حكم ومصالح. وإنما الخلاف في أنها أتوصف بكونها أغراضًا وعللا غائية أم لا؟ "1. وقد نبه على أمر قد يكون هو الخلفية الحقيقية لهذا الإنكار الغريب لتعليل الأحكام والأفعال، وهو أن المنكرين قد اضطروا إلى هذا الإنكار فرارًا من المقولات والإلزامات الاعتزالية، التي تجعل القول بالتعليل مقدمة للقول بوجوب الصلاح والأصلح على الله2. ورغم أن الدكتور البوطي قد ذهب إلى توفيق آخر، فإن تفسيره لهذه القضية يؤكد أيضًا أنها من آثار الجدل الطويل بين المعتزلة والفلاسفة من جهة، والأشاعرة من جهة أخرى. وهو يرى أن التعليل المقصود في علم الكلام، هو غير التعليل الأصولي الفقهي. ولهذا فالتعليل المنفي هناك، هو غير التعليل المثبت هنا. قال: "فالعلة التي يتحدثون عنها في علم الكلام، هي العلة التي يقصدها الفلاسفة، وهي ما يوجب الشيء لذاته. ولا ريب أنه لا يصح أن ينسب هذا التعليل إلى أفعال الله تعالى بأي حال. أما مراد أهل السنة بالعلة التي يثبتونها للأحكام في بحث الأصول، فهو العلة الجعلية التي تبدو لنا كذلك، إذا جعلها الله تعالى موجبة لحكم معين"3. غير أن هذا التفسير يشوش عليه أن بعضهم -كالسبكيين مثلًا- ينكرون أيضًا تعليل الأحكام التشريعية، وبصورة مطلقة، كما تقدم، ويوردون في ذلك في مباحث القياس. وعلى كل، فملاحظة الدكتور البوطي تفسر -على الأقل- جانبًا من جوانب القضية وتنبه على بعض خلفياتها. أما الشيخ الدكتور مصطفى شلبي، فقد اتهم الأصوليين المتكلمين بمخالفة طريقة السلف، وهي التعليل بلا نزاع، وأنهم ناقضوا أنفسهم بإنكار التعليل في علم الكلام، وإثباته في علم أصول الفقه، لأن القياس يقوم عليه4.

_ 1 التحرير والتنوير، 1/ 379-381. 2 التحرير والتنوير، 1/ 379-381. 3 ضوابط المصلحة، 96-97. 4 تعليل الأحكام، 105.

موقف الرازي من التعليل

موقف الرازي من التعليل: تخصيص الإمام الرازي بهذه الفقرة يرجع إلى الأسباب التالية: 1- لأن الشاطبي خصه وحده بالذكر في مسألة التعليل، ونسبه وحده إلى إنكار، التعليل إنكارا باتا، وهو ما يحتاج إلى نظر وتحقيق. 2- لأن بعض الكتاب تابعوا الشاطبي فيما نسبه إلى الرازي1. 3- لأن الرازي هو أحد أبرز الأصوليين. وقد صار كتابه "المحصول" محورًا لعشرات وعشرات من المؤلفات الأصولية التي جاءت بعده. ولنستحضر -قبيل عرض موقف الرازي- أن الشاطبي يقول في مقدمة كتاب المقاصد "وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك" ثم يقول: "والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد، استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره". فالشاطبي لم يسم من المنكرين للتعليل أحدًا غير الرازي! ثم جعل إنكاره للتعليل باتا، وشاملًا لأفعال الله وأحكامه. فأما أن ينكر الرازي التعليل الفلسفي، في كتاباته الكلامية -كما يفعل عامة الأشاعرة وهم يواجهون الفلاسفة والمعتزلة- فأمر وارد لا غرابة فيه. وتبقى الغرابة في نسبة هذا للرازي وحده، مع أنه لم يكن بدعًا في الأشاعرة. بل هو حين دفع على إنكار التعليل -تعليل الأفعال وليس تعليل الأحكام- إنما تكلم باسم

_ 1 منهم العلامة المرحوم علال الفاسي "مقاصد الشريعة، ص3" والأستاذ أحمد الخمليشي، الذي بالغ في الأمر حتى حشر الرازي مع الظاهرية في صف واحد! "وجهة نظر، ص286".

"الأصحاب" أي الأشاعرة. فهو مثلًا- عند تفسير قوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} 1 قال: "قال أصحابنا: إنه سبحانه وتعالى لا يفعل فعلا لغرض، لأنه لو كان كذلك، كان مستكملا بذلك الغرض، والمستكمل بغيره ناقص بذاته، وذلك على الله تعالى محال2 إلى آخر الاستدلالات الأشعرية3 على إنكار التعليل، وهي الاستدلالات التي وصفها العلامة ابن عاشور بالسفسطائية كما تقدم. وعلى كل حال، فالذي يعنينا من موقف الرازي، هو مذهبه في التعليل الأصولي الفقهي. وهو تعليل الأحكام الشرعية. تعليلًا ليس فيه إلزام لله -سبحانه- وليس فيه تحتيم على مشيئته. وموقف الرازي من التعليل، ينبغي أن يؤخذ أساسًا من كتاباته الأصولية، وفي دائرة مذهبه الأصولي: فالرازي من أهل القياس، ولا قياس بدون تعليل. بل مدار القياس على التعليل، تنظيرًا وتطبيقًا. وأبرز ما يتجلى فيه موقف الرازي الواضح من التعليل، هو كلامه على "مسالك العلة" وبالذات على "مسلك المناسبة"4 وذلك في كتابه الأساسي في موضوعنا، وهو موسوعته الأصولية "المحصول"، حيث يقول: "المناسبة تفيد ظن العلية، والظن واجب العمل به.

_ 1 سورة البقرة، 29. 2 تفسير مفاتيح الغيب، 2/ 154. 3 مما يؤكد أن هنا إنما يحكي مذهب لأصحاب، هو أن هذه الآية التي ضمن تفسيرها إنكار التعليل، قد استدل بها نفسها عن إثبات التعليل، كما سيأتي قريبًا! 4 وهو مسلك عقلي نظري، يتم من خلاله النظر في الحكم وفيما عسى أن تكون المصلحة التي شرع لأجلها، فإذا ظهرت مصلحة "يناسبها" ذلك الحكم، اعتبرت علة، بمقتضى تلك "المناسبة".

بيان الأول من وجهين: الأول: أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد، وهذه مصلحة، فيحصل ظن أن الله تعالى إنما شرعه لهذه المصلحة. فهذه مقدمات ثلاث لا بد من إثباتها بالدليل. أما المقدمة الأولى1، فالدليل عليها من وجوه: أحدها: أن الله تعالى خصص الواقعة المعينة بالحكم المعين لمرجح، أو لا لمرجح. والقسم الثاني باطل، وإلا لزم ترجيح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح، وهذا محال، فثبت القسم الأول. وذلك المرجح إما أن يكون عائدًا إلى الله تعالى، أو إلى العبد. والأول باطل بإجماع المسلمين، فتعين الثاني. والعائد إلى العبد إما أن يكون مصلحة العبد أو مفسدته، أو ما لا يكون لا مصلحته ولا مفسدته. والقسم الثاني والثالث باطلان باتفاق العقلاء. فتعين الأول. فثبت أنه تعالى إنما شرع الأحكام لمصالح العباد. وثانيها: أنه تعالى حكيم بإجماع المسلمين، والحكيم لا يفعل إلا لمصلحة، فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثًا. والعبث على الله تعالى محال، للنص والإجماع والمعقول. فثبت أنه تعالى شرع الأحكام لمصالح العباد. وخامسها2 النصوص الدالة على أن مصالح الخلق ودفع المضار عنهم، مطلوب الشرع. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وقال: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .

_ 1 وهي أن الله شرع الأحكام لمصلحة العباد، وهي التي تهمنا هنا. 2 تركت الثالث والرابع اختصارًا، واقتصارًا على الأهم.

وقال عليه الصلاة والسلام: "بعثت بالحنيفية السهلة السمحة" وقال: "لا ضرر ولا ضرار". وسادسها: أنه وصف نفسه بكونه رؤوفًا رحيمًا، وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} فلو شرع ما لا يكون للعبد فيه مصلحة، لم يكن ذلك رأفة ورحمة. فهذه الوجوه الستة دالة على أنه تعالى ما شرع الأحكام إلا لمصلحة العباد1. هذا هو موقف الرازي من التعليل بالمصلحة: موقف مؤيد بقوة ووضوح، مدافع بحماس، وبتفصيل أكثر مما فعله الشاطبي نفسه. وقد واصل الرازي بعد الفقرات المتقدمة، دفاعه عن التعليل، وفند كل من يمكن الاعتراض به في المسألة، تفنيدًا عقليا ونقليا، وانتهى إلى القول "انعقد الإجماع على الشرائع مصالح، إما وجوبًا كما هو قول المعتزلة، أو تفضلا كما هو قولنا"2. بل إن الرازي -لفرط تحمسه للدفاع عن التعليل- يكاد يكون "معتزليا" فهو حين جعل من أدلة رعاية الله للمصالح، كونه سبحانه خلق العبد للعبادة، قال: "فلا بد أن يزيح عذره"3، وذلك برعاية مصالحه. ونوه مرة أخرى -وبصورة أوضح- بموقف المعتزلة فقال: "وأما المعتزلة: فقد صرحوا بحقيقة هذا المقام وكشفوا الغطاء عنه، وقالوا: إنه يقبح من الله تعالى فعل القبيح، وفعل العبث. بل يجب أن يكون فعله مشتملًا على جهة مصلحة وغرض.

_ 1 المحصول، الجزء2، القسم 2/ 237-242. 2 المحصول، 2-2/ 291. 3 المحصول، 2-2/ 240، وعبارته هذه لا تختلف في مضمونها عما تقول به المعتزلة من "وجوب" رعاية مصالح العباد.

وأما الفقهاء، فإنهم يصرحون بأنه تعالى إنما شرع هذا الحكم لهذا المعنى، ولأجل هذه الحكمة، ولو سمعوا لفظ "الغرض" لكفروا قائله. مع أنه لا معنى لتلك "اللام" إلا "الغرض"1. فهل يسوغ أن ينسب صاحب هذه المواقف إلى إنكار التعليل البتة؟! وهل يعقل أن يصنف مع الظاهرية؟! الحقيقة أن الذين يغمزون الرازي بالتأثر بالمعتزلة كانوا أقرب إلى الصواب، لولا أن الله تعالى يقول: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} 2 فلا نسم أحدًا إلا بما ارتضاه أو تسمى به بنفسه. ولم يقتصر الرازي -في بيان موقفه من التعليل- على ما ذكره في "المحصول"، بل عبر عنه في عدد من مؤلفاته. من ذلك ما جاء في "مناظرات الفخر الرازي"، حيث بين لماذا يقع التعليل عند القياسيين بالأوصاف والأمارات الظاهرة، دون الحكمة والمصلحة والمفسدة، فذكر "أن التعليل بالأوصاف المشتملة على المصالح والمفاسد، إنما جاز لاشتمالها على تلك المصالح والمفاسد. فالمؤثر الحقيقي في الأحكام هو رعاية تلك المصالح. وأما الأوصاف -وهي في الحقيقة غير مؤثرة في الأحكام- إلا أنها لأجل اشتمالها على تلك المصالح والمفاسد، جاز التعليل بها فثبت أن تأثير المصالح والمفاسد في الأحكام تأثير حقيقي جوهري أصلي. وأما تأثير الأوصاف في الأحكام، فهو تأثير مجازي عرضي غريب" إلى أن قال: "وأما بيان أن التعليل بالأوصاف المصلحية جائز، فهذا متفق عليه بين العقلاء"3. وواضح جدا أن المصالح والمفاسد -عند الرازي- هي العلل الحقيقية المؤثرة في شرع الأحكام. أي أن المصالح والمفاسد هي مناط الأحكام. ولكن نظرًا لعدم ظهورها أو عدم انضباطها في كثير من الأحيان، يقع نوط الأحكام وربطها بأسباب

_ 1 المحصول، 2-2/ 242. 2 سورة الحجرات، 11. 3 مناظرات فخر الدي الرازي، 25.

وعلامات ظاهرة منضبطة، تتلازم غالبًا مع المصلحة أو المفسدة المقصودة بالحكم. ومن هنا يفضل الفقهاء والأصوليون تعليل الأحكام بالأوصاف الظاهرة المنضبطة بدل تعليلها -مباشرة- بالمصلحة والمفسدة ولا سيما إذا كانت خفية، أو عسيرة الضبط. وفي ضوء هذا، ينبغي أن نفهم ما أورده الدكتور شلبي، في سياق أن الرازي ينكر التعليل، حيث قال: "والرازي -فيما نقله الأسنوي في بحث المناسبة- يقول: لا يجوز تعليل الأحكام بالمصالح والمفاسد"1. فإذا وجدنا الرازي يقول بمنع التعليل بالمصلحة والمفسدة، فلعدم انضباطها، لا لكون أحكام الله غير معللة في حقيقتها بجلب المصالح ودرء المفاسد. فكلامه المتقدمة قاطع في أنه يعتبر المصلحة أو المفسدة هي العلة الحقيقية الأصلية للحكم. على أن الرازي الذي اختار في "المناظرات" منع التعليل المباشر بالمصلحة والمفسدة -أثناء عملية القياس- قد مال إلى تجويزه في "المحصول" فقد تعرض لذكر الخلاف في مسألة التعليل بالحكمة -وهو التعليل المباشر بمقصود الحكم، من جلب مصلحة كذا، أو دفع مفسدة كذا- ثم قال: "والأقرب جوازه2 ثم دافع بتفصيل عن هذا التجويز3. وعلى كل حال، فهذه المسألة، هي غير المسألة الأصلية، وهي كون أحكام الله تعالى معللة برعاية المصلحة. وإنما جاء هذا الاستطراد لرفع الالتباس عن كلام الرازي وموقفه المدافع بقوة وحماس عن تعليل الشريعة.

_ 1 تعليل الأحكام، 105-106. 2 المحصول، 2-2/ 389 وما بعدها. 3 ولعل من المفيد أن أسجل هنا ما لاحظه ابن تيمية -بحق- من تقلبات الرازي، وتباين مواقفه من فترة لأخرى، ومن مؤلف لآخر، حيث قال: "وأما ابن الخطيب فكثير الاضطراب جدا، لا يستقر على حال، وإنما هو بحث وجدل، بمنزلة الذي يطلب ولم يهتد إلى مطلوبه، بخلاف أبي حامد، فإنه كثيرًا ما يستقر "مجموع الفتاوي، 6/ 55".

ومما يؤكد أن هذا هو مذهب الرازي -إن كان الأمر ما زال بحاجة إلى تأكيد- ما أورده كبير المعللين، الإمام ابن القيم، وهو بصدد الرد على منكري التعليل والقياس، بعد أن عرض أدلتهم -أو شبهاتهم على الأصح- كأحسن ما يكون العرض، حيث قال: "وقد اختلف أجوبة الأصوليين. بحسب أفهامهم ومعرفتهم بأسرار الشريعة. فأجاب ابن الخطيب1. بأن قال: غالب أحكام الشريعة معللة برعاية المصالح المعلومة. والخصم إنما بين خلاف ذلك في صور قليلة جدا. وورود الصورة النادرة على خلاف الغالب لا يقدح في حصول الظن2. كما أن الغيم الرطب إذا لم يمطر نادرًا لا يقدح في نزول المطر منه"3. وبعد، فمن بقي من منكري التعليل: لقد رأينا الشاطبي يعتبر التعليل مسألة مسلمة. ورأينا كثرة الذين يحكون الإجماع والاتفاق على القول بالتعليل. ورأينا حقيقة وقيمة ما تردد عند بعض المتكلمين الأشاعرة من "إنكار التعليل". ورأينا حقيقة موقف أحد هؤلاء، وهو الإمام فخر الدين الرازي، الذي اشتهر عنه -بصفة خاصة- إنكار التعليل. فمن بالذات ينكر -أو ينكرون- كون الشريعة إنما جاءت لرعاية مصالح العباد؟

_ 1 هو الرازي، وهو معروف بهذا الاسم، أو بابن خطيب الري، نسبه إلى أبيه الذي كان خطيب مدينة الري الفارسية. 2 الظن هنا إنما يتعلق بالتعليلات الجزئية لبعض الأحكام، وخاصة التعليلات الاجتهادية. أما التعليل بصفة عامة، ومن حيث المبدأ، قطعي عنده، كما هو واضح فيما تقدم من كلامه. من ذلك قوله: "انعقد الإجماع على أن الشرائع مصالح". 3 أعلام الموقعين، 2/ 72.

الحقيقة أنه لم يبق أمامي -بعد طول بحث ونظر- إإلا الظاهرية. فالظاهرية هم المنكرون للتعليل نظريا وتطبيقيا. وهم المنكرون للتعليل جملة وتفصيلًا. وهم أقوى وأوضح من أنكر واستنكر التعليل، وهم أقوى من دافع عن التعبد المحض والتام للشريعة. وعندما أذكر الظاهرية، فالمقصود -بصفة خاصة- أبو محمد بن حزم الأندلسي؛ فهو الوريث الكامل للنزعة الظاهرية. وهو الذي بقي لنا من مؤلفاته وآرائه، ما يجسد تجسيدًا كاملًا، مذهب الظاهرية أصولًا وفروعًا.

ابن حزم والتعليل

ابن حزم والتعليل: من غرائب الأمور أن الشاطبي الذي أنكر على الرازي ورد عليه -والأمر على ما رأينا- لم يتعرض لموقف ابن حزم، ولم يتصد لمناقشة حججه وآرائه، مع أن كل الأسباب تدعو لذلك: 1- فابن حزم هو الذي يستحق تمامًا أن تقال عنه العبارة التي قالها الشاطبي عن الرازي وهي: "وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك". فابن حزم هو الذي خصص بابا كاملًا من كتابه "الإحكام" لهدم فكرة التعليل. وقال في عنوانه: "الباب التاسع والثلاثون في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين" وهو ينسب هذا الإنكار التام إلى جميع الظاهرية قبله: "وقال أبو سليمان1 وجميع أصحابه رضي الله عنهم: لا يفعل الله شيئًا من الأحكام وغيرها، لعلة أصلًا بوجه من الوجوه. قال أبو محمد: وهذا هو ديننا الذي ندين الله تعالى به، وندعو عباد الله تعالى إليه، ونقطع على أنه الحق عند الله تعالى"2.

_ 1 هو أبو سليمان البغدادي الأصبهاني، داود بن علي الظاهري، الإمام الأول للظاهرية "220-270". 2 الإحكام في أصول الأحكام، 8/ 77.

2- وابن حزم بالغ في حشر "الحجيج" ضد خصومه، وبالغ في مهاجمتهم واستفزازهم، مما يصعب معه جدا تجاهل موقفه، وشبهه، ونتائجه. خصوصًا وأنه يقدم ذلك كله على أنه اليقين الذي لا يقبل المناقشة والمراجعة. ولا أرى إلا أن كلامه هو الذي استفز ابن القيم، حتى قال -وهو يتهيأ للرد المفصل على منكري القياس- "الآن حمي الوطيس، وحميت أنوف أنصار الله ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله. وآن لحزب الله أن لا تأخذهم في الله لومة لائم"1. فقد بلغت حملة ابن حزم على التعليل وأهله إلى حد اعتبار "أن القياس وتعليل الأحكام دين إبليس، وأنه مخالف لدين الله تعالى، نعم، ولرضاه. ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القياس في الدين، ومن إثبات علة لشيء من الشريعة"2. 3- وابن حزم هو الذي شغل، أو فتن، مالكية المغرب والأندلس، وهدد استتباب مذهبهم، تهديدًا حقيقيا، غير ما مرة، فكيف لم يتصد الشاطبي المالكي للرد عليه؟! هل يكون موقف الشاطبي هذا، إمعانًا في إهمال الظاهرية وإماتة مقولاتهم؟ أستبعد هذا، لأن الشاطبي يذكر الظاهرية وابن حزم مناسبات عديدة ويذكرهم بكثير من الإنصاف والرفق3. وعلى كل حال، فالذي يهمني الآن، هو أن أسجل إحساسي بأن عدم التعرض لموقف ابن حزم ولتفنيد آرائه وكشف شبهة، يشكل نقصًا في كتاب كامل عن المقاصد. بل هو كتاب يؤسس نظرية المقاصد. وأساس نظية المقاصد هو التعليل.

_ 1 أعلام الموقعين، 2/ 74. 2 الإحكام، 8/ 113. 3 انظر -على سبيل المثال- المسألة السابعة في الأوامر والنواهي، ج3 من الموافقات، وأيضًا: 4/ 229-230.

فالشاطبي كان ملهمًا وموفقًا حين افتتح كتاب المقاصد بمسألة التعليل، وحين اعتبرها مسألة "مسلمة"، ولكن لكي تكون المسألة مسلمة فعلا، كان ينبغي الاهتمام بموقف ابن حزم، ذلك الخصم العنيد، الذي يشوش -بحدة وعنف- على القول بأن الشريعة جاءت لرعاية المصالح، وأن أحكامها معللة بهذا. ومن ثم، فهو يشوش على كل كلام في مقاصد الشريعة. فلا بد من سد هذه الثغرة، بإزاحة شبه ابن حزم، حتى تكون المسألة مسلمة حقا، وحتى تكون حكاية الإجماع فيها أيضًا مسلمة، لا يعكرها موقف ابن حزم ولا غيره1. لأجل هذا رأيت أن أقف هذه الوقفة القصيرة2 مع أهم آراء ابن حزم واستدلالاته، عرضًا ومناقشة: وأبدأ أولًا بالإشارة إلى أن هناك قدرًا من الخلاف مع ابن حزم، يمكن أن يؤول إلى الوفاق، انطلاقًا مما يسميه الأصوليون "تحرير محل النزاع". ذلك أن كثيرًا من الخلافات، قد تكون راجعة إلى اختلاف لفظي واصطلاحي. وقد نبه ابن حزم نفسه على هذا فقال: "والأصل في كل بلاء وعماء وتخليط وفساد3: اختلاط الأسماء، ووقوع اسم واحد على معاني كثيرة، فيخبر المخبر بذلك الاسم، وهو يريد أحد المعاني التي تحته، فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبر، فيقع البلاء والإشكال"4.

_ 1 وإن كان إمام الحرمين الجويني يقول: "الذي ذهب إليه ذوو التحقيق أنا لا نعد منكري القياس من علماء الأمة، وحملة الشريعة، فإنهم مباهتون أولًا على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواتر. ومن لم يزعه التواتر، ولم يحتفل بمخالفته، لم يوثق بقوله ومذهبه. فهؤلاء ملتحقون بالعوام. وكيف يدعون مجتهدين ولا اجتهاد عندهم؟ وإنما غاية التصرف التردد على ظواهر الألفاظ"، البرهان، 2/ 819. 2 ذلك أن العرض الكامل، والمناقشة التفصيلية، يحتاجان إلى أضعاف ما كتبه ابن حزم. فلا يصلح لذلك إلا بحث خاص. 3 مبالغات معهودة من ابن حزم، ولكن يهمنا ما بعد. 4 الإحكام، 8/ 101.

فمن جوانب الموضوع التي يمكن إخراجها من دائرة الخلاف مع ابن حزم أنه ينكر مرارًا على أصحاب التعليل -وخاصة من أهل السنة- ما لا يقولون به، وهو التعليل بمعناه الفلسفي الذي رأينا من قبل أن عامة المتكلمين الأشاعرة ينكرونه. فهو يقول: "إن العلة اسم لكل صفة توجب أمرًا ما، إيجابا ضروريا1 والقول بهذا النوع من العلل في شرع الأحكام معناه "أن الشرائع شرعها الله تعالى لعلل أوجبت عليه أن يشرعها"2. وهذا لا يقول به أحد من أهل السنة. بل دأب علماء السنة إنكار هذا على الفلاسفة والمعتزلة. فعلماء السنة يقولون -كما مر- بعلل جعلية، جعلها الله بمشيئته، لا يلزمه منها شيء. ومن هنا فهم يقولون برعاية المصالح من الله، تفضلا وإحسانًا، لا وجوبًا وضرورة. فمعركة ابن حزم ضد هذا النوع من التعليل، هي معركة ضائعة. فلو أنه أخذ اصطلاح القوم بعين الاعتبار -ولا يمكن أن يكون خافيًا عليه- لضاقت هوة الخلاف، ولخفت حدة المعركة التي حمي وطيسها، كما قال ابن القيم. وأيضًا، إذا أخذنا اصطلاحه هو بعين الاعتبار، فإن الخلاف سينقص درجة أخرى. فأما مفهوم العلة عنده، فالجميع متفق معه على إنكاره، أعني أهل السنة. وأما التعليل كما يقصده أهل السنة، فإن ابن حزم يعترف أيضًا بقدر منه. ولكنه لا يسمي ذلك علة ولا تعليلًا. وإنما يسميه "السبب". والسبب عنده: "هو كل أمر فعل المختار فعلا من أجله، لو شاء لم يفعله، كغضب أدى إلى انتصار، فالغضب سبب الانتصار. ولو شاء المنتصر أن لا ينتصر لم ينتصر. وليس السبب موجبًا للشيء المسبب منه ضرورة"3.

_ 1 الإحكام، 8/ 99. 2 الإحكام، 8/ 102. 3 الإحكام، 8/ 100.

فالفرق الجوهري عنده بين العلة والسبب، وهو أن العلة موجبة ضرورة لمعلولها. بينما السبب لا إيجاب فيه ولا اضطرار. فيبقى فاعل المسبب مختارًا، إن شاء فعله، وإن شاء لم يفعله، وإن وجد السبب. وبهذا المعنى، فهو يقر -كسلفه أبي سليمان- أن الشارع ربط بعض الأحكام بأسباب، وقد مثل لذلك: بقوله صلى الله عليه وسلم: "أعظم الناس جرمًا في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" ويجعل الموت على الكفر سببًا للخلود في النار، والموت على الإيمان سببًا لدخول الجنة، ويجعل السرقة بصفة معينة سببًا للطقع1. على أنه يحيط اعترافه بهذا النوع من السببية بين الأحكام وأسبابها، بحملة شروط، تجعل الفرق بينه وبين جمهور العلماء كبيرًا، وهي: 1- هذه الأسباب لا يجوز أن يقال بشيء منها إلا إذا جاء منصوصًا صراحة فلا اجتهاد ولا استنباط في ذلك. 2- هذه الأسباب المنصوصة، لا يجوز تعديتها إلى غير محل النص، أي لا يجوز القياس عليها. 3- هذا الربط المنصوص بين بعض الأحكام وبعض الأسباب، ليس وراءه حكمة أو غرض، أي ليس فيه قصد إلى جلب مصلحة أو درء مفسدة. وإنما هي مشيئة الله وكفى. ولابن حزم مصطلح ثالث، إذا أخذنا مضمونه بعين الاعتبار، نقص الخلاف درجة أخرى، وإن كانت قليلة جدا. وهو مصطلح "الغرض" الذي يعرفه بقوله: "وأما الغرض فهو الأمر الذي يجري إليه الفاعل ويقصده بفعله فالغرض من الانتصار إطفاء الغضب وإزالته. فالغضب هو السبب في الانتصار. وإزالة الغضب هو الغرض في الانتصار"2.د

_ 1 الإحكام، 8/ 102. 2 الإحكام، 8/ 100.

وابن حزم بهذا المثال -يريد أن يقول: إذا كانت بعض الأحكام الشريعة لها أسباب، والأحكام مسببات لها. فإن بعض هذه المسببات قد يكون للشارع فيها أغراض، يرمي إلى تحقيقها من خلال المسببات، أي أن لها أهدافًا ومقاصد وكأن ابن حزم بهذا يقترب من الجمهور، ولكنه سرعان ما يعمد إلى تضييق هذه المبادئ، على ما فيها من التواء! والقيد الأول هو المتمثل في النزعة الظاهرية كلها. وقد عبر عنه بقوله: "وأما الغرض في أفعاله تعالى وشرائعه، فليس هو شيئا غير ما ظهر منها فقط1 أي ليست هناك أغراض -أو مقاصد- يتوصل إليها عن طريق التدبر والاستنباط، أو عن طريق الاستقراء، أو انطلاقًا من التعليل العام. والقيد الثاني: هو حصر هذه الأغراض في الآخرة، فالغرض في بعض الأحكام الشرعية هو "أن يعتبر بها المعتبرون, وفي بعضها أن يدخل الجنة من شاء إدخاله فيها، وأن يدخل النار من شاء إدخاله فيها2، ثم يضيف مستدركًا وموضحًا: "وكل ما ذكرنا من غرضه تعالى في الاعتبار، ومن إدخاله الجنة من شاء، ومن إدخاله النار من شاء، وتسبيبه ما شاء لما شاء، فكل ذلك أفعال من أفعاله، وأحكام من أحكامه، لا سبب لها اصلًا، ولا غرض له فيها البتة غير ظهورها وتكوينها فقط {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} ، ولولا أنه تعالى نص على أنه أراد منه الاعتبار وأراد إدخال الجنة من شاء، ما قلنا به3. ولعل أهم "دليل" يقيم عليه ابن حزم مذهبه في إنكار التعليل والتشنيع على المعللين، هو هذه الآية التي أشار إليها، وهي قوله عز وجل: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 4.

_ 1 الإحكام، 8/ 103. 2 الإحكام، 8/ 104. 3 الإحكام، 8/ 104. 4 سورة الأنبياء، 23.

وأرى من الضروري أن أدع ابن حزم يوضح استدلاله بالآية، ولو كان في ذلك شيء من التطويل. يقول: "وقد قال تعالى واصفًا لنفسه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} فأخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه، وأن أفعاله لا يجري فيها "لم". وإذا لم يحل لنا أن نسأله عن شيء من أحكامه تعالى وأفعاله: "لم كان هذا؟ "، فقد بطلت الأسباب جملة، وسقطت العلل البتة، إلا ما نص الله تعالى عليه أنه فعل أمر كذا لأجل كذا. وهذا أيضًا مما لا يسأل عنه، فلا يحل لأحد أن يقول: لم كان هذا السبب لهذا الحكم ولم يكن لغيره؟ ولا أن يقول: لم جعل هذا الشيء سببًا دون أن يكون غيره سببًا أيضًا؟ لأن من فعل هذا السؤال فقد عصى الله عز وجل وألحد في الدين، وخالف قوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} فمن سأل الله عما يفعل فهو فاسق1. وفي موضع آخر ينتقد موقف القياسيين الباحثين عن علل الأحكام بقوله: "وهم دائمًا يسألون ربهم: لم فعلت كذا؟ كأنهم لم يقرءوا هذه الآية! نعوذ بالله من الخذلان2. وبهذا الفهم، وبهذا الاستدلال، يتخذ ابن حزم من الآية سيفًا بتارًا يلوح به، بل يضرب به كل باحث عن حكم الشريعة وعلل أحكامها، ويغلق بذلك ما يسميه الأصوليون "مسالك التعليل" -باستثناء مسالك النص "في ظاهره"- ويحرم ويفسق كل تساؤل عن مقاصد الشارع وأسرار الشريعة!! ولم أر من رد على ابن حزم -بالاسم- في استدلاله الخطير بهذه الآية، غير الشيخ محمد أبي زهرة. وأهم ما رد به عليه، هو أنه "أي ابن حزم" خلط بين أفعال الله وأحكامه، ونقل منع السؤال من الأولى إلى الثانية يقول الشيخ أبو زهرة: "ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لا يسأل عن أفعاله ولا يسأل عن أقواله، لأنه ليس

_ 1 الإحكام، 8/ 102-103. 2 الإحكام، 8/ 125.

لأحد سلطان بجوار سلطانه. إنه مالك الملك ذو الجلال الإكرام، فليس لأحد أن يستطيل فيسأل عن علة أفعاله تعالى، لأنه الحكيم العليم الخبير، ولكن هل يقتضي هذا، النهي عن أن يبحث عن علة النصوص في الشريعة؟ إني أرى أن الفارق كبير بين علة النصوص الشرعية وعلة أفعال الله تعالى. لأن البحث عن علة النصوص في الشريعة، تعرف للمراد منها والمطلوب فيها"1. وهذا الرد من الشيخ أبي زهرة، لا يستطيع الصمود أمام منطق ابن حزم واستدلالاته المسهبة في الموضوع، فضلًا عن أن يكفي لنقضها وإقصائها لأن أحكامه من أفعاله، ولأن أفعاله فيها نوع من أحكامه. وابن حزم يستدل -أيضًا- على منع التعليل بقوله سبحانه {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 2 أي أنه يفعل ما يريد ويحكم بما يريد، {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} ، و {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} ، سواء في الخلق وتدبيره، أو في التشريع وإبرامه، وفي كل ذلك "يفعل" ما يريد. فقول القائل لله تعالى "لم حكمت بكذا؟ " كقوله له: "لم فعلت كذا؟ ". ثم إن الشيخ أبا زهرة صرح أن الله تعالى لا يسأل عن أفعاله وأقواله، ثم سوع السؤال عن علل النصوص الشرعية. والنصوص الشرعية من أقوال الله. كما ذكر رحمه الله أن البحث عن علة النصوص، إنما هو تعرف للمراد منها والمطلوب فيها. والحقيقة أن بين الأمرين فرقًا ودرجة. فتعرف المراد والمطلوب من النص درجة، وتعليله درجة أخرى. فقوله تعالى -مثلًا- {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} 3، المراد منه أن الجمع بين المرأتين الأختين في عصمة زوج واحد، في وقت واحد، حرام، والمطلوب اجتنابه. فهذا هو الحكم على المكلف معرفته والتزامه. أما تعليله فشيء آخر. فهذه درجة، وتلك درجة. وابن حزم -كما

_ 1 ابن حزم ص437 وما بعدها. وانظر في ذلك تاريخ المذاهب الفقهية، له أيضًا، ص430-431. 2 سورة هود، 107، وسورة البروج، 16. 3 سورة النساء، 23.

سيأتي - لا يمانع في الدرجة الأولى. بل يعتبرها -كسائر المسلمين- فرضًا. ولكنه يمنع الدرجة الثانية، وهي التي تبدأ عندما نقول: "لماذا حرم الله الجمع بين الأختين؟ فهذا هو السؤال الذي ينكره ابن حزم، بل يحرمه ويفسق قائله. ومن ثم، لا يجوز أن يقول القائل -عن هذا التحريم- مثلًا: "حكمته: دفع الغيرة عمن يريد الشرع بقاء تمام المودة بينهما1 أو ما شابه هذا مما هو حكمة مقصودة ظاهرة. وقبل أن أدخل في مناقشة وإبطال فهم ابن حزم واستدلاله بآية {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} أضيف أنه يدعم موقفه بآية آخرى، يفهمها ويوجه معناها في نفس الاتجاه: قال أبو محمد: قال الله تعالى: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} 2 فأخبر تعالى أن البحث عن علة مراده تعالى ضلال. لأنه لا بد من هذا3، أو من أن تكون الآية نهيًا عن البحث عن المعنى المراد، وهذا خطأ لا يقوله مسلم، بل البحث عن المعنى الذي أراده الله تعالى فرض على كل طالب علم، وعلى كل مسلم فيما يخصه، فصح القول الثاني4 ضرورة ولا بد. وقال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} . قال أبو محمد: وهذه كافية في النهي عن التعليل جملة. فالمعلل بعد هذا عاص لله، وبالله نعوذ من الخذلان5.

_ 1 هذا التعليل للشيخ ابن عاشور عند تفسره للآية المذكورة، انظر التحرير والتنوير، 4/ 300. 2 سورة المدثر، 31. 3 أي لا بد أن الآية واردة في ذم البحث عن العلل، وإلا ... 4 الظاهر أن الصواب هو: "فصح القول الأول". 5 الإحكام، 8/ 112.

هذا هو حجر الأساس لموقف الظاهرية عمومًا، وموقف ابن حزم خصوصًا، من مسألة التعليل، والتي سماها صاحبنا: "القضية الملعونة"1. ومذهب ابن حزم هذا، وخاصة استدلاله بالآيتين المذكورتين، ينطوي على مغالطة فادحة، لم ينتبه إليها العلامة أبو زهرة، في رده المذكور سابقًا. ولهذا لم يصب مذهب ابن حزم في مقتله. فقوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} معناه أن الله سبحانه لا يحاسبه أحد على أفعاله، ولا يعترض على فعله وحكمه أحد والله يحكم، لا معقب لحكمه2، بخلاف العباد، فإنهم يسألون، ويحاسبون، ويلامون، ويخطئون. وذلك أن الله تعالى -من جهة- هو خالق كل شيء، ومالك كل شيء، له ما في السموات وما في الأرض، له الأولى والآخرة. ولأنه -ومن جهة أخرى-هو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأصدق القائلين، وهو العليم الخبير. فعلى هذا الأساس -أو هذه الأسس- تأتي أفعاله وأحكامه. فلا مجال فيها للاستدراك أو الاعتراض. لهذا وذاك فإن الرب سبحانه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} أي لا يسأل سؤال محاسبة، أو اعتراض. فهذا هو معنى السؤال في الآية. ولا شك أن توجيه مثل هذا السؤال لله تعالى، كفر. وهنا يكمن غلط -أو مغالطة- ابن حزم، في منع التعليل بمقتضى هذه الآية وما شابهها من الآيات. فالسؤال من علل الأحكام الشرعية، ومثله السؤال عن أسرار وحكم أفعال الله، هو سؤال تفهم وتعلم، فهو على أصل "الاستفهام" أي طلب الفهم. وهذا النوع من الأسئلة والتساؤلات صدر عن الأنبياء والصالحين،

_ 1 ويقصد بها بالضبط: القول بأن أفعال الله وأحكامه كلها معللة بجلب المصالح. انظر الإحكام، 8/ 120-122، وما بعدها. 2 سورة الرعد، 41.

وورد ذكره وإقراره في القرآن الكريم، مما يضع حدا لهذا الفهم السقيم الذي تبناه ابن حزم، وسفه به جماهير العلماء، سلفًا وخلفًا. وقبل أن أورد الأمثلة لذلك، أستمر قليلًا في توضيح الآية وسياقها. والآية واردة في سياق إثبات التوحيد، وتفنيد الشرك وذلك في قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ، أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ، وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 1. فالسياق هو سياق إثبات الوحدانية للواحد سبحانه، وإثبات صفاته التي لا يشترك معه فيها أحد، بالمقارنة مع صفات الشركاء المزعومين. ومن ذلك أن الواحد لا يحاسب ولا يتعقب ولا يعترض عليه. أما الآلهة المزعومة، من ملائكة وبشر، فإنهم مسئولون، ومحاسبون, ومحكومون. ومن كان هذا شأنه لا يمكن أن يكون إلهًا. فهذا هو سياق "السؤال" المنفي في حق الله، والمثبت في حق العباد. وفي توضيح هذا، يقول العلامة ابن عاشور: "والسؤال هنا بمعنى المحاسبة وطلب بيان سبب الفعل، وإبداء المعذرة عن فعل بعض ما يفعل، وتخلص من ملام أو عتاب على ما يفعل. وهو مثل السؤال في الحديث: "كلكم راع، وكلكم

_ 1 سورة الأنبياء، 19-29.

مسئول عن رعيته" فكونهم يسألون، كناية عن العبودية، لأن العبد بمظنة المؤاخذة على ما يفعل وما لا يفعل، وبمظنة التعرض للخطأ في بعض ما يفعل. وليس المقصود هنا نفي سؤال الاستشارة، أو تطلب العلم. ولا سؤال الدعاء، ولا سؤال الاستفادة والاستنباط، مثل أسئلة المتفقهين أو المتكلمين عن الحكم المبثوثة في الأحكام الشرعية، أو في النظم الكونية. لأن ذلك استنباط وتتبع، وليس مباشرة بسؤال الله تعالى، ولا لتطلب مخلص من ملام. وفي هذا إبطال لألهية المقربين التي زعمها المشركون الذين عبدوا الملائكة وزعموهم بنات الله تعالى، بطريقة انتفاء خاصية الإله الحق عنهم، إذ هم يسألون عما يفعلون وشأن الإله أن لا يسأل. وتستخرج من جملة {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} كناية عن جريان أفعال الله تعالى على مقتضى الحكمة، بحيث إنها لا مجال فيها لانتقاد منتقد إذا أتقن الناظر التدبر فيها، أو كشف له عما خفي منها"1. فسر المسألة، والفيصل فيها بين سؤال وسؤال، بين سؤال يفسق صاحبه كما ذهب إلى ذلك ابن حزم، وبين سؤال يرجو به صاحبه الأجر والتقرب إلى الله. الفرق هو أن السؤال الموجه إلى الله، أو إلى أي فعل من أفعاله، أو أي قول من أقواله، أو أي حكم من أحكامه، إذا كان الغرض منه: الاعتراض، أو الإنكار، أو الاستهزاء، أو المحاسبة، فهو ضلال وكفر. ومن هذا الباب السؤال الوارد في الآية التي استدل بها ابن حزم على تحريم البحث عن علل الأحكام، وهي قوله تعالى: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} 2. فالسؤال في الآية صادر عن الكافرين والذين في قلوبهم مرض، وفيه معنى الاستهزاء والاتحقار، كما هو موضح في سبب نزولها.

_ 1 التحرير والتنوير، 17/ 46. 2 سورة المدثر، 31.

وشبيه بهذه الآية، آية البقرة: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} 1 قال القرطبي: "ومعنى كلامهم هذا: الإنكار بلفظ الاستفهام2. ومن هذا الباب أيضًا، ما جاء في الحديث من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بأداء دية الجنين الذي قتل هو وأمه، فقام حمل بن النابغة -من عاقلة المرأة القاتلة، المحكوم عليهم بأداء الديتين- فقال: يا رسول الله: كيف أغرم ما لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثل هذا يطل3. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هذا من إخوان الكهان" 4. فقول هذا القائل، هو من قبيل الاستفهام الإنكاري الذي إذا وجه للشارع كان كفرًا أو يكاد. ولهذا غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعته بما نعته به. وقد جاء في شرح النووي على صحيح مسلم: "قال العلماء: إنما ذم سجعه لوجهين: أحدهما أنه عارض به حكم الشرع ورام إبطاله5. والحقيقة أن الذم ليس موجهًا للسجع، وإنما هو موجه لمضمونه المعارض والمنكر لحكم الله ورسوله. ففي مثل هذه المواقف يصح الاستدلال بتلك الآيات. وأما إذا كان السؤال صادرًا عن إيمان تام بالله وصفاته الكمالية، وبعدله وحكمته على الخصوص، تحدوه الرغبة في الفهم والتعلم، ويدفعه التطلع والتشوف إلى مزيد من الاطلاع على حكم الله في تشريعه وتدبيره، فهذا سؤال مشروع لا غبار عليه، بل سؤال محمود غير مذموم، وذلك في حدود الممكن، وفي حدود الأدب اللازم.

_ 1 سورة البقرة، 26. 2 الجامع لأحكام القرآن، 1/ 244، وانظر أيضًا: التحرير والتنوير، لابن عاشور، 1/ 264-265. 3 أي يهدر ولا دية له. 4 من صحيح مسلم، ورواه البخاري أيضًا. 5 صحيح مسلم بشرح النووي، 11/ 178.

والسؤالات من هذا القبيل صدرت عن المصطفين الأخيار، المقتدى بهم وبنهجهم: فقد سألت الملائكة ربها سبحانه: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} 1. وسأل الخليل إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، الله تعالى فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} 2 قال القرطبي "إنما طلب المعاينة. وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة. أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانًا، والمعلوم عيانًا3. ومن هذا القبيل أيضًا، سؤال كل من زكريا ومريم عليهما الصلاة والسلام، لما جاءت كلا منهما البشرى بالولد: فزكريا: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} 4. ومريم: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} 5. فكل منهما اندهش وتحير أمام أمر الله وقدرته، فانطلق لسانه بالاستفهام لصاحب الأمر، سبحانه، إنه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم. وكل هذه الأمثلة تتعلق بأفعال الله، أي ليست في مجال التشريع، ومع ذلك صدرت من هؤلاء المقتدى بهم. وأما في مجال التشريع فأذكر هذا المثال، وهو الوارد في سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ

_ 1 سورة البقرة، 30. 2 سورة البقرة، 260. 3 الجامع لأحكام القرآن، 3/ 297-300. 4 سورة آل عمران، 40. 5 سورة آل عمران، 47.

وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} . فقد روى النسائي وأحمد في سبب نزول الآية، أن أم سلمة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ فأنزل الله هذه الآية. فسؤال أم المؤمنين، أم سلمة رضي الله عنها -أو سؤال غيرها من الصحابيات، كما في الروايات الأخرى- وإن كان قد وجه مباشرة إلى رسول الله لا إلى الله، فهو في الحقيقة موجه إلى الله جل جلاله، ولهذا تولى الله تعالى بنفسه الجواب عنه. ولم يكن هذا السؤال، أو التساؤل، محل إنكار ولا لوم. وهذا يؤكد أن السؤال كان بريئا من كل شبهة، صادقًا في تطلب العلم والفهم، مع الرضى والتسليم في جميع الحالات. وبعد هذه الوقفة مع أهم مستندات ابن حزم وألصقها بموضوعنا، لا أرى ضرورة لعرض بقية استدلالاته في إنكار التعليل. فبعضها منقوض بما قدمته من أدلة التعليل منذ بداية هذا الفصل، فلا داعي للتكرار. وبعضها ظاهر البطلان، وخصوصًا بعد المناقشة السابقة، وبعضها يتوغل في مباحث كلامية فلسفية لا أريد السقوط فيها. وأما الأمثلة الفقهية التي ساقها ابن حزم لإبطال القياس والتعليل، فجوابها الشافي، هو ما كتبه الإمام ابن القيم في الرد على منكري القياس، وإن لم يسم منهم أحدا.

ومرة أخرى أأكد أن تعليل الأحكام له مسالكه وحدوده وضوابطه. وكل ذلك مبين في مظانه من كتب الأصول، ومطبق في كتب الفقه، والتفسير، وفقه الحديث. والذي أستطيع أن أقرره باطمئنان: أنه ليس هناك حكم شرعي، إلا ويجوز التساؤل عن حكمته، كما يجوز البحث عنها -بعد ذلك- بكل ما هيأه الله لنا من وسائل البحث والعلم. فإذا وصلنا إلى شيء مما تشهد له الأدلة المعتبرة قلنا به، وإن لم تصل، سلمنا بحكمة الله أيا كانت، والبحث مستمر، والعلم لا حد له. وقد أمرنا الله بالتدبر والتعقل، وأمرنا بالنظر والتفكر، سواء في دينه وشريعته، أو في خلقه وملكوته. فقد قال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} 1 مثلما قال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 2. وفي هذا وذاك، لا بد من التساؤل عن العلل والقوانين، والبحث عن الأسرار والحكم، في حدود الممكن، أو ما يبدو ممكنًا، ورحم الله من عرف قدره فوقف عنده. وفي مجالنا الآن، مجال الشريعة وأحكامها، لا بد لكي يتقدم فقهنا للشريعة ومقاصدها، من أن ننطلق ونحن على يقين واطمئنان بأن هذه الشريعة -كما عبر ابن القيم- "عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها"3. وكما قال العلامة القرطبي - بلدي ابن حزم- "لا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية4.

_ 1 سورة النساء، 82. 2 سورة الغاشية، 17-20. 3 أعلام الموقعين، 3/3. 4 الجامع لأحكام القرآن، 2/ 64.

فلابد من التساؤل والبحث ما أمكن عن هذه المصالح الدينية والدنيوية التي تنطوي عليها الأحكام الشرعية. لنفهمها ونطبقها في ضوء مصالحها ومقاصدها ولنهتدي بمعرفة تلك المصالح والمقاصد فيما لم ينص عليه. يقول العلامة ابن عاشور: "وجملة القول: أن لنا اليقين بأن أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاصد؛ وهي حكم ومصالح ومنافع، ولذلك كان الواجب على علمائنا تعرف علل التشريع ومقاصده، ظاهرها وخفيها"1. وكما أن من لا يؤمن بقوانين الكون واطرادها واستقرارها وكمالها ودقتها لا يمكن أن يتقدم في أي علم من العلوم المادية. فكذلك من لا يؤمن بحكمة التشريع الشاملة. وبقوانينه المطردة، وبقواعده المضبوطة، لا يمكن أن يتقدم في علوم الشريعة أبدًا.

_ 1 مقاصد الشريعة الإسلامية، ص48.

الفصل الثاني: المصالح والمفاسد

الفصل الثاني: المصالح والمفاسد مفهوم المصلحة والمفسدة ... الفصل الثاني: المصالح والمفاسد إذا كان البحث في مسألة التعليل هو بحث في أساس مقاصد الشريعة، فإن البحث في المصالح والمفاسد، هو بحث في صميم المقاصد. فقد رأينا أن مقاصد الشريعة تلخص وتجمع في "جلب المصالح، ودرء المفاسد". ومن هنا يستمد البحث في المصالح والمفاسد أهميته وخطورته. وسأعمل -فيما يلي- على إبراز وتوضيح أهم آراء الشاطبي في موضوع المصالح والمفاسد، مع ما تستدعيه من مقارنة، أو مناقشة، أو تتميم. مفهوم المصلحة والمفسدة: مما لا شك فيه ولا خلاف، شأن مسمى "المصلحة" و"المفسدة" -بهذا التعميم، وبهذا الإطلاق يدخل فيه -عند جميع العلماء المسلمين- مصالح الدنيا ومصالح الآخرة. وقد تقدم عن الشاطبي "أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا"1 وهذا من البداهة بمكان لا يحتاج إلى أي إثبات أو توضيح. كما أن من البداهة أن مصلحة الآخرة -أو مصالح الآخرة- هي كل ما يجلب رضوان الله ونعيمه أو يزيد في درجتهما، وأن مفاسد الآخرة هي كل ما يجلب سخط الله وعذابه أو يزيد في درجتهما. أو لنقل -على الأصح- مصلحة الآخرة

_ 1 الموافقات، 2/ 6.

هي رضوان الله ونعيمه، ومفسدتها هي سخط الله وعذابه، وإنما اعتبر ما يجلبهما مصلحة ومفسدة من باب إعطاء الوسائل حكم المقاصد، وإعطاء الأسباب حكم مسبباتها. فهذه البدهيات، ينبغي ألا تغيب عنا، ونحن ننظر في تعريفات الأصوليين للمصلحة والمفسدة، ونجد عندهم مثلًا، أن: "المصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة"1 وأن "المنفعة عبارة عن اللذة أو ما يكون طريقًا إليها، والمضرة عبارة عن الألم أو ما يكون طريقًا إليه"2. أو بعبارة أخرى: "المصلحة لا معنى لها إلا اللذة، أو ما يكون وسيلة إليها. والمفسدة لا معنى لها إلا الألم، أو ما يكون وسيلة إليه"3. وكذلك لا ينبغي أن يغيب عنا أن مثل هذه التعريفات شاملة لما هو حسي ولما هو معنوي، من اللذات والآلام ولهذا عمد ابن عبد السلام إلى مزيد من التوضيح في معنوي، من اللذات والآلام ولهذا عمد ابن عبد السلام إلى مزيد من التوضيح في تعريفه فقال: "المصالح أربعة أنواع: اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها. والمفاسد أربعة أنواع: الآلام وأسبابها، والغموم وأسبابها. وهي منقسمة إلى دنيوية وأخروية"4. فقد فرق - في المصالح- بين اللذات والأفراح. وفرق -في المفاسد- بين الآلام والغموم. وذلك للتنبيه على "المعنويات" من المصالح والمفاسد. هي لا شك داخلة ومقصودة في التعريفات السابقة. وعلى الجانب المعنوي ينبه الشاطبي -أيضًا- في تعريفه للمصالح الدنيوية بقوله: "وأعني بالمصالح: ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان، وتمام عيشة، ونيله ما

_ 1 التعريف لابن قدامة الحنبلي في روضة الناظر وجنة المناظر، 1/ 412، وسبق للغزالي أن أورده، لكنه تحفظ في الأخذ به. "المستصفى، 1/ 286"، والحقيقة أنه إذا استحضرنا اعتبار البعد الديني الأخروي لهذا التعريف، لم يبق داع للتحفظ عليه. وبهذا يكون التعريف الذي أخذ به الغزالي وهو أن المصلحة هي: "المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. ليس أكثر من توضيح وتفصيل للتعريف السابق. "المستصفى، 1/ 287". 2 الرازي، "المحصول، ج2، ق2/ 218"، والشوكاني "إرشاد الفحول، 215". 3 المحصول، ج2، ق3/ 240. 4 قواعد الأحكام، 1/ 11- 12.

تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق، حتى يكون منعمًا على الإطلاق"1. وبناء على كل ما تقدم من تعريفات، فإن مفهوم المصلحة والمفسدة عند العلماء المسلمين يدخل فيه: - المصالح الأخروية ووسائلها وأسبابها. - والمفاسد الأخروية ووسائلها وأسبابها. - والمصالح الدنيوية ووسائلها وأسبابها. - والمفاسد الدنيوية ووسائلها وأسبابها. - وحقيقة المصلحة: هي كل لذة ومتعة، جسمية كانت أو نفسية أو عقلية أو روحية. - وحقيقة المفسدة هي كل ألم وعذاب، جسميا كان أو نفسيا أو عقليا أو روحيا. فالتعبير عن المصلحة باللذة والمتعة، لا يعني -أبدًا- أن المصلحة منحصرة في تلبية الشهوات وإشباع الغرائز الجسمية، وإنما هي لذات ومتع ومنافع متعددة الوجوه والأبعاد. ومثل هذا يقال عن المفاسد. ولتفادي أي تضييق أو التباس في مفهوم المصلحة، نص الشاطبي على أن المصالح الحقيقية، هي التي تؤدي إلى إقامة الحياة لا إلى هدمها، وإلى ربح الحياة الأخرى والفوز فيها، يقول: "المصالح المجتلبة والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى. لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية، فالشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين من أهوائهم حتى يكونوا عباد الله. وهذا المعنى إذا ثبت، لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة

_ 1 الموافقات، 2/ 25.

كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 1 الآية. فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا، لا من حيث أهواء النفوس2. ومن هنا جاء الشرع بوضع حدود وقيود على تحصيل مختلف المصالح والاستمتاع بها. لأن الإنسان باندفاعه وقصر نظره، قد يحرص على مصلحة وفيها مفاسد، أو فيها تفويت مصالح أهم منها. وقد يفر من مفسدة قريبة فيقع فيما هو شر منها. وقد يطلب الراحة العاجلة، فيجلب على نفسه -أو على غيره- عناء طويلًا، "ورب شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلا وعذابا وبيلًا3. وهذا يجرنا إلى مسألة اختلاط المصالح بالمفاسد، بحيث يكون الفعل الواحد مصلحة من جهة ومفسدة من جهة أخرى، أو مصلحة في عاجل أمره ومفسدة في عاقبته ومآله، أو العكس. وقد يكون مصلحة لأحد، مفسدة على غيره. وقديمًا قالوا: مصائب قوم عند قوم فوائد. ومعنى هذا أنه ليست هنالك مصالح خالصة ومفاسد خالصة "فإذا كان كذلك، فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا، إنما تفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفًا. وإذا غلبت الجهة الأخرى، فهي المفسدة المفهومة عرفًا4. واختلاط المصالح بالمفاسد تكلم عنه غير واحد ممن سبقوا الشاطبي، فالقرافي يقول: "استقراء الشريعة يقتضي أن ما من مصلحة إلا وفيها مفسدة، ولو قلت على البعد، ولا مفسدة إلا وفيها مصلحة، وإن قلت على

_ 1 سورة المؤمنون، 71. 2 من المسألة الثامنة من النوع الأول من المقاصد، "الموافقات، 2/ 37-39". 3 ابن عبد السلام، قواعد الأحكام، 1/ 8. 4 الموافقات، 2/ 26.

البعد، وقد قال الله تعالى في الخمر والميسر {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 1. وقبل القرافي، نص شيخه ابن عبد السلام على "أن المصالح الخالصة عزيزة الوجود2. إلا أن تناول الشاطبي للموضوع امتاز بتدقيق "مقاصدي" مهم، وهو أن الشارح حين يأمر بمصلحة وفيها قدر من المفسدة، فإنه لا يقصد ذلك القدر من المفسدة. وحين ينهي عن مفسدة وفيها نوع من المصلحة، فإنه لا يقصد بالنهي تلك المصلحة: "فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعًا. ولتحصيلها وقع الطلب على العباد. فإن تبعها مفسدة أو مشقة، فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه. وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد، فرفعها هو المقصود شرعيا. ولأجله وقع النهي. فإن تبعها مصلحة أو لذة، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل. فالحاصل في ذلك: أن المصالح المعتبرة شرعًا، هي خالصة، غير مشوبة بشيء من المفاسد، لا قليلا ولا كثيرًا3. ولما كانت المصالح والفاسد -في واقع الحياة- على هذا القدر الكثيف من التشابك والاختلاط والتعارض، كان لا بد من التشريع، وكان لا بد من أن يذعن الناس لهذا التشريع، ويدخلوا تحت سلطانه. وهذه هي أم المصالح، أو هي المصلحة "الكلية"، وعنها تصدر، وبها تضمن جميع المصالح. وهو ما يتمثل في

_ 1 شرح تنقيح الفصول، 78. 2 قواعد الأحكام، 1/ 7. 3 الموافقات، 2/ 26-27.

الشريعة. ذلك "أن أحكام الشريعة تشتمل على مصلحة كلية في الجملة، وعلى مصلحة جزئية في كل مسألة على الخصوص. أما الجزئية فما يعرب عنه كل دليل في خاصته. وأما الكلية فهي أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته وأقواله واعتقاداته. فلا يكون كالبهيمة المسببة تعمل بهواها، حتى يرتاض بلجام الشرع"1. ومن البدهيات أيضًا -في مفهوم المصلحة- أن الشريعة قد تضمنت حفظ المصالح من جميع الأنواع، وفي جميع المراتب. فقد تضمنت -كما تقدم غير ما مرة- حفظ المصالح الضرورية ومكملاتها، وحفظ المصالح الحاجية ومكملاتها، وحفظ المصالح التحسينية مهما صغر شأنها. ومعنى هذا أن الشريعة لم تهمل من أمر المصالح والمفاسد شيئًا، قليلًا كان أو جليلًا. وما لا تشمله نصوصها الخاصة، فقد شملته نصوصها العامة. وقد يشكل هذا مع ما هول معروف من تقسيم المصلحة -بالنظر إلى حكم الشرع فيها- إلى ثلاثة أنواع: مصلحة معتبرة، ومصلحة ملغاة، ومصلحة مرسلة. فبناء على هذا التقسيم -وهو مسلم عند جميع الأصوليين- فإن الشريعة لم تتضمن إلا حفظ النوع الأول من المصالح. وسكتت عن النوع الأخير، بينما أهدرت النوع الثاني. ومعنى هذا أن الشريعة قد حفظت نوعًا واحدًا من المصالح وأهدرت وأهملت غيره! والحقيقة أن ما أهدرته الشريعة من المصالح -وهي المصلحة الملغاة، حسب تقسيم الأصوليين- إنما هي المصالح المرجوحة، التي عارضتها مصالح أولى منها بالتقديم والاعتبار. فترجح حفظ الأهم على غيره. وذلك عندما تعذر الجميع بينهما. وليس في هذا أي إلغاء أو إهدار لحقيقته المصلحة. ولعل في آية الخمر والميسر

_ 1 الموافقات، 2/ 386.

-المتقدمة- أوضح مثال على هذا. فقد صرحت الآية أن في الخمر والميسر مفاسد ومصالح. ولكن جانب المفسدة كثير، والمفسدة عامة. بينما منافع الخمر والميسر قليلة، وفردية. فرجع الشارع جانب المصلحة الكثيرة والعامة، بدفع مفاسد الخمر والميسر وتحريمهما. وأهمل جانب المنافع القليلة الخاصة. ولكن هذه المنافع الملغاة في هذه الحالة، وليست ملغاة مطلقًا. فإذا افترضنا أن منافع الخمر والميسر، هي: الربح المالي، وهي متعة الانتشاء بالسكر، أو بالفوز في القمار فإن هذه المنافع ليست ملغاة في الشرع. بل قد أباح منها وشرع لها ما لا يحصى من أوجه الحفظ والتحصيل، وهي الأوجه التي لا يكون فيها مفاسد مكافئة أو تزيد، ولا يكون فيها تفويت مصلحة أهم وأولى بالتقديم. وإذًا، فإن "إلغاء" بعض المصالح، إنما هو عين الحفظ للمصلحة. وقل مثل هذا في سائر "المصالح الملغاة" أي أنها إنما ألغيت في حالات معينة. بينما هي معتبرة ومحفوظة في أضعاف أضعاف حالات المنع والإلغاء. ومعنى هذا أن حفظ المصلحة -أي مصلحة- هو الأصل، وأما الإلغاء حفظ جوانب أخرى من مصالحهم ومصالح غيرهم، مع أن ما فات من "المصلحة الملغاة" لم يفت مطلقًا، بل لتحصيله أبواب مشروعة واسعة كثيرة. ومن دقائق القاضي أبي بكر بن العربي قوله: "إن الباري سبحانه، ببديع حكمته، لما خلق لنا ما في الأرض جميعًا كما أخبرنا، قسم الحال فيه: فمنه ما أباحه على الإطلاق، ومنه ما أباحه في حال دون حال، ومنه ما أباحه على وجه دون وجه. فأما أن يكون في الأرض ممنوع لا تتطرق إليه إباحة في حال ولا على وجه، فلا أعلمه الآن1. وأما فيما يخص "المصالح المرسلة" فهي أيضًا ليست مصالح مهملة مسكوتًا عنها، أي أنها ليست مرسلة مطلقًا، بل هي "مرسلة" -فقط- من حيث عدم التنصيص الجزئي الخاص بها. أما من حيث جنسها، ومن باب أولى، من حيث كونها مصلحة وخيرًا ونفعًا.

_ 1 عارضة الأحوذي، 5/ 199.

أما بهذا الاعتبار، فليست هناك مصلحة مرسلة أبدًا. فأي مصلحة تبقى مرسلة بعد قول الله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1 وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} 2 وبعد أن بين سبحانه أنه أرسل رسوله إلى الناس {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} 3 وبعد أن جعل شعار المؤمنين -بعد غمانهم- هو {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 4 وبعد أن أمر سبحانه بالتعاون على كل ذلك: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 5. فالناس مأمورون -في هذه الآيات وغيرها- بفعل الخير، وبالعدل والإحسان وبفعل المعروف، وبفعل الصالحات، وبفعل البر، ومأمورون بالتعاون على ذلك كله. وعلى ذلك كله يتوقف فلاحهم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، ولا فلاح لهم -لا في دنيا ولا في آخرة- إلا بهذا: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . ومما هو جدير بالتدبر في هذا المقام ما خرجه الإمام مسلم عن مجاشع بن مسعود السلمي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أبايعه على الهجرة فقال: "إن الهجرة قد مضت لأهلها، ولكن على الإسلام والجهاد والخير". والحق أن أي نص من هذه النصوص، كاف وحده للدلالة على أنه ليست هناك مصلحة أو منفعة، إلا وهي مطلوبة، ومشمولة بعناية الشريعة ورعايتها. وأيضًا، فقد أجمع العلماء -على اختلاف تخصصاتهم، ومذاهبهم، وعصورهم- على كون الشريعة قد تضمنت حفظ الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، وأن أمهات المصالح المحفوظة -أو المطلوب حفظها- هي: الدين،

_ 1 سورة الحج، 77. 2 سورة النحل، 90. 3 سورة الأعراف، 157. 4 يوجد منها في القرآن عشرات. 5 سورة المائدة، 2.

والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وأن "كل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة، فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعا مصلحة"1. فهل يمكن أن نتصور مصلحة خارجة عن خدمة هذه الضروريات وبمراتبها الثلاث؟ ما أنا فقد عجزت. وقد قال الإمام الغزالي: "والصحيح أن الاستدلال المرسل في الشرع لا يتصور، حتى نتكلم يه بنفي أو إثبات"2. وإذًا، فكل المصالح معتبرة، وليست هناك مصلحة "مرسلة" إرسالًا تاما مثلما أنه ليست هناك مصلحة "ملغاة" إلغاء تاما.

_ 1 المستصفى، 1/ 287. 2 المنخول، 359.

ادراك المصالح بالعقل

إدراك المصالح بالعقل: وهذه المسألة هي -تقريبًا- المسألة المعروفة في علم الكلام، وفي علم أصول الفقه، بمسألة التحسين والتقبيح. وإنما تجنب استعمال هذه التسمية، وقلت: "تقريبًا"، لأني لا أريد متابعة الجدليات التي دارت حولها، كما لا أريد إسقاط الموضوع في متاهات ما يسمى بعلم الكلام. بل أريد معالجة الموضوع بالقدر الضروري فقط. وإنما تعرضت لهذه المسألة، لما لها -في الأصل- من أهمية وتأثير على موضوع إدراك المصالح، ولأن الشاطبي نفسه لم ينج من بعض الآثار السلبية لها. وأعني بالذات تأثره بالنظرة الأشعرية إلى الموضوع. بل إن هذه النظرة الأشعرية ما زالت رائجة -إن لم تكن سائدة- إلى اليوم. ولننطلق من الشاطبي -فهو منطلق البحث كله- لنرى بعض مظاهر أشعريته في الموضوع. ومن خلاله، ستتضح معالم النظرية الأشعرية في التحسين والتقبيح.

فهو يصرح بأن نظرته تنبني على ما تقرر في علم الكلام، وهو يعني دون شك علم الكلام الأشعري. ففي المقدمة العاشرة يقرر -كما يقرر ذلك كل مسلم- أنه: "إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا، ويتأخر العقل فيكون تابعًا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل1. ثم استدل على ذلك بأدلة منها: "ما تبين في علم الكلام والأصول، من أن العقل لا يحسن ولا يقبح2 بمعنى أنه لا يقدر -ولا يملك الحق- في أن يحكم على الأشياء والأفعال بأنها حسنة أو قبيحة، أي بأنها مصلحة أو مفسدة. وأما لماذا كان العقل غير قادر على التحسين والتقبيح، فلأن الأشياء والأفعال -حسب النظرية الأشعرية - ليست حسنة ولا قبيحة في حد ذاتها. فكيف يدرك العقل شيئًا "غير موجود" أعني حسن الأشياء وقبحها، أي صلاحها وفسادها. فليس عندهم شيء حسن إلا بتحسين الشرع له، وليس عندهم شيء قبيح إلا بتقبيح الشرع له. أما بدون تحسين الشرع وتقبيحه، فلا حسن ولا قبح. وكل الأمور على حد سواء. وهذا بالضبط ما يردده الشاطبي، حيث يقول: "كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم، والمفسدة مفسدة كذلك، مما يختص بالشارع، لا مجال للعقل فيه، بناء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح. فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما، فهو الواضع لها كمصلحة. وإلا فكان يمكن -عقلًا- أن لا تكون كذلك. إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح. فإذًا، كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع، بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس"3.

_ 1 الموافقات، 1/ 87. 2 الموافقات، 1/ 87. 3 الموافقات، 2/ 315.

ويؤكد هذا المعنى في سياق آخر، وبشكل أوضح، فيقول: "الأفعال والتروك -من حيث هي أفعال وتروك- متماثلة عقلًا، بالنسبة إلى ما يقصد بها، إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح"1. ورغم أن الشاطبي -كما هو واضح- يمر على مسألة التحسين والتقبيح مرا سريعًا، على خلاف ما يفعله الأصوليون والمتكلمون الأشاعرة من التوقف المطول والرد المفصل على المعتزلة، رغم هذا، فإن التأثير الأشعري بادٍ على كلامه. فهو يتضمن إنكار حسن الأفعال وقبحها، أي كونها -ذاتها- مصلحة أو مفسدة. إذ الأفعال والتروك -في العقل- "متساوية متماثلة". وإذن، فلا تحسين للعقل ولا تقبيح. وهذا هو جوهر النظرية الأشعرية، يقول الإمام الجويني -وهو أحد أقطاب الأشاعرة- "فليس الحسن صفة زائدة على الشرع مدركة به، وإنما هو عبارة عن نفس ورود الشرع بالثناء على فاعله. وكذلك القول في القبح. فإذا وصفنا فعلًا من الأفعال بالوجوب أو الحظر، فلسنا نعني بما نثبته تقدير صفة للفعل الواجب يتميز بها عما ليس بواجب. وإنما المراد بالواجب: الفعل الذي ورد الشرع بالأمر به إيجابًا. والمراد بالمحظور: الفعل الذي ورد الشرع بالنهي عنه حظرًا وتحريمًا"2. ومعلوم أنه توجد -بإزاء نظرية الأشاعرة هذه- نظريتان أخريان هما: نظرية المعتزلة، ونظرية الماتريدية. أما المعتزلة فيرون أن الحسن والقبح ذاتيان عقليان؛ أي أن الأشياء والأفعال والتروك موصوفة بالصلاح والفساد قبل أن يأتي حكم الشرع بذلك، وأن العقل يدرك ذلك ويثبته. ولكنهم لم يقفوا عند هذا الحد. بل ذهبوا إلى أن الإنسان العاقل مكلف بمقتضى عقله عند عدم وجود الحكم الشرعي، ما دام الحسن والقبح عقليين. ومعنى هذا أن الحكم الشرعي يثبت بالعقل كما يثبت بالسمع.

_ 1 الموافقات، 2/ 333. 2 الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، ص259، "نقلا عن مذاهب الإسلاميين، لعبد الرحمن بدوي، 1/ 743".

وأما الماتريدية، ومن وافقهم أو وافقوه من أهل التحقيق والإنصاف، فقد أثبتوا كون الحسن والقبح ذاتيين عقليين. ولكنهم لم يرتبوا على ذلك ما رتبه المعتزلة، ولم يعتبروا أن التكاليف والأحكام الشرعية تثبت بمجرد العقل. بل لا بد لذلك من السمع. وإذا كانت النظرية الاعتزالية قد انقرضت مع أصحابها، حتى أصبحت لا تذكر إلا عند خصومها، وفي سياق تفنيدها والتشنيع عليها، فإن نظرية الأشاعرة قد كتب لها الاستمرار والذيوع، وما زال بعض الكتاب -إلى اليوم- يتبنونها بحذافيرها، مع أن الظروف التي أنتجتها قد ولت منذ قرون. فهذا الدكتور محمد سعيد البوطي يقول: "إن الصلاح والفساد في الأفعال، إنما يعتبر كل منهما أثرًا وثمرة لأحكام الشارع على الأشياء من تحريم وإباحة وإيجاب. وإلا لبطل أن تكون المصالح فرعًا لدين كما ذكرنا"1. ومعنى هذا أن صلاح الأشياء وفسادها، وصلاح الأفعال وفسادها ثمرة من ثمرات إنزال الشرائع!! وقبل الشرائع وأحكامها لا يكون صلاح ولا فساد!! وإذا لم نقل بهذا، لزم -على رأي الدكتور البوطي- بطلان ما قرره من كون المصالح فرعًا للدين. ثم يقول بعد ذلك "وأما أن أحكام الله متأخرة عن المصالح، فلذلك باطل أنكره جمهور المسلمين2، ويتناقض -لو قيل به- مع ما تقرر من عدم وجود حسن وقبح ذاتيين في الأفعال"3.

_ 1 ضوابط المصلحة، 65. 2 لو قال: جمهور الأشاعرة، لكان القول صحيحًا. فهذا مذهب جمهورهم، خلافًا لبعض المنصفين منهم، الذين وافقوا مذهب الأحناف الماتريدية وغيرهم، على ما سيتضح قريبًا بحول الله. أما "جمهور المسلمين" فهيهات! 3 ضوابط المصلحة، 65.

والدكتور البوطي -في هذا - يقرر أمرًا في غاية الخطورة، وفي غاية المصادمة للبدهيات، ومع ذلك فإن دليله عليه ليس إلا "ما تقرر" من عدم وجود حسن وقبح ذاتيين! أما من الذي قرر هذا؟ وكيف تقرر؟ ولماذا؟ وما نصيب هذا التقرير من الصحة؟ فكل ذلك ليس من المصلحة إثارته، لأنه سيشوش على ما يقرره هو أيضًا! وأما أن ما قرره -وما استدل به أيضًا- يصادم البدهيات فقد أحس به مقرروه الأوائل. فهذا إمام الحرمين الجويني يقول: "ولسنا ننكر أن العقول تقتضي من أربابها اجتناب المهالك، وابتدار المنافع الممكنة، على تفصيل فيها -وجحد هذا خروج عن المعقول- ولكن ذلك في حق الآدميين. والكلام في مسألتنا مداره على ما يحسن أو يقبح في حكم الله تعالى1. ويبدو لي أن أبا المعالي -بهذا القول- قد خرج عن طوق النظرية الأشعرية، والتحق -أو كاد- بالماتريدية. فقد اعترف -وبغض النظر عن حكم الشارع- بوجود مهالك، ووجود منافع. وأن العقول تدركها وتميز بينها، فتقتضي اجتناب الأولى وابتدار الثانية، وهذا هو معنى كون الحسن والقبح ذاتيين عقليين. ولئن كان إمام الحرمين، قد اضطر -اضطرارًا- إلى هذا القدر من الاعتراف بالتحسين والتقبيح، فإن عددًا من الشافعية -وهم أشاعرة طبعًا- قد عرفوا بمخالفتهم الصريحة للنظرية الأشعرية، وانتصروا لإثبات الحسن والقبح الذاتيين، والتحسين والتقبيح العقليين. قال ابن القيم: "واختاره من أئمة الشافعية الإمام أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير، وبالغ في إثباته، وبنى كتابه "محاسن الشريعة" عليه، وأحسن فيه ما شاء. وكذلك الإمام سعيد بن على الزنجاني، بالغ في إنكاره على أبي الحسن الأشعري القول بنفي التحسين والتقبيح، وأنه لم يسبقه إليه أحد. وكذلك أبو القاسم الراغب، وكذلك أبو عبد الله الحليمي، وخلائق لا يحصون"2.

_ 1 البرهان، 1/ 91. 2 مفتاح دار السعادة، 2/ 42.

ومن أئمة الشافعية، الذين لم يذكرهم ابن القيم -ولا ابن السبكي في نصه الآتي فيما بعد- الإمام عز الدين بن عبد السلام الذي ذهب بعيدًا في مخالفة النظرية الأشعرية، فقال: "ومعظم مصالح الدنيا ومفسادها معروف بالعقل. إذ لا يخفى على عاقل -قبل ورود الشرع- أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن. واتفاق الحكماء على ذلك، وكذلك الشرائع، على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض وإن اختلف في ذلك، فالغالب أن ذلك لأجل الاختلاف في التساوي والرجحان"1. على أن إنكار ما في الأفعال من صلاح وفساد، ومن نفع وضرر، وأن العقول تدلك من ذلك الشيء الكثير، ليس فحسب خروجًا عن المعقول، وإنما هو تجاهل وتعطيل للدلالات الصريحة لكثير جدا من النصوص الشرعية. فقد أمر القرآن الكريم بفعل الخير والصلاح والمعروف، ونهى عن الشر والفساد والمنكر، وأمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والبغي، وأخبر أنه أحل الطيبات وحرم الخبائث. فلولا أن لهذه المأمورات وهذه المنهيات معان يعرفها المخاطبون لما كان لمخاطبتهم بها فائدة. فمن يستطيع أن ينكر أن الناس كانوا يوم خوطبوا بها على إدراك واضح لمحتواها ومعناها؟ وأنهم خوطبوا على أساس ذلك الإدراك؟ بل إنهم كانوا يقدرونها قدرها. ولهذا عرفوا أن من يأمر بهذا الخير وبهذا الصلاح، وينهى عن هذا الشر وهذا الفساد، ولا يتجاوزهما، لا يمكن أن يكون كاذبًا، ومن هنا بادر عدد من فضلاء العرب إلى الإسلام لمجرد تقديرهم لما دعا إليه من حق وصلاح، وما نهى عنه من ضلال وفساد. ومن ذلك ما رواه ابن ماجة عن علي رضي الله عنه، قال: أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب، فخرج، فوقف على مجلس قوم من شيبان بن ثعلبة

_ 1 قواعد الأحكام، 1/ 5-6 وسيأتي تعقب الشاطبي لابن عبد السلام فيما قرره -في نص آخر غير هذا- من أن المصالح والمفاسد الدنيوية تعرف بالضرورات والتجارب والعادات.

في الموسم، فدعاهم إلى الإسلام وأن ينصروه. فقال مفروق بن عمرو -منهم- إلام تدعونا أخا قريش؟ فتلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} الآية. فقال: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال. ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك1. وبمثل هذا التقدير لدعوة الإسلام إلى الحق والعدل، أسلم الطفيل بن عمرو الدوسي -زعيم قبيلة دوس- وقد حكى قصة إسلامه بنفسه، حيث جاء فيها: "فعرض عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، وتلا عليَّ القرآن. فوالله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه. فأسلمت وشهدت بشهادة الحق2. فقد كان القرآن يخاطبهم بالحق ويأمرهم بالعدل، وينكر عليهم المنكر، ويشنع على ما هم فيه من باطل. فأما خيارهم فقد بادروا إلى الإذعان لما سمعوه من الخير الذي يدركون حسنه وخيريته. وأما من تلكأ وتأخر وتنكب، فإنما أخذته الحمية والعزة بالإثم. فغلبت نفسه عقله. وقد روي عن قتادة -المفسر التابعي- أنه قال: "وليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه، إلا أمر الله به في هذه الآية3. وليس من خلق كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى عنه وقدح فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها"4. وعندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة من النساء بعد فتح مكة، وكان يأخذ بيعتهن على البنود المذكورة في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ

_ 1 عن تفسير العلامة ابن عاشور، التحرير والتنوير، 14/ 259. 2 سيرة ابن هشام، 1. 3 وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، سورة النحل، 90. 4 التحرير والتنوير، 14/ 259.

اللَّهَ} 1، جاءت هند بنت عتبة "زوج أبي سفيان" فبايعت على هذه البنود واحدًا واحدًا. فلما قال لها: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ} قالت: "والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق"2. ولنتذكر، ولنتأمل، ذلك الموقف الجليل، للسيدة العظيمة، أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وهو الوارد في قصة بدء الوحي، حيث عاد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابه من هول الوحي ما أصابه، فقص عليها الخبر وقال: "لقد خشيت على نفسي"، فقالت له خديجة: كلا أبشر، فوالله ما يخزيك الله أبدا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق3. والتأمل في هذا الموقف، وفي هذا القول، ينبغي أن يوجه إلى ثلاثة جوانب منه، كلها تشهد بالحسن والقبح الذاتيين العقليين: 1- الرسول صلى الله عليه وسلم كان متخلقا بهذه الأخلاق قبل الوحي وقبل البعثة مستحسنًا إياها بعقله السليم وفطرته النقية. 2- السيدة خديجة رضي الله عنها، تستحسن أيضًا، هذه الفعال الكريمة، وترتضيها من زوجها، وتعتبرها من مكارمه وفضائله، وليست في هذا مستندة إلى أي حكم شرعي. 3- السيدة خديجة توقن أن هذه الأفعال لا يمكن أن تلقى من الله إلا الرضى والمحبة، ولا يمكن أن يلقى صاحبها من الله إلا الرعاية والتكريم والجزاء الحسن. ولست أدري ما يقول المنكرون للحسن والقبح، فيما وصف الله تعالى به عددا من الأشياء والأفعال، كوصفه الخمر والميسر والأنصاب والأزلام بأنها

_ 1 سورة الممتحنة، 12. 2 رواه الطبري بسنده إلى ابن عباس، انظر التحرير والتنوير، لابن عاشور، 28/ 168. 3 صحيح البخاري.

{رِجْسٌ} 1، وكوصفه الزنى بأنه {كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} 2 وكوصفه المحيض بأنه {أَذًى} 3. فهل كانت هذه الموصوفات قبيحة فاسدة قبل مجيء النص، ومنذ كانت، أم أنها لم تتصف بالضرر والأذى إلا بعد أن جعلها النص كذلك؟ إن الله تعالى لم يخبرنا بأن الخمر والميسر. قد صارت رجسا، وأن الزنى قد صار فاشحة، وأن المحيض قد أصبح أذى، بل يخبرنا وينبهنا على ما هي عليه، ليرتب على ذلك التحريم والتحذير. ففساد الخمر والميسر، وفحش الزنى، وأذى المحيض، أمور قائمة واقعة قبل النص وبعده. لا كما ذهب ابن حزم -وهو موافق في هذا لنظرية الأشاعرة، وإن كان من أشد خصومهم- حيث يرى: أن الميسر لم يعهد منه -قبل التحريم- إيقاع عداوة بين الناس، ولا أذهب عقل أحد منهم، ولم يعهد إلا موافقًا للناس نافعًا لهم! وكذلك الخمر -عنده- ليست مفسدة لأخلاق جميع الناس، "بل نجد كثيرًا من الناس يبكون إذا سكروا، ويكثرون ذكر الآخرة والموت, والإشفاق من جهنم، وتعظيم الله تعالى، والدعاء في التوبة، والمغفرة. ونجدهم يكرمون حينئذ ويحملون4، ويزول عنهم كثير من سفههم وتؤمن غوائلهم"5!! وقديمًا تعلل المشركون -فيما كانوا عليه من فواحش- بكونها من فعل أسلافهم، وأن الله أمر بذلك، فزجرهم الله تعالى بقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ، قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} 6.

_ 1 سورة المائدة، 90. 2 سورة الإسراء، 32. 3 سورة البقرة، 222. 4 أي يصيرون كرماء حلماء. 5 الإحكام، 8/ 88. 6 سورة الأعراف، 28.

قال الإمام ابن تيمية: "فإنه أخبر عن نفسه -في سياق الإنكار عليهم- أنه لا يأمر بالفحشاء. فعلم أنه لا يجوز عليه الأمر بالفحشاء، وذلك لا يكون إلا إذا كان الفعل في نفسه سيئًا. وهذا قول من يثبت للأفعال في نفسه صفات الحسن والسوء، كما يقوله أكثر العلماء"1. وقال العلامة ابن عاشور: "فقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} نقض لدعواهم أن الله أمرهم بها، أي بتلك الفواحش، وهو رد عليهم، وتعليم لهم، وإفاقة لهم من غرورهم. لأن الله متصف بالكمال، فلا يأمر بما هو نقص لم يرضه العقلاء وأنكروه. فكون الفعل فاحشة كاف في الدلالة على أن الله لا يأمر به، لأن الله له الكمال الأعلى"2 وقال: "فالفعل يوصف بأنه فاحشة قبل ورود الشرع"3. ولقد كتب الإمام ابن قيم الجوزية فصولًا بديعة وحاسمة في الموضوع، وذلك في الجزء الثاني من كتابه "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة". ومن بين الأدلة الكثيرة التي أفاض في ذكرها وبيان دلالتها، قوله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 4. قال: "فهذا صريح في أن الحلال كان طيبًا قبل حله، وأن الخبيث كان خبيثًا قبل تحريمه. ولم يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس الحل والتحريم لوجهين اثنين: أحدهما أن هذا علم5 من أعلام نبوته التي احتج بها على أهل الكتاب فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ

_ 1 مجموع الفتاوي، 15/ ص8. 2 التحرير والتنوير، 8/ 84. 3 نفس المصدر، 8/ 82. 4 سورة الأعراف، 157. 5 أي: دليل.

الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ} . فلو كان الطيب والخبث إنما استفيد من التحريم والتحليل، لم يكن في ذلك دليل. فإنه بمنزلة أن يقال: يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم! وهذا أيضًا باطل، فإنه لا فائدة فيه. وهو الوجه الثاني فثبت أنه أحل ما هو طيب في نفسه قبل الحل. فكساه بحله طيبًا آخر. فصار منشأ طيبه من الوجهين معًا. فتأمل هذا الموضع حق التأمل، يطلعك على أسرار الشريعة ويشرفك على محاسنها وكمالها، وبهجتها وجلالها، وأنه من الممتنع في حكمة أحكم الحاكمين أن ترد بخلاف ما وردت به. وأن الله تعالى يتنزه عن ذلك كما يتنزع عن سائر ما لا يليق به. ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 1 وهذا دليل على أنها فواحش في نفسها، لا تستحسنها العقول. فتعلق التحريم بها لفحشها"2. والحقيقة أن الذين تورطوا من الأشاعرة، في إنكار الحسن والقبح الذاتيين وإنكار التحسين والتقبيح العقليين وإنما انجروا إلى ذلك بفعل الصراع الجدلي الطويل مع خصومهم المعتزلة. ومعلوم أن الإمام أبا الحسن الأشعري -وهو أول قائل بهذا- قد تخرج -ثم خرج- من حلقة المعتزلة. وبهذا فإن الأشعرية ولدت من الصراع، ونبتت في الصراع. ولم تزد الأيام. بل القرون -بعد ذلك- هذا الصراع إلا استفحالا وتغاليًا. وأصبحت مخالفة المعتزلة واجبًا عينيا" على كل أشعري! ولهذا، فعندما أخل بعض الأشاعرة -شيئًا ما- بهذا الواجب، انتقصوا ووصفوا بعدم الرسوخ في علم الكلام. فمن ذلك موافقة بعض الأشاعرة لقول المعتزلة "شكر المنعم3 واجب بالعقل": قال ابن السبكي "وقد ذهب إلى ذلك أيضًا بعض أصحابنا كالصيرفي وأبي العباس وابن سريج، والقفال الكبير وابن أبي

_ 1 سورة الأعراف، 33. 2 مفتاح دار السعادة، 2/ 6-7. 3 أي الله تعالى.

هريرة، والقاضي أبي حامد، وغيرهم، وقد اعتذر القاضي في "التقريب" والأستاذ أبو إسحاق في أصوله، والشيخ أبو محمد الجويني في "شرح الرسالة" عمن وافق المعتزلة من أصحابنا بأنهم لم يكن لهم قدم راسخ في الكلام. وربما طالعوا كتب المعتزلة فاستحسنوا هذه العبارة، وهي "شكر المنعم واجب بالعقل" فذهبوا إليها غافلين عن تشعبها عن أصول القدرية"1. ومن غريب ما تصنعه الخصومات والصراعات أن تجد الإمام الغزالي -وهو عملاق الفكر الإسلامي- يخشى ويحذر أن ينسب إليه ما نسب إلى هؤلاء، من التأثر بالمعتزلة. فقد هم أن يصرح بإدراك العقول للمصالح، ولكنه اختار عبارة حذرة. فقال فيما يخص حفظ النفوس وأنه أمر ضروري: "والعقول مشيرة إليه وقاضية به لولا ورود الشرائع. وهو الذي لا يجوز انفكاك شرع عنه عند من يقول بتحسين العقل وتقبيحه2. ونحن وإن قلنا: إن لله سبحانه وتعالى أن يفعل ما شاء بعباده وأنه لا يجب عليه رعاية الصلاح، فلا ننكر إشارة العقول إلى جهة المصالح والمفاسد". إلى أن قال -وهذا هو بيت القصيد- وإنما نبهنا على هذا

_ 1 رفع الحاجب عن ابن الحاجب، 1/ ق 82/ ب، نقلا عن هامش الدكتور محمد حسن هيتو "المنخول، ص15". 2 يشير إلى المعتزلة وقوله: يجب على الله رعاية الصلاح للعباد، وأنه لا يجوز عليه خلاف ذلك، وانظر كيف أبعد الغزالي عن نفسه هذه المقالة، مع أن عبر عن هذا المعنى نفسه، وبعبارة أقوى، حيث قال عن حفظ الضروريات الخمسة "يستحيل أن لا تشمل عليه ملة من الملل" "المستصفى، 1/ 288" بل هو في نفس السياق أعلاه يقول عن تحريم الخمر حفظًا للعقل -ودون أن ينسب ذلك لأهل التحسين والتقبيح- فهذا أيضًا لا يجوز أن تنفك عنه عقول العقلاء، ولا أن يخلو عنه شرع مهد بساطه لرعاية مصلحة الخلق في الدين والدنيا" "شفاء الغليل، 164. وقد تنبه أحد الأصوليين المتأخرين -وهو أمير باد شاه- إلى أن الخلاف مع المعتزلة في مسألة الوجوب، يمكن أن يكون خلافًا لفظيا لا غير، قال "نعم لو فسروا الوجوب بأنه أمر لا بد منه لا يتخلف البتة فلا نزاع" تيسير التحرير، 3/ 303. وقد وضع الطوفي مخرجًا توفيقيا طريفًا من هذا النزاع في رعاية المصلحة من الله، وهل ذلك وجوب أو تفضل، فقال والحق أن رعاية المصالح واجبة من الله عز وجل، حيث التزم التفضل بها، لا واجبة عليه". انظر المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي، ص214.

القدر كي لا ننسب إلى اعتقاد الاعتزال، ولا ينفر طبع المسترشد عن هذا الكلام، خيفة التضمخ بعقيدة مهجورة يرسخ في نفوس أهل السنة تهجينها. فليعتقد -على هذا التأويل1- أن العقول ترشد إلى الزجر عن القتل، بالقصاص2 أي أن العقول تستحسن القصاص حفظًا للنفوس، وزجرًا عن العدوان عليها، حتى لو لم ترد به الشرائع. وإذا كان ابن السبكي قد حكى لنا -في نصه المتقدم- عن بعض الأشاعرة الذين وافقوا المعتزلة في جانب من مسألتنا، وأن الأشاعرة اللاحقين قد اعتذروا عنهم، أي التمسوا لهم العذر، فإننا اليوم بحاجة إلى أن نلتمس العذر لأولئك الذين أنكروا البدهيات ودافعوا عن الأوهام والخيالات، نكاية بالمعتزلة وإمعانًا في مناقضتهم. وقد تكون لهم أعذار أخرى. منها مثلًا، أن معظم المؤلفات الأشعرية تحصر الخلاف في المسألة بين المعتزلة القائلين كذا وكذا وكذا، وبين الأشاعرة. فينفر الدارس من المعتزلة، نظرًا لغلوهم وسوء سمعتهم، ثم لا يجد أمامه إلا أن يتبنى مقولات الأصحاب ويدافع عنها. وإلى هذا الخلل الملابس للمسألة، يشير الشيخ محمد بخيت المطيعي، مفتي الديار المصرية في وقته -وهو حنفي- فيقول: "بل إن أكثر كتب الأصول الشافعية لا يوجد فيها تفصيل ما يتعلق بمذهب الحنفية. بل يقتصرون على نسبة القول بعقلية الحسن والقبح للمعتزلة. مع أن كثيرًا من الشافعية الذين تعرضوا لنقل مذهب الحنفية، اختاروا المذهب الوسط الذي هو مذهب أكثر الحنفية، لأنه هو الذي يشهد له الكتاب والسنة"3. ولعل أقوى أعذارهم -أو حججهم- هو أنهم رأوا أن القول بتحسين العقل وتقبيحه، أي بإدراكه للمصالح والمفاسد، يفتح الباب لكل ملحد، ولكل منكر

_ 1 لاحظ كثرة الاحتياطات! 2 شفاء الغليل، 162-163. 3 سلم الوصول لشرح نهاية السول، وهو مطبوع على هامش، نهاية السول في شرح منهاج الأصول، للأسنوي، 1/ 85-86.

للنبوات، أن يدعي أنه لا ضرورة للرسالة والشريعة، لأن العقل يعني عنها. وقد وجد فعل من قالوا بهذا، كالبراهمة، وبعض الفلاسفة وغيرهم. فمنهم من زعم أن لا حاجة إلى شريعة وشارع غير العقل، ومنهم من رأى أن ذلك يحتاج إليه العامة البلداء دون الخاصة العقلاء1. وبهذا، فإن التسليم بتحسين العقل وتقبيحه، يفتح فتنة لا تنتهي. أو "تنتهي" بنبذ الدين والانسلاخ عن شريعته. ورغم أن لهذا التخوف قدرًا من الواقعية، فإنه لا ينبغي أن يحملنا على التنكر للحقائق. فدفع الباطل لا يكون بالباطل. والدفاع عن الحق لا يكون بإنكار الحق. فإن هذا الأسلوب لا يؤدي إلا إلى إضعاف الحق وتقوية الباطل. أما أن القول بتحسين العقل وتقبيحه يفضي إلى القول بإمكان الاستغناء عن الدين وشريعته، فإبطاله من عدة وجوه: 1- أن العقل نفسه يفضي بصاحبه إلى التصديق والإيمان بالأنبياء وبما جاءوا به، وأنه الحق الذي لا مرية فيه. هذه هي القاعدة الصلبة لوجوب اتباع الأنبياء وشريعتهم. أعني: الاقتناع والتيقن بصدق النبي وبكونه مرسلًا من رب العالمين. فلا يبقى أمام العاقل إلا أن يسلم وينقاد للأدلة والبراهين القاطعة بصدق الرسول. 2- أن العقل نفسه، يصل إلى الاقتناع بما حوته الشريعة من حفظ المصالح على أكمل وجه، وحتى إذا لم يدرك ذلك على وجه التفصيل، فإنه يصل إلى إدراكه على وجه الإجمال. ثم إننا نرى أن الناظر والدارس للشريعة، كلما ازداد تعمقًا وتفقهًا فيها، كلما ازداد إدراكًا لمحاسنها وكمال حفظها للمصالح، جملة وتفصيلًا. 3- أن القول بإدراك العقل للمصالح والمفاسد، لا يعني أن إدراكه تام مطلق. بل إنه يدرك ويعجز، ويصيب ويخطئ. وقد بين ابن القيم هذه النقطة

_ 1 انظر مفتاح دار السعادة، 2/ 55/ 57.

فقال: "بل غاية العقل أن يدرك بالإجمال حسن ما أتى الشرع بتفصيله، أو قبحه. فيدركه العقل جملة. ويأتي الشرع بتفصيله، وهذا كما أن العقل يدرك حسن العدل، وأما كون هذا الفعل المعين عدلًا أو ظلمًا، فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد. وكذلك يعجز عن إدراك حسن كل فعل وقبحه. فتأتي الشرائع بتفصيل ذلك وتبيينه. وما أدركه العقل الصريح من ذلك، تأتي الشرائع بتقريره. وما كان حسنًا في وقت قبيحًا في وقت، ولم يهتد العقل لوقت حسنه من وقت قبحه أتت الشرائع بالأمر به في وقت حسنه، وبالنهي عنه في وقت قبحه. وكذلك الفعل يكون مشتملا على مصلحة ومفسدة، ولا تعلم العقول: مفسدته أرجح أم مصلحته؟ فيتوقف العقل في ذلك. فتأتي الشرائع ببيان ذلك، وتأمر براجح المصلحة, وتنهى عن راجح المفسدة. وكذلك الفعل يكون مصلحة لشخص، مفسدة لغيره. والعقل لا يدرك ذلك. فتأتي الشرائع ببيانه، فتأمر به من هو مصلحة له، وتنهى عنه من هو مفسدة في حقه. وكذلك الفعل يكون مفسدة في الظاهر، وفي ضمنه مصلحة عظيمة، لا يهتدي إليها العقل، فلا تعلم إلا بالشرع: كالجهاد والقتل في الله. ويكون في الظاهر مصلحة، وفي ضمنه مفسدة عظيمة لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة والمفسدة الراجحة. هذا مع أن ما يعجز العقل عن إدراكه من حسن الأفعال وقبحها ليس بدون1 ما تدركه من ذلك. فالحاجة إلى الرسل ضرورية. بل هي فوق كل حاجة. فليس العالم إلى شيء أحوج منهم إلى المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين"2. وقد تعرض الشاطبي مرارًا لبيان هذا القصور في إدراك العقل للمصالح والمفاسد، وكثيرًا ما يستشهد عليه بأهل الفترات الذين وقعوا في كثير من

_ 1 أي: بأقل مما. 2 مفتاح دار السعادة، 2/ 117.

التخبط وسوء التقدير والتدبير، لكن "مع الاعتراف بأنهم أدركوا بعقولهم أشياء قد وافقت، وجاء الشرع بإقرارها وتصحيحها. لكنها بالنسبة إلى ما لم يصيبوا فيه قليلة، فلأجل هذا كله وقع الأعذار والإنذار، وبعث الله النبيين"1. ويؤكد هذا القصور أن الواحد منا يأتي عليه وقت يعتقد فيه أنه قد أحاط بأمر ما دراسة وعلما، وقتله خبرة وفهمًا، ثم لا يمر وقت إلا وقد أدرك منه ما لم يكن أدرك من قبل، وتكشف له من أمره ما لم يكن يظن2. وهناك أمور يغلب على الإنسان، في تقديرها، طبعة وغريزته وشهوته، فلا يستطيع إبصار حقيقتها ومآلها "وكم من لذة وفائدة يعدها الإنسان كذلك، وليست في أحكام الشرع إلا على الضد، كالزنى وشرب الخمر، وسائر وجوه الفسق التي يتعلق بها غرض عاجل"3. والنتيجة: "أن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه"4. ومن هنا تعقب الشاطبي عز الدين بن عبد السلام5، عندما أطلق القول بأن المصالح والمفاسد الدنيوية تعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، وأن من أراد أن يعرف المناسبات في المصالح والمفاسد راجحها من مرجوحها، فليعرض ذلك على عقله، بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك، إلا التعبدات التي لم يوقف على مصالحها ومفاسدها.

_ 1 الاعتصام، 2/ 321. 2 الاعتصام، 2/ 322. 3 الموافقات، 1/ 50. 4 الموافقات، 1/ 349. 5 دون أن يسميه، وإنما ذكر -فقط- "أن بعض الناس قال" ثم أورد كلامه بنصه الموجود في: "قواعد الأحكام"، 1/ 10.

قال الشاطبي: "ليس كما قال، من كل وجه. بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض. ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق، لم يحتج في الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة خاصة، وذلك لم يكن، وإنما جاء الشرع يقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معًا. وقد بث في ذلك من التصرفات، وحسم من أوجه الفساد التي كانت جارية ما لا مزيد عليه. فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل. اللهم إلا أن يريد هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها. فذلك لا نزاع فيه"1. 4- وأخيرًا، فإن الناس مهما بلغوا في إدراك وتقدير مصالحهم ومفاسدهم -وقد رأينا حدود ذلك- فإنهم يظلون بحاجة إلى تلك الحوافز الدينية القوية، التي تقوي استعدادهم للالتزام العملي بحفظ المصالح واجتناب المفاسد. فالدين -باعتبار مصدره- يعطي يقينًا وطمأنينة في التحسين والتقبيح، قلما يعطي العقل شيئًا منهما. والدين -بإضفائه معنى التعبد والخضوع لله، على جلب المصالح ودرء المفاسد- يعطي للأمور قدسية وجدية، لا سبيل إلى توفيرها إلا به. والدين -ببعده الأخروي، المتمثل في الثواب والعقاب، وبأسلوبه في الترغيب والترهيب- يوفر حوافز أخرى، تحمل الناس على العمل الصالح البناء، وعلى اجتناب الفساد والضرر. وهذا أيضًا لا يتوفر إلا بالدين، عقيدة وشريعة. ولأجل هذا كله كانت مصلحة الدين هي أولى المصالح وأولاها بالرعاية والحفظ. فهو منبع لكل مصلحة أخروية ودنيوية.

_ 1 الموافقات، 2/ 48.

وقد يقال -بعد كل هذا- إذا كان تحسين العقل وتقبيحه على ما رأينا من قصور، وكان تحسين الشرع وتقبيحه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فما حاجاتنا إلى التحسين والتقبيح العقليين؟ وما حاجاتنا إلى هذا الدفاع الطويل عنهما؟ ولأجل الجواب على هذا التساؤل، أضع الفقرة التالية:

مجالات العقل في تقدير المصالح

مجالات العقل في تقدير المصالح التفسير المصلحي للنصوص ... مجالات العقل في تقدير المصالح وقبل ذكر هذه المجالات، يجدر التنبيه على أن المقصود عندي بالفعل هو مجموع الطاقات الإدراكية لدى الإنسان، مما قد يسمى فطرة، أو خبرة، أو فكرًا مع ما توفره هذه الطاقات من حصيلة معرفية، في أي مجال وفي أي تخصص. وفيما يلي أبرز مجالات العقل في إدراك وتقدير المصالح والمفاسد: 1- التفسير المصلحي للنصوص: وقد ينفر بعض الناس من هذه العبارة، وقد يتوجسون منها خيفة. ولهذا أبادر فأقول: إنني لا أفعل أكثر من تقرير أمر واقع مستقر في عمل الفقهاء جميعًا، باستثناء الظاهرية، وأعني بذلك أن تفسير الفقهاء للنصوص، واستنباطهم منها، تستحضر فيه وتستصحب المعاني والحكم والمصالح التي يعمل الشرع على تحقيقها ورعايتها. وهو ما يكون له أثره في فهم النص وتوجيهه والاستنباط منه، فقد يصرف النص عن ظاهره، وقد يقيد أو يخصص، وقد يعمم وظاهره الخصوصية. ودور العقل هنا يتمثل في تقدير المصلحة التي يستهدف النص تحقيقها، إذا لم يكن مصرحًا بها طبعًا، ثم تفسير النص بما يحققها، مع عدم الغفلة عن مختلف المصالح والمفاسد التي لها صلة بموضوع ذلك النص. ومعلوم أن أحد مسالك

التعليل هو مسلك المناسبة. وهو مسلك عقلي إلى حد كبير. ولعل أكثر التعليلات الدائرة في الفقه تقوم على هذا المسلك. بحيث تنبني عليه اجتهادات وقياسات واستنباطات لا تحصى، وكلها عبارة عن تفسير مصلحي للنصوص. وفي هذا يقول الدكتور حسين حامد حسان، وهو يشير إلى آفاق "نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي": "وقد ينص الشارع على حكم واقعة، دون أن يدل النص على المصلحة التي قصد بالنص تحقيقها. ويجد الفقيه أن فهم النص. وتحديد مضمونه، ونطاق تطبيقه، يتوقف على معرفة هذه المصلحة فعند ذلك يجتهد الفقيه في التعرف على هذه المصلحة، أو الحكمة أو العلة، أو الوصف المناسب، مسترشدًا بما عرف من عادة الشرع وتصرفه في الأحكام، مستعينًا بروح الشريعة وعللها المنصوصة، وقواعدها أو مصالحها المستنبطة. فإذا ما توصل إلى هذه الحكمة، وتعرف على تلك المصلحة، فسر النص في ضوئها، وحدد نطاق تطبيقه على أساسها"1. وهذا المسلك يستمد شرعيته مما تقرر -إجماعًا- من كون الشريعة وضعت لمصالح العباد، وأن الأصل في أحكامها هو التعليل المصلحي، كما تقدم. والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصى. فحيثما تنقلنا في كتب الفقه، سنجد التفسير المصلحي، والتوجيه المصلحي لنصوص القرآن والسنة. من ذلك حديث التسعير، الذي رواه أنس رضي الله عنه، قال: "غلا السعر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول الله: "سعر لنا، فقال: "إن الله هو القابض الرازق الباسط المسعر. وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطالبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال" 2. فمقتضى الحديث أن التسعير ظلم، وأنه ليس للحاكم أن يسعر على الناس، وأن الأمر بيد الله، ليس لأحد أن يتدخل فيه. وليس فيه تفريق بين تسعير

_ 1 نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، صفحة م. 2 رواه أبو داود والترمذي وصححه.

وآخر. ومع هذا رأي عدد من الفقهاء -وخاصة من المالكية والحنابلة- أن هناك حالات يجوز فيها التسعير أو يجب! وليس هذا إلا تفسيرًا مصلحيا للحديث، عن طريق النظر العقلي. فقد رأوا أن الحديث يعتبر التسعير ظلمًا ثم وجدوا حالات يكون عدم التسعير فيها هو الظلم، ويكون التسعير فيها عدلًا ومصلحة عامة. ففسروا الحديث على أساس أنه إنما قيل في شأن حالات معينة من التسعير. وأن الحالات التي يناسبها التسعير، ليست بداخلة في مقتضى الحديث. بل هي داخلة في مقتضى أدلة أخرى تمنع الظلم والتعسف في استعمال الحق، وتأمر بإقامة القسط والتوازن بين المصالح. قال الإمام أبو بكر بن العربي: "والحق التسعير وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد. وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وما فعله حكم، ولكن على قوم صح ثباتهم، واستسلموا إلى ربهم. وأما قوم قصدوا أكل الناس والتضييق عليهم، فباب الله أوسع وحكمه أمضى"1. وقال ابن القيم: "وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز. فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم، فهو حرام وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعارضة بثمن المثل ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب. مثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها -مع ضرورة الناس إليها- إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، والتسعير ههنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به"2. ومن هذا القبيل أيضًا ما صح في عدة أحاديث من النهي عن بيوع الغرر. من ذلك: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وعن بيع الحصاة3.

_ 1 عارضة الأحوذي، 6/ 54. 2 الطريقة الحكمية في السياسة الشرعية، 240. 3 أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن "دراز"، وبيع الحصاة هو بيع واحد من عدة أشياء تقع عليه الحصاة التي يرمي بها.

قال الشاطبي: "وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر وذكر منه أشياء كبيع الثمرة قبل أن تزهي، وبيع حبل الحبلة، والحصاة، وغيرها. وإذا أخذنا بمقتضى مجرد الصيغة، امتنع علينا بيع كثير مما هو جائز بيعه وشراؤه، كبيع الجوز، واللوز والقسطل، في قشرها، وبيع الخشبة والمغيبات في الأرض، والمقاثي كلها1 ومثل هذا لا يصح فيه القول بالمنع أصلًا، لأن الغرر المنهي عنه محمول على ما هو معدود عند العقلاء غررا مترددًا بين السلامة والعطب. فهو مما خص بالمعنى المصلحي، ولا يتبع فيه اللفظ بمجرده"2. ومن أكثر النصوص حاجة إلى النظر المصلحي والتفسير المصلحي: النصوص العامة والمطلقة كالأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، والنهي عن الإضرار والبغي. فرغم أن هناك نصوصًا تفصيلية لها، إلا أن ما يدخل تحتها لا يمكن أن يأتي عليه حصر، ولا أن تستغرقه الحالات المنصوصة. فيبقى للنظر والاجتهاد مجال واسع للعمل بمقتضى هذه النصوص العامة. وفي هذا يقول الشاطبي: "كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقًا غير مقيد، ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص، فهو راجع إلى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف. وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى: كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر -في المأمورات- والظلم والفحشاء والمنكر والبغي ونقض العهد، في المنهيات"3. ففي تطبيق مثل هذه النصوص، وتعيين ما يدخل فيها وما لا يدخل والمقادير المطلوبة في المأمورات، وكيفياتها. مجال متسع للاعتماد على العقل ومراعاة المصلحة. وفي نص آخر، يوضح الشاطبي جانبًا من هذه النقطة فيقول: "فالأوامر والنواهي من جهة اللفظ، على تساو في دلالة الاقتضاء. والتفرقة بين ما هو منها

_ 1 هي الخضر والفواكه التي تثمر في باطن الأرض. 2 الموافقات، 3/ 151-152. 3 الموافقات، 3/ 46.

أمر وجوب أو ندب، وما هو نهي تحريم أو كراهة، لا تعلم من النصوص، وإن علم منها بعض، فالأكثر منها غير معلوم. وما حصل لنا الفرق بينها إلا باتباع المعاني، والنظر في المصالح، وفي أي مرتبة تقع"1. ويمكن أن أمثل لهذا بنشر العلم وبثه وتعليمه للناس؛ فقد تواترت النصوص الكثيرة على طلب ذلك والحث عليه، ترغيبًا وترهيبًا. فيؤخذ من مجموعها- -وبصفة عامة- أن من واجب أهل العلم أن يبثوا علمهم ويعلموه للمحتاجين إليه. ولكن النظر المصلحي اقتضى أن تعليم الناس قد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية. وكما يكون واجبًا، قد يكون مندوبًا. وذلك حسب نوع العلم ودرجته، وحسب المتعلم ومدى حاجته. بل ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحاشى الإكثار بالتعليم على أصحابه. ففي صحيح البخاري أن عبد الله بن مسعود كان يذكر الناس في كل خميس. فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم. قال أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها في الأيام مخافة السآمة علينا. وأكثر من هذا، فقد تكون هناك أمور من العلم تقتضي المصلحة عدم بثها بين جميع الناس في ظرف ما. وقد امتنع عدد من الصحابة -بإشارة من النبي صلى الله عليه وسلم- عن التحديث بما سمعوه منه، من أن من مات لا يشرك بالله شيئًا حرم الله عليه النار، وذلك حتى لا يتخلى الناس عن العمل. ولم يحدثوا بذلك إلا عند احتضارهم، خشية ضياع الحديث نهائيا. وهذا مروي في صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت، وعن معاذ بن جبل، وعن أبي هريرة أن عمر هو الذي منعه من إخبار الناس، وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال النووي: "وفيه -أي في الحديث- جواز إمساك بعض العلوم التي لا حاجة إليها، للمصلحة أو خوف المفسدة"2. ويروى عن الإمام مالك بن أنس أنه كان يكره الكلام في المسائل التي لا ينبني عليها عمل، ويحكي كراهية ذلك عمن تقدم3.

_ 1 الموافقات، 3/ 153. 2 شرح صحيح مسلم، 1/ 240. 3 الموافقات، 1/ 50 و 4/ 191، انظر نهاية الجزء الأول من ترتيب المدارك للقاضي عياض.

قال الشاطبي: "ومن هذا يعلم أنه ليس كل علم مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علمًا بالأحكام. بل ذلك ينقسم: فمنه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو يطلب نشره بالنسبة إلى حال وقت أو شخص1. "وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها، وإن كانت صحيحة في نظر الفقه2 وذلك لما يترتب على ذكرها من مفسدة، بسبب سوء تصرف الناس فيها. وقد وضع -رحمه الله- ضابطًا يميز به العالم ما يجب تعليمه ونشره وما لا يجب، أو يجب الإمساك عنه، فقال: "وضابطه: أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم. وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية"3. وهكذا نرى إلى أي حد يحتاج فهم النصوص فهما سليمًا، إلى العقل والتعقل. وإلى النظر المصلحي المتبصر.

_ 1 الموافقات، 4/ 189. 2 الموافقات، 4/ 191. 3 الموافقات، 4/ 191.

تقدير المصالح المتغيرة والمتعارضة

2- تقدير المصالح المتغيرة والمتعارضة: وهذا المجال متصل بما انتهينا إليه في المجال السابق، أو هو امتداد له. وهو يشمل نقطتين هما: أ- التقدير العقلي للمصالح والمفاسد المتغيرة. ب- التقدير العقلي للمصالح والمفاسد المتعارضة.

أما النقطة الأولى، فالمقصود بها ما هو معلوم ومسلم من أن كثيرًا من المصالح تتغير بتغير الأزمان وتغير الأحوال. وهذا التغير من شأنه أن يؤثر تأثيرًا ما، على الأحكام الشرعية التي نيطت بتلك المصالح. وههنا لا بد للمجتهد من اليقظة والبصيرة والنظر العميق، حتى يميز ما هي المصالح والمفاسد التي تغيرت أوضاعها، وآثارها تغيرًا حقيقيًا، وهل ذلك التغير يستدعي مراجعة أحكامها ويقتضي تعديلها، وإلى أي حد ينبغي أن يصل ذلك التعديل. ولا شك أن هذا مرتقى صعب، ولكن لا مفر منه للعلماء. وإلا ضاعت مقاصد الشريعة، وربما حتى رسومها. وأحسب أن كلا قد وقع، والعرب بالباب! والحقيقة أن التهرب من اقتحام هذه العقبة وصعود هذا المرتقى، ثم إغلاق هذا الباب من أبواب الاجتهاد، قد أربك الفقه الإسلامي، وأضر بمسيرته الطبيعية، وأعجزه -في كثير من الحالات- عن الهيمنة على المجتمعات الإسلامية واستيعاب قضاياها وتطوراتها، وحفظ حاجاتها ومصالحها. وتسبب -مع أسباب أخرى طبعًا- في انسلاخ كثير من مرافق الحياة العامة والخاصة، عن أحكام الشريعة. وهذا هو الذي فتح الباب للطوفي قديمًا، ثم انفتح على مصراعيه حديثًا، للتوهم والزعم بأن النصوص قد تعارض المصلحة، وينبغي -في هذه الحالة- تقديم المصلحة على النصوص بدعوى أن حفظ المصلحة هو مقصود النصوص وغايتها. ولقد بلغ بالطوفي حماسه للاعتداد بالمصلحة، إلى ما يشبه العمى حين زعم "أن النصوص مختلفة متعارضة، فهي سبب الخلاف في الأحكام، المذموم شرعًا، ورعاية المصلحة أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه. فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعًا. فكان اتباعه أولى"1.

_ 1 انظر نص كلامه وتمامه في كتاب مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، للأستاذ عبد الوهاب خلاف، ص129 وما بعدها.

وقد يعذر الجاهل بالشريعة، أو السطحي المتعجل في التعرف على أحكامها، ومدى ما بينها من تكامل وانسجام، قد يعذر إذا بدت له النصوص مختلفة متعارضة، فذلك مبلغه من العلم والفهم. ويزيد في "عذره" أن النصوص كثيرة جدا، متنوعة جدا، تعالج قضايا وأحوالًا، وتنظم مجالات متعددة. وتحتاج كما رأينا إلى تدبر وتعقل، وإلى نظر مصلحي خبير. وإلا تعارضت على الناظر فيها، وتضاربت أحكامها ومقتضياتها. لكن الذي لا يعذر فيه عاقل، هو الزعم بأن رعاية المصلحة أمر حقيقي في نفسه، لا يختلف فيه!! ولست أدري إن كان قد مر على الطوفي يوم واحد لم تختلف فيه مصالحه مع مصالح غيره. بل مصالحه هو نفسه فيما بينها. ولست أدري هل بقيت مصالحه في آخر حياته، على ما كانت عليه في شبابه وأول حياته؟ أو على الأقل، هل بقيت نظرته إليها هي هي؟ فكيف بالأقطار المترامية، والأعصار المتتالية، والأحوال المتقلبة؟ ولست أنكر أن هناك مصالح حقيقية ثابتة، أو تتسم بقدر كبير من الثبات، هي حجر الأساس في الحياة البشرية، كتلك التي تمثلها أحكام العبادات، وأحكام الحدود والجنايات "الدماء"، وككثير من أحكام الأسرة، وغيرها. ولكن أيضًا، لا يمكن إنكار أن هناك مصالح كثيرة -ومفاسد- تتأثر باختلاف الأحوال وتغير الظروف. فتتغير أوضاعها وسلم أولوياتها، ويتغير نفعها أو ضررها، مما يستدعي نظرًا جديدًا، وتقديرًا مناسبًا، ووسائل مناسبة. وكل هذا يؤثر على الأحكام تاثيرًا ما، ينبغي أن ينظر فيه ويقدر بقدره، بلا إفراط ولا تفريط. وبهذا يغلق الباب على توهم عجز النصوص أو اختلافها، أو معارضتها للمصالح. ومن أبرز ما يحتاج إلى النظر والتقدير المتجدد، جانبان من جوانب الحياة: أحدهما في حفظ المصالح. وهو جانب المعاملات المنبنية على الأعراف. والثاني في درء المفاسد، وهو باب التعازير.

وعلى كل حال، فلست أريد الآن الخوض في موضوع تغير المصالح، وتغير الأحكام بتغير الأزمان والأحوال، وإنما أردت فقط أن أنبه على مجال واسع من المجالات التي تحتاج إلى نوع من تحسين العقل وتقبيحه، من خلال تقديره للمصالح والمفاسد المتغيرة والمتجددة، وما تتطلبه من أحكام مناسبة. أما تفصيل البحث في المسألة، فأدعه اكتفاء بما كتبه فيه عدد من العلماء قديمًا وحديثًا. ويحضرني منهم: 1- الإمام شهاب الدين القرافي، في كتابه "الإحكام في تمييز الفتاوي من الأحكام، وتصرفات القاضي والإمام". 2- الإمام ابن قيم الجوزية، في عدد من كتبه، مثل: "أعلام الموقعين" و"الطرق الحكمية" و"إغاثة اللهفان". 3- محمد أمين بن عابدين في كتابه "نشر العرف في أن بعض الأحكام مبناها على العرف". كما أن كثيرًا من المؤلفات الحديثة قد تعرضت لهذا الموضوع وعالجت كثيرًا من جوانبه. وفي مقدمتها البحوث المتعلقة بالمصلحة، مثل "تعليل الأحكام" للدكتور محمد مصطفى شلبي "في الباب الثالث على الخصوص" و"المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي" للدكتور مصطفى زيد، و"ضوابط المصلحة" للدكتور البوطي، و"نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي" للدكتور حسين حامد حسان. كما أن الدكتور يوسف القرضاوي قد تناول الموضوع في عدد من مؤلفاته ومقالاته. وفي مقدمتها: "شريعة الإسلام" و"الاجتهاد في الشريعة الإسلامية". ويدخل في هذا الباب أيضًا، بحث الدكتور عمر الجيدي: "العرف والعمل في المذهب المالكي".

وأما النقطة الثانية، فالمقصود بها الترجيح بين المصالح والمفاسد عند تعارضها، أمام المكلف أو أمام المجتهد والمفتي، أو غيرهم. وغير خاف على أحد ما بين المصالح والمفاسد من اختلاط وتشابط لا حد لهما، مما ينشأ عنه تزاحم وتعارض لا حد لهما أيضًا. فما من مصلحة أو مفسدة، إلا وتزاحمها وتتعارض معها مصالح ومفاسد كثيرة. ولا شك أن كثيرًا من الحالات يكون الأمر فيها واضحًا، والترجيح فيها سهلًا، إما بمقتضى النصوص، وإما بمقتضى التقدير العقلي. ولكن هذا بالنسبة إلى ما ليس كذلك قليل. ويزيد من تعقيد الأمور، كون كثير من المصالح والمفاسد نسبية، أو إضافية، بتعبير الشاطبي حيث يقول: "المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية. ومعنى إضافية، أي أنها منافع أو مضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، أو وقت دون وقت. فكثير من المنافع، تكون ضررًا على قوم لا منافع، أو تكون ضررًا في وقت أو حال، ولا تكون ضررًا في آخر"1. وقد وضع العلماء عددًا من القواعد التي تساعد على الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة، مثل: - درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. - تفوت أدنى المصلحتين لحفظ أعلاهما. - المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة. - الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف. - الضرر لا يزال بمثله. - يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام. - الضرورات تبيح المحظورات. - الضرورات تقدر بقدرها.

_ 1 الموافقات، 2/ 39-40.

والشاطبي، كما تقدم، وضع قانونًا عظيمًا، للترجيح بين عدد من الحالات التي تتعارض فيها مصالح الناس ومفاسدهم1. وللإمام عز الدين بن عبد السلام ترجيحات أكثر تفصيلًا بين مختلف المصالح والمفاسد. بل إن هذا الموضوع هو أكثر ما يغطي كتابه: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام". ورغم كل هذا وغيره، فإن الأمور -عند التطبيق- تظل بحاجة شديدة إلى النظر والتمييز والتقدير، لتحديد الراجح من المرجوح، ولتحديد أي المصلحتين أصلح، وأيهما أكبر، ولتحديد أهون الشرين، وأعظمهما ضررًا، ولتمييز ما هو من قبيل جلب المصلحة وما هو من قبيل درء المفسدة. ولتمييز حد الضرورة مما لا يبلغه. ولتمييز ما يعتبر من مصلحة الآخرة وما يعتبر من مصلحة الدنيا، وتحت كل هذا ما لا يحصى من الصور والوقائع التي يقع فيه التعارض، وتحتاج إلى التقدير والترجيح، أي تحتاج إلى العقل والنظر.

_ 1 المسألة الخامسة من مقاصد المكلف، أو راجع الخلاصة المتقدمة في هذا البحث. فقرة مقاصد المكلف.

تقدير المصالح المرسلة

3- تقدير المصالح المرسلة: وقد سبق -في هذا الفصل- توضيح معنى الإرسال في المصالح المرسلة. وأنه ليست هناك مصلحة مرسلة بالمعنى المطلق للإرسال. وأن ما يسمى بالمصالح المرسلة، هي في الحقيقة مصالح معتبرة شرعًا. وكل ما في الأمر أنها لم يرد في تسميتها وحفظها نصوص خاصة. بل يدخل حفظها فيما علم - قطعًا- من قصد الشريعة إلى حفظ المصالح، ويدخل في نصوص عامة تأمر بالخير والصلاح، وإذا ظهر المقصود فلا مشاحة في الاصطلاح. وإذا كنا قد رأينا -في المجالين السابقين- إلى أي حد نحتاج إلى النظر والتقدير العقلي، فيما هو منصوص عليه من المصالح والمفاسد، فمن باب أولى -وبفارق كبير- نحتاج إلى ذلك في باب المصالح المرسلة: تعيينًا وتقديرًا وترجيحًا.

وهذا الضرب من المصالح، ليس بالقليل ولا بالهين. بل يكفي أن ما يعرف باسم "السياسة الشرعية" يقوم أساسا على حفظ المصالح المرسلة. وبهذا -وحده- يتجلى أن المصالح المرسلة تتسع دائرتها يومًا بعد يوم. فهي تتزايد بتزايد حجم الأمة، وبتزايد حاجاتها، وتتزايد بتزايد وظائف الدولة وتضخمها. وهكذا أصبحت المصالح المرسلة تمس كميان الأمة ومصيرها، وتؤثر على أرزاقها وكرامتها، وعلى انحطاطها أو تقدمها. فهل يعقل أو يقبل أن يظل تدبير هذه المصالح الكبرى بمنأى عن مقاصد الشريعة وبمنأى عن موازين الشريعة وبمنأى عن علماء الشريعة؟ وهل يعقل أو يقبل أن يظل علماء الشريعة، بمقاصدهم وقواعدهم وآرائهم بمنأى عن هذا المجال الحيوي المصيري بالنسبة للأمة وشريعتها؟ هل يقعل أو يقبل أن يظلوا عاجزين، أو متهيبين أو مهمشين، عن تقرير مصير الأمة ومسارها، بل حتى عن مجرد المشاركة فيه بنصيب؟ وهذا لن يتأتي إلا إذا كان علماء الشريعة -إلى جانب علمهم بالشريعة وأحكامها المنصوصة- على قدر كبير من الوعي والتقدير للمصالح والمفاسد، وكانوا قادرين على وضع كل مصلحة في مكانها ومنزلتها، مهتدين بهدي الشريعة ومقاصدها. وهذا هو الطريق الصحيح لحفظ مصالح الأمة. يقول ابن عبد السلام: "ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد، حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع، ولا نص، ولا قياس خاص، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك"1. فمن خلال الإحاطة بأحكام الشريعة ومقاصدها، ومن خلال الخبرة بأحوال الأمة ومتطلباتها، ومن خلال النظر والتقدير العقلي، يتم تعيين المصالح المرسلة، ووضعها في مراتبها اللائقة بها.

_ 1 قواعد الأحكام، 2/ 189.

وبالتأمل في هذه المجالات ومدى حاجاتها إلى إعمال العقل وإيقاد الفكر، يتضح لنا جليا، أن حكمة الله اقتضت أن يفسح للعقل البشري وللاجتهاد البشري مجالات رحبة للعمل والنضج والترقي. ومن المقاصد العامة للإسلام: تزكية الإنسان، وهو مقصد ثابت نصا واستقراء. فقد علل القرآن الكريم البعثة النبوية، بتزكية الناس -وبهذا اللفظ نفسه- أربع مرات، هي: - {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} [البقرة: 151] . - {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129] . - {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران: 164] . - {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة: 2] . وأرى -والله أعلم- أن من تزكية الإنسان تزكية عقله، بتنميته وترشيده وتشغيله. وهذا ما فعله الشرع، حيث عمل على تحريم العقول وإطلاقها من قيودها، ورفع عنها ما كان يعطلها من أوهام وخرافات. وطعمها بقيمه وأحكامه، ثم ترك لها المجال واسعًا لتعمل وتتزكى. وهذا وجه آخر من وجوه حفظ العقل. فحفظ الشريعة للعقل ليس منحصرًا في تحريم المسكرات والمعاقبة عليها، فكم من عقول ضائعة وهي لم تر ولم تعرف مسكرًا قط. ولكن أسكرها الجهل والخمول، والتعطيل، والتقليد. وعلى هذا، فإن إعمال العقل وفسح المجال له، ليس فحسب مساعدًا على تقدير المصالح وحفظها، بل هو نفسه مصلحة من المصالح الضرورية. لأن في إعماله حفظًا له. وحفظه هو أحد الضروريات المتفق عليها.

الفصل الثالث: بماذا تعرف مقاصد الشارع

الفصل الثالث: بماذا تعرف مقاصد الشارع فهم المقاصد وفق مقتضيات اللسان العربي ... الفصل الثالث: بماذا تعرف مقاصد الشارع أشرت من قبل إلى أن للشاطبي أقوالًا وآراء -في كيفة معرفة المقاصد الشرعية- نثرها في مواضع متفرقة من أجزاء "الموافقات" و"الاعتصام" وأن هذه المتفرقات لا تقل أهمية عما جاء في الخاتمة المخصصة -أصلًا- لهذا الموضوع. وفي هذا المبحث، سأعمل على تجميع هذه المتفرقات وتنسيقها، وضمها إلى محتويات الخاتمة، مع ما تتطلبه من توضيحات وتعقيبات: 1- فهم المقاصد وفق مقتضيات اللسان العربي: سبقت الإشارة إلى أن الشاطبي أقحم في مقاصد الشارع نوعًا سماه: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام، وهو النوع الثاني، وقد ذكرت أن مسائل ذلك النوع إنما تتعلق بكيفية فهم مقاصد الشارع1. فلنعد إليها الآن، فهذا مكانها فيما أرى. المسألة الأولى من هذا النوع افتتحها بقوله: "إن هذه الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسن العجمية" وهو لا يريد بهذا، التطرق إلى مسألة ما إذا كان في القرآن ألفاظ ذات أصول أعجمية أم لا "إنما البحث المقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة، فمن أراد تفهمه، فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة. هذا هو المقصود من المسألة".

_ 1 انظر الفصل الثاني من الباب الثاني "عرض النظرية - النوع الثاني".

ومن هنا يجب أن ينظر إلى مقاصد الشريعة في ضوء لغتها العربية، وفي ضوء المعهود من أساليب العرب، ومن ذلك أن العرب "فيما فطرت عليه من لسنه تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه. وبالعام يراد به الخاص، والظاهر يراد به غير الظاهر. وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره. وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة. وتسمى الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد. وكل ذلك معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي، ولا من تعلق بعلم كلامها. فإذا كان كذلك، فالقرآن -في معانيه وأساليبه- على هذا الترتيب"1. وهو يكثر من التأكيد على أهمية احترام والتزام حدود وقواعد اللغة العربية في فهم مقاصد النصوص. ويتعرض لهذه الفكرة كلما وجد لذلك مناسبة، لأن "لسان العرب هو المترجم عن مقاصد الشارع"2. ومن هنا، فإن الشريعة "لا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم، لأنهما سيان في النمط، ما عدا وجوه الإعجاز، فإذا فرضنا مبتدئًا في فهم العربية، فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطًا، فمتوسط في فهم الشريعة"2 وهكذا، فكلما كان أمكن في اللغة العربية، كان أقدر على إدراك مقاصد الشريعة إدراكًا سليمًا. وقد رد أهم أسباب الابتداع والانحراف في الدين إلى سببين رئيسيين هما: الجهل، وتحسين الظن بالعقل، قال: "فأما جهة الجهل، فتارة تتعلق بالأدوات التي تفهم بها المقاصد، وتارة تتعلق، بالمقاصد"3. والأدوات التي بها تعرف المقاصد هي اللغة العربية "فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولًا وفروعًا أن لا يتكلم بشيء من ذلك يكون عربيا أو كالعربي"4.

_ 1 الموافقات، 2/ 65-66. 2 الموافقات، 4/ 324. 3 الموافقات، 4/ 115. 4 الاعتصام، 2/ 293.

فإذا كان كذلك صح له أن ينظر في القرآن1، ويستخرج معانيه ومقاصده، على أن يسلك في "الاستنباط منه، والاستدلال به مسلك كلام العرب في تقرير معانيها، ومنازعها في أنواع مخاطباتها خاصة، فإن كثيرًا من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل فيها، لا بحسب ما يفهم من طريق الوضع. وفي ذلك فساد كبير، وخروج عن مقصود الشارع"2.

_ 1 الاعتصام، 2/ 297. 2 الموافقات، 1/ 44.

الأوامر والنواهي الشرعية بين التعليل والظاهرية

2- الأوامر والنواهي الشرعية بين التعليل والظاهرية: هذه الكيفية من كيفيات معرفة مقاصد الشارع هي امتداد لسابقها، وتطبيق لها لأن الأمر والنهي موضوعان في الأصل اللغوي لإفادة الطلب؛ الأمر لطلب الفعل والنهي لطلب الترك. فالآمر قاصد إلى حصول الفعل، والناهي قاصد إلى منع حصول الفعل. كما أنني أجمع هنا بين "الجهتين" الأولى والثانية من الجهات الأربع التي ذكر الشاطبي أن بها تعرف مقاصد الشارع، وهما، "كما تقدم في آخر: عرض النظرية": 1- مجرد الأمر والنهي، الابتدائي التصريحي. 2- اعتبار علل الأمر والنهي. وتقييده للأمر، أو النهي، الذي يستفاد منه قصد الشارع، بالابتداء معناه: الذي قصد الشارع الأمر به أو النهي عنه ابتداء، وأصالة. ولم يؤت به تعضيدًا لأمر -أو نهي- آخر. وبعبارة أخرى: يكون المأمور به -أو المنهي عنه- مقصودًا "بالمقصد الأول" لا "بالقصد الثاني"1. مثال ذلك قوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 2.

_ 1 سيأتي مزيد التوضيح لهذين المصطلحين، في سياق الفقرة اللاحقة. 2 سورة الجمعة، 9.

فالأمر الأول: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، أمر ابتدائي، مقصود بالقصد الأول، فهو دال على قصد الشارع إلى حمل الناس على تحقيق المأمور به. بينما الأمر الثاني -وهو نفي في نفس الوقت- {وَذَرُوا الْبَيْع} ، ليس أمرًا ابتدائيا، بل هو أمر تبغي قصد به تعضيد الأمر الأول. فهو مقصود بالقصد الثاني. فلا يصح أن يستدل به على قصد الشارع إلى منع البيع. بخلاف الأمر الأول، فيعبر عن قصد الشارع، ويدل عليه. والقيد الثاني، وهو أن يكون الأمر -أو النهي- تصريحيا، أراد به إخراج الأمر -أو النهي- الذي يكون ضمنيا، لأنه أيضًا لا يكون مقصودًا إلا بالقصد الثاني، على سبيل التعضيد والتأكيد للأمر -أو النهي- الصريح. ومن هذا القبيل كل ما يكون مطلوبا من باب "ما لا يتم الواجب إلا به". فما كان من هذا القبيل، فهو من الوسائل لا من المقاصد، أو هو من المقصود بالثاني التبعي. كالأمر بالحج، مع ما يستلزمه. فالأمر بالحج صريح، والأمر بأخذ مستلزماته والقيام بها أمر ضمني. فالأول مقصود بالقصد الأول، والثاني مقصود بالقصد التبعي. إذًا، فالأوامر والنواهي، إذا جاءت ابتدائية تصريحية، دلت على مقصود الشارع: الأوامر تدل على القصد إلى حصول المأمورات. والنواهي تدل على القصد إلى منع حصول المنهيات، "فهذا وجه ظاهر عام، لمن اعتبر مجرد الأمر والنهي، من غير نظر إلى علة، ولمن اعتبر العلل والمصالح، وهو الأصل الشرعي1 بمعنى أن الوقوف عند مجرد الأمر والنهي، واعتباره مقصودًا للشارع، يسع الظاهري والمعلل. فالأول هذا شأنه، فلا إشكال. والثاني -وإن كان ينظر إلى علل الأحكام ومصالحها- فإن عللها ومصالحها منوطة بالأمر والنهي. فالوقوف عندهما محقق لها. وهذا لا يعني عدم اتباع العلل، وعدم اعتمادها في تحديد مقاصد الشارع وعدم تحكيمها في ظواهر النصوص. بل العلة "إن كانت معلومة اتبعت، فحيث

_ 1 الموافقات، 2/ 393.

وجدت وجد مقتضى الأمر والنهي من القصد وعدمه. وإن كانت غير معلومة، فلا بد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا وكذا"1. وقد بحث الشاطبي هذه المسألة -بشكل أكثر تفصيلًا- في باب الأوامر والنواهي من كتاب الأحكام، حيث انتهى -بعد حوار شيق طويل- إلى ضرورة احترام ظواهر النصوص وعدم تعطيلها، لكن من غير مغالاة وجمود، ومن غير تنكر للعلل والمصالح الثابتة "فالعمل بالظواهر على تتبع وتغال، بعيد عن مقصود الشارع، كما أن إهمالها إسراف أيضًا. فإذا ثبت هذا، وعمل العامل على مقتضى المفهوم من علة الأمر والنهي، فهو جار على السنن القويم، موافق لقصد الشارع في ورده وصدره"2.

_ 1 الموافقات، 3/ 394. 2 الموافقات، 3/ 154.

المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية

3- المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية: هذا التقسيم للمقاصد استعمله الشاطبي كثيرًا، وفي عدة مواضع من الموافقات. وقد يستعمل اصطلاحًا آخر، مرادفًا له وهو: القصد الأول، والقصد الثاني، كما مر قريبًا. ومضمن هذا التقسيم، أن للأحكام الشرعية مقاصد أساسية، تعتبر الغاية الأولى والعليا للحكم، ولهذا مقاصد ثانوية تابعة للأولى، ومكملة لها. "مثال ذلك، النكاح: فإنه مشروع للتناسل على القصد الأول، ويليه طلب السكن، والازدواج، والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية، من الاستمتاع بالحلال، والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن في النساء، والتجمل بمال المرأة، أو قيامها عليه وعلى أولاده منها، أو من غيرها، أو إخوته، والتحفظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين، والازدياد من الشكر بمزيد النعم من الله على العبد، وما أشبه ذلك. فجميع هذا مقصود للشارع من شرع النكاح، فمنه منصوص عليه، أو مشار إليه. ومنه ما علم بدليل آخر ومسلك استقري من ذلك المنصوص.

وذلك أن ما نص عليه من هذه المقاصد التوابع، هو مثبت للمقصد الأصلي، ومقو لحكمته، ومستدع لطلبه وإدامته، ومستجلب لتوالي التراحم والتواصل والتعاطف، الذي يحصل به مقصد الشارع الأصلي من التناسل. فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما شأنه ذلك، مقصود للشارع أيضًا"1. وفي سياق كلام على أقسام الحكم الشرعي، لاحظ هذا المعنى في علاقة أنواع الحكم الشرعي بعضها ببعض. وبصفة خاصة في علاقة المندوب بالواجب وعلاقة المكروه بالمحرم. وفي هذا يقول: "المكروه إذا اعتبرته كذلك مع الممنوع، كان كالمندوب مع الواجب، وبعض الواجبات منه ما يكون مقصودًا، وهو أعظمها. ومنه ما يكون وسيلة وخادمًا للمقصود، كطهارة الحدث وستر العورة، واستقبال القبلة، والأذان للتعريف بالأوقات، وإظهار شعائر الإسلام، مع الصلاة"2. فواجب الصلاة بالنسبة لبقية الواجبات المكملة لها، هو صورة أخرى من صورة اعتبار الشارع لما يخدم ويكمل مقاصده الأصلية والأساسية. وفي هذا سند للقول بأن ما يخدم ويقوي مقصودًا للشارع، فهو مقصود أيضًا، وإن كان قصدًا تبعيا. وعلى هذا المهيع جرى، عندما تعرض -في المقدمات- لطلب العلم، وما ينبغي لطالبه وما لا ينبغي. حيث اعتبر أن للعلم مقصودًا أصليا "بالنسبة لطالبه"، وهو: التعبد، وله مقاصد تابعة، قال: "فالقصد الأصلي، ما تقدم ذكره، وأما التابع، فهو الذي يذكره الجمهور من كون صاحبه شريفًا. وأن قوله نافذ وأن تعظيمه واجب على جميع المكلفين، إذ قام لهم مقام النبي، لأن العلماء ورثة الأنبياء. إلى سائر ما له في

_ 1 الموافقات، 2/ 396- 397. وانظر في نفس السياق تطبيقه لهذا التقسيم على مقاصد الصلاة والصيام، ص399-400. 2 الموافقات، 1/ 152.

الدنيا من المناقب الحميدة، والمآثر الحسنة. والمنازل الرفيعة. فذلك كله غير مقصود من العلم شرعًا، كما أنه غير مقصود من العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، وإن كان صاحبه يناله"1. ورغم أن هذه المقاصد التبعية، غير مقصودة من العلم في الأصل، إلا أنها قد تصبح مشروعة، ومقصودة قصدًا تبعيا. لأن "كل تابع من هذه التوابع، إما أن يكون خادمًا للقصد الأصلي أو لا، فإن كان خادمًا له، فالقصد إليه ابتداء صحيح، وقد قال تعالى في معرض المدح {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} 2 وفي القرآن عن إبراهيم عليه السلام {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِين} 3. وإن كان غير خادم له، فالقصد إليه ابتداء غير صحيح، كتعلمه رياء، أو ليماري به السفهاء، أو يباهي به العلماء، أو يستميل به قلوب العباد، أو لينال من دنياهم، أو ما أشبه ذلك"4. وكذلك، عندما تعرض لمبحث الرخصة والعزيمة، اعتبر المقصود بالقصد الأول هو العزيمة. وأما الرخصة فمقصودة بالقصد الثاني5. لأن العزيمة تمثل المصلحة الكلية الأصلية للتشريع. وأما الرخصة فجيء بها في مواطن الحرج قصد رفعه. وهذه مصلحة جزئية عارضة. ومن كانت "العزائم مطردة مع العادات الجارية، والرخص جارية عند انخراق تلك العوائد"6. وقد سبق أن رأينا أثناء "عرض النظرية" أنه اعتبر أن المقاصد الأصلية هي الضروريات، التي لا حظ فيها للمكلف. بمعنى أنه ملزم بحفظها أحب أم كره،

_ 1 الموافقات، 1/ 67. 2 سورة الفرقان، 74. 3 سورة الشعراء، 84. 4 الموافقات، 1/ 67-68. 5 الموافقات، 1/ 351. 6 الموافقات، 1/ 353.

وأن المقاصد التبعية هي التي روعي فيها حفظ المكلف. ويدخل فيها حاجياته وكمالياته1. وواضح أنه هنا يتحدث عن المقاصد العامة للشريعة الإسلامية. بينما الأمثلة التي سبق عرضها تتعلق بالمقاصد الجزئية الخاصة بهذا التشريع أو ذاك. وفي كل من المجالين نجد، مقاصد أصلية أساسية، ومقاصد تابعة مكملة، عمومًا وخصوصًا. وهذا يعكس مدى التناسق الذي يحكم نظرة إمامنا أبي إسحاق، للشريعة في كلياتها وجزئياتها. غير أن ما يدعو للاستغراب، هو أن هذه القاعدة التي أصلها، واعتمد عليها مرارًا -وهي أن ما كان خادمًا ومقويا ومكملا لمقصود شرعي، فهو أيضًا مقصود للشارع، تبعًا- هذه القاعدة، نجده قد وهنها عند كلامه على الجهة الأولى مما يعرف به مقصود الشارع2 وذلك عندما قيد الأمر -أو النهي- الذي يستفاد منه قصد الشارع بأن يكون تصريحًا. بمعنى أنه لا تدخل فيه الأوامر والنواهي الضمنية، "كالنهي على أضداد المأمور به3، الذي تضمنه الأمر، والأمر الذي تضمنه النهي عن الشيء. فإن النبي والأمر ههنا -إن قيل بهما- فهما بالقصد الثاني لا بالقصد الأول. فأما إن قيل بالنفي، فالأمر أوضح في عدم القصد. وكذلك المر بما لا يتم المأمور إلا به، المذكور في مسألة "ما لا يتم الواجب إلا به"، فدلالة الأمر والنهي في هذا على مقصود الشارع متنازع فيها، فليس داخلًا فيما نحن فيه. ولذلك قيد الأمر والنهي بالتصريحي4.

_ 1 انظر المسألتين الثانية والثالثة من النوع الرابع من مقاصد الشارع. 2 راجع الفقرة السابقة. 3 هي المسألة الملقبة عند الأصوليين، بـ "الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده، أو أضداده؟ " وعكسها: "النهي عن الشيء هل هو أمر بضده؟ " ومن هذا الباب أيضًا: "ما لا يتم الواجب إلا به، هل هو واجب؟ ". 4 الموافقات، 2/ 394.

وواضح أن كلامه يتضمن تشكيكًا -إن لم يكن إنكارًا- في كون الأوامر والنواهي الضمنية "غير المباشرة" تدل على مقصود للشارع، رغم أنه قرر وكرر مرارًا أن مكملات ومقويات ووسائل المقاصد، هي أيضًا مقصودة للشارع. وإن كانت مقاصد تبعية ومقصودة بالقصد الثاني. فالمهم أنها "مقصودة" أيضًا. وهذا هو القول الصواب. وإلا، فكيف نتصور تحقيق مقصود شرعي مع التشكيك في قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقاعدة: الأمر بالشيء نهي عن ضده؟ كيف يقصد الشارع أمرًا، ولا يقصد ما لا يتم إلا به؟! وكيف يقصد الشارع أمرًا مع الإذن في ضده الذي يمنعه وينفيه؟ وحيث لم يشفع لهاتين القاعدتين، عنده، كونهما محققتين للمقاصد التبعية، وحاميتين للمقاصد الأصلية، وهو شيخ المقاصد، فلا أقل من التسليم بمنطقيتهما، ويكون جمهور الأصوليين آخذ بهما، على ما صرح به شيخه الشريف التلمساني في "مفتاح الوصول"، حيث قال: "الأمر بالشيء هل يقتضي وسيلة المأمور به، أو لا يقتضيها؟ وهو معنى قولهم: ما لا يتم الواجب إلا به هل هو واجب أولًا؟ اختلف الأصوليون في ذلك: فجمهورهم يرى: أن الأمر يقتضي جمع ما يتوقف عليه فعل المأمور به". ثم قال في المسألة التالية: "اختلفوا في الأمر بالشيء، هل هو نهي عن ضده؟ فجمهور الأصوليين والفقهاء عن أن الأمر بالشيء نهي عن ضده"1. وهذا ما يؤكده أحد الأصوليين المتأخرين، مع ذكره أيضًا لمن خالفوا الجمهور في المسألة، وهو محمد صديق حسن خان بهادر، حيث يقول: "ذهب الجمهور من

_ 1 مفتاح الوصول، 30-31.

أهل الأصول، ومن الحنفية والشافعية والمحدثين إلى أن الشيء المعين إذا أمر به، كان ذلك الأمر به، نهيا عن الشيء المعين المضاد له. سواء كان الضد واحدًا، كما إذا أمره بالإيمان، فإنه يكون نهيا عن الكفر، وإذا أمره بالحركة، فإنه يكون نهيا عن السكون، أو كان الضد متعددًا، كما إذا أمره بالقيام، فإنه يكون نهيا عن القعود والاضطجاع والسجود وغير ذلك. وقيل: ليس نهيا عن الضد ولا يقتضيه عقلًا. واختاره الجويني والغزالي وابن الحاجب. وقيل: إنه نهي عن واحد من الأضداد غير معين. وبه قال جماعة من الحنفية والشافعية والمحدثين. ومن هؤلاء القائلين بأنه نهي عن الضد، من عمم فقال: إنه نهي عن الضد في الأمر الإيجابي والأمر الندبي. ففي الأول نهي تحريم، وفي الثاني نهي كراهة. ومنهم من خصص ذلك بالأمر الإيجابي دون الندبي. ومنهم أيضًا من جعل النهي عن الشيء أمرًا بضده، كما جعل الأمر بالشيء نهيا عن ضده"1. وهذه بعض الأمثلة التي توضح القاعدتين "أي: الأمر بالشيء نهي عن ضده. والنهي عن الشيء أمر بضده": قوله عز وجل: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} 2 فهذا نهي عن الكتمان، ولكنه في نفس الوقت أمر بضده، وهو التصريح والإظهار. قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} 3 فالنهي عن رفع الصوت أمر بخفضه.

_ 1 حصول المأمول من علم الأصول، 74. 2 سورة البقرة، 228. 3 سورة الحجرات، 2.

قوله: تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} 1 فيه أمر بغض البصر، وهو أيضًا نهي عن النظر المحرم. وكذلك يقال في قاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"2: فالأمر بالجهاد أمر بلوازمه، والأمر بالعلم أمر بلوازمه، والأمر بالحج أمر بلوازمه وهكذا. ولهذا قال المقري في القاعدة 133 من قواعده: "والتحقيق: كل ما لا يتوصل إلى المطلوب إلا به، فهو مطلوب". والحقيقة أنه كان يكفينا ما قرره الشاطبي مرارًا من أن كل ما هو خادم مكمل للمقصود فهو مقصود، لولا ما أبداه هنا من تحفظ، مراعاة لأبي المعالي وأبي حامد.

_ 1 سورة النور، 30. 2 ولا معنى لما يوضع على هذه القاعدة من قيود مثل أن ما لا يتم الواجب إلا به، إنما يجب إذا كان مقدورًا، لأن القدرة شرط في جميع التكاليف. ومثل تقسيمهم ما لا يتم الواجب إلا به، إلى ما يتوقف عليه الوجوب، وما يتوقف عليه الوجود. وأن الأول لا يجب، كدخول الوقت للصلاة، اكتمال النصاب والحول للزكاة, والمال للحج. فهذا خروج عن موضوع القاعدة. لأن موضوعها ما قد صار واجبًا. وبالنسبة لمن وجب عليه، لا ما يمكن أن يصير واجبا.

سكوت الشارع

4- سكوت الشارع: ومعلوم أن الشارع قد يسكت عن أمور، وعن أحكام، لعدم توفر أسبابها ونوازلها، وهو ما فتح لأجله باب الاجتهاد والقياس، فهذا ليس هو المقصود هنا. وإنما المقصود هنا: سكوت الشارع عن إعطاء حكم، أو وضع تشريع، مع أن "موجبه المقتضي قائم، فلم يقرر فيه حكم، عند نزول النازلة، زائد على ما كان في ذلك الزمان، فهذا الضرب، السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا

يزاد فيه ولا ينقص، لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودًا، ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه، كان ذلك صريحًا في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة، ومخالفة لما قصده الشارع، إذا فهم من قصده: الوقوف عندما حد هنالك، لا الزيادة عليه ولا النقصان منه1. وواضح أن هذا المسلك من مسالك معرفة المقاصد، يتعلق -بصفة خاصة-بمجال العبادات. وبصفة أخص بمجال الابتداع في الدين وعباداته. حيث إنه بتنصيصه على هذه القاعدة، إنما يريد ضرب البدع، وإغلاق الباب أمام زحفها على العبادات وحدودها وسننها. وقد اتكأ على هذه القاعدة، وهو يتصدى للبدع وللمبتدعة في كتابه "الاعتصام"، وذلك عند رده المطول على شيخه أبي سعيد بن لب2، حيث أعاد هناك3 ما قاله في "الموافقات" بنصه تقريبًا. وواضح أيضًا، أن هذا المسلك أضيق مجالًا، بالنسبة للمسالك الأخرى، ولهذا فهو أقلها أهمية. ومن هنا أهمله الشيخ ابن عاشور، فلم يقل به، بل لم يذكره حتى عندما لخص كلام الشاطبي في طرق معرفة المقاصد. وهذا نص تلخيصه أورده -لوجازته- "إن مقصد الشارع يعرف من جهات: إحداها: مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي، فإن الأمر كان أمرًا لاقتضائه الفعل. فوقوع الفعل عنده مقصود للشارع. وكذلك النهي في اقتضاء الكف. الثانية: اعتبار علل الأمر والنهي، كالنكاح لمصلحة التناسل. والبيع لمصلحة الانتفاع بالمبيع، الثالثة: أن للشارع في شرع الأحكام مقاصد أصلية ومقاصد تابعة. فمنها منصوص عليه. ومنها مشار إليه، ومنها ما استقري من المنصوص فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما ذلك شأنه هو مقصود للشارع انتهى حاصل كلامه"4.

_ 1 الموافقات، 2/ 410. 2 راجع الفصل الأول من الباب الثاني. 3 الاعتصام، 2/ 360 وما بعدها. 4 مقاصد الشريعة الإسلامية، 19.

ولا أظن أن عدم ذكره للمسلك الرابع، أو الجهة الرابعة -حسب لفظ الشاطبي- إنما هو لعدم انتباهه إليه، نظرًا لتأخره في كلام الشاطبي، كما ظن ذلك الدكتور عبد المجيد النجار1. فهذا احتمال بعيد، خاصة وأن الشيخ ابن عاشور كان بصدد التأليف في المقاصد، بل كان يكتب في المسألة نفسها، وهي: "طرق إثبات المقاصد"، فلا يعقل ألا يكمل قراءة كتاب المقاصد وخاتمته. فالأظهر أنه أهمله عمدا، استقلالا منه لأهميته.

_ 1 في مقال له بعنوان: مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة، بين الشاطبي وابن عاشور، نشر بمجلة العلوم الإسلامية الصادرة عن جماعة الأمير عبد القادر الإسلامية بقسنطينية، الجزائر، العدد الثاني، 1407.

الاستقراء

5- الاستقراء: وهذا المسلك -باعتبار أهميته- حقه أن يكون الأول. ولكن الغريب أن الشاطبي لم يذكره أصلًا مع الجهات الأربع التي تعرف بها مقاصد الشارع، والتي خصص لها خاتمة كتاب المقاصد. فهو لم يجعله لا الأول ولا الخامس! وما زلت منذ قرأت هذه الخاتمة، أتعجب لعدم ذكره فيها للاستقراء، ضمن الطرق الموصلة إلى عرفة مقاصد الشريعة. وزاد من عجبي أن كلام الشاطبي -حيثما كان- مليء بذكر الاستقراء، استشهادًا به، أو إحالة عليه، أو تنويهًا بقيمته وأهميته. وقد أحصيت من ذلك حوالي مائة مرة، في أجزاء الموافقات الأربعة، فكيف لم يجعله جهة مستقلة واضحة، فيما يعرف به قصد الشارع! هل ترك ذكره هنا، اكتفاء بالإحالات والإشارات الواردة في ثنايا الكتاب؟ أن ذلك جاء عن غفلة أتت عليه حين تحرير الفصل الخاتم لكتاب المقاصد؟ أم لمعنى يتعلق برؤيته للموضوع؟ لحد الآن لا أجد جوابا أرتاح إليه. ومهما يكن الأمر، فإن الذي يمكن الجزم به باطمئنان، هو أن الاستقراء -عند الشاطبي- هو أهم وأقوى طريق لمعرفة وإثبات مقاصد الشريعة. وبيان ذلك فيما يلي:

أهمية الاستقراء في نظر الشاطبي: في المقدمة الأولى من المقدمات الثلاث عشر لكتاب الموافقات ينص الشاطبي على أن أصول الفقه "أي الأسس والكليات التي ينبني عليها" لا بد أن تكون قطعية، ولا يقبل فيها الظن. والدليل على ذلك: "الاستقراء المفيد للقطع"1 لأن كليات الشريعة لا تستند إلى دليل واحد، بل إلى مجموعة أدلة، تواردت على معنى واحد، فأعطته صفة القطع. "وتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا. وأيضًا فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي2. ومن هنا كان الشاطبي حريصًا على نشدان الأدلة الاستقرائية لما يقوله ولما يقرره. وكان يرى أن هذه إحدى أبرز سمات كتابه. وإلى هذا يشير بقوله: "وإنما الأدلة المعتبرة هنا: المستقرأة من جملة أدلة ظنية، تضافرت على معنى واحد، حتى أفادات القطع"3. ثم يذكر هذه المزية لكتابه صراحة، في قوله: "فكذلك الأمر في مآخذ الأدلة في هذا الكتاب"4. وفي مكان متأخر من الموافقات يعود لتذكيرنا بهذه الميزة لكتابه. وبعبارة أصرح: "ومر أيضًا بيان كيفية اقتناص القطع من الظنيات. وهي خاصة هذا الكتاب لمن تأمله، والحمد لله"5. وممن تأملوه. وأكدوا هذه الخاصية فيه، الشيخ عبد الله دراز وهو ممن درسوا الموافقات دراسة دقيقة كاملة، وقد نوه6 بطريقة الشاطبي في كونه "يتتبع الظنيات

_ 1 الموافقات، 1/ 29. 2 الموافقات، 2/ 53. 3 الموافقات، 1/ 36-37. 4 الموافقات، 1/ 36- 37. 5 الموافقات، 4/ 327. 6 مع أن تعليقات الشيخ دراز تمتاز بالشح في الإطراء، وبالمبالغة في المعارضات والاستدراكات.

في الدلالة، أو في المتن، أو فيهما والوجوه العقلية كذلك، ويضم قوة منها إلى قوة، ولا يزال يستقري حتى يصل إلى ما يعد قاطعًا في الموضوع فهذه خاصية هذا الكتاب في استدلالاته، وهي طريقة ناجحة أدت إلى وصوله إلى المقصود، اللهم إلا في النادر، رحمه الله رحمة واسعة"1. هذه فكرة موجزة عن الاستقراء عند الشاطبي، تبين أهميته عنده ومدى اعتماده عليه، بصفة عامة، ولنعد الآن إلى موضوعنا الخاص، وهو معرفة المقاصد وإثباتها عن طريق الاستقراء. الاستقراء والمقاصد: الشاطبي يربط بين الاستقراء والكشف عن المقاصد منذ خطوته الأولى في كتاب "الموافقات"، وذلك في خطبة الكتاب، وهو يشرح قصة هذا التأليف، حيث قال: "ولما بدا من مكنون السر ما بدا، ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى، لم أزل أقيد من أوابده، وأضم من شوارده، تفاصيل وجملًا، معتمدًا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية، ومبينا أصولها النقلية، بأطراف من القضايا العقلية، حسبما أعطته الاستطاعة والمنة في بيان مقاصد الكتاب والسنة"2. ولما كانت مقاصد الكتاب والسنة كلها قائمة على أساس فكرة تعليل الشريعة وأحكامها، وأن خلاصة هذا التعليل تتمثل في كون الشريعة معللة برعاية المصالح، فإن أول ما بدأ به الشاطبي استدلاله على هذا، هو الاستقراء: "والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد"3. وحتى النصوص التي أوردها للتدليل على وجود التعليل في تفاصيل الشريعة، فإنما أوردها على سبيل الاستقراء المفيد -في المجموع- للعلم القطعي فكان دليله أولا وأخيرًا هو الاستقراء.

_ 1 الموافقات، 4/ 323- 328. 2 الموافقات، 1/ 23، وهي الصفحة الخامسة من كلام الشاطبي. 3 الموافقات، 2/ 6.

ولعل أهم مسألة طبق فيها الاستقراء، وبين فيها كونه أهم مسلك لإثبات مقاصد الشريعة هي مسألة "كون الشارع قاصدًا للمحافظة على القواعد الثلاث: الضرورية، والحاجية، والتحسينية"1. فالقول بقصد الشارع إلى حفظ هذه الكليات الكبرى، لا يكفي لإثباته الإتيان بنص أو بضعة نصوص -إن وجدت- تصرح بهذا القصد. فالقضية أكبر وأخطر من أن تثبت بدليل يمكن تطريق الاحتمال إليه، سواء في ثبوته، أو دلالته، أو سلامته من المعارض. فالقضية لا تحتمل الظن، ولا يقيمها إلا الدليل القطعي، لأنها أصل الأصول في الشريعة2. فما هو المسلك القطعي إلى هذا؟ قال رحمه الله: "وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر، هو روح المسألة. وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعًا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع، وأن اعتبارها مقصودا للشارع. ودليل ذلك: استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة، على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة، على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم، وشجاعة علي رضي الله عنه، وما أشبه ذلك، فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص، ولا على وجه مخصوص، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات، والمطلقات والمقيدات، والجزئيات الخاصة، في أعيان مختلفة، ووقائع مختلفة، في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه، حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال، منقولة وغير منقولة"3.

_ 1 الموافقات، 2/ 49. 2 "إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهي إليه، بل هي أصول الشريعة" الموافقات، 3/ 7. 3 الموافقات، 2/ 51.

وبهذه الطريقة الاستقرائية تحدث عن إثبات حفظ الضروريات الخمس1: "الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال". وفي مباحث الأوامر والنواهي من كتاب الأحكام، ذكر أن الأوامر والنواهي، يمكن أخذها على ظاهرها، ويمكن أخذها بالنظر إلى قصد الشارع فيها، حسبما يعطيه الاستقراء2. وقد تقدم معنا -قبل قليل- أنه ثبت بالاستقراء أن ما كان خادمًا ومقويا لمقصود شرعي، فهو أيضًا مقصود للشارع، وإن بالقصد الثاني3. وفي سياق محاربته للبدع، وتفنيده لمستندات المدافعين عنها -في كتابه "الاعتصام"- تطرق إلى القول بأن قاعدة المصالح المرسلة، لا دخل لها في مجال العبادات، وأن أحكام العبادات قائمة على التوقيف والتحكم الشرعي. ولإثبات هذا لجأ إلى استقراء عدد من أحكام العابدات التي لا يمكن إدخالها تحت النظر العقلي، والتعليل المصلحي. ثم قال: "إن في هذا الاستقرار معنى يعلم من مقاصد الشرع أنه قصد قصده، ونحا نحوه، واعتبر جهته، وهو أن ما كان من التكاليف من هذا القبيل، فإن قصد الشارع: أن يوقف عنده، ويعزل عنه النظر الاجتهادي جملة، وأن يوكل إلى واضعه ويسلم له فيه"4. ثم قال أيضًا: "وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئًا من التعبدات إلى آراء العباد. فلم يبق إلا الوقوف عندما حده"5. وأحسب أن هذا القدر كاف لبيان مدى اعتماد الشاطبي على الاستقراء عمومًا، وفي إثبات المقاصد خصوصًا. وبه يتضح ما تقدم من الجزم بأن الاستقراء

_ 1 انظر مثلًا: الموافقات، 1/ 38. 2 الموافقات، 3/ 148. 3 راجع المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية من هذا الفصل. 4 الاعتصام، 2/ 131-135. 5 الاعتصام، 2/ 131-135.

هو أهم مسلك لمعرفة المقاصد الشرعية عند الشاطبي، رغم عدم إيراده له في الخاتمة المخصصة لهذا الموضوع. فإذا كانت هذه هي منزلة الاستقراء عند الشاطبي، فيبقى أن أشير إلى منزل الاستقراء، بالمقارنة مع المسالك الأخرى التي تعرف بها مقاصد الشارع. ويتلخص ذلك في كون المقاصد التي تثبت بالاستقراء هي المقاصد الكبرى والعامة للشريعة الإسلامية. وهي معظم ما دارت حوله مقاصد الشاطبي. ولهذا كان الاستقراء ملازمًا له حيثما قرر شيئًا من كليات الشريعة. أو أعلن عن مقصد من مقاصدها العامة. كما أن المقاصد الاستقرائية تمتاز بالقطع. وقد رأينا -قبل قليل- كيف يؤكد الشاطبي على قطيعة الاستقراء سواء أكان تاما أو ناقصًا "أكثريا بتعبير الشاطبي"، متجاهلًا بذلك ما يتردد عند كثير من الأصوليين والمناطقة من كون الاستقراء الناقص يفيد الظن، ولا يفيد العلم، اتباعًا منهم للمنطق الأرسطي1. هذا، بينما المقاصد التي تثبت عن طريق المسالك الأخرى هي غالبًا مقاصد جزئية، تتعلق بهذا الحكم أو ذاك، وهذا النص أو ذاك. كما أن كثيرًا منها يقف عند مجرد الظن والرجحان، مثلما هو الشأن في المقاصد التي تؤخذ من مجرد ظاهر الأمر والنهي، وكذا التي يعتمد فيها على العلل المتوصل إليها بمسالك ظنية، كمسلك المناسبة مثلًا. والشاطبي -وإن كان قد ذكر الجهات الأربع التي بها يعرف مقصود الشارع- فإن اعتماده كان على الاستقراء أكثر من اعتماده على أي جهة من هذه الجهات. ولهذا جاءت "مقاصده" متسمة بالعموم والقطع. وقلما كان يتعرض للمقاصد الجزئية، الخاصة ببعض التكاليف. فإن فعل، فإنما يكون ذلك عرضًا.

_ 1 انظر عرض ونقد العلامة محمد باقر الصدر لهذا التقسيم الأرسطي للاستقراء الذي سار عليه عدد من الفلاسفة والأصوليين المسلمين -كابن سينا والغزالي- في كتابه الأسس المنطقية للاستقراء، ص13 إلى 32

والعجب -كل العجب- من الأحكام التي أطلقها الدكتور عبد المجيد النجار في مقاله المشار إليه سابقًا، حيث اعتبر ان الشاطبي: "ينحو منحى التجزئة والتفصيل والتدقيق في بسط المقاصد" ليفسر بهذا، كون الشاطبي اقتصر في طرق إثبات المقاصد على المسالك الملائمة لهذا المنحى التجزيئي، قال: "فلما جاء إلى بيان مسالك الكشف عن المقاصد. كانت متجانسة في طبيعتها مع ما جعلت خلاصة له من عامة المبحث، فاتصفت بالجزئية في الغالب، من حيث اتجهت إلى رسم الطريق في البحث عن المقاصد في نطاق آحاد الأحكام، لا في نطاق المقاصد الكلية العامة، وهو ما يظهر بجلاء في المسالك الثلاثة الأخيرة". والظاهر أن الدكتور النجار بنى مقاله عمومًا، والأحكام الواردة في هذه الفقرة خصوصًا، على مجرد خاتمة كتاب المقاصد؛ فعليها تنطبق -إلى حد ما- هذه الأحكام. وقد بينت في الصفحات السابقة أن مقاصد الشاطبي الجزئية لا تأتي إلا عرضًا. ولا أظن إلا أن الدكتور النجار قد قرأ كتاب المقاصد -على الأقل- ولكن لم يظهر أثر ذلك في هذا المقال، الذي أنصب على خاتمة الكتاب، فغاب عنه أهم مسالك المقاصد، بل غاب عنه حتى نوع المقاصد، التي تملأ كتاب الشاطبي. واستعراض عناوين الشاطبي1 وحدها، كاف لإدراك أن الرجل غير مشغول بالمقاصد الجزئية، وإنما همه الكليات، والمقاصد العامة. وإنما دخل الخلل على أحكام الدكتور النجار من إغفاله للاستقراء عند الشاطبي، بينما هو يقوم ويقعد به في كل نواحي الموافقات. وقد رتب المقال على هذا الخلل مقارنات بين مسالك الشاطبي ومسالك ابن عاشور. وحسبي بيان الأساس الذي قامت عليه تلك المقارنات، أي أنها قائمة على إغفاله لمسلك الاستقراء عند الشاطبي.

_ 1 هي: قصد الشارع في وضع الشريعة -قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام- قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها -قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة- مقاصد المكلف في التكليف.

الباب الرابع: تقييم عام لنظرية الشاطبي

الباب الرابع: تقييم عام لنظرية الشاطبي الفصل الأول: نظرية الشاطبي بين التقليد والتجديد جوانب التقليد مدخل ... الباب الرابع: تقييم عام لنظرية الشاطبي الفصل الأول: نظرية الشاطبي بين التقليد، والتجديد رغم أن التجديد الذي جاء به الشاطبي -في أصول الفقه عمومًا، وفي مقاصد الشريعة خصوصًا- لا ينازع فيه أحد، ولا نجد إلا من يشهد وينوه به، فإن الذي لا ينبغي الشك فيه أيضًا، هو أن الشاطبي لا يمكن أن يكون قد ابتدأ نظريته ابتداء، وأبدعها إبداعًا تاما فليس هذا من طبيعة الأمور. بل لا بد أن يكون قد استفاد ممن سبقوه، وبنى على ما قرروه. ومعنى هذا أن الشاطبي قد اتبع وأبدع، وقلد وجدد، وأخذ وأعطى. وليس مطلوبًا من أحد -مهما بلغ- أكثر من هذا. ويبقى التفاضل في مقدار التجديد وقيمته. جوانب التقليد: ولنبدأ بجانب الاتباع والتقليد في نظرية الشاطبي، لأنه المبتدأ والمنطلق، حيث نجد الشاطبي نفسه، يعتز بكون ما هدي إليه ووفق فيه من إبداع وتجديد، هو: "أمر قررته الآيات، والأخبار، وشد معاقله السلف الأخيار، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيد أركانه أنظار النظار"1. ويأتي في طليعة هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها، وأسسوا قواعدها وأصولها، وجالت أفكارهم في آياتها، وأعملوا الجد في تحقيق مباديها وغاياتها فصاروا خاصة الخاصة، ولباب اللباب، ونجومًا يهتدي بأنوارهم أولوا الألباب"2.

_ 1 الموافقات، 1/ 25. 2 الموافقات، 1/ 21.

فهو إذًا، يغترف مما قررته الآيات والأحاديث، ويهتدي في ذلك بمنهج الصحابة الأخيار، ويفصل المعالم التي رسمها أئمة العلماء، ويبني على أركان شيدها الأصوليون النظار. هذا على وجه الإجمال. وأما بشيء من التفصيل، فقد سبق أن مهدت لهذه الدراسة لنظرية الشاطبي، بعرض حول فكرة المقاصد عند الأصوليين1، وفي المذهب المالكي2. وبالنظر في ذينك الفصلين، ومقارنة ما جاء فيهما مع الفصول اللاحقة لهما، يتضح الكثير من أوجه التشابه والتلاقي، أو بعبارة أوضح، يظهر الكثير من أوجه تأثير الشاطبي بمن سبقوه، واستفادته منهم. وفيما يلي بعض الإشارات الموجزة إلى ذلك:

_ 1 الفصل الأول من الباب الأول. 2 الفصل الثاني من الباب الأول.

استفادته من الأصوليين

استفادته من الأصوليين: لقد رأينا الأصوليين -منذ الجويني والغزالي- يقسمون المصالح إلى ضرورية وحاجية وتحسينية. ويحصرون الضروريات في خمس، هي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وعلى هذا سار الشاطبي. كما أنه لم يمانع من إضافة ضرورة سادسة، هي العرض1، حيث سبق أن أضافه بعض الأصوليين كما تقدم في موضعه. وأيضًا فقد ردد مرارًا أن هذه الضروريات قد وقع حفظها في جميع الملل والشرائع. وهو قول الغزالي، وتبعه عليه عامة الأصوليين كما تقدم. كما أن الأمثلة التي يوردها لتوضيح المراتب الثلاث: الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ولبيان حفظ الضروريات الخمس، هي نفسها تقريبًا التي نجدها عند سابقيه، وخاصة الغزالي.

_ 1 الموافقات، 3/ 48 و4/ 29.

والغزالي، هو أكثر من يذكرهم الشاطبي من الأصوليين. يليه1 -وبفارق كبير- الرازي فالجويني، ثم القرافي فابن عبد السلام. أما الجويني -وهو أقدم هؤلاء- فقد رأينا سبقه في وضع لبنات أولى لصياغة نظرية المقاصد. فالشاطبي-كغيره- مدين له في هذا، بشكل مباشر وغير مباشر. وبالإضافة إلى هذه الاستفادة العامة من أفكار الجويني في المقاصد، فإننا نجد مسائل معينة عند الشاطبي، يمكن إرجاع أصلها إلى كلام الجويني. من ذلك ما سبق من القول بأن أصول الفقه قطعية لا ظنية. وهي المسألة التي افتتح بها الشاطبي "الموافقات"، وهي أيضًا في الصفحات الأولى من "برهان" الجويني. ومن ذلك ما تقدم عند الشاطبي من كون الأحكام تختلف بحسب الكلية والجزئية. فقد يكون الفعل مباحًا بالجزء، لكنه واجب أو مندوب بالكل2 وبهذا الميزان قرر -في كتاب المقاصد- أن مجموع الحاجيات والتحسينيات، ينتهض أن يكون كل واحد منهما كفرد من أفراد الضروريات3. وشبيه بهذا النظر، نجده عند إمام الحرمين، حيث يرى -مثلًا- أن البيع يعتبر من الضروريات بالنظر إلى العموم، بحيث "إن الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم لجر ذلك ضرورة ظاهرة. فمستند البيع إذا، آيل إلى الضرورة الراجعة إلى النوع والجملة"4. أي أنه من حيث الجزء "بالنسبة للفرد الواحد" إنما هو من الحاجيات، ولكنه بالنسبة إلى مجموع الناس أمر ضروري.

_ 1 الحقيقة أن الذي يلي الغزالي في كثرة الذكر، هو أبو بكر بن العربي. غير أن ذكره يأتي في سياق نقل مسائل متنوعة، كثير منها لا صلة له بموضوعنا، ثم إن الاستفادة منه تندرج في إطار الاستفادة من المذهب المالكي الذي يجمعهما "راجع فصل: فكرة المقاصد في المذهب المالكي". 2 راجع مسائل المباح في فصل: أبعاد النظرية "الباب الثاني". 3 الموافقات، 2/ 23. 4 البرهان: 2/ 923.

ولكن هذه الفكرة عرفت عند الشاطبي صقلًا وتوضيحًا، وتطويرًا وتوسيعًا. فهي عند الجويني بذرة، وعند الشاطبي شجرة. وللجويني التفاته ذكية إلى ما بين التكاليف الشرعية، والنوازع الغريزية، من تكامل في جلب المصالح ودرء المفاسد. فما كانت الغريزة تشتهيه وتدفع إليه -كالكل والشرب، والتملك، والجماع، وطلب المناصب المشرقة- فإن الشريعة قلما تدعو إليه وتكلف به. بل نجدها تضع عليه القيود والحواجز التي تكبح الاندفاع الغريزي عن الإفراط والتعدي، وما كانت النفوس تنفر منه بطبعها، فإن الشريعة تركت الناس يجتنبونه بمقتضى طبعهم1. ولكنها شددت الطلب وأكدته فيما تستثقله النفوس وتتقاعد عنه كالعبادات وأداء الحقوق لأهلها، والجهاد. وهذه الفكرة العابرة عند الجويني2، عمقها الشاطبي، وتتبع آثارها في كثير من جوانب التشريع الإسلامي، وحررها -على عادته- في قواعد واضحة مضبوطة3. أما استفادة الشاطبي من الغزالي، فهي واضحة صريحة، تنطق بها عشرات الشواهد في "الموافقات" و"الاعتصام"، حتى ليمكن اعتبار الغزالي أحد أبرز شيوخ الشاطبي، رغم القرون الثلاثة التي تفصل بينهما. ويكفي أن أهم ما ظل يتردد عند الأصوليين عن المقاصد، من مبادئ وأمثلة ومصطلحات، إنما هو من وضع الغزالي. ثم كان ذلك مما تبناه الشاطبي وبنى عليه. وليس هذا فحسب رغم أهميته في موضوعنا -بل إن الشاطبي قد ذكر الغزالي في الموافقات نحوًا من أربعين مرة في مختلف مباحث الكتاب. وفي أكثرها يذكره

_ 1 البرهان، 2/ 919 و938. 2 ما قدمته عنها فيه زيادة توضيح وتمثيل مني، اقتباسًا من كلام الشاطبي. 3 انظر الموافقات، 2/ 180-182، ثم 3/ 130-134.

بالتأييد والموافقة، معتمدًا عليه، مستشهدًا بآرائه. بخلاف ذكره لبقية الأصوليين، حيث يكثر من نقدهم ومعارضتهم، وخاصة منهم الرازي! وأكثر من هذا، فإنه ينوه ويشيد ببعض كتابات الغزالي وآرائه، على نحو لا يفعله مع غيره من العلماء "باستثناء الإمام مالك طبعًا". وفيما يلي نماذج من تلك الإشادات، وهي مشيرة إلى مدى اعتماده عليه: ففي مباحث الأسباب والمسببات، تعرض لما ينبغي للمكلف، وهو يتعاطى الأسباب، من النظر إلى نتائجها ومآلاتها، قال "وقد قرر الغزالي هذا المعنى في كتاب الإحياء وفي غيره بما فيه كفاية"1. وعندما تكلم عن الصحة والبطلان ومعناهما عند الفقهاء، تطرق إلى معناهما الأخروي، وهو كون العمل مقبولًا مأجورًا عند الله، أو بخلاف ذلك. ثم قال: "وهو وإن كان إطلاقًا غريبًا لا يتعرض له علماء الفقه، فقد تعرض له علماء التخلق، كالغزالي وغيره. وهو مما يحافظ عليه السلف المتقدمون. وتأمل ما حكاه الغزالي في كتاب النية والإخلاص، من ذلك2. وفي سياق تشنيعه على الذين يقحمون في تفسير القرآن علومًا بعيدة عنه، ويزعمون أن ذلك يساعد في فهم مقاصد القرآن، أشار إلى ما ذهب إليه من ذلك ابن رشد الحفيد، حيث ذهب إلى أن علوم الفلسفة مطلوبة، لأن الفهم الحقيقي للشريعة ومقاصدها لا يتأتى إلا بها، وبعد أن انتقده بشدة غير معهودة، قال: "ولا ينبئك مثل خبير فأبو حامد ممن قتل هذه الأمور خبرة، وصرح فيها بالبيان الشافي، في مواضع من كتبه"3. وقد ذهب -مثل عدد من العلماء- إلى أنه لو عم الحرام الأرض، وتعذر على المكلف الكسب الحلال والمأكل الحلال، فله أن يكتسب ويأكل ما تيسر له،

_ 1 الموافقات، 1/ 228. 2 الموافقات، 1/ 292. 3 الموافقات، 3/ 376.

وله أن يزيد في ذلك على حد الضرورة، ودون أن يصل إلى حد الترفه والتنعم ثم قال: وقد بسط الغزالي هذه المسألة في "الإحياء" بسطًا شافيا جدا. وذكرها في كتبه الأصولية كالمنخول، وشفاء الغليل"1. وهذه الإحالات على الغزالي وكتبه، بقدر ما تدل على ما يكنه له الشاطبي من تقدير وثقة، بقدر ما تكشف عن اطلاعه الواسع على كتبه. وهي مجرد نماذج، ومثلها كثير. وللشاطبي استفادة ظاهرة أيضًا من عز الدين بن عبد السلام وتلميذه القرافي. وخاصة في مسائل المصالح والمفاسد، ومسائل المشقة، وقد سبق أن نبهت على بعض ذلك في فصل "المصالح والمفاسد". وفي موضوع المشقة نجد ابن عبد السلام -ويتبعه في ذلك القرافي2- يقسم المشاق إلى ضربين: مشاق ملازمة للتكاليف، بحيث لا تتم إلا بها، كمشقة الوضوء والاغتسال في البرد، والقيام لصلاة الفجر، ومشقة الصوم والحج. "فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات ولا في تخفيفها"3. ومشاق ليست ملازمة لنفس التكليف، بل هي من خارجه، وقد توجد معه وقد لا توجد. وهذا النوع ينقسم إلى ثلاث مراتب: مشاق شديدة، وأخرى خفيفة، وأخرى متوسطة. فالقسم الأول يعتبره الشارع ويوجب بالتخفيف بمقتضاه، والقسم الثالث لا اعتبار له. والقسم المتوسط في محل النظر والاجتهاد، لإلحاقه بأحد الطرفين. وهذا التقسيم أخذ به الشاطبي4، ولكن على طريقته، ومع إضافاته

_ 1 الاعتصام، 2/ 125. 2 الفروق، الفرق 14. 3 قواعد الأحكام، 2/ 9-10. 4 الموافقات، 2/ 156-158.

المعتادة في التعميق والتنقيح، فضلًا عن إدراكه له في إطار نظرية المقاصد. وقد تطرق ابن عبد السلام إلى الصفات الخلقية الجبلية في الإنسان، فقرر أنها لا ثواب فيها ولا عقاب. قال: "كل صفة جبلية لا كسب للمرء فيها، كحسن الصور، واعتدال القامات، وحسن الأخلاق، والشجاعة والجود. فهذا لا ثواب عليه، مع فضله وشرفه، لأنه ليس بكسب لمن اتصف به1. وكذلك الشأن في الصفات المذمومة، كنقص العقل، وسوء الخلق، والجبن، والشح، والقسوة، والوقاحة، والميل إلى الرذائل، واستثقال الفضائل فلا عقاب عليها في ذاتها. وقد تناول الشاطبي هذه المسألة نفسها، فوسع البحث فيها وعمقه، وميز -بدقة متناهية- ما هو من هذه الصفات يستحق المدح والثواب، أو الذم والعقاب، وما ليس كذلك. وبعبارة أخرى: فقد بين ما يقصده الشارع مما لا يقصده من التكاليف المتعلقة بهذه الصفات2.

_ 1 قواعد الأحكام، 1/ 137. 2 الموافقات، 2/ 108-119.

استفادته من المذهب المالكي

استفادته من المذهب المالكي: على أن مما ساعد الشاطبي على حسن الاستفادة من هذه اللمحات والومضات، التي جادت بها قرائح بعض الأصوليين، حول مقاصد الشريعة وحكمها، وساعده أيضًا على تطويرها والبناء عليها، حتى أخرج لنا نظرية متكاملة الأطراف، متشعبة الامتدادات في مختلف جوانب الشريعة الإسلامية، أقول: مما ساعده على ذلك كله، تشبعه بأصول المذهب المالكي وقواعده. وقد سبق أن بينت في فصل خاص، علاقة المذهب المالكي وأصوله بمقاصد الشريعة. فلإدراك مدى استفادة نظرية الشاطبي من مذهبه المالكي، لا بد من مراجعة ذلك الفصل.

ولكن الآن أذكر -مجرد تذكير- أن المذهب المالكي هو مذهب المصلحة والاستصلاح، والاستحسان المصلحي، والتفسير المصلحي للنصوص. وهو المذهب الحازم في درء المفاسد وسد ذرائعها واستئصال أسبابها. وهو المذهب الذي يعتني عناية فائقة بمقاصد المكلفين ونياتهم ولا يقف عند مظاهرهم وألفاظهم. وهو من أكثر المذهب -إن لم يكن أكثرها- تعليلًا للأحكام الشرعية المتعلقة بمجال العبادات والمعاملات. والتعليل هو الكشف عن مقاصد الشارع والبناء عليها. فهذه الأصول التي تصب كلها في نظرية المقاصد، هي التي هيأت للفكر المقاصدي عند الشاطبي أن يترعرع على النحو الذي رأيناه. وبعد هذه التنبيهات والإشارات، إلى موارد الشاطبي، وجوانب التأثر والاتباع في نظريته، أرى من تمام الفائدة أن أتعرض لبعض ما بدأ يقال ويشارع، حول جذور نظرية الشاطبي واستمداداته فيها. من ذلك ما ذهب إليه الدكتور عبد المجيد تركي، ثم الدكتور محمد عابد الجابري، من أن الشاطبي في مقاصده، كان مكملًا لما جاء به ابن رشد، ومقتفيا أثره في ذلك. فالدكتور تركي -الذي عرض رأيه خلال ندوة ابن رشد، التي انعقدت بكلية الآداب بالرباط، بمناسبة مرور ثمانية قرون على وفاته- يقول "عن ابن رشد" "كما يجدر بنا أن نبرز إثراءه للفكر الفقهي إثراء قد مهد السبيل -في اعتقادنا- لتطورات لاحقة، بل لميلاد علم جديد ظهر بعد قرنين من وفاة ابن رشد على يد منشئة الشاطبي الأندلسي، الذي اختار له من الأسماء: علم مقاصد الشريعة"1. ولست أدري أولًا ماذا يعني بكون الشاطبي "اختار له من الأسماء علم مقاصد الشريعة".

_ 1 أعمال ندوة ابن رشد، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1978.

فأما اسم "مقاصد الشريعة"، فكان مستعملًا قبل الشاطبي بحقب طويلة. وقد قدمت من ذلك ما يكفي. وأما اسم "علم مقاصد الشريعة" فلم يستعمله الشاطبي نهائيا. وأما الذي أطلق هذا الاسم فهو الشيخ ابن عاشور، حديثًا على ما سيأتي في خاتمة الكتاب. وأما دليله على كون ابن رشد قد مهد السبيل لظهور مقاصد الشريعة على يد الشاطبي، فهو أن ابن رشد قد عمل على "عقلنة" الفقه والارتقاء به إلى الموضوعية، وفي هذا يقول: "إذن، هو السعي نحو خلق جهاز متماسك الأجزاء، ومرتكز على العقل، وهذا الحرص على تلمس الموضوعية واليقين، سيمهدان الطريق -في اعتقادنا- إلى ظهور علم جديد على يد الشاطبي" وقد ختم عرضه بالقول: "وأن أشرك ابن رشد في اكتشاف علم جديد هو علم مقاصد الشريعة". وواضح أن "الدليل" الذي قدمه لنا على إشراكه لابن رشد في اكتشاف "علم مقاصد الشريعة" ليس إلا مجموعة من الدعاوي الغامضة: فما هو "الجهاز الفقهي المتماسك" الذي قدمه -أو حاول تقديمه- ابن رشد؟ وما معنى هذه المصطلحات الجديدة، والغريبة على الميدان المتكلم فيه؟ وما المقصود بالضبط بالارتكاز على العقل في بناء هذا الجهاز الفقهي؟ وهل ابن رشد متفرد في هذا، عن سائر الفقهاء؟ وهل "تلمس الموضوعية واليقين" أيضًا خاص بابن رشد؟ وإذا سلمنا كل هذا -وليس فيه شيء مسلم- فهل يلزم منه ويثبت به اكتشاف ابن رشد لعلم مقاصد الشريعة؟ وهل الواقع يصدق هذا "اللزوم" المفترض؟ على أن الدكتور تركي قد دعم "اعتقاده" المذكور باستدلال آخر لا يعدم صلة بموضوع المقاصد، ولكن لا يمكن أن يقام عليه مثل هذا الاعتقاد إلا بكثير

من التكلف والتهافت، يقول: "ولنلاحظ أن ابن رشد في "البداية" يستعمل لفظة مصلحي ليقابلها بلفظ تعبدي: "والمصالح1 المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابًا للعبادات المفروضة، حيث يكون الشرع لاحظ فيها معنيين: معنى مصلحيا، ومعنى عباديا. وأعني بالمصلحي: ما رجع إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي: ما رجع إلى زكاة النفس". وإذا كان الدكتور لم يكتشف لفظ مصلحي، واستعماله في تعليل الأحكام الشرعية إلا في "البداية"، فعسى أن يكتشف في النهاية2، أن مثل هذا الكلام وهذا الاصطلاح، ضارب الأطناب في كتب الفقه، وخاصة المالكية منها، وشائع في كلام الأصوليين، قبل ابن رشد وبعده. وقد مر بنا من ذلك ما يغني عن الإعادة أو المزيد. على أن الذي لا ينتهي عجبي منه، هو: كيف يستسهل بعض الباحثين أن يقيموا أحكامًا ونظريات، ويفسروا ظواهر وتطورات، فقد بواسطة ألفاظ يلتقطونها، ثم يكررونها، ويغلظون كتابتها، ويسطرون تحتها، ثم يفرضون على الجمهور أن يؤمن بما بنوه عليها، مما لا تحمله ولا تفيده حتى عشرات من أمثالها!! ولو ساغ في ميزان العلم أن نؤسس ريادة ابن رشد وتأثيره على الشاطبي في مجال المقاصد، على مجرد استعماله لفظ "مصلحي"، لكان أولى أن نؤسس ذلك على استعماله لفظ: مقصد الشرع، ومقصود الشرع، مما لم يبق فقيه ولا أصولي إلا استعمله. "راجع الباب الأول مثلًا". فقد ذكر ابن رشد مرارًا. "مقصود الشارع" وما شابهها، ولكن في عبارات عابرة، وفي غير موضوعنا: مقاصد الشريعة، وإنما في مجال العقيدة:

_ 1 الكلام من الآن نهايته من بداية المجتهد، 1/ 15. 2 خاصة وأنه دائم الكلام عن: المقاصد، والشاطبي، والاستصلاح، ثم إنه قد بشرنا منذ عدة سنين أن من مشروعاته القريبة إعداد دراسة عن الشاطبي ومقاصد الشريعة. ذكر هذه في كتابه مناظرات في أصول الشريعة، ص528 والكتاب صدر لأول مرة بالغة الفرنسية سنة1978.

ففي سياق إنكاره وانتقاده للتأويلات الفاسدة التي أدخلتها الفرق الكلامية على العقيدة الإسلامية، قال: "وإذا تؤملت جميعها، وتؤمل مقصد الشرع، ظهر أن جلها أقاويل محدثة، وتأويلات مبتدعة. وأنا أذكر من ذلك ما يجري مجرى العقائد الواجبة في الشرع، التي لا يتم إلا بها، وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع"1. وعندما تعرض لمذاهب المتكلمين في صفات الله عز وجل، انتهى إلى حصرها في ثلاثة مذاهب: "مذهب من رأى أنها نفس الذات، ولا كثرة هنالك. ومذهب من رأى الكثرة، وهؤلاء قسمان: منهم من جعل الكثرة كثرة قائمة بذاتها ومنهم من جعلها كثرة قائمة بغيرها" ثم قال: "وهذا كله بعيد عن مقصد الشرع. فإذاً، الذي ينبغي أن يعلم الجمهور من هذه الصفات هو ما يصرح به الشرع فقط، وهو الاعتراف بوجودها، دون تفصيل الأمر فيها هذا التفصيل"2. ثم نص فيما بعد على "أن المقصود بالعلم في حق الجمهور، إنما هو العمل، فما كان أنفع في العمل، فهو أجدر. وأما المقصود بالعلم في حق العلماء، فهو الأمران جميعًا، أعني العلم والعمل"3. وفي كتابه "فصل المقال" قال: "وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع: إنما هو تعليم العلم الحق، والعمل الحق" ص49. وعلى مثل هذه النصوص أو -بالضبط- على مثل هذه الألفاظ، اعتمد الدكتور الجابري ليقول: "وقد أخذ الشاطبي هذه الفكرة عن ابن رشد الذي وظفها في مجال العقيدة، ونقلها إلى مجال الأصول4!

_ 1 مناهج الأدلة في عقائد الملة، 133. 2 نفس المرجع، 167. 3 مناهج الأدلة، 180. 4 بنية العقل العربي، 554.

هكذا بكل راحة بال يستسهل باحث كبير ومفكر شهير، الجزم بأن فكرة المقاصد أخذها الشاطبي عن ابن رشد! ولا استدراك ولا احتمال! ولا إثبات ولا استدلال! ولو أن الدكتور الجابري ألزم نفسه بما شرطه على قارئ الشاطبي، من أنه لن يستطيع فهم أغراضه وإدراك جوانب التجديد في فكره وتفكيره، إلا إذا توفر فيه شرطان اثنان: أولهما، سعة الاطلاع، ليس على ميدان الفقه وأصوله وحسب، بل على مختلف فروع الثقافة العربية، من تفسير وحديث وفقه وأصوله وكلام ومنطق وفلسفة وتصوف"1. لو أنه التزم بهذا، وبصفة خاصة سعة الاطلاع على الفقه وأصوله، وهما المرتع الطبيعي، والمنبت الطبيعي، للشاطبي ونظريته، لما بقي أسير لبعض ألفاظ استعملها ابن رشد في مجال العقيدة، حتى جعل منها الأستاذ الكريم مفتاحًا لتفسير ما جاء به الشاطبي عن مقاصد الشريعة، وحتى وصل به الحماس إلى حد اعتبار أن خطاب الشاطبي حول مقاصد الشريعة، كان جديدًا "كل الجدة"2. ويبقى أن أشير إلى أمر له دلالته في موضوعنا، وهو أن الشاطبي لا يكاد يذكر ابن رشد الحفيد. أما ابن رشد الذي ذكره مرارا ونقل عنه واعتمد عليه، فهو ابن رشد الجد. فهو المقصود عند الشاطبي -وغيره- عندما يقول: ابن رشد، بهذا الإطلاق. "أعني في مجال الفقه خاصة". فلو أن همة الباحثين عن جذور نظرية الشاطبي اتجهت إليه وإلى تراثه الفقهي الضخم، لكان ذلك أفيد وأقرب إلى طبيعة الأمور، لما هو ثابت من اعتماد الشاطبي عليه واستشهاده به، ولكونه زعيم فقهاء الأندلس ومرجعهم في دقائق المذهب وغوامضه وخفاياه، وقد قدم للفقه المالكي من "البيان والتحصيل"3 ما جعل المتأخرين عنه عالة عليه.

_ 1 نفس المرجع، 552. 2 نفس المرجع، 502. 3 اسم كتابه الضخم، وقد طبع مؤخرًا في عشرين جزءًا.

أما ابن رشد الحفيد، فلا يبدو له أثر فيما كتبه الشاطبي. ولعل المرة الوحيدة التي ذكرها فيها، هي التي جاءت في سياق بيانه للعوم المضافة إلى القرآن، حيث استطرد لانتقاد الذين يقحمون في ذلك علومًا يزعمون أنها ضرورية لفهم كلام الله، ثم قال: "وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بفصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، أن علوم الفلسفة مطلوبة، إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها. ولو قال قائل بالضد مما قال لما بعد في المعارضة، وشاهد ما بين الخصمين: شأن السلف الصالح في تلك العلوم، هل كانوا آخذين فيها أم كانوا تاركين لها غافلين عنها، مع القطع بتحققهم بفهم القرآن، يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والجم الغفير. فلينظر امرؤ أين يضع قدمه"1. وأخيرا، فلا ينبغي أن يفهم أحد أني -بهذا- أنتقص مكانة ابن رشد الحفيد، وأغض من علمه وفكره. فأنا لا أكن له إلا التعظيم والإجلال. وأحسبني من المبالغين في هذا. ولكني أريد -فقط- وضع الأمور في نصابها، خاصة وأن الأمر يتعلق بمنهج البحث، ووسائل الإثبات، وطريقة الحكم على الأمور. ومن هذا الباب، ما ذهب إليه الدكتور سعد محمد الشناوي، حول تأثر الشاطبي بمن سبقوه، وأن منهم ابن تيمية وابن القيم، حيث قال: "وقد تأثر الإمام الشاطبي بما جاء في مؤلفات من سبقه، وهو العز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن القيم، والقرافي. ولهذا نجد كتابه مزيجًا وتحليلًا لهذه الآراء القيمة التي استقرت في عقولها نظرية المصالح المرسلة وابتناء أحكام الشرع بأنواعها عليها، وتميز التشريع الإسلامي باعتبار هذا الأصل"2. والمؤسف غاية الأسف أن هذا النص ليس فيه جملة واحدة مسلمة:

_ 1 الموافقات، 3/ 376. 2 مدى الحاجة للأخذ بنظرية المصالح المرسلة في الفقه الإسلامي، 1/ 150.

1- لم يقدم لنا صاحب النص أي دليل -ولا أي افتراض- على كون الشاطبي قد تأثر بابن تيمية وابن القيم. وأنا أؤكد له أن أيا من الرجلين لم يرد له ذكر بتاتًا فيما هو متداول من كتب الشاطبي. ورغم أن ابن تيمية وابن القيم، كانا قد اشتهرا في المشرق زمن الشاطبي وبعده، فإننا لا نجد لهما ولآرائهما أثرًا في المغرب والأندلس يومئذ. وبصفة عامة، فإن الفقه الحنبلي، والمؤلفات والأسماء الحنبلية، هي الأقل ذكرًا، والأقل أثرًا في هذه المنطقة. وقد وجدت الشاطبي -مرة واحدة- يقول: "قال بعض الحنابلة"1، وذلك فيما يخص دعاوي الإجماع التي لا تثبت، ويستعملها بعضهم في قطع الطريق على البحث والمناقشة لبعض الأمور التي يدعي فيها الإجماع ولا إجماع. ومع هذا، فإني أستبعد أن يكون الشاطبي قد أخذ هذا عن مؤلف حنبلي مباشرة. والمستبعد أكثر أن يكون قد اطلع على بعض مؤلفات ابن تيمية أو ابن القيم، خاصة وأنه ليس من أصحاب الرحلات المشرقية، كما هو شأن ابن العربي والطرطوشي مثلًا2، اللذين ينقل الشاطبي عنهما كثيرًا، وكما هو شأن شيخه أبي عبد الله المقري، الذي حكى عن نفسه أنه: "لقي بدمشق شمس الدين بن قيم الجوزية، صاحب الفقيه ابن تيمية"3. ولكن هذا كله لا يفيد شيئًا في إثبات دعوى الدكتور الشناوي "المحامي" ولا حتى في "إثارة الدعوى أمام القضاء". 2- القول بابتناء أحكام الشرع "بأنواعها" على المصالح المرسلة، وهو قول في غاية السيوبة واللامبالاة! فأحكام الشرع بأنواعها، تبنى على الأدلة الشرعية

_ 1 الاعتصام، 1/ 356. 2 ذكر هذين على الخصوص، فيه إشارة إلى احتمال أن يكون النقل المذكور قد وقع عن أحدهما، فهما يحكيان كثيرًا عن رحلاتهما المشرقة الطويلة، وعن احتكاكهما الكثير مع مختلف المذاهب. 3 انظر نفح الطيب، 5/ 254، ونيل الاتبهاج، 250.

المعروفة، من كتاب وسنة وإجماع وقياس. وليست المصالح المرسلة إلا واحدًا من الأدلة المختلف في بناء الأحكام عليها. والآخذون بهذا الدليل إنما يبنون عليه -كما هو معلوم- "نوعًا واحدًا" من الأحكام الشرعية الاجتهادية. 3- لست أدري ما معنى "تميز التشريع الإسلامي باعتبار هذا الأصل" فهذا كلام غريب، "ولو قال قائل بالضد مما قال، لما بعد في المعارضة"1. فالذي نعرفه من تشرعيات الأمم قديمًا وحديثًا، أنها تقوم أساسًا على المصالح المرسلة، لأن كل مصالحهم مرسلة، بل هو أكثر إرسالًا من مصالحنا المرسلة. فأصل المصلحة المرسلة -إذا قلنا به- هو الأصل "المشترك" بيننا وبين غيرنا، لا أنه الأصل المميز لنا عن غيرنا. والذي يميز تشريعنا الإسلامي عن غيره، هو غير هذا من الأصول، وخاصة الأصول النصية. فالتشريع الإسلامي لا يتميز بأصل المصالح المرسلة، بل يتميز بتضييق دائرة المصالح المرسلة، ويتميز بالحد من حرية التصرف في المصالح المرسلة نفسها. وأصل أخيرًا إلى ما ذهب إليه الأستاذ محمد أبو الأجفان، الذي أفادني كثيرا بكتبه ورسائله. فقد تحدث الأستاذ أبو الأجفان عن الإسهامات العلمية للشاطبي، وأن في مقدمتها إسهامه في بناء مقاصد الشريعة، قال: "وبذلك يضيف لبنات قوية إلى بناء شيده باحثو المقاصد"2 وذكر منهم ابن عبد السلام، والقرافي، وابن القيم، والمقري الجد، قال: "وهو من شيوخ الشاطبي المؤثرين في تكوين شخصيته، المفجرين لنبع نبوغه"3.

_ 1 العبارة بين القوسين للشاطبي، وقد تقدمت قبل قليل. 2 فتاوي الإمام الشاطبي، 63. 3 فتاوي الإمام الشاطبي، 63.

وقد كان من الممكن، أو من الأفصل، التغاضي عن هذا الحكم العام حول تأثير المقري على الشاطبي، رغم ميله إلى المبالغة. ولكن مجيئه في سياق الحديث عن إسهام الشاطبي في بناء المقاصد، جعله منصرفًا إلى هذا الجانب بالذات. ومما يؤكد هذا، هو أن الأستاذ الكريم قد وضع المقري في صف العلماء الذين شيدوا بناء المقاصد. وهذه مبالغة أخرى، أكبر من سابقتها. ولعل الأستاذ أبا الأجفان قد تأثر في هذا -كما أشار في مراسلة بيننا- بشيخه، المرحوم محمد الفاضل بن عاشور1. ولكن عبارة الشيخ ابن عاشور، لا تفيد هذا، ففي سياق حديثه عن "قواعد" المقري، ومنهجه في استخلاص القواعد الفقهية، قال: "وعلى هذا المنهج الاجتهادي العالي، كان تأسيس السلم الذي تدرج فيه أبو إسحاق الشاطبي، حتى انتهى إلى عوالي القواعد القطعية"2. والحقيقة أن المقاصد عند المقري -وفي أهم كتبه وأقربها إلى الموضوع، وهو "قواعد الفقه"- لا تتجاوز- أو لا تبلغ- ما كان متداولا في عامة الكتب الأصولية، أو يوجد متناثرًا في بعض كتب الفقه: فمن ذلك أنه ذكر في القاعدة "1134" أن المصالح الشرعية ثلاث: ضرورية وحاجية وتتمية، وأن الأولى مقدمة على الثانية، والثانية على الثالثة عند التعارض. وأن درء المفسدة يتنزل كذلك على المقامات الثلاث. وفي القاعدة "1188" يقول: "اجتمعت الشرائع على تحريم الكليات الخمسة: العقول، والدماء، والأنساب، والأعراض، والأموال. وزاد بعضهم: الأديان وأظن أنه -بعد كل ما تقدم- ليست هناك حاجة إلى التعليق على هذا النص.

_ 1 من خلال محاضراته، أو من خلال قوله الآتي. 2 أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي، 84.

وفي القاعدة "1006" يقول: "من مقاصد الشرع: صون الأموال على الناس، فمن ثم نهي عن إضاعتها وعن بيع الغرر والمجهول". وجاء في القاعدة "831": "من مقاصد الشرعية: إصلاح ذات البين وحسم مواد النزاع". وعلى كل، فيمكن القول: إن أبا عبد الله المقري قد طعم قواعده، ببعض ما كان يتردد في كتب الأصول والفقه عن مقاصد الشرعية. ولعل عمله كان من بين التنبيهات المبكرة للشاطبي1، في التفاته إلى المقاصد وعنايته بها مجرد احتمال؟ ولعل الفائدة المنهجية التي أشار إليها الشيخ ابن عاشور هي أهم ما أخذ الشاطبي من قواعد المقري2، علمًا بأن المقري مسبوق في هذا منهاجًا وإنتاجًا فهو كثير الأخذ جدا عن فروق القرافي. وقد درس الشاطبي فروق القرافي مثلما درس قواعد المقري. والحديث عن المقري وأثره على الشاطبي في مجال مقاصد الشريعة، يجرني إلى الكلام -بصفة عامة- عن مدى ما يمكن أن يكون قد استفاده الشاطبي من بقية شيوخه ومن عصره، في هذا المجال. وباختصار: فقد تتبعت الكثير جدا من فتاوي مشاهير العلماء المعاصرين للشاطبي، ومن شيوخه خاصة، "وقد أسعفني بها معيار الونشريسي"، وتتبعت بعضها في تراجمهم، في "نيل الابتهاج" خاصة، ولكني لم أجد عندهم شيئًا ذا بال.

_ 1 جاء المقري إلى غرناطة سنة 757. وكانت وفاته بفاس سنة 759. 2 أعني الاستفادة في مجال المقاصد خاصة، أما في مجال الفقه وقواعده فلا شك أن الفائدة كبيرة جدا، ويكفي أن كتاب المقري قد جمع من قواعد أكثر من ألف ومائتي قاعدة، وهو ما لم يجمعه أي كتاب آخر في هذا الباب، حسب علمي.

وقد سبق أن رأينا ما تيسر من مرسالات الشاطبي، وهي أيضًا لا تكاد تعطي شيئًا في هذا الصدد ومما يؤكد هذه النتيجة أن الشاطبي -في تناوله للمقاصد- لا يذكر أحدًا من شيوخه ولا من علماء عصره. بل قد رأينا بعض مظاهر التوتر والتنافر بينه وبين فقهاء عصره. ولم يكن له انسجام وتفاهم إلا مع أقل القليل منهم، وخاصة مع مفتي فاس وقاضيها، العلامة القباب. وأكثر من هذا، فقد كان له موقف معروف من "المتأخرين" عمومًا، فكان يتجنب الاعتماد على كتبهم. وقد لاحظ ذلك بعض أصحابه فكتب يسأله عن سببه، فأجابه: "وأما ما ذكرتم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة، فليس ذلك مني محض رأي، ولكن اعتمدته بحسب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع المتأخرين. وأعني بالمتأخرين: كابن بشير وابن شاس وابن الحاجب1، ومن بعدهم. ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه، أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين, وأتى بعبارة خشنة، ولكنها محض النصيحة. والتساهل في النقل عن كل كتاب جاء، لا يحتمله دين"2. وأما الذي نصحه، وقال عبارته الخشنة في حق الفقهاء المتأخرين فهو صديقه وشيخه القباب وقد كان يقول عن ابن بشير وابن شاس: "إنهم أفسدوا الفقه"3. ولهذا جعل الشاطبي عمدته: كتب المتقدمين، بل أخذ هو أيضًا يوصي بذلك ويؤكد عليه: "فلذلك صارت كتب المتقدمين، وكلامهم، وسيرهم، أنفع

_ 1 الأول من أهل القرن السادس، والآخران من أهل القرن السابع، والغريب أن لابن بشير كتابًا سماه الأنوار البديعة إلى أسرار الشريعة، انظر الديباج المذهب، ص87. 2 نيل الابتهاج، 50. 3 النيل، 50.

لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع كان، وخصوصًا علم الشريعة، الذي هو العروة الوثقى، والوزر الأحمى"1. وأحسب أن تشدد الشاطبي هذا، وتعميمه الحكم في كل العلوم، فيهما من المبالغة والتجني ما لا يخفى2. وعلى كل فالذي يعنينا هو التأكد من أن الشاطبي كان يستمد أساسًا من السلف الصالح، من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين فقط حل الفقهاء والأصوليين. ولهذا جاءت نظريته -وفكره عمومًا- امتدادًا للفقه السليم، والنظر السديد، والمنهج القويم. وهذا لا ينفي أنه قد استفاد من المتأخرين توجيهات وتنبيهات، وأنه من خلالهم قد عبر إلى القرن الخامس وما قبله. وأنه استفاد من شيوخه -خاصة- ما يستفيده -عادة- كل تلميذ وطالب، من تهييء وتدريب وتوجيه.

_ 1 الموافقات، 1/ 99، وانظر أيضًا ص97. 2 وقد كرر تعميمه لهذا الحكم، على جميع العلوم عدة مرات، مما يدل على العمد والإصرار على تفضيل كل علم متقدم، على كل ما هو متأخرًا وهذا غير مسلم ولا سليم.

جوانب التجديد

جوانب التجديد مدخل ... جوانب التجديد في نظرية الشاطبي: ذكرت في أول هذا الفصل أن تجديد الشاطبي في أصول الفقه ومقاصد الشريعة، أمر لا ينازع فيه أحد. وأننا لا نجد إلا من يشهد به أو يشير إليه والشاطبي نفسه هو أول متنبه، وأول منبه على ما وفق إليه في موافقاته، من وجوه التجديد والإبداع. وقد تقدم قوله "ولما بدا من مكنون السر ما بدا، ووفق الله لما شاء منه وهدى"1. وقد كان رحمه الله يخشى أن يتلقى تجديده بالنفور والإنكار، ولهذا خاطب قارئه وطمنه بقوله: "فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار، وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار، وغر الظان أنه شيء ما سمع بمثله، ولا ألف في

_ 1 الموافقات، 1/ 23.

العلوم الشرعية الأصلية على منواله، أو شكل بشكله -وحسبك من شر سماعه، ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه- فلا تلتفت إلى الإشكال دون اختبار، ولا ترم بمظنة الفائدة على غير اعتبار. فإنه -بحمد الله- أمر قررته الآيات والأخبار و ... "1. وقد بلغ من تخوف الشاطبي من أن يساء فهمه، بسبب ما ألفه أهل العلم من الجمود والركود، ومن التكرار والاجترار، إلى حد التخلي عن بعض ما كان يريد ذكره من تحقيقاته، والاكتفاء ببعض الرموز والإشارات إلى ذلك فقد ختم "الموافقات" بهذه العبارات المثيرة والمشيرة: "وقد تم -والحمد لله- الغرض المقصود، وحصل -بفضل الله- إنجاز ذلك الموعود. على أنه قد بقيت أشياء لم يسع إيرادها. وقل -على كثرة التعطش إليها- ورادها. فخشيت أن لا يردوا مواردها، وأن لا ينظموا في سلك التحقيق شواردها، فثنيت من جماع بيانها العنان، وأرحت من رسمها القلم والبنان. على أن في أثناء الكتاب رموزًا مشيرة، وأشعة توضح من شمسها المنيرة، فمن تهدى إليها رجا بحول الله الوصول". وقد مر بنا أن صاحب "نيل الابتهاج" وصف كتاب "الموافقات" بأنه "لا نظير له"، ولا شك أنه يشير بهذا إلى جوانب التجديد في الكتاب، وأهمها ومعظمها هو ما يتعلق بمقاصد الشريعة. وأما حديثًا فقد توالت الإشادات والشهادات بتجديد الشاطبي وإبداعه: فقد شهد العلامة الشيخ محمد رشيد رضا بأن كتاب الموافقات "لا ند له في بابه" وأنه "لم يسبق إلى مثله سابق" وأن صاحبه "من أعظم المجددين في الإسلام"2.

_ 1 الموافقات، 1/ 25، وقد تقدمت تتمة كلامهء أول هذا الفصل. 2 من مقدمته لكتاب الاعتصام، ص4.

وكذلك فعل في كتابه "تاريخ الأستاذ الإمام"، حيث عد الشاطبي من مجددي القرن الثامن1. وتبعه في هذا صاحب كتاب "المجددون في الإسلام، من القرن الأول، إلى الرابع عشر"، فبعد أن لخص كلام الشيخ عبد الله دراز في أهمية المقاصد، ومكانة الشاطبي في إبرازها "من مقدمته للموافقات" قال: "وهذه ناحية من التجديد، لها قيمة عظيم"2 ثم قال "وبهذا يكون للشاطبي ذلك الفضل الكبير -بعد الإمام الشافعي- لأنه سبق هذا العصر الحديث بمراعاة ما يسمى فيه روح الشريعة، أو روح القانون، وهذا باهتمامه بمقاصد الشريعة ذلك الاهتمام، وسلوكه في علم أصول الفقه ذلك المسلك"3. وبناء على هذا، فقد عد الإمام الشاطبي من أهل التجديد في القرن الثامن، وإن كان يقدم عليه في الرتبة: ابن خلدون، وابن تيمية، وابن القيم4. وأما الشيخ مصطفى الزرقا فيقول: "كتاب الموافقات هو أجل كتاب عرفناه في أصول الفقه ومقاصد الشريعة، أتى فيه مؤلفه الموفق -رحمه الله- بعجائب التفكير السديد والبصر الفقهي، والأسلوب المبتكر"5. وعلى هذا المنوال يقول الدكتور مصطفى سعيد الخن "لقد سلك المؤلف في كتابه هذا مسلكا فريدًا لم يسبق إليه" وسر ذلك: "أنه عرض أصول الفقه من خلال مقاصد الشريعة"6.

_ 1 انظر ذلك في تصدير الكتاب المذكور، ص: ج. 2 المجددون في الإسلام لعبد المتعال الصعيدي، 309. 3 المجددون في الإسلام، 309. 4 المرجع السابق، 204 و311، وأما هذه المفاضلة، وكذا بعض آرائه الأخرى في فكر الشاطبي، فلا أرى ضرورة للتعليق عليها، لأنها خارجة عن موضوعي وغرضي. 5 المدخل الفقهي العام، 1/ 119. 6 دراسة تاريخية للفقه وأصوله، 219.

ولست أريد بهذه الشهادات، وبغيرها مما سيأتي، أن أثبت تجديد الشاطبي، ولكن أوردها، "ليطمئن قلبي"، وليطمئن قلب القارئ أيضًا. ذلك أن الحديث عن تجديد الشاطبي، إنما هو بالنسبة إلى تراث ضخم من المؤلفات والجهود العلمية التي سبقته في مضمار الشريعة الإسلامية أصولًا وفروعًا، وفي مجال "أصول الفقه" خصوصًا. وهذا يقتضي الاطلاع الواسع والفحص الدقيق، لمؤلفات من سبقوا الشاطبي. وهو أمر متعذر على الفرد الواحد، ولو أفنى فيه عمره خاصة وأن أكثر تلك المؤلفات ما يزال مخطوطًا ومغمورًا أو متلاشيًا أو مجهولًا. ومن هنا لا تكون شهادة باحث واحد كافية، ولا ينبغي لأحد -وخاصة إذا كان مقلا مثلي- أن يسمح بالاقتصار في مثل هذا الأمر على مجهوده الخاص في الاطلاع والفحص والمقارنة بل لا بد -ليحصل التسليم والاطمئنان- من ضم هذه الشهادة بعضها إلى بعض، حتى تعطينا نوعًا من التواتر المعنوي. على أن ما يمكن أن أضيفه إلى هذه الشهادات حول تجديد الشاطبي، هو إبراز جوانب هذا التجديد، وبشيء من التفصيل والتوضيح، وإن كان بعض هذا قد تقدم فيما مضى من الكتاب. ولكنه تقدم في إشارات متفرقة لا تفي بالمطلوب وفيما يلي أهم جوانب التجديد، التي تميز بها الشاطبي في تناوله لمقاصد الشريعة:

التوسع الكبير

1- التوسع الكبير: وهذا هو أظهر وأشهر ما تميز به الشاطبي عمن سبقوه، من المتكلمين في مقاصد الشريعة. فقد كان السابقون يتناولون الموضوع في إشارت وكلمات، وإذا جمعت، فقد تبلغ بضع صفحات. "أعني للواحد منهم". فلما جاء الشاطبي جعل أكبر أجزاء "الموافقات" هو: "كتاب المقاصد" فأصبحت المقاصد -بهذا- شيئًا ظاهر للعيان، لا يسع أحدًا إغفاله، ولا نسيانه، ولا التقليل من شأنه. بينما كانت من قبل ضامرة خفية، لا يكاد يلتفت إليها إلا كبار العلماء، الراسخون في الشريعة وعلومها. وحتى هؤلاء، فإنما أدركوا ذلك لأنفسهم، واستناروا في علمهم واجتهادهم. ولم يخرجوا للناس -إخراجًا واضحًا صريحًا- إلا مبادئ موجزة، وتنبيهات متفرقة.

وقد تعرض لهذه المسألة أحد أبرز رجال المقاصد، وهو العلامة محمد الطاهر بن عاشور، فذكر نماذج من التعليلات والإشارات المقاصدية التي كان يلقي بها بعض المتقدمين، ولكنها بقيت مغمورة متناثرة، لم تجد من يجمعها ويبرزها، ثم قال: "ولحق بأولئك أفذاذ أحسب أن نفوسهم جاشت بمحاولة هذا الصنيع، مثل عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، المصري الشافعي في قواعده، وشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، المصري المالكي، فيك تابه "الفروق" فلقد حاولا غير مرة تأسيس المقاصد الشرعية. والرجل الفذ الذي أفرد هذا الفن بالتدوين، هو الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المالكي. فأنا أقتفي آثاره"1. وقد قارن الشيخ عبد الله دراز -في تقديمه للموافقات- بين عناية الشاطبي بالمقاصد وعناية سابقيه بها، فلاحظ أن السابقين لم يتجاوزوا الإشارة إليها، في سياق مباحث أخرى، ثم قال: "وهكذا بقي علم الأصول فاقدًا قسمًا عظيمًا حتى هيأ الله سبحانه وتعالى أبا إسحاق الشاطبي -في القرن الثامن الهجري- لتدارك هذا النقص، وإنشاء هذه العمارة الكبرى"2. وإذًا، فالفرق في نظره بين حجم المقاصد عند الأصوليين السابقين، وحجمها عند الشاطبي، هو الفرق بين "الإشارة" و"العمارة". وبتشبيه آخر -ولكنه يؤدي نفس المعنى- يبين الأستاذ مصطفى الزرقا، الحجم الكبير الذي أعطاه الشاطبي لمقاصد الشريعة، بالنسبة إلى من سبقوه، حيث يقول: "فقد أضاف إلى علم أصول الفقه ومؤلفاته بيانًا إبداعيا في مقاصد الشريعة، وهو الجانب الذي كان حظه من العناية في مؤلفات أصول الفقه قليلًا وضئيلًا، لا يتناسب مع عظيم أهميته في طريق استنباط الأحكام. فقد ألقى الإمام أبو حامد الغزالي قبل ذلك نواة هذا الموضوع في "مستصفاه"3، ثم قام الشاطبي

_ 1 مقاصد الشريعة الإسلامية، 8. 2 الموافقات، 1/ 6. 3 راجع فصل: فكرة المقاصد عند الأصوليين، لترى موقع الغزالي في سياق الانتباه إلى المقاصد.

باستنبات هذه النواة في "موافقاته" خير الاستنبات، حتى أصبحت حديقة وارفة الظلال"1. ويرى الدكتور عجيل النشمي أن البحث في المقاصد بدأ على يد الغزالي في "شفاء الغليل" ثم يقول "والذي تمم هذا العلم وفصله، وقعد قواعده هو الإمام الشاطبي. بل إن صنيع الشاطبي، لا يقل أهمية عن صنيع الشافعي، في كتابه "الرسالة"، حيث دون العلم وفتق أبوابه وجمع قواعد الاستنباط"2. ويضم الدكتور عمر الجيدي شهادته إلى هذه الشهادات وغيرها، فيؤكد أن الشاطبي ضمن موافقاته "ما لم يسبقه إليه غيره، حتى إنه ليعتبر بحق المؤسس الأول لعلم مقاصد الشريعة". وبعد إشارته إلى إسهامات بعض السابقين قال: "ألا أن الشاطبي توسع في بحثها بطريقة لم يسبق إليها ولا زوحم عليها. فكان بفعله هذا أشبه بما فعله الشافعي بالنسبة لعلم أصول الفقه"3. وأهمية هذا الجانب عندي -أعني جانب التوسع الكبير- ليست متوقفة على ما في مضمونه من نفاسة وإبداع، وإنما هي حاصلة في مجرد التوسع وإفراد الموضوع بكتاب كامل4 يضم مئات الصفحات، كلها اهتمام بمقاصد الشريعة، وتقليب لمواضيعها من مختلف الجوانب والزوايا. فهذا في حد ذاته عمل جديد، وله أهميته البالغة في لفت الانتباه إلى مقاصد الشريعة، والحفز على العناية بها والتفكير فيها. وأظن أن هذا الجانب الكمي الظاهري -في عمل الشاطبي- هو الأكثر إثارة

_ وبذر بذورها الأولى. كما يجدر التذكير أن كلام الغزالي في المقاصد جاء في شفاء الغليل قبل المستصفى. 1 من مقدمته لفتاوي الإمام الشاطبي، 8. 2 عن مقاله: مقدمات في علم أصول الفقه، المنشور بمجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، الصادرة عن كلية الشريعة بالجامعة الكويتية، العدد 2، محرم 1405 - نوفمبر 1984. 3 التشريع الإسلامي، أصوله ومقاصده، 243. 4 رغم أن كتاب المقاصد هو جزء من أجزاء الموافقات فهو كتاب كامل مستقل في موضوعه وتنظيمه.

وإفادة حتى الآن، على اعتبار أن فئة قليلة من أهل العلم وطلابه هي التي درست "الموافقات" دراسة كاملة مدققة، وأفادت منه تمام الإفادة. وقد أمرنا أن نحكم بالظاهر! على أن حجم المقاصد عند الشاطبي ليس محصورًا في:"كتاب المقاصد"، بل هي كما رأينا1، حاشرة مهيمنة على كل مباحث وأجزاء "الموافقات"، وعلى غير "الموافقات". وهذه خطوة جديدة تمامًا، على علم أصول الفقه ومؤلفاته. فقد كانت المقاصد نقطة معينة تذكر أو يشار إليها بمناسبة كذا أو كذا من المباحث الأصولية، فأصبحت عند الشاطبي روحًا يسرى في معظم أجزاء هذا العلم، ويتحفز للسريان بقوة ووضوح في علم الفقه وعالمه، وذلك من خلال إدخاله للمقاصد في مجال الاجتهاد الفقهي، سواء أكان اجتهادًا في فهم النص وتفسيره والاستنباط منه، أو كان فيما لا نص فيه على الخصوص. وسأعود إلى هذا الجانب في الفصل اللاحق والأخير بحول الله.

_ 1 راجع فصل: أبعاد النظرية.

مقاصد المكلف

2- مقاصد المكلف: وهذا جانب آخر من جوانب الإلهام والإبداع في نظرية الشاطبي، ذلك أن "مقاصد الشارع" لا تتم ولا تتحقق إلا بتصحيح "مقاصد المكلف". فكان من شدة عناية الشاطبي بمقاصد الشارع أن اهتدى لتتويج الكلام فيها بالكلام في مقاصد المكلفين. وهذا أمر جديد تمام الجدة في الموضوع، أعني إلحاق الكلام في مقاصد المكلفين بالكلام في مقاصد الشريعة، وربط هذا بذاك، وبيان ما بينهما من تلازم وتكامل. ولقد تكلم العلماء -علماء التوحيد، وعلماء التربية، "أو التخلق"، وعلماء الفقه- تكلموا في هذا الموضوع تحت باب النية، واعتنوا به العناية اللازمة، حتى قال ابن أبي جمرة، الأندلسي المالكي "وددت لو كان من الفقهاء من ليس له شغل،

إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد إلى التدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتى على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك"1. ولا شك أن الشاطبي قد استفاد مما كتبه العلماء في موضوع النيات والمقاصد، وبنى عليه. ولكنه مدين في هذا -على وجه الخصوص- لمذهبه المالكي، الذي لم يقف عند حد العناية بمقاصد المكلفين فيما يسمى بالعبادات، ولكنه أولى العناية البالغة لمقاصد المكلفين في جميع أقوالهم وأفعالهم وعقودهم وتصرفاتهم, وقد سبق أن بينت هذا في موضعه بما يكفي. ومع هذا وذاك، فإن الشاطبي كان مجددًا متفردًا، في ربطه بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلف، ودمج بعضها مع بعض في كتاب المقاصد الشرعية، وفي تناوله لمقاصد المكلف من خلال النظر إلى مقاصد الشارع.

_ 1 أورد هذا النص الدكتور عمر سليمان الأشقر في كتاب مقاصد المكلفين، ص97.

بماذا تعرف مقاصد الشارع

3- بماذا تعرف مقاصد الشارع 1: وهذا أيضًا من المباحث الحديدة تمامًا عند الشاطبي، وبقدر ما في هذا الموضوع من جدة، بقدر ما له من الأهمية والخطورة؛ لأن كل كلام في المقاصد، وكل توسع في بحثها، وكل اكتشاف جديد لكلياتها، كل هذا متوقف على إيجاد وضبط المنهاج الصحيح لمعرفة مقاصد الشارع. ومن هنا ندرك أي خدمة جليلة قدمها الشاطبي، عندما فتح هذا الموضوع. وعندي أن فتح الشاطبي للموضوع، وفي مبحث خاص، أهم مما قاله فيه، على أهميته. وتناوله لهذا الموضوع في مبحث خاص، يشبه إلى حد كبير، تناوله لموضوع المقاصد في كتاب خاص. وما بثه حول كيفية تعرف مقاصد الشارع، في مختلف المناسبات، شبيه أيضًا بما بثه من الآراء والتنبيهات المقاصدية، في غير كتاب المقاصد.

_ 1 راجع الفصل المخصص لهذا الموضوع، في الباب الثالث.

ولئن كان الشاطبي في إفراده المقاصد بكتاب خاص، إنما طور الموضوع، ونقله نقلة بعيدة عما كان عليه، فإنه في إفراده لموضوع "كيف تعرف مقاصد الشارع" بمبحث خاص، ووضعه ضمن مباحث المقاصد، كان مبدعًا غاية الإبداع، ومجددًا بأوسع معاني التجديد. وهو بهذا المبحث -أكثر من أي مبحث آخر- قد فتح للعلماء، الباب الحقيقي لولوج عالم المقاصد واستخراج كنوزه وخفاياه. وعلى كل، فالموضوع ما زال بحاجة إلى مزيد بحث، وإلى توسيع وضبط. وقد رأينا أنه قد حظي -بعد الشاطبي- باهتمام الشيخ ابن عاشور، فقدم فيه تنبيهات جديدة، وأمثلة جديدة. وقد أحسن الدكتور عبد المجيد النجار، في كتابته مقالًا خاصا في الموضوع "وقد تقدم ذكره".

تقديم ثروة من القواعد

4- تقديم ثروة من القواعد: وللشاطبي ولع وعناية بتحرير القواعد الجامعة، وصياغتها صياغة دقيقة مركزة. ومعلوم أن القواعد الجامعة -في أي علم من العلوم- هي الركائز التي يقوم عليها، وينضبط بها. وفي إطارها تنتظم جزئياته، وتنمو نظرياته. وفي موضوعنا خاصة، نجد إمامنا الملهم، قد قدم لنا برهانًا آخر على أنه كان مبدعًا ومؤسسا، وذلك من خلال بثه لعشرات من القواعد، التي تختصر لنا الكثير من جوانب نظرية المقاصد، وتنير لنا الطريق للسير فيها. وقد جمعت منها قدرًا، بدا لي أكثر نضجًا ووضوحًا، وصنفته ورتبته على ما سيأتي. علمًا بأن بعض هذه القواعد قد تقدم في ثنايا الفصول السابقة. أما الصياغة، فهي في غالب الأمر للشاطبي نفسه. وقد أتصرف فيها جمعًا أو تتميمًا أو اختصارًا، ولكنه تصرف قليل، ولا يمس المعنى لا قليلًا ولا كثيرًا. وكل قاعدة متبوعة برقم الجزء ثم الصفحة من "الموافقات" وقد يتعدد ذلك بتعدد مواضع ورودها أو توضيحاتها، وإذا أضفت إلى رقم الجزء حرف "ع" فمعناه الإحالة على كتاب "الاعتصام". وفيما يلي تلك القواعد:

قواعد المقاصد

قواعد المقاصد: أولًا- مقاصد الشارع: 1- وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا: 2/ 6. 2- باستقراء أدلة الشريعة -الكلية والجزئية- ثبت قطعًا أن الشارع قاصد إلى حفظ المصالح الضرورية، والحاجية، والتحسينية: 2/ 49-51. 3- الضروريات: هي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين: 2/ 8. 4- الحاجيات: هي المفتقر إليها لتوسعة ورفع الضيق والحرج، دون أن يبلغ فقدانها مبلغ الفساد العام والضرر الفادح: 2/ 11. 5- التحسينيات: هي الأخذ بما يليق من محاسن العبادات، وتجنب الأحوال المدنسات، التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق: 2/ 11. 6- مجموع الضروريات خمسة، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل. 2/ 10. 7 أجمعت الأمة، بل سائر الملل، على حفظ هذه الأصول الخمسة: 1/ 38 و2/ 255- وهكذا يقتضي الأمر في الحاجيات والتحسينيات: 3/ 117. 8- هذه الضروريات تأصلت في القرآن وتفصلت في السنة: 4/ 27. 9- المقاصد الضرورية في الشريعة، أصل للحاجيات والتحسينية: 2/ 16. 10- لكل مرتبة من المراتب الثلاث مكملات، بحيث لو فقدت لم يخل ذلك بحكمتها الأصلية: 2/ 12.

11- كل تكملة فلها -من حيث هي تكملة- شرط، وهو ألا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال: 2/ 13. 12- مجموع الحاجيات، ومجموع التحسينيات، يصح اعتبار كل منهما بمثابة فرد من أفراد الضروريات: 2/ 23. 13- القواعد الكلية من الضروريات والحجيات والتحسينات، لم يقع فيها نسخ، وإنما وقع النسخ في الجزئيات: 3/ 105 و117. 14- المصلحة إذا كانت هي الغالبة -عند مناظرتها بالمفسدة في حكم الاعتياد- فهي المقصودة شرعًا، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد. وكذلك المفسدة، إذا كانت هي الغالبة -بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد- فرفعها هو المقصود شرعًا، ولأجله وقع النهي: 2/ 26-27. 15- المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية، تعظم بحسب عظم المصلحة الناشئة عنها. وقد علم أن أعظم المصالح: جريان الأمور الضرورية الخمسة، المعتبرة في كل ملة، وأن أعظم المفاسد ما يكر بالإخلال عليها: 2/ 298-299. 16- بحسب عظم المفسدة، يكون الاتساع والتشدد في سد ذريعتها: ع1 / 104. 17- اجتناب النواهي آكد وأبلغ في القصد الشرعي من فعل الأوامر، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح: 4/ 272. 18- الأصل في العبادات -بالنسبة إلى المكلف- التعبد دون الالتفات إلى المعاني. والأصل في أحكام العادات، الالتفات إلى المعاني: 2/ 300 وع 2/ 135. 19- المقاصد العامة للتعبد هي: الانقياد لأوامر الله تعالى، وإفراده بالخضوع، والتعظيم لجلاله، والتوجه إليه: 2/ 301. 20- خلق الدنيا مبني على بذل النعم للعباد، ليتناولوها ويتمتعوا بها، وليشكروا الله عليها، فيجازيهم في الدار الآخرة. وهذان القصدان من أظهر مقاصد الشريعة: 2/ 321.

21- المقصد الشرعي من وضع الشريعة: إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد الله اضطرارًا: 2/ 168. 22- وضعت الشريعة على أن تكون أهواء العباد تابعة لمقصود الشارع فيها وقد وسع الله على العباد في شهواتهم وتنعماتهم بما يكفيهم، ولا يفضي إلى مفسدة ولا إلى مشقة: 1/ 377. 23- مشقة مخالفة الهوى، ليست من المشاق المعتبرة، ولا رخصة فيها البتة: 1/ 337 و2/ 153. 24- تخيير المستفتي1 مضاد لقصد الشريعة، لأنه يفتح له باب اتباع الهوى، وقصد الشارع إخراجه عن هواه: 4/ 262. 25- الشارع لا يقصد التكليف بالشاق والإعنات فيه: 2/ 121. 26- لا نزاع في أن الشارع قاصد إلى التكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما. ولكنه لا يقصد نفسه المشقة، بل يقصد ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف: 2/ 123-124. 27- إذا كانت المشقة خارجة عن المعتاد، بحيث يحصل بها للمكلف فساد ديني أو دنيوي، فمقصود الشارع فيها، الرفع على الجملة: 2/ 156. 28- وإذا كانت من المشاق المعتادة، فالشارع وإن كان لا يقصد وقوعها، فليس بقاصد إلى رفعها أيضًا. 2/ 156. 29- العزيمة أصل، والرخصة استثناء. ولهذا فالعزيمة مقصودة للشارع بالقصد الأول، والرخصة مقصودة بالقصد الثاني: 1/ 351-353. 30- أسباب الرخص ليست بمقصودة التحصيل للشارع، ولا مقصودة الرفع: 1/ 350. 31- إذا ظهر من الشارع- في بادئ الرأي- القصد إلى تكليف ما لا يطاق، فذلك راجع -في التحقيق- إلى سوابقه، أو لواحقه، أو قرائنه: 2/ 107. 32- الأصل في الأحكام الشرعية الاعتدال والتوسط بين طرفي التشديد

_ 1 كأن يقول له المفتي: مسألتك حرام على مذهب كذا، ولكنها جائزة عند فلان. ثم يترك له الخيار.

والتخفيف. فإذا رأيت ميلًا إلى أحد الطرفين، فذلك لمقابلة ومعالجة ميل مضاد -واقع أو متوقع- في المكلفين: 2/ 163-167. 33- من مقصود الشارع في الأعمال، دوام المكلف عليها: 2/ 242. ثانيًا: مقاصد المكلف: 34- الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات: 2/ 323. 35- المقاصد أرواح الأعمال: 2/ 344. 36- قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصده في التشريع، وألا يقصد خلاف ما قصد: 2/ 331. 37- من ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له، فعمله باطل: 2/ 333. 38- من سلك إلى مصلحة، غير طريقها المشروع، فهو ساع في ضد تلك المصلحة: 1/ 349. 39- القصد إلى المشقة باطل، لأنه مخالف لقصد الشارع، ولأن الله لم يجعل تعذيب النفوس سببًا للتقرب إليه، ولا لنيل ما عنده: 2/ 129 و134 وع1/ 341. 40- ليس للمكلف أن يقصد المشقة لعظم أجرها، ولكن له أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل: 2/ 128. 41- التكاليف العادية "تكاليف العادات والمعاملات" يكفي لصحتها ألا يكون القصد فيها مناقضًا لقصد الشارع، ولا يشترط فيها ظهور الموافقة: 1/ 257. 42- لا فرق بين القصد وعدم القصد في الأمور المالية. والخطأ فيها مساو للعمد في ترتيب الغرم على إتلافها: 2/ 347. 43- لا يلزم في تعاطي الأسباب من قبل المكلف، القصد إلى مسبباتها. وإنما عليه الجريان تحت الأحكام المشروعة لا غير: 1/ 193. 44- إيقاع السبب، بمنزلة إيقاع المسبب، قصد ذلك المسبب أم لا: 1/ 211.

ثالثًا: كيف تعرف مقاصد الشارع؟ 45- تحديد مقاصد الشارع لا ينبني على ظنون وتخمينات غير مطردة: 1/ 80. 46- الأمر بالفعل يستلزم قصد الشارع إلى وقوع ذلك الفعل، والنهي يستلزم القصد إلى منع وقوع المنهي عنه: 2/ 393 و3/ 122. 47- علل الأحكام تدل على قصد الشارع فيها، فحيثما وجدت اتبعت: 2/ 394 و3/ 154. 48- مدح الفعل دليل على قصد الشارع إلى إيقاعه، وذمه دليل على القصد إلى عدم إيقاعه: 2/ 242. 49- الامتنان بالنعم، يشعر بالقصد إلى تناولها والتمتع بها مع الشكر عليها: 1/ 117 و126. 50- كل أصل ملائم لتصرفات الشارع، وكان معناه مأخوذًا من مجموعة أدلة، حتى بلغ درجة القطع، يبني عليه ويرجع إليه، ولو لم يشهد له نص معين: 1/ 39. 51- وضع الأسباب يستلزم قصد الواضع "وهو الله تعالى" إلى المسببات: 1/ 194. 52- كل ما كان مكملا ومقويا لمقصود شرعي، فهو مقصود تبعًا: 2/ 397. 53- إذا سكت الشارع عن أمر، مع وجود داعي الكلام فيه، دل سكوته على قصده إلى الوقوف عندما حد وشرع: 2/ 410 وع1/ 361. 54- إذا فهمنا من الحكم الشرعي حكمة مستقلة لشرعه، فلا يلزم ألا يكون ثم حكمة أخرى، ومصلحة ثانية، وثالثة، أو أكثر من ذلك: 2/ 311.

الفصل الثاني: المقاصد والاجتهاد

الفصل الثاني: المقاصد والاجتهاد مدخل ... الفصل الثاني: المقاصد والاجتهاد تقدمت إشارات وتوضيحات فيما يخص أهمية نظرية المقاصد عند الشاطبي: سواء أثناء عرض النظرية، أو أثناء بيان امتداداتها وأبعادها في مختلف المباحث الأصولية، أو من خلال مناقشة قضاياها الأساسية، أو من خلال إبراز جوانب التجديد فيها. غير أننا الآن بصدد أهم ما في نظرية المقاصد، وهي الغاية القصوى لها، والفائدة الكبرى منها وأعني بذلك أثرها في فهم الشريعة والاجتهاد في أحجامها، والاهتداء بهديها، والسير في ضوء مقاصدها. وههنا فإن "الشاطبي النجم"1 فلقد فتح الباب واسعًا لأهل الشريعة وفقهها، للتطلع إلى أسرارها وحكمها، ومهد لهم طريق التعامل مع مقاصدها وكلياتها، جنبًا إلى جنب مع نصوصها وجزئياتها، فأعطي بذلك للفقه الإسلامي، وللفكر الإسلامي مصدر انبعاث وتجدد، كان قد افتقده إلى حد كبير. وقد تحدث أحد المشتغلين بهذا المجال -وهو الشيخ مصطفى الزرقاء- تحدث عن الدور الكبير الذي أصبح الشاطبي يؤديه اليوم لعلماء الشريعة وطلابها، فقال: "ومنذ أن نشر كتابه "الاعتصام" في البدع، وكتابه الآخر: "الموافقات في أصول الشريعة"2، وكانا من الكنوز الدفينة، أخذ اسم الشاطبي يدور على ألسنة.

_ 1 على غرار قول الإمام الشافعي في شيخه الإمام مالك: "إذا ذكر العلماء فمالك النجم"، ترتيب المدارك، 1/ 149. 2 سبق التنبيه على أن الزيادة في اسم كتاب الموافقات أمر شاع اليوم، ولم أجد له أصلًا، لا عند المؤلف، ولا عند من يذكرونه من السابقين.

العلماء والفقهاء، وأصبح الكتابان -ولا سيما الموافقات- من ركائز التراث الأساسية التي يلجأ إليها أساتذة الشريعة وطلابها المتقدمون، تفهمًا في دراساتهم، وعزوًا وتوثيقًا لأفهامهم فيما يكتبون. ولمع نجم الشاطبي منذئذ بالمشرق في هذا الأفق العلمي، ثم أخذ يزداد سطوعًا حتى أصبح يستضاء في بحوث أصول الشريعة ومقاصدها، وتوضح به الحجة، وتقام بما فيه المحجة1. وتذكرني الكلمات الأخيرة للشيخ الزرقاء، بكلمات أخرى للشاطبي، ومن غريب الأقدار أنها -فيما يظهر- هي آخر ما كتبه رحمه الله، وأعني بذلك الكلمات التي وقف عندها -وتوفي بعدها- من كتابه "الاعتصام" وهي: "إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال، فالحق أيضًا لا يعرف دون وسائطهم، بل بهم يتوصل إليه. وهو الأدلاء على طريقه"2. وبمقتضى هذه الحقيقة الثابتة في التاريخ البشري عامة، وفي الميدان العلمي خاصة، فقد أصبح الشاطبي حجة من حجج الشريعة وعلمًا من أعلام مقاصدها، ودليلًا من الأدلاء على حكمها وأسرارها. يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، عن كتاب الموافقات: "لقد بنى الشاطبي -حقا- بهذا التأليف هرمًا شامخًا للثقافة الإسلامية، استطاع أن يشرف منه على مسالك وطرق لتحقيق خلود الدين وعصمته، قل من اهتدى إليه قبله. فأصبح الخائضون في معاني الشريعة وأسرارها عالة عليه، وظهرت مزية كتابه ظهورًا عجيبًا في قرننا الحاضر والقرن قبله، لما أشكلت على العالم الإسلامي -عند نهضته من كبوته- أوجه الجمع بين أحكام الدين ومستجدات الحياة العصرية، فكان كتاب الموافقات للشاطبي هو المفزع، وإليه المرجع3.

_ 1 من تقدميه لفتاوي الإمام الشاطبي، ص8. 2 هذه آخر كلمات الكتاب. وقد كتب بعدها: "انتهى القدر الذي وجد من هذا التأليف، ولم يكمله المؤلف رحمه الله". ومن هنا ملت إلى اعتقاد أن هذه آخر كلمات كتبها الشاطبي، في مؤلفاته على الأقل. 3 أعلام الفكر الإسلامي، 76 "عن مقدمة الأستاذ أبي الأجفان، لكتاب الإفادات والإنشادات، للشاطبي، ص91

والشاطبي لم يكتف بالتوسع والتعمق في مقاصد الشريعة، وبناء نظرية متكاملة في ذلك، وشق مسالك البحث والكشف عن المقاصد، لم يكتف بهذا ليترك أمر الاستفادة من ذلك لفهم الفاهمين ومبادرة المتفقهين، بل حرص بنفسه على أن يوصل الأمر إلى غايته، وينتهي به إلى ثمرته. فلم يبرح حتى أدخل المقاصد في عالم الاجتهاد، وأدخل الاجتهاد في عالم المقاصد، فأحيا صلة الرحم ووثقها بينهما.

المقاصد وشروط المجتهد

المقاصد وشروط المجتهد: فلأول مرة -في حدود ما يعلم- نجد أن أول شرط لبلوغ درجة الاجتهاد هو "فهم مقاصد الشريعة على كمالها1 ونجد أن الشرط الثاني -والأخير- لا يخرج أيضًا عن المقاصد، وهو: "التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها"2. أي في المقاصد. ولقد ظل الأصوليون -لعدة قرون- يسطرون لائحة طويلة بشروط المجتهد وما ينبغي أن يحصله من الدرجات العلمية، وبعضهم يزيد فيها، وبعضهم ينقص منها3. ثم جاء الشاطبي، فأعرض عن تلك اللوائح، طويلها وقصيرها، وحصر درجة الاجتهاد في أمر جامع: هو فهم مقاصد الشريعة على كمالها، وإلى حد التمكن من الاستنباط في ضوئها. ولست أعني -أبدًا- أن السابقين، من فقهاء وأصوليين، لم يكونوا على بال من أمر المقاصد وضرورتها للمجتهد، وإنما أعني -فقط- أن بين الشاطبي وسابقيه

_ 1 الموافقات، 4/ 105-106. 2 الموافقات، 4/ 105-106. 3 من غريب ما وقفت عليه أن الإمام ابن عرفة -هو معاصر للشاطبي، كما مر -يشنع على بعض الفقهاء إقدامهم على الفتوى، وهم لا يحسنون إعراب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ! "المعيار، 6/ 382". ولست أدري هل كان أبو حنيفة ومالك يعرفان هذا "الإعراب"؟ ولا أسأل عمن قبلهما من المفتين والمجتهدين!

ممن تكلموا في الاجتهاد وشروطه، فروقًا كبيرة، ستزداد وضوحًا خلال الصفات الآتية. كما أني لا أقول بما ذهب إليه الشيخ عبد الله دراز -تعليقًا على اشتراط الشاطبي فهم المقاصد لبلوغ درجة الاجتهاد- حيث قال: "لم نر من الأصوليين من ذكر هذا الشرط الذي جعله الأول، بل جعله السبب. أما التمكن من الاستنباط، فهو الذي اقتصرت عليه كتب الأصول المشتهرة، وجعلوه يتحقق بمعرفة الكتاب والسنة، أي ما يتعلق منهما بالأحكام، ثم بمعرفة مواقع الإجماع وشرائط القياس، وكيفية النظر وعلم العربية، والناسخ والمنسوخ، وحال الرواة، ثم رأيت في إرشاد الفحول للشوكاني: نقل الغزالي عن الشافعي، ويلاحظ القواعد الكلية أولًا، ويقدمها على الجزئيات"1. والحق أن الشاطبي مسبوق باشتراط العلم بمقاصد الشرعية، بكيفية صريحة أحيانًا، وبشكل ضمني أحيانًا أخرى. وقد ورد التصريح بهذا الشرط في بضع "كتب الأصول المشتهرة". ولا أحسب كتاب "جمع الجوامع" إلا أشهرها إلى أيام الشيخ دراز، ولعله قد حفظه في شبابه، ثم لعله قد نسيه بعد قراءته الموافقات! فقد تحدث ابن السبكي عن العلوم التي تلزم المجتهد، ثم نقل عن والده في تعريف المجتهد: "وقال الشيخ الإمام: هو من هذه العلوم ملكة له. وأحاط بمعظم قواعد الشرع، ومارسها بحيث اكتسب قوة يفهم بها مقصود الشارع"2. وفي شرحه للمنهاج، صرح أن العالم إذا تحققت له رتبة الاجتهاد، ومنها "الاطلاع على مقاصد الشريعة والخوض في بحارها"3 جاز تقليده كما قلد الشافعي وغيره من الأئمة.

_ 1 الموافقات، 4/ 105-106. 2 جمع الجوامع، 2/ 383. 3 الأبهاج بشرح المنهاج، 3/ 206.

وواضح أن عبد الوهاب السبكي -كما صرح بنفسه- تابع في اشتراط العلم بالمقاصد، لأبيه "علي بن عبد الكافي: ت 756"، وقد صرح الأب في مقدمة شرح المنهاج بأن كمال رتبة الاجتهاد يتوقف على ثلاثة أشياء، وجعل ثالثها: "أن يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها موارد الشرع من ذلك، وما يناسب أن يكون حكمًا لها في ذلك المحل، وإن لم يصرح به"1. وأما ما قرأه الشيخ دراز عند الشوكاني، نقلًا عن الغزالي، من كون الإمام الشافعي كان يلاحظ القواعد الكلية ويقدمها على الجزئيات، فقد أورده الغزالي في "المنخول، ص: 366-367". ومعلوم أن المنخول مأخوذ كله عن إمام الحرمين. وفعلا فقد أورد الجويني هذه المسألة في البرهان، حيث ذكر مصادر الاجتهاد عند الشافعي، وأنه يعتمد على الكتاب، ثم الأخبار المتواترة، ثم الآحاد، ثم ظواهر الكتاب إلا أن تكون مخصصة، ثم ظواهر الأخبار، المتواترة فالآحاد، ثم قال: "فإن عدم المطلوب في هذه الدرجات، لم يخض في القياس بعد، ولكنه ينظر في كليات الشرع ومصالحها العامة. وعد الشافعي من هذا الفن: القصاص في المثقل، فإن نفيه2 يخرم قاعدة الزجر. ثم إذا لم يجد في الواقعة مصلحة عامة، التفت إلى مواضع الإجماع. فإن عدم ذلك خاض في القياس"3. ولا يهمني الآن هذا الترتيب للأدلة، وتقديم بعضها على بعض، وما إن كان هذا الترتيب يمثل حقيقة الأمر في اجتهاد الإمام الشافعي، أم أنه -فقط- استنتاج لإمام الحرمين، وإنما الذي يهمني في هذا النص، هو أن الإمام الشافعي كان -في اجتهاده "ينظر في كليات الشرع ومصالحها العامة" أي أنه -بعبارة أخرى- ينظر

_ 1 المرجع السابق، 1/ 8. ومعلوم أن هذا الشرح بدأه الأب وأتمه الابن. 2 يشير إلى مذهب أبي حنيفة القائل بأن القتل بالمثقل "كالحجر، والعصا، والتغريق" لا قصاص فيه، وفيه التعزير. وأن القصاص إنما هو في القتل بالمحدد "السكين والسيف وغيرهما من الأدوات الحادة". 3 البرهان، 2/ 1338.

في المقاصد العامة للشريعة، ويبني عليها اجتهاده. هذا مع العلم أن الإمام الشافعي هو أقل الأئمة الأربعة اعتمادًا على المصالح والمقاصد. وتنصيص الأصوليين الشافعية على هذا المسلك الاجتهادي عند الإمام الشافعي، هو اشتراط ضمني لمعرفة مقاصد الشريعة وضرورة مراعاتها والبناء عليها. ومما ينسجم مع هذا المسلك، ما ذهب إليه إمام الحرمين من أن المصالح الضرورية إذا جاء القياس بخلافها، ترك وقدمت عليه القواعد العامة التي تقتضي حفظ الضروريات. قال: "ومن خصائص هذا الضرب أن القياس الجزئي فيه -وإن كان جليا- إذا صادم القاعدة الكلية، ترك القياس الجلي للقاعدة الكلية"1. وقد مثل هذا بقتل الجماعة بالواحد، فإنه خلاف القياس الذي يقتضي المماثلة "النفس بالنفس"، ولكن حفظ الأنفس، الذي هو من أبرز مقاصد الشارع، اقتضى قتل الجماعة إذا اشتركوا في قتل واحد. لأنه لو لم يقتلوا، لكان ذلك مغريًا باللجوء إلى القتل المشترك، تهربًا من القصاص. وهذا اعتماد واضح على المقاصد الضرورية وتقديم لها على القياس الجزئي، ولو كان جليا. وقال الإمام الغزالي: "ونحن نجعل المصلحة تارة علمًا للحكم، ونجعل الحكم أخرى علمًا لها"2. وقد رأينا أن الغزالي لا يعتد بالمصلحة، إلا إذا ظهر أنها مقصودة للشارع فمعنى نصه هذا: أن مقاصد الشارع تتخذ دليلًا على الحكم، مثلما يتخذ الحكم دليلًا على مقصود الشارع. وهذا يستلزم معرفة المجتهد لمقاصد الشريعة. ورأينا أيضًا أن الأصوليين، أدخلو المقاصد في باب التراجيح، ونصوا على ترجيح المقاصد الضرورية على الحاجية، والحاجية على التحسينية، كما

_ 1 البرهان، 2/ 927. 2 المنخول، 355.

تعرضوا لترجيح الضروريات فيما بينها، وهذا اشتراط ضمني للعلم بالمقاصد في حق كل من يجتهد ويرجح بين العلل والمقاصد. فلا يمكن أن يرجح بين المقاصد إلا عالم بها. ولقد كان الإمام القرافي صريحًا في اشتراط معرفة المقاصد، ليس في المجتهد فحسب، بل حتى في حق الفقيه المقلد، وإن كان لكل منهما مرتبته. قال: "ولكنه "أي الفقيه المقلد" إذا وقعت له واقعة ليست في حفظه، لا يخرجها على محفوظاته، ولا يقول: هذه تشبه المسألة الفلانية، لأن ذلك إنما يصح ممن أحاط بمدارك إمامه وأدلته وأقيسته وعلله التي اعتمد عليها مفصلة، ومعرفة رتب تلك العلل ونسبتها إلى المصالح الشرعية، وهل هي من باب المصالح الضرورية، أو الحاجية، أو التتمية، وسبب ذلك أن الناظر في مذهبه والمخرج على أصول إمامه: نسبته إلى مذهبه وإمامه كنسبة إمامه إلى صاحب الشرع في اتباع نصوصه والتخريج على مقاصده"1. وإذًا، فالمقاصد يجب أن يعرفها المجتهد ليتأتى له التخريج عليها، ويجب أن يعرفها الفقيه المقلد، لأن فقه إمامه قد بني عليها، فلا يستطيع هو أن يفتي بذلك الفقه ويخرج عليه حتى يعرف المقاصد التي بني عليها، والمصالح التي راعاها. وأعود إلى شيخ المقاصد. فقد تقدم أنه جعل الشرط الأول والأعظم لبلوغ مرتبة الاجتهاد هو معرفة المقاصد على كمالها، قال: "فإذا بلغ الإنسان مبلغًا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزيله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله"2.

_ 1 الفروق، الفرق 78. 2 الموافقات، 4/ 106-107.

فالصفة الحقيقية التي تؤهل صاحبها لأن ينوب عن غيره، ويتكلم باسمه، هي أن يكون عارفًا خبيرًا بمقاصده على الجملة وعلى التفصيل. وأما ما عدا ذلك فأمور مساعدة. فالمجتهد، الذي يحكم ويفتي باسم الشارع، لا بد وأن يكون -أول ما يكون- عالمًا تمام العلم بمقاصده العامة، وأن يكون عالمًا بمقصده -أو مقاصده- في المسألة التي يجتهد فيها ويحكم عليها. وهكذا ارتفع أبو إسحاق بمنزلة المقاصد في الاجتهاد، إلى أعلى المنازل. فلم تبق عبارة عن كلمات عابرة غامضة، تقال -أو لا تقال- في أواخر لائحة طويلة من الشروط المطلوبة في المجتهد، لا يكاد يلتفت إليها الدارس، فضلًا عن القاري العابر، حتى رأينا الشيخ دراز -وهو الأصولي المتمرس- قد غفل عنها ونفاها. وقد عمل الشاطبي على تأكيد وترسيخ أهمية المقاصد وضرورتها للمجتهد في مناسبات عدة، وبأساليب شتى. حتى إنه نبه على أن العالم المجتهد، وإن كان عالمًا بالمقاصد، فإنه إذا غفل عنها زل في اجتهاده. قال: "فزلة العالم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشرع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه"1. وإذا كان هذا شأن المجتهد الخبير بمقاصد الشرع، فما بالك بمن قصروا عن هذه المرتبة! ولهذا تجده كلما حمل على المنحرفين في فهم الدين وشريعته، وضع إصبعه على الجهل، بمقاصد الشريعة، أو نص على أنه السبب، أو أحد الأسباب على الأقل. فمن هؤلاء ناس يرون أنفسهم أهلًا للاجتهاد في الدين، فيتجرءون على أحكامه وشريعته، حتى لتجد أحدهم "آخذًا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها. حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه، من غير إحاطة بمعانيها ولا راجع رجوع الافتقار إليها، ويعين على هذا: الجهل بمقاصد الشريعة، وتوهم بلوغ مرتبة الاجتهاد"2.

_ 1 الموافقات، 4/ 170. 2 الموافقات، 4/ 174-175.

ومن هؤلاء أيضًا: بعض أهل البدع والأهواء1، فإنهم وقفوا عند "اتباع ظواهر القرآن، على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده"2. ومن هؤلاء أيضًا: أتْباع المتشابهات، الذين يعمدون إلى بعض النصوص، فيعزلونها عن أصول الدين وكلياته، ثم يضربون بها محكماته ومسلماته. قال الشاطبي: "ومدار الغلط في هذا الفصل، إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض. فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين، إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها، وجزئياتها المرتبة عليها" إلى أن قال: "فشأن الراسخين: تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضًا، كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة. وشأن متبعي المتشابهات: أخذ دليل ما -أي دليل كان- عفوًا وأخذا أوليا، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي، فكان العضو الواحد لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكمًا حقيقيا"3. فالنظرة الشمولية المنسجمة للشريعة وأحكامها، لا تتأتى إلا لمن خبروا المقاصد وأحكموا الكليات، ثم نظروا في الأحكام من خلال ذلك. ومن فاته هذا المستوى، وأهمل هذا النوع من النظر، وقع في التخبط والاضطراب، وأتى بالأقوال الشاذة المجافية لمقاصد الشارع، أو انتهى إلى العجز والانكماش، تاركًا ما ليس لقيصر، لقيصر. فالمقاصد ليست -فحسب- أداة لإنضاج الاجتهاد وتقويمه، ولكنها -أيضًا- أداة لتوسيعه وتمكينه من استيعاب الحياة بكل تقلباتها وتشعباتها ... ، وفي هذا

_ 1 وهو يشير إلى الخوارج خاصة. 2 الموافقات، 4/ 179. 3 الاعتصام، 1/ 244-245.

يقول الشاطبي "فالمجتهد إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إليها ولولا ذلك لم يستقم له إجراء الأحكام على وفق المصالح إلا بنص أو إجماع"1، فالنصوص إذا أخذت بظاهرها وحرفيتها فقط. ضاق نطاقها وقل عطاؤها وإذا أخذت بعللها ومقاصدها، كانت معينًا لا ينضب، فينفتح باب القياس، وينفسح باب الاستصلاح، وتجري الأحكام مجراها الطبيعي في تحقيق مقاصد الشارع، بجلب المصالح ودرء المفاسد. وبعد أن أعطى الشاطبي للمقاصد هذه المرتبة العليا، وهذا الوزن الثقيل في ممارسة الاجتهاد، أخذ العلماء -اليوم- يسلكون مسلكه في إبراز ضرورة المقاصد للمجتهدين في أحكام الشرع، وفي بيان أهميتها وفائدتها في أي اجتهاد فقهي أو فكري. فقد أكد الأستاذ علال الفاسي: "أن مقاصد الشريعة هي المرجع الأبدي لاستقاء ما يتوقف عليه التشريع والقضاء في الفقه الإسلامي، وأنها ليست مصدرًا خارجيا عن الشرع الإسلامي، ولكنها من صميمه. وليست غامضة غموض القانون الطبيعي الذي لا يعرف له حد ولا مورد. وأن المقاصد تؤثر حتى على ما هو منصوص عليه عند الاقتضاء"2. وقد مثل لهذا، بتوقيف عمر حد السرقة عام المجاعة، لأنه -رضي الله عنه- كان يعلم أن مقصود الشارع بهذا الحد هو عقوبة المعتدين وزجرهم عن الاعتداء. والسارق المضطر ليس معتديًا، بل المعتدي من كان غنيا والناس من حوله جياع إلى حد الضرورة. وقد أعذر الله المضطرين، فكيف يقام عليهم الحد؟ وقد انتقد الأستاذ علال الفاسي "ص41" الدكتور صبحي محمصاني، لكونه اعتبر مقاصد الشريعة، من المصادر الخارجية للتشريع الإسلامي3.

_ 1 الموافقات، 1/ 200. 2 مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 51-52. 3 انظر ذلك في الباب الرابع من كتابه: فلسفة التشريع الإسلامي.

وأما العلامة ابن عاشور، فقد تعرض مرارًا لبيان أهمية المقاصد في الاجتهاد الفقهي. فقد كتب فصلا سماه: "احتياج الفقيه إلى إلى معرفة مقاصد الشريعة"، بين فيه أن الاجتهاد في الشريعة يكون على خمسة أوجه هي: 1- فهم أقوالها ونصوصها بمقتضى اللغة والاصطلاح الشرعي. 2- النظر يما يعارض النص من نسخ، أو تقييد، أو تخصيص، أو نص راجح. 3- تعرف علل الأحكام ثم القياس عليها. 4- الحكم فيما لا يشمله نص خاص ولا قياس. 5- تقرير الأحكام التعبدية على ما هي عليه. فهذه خمسة مجالات لاجتهاد الفقهاء. ثم قال: "فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلها"1. ثم وضح ذلك، مما يطول نقله، غير أني أنقل شيئًا من بيانه لأهمية المقاصد للنوع الرابع من أنواع الاجتهاد، وهو الاجتهاد فيما لا يدخل تحت نص خاص ولا قياس. قال: "أما في النحو الرابع: فاحتياجه فيه ظاهر، وهو الكفيل بدوام أحكام الشريعة الإسلامية للعصور والأجيال التي أتت بعد عصر الشارع، والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا. وفي هذا النحو أثبت مالك رحمه الله حجية المصالح المرسلة، وفيه أيضا قال الأئمة بمراعاة الكليات الشرعية الضرورية، وألحقوا بها الحاجية والتحسينية"2. وكتب فصلًا آخر بعنوان "أدلة الشريعة اللفظة لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية" أكد فيه ضرورة أخذ النصوص بمقاصدها، التي تدل عليها القرائن والأمارات الخارجة عن النص، ونعى فيه على من يتعاملون مع النصوص

_ 1 مقاصد الشريعة الإسلامية، ص15-16. 2 مقاصد الشريعة الإسلامية، ص15-16.

مجردة ومقطوعة عن الدلائل التي ترشد إلى مقاصدها ومعانيها الحقيقية. قال: "ومن هنا يقصر بعض العلماء، ويتوحل في خضخاض من الأغلاط حين يقتصر في استنباط أحكام الشريعة على اعتصار الألفاظ، ويوجه رأيه إلى اللفظ مقتنعًا به، فلا يزال يقلبه ويحلله ويأمل أن يستخرج لبه. ويهمل ما قدمناه من الاستعانة بما يحف بالكلام من حافات القرائن والاصطلاحات والسياق"1.

_ 1 المرجع السابق، ص27.

مسالك الاجتهاد المقاصدي

مسالك الاجتهاد المقاصدي النصوص والأحكام بمقاصدها ... مسالك الاجتهاد المقاصدي: رغم أنه قد تقدم الشيء الكثير من أوجه الاجتهاد المراعي لمقاصد الشريعة والمنبني عليها، مع أمثلة توضح ذلك، وتشير إلى أن هذا النهج الاجتهادي عريق في تراثنا الفقهي، وأنه نابع من طبيعة الشريعة نفسها، ومشهود له في نصوصها وقواعدها. أقول: رغم ما تقدم من ذلك، فإن هذه هي المناسبة الخاصة، لجمع ما تفرق من هذا الموضوع، وإضافة ما يمكنني -الآن- إضافته، عسى أن أقترب -مجرد اقتراب- من تحصيل المقصود. أعني: تحديد أهم مسالك الاجتهاد المقاصدي. فليس يكفي أن نظل نؤكد على أهمية المقاصد. وأنها ضرورية للمجتهد، وأن كبار الأئمة كانوا مقاصديين في اجتهاداتهم، بل لا بد من العمل -شيئًا فشيئًا- على تحديد المجالات ووضع المعالم الهادية في هذا الطريق. وهو أمر لا تخفى صعوبته وخطورته، ولكن لا بد من اقتحام العقبة، ولو في مرحلة أولى منها. والاعتماد على العلماء يشجع ويساعد. 1- النصوص والأحكام بمقاصدها: وهذا هو ما عليه الجمهور، خلافًا للظاهرية. ولكن هذا الجمهور يتفاوت في مدى الأخذ بهذا المبدأ، وفي مدى الاطراد في العمل به. والتفاوت هنا هو بين الفقهاء أفرادًا، أكثر مما هو بين مذهب وآخر.

وكون النصوص والأحكام ينبغي أن تؤخذ بمقاصدها دون الوقوف عند ظواهرها وألفاظها وصيغها، يستند إلى ما تقرر في مسألة التعليل، من كون نصوص الشريعة وأحكامها معللة، بمصالح ومقاصد وضعت لأجلها. فينبغي عدم إهمال تلك المقاصد ولا الغفلة عنها عند تقرير الأحكام، وعند النظر في النصوص. ومن هذا الباب -إضافة إلى ما مضى من أمثلة- ما قرره أبو زيد الدبوسي "ت432"، حيث قال: "الأصل عند علمائنا1 أن من وجبت عليه الصدقة، إذا تصدق على وجه يستوفي به مراد النص منه أجزأه عما وجب عليه. وعند2 لا يجزيه. قال أصحابنا: إذا وجبت الزكاة في الدراهم، فأدى بدلها حنطة أو غيرها، جاز عندنا، لأن مراد النص سد خلة الفقير ودفع حاجته وقد حصل. وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي لا يجوز"3. وقد طرد هذا الأصل في جميع الواجبات المالية، من زكاة فطر، أو كفارات أو نذور، بحيث تقوم الأموال بعضها مقام بعض بشرط التعادل وعدم الإضرار بحق الأخذ. وعلى هذا الأصل مضى ابن القيم في عدد من اجتهاداته، فقد قال عن صدقة الفطر التي فرضها النبي صلى الله عليه وسلم صاعًا من تمر أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من أقط، قال: "وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة، فأمل أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك، فإنما عليهم صاع من قوتهم. إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد"4. ومثل هذا قاله في مسألة التصرية5، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على رد صاع من تمر مقابل ما حلب. وبناء على لفظ الحديث ذهب أكثر الشافعية والحنابلة إلى

_ 1 يعني الحنفية. 2 يعني الإمام الشافعي. 3 تأسيس النظر: ص54. 4 أعلام الموقعين: 3/ 12. 5 التصرية هي حبس اللبن في ضرع الشاة أو البقرة. لإيهام المشتري أنها كثيرة الحليب، فيقبل على شرائها ويزيد في ثمنها. وفي الحديث المتفق عليه: "فمن ابتاعها، فهو بخير النظرين بعد أن يجلبها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها ورد معها صاعًا من تمر".

أنه لا بد من صاع التمر، لا يجزئ غيره، "فجعلوه تعبدًا، فعينوه اتباعًا للفظ النص. وخالفهم آخرون فقالوا: بل يخرج في كل موضع صاعًا من قوت ذلك البلد الغالب. وهذا هو الصحيح"1 ثم قال "ص14" "ولا ريب أن هذا أقرب إلى مقصود الشارع ومصلحة المتعاقدين. وكذلك حكم ما نص عليه الشارع من الأعيان التي يقوم غيرها مقامها من كل وجه، أو يكون أولى منها كنصه على الأحجار في الاستجمار، ومن المعلوم أن الخرق والقطن والصوف أولى منها بالجواز. وكذلك على التراب في الغسل من ولغ الكلب، والأشنان أولى منه. هذا فيما علم مقصود الشارع منه، وحصول ذلك المقصود على أتم الوجوه بنظيره أو ما هو أولى منه". وما قرره كل من أبي زيد الدبوسي وابن القيم يجرنا إلى موقف المذهب المالكي من مسألة إعطاء القيمة في الزكاة. فمن المعلوم أن المذهب المالكي -وكذلك الشافعي- يميل إلى منع البدل والقيمة عما وجب من الزكاة، ولا يجيز ذلك إلا في حالات مضيقة أقرب ما تكون إلى حالات الضرورة. وقد ترددت أقوال الفقهاء المالكية في حكم دفع القيمة، بين الكراهة والتحريم، وبين الإجزاء وعدمه2 كما ترددت في تعليل هذا الموقف، هل هو لكون الزكاة عبادة غير معللة الأحكام3 أو لأن المزكي إذا دفع القيمة، يكون كمن اشترى صدقته4 وقد جاء النهي عن أن يشتري الإنسان صدقته. وفي جميع الحالات، فإن هذا الموقف المتشدد في هذه المسألة، لا يساير النظر المصلحي والاجتهاد المقاصدي الذي عرف به المذهب المالكي!

_ 1 أعلام الموقعين: 3/ 13. 2 انظر الشرح الكبير، للدردير. وحاشية الدسوقي عليه: 4/ 502. 3 انظر المرجع السابق، والبيان والتحصيل لابن رشد: 2/ 430. 4 عارضة الأحوذي: 3/ 192 - والموافقات: 304.

وأغرب من هذا أن الإمام مالكًا سئل عن رجل يؤدي زكاة ماله قبل حلولها، أي قبل تمام الحول، هل عليه إعادة الزكاة؟ قال: نعم، أرى ذلك عليه أرأيت الذي يصلي الظهر قبل زوال الشمس، أو الصبح قبل اطلاع الفجر، أليس يعيد؟ فهذه مثله"1. وقد علق ابن رشد على قول مالك هذا بقوله: "والأظهر أنها تجزيه إذا أخرجها قبل المحل بيسير، لأن الحول توسعة، فليس كالصلاة التي وقتها محدود لا يجوز أن تعجل قبله ولا تؤخر بعده. ولو كانت الزكاة كالصلاة في هذا، لوجب أن يعرف الساعة التي أفاد فيها المال، ليخرج عندها. وفي هذا تضييق"2. وليس ابن رشد وحده الذي ترك التقيد بقول الإمام في هذه المسألة، فقد حكى ابن العربي فيها أقوالًا عدة. فهو بعد أن رد أصل الخلاف إلى اعتبار جانب التعبد أو اعتبار جانب التعليل، قال: "فمن راعى جانب العبادة، فالعبادة لا تقدم على أوقاتها. فلذلك لم يجز تقدم الزكاة قبل الحول. قال مالك في العتبية، وقال: أرأيت لو صلى الظهر قبل الزوال؟ وقال أشهب مثله. ومن راعى جانب المقصود من سد الخلة وحق الآدمي فيها، جوز التقديم مطلقًا، وهو الشافعي وأبو حنيفة. وتوسط طائفة من علمائنا، فمنهم من قال: تقدم باليومين قاله في كتاب محمد. وقالوا: لعشرة، قاله ابن حبيب، وقيل خمسة عشر يومًا. وقال ابن القاسم: شهر يجزيه تقديمه فيه. ثم قال: "والذي يصح في النظر ترك التقديم أصلًا أو التقديم مطلقًا"3. وكأنه ضاق بهذه التحديدات التي لا هي وقفت مع التعبد ومع قول الإمام، ولا هي فتحت باب التسهيل والمصلحة، ولا هي اتفقت على قول واحد "ولكن المهم عندي من إيرادها، هو أنها كلها -باستثناء قول أشهب- لم تتقيد بقول الإمام مالك رحمه الله.

_ 1 البيان والتحصيل: 2/ 366. 2 البيان والتحصيل: 2/ 192. 3 عارضة الأحوذي: 3/ 192.

وواضح أن الإمام مالكًا، استند إلى مجرد قياس، ألحق فيها الزكاة بالصلاة بجامع أن كلا منهما عبادة. وفي هذا نظر، لأنه جمع بين التعبد والقياس في محل واحد! ولو رجعنا إلى "الموطأ"، لوجدنا أول ما فيه: "كتاب وقوت الصلاة - باب وقوت الصلاة" ولوجدنا أن جبريل عليه السلام حدد لرسول الله صلى الله عليه وسلم مواقيت الصلوات أولها وآخرها، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ذلك للناس، وحدد لكل صلاة أول وقتها وآخر وقتها، وقال "ما بين هذين وقت". فمواقيت الصلاة أولها وآخرها، جاء تحديدها بدقة لا مزيد عليها، وجاء في التزامها والمحافظة عليها من الترغيب والترهيب ما هو معلوم. ولم يأت شيء من هذا في شأن الزكاة. فظهر الفرق الكبير بين الأمرين. ومن مسائل الزكاة التي راعى فيها الإمام مالك المقاصد وبناها على التعليل قوله في موطئه: "وليس على أهل الذمة، ولا على المجوس، في نخيلهم ولا كرومهم ولا زروعهم ولا مواشيهم، صدقة، لأن الصدقة إنما وضعت على المسلمين تطهيرًا لهم، وردا على فقرائهم"1. فقد جمع مقاصد الزكاة في مقصدين: تطهير المزكي، وتضامنه مع أخيه المحتاج، وبنى على هذا أن غير المسلمين ليسوا داخلين في أي من المقصدين فلا زكاة عليهم. أما الجزية المفروضة عليهم، فهي واجبهم تجاه الدولة. وما دمنا في مسائل الزكاة ومقاصدها، فلنعرج على مسألة أخرى مما يمكن النظر فيه من خلال المقاصد. وذلك هو الخلاف في سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة، وهل هو باق، أو سقط؟ وههنا أيضًا نجد أن الإمام مالكًا قد ساير في المسألة أهل الرأي والتعليل، في القول بسقوط هذا السهم وانقطاعه. فهذا القول مبني على تعليل سهم المؤلفة قلوبهم بمصلحة الإسلام والمسلمين. والظاهر أن الإمام اتبع في هذه المسألة

_ 1 الموطأ: 1/ 280.

اجتهاد عمر وغيره من الصحابة. وعلى كل حال، فهو اجتهاد قائم على التعليل المصلحي مع عدم الوقوف عند التعبد الظاهري. وقد ذهب عدد من العلماء الآخرين إلى أن هذا السهم باق لم يسقط ولم ينقطع، وأن توقيفه من قبل عمر والصحابة، إنما كان اجتهادًا ظرفيًا في تصريف أموال الزكاة. وقد أجمع المسلمون أن لا نسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما فعله عمر رضي الله عنه إنما كان تحقيقًا لمناط الحكم في ظرفه. وهذا النظر يسمح بتجدد العمل بهذا السهم كلما اقتضى الأمر ذلك. وللإمام الطبري في هذه المسألة نظر سديد، مبني على مقاصد الزكاة عمومًا. فهو يرى -بحق- أن للزكاة مقصدين بينها بقوله: "أحدهما سد خلة المسلمين، والآخر معونة الإسلام وتفويته. فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يعطاه الغني والفقير، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونة للدين. وذلك كما يعطاه بالجهاد في سبيل الله. فإنه يعطى ذلك غنيا كان أو فقيرًا، للغزو لا لسد خلته. وكذلك المؤلفة قلوبهم، يعطون ذلك، وإن كانوا أغنياء، استصلاحًا بإعطائهموه أمر الإسلام وطلب تقويته وتأييده. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح وفشا الإسلام وعر أهله. فلا حجة لمحتج بأن يقول: لا يتألف اليوم على الإسلام أحد، لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم، وقد أعطي النبي صلى الله عليه وسلم من أعطي منهم في الحال التي وصفت"1. فسهم المؤلفة قلوبهم من جنس سهم في سبيل الله، كلاهما من باب الجهاد لنصرة الإسلام وتقويته. وإلى مثل هذا ذهب القرطبي؛ فقد عدد أصنافًا من المؤلفة قلوبهم. ثم قال: "والقصد بجميعها: الإعطاء لمن لا يتمكن إسلامه حقيقة إلا بالعطاء. فكأنه ضرب من الجهاد. والمشركون ثلاثة أصناف: صنف يرجع بإقامة البرهان. وصنف بالقهر، وصنف بالإحسان. والإمام الناظر

_ 1 جامع البيان: 10/ 113.

للمسلمين يستعمل مع كل صنف ما يراه سببًا لنجاته وتخليصه من الكفر"1. ومن المالكية الذين قالوا ببقاء سهم المؤلفة قلوبهم، وأنه مرهون بمقصوده وحكمته، القاضيان: عبد الوهاب، وابن العربي2. وقال ابن العربي بعد أن أيد استمرار العمل بهذا السهم كلما اقتضى الأمر ذلك: "فكل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لحكمة وحاجة وسبب، فوجب أن السبب والحاجة إذا ارتفعت أن يرتفع الحكم، وإذا عادت أن يعود ذلك"3. ونبقى مع أبي بكر بن العربي أيضًا، في اجتهاداته المبنية على أن "النصوص والأحكام بمقاصدها"، فقد تعرض لشرح الأحاديث النبوية الناهية عن أن تسافر المرأة -سفرًا بعيدًا- إلا مع أحد محارمها. وبعد أن بين الحكمة في هذا النهي، وهي صيانة المرأة وتحصينها من أي امتهان لكرامتها أو تعد على عرضها. قال: "ولما ثبت هذا الأصل، وفهم العلماء العلة، قالوا: إنها يجوز لها السفر في الرفقة المأمونة الكثيرة الخلق الفضلاء الرجال. وقال أبو حنيفة: بل عين المحرم شرط. واعجب له يعلل العبادة. ويقول إن معنى المحرمية التعظيم، والغرض من عبادة الزكاة: سد خلة الفقراء، فتجزئ فيها القيمة، ثم يأتي إلى هذه المسألة ولا يعللها ويدعي أن المحرم عين معينة فيها! وإن هذا الشيء عجاب"4. ثم استدل على جواز سفر المرأة بدون محرم -إضافة إلى ما سبق- بما جاء في بشارة النبي صلى الله عليه وسلم، من أن المسلمين سيأتي عليهم من الأمن، حتى تخرج المرأة من الحيرة إلى مكة لا تخاف إلا الله عز وجل. ثم قال مقررًا مدار المسألة على حكمتها ومقصودها: "والأصل في ذلك ما نبهنا عليه من وجود الأمن بأي وجه كان"5.

_ 1 الجامع لأحكام القرآن: 8/ 179. 2 نفس المرجع: 181. 3 عارضة الأحوذي: 3/ 172. 4 عارضة الأحوذي: 5/ 118. 5 نفسه: 119.

ففي ضوء هذا، يقدر كل واحد أمره، ويحفظ دينه وعرضه، دون إحراج ولا إضرار. والمؤمن فقيه نفسه وأهله. فليس كلام القاضي مدعاة للتحل والتراخي في صيانة الأعراض، ولكنه الإنصاف والفقه المقاصدي السديد، من غير إفراط ولا تفريط.

الجمع بين الكليات العامة والأدلة الخاصة

2- الجمع بين الكليات العامة والأدلة الخاصة: وأعني بالكليات العامة: الكليات النصية، والكليات الاستقرائية. فالكليات النصية هي التي جاءت في نصوص القرآن والسنة الصحيحة: مثل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل} و {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، ومثل: "لا ضرر ولا ضررا" و "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" و "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا" و "إنما الأعمال بالنيات". أما الكليات الاستقرائية، فهي التي يتوصل إليها عن طريق استقراء عدد من النصوص والأحكام الجزئية، كحفظ الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، وسائر المقاصد العامة للشريعة، والقواعد الفقهية الجامعة، مثل: الضروريات تبيح المحظورات والمشقة تجلب التيسير. وأعني بالأدلة الخاصة، أو الأدلة الجزئية، الأدلة الخاصة بمسائل معينة، كآية كذا، الدالة على كذا، أو الحديث الفلاني الدال على حكم المسألة الفلانية، أو الأقيسة الجزئية. فلا بد للمجتهد، وهو ينظر في هذه الجزئيات، من استحضار كليات الشريعة ومقاصدها العامة، وقواعدها الجامعة. لا بد من مراعاة هذه وتلك في آن واحد، ولا بد أن يكون الحكم مبنيًا على هذه وتلك معًا: أعني الأدلة الكلية، والأدلة الجزئية. فهذا ضرب من ضروب الاجتهاد المقاصدي ومسلك من مسالكه.

وقد نبه الشاطبي -غير ما مرة- على هذا المسلك الاجتهادي المنسق بين كليات الشريعة وجزئياتها. وقد تقدمت عدة إشارات إلى هذا. ولكن الموضع الجامع والأهم، الذي عالج فيه هذا الموضوع، هو المسألة الأولى من كتاب الأدلة1، وهي المسألة التي افتتحها بالتذكير بأن الشريعة كلها مبنية "على قصد المحافظة على المراتب الثلاث، من الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات" وأن هذه الكليات: "تقضي على كل جزئي تحتها إذًا ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهي إليه، بل هي أصول الشريعة". ثم قال: "وإذا كان كذلك، وكانت الجزئيات -وهي أصول الشريعة فما تحتها- مستمدة من تلك الأصول الكلية -شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات- فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات، عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها. فمن أخذ بنص -مثلًا- في جزئي، معرضًا عن كليه، فقد أخطأ". ثم قال: "وكما أن من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليه فقد أخطأ، فكذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه". "فلا بد من اعتبارهما معًا في كل مسألة". فهذا هو الاجتهاد الحق، وهذا هو الاجتهاد الأكمل، فكل مسألة تعرض، يجب عرضها على الأدلة الجزئية، وعلى الأدلة الكلية والمقاصد العامة للشريعة. والذي يقتصر في اجتهاده وفتواه على ما فهمه من دليل جزئي "آية، أو حديث، أو قياس"، لا يقل اجتهاده قصورًا واختلالًا عمن ألم بشيء من مقاصد الشريعة في حفظها للمصالح الضرورية والحاجية والتحسينية ودرئها للمفاسد، ثم أخذ يفتي ويحكم دون مراجعة ونظر في الأدلة الخاصة لكل مسألة وكل نازلة. فكلاهما قاصر مقصر عن درجة الاجتهاد الأمثل:

_ 1 الموافقات: 3/ 5-15.

"فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها، وبالعكس. وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق. وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد". وقد ختم الشاطبي مسألته الأولى في كتاب الأدلة بهذه التنبيهات: "فلا يصح إهماله النظر في هذه الأطراف، فإن فيها جملة الفقه. ومن عدم الالتفات إليها أخطأ من أخطأ. وحقيقته: نظر مطلق في مقاصد الشارع وأن تتبع نصوصه مطلقة ومقيدة أمر واجب. فبذلك يصح تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشريعة، ويحصل منها صور صحيحة في الاعتبار". وفي المسألة الثانية من كتاب الأدلة1، نجده ينص على مبادئ مما يكمل ويفصل ما سبق من الجمع في النظر الاجتهادي بين اعتبار الكليات واعتبار الجزئيات في آن واحد: من ذلك أن الدليل الظني إذا لم يكن راجعًا إلى دليل قطعي، "وجب التثبت فيه ولم يصح إطلاق القول بقبوله". وهذا نوع من إخضاع الأدلة الجزئية الظنية لمراقبة الأدلة الكلية القطعية، وفي مقدمتها المقاصد العامة للشريعة. وقد نص على هذا المسلك الاجتهادي، عالم معاصر، هو الأستاذ عبد الحي بن الصديق، فقال2: "فإن لوصول المجتهد لفهم مراد الشارع من النص طريقين: أحدهما: النظر في دلالته اللغوية، مع ملاحظة القواعد الكلية التشريعية، وتقديمها على الأدلة الجزئية إذا لم يمكن الجمع بينهما. ثانيهما: النظر في مقاصد الشريعة.

_ 1 الموافقات: 3/ 15-26. 2 نقد مقال: 100.

وهذا المسلك الاجتهادي عريق في فقه الصحابة، وفقه الأئمة، وخاصة عند الإمامين أبي حنيفة ومالك. وقد عرض الشاطبي -في المسألة السابق ذكرها- أمثلة كثيرة لذلك، فانظرها هناك. وفيما يخص أبا حنيفة يقول الحافظ ابن عبد البر: "كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لرده كثيرًا من أخبار الآحاد العدول، لأنه كان يذهب إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن، فما شذ عن ذلك رده، وسماه شاذا"1. فهذا لون من ألوان النظر في الجزئيات من خلال ما تقرر في الكليات. وعلى هذا المسلم نفسه يتأتى -بل يتحتم- النظر في الأدلة الجزئية والأحكام الخاصة، من خلال كليات الشريعة ومقاصدها العامة. ويمكن تمثيل هذا المنحى الاجتهادي بمسألتين، هما: تقييد التصرف في الحقوق، وتقييد إلزامية العقود؛ وأعني الحقوق المشروعة الثابتة، والعقود الصحيحة المستوفية لشروطها الشكلية. قد ينظر المجتهد "القاضي أو غيره" في المسألة وفي دليلها الخاص، فيجد أن الحق ثابت لصاحبه، وله حق التصرف فيه كيف شاء، لأنه يتصرف في حقه وملكه واختصاصه. ولكن هذا التصرف إذا عرض على مقاصد الشريعة وقواعدها العامة، قد يظهر أنه مخالف لها، في بعض الحالات على الأقل. فههنا -وبمقتضى الجمع في النظر بين الكليات والجزئيات- يتعين تقييد التصرف في الحقوق بما لا يخل بالكليات والمقاصد العامة2. ومن هذا الباب: ما يسمى في اصطلاح القانونيين "منع التعسف في استعمال الحق" وهو أصل أصيل في الإسلام والفقه الإسلامي.

_ 1 الانتقاء: 149. 2 انظر -على سبيل المثال- بعض تلك المقاصد التي تسيغ تقييد التصرف في الحقوق، عند الدكتور فتحي الدريني، في كتابه: الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده وخاصة الفصل الثامن.

وقد لخص الدكتور وهبة الزحيلي الحالات التي يجري فيها تقييد الحق في خمس هي1: 1- قصد الإضرار بالغير. 2- قصد غرض غير مشروع. 3- ترتيب ضرر أعظم من المصلحة. 4- الاستعمال غير المعتاد وترتب ضرر للغير. 5- استعمال الحق مع الإهمال أو الخطأ. ويمكن جمع هذه الحالات كلها، في كون الحق المشروع تعارض مع قصد الشارع في رفع الضرر، فكان لا بد من التوفيق بين الأمرين، ولو بتقييد الجزئي أو إهداره. وأما تقييد إلزامية العقود، فمستنده ما ثبت من قصد الشارع إلى إقامة العدل ونفي الظلم في المعاملات عامة، وفي العقود خاصة. فإذا تضمن العقد ظلمًا بينا بأحد طرفيه أو أطرافه فلا يسع المجتهد تجاهل ذلك بدعوى استيفائه لأركانه وشروطه الظاهرية أو الشكلية. فلو كان الشرع يعتد بالعقود الظالمة. المستوفية لشروط التعاقد، لأباح عقد الربا، وبيع المجهول، وسائر عقود الغرر. وإذًا فقصد الشارع إلى منع المظالم ثابت قطعًا وعمومًا، وثابت خصوصًا في العقود. ومن هنا فإن العقود الظالمة -ظلمًا بينًا- تشكل مخالفة صريحة وجسيمة لمقاصد الشريعة. فليس "العقد شريعة المتعاقدين" إلا إذا جاء في حدود الشريعة ومقاصدها إذا شريعة الله فوق شريعة المتعاقدين، فإذا تجاوزها العقد وجب نقضه أو تعديله بما يحقق العدل للطرفين. والظلم في العقود قد يكون خفيا لا يراه الطرفان، أو الطرف المتضرر على الأقل، ثم ينكشف، كما في الغرر والعيب. وقد يكون ظاهرًا من أول أمره، ولكن أحد الطرفين مكره أو مضطر في تعاقده ذلك. وقد يكون العقد عادلًا في أول الأمر،

_ 1 انظر توضيحاتها في كتابه: الفقه الإسلامي وأدلته: 4/ 32-38.

ثم يطرأ من الظروف ما يجعل استمراره على حاله مجحفًا بأحد الطرفين. ففي هذه الحالات كلها يكون مطلوبًا من المجتهد "قاضيًا أو غيره" أن ينظر في الأمر، ويجتهد له بما يحقق التوازن والعدل. ومن النصوص الخاصة، والهادية في هذا السبيل ما جاء في وضع الجوائح عن المشتري: ففي حديث جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع الجوائح"1 و"أمر بوضع الجوائح"2، وعنه أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " 3. ولا يهمني الآن الدخول في التفاصيل الفقهية لأحكام الجوائح، أو غيرها من العقود المشار إليها من قبل. ولكن الذي يهمني هو تقرير المبادئ. وأحسب أن ما قدمته كاف في هذا.

_ 1 أبو داود والنسائي والإمام أحمد. 2 صحيح مسلم. 3 مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، واللفظ من صحيح مسلم.

جلب المصالح ودرء المفاسد مطلقا

3- جلب المصالح ودرء المفاسد مطلقًا: أي حيثما تحققت المصلحة مصلحة، فيجب العمل على جلبها، ورعايتها، وحيثما تحققت المفسدة مفسدة، فيجب العمل على دفعها وسد أبوابها، وإن لم يكن في ذلك نص خاص. فحسبنا النصوص العامة الواردة في الحث على الصلاح والإصلاح والنفع والخبر، وحسبنا النصوص العامة في ذلك الفساد والإفساد والمفسدين في النهي عن الشر والضرر. وحسبنا الإجماع المنعقد على أن المقصد الأعم للشريعة هو جلب المصالح ودرء المفاسد في العاجل والآجل. وهذا هو باب المصالح المرسلة، الذي تضاربت فيه الأقوال الأصولية، ولكن التطبيق الفقهي أخذ به في جميع المذاهب المتبعة. كما أن الأصوليين المعاصرين أجمعوا1 على تأييد حجية المصالح المرسلة وعلى تأكيد أهميتها للفقه

_ 1 وعلى الأقل كما قال الإمام أحمد: لا أعلم خلافًا.

الإسلامي. وأبحاثهم المفصلة معروفة متداولة. وكثير منها أشرت إليه في مواضع متفرقة من هذا الكتاب. وقد تقدم القول بها عند بعض الأصوليين الشافعية1، واشترطوا فيها شروطًا لا ينازعهم فيها أحد. وأهم تلك الشروط وملاءمتها لمقاصد الشارع، حيث قال الغزالي -كما تقدم- "وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع، فلا وجه للخلاف في اتباعها، بل يجب القطع بكونها حجة"2. وتقدم عنه أيضًا: "ونحن نجعل المصلحة تارة علمًا للحكم، ونجعل الحكم أخرى علما لها3. والذي يؤكد هذا -الآن هو الشطر الأول من قوله، أي أن المصلحة تكون علمًا "دليلا" على الحكم. وهو يؤكد هذا -بكيفة أخرى- فيقول: "كل معنى مناسب للحكم، مطرد في أحكام الشرع، لا يرده أصل مقطوع به مقدم عليه، من كتاب أو سنة أو إجماع، فهو مقول به، وإن لم يشهد له أصل معين"4. والشاطبي لم يعد هذا حين قال: "كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائمًا لتصرفات الشرع، ومأخوذًا معناه من أدلته، فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه، إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعًا به5. ثم مثل له بالاستدلال المرسل، والاستحسان. وكلاهما رعاية للمصلحة. فرعاية المصلحة -إذا كانت مصلحة حقيقة ملائمة لمقاصد الشارع- أصل مقطوع به.

_ 1 ذكرت هنا الشافعية خاصة، لأن المعروف عنهم إنكار حجية المصلحة المرسلة. وقد مر في موضع سابق أن الإمام الشافعي تردد في الأمر. 2 المستصفى: 1/ 311. 3 المنخول: 355. 4 المنخول: 364. 5 الموافقات: 1/ 39.

فلا بد من تحكيمه والبناء عليه. وليس تحكيم القياس بأولى من تحكيم هذا النوع من المصالح. وقد تقدم عن إمام الحرمين أن حفظ المصالح الضرورية مقدم حتى على القياس الجلي. والاستحسان إنما هو تقديم لرعاية المصلحة على القياس. يقول الشاطبي: "وكذلك أصل الاستحسان على رأي مالك ينبني على هذا الأصل. لأن معناه يرجع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس"1. ثم أكد في كتاب الاجتهاد أن الاستحسان المالكي: "مقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس"2 وليس في هذا اعتماد على مجرد الرأي والاستصلاح الشخصي. بل هو عمل بالشرع ومقاصده العامة: "فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة، في أمثال تلك الأشياء المفروضة، كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرًا، إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى، أو جلب مفسدة كذلك"3. فالمصلحة إذا ثبتت، وعلمت ملاءمتها لمقاصد الشارع، لم يبق معنى لتقييدها بعدم مخالفة القياس، كما ذهب الدكتور البوطي4. لأن مثل هذه المصلحة أصل بنفسه، ومقصود لذاته. فكيف يخضع للأقيسة الجزئية الظنية، وهي وسيلة لا مقصود؟! وأكثر من هذا، فإن اعتماد المصالح الحقيقية المحترمة شرعًا، إنما هو قياس كلي. والكلي مقدم على الجزئي إذا تعارضا ولم يستقم الجمع بينهما. وهذا القياس الكلي، أو لنقل: القياس المصلحي، هو الذي ذكره ابن رشد الحفيد باسم

_ 1 الموافقات: 1/ 40. 2 الموافقات: 4/ 206. 3 الموافقات: 4/ 206. 4 ضوابط المصلحة: 216 وما بعدها، حيث جعل الضابط الرابع للمصلحة هو "عدم معارضتها للقياس"، بعد أن اشتراط اندراجها في مقاصد الشارع، وعدم معارضتها للكتاب، وعدم معارضتها للسنة.

"القياس المرسل" فقد ذكر أن المدين المدعي للإفلاس إذا لم يكن إفلاسه وإعساره معلومًا، يحبس حتى يثبت إفلاسه، أو يسلم به الدائن. وذكر أنهم مجمعون على هذا، وإن لم يأت فيه أثر صحيح. ثم قال: "وهذا دليل على القول بالقياس الذي تقتضيه المصلحة، وهو الذي يسمى بالقياس المرسل"1. فهو قياس مرسل، لا يستند إلى أصل جزئي معين، ولكنه "تقتضيه المصلحة" وقد دعا الدكتور حسن الترابي، إلى التوسع في هذا النوع من القياس، وسماه "القياس الواسع"، حيث قال: "ولربما يجدينا أيضًا أن نتسع في القياس على الجزئيات، لنعتبر الطائفة من النصوص، ونستنبط من جملتها مقصدًا معينًا من مقاصد الدين. أو مصلحة معينة من مصالحه، ثم نتوخى ذلك المقصد حيثما كان في الظروف والحادثات الجديدة. وهذا فقه يقربنا من فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأنه فقه مصالح عامة واسعة، لا يلتمس تكييف الواقعات الجزئية تفصيلًا -فيحكم على الواقعة قياسًا على ما يشابهها من واقعة سالفة- بل يركب مغزى اتجاهات سيرة الشريعة الأولى، ويحاول في ضوء ذلك توجيه الحياة الحاضرة"2. وقد سماه أيضًا: القياس الإجمالي، وقياس المصالح المرسلة. وإذًا، فقد رجعنا إلى الاسم الأول، الاسم المعروف والسائد عند الأصوليين، وهو: المصالح أعني: اعتبار المصلحة والاجتهاد في رعايتها جلبا وحفظًا، ولو لم ترد فيها وفي تعينها نصوص خاصة. ومن الفتاوى المصلحية لإمامنا أبي إسحاق، ما أورده صاحب المعيار من أن الشاطبي سئل عن رجل عن تعيينه ليقوم وحدة بالذبح والسلخ لجزاري السوق، مع إلزامهم بدفع أجرته، وهم غير راضين، ويريدون أن يذبحوا ويسلخوا

_ 1 بداية المجتهد: 2/ 220. 2 تجديد أصول الفقه الإسلامي: 24.

لأنفسهم، وهو يحسنون ذلك. فهل يجوز لذلك الرجل عمله هذا؟ وهل تحل له الأجرة على هذه الحال؟ "فأجاب: أن هذا المعين للذبح، إما أن يكون بنظر مصلحي أولًا، فإن كان ينظر -لمحافظته على الصلوات وأحكام الذبح، وما أشبه ذلك من أمور الدين المتعلقة بما عين له- فلا بأس به. والأجرة في مثله جائزة. لأن العامة لا بد لهم مما يصلحهم، ولو سرح لجميع الجزارين، لذبح تارك الصلاة والسكران، والمتعمد لترك التسمية، وأشباه ذلك. وقد وقع مثل هذا لكثرة الفساد الواقع في هذا الزمان. وإن كان تعيينه بغير نظر1، بل يكون ثم من هو أحق منه بالتعيين، فليس الرجل هذا المعين، ولا سيما إن أخذ الأجرة كرهًا. فتجب عليه التوبة من هذه الحرفة والخروج عما أخذ من الجزارين لأصحابه"2. وغير بعيد عن هذه الفتوى، نجد الونشريسي يورد رأي الشاطبي القائل بجواز فرض ضريبة على الناس، إذا عجز بيت المال عن القيام بمصالحهم العامة، ومستنده في هذا: المصلحة المرسلة. وقد اشتهر الخلاف في هذا بين الشاطبي وشيخه أبي سعيد بن لب الذي كان يقول بعدم الجواز3. وفي سياق هذه المسألة أورد الونشريسي فتوى استفتي فيها الفقيه القاضي أبو عمر بن منظور4، وهي فتوى نموذجية في النظر المصلحي المتوازن السديد. وقد جاء في مقدمتها و"حيثياتها":

_ 1 أي لمجرد المحاباة، أو لقرابة، أو لصداقة، أو رشوة. 2 العيار: 11/ 126. 3 انظر: المعيار: 11/ 131. ونيل الابتهاج: 49-50. والاعتصار: 2/ 121-123. 4 القاضي أبو عمر بن منظور، عثمان بن محمد، كان من أهل الفتوى البارزين بالأندلس. أورد له صاحب "المعيار" كثيرًا من فتاويه، بعضها يحمل تواريخ متفرقة خلال الثلث الأول من القرن الثامن الهجري. وجاء في إحداها أنه أملاها على كاتب، لمرض أصابه منعه من أن يكتب بيده، وتاريخها؛ 20 ذي الحجة 735هـ "المعيار 3/ 176".

"أن الأصل ألا يطالب المسلمون بمغارم غير واجبة بالشرع، وإنما يطالبون بالزكاة وما أوجبه القرآن والسنة، كالفيء والركاز، وإرث من يرثه بين المال. وهذا ما أمكن به حمل الوطن وما يحتاج له من جند ومصالح المسلمين وسد ثلم الإسلام. فإذا عجز بيت المال عن أرزاق الجند وما يحتاج إليه من آلة حرب وعدة فيوزع على الناس ما يحتاج إليه من ذلك. وعند ذلك يقال: يخرج هذا الحكم ويستنبط من قوله تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} الآية. لكن، لا يجوز هذا إلا بشروط: الأول: أن تتعين الحاجة. فلو كان في بيت المال ما يقوم به، لم يجز أن يفرض عليهم شيء، لقوله صلى الله عليه وسلم "ليس على المسلمين جزية" وقال صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة صاحب مكس". وهذا يرجع إلى إغرام المال ظلمًا. الثاني: أن يتصرف فيه بالعدل، ولا يجوز أن يستأثر به دون المسلمين، ولا أن ينفقه في سرف، ولا أن يعطي من لا يستحق، ولا يعطي أحد أكثر مما يستحق. الثالث: أن يصرف مصرفه بحسب الحاجة لا بحسب الغرض. الرابع: أن يكون الغرم على من كان قادرا، من غير ضرر ولا إجحاف. ومن لا شيء له، أو له شيء قليل، فلا يغرم شيئًا. الخامس: أن يتفقد هذا في كل وقت. فربما جاء وقت لا يفتقر فيه لزيادة على ما في بيت المال"1. وليس فقهنا اليوم -وقبل اليوم -بحاجة إلى شيء قدر حاجته إلى مثل هذا التقدير المصلحي السديد، وإلى مثل هذا الحرص الشديد على مصالح الإسلام والمسلمين. ولا شك أن هذا يحتاج إلى خبرة كبيرة بالمصالح والمفاسد، وإلى مستوى عال من التشبع بمقاصد الشريعة. وقد ذهب الشاطبي إلى أن الاجتهاد في تقدير وترتيب المصالح لا يحتاج إلى أكثر من هذا، قال: "الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط

_ 1 المعيار: 11/ 127-128.

من النصوص، فلا بد من اشتراط العلم بالعربية. وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها، أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص، فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية. وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلًا، خاصة"1.

_ 1 الموافقات: 4/ 162.

اعتبار المالات

4- اعتبار المآلات: أي أن المجتهد، حين يجتهد ويحكم ويفتي، عليه أن يقدر مآلات الأفعال التي هي محل حكمه وإفتائه، وأن يقدر عواقب حكمه وفتواه، وألا يعتبر أن مهمته تنحصر في "إعطاء الحكم الشرعي". بل مهمته أن يحكم في الفعل وهو يستحضر مآله أو مآلاته، وأن يصدر الحكم وهو ناظر إلى أثره أو آثاره. فإذا لم يفعل، فهو إما قاصر عن درجة الاجتهاد أو مقصر فيها. وهذا فرع عن كون "الأحكام بمقاصدها". فعلى المجتهد الذي أقيم متكلمًا باسم الشرع، أن يكون حريصًا أمينا على بلوغ الأحكام مقاصدها، وعلى إفضاء التكاليف الشرعية إلى أحسن مآلاتها. ويؤصل إمامنا هذا الأصل بقوله: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة. وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يئول إليه ذلك الفعل"1. وفي السنة النبوية تطبيقات هادية في هذا الباب. فقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين، مع علمه بهم، ومع علمه باستحقاقهم القتل، وقال: "أخاف عن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" 2. وتخلى عن إعادة بناء البيت الحرام، حتى لا يثير بلبلة بين العرب، وكثير منهم حديثو عهد بالإسلام، وقال مخاطبًا

_ 1 نفس المرجع: 196. 2 متفق عليه.

عائشة رضي الله عنها: "ألم ترى أن قومك حين بنوا الكعبة، اقتصروا عن قواعد إبراهيم". قالت: فقلت يا رسول الله، أفلا تردها على قواعد إبراهيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت" 1. وعندما بال أعرابي في المسجد وقام الصحابة لزجره ومنعه، قال عليه الصلاة والسلام: "لا تزرموه 2، دعوه" 3 إلى آخر الحديث. فلولا مراعاة المآلات والنتائج، لوجب قتل المنافقين، وإعادة بناء البيت على قواعد إبراهيم، ومنع الأعرابي من إتمام عمله المنكر الشنيع. ولكن الأول كان سيفضي إلى نفور الناس من الإسلام، خشية أن يقتلوا بتهمة النفاق، والثاني يؤدي إلى اعتقاد العرب أن النبي يهدم المقدسات ويغير معالمها، والثالث ليس فيه إلا أن ينجس البائل جسمه وثوبه، وربما نجس مواضع أخرى من المسجد، وربما كان ضرر صحي عليه. ومن فتاوي هذا الباب: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، حين جاءه رجل يسأله: ألمن قتل مؤمنًا متعمدًا توبة؟ قال: لا، إلا النار، فلما ذهب السائل قيل لابن عباس: أهكذا كنت تفتينا؟! كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة. قال إني لأحسبه رجلًا مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا. فلما تبعوه وحققوا في الأمر وجدوه كذلك4. وجاءت امرأة إلى عبد الله بن مغفل، فسألته عن امرأة فجرت فحبلت فلما ولدت قتلت ولدها؟ فقال ابن مغفل: ما لها؟! لها النار. فانصرفت وهي تبكي، فدعاها ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} قال: فمسحت عينيها ثم مضت5.

_ 1 هذه رواية الموطأ: 1/ 363. 2 أي لا تقطعوه عن بوله. 3 رواه البخاري ومسلم وغيرهما. 4 تفسير القرطبي: 4/ 97. 5 جامع البيان للطبري، عند تفسير الآية المذكورة "النساء: 110".

فهو -رضي الله عنه- بعد أن أجابها جوابًا زاجرًا شديدًا لكي ترتدع وتتوب، رأي من حالها أن ذلك قد يدفعها إلى اليأس من رحمة الله، وهذا قد يئول بها إلى الانتحار أو التمادي في الفجور أو ما أشبه هذا من المآلات السيئة، فعدل عن جوابه الأول إلى جواب آخر أليق بحالها. وقد قرر العلماء أن الفتوى تقدر زمانا ومكانًا وشخصًا. واعتبار المآلات -الذي نحن فيه- يحتاج إلى كل هذا، يحتاج إلى معرفة أحوال الزمان والمكان والأشخاص، لكي يتأتى للمفتي تقدير مآلات الأفعال وآثار فتواه عليها. ومن هذا الباب أيضًا، ما سماه الشاطبي "تحقيق المناط الخاص"1. ذلك أن تحقيق العالم لمناط الحكم، قد يكون عاما. كتحقيقه لمعنى الفقير الذي يستحق الزكاة. وتحقيقه لمعنى الزاني المحصن، وتحقيقه لمعنى العدالة في الشهادة والرواية. وقد يكون خاصا، أي يتعلق بشخص معين لمعرفة ما يناسبه وما ينطبق عليه من أحكام الشرع، وإلى أي حد تناسبه وتنطبق عليه. فالاجتهاد في مثل هذه الدرجة من الخصوصية، يحتاج إلى نوع خاص من المجتهدين. فلا يكفي أن يكون المجتهد "قانونيا" ماهر بنصوص التشريع وتفصيلاته، ولكنه يتطلب مجتهدًا ماهرًا -أيضًا- بالنفوس وخفاياها وخصوصياتها، وماهرًا بالملابسات الاجتماعية وتأثيراتها. يقول الشاطبي: "فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورًا يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها، أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها. فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف"2. وفي موضع آخر يقول: "ويسمى صاحب هذه الرتبة: الرباني، والحكيم، والراسخ في العلم، والعالم، والفقيه، والعاقل" ومن خصائص اجتهاده "أنه

_ 1 الموافقات: 4/ 97. 2 الموافقات: 4/ 98.

ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات" وغيره يجيب عن السؤال وهو لا يبالي بالمآل1. ومما يفيد في هذا الباب، ما استنبطه العلماء من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم ثم أخطأ، فله أجر"2، فقد دل الحديث على أن الحاكم ينبغي أن يجتهد كلما حكم، أي كلما هم بالحكم. ولا يغني اجتهاده مرة عن تجديد الاجتهاد في المسائل المشابهة، لأن لكل مسألة خصوصياتها مهما تشابهت مع غيرها. قال القرطبي: "ويفيد هذا صحة ما قاله الأصوليون: إن المجتهد يجب عليه أن يجدد نظرًا عند وقوع النازلة ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم"3. فتحقيق المناطات الخاصة، في الأفراد والواقع، وفي الأزمنة والأمكنة. مما يساعد المجتهد على معرفة المآلات وحسن تقديرها، ليبني اجتهاده وإفتاءه على ذلك، حتى يكون أقرب إلى تحقيق المآلات والنتائج التي يقصد الشارع تحقيقها، وإلى إبعاد المآلات والنائج التي يقصد منعها وإبعادها.

_ 1 نفس المرجع: 232. 2 رواه مسلم. 3 الجامع لأحكام القرآن: 11/ 310-311.

خاتمة آفاق البحث في المقاصد

خاتمة: آفاق البحث في المقاصد لا أريد في هذه الخاتمة -وكما جرت العادة- أن أعود إلى عرض ما عرضته، وإجمال ما فصلته. فذلك قد مضى بما له وما عليه. ويمكن أن أعود إليه -إذا يسر الله ذلك- لتتميمه، وتصحيح أغلاطه، وتقويم اعوجاجه. ذلك أني وإن كنت أحس إحساسًا سطحيا -وعابرًا بالتأكيد- بأني بصدد إنهاء هذا البحث، فإن إحساسًا آخر ثقيلًا، يجثم على صدري، ويؤرق فكري، وهو أنني لم أنه شيئًا، وأن كل ما نبشته، أو خضت فيه بقدر ما، يدعو إلى مزيد من البحث والدراسة والتحرير والتقرير. ولهذا فإني أقصر هذه الخاتمة على التذكير والتنبيه على بعض كبريات القضايا التي تتطلب الكثير من البحث. أفعل هذا، إقرارًا مني بأني لم أنه شيئًا، وخاصة فيما يتعلق بهذه القضايا الكبرى. وأفعله استثارة وتحفيزًا لأهل العلم، ليتفضلوا بسد هذه الثغرات في مكتبتنا الفقهية والأصولية فيزيدوننا بيانا وتجلية لهذه الأمور. وفيما يلي هذه القضايا التي أعني: 1- بماذا تعرف المقاصد؟ أو كما عبر الدكتور عبد المجيد النجار: مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة. ولقد قدم الأصوليون خدمة كبيرة لهذا الموضوع، وذلك من خلال دراستهم لمسالك التعليل. ثم قدم الشاطبي ما عنده في الموضوع، كما قدم لنا تجربته التطبيقة في الكشف الاستقرائي عن كثير من المقاصد. وأضاف

الشيخ ابن عاشور ما أضاف. وكل هذا يسهل الانطلاق في دراسات أكثر عمقًا وتدقيقًا، وأكثر ضبطًا وتنقيحًا، لهذا الموضوع الكبير، الذي يمثل المدخل العلمي الصحيح لتوسيع الكشف لمقاصد الشريعة عامها وخاصها. 2- مزيد من الاستقراء لأحكام الشريعة والاستنباط لعللها، لتوسيع لائحة مقاصد الشريعة، وجعلها -أو جعل أكثر ما يمكن منها- محل اتفاق يرجع إليه ويحتكم إليه في فقهنا واجتهادنا اليوم وغدًا. 3- إعادة النظر في حصر الضروريات في الخمس المعروفة. لأن هذه الضروريات أصبحت لها -بحق- هيبة وسلطان، فلا ينبغي أن نحرم من هذه المنزلة، بعض المصالح الضرورية التي أعلى الدين شأنها، والتي قد لا تقل أهمية وشمولية عن بعض الضروريات الخمس. مع العلم أن هذا الحصر اجتهادي. وأن الزيادة على الخمس، أمر وارد منذ القديم كما رأينا. وحديثًا دعا الأستاذ أحمد الخمليشي إلى جعل العدل وحقوق الفرد وحريته، ضمن الضروريات من مقاصد الشريعة1. ولا أريد الآن أن أقرر شيئًا قبل أوانه وفي غير موضعه. ولكن أقول: لنفتح هذا الموضوع بموازين العلم وأدلته. 4- مزيد من الدراسة التفصيلية، للضروريات المكملة، والحاجيات والتحسينيات، والعمل على وضع ضوابط واضحة للتفريق بين مراتب المصالح كلها، وحدود الثبات والتغير في ذلك. 5- استخراج ودراسة الفكر المقاصدي عند كبار الأئمة والعلماء، الذين يظهر أنهم ذوو باع وفضل في العناية بمقاصد الشريعة، ابتداء من كبار فقهاء الصحابة، ومرورًا بالأئمة الأربعة، وغيرهم كالترمذي الحكيم، والإمام الطبري.

_ 1 وجهة نظر: 249-250 و300.

6- وبصفة عامة: تتبع ودراسة مراعاة المقاصد في الفقه الإسلامي، وكيف يتم ذلك؟ وإلى أي حد؟ وما هي المقاصد التي وقع الاتفاق على اعتبارها مقاصد؟ وما هي المقاصد التي قيل بها دون مخالف في ذلك؟ 7- ومن خلال هذه المواضيع وغيرها، نعمل على وضع "ضوابط الاجتهاد المقاصدي" حتى لا يبقى هذا المنحى الاجتهادي منفذ تمييع للاجتهاد، وللفكر الإسلامي عمومًا، وحتى لا يكون هذا سببًا لرد الفعل السهل، وهو: إغلاق باب الاجتهاد، أو على الأقل الهروب بالاجتهاد نحو التحصن بقلعة الظواهر والاحتياطات. ولقد حاولت -مضطرًا- أن أبرز بعض معالم الاجتهاد المقاصدي، ولكن شتان بين "المعالم" و"الضوابط". فلتكن تلك المحاولة، خطوة في الطريق، إن أحسنت فيها ونعمت، وإلا، فلتكن إثارة وتحفيزًا لمن يستطيعون خوض الموضع وضبطه، كلا أو جزءًا. وأخيرًا، هل سيفضي بنا التوسع في مباحث المقاصد إلى تحقيق ما دعا إليه الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور من استخلاص مقاصد الدين وقطعياته، وتسميتها باسم "علم مقاصد الشريعة"1؟ أم أن المقاصد جزء لا ينبغي أن يتجزأ عن علم أصول الفقه، كما يرى عدد من الأصوليين المعاصرين؟ 2 الحق أن السؤال لا يكون ذا أهمية كبيرة إذا اتفقنا على ضرورة التوسع الكبير والعناية الفائقة بمقاصد الشريعة. وبعد ذلك، هل نسمي ذلك علمًا أم لا؟ المسألة هينة. ولعل ما صنعه الشيخ عبد الله دراز يعفينا من هذا التساؤل ولو إلى حين؛ فهو يرى: "أن لاستنباط الأحكام ركنين: أحدهما علم لسان العرب، وثانيهما علم أسرار الشريعة ومقاصدها"3 ومن هذين العلمين، يتكون علم أصول الفقه.

_ 1 مقاصد الشريعة الإسلامية: 8. 2 كالدكتور عجيل النشمي "مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية - العدد 2" تصدر عن كلية الشريعة بجامعة الكويت. 3 من مقدمته للموافقات: 1/ 5.

فالمقاصد، علم، وركن في علم. والعبرة بالمسميات لا بالأسماء، وبالمقاصد لا بالوسائل. والحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه ولعظيم سلطانه. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا. ليلة الثلاثاء 20 ربيع النبوي، 1409؛ الموافق لفاتح نوفمبر، 1988.

الفهارس

الفهارس: فهرس الأعلام: - الأبهري، أبو بكر 29-30 - إبراهيم "عليه السلام" 229-345 - إحسان عباس 95 - أحمد بن حنبل 164-178-195-347-230 - أحمد الخمليثي 358-209 - إسحاق 73 - إسماعيل، القاضي 30 - الأسنوي 41-45-214-253 - الأشعري، أبو الحسن 245-251 - أشهب 204-338 - أصبغ 70 - الأصيلي 30 - الآمدي، سيف الدين 42-43-44-45-46-203-204 - أمير باد شاه 252 - أنس بن مالك 259 - ابن أبي أويس 59 - الباقلاني، أبو بكر 30-31-32-70 - البجاوي، محمد علي 27-28 - البخاري 92-95-178-228-260-262-354 - البخاري، عبد العزيز 14-15-49 - بدران أبو العينين 9 - البزدوي 14-49 - ابن بشير 309 - البصري، أبو الحسين 32-99 - البغدادي، الخطيب 29

- أبو بكر الصديق 60-61-62-69-70-102 - بكير بن عبد الله 59 - البلنسي، أبو عبد الله 91 - البناني 47 - البياني، أبو عبد الله 93 - البيضاوي، القاضي 45-205 - التلمساني، الشريف 91-115-279 - التنبكتي 50-89-90-91-92-94-95-96-97-101-105-106-113-115-311 - الترمذي، أبو عيسى 60-178-259-260 - ابن تيمية 49-60-62-63-65-74-80-84-202-205-207-208-250-304-305-312 - جابر بن عبد الله 347 - الجصاص، أبو بكر 49 - جمال الدين عطية 17 - جميل صليبا 15-16 - الجويني، الأب 33-252 - الجويني، أبو المعالي 14-25-31-33-34-35-36-37-40-61-64-193-197-218-243-245-280-281-293-294-295-328-329-349 - ابن الحاجب 44-45-46-70-92-197-204-252-280-309 - الحاكم، النيسابوري 178 - ابن حبان 178 - ابن حبيب 83 - ابن حجر، العسقلاني 68 - ابن حزم 15-70-216-217-218-219-220-221-222-223-224-225-226-227-231-249 - حسن الترابي 350 - حسنين مخلوف 93 - حسنين نصر زيدان 26 - حسين حامد حسان 259-266

- الحفار، أبو عبد الله 92-104 - ابن الحكم، محمد 72 - ابن حمزة 316 - حميد بن الأسود 59 - أبو حنيفة 30-67-69-70-142-189-190-195-201-142-328-338-341-345 -خارجة بن زيد 59 - خديجة "رضي الله عنها" 248 - الخشت، محمد عثمان 28 - ابن خلدون، عبد الرحمن 312 - ابن خويز منداد 30 - داود، الظاهري 216-220 - أبو داود 178-259-260-347 - الدبوسي، أبو زيد 49-336-337 - الدريدر 337 - الدسوقي 337 - الدهلوي، ولي الله 59-204 - الرازي، فخر الدين 41-42-44-45-47-124-186-200-209-210-212-213-214-234-294-296 - ابن راشد 9 - ربيعة، الرأي 60 - ابن رشد، الجد 303-337-338 - ابن رشد، الحفيد 70-82-83-109-113-117-296-299-300-301-303-304-349 - الزبير بن العوام 60 - الزركشي، بدر الدين 32 - زكريا "عليه السلام" 229 -أبو الزناد 59-60 - الزنجاني، شهاب الدين 190-245 - الزواوي، أبو علي 92-98 - زيد بن أسلم 60

- زيد بن ثابت 59 - الزيلعي 68 - سالم بن عبد الله 59 - السبتي، أبو القاسم 92 - السبكي، الأب 25-27-50-327-328 - السبكي، الابن 25-31-47-202-205-207-208-246-251-253-327-328 - سحنون 72 - السرخسي 49-52-53-54-55-68 - ابن سريج 251 - سعد بن معاذ 60 - سعد محمد الشناوي 304-305 - سعيد بن المسيب 59-60 - أبو سفيان 248 - أم سلمة "رضي الله عنها" 230 - سليمان بن ميسار 59 - ابن سيناء 288 - السيوري أبو قسام 111 - السيوطي، جلال الدين 230 - ابن شاس 309 - الشافعي، محمد، بن إدريس 29-30-31-32-33-37-67-69-72-73-189-191-195-201-312-315-324-327-328-329-336-338-348 - الشعبي 60 - الشقوري، أبو جعفر 91 - ابن شهاب، الزهري 59-60 - الشوكاني، محمد بن علي 47-234-327-328 - الشيباني، محمد بن الحسن 68-189 - الشيرازي، أبو إسحاق 31-252 - صبحي محمصاني 333 - صدر الشريعة 49-206 - صديق حسن خان بهادر 279 - الصيرفي 251

- الطبراني 164 - الطبري، محمد بن جرير 14-248-339-354-358 - الطرطوشي 305 - الطفيل بن عمرو الدوسي 247 - طلحة بن الزبير 60 - الطوفي، نجم الدين 47-202-264-265-260 - عائشة "رضي الله عنها" 354 - ابن عابدين، محمد أمين 266 - ابن عاشور، محمد الطاهر 5-6-7-8-13-48-50-205-208-210-226-228-230-231-247-248-250-282-283-289-300-314-318-334-335-358-359-224 - ابن عاشور، محمد الفاضل 307- 308- 325 - ابن عاصم، أبو بكر 93-94 - ابن عاصم، أبو يحيى 92 - ابن عباد، أبو عبد الله 106-113-120-121 - عبادة بن الصامت 262 - أبو العباس 351 - ابن عبد البر، أبو عمر 65-68-71-345 - عبد الجبار، القاضي 32 - عبد الحي بن الصديق 62-344 - عبد الرحمن بدوي 243 - عبد الرحمن بن عوف 60 - ابن عبد السلام، عز الدين 49-50-52-55-110-234-237-246-265-268-269-294-296-304-306- 314-236 - ابن عبد الشكور، محب 46 - عبد العزيز الربيعة 9-10 - عبد العظيم الديب 33 - أبو عبد الله الحليمي 254. - عبد الله بن عباس 54-248-354 - عبد الله بن عمر 59-84 - عبد الله بن مسعود 50-84-282 - عبد الله الداودي 85

- عبد الله دراز 12-93-125-129-136-156-164-174-178-188-260-284-312-314-327-328-331-359 - عبد الله بن مغفل 354-355 - عبد المتعال الصعيدي 312 - عبد المجيد تركي 299-300-301 - عبد المجيد النجار 283-289-318-357 - عبد الوهاب خلاف 364 - عبد الوهاب، القاضي 3-341 - عبيد الله، بن عبد الله بن عتبة 59 - العتبي 70 - عثمان بن عفان 60-61-62-69-70-77-84-102 - عجيل النشمي 315-359 - العراقي، زين الدين 12-164 - ابن العربي، أبو بكر 72-73-76-81-82-141-168-169-239-260-294-305-338-341-342 - ابن عرفة 104-106-107-111-112-113-114-115-120 - عروة بن الزبير 59 - العطار 207 - علال الفاسي 5-6-7-8-209-333 - العلمي 78 - علي بن أبي طالب 60-61-62-69-70-77-84-102-246 -علي بن المديني 59 - عمر بن الخطاب 59-60-61-62-63-69-70-73-75-77-79-84-85-102-195-339-305 - عمر بن عبد العزيز 104 - عمر الجيدي 7-266-315 - عمر سليمان الأشقر 317 - عياض، القاضي 29-30-67-68-262 - الغزالي، أبو حامد 14-25-31-33-37-38-39-40-41-42-43-44-45-46-47-48-63-64-67-109-113-114-141-166-178-193-194-196-199-200-214-234-241-252-280-281-288-293-294-295-296-297-298-314-315-327-328-348

- الفارابي، نصر الدين 98 - فتح الله خليف 29 - فتحي الدريني 348 - ابن الفخار البيري 91 - ابن فرحون 9-55-58 - الفناري 9-10 - ابن القاسم 66-70-83-108-338 - القاسم بن محمد 59 - أبو القاسم، الراغب 245 - ابن قاضي الجبل 205 - القباب 106-111-112-113-115-116-117-118-119-120-121-309 - قتادة 247 - ابن قدامة المقدسي 234 - القرافي، شهاب الدين 28-47-49-52-55-109-113-114-199-236-237-294-269-304-306-308-314-330 - القرطبي 72-73-228-229-231-240-354 - الفشتالي 106-113 - القشيري 117 - ابن القصار، أبو الحسن 30 - القصار، أبو جعفر 93-101 - القفال، أبو بكر 29-245 - ابن القيم 29-49-55-74-75-202-215-217-230-231-246-250-254-255-260-266-304-305-306-312-336-337 - الكعبي، المعتزلي 34-161-163 - الكوثري 68 - ابن لب، أبو سعد 77-91-104-109-110-116-282-351 - الماتريدي، أبو منصور 28-29 - ابن ماجه 178-246-260-347 - ابن مالك 69 - مالك بن أنس 29-58-59-60-61-62-63-65-66-67-68-69-70-71-72-73-76-77-78-81-83-84-92-108-142-189-296-324-326-338-339-345-349

- ماء العينين بن مامين 94 - مجاشع بن مسعود السلمي 240 - المجاري، أبو عبد الله 83-89 - محب الدين الخطيب 59 - محمد أبو الأجفان 89-90-91-92-93-94-95-96-104-306-307-325 - محمد أبو زهرة 222-223 - محمد باقر الصدر 288 - محمد الحجوي الثعالبي 90 - محمد حجي 107 - محمد حسين هيتو 31-252 - محمد الخضر التونسي 93 - محمد الدردابي 85-91 - محمد رشيد رضا 95-103-311 - محمد سعيد رمضان البوطي 46-47-207-244-245-266-349 - محمد عابد الجابري 302-303 - محمد فاروق النبهان 71 - محمد فؤاد عبد الباقي - محمد مصطفى شلبي 11-12-203-209-214-266 - محمد هشام برهاني 74-76 - محي الدين عبد الحميد 93 - المختار، ولد باه 67 - الشيخ مخلوف 90 - مراد وهبة 16 - ابن مرزوق، الخطيب "الجد" 92 - ابن مرزوق، "الحفيد" 50 - مريم "عليها السلام" 229 - مسلم 178-130-228-240-260-262-347-354-356 - مصطفى عبد الرزاق 32 - مصطفى الزرقاء 68-69-312-314-324-325 - مصطفى زيد 266 - مصطفى سعيد الخن 312 - المطيعي، محمد بخيت 207-353

- معاذ بن جبل 262 - مفروق بن عمرو 247 - المقري، أبو عبد الله 85-91-189-192-196-200-204-305-306-307-308 - ابن منظور، أبو عمر 351 - نافع 60 - ابن النجار الحنبلي 202 - النسائي 178-230-260-347 - النووي، شرف الدين 228-262 - ابن أبي هريرة 252 - أبو هريرة 262 - ابن هشام 247 - ابن الهمام، الكمال 206-207 - هند بنت عتبة 248 - الونشريسي، أبو العباس 9-77-79-81-92-95-104-105-107-111-112-115-117-119-120-121-308-350-351 - ابن وهب 73 - وهبة الزحيلي 7-16-46-71-81-81-197-346 - يحيى بن سعيد الأنصاري 60 - أبو يعلى 164 - أبو يوسفن القاضي 68 - يوسف القرضاوي 195-266

المصادر والمراجع مرتبة ترتيبا ألفبائيا على الأسماء المشهورة لمؤلفيها

المصادر والمراجع: مرتبة ترتيبًا ألفبائيا على الأسماء المشهورة لمؤلفيها: - أبو الأجفان، محمد: 1- فتاوي الإمام الشاطبي ط2. 1985 مطبعة الكواكب. تونس. - الأسنوي: 2- نهاية السول في شرح منهاج الوصول. 1943 عالم الكتب القاهرة. - الأشقر، عمر سليمان: 3- مقاصد المكلفين. فيما يتعبد به لرب العالمين ط1. 1981 مكتبة الفلاح الكويت. - الآمدي، سيف الدين: 4- الإحكام في أصول الأحكام ط 1983 دار الكتب العلمية بيروت. - الأنصاري، نظام الدين: 5- فواتح الرحموت -بهامش المستصفى- دار الفكر بيروت. - الباجي، أبو الوليد: 6- أحكام الفصول في أحكام الأصول -تحقيق عبد المجيد التركي ط/ 1 1986 -دار الغرب الإسلامي- بيروت. - بدران، أبو العينين بدران: 7- أدلة التشريع المتعارضة ووجوه الترجيح بينها -مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية. د. ت. - البخاري، عبد العزيز: 8- كشف الأسرار عن أصول البزدوي. 1974، دار الكتاب العربي، بيروت. - بدوي، عبد الرحمن: 9- مذاهب الإسلاميين، ط2 -1979 دار العلم للملايين- بيروت. - برهاني، محمد هشام: 10- سد الذرائع في الشريعة الإسلامية ط1 -1985- مطبة الريحاني- بيروت. - البزدوي، فخر الإسلام: 11- أصول البزدوي. 1974، دار الكتاب العربي- بيروت. - بهادر، محمد صديق حسن: 12- حصول المأمول من علم الأصول، المكتبة التجارية الكبرى بمصر- 1357/ 1938.

- البوطي،محمد سعيد رمضان: 13- ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، ط4/ 1982 مؤسسة الرسالة. - البيضاوي، ناصر الدين عبد الله بن عمر: 14- منهاج الوصول إلى علم الأصول، ط1/ 1984، دار الكتب العلمية بيروت. - الترابي، حسن: 15- تجديد أصول الفقه الإسلامي، ط1/ 1980 -دار الفكر- الخرطوم. - التركي، عبد الله عبد المحسن: 16- أصول مذهب الإمام أحمد بن حنبل. ط1/ 1974.مطبعة عين شمس. - تركي، عبد المجيد: 17- مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية -ترجمة عبد الصبور شاهين ط1/ 1986 دار الغرب الإسلامي بيروت. - الترمذي، أبو عبد الله الحكيم: 18- الأمثال من الكتاب والسنة -تحقيق محمد علي البجاوي، دار النهضة- مصر للطبع والنشر- القاهرة، د. ت. 19- الصلاة ومقاصدها، تحقيق حسني نصر زيدان. 1965 مطابع دار الكتاب العربي بمصر. 20- المنهيات، تحقيق محمد عثمان الخشت. 1986، مكتبة القرآن القاهرة. - التلمساني، الشريف: 21- مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول. دار الكتاب العربي -مصر. - التنبكتي، أحمد بابا السوداني: 22- نيل الابتهاج بتطريز الديباج -دار الكتب العلمية بيروت د. ت. - ابن تيمية، تقي الدين: 23- مجموع فتاوي ابن تيمية -مكتبة المعارف- الرباط د. ت. 24- بنية العقل العربي، ط 1/ 1986 المركز الثقافي العربي -الدار البيضاء. - الجصاص، أبو بكر: 25- الفصول في الأصول، تحقيق محمد جاسم النجشمي -وزارة الأوقاف- الكويت. - الجويني، أبو المعالي: 26- البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبد العظيم الديب ط2/ 1400، دار الأنصار القاهرة. - الجيدي، عمر: 27- التشريع الإسلامي أصوله ومقاصده. 1987 مطبعة النجاح البيضاء -منشورات عكاظ.

- ابن الحاجب: 28- منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل. ط1/ 1985 دار الكتب العلمية- بيروت. - حامد، حسين: 29- نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي. ط/ 1981. الحجوي، محمد الثعالبي: 30- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، المكتبة العلمية -المدينة المنورة. - ابن حزم، أبو محمد: 31- الإحكام في أصول الأحكام. ط2/ 1983. دار الآفاق الجديدة -بيروت. - خان، محمد صديق حسين بهادر: 32- حصول المأمول من علم الأصول. 1938 -المكتبة التجارية الكبرى -مصر. - خلاف عبد الوهاب: 33- التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه -ط3- دار القلم - الكويت. - الخمليشي، أحمد: 34- وجهة نظر ط1 -1988- مطبعة النجاح الجديدة -الدار البيضاء. - الخن، مصطفى سعيد: 35- دراسة تاريخية للفقه وأصوله. ط1 -1984 الشركة المتحدة للتوزيع- دمشق. - الدبوسي، أبو زيد: 36- تأسيس النظر -ط1 -المطبعة الأدبية -مصر -د. ت. - الدردير، أبو البركات: 37- الشرح الكبير. 1927 -المطبعة الأزهرية -بمصر. الدريني، فتحي: 38- الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده. ط3/ 1984. مؤسسة الرسالة. - الدسوقي: 39- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير. 1927- المطبعة الأزهرية بمصر. - الدهلوي، شاه ولي الله: 40- حجة الله البالغة -دار المعرفة للطباعة والنشر -بيروت- د. ت. - الرازي، فخر الدين: 41- المحصول في علم أصول الفقه. ط1 -القسم 1، 1980. القسم 2، 1981. تحقيق محمد جابر فياض العلواني- مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

42- مفاتيح الغيب "التفسير الكبير" ط2- د. ت. دار الكتب العلمية طهران. 43- مناظرات فخر الدين الرازي. 1966 تحقيق فتح الله خليف دار المشرق -بيروت. - الربيعة، عبد العزيز: 44- السبب عند الأصوليين "دكتوراه في أصول الفقه -جامعة الأزهر". 1980. مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود. الرياض. - ابن رشد، أبو الوليد "الجد": 45- البيان والتحصيل 1984 -دار الغرب الإسلامي - بيروت. 46- المقدمات. ط1 - مطبعة السعادة- مصر. - ابن رشد، "الحفيد" أبو الوليد: 47- بداية المجتهد ونهاية المقتصد. دار الفكر -دمشق. 48- فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال. 1972 تحقيق محمد عمارة. دار المعارف -مصر. 49- مناهج الأدلة في عقائد الملة. 1964 -تحقيق محمود قاسم مكتبة الأنجلو المصرية. - رضا، محمد رشيد: 50- تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده ط1- مطبعة المنار- مصر- 1931. 51- تفسير المنار ط2 -دار المعرفة- بيروت. - الزحيلي، وهبة: 52- أصول الفقه الإسلامي ط1- 1986 دار الفكر -دمشق. 53- الفقه الإسلامي وأدلته. ط2 -1984 دار الفكر- دمشق. 54- نظرية الضرورة الشرعية ط4 -1985. مؤسسة الرسالة بيروت. - الزرقاء، مصطفى أحمد: 55- المدخل الفقهي العام. ط10 -1968. دار الفكر- دمشق. 56- الاستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية وأصول فقهها ط1 -1408/ 1988- دار القلم بدمشق. - الزنجاني، شهاب الدين: 57- تخريج الفروع على الأصول. ط4- 1982 تحقيق محمد أديب صالح. مؤسة الرسالة - بيروت. - أبو زهرة، محمد: 58- تاريخ المذاهب الفقهية. مطبعة المدني -القاهرة. 59- ابن حزم، دار الفكر العربي/ 1977. - زيد، مصطفى: 60- المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي -ط2 دار الفكر الإسلامي.

- الزيلعي، جمال الدين: 61- نصب الراية إلى تخريج أحاديث الهداية ط2/ 1393 المكتب الإسلامي بيروت. - السبكي وابنه: علي بن عبد الكافي وتاج الدين: 62- الإبهاج في شرح المنهاج -ط1/ 1984- دار الكتب العلمية - بيروت. - ابن السبكي، تاج الدين: 63- جمع الجوامع "بحاشية البناني وتقريرات الشربيني" -دار إحياء الكتب العربية- د. ت. 64- طبقات الشافعية الكبرى -ط1 -المطبعة الحسينية المصرية- د. ت. - السرخسي، أبو بكر: 65- أصول السرخسي 1973 تحقيق أبي الوفا الأفغاني -دار المعرفة- بيروت. 66- المبسوط- الطبعة 2 دار المعرفة بيروت- د. ت. - السيوطي، أبو إسحاق: 68- الإفادات والإنشادات ط1 - 1983 مؤسسة الرسالة- بيروت. 69- الاعتصام. مكتبة الرياض الحديثة. 70- الموافقات. تحقيق عبد الله دراز -دار المعرفة. بيروت. د. ت. - شلبي، محمد مصطفى: 71- أصول الفقه الإسلامي -ط2/ 1978 دار النهضة العربية - بيروت. 72- تعليل الأحكام -دار النهضة العربية- بيروت - 1981. - الشناوي، سعد محمد: 73- مدى الحاجة للأخذ بنظرية المصالح المرسلة في الفقه الإسلامي. ط2/ 1981. - الشوكاني، محمد بن علي: 74- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول. ط1/ 1972. - الشيرازي، أبو إسحاق: 75- التبصرة في أصول الفقه. 1983- تحقيق محمد حسن هيتو. دار الفكر -دمشق. 76- شرح اللمع ط1/ 1983 تحقيق عبد المجيد تركي دار الغرب الإسلامي -بيروت. - الصدر، محمد باقر: 77- الأسس المنطقية للاستقراء ط1/ 1972- دار الفكر. - صدر الشريعة، عبيد الله بن مسعود: 78- التوضيح في حل غوامض التنقيح "طبعة مصورة عن طبعة محمد علي صبيح بالأزهر 1977" دار الكتب العلمية بيروت د. ت. - ابن الصديق، عبد الحي: 79- نقد مقال في مسائل من علم الحديث والفقه وأصوله وتفضيل بعض المذاهب. ط1/ 1988، المغرب.

- الصعيدي، عبد المتعال: 80- المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر، مكتبة الآداب، الجماميز -د. ت. - صليبا، جميل: 81- المعجم الفلسفي -ط1/ 1973. دار الكتاب اللبناني. - الطبري، محمد بن جرير: 82- جامع البيان 1978 دار الفكر -بيروت. - ابن عاشور، الطاهر: 83- التحرير والتنوير "تفسير" -الدار التونسية للنشر 1984. 84- مقاصد الشريعة الإسلامية. تونس - 1366. - ابن عاشور، الفاضل: 85- إعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي. مكتبة النجاح -تونس د. ت. - العامري، أبو الحسن: 86- الإعلام بمناقب الإسلام، تحقيق أحمد عبد الحميد غراب -ط1/ 1387/ 1967- دار الكتاب العربي. - ابن عبد البر: 87- الانتفاء في تاريخ الثلاثة الأئمة الفقهاء. دار الكتب العلمية بيروت -د. ت. 88- التمهيد. وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية -المغرب. 89- الكافي في فقه أهل المدينة ط2/ 1980 تحقيق محمد ولد ماديك. مكتبة الرياض الحديثة -الرياض. - عبر الرزاق، مصطفى: 90- تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ط3/ 1966- مكتبة النهضة المصرية- القاهرة. - ابن عبد السلام، عز الدين: 91- قواعد الأحكام في مصالح الأنام -تعليق وتحقيق: طه عبد الرءوف سعد. دار الجيل. - ابن عبد الشكور، محب الله: 92- مسلم الثبوت -بهامش المستصفى- دار الفكر- بيروت. - ابن العربي أبو بكر: 93- أحكام القرآن، دار الفكر: 94- عارضة الأحوذي في شرح صحيح الترمذي. دار الفكر. - عطية، جمال الدين: 95- التنظير الفقهي ط1/ 1987 - مطبعة المدينة. 96- النظرية العامة للشريعة الإسلامية. ط1/ 1988- مكتبة المدينة. - العلمي، علي بن عيسى: 97- كتاب النوازل، 1986 تحقيق المجلس العلمي بفاس نشر وزارة الأوقاف المغربية.

- عياض، القاضي: 98- ترتيب المدارك. وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك طبعة وزارة الأوقاف المغربية. د. ت. - الغزالي، أبو حامد: 99- إحياء علوم الدين -دار المعرفة- بيروت. 100- شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل تحقيق حمد الكيبسي -مطبعة الأشاد بغداد 1971. 101- المستصفى. دار الفكر. 102- المنخول من تعليقات الأصول ط1/ 1980 تحقيق محمد حسن هيتو. دار الفكر- دمشق. - الفاسي، علال: 103- مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها. نشر مكتبة الوحدة العربية الدار البيضاء. 104- دفاع عن الشريعة ط1/ 1966 مطابع الرسالة -الرباط. - ابن فرحون، برهان الدين أبو الفداء إبراهيم بن محمد: 105- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام. دار الكتب العلمية - بيروت. د. ت. 106- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب -دار الكتب العلمية بيروت. د. ت. - ابن قدامة، موفق الدين المقدسي الدمشقي: 107- روضة الناظر وجنة المناظر. مكتبات الكليات الأزهرية -القاهرة. د. ت. - القرافي، شهاب الدين: 108- شرح تنقيح الفصول ط1/ 1973 تحقيق طه عبد الرءوف سعد. منشورات مكتبة الكليات الأزهرية ودار الفكر. 109- الفروق، دار المعرفة. - القرضاوي، يوسف: 110- فقه الزكاة. ط8/ 1985. مؤسسة الرسالة بيروت. - القرطبي: 111- الجامع لأحكام القرآن 1967 دار إحياء التراث العربي بيروت. - ابن القيم: 112- إعلام الموقعين عن رب العالمين - دار الجيل- بيروت. 113- زاد المعاد -ط2 دار الفكر- 1392- 1972. 114- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية. 1961 المؤسسة العربية للطباعة والنشر - القاهرة. 115- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل دار المعرفة -بيروت -1978. 116- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة دار الكتب العلمية بيروت. د. ت.

- كرم، سمير "مترجم": 117- الموسوعة الفلسفية - "وضع لجنة من الأكاديمين السوفيات". إشراف روزنتال يودين- ط1/ 1974 - دار الطليعة بيروت. - ماء العينين بن مامين: 118- المرافق على الموافق - شرح به نظم "موافق الموافقات" -مطبعة أحمد يمني -1324هـ. بفاس. - الماتريدي، أبو منصور: 122- التوحيد. ط1970. تحقيق فتح الله خليف -دار المشرق- بيروت. - مالك، بن أنس: 123- الموطأ، صححه وخرج أحاديثه محمد فؤاد عبد الباقي. مطبعة دار إحياء الكتب العربية -د. ت. - محمصاني، صبحي: 124- فلسفة التشريع الإسلامي -ط2/ 1952، دار الكشاف للنشر والطباعة والتوزيع. - مخلوف، محمد بن محمد: 125- شجرة النور الزكية -طبعة مصورة عن الطبعة الأولى 1349- دار الكتاب العربي - بيروت. - المطيعي، محمد بخيت "الحنفي": 126- سلم الوصول لشرح نهاية السول على هامش نهاية السول للأسنوي -عالم الكتب - القاهرة. - المقري، أحمد بن محمد: 127- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 1968. تحقيق إحسان عباس -دار صادر- بيروت. - المقري، أبو عبد الله: 128- قواعد الفقه -تحقيق محمد الدردابي- أطروحة دكتوراه- مرقونة بدار الحديث الحسنية بالرباط. - النبهان، محمد فاروق: 129- المدخل للتشريع الإسلامي، ط1/ 1977 وكالة المطبوعات. الكويت -دار القلم- بيروت. - ابن النجار، الحنبلي "محمد الفتوحي": 130- شرح الكوكب المنير "مختصر التحرير" دار الفكر -دمشق. - النووي، يحيى بن شرف: 131- شرح صحيح مسلم -دار الفكر- بيروت. د. ت. - ابن همام، الإسكندري: 132- تيسير التحرير دار الكتب العلمية - بيروت. د. ت.

- ابن هشام: 133- سير النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعة محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة حجازي بالقاهرة، 1356/ 1937. - ولد باه، محمد المختار: 134- مدخل إلى أصول الفقه المالكي 1987- الدار العربية للكتاب تونس. - الونشريس، أبو العباس: 135- المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب. خرجه جماعة من الفقهاء، بإشراف محمد حجي، نشر وزارة الأوقاف المغربية. 1981. - وهبة، مراد: 136- المعجم الفلسفي ط3/ 1979. دار الثقافة الجديدة. المجلات والدوريات: مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية كلية الشريعة جامعة الكويت. أعمال ندوة ابن رشد: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط 1978. العلوم الإسلامية: جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية قسنطينة - الجزائر 1407. مجلة الفقه المالكي والتراث القضائي بالمغرب عدد 5-6.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات: تقديم: 5 تمهيد في معنى المقاصد ونظرية المقاصد 21 الباب الأول: المقاصد قبل الشاطبي 25 الفصل الأول: فكرة المقاصد عن الأصوليين أ- حلقات مبكرة: الترمذي الحكيم "26" -أبو منصور الماتريدي "28" -أبو بكر الشاشي القفال "28" -أبو بكر الأبهري "29" -أبو بكر الباقلاني "30"2- الحلقات الشهيرة: الجويني "33" -الغزالي "37" -الرازي "41" -الآمدي "42" -ابن الحاجب "44" -البيضاوي "45" -الأسنوني "45" -ابن السبكي "47" - ابن عبد السلام والقرافي "50" -ابن تيمية وابن القيم "52" 57 الفصل الثاني: فكرة المقاصد في المذهب المالكي 57 - ما المقصود بالمذهب المالكي؟ 63 - أصول المذهب المالكي والمقاصد 1- المصلحة المرسلة 73 2- سد الذرائع 79 3- مراعاة مقاصد المكلفين 87 الباب الثاني: الشاطبي ونظريته 89 الفصل الأول: تعريف بالشاطب 90 1- خلاصة ترجمة الشاطبي: شيوخه "91" -تلاميذه "92" -مؤلفاته "93" 97 2- الشاطبي يتحدث عن نفسه: معالم في مسيرته العلمية "98" -محنته "101" 106 3- مراسلات الشاطبي 123 الفصل الثاني: عرض النظرية 124 تعليل الشريعة 124 تقسيمه للمقاصد إلى قسمين، والقسم الأول إلى أربعة أنواع: 125 النوع الأول: قصد الشارع في وضع الشريعة 129 النوع الثاني: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام 130 النوع الثالث: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها 135 النوع الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة

143 القسم الثاني: مقاصد المكلف في التكليف 149 خاتمة الكتاب: بماذا تعرف مقاصد الشارع؟ 151 الفصل الثالث: أبعاد النظرية 152 1- الضروريات الخمس 161 2- مسائل المباح 170 3- الأسباب والمسببات 181 الباب الثالث: القضايا الأساسية في نظرية الشاطبي 185 الفصل الأول: مسألة التعليل؟ 185 أحكام الشريعة بين التعليل والتعبد: 200 المنكرون للتعليل 209 موقف الرازي من التعليل 216 ابن حزم والتعليل 233 الفصل الثاني: المصالح والمفاسد 233- مفهوم المصلحة والمفسدة 241 - إدراك المصالح بالعقل 258 - مجالات العقل في تقدير المصالح 258 1- التفسير المصلحي للنصوص 263 2- تقدير المصالح المتغيرة والمتعارضة 268 3- تقدير المصالح المرسلة 271 الفصل الثالث: بماذا تعرف المقاصد؟ 271 1- فهم النصوص وفق مقتضيات اللسان العربي 273 2- الأوامر والنواهي 275 3- المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية 281 4- سكوت الشارع 283 5- الاستقراء 291 الباب الرابع: تقييم عام لنظرية الشاطبي 282 الفصل الأول: نظرية المقاصد بين التقليد والتجديد 292 1- جوانب التقليد: 293 - استفادته من الأصوليين 298 - استفادته من المذهب المالكي 310 2- جوانب التجديد: 313 - التوسع الكبير

316 - مقاصد المكلف 317 - بماذا تعرف مقاصد الشارع 318 - تقديم ثروة من قواعد المقاصد 324 الفصل الثاني: المقاصد والاجتهاد 326 - المقاصد وشروط المجتهد 335 1- النصوص والأحكام بمقاصدها 342 2- الجمع بين الكليات العامة والأدلة الخاصة 347 3 جلب المصالح ودرء المفاسد مطلقًا 353 4- اعتبار المآلات 357 خاتمة: آفاق البحث في المقاصد 361 فهرس الأعلام: 371 المصادر والمراجع: 381 فهرس الموضوعات:

§1/1