نظرة المستشرقين للسنة النبوية المطهرة (شبهات وردود)

مثنى الزيدي

(المستشرقون والسنة النبوية)

نظرةُ المستشرقينَ للسنَّةِ النبويَّةِ المطهَّرَةِ " شبهاتٌ وردودٌ " بقلم الشيخ مثنى الزيدي المشرف العام على موقع العلم الشرعي الحمد لله مفلج الحق وناصره، ومدحض الباطل وماحقه، الذي اختار الإسلام لنفسه دينا، فأمر به وأحاطه، وتوكل بحفظه وضمن إظهاره، ثم اصطفى من خلقه رسلا ابتعثهم بالدعاء إليه، وأمرهم بالقيام به والصبر على ما نابهم فيه من جهلة خلقه، وامتحنهم من المحن بصنوف، وابتلاهم من البلاء بضروب، تكريما لهم غير تذليل، وتشريفا غير تخسير، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، فكان أرفعهم عنده درجة أجدَّهم ثباتا مع شدة المحن، فصلى الله على نبينا محمد وعلى الأنبياء أجمعين وال بيته الطيبين وصحابته الطاهرين ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وبعد: (المستشرقون والسنة النبوية) كان للمستشرقين دورا في قذف الشبهات حول السنة النبوية المطهرة وذلك للتشكيك في صحتها، كونهم على علم بأنَّ السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع، فإذا استطاعوا ذلك فان الطريق مأمونٌ للتشكيك بالقرآن الكريم الذي هو المصدر الأول من مصادر هذا التشريع. تتصدَّرهم من الداخل طلائع التنويريين المتأثرين بالغرب، ومن الخارج جحافل المستشرقين، كل ذلك ما كان له ذِكْر في عالم الحقيقة لولا طرق الدعاية وسبل النشر التي حضيت بأعلى الاهتمامات الغربية والى يومنا هذا. ولكن هل وُفِّقت هذه العصبة في تحقيق أهدافها؟ يكفي في الجواب على هذا السؤال أنَّ جامعة "لندن" وكذلك جامعة "كمبردج" لم توافقا على أن تناقَش أيَّ اطروحة لدراسة ونقد كتاب المؤلف "شاخت" المسمى "اصول الشريعة المحمدية"، ذلك الكتاب الذي يعتبر من ابرز ما كُتب في الطعن بالسنة النبوية والتشريع الإسلامي، بل ويعتبر أساسا لكل دراسة عن الإسلام وشريعته، على الأقل في العالم الغربي كما قال البروفسور " جب ". وهذا ما وقع بالفعل، فقد طُرد احد الأساتذة في جامعة "أكسفورد" بعدما لخَّص آراء شاخت في الفقه الإسلامي ونقدها بأدلة دامغة وواضحة، فَلِمَ الطرد إذا ولجت شبهاتهم في أبواب الحقيقة؟ إنَّ هذا يدل دلالة قاطعة على أنها لا تعني إلا العجز عن المزاولة العلمية والمطاولة المعرفية لإظهار الحقيقة بصفائها العذب. وتبقى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، سنة خاتم الانبياء تقتاء الطاعنين فيها كما يقتاء احدنا عن معدته ما فسد من الطعام فلم تستطع ان تهضمه.

شبهة العادة المقدسة والدحض الحتمي

شبهة العادة المقدسة والدحض الحتمي من هذه الشُبَه المقذوفة بين طرفي المنازلة المنكَفئ، بين السنة النبوية المطهرة وبين اعدائها "شبهة العادة المقدسة"، وهي للمستشرق "جولد تسيهر" حيث زعم هذا المستشرق ان السنة النبوية هي جوهر العادات، وأنه تفكير الامة الإسلامية قديما، وتسمى بالعادة المقدسة والأمر الأول، كذلك فهو يصفها بأنها "العواطف القائمة مقام غيرها" كل هذا جاء في الكثير من الكتب والدراسات حول الاستشراق، ومنها كتاب "المستشرقون ومصادر التشريع الاسلامي" وكتاب "المستشرقون والسنة" الى غير هذه المؤلفات، والعرب هم من نقل السنة إلى الإسلام، فأوهم الإسلامُ -كما يقولون هم- الداخلينَ فيه أنَّها سنة جديدة من دون تراكمات سابقة وعادات بالية، ويدَّعون بان المسلمين اخذوا ينتهجون منهجا جديدا من الأقوال والأفعال ويضعونها في المحل الأول أو تلك التي صحت عن الصحابة ويضعونها في المحل الثاني، حتى قالوا أنَّ السنة هي أصلا لما كان معروفا سابقا قبل الإسلام. هذه هي شبهة واحدة من شبهاتهم الواهية، حيث أن التناقض موجود والوهم حاصل في ثنايا كلامهم. وتُذكِّرُنا الطبيعة الجوهرية لهذه الشبهة بالشبهة التي زعمت أن بني امية ادخلوا في السنة النبوية المطهرة ما ليس منها وجعلوه سنة نبوية، ويبدو لنا ان الشبهتين متقاربتين في لفظهما،،، لكني اقول انهما متقاربتان في بطلانهما ايضا. فإذا كان تفيهُقُهُم صحيحا-على فرض التسليم- فهذا لا يعني ذلك انَّ الأشياء المسنونة سميت فيما بعد بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إنَّ حقيقة السنَّة عند المسلمين متجوهرة في الطاعة المفروضة للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس في اللفظ اللغوي الذي انتزعوا منه حقيقة اقدميته، فلا يشك احدٌ أنَّ السنة لها معانٍ في اللغة متعددة. حتى أن الأمر البياني في القرآن الكريم لم يأمر بإطاعة السنة بل أمر بإطاعة الرسول لأنها هي الأصل المتجوهر في الاعتقاد والمعرفة المكنونة في الفؤاد. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} النساء: 59. وقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر: 7. ثم ذكر في آية اخرى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)} التغابن: 12. فهل أمر تعالى بطاعة السنة؟ أم أمَرَ تعالى بطاعة صاحبها صلى الله عليه وسلم؟ فأين الفائدة الاستشراقية اذاً في اللعب على أوتار المصطلحات التي لا مَشاحة فيها؟ مع العلم بأن "جولد تسيهر" لم يكن الوحيد الذي حاول تلك المحاولات، بل شاركه "مارغليوث" حين أرجع معنى السنة إلى العرف القائم، ووافقه على ذلك "شاخت" وسماها بالأعراف السائدة وغيرهم على مر العصور.

وتزيد الوقائع الحيَّة تأكيدا لنصاعة الآيات القرآنية وكفايتها في الرد على تهافت هؤلاء، ففي مسند الإمام احمد عن سَالِمٍ قَالَ: (كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُفْتِي بِالَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الرُّخْصَةِ بِالتَّمَتُّعِ وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ فَيَقُولُ نَاسٌ لِابْنِ عُمَرَ كَيْفَ تُخَالِفُ أَبَاكَ وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ وَيْلَكُمْ أَلَا تَتَّقُونَ اللَّهَ إِنْ كَانَ عُمَرُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فَيَبْتَغِي فِيهِ الْخَيْرَ يَلْتَمِسُ بِهِ تَمَامَ الْعُمْرَةِ فَلِمَ تُحَرِّمُونَ ذَلِكَ وَقَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ وَعَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا سُنَّتَهُ أَمْ سُنَّةَ عُمَرَ؟ إِنَّ عُمَرَ لَمْ يَقُلْ لَكُمْ إِنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ حَرَامٌ وَلَكِنَّهُ قَالَ إِنَّ أَتَمَّ الْعُمْرَةِ أَنْ تُفْرِدُوهَا مِنْ أَشْهُرِ الْحَجًًًًِّ). وقد علَّق الدكتور سعد المرصفي في كتابه " المستشرقون والسنة النبوية" على ذلك بقوله:"وهذا القول من ابن عمر فصل في القضية، حيث مايز بين قضيتين مختلفتين تماما، اثبت للاولى حق الإتباع ولو كان العرف الشائع أو تقاليد المجتمع هما السنة". قال الشيخ العلامة احمد شاكر: "فلم يكن إتباع المسلمين لسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن عادة اتباع الآباء ... أمر الله الناس بإتباع الحق حيثما كان، وأمرهم باستعمال عقولهم في التدبر في الكون وآثاره ... " إلى آخر ما قال رحمه الله. وهذا يتقارب مع ما قيل في ان السنة النبوية حُرِّفت في الازمنة التي تلت زمن الصحابة رضي الله عنهم، وهذا باطل، لا يصدقة عاقل. الجمع والتدوين الرسمي لم يقبل أي كلام أو خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يكون محفوظا في الصدور قبل السطور، فهي مراحل وليست مرحلة واحدة، هل تتعاقب كلها شرقها وغربها متواطئة على الكذب؟ ثم أن التدوين لم يتوقف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بشكل نهائي بل ثبت عن جمع كبير من الصحابة ان النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بكتابة بعض الاحاديث، ونقل الامام ابن حجر الاجماع على ذلك كما قال "الشواط حسين" في "حجية السنة" بالادلة الصحيحة. ولا شك أن أدلة الإذن أكثر وأرجح، ورغم ذلك، فقد سلك العلماء مذهب الجمع بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن، لأن إعمال الأدلة جميعها، أولى من إهدار بعضها، وايضا مما قيل في هذا الشأن: أن أحاديث النهي متعلقة بمن لا يخاف النسيان، خشية أن يتكل على الكتابة فيضعف حفظه، وهذا مما ينزل من مرتبته، لأن حفظ الصدر، كما قرر علماء الأصول، أرجح من حفظ الكتاب، وأما أحاديث الإذن، فهي متعلقة بسيئ الحفظ، مخافة أن ينسى شيئا مما سمعه.

وأن النهي متعلق بكتابة القرآن مع الحديث في صحيفة واحدة، والإذن متعلق بالفصل بينهما، ولعل هذا من الأسباب التي من أجلها ورد النهي أولا، مخافة أن يختلط القرآن بغيره كما قال العلماء، حتى إذا ما أتقن الناس القرآن وميزوه عن غيره، زال سبب النهي فزال حكمه، وعلى هذا يمكن تخريج قول عمر رضي الله عنه لقرضة بن كعب، رضي الله عنه، وأصحابه لما خرج يشيعهم إلى العراق: "إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جودوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". فعمر، لم ينههم عن التحديث مطلقا، كما حاول بعض المغرضين أن يروج لهذه الشبهة ليصد الناس عن تعلم السنة، وإنما أراد الإقلال من الرواية، لأن أهل العراق، ما زالوا حديثي عهد بإسلام، فلا ينبغي أن يشغلهم شاغل عن القرآن حتى يتقنوه، ولا مانع أن يتلقوا علوم السنة، مع القرآن، ولكن بجرعات قليلة، حتى لا يحدث الخلط بينها وبين القرآن، ومعلوم أن الجرعات العلمية القليلة، أنفع للمبتدئ في أي علم، ولذا نرى المبتدئين في أي علم يعمدون إلى مختصراته المبسطة، ثم يزيدون عليها شيئا فشيئا حتى يصلوا للمطولات، كما قرر ذلك ابن خلدون، رحمه الله، فقليل متصل، مع التركيز في فهمه وتدبره وحفظه خير من كثير منقطع بلا فهم أو تدبر، وما جاء جملة واحدة فإنه يذهب جملة واحدة. ثم جاء إجماع الأمة القطعي بعد قرينة قاطعة على أن الإذن هو الأمر الأخير، وهو إجماع ثابت بالتواتر العملي، عن كل طوائف الأمة بعد الصدر الأول، رضي الله عنهم أجمعين. والجدير بالذكر انه قد سلك العلماء مسلك الجمع بين هذا الراي وذاك، ولكن القول التي تواترت الامة عليه وأطبقت هو ان التدوين مر بمراحل عديدة لم تكن إلا مراحلا محكمة ومعتمدة على العدول وهم خيرة الناس بعد الانبياء والرسل وهم الصحابة صحابة محمد خير الانبياء وخاتمهم. قال بعض العلماء:" ... وفي هذا العصر لم يكن لعلم الجرح والتعديل وجود، لأن عدالة الصحابة المطلقة لا يلزم معها البحث في أحوال الرواة، خلاف من ادعى ردة القوم إلا عددا يسيرا فنسف مخارج السنة نسفا، لأنه اسقط أول حلقة في سلسلة رجالها، ولازم هذا القول الخبيث عدم صحة القرآن الذي بين أيدينا، فهم نقلة الاثنين، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وإلى اليوم ما زال شيوخهم يُفتون بل ويصنفون ما يروج لهذه الفرية الشنيعة التي لا يرضاها عاقل سَوي". ومن اهم ما كتبه الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من المدونات الفردية هي:- الصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، وقد اشتملت على 1000 حديث، وكتاب سعد بن عبادة، وكتاب سعد بن معاذ، وكتاب عمرو بن حزم في الديات، ولعلي بن ابي طالب كرم الله وجهه وغيرها. يتضح بذلك أنَّ المسلم والمؤمن الحق في عين النبي صلى الله عليه وسلم وتشريعه الحي هو المتبع لما جاء به هذا النبي عليه الصلاة والسلام ولو كان ما جاء به ينافي عقيدة الاباء والاجداد، فما بالك اذا كانت هذه العقيدة من العقائد التي نهى الله تعالى عنها وحذَّر منها؟.

سلسلتان ... احداهما منقطعة

ومن امن بكتاب الله فقد امن بسنة رسول الله على سواء لان السنة والقران مصدران من مصادر التشريع وصلت الينا بطريق النبوة الخالص دون غيره. فقد روى الحاكم في المستدرك عن الحسن البصري قوله: بينما عمران بن حصين يحدث عن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم إذ قال له رجل: يا أبا نجيد حدثنا بالقرآن فقال له عمران: أنت وأصحابك يقرؤون القرآن أكنت محدثي عن الصلاة وما فيها وحدودها أكنت محدثي عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال؟ ولكن قد شهدت وغبت أنت ثم قال: فرض علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة كذا وكذا، فقال الرجل: أحييتني أحياك الله قال الحسن: فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين. فهذه هي الحقيقة في منزلة السنة النبوية المطهرة، وانَّ الباحث ليجد ان الفقهاء وصلوا الى مرتبة تارك السنة النبوية والمكتفي بما في الكتاب الى درجة الكفر اعاذنا الله من ذلك. ألم يقفوا في كتاب الله وهم يدَّعون انهم اهله عن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} الأحزاب: 36. زد على هذا ما قدَّمنا من الآيات البينات التي ما دلَّت على امر كدلالتها على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه واله وسلم. ولقد قدم علماؤنا افدح مهر في درب الحفاظ على السنة المطهرة، فيلمح المؤمن عند ذلك وفي قلب الدياجي رايات نصر وعلامات بشر في ان الشريعة محفوظة لن تنال منها سهام اخطأت ولم تصب. سلسلتان ... احداهما منقطعة عندما يقذف البركان حماه في لهيب الصيف وسباسبه المشتعلة بنار الشمس، تتسلسل الحمم ولن تتوقف بعدها، بين الحين والاخر تراها قاذفة لها، بالضبط كالشبه المقذوفة، لن تتوقف ابدا في الطعن بهذه السنة النبوية الناصعة. وامام هذه السلسلة هناك سلسلة اخرى لا يمكن للأنظار ان تغفل عنها، تميَّزت سنة النبي صلى الله عليه وسلم بها، ألا وهي اسنادها المتصل، فالسنة النبوية متصلة، مبتداها من رب العزة والملكوت رب العالمين جلَّ جلاله متصلة الى صاحبها عليه الصلاة والسلام ومنتهاها حتى اخر مسلم على وجه الارض يسمع شيئا من هذه السنَّة المحمدية ويَعيها ويعمل بها، وهكذا الى ان تقوم الساعة، يوم تقوم الارض ومن عليها. ولبقاء الاسناد المتصل حيا ينبض بنبراس السنة النبوية المطهرة جعل الله تعالى في قلب حكمته اصحابا للنبي عليه الصلاة والسلام يحملون اسمى صفة لحاملي الامانة وهي صفة العدالة الغرّاء التي تمتع بها الصحابة جميعا دون استثناء، رضي الله عنهم وارضاهم. ولهذا كان من اهداف اهل الزندقة قديما وحديثا الطعن بالصحابة-الذي ربما سنتكلم عنه بتفصيل قادم-، وسبب هذا الطعن لانهم الناقلة لهذه السنة باعمق امانة، فاذا طعنوا بالناقلة بطل المنقول، وهذا ما ذكره كبير اهل الزندقة يوم ان جاء به هارون الرشيد ليضرب عنقه في بغداد، كما جاء في تاريخها. فالسلسلة الاولى إذاً هي سلسلة الاسناد المتصل.

يعرف العلماء الإسناد بأنه سلسلة رواة الحديث النبوي الشريف الموصلة-يعني السلسلة-الى المتن، فهو اذا الطريق الى نص الحديث. والمتن -كما هو معلوم- هو نص الحديث النبوي الشريف الذي حدَّث به النبي صلى الله عليه وسلم اصحابه وال بيته رضي الله عنهم وامرهم بتبليغه وهو كلُّ ما اضيف الى النبي من قول او فعل او تقرير او صفة خَلْقية أو خُلُقية. فاعتمد العلماء في قبول الحديث وعدم قبوله وفي صحته وعدم صحته وفي اخذه وردِّه، اعتمدوا في ذلك كله على الاسناد، ووصف باوصاف كثيرة من قبل المسلمين وكذلك من قبل الطاعنين. فالاسناد هو القوائم الذي قامت عليه جهود حفظ السنة كما وصفه ابن المبارك رحمه الله، وزاد على ذلك ايضا بمقالته المشهورة بان الاسناد من الدين ولولا الاسناد لقال من شاء في دين الله ما شاء. ولا يبعد الشافعي على هذا عند وصفه بان الاخذ للسنة من دون اسناد كالمحتطب في الليل، يحتطب ليلا والافعى في حطبه. فلا تكاد تجد سنة محفوظة لاحد كحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما لم يدعه المسلمون لانفسهم وحدهم، حتى ان فلاسفة اليهود اعترفوا بذلك، والمنصفون ايضا قد بانت امام اعينهم تلك الحقيقة، وقد نقل الشيخ عبد الفتاح ابو غدة في كتابه "الاسناد من الدين" قول ذلك العالم الالماني المدعو "شبرينجر" فقال: "ان الدنيا لم تر ولن ترى امة مثل المسلمين فقد درس بفضل علم الرجال الذي اوجدوه حياة نصف مليون رجل". وهذا جاء نقلا عن مقدمة القائل الالماني على كتاب "الاصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر العسقلاني رحمه الله. فالشمس والقمر لا يُحجبان بحاجب الاهواء، أفتحجب السنة بحاجب الاقوال؟ فقد قيل وقيل، ولكن ... أنَّى للاقوال ان تغلب الحقيقة من دون حق، وهذا لا يحتاج منا الى بيان، وما بياننا امام بيان الله تعالى، وهو الواحد الديان المتكفل بحفظ السنة والقران في كل زمان ومكان. كان ابو بكر احمد بن اسحاق الفقيه يحدِّث في مناظرته لرجل، فقال له الرجل دعنا من حدثنا، الى متى حدثنا؟ فزجره الشيخ وطرده من بيته واشهد من يجالسه بانه لم يطرد احدا من بيته سواه. فما من شيء اثقل على اهل البدع ولا ابغض اليهم من سماع الحديث وروايته باسناده، وهذا قول الامام الحاكم نقلا عن احمد بن سلام الفقيه. وهو وارد لمن اراد الطعن بالسنة، فانهم يعلمون انه لا يمكن لطعنهم ان ينفذ من قوسه بقيام الاسناد وقيام اهله القائمون اليه، فما بال طلبة العلم عنه منشغلون والناس عنه معرضون. فقد احتفظ العلماء باسانيد كل الاحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وحتى يومنا هذا، ولن يعترفوا بحديث كان في اسناده خلل وعلَّة ابدا، او لم يكن له اسناد اصلا، وما حاز علم من علوم الشريعة على جهودِ علماءٍ كما حازت السنة النبوية الشريفة.

فلو لم تكن هذه الخصائص لتساوت السنة مع الخرافات والروايات والقصص والاقوال التي تنتشر هنا وهناك، وكما قال ابن المبارك لقال من شاء في دين الله ما شاء، وفعلا، لكانت السنة النبوية ما قالته الاشخاص، اينما كانوا وكيفما كانوا، وحاشا لله تعالى ان يجعل مصادر التشريع في دينه الاسلام خاتم الاديان عبارة عن اقوال واوهام بين شفاه الحاقدين، وهم قد عاصروا السنة من اول يوم لها وكانوا لها اعداء. لو اراد احدنا -مثلا- حفظ وصية يتعلق بها مال أو متاع زائل، او ايَّ شيء آخر، لما أودعها الا بيد من يصونها ويعتقد به اهلية حفظها، دون ان تصل اليها ايادي الاخرين ايَّا كانوا، ولربما تكون ليس لها اهمية، أو لم يتعلق بها كثير من المال، فما بالك بمصدر من مصادر تشريع هذا الدين؟ افيعجز من بيده ملكوت السموات والارض ان يحفظ دينه الذي انزله؟ بل تكفَّل بحفظه بعد أن انزله وشرَّعه؟ حاشا لله تعالى ذلك. ومما يدعو للاطمئنان والابصار بعين اليقين والايمان ان الله لم يتكفل بحفظ دينه فقط، وانما سخَّر جهودا كانت بالأمس قد طعنت ثم بعد ايّأم من التفكير اذعنت، ولا ينسى احد اسراب العائدين ولسان حالهم يقول ويردد: كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل ومنهم "وينسيفك" الذي قاد بنفسه حملة الرد على من زعم تشويه ائمة الحديث النبوي واعلن عن صدق نَقَلَتِهِ، واجاد في ذلك بدلائل بينت الادوار التي قام بها اهل الحديث رحمهم الله تعالى. بهذه السلسلة التي لم ولن تنقطع يوما بإذن الله تعالى ترى العبادة الموحدة للمسلمين، وهم مبتعدون البيئة الجغرافية، فالمصلي في جنوب الشرق يتوحد بالعبادة مع مصلي في شمال الغرب، فكيف يقولون انما جاءت السنة نتيجة للتطورات البيئية، لماذا لم تختلف العبادة اذا والمصلي في جنوب الصومال وهو جائع يصلي على الارض ثم يلتحفها من فقره، وترى اخاه في امريكا يصلي في الطائرة او المطار او البارجة؟ فهل التطور البيئي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم اشد من تطورنا اليوم؟ لا ... لكنها تناقضاتهم تتواصل فزعا بالحقيقة وهي تسير في قلوبهم ومع سيرها تنادي الحيارى ان هلموا معنا. يروي الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين قوله: " لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم فينظر الى اهل السنة فيؤخذ قولهم وينظر الى اهل البدع فلا يؤخذ حديثهم ". وليس هذا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بفترة طويلة وإنما حدث هذا في زمن ابي بكر رضي الله عنه فهو اول من الزم الرواة بذكر أسانيدهم، فسنَّ رضي الله عنه امر التثبت من الراوي، فلم يقبل حديث اي صحابي يرفعه الى النبي عليه الصلاة والسلام حتى يشهد معه غيره بانه سمعه من النبي عليه افضل الصلاة واتم التسليم، وليس على هذا سار علماء الجرح والتعديل "علماء الحديث" وانَّما تعدوا ذلك الى انهم زادوا شروطا لا يسلم منها وضَّاع ابدا مهما جاء من وسيلة. والتاريخ الصحيح نقل الينا ان علم الحديث لم تؤثر به السياسات المختلفة على ارض الواقع لان علماء الحديث لم يكونوا يتبعون ايا منها، كان الحديث مستقلا باستقلال علمائه.

علما ان رقعة وجود العلماء اتسعت مع اتساع رقعة البلاد المسلمة فلم يكونوا متجمعين لوحدهم في اقليم واحد ليستطيعوا وضع حديث من انفسهم، فان كان البعض من العلماء يوالون البعض من الامراء -كما يدعي المستشرقون-فاين علماء الحديث الاخرين في عموم بلدان المسلمين وقد ترامت اطرافها؟ ثم لا ننسى انَّ قواعد العلماء في نقد الحديث لم يشهد لها التاريخ العلمي مثيلا ابدا، ويا لها من قواعد كانت بالفعل بحجم ما وضعت له "وهي احاديث النبي صلى الله عليه وسلم". كانت قواعدهم مستحكمة لامرين اثنين وخطوتين مهمتين، الخطوة الاولى متعلقة بالسند، وهو الذي قدمنا الكلام عنه وهو السلسلة المتصلة للرواة، والخطوة الثانية تعلقت بالمتن وهو النص النبوي، وقد سبق تعريفهما. ففي كل الرواة في السند اشترط العلماء شروطا وضوابطا عديدة، كالعدالة والضبط والحفظ والسماع، هذا في كل راو من رواة السلسلة في السند. واما المتن فقد وضعوا لها خمسة عشر قاعدة لقبوله، وهذه القواعد يطول المجال لذكرها، كانت هذه القواعد عميقة وكافية، ناهيك عن القواعد الاضافية التي وضعوها كالاضطراب والعلة والشذوذ، وكذلك القلب والغلط والادراج، وهي مصطلحات حديثية يعرفها اهل الحديث جيدا. ولا تعجب من غاية الاحتياط في دين الله عندما جعلوا احاديث الاحاد لا تفيد القطع وانما افادت الظن مع وجوب العمل بها كما قال علماء الحديث رحمة الله عليهم. ولا يبقى الا سلسلة ثانية، هي سلسلة الشبه المقذوفة، هي باقية ما بقي القاذفون لكن حقيقتها انها منقطعة في الروح والحق والتأثير. فقل يا اخي القاريء أين نذهب بشبهاتهم المدحوضة؟ وقُلِّي في أي بحر غاصت عقولهم المتبلدة من التفكير بما دعى إليه العظيم الكبير من التشنيع على المستنين بدين الآباء والأجداد؟ ولنعلم بعدها ان هذه الشبه العقيمة ليست نهاية أوحالهم بل هي في مستنقع آسن.

_ المصادر:- 1 - صريح السنة، للإمام الطبري. 2 - الاستشراق، د. مازن بن صلاح مطبقاني. 3 - رؤية إسلامية للاستشراق، احمد عبد الحميد غراب. 4 - الاستشراق والدراسات الإسلامية، د. عبد القهار العاني رحمه الله. 5 - الاستشراق والخلفية الفكرية، محمود زقزوق. 6 - المستشرقون والسنة النبوية، د. سعد المرصفي. 7 - السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي. 8 - مسند الإمام احمد، ط2،مؤسسة الرسالة، تحقيق شعيب الارنؤوط. 9 - حجية السنة، حسين الشواط.

§1/1