نظرات في التربية الإيمانية

مجدي الهلالي

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن يا كريم المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فهب أنك - أخي القارئ - قد عُدت إلى منزلك في يوم من الأيام فوجدت رجلًا في انتظارك وبصحبته زوجته وأولاده، ومعه رسالة من أحد أصدقائك الذين لا يمكنك أن ترد لهم طلبًا، يخبرك فيها بأن حامل رسالته أخ لك في الله، قد تعرض لمحن وابتلاءات كثيرة، وهو الآن بلا مال ولا مأوى، وعليك أن تستضيفه وعائلته في منزلك، وأن تقتسم معه مالك، وطعامك، فضلًا عن مسكنك، وليس لهذه الاستضافة مدة معلومة، فقد تمتد شهورًا أو سنين ... فماذا تتوقع أن يكون رد فعلك تجاه هذا الأمر؟! هل ستكون سعيدًا بهذه الرسالة وما تحتويه؟ أم سيضيق صدرك ويشتد غمك، فالراتب لا يكفي إلا بالكاد، والمسكن يضيق بأفراد الأسرة، فكيف سيكون الحال لو تم اقتسام الراتب والمسكن بينك وبين أخيك؟ وحتى إن كنت موسرًا؛ فمن يتحمل أن يتعايش مع أُناس لا يعرفهم ولا يعرف طباعهم وأسلوب حياتهم؟ لا أكتمك القول - أخي - بأنني قد تخيلت نفسي في هذا الموقف، فتوقعت مقدار الحرج الذي سيصيبني، ومدى الضيق الذي قد يتولد في صدري والذي قد يزيد بطول مدة الاستضافة، ومن المتوقع أن تدور أمنيتي وقتها حول إمكانية كون هذا الرجل قد أخطأ في العنوان، وأن المقصود شخص آخر غيري، وقد أُسارع بالاتصال بمن كتب الرسالة محاولًا التملص من هذا العمل، وأتعلل بظروف كثيرة تحول بيني وبين استضافة هذه الأسرة، وإن وافقت على استضافتها فستكون موقوتة بمدة محددة، وسأجتهد في أن تكون هذه المدة قصيرة قدر الإمكان ... هذا الموقف - الذي نتمنى ألا نتعرض له - قد تعرض له الأنصار في صدر الدعوة، فلقد خرج المهاجرون فارين بدينهم من مكة تاركين فيها ديارهم وأموالهم، وتوجهوا إلى يثرب تنفيذًا لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. هاجروا إليها دون أن يكون لهم فيها مأوى، ولم يكن معهم من الأموال ما يُمكنهم من الإنفاق على أنفسهم، أو اقتناء مساكن تؤيهم، وفي المقابل كان أهل المكان من الأنصار فقراء، فضلًا عن أنهم لم يكن بينهم وبين المهاجرين سابق صلة أو معرفة، ومع ذلك كان عليهم أن يستضيفوا إخوانهم المهاجرين استضافة كاملة .. فماذا كان تصرفهم تجاه هذا الأمر؟! تُجيبنا كتب السيرة بأنهم كانوا في سعادة غامرة بتلك الاستضافة إلى حد تسابقهم وتنافسهم فيما بينهم للفوز بكل مهاجريّ يصل إلى المدينة .. هذا التسابق والتنافس الذي كان على أشُده جعلهم يلجأون إلى إجراء القرعة لتحديد الفائز باستضافة الوافد الجديد .. نعم، لقد حدث هذا، حتى قيل: ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة. ولعلك - أخي القارئ - تعجب من هذا التصرف الذي نعجز عن القيام به، ولعلك كذلك تتساءل معي: ما الذي جعلهم يصلون إلى هذا المستوى، وهذا السلوك الذي يفوق طاقات احتمال البشر؟ يُجيب القرآن على تساؤلاتنا، ويبين لنا السبب الذي دفع هؤلاء الأنصار لهذا الإيثار العظيم مع فقرهم وشدة حاجتهم وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ... } [الحشر/9]. فالآية الكريمة تصف هؤلاء بأنهم تبوءوا الدار: أي استوطنوا يثرب قبل مجيء المهاجرين، وتقول عنهم الآية كذلك بأنهم استوطنوا الإيمان .. ولكن كيف يُستوطن الإيمان؟! أليس من المعلوم أن الإيمان هو الذي يدخل القلب؟!

نعم هو كذلك، ولكن من شدة تمكُّن الإيمان منهم: فكأنهم هم الذين دخلوا فيه واستوطنوه، والدليل على ذلك هو هذا الفعل العجيب: الإيثار مع الحاجة .. الأمر إذن واضح؛ إن أردنا سلوكًا صحيحًا، واستقامة جادة، وأخلاقًا حسنة، فعلينا بالإيمان، فكلما ازداد الإيمان انصلح القلب، فتحسنت الأفعال. ولكي يصبح الإيمان راسخًا في القلب ومهيمنا عليه لابد من ممارسة أسباب زيادته، وتعاهد شجرته حتى تنمو في القلب وتزهر وتثمر ثمارًا طيبة بصورة دائمة. أو بعبارة أخرى: نحتاج ممارسة «التربية الإيمانية» مع أنفسنا، ومع كل من نتولى أمر تربيته إن أردنا الإصلاح الحقيقي لأنفسنا وأمتنا. فإن قلت: وكيف لنا أن نفعل ذلك؟! كانت الإجابة بأن هذه الصفحات التي بين يديك - أخي - تُعطيك صورة عامة عن ذلك، فهي بمثابة مبادئ وإشارات حول التربية الإيمانية من حيث: ثمارها، وأهدافها، وحقيقتها، وجناحيها (أعمال القلوب، وأعمال الجوارح) وإن شئت قلت: الإيمان، والعمل الصالح .. نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا بفضله وكرمه كل خير أفاض به علينا في هذه الصفحات، وأن يغفر لنا زلَّاتنا، وألا يحرمنا - بجوده - الأجر إن أصبنا أو أخطأنا (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا).

الفصل الأول ضرورة التكامل التربوي عند المسلم ومكانة التربية الإيمانية منه

الفصل الأول ضرورة التكامل التربوي عند المسلم ومكانة التربية الإيمانية منه

المكونات الأربعة

الفصل الأول ضرورة التكامل التربوي عند المسلم، ومكانة التربية الإيمانية منه * المكونات الأربعة: خلق الله عز وجل الإنسان بتكوين يشمل أربعة جوانب رئيسية هي: العقل، والقلب، والنفس، والجسد. وعندما يبدأ الإنسان رحلته على الأرض منذ نزوله من بطن أمه، فإنما يبدأها بهذه المكونات الأربعة وهي غير مكتملة النمو، فقد جعلها - سبحانه - تبدأ صغيرة محدودة الإمكانات، وأودع فيها خاصية النماء: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل/78]. هذه الجوانب الأربعة تحتاج إلى دوام تعاهد وإمداد يترك فيها أثره الدائم في اتجاه تحقيق الهدف من وجود الإنسان على الأرض ألا وهو: تحقيق العبودية الصحيحة لله عز وجل. ولكي يظهر الأثر الإيجابي الدائم في كل من هذه الجوانب كان من الضروري سلوك طريق التربية. فالتربية كما يقول الإمام البيضاوي: هي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا (¬1)، ويمكن تعريفها كذلك بأنها الأداة التي تقوم بإحداث تغيير أو أثر دائم في الشيء. لذلك فإن من أهم أهداف التربية الإسلامية الصحيحة هو: إحداث أثر إيجابي دائم في المكونات الأربعة للإنسان، ينتج عنه تغيير حقيقي في ذاته ليشمل: المفاهيم والتصورات في العقل، وإصلاح الإيمان في القلب، وتزكية النفس وترويضها على لزوم الصدق والإخلاص والتواضع ونكران الذات. ويشمل كذلك ضبط حركة المرء والتعود على بذل الجهد في سبيل الله عز وجل، لتكون ثمرة هذا التغيير - في هذه المحاور - تنشئة المسلم الصالح المصلح الذي تتأسس عليه الأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم ... ضوابط التربية: هناك عدة أمور ينبغي مراعاتها عند الحديث عن «التربية». وضرورتها في تغيير الفرد والأمة. أولًا: أن يتم تبنِّيها كثابت رئيسي ومتفرد للتغيير الحقيقي، فلئن كان تغيير وضع الفرد أو الأمة من السيئ للأحسن مرتبط بتغيير ما بالنفس كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد/11]. ¬

_ * يتم - بعون الله - عرض موضوع التكامل التربوي في هذا الفصل باختصار شديد كمدخل للتربية الإيمانية، فإن أردت - أخي القارئ - التعرف عليه بشيء من التفصيل فلك - إن شئت - أن تقرأ لكاتب هذه السطور كتاب «التوازن التربوي وأهميته لكل مسلم» والكتاب - بفضل الله - يوجد على موقع الإيمان أولُا. (¬1) «أصول التربية الإسلامية وأساليبها المختلفة» لعبد الرحمن النحلاوي ص (12)، دار الفكر.

فإن حدوث هذا التغيير يستلزم سلوك طريق «التربية» ... تأمل معي ما قاله الإمام المجدد حسن البنا، وهو يحكي عن تجربته في الدعوة حتى أيقن بضرورة التوجه نحو التربية لتغيير الفرد والأمة على منهج الإسلام، فيقول: طالعت كثيرًا، وجربت كثيرًا، وخالطت أوساطًا كثيرة وشهدت حوادث عدة، فخرجت من هذه السياحة القصيرة بعقيدة ثابتة لا تتزلزل، هي أن السعادة التي ينشدها الناس جميعا إنما تفيض عليهم من نفوسهم وقلوبهم، ولا تأتيهم من خارج هذه القلوب أبدا، وأن الشقاء الذي يحيط بهم ويهربون منه إنما يصيبهم بهذه النفوس والقلوب كذلك، وإن القرآن يؤيد هذا المعنى، ويوضح ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد/11]. اعتقدتُ هذا، واعتقدتُ إلى جانبه أنه ليس هناك نُظُم ولا تعاليم تكفل سعادة هذه النفوس البشرية، وتهدي الناس إلى الطرق العملية الواضحة لهذه السعادة كتعاليم الإسلام الحنيف الفطرية الواضحة العملية .. لهذا وقَفْتُ نفسي منذ نشأت على غاية واحدة، هي إرشاد الناس على الإسلام حقيقة وعملًا .. ظلت هذه الخواطر حديثًا نفسانيًّا، ومناجاة روحية، أتحدث بها في نفسي لنفسي، وقد أُفْضِي بها إلى كثير ممن حولي، وقد تظهر في شكل دعوة فردية، أو خطابة وعظية، أو درس في المساجد إذا سنحت فرصة التدريس، أو حثّ لبعض الأصدقاء من العلماء على بذل الهمة ومضاعفة المجهود في إنقاذ الناس وإرشادهم إلى ما في الإسلام من خير. ثم كانت في مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي حوادث عدة ألهبت نفسي، وأهاجت كوامن الشجن في قلبي، ولفتت نظري إلى وجوب الجد والعمل، وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه، والتأسيس بعد التدريس (¬1). و في موضع آخر يقول رحمه الله: إن الخطب والأقوال والمكاتبات والدروس والمحاضرات وتشخيص الداء ووصف الدواء .. كل ذلك وحده لا يُجدي نفعًا، ولا يُحقق غاية، ولا يصل بالداعين إلى هدف من الأهداف؛ ولكن للدعوات وسائل لابد من الأخذ بها والعمل لها. والوسائل العاملة للدعوات لا تتغير ولا تتبدل ولا تعدو هذه الأمور الثلاثة: 1 - الإيمان العميق ... 2 - التكوين الدقيق ... 3 - العمل المتواصل (¬2). ثانيًا: أن تستمر التربية ولا تنقطع أو تتوقف عند فترة معينة، لأن الأمر الذي استوجبها دائم لا ينقطع ولا يتوقف حتى الموت: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر/99]. تأمل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... } [النساء/136]. يقول محمد قطب معلقًا على هذه الآية: أي حافظوا على إيمانكم، استمروا فيه، لا تغفلوا عن المحافظة عليه .. لا تفتروا عن معاهدته ورعايته وتغذيته وتقويته والحرص عليه (¬3). ¬

_ (¬1) رسالة المؤتمر الخامس، من مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ص 116، باختصار. (¬2) رسالة بين الأمس واليوم، ص 108. (¬3) مكانة التربية في العمل الإسلامي لمحمد قطب، ص 26 - دار الشروق.

ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان يخلق في القلوب كما يخلق الثوب، فجددوا إيمانكم» (¬1). فمهما تقدم عمر المرء، ومهما ارتقى في سلم المسئولية، فلابد له من الاستمرار في التربية حتى يستمر قيامه بحقوق العبودية لله عز وجل. (إن القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان، وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور .. فإذا طال عليه الأمل بلا تذكير ولا تذكُّر، تبلد وقسا، وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم، فلا بد من تذكير هذا القلب .. ولابد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة) (¬2). وأما النفس فهي كالأسير الذي يحاول مقاومة الأسر، فإن أسَرْتَه فلابد من اليقظة الدائمة معه حتى لا يفلت منك ويأسرك ويجعلك طوع أمره. والعقل أيضًا يحتاج باستمرار إلى تزويده بالعلم النافع حتى تتسع مداركه، وتُفتح نوافذه، فتزداد معرفته بربه، وما يُقربه إليه {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. ثالثا: ومن الضوابط الحاكمة للعملية التربوية كذلك ضرورة أن تشمل التربية الجوانب الأربعة للشخصية، فأي إهمال لجانب منها يؤدي إلى عدم ظهور ثمرة التربية الصحيحة (فعندما يحصل اهتمام بتحصيل العلم، دون الاهتمام بزيادة الإيمان، فستكون النتيجة المتوقعة: شخص كثير التنظير، حافظا للنصوص، كثير الحديث عن القيم والمبادئ، والمعاني العظيمة، لكنك قد تجد في المقابل واقعًا يختلف عن الأقوال، فهو يتحدث عن العدل والمساواة، بينما لا يتعامل مع الآخرين بهذه القيم، وبخاصة مع من يرأسهم .. يتحدث عن الزهد في الدنيا وأهمية العمل للآخرة، في حين تجده يحرص على جمع المال، وينفق منه بحساب شديد، ويدقق في كل شيء مهما كان صغيرًا. كل هذا وغيره بسبب عدم الاهتمام بالإيمان بنفس درجة الاهتمام بالعلم، فالذي يُقرب المسافة بين القول والفعل، ويُترجم العلم إلى سلوك هو: «الطاقة والقوة الروحية المتولدة من الإيمان». أما عندما يتم الاهتمام بالإيمان دون العلم فستجد أمامك شخصًا جاهلًا، يتشدد فيما لا ينبغي التشدد فيه، ويترخص فيما لا ينبغي الترخص فيه .. ستجد شخصًا ضيق الأُفق لا يستطيع أن يتعامل مع فقه الواقع ومستجدات العصر. وفي حالة الاهتمام بالعلم والإيمان مع عدم الانتباه للنفس، وإهمال تزكيتها، فسيكون النتاج: شخصًا كثير العبادة، كثير المعلومات، سبَّاق لفعل الخير وبذل الجهد، لكنه متورم الذات، يرى نفسه بعدسة مكبِّرة، ويرى غيره بعكس ذلك، لأن عبادته وأوراده وبذله - في الغالب - ستغذي إيمانه بنفسه وبقدراته، وأنه أفضل من غيره، فيتمكن منه - بمرور الأيام واستمرار الإنجازات و النجاحات - داء العُجْب، ومن وراءه الغرور والكبر والعياذ بالله، فيُعرِّض نفسه لمقت ربه وحبوط عمله. ومع ضرورة الاهتمام بالتربية المعرفية والإيمانية والنفسية تأتي كذلك أهمية التعود على بذل الجهد في سبيل الله، وفي دعوة الناس إليه، فلو لم يتحرك المسلم، ويُعلّم الناس ما تعَلّمه، ويأخذ بأيديهم لتغيير ما بأنفسهم - بإذن الله - فإنه سيصاب بالفتور والخمول والكسل، ولن يدرك أسرار الكثير من المعاني التي يتعلمها، وقبل ذلك فإن الواجب الشرعي والواقع الأليم الذي تحياه أمتنا يُحتِّمان عليه فعل ذلك. ¬

_ (¬1) حديث حسن: أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (1/ 52) وقال الهيثمي: إسناده حسن. والحاكم (1/ 45، رقم 5) وقال: رواته مصريون ثقات. وقال المناوي (2/ 324): قال العراقي في أماليه: حديث حسن، وحسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم 1585. (¬2) في ظلال القرآن لسيد قطب 6/ 3489.

بأي الجوانب نبدأ؟

وفي المقابل، فإن الحركة وبذل الجهد في سبيل الله إن لم يكن وراءها زاد متجدد، فإن عواقب وخيمة ستلحق بصاحبها، ويكفيك في بيان هذه الخطورة قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه، مثل الفتيلة، تُضيء للناس وتحرق نفسها» (¬1). فلابد من الأمرين معًا: لابد من الزاد، ولابد من التحرك بهذا الزاد (¬2). بأي الجوانب نبدأ؟ (¬3) بعد أن تعرفنا - باختصار - على الاحتياجات التربوية الأساسية لكل مسلم وأهمية كل جانب منها؛ يبقى السؤال: بأي الجوانب نبدأ؟ بلا شك أن العلم هو البداية: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد/19]، فالعلم أساس العمل، ومع ذلك فليس المطلوب علمًا نظريًّا، يُعمق الفجوة بين القول والفعل، بل نريده علمًا نافعًا راسخًا، يزيد القلب خشية وإيمانًا. لذلك فعلينا الاجتهاد بتحصيل أصل العلوم وأنفعها، ألا وهو: «العلم بالله عز وجل»، والاجتهاد في تحويل هذه المعرفة إلى إيمان. ولأن التربية الإيمانية بمفهومها الصحيح الشامل - كما سيأتي بيانه - تُركز على معرفة الله عز وجل، وتُركز كذلك على ترجمة هذه المعرفة إلى معانٍ يرسخ مدلولها في القلب - أي أنها قد جمعت بين الخيرين - كان من المناسب البدء بجانب «التربية الإيمانية». من فوائد البدء بالتربية الإيمانية: (¬4) هناك حلقة مفقودة بين الأقوال والأفعال، والسبب الرئيسي في ذلك هو ضعف الإيمان، فعندما يُهيمن الإيمان الحي على القلب، فإنه يُولِّد في قلب صاحبه طاقة عظيمة، وقوة روحية هائلة تدفعه للقيام بالأفعال التي تناسب المواقف المختلفة من سرَّاء أو ضرَّاء .. لذلك فلو تجاوزنا البدء بالتربية الإيمانية فإن الفجوة ستزداد بين الواجب والواقع وبين العلم والعمل. فعلى سبيل المثال: لو بدأنا بالتربية النفسية فإننا قد نقتنع أن بداخلنا أصنامًا ينبغي أن تُزال، وأننا مصابون بداء العُجْب، واستعظام النفس، ولكننا لن نستطيع مقاومة هذا المرض، والوقوف له بالمرصاد، لضعف القوة الروحية اللازمة لذلك. ونفس الأمر لو بدأنا بالتركيز على التربية الحركية وبذل الجهد في سبيل الله، فسيتحول الأمر بمرور الوقت إلى أداء شكلي روتيني بلا روح، وسيزحف إلى من يفعل ذلك الشعور بالفتور والوحشة وضيق الصدر، وسيفقد تأثيره على الآخرين شيئًا فشيئًا. من هنا تظهر الحاجة إلى البدء بالتربية الإيمانية بمفهومها الصحيح والذي يعمل باستمرار على توليد القوة الروحية، وتنمية الدافع الذاتي، وتقوية الوازع الداخلي، وبث الروح في الأقوال والأفعال، ومن ثَمَّ يسهل على المرء بعد ذلك القيام بالأعمال المطلوبة لتحقيق أهداف التربية النفسية والحركية: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون/57 - 61]. ¬

_ (¬1) حديث صحيح: أخرجه الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 5837. (¬2) هذه الفقرة من كتاب «التوازن التربوي وأهميته لكل مسلم»، من ص 78 - 81، باختصار. (¬3) المصدر السابق. (¬4) المصدر السابق.

الفصل الثاني ثمار الإيمان

الفصل الثاني ثمارُ الإيمان

الشجرة المباركة

الفصل الثاني ثمار الإيمان الشجرة المباركة: يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم /24 - 25]. فالإيمان كالشجرة الطيبة المباركة التي إذا ما أحسنَّا غرسها في القلب فإنها تُثمر - بإذن الله - ثمارًا يانعة وطيبة في كل الاتجاهات والأوقات، والأمثلة العملية التي تؤكد هذه الحقيقة من الكثرة بمكان، وسنذكر - بعون الله وفضله - في الصفحات القادمة بعض تلك الثمار، مع مزجها بنماذج تطبيقية من حياة الصحابة، باعتبار أنهم أفضل أجيال الأمة بالإجماع .. أخرج أبو نُعيم عن عبد الله بن عمر قال: من كان مُستنًّا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، أبرَّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا .. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقْل دينه، فتشبَّهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة (¬1). ويقول أبو الحسن الندوي في مقدمته لكتاب حياة الصحابة: إن السيرة النبوية وسير الصحابة وتاريخهم من أقوى مصادر القوة الإيمانية والعاطفة الدينية، التي لا تزال هذه الأمة تقتبس منها شعلة الإيمان، وتشتعل بها مجامر القلوب، التي يسرع انطفاؤها وخمودها في مهب الرياح والعواصف المادية، والتي إذا انطفأت فقدت هذه الأمة قوتها وميزتها وتأثيرها، وأصبحت جثة هامدة تحملها الحياة على أكتافها. إنها تاريخ رجال جاءتهم دعوة الإسلام فآمنوا بها وصدقتها قلوبهم .. وضعوا أيديهم في يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهانت عليهم نفوسهم وأموالهم وعشيرتهم، واستطابوا المرارات والمكاره في سبيل الدعوة إلى الله، وأفضى يقينها إلى قلوبهم، وسيطر على نفوسهم وعقولهم، وصدرت عنهم عجائب الإيمان بالغيب، والحب لله والرسول، والرحمة على المؤمنين والشدة على الكافرين، وإيثار الآخرة على الدنيا، والحرص على دعوة الناس، وإخراج خلق الله من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتها، والاستهانة بزخارف الدنيا وحطامها، والشوق إلى لقاء الله، والحنين إلى الجنة، وعُلو الهمة، وبُعد النظر في نشر رِفد الإسلام وخيراته في العالم، وانتشارهم لأجل ذلك في مشارق الأرض ومغاربها، ونسوا في ذلك لذَّتهم، وهجروا راحاتهم، وغادروا أوطانهم، وبذلوا مُهَجَهم وحرّ أموالهم حتى أقبلت القلوب إلى الله، وهبَّت ريح الإيمان قوية عاصفة، طيبة مباركة، وقامت دولة التوحيد والإيمان والعبادة والتقوى، وانتشرت الهداية في العالم، ودخل الناس في دين الله أفواجًا (¬2). الثمار العشر: إن الهدف الأساسي من التحدث عن ثمار الإيمان ومدى ظهورها في جيل الصحابة رضوان الله عليهم هو استثارة مشاعر الاحتياج نحو التربية الإيمانية، وتقوية العزيمة لسلوك طريقها بإذن الله .. ولقد تم اختيار عشر ثمار ليتم الحديث عنها - بعون الله - هي بإجمال: أولًا: المبادرة والمسارعة لفعل الخير. ثانيًا: تقوية الوازع الداخلي. ثالثًا: الزهد في الدنيا. رابعًا: التأييد الإلهي. خامسًا: إيقاظ القوى الخفية. سادسًا: الرغبة في الله. سابعًا: اختفاء الظواهر السلبية وقلة المشكلات بين الأفراد. ثامنًا: التأثير الإيجابي في الناس. تاسعًا: اتخاذ القرارات الصعبة. عاشرًا: الشعور بالسكينة والطمأنينة. والجدير بالذكر أن هذه الثمار العشر ما هي إلا قطوف يسيرة من شجرة الإيمان المباركة، ولقد تم اختيارها كباقة متنوعة، فمنها ما يتعلق بعلاقة المؤمن بربه، ومنها ما ينعكس على علاقته بدنياه وآخرته، ومنها ما يظهر آثاره على تعاملاته مع الآخرين. وإليك - أخي القارئ - بعضًا من التفاصيل حول هذه الثمار العشر. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء لأبي نُعيم الأصبهاني (1/ 305)، دار الكتاب العربي - بيروت. (¬2) حياة الصحابة للكاندهلوي (1/ 15) بتصرف يسير.

أولا: المبادرة والمسارعة لفعل الخير

أولًا: المبادرة والمسارعة لفعل الخير من أهم ثمار الإيمان الحي أنك تجد صاحبه مبادرًا ومسارعًا لفعل الخير، يتحرك في الحياة وكأنه قد رُفعت له راية من بعيد فهو يسعى جاهدًا للوصول إليها مهما كلفه ذلك من بذل وتعب وتضحية .. تراه دومًا يبحث عن أي باب يقربه من رضا ربه والتعرض لرحمته ليندفع إليه مرددًا بلسان حاله: «لبيك اللهم لبيك .. لبيك وسعديك». ولقد قرر القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون/57 - 61]. فالآيات تُعطي دلالات واضحة على أن أصحاب القلوب المؤمنة الخاشعة لربها هم أكثر الناس مسارعة للخيرات وأسبقهم إليها. وإليك - أخي القارئ - بعض الأمثلة من حياة الصحابة - رضوان الله عليهم - والتي تؤكد هذا المعنى: - خرج جابر بن عبد الله رضي الله عنه ذات سنة إلى بلاد الروم غازيًا في سبيل الله، وكان الجيش بقيادة مالك بن عبد الله الخثعمي، وكان مالك يطوف بجنوده وهم منطلقون ليقف على أحوالهم، ويشُد من أزرهم، ويُولي كبارهم ما يستحقونه من عناية ورعاية، فمر بجابر بن عبد الله، فوجده ماشيًا ومعه بَغل له يمسك بزمامه ويقوده، فقال له: ما بك يا أبا عبد الله، لم لا تركب، وقد يسر الله لك ظهرًا يحملك عليه؟! فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أُغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار». فتركه مالك ومضى حتى غدَا في مقدمة الجيش، ثم التفت إليه، وناداه بأعلى صوته، وقال: يا أبا عبد الله، مالك لا تركب بغلك، وهي في حوزتك؟! فعرف جابر قصده، وأجابه بصوت عال وقال: لقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أُغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار»، فتواثب الناس عن دوابهم وكلٌ منهم يريد أن يفوز بهذا الأجر، فما رُئِي جيش أكثر مشاة من ذلك الجيش (¬1). وروى النسائي عن أبي سعيد بن المُعَلَّى أنه قال: كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررنا يومًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقلت: لقد حدث أمر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة/144]، حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى (في اتجاه الكعبة) فتوارينا فصليناهما، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بالناس الظهر يومئذ (¬2). ¬

_ (¬1) أُسد الغابة (1/ 307)، وتاريخ الإسلام للذهبي (3/ 143)، وسيرة ابن هشام (3/ 217، 218)، وحديث «من أُغبرت قدماه .. » أخرجه البخاري (1/ 308، رقم 865)، وغيره. (¬2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/ 168 - مكتبة العبيكان، وحديث القبلة أخرجه النسائي في السنن الكبرى - (ج 6 / ص 291، برقم 11002)، ومسند أحمد بن حنبل - (ج 4 / ص 408، برقم 19677).

- وفي يوم من الأيام قَدِمتْ قافلة لعبد الرحمن بن عوف بها سبعمائة راحلة تحمل المتاع، فلما دخلت المدينة ارتجت الأرض بها، فقالت عائشة: ما هذه الرجة؟ فقيل لها: عير لعبد الرحمن بن عوف .. سبعمائة ناقة تحمل البُر والدقيق والطعام، فقالت عائشة: بارك الله فيما أعطاه في الدنيا، ولثواب الآخرة أعظم. وقبل أن تبرك النوق كان الخبر قد وصل لعبد الرحمن بن عوف: فذهب إليها مسرعًا، وقال: أشهدك يا أُمَّه أن هذه العير جميعها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله. التنافس في الخير: صاحب الإيمان الحي لا يريد أن يسبقه أحد إلى الوصول للراية العُظمى .. راية رضا الله والتعرض لرحمته ومغفرته ودخول جنته، لذلك تراه حزينًا حين تتحين أمامه فرصة للاقتراب من تلك الراية ولا يستطيع اغتنامها لأسباب خارجة عن إرادته كالمرض أو الفقر، ولنا في قصة البَكَّائين خير مثال على ذلك: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن ينبعثوا غازين (غزوة تبوك)، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن معقل المزني، فقالوا: يا رسول الله احملنا. فقال: «والله ما أجد ما أحملكم عليه»، فتولوا ولهم بكاء، وعَزَّ عليهم أن يُحبَسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملًا. فأنزل الله عذرهم: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة/92] (¬1). - وفي الصحيحين أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور (الأموال الكثيرة) بالدرجات العُلى والنعيم المقيم، فقال صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟»، فقالوا: يُصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلا أُعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «تسبحون، وتحمدون، وتكبرون، دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة»، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» (¬2). شدة الحرص على دعوة الخلق إلى الله: كلما ازداد الإيمان وشعر المرء بحلاوته كلما ازدادت رغبته في دعوة الناس جميعًا إلى الله، وإلى التحرر من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وكيف لا وهو يرى غيره من الضالين في سجن كان هو فيه وحرَّره الله منه، لذلك فهو لا يهدأ ولا يقر حتى يُبلِّغ الدعوة إليهم ما وسعه الجهد والوقت والمال. ويدفعه لأداء هذا الواجب كذلك علمه بأن الدعوة إلى الله من أحب الأعمال إليه سبحانه .. من هنا نُدرك كيف اشتد حرص الصحابة على دعوة الخلق إلى الله. فهذا أبو بكر الصديق بعد إسلامه يُسارع بالدعوة إلى الله من وَثق به من قومه فأسلم على يديه: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف (¬3). ¬

_ (¬1) الدر المنثور للسيوطي 3/ 479. (¬2) متفق عليه: وهذا لفظ مسلم، وأخرجه البخاري (1/ 289 برقم 807)، ومسلم (2/ 97، برقم 1375). (¬3) السيرة لابن كثير (1/ 437)، وذكره الحلبي في السيرة الحلبية (1/ 449).

ثانيا: تقوية الوازع الداخلي

وذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا انصرف عن ثقيف اتَّبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنهم قاتلوك»، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم نخوة الامتناع للذي كان منهم، فقال عروة: يا رسول الله، أنا أَحَب إليهم من أبكارهم، وكان فيهم كذلك محببًا مطاعًا. فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه بمنزلته فيهم، فلما أشرف على عُلَّية (مكان مرتفع) - وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه - رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله، فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليّ (¬1) .. ثانيا: تقوية الوازع الداخلي كلما قوي الإيمان، ازدادت حساسية الفرد تجاه الوقوع أو مجرد الاقتراب من الشبهات والمحظورات، والعكس صحيح، فكلما ضَعُف الإيمان نقصت تلك الحساسية .. يقول عبد الله بن مسعود: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مَرَّ على أنفه، فقال به هكذا (¬2) (أي: نحَّاه بيده أو دفعه). معنى ذلك أن درجة إيمان الفرد يعكسها شعوره وحساسيته تجاه الذنوب، وفي أي الاتجاهين تكون .. هل تقترب من حال من يقعد تحت صخور جبل مهدد بالانهيار في أي لحظة، أم من حال من تمر ذبابة على أنفه؟ من هنا نقول بأن الإيمان الحي هو الذي يضبط سلوك الإنسان، (ويترك مع كل نفس رقيبًا لا يغفل، وحارسًا لا يسهو، وشاهدًا لا يُجامل ولا يحابي، ولا يضل ولا ينسى ... يصاحبها في الغدوة والروحة، والمجتمع والخلوة، ويرقُبها في كل زمان، ويلحظها في كل مكان، ويدفعها إلى الخيرات دفعًا، ويدعُّها عن المآثم دعًّا، ويجنبها طريق الزلل، ويبصرها سبيل الخير والشر) (¬3). في يوم من الأيام ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنواع الخيل وأنها لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر. فسئل عن الحُمُر؟ قال: «ما أنزل الله عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة/7، 8] (¬4). فعندما يزداد الإيمان بأن هناك حساب على اليسير من العمل - ولو كان مثقال ذرة كما تُشير الآيات - فإن ذلك من شأنه أن يدفع المرء للتحرك بحساسية وحذر شديدين تجاه التعامل مع جميع الأشياء. نعم، هذا هو أهم قانون لضبط السلوك ومهما وُضعت القوانين الصارمة في المجتمعات لضبط سلوك الأفراد فلن تؤتي ثمارها إلا إذا بُدئ بإصلاح الإيمان في القلوب لتكون من ثمرته: تقوية الوازع الداخلي ... وصدق من قال: لا تنتهي الأنفس عن غيّها ... ما لم يكن لها من نفسها دافع ¬

_ (¬1) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 538)، وأُسد الغابة (1/ 768)، والاستيعاب لابن عبد البر (1/ 328)، والإصابة لابن حجر (4/ 493). (¬2) متفق عليه: البخارى (5/ 2324)، ومسلم (8/ 92). (¬3) رسالة هل نحن قوم عمليون؟ لحسن البنا ص 71 من مجموعة الرسائل. (¬4) أخرجه البخاري (2/ 835، رقم 2242).

ثالثا: الزهد في الدنيا

جاء رجل فقعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن لي مملوكين يَكذِبونني، ويخونونني، ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا فيهم؟!، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة يُحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافًا، لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلًا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم .. اقتُص لهم منك الفضل، فتنحى الرجل، وجعل يهتف ويبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» أما تقرأ قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء/47]. فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئًا خيرًا من مفارقتهم، أشهدك أنهم كلهم أحرار (¬1). شدة الورع: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر غلام يُخرج له الخراج وكان أبو بكر يُخرج من خراجه فجاء يومًا بشيء ووافق من أبي بكر جوعًا، فأكل منه لقمة قبل أن يسأل عنه، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟، قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أُحسن الكهانة ولكني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه (¬2) .. فماذا فعل أبو بكر عندئذ؟! فعل فعلا عجيبًا .. أدخل أصبعه في فمه فقاء كل شيء في بطنه .. وروى ابن جرير الطبري في تاريخه، قال: لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا، ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئًا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأنًا، فقالوا: من أنت؟، فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني: ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه، فأتبعوه رجلًا حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس (¬3). ومن ثمار الإيمان: ثالثًا: الزهد في الدنيا من تعريفات الزهد: «انصراف الرغبة في الشيء مع وجوده»، ومثال ذلك: الطفل الذي يسعد سعادة غامرة حين يلعب بالدُمى، ويحرص على اقتنائها، ويحلم بشراء الجديد منها، ولكن عندما يكبر هذا الطفل بضع سنين تجد حرصه وشغفه وفرحه بهذا اللعب يقل ويقل إلى أن يزول وتنصرف رغبته عنها فيصير زاهدًا فيها ولا يبالى بوجودها إذا ما وُجدت، ولا يحزن على ضياعها إذا ما فُقدت. وحال الناس مع الدنيا - بدون الإيمان - كحال الأطفال مع لِعَبهم، ولكي يزهدوا فيها لابد من نمو الإيمان في قلوبهم. فعندما يقوى الإيمان في القلب يقل تعلق صاحبه بالدنيا، ورغبته فيها، وحرصه عليها. نعم، هو لن يتركها ببدنه بل يتركها بقلبه، فالزهد حالة شعورية يعيشها المرء كانعكاس لنمو الإيمان الحقيقي في قلبه، وهو لا يستلزم الفقر، ولا يتنافي مع الغنى. الزاهد في الدنيا لا ينشغل بها كثيرًا إذا ما وُجدت بين يديه، فعلى سبيل المثال: قد يتوفر لديه العديد من الملابس فإذا ما أراد الخروج من منزله فإنه لا يقف أمامها طويلًا إنما يرتدي ما امتدت إليه يده، وهو حين يفعل ذلك يفعله بتلقائية تعكس حالة قلبه الإيمانية. ¬

_ (¬1) حديث صحيح: أخرجه الترمذي (5/ 320، رقم 3165) وأحمد (6/ 280، رقم 26444)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 377، رقم 8586)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 280). (¬2) أخرجه البخاري (3/ 1395 برقم 3629). (¬3) نقل هذا الخبر سيد قطب في ظلال القرآن 1/ 505، نقلًا عن تاريخ الطبري 4/ 16.

وكلما قوى الإيمان أكثر وأكثر ازداد تعلق صاحبه بالآخرة ورغبته فيها، وازداد زهده في الدنيا بصورة أشد وأشد لدرجة أنه لا يترك لنفسه إلا أقل القليل منها وبما يُحقق له ضروريات الحياة، وليس هذا بسبب معارضته لمبدأ التمتع بمباحات الدنيا، ولكن لأن إيمانه يأبى عليه ذلك ويدفعه لاستثمار كل ما يأتيه في حياته لداره الآخرة متمثلًا قول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ} [القصص/77]، لذلك فهو يحتاج دومًا إلى من يذكره بقوله تعالى: ... {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص/77]. وكيف لا، وإيمانه يأبي عليه أن يتوسع في هذا النصيب. هكذا كانوا: بهذه المستويات الإيمانية تعامل الصحابة - رضوان الله عليهم - مع الدنيا فكانت منهم أحوال عجيبة يستغرب منها أمثالي من ضعاف الإيمان الذين لا يزالون في مرحلة الطفولة واللهو بطين الأرض. فهذا أبو الدرداء نزلت به جماعة من الأضياف في ليلة شديدة البرد فأرسل إليهم طعامًا ساخنًا، ولم يبعث إليهم بالأغطية فلما هموا بالنوم جعلوا يتشاورون في أمر اللُّحف، فقال واحد منهم أنا أذهب إليه وأكلمه، فمضى حتى وقف على باب حجرته فرآه قد اضطجع وما عليه إلا ثوب خفيف لا يقي من حر ولا يصون من برد، فقال الرجل لأبي الدرداء: ما أراك بت إلا كما نبيت نحن!! أين متاعكم؟! فقال: لنا دار هناك نُرسل إليها تباعًا كل ما نحصل عليه من متاع ولو كنا قد استبقينا في هذه الدار شيئًا منه لبعثنا به إليكم، ثم إن في طريقنا الذي سنسلكه إلى تلك الدار عقبة كؤود المُخِفّ فيها خير من المُثقِل، فأردنا أن نتخفف من أثقالنا علَّنا نجتاز (¬1). وكان طلحة بن عبيد الله تاجرًا فجاءه ذات يوم مال من «حضرموت» مقداره سبعمائة ألف درهم، فبات ليلته جزعًا محزونًا. فدخلتْ عليه زوجته أم كلثوم، وقالت: ما بك يا أبا محمد؟!! لعله رابك منَّا شيء!! فقال: لا، ولنِعْمَ حليلة الرجل المسلم أنت، ولكن تفكرت منذ الليلة وقلت: ما ظن رجل بربه إذا كان ينام وفي بيته هذا المال؟!، قالت: وما يغمك منه؟! أين أنت من المحتاجين من قومك وأخلَّائك؟! فإذا أصبحت فقسمه بينهم، فقال: رحمك الله، إنك موفقة بنت موفق، فلما أصبح جعل المال في صُرَرٍ وجِفَان، وقسمه بين فقراء المهاجرين والأنصار (¬2). وفي يوم من الأيام دخل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعض ممن يثق بهم من أهل «حِمص»، فقال لهم: اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسُدّ حاجاتهم، فرفعوا إليه كتابًا فإذا فيه فلان وفلان، وسعيد بن عامر، فقال: ومن سعيد بن عامر؟! فقالوا: أميرنا. قال: أميركم فقير؟! قالوا: نعم، ووالله إنه لتمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار، فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته، ثم عمد إلى ألف دينار فجعلها في صرة وقال: اقرؤوا عليه السلام مني، وقولوا له: بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجاتك. ¬

_ (¬1) الإصابة ج3 ترجمة (6117)، وأسد الغابة (4/ 159)، تاريخ الإسلام للذهبي (2/ 107). (¬2) طبقات ابن سعد (3/ 214)، وتهذيب التهذيب (5/ 20)، والإصابة (2/ 229) ترجمة (4266)، وحلية الأولياء (1/ 7).

رابعا: التأييد الإلهي

جاء الوفد لسعيد بالصُرَّة فنظر إليها فإذا هي دنانير، فجعل يُبعدها عنه ويقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون» فهبَّت زوجته مذعورة وقالت: ما شأنك يا سعيد؟! أمات أمير المؤمنين؟! قال: بل أعظم من ذلك. قالت: أأُصيب المسلمون في واقعة؟! قال: بل أعظم من ذلك، قالت: وما أعظم من ذلك؟! قال: دخَلتْ عليَّ الدنيا لتُفسد آخرتي، ودخَلتْ الفتنة في بيتي. فقالت: تخلَّص منها، قال: أوتُعِينيني على ذلك؟ قالت: نعم. فأخذ الدنانير فجعلها في صُرَرٍ ثم وزعها (¬1). وهذا خباب بن الأرت يدخل عليه بعض أصحابه وهو في مرض الموت فيقول لهم: إن في هذا المكان ثمانين ألف درهم، والله ما شدَدْتُ عليها رباطًا قط، ولا منعت منها سائلًا قط، ثم بكى، فقالوا: ما يبكيك؟! فقال أبكي لأن أصحابي مضوا ولم ينالوا من أجورهم في هذه الدنيا شيئًا، وإني بقيت فنلت من هذا المال ما أخاف أن يكون ثوابًا لتلك الأعمال (¬2). وهذا سعد ابن أبي وقاص يذهب إلى سلمان الفارسي يعوده فرآه يبكي، فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي؟ أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس .. ؟ قال سلمان: ما أبكي واحدة من اثنتين، ما أبكي ضَنًّا على الدنيا، ولا كراهية في الآخرة، ولكن رسول الله صلى الله عليه عهد إلينا عهدًا ما أراني إلا قد تعدَّيت، قال: وما عَهِد إليك؟ قال: عَهِد إلينا أنه يكفي أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، ولا أراني إلا قد تعدَّيت (¬3) .. فجُمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر درهما (¬4). ومن ثمار الإيمان رابعًا: التأييد الإلهي الله عز وجل هو مالك الكون وربه ومدبر أمره {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة/284]. لا يوجد له شريك في ملكه، يفعل ما يشاء .. يُقدِّم ويُؤخِّر، يقبض ويبسط، يخفض ويرفع، يُعز ويُذل {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر/2]. وإن كان البشر كلهم أمام الله سواء فلا أفضلية لجنس أو قبيلة أو لون إلا أنه سبحانه يزيد من إكرامه وعنايته ورعايته للمؤمنين الذين يحبونه ويؤثرونه على هواهم {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية/21]. فالكرامة على قدر الاستقامة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات/13]. {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن/16]. وكلما ارتقى العبد في سلم الإيمان ازدادت ولاية الله له {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف/196]. وفي الحديث القدسي: «ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» (¬5). هذه الولاية والكفاية تشمل الفرد المؤمن، وتشمل المجتمع المؤمن. ¬

_ (¬1) الإصابة ج2، ترجمة (3270)، وحلية الأولياء (1/ 244)، وتهذيب التهذيب (4/ 51)، وصفة الصفوة (1/ 372). (¬2) الإصابة، ج1، ترجمة (2210)، وأسد الغابة (1/ 316)، وحلية الأولياء (1/ 143)، وصفة الصفوة (1/ 168). (¬3) أخرجه أبو يعلى (8/ 80، رقم 4610)، والطبراني (4/ 77، رقم 3695)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 307، رقم 10400)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 360). (¬4) أخرجه ابن حبان (2/ 481، رقم 706). (¬5) أخرجه البخاري (5/ 2384، برقم 6137).

فعلى مستوى الفرد: يتولى الله عز وجل أمور عبده المؤمن بما يُحقق له مصلحته الحقيقية ويجلب له السعادة في الدارين، وفي بعض الأحيان قد تكون من مظاهر تلك الولاية التضييق على العبد في أمور الدنيا إلا أنها تحمل في طياتها خيرًا كثيرًا، وفي هذا المعنى يقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يُحبه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه» (¬1). الأمة والإيمان: أما في محيط الأمة، فلا يكفي إيمان بعض الأفراد - هنا وهناك - لكي تتحقق بهم الولاية والنصرة للأمة، فالأمة كالجسد الواحد، لا يكون صحيحًا إلا إذا صحَّت جميع أعضائه. بمعنى أن وجود أفراد صالحين في ذواتهم لا يكفي لاستجلاب المعية والنصرة الإلهية، بل لابد وأن يقوموا بالعمل على إصلاح غيرهم - بإذن الله - وأن يبذلوا غاية جهدهم في ذلك من خلال العمل على تقوية الإيمان في قلوبهم، وتصحيح التصورات والمفاهيم الخاطئة في عقولهم، ودفعهم إلى طريق التواضع ونكران الذات، وتعويدهم على بذل الجهد في سبيل الله. وعندما تشيع معاني الصلاح في الأمة ويرتفع منسوب الإيمان في القلوب، ولو بنسبة معقولة تتيح للمسلم اتخاذ قرارات التضحية ببعض شهواته ومصالحه من أجل نصرة دينه .. عندئذ يتحقق موعود الله بنصر الأمة - بإذنه سبحانه - مصداقا لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد/11]. وتاريخ الأمة خير شاهد على أنه عندما يغلب الإيمان والصلاح على جيل من أجيال الأمة فإن النصر يكون حليفهم، والتأييد الإلهي لا يتجاوزهم .. انظر - إن شئت - إلى آيات القرآن وهي تقرر وتؤكد على هذا المعنى في قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران/120]، وقوله: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران/125]. فالآية تؤكد أن الملائكة ستنزل سريعًا لتؤيد المؤمنين، وتقاتل معهم فور تحققهم بالصبر والتقوى، وفي المقابل؛ فعندما يغيب الإيمان ينقطع التأييد الإلهي، ويُترك المسلمون لأعدائهم ليسوموهم سوء العذاب. الوعد الحق: لقد وعد الله عز وجل عباده المؤمنين بالغلبة والنصر: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء/141]. هذا الوعد القاطع متى يتحقق؟ .. يُجيب سيد قطب عن هذا السؤال في تفسيره لهذه الآية فيقول: إنه وعد من الله قاطع، وحُكم من الله جامع: أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين، وتمثَّلت في واقع حياتهم منهجًا للحياة، ونظامًا للحكم، وتجردًا لله في كل خاطرة وحركة، وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة .. فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا. وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تُخالفها. وأنا أُقرر في ثقة بوعد الله لا يُخالجها شك، أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان: إما في الشعور، وإما في العمل - ومن الإيمان أَخذُ العدة، وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله، وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية، ثم يعود النصر للمؤمنين حين يوجدون. ¬

_ (¬1) حديث صحيح: أخرجه أحمد (5/ 428، رقم 23677). وأخرجه أيضًا: البيهقي في شعب الإيمان (7/ 321، رقم 10450)، والحاكم (4/ 231، رقم 7465) وصححه، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح 1814.

ففي «أُحد» مثلًا، كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الطمع في الغنيمة. وفي «حُنين» كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئًا من هذا .. نعرفه أو لا نعرفه .. أما وعد الله فهو حق في كل حين. نعم، إن المحنة قد تكون للابتلاء .. ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة، هي استكمال حقيقة الإيمان ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أُحد وقصَّهُ الله على المسلمين - فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه، جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين. وحين يُقرر النص القرآني: أن الله «لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا» .. إنما يدعو الجماعة المسلمة لاستكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورًا وشعورًا، وفي حياتها واقعًا وعملًا. وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها. فالنصر ليس للعنوانات. إنما هو للحقيقة التي وراءها. وليس بيننا وبين النصرة في أي زمان وفي أي مكان، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان، ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك .. ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة. إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى، التي لا تَضعُف ولا تفنى .. وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها .. ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعًا. غير أنه يجب أن نفرق دائمًا بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان .. إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية، ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل. وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها (¬1). نماذج للولاية والتأييد الإلهي: والنماذج العملية للتأييد الإلهي للمؤمنين كثيرة، سواء كان ذلك على مستوى الفرد أو الجماعة المؤمنة. فعلى مستوى الفرد: * أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب «مُجابي الدعوة» عن أنس بن مالك، قال: كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكنى أبا معلق وكان تاجرًا يتَّجر بمالٍ له ولغيره، وكان له نُسك وورع، فخرج مرة، فلقيه لِص مُتَقَنِّع في السلاح، فقال: ضع متاعك فإني قاتلك، قال: شأنك بالمال، قال: لست أُريد إلا دمك، قال: فذرني أُصلي، قال: صلِّ ما بدا لك، فتوضأ ثم صلَّى، فكان من دعائه: يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعَّالًا لما يُريد، أسألك بعزتك التي لا تُرام (¬2)، وملكك الذي لا يُضام (¬3)، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك، أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني. قالها ثلاثًا، فإذا هو بفارس، بيده حربة رافعها بين أذني فرسه، فطعن اللص فقتله، ثم أقبل على التاجر، فقال من أنت، فقد أغاثني الله بك؟ قال: إني ملَك من أهل السماء الرابعة، لما دعوتَ سمعت لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوتَ ثانيًا، فسُمعت لأهل السماء ضجَّة، ثم ثالثًا فقيل: دعاء مكروب، فسألت الله أن يُوليني قتله (¬4). ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 2/ 782، 783. (¬2) لا تُرام: لا تُطلب. (¬3) لا يُضام: لا يُذَل. (¬4) الإصابة (4/ 182).

* وأخرج الحاكم عن محمد بن المنكدر أن «سفينة» رضي الله عنه - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها، فركبت لوحًا من ألواحها فطرحني اللوح في أجَمَة (¬1) فيها الأسد، فأقبل إليّ يُريدني، فقلت يا أبا الحارث: أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطأطأ رأسه، واقبل إليّ، فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة ووضعني على الطريق، وهمهم، فظننت أنه يودعني، فكان ذلك آخر عهدي به (¬2). * ولما فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر، أتى أهلها حين دخل بؤنة (من أشهُر القبط) فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سُنة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بِكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها شيئًا من الحُلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام، فإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا أشهُر بؤنة وأبيب ومَسَرى لا يجري قليلًا ولا كثيرًا حتى همُّوا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك، فكتب إليه عمر: قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة، فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي، فلما قدِم الكتاب على عمرو فتح البطاقة فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر: أما بعد: فإن كنت تجري من قِبَلِك فلا تجر، وإن كان الواحد القهار يُجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يُجريك. فألقى عمرو البطاقة في النيل - وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها، لأنهم لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل - فأصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا، وقطع تلك السُنَّة السوء عن أهل مصر (¬3). التأييد الإلهي للفئة المؤمنة: عندما ننظر إلى المعارك التي خاضها الجيل الأول مع أعداء الدين نجد أن الميزان «المادي» يميل بقوة نحو أعدائهم من حيث العدد والعدة، ومع ذلك كان النصر حليف المؤمنين، مع الأخذ في الاعتبار بأن الفئة المؤمنة لم تُقصر أبدًا في الأخذ بالأسباب المادية المتاحة أمامها، ولكن كانت تلك الأسباب - مهما بلغت - أقل بكثير مما عند أعدائهم. ففي معركة بدر يتجلى التأييد الإلهي في صور متعددة ليتوج في النهاية بنصر عزيز: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال/11، 12]. * ¬

_ (¬1) أجمة: شجر كثير ملتف (غابة). (¬2) إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للبوصيري رقم (6848)، ومعرفة الصحابة لأبي نُعيم، برقم (3102)، وفي دلائل النبوة للبيهقي، برقم (2293). (¬3) أخرجه أبو الشيخ في العظمة (4/ 1424، رقم 9373)، وابن عساكر (44/ 336)، انظر حياة الصحابة 3/ 408، 409.

خامسا: إيقاظ القوى الخفية

وفي فتح المدائن سخر الله نهر دجلة ليعبُر عليه المسلمون بخيولهم ... فبعد انتصار القادسية العظيم - كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية - دخل سعد بن أبي وقاص (نهر شير) ولكنه لم يجد فيها أحد ولا شيئًا مما يُغنم، بل قد تحول الفرس إلى المدائن وركبوا السفن، وضمُّوا السفن إليهم، ولم يجد سعد رضي الله عنه شيئا من السفن (لعبور نهر دجلة)، وأخبر سعد بأن كسرى يزدجرد عازم على أخذ الأموال والأمتعة من المدائن، وإنك إن لم تدركه قبل ثلاث فات عليك وتفارط الأمر. فخطب سعد المسلمين على شاطئ دجلة فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تَخلُصون (تَصلُون) إليهم معه، وهم يخلُصون إليكم إذا شاؤوا فيناوشونكم في سفنهم، وإني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم، فقالوا جميعًا: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل، فندب سعد الناس إلى العبور .. وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا: «نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، ثم اقتحم بفرسه دجلة واقتحم الناس، ولم يتخلف عنه أحد، فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤوا ما بين الجانبين، فلا يُرى وجه الماء من الفرسان والرجَّالة، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره وتأييده .. ولم يُعدم للمسلمين شيء من أمتعتهم غير قدح من خشب لرجل يقال له مالك بن عامر، فدعا صاحبه الله عز وجل وقال: اللهم لا تجعلني من بينهم يذهب متاعي، فرده الموج إلى الجانب الذي يقصدونه، فأخذه الناس ثم ردوه على صاحبه بعينه. وعندما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا: ديوانًا ديوانًا، أي: مجانين مجانين. ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنسًا، بل تقاتلون جنًّا. وخرج المسلمون من النهر ولم يغرق منهم أحد، ولم يفقدوا شيئًا، ودخلوا المدائن ولم يجدوا بها أحدًا (¬1). ومن ثمار الإيمان خامسًا: إيقاظ القوى الخفية عندما يتمكن الإيمان من القلب تزداد رغبة العبد في القيام بكل ما يحبه ربه ويرضاه فتجده يتحدى الصعاب، ويتحمل الشدائد في سبيل ذلك. الإيمان الحي يوقظ القوى الخفية داخل الإنسان ويجعله دومًا يتحدى أوضاعًا أقوى منه، ويجتاز مصاعب أعظم بكثير من حدود إمكاناته .. اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وكانوا قلة مستضعفين فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط، فمن رجل يُسمعهم إياه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا أُسمعهم إياه. فقالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة تحميه وتمنعه منهم إذا أرادوه بِشَر. فقال: دعوني فإن الله سيمنعني ويحميني. ثم غدا إلى المسجد حتى أتى مقام إبراهيم في الضحى، وقريش جلوس حول الكعبة، فوقف عند المقام وقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم - رافعًا بها صوته - {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن/1 - 4]. ¬

_ (¬1) البداية والنهاية لابن كثير 7/ 70 - 72 باختصار.

سادسا: الرغبة في الله

ومضى يقرؤها، فتأملته قريش وقالت: ماذا قال ابن أم عبد؟! تبًّا له، إنه يتلو بعض ما جاء به محمد، وقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه والدم يسيل منه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: والله ما كان أعداء الله أهون في عيني منهم الآن، وإن شئتم لأُغَادينَّهم بمثلها غدًا، قالوا: لا، حسبك، لقد أسمعتهم ما يكرهون (¬1). وهذا عمرو بن الجموح يرى أبناءه الثلاثة يتجهزون للقاء أعداء الله في أُحد، فعزم على أن يغدو معهم إلى الجهاد، لكن الفتية أجمعوا على منع أبيهم مما عزم عليه، فهو شيخ كبير طاعن في السن، وهو إلى ذلك أعرج شديد العرج، وقد عذره الله فيمن عذرهم، فقالوا له: يا أبانا، إن الله عذرك، فعلام تُكلف نفسك ما أعفاك الله منه؟! فغضب الشيخ من قولهم، وانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوهم، فقال: يا نبي الله، إن أبنائي هؤلاء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير وهم يتذرعون بأني أعرج، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبنائه: «دعوه؛ لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة». فخلوا عنه إذعانًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما إن أزِف وقت الخروج، حتى ودع عمرو بن الجموح زوجته، ثم اتجه إلى القبلة ورفع كفيه إلى السماء وقال: «اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي خائبًا». ثم انطلق يُحيط به أبناءه الثلاثة .. ولما حمي وطيس المعركة، وتفرق الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شوهد عمرو بن الجموح يمضي في الرعيل الأول ويثب على رجله الصحيحة وثبًا وهو يقول: إني لمَشتاق إلى الجنة، إني لمَشتاق إلى الجنة، وكان وراءه ابنه «خلَّاد» ومازال الشيخ وفتاه يجاهدان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرَّا صريعين شهيدين على أرض المعركة، ليس بين الابن وأبيه إلا لحظات (¬2). أعمى يحمل الراية: وإن تعجب من أثر الإيمان فعَجَبٌ إصرار عبد الله بن أم مكتوم على الجهاد وهو أعمى، وسفره مع جيش سعد بن أبي وقاص إلى القادسية لملاقاة الفرس، وهو لابس درعه، مستكمل عدته، فيتقدم ليحمل راية المسلمين ... وهو أعمى!! ويحافظ عليها إلى أن قُتل شهيدًا، وهو يحتضن الراية!! (¬3). ومن ثمار الإيمان: سادسًا: الرغبة في الله كلما ازداد الإيمان بالله عز وجل ازدادت ثقة العبد فيه سبحانه وبأنه مالك الملك، المتصرف في شؤون كل ذرة فيه، العليم الخبير الذي لا تغيب عنه أي حركة أو سكنة في هذا الكون .. القادر المقتدر، الغفور الرحيم ... . وبنمو هذه الثقة في القلب تزداد رغبة العبد في ربه فيصبح ذهنه مشغولًا بالتفكير فيه، وقلبه حاضرًا معه .. فيتوجه إليه بالأعمال، ويتزين له بالأفعال التي ترضيه .. يُكثر من مناجاته وبث أشواقه إليه ... يسترضيه كلما قصَّر أو زلَّت قدمه ... يطلب منه المساعدة في كل أموره، والشهادة على ما يحدث له. وفي المقابل: يصغُر حجم الناس في نظره وتقل الثقة فيهم حتى تنمحي من حيث كونهم لا يملكون له نفعًا أو ضرًّا، فلا يتزين لهم في أفعاله، ولا يسعى لعلو منزلته عندهم، بل يستغني عنهم، وينقطع من قلبه الطمع فيهم، ومن ثَّم لا يرائيهم بأقواله أو أفعاله .. ¬

_ (¬1) صور إيمانية من حياة الصحابة والتابعين 1/ 314، نقلًا عن سير أعلام النبلاء للذهبي، وصفة الصفوة لابن الجوزي. (¬2) سير أعلام النبلاء (1/ 54)، وتاريخ الإسلام للذهبي (2/ 216)، والبداية والنهاية لابن كثير (4/ 42). (¬3) صور إيمانية من حياة الصحابة والتابعين 1/ 131، 132، نقلًا عن الإصابة لابن حجر، والطبقات لابن سعد، وصفة الصفوة لابن الجوزي، والاستيعاب لابن عبد البر.

سابعا: اختفاء الظواهر السلبية وقلة المشكلات بين الأفراد

إن الرياء صورة بغيضة تعكس جهلًا عظيمًا بالله عز وجل، وضعفًا شديدًا في الإيمان به .. هذه الصورة يمكنها أن تضمحل وتنمحي تلقائيًّا بزيادة الإيمان الحقيقي بالله والثقة فيه. الراغبون في الله: - يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله .. غبتُ عن أول قتال قاتلته المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين لَيَرَيَنَّ الله مني ما أصنع. فلما كان يوم أُحد وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعني: المسلمين)، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعنى: المشركين)، ثم تقدم فاستقبل سعد بن معاذ، فقال: يا سعد، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها دون أحد. قال سعد: فما أستطيع أن أصف ما صنع (¬1). - ويقول سعد بن أبي وقاص: لما كانت «أحد» لقيَني عبد الله بن جحش وقال: ألا تدعو الله؟ فقلت: بلى. فخلونا في ناحية، فدعوت، فقلت: يارب إذا لقيت العدو فلَقِّني رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله وآخذ سلبه، فأمَّن عبد الله بن جحش على دعائي، ثم قال: اللهم ارزقني رجلًا شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا قلت: فيم جُدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت. قال سعد: كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط (¬2). وعندما أراد مشركوا مكة قتل خبيب بن عدي رضي الله عنه طلب منهم أن يتركوه ليركع ركعتين، فوافقوا. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله، لولا أن تظنوا أني إنما طوَّلت جزعًا من القتل لاستكثرت من الصلاة. ثم رفعوه على خشبة، فلما أوثقوه قال: اللهم إنَّا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يُصنع بنا .. وبعد أن صلبوه أنشد شعرًا قال فيه: فذا العرش صبِّرني على ما يُراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد بان مطمعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شِلْوٍ ممزَّع لعمري ما أحفِلْ إذا مت مسلمًا ... على أي حال كان في الله مضجعي (¬3) ومن ثمار الإيمان سابعًا: اختفاء الظواهر السلبية وقلة المشكلات بين الأفراد عندما يضعف الإيمان: يعلو الهوى ويسيطر على الإرادة. والهوى هو كل ما تميل إليه النفس، أي أن غلبة الهوى معناها سيطرة النفس بأطماعها على إرادة الإنسان وقلبه، فيصبح أسيًرا لها. فالنفس شحيحة تحب الاستئثار بكل ما تظن أن فيه نفعها فينشأ عن هذا الهوى - عندما يتمكن من القلب - الطمع والظلم والبخل والتعدي على حقوق الآخرين. والنفس تريد دومًا العلو على الآخرين وتكره أن يتميز عليها أحد فينتج عن ذلك الحسد والحقد. والنفس تكره الظهور بمظهر المخطئ فينشأ عن هذا الهوى عندما يسيطر على القلب: الكذب والغش والخداع .. والنفس تكره المشاقّ والتكاليف فينشأ عن ذلك: الفسوق وعدم القيام بالأوامر الشرعية ... وهكذا تنطلق جميع الظواهر السلبية والمشكلات من ضعف الإيمان وغلبة هوى النفس. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3/ 1032، برقم 2651). (¬2) أخرجه البيهقي في سننه (6/ 307)، والحاكم في المستدرك (2/ 86) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه، وأورده الذهبي في السير (1/ 112). (¬3) سيرة ابن هشام (2/ 172)، وسيرة ابن كثير (3/ 130)، وحلية الأولياء لأبي نُعيم (1/ 113)، وسير أعلام النبلاء للذهبي (1/ 48).

ثامنا: التأثير الإيجابي في الناس

والحل الأول والأمثل لعلاج المجتمع المسلم من ظواهره السلبية إنما يكون بإصلاح الإيمان، فكلما ازداد الإيمان في القلوب انحسر تأثير الهوى عليها وقويت الإرادة ودفعت صاحبها لمكارم الأخلاق ومعاليها .. تأمل قول الله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [ص/24]. ليس معنى هذا هو انعدام المشكلات بين الأفراد، فالطبيعة البشرية وما تحمله من ضعف تأبى ذلك، ولكنها - إن حدثت - تكون هينة، عارضة سرعان ما تزول عندما يسمع أصحابها حادي الإيمان ينادي عليهم أن اتقوا الله {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص/30]. فعلى سبيل المثال: عندما عزم أبو بكر الصديق على قطع النفقة التي كان ينفقها على مسطح بن أثاثة لأنه كان ممن تكلم في حادثة الإفك نزل القرآن ليُذكّره وغيره بفضيلة العفو بقوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور/22] فعند ذلك قال الصديق: بلى والله إنّا نحب أن تغفر لنا يا ربنا، ثم أرجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا (¬1). وعندما اختلف رجلان على ميراث بينهما وذهبا يحتكمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا فعل معهما؟!. عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد دُرِست ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحَن بحُجَّته من بعض فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة» فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي لأخي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخَّيَا الحق ثم استهما ثم ليتحلل كل واحد منكم صاحبه» (¬2). عمر يستقيل من القضاء: عندما تولى أبو بكر الصديق الخلافة قام بتعيين عمر بن الخطاب قاضيًا على المدينة، فمكث عمر سنة لم يفتح جلسة، ولم يختصم إليه اثنان، فطلب من أبي بكر إعفاءه من القضاء، فقال له أبو بكر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟! فقال: لا يا خليفة رسول الله، ولكن لا حاجة لي عند قوم مؤمنين، عرف كل منهم ما له من حق فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يُقصِّر في أدائه .. أحب كل منهم لأخيه ما يحبه لنفسه .. إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب واسوه .. دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟ ففيم يختصمون؟! ومن ثمار شجرة الإيمان المباركة ثامنًا: التأثير الإيجابي في الناس ليس على المسلم فقط أن يكون صالحًا في نفسه، بل عليه أن يعمل على إصلاح غيره {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان/17]. ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 259، 260. (¬2) أخرجه الإمام أحمد (6/ 320)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن، وابن أبي شيبة (7/ 353). والإسطام: هي الحديدة التي تُحرَّك بها النار.

تاسعا: اتخاذ القرارات الصعبة

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت/33]. {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف/170]. فالدعوة إلى الله هي عمل الرسل وأتباعهم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف/108]. ونجاح الداعية في دعوته للناس يعني التأثير الإيجابي فيهم .. هذا التأثير يستلزم وجود روح حي، ورغبة جارفة تهيمن على قلبه تستحثه لإنقاذ الآخرين، فيخرُجُ كلامه محملًا بالحرقة والشفقة عليهم .. ولا يمكن التلبس بهذه الحالة إلا من خلال يقظة الإيمان وتمكنه في قلبه. الإيمان الحي يدفع صاحبه للبدء بنفسه في القيام بالعمل الصالح قبل أن يدعو الناس إليه، فيصدق قوله فعله، ومن ثَمَّ يزداد تأثيره في الآخرين. يقول سيد قطب: الكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال، ويؤيدها العمل هي الكلمة المثمرة، التي تُحرك الآخرين إلى العمل. ويقول: أيما داعية لا يصدق فعله قوله، فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب مهما كانت كلماته بارعة، وعباراته بليغة (¬1). القلوب بيد الله: إن الذي يفتح القلوب لكلام الدعاة هو الله عز وجل فإن رأى منهم صدقًا وإخلاصًا، ورغبة في نفع المدعوين، وشفقة صادقة عليهم فإنه سبحانه يفتح لهم - بفضله - قلوبهم. وكلما علت منزلة العبد عند ربه بالإيمان أحبه الله عز وجل، ومن ثَمَّ وضع له القبول في الأرض كما في الحديث: «إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض» (¬2). أصلح نفسك تُصلَح لك رعيتك: انظر إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يمشي بجانب راحلة عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو يوصيه قبل سفره على رأس الجيش المتوجه إلى الشام قائلًا: «يا عمرو، اتق الله في سرائرك وعلانيتك واستحيه، فإنه يراك ويرى عملك .. فكن من عمال الآخرة، وأَرِد بما تعمل وجه الله، وكن والدًا لمن معك، ولا تكشفن الناس عن أستارهم، واكتفِ بعلانيتهم .. وإذا وعظت أصحابك فأوجز، وأصلح نفسك تُصلَح لك رعيتك» (¬3). ولما حضر أبا بكر الموت أوصى باستخلاف عمر بن الخطاب، ثم بعث إلى عمر فدعاه فكان مما وصاه به: إن أول ما أحذرك نفسك، وأحذرك الناس .. فإنهم لن يزالوا خائفين لك فرقين منك ما خفت الله وفَرَقْته (¬4). وعن المِسوَر بن مخرمة قال: كنا نتعلم من عمر بن الخطاب الورع (¬5). ومن ثمار الإيمان: تاسعًا: اتخاذ القرارات الصعبة يتعرض المرء في حياته لمواقف تحتاج منه إلى اتخاذ قرارت قد ينتج عنها نقص يلحق به، أو أذى يُصيبه، أو ضيق الآخرين منه، لذلك تجده مترددًا قبل اتخاذها، ويظل يُفكِّر فيها، ويوازن بين الواجب الديني الذي يحُثُّه على فعل الشيء وبين الأضرار التي قد تترتب على فعله، مما قد يؤدي في النهاية إلى ترك القيام به، فيُفوِّت على نفسه مصالح كثيرة في دنياه وآخرته. هذا الحال يعكس ضَعف القلب وعدم تمكن الإيمان منه، وفي المقابل؛ كلما ازداد الإيمان قَوِي القلب وسهل على صاحبه اتخاذ القرارات التي قد يكون لها من الناحية الظاهرية تأثير سلبي عليه .. ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن 4/ 2369. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري (3/ 1175، رقم 3037)، ومسلم (4/ 2030، رقم 2637). (¬3) حياة الصحابة 1/ 544. (¬4) حياة الصحابة 1/ 541. (¬5) أخرجه ابن سعد (3/ 290).

ومن أمثلة هذه القرارات: الشهادة على النفس أو الآخرين، الاعتراف بالخطأ، قبول النُصح، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأصدقاء وأصحاب المناصب، الإنفاق في وقت العُسرة، التضحية بما يحبه المرء .. نماذج مشرقة: وإليك أخي القارئ بعض الأمثلة العملية من حياة الصحابة، والتي تؤكد هذا المعنى: - جلس عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ بن سلول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ماء، فقال: بالله يا رسول الله، ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أَبِي، لعل الله يُطهر بها قلبه. فأفْضَلَ له، فأتاه بها، فقال له أبوه: فهلَّا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها، فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أما أذِنْت لي في قتل أَبِي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل ترفق به وتُحسن إليه»؟ (¬1). - وقال عروة: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك ذلك، فقال: لمَّا أتتني الوفود بالسمع والطاعة دخلت في نفسي نخوة، فأحببت أن أكسرها، ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها (¬2). - عن أنس أن رجلًا من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، قال: عذت معاذًا، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فحمل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويُقدم ابنه معه، فقدما، فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضربه، فجعل يضربه بالسوط، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب، فوالله ضربه ونحن نُحب ضربه فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يُرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: ضع السوط على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه، فقال عمر لعمرو: مُذ كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أُمهاتهم أحرارًا؟ قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم ولم يأتني (¬3). - وعن ابن عمر قال: اشتريت إبلًا وارتجعتها إلى الحمى فلما سمنت قدمت بها، فدخل عمر السوق فرأي إبلًا سمانًا فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل لعبد الله بن عمر، فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر: بخ بخ، ابن أمير المؤمنين، فجئت أسعى، فقلت: مالك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإبل؟ قلت: اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون، فقال: ارعو إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر، اغدُ إلى رأسِ مالك، واجعل الفضل في بيت مال المسلمين (¬4). إسداء النصيحة: بعد انتصارات خالد بن الوليد المتتالية في العراق بعث إليه أبو بكر الصديق برسالة تهنئة ونصيحة فقال فيها: «فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتم الله لك، ولا يدخلنك عُجب فتخسر وتُخذل، وإياك أن تدل بعمل فإن الله له المَنّ وهو ولي الجزاء». وعندما أمَّر عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص على حرب العراق أرسل إليه وأوصاه فقال: ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17/ 199، وأخرج بن أبي شيبة في مصنفه حديثا بمعناه (ج 3/ ص 538 حديث رقم: 6627). (¬2) صلاح الأمة في علو الهمة للدكتور سيد حسين العفاني (5/ 435). (¬3) إسناده ضعيف: رواه ابن عبد الحكم في (فتوح مصر)، كنز العمال (36010). (¬4) السنن الكبرى للبيهقي (6/ 147، 12156)، وسنن سعيد بن منصور، ومصنف ابن أبى شيبة، وأورده المتقي الهندي في كنز العمال (36006).

عاشرا: الشعور بالسكينة والطمأنينة

لا يغرنَّك من الله أن قِيل خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب رسول الله، فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن، فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا الطاعة، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعاقبة ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بُعث إلى أن فارقنا، فالزمه فإنه الأمر. هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك، وكنت من الخاسرين (¬1). الانتصاف من النفس: كان لعثمان بن عفان رضي الله عنه عبد، فقال له: إني كنت عركت أُذنك فاقتص مني، فأخذ بأذنه ثم قال عثمان رضي الله عنه: اشدد، يا حبذا قصاص الدنيا، لا قصاص الآخرة (¬2). وعن إياس بن سلمة عن أبيه قال: مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السوق ومعه الدرة، فخفقني بها خفقة فأصاب طرف ثوبي، فقال: أمط عن الطريق. فلما كان في العام المُقبل لقيني فقال: يا سلمة، تُريد الحج؟ فقلت: نعم. فأخذ بيدي فانطلق بي إلى منزله فأعطاني ست مائة درهم وقال: استعن بها على حجِّك، واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك. قلت: يا أمير المؤمنين ما ذكرتها. قال: وأنا ما نسيتها (¬3). ومن ثمار الإيمان عاشرًا: الشعور بالسكينة والطمأنينة الإيمان الحق بالله عز وجل يعني: الثقة به سبحانه ربًّا قادرًا على فعل أي شيء .. قريبًا مجيبًا .. حاضرًا غير غائب .. عظيمًا جليلًا .. رؤوفًا رحيمًا .. وكلما تمكنت هذه الثقة في قلب العبد تبددت منه المخاوف التي ترهب الناس: كالخوف من سطوة الظالمين والخوف من المستقبل المجهول وما تخبئه الأيام. وكلما ضعف الإيمان، وقلت الثقة زادت المخاوف، وظهرت أمارات الهلع والفزع والاضطراب عند التعرض لابتلاء أو نقص أو تضييق، ألم يقل سبحانه {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} [آل عمران: 151]. فالمشرك بالله يعاني من ضعف بل انعدام الثقة به سبحانه، وتظهر الثمرة المُرة لهذا الشرك عند النقص والابتلاء: رعبًا وفزعًا وهلعًا. يقول ابن تيمية: الخوف الذي يحصل في قلوب الناس (كالخوف على فوات الرزق، والخوف من المستقبل المجهول) هو الشرك الذي في قلوبهم (¬4). وفي المقابل تجد المؤمن هادئ النفس، رابط الجأش، مطمئن القلب عند تعرضه للمحن والبلايا والأقدار المؤلمة {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 173 - 174]. {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]. من هنا ندرك معنى القول بأن: «حسبنا الله ونعم الوكيل» هي كلمة المؤمنين عند مواجهة المواقف الصعبة. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري (4/ 306)، البداية والنهاية (7/ 42)، الكامل في التاريخ لابن الأثير (1/ 408)، وحياة الصحابة (1/ 548). (¬2) حياة الصحابة 1/ 537، نقلًا عن «الرياض النضرة في مناقب العشرة» للمحب الطبري (2/ 111). (¬3) تاريخ الطبري - (2/ 578)، وحياة الصحابة (1/ 536). (¬4) رسائل ابن تيمية في السجن.

وكلما ازداد الإيمان ازدادت الثقة بالله حتى تصل لذروتها فتصبح ثقة مطلقة يقينية أشد رسوخًا من الجبال الرواسي، وتظهر آثارها وقت الأحداث المتشابكة والعصيبة، كمثل ما حدث لموسى عليه السلام عندما خرج مع بني إسرائيل فرارًا من فرعون لكنه أدركهم بجنوده ليصبح البحر أمامهم وفرعون وراءهم فيقول أتباعه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] فيجيب عليهم بهدوء الواثق في ربه: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]. وفي رحلة الهجرة وبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في غار ثور إذ بالمشركين يصلون إلي فم الغار، فيخاف أبو بكر خوفًا شديدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الدعوة، ويقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله لو أن أحدهم طأطأ بصره رآنا .. إن قُتلتُ فإنما أنا رجل واحد، وإن قُتلتَ أنت هلكت الأمة، ليفاجأ بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتأثر بهذه المخاوف، بل كان هادئ النفس، رابط الجأش، على ثقة مطلقة بالله عز وجل، وبدا ذلك واضحًا من إجابته على ما أثاره أبو بكر من مخاوف: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما .. لا تحزن إن الله معنا (¬1). طمأنينة القلب: من ثمار الإيمان العظيمة تلك الطمأنينة والسكينة التي يسكبها في القلب، فتجده ساكنًا عند جريان الأحداث سكون الواثق بالله، المطمئن به - سبحانه - لذلك عندما ذهب عمار بن ياسر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بأنه تحت وطأة التعذيب والإيذاء أُكره على النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهة الكفار بخير، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه سأله: «فكيف تجد قلبك؟»، فقال عمار: أجد قلبي مطمئنًا بالإيمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن عادوا فعد» (¬2). وعندما أسرت الروم عبد الله بن حذافة السهمي فقال له الطاغية: تنصَّر وإلا ألقيتك في البقرة (وعاء من نحاس)، قال: ما أفعل .. فدعا بالبقرة النحاس فمُلئت زيتًا، وأُغليت، ودعا رجلًا من أسرى المسلمين فعُرض عليه النصرانية، فأبى، فألقاه في البقرة فإذا عظامه تلوح، وقال لعبد الله: تنصَّر وإلا ألقيتك، قال: ما أفعل، فأمر به أن يُلقى في البقرة فبكى، فقالوا: قد جزع، قد بكى. قال: ردوه، فقال عبد الله: لا ترى أني بكيت جزعًا مما تريد أن تصنع بي ولكني بكيت حيث ليس لي إلا نفس واحدة يُفعل بها هذا في الله، كنت أحب أن يكون لي من الأنفس عدد كل شعرة فيَّ، ثم تُسلَّط عليَّ فتفعل بي هذا، قال: فأعجب منه، وأحب أن يطلقه، فقال: قبِّل رأسي وأطلقك، قال: ما أفعل، قال: قبِّل رأسي وأطلقك وأطلق معك ثمانين من المسلمين، قال: أما هذه فنعم، فقبل رأسه وأطلقه وأطلق معه ثمانين من المسلمين، فلما قدِموا على عمر بن الخطاب قام إليه عمر فقبَّل رأسه، قال: فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمازحون عبد الله فيقولون: قبلت رأس علج، فيقول لهم: أُطلِق بتلك القبلة ثمانون من المسلمين (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3/ 1427، رقم 3707)، والقصة بتمامها في سيرة ابن هشام، والرحيق المختوم. (¬2) أخرجه ابن سعد (3/ 1 / 178)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 140)، والطبري (14/ 182)، وأخرجه الحاكم (2/ 357) وصححه، ووافقه الذهبي، والكاندهلوي في حياة الصحابة (1/ 222). (¬3) أسد الغابة لابن الأثير (1/ 597، 3/ 11، 212)، معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني (11/ 352 رقم 3608)، تاريخ دمشق - (27/ 359).

كلمة أخيرة حول ثمار الإيمان: هذه - أخي القارئ - عشر ثمار للإيمان الحي عندما يتمكن من القلب، قد تعرَّفنا عليها وعشنا بعض أمثلتها العملية لها، وكما ذكرنا - سابقًا - بأن الهدف من هذا الطرح هو استثارة مشاعرنا، وتعميق شعورنا بالاحتياج الشديد للتربية الإيمانية. ولكي يتأكد لدينا هذا الشعور علينا أن نتعرف على المزيد من الأمثلة العملية لهذه الثمار وغيرها، وذلك من خلال القراءة في الكتب التي تتحدث عن المعاني الإيمانية، وتربطها بالواقع العملي في جيل الصحابة. ولعل من أنسب الكتب التي تحدثت عن جيل الصحابة بهذه الطريقة كتاب: «حياة الصحابة» لمحمد يوسف الكاندهلوي رحمه الله.

الفصل الثالث مراحل النمو الإيماني وأهداف التربية الإيمانية

الفصل الثالث مراحل النمو الإيماني وأهداف التربية الإيمانية

يتم - بإذن الله - الحديث في هذا الفصل عن مراحل النمو الإيماني، وبعض المظاهر العملية لهذه المراحل، والهدف من هذا الحديث هو استشعار الخطر تجاه ضعف الإيمان في قلوبنا - إلا من رحم الله. وتذكَّر - أخي - أنه كلما ازداد الشعور بالخطر، ازدادت الرغبة في التغيير والترقي. نعم، هذه الصفحات لا تُقدم لنا حلولًا عملية - وإن كانت تلك الحلول ستأتي بعد ذلك بعون الله في الفصول القادمة - ولكنها قد تجعلنا نشعر بأن هناك مشكلة في إيماننا تحتاج إلى علاج وإصلاح .. هذا الشعور له تأثير إيجابي في استقبال ما سيأتي بيانه من توجيهات وأعمال من شأنها أن تنهض بنا وتُصلح إيماننا بإذن الله. لذلك أدعو نفسي وأدعوك - أخي القارئ - إلى قراءة هذا الفصل بعقولنا ومشاعرنا وأن يقوم كل منّا بتقييم نفسه وحالته الإيمانية من خلال عرض اهتماماته وسلوكه وواقعه على المراحل الإيمانية المذكورة في هذه الصفحات، فلعله بذلك يعرف أين هو من الإيمان؟ وأين قلبه من الله؟

نور القلب

الفصل الثالث مراحل النمو الإيماني وأهداف التربية الإيمانية نور القلب: كما أن للعين نور تُبصر به وترى ما حولها؛ فإذا ما غاب عنها عميت، كذلك فإن للقلب نور يُبصر به، ويرى حقائق الأمور فإذا ما غاب عنه ذلك النور عمِي وتاه وتخبط {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72]. ونور القلب هو أهم مظهر لحياته، فبدونه يصير القلب مُظلما، قاسيًا ضيقًا موحشًا. فإذا ما دخله بصيص من نور الإيمان تغيرت طبيعته، وتحسنت حالته، وظهرت بعض الآثار الإيجابية على صاحبه. وعندما يستمر النور في الدخول، والإيمان في الزيادة والنمو؛ يتنوَّر القلب أكثر وأكثر، وتتحسن صحته، وينعكس ذلك بالإيجاب على اهتمامات وسلوك صاحبه. أما إذا ما دخل نور الإيمان القلب - بإذن الله - ثم لم يعمل صاحبه باستمرار على زيادته؛ فسينقص حجمه، وقد يضمحل، وينزوي في القلب، ومن ثَمَّ تزحف الظلمة إليه مرة ثانية لتكون النتيجة: اختفاء الكثير من الآثار الإيجابية والثمار الطيبة للإيمان {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16]. ويكفيك لتأكيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان يَخْلَق في القلوب كما يخلق الثوب فجددوا إيمانكم» (¬1). يقظة القلب هي البداية: كما أن للبدن مراحل نمو، كل مرحلة لها سماتها ومظاهرها، كذلك الإيمان في القلب. والمرحلة الأولى للنمو الإيماني هي مرحلة «بداية اليقظة» .. يقظة القلب بنور الإيمان، حيث يمُنُّ الله عز وجل على العبد بإدخال نور الإيمان إلى قلبه، لتبدأ الحياة تدب في جنباته، وتبدأ معها مرحلة جديدة في مسيرة صاحبه ... وكيف لا، والقلب - قبل يقظته - مظلم قد سيطر عليه الهوى وتحكم في مشاعره .. يفرح بما تفرح به نفسه وهواها، ويغضب لها، ويحزن على ما يفوتها أو يُضايقها {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]. تبدأ اليقظة - في الغالب - ببصيص من النور يجعل القلب يفيق قليلًا من غفلته ويستيقظ من سُباته، ليبدأ معها العقل في التفكير في حقيقة الحياة والموت، ويزداد شغفه للتعرف على تفاصيل ما يحدث بعد الموت، ومن المتوقع في هذه المرحلة، سيطرة الشعور بالندم على القلب كلما استرجع ذكريات الماضي، والأخطاء التي وقع فيها في حق الله، وفي حق الآخرين، فيدفعه هذا الشعور إلى الحياء من الله عز وجل والرجاء في عفوه ومغفرته وتوبته، ويدفعه كذلك إلى العمل على رد الحقوق التي استلبها من الآخرين. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، ويخلق بمعنى: يبلى.

إياك والاغترار ببدايات اليقظة

وفي هذه المرحلة الأولى من مراحل النمو الإيماني من المتوقع أن يَصغُر حجم الدنيا - ولو قليلا- في عين العبد، وينعكس ذلك على تعامله مع مفرداتها، فبعد أن كان يُسابق ويُنافس عليها، ويُفكِّر فيها ليل نهار، ولا يُبالي - في سبيل نيلها - بغيره، وبالضرر الذي قد يُسببه للآخرين ... تجد حرصه عليها يتناقص، ليثمر ذلك تحسنا ملحوظا في المعاملات والعمل على ضبطها بضوابط الشرع، وإن بقي الكثير من حب الدنيا في القلب. ومن أهم المظاهر العملية لهذه المرحلة: الاتجاه الإيجابي نحو أداء العبادات وفضائل الأعمال، فتجد العبد حريصًا على أداء الصلوات المكتوبة في أول وقتها، وإلحاقها بسننها الراتبة، وكذلك صيام رمضان وقيامه، والإكثار من صيام التطوع، وتتملكه الرغبة في تعلم أحكام تلاوة القرآن، وحفظ بعض سوره وأجزائه، ويزداد حرصه على سماع دروس العلم، والالتزام بما يمكن الالتزام به مما يُرضي الله عز وجل من عبادات الجوارح ... إياك والاغترار ببدايات اليقظة: وصل العديد - بفضل الله - إلى مرحلة «بداية اليقظة»، وكانوا منها على قسمين: القسم الأول: قسم فرح بآثار اليقظة، وبالتغيير المحدود الذي حدث له، ففترت همته وعزيمته للعمل على استكمال الترقي الإيماني، واكتفى بما صار إليه، ونسي أن الإيمان يزيد وينقص، وأن النفس له بالمرصاد؛ مما يجعل الإيمان يتناقص في قلبه شيئًا فشيئًا، فتعود - بالتدريج - السيطرة للهوى مما يؤثر بالسلب على اهتماماته وسلوكياته. نعم، في الغالب لن يعود لسابق عهده من الغفلة الشديدة والنوم العميق، والسيطرة التامة للهوى، إلا أن أحواله الإيجابية ستقل كثيرًا عن المستوى الذي بدأ به مرحلة «بداية اليقظة»، فهو يُصلي لكنه ليس - كالسابق - حريصًا على الصلاة في أول وقتها بالمسجد وبخاصة صلاة الفجر .. وهو لا يسرق لكنه غير منضبط انضباطًا صحيحًا في معاملاته المادية ... وهو لا يكذب، لكنه قد لا يقول الحقيقة كاملة تنصُّلًا من لوم الآخرين أو تحقيقًا لمصلحة. تمكُّن اليقظة: أما القسم الثاني: فهو قد قسم علِم أن ما مَنَّ الله عليه من دخول نور الإيمان إلى قلبه ما هو إلا «بداية» رحلة سير القلب إلى الله، فشمَّر عن ساعد الجد، واجتهد في تعاهد وإمداد القلب بالإيمان. هذا القِسم من المتوقع أن يُكرمه الله عز وجل فينتقل إلى مرحلة جديدة من مراحل النمو والارتقاء الإيماني، وهي مرحلة: «تمكُّن واستحكام اليقظة». ومن مظاهر هذه المرحلة:

استمرار النمو الحقيقي للإيمان

- زيادة الحرص على فعل الخير أكثر وأكثر. - زيادة الورع. - انصراف الرغبة - بعض الشيء - عن الدنيا، وعدم الفرح الشديد بإقبالها وزيادتها، أو الحزن العميق على فواتها ونُقصانها. - ازدياد التفكير في الموت وإمكانية لقائه في أي وقت، مما يدفعه إلى زيادة التشمير والسباق نحو فعل الخير. ولقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه العلامات، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله، قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]. كيف انشرح الصدر؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح»، قلنا: يا رسول الله، وما علامة ذلك؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» (¬1). استمرار النمو الحقيقي للإيمان: عندما تتمكن اليقظة من القلب ويستمر الإمداد، ومن ثَمَّ النمو والارتقاء الإيماني، فإن ذلك من شأنه أن ينعكس على معاملات العبد في شتى المجالات وبخاصة في تعامله مع ربه، ومع الدنيا، ومع المال، ومع الناس، ومع أحداث الحياة ... هذا النمو من شأنه كذلك أن ينقل القلب من مرحلة إلى مرحلة في رحلة سيره إلى الله حتى يصل إلى أقرب ما يُمكن أن يصل إليه عبد في هذه الرحلة - بعد الأنبياء - حيث الحضور القلبي الدائم مع الله، أو بمعنى آخر: القلب السليم الأبيض الذي لا تضُرُّه فتنة ما دامت السماوات والأرض كما جاء في الحديث: «تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربها نُكِتت فيه نكتة سوداء، وأيُ قلب أنكرها نُكِتت فيه نُكته بيضاء .. حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، ويصير الآخر مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرِب من هواه» (¬2). وفي أثناء رحلة القلب إلى الله يحدث له حدث هام وفارق ومحوريّ ألا وهو «الولادة الثانية». وإليك - أخي القارئ - بعضًا من التفصيل حول هذه النقاط التي تتناول انعكاسات النمو الإيماني على الكثير من العلائق والمعاملات. التعامل مع الدنيا مقياس النمو الحقيقي للإيمان: عندما يكون الإيمان مخدرًا نائمًا منزويًا في القلب تجد صاحبه غافلًا، لا يستطيع أن يرى الدنيا على حقيقتها، بل يراها جميلة مبهرة تذهب بالأبصار، فيشتد حرصه عليها، ويزداد فكره فيها وفي كيفية تحصيلها .. فإن كان هذا الشخص طالبًا في المدرسة أو الجامعة تجده كثير الفكر في مستقبله، وكيف سيُدبِّر أمر زواجه، وعمله، إلخ. وإن كان فقيرًا تجده يحلم بالغنى، وينظر نظرة الطامع إلى دنيا غيره .. يمُد عينيه إليها ويتمنَّاها لنفسه ... وإن كان ثريًّا تجده دائم الفكر في كيفية إنماء أمواله، ومسابقة أقرانه، واغتنام كل فرصة تلوح أمامه من شأنها أن تُزيده ثراء. حالهم جميعًا كحال الأطفال وهم يلهون بالدُمى .. يفرحون إذا ما حصلوا على دُمية جديدة، ويقضون معها الساعات الطوال، ويحزنون عليها إذا ما انكسرت وتعطلت، ويحلمون بشراء المزيد والمزيد منها. فإذا جلس إليهم من يكبُرُهم قليلًا في العمر وتجاوز مرحلة الطفولة، تجده غير مبال بهم وبألعابهم واهتماماتهم. ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (4/ 346، رقم 7863)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 352، رقم 10552)، وضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة. (¬2) أخرجه مسلم (1/ 89) رقم (386)، والأسود المُرباد: شدة البياض في سواد، ومُجخيًا: أي منكوسًا.

النمو الإيماني والتعامل مع المال

كذلك حال الناس مع الدنيا، فهم يلهون بطينها ويتنافسون عليها، ويفرحون بتحصيل أي شيء منها، ويظنُّون أن هذا هو غاية السعادة، فإذا ما استيقظ الإيمان في قلوب بعضهم، واستحكمت اليقظة منها، فإنهم - وبصورة تلقائية - لا يجدون في أنفسهم رغبة في مشاركة من حولهم اللهو بهذا الطين، وتنصرف رغبتهم - شيئًا فشيئًا - عنها .. هذا التحول ليس بأيديهم، بل هو انعكاس لطبيعة مرحلة «النمو الإيماني» الذي ارتقوا إليه، كحال من انتقل إلى مرحلة البلوغ من الأطفال عندما يأتيه أبوه بالدُمية التي طالما تاقت نفسه إليها في الصِغَر، فإذا به يتعامل معها بدون لهفة ولا شغف، وسُرعان ما يتركها ولا يُبالي بها. وليس معنى انصراف الرغبة عن الدنيا هو هجرها وتركها وعدم التعامل مع مفرداتها، بل إن الفرد في هذه المرحلة يتعامل معها على أنها مزرعة للآخرة، وأنها مُسخَّرة له لتساعده في إنجاح مهمة وجوده عليها، ولا بأس من التمتع بها بالقدر الذي لا يُنسيه تلك المهمة. أو بمعنى آخر: تخرج الرغبة في الدنيا، والشغف بها، والحرص واللهفة عليها من قلبه، فيتعامل معها بعقله قبل مشاعره، وبما يُحقق له مصلحته الحقيقية في الدارين، ويمكِّنه من نفع نفسه وأمته فيكون ممن يترك فيها أثرًا صالحًا، وبذلك تُصبح الدنيا في يده، يتحكم فيها ولا تتحكم فيه. النمو الإيماني والتعامل مع المال: المال هو أهم رمز «للدنيا»، والكثير من الناس يظنُّون أنهم يستطيعون من خلال وجوده معهم أن يُحققوا جميع أمانيهم ويجلبوا لأنفسهم السعادة، ويتمتعوا بمباهج الحياة كيفما شاءوا، لذلك يُشكِّل المال المادة الأساسية للطمع والتنافس والحسد بين الناس. ولأن الشيطان يعلم ذلك، ويعلم طبيعة النفس وحبها الشديد للمال، وشُحِّها به؛ فإن من مداخله الرئيسية على الناس: إزكاء هذه الطبيعة فيهم، وتخويفهم من المستقبل المجهول، ومن احتمالية حدوث الفقر ... {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]. فإذا ما استيقظ الإيمان - يقظة حقيقية متمكنة من القلب - كان من أهم علامات التغيير الذي يحدث للمرء: اختلاف طريقة تعامله مع المال. نعم، في البداية لا يكون التغيير كبيرًا، فالمال من أحب الأشياء للنفس {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20]. إلا أن النهم والشغف بالمال ستقِل ثائرته - نسبيًّا - في ذات العبد، وكلَّما نمَا الإيمان أكثر انعكس ذلك على طريقة تعامله معه، فيزداد إنفاقه في أوجه الخير المختلفة، ويسهل عليه اتخاذ قرار الإنفاق لاسيما في أوقات العُسر والاحتياج {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 134]. وشيئًا فشيئًا ينقطع تعلق القلب بالمال، ومن ثَمَّ يصير حُرًّا منه، لا عبد له. ومن مظاهر التغيير في هذا الجانب: نقص ملحوظ يشعر به المرء في فرحه عندما يُفاجأ بزيادة رصيده من المال، أو عند الفوز بصفقة رابحة، وكذلك نقص ملحوظ في حزنه عند فقده جزء من ماله، أو عند ضياع مصلحة دنيوية كانت في متناول يده، وليس معنى هذا أن مشاعر الفرح والحزن لا تتحرك لديه عند إقبال المال أو إدباره ولكنه انفعال لحظي سرعان ما يزول. ومن المظاهر العملية للتغيير في هذا الجانب: السماحة في البيع والشراء، فتجده لا يُدقق في سعر الشيء ليشتريه بأرخص الأسعار، أو يُغالي فيه ليبيعه بأعلاها.

النمو الإيماني والتعلق بالبشر

وكلما نما الإيمان أكثر وأكثر صار الإنفاق أحب إليه من الإمساك، وهو حين يفعل ذلك يفعله بدافع الثقة العميقة بأن الآخرة هي خير وأبقى، وأن الحياة في الجنة هي الحياة الحقيقية الدائمة التي ينبغي أن يتجهز لها العبد فيؤدي ذلك الإيمان إلى تحيُّن أي فرصة لإرسال ما يُمكن إرساله من أموال وخلافه إلى داره الباقية «هناك»، ويجد صعوبة في إبقاء الشيء لداره الدنيوية التي يشعر أنه سيتركها بين لحظة وأخرى. ولك أن تتأكد من هذا المعنى أكثر وأكثر إذا ما راجعت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه مات ودرعه مرهونًا عند يهودي مع أنه صلى الله عليه وسلم قد جاءته أموال كثيرة من الغنائم كغنائم خيبر والطائف، لكنه كان يُنفقها إنفاق من لا يخشى الفقر، فكما يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر (¬1). وعن عائشة أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بقي منها؟» قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: «بقي كلها إلا كتفها» (¬2). ولقد مرَّ علينا قول أبي الدرداء عندما عوتب في عدم وجود أغطية في بيته تقيه وتقي ضيوفه من برد الشتاء حيث قال: لنا دار هناك نُرسل إليها تباعا كل ما نحصل عليها من متاع، ولو كُنَّا استبقينا في هذه الدار شيئا منها لبعثنا بها إليكم. وليس معنى هذا هو حب الفقر والرغبة فيه، فلقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه «وأعوذ بك من الكفر والفقر» (¬3). ولكننا - هنا - نتكلم عن حالة إيمانية سامقة يعيشها القلب تدفعه إلى الضن بالمال على الدنيا، والاكتفاء بأقل القليل لتيسير أموره فيها، وإرسال كل ما يُمكن إرساله إلى الدار الباقية. ولقد كان هناك أثرياء في الصحابة رضوان الله عليهم نتيجة عملهم في التجارة كعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، ولكنهم كانوا يُحبون إنفاق أموالهم أكثر من حبهم لإمساكها، بل كانوا يتحينون أي فرصة تتاح لهم لبذل تلك الأموال كما فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة، وشراء بئر رومة، وكما فعل عبد الرحمن بن عوف - كما مرَّ علينا - عندما أخرج كل تجارته التي جاءت من الشام لله عز وجل بعدما بلغه قول السيدة عائشة: بارك الله فيما أعطاه في الدنيا، ولثواب الآخرة أعظم. النمو الإيماني والتعلق بالبشر: في أوقات الغفلة وقبل حدوث اليقظة الإيمانية، تكون ثقة المرء في ربه، وفي أنه مالك الكون ومدبر أموره والقائم عليه؛ محدودة، وفي المقابل تكون ثقته في الناس وفي قدراتهم الظاهرة أمامه كبيرة، ومن ثَمَّ يزداد إيمانه في إمكانية نفعهم أو ضرهم له، فيسعى لنيل رضاهم والاستفادة منهم، لذلك تجده يتزين لهم بأقواله وأفعاله .. يفرح بمدحهم، ويحزن من نقدهم .. يسعى دوما لتحسين صورته أمامهم لعله ينال حظوتهم. فإذا ما حدثت اليقظة وازداد الإيمان نموًّا في القلب ازدادت تبعًا له الثقة في الله عز وجل، ومن ثَمَّ تحولت هذه المشاعر تدريجيًّا نحوه سبحانه، وانصرفت عن الناس، فيقل الاهتمام بهم والتفكير فيهم، والحرص على نيل رضاهم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الفضائل (2312). (¬2) حديث صحيح: أخرجه أحمد (6/ 50)، والترمذي (4/ 644، رقم 2470) وقال: صحيح، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2544). (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة (6/ 24، رقم 29184)، وأبو داود (4/ 324، رقم 5090)، وأحمد (5/ 42، رقم 20446)، وقال الشيخ الألباني صحيح الإسناد.

النمو الإيماني والتعامل مع أحداث الحياة

وكلما نما الإيمان أكثر نقص التعلق بالناس، والطمع فيهم حتى يصل المرء لدرجة الاستغناء القلبي عنهم، أو بمعنى آخر: ينقطع تعلق القلب بهم من حيث النفع والضر. نعم هو قد يطلب مساعدتهم في بعض الأعمال، لكنه يتعامل معهم باعتبار أنهم من جملة الأسباب التي قد يأخذ بها، أما الذي يُحرك الأحداث ويُنشئ النتائج فهو الله عز وجل، وما البشر إلا ستار لإظهار قدرته وربوبيته. وكذلك فهو قد يأخذ منهم ما يُعطونه إياه بطيب نفس، ولكن يأخذه بمشاعر من يأخذ من الله عن طريقهم، وأنهم مجرد أدوات لتوصيل رزق ربه - سبحانه - إليه. وهكذا تظهر بالتدريج ثمار الاستغناء عن الناس تبعًا لنمو الإيمان الحقيقي في القلب. النمو الإيماني والتعامل مع أحداث الحياة: الحياة الدنيوية ما هي إلا مشهد عظيم تتجلى فيه مظاهر صفات الله عز وجل {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]. والهدف العظيم من وجود المخلوقات بهذه الكثرة على اختلاف أشكالها وألوانها وأوصافها هو الدلالة على الله {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]. والهدف كذلك من تقلبات أحداث الحياة من سرَّاء وضرَّاء، وعطاء ومنع، وصحة ومرض، إلخ؛ هو إظهار قدرته سبحانه وقيُّوميته، وعزته، ورحمته، وحكمته ... وسائر صفاته. والإنسان هو المخاطب بهذا كله، وعليه أن يتعرف على ربه من خلال هذه المشاهد والأحداث التي تحدث أمامه، ويُشاهدها دومًا {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65]. لكن ظلمات الهوى والانكفاء نحو طين الأرض قد تحُول بينه وبين الرؤية الصحيحة والتحليل الحقيقي لهذه المشاهد والأحداث {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]. فإذا ما استيقظ الإيمان؛ فإنه في البداية يكون بمثابة بصيص من النور يظهر في القلب يجعله ينتبه - بعض الشيء - لِما يجري حوله، وبخاصة في الآيات الكبيرة التي يرسلها الله عز وجل. فإذا ما نما الإيمان أكثر، قوي نور البصيرة أكثر لتزداد الرؤية العامة وضوحًا، ويزداد ربط الأحداث والمشاهد بالله عز وجل. نعم، من المتوقع ألا تكون هذه الرؤية حاضرة في كل الأوقات، بل ستكون نسبتها محدودة، ولكنها ستزداد مساحتها - بإذن الله - بمرور الوقت وازدياد النمو الإيماني، لتسيطر على فكر العبد ومشاعره، فتجعله يعيش بكيانه في حقيقة التوحيد، فيَعْبُر من المشاهدة إلى شهود صفات الله عز وجل وهي تعمل، فيربط كل ما يحدث أمامه وكل ما يشاهده بالله عز وجل {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63، 64]. {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].

مع المنع والعطاء

وكان صلى الله عليه وسلم يعيش بكيانه كله في هذه الحقيقة .. انظر إليه وهو يقول لأصحابه: «إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، يخوِّف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فصلُّوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» (¬1). وكان يقول: «إنما أنا مبلغ والله يهدي، وإنما أنا قاسم، والله يُعطي» (¬2). وعندما مات ابن لزينب ابنته قال: «قولوا لها: لله ما أخذ ولله ما أعطى ... » (¬3). ولقد كان الصحابة كذلك يعيشون في ظلال هذه الحقيقة، فهذا عبد الله بن عتيك بعد أن قتل أبا رافع اليهودي في حصن خيبر يعود مسرعًا إلى أصحابه يُبشرهم بقتله ويستحثهم على سرعة مغادرة المكان، ومع هذا الوضع المتوتر إلا أنه لم ينس تلك الحقيقة فقال لهم: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع (¬4). وهذا الطفيل بن عمرو الدوسي يقُصّ على من حوله قصة إسلامه فيقول: وأبى الله إلا أن يُسمعني بعض قوله (¬5) .. وهذا سعد بن أبي وقاص يُرسل رسالة إلى عمر بن الخطاب يُبشره فيها بنصر القادسية فيقول فيها: ولقد استشهد «الله» فلانًا وفلانًا (¬6). مع المنع والعطاء: ومع انعكاس النمو الإيماني على وضوح الرؤية لآيات الله المختلفة، فإنه أيضًا ينعكس على طريقة استقبال العبد لها، وتعامله معها، فتجده يربط النعم التي تَرِد عليه بالله المنعم، ويفرح بفضله - سبحانه - ويستكثر على نفسه هذا الفضل، ومن ثَمَّ تهيج مشاعر الامتنان لله عز وجل في قلبه ليعيش حالة القلب الشاكر. وفي أوقات المحن والبلايا تجده - وإن تضايق قليلًا في البداية - إلَّا أنه سرعان ما يعود به إيمانه إلى الصبر وعدم الجزع أو التَسخُّط، بل ومن المتوقع - مع استمرار النمو الإيماني - أن يعيش المرء في حالة الرضا عن الله، فيسكن قلبه مهما تقلَّبت به الأحداث. وباستمرار النمو الإيماني يزداد فهم العبد لأحداث الحياة وتقلباتها وبخاصة المؤلمة منها لتتحول كلها في نظره إلى عطاء من الله عز وجل {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]. ومما يلزم التنويه إليه أنه مهما ارتقى الإيمان في قلب العبد إلا أن بشريته - وما فيها من ضعف - لن تُفارقه، لذلك فمن المتوقع أن تَزِلّ الأقدام في بعض الأمور القليلة والنادرة، لكن داعي الإيمان سُرعان ما يدفع صاحبه للعودة السريعة والتوبة النصوح، واستئناف السير إلى الله {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]. ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (1/ 353، برقم 993)، ومسلم (3/ 35، برقم 2153). (¬2) حديث صحيح: أخرجه أحمد (28/ 133، برقم 16936)، و الطبراني في المعجم الكبير (19/ 389، رقم 914)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1628). (¬3) جزء من حديث أخرجه البخاري (6/ 2435، برقم 6228). (¬4) جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه ج 4/ ص 1484 حديث رقم: 3813، انظر السيرة النبوية لعلي الصلَّابي 2/ 418. (¬5) معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني- (11/ 175، برقم 3500)، السيرة النبوية لابن هشام (2/ 226). (¬6) البداية والنهاية لابن كثير

النمو الإيماني والحالة القلبية

النمو الإيماني والحالة القلبية: كلما نما الإيمان وازداد نوره في القلب كلما أحس المرء بانشراح في صدره، وتضاءلت أوقات شعوره بالضيق، فإذا ما استمر النور في دخول القلب ازدادت مساحة الحياة فيه، وشيئًا فشيئًا تُصبح مساحة الحياة في القلب أكبر وأكثر اتساعًا من غيرها، فيحدث حدث هام ومادي يشعر به المرء في لحظة سعيدة من لحظات عمره، ألا وهو شعوره بتحرك قلبه في صدره حركة سريعة ومضطربة، وهذا ما يُسمى بولادة القلب الحي، أو «الولادة الثانية»، والتي يصفها أحد السلف بقوله: كنت ساجدًا في صلاة فجر يوم من الأيام، وقُمت من السجود لكني شعُرت بأن قلبي لم يقُم من سجدته .. أي: حدث له خشوع وهبوط وشدة انجذاب إلى الأسفل، وعندما قام البدن من السجود ظلَّ القلب كما هو، ثم يعود بعد ذلك إلى حالته الطبيعية إلى أن تأتي لحظات أخرى في الصلاة أو الذكر أو الدعاء أو التفكر، يتكرر فيها هذا الأمر بصورة لا إرادية. وتفسير هذا الأمر أن القلب قبل ذلك يكون متعلقًا بأشياء تَحول بينه وبين العبودية الحقَّة لله عز وجل، كالتعلق بالمال، أو الناس أو المنصب، أو العقار .. هذه الأشياء تكون بمثابة السجن الذي يعيش فيه العبد، والوثاق الذي يُقيِّده، فإذا ما نما الإيمان في قلبه ضعُفت تلك العلائق والأغلال، حتى تأتي اللحظة السعيدة عندما تنقطع وتنفصل عن القلب، فيصير حُرًّا منها، مُتعلقًا بربه، لذلك تجده يخشع ويهبط ويضطرب عند ذكر الله، ودعائه، والتضرع إليه ... وفي هذا المعنى يقول ابن القيم: فللروح في هذا العالم نشأتان، إحداهما: النشأة الطبيعية المشتركة، والثانية: نشأة قلبية روحانية، يُولد بها قلبه، وينفصل عن مشيمة طبعه، كما وُلد بدنه وانفصل عن مشيمة البطن. وفي كتاب «الزهد» للإمام أحمد أن المسيح عليه السلام قال للحواريين: إنكم لن تلِجوا ملكوت السماوات والأرض حتى تُولدوا مرتين. ويستطرد ابن القيم قائلًا: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: هي ولادة الأرواح والقلوب من الأبدان، وخروجها من عالم الطبيعة، كما وُلدت الأبدان من البدن، وخرجت منه (¬1). وعندما تحدث - بإذن الله وفضله - تلك الولادة للقلب، فإنه ينتقل إلى مرحلة جديدة من مراحل حياته، وتظهر آثارها بوضوح في تفاعله مع الأحداث فيصبح قلبًا رقيقًا سريع التأثر بالمواعظ، سريع الوجل والاضطراب عند ذكر الله {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] .. سريع الحضور والاستدعاء في الدعاء والذكر والفكر والصلاة وبخاصة عند تكبيرة الإحرام. يشعر صاحبه بهبوطه وخشوعه كحالة من حالات التأثر والتجاوب مع قراءة القرآن أو الدعاء أو الذكر أو المناجاة {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109]. وتزداد سرعة وقوة هذا التفاعل كلما زاد نور الإيمان فيه. النمو الإيماني والعلاقة مع الله عز وجل: لكل واحد منَّا علاقات مع الآخرين .. هذه العلاقات تتفاوت ما بين القوَّة والضعف، فهناك من يحتل المرتبة الأولى، وهناك من يحتل المرتبة العاشرة، وهناك من يحتل المرتبة الخمسين، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه المراتب لا يتم ترتيبها بقرارات من الشخص، بل هي نتيجة ممارسات، ورصيد، وثقة، ومشاعر. ولكل مرتبة مظاهر تميزها عن غيرها، فصاحب المرتبة الأولى له مكانة خاصة عند المرء تجعله يُسِرُّ له بأسراره، ويستشيره في خصوصياته ... يفرح بقربه، ويشتاق إلى رؤيته، ويَتَحيَّن أي فرصة للقائه، ويسعد بصحبته، ولا يمل من هذه الصحبة مهما طالت المدة. أما صاحب المرتبة الخامسة - مثلًا - فالأمر يختلف .. نعم، هو يفرح برؤيته ويسعد بصحبته، ولكن ليس كالأول. ¬

_ (¬1) مدارج السالكين لابن القيم (1/ 146).

أهداف التربية الإيمانية

أما صاحب المرتبة العاشرة فالعلاقة أقل بكثير ممن سبقه. فإذا ما سأل الواحد منَّا نفسه عن علاقته بربِّه، وأي مرتبة تحتل؟ فإننا سنُفاجأ بأنها ليست في المراتب الأولى، وذلك من خلال رصد مظاهر هذه العلاقة .. فلا شوق إلى لقائه، ولا أُنس بمناجاته، ولا سعادة في قربه، ولا فرح بالخلوة به، ولا تنعُّم بذكره، وكل هذا بسبب ضعف الإيمان، وضعف الثقة به سبحانه. فإذا ما حدثت اليقظة الإيمانية الحقيقية، ونما الإيمان في القلب، فإن هذه العلاقة تتحسن تدريجيًّا، وتنتقل من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها، وتستمر في الصعود كلما زاد الإيمان حتى تحتل المرتبة الأولى، حيث تزداد الرغبة في الله، والرضا به، والسعادة في ذكره، والبهجة في تلاوة كلامه، والأنس في الخلوة به ومناجاته. يزداد الحضور القلبي الدائم معه ليُثمر سؤاله وطلب مساعدته في أموره كلها، وإشهاده على ما يحدث له من تكذيب المكذبين، أو إعراض المُعرضين. ينتظر الفرصة التي يخلو فيها المكان، وتهدأ الأصوات ليخلو بربه، ويبُثُّ إليه أشواقه، ويعرض عليه شكايته، ويطلب منه حاجته .. يُسارع في استرضائه إذا ما وقع منه تقصير أو تجاوُز .. يزداد بذله للجهد في خدمة دينه، ودعوة خلقه إليه .. يشعر بالغنى به، ويعيش قلبه في حالة من الامتنان نحوه سبحانه. يزداد ويزداد تعلقه به، واستغنائه عن غيره. هذا هو معنى الوصول إلى الله في الدنيا، فكما يقول ابن رجب: الوصول إلى الله نوعان: أحدهما في الدنيا، والثاني في الآخرة. فأما الوصول الدنيوي فالمراد به: أن القلوب تصل إلى معرفته، فإذا عرِفته أحبَّته وأنِست به، فوجدته منها قريبًا، ولدعائها مجيبًا، كما في بعض الآثار: ابن آدم، اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتُّك فاتك كل شيء. وأما الوصول الأخروي: فدخول الجنة التي هي دار كرامة الله لأوليائه، ولكنهم في درجاتها متفاوتون في القرب بحسب تفاوت قلوبهم في القرب: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10، 11] (¬1). أهداف التربية الإيمانية تم بفضل الله الحديث في الصفحات السابقة عن مراحل النمو الإيماني والتي من المفترض أن يشعر بآثارها الفرد في تعامله مع ربه، ومع الدنيا، ومع الناس، ومع أحداث الحياة، ويشعر بآثارها كذلك في أحوال قلبه. ويمكننا أن نُصيغ هذه المراحل في أهداف ثلاثة؛ نضعها أمامنا ونسعى للوصول إليها .. هذه الأهداف هي: أولًا: الهدف القريب: وهو تمكُّن واستحكام اليقظة من القلب، فلا نريد يقظة لحظية، بل نريدها يقظة حقيقية دائمة تتمكن من القلب لتبدأ معها الحياة تدب في جنباته، ولقد أجمل آثارها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن علامات دخول النور القلب فقال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» (¬2). ثانيًا: ولادة القلب الحي: هذا الهدف لا يمكن الوصول إليه إلا باستمرار تزويد القلب بالإيمان بعد تمكُّن اليقظة منه، والمقصود بولادة القلب الحي: أي تحرره من أَسر الهوى وانفصاله عنه. أو بمعنى آخر: انقطاع الحبل الذي يجمع العلائق التي كان القلب مُتعلقًا بها من دون الله كالمال والجاه والناس، التي تحول بينه وبين التعلق التام بالله عز وجل، والالتزام به، والتوجه الدائم نحوه. ¬

_ (¬1) المحجة في سير الدلجة للحافظ ابن رجب. (¬2) سبق تخريجه.

هذه الولادة تتم عندما يعلو النور في القلب على الظلمة بصورة كبيرة، ومن علامات حدوثها: رقة القلب وسرعة تأثره بالمواعظ، وهبوطه وخشوعه وسجوده لله، وسهولة استدعائه إذا أراد صاحبه استحضاره، ومن آثارها كذلك: تحسن ملحوظ في علاقات المرء المختلفة، فيزداد قربه من ربه، وتعلقه به، وتنقص رغبته في الدنيا بصورة ملحوظة، ويقل طمعه في الناس، ويزداد تشميره نحو الجنة ... ومن آثارها كذلك: راحة البال والشعور بالسكينة والطمأنينة والسلام الداخلي. الهدف الثالث: الحضور القلبي الدائم مع الله، والتعلق الشديد به - سبحانه - أو بمعنى آخر: تحقيق قوله صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه» (¬1)، وهذا يحدث إذا ما استمر الإمداد الإيماني للقلب، فيزداد فيه النور، حتى يصير قلبًا سليمًا أبيضًا، ومن آثار ذلك: خضوع المشاعر والسلوك في مجمله لله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» (¬2). وقال: «لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ... » (¬3). ومن آثارها كذلك: التعامل مع أحداث الحياة وتقلباتها المختلفة تعاملًا إيمانيًّا كما قال صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ولا يكون هذا إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» (¬4). والقلب في هذه المرحلة العظيمة يعيش في سعادة عظيمة وعلاقة متينة مع ربه .. فهو شاكرٌ لأنعمه، صابرٌ على بلائه، راضٍ بقضائه، مطمئنٌ بذكره، في شوق دائم إليه وتوجه مستمر نحوه. نسأل الله عز وجل أن يشملنا بعظيم فضله، وأن يجعلنا من أصحاب القلوب السليمة المطمئنة، وأن ينورها بنور الإيمان به، ويخرجها من ظلمات الجهل والغفلة والهوى. ¬

_ (¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (1/ 27، رقم 50)، ومسلم (1/ 39، رقم 9). (¬2) حديث صحيح: أخرجه أبو داود (4/ 354، برقم 4683)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم (5965). (¬3) حديث صحيح: أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (1/ 58)، وقال الهيثمى: إسناده حسن. وأخرجه أيضًا: أحمد (6/ 441، رقم 27530)، قال الهيثمي (7/ 197): رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات. (¬4) أخرجه مسلم (4/ 2295، رقم 2999).

الفصل الرابع حقيقة الإيمان

الفصل الرابع حقيقة الإيمان

الهدف الذي ترمي إليه صفحات هذا الفصل هو وضوح الرؤية حول حقيقة الإيمان، والفارق بين الإيمان والعمل الصالح (عبادات القلوب، وعبادات الجوارح)، وكيف نعرف أن إيماننا قد ازداد مع الطاعة أم لم يزدد؟ وتُجيب هذه الصفحات عن السؤال الذي يشغل بال الكثيرين: لماذا لا نرى آثارًا سلوكية إيجابية للأعمال الصالحة التي نؤديها؟! وإن كان الحديث في هذا الفصل يغلب عليه الجانب العقلي إلا أن له أهمية كبيرة في الفهم المتكامل لحقيقة الإيمان .. هذا الفهم سيكون له - بإذن الله - انعكاسًا إيجابيًّا على طريقة التعامل مع العبادات والأعمال الصالحة. لذلك أطلب من نفسي ومنك - أخي القارئ - أن نقرأ هذه الصفحات بهدوء وتركيز شديدين، وأن تكون قراءة متصلة غير منقطعة لأنها تتضمن أفكارًا وعناصر متسلسلة ينبني كل واحد منها على الآخر، والله المستعان.

الدنيا والمال

الفصل الرابع حقيقة الإيمان رأينا فيما سبق كيف أن للإيمان آثارًا عظيمة تنال الفرد والأمة، كما تم - بفضل الله - الحديث عن مراحل النمو الإيماني، وأهداف التربية الإيمانية ليبقى السؤال: وكيف لنا أن نُحقق هذه الأهداف ونرى هذه الآثار؟ هل المطلوب لكي نتمتع بثمار الإيمان أن نؤدي الصلاة على وقتها، وأن نُطيل المكث في المسجد، ونُكثر من القيام بالأعمال الصالحة المختلفة؟ مع الأهمية القصوى لهذه الأعمال إلا أننا نُشاهد من يقوم بها أو ببعضها، ولا نرى آثارًا مثل التي ذُكرت سابقًا أو حتى قريبة منها، بل قد نجد العكس .. قد نجد شخصًا يحافظ على أداء الصلوات في المسجد، ويُصلي النوافل، ويُكثر من ذكر الله بلسانه، ومع ذلك تجده شديد الحرص على ماله، يحسب كل شيء بأدق تفاصيله .. يُفكر دومًا في تحصيل حقِّه أولًا قبل حقوق الآخرين، شديد التركيز مع الدنيا، إذا ذهب لشراء شيء ما تجده - في الغالب - ينتقل بين الحوانيت للبحث عن الأرخص ثمنًا، فإذا ما استقر على حانوت ما، تجده يدخل في صراع مع البائع لتخفيض الثمن إلى أقصى ما يُمكن تخفيضه. وإذا ما كان صاحب عقار تجده يتعامل مع المستأجرين معاملة جافة غليظة، ويجتهد في التنصل من حقوقهم عليه. قد يُعامل زوجته وأولاده معاملة حادَّة وجافة، فيُحاسبهم على كل شيء، ويُدقق معهم في كل صغيرة وكبيرة. يُصاب بالفزع والهلع إذا ما أُصيب ماله بخسارة ولو طفيفة، أو ضاعت من بين يديه صفقة رابحة .. يحسد الآخرين على فضل الله عليهم، وفي المقابل تجده يخاف من الحسد خوفًا شديدًا، فلا يكاد يُظهر فضل ربه عليه وإن اضطره ذلك للكذب. وليس هذا خاصًّا بالأغنياء فقط، فالفقراء ومتوسطوا الحال كذلك قد تجد فيهم بعض التناقض بين عباداتهم الظاهرة وبين سلوكياتهم ومعاملاتهم، ومن ذلك: شدة حرصهم على الدنيا، والحزن على فوات شيء يسير منها، والتلهُّف عليها، وكثرة التفكير في المستقبل. وينكشف حجم الإيمان الضعيف أكثر وأكثر عند المساس بمصالحهم الدنيوية، فلا غضاضة من الكذب، وعدم الوفاء بالعهود والوعود إذا كان هذا سيحقق لهم نفعًا أو يصرف عنهم ضرًّا. الدنيا والمال: مما لا شك فيه أن المحافظة على أداء الصلوات من مظاهر الإيمان، ولكن عندما لا تتواكب هذه المظاهر مع هوان الدنيا في عين صاحبها، وضآلة حجمها في قلبه، فإن ذلك يُعد بمثابة مؤشر خطير لعدم تمكُّن الإيمان من قلبه، وعدم وصوله لمرحلة «استحكام اليقظة». فإن قلت: أليس الإيمان هو الذي دفعه للصلاة؟! نعم، الذي دفعه لأداء الصلاة - بجوارحه - هو القدر المحدود من الإيمان في قلبه، وفي المقابل فإن الذي يمنعه من التفاعل معها والتأثر بها هو محدودية هذا الإيمان وعدم يقظته، والدليل على ذلك هو عدم ظهور آثار أدائه للصلاة على سلوكه بصورة ملحوظة. ونفس الكلام ينطبق على الأخلاق والمعاملات، فإن لم يحدث تحسن فيها فإن ذلك يعني أن الإيمان لم يتحسن وإن قام المرء بأداء الكثير من صور العبادات والأعمال الصالحة. فأين تكمن المشكلة؟ .. أين أثر العبادة؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تدعونا لأن نتعرف أكثر على القلب وعلى الإيمان وحقيقته ... القلب والمشاعر: الإيمان مكانه القلب وليس العقل {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41]. والقلب هو مركز الإرادة داخل الإنسان، وهو الملك على الجسد كله وما من فعل أو سلوك إرادي نقوم به إلا ويأخذ الأمر بالتنفيذ من القلب: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله .. ألا وهي القلب» (¬1). ¬

_ (¬1) جزء من حديث متفق عليه: أخرجه البخاري (1/ 28، رقم 52)، ومسلم (3/ 1219، رقم 1599).

الإيمان والمشاعر

ومن أهم خصائص القلب أنه مَجمع المشاعر داخل الإنسان .. مشاعر الحب والشوق، والرغبة والرهبة، والطمأنينة، والاشمئزاز، والجزع والهلع، والرعب، والغيظ، والرأفة والرحمة، والوجل والسكينة ... . {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12]. {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]. {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الزمر: 45]. {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4]. {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27]. {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156]. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]. {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 15]. معنى ذلك أن الدافع والمُحرك للسلوك الإرادي هي المشاعر. الإيمان والمشاعر: ولأن الإيمان محله القلب، والقلب هو مجمع المشاعر داخل الإنسان، فالإيمان - إذن - محله المشاعر: - {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]. - {فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54]. - {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]. ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تؤكد هذا المعنى: «ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يُحب المرء لا يُحبُّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلقى في النار» (¬1). وقوله: «أوثق عُرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله» (¬2). فالإيمان - إذن - هو الذي يوجه المشاعر، ومن ثَمَّ السلوك، مع الأخذ في الاعتبار أن الهوى أيضًا له دور بارز في توجيه المشاعر، ولكن ما هو الهوى؟ الهوى والمشاعر: من تعريفات النفس أنها مَجمع الشهوات والغرائز داخل الإنسان، والهوى هو ما تميل إليه النفس. والنفس تهوى الراحة وتكره التكليف، تُحب الظهور والمدح، وتكره النقد والذم، تُحب الاستمتاع بالشهوات، وتضيق بمنعها، ترغب في الانتصار لرأيها، وتنفر ممن يُخالفها. هذه الأهواء لا يُمكن التعبير عنها على أرض الواقع إلا من خلال القلب، لأنه هو مركز الإرادة، لذلك فهي تعمل على السيطرة عليه، والتمكُّن من المشاعر لتستطيع من خلالها تنفيذ ما تُريده وتهواه. الصراع بين الإيمان والهوى: الإيمان محله المشاعر، والهوى كذلك. والمشاعر هي الدافع الأساسي للسلوك الإرادي، فلمن تكون الغلبة على المشاعر؟ ومن الذي يستطيع الاستئثار بها: الإيمان أم الهوى؟ الإجابة عن هذا السؤال يُحددها قوة أحدهما عند القيام بالأعمال المختلفة، فعلى سبيل المثال: ¬

_ (¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (1/ 14، برقم 16)، ومسلم (1/ 67، رقم 43). (¬2) حديث صحيح: أخرجه الطبراني (11/ 215، رقم 11537). والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 70، رقم 9513)، وقال الشيخ الألباني في صحيح الجامع: صحيح، رقم: (2539).

هل الإيمان هو المعرفة؟

عندما يستيقظ المرء وقت آذان الفجر يحدث صراع داخلي بين إيمانه بالله الذي يُملي عليه الامتثال لأوامره بالقيام للصلاة، وبين هوى نفسه وحبها للراحة والنوم، فإن كان الإيمان وقتها أقوى من الهوى فمن المتوقع أن يقوم المرء من فراشه، وينطلق للصلاة، وإن كان الهوى هو الأقوى كان الإخلاد إلى النوم هو القرار النهائي، ويؤكد هذا قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]. هل الإيمان هو المعرفة؟: يُعرِّف البعض الإيمان بأنه هو المعرفة، معرفة أن الله عز وجل هو رب كل شيء، وأنه هو الخالق، القدير، الرزاق ... . ولكننا نرى أُناسا يُقرُّون بربوبية الله ولكنَّهم لا يتوجهون إليه بالعبادة، فلو كان الإيمان هو مجرد المعرفة لدفعتهم تلك المعرفة إلى التوجه بالعبادة نحوه، وخشيته وتقواه والتوكل عليه. ولقد قصَّ القرآن علينا نماذج لهؤلاء: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31]. {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 84 - 87]. فالمشركون يعرفون أن الله هو ربُّ كل شيء، ويُقرُّون بألسنتهم بهذه الحقيقة لكنهم - مع ذلك - لا يعبدونه .. لماذا؟! لأن هذه المعرفة لم يصل مدلولها إلى القلب فتصبح إيمانًا، والدليل على ذلك هو عدم تنفيذهم لمقتضيات هذه المعرفة، فلو كانت معرفة إيمانية لدفعتهم إلى التوجه إلى الله بالعبادة، أما المعرفة العقلية البحتة فلن تكون دافعًا للسلوك إلا إذا انتقل مدلولها إلى القلب، وامتزجت بالمشاعر، وأصبحت إيمانًا راسخًا فيها. فإن كان الأمر كذلك، فما هو الإيمان؟ الإيمان بالشيء هو التصديق به {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج: 26]. والإيمان محله القلب ... فكيف يكون تصديق القلب للشيء؟ تصديق القلب للشيء هو اطمئنانه له، وثقته فيه، وعدم الارتياب أو الشك فيه {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]. انظر إلى قول اليهود كما أخبرنا القرآن {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران: 73]. أي: لا تثقوا ولا تطمئنوا ولا تُصدِّقوا إلا من تبِع دينكم. وعدم الإيمان بالشيء هو رفضه وإنكاره والتشكيك فيه {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22]. {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45]. فأول وأهم مرحلة للانقياد للشيء هي الإيمان به (أو الاطمئنان له، والثقة فيه)، فالذي يأخذ دواء ما لابد وأن يكون قد اطمأن له بقلبه، وألَّا يكون شاكًّا ولا مُرتابًا فيه.

الفارق بين القناعة العقلية بالفكرة وبين الإيمان بها

والذي يجد أمامه عدة طرق، ولا يدري أيهم يوصله إلى مقصوده فإنه يظل يسأل ويتقصى حتى تزول حيرته، ويطمئن إلى الطريق الصحيح، فيتوجه إليه، فإن لم يترجح لديه طريق، وسار في أحدهم من باب التجربة، تجده شاكًّا مرتابًا متحيرًا أثناء سيره، ويظل كذلك حتى يجد علامة أو آية تُذهب حيرته، وتبعث الإيمان والاطمئنان إلى قلبه بأن ما يسير فيه هو الطريق الصحيح .. تأمل قول الحواريين وهم يطلبون من عيسى بن مريم عليه السلام نزول مائدة من السماء عليهم {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: 113]. من هنا نقول بأن الإيمان هو تصديق القلب واطمئنانه وثقته في الفكرة التي تُطرح على العقل. هذه الثقة تبدأ صغيرة وتنمو إذا ما تم تغذيتها حتى تصل إلى ثقة مطلقة بلا أدنى ريب أو شك. الفارق بين القناعة العقلية بالفكرة وبين الإيمان بها: قد تُناقش شخصًا ما في أمر من الأمور فيقتنع أمامك بما تقول لكنه لا يفعل مقتضيات هذا الاقتناع، كأن تُناقشه - مثلًا - في ضرورة وأهمية مقاطعة منتجات الدول التي أساءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعرفه كيف يُمكن لهذه المقاطعة أن تؤثر على هذه الدول، فيُبدي أمامك اقتناعه بما تقول بعد سلسلة من الاعتراضات والمناقشات، وبعد ذلك تجده لا يُقاطع تلك المنتجات، فما السبب في ذلك؟ السبب أنه وإن كان قد اقتنع بعقله إلَّا أن قلبه لم يطمئن اطمئنانًا كاملًا لما تقول، أي أنه لم يؤمن بما تقول {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41]. ومما لا شك فيه أن بداية الإيمان بالشيء هو الإقرار العقلي به، ولكن إن توقف هذا الإقرار عند حدود العقل، ولم يمتزج بالمشاعر، ولم تحدث الطمأنينة والثقة فيه، فقد ابتعد عن مفهوم الإيمان، ومن ثَمَّ فلن تظهر له ثمرة في السلوك، وهناك أمثلة كثيرة تؤكد هذا المعنى: فدراسة أبحاث القضاء والقدر من كتب العقيدة وعلم الكلام، قد تصل بالمرء إلى الاقتناع بحقيقة القضاء والقدر، إلا أنها - في الغالب - لا تُنشئ إيمانًا حقيقيًّا به بحيث تظهر آثاره عند مواجهة الأقدار المؤلمة، وسبب ذلك أن أغلب هذه الكتب تُخاطب الفكر فقط، ولا تؤثر في المشاعر، وفي المقابل لك أن تقرأ القرآن وتنظر إلى طريقته في إقناع العقل وإلهاب المشاعر فيمتزج الفكر بالعاطفة وينشأ الإيمان - إن انتفت الموانع (¬1)، ومثال ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]. ¬

_ (¬1) هناك موانع للإيمان تندرج جميعها تحت سببين اثنين: الجهل والهوى، فالجهل بالحق وعدم معرفته وعدم وصوله للفرد بطريقة صحيحة هو السبب الأول، أما السبب الثاني وهو الهوى: فهو إما أن يكون بسبب الكبر واستعظام النفس أن تسمع من غيرها، أو بسبب حُبّ الدنيا والرغبة في الاستمتاع بها دون ضوابط أوتكاليف، أو خوفًا على النفس من تبعات الإيمان بالحق {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50].

شمول معنى الإيمان

فهذا خطاب يُناقش العقل بالحجة ويتحدَّاه حتى يُقر بالعجز فيقتنع بصدق الرسالة وأنها من عند الله، لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك، بل نجد الآيات التي تتلوها تُخاطب المشاعر حتى يحدث المزج بين الفكر والعاطفة {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 24]. وخلاصة القول في هذه المسألة بأنه ليست العبرة فقط بتصديق العقل واقتناعه بالشيء الذي يراه أو يسمع عنه، بل لابد من أن يُصاحب ذلك تصديق قلبي، أي: اطمئنان وثقة ورضا بهذه المعلومة. انظر إلى هذا التسلسل الواضح للسلوك الإرادي (إصغاء من العقل للمعلومة، ثم تصديق واقتناع بها ثم طمأنينة ورضى قلبي يدفع للسلوك) وذلك في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112، 113]. شمول معنى الإيمان: والجدير بالذكر أن الإيمان كلمة عامة تشمل كل تصديق واطمئنان وثقة قلبية بأي شيء يقتنع به العقل وإن كان باطلًا {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]، {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72]. لذلك نجد تضحيات عظيمة من بعض أصحاب الأفكار الباطلة في سبيل نشر دعوتهم وإعلاء رايتهم، فهم يفعلون ذلك بدافع إيمانهم القوي بهذه الأفكار. بل إن هذا الأمر يشمل أمور الدنيا كذلك، فالذي يذهب لطبيب ما ويُفضّله على غيره، فإنه يفعل ذلك بدافع ثقته فيه أو بمعنى آخر: إيمانه به، وكذلك الذي يقوم بإصلاح سيارته عند شخص ما دونًا عن غيره، و ... إلخ. مفهوم الإيمان بالله: فإن أردنا أن نُخصص مفهوم الإيمان العام على «الإيمان بالله عز وجل»، فيكون الإيمان بالله هو الثقة والطمأنينة فيه سبحانه .. في قدرته المطلقة، وقيُّوميِّته الدائمة، وقوته غير المُتناهية، وعلمه الذي أحاط بكل شيء، وحكمته العظيمة، وسعة حلمه، وكرمه، و ... . وكلما ازداد الإيمان بصفاته سبحانه، أو بمعنى آخر: كلما ازدادت الثقة في هذه الأسماء والصفات؛ كُلَّما انعكس ذلك على تعامل العبد معه، بمعنى أنه كلَّما ازدادت الثقة في الله «الحكيم» ازدادت حالة الرضا عند العبد، وكلَّما ازدادت الثقة في قيُّوميِّة الله وإحاطته بكل شيء ازدادت حالة التقوى والتوكل على الله. وهكذا يكون انعكاس زيادة الثقة (الإيمان) بالله وبأسمائه وصفاته على القلب هو مزيد من العبودية له من تقوى، وحب، وتوكل، ورغبة ورهبة، وإنابة، وتعظيم، ومهابة. ونفس المعنى ينطبق على جميع أركان الإيمان، فكلَّما ازداد الإيمان بالبعث (الثقة في حدوثه) كلما زاد تشمير العبد في الاستعداد له ... وهكذا.

الإيمان محض فضل من الله عز وجل

الإيمان محض فضل من الله عز وجل: مع كل ما قيل وسيقال - بإذن الله - في هذه الصفحات عن الإيمان وحقيقته وموانعه إلا أنه لابد من التذكير والإقرار بالأمر الأساسي في هذه القضية ألا وهو: أن الإيمان محض فضل من الله عز وجل، حتى لا تُنسى هذه الحقيقة في خضم هذا الحديث. فإن كانت البداية هي اقتناع العقل بالحق، فإن انتقال هذه القناعة إلى المشاعر واطمئنانها بها، وثقتها فيها محض فضل من الله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125]. ومع ذلك فإن هذا الفضل يمنحه الله عز وجل لمن يجد لديه رغبة، واستعدادًا لذلك، تأمل قول الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7، 8]. فالآية الأولى تنتهي بقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} أي: الذين استخدموا عقولهم استخدامًا صحيحًا في البحث عن الحق، والآية الثانية تنتهي بقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، أي: يعلم - سبحانه - من يستحق هذا الفضل، وحكيم في منحه إياه عندما يجده مهيأ له: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]. فالإيمان محض فضل من الله لا يمكن لأحد أن يصل إليه بنفسه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس: 100]. ومع ذلك فلقد جعل الله عز وجل أهم شرط لاستجلابه هو: وجود الرغبة والاستعداد لتلقيه، ففي الحديث القدسي: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديتُه فاستهدوني أهدكم» (¬1)، أي: ارغبوا في الهداية، واطلبوها مني أمنحكم إياها. ونجد آيات كثيرة في القرآن تؤكد هذا المعنى كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]. فالقلب «المتواضع» الذي من عادته استقبال العطايا بالامتنان والشكر هو القلب المؤهل لتلقي فضل الله عليه بالهداية عندما يُعرَض الحق على عقله ويقتنع به، على العكس تمامًا من القلب الجاحد المتكبر: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146]. الحالة الإيمانية (متى يزداد الإيمان)؟ تسمع في خطب الجمعة ودروس العلم في المساجد ومن خلال وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية إلى كلام كثير يتناول جوانب الدين المختلفة من عقيدة وأخلاق وعبادات ومعاملات من علماء ودعاة أفاضل، فهل يزداد إيماننا باستماعنا لحديثهم؟! الإجابة عن هذا السؤال تستدعي تذكُّر ما قيل في الصفحات السابقة حول الفارق بين القناعة العقلية - فقط - بالفكرة، وبين الإيمان بها، فالإيمان بالفكرة يعني: قناعة عقلية يُصاحبها انفعال وجداني. فعندما أستمع إلى خطيب الجمعة وهو يطرح قضية هامة، فأنتبه إلى كلامه، وأقتنع به، ثم لا أجد مشاعري تتجاوب معه فإن هذا معناه أن كلامه وقف عند حدود العقل، ولم يصل إلى القلب ومن ثَمَّ لم يُنشئ إيمانًا .. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (4/ 1994، رقم 2577).

الإيمان والطاعة

فإن انفعلت معه وتأثرت بحديثه عندما قصَّ قصة مؤثرة تؤكد المعنى الذي يطرحه كان وقت التأثر هو الوقت الذي زاد فيه الإيمان. والمقصود بالانفعال والتأثر هو حركة المشاعر بأنواعها المختلفة من فرح واستبشار ورغبة ورهبة وشوق وإجلال وسكينة. أي أن الخوف تأثر، والفرح تأثر، والشوق تأثر، و ... ، فالتأثر هو عنوان لتفاعل المشاعر مع ما يُطرح على العقل من أفكار. معنى ذلك أننا يُمكننا معرفة الوقت الذي يزداد فيه الإيمان في قلوبنا وذلك حين تتجاوب مشاعرنا مع ما نسمعه من معانٍ دينية، أو مع العمل الذي نقوم به. فحين يدخل المرء إلى الصلاة ولا تتجاوب مشاعره فيها (مشاعر الخضوع والخشوع) لله عز وجل فهذا معناه أن صلاته لم تقم بزيادة الإيمان في قلبه، أما إذا تأثر وانفعل مع دعائه في سجود الركعة الثانية - مثلًا - فإن هذا هو القدر الذي زاد فيه الإيمان - بإذن الله - .. وهكذا. من هنا نقول بأنه ليست العبرة بكثرة الأعمال التي يقوم بها المرء، بل العبرة بمقدار تجاوب القلب معها وتأثره بها، وانفعال مشاعره معها .. فوجود القلب مع العمل، أو حضوره، أو جمعه، أو تجاوبه، أو مواطأته للسان في الذكر .. كلها معان مترادفة «للتأثر» بصوره المختلفة. الإيمان والطاعة: الإيمان يزداد بالطاعة .. نعم، ولكن شريطة أن يتحرك القلب معها - أي يتأثر - فإن لم تتحرك المشاعر لن يزداد الإيمان، ومن ثَمَّ لن يظهر أثر الطاعة على السلوك، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر عندما يتحرك القلب، وتنفعل المشاعر معها، فيؤدي ذلك إلى زيادة الإيمان لينتج عنه زيادة الورع والدافع الداخلي لفعل الخيرات وترك المنكرات. فإن لم يتحرك القلب ويخشع في الصلاة، أصبحت تلك الصلاة حركة بالعضلات فقط، ومن ثَمَّ لا يظهر لها أثر إيجابي في السلوك، وهذا يُفسر لنا ظاهرة عدم وجود أثر للعبادات الكثيرة التي نؤديها على سلوكنا ومعاملاتنا. لذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «وأعوذ بك من صلاة لا تنفع» (¬1). وقال ابن عباس: «ركعتان مقتصدتان في تفكُّر خير من قيام ليلة والقلب ساه». فإحسان العمل - إذن - مقدم على الإكثار منه بالجوارح فقط. وإحسان العمل يعني الاجتهاد في حضور القلب وتوجه مشاعره نحو الله عز وجل، وتستدعي كذلك موافقته للسنة. فالعمل القليل مع حضور المشاعر أفضل من العمل الكثير بدون حضورها، أو حضورها بصورة قليلة محدودة. بل إن الثواب المترتب على العمل يختلف من شخص لآخر حسب حركة مشاعره مع العمل؛ فلو أن رجلين يسيران في الطريق سويًّا وعُرض عليهما عمل خيري يستوجب منهما بذل ما يُمكنهما بذله من مال، وكان الأول فقيرًا، وكل ما يملكه عشرة دراهم وعليه أعباء معيشية لا تغطيها هذه الدراهم المعدودة، لكنه تجاوب مع العمل الخيري وشعر بأهميته، فدفعه حبه لله وطمعه في مثوبته إلى إخراج ثمانية دراهم من العشرة .. بَذَلها وهو يُدرك قدر العنت الذي قد يواجهه لتدبير نفقاته ونفقات عياله، وأما الرجل الآخر فهو موسر، عنده بضعة آلاف من الدراهم، فأخرج ألف درهم طمعًا في المثوبة، وحبًّا لله، لكنه لم يشعر بما شعر به الأول لأن الألف درهم لا يُشكل إخراجها عنده مشكلة كبيرة، فهل يستوي الاثنان في درجتهما عند الله؟ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (3/ 293، رقم 1015)، والضياء (6/ 156، رقم 2153)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

ابن القيم يؤكد

لو كانت العبرة بالعدد والكم، لكان الثاني أفضل، لأن ما أخرجه أكثر بكثير من الأول، ولكن لأن العبرة بحركة المشاعر، وحضور القلب مع العمل كان الأول هو الأفضل عند الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «سبق درهم مائة ألف درهم: رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق به ورجل له مال كثير فأخذ من عُرضه مائة ألف درهم فتصدق بها» (¬1)، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]. فالذي أنفق قبل الفتح - في أوقات الضيق والحصار والمستقبل المجهول وقلة الموارد - أعظم درجة من الذي أنفق بعد الفتح في أوقات الرخاء والأمان والسعة، فحركة المشاعر مع الإنفاق قبل الفتح أشد منها بعد الفتح. ونفس الأمر ينطبق على الصلاة وقراءة القرآن وغيرهما من الأعمال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]. وفي هذا المعنى يقول ابن رجب: كان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الإكثار منه، فإن العمل القليل مع التحسين والإتقان، أفضل بكثير من الغفلة وعدم الاتقان. قال بعض السلف: إن الرجلين ليقومان في الصف، وما بين صلاتهما كما بين السماء والأرض (¬2). ابن القيم يؤكد: ويؤكد ابن القيم على هذا المعنى فيقول: العمل اليسير الموافق لمرضاة الرب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أحب إلى الله تعالى من العمل الكثير إذا خلا عن ذلك أو عن بعضه، ولهذا قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]. فهو سبحانه وتعالى إنما خلق السماوات والأرض، والموت والحياة، وزيَّن الأرض بما عليها، ليبلو عباده أيهم أحسن عملًا، لا أكثر عملًا. والأحسن: هو الأخلص والأصوب، وهو الموافق لمرضاته ومحبته، دون الأكثر الخالي من ذلك، فهو سبحانه وتعالى يحب أن يُتعبد له بالأرضَى له، وإن كان قليلًا، دون الأكثر الذي لا يُرضيه، والأكثر الذي غيره أرضى له منه. ولهذا يكون العملان في الصورة واحدًا، وبينهما في الفضل - بل بين قليل أحدهما وكثير الآخر - أعظم مما بين السماء والأرض. وهذا الفضل يكون بحسب رضا الرب سبحانه بالعمل، وقبوله له، ومحبته له، وفرحه به سبحانه وتعالى، كما يفرح بتوبة التائب أعظم فرح، ولا ريب أن تلك التوبة الصادقة أفضل وأحب إلى الله تعالى من أعمال كثيرة من التطوعات وإن زادت في الكثرة عن التوبة. ولهذا كان القبول يختلف ويتفاوت بحسب رضا الرب سبحانه وتعالى بالعمل، فقبول يُوجِب رضا الله سبحانه وتعالى بالعمل، ومباهاة الملائكة به، وتقريب عبده منه، وقبول يترتب عليه كثرة الثواب والعطاء فقط. كمن تصدق بألف دينار من جملة ماله - مثلًا - بحيث لا يكترث بها .. ، وآخر عنده رغيف واحد هو قوته، لا يملك غيره، فآثر به على نفسه من هو أحوج إليه منه، محبة لله، وتقربًا إليه وتوددًا، ورغبة في مرضاته، وإيثارًا على نفسه. فيالله كم بعد ما بين الصدقتين في الفضل ومحبة الله وقبوله ورضاه!! ¬

_ (¬1) حديث حسن: أخرجه النسائي (5/ 59، رقم 2527)، وابن حبان (8/ 135، رقم 3347)، والحاكم (1/ 576، رقم 1519)، والبيهقي (4/ 181، رقم 7568)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، حديث رقم: 3606. (¬2) مجموع رسائل ابن رجب 1/ 352.

إنما الأعمال بالنيات

والأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والمحبة، والتعظيم والإجلال، وقصد وجه المعبود وحده دون شيء من الحظوظ سواه، حتى تكون صورة العملين واحدة، وبينهما في الفضل ما لا يُحصيه إلا الله تعالى. وتتفاضل أيضًا بتجريد المتابعة، فبين العملين من الفضل بحسب ما يتفاضلان به في المتابعة، فتتفاضل الأعمال بحسب تجريد الإخلاص والمتابعة تفاضلًا لا يحصيه إلا الله تعالى (¬1). إنما الأعمال بالنيات: فالعبرة بما في القلوب من معاني العبودية لله، والعبرة كذلك باستحضارها مع العمل، وكلما كان توجه المشاعر لله - قَبل العمل وفي أثنائه - أشد، كانت درجته ومثوبته عند الله أكبر، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (2). فالنية: هي القصد والتوجه، وعلى قدر توجه القلب نحو العمل حبًا لله، وابتغاء مرضاته، وطمعًا في مثوبته يكون الفضل والأجر منه سبحانه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265]. فالوابل: هو المطر الشديد، والطَّل: هو الرذاذ الخفيف والفارق بينهما في الأثر كبير على الزرع، كالفارق بين من يشتد إخلاصه وتوجهه لله وابتغاء مرضاته عند الإنفاق وبين من لم يشتد ذلك عنده .. فالعبرة - إذن - بالنيات لا بصور الأعمال. لذلك نجده صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على إخلاص الدعاء عند صلاة الجنازة حتى يكون هذا أنفع لصاحبه في الفضل والمثوبة: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» (¬2). وإليك - أخي القارئ - التحديز النبوي الشديد من حضور البدن للعمل مع عدم حضور القلب فيه .. قال صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام، يُتلى عليهم كتاب الله فلا يدرون ما يُتلى منه مما تُرِك، هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل، فشهدت أبدانهم وغابت قلوبهم، ولا يقبل الله من عبد عملًا حتى يشهد بقلبه مع بدنه» (¬3). السباق سباق قلوب: عندما نقرأ في سيرة التابعين وتابعيهم من سلف هذه الأمة نجد أن منهم من كان يُصلي الفجر بوضوء العشاء سنوات وسنوات، ويظل طيلة الليل في صلاة، ومنهم من كان يصوم صيام داود عليه السلام، ومنهم، ومنهم .. ، فإذا ما نظرنا لسيرة السابقين الأولين من جيل الصحابة رضوان الله عليهم نجد أنهم من الناحية الكَمِّية أقل منهم عبادة، ومع ذلك فقد فاقوهم في الرتبة والمنزلة. قال ابن مسعود لأصحابه: أنتم أكثر صومًا وصلاة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرًا منكم، قالوا: وبم ذاك؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب في الآخرة (¬4). بل إن أبا بكر الصديق لم يسبق الصحابة بكثرة العمل، بل بما في قلبه من إيمان. قال بعض السلف: ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره. ¬

_ (¬1) المنار المنيف لابن القيم (1/ 33). (2) أخرجه البخاري (1/ 3، رقم 1)، ومسلم (3/ 1515، رقم 1907). (¬2) حديث صحيح: أخرجه: أبو داود (3200)، والنسائي في " الكبرى " (10917)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (669). (¬3) حديث ضعيف: أورده ابن الأثير في جامع الأصول (5/ 648)، وضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (11/ 52 برقم 5050). (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 350 برقم 7880) وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في الشُعب (13/ 184 برقم 10152).

الإيمان ما وقر في القلب

ولأن العبرة بحال القلب قبل وأثناء العمل، فإن المتأمل لتوجيهات الشرع يجد أنها تحُثُّنا على تهيئة الأجواء المناسبة لاستجاشة المشاعر وحضور القلب قبل العمل. فعلى سبيل المثال: الصلاة: نجد أن الشرع يحثنا على تفريغ الذهن من الشواغل، وعدم تعلق القلب بشيء من شأنه أن يمنعنا من التركيز فيها، فإذا حضر الطعام مع دخول وقت الصلاة يُفضَّل البدء بالطعام حتى يدخل المرء إلى الصلاة وذهنه غير مشغول به. وكذلك عند مدافعة الأخبثين .. قال صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان» (¬1). ولا ينبغي للمرء أن يُسرع في خطواته إلى المسجد ليدرك الصلاة، بل عليه أن يمشي في سكينة وهدوء، فالإسراع من شأنه أن يجعله يدخل إلى الصلاة وهو مضطرب فيصعُب عليه جمع قلبه. قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون عليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» (¬2). والحث على التبكير في الذهاب إلى المسجد قبل إقامة الصلاة له وظيفة مهمة في صرف شواغل الدنيا عن الذهن. وكذلك فإن الحث على تذكُّر الموت قبل الصلاة من شأنه أن يستجيش المشاعر نحو الرجاء والطمع في عفو الله، والخوف والرهبة من عقوبته، فيزداد الحضور القلبي والخشوع فيها. قال صلى الله عليه وسلم: «اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحَرِي أن يُحسن صلاته، وصلِّ صلاة رجل لا يظن أنه يصلي صلاة غيرها .. » (¬3). الإيمان ما وقر في القلب كان (عمرو) يسير في الطريق فرأى أمامه حادث سيارة، وشاهد دماء المصابين متناثرة على الطريق، والكل يتسابق لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه فتأثر تأثرًا بالغًا، وذهب إلى عمله وهو واجم، مذهول، فلا حديث مع الزملاء كسابق عهده، ولا ضحك، ولا غيبة، أو سخرية من الآخرين .. وظل طيلة يومه على هذا الحال، وبعد بضعة أيام بدأ يعود تدريجيًّا إلى سيرته الأولى. فما الذي حدث حتى يتغير هذا التغيير، وما الذي حدث حتى يعود ثانية لسابق حاله؟! الذي حدث أنه عندما شاهد ما شاهده في الطريق تأثر بما رآه، وطَفَتْ حقيقة الموت وإمكانية وقوعه في أي وقت على ساحة فكره، واستثيرت معها مشاعر الرهبة والخشية، فانتعش داخله الإيمان بحتمية الموت، فأثمر هذا الإيمان: يقظة جعلته ينتبه لأحواله، ويُفكر في أموره، ويُدقق في كلامه وأفعاله .. وشيئًا فشيئًا ذهبت تلك الحالة، وهدأت المشاعر، فعاد مرة ثانية إلى غفلته، ليُمارس حياته كما كان يُمارسها من قبل. ويتكرر الأمر مع آخَر سمع خطبة حارَّة تحُث على الإنفاق في سبيل الله، أو شاهد مناظر مؤثرة في التلفاز تُبيِّن حال الُمشَرَّدين والبائسين والمنكوبين في بلدان المسلمين، فإذا به يُبادر بإخراج جزء من ماله في سبيل الله، بل ويدعو مَن حوله من أهله وجيرانه لذلك، وبعد بضعة أيام يعود إلى سابق عهده، وتفتُر همته عن الإنفاق وعن دعوة الناس إليه. وسبب ذلك أنه قد حدث استثارة واستجاشة قوية ومؤثرة للمشاعر أثمرت هذا الإنفاق، وبعد ذلك هدأت المشاعر فتوقف الإنفاق. فإن قلت: وما الحل لكي نستمر في اليقظة والقيام بالأعمال الصالحة بدوافع إيمانية؟ الحل يكمُن في القيام بالتربية الإيمانية الصحيحة التي تجعل القلب في حالة دائمة من اليقظة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2/ 78 برقم 560). (¬2) متفق عليه: البخاري (1/ 228، رقم 609)، ومسلم (1/ 421، رقم 603). (¬3) حديث حسن: أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (1/ 431، رقم 1755)، وحسنه الحافظ ابن حجر في زهر الفردوس، وكذلك حسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 408 برقم 1421).

لماذا لا يظهر أثر الإيمان في كل الأوقات والأحوال؟

أو بمعنى آخر: لا ينبغي علينا أن نجعل أعمالنا الإيمانية رهن المؤثرات القوية التي تستثير المشاعر بصورة مؤقتة، ثم يختفي أثرها بمرور الوقت، وهذا لن يكون إلا إذا أصبح الإيمان مستقرًا في القلب، وأصبحت المشاعر في حالة من التأهب للتأثر بأدنى مؤثر وبأقل تذكرة. فكلما قوي الإيمان في القلب واستقر فيه كانت استثارته أسرع وأدوَم، بعكس الإيمان الضعيف الذي يحتاج - لكي يُعبر عن نفسه - لمؤثر قوي، يدفع صاحبه للعمل الصالح بصورة مؤقتة. ولأن الحياة كثيرة الأحداث والتقلبات، فإنها تحتاج منَّا إلى إيمان قوي مستقر في القلب يدفعنا دومًا إلى فعل الخيرات وترك المنكرات في كل وقت وتحت أي ظرف، وليس إيمانًا ضعيفًا يحتاج لكي يظهر إلى مؤثر ضخم وحدث جلل؛ وفي الوقت نفسه، فإن هذا الإيمان الضعيف سرعان ما يزول أثره الإيجابي على السلوك بزوال المؤثر الذي استثاره، ومثال ذلك: البيت الذي لا سقف له فإن أهله يتعرضون بصورة دائمة لحر الشمس ولهيبها، لذلك فأسعد أوقاتهم تلك التي تأتي فيها سحابة فتظللهم، وتحُول بينهم وبين الشمس، ولكن - من المعتاد - ألا يستمر ظل السحابة طويلًا، فسرعان ما يزول بتحركها وابتعادها عنهم، لتعود الشمس بحرارتها ولهيبها إليهم .. ومن البدهي أنهم إذا رغبوا في ظل دائم، ووقاية مستمرة من الشمس، فعليهم أن يُشيِّدوا سقفًا للبيت بدلًا من أن ينتظروا ظهور السُحب، فظل السحاب عارض سرعان ما يزول أثره، أما ظل السقف فهو دائم لأنه مستقر فوقهم. كذلك حال الإيمان الناشئ عن أمور عارضة، وحاله الناشئ عن استقراره في القلب. لماذا لا يظهر أثر الإيمان في كل الأوقات والأحوال؟ كان (زيد) في المسجد يستمع إلى موعظة، وكانت الموعظة مؤثرة، وَجِلَت منها القلوب، وذرفت منها العيون، وتلا الموعظة صلاة العشاء وفيها قرأ الإمام بآيات من سورة (ق) تتحدث عن الموت وما بعده من أحداث، فعلا نحيب المصلين، واشتد بكاؤهم، وانتهت الصلاة، وانطلق (زيد) خارجًا من المسجد، وذهب ليأخذ نعله فلم يجده .. بحث عنه في كل مكان فلم يعثر له على أثر، انتابته حالة من الجزع والضيق، وتلفَّظ بألفاظ غير لائقة، وغادر المسجد حانقًا متذمرًا .. لقد كان زيد منذ دقائق يبكي من خشية الله، فما الذي تغير حتى يظهر بهذه الحالة البعيدة عن الإيمان؟ لماذا لم تدفعه الحالة الإيمانية التي كان يعيشها إلى التعامل الهادئ مع المصيبة التي أصابته؟ فإن قلت: لأن الإيمان غير مستقر في قلبه وأن بكاءه وتأثره بالموعظة والصلاة كان عارضًا، فلما زال أثره انكشف إيمانه .. هذا التعليل قد يكون صحيحًا لو كانت المدة الزمنية بين الصلاة وبين سرقة نعله طويلة، أمَا والأمر لم يتعد بضع دقائق لا تسمح بزوال حالته الإيمانية، فإن السبب غير ذلك. ولعل ما يكشف لنا سبب هذا التعارض هو تذكُّر ما قيل في الصفحات السابقة بأن الإيمان يتناول جميع المشاعر، بمعنى أن الحالة الإيمانية التي كان يعيشها (زيد) في الموعظة والصلاة كانت تُعبِّر عن بعض مشاعر القلب وليس عن كل مشاعره. لقد كانت تُعبِّر عن مشاعر الخوف والرهبة، في حين ظلَّت باقي المشاعر كما هي دون استثارة، ومن ثَمَّ عندما تعرض لموقف السرقة، لم يتعامل معه تعاملًا إيمانيًّا مناسبًا لأن الإيمان في اتجاه مشاعر الطمأنينة والسكينة ضعيف، ولم يتم استثارته، وهذا يُفسِّر لنا - إلى حد بعيد - هذا التناقض بين حالته الباكية، ورد فعله الجَزِع.

جناحا التربية الإيمانية

فالإيمان يتناول جميع المشاعر؛ ولكي نتعامل مع أحداث الحياة المختلفة وتقلباتها تعاملًا إيمانيًّا يتناسب مع كل حدث؛ لابد من أن يكون هناك إيمان مستقر في كل شعور من مشاعره، كالحب والبغض، والرغبة والرهبة، والسكينة والطمأنينة، والفرح والاستبشار، والندم، و ... . فالإيمان المتكامل هو الذي يدفع صاحبه لحسن التعامل مع الأحداث المختلفة كما قال صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر وكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» (¬1). والحد الأدنى المطلوب وجوده من الإيمان في جميع المشاعر - ومن ثَمَّ الانتصار في معركة ردود الأفعال مع الأحداث - هو أن تكون نسبة وجوده أعلى من نسبة وجود الهوى حتى تكون له الغلبة عليه. فعلى سبيل المثال: لو تكلمنا عن شعور الحب كأحد المشاعر الرئيسة، فمن المتوقع أن يحتوي على حُب النفس، والوالدين، والزوجة والأولاد، والمال، و ... . كل ذلك لا بأس من وجوده إذا كان حُب الله أكبر من حُبِّهم مجتمعين {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. وفي الحديث: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ... » (¬2). فإذا تعارض حب الله مع أي منهم تغلَّب حب الله عز وجل، ومن ثَمَّ يكون القرار لصالحه وليس العكس: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]. جناحا التربية الإيمانية الفارق بين الحالة الإيمانية وبين الاستقرار الإيماني هو أن الحالة أمر عارض يحدث للقلب عند تعرضه لمؤثر قوي يُثمر انفعالًا وقتيًّا قد يُصاحبه سلوك يُعبر عنه. أما الاستقرار الإيماني فهو استقرار الإيمان (بالشيء) في القلب، وتمكنه منه، ومن ثَمَّ التعبير الدائم عنه بالسلوك المناسب له. مع الأخذ في الاعتبار بأن الإيمان ليس مكانه مشعرًا واحدًا فقط، بل يتناول جميع المشاعر، ولكي نتعامل مع أحداث الحياة وتقلباتها وأقدارها المفرحة والمؤلمة بتعامل إيماني يُناسبها لابد من وجود إيمان مستقر في جميع المشاعر ويُشكل جزءًا معتبرًا فيها تتجاوز نسبته كل ما تحتويه المشاعر من هوى .. ليبقى السؤال: وكيف نبني الإيمان في كل المشاعر بناء مستقرًا يغلب الهوى؟ هل نُكثر من النوافل؟ هل نطيل المُكث في المسجد؟ هل نُكثر من أداء العُمرات؟ كل هذا طيب وحسن، ولكننا - كما أسلفنا - نرى أُناسًا يفعلون ذلك، ونجد سلوكياتهم تتناقض - إلى حد كبير - مع عباداتهم، فقد نجدهم جّزِعين عند المصائب، حرصين على تحصيل أكبر قدر من الدنيا، و ... إلخ. وليس معنى هذا هو التقليل من شأن هذه الأعمال، فالعبادات كلها أنوار ووسائل قُرب من الله عز وجل، ولكن المقصد هو البحث عن الحلقة المفقودة في منظومة العبادات والسلوك، والتعرف على السبب الذي يُقلل من أثرها في الواقع، وهذا يستدعي التعرف على عبادات القلوب وعبادات الجوارح. الإيمان والعمل الصالح: التربية الإيمانية لها جناحان لا تكتمل إلا بهما، وهما: أعمال القلوب وأعمال الجوارح، أو بعبارة أخرى: الإيمان والعمل الصالح. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (4/ 2295، رقم 2999). (¬2) متفق عليه، البخاري (1/ 14، برقم 12، 5694، 6542)، ومسلم (1/ 67، رقم 43).

ولئن كان الإيمان محله القلب (المشاعر)، فإن العمل الصالح محله الجوارح. ولكي يُثمر العمل الصالح زيادة في الإيمان لابد وأن ينطلق من حالة إيمانية (استثارة واستجاشة لمشاعر الرغبة تجاه القيام بالعمل)، فالإيمان يُمثِّل البذرة، والعمل الصالح يُمثل الماء، وكما هو معروف أننا إذا سقينا الأرض بالماء دون وجود بذور في تربتها فلن يُثمر هذا الماء - مهما كَثُر - أي إنبات، وفي المقابل لو وضعنا البذور في باطن الأرض ثم لم نسقها ونتعاهدها فلن تُنبت أيضًا. كذلك الإيمان والعمل الصالح؛ فهما جناحا التربية الإيمانية .. الإيمان هو البذرة، والعمل الصالح هو الماء .. الإيمان هو الأساس والعمل الصالح هو البناء. فلو انصب اهتمامنا على أعمال القلوب، ولم نهتم بالعمل الصالح سيكون الإيمان محدودًا، ولن نستفيد بوجوده الاستفادة الحقيقية {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]. وفي المقابل، لو قفزنا على العمل الصالح دون وجود الإيمان في المشاعر، ودون استثارة هذا الإيمان قبل العمل فسيكون الناتج ضعيفًا، إن لم يكُن معدومًا. وإليك - أخي القارئ - نسوق بعض الأمثلة التي تؤكد هذا المعنى: المثال الأول: * الاستغفار في حقيقته هو طلب العفو من الله عز وجل، ويعني أننا قد قصَّرنا وأخطأنا في حقه سبحانه، لذلك فنحن نطلب منه العفو، وأهم ما يُعبر عن هذا الطلب هو شعورنا بالندم على ما فعلنا، فإن حدث وقفزنا على الاستغفار باللسان دون استثارة لمشاعر الندم فإننا مهما استغفرنا باللسان فلن يؤدي هذا إلى زيادة إيماننا بالتقصير نحوه سبحانه، ومن ثَمَّ لن يزداد الإيمان باستغفار اللسان فقط، بل هو في الحقيقة استغفار يحتاج إلى استغفار لأننا حين نفعل ذلك نكون كالولد الذي أخطأ خطأ كبيرًا في حق أبويه، ثم ذهب يعتذر لهما بلسانه وهو يضحك وكأنه لم يفعل شيئًا!! ألا يجعل ذلك أبويه يزدادان ضيقًا منه لأنه لم يعتذر اعتذارًا حقيقيًّا، ولم يستشعر حجم خطئه؟ وإذا بدأنا بتذكر أوجه تقصيرنا في جنب الله، وظللنا نتذكر ونتذكر حتى استُجيشت مشاعر الندم في قلوبنا، وتوقفنا عند ذلك ولم نستغفر باللسان فإن الإيمان سيزداد بهذا الندم، ولكن زيادة محدودة. أما إذا أتبعنا هذه الاستجاشة بالاستغفار وطلب العفو من الله عز وجل فإن ذلك من شأنه أن يزيد الإيمان بصورة كبيرة بإذن الله، فالشعور بالندم هو عمل إيماني قلبي، واستغفار اللسان عمل صالح بالجوارح. المثال الثاني: * التواضع له جناحان، الأول: شعور ينبغي ترسيخه في القلب بأنك صغير، وأنك لا شيء، ولا قيمة لك بدون الله عز وجل، والثاني: القيام بأعمال تؤكد هذه الحقيقة، كالسعي في قضاء حوائج الناس، والجلوس مع المساكين وإعزازهم، والقيام علي خدمة الآخرين، و ... إلخ. فإن قفزنا على أعمال التواضع دون وجود معناه في القلب فإن هذه الأعمال لن تزيد المرء تواضعًا، بل قد يكون لها تأثير سلبي على الفرد، بأن يرى نفسه أفضل من غيره بتواضعه وخفض جناحه. وإن اجتهدنا في تنمية الشعور الداخلي بأننا لا شيء بدون الله عز وجل، ولم نُتبع ذلك بأعمال المتواضعين؛ فإن الإيمان بهذه الحقيقة سيظل محدودًا في قلوبنا، وقد يضعف أكثر وأكثر لأنه لم يُمارَس عمليًّا على أرض الواقع. المثال الثالث: * الحب في الله: له جناحان، الأول: شعور متبادل يجتاح اثنين من المؤمنين، يميل كل منهما نحو الآخر لِما يرى فيه من صفات يُحبها الله عز وجل، والثاني: القيام بأعمال تؤكد هذا الأمر، من الطرفين كالتزاور، والتهادي، والسؤال، والسعي في خدمة الآخر.

الإيمان أولا

فإن لم يحدث الميل القلبي والألفة والمودة في القلوب، فإن أعمال الأخوة مهما أُديت فلن تؤدي إلى الزيادة الحقيقية لمنسوب الحب في المشاعر {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]. وفي المقابل، فإذا ما أنعم الله عز وجل على قلبين مؤمنين بالحب بينهما ولم يقوما بأعمال الأخوة، فسيظل هذا الحب محدودًا في القلب، وقد يُصيبه ما يُنقص منه ويُقلله. فلابد من الأمرين معًا: عمل القلب، وعمل الجوارح .. الإيمان والعمل الصالح. والقرآن مليء بالآيات التي تربط بين الاثنين لينتبه المسلم إلى أهميتهما معًا، فلا يهتم بأحدهما ويُهمل الآخر: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]. {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]. {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11]. {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 75]. {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71]. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]. الإيمان أولًا: ومع أهمية ارتباط الإيمان بالعمل الصالح، والعمل الصالح بالإيمان إلا أن الأول مقدم على الثاني، فالإيمان مقدم على العمل الصالح. (فعمل القلب مقدم على عمل الجارحة، وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب وإن اختلفت مرتبتا الطلب) (¬1). والمقصد بأعمال القلوب هي حركة المشاعر تجاه الله عز وجل كخشيته، وحبه، وتعظيمه، ومهابته، ورجائه، والاستعانة به، والافتقار إليه، والانكسار بين يديه، والحب فيه، والغضب من أجله. والمقصد بأعمال الجوارح: هي الأعمال التي تُؤدَّى بالجوارح ودلتنا عليها نصوص القرآن والسنة كالصلاة، والذكر، والصدقة، والسعي في قضاء حوائج الناس، كما سيأتي بيانه بإذن الله. ولقد مرّ علينا سابقًا كيف أن صورة العملين قد تكون واحدة، وما بينهما في الدرجة والفضل ما بين السماء والأرض وذلك لتفاضل ما في القلوب، ومر علينا كذلك كيف أن زيادة أعمال القلب مع قلة أعمال الجوارح أفضل وأفضل من زيادة أعمال الجوارح وقلة أعمال القلب، ومما يؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «سبق درهم مائة ألف درهم: رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق به ورجل له مال كثير فأخذ من عُرضه مائة ألف درهم فتصدق بها» (¬2)، وقوله: «ما تحاب اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حبًّا لصاحبه» (¬3). ونفس الأمر ينطبق على معاصي القلوب ومعاصي الجوارح، فمعاصي القلوب من كِبر وغرور، وإعجاب بالنفس، ورياء، ونفاق، وحسد، والفرح بمصائب المسلمين، واستعظام النفس، واحتقار الآخرين وازدرائهم ... أشد وأشد في العقاب من معاصي الجوارح كالكذب، والسرقة، والغيبة والنميمة و ... . ¬

_ (¬1) من كلام الإمام حسن البنا في رسالة التعاليم، من مجموعة رسائل الإمام الشهيد. (¬2) حديث حسن: أخرجه النسائي (5/ 59، رقم 2527)، وابن حبان (8/ 135، رقم 3347)، والحاكم (1/ 576، رقم 1519)، والبيهقي (4/ 181، رقم 7568)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، حديث رقم: 3606. (¬3) حديث صحيح: صححه الشيخ الألباني انظر حديث (رقم: 5594) في صحيح الجامع.

الإسلام بدأ مشاعر ثم شعائر ثم شرائع

يقول ابن القيم: مَن تأمَّل الشريعة في مقاصدها ومواردها عَلِم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميَّز المؤمن من المنافق إلَّا بما في قلب كل واحد منهما؟! وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت، ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان (¬1). الإسلام بدأ مشاعر ثم شعائر ثم شرائع (¬2): من هنا يتضح لنا أهمية الاهتمام ببناء الإيمان الحقيقي الذي يتناول جميع المشاعر، على ألا يُهمل العمل الصالح، بل يُقرن دائمًا بأعمال القلب، ويجتهد المرء في تحسينه وحضور المشاعر معه، فمن فعل ذلك فهو السابق حقًّا. فالإيمان أولًا والعمل الصالح ثانيًا، لتكون النتيجة: تحسُّن ملحوظ في الخُلق والسلوك، والمتأمل في التربية الربانية للجيل الأول يجد أنها كانت تُركز على أعمال القلوب، وزيادة الإيمان في القلب قبل تشريع العبادة، فكما قيل بأن الإسلام قد بدأ «مشاعر، ثم شعائر، ثم شرائع». إنه لأمر عجيب أن تُفرض الصلاة في رحلة الإسراء والمعراج، ويُفرض الصيام وسائر التشريعات في المدينة، وتُفرض الحدود في السنوات الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم .. فما الذي كان يفعله المسلمون الأوائل في مكة إذن؟! ماذا كان يفعل الواحد منهم عندما يستيقظ من نومه ولم يكن عليه وقتها تكاليف يؤديها أو محظورات يجتنبها؟ تصوَّر وضع امرأة مسلمة في السنوات الأولى للبعثة في شهر «رمضان»، تستيقظ من النوم في الصباح فتشرب بعضًا من الخمر، وتخرج لحاجتها وهي مكشوفة الشعر. ومع ذلك فلم يكن عليها أي حرج شرعي لأن الصيام والحجاب لم يُفرضا، والخمر لم يُحرَّم. نعم، كان هذا هو الواقع الذي عاشه المسلمون الأوائل .. فمع عدم وجود تكاليف إلا أنه كان يتم في هذه الفترة أخطر مرحلة من مراحل بناء الفرد المسلم، وهي مرحلة تأسيس القاعدة الإيمانية، وتعبيد المشاعر لله سبحانه، لتأتي الشعائر بعد ذلك فتُحسِن التعبير عن هذه المشاعر. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول الأمر: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا، ولو نزل أول الأمر: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا نترك الخمر أبدًا .. أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]، وهي من سورة القمر، وما نزلت البقرة والنساء إلا وأنا عنده في المدينة (¬3). وليس معنى هذا أن نترك العبادة، أو نقول: لابد أن نفعل مثل ما فُعل مع الصحابة؛ فلقد اكتمل التشريع كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فنحن مطالبون بأداء كل ما افترضه الله علينا، ومع ذلك فلابد من التركيز على القلب، وعلى زيادة الإيمان وتعبيد المشاعر لله، وأن نُعطي هذا الأمر القدر الكافي من الاهتمام، وبخاصة في بداية تكوين الفرد المسلم لتُصبح العبادة مؤثرة تزيد الإيمان في القلب، ومن ثَمَّ تُقرب صاحبها إلى الله أكثر وأكثر، ويظهر أثرها في السلوك. ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد لابن القيم (4/ 287). (¬2) هذه الفقرة تم نقل أغلبها من كتاب «حقيقة العبودية» للمؤلف ببعض التصرف من ص 52 إلى ص 55. (¬3) أخرجه البخاري (4/ 1910، برقم 4707).

الخلاصة

ولعلنا من ذلك أيضًا نستخلص طريقة تربوية نسلكها مع أبنائنا قبل سن التكليف، فمع تعويدهم على أداء عبادات الجوارح المختلفة، إلا أن الجهد الأكبر ينبغي أن ينصب على تعريفهم بالله عز وجل، وتحبيبهم فيه، وتعظيم قدره في قلوبهم، وتعريفهم بأنفسهم، وأنهم لا شيء بدون ربهم .. انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوجِّه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ويغرس فيه هذه المعاني فيقول له: «يا غلام، إني أُعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضرُّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفَّت الصحف» (¬1). الخلاصة: وخلاصة القول في هذا الفصل أن التربية الإيمانية الصحيحة التي تُقرب العبد من ربه، وتُثمر سلوكًا صحيحًا في حياة الفرد لها جناحان: أعمال القلوب وأعمال الجوارح .. الإيمان والعمل الصالح. مع التأكيد على أن أعمال القلوب تسبق أعمال الجوارح في الأهمية والترتيب، شريطة ألا يُهمل العمل الصالح فهو بمثابة الماء للبذرة {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71]. وفي الصفحات القادمة - بإذن الله - سيتم إفراد الحديث عن كيفية بناء القاعدة الإيمانية باتساعها في القلب، وحديث آخر عن كيفية الانتفاع بالعمل الصالح في زيادة الإيمان، والله المُوفق. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه الترمذي (2516)، وصححه الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح برقم (5302).

الفصل الخامس تأسيس القاعدة الإيمانية من خلال القرآن

الفصل الخامس تأسيس القاعدة الإيمانية من خلال القرآن

الهدف الذي ترمي هذه الصفحات إلى تحقيقه - بإذن الله - هو زيادة الثقة في القرآن، وتنمية الشعور بالاحتياج إليه في تأسيس القاعدة الإيمانية وتحقيق الربانية. وتهدف أيضًا إلى دفع المرء لاكتساب مهارة تدبر القرآن والتأثر بمعانيه والمداومة على ذلك.

ما المقصود بالقاعدة الإيمانية؟

الفصل الخامس تأسيس القاعدة الإيمانية ما المقصود بالقاعدة الإيمانية؟ بناء القاعدة الإيمانية يعني تمكين الإيمان بالله عز وجل في المشاعر المختلفة، ليُصبح المرء رقيق القلب، سريع الاستثارة عند تعرُّضه لأدنى مؤثر، فينعكس ذلك على طريقة تعامله مع أحداث الحياة بتقلباتها المختلفة. والمقصود بتمكين وبناء الإيمان في المشاعر المختلفة هو بناء الثقة في الله عز وجل، وفي أسمائه وصفاته، وفي اليوم الآخر، وبقية أركان الإيمان. هذه الثقة والطمأنينة عليها أن تكون لها اليد الطولى في المشاعر المختلفة. فإن تساءلت: وكيف يُمكن للإيمان أن يصل إلى هذه الدرجة؟! قد يُجيب البعض عن هذا التساؤل إجابة نظرية؛ فيطرح أعمالًا ووسائل من شأنها - في نظره - أن تصل بالمرء لهذا المستوى الإيماني، فمن قائل: بأن علينا الإكثار من صيام النفل وقيام الليل ومكابدة ذلك وتحمله سنوات وسنوات، ومن قائل بالإكثار من الأوراد والأذكار والتسابيح، إلا أن هذه الإجابة تختلف عن إجابة البعض الآخر الذي يتبنى - من الناحية النظرية القيام بأعمال أخرى كالإكثار من الأعمال الاجتماعية ذات النفع المُتعدِّي للآخرين .. مما لا شك فيه أن كل هذه الأعمال الصالحة وغيرها لها وظيفة عظيمة في زيادة الإيمان شريطة أن تُؤدى بإحسان - كما أسلفنا -، لكننا هنا نتحدث عن القاعدة الإيمانية باتساعها في القلب، والتي تسبق الأعمال الصالحة في الترتيب في الأهمية. إن طريقة بناء تلك القاعدة في المشاعر المختلفة يحتاج إلى نوعية خاصة من الأعمال التي تُخاطب العقل وتقنعه بكل ما ينبغي الإيمان به، وتستثير في الوقت ذاته المشاعر حتى تتحول القناعة العقلية إلى حالة إيمانية يعيشها القلب .. على أن تستمر هذه المخاطبة حتى تتحول تلك الحالة إلى إيمان مستقر في القلب، وليس ذلك فحسب بل ينبغي أن يتناول ذلك جميع المشاعر المختلفة التي تظهر ثمار الإيمان في كل الأحوال والتقلبات الحياتية التي يتعرض لها المرء. تعرفهم بسيماهم: لكي نتفق على الطريقة الصحيحة لتأسيس القاعدة الإيمانية علينا أن نبحث في التاريخ عن نموذج حقيقي من البشر ظهرت عليه آثار وثمار الإيمان المتنوعة والشاملة والتي تُعَدّ بمثابة مرآة تعكس وجود تلك القاعدة في القلب، فإن وجدناه علينا أن نتحرى عن الأسباب التي أدَّت إلى تكوينها بإذن الله. والباحث المنصف في تاريخ الأمة لن يجد إلَّا جيلًا واحدًا ظهرت عليه تلك الثمار الشاملة ألا وهو جيل الصحابة، ولعل ما قيل في الفصل الثاني (ثمار الإيمان) ما يؤكد هذا الأمر. ليبقى السؤال عن سبب وصولهم إلى هذا المستوى الإيماني السامق حتى نحذو حذوهم، وبخاصة أنهم كانوا قبل إسلامهم في ذيل الأمم، وكانوا يغرقون في ظلمات الجاهلية، وكان حالهم أسوأ بكثير من حالنا الآن .. كانوا يعبدون الحجارة، ويأتون الفواحش، ويقطعون الأرحام، ويئدون البنات، ويأكل القوي منهم الضعيف .. فكيف حدث لهم هذا التحول العجيب؟! كيف استطاعوا أن يصلوا إلى هذا المستوى الإيماني الفذّ؟ فإن قلت: قد يكون وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم هو السبب في ذلك. أجبتك أنه ما من شك في أن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصحابة كان له دور كبير في استقامتهم، فهو المعلم والمُربِّي، ولكن لو كان الأمر يقف عند هذا الحد لأصبح من المستحيل الوصول إلى هذه الدرجة الإيمانية أو الاقتراب منها في ظل غياب شخص الرسول صلى الله عليه وسلم. هذه واحدة، والأخرى أنه صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة وجد مستويات إيمانية عالية من أُناس لم يسبق له أن رآهم أو تعامل معهم من قبل، فبعد بيعة العقبة أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير لأهل يثرب - الذين كانوا على شركهم - ليدعوهم إلى الإسلام، وقد كان، وانشرحت الصدور للدين الجديد، وامتلأت القلوب بالإيمان من قبل مجيء المهاجرين إليهم ومن بعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفي للاستدلال على قوة إيمانهم ما فعلوه مع المهاجرين من إيثار عجيب مع شدة فقرهم، والذي تم الحديث عنه في مقدمة الكتاب، وذكرته الآية الكريمة {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].

الجيل الرباني

والعجيب أن الكثير من شعائر الإسلام لم تكن فُرِضت في هذه المرحلة حتى نقول بأن التزامهم بالعبادات والأعمال الصالحة كان السبب في هذا الإيمان الفذ .. فكيف وصلوا لهذا المستوى؟! ماذا فعل معهم مُصعب بن عمير؟! كل ما في الأمر أن مصعبًا عندما ذهب إلى يثرب كان معه ما نزل من القرآن، أو بعبارة أخرى كانت معه المعجزة التي نزلت من السماء والتي من شأنها أن تُحدث زلزالًا رهيبًا في القلوب فلا تستقر بعده على حالها السابق، بل تكون في حالة من الانبهار الشديد، والاستسلام لرب هذه المعجزة. لقد كان مصعب يُدرك أن معه معجزة عظيمة له آثار مزلزلة على من يتعرض لها، لذلك كان إذا أراد أن يدعو أحدًا إلى الإسلام؛ يقرأ عليه آيات من القرآن، فيحدث له الزلزال ومن ثَمَّ التسليم والإذعان الفوري، لدرجة أن أهل يثرب أطلقوا عليه لقب: «المُقرئ»، ولك - أخي القارئ - أن تتأكد من هذا الأمر إذا ما قرأت قصة إسلام أُسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. فأُسيد بن حضير، وسعد بن معاذ كانا من سيدي (الأوس)، وقد ضاقا ذرعًا بالدعوة الجديدة التي يحمل لوائها مصعب بن عمير، فعزما على إخراجه من يثرب بعد أن تزايد عدد من أسلم من أهلها على يديه، وذات مره كان مصعب في بستان من بساتين بني (عبد الأشهل) يدعو الناس إلى الإسلام، ويقرأ عليهم القرآن، فإذا بأُسيد يأخذ حربته ويتوجه نحو البستان، فلما رآه أسعد بن زرارة مقبلًا قال لمصعب: ويحك يا مصعب، هذا سيد قومه وأرجحهم عقلًا: أسيد بن حضير، فإن يُسلم يتبعه في إسلامه خلقٌ كثير، فاصدق الله فيه .. وقف أسيد بن حضير على الجمع، والتفت إلى مصعب وصاحبه أسعد، وقال: ما جاء بكما إلى ديارنا، وأغراكما بضعفائنا؟! اعتزلا هذا الحي إن كانت لكما بنفسيكما حاجة. فالتفت مصعب إلى أسيد قائلًا: يا سيد قومه، هل لك في خير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: تجلس إلينا، وتسمع منَّا، فإن رضيت ما قلناه قبِلته، وإن لم ترضه تحولنا عنكم ولم نعد إليكم. فقال أسيد: لقد أنصفت، وركز رمحه في الأرض وجلس، فأقبل عليه مصعب فكلمه عن الإسلام، وقرأ عليه شيئًا من آيات القرآن، فانبسطتت أساريره، وأشرق وجهه، وقال: ما أحسن هذا الذي تقول، ما أخلَّ ذلك الذي تتلو!! كيف تصنعون إذا أردتم الدخول في الإسلام؟ قال مصعب: تغتسل وتطهر ثيابك، وتشهد أن إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتصلي ركعتين ففعل، ثم قال: إن ورائي رجلًا إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن - سعد بن معاذ - ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد في قومه. فقال سعد: أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. ثم ذهب سعد إلى مصعب فحدث له ما حدث لأسيد .. حدث له الزلزال فأسلم واستسلم لله، وخرج مسرعًا إلى قومه يقول لهم: إن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله (¬1). الجيل الرباني: من هنا نقول بأن القرآن الكريم هو الوسيلة العظيمة والمتفردة التي قامت بتغيير الصحابة .. ويؤكد فريد الأنصاري على هذا المعنى فيقول: إن القرآن الكريم كان هو الباب المفتوح والمباشر الذي ولجه الصحابة الكرام إلى ملكوت الله، حيث صُنعوا على عين الله .. إنه السبب الوثيق الذي تعلقت به قلوبهم، فأوصلهم إلى مقام التوحيد (¬2) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «كتاب الله، هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» (¬3). (لقد توثَّق ارتباط الصحابة بالقرآن في العهد النبوي، ارتباطًا عمَّق صلة القلوب بربها، إلى درجة أنهم كانوا يتتبعون الوحي تتبع الملهوف الحريص على الترقِّي في مدارج المعرفة بالله والسلوك إليه سبحانه، فهذا عمر بن الخطاب عندما كان مكلفًا، وصاحبًا له بالمرابطة في ثغر من ثغور المدينة، ترقُّبًا لغزو مُتوقَّع من ملك غسان) (¬4) كان يتناوب النزول مع صاحبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لمعرفة خبر الوحي، فيقول في ذلك: ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام (2/ 207)، والرحيق المختوم للمباركفوري (163، 164). (¬2) التوحيد والوساطة في العمل الدعوي د. فريد الأنصاري ص 46. (¬3) أخرجه الطبري (4/ 31). (¬4) التوحيد والوساطة في العمل الدعوي د. فريد الأنصاري ص 42.

إنهم صنعوا ها هنا

كان لي جار من الأنصار؛ فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يومًا، وأنزل يومًا، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك، وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيول لتغزونا (¬1) لقد كان القرآن هو المنبع الأول والمنهج المؤثر الذي قام بتربية الصحابة، ورفعهم إلى أعلى الآفاق بعد أن كانوا في أسفل السفوح، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بوظيفة المعلم والمربي الذي يتعاهد فعل القرآن فيهم، ويُعمق معانيه في نفوسهم، ويشرح لهم ما أُشكل فهمه عليهم .. كان صلى الله عليه وسلم هو المُبلغ عن الله، والمُربي والقدوة العملية لتمام وكمال العبودية لله عز وجل .. إنهم صُنِعوا ها هنا: عندما تحدثنا - بفضل الله - في الفصل الثاني عن ثمار الإيمان؛ كانت الأمثلة من جيل الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانوا جيلًا من الربانيين العابدين الزاهدين المجاهدين المتواضعين، ليكونوا بمثابة أعظم وأصدق شهادة لقوة تأثير القرآن، وأكبر دليل إثبات لقدرته - بإذن الله - على إعادة صياغة وتشكيل الإنسان على النحو الذي يُحبه الله ويرضاه مهما كان انحرافه وضلاله .. وفي هذا المعنى يقول سيد قطب رحمه الله: لقد كنت وأنا أُراجع سيرة الجماعة المسلمة الأولى أقف أمام شعور هذه الجماعة بوجود الله - سبحانه - وحضوره في قلوبهم وفي حياتهم، فلا أكاد أُدرك كيف تم هذا؟! كنت أُدرك طبيعة وجود هذه الحقيقة وحضورها في قلوبهم وفي حياتهم، ولكني لم أكن أُدرك كيف تم هذا حتى عُدت إلى القرآن أقرؤه على ضوء موضوعه الأصيل: تجلية حقيقة الألوهية وتعبيد الناس لها وحدها بعد أن يعرفوها. وهنا فقط أدركت كيف تم هذا كله! أدركت - ولا أقول أحطت - سر الصنعة عرفت أين صُنع ذلك الجيل المتفرد في تاريخ البشرية وكيف صُنع! إنهم صُنعوا هاهنا! صُنعوا بهذا القرآن! بهذا المنهج المُتجلي فيه! بهذه الحقيقة المتجلية في هذا المنهج! حيث تُحيط هذه الحقيقة بكل شيء، وتغمر كل شيء، ويصدر عنها كل شيء، ويتصل بها كل شيء، ويتكيف بها كل شيء .. بهذا كله وجدت - في الأرض وفي دنيا الناس - حقيقة «الربانية» متمثلة في أُناس من البشر. وُجد «الربانيون» الموصولون بالله، العائشون بالله، ولله، الذين ليس في قلوبهم، وليس في حياتهم إلا الله .. وحينما وُجدت حقيقة «الربانية» هذه في دنيا الناس، ووُجد الربانيون الذين هم الترجمة الحقيقية لهذه الحقيقة .. حينئذ انساحت الحواجز الأرضية، والمقررات الأرضية، والمألوفات الأرضية، ودبَّت هذه الحقيقة على الأرض، وصنع الله ما صنع في الأرض وفي حياة الناس بتلك الحفنة من العباد .. وبطلت الحواجز التي اعتاد الناس أن يروها تقف في وجه الجهد البشري وتَحُدُّ مداه، وبطلت المألوفات التي يقيس بها الناس الأحداث والأشياء .. ووُجد الواقع الإسلامي الجديد، ووُلد معه الإنسان الحقيقي الجديد (¬2). من هنا نُدرك كيف كان حزن الصحابة على انقطاع الوحي، وليس أدل على ذلك مما رواه أنس رضي الله عنه عندما قال: ¬

_ (¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (1/ 46 برقم 89، 5/ 1991 برقم 4895)، ومسلم (4/ 192 برقم 3768). (¬2) مقومات التصور الإسلامي لسيد قطب، ص 192، 193 باختصار، دار الشروق - مصر.

تأثر الصحابة بالقرآن

قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها .. فلما انتهينا إليها، بكت، فقالا لها: ما يُبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ما أبكى أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء! فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها» (¬1). تأثر الصحابة بالقرآن: ذاق الصحابة رضوان الله عليهم حلاوة الإيمان من خلال القرآن، وأدركوا قيمته، فأقبلوا عليه وانشغلوا به، وانجذبت مشاعرهم نحوه لدرجة الاستغراق والهيمنة: فهذا عمر بن الخطاب يسمع رجلًا يقرأ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 7، 8]، فجعل يبكي حتى اشتد بكاؤه، فقيل له في ذلك، فقال: دعوني، إني قد سمعت قَسَمَ حقٍ من ربي (¬2). وكان عبد الله بن عباس يُقرئ عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر بن الخطاب .. قال عبد الله بن عباس: لم أر أحدًا يجد من القشعريرة ما يجد عبد الرحمن عند القراءة (¬3). وفي يوم من الأيام قال بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تر ثابت بن قيس بن الشماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح؟! قال: «فلعله قرأ بسورة البقرة»، فسُئل ثابت فقال: قرأت سورة البقرة (¬4). نزل رجل من العرب على عامر بن ربيعة، فأكرم عامر مثواه، وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء الرجل إليه بعد ذلك، فقال: إني استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم واديًا ما في العرب أفضل منه، ولقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك. فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1] (¬5). المصدر المتفرد: إذن فالقرآن الكريم هو المصدر المتفرد والوسيلة العظيمة التي صنعت الجيل الأول، ومن ثَمَّ فهو المؤهل للقيام بهذه الوظيفة معنا إن أحسنَّا التعامل معه. هذا من ناحية الواقع العملي، أما من ناحية الشروط التي تم الحديث عنها في الصفحات السابقة والخاصة ببناء القاعدة الإيمانية، فإن جميعها متحقق في القرآن وزيادة وزيادة، وكيف لا والذي أنزله هو رب العالمين، العالم باحتياجاتهم .. الذي يُريد لهم الخير والقرب الدائم منه {أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6]. إن طريقة القرآن في زيادة الإيمان، وبناء قاعدته في جميع المشاعر طريقة فريدة لا يُمكن للعقل البشري القاصر أن يُحيط بها، ويكفيك في ذلك أن تتعرف على تأثير آيات القرآن عندما تُتلى على من يُحسن استقبالها {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109]. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (7/ 144 برقم 6472). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في الرقة والبكاء. (¬3) الانتصار للقرآن للباقلاني (1/ 201)، ومختصر قيام الليل لمحمد بن نصر (145). (¬4) فضائل القرآن لأبي عبيد ص 66، وابن كثير في فضائل القرآن، وقال: إسناده جيد. (¬5) تفسير ابن كثير (5/ 332)، والدر المنثور للسيوطي (5/ 615)، وروح المعاني للألوسي (17/ 2).

المعرفة الشاملة

فهؤلاء الذين أشارت إليهم الآيات عندما سمعوا القرآن خرُّوا إلى الأذقان سُجدًا من تأثيره عليهم .. اندفعوا نحو الأرض بجباههم دون أن يُطلب منهم ذلك .. دفعهم لهذا السجود قوة تأثير الآيات على قلوبهم، واستثارتها الفائقة لمشاعر الإجلال والتعظيم لله عز وجل، فلم يملكوا أنفسهم، ولم يستطيعوا السيطرة على مشاعرهم، فاندفعوا ساجدين خاشعين باكين {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15]. وكأن هذا هو الحال الذي ينبغي أن يكون عليه كل من يستمع آيات القرآن؛ لِما فيها من قوة تأثير جبارة، لذلك ذم الله عز وجل من لا يؤمن ولايخشع عند سماعه للقرآن {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 20، 21]. فمن لم يتأثر بالقرآن ويزداد به إيمانًا، فبماذا سيتأثر ويؤمن؟! {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات: 50]. المعرفة الشاملة: القرآن كتاب عظيم به آلاف الآيات التي تتضمن الكثير والكثير من المعلومات عن الله عز وجل، وعن أسمائه وصفاته، وآثارها في الكون، ويحتوي كذلك على كل ما ينبغي أن يؤمن به الإنسان لينجح في مهمته على الأرض. ولئن كان يصعُب على البعض النظر الصحيح، والتفكر في الكون وآياته المشهودة فإن القرآن العظيم يختصر له الكون، بل ويرشده إلى طريقة التفكر فيه {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2]، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3، 4]. والقرآن العظيم كذلك يحتوي - بإجمال - على أهم الأحداث التي مرَّت بالبشرية ليأخذ منها المسلم العبر والعظات التي تُعينه على القيام بواجبه الصحيح على الأرض. ولك أن تتأمل آيات سورة القمر، وكيف أنها تذكر العديد من قصص السابقين كقوم نوح وعاد وثمود، ثم نجد كل قصة منها تنتهي بقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، أي أنك إن كنت - أيها القارئ - لم تُشاهد ما حدث لهؤلاء، وفاتك أخذ العبرة منهم، فإن القرآن يكفيك، ويُقدم لك خلاصة تلك الأحداث {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]. ويؤكد سيد قطب على شمول المعرفة القرآنية فيقول: إن القرآن الكريم وهو يتناول الحقائق والمقومات التي يقوم على أساسها التصور الإسلامي للوجود، ويُقدم على أساسها التفسير الصحيح لهذا الوجود أيضًا .. لم يدع جانبًا منها يراود الفكر البشري عنه سؤال إلا وقد أجاب على هذا السؤال، ولم يدع انحرافًا في تصورها يخالط الفكر البشري إلا وصحح هذا الانحراف بحيث يستقيم في القلب والعقل وفي الكينونة البشرية بجملتها تصور كامل من وراء هذا البيان الشامل، وتفسير صحيح للوجود كله وللتاريخ الإسلامي (¬1). المعرفة المؤثرة والقرآن الكريم لا يُقدم المعلومة فقط، بل يُقدمها بطريقة تُقنع العقل، وتستثير المشاعر في آن واحد، فينشأ الإيمان - بإذن الله -. وإذا ما داوم المرء على قراءة القرآن - قراءة صحيحة - ازداد إيمانًا .. لماذا؟ ¬

_ (¬1) مقومات التصور الإسلامي ص (80).

القرآن يستثير جميع المشاعر

لأنه ازداد معرفة نافعة ومؤثرة {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]. ويُقارن بديع الزمان النورسي بين المعرفة التي يُقدمها القرآن والمعرفة التي يُقدمها علم الكلام فيقول: حقًّا، إن معرفة الله المستنبطة من علم الكلام ليست هي المعرفة الكاملة، ولا تورث الاطمئنان القلبي. في حين أن تلك المعرفة متى ما كانت على نهج القرآن الكريم المعجز، تُصبح معرفة تامة، وتُسكب الاطمئنان الكامل في القلب. إن المعرفة المُستقاة من القرآن الكريم تمنح الحضور القلبي الدائم مع الله. ويضرب النورسي مثالًا للفرق بين الأمرين: لأجل الحصول على الماء، هناك من يأتي به بواسطة أنابيب من مكان بعيد يُحفر في أسفل الجبال، وآخرون يجدون الماء أينما حفروا، ويُفجِّرونه أينما كانوا. فالأول سير في طريق وَعر وطويل، والماء مُعرَّض فيه للانقطاع والشُّحة، بينما الذين هم أهل لحفر الآبار فإنهم يجدون الماء أينما حلُّو دونما صعوبة ومتاعب. إن كل آية من آيات القرآن الكريم كعصا موسى تُفجِّر الماء أينما ضربت .. (¬1). ويقول: لا حاجة إلى الاستضاءة بنور الشموع مادامت هناك شمس ساطعة (¬2). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن اللذة والفرحة والسرور، وطيب الوقت، والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه، إنما هو في معرفة الله عز وجل، وتوحيده، والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية (¬3)، وكيف لا (والقرآن يُثير العواطف، ويوقظ العقول في وقت واحد، وبعد الاقتناع يطمئن العقل ويهدأ الإحساس، ويشعر الإنسان بنشوة الفرح والارتياح) (¬4). القرآن يستثير جميع المشاعر: الذي يُقبل على القرآن إقبالًا صحيحًا فيتدبر معانيه ويتأثر بها يجد أنه يُخاطب جميع مشاعره، فتارة يستثير فيه مشاعر الخوف والرهبة، وتارة الفرح والاستبشار، وتارة الرضا والتفويض، وتارة السكينة والطمأنينة، وتارة الحب والشوق إلى الله عز وجل. يقول ابن القيم: لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق، والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل، والرضا والتفويض، والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله (¬5). (يشعر القارئ (المتدبر للقرآن) أنه يعيش حياة نابضة في في عالم آخر غير الذي يعيش، يُدرك أن روحًا تسري فيه. يحس من يقرأ في القرآن متنقلًا بين آياته وسوره أنه يعيش في قرية صغيرة، يجمعها مكان واحد، هي هذه المعمورة رغم اتساعها، ويكتنفها زمان واحد من لدن آدم حتى قيام الساعة .. نصوص مفتوحة أمامها الطريق، لا يحُدُّها زمان، ولا يُقيدها مكان، تلقي تعاليمها لهذا الإنسان الذي لا تتغير مشاعره وجوانبه النفسية وميوله على اختلاف الزمان. هكذا يجد كل إنسان فيه بُغيته .. يُقبل عليه المهموم ليجد فيه بلسمه، ويُقبل عليه المحزون ليجد فيه سلوته، ويُقبل عليه العالم ليجد فيه طلبته، ويُقبل عليه الهارب من قيود الحياة الرتيبة ليجد فيه خلوته .. يُقبل عليه الضال التائه الحائر ليجد ضالته. انظر كيف أن آيات السورة الواحدة تنتقل بك من موضوع إلى آخر، ومن وصف إلى قصص، إلى وعد ووعيد، إلى تشريع، ... . ¬

_ (¬1) المكتوبات (425 - 426) باختصار وتصرف يسير. (¬2) المصدر السابق (463). (¬3) رسائل ابن تيمية في السجن ص (31). (¬4) التعبير القرآني والدلالة النفسية للجيوسي ص (136). (¬5) مفتاح دار السعادة (1/ 553).

القرآن وبناء الإيمان

هذا، وإن في تنوع سور القرآن طولًا وقصرًا، انسجامًا مع هذه النفس الإنسانية التي تل الرتابة، كل سورة من سور القرآن تُضيف لبنة نفسية إلى ذلك الكيان الإنساني، حتى تجده مع آخر سورة قد اكتمل بناؤه النفسي، وتكاملت مشاعره وأحاسيسه .. من هنا نُدرك الحكمة من كثرة النصوص الواردة في حثِّ المسلم على الإقبال على هذا القرآن، وإشارة النصوص إلى ضرورة أن يكون لهذا الإنسان ورد يومي وزاد يتقوَّت به في يومه، وأهمية قراءة القرآن من أوله إلى آخره لأنها تُمكن المرء من استثارة كامل مشاعره التي تنطوي عليها نفسه) (¬1). القرآن وبناء الإيمان: وإليك أخي القارئ بعض اللمحات اليسيرة عن طريقة القرآن الفريدة في بناء الإيمان: القرآن الكريم يطرح جميع الحقائق التي ينبغي الإيمان بها طرحًا يُخاطب به العقل فيُقنعه بشتى أساليب الإقناع من خلال الحوار الذي يُشعر قارئ القرآن أنه أحد أطرافه، ويصل معه في النهاية إلى الإجابة المقنعة للقضية المثارة، وخلال هذا الحوار نجد هناك أسئلة تُطرح وأمثلة تُضرب وإجابات تُفحِم وتُدحِض أي شبهة. فعلى سبيل المثال: شبهة أن القرآن ليس من عند الله، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد افتراه من عنده، نجد الرد على هذه الشبهة في أكثر من موضع في القرآن بكلام مُفحم وأدلة دامغة كقوله تعالى في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13، 14]. ومع الإقناع العقلي فإن القرآن يستثير المشاعر في نفس الوقت من خلال أساليبه المتنوعة من تشويق وترغيب وترهيب، ومن خلال القصة والموعظة، فعلى سبيل المثال: سورة النبأ تناقش قضية البعث والجزاء، وتُثبتها من الناحية العقلية، من خلال حثّ القارئ على الإجابة على أسئلة بدهية مفادها أن الذي جعل لك النوم سُباتًا، والنهار معاشًا، وأنزل المطر، وبسط الأرض، وثبَّتها بالجبال، و .. ، هو الذي يُخبرك أن هناك يومًا للجزاء .. ومع هذا الإقناع العقلي يأتي الترهيب بذكر هول يوم القيامة وبشاعة النار، وكذلك ذكر الجنة، وبعض ما فيها من ألوان النعيم، فتُستثار المشاعر مع تلك القناعة العقلية فينشأ الإيمان بإذن الله. وليس ذلك فحسب ... فمن أهم الوسائل التي يتفرد بها القرآن لاستثارة المشاعر هي الطريقة التي ينبغي أن يُتلى بها؛ ألا وهي الترتيل والتغني به طبقًا لأحكام التجويد {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]. أهمية الترتيل: إن تحسين الصوت بالقرآن وترتيله له وظيفة عظيمة في الطرق على المشاعر لاستثارتها، فيؤدي ذلك إلى امتزاج القناعة العقلية بالعواطف المنفعلة، لذلك كان الحث على تحسين الصوت عند قراءة القرآن. قال صلى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم» (¬2). وقال: «ليس منَّا من لم يتغن بالقرآن» (¬3). ¬

_ (¬1) التعبير القرآني والدلالة النفسية للجيوسي ص (224 - 226) باختصار، دار الغوثاني - دمشق. (¬2) حديث صحيح: أخرجه أحمد (4/ 283، رقم 18517)، وأبو داود (2/ 74، رقم 1468)، والنسائي (2/ 179، رقم 1015)، وابن ماجه (1/ 426، رقم 1342) وغيرهم، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (3574 - 3575). (¬3) أخرجه البخاري (6/ 2737، رقم 7089).

أهمية المداومة على تلاوة القرآن

وقيل لابن أبي مُليكة: «يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع» (¬1). ويؤكد ابن حجر العسقلاني على هذا المعنى فيقول: والذي يتحصل من الأدلة أن حُسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسنًا فليحسنه ما استطاع (¬2). ويقول الجيوسي في كتابه «التعبير القرآني والدلالة النفسية»: القرآن الكريم كتابٌ لا كأي كتاب، فهو يُتلى بطريقة مرتبة، على أصول منظمة، يجب أن تُراعى فيه قواعد القراءة وأصول الأداء، وهذا مما اختص به القرآن الكريم على سائر الكتب، وورود الأمر بذلك في الآيات الأولى من مرحلة نزول القرآن {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]. ولا شك أن هناك قواعد تتصل بالأداء القرآني لابد من مراعاتها كأحكام التجويد، فالتجويد هو التحسين. هذه الأحكام التي ينبغي لقارئ القرآن أن يُراعيها هي في حقيقة الأمر أحد أسرار ذلك الإيقاع الذي يشدُّ الأسماع إليه، لا تكاد تخلو آية من حُكم ما بين غُنّة أو مدّ أو إخفاء، أو غير ذلك من الأحكام التي تفرض على السامع لونًا معينًا لا يعهده في الكلام الاعتيادي، وإذا ما علمنا أن قراءة القرآن ينبغي أن تكون بالترتيل وبمراعاة هذه الأحكام، أدركنا أن ذلك سرٌّ كامنٌ في كتاب الله، هذا الذي يجعل النفس تنجذب إليه (¬3). فإذا ما اقترن ذلك بحضور العقل وتفهُّمه للخطاب كان الأثر عظيمًا على القلب كحال وفد نصارى نجران عندما استمعوا للقرآن {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83]. وجدير بالذكر أن (التغني بالقرآن هو تحسين الصوت بقراءة القرآن، بخلاف الغناء المعروف في زماننا، فالقصد من هذا الغناء أن يطرب ويُطرب غيره لا ليتعظ ويعتبر، فالتغني بالقرآن إذًا هو: استماع المتكلم لما يُتَكلم به، مترنمًا بالنطق، مستحبًّا له، مستلمحًا مستطيبًا للكلمات، ذوقًا لها ولمعانيها) (¬4). ويؤكد الحافظ ابن كثير على هذا المعنى فيقول: والغرض أن المطلوب شرعًا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه، والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان، والأوضاع المُلهية والقانون الموسيقائي، فالقرآن يُنزَّه عن ذلك (¬5). أهمية المداومة على تلاوة القرآن: القرآن يُخاطب العقل فيُقنعه، ويضغط على المشاعر فيستثيرها، لينشأ بذلك الإيمان - بإذن الله -، فيُثمر ذلك الإيمان مزيدًا من العبودية لله عز وجل {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27، 28]. والقرآن يعرض جميع الحقائق التي ينبغي الإيمان بها، وعلى رأسها الإيمان بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته. والإيمان الذي يحدثه القرآن يتناول جميع المشاعر، فإذا ما داوم المرء على تلاوته، وأعطاه وقتًا معتبرًا من يومه فإن هذا من شأنه أن يزيده إيمانًا، وهكذا تستمر زيادة الإيمان حتى تستقر وترسخ في المشاعر، وتكون له اليد الطولى بها، وباستمرار التلاوة يزداد الترقي الإيماني، ويزداد ظهور ثمار الإيمان. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1/ 548 برقم 1473)، وقال الشيخ الألباني رحمه الله: حسن صحيح. (¬2) فتح الباري (9/ 72). (¬3) التعبير القرآني والدلالة النفسية، لعبد الله الجيوسي ص (164، 165) باختصار وتصرف يسير، دار الغوثاني - سوريا. (¬4) المصدر السابق ص 168. (¬5) فضائل القرآن لابن كثير (1/ 114).

من هنا كان الحث في القرآن والسنة على ضرورة المداومة على تلاوة القرآن حتى يتحقق مقصوده العظيم بتحصيل العلم والإيمان والترقي في مدارج السائرين إلى الله. فمن الآيات قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29]. وقوله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل: 91، 92]. وقوله: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [العنكبوت: 45]. ومن الأحاديث النبوية، قوله صلى الله عليه وسلم: «تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تَفَصِّيًا من قلوب الرجال من الإبل من عُقلها» (¬1). وقوله: «اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستأثروا به» (¬2). ولمّا جاء وفد ثقيف إلى المدينة أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة بين المسجد، وبين أهله، فكان يأتيهم ويُحدثهم بعد العشاء، وفي ليلة من الليالي تأخر عليهم ثم أتاهم، فقالوا له: يا رسول الله، لبثت عنَّا الليلة أكثر مما كنت تلبث، فقال: «نعم، طرأ عليّ حزبي من القرآن فكرهت أن أخرج من المسجد حتى أقضيه» (¬3). ولكي يقع هذا الحث النبوي مواقعه الصحيحة فلا يؤدي إلى إسراع البعض في القراءة دون تفكُّر وتفهُّم وتدبُّر كانت التوجيهات النبوية بضرورة التركيز وجمع العقل مع التلاوة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول، فلينصرف فليضطجع» (¬4). وقوله لعبد الله بن عمرو بن العاص وهو يوضح له سبب نهيه عن قراءة القرآن في أقل من ثلاثة أيام: «لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث» (¬5). وعندما نزلت آيات سورة آل عمران {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]. قال صلى الله عليه وسلم «ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها» (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4/ 1921، رقم 4746)، ومسلم (1/ 545، رقم 791). (¬2) حديث صحيح: أخرجه أحمد (3/ 428، رقم 15568)، وأبو يعلى (3/ 88، رقم 1518)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة. (¬3) حديث حسن: أخرجه، وأبو داود (2/ 55، رقم 1393)، وابن ماجه (1/ 427، رقم 1345)، و أحمد (4/ 9، رقم 16211) حسنه الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (1/ 276) والحافظ ابن حجر كما في "الفتوحات" لابن علان (3/ 229). (¬4) أخرجه مسلم (1/ 543، رقم 787). (¬5) حديث صحيح: أخرجه أحمد (11/ 104، برقم 6546)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، حديث رقم (1157). (¬6) حديث صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه (2/ 386، برقم 620)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 68.

لا بديل عن القرآن

لا بديل عن القرآن: من هنا نقول بأننا إذا ما أردنا بناء القاعدة الإيمانية باتساعها في جميع مشاعر القلب فلابد من العودة الصحيحة إلى القرآن، وإعطائه وقتًا معتبرًا من يومنا، وأن نُداوم على ذلك كل يوم .. نقرؤه بتدبر وترتيل وصوت حزين، فإن لم نفعل ذلك فلا نلومن إلا أنفسنا عندما نُفاجأ بعد الموت بهذا الكنز الذي كان بين أيدينا، فهجرناه بمحض إرادتنا، وقد كان بإمكاننا من خلال حُسن التعامل معه أن نقترب أكثر وأكثر من الله عز وجل {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104]. القرآن والسنة: وغني عن البيان أن الحديث عن القرآن يشمل الحديث عن السنة بالتبعية، فكما يقول ابن رجب: فأما السُنة فهي مفسرة للقرآن، ومُبيِّنة، وموضحة، فهي تابعة له، والمقصود الأعظم هو القرآن (¬1) .. وليس أدل من أهمية التمسك بالسنة مع القرآن من قوله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم شيئين، لن تضلُّوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يرِدا على الحوض» (¬2). ابتعاد الأمة عن الانتفاع الحقيقي بالقرآن: ومما يدعو للأسف أن جيل الصحابة لم يتكرر مرة ثانية في تاريخ الأمة حتى الآن، ومن أهم الأسباب لذلك هو هجر الانتفاع بالقرآن كمصدر متفرد لتحصيل العلم والإيمان. إن مشكلتنا الرئيسة مع القرآن والتي تمنعنا من الانتفاع الحقيقي به هي ضعف إيماننا به، وثقتنا فيه كمصدر متفرد لتحصيل العلم والإيمان، ومن ثَمَّ التغيير .. ولك - أخي القارئ - أن تتأكد من هذا التشخيص بإجراء اختبار لنفسك وللآخرين، بأن تتخيل بأنك يومًا ما رغبت في قراءة شيء من الرقائق والمواعظ لترقيق قلبك، فاتجهت إلى مكتبتك، ووقع بصرك على كتاب التوهم للمحاسبي، والتبصرة لابن الجوزي، ومدارج السالكين لابن القيم، وإحياء علوم الدين للغزالي، ووقع بصرك - فيما وقع - على المصحف، فأي الكتب ستختار؟! وما هو ترتيب القرآن في هذا الاختيار؟! ستُفاجأ أخي - كما فوجئت - بأن القرآن هو آخر كتاب ستختاره لهذه المهمة .. هذا إن كنت ستضعه في دائرة الاختيار والتفضيل. إنه أمر يدعو إلى الحسرة .. كتاب الله أعظم وسيلة للتأثير يُصبح مهجورًا بهذه الطريقة؟! يا حسرة على العباد: هل انطفأ نور القرآن؟ لا والله، فهو كما هو النور المبين، وسيظل تأثيره أقوى من تأثير أي نور آخر، ولكننا أدرنا له ظهورنا، ولم نُحسن توجيه نوره لعقولنا وقلوبنا، فلم نشعر بأثره، فهل نقول لأنفسنا: «يا حسرة على العباد؟!» يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: سيبلى (¬3) القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت (¬4)، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة (¬5). لقد صدق معاذ رضي الله عنه، فلقد ضعفت قيمة القرآن في قلوبنا، وأصبحنا لا نجد اشتهاء للإقبال عليه، ولا لذة حينما نتلو آياته. لقد تضافرت عوامل كثيرة أدَّت إلى هذا الهجر الخطير للقرآن، ولكن حيث أنه لا بديل أمامنا سوى العودة إليه والانتفاع به لتحصيل العلم النافع لعقولنا، والإيمان المتجدد لقلوبنا، والتزكية الصحيحة لنفوسنا، والحركة الدائبة لخدمة ديننا، فلابد من بذل غاية الجهد، واجتياز كافة العقبات التي تحول بيننا وبينه .. ¬

_ (¬1) الاستغناء بالقرآن في تحصيل العلم والإيمان لابن رجب. (¬2) حديث صحيح: أخرجه الحاكم (1/ 172، رقم 319)، والدارقطني (4/ 245)، وصححه الألباني. (¬3) بلى الثوب: من كثرة استعماله حتى صار قديمًا لا قيمة له. (¬4) التهافت: التساقط والتتابع. (¬5) أخرجه الدارمي في سننه (2/ 531 برقم 3346).

أخي القارئ

أخي القارئ لو أن رجلًا يعمل في مكان بعيد عن أهله، وعلِم أن ابنه قد مرِض مرضًا عضالًا، وأنه يحتاج إلى دواء (ما) وصفه له الأطباء، وأن هذا الدواء غير متوافر ببلد الابن، فبحث عنه حتى وجده، ووضعه في صندوق محكم غاية الإحكام، وبالغ في وضع الأغلفة على الصندوق وأرسله إلى ابنه، وعندما وصلت العلبة إليه وعلم أن فيها دواءه حاول فتحها هو ومن حوله فلم يستطيعوا، فماذا تظن أنهم سيفعلون؟ هل سييأسون من فتحها وينصرفون عنها، أم سيحاولون فتحها مرات ومرات ومرات حتى ينجحوا؟ لقد أصبح بيننا وبين القرآن حجابًا كثيفًا، يحول بيننا وبين الانتفاع به، فلا ينبغي علينا أن نيأس إن أقبلنا على القرآن فلم نجد أي تجاوب، فالأمر يحتاج إلى محاولات متكررة، وإلحاح شديد على الله عز وجل، وتَبؤُّس وانكسار حتى يفتح لنا سبحانه أبواب القرآن، وتصل أنواره إلى عقولنا وقلوبنا. يقول المحاسبي: فإن طلبت الفهم بصدق أقبل عليك بالمعونة .. لا يَثقُل فهم كلامه إلا على من تعطل قلبه ألا يسمع .. فإن علم - سبحانه - من التالي لكتابه صدق ضمير، وعناية حتى يجمع همه للفهم، أفهمه .. ألا تسمعه يقول: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال: 70]. فإذا أقبلت على الله بصدق نية، ورغبة لفهم كتابه بإجماع همٍّ، متوكلًا عليه أنه هو الذي يفتح لك الفهم: لم يخيبك من الفهم والعقل عنه إن شاء الله (¬1). ويقول الزركشي: إذا كان العبد مصغيًا إلى كلام ربه، مفتقرًا إلى التفهم، بدعاء وتضرع، وابتئاس وتمسكن، ومنتظرًا للفتح عليه عند الفتاح العليم، وأن تكون تلاوته على معاني الكلام؛ فهذا القارئ أحسن الناس صوتًا بالقرآن، وفي مثله يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121] .. وهذا هو الراسخ في العلم (¬2). فمن هنا نقول - بيقين - بأننا إن استطعنا أن ندخل على القرآن دخول التلميذ المُتشوق للمعرفة حينما يُقابل أعظم أستاذ، وداومنا على ذلك، فإن القرآن سيفتح لنا أبوابه، وسيغزو نوره قلوبنا، لنكون من بعد ملاقاته قومًا صالحين بإذن الله، وأكثر إيمانًا وبهجة وسكينة. التحدي الكبير: لا يُمكن للتربية الإيمانية أن تتم بمراحلها المختلفة دون التعامل الصحيح مع القرآن، وهذا لن يحدث إلا إذا زادت الثقة فيه، كمصدر متفرد لتنوير العقول والقلوب، وتزكية النفوس {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: 8]. هذا هو التحدي الكبير الذي يواجهنا .. فالحل بين أيدينا، ومع ذلك لن نقدر على الانتفاع به طالما ضعف إيماننا به وثقتنا فيه. من هنا نقول أن نقطة البداية في طريق الانتفاع بالقرآن بعد الاستعانة الصادقة والمستمرة بالله عز وجل هي تنمية الثقة فيه لتزداد رغبتنا فيه، وإقبالنا الصحيح عليه. وتنمية هذه الثقة تحتاج منَّا إلى القيام ببعض الأمور هي: أولها: التعرف على أوصاف القرآن من القرآن: فكلما تعَّف المرء على فاعلية الدواء الذي سيستخدمه؛ كلما ازداد ثقة فيه، فكما يقول الحارث المحاسبي: «لقد عظم الله عز وجل القرآن وسمَّاه: برهانًا، ونورًا، ورحمة، وموعظة، ومجيدًا، وبصائر وهدى، وفرقانًا، وشفاء لما في الصدور، وذلك ليعظم قدره عند المؤمنين، فيقبلوا عليه منبهرين ومقِّدرين، ومتدبرين، فينالوا به شفاء قلوبهم». ¬

_ (¬1) البرهان في علوم القرآن للزركشي. (¬2) فهم القرآن للمحاسبي.

التواص والتعاهد

وأخبرنا أنه أحسن من كل حديث ومن كل قصص وقال نحن نقص عليك أحسن القصص {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]. {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: 3]. وأخبرنا أنه لا يفنى ولا ينفد {لْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] (¬1). ثانيها: التعرف على النماذج القرآنية التي صنعها القرآن على مر العصور: ولعل أهم قدوة في ذلك: رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صحابته الكرام الذي قال عنهم الإمام القرافي: لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته (¬2). فعلينا أن نتعرف على علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وكيفية تعامله معه، ووصاياه نحوه. وعلينا كذلك أن نتعرف على أثر القرآن على الصحابة، وكيفية تناولهم له، وتوجيهاتهم لمن بعده. وهناك نماذج قرآنية في العصر الحديث تُعطينا الأمل في إمكانية تكرارها بيننا، فعلينا أن نتعرف عليها وعلى أثر القرآن فيها. ومن هذه النماذج: محمد إقبال، وبديع الزمان النورسي، وحسن البنا، وعبد الحميد بن باديس، وسيد قطب، وأبو الحسن الندوي، وأبو الأعلى المودودي، وفريد الأنصاري. ثالثها: التعرف على أهم العوائق التي تحول بيننا وبين الانتفاع بالقرآن، وهي - بإجمال -: الصورة الموروثة عنه، وطول إلف سماعه، ونسيان الهدف الذي من أجله نزل، والانشغال بفروع العلم والتبحر فيها، وغياب أثره في واقع الحياة، ورسوخ مفاهيم ساهمت في عدم الانتفاع به كالخوف من تدبره، وأهمية الإسراع في حفظه، والسعي وراء تحصيل الثواب فقط من تلاوته مما يؤدي إلى الإسراع في تلاوته دون تفهُّم ولا تدبر، وغير ذلك من المفاهيم والممارسات التي تُشكل حاجزًا نفسيًّا يمنعنا من الانتفاع الحقيقي بالقرآن. وقبل ذلك كله، فإن كيد الشيطان واجتهاده في الحيلولة بين وصول القرآن للعقل والقلب من أهم عوائق الانتفاع بالقرآن (¬3). ولعلك تجد - أخي القارئ - بعض التفصيل حول هذه العوائق في كتاب «تحقيق الوصال بين القلب والقرآن» (¬4)، وفيه كذلك العديد من النماذج العملية للأثر الإيجابي للقرآن العظيم، فاقرأه - إن شئت - على أن تكون قراءة متأنية من بدايته حتى نهايته، لعل هذه القراءة تُسهم - بإذن الله - في تحقيق الهدف الذي ترمي إليه هذه الصفحات. التواص والتعاهد: من أخطر العوائق التي تحول بيننا وبين الممارسة العملية المستمرة لقراءة القرآن وتدبر معانيه والتأثر بها، هو تعودنا على طريقة شكلية لتلاوته؛ تلك التي تُركز على قراءة أكبر قدر من آياته دون التفكر في معانيها، وبخاصة في شهر رمضان، بحثًا عن الثواب المترتب على قراءتها. ¬

_ (¬1) فهم القرآن للمحاسبي ص (282)، دار الكندي. (¬2) الفروق للقرافي (4/ 303). (¬3) اقتراح: يُفضَّل - من وجهة نظري - أن نقول: فإن كيد الشيطان واجتهاده في الحيلولة بين وصول القرآن للعقل والقلب - لعلمه بعظم أثره على دينهم ودنياهم وسلوكهم واخلاقهم - من أهم عوائق الانتفاع بالقرآن. (¬4) بفضل الله، الكتاب موجود على موقع الإيمان أولًا.

وسائل عملية للانتفاع بالقرآن

لذلك من المتوقع ان يجد المرء صعوبة بالغة في الانتقال إلى الطريقة الصحيحة في قراءة القرآن، والتي تُحقق قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. نعم، قد ينجح يومًا او بضعة أيام ولكنه سرعان ما يعود إلى الطريقة القديمة .. إن الذي تعوَّد أن يأكل بيده اليسرى ثلاثين عامًا يصعب عليه الأكل بيده اليمنى بمجرد أنه قد عرف أهمية ذلك، فالأمر يحتاج منه إلى عزم أكيد، وتوكل عظيم على الله عز وجل، وممارسة طويلة، ومع ذلك فمن المتوقع أنه سيجد معاناة شديدة حتى يعتاد الأكل باليمنى. ونفس الأمر بخصوص القرآن، فلقد اعتدنا قراءته والتعامل معه بشكل غير صحيح، ولكي يتم تعديل ذلك لابد من استعانة صادقة بالله، وعزم أكيد، وممارسة، ومتابعة، وتعاهد ممن سبقونا في هذا الأمر حتى نتعود على القراءة اليومية للقرآن، بتدبر وترتيل وصوت حزين، وتفاعل مع الآيات التي نتأثر بها. وسائل عملية للانتفاع بالقرآن: ولتمام الفائدة نضع بين يديك أخي القارئ بعض الوسائل العملية التي من شأنها أن تُدخلنا - بإذن الله - إلى عالم القرآن، وتفتح لنا أبواب الانتفاع به، فعلينا أن نستخدمها عند تلاوتنا اليومية للقرآن، وأن تسير جنبًا إلى جنب مع وسائل تنمية الثقة في القرآن والتي ذُكرت آنفًا. أولًا: قبل أن نبدأ بقراءة القرآن علينا بالإلحاح على الله عز وجل أن يفتح قلوبنا لأنوار كتابه، وأن يكرمنا ويعيننا على التدبر والتأثر، ولنتذكر جميعًا بأن الإلحاح الشديد على الله هو أهم مفتاح يفتح القلوب للقرآن، فليكن - إذن - إلحاح ودعاء وتضرع كتضرع المضطر الذي يخرج دعاؤه من أعماق قلبه. يقول ابن رجب: على قدر الحُرقة والفاقة تكون إجابة الدعاء (¬1). ثانيًا: القراءة في مكان هادئ، بعيدًا عن الضوضاء حتى يتسنَّى جمع العقل والقلب ومع القرآن، وكذلك اختيار الوقت المناسب الذي يكون فيه المرء بعيدًا عن الإجهاد البدني أو الذهني، ولا ننسى الوضوء والسواك. ثالثًا: تخصيص وقت معتبر للقراءة لا يقل في البداية عما يُقارب الساعة المتصلة وحبذا لو كان أكثر من ذلك، مع مراعاة ضرورة - عدم قطع القراءة بأي أمر من الأمور ما أمكن ذلك - حتى لا نخرج من جو القرآن، وسلطان الاستعاذة. رابعًا: القراءة من المصحف وبصوت مسموع وبترتيل، على أن تكون القراءة هادئة حزينة لاستجلاب التأثر بإذن الله. خامسًا: الفهم الإجمالي للآيات من خلال إعمال العقل في تفهُّم الخطاب، وهذا يستلزم منَّا التركيز التام مع القراءة. وليس معنى إعمال العقل في تفهم الخطاب أن نقف عند كل كلمة ونتكلف في معرفة معناها وما وراءها، بل يكفي المعنى الإجمالي الذي تدل عليه الآية حتى يتسنَّى لنا الاسترسال في القراءة، ومن ثَمَّ التصاعد التدريجي لحركة المشاعر فتصل إلى التأثر والانفعال في أسرع وقت *. سادسًا: الاجتهاد في التعامل مع القرآن كأنه أُنزل عليك وكأنك المُخاطَب به، والتفاعل مع هذا الخطاب من خلال الرد على الأسئلة التي تطرحها الآيات، والتأمين عند مواضع الدعاء، والاستغفار في مواضع طلب الاستغفار ... وهكذا. سابعًا: تكرار وترديد الآية أو الآيات التي يحدث معها تجاوب وتأثر مشاعري حتى يتسنى للقلب الاستزادة من النور الذي يدخل عن طريقها، والإيمان الذي ينشأ في هذه اللحظات. ويستمر ترديد الآية أو الآيات حتى يزول التأثر والانفعال. ¬

_ (¬1) الذل والانكسار لابن رجب. * يُفضَّل القراءة في مثل مصحف التجويد الذي يوجد على هامشه معاني الألفاظ الغريبة عن فهم القارئ حتى يتسنَّى له معرفة معناها وقت القراءة، دون الحاجة لقطع القراءة والبحث عنها.

ملاحظة

ثامنًا: إعادة قراءة الآيات التي يشرد عنها العقل، ويتركها ويسبح في أودية الدنيا، وفي نفس الوقت لا نعيد قراءة الآيات التي لم نتأثر بها، لأن التأثر حالة قلبية لا نملك استدعاءها، وهي في الغالب تأتي - بإذن الله - بعد الاسترسال في القراءة بترتيل وصوت حزين وفهم إجمالي، والله الموفق. ملاحظة: في حالة تولد الرغبة لمعرفة تفسير بعض الآيات المقروءة أو أسباب النزول، فمن الأفضل الرجوع للتفسير بعد إنتهاء القراءة حتى لا نخرج من جو القرآن والانفعالات الوجدانية التي نعيش في رحابها. وأخيرًا: علينا ألَّا نيأس إن تأخر تجاوب القلب مع القرآن، فلا بديل عنه في تحقيق أهداف التربية الإيمانية، ولا حل أمامنا سوى الاستمرار في قراءته - كل يوم - بترتيل وتدبر وصوت حزين حتى ياتي الفتح من الفتاح العليم. ولنعلم جميعًا بأن التحدي الأكبر الذي يواجهنا في طريقنا نحو تحقيق التربية الإيمانية الصحيحة هو كيفية اكتساب مهارة تدبر القرآن والتأثر بمعانيه، والمداومة اليومية على تلاوته بهذه الطريقة مهما كانت الشواغل. فإن نجحنا في ذلك فلنبشر بقرب ظهور الجيل القرآني - الجيل الموعود بالنصر والتمكين - فهل قَبِلنا التحدي؟! هيا هيا، فلنبدأ من الآن بأهم خطوة: العزم الأكيد والإلحاح الشديد على الله عز وجل بأن يفتح لنا أبواب القرآن، ويجعل عقولنا تفهم معانيه، وقلوبنا تتأثر بها.

الفصل السادس العمل الصالح وكيف ننتفع به في زيادة الإيمان؟!

الفصل السادس العمل الصالح وكيف ننتفع به في زيادة الإيمان؟!

الهدف الذي ترمي هذه الصفحات إلى تحقيقه - بإذن الله - هو كيفية الانتفاع الحقيقي بالعمل الصالح في زيادة الإيمان وتحسين السلوك، وذلك من خلال التعرف على الوسائل التي من شأنها تحفيز المشاعر قبل القيام به. ولكي نكتسب مهارة التحفيز قبل القيام بالعمل علينا أن نتدرب طويلًا على استخدام الوسائل المختلفة المذكورة في تلك الصفحات وغيرها، والله الموفق.

الانتفاع بالعمل الصالح

الفصل السادس العمل الصالح وكيف ننتفع به في زيادة الإيمان؟! لا يكفي ونحن نسير في طريقنا لبناء صرح الإيمان في القلب التركيز على أعمال القلوب فقط، بل لابد من القيام بأعمال صالحة بالجوارح تُثبِّت الإيمان وترفع بنيانه. فلو اكتفينا بعمل القلب ولم نهتم بالعمل الصالح فإن الإيمان سيظل محدودًا في القلب، ولن يظهر أثره الواضح على صاحبه، وبمرور الوقت قد ينزوي وينزوي في القلب. يقول الإمام الغزالي: «والعمل يؤثر في نماء الإيمان وزيادته كما يؤثر سقي الماء في نماء الأشجار» (¬1). فلابد من الاثنين معًا حتى يتم البناء الصحيح لصرح الإيمان {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71]. الانتفاع بالعمل الصالح: ولكي يتم الانتفاع بالعمل الصالح لابد من استجاشة المشاعر قبل القيام به، ليحدث الاتصال بين المشاعر والجوارح، فيُثمر أداء العمل - بعد ذلك - زيادة الإيمان في هذه المشاعر. فإن لم يحدث هذا الاتصال قبل العمل، فلن يكون لأداء هذا العمل أثر على المشاعر، ومن ثَمَّ السلوك. وكلما قوي الاتصال بين المشاعر والجوارح قبل وأثناء العمل، كان الأثر أشد وأقوى، وكما قيل سلفًا فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل حركة القلب والمشاعر معها، وأكبر مثال لذلك الصلاة: يقول صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها» (¬2). أهمية التذكرة قبل العمل: من هنا تبرز أهمية التذكرة قبل القيام بأداء العمل الصالح حتى يتم الانتفاع الحقيقي به، ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين (1/ 120). (¬2) حديث حسن: أخرجه أبو داود (1/ 211، رقم 796)، وأحمد (4/ 321، رقم 18914)، وابن حبان (5/ 210، رقم 1889)، والبيهقي (2/ 281، رقم 3342)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (537).

من فقه التحفيز

ومثال ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم: «اذكر الموت في صلاتك فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحرِّي أن يحسن صلاته» (¬1). والتذكرة النافعة هي التي تستجيش وتستثير المشاعر. ومن الضرورة بمكان وجود إيمان في القلب - ولو كان ضعيفًا - ولابد من استثارة هذا الإيمان بالتذكرة حتى يحدث الوصال بن المشاعر والجوارح {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]. وكلما كانت مساحة الإيمان في القلب كبيرة كان حجم التذكرة المطلوبة لاستثارته قليلة، أما إذا كان الإيمان محدودًا ومنزويًا في القلب، فإن التذكرة المطلوبة لابد وأن تكون شديدة حتى تتمكن من إحداث هزة في المشاعر القاسية .. وكذلك فإن التذكرة المطلوبة للأعمال الكبيرة الشاقة على النفوس أعظم من غيرها، فالقتال على سبيل المثال من الأعمال التي تشق على النفوس لذلك كان التوجيه القرآني للرسول عليه الصلاة السلام {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] ومعنى «حرض»: أي بالغ في حثهم وتحفيزهم. وهدف التحفيز والتذكير هو استجاشة المشاعر .. مشاعر الرغبة أو الطمع أو الرهبة أو الغيرة .. إلخ وكلما قويت تلك الاستجاشة واستمرت أثناء القيام بالعمل كان الأثر عظيمًا في زيادة الإيمان ومن ثَم تحسين السلوك. والمتأمل للخطاب القرآني والخطاب النبوي يجد أنهما يستخدمان هذه الطريقة قبل التوجيه المطلوب القيام به، ومن النادر أن يخلو توجيه من تحفيز يسبقه. من فقه التحفيز: لئن كان الجناح الثاني للتربية الإيمانية هو العمل الصالح، فإن الانتفاع به انتفاعًا حقيقيًا في زيادة الإيمان يحتاج إلى تحفيز واستجاشة المشاعر قبل القيام به. ولكي تكون هذه الطريقة ملازمة للعمل بصورة دائمة فإنها تحتاج إلى ممارسة ومكابدة مرات ومرات حتى يتعود المرء عليها، ويقوم بتنفيذها بصورة تلقائية .. ومفهوم التحفيز والتذكير قبل القيام بالعمل يشترك - إلى حد كبير - مع مفهوم استحضار النية قبل العمل، فالنية: هي القصد والتوجه، وكلما كان التوجه إلى الله عز وجل بالعمل كبيرًا وعميقًا كان العمل أنفع .. فإن قلت: وكيف أقوم بتحفيز نفسي وتحفيز الآخرين قبل القيام بالعمل؟! هناك وسائل كثيرة للتحفيز والتذكير يمكن للمرء أن يستخدمها مع نفسه ومع الآخرين، وسنذكر العديد منها - بعون الله تعالى - في الأسطر القادمة، مع العلم بأنه ليس من المطلوب استخدامها كلها قبل القيام بالعمل، بل علينا أن نأخذ منها ما يناسب العمل المراد القيام به، والوقت المتاح أمامنا لممارسة هذا التحفيز. فالذي يجد أمامه في الطريق غصنًا أو حجرًا فإنه يحتاج إلى تحفيز نفسه سريعًا بوسيلة أو وسيلتين قبل أن يرفعه من الطريق، والذي يجد أمامه عجوزًا يريد عبور الطريق فإنه يحتاج إلى تحفيز سريع كذلك. أما الذي يذهب للمسجد لأداء الصلاة فعنده من الوقت ما يجعله يستخدم عدة وسائل في التحفيز، وكذلك الذي يذهب لمساعدة محتاج أو زيارة مريض أو صلة رحم .. وهكذا. المهم أن نجتهد غاية الإمكان في تحفيز أنفسنا وتذكيرها قبل القيام بالعمل، وأن نستخدم من الوسائل ما يتناسب مع الوقت والعمل، وإن كانت هناك وسائل تكاد تكون مشتركة في كل الأعمال: كالتذكير بالله وابتغاء مرضاته، وبأهمية العمل وفضله، ولذلك أنصح نفسي وأنصحك - أخي القارئ - باقتناء كتاب عن فضائل الأعمال (¬2). ¬

_ (¬1) حديث حسن: أخرجه أبو داود (1/ 211، رقم 796). (¬2) ومن هذه الكتب: رياض الصالحين للنووي، والمتجر الرابح للحافظ الدمياطي.

وسائل التحفيز

وسائل التحفيز أولًا: السؤال السؤال يستثير مشاعر الرغبة داخل الإنسان لمعرفة الإجابة، والسؤال كذلك يشغل الذهن بطلب الإجابة، ومن ثمَّ فهو من الوسائل المهمة لتنبيه العقل، فإذا ما انتبه العقل كان من السهل استثارة المشاعر بالوسائل الأخرى. لذلك علينا أن نسأل أنفسنا قبل أداء العمل: لماذا أقوم بهذا العمل؟! ثم نبحث عن الإجابة من خلال استعراض الوسائل الأخرى التي ستأتي لاحقًا - بإذن الله - وأهمها: تذكُّر أن الله عز وجل يحب هذا العمل، وتذكر فضله وأهميته .. تأمل قوله تعالى لموسى عليه السلام: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] فالله عز وجل يعلم أن ما بيمينه عصا، ولكن المطلوب هو تركيز انتباه موسى - عليه السلام - لأقصى درجة. والقرآن مليء بالتوجيهات والمعاني الإيمانية التي تسبقها أسئلة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]. وقوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} [الكهف: 103]. وقوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 1، 2]. والسنة كذلك مليئة بتوجيهات ومعانٍ إيمانية تسبقها أسئلة: قال صلى الله عليه وسلم: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى عنه ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» (¬1). وقوله: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة» (¬2). وقوله: «ألا أدلك على سيد الاستغفار؟! اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء إليك بنعمتك علي، وأعترف بذنوبي، فاغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، لا يقولها أحدكم حين يُمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يُصبح إلا وجبت له الجنة، ولا يقولها حين يُصبح فيأتي عليه قدر قبل أن يُمسي إلا وجبت له الجنة» (¬3). فعندما نذهب للوضوء نسأل أنفسنا: لماذا نتوضأ؟. وعندما نذهب للصلاة في المسجد نسأل أنفسنا: لماذا نصلي في المسجد؟. وعندما نذهب لصلة أرحامنا نسأل أنفسنا: لماذا نذهب إليهم؟ ... وهكذا في كل أعمالنا ... ثانيًا: تذكُّر الله عز وجل من الوسائل المهمة التي تحفز للعمل، وتوجه النية توجيهًا صحيحًا: تذكُّر الله عز وجل في هذا العمل، وكيف أنه سبحانه وتعالى يحب من عبده القيام بهذا العمل، وأنه - سبحانه - يباهي بنا الملائكة عندما نقوم به، وأن هذا العمل وسيلة لنيل مرضاته، وأن العبودية له سبحانه تستدعي القرب منه بالأعمال الصالحة، فتستثير هذه المعاني - عندما نتذكرها - مشاعر الشوق والرغبة في الله عز وجل. والآيات التي تؤكد هذا المعنى كثيرة. منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (8/ 18). (¬2) حديث صحيح: أخرجه أبو داود (4/ 280، رقم 4919)، والترمذي (4/ 663، رقم 2509). وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، حديث رقم (2595). (¬3) حديث صحيح: أخرجه الترمذي (5/ 467، رقم 3393)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع رقم (2612).

ثالثا: التذكير بفضل العمل

وقوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265]. ونجد في السنة كذلك أحاديث تبدأ بالتذكير بالله عز وجل وأنه يحب من عبده القيام بهذا العمل كقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه» (¬1). وقوله: «إن الله يحب سمح البيع، سمح الشراء، سمح القضاء» (¬2). وقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» (¬3). فإذا قمنا إلي الصلاة في الليل نتذكر أن الله عز وجل يحب أن يسمع صوتنا ومناجاتنا ودعاءنا له، وأن هذا العمل وسيلة من وسائل نيل مرضاته. وإذا وجدنا أذىً في الطريق نُذكِّر أنفسنا بأن الله عز وجل يحب من عباده الرحماء الذين يشفقون على خلقه، ويحرصون على دفع الضر عنهم ... ثالثًا: التذكير بفضل العمل النفس البشرية جُبلت على الرغبة في تحصيل أي نفع يُتاح أمامها، لذلك فمن أيسر وسائل استثارة المشاعر تجاه القيام بعمل ما: التذكير بالعائد الذي سيعود على المرء نظير أدائه له، ولقد حفلت نصوص القرآن والسنة بذكر الثواب المترتب على الأعمال لتكون حافزًا قويًّا للقيام بها. فعلى سبيل المثال: من الآيات القرآنية قوله تعالى في فضل الإنفاق: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]. وفي فضل الجهاد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 10 - 12]. ومن الأحاديث النبوية في فضل ذكر الله قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والوَرِق في سبيل الله وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم .. ذكر الله» (¬4). وقوله صلى الله عليه وسلم في فضل الإنفاق: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله عز وجل يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربى أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل» (¬5). ¬

_ (¬1) حديث حسن: أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/ 334، رقم 5312)، وأبو يعلى (7/ 349، رقم 4386)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (رقم: 1880). (¬2) حديث صحيح: أخرجه الترمذي (3/ 609، رقم 1319)، والحاكم (2/ 64، رقم 2338)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (899). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري (5/ 2240، رقم 5673)، ومسلم (1/ 69، رقم 48). (¬4) حديث صحيح: أخرجه الترمذي (5/ 459، رقم 3377)، وابن ماجه (2/ 1245، رقم 3790)، والحاكم (1/ 673، رقم 1825)، وأحمد (5/ 195، رقم 21750)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 139، برقم 2688). (¬5) متفق عليه: أخرجه البخاري (2/ 511، رقم 1344)، ومسلم (2/ 702، رقم 1014). والفلو: بفتح الفاء، وضم اللام، وتشديد الواو، هو الفرس أول ما يولد.

رابعا: التذكير بأهمية العمل

وفي فضل قيام الليل يقول صلى الله عليه وسلم: «عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد» (¬1). فعلينا إذن الاجتهاد بتذكير أنفسنا بفضل العمل قبل القيام به، وهذا يستدعي منا النظر في كتب فضائل الأعمال كالمتجر الرابح للحافظ الدمياطي وغيره. رابعًا: التذكير بأهمية العمل مشاعر الرغبة داخل القلب تستثار كلما أدرك المرء أهمية العمل الذي ينوي القيام به، فعلى سبيل المثال: إذا ما قام العبد بتذكير نفسه قبل قراءة القرآن بأنه سيقرأ كلام الله وما فيه من روعة وجلال، وأنه سيتناول الدواء الرباني الذي فيه شفاؤه، وأنه سيتعرض للنور المبين الذي يبدد الظلمات في عقله وقلبه، وأن الملائكة تقترب منه لتسمع قراءته و ... ، فإن ذلك من شأنه أن يستثير مشاعر الرغبة والشوق نحوه، فيقبل عليه إقبال الظمآن على الماء. وإذا ما قام المرء بتذكير نفسه قبل زيارته لمريض أن هذه الزيارة سترفع معنويات المريض - بإذن الله - وتُسرّي عنه، وأنه سوف يجني منها رقة في قلبه، وامتنانًا لربه لأنها ستذكره بنعمة العافية التي يتقلب فيها، و ... ، فمن المتوقع أن يُقبل عليها بمشاعر متأججة. وعند الإنفاق في سبيل الله يُذكِّر المرء نفسه بأن هذا الإنفاق قد يكون سببًا في إنقاذ مريض من الموت، وسد حاجة فقير معسر، وشكر لنعمة اليسار والغنى .. وعند قيام الليل يُذكِّر المرء نفسه بأن هذا القيام هو شرفه وعزه، وأنه من أفضل أوقات استجابة الدعاء، وأنه يعطي قوة في البدن وانشراحًا في الصدر، وبركة في اليوم. خامسًا: الترهيب من ترك العمل من طبيعة النفس أنها إذا ما خُوفت خافت، فإذا ما نجحنا في تذكير أنفسنا بخطورة ترك العمل الصالح أو التهاون في أدائه وما قد يترتب على ذلك من أضرار في الدنيا والآخرة؛ فإنها ستدفعنا للقيام به. يقول أحد الأصدقاء: توجد لوحة إرشادية على أحد الجدران الخارجية لمسجد يقع على طريق سريع، مكتوب عليها: نظرًا لكثرة حوادث العبور من الطريق السريع عليك باستخدام نفق المشاة .. ويستطرد قائلًا: كلما قرأت هذه اللوحة أجد نفسي تدفعني للعبور من النفق. من هنا نقول: بأن من الوسائل المهمة لاستثارة مشاعر الرهبة والشعور بالخطر الدافعة للعمل: التذكير بخطورة ترك العمل الصالح، أو بخطورة الإقدام على فعل المعاصي. وهنا الكثير من الآيات والأحاديث التي تتحدث في هذا الشأن. ومن ذلك قوله تعالى في الترهيب من ترك الإنفاق: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]. وقوله صلى الله عليه وسلم في الترهيب من عدم إتمام الصلاة: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته»، قالوا: كيف يسرق من صلاته؟ قال: «لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها» (¬2). ¬

_ (¬1) حديث صحيح: أخرجه الترمذي (5/ 552، رقم 3549)، والبيهقي (2/ 502، رقم 4425)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 4079، بدون لفظة (ومطردة للداء عن الجسد) فإنها ضعيفة عنده. (¬2) حديث صحيح: أخرجه أحمد (5/ 310، رقم 22695)، والحاكم (1/ 353، رقم 835)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (رقم: 986).

سادسا: التشجيع

وقوله صلى الله عليه وسلم في الترهيب من الظلم: «اتقوا دعوة المظلوم؛ فإنها تُحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأَنْصَرَنَّك ولو بعد حين» (¬1). سادسًا: التشجيع من الحوافز ذات الأثر البالغ على النفس: استشعار المرء تقدير الآخرين له، فيؤدي ذلك إلى فتح منافذ الاستماع لهم، وزيادة الرغبة في القيام بما يطلبونه منه. هذه الوسيلة ينبغي أن نستخدمها مع أنفسنا أو مع الآخرين في حدود ضيقة حتى لا تأتي بنتيجة عكسية وتتحول إلى صورة من صور المدح الذي يؤدي إلى استعظام المرء لنفسه، وشعوره بالأفضلية الذاتية على غيره. والمتأمل في القرآن والسنة يجد مواقف عديدة استُخدمت فيها هذه الوسيلة في التحفيز للقيام بالعمل. فعلى سبيل المثال: كثيرًا ما يتكرر في القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قبل التوجيه إلى العمل المطلوب .. هذا النداء فيه من التقدير والتشجيع ما يحفز النفس للقيام بالعمل. وفي الخطاب الموجه لليهود نجد أن القرآن يناديهم بقوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: يا أبناء النبي إسرائيل، فيكون هذا النداء بمثابة استدراج لهم لكي يستمعوا لما سيُتلى عليهم. وتأمل قول الملائكة لمريم الصديقة: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42] فهذا لون من ألوان التقدير الخاص، ليأتي التوجيه في الآية التالية: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]. وعندما أراد موسى - عليه السلام - أن يدخل ببني إسرائيل الأرض المقدسة ظل يحفزهم بهذه الطريقة قبل أن يطلب منهم هذا الطلب: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 20، 21]. وانظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يقول لمعاذ بن جبل: «يا معاذ: والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تَدعَنَّ في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك» (¬2). ولك أن تتخيل وقْع كلمة: «يا معاذ: والله إني لأحبك» على نفس معاذ، وكيف سيستقبل الكلام بعدها؟! سابعًا: التذكير بالمواقف الإيجابية السابقة فمن الوسائل التي تثير الهمة، وتدفع للقيام بالعمل: تذكر المواقف الإيجابية التي مرت بالمرء في حياته ولها علاقة بالعمل المراد القيام به في الحاضر، فعندما يجد المرء في نفسه تكاسلًا عن قيام الليل يُذَكِّر نفسه بيوم كذا وكذا عندما قام نصف الليل وكيف كان ذلك ممتعًا وسهلًا على نفسه، وعندما يستشعر عدم جدوى القيام بعمل ما نتيجة ضيق الوقت وقلة الإمكانات فعليه أن يُذَكِّر نفسه بمواقف إيجابية تعرض لها من قبل وكانت الظروف أشد، ومع ذلك أكرمه الله بالتوفيق والنجاح .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح: أخرجه الطبراني (4/ 84 رقم 3718)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (رقم: 117). (¬2) حديث صحيح: أخرجه أبو داود (2/ 86، رقم 1522)، والنسائي في الكبرى (6/ 32، رقم 9937)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (رقم: 7969).

ثامنا: المحاورة والإقناع والموازنة العقلية (تخيير النفس)

تأمل قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62، 63]. في هذه الآيات تم التذكير بمواقف سابقة تجلت فيها قدرة الله وتأييده ليأتي التوجيه بعد هذا التذكير {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 64، 65]. ثامنًا: المحاورة والإقناع والموازنة العقلية (تخيير النفس): عندما يقتنع المرء بأهمية وقيمة العمل المطلوب قيامه به ومدى نفعه له، فإن ذلك من شأنه أن يدفعه لأدائه بمشاعر الرغبة والاحتياج، وكذلك عندما يقتنع بخطورة وضرر العمل الذي يود فعله فإنه سيتركه بإرادته .. من هنا تبرز أهمية الحوار والإقناع سواء كان بين المرء ونفسه، أو بينه وبين الآخرين. ومن الضروري أن ينطلق الحوار من قاعدة مفادها أن «صلاحك لمصلحتك»، وأنك المستفيد الأول من قيامك بالعمل الصالح، وأنك - أيضًا - الخاسر من عدم قيامك به. فالنفس لا تحب أو ترضى بفوات مصلحة تنفعها، أو الوقوع في ضرر يؤذيها، لذلك نجد القرآن يستخدم هذه الطريقة في الإقناع: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]. {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؟! {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]. {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء: 15]. {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا} [الإسراء: 106، 107]. {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104]. فهذه الآيات وغيرها تضع المرء في مواجهة مع نفسه، وتُشعره بالاحتياج الشخصي للعمل، وأنه الفائز إن عمله، والخاسر إن تركه {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]. وعندما طلبت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم التوسعة في النفقة نزل القرآن يحاورهن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28، 29]. وتأمل الحوار الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الشاب الذي أتاه يطلب منه أن يأذن له بالزنا:

تاسعا: التحفيز من خلال إبراز قدوة

فعن أبي أمامة قال: إن فتى شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه، مه! فقال: «أدنه». فدنا منه قريبًا. قال: فجلس. قال: «أتحبه لأمك؟»، قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم». قال: «أفتحبه لابنتك؟»، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم». قال: «أتحبه لأختك؟»، قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم». قال: «أتحبه لعمتك؟»، قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم». قال «أتحبه لخالتك؟»، قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم». قال: فوضع يده عليه وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه». فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (¬1). فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ينهره أو يُوَبخه عندما طلب منه هذا الطلب المحرم، بل حاوره، ووصل به إلى القناعة التامة بأن هذا لا يصلح. وهذا عبد الله بن رواحة عندما وجد في نفسه بعض التردد عند في معركة مؤتة، ظل يُحاورها، ويقول لها: أقسمت يا نفس لتنزلنه ... طائعة أو لتكرهنه إن أجلب الناس وشدوا الرنه ... ما لي أراك تكرهين الجنة قد طالما قد كنت مطمئنة ... هل أنت إلا نطفة في شنه يا نفس إلا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت وإن تأخرت فقد شقيت فعلينا أن نستخدم هذه الطريقة في التحفيز، وبخاصة عندما نجد في أنفسنا تكاسلًا عن أداء الأعمال .. فعلى سبيل المثال: عندما نسمع آذان الفجر، ونجد في أنفسنا خمولًا وتكاسلًا عن القيام، علينا أن نُحاورها ونتحدث معها بمثل هذه الكلمات: لا بأس من النوم والراحة .. ولكن من سيدفع الثمن؟ من المتضرر؟ من الذي سيفقد بركة هذا اليوم؟ من الذي سيبتعد عن ذمة الله في هذا اليوم؟ وعندما نجد في أنفسنا شُحًّا بالمال، وعدم رغبة في الإنفاق، علينا أن نُحاورها ونُبيِّن لها حجم الخسارة التي ستعود عليها من ترك الإنفاق، وحجم المكاسب المترتبة على الإنفاق. وعندما نجد أولادنا يتكاسلون عن أداء الصلاة أو أي عمل آخر علينا أن نستخدم معهم هذه الطريقة. تاسعًا: التحفيز من خلال إبراز قدوة: من طبيعة النفس أنها لا تُحب أن يسبقها أو يتميز عليها أحد، لذلك علينا أن نستثير مشاعر الغيرة، ونوجهها التوجيه الصحيح نحو القيام بالعمل المطلوب من خلال التذكير بأناس قاموا به وبغيره على أحسن وجه. فتقول لنفسك قبل الإنفاق: تذكري فلان الذي كان يُنفق كذا وكذا، ولم يترك لنفسه إلا القليل .. تذكري الصحابي عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى الذي لم يترك الصلاة في المسجد. تذكري أبا بكر الصديق الذي أتى بماله كله لتجهيز جيش العسرة .. والقرآن مليء بالآيات التي تُحفِّز المسلمين للقيام بالعمل الصالح من خلال ذكر نماذج بشرية قامت به خير قيام، كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل: 120، 121]. {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]. والقدوة الحاضرة أقوى في التأثير في النفس من غيرها، فكما قيل: «عمل رجل في ألف رجل، أفضل من قول ألف رجل لرجل». ¬

_ (¬1) حديث صحيح: أخرجه أحمد (5/ 256 - 257)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم (712).

عاشرا: القصة

وأيضًا: «إذا أردت أن تكون إمامي، فكن أمامي»، و «القدوة إمامة بلا إمارة». عاشرًا: القصة: (للقصة دور بارز في تحريك المشاعر، وإبراز العواطف، وتثبيت الأفكار في الأذهان، فهي لا تحتاج إلى جهد كبير لنقل أفكارها إلى النفس .. لأن من شان النفس الإنسانية إذا مرَّت بحدث من الأحداث أن تتفاعل معه. كما لا يخفى ما للقصة من دور في التأثير على نفوس المخاطبين بها، إذ لا تنتهي القصة إلا ويكون المستمع أو القارئ أو المشاهد قد عاش في تجربة نفسية، وقطع رحلة طويلة بحسب طول القصة، تترك في النفس آثارًا وجدانية وروحية) (¬1)، وأصبح مهيئًا أكثر وأكثر للقيام بما تدل علي القصة. فعلى سبيل المثال: عندما نقرأ حديث «إنما الأعمال بالنيات»، فهو بلا شك يُذكرنا بأهمية الإخلاص لله عز وجل، لكننا نجد أنفسنا أكثر تأثرًا ورغبة في الإخلاص عندما نقرأ القصة التي ذكرها الرسول عليه الصلاة والسلام عن الثلاثة الذين كانوا في سفر فدخلو غارًا يستريحون فيه، فانطبقت عليه صخرة، فدعوا الله بإخلاص، وتذكروا أعمالًا يظنون أنهم كانوا فيها من المخلصين حتى تزحزحت الصخرة فخرجوا من الغار سالمين. لذلك من المناسب تذكير أنفسنا بقصة مؤثرة لها علاقة بالعمل الصالح الذي نود القيام به، وبخاصة مع تلك الأعمال التي ألِفْنا القيام بها فأصبحت تؤدى بلا روح. حادي عشر: ضرب المثل: يقول بديع الزمان النورسي في فائدة ضرب الأمثال: أنها تُظهر الحقائق البعيدة جدًّا أنها قريبة جدًا، وتوصل إلى أسمى الحقائق وأعلاها بسهولة ويسر (¬2). ومن فوائد المثل (إبراز صورة معنوية في صورة حسية فيتقبلها العقل؛ لأن المعاني المعقولة لا تستقر في الأذهان إلا إذا صِيغت في صورة حسية قريبة الفهم .. فيكون وقعها التأثيري أقوى وأومض في النفوس والعقول. والأمثال تخاطب عقول الناس بما يعرفونه، وتجعل ما هو غائب ماثلًا أمامهم فتُقرب إليهم البعيد) (¬3). ولضرب المثل وظيفة مهمة في تحفيز الإنسان للقيام بالعمل من خلال تقريب المعنى والتأثير في المشاعر، يقول الإمام محمد عبده: واختير للمثل لفظ الضرب لأنه يأتي عند إرادة التأثير، كأن ضارب المثل يقرع به أُذن السامع قرعًا ينفذ أثره إلى قلبه، وينتهي إلى أعماق نفسه (¬4). لذلك قيل بأن: المعلم الناجح هو الذي يُكثر من ضرب الأمثال. فعلينا استخدام هذه الوسيلة للتأثير على المشاعر قبل القيام بالعمل وبخاصة عند مخاطبة الآخرين. والقرآن والسنة بها الكثير من الأمثال التي تُقرب المعاني البعيدة في صور قريبة محسوسة، ومن ذلك قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29]. وقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]. ومما جاء في السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (¬5). ¬

_ (¬1) التعبير القرآني للجيوسي (481 - 482) باختصار. (¬2) المكتوبات ص 487. (¬3) الإعجاز التأثيري في القرآن ص (188 - 190) د. مصطفى السعيد، باختصار - مؤسسة أجيالنا. (¬4) التعبير القرآني ص (454) عن تفسير المنار لمحمد رشيد رضا (1/ 236). (¬5) متفق عليه أخرجه: البخاري (9/ 62 برقم 7075)، ومسلم (4/ 1999، رقم 2586).

ثاني عشر: الصورة المؤثرة

وقوله: «إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة» (¬1). ثاني عشر: الصورة المؤثرة المشاهد التي تراها العين يصل مدلولها إلي العقل والقلب بصورة سريعة وتكون أشد تأثيرًا على المشاعر مما يُنقل عن طريق السمع .. انظر إلى موسى - عليه السلام - وقد تأثر وغضب عندما أعلمه الله عز وجل بما فعله قومه من عبادة العجل، لكنه لم يلق الألواح التي في يديه، ولكن عندما ذهب لقومه ورآهم بعينيه اشتد غضبه واشتد، وألقى الألواح، وفي هذا المعنى يقول صلى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة إن الله أخبر موسى بما صنع قومه فى العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت» (¬2). لذلك من الوسائل العظيمة للتحفيز: استخدام الصورة الحية، والمشاهدة المؤثرة التي تعلق في الذهن وتستثير المشاعر في اتجاه ما ترمي إليه الصورة .. عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بالسوق والناس كنفتيه - أي: عن جانبيه - فمر بجدي أسك (¬3) ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟» فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ ثم قال: «أتحبون أنه لكم؟» قالوا: والله لو كان حيًّا كان عيبًا، إنه أسك، فكيف وهو ميت! فقال: «فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم» (¬4). تخيل معي - أخي القارئ - مدى تأثير هذا المشهد على الحاضرين، وكيف ستكون علاقتهم بالدنيا بعد ذلك؟! ولقد أصبح من السهل استخدام هذه الوسيلة في عصرنا هذا من خلال انتقاء المشاهد المرئية وعرضها على النفس وعلى الآخرين المراد توجيههم. وإليك - أخي - مثالًا تطبيقيًا لاستخدام هذه الوسيلة في المحيط الدعوي: كان على أحد الدعاة أن يقوم بإلقاء محاضرة عن الأخوة والحب في الله وأهميتهما الشديدة بالنسبة لأصحاب الدعوات، وقبل حلول موعد المحاضرة بدأ هذا الداعية في التفكير في محتوى المحاضرة، هل سيفعل مثلما فعل في المرات السابقة فيقوم بجمع الآيات والأحاديث الدالة على فضل الأخوة في الله وحقوقها وواجباتها مع مزجها ببعض القصص والنماذج المأثورة عن تاريخ السلف وماضي رجال الدعوة؟! في هذه المرة لم يجد في نفسه أي رغبة في تكرار ما فعله سابقًا، وبخاصة أن المحاضرة ستلقى على أناس يعرفون هذا الكلام بل يحفظونه جيدًا، ورغم هذه المعرفة فإن العلاقات الأخوية بينهم ضعيفة يكسوها الجفاء والفتور. ظل الداعية يفكر ويفكر، ويستعين بالله حتى هُدي إلي فكرة جديدة، فأسرَّها في نفسه ولم يُبدها لأحد، وقام بتجهيز ما يتطلبه لتنفيذها، وانطلق إلى المحاضرة. جلس هذا الداعية في المكان المخصص له، وبدأ حديثه بالثناء على الله، والصلاة على رسول الله، ثم أخرج من جيبه (مسبحة) طويلة، وسأل الحاضرين عن اسمها، فأجابوه، وظل يحركها يمينًا ويسارًا أمام أعينهم طالبًا منهم تركيز أنظارهم إليها جيدًا. وظل صامتًا للحظات، ثم أخرج من جيبه (مقصًّا)، وعند منتصف المسبحة قام بقص الخيط الذي يجمع حباتها، فانفرطت الحبات وتناثرت في أرجاء المكان وتحت أقدام الحاضرين، والجميع في ذهول من ذلك المنظر المثير. ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه: البخاري (5/ 2104، رقم 5214)، ومسلم (4/ 2026، رقم 2628). (¬2) أخرجه أحمد (1/ 215، رقم 1842)، والحاكم (2/ 351، رقم 3250)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (رقم 5374). (¬3) أسك: أي صغير الأذنين. (¬4) أخرجه مسلم (4/ 2272، رقم2957).

ثالث عشر: الاستفادة من الأحداث غير المألوفة

في هذه اللحظات قطع الداعية صمته قائلًا لجلسائه: إن صمام الأمان لهذه الدعوة - بعد قوة الصلة بالله -: هو رابطة الأخوة، فالأخوة هي الحبل الذي ينتظم قلوب أبناء الدعوة، ويربط بعضها ببعض، فإذا ما وهن ذلك الحبل أو انقطع تفرقت القلوب وابتعدت، فيكون لذلك أسوأ الأثر على الدعوة. ساد الصمت المكان، واستشعر الحاضرون الخطر، وفهموا الرسالة جيدًا، ثم انكبوا يجمعون حبات المسبحة ليعيدوا وصلها من جديد بخيط متين، وانطلقوا يعانق بعضهم بعضًا ويتصافحون في حب وود، العيون دامعة، والقلوب خافقة، والصدور سليمة صافية. ثالث عشر: الاستفادة من الأحداث غير المألوفة يزداد إرهاف الحس، وتأجج المشاعر، ويقظة العقل عندما تحدث أمام المرء أحداث غير مألوفة، ويصبح على درجة عالية من الاستعداد للتلقي، لذلك نجد القرآن الكريم بعد الأحداث الكبيرة التي مرت بالصحابة رضوان الله عليهم ينزل ليعلمهم ويوجههم ويربيهم حتى يستفيدوا من هذه الأحداث في مزيد من الاستقامة لله عز وجل، وبخاصة أن النفوس تظل مدة من الزمن متعلقة بتلك الأحداث، وتكون فيها على استعداد لتلقي التوجيهات المتعلقة بها، ومثال ذلك: تعقيب القرآن الطويل على حادثة الإفك وكيف يستفيدون منها بعد ذلك: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]، {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17]، وتعقيبه على ما فعله حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - في محاولته -غير الناجحة - لإخبار أهل مكة بعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على السير إليهم ودخول مكة فاتحًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]. وكذلك التعقيب القرآني بعد غزوة بدر، وأحد، وبني النضير، والأحزاب، وما فيها من دروس وعبر وتوجيهات نحو مزيد من الاستقامة. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مع الصحابة رضوان الله عليهم ويربط دومًا بين الحدث غير المألوف والمعاني الإيمانية الدالة عليه. ففي يوم من الأيام وبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم بين صحابته إذ جاءه سَبْي، وفي هذا السبي امرأة تسعى ملهوفة مضطربة قد ضاع منها رضيعها، واستمرت على هذا الحال الشديد حتى وجدته، فأخذته وضمته إلي صدرها بشدة ثم أرضعته. هذا المنظر شاهده الصحابة فأثر فيهم غاية التأثير، فلم يتركه صلى الله عليه وسلم يذهب سُدى، بل وجهه توجيهًا إيمانيًا، فقال لهم: «أترون هذه طارحة ولدها في النار؟!» قالوا: لا والله. قال: «الله أرحم بعباده من هذه على ولدها» (¬1). إذن علينا أن نستفيد من الأحداث غير المألوفة التي تمر بنا في توجيه أنفسنا والآخرين نحو مزيد من الاستقامة لله عز وجل. هل هناك مزيد من الوسائل؟ ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (5/ 2235، رقم 5653)، ومسلم (4/ 2109، رقم 2754).

الوصول للهدف هو الغاية

ليست الوسائل السابقة هي فقط التي تستثير المشاعر وتحفزها للقيام بالعمل الصالح، فهناك وسائل أخري كالصوت المؤثر، والإشارة باليد، والقَسَم، والمسابقات التنافسية، ولكننا - بفضل الله - اخترنا في هذه الصفحات أكثرها تأثيرًا وأيسرها استخدامًا. كلمة أخيرة عن وسائل التحفيز كما ذكرنا من قبل بأن علينا الاجتهاد في استثارة مشاعرنا وتحفيز أنفسنا قبل القيام بالعمل حتى يزداد نفعه في زيادة الإيمان وتحسين السلوك، ولقد تم ذِكر العديد من وسائل التحفيز .. نعم، هناك بعض الصعوبة في استخدام كل هذه الوسائل للمرء مع نفسه، فبعضها يكون أكثر نفعًا عند توجيه الآخرين وتحفيزهم للقيام بعمل ما، ومع ذلك فمن الممكن استخدام الكثير منها مع أنفسنا. فقبل القيام بالعمل أسأل نفسي: لماذا أقوم بهذا العمل؟ وأبدأ بالجواب من خلال: - تذكير النفس بأن هذا العمل قربة إلى الله وابتغاء مرضاته. - وتذكير النفس بفضل هذا العمل. - وأذكرها كذلك بأهمية القيام به. - وأخوفها من عاقبة تركه. - وأحاورها وأعرض عليها منافع القيام به، وأضرار تركه التي قد تصيبني. - وأذكرها بالمواقف الإيجابية السابقة التي قمت فيها - بفضل الله - بأداء هذا العمل وغيره رغم الصعوبات التي واجهتني. - وأشجع نفسي بمثل: هيا يا بطل .. هيا قم إلى العمل لعل الله عز وجل يختارك لنفع الأمة وتكون من السابقين في الدنيا والمقربين في الآخرة .. - وأحاول تذكيرها ببعض القدوات التي تعرفها والتي تقوم بهذا العمل وغيره. - وأقرأ قصة لها ارتباط بالعمل. أما في حالة توجيه الآخرين فعلينا إضافة بقية الوسائل الأخرى. الوصول للهدف هو الغاية الهدف الذي نريده من طرح هذا الموضوع هو الاجتهاد في استثارة مشاعر الرغبة للقيام بالعمل، فإن تحققت هذه الاستثارة بوسيلة أو اثنتين فبها ونعمت، وإن لم تحدث فعلينا استخدام المزيد من الوسائل حتى نصل للهدف .. وكما قيل سابقًا بأنه كلما كان العمل المراد القيام به كبيرًا، وشاقًا على النفس كان من المناسب استخدام العديد من الوسائل. أهمية التدريب على تحفيز المشاعر قبل القيام بالعمل لكي نكتسب هذه المهارة بإذن الله، ولكي يتم تحفيز واستثارة المشاعر قبل القيام بالعمل بصورة تلقائية فإن الأمر يحتاج إلى تدريب طويل، بأن يتخيل المرء أنه سيبدأ عمل ما فكيف يُحفِّز نفسه للقيام به؟! وحبذا لو تم القيام بجزء من هذا التدريب أمام الآخرين - كالزوجة أو الأصدقاء - حتى يقوموا بتقييم طريقتنا في التحفيز. ومن أمثلة الأعمال التي يمكن للفرد التدريب عليها: التبكير للصلاة - قراءة القرآن بتدبر - صلاة الفجر - قيام الليل - الإنفاق - الدعوة إلى الله - صلة الأرحام - العفو والصفح - الإصلاح بين متخاصمين، مساعدة محتاج. وإليك - أخي القارئ - مثالًا عمليًا لتحفيز المشاعر لأحد هذه الأعمال وهو قراءة القرآن بتدبر، فقبل شروعي في القراءة عليَّ أن أسأل نفسي: لماذا تريد قراءة القرآن؟ وأجيب عليها بأن القرآن كلام الله، وأنه من أعظم السبل لنيل مرضاته، وأن هذا القرآن فيه شفاء لأمراض قلبي، وهو من أهم أسباب زيادة الإيمان، والقرب من الله عز وجل، وهو أيضًا له مثوبة عظيمة. وأن هذا القرآن هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض، مَن تمسَّك به نجا - بإذن الله - من الفتن، وعاش سعيدًا في الدارين .. وأخوفها من هجر القرآن، وأن من أهم صور هجره: ترك تدبره وتفهّم آياته .. وأذكرها بأوقات سابقة ترنمت بالقرآن واستخرجت منه معانٍ عظيمة كان لها بالغ الأثر في التغيير الإيجابي لسلوكي .. وأقول لنفسي مشجعًا: إن جيل التمكين جيلٌ قرآنيٌّ، فهيا لنكون من أبنائه.

تدريبات عملية من القرآن والسنة

وأعمل على تذكيرها ببعض أحوال الصحابة مع القرآن وكيف كانت قراءتهم بتدبر، وكيف كانوا يعيشون بالقرآن .. وأذكر نفسي بأنني المستفيد من قراءة القرآن، وأنا الخاسر من عدم قراءته ... وهكذا. تدريبات عملية من القرآن والسنة: وبالإضافة إلى هذه التدريبات علينا كذلك أن نتدرب على استخراج وسائل التحفيز من القرآن والسنة حتى نُحسن ممارستها في حياتنا العملية .. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 10 - 14]. فالتوجيه الذي تحمله الآيات: الإيمان بالله والجهاد في سبيله بالمال والنفس، ووسائل التحفيز التي استُخدمت في تلك الآيات لاستثارة المشاعر ودفعها للقيام بهذا التوجيه كثيرة نذكر منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: تشجيع واستدراج لفتح منافذ الاستماع. {هَلْ أَدُلُّكُمْ؟}: سؤال للفت الانتباه والتركيز فيما يُقال. {عَلَى تِجَارَةٍ}: ضرب المثل بالتجارة وتقريب معنى الربح من خلالها. {تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}: ترغيب وترهيب، ترغيب في النجاة بالعمل، وترهيب من العذاب بتركه. {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: موازنة عقلية، وإشعارك بأنك المستفيد من ذلك. {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ}: استثارة مشاعر الطمع في الأجر (فضل العمل). {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}: فضل العمل. {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}: قصة. {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}: قدوة. {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ}: تخيير: مع أي الفريقين تُريد أن تكون؟ {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}: فضل العمل وأهميته. ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان للرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» (¬1). فقبل التوجيه بالذكر كان التحفيز من خلال التذكير بالله عز وجل، وأنه يُحب هذا الذكر، والتذكير بالثواب العظيم المترتب عليه، وإشعار المستمع بأنه يتم بأقل مجهود، فكيف يتركه؟! وإليك أخي القارئ أمثلة من القرآن والسنة، عليك باستخراج ما تحمله من توجيه، ووسائل التحفيز التي استُخدمت فيها: ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (5/ 2352، رقم 6043)، ومسلم (4/ 2072، رقم 2694).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:38 - 41]. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 28 - 34].

وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 261، 271].

وقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد: 7 - 12]. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «أوليس قد جعل الله لكم ما تَصدَّقون، إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وفى بُضع أحدكم صدقة»، قال: قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته يكون له فيها أجر؟! قال: «أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه فيها وزر؟ وكذلك إذا وضعها في الحلال كان له فيها أجر» (¬1). وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه، مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (3/ 82 برقم 3276). (¬2) أخرجه الطبراني، وقال الشيخ الألباني رحمه الله: صحيح لغيره.

الفصل السابع الهزة الإيمانية وبداية الارتقاء الإيماني

الفصل السابع الهزة الإيمانية وبداية الارتقاء الإيماني

هدف هذه الصفحات هو التعرف على طريق إحداث الشرارة الأولى - بإذن الله - لانطلاق رحلة الإيمان، وسير القلب إلى الله، والاجتهاد في تحقيق ذلك من خلال استثارة وإلهاب مشاعر المحبة والشوق إلى الله

الحلقة المفقودة

الفصل السابع الهزَّة الإيمانية وبداية الارتقاء الإيماني الحلقة المفقودة: بعد الحديث عن أهمية الإيمان وثماره، ومراتب الارتقاء الإيماني، وجناحي التربية الإيمانية، يبقى السؤال: هل ما قيل يكفي لبدء الرحلة الإيمانية والسير إلى الله؟ بلا شك أن حُسن التعامل مع القرآن والتفكر فيه، ومداومة قراءته بتدبر وترتيل وصوت حزين، مع العمل - قدر المستطاع - على الاستفادة من القرآن في التفكر في الكون وأحداث الحياة وربطها بالله عز وجل .. بلا شك أن هذه الأعمال القلبية ستقوم - بإذن الله - بزيادة عظيمة وملحوظة للإيمان، فإن صَاحَبها أعمال صالحة فإن الأثر سيكون أشد وأشد شريطة أن يسبق تلك الأعمال تحفيز للمشاعر كما أسلفنا. ولكن تبقى حلقة مفقودة في هذه المنظومة، ألا وهي الشرارة الأولى والشحنة القوية التي تهز القلب، وتوقظ الإيمان لتأتي بعد ذلك تلك الوسائل فتعمل عملها. والشحنة القوية التي نحتاجها في البداية لكي توقظنا من سُباتنا وتجعلنا - بإذن الله - نبدأ رحلة الارتقاء الإيماني والسير إلى الله لها طريقتان: إما شُحنة تخويف وترهيب، وإما شُحنة تشويق وترغيب، كما قال بعض السلف: «لا يُخرج الشهوة من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق». هيا بنا نزداد حُبًّا لله وشوقًا إليه: بفضل الله تم الحديث في موضع سابق عن الخوف من الله وكيف نستخدمه ونجلب به الشرارة الأولى والشحنة القوية الدافعة للعمل (¬1)، ومع ذلك فهناك عدة أسباب تدفعنا لتفضيل طريق التشويق والترغيب في الله عز وجل. ومن هذه الأسباب أن الحديث عن الخوف من الله وأسباب استجلابه من تذَكُّر الموت، وعذاب القبر والقيامة والنار، قد احتل مساحات كبيرة في كتابات وأحاديث العلماء والدعاة وغيرهم، ومن ثَمَّ فإن تأثيره - بسبب هذا التكرار - قد لا يأتي بالأثر المطلوب كالطبيب الذي يعتاد رؤية الإصابات والدماء والكسور فيفقد بمرور الوقت تأثره بها. وعكس ذلك بخصوص طريق المحبة والتشويق إلى الله عز وجل، فالحديث عنها قليل، ولا يتوازن مع الحديث عن الخوف من الله عز وجل. ومن هذه الأسباب: أن الشحنة الإيمانية والشرارة الأولى الناتجة عن طريق التشويق والترغيب لها صدى طيب في النفس، فمن شأنها أن تجعل المرء يستيقظ من سُباته وهو باسم .. يهرع إلى الله وهو فرِح .. يُسارع في القيام بالعبادات المختلفة، وهو في حالة من الرضا عن الله والشوق إليه والحب له ... . ومنها كذلك أن الغافل يحتاج إلى مَن يُوقظه بحنان ورفق حتى يستوعب تلك اليقظة، أما المُستيقظ فهو يحتاج إلى بعض التخويف حتى لا يُعجب بنفسه، ويغتر بعلمه، فالترغيب يُفضل البدء به مع أمثالي من الغافلين، أما الترهيب فيكون مع العابدين والصالحين. وليس معنى هذا هو ترك التخويف والترهيب، بل المقصد هو التوازن بينهما والبدء منهما بما يُناسب حالة القلب. فإن اتفقت معي - أخي القارئ - على البدء بشحنة التشويق والترغيب في الله عز وجل، فلتكن إذن شُحنة قوية حتى تظهر الثمرة وتؤدي إلى اليقظة بإذن الله. مع ملاحظة ضرورة الاستمرار - بعد حدوث اليقظة - في القيام بأعمال القلوب (التفكر في القرآن وتدبره والاجتهاد في التأثر به، والتفكر في الكون وأحداث الحياة والاعتبار بها وربطها بالله عز وجل) وكذلك الأعمال الصالحة المؤثرة التي يسبقها تذكير وتحفيز حتى يستمر الارتقاء الإيماني. أما إذا حدثت اليقظة، ورضي المرء بها واطمأن لها ولم يُتبعها بأعمال الإيمان فسيعود - في الغالب - كما كان قبل اليقظة. ومما يُساعد العبد على الاستمرار في الارتقاء الإيماني - بإذن الله- هو انتقاله بهذه المعاني - بعد استيقاظه - إلى محيط الدعوة، فعمله في إصلاح الإيمان وإيقاظ القلوب - بمثل ما حدث له - له وظيفة كبيرة في تثبيت المعاني في قلبه، وتجديدها، ومن ثَمَّ دفعه أكثر وأكثر للتزود والارتقاء (¬2) ... . ¬

_ (¬1) وذلك في كتاب «الإيمان أولًا فكيف نبدأ به؟». (¬2) (من المناسب أن يتم انتقال المرء بهذه المعاني إلى محيط الدعوة بعد خوضه غمار التربية النفسية، وممارسة مبادئها في التعرف على النفس وكيفية التعامل معها، حتى لا يشعر أن عنده شيئًا ليس عند غيره، فيُعجب بنفسه، فيكون ذلك سببًا في بعده عن الله، ولعلك تجد أخي القارئ في كتاب " حطِّم صنمك وكن عند نفسك صغيرًا " ما يُعينك - بإذن الله - على تخطي هذه العقبة التي تقف أمامنا جميعًا كحائل يحول بيننا وبين التقدم نحو الله، والكتاب موجود بفضل الله على موقع الإيمان أولًا.

مفتاح الدخول لباب المحبة

مفتاح الدخول لباب المحبة: كما قيل سابقًا بأن المعاملة على قدر المعرفة، فمعاملة الله بحب واشتياق ستكون - بإذن الله - نتيجة طبيعية لمعرفة وُدِّه وحُبِّه لنا، ونعمه الكثيرة التي يغمرنا بها .. وأدعوك - أخي القارئ - إلى التعرف على الله الودود - بصورة إجمالية - من خلال قراءة الصفحات القادمة على أن تجعل عقلك بين مشاعرك، ثم سل نفسك بعدها: هل ازددت رغبة في الله وحُبًّا له؟ هذه الأسطر بعنوان: أقبل ولا تخف فربك ينتظرك كان في بلد من البلدان في زمن بني إسرائيل رجل يُدعى " الكفل "، وكان يفعل ما يُريد، ولا يُبالي بحلال أو حرام، وكان أهل بلدته يعرفون عنه هذا، وإذا ما جاء اسمه على لسان بعضهم لا تجد أحدًا منهم يذكره بخير أبدًا. وفي ليلة من الليالي، وبعد أن دخل كل واحد بيته، وأغلق بابه، إذا بالكفل يسمع طرقًا على بابه، فقام ليفتح فإذا به يُفاجأ بامرأة يقطر منها الحياء، ويذوب وجهها خجلًا، فسألها عن سر مجيئها فأخبرته أنها تمُر بضائقة مالية شديدة، ولم تجد أمامها أحد سواه لتقترض منه .. وجد الكفل الفرصة سانحة أمامه .. امرأة جاءت إلى داره بمحض إرادتها، وفي سكون الليل، ولا يراها أحد من الناس، فتلطف معها وأدخلها داره، وأخبرها بأنه لا مانع لديه من إقراضها ولكن لديه شرط .. أن تُمكِّنه من نفسها. ألحت المرأة عليه ألَّا يفعل، فلم يلتفت إلى إلحاحها وتوسلاتها، فوافقت مرغمة وهي تتقطع من داخلها، وعندما اقترب منها وجد فرائصها ترتعد، فسألها عن السبب، فأخبرته بأنها لم تفعل هذا الفعل من قبل، وأنها تخاف الله عز وجل وتخشى عقوبته وغضبه .. هنا توقف الكفل، وابتعد عنها، فقد وقعت تلك الكلمات موقعها في نفسه، ولبث هُنيهة، ثم قال لها: أنت تقولين هذا القول مع أنك مضطرة لذلك، فماذا عليَّ إذن أن أقول؟! ألست أنا أحق بالخوف من الله منك؟! ثم تركها تنصرف بعد أن أعطاها ما طلبته من المال. تركها لتذهب وهو يعيش في لحظات من الذهول .. الألم يعتصره، والندم على ما فعله في حياته يُسيطر عليه، لقد كانت كلمات المرأة عن الله كالزلزال الذي هزَّ كيانه، واستخرج من ذاكرته شريط أحداث ماضيه الأسود، ذكرى أفعال سابقة، نسي فيها الله، ولم يَخَف مقامه سبحانه، وكلما تذكر موقفًا من مواقفه المخزية ازداد ندمه، واشتد ألمه، وعلا بكاؤه. في هذه الأثناء، وبينما هو في هذه الحالة، حدث أمر لم يكن في الحسبان .. لقد زار الكفل ضيف آخر .. لم يكن ذاك الضيف من بني البشر، لقد زاره ملك الموت ليقبض روحه، وهو في أشد لحظات الندم والتوبة. جاءه ملك الموت ومعه ملائكة الرحمة يزُفُّون إليه بشرى مغفرة الله له ورضاه عنه. لقد قبِل الله ندمه وعفا عنه، وفوق هذا الجُود لم يتركه ليعيش بعد ذلك فقد يعود إلى سابق عهده من الظلم والطغيان، فقبض روحه في هذا الوقت لتكون النهاية السعيدة. نعم - أخي - حدث هذا، فربك رؤوف رحيم، يُريد أن يعفو عنَّا جميعًا {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27] .. يُريد أن يُدخل الجميع الجنة {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221]. لا تتعجب أخي مما حدث مع الكفل، فالله عز وجل ينتظر من جميع عباده أي التفاتة صادقة إليه ليُقبل عليهم ويعفو عنهم ويُدخلهم الجنة. ولكن، هل انتهت قصة الكفل عند ذلك؟ لا، فقد حدث أمر عجيب، قد استيقظ الناس في الصباح وخرجوا من بيوتهم كعادتهم يلتمسون معايشهم وأرزاقهم، فمرَّ بعضهم بجوار بيت الكفل، فلفت نظرهم كلامٌ مكتوب بخط واضح على بابه، فاقتربوا منه ليقرأوه، فعقدت الدهشة ألسنتهم، وفغروا أفواههم، ووقفوا مشدوهين لا يكادون يُصدقون ما يرونه .. لقد وجدوا عبارة تقول: «إن الله قد غفر للكفل». تجمَّع الناس وقرؤوا العبارة وهم غير مُصدقين .. طرقوا الباب فلم يفتح لهم أحد، ففتحوه عُنوَة ليجدوا الكفل قد مات، فازداد عجبهم وحيرتهم، فهرعوا إلى نبيِّهم ليسألوه عن أمر الكفل، فأوحى الله إليه بما حدث، فاشتد بكاء الناس، وازداد حُبُّهم لله، وتعلقهم برحمته، وسارعوا إلى التوبة إليه.

ألم تر إلى ربك كيف يحبك؟

كان من الممكن أن تمر هذه الحادثة ولا يعلم بها أحد، فالناس يموتون ولا يدري أحد بماذا خُتِم لهم، ولكن الرب الودود الذي يُريد أن يُطمئن الجميع ويدفعهم للفرار إليه أنزل هذه الآية لينتفع بها الناس ويتفكروا في مغزاها، وما تدل عليه من سعة رحمة الله، ومدى حُبِّه لعباده، وأنه سبحانه ينتظر منهم أي بادرة صادقة للتوبة، فيُقبل عليهم ويقبلهم ويمحو كل سيء فعلوه. نعم - أخي - هذا هو ربنا {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]. ألم تر إلى ربك كيف يُحبُّك؟ إننا جميعًا نتمنى محبة الله عز وجل لنا، ولو تفكَّرنا وتأملنا في طريقة معاملة الله لنا لتأكدنا أنه سبحانه يُريد لنا وللناس جميعًا الخير، وأن محبته لنا سبقت وجودنا، وأن مُراده دخول الجميع جنته {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25]. وكلما تفكَّرنا في جوانب حُب الله لعباده ازددنا حُبًّا له، وحياء منه سبحانه، وأصبحت أُمنيتنا هي: كيف نُحب الله كما يُحبنا، وكيف نتودد إليه كما يتودد إلينا؟ خلقنا في أحسن تقويم: الله عز وجل هو الذي خلقنا من العدم، ولم نكن قبل ذلك شيئًا مذكورًا، وقد أوجَدنا سبحانه في أحسن صورة {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64]. كرَّمنا على جميع خلقه، ونفخ فينا من روحه، وأسجد لأبينا ملائكته، وهيأ الكون كله لخدمتنا بلا مقابل، فالأرض تُخرج لنا الطعام، والسماء تُنزل الماء، والشمس تمدنا بالدفء والضياء، والقمر يُعرفنا الأيام والشهور .. الدواب تحملنا، والنحل يمدنا بالعسل، والأنعام تُخرج لنا اللبن، والأزهار تُشعرنا بالبهجة {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [النحل: 10 - 13]. إلهٌ قيُّوم: الله عز وجل يقوم على شؤون عباده جميعًا، يرعانا بالليل والنهار .. يقبض أرواحنا فننام ونرتاح، ثم يُعيدها لنا فنستيقظ ونستأنف حركتنا في الحياة .. هكذا كل يوم {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 23]. يمدنا بمقوِّمات الحياة مع كل طرفة عين .. يمد أجهزة الجسم المختلفة بالقدرة على القيام بوظائفها .. يمد اللسان بالقدرة على الكلام، والعين بالقدرة على الرؤية، والأنف بالقدرة على الشم، والأذن بالقدرة على السمع، واليد بالقدرة على الحركة والبطش، والرجل على المشي وحمل الجسم، والقلب بالقدرة على ضخ الدم حوالي سبعين مرة في الدقيقة الواحدة .. يمد كل خلية في الجسم - كل طرفة عين - بأسباب حياتها {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر} [يونس: 22]. فنحن جميعًا من الله خَلقًا وإيجادًا، وبالله رعاية وإمدادًا، فلا حول ولا قوة إلا به سبحانه {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]. حليم ستير: ربنا حليم ستير، يرانا نعصيه مرات ومرات فلا يفضحنا، ولا يهتك سترنا، بل يسترنا ويحلم علينا، ويُمهلنا علَّنا نتوب {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45].

رب رحيم

رب صبور .. يصبر على أذى عباده وكفرهم وجحودهم مع قدرته المطلقة عليهم .. يقول صلى الله عليه وسلم «ليس أحد أصبر على أذى سمعه من الله تعالى، إنهم ليدَّعون له ولدًا، ويجعلون له أندادًا، وهو مع ذلك يُعافيهم ويرزقهم» (¬1). ربٌ رحيم: رحمته وسعت كل شيء، حتى العاصين له، المنكرين لوجوده، يُطعمهم ويسقيهم ولا يمنع رزقه عنهم. أنزل في الأرض جزءا من مائة جزء من رحمته يتراحم بها خلقه، واختزن لنا عنده تسعة وتسعين جزءًا لوقت سنكون فيه أحوج ما نكون إلى تلك الرحمات. قال صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم رحيم؛ من همَّ بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة، فإن عملها كُتبت عشرًا، إلى سبعمائة، إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت واحدة، أو يمحوها الله، ولا يهلك على الله إلا هالك» (¬2). إلهٌ رؤوف: ربنا رب رؤوف، حنان .. أحن علينا من آبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وأبنائنا .. إذا ابتلانا بمرض فإنه لا يحرمنا معه الأجر .. قال صلى الله عليه وسلم: «ما أحد من المسلمين يصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله الحفظة الذين يحفظونه فقال: اكتبوا لعبدي هذا في كل يوم وليلة ما كان يعمله في الصحة من الخير ما دام محبوسًا في وثاقي» (¬3). نعم - أخي - هذا هو ربنا الرؤوف «إن الله يُنزل المعونة على قدر المؤنة، ويُنزل الصبر على قدر البلاء» (¬4). لا يُريدنا أن ندخل النار، فيظل يُخوفنا ويُخوفنا منها، ويُظهرها لنا بصورة بشعة مؤلمة قاسية، حتى نعمل على الهرب منها {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16]. ويعرض - سبحانه - لنا الجنة بصورة جميلة مبهرة تفوق الوصف، حتى نسعى حثيثًا للوصول إليها {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20]. لعلهم يرجعون: مُراده - سبحانه - دخول الجميع الجنة، لكنه لا يقهر أحدًا على الإيمان به، وإلا انتفت الحكمة من خلق الإنسان وتمتعه بحرية الاختيار، ولصار كسائر المخلوقات. ولأنه سبحانه يُريد لعباده دخول جنته، وهم في غفلة معرضون لذلك فهو يبتليهم بألوان شتى من الابتلاءات حتى يفيقوا من غفلتهم ويعودوا إليه. فكل ما يَرِد على الإنسان من أشكال المنع كالمرض والنقص في الرزق والأمن فإن الحكمة الأساسية منه هو إخراجه من حالة الغفلة إلى اليقظة، ورجوعه إلى الله .. تأمل معي هذه الآيات التي تؤكد هذا المعنى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]. {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]. {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]. {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 174]. ¬

_ (¬1) متفق عليه: أخرجه البخاري (5/ 2262، رقم 5748)، ومسلم (4/ 2160، رقم 2804). (¬2) حديث صحيح: أخرجه أحمد (1/ 279، رقم 2519)، والطبراني (12/ 161، رقم 12760)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 300، رقم 334). (¬3) حديث صحيح: أخرجه أحمد (2/ 194، رقم 6825)، ورجاله رجال الصحيح، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع رقم (5761). (¬4) حديث صحيح: أخرجه البزار، كما فى كشف الأستار (2/ 195، رقم 1506)، وابن لال في مكارم الأخلاق، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع رقم (1919).

رب شكور

{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 48]. بل إن الهموم التي تهجم على العبد صورة من صور التنبيه وتكفير الذنوب، يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا كثرت ذنوب العبد فلم يكن له من العمل ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه» (¬1). ربٌ شكور: ربنا ربٌ شكور .. يشكر عمل عبده - مع قلته - ويعظم له به الأجر .. يقول صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخره فشكر الله له، فغفر له» (¬2). ويقول: «كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه» (¬3). ربٌ غفور: أتدري - أخي - ما هي دعوة الله التي يدعو عباده إليها؟ إنها المغفرة .. يدعوهم لكي يستغفروه فيغفر لهم، ويستسمحوه فيُسامحهم مهما كانت أخطاؤهم .. وهو مع غناه المطلق عنهم ينتظرهم ليُلبُّوا دعوته {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10]. {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221]. {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]. أيُ غفلة نحن فيها؟! ربنا العظيم، مالك الملك، الغني الحميد، الذي لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضرُّه معصية العاصين، يستحثنا لتلبية دعوته .. للعفو والصفح والمغفرة. ينادي على العاصين الذين بارزوه بالمعاصي {قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. لا يتعاظم لديه ذنب أن يغفره، بل يغفر ولا يُبالي .. عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده، لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله لغفر لكم» (¬4). ومن هذا الذي تملأ خطاياه ما بين السماء والأرض؟! لكنه خطاب تطمين وتحفيز للمسارعة إلى نيل المغفرة وانتهاز الفرصة قبل فوات الأوان {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133]. {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21]. بابه مفتوح للجميع: الله عز وجل لا يُغلق بابه في وجه سائل .. ينتظر توبة عبده، ويفرح بها أيما فرح، ويُكافئه عليها مكافأة فورية بأن يُبدل سيئاته حسنات، ليبدأ حياته الجديدة برصيد كبير منها {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]. ينتظر من عبده أية التفاتة صادقة ليُقبل عليه، وأي شعور بالندم على ما مضى منه من تفريط، ورغبة في التوبة إليه، فيغفر له ولا يُبالي. يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فإذا تاب عبد من عباده كان - سبحانه - أفرح بتوبته من ذاك الذي تاهت راحلته في الصحراء وعليها كل أسباب حياته. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 157، رقم 25275)، وإسناده ضعيف لضعف ليث -وهو ابن أبي سليم- وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين. (¬2) متفق عليه: أخرجه البخاري (1/ 233 رقم 624)، ومسلم (6/ 51 رقم 5049). (¬3) أخرجه البخاري (2/ 731 رقم 1972). (¬4) حديث صحيح: أخرجه أحمد (3/ 238، رقم 13518)، وأبو يعلى (7/ 226، رقم 4226)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم (1951).

فماذا تقول بعد ذلك؟

فقل لي - بربك - لماذا يفرح كل هذا الفرح؟! هل يُزيد هذا التائب في خزائن ربك أو ملكه شيئًا؟ هل تنقُص خزائن ربك إذا ظل ذلك العبد عاصيًا؟ كلا .. فلماذا إذن؟ هل هناك إجابة غير أنه يُحبنا ويُريد لنا الخير ودخول جنته، ويخاف علينا من دخول النار؟ فأي رب رحيم ودود هو ربنا {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]. جاء في الحديث: «ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه أن يُغرق ابن آدم، والملائكة تستأذن أن تُعجله وتهلكه، والرب يقول: دعوا عبدي، فأنا أعلم به إذ أنشأته من الأرض، إن كان عبدكم فشأنكم به، وإن كان عبدي فمني إلى عبدي، وعزتي وجلالي إن أتاني ليلًا قبلته، وإن أتاني نهارًا قبلته، وإن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرب مني ذراعًا تقربت باعًا، وإن مشي إليّ هرولت إليه، وإن استغفرني غفرت له، وإن استقالني أقلته، وإن تاب إليّ تُبت عليه. مَن أعظم مني جودًا وأنا الجواد الكريم؟ عبادي يبيتون يُبارزوني بالعظائم، وأنا أكلؤهم (¬1) في مضاجعهم، وأحرسهم على فُرُشهم، من أقبَل تَلقَّيته من بعيد، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن تصرَّف بحولي وقوتي ألَنْت له الحديد، ومن أراد مُرادي أردت ما يُريد. أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أُقنطهم من رحمتي، فإن تابوا إليّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأُطهرهم من المعاصي» (¬2). فماذا تقول بعد ذلك؟ ألا توافقني - أخي - أن باب التشويق والترغيب في الله باب عظيم يُلهب مشاعر من يدخل منه، ويوقظ الإيمان في قلبه، ويدفعه إلى المسارعة إلى الله وطلب مغفرته ومحبته، مع أن ما ذُكر لا يُساوي قطرة في بحر وُدُّه. فإن كان الأمر كذلك؛ فعلينا أن نُحسن الدخول من هذا الباب، وبخاصة ونحن في بداية رحلتنا الإيمانية وسيرنا نحو الله عز وجل، وهذا يحتاج منا إلى تفكُّر في مظاهر أسمائه وصفاته التي لها علاقة بهذا الأمر، كالوهاب، والرزاق، والمُنعم، والودود، والرحيم، والحليم، والصبور، والغفور، واللطيف .. هذا التفكُّر يشمل القرآن والكون، أما القرآن فالمتفكر فيه يرى مظاهر حب الله لعباده تقطر من آياته، فخطاب الترغيب في الله والتشويق إليه هو الغالب عليه، ويكفيك في هذا أن سُوَرة تبدأ بـ: «بسم الله الرحمن الرحيم» .. ولا تبدأ بأسماء أخرى من أسمائه سبحانه، وكأن هذه البداية تحمل رسالة تطمين للجميع، وتقول له: أقبل ولا تخف، فربك «رحمن رحيم». من هنا نقول بأن القرآن هو أعظم وسيلة للتعرف على الله وتنمية حبِّه والشوق إليه في القلب، فعلينا لزوم هذا الكتاب والمدوامة على قراءته والبحث من خلاله على هذه المعاني. وأما الكون فالمتفكر فيه يرى الكثير والكثير من آثار حب الله لعباده كمظاهر حلمه وستره وطول إمهاله لهم، وتوالي نِعَمه عليهم. ومع التفكر في القرآن والكون تأتي أهمية القيام بأعمال صالحة لها علاقة وثيقة بتثبيت عُرى المحبة لله في القلب كإحصاء النعم، ومُناجاة الله بها، وسجود الشكر عند ورود النعم الكبيرة، والقيام برحلات الاعتبار ورؤية أهل البلاء، والقيام كذلك بتحبيب الناس في الله عز وجل. ¬

_ (¬1) أكلؤهم: أي أحفظهم. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، وذكره ابن القيم أيضاً من روايته في "مدارج السالكين" (1/ 432 - 433).

هذه المعاني المُشوِّقة لحُب الله، والأعمال التي تُثبِّتها في القلوب تمَّ الحديث عنها بشيء من التفصيل في كتاب «كيف نُحب الله ونشتاق إليه؟» (¬1)، فلك أن تقرأه - إن شئت - لعلك تجد فيه ما يستثير مشاعرك، ويُنمي حب الله في قلبك، ويقدح شرارة الانطلاق نحوه سبحانه، على أن تقرأه من بدايته لنهايته، وتقوم بتطبيق ما دل عليه من أعمال حتى تتم الفائدة بإذن الله. ¬

_ (¬1) يُمكنك - أخي القارئ - قراءة الكتاب وتحميله من موقع «الإيمان أولًا».

كلمة أخيرة

كلمة أخيرة وبعد: أخي القارئ: إن كل ما قيل في الصفحات السابقة سيبقى حِبْرًا على ورق إن لم نقرأه بهدف العمل والتنفيذ، ولا ينقصنا لتحقيق ذلك إلا العزم الأكيد، والاستعانة الصادقة بالله عز وجل. فهيَّا لنبدأ من الآن قبل فوات الأوان .. قبل أن يأتي الموت ويحول بيننا وبين العمل فنكون من النادمين .. إن الموت لا يستأذن أحدًا قبل مجيئه، والأيام تُسرع بنا نحوه، والراحة والسعادة بعده طويلة لمن أحسن العمل .. فلنبادر ولنشمر للِّحاق بركب السائرين إلى الله .. {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كُنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1