نظام الإثبات في الفقه الإسلامي

عوض عبد الله أبو بكر

نظامُ الإثبات في الفِقهِ الإسلامي القضاء من الأمور المعروفة والمقدرة عند الأمم. مهما تفاوتت هذه الأمم في درجات الحضارة رقياً وانحطاط. ذلك لن الخصومة من لوازم الطبيعة البشرية , فلو لم يكن هناك رادع للقوي عن الضعيف لاختل النظام وعمت الفوضى , وإلى هذا أشار المولى عز وجل في الآية الكريمة: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} (الحج:40) , وفي قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْض} (البقرة:251) , فلا غرابة إذن أن تحترم الشريعة الإسلامية القضاء , وتعنى به وترسى قواعده منذ أول نشأتها. فبع الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة , ومع بداية إرساء قواعد الدولة الإسلامية , وتأسيس أجهزتها وسلطاتها , أخذ القضاء مكانه في صدارة الأجهزة عنى الرسول الله صلى الله عليه وسلم بتأسيسها , فجاء في الحلف الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين وأهل المدينة من المسلمين وغيرهم , (وأنه كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث واشتجار يخاف فساده , فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم) 1 فكان هذا صريحاً في أن كل خصومة أو نزاع يرد إلى القاضي الأول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. على أن بساطة ذلك المجتمع الناشىء لم تكن تستدعي في المدينة نفسها كثيراً من القضاة , حيث لم تكن هماك خصومات كثيرة. ومع ذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم ينيب عنه بعض أصحابه حين يرسل بعضهم واليا إلى ناحية أعلنت خضوعها لحكومة الإسلام الأولى. فكان هؤلاء يحكمون بما علموه منه _ صلى الله عليه وسلم _ وبما استفادوه من صحبته.

_ 1 سيرة ابن هشام ج 1 ص 504 ط البابي الحلبي سنة 1375 هـ

فلا غرابة إذن إذا نبغ في القضاء عدد من الصحابة رضوان الله عليهم , أمثال عليّ رضي الله عنه , الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن قائلاً: " إذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضينّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول , فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء". قال عليّ: فما زلت قاضياً وما شككت في قضاء بعد " 1. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي جمعت رسالته إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أحدث النظريات في النظم القضائية 2. ومنهم عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت رضي الله عنهم , وغير هؤلاء كثيرون. فجاء بذلك الفقه الإسلامي منذ فجره حاوياً لنظامه القضائي الذي يتسق مع عدله وشموله , ومن يرجع إلى كتب الفقه الإسلامي يجد بحوث الفقهاء القيمة في مختلف فروعالقضاء , في ضبط الدعوى وشروطها , ونظام قبولها وردها. وفي مراتب القضاء المطلق منه والمقيد كالحسبة وولاية المظالم , وفي أدب القاضي وما يجب ان يتصف به , وإمكان تخصيصه بالزمان والمكان والدعوى , وفي علاقة القاضي بالحاكم , وغيره من علوم القضاء. ولعل أهم هذه العلوم ذلك الذي يتعلق بالإثبات. والإثبات كما يعرفه رجال القانون الوضعي هو: إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي يجدها القانون على صحة واقعة قانونية يدعيها أحد طرفي الخصومة وينكرها الطرف الآخر " 3 أو هو ما عرف عند فقهاء الشريعة الإسلامية بطرق القضاء. وترجع أهمية الإثبات إلى أنه الأداة الضرورية التي يعول عليها القاضي في التحقيق من الوقائع المطروحة في الدعوى , والوسيلة العملية التي يعتمد عليها الأفراد في صيانة حقوقهم المترتبة على تلك الوقائع , حتى أنه ليصح القول بأن كل تنظيم قضائي يقتضي حتما ً وجود نظام للإثبات. والواقع أن الغالبية العظمى من النظم القضائية نزلت على حكم هذه الضرورة وعنيت بالإثبات , إلا أنها لم تلتزم في ذلك مذهباً معينا. وبالاستقراء والنظر في هذه النظم نجدها قد سلكت ثلاثة مذاهب في الإثبات:

_ 1 سنن أبي داود ج 3 ص 328 ط هندية حديثة. 2 كتاب عمر إلى أبي موسى في القضاء أخرجه الدارقطني في سننه ج 4 ص 206 ط دار المحاسن للطّباعة سنة 1386 هـ وفي التعليق المغني على الدارقطني لأبي الطيب العظيم أبادي قال: أخرجه البيهقي في المعرفة. 3 الدكتور عبد الودود يحيى: دروس في قانون الاثبات ص3. الدكتور أحمد أبو الوفاء: التعليق على نصوص قانون الاثبات ص 222

الأول: مذهب الإثبات المطلق , ويرمى هذا المذهب إلى عدم تقييد القاضي بطرق معينه وبل يترك للقاضي الحرية الكاملة في اتخاذ الدليل الذي يطمئن إليه , فله أن يستكمل ما نقص من الأدلة التي عجز عنها الخصم , وله أن يحكم بعلمه الشخصي , وله استدراج الخصوم ومباغتهم لانتزاع الحقيقة من أقوالهم. وإلى هذا المذهب تميل القوانين الوضعية الجنائية الحديثة بحجة تطور الجريمة وأساليبها وصعوبة إثباتها بالطرق المحددة. غي أن هذا المذهب منتقد من حيث أنه يمنح القاضي سلطة واسعة قد تؤدى إلى اعتسافه وانحرافه عن جادة الصواب. فيتحكم في تعيين طرق الإثبات وتحديد قيمتها بما يهوي دون رقابة , كما يؤدى إلى اضطراب العدالة , وفقدان الثقة بالقضاء لاختلف التقدير من قاض لآخر , كما يشجع الظالمين المماطلين على المنازعة في الحق الثابت أملا في الإفادة من اختلاف القضاة في التقدير ز الثاني: مذهب الاثبات المقيد , ويقوم هذا المذهب بالحد من السلطة المطلقة الممنوحة للقاضي في المذهب السابق , وذلك بتحديد طرق معينة للإثبات , فلا يستطيع الخصوم إثبات دعواهم من خلالها , ولا يستطيع القاضي تكوين عقيدته إلا بهذا الدليل الذي حدده القانون , فلا يحكم بعلمه الشخصي , ولا يجعل للدليل قيمة أكثر مما هو محدد له بالقانون. وعيب هذا المذهب _ بالرغم مما يكلفه للقضاء من ثقة واستقرار _ أنه يجعل دور القاضي سلبياً , ووظيفته آلية , مما يؤدي إلى يصدر القاضي حكما بغير ما ارتاح له ضميره , إذا نمى إلى اعتقاده أن الحقيقة الواقعة ظاهرة بدليل من غير الطرق التي حددها القانون. الثالث: مذهب الاثبات المختلط: هو المذهب الذي يجمع بين المذهبين السابقين , فيحاول الجمع بين مميزاتها , والتخفيف من مضارها , فهو مع تحديده لطرق الإثبات إلا أنه يمنح القاضي سلطة في تقدير الأدلة , فمثلا: له أن يقضي بما أجمع عليه الشهود , أو أن يقضي بعكسه , وله سلطة تقدير القرائن. وهذا المذهب هو ما تأخذ به أغلب القوانين الوضعية المعاصرة , فتبلغ حدها الأقصى في المواد الجنائية من جهة حرية القاضي في تقدير الأدلة , وحدها الأدنى في المواد المدنية حيث تكون سلطة القاضي في تقدير الأدلة أقل كثيرا من سلطنه في المواد الجنائية 1.

_ 1 محمد عبد اللطيف: قانون الإثبات في المواد المدنية ص 6. الدكتور سليمان مرقص: اصول الإثبات في المواد المدنية ص 7.

فإلى أى هذه المذاهب يتجه الفقه الإسلامي في منهجه للإثبات؟ يميل بعض الفقهاء وأبرزهم ابن القيم الجوزية إلى مذهب الإثبات المطلق الذي يعطي القاضي الحرية المطلقة في تكوين عقيدته من أي دليل يعرض عليه وولا يتقيد بطريق إثبات معين , ويتضح ميل ابن القيم إلى مذهب إطلاق الإثبات مما يأتي: أولاً: تفسيره للبينة حيث يجعلها كل ما يبين من الحق , ولا يقصرها على شهادة الشهود كما قال غيره من الفقهاء. فيقول: " فالبينة اسم لكل ما يبين من الحق , ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يوف مسماها حقه " 1. ثانياً: إجازته للقاضي أن يتوصل للحق بالتحايل على الخصم استدلالاً بما كان يفعله إياس بن معاوية وشريح 2. ثالثاً: إجازته للقاضي أن يقضي بالفراسة بالرغم من استتار خطوات الاستنتاج فيها , وأن الدليل المأخوذ منها غير معروف لغير القاضي. وستعرض رأي ابن القيم في الحكم بالفراسة بشىء من التفصيل إن شاء الله. رابعاً: يقول في اعلام الموقعين: " فإذا ظهرت أمارات الحق , وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه بأي طريق كان , فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره. والله تعالى لم يحضر طرق العدل وأدلته وأمارته في نوع واحد وأبطل غيره. فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها. والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها , وانما المراد غاياتها التي هي المقاصد "3. فأنت ترى صراحة نصه على عدم التقيد بطريق محدد للإثبات , فأي سبيل يبين به وجه الحق يكون دليلاً معتبراً مادام قد كشف للقاضي وجه الدعوى. وبناء على هذا القول الذي يقضي بعدم حصر أدلة الثبوت عنده , فقد ذكر في كتابه الطرق الحكيمة كثيرا من طرق القضاء التي يخالفه فيها كثير من الفقهاء كالقرعة , وشهادة الكفار , والفراسة , وغيرها

_ 1 الطرق الحكيمة ص 29 ط مطبعة مصر سنة 1960 م. 2 إياس بن معاوية بن قرة المزني، قاضي البصرة ومضرب المثل في الفطنة والذكاء والفراسة توفي سنة 122 هـ. الاعلام ج 1 ص 376 ط مصورة بيروت. وشريح بن الحارث الكندي من أشهر القضاء في صدر الإسلام , ولي قضاء الكوفة في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية. توفي سنة 78 هـ. الاعلام ج 3 ص 236. 3 اعلام الموقعين ج 4 ص 373 ط دار الجيل بيروت.

مذهب جمهور الفقهاء: أما بالنسبة لجمهور الفقهاء وما اتجهت إليه أنظارهم في الإثبات , فيرى بعض فقهاء القانون المصرى أنهم أخذوا بمذهب الإثبات المقيد نظراً لما رآه منهم في تحديد الشهادة تحديداً دقيقاً , وجعلها مراتب مترتبة , والتزامهم بهذا التحديد 1. وفي نظري أن هذا القول ليس بصحيح , فالفقهاء لم يأخذوا بمذهب تقييد افثبات على ما هو عليه عند أصحابه , إنما القول بأنهم أقرب إلى المذهب المختلط هو الصواب عندي , علما بأن نظرة الفقه الإسلامي للإثبات نظرة متميزة لم يكن همها أن تكون ضمن أي من المذاهب المذكورة. ونرى ان الفقه الإسلامي كان قريباً من المذهب المختلط للأسباب الآتية: أولاً: إنهم حددوا طرق الإثبات وجعلوها في أدلة معينة , ولكنهم لم يجدوا من سلطة القاضي في تقدير الأدلة كما فعل أنصار المذهب المقيد. وبذلك لم يجعل الفقهاء وظيفة القاضي آلية لا أثر لها في تقدير الأدلة, فللقاضي عند جمهور الفقهاء أن يقضي بغير ما أجمع عليه الشهود إذا ظهر الحق من طريق غيرهم , ومن ذلك قالوا: لا تحد المرأة إذا شهد عليها أربعة بالزنا وظهر أنها بكر 2. ثانياً: إنهم أعطوا القاضي سلطة تقدير القرائن. هذه السلطة وإن كانت تضيق في مجال الحدود , إلا أنها تتسع في غيرها من الدعاوى الجنائية , كما تتسع في دعاوى المعاملات المالية. وسيتضح هذا القول عند كلامنا عن القرائن إن شاء الله. وسلطة تقدير القرائن هو ما نميز به المذهب المختلط. ثالثاً: إنهم لم يجيزوا للقاضي ان يقضي يعلمه الشخصي , وهذا ما تميز به المذهب المختلط. رابعاً: قالوا: إنه لا يلزم الأمر باستشهاد رجلين أو رجل وامرأتين في الديون وقت التحمل ألا يحكم القاضي بذلك الدين. فإن ثبت من طريق آخر كالنكول , أو شاهد ويمين المدعى قضى به3.

_ 1 انظر: أصول الإثبات في المواد المدنية السابق ذكره. هامش ص 4. 2 تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي الشافعي ج 9 ص 114 ط البابي الحلبي سنة 1215 هـ. المغني لابن قدامة الحنبلي ج 8 ص 207 ط دار المنار سنة 1367هـ. البحر الزخار فقه زيدي جـ 5 ص 180 ويقول بذلك الدسوقي المالكي وإن كان المذهب على خلاف هذا القول. انظر الشرح الكبير وحاشية الدسوقي جـ 4 ص 319 ط مطبعة السعادة مصر سنة 1329 هـ. 3 بداية المجتهد جـ 2 ص 469 ط البابي الحلبي سنة 1379 هـ. الطرق الحكيمة ص 14. طرق القضاء في الشريعة الإسلامية: لأحمد إبراهيم ص 13.

ولا شك أن هذا مزج بين تحديد الأدلة وحرية القاضي في تقديرها , كما أنه تخفيف لمضار تقييد الإثبات , وهو ما لجأ إليه أنصار المذهب المختلط. خامساً: إنهم جعلوا الشهادة حجة فيما قامت عليه مهما كان المدعى به، ولم يقيدوها بقدر معين كما فعل بعض القانونيين من أنصار المذهب المختلط 1. وهذا يدل على أن بعض القوانين التي أخذت بالمذهب المختلط أشد تضييقا من الفقه الإسلامي , لأن القاضي في هذه القوانين لا يحكم بشهادة الشهود إذا جاوز الحق المدعى به القدر الذي حدده القانون , ولو اعتقد القاضي صحتها وصدقها فيما قامت عليه. كل هذه الأسباب جعلت نظرة جمهور الفقهاء أقرب إلى المذهب المختلط الذي يجمع بين مزايا المذهبين الآخرين المقيد والمطلق , ويخفف من مضارها , فهو يحدد أدلة الإثبات ولا يحد من سلطة القاضي في تقدير هذه الدلة , كما لا يطلق للقاضي الحرية ليتخذ دليله في الدعوى من أي دليل يراه أو يطمئن إليه , حتى لا يتعسف القضاة فتتمكن تهمة استغلالهم لسلطة وظيفتهم , فكان أن حدد الفقه الإسلامي طرقا للإثبات لا يتجاوزها القاضي ‘ وليس للخصوم أن يثبتوا دعواهم بغيرها. وبالرغم من قولنا أن الفقه الإسلامي كان قريبا من مذهب الإثبات المختلط , إلا أنه قد حوى نظاماً لفثبات تفرد به وميزه عن القوانين التي أخذت بالمذهب المختلط , ذلك لأنه لم يكن متأثراً بمذهب معين , إنما هو تشريع من لدن حكيم خبير. فإذا كان مذهب الإثبات المختلط قد ترك للقاضي الحرية في استخلاص حكمه من أي دليل يعرض عليه في الدعوى الجنائية , فإن الفقه الإسلامي قد قصم الدعاوى الجنائية إلى ثلاث طوائف , قيد الأدلة في طائفتين , وهما الحدود والقصاص , وترك له الحرية في طائفة التعزير , وسنرى إيضاحاً أكثر لهذا القول عند كلامنا عن القرائن إن شاء الله. كما أن القواينين التي أخذت بالمذهب المختلط قد سعت إلى تقييد الإثبات في الدعوى المديمية بقدر كبير , فلم تأخذ بشهادة الشهود مثلاً إذا جاوز الحق المدعى به قدراً معيناً , كما لم تقبل إثبات بعص الحقوق المدنية إلا بالكتابة , بينما لا نجد هذه القيود في الفقه الإسلامي , فالشريعة الإسلامية بما تغرسه في الفرد من إصلاح وتهذيب , وبما تحثه عليه من مراقبة الله عز وجل تبعده عن تهمة الكذب والتزوير , فهي بذلك تفترض أمانة الشخص.

_ 1 يقيد القانون المصري الشهادة في الحقوق المدنية فلا يحكم بها إذا جاوز الحق المدعى به عشري جنيها. مجموعة الأعمال التحضيرية جـ 3 ص 396.

وصدقه فيما شهد به , ولذلك كانت هذه الشهادة حجة فيما قامت به , وللقاضي أن يستند عليها في حكمه مهما كان القدر المدعى به , وهذا لا يمنعه من مساءلة الشهود ومعرفة مدى صدقهم ومعرفتهم للواقعة المطروحة. كما أن مبدأ الإثبات بالكتابة مع وجوده واحترام الفقه الإسلامي له وحثه عليه , إلا أن الفقهاء لم يجعلوه شرطا لا يجوز الإثبات إلاّ به. الآن , وبعد أن بينا تفرد الفقه الإسلامي في نظامه للإثبات , وتميزه عن نظم الإثبات الوضعية , بقي لنا أن نتناول سمات أدلة الإثبات في الفقه الإسلامي , وأقسامه , وما تميز به كل دليل منها , ومصدره الأصولي , وليكن ذلك حديثنا في مقال قادم عن شاء الله تعالى.

مدخل

مدخل ... نظامُ الإثبات في الفقه الإسلامي للدكتور عوض عبد الله أبو بكر أستاذ مساعد بكلية الشريعة دراسة مقارنة بينا في مقالنا السابق أن الفقه الإسلامي قد حوى نظاماً متميزاً ومتفرداً في الإثبات، يتسق مع نظامه الشامل العادل. فهو مع تحديده لأدلة إثبات الدعوى- على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء- إلا أنه لم يحد من سلطة القاضي في تقدير الأدلة حتى لا يجعل وظيفة القاضي إلية لا أثر لها في الحكم. كما أنه لم يطلق للقاضي الحرية الكاملة في تحديد الأدلة تجنبا لتعسف القضاة في استعمال هذا الحق فيستغلون سلطة وظيفتهم. وقبل أن نتناوله هذه الأدلة نود أن نشير إلى أن القوانين الوضعية بعد مناقشات وتعديلات قد لجأت إلى تحديد الأدلة في الدعوى المدنية والتجارية، اتفاقاً بذلك مع قول جمهور الفقهاء، إلا أنها قد خالفت الفقهاء في تحديد القيمة لكل دليل من هذه الأدلة، كما سنرى إن شاء الله- أما في الدعوى الجنائية فإن القانونيين يميلون إلى رأى ابن قيم الجوزية الذي يقضي بعدم حصر أدلة الثبوت، ولذلك نجدهم يطلقون للقاضي الحرية الكاملة في الدعوى الجنائية ليستمد إقناعه من أي دليل يعرض عليه. أما فيما يتعلق بأدلة الإثبات في الفقه الإسلامي، فإننا نجدها قد انقسمت إلى قسمين رئيسيين: قسم اتفق الفقهاء على حجته وقبوله كدليل في الدعوى، يعول عليه القضاة، ويتمسك به الخصوم في إثبات دعواهم، وقسم اختلف الفقهاء في قبوله دليلاً للإثبات. ومنشأ هذا الإختلاف في هذا القسم الأخير هو: إما لعدم قوة الأدلة الدالة على اعتباره، أو للإحتياط الشديد الذي تميزت به بعض المذاهب الإسلامية، فاحتاطت للقضاة حتى لا يكون تعويلهم على أدلة ظنية لا تطمئن إليها النفوس، فتضطرب الأحكام وتختلط الحقوق. ولنلق الآن نظرة عامة على هذه الأدلة، ولنشير إلى موقف القانونيين في بعض مسائلها.

القسم المتفق عليه

القسم المتفق عليه: أولاً: الإقرار: والمعنى الاصطلاحي للاقرار كما تدل عليه عبارات الفقهاء هو إخبار الإنسان بحق عليه لغيره. فلا يسمى إخبار الغير بحق لآخر إقرارا.1 الأصل في الإقرار: وقد ثبتت حجية الإقرار بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول:

_ 1 البحر الرائق لابن نجيم جـ7، ص249 ط دار المعرفة بيروت. وانظر أيضا منحة الخالق على البحر الرائق لابن عابدين جـ7،ص 249. تبصرة الحكام لابن فرحون جـ 2 ص 53 المطبعة البهية مصر سنة 1302هـ

فالكتاب: قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} (البقرة: 282) فأمر سبحانه من عليه الحق بالإملال، وإملاله هو إقراره وإلا لما كان فيه فائدة، ولما أمر الله به. وكذلك قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (النساء: 135) وشهادة الإنسان على نفسه هو إقراره بالحق. أما السنة: فما روى متفقاً عليه من أنه صلى الله عليه وسلم قبل إقرار ماعز بالزنا. وعند مسلم وأصحاب السنن أنه قبل إقرار الغامدية بالزنا، فعامل كلا منهما بموجب الإقرار بإقامة الحد عليه1. أما الإجماع: فقد أجمعت الأمة من عهده صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على أن الإقرار حجة على المقر، وجرت بذلك في معاملاتها وأقضيتها. أما المعقول: فهو أن العاقل لا يقر بشيء ضار بنفسه أو ماله إلا إذا كان صادقا فيه. والإقرار هو أول الحجج الشرعية وأقواها، لأنه ليس هناك أبلغ من أن يقضي الإنسان على نفسه بالإعتراف بثبوت الحق عليه. ولما كان للإقرار هذه القوة وهذه الأهمية في الإثبات، كان لابد من عناية الفقهاء به وضبطه حتى يكون صحيحا واضح الدلالة. ولذا فقد جعلوا له شروطاً لابد من توافرها، بعضها في المقر، وبعضها في المقر له، وبعضها في المقر به. ويمكن إجمال هذه الشروط في أنه يشترط في المقر أن يكون عاقلاً بالغاً، طائعاً، مختاراً، وأن لا يكون هازلاً، كما يشترط في المقر له أن يكون موجوداً حال الإقرار، أو وجد قبله ومات، وأن يكون أهلا للملك، وأن يكون سبب استحقاقه للمقر به مقبولاً عقلاً، فلو أقر للحمل وقال عن بيع باعه، لغا الإقرار، وألا يكون المقر له مجهولاً جهالة فاحشة2.

التهمة في الإقرار

التهمة في الإقرار: ومن الشروط التي تدل على بعد نظر فقهاء الشريعة هو أنه يشترط لصحة الإقرار عندهم ألا يكون المقر متهما في هذا الإقرار، فلو كان متهما فيه لم يصح إقراره، إذ التهمة تخل برجحان جانب الصدق على جانب الكذب، ولأن الإقرار شهادة على النفس كما قدمنا والشهادة ترد بالتهمة. ومن الأمثلة على رد الفقهاء الإقرار بتهمة المقر، إقرار المريض مرض الموت لوارثه بدين. وتكييف هذه التهمة التي تلحق بالمريض مرض الموت: هو أن المريض وقد أحس بدنو أجله وقرب رحيله عن الدنيا وفراقه لماله الذي سيؤول إلى خلفاء غيره، ربما أراد أن يؤثر بعض هؤلاء الخلفاء على غيرهم بميل الطبع أو ربما أراد أن يحرم بعضهم لضغينة يحملها عليهم، فيذهب إلى تنفيذ غرضه بصورة الإقرار من غير أن يكون للمقر له دين عليه أصلا، فكان متهما في هذا الإقرار فيرد الإقرار. ويظهر القول بعدم صحة إقرار المريض مرض الموت لوارثه بدين، واضحا جليا في عبارات

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي جـ 11 ص 195. ط المطبعة المصرية ومكتبتها. وانظر جمع الفوائد جـ1 ص 749 ط دار التأليف مصر.. 2 بداية المجتهد جـ 2 ص 461 ط ألبابي الحلبي سنة 1379 هـ، المرافعات الشرعية لمحمد زيد بك الابياني ص 44 وما بعدها0 الأصول القضائية في المرافعات الشرعية. علي قراعة ص 70.

فقهاء الحنفية والحنابلة والمالكية، أما الإمام الشافعي فإنه وإن كان متفقاً معهم في الحد من تصرفات المريض مرض الموت فيما يتعلق بالوصية والبيع والشراء بمحاباة، إلا أنه لم يوافقهم في عدم قبول إقراره لانتفاء التهمة في نظره1. وما يقال عن المريض مرض الموت، يمكن أن يقال عن المدين المحجور عليه بسبب الدين، فقد ذهب فقهاء الحنفية والحنابلة إلى وقف سريان إقراره، وقالوا:" إن إقرار المدين بحق حال الحجر عليه تصرف يضر بالغرماء. ومقصود الحجر هو منع المدين من كل تصرف يضر بهم، إذ أن الحجر لحقهم، والمدين متهم في هذا الإقرار، وعليه فإنه لا يشارك المقر له الغرماء فيما حجر عليه من مال، ولكن يؤاخذ المقر بإقراره، ويلزمه بعد قضاء ديون الغرماء الذين طلبوا الحجر على المدين "2. وقد قررت هذه الأحكام منذ زمن بعيد في الفقه الإسلامي لمصلحة الورثة في مال مورثهم، والدائنين في مال مدينهم، فاحتاط الفقهاء ومنعوا التصرفات التي تلحق بهم الضرر. وفي نفس الوقت وقف القانون الغربي جامداً ولم يستطع أن يقرر شيئاً من هذا القبيل. ولذا لجأ القانونيون في مصر لاستمداد هذه الأحكام من الشريعة الإسلامية. يقول الدكتور محمد كامل مرسي: "ولكن الرأي الصحيح هو أن الأحكام التي أتى بها الشارع المصري خاصة بالبيع الحاصل في مرض الموت ليست مبنية على فكرة عدم أهلية المريض، وقد جاءت بها الشريعة الإسلامية مراعاة لمصلحة الورثة والمحافظة على حقوقهم بمنع المورث من إيثار بعضهم على بعض "3. ويقول الدكتور عبد الناصر العطار: "لم يعرف القانون المدني مرض الموت، فيرجع في تعريفه إلى الشريعة الإسلامية باعتبارها مصدراً رئيسياً للتشريع، ومصدراً تاريخياً استمد المشرع منه أحكام المريض مرض الموت، ومصدر احتياطياً لابد من الرجوع إليه إذا لم يوجد نص أو عرف "4. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أصالة هذه الشريعة وكمالها وتفردها بكثير من الأحكام التي عجزت القوانين الوضعية أن تأتى بمثلها.

الشهادة

ثانياً: الشهادة: ويطلق عليها جمهور الفقهاء البينة، فالأصل أن البينة تطلق على كل ما يبين به الحق، ولكن جمهور الفقهاء خصوها بالشهادة، ولذا قد عتب عليهم ابن القيم في هذا التخصيص وقال:" إن من خصَّ البينة بشهادة الشهود لم يوف مسماها حقه ".

_ 1 أصول البزدوي وكشف الأسرار جـ 4 ص 309 ط المطبعة العثمانية سنة 1358 هـ. المغني لابن قدامة جـ 6 ص 73 ط دار المنار سنة 1367 هـ. قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي المالكي ص 242 ط دار العلم بيروت. الأشباه والنظائر للسيوطي ص 262 ط مصطفى محمد سنة 355اهـ 5 الهداية مع تكملة فتح القديرة8 ص 254 0 المطبعة الأميرية مصر سنة 1315هـ. المغني لابن قدامة جـ 4 ص 439 3مجلة القانون والاقتصاد، العدد الثالث السنة الثامنة مارس 1938 م. ص 273.. 4الدكتور عبد الناصر العطار: إثبات الملكية بند 24 ص 112..

والشهادة في اصطلاحهم هي إخبار الإنسان بحق لغيره على غيره، أوهي إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء1.

الأصل في الشهادة وحكمها

الأصل في الشهادة وحكمها: وأداء الشهادة واجب في غير الحدود، لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (البقرة: 282) وقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (البقرة: 283) . أما جرائم الحدود فالستر مطلوب فيها، وإذا كان الستر مطلوباً فيها، فإن الأخبار بها يكون خلاف الأولى، وما كان خلاف الأولى لا يكون واجباً2.

نصاب الشهادة

نصاب الشهادة: أما نصاب الشهادة فهو على أربع مراتب: الأولى: الشهادة على الزنا ونصابها أربع رجال. الثانية: الشهادة على بقية الحدود والقصاص ونصابها رجلان، ولا تقبل فيها شهادة النساء. الثالثة: الشهادة على ما لا يطلع عليه الرجال من عيوب النساء كالولادة، والبكارة فيكتفي فيها بشهادة امرأة واحدة. الرابعة: سائر حقوق العباد، سواء أكانت مالاً أو غير مال كالبيع والهبة والنكاح والإِجارة والوصية، ونصابها رجلان أو رجل وامرأتان. والشهادة حجة من الحجج الشرعية تثبت بها جميع الحقوق، سواءً كانت من حقوق الله الخالصة أومن حقوق العباد، مهما كانت قيمة الشيء المدعي به، طالما توفر النصاب المشترط للحق المدعي به، وطالما توفرت الشروط والضوابط التي قررها الفقه الإسلامي لهذه الشهادة، سواء تعلقت بالشاهد وما يتعلق به من تزكية، وتحمل، وأداء، ومعاينة للمشهود به، أو سماع فيما يقبل السماع فيه، أو تعلقت بالمشهود له، أو المشهود به. والشهادة ليست كالإقرار القاصر على المقر وحده، إنما هي حجة متعدية يثبت بها الحق المدعي به على الغير.

مقارنة بين الفقه والقانون في موضوع الشهادة

مقارنة بين الفقه والقانون في موضوع الشهادة: (1) الشهادة في الفقه الإسلامي دليل كامل يثبت به جميع الحقوق سواء أكانت من حقوق الله الخالصة أومن حقوق العباد مهما كان القدر المدعي به، أما في القانون الوضعي فهي دليل احتياطي واستثنائي غير كامل، فلا يؤخذ بها كدليل إلا في حدود معينة (المواد 60 إلى 64 إثبات

_ 1 الطرق الحكمية ص 14، بداية المجتهد جـ 2 ص 463، فتح القدير لابن الهمام جـ 6 ص 3. . 2 البحر الرائق جـ 7 ص60، حاشية ابن عابدين جـ3 ص 198. .

مقارنة بين الشهادة والإقرار

مقارنة بين الشهادة والإقرار: (1) الشهادة حجة كاملة لاتصال القضاء بها، لأن القاضي ولايته عامة وتتعدى إلى الكل، أما الإقرار فإنه حجة قاصرة على المقر وحده، ولا يحاسب الغير بإقراره، وذلك لقصور ولايته على غيره، ولذا فإنه لو أقر مجهول النسب بالرق جاز على نفسه وماله ولا يسري هذا الإقرار على أولاده. (2) الشهادة لا توجب حقا إلا باتصال القضاء بها، أما الإقرار فإنه موجب للحق بنفسه عند عامة الفقهاء وإن لم يتصل به القضاء. والجدير بالذكر أن القانون الوضعي لا يعترف إلا بالإقرار القضائي، أما الإقرار في غير مجلس القضاء فلا عبرة له عندهم (مادة 16 من مشروع قانون الإثبات السوداني لسنة 1981) . (3) يصح الإقرار بالمعلوم والمجهول، ويقبل إقراره، بخلاف الشهادة فإنها لا تكون إلا بعد العلم بالمشهود به. فلو قال لفلان علىّ دين أو حق، قبل، ولو أقر بزناه بامرأة لا يعرفها حد ولابد من علم الشهود بالمشهود عليه فلو قالوا لا نعرفها ترد شهادتهم. ولا يوجد دليل من أدلة الإثبات غير الإقرار والشهادة اتفق الفقهاء على حجيته، وعليه فقد تبقى لنا الأدلة المختلف فيها وهذا ما سنحاول عرضه في مقال قادم إن شاء الله تعالى0

_ 1الطرق الحكمية ص 45. .

اليمين والنكول عنه

نظام الإثبات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة للدكتور عوض عبد الله أبو بكر -3- الأدلة المختلف فيها: بعد أن تناولنا في المقالين السابقين السمات الأساسية لنظام الإثبات في الفقه الإسلامي، ووضحنا تفرده بنظام يتسق مع عدله وشموله، وبينا أنه يحتوي على قسمين من أدلَة الإثبات –قسم اتفق عليه الفقهاء، وهو يتمثل في الإقرار والشهادة. وقسم آخر اختلفوا فيه –ومن هذا القسم المختلف فيه موضوع بحثنا في هذا المقال- اليمين والنكول عنه وعلم القاضي. اليمين والنكول عنه: النكول عن اليمين هو الامتناع عنها حينما توجه إلى المدعى عليه من القاضي بطلب المدعي1. فإذا لم يكن للمدعي بينة وطلب يمين المدعى عليه فنكل، قال أبو حنيفة وأصحابه يقضى عليه بنكوله، ذلك لأن الشهادة لما كانت لإثبات الدعوى واليمين لإبطالها، وجب أن نكل أن تحقق عليه الدعوى، وقالوا إن عثمان رضي الله عنه قد قضى بالنكول، ولم يعلم له مخالف من الصحابة فكان ذلك إجماعا2.

_ 1 اتفق الفقهاء على أن الحقوق الخالصة لله تعالى- كالحدود- لا توجه اليمين إلى المدعى عليه لإثباتها، وإن كانت هناك رواية عن الشافعي تجيز ذلك. أما حقوق العباد الخالصة- كالأموال- فهذا اتفقوا على توجيه اليمين فيها، وإن كانت غير ذلك كالنكاح والطلاق والرجعة والعتق، فمالك ورواية عن أحمد على منع توجيه اليمين فيها، والشافعي وبعض الحنفية وابن حزم على جواز توجيه اليمين فيها، وأبوحنيفة يقول إن كانت هذه الحقوق مما يحتمل البذل أي ترك المنازعة فيجوز توجيه اليمين فيها، وإن كانت غير ذلك كالنكاح والنسب فلا يجوز. أما الحقوق المشتركة بين العبد والرب فاختلفوا فيها- فمن رجح جانب العبد أوجب اليمين، ومن يرجح جانب الله لم ير ذلك. 2 الاختيار لتعليل المختار للموصلي ج2 ص162 ط السعادة مصر. 2

غير أن مذهب أبي حنيفة بالقضاء بالنكول وحده منتقد من وجوه:- الأول: إن النكول لا يدل على أن الحق قد ثبت على الناكل، لأنه قد يمتنع عن الحلف تورعا وترفعا حتى وإن كان صادقا في إنكاره للدعوى. الثاني: قالوا لهم إنكم قد خالفتم قضاء عثمان رضي الله عنه، فإنه لم يقض بالنكول في بعض الوقائع التي رفعت إليه. يقول ابن حزم: "فكيف وقد خالفوا عثمان في هذه القضية نفسها، لأنه لم يجز البيع بالبراءة إلا في عيب لم يعلمه البائع، وهذا خلاف قولكم. ومن العجيب أن يكون حكم عثمان بعضه حجة وبعضه ليس بحجة، هذا على أن مالك بن أنس روى هذا الخبر عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سالم بن عبد الله فقال فيه عن أبيه: فأبى أن يحلف وارتجع العبد فدل هذا على أنه اختار أن يرتجع العبد فرده إليه عثمان برضاه"1. الثالث: إن دعوى الإجماع غير صحيحة، فالإجماع يكون صحيحا بعدم المخالف، لا بعدم العلم بالمخالف، وفرق بين عدم المخالف وعدم العلم به. أما الأئمة مالك والشافعي وأحمد فيقولون إن المدعى عليه إذا نكل عن اليمين لا يجب للمدعي بنكوله شيء، وإنما ترد اليمين إلى المدعي، فإذا حلف استحق المدعى به. وتوجيه هذا القول هو أن نكول المدعى عليه أضعف من شاهد المدعي، فالأولى أن يقوى بيمين الطالب، إذ النكول ليس بينة من المدعى عليه ولا إقرارا، فلم يقو على الاستقلال بالحكم، فإذا حلف معه المدعي قوي جانبه2. قالوا: وإن هذا المعنى يستفاد من الآية الكريمة في شأن الوصية في السفر {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ، ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِم ... } الآية (المائدة 107-108) . ووجه الاستدلال في الآية أنها أفادت رد اليمين إلى الجهة التي شرعت فيها أولا وهي الشاهدان إلى غيرهما، ويؤخذ منه رد اليمين من المدعى عليه إلى غيره3.

_ 1 المحلى ج10 ص 533-534 ط دار الاتحاد العربي مصر.1 2 الطرق الحكمية لابن القيم ص 137، بداية المجتهد ج2 ص 469. 2 3 الأم للشافعي ج 7 ص 34.3

وكذلك استدلوا بما رواه الدارقطني والحاكم في المستدرك وصحح إسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رد اليمين على طالب الحق1. ومع أن هذا المذهب أظهر من سابقه وأرجح لكونه اعتمد على أدلة نقلية منها ما هو منطوق في محل النزاع كحديث ابن عمر رضي الله عنه، إلا أنه لم يسلم أيضا من انتقاد وجه إليه، ويتلخص هذا الانتقاد في: أولا: إن استدلالهم بالآية لا يستقيم لهم في موضوع النزاع، لأنها تدل على أن شاهدين يقومان مقام شاهدين آخرين ظهر كذبهما بعد الحلف، وليس ذلك موضوع الخلاف. ثم إن الشافعية والمالكية وهم من أنصار هذا المذهب يقولون بنسخ هذه الآية بالآيات التي تمنع ولاية الكافر على المسلم، والشهادة فيها ولاية على المشهود عليه، ولذا فقد أبطلوا شهادة الكافر على المسلم. فكونهم لم يعملوا بالآية في موضوعها فمن باب أولى ألا يستدلوا بها هنا. ثانيا: إن حديث ابن عمر الذي استندوا عليه مطعون في إسناده فلا يصح الاعتماد عليه. (انظر الهامش) .

_ 1 سنن الدارقطني ج4 ص 213- وجاء في التعليق المغني على سنن الدارقطني للمحدث أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي "الحديث أخرجه البيهقي والحاكم وفي إسناد كلهم محمد بن مسروق وهو لا يعرف، وإسحاق بن الفرات مختلف فيه"

هل تكفي اليمين لقطع النزاع؟

هل تكفي اليمين لقطع النزاع؟ لاشك أن المدعى عليه إذا أقر بالدعوى إقراراً صحيحاً، أو ثبتت عليه الدعوى بشهود المدعي، وحكم القاضي بناء على ذلك انقطع النزاع بينهما لاتصال الحكم بالدليل الذي يؤدي إلى الحق غالبا، ولكن هل يعتبر الحال كذلك عند اتصال الحكم باليمين؟ أي هل تنقضي الدعوى إذا حلف المنكر عند عجز المدعي من تقديم بينته؟ وبمعنى آخر هل يجوز للمدعي أن يقدم بينة بعد احلاف المدعى عليه اليمين؟. جمهور الفقهاء يرون سماع بينة المدعي بعد حلف المدعى عليه اليمين، ويعتبرون إنهاء الدعوى باليمين إنما هو إنهاء مؤقت يمكن أن تعاد مرة أخرى إذا قدم المدعي البينة التي كان قد عجز عن تقديمها قبل اليمين، ويقولون إن البينة العادلة أولى من اليمين الفاجرة,

، ولأن البينة مثبتة واليمين نافية، والإثبات أولى من النفي، ولأن اليمين تكون مع عدم البينة، فإذا وجدت البينة سقط حكم اليمين، ولأن سقوط الدعوى باليمين ليس موجبا لسقوط الحق، فالحقوق لا تسقط إلا بقبض أو إبراء، وليست اليمين قبضاً ولا إبراء1. ويرى بعض الفقهاء أن اليمين طريق من طرق الإثبات، فإذا حلف المدعى عليه سقط حق المدعي في الدعوى وترتب على ذلك اليمين قطع النزاع2.

_ 1 المغني ج10 ص 104. 1 2 المرافعات الشرعية لمحمد زيد بك الإبياني ص9 وما بعدها.2

اليمين مع الشاهد

اليمين مع الشاهد: روى مسلم وأحمد وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين"، وفي رواية أحمد: "إنما كان ذلك في الأموال" وروى الدارقطني في سننه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق" 3. استناداً على هذه الأحاديث ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز القضاء بشاهد ويمين المدعي في المال، وما يؤول إلى المال من حقوق الأبدان كالنكاح والطلاق، ولا يحكم بذلك في القصاص والحدود. وخالف أبو حنيفة وأصحابه وقالوا: "لا يحكم بشاهد ويمين إذ الآية الكريمة {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم} (البقرة: 282) قد قصرت الإثبات في البينة على النحو المذكور، وحديث الشاهد واليمين زيادة على النص، والزيادة على النص تكون نسخا، وخبر الواحد لا ينسخ المتواتر"4. وقد أورد الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار أدلة الفريقين وانتصر لمذهب الجمهور قائلا: "جميع ما أورده المانعون من الحكم بشاهد ويمين غير نافق في سوق المناظرة عند من له أدنى إلمام بالمعارف العلمية وأقل نصيب من إنصاف، فالحق أن أحاديث العمل بشاهد ويمين زيادة على ما دل عليه قوله تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ... } الآية وعلى ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم "شاهداك أو يمينه" غير منافية للأصل، فقبولها متحتم، وغاية ما يقال على فرض التعارض- وإن كان فرضا فاسدا- إن الآية والحديث المذكورين يدلان

_ 3 سنن الدارقطني ج3 ص214، نيل الأوطار ومنتقى الأخبار ج10 ص282 ط الطباعة الفنية.3 4 نيل الأوطار ج10 ص284، تبصرة الحكام ج1 ص268، إعلام الموقعين ج3 ص854

بمفهوم العدد على عدم قبول الشاهد واليمين والحكم بمجردهما، وهذا المفهوم المردود عند أكثر أهل الأصول لا يعارض المنطوق وهو ما ورد في العمل بشاهد ويمين1.

_ 1 نيل الأوطار ج 10 ص 284.

يمين القسامة

يمين القسامة: القسامة في اللغة تطلق على معنيين، بمعنى الحلف، يقال: أقسمت إذا حلفت، وبمعنى الحسن والجمال، يقال فلان قسيم الوجه، ورجل قسيم أي وسيم2. أما في اصطلاح الفقهاء، فقد عرفها ابن قدامة في المغني بقوله: "القسامة هي الأيمان المكررة في دعوى القتل" 3. ويقول ابن عرفة المالكي: "هي حلف خمسين يمينا أو جزأها على إثبات الدم"4. وعند فقهاء الحنفية القسامة هي "أيمان يقسم بها أهل محلة أو دار وجد فيها قتيل به أثر، يقول كل واحد منهم ما قتلته ولا علمت له قاتلا"5. يتضح من هذه التعريفات أن القسامة هي أيمان قدرها خمسون يمينا يحلفها إما أولياء القتيل يثبتون بها الدم على المدعى عليه كما هو مفهوم جمهور من يقول بها، أو يحلفها من وجد القتيل بين ظهرانيهم ينفون بها نسبة القتل إليهم وهو مفهوم الحنفية. وقد اختلفوا فما القسامة هل هي قسم من أقسام اليمين؟ أم هي طريق آخر من طرق الإثبات إذ قد يترتب على حلفها عند الجمهور إثبات الدم المترتب عليه القود أو الدية. وعلى كل فإن القسامة طريق لإثبات الدم يقوم على حلف اليمين. ويحتج جمهور الفقهاء القائلون بالقسامة بالأحاديث الصحيحة التي نصت على مشروعيتها ففي صحيح البخاري عن بشير بن يسار: "زعم أن رجلا من الأنصار يقال له سهل ابن أبي حثمة أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلا، وقالوا للذي وجد فيهم قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا ولا علمنا له قاتلا. فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلا. فقال: الكبر الكبر. فقال

_ 2 لسان العرب (فصل القاف من حرف الميم) . 3 المغني ج8 ص65.3 4 مواهب الجليل للحطاب ج6 ص2694 5 العنابة بهامش تكملة فتح القدير ج8 ص383.5

: لهم تأتون بالبينة. فقالوا: يا رسول الله مالنا بينة. قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة" 1. ورواية مسلم وأبي داود: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته. قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف. قال: "تبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم". قالوا: يا رسول الله قوم كفار، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله". قال سهل: "فدخلت مربدا لهم فركضتني ناقة من تلك الإبل برجلها" 2. وعند الترمذي "تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم قاتلكم ... " ثم ساق الحديث. وجه الدلالة من هذه الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع أيمان القسامة. وفي الروايتين الأخيرتين أجاز لأولياء القتيل أن يحلفوا خمسين يمينا على من اتهموه في بالقتل، ويستحقون بهذه الأيمان دم القاتل، وإلا حلف المتهمون خمسين يمينا لتبرئة أنفسهم من الاتهام الموجه إليهم. ويتضح أيضاً من هذه الأحاديث اعتماد المدعين على قرينة العداوة بين اليهود والأنصار مما دعاهم إلى توجيه تهمة القتل إليهم، لاسيما وقد وجد القتيل بينهم، وقد أجاز لهم النبي صلى الله عليه وسلم الحلف على ذلك. هذا ولم يخالف في الأخذ بالقسامة إلا ما روى عن سالم بن عبد الله وسليمان ابن يسار وقتادة وأبى قلابة وعمر بن عبد العزيز والبخاري، محتجين بأن القسامة تخالف أصول التشريع الإسلامي، إذ أن الأصل في الشريعة ألا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا أو شاهد حسا، فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتل. ويقولون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلطف بالأولياء ليريهم أنه كيف لا يلزم الحكم بها في الإسلام لأنها كانت من أحكام الجاهلية. ويحتجون أيضا بأن الأيمان لا تأثير لها في الدماء فلا تصلح لإشاطتها. وتخالف القول بأن البينة على المدعى واليمين على من أنكر3.

_ 1 صحيح البخاري (باب القسامة) ج4 ص 156. 1 2 صحيح مسلم مع شرح النووي ج11 ص148، وسنن أبي داود ج4 ص299.2 3 صحيح البخاري (باب القسامة) ج4 ص157، المبسوط للسرخسي ج26 ص109، بداية المجتهد ج2 ص428.3

علم القاضي

علم القاضي: وقد اختلف الفقهاء أيضاً في قضاء القاضي في حادثة بناء على علمه بحقيقتها فإن كان الحق المدعى به من حقوق الله الخالصة -كالحدود- فهذه اتفقوا على أنه لا يقضي فيها بعلمه، اللهم إلا ما روي عن ابن حزم الظاهري بجواز ذلك. أما إن كان من حقوق العباد -كالبيع والشراء- ففيها اختلاف بين الفقهاء. قال متقدمو الحنفية: "إنه لا يجوز للقاضي أن يقضي بناء على علمه الشخصي فيها"، وعن محمد بن الحسن "لا يقضي بشيء أصلا". وهو ما أفتى به المتأخرون منهم. جاء في البحر الرائق: "علم القاضي بشيء ينفذ القضاء في غير الحدود، وأما القصاص، فله القضاء بعلمه كما في الخلاصة، وتركه المصنف للاختلاف وظاهر ما في جامع الفصوليين أن الفتوى على أن القاضي لا يقضي بعلمه لفساد قضاة الزمان"1. وقول ابن حزم والمتقدمين من الحنفية هو أيضا رواية عن أحمد وقول للشافعي. أما المشهور عند المالكية والرواية الأخرى لأحمد والشافعي لا يجوز للقاضي الحكم بعلمه الشخصي في الدعوى. ويستند هذا القول الأخير- الذي يمنع القاضي من الحكم بناء على علمه - على أمرين:

_ 1 البحر الرائق ج 7 ص204 ط دار المعرفة بيروت، وانظر في الموضوع الأشباه والنظائر لابن نجيم ج 1 ص 338 المطبعة العامرة مصر، والطرق الحكمية ص 227 ونيل الأوطار ج 1 ص287.

الحكم بالفراسة والقرائن

الحكم بالفراسة والقرائن أولاً: الحكم بالفراسة الأصل في الفراسة ومعناها الفقهي ... نظام الإثبات في الفقه الإسلامي "دراسة مقارنة" للدكتور: عوض عبد الله أبو بكر أستاذ مساعد بكلية الشريعة -4- الحكم بالفراسة والقرائن أولاً: الحكم بالفراسة: من وسائل الإثبات المختلف فيها عند فقهاء الشريع الحكم بالفراسة، وهل تصلح دليلا يعتمد عليه القاضي في بناء أحكامه، أم لاتصلح دليلا لبناء الأحكام القضائية. وقبل أن نعرض آراء الفقهاء ينبغي معرفة المقصود من الفراسة. الفراسة لغة: الفراسة بالكسر من التفرس. يقال: تفرس الشيء إذا توسمه، وتفرست فيه خيرا، توسمته، وهو يتفرس يتثبت وينظر، فالتفرس والتوسم معناهما واحد أي يفسر أحدهما بالآخر1. الأصل في الفراسة ومعناها الفقهي: الأصل في الفراسة قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} (الحجر:75) ، فذكر أهل التفسير أن المتوسمين يعني المتفرسين وذلك اعتمادا على ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم. فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله. ثم تلا الآية"2. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم" 3

_ 1 - تاج العروس "فصل الفاء من باب السين" 2 - نوادر الأصول في معرفة أخبار الرسول للحكيم الترمذي ص271.ط. العثمانية. 3 - مجمع الزوائد للهيثمي: 1/268

يقول الألوسي: "قال الجلال السيوطي: هذه الآية أصل في الفراسة"1. معنى هذا أن الفراسة قد ورد اعتبارها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأنها سمة من سمات المؤمنين، إذ أن الأحاديث مادحة للمتفرسين, وأن الفراسة مدرك من مدارك المعاني؛ لأن المؤمن المتفرس ينظر بنور الله، فالله عز وجل هو الذي يريه ويفيض عليه. فإذا ثبت هذا فلينظر كيف سارت تفسيرات العلماء للفراسة: يقول ابن العربي المالكي في تفسير الآية السابقة: "التوسم: هو تفعّل من الوسم وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها, وهي الفراسة وحقيقتها: الاستدلال بالخَلقْ على الخُلق، وذلك بجودة القريحة، ووحدة الخاطر، وصفاء الفكر"2. ويقول القرطبي: "هي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها ... " وقال ثعلب3: "النظر من القرن إلى القدم, واستقصاء وجوه التعريف, وذلك يكون بجودة القريحة، وحدة الخاطر، وصفاء الفكر، وزاد غيره: وتفريغ القلب من حشو الدنيا وتطهيره من أدناس المعاصي، وكدورة الأخلاق وفضول الدنيا"4. ويفسرها الحكيم الترمذي بقوله: "والتفرس أن يركض بقلبه فارساً بنور الله إلى أمر لم يكن فيدركه… وإذا امتلأ القلب من نور الله تعالى نظرت عينا قلبه بنوره فأدرك في صدره مالا يحاط به وصفا"5. ويفسرها ابن الأثير بقوله: "الفراسة بمعنيين: أحدهما: ما دل عليه ظاهر الحديث، وهو ما يوقعه الله في قلوب أوليائه، فيعلمون أحوال الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس. والثاني: يعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق"6. نلاحظ أن هذه التفسيرات مترددة بين اتجاهين: الأول: إن الفراسة علامة يستدل بها على مطلوب غيرها- وأصحاب هذا التفسير يوافقون المعنى اللغوي، ويقولون: إن العلامات لما كانت متفاوتة منها ما يظهر من أول وهلة

_ 1 تفسير روح المعاني لشهاب الدين الألوسي. ط. دار إحياء الكتب العربية وانظر تفسير ابن كثير. ط. المنار. 2 أحكام القرآن ج 3 ص 1119. 3 هو أحمد بن يحي بن زيد الشيباني المعروف بثعلب إمام الكوفيين في النحو واللغة كان راوية للشعر ومحدثا مشهورا ومن كتبه "معاني القرآن " و"مجالس ثعلب "، "وما تلحن فيه العامة" توفي سنة 291 هـ. 4 تفسير القرطبي ج10 ص 44. 5 نوادر الأصول ص 271. 6 النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ج3 ص 191. ص191. ط. العثمانية.

ولكل فرد من الناس، ومنها ما كان خفيا لا يدرك بباديء النظر، كان الخفيّ منها لا يعرفه إلا ذوو التجربة وصفاء الفكر، والفراسة في جميع هذه الأحوال استدلال بالعلامة لا مدخل للإلهام فيها، بل إن أصحاب هذا القول استنكروا على الصوفية وغيرهم ممن يرون أن الفراسة نوع من الإلهام والكرامة. وقد تمثل هذا الاتجاه في قول ابن العربي وبه أخذ القرطبي وثعلب، وهو المعنى الثاني عند ابن الأثير. الثاني: إنّ الفراسة خاطر إلهامي يوقعه الله سبحانه وتعالى في قلوب الصالحين من عباده، فيعرفون به أحوال الناس، ويطّلعون على مالا يطّلع عليه العامة، وقد يدركون به أمراً لم يكن بعد. وهذا يتمثل في تفسير الحكيم الترمذي, والمعنى الأول عند ابن الأثير وإليه أشار القرطبي بقوله: "إنها تكون لمن صفى قلبه من كدورات الأخلاق وتفريغ القلب من حشو الدنيا ... " الخ. سواء كانت الفراسة استدلالاً بالعلامة أو خاطراً إلهامياً، فإن المتفق عليه في هذه التفسيرات هو أنّ سبيل الإدراك بالفراسة مستتر، وطريق المعرفة بها طريق خفي، وخطوات الاستنتاج فيها غير ظاهرة إلا لمن صفى فكره وكان حادّ الذكاء، أو كان من المؤمنين الصادقين الذين مدحتهم الآية والأحاديث وذكرت أنهم ينظرون بنور الله فتكون فراستهم صادقة ويطرد صوابها. وجدير في هذا المقام، وحتى يتبيّن لنا معنى الفراسة، أن نذكر جانباً من الآثار التي أوردها الفقهاء تمثيلا للفراسة. أولا: ما روي من فراسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أـ أنه قال: "يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى" ونزلت الآية {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} . (البقرة: 125) . ب ـ أنه قال: "يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن. فنزلت آية الحجاب". ج ـ أنه قال حين اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة: " {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُن} . فنزلت كذلك". (التحريم: 5) 1.

_ 1 صحيح مسلم مع شرح النووي ج هـ اص 166, وفيه جاء قال عمر: "وافقت ربي في ثلاث مقام إبراهيم وفى=

هـ ـ أنه دخل عليه قوم فيهم الأشتر فصعّد فيه النظر وصوّبه، وقال: "أيهم هذا؟ " قالوا: "مالك بن الحارث"، فقال: "ماله قاتله الله إني لأرى للمسلمين منه يوما عصيبا"، فكان منه في الفتنة ما كان1. ثانيا: ما روي عن ذي النورين عثمان رضي الله عنه: أـ أنه دخل عليه بعض الصحابة، وكان قد مرّ بالسوق فنظر إلى امرأة, فلما نظر إليه عثمان قال: "يدخل أحدكم عليّ وفي عينيه أثر الزنا". فقال له: أَوَحْياً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ , قال عثمان: "لا ولكن فراسة صادق"2. ب ـ أنه لما تفرّس أنه مقتول ولابد، أمسك عن القتال والدفع عن نفسه لئلا يجري بين المسلمين قتال وآخر الأمر يقتل هو، فأَحبَّ أن يُقتل دون أن يقع قتال بين المسلمين3. ثالثا: ما روي من فراسة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الحسين بن علي رضي الله عنهما لمّا ودَّعه قال: "أستودعك الله من قتيل"، ومع الحسين رضي الله عنه كتب أهل العراق تناشده الحضور لنصرته، فكانت فراسة ابن عمر أصدق من كتبهم4. رابعا: ما روي من فراسة الشعبي- رحمه الله أنه قال لداود الأزدي - وهو يماريه-: "إنك لا تموت حتى تكوى في رأسك", فكان كذلك5. والأمثلة من هذا القبيل كثيرة تجل عن الحصر، ولكن الذي يبدو كما ذكرت هو خفاء طريق الاستنتاج، وأن المتفرس يدرك الأمر بأسلوب مستتر، فقد يكون استنتاجه هذا مبنياً على علامات خفية تفرسها، وقد يكون مبنيا على خواطر إلهامية قذفها الله في قلبه ونطق بها لسانه.

_ - الحجاب وفي أسارى بدر. وفى رواية أخرى عند مسلم قال عليه السلام: "إنه كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم "ج 15 ص 166. و (محدثون) : أي ملهمون, جاء في تحفة الأحوذي ج 4 ص 317: "قال الأكثر: إنه ملهم, وقيل: تكلمه الملائكة من غير نبوة- وورد في حديث أبي سعيد مرفوعا: "قيل يا رسول الله وكيف يحدث؟، قال: "تتكلم الملائكة على لسانه " وقد رويناه في فوائد الجوهري وحكاه القاسي ". اهـ.1نوادر الأصول للحكيم الترمذي ص271. 2 الطرق الحكمية لابن القيم ص 36. تبصرة الحكام لابن فرحون ج 2 ص103. 2 الطرق الحكمية ص 36. 3 المرجع السابق. 4 تفسير الفخر الرازي ج 5 ص 496.

القضاء بالفراسة في آراء الفقهاء

القضاء بالفراسة في آراء الفقهاء: لما كان الاستدلال بالفراسة لا يقوم على أسس واضحة ظاهرة حيث أنّ خطوات الاستنتاج فيها خفية غير معروفة لغير المتفرِّس فقد منع جمهور الفقهاء بناء الأحكام القضائية على الفراسة، وقالوا: إنها لا تصلح مستنداً للقاضي في فصل الدعوى، إذ أن القاضي لابد له من حجة ظاهرة يبني عليها حكمه. يقول الشيخ الدردير المالكي فيما يتصف به القاضي: "فالمطلوب الدهاء ويندب ألا يكون زائدا فيه عن عادة الناس، خشية أن يحمله ذلك على الحكم بين الناس بالفراسة وترك قانون الشريعة من طلب البيّنة وتجريحها، وتعديلها، وطلب اليمين ممن وجهت إليه وغير ذلك"1. ويقول ابن العربي المالكي: "إذا ثبت أن التوهّم والتفرّس من مدارك المعاني، ومعالم المؤمنين، فإن ذلك لا يترتب عليه حكم، ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس، فإن مدارك الأحكام معلومة شرعاً، مدركة قطعاً، وليست الفراسة منها"2. وجاء في تبصرة الحكّام لابن فرحون قوله: "والحكم بالفراسة مثل الحكم بالظن والحرز والتخمين، وذلك فسق وجور من الحكم، والظن يخطئ ويصيب"3، ثم بيّن الشاطبي في كتابه الموافقات: أن الفراسة لا تصلح مستنداً للقاضي في حكمه لأن الاعتبارات الغيبية لا دخل لها في بناء الأحكام القضائية، فالرسول صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم المتفرِّسين - لم يعتبرها دليلا يعتمد عليه فقال: "إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها". فقيّد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك"4. كما أن صاحب (معين الحكام) الحنفي قد ذكر من القول في منع الحكم بالفراسة مثل ما قدمناه عن صاحب تبصرة الحكام، وأن الحكم بها حكم بالظن والتخمين5.

_ 1 الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي 4/136. 2 أحكام القران 3/1119. 3 تبصرة الحكام 2/ 104. 4 انظر الموافقات للشاطبي 2/ 185 والحديث رواه البخاري عن أم سلمة- رضي الله عنها- صحيح البخاري كتاب الشهادات باب "من أقام البينة بعد اليمين". 5 معين الحكام للطرابلسي ص 204. ط. الأميرية.

رأي ابن القيم: خالف ابن القيم جمهور الفقهاء وذهب إلى القول بجواز الحكم بالفراسة وقال إنها مدرك صحيح للأحكام، واستخراج الحقوق وفصل الدعاوى، ومن قوله في ذلك: "ولم يزل حذّاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لم يقدّموا عليها شهادة ولا إقراراً"1. وهو في ذلك يرى أنّ الفراسة من القرائن، ويفسِّرها بالعلامة، ويظهر ذلك من فحوى اعتراضه على تفرقة أبي الوفاء بن عقيل- أحد فقهاء الحنابلة - بين الفراسة والأمارات. قال: "وسئل أبو الوفاء بن عقيل عن هذه المسألة - أي مسألة الحكم بالقرينة والأمارات - فقال: "إن الحكم بالقرينة ليس من باب الحكم بالفراسة التي تختفي فيها خطوات الاستنتاج". فاعترض ابن القيم قائلا: "وقول أبي الوفاء بن عقيل ليس هذا فراسة فيقال: لا محذور في تسميته فراسة، فهي فراسة صادقة، وقد مدح الله الفراسة وأهلها في مواضع كثيرة من كتابه فقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} وهم المتفرسون الآخذون بالسّيما وهي العلامة2. ومن هنا يتضح لنا أن ابن القيم لا يفرّق بين الاستدلال بالعلامات كانت هذه العلامات خفية لا تدرك إلا للمتفرسين، أم كانت ظاهرة تدرك لكل أحد، ومع أنه قد ذكر جانباً من الأمثلة التي تقدّمت عن الفراسة التي يختفي فيها طريق الاستدلال بالعلامة ويتضح فيها جانب الإلهام كتلك التي قدمناها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، إلا أنه يرى أن كل ذلك استدلالا بالعلامة ويجوز بناء الأحكام القضائية عليه. وزيادة على ذلك فقد استدل ابن القيم على القضاء بالفراسة بما كان يفعله إياس بن معاوية وشريح، إذ اشتهر عنهما ذلك، وذاع ذكاؤهما وحسن فراستهما, وقد أورد ابن القيم في الطرق الحكمية آثارا كثيرة عنهما تنم عن ذكاء وصفاء فكر وحدّة فراسة تميّزا بها في إرجاع الحقوق إلى أهلها. تعقيب. ومن رأينا أن الفراسة لا تصلح مستندا لحكم القاضي وفصل الدعاوى وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء خلافا لابن القيم، وذلك للأسباب التالية:

_ 1 الطرق الحكمية ص 28.

الأول: أنه لم يرد في الشرع الحكيم ما يدل على اعتبارها والأخذ بها في القضاء، ومع أن الله عز وجل قد مدح المتفرّسين، وأنه تعالى هو الذي يفيض عليهم ويهديهم هذه المعارف التي لا يدركها غيرهم، إلا أن مدارك الأحكام القضائية معلومة شرعا، وقد وضّحها النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم خير المتفرسين وأفضلهم وأعرف الناس بالناس. قال: "إنكم تختصمون إليّ.." الحديث, فلم يجعل للاعتبارات الخفية مدخلا، ولم يترك لوسائل الاستنباط غير المنضبطة والمستترة مجالا. ثانيا: لما كانت الفراسة غير مدركة بالعين الحسية، فقد يكون الاحتجاج بها مدخلا لذوي النفوس المريضة والأغراض والدعاوى الباطلة، فيحكمون بما يوافق أهواءهم وأطماعهم مما يؤدي إلى اختلاف الأحكام وفساد القضاء. ثالثا: إذا كنا قد وافقنا الفقهاء القائلين بعدم السماح للقاضي القضاء بعلمه لكون طريق الإثبات غير معروف لغير القاضي، فمن باب أولى ألا نوافق في القضاء بالفراسة لنفس السبب. وإن كان فساد الزمان من أسباب منع القاضي أن يقضي بعلمه فهو أيضا سبب كاف لمنع الحكم بالفراسة1. رابعا: قول ابن القيم -رحمه الله- "إن الفراسة من الاستدلال بالعلامة" محل نظر لوجود حالات كثيرة للفراسة يختفي فيها الاستدلال بالعلامة، وفيما قدّمنا من أمثلة دليل صادق على صحة قولنا. أما الفراسة التي يكون الاستدلال فيها مبنيا على العلامة الظاهرة فحكمها ملحق بحكم العمل بالقرائن والعلامات. وهو ما سيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى. أما فعل إياس بن معاوية وشريح، فقد رجعت إلى كثير من القضايا المأثورة عنهما ووجدت استدلالهم بالعلامة الظاهرة واضحا، غير أنه يظهر جليا ذكاؤهما وفراستهما في الوصول إلى هذه العلامة. ثم إن القضاة ليسوا كإياس وشريح حتى يسيروا سيرهما. كما أنّ جمهور الفقهاء لا يتفق معهم على الأخذ بمنهجهما في القضاء. وعلى هذا أرى أن الفراسة لا تصلح أن تكون طريقاً من طرق الإثبات في الفقه الإسلامي.

_ 1 يراجع مقالنا في العدد (60) من هذه المجلة.

ثانيا: الحكم بالقرائن

ثانياً: الحكم بالقرائن معنى القرينة لغة واصطلاحا ... ثانيا: الحكم بالقرائن: معنى القرينة لغة: القرينة، جمعها قرائن، قارن الشيء يقارنه مقارنة وقرانا: اقترن به وصاحبه, وقارنته قرانا: صاحبته، وقرينة الرجل: امرأته، وسميت الزوجة قرينة لمقارنة الرجل إياها. وقرينة الكلام ما يصاحبه ويدل على المراد به. والقرين المصاحب, والشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه, وفي الحديث: "ما من أحد إلا وكّل به قرينه" 1 أي مصاحبه من الملائكة والشياَطين2. معنى القرينة اصطلاحا: لم أعثر فيما اطلعت عليه من كتب الفقه القديمة على تعريف للقرينة إلا ما ورد في كتاب "التعريفات" للجرجاني حيث يقول: "القرينة: أمر يشير إلى المطلوب"3. وما نقله العلامة ابن نجيم المصري الحنفي عن ابن الغرس من قوله: "من جملة طرق القضاء القرائن الدالة على ما يطلب الحكم به دلالة واضحة بحيث تصيره في حيز المقطوع به"4. وأيضا ما جاء في مجلة الأحكام العدلية من أن: "القرينة القاطعة هي الأمارة البالغة حدّ اليقين"5. هذه التعريفات وان اختلفت كلماتها إلا أنها تتفق على أن القرينة أمر أو أمارة أي علامة تدل على أمر آخر وهو المراد، بمعنى أنّ هناك واقعة مجهولة يراد معرفتها فتقوم هذه العلامة أو مجموعة العلامات بالدلالة عليها، وهي لا تختلف عن المعنى اللغوي لأن هذه العلامات تصاحب الأمر المجهول فتدل عليه، أي تدل عليه لمصاحبتها له. والقرينة في مجال الإثبات هي العلامات التي تدل على الواقعة المجهولة التي يراد إثباتها عند انعدام أدلة الإثبات الأخرى الأقوى من إقرار أو بينة. مثال ذلك: أن يرى شخص الله عليه وسلم يحمل سكينا ملطخة بالدماء وهو خارج من خربة خائفا يرتجف، فيدخل شخص أو أشخاص الخربة على الفور فيجدون آخر مذبوحا لتوه مضرجا بدمائه وليس في الخربة غيره. فالواقعة المراد إثباتها هي شخصية القاتل والعلامات التي تدل عليها هي خروج ذلك الرجل وبتلك الهيئة التي تحمل على الاعتقاد أنه القاتل، وذلك

_ 1 الحديث رواه مسلم انظره مع شرح النووي 17/ 156 وتمامه "قالوا: يا رسول الله وإياك؟ قال: وإيايّ إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير". 2 لسان العرب (حرف النون فصل القاف) , تاج العروس (فصل القاف في باب النون) , الصحاح (مادة قرن) . 3 التعريفات للجرجاني ص 152. 4 البحر الرائق 7/ 152. 5 مجلة الأحكام العدلية المادة (1741) .

عند عدم اعترافه أو قيام البيّنة على القاتل. فالاعتراف والبينة دليلان يتناولان الواقعة المجهولة مباشرة، أما العلامات فإنها تدل عليها دلالة أي يؤخذ منه بالدلالة والاستنتاج حكم الواقعة المجهولة.

الفرق بين القرينة والفراسة

الفرق بين القرينة والفراسة: بناء على ما قدمنا من تعريف للقرينة، وبناء على ما قدمنا من قول في الفراسة فيمكن تلخيص الفرق بين القرينة والفراسة في النقاط التالية: أولا: أن القرينة علامة ظاهرة مشاهدة بالعيان، كمن يرى رجلا مكشوف الرأس وليس ذلك من عادته يعدو وراء آخر هارباً وبيد الهارب عمامة وعلى رأسه عمامة، فهذه قرينة مشاهدة بالعين الحسية ودلالتها كما يقول العلماء واضحة على أن العمامة للرجل مكشوف الرأس، ولا يقال عمن يرى هذه العلامة ويستنتج هذا الحكم إنه متفرس. ثانيا: أن رؤية القرينة لا تتطلب مواصفات معينة في الرائي، كصدق الإيمان وصفاء الفكر وحّدة الذكاء، وذلك لأن خطوات الاستنتاج فيها ظاهرة واضحة، حتى أن الدقيق منها كتلك التي تقوم على التجارب العلمية لها أسسها وضوابطها وقانونها الذي يسهل الاطلاع عليه ومعرفته، أما الفراسة فهي تتطلب مواصفات معينة في المتفرّس، صدق إيمان أو حّدة ذكاء وصفاء فكر، وذلك لأن خطوات الاستنتاج فيها مستترة خفية. ثالثا: إنه يمكن أن تقام البيّنة على وقوع القرينة ويتأكد القاضي من ثبوتها ففي المثال المتقدّم قد يشهد اثنان أو أكثر على رؤية الواقعة، أما الفراسة فلا يتوفر فيها ذلك، فلا يستطيع أحد الشهادة عليها وإن صحّ وقوعها على قلب اثنين أو أكثر فتلك حالة نادرة. رابعا: القرينة قد تصلح دليلاً لبناء الأحكام القضائية ومستنداً للقاضي في فصل النزاع كما سنبين ذلك. أما الفراسة فلا يصح الحكم بها على قول جمهور الفقهاء خلافاً لابن القيم. القرينة والعرف: وقبل أن نبيِّن آراء الفقهاء في القضاء بالقرينة نشير إلى ما لاحظناه من ارتباط وثيق بين القرينة والعرف. والعرف: هو ما تعارف عليه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك, بحيث لا يخالف دليلا شرعيا أو يحلّ حراما أو يبطل واجبا، والعرف بهذا المفهوم قد راعته الشريعة طالما أن

الناس تعارفوا عليه واتفق مع حاجاتهم ومصالحهم، فقد راعى الشارع الحكيم عرف العرب ففرض الدية على العاقلة واعتبر العصبية في الإرث ولهذا يقول الحنفية: "المعروف عُرفاً كالمشروط شرطاً" و"الثابت بالعرف كالثابت بالنص", وقد غيّر الإمام الشافعي- رحمه الله - بعض أحكام مذهبه بعد أن ذهب إلى مصر لاختلاف أعرافهم عن أعراف أهل العراق1. ويظهر ارتباط القرينة بالعرف في صور يشكل فيها العرف قرائن تجب مراعاتها وملاحظتها، مثال ذلك: لقد تعارف الناس على البيع بالتعاطي وهو التبادل بين المتعاوضين من غير لفظ، فهذا عرف وهو في نفس الوقت قرينة دالة على رضا الطرفين بالبيع، وقد استجاب الفقهاء لمتطلبات العرف وتحرّروا بموجب هذه القرينة عن التقيُّد بشكلية اللفظ. ومن أظهر الصور التي جعلوا فيها العرف قرينة تجب مراعاتها في فهم الدعوى مسألة تنازع الزوجين في متاع البيت, وفى هذا يقول القرافي المالكي: "إنّ الإشهاد بين الزوجين يتعذر لأنهما لو اعتمدا ذلك، وأن من كان له شيء أشهد عليه أدى إلى المنافرة وعدم الوداد بينهما، وربما أفضى إلى الطلاق والقطيعة, فهما معذوران في عدم الإشهاد وملجآن إليه، وإذا الجاَ لعدم إشهاد فلو لم يقض بينهما بالعادة لانسد الباب بينهما"2. ومن ذلك أيضا قولهم: إن الزوجين إذا اختلفا في قدر المعجل والمؤجل في المهر ولا بينة لأحدهما فالقول لمن شهد له العرف3. يستفاد من هذا أن العرف قد يكون قرينة تدل على ما يطلب معرفته فلذلك كان لابد من ملاحظته ومعرفته عند نظر الدعوى, لأجل هذا فقد نبّه الفقهاء على القاضي بالتعرف على أحوال الناس وعاداتهم وما تواضعوا عليه لأنه بذلك تتبين له الدعوى ويعرف المحق من المبطل. ومن يرجع إلى ابن القيم في كتابيه الطرق الحكمية وأعلام الموقعين، وابن فرحون في تبصرته، والطرابلسي في كتابه معين الأحكام، لوجد ما فيه الكفاية من حث القاضي على معرفة العرف. ثم إن الفقيه الحنفي ابن عابدين قد ألف رسالة في هذا الشأن أسماها "نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العُرف"4

_ 1 الأشباه والنظائر لابن القيم وشرح الجموي على الأشباه 1/ 126, وانظر علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع الإسلامي للمرحوم عبد الوهاب حلاف ص 97. 2 1لفروق 3/ 149. 3 الاختيار لتعليل المختار 2/177. 4 رسائل ابن عابدين 2/128.

ومع هذا التداخل بين القرينة والعرف يجب ألا يغيب عن نظرنا التفرقة بينهما، فالقرينة كما قدمنا هي العلامات التي يستنتج منها الواقعة المجهولة التي يراد إثباتها أو الحكم فيها، فقد تكون هذه العلامات مستفادة من أعراف الناس وما تواطأوا عليه، وقد تكون من غير ذلك. بمعنى آخر إن للقاضي أن يبني حكمه بناء على قرينة تعارف الناس على كذا، وقد يبنيه على علامات أخرى في الدعوى ليست مستفادة من العرف والعادة. ومن ثم فإن دائرة القرينة في مجال الإثبات أوسع لأنها تضم العرف وغيره.

القضاء بالقرينة

القضاء بالقرينة: لم تحظ القرينة بالاتفاق على صلاحيتها كدليل لبناء الأحكام القضائية إلا أنه بالرغم مما يبدو لنا من خلاف حول تحكيم القرائن في فصل النزاع القضائي، فإن جميع المذاهب لا تخلو من إعمال القرائن في بعض المسائل حتى ولو كان ذلك تحت ستار العرف والعادة. ولكن هذا التحكيم للقرائن يختلف من مذهب لآخر، فيتسع مداه لدى فقهاء المالكية ومتأخري الحنابلة ويتوسط لدى الحنفية ويضيق عند فقهاء الشافعية والظاهرية. وقبل أن نعرض أمثلة توضح أخذ المذاهب المختلفة بالقرائن نطرح أولا أدلة الفريقين، القائلين بتحكيم القرائن والمانعين لها. أدلة القائلين بالقرينة: أولا: القرآن الكريم: لعل من نافلة القول أن نذكر أنه ليس في القرآن الكريم نص قطعي الدلالة على اعتبار القرينة في الأحكام أو عدم اعتبارها, ولكن القائلين بالقرينة قد استنبطوا اعتبارها بدلالة ظنية لبعض النصوص في القرآن الكريم ورأوا جواز الأخذ بها. والآيات التي استنبط منها الفقهاء جواز الأخذ بالقرينة في الأحكام هي: (1) قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} . (يوسف: (18) . (2) قوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ, قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم} . (يوسف: 26- 28) .

ومحل الاستدلال الوارد في هذه الآيات ما ذكره المفسرون من أنّ يعقوب -عليه السلام- استدل بقرينة سلامة القميص من التمزيق عَلى كذب دعوى إخوة يوسف- عليه السلام - بأن الذئب قد أكله, وكذلك استدل الشاهد بقرينة قدّ القميص من دبر على كذب امرأة العزيز وبراءة يوسف- عليه السلام-. ونرى الآن منهجهم في استنباط حكم القرينة من هذه الآيات. الشاهد الأول: يقول ابن العربي المالكي عن قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ ... } الآية: "فيها ثلاث مسائل- نذكر منها: المسألة الأولى: إنما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم فروي في الإسرائيليات أن الله تعالى قرن بهذه العلامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التلبيب. والعلامات إذا تعارضت تعيَّن الترجيح، فيقضى بجانب الرجحان وهي قوة التهمة لوجوه تضمنها القرآن، منها طلبهم إياه شفقة ولم يكن من فعلهم ما يناسبها فيشهد بصدقها بل كان سبق ضدها وهي تبرمهم، ومنها أن الدم يحتمل أن يكون في القميص موضوعاً، ولا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من تخريق، وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات (العلامات) وتعارضها. المسألة الثانية: القضاء بالتهمة إذا ظهرت كما قال يعقوب: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ولا خلاف في الحكم بالتهمة, وإنما اختلف الناس في تأثير أعيان التهم"1. ومن ذلك أيضا قول القرطبي في تفسيره "استدل فقهاؤنا بهذه القرينة على إعمال الأمارات في مسائل الفقه كالقسامة وغيرها وأجمعوا على أنّ يعقوب -عليه السلام- استدل على كذبهم بصحة القميص, وهكذا يجب عَلى الناظر أن يلحظ الأمارات والعلاقات إذا تعارضت, فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهى قوة التهمة ولا خلاف في الحكم بها"2.

_ 1 أحكام القرآن 3/ 1065. 2 تفسير القرطبي 9/ 150.

الشاهد الثاني: إنه لما نشب النزل بين يوسف -عليه السلام- وامرأة العزيز التي قذفته بما قذفته من إرادة الفاحشة، قال يوسف -عليه السلام- مكذبا لها، ودفعا لما نسب إليه، {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} فعند ذلك جاء دور الشاهد الذي وصفه القرآن الكريم بأنه من أهلها والذي فصل الخطاب بما ذكره من القرائن التي بان بها الحق وانفض بها النزاع. والقرائن التي ذكرها الشاهد هي أنه إذا كان قميص يوسف قدّ من القبل فالمرأة صادقة في دعواها بأنه هو الذي أرادها، أما إذا كان قدّ من دبر فهي كاذبة ويوسف بريء من التهمة. والحاصل أن القميص قدّ من دبر, وهذا دليل إدباره عنها وهو دليل براءته1. وقد يعترض على العلامة المذكورة إذ أنها لا تدل قطعا على براءة يوسف - عليه السلام - لاحتمال أن الرجل قصد المرأة بطلب الفاحشة فغضبت عليه المرأة فعدت خلفه لتضربه، فعلى هذا الوجه قد يتمزّق القميص من دبر، والمرأة بريئة من الذنب. وأجيب على هذا الاعتراض بأن القرائن كانت كثيرة وكفيلة بصرف هذه التهمة عنه، أما القرينة المذكورة في الآية إنما جاءت دليلا مرجحا ومقويا لتلك القرائن، ومن هذه القرائن التي ذكرها المفسرون أن يوسف - عليه السلام- كان عبدا في ظاهر الأمر والعبد لا يمكن أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد، كما أنهم رأوا أن المرأة زيّنت نفسها على أكمل الوجوه، ولم يكن على يوسف -عليه السلام- آثاراً للتزين. ثم إنّ أحوال يوسف -عليه السلام- في المدة الطويلة تدل على براءته إذ لم يروا منه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر وذلك مما يقوى الظن. وقيل: إن زوج المرأة كان عاجزا وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة2. فلما حصلت هذه الأمارات الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كانت من المرأة استحى الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف هو الصادق والمرأة كاذبة، أظهر الله ليوسف دليلا يقوي تلك الدلائل فجاءت تلك القرينة على لسان الشاهد. كما اعترض على هذه القرينة من ناحية الشاهد المذكور، فقد اختلفوا فيه فقيل: "إنه كان ابن عم المرأة وكان حكيما يستشره الملك"، وقيل: "إنه طفل تكلّم في المهد". فقالوا: إن كان

_ 1 أحكام القرآن3/1073, تفسير الطبري 12/ 116، تفسير الرازي 5/ 179. 2 تفسير الرازي 5/ 179، تفسير الخازن 3/16.

الشاهد طفلا تكلم في المهد لا يكون في الآية دليل على إعمال الأمارات إذ أن الدليل هو كلام الصبي في مهده. وقد دفع هذا الاعتراض بأنه يستبعد أن يكون الشاهد صبيا بل كان رجلا حكيما وهو الذي يناسب سياق الآية، فلو أنطق الله الطفل لكان كافيا قوله: "إنها كاذبة" ولما احتاج إلى نصب العلامة، ثم قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} ليكون أولى بالقبول في حق المرأة ولو كان صبيا لا يتفاوت الحال كونه من أهلها أو من غير أهلها. كما أن لفظ الشاهد لا يقع في العرف إلا لمن تقدمت معرفته بالواقعة وإحاطة بها1. وقيل: إنه لا تعارض بين كونه صبيا تكلم في المهد وبين الأمارة المنصوبة، فقد يتكلم الصبي, ومع ذلك ينبههم إلى الدليل الذي غفلوا عنه وهي أمارة القميص2 وهناك اعتراض ثالث هو أن هذه الآية تبيِّن شرع السابقين وشرع من قبلنا لا يلزمنا. وقد أجيب على هذا الاعتراض بالأدلة التي يحتج بها مثبتو العمل بشرع من قبلنا إذا لم يرد دليل على نسخه عنا. ثانيا: السنة الشريفة وعمل الصحابة رضوان الله عليهم: كذلك احتجّ القائلون بالقرينة في الأحكام بآثار كثيرة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ومن هذه الآثار: (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: "إنما ذهب بابنك ", وقالت الأخرى: "إنما ذهب بابنك", فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان ابن داود عليهما السلام فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقّه بينكما", فقالت الصغرى: "لا تفعل يرحمك الله هو ابنها ", فقضى به للصغرى"3. فاستدل بقرينة رضا الكبرى أن يشقّه نصفين وعدم شفقتها عليه أنه ليس ابنها، بينما أشفقت الصغرى وامتنعت عن الدعوى حتى لا يذهب الطفل, فهذا يدل على أنه ابنها إذ أن الله أودع في قلوب الأمهات الشفقة على أبنائهن.

_ 1 روح المعاني 12/ 222, أحكام القرآن لابن العربي 3/ 1071، والكشاف بهامشه الانتصاف 2/93. 2 أحكام القرآن لابن العربي3/1073، تبصرة الحكام لابن فرحون2 /93. 3 صحيح البخاري 4/ 104 "كتاب الفرائض ".

(2) ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "أردت السفر إلى خيبر، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جئت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً فإذا طلب منك آية فضع يدك على ترقوته"1. فأقام العلامة مقام الشهادة. (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الأيّم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن"، قالوا: "يا رسول الله وكيف إذنها؟ " قال: "إذنها صماتها". أو قال: "أن تسكت"2. فجعل عليه الصلاة والسلام صماتها قرينة على الرضا. (4) أنه صلى الله عليه وسلم حينما صالح يهود خيبر كان لحي بن أخطب مال كثير فأخفوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم عنه؟ فقال ابن أبي الحقيق عم حيّ ابن أخطب: "أذهبته الحروب والنفقات"، فقال صلى الله عليه وسلم: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك", ثم دفعه إلى الزبير فضربه حتى أقر بمكان المال3. فيظهر اعتماده صلى الله عليه وسلم على الأمارات وشواهد الحال قرب العهد وكثرة المال. (5) عن زيد بن خالد الجهني أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: "عرِّفها سنة ثم اعرف وكاءها ووعاءها وعفاصها ثم استنفع بها فإن جاء ربها فأدها إليه"4. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الملتقط أن يدفع اللقطة إلى صاحبها بمجرد الوصف لأن وصفه لها بما يطابق الواقع قرينة على ملكيته. (6) أن ابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مسحتما سيفيكما؟ " قالا: "لا". قال: "فأرِياني سيْفيكُمَا", فلما نظر فيهما قال لأحدهما: "هذا قتله وقضى له بسلبه" 5. (7) أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالقافة وجعلها من أدلة ثبوت النسب وليس فيئها إلا مجرد العلامات والأمارات6.

_ 1 سنن أبى داود 3/ 351. 2 صحيح البخاري كتاب "النكاح " 3/207. 3 السيرة النبوية لابن هشام 3/337. قال في فتح الباري: "أخرجه البيهقي بإسناد رجاله ثقات ". انظر فتح الباري 7/ 386. 4 رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح" سنن الترمذي6/173. ط. الصاوي- مصر. 5 صحيح مسلم بشرح النووي 12/62. 6 القافة جمع قائف كبائع وباعة وهو من يعرف النسب بالشبه. وفى الصحيحين أن مجززا المدلجي رأى أسامة-

(8) حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجم المرأة التي ظهر حملها ولا زوج لها ولا سيد. كما ورد في المتفق عليه قوله في شأن الرجم: "وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف"1. (9) كذلك ما ورد في الموطأ وكذلك عن مسلم عن عمر وعثمان وابن مسعود -رضوان الله عليهم - بحد من وجدت منه رائحة الخمر2. هذا نزر قليل من الأدلة الكثيرة التي أوردها مثبتو العمل بالقرائن في القضاء راعيت في اختياره قوة الثبوت ووضوح الدلالة، ولنقف الآن قليلا مع أدلة المانعين لإعمال القرائن في بناء الأحكام القضائية. أدلة المانعين: تتركز حجة هؤلاء في خطورة الأخذ بالقرائن لما يحوطها من الاحتمالات من شأنها أن تؤدي إلى القصاص من متهم بريء، أو إنزال العقوبة على شخص لا يستحق العقاب. ومن الآثار الواردة في هذا المعنى: (1) ما روي أنه أتي برجل وجد في خربة بيده سكين ملطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه، فسأله علي رضي الله عنه فقال: "أنا قتلته", قال علي: "اذهبوا به فاقتلوه"، فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرعاً، فقال: "يا قوم لا تعجلوا ردّوه إلى علي"، فردوه، فقال الرجل: "يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه أنا قتلته" فقال علي للأول: "ما حملك على أن قلت: أنا قتلته ولم تقتله؟ " قال: "يا أمير المؤمنين وما أستطيع أن أصنع وقد وقف العسس على الرجل يتشحَّط في دمه وأنا واقف وفي يدي سكين وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خربة، فخفت ألا يقبل مني وأن يكون قسامة فاعترفت بما لم أصنع واحتسبت نفسي عند الله", فقال علي: "بئسما صنعت فكيف كان حديثك؟ " قال: "إني رجل قصاب وخرجت إلى حانوتي في الغلس فذبحت بقرة وسلختها، فبينما أنا أصلحها والسكين في يدي أخذني البول فأتيت

_ وزيدا قد غطيا رءوسها وبدت أقدامها فقال: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض "، فسُرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكون المشركين كانوا يشككون في نسبهما لاختلاف لونيهما. انظر البخاري (باب الفرائض) 3/ 139، مسلم بشرح النووي10/ 42. 1 بلوغ المرام مع سبل السلام 4/8. 2 الموطأ مع المنتقى 3/142. ط. السعادة. مصر، وانظر صحيح مسلم مع شرح النووي11/216.

خربة كانت بقربي فدخلتها، فقضيت حاجتي، وعدت أريد حانوتي فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه، فراعني أمره فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا وأخذوني فقال الناس: "هذا قتل هذا ما له قاتل سواه"، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي، فاعترفت بما لم أجنه", فقال علي للمقر الثاني: "فأنت كيف قصتك؟ " فقال: "أغواني الشيطان فقتلت الرجل طمعاً في ماله، ثم سمعت حس العسس، فخرجت من الخربة واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصف فاستترت منه ببعض الخربة حتى أتى العسس فأخذوه وأتوك به، فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضا، فاعترفت بالحق". فقال للحسين رضي الله عنه: "ما الحكم في هذا؟ " قال: "يا أمير المؤمنين إن كان قد قتل نفساً فقد أحيا نفساً، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} " (المائدة:32) فخلّى عليّ عنهما, وأخرج دية القتيل من بيت المال"1. وقد وقع نظير تلك القضية في عهده -صلى الله عليه وسلم- إلا أنها ليست في القتل. عن علقمة بن وائل عن أبيه: أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه من نفسها، فاستغاثت برجل مرّ عليها وفر صاحبها، ثم مرّ ذوو عَدد فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر, فجاءوا به يقودونه إليها فقال: "أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر"، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: "إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني", فقالت: "كذب، هو الذي وقع عليَّ ", فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلقوا به فارجموه", فقام رجل فقال: "لا ترجموه فارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل" واعترف, فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي وقع عليها والذي أغاثها والمرأة. فقال: "أما أنت فقد غفر لك", وقال للذي أغاثها قولا حسنا. فقال عمر رضي الله عنه: "أرجم الذي اعترف بالزنا", فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لا. لأنه قد تاب", وفي رواية فقالوا: "يا رسول الله أرجمه", فقال: "لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم"2. وعند الترمذي أمر برجمه، فقال: "ارجموه لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم"3. مما لا شك فيه أن هذين الأثرين يوهنان الأخذ بالقرينة ويفتان في عضد الاحتجاج بها ويقويان شبهة المانعين للعمل بها من حيث أن شواهد الحال كثيرا ما تكذب، وأن الأمر قد

_ 1 الطرق الحكمية ص 67. 2 الحديث رواه أبو داود في سنه 4/233 مع حاشيته عون المعبود. 3 سنن الترمذي6/236.

يكون خلاف ما دلت عليه القرائن الظاهرة, فلو أخذنا بها لذهبت دماء وأموال لمجرد الاحتمال. غير أنه لا يفوتنا في هذه المقام أن نورد ما ذكره الإمام ابن القيم- رحمه الله- عن هذين الأثرين. يقول ابن القيم عن القضية التي عرضت على أمير المؤمنين علي-رضي الله عنه-: "وهذا إن كان صلحا وقع برضا الأولياء فلا إشكال، وإن كان بغير رضاهم فالمعروف من أقوال الفقهاء أن القصاص لا يسقط بذلك؛ لأن الجاني قد اعترف بما يوجبه ولم يوجد ما يسقطه فيتعين استيفاؤه، وبعد فلحكم أمير المؤمنين وجه قوي"1. رأي ابن القيم: أن القصاص قد وجدت موجباته فليس هناك ما يمنع استيفاءه، اللهم إلا أن يكون قد تم ذلك برضاء الأولياء، فكأنه يرى نقصان الرواية لكونها لم تبين وجه عدول أمير المؤمنين علىّ عن استيفاء القصاص. أما الحديث الثاني فيقول عنه: "وهذا الحديث إسناده على شرط مسلم، ولعله تركه لهذا الاضطراب في متنه", ويقصد بالاضطراب في المتن ورود رواية بعدم رجم الذي اعترف بالزنا, ورواية الترمذي أنه أمر برجمه. قال ابن القيم: "إن الراوي إما أن يكون قد جرى على المعتاد برجم المعترف، وإما أن يكون اشتبه عليه أمره برجم الذي جاءوا به أولا، فوهم وقال: إنه أمر برجم المعترف. ثم بين أن الذين رجمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون، ولم يكن هذا من بينهم. والظاهر أن راوي الرجم في هذه القصة استبعد أن يكون قد اعترف بالزنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجمه، وعلم أن من هديه رجم الزاني فقال: "وأمر برجمه". وبعد أن بيّن ابن القيم - رحمه الله- هذا الاضطراب في متن الحديث، ووهّم أحد رواته ذكر أن القرائن في هذا الحديث مع أنها دلت على خلاف الواقع، إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد حكّم القرائن أيضا، وإلا فكيف أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجم المتهم الذي كان مغيثا للمرأة مع عدم إقراره ولم تقم شهادة على رؤية الزنا. قال: "فيقال: - والله أعلم- إن هذا مثال إقامة الحد باللوث الظاهر القوي، فإنه أدرك وهو يشتد هارباً بين أيدي القوم، واعترف بأنه كان عند المرأة، وادعى أنه كان مغيثا لها، وقالت المرأة: "هو هذا" وهذا لوث ظاهر، وقد أقام الصحابة حد الزنا والخمر باللوث الذي هو نظير هذا أو قريب منه وهو الحمل والرائحة… ولما انكشف الأمر بخلاف ذلك تعين الرجوع إليه، كما لو شهد أربعة بزنا المرأة لم يحكم برجمها إذا ظهر أنها عذراء أو ظهر كذبهم"2

_ 1 الطرق الحكمية: 67. 2 المرجع السابق: ص70- ا 7.

يتبين من هذا أن الإمام ابن القيم يرى أن هذين الأثرين لا يمنعان العمل بالقرينة، إنما يؤيدان الحكم بالقرائن إذ أنه عليه السلام أمر برجم الرجل الذي وجد عند المرأة وادّعى إغاثتها وليس هناك ما يدعوه إلى إصدار هذا الحكم بالرجم إلا القرائن الظاهرة. ويرى ابن القيم أن في هذا الحديث تأييداً لمذهبه القاضي بإعمال القرائن في إثبات الحدود.

رأينا في الموضوع

رأينا في الموضوع رأينا في الموضوع ... رأينا في الموضوع: تبين مما سبق أن الحديث الذي استدل به من رفض القرينة اختلفت فيه أقوال الرواة فظهر الاضطراب في متنه، ومع ذلك ففيه الدلالة على تحكيم القرائن. وكذلك الأثر المروي عن علي- رضي الله عنه- وأعوانه فيه اتهام بنقصان الرواية حيث لم تبين كل ظروف القضية المطروحة، ومع ذلك فمن رأيي أن القرائن في هذا الأثر مع أنها دلت على خلاف الواقع إلا أن فيه دلالة على إعمالها أيضا، فالمتهم الأول بالرغم من أنه لم يرتكب الجريمة إلا أنه علم أنه لا يستطيع دحض القرائن الظاهرة فآثر الاعتراف بما لم يجنه. ونفس هذه القرائن هي التي جعلت عسكر علي -رضي الله عنه- يلقون القبض على المتهم, ولو لم تكن القرائن دليلا في الدعوى لما قبضوه ولما ذكروا أنه القاتل, وإلا كيف يكون الحال إذا وجدنا رجلا مذبوحا وإلى جواره آخر يحمل سكينا مضرجة بالدماء ثم نتركه لاحتمال أن يكون القاتل غيره، فإن صح وجود قاتل غيره كما في هذا الأثر فإنه في حكم النادر. ففي اعتقادي أنه لا خلاف في أن القرائن لا تخلو من بعض الاحتمالات التي توهن اعتبارها وتضعفها كدليل، ولكن يمكن القول بأن هذه الاحتمالات -كما تدخل في القرينة- قد تدخل في غيرها من طرق الإثبات, فالبينة قد يتطرق إليها كذب الشهود أو نسيانهم، والإقرار قد يدخل الغرض وتحقيق مصلحة ذاتية، ومع ذلك لم يلغ الشارع الحكيم اعتبارهما واعتمادهما كأدلة للإثبات لتوهم هذه الاحتمالات، فالشريعة لها الظاهر والله يتولى السرائر. فإذا كان الاحتمال قد يدخل في أقوى الحجج الشرعية، فليس هو بحجة يمنع بها اعتبار القرائن، وكما يكون هناك ضحايا في القرائن في مثل هذه الاحتمالات، فلا تخلو الأدلة الأخرى أيضا من ضحايا. ولكن هذه الاحتمالات ليس هي الغالب في أحوال القرينة كما أنها ليست الغالب في الإقرار والبينة. والشارع الحكيم قد عول على الظاهر ودلالة الحال في مواطن كثيرة لا يمكن تجاهلها منها ما ذكرنا ومنها مالا يتسع المجال لذكره. والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول:

"إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان"1. فجعل الشهادة على إيمانه مبنية على الظاهر من حاله وهو ارتياد المساجد. وما الحكم بعدالة الشهود إلا بناء على الظاهر من حالهم، فالغالب من الأحوال أن الظاهر يطابق الواقع. أما الاحتمال فهو في حيز التوهم، فيجب ألا نلقي بالتعويل على القرائن لمجرده. ثم إننا بهذا القول الذي نطلب فيه من القاضي النظر إلى القرائن والأمارات نشترط عليه إمعان النظر والفكر والتثبت فلا يحكم بالقرائن الضعيفة المتهافتة التي لا يقوى بها الظن على ظهور الحكم. فلا بد أن يؤسس حكمه على قرائن ظاهرة يتبين فيها وضوح الدلالة وقوة الحجة بحيث يكون مطمئنا لذلك الحكم منشرح الصدر. ثم إن هؤلاء المانعين للعمل بالقرائن إذا كانوا قد عاشوا في مجتمعات سليمة غلب على الناس فيها الأمانة والصدق والورع، مما جعلهم يتورعون إلى هذا الحد ويوجبون على القاضي ألا يتعدّى في أدلته على المذكور، فإنّ أعراف اليوم قد تغيَّرت تماما، وتعقّد أسلوب الحياة، ومع هذا التعقيد انعدم الضمير والوازع، وانتشر الفساد وضرب أطنابه، وتكونت للسلب والنهب والسطو عصابات وجمعيات ليس في البلد الواحد فحسب بل أصبحت لها شبكات وفروع عالمية، وانتشرت دعاوى التزوير والغش، وسهل التعدي على النفس والعرض والمال، وكل ذلك يتم وقلّ أن يكون في حادثة منها شاهد عيان واحد، أو إقرار ممن قام بها، وليس هناك من الوازع الديني أو الأخلاقي ما يجعل المتهم يقر بحق عليه أو جريمة ارتكبها، ولو تركناه لليمين لحلفها وحلف عليها ألفاً أنه ما فعل ولا أخذ, فلو قصرنا الإثبات على الأدلة المذكورة لما ثبتت جريمة ولا استخلص حق. ولعمري أن رجال هذا المذهب -مع قلتهم بالنسبة للقائلين بالقرائن- لو وقعت عليهم مثل ما يقع اليوم من الحوادث والقضايا، أو لو أنهم عاشوا حتى رأوا ما نرى لما توقفوا في الإفتاء بما يوافق متطلبات هذه الحوادث والمنازعات، خصوصا وقد عرف منهم حرصهم الشديد على إقامة الحق والعدل. ثم إنه مع هذا التقدم العلمي الذي يشهده عالم اليوم أمكن التوصل إلى قرائن قوية تبين الحق وتعين على فهم الدعوى كالتحليلات المعملية من فحص للدم وغيره ومطابقة بصمات الأصابع ومضاهاة الخطوط وغير ذلك. فإننا إذا أهملنا هذه القرائن وألقينا بها في البحر بحجة ما يتطرق إليها من الاحتمال لعرضنا الشريعة الإسلامية لتهمة الجمود وعدم

_ 1 سنن الدارمي 1/ 222 وفي تخريج أحاديث الدارمي يقول عبد الله هاشم اليماني: "رواه أيضا أحمد والترمذي وقال: "حديث حسن غريب " وابن ماجة والحاكم وقال صحيح الإسناد.

مسايرة العصر، وهذا ما لم يقله إلا المكابر، فهي شريعة كل وقت وقانون كل جيل، وما هذه الفتاوى المأخوذة من أصولها المعروفة إلا دليل مرونتها وقابليتها لحكم الأجيال المتعاقبة. وعليه فإنه لا مناص من الأخذ بالقرائن والرجوع إليها في بناء الأحكام القضائية إذا لم يكن من دليل غيرها وفقاً على فتوى الكثيرين من الفقهاء -كما رأينا وسنرى إن شاء تعالى-. على أننا حينما نؤيد الأخذ بالقرائن ونرى ضرورة مراعاتها عند بناء الأحكام القضائية لا نلقي هذا القول على عواهنه ونطلقه بلا حدود، فالقرائن التي نرى الاحتكام إليها هي تلك القرائن التي تكون واضحة الدلالة في الدعوى ظاهرة في محل النزاع، لا القرائن الضعيفة التي يتسع فيها باب الشك والاحتمال. كما أننا نرى ضرورة المحافظة على مقاصد الشرع الحكيم ومراعاة منهجه في الإثبات، فالدعاوى التي تكون منهج الشارع فيها التشدد في الإثبات والحيطة في تطبيق عقوباتها كجرائم الحدود ينبغي ألا يكون هناك توسّع في إثباتها أو إعمال للقرائن لدرجة يخل بنظام الشارع، إذ أن هذا النوع من القضايا ليس متروكا لاقتناع القاضي بارتكاب المتهم للجريمة، ولذا فقد جعل له الشارع نظاما مقيَّدا في الإثبات، وزاد في أمر التثبت والنظر دون ما هو معهود في غيرها من القضايا، كما طلب من القاضي أن يفسر كل شك يطرأ في الدعوى لصالح المتهم، فإذا وجد أي شبهة تصرف الحد عن المتهم دفع عنه الحد لأن الحدود تدرأ بالشبهات.

القرائن في نصوص الفقهاء

القرائن في نصوص الفقهاء: ليس مقصودي في هذه الفقرة أن أسجِّل دراسة نصِّية للقرائن عند الفقهاء فإن ذلك لا يتسع له المجال. ثم إني قد جعلت هذه الدراسة في كتاب أعدّ لطبعه بإذن الله تعالى. تناولت فيه أنواع القرائن وتطبيقاتها على الدعاوى سواء كانت دعاوى الجنايات أو المعاملات أو الدعاوى التي تقع في دائرة الأحوال الشخصية كما تناولت فيه نظرة الفقه الإسلامي للقرائن المستحدثة التي أبرزتها العلوم المعاصرة. أما الذي أقصده من هذه الفقرة أن أبيِّن في عجالة ملاحظاتي عن تلك الدراسة. الناظر في مذاهب الفقهاء يبدو له من أولى وهلة أن الفقهاء على فريقين، فريق يرى عدم الاعتداد بالقرينة ويقول إنها لا تصلح حجة في بناء الأحكام القضائية, وفريق آخر يراها حجة يجوز للقاضي عدها من أدلة الإثبات والفصل في الدعوى بناء على دلالتها.

لننظر مثلا في هذا النص الذي نقلناه عن العلاّمة الحنفي ابن نجيم المصري يقول في كتابه البحر الرائق: "إعلم أنه قد ظهر من كلام المصنف أنّ طرق القضاء ثلاثة: بيّنة، وإقرار، ويمين ونكول عليه, أو القسامة أو علم القاضي بما يريد أن يحكم به ... قال ابن الغرس -ولم أره حتى الآن لغيره-: "أو القرائن الدالة على ما يطلب الحكم به دلالة واضحة بحيث تصيره في حيز المقطوع به "، قال الخير الرملي-أي عن قول ابن الغرس في القرائن-: "هذا غريب خارج عن الجادة فلا ينبغي التعويل عليه ما لم يعضده نقل من كتاب معتمد"1. هذا النص يبيّن لنا اختلاف فقهاء المذهب الحنفي في الاحتجاج بالقرينة، ولكن عند التحقيق نجد أن فقهاء المذهب الحنفي قد اتفقوا على الاعتداد بالقرائن في بعض المواضع، ولذا فإننا نقول إنه لا يخلو مذهب من هذه المذاهب من الاحتجاج بالقرينة, ولكن هذا الاحتجاج يختلف من مذهب لآخر، فبينما يتسع مداه عند فقهاء المالكية ومتأخري الحنابلة ليشمل إعمال القرائن في الحدود والقصاص، يضيق لدى فقهاء الشافعية والظاهرية الذي اقتصدوا في الاحتجاج بها ولم يأخذوا بها إلا حيث بلغت من القوة مبلغ اليقين وأصبح عدم الأخذ بها يخالف بداهة العقول أو يخالف النص الصريح. ونبرهن على صحة هذا القول بعرض موجز لبعض القرائن التي تحدث عنها الفقهاء، وسأكتفي بسرد موجز لآرائهم, مشيرا إلى المواطن التي اعتمدت عليها في النقل عنهم حتى يتمكّن من يريد الاستزادة في هذا الخصوص من الرجوع إلى هذه المصادر. أـ قرينة الحيازة ودلالتها على الملك: والحيازة هي وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه2. ولا فرق بين الحيازة ووضع اليد عند فقهاء الشريعة إذ المقصود هو الاستيلاء على الشيء بصورة مختلفة, فإذا وضع شخص يده على دار أو أرض تصير تلك الدار أو الأرض في حيازته، وترتب على ذلك حماية تلك الحيازة واحترامها، وعُدَّ ذلك المال المحاز من أملاكه وذلك بناء على أمرين هامين: الأول: القاعدة الفقهية التي تقضى بأن "الأصل في الإنسان البراءة" وأنّ الناس محمولون على السلامة، فما لم يثبت أن الشخص مقيَّد أو غاصب فالأصل أنه بريء.

_ 1 البحر الرائق 7/ 205 وانظر بهامشه منحة الخالق وكذلك رسائل ابن عابدين 2/128. 2 الشرح الكبير للدرديري بهامش حاشية الدسوقي 4/233.

الثاني: ما جرت عليه العادة وما عرف من غالب أحوال الناس أنهم يتصرفون في أملاكهم، فإذا حاز الإنسان شيئا وتصرف فيه، فالغالب أنه يتصرف في ملكه ما لم يقم دليل على عكس ذلك. وبناء على ذلك فإنّ أقلّ أحوال ثبوت هذه اليد عند الفقهاء أنها تفيد الملك كما يدل عليه ظاهر الحيازة، وعليه فإنه يجب حماية هذه الحيازة وذلك بعدم انتقال الملكية من الحائز إلا بناقل أرجح من هذه القرينة الظاهرة، أي قرينة الحيازة، والناقل الأرجح عند الدعوى هو إما الإقرار أو البيّنة أو قرائن أخرى تكون دلالتها أقوى من دلالة الحيازة وأظهر في حجيتها من دلالة الظاهر. هذا المعنى في الحيازة متفق عليه بين الفقهاء. ومن أهم مميزات هذه القرينة أنها وضعت حلاً للمشكلات التي تبدو في سبيل تمييز المدّعي من المدّعى عليه، مستفيدين بذلك من دلالة الظاهر التي تفيد أنّ الحائز يتصرّف في ملكه، وعلى مدّعي الملكية في مواجهة الحائز إثبات دعواه1. ب ـ قرينة الاستعمال وقرينة الصلاحية: قلنا إنّ الفقهاء اتفقوا على أن الحيازة قرينة على الملكية لما تدل عليه شواهد الأحوال، غير أنّ الحيازة وحدها قد لا تضع حداً لكثير من المنازعات، وخاصة إذا كان الشيء المتنازع عليه في أيدي المتداعيين يستعملانه أو يتجاذبانه بحيث تكون يد كل واحد منهما عليه، لم يقف الفقهاء عند ذلك مكتوفي الأيدي إنما رجعوا للقرائن المرجحة، والقرائن المرجحة هي: 1ـ قرينة الاستعمال: وفكرة هذه القرينة تقوم على أساس أنّ اليد دليل الملك كما قدمنا، فإذا تداعا اثنان في الشيء وكان في يد أحدهما، قدّم من كان في يده إذا لم يقدِّم المدَّعي بينة استحقاقه للشيء المتنازع فيه، فيترك لمن كان في يده، أما إذا تداعيا الشيء وكان في أيديهما، يقوم من كان استعماله للمال المحاز أظهر، ذلك أنَّ الحيازة تقوم على أساس استعمال المال والتصرّف فيه، إذ لا معنى لحيازة الشيء دون تصرف فيه، فالأموال جعلت للاستفادة منها. ومن ثم قالوا:

_ 1 يراجع في فقه المذاهب الأربعة والظاهرية مايلي: بدائع الصنائع للكاساني 6/267. المبسوط للسرخسي 18/ 34. قوانين الأحكام الفقهية لابن جزي المالكي ص 322، البهجة شرح التحفة للتسولي المالكي 2/ 254، مختصر المزني بهامش الأم للشافعي 5/ 161، شرح زكريا الأنصاري على متن البهجة لابن الوردي 5235, المغني لابن قدامة 10/ 230, المحلى لابن حزم 9/ 533.

كلما كان أحد المتداعيين مستعملا للمال المتنازع فيه، ومتصرفا فيه تصرفا يميزه عن الآخر بحيث يجعل سيطرته عليه أكثر وأرجح، ترجح جانبه وقضى له بناء على قرينة استعماله لهذا المال. ويظهر جليا اعتداد فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية بهذه القرينة في المسائل التي بحثوها في باب "مسائل الحيطان " أو باب "التنازع بالأيدي" أو باب "الشهادات" أو باب "الدعاوى والبينات ". ومن المسائل التي ظهر فيها اعتدادهم بهذه القرينة، قولهم: "إذا تداعيا حائطا وكان لأحدهما عليه جذوع ولا شيء للآخر يقضى به لصاحب الجذوع لأنه مستعمل للحائط والاستعمال دليل الصدق, وإذا تنازعا في دار يقدّم ساكن الدار على الذي لا يسكنها, ومن حفر فيها بئراً أو أحدث فيها بناءً يقدَّم على غيره, وإذا تنازعا دابة يقدَّم راكبها على المتعلق بلجامها.. كل ذلك مع الاستهداء بما يقضي به العرف وشواهد العادات في مثل هذه الأحوال"1 ومن الذين اقتصدوا في الاعتداد بهذه القرينة ابن حزم الظاهري فيرى فيما ذكرنا أن يد المتنازعين متساوية فيقسم المتنازع فيه بينهما2. قرينة الصلاحية: وتقوم فكرة هذه القرينة على أساس ترجيح أحد الجانبين بناء على صلاحية الشيء المتنازع فيه لأحد المتداعيين، يعني أن يكون ذلك الشيء ملائماً له بحسب العرف والعادة، كأن يكون أداة صنعته أو آلة حرفته، أومن مستلزمات مظهره حسب نفوذه أو مركزه في المجتمع وما عرف به بين الناس، ومن أمثلة ذلك الجلد للدباغ أو العطر للعطار أو السفينة للملاح أو الفرس للأمير وذي الجاه وغير ذلك من الأشياء التي تصلح لأحد الجانبين، في الوقت الذي يكون هذا الشيء ليس من مستلزمات أو أداة حرفة للجانب الآخر، وكما قلت إن أثر هذه القرينة يبدأ حينما يكون أيدي المتداعيين متساوية على الشيء المتنازع فيه. وقد قال بالترجيح بهذه القرينة فقهاء المالكية والحنفية والحنابلة، ومنع من الترجيح بها الإمام الشافعي وابن حزم الظاهري بحجة أنَّ ذلك يخالف قاعدة الدعوى من أنّ كل من يدّعي حقا فعليه إثبات دعواه ولا ينظر لصلاحية المدّعى به له أو لغيره.

_ 1 جامع الفصولين فقه حنفي 2/277، المبسوط 17/ 88, فتح القدير 6/ 251, الفروق للقرافي 3/104, المغني 9/ 324, المهذب للشيرازي 2/ 316، الطرق الحكمية 134. 2 جواهر الروايات للبشتاوي الحنفي ص 43, مجموعة رسائل ابن عابدين 127/2, الفروق للقرافي 2/ 150. الطرق الحكمية ص 111-114, الأم للشافعي 5/95, المهذب للشيرازي 2/335, المحلى لابن حزم 9/533.

ج ـ في دعوى ملكية اللقطة أخذ الفقهاء بقرينة مطابقة الوصف دليلا على ملكية الواصف -بمعنى أن الواصف للقطة إذا ذكر وصفاً مطابقاً للواقع، جاز للملتقط تسليمه اللقطة- ومن ثم لا يلزمه ضمان المال إذا اتضح أنّ الواصف ليس هو المالك عند المالكية والحنابلة والظاهرية وهو الصحيح في نظري, ويلزم بالضمان عند الشافعية 1. د ـ قرينة التهمة أدت إلى تقييد تصرفات المريض في مرض الموت، فلا تنفذ تصرفاته المنجزة سواء أكانت تبرعية أم بعوض إلا في حدود ثلث أمواله مراعاة لحق ورثته. خالف في ذلك ابن حزم الظاهري ولم يعتد بقرينة التهمة وجعل تصرفات المريض نافذة كتصرفات الأصحاء. ورأي الجمهور هو الظاهر الغالب2. هـ ـ لم يعتد جمهور الفقهاء بالقرينة في إثبات الحدود، وذهب فقهاء المالكية وابن تيمية وابن القيم وهو قول عن الإمام أحمد إلى القول بثبوت الحدود ببعض القرائن وهي قرينة الحمل في الزنا في المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، وقرينة الرائحة أو السكر أو القيء في حد الخمر، والتعريض مع دلالة القرائن الأخرى في حد القذف. ولكل من الفريقين أدلة تؤيد مذهبه، أقواها من جهة النقل أدلة المانعين لإثبات الحدود بالقرائن3 وـ يقول فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة: إنّ الوسيلة المستخدمة في القتل تدل على القصد الجنائي أو العمدية فإذا استخدم القاتل وسيلة معدة للقتل كالسلاح أو آلة تقتل غالبا كان ذلك قرينة على العمدية، وكان القتل قتلا عمدا، ولم يأخذ بفكرة الوسيلة هذه مالك وابن حزم4. ز ـ أخذ الفقهاء بالقرائن في إثبات القسامة، وهي اللوث عند جمهور الفقهاء, وقرينة وجود القتيل في محله قدم عن الحنفية5. ح ـ في مجال إثبات الحقوق المترتبة على عقد الزواج يعدّ فقهاء الحنفية والحنابلة الخلوة الشرعية قرينة على الدخول الحقيقي، فإذا ما ثبتت خلوة الرجل بزوجته خلوة

_ 1 كشاف القناع للبهوتي 4/ 220, شرح الحطاب 6/ 70, المحلى 8/296. 2 راجع مقالنا في العدد 59 من المجلة. 3 مختصر خليل وشرح الحطاب 6/ 294, الموطأ وشرح الزرقاني 4/15, السياسة الشرعية ابن تيمية ص 111, إعلام الموقعين 4/374، المغني 8/211, المحلى 11 / 339, فتح الباري12/130. 4 الزيلعي على متن الكَنز 6/97, الدر المختار 5/446 حاشية الزرقاني, وتحفة الطلاب 2/357, كشاف القناع5/151. 5 المهذب 2/338, تبصرة الحكام1/ 255, الخرشي, 8/ 56, المغني 8/68.

صحيحة - وهى التي ينعدم فيها المانع الحقيقي الذي يمنع اتصاله بها كمرضه أو مرضها أو المانع الشرعي كالصوم أو الإحرام في الحج أو المانع الطبعي كوجود شخص ثالث- فالغالب أنه يجامعها. ولما كان إثبات هذا الجماع أمرا متعذرا قال هؤلاء بأنه يكفي المرأة إثبات الخلوة الصحيحة، لتنال حقوقها في إثبات المهر وثبوت النسب والعدة، ووجوب النفقة والسكنى وغير ذلك، وجعل المالكية أيضا الخلوة قرينة على الوطء ولذا قالوا لن تصدق المرأة في دعواها الوطء وعليها اليمين1. وجعل الفقهاء كذلك قرينة الصلاحية معيارا لفض النزل بين الزوجين في متاع البيت وذلك بجعل ما يصلح للرجال من كتب وسلاح وغيره للرجل، وما يعرف أنه من متاع النساء كالحلي والمغازل فهو للمرأة. خلافا للإمام الشافعي الذي لا يرى فض النزل بالصلاحية2. وفي إثبات النسب بالقرائن، أخذ الفقهاء من قرينة قبول الرجل التهنئة وشراء لوازم الولادة قرينة على. أن الولد منه، وقبل الحنفية وصف العلامة في ثبوت نسب اللقيط. كما عد فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية قرينة القافة- أي النظر إلى الشبه- دليلا على ثبوت النسب. وخالف فيها فقهاء الحنفية3. (ي) قال فقهاء المالكية والحنابلة بثبوت الوقف بالقرائن، فيثبت وقف المسجد الذي بناه صاحبه وأذن بالصلاة فيه وإن لم يصرح بأنه وقف لأن القرائن تدل على الوقفية، ويثبت وقف الفرس إذا كان موسوما بعلامة الوقف، وتثبت وقفية كتب المدرسة التي يوجد عليها كتابة الوقف4. والحق أن القرائن التي حفلت بها كتب الفقهاء كثيرة، ولكني اكتفي بهذا القدر لعلى أكون به قد أبرزت جانبا من أهمية القرائن، وأنها دليل قوى قد يصل إلى درجة القطع، وأننا إذا أغفلناه نكون قد عطلنا مدركا هاما من مدارك الأحكام، فنعر ض بذلك نظام الإثبات في الفقه الإسلامي لتهمة الجمود، كما أننا إذا أفرطنا في استخدامها نكون قد ضيعنا كَثيرا من الحقوق. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله الأمين. ي ـ قال فقهاء المالكية والحنابلة بثبوت الوقف بالقرائن، فيثبت وقف المسجد الذي بناه صاحبه وأذن بالصلاة فيه وإن لم يصرّح بأنه وقف لأن القرائن تدل على الوقفية، ويثبت وقف الفرس إذا كان موسوما بعلامة الوقف، وتثبت وقفية كتب المدرسة التي يوجد عليها كتابة الوقف5. والحق أن القرائن التي حفلت بها كتب الفقهاء كثيرة، ولكني أكتفي بهذا القدر لعلي أكون به قد أبرزت جانباً من أهمية القرائن، وأنها دليل قوي قد يصل إلى درجة القطع، وأننا إذا أغفلناه نكون قد عطلنا مدركا هاما من مدارك الأحكام، فنعرّض بذلك نظام الإثبات في الفقه الإسلامي لتهمة الجمود، كما أننا إذا أفرطنا في استخدامها نكون قد ضيعنا كَثيرا من الحقوق. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله الأمين.

_ 1 الفتاوى الطرسوسية ص 40 المغنى 6/ 724. تبصرة الحكام 1/252. 2 المبسوط 213/5، البدائع 2/ 309 الفروق 2/ 1 5 1، مختصر الخرقي والمغنى 9/ 325، الأم ومختصر المزنى 5/95. 3 المبسوط 6/ 299، البدائع 10/217، نهاية المحتاج 8/ 352 زاد المعاد 4/ 16 1 الفروق 3/ 125. 4 تبصرة الحكام 2/ 105 معين الحكام ص 305 5 تبصرة الحكام 2/ 100, معين الحكام ص 305.

الإثبات بالكتابة

نظامُ الإثبَات في الفِقهِ الإسلاَمي دراسة مقارنة (5) للدكتور عوض عبد الله أبو بكر أستاذ مساعد بكلية الشريعة الإِثبات بالكتابة: تأتي أهمية الكتابة لكونها وسيلة كبرى من وسائل المعرفة، وأداة هامة لتبليغ المعاني، وتقدم بما تقدم به الألفاظ في بيان المقاصد والأهداف. ولعله لا يخفى على عاقل أهمية الكتابة واعتماد الأمة عليها في دينها ودنياها. فقد اعتمد خيار هذه الأمة وسلفها من الصحابة الكرام على الكتابة، فوافقوا مجتمعين على تدوين كتاب الله عز وجل الذي هو شرع هذه الأمة ودستورها. كما أن المصدر الثاني من التشريع وهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نقل إلينا مكتوبا حفظته كتب السنن. وصدق الإمام ابن القيم رحمه الله حين قال: "ولو لم يعتمد على ذلك- أي الكتابة- لضاع الإسلام اليوم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس بأيدي الناس- بعد كتاب الله- إلا هذه النسخ الموجودة من السنن، وكذلك كتب الفقه الاعتماد فيها على النسخ"1. ومن عناية الشارع الكريم بالكتابة جعلها وسيلة لإثبات الحقوق، حيث أرشد المولى عز وجل إلى كتابة الحقوق في أطول آية في القرآن وهى آية الدين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ....} الآية (البقرة: 282) . فإذا كانت هذه الأمة قد أرشدت إلى كتابة الدين وأمرت بتوثيقه، لكون ذلك أحفظ

_ 1 الطرق الحكمية ص 300.

للمال، وقاطعا لطريق إنكاره، فلننظر إلى أي مدى أخذ الفقهاء بهذا الأمر، فهل حملوه على الوجوب بحيث لا يصح إثبات الدَّين إلا بالكتابة والإشهاد عليه، أم هذه للندب والإرشاد فيجوز ترك الكتابة عند ائتمان المدين والوثوق بصدقه؟ (1) ذهب فريق من الفقهاء إلى أن كتابة الديون الآجلة والإشهاد عليها قد كانا واجبين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوه} ولكن قد نسخ الله هذا الوجوب بقوله تعالى في الآية التي تليها: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ... } الآية (البقرة: 283) . روي هذا القول عن الشعبي والحسن1. (2) قال آخرون: هذه الآية محكمة ولم ينسخ منها شيء، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لا والله آية الدين محكمة، وما فيها نسخ". وعن أبي بردة عن أبي موسى قال: "ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم، رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (النساء: هـ) ، ورجل له على رجل دين فلم يشهد عليه". قال الجصاص: "قال أبو بكر: وقد روي هذا الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم". وروي عن الضحاك عن الذي لم يكتب دينه الآجل ولم يشهد عليه: "إن ذهب حقه لم يؤجر وإن دعا لم يجب لأنه ترك حق الله وأمره". وقال سعيد بن جبير: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} . (البقرة: 282) . يعني أشهدوا على حقوقكم إذا كان فيها أجل أولم يكن أجل، فأشهد على حقك على كل حال2. فعلى قول هؤلاء فإن الأمر هنا محمول على الوجوب ولابد للدائن من إثبات دينه كتابة إذا كان الدين مؤجلا، فإن لم يكتبه فقد خالف أمر الله الوارد في الآية، وضيع حقه بتفريطه في التوثيق لماله. ولا وجه لمطالبته عند إنكار مدينه للدين لأنه ما أعد عدته لهذا الإنكار. (3) وهذا هو قول الجمهور: إن الأمر بالكتابة في قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} والأمر بالإشهاد في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وفي {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} لا يخلو من أن يكون موجبا لكتابة الديون الآجلة والإشهاد عليها حال نزولها، وكان

_ 1 أحكام القرآن للجصاص 1/ 481. 2 تفسير القرطبي 3/383، أحكام القرآن للجصاص 1/ 1 48.

هذا حكما مستقرا ثابتا إلى أن نسخ إيجابه بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، أو يكون نزول الجميع معا، فإن كان كذلك فليس جائزا أن يكون المراد بالكتابة والإشهاد الإيجاب لامتناع ورود الناسخ والمنسوخ معا في شيء واحد، إذ غير جائز نسخ الحكم قبل استقراره. ولماّ لم يثبت تاريخ نزول هذين الحكمين- الأمر بالكتابة والإشهاد- وقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وجب الحكم بورودهما معا، فلم يرد الأمر بالكتابة والإشهاد إلا مقرونا بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} فثبت بذلك أن الأمر بالكتابة ليس للوجوب إنما هو للندب أي تندب الكتابة. أما قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أن الآية محكمة ولم ينسخ منها شيء"، فلا دلالة فيه على أنه يرى وجوب الكتابة والإشهاد إنما يريد أن الجميع قد ورد معا ونسق التلاوة يقتضي أن يكون ذلك مندوبا وهو ورود قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} . وكذلك ما روي عن أبي موسى: ثلاثة لا يستجاب لهم من له على رجل دين فلم يشهد عليه، فلا دلالة فيه أيضا على وجوب الكتابة والإشهاد لأنه قد ذكر معه من له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ولا خلاف في أن ذلك ليس بواجب، بل يقال أنه تارك للاحتياط والتوصل إلى ما جعل الله له فيه المخرج والخلاص. ويؤيد صحة مذهب الجمهور في ندب الكتابة وعدم الوجوب أنه لم تنقل إلينا كتابة الصحابة والتابعين وسلف الأمة لديونهم أوبيوعهم أو عقودهم مع حاجتهم لها، لم ينقل نكيرهم أو اعتراضهم على من ترك الكتابة، فلو كانت الكتابة واجبة لنقل ذلك نقلا مستفيضا ولتواتر إنكارهم على تاركها. فدل عدم النقل وعدم إظهار النكير على أن آية الكتابة ليست واجبة إنما ورد الأمر في هذه الآية للندب والاحتياط حتى لا يقع جحود أو نسيان1.

_ 1 أحكام القرآن للجصاص 1/ 482، تفسير القرطبي 3/383.

حجية الكتابة في الإثبات

حجية الكتابة في الإِثبات: إذا كنا قد تناولنا آراء الفقهاء في كتابة الديون من حيث الوجوب وعدمه، ورأينا أن البعض يرى الوجوب والبعض الآخر يرى نسخ الوجوب، والجمهور يرى ندب الكتابة من غير نسخ، فهل تكفي الكتابة دليلا في الإثبات، وما قيمة السند المكتوب وما مدى حجيته

على ما دُوِّن فيه؟ وهل يحكم القاضي بما هو مسطور في السند متى ما رفع إليه سند يتضمن حقا من الحقوق وليس عليه أن يقبل أي طعن في صحته وصحة ما حمله السند؟. لاشك أن الكتابة المشار إليها في الآية الكريمة أصبحت مستندا خطيا لأن المكتوب يحوي إقرارا بما تضمنه السند موقعا عليه من المدين المقر وبشهادة كاتب السند أو الشهود الذين وقعوا على صحة إقرار المدين بالسند وعليه فإن حجية السند هنا تأتي من توقيع المقر والإشهاد فقويت دلالته على الحق، ولاشك أن الفقهاء عاملوا الإقرار بالكتابة معاملة الإقرار باللسان سواء بسواء. غير أننا نلاحظ خلافا بين الفقهاء في قبول الكتابة كدليل إثبات للحقوق، والذي يبدو لي من أغلب عباراتهم أنهم يقصدون المكتوب الذي لم يشهد عليه كإقراره بدين أو بحق لآخر بخط يده، أو كتابته لهبة لم يشهد عليها، وكذلك الأوراق التي لا تصدر من جهة رسمية، فإن بعض الفقهاء يرون أن مثل هذه المكاتيب لا يثبت القاضي بها ما تضمنته من حقوق لعدم تيقن صدورها من المنسوبة إليه ولإمكان تزوير الخطوط. وقد أبرز ابن القيم رحمه الله هذا الخلاف في كتابه الطرق الحكمية في فصل (الطريق الثالث والعشرون- الحكم بالخط المجرد) ومن أقواله في ذلك: "أن يرى القاضي حجة فيها حكمه لإنسان، فيطلب منه إمضاءه والعمل به فقد اختلف في ذلك، فعن أحمد ثلاث روايات، إحداهن: أنه إذا تيقن أنه خطه نفذه وإن لم يذكره، والثانية: أنه لا ينفذه حتى يذكره، والثالثة: أنه إذا كان في حرزه وحفظه نفذه وإلا فلا". "والمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يعتمد على الخط لا في الحكم ولا في الشهادة، وفى مذهبه وجه آخر أنه يجوز الاعتماد عليه إذا كان محفوظا عنده كالرواية الثالثة عن أحمد". "وأما مذهب أبي حنيفة، فقال الخفاف، قال أبو حنيفة: إذا وجد القاضي في ديوانه شيئا لا يحفظه- كإقرار الرجل بحق من الحقوق- وهولا يذكر ذلك ولا يحفظه، فإنه لا يحكم بذلك ولا ينفذه حتى يذكره". "وأما مذهب مالك فقال في الجواهر: لا يعتمد على الخط إذا لم يذكره لإمكان التزوير عليه". "وقال إسحاق بن إبراهيم: قلت لأحمد: الرجل يموت وتوجد له وصية تحت رأسه من غير أن يكون أشهد عليها أو أعلم بها أحدا، هل يجوز إنفاذ ما فيها؟ قال: إن كان قد

عرف خطه وكان مشهور الخط فإنه ينفذ ما فيها". "قال القاضي: وثبوت الخط في الوصية يتوقف على معاينة البينة أو الحاكم لفعل الكتابة لأنها عمل، والشهادة على العمل طريقها الرؤية". "وأجاز مالك الشهادة على الخطوط..... وذكر ابن شعبان عن ابن وهب أنه قال: لا آخذ بقول مالك في الشهادة على الخط، وقال الطحاوي خالف مالك جميع الفقهاء في ذلك وعدوا قوله شذوذا"1. يظهر من هذا النقل أن بعض الفقهاء يتحرجون من الإثبات بالكتابة ويرون أنها لا تصلح دليلا يعتمد عليه، وكما قدمت أن الشبهة التي يعتمد عليها هذا الفريق من الفقهاء في رد الدليل الكتابي هي تشابه الخطوط وإمكان محاكاتها وتزويرها، ولذا يجب على القاضي ألا يبني حكمه على مجرد الخط. ولعل هؤلاء يدور بخلدهم قصة عثمان رضي الله عنه والفتنة التي أدت إلى مقتله، فإن المتسببين في قتله- كما يحكي لنا التاريخ الإسلامي- قد صنعوا مثل خاتمه وكتبوا مثل كتابه فكان ما كان. غير أن أدلة هؤلاء المانعين للإثبات بالكتابة تضعف تماما أمام الحجج الواضحة التي أوردها المجيزون للإثبات بالكتابة والتي تقوم- زيادة على ما قدمنا من ندب الله عز وجل لكتابة الديون بسبب القرض أو بسبب عقد مالي- على: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث بكتبه ورسائله إلى الملوك وغيرهم وتقوم بها حجته، وفى الجامع للبخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم قالوا: إنهم لا يقرءون كتابا إلا مختوما، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من فضة كأني أنظر إلى وبيصه ونقشه محمد رسول الله2. ثانيا: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" 3. قال ابن القيم: "ولو لم يجز الاعتماد على الخط لم تكن لكتابة وصيته فائدة"4.

_ 1 الطرق الحكميه ص 299- هـ 30. 2 صحيح البخاري4/237 (كتاب الأحكام- باب الشهادة على الخط) . 3 صحيح البخاري 3/ 124 (كتاب الوصايا) . 4 الطرق الحكمية ص 301.

ثالثا: كُتُب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل خيبر: "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب"1. رابعا: إجماع أهل الحديث على اعتماد الراوي على الخط المحفوظ عنده وجواز التحديث به، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الشذوذ2. خامسا: اعتماد فقهاء هذه الأمة وأئمتها على الكتابة في حفظ السنة والفقه، وقد تقدم قول ابن القيم في ذلك. وفي نظري أن هذا القول هو الصواب وهو الأرفق بالناس في معاملاتهم وأقضيتهم ولأن الكتابة تدل على المقصود كدلالة الألفاظ، ولأن هذا القول هو الذي أختاره حذاق الأئمة كما هو ظاهر من النقول.

_ 1 صحيح البخاري4/237 (كتاب الأحكام- باب الشهادة على الخط) . 2 الطرق الحكمية ص 301، وأنظر المستصفى للغزالي 1/166.

كيفية الإثبات بالكتابة

كيفية الإِثبات بالكتابة: إن كنا قد انتهينا إلى جواز الإثبات بالكتابة بناء على القول الغالب عند الفقهاء وتسهيلا على الناس، فإن هذا الجواز لم يجعل من الكتابة دليلا يمنع أو يحد من قوة غيرها من الأدلة كما ذهب بعض القانونيين. فرجال القانون الوضعي قد انتهوا إلى وجوب الإثبات بالكتابة في بعض الحقوق، ولا يجوز الإثبات إلا عن طريقها، ومنعوا الإثبات بشهادة الشهود في هذه الحقوق، مقيدين بذلك طريق الإثبات بالشهادة، وجعلوا حجية الكتابة أقوى من حجية الشهادة. ورجال القانون إن كانوا قَد عذروا أنفسهم في هذا المسلك بدعوى انتشار شهادة الزور مما أدى إلى الفوضى في ساحات العدالة، فإن الفقه الإسلامي لم يكن بحاجة لمثل هذا التصرف وهذا التقييد مادام منهجه تربية الفرد، وغرس روح الأمانة والمراقبة لله عز وجل بحيث تندرج هذه المراقبة على أفعاله كلها فيكون بذلك بعيدا عن تهمة التزوير. ثم إن هذا المحذور الذي أدى تقييد الشهادة عند القانونيين لا يؤمن دخوله في الكتابة والمستندات الخطية، وما كان إنكار المانعين للإثبات بالكتابة إلا لتخوفهم من الغش والتزوير. بقي لنا الآن أن نرى كيف يكون اعتداد الفقهاء بالمستندات المكتوبة في الإثبات. فإذا نظرنا إلى كتابات الفقهاء- المتقدمين منهم والمعاصرين- في الأدلة الكتابية نجدهم يقسمونها إلى قسمين رئيسيين:

القسم الأول: المستندات الصادرة من دائرة رسمية: وهي تلك التي يثبت بها موظف عام أو شخص مكلَّف بخدمة عامة ما تم على يديه أو ما تلقاه من ذوي الشأن وذلك طبقا للقواعد المرعية وفي حدود سلطته أو ولايته أو اختصاصه. ولذلك فإن أهم ما يشترط للسند الرسمي ما يلي: (1) أن يكون تحريره بمعرفة موظف عمومي أو جهة رسمية. (2) أن يكون ذلك الموظفة أو تلك الجهة الرسمية مختصة بتحرير مثل هذا السند وفي حدود سلطتها أو ولايتها. (3) أن يكون تحرير هذا السند قد تم بحسب القواعد الموضوعة له1. ومثال المستندات الرسمية: صور الأحكام التي تستخرجها المحكمة ممهورة بإمضاء القاضي وختم المحكمة، وثائق الزواج والطلاق، شهادات الميلاد، صكوك الأراضي وعقودها المستخرجة من سجلات مصلحة الأراضي، مخالصات مصلحة الضرائب وصندوق الزكاة وغير ذلك من المستندات التي تستخرج من الجهات المختصة معتمدة بختمها وإمضائها. والورقة الرسمية حجة على ما تضمنته من حقوق وبيانات مادامت قد استوفت الشروط المتقدمة، ولذلك لا يقبل إنكار ما جاء فيها إذ أن الجهة الرسمية لا تستخرج هذا السند إلا إذا توثقت من صحة بياناته بالتحري الدقيق أو بشهادة الشهود أو بالرجوع إلى سجلاتها. ونستدل لهذا القول من كتب السابقين ما ورد عنهم في كلامهم عن كتاب القاضي إلى القاضي أو الحاكم إلى عماله فإنه يكون حجّة وكذلك يكون حجّة ما يصدره القضاة من أوراق للخصوم تتضمن الحكم الذي أصدروه في قضاياهم وغير ذلك. ومن هذه الأقوال: يقول البخاري في صحيحه "باب الشهادة على الخط المختوم وما يجوز من ذلك وما يضيق منه وكتاب الحاكم إلى عامله والقاضي إلى القاضي". وقال بعض الناس: كتاب الحاكم جائز إلا في الحدود، قال: وإن كان القتل، فالخطأ والعمد واحد، لأنه مال بزعمه وإنما صار مالا بعد أن ثبت القتل، فالخطأ والعمد واحد. وقد كتب عمر إلى عامله في الحدود، وكتب عمر بن عبد العزيز في سن كسرت.

_ 1 أصول المرافعات الشرعية أنور العمروسي فقره 318، علم القضاء. أحمد الحصري 1/48.

وقال إبراهيم كتاب القاضي إلى القاضي جائز إذا عُرِف الكتاب والخاتم. وكان الشعبي يجيز الكتاب المختوم بما فيه من القاضي، ويروى عن ابن عمر نحوه. وقال معاوية بن عبد الكريم الثقفي شهدت عبد الملك بن يعلى قاضى البصرة وإياس بن معاوية والحسن وثَمامة بن عبد الله بن أنس وبلال بن أبي بردة وعبد الله بن بريدة الأسلمي وعامر بن عبيدة وعباد بن منصور يجيزون كُتُب القضاة بغير محضر الشهود، فإن قال الذي جيء عليه بالكتاب أنه زور قيل له اذهب فالتمس المخرج من ذلك"1 ويقول ابن القيم: "وقال أبو يوسف/ محمد: ما وجد القاضي في ديوانه من شهادة شهود شهدوا عنده لرجل على رجل بحق، أو إقرار رجل لرجل بحق، والقاضي لا يحفظ ذلك ولا يذكره فإنه ينفذ ذلك ويقضي به إذا كانت تحت خاتمه محفوظا، ليس كل ما في ديوان القاضي يحفظه"2. هذا، وقد عقد صاحب جامع الفضولين فصلا في حجية المحاضر الرسمية للقضاة والصور المستخرجة منها إذا كانت موقعة بختم القاضي وامضائه، وبين أن محاضر القضاة وما دون فيها من أقوال الخصوم وسماع الشهود ومنطوق الحكم تكون حجة، وكذلك الصورة التي يستخرجها القاضي من سجلات المحكمة تتضمن حكم قاض آخر في دعوى من الدعاوى3. يظهر من كلام الفقهاء أن إنكار الورقة الرسمية لا يقبل، غير أنه إذا طعن في الورقة الرسمية بالتزوير، وقال إنهم قد زوروا توقيعه أو توقيع القاضي أو ختم جهة الاختصاص، فللقاضي أن يحيل الأوراق إلى جهة الاختصاص أو أهل الخبرة للمضاهاة والإفادة بصحة الورقة أو التزوير، وهل يحكم القاضي بقول أهل الخبرة أن المستند صحيح؟ قيل لا يحكم لكون شهادتهم ليست شهادة على الحق، وقيل يحكم بذلك4. وعندي أن السير في الدعوى يتوقف على مدى اقتناع القاضي بصحة السند استئناسا بقول أهل الخبرة، ومدى قوة السند وأثره على الدعوى. القسم الثاني: المستندات العرفية: والمستندات العرفية هي الأوراق والمستندات التي لم تصدر من دائرة رسمية أو موظف

_ 1صحيح البخاري 4/237 (كتاب الأحكام) . 2 الطرق الحكمية ص 299. 3جامع الفضولين 1/325 وما بعدها. 4 علم القضاء: أحمد الحصرى 1/48 وما بعدها.

مختص، وهي ككتابة المُقِر بخط يده أن لفلان عليه كذا، أو كتابة الوصية بخط الموصي من غير أن يُشهد على وصيته، وكذلك هبته لآخر من غير أن يقوم بتسجيل الهبة، ومن ذلك أيضا أن يجد الوارث في دفتر مورثه أن له عند فلان كذا، ومنه أيضا دفاتر التجار التي تبين تعاملهم ودائنيهم ومدينيهم. والورقة العرفية حجة فيما تضمنته، ويجوز للقاضي أن يحكم بمقتضاها، فهي كالإقرار بالكتابة، والإقرار بالكتابة كالإقرار باللسان عند الفقهاء. فمتى ما أقر الشخص بتوقيعه أو بخطه، أو أقر الوارث بأن هذاَ خط مورثه أو توقيعه أو كان ذلك الخط أو التوقيع معروفا ومشهورا فعلى القاضي أن يعمل بمقتضى هذا السند. يقول ابن القيم: "والحديث المتقدم- أي حديث الوصية- كالنص في جواز الاعتماد على خط الموصي، وكتبه صلى الله عليه وسلم إلى عماله وإلى الملوك وغيرهم تدل على ذلك ولأن الكتابة تدل على المقصود فهي كاللفظ ولهذا يقع بها الطلاق. قال القاضي: "وثبوت الخط في الوصية يتوقف على معاينة البينة أو الحاكم لفعل الكتابة، لأنها عمل، والشهادة على العمل طريقها الرؤية". وقول الإمام أحمد وإن كان قد عرف خطه وكان مشهور الخط، ينفذ ما فيها، يرد على ما قاله القاضي، فإن أحمد علق الحكم بالمعرفة والشهرة من غير اعتبار لمعاينة الفعل، وهذا هو الصحيح، فإن القصد حصوله العلم بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف ذلك وتيقن كان كالعلم بنسبة اللفظ إليه، فإن الخط دال على اللفظ واللفظ دال على القصد والإرادة "1. ويقول في موضع آخر"وقد صرح أصحاب أحمد والشافعي بأن الوارث إذا وجد في دفتر مورثه أن لي عند فلان كذا، جاز له أن يحلف على استحقاقه وأظنه منصوصا عليها، وكذلك لو وجد في دفتره: إني أديت إلى فلان ماله عليّ جاز له أن يحلف على ذلك إذا وثق بخط مورثه وأمانته"2. غير أننا نلاحظ اختلاف معاملة الفقهاء للورقة العرفية عن معاملة المستند الرسمي، إذ أنهم لم يقبلوا إنكار من كان السند الرسمي حجة عليه أما الورقة العرفية فقد جعلوا كتابته

_ 1 الطرق الحكمية ص 302. 2 المرجع السابق ص 303.

وتوقيعه كالإقرار، ولذا فإنه إذا أنكر إقراره أو قال إنه لم يوقع وليس هذا توقيعه فوجب على المدعي إثبات الإقرار بطريق آخر غير الورقة العرفية. نخلص من هذا أنه يجوز الإثبات بالكتابة عموما، فإن كان المستند صادرا من جهة رسمية فهو حجة، وعلى مُدعي خلاف ما في السند إثبات بطلان هذا السند بالتزوير. أما إن كان السند عرفيا، فهو دليل على الحق غير أنه يجوز لمن كان السند حجة عليه أن ينكر دلالة هذا السند العرفي على الحق لكون الفقهاء عاملوا الورقة العرفية معاملة الإقرار، والإقرار يجوز الرجوع فيه، ولذا يمكن الطعن في هذه الورقة العرفية بإنكارها أو تزويرها.

_ 1 صحيح البخاري 3/ 139. (كتاب الفرائض- باب القائف) .

شهادة الخبراء

شهادة الخبراء: ومن الوسائل التي تُعين على إظهار الحق وكشف وجه الدعوى قول الخبراء. والخبراء هم الذين لهم المعرفة والخبرة بالمسائل الفنية إذا كان موضوع النزاع فيه مسألة فنية أو عدمية تغيب على القاضي، ومن ذلك قول الطبيب الشرعي في سبب الوفاة، وغير ذلك مما يختص بمعرفته الطبيب. وكذلك قول المهندسين والفاحصين والمختصين بمعرفة الخطوط والبصمات، كلٌ فيما يتعلق ويتصل بمجال تخصصه، وكذلك قول البيطار في عيوب الحيوان ودائه. ويمكن القول بأن الشريعة الإسلامية قد اعتدت بقول أهل الخبرة، فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم قول القائف وسرّ عليه الصلاة وَالسلام حينما أثبت نسب أسامة- رضي الله عنه- من زيد- رضي الله عنه- بمقارنة الشبه في أقدامهما1. وقد أشارت الآية الكريمة في قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} . (القيامة: 4) . إلى اختلاف بصمات الأصابع من شخص لآخر. فلا حرج إذن إذا استدل القاضي على المتهم بقول الخبراء الذين قارنوا بصمات المتهم مع البصمات التي وجدت في مكان الجريمة واتضحت المطابقة. ولما كان قول الخبير ليس شهادة مباشرة في موضوع النزاع إنما هو تقرير فني يتعلق فقط بالمسألة الفنية القائمة في الدعوى جاز للقاضي أن يحكم بمقتضاه إذا وافق الأدلة الأخرى القائمة في الدعوى، كما يجوز له تركه أوترك بعضه إذا رأى عدم سلامته أو عدم سلامة بعضه لكونه يخالف أدلة أخرى مقنعة وواضحة في الدعوى، ذلك لأن القاضي لا يحكم إلا بما تطمئن إليه نفسه حسب الأدلة المقدمة في الدعوى. وليس هذا إنكارا للفائدة العلمية لتقرير الخبير ولكن قد توجد أدلة أخرى أكثر دلالة ووضوحا في

محل النزاع، فوجود بصمة الشخص في محل الجريمة مثلا لا تعني دائما أن صاحب البصمة هو الجاني لاحتمال أن يكون القاتل غيره كما إذا وجده مقتولا فأراد أن يتبين فصار لامسا للقتيل أو كان حاملا له بقصد إسعافه، أو كان مدافعا عن نفسه وغير هذا من الاحتمالات. ثم إنه لما كان قول الخبير شهادة يستعين به القاضي في الدعوى القائمة كما أسلفت، وجب أن يراعى في هذا المقال الشبُه التي تردّ الشهادة فيجب ألا يكون الخبير الذي قدم تقريره في الدعوى قريبا لأحد الخصوم أو قريبا لزوجته أو صهرا لأحد الخصوم أو وكيلا له أو لزوجته في أعماله أو وصيا أو قيما أو مظنونا وراثته بعد موته، كما يجب ألا تكون بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو خصومة ما لم تكن هذه الخصومة قد أقيمت بعد الدعوى يقصد منعه من الإدلاء بقوله أو تقريره1. وبانتهاء الكلام عن شهادة أهل الخبرة نكون قد فرغنا من عرض أهم وسائل الإثبات في الفقه الإسلامي، وقد رأينا أن هناك قسما قد اتفق الفقهاء على حجيته وهو الإقرار والشهادة، وقسما اختلفوا فيه وعرضنا فيه اليمين النكول عنه، وعلم القاضي، والقرائن والفراسة، والكتابة وشهادة الخبراء، وقبل أن أختم هذا البحث أرى أن أقرر بعض الحقائق المهمة: الأولى: إن هذه الأدلة التي سقناها تدل على الحق غالبا، ولا يخلو دليل منها- متفق عليه أو مختلف فيه- من احتمال، ولكن هذا الاحتمال لا يمنع غالبا دلالتها على الحق، ولذا جعلها الشارع وسائل للإثبات لأن الحكم للكثير الغالب لا للقيل النادر. الثانية: إنه لا يجوز التوصل إلى هذه الوسائل بطريق غير مشروع، ولابد للقاضي من التأكد من سلامة إجراءات حصوله على أي من هذه الأدلة ويظهر تقرير الفقه الإسلامي لقواعد سلامة إجراءات الوصول إلى الأدلة في أمرين: (أ) عدم جواز تعذيب المتهمين للحصول على إقرارهم: يرى ابن حزم أن الامتحان في الحدود وغيرها من الجرائم بالضرب وبالسجن أو التهديد لا يحل شرعا لأنه لم يرد بذلك قرآن ولا سنة ولا إجماع، بل قد منع الله تعالى من ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم

_ 1 أصول المرافعات الشرعية: أنور العمروسي فقرة 365.

حرام" 1. ولا يجوز ضرب المسلم إلا إذا ثبت عليه حق فمنعه فيكون ظالما في هذه الحالة فوجب ضربه لإخراج الحق منه. ويرى ابن حزم تأسيسا على ذلك أنه لو ضرب المتهم حتى أقر فإن إقراره لا يعمل به، لأنه قد أخذ بصفة لم يوجبها قرآن ولا سنة ولا إجماع2. بيد أننا نجد الجمهور من الفقهاء قد قسموا الناس في الدعوى على طوائف ثلاث. طائفة لا يجوز حبسهم ولا ضربهم ولا يضيق عليهم بشيء بل ذهب بعض الفقهاء إلى تعزير من اتهمهم لأن التهمة لا تليق بأمثالهم لكونهم من أهل الورع والتقوى ومعروفين بالدين والصلاح، وطائفة مجهول حالها لم تعرف بصلاح أو فسق، فهذه قالوا لا يضرب المتهم منها ولكن يحبس حتى ينكشف أمره، وطائفة المشتهرين بالفساد والفجور ونقب الدور والسرقات، فهذا لا مانع من ضربه لمناسبة التهمة له ولكونه لوترك لضاعت الحقوق وعمت الفوضى3. (ب) ألا يكون في الحصول على الدليل اعتداء على الحرية الشخصية: وفي نظري أن الحصول على الدليل إذا كان باعتداء على الحرية الشخصية للفرد فإن ذلك سبب كاف في منع الاحتجاج به، إذ أن الشريعة الإسلامية تمنع التجسس على الناس في حياتها الخاصة، فيقول تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} . (الحجرات: 12) . كما توجب الستر وعدم مضايقة الناس في بيوتهم، ولذا فإن الدليل المأخوذ بأحد هذه الطرق يجب عدم الالتفات إليه. ونستدل لذلك بما رواه البيهقي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر البيهقي أن عبد الرحمن بن عوف حرس مع عمر ليلة بالمدينة، فبينما هم يمشون شب لهب سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه حتى إذا دنوا منه إذ باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط فقام عمر رضي الله عنه وأخذ بيد عبد الرحمن فقال: "أتدري بيت من هذا؟ " قلت: "لا". قال: "هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى؟ " قال عبد

_ 1 صحيح البخاري (كتاب الحدود) 4/ 105. 2 المحلى 11/135. 3 الفتاوى الكبرى ابن تيميه 4/ 190 وما بعدها، معين الحكام للطرابلسي ص 217، والحبس في التهمة والامتحان على طلب الإقرار مؤلفه سعد الدين بن الديري الحنفي ص16.

الرحمن: "أرى قد أتينا ما نهى الله عنه {وَلا تَجَسَّسُوا} فقد تجسسنا" فانصرف عنهم عمر رضي الله عنه وتركهم1. وفى رواية أن عمر رضي الله عنه كان يمر ليلة في المدينة فسمع صوتا في بيت فارتاب في أن صاحب الدار يرتكب محرما، فتسلق المنزل وتسور الحائط ورأى رجلا وامرأة ومعهما زق خمر فقال: "يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصية"، وأراد أن يقيم عليه الحد فقال الرجل: "لا تعجل يا أمير المؤمنين إن كنت قد عصيت الله في واحدة فقد عصيته أنت في ثلاث فقال تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} وأنت تجسست. وقال: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (البقرة: 189) . وأنت تسورت وصعدت الجدار ونزلت. وقال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} . (النور: 27) . وأنت لم تسلم". فخجل عمر وبكى وقال للرجل: "هل عندك من خير إن عفوت عنك" قال: "نعم". فقال: "اذهب فقد عفوت عنك"2. معنى ذلك أن صاحب الدار دفع بعدم مشروعية الدليل. فقد ضبط بالفعل متلبسا بجريمة شرب الخمر ولكن هذا الضبط كان وليد إجراءات غير مشروعة، وهو التجسس وتسور الحائط وعدم السلام، وقد أخذ عمر واقتنع بصحة الدفع وترك الرجل، وليست المسألة أن عمر أراد أن يجري مقاصة بين ما ارتكبه صاحب الدار وما ارتكبه هو وعفا عنه لذلك، لأنه لا يملك العفو عن الحد، بل إنه أسقط الدليل المستمد من الواقعة بعد تبينه أنه وليد إجراءات غير مشروعة. الثالثة: "الأصل في الذمة البراءة"3 معنى ذلك أنه ما لم يثبت بطريق من طرق الإثبات أن الشخص معتد أو غاصب فالأصل براءته، فهذه قاعدة وأصل مقرر في الفقه الإسلامي. والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على سيدنا محمد حتى يرضى ...

_ 1 السنن الكبرى 8/ 333، ورواه الحاكم في المستدرك 4/ 377. قال الذهبي في تلخيص المستدرك صحيح. 2 تاريخ الطبري 5/ 20 المطبعة الحسينية: مصر. 3 الأشباه والنظائر لابن نجيم وشرح الحمدي على الأشباه 1/ 89 والمادة "8" من محلة الأحكام العدلية، والمدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء 1/648.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... أهم مراجع البحث أولا: كتب تفسير القرآن الكريم: (1) أحكام القرآن: أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص (370هـ) ط. الأوقاف القسطنطينية 1338هـ. (2) الكشاف: محمود بن عمر الزمخشري (528) ط. مصطفى محمد بمصر 1354هـ. (3) أحكام القرآن: أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي (542) ط. دار إحياء الكتب العربية 1357هـ. (4) التفسير الكبير: عمد فخر الدين الرازي (656 هـ) ط. الأميرية بولاق 1289 هـ. (5) الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (671 هـ) ط. دار الكتب المصرية 1351 هـ. (6) لباب التأويل في معاني التنزيل: علاء الدين علي بن محمد الخازن (725 هـ) ط. الأزهرية 1313هـ. (7) روح المعاني: شهاب الدين الألوسي (1270هـ) إدارة الطبعة المنيرية بيروت. ثانيا: كتب الحديث النبوي وشروحه: (8) الموطأ- مطبوع مع شرح الزرقاني: مالك بن أنس الأصبحي (179 هـ) ط. الخيرية. (9) سنن الدارمي: محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (255 هـ) ط. الفنية. مصر 1386 هـ. (10) صحيح البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (256 هـ) ط. العامرة. مصر 1286 هـ. (11) صحيح مسلم: مطبوع مع شرح النووي: مسلم بن الحجاج النيسابوري (261 هـ) ط. المصرية ومكتبتها 1349 هـ.

(12) سنن الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (275 هـ) ط. الصاوي. مصر 1353 هـ. (13) سنن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (275 هـ) ط. هندية حديثة. (14) نوادر الأصول: محمد بن علي بن الحسين الحكيم الترمذي (285 هـ) ط. العثمانية. (15) سنن الدارقطني: علي بن عمر الدارقطني (385 هـ) ط. دار المحاسن. مصر (1386) هـ (16) السنن الكبرى: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (485 هـ) ط. دائرة المعارف العثمانية 1344 هـ. (17) النهاية في غريب الحديث والأثر: المبارك بن محمد بن الأثير (606 هـ) ط. العثمانية 1311 هـ. (18) شرح النووي على صحيح مسلم: يحي بن شرف النووي (676 هـ) ط. المصرية ومكتبتها. (19) فتح الباري شرح صحيح البخاري: أحمد بن حجر العسقلاني (852 هـ) ط. البهية. مصر 1348 هـ. (20) نيل الأوطار: محمد بن علي الشوكاني (1255 هـ) ط. العثمانية. (21) حاشية عون المعبود: أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي (1320 هـ) ط. هندية حديثة. (22) التعليق المغني على سنن الدارقطني: أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي (1320 هـ) دار المحاسن. ثالثا: كتب الفقه الإسلامي: (أ) الفقه الحنفي: (23) المبسوط: محمد بن أحمد بن سهل السرخسي (438 هـ) ط. السعادة. مصر 1324 هـ. (24) بدائع الصنائع: علاء الدين بن مسعود الكاساني (587 هـ) ط. المطبوعات العلمية، مصر 1327 هـ.

(25) الاختيار لتعليل المختار: أبو الفضل عبد الله بن محمود الموصلي (683 هـ) ط. السعادة. مصر 1376 هـ. (26) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي (742 هـ) ط. الأميرية1376 هـ. (27) الفوائد الطرسوسية: نجم الدين إبراهيم بن علي الطرسوسي (758 هـ) ط. الشرق. مصر 1344 هـ. (28) جامع الفضولين: أبو بكر علي المعروف بالحدادي (800 هـ) ط. الخيرية. مصر 1322 هـ. (29) معين الحكام: علاء الدين الطرابلسي (844 هـ) ط. الأميرية بولاق.. 13 هـ. (30) فتح القدير: كمال الدين بن الهمام (861 هـ) ط. الأميرية 1315 هـ. (31) البحر الرائق: إبراهيم بن نجيم المصري (970 هـ) ط. دار المعرفة. بيروت. (32) الأشباه والنظائر: إبراهيم بن نجيم المصري (970 هـ) ط. العامرة. مصر 1290 هـ. (33) حاشية ابن عابدين: محمد أمين الشهير بابن عابدين (1252 هـ) ط. العثمانية 25 13 هـ. (34) رسائل ابن عابدين: محمد أمين بن عابدين (1252 هـ) ط. العثمانية. (35) مجلة الأحكام العدلية: لجنة من العلماء (1298 هـ) ط. العثمانية. (ب) الفقه المالكي: (36) بداية المجتهد ونهاية المقتصد: أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (595 هـ) ط. البابي الحلبي 79 13هـ. (37) الفروق: أحمد بن أدريس القرافي (684 هـ) دار إحياء الكتب العربية 1346 هـ. (38) قوانين الأحكام الشرعية: أبو القاسم محمد بن جزى (741 هـ) دار العلم للملايين بيروت. (39) مختصر خليل: خليل بن إسحاق بن موسى (779 هـ) مع الشرح الكبير للدردير.

(40) تبصرة الحكام: إبراهيم بن فرحون (799 هـ) ط. البهية. مصر 2 130 هـ. (41) مواهب الجليل: محمد بن عبد الرحمن الحطاب (954 هـ) ط. السعادة مصر 1329 هـ. (42) شرح مختصر خليل: أبو عبد الله الخرشي (1101هـ) ط. الأميرية 1317 هـ. (43) الشرح الكبير- هامش حاشية الدسوقي- أحمد بن محمد الدردير (1201 هـ) . (44) حاشية الدسوقي: محمد بن عرفة الدسوقي (1230 هـ) ط. السعادة. مصر 1329هـ. (جـ) الفقه الشافعي: (45) الأم: أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (204 هـ) ط. الفنية. (46) مختصر المزني- هامش الأم: إسماعيل بن يحي المزني (264 هـ) . (47) المهدى: إبراهيم بن علي الشيرازي (476 هـ) ط. البابي الحلبي 1343 هـ. (48) مغني المحتاج: محمد الشربيني الخطيب (977 هـ) ط. البابي الحلبي 1377 هـ. (49) نهاية المحتاج: محمد بن أبي العباس الرملي 1004 هـ. (د) الفقه الحنبلي: (50) المغني: عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (620 هـ) ط. دار المنار 67 13 هـ. (51) السياسة الشرعية تقي الدين أبو العباس بن تيمية (728 هـ) دار الكتاب العربي. (52) مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ) ط. كردستان. (53) إعلام الموقعين محمد بن قيم الجوزية (751 هـ) ط. الجيل. بيروت. (54) الطرق الحكمية: محمد بن قيم الجوزية (751 هـ) ط. مصر. (55) كشاف القناع: منصور بن يونس البهوثي (1051 هـ) ط. أنصار السنة. الفقه الظاهري: (56) المحلى: أبو محمد علي بن أحمد بن حزم (456 هـ) ط. الإمام. مصر. رابعا: كتب أصول الفقه الإسلامي:

(57) المستصفى من علم الأصول: أبو حامد الغزالي (505 هـ) ط. الأميرية 1322 هـ. (58) كشف الأسرار: عبد العزيز البخاري (730 هـ) ط. العثمانية. (59) الموافقات: إبراهيم بن موسى الشاطبي (0 79 هـ) ط. السلفية 1 134 هـ. (65) علم أصول الفقه: عبد الوهاب خلاف. ط. النصر. خامسا: اللغة والتراجم: (61) لسان العرب: محمد بن مكرم بن منظور (711 هـ) ط. الأميرية 1300 هـ. (62) التعريفات: علي بن محمد السيد الجرجاني (816 هـ) ط. البابى الحلبي 57 13 هـ. (63) تاج العروس شرح القاموس: محمد بن محمد مرتضى الزبيدي (1205 هـ) ط. الخيرية 6. 13 هـ. (64) الإعلام: خير الدين الزركلي ط. بيروت. سادسا: مؤلفات حديثة: (65) طرق القضاء في الشريعة الإسلامية: أحمد إبراهيم ط. السلفية مصر 1347 هـ. (66) التعليق على نصوص قانون الإثبات: أحمد أبو الوفا ط. منشأة المعارف. (67) علم القضاء: أحمد الحصَري. (68) أصول المرافعات الشرعية: أنور العمروسي. (69) دروس في قانون الإثبات: عبد الودود يحي ط. دار النهضة العربية. (70) مباحث في المرافعات الشرعية: محمد زيد الابياني ط. عبد الله الكتبي. مصر. (71) من طرق الإثبات في الشريعة والقانون: محمد البهي. ط. دار الفكر العربي.

§1/1