نضرة البهار في محاورة الليل والنهار

محمد بن المُبارك الجزائري

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أطلع الشمس ضياءً والقمر نورا، وجعل الليل والنهار خلفه لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، والصلاة والسلام على من عنت لمجده الأملاك، وعنته الحضرة في خطاب (لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك)، وعلى آله الوارثين منه أسمى السجايا والمآثر، وأصحابه الآخذين عنه أسنى المزايا والمفاخر، ما تعاقب الصباح والمساء، وتناوب الظلام والضياء. وبعد - فإني نظرت ذات يوم في اختلاف الليل والنهار، وأودع الله في ساعاتهما من دقائق الحكم والأسرار، وأصغيت لنا يترجمه لسان الحال، لأسند ذلك إليه دون انتحال، فرويت عنه من حديثهما بدائع وغرائب، وقد قيل (إن في الليل والنهار عجائب): من لم يؤدبه والده ... أدبه الليل والنهار وصغت تلك المعاني، في مقامه رقيقة المباني ذات نثر فائق، ونظم بديع رائق. تكاد من عذوبة الألفاظ ... تشربها مسامع الحفاظ

أول المحاورة

قد أبرزتها في معرض المحاورة، لتجنح إليها أرباب المحاضرة، وأودعتها غررا من بنات الأفكار، ودررا تزهو على البنات الأبكار. كلما لو للدهر سمعا ... مال من لطفها إلى الإصغاء فهي مقامة لطيفة تغنى عن مقامات البديع، ومقالة ظريفة تحتوي على بديع المحاسن ومحاسن البديع، بل فكاهة أحلى من عيش الصبا، ونفثة أرق من نفحة نسيم الصبا، أخلصت في حسن تخلصها لمدح أمير المغرب، وضمنتها معنى (المرقص والمطرب)، فهي (عنقاء مغرب) وسميتها (نضرة البهار في محاورة الليل والنهار)، وذلك أنه أبدى السنا والدجى ما هو للأذن قرط وللعين قرة، فكلما أسفرت ذاك عن بياض الغرة قابلة هذا بسواد الطرة، ثم صار الهزل جدا، فاستنجد كل منهما أميره، وأفشى له سره وضميره، وإذا بالليل حمل على النهار، فصبغ حمرة وردته بصفرة البهار، وخطر يجر ذيول تيهه وعجبه، مرصعا تيجان مفاخرة بدرر شهبه، وقد كساه بدر الكمال برد الجمال، ولوائح المهابة والجلال، تلوح عليه في ذلك المجال، فصدر النقول بأحاسن رواياته، وحير العقول بمحاسن كناياته،

ثم قال: {والليل إذا يغشى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} ففتح باب المناقشة في هذا الفصل، وعقد أسباب المنافسة بقوله الفصل، (فإن الحرب أولها كلام) ثم تنجلي عن قتيل أو أسير كلام. ولما بلغ الليل غايته، بزغ الفجر ورفع رايته، وقال إذ جال في معترك المنايا (أنا ابن جلا وطلاع الثنايا)، فتقدم في ذلك الميدان وجلّى، تاليا قوله تعالى {والنهار إذا تجلى}، ثم استوى على عرش السنا والسناء، وأطلع شموس طلعته في الأرض والسماء، فأعرب عن غوامض الرقائق والحقائق، وأغرب في نشر ما انطوى من الأسرار والدقائق، وبعبارة تمتزج بأجزاء النفوس لنفاستها، وبراعة ترتشف من سلافتها القلوب لسلاستها، فلله دره ما أفصحه من ترجمان، قد جلا من نقود معارفه ما أزرى الجمان، وانحدر من منبره، حتى أيد دعوى خبره بشاهد مخبره. فانتدب إليه الليل، ومال عله كل الميل، وجعل نجوم النيرات له رجوما، وما غادر منه أطلالا ولا رسوما، ولما طرّز البردَ بود الدجى،

ورصع إكليله بزهر العلا فاستهوى الحجا، قال: أحمد من جعلني خلوة للأحباب، وجلوة لعرائس العرفان ونفائس الأدب، وخلقني مثوى لراحة العباد، ومأوى لخاصة النسَّاك والعباد، ولله درُّ من قال فأجاد: أيها الليل طل بغير جناح ... ليس للعين راحة في الصباح كيف لا ابغض الصباح وفيه ... بان عني نور الوجوه الصباح أتردد على أرباب المجاهدة بفنون الغرائب، وأتودد إلى أصحاب المشاهدة بعيون الرغائب، تدور في ساحتهم بدور الحسن والبهاء، وتدار من راحتهم كؤوس الأنس والهناء فتحييهم نغمات السمر، وتحييهم نسمات السحر، فأحيان وصلى بالتهاني مقمرة، وأفنان فضلى بالأماني مثمرة، وحسبي كرامة أني للناس خير لباس، أقيم بلطف الإيناس من كل باس، ومن واصل الإدلاج وهجر طيب الكرى، قيل له (عند الصباح يحمد القوم السرى): وما الليل إلا للمجد مطية ... وميدان سبق فاستبق تبلغ المنى ففتن بمعاني بيانه البديع، وتفنن في أفانين التصريع والترصيع، ثم أتم خطبته بالتماس المغفرة والعفو، واستعاذ بالله من دواهي الغفلة ودواعي اللهو.

فوثب إليه النهار، وصال عليه صولة ملك قهار، وصعد على منبره ثانيا، وقد أضحى التيه لعطفه ثانيا، فأثنى على من جلَّى عنه ظلمة الحجاب، وتجلى له باسم النور وتوجّه بسورة من الكتاب، وزانه بأبهى سراج وهّاج، فأوضح بسناه السبيل والمنهاج، ثم صاح: أيها الليل، هلاّ قصرت من إعجابك الذيل، ولئن دارت رحي الحرب، واستعرت نار الطعن والضرب، فلأسبين مخدراتك وهي عن لوجوه حاسرة، وأنت تتلو يومئذ تلك ذا كرة خاسرة فما دعاك إلى حلبة المفاضلة؟ وما دهاك حتى عّرضت بنفسك للمناضلة؟ وهل دأبك إلا الخداع والمكر؟! وترقب الفرصة وأنت داخل الوكر؟! أما حصن القرآن على التعوذ برب الفلق وندب، {من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب}، فبربي يستعاذ من شرك، ويستعان على صنوف صروف غدرك، وهَبْ أنك تجمع بالحبيب، إذا جار عليه الهوى وحار الطبيب، فكم يقاسي منك في هاجرة الهجر، ويئن أنين الثكلى حتى مطلع الفجر. يبيت كما بات السليم مْسَهَّدا ... وفي قلبه نارُ يَشُبُّ لها وقْدُ فيساهر النجوم، ويساور الوجوم، وقد هاجت لواعج غرامه، وتحركت سواكن وجده وهيامه، فأنشد، وزفيره يتصعد: أقِضْي نهاري بالحديث وبالمني ... ويجمعني والهمَّ بالليل جامع نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... ليَ الليلُ هزتني إليك المضاجع

على أن العاشق الواله، يشكو منك في جميع أحواله، فكم قطع آناك بمواصلة أنينه، متململا من فرط شوقه وحنينه، فلما أن حظي بالوصال، تمثل بقوله من قال: الليل إن واصلت كالليل إن هجرت ... أشكو من الطول ما أشكو من القِصَر ولئن افتخرت ببدرك الباهر الباهي، فإنما تباري ببعض أنواري وتباهي، وهل للبدر عند إشراق الشمس من نور؟ أو لطعة حسنة من خدور البطون ظهور! ومن ادَّعي أنك تساويني في الفضل والقدر! أو زعم أن الشمس تقتبس من مشكاة البدر! ومتى استمدت الأصول من الفروع، (وما أغنى الشموس عن الشموع)، فبي تتجلى محاسن المظاهر الكونية، وتتجلى بجواهر الأعراض اللونية، وأنُى يخفى حسني وجمالي على مشاهد؟ أو يفتقر فضلى وكمالي إلى شاهد! وعْرضي عار من العار، وجميع الحسن من ضيائي مستعار. وليس يصحّ في الأذهان شيءُ ... إذا احتاج النهار إلى دليل أما كفاك بينة وزادك ذكرى وتبصرة، وقوله تعالى {فمحونا آية الليل وجعلنا أية النهار مبصرة}، و {هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور}، وأين منزل أهل الغفلة من منزل أهل اليقظة والحضور، وإن كنت معنى الأنس والأفراح، تفعل بعقول الناس فعل الراح، فهل حسبت أن السكون خيرُ من الحركة، وقد أجمع العالم على أن

(الحركة بركة)، فلي في بكل خطوة حظوة، وليس لجوادي كبوة ولا لصارمي نبوة، وأن صرحت بالذين يبيتون لربهم سجدا وقياما معرّضا بكل غافل لاه، فلي في كل مجال (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)، وأين من احتجب بظلمات بعضها فوق بعض، ممن أضحى ينظر بعين الاعتبار في ملكوت السموات والأرض!، إلا وإن أولى الألباب، رأوا الدنيا وقد أتحفني الله بالصلاة الوسطى فأوتر بها صلواتي، وشرع فيها الإسرار اختصت بها أهل جلواتي وكفاني شرفا (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)، فياله من شهر أيامه أعياد ومواسم، نفحات أنسه نواسم وثغور حسنه بواسم، فمآثري مآثورة في القديم والحديث، ومفاخري منثور في الكتاب والحديث، ومحاسني واضحة لأولى الأبصار، (وهل تخفى الشمس في رابعة النهار)، فاكفف عن الجدال وأمسك، ولا تجعل يومك مثل أمسك، وسالم من ليس لك عليه قُدْره قيل (ما هلك امرؤ عرف قدره)، أقول قولي هذا واستغفر الله من آفة العجب والكبرياء، وأسأله أن يخلص أحوال أسرتي من أو حال التصنع والرياء.

ولما أنهار ركن النهار، ابهارَّ وتبرقع بالإكفهرار، فسد ما بين الخافقين بسواد، وطفق يرمي بسهام جداله في جلاده، وقدم بين يدي نجواه سورة القدر، آية على ما حازه من كمال الرفعة والقدر، وثَّنى بقوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) فأشار إلى الحبيب حين تجلت له قرة عينه ليلى، ثم قال: سحقا لك أيها النهار، فقد أسست بنيانك على شفا جرف هار، تناضلني ومني كان انسلاخك وظهورك، وتفاضلني وبي أرخت أعوامك وشهورك، قد أطعت هواك في عصياني وعقوقي، وأضعت مندوب مطالبي وواجب حقوقي، ألم يأن لك أن تخشع للذكر، فتعرف لي برتبة التقديم في الذكر، وشتان بين المتوكل وصاحب السبب، وكم بين لذة الراحة ومرارة التعب، وعلى الأعمى سوى المحجوب عن المحبوب، (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب)، كيف تعِّيرني بلون السواد، وهل يقبح السواد إلا في الفؤاد، أم كيف تعيبني بالخداع، (والحرب خدعة)، وليس الشيء في موطنه بغريب ولا بدعة، أما تشهد العوالم من هيبتي حيارى؟ {وترى الناس سكارى وما هم بسكارى}، فكم أرَّقت ملوكا أكاسرة، وأرقتُ دماء أسود كاسرة، وكم أوريت نار الوغى تحت العجاج، وقد

أوزرت اللحاظ وأغبرت الفجاج فأنا البطل الذي لا يصطلى بناره، ويأخذه منه الموتور بثاره، وافتخارك عليّ بالصلاة الوسطى، ليس إنصافا منك ولا قسطا، وهَبْ أنك انفردت بتلك الصلاة الجليلة، فأين أنت مما أوتيته من الصلات الجزيلة، إلا وإن أعمالي تزهو أنوارها، وتزكو عند الحق تعالى أسرارها، وهل من نوافلك كانت تلك الفريضة، حتى تطاولت عليّ بدعواك الطويلة العريضة، أما كان افترض الصلاة في ليلة العروج؟! فما بالك تدعى الارتقاء إلى هذه البروج؟! وما أعجبتني قط دعوى عريضة ... ولو قام في تصديقها ألف شاهد وأما افتخارك علىّ بفضل شهر رمضان، وما نزل فيه من السبع المثاني والقرآن، فهل صح لك صيامه إلا بي بدءا وختاما؟! وقد تميزت عليك بفضيلة إحيائه تهجدا وقياما، على أني محل النية، (ونية المرء خير من عمله)، لأنها بمثابة الروح له وبها يحظى الراجي ببلوغ أمله، هذا وإني أتكفل الأسود من الفجر، وكيف تفتخر بالكتاب المنزه في مزاياه عن المشاركة؟ والله تعالى يقول فيه (إنا أنزلنا في ليلة مباركة)،

وقد زعمت أنك انفردت بجمع فنون المجد والفضل، لم تخف يوم الفصل، (وما أدراك ما يوم الفصل)، هل في مطالع سعودك أشرقت بدور العيدين؟! أم على جناح جُنحك أسري بنور طلعة الكونين؟! ثم عرج عليه الصلاة والسلام إلى منزله قاب قوسين، وهل في تجليات أسحارك يقول الرب هل من سائل؟ فيناجيه العبد متضرعا إليه بقلب خاشع ودمع سائل، متوسلا إلى حضرته بأعظم الوسائط لديه وأكرم الوسائل، ومما اختصصت به من الفضائل والمفاخر، إنه في دولتي وُلدَ سيد الأوائل والأواخر، ناهيك بليالي شهر الله رجب، التي تأكدَ فضل مبتدئها بالخير ووجب، وكيف لا وفي طالعها السعيد حملت آمنة، بأكرم نبي به أمته من المخاوف آمنة، فهي فاتحة الأوقات الزاهية الزاهرة، وواسطة عقدها بحسن خاتمة النبوة الباهرة فطلع النهار طلوع الأسد من غابه، وكسر جيوش الدجى حين كشر عن نابه، وشمر للحرب العوان، غير ناكل ولا وان، ناشراً في الأفق رايته البيضاء وأسنته لامعة بين الخضراء والغبراء، وقال: والذي كساني حلل الملاحة، وأطلق لساني بالبلاغة والفصاحة، لأمحون سطور الدجى من طروس والوجود، ولأثبتن حسن أحوالي في مقامات أهل الشهود فإني معروف بالوفاء وصدق الخبر، موصوف بالصفاء الذي لا يشوب صفوه كدر، كيف يباهيني الليل بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وأنا أتحدث بنعم الله وهو موسوم بكفران

النعم، ألست مظهر الهداية والدلالة، وهو مظهر الغواية والضلالة، فكم أرشدت من أضله، وأعززت من أهانه وأذله؟! وكم أظهرت منه عيبا كان غيبا، فابيضت عينه حزنا، (واشتعل الرأس شيبا). كل ذلك وما تخلى عن ظلمة ظلمه، ولا تحلى بحلية الإنصاف في نثره ونظمه. ومن جهلت نفسه قدره ... لأي غيره منه ما لا يرى وكيف يزعم هذا العبد الآبق، أنه لسيدة في حلية الشرف سابق، وقد قال الواحد القهار (ولا الليل سابق النهار)، متى قام على منابر العلا بنو حام، واجلس أحدهم في ديوان الفخر بين أبناء سام، أن هو وأيم الله إلا كافر، وبشموس أنوار الشهادة غير ظافر، لو كان من السعداء لفاز بدار النعيم، ولو شقاؤه لما شابه سواد طبقات الجحيم، وماذا يؤمله من الجزاء ويرجوه، (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه)، أما درى أن صحيفة سوداء مظلمة، وصحيفتي تفصح عن نفس مؤمنة بالله مسلمة، وأنى يرقى كتابه إلى عليين، وهو من ظلمات الحجاب في سجين، ثم أقبل عليه، وأنشد مشيراً إليه: يا مشبها في فعله لونه ... لم تعد ما أوجبت القسمة خُلفك من خَلفك مستخرجُ ... والظلم مشتقُّ من الظلمة وقال له: كيف تدعى فوق حالك، وأي فضل لمن منظره أسود حالك!! أما الظاهر للباطن عنوان، كما أن اللسان عن الجنان ترجمان، فإن الحسن نرجوه (ابتغوا

الخير عند حسان الوجوه). وقال الشاعر: لا تسأل المرء عن خلائقه ... في وجهه شاهد من الخبر فأنا مفتاح خزائن الأرزاق، وبي يستفتح باب الكريم الرزاق، وكفاني دليلاً على الفضل والكمال، (إن الله تعالى جميل يحب الجمال)، لقد سمعت أقاويلك التي قدمتها بين يديك، وزعمت أنها حجة لك وهي حجة عليك، ولا جرم أن (لسان الجاهل مفتاح حتفه)، وكم من حجة قتل بصارم بغيه وحيفه، وأما انسلاخي منك فمن أملح الُملَحِ لي والغرر، وهل يحق لأصناف الأصداف أن تنافس نفائس الدرر؟ أليست تلد الأمة ربتها حرة نجيبة، وقد قالوا إن الليالي حبالي ... يلدن كل عجيبة وأما تقدمك على فمن العادة، تقدم الخدم بين يدي السادة. أوما ترى أن النبي محمداً ... فاق البرية وهو آخر مُرْسَل على أنه (أول ما خلق الله النور)، كما ورد عن جابر في خبر المأثور، وأما نحلى صفوتك بتجلّي الحق تعالى في السِّحَر، فليس إلا لمن أحيا أحيانك بالمجاهدة والسهر، على أن أوقاتي كلها أسحار، فكم جلوت بشموس الأنوار غياهب الأستار، وأما زهوك بقضية ظهور سيد ولد آدم، الذي هو نتيجة مقدمات الكون وزبدة العالم، فهل وقع اتفاق الرواة على ذلك، وأنَّى لك هذا وصبح طلعته يمحو سوادك الحالك،

وأما خبر الإسراء فعنّي روته الأمة، ثم بلغه الشاهد بعد أمة، فما لاحت أسراره إلا بمطالعي، ولا زاحت أستاره إلا بطوالعي، وما أشرت إليك من بقية معانيك، التي أضاءت بها في الخافقين نجوم معاليك، فأين أنت من يوم عرفه، الذي عّرفه بأبهى الخصائص من عرفه، وأين أنت من يوم عاشوراء الذي يعظم فيه الشكر والصبر على السراء والضراء، وناهيك بسمو شان العيدين، فما أجلهما من موسمين سعيدين، وكيف تفاخرني بساعة تبدو منك مرة في كل عام، ولى في كل أسبوع أمدُ تمتد فيه موائد الجود والإنعام، على أن يومه لأشتات الكمالات جامع، يهتز فيه بذكر الله تعالى كل جامع، فياله من يوم يستجاب فيه الدعاء، ويستجاد الثناء على رب العزة والسناء، ولو تأملت مالي من بديع الأوصاف والشمائل، لما اجترأت على مجاراتي في حلبة الفواضل والفضائل، هل في معاهدك كانت الصحابة تتلقى القرآن، وتترقى في مراتب الإحسان بمشاهدة إنسان عين الإنسان، أم في مشاهدك وردت وقائع الجهاد، وعبد الله وحده على رؤوس الإشهاد، فأخبار أخباري سارت بها الركبان، وماست بنسيم وقتها معاطف البان، وقدري فوق ما تصفه الألسن، وعندي (ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين)

فدع عنك قول الزور والمين، (فقد بُيِّنَ الصبح لذي عينين). فلما أفاض النهار، في حديث يفضح الأزهار، إبداع في كنايته وتلويحه، وأغرب في تعريضه وتصريحه، فابتدر إليه الليل، وأجاب عليه بالرجل والخيل، وامتطى جواده الأدهم، واعتم بعمامة سواده وتلثم، فأنسى بفتكاته عنترة بني شداد، حين أمسى يتوعد عمارة بالقتل والرمس، ثم نشر في الأفق ذوائبه السود، وعبس وبسر فأسر بسطوته الأسود وقال: (فلا أقسم بالشفق، والليل ومل وسق، والقمر إذا اتسق) لأسبين رومي النهار، ولأجعلنه عبرة لذوي الاعتبار، فلقد تزيّا المملوك بزي الملوك، وادعي مقام الوصول صاحب السير والسلوك، أما كفاه ازدرائي وتحقيري؟! حتى حكم بتضليلي وتكفيري! كم أسلبت على عوراته ذيل سترى، وهو لا يبالي بهتك أستاري، وكم أودعت مكنون سره في خزانة سري، وهو يبوح بمصون أسراري، أفٍ له من فاضح، أما يكفيه ما فيه من المفاضح؟! أنمَّ بما استودعته من زجاجةٍ ... يرىُ الشيء فيها ظاهراً وهو باطن كيف احتج لتقدمه بحديث جابر، مع أن ما رواه لكسرى أعظم جابر، فإنه برهن على تقدمي عليه، لو أدرك سر ما أومأ إليه، وعلام جعل السواد إني حزت من الكمال الحظ الأوفر، حتى تحلى ببديع وصفى العنبر

والمسك الأذفر! إن كنتُ عبداً فنفسي حرةُ كرماً ... أو أسود الخلَقْ إني أبيض الخُلِقٍ وهل يزري بالخال سواده البارع، أو يغرى بالبرص بياضه الناصع، وفي بياض المشيب عبرة، فكم أجرى من الآماق أعظم عبرة، له منظر في العين أبيض ... ناصع ولكنه في القلب أسود أسفع ومن عاب نعت الشباب وفضل وصف الشيب فقد غاب عن شهود العيب وعالم الغيب، (فما كل بيضاء شحمة، ولا كل حمراء لحمة)، هذا وإن السواد حلية أهل الزهد والصلاح، وهل يسترق الأُسود إلا سود أحدق والقلب الطاهر، فإن تفاوت المراقب، بحسب تفاوت المناقب. وما الحسن في وجه الفتى شرف له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق ألا وإن لي أخلاقاً، لو مزج بها البحر لعذب مذاقا، فإني أكتم الأسرار، وأعمي عيون الأشرار، وأريح الكرام الكاتبين، وأبيح الكرامة للطالبين، وكم أعددت للأنس مقاعد، وفي الأمثال (رب ساعٍ لقاعد)، فإن ظلي ظليل، ونسيمي عليل بليل، تهدؤ بي الأنفاس،

وتسكن الأعضاء والحواس، وتتجلى بنات الأفكار، وتجتلي البنات الأبكار، وتمتد من أصناف الإحسان موائد، وتميد من أعطاف الحسان موائد، وهل للنهار محيا كطلعة القمر، أو شعرُ كالدجى فلله سواد ذلك الشعر، أو منطقة كالجوزاء، أو قرط كالثريا ذات السنا والسناء، أو نهر كالمجرة فياله من نهر، تزهو على الزهر نجوم رياضة الزهر، وأية زهرة تباهي الزهرة، أم أية قلادة تضاهي في نظمها النثره، وماذا أعدُّ من شيم لا تنتهي عددا، ولو كان مداد البحار السبع لها مددا. ولما أنهى مقاله ومل مُقامه، شمر للرحلة أذياله وقوض خيامه فتهلل وجه الصباح، وهلل يذكر فالق الإصباح، وازدهاه السرور والابتهاج، كأنه رب السرير والتاج: فكأنّ الصبح لما ... لاح من تحت الثريا ملكُ أقبل في التا - ج يفدِّي ويحيا وبرز إلى البارزة من بابها، إذ كان من فرسانها وأربابها، فسلب الليل لباسه، وأذاقه شدته وبأسه، وقال له: أيها المعجب بنفسه، المغرب في نقشه صحيفة زوره بنفسه، (ما كل سوداء ثمرة، ولا كل صهباء

خمرة)، ألم تعلم أينا أبهى محيا، وشتان ما بين الثرى والثريا، أين سوادك من بياضي؟ وما زُهر نجومك إن تلألأ زَهر رياضي وكم أطلعت بدورا في مواكب السيارة، فأضحت تزهو بجمالها على الكواكب السارة. إذا ركبوا زادوا الموكب بهجة ... وإن جلسوا زانوا صدور المجالس وهل لك مثل الغزالة، التي انفردت في الملاحة لا محالة، فأنا الذي ضاء صباح الصباحة من محياه، وضاع عبير العنبر من نشر أنفاسه وطيب رباه، ولولاي ما عرف الحسن والجمال، ولا سعي على وجه الأرض بدر الكمال، ولا تميز الحي من الميت، ولا بدا للعيان سر هذا البيت: ثلاثة تجلو عن القلب الحزن ... الماء والخضرة والوجه الحسن فبي تفوح روائح الأزهار، وتلوح الأنوار، وتقتبس الفوائد، وتلتمس الفرائد وما لاح جيدي الحالي وجيدك العاطل، إلا تلا لسان الحال (وقل جاء الحق وزهق الباطل)، وقد قدمت أني فاضح، أو ما عملت أن (الحق أبلج) واضح، فإني نظرت إليك بنور علام الغيوب، فظهر لي ما بطن في سرك من العيوب، فجعلت مطوي معائبك كتابا منشورا، وصيرت منظوم كواكبك هباءا منثورا، فأنا الناقد البصير، والله الولي لي والنصير، كيف تحاول من لواك عن اتباع هواك، وأنت

تدعي رتبة الكمال فهلا نَهاك نُهاك. ومن البلية عزُل من لا يرعوي ... عن جهله وخطابُ من لا يفهمُ وهب أنِّي واشٍ بالأسرار نمام، أو مرتكب في الأنام جميع الآثام، فلست أقود المعشًوق إلى العاشق، فأسترهما بردائي عن الرقيب والراشق، وقال مشيراً إلى ذلك، من سلكت به هاتيك المسالك. بتنا على حال يسرِّ الهوى ... وربما لا يمكن الشرح بوابنا الليل وقلنا له ... إن غبت عنا هجم الصبح فوجم الليل لبراعة تلك العبارة، وبلاغة ما لاح له من الرمز والإشارة، ثم وثبت للمقال، كأنما أنشطُ من عِقَال، وقال: (رب ملوم لا ذنب له)، ومظلوم خيِّب الدهر أمله، فإليَ متى يسوءني النهار، وحتى متى يسومني عذاب النار، طالما أعرته أذنا صماء، وعينا عمياء، وهو لا ينثني عن لمقابلة، ولا يرعوي عن المحاربة والمقاتلة، ومن العجب أنه عد تحدثي بالنعمة إعجابا، وجعل تصدري في ديوان المآثر شيئا عُجابا، وصرح بوضع أحاديثي وهي متواترة باشتهار، وقد قيل (كلام الليل يمحوه النهار)،

ولما لاح ذنب السرحان في أفق المشرق، صاح متمثلا بقوله: (البلاء مُوَكلُّ بالمنطق)، فقام يعثرُ في ذيله، وقد كفكف واكف سليه، فما لبث أن تنفس الصباح، وأظهر من سناه ما أخفى ضوء المصباح، ورفرف بجناحه الأبيض على الدجى، فاقتنصه من وكره بعد ما سكن وسجى. فكأن الصباح في الأفق باز ... والدجى بين مخلبيه غراب وقال: تباً لك أيها الليل، فلقد أوتيت من المين أوفر نيل، أي حديث لك صحيح وضعته، وأي حق لك صريح أضعته؟ عليك بالصدق وله أنه ... أحرقك الصدق بنار الوعيد وابغ رضا الله فأغبى الورى ... من أسخط المولى وأرضي العبيد نعم لك في السمر خبرُ مرفوع، بيد أنه مكروه في السنة موضوع، فقد اشتهرت بأقبح الأوصاف، وعدلت لكن عن سبيل العدل والإنصاف، تكتم عن المرء ما يرُديه، (وتخفى في نفسك ما الله مبديه) وفي المثل (الليل أخفى للويل)، فما أصعب مراسك قبل افترار سُهيل، وهل يترنم بذكرك إلا غافل؟! وأنَّي يغتر بك

عاقل ونجمك آفل؟! وكيف تفتخر عليَّ، وأنت تفتقر إليَّ؟! طالما أيقظت من أغفلته، وأطلقت من قيدته وأعللته، وبيضت ما سودته من الصحائف، وبينت ما أخفيته من اللطائف، فقابلت الإحسان بالكفران، وعادلت العدل بالعدوان، فراقب الحق في سرك وعلانيتك، فإنه سبحانه مطلع على نيتك. ولما سلب النهار بأساليب بيانه العقول، سكت الليل مليا ثم أنشأ يقول: فعين الرضى عن كل عيب كليلةُ ... كما أن عين السخط تبُدي المساوئا كيف أتصدى للكذب، وأتردَّى باللهو واللعب، وأنا المنعوت باللطف والظرف، والموسوم بالصمت وغض الطرف، كيف أورث الغرور، وأوثر الغفلة على الحضور، وأنا الداعي إلى ذكر الله وحده، والساعي في رد الكثرة الوهمية إلى عين الوحده، كيف أكفر بالعشير، ولو لم يقابل بالعشير، وأنا الموصوف بالستر الجميل، والمعروف بشكر المعروف والجميل، وهل أحجبُ البصر عن شهود عالم الكثافة، إلا لأكشف لعين البصيرة عن العالم اللطافة، وبذلك يتحقق العبد بفنائه عن وجوده، فيمده الرب تعالى بسر بقائه من خزائن جوده، فلو راعي النهار حقوق المجاورة، لما راعني بأسنة المناظرة والمحاورة، ومانَمَّ بسْره وباح، حتى بان محيا الصباح، فحمل على عسكر الدجى بعموده، فنثر من دررُ دراريه نظيم عقوده، ثم لاح في وجه الشرق

حاجب الشمس، فاسنقذ ما استرقه لِصُّ الليل من الحواس الخمس، فكأنه جذوة نار، أو قطعة من دينار. ترى الأرض منه وقد فُضِّضَتْ ... ولون السماءِ وقد ذُهِّباَ ثم قال النهار لليل، وقد هجم عليه هجوم السيل، أيها المدعي مقام الدعوة إلى الله، وهو في حال الغفلة عن مولاه لاه، كيف تسنمت ذروة هذا المنبر؟ كأنك تكتب بالمسك وتختم بالعبر!! لقد أطلت فيما (لا طائل تحته) ولا معنى، (أسمع حعجعةً ولا أرى طحنا)، فلو كنت ممن انتخب غرر الشيم وانتقى، لاتعظت بقوله تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى)، فتنبه من غفلتك أيها الليل، قبل أن تدعو بالثبور والويل، وإلا فرَّقت طلائع سوادك أي تفريق، ومزقت سوابغ ظلامك أي تمزيق، (فما كل مرة، تسلم الجرة). فاسودَّ وجه الليل، وانقلب بحشف وسوء كيل، ندم على مناضلة النهار، ندامة الفرزدق حين فارق النَّوارَّ، (ولما سقط في يده)،

رُزئ في عَدَده وعُدَده، تَرَّى بالسواد، ولبس ثياب الحَداد، ثم لاح هلاَله للعين، كمنجل صيغ من لجين فأنشد وقد أرّقه البين: انظر إلى حُسن هلال بدا ... يجلوسنا طلعته الحنّدسا كِمنجل قد صيغ من فضة ... يحصد من زهر الدجى نرَجَسا وقال: من ينصفني من هذا الجائر؟ وينصت لي فأبثه شكوى الواله الحائر، قسما بالحجر الأسود العظيم المبرَّة، وكل أشعت أغبر لو أقسم على الله لأبرَّه، ما أضمرت للنهار شرا، ولا أذعت له سرا، فحتّام أعاني حد الظبا، (وقد بلغ السيل الزُّبى)، ولله در المعنى، حيث قال في هذا المعنى: وكنت كالمتمني أن يرى فلقا ... من الصباح فلما أن رآه عمى فانتبه طرف النهار، وازدهر سراجه أي ازدهار، وشرح يتلو سورة النور بكمال الابتهاج، والشمس ترقم أية جماله بالذهب الوهاج. وقابل الصبح الليل فارتسمت ... سطوره البيض في ألواحه السود ثم قال: أيها الليل البهيم، (تالله إنك لفي ضلالك القديم)، كيف تدعي أنك مظلوم، وتشتكي من جوري وأنت الظلوم، وهب أني قاتلتك ظلماً فأنت البادي، وهل قابلتك إلا بما واجهتني به في المبادي،

وهل أنا برهنت على فضلي بشهود عُدُول، ليس للمنصف عن تزكية شهادتهم عدُول، فاستقل من دعوى المجد والفخر، فقد (حصحص الحق) ووضح الفجر، وإن أبيت سلوك محجَّتي، ولم تتضح لك أدلة حُجَّتي، فهلمَّ إلى حضرة الأمير، (ولا ينبئك مثل خبير). فأنكر الليل زعمه التفرد بالفضل وادعاءه، وأجاب في عرض أمرهما على الأمير دُعاءَه، وقال: (على الخبير سقطت)، (وعند ابن بجدتها حططت)، فإنه الحاكم العادل، والعالم العامل، وأمليا عليه جميع الواقعة والمجادلة، وما جرى لهما في المفاضلة من المناضلة، وسألاه أن يكون بينهما حكماً، ويوليهما من لطائف مواقفه حكما. فقام في ذلك المقام خطيبا، وقال مُلَبِّياً دعوتهما ومجيبا: (حمدا لمن أعطى كل شيء خلقه ثم هداه، وأسداه من جزيل نعمه وجميل كرمه ما أسده، وصلاة وسلاماً على إمام الأصفياء الأطهار،

(ختامه مسك)

المنزل عليه (ومن رحمته لكم الليل والنهار)، وعلى آله وصحبه الذين طلعوا في سماء العلا شموسا وبدورا، فازدان بهم الوجود حسنا وجمالا وازداد بهجةً ونوراً. وبعد - فيا أيها الملوان، أما علمتما أنكما أخوان، قد أبرز كما الحق مثالا لعالم الغيب والشهادة وضربكما مثلا معلنا بوجوب الإقرار له بالشهادة، فلا ينبغي لأحد أن يتجاوز حده ومداه، فان لكل مقاما معلوما عند ربه لا يتعداه، على أنكما في المجد والشرف (رضيعاً لبان)، وفي مضمار العز والفخر (فرسارهان)، وأما كونكما ابني ضرتين ظلمة وضياء، فن الدهر يجمع بينكما في الانتساب إليه والانتماء، فليشدّ كلّ منكما عضُدَه بأخيه، وليحذر من تفريطه في حقوقه وتراخيه، وعليكما باطراح رداء الافتخار، فإن العبد لا يسود إلا بالافتقار، بارك الله فيكما وبلغكما المرام، ما سطعت شمس الأكوان ولاح بدر التمام) ولما أصلح ما بين الليل والنهار، بهر الألبان بعوارف معارفه أي انبهار، فلله فوائد كفرائد اللؤلؤ في السلك، أو كؤوس من رحيق مختوم (ختامه مسك).

§1/1