نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق

ناصر الدين الألباني

مقدمات

مقدمات المقدمة وسبب تاليف الرسالة ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: الحمد لله الذي اصطفى نبينا على سائر البشر، وعصمه من الشيطان أن يوحي إليه بشرِّ، فقال تعالى مخاطبًا إبليس اللعين: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] ، بل جعل تعالى له السلطة على شيطانه القرين، فكيف من كان عنه من المبعدين؟. كما أشار إلى ذلك قول رسوله الكريم: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن" قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: "وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير"1. وصلى الله على محمد الذي مكنه الله تعالى من إبليس حتى كاد أن يخنقه، وهَمّ أن يربطه بسارية من سواري مسجد المدينة2 وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. وبعد؛ فقد كتب إلي بتاريخ 14/ 7/ 1952م بعض الأساتذة

_ 1 أخرجه أحمد "رقم 3647، 3778، 3801، 4393" طبعة المكتب الإسلامي، ومسلم "8/ 139" عن ابن مسعود. 2 جاء ذلك في "صحيح البخاري" "3/ 62" بشرح ابن حجر، ومسلم "2/ 72"، غيرهما.

من الإخوان الأعزة من الباكستان -حيث أُوفد إليها لغاية علمية- يسألني عن رأيي في حديث الغرانيق الذي اختلف فيه قول حافظين كبيرين، هما: ابن كثير الدمشقي، وابن حجر المصري، فقد أنكره الأول وقواه الآخر. وطلب مني أن لا أضن بالجواب عليه، فلبثت بعض الأشهر أترقب فرصة أستطيع فيها إجابة طلبه. ثم لقيني أحد الأحبة عقب صلاة عيد الأضحى لهذه السنة -1371هـ- فسألني أيضًا عن حديث الغرانيق، فأجبته بأنه لا يصح، بل هو باطل موضوع، فذكر لي أن أحد الشباب ممن في قلوبهم مرض احتج به على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان -وحاشاه- يتكلم بما يرضي المشركين جذبًا لهم إليه، لأنه بزعمه الباطل لم يكن نبيًا صادقًا، وإنما كان يتظاهر بذلك تَرَؤُسًا عليهم كما يهرف بذلك بعض الملاحدة قديمًا وحديثًا، فحملني ذلك على أن أغتنم فرصة العيد المذكور، فشرعت -متوكلًا على الله الغفور- في جمع طرق تلك القصة من كتب التفسير والحديث، وبينت عللها متنًا وسندًا، ثم ذكرت قول الحافظ ابن حجر في تقويتها، وتعقبته بما يبين وَهْيَ ما ذهب إليه، ثم عقّبت على ذلك بذكر بعض البحوث والنقول عن بعض الأئمة الفحول ذوي التحقيق في الفروع والأصول، تؤيد ما ذهبنا إليه من نكارة القصة وبطلانها، ووجوب رفضها، وعدم قبولها، تصديقًا لقوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ

بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9] ، فجاءت رسالة فريدة في بابها، قوية في موضوعها، ترفع حيرة الأخ المؤمن، وتطيح بشبهة الملحد الأرعن، وقد سميتها: "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق" أسأل الله تعالى أن يجعلها خالصة لوجهه، ويقبلها مني نصرة لنبيه، ويدّخر لي ثوابها ليوم أحْوَجُ ما نكون فيه إلى شفاعته، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89] إنه هو السميع العليم، والبر الرحيم. دمشق في: 2 - 1 - 1372 هـ - 21 - 9 - 1952م محمد ناصر الدين الألباني

بين يدي الروايات وتفسير قوله تعالى {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته}

بين يدي الروايات وتفسير قوله تعالى {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} ... بين يدي الروايات: وقبل أن أشرع في سَوق روايات القصة، أرى أنه لا بد من أن نذكر كلمة، تتميمًا لفائدة الرسالة، فأقول: إن هذه القصة قد ذكرها المفسرون عند قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 52-45] . وقد اختلفوا في تفسير قوله تعالى: {تَمَنَّى} و {أُمْنِيَّتِهِ} ، وأحسن ما قيل في ذلك: إن {تَمَنَّى} من "الأمنية" وهي التلاوة، كما قال الشاعر في عثمان رضي الله عنه حين قتل: تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخرها لاقى حِمام المقادر وعليه جمهور المفسرين والمحققين، وحكاه ابن كثير عن أكثر

المفسرين، بل عزاه ابن القيم إلى السلف قاطبة فقال في "إغاثة اللهفان1: 1/ 93": "والسلف كلهم على أن المعنى إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته" وبيّنه القرطبي فقال في "تفسيره: 12/ 83": وقد قال سليمان بن حرب: إن {فِي} بمعنى: عند، أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم كقوله عز وجل: {وَلَبِثْتَ فِينَا} [الشعراء: 18] ، أي عندنا، وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية عن أبيه عن علماء الشرق، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي. قلت: وكلام أبي بكر سيأتي في محله إن شاء الله تعالى، وهذا الذي ذكرناه من المعنى في تفسير الآية، هو اختيار الإمام ابن جرير، حيث قال بعد ما رواه عن جماعة من السلف [17/ 121] : "وهذا القول أشبه بتأويل الكلام، بدلالة قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52] على ذلك، لأن الآيات التي أخبر الله جل ثناؤه أنه يحكمها لا شك أنها آيات تنزيله، فمعلوم بذلك أن الذي ألقى فيه الشيطان، هو ما أخبر تعالى ذكره أنه نَسَخ ذلك منه وأبطله ثم أحكمه بنسخه

_ 1 انظر طبعة المكتب الإسلامي ودار الخاني، تحقيق الأستاذ محمد عفيفي، الطبعة الثانية، "1/ 150".

ذلك، فتأمل الكلام إذن: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا كتاب الله وقرأ أو حدّث وتكلم، ألقى الشيطان في كتاب الله الذي تلاه وقرأه، أو في حديثه الذي حدّث وتكلم، فينسخ الله ما يلقي الشيطان بقوله تعالى: فيُذْهِب الله ما يلقي الشيطان من ذلك، على لسان نبيه ويبطله. هذا هو المعنى المراد من هذه الآية الكريمة، وهي كما ترى ليس فيها إلا أن الشيطان يلقي عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم ما يفتتن به الذين في قلوبهم مرض، ولكن أعداء الدين الذين قعدوا له في كل طريق، وترصدوا له عند كل مرصد، لا يرضيهم إلا أن يدسوا فيه ما ليس منه، ولم يقله رسوله، فذكروا ما ستراه في الروايات الآتية، مما لا يليق بمقام النبوة والرسالة، وذلك دَيْدَنهم منذ القديم، كما فعلوا في غير ما آية وردت في غيره صلى الله عليه وسلم من الأنبياء، كداود، وسليمان، ويوسف عليهم الصلاة والسلام، فرووا في تفسيرها من الإسرائيليات ما لا يجوز نسبته إلى رجل مسلم فضلًا عن نبي مُكَرَّم. كما هو مبين في محله من كتب التفاسير والقصص. فَحذارِ أيها المسلم أن تغتر بشيء منها فتكون من الهالكين، و "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" كما قال نبيك صلى الله عليه وسلم، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54] .

روايات القصة وعللها

روايات القصة وعِلَلُها الرواية الأولى ... روايات القصة وعِلَلُها: بعد أن فرغنا من ذكر الفائدة التي وعدنا بها، أعود إلى ذكر روايات القصة التي وقفنا عليها لكي نسردها رواية رواية، ونذكر عقب كل منها ما فيها من علة فأقول: 1- عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] ، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترجى" فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: إنه لم يذكر آلهتهم قبل اليوم بخير، فسجد المشركون معه، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ..} [الحج: 52] إلى قوله: {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55] . أخرجه ابن جرير "17/ 120" من طريقين عن شعبة عن أبي بشر عنه، وهو صحيح الإسناد إلى ابن جبير، كما قال الحافظ على ما يأتي عنه، وتبعه السيوطي في "الدر المنثور: 4/ 366"، وعزاه لابن المنذر أيضًا وابن مردويه بعد ما ساقه نحوه بلفظ: "ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى" الحديث، وفيه:

ثم جاءه جبريل بعد ذلك، قال: إعرض علَّي ما جئتك به، فلما بلغ: "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترجى" قال جبريل: لم آتك بهذا، هذا من الشيطان! فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج: 52] . وهكذا أخرجه الواحدي في "أسباب النزول" من طريق أخرى عن سعيد بن حسن، كما سيأتي. وقد روي موصولًا عن سعيد، ولا يصح: رواه البزار1 في "مسنده" عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -فيما أحسبه، الشك في الحديث- أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة "النجم" حتى انتهى إلى قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] ، وذكر بقيته، ثم قال البزار:

_ 1 قلت: وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير: ورقة 162 وجه 2" من نسخة خطية في المكتبة الظاهرية تحت رقم "283 حديث" قال: حدثنا حسين بن إسحاق التستري، وعبدان بن أحمد، قالا حدثنا يوسف بن حماد المعنى به، وفيه: "ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، شفاعتهم ترتجى". ورواه الضياء المقدسي في "المختارة: ق 120/1/2" من طريق الطبراني وابن مرداويه من طرق عن يوسف به.

"لا نعلمه يروى متصلًا إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور، وإنما يروي هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس" كذا في "تفسير ابن كثير: 3/ 129". وعزا الحافظ في "تخريج الكشاف: 4/ 144" هذه الرواية "للبزار، والطبري، وابن مردويه" وعزوه للطبري سهو، فإنها ليست في تفسيره فيما علمت -إلا إنْ كان يعني غير التفسير من كتبه، وما أظن يريد ذلك، ويؤيدني أن السيوطي في "الدر" عزاها لجميع هؤلاء إلا الطبري، إلا أن السيوطي أوهم أيضًا حيث قال عطفًا على ما ذكر: والضياء في "المختارة" بسند رجاله ثقات، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ، فذكر الحديث مثل الرواية المرسلة التي نقلناها آنفًا عن الدر نفسه، ومحل الإيهام هو قوله: "بسند رجاله ثقات" بالإضافة إلى أنه أخرجه الضياء في "المختارة" فإن ذلك يوهم أنه ليس بمعلول، وهذا خلاف الواقع، فإنه معلول بتردد الراوي في وصله كما نقلناه عن "تفسير ابن كثير" وكذلك هو في "تخريج الكشاف" وغيره، وهذا ما لم يرد ذِكرُه في سياق السيوطي، ولا أدري أذلك اختصارًا منه، أم من بعض مخرجي

الحديث؟ 1 وأيًا ما كان، فما كان يليق بالسيوطي أن يغفل هذه العلة، لا سيما وقد صرح بما يشعر أن الإسناد صحيح، وفيه من التغرير ما لا يخفى، فإن الشك لا يوثق به، ولا حقيقة فيه، كما قال القاضي عياض في "الشفاء: 2/ 118" وأقره الحافظ في "التخريج" لكنه قال عقب ذلك: "ورواه الطبري من طريق سعيد بن جبير مرسلًا، وأخرجه ابن مردويه من طريق أبي عاصم النبيل، عن عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس نحوه، ولم يشك في وصله، وهذا أصح طرق الحديث. قال البزار ... ". قلت: وقد نقلنا كلام البزار آنفًا، ثم ذكر الحافظ المراسيل الآتية، ثم قال: "فهذه مراسيل يقوي بعضها بعضًا". قلت: وفي عبارة الحافظ شيء من التشويش، ولا أدري أذلك منه، أم من النساخ؟ وهو أغلب الظن، وذلك لأن قوله: "وهذا أصح طرق هذا الحديث" إن حملناه على أقرب مذكور، وهو طريق ابن مردويه الموصول كما هو المتبادر، منعنا من ذلك أمور:

_ 1 ثم رأيت السيوطي قد أورده في كتابه "أسباب النزول" على الشك في رفعه فأصاب، فتبين أن لا مسئولية فيه على غيره.

الأول: قول الحافظ عقب ذلك: "فهذه مراسيل يقوي بعضها بعضًا"، فإن فيه إشارة إلى أن ليس هناك إسناد صحيح موصول يعتمد عليه، وإلا لَعرَّج عليه وجعله أصلًا , وجعل الطريق المرسلة شاهدة ومُقَوية له، ويؤيده الأمر الآتي وهو: الثاني: وهو أن الحافظ لما رَدّ على القاضي عياض تضعيفه للحديث من طريق إسناد البزار الموصول بسبب الشك، قال الحافظ: "أما ضعفه فلا ضعف فيه أصلًا "قلت: يعني في رواته"، فإن الجميع ثقات، وأما الشك فيه، فقد يجيء تأثيره ولو فردًا غريبًا -كذا- لكن غايته أن يصير مرسلًا، وهو حجة عند عياض وغيره ممن يقبل مرسل الثقة، وهو حجة إذا اعتضد عند من يَرُدّ المرسل، وهو إنما يعتضد بكثرة المتابعات". فقد سلَّم الحافظ بأن الحديث مُرْسَلٌ، ولكن ذهب إلى تقويته بكثرة الطرق، وسيأتي بيان ما فيه في ردنا عليه قريبًا إن شاء الله تعالى. فلو كان إسناد ابن مردويه الموصول صحيحًا عند الحافظ، لرد به على القاضي عياض، ولما جعل عمدته في الرد عليه هو كثرة الطرق، وهذا بين لا يخفى. الثالث: أن الحافظ في كتابه "فتح الباري" لم يُشِرْ أدنى إشارة

إلى هذه الطريق فلو كان هو أصح طرق الحديث، لذكره بصريح العبارة، ولجعله عمدته في هذا الباب كما سبق. الرابع: أن من جاء بعده -كالسيوطي وغيره- لم يذكروا هذه الرواية. فكل هذه الأمور تمنعنا من حمل اسم الإشارة "هذا" على أقرب مذكور، وتضطرنا إلى حمله على البعيد، وهو الطريق الذي قبل هذا، وهو طريق سعيد بن جبير المرسل. وهو الذي اعتمده الحافظ في "الفتح" وجعله أصلًا، وجعل الروايات الأخرى شاهدة له، وقد اقتدينا نحن به، فبدأنا أولًا بذكر رواية ابن جبير هذه، وإن كنا خالفناه في كون هذه الطرق يقوي بعضها بعضًا. قلت: هذا مع العلم أن القدر المذكور من إسناد ابن مردويه الموصول رجاله ثقات رجال الشيخين، لكن لا بد أن تكون العلة فيمن دون أبي عاصم النبيل، ويقوي ذلك، أعني كون إسناده مُعَلًا أنني رأيت هذه الرواية أخرجها الواحدي في "أسباب النزول": ص 233" من طريق سهل العسكري قال: أخبرني يحيى "قلت: هو القطان" عن عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، فألقى الشيطان على لسانه: "تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترتجى" ففرح بذلك المشركون، وقالوا: قد ذكر آلهتنا، فجاء جبريل عليه السلام إلى

رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إعرض علّي كلام الله، فلما عرض عليه، قال: أما هذا فلم آتك به، هذا من الشيطان، فأنزل الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} الآية [الحج: 52] . فرجع الحديث إلى أنه -عن عثمان بن الأسود عن سعيد- مرسل، وهو الصحيح، لموافقته رواية عثمان هذه، رواية أبي بشر عن سعيد. ثم وقفت على إسناد ابن مردويه ومتنه، بواسطة الضياء المقدسي في "المختارة:60/ 235/ 1" بسنده عنه قال: حدثني إبراهيم بن محمد، حدثني أبو بكر محمد بن علي المقري البغدادي، ثنا جعفر بن محمد الطيالسي، ثنا إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرة، ثنا أبو عاصم النبيل، ثنا عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، "تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترتجى"، ففرج المشركون بذلك، وقالوا: قد ذكر آلهتنا فجاءه جبريل، فقال: اقرأ علّي ما جئتك به، قال: فقرأ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، "تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترتجى"، فقال: ما أتيتك بهذا، هذا عن الشيطان، أو قال: هذا من الشيطان، لم آتك بها! فأنزل الله

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلى آخر الآية". قلت: وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات وكلهم من رجال "التهذيب" إلا من دون ابن عرعرة، ليس فيهم من ينبغي النظر فيه غير أبي بكر محمد بن علي المقري البغدادي، وقد أورده الخطيب في "تاريخ بغداد" فقال "3/ 68–69": "محمد بن علي بن الحسن أبو بكر المقرىء، حدث عن محمود بن خداش، ومحمد بن عمرو، وابن أبي مذعور. روى عنه أحمد بن كامل القاضي، ومحمد بن أحمد بن يحي العطشي" ثم ساق له حديثًا واحدًا وقع فيه مكنًا بـ "أبي حرب"، فلا أدري أهي كنية أخرى له، أم تحرفت على الناسخ أو الطابع، ثم حكى الخطيب عن العطشي أنه قال: "توفي سنة ثلاثمائة"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، فهو مجهول الحال، وهو علة هذا الإسناد الموصول، وهو غير أبي بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم الأصبهاني المشهور بابن المقرىء، الحافظ الثقة، فإنه متأخر عن هذا نحو قرن من الزمان، وهو من شيوخ ابن مردويه مات سنة "381" إحدى وثمانين وثلاثمائة، ووقع في "التذكرة: 3/ 172" "ومائتين" وهو خطأ. فثبت مما تقدم صواب ما كنا جزمنا به قبل الاطلاع على إسناد ابن مردويه "أن العلة فيه فيمن دون أبي عاصم النبيل".

الرواية الثانية

الرواية الثانية ... وازددنا تأكدًا من أن الصواب عن عثمان بن الأسود إنما هو عن سعيد بن جبير مرسلًا كما رواه الواحدي، خلافًا لرواية ابن مردويه عنه. وبالجملة، فالحديث مرسل، ولا يصح عن سعيد بن جبير موصولًا بوجه من الوجوه. 2- عن ابن شهاب: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قرأ عليهم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] ، فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، قال: "إن شفاعتهن ترتجى" سها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا بذلك، فقال لهم: "إنما ذلك من الشيطان"، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} حتى بلغ {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] . رواه ابن جرير "17/ 121" وإسناده إلى أبي بكر بن عبد الرحمن صحيح، كما قال السيوطي تبعًا للحافظ، لكن علته أنه مرسل1 وعزاه السيوطي لعبد بن حميد أيضًا، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن

_ 1 وقال النحاس: "هذا حديث منقطع، وفيه هذا الأمر العظيم" ذكره القرطبي "12/81".

شهاب قال: فذكره مطولًا، ولم يذكر في إسناده أبا بكر بن عبد الرحمن، فهو مرسل، بل معضل، ولفظه كما في "ابن كثير" و"الدر": "لما أنزلت سورة النجم، وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير، أقررناه وأصحابه، ولكن لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنته ضلالتهم، فكان يتمنى كفَّ أذاهم , وفي "ابن كثير" هدايتهم، فلما أنزل الله سورة {وَالنَّجْمِ} قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الطواغيت، فقال: "وإنهن لَهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لَهِيَ التي تُرتَجى" فكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، ودلقت بها ألسنتهم، وتباشروا بها، وقالوا: إن محمدًا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر {وَالنَّجْمِ} سجد وسجد كلُّ من حضر من مسلم ومشرك، ففشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة، فأنزل الله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج: 52] ، فلما بيّن الله

الرواية الثالثة

الرواية الثالثة ... قضاءه، وبرّأه من سجع الشيطان، انقلب المشركون بضلالتهم وعدوانهم للمسلمين، واشتدوا عليه"1. وأخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" عن موسى بن عقبة ساقه من "مغازيه" بنحوه لم يذكر ابن شهاب كما في "الدر": 4/ 367" وغيره. 3- عن أبي العالية قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جلساؤك عبيد بني فلان، ومولى بني فلان، فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك، فإنه يأتيك أشرف العرب، فإذا رأوا جلساءك أشرف قومك كان أرغب لهم فيك، قال: فألقى الشيطان في أمنيته، فنزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، قال: فأجرى الشيطان على لسانه: "تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترتجى، مثلهن لا ينسى" قال: فسجد النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأها وسجد معه المسلمون والمشركون، فلما علم الذي أجري على لسانه، كبر ذلك عليه، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} إلى قوله {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] .

_ 1 هذا سياق "الدر" وهو مختصر عن سياق "ابن كثير" ومما فيه: فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين.

الرواية الرابعة

الرواية الرابعة ... أخرجه الطبري "17/ 120" من طريقين عن داود بن أبي هند عنه، وإسناده صحيح إلى أبي العالية، لكن علته الإرسال، وكذلك رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم. 4- عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس قالا: "جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناد من أندية قريش كثير أهله، فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1-2] فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، ألقى عليه الشيطان كلمتين: "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى" فتكلم بها ثم مضى، فقرأ السورة كلها، فسجد في آخر السورة، وسجد القوم جميعًا معه، ورفع الوليد بن المغيرة ترابًا إلى جبهته فسجد عليه، وكان شيخًا كبيرًا لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلم به، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت، وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، إذا جعلتَ لها نصيبًا فنحن معك، قالا: فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال: ما جئتك بهاتين! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افتريت على الله، وقلت ما لم يقل"، فأوحى الله إليه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي

أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} 1 [الإسراء: 73] إلى قوله: {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 75] ، فما زال مغمومًا مهمومًا حتى نزلت عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى ... } [الحج: 52] ، قال: فسمع كل من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هو أحب إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان". أخرجه ابن جرير "17/ 119" عن طريق أبي معشر عنهما، وأبو معشر ضعيف، كما قال الحافظ في "التقريب" واسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي. ثم أخرجه ابن جرير من طريق ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد المدني، عن محمد بن كعب القرظي وحده به أتمّ منه، وفيه: "فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاخوا له، والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاء به عن ربهم، ولا يتهمونه على خطأ ولا وهم ولا زلل، الحديث". ويزيد هذا ثقة، لكن الراوي عنه ابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه.

_ 1 وتمام الآية {وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 73-75] .

الرواية الخامسة

الرواية الخامسة ... 5- عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمنى أن لا يعيب الله آلهة المشركين، فألقى الشيطان في أمنيته فقال: "إن الآلهة التي تدعى، إن شفاعتهن لترتجى، وإنها لَلْغرانيق العلى" فنسخ الله ذلك، وأحكم الله آياته: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] 1حتى بلغ {مِن سُلْطَان} [النجم: 23] ، قال قتادة: لما ألقى الشيطان ما ألقى، قال المشركون: قد ذكر الله آلهتهم بخير، ففرحوا بذلك، فذكر قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 53] . أخرجه ابن جرير "17/ 122" من طريقين عن معمر عنه، وهو صحيح إلى قتادة، ولكنه مرسل أو معضل. وقد رواه ابن أبي حاتم كما في "الدر" بلفظ أتم منه وهو: "قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام، نعس، فألقى الشيطان على لسانة كلمة فتكلم بها، وتعلق بها المشركون عليه، فقال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] فألقى الشيطان على لسانه ولغى: "وإن شفاعتهن لترتجى وإنها لمع الغرانيق العلى" فحفظها المشركون، وأخبرهم الشيطان أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها، فذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ

_ 1 وتمام الآية {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 20-23] .

الرواية السادسة

الرواية السادسة ... مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} الآية [الحج: 52] ، فدحر الله الشيطان ولقن نبيه حجته". 6- عن عروة -يعني ابن الزبير- في تسمية الذين خرجوا إلى أرض الحبشة المرة الأولى "قلت وفيه:" "فقال المشركون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير، أقررناه وأصحابه، فإنه لا يذكر أحدًا ممن خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر به آلهتنا من الشتم والشر، فلما أنزل الله -عز وجل- السورة التي يذكر فيها: {وَالنَّجْمِ} وقرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، ألقى الشيطان فيها عند ذلك ذكر مالطواغيت فقال: "وإنهن لَمِنَ الغرانيق العُلى، وإن شفاعتهم لتُرتجى" وذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلماتان في قلب كل مشرك وذلت بها ألسنتهم، واستبشروا بها، وقالوا: إن محمدًا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر السورة التي فيه {َالنَّجْمُ} سجد وسجد معه كل من حضره من مسلم ومشرك، غير أن الوليد بن المغيرة -كان رجلًا كبيرًا-، فرفع مِلْءَ كفه ترابًا فسجد عليه، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما المسلمون فعجبوا من سجود المشركين من غير إيمان ولا يقين، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين، وأما المشركون فاطمأنت أنفسهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما سمعوا الذي ألقى الشيطان في أمنية

النبي صلى الله عليه وسلم وحدثهم الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأها في "السجدة"، فسجدوا لتعظيم آلهتهم، ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت الحبشة.. فكَبُرَ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام، فشكا إليه، فأمره فقرأ عليه، فلما بلغها تبرأ منها جبريل عليه السلام، وقال: معاذ الله من هاتين، ما أنزلهما ربي، ولا أمرني بهما ربك!! فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شق عليه، وقال: "أطعتُ الشيطان، وتكلمتُ بكلامه وشركني في أمر الله"، فنسخ الله -عز وجل- ما ألقى الشيطان، وأنزل عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} إلى قوله: {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج: 53] . فلما برأه الله عز وجل من سجع الشيطان وفتنته انقلب المشركون بضلالهم وعداوتهم". رواه الطبراني هكذًا مرسلًا، كما في "المجمع: 6/ 32 - 34 و 7/ 70 – 72"1 وقال: "وفيه ابن لهيعة، ولا يحتمل هذا من ابن لهيعة".

_ 1 ثم وقفت عليه في "معجمه الكبير: ج3 ورقة 2 وجه 2" من النسخة الخطية الظاهرية تحت رقم 283 وسنده هكذا: حدثنا محمد بن عمر أبن خالد الحراني: نا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة به.

الرواية السابعة

الرواية السابعة ... 7- عن صالح قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: إن ذكر آلهتنا بخير ذكرنا إلهه بخير، فألقى في أمنيته: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، "إنهن لفي الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" قال: فأنزل الله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ... } الآية [الحج:52] . أخرجه عبد حُميد كما في "الدر: 4/366" من طريق السدي عنه، وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي لم يتجاوزه بلفظ: "قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ليصلي فبينما هو يقرأ، إذ قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، فألقى الشيطان على لسانه فقال: "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى" حتى إذا بلغ آخر السورة سجد وسجد أصحابه، وسجد المشركون لذكر آلهتهم فلما رفع رأسه حملوه فاشتدوا به قطري مكة يقولون: نبي بني عبد مناف، حتى إذا جاء جبريل عرض عليه فقرأ ذينك الحرفين، فقال جبريل: معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا! فاشتد عليه، فأنزل الله يطيب نفسه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ ... } الآية [الحج:52] .

قلت: وقد رُوي موصولًا عن ابن عباس أخرجه ابن مرديه من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. وهذا إسناد ضعيف جدًا، بل موضوع، فقد قال سفيان: "قال لي الكلبي: كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب"، والكلبي هذا اسمه محمد بن السائب، وقد كان مفسرًا نسّابة أخباريًا. وقال ابن حبان: كان الكلبي سبائيًا من أؤلئك الذين يقولون: إن عليًا لم يمت وأنه راجع إلى الدنيا، ويملؤها عدلًا كما ملئت جورًا، وإن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها". قال: ومذهبه في الدين، ووضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه، ويروي عن أبي صالح عن ابن عباس التفسير، وأبو صالح لم ير ابن عباس ولا سمع الكلبي من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، لا يحل ذكره في الكتب، فكيف الاحتجاج به؟! 1. وروي من وجوه أخرى عن ابن عباس سيأتي ذكرها، لا يصح شيء منها. 8- عن الضحاك قال: في قوله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ... } الآية [الحج: 52] ، فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكه أنزل الله عليه في آلهة العرب، فجعل يتلو اللات والعُزّى

_ 1 نقلته من "ميزان الإعتدال في نقد الرجال" للإمام الذهبي.

الرواية الثامنة

الرواية الثامنة ... ويُكثر من ترديدها، فسمع أهل مكه النبي صلى الله عليه وسلم يذكر آلهتهم، ففرحوا بذلك، ودنوا يستمعون، فألقى الشيطان في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم: "تلك الغرانيق العلى، ومنها الشفاعة ترتجى" فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، فأنزل الله عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52] . إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] . أخرجه ابن جرير "17/ 121" قال: حدثت عن الحسين يقول: سمعت معاذًا يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت معاذًا يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول: قلت: وهذا إسناد ضعيف منقطع مرسل، الضحاك هذا الظاهر أنه ابن مزاحم الهلالي الخراساني، هو كثير الإرسال، كما قال الحافظ، حتى قيل: إنه لم يثبت له سماع من أحد من الصحابة، والراوي عنه عبيد لم أعرفه1، وأبو معاذ الظاهر أنه سليمان بن أرقم البصري، وهو ضعيف، كما في "التقريب"، والراوي عنه الحسين هو ابن الفرج أبو علي وقيل: أبو صالح، ويعرف بابن الخياط والبغدادي، وهو ضعيف متروك، وله

_ 1 ثم تبين لي أنه ابن سليمان الباهلي، وروى عن الضحاك بن مزاحم، وعنه جمع، منهم أبو معاذ الفضل بن خالد النحوي. قال في "التقريب": لا بأس به. ومما ذكرنا نتبين أيضًا أن أبا معاذ الراوي عن عبيد، ليس هو سليمان بن أرقم وإنما هو الفضل بن خالد النحوي أورده ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" "3/ 2/ 61" ولم يذكر فيه جرحًا أو تعديلًا.

الرواية التاسعة

الرواية التاسعة ... ترجمة في "تاريخ بغداد" و"الميزان" و"اللسان" ثم شيخ ابن جرير فيه مجهول لم يُسَمَّ. 9- عن محمد بن فضالة الظفري، والمطلب بن عبد الله بن حنطب قالا: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه كفًّا عنه، فجلس خاليًا، فتمنى فقال: ليته لا ينزل عليّ شيء ينفّرهم عني، وقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، ودنا منهم، ودنوا منه، فجلس يومًا مجلسًا في ناد من تلك الأندية حول الكعبة، فقرأ عليهم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] ، حتى إذا بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، ألقى الشيطان كلمتين على لسانه: "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى"، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما ثم مضى، فقرأ السورة كلها، وسجد وسجد القوم جميعًا، ورفع الوليد بن المغيرة ترابًا إلى جبهته فسجد عليه، وكان شيخًا كبيرًا لا يقدر على السجود، ويقال: إن أبا أحيحة سعيد بن العاص أخذ ترابًا فسجد عليه رفعه الى جبهته، وكان شيخًا كبيرًا، فبعض الناس يقول: إنما الذي رفع التراب الوليد، وبعضهم يقول: أبو أحيحة، وبعضهم يقول: كلاهما جميعًا فعل ذلك. فرضوا بما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، وأما إذ جعلت لها نصيبًا فنحن معك، فكبُر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم

حتى جلس في البيت، فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام، فعَرَض عليه السورة فقال جبريل: جئتك1 بهاتين الكلمتين؟!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قُلتُ على الله ما لم يقل، فأوحى الله إليه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 73-75] . أخرجه ابن سعد في "الطبقات: ج1 ق1 ص 137"2: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني يونس بن محمد بن فضالة الظفري عن أبيه، قال: وحدثني كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قالا: قلت: وهذا إسناد ضعيف جدًا، لأن محمد بن عمر، هو الواقدي، قال الحافظ في "التقريب": "متروك مع سعة علمه". وشيخه في الإسناد الأول يونس بن محمد، ووالده محمد بن فضالة، لم أجد لهما ترجمة، ثم رأيت ابن أبي حاتم أوردهما "4/1/55 و 4/2/246" ولم يذكر فيهما جرحًا ولا تعديلًا. وفي

_ 1 كذا في الأصل وهو جائز على الاستفهام الإنكاري، وفي القرطبي نقلًا عن الواحدي "ما جئتك" 2 "انظر طبعة دار صادر 1/205".

الرواية العاشرة

الرواية العاشرة ... إسناده الثاني كثير بن زيد وهو الأسلمي المدني مُختَلف فيه، قال الحافظ: "صدوق يخطيء". ثم هو مرسل فإن المطلب بن عبد الله بن حنطب كثير التدليس والإرسال، كما في "التقريب". ولذلك قال القرطبي بعد أن ساق الرواية الثانية، وحُكي عن النحاس تضعيفها كما سبق نقله عنه هناك قال: قلت: فذكره مختصرًا ثم قال: "قال النحّاس: هذا حديث مُنكَر منقطع، ولا سيما من حديث الواقدي". 10- عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة "النجم" وهو بمكة، فأتى على هذه الآية {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، فألقى الشيطان على لسانه "أنهن الغرانيق العلى" فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ ... } الآية [الحج:52] . وكذا أورده السيوطي في "الدرر المنثور: 4/ 267" وقال: "أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ومن طريق أبي بكر الهذلي وأيوب عن عكرمة عن ابن عباس، ومن طريق سليمان التيمي عمن حدثه عن ابن عباس".

قلت: فهذه طرق ثلاث عن ابن عباس وكلها ضعيفه. أما الطريق الأولى: ففيها الكلبي وهو كذّاب كما تقدم بيانه قريبًا. وأما الطريق الثانية: ففيها من لم يسمّ. وأما الطريق الثالثة: ففيها أبو بكر الهذلي. قال الحافظ في "التقريب": "أخباري متروك الحديث" لكن قد قرن فيها أيوب، والظاهر أنه السختياني، فلا بد أن يكون في الطريق إليه من لا يُحتَج به لأن الحافظ قال في "الفتح: 8/ 355" بعد أن ساقه من الطرق الثلاث: "وكلها ضعيف أو منقطع". وقد ذكر ما يفيد أن ابن مردويه أخرجها من طريق عباد بن صهيب، وهو أحد المتروكين، كما قال الحافظ الذهبي في ترجمته من "الميزان". وله طريق رابع، أخرجه ابن جرير "17/ 120"، حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي. ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس، "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يُصلّي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب، فجعل يتلوها، فسمعه المشركون، فقالوا: إنا

نسمعه يذكر آلهتنا بخير، فدنوا منه، فبينما هو يقول: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، ألقى الشيطان: "إن تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى"، فجعل يتلوها، فنزل جبريل صلى الله عليه وسلم فنسخها، ثم قال له: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ ... } الآية [الحج: 52] . رواه ابن مردويه أيضًا كما في "الدرر: 4/366". قلت: وهذا إسناد ضعيف جدًا، مُسَلسَل بالضعفاء: محمد بن سعد، هو ابن محمد بن الحسن بن عطية بن جُنادة أبو جعفر العوفي ترجمه الخطيب في "تاريخ بغداد: 5/322-323" وقال: "كان ليّنًا في الحديث". ووالده سعد بن محمد ترجمه الخطيب أيضًا "9/126- 127" وروي عن أحمد أنه قال فيه: "لم يكن ممن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعًا لذلك". وعمه هو الحسين بن الحسن بن عطية بن سعد، وهو متفق على ضَعفه ترجمه الخطيب "8/29- 32" وغيره. وأبوه الحسن بن عطية ضعيف أيضًا اتفاقًا، وقد أورده ابن حبان في "الضعفاء" وقال: "مُنكَر الحديث، فلا أدري البَلِيّة منه أو من ابنه، أو منها معًا؟ " ترجمته في "تهذيب التهذيب".

وكذا والده عطية، وهو مشهور بالضَّعف1.

_ 1 قلت: ومما يدل على بطلان نسبة هذه القصة إلى ابن عباس، لا سيّما من رواية أيوب عن عِكرمة عنه، أن الطبراني أخرجها مختصرًا في "المعجم الكبير: ورقة 138 وجه 1 المطبوعة 11/11866" من طريقين عن عبد الوارث: ثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد وهو بمكة بـ"النجم" وسجد معه المسلمون والمشركون، وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري، فهذا القدر من القصة هو الصحيح عن ابن عباس وغيره من الصحابة مما سيأتي ذكره.

بيان بطلان القصة متنا

بيان بطلان القصة متنًا: تلك هي روايات القصة، وهي كلها كما رأيت مُعَلَّة بالإرسال والضّعف والجَهالة، فليس فيها ما يصلُح للاحتجاج به، لا سيّما في مثل هذا الأمر الخطير. ثم إن مما يؤكد ضَعفها بل بطلانها، ما فيها من الاختلاف والنّّكارة مما لا يليق بمقام النبوة والرسالة، وإليك البيان: أولًا: في الروايات كلها، أو جُلها، أن الشيطان تكلم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الجملة الباطلة التي تمدح أصنام المشركين، "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى". ثانيًا: وفي بعضها كالرواية الرابعة: "والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاء به عن ربهم ولا يتهمونه على خطأ وهم" ففي هذا أن المؤمنين سمعوا ذلك منه صلى الله عليه وسلم، ولم يشعروا بأنه من إلقاء الشيطان، بل اعتقدوا أنه من وحي الرحمن!! بينما تقول الرواية السادسة: "ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان" فهذه خلاف تلك. ثالثًا: وفي بعضها كالرواية "1و 4 و 7 و 9": أن النبي صلى الله عليه وسلم

بقي مدة لا يدري أن ذلك من الشيطان، حتى قال له جبريل: "معاذ الله! لم آتك بهذا، هذا من الشيطان!! ". رابعًا: وفي الرواية الثانية أنه صلى الله عليه وسلم سها حتى قال ذلك! فلو كان كذلك، أفلا ينتبه من سهوه؟! خامسًا: في الرواية العاشرة الطريق الرابع: أن ذلك ألقيَ عليه وهو يصلي!! سادسًا: وفي الرواية "4 و 5 و 9" أنه صلى الله عليه وسلم تمنّّى أن لا ينزل عليه شيء من الوحي يَعيبُ آلهة المشركين، لئلا ينفروا عنه!! وانظر المقام الرابع من كلام ابن العربي الآتي "ص50". سابعًا: وفي الرواية "4 و 6 و 9" أنه صلى الله عليه وسلم قال عندما أنكر جبريل ذلك عليه "أفتريتُ على الله، وقلتُ على الله ما لم يقل، وشركني الشيطان في أمر الله!! ". فهذه طامّات يجب تنزيه الرسول منها لا سيّما هذا الأخير منها فإنه لو كان صحيحًا لصدق فيه، عليه السلام، -وحاشاه- قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44-46] . فثبت مما تقدم بطلان هذه القصة سندًا ومتنًا. والحمد لله على توفيقه وهدايته.

كلام الحافظ ابن حجر والرد عليه

كلام الحافظ ابن حجر والرد عليه ... كلام الحافظ والرد عليه: وقد يقال: إن ما ذهبت إليه من تضعيف القصة سندًا، وإبطالها متنًا، يخالف ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر من تقويتها كما سبق الإشارة إليه آنفًا. فالجواب: أنه لا ضَير علينا منه، ولئن كنا خالفناه، فقد وافقنا جماعة من أئمة الحديث والعلم سيأتي ذكرهم، فاتباعهم أولى، لأن النقد العلمي معهم، لا لأنهم كثرة، ورحم الله من قال: "الحق لا يعرف بالرجال إعرف الحق تعرف الرجال". ولبيان ذلك لا بد لي من أن أنقل كلام الحافظ بتمامه، ثم أتبعه ببيان رأينا فيه، والصواب الذي نرمي إليه فأقول: قال الحافظ في "الفتح: 8/354-355" بعد أن ساق الرواية الأولى وخرّجها هي وغيرها مما تقدم: "وكلها سوى طريق سعيد بن جبير، إما ضعيف وإما منقطع، ولكن لكثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلًا، مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط "الصحيحين" ثم ذكر الرواية الثانية والثالثة ثم قال: "وقد تجرأ أبو بكر بن العربي كعادته فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل

قاعدة تقوية الحديث بكثرة الطرق ليست على إطلاقها

لها، وهو إطلاق مردود عليه، وكذا قول عياض: هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، وكذا قوله: ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين، لم يسندها أحد منهم، ثم ردّه من طريق النظر بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم، قال: ولم ينقل ذلك انتهى. وجميع ذلك لا يتمشى مع القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها، دلّ ذلك على أن لها أصلًا، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لا اعتضاد بعضها ببعض". قاعدة تقوية الحديث بكثرة الطرق ليست على إطلاقها: والجواب عن ذلك من وجوه: أولًا: أن القاعدة التى أشار إليها، وهي تقوية الحديث بكثرة الطرق ليست على إطلاقها، وقد نبّه على ذلك غير واحد من علماء الحديث المحققين، منهم الحافظ أبو عمر بن الصلاح حيث قال رحمه الله في "مقدمة علوم الحديث: ص36- 37": "لعل الباحث الفهم يقول: إنا نجد أحاديث محكومًا بضعفها، مع كونها قد رُويَت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة

مثل حديث: "الأذنان من الرأس" 1 ونحوه، فهلاّ جعلتم ذلك وأمثاله من نوع الحسن لأن بعض ذلك عضد بعضًا كما قلتم في نوع الحسن على ما سبق آنفًا؟! وجواب ذلك أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت فمنه ما يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئًا من ضعف حفظ راويه، ولم يختلّ فيه ضبطه له، وكذلك إذا كان ضَعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر2 ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك

_ 1 قلت: هذا الحديث عندنا صحيح لغيره، فقد روي عن سبعة نفر من الصحابة من طرق مختلفة قوّي المنذري، وابن دقيق العيد، وابن التركماني، والزيلعي أحدها، ولذلك أوردناه في كتابنا "صحيح سنن أبي داود" وتكلمنا عليه هناك "رقم 123" ثم نشرناه في "سلسلة الأحاديث الصحيحة: رقم36"، وذكرنا فيه طرقه وبعضها صحيح لذاته، فراجعه إن شئت. وانظر "صحيح سنن أبي داود - باختصار السند" للمؤلف، بإشراف زهير الشاويش، طبع مكتب التربية العربي لدول الخليج بالرياض، توزيع المكتب الإسلامي، الحديث برقم 122/134. 2 قلت: وهذا ليس على إطلاقه كما يأتي نقله عن "شرح النّخبة" لابن حجر "ص23".

ضعف الحديث المرسل وسببه

ضعف الحديث المرسل وسببه ... لقوة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعيف الذي ينشأ من كون الراوي متهمًا بالكذب، أو كون الحديث شاذًّا. وهذه جملة تفاصيلها تُدرَك بالمباشرة والبحث، فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة". قلت: ولقد صدق رحمه الله تعالى، فإن الغَفَلَةَ عن هذه النفيسة قد أوقعت كثيرًا من العلماء، لا سيّما المشتغلين منهم بالفقه في خطأ فاضح، ألا وهو تصحيح كثير من الأحاديث الضعيفة اغترارًا بكَثرة طُرقها، وذهولًا منهم عن كون ضعفها من النوع الذي لا ينجبر الحديث بضعفها، بل لا تزيده إلا وَهنًا على وهن، ومن هذا القبيل حديث ابن عباس في هذه القصة، فإن طرقه كلها ضعيفة جدًا كما تقدم، فلا يتقوى بها أصلًا. لكن يبقى النظر في طرق الحديث الأخرى، هل يَتَقَوّى الحديث بها، أم لا؟ فاعلم أنها كلها مرسلة، وهي على إرسالها معلة بالضعف والجهالة كما سبق تفصيلها، سوى الطرق الأربعة الألى منها "رقم 1 و 2 و 3 و 5" فهي التي تستحق النظر، لأن الحافظ رحمه الله جعلها عمدته في تصحيحه هذه القصة، وتقويته لها بها، وهذا مما نخالفه فيه، ولا نوافقه عليه، وبيان ذلك يحتاج إلى مقدمة وجيزه مفيدة إن شاء الله تعالى، وهي:

ضعف الحديث المرسل: الوجه الثاني: وهو يحتوي على تحقيق أمرين أساسيين: الأول: أن الحديث المُرسَل، ولو كان المُرسِل ثقة، لا يُحتج به عند أئمة الحديث، كما بيّنه ابن الصلاح في "علوم الحديث" وجزم هو به فقال "ص58": "ثم اعلم أن حكم المُرسَل حكم الحديث الضعيف، إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر كما سبق بيانه ... وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضَعفه، هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفّاظ الحديث، ونقاد الأثر، وقد تداولوه في تصانيفهم". الأمر الثاني: معرفة سبب عدم احتجاج المحدثيين بالمُرسَل من الحديث، فاعلم أن سبب ذلك إنما هو جَهالة الوساطة التي روى عنها المُرسِل الحديث، وقد بيّن ذلك الخطيب البغدادي في "الكفاية في علم الرواية" حيث قال "ص 287" بعد أن حكى الخلاف بالعمل المرسل: "والذي نختاره سقوط فرض العمل بالمراسيل، وأن المرسل غير مقبول، والذي يدل على ذلك أن إرسال الحديث يؤدي إلى الجهل بعين راويه، ويستحيل العلم بعدالته مع الجهل بعينه، وقد بيّنا من قبل أنه لا يجوز قبول الخبر إلا ممن عرفت عدالته

هل يتقوى الحديث بمجيئه من طرق مرسلة ورأي المؤلف في ذلك

هل يتقوى الحديث بمجيئه من طرق مرسلة ورأي المؤلف في ذلك ... فوجب كذلك كونه غير مقبول، وأيضًا فإن العدل لو سئل عمن أرسل عنه؟ فلم يُعدّله، لم يجب العمل بخبره، إذا لم يكن معروف العدالة من جهة غيره، وكذلك حاله إذا ابتدأ الإمساك عن ذكره وتعديله، لأنه من الإمساك عن ذكره غير مُعدّل له، فوجب أن لا يقبل الخبر عنه". وقال الحافظ ابن حجر في "شرح نخبة الأفكار" "ص17" بعد أن ذكر الحديث المرسل في "أنواع الحديث المردود": "وإنما ذكر في قسم المردود للجهل بحال المحذوف، لأنه يحتمل أن يكون صحابيًا، ويحتمل أن يكون تابعيًا، وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفًا، ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الثاني يحتمل أن يكون حُمل عن صحابي، ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي آخر وعلى الثاني فيعود الاحتمال السابق ويتعدد، أما بالتجويز العقلي، فإلى ما لا نهاية، وأما بالاستقراء، فإلى ستة أو سبعة، وهو أكثر ما وجد من رواية بعض التابعين عن بعض، فإن عرف من عادة التابعي أنه لا يرسل إلا عن ثقة، فذهب جمهور المحدثين إلى التوقف، لبقاء الاحتمال، وهو أحد قولي أحمد، وثانيهما: يقبل مطلقًا، وقال الشافعي رضي الله عنه: يُقبل إن اعتضد بمجيئه من وجه آخر يباين الطريق الأولى مسندًا كان أو مرسلًا ليترجّح احتمال كون المحذوف ثقة في نفس الأمر"

قلت: فإذا عرف أن الحديث المُرسَل لا يقبل، وأن السبب هو الجهل بحال المحذوف فيرد عليه أن القول بأنه يقوى بمرسل آخر غير قوي لاحتمال أن يكون كل من أرسله إنما أخذه عن راوٍ واحد، وحينئذ ترد الاحتمالات الذي ذكرها الحافظ، وكأن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قد لاحظ ورود هذا الاحتمال وقوته، فاشترط في المرسل الآخر أن يكون مُرسِله أخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول، كما حكاه ابن الصلاح "ص35" وكأن ذلك لَيغلب على الظن أن المحذوف في أحد المرسَلين هو غيره في المرسَل الآخر. وهذه فائدة دقيقة لم أجدها في غير كلام الشافعي رحمه الله فاحفظها وراعِها فيما يمر بك من المرسَلات التي تذهب البعض إلى تقويتها لمجرد مجيئها من وجهين مرسَلين دون أن يراعوا هذا الشرط المهم. ثم رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قد نصّ أيضًا على هذا الشرط في كلام له مفيد في أصول التفسير، نقله عنه الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب له مخطوط في الأحاديث الضعيفة والموضوعة "حديث 405/221"، فقال ابن تيمية رحمة الله تعالى: "وأما أسباب النزول، فغالبها مرسل، ليس بمسند، لهذا قال الإمام أحمد: ثلاث علوم لا إسناد لها. وفي لفظ: ليس لها

أصل: التفسير والمغازي والملاحم. يعني أن أحاديثها مرسلة، ليست مسندة". والمراسيل قد تنازع الناس في قَبولها وردها. وأصح الأقوال: أن منها المقبول، ومنها المردود، ومنها الموقوف، فمن عُلم من حاله أنه لا يرسل إلا عن ثقة قُبل مُرسَلُه، ومن عُرف أنه يُرسِل عن الثقة وغير الثقة، كان إرساله رواية عمن لا يُعرف حاله، فهو موقوف. وما كان من المراسيل مخالفًا لما رواه الثقات، كان مردودًا، وإن جاء المرسَل من وجهين، كل من الراويين أخذ العلم عن غير شيوخ الآخر، فهذا يدل على صدقه فإن مثل ذلك لا يُتصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب ... ". قلت: ومع أن التحقق من وجود هذا الشرط في كل مرسَل من هذا النوع، ليس بالأمر الهيِّن، فإنه لو تحققنا من وجوده، فقد يَردُ إشكال آخر، وهو أنه يحتمل أن يكون كل من الواسطتين أو أكثر ضعيفًا، وعليه يحتمل أن يكون ضعفهم من النوع الأول الذي ينجبر بمثله الحديث على ما سبق نقله عن ابن الصلاح، ويحتمل أن يكون من النوع الآخر الذي لا يقوى الحديث بكثرة طرقه، ومع ورود هذه الاحتمالات يسقط الاستدلال بالحديث المرسل وإن تعددت طرقه. وهذا التحقيق مما لم أجد مَن سبقني إليه، فإن أصبت فمن الله تعالى وله الشكر، وإن أخطأت فمن نفسي، وأستغفر الله من ذنبي.

وبالجملة فالمانع من الاستدلال بالحديث المرسل الذي تعدد مرسِلوه أحد الاحتمالين: الأول: أن يكون مصدر المرسلين واحدًا. الثاني: أن يكونوا جمعًا، ولكنهم جميعًا ضعفاء ضعفًا شديدًا. وبعد هذه المقدمة نستطيع أن نقول: إننا لو ألقينا النظر على روايات هذه القصة، لألفيناها كلها مرسَلة، حاشا حديث ابن عباس، ولكن طرقه كلها واهية شديدة الضعف لا تنجبر بها تلك المراسيل، فيبقى النظر في هذه المراسيل، وهي كما علمت سبعة، صح إسناد أربعة منها، وهي مرسل سعيد بن جبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وأبي العالية "رقم1-3"، ومرسل قتادة، رقم "5" وهي مراسيل يرد عليها أحد الاحتمالين السابقين، لأنهم من طبقة واحدة: فوفاة سعيد بن جبير سنة "95" وأبي بكر بن عبد الرحمن سنة "94"، وأبي العالية -واسمه رفيع مصغرًا- سنة "90" وقتادة سنة بضع عشرة ومائة، والأول كوفي، والثاني مدني، والأخيران بصريان. فجائز أن يكون مصدرهم الذي أخذوا منه هذه القصة ورووها عنه، واحدًا لا غير، وهو مجهول.

وجائز أن يكون جمعًا، ولكنهم ضعفاء جميعًا، فمع هذه الاحتمالات لا يمكن أن تطمئن النفس لقَبول حديثهم هذا، لا سيّما في مثل هذا الحدث العظيم الذي يمسّ المقام الكريم، فلا جَرَم تتابع العلماء على إنكارها، بل التنديد ببطلانها، ولا وجه لذلك من جهة الرواية إلا ما ذكرنا، وإن كنت لم أقف على من صرّح بذلك كما ذكرت آنفًا. قال الفخر الرازي في "تفسيره 6/193": "روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة1 أنه سئل عن هذه القصة؟ فقال: "هذا من وضع الزنادقة"، وصنّف فيه كتابًا. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: "هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل" ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم، وأيضًا: فقد روى البخاري في "صحيحه" أن

_ 1 هو الإمام ابن خُزَيمة صاحب "الصحيح" المعروف به، وقد تبع الفخر في عزو هذا الكلام لابن خزيمة المحقق الشوكاني في "فتح القدير" "3/447". وأما ابن حيان فعزاه في تفسيره "البحر" لمحمد ابن إسحاق جامع "السيرة النبوية". وتبعه الآلوسي في تفسيره "17/161". والأرجح عندي الأول لأن الحافظ ابن حجر ذكر في "الفتح: 8/354" تبعًا لابن كثير أن ابن إسحاق روى هذه القصة في "السيرة" مطولًا، فهذا يُبعِد نسبة ذلك القول إليه، ولو كان له، لنبّه عليه الحافظ عقب ذلك والله أعلم.

ذكر جماعة من الأئمة طعنوا في قصة القرانيق

ذكر جماعة من الأئمة طعنوا في قصة القرانيق * ... النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة "النجم" وسجد وسجد فيها المسلمون والمشركون، والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق وروى هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها البتة حديث الغرانيق. وقد تبع هؤلاء جماعة من الأئمة العلماء، وهاك أسماءهم على ترتيب وفياتهم: 1- أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن العربي توفي سنة "542"، في تفسيره "أحكام القرآن". 2- القاضي عياض بن موسى بن عياض "544" في كتابه "الشفا في حقوق المصطفى". 3- فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن الرازي "606" في تفسيره "مفاتيح الغيب: 6/193-197" وقد مضى بعض كلامه في ذلك. 4- محمد بن أحمد الأنصاري أبو عبد الله القرطبي في "أحكام القرآن: 12/80-84". 5- محمد بن يوسف بن علي الكرماني من شرّاح "البخاري: 786"، وقد نقل كلامه في ذلك الحافظ في "الفتح: 8/498". 6- محمود بن أحمد بدر الدين العيني "855" في "عمدة القاري: 9/47". 7- محمد بن علي بن محمد اليمني الشوكاني "1250" في "فتح القدير: 3/247-248". 8- السيد محمود أبو الفضل شهاب الدين الآلوسي "1270" في "روح المعاني: 17/160-169".

كلام أبي بكر بن العربي في إبطال القصة

9- صديق حسن خان أبو الطيب "1307" في تفسيره "فتح البيان". 10- محمد عبده المصري الأستاذ الإمام "1323" في رسالة خاصة له في هذه القصة. وإذا عرفت هذا فلا بأس من ذكر كلمات بعض هؤلاء العلماء، لما فيها من الفوائد والتحقيقات التي تزيد القارئ إيمانًا ببطلان القصة، وتجعله يتبين أن النقد العلمي الرجيح يتفق دائمًا مع النقد الحديثي الصحيح، لأن كلًا منهما يقوم على قواعد علمية دقيقة لا تقبل التغيير والتبديل، وأنا أكتفي هنا بكلمات أربعة منهم. ومن شاء الزيادة فليرجع إلى المصادر الأخرى التي أشرنا إليها، والأربعة هم: 1- ابن العربي 2- القاضي عياض 3- الشوكاني 4- الآلوسي. 1- كلام أبي بكر بن العربي في إبطال القصة: قال رحمه الله تعالى بعد أن ذكر سبب نزول آية الحج التي ذكرناها في أول الرسالة ملخصًا من الروايات التي أوردناها:

"اعلموا أنار الله أفئدتكم بنور هداه، ويسَّر لكم مقصد التوحيد ومغزاه، أن الهدى هدى الله، فسبحان من تفضل به على من يشاء ويصرفه عمن يشاء، وقد بيَّنَّا معنى هذه الآية في "فضل تنبيه الغبي على مقدار النبي" بما نرجو به عند الله الجزاء الأوفى في مقام الزلفى، ونحن الآن نجلو بتلك الفصول الغماء، ونرقيكم بها عن حضيض الدهماء إلى بقاع العلماء في عشر مقامات. المقام الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل الله إليه الملَك بوحيه، فإنه يخلق له العلم به حتى بتحقيق أنه رسول من عنده، ولولا ذلك لما صحّت الرسالة، ولا تبينت النبوة، فإذا خلق الله له العلم به تميز عنده من غيره، وثبت اليقين، واستقام سبيل الدين، ولو كان النبي إذا شافهه الملك بالوحي لا يدري، أمَلَكٌ هو، أم شيطان، أم أنسان، أم صورة مخالفة لهذه الأجناس ألقت عليه كلامًا وبلغت إليه قولًا لم يصح أن يقول: إنه من عند الله، ولا تثبت عندنا أنه أمر الله، فهذه سبيل متيقنة، وحالة متحققة لا بد منها، ولا خلاف في المنقول ولا في المعقول فيها، ولو جاز للشيطان أن يتمثل فيها، أو يتشبّه بها ما أمناه على آية، ولا عرفنا منه باطلًا من حقيقة، فارتفع بهذا الفصل اللَبس، وصح اليقين في النفس.

المقام الثاني: أن الله قد عصم رسوله من الكفر، وأَمنه من الشرك، واستقر ذلك من دين المسلمين بإجماعهم فيه وإطباقهم عليه، فمن ادعى أنه يجوز عليه أن يكفر بالله أو يشك فيه طرفة عين، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، بل لا تجوز عليه المعاصي في الأفعال، فضلًا عن أن ينسب إلى الكفر في الاعتقاد، بل هو المنزّه عن ذلك فعلًا واعتقادًا، وقد مهدنا ذلك في كتب الأصول بأوضح دليل. المقام الثالث: أن الله قد عرّف رسوله بنفسه وبصّره بأدلته، وأراه ملكوت سماواته وأرضه، وعرّفه سنن من كان قبله من إخوته فلم يكن يخفى عليه من أمر الله ما نعرفه اليوم، ونحن حُثالة أمته، ومن خطر له ذلك فهو ممن يمشي مُكِبًّا على وجهه، غير عارف بنبيّه ولا بربه. المقام الرابع: تأملوا فتح الله إغلاق النظر عنكم إلى قول الرواة الذين هم بجهلهم أعداء على الإسلام ممن صرح بعداوته أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس مع قريش تمنى أن لا ينزل عليه من الله وحي1 فكيف يجوز لمن معه أدنى مسكة أن يخطر بباله أن النبي صلى الله عليه وسلم آثر وصل قومه على وصل ربه، وأراد أن لا يقطع أنسه بهم بما ينزل عليه من عند ربه من الوحي الذي كان حياة جسده.

_ 1 انظر السبب السادس من أسباب بطلان القصة متنًا ص 36

وقلبه، وأنس وحشته وغاية أمنيته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، فإذا جاءه جبريل، كان أجود بالخير من الريح المرسَلة، فيؤثر على هذا مجالسته للأعداء؟! المقام الخامس: أن قول الشيطان: "تلك الغرانيق العلى، وأن شفاعتهن لترتجى" للنبي صلى الله عليه وسلم قَبِله منه، فالتبس عليه الشيطان بالملَك، واختلط عليه التوحيد بالكفر، حتى لم يفرّق بينهما، وأنا من أدنى المؤمنين منزلة، وأقلهم معرفة بما وفقني الله له، وآتاني من علمه لا يخفى عليَّ وعليكم أن هذا كفر لا يجوز وروده من عند الله، ولو قال أحد لكم لتبادر الكل إليه قبل التفكير بالإنكار والردع والتثريب والتشنيع، فضلًا عن أن يجهل النبي صلى الله عليه وسلم حال القول، ويخفى عليه قوله ولا يتفطن لصفة الأصنام بأنها "الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتجى" وقد علم علمًا ضروريًا أنها جمادات لا تسمع ولا تبصر، ولا تنطق ولا تضر، ولا تنفع ولا تنصر ولا تشفع، بهذا كله كان يأتيه جبريل الصباح والمساء، وعليه انبنى التوحيد ولا يجوز نسخه من جهة المنقول، فكيف يخفى هذا على الرسول؟! ثم لم يَكْفِ هذا حتى قالوا: إن جبريل عليه السلام لما عاد إليه بعد ذلك ليعارضه فيما ألقي إليه من الوحي كررها عليه جاهلًا بها -تعالى الله عن ذلك- فحينئذ أنكرها عليه جبريل، وقال له: "ما جئتك بهذا! " فحزن النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا

إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء: 73] فيالله والمتعلمين والعالمين من شيخ فاسد موسوس هامد لا يعلم أن هذه الآية نافية لما زعموا، مبطلة لما رووا وتقوّلوا. وهو: المقام السادس: وذلك أن قول ابن العربي: "كاد يكون كذا" معناه قارب ولم يكن فأخبر الله في هذه الآية أنهم قاربوا أن يفتنوه عن الذي أوحي إليه، ولم تكن فتنة، ثم قال: {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء: 73] وهو: المقام السابع: ولم يفتر، ولو فتنوك وافتريت لاتخذوك خليلًا، فلم تفتتن ولا افتريت ولا اتخذوك خليلًا، {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء:74] وهو: المقام الثامن: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] ، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه ثبته، وقرر التوحيد والمعرفة في قلبه، وضرب عليه سرادق العِصمة، وآواه في كَنَف الرحمة، ولو وكله إلى نفسه، ورفع عنه ظل عصمته لحظة، لألممت بما راموه ولكنا أمرنا عليك المحافظة، وأشرقنا بنوره الهداية فؤادك، فاستبصر وأزاح عنك الباطل ودحر، فهذه الآية نص في عصمته من كل ما نسب إليه، فكيف يتأولها أحد عدوا عما1 نسب إليه من الباطل إليه؟!

_ 1 كذا في الأصل.

المقام التاسع: قوله: "فما زال مغمومًا مهمومًا حتى نزلت عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52] 1، فأما غمه وحزنه، فبأن تمكن الشيطان مما تمكن مما يأتي بيانه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعز عليه أن ينال الشيطان شيئًا وإن قل تأثيره. المقام العاشر: إن هذه الآية نص في غرضنا، الدليل على صحة مذهبنا، أصل في براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه أنه قاله عندنا، وذلك أنه قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] 2، فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله، وسيرته في أنبيائه، أنهم إذا قالوا عن الله قولًا، زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، كما يفعل سائر المعاصي، كما تقول: ألقيت في الدار كذا، وألقيت في العِكم3 كذا، وألقيت في الكيس كذا، فهذا نص في أن الشيطان زاد في الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ تلا قرآنا مقطّعًا، وسكت في مقاطع الآي سكوتًا محصلًا، وكذلك كان حديثه مترسلًا فيه

_ 1 انظر الرواية 3، 4، 6. 2 الأصل "تلاوته". 3 بكسر العين: العدل

متأنيًا، فتبع الشيطان تلك السكتات التي بين قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 20] وبين قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم: 21] ، فقال يحاكي صوت النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنهن الغرانقة العلى وإن شفاعتهن لترتجى"، فأما المشركون، والذين في قلوبهم مرض لقلة البصيرة وفساد السريرة، فتلوها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبوها بجهلهم إليه، حتى سجدوا معه اعتقادًا أنه معهم، وعلم الذين أوتوا العلم والإيمان أن القرآن حق من عند الله، فيؤمنون به، ويرفضون غيره، وتجيب قلوبهم إلى الحق، وتنفر عن الباطل، وكل ذلك ابتلاء من الله، ومحنة، فأين هذا من قولهم؟! وليس في القرآن إلا غاية البيان بصيانة النبي صلى الله عليه وسلم في الإسرار والإعلان، عن الشرك والكُفران، وقد أودعنا إليكم توصية أن تجعلوا القرآن، إمامكم، وحروفه أمامكم، فلا تحملوا عليها ما ليس فيها، ولا تربطوا بها ما ليس منها، وما هدي لهذا إلا الطبري بجلالة قدره وصفاء فكره، وسعة باعه في العلم، وشدة ساعده وذراعه في النظر، وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصوَّب على هذا المرمى فقرطس بعد ما ذكر في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها، ولو شاء ربك لما رواها أحد، ولا سطرها، ولكنه فعال لما يريد، عصمنا الله وإياكم بالتوفيق والتسديد, وجعلنا من أهل التوحيد بفضله ورحمته".

كلام القاضي عياض في ذلك

2- كلام القاضي عِياض في ذلك: وقال القاضي عِيَاضْ: "فاعلم أكرمك الله: أن لنا في الكلام على مشكل الحديث مأخذين: أحدهما في توهِين أصله، والثاني على تسليمه. أما المأخذ الأول، فيكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند متصل سليم، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال: لقد بُلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقله، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده واختلاف كلماته. فقائل يقول: إنه في الصلاة، وآخر يقول: قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سِنة، وآخر يقول: بل حَدَّثَ نفسه فسها، وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك؟! وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: والله ما هكذا أنزلت. إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، ومن حُكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين

والتابعين لم يُسْندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث شُعبة عن أبي بِشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب -الشك في الحديث- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة، وذكر القصة. وقال أبو بكر البزّار: "هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذِكره إلا هذا، ولم يسنده عن شبعة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس". فقد بيَّن لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يُُعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبَّه عليه مع وقوع الشك فيه -كما ذكرنا- الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه. وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه، ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البزّار، والذي منه في "الصحيح" "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: "النجم" وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس "هذا توهينه من طريق النقل". فأما من جهة المعنى: فقد قامت الحُجَّة، وأجمعت الأمة على عِصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهةٍ غيرٍ الله وهو كفر، أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه عليه جبريل

عليهما السلام، وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدًا، وذلك كفر، أو سهو، وهو معصوم من ذلك كله، وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم من جَرَيان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدًا ولا سهوًا، وأن يشتبه عليه ما يلقيه الملَك بما يلقي الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو يتقول على الله لا عمدًا ولا سهوًا ما لم ينزل عليه، وقد قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} الآية [الحاقة: 44] ، وقال {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَات} [الإسراء: 75] . ووجه ثانٍ: وهو استحالة هذه القصة نظرًا وعُرفًا، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام متناقض الأقسام، ممتزج المدح والذم، متخاذل التأليف والنّظم، ولَمَا كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمِّل، فكيف بمن رجَحَ حلمه، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟! ووجه ثالث: أنه قد علم من عادة المنافقين، ومعاندة المشركين، وضعفة القلوب، والجهلة من المسلمين، نفورهم لأول وَهْلة، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفنية بعد الفنية، وارتداد من في قلبه

مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شُبهة، ولم يحكِ أحد في هذه القصة شيئًا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء، حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردّة. كذلك ما روي في قصة القضية، ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت، ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت، فما رُوي عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة، فدل على بطلانها واجتثاث أصلها. ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس والجن هذا الحديث على مُغفَّلي المحدثين، يلبس به على ضعفاء المسلمين. ووجه رابع: ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ... } الآيتين [الإسراء: 73-74] . وهاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا ليفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم، فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى قد عصمه من أن يفتري، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلًا، فكيف كثيرًا؟ وهم يروون في أخبارهم الواهية أن زاد على الركون الافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال صلى الله عليه وسلم: "أفتريت على الله، وقلت ما لم يقل" وهذا ضد مفهوم الآية.

وهي تضعف الحديث لو صح فكيف ولا صحة له؟ وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء: 113] . وقد روي عن ابن عباس: "كل ما في القرآن "كاد" فهو ما لا يكون". قال القاضي: ولقد طالَبَتْه قريش وثقيف إذا مرّّ بآلهتهم أن يُقبل بوجهه إليها، ووعوده الإيمان به إن فعل، فما فعل ولا كاد أن يضل، وقد ذكرت في معنى الآية تفاسير أخر، ما ذكرناه من نصّ الله على عصمة رسوله برد سفاسفها، فلم يبق في الآية إلا أن الله تعالى امتن على رسوله بعصمته وتثبيته بما كاده به الكفار، وراموا من فتنته، ومرادنا في ذلك تنزيهه وعصمته صلى الله عليه وسلم وهو مفهوم الآية. وأما المأخذ الثاني: فهو مبني على تسليم الحديث لو صح أعاذنا الله من صحته، ولكن مع كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة بأجوبه منها الغث والسمين". قلت: فذِكر هذه الأجوبة، وضعفها جلها أو كلها، إلا الأخير منها، فإنه استظهره ورجحه، وهو الذي أجاب به ابن العربي فيما تقدم من كلامه "ص 53":

رد الحافظ ابن حجر وتعقبنا عليه

رد الحافظ ابن حجر وتعقبنا عليه ... إن الشيطان هو الذي ألقى ذلك في سكتة النبي صلى الله عليه وسلم بين الآيتين، محاكيًا نغمة النبي صلى الله عليه وسلم وأشاع ذلك المشركون عنه صلى الله عليه وسلم، ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظه السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذمّ الأوثان وعيبها على ما عرف منه، وقد حكى موسى بن عُقبة في مغازيه نحو هذا وقال: "إن المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع المشركين وقلوبهم"1 ويكون ما روي من حزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنه. ردُّ الحافظ على ابن العربي والقاضي عِياض وتعقبنا عليه: وأما قول الحافظ في "الفتح" بعد أن نقل خلاصة عن الوجوه التي تقدمت عن الإمامين المذكورَيْن في إعلال القصة وتوهينها: "وجميع ذلك لا يتمشى على قواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها، دلّ ذلك على أن لها أصلًا، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض".

_ 1 قلت: ونحوه في رواية عروة "رقم 6 ص 24- 25"، وإن كان في آخرها ما يخالف هذا وقد نقلت رواية موسى بن عقبه عن ابن كثير فيما تقدم "ص 19".

فأقول: إن هذا الجواب ليس بالقوي على إطلاقه لما بيَّنّا فيما تقدم أن تقوية الحديث بكثرة الطرق ليس قاعدة مضطردة، نعم من ذهب إلى الاحتجاج بالمرسل مطلقًا أو عند اعتضاده، ففي الجواب رد قوي عليه، كالقاضي عياض وغيره ممن يقبل مرسل الثقة1 أما نحن فهو غير وارد علينا لما أوردنا من الاحتمالات التي تمنع الاحتجاج بالحديث المرسل ولو من غير وجه، ولعل هذا مذهب الحافظ ابن كثير حيث قال عند تفسيره للآية السابقة "3/229": "قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظنًا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح". فإن ابن كثير يعلم أن بعض هذه المراسيل التي أشار إليها أسانيدها صحيحة إلى مُرْسِلها، فلو كان بعضها يعضد بعضًا عنده وتقوي القصة بذلك، لما ضعفها بحجة أنه لم يرها مسندة من وجه صحيح وهذا بيِّن لا يخفى ثم إن من الغريب أن الحافظ ابن حجر مع ذهابه إلى تقوية

_ 1 تخريج الكشاف "4/112"

القصة يرى أن فيها ما يُستنكر وأنه يجب تأويله فيقول بعد كلامه الذي نقلته آنفًا: "وإذا تقرر ذلك تعيَّن تأويل ما وقع فيها مما يستنكر وهو قوله: "ألقى الشيطان على لسانه: "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمدًا منه، وكذا سهوًا إذا كان مغايرًا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته". ثم ذكر الحافظ مسالك العلماء في تأويل ذلك، ثم اعتمد على الوجه الأخير منها. وهو الذي نقلناه عن القاضي عياض قبيل هذا الفصل، وقلنا إنه رجَّحه، ثم قال الحافظ: "وهذا أحسن الوجوه، ويؤيِّده ما تقدم في صدر الكلام عن ابن عباس من تفسير تمنَّى بـ"تلا". فينتج من ذلك أن الحافظ رحمه الله، قد سَّلم أن الشيطان لم يتكلم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الجملة، وإنما ألقاها الشيطان بلسانه في سكتة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يتفق البتة مع القول بصحة القصة، أو أن لها أصلًا، فإن كان يريد بذلك أن لها أصلًا في الجملة، أعني بدون هذه الزيادة، فهذا ليس هو موضع خلاف بينه وبين العلماء الذين ردّ عليهم قولهم ببطلان القصة، وإنما الخلاف في الجملة التي تزعم الروايات أن الشيطان ألقاها

على لسانه صلى الله عليه وسلم فإذ قد صرح الحافظ بإنكارها وتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عنها فنستطيع أن نقول لحضرة السائل: إن الحافظ متفق مع ابن كثير -وغيره ممن سبقه ولحقه- على إنكار القصة على ما وردت في الروايات حتى التي صحَّحها الحافظ، وأما ما بقي منها مما لا يتنافى مع عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا خلاف في إمكان وقوعها، بل الظاهر أن هذا القدر هو الذي وقع بدليل ظاهر آية الحج حسبما تقدم تفسيرها في أوائل الرسالة1. نعم يرد على الحافظ هنا اعتراضان: الأول: تليينه العبارة في إنكار تلك الزيادة، لأنه إنما أنكرها بطريق تأويلها! وحقه أن ينكرها من أصلها، لأن التأويل الذي زعمه ليست تفيده تلك الزيادة أصلًا، لأن الحافظ يقول: "إن الشيطان هو الذي ألقى بلسانه في سكتة النبي صلى الله عليه وسلم". وهي تقول: "إن الشيطان ألقى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم" فأين هذا من ذلك؟!

_ 1 وبعد كتابة ما تقدم رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية يميل إلى تثبيت القصة بالقدر المذكور، وأن قوله: "تلك الغرانيق العلى ... " لم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما ألقاه الشيطان في أسماعهم. راجع كلامه في الفتاوى "2/282".

الثاني: تشنيعه القول على ابن العربي والقاضي عياض لإنكارهما القصة، ومع أنه يعلم أنهما أنكراها لم فيها من البواطيل التي لا تتفق مع القول بعصمة الرسول الكريم، منها هذه الزيادة التي وافقها الحافظ على استنكارها، مع فارق شكلي وهو أنهما كانا صريحين في إنكارها من أساسها، بينما الحافظ إنما أنكرها بطريق تأويلها –زعم-. ومن هنا يتبين لك ضعف ما قاله في رده على القاضي في "تخريج الكشاف". "وأما طعنه فيه باختلاف الألفاظ فلا تأثير للروايات الواهية في الرواية القوية، فيعتمد من القصة على الرواية الصحيحة، أي: يُعتمد على الرواية المتابعة، وليس فيها وفيما تابعها اضطراب والإضطراب في غيرها، وأما طعنه من جهة المعنى فله أسوة كثيرة من الأحاديث الصِّحاح التي لا يؤخذ بظاهرها، بل يرد بالتأويل المعتمد إلى ما يليق بقواعد الدين". قلت: إن هذا الرد ضعيف، لأن الرواية الصحيحة التي أشار إليها هي رواية ابن جُبير المتقدمة وفيها كما في غيرها من الروايات المتابعة الأمر المستنكر باعترافه، بل في بعض الروايات عن سعيد ما هو أنكر من ذلك وهو قوله: "ثم جاءه جبريل بعد ذلك فقال: إعُرض علي ما جئتك به، فلما بلغ "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" قال له

جبريل: لم آتك بهذا، وهذا من الشيطان!! " وقد جاء هذا في غير رواية سعيد كما تقدم، ولازمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد انطلى عليه وحي الشيطان واختلط عنده بوحي الرحمن، حتى لم يميِّز بينهما، وبقي على هذه الحالة ما بقي، إلى أن جاءه جبريل في المساء! سبحانك هذا بهتان عظيم وافتراء جسيم فاتضح أن ليس هناك رواية معتمدة صحيحة بالمعنى العلمي الصحيح، وأن الرواية التي صححها الحافظ قد أنكر بعضها هو نفسه فأين الإعتماد. وأما قوله: "إن حديث الغرانيق له أسوة بكثير من الأحاديث الصحيحة"، فصحيح لو صح إسناده وأمكن تأويله، وكلا الأمرين لا نسلِّم به. أما الأول فلما علمت من إرساله من جميع الوجوه حاشا ما اشتد ضعفه من الموصول، وإنها على كثرتها لا تعضده. وأما الأمر الآخر فلأن التأويل الذي ذهب إليه الحافظ رحمه الله هو في الحقيقة ليس تأويلًا، بل هو تعطيل لحقيقة الجملة المستنكرة، وهو أشبه ما يكون بتأويلات بل تعطيلات القرامطة والرافضة للآيات القرآنية والأحاديث المصطفوية. تأييدًا لمذاهبهم الهدّامة وآرائهم الباطلة، خلافًا للحافظ رحمه الله فإنه إنما فعل ذلك دفاعًا عن مقام الحضرة النبوية والعصمة المحمدية، فهو مشكور على ذلك ومأجور، وإن كان مخطئًا عندنا في ذلك التأويل مع تصحيح القصة.

كلام الشوكاني

3- كلام الشوكاني: وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: "ولم يصح شيء من هذا، ولا يثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته، بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه" ثم ذكر بعض الآيات الدالّة على البطلان ثم قال: "وقال إمام الأئمة ابن خزيمة، إن هذه القصة من وضع الزنادقة". 4- كلام الآلوسي في إبطال القصة: وعلى كل حال فإن الحافظ ابن حجر رحمه الله متفق مع الذين أنكروا القصة على تنزيهه صلى الله عليه وسلم من أن يكون للشيطان تَكلُّم على لسانه عليه الصلاة والسلام، فالخلاف بينه وبينهم يكاد يكون شكليًا أو لفظيًا، وإنما الخلاف الحقيقي بينهم وبين بعض المتأخرين1 حيث ذهب إلى تصحيح القصة مع التسليم بها دون

_ 1 هو الشيخ إبراهيم الكوراني كما صرح بذلك الآلوسي وهو إبراهيم بن حسن بن شهاب الدين الكردي ولد بـ"شهرزور" في شوال "1025هـ" وقدم المدينة ولازم القشاشي واجتمع في مصر عند مروره بها مع الشهاب الخفاجي، توفي بالمدينة في 28 جمادى الأولى سنة "1101هـ" كذا في "تاج العروس" للمناوي.

كلام الآلوسي ورده على الكوراني في تصحيحه للقصة!

كلام الآلوسي ورده على الكوراني في تصحيحه للقصة! ... استنكار أي شيء منها، أو تأويل! بل جوّز على النبي صلى الله عليه وسلم جميع ما فيها زاعمًا أن ذلك لا يتنافى مع عصمته، بل هو تأديب له! في كلام له طويل. يُغني وضوح بطلانه عن إيراده وتسويد الصفحات لرده، وقد نقله الآلوسي برمّته، ثم رده عليه في كلام متين، ولولا أن هذه العجالة لم توضع لهذه الغاية، لَسُقته بتمامه فأختصر من ذلك على قوله في خاتمة بحثه: "لكن إثبات صحة الخبر أشد من خرط القتاد، فإن الطاعنين فيه من حيث النقل علماء أجلاء، عارفون بالغث والسمين من الأخبار، وقد بذلوا الوُسع في تحقيق الحق فيه فلم يرووه إلا مردودًا، وهم أكثر ممن قال بقَوله، ومنهم من هو أعلم منه، ويغلب على الظن أنهم وقفوا على رواته في سائر الطرق فرأوهم مجروحين، وفات ذلك القائل بالقََبول1. ولَعمري إن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة، ثم وفق الله تعالى جمعًا من خاصته لإبطاله، أهون من القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نَسَخَه

_ 1 قلت: هذا فيه بعد لا سيما بالنسبة للحافظ ابن حجر، فلو كان هناك جرح فلا يخفى عليه، والحق أن الحافظ جرى على بعض القواعد الحديثية فهو أعذر ممن خالفها ولم يجب عنها، وقد أجبنا نحن فيما سبق فالأقرب أن يقال: إنهم وقفوا على علة وهي الإرسال حسبما فصّلنا في سائر الطرق ولكن لم يرها علة فادحة القائل بالقبول.

سبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم

سبحانه وتعالى، ولا سيّما وهو مما لم يَتوقف على صحته أمر ديني، ولا معنى آية، ولا سِوى أنها يتوقف عليها حصول شبه في قلوب كثير من ضعفاء المؤمنين لا تكاد تدفع إلا بجهد جهيد". وهذا آخر الكلام في تحقيق بطلان قصة الغرانيق. وقد بقي علينا التعرض لذكر فائدة سبقت مناسبتها وهي سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءة سورة "النجم" وهي تضمن بيان سبب ذلك فأقول: سبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم: رب سائل يقول: إذا ثبت بطلان إلقاء الشيطان على لسانه عليه الصلاة والسلام جملة "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" فَلِمَ إذن سجد المشركين معه صلى الله عليه وسلم وليس ذلك من عادتهم؟ والجواب ما قاله المحقق الآلوسي بعد سطور من كلامه الذي نقلته آنفًا: "وليس لأحد أن يقول: إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهره مدح آلهتهم، وإلا لما سجدوا، لأننا نقول: يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى

وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى، فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} إلى آخر الآيات [النجم: 50-40] . فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم، ولعلهم لم يسمعوا قبل ذلك مثلها منه صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بين يديْ ربه سبحانه في مقام خطير وجمع كثير، وقد ظنّوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم ولو لم يكن عن إيمان، كافٍ في دفع ما توهَّموه، ولا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه صلى الله عليه وسلم، فقد نزلت سورة "حم السجده" بعد ذلك كما جاء مصرّحا به في حديث عن ابن عباس. ذكره السيوطي في أول "الإتقان" فلما سمع عُتبة بن ربيعة قوله تعالى فيها: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصّلت: 13] ! أمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناشده الرحم واعتذر لقومه حين ظنوا به أنه صبأ وقال: "كيف وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب؟ فخفت أن ينزل بكم عذاب" وقد أخرج ذلك البيهقي في "الدلائل" وابن عساكر في حديث طويل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. ويمكن أن يقال على بعد: إن سجودهم كان لاستشعار مدح آلهتهم، ولايلزم منه ثبوت ذلك الخبر، لجواز أن يكون ذلك الاستشعار من قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ

الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، بناء على أن المفعول محذوف وقدّروه حسبما يشتهون، أو على أن المفعول: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم: 21] . وتوهّموا أن مصب الإنكار فيه كون المذكورات إناثًا، والحب لشيء يعمي ويُصمّ، وليس هذا بأبعد من حملهم "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" على المدح حتى سجدوا لذلك آخر السورة، مع وقوعه بين ذمين المانع من حمله على المدح في البين كما لا يخفى على من سلمت عين قلبه من الغين". "وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك". محمد ناصر الدين الألباني انتهى تبيض هذه الرسالة صباح يوم الإثنين الواقع في 7/3/1372هـ - 23/11/1952م أسأل الله تعالى أن يفيد بها السائل وسائر المسلمين ويجعلها خالصة لوجه الكريم.

الفهارس

الفهارس ... الفهرس: الصفحة الموضوع 3 المقدمة وسبب تأليف الرسالة. 7 بين يدي الروايات، وتفسير قوله تعالى: {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} . 10 روايات القصة وعللها. 10 الرواية الأولى: عن سعيد بن جبير، وبيان علة ما رواه عنه موصولا. 18 الرواية الثانية: عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. 20 الرواية الثالثة: عن أبي العالية. 21 الرواية الرابعة: عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس. 23 الرواية الخامسة: عن قتادة. 24 الرواية السادسة: عن عروة بن الزبير. 26 الرواية السابعة: عن أبي صالح، وبيان ضعف من وصله عنه.

28 الرواية الثامنة: عن الضحاك. 29 الرواية التاسعة: عن محمد بن فضالة الظفري، والمطلب بن عبد الله بن حنطب. 31 الرواية العاشرة: عن ابن عباس، وبيان ضعف طرقه عنه. 35 بيان بطلان القصة متنا. 37 كلام الحافظ ابن حجر والرد عليه. 38 قاعدة تقوية الحديث بكثرة الطرق ليست على إطلاقها. 40 ضعف الحدث المرسل وسببه. 42 هل يتقوى الحديث بمجيئه من طرق مرسلة ورأي المؤلف في ذلك. 47 ذكر جماعة من الأئمة طعنوا في قصة الغرانيق. 48 1- كلام أبي بكر ابن العربي في إبطال القصة. 55 2- كلام القاضي عياض في ذلك. 60- رد الحافظ ابن حجر وتعقبنا عليه. 66 3- كلام الشوكاني. 66 4- كلام الآلوسي ورده على الكوراني في تصحيحه للقصة!. 68 سبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم. 71 الفهرس.

§1/1