نشر ألوية التشريف بالإعلام والتعريف بمن له ولاية عمارة ما سقط من البيت الشريف

ابن علان

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1422 هـ - 2001 م دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع هاتف: 702857 - فاكس: 704963/ 009611 بيروت - لبنان ص ب: 5955/ 14 e-mail: [email protected]

مقدمة [التحقيق]

بسم الله الرحمن الرحيم مقدّمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمَّد وآله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن من النفحات الربانية والعطايا الإِلهية، تكاتف الجهود وتظافر الهمم، وتشمير السواعد لخدمة التراث الإِسلامي وإبراز مكنوناته ... وما هذه المجالس التي تعقد في رحاب البيت الحرام في أجواء العشر الأواخر منه -في جو مفعم بالإِيمان والمحبة والشوق إلى الله سبحانه واستنزال رحماته التي وعد بها المؤمنين من عباده في هذا الشهر العظيم خاصة وفي غيره من الأيام والشهور عامة- إلَّا مظهر من مظاهر النعمة والرحمة والنفحات .. ولما كانت هذه المجالس العشرية الآخرية تعقد في صحن المسجد الحرام أمام الكعبة المشرفة المعظمة، فقد عرضت على الإِخوان الكرام القائمين على هذه المجالس المباركة هذه الرسالة اللطيفة للإِمام ابن علان رحمه الله تعالى والمتعلقة بهذه البَنِيَّة المعظمة المشرفة، أول بيت وضع للناس ... فكان لها وقع طيب وقبول عند الجميع .. لأن موضوع الرسالة جديد ومهم، ولم يسبق أن طبع كتاب مستقل يتحدث عن الموضوع نفسه، وإن كانت كتب التاريخ المكي طافحة بتفاصيل ما ورد فيه وغير

ذلك، أضف إلى أنه لم ينشر من كتب ابن علان إلَّا النزر اليسير، فهو على شهرته الكبيرة لم يطبع من كتبه إلَّا شرحيه على رياض الصالحين والأذكار للإِمام النووي، وغير شرحه على "التعرف" لابن حجر الهيتمي ... هذا حسب علمي. وإن كانت رسالته أو كتابه الفريد "إنباء المؤيد" قد حُقِّق تحقيقًا علميًّا ونيل به بعض الشهادات العلمية، إلَّا أنه لم يخرج أو بالأحرى لم يدخل حيز الطباعة ... وهناك مميزات أخرى لهذه الرسالة لا أطيل بذكرها ... ولعل من أهم المميزات لخدمة ونشر هذه الرسالة الهامة واللطيفة في بابها ... هو مناسبتها التامة لزمان ومكان انعقاد هذه المجالس الرمضانية، التي نسأل الله أن يديم عافيته على أعضائها ويوفقهم لإِخراج وإبراز الجديد والمفيد دائمًا. كما نسأل الله تعالى أن ينفع بهذه الرسالة كل من قرأها، ونرجو أن نكون قد وفقنا في الاختيار، وحسن الخدمة والعرض، ورحم الله امرءًا أهدى إلينا عيوبنا ... وصلَّى الله وسلَّم على سيدنا ونبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم. محمَّد أبو بكر عبد الله باذيب جدة في 12 ربيع الأول 1422 هـ

ترجمة المصنف (980 - 1058 هـ)

ترجمة المصنف (¬1) (980 - 1058 هـ) هو الشيخ الإِمام العلامة الفقيه المؤرخ المحدث المتفنن محمَّد علي بن محمَّد علان بن إبراهيم بن محمَّد علان بن عبد الملك بن علي بن علي بن مبارك شاه الصديقي البكري المكي (¬2). ¬

_ (¬1) مصادر الترجمة: خلاصة الأثر للمحبي: 4/ 184 - 189، الجواهر والدرر في تاريخ القرن الحادي عشر، للعلامة محمَّد بن أبي بكر الشِّلِّي (مخطوط)، التاريخ والمؤرخون في مكة، للحبيب الهيلة: 314 - 330، الأعلام للزركلي: 6/ 293، نشر النور والزهر "المختصر"، لميرداد. الأسر القرشية أعيان مكة المحمية، عبد الله صديق: 223 - 224. (¬2) هناك اضطراب واضح في اسم المصنِّف وسرد نسبه إلى جده عبد الملك، فما نقلته هنا هو ما ذكره العلامة السيد المحبي في "الخلاصة"، وأما الشِّلِّي في "الجواهر" فجعله: محمَّد بن علي بن محمَّد بن علان بن محمَّد علان بن إبراهيم بن محمَّد بن علان ... وهذا غالبًا وهم من الناسخ لأن محمَّد علي ومحمد علان اسمان مركبان، وهذا النسب بهذا الشكل خطأ محض. واعتمد الزركلي ما جاء في الخلاصة، ولم يتعرض الدكتور الهيلة لشيء من هذا ... وسيأتي في اسم جده وبقية الأسرة شيء من هذا الاضطراب أيضًا، ولكنه يزول بمعرفة ضبط عدد الآباء الذين عددهم الشهاب بن علان في أبياته الواردة، وبه يحقق نسب المصنف وبقية أعلام أسرته، والتحقيق: أن محمَّد علان بن عبد الملك الذي هو والد إبراهيم اسم مركب وليس كما في "الخلاصة" أنه محمَّد بن علان.

أسرته

مولده بمكة المشرفة، حدود عام 980 كما ذكر العجيمي (¬1)، وبها نشأ وطلب العلم، وأخذ عن كبار علماء الحرمين الشريفين والوافدين عليها. أسرته: آل علان من الأسر المكية العلمية العريقة، وقد اشتهر أفرادها بين القرنين الثامن والحادي عشر الهجريين ... ومرجعهم في النسب إلى الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه كما أطبق عليه المؤرخون. وقد عرف من هذه الأسرة الكريمة عدد من العلماء والأفاضل، وفيهم أو غالبهم مصنفون ذووا مصنفات نافعة جليلة. ونذكر أولًا أصولهم في النسب ثم نعرض لمشاهير (آل علان): 1 - الجد الأعلى للأسرة: علي بن مباركشاه (¬2) بن أبي بكر بن محمود بن محمَّد بن أبي محمَّد بن طاهر بن حنون بن علان بن حسين بن عبد الله بن يونس بن يوسف بن إسحاق بن عمر بن زيد بن محمَّد بن الصدِّيق الأكبر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر بن أبي قحافة التيمي القرشي .. البكري الصديقي. وهذا النسب ساقه المحبي منظومًا على لسان الشيخ العلامة أحمد بن إبراهيم بن علان -ستأتي ترجمته- وهو قوله: أيا سائلي عن نسبتي كيف حالها ... جدود لي إلى الصديق عشرون فاعدد خليل وعلان وعبدُ مِليكِهِم ... عليٌّ عليٌّ ذو النعيم المؤبَّدِ مبارك شاه حاوي المجد بعدهم ... أبو بكر المحمود نجل محمَّد ... ووالده قد جاء يكنى باسمه ... فطاهر حنون الذي هو مهتدي وعلان كان جاء وهو حسينهم ... عفيف أتى فيهم ويونس ذو اليد ¬

_ (¬1) خبايا الزوايا (مخطوط): 106 / ب. (¬2) له ترجمة في الدرر الكامنة: 3/ 57، ترجمة رقم (2852).

ويوسف إسحاق وعمران قد أتى ... وزيد به كل الخلائق تقتدي ومن بعده حاوي الفخار محمَّد ... ووالده الصديق ذخري ومنجدي (¬1) 2 - عبد الملك بن علي بن علي بن مبارك شاه الصديقي، توفي سنة 896 هـ، له كتاب "الحبل المتين" في الأذكار (¬2). 3 - الشيخ محمَّد علان بن عبد الملك بن علي بن علي الصديقي، من أهل القرن العاشر، لم يترجم له أحد من المؤرخين، وإنما ورد اسمه في ديباجة كتابه "مثير شوق الأنام"، ونقل المصنف -حفيده- عن كتابه في هذه الرسالة وقال: نقل جدي في كتابه "مثير شوق الأنام" ... إلخ (¬3). 4 - شهاب الدين أحمد بن إبراهيم بن محمَّد علان بن عبد الملك الصديقي البكري المكي النقشبندي المتوفى سنة 1033 هـ، والمولود بها سنة 975 هـ (¬4). 5 - غياث الدين بن محمَّد علي بن علان المكي ... من أهل القرن الحادي عشر، وهو ابن مصنف هذا الكتاب، لم يترجم له سوى مرداد في "نشر النور" فقال: غياث الدين بن جمال الدين العلامة محمَّد علي بن علان المكي الصديقي الشافعي، ولد بمكة المكرمة ونشأ بها، وجد واجتهد في تحصيل العلوم، فقرأ على والده وعلى غيره من أفاضل البلد الحرام. وألف التآليف المجيدة. فمن تآليفه: ذيل كتاب "روضة الصفا في آداب زيارة المصطفى لوالده". ولم أقف له على ولادة ووفاة إلَّا أنه من أهل القرن الحادي عشر. اهـ (¬5). ¬

_ (¬1) خلاصة الأثر: 1/ 88، 89. (¬2) له ترجمة في: الضوء اللامع للسخاوي: 5/ 86 - 87، وهدية العارفين للبغدادي 1/ 637، وكشف الظنون: 629، عن "التاريخ والمؤرخون"، للهيلة: ص 311. (¬3) يأتي النقل عنه ص 77. (¬4) خبايا الزوايا، للشيخ حسن العجيمي الحنفي (مخطوط): 210، 211، ونقله عنه ميرداد في نشر النور: المختصر ص 105، 106، وترجم له المحبي في الخلاصة: 1/ 157، والهيلة في التاريخ والمؤرخون: 314، وذكر مراجع أخرى لترجمته، والأعلام: 1/ 88. (¬5) مرداد: "المختصر" 386، التاريخ والمؤرخون: ص 330.

شيوخه

* وأعتقد أن نسل هذه الأسرة الكريمة قد انقرض، فسبحان من له الدوام والبقاء (¬1). شيوخه: نعود إلى ترجمة مصنف هذه الرسالة وقد ذكرنا أشهر علماء آل علان المكيين ... فنذكر شيوخه. فمن أعلام شيوخه الذين تلقى عنهم العلوم الشرعية وآلاتها وأفاد منهم: العلامة عبد الملك العصامي (¬2)، والمحدث المتفنن الشيخ العلامة محمَّد بن محمد بن جار الله بن فهد الهاشمي المكي (¬3)، والسيد العلامة الفقيه عمر بن عبد الرحيم البصري (¬4)، والعلامة الشيخ عبد الرحيم بن حسان الحنفي المكي (¬5) تلقى عنه علم النحو، وعمه الشيخ أحمد بن علان (¬6) أخذ عنه القراءات والحديث والفقه والتصوف، وعلي بن جار الله بن ظهيرة (¬7) وطبقتهم. ومن الوافدين على مكة المشرفة: العلامة الجليل الشيخ عبد الرحمن بن ¬

_ (¬1) الأسر القرشية أعيان مكة المحمية؛ عبد الله صديق: 223. (¬2) توفي سنة 1037 هـ, وهو (الجد) المعروف بمُلّا عصام. (¬3) ذكره المحبي ونقله عنه د. الهيلة، وهو وهم واضح, لأن خاتمة علماء آل فهد هو محمَّد بن عبد العزيز المعروف بجار الله بن فهد توفي سنة 954 هـ. وإنما هو علي بن جار الله بن ظهيرة، فالتبس الاسم على العلّامة المحبي، وهو المصرح به في "خبايا الزوايا"، والله أعلم. (¬4) السيد عمر البصري، توفي سنة 1037. ترجمته في: خلاصة الأثر 3/ 210 - 212. (¬5) عبد الرحيم بن أبي بكر بن حسّان المكي، توفي سنة 1014 هـ. خلاصة الأثر 2/ 406، 407. (¬6) تقدمت ترجمته. (¬7) توفي سنة 1010 هـ, وقد جاوز التسعين. الخلاصة 3/ 150 - 151، المختصر ص 361.

مكانته العلمية

محمَّد الشربيني العثماني الشافعي (¬1) روى عنه صحيح البخاري وكتب السنة "إجازة". والعلامة مفتي الحنفية بمصر الشيخ عبد الله النحراوي، والعلامة الشيخ حسن البوريني الدمشقي (¬2). والشيخ العلامة المحدث محمَّد حجازي الواعظ (¬3)، أجازه عام 1020 هـ. مكانته العلمية: وصفه معاصره والراوي عنه بالإِجازة العامة الشيخ العلامة حسن بن علي العجيمي الحنفي بقوله: حافظ عصره، وإمام وقته، فارس التفسير، وجهبذ الحديث، وفخر علماء مكة عند المصنفين في القديم والحديث .. ولم يزل في الاشتغال حتى اشتهر وارتفع صيته وولع بالتأليف، فصنف أكثر من أربعمائة مؤلف ما بين مطول ومختصر، ولذا كان الشيخ عبد الرحمن الخياري يقول: إنه سيوطي زمانه. وكان يعقد مجالس الإِملاء في الحديث وغيره فيقرأ ما بين المغرب والعشاء البخاري، وينشئ في كل ليلة خطبة مناسبة لمعنى الحديث الذي يقرأه، وكان يورد كلام الشراح عن حفظه بما يبهر عقول السامعين ... ومع ذلك لم تكن لأهالي مكة عناية بالقراءة عليه، فقلما يحضر منهم واحد أو اثنان، وأكثرهم من الجاويين وأهل اليمن، وكان من جملة الملازمين للقراءة عليه الإِمام فضل الطبري والشيخ أحمد الأسدي. وكان قوي الاستحضار حتى للفقه، فربما مر في السوق فيعرض عليه سؤال أو أسئلة فيكتب عليها وهو ماشٍ .. ثم قال: وشملتني ولله الحمد إجازته لمن سمع شيئًا منه. ¬

_ (¬1) توفي سنة 1014 هـ, وهو ابن العلامة شمس الدين محمَّد الشربيني صاحب "مغني المحتاج"، ترجمته في "خلاصة الأثر": 2/ 378. (¬2) الحسن بن محمَّد البوريني (963 - 1024 هـ). خلاصة الأثر 2/ 51 - 62. (¬3) محمَّد حجازي الواعظ القلقشندي (975 - 1035). خلاصة الأثر 4/ 174.

مصنفاته

ثم قال رحمه الله: واتفق له ختم البخاري أو قرأ مجلس الختم منه في باطن الكعبة لما انهدمت في سنة [1039 هـ] (¬1)، فقام الشيخ محمَّد الشيبي وأعانه جمع من معاصريه ليمنعه الشريف، فما تم لهم، ولم يزل على كمال في الاشتغال بالعلم تدريسًا وتأليفًا حتى توفي إلى رحمة الله تعالى في سنة ثمان وخمسين بعد الألف ودفن بالمعلاة في مقبرة آبائه عند قبة السيدة خديجة الكبرى رضي الله عنها. انتهى كلام الشيخ حسن عجيمي، وهو مفيد في الباب ويغني عن غيره من أقوال غيره من المؤرخين. مصنفاته (¬2): تقدم في كلام العجيمي أن مصنفات الإِمام ابن علان جاوزت الأربعمائة مصنف، وإذا أردنا أن نسردها ونعددها لطال بنا الكلام، ولكن سأورد أهمها وأشهرها، ثم أخصص بالذكر منها ما صنفه في خصوص البيت الحرام وما ألفه عن هذه الحادثة بالذات ... فمن مؤلفاته الشهيرة والمتداولة: 1 - دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين: شرح على الكتاب المعروف للإِمام النووي، مطبوع ومتداول في 4 مجلدات. 2 - الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية: شرح على كتاب الأذكار الشهير للإِمام النووي، مطبوع في 4 مجلدات هو الآخر. 3 - التلطف شرح التعرف في الأصلين والتصوف: والمتن للشيخ الإِمام ¬

_ (¬1) بياض بالأصل. (¬2) لمعرفة مصنفات الإمام الشيخ محمَّد علي بن علان، ينظر: التاريخ والمؤرخون، للهيلة: 316 - 330، وذكر أنه استفاد من مقدمة الأخ الباحث خالد الخالدي لتحقيق كتاب "إنباء المؤيد الجليل مراد"، للمصنف، وأنه أحصى مصنفاته فبلغت 91 مصنفًا بين كتاب ورسالة، وذكر مواضع نسخها في مكتبات العالم.

الفقيه ابن حجر الهيتمي المكي، طبع بالمطبعة الماجدية بمكة. هذه أشهر مصنفاته، وقد انتشرت لا سيما الأولان منها وتداولها طلاب العلم في أرجاء العالم الإِسلامي. وعدد الدكتور الهيلة 22 كتابًا له في غير علم التاريخ ... منها: 4 - بدائع المعاني في بيان عقيدة الشيباني: منه نسخة بمكتبة الأوقاف، بغداد، رقم 4811/ 2. 5 - حدائق الألباب في علم قواعد الإِعراب: يوجد بالمكتبة المحمودية بالمدينة المنورة، رقم (100) مجاميع. 6 - العقد الفريد في تحقيق التوحيد: منه نسخة بمكتبة المتحف الوطني - جاكرتا أندونيسيا، رقم (DCLI). 7 - المقرب في معرفة ما في القرآن من المعرب: نسخة بالمحمودية بالمدينة المنورة، (100) مجاميع. 8 - مفتاح البلاد في فضائل الغزو والجهاد: نسخة بمكتبة برلين (4091). ثم عدد الهيلة مصنفاته في التاريخ وجعلها خمسة أقسام (¬1): (أ) في السيرة النبوية: بلغت سبعة مؤلفات. (ب) في تاريخ مكة المكرمة: بلغت 21 مؤلفًا، منها عشرة مؤلفات خص بها حادثة السيل الذي هدم الكعبة الشريفة في عهد السلطان مراد خان، وسيأتي تفصيلها. (ج) في تاريخ آل عثمان: 3 مؤلفات. (ع) في التراجم عامة: 5 مؤلفات. (هـ) موضوعات أخرى: 3 مؤلفات ¬

_ (¬1) التاريخ والمؤرخون: 319، 330.

مصنفات ابن علان في حادث السيل الذي هدم البيت الحرام عام 1039 هـ: كان ذلك حدثًا هامًّا وتاريخيًّا يستحق التأليف فيه؛ لتعلقه بأقدس المواطن الشريفة التي تمس أهم رموز الدين الإِسلامي، وهو البيت الحرام {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}، والذي يتجه إليه المسلمون في أنحاء العالم الإِسلامي كل يوم خمس مرات في صلواتهم المفروضة فضلًا عن غيرها ... فقد راع ذلك الأمر الشيخ محمَّد علي بن علان وغيره من علماء الحرمين وعلماء مصر وإسطنبول، لا سيما بعد رجوع الخليفة العثماني وولاته على الحرمين إلى العلماء لمشاورتهم في كيفية إعادة بناء البيت الحرام وطريقة العمل في ذلك، وكثر السؤال عن حكم ذلك العمل ومن الذي يقوم به، هل هو الخليفة أم الوالي ... إلى غير ذلك من الأحكام المتعلقة بالموضوع وجوانبه. فكان أن صنف ابن علان عشر رسائل تناول فيها هذا الموضوع من جوانبه كلها، وهذه الرسالة واحدة منها، أما بقيتها فهي: 1 - إعلام سائر الأنام بقصة السيل الذي سقط منه بيت الله الحرام: ذكره المصنف في عدد من كتبه الأخرى، منها "نشر الألوية" -هذه الرسالة- و"إنباء المؤيد" وغيرها، وهو المسمى بالتاريخ الكبير، وقال: إنه استوفى فيه جميع عمارات الكعبة الإِحدى عشر. منه نسخة خطية بمكتبة برلين (3080)، ولكنها نسبت لغيره (¬1). 2 - إنباء المؤيد الجليل مراد ببناء بيت الوهاب الجواد: وقد فصل فيه الحوادث اليومية التي واكبت بناء الكعبة الشريفة وعمارتها، وأرخها يومًا يومًا. وهو ملخص من كتابه السابق كما ذكر في ديباجته. وقد تابع المصنف العمل في عمارة الكعبة الشريفة متابعة دقيقة، بل إنه ساعد ¬

_ (¬1) التاريخ والمؤرخون: 321، وذكر أنها نسبت للعلامة تقي الدين بن زكريا الأموي العثماني الماتريدي الحنفي المتوفى سنة 1050 هـ.

في بناء البيت الشريف، وكان يحمل النورة والحجارة على كاهله معاونةً للبنائين، وكان كلما وصل العمال إلى جهة من جهات الكعبة صنف لهم رسالة تتعلق بذلك يرشدهم فيها للأصلح، وكان كلما اختلف مع النظار على البناء في أمر ما صنف رسالة يوضح لهم وجهة نظره الشرعية. وذكر د. الحبيب الهيلة أن للكتاب 4 نسخ خطية، وأنه حقق بجامعة الملك سعود (الرياض سابقًا) على يد الباحث خالد عزام الخالدي ونال به رسالة الماجستير سنة 1406 هـ، واعتمد على تلك النسخ الأربع (¬1). 3 - نشر ألوية التشريف بالإِعلام والتعريف بمن له ولاية عمارة ما سقط من البيت الشريف: وهو هذا الذي نقدم له. ورومًا للاختصار فإنا نذكر سبب تأليفه في هذا الموضع ثم نرجئ الحديث عن النسخة المعتمدة وطريقة العمل فيها. قال العلامة المحبي في خلاصة الأثر 4/ 188: سببه أن البيت العتيق لما سقط سأل الشريف مسعود -صاحب مكة إذ ذاك- العلماء عن حكم عمارته، فأجابوا بأنه فرض كفاية على سائر المسلمين، ولشريف مكة تعاطي ذلك، وأنه يعمره ولو أنه من القناديل التي لم يعلم أنها عينت من واقفها لعين العمارة، ووافقهم صاحب الترجمة أولًا، ثم ظهر له أن هذا العمل لا يتوجه إلَّا إلى السلطان الأعظم، وتوقف معظم العلماء عن موافقته فألف المؤلف المذكور، ثم بلغه توقفهم عن دليله في ذلك، فألف مؤلفًا آخر سماه: "البيان والإِعلام في توجيه فرضية عمارة الساقط من البيت لسلطان الإِسلام". انتهى. 4 - البيان والإِعلام في توجيه عمارة الساقط من البيت لسلطان الإِسلام: وتقدم سبب تأليفه، وذكره أيضًا المصنف في "إنباء المؤيد الجليل" والشلّي في عقد ¬

_ (¬1) التاريخ والمؤرخون: 321 - 324.

الجواهر. منه نسخة خطية بالمكتبة المحمودية بالمدينة المنورة مجموع (1645) في 3 ورقات (¬1). 5 - رسالة في منع وضع الستائر لوجه الكعبة كلها بقدر سمكها: ذكرها بنفسه في "إنباء المؤيد الجليل" ص 79، وقال: إنه بيَّن فيها وجه منع البنائين في عمارة الكعبة من سترها تمامًا عند قيامهم بعملهم، مما يؤدي إلى إخفائها وبطلان صلاة كثير من الناس (¬2). 6 - فتح الكريم الفتاح في حكم ما سد به البيت من حصر وأعواد وألواح: ذكره المؤلف في "إنباء المؤيد الجليل مراد" ص 8، 9، وقال عنه: بينت فيه عمل المهندسين والصناع أتم بيان، وعدد الأعواد وأصحابها، والحصر المسدود بها باقي العمارة وأصحابها. وذكره الشلِّي في عقد الجواهر، والبغدادي في إيضاح المكنون 2/ 170 (¬3). 7 - فتح القدير في الأعمال التي يحتاج إليها من حصل له بالملك على البيت ولاية التعمير: رسالة في الأعمال التي يحتاجها النائب في عمارة البيت. ذكرها المؤلف في إنباء المؤيد الجليل مراد: ص 12، والشلِّي في الجواهر، والبغدادي في الإِيضاح. 8 - إيضاح تلخيص بديع المعاني في بيان منع هدم الجدار اليماني: رسالة ذكرها المؤلف في "إنباء المؤيد الجليل" ص 26، وقال: إنه كتبها حين أراد بعض البنائين في العمارة هدم الجدار اليماني وإعادة بنائه. وكان يرى عدم هدمه؛ لعدم وجود ضرورة لذلك، فوضع هذه الرسالة ونسخ منها ثلاث نسخ إحداها موجهة إلى قاضي مكة، والأخرى إلى ناظر عمارة الحرم، والثالثة إلى شيخ الحرم، وكان تأليفها ¬

_ (¬1) التاريخ والمؤرخون: 324. (¬2) السابق: 326. (¬3) السابق: 327.

منقبة كبيرة لابن علان رحمه الله

في جمادى الأولى سنة 1040 هـ (¬1). 9 - مؤلف في باب الكعبة: ذكره في "إنباء المؤيد" ص 70، قال: وقد أفردت لباب الكعبة مؤلفًا استوعبت فيه عمارته وبيان تغييراته (¬2). 10 - المواهب والفتوح بعمارة المقام الإِبراهيمي وباب الكعبة وسقفها والسطوح: ذكره الشلِّي والمحبي، والبغدادي في هدية العارفين 2/ 283، وفي إيضاح المكنون: 1/ 82 (¬3). منقبة كبيرة لابن علان رحمه الله: هذا ... ولابن علان شهرة عند المؤرخين بوصفه قارئ لصحيح البخاري في جوف الكعبة، وهذه منقبة جليلة اختص بها، وقد تقدم في كلام العجيمي الإِشارة إلى ذلك، ولما كثر عليه الانتقاد والكلام صنف في المسألة رسالة سماها: "القول الحق والنقل الصحيح بجواز أن يدرس في جوف الكعبة الحديث الصحيح"، وتحدث هو عن تفاصيل ما جرى في هذه المسألة في "إنباء المؤيد الجليل" ص 79، ومن هذا الكتاب نسخة بالمحمودية بالمدينة المنورة (1645) مجموع، في 18 ورقة (¬4). وله فيما يتعلق بتاريخ مكة وفضائلها، والتاريخ عمومًا مصنفات أخرى أعرضنا عنها خشية التطويل، ومن أراد معرفتها فعليه بكتاب الدكتور الهيلة المذكور، ومقدمة تحقيق "إنباء المؤيد" للباحث الخالدي. ¬

_ (¬1) التاريخ والمؤرخون: 324. (¬2) السابق: 328. (¬3) السابق: 320. (¬4) التاريخ والمؤرخون: ص 328، لم يسبق لأحد من المسلمين أن نال هذه المنقبة الجليلة أو فعل نحو ذلك الفعل، وهو إقراء الجامع الصحيح للإِمام البخاري في جوف الكعبة الشريفة إلَّا لابن علان، وقد كان يفخر بهذا على غيره، حتى أنه قد يصدر ذكرها في بعض مقدمات كتبه كما فعل في التلطف (ص 1) بقوله: "وبعد، فيقول فقير رحمة مولاه، اللائذ به في سره ونجواه، المؤهل بحكمة الله لإقراء صحيح البخاري وختمه بجوف كعبة الله ... " إلخ.

ذكر بعض من أرخ لهذه الحادثة العظيمة

ذكر بعض من أَرَّخ لهذه الحادثة العظيمة: وللإِلمام بموضوع الرسالة والإِتيان عليها من جوانبها فإنه من المهم والمفيد معرفة أصداء الحادثة، وذكر من صنف فيها آنذاك غير المصنف، وهم قسمان: قسم أفردوا بعض المسائل بمصنفات مستقلة، وقسم تحدثوا عن الحادثة ضمن مؤلفاتهم التاريخية. * فممن أفرد مصنفًا في حادثة البناء من معاصري المؤلف ابن علان: 1 - العلامة خالد بن محمَّد الجعفري (ت 1044 هـ) ... له رسالة تتعلق ببناء الكعبة نقل عنها ميرداد في نشر النور (المختصر: 186، 187) (¬1). 2 - العلامة خليفة بن أبي الفرج الزمزمي (ت نحو 1062 هـ) ... له رسالة "الدرر المنفية في تاريخ بناء الكعبة الشريفة" (¬2). 3 - العلامة إبراهيم بن يوسف المهتار الرومي (ت 1071 هـ): له "در النظم في وقوع أركان البيت المعظم" (¬3). 4 - العلامة الفقيه الشيخ حسن بن عمار بن علي الشرنبلالي (ت 1069 هـ): الفقيه الحنفي مصنف "مراقي الفلاح"، له "إسعاد آل عثمان المكرم ببناء بيت الله المحرم"، ذكره في ذيل كشف الظنون، وله "أعظم القربة في تعظيم الكعبة" هدية: 2/ 338 (¬4). 5 - العلامة المؤرخ علي بن عبد القادر الطبري (ت 1070 هـ): من تلامذة ابن علان رحمه الله، له في خصوص الموضوع "تحفة الكرام بأخبار عمارة السقف ¬

_ (¬1) التاريخ والمؤرخون: 308، خلاصة الأثر: 2/ 129. (¬2) التاريخ والمؤرخون: 331، خلاصة الأثر: 2/ 132، أعلام: 2/ 312. (¬3) التاريخ والمؤرخون: 346، أعلام: 1/ 82. (¬4) خلاصة الأثر: 2/ 38، معجم الموضوعات المطروقة للبحَّاثة عبد الله محمَّد الحبشي (الكعبة).

والباب من البيت الحرام" (ذيل الكشف)، وله "الأقوال المعلمة في وقوع الكعبة المعظمة"، وله "شن الغارة على مانع الستارة"، رد بهذا الأخير على شيخه ابن علان في منعه وضع الستارة على الكعبة حال عمارتها (¬1). 6 - العلامة إبراهيم بن محمَّد بن عيسى الميموني المصري (991 - 1079 هـ): وصنف: "تهنئة أهل الإِسلام بتجديد بيت الله الحرام" منه نسخة بالمكتبة الوطنية بتونس، وطبع مؤخرًا عام 1418 هـ، وصدر عن دار الباز بمكة (¬2). 7 - العلامة عبد العال ... مصري، له "الزلف والقربة في تعمير ما سقط من الكعبة"، ذكره صاحب هدية العارفين: 1/ 245 (¬3). * وأما الذين تحدثوا عن هذه الحادثة ضمن مصنفاتهم في تاريخ مكة عمومًا، أو في مصنفات أخرى؛ فمن المعاصرين للحادثة: 1 - العلامة علي بن عبد القادر الطبري (ت 1070 هـ) تقدم ذكره، في كتابه "الأرج المسكي في التاريخ المكي" (¬4). 2 - العلامة محمَّد بن أحمد الأسدي المكي (ت 1066 هـ) في كتابه "إخبار الكرام بأخبار بيت الله الحرام" (¬5)، وهو والطبري السابق من تلامذة ابن علان. 3 - العلامة علي بن برهان الدين الحلبي صاحب السيرة الحلبية (ت 1044 هـ) ضمن المجلد الأول من سيرته المذكورة. 4 - العلامة المتفنن المؤرخ الفلكي الأديب السيد محمَّد بن أبي بكر الشلِّي باعلوي الحسيني الحضرمي ثم المكي (ت 1093 هـ) في كتابيه: "الجواهر والدرر" ¬

_ (¬1) التاريخ والمؤرخون في مكة: 343، خلاصة الأثر: 2/ 161، أعلام 4/ 301. (¬2) خلاصة الأثر: 1/ 45، الأعلام: 1/ 67، معجم الموضوعات المطروقة (الكعبة). (¬3) معجم الموضوعات المطروقة (الكعبة). (¬4) وهو مطبوع. (¬5) صدر عن دار الصحوة عام 1405 هـ، ص: 148 - 157.

في حوادث عام 1039 هـ و"النهر المورود في أخبار ملوك مكة القتاديين أهل النجدة والجود" وهو لدي مصور عن نسخة نادرة، يسر الله تحقيقه وإخراجه. 5 - السيد العلامة الأديب عبد الله بن جعفر العلوي الحسيني الحضرمي ثم المكي (ت 1166 هـ) في رسالته "تذكرة المتذكر بما جرى من السيل المستبحر"، لدي مصورة عن نسخة بخط مصنفه محفوظة بالتيمورية برقم (1257). 6 - العلامة المؤرخ علي بن تاج الدين السنجاري المكي (ت 1125 هـ) في كتابه النفيس المفيد: "منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم" (¬1). * وكل من أتى من بعدهم فإنما استقى من هذه المصنفات كالإِمام أحمد زيني دحلان في تاريخ أمراء البلد الحرام، والعلامة حسين باسلامة في تاريخ الكعبة المشرفة، وشيخنا العلامة المتفنن عبد الفتاح رواه في كتابه عن أمراء مكة، وغيرهم. ملاحظة: المؤرخون الذين عاصروا حادثة سقوط الكعبة الشريفة وصنفوا فيها كان معظمهم مكيين، إلَّا أن هناك عددًا منهم من علماء مصر، وإنما صنفوا في الحادثة مع بعدهم عنها لأن والي مصر الوزير محمَّد باشا سبط الوزير رستم باشا (ت 1056 هـ) كان جمع العلماء بعد أن وصلته فتاوى علماء الحجاز بشأن عمارة ما سقط من البيت، فاجتمع لديه: العلامة حسن الشرنبلالي، والعلامة الحلبي صاحب السيرة، والعلامة إبراهيم الميموني وغيرهم ... وقد تقدم ذكر مصنفاتهم وغيرهم آنفًا (¬2) ... * * * ¬

_ (¬1) صدر عن جامعة أم القرى بمكة المكرمة في 6 مجلدات، بتحقيق د. ماجدة زكريا. (¬2) وكان اجتماعهم في 1039 هـ, كما ذكر الميموني الذي أنهى تصنيف كتابه في ذي الحجة 1039 هـ, بينما في المطبوع من السيرة الحلبية 1/ 279: أنه في سنة 1043 هـ, ولعله خطأ مطبعي أو من الناسخ، وهذا التاريخ غير صحيح.

بنايات الكعبة المشرفة عبر العصور وأسبابها، ونبذة عن السيول التي دهمت المسجد الحرام

بنايات الكعبة المشرفة عبر العصور وأسبابها، ونبذة عن السيول التي دهمت المسجد الحرام عبر العصور التاريخية، ومنذ قديم الزمن تعرض البيت الحرام إلى إعادة بنائه ثلاث عشرة مرة، منذ أن بنته الملائكة على بعض الأقوال إن صحّت ... وكان العمل في بعضها ترميمًا وعمارة فقط وليس بناء من الأساس ... وهذه المرات هي: 1 - بناء الملائكة. 2 - بناء آدم أبي البشر - عليه السلام -. 3 - بناء شيث بن آدم عليهما السلام. 4 - بناء إبراهيم الخليل أبي الأنبياء - عليه السلام -. 5 - بناء جُرهم. 6 - بناء العماليق. 7 - بناء قصي بن كلاب نحو عام 450 للميلاد. 8 - بناء قريش قبل البعثة بخمس سنوات (نحو عام 606 للميلاد). 9 - بناء ابن الزبير رضي الله عنهما عام 65 هـ. 10 - بناء الحجاج بن يوسف الثقفي عام 74 هـ. 11 - عمارة السلطان العثماني مراد خان عام 1039 هـ - 1040 هـ، والذي يدور موضوع هذه الرسالة حولها. 12 - ترميم عام 1377 هـ، في عهد الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله.

نبذة عن السيول بمكة

13 - ترميمها مؤخرًا عام 1418 هـ، في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، وفقه الله. ولجماعة من المؤرخين رأي في بعض ما ذكر، قال العلامة الحلبي في سيرته "الحلبية": "والحق أن الكعبة لم تبن جميعها إلَّا ثلاث مرات: الأول بناء إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم. والثاني: بناء قريش، وكان بينهما ألفا سنة وسبعمائة سنة وخمس وسبعون سنة. والثالثة: بناء عبد الله بن الزبير، أي وكان بينهما نحو اثنتين وثمانين سنة. وأما بناء الملائكة وبناء آدم وبناء شيث فلم يصح. وأما بناء جرهم والعمالقة وقصي فإنما كان ترميمًا، ولم تبن بعد هدمها جميعها إلَّا مرتين: مرة زمن قريش، ومرة زمن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه. اهـ (¬1). ومن جملة أسباب إعادة البناء أو العمارة: الحرائق، كما حدث زمن قريش وزمن ابن الزبير. ومنها أو من أعظم الأسباب وأدعاها لذلك: السيول العظيمة التي تدهم المسجد الحرام بين الفينة والأخرى. نبذة عن السيول بمكة: وقد بلغت إحصائية السيول التي دهمت المسجد الحرام، من زمن جرهم في الجاهلية إلى سنة 1384 هـ: (89) تسعة وثمانين سيلًا، حسبما ورد في "التاريخ القويم" للمؤرخ المكي محمَّد طاهر الكردي رحمه الله (¬2). وكان من أعظم تلك السيول سيل عام 1039 هـ، والذي هدمت بسببه الكعبة المشرفة وطاحت جدرانها كما سيأتي تفصيله في هذه الرسالة ... ¬

_ (¬1) السيرة الحلبية: 1/ 279 - 280، ط دار المعرفة - بيروت. وينظر كتاب: "تاريخ الكعبة الشريفة"، للمؤرخ حسين عبد الله بن سلامة المكي. (¬2) التاريخ القويم: 2/ 194 - 200، الطبعة الأولى.

وسبب دخول هذه السيول إلى المسجد الحرام هو الموقع الجغرافي لمكة المكرمة، إذ أنها واقعة في وادٍ تحف به الجبال من كل جانب، فإذا نزلت الأمطار عليها بشدة نزلت المياه من جميع الجبال، ومن المرتفعات وغيرها إلى المواضع المنخفضة بمكة، فتجمعت في أزقتها وشوارعها، وإذا زادت الأمطار في ضواحيها جاءت السيول من أعاليها من جهة منى إلى داخل مكة، فتدخل المسجد الحرام فتحدث به الأضرار الجسيمة، وكذا تفعل بالبيوت القديمة الواقعة حوله (¬1). مجرى السيل بمكة قديمًا: كانت السيول قديمًا تنزل من جهة منى ومن جهة حراء إلى مكة، ثم ينزل بطن الوادي من طريق المدعى أي من الموضع الذي كان يرى منه البيت الحرام، وكان هذا الموضع في عهده - صلى الله عليه وسلم - غير مرتفع، ولم يرتفع إلَّا بعد أن ردمه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالصخور العظام ليمنع السيل عن المسجد الحرام، وكان يسمى "ردم بني جمح". وبعد حدوث هذا الردم امتنع السيل من الدخول من جهة المدعى، لكنه صار يأتي من جهة سوق الليل ومن جهة الغزة إلى جهة الحرم ومنه إلى المسفلة، ولكن هناك سيل يسمى "سيل جياد" كان يسيل كل عشر سنوات ويصطدم بسيل وادي إبراهيم فيوقفه عن المسيل فيدخل المسجد الحرام، كما ذكر ذلك القطبي في "الإِعلام" وأيده عليه المؤرخ الكردي رحمهما الله (¬2). ثم قال الكردي بعد أن ساق كلام القطبي: فمن عصره بل من قبل عصره [أي من القرن العاشر] والسيول لا تزال تدخل المسجد الحرام إذا عظمت وقويت إلى عصرنا هذا، أي إلى سنة 1375 هـ، ألف وثلاثمائة وخمس وسبعين هجرية. ثم لما ابتدأوا بتوسيع المسجد الحرام في السنة المذكورة عملوا نفقًا خاصًّا للسيول خلف المسعى من جهة الصفا تمر منه السيول وتخرج إلى المسفلة من جهة ¬

_ (¬1) التاريخ القويم: 2/ 193. (¬2) السابق: 2/ 202.

ملخص ما عملته حكومة جلالة الملك سعود رحمه الله في هذا الصدد

السوق الصغير فلا تدخل المسجد الحرام، اللهم إلَّا ما يتجمع من مياه الأمطار النازلة عليه. فلما صدر أمر جلالة الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود بتوسعة المسجد الحرام وباشروا العمل فعلًا في أول سنة 1375 هـ ... جعلوا ممر السيل عن طريق الهجلة وبالمسفلة تحت الأرض في نفق خاص لذلك (¬1). وملخص ما عملته حكومة جلالة الملك سعود رحمه الله في هذا الصدد: 1 - أنشئت تحت الطبقة الأولى -بالحرم- طبقة من الأقبية ارتفاعها ثلاثة أمتار ونصف المتر، وسطحها في مستوى الأرض. 2 - أنشئ مجرى خاص يمتد من أسفل رصيف الجهة الجنوبية من شارع القشاشية ويمر تحت منطقة الصفا، ثم تحت رصيف الشارع الجديد، ويبلغ عرض هذا المجرى خمسة أمتار وارتفاعه ما بين أربعة أمتار وستة، والغاية منه تحويل مجرى السيل الذي طالما اخترق المسعى وتسبب في تسرب المياه من أبواب المسجد. 3 - وفي المرحلة الثانية من التوسعة السعودية 1379 هـ أنهي بناء وسقف القسم المتبقي من مجرى السيل، فامتد إلى الجهة المقابلة لباب أم هاني، وإلى الطريق الجديدة في السوق الصغير, ثم إلى طريق الهجلة، حيث انتهى بفوّهة يندفع منها الماء إلى أرض منخفضة فنحو المسفلة. وهكذا تم التغلب -بصورة كبيرة- على السيول المداهمة للمسجد الحرام بجهد وصبر وتفانٍ وسهر من حكومة المملكة العربية السعودية على راحة المصلين في أشرف بقعة وأفضل موقع، ويمثل هذا العمل جزءًا عزيزًا وغاليًا من أجزاء كثيرة تقدمها هذه الدولة المشرفة لخدمة الإِسلام والمسلمين، وخدمة بيوت الله والحرمين الشريفين منها بخاصة، بسخاء لا نظير له على مر التاريخ (¬2). ¬

_ (¬1) التاريخ القويم: 2/ 203. (¬2) من مقال لشقيقي الأكبر الأستاذ عمر أبو بكر باذيب نزيل المدينة المنورة بعنوان "السيول في المسجد الحرام والجهود التي بذلت في تحويلها عنه"، نشر في ملحق التراث (عدد 45) في صحيفة المدينة السعودية بتاريخ الخميس 7 رمضان 1417 هـ.

جهود وأعمال الدولة السعودية حرسها الله في ترميم الكعبة الشريفة وإصلاحها

جهود وأعمال الدولة السعودية حرسها الله في ترميم الكعبة الشريفة وإصلاحها: إضافة إلى ما ذكر عن عناية هذه الدولة حرسها الله من كيد حسادها بالحفاظ على سلامة المسلمين والوافدين على مكة المكرمة وحماية المسجد الحرام من السيول المداهمة له، فإن لها أيضًا -أيد الله حكامها لنصرة الدين- عناية واهتمام بذات البيت الحرام والكعبة المعظمة ... فمن ذلك: 1 - ما تم في عهد الملك سعود رحمه الله تعالى، إذ حصل لسقف الكعبة المعظمة الأعلى خراب ملزم لإِصلاحه وتغييره بكامله، وأما الأسفل فكان قد تآكل بفعل الأرضة والسوس. فأمر جلالته رحمه الله بتشكيل هيئة علمية وهيئة فنية، كان ضمن الأولى معالي الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ، والسيد العلامة علوي بن عباس المالكي، ومعالي الشيخ محمَّد علي الحركان. ومن الأخرى: محمَّد بن لادن، ومحمد صالح قزاز، وغيرهم. وبعد أن رفع تقرير بما يلزم إصلاحه، صدر أمر ملكي في أواخر محرم 1377 هـ، وبدأ العمل فعلًا في 21 جمادى الثانية من نفس العام، وكان تمامه والفراغ منه ليلة الاثنين 27 شعبان من العام نفسه (1377 هـ) (¬1). 2 - ومن مظاهر عناية الحكومة السعودية أيدها الله أيضًا في هذا الصدد: ما تم عمله في سقف الكعبة الشريفة وأساساتها المعظمة عام 1418 هـ في عهد ¬

_ (¬1) ينظر لمعرفة كافة تفاصيل ذلك العمل المبرور كتاب "التاريخ القويم"، للشيخ محمَّد طاهر الكردي الخطاط المكي رحمه الله تعالى: 4/ 68 - 100. وهو بعمله ذلك وتقييده لكل صغيرة وكبيرة يشبه تمامًا ما قام به العلامة الإمام محمَّد بن علان في تصانيفه التي ذكرت سابقًا، فرحمهما الله تعالى وجزاهما كل خير لقاء ما قاما به من تاريخ هذه الحوادث المهمة.

آخر عمليات ترميم البيت الحرام

حضرة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود أَيَّده الله. آخر عمليات ترميم البيت الحرام (¬1): في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود -أيده الله- تمت أعمال ترميم الكعبة الشريفة، ونظرًا لكونها تمثل امتدادًا لموضوع هذا الكتاب فإنه لا يحسن بنا أن نغفلها عن الذكر في هذه المقدمة، ولأنها عمل تاريخي وحدث هام في تاريخ الكعبة الشريفة، ولا سيما أنها وُثِّقت ودُوِّنت مراحلها بأعلى درجات التوثيق من تصوير وكتابة ومتابعة شخصية من قبل كبار الشخصيات في الدولة والمفوضين للإِشراف على هذا العمل الجليل ... البداية: في أوائل شهر ذي الحجة من عام 1415 هـ صدر الأمر السامي الكريم من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود بإصلاح فواصل الحجارة الخارجية للكعبة المشرفة لوجود بعض الفجوات بها بسبب تآكلها وتعريها الناتجة عن عوامل الزمن والتجوية، التي أثرت في أوجه الحجارة الخارجية وعملت فجوات بها بل ونخرت في لياسة الفواصل بين الحجارة سواء العليا أو السفلى. فجرى العمل فيها على أكمل الصور وأتقنها، واتخذ لها طريقة فنية حديثة تضمن سلامة أحجار الكعبة المشرفة وصيانتها عن حدوث مثل هذا لمدة طويلة (أكبر عمر افتراضي). وبعد فراغ العمل وسد الفجوات وجد أن الأَرَضَة والفطريات كانت هي السبب الأكبر في حدوث ذلك الخلل، مما لا يستبعد معه أن تكون تلك الآثار قد تغلغلت إلى داخل جدر الكعبة (أي في جوفها). ¬

_ (¬1) نقلًا عن كتاب "الكعبة المعظمة والحرمان الشريفان عمارة وتاريخًا"، تأليف عبيد الله محمَّد أمين كردي، المطبوع على نفقة (مجموعة بن لادن السعودية) تحت إشراف المهندس بكر بن محمَّد عوض بن لادن.

فتم القيام بمجهودات دراسية وأعمال فنية وهندسية في داخل الكعبة المشرفة للوقوف على جلية الأمر، فتبين وجود أعداد مهولة من حشرات الأرضة والفطريات في جوف الكعبة، أما السقف فقد تبين تآكل وتلف كبير فيه، فكانت النتيجة الحتمية لهذا الوضع هو القيام بأعمال الترميم والإِصلاحات التي أصبحت ضرورة ملحة. وقد باشرت "مجموعة بن لادن السعودية" كافة أعمال الترميم، ونالت شرف خدمة البيت الحرام. وكانت بداية أعمال الترميم في العاشر من شهر محرم عام 1417 للهجرة ... وأول ما بدئ به هو عمل ستار خشبي أبيض يحيط بالكعبة، وسمح في الأسابيع الأولى لكافة الناس بالدخول إلى الكعبة من خلال ذلك الستار، فدخل ألوف من الناس إلى جوف الكعبة المشرفة وشهدوا بأنفسهم ما بداخلها من شقوق وأمور مهولة تستدعي وجوب تلك الأعمال وضرورة الترميم ... وهذا الإِشهاد لم يكن بدعًا، فقد أشهد ابن الزبير رضي الله عنهما من قبل على ما قام به من ترميم وبناء في زمنه ... وأيضًا فالملك سعود أشهد أيضًا في العصر الأخير. وقد تمت أعمال الترميم على النحو التالي: المرحلة الأولى: اشتملت على الفحص على المداميك (الصفوف) الأربعة العليا. المرحلة الثانية: من أسفل المداميك إلى الأرضية الداخلية للكعبة. ففي هاتين المرحلتين تم تصفية الفجوات بين الأحجار، وحقنت الفراغات بمواد (خلطة) إسمنتية ذات مواصفات عالية. وعولجت أيضًا البطانة الداخلية للكعبة الشريفة معالجة تامة، ودعمت الجوانب بدعائم خشبية أفقية، على مسافات متناسبة، ونظفت بالمياه النقية، ثم حشيت بالمادة (الخلطة) القوية أيضًا. المرحلة الثالثة: وتعتبر أهم هذه المراحل على الإِطلاق، إذ أنه تم الكشف على الأساسات بحفر أرضية الكعبة الشريفة إلى مستوى منسوب المطاف الحالي

بمقدار 2.2 م، بل وزيد في الحفر بمقدار 40 إلى 70 سم، وعوينت من خلال الحفر الأساسات الشريفة فوجدت سليمة بدرجة عالية. يقول الأستاذ عبيد الله كردي: ولم يكن الإِقدام على ذلك الحفر بالأمر الهين أو السهل أو مما يحسن التسرع فيه، كما أنه ليس من الحكمة أن يتم ترميم جدار الكعبة ترميمًا شاملًا دون تفقد القاعدة التي هي أصل فيها. لهذا كانت الخطوة الأولى في هذه المرحلة هو الاستكشاف للتعرف على مدى الحاجة للنزول في أعماق الترميم إلى القاعدة. وبعد الخبر والمعاينة وجد أن الحال فيها أفضل بكثير بكثير مما كان عليه الحال في الحوائط العليا، إلَّا أن بوادر التأثيرات السلبية للمستقبل كانت ظاهرة، وذلك فيما إذا ترك الوضع على ما هو عليه، فاستقر القرار بضرورة الحفر والترميم. فتم الحفر الكامل لأرضية الكعبة المشرفة، ثم الترميم بنفس الأسلوب الذي تم به ترميم الحوائط العليا، وبنفس التقسيم للشرائح الرأسية، وكأن العملية امتداد متطابق لما تم من عمل في الحوائط العلوية، إلَّا أنه من باب الاحتياط امتد العمل إلى أسفل منسوب المطاف بما يتراوح بين نصف المتر وثلاثة أرباع المتر تقريبًا، وهي المسافة التي تصل إلى الأحجار القوية المتماسكة، والتي لا تحتاج إلى إعادة بناء، انتهى. ثم تكلم مصنف ذلك الكتاب أو التقرير عن بقية الأعمال التي نفذت أثناء عمليات الترميم الشاملة التابعة كحجر إسماعيل - عليه السلام -، وبسط الكلام عن كيفية إعادة بناء السقف والأعمدة الداخلية للكعبة وما إلى ذلك، وقد نقلت هنا ما يتعلق بهذا الحدث التاريخي الهام بما يناسب المقام، ولأن هذا الحديث الكبير من صميم موضوع هذه الرسالة، نسأل الله أن يجزي من قام على ذلك خير الجزاء. * * *

وصف النسخة المعتمدة في التحقيق ومنهج العمل في تحقيقها

وصف النسخة المعتمدة في التحقيق ومنهج العمل في تحقيقها حصلت على النسخة التي لعلها الوحيدة من هذه الرسالة بالتصوير من مكتبة "الأحقاف" للمخطوطات الكائنة بجامع (تريم) بحضرموت، وهي تحت رقم (2727) ضمن مجموع. كتبت هذه النسخة في حياة المصنف سنة 1040 هـ "نهار الثلاثاء خامس عشري جمادى الأخرى ... " على يد ناسخها: عمر بن علي بن أحمد بن عمر العرشاني الموزعي الشافعي الأشعري ... وتقع في (9) ورقات، 18 صفحة، 27 سطرًا. وكتب على صفحة العنوان (¬1): كتاب نشر ألوية الشَّريف (¬2)، بالإِعلام والتعريف بمن له ولاية عمارة ما سقط من البيت الشريف. تأليف سيدنا ومولانا الشيخ العلامة العمدة الفهامة القدوة المحقق النحرير المدقق، خادم السنّة النبوية بالحرم المكي، مولانا الشيخ محمَّد بن علي بن علان البكري الصديقي الشافعي، متع الله بوجوده الوجود، ونفع به وبعلومه كل موجود، آمين اللهم آمين، م. ¬

_ (¬1) انظر: صور المخطوط ص 30. (¬2) كذا بالأصل (الشريف) وهو غير صحيح، والصواب (التشريف) كما أجمعت عليه كافة المصادر، وهو ما أثبت في صفحة العنوان.

وأسفل ذلك بخط الناسخ: للمؤلف في تاريخ قصة السيل: يا من سنا مصباحه ... يضيء بغير زيت ومن له تطلع ... إلى معالي الصوت إن تبغ عام سيلنا ... سيل به كم ميْتِ وفيه هدم كعبة ... أكرِمْ به من بيت مُقدِّر كل كذا ... تاريخه في بيت بالقَدَر الإِلهي ... بدا سقوط البيت سنة 1039 هـ عملي في الرسالة لما حصلت على الرسالة بالتصوير من الأصل بالمكتبة المذكورة، بحثت في فهارس مكتبة مكة المكرمة ومكتبة الحرم المكي، وغيرها، وتتبعت مواضع ترجمة لابن علان، وخاصة كتاب العلامة الدكتور الهيلة "التاريخ والمؤرخون في مكة" أملًا في الحصول على نسخة أخرى منها فلم أظفر بذلك. وبعد أن وقع اختياري عليها في لقاء العشر الأواخر وموافقة الإِخوة الأجلاء الأفاضل، قمت بالاتصال بالدكتور الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان لمعرفته واطلاعه على نفائس التراث المكي، فأخبرني أنه لم يقف على هذه الرسالة، وقال: ابدأ بالعمل فيها فلعلها الوحيدة. وبالفعل، قمت بالعمل عليها كما يرى القارئ الكريم: 1 - قمت بنسخها من الأصل ثم مقابلتها به مع شيخنا الفاضل نظام يعقوبي حفظه الله، بصحن الحرم الشريف. 2 - قدمت للرسالة بتعريف عن مؤلفها، وتحدَّثت عن مصنفاته العشرة في خصوص حادثة السقوط والعمارة وغير ذلك، وعرَّفت بأسرته ومشاهير علمائها بإيجاز، وذكرت من صنف في موضوع الرسالة من معاصريه وغيرهم.

3 - خرجت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الواردة. 4 - عرفت بالأعلام في الغالب. 5 - رجعت إلى بعض مصادر المؤلف لا سيما رسالة ابن حجر الهيتمي "المناهل العذبة" وهي مخطوطة زوّدني بمصورة لها الأخُ الفاضل أمجد رشيد محمَّد الأردني -أحد طلاب العلم النابهين من أهل عمّان- فجزاه الله خيرًا، وقد أخبرني أنه يعمل على تحقيقها، فأرجو له التوفيق. 6 - واجهت بعض الصعوبة في قراءة بعض الكلمات بالمخطوط، وأيضًا وجود خروم في غالب الصفحات. فما تمكنت من قراءته أوردته، وما لم أتمكن، أثبته كما ورد وعلقت عليه. 7 - علقت على بعض المواضع بما يزيد القارئ فائدة من بعض المراجع الهامة. والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني إنه جواد كريم، كما أرجو من القراء الكرام أن لا ينسوني ووالدي وشيوخي من دعوة صالحة بظهر الغيب! وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم. وصلَّى الله وسلَّم على سيِّدنا وأسعدنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. محمَّد أبو بكر باذيب حرر بجدة في 19 صفر الخير 1422 هـ

صورة عنوان الرسالة من النسخة المعتمدة في التحقيق

صورة الصفحة الأولى من المخطوط

صورة الصفحة الأخيرة من الرسالة

[سبب تأليف الكتاب]

بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك اللهم يا من أدرج ألطافه في أقضيته، وأظهر بتصاريف مقدراته باهر قدرته، ونصلي ونسلِّم على نبيك محمَّد وإخوانه وآل كل وصحبه وعترته، صلاةً وسلامًا دائمين بدوام التجليات الربانية على بيت الله وكعبته، وبعد: [سبب تأليف الكتاب]: فقد ظهر في صفحات عالم الشهادة ما جرى به القلم في عالم القضاء والقدر، وبرز ما أدهش الألباب وأذهل العقول والفكر، من المصيبة التي لم يصب العباد بعد مصيبتهم بموت المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بأعظم منها بلية، ولم ينقل نظيرها في الإِسلام أصلًا ولا صح مثلها في الجاهلية. وذلك: سقوط الجانب الشامي الذي بناه الحَجَّاج من البيت الحرام، وجملة صالحة من سقف البيت من ذلك الجانب الشام (¬1). ومن الجانب الشرقي إلى حد عضادتي الباب (¬2)، وسلخ الجانب الغربي لنحو النصف بلا ارتياب، وبعض الركن الباقي من الركنين المنهدم بعضها آيل إلى السقوط، من غير شبهةٍ ولا شكٍّ في تداعيه للهبوط، وكذا أسقف البيت الشريف نزلت بعض أخشابه، وكثير منها ذاب لغلبة أَرَضَةِ ترابه. ¬

_ (¬1) كذا الأصل من أجل السجع مع كلمة الحرام السابقة، والمقصود: الشامي. (¬2) عضادتا الباب: الخشبتان المنصوبتان عن يمين الداخل منه وشماله. اهـ. "لسان العرب" (عضد).

[وصف ما حل بالبيت الحرام بسبب الأمطار]

[وصف ما حل بالبيت الحرام بسبب الأمطار]: وكان ذلك لمطر غزير، وسيل كبير (¬1)، دخل الكعبة وعلا عن قفلها نحو ذراع، وذلك في عصر يوم الأربعاء تاسع شهر شعبان سنة تسع وثلاثين وألف -بتقديم الفوقية -[1039 هـ]. وكان سقوط ما ذكر من البيت المكرم، في عصر يوم الخميس التالي لليوم المقدم، فعُلّقت من البساتل (¬2) الثلاثة اثنان. فالذي يلي الحِجْر بثلاث قوائم قائمة رأي العيان: واحد بجانب الدعامة، وآخران في الجانبين تحصيلًا للسلامة. والبستل الوسط علق بقائم من جانب الجدار الغربي. وبُرِّح (¬3) ما كان في الحجر والمطاف من أحجار البيت الحرام، والجبس والجير اللذين كان بهما البناء التام، وأخذ الرخام الذي كان في تلك الجدر الكريمة، وجمع أولًا في مقام الحنفي ثم جمع في حجرة مقابلة له وسيمة، وجمعت القضب النطاق وجمعت في خزانة المال لصق سقاية العباس (¬4)، وكان الشروع ¬

_ (¬1) قال باسلامة: وجرى منه في آخر يوم الأربعاء سيل عظيم لم تر العين مثله ... ودخل المسجد الحرام وملأ غالبه، ودخل الكعبة المشرفة من بابها ووصل إلى نصف جدارها، وبلغ في الحرم إلى طوق القناديل، ودخل بيوت أهل مكة المكرمة وأخرج الأمتعة وذهب بها إلى أسفل مكة، ومات بسبب ذلك داخل المسجد الحرام وخارجه خلق كثير. قال ابن علان: وخرص من مات فيه في النهار والليل نحو ألف إنسان ... تاريخ الكعبة: 71، 72، منائح الكرم: 1/ 65 - 67. (¬2) لعلها لفظة فارسية. وفي "التاريخ القويم"، للكردي 3/ 212 نقلًا عن "إنباء المؤيد الجليل" قوله: ونقل ما فيها -أي الكعبة- من القناديل إلى بيت السادن، وعلق باقي أخشاب سقفه خوفًا عليه من السقوط. انتهى. (¬3) برح الشيء: وضع في مكان ظاهر أو بارز، من الأرض البراح: أي الظاهرة البارزة. والبراح: الظهور والبروز. لسان العرب: مادة (برح). (¬4) قال باسلامة بعد أن ذكر حوادث يوم الجمعة 21 شعبان وأن الذي صلَّى بالناس يومها فايز بن ظهيرة القرشي: ثم بغد الفراغ من الصلاة شرعوا في رفع الحجارة التي سقطت من الكعبة =

[ذكر المجلس الذي عقد للعلماء لمناقشة الوضع]

في التبريح صبح يوم الجمعة، وتمامه يوم الأحد ثالث عشري شعبان. [ذكر المجلس الذي عقد للعلماء لمناقشة الوضع]: وقد عقد مجلس (¬1) في موضع المكبرين من المقام الحنفي في شأن البدار بعمارة الساقط منه وهدم ما قال أهل الخبرة أنه آيل إلى السقوط خشية التضرر به، وفيما يعمر به. [رأي المؤلف "القديم" في شأن العمارة]: فكنت أرى أخذًا مما في "المناهل العذبة في إصلاح ما وهي من الكعبة"، للشيخ المحقق شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي، من طلب عمل ما كان فيه خلل في البيت، أو حاجة أو استحسان -وكذا رأى الجماعة-، وأن ذلك يبادر به مبادرةً للقُرب، ومسارعةً لمرضاة الرب، وأن عمارته تكون مما به من المال، إذ لم يعلم لمرصَده اعتبارُ مصرِفٍ معين، وما كان كذلك يصرف منه للعمارة، وكذا يعمر مما تبرع به متبرعٌ غالبُ الظن حِلُّ مالِه، أو من مال بيت مالٍ خَلِي عن الحرام فيما يظهر، وأن ذلك لا يحتاج لمراجعة مولانا السلطان الأعظم، بل يشرع في العمل ويرسل إليه بالأمر. وكُتِب في المسألة سؤال، وكتب عليه مفتو العصر بذلك، وكتبت معهم (¬2) ... ¬

_ = المشرفة، فمنها ما جعلوه خلف المقام الحنفي، ومنها ما جعلوه عند ممشى باب السلا بقرب المنبر، وصفوا الصغار منها بين المقام الحنفي وحاشية المطاف، ونقل العتالون الأحجار الكبار ووضعوها في صحن المسجد، ونقلوا الجباب إلى ما تحت مدرسة السلطان سليمان التي هي مركز المحكمة الشرعية الكبرى. (¬1) كان انعقاد ذلك المجلس يوم السبت 22 شعبان، بحضور الشريف مسعود وعلماء مكة والأعيان، وممن حضره: الشيخ ابن علان المصنف من الشافعية، وخالد البصير المالكي، والقاضي عبد الله بن أبي بكر الحنبلي، والقاضي أحمد بن عيسى المرشدي الحنفي. منائح الكرم: 4/ 72. (¬2) وفي إنباء المؤيد الجليل: أن الجماعة طلبوا من المصنف أن يحضر لهم كتاب ابن حجر المذكور فأحضره، وجلس القاضي تاج الدين المالكي يقرؤه عليهم لمدة عشرة أيام، حتى =

[عدول المؤلف عن رأيه الأول]

[عدول المؤلف عن رأيه الأول]: ثم تأملتُ بعدُ ونظرت، وراجعتُ الفكْرَ وتفكرت، فرأيت أن ما ألَّف فيه ابنُ حجر إنما هو في أمر رُفع للسلطان وبرز أمره بالعمل، ثم اختُلف بعد تحقق وجود الأمر السلطاني الذي يرجع فيه إلى ذلك: أيكفي مسوِّغًا لهدم ما آل إلى السقوط وقال أهل الخبرة به؟ أو لا بدَّ بعد تحقُّق الإِذن من وجود السقوط بالفعل؟ فموضوع رسالته في حكم ما خُشي سقوطه ولم يسقُط بعد، وقد رُفع للسلطان فأذن بالهدم (¬1). وكون ابن حجر لما نقل أقوال الأئمة بعدُ لم يذكر اعتبار ذلك لا يضر، لأن الأصل الانسحاب والاستصحاب حتى يأتي ما يعارضه. وأيضًا، فانظر لجميع عماراته منذ أيام قريش إلى الآن، لم ينقل أنه عمل فيها إلَّا بعد عرض ذلك الداعي للعمل على السلطان في ذلك، والوقوف عند أمره. ولما كان الأمر زمن قريش منتشرًا في بطونه، لم يعمرها إلَّا مجموع البطون الذي لهم الأمر بمكة، ومن أراد ذلك فلينظر "تاريخ الفاسي" وغيره، وقد لخصه الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (¬2). [الرد على من أنكر جواز تأخير العمارة إلى ورود أمر السلطان]: وقول بعض الناس أن يؤدي عدم المبادرة بعمارتها إلى سقوط منزلتها ونقصان هيبتها، وقد جاء في حديث مرفوع حسن رواه الإِمام أحمد وابن ماجه: ¬

_ = اهتدوا إلى الرأي الأول، ثم خالفهم المصنف إلى غير ذلك، وصنف هذه الرسالة. منائح الكرم: 4/ 72، 73. (¬1) وبيان ذلك من قول ابن حجر في مقدمة "المناهل العذبة": [1 / ب]: وبعد: فإنه ورد ... أوامر مولانا سلطان الإِسلام والمسلمين ... بترميم ما تشعث في الكعبة المعظمة ... إلخ. فهذا شاهد ما ذكره المصنف رحمه الله. (¬2) ينظر: كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، الأحاديث 1582 - 1586، فتح الباري: 4/ 229 - 243 ط الفكر.

"لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها فإذا ضيَّعوها هلكوا" (¬1)، يُرَدُّ بأن ذلك ليس بالقوي كما أشار إليه ابن حجر الهيتمي بقوله بعد سوقه: (إنه استدلال لا بأس به عند من يراعي المصالح المرسلة التي قال المحققون أنها لا تختص بالمالكية بل ما من مذهب من المذاهب الأربعة إلَّا وعمل بها في مسائل كثيرة، لكن المالكية لما أكثروا من رعايتها نسب القول بها إليهم). انتهى (¬2). فتأمل قوله: (إنه استدلال لا بأس به)، ولم يصفه بالدقة أو القوة أو نحو ذلك، مما يدل على وقعه عنده، فإن نفي البأس إنما يستعمل في محل يتوهم فيه ثبوته ويقوى ذلك الوهم، فيحتاج للنص على نفيه. ويبين ذلك ابن حجر نفسه، قال في رد قول من قال بأن منع مالك للمنصور أو لولده من الهدم والإِعادة علي بناء ابن الزبير خوف ذهاب الهيبة، ما لفظه: (إذ تغيير الملوك لها حتى تذهب هيبتها من القلوب مع ما استقر في النفوس من تعظيمها، بعيد جدًّا، فهو متوهم لا مظنون). انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) ابن ماجه حديث (3110)، وأحمد في مسند عياش بن أبي ربيعة حديث (19072). (¬2) المناهل العذبة: 9 / ب. (¬3) المناهل العذبة: 10 / ب. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": 4/ 242: حكى ابن عبد البر وتبعه عياض وغيره عن الرشيد أو المهدي أو المنصور، أنه أراد أن يعيد الكعبة على ما فعله ابن الزبير، فناشده مالك في ذلك، وقال: أخشى أن يصير ملعبة للملوك، فتركه. قلت: وهذا بعينه خشيه جدهم الأعلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فأشار على ابن الزبير لما أراد أن يهدم الكعبة ويجدد بناءها بأن يرم ما وهي منها, ولا يتعرض لها بزيادة ولا نقص ... إلخ. ومثله في المناهل العذبة: ص 24 / أ. ومناسبة إيراد المصنف هذه النقول إرادته تأييد ما ذهب هو إليه من منع هدم ما آل إلى السقوط من جدران الكعبة، وله في ذلك رسالة تقدم ذكرها في ترجمته، ولكن الاستفتاء الذي جرى بعد ذلك جرى أفتى فيه بقية العلماء بالجواز، وهدم فعلًا كل ما كان آيلًا للسقوط في جمادى الآخرة 1040 هـ. ينظر تفاصيل تلك الفتاوى في: "التاريخ القويم": 3/ 209 - 211.

[رأي المصنف في ستر الكعبة بالألواح]

[رأي المصنف في ستر الكعبة بالألواح]: وبتسليمِ ذلك وقوّته فيندفع بأن يسد ما تهدم بأعواد ونحوها يسدل عليها الثوب، كما فعل ابن الزبير رضي الله عنهما في زمنه، على أنه لا يقاس على ما وقع من ابن الزبير, لأن ابن الزبير هدمها أجمع، وصيَّر أرضها بلقع، وأخلى الأبنية من جوانبها الأربع، فطلب منه أن يجعل تلك الأعمدة ويكسوها ليطوف الناس حول ذلك (¬1)، ولتصح صلاة من يرى توقف صحة الصلاة ولو للخارج على وجود الشاخص. [ذكر من قال باشتراط وجود الشاخص]: وقد قال به من الأئمة الأربعة مالك رضي الله عنه، وفصل إمامنا الشافعي رضي الله عنه بين المصلي داخلها، فاعتبره لصحتها بشرط أن يكون طوله ثلثي ذراع، والمصلي خارجها فلا يعتبره (¬2). ¬

_ (¬1) حاصله أن المصنف رحمه الله كان يرى عدم جواز ستر الكعبة بالخشب أو غيره، ورد على من قاس جوازه بما فعله ابن الزبير بأنه قياس مع الفارق، لما ذكر، وكان هذا رأيه، ولكن الذي جرى هو سترها بخشب وخصف، وألبست ثوبًا أخضر، وجلبت الأخشاب من جدة واستغرق جلبها شهرًا كاملًا، وتم عمله في 17 شوال من تلك السنة. وللمصنف رسالة في منع الستر، وردّ عليه تلميذه العلامة الطبري برسالة أخرى، تقدم ذكرهما. (¬2) أي الشاخص، وهذه المسألة محل بحث وخلاف بين الحنفية والشافعية، قال الإمام ابن حجر الهيتمي في "الإمداد": ورقة 76 / ب (مخطوط): وإنما يكتفى بتوجه الشاخص المذكور دون المذكور [أي شاخص السترة للمصلي خارج الكعبة] بالنسبة لمن هو فيه أي في البيت أو عليه، بخلاف الخارج عنه، فإنه يكفي توجهه للهواء كما مر، والفرق أن ذلك يعد متوجهًا إليها بخلاف هذا. انتهى. ثم ذكر أوجه الفرق، وقال في التحفة: وإنما جاز استقبال هوائها لمن هو خارجها، هدمت أو وجدت, لأنه يسمى عرفًا مستقبلًا لها، بخلاف من فيها لأنه في هوائها ولا يسمى عرفًا مستقبلًا لها، فاندفع ما شنع به بعض الحنفية غفلة عن رعاية العرف المناط به ضابط الاستقبال اتفاقًا. انتهى. وقال الملا علي القاري رحمه الله في مناسكه المسماة "المسلك المتقسط" ص 101 - 103 مع =

[بيان أن تعظيم الكعبة إنما هو بحفظ حرمتها والوقوف عند حدود الشرع لا بمجرد عمارتها]

[بيان أن تعظيم الكعبة إنما هو بحفظ حرمتها والوقوف عند حدود الشرع لا بمجرد عمارتها]: وفرق الأصحاب مما يرد به قول بعض: إن قول الشافعي بما ذكر حكم عجيب، وفرق غريب، وما نحن فيه: الأبنية باقية حتى في الجوانب المتساقطة، وتعظيم الحرمة منه الانكفاف عن المعاصي وحفظ الأوامر عنده. فقد ذكر الحافظ السيوطي في "الدر المنثور" (¬1) عن مجاهد: أنه رأى البيت في المنام يشكو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - المعاصي التي تفعل عنده، وقال: لئن لم يتركوا ذلك لأنتقضن من بين أيديهم حجرًا حجرًا. وروي عن وهب بن الورد (¬2) أنه سمع بين ثوب البيت والبيت صوتًا فيه لين: لئن لم ينته الطائفون حولي عن التفكّه بالحديث لأنتقضن من بين أيديهم ... ، الأثر (¬3). وأنه أوَّل ذلك بأن البيت يشكو لجبريل ما يلقاه من ذلك. فليس ترك التعظيم المرتب عليه الهلاك مجرد ترك البدار إلى العمارة، بل ¬

_ = حاشيته "إرشاد الساري"، للعلامة حسين عبد الغني المكي: ولو طاف على سطح المسجد ولو مرتفعًا عن البيت أي من جدرانه كما صرح به صاحب الغاية، جاز, لأن حقيقة البيت هو الفضاء الشامل لما فوق البناء من الهوى، ولذا صحت الصلاة فوق جبل أبي قبيس إجماعًا، حتى لو انهدم البيت -نعوذ بالله- جاز الصلاة إلى البقعة، وفيها أيضًا عندنا خلافًا للشافعي في الصلاة داخلها بلا حائل، لتحقق الخروج العام بالنسبة إلى من كان خارجها بخلاف أهل الداخل فإنهم يكونون جمعًا محصورًا أو واحدًا مغمورًا، فلا حرج بالنسبة إليهم لا سيما إذا كان يمكنهم الخروج، وبهذا يدفع ما قاله صدر الشريعة في "شرح الوقاية" إن هذا فرع عجيب من الشافعية، وإنما حققت أنا هذه المسألة من المشايخ البكرية. انتهى. وأورد العلامة الشيخ حسين عبد الغني في حاشيته ص 101، 102 فتوى للملا علي القاري رحمه الله في المسألة فلتنظر فيه. (¬1) الدر المنثور: 1/ 330. (¬2) كذا بالأصل، وصوابه: وهيب -بالتصغير- بن الورد، من كبار العباد المتجردين لترك الدنيا، مات سنة ثلاث وخمسين ومئة. تهذيب التهذيب 4/ 334. (¬3) أخرجه المفضل الجندي في "فضائل مكة".

[شروع المصنف في التأليف]

هو ترك حفظ الحدود والوقوف عند أمر المعبود. وإن كانت عمارتها من حفظ حرمتها، إلَّا أنه لما عارضها ما يأتي صار تأخيرها غير مخل بتعظيم المسلمين حرمتها, لأن ما ترك لعذر كالمفعول. [شروع المصنف في التأليف]: وحين إذ علمت ذلك، رجعت ورأيت أن الخطاب بإشادة البيت الحرام وتعميره وتشييده وإحكامه [...] (¬1) إنما هو لخليفة الله في أرضه، المنصوب لنشر راية أحكام الله في طول البلد وعرضه، خادم الحرمين الشريفين، مولانا السلطان مراد خان (¬2)، زاده الله من المكانة، ووفقه لإِقامة الحق وأعانه ونصره، ثم يتوجه الخطاب بعده لمن وجهه فيه، ورفع ذكره بهذا الشرف النبيه. وكتبت على السؤال المكتوب ثانيًا لترك السؤال الأول، وما كتب عليه ما لفظه: وإمام المخاطبين بهذا الفرض المقدم، مولانا سلطان الإِسلام والمسلمين المكرم (¬3). فرأيت بعضًا توقف في ذلك، وبعضًا أبى من سلوك هذه المسالك، ¬

_ (¬1) ما بين القوسين غير واضح بالأصل. (¬2) هو السلطان مراد خان الرابع ابن السلطان أحمد ابن السلطان محمَّد ابن السلطان مراد الثالث ابن السلطان سليم العثماني، مولده سنة 1018، وقيل 1021 هـ, وتولى الخلافة وبويع له اتفاقًا سنة 1032 وعمره 11 سنة وسبعة أشهر، وقيل 14 سنة، وهو الخليفة السابع عشر من السلاطين العثمانيين، ويعرف لدى المؤرخين بفاتح بغداد. من مناقبه: أمره بمنع القهاوي في جميع ممالكه، ومنعه شرب الدخان والنشوق، وكان يجازي على ذلك، كان بطلًا شجعًا قوي الجأش، مات سنة 1049 هـ, عن 28 عامًا، ومدة حكمه 17 سنة. خلاصة الأثر: 4/ 336 - 341، التاريخ القويم: 3/ 238. (¬3) نقل السنجاري في "المنائح" عن "إنباء المؤيد الجليل" بعد أن ذكر رجوع المصنف عن رأيه: أن الشريف مسعود أمر بتغيير صورة السؤال، وكتب عليه العلماء مرة أخرى، وذلك بعد تصنيف ابن علان لهذا الكتاب، قال: وكتب الجماعة كما كتبوا أولًا، وكتبت عليه: والمخاطب بهذا الفرض -أي عمارة الكعبة الغراء- سلطان الإِسلام المكرم مولانا السلطان مراد خان، ثم نائبه مولانا الشريف، والله الموفق. منائح: 4/ 74. ولم يورد ذكر الشريف هنا لأن هذه الرسالة صنفت قبل الاستفتاء الثاني كما يظهر.

(الشاهد الأول)

واستعنت الله تعالى في تحرير هذا الجزء اللطيف، والعقد المنيف، وسميته: نشر ألوية التشريف بالإِعلام والتعريف بمن له ولاية عمارة ما سقط من البيت الشريف وبالله أعتضد، وعليه أعتمد، وهو حسبي ونعم الوكيل، لا رب غيره ولا خير إلَّا خيره. * * * (الشاهد الأول) فمن الشواهد لما ذكرته: قصَّة سيل أم نهشل (¬1)، وهو سيل كان في عهد خلافة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، فحمل المقام (¬2) من مكانه، ووجد بأسفل مكة، وغبي مكانه الذي كان فيه، فربط بلصق الكعبة، بأستارها، وكتب إلى عمر فجاء فزعًا، ودخل مكة محرمًا بعمرة، ورد المقام لمكانه الذي كان به, لأن المطلب بن أبي وداعة السهمي (¬3) كان وقع في باله احتمالًا وقوع هذا الأمر، فأخذ قدر ¬

_ (¬1) أم نهشل هي بنت عبيدة بن أبي أحيحة، ونسب ذلك السيل إليها لكونه حملها في طريقه من أعلى مكة إلى أسفلها واستخرجت من أسفل مكة، واقتلع ذلك السيل مقام إبراهيم عليه السلام، فلم يفعل الناس شيئًا حتى قدم الخليفة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه. وكان ذلك عام 17 للهجرة. (¬2) المقام: هو مقام إبراهيم خليل الرحمن، في المسجد الحرام قبالة باب البيت، وهو موضع معروف، وعن ابن عباس وابن عمرو: أن المقام والحجر الأسود من الجنة. تهذيب الأسماء: 3/ 155 بتصرف يسير. (¬3) هو المطلب بن أبي وداعة الحارث بن أبي صبيرة بن سعيد السهمي القرشي، أمه أروى بنت الحارث بن عبد المطلب، روى له مسلم حديثه عن حفصة في صلاة السبحة قاعدًا، قال الواقدي: نزل المدينة وله بها دار، وبقي دهرًا ومات بها، وذكره ابن سعد في مسلمة الفتح. تهذيب التهذيب: 4/ 94.

وجه الاستشهاد

ما بينه بين البيت، وبين زمزم وبين الركن. وقد بسطنا القصة في الباب الرابع من كتابنا "إعلام سائر الأنام بقصة السيل الذي سقط منه البيت الحرام، وما يتعلق به من عمارة وحكم وأحكام". وجه الاستشهاد: أنه كان بمكة من الصحابة عدد كثير من مسلمة الفتح وغيرهم ومن التابعين ما لا يمكن حصره، فلو كان مثل هذا الأمر المهم الشأن مما يطلب عمله من عموم الناس على سبيل فرض الكفاية ولا يتوقف على إذن الإِمام وما يصدر عن نظره لما توانوا في ذلك ولا فتروا فيه، ولبحثوا عن علم مكانه كما بحث عنه فوقفوا عليه، لكن إمساكهم اليد عن تعاطي عمل ذلك دليل على أن المخاطب بعمل أمثال ذلك إنما هو أئمة المسلمين وخلفاؤهم لا الآحاد ولو كانوا ذوي قدرة، ولا عمال الخلفاء على البلاد. ولا شك أن المقام الإِبراهيمي له شرف ومكانة (¬1)، ويتعلق به بعض الأحكام كطلب صلاة ركعتي الطواف خلفه، وبتأخير وضعه محله خصوصًا مع اشتباهه يفوت هذا الفضل، فاغتفروا التأخير المترتب عليه فوات هذه السنّة مع إمكان وقوفهم على حقيقة الأمر واستكشاف موضعه ووضعه فيه إلى أن يصل الأمر للخليفة إذ ذاك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فدل على أن المخاطب بعمارة ذلك وما شابهه من المواضع الأكيدة الحرمة كالكعبة وحدود الحرم وعمارة موضع حجرته - صلى الله عليه وسلم - إنما هو الإِمام الأعظم، مع ما في مباشرة الآحاد لذلك من التعريض للفتنة ولإِهمال أمر الخلافة ولا شك أن ما يؤدي لذلك ممنوع. ¬

_ (¬1) قال الإِمام النووي في تهذيب الأسماء 3/ 155: وهو موضع معروف، هذا مراد الفقهاء بقولهم يصلي ركعتي الطواف خلف المقام وشبه ذلك من ألفاظهم، وأما المفسرون فقد اختلفوا فيه اختلافًا كثيرًا منتشرًا، انتهى. وينظر: "التاريخ القويم"، للكردي: 4/ 10 - 65، ففيه تفصيل مفيد شاف.

توجيه كلام النووي في شرح مسلم

وإذا ترك - صلى الله عليه وسلم - هدم بناء قريش للكعبة -وقد أخرجوا منها أذرعًا أدخلوها في الحجر- خوفًا من قالة الناس، على ما قاله ابن هبيرة على ما فيه، فترك ما فيه الفتنة مع السلطان الأعظم أولى، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فهذا -لو سلم أن العمارة لما انهدم منه فرض كفاية- مبين أن البعض المبهم المخاطب به هو إمام المسلمين لا بعضٌ غيرُه. [توجيه كلام النووي في شرح مسلم]: قال الإِمام النووي في "شرح مسلم": أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم مصلحة، ولكن عارضه مفسدة أعظم منه خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، ويرون تغييرها عظيمًا، فتركها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام، منها: إذا تعارضت المصالح أو مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم, لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن إعادتها لقواعد إبراهيم - عليه السلام - مصلحة، تَرَكَها درءًا لمفسدة فتنة حديثي العهد بالإِسلام منهم، أي ردة بعض من أسلم منهم بنقض بنائهم الذي يعدونه من أكمل شرفهم. انتهى ملخصًا (¬1). وقال البدر الدماميني في "المصابيح" (¬2): في الحديث دليل على ارتكاب ¬

_ (¬1) شرح مسلم للنووي: 9/ 454، باب نقض الكعبة وبنائها، كتاب الحج، حديث (1333)، ونقل المصنف فيه تقديم وتأخير. (¬2) هو شرح على الجامع الصحيح للبخاري يسمّى "مصابيح الجامع"، لا يزال مخطوطًا، منه نسخة في مجلد ضخم في مكتبة جامع (أدوز) بالسوس، ومؤلفه هو الإِمام العلامة محمَّد بن أبي بكر بن عمر الدماميني المخزومي، مولده بالإِسكندرية سنة 763، ووفاته بالهند سنة 827 هـ، دخل اليمن ودمشق وغيرها, له مصنفات عديدة: شذرات الذهب: 7/ 181، والضوء اللامع: 7/ 184، والأعلام: 6/ 57.

الاستئناس بكلام لابن الصلاح

أيسر الضررين دفعًا لأكبرهما, لأنَّ قصور البيت أيسر من افتتان طائفة من المسلمين، ورجوعهم عن دينهم، انتهى. مع ما في توجيه خطاب سنيته ذلك إلى ذوي القدرة من جميع المسلمين من التنازع والتدافع والإِفضاء إلى التجاذب والـ ... (¬1)، فإن في نفس كل محبة التقدم لهذا الأمر والأثرة به، ودفع من يعارضه فيه، وفي ذلك مفسدة أي مفسدة. وأيضًا فإذا وُجِّهَ فرضُ الكفاية لذوي القدرة من كل المسلمين زعم كل ذي يسار أنه قادر على ذلك الدخول في ذلك الأمر والاختصاص به أنه من أهل الوجوب (¬2)، فربما يحاول الشروع ويوكل الأمر لدعواه إليه أنه من جملة من توجه إليه الخطاب، ولا قدرة له في نفس الأمر على ذلك، فقد يمتنع غيره من أصحاب القدرة من إتمام العمل أنفَةً من تقدُّم ذلك الغير عليه كما هو شأن نفوس أرباب الدنيا وأهلها، وبجعل الخطاب متوجهًا في ذلك للخليفة الأعظم يندفع هذا كله. [الاستئناس بكلام لابن الصلاح]: وقد جاء ما يستأنس به لذلك؛ فقد نقل علماء الأثر عن ابن الصلاح أنه منع التصحيح والتحسين للحديث في الأعصر الأخيرة. قال مَن بَعده مِن المحققين: عَمِل ابن الصلاح نفسه بخلاف ما قاله هو، فصحح أحاديث، فدل على أن كلامه إنما هو من باب سد الباب، وأن لا يتوهم من حصلت له شَمّةٌ من ذلك الفن أنه أهل لذلك، وليس أهلًا في نفس الأمر، فيقع في ما ليس له، فسَدّ الباب رأسًا (¬3). ¬

_ (¬1) في هذا الموضع خرم بالأصل. (¬2) هكذا العبارة بالأصل، وفيها اضطراب، ولعلها: زعم كل ذي يسار أنه قادر على الدخول في ذلك الأمر والاختصاص به وأنه من أهل ... إلخ. (¬3) ينظر: مقدمة ابن الصلاح، وعبارته فيها: "فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد ... إلخ"، وخالفه جماعة منهم الإِمام النووي، فقد قال في "التقريب": ص 114 مع "التدريب": "الأظهر عندي جوازه لمن تمكن وقويت معرفته" انتهى. وقد أشبع =

(الشاهد الثاني)

وإنما لم يلاحظ هذا الملحظ الأولون (¬1): أولًا: لقوة العلم وتمكنهم منه. وثانيًا: لعلمهم بما عند أهله من قوة الدين المانعة من دخول المرء فيما لم يصل إليه، ولا كذلك أهل العصر الأخير؛ "بدأ الإِسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ" (¬2). * * * (الشاهد الثاني) ومن الشواهد لما ذكرناه أيضًا: أن الحريق الواقع بالمدينة النبوية ليلة الجمعة أول شهر رمضان سنة ستمائة وأربع وخمسين (¬3)، وعمل في الحجرة المحيطة بالقبور الشريفة الثلاثة، وتساقطت الأبنية عليها وأخذ الحريق جميع سقف المسجد النبوي، وبقيت الدعائم تتمايل عند هبوب الرياح، وذهب رصاص بعض الأساطين فسقطت، وكان إذ ذلك بالمدينة من العلماء الصالحين والأتقياء والفالحين ما يومئ إليه "تاريخ ابن فرحون" (¬4)، إذ ذكر خلفهم من بقايا أهل ذلك القرن وأهل القرن الثامن. ¬

_ = الكلام على هذه المسألة الإمام السيوطي في "التدريب": 114 - 122، وكذا العلامة اللكنوي في "الأجوبة الفاضلة" في إجابة السؤال الثالث: 149 - 159، وينظر معه: "التعليقات الحافلة"، لفضيلة مولانا وشيخنا العلامة سيدي عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى. (¬1) لعله يعني ملحظ ابن الصلاح رحمه الله تعالى. (¬2) حديث صحيح؛ أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان من حديث أبي هريرة (370)، ومن حديث ابن عمر (371). (¬3) تفاصيل ذلك الحادث الجلل في "خلاصة الوفاء"، للسمهودي: 598 - 647. (¬4) وهو المسمى "نصيحة المشاور وتعزية المجاور"، للعلامة الإِمام الفقيه أبي محمَّد عبد الله بن =

وقال السيد المحقق القدوة المدقق عالِمُ طيبةَ السمهوديُّ (¬1) في تاريخه "خلاصة الوفاء": في صبيحة الجمعة عزلوا موضعًا للصلاة وكتبوا بذلك للخليفة المعتصم بالله ابن المستنصر بالله العباسي (¬2)، فوصلت الآلات صحبة الصناع مع الركب العراقي في أوائل سنة خمس وخمسين وستمائة، وقصدوا إزالة ما وقع من السقف على القبور الثلاثة الكريمة، فلم يجسروا على ذلك. واتفق رأي المنيف بن شيحه بن هاشم بن مهنا الحسني (¬3) مع رأي أكابر الحرم أن يطالَع الإِمام المعتصم بذلك فيفعل ما يصل إليه أمره، فأرسلوا بذلك فلم يصل جوابه لاشتغاله وأهل دولته بإزعاج التتار لهم واستيلائهم على جميع أعمال بغداد في تلك السنة، فترك الرد على حاله ولم يجسر أحد على التعرض لهذه العظيمة التي دون مرامها تزل الأقدام، ولا يتأتى من أحد بادئ بدئه الدخول فيه والإِقدام، انتهى (¬4). ¬

_ = محمَّد بن فرحون المالكي (693 - 769)، مولده ووفاته بالمدينة المنورة، طبع تاريخه سنة 1417 هـ, وصدر عن دار المدينة المنورة بعناية الأخ الأستاذ حسين محمَّد علي شكري. (¬1) هو السيد الشريف العلامة المحقق الحجة نور الدين علي بن أحمد السمهودي الحسني، نزيل المدينة المنورة ومفتيها وعالمها, ولد سنة 844 هـ، وتوفي سنة 911 هـ. له تصانيف مفيدة جليلة القدر، منها: "جواهر العقدين في فضل الشرفين"، و"وفاء الوفاء" و"خلاصة الوفاء" كلاهما في تاريخ المدينة المنورة. (¬2) كذا بالأصل، وصوابه: المستعصم، وهو عبد الله بن منصور (المستنصر) بن محمَّد (الظاهر) العباسي، من سلالة هارون الرشيد، آخر خلفاء الدولة العباسية بالعراق، ولد ببغداد سنة 609 هـ، وولي الخلافة بعد وفاة أبيه سنة 640 هـ في حين لم يبق للخلفاء غير دار الملك ببغداد، وقتله هلاكو سنة 656 هـ. الأعلام: 4/ 140. (¬3) هو الشريف أمير المدينة المنورة: منيف بن شيحه بن هاشم بن قاسم بن مهنّا ... الحسني، أبو الحسين، تولى إمارة المدينة انتزاعًا من أخيه عيسى سنة 649 هـ, وتوفي سنة 657، وتولى بعده أخوه جماز ... ينظر: تاريخ ابن فرحون: 233، 247 - 248 وما بعدها. (¬4) وفاء الوفا: 600 - 601، وفيها زيادة على ما نقله المصنف عن الخلاصة.

الحريق الذي وقع زمن السمهودي

وفيه أيضًا (¬1): قيل في فصل تاريخ العمارة المتجددة بالحجرة الشريفة: أن السلطان قايتباي (¬2) لما ذكر له الحاجة بالحجرة للعمارة فوض أمر ذلك للشمس ابن الزمن وذلك عام أحد وثمانين (¬3)، وأن بعد عمارته لها أخرج ما سقط من السقف في الحريق المذكور على القبور الثلاثة، وأنه لم يتأت إزالته إلَّا بالعتلة والمساحي. قال السمهودي في الفصل الذي ذكر فيه الحريق: وكنت أتعجب من ذلك -أي إبقاء ما سقط من ... (¬4) على القبور الثلاثة، وأرى الأدب والتعظيم في المبادرة لإِزالة ذلك، وظننته ... (¬5) لارتكاب شيء من سوء أدب، ووضعت فيه تأليفًا، حتى رأيت ما فعلوا حال إزالة ذلك فعلمت عذر أهل ذلك الزمان ووجه توقفهم، ولذا لم أحضر إزالة ما في جوف الحجرة الشريفة بعد الاستخارة، انتهى (¬6). [الحريق الذي وقع زمن السمهودي]: وقال السمهودي أيضًا: ثم احترق المسجد النبوي ثانيًا في الثلث الأخير ليلة الثالث عشر من شهر رمضان سنة إحدى (¬7) وثمانين وثمانمائة، واستولى ¬

_ (¬1) وفاء الوفا: 605 - 608. (¬2) السلطان الأشرف قايتباي المحمودي الأشرفي، سلطان الديار المصرية، من المماليك الجراكسة، اشتراه برسباي صغيرًا سنة 839 هـ وانتهى إلى أن صار (أتابك) العسكر سنة 872 هـ, وفيها بويع بالسلطنة، وكانت مدته حافلة بالعظائم والحروب، وسيرته من أطول السير، مولده سنة 815 هـ ووفاته سنة 901 هـ, ينظر: ابن إياس "بدائع الزهور": 2/ 90 - 303، والنور السافر، والأعلام: 5/ 188. (¬3) كذا بالأصل، وصوابه: واحد وثمانين، أي وثمانمائة، وتفصيل تلك العمارة في الوفاء: 617 - 633. (¬4) خرم بالأصل. (¬5) خرم بالأصل. (¬6) ينظر: وفاء الوفا: 601 - 602. (¬7) كذا بالأصل، والصواب: سنة ست وثمانين (686) كما في وفاء الوفا: 633.

وجه الاستشهاد لما قلناه

الحريق على سائر سقف المسجد، وبدأوا منه لما أصبحوا بطفئ ما وقع على القبة اللطيفة التي جعلت بدلًا عن سقف الحجرة الشريفة. وكان الساقط عليها حريق القبة الزرقاء الطاهرة بالسقف الأعلى ورضاضها وسقف المسجد الذي كان بين القبتين، ولم يصل إلى جوف الحجرة شيء من هدم هذا الحريق لسلامة القبة السفلى المذكورة وعدم تأثير النار فيها مع ما سقط عليها كأمثال الجبال، مع أن بعضها من الحجر الأبيض الذي يسرع تأثره بالنار. وقد أثرت هذه النار في أحجار الأساطين وهي من الحجر الأسود حتى تفتت بعضها وتهشم، وعدة ما سقط منها مائة وبضع وعشرون أسطوانة، وَمَنَّ الله بسلامة الأسطوانات الملاصقة للحجرة الشريفة، ثم كتبوا لسلطان زماننا الأشرف قايتباي ذلك، ونظفوا مقدم المسجد ونقلوا هدمه إلى مؤخره. وفي ذلك كله عبرة تامة وموعظة أبرزها الله للإِنذار، فخص بها حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثبت أن أعمال أمته تعرض عليه، فلما ساءت منا الأعمال المعروضة ناسب ذلك الإِنذار بظهور عنوان النار المجازى بها في موضع عرضها، وأنا وجل مما يعقب ذلك حيث لم يحصل الاتعاظ والانزجار، قال الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلا تَخْوِيفًا (59)} [الإسراء: 59]، وقال تعالى: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)} [الزمر: 16]، انتهى كلام المحقق السيد السمهودي ملخصًا. وجه الاستشهاد لما قلناه: أنه كان بالمدينة من العلماء الكرام والأولياء الفخام في الحريق الأوّل (¬1) ما ينبيءُ عنهم ذِكْرُ ابن فرحون لخلَفِهم في "تاريخه" لمن أدركه من أهل المدينة تركَهُم المبادرةَ لعمارةٍ ذلك الموضع اللطيف بالقبر الذي هو أشرف من الكعبة ¬

_ (¬1) الذي شب سنة 654 هـ.

اتفاقًا بل ومن العرش والكرسي (¬1)، ورفعهم أمر ذلك للخليفة، وانتظارهم لما برز منه من الأمر دليل أنهم رأوا الخطاب بعمارة مثل ذلك المحل الجليل العظيم ليس متوجهًا لكل ذي قدرة من المسلمين بل لخليفتهم القائم بإقامة أحكام شريعتهم وملتهم. وكان بالمدينة في الحريق الثاني (¬2) محققُها السيدُ السَّمهوديُّ الذي قال في حقه الحافظ السيوطي (¬3): (وناهيك به حافظ طيبة، وقد كان من أئمة الدين علمًا ودينًا، وعدم مبالاة في إقامة الحق بأحد)، فموافقته على ترك التعمير لما احترق منه ورفع الأمر لسلطان عصره شاهدٌ وأيُّ شاهد. وقول بعض الأفاضل لما استشهدت بذلك: -هذا سَوقُ حكايةِ ما وقع لا شاهدَ فيه للمدَّعَى- مردودٌ، فإن سياقَه قضيةٌ لما صدر في الحريق الثاني أنه ممن أقرَّ على ما فعلوه في كَتْبِهم بذلك لسلطان عصره ورضاهُ به، وأنه الشرعُ، إذ لو كان غير مُقِرٍّ على ذلك لأنكره عليهم باللسان [...] (¬4) إنه منكر كما أنكر غيره، وألف فيه وما خاف من معارضه. وبفرض وجود ما يمنع من التصريح بالإِنكار على الكاتبين في ذلك فكان يذكره في أنهم ارتكبوا بالتأخير للعمل انتظارًا لمجيء جواب السلطان ترك ما توجه عليهم من الخطاب بالفرض الكفائي بعمل ذلك، كما ذكر فيه أشياء من ¬

_ (¬1) أول من قال بهذا القول هو الإِمام أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي صاحب "الفنون"، وللعلامة الشيخ الفقيه محمَّد بن سليمان الكردي المدني الشافعي تفصيل وبحث في المسألة في كتابه "الفوائد المدنية بمن يفتي بقوله من متأخري الشافعية"، مطبوع بهامش فتاواه بمصر. (¬2) الذي وقع سنة 886 هـ. (¬3) الحافظ الجلال السيوطي، أشهر من أن يعرف، توفي هو السمهودي في سنة واحدة عام 911 هـ, رحمهما الله تعالى. (¬4) غير واضحة بالأصل، ولعلها: ... ولقال.

المنكرات وحذر منها، وحرص على إزالتها. فعَدَمُ إنكاره ذلك دليلٌ على أنه رأَى توجُّه فرضِ عمارةِ ذلك وما شاكله للسلطان دون غيره. وقد ذكر الشيخ ابن حجر الهيتمي في رسالته نظير ذلك في أول المقدمة فقال ما لفظه: (وما يقال: يحتمل أنهم كانوا -يعني جماعة القضاة بمكة إذ ذاك- مُكرَهِين فهو فاسد!، وما الحاملُ للإِمام الفاسيّ على أن يحضر هو والقضاةَ مكْرَهين ثم لا يدركون ذلك؟، بل يذكُرُ ما هو صريح في رضي الحاضرين وأن ذلك ما فعل إلَّا بإذنهم ...)، انتهى (¬1). وقال في أثناء البحث الثالث في الكلام على أن يحتمل أن عدم إنكار العلماء لعلمهم بعدم التأثير ما لفظه: (ولئن تنزّلنا فالإِنكار لا ينحصر في ذلك، بل من جملته بيان حكم ذلك في كتبهم وأنه منكر وممنوع)، انتهى (¬2)، وهو مؤيِّد لما ذكرته من الاستشهاد بإقرارِ السيد السمهودي، والحمد لله. وقد أفتى شيخنا شيخ الإِسلام علي بن جار الله الحنفي (¬3)، والشيخ ¬

_ (¬1) المناهل العذبة: 3 / أ - 3 / ب. ولتمام الفائدة ننقل عبارته بنصها، قال رحمه الله: (المقدمة: اعلم أن الذي أقوله وأفتي به على قواعد أئمتنا أنه يجوز بل يطلب إصلاح ما تشعث من سقف الكعبة وجدارها وميزابها وعتبتها ورخامها، كما وقع عليه الإجماع العقلي الآتي بيانه وتقرير العلماء عليه من لدن ابن الزبير رضي الله عنهما إلى يومنا هذا، وأنه يجوز التوصل إلى بناء حقيقة ما ظن اختلاله من نحو سقفها بكشف ما يعلم به أمره، كما وقع نظيره مما يأتي بيانه أيضًا، بل سيأتي عن الفاسي أنه وجماعة من قضاة مكة وأمير العمارة الذي ندبه لها برسباي وأعيانها، اجتمعوا بالكعبة لما خافوا من سارية من سواريها ظهر بها ميل، فكشفوا من فوقها فوجدت صحيحة، وردت حتى استقامت، وهذا منه كالقضاة وغيرهم صريح فيما قلته آخرًا من جواز الكشف المذكور، فتأمله فإنه واضح، وما يقال: يحتمل ... إلخ) انتهى. (¬2) المناهل العذبة: ورقة 7، وجه أ. (¬3) هو الفقيه العلامة الإِمام علي بن جار الله بن ظهيرة القرشي الحنفي المكي، الخطيب العالم البحر العمدة، توفي بمكة سنة 1010 هـ، له مصنفات. وأخذ عنه جماعة من علماء مكة. خلاصة الأثر: 3/ 150، والمختصر لمرداد: 361 - 362.

(الشاهد الثالث)

شمس الدين محمَّد البهنسي الشافعي (¬1) باعتماد ما يسوقه ثقات المؤرخين المعروفين بالصدق والأمانة والدين وترتب الأحكام على ما يذكرونه وهذا منه. وبعد حين رأيت كثيرًا ممن يعارض أخذ هذا الذي ذكرته وصار يستدل به على ما قلته. فالحمد لله على وضوح الأمر وانجلائه للمخالف. وقد قال إمامنا الشافعي رضي الله عنه: وددت لو أن الناس أخذوا هذا العلم ولم ينسب إلى منه شيء. * * * (الشاهد الثالث) [اقتلاع القرامطة للحجر الأسود] ومن الشواهد لذلك: أن الحجر الأسود (¬2) لما قلعته القرامطة (¬3) من مكانه من البيت الحرام عام فتنتهم سنة سبع عشرة وثلثمائة، ونقلوه إلى جامع الكوفة وعلقوه بالأسطوانة ¬

_ (¬1) العلامة محمد بن محمد بن عبد الرحمن البهنسي العقيلي الشافعي، شمس الدين، النقشبندي الخلوتي، فاضل متصوف، جاور بمكة سنة 995 هـ, وتوفي بها سنة 1001 هـ, له مصنفات. الأعلام: 7/ 61. (¬2) الحجر الأسود زاده الله شرفًا هو في ركن البيت الذي يلي باب البيت من جانب المشرق، ويقال له الركن الأسود، ويقال له وللركن اليماني: الركنان اليمانيان، وارتفاعه من الأرض ذراعان وثلثا ذراع، قاله الأزرقي. تهذيب الأسماء واللغات: 3/ 81. (¬3) القرامطة هم فرقة من الباطنية نسبوا إلى حمدان قرمط، والكلام عن تاريخهم وفرقهم وما يتبع ذلك يطول جدًّا، وحاصل ما يقال في معتقدهم ما لخصه الإِمام أبو منصور البغدادي بقوله: قال عبد القاهر: الذي يصح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة يقولون بقدم العالم وينكرون الرسل والشرائع، انتهى. وينظر الكتاب الموسوعي: "دائرة معارف القرن العشرين"، لمحمد فريد وجدي: 7/ 713 - 734.

الرابعة عشر (¬1) منه لزعمهم الفاسد أن الحج ينتقل إليهم، واستمر كذلك بضعة وعشرين عامًا (¬2) لم ينتدب لاستنقاذه من أيديهم وإعادته لمكانه ببذل المال أحد من مياسير المسلمين، ولا نقل عن أحد من علماء عصرهم توجيه خطاب فرض الكفاية إلى أحد منهم، حتى انتدب له الخليفة العباسي المقتدر بالله وقيل المطيع لله (¬3)، مع أن رده لمكانه فرض معلوم بإظهار فرضيته، فقد استعيذ بالله من رفعه من مكانه (¬4). قال الفقهاء: ولو رفع الحجر من مكانه والعياذ بالله تعالى، انتقلت أحكامه للركن (¬5). فتخَلُّفُ أهل ذلك العصر من العلماء أو الصالحين المياسير ¬

_ (¬1) في "الجامع اللطيف"، لابن ظهيرة: ص 38: أنه علق في الأسطوانة السابعة. (¬2) كانت مدة مكثه عندهم: اثنان وعشرون سنة إلَّا شهرًا، كذا في "الجامع اللطيف" ص 38، وفي "تاريخ الكعبة"، لباسلامة ص 115: إلَّا أربعة أيام. (¬3) هناك شك عند بعض من المؤرخين واضطراب في تعيين الخليفة الذي أعيد الحجر الأسود في عهده، وتحقيق الأمر: أن الحجر الأسود أخذ سنة 317 هـ ومكث 22 عامًا، أي أنه أعيد سنة 339 هـ, وكان الخليفة آنذاك هو المطيع لله أبو العباس الفضل بن جعفر (المقتدر بالله) وكان حكمه من سنة 334 هـ إلى 364 هـ, هذا ما نقله الزركلي عن تاريخ المسعودي الذي عاش في ذلك الزمان، (إذ وفاته سنة 345 هـ). الأعلام: 5/ 147. وما ذكره بعض المؤرخين من أنه أعيد زمن الخليفة المقتدر فلا يصح لأنه توفي سنة 320 هـ, وإنما أخذ الحجر في عهده، وما ذكره البعض من أن المطيع اشتراه من أبي طاهر القرمطي فلا يصح أيضًا لأن وفاة القرمطي المذكور كانت سنة 332 هـ. ينظر: "تاريخ الكعبة"، لباسلامة: 115 - 118 (ط مصر 1420 هـ)، والأعلام: 2/ 121. (¬4) منها حديث: "استمتعوا من هذا البيت فإنه يهدم مرتين ويرفع في الثالثة"، وفي رواية: "يهدم مرتين ويرفع الحجر الأسود في الثالثة"، روى الأول الحاكم في "المستدرك" 1/ 306 وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (6753)، وينظر: "تهنئة أهل الإِسلام"، للميموني 52 - 53. (¬5) قال الإِمام جار الله ابن ظهيرة الحنفي في "الجامع اللطيف" ص 39: لو أزيل الحجر من موضعه والعياد بالله تعالى استلم ركنه وقبله وسجد عليه، كذا نقله القاضي عز الدين بن =

توجيه المصنف لمعنى ما ورد في صحيح مسلم

عن استنقاذه بأنفسهم أو أمر الاعتناء به من المتغلب عليه وإعادته لمحله ووكول فرض مثل ذلك إلى الخليفة شاهد على توجه فرض مثل هذه الأعمال للخليفة دون الآحاد، فتقاعدوا عنه لئلا يقعوا في الافتئات على ولي الأمر. [توجيه المصنف لمعنى ما ورد في صحيح مسلم]: ومما فتح الله علي به: أن حديث الصحيح يومئ إلى توجه فرض الخطاب بعمارة الكعبة للخليفة عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وهو خليفة كل عصر وسلطانه على الحرم المكي، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا حِدْثان (¬1) قومك بعهد لهدمت الكعبة ... " الحديث (¬2). وقال في الحديث الآخر: "إن بدا لقومك أن يهدموها فتعالي ... "، إلى آخر الحديث (¬3). ¬

_ = جماعة [عن] الدارمي من الشافعية، واستشكله بعض علمائهم، ووجهه الجد رحمه الله وقال: إن الخصوصية التي تثبت للحجر من كونه يمين الله في الأرض ويشهد لمن استلمه بحق، وتقبيله - عليه السلام - له غير موجود في الركن الذي هو فيه، انتهى. أقول: لم أقف على نقل لأصحابنا في صحة ذلك، وما ذكره الجد من التوجيه في غاية القبول، وربما يوافق أصولنا لأنه حيث ثبت هذا الحكم للحجر اقتصر عليه واختص به، دون الركن، فلا ينتقل الحكم إلى الركن ولا يقوم بدلًا عن الحجر, لأن من أصلنا أن نصب البدل بالرأي لا يجوز، أما من أراد الطواف ووقف مستقبل الركن ورفع يديه لأجل النية فينبغي الجواز لأنه محل البداءة، فتأمل، انتهى. وقال العلامة الخطيب الشربيني -من الشافعية- في "المغني": 1/ 488: ويسن أن يكون التقبيل والسجود ثلاثًا كما في "المجموع" عن الأصحاب، وهذا الحكم إنما هو للركن، حتى لو نُحِّيَ الحجَر أو وضع في موضع آخر من الكعبة استلم الركن الذي كان فيه وقبله وسجد عليه، حكاه في "المجموع" عن الدارمي وسكت عليه. انتهى. (¬1) حِدْثان؛ بكسر الحاء وإسكان الدال: أي قرب عهدهم بالكفر، والله أعلم. شرح مسلم للإِمام النووي. (¬2) صحيح البخاري كتاب الحج باب فضل مكة وبنيانها، الأحاديث (1582) - 1586)، ومسلم كتاب الحج، حديث (1333). (¬3) هو عند مسلم من بعض طرق حديث عائشة رضي الله عنها، (1333).

وجه الإيماء في الحديث الأول

وجه الإِيماء في الحديث الأول: [...] (¬1) الهدم وإدخال الحجر وجعل البابين لها إليه دون غيره من باقي المسلمين، فدل على أنه المخاطب بذلك دون غيره، وإذ لو كان الخطاب عامًّا على الكفاية لقال: "لَهُدِمت الكعبة وبُنِيَت" بالأفعال المجهولة، إيماءً إلى عدم توجيه الخطاب إلى واحد بعينه, لأنَّ القصد وجودُ الفعلِ من غير نظرٍ إلى خصوصِ الفاعل إذ ذلك شأنُ فرضِ الكفاية. أو قال: "لولا حِدْثانُ قومك بجاهلية لطُلِب من المسلمين هدمُه وإعادتُه ... " إلى آخره، فيكون ذلك نظير قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. فكلٌّ من الثلاثة المذكورةِ في الآية فرضُ كفاية على الأمة، وعُبِّر عنه بما ذكر فيها، وهو في حقه فرض عين كما ذكروه في الخصائص. ولذا خص بالخطاب بقوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]. فيؤخذ من عدول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن كلٍّ من ذينك العبارتين وما في معناهما إلى ما عبَّر به أنّ الخطابَ بعمارةِ البيتِ الحرام متوجِّهٌ لإِمام المسلمين وملاذِهم وهو النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وبعده الخلفاء عنه في الأمة. ووجهه في الحديث الثاني: أنه لم يبْدُ لأحد من قوم عائشة أن يعيدَ البيتَ لقواعدِ إبراهيم سوى ابن أختها (¬2) عبد الله بن الزبير (¬3) رضي الله عنهما، وهو كان خليفة على الحجاز ¬

_ (¬1) خرم بالأصل. (¬2) هي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. (¬3) عبد الله بن الزبير بن العوام، رضي الله عنهما، أبوه من العشرة المبشرين، وأمه أسماء، وجده الصديق، وجدته لأبيه صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعمة أبيه خديجة بنت خويلد، وخالته أم المؤمنين عائشة، وهو أول مولود ولد للمهاجرين بالمدينة بعد الهجرة، وحنكه =

ومصر والعراق واليمن (¬1). فـ (قومٌ) وإن كان عامًّا في الخبر لفظًا لأنه اسم جمع واحده رجل كما في "المصباح المنير" للفيومي، أو جمع قائم، أو مصدرٌ وصِفَ به كما قاله القاضي البيضاوي، ومضافٌ، إلَّا أن المرادَ منه بشهادة الوِجْدانِ واحدٌ وهو ابنُ الزبير، فيكون عامًّا مخصوصًا أو مرادًا به خاص. ولم يقع تعميرُ البيت من أحد من قوم عائشة غير ابن الزبير، وأضيف لها (¬2) مع أنه من بني أسد بن عبد العزى (¬3) وهي من بني تيم (¬4) لأنها كانت تبنته حتى كنّيت به (¬5)، ولذا خصها بالتعريف لما بينها وبينه من الاختصاص، فيكون فيه الإِيماءُ إلى مُغَيّبٍ هي خلافتُه، فتعمِيرُه البيتَ الحرام، والله أعلم. * * * ¬

_ = رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسماه عبد الله وكناه أبا بكر بكنية جده، ولد في السنة الأولى للهجرة، وقتل شهيدًا سنة 73 هـ، ومناقبه عظيمة وكثيرة. من تهذيب الأسماء: 1/ 266، 267. (¬1) بويع له بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية منتصف شهر ربيع الأول سنة 64 هـ, وأطاعه أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان، وجدد عمارة الكعبة. تهذيب الأسماء: المصدر السابق. (¬2) أي بكونه من قومها. (¬3) تمام نسب ابن الزبير رضي الله عنهما: عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب ... إلخ. "التبيين في نسب القرشين"، لابن قدامة: ص 223. (¬4) تمام نسب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: هي عائشة بنت أبي بكر الصديق عبد الله العتيق بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ... "التبيين": ص 269. (¬5) قال الإِمام النووي: كنية عائشة أم عبد الله، كناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم عبد الله بابن أختها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين. تهذيب الأسماء: 2/ 351.

(الشاهد الرابع)

(الشاهد الرابع) ومن الشواهد لما قلناه: ما ذكره الأزرقي في "تاريخه" فيما جاء في تجريد الكعبة وأول من جردها، قال: فلما كان معاوية كساها الديباج مع القباطي، فقال شيبة بن عثمان (¬1): لو طرح عنها ما عليها من كسى (كذا) الجاهلية. فخفف عنها حتى لا يكون عليها مما مسه المشركون شيء لنجاستهم، فكتب في ذلك إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشام فكتب إليه أن جردها. انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) هو شيبة بن عثمان (الأوقص) بن أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار العبدري القرشي الحجبي، أمه أم جميل بنت عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار أخت مصعب بن عمير، أسلم عام الفتح وقيل يوم حنين، روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعطاه هو وابن عمه عثمان بن طلحة بن أبي طلحة مفتاح الكعبة يوم الفتح جمعًا بين الأقوال والروايات، وعند ابن سعد أنه قال لشيبة: "دونك هذا فأنت أمين الله على بيته"، وقال مصعب الزبيري: دفع إليه وإلى عثمان بن طلحة وقال: "خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلَّا ظالم". وعند ابن هشام: أنه قال: "أين عثمان بن طلحة؟ " فدعي له، فقال: "هاك مفتاح الكعبة اليوم يوم بر ووفاء". وذكر الواقدي أنه أعطاه لعثمان يوم الفتح وأنه ولي الحجابة إلى أن مات سنة 42 هـ, ثم وليها بعده شيبة إلى أن مات سنة 59 هـ على أصح الأقوال في خلافة معاوية الذي توفي سنة 60 هـ على الصحيح. ينظر: الإِصابة ترجمة (3949)، وسيرة ابن هشام: 4/ 61، تهذيب الأسماء: 1/ 321، تاريخ الكعبة لباسلامة، وفيه تفصيل أمر السدانة والحجابة: ص 144 وما بعدها. (¬2) "أخبار مكة" للأزرقي: 1/ 260، جاء في "أخبار مكة"، للفاكهي: 5/ 232 ما يؤيد هذا وفيه زيادة إيضاح: روى الفاكهي عن بعض المكيين أن شيبة بن عثمان استأذن معاوية في تجريد الكعبة فأذن له، فكان أول من جردها من الخلفاء، وكانت كسوتها قبل ذلك تطرح عليها شيئًا فوق شيء، انتهى.

(الشاهد الخامس)

وجه الشاهد: أن شيبة الصحابي إذ رأى توقف هذا الأمر اليسير في الكعبة على العرض على الخليفة دون عامله على مكة، فلأن يتوقف تعمير البيت على العرض عليه بالأولى، ولعل هذا أقوى شاهد لما نحن فيه. * * * (الشاهد الخامس) ومن الشواهد لما قلناه: قول الماوردي (¬1) في "الأحكام السلطانية": والذي يلزم الإِمام من أمور المسلمين عشرة أشياء: أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، ليكون الدين محروسًا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل ... ثم قال: الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة، انتهى ملخصًا (¬2). ¬

_ (¬1) هو الإمام الكبير الفقيه المفسِّر الأصولي أبو الحسن علي بن محمَّد بن حبيب الماوردي نسبة لبيع ماء الورد، البغدادي، ولد سنة 370 هـ, وتوفي سنة 450 هـ, ولي القضاء ببلاد كثيرة، من كبار الشافعية في وقته، من شيوخه الإِمام القشيري صاحب الرسالة، والصيمري وأبو حامد الإِسفراييني في الفقه، وعنه الخطيب البغدادي، صنف الكتب العظيمة، منها: الحاوي الكبير في فقه الشافعية، والأحكام السلطانية، وأدب الدنيا والدين، وأعلام النبوة، وغيرها. وفيات الأعيان: 2/ 444، تاريخ بغداد: 1/ 53 - 54 وعدة مواضع أخرى، شذرات الذهب: 3/ 285. (¬2) الأحكام السلطانية: ص 51 ط الكتاب العربي 1415، والعبارة التي نقلها المصنف مختصرة كما ذكر.

وجه الاستشهاد

[وجه الاستشهاد]: فإذا كان أمر الثغور الذي لا يترتب على إغفاله شيء من الضرر، ولا يحتاج أمرها ما تحتاج إليه عمارة البيت الشريف من التدقيق والنظر متوجهًا أمره وإتقان شأنه للإِمام، فتوجُّه فرضية إصلاح ما وهَى من الكعبة الغراءِ إليه أولَى. وكذلك إذا طُلب منه رفعُ البدع ودفع الزيغ والزلل عن المباني الشريفة الشرعية، والملة المحمدية المرضيَّة، فلأن يتوجه إليه وجوبُ إصلاح ما أُمِر العبادُ بالتعبد به استقبالًا: حياةً في الصلاة وغيرِها من مجالس الذكر وغيره، وحالَ الاحتضار، وموتًا في القبر، وطوافًا، ونظرًا ... بالطريق الأولى. * * * (الشاهد السادس) ومن الشواهد له أيضًا: قول من قيل في حقه: (لم تُخرِجُ مكّةُ بعد إمامنا الشافعي أعلمَ منه) (¬1) -وهو المحب الطبري (¬2) - في كتابه "استقصاء البيان عن مسألة ¬

_ (¬1) هذه المقولة للحافظ أبي سعيد صلاح بن كيكلدى العلائي (ت 749 هـ)، وأسندها عنه التقي الفاسي في "العقد الثمين" 3/ 65، 66، ثم قال: وهذه منقبة عظيمة إلَّا أنها لم تسلم من الاعتراض بمثل الحميدي صاحب الشافعي، وبمثل ابن المنذر وآخرين من الغرباء، ووجدت بخط القطب الحلبي في ترجمة المحب الطبري: أنه لم يكن في زمانه مثله بالحرم المكي، وهذا مما لا ريب فيه. انتهى. (¬2) هو الإمام الحافظ الفقيه المحدث المفتي أبو العباس أحمد بن عبد الله بن محمَّد الطبري المكي الشافعي، محب الدين. ولد بمكة سنة 615 هـ، وبها توفي سنة 694 هـ، سمع الكثير ورحل إلى البلاد وأقام مدة باليمن عند المظفر الرسولي، روى عنه جماعة كالبرزالي والحافظ =

وجه الاستشهاد

الشاذروان" (¬1): (يجب على متولي البيت الحرام والناظرِ في المشاعر الكرام، رعايةُ مصالحهما والاهتمام بعمارتهما). وقوله أيضًا في أثناء كلام متعلق بعمل ما يتعلق بالكعبة ما لفظه: (ولا يتمكن كلُّ أحدٍ من تغييره بيده، وإنما ذلك منوطٌ بولاةِ الأمر فيه)، انتهى. [وجه الاستشهاد]: فنبه على أن عمارة ما يتعلق بها فضلًا عن عمارتها كلها إنما هو لولي الأمر عليها، وهو أصالة سلطان الإِسلام والمسلمين مراد خان، دام له العز والنصر والإِمكان. فإن قلت: ذكر المحِبُّ بعد سياق حديث عائشة في قوله: "فإن بدا لقومك ... " إلى آخره: (تصريح بالإِذن في أن يفعل ذلك عند القدرة عليه والتمكن منه، وفي قوله: "لولا حدثان قومك بشرك لهدمت الكعبة" حثٌّ على ذلك، ودلالةٌ على أن المانعَ منه حِدْثَانُهم بالشرك، فنبّه على أنه من مهمات الدين عند تمكنِ الإِسلام، وهذا الذي حثّ ابنَ الزبير على هدمِ الكعبة وبنائها على قواعدها، فلم يكن ملومًا، ولا عُدّ متهتكًا حرمته، بل قائمًا في ذلك الحرمة، متبعًا للسنّة. ومدلولُ هذا الحديث تصريحًا وتلويحًا ينتج التغيير في البيت الحرام ¬

_ = الدمياطي وغيرهما، أثنى عليه الأكابر، قال فيه الذهبي: كان شيخ الشافعية ومحدث الحجاز. والسبكي: شيخ الحرم وحافظ الحجاز بلا مدافعة. ينظر: تذكرة الحفاظ: 4/ 258، طبقات الشافعية للسبكي: 8/ 18، العقد الثمين للفاسي: 3/ 61، الأعلام للزركلي: 1/ 159، وغيرها. وللدكتور عايض الردادي: "الأسرة الطبرية المكية". (¬1) عبارة عن رسالة صغيرة في نصف كراس كما وصفها الفاسي في العقد الثمين، توجد نسخة منها في مكتبة برلين برقم 5536 (10)، "التاريخ والمؤرخون"، للهيلة: 55، "معجم الموضوعات المطروقة": (شاذروان).

رأي المصنف في هدم الجدار اليماني

بالعمارة إذا كان لمصلحة ضرورية أو حاجية أو مستحسنة)، انتهى (¬1). فهذا يوهم إطلاق إباحةِ التعمير للأمورِ المذكورة، وأنّ ذلك غير مقيد بالإِمام؟ قلتُ: صَدْرُ رسالته وصدر كلامه في أثنائها يدفع هذا الوهم، وإنما مراده أنه يباح التغيير لمن له ولايةُ ذلك عند أحدِ تلك الأمور، وإلَّا فلا يجوز للسلطان الأعظم أن يخرق حرمة البيت ويهدمه أو شيئًا منه بغير ضرورة ولا حاجة ولا أمر مستحسن، إنما له ولاية العمارة عند وجود سببها. ويدل عليه: أنه ذكر عمارة ابن الزبير والحاجة الحاقّة، والثناء عليه، ولم يذكر وقوع عمل فيها من أحد من الناس لمصلحة ما ذكر، وأثنى عليه، وكلامه أوله يسدد آخره، وآخره يسدد أوله، فللَّه دره من إمام. قال ابن حجر الهيتمي -بعد نقل الخلاف في هدم الجدار الذي أراد المنصور أو ولده هدمه وإعادته على قواعد إبراهيم ومنع منه- ما لفظه: (هذا إذا حملنا كلامه هو -لا كما هو المتبادر منه- على هدم ما صنعه الحجاج وردها علي بناء ابن الزبير، أما إذا لم نحمله على تلك الصورة الخاصة بل على ما عداها ... فالإِجماع على الامتناع من هدم جدرانها أو تغيير بنائها (¬2) أمر حقيقي واقع لا مرية فيه، وليس ذلك من خصوصيات الكعبة بل هو جار في كل مسجد، إذ من البديهي فيها أنه لا يجوز لأحد هدم أبنيتها ولا تغييرها عما هي عليه الآن من غير ضرورة أو حاجة ماسة)، انتهى (¬3). [رأي المصنف في هدم الجدار اليماني]: فاحفظْه لينفَعْك تذكرُه في التنبيه عند منع هدم الجدار اليماني عند فقد ¬

_ (¬1) وهذه العبارة نقلها ابن حجر الهيتمي في "المناهل العذبة": 4 / أ- 4 / ب. (¬2) المناهل العذبة: 12 / أ: أو تغييره بلا ضرورة. (¬3) المناهل العذبة: الموضع السابق.

(الشاهد السابع)

إجماع ثقات المعلمين المتقنين المتقين على خربه وأيلولته للسقوط، وأنه لا يجوز هدمه لمجرد إلحامه (¬1) بالجدر التي يبنونها عوض الساقط, لأن تحصيل هذا الغرض لا يرتكب له خرق حرمة البيت بهدم ما هو صحيح منه قائم. وبتأمل ما ذكرنا يعلم أن المنع من هدم الجدار اليماني عند فقد الإِجماع من ثقات المعلمين المذكورين منصوص عليه, لأن ما دخل تحت عموم كلامهم من جملة المنصوص عليه، كما في "شرح المهذب" للنووي (¬2). * * * (الشاهد السابع) ومن الشواهد لما قلناه: قول ابن حجر الهيتمي في أثناء البحث الثالث من المقدمة، في أثناء كلام له: (ويؤيده أن العلماء وغيرهم أقروا الملوك ونحوهم على تغيير بابها المرة بعد المرة)، انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) أي عند إرادة تلحيمه. (¬2) حاصل هذا الكلام: أن المصنف رحمه الله كان يرى حرمة هدم الجهة اليمانية من الكعبة لقول بعض العمال أنه يلزم هدمها لأجل أن يكون البناء متماسكًا، والحال أن تلك الجهة كانت قوية غير متهالكة البنيان، وصنف في هذه المسألة رسالة تقدم ذكرها في المقدمة. (¬3) "المناهل العذبة" 6 / ب، وتمام عبارته فيها: ويؤيده أن العلماء وغيرهم أقروا الملوك ونحوهم على تغيير بابها المرة بعد المرة مع إصلاحه وعدم الاحتياج للتغيير، وكذلك غيروا عتبتها المرة بعد المرة، وميزابها المرة بعد المرة، كما سيأتي بيان كل ذلك، وليس الحامل للفاعلين على ذلك إلَّا إظهار أبهة الكعبة وأنه لا يليق بجلالتها بقاء ما خلق أو عتق فيها، فلذلك جروا على تغيير تلك الأشياء وأقرهم العلماء وغيرهم على ذلك ولم ينكروا عليهم، انتهى. وله كلام نفيس.

وجه الشاهد

ومراده من (نحوهم): 1 - من باشر ذلك من متغلب. 2 - أو افتياتًا على ملك زمانه لقوة شوكته وبعد الملِكِ عنه إذ ذاك، والله أعلم. وقوله في آخر البحث المذكور: (فتأمل هذا الاستدلال من هذا الإِمام تجده قاضيًا بصحة ما سلكه هو وغيره من العلماء من أن سكوت العلماء وغيرهم على ما فعل في الكعبة المعظمة من الإِصلاحات في الأعصر من غير نكير دال على جوازه وحسنه، فإنه ينبغي للملوك تحريه والعمل بمثله في الكعبة إذا حصل فيها ما يقتضي الإِصلاح ولمِّ الشعث الذي لا يليق بأدنى المساجد أن يبقى عليه، فكيف بما هو أشرفها وأفضلها)، انتهى (¬1). [وجه الشاهد]: فتأمل قوله: (فينبغي للملوك ...) إلى آخره، فإنه صريح المسألة الواقعة، وجَمَع الملوك باعتبار تعدد الأزمنة وتداول الأيام بين الناس، وإلَّا فأمر إصلاح الكعبة إنما هو لملك البلاد التي هي فيها وسلطانها لا لغيره من باقي السلاطين بباقي البلاد. نعم، إنْ تقَاعَدَ الخليفةُ سلطانُ بلادِها عن عمارتها، وتوانَى في شأنها فليبادر غيره لذلك منها إنْ لم يؤدّ إلى فتنةٍ قويةٍ جدًّا وشقَّ عصا المسلمين. [شواهد أخرى]: وقد ذكرت شواهد أخرى لاختصاص هذا العمل بصاحبه المكتسب به شرفًا وفخرًا في كتابي "إعلام سائر الأنام بقصة السيل الذي سقط منه البيت الحرام، وما يتعلق به من عمارة وإشارة وحكم وأحكام". ¬

_ (¬1) المناهل: 7 / ب.

(تتمة)

(تتمة) [وجوب المباشرة بسد مواقع الهدم حفظًا لها من التنجيس]: لا شبهة في وجوب سد ما ظهر بالانهدام من الجدار والسقف المحاذي بما يمنع وصول ما يحصل منه التنجيس لداخل الكعبة من طير، سيما (أبابيل) (¬1) ,. فإنه في أقل زمن يبني بيوته في الأماكن التي يتمكن منها ويفرخ فيها ويحصل منه مزيد التنجيس، ومن هرة. ويكون السد موثقًا بأخشاب أو بحِفْش (¬2)، ويطلب أن يسدل عليه ثوب ويكون ذلك على الفور، ولا يتوقف في ذلك على إذن السلطان الأعظم في ذلك, لأنه لا ينتظر لعمارة مثل ذلك وعمله، وإنما ينتظر لعمل الذي يكون على الدوام من الجدار والسقف ونحوهما، لما فيه مع كمال الأجر عند صحة النية من إشادة الكف المنظورة للملوك (¬3). ¬

_ (¬1) اتفق أكثر المفسرين على تفسير الأبابيل بالطيور الكثيرة المجتمعة، كما في تفسير الطبري والقرطبي وابن كثير وغيرهم، وكان المصنف هنا يعني طيورًا معينة تسمى بهذا الاسم، وللعلامة الإمام الدميري في "حياة الحيوان الكبرى" كلام يوضح عبارة المصنف، قال رحمه الله 1/ 27 في مادة (أبابيل): قال ابن عباس: بعث الله الطير على أصحاب الفيل كالبلسان، وقيل: كانت كالوطاويط، وقالت عائشة رضي الله عنها: هي أشبه شيء بالخطاطيف. وقال في (الخطاف) 1/ 418: ويسمى زوار الهند، ويعرف عند الناس بعصفور الجنة، ومنهم من يسمي هذا النوع السنونو، الواحدة سنونوة، وهو كثير في المسجد الحرام يعشش في سقفه في باب إبراهيم وباب بني شيبة، وبعض الناس يزعم أن ذلك هو الطير الأبابيل الذي عذب الله تعالى به أصحاب الفيل. انتهى. (¬2) الحِفْش بالكسر: البيت الصغير جدًّا، أو من شعر، وأحفاش البيت قماشه. قاموس. وفي منائح الكرم 4/ 82: خصف؛ وفي القاموس: الخصفة محركة: الثوب الغليظ جدًّا. (¬3) وللمصنف رسالة في هذه المسألة سماها: "المواهب والفتوح بعمارة المقام الإِبراهيمي وباب الكعبة وسقفها والسطوح"، تقدَّم الكلام عليها.

بيان أن الخطاب في سد مواقع الهدم يتوجه إلى مياسير المسلمين ولا يجب رفعه إلى الخليفة

[بيان أن الخطابَ في سد مواقع الهدم يتوجه إلى مياسير المسلمين ولا يجب رفعه إلى الخليفة]: وقد قدّمنا أن من جملة حِكَم توجّه خطاب العمارة للسلطان الأعظم أنه شرَفٌ -على جعل الفرض فيه متوجهًا لذوي القدرة من المسلمين أجْمَعَ-: الافتياتُ على السلطان الأعظم، وعُظمُ الضرر. ولا كذلك في وضع ما يُسَد به ما ظهر بالانهدام, لأن ذلك بصدد الزوال، ومدار الملوك على ما فيه تخليدُ الذكرِ وتشييدِ القَدرِ كما مر، فيُطلب المبادرةُ بالسدِّ المذكور، ولو من عموم الناس، لعدم الضرر المرتَّب على تعاطي ذلك مع ما فيه من التوصل إلى تطهيره الواجب بنص: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26]، فليباشَرْ ذلك وليبادَرْ به. [ذكر الفرق بين سقوط سقف الحجرة النبوية وسقوط جدران الكعبة الشريفة، والرد على إشكالات قد تعرض]: فإن قيل: من جملة ما قدمت وقست عليه: قصتا الحريق، وأن علماء المدينة وصلحاءها وأميرها وأركان دولتها لم يحدثوا شيئًا حتى رفعوا الأمر لسلطان عصرهم، وجاءهم منه ما يفعلون ففعلوا، فلم يباشروا عمارة ما طاف بالقبر الذي هو أفضل من الكعبة بل أمهلوا يخطيء الأمر، فليكن البيت الحرام فيما ظهر منه بالسقوط كذلك. قلت: الفرق واضح, لأن في قصة الحريق الأول سقط بالحريق السقف الذي يُخْشى أن يتعلق به طير فيحصل منه بالتلويث لذلك المحل السامي والهرة ونحوهما مما يخشى منه التنجيس، ممنوعة لوجود الحجرة وهي البناء المطيف بالقبور الثلاثة الكريمة، إذ هو مبني قائم، ولا كذلك في مسألتنا، فإنه لا مانع لما يخشى منه التنجيس لداخل البيت، وحفظه من التنجيس واجب، ولا يتم إلَّا بالسد، وما لا يتم الواجب المطلق إلَّا به فهو واجب.

فإن قلت: قد عد من آيات الكعبة أن الطير لا يوقع (¬1) عليها إلَّا مستشفيًا بها من مرضه، فيؤمن من تنجيس الطير (¬2)، واحتمال الهرة في غاية الندور. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، ولعلها: يقع. (¬2) للعلامة الإِمام جار الله بن ظهيرة بحث في هذه الحيثية في كتابه "الجامع اللطيف" قال رحمه الله تعالى 58 - 60: نقل عن الجاحظ أن الفرقة من الطير من حمام وغيره تقبِل حتى إذا كادت أن تبلغ الكعبة انفرقت فرقتين، فلم يعل ظهرها شيء منها، ونقل عن جمع من العلماء منهم العز بن جماعة ومكي رحمهما الله: أن ما عُوِينَ من ارتفاع الطير على البيت فللاستشفاء، وأنشدوا في ذلك: والطير لا يعلو على أركانها ... إلَّا إذا أضحى بها متألما قال ابن عطية رحمه الله: والقول بأن الطير لا يعلو ضعيف، فإنه يُعَاينُ يعلوه ... قال الزركشي وليس في هذا ما ينافي كلام مكي، انتهى. قال الجد رحمه الله: وتوجيه عدم منافاته أن ما عوين من ذلك قد يكون للاستشفاء، ثم قال: والمعروف عند أهل مكة المشرفة قبل وقتنا هذا ما قاله مكي وابن جماعة وغيرهما، وأما في وقتنا هذا فما قاله ابن عطية، فإن الطيور الآن تعلوه كثيرًا، ويتكرر منها ذلك في الساعة الواحدة وهذا مشاهد لا ينكر، ولعل حدوث ذلك بسبب ما وقع من نقض السقف والتغيرات الواقعة، والله أعلم، انتهى بنصه. أقول: وتوجيه قول الجد رحمه الله ظاهر، إذ يحتمل أنه كان في السقف المنقوض وفيما غير منه شيء من الأرصاد يمنع من ذلك فزال عند النقض والتغيير، والله الموفق، انتهى. ونقل ابن ظهيرة عن التوربشتي في "شرح المصابيح" قوله: ولقد شاهدت من كرامة البيت أيام مجاورتي بمكة أن الطير كان لا يمر فوقه، وكنت كثيرًا أتدبر تحليق الطيور في ذلك الجو فأجدها متجنبة عن محاذاة البيت، وربما انقضت من الجو حتى تدانت فطافت به مرارًا ثم ارتفعت، ثم قال أيضًا: ومن آيات الله البينة في كرامة البيت: أن حمامات الحرم إذا نهضت للطيران طافت حوله مرارًا من غير أن تعلوه، فإذا وقفت عن الطيران وقعت على شرفات المسجد أو على بعض الأسطحة التي حول الكعبة من المسجد، ولا تقع على ظهر البيت مع خلوها عما ينفرها، وقد كنا نرى الحمامة إذا مرضت وتساقط ريشها وتناثر من الأرض حتى إذا دنت من ظهر البيت ألقت بنفسها على الميزاب أو على طرف ركن من الأركان، فتبقى زمانًا طويلًا كهيئة المتخشع لا حراك فيها، ثم تنصرف من غير أن تعل شيئًا من سقف البيت. انتهى كلام ابن ظهيرة رحمه الله.

(تذييل) [في حصول الثواب للناظر إلى المتهدم من الكعبة]

قلت: الأحكام الشرعية إنما تبنى على أسبابها العادية ولا تعلق فيها بالحقائق، على أنه مشاهد جلوس كثير من الطير على جدار الكعبة والتنجيس على ثوبها، وإنما لم تجبْ مراعاةُ ذلك بجلوس من يذب عنه في السطح لغاية المشقة التي لا يُعتاد ورود الشرع بها, ولا كذلك السدّ هنا، فوجب على جميع المسلمين وتعينت المبادرة به ولو من مال فيه شبهة, لأنه ليس مجعولًا من أجزائها على سبيل الدوام حتى يبالغ في الاحتياط في شأنه، بل هو بعرضة الزوال، وقد اعتيد تخليقُها بالمال (¬1) الذي يجمع من المكوس وذلك لما ذكرناه، وهذا ما فتح الله به علي وهو أعلم بالصواب. * * * (تذييل) [في حصول الثواب للناظر إلى المتهدم من الكعبة] ينبغي حصول الثواب برؤية ما ظهر من الجدار مما انسلخ عنه أحد وجهيه من الجانب الغربي وبطن الجدار الشرقي، فإنه من أجزاء البيت، وشمله ما ورد في فضل النظر إلى البيت (¬2). ¬

_ (¬1) التخليق: التطييب، والمراد: تطييبها بالطيب المشترى من ذلك المال. (¬2) ورد في فضل النظر أحاديث منها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله ينزل في كل يوم وليلة مائة وعشرين رحمة على هذا البيت، ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين". قال ابن ظهيرة في "الجامع اللطيف" 135: هذا الحديث وإن كان ضعيفًا فقد نص النووي وغيره من الحفاظ على جواز رواية الضعيف في الفضائل، انتهى. ونقل عن المحب الطبري كلامًا نفيسًا في تحقيق الأفضلية وترتيبها بين الطواف والصلاة والنظر. وعن ابن عباس: النظر إلى الكعبة محض الإِيمان، أخرجه الجندي. وعن سعيد بن المسيب: من نظر إلى الكعبة إيمانًا وتصديقًا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. وغير ذلك مما أخرجه الأزرقي والفاكهي والجندي في مصنفاتهم.

(تنبيه) [في حكم هدم ما آل إلى السقوط من حجارة الكعبة]

وأما ما ظهر من سقف البيت وأعالي جدران بواطنه: 1 - فيحتمل أن لا يحصل برؤيته ثواب, لأنه مأمور بالغض عن رفع الطرف إليها حرمة وأدبًا، والأمر بالشيء نهي عن ضده، ولا يجتمع كون الشيء مأمورًا به منهيًا عنه في آن واحد بكل اعتبار. 2 - ويحتمل أن يحصل برؤيتها، ويكون النهى عن النظر لأمر خارجي، كل محتمِل، والله أعلم. * * * (تنبيه) (¬1) [في حكم هدم ما آل إلى السقوط من حجارة الكعبة] إذا علم مما ذكرته توجه فرض العمارة إلى سلطان المسلمين مولانا مراد خان نصره الله، فليعلم أنه لا شبهة في جواز هدم ما هو ظاهر السقوط كالأحجار الناتئة عن الباب مما هو قطعي السقوط ظاهر الوهى، وكذا ما وهي من السقف وتبدل خشبه، وما تلف من العمد القائمة عليه. [متي يؤخذ بكلام معلمي البناء؟]: أما ما لم ينته الأمر فيه إلى سقوطه إلى هذا المقدار ويرى في ظاهر الأمر مستقيمًا، فلا شبهة أنه لا يجوز التعرض له بالهدم إلَّا إن قال العرفاء (¬2) المتقنون ¬

_ (¬1) أورد المصنف رحمه الله تعالى في هذا التنبيه جملة من النصائح الهامة جدًّا لمعلمي البناء، والكلام وإن كان موجهًا لعمال زمنه، فإنه مهم وعام لكل العمال في أي زمن، وهي نصائح ثمينة، مصدرها إمام عالم ورع متقي، وإذا كان هذا خوفه من عمال زمنه، فكيف لو رأى عمال هذا الزمن؟ نسأل الله اللطف والعافية. (¬2) العرفاء: جمع عارف، أي العارفون بأمور البناء، واصطلح على تسميتهم بالمعالمة، أو المعلمين، جمع معلم.

التحذير من الأخذ بقولهم مجازفة

المحررون المتقون: إن هذا آيل إلى السقوط حالًا أو عن قرب جدًّا، واتفقوا على ذلك. أو قال بأيلوليته للسقوط أكثر المعلمين العرفاء وكانوا غير متهمين بأن قصدهم توسيع العمل وتطوير الشغل ليأخذوا الأجرة ويطول زمن عملهم. [التحذير من الأخذ بقولهم مجازفة]: فإن علم من أحد من المعلمين أن قصده ذلك ولو بقرائن الأحوال فليلطم بقوله الجدار ولا يلتفت إليه في هدم هذا البيت الحرام، فإن كثيرًا من العملة كما هو مشاهد في مباشرتهم الأبنية يوسعونها على أصحابها ويطولون فيها ويقترون في مباشرتها، وقصدهم ما يزيد لهم من أجرة شغل يوم أو يومين، ويبيعون ما أوجب الله عليهم من النصيحة بالعرَض الفاني الذي يأخذونه بالخديعة. فإذا كانت هذه معاملتهم في أبنيةِ من يعلمون فَقْرَه! فكيف حالهم في عملٍ يعلمون أن المباشر له السلطان؟ فهم فيه أطمع!! [نصيحة وتوجيه إلى عمال البناء]: وحاصل الأمر: على الفَعَلة أن يقولوا الحق ويطلبوا مرضاة الله، ويتركوا عرض الدنيا وراء ظهورهم، وينصحوا لله ورسوله، فإن عملوا بذلك فازوا بأجورهم وسمع قولهم وهدم ما رأوه غير صالح للبقاء، وأنه متداع للسقوط عن قرب جدًّا. وأما ما ليس كذلك فلا يجوز التعرض له كالجانب اليماني، وكونه فيه ميل خفيف لا يضر ولا يخشى منه الضرر، فالحذر الحذر من هدم ذلك الجدار إلَّا إذا أجمع المعلمون المتقون لله المتقنون أو أكثرهم على احتياجه للهدم، فيعمل بقولهم حينئذ (¬1). وإن اتُّهِمَ المعلمون في قولهم بخرب ذلك الجدار حلّفَهم الحاكمُ ¬

_ (¬1) وقد صنف رحمه الله رسالة في المنع من هدم الجدار اليماني سماها: إيضاح تلخيص بديع المعاني في بيان منع هدم الجدار اليماني، تقدم ذكرها في المقدمة.

رد إشكال حول هدم ما لم يكن آيلا للسقوط من البناء الشريف

الشرعي بطلبِ الناظرِ على العمارة أن الخرَبَ في الجدار حقيقةٌ، وأنهم لم يحكموا بخرْبه لطمَعٍ دُنيوي، وذلك احتياطًا لأمر البيت الحرام. وقد صرح الفقهاء بأن الحاكم الشرعي يحلّفُ للتهمة في أقل من هذا الأمر. [رد إشكال حول هدم ما لم يكن آيلًا للسقوط من البناء الشريف]: فإن قلت: في "صحيح مسلم" عن عطاء (¬1): أن البيت لما احترق زمن يزيد بن معاوية (¬2)، إذ أرسل جيشًا لغزو ابن الزبير، وأن ابن الزبير بعد انصرافهم عنه استشار الناس: أنقضها ثم أبني بناها؟ أم أصلح ما وهَى منها؟. فقال ابن عباس: فإني أرى أن تصلح ما وهى منها وتدع بيتًا أسلم الناس عليه، وأحجارًا أُسْلِم عليها (¬3)، وبُعِثَ عليها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يُجِدَّه، فكيف ببيت ربكم ... الحديث (¬4). ففيه أنه هدم ما يمكن بقاؤه مع إصلاح الواهي المحترق طلبًا لصنعه كله على أكمل حال، فليكن الجانب الشامي فيما نحن فيه كذلك، وإن لم يقل بأيلوليته للسقوط. ¬

_ (¬1) هو عطاء بن يسار الهلالي، أبو حمد المدني القاص، مولى السيدة ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، وثقه ابن معين وأبو زرعة والنسائي، مات سنة 103 هـ أو 104 هـ، وقيل سنة 94 هـ, وتوفي بالإِسكندرية كما جزم ابن يونس. (¬2) كانت ولاية يزيد بن معاوية سنة 60 للهجرة، ومات سنة 64 هـ، ومدة ولايته ثلاث سنين وتسعة أشهر، الأعلام: 8/ 189. (¬3) كذا بالأصل، والذي في مسلم (1333): أسلم الناس عليها ... (¬4) صحيح مسلم: كتاب الحج، حديث (1333) وتتمته ومحل الشاهد منه قول ابن الزبير رضي الله عنهما: إني مستخير ربي ثلاثًا، ثم عازم على أمري، فلما مضى الثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها، فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه ... إلى آخره.

قلت: الفرق بين ما نحن فيه وما جاء عن ابن الزبير واضح, لأن المحترق من البيت كان البناء مدماكًا (¬1) من خشب ساج ومدماكًا من حجر، كما ذكره الأزرقي في تاريخ مكة. قال: بناؤها كذلك من أسفلها إلى أعلاها، وعليها الكسوة فاحترقت من نار لبعض أصحاب ابن الزبير وطارت الرياح بلهب النار فاحترقت كسوة الكعبة والساج الذي بين البناء، وكان احتراقها يوم السبت لثلاث خلون من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين (¬2)، فضعفت جدران الكعبة، حتى أنها لينقض أعلاها إلى أسفلها، ويقع عليها الحمام فتناثر حجارتها وهي مجرد متوهية من كل جانب. قال الأزرقي: وكان أشد الناس إباء لهدمها ابن عباس، وقال: دعها على ما أقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها فلا تزال تهدم وتبنى فيتهاون الناس بحرمتها, ولكن ارقعها. فقال ابن الزبير رضي الله عنهما: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت الله وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلى أسفله، حتى أن الحمام ليقع عليه فتتناثر حجارته؟! انتهى. فحينئذ كان الحريق أثر في كل مدماك من الساج بإحراقه، وفي المدماك الحَجَر إلى جانبه بالتسويد صار في بناء ما تآكل من الساج وإبقاء ما بقي من مداميك الأحجار قُبْحٌ في الصورة وإخلال بتعظيم الكعبة، فهدمها أجمع لتبنى على أكمل الوجوه، ولئلا يحصل الترقيع في بنائه الذي لا يرتضي به ذو القدرة في بيت أبيه، فكيف في بيت الله تعالى. ¬

_ (¬1) المدماك: هو الصف من البناء، وخيط البناء. كذا في "المعجم الوسيط": 1/ 397. عن منائح الكرم: 3/ 115 (حاشية). وعدد مداميك الكعبة المشرفة في عهد ابن الزبير: سبعة وعشرين مدماكًا، ينظر: "التاريخ القويم"، للكردي: 3/ 161. (¬2) وقيل سنة خمس وستين، "الجامع اللطيف": 86.

كون ما عمله ابن الزبير أصوليا (مذهب صحابي) وبيان الخلاف في حجيته

وما نحن فيه لا يترتب على إبقاء الجدار اليماني عند فقد اتفاق المعلمين المتقين الثقات المتقنين على أيلولته للسقوط عن قرب شيء من الترقيع، ولا إخلال بتعظيم البناء، فيجب الكف عن هدمه وترك التعرض له عند فقد اتفاق من ذكر على أيلولته له عن قرب، فتأمل الفرق فهو واضح جلي. فلا يؤخذ من هدم ابن الزبير جميع بناء البيت جواز هدم الجدار اليماني لدفع الترقيع بين البناء الجديد والعتيق، ولطلب تلاحم البناء، فذلك عَرَضٌ يسير لا يُرتكبُ لأجله هدمُ شيء من بيت الله تعالى لم تدع إليه ضرورة ولا حاجة، وليس ذلك أمرًا مستحسنًا. [كون ما عمله ابن الزبير أصوليًّا (مذهب صحابي) وبيان الخلاف في حجيته]: على أن ما رأى ابن الزبير من هدم الجميع مذهب صحابي خالفه فيه غيره، وفي حجية مثل ذلك خلاف للأصوليين (¬1). [ما ينبغي فعله قبل الشروع في هدم ما تخرَّب من الجدران الشريفة]: وينبغي قبل الشروع في هدم المتخرب من جدار الكعبة أن يذرع الكعبة الشريفة من جميع جوانبها بحضرة سلطان البلاد مولانا السيد الشريف (¬2) ¬

_ (¬1) الخلاف في مذهب الصحابي وهل هو حجة أم لا؟ قال الإمام السبكي في "جمع الجوامع" 2/ 354: قول الصحابي على صحابي غير حجة وفاقًا، وكذا على غيره. قال الشيخ الإمام: إلَّا في التعبدي، وفي تقليده قولان لارتفاع الثقة بمذهبه إذ لم يدون، قيل: حجة فوق القياس، انتهى. وحاصل الخلاف في حجيته: أن الشافعي وأصحابه وجمهور الأصوليين على أنه ليس بحجة، سواء وافق القياس أم خالفه، انتشر أم لم ينتشر، وبناء عليه فالجديد عند الشافعي أن المجتهد لا يجوز له تقليده، "الوجيز في أصول التشريع" د. محمَّد حسن هيتو: 485 - 486. (¬2) هو الشريف عبد الله بن حسن بن أبي نمي الحسني، تولى إمارة البلد الحرام عقب وفاة =

وفقه الله تعالى لمرضاته، وحضرة شيخ الإِسلام (¬1) الحاكم الشرعي أيد الله به الدين، وبحضرة مشايخ الإِسلام، ويضبط ذلك ويبالغ في تحريره، ويكتب في السجل، ويحفظ عند الحاكم الشرعي. وكذا يذرع سمكها وسمك علو العتبة، وسمك الباب وعرضه، ليعاد البناء على ما كان عليه (¬2). وإذا أسرع في المدماك الذي على وجه الأرض -وعليه ميزان العمل لما يبنى عليه- أحضر الناظر (¬3) على العمارة من ذكر، ونزلوا للعمل على ما عندهم من الذرع المحفوظ، فلا يزاد في القبلة شيء ولا ينقص من أي جهة كانت، وكذا يضبط ذرع الشاذروان (¬4) من جهاته، ويعاد على ما كان. وقد أحضر ابن الزبير رضي الله عنهما وجوه الناس وأشرافهم، وأشهدهم على أساس إبراهيم - عليه السلام -، وقال لهم: اشهدوا. ووضع البناء على ذلك بحضورهم. قاله الأزرقي رحمه الله تعالى. ¬

_ = الشريف مسعود بن إدريس بن حسن بن أبي نمي آخر ربيع الثاني سنة 1040 هـ, وتوفي ليلة الجمعة 10 جمادى الآخرة سنة 1041 هـ. خلاصة الأثر: 3/ 38، 39، ومنائح الكرم: 4/ 87 - 89. (¬1) هو شيخ الإِسلام. (¬2) وقد تمَّ ذلك، ينظر تفاصيل الذرع في: "منائح الكرم"، للسنجاري نقلًا عن "إنباء المؤيد الجليل"، للمصنف: 4/ 114 - 121. (¬3) كان الناظر على العمارة من قبل السلطان مراد هو السيد محمَّد أفندي بن محمود أفندي الأنقوري قاضي المدينة، وكان وصوله إلى مكة المشرفة للقيام على أمر العمارة في 9 رجب 1040 هـ. "منائح الكرم": 4/ 99. (¬4) هو بفتح الذال المعجمة وسكون الراء، بناء لطيف جدًّا ملصق بحائط الكعبة، وارتفاعه عن الأرض في بعض المواضع نحو شبرين، وفي بعضها نحو شبر ونصف، وعرضها في بعضها نحو شبرين ونصف، وفي بعضها نحو شبر ونصف. "تهذيب الأسماء واللغات": 3/ 172.

ما يجب على الناظر على العمارة فعله

[ما يجب على الناظر على العمارة فعله]: وليبالغ الناظر في اختيار المتقنين من المعلمين، وليسأل عن الأعرف الأتقى لله عَزَّ وَجَلَّ، الأحفظ لحدود الله، فيقدمه على غيره في بناء بيت الله تعالى. قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: 18]، وكذا ينبغي لعَمَلة هؤلاء المعلمين. [ندب أشراف الناس وسادتهم للعمل بأنفسهم في عمارة الكعبة الشريفة]: وليباشر ذلك العلماء والسادة الشرفاء اقتداء بفعل المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فإنه حمل الأحجار مع قريش في عمارة الكعبة لعمارتها (¬1)، وكان يحمل اللّبِنَ (¬2) في عمارة مسجده مع الصحابة رضي الله عنهم (¬3)، ويحمل التراب من الخندق (¬4). ففيه ندبُ العملِ فيما فيه التقربُ إلى الله تعالى، والحث على ذلك، وأن لا يتوقف عن ذلك متوقف، ولا يقل المتكبر: هذا لا يليقُ بمرُوّتي أن أحمِل حَجَرًا أو أشِيلَ مِكْتَلًا (¬5)!، فصُدُورُ مثل ذلك إنما هو لجهله وعدم معرفته بمقام نفسه، والله الموفق. * * * ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الحج حديث (1582)، وسيرة ابن هشام: 1/ 228 مع الروض. (¬2) اللبن: جمع لبنة، وهي وحدة البناء، وتكون عادة من الطين المخلوط بالقش. (¬3) سيرة ابن هشام: 2/ 110. (¬4) صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، حديث (4097). (¬5) المكتل: قال في "المختار": المكتل شبه الزنبيل يسع خمس عشر صاعًا، انتهى.

وحاصل الأمر [التنبيه على تحري اختيار ذوي التقوى للعمل في العمارة]

وحاصل الأمر [التنبيه على تحري اختيار ذوي التقوى للعمل في العمارة]: إنه ينبغي أن يكون المباشرة لأعمال هذا البيت من أهل التقوى والصلاح والدين والفلاح لينصحوا في عمله لله ولرسوله، ولا يكونوا من الذين انطمست بصائرُهم بحب الدنيا، فهي مرادُهم ومرامُهم، فأولئك عن الكرامة مبعدون، وينبغي أن يكون كل من المعلمين وعمالهم حالَ العمل في البيت على طهارةٍ عن الحدث الأكبر وجوبًا، وعن الأصغر ندبًا وأدبًا. وليجتهد مولانا السلطان في أن يكون ما يعمر به مالًا حلالًا خالصًا من غصب وسوء معاملة كرِبًا، وغش، وخديعة، فإن كان من أموال الجزية الخالصة من الظلم والحيف فهو مالٌ حلالٌ طيب، وكونُ المال المأخوذ من الذمّي لا يُعَلمُ حالَ طريقِ وصولِه للذمّيِّ لا يضر, لأن الأصلَ الحلُّ ما لم يُعلَم وصولُه إليه بطريقٍ حرامٍ فيبقى على حرمته, لأن الأيدي المترتبة على الغصب غاصبةٌ، والشَّرعُ لم يكلّف بالتنقيبِ ولا البحثِ عن بواطِنِ الأُمور، والله المستعان. [ما ينبغي فعله عند الهدم من وضع الساتر ونحوه ...]: وإذا هُدِمَ البيت، فعلى متولّي العمارة أن ينصبَ أخشابًا مطبقة بقدْر البيت، ويصنع عليها الساتر كما فعل ابن الزبير رضي الله عنه وقت هدمه له، كما في "صحيح مسلم" (¬1)، وكان ذلك بإشارة ابن عباس رضي الله عنهما، كما ذكره الأزرقي في "تاريخه". وفيه: أن البُنَاةَ كانوا يبنون من وراء الستر والناس يطوفون من خارج، انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم ذكر رقم الحديث وموضعه مرات. (¬2) ينظر: "تاريخ الكعبة"، لباسلامة: 56.

حكم الخارج من جدران البيت المعظم بعد الهدم والتحذير من أخذه

وذلك ليصلي الناس إلى ذلك الساتر ويطوفوا به، وينبغي حصول ثواب النظر إلى البيت بالنظر لذلك الساتر مع نية المشاهدة والنظر للبيت (¬1). [حكم الخارج من جدران البيت المعظم بعد الهدم والتحذير من أخذه]: وينبغي أن يدفن جميع ما خرج بالهدم من الردم من جص وجير وحجر لا ينفع فيها، كما فعل ابن الزبير في دفن ما لا ينتفع به من أنقاضها وأحجارها داخلها، نقله الأزرقي. هذا، ونقل جدي (¬2) رحمه الله في كتابه "مثير شوق الأنام إلى حج بيت الله الحرام، وزيارة النبي عليه الصلاة والسلام": أن صفية بنت شيبة الحجبية (¬3) أهدت لأم عبد الله أم عامر بن كريز (¬4) لما قدمت معتمرة حصاةً مما كان يفرُّ من الركن الأسود حين أصابه الحريق، فخرجت مع أصحابها، فلما خرجت من الحرم ونزلت بعض المنازل صُرِعَ أصحابُها ولم يبق أحد إلَّا وحُمَّ، فقامت وصلت ودعت ربها، فأُلهِمت أنّ ذلك من الحجر الذي أُهدِي لها، وخرجت به معها؛ فأعادته، فسُقُوا، انتهى ملخصًا. ففيه التحذير عن أخذ شيء من أنقاض البيت. ¬

_ (¬1) تقدم للمصنف بحث المسألة في (تذييل) سابق. (¬2) هو الشيخ محمَّد بن علان، تقدم ذكره في المقدمة. (¬3) هي صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية الحجبية القرشية، تقدم ذكر أبيها وترجمته، وهي صحابية روت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن عائشة وأم حبيبة، وغيرهن، أخرج حديثها أبو داود والنسائي وابن ماجه، توفيت حدود التسعين للهجرة. "أعلام النساء"، لكحالة: 2/ 338. (¬4) أم عبد الله هذه هي: أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، توأم عبد الله والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانت تحت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، فولدت له عامر بن كريز وبنات، أسلم عامر يوم الفتح، وهو خال عثمان بن عفان رضي الله عنهم, لأن أم عثمان أروى بنت كريز، وتوفي عامر زمن عثمان. "التبيين": 146، 198، "أعلام النساء": 1/ 282.

حكم إعادة الحجر إلى البيت المعظم

وقد نص أصحابنا على منع الأخذ من الطيب المهدَى للكعبة، وأن من أراد التبرك جاء بطيب من عنده ثم مسحها به ثم أخذه للتبرك، انتهى. وينبغي -إن أمن الابتذال على الأنقاض- تأخير الدفن عن تمام العمل، فإن الحاجة تدعو لزيادة الحجر عوضًا عن المنكسر، وعادة البناء نقض الأحجار عند السقوط نحو الثلث. والأزرقي نقل أن الحَجَّاج كبس أرض الكعبة حتى علت بالأحجار الباقية عن حاجته مما كان في بناء ابن الزبير، فينبش ذلك الكبس وتؤخذ الأحجار منه ويبدل بدفن تلك الأنقاض، والله أعلم (¬1). [حكم إعادة الحِجر إلى البيت المعظم]: ولا يجوز أن يغير البيت عن بنائه الموجود الآن، -وهو بنية الحجاج- بزيادة شيء في طوله أو عرضه ولو يسيرًا، أو نقص شيء منه. قال الإِمام النووي في "شرح مسلم": قال العلماء: ولا يغيّرُ هذا البناء (¬2). قال بعض المتأخرين: هذا منه صريح في منع الزيادة في السمك والطول والعرض. ونقل ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى: إن مقتضى كلام أئمة المذاهب الأربعة ما عدا أحمد: منع إعادة الحِجر إلى البيت، ووجوب إبقائه على ما هو عليه من غير زيادة ولا نقص، وذلك لأنه لا بد من اليقين فيما يستقبل، وكون أذرع من الحجر من البيت لم يرد ما يفيد اليقين به من نص قرآن أو خبر تواتر، إنما جاء من طريق الآحاد المفيدة للظن. قلت: وكونه من أحاديث الصحيح المفيد ما فيها للعلم النظري وإن ¬

_ (¬1) "تاريخ الكعبة": 69، 70. (¬2) شرح مسلم: 3/ 455، باب نقض الكعبة وبناءها.

لم يكن متواترًا بشرطه، كما قال ابن الصلاح: لا يفيد في ذلك, لأن اليقين إنما ينشأ عن العلم الضروري، إذ هو الذي لا يقبل التغيير ولا يزول بالترديد، ولا كذلك ما يفيد العلم النظري. على أن في موافقة ابن الصلاح على ذلك خلافًا طويل الذيل (¬1). وإنما أعاده ابن الزبير رضي الله عنهما وأدخله فيه لعله لأنه كان متواترًا عنده وعند الصحابة رضي الله عنهم في عصره، والمتواتر يفيد العلم اليقين، وانقطع التواتر فيه بعد، ولهذا نص الأئمة على منع إدخال شيء من الحجر فيه، وإن ورد في "صحيح مسلم": أن أذرعًا منه من البيت (¬2). ¬

_ (¬1) عبارة ابن الصلاح في "المقدمة": ما أخرجه الشيخان مقطوع بصحته، والعلم القطعي النظري واقع به، خلافًا لمن نفى ذلك محتجًا بأنه لا يفيد إلَّا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول, لأنه يجب العمل بغلبة الظن، والظن قد يخطئ. وقد كنت أميل إلى هذا وأظنه قويًّا، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أولًا هو الصحيح, لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، انتهى. وقد رد هذا القول الإمام النووي في "التقريب" بقوله: ما ذكره ابن الصلاح خلاف ما قاله المحققون والأكثرون، فإنهم قالوا: أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة إنما تفيد الظن فإنها آحاد، ثم قال: وتلقي الأمة إنما أفاد وجوب العمل بما فيهما من غير توقف على النظر فيه، بخلاف غيرهما، فلا يعمل بما فيهما من غير توقف على النظر فيه. وينظر: "ظفر الأماني"، للإمام محمَّد عبد الحي اللكنوي ص 127 وما بعدها، وما قبلها، بتحقيق العلامة المحدث سيدي الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى. (¬2) إنما قال: (أذرعا ...) لأن الحجر مختلف في قياسه، وعبارة الإِمام النووي في "الإيضاح": (واختلف أصحابنا في الحجر، فذهب كثيرون إلى أن ستة أذرع منه من البيت، وما زاد ليس من البيت حتى لو اقتحم جدار الحجر ودخل منه وخلف بينه وبين البيت ستة أذرع صح طوافه، وبعضهم يقول سبع أذرع، وبهذا المذهب قال الشيخ أبو محمَّد الجويني من أئمة أصحابنا وولده إمام الحرمين والبغوي، وزعم الإِمام أبو القاسم الرافعي أنه الصحيح، ودليل هذا المذهب ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستة أذرع من الحجر من البيت"، =

وفي "شرح العباب" لابن حجر الهيتمي: ولا يجزى توجُّهُ شيء من الحِجْر, لأن كونه من البيت ظني لثبوته بالآحاد، وإن كان حديثه في "الصحيحين"، وذلك لا يكتفى به في القبلة. وقول جمعٍ إن أحاديثهما مقطوع بها من حيث اللفظ لا المعنى، إذ لا تلازمَ بينهما كما في كثير من الآي القرآنية. وزعْمُ أنَّ ابنَ الزبيرِ لما أَدخَلَ ستة أذرع منه كان بحضرة جمع من الصحابة وأجمعوا على استقباله يحتاج لدليل، وعلى التنزل فيحتمل أن الحديث كان متواترًا في زمانهم ثم انقطع تواتره. وبما تقرر يدفع قول الأذرعي: لك أن تقول: لا خلاف أن بعضه من البيت، فلم لا يصح توجه ما اتفق عليه منه، ثم قال: ويبعد أن يقال أن البيت لو أعيد على قواعد إبراهيم أن يمتنع توجه المتروك منه، انتهى. وقد علمت بما تقرر أنه لا بُعْدَ في ذلك، انتهى. ¬

_ = وفي رواية له: أن من الحجر قريبًا من سبعة أذرع من البيت، والمذهب الثاني أنه يجب الطواف بجميع الحجر، فلو طاف في جزء منه حتى على جداره لم يصح طوافه، وهذا المذهب هو الصحيح وعليه نص الشافعي رحمه الله تعالى، وبه قطع جماهير أصحابنا وهذا هو الصواب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف خارج الحجر، وهكذا الخلفاء الراشدون، وغيرهم من الصحابة فمن بعدهم. وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد قال الشيخ الإِمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: قد اضطربت فيه الروايات، ففي رواية في الصحيحين: الحجر من البيت، وروي: "ستة أذرع ... " نحوها، وروي خمسة، وروي قريبًا من سبع أذرع، قال: وإذا اضطربت الروايات تعين الأخذ بأكثرها ليسقط الفرض بيقين، قلت: ولو سلم أن بعض الحجر من البيت لا يلزم منه أنه لا يجب الطواف خارج جميعه, لأن المعتمد في باب الحج الاقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجب الطواف بجميعه سواء كان من البيت أم لا، والله تعالى أعلم)، انتهى.

تحريم إعادة الشاذروان للبيت

[تحريم إعادة الشاذروان للبيت]: وإذا علم حرمة إعادة الحِجر إلى البيت مع ما ورد فيه من الأحاديث الثابتة، وإعادة ابن الزبير له، فلأن يحرم إدخال الشاذروان فيه من جهة ما بالطريق الأولى، إذا لم يرد فيه شيء من الحديث كما ورد في أذرع الحجر، وأخرجه ابن الزبير عن بنائه فهو أولى بتحريم الإِعادة إلى البيت والإِدخال فيه، وإن قلنا بوجوب كون الطائف خارجًا عنه لأنه من البيت ظنًّا وعملًا، وما يستقبل يجب علم كونه منه يقينًا. [فتاوى الطبنداوي حول زيادة سمك الكعبة]: وفي فتاوى الشهاب أبي العباس أحمد الطبنداوي الصديقي الشافعي (¬1) أنه سئل: هل تجوز الزيادة في السمك والطول والعرض في بناء الكعبة زادها الله شرفًا؟ وهل نص أحد من الأئمة على ذلك؟ وإذا قلتم بعدم الجواز، فهل تكون الزيادة بدعة محرمة يجب على السلطان هدمها؟ فأجاب: (اعلم أن الشيخ النووي رحمه الله نقل في "شرح مسلم" عن العلماء: أنه لا يجوز تغيير البناء الموجود الآن، وهو بنية الحجاج. وقال ابن العماد في "أحكام المساجد" لما أراد الرشيد أن يرد البيت على ما بناه ابن الزبير، قال له مالك: نشدتك الله لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، ¬

_ (¬1) هو العلامة الشهاب أحمد بن الطيب بن شمس الدين محمَّد بن عبد العزيز الطبنداوي، مولده بزبيد سنة 875 هـ وتوفي بها سنة 948 هـ, انتهت إليه رئاسة الفتوى في زبيد وولي التدريس في كثير من مساجدها, له مصنفات منها: "شرح على التنبيه" في أربعة مجلدات، "حاشية على العباب"، لشيخه المزجد، و"فتاوى" مشهورة بزبيد ومعتمدة عند علمائها، "النور السافر": 228 - 232 حوادث سنة 948 هـ, و"الروض الأغن": 1/ 46. وتوجد نسخة من فتاواه بمكتبة جامع صنعاء الغربية برقم (37) مجاميع، و (558) فقه، عن "مصادر الفكر الإِسلامي في اليمن"، للسيد عبد الله الحبشي.

فتوى ابن زياد اليمني في المسألة السابقة

لا يشاء أحد إلَّا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. فترك ما همَّ به واستحسن الناس ذلك من مالك رحمه الله تعالى، وعملوا به، فصار كالإِجماع. وهذا صريح في عدم جواز زيادة السمك والعرض. والحاصل: أنه لا تجوز الزيادة في السمك ولا في الطول ولا في العرض, لأنه مخالف لما أجمع عليه العلماء من أنه لا يجوز التغيير. قال: ولو أنه زيد في سمكها أو طولها أو عرضها -أعاذها الله من ذلك- فلا نقول للزيادة حكم المزيد عليه، أعني في وجوب الاستقبال إليه, لأن أصحابنا ذكروا أن بعض الحجر من البيت، وهو قدر ستة أذرع، وهي بنية سيدنا إبراهيم عليه السلام. وإنما جعلناها من البيت للطواف احتياطًا للعبادة، وهذا ما ظهر لي). انتهى جواب الطبنداوي ملخصًا. [فتوى ابن زياد اليمني في المسألة السابقة]: قال تلميذه العلامة ابن زياد اليمني (¬1): (أما إذا زيد في طولها -أي سمكها- حتى ترى الزيادة من بعد، فالذي يظهر وجوب إصابة ذلك لمن رآه، لأنه يفيد العلم بالمعاينة، ففي فتاوى العلامة فخر الدين أبي بكر الرداد ¬

_ (¬1) هو الشيخ الإِمام الفقيه عبد الرحمن بن عبد الكريم بن زياد الغيثي المقصرائي الزبيدي اليمني، مولده بزبيد سنة 900 هـ, ووفاته بها سنة 975 هـ,. تفقه على العلامة المزجد وأخذ عن الطبنداوي، وأخذ بمكة عن جمع وتصدى للإِفتاء بزبيد والتدريس بجامعها الكبير والمدرسة الوهابية والأشرفية من مدارس زبيد، له مصنفات كثيرة، له فتاوى مشهورة منها نسخ كثيرة وهي المسماة "الأنوار المشرقة في الفتاوى المحققة" نسخة بالمكتبة الغربية بجامع صنعاء (1338) فقه، و (1087)، و (1233) بجامع تريم بحضرموت مكتبة آل يحيى، وله رسالة في موضوع هذه الرسالة تسمى "تحذير أئمة الإِسلام من تغيير بناء المسجد الحرام" ذكره صاحب ذيل كشف الظنون 1/ 230. "النور السافر": 305، "شذرات الذهب": 9/ 277، "الأعلام": 3/ 311، "مصادر الفكر الإِسلامي في اليمن": 236.

[خاتمة الرسالة]

الصديقي (¬1) ما لفظه: هل تجوز الزيادة علي بناء الكعبة أو لا؟ وإذا قلتم نعم، وبلغت الزيادة قدرًا يرى من مسافة القصر هل يجب على الرائي إصابة العين معينًا أو لا؟ وتثبت المشاهدة للزيادة أو لا؟ وهل للزيادة المذكورة حرمة لاتصالها بالأصل؟ وهل نص أحد على الجواز أو المنع؟ فأجاب -بعد أن ساق بيان سمكها في بناء إبراهيم وبناء ابن الزبير، وما وقع من اختلاف من استشاره عليه في عمارتها كلها وإصلاح شعثها وما تقدم عن مالك -بما لفظه: (فصار هذا كالإِجماع، على أنه لا يجوز التعرض له بهدم أو تغيير، فخرج من ذلك الجواب بأنه لا يجوز هدم الكعبة والزيادة فيها، فلو زيد البناء على بنائها الآن فيتجه المنع، فلو زيد على كل حال فيجب على الرائي إصابة العين لأنه يستيقنها بذلك، أما الحكم بحرمة الزيادة فظاهر)، انتهى ملخصًا. [خاتمة الرسالة] وتحصَّل أنه تحرم الزيادة في شيء من طولها وعرضها من أي جهة كانت، وسمكها مطلقًا. وهذا ما يتعلق بأمر هذه العمارة وحكم متوليها، وبيان ما يوضع ... (¬2) لمحله حال عملها، وما ينفق من المال فيها. وقد ذكرنا فيها ما استندنا إليه من أن توجه الخطاب بالعمارة إنما هو لسلطان الإِسلام وناشر ألوية العدل بين الأنام، خادم الحرمين الشريفين، مولانا ¬

_ (¬1) لعله: العلامة الفقيه أحمد بن أبي بكر بن محمَّد البكري التيمي، أبو العباس بن الرداد، ولد بمكة سنة 748، وتوفي سنة 821 هـ, ونشأ بمكة وأخذ عن جمع من علمائها ثم دخل اليمن وأقام بزبيد. الأعلام: 1/ 104. (¬2) بياض بالأصل.

السلطان مراد خان، نصره الله، وأيد به الدين وقمع به البغاة والمفسدين، فإن كان صوابًا -وهو المأمول من فضل الله وتوفيقه- فهو من منة الله تعالى وإحسانه، وإن كان بخلاف ذلك فلا يلام المرء بعد الاجتهاد. والله يلهمنا التوفيق والسداد، ويأخذ بنواصينا لطرق الرشاد، ويجعلنا ممن انتصب لبيان الشريعة الشريفة ونشرها في أم البلاد، ويمن علينا بالحفظ من الزيغ والزلل في تبيين المراد، وبالوفاة على الإِسلام، وكمال المنن في المعاد، بجاه حبيبه سيد العباد صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه الأمجاد، إلى يوم الحشر والمعاد، آمين آمين. [قال الناسخ]: وكان الفراغ من تحصيله نهار الثلاثاء، خامس عشر جمادى الأخرى أحد شهور سنة أربعين بعد الألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم (¬1) * * * ¬

_ (¬1) وقد انتهيت من قراءة هذه الرسالة ومقابلتها على الأصل المنسوخة منه في مجلسين: أولهما ليلة الخامس والعشرين من رمضان، والآخر في ليلة السادس والعشرين منه لعام 1421 هـ, وكانت المقابلة بيني وبين الشيخ الفاضل العالم نظام محمَّد صالح يعقوبي، حيث أمسك هو بمصورة الأصل، وحضر مجلس الختم الإِخوان الأفاضل: الأستاذ محمَّد ناصر العجمي، والدكتور عبد الله المحارب، والشيخ مساعد العبد القادر، وتم ذلك وصح ليلة السادس والعشرين من رمضان المبارك عام 1421 هـ في صحن المطاف مقابل الركن اليماني من البيت الشريف المقدس المعظم، زاده الله شرفًا وتعظيمًا وقداسة إلى أبد الآباد، ورزقنا الله التقوى وصلاح الأعمال، وفرغت من وضع التعليقات والهوامش ليلة الحادي عشر من شهر ربيع الأول من سنة 1422 هـ من هجرة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وصلى الله على سيدنا ونبينا وشفيعنا محمَّد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1