نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة

محمد الطنطاوي

مقدمات

مقدمات: مقدمة المحقق: الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله الذي اصطفى، وعلى آله وصحبه أهل الوفا؛ وبعد: فلقد تأملت الطبعات السابقة موازنا بينها في الأصول والهوامش فوقعت منها على أخطاء نحوية وإملائية وتاريخية الأمر الذي حفزني إلى طبعتنا هذه قصدا إلى تصويبات الأخطاء المشار إليها سلفا مع زيادة بعض الهوامش وحذف بعضها الآخر مما لا يحتاج إليه طلبة العربية فحققت نصوصا وصوبت أخرى، ثم أضفت بعض الإشارات والعناوين التوضيحية كالأقواس والخطوط المستقيمة تحت الجماعات والأعلام لما فيها من تيسير التحصيل وتحقيق المراد، والله أسأل أن ينفع بها ويثيب عليها وهو المستعان. أ. د/ أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل

أهم مراجع الكتاب

أهم مراجع الكتاب: مراعى فيها الترتيب الزمني بحسب وفيات المؤلفين 1- الكتاب لسيبويه المتوفى "سنة 180هـ". 2- أدب الكاتب، وعيون الأخبار، والشعر والشعراء لابن قتيبة المتوفى "سنة 276هـ". 3- الكامل لأبي العباس المبرد المتوفى "سنة 285هـ"، وشرحه رغبة الآمل للمرصفي المتوفى "سنة 1349هـ". 4- الأمالي لأبي القاسم الزجاجي المتوفى "سنة 337هـ". 5- مراتب النحويين لأبي الطيب عبد الواحد اللغوي المتوفى "سنة 351هـ": مخطوط بالخزانة التيمورية رقم "1025". 6- أخبار النحويين البصريين للسيرافي المتوفى "سنة 368هـ". 7- طبقات النحويين واللغويين للزبيدي المتوفى "سنة 379هـ". 8- التصحيف والتحريف لأبي أحمد العسكري المتوفى "سنة 382هـ". 9- الفهرست لابن النديم المتوفى "سنة 385هـ". 10- الخصائص لأبي الفتح بن جني المتوفى "سنة 392هـ". 11- الصاحبي لأحمد بن فارس المتوفى "سنة 395هـ". 12- المفصل للزمخشري المتوفى "سنة 538هـ"، وشرحه لابن يعيش المتوفى "سنة 643هـ". 13- نزهة الألبا في طبقات الأدبا "النحاة"، والإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين لكمال الدين الأنباري المتوفى "سنة 577هـ".

14- التبيان: شرح ديوان المتنبي لأبي البقاء العكبري المتوفى "سنة 616هـ". 15- معجم الأدباء، ومعجم البلدان لياقوت المتوفى "سنة 626هـ". 16- إنباه الرواة على أنباه النحاة للقفطي المتوفى "سنة 646هـ". 17- الكافية والشافية لابن الحاجب المتوفى "سنة 646هـ"، وشروحهما وحواشيهما. 18- الألفية لابن مالك المتوفى "سنة 672هـ"، وشروحها وحواشيها. 19- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان المتوفى "سنة 681هـ"، وفوات الوفيات لابن شاكر المتوفى "سنة 764هـ". 20- أوضح المسالك إلى ألفية بن مالك، ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام المتوفى "سنة 761هـ"، وشروحهما وحواشيهما. 21- المقدمة لابن خلدون المتوفى "سنة 808هـ". 22- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني المتوفى "سنة 852هـ". 23- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي المتوفى "سنة 902هـ". 24- الاقتراح في أصول النحو، وهمع الهوامع على جمع الجوامع، والأشباه والنظائر، والمزهر، وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، وحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للسيوطي المتوفى "سنة 911هـ". 25- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب للمقري المتوفى "سنة 1041هـ". 26- شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي المتوفى "سنة 1089هـ".

27- خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب: شرح شواهد الرضي على الكافية، وشرح شواهد شرحي الشافية للرضي والجاربردي كلاهما للبغدادي المتوفى "سنة 1093هـ". 28- خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر للمحبي المتوفى "سنة 1111هـ". 29- عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي المتوفى "سنة 1240هـ". 30- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني المتوفى "سنة 1250هـ".

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف: الحمد لله الذي أنزل الكتاب على خير الخلق، وأفصح من نطق بالضاد، صلاة الله وسلامه عليه وعلى عترته الأمجاد، وأصحابه الألى بذلوا مهجهم في سوح الجهاد فنالوا الزلفى عند ربهم يوم التناد. فإن علم النحو من أسمى العلوم قدرا، وأنفعهما أثرا، به يتثقف أود اللسان1، ويسلس عنان البيان، وقيمة المرء فيما تحت طي لسانه لا طيلسانه ولقد صدق إسحاق بن خلف البهراني في قوله: النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن وإذا طلبت من العلوم أجلها ... فأجلها منها مقيم الألسن2 وبه يسلم الكتاب والسنة من عادية اللحن والتحريف، وهما موئل الدين وذخيرة المسلمين، فكان تدوينه عملا مبرورا، وسعيا في سبيل الدين مشكورا. وبه يستبين سبيل العلوم على تنوع مقاصدها وتفاوق ثمارها3 فإن الطالب لا يسلكها على هدى وبصيرة إلا إذا كان على جد من هذا العلم موفور، على أن المتحادثين في أي جزئية علمية إنما يعتمدان عليه في تحديد

_ 1 أي يتقوم به معوج اللسان. 2 راجع البيتين في عيون الأخبار "كتاب العلم والبيان" الإعراب واللحن، ج2 ص157، والكامل مع الرغبة ج4 ص132، والعقد الفريد "كتاب الياقوتة في العلم والأدب باب في الإعراب واللحن" ج2 ص479 طبع اللجنة، وإسحاق شاعر عباسي مدح الحسن ابن سهل. 3 يفوق بعضها بعضا.

المعنى الذي يتحادثان بشأنه، فهو الذريعة لتقريب تفاهمهما، وأداة الحكم الصحيح بينهما، قال ابن خلدون: "إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر، ولولا هو لجهل أصل الإفادة"1. وإن من يحاول إقامة الدليل على فضله بالبرهان كان كمن يتكلفه على إشراق الشمس وضياء النهار، فلذا قدر المؤرخون للنحويين جهودهم، ورفعوا لهم أعلام الحمد، وخلدوهم في صحائفهم بمداد التبجيل والتكريم. وخليق بمن يدلف2 إلى روضة هذا الفن النضير أن يعرف سبب وضعه وكيف نشأ؟ والمراحل التي اجتازها حتى استوى قائما، وأن يقف على تاريخ مشاهير رجاله الذين عبدوا مهيعه3 وأقاموا صوى الهداية على حفافيه4 خوف الدثور والضلال، وعلى طبقاتهم في عصورهم المختلفة وأوطانهم المتغايرة وعلى ما شجر بينهم من خلاف في الآراء رغبة منهم في استكناه الحقيقة، وأن يلم بمؤلفات هذا الفن الكثيرة وبتنوع اتجاهاتها، وبترتيبها الزمني، وبالصلة بينها نقلا أو تعليقا أو نقدا، ففي الحق أن هذا العلم قد أربى على سائر العلوم في مصنفاته. لقد غبر كثير من طلابه يدرسونه آمادا متطاولة ونفوسهم تواقة إلى تعرف هذه النواحي التي لا ينتظمها سفر خاص، بل تشتت في بطون الكتب، فلا ننال منها إلا بشق الأنفس. هذا الذي حفزني إلى وضع هذا الكتاب، والله سبحانه أستعين في السداد والتوفيق ...

_ 1 المقدمة: الفصل السادس في العلوم إلخ، فصل في علوم اللسان العربي. 2 يسير أو يتوجه. 3 المهيع: الطريق الواسع. 4 جوانبه.

تمهيد

تمهيد: نشأت اللغة العربية في أحضان جزيرة العرب خالصة لأبنائها مذ ولدت نقية سليمة مما يشينها من أدران اللغات الأخرى. لبثت كذلك أحقابا مديدة كان العرب فيها يغدون ويروحون داخل بلادهم على ما هم عليه من شظف العيش، غير متطلعين إلى نعيم الحياة وزخارفها فيما حولهم من بلاد فارس والروم وغيرها، وإن دفعتهم الحاجة إليها حينا، وتبادل المنافع حينا آخر. على أنه كان في أسواقهم الكثيرة التي تقام بينهم طوال العام غناء أي غناء في عيشتهم البدوية القانعة، ومن أشهرها عكاظ "بين نخلة والطائف" كانت تقام شهر شوال1، وبعده مجنة "بمر الظهران" من أول ذي القعدة إلى عشرين، وبعده ذو المجاز "خلف عرفة" إلى أيام الحج. ولقد كان في هذه الأسواق فوق ما تضمه من مرافق الحياة ومتطلبات المعيشة منتديات للأدب، يعقدون فيها المجامع ذات الشأن يتبارى فيها مداره الخطباء2، ومفوهو الشعراء من القبائل المتنائية الأصقاع، يعرضون فيها مفاخراتهم ومنافراتهم ومعاظماتهم وكل ما يعن لهم في جيد الخطب وبديع الشعر3.

_ 1 في القاموس "عكاظ كغراب سوق بصحراء بين نخلة والطائف كانت تقوم هلال ذي القعدة وتستمر عشرين يوما تجتمع قبائل العرب فيتعاكظون أي يتفاخرون ويتناشدون" وفي المصباح "وكان يقام فيها "عكاظ" السوق في ذي القعدة نحوا من نصف شهر ثم يأتون موضعا دونه إلى مكة يقال له: سوق مجنة فيقام فيه السوق إلى آخر الشهر ثم يأتون موضعا قريبا منه يقال له: ذو المجاز فيقام فيه السوق إلى يوم التروية "ثامن ذي الحجة" ثم يصدرون إلى منى" اهـ. 2 المدره: السيد الشريف، والمقدم في اللسان والسيد عند الخصومة والقتال. 3 أخبار أسواق العرب وأماكنها مبسوطة في معجم ما استعجم للبكري، ومعجم البلدان لياقوت، وصفة جزيرة العرب للهمداني، ومع التوزيع في أجزاء الأغاني، وفي الجزء الأول من بلوغ الأرب للألوسي فصل ضاف فيها.

عاد ذلك كله على اللغة بتثبيت دعمائها وإحكام رسوخها وجودة صقلها وبقيت كذلك متماسكة البنيان غير مشوبة بلوثة1 الأعجام، إلى أن سطع نور الإسلام على ما حول الجزيرة العربية بالفتوحات الإسلامية ودخل الناس في دين الله أفواجا ثم تتابعت الفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين، فوصلت في عهد سيدنا عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- شرقا إلى نهري السند وجيحون، وغربا إلى الشام ومصر، فكان من الطبعي هبوط العرب ومعهم عشائرهم وعمائرهم2 إلى هذه الأمصار التي افتتحوها ودخلت تحت حوزتهم، وبحكم الفتح قد كثر تملكهم للموالي في البلاد المفتوحة عنوة. كما كان من الطبعي تقاطر الوافدين من هذه الأمصار المفتوحة إلى الجزيرة العربية، إذ فيها المدينة المنورة حاضرة الإسلام، ومقر الخلفاء الراشدين وعلية الدولة. وفيها مكة المكرمة، وبها الكعبة المشرفة التي يؤمها كل من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهكذا ازداد هذا النزوح من الجانبين كلما توالت الفتوحات تترى في عهد بنى أمية، فلقد بلغت الفتوحات في عهدنا شرقا الهند والصين وشمالا سيبريا، وغربا ما وراء جبال البرانس بالأندلس، وجنوبا السودان، كما امتدت إلى جزائر البحر الأبيض المتوسط، فهذه المملكة المترامية الأطراف كانت تخفق عليها الراية الإسلامية التي تآخى تحت ظلها الجميع "الأحمر والأسود"، وامحت بينهم فوارق الجنس والوطن، ودينهم الإسلام وكتابهم القرآن ولغتهم العربية. وكان أثرا لهذه الفتوحات من لدن كانت أن اختلط العرب بغيرهم اختلاطا مستمرا في البيوت والأسواق، والمناسك والمساجد، وتصاهروا واندمجوا في بعضهم حتى تكون منهم شعب واحد اجتمع فيه الصريح

_ 1 اللوثة بالضم الحبس في اللسان. 2 العمائر: جمع عمارة، والعمارة: أصغر من القبيلة، أو الحي العظيم.

والهجين، والمقرف1 والعبد، اقتضى كل أولئك أن يستمع بعضهم من بعض وأن يتفاهموا في كل ما يتصل بهم ولغة التخاطب الوحيدة بينهم في كل ما يحيط بهم هي العربية، فكان لزاما على غير العربي أن تكون لغته العربية مهما عالج في ذلك وعانى، كما كان لزاما على العربي أن يترفق بغير العربي ويتريث معه في التخاطب، ضرورة التعاون بين الطرفين فكل منهما يسمع من الآخر، والسمع سبيل الملكات اللسانية فما اللغة إلا وليدة المحاكاة وما يصل إلى السمع. وبطول هذا الامنزاج تسرب الضعف إلى نحيزة العربي وسليقته، على أن غير العربي كان ينزع قسرا عنه إلى بني جلدته، وإن طال لبثه بين ظهراني العرب، فقد كان في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- صهيب يرتضخ الرومية، وسلمان الفارسية، وبلال وسحيم عبد بني الحسحاس الحبشية. وتولد من هذا كله أن اللغة العربية تسرب إليها اللحن، ووهنت الملاحظة الدقيقة التي تمتاز بها وهي اختلاف المعاني طوعا لاختلاف شكل آخر الكلمة، فإن هذه الميزة كانت موفورة لديهم وهم يعبدون عن مخالطة سواهم من ذوي اللغات الأخرى التى خلت منها. ولقد كان هذا النوع أول اختلال طرأ على اللغة العربية، منذ كان الإسلام، وكان الموالي والمتعربون، وطفق يزداد رويدا رويدا ما طال الزمن وتفسحت رقعة الإسلام.

_ 1 الصريح: من أبواه عربيان، والهجين: من أبوه عربي لا أمه، والمقرف: من أمه عربية لا أبوه، لأن الإقراف من قبل الأب والهجنة من قبل الأم.

وضع النحو وتسميته

وضع النحو وتسميته: سبب وضع النحو: قال أبو الطيب 1: "واعلم أن أول ما اختل من كلام العرب وأحوج إلى التعلم الإعراب، لأن اللحن ظهر في كلام الموالي والمتعربين من عهد النبى عليه الصلاة والسلام، فقد روينا أن رجلا لحن بحضرته فقال: "أرشدوا أخاكم فقد ضل"، وقال أبو بكر: "لأن أقرأ فأسقط أحب إلي من أن أقرأ فألحن"2. وقال ياقوت: "مر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على قوم يسيئون الرمي، فقرعهم فقالوا: إنا قوم "متعلمين"، فأعرض مغضبا، وقال: والله لخطؤكم في لسانكم أشد علي من خطئكم في رميكم"3. وقال ابن جني: "ورووا أيضا أن أحد ولاة عمر -رضى الله عنه- كتب إليه كتابا لحن فيه، فكتب إليه عمر أن قنع 4 كاتبك سوطا"5. وقال ابن قتيبة: "سمع أعرابي مؤذنا يقول: أشهد أن محمدا رسول الله

_ 1 هو عبد الواحد بن علي أبو الطيب اللغوي الحلبي، له تصانيف جليلة منها مراتب النحويين توفي سنة 351هـ. 2 راجع مراتب النحويين، ونقل هذا السيوطي في المزهر أوائل النوع الرابع والأربعين، والحديث الشريف مذكور في الخصائص "باب في ترك الأخذ عن أهل المدر إلخ" ج1 ص408، ومعجم الأدباء "الفصل الأول فضل الأدب" ج1 ص82، والأثر المذكور نسب في معجم الأدباء الموطن السالف للشعبي. 3 الموضع السابق في المعجم. 4 يقال: قنع المرأة: ألبسها القناع، ورأسه بالسوط غشاه به. 5 راجع الخصائص البحث السابق وقد ذكر النحاة والمؤرخون هذا الأثر مع تغيير في بعض الكلمات ومع تعيين الوالي وهو أبو موسى الأشعري إذ كان واليه بالبصرة، وتعيين اللاحن وهو أبو الحصين بن أبي الحر العنبري كما في ترجمة يزيد بن مفزع الحميري في وفيات الأعيان، وتعيين اللحن هو قول الكاتب: من أبو موسى الأشعري، راجع باب الاستثناء في المفصل وشرحه، وفي شرح الرضي على الكافية، وفي معجم الأدباء ج1 ص80 حادثة أخرى تماثل هذه استشخص عمر فيها العامل وضربه بالدرة.

بنصب رسول، فقال: ويحك! يفعل ماذا1؟ ودخل أعرابي السوق فسمعهم يلحنون، فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون، ونحن لا نلحن ولا نربح!! "2. وقال ابن عبد ربه: "ودخل على الوليد بن عبد الملك رجل من أشراف قريش فقال له الوليد: من ختنك؟ قال له: فلان اليهودي، فقال: ما تقول، ويحك؟ قال: لعلك إنما تسألني عن ختني3 يا أمير المؤمنين، هو فلان بن فلان"4. وهكذا انتشرت جرثومة اللحن فأعدت الخاصة حتى صاروا يعدون من لا يلحن، قال الأصمعي: "أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل الشعبي وعبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف وابن القرية، والحجاج أفصحهم" وانتقلت من الحاضرة إلى البادية قال الجاحظ: "قالوا: وأول لحن سمع بالبادية: هذه عصاتي" كل ذلك والدولة الأموية ما فتئت قائمة، والنعرة العربية مستحصدة المرة ومانعة الدرة. وسترى أمثلة كثيرة من اللحن عند الكلام على واضع النحو اجتزأنا بذكرها ثمة حتى لا يكون الحديث معادا، على أن ما رأيته وما ستراه قل من كثر، وبعض من كل. لهذا وذاك أهابت العصبية العربية بالعلماء في المصدر الأول الإسلامي

_ 1 كلمة "ماذا" اختصت من بين أسماء الاستفهام بجواز عمل ما قبلها فيها كما هنا خلافا لبعضهم. 2 راجع عيون الأخبار "كتاب العلم والبيان والإعراب واللحن" ج2 ص158 وما بعدها والحادثة الثانية مذكورة أيضا في المعجم الموضع السابق. 3 الختن بفتحتين كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ. وقال الأزهري الختن أبو المرأة والختنة أمها فالأختان من قبل المرأة والأحماء من قبل الرجل. 4 راجع العقد الفريد "كتاب الياقوتة في العلم، والأدب والإعراب واللحن" ج2 ص480، ولكن في خزانة الأدب شاهد 651 نسبة هذه الحادثة إلى عبد العزيز بن مروان.

أن يصدوا هذا السبيل الجارف الذي كاد يكتسح اللغة العربية بما قذف فيها من لحن تسربت عدواه إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة بما هدوا إليه وسموه علم النحو، غير أنهم لم تتفق كلمتهم على نوع السبب المفضي إلى وضعه، فبعض المصادر التاريخية تذكر وقائع معينة كانت هي السبب عندهم، وهي مع كثرتها لا تتفاوت عند المقارنة بينها قوة وضعفا لا من ناحية الرواية ولا من ناحية اقتضاء الوضع، وبعض المصادر الأخرى لا تقصر السبب على حادثة خاصة بل تعتبره نتيجة لازمة لتلك الحوادث السابقة والآتية منها أمثلة ملتفة بعضها على بعض، وما أشبه هذا الرأي بالصواب، فغير مقبول في النظر أن ينهض العلماء ويستفرغوا مجهودا جبارا يؤرقون فيه عيونهم ولا يطبقون جفونهم الليالي الطويلة لتأسيس فن خطير خالد الأثر على اللغة العربية وأبناء العروبة من جزاء حادثة فردية كان يكفي في درئها إصلاحها وكفى. ومن جهة أخرى أين المؤهلات التي ترجح كفة حادثة جزئية على مثيلاتها؟ وفي ذلك ترجيح بلا مرجح. فالحق الذي لا ينبغي الحيود عنه أن وضع هذا العلم إنما كان لهذه الحوادث متضافرة. قال بن خلدون: "فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول، وخالطوا العجم، تغيرت تلك الملكة بما ألقي إليها السمع من المخالفات التي للمتعربين، والسمع أبو الملكات اللسانية، ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع، وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على المفهوم، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات والقواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه مثل "أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب والمبتدأ مرفوع"، ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعرابا وتسمية الموجب لذلك التغير عاملا، وأمثال ذلك، وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم فقيدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة، اصطلحوا على تسميتها بعلم النحو"1.

_ 1 المقدمة الفصل السادس في العلوم إلخ ... علم النحو.

متى وأين كان وضعه

متى وأين كان وضعه: عرفت مما سلف أن وضعه في الصدر الأول للإسلام، لأن علم النحو ككل قانون تتطلبه الحوادث، وتقتضيه الحاجات، ولم يك قبل الإسلام ما يحمل العرب على النظر إليه فإنهم في جاهليتهم غنيون عن تعرفه لأنهم كانوا ينطقون عن سليقة جبلوا عليها، فيتكلمون في شؤونهم دون تعمل فكر أو رعاية إلى قانون كلامي يخضعون له، قانونهم: ملكتهم التى خلقت فيهم، ومعلمهم: بيئتهم المحيطة بهم بخلافهم بعد الإسلام إذ تأشبوا1 بالفرس والروم والنبط2 وغيرهم، فحل بلغتهم ما هول الغير عليها وعلى الدين، حتى هرعوا إلى وضع النحو كما تقدم. وهذا هو التحقيق الذي عول عليه الجمهور، فقد زعم بعض العلماء أن العرب كانوا يتأملون مواقع الكلام، وأن كلامهم ليس استرسالا ولا ترجيما بل كان عن خبرة بقانون العربية، فالنحو قديم فيهم أبلته الأيام، ثم جدده الإسلام على يد أبي الأسود الدؤلي بإرشاد الإمام علي كرم الله وجهه ومن هؤلاء أحمد بن فارس في أوائل كتابه "الصاحبي"3، بل غلا غلوا شديدا إذ نسب للعرب العاربة معرفتهم بمصطلحات النحو بتوقيف من قبلهم حتى انتهى الأمر إلى الموقف الأول هو الله عز وجل الذي علم آدم الأسماء كلها.

_ 1 اختلطوا أو اجتمعوا. 2 النبط بفتحتين: جيل ينزلون سواد العراق ثم استعمل في أخلاط الناس وعوامهم والجمع أنباط كأسباب، الواحد نباطي مثلثة النون ونباط كثمان ونبطي، وتنبط تشبه بهم أو تنسب إليهم. 3 باب القول على الخط العربي ص7.

وما من شك أن هذا الرأي ناء عن المعقول، جار وراء الخيال والوهم، نعم. إن تحديد زمن وضعه في الإسلام لا سبيل إليه البتة، وفي تعيين الواضع له في المبحث الآتي تقريب لزمنه. وقد كان وضعه ونشوءه في العراق لأنه على حدود البادية وملتقى العرب وغيرهم، توطنه الجميع لرخاء الحياة فيه، فكان أزهر بلد انتشر فيه وباء اللحن الداعي إلى وضع النحو1. وما حاجة عرب البوادي والحجاز إليه وما برحت لغتهم فصيحة؟

_ 1 ويقال: إن أول لحن ظهر في العراق قولهم: حي على الصلاة بكسر الياء والصواب الفتح، وقيل: "لعل له عذر وأنت تلوم".

وضعه عربي محض

وضعه عربي محض: نشأ النحو في العراق صدر الإسلام لأسبابه نشأة عربية على مقتضى الفطرة، ثم تدرج به التطور تمشيا مع سنة الترقي، حتى كملت أبوابه، غير مقتبس من لغة أخرى لا في نشأته ولا في تدرجه وقد اختلف العلماء في أول ما وضع منه على رأيين: أحدهما: أن أول ما وضع من أبوابه هو ما وقع اللحن فيه، ثم استمر الوضع فيما بعده على هذا النمط، وذلك ما ذهب إليه جمهور النحاة اعتدادا بالروايات المستفيضة التي اقترن فيها الوضع باللحن، إلا أن تعيين الباب الموضوع أولا منوط بالرواية التي قوي سندها من بين الروايات. والآخر: أن أول ما وضع منه ما كان أقرب إلى متناول الفكر في الاستنباط، لأن وضعه مبني على أساس من التفكير في استخراج القواعد من الكلام لداعي انتشار اللحن، فالموضوع أولا ما كثر دورانه على اللسان ثم ما يليه وهكذا، ولذا قيل: إن الموضوع أولا الفاعل ثم ردفه المفعول ثم المبتدأ والخبر وهكذا. وما تقدم هو ما أطبق عليه علماؤنا خلفا بعد سلف. وزعم بعض المستشرقين: أن علم النحو منقول من لغة اليونان لأن

وضعه في العراق إنما كان بعد اختلاط العرب بالسريان وتعلم ثقافتهم، وللسريان نحو قديم ورثوه عن اليونان. وزعم بعض منهم آخر رأيا ثالثا، فيه بعض موافقة ومخالفة لكل من الرأيين المذكورين، وافق الرأي الأول فيما وضع منه ابتداء فقط، والثاني فيما أحدث فيه بعد دور التكوين من تنظيم في التقسيم والتعريف والتعليل. قال ليتمان: "اختلف الأورباويون في أصل هذا العلم، فمنهم من قال إنه نقل من اليونان إلى بلاد العرب، وقال آخرون ليس كذلك، وإنما كما تنبت الشجرة في أرضها كذلك نبت علم النحو عند العرب، وهذا هو الذي روي في كتب العرب من زمن، ونحن نذهب في هذه المسألة مذهبا وسطا. وهو أنه أبدع العرب علم النحو في الابتداء، وأنه لا يوجد في كتاب سيبويه إلا ما اخترعه هو والذين تقدموه، ولكن لما تعلم العرب الفلسفة اليونانية من السريان في بلاد العراق تعلموا أيضا شيئا من النحو ... وبرهان هذا أن تقسيم الكلمة مختلف فيه، قال سيبويه: فالكلم: "اسم وفعل وحرف جاء لمعنى"، وهذا تقسيم أصلي، أما الفلسفة فينقسم فيها الكلام إلى "اسم وكلمة ورباط" وهذه الكلمات ترجمت من اليوناني إلى السرياني ومن السرياني إلى العربي فسميت هكذا في كتب الفلسفة لا في كتب النحو، أما كلمات "اسم وفعل وحرف" فإنها اصطلاحات عربية ما ترجمت ولا نقلت"1. تلك هي الأقوال الثلاثة، والمعول عليه منها الأول، إذ الثاني مجرد اختراص2 لا سر له إلا الولوع بالانتقاص للعرب، والثالث لا يناهض الأول فيما خالفه فيه فإنه غير مسلم أن يكون علماء العرب عيالا على غيرهم فيما يتصل بتنظيمه بعد اهتدائهم إلى اختراعه وابتكاره.

_ 1 محاضرات ليتمان. 2 اختلاق.

واضعه

واضعه: علمت إجمالا أن واضعه من رجالات عصر الإسلام على ما تقدم بيانه، لكنهم اختلفوا واضطرب اختيارهم متقدمين ومتأخرين، كابن سلام في طبقات الشعراء، وابن قتيبة في المعارف، والزجاجي في الأمالي، وأبي الطيب اللغوي في مراتب النحويين، والسيرافي في أخبار النحويين البصريين، والزبيدي في الطبقات، وابن النديم في الفهرست، والأنباري في نزهة الألبا، والقفطي في إنباه الرواه، فيمن هو الواضع؟ على أن هذا الاختيار لا يعدو في الواقع أن يكون إما للإمام علي كرم الله وجهه، كما يرى الأنباري والقفطي، أو لأبي الأسود الدؤلي، كما يراه السابقون قبلهما، فأما عزو الوضع إلى نصر بن عاصم الليثي، أو عبد الرحمن بن هرمز فبمعزل عن الاختيار والتأييد، ولا أطيل الحديث بنقل كلام هؤلاء العلماء جميعا مكتفيا بنقل كلام الأنباري لأنه أعناهم بهذا المقام، وقد سرد معظم نقول السابقين عليه مع جودة الترتيب، فذكر مختاره أولا مع روايتين في سبب وضع علي كرم الله وجهه، ثم ذكر مختار غيره مع روايات أربع في سبب وضع أبي الأسود، ولعلك ذاكر ما "وجهنا" النظر إليه سابقا في سبب الوضع من أن الحق عدم الوقوف في سبب الوضع على أي قول عند سبب خاص، ثم فند القولين الأخيرين، ثم عاد مصرحا برجحان اختياره قال: "اعلم أيدك الله تعالى بالتوفيق وأرشدك إلى سواء الطريق أن أول من وضع علم العربية وأسس قواعده وحد حدوده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وأخذ عنه أبو الأسود الدؤلي، وسبب وضع علي عليه السلام لهذا العلم ما روى أبو الأسود، قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عليه السلام- فوجدت في يده رقعة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء يعني الأعاجم فأردت أن أضع شيئا يرجعون إليه ويعتمدون عليه، ثم ألقى إلي الرقعة وفيها مكتوب: الكلام اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبئ به والحرف ما أفاد معنى، وقال لي: انح هذا النحو

وأضف إليه ما وقع إليك، واعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر، وأراد بذلك الاسم المبهم. قال: ثم وضعت بابي العطف والنعت، ثم بابي التعجب والاستفهام إلى أن وصلت إلى باب "إن وأخواتها ما خلا لكن " فلما عرضتها على علي -عليه السلام- أمرني بضم لكن إليها، وكنت كلما وضعت بابا من أبواب النحو عرضته عليه إلى أن حصلت ما فيه الكافية، قال: ما أحسن هذا النحو الذي قد نحوت! فلذلك سمي النحو". وروي أن سبب وضع علي -عليه السلام- لهذا العلم أنه سمع أعرابيا يقرأ: "لا يأكله إلا الخاطئين 1 " فوضع النحو. ويروى أيضا أنه قدم أعرابي في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- فقال: من يقرئني شيئا مما أنزل الله تعالى على محمد -صلى الله عليه وسلم- فأقرأه رجل سورة براءة فقال: "أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ"2 بالجر، فقال الأعرابي: أوقد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله تعالى برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فبلغ عمر -رضى الله عنه- مقالة الأعرابي فدعاه، فقال: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن فسألت من يقرئني؟ فأقرأني هذا سورة براءة فقال: "أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ" فقلت: أوقد برئ الله تعالى من رسوله إن يكن الله تعالى برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فقال عمر -رضى الله عنه-: ليس هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منهم، فأمر عمر -رضى الله عنه- أن لا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود الدؤلي أن يضع النحو. وروى عاصم قال: جاء أبو الأسود الدؤلي إلى زياد، وهو أمير البصرة،

_ 1 من الآية 37 من سورة الحاقة. 2 من الآية 3 من سورة التوبة.

فقال: إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال له زياد: لا تفعل، قال: فجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنونا، فقال له زياد: توفي أبانا وترك بنونا، ادع لي أبا الأسود، فلما جاءه قال له: ضع للناس ما كنت نهيتك عنه، ففعل. ويروى عنه أيضا أن أبا الأسود قالت له ابنته: ما أحسنُ السماء؟ فقال لها: نجومها، فقالت: إني لم أرد هذا وإنما تعجبت من حسنها، فقال لها: إذن فقولي ما أحسنَ السماء، فحينئذ وضع النحو، وأول ما رسم منه باب التعجب. وزعم قوم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وزعم آخرون أن أول من وضع النحو نصر بن عاصم، فأما من زعم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز أو نصر بن عاصم فليس بصحيح، والصحيح أن أول من وضع النحو علي بن أبي طالب -رضى الله عنه- لأن الروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي، فإنه روي عن أبي الأسود أنه سئل فقيل له: من أين لك هذا النحو؟ فقال: لفقت 1 حدوده من علي بن أبي طالب 2. ولا ريب أن الاختلاف في المختار من القولين بين الجماعة والأنباري مرجعه إلى الحدس والتخمين، فليس مع أحد المختارين ما يرجحه على الآخر لا من العقل ولا من النقل المتواتر، فما هي إلا روايات يناهض بعضها بعضا غير أن الظنون متفاوتة عند الموازنة بين المتكافئين، ويظهر أن الحق في جانب الجماعة، فإن وضع النحو أمر خطير يتقاضى من القائم به عناية مبذولة إليه خاصة وصدوفا عن مشاغل الحياة عامة، ووقتا طويلا يستنزف في التقصي للكلام العربي، وإعمال الفكر واستخراج القواعد، في

_ 1 لفق بالكسر طفق والشيء أصابه وأخذه وأحاديث ملفقة كمعظمة مزخرفة. 2 راجع نزهة الألبا، وقد تركنا رواية أخرى عن زياد.

حياة كلها هدوء واستقرار، يرفرف عليها جناح الأمن والسلام، وحياة الإمام علي كرم الله وجهه تقضت في النضال العنيف، والشجار المستحر، ملأتها الحوادث المروعة، واكتنفتها أمواج الاضطرابات الشاملة، فبعيد أن الإمام عليا يواتيه الوقت الكافي للنهوض بأعباء هذا العمل الجلل، على أنا لا نأبى أن له اليد الطولى على أبي الأسود في الإرشاد له، والإشراف عليه، وتقريره لما صح في استنتاجه، وقد يكون في ذلك تقريب للجمع بين الاختلاف في المختار فللإمام فضل الهداية إلى الأساس، ولأبي الأسود فضل القيام بوضعه على ضوء هدي الإمام. واضعه أبو الأسود الدؤلي: فالذي نخاله قريبا إلى الواقع ويرتضيه النظر أن أبا الأسود هو واضع هذا الفن، ونسبة الوضع للفن إنما تعتبر نتيجة لقيام الواضع ببعض الأبواب الأساسية في ذلك الفن، وهذا ما كان من أبي الأسود كما رأيت واختيار الأنباري نسبة الوضع للإمام أول كلامه اعتمادا على تفهيم الإمام أبا الأسود أقسام الكلمة وأقسام الاسم والباقي من النواسخ، إنما يتم لو تظاهر جمهرة العلماء المعنيين بهذا الشأن على الموافقة على هذه الرواية والاعتزاز بها، مع أن الذي قد سبق إليها وهو الزجاجي ساقها على أنها رواية من الروايات فحسب، ونقلها عنه كذلك ياقوت في ترجمة الإمام، أما الباقون فلم يعرضوا لها، وتصريحه آخر كلامه بالاختيار استنادا لرجوع الروايات عن أبي الأسود إلي الإمام في النهاية لا يتم أيضا مع عدم مخالفتها له في رجوع الروايات للإمام، ولا يؤدي ذلك إلى انتماء الوضع له على ما سبق في التقريب بين الاختيارين، ومما يؤيد نسبة الوضع إلى أبي الأسود ما روى بن النديم محمد بن إسحاق في الفهرست أن رجلا بمدينة الحديثة1 اسمه محمد بن الحسين

_ 1 حديثة الفرات: وتعرف بحديثة النورة، وهي على فراسخ من الأنبار وبها قلعة حصينة في وسط الفرات وقد وجد بها عدد كبير من العلماء جيلا بعد جيل.

كان جماعة للكتب، وقد آلت إليه خزانة صديق له كان مشتهرا بجمع الخطوط القديمة، قال ابن إسحاق: "فرأيتها وقلبتها فرأيت عجبا إلا أن الزمان قد أخلقها وعمل فيها عملا أدرسها. ورأيت ما يدل على أن النحو عن أبي الأسود ما هذه حكايته وهي أربع أوراق وأحسبها من ورق الصين ترجمتها: هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمة الله عليه بخط يحيى بن يعمر، وتحت هذا الخط بخط عتيق هذا خط علان النحوي وتحته هذا خط النضر بن شميل"1. وقد درج على هذا الرأي متقدمو المؤرخين من أصحاب الطبقات والمعاجم، واحتذى حذوهم المتأخرون عدا الأنباري، فمن الغريب بعدئذ أن يستنكر المستشرقون هذه النسبة المتواطأ عليها قديما وحديثا زعما منهم أن عصر أبي الأسود لا يتواءم وهذه الاصطلاحات الوضعية المرتبة التي بأيدينا، وإنما هي وليدة عصر متأخر عنه، تطور فيه التعليم حتى صار مناسبا لهذه القواعد المرتبة، قالوا: "وليس حقا ما يقال إنه "أبو الأسود" واضع أصول النحو العربي"2. وقد اقتفى أثرهم بعض علماء العصر الحاضر، ولهذا تخلص الأستاذ أحمد أمين من الموقف بتأويل بعيد تذرع به إلى التوفيق بين الاعتراف بما هو مستفيض شائع وبين هذا الرأي الجديد، وتلمس وجها لنسبة الوضع إلى أبي الأسود بعد تسليم صحتها لكن على وجه آخر فقال: "ويظهر لي أن نسبة النحو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح، وذلك أن الرواة يكادون يتفقون على أن أبا الأسود قام بعمل من هذا النمط، وهو أنه ابتكر شكل المصحف. وواضح أن هذه خطوة أولية في سبيل النحو تتمشى مع قانون النشوء، وممكن أن تأتي من أبي الأسود، وواضح كذلك أن هذا يلفت النظر إلى النحو، فعمل أبي الأسود يسلم إلى التفكير في الإعراب ووضع القواعد

_ 1 راجع الفهرست الفن الأول من المقالة الثانية. 2 راجع دائرة المعارف الإسلامية المجلد الأول العدد الخامس ترجمة أبي الأسود.

له. وأن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسموا كلامهم نحوا سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود، وقالوا: إنه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم النحو بتاتا. إنما الذي كان له الفضل الأكبر في ذلك الخليل بن أحمد ذو العقل الجبار المبتكر الذي قل أن يوجد له نظير في علماء ذلك العصر وهو الذي عمل النحو الذي نعرفه إلي اليوم"1. نعم، نحن لا ننكر ما للخليل من الفضل لا على النحو بل على كثير من علوم اللغة العربية، وستعرف آثاره في ترجمته إن شاء الله تعالى، لكنا مع ذلك على رأينا الأول. فليس بغريب على أبي الأسود الذي أوتي العلم الواسع أن يلهم هذا الفن ويضع تعاليمه التي يسار عليها وينسج على منوالها، ولا ندعي أنه قد وفق إليه على غرار ما نراه في كتبنا من تعريفات ومصطلحات وتقاسيم، فإن طبيعة عهده السابق على عصر المقننين تقتضي مجرد اتجاهه إلى أبواب هذا العلم إجمالا حسبما تقتضيه الفطرة العربية على وفق ما ورد في مختلف الروايات الكثيرة التى صرحت بنسبة الوضع إليه فقط دون تعرض إلى التفصيل، وذلك كاف في اعتباره المؤسس له. نعم، قد تطور بمسايرة الزمن، وأضيف إليه من كل طبقة بعد أخرى ما ضخمه وصيره فنا مستكمل الدعائم، مرتب الأبواب، منظم التقاسيم، مع التعاريف التي امتازت بها الأبواب، والتقاسيم والاصطلاحات العلمية الخاصة، إلا أنه مما لا يختلف فيه اثنان أن النهضة بهذا العلم في تلك النواحي كان عمادها الخليل بن أحمد، فمن عهده انتظم شتاته، والتأم عقده، واتخذ تعليمه دوره الفني كما ستقف على ذلك من أطواره، ومع هذا فإن عناصره الأساسية التي اهتدى إليها أبو الأسود بتعليم الإمام علي وإقراره لم تتغير ولم تتبدل.

_ 1 ضحى الإسلام ج2 ص286 وما بعدها.

ولقد اعترف العلماء متقدمين ومتأخرين على أن أبا الأسود هو الذي ابتكر شكل المصحف، فلعل ذلك كان منه تكميلا لما بدأ به من القيام بما يحفظ على المسلمين كتابهم الكريم ولغتهم الشريفة. وما لنا ننكر هذه النقول الصريحة وقد وافق عليها الخلف بعد السلف، عصرا بعد آخر تلك الأزمنة المتطاولة ولم نر منهم نكيرا؟ على أننا لو تمثلنا شخصيته ونزعته وعصره الذي كان ينشر فيه علمه بالبصرة، لأيقنا صحة هذه النسبة، فقد كان علوي الرأي يجاهر بتشيعه وهواه فيمدح الإمام بالقصائد الحسان، وعمال البصرة وسواد العراق من قبل معاوية يشقون عليه ويعنتونه حتى بنو قشير الذين جاورهم وصاهرهم بزواجه منهم امرأته أم عوف أجرموا معه، فسبوه ونالوا من علي كرم الله وجهه إيلاما له وقذفوه ليلا بالحجارة قال المبرد: "وكان بنو قشير عثمانية، وكان أبو الأسود نازلا فيهم، فكانوا يرمونه بالليل فإذا أصبح شكا ذلك، فشكا مرة فقالوا: ما نحن نرميك ولكن الله يرميك، فقال: كذبتم والله لو كان الله يرميني لما أخطأني"1. أضجر ذلك كله أبا الأسود وأقض مضجعه فانزلق إلى هجاء أمير العراق زياد وابنه عبيد الله، وهما ما هما، وقد توالت خلافة الأموميين زمنا ليس بالقصير، وهم منطوون على نار من الحقد للعلويين وأتباعهم، إذ لم تقم دولتهم إلا بدعوى المطالبة بدم عثمان بعد اتهامهم أمير المؤمنين عليا بالتفريط فيه والتغاضي عن السافكين دمه رضوان الله عليه، فكيف يدعون أمرا خطيرا كهذا يمضي على كر الزمان ويخلد في بطون الأسفار وهم أحرص الناس على الغض من شأن العلويين وشيعتهم، ولا سيما في مثل هذا الشأن ذي البال والأثر الخالد.

_ 1 الكامل مع الرغبة ج7 ص133.

تسمية النحو

تسمية النحو: تسميته بالنحو بعد أبي الأسود: روت كتب الأدب والتراجم على سبيل اليقين أن هذا العلم كان يسمى بالعربية في عصر أبي الأسود، قال ابن سلام في الطبقات: "وكان أول من استن العربية وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها، أبو الأسود الدؤلي". وقال ابن قتيبة في المعارف: "أول من وضع العربية أبو الأسود" وقال ابن حجر في الإصابة: "أول من ضبط المصحف ووضع العربية أبو الأسود" فالتسمية بالنحو بعد عصره، إلا أنها لم تتجاوز الطبقة الثانية، فقد اشتهرت عنها مؤلفات اتسمت بأنها نحوية، وصرح فيها باسم النحو، كما ستقف على ذلك في الطبقات إن شاء الله تعالى. فما يذكر في كتب التراجم من نسبة التسمية بالنحو إلى أبي الأسود مبني على التسامح، ويلاحظ فيه انسحاب التسمية الطارئة بالنحو بعدُ على ما كان من أبي الأسود ضرورة أن ما وضعه أبو الأسود أساس ما سموه بالنحو، ولو عنى أصحاب التراجم بتعيين صاحب التسمية وقتها لأغنونا عن تنازع الظنون.

سب التسمية بالنحو

سب التسمية بالنحو ... سبب التسمية بالنحو: اسم العلم من وضع أهله ومصطلحهم لمقتضى الملابسات المناسبة في نظرهم، وقد سلف أن أبا الأسود لما عرض على الإمام علي ما وضعه فأقره بقوله: "ما أحسن هذا النحو الذي قد نحوت" فآثر العلماء تسمية هذا العلم باسم النحو استبقاء لكلمة الإمام التي يراد بها أحد معاني النحو اللغوية؛ والمناسبة بين المعنيين: اللغوي والاصطلاحي جلية.

نشأة النحو وتدرجه

نشأة النحو وتدرجه مدخل ... نشأة النحو وتدرجه: نشأ النحو أول أمره صغيرا، شأن كل كائن، فوضع أبو الأسود منه ما أدركه عقله، ونفذ إليه تفكيره، ثم أقره الإمام على ما وضعه وأشار عليه أن يقتفيه، فقام بما عهد إليه خير قيام، ولم يهتد بحث العلماء إلى يقين فيما وضعه أبو الأسود أولا على ما سلف تفصيلا، وكانت هذه النهضة الميمونة بالبصرة التي كان في أهلها ميل بالطبيعة إلى الاستفادة من هذا الفن اتقاء لوباء اللحن الزاري بصاحبه وخاصة الموالي الذين كانوا أحوج الناس حينذاك إلى تلقي هذا العلم رغبة منهم في تقويم لسانهم وتخليصه من رطانة العجمة، وحبا في معرفة لغة الدين الذي اعتنقوه، وطمعا في رفع قدرهم بين العرب، فصدقت عزيمتهم في دراسته والتزيد منه، وما انفكوا جادين فيه بعدئذ حتى نبغ منهم كثير قاموا بأوفى قسط في هذا العلم، وقادوا حركته العلمية. قال المبرد "مر الشعبي بقوم من الموالي يتذاكرون النحو فقال: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده"1، فكان منهم علماؤه المبرزون دراسة وتأليفا حتى أشير إليه ردحا من الزمن أنه علم الموالي. فلأبي الأسود الفضل الوافر في بدء الغرس الذي نما وترعرع وازدهر على كر الزمان بإضافة اللاحق إلى السابق ما استدركه وما ابتدعه، فازداد فيه التدوين والتصنيف شيئا فشيئا، غير أن هذا العلم لم تطل عليه الأيام كسائر الفنون فاكتمل وضعه قبلها، والباعث على النشاط فيه والسرعة شعور العرب بالحاجة إليه قبل كل علم، فإن الفتوحات الإسلامية متوالية في الأمصار، والعرب متدفقون عليها، والامتزاج مستحكم بينهم وبين من دخلوا في حوزتهم وعثير 2 اللحن منتشر أقذى الأبصار، فهب العلماء لا يلوون على شيء منكمشين في تدوينه فكان يسير بخطا فسيحة تبشر بالأمل القوي العاجل حتى نضج ودنا جناه، فتم وضعه في العصر الأموي دون سائر العلوم اللسانية. وما استهل العصر العباسي إلا وهو يدرس دراسة واسعة النطاق في

_ 1 الكامل مع الرغبة ج4 ص193. 2 العثير: التراب، والعجاج: الغبار والدخان.

العراقين "البصرة والكوفة" وكمل وأوفى على الغاية في بغداد ولما ينقض العصر العباسي الأول وذلك قبل تمام القرن الثالث الهجري. ولقد تلمسنا تعرف المراحل التي اجتازها هذا العلم طبقا لنواميس النشوء فلكل علم أطوار يمر بها كما يمر الحي بأطوار الحياة وليدا وناشئا وشابا وكهلا في كثير من الكتب التي يخال فيها التعرض لذلك فما وقفنا على ما يشفي الغلة وينير السبيل، فلاح لنا بعد إنعام الفكرة وإطالة النظرة أن نجعل الصلة بين هذه المراحل وبين العلماء القائمين بأمر هذا الفن إذ كان على أيديهم ما نقله من طور إلى آخر. روى لنا التاريخ أن البصريين هم الذين وضعوه وتعهدوه بالرعاية قرابة قرن، كانت فيه الكوفة منصرفة عنه بما شغلها من رواية الأشعار والأخبار، والميل إلى التندر بالطرائف من الملح والنوادر، ثم تكاتف الفريقان على استكمال قواعده، واستحثهما التنافس الذي جد بينهما واستحرت ناره ردحا من الدهر ينيف على مائة سنة، خرج بعدها هذا الفن تام الأصول، كامل العناصر، وانتهى الاجتهاد فيه، وحينذاك التأم عقد الفريقين في بغداد، فنشأ المذهب البغدادي الذي عماده الترجيح بين الفريقين. ثم شع نور هذا العلم في سائر البلاد الإسلامية التي احتفظت به بعد أن دالت دولة بغداد العلمية، وفي طليعتها الأندلس في عصرها الزاهر، ومصر المعزية والشام وما يتأخمها.

أطوار النحو الأربعة

أطوار النحو الأربعة مدخل ... أطوار النحو الأربعة: وعلى ضوء هذا التاريخ قد اعتبرنا أطواره أربعة: طور الوضع والتكوين "بصري"، طور النشوء والنمو "بصري، كوفي"، طور النضوج والكمال "بصري، كوفي"، طور الترجيح والبسط في التصنيف "بغدادي وأندلسي ومصري وشامي". على أنه ليس في الاستطاعة وضع حد توقيتي ينفصل به كل طور عما يسبقه أو يعقبه، فإن الأطوار لا بد من تداخلها، وسريان بعض أحكام سابقها على لاحقها، كما أنه لا مناص من تسرب شيء مما في تاليها على بادئها، فغير ممكن أن يوجد الطور دفعيا وإنما تلده المؤثرات التي تسبقه وتمهد له، وهي بالطبع في غيره، إلا أنها لما تكاثرت وتزايدت حتى بدا للعلم بمقتضاها طابع آخر غير الطابع السابق عليه استوجبت جعله في طور آخر جديد، ولا يكون ذلك التمييز الظاهر إلا بعد انقضاء زمن المداخلة بين الطورين وعلى هذا الأساس فإن تحديد هذه الأطوار إلى التقريب أقرب منه إلى التحقيق، وبدهي أن تحديدها بالأشخاص على ما سبق يعود إلى طبقاتهم التي يمثلونها، وستعرف هذه الطبقات مرتبة بحسب الزمن مع تراجم علمائها كلهم، وإننا سنكتفي في هذا التحديد بالأشخاص المبرزين المعلمين فقط للاختصار.

الأول: طور الوضع والتكوين

الأول: طور الوضع والتكوين "بصري" هذا الطور من عصر واضع النحو أبي الأسود إلى أول عصر الخليل بن أحمد، وقد سلف أن وضعه انتهى في عصر بني أمية. هذا هو الطور الذي استأثرت به البصرة صاحبة الفضل في وضعه وتعهده في نشأته، والكوفة منصرفة عنه بما شغلها من رواية الأشعار والأخبار والنوادر زهاء1 قرن، اشتغل فيه طبقتان من البصريين بعد أبي الأسود حتى تأصلت أصول منه كثيرة، وعرفت بعض أبوابه. فإن الطبقة الأولى التي أخذت عن أبي الأسود استمرت في تثمير ما تلقته عنه ووفقت إلى استنباط كثير من أحكامه وقامت بقسط في نشره وإذاعته بين الناس وكان من أفذاذ هذه الطبقة عنبسة بن معدان الفيل، ونصر بن عاصم الليثي، وعبد الرحمن بن هرمز، ويحيى بن يعمر العدواني، ولم يدرك أحد من رجال هذه الطبقة الدولة العباسية.

_ 1 زهاء قرن: قدره.

ويغلب على الظن أن ما تكون من نحو هذه الطبقة -فضلا عن قلته- كان شبه الرواية للمسموع، فلم تنبت بينهم فكرة القياس، ولم ينهض ما حدث في عهدهم من أخطاء إلى إحداث ثغرة خلاف بينهم لقرب عهد القوم بسلامة السليقة، كذلك لم تقو حركة التصنيف بينهم فلم يؤثر عنهم إلا بعض نتف في مواطن متفرقة من الفن لم تبلغ حد الكتب المنظمة إذ كان جل اعتمادهم على حفظهم في صدروهم ورواياتهم بلسانهم، وزعم بعض المؤرخين أن أستاذها أبا الأسود قد وضع مختصرا على ما تقدم بيانه. أما الطبقة الثانية التي كانت أكثر عددا من سابقتها فقد كانت أوفر منها حظا في هذا الشأن، إذ وطأت لها سبيله فازدادت المباحث لديها، وأضافت كثيرا من القواعد، ونشأت حركة النقاش بينها فجدت في تتبع النصوص واستخراج الضوابط ما هيأ لها وقتها، واستطاعت التصنيف فدونت فيه بعض كتب مفيدة. وكان من المشار إليهم فيها عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي الذي يقول فيه أبو الطيب: "وكان يقال عبد الله أعلم أهل البصرة وأعقلهم ففرع النحو وقاسه"1 وكان يخطئ الفرزدق كثيرا حتى هجاه، وستعرف تفصيل ذلك في ترجمته بمشيئة الله تعالى، "وعيسى بن عمر الثقفي صاحب الكتابين في النحو: الجامع والإكمال " وقد نوه عن فضلهما الخليل بن أحمد بقوله: ذهب النحو جميعا كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر وأبو عمرو بن العلاء صاحب التصانيف الكثيرة على ما ستعرف في ترجمته، ورجال هذه الطبقة أظلتهم الدولة العباسية جميعا خلا عبد الله بن أبي إسحاق الذي مات سنة 117هـ2.

_ 1 مراتب النحويين/ 12. 2 في النجوم الزاهرة: ذكر أن عبد الله بن أبي إسحاق صلى على صديقه حفص بن الوليد لما قتل سنة 128هـ وأنه أخذ النحو عن يحيى بن يعمر المتوفى سنة 129هـ فيبعد جدا أن يكون توفي سنة 117هـ ويؤيد هذا أنه من رجال الطبقة الثانية ويحيى من الطبقة الأولى وقد جاء في بعض نسخ النجوم الزاهرة أنه توفي سنة 127 وفي بعضها أنه توفي سنة 129 ولعل هذا هو الصواب والله أعلم.

لم ينقض هذا الطور حتى وفق العلماء إلى وضع طائفة كبيرة من أصوله بعثتهم إلى التزيد فيها، فاختمرت بينهم فكرة التعليل التي كان أول متجه لها ابن أبي إسحاق، كما أنه أول من نشط للقياس، وأعمل فكره فيه وخرج مسائل كثيرة عليه، ووافقه عليه عيسى بن عمر، وخالفهما بعض معاصريهما فانفسح ميدان القول في هذا العلم وأنس الناس به وتداولوه في كتبهم التي كانت تساير روح هذا العهد فقد كانت مزيجا من النحو والصرف واللغة والأدب وما إلى ذلك من علوم اللغة العربية لأن هذه الفروع كانت متداخلة آخذا بعضها بحجز بعض لقرب الوشيجة بينها في الغرض والمقصد، فكان الأديب حينذاك نحويا صرفيا لغويا، والنحوي أديبا لغويا صرفيا وهكذا، يحملنا على هذا ما روي لنا عنهم في نقاشهم ومحاوراتهم وإن لم تصلنا مؤلفاتهم التي طارت بها عواصف الأيام، ونالها ما نال أربابها من الزوال، وصدق المتنبي في قوله: تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع نعم، أخذت هذه الفروع تمتاز بعضها من بعض في البحث والتدوين من أوائل الطور تدريجيا حتى اشتهر بعض العلماء بالنحو وأشير إلى آخر باللغة ودواليك.

الثاني: طور النشوء والنمو

الثاني: طور النشوء والنمو: هذا الطور من عهد "الخليل بن أحمد البصري، وأبي جعفر محمد بن الحسن الرؤاسي" إلى أول عصر "المازني البصري وابن السكيت الكوفي". فهذا الطور مبدأ الاشتراك بين البلدين في النهوض بهذا الفن والمنافسة في الظفر بشرفه، فقد تلاقت فيه الطبقة الثالثة البصرية برئاسة الخليل، والأولي الكوفية بزعامة الرؤاسي، وكذا بعدهما طبقتان من كل من البلدين فوثب هذا الفن وثبة حيي بها حياة قوية أبدية بعد، وكان هذا الطور حريا أن يسمى طور النشوء والنمو. ونقصد الآن بالنحو معناه العام الذي يشمل مباحث الصرف لأن مباحث رجال الطور الماضي كانت منصرفة حول أواخر الكلمات كما عرف عنهم بخلاف رجال هذا الطور، فإنهم قد اتجهت أنظارهم إلى مراعاة أحوال الأبنية أيضا، فقد راعهم ما اعتورها من خطأ يجب درؤه، وذلك أنهم ما حاولوا صون الكلام من غوائل اللحن في أطرافه إلا ضنا به ألا ينهض بالإفادة والاستفادة المقصودتين منه، ورعاية أواخر الكلمات بقوانين النحو، وإن كفلت دفع اللحن عن الكلام وأصلحت هيكله الصورى للتأدية العامة إلا أن تلك التأدية لا تتم فيه إلا إذا سلمت جواهر أجزائه التي يتقوم بها، وما تأخرت ملاحظتها لهذا الحين إلا لقلة العثرات فيها بالإضافة إلى العثرات التي كانت تعترض الكلام في أواخر أجزائه، ولأن الخطأ فيها لا يذهب بالمعنى المقصود للمتكلم كالخطأ في أواخر الكلمات، كما لمست هذا في سبب وضع النحو. فمن هذا الحين ظهرت مباحث الصرف في طي كتب النحو وشغلت منها فراغا وعم الأمرين اسم النحو، واستمر هذا الاندماج طويلا من الزمن حتى تدوول في بعض كتب المتأخرين، ولذا عرف بعضهم النحو بأنه: علم يعرف به أحوال الكلم العربية إفرادا وتركيبا ليشمل الأمرين. نعم قد تقلص عن كتاب النحو من أوائل هذا الطور ما لا يتصل به هذا الاتصال الوثيق كمباحث اللغة والأدب والأخبار ولا ريب أن للصرف من بين سائر علوم اللغة العربية قرابته الدنيا بالنحو، على أن الخليل وهو غرة جبين هذا الطور قد جمع بين اللغة والنحو فإنه ذكر في كتاب العين الذي هو الأساس لكتب اللغة فيما نعلم مقدارا كبيرا من النحو. ابتدأ هذا الطور وأخذت العلماء في كتب النحو ومباحثه سمتا آخر غير

ما اتجهوا إليه في الماضي على ما عرفت ونشطوا في التقصي، والاستقراء للمأثور عن العرب وفي إعمال الفكر واستخراج القواعد، وكان مبعث ذلك النشاط هو التنافس البلدي الذي عرض إبان هذا الطور فرام كل من أهل البلدين "البصرة والكوفة" ظفرا على الآخر، فالخليل بعد أن جاب بوادي الحجاز ونجد وتهامة مواجها العرب في صحرائها مستمعا لأحاديثها يعود إلى البصرة، ويستجمع كل ما سمع ويشحذ ذهنه الحاد ويفرغ للبحث عن لآلئ هذا الفن من بحر علمه العميق حتى جمع أصوله وفرع تفاريعه وضم كل شيء إلى لِفْقِهِ، وساق الشواهد وعلل الأحكام وبلغ في ذلك غاية محمودة فاقت كل من سبقه، بيدَ أنه اكتفى عن تدوينه موسوعة فيه بطلبته الذين كان يملي عليهم، وممن حمل الراية في البصرة مع الخليل يونس إلا أنه قصر مجهوده على التلقي عنه ونصب نفسه للإفادة فكانت له حلقات دراسة يؤمها القاصي والداني من فصحاء الأعراب وأهل العلم، وكان له في النحو أقيسة ومذاهب خاصة تفرد بها. ولقد عاصرهما الرؤاسي الكوفي شيخ الطبقة الأولى الكوفية، فإنه بعد اشتراكه معهما في التلقي عن الطبقة الثانية البصرية يمم الكوفة وألقى عصاه فيها وقد ألفى عمه معاذ بن مسلم الهراء الذي كان أقدم منه سنا يزاول هذا العلم، إلا أنه كلف بالبحث عن الأبنية والتمارين إلى أن غلبت عليه الناحية الصرفية التي التفت إليها الكوفيون واستنبطوا للصرف كثيرا من القواعد التي سبقوا بها البصريين، حتى عدهم المؤرخون الواضعين للصرف، إذ كان الصرف عند البصريين، حتى عدهم المؤرخون الواضعين للصرف، إذ كان الصرف عند البصريين في المحل الثاني، ولم يكف ذلك الكوفيين في دفع التخلف اللاحق بهم على ما فاتهم من شرف النحو فتهالكوا عليه وتزاحموا بالمناكب شأن المفرط الذي يحاول تلافي خطئه، فظهرت فيهم علماء وانبعثت فيهم فكرة التأليف، وكان أول مؤلف تداولوه بينهم كتاب "الفيصل" للرؤاسي. روى ابن النديم وغيره "وقال الرؤاسي: بعث الخليل إلي يطلب كتابي فبعثت به إليه فقرأه، وكل ما في كتاب سيبويه"، "وقال الكوفي كذا فإنما

يعني الرؤاسي"1. تكون على يد الإمامين الخليل ومن معه من البصريين، والرؤاسي ومن معه من الكوفيين بكل من البلدين مدرسة خاصة لها علم تنحاز إليه كل فرقة، وتتابعت الطبقات المتعاصرة من كلا البلدين. فسطع في سماء البصرة نجوم متألقة تألف منها عقد الطبقة الرابعة بزعامة سيبويه الذي وُهب ملكة التصنيف والتنسيق، فأبدع كتابه على مثال لم يسبق إليه، ولم يدع للمتأخرين استدراكا عليه، وكان يعاصرها الطبقة الثانية الكوفية التي كان يقودها الكسائي الذي لم يأل جهدا حتى أخرج للناس مؤلفات استفادوا منها، وشد من أزره إقبال الدنيا عليه بعد اتصاله بالخلفاء والأمراء ببغداد، فاعتد2 للكوفيين فيها متكأ وسعى سعيه حتى كون من الكوفيين جبهة قوية ثبتت أمام الجبهة البصرية ووقفت منها موقف الند للند، فإنه الذي يعتبر بحق المؤسس للمذهب الكوفي، ولولا هو لذهبت ريحهم ولما خفقت بنودهم3 على بغداد التي عطفت عليهم من هذا الحين، ورفعت شأنهم، فاستفز ذلك البصريين لمناصبتهم أشد العداء وإشهار سلاح الخصام في وجوههم، وما زال كل من البلدين جد حريص على حوز قصب السبق رغبة في التغلب وحرصا على الإزراء بالآخر وتفانيا في الدنو من العباسيين، فاتسعت رواياته واستفاض تعليمه بين الدهماء4 وازدادت تآليفه. فالأخفش البصري شيخ الخامسة يصنف ويذيع على الناس ما أوتيه من علم، ومعاصره الفراء الكوفي أستاذ الثالثة تغمره عطايا المأمون وتحفزه إلى نشر العلم، وتتيح له أن يدون طوال الكتب التي راجت في بغداد والكوفة.

_ 1 راجع الفهرست الفن الثاني من المقالة الثانية، ونزهة الألبا ترجمة الرؤاسي ومعجم الأدبا ترجمته أيضا جـ18 ص122. 2 اعتد: أي أعد. 3 اضطربت أعلامهم وتحركت. 4 الدهماء هنا: العدد الكثير وجماعة الناس.

كل ذلك بفضل المناظرة التي بدأت هادئة أول الأمر بين البلدين على يد الخليل والرؤاسي، ثم اشتدت على مرور الأيام، وكان لها أثرها الفعال، إذ كانت وقودا صالحا لإشعال نار الاجتهاد والدأب على استكمال ما بقي من مواد هذا الفن، فحمي وطيسها في غضون هذا الطور، واندلع لهيبها إلى نهاية الطور الثالث فصلي بنارها كثير من جلة البصريين1 وقليل من الكوفيين، وسنذكر لمحة عنها إن شاء الله تعالى بعد إتمام الكلام على هذين الطورين "البصريين والكوفيين" فإنه عند تلاقي الفريقين ببغداد وابتداء الطور الرابع الجديد قد انطفأت نار العصبية البلدية واختبى أوارها، فلم تك مناظرات بصرية وكوفية. وقصارى القول أنه لم ينصرم هذا الطور حتى قطع النحو شوطا كبيرا شارف فيه النهاية فأرهفت له الأسماع وكثرت فيه المؤلفات التي أزيل منها ما ليس من فن النحو، وإن كان التصريف ما لبث مندسا فيه عند البصريين، فإن كتابه سيبويه وهو البقية الباقية بأيدينا من مؤلفات هذا الطور، والمرآة التي تنكشف بها صورة التأليف فيه قد جمع بين الفنين. ولقد بهر العلماءَ أمر هذا الكتاب إذ قصرت هممهم عن مطاولته حينا من الدهر، فلم يروا إلا الطواف حوله تعليقا عليه في النواحي المختلفة شرحا واختصارا وانتقادا واستدراكا وردا وإعرابا للشواهد، وكان لذلك أثره في استبقاء الفنين معا بحثا وتصنيفا مدة مديدة عند كثير من العلماء الذين انتضوا للتأليف2 في كتبهم الخاصة بعد فاحتذوا حذو سيبويه ومزجوا بينهما، واستمر ذلك طويلا حتى تخطى "ابن مالك" لمن بعده. أما الكوفيون فقد ألفوا في بعض أبواب الصرف كتبا خاصة اعتناء بشأنها، لكن لم تصل تآليفهم إلى حد يجعل الصرف منفردا عن النحو بالتأليف، صنف الرؤاسي كتاب التصغير، والكسائي كتاب المصادر والفراء كتاب فَعَلَ وأَفْعَلَ، مع هذا فإن النحو قد طفق يتخلص من الصرف ويستقل الصرف بالتأليف في مستهل الطور الآتي على ما سترى.

_ 1 جلة: جمع جليل وهي من جموع القلة. 2 انتضى السيف: أخرجه من غمده، والمراد: برزوا للتأليف.

الثالث: طور النضوج والكمال

الثالث: طور النضوج والكمال "بصري كوفي" هذا الطور من عهد أبي عثمان المازني البصري إمام الطبقة السادسة ويعقوب ابن السكيت الكوفي إمام الرابعة، إلى آخر عصر المبرد البصري شيخ السابعة، وثعلب الكوفي شيخ الخامسة. لقد هيأ الطور السالف لهذا الطور الكمال والنضوج بفضل ما بذل رجاله من جهد مضن كان له الأثر الناجع في تخريج جمهرة من العلماء امتاز بها من هذا الطور عن سابقيه في كلا البلدين. ولقد شمر الجميع عن ساعد الجد ونزلوا الميدان تسوقهم العصبية البلدية، وكان حادي عيسهم في البصرة أبا عثمان المازني، وأبا عمر صالح الجرمي، وأبا محمد التوزي، وأبا علي الجرمازي، وأبا حاتم السجستاني، والرياشي، والمبرد وغيرهم وفي الكوفة يعقوب بن السكيت، ومحمد بن سعدان، وثعلبا والطوال وغيرهم، وكثيرا ما جمعت الفريقين بغداد بين حين وآخر على تعصب كلٍّ لمذهبه وانتقال هذا التعصب لمن يشايعهما، فكانت مناظرات وإفحامات تقض المضاجع وتحز في النفوس، حتى تلاقيا أخيرا وتوطنا بغداد على ضغن في القلوب أذهبه تعاقب الأيام وانقراض المتنافسين شيئا فشيئا. كل ذلك دعاهم إلى الانهماك والنشاط، فأكملوا ما فات السابقين وشرحوا مجمل كلامهم، واختصروا ما ينبغي وبسطوا ما يستحق، وهذبوا التعريفات وأكملوا وضع الاصطلاحات، ولم يدعوا شيئا منه إلا نظروه ولا أمرا من غيره إلا فصلوه، فخلص النحو من الصرف الذي بقي وحده متمسكا به في التأليف إلى أول هذا الطور. وأول من سلك هذا السبيل المازني فقد ألف في الصرف وحده وشق

ذلك الطريق لمن بعده، ومن هذا الحين تشعبت مسالك التأليف في العلوم العربية، فمن مؤلف في النحو وحده، ومن مصنف في الصرف وحده، ومن خالط بينهما، وقد رعى العهد القديم المبرد في كتابه الكامل الذي جمع فيه من كل دوحة غصنا، فبينما يسبح في الأخبار إذا هو يوافيك بالتحقيق اللغوي، ثم إذا هو يباغتك بالإشكالات الغريبة في النحو والتحقيقات الممتعة في الصرف ولا تكاد تنتهي منها حتى يطل عليك بالأدب الطريف، إلا أن ذلك النهج قليل تلقاء ما كثر من مؤلفات مستقلة بالفروع العربية بعد تمييزها، وكان أكثرها مصنفات فن النحو الذي قد تحولت لهجات التصنيف فيه عن ذي قبل بما وضع فيها من العبارات التأليفية والمصطلحات النحوية التي بقيت خالدة في كتب النحاة إلى يومنا هذا، وإنا لنرى ذلك واضحا عند الموازنة بين كتاب سيبويه وبين مخلفات هذا الطور. لم ينسلخ هذا الطور حتى فاضت دراساته في المدن الثلاث: "البصرة، والكوفة، وبغداد" وما يصاقبها1، واغترف الجميع من منهله، وبذلوا الجهود الجبارة في استكماله، والإحاطة بجميع قواعده -وكان لهم ما أرادوا- فاستوى النحو قائما على قدميه ومثلت صورته بارزة للجميع وامتازت شخصيته وأوفى على الغاية التي ليس وراءها نهاية لمستزيد ولا مرتقى لذي همة، فتمت أصوله وانتهى الاجتهاد فيه بين الفريقين على يدي الإمامين: المبرد خاتم البصريين، وثعلب خاتم الكوفيين. روى ياقوت: "قال لي أبو عمر الزاهد: سألت أبا بكر بن السراج، فقلت: أي الرجلين أعلم أثعلب أم المبرد؟ فقال: ما أقول في رجلين العالم بينهما"2. وكان بين الإمامين ما بين المتعاصرين من الإحن والأضغان، ولكل

_ 1 أي: يقاربها. 2 راجع معجم الأدباء ترجمة ثعلب ج5 طبعة دار المأمون.

منهما شيعته وأنصاره، والعيون لهما رامقة، فكانت المناظرات بينهما دائبة، والغلب بينهما سجالا، ورحمة الله على الجميع. كانت نهاية هذا الطور الثالث "طور النضوج والكمال" في أخريات القرن الثالث الهجرى بعد أن توافد الفريقان على بغداد أرسالا1 وهجرا المصرين2 عندما كثرت فيهما الاضطرابات، وتوالت المحن من الزط3 والقرامطة4 والزنوج وعدا عليهما حدثان الدهر بعد أن أبليا في سبيل هذا العلم بلاء حسنا خلده لهما الدهر في صحائفه، ومع ذلك فقد ظلت الحزبية قائمة إلا أنها آخذة في الاضمحلال فإن توحيد الوطن بينهما واتصالهما بالخلفاء والأمراء والشعب البغدادي عاملان على تقويض دعائم الخلاف بينهما. وإنه لما يجمل بنا هنا أن نذكر كلمة موجزة تتعلق بالطورين الأخيرين "الثاني والثالث" نعرض فيها بعض المناظرات والمجالسات النحوية التي جرت بين البلدين فإنها حدثت فيهما فكانت سببا في آثارها المترتبة عليها.

_ 1 جمع رسل بفتحتين وهو القطيع من كل شيء. 2 البصرة والكوفة. 3 الزط: جيل من الهند، وقيل من السودان طوال الأجسام. 4 القرامطة: جيل، الواحد قرمطي.

كلمة في مناظرات الطورين "الثاني والثالث"

كلمة في مناظرات الطورين "الثاني والثالث" مدخل ... كلمة في مناظرات الطورين "الثاني والثالث": إن المتتبع لتراجم رجال الطورين في البلدين يرى أن كل واحد منهم قد خب فيها ووضع، وأن المشادة بين الفريقين ما فترت حينا، إذ كانت تثيرها الرغبة في الوصول إلى الحقائق والاعتزاز بالنفس والعصبية للبلد والنمط العلمي، والطمع في نائل الخلفاء والأمراء الذين "أسهموا" بقسط قيم فيها، وكان أغلبها على أيديهم أو على كثب منهم، وحكموا في كثير منها فنصروا وخذلوا ورفعوا وخفضوا، كان لذلك كله أثره في زج العلماء بأنفسهم في هذه المعمعة التي كان يأمل كل واحد فيها أن يكون المجلي، لأن هذا العلم حينذاك لما ينضج في أغلب مسائله، ولم يتخذ شكلا ولا صورة ثابتة يقف أمامها كل رائد مكتوف اليد، بل كان يبدو لكل ما لا يلمحه الآخر، وحجة هذا تناهض دليل ذاك لاختلاف الروايات وتفاوت المسموعات وتنوع العصبيات، ولقد تطاير شررها من الخارج إلى الداخل فكانت مناظرات بين البصريين أنفسهم والكوفيين أنفسهم. إن المناظرات تصير حيث يصير العلم وحيث يصير العلماء، فحب الغلبة جبلي في الإنسان في مظاهر الحياة المختلفة، فكيف العلم الذي هو أنبل الغايات وأسمى المقاصد؟ نعم إذا كان مبعث المناظرات محض العلم فحبذا الغرض والمطلب، لكنها فيما نحن فيه قد شيبت بالعصبية، فكانت حربا ضروسا غير أنها محمودة المغبة على كل حال لما تسفر عنه من نتائج القرائح المكنونة، فما نعمت اللغة وغنيت إلا من هذا السجال العلمي و"عند الصباح يحمد القوم السرى"1.

_ 1 مجمع الأمثال رقم 2382 أول مثل فيما أوله عين.

من مناظرات الطور الثاني

من مناظرات الطور الثاني: إن مناظرات الطور الثاني على كثرتها كان قطب رحاها في الكوفيين الكسائي؛ إذ كان دريئتهم وحامي حقيقتهم فنازل الأصمعي وسيبويه واليزيدي وغيرهم ولنقتصر في هذا الطور على ثلاث منها. بين الكسائي والأصمعي: روى الزجاجي في أماليه: "وكان الكسائي والأصمعي بحضرة الرشيد، وكانا ملازمَيْن له يقيمان بإقامته ويظعنان بظعنه، فأنشد الكسائي: أنَّى جَزَوا عامرا سُوءَيْ بفعلهم ... أم كيف يُجْزُونَنِي السُّوءَي من الحَسَن أم كيف ينفع ما تعطي العلوقُ به ... رئمان أنفِ إذا ما ضَنّ باللبن فقال الأصمعي: إنما هو رئمان أنفَ بالنصب، فقال له الكسائي: اسكت ما أنت وذاك؟ يجوز بالرفع والنصب والخفض، أما الرفع فعلى الرد على "ما"؛ لأنها في موضع رفع بينفع فيصير التقدير: أم كيف ينفع رئمان أنفُ، والنصب بتعطي والخفض على الرد على الهاء في به، وقال: فسكت الأصمعي"1.

_ 1 راجع أمالي الزجاجي والمناظرة مذكورة أيضا في أمالي ابن الشجري المجلس السادس، ومعجم الأدبا ترجمه الكسائي، والمغني الباب الأول حرف أم، وخزانة الأدب شاهد 906، والعلوق: الناقة التي ترأم البو وهو جلد الحوار يحشى تبنا أو تماما ويقدم لها إيهاما أنه ولدها عند فقده ثم لا تدر اللبن، والرئمان: مصدر لرئم كسمع سماعي وأضافه إلى الأنف لأنه مظهر حنوها، والمعنى إني لأعجب من قومي كيف يعاملون بني عامر بن صعصعة بالشر في مقابلة الخير وأعجب من ذلك مكافأتهم لي وأنا أدافع عنهم، وماذا يجديني من وعودهم اللسانية مع انطوائهم على حرماني وما حالهم معي إلا كهذه الناقة التي تعطف على البو بأنفها على حين ينكره قلبها فلا ترسل درها، والبيتان من قصيدة لأفنون التغلبي شاعر جاهلي وهي من قصائد المفضليات، وبيت المناظرة من شواهد النحاة على أم، راجع شرح المفصل وشرح الرضي على الكافية والمغني. "ومجمع الأمثال، والمثل: رئمت له بوضيم "1549"".

"أي ترفع بدلا من "ما" وتنصب مفعولا لتعطي وتجر بدلا من الهاء في به". بين الكسائي وسيبويه: طمحت نفس سيبويه إلى الشخوص إلى بغداد أملا في الحظوة عند الخلفاء والأمراء، فارتحل إليها وما يدري ما خبأه الغيب له، فرب ساع لحتفه، وحق ما قاله خليفة بن براز الجاهلي: والمرء قد يرجو الرجا ... ء مؤملا والموت دونه1 ونزل ضيفا عند يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد، فاعتزم يحيى الجمع بينه وبين الكسائي بعد أن عرف الرشيد جلية الأمر وعين لذلك يوما في دار الرشيد، فحضر سيبويه أولا وتلاقى مع الفراء والأحمر تلميذي الكسائي فسألاه وخطاه في الإجابة وأغلظا له في القول، ويطول بنا الكلام ونخرج عن المقصود لو عرضان لهذه الأسئلة وما أجيب به عنها وكل ذلك معروف في كتب النحو المبسوطة، فقال لهما: لست أكلمكما حتى يحضر صاحبكما، يعني شيخهما الكسائي، جاء الكسائي وغصت الدار بالحضور على مشهد من يحيى وابنه جعفر ثم بدأ الكسائي الحديث وقال لسيبويه: تسألني أو أسالك؟ فقال سيبويه: سل أنت، فقال له: "هل يقال كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أو يقال مع ذلك فإذا هو إياها؟ " فقال سيبويه: "فإذا هو هي" ولا يجوز النصب، فسأله عن أمثال ذلك نحو: "خرجت فإذا عبد الله القائم أو القائم"، فقال كله بالرفع، فقال الكسائي: "العرب ترفع ذلك وتنصبه"، واحتدم الخلاف بينهما طويلا، فقال يحيى: قد اختلفتما وأنتما رئيس بلديكما فمن يحكم بينكما؟ فقال الكسائي هؤلاء العرب ببابك وفدت عليك من كل صقع2 وقد قنع بهم أهل

_ 1 ثاني بيتين نسبهم القاسم بن سلام له في كتاب الأمثال راجع خزانة الأدب 734. 2 الصقع بالضم: الناحية.

المصرين، يحضرون ويسألون، فقال يحيى قد أنصفت، واستدعاهم فتابعوا الكسائي فأقبل الكسائي على سيبويه وقال له: قد سمع أيها الرجل، فاستكان سيبويه عند ذلك وانقبض خاطره، فقال الكسائي ليحيى: أصلح الله الوزير، إنه قدم إليك راغبا فإن أردت أن لا ترده خائبا، فرق له يحيى وجبر كسره، فخرج من بغداد وتوجه تلقاء فارس يتوارى من الناس من سوء ما لحقه، ولم يقدر أن يعود إلى البصرة، وقد كان إمامها غير منازع، فمات غما بفارس في ريعان شبابه، وقال قرب احتضاره متمثلا: يؤمل دنيا ليبقى بها ... فمات المؤمل قبل الأمل حثيثا1 يروي أصول النخيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل وقد رويت هذه المناظرة على صور مختلفة، ويرى جمهرة العلماء أن إصبع السياسة لعبت دورا كبيرا في هذه الحادثة الخطيرة، لأنها حكم بين البلدين لا بين الرجلين، وما وافقت العرب الكسائي إلا لعلمهم أنه ذو حظوة عند الرشيد وحاشيته، وهم على يقين من أن الحق مع سيبويه، على أنه روي أنهم قالوا: القول قول الكسائي بإيعاز رجال الدولة ولم ينطقوا بالنصب إذ لا تطاوعهم ألسنتهم، ولذا طلب سيبويه أمرهم بالنطق بها لكنه لم يستمع له. قال "الروداني": "والذي لا ينبغي أن يشك فيه أن ذلك إذا ترك العربي وسليقته، أما لو أراد النطق بالخطأ أو بلغة غيره فلا يشك في أنه لا يعجز عن ذلك، وقد تكلمت العرب بلغة الحبش والفرس واللغة العبرانية وغيرها، وأبو الأسود عربي وقد حكى قول ابنته لأمير المؤمنين علي: ما أشد الحر بالرفع فقول سيبويه في قصته مع الكسائي في مسألة "كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي": مرهم أن ينطقوا بذلك، لا بد من تأويله، كأن يقال المراد من لم يسمع مقالة الكسائي ولم يدر القصة أو نحو ذلك مما يقتضي نطقهم على سليقتهم الذي هو المعيار"2.

_ 1 حثيثا: مسرعا والفسيل النخيل الصغير يقطع من أمه فيغرس. واحدته فسيلة. 2 الصبان على الأشموني في الكلام على "ما" العاملة عمل ليس.

وبعد: فإن الحق مع سيبويه، والقرآن الكريم أصدق شاهد له، يقول الله تعالى: {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} 1 وعلى نمط هذه الآية آي كثيرة، ولو ثبت النصب لكان خارجا عن القياس واستعمال الفصحاء، ولذا تمحل النحويون في تخريج هذا النصب على أوجه ثم تعقبوها، ذكر بعضها الرضي في شرح الكافية باب الظروف، وأفاض القول فيها الأعلم الشنتمري، ونقل كلامه المقري في نفح الطيب في فصل برأسه في الجزء الثاني عنوانه "المسألة الزنبورية" وأجاد التفصيل لها ابن هشام في المغني الباب الأول مبحث "إذا" فذكر خمسة مع التعقيب على كل وجه بما يفنده، وخلاصة هذه الأوجه: الأول: أن الظرف وهو "إذا" نصب الضمير لأن فيه معنى وجدت، والثاني: أن الضمير المنصوب استعير من مكان ضمير الرفع، والثالث: أن الضمير مفعول به والأصل: فإذا هو يساويها ثم حذف الفعل فانفصل الضمير، والرابع: أن الضمير مفعول مطلق والأصل: فإذا هو يلسع لسعتها ثم حذف الفعل والمضاف، والخامس: أن الضمير منصوب على الحال من الضمير في الخبر المحذوف والأصل: فإذا هو ثابت مثلها ثم حذف المضاف فانفصل الضمير، وقد جمع هذه الأوجه الخمسة مع الاختصار أحمد بن الحسن الجوهري المتوفى سنة 1182هـ في هذا النظم: وفي ضمير النصب تاليا إذا ... تعدد التوجيه فادر المأخذا مفعولها أو نائب المرفوع ... أو نصبه بفعله المقطوع أو أنه مفعول فعل مطلقا ... أو معرب حالا أنيب فارتقى2 ولخطورة هذه المناظره نوهت عنها أغلب كتب الأدب والتراجم والتاريخ فقد ذكرت في أمالي الزجاجي كما ذكرت في ترجمة سيبويه في طبقات الزبيدي والفهرست ونزهة الألبا ووفيات الأعيان ومعجم الأدباء وأنباه الرواه غير

_ 1 سورة الشعراء، الآية: 33. 2 الأبيات في الإنبابي على الصبان، وترجمة الجوهري في الجبرتي.

أنها ذكرت مرة أخرى في معجم الأدباء ترجمة الكسائي وقد نوه عنها حازم الأنصاري القرطاجني في منظومته النحوية المشهورة معترفا لسيبويه في الأشباه والنظائر أول الفن السابع "فن المناظرات والمجالسات إلخ". ولئن ظفر الكسائي بسيبويه في هذه المناظرة ظلما لقد ثئر له منه على يد اليزيدي في المناظرة الآتية التي انحدر فيها الكسائي. بين الكسائي واليزيدي: قال العسكري: "اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد، فجرت بينهما مسائل كثيرة، فقال له اليزيدي: أتجيز هذين البيتين؟ ما رأينا خربا نـ ... ـقر عنه البيض صقر لا يكون العير مهرا ... لا يكون، المهر مهر فقال الكسائي: يجوز على الإقواء، وحقه لا يكون المهر مهرا، فقال له اليزيدي: فانظر جيدا، فنظر ثم أعاد القول، فقال اليزيدي: لا يكون المهر مهرا محال في الإعراب، والبيتان جيدان، وإنما ابتدأ فقال المهر مهر، وضرب بقلنسوته الأرض وقال: أنا أبو محمد، فقال له يحيى بن خالد: خطأ الكسائي مع حسن أدبه أحب إلينا من صوابك مع سوء أدبك، أتكتني 1 قدام أمير المؤمنين وتكشف رأسك؟ فقال إن حلاوة الظفر، وعز الغلبة أذهبا عني التحفظ" 2. وينبغي للكسائي أن يعبر بالإصراف لا الإقواء اصطلاح العروضيين3.

_ 1 الاكتناء هنا قوله: أنا أبو محمد افتخارا وإعجابا. 2 راجع كتاب التصحيف والتحريف ما وهم فيه الكسائي، وذكرت هذه المناظرة أيضا في معجم الأدباء ترجمة الكسائي، وفي الوفيات ترجمة اليزيدي، وفي شرح درة الغواص الوهم35، والخرب: بفتحتين ذكر الحباري، ونقر نقب البيض لخروج الفرخ، والشطر الأول من البيت الثاني تمثيل للإيضاح، ولا "يكون" في أول الشطر الثاني تأكيد لفظي وما بعده تأكيد معنوي. 3 فالإقواء: اختلاف حركة الروي المطلق بضم، وكسر، والإصراف: اختلاف حركة الروي المطلق بفتح وغيره وفي القاموس: وأصرف شعره أقوى فيه أو هو الإقواء بالنصب.

من مناظرات الطور الثالث

من مناظرات الطور الثالث: ومن أشهر المناظرات فيه مناظرات المبرد وثعلب، ولنكتف بواحدة منها بين المبرد وثعلب. اختلف المبرد وثعلب بخضرة الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين -الذي كان ينفق معظم وقته في البحوث العلمية، وكان يهوى المناظرات، فكثر ما جمع له بين علماء الفريقين- البصري والكوفي، في قول امرئ القيس: لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعديه النمر1 فقال ثعلب: "إنه خظتا" كما يقال غزتا إلا أنه رد الألف التي كانت ساقطة في الواحد لتاء التأنيث الساكنة لما تحركت التاء لأجل ألف التثنية، ومسوغ ذلك ضرورة النظم، وقال المبرد: "إنه خظاتان" فحذف نون المثنى للإضافة إلى "كما" فثعلب يرى أن الكلمة "فعل" وأن الألف الثانية فيها اسم، والمبرد يخالفه في الأمرين فالكلمة "اسم" والألف الثانية حرف علامة المثنى، أما الألف الأولى عندهما فهي لام الكلمة سواء أكانت فعلا كما يرى ثعلب أم اسما كما يرى المبرد، ولما طال تلاحيهما2 بحضرة الأمير قال ثعلب للأمير: أيصح أن يقال: مررت بالزيدين ظريفي عمرو؟ فيضاف نعت

_ 1 المتنتان: في القاموس متنا الظهر مكتنفا الصلب "ويؤنث"، وخظانا إن كانت فعلا فالفعل من باب سما وفي القاموس خظا لحمه اكتنز، وإن كانت اسما مثنى فالمفرد خظاة، وفي الصحاح لحم خظاة بظاء مكتنز، وقوله كما أكب على ساعديه النمر يريد لها متنتان كساعدي النمر البارك في صلابتهما، والبيت في وصف فرسه من قصيدة طويلة. 2 أي: تنازعهما ومجادلة أحدهما الآخر.

الشيء إلى غيره، فقال: لا والله ما يقال هذا، ثم التفت إلى المبرد فأمسك ولم يقل شيئا، ثم قام من المجلس مقهورا. قال ياقوت1: "لا أدري لم لا يجوز هذا؟ وما أظن أحدا ينكر قول القائل: رأيت الفرسين مركوبي زيد، ولا الغلامين عبدي عمرو، ولا الثوبين دراعتي2 عمرو، ومثله مررت بالزيدين ظريفي عمرو، فيكون مضافا إلى عمرو، وهو صفة لزيد، وهذا ظاهر لكل متأمل". وقال القفطي: "قال البصريون والقول ما قاله المبرد، وإنما ترك الجواب أدبا مع محمد بن عبد الله بن طاهر لما تعجل اليمين وحلف: لا يقال هذا"3. ومع استظهار ياقوت له ونقل القفطي موافقة البصريين له، فالنفس لا تستريح إليه، نعم لا نكران في صحة الأمثلة المنظر بها من ياقوت لكنها ليست مما ينبغي التنظير بها لأنها من قبيل الأبدال لا النعوت فلا تشفع في صحة دعوى المبرد ولهذا قال البغدادي: "وأقول هذه الأمثلة كلها أبدال لا نعوت لعدم الربط". ومن العجب الذي يسترعي النظر أن هذا البيت نفسه قد وقع فيه الخلاف سابقا قبل المبرد وثعلب على هذا النحو بين الكسائي والفراء وكان رأي الكسائي فيه ما قال ثعلب في المناظرة، ورأي الفراء فيه ما قال المبرد فيها، غير أن الفراء اعتبر حذف النون في المثنى لضرورة النظم لا للإضافة كما قال المبرد، وعلى هذا ففي توجيه البيت أقوال ثلاثة، وتخريج الفراء مقبول وإن لزمته ضرورة حذف النون فإن مقابله وهو تخريج الكسائي قد لزمه ضرورة عوم لام الفعل فقد تساوى الرأيان والتكافؤ بينهما قائم، وقد عرض

_ 1 راجع معجم الأدباء ترجمة ثعلب. 2 الدراعة بضم الدال وتشديد الراء ثوب من صوف. 3 إنباه الرواة ترجمة ثعلب.

لهما في البيت ابن يعيش في شرح المفصل قسم الحروف مبحث تاء التأنيث الساكنة وابن هشام في المغني الباب الأول مبحث "كل"، وقد استشهد بالبيت الرضي في شرح الشافية مبحث التقاء الساكنين على نمط رأي الكسائي، وكتب على البيت شارح شواهده البغدادي فأوفاه حقه، ونقل كل ما قيل فيه من خلاف بين الكسائي والفراء ومن مناظرة بين المبرد وثعلب مع الإسهاب المفيد في الشاهد الثالث والثمانين، وموطن العبرة في هذا المقام أن بيتا يحدث فيه خلاف بين السابقين مشهور متعالم تتناقله الكتب أخيرا، ثم تجد في البيت نفسه بعدئذ مناظرة يخفق فيها أحد المتناظرين وتتناقلها كتب أخرى، وبعد إذ يدع العلماء المسألة على أذلالها1 دون تمحيص فيها يتبين منه جلية الأمر، ومن ثم ترى انفساح الميدان للأقاويل والخلافات، وربما لو تكشفت الحقائق الأولى بصورة واحدة وتناولها كل من تناولها وهي هي دون نقص أو زيادة أو تحريف. وتكشفت مع هذا أيضا آراء العلماء بعضهم لبعض لتغير مجرى العلم في كثير من المسائل، وإنك لتأخذ من ذلك مثلا من الأمثال في عدم الوقوف على حقائق المسائل، إذ ليس في وسع كل كاتب ومؤلف أن تكون كل الرغائب في مكنة يده وتحت بصره، فللكاتب بعدئذ العذر فيما يكتب أو يملي، إذ يعتمد على معيار تفكيره ومنطقه وعلى كل حال جزى الله السابقين عن أهل العلم خير الجزاء. هذا ويقرب من المناظرات شأنا، وإن غايرها اتجاها، ما يعرف عند المؤرخين بالمجالسات، ولقد كان يجري فيها التساؤل عرضا، ولذا حرص على تدوينها المتأدبون بل كتبت فيها أسفار خاصة، كمجالس "أبي مسلم، ومجالس ثعلب"، ولنذكر واحدا منها مما جرى في هذا الطور كضرب المثل.

_ 1 في القاموس: ودعه على أذلاله، حاله بلا واحد.

مجالسة الرياشي وثعلب: قال ياقوت: "قال أبو العباس ثعلب: كنت أسير إلى الرياشي لأسمع منه، وكان نقي العلم، فقال لي يوما وقد قرئ عليه: ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سني لمثل هذا ولدتني أمي كيف تقول؟ بازلُ أو بازلَ؟ فقلت: أتقول هذا في العربية إنما أقصدك لغير هذا، يروي بازلُ أو بازلَ: بالرفع على الاستئناف، والخفض على الإتباع، والنصب على الحال، فاستحيا وأمسك"1. وقد نقل هذه المجالسة ابن هشام في المغني، الباب الأول، مبحث: أم. نعم، استشهد ثانيا بهذه الأبيات في الباب الثامن القاعدة الأولى "إعطاء الشيء حكم ما أشبه في اللفظ" على إعطاء الحرف حكم مقاربه في المخرج حتى يقعا رويين، كما في الأبيات2، كما نقل هذه المجالسة السيوطي في الأشباه والنظائر، الفن السابع، فن المناظرات والمجالسات إلخ، وإيضاح هذا الإعراب أن الرفع على أنه خبر "أنا" محذوفة، والجملة مستأنفة، والخفض على "البدلية من ياء المتكلم بدل كل من كل"، إلا أنه يرد على هذا أن بدل الظاهر من ضمير المتكلم لا يكون إلا حيث تكون الإحاطة والشمول. نعم، إذا جرينا على مذهب الأخفش المبيح للبدلية بدون شرط فلا بأس، والنصب على أنه حال من ياء المتكلم.

_ 1 معجم الأدباء ترجمة ثعلب، العوان: من الحروب التي قوتل فيها مرة، والبازل: اسم فاعل من بزل البعير إذا طلع نابه وذلك في تاسع سنيه لأنه إذا دخل في العاشرة سمي مخلفا وليس له بعد الإخلاف اسم، ولكن يقال بازل عام أو عامين ومخلف عام أو عامين، ويطلق البازل أيضا على الرجل الكامل في تجربته وعليه فلا تشبيه في البيت والشعر لأبي جهل قاله يوم بدر أو تمثل به وكان مغرورا مأفونا أكذبه الله إذ كان في هذه الموقعة هلاكه، والأبيات مذكورة في الكامل شرح الرغبة ج6 ص227 وفي نهاية الأرب جـ17 "غزوة بدر الكبرى". 2 وهو من عيوب القافية، ويسمى الإكفاء: فإن تباعد حرفا الروي سمى إجازة.

وبحسبنا هذا المقدار من المناظرات والمجالسات، ومن أراد أن يتزيد فعليه الرجوع إلى الأشباه والنظائر "الفن السابع، فن المناظرات، والمجالسات والمذكرات، والمراجعات والمحاورات، والمكاتبات، والمراسلات، والواقعات، والفتاوى". بقي علينا أن نعود إلى المقصود بالذات، فنتكلم على ما يتعلق بمشاهير البصريين والكوفيين في طبقاتهما، وأسباب الخلاف بين الفريقين وتغير اتجاهيهما وحكمة تخصص كل منهما باتجاهه، ونتائج هذه الفروق، والموازنة بين المذهبين فإن ذلك متصل بالأطوار الماضية.

مشاهير البصريين والكوفيين

مشاهير البصريين والكوفيين: جدير بمن يريد أن يفقه النحو على الوجه المرضي أن يتعرف تاريخ النحاة القدامى، ويقف على طبقاتهم التى انضووا إليها وترتيب هذه الطبقات بحسب الزمن منذ تدوينه إلى منتهى الاجتهاد فيه، وحبذا لو استكمل بمعرفة المتأخرين، إذ بذلك كله تنكشف له تطورات هذا الفن، ويقر في نفسه صحة انتساب القول لقائله، ويدرك وجهة الرد عليه ويتفهم حكمة الموافقة له وعلة مخالفته حتى لكأنه معهم يستمع بنفسه، ويرحل من بلد إلى آخر معهم. ولا جرم أن المعلومات إذا ارتبطت بمعرفة مصادرها رجالا وزمانا ومكانا تلقفتها العقول بالقبول، ورسخت في الحوافظ إذ نفذت إليها من سبيلها المنير، فلا تختلط مسائله، ولا تضطرب الآراء فيه على الطالب حتى يكون كضال في مهمة مشتبه الأعلام مغبر الأرجاء. قال أبو الطيب بعد كلام طويل أنحى فيه باللائمة على من يجهل الرجال وترتيبهم، وسرد كثيرا من الأمثلة في ذلك ما نصه: "ولقد بلغني عن بعض من يختص بهذا العلم ويرويه، ويزعم أنه يتقنه ويدريه، أنه أسند شيئا، فقال عن الفراء عن المازني فظن أن الفراء الذي هو بإزاء الأخفش كان يروي عن المازني1، وحدثت عن آخر أنه روى مناظرة جرت بين ابن الأعرابي

_ 1 والمازني أخذ عن الأخفش.

والأصمعي وهما ما اجتمعا قط، وابن الأعرابي بإزاء غلمان الأصمعي، وإنما كان يرد عليه بعده، وحري بمن عمي عن معرفة قوم أن يكون عن علومهم أعمى وأضل سبيلا "1. لهذا سنذكر علماء البصرة والكوفة، فإن هذا العلم إنما نشأ ونما وازدهر فيهما دون غيرهما من سائر الأمصار الإسلامية، فلم يكن بالحجاز ولا بالشام شيء يذكر من النحو واللغة بجانب ما في العراق. أما الحجاز فإن بني أمية قد أغدقوا على أهل المدينة ومكة العطايا المتدفقة من خزائن الشام خشية قيام من بهما من الهاشميين وأبناء الصحابة بالمطالبة بالخلافة ووسعوهم بالحلم حتى أخلدوا إلى التمتع بلذائذ الدنيا، ونبغ فيهم المغنون وأهل القصف2، وصدفوا عن النظر إلى هذا العلم، واستمر ذلك دأبهم حتى في خلافة العباسيين. وأما الشام فإن دمشق صارت دار الخلافة والملك، وقد عرفت آنفا أن وضع هذا العلم في البصرة، ونشوءه في البصرة والكوفة. قال أبو الطيب: "ولا علم للعرب إلا في هاتين المدينتين، فأما مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا نعلم بها إماما في العربية، قال الأصمعي: أقمت بالمدينة زمانا ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة، وكان بها ابن دأب يضع الشعر وأحاديث السمر وكلاما ينسبه إلى العرب فسقط وذهب علمه وخفيت روايته "وهو عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب الكناني، يكنى أبا الوليد وكان شاعرا وعلمه بالأخبار أكثر" وممن كان بالمدينة أيضا علي الملقب بالجمل، وضع كتابا في النحو لم يكن شيئا، وأما مكة فكان بها رجل من الموالي يقال له ابن قسطنطين، شدا شيئا من النحو، ووضع كتابا

_ 1 مراتب النحويين، ونقل في المزهر أول النوع الرابع والأربعين. 2 في القاموس: وأما القصف من اللهو فغير عربي وفي المصباح: القصف اللهو واللعب قال ابن دريد لا أحسبه عربيا.

لا يساوي شيئا"1. وفي الحق أن العراق وبه "البصرة والكوفة" يجب أن يتقدم البلاد الإسلامية في هذا العلم، إذ كان قبل الفتح الإسلامي موطن العجم، وبعده قد انثال عليه المسلمون من كل صوب، لأنه أخصب البلاد الإسلامية وأنضرها في الصدر الأول، تضامت فيه أسباب رفاهية الحياة ورغد العيش، فاستوطنه العرب والعجم، ونعموا جميعا بخيراته الوفيرة، فظهرت أرزاء اللحن فاشيه فيه، ظهورا لا مثيل له في سائر البلاد، مما تقاضى أهل العلم والمعرفة أن يتلافوا الأمر قبل تفاقمه. يضم إلى هذا أن العراقيين ذوو عهد قديم بالعلوم والتأليف، ولهم خبرة فيهما متوارثة تليدة، وفيهم شغف وميل إلى تعرف الوسائل التي تقوم أود2 لسانهم وتنقلهم إلى مصاف3 إخوانهم العرب، فمن هذا وذاك نبتت نابتة هذا الفن في العراق وترعرعت فيه، إذ ما كان على أهله بعد هذا الاقتضاء إلا أن يطبقوا قواعد هذا الفن الحديثة على منوال ما نسجوا عليه قديما في تعاليمهم، وينهجوا فيها على غرار ما ألفوه في نظمهم، وتلك خطة مستطاعة. وإننا حين نريد الحديث عن رجال هذا العلم في العراق فإنما نريد بالعراق: البصرة والكوفة لا بغداد، لأنهما قد تأسستا في فجر الإسلام فكان بهما مولد النحو ومهده ومدرجه، أما بغداد فإن تخطيطها في صدر الدولة العباسية التي اتخذتها مقر خلافتها كما اتخذت الدولة الأموية دمشق مقر خلافتها، فتبوأت بغداد مكانة دمشق، وصارت مدينة الخلافة والملك، كما كانت سالفتها دمشق فلم يتقدم ببغداد الزمن حتى تشاطر أختيها -البصرة والكوفة- مزاولة هذا العلم.

_ 1 مراتب النحويين، ونقل في المزهر، وترجمه ابن دأب في معجم الأنباء. 2 اعوجاج، والفعل: أود يأود كفرح يفرح. 3 جمع مصف وهو موضع الصف.

قال أبو الطيب: "وأما بغداد فمدينة ملك وليست بمدينة علم، وما فيها من العلم منقول إليها ومجلوب للخلفاء وأتباعهم"1. وسنبدأ بذكر طبقات البصرة قبل الكوفة إذ إن البصرة كما عرفت استأثرت بهذا العلم زهاء مائة عام، ثم تعاصرتا فكانت الأولى الكوفية والثالثة البصرية، وهكذا حتى الخامسة الكوفية والسابعة البصرية اللتان توطنتا بغداد، ثم كان البغداديون والأندلسيون، والمصريون والشاميون. والنظر في تعاقب طبقة لأخرى يرجع إلى الهيئة العامة فيهما، فربما أخذ واحد أو أكثر من طبقة عن واحد أو أكثر من طبقة سابقة، لا أن يأخذ كل عن كل، فالمنظور إليه المجموع لا الجميع، ولكتاب التراجم في فريقي البصريين والكوفيين مخالفات في عد الطبقات نشأ عنها اختلاف في وضع بعض الرجال ببعضها، ولعل مبعث هذا اللاحق الزمني وتقارب المعاصرة دون حد ظاهر فاصل بين كل طبقة وأخرى، على أنه ليس لهذا الاختلاف من أثر، وأول من صنف الطبقات أبو العباس المبرد وضع كتابه طبقات النحويين البصريين، ثم صنف بعده أبو الطيب اللغوي كتابه مراتب النحويين، ثم ألف بعده السيرافي كتابه أخبار النحويين البصريين، ثم دون بعده الزبيدي كتابه طبقات النحويين واللغويين، ثم صنف بعده الأنباري كتابه نزهة الألبا في طبقات الأدبا، ثم ألف القفطي بعده كتابه إنباه الرواة على أنباه النحاة، ثم اطرد التأليف بعدئذ وظهرت كتب لا حاجة لذكرها، وقد عولنا على ما اشتهر بينهم في الطبقات كما اقتصرنا على مشاهير الرجال في كل طبقة. وقد التزمت مع العلماء الذين جرى التعريف بهم في الكتب النحوية بلقب أو كنية أن أذكر اسمهم الحقيقي مع ما اشتهروا به من كنية أو لقب حتى يسهل على الراغب الكشف على ما يجب الاطلاع عليه منها في كتب التراجم والمعاجم، فإن أغلبها مرتب على حسب الحروف الأبجدية باعتبار

_ 1 مراتب النحويين ومنقولة في المزهر المبحث الماضي.

الأسماء أنفسها بينما المعروف الشائع على الألسنة إنما هو هذه الألقاب وتلك الكنى، وهكذا سأصنع مع جميع العلماء الذين سأعرض لهم في هذا الكتاب إن شاء الله. فكم يلاقي الطالب من النصب واللغوب إذا هو حاول تعرف تاريخ واحد من هؤلاء وهو لم يقف على اسمه الحقيقي، فربما ضاع عليه من الوقت الذهبي آناء كان في فسحة عن إضاعتها، وكل طرفه وتصدع رأسه وهو ما يزال ينشد ضالته، وهاك جدولا فيه طبقات الفريقين، تتبين منه إجمالا أسبقية البصريين وانفراد الفريقين بعد الاشتراك، وأشهر العلماء منهما:

هذا وإذا كان الفضل لأبي الأسود وهو جذع هذه الدوحة الفرعاء، فإنا نبدأ به.

أبو الأسود الدؤلي: هو ظالم بن عمرو، من الدئل: بطن من كنانة، كان من سادات التابعين، ورد البصرة من عهد عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- ولبث بها إلى أن تولى بعض العمل فيها لابن عباس -رضى الله عنهما- عامل علي كرم الله وجهه أيام خلافته، ولم يبرحها مع الإيذاء الذي كان يلقاه من عمال بني أمية، وأصهاره الذين كانوا يرجمونه ليلا لما عرف عنه من تشيعه لعلي كرم الله وجهه، يقول من مقطوعة له في زياد: رأيت زيادا صد عني بوجهه ... ولم يك مردودا عن الخير سائله ومن مقطوعة أخرى في ابنه عبيد الله: دعاني أميري كي أفوه بحاجتي ... فقلت فما رد الجواب ولا استمع ويقول في مطلع قصيدة له في أصهاره: يقول الأرذلون بنو قشير ... طوال الدهر ما تنسى عليا كان أعلم عصره بكلام العرب، وله أجوبة مسكتة في أمالي المرتضى المجلس العشرين، وتقدم أنه واضع النحو على الصحيح بتعليم علي كرم الله وجهه، وأول من دون فيه، كما أنه أول من ضبط المصحف بالشكل، أخذ عنه نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر وغيرهما، توفي رحمه الله بالبصرة في الطاعون الجارف سنة 69هـ1.

_ 1 ترجمته في جميع المعاجم، وخزانة الأدب الشاهد الأربعين، ودائرة المعارف الإسلامية.

طبقات البصريين السبع

طبقات البصريين السبع: الطبقة الأولى: 1- نصر بن عاصم الليثي: المتوفى سنة 89هـ. 2- عنبسة بن معدان الفيل، المهري: لقب بالفيل لأن أباه كان يروض فيلا للحجاج، فغلب عليه اللقب ثم انتقل منه إليه، ولم نقف على تاريخ وفاته إلا أننا نعرف أنه عاصر الفرزدق، فلعل وفاته كانت حول المائة الأولى من الهجرة. "وكان ممن يختلف إلى أبي الأسود لتعلم العربية، ونقل عن الخليل أن أبرع أصحاب أبي الأسود عنبسة الفيل، وأن ميمونا الأقرن أخذ عنهم". 3- عبد الرحمن بن هرمز، وأبو داود الأعرج: المتوفى بالإسكندرية سنة 117هـ. 4- يحيى بن يعمر العدواني، أبو سليمان: وهو الذي قال له الحجاج الثقفي يوما: أتسمعني ألحن؟ قال: في حرف واحد، قال في أي؟ قال: في القرآن، قال: ذلك أشنع، ثم قال: ما هو؟ قال: تقول: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فتقرأ "أحبُّ" بالرفع، قال الحجاج: لا جرم أنك لا تسمع لي لحنا بعد هذا ثم ألحقه بخراسان، فولاه يزيد بن المهلب القضاء بها، كان شيعيا، فصيحا بليغا، يستعمل الغريب في كلامه، توفي سنة 129هـ1. وهؤلاء الأربعة ما منهم إلا من عزي إليه وضع النحو في بعض الروايات وما من شك أن إعجام المصحف بالنقط لدفع التصحيف كان من نصر ويحيى بأمر الحجاج في عهد عبد الملك بعد إعجامه بالشكل لدفع التحريف من أستاذهما أبي الأسود في خلافة معاوية2.

_ 1 في النجوم الزاهرة: إنه توفي سنة 89. قال: "وكان عالما بالقراءات والعربية، وهو أول من نقط المصاحف، وكان ولاه الحجاج قضاء مرو، وكان يقضي بالشاهد واليمين". اهـ. 2 في البرهان للزركشي ج1 ص25. أسند الزبير في كتاب الطبقات عن المبرد، أن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي وذكر أيضا أن ابن سيرين كان له مصحف نقطه له يحيى بن يعمر، وذكر أبو الفرج، أن زياد بن أبي سفيان أمر أبا الأسود أن ينقط المصحف. وذكر الحافظ في كتاب "الأمصار" أن نصر بن عاصم أول من نقط المصاحف وكان يقال له نصر الحروف.

الطبقة الثانية

الطبقة الثانية: 1- ابن أبي إسحاق: هو أبو بحر عبد الله بن أبي إسحاق زيد الحضرمي، البصري، اشتهر بكنية ولده، وكان مولى آل الحضرمي، أخذ عن نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وجد في هذا العلم حتى بلغ الغاية فيه، سئل عنه " يونس " فقال: "هو والنحو سواء"، كان أول من علل النحو، كما كان شديد التجريد للقياس والعمل به كما سلف. وعاصره "عيسى بن عمر الثقفي"، و"أبو عمرو بن العلاء"، وجمع بينه وبين أبي عمرو بلال بن أبي بردة عامل البصرة من قبل خالد القسري والي العراق لهشام بن عبد الملك، قال: "ابن سلام": "قال أبو عمرو: فغلبني ابن أبي إسحاق بالهمز1، فنظرت فيه بعد ذلك وبالغت فيه". كان كثير السؤال للفرزدق "قال ابن هشام: قد حضر يوما مجلس عبد الله فقال له كيف تنشد هذا البيت: وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر فأنشده "فعولان"، فقال له عبد الله: ما كان عليك لو قلت: فعولين؟ فقال الفرزدق: لو شئت أن أسبح لسبحت ونهض فلم يعرفوا مراده، فقال عبد الله: لو قال فعولين لأخبر أن الله خلقهما وأمرهما، ولكنه أراد أنهما

_ 1 في المزهر: وكان يقال: عبد الله أعلم أهل البصرة وأعقلهم ففرع النحو وقاسه وتكلم في الهمز حتى عمل فيه كتابا مما أملاه وكان رئيس الناس وواحدهم.

تفعلان ما تفعل الخمر"1. ثم تدرج الأمر بعبد الله إلى إعنات الفرزدق في شعره نفسه إذ عابه في قوله: وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلفُ2 فقال له: بم رفعت " أو مجلف "؟ فقال له: بما يسوءك وبنوءك، علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا، كما عابه في قوله: مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور على عمائمنا يلقى وأرحلنا ... على زواحف تزجي مخها رير3

_ 1 راجع الأشباه والنظائر الفن السابع فن المناظرات والمجالسات إلخ، والبيت من قصيدة طويلة لذي الرمة. 2 راجع مقدمة الشعر والشعراء، نقد الشعر، عض الزمان: شدته، والمسحت: المستأصل، والمجلف: الباقي منه بقية، والإشكال في البيت مبني على فتح الدال في "يدع" ونصب "مسحت"، وقد خرج العلماء رفع "مجلف" على أوجه منها ما قال ابن يعيش في شرح المفصل، باب العلم المنقول جـ10، وباب الإعلال في الواو والياء لامين جـ10: إنه معطوف على المنصوب بملاحظة المعنى، إذ كأنه قال: بقي مسحت، ومنها وجهان آخران ذكرهما الرضي في شرح الكافية آخر عطف النسق، أما على رواية كسر الدال في يدع ورفع مسحت كما قال ابن جني في الخصائص "باب القول على الاطراد والشذوذ" فلا إشكال، ومعنى يدع حينئذ يسكن، وقد أحاط بنقل ما تقدم ما التفصيل والزيادة على نسبة القول لابن يعيش البغدادي في الخزانة شاهد 357، والبيت من قصيدة طويلة من النقائض في مدح عبد الملك مع أنه ليس فيها ما يتصل بالمدح إلا هذا البيت مع آخر قبله، فإن ما قبلهما نسيب وما بعدهما في كلام الإبل والفخر بآبائه على جرير. 3 راجع الشعر والشعراء، المبحث السابق، الشمال: الريح المعلومة والحاصب الريح التي تسير الحصباء، والزواحف جمع زاحفة: الإبل التي أعيت فجرت فراسنها "جمع فرسن كزبرج، وهو البعير كالحافر من دابة" وتزجي: تساق، ورير فاسد ذائب من الهزال. وقد تكلف بعض العلماء تصحيح الجر لرير بأن الأصل على زواحف رير مخها وهو كما ترى. ولذا اعترف الفرزدق مع المكابرة فقال نزجيها محاسير، والمحاسير جمع محسور أي متعب. والبيتان من قصيدة في مدح يزيد بن عبد الملك وهجاء يزيد بن المهلب.

فقال: إنما هو "رير" بالرفع، وإن رفع أقوى، فوجد1 عليه الفرزدق، وقال: أما وجد هذا المنتفخ الخصيين لبيتي مخرجا في العربية؟ أما لو أشاء لقلت: على عمائمنا يلقى وأرحلنا ... على زواحف نزجيها محاسير ولكني والله لا أقوله، ثم هجاه بقوله: ولو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى مواليا2 فقال عبد الله: عذره شر من ذنبه، فقد أخطأ أيضا، والصواب: مولى موال توفي سنة 117هـ3. 2- عيسى بن عمر الثقفي البصري: هو أبو عمر مولى خالد بن الوليد، نزل في ثقيف فنسب إليهم، أخذ عن ابن أبي إسحاق وغيره، وكان مولعا بالغريب والتشادق، استودعه بعض أصحاب خالد القسري والي العراق لهشام بن عبد الملك وديعة، فلما نزع خالد عن ولاية العراق وتقلدها يوسف بن عمر الثقفي استدعاه من البصرة لأخذ الوديعة فأنكرها ولما اشتد عليه ضرب السياط جعل يقول: "والله إن كانت إلا أثيابا في أسيفاط قبضها عشاروك"4، وروي أن الضارب له عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراق من قبل خالد بن عبد الله. وقد لزمته علة من ذلك الضرب بقية حياته، وهو صاحب الكتابين

_ 1 فوجد عليه أي غضب. 2 راجع الشعر والشعراء والمولى: الحليف ولا يحالف إلا الذليل، فالمعنى لو كان ذليلا لهجوته ولكنه أذل من الذليل لأنه حليف الحضرميين وهم حلفاء بني عبد شمس، والتخطئة في البيت معروفة في النحو باب ما لا ينصرف، راجع سيبويه جـ2 ص58 وشرح المفصل والرضي على الكافية راجع الخزانة شاهد 35. 3 راجع رقم "1" ص29 حاشية. 4 راجع العبارة في مقدمة أدب الكاتب وعيون الأخبار "كتاب العلم والبيان التشادق والغريب" جـ2، وخزانة الأدب الشاهد التاسع.

المشار إليهما سابقا1. توفي سنة 149هـ. 3- أبو عمرو بن العلاء: هو زيان بن العلاء بن عمار المازني التميمي، قال ياقوت: "واختلف في اسمه على أحد وعشرين قولا، والصحيح أنه زبان لما روي أن الفرزدق جاء معتذرا إليه من هجو بلغه عنه، فقال له أبو عمرو: هجوت "زبان" ثم جئت معتذرا ... من هجو "زبان" لم تهجو ولم تدع فاعتذر إليه الفرزدق وامتدحه بمقطوعة منها قوله: ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها ... حتى أتيت أبا عمر بن عمار2 أخذ النحو عن نصر بن عاصم وغيره واشتهر بالقراءات والعربية وأيام العرب ولهجات القبائل. ومن الطريف لهذه المناسبة أن عيسى بن عمر جاءه متعجبا من تجويزه "ليس الطيب إلا المسك" بالرفع، فقال له أبو عمرو: نمت يا أبا عمر وأدلج الناس، ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، وليس في الأرض تميمي إلا وهو يرفع، ثم أرسلا اليزيدي وخلفا الأحمر للتثبت من العرب، فكان كما أخبر أبو عمرو، فأخرج عيسى خاتمه من يده وقال: ولك الخاتم، بهذا والله فقت الناس3. لكنه مع هذا لم يخلف أثرا مكتوبا، ذلك أنه لما تنسك أحرقها وتفرد للعبادة، توفي رحمه الله في الكوفة عائدا من دمشق سنة 154هـ4.

_ 1 الجامع والإكمال. 2 البيت من شواهد سيبويه في جـ2 على حذف التنوين من عمرو ص148 وعلى دخول أفعلت على فعلت ص237 وعلى الأول استشهد به ابن يعيش في باب العلم وعلى الثاني أدب الكاتب كتاب الأبنية معاني أبنية الأفعال والرضي على الشافية راجع الشاهد رقم 16 والبيت من ثلاثة أنشأها له لما صعد إلى غرف ووصل إليه. 3 هذه الحادثة الطريفة مفصلة في ذيل الأمالي ص39 وطبقات الزبيدي، والمغني الباب الأول مبحث ليس، والأشباه والنظائر الفن السابع. 4 ترجمته في المعاجم المرتبة أبجديا في العين إلا في معجم الأدباء وفوات الوفيات ففي الزاي، وراجعها في شرح شواهد الشافية رقم 16، ودائرة المعارف الإسلامية.

الطبقة الثالثة

الطبقة الثالثة: 1- الأخفش الأكبر1: هو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد مولى قيس بن ثعلبة، من أهل هجر أول الأخافشة الثلاثة المشهورين، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء وطبقته، ولقي الأعراب فأخذ عنهم. قال الرضي: في شرحه على الكافية باب أسماء الأفعال المنقولة من الظروف: "وسمع أبو الخطاب من قيل له: إليك فقال إلي" وتوفى سنة 177هـ2. 2- الخليل بن أحمد: هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، الأزدي، ولد بالبصرة، وشب على حب العلم، فتلقى عن أبي

_ 1 الأكبر المذكور والأخفش الأوسط هو: أبو الحسن سعيد بن مسعدة تلميذ سيبويه مات سنة عشر ومائتين وقيل بعدها والثالث الأخفش الأصغر أبو الحسن علي بن سليمان من تلامذة المبرد وثعلب مات سنة خمس عشرة وثلثمائة والرابع أحمد بن عمران بن سلامة الألهاني مصنف غريب الموطأ مات قبل الخمسين ومائتين والخامس أحمد بن محمد الموصلي أحد شيوخ ابن جني مصنف كتاب تعليل القراءات السبع والسادس خلف بن عمرو اليشكري البنسي مات بعد الستين وأربعمائة والسابع عبد الله بن محمد البغدادي من أصحاب الأصمعي والثامن عبد العزيز بن أحمد الأندلسي من مشايخ ابن عبد البر والتاسع علي بن محمد الإدريسي مات بعد الخمسين وأربعمائة والعاشر علي بن إسماعيل بن رجاء العاطمي والحادي عشر هارون بن موسى بن شريك القارئ مات سنة إحدى وسبعين ومائتين. 2 قال صاحب النجوم الزاهرة: هو شيخ العربية أخذ عنه سيبويه ولولا سيبويه لما كان يعرف فإن الأخفش الأوسط الذي أخذ عن سيبويه أيضا هو المشهور. ولأبي الخطاب الأخفش هذا أشياء غريبة ينفرد بها عن العرب. وفي المزهر: وأبو الخطاب أول من فسر الشعر تحت كل بيت وما كان الناس يعرفون ذلك قبله وإنما كانوا إذا فرغوا من القصيدة فسروها.

عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر الثقفي وغيرهما، ثم ساح في بوادي الجزيرة العربية، وشافه الأعراب في الحجاز ونجد وتهامة، إلى أن ملأ جعبته ثم آب إلى مسقط رأسه البصرة، واعتكف في داره دائبا على العلم ليله ونهاره هائما بلذته الروحية، فنبغ في العربية نبوغا لم يسبق إليه، وبلغ الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو. قال الزبيدي: "وهو الذي بسط النحو ومد أطنابه، وسبب علله، وفتق معانيه، وأوضح الحِجاجَ فيه، حتى بلغ أقصى حدوده وانتهى إلى أبعد غاياته، ثم لم يرض أن يؤلف فيه حرفا أو يرسم منه رسما ترفعا بنفسه وترفعا بقدره إذ كان قد تقدم إلى القول عليه والتأليف فيه، فكره أن يكون لمن تقدمه تاليا، وعلى نظر من سبقه محتذيا، واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره، ونتائج فكره ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه، وتقلده وألف فيه الكتاب الذي أعجز من تقدم قبله، كما امتنع على من تأخر بعده"1. وقال السيوطي: "كان أعلم الناس وأذكاهم، وأفضل الناس وأتقاهم"، وقال محمد بن سلام: "سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع"2. فلا غرو أنه لولا تعهد الخليل النحو في نشأته لبعد عنه طور النضوج والكمال، فللخليل فضل النهوض به كما لأبي الأسود فضل تكوينه، نعم قد اتفقت كلمة العلماء على أن الخليل واضع فن الموسيقى العربية، وواضع علم العروض والقافية، وأول من دون معجما في اللغة بتأليفه "كتاب العين" وله بعدئذ مأثرة الشكل العربي المستعمل الآن، وله مؤلفات أخرى في غير اللغة أيضا.

_ 1 أول كتابه: استدراك الغلط الواقع في كتاب العين، ونقل هذا الكلام في المزهر النوع الأول المسألة السادسة عشرة. 2 المزهر "النوع الرابع والأربعون".

كان رحمه الله في فاقة وزهد لا يبالي الدنيا، بينما الناس محظوظون بها من علمه وكتبه، وجه إليه سليمان بن علي عم أبي العباس السفاح والي فارس والأهواز رسولا لتأديب ولده، فأخرج الخليل إلى الرسول خبزا يابسا وقال: ما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان، فقال الرسول: فما أبلغه عنك؟ فقال أبياتا مطلعها: أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال توفي رحمه الله بالبصرة، متأثرا بصدمة في دماغه من سارية سنة 175هـ على الأصح1. 3- يونس: هو أبو عبد الرحمن يونس بن حبيب الضبي مولى بني ضبة، أخذ عن أبي عمرو وغيره، وواجه العرب فسمع منهم حتى غدا مرجع الأدباء والنحويين في المشكلات، وكانت له حلقة دراسة في المسجد الجامع بالبصرة يؤمها العلماء والأدباء وفصحاء الأعراب، وله مذاهب خاصة في النحو، منتشرة في كتبه، من ذلك قول سيبويه في باب ما يتقدم فيه المستثني: "وحدثنا يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقولون: "مالي إلا أبوك أحد" فيجعلون أحدا بدلا، كما قالوا: ما مررت بمثله أحد فجعلوه بدلا"، وقول الرضي في الكلام على "ما" الحجازية: "ونقل عن يونس أنه يجوز إعمالها مع انتقاض نفيها بإلا" وله مصنفات كثيرة في غير النحو، قضى حياته ولم يتزوج ولم يتسر، وأخباره مستفيضة في كتب التراجم، توفي بالبصرة سنة 182هـ.

_ 1 اضطربت الآراء في تاريخ وفاة الخليل بن أحمد ما بين سنة 130، 175 وقال صاحب النجوم الزاهرة والأصح أنه توفي سنة 163.

الطبقة الرابعة

الطبقة الرابعة: 1- سيبويه: هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر مولى بني الحارث بن كعب، ولقب بسيبويه "رائحة التفاح" لأن أمه كانت ترقصه بذلك في صغره، ولد بالبيضاء "بلد بفارس" من سلالة فارسية، ونشأ بالبصرة ورغب في تعلم الحديث والفقه، إلى أنه لحقه التأنيب ذات يوم بشأن حديث شريف من شيخه حماد البصري، قال ابن هشام: "وذلك أنه جاء إلى حماد بن سلمة لكتابة الحديث، فاستملى منه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء"، فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء، فصاح به حماد: لحنت يا سيبويه إنما هذا استثناء، فقال سيبويه: والله لأطلبن علما لا يلحنني معه أحد، ثم مضى ولزم الخليل وغيره"1. فكما أخذ عن الخليل أخذ عن يونس وعيسى بن عمر وغيرهم، وبرع في النحو حتى بز أترابه فيه، فاحتفى به علماء البصرة التي صار إمامها غير مدافع، وأخرج للناس كتابه الذي أكسبه فخار الأبد، فإنه شاهد صدق على علو كعبه في هذا الفن. كتاب سيبويه: جمع سيبويه في كتابه ما تفرق من أقوال من تقدمه من العلماء كأبي الخطاب والخليل ويونس وأبي زيد وعيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء وغيرهم في علمي النحو والصرف، إذ كان النحو في ذلك الحين يطلق عليهما واسمه يعمهما، وأكثرهم نقلا عنه الخليل الذي كان لا يمل لقاءه، وأنابه في رواية الفن عنه، فكان كتاب سيبويه سجلا لآراء الخليل في النحو، ولذا كثيرا ما يقول فيه سألت الخليل "وإذا أضمر، وقال: مثلا -سألته- أو حدثني، أو قال لي، إنما يعني الخليل بن أحمد"، وذلك مستفيض في الكتاب، وسأذكر بعض أمثلة للنقل عن غير الخليل. روى عن أبي الخطاب فقال: "حدثنا به أبو الخطاب عن شاعره"2، وعن يونس فقال: وزعم يونس فقال: "إنه سمع رؤبة يقول: ما جاءت

_ 1 راجع المغني الباب الأول مبحث ليس. 2 راجع جـ1 ص40.

حاجتك فرفع"1، وروى عنهما فقال: "وذلك قولك هذا عبد الله منطلق حدثنا بذلك يونس وأبو الخطاب"2، وكثر نقله عن يونس حتى نقل عنه أبوابا برمتها، فقد نقل عن فصلين من التصغير فقال: "وجميع ما ذكرت لك في هذا الباب وما أذكر لك في الباب الذي يليه قول يونس"3، لأنه كان يطمئن إليه، فكثيرا ما كان يسأله للتثبت عما سمعه من غيره قال: "وزعم عيسى بن عمر أن ناسا من العرب يقولون "إذن أفعل ذاك" في الجواب، فأخبرت يونس بذلك، فقال "لا تبعدنّ ذا"، ولم يكن ليروي إلا ما سمع"4، وروى عن أبي زيد فقال: "حدثني من أثق بعربيته". فإذا اختلفت أقوال العلماء فإنه يحكيها ويوازن بينها ثم يحكم بالترجيح، ففي باب تحقير بنات الياء والواو إلخ عند الكلام على تصغير أحوى قال: "وأما عيسى فكان يقول "أُحَيٌّ" ويصرف وهذا خطأ. وأما أبو عمرو فكان يقول "أُحَيٍّ". وأما يونس فيقول هذا "أُحَيُّ" كما ترى وهو القياس والصواب" وفي باب ما يحذف من أواخر الأسماء في الوقف وهي الياءات قال: "وسألت الخليل عن القاضي في النداء فقال: أختار "يا قاضي"5 لأنه ليس بمنون كما أختار هذا القاضي، وأما يونس فقال: يا قاض، وقول يونس أقوى". وقد ضم إلى أقوال هؤلاء العلماء ما استخرجه بنفسه من القواعد اعتمادا على سماعه من العرب الخلص قال: "سمعنا العرب الفصحاء يقولون: انطلقت الصيف"، وقال: "وسمعنا بعض العرب الموثوق به يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمدِ الله وثناءٍ عليه"6، وقال: "إن هذا البيت أنشدناه أعرابي من أفصح الناس وزعم أنه شعر أبيه"7.

_ 1 راجع جـ1 ص25. 2 راجع جـ1 ص258. 3 راجع جـ2 ص109. 4 راجع جـ2 ص412. 5 لأنه مبني، والتنوين ينافي البناء عند بعضهم. 6 جـ1 ص161. 7 جـ1 ص52.

كَوَّنَ سيبويه كتابه من أقوال العلماء ومما استنبطه هو بنفسه، فكان جماع الفن، شاملا كل ما يحتاج إليه طالبه مع الترتيب والتبويب، ولكل عصر طبيعته المتسقة معه، فترتيب الكتاب على غير المألوف في كتبنا المتداولة بين أيدينا، والإسراف في عناوين أبوابه جاوز الحد فقد بلغت عشرين وثمانمائة، مع الغموض الذي لا يفصح عن المقصود لأول وهلة ومع التداخل في كثير من الأبواب، فمن ذلك على سبيل المثال باب البدل فقد قال: "هذا باب من الفعل يستعمل في الاسم ثم تبدل مكان ذلك الاسم إلخ، هذا باب من الفعل يبدل فيه الآخر من الأول إلخ، باب المبدل من المبدل منه، باب بدل المعرفة من النكرة إلخ، باب من البدل أيضا"1، وبعض عباراته الاصطلاحية حلت بدلها عبارات أخرى عندنا، ونظرة أولية إلى مستهله في ترتيب أبوابه وعناوينها واصطلاحاتها كافية في ذلك، قال: "هذا باب علم ما الكلم من العربية، باب مجاري أواخر الكلم من العربية، باب المسند والمسند إليه، باب للفظ للمعاني، باب ما يكون في اللفظ من الأغراض باب الاستقامة من الكلام والإحالة، باب ما يحتمل الشعر، باب الفاعل إلخ". فلم يك سيبويه في كتابه جمَّاعا لآراء السابقين فحسب، بل له شخصية قوية ظهرت في ابتداع بعض القواعد، وفي ترتيب الكتاب حاويا عناصر الفن كلها، وتبويبه واضعا كل شيء وما يتصل به معه، وحسن التعليل للقواعد، وجودة الترجيح عند الاختلاف، واستخراج الفروع من القياس الذي امتلأ به الكتاب، فكثيرا ما يقول: والقياس كذا، أو: والقياس يأباه، ويقول: "سألت الخليل عن قول العرب: "ما أمَيلِحَهُ" فقال: لم يكن ينبغي أن يكون في القياس لأن الفعل لا يحقر، وإنما تحقر الأسماء إلخ"2.

_ 1 في جـ1 على الترتيب 75، 79، 218، 224، 393. 2 جـ2 ص135.

وفي الحرص على الاعتزاز بالشواهد الوثيقة لدعم الأحكام التي قررها. شواهده: عني سيبويه في كتابه بالشواهد لتثبيت الأحكام والإذعان بها من القرآن الكريم ونثر العرب والشعر، ولم يجنح إلى الاستدلال بالحديث الشريف شأن أسلافه ومعاصريه وذلك لانعدام الثقة في نقل الحديث بلفظه الوارد عنه -صلى الله عليه وسلم- لتصريح العلماء بجواز الرواية بالمعني، إذ لو وثقوا بلفظه لجرى مجرى القرآن الكريم في القواعد الكلية، ثم صارت سنة جارية بعده في المتقدمين والمتأخرين لم يبتدع خلافها غير ابن خروف وابن مالك ثم الرضي الذي أضاف إلى الحديث في الاستشهاد به كلام أهل البيت رضي الله عنهم، وقد أنكر ابن الضائع وأبو حيان على ابن مالك في حديث طويل، وللشاطبي تفصيل قيم في شأن الحديث الشريف نذكره في ترجمته بمشيئة الله تعالى. فالقرآن الكريم قد بلغ ما ذكره في الكتاب من أي ما يُرْبِي على ثلثمائة آية، قال المازني اعتذارا عن تعليم الذمي الكتاب في نظير أجر كبير: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلثمائة وكذا آية من كتاب الله عز وجل ولست أرى أن ناحية الاستعمال العربي وهي بين يدي القارئ فلا حاجة إلى ذكر مثال منها، وفي غير الكثير منها قد تذكر بعض آيات استئناسا لناحية المعنى في الأحكام، قال سيبويه: "وقد يكون "علمت" بمنزلة "عرفت" لا تريد إلا علم الأول، فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} 1، وقال سبحانه: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} 2، فهي ههنا بمنزلة عرفت"3، وقد تذكر بعض آيات أخرى عندما يكون ظاهرها مخالفا للحكم الذي ذكره لتخريجها على ما يوافقه، قال سبيويه: "وأما قوله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ

_ 1 سورة البقرة، الآية: 65. 2 سورة الأنفال، الآية: 60. 3 راجع جـ1 ص18.

جَلْدَةٍ} 1، وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2، فإن هذا لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثل قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} 3، ثم قال بعد: فيها كذا وكذا، فإنما وضع المثل للحديث الذي بعده وذكر بعد أخبار وأحاديث فكأنه على قوله ومن القصص مثل الجنة أو مما يقص عليكم مثل الجنة4، فهو محمول على هذا الإضمار ونحوه والله أعلم وكذلك الزانية والزاني كأنه لما قال: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} ، قال في الفرائض الزانية والزاني، أو الزانية والزاني في الفرائض، ثم قال: {فَاجْلِدُوا} فجاء بالفعل بعد أن مضى فيهما الرفع إلخ"5، وهكذا. والشواهد النثرية المعين الذي لا ينضب في الاستشهاد لكثرتها والظفر بها عند تلمس الدليل فهي منطق العربي في غداواته وروحاته يرسلها متى شاء وحيث كان وفيما يبتغي ويريد، ويدخل فيها الأمثال السائرة يسمعها سيبويه من العلماء الذين يتلقى عنهم، أو يأخذها مشافهة من العربي وهاك شيئا منها: قال سيبويه: "ومثل قولهم "ومن كان أخاك" قول العرب: "ما جاءت حاجتك"6، وقال أيضا: "وسمعنا من يوثق به من العرب يقول: اجتمعت أهل اليمامة إلخ"7، ومن الأمثال ما قال: "كما جعلوا عسى بمنزلة كان في قولهم: عسى الغوير أبؤسا"8، وهكذا. والشواهد الشعرية كثيرة كذلك، فقد قالوا: إن فيه ألفا وخمسين بيتا غير أنه لم يعن رحمه الله بنسبة الشعر المذكور إلى قائليه في كثير من الشواهد، سواء ما استشهد به العلماء الحاكي عنهم وما استشهد به هو، لأن بعض الشعر قد روي لشاعرين أو أكثر، وبعضه قديم العهد لا يعرف قائله،

_ 1 سورة النور، الآية: 2. 2 سورة المائدة، الآية: 38. 3 سورة محمد، الآية: 15. 4 أي على حذف الخبر. 5 جـ1 ص71. 6 جـ1 ص24. 7 جـ1 ص26 أنث الفعل حيث أضيف الفاعل إلى مؤنث مع صحة الاستغناء. 8 جـ1 ص24.

فاعتمد على شيوخه فيما استشهدوا به، ونسب الإنشاد إليه، وعلى نفسه فيما سمعه بأذنه. ولم يتخذ أحد من العلماء إغفاله للنسبة سبيلا للطعن عليه، على حين أنه أخرج للناس كتابه والعلماء كثير، والعناية بهذا العلم وتهذيبه وكيدة، ولعل ذلك لأن العلماء في ذلك الحين كانوا على علم بها لقرب العهد، فإن العلماء بعدئذ تطلعوا إلى معرفة الشعراء وبحثوا عنهم، قال الجرمي: "نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتا، فأما ألف بيت فعرفت أسماء قائليها فأثبتها، وأما خمسون فلم أعرف أسماء قائليها" ويروي مثل هذا الخبر عن المازني وهما متعاصران، فالنسبة المذكورة الآن في الكتاب حادثة بعد سيبويه إما من الجرمي أو المازني، وسميت الأبيات الخمسون بين العلماء بأبيات سيبويه الخمسين المجهولة القائل، ونسبة الشعر للشاعر الصادرة من الجرمي أو المازني لم تشمل الألف كلها في الكتاب المطبوع بين أيدينا، ولا أدري سببا في ذكر القائل في بعض دون بعض، فقد كان في تعيين النسبة للألف كلها إعلان كاف عن الخمسين المجهولة، فليس وراء المعلوم إلا المجهول، والمهم إنما هو الوصول لمعرفة هذه الأبيات المجهولة الخمسين، وقد استعنت خزانة الأدب للبغدادي في الوصول إليها، فعملت منها بالنص اثنين وثلاثين، وسأذكرها لك مع الإشارة في الهامش إلى موطن كل منها في سيبويه وفي خزانة الأدب، غير أن بيتا منها قد اهتدى البحاثة الشنقيطي إلى اسم قائله في كتابه "الحماسة السنية" وهو قوله: .................................. ... أفبعد كندة تمدحن قبيلا1 فإن قائله امرؤ القيس، وهذا عجز البيت، والبيت كله: قالت فطيمة حل شعرك مدحه ... أفبعد كندة تمدحن قبيلا ومعنى البيت: "حل" تخفيف "حلئ" من حلأه إذا طرده عن الماء،

_ 1 راجع الكتاب جـ2 ص151 وخزانة الأدب شاهد 943.

ومدحه بدل اشتمال، فمرادها أن لا يمدح أحدا بعد كندة، دل على ذلك المصراع الثاني والبيت مطلع قصيدة نادرة الوجود أوردها كلها الشنقيطي مع ذكر السبب، وذلك في القسم الثاني، آخر الكلام على البرزنجي. وعلى هذا فالأبيات المجهولة في كتاب سيبويه تسعة وأربعون، والأبيات المجهولة التي أذكرها أحد وثلاثون، وهاكها بالترتيب على نسق الكتاب: أبياته المجهولة القائل أ- ما في الجزء الأول: هل تعرف الدار على تبراكا ... دار لسعدي إذه من هواكا1 أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل2 وقائلة خولان فانكح فتاتهم ... وأكرومه الحيين خلو كما هيا3 إن عليَّ الله أن تبايعا ... تؤخذ كرها أو تجئ طائعا4 وكأنه لهق السراة كأنه ... ما حاجبيه معين بسواد5 هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عون بن مخراق6 ضعيف النكاية أعداءه ... يخال الفرار يراخي الأجل7 كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص8 .................................. ... من لد شولا فإلى إتلائها9

_ 1 راجع ص9 والخزانة شاهد 83. 2 راجع ص17 والخزانة شاهد 157. 3 راجع ص70 والخزانة شاهد 77. 4 راجع ص78 والخزانة شاهد 372. 5 راجع ص80 والخزانة شاهد 370 وهو منسوب في كتاب سيبويه للأعشى. 6 راجع ص87 والخزانة شاهد 610. 7 راجع ص99 والخزانة شاهد 597. 8 راجع ص108 والخزانة شاهد 575. 9 راجع ص134 والخزانة شاهد 252.

دعوت لما نابني مسورا ... فلبي فلبي يدي مسور1 فلا تلحني فيها فإن بحبها ... أخاك مصاب القلب جم بلابله2 ووجه مشرق النحر ... كأن ثدياه حقان3 ................................... ... يا ليت أيام الصبا رواجعا4 على أنني بعد ما قد مضى ... ثلاثون للهجر حولا كميلا يذكر نيك حنين العجول ... ونوح الحمامة تدعو هديلا5 من اجلك يا التي تيمت قلبي ... وأنت بخيلة بالود عني6 يا لقوم من للعلى والمساعي ... يا لقوم من للندى والسماح يا لعطافنا ويا لرياح ... وأبي الحشرج الفتى النفاح7 فلا أب مثل مروان وابنه ... إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا8 ................................... ... لا هيثم الليلة للمطي9 بكت جزعا واسترجعت ثم آنذت ... ركائبها أن لا إلينا رجوعها10 ................................... ... حنت قلوصي حين لا حين محن11 فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب12 دعي ماذا علمت سأتقيه ... ولكن بالمغيب نبئيني13

_ 1 راجع ص176 والخزانة شاهد 93. 2 راجع ص28 والخزانة شاهد 648. 3 راجع ص281 والخزانة شاهد 871. 4 راجع ص284 والخزانة شاهد 841. 5 راجع ص292 والخزانة شاهد 216. 6 راجع ص310 والخزانة شاهد 128. 7 راجع ص319 والخزانة شاهد 108. 8 راجع ص349 والخزانة شاهد 263. 9 راجع ص354 والخزانة شاهد 261. 10 راجع ص355 والخزانة شاهد 255. 11 راجع ص358 والخزانة شاهد 258. 12 راجع ص392 والخزانة شاهد 353. 13 راجع ص405 والخزانة شاهد 444.

غير أنا لم تأتنا بيقين ... فنرجى ونكثر التأميلا1 هذا سراقة للقرآن يدرسه ... والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب2 إن الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوما على من يتكل3 وكنت أرى زيدا كما قيل سيدا ... إذ أنه عبد القفا واللهازم4 ولست أبالي بعد يوم مطرف ... حتوف المنايا أكثرت أو أقلت5 ب- ما في الجزء الثاني: لقد رأيت عجبا مذ أمسا ... عجائزا مثل السعالي خمسا6 وهيج الحي من دار فظل لهم ... يوم كثير تناديه وحيهله7 ......................................... ... وهي تنوش الحوض نوشا من علا8 فأقبل على رهطي ورهطك نبتحث ... مساعينا حتى ترى كيف نفعلا9 هذا ما يختص بالأبيات المجهولة القائل في الكتاب 10، أما الألف الباقية فقد ارتضاها جمهور العلماء سواء منها ما نسب إلى قائله وما لم ينسب إليه وقليل منهم اعترض على بعض الأبيات المنسوبة لقائلها بما يؤدي إلى عدم صحة الاستشهاد بها على ما ساقها دليلا عليه سيبويه لتحريف أو تصحيف خفي عليه في الرواية للشاهد، وقليل منهم تعقب بعض الأبيات غير

_ 1 راجع ص419 والخزانة شاهد 665. 2 راجع ص437 والخزانة شاهد 82. 3 راجع ص443 والخزانة شاهد 827. 4 راجع ص472 والخزانة شاهد 846. 5 راجع ص490 والخزانة شاهد 910. 6 راجع ص44 والخزانة شاهد 522. 7 راجع ص52 والخزانة شاهد 462. 8 راجع ص123 والخزانة شاهد 773. 9 راجع ص151 والخزانة شاهد 944. 10 قد تجد في كثير من كتب الشواهد أن بعض هذه الأبيات منسوب إلى معين والصواب أنها مجهولة القائل.

المنسوبة لقائلها واعتبرها مفتعلة مصنوعة، وهذا كله عدا الأبيات المزيدة على شواهد سيبويه فلم تذكر في أصل الكتاب معها، وقد شرحها الأعلم أيضا ناسبا كل شاهد زائد في الباب المذكور فيه لمن أنشده من العلماء الذين زادوه على شواهد الكتاب في خلال نظرهم فيه وإن فاته كمعظم الشراح "رجز" خلط بكلام الكتاب، ذلك هو قول سيبويه في باب "ما لا يعمل فيه ما قبله من الفعل، إلخ". لقد علمت أي حين عقبتي ... ............................1 وهو من شواهد الرضي "في أفعال القلوب" ونبه على كل ذلك البغدادي في الخزانة2. فهذه أصناف ثلاثة، وهاك بيانها: بعض الأبيات التي خطئوا روايتها: كثر ما طعن بعض العلماء على بعض الأبيات المنسوبة للقائل طعنا يقضي بعدم الاستدلال بها، وفي مقدمة هؤلاء ابن قتيبة، والمبرد، والعسكري، وإني لذاكر من ذلك أبياتا ثلاثة على سبيل التمثيل خوف الإطالة فمن ذلك: 1- قول عقيبة بن هبيرة الأسيدي: معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا أديروها بني حرب عليكم ... ولا ترموا بها الغرض البعيدا3 استشهد سيبويه بالبيت الأول على جواز العطف على الموضع4، فإن

_ 1 راجع سيبويه جـ1 ص122. 2 راجع خزانة الأدب شاهد 717. 3 راجع جـ1 ص34، 352، 375، 448. 4 ويسمى العطف على التوهم.

قوله "الحديدا" معطوف على محل المجرور قبله في قوله "بالجبال" لأن الباء زائدة. لقد خطأ ابن قتيبة في أواخر مقدمة الشعر والشعراء في هذه الرواية مدعيا أن الصواب الجر كبقية القصيدة، والبيت الثاني من بيتي سيبويه لا صلة له بالأول منهما، وتابعه المبرد في ذلك، وكذا العسكري في "التصحيف والتحريف". لكن العلماء المنتصرين لسيبويه، وفي مقدمتهم ابن الأنباري في كتابه "الإنصاف"، قالوا: إن البيت روي مع أبيات منصوبة ومع أبيات مجرورة، واستشهاد سيبويه منوط بالرواية الأولى فصح الاعتماد عليه، ولهذا استشهد به الرضي على الكافية، راجع الخزانة في الشاهد الرابع والعشرين بعد المائة. 2- ومن ذلك قول نهشل بن حري: لِيُبْكَ يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح1 استشهد به سيبويه في باب "ما يحذف منه الفعل إلخ" على أن رافع "ضارع" محذوف للعلم به من سابقه. وقد تعقب الأصمعي رواية البيت كذلك قائلا إن الصواب نصب يزيد بالفعل قبله، والفعل مبني للمعلوم لا للمجهول، فضارع فاعل له لا للمحذوف، وقد نقل عن الأصمعي هذا التصحيح ابن قتيبة في أواخر مقدمة الشعر والشعراء، وتبعهما العسكري في "التصحيف والتحريف". لكن العلماء الآخرون أجازوا رواية سيبويه فاقتفاه في الاستدلال بها في

_ 1 راجع جـ1 ص145 وص183، والبيت من مرثية في يزيد، راجع خزانة الأدب الشاهد الخامس والأربعين. "وقد نسب هذا البيت في كتاب سيبويه إلى الحارث بن نهيك ونسبه الأعلم في شرح شواهد الكتاب إلى لبيد ونسبه الزمخشري إلى مزرد بن ضرار ونسب السيرافي إلى الحارث بن ضرار النهشلي وأكثر العلماء على أنه لنهشل بن حري، والبيت في ديوان لبيد"50 طبع ليدن"".

"باب الفاعل" الزمخشري في المفصل، وابن الحاجب في الكافية، وابن هشام في التوضيح والأشموني في شرح الألفية. 3- ومن ذلك قول الأخطل: كروا إلى حرتيكم تعمرونهما ... كما تكر إلى أوطانها البقر1 استشهد سيبويه بهذا البيت في باب "من الجزاء ما لا ينجزم فيه الفعل إذا كان جوابا لأمر إلخ على جواز رفع المضارع وهو تعمرونهما بعد الطلب وهو "كروا" لعدم قصد الجزائية، وتبعه في الاستشهاد به الزمخشري في المفصل، والأشموني في شرحه على الألفية. لم ينبه أحد من العلماء قط على ما في البيت من خطأ ابتني عليه زعم الاستدلال بالبيت إذ مدار الاستشهاد به على أن "كروا" فعل أمر بدليل الخطاب في حرتيكم. والحقيقة أن الفعل ماض وأن صواب الشطر الأول: كروا إلى حرتيهم يعمرونهما على الحكاية للغائبين، فالبيت من قصيدة في متناول أيدي الجميع، ويبدو لي أن هذا التحريف غير معمود إليه، وإنما سري لسيبويه من الراوي المحرف، وأكاد أعتقد أن هذا البيت في تحريفه لا مثيل له في الكتاب، والعجب العاجب عدم الانتباه لما فيه من الأعلام السابقين. بعض الأبيات التي قيل: إنها مصنوعة: 1- حذر أمورا لا تضير وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار2 استشهد به سيبويه على عمل "فعل" من أبنية المبالغة، وتبعه من بعده

_ 1 راجع جـ1 ص451. 2 راجع جـ1 ص58 وراجع خزانة الأدب شاهد 605 ففيه كل ما قيل في البيت، ومعنى البيت مختلف فيه، قال ابن السيد والأشبه عندي أن يكون أراد أن الإنسان جاهل بعواقب الأمور يدبر ليخونه التدبير.

كابن يعيش في شرح المفصل، والرضي في شرح الكافية وغيرهما. لكن قال النقدة يروى عن اللاحقي أنه قال: "إن سيبويه سألني عن شاهد في تعدي "فعل" فعملت له هذا البيت". وقد تصدى للرد عن سيبوبه في الطعن الوارد على هذا البيت الكثير من العلماء قال الأعلم في شرحه لهذا الشاهد: "وإن كان هذا صحيحا فلا يضر ذلك سيبويه لأن القياس يعضده"، وقال هارون بن موسى: "وإنما أراد اللاحقي بقوله: فوضعت له هذا البيت، فرويته له"، وقال ابن يعيش في شرح المفصل: "فإن سيبويه رواه عن بعض العرب وهو ثقة لا سبيل إلى رد ما رواه"، وبعدئذ فلا مجال للطعن على سيبويه. 2- هم الفاعلون الخير والآمرونه ... إذا ما خشوا يوما من الأمر معظما 3- ولم يرتفق والناس محتضرونه ... جميعا وأيدي المعتفين رواهقه قال المبرد: "وقد روى سيبويه بيتين محمولين على الضرورة وكلاهما مصنوع، وليس أحد من المفتشين يجيز مثل هذه الضرورة لما ذكرت من انفصال الكناية، والبيتان اللذان رواهما سيبويه، وهم الفاعلون الخير، إلخ"1. المراد من الكناية الضمير، وأول من استعملها في ذلك سيبويه، وتوجيه طعن المبرد على سيبويه أن الضمير لا يتصل بالوصف المثنى أو المجموع إلا إذا تجرد من النون اللاحقة في آخره حتى يحل محلها الضمير المتصل المضاف إليه، وذلك للتناوب بين النون والضمير، فإذا اقترنت بالوصف النون وجب انفصال الضمير عنه حينئذ، والنتيجة أن الجمع بينهما ممنوع، فكيف

_ 1 راجع الكامل مع الرغبة جـ4 ص42 وما بعدها، والبيتان في سيبويه جـ1 ص96 ومعنى البيت الأول أنهم يفعلون الخير ويأمرون به وقت خشيتهم الأمر العظيم من حوادث الدهر فلا يمنعهم خوف الضرر عن الأمر بالمعروف، والثاني أنه لم يرتفق أي يتكئ على المرفق، وأيدي المعتفين طلاب المعروف، رواهقه: غاشية له قريبة منه، وذلك كناية عن اهتمام ممدوحه بقضاء حوائج الناس.

استباح سيبويه ذكر بتين اجتمع فيهما النون والضمير المتصل للضرورة مع أنهما مصنوعان؟ والذي يقتضي العجب أن المبرد يتجنى على سيبويه في هذا الانتقاد مع أن سيبويه نفسه قد صرح في البيت الأول أنه مصنوع وكذا في الثاني1، ونقل ذلك عنه ابن يعيش في شرح المفصل مبحث الإضافة اللفظية لأن صاحب المفصل ذكر الشطر الأول من البيت الأول للرد عليه، وكذا الرضي على الكافية، وقد استعرض اعتراض المبرد على البيتين وما قيل في دفع الاعتراض عليهما البغدادي في الخزانة في الشاهدين: السادس والتسعين والسابع والتسعين بعد المائتين. 4- إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد2 استشهد بالبيت مرتين الأولى على رفع ما بعد إذا، والثانية على نصب أمانة بفعل مقدر، وتابعه في الاستشهاد به على الثانية الزمخشري في المفصل عند الكلام على حروف القسم، وابن يعيش في شرح المفصل في أوائل الكلام على القسم. لكن قال النقدة: إن البيت مصنوع، والله أعلم بالحقيقة. الأبيات المزيدة على الشواهد: يرى المتأمل في شرح شواهد سيبويه للأعلم أبياتا مضافة إلى أبيات سيبويه، وقد تناولها الأعلم بالبيان لمعناها وموطن الشاهد فيها على غرار شرحه لأبيات الكتاب، غير أنه قبل ذكرها يعزوها لمنشدها في الباب المتحدث فيه ويعرض للغرض منها في الاستشهاد، ما خلا بيتين فيؤخذ منه نسبتهما لسيبويه لإطلاقه الإنشاد له على وفق طريقته في شواهده. والأبيات المزيدة بلغت أحد عشر أكثرها من إنشاد الأخفش، فالمازني، ثم

_ 1 عبارة سيبويه وقد جاء في الشعر فزعموا أنه مصنوع هم القائلون. 2 جـ1 ص434، جـ2 ص144.

الجرمي، والمبرد: ولهذا يحسن بعد ذكر البيتين المظنون نسبتهما لسيبويه سرد ما أنشده الأخفش في الكتاب مستقلا، وكذا المازني، وبعدهما أراعي ترتيب الكتاب في المبرد والجرمي. البيتان المنسوبان له وهما في الجزء الثاني: أتيت مهاجرين فعلموني ... ثلاثة أحرف متتابعات وخطوا لي أبا جاد وقالوا ... تعلم صعفصا وقريسيات1 الأخفش في الجزء الأول: فبيناه يشري رحله قال قائل ... لمن جمل رخو الملاط نجيب2 وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه3 ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد4 فزججتها بمزجة ... زج القلوص أبي مزاده5 المازني في الجزء الأول: أتهجر ليلى بالفراق حبيبها ... وما كان نفسا بالفراق تطيب6 وفي الجزء الثاني: إن الفرزدق صخرة عادية ... طالت فليس تنالها الأوعالا7 فما سبق القيسي من ضعف حيلة ... ولكن طفت علماء غرلة خالد8 المبرد في الجزء الأول: ثأرنا بها قتلى وما في دمائها ... وفاء وهن الشافيات الحوائم9

_ 1 ص36. 2 ص14 "البيت للسلولي". 3 ص14 "والبيت للفرزدق". 4 ص15 "والبيت لقيس بن زهير". 5 ص88. 6 ص108 "والبيت للمخبل السعدي". 7 ص356. 8 ص424 "للفرزدق". 9 ص94 "للفرزدق".

الجرمي في الجزء الثاني: أرمي عليها وهي فرع أجمع ... وهي ثلاث أذرع وأصبع1 وبعد فمما لا ريب فيه بين العلماء قاطبة أن سيبويه لم يحتج في كتابه إلا بأشعار من يستشهد بشعرهم من الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين فلم يتجاوزهم إلى المحدثين، ولقد كان ذلك في تعليمه ودراسته وحجاجه، نعم روي أنه عاب على بشار صدر المحدثين كلمات له في أبيات، وبلغ عيبه لها بشارا، فقال يهجوه: أسبويه يابن الفارسية ما الذي ... تحدثت عن شتمي وما كنت تنبذ أظلت تغني سادرا في مساءتي ... وأمك بالمصرين تعطي وتأخذ2 فتوقى شره بعدئذ، وكان إذا سئل عن شيء فأجاب عنه ووجد له من شعر بشار شاهدا احتج به استنكافا لشره3. ومن الحق البين أن الكتاب يحتاج إلى دراسة طويلة عميقة في البحث يضيق المقام عن استيفائها، وما أجدرها بسفر خاص! تقدير الكتاب: لقد دهش الناس عند ظهور الكتاب فجأة على صورته الرائعة الغريبة من سيبويه الشاب، فتسرب إلى نفوسهم الظن في أمانته العلمية، قال يونس: "أظن هذا الغلام كذب على الخليل" فقيل له وقد روى عنك أيضا، فاستحضر الكتاب ورأى ما نقله عنه صحيحا، فقال إنه صدق في جميع ما قال. عظم شأن الكتاب في البصرة حتى صار علما بالغلبة، فكان إذا قيل في

_ 1 ص308. 2 راجع الأغاني أخبار بشار جـ3 ص210 طبع الدار. 3 إن صحت هذه الرواية فاستشهاد سيبويه كان في أثناء الدرس فقط إذ لم يثبت في كتابه شواهد لبشار.

البصرة فلان يقرأ الكتاب فلا يفهم السامع سوى كتاب سيبوبه، بل سموه إكبارا له "قرآن النحو"، وهكذا كان الكتاب أعجوبة الدهر الخالدة فإنه منذ ألف استفرغ عناية العلماء به في الطواف حوله، فمن شارح له ومن شارح لشواهده ومن منتقد له واتخذوا حينا وضع كتاب جديد بعده، ولهذا كان يقول المازني: "ومن أراد أن يصنف كتابا واسعا في النحو بعد سيبويه فليستحي". لم يقف العلماء فيه على عثرات شأن المؤلفات الضافية "لا في أسلوبه ولا في القواعد المسطورة" فيه، مع أن الكتاب باكورة في النحو، ومع كثرة الناظرين فيه، وحسبه في أسلوبه أن يتلقف ابن الطراوة غلطة واحدة فيه، ثم لم تسلم له مع هذا إلا تلك: هي أن سيبويه في الجزء الأول باب "ما تجري عليه صفة ما كان من سببه وصفة ما التبس به، إلخ" أجاب بكلمة نعم عن استفهام تقريري داخل على النفي مرتين إذ يقول: "قيل له: ألست تعلم أن الصفة. فإنه لا يجد بدا من أن يقول نعم. أفلست تجعل هذا العمل. فإنه قائل: نعم"1. والمعروف في "نعم" أنها جواب لما بعد الاستفهام، وهو خلاف المراد على ما هو واضح. ودفع هذا التعقب ابن هشام في المغني مبحث "نعم" فقال: "وزعم ابن الطراوة أن ذلك لحن. ويجوز عند أمن اللبس أن يجاب النفي بما يجاب به الإيجاب رعيا لمعناه. وعلى ذلك قول الأنصار -رضي الله عنهم- للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقد قال: "ألستم ترون لهم ذلك قالوا: نعم" وعلى ذلك جرى كلام سيبويه، والمخطئ مخطئ". ويكفيه في قواعده أن الزجاج لم يعثر إلا على غلطتين فيها: إحداهما اعتباره بناء "أي" الموصولة على الضم مع الإضافة وحذف صدر الصلة، قال ابن هشام في المغني مبحث "أي": "قال الزجاج: ما تبين لي أن سيبويه

_ 1 جـ1 ص227.

غلط إلا في موضعين هذا أحدهما فإنه يسلم أنها تعرب إذا أفردت فكيف يقول ببنائها إذا أضيفت؟ ". ومنذ ألف الكتاب ما فارقه النحو وما تخلف هو عنه بل كانا يقيمان معا ويرحلان معا، فطوف معه وانتقل من البصرة إلى الكوفة، ثم بغداد ثم الأندلس والشام ومصر، وسنذكر نبذة عنه إن شاء الله في الطور الرابع عند الكلام على علماء الأندلس، تتبين منها إقبال الأندلس عليه وتقديرها له، وبعبارة أخرى احتفاء المغاربة به بعد المشارقة، وفي خزانة الأدب للبغدادي الشاهد السابع والخمسين نبذة عن الكتاب. ولقد قدر لهذا العبقري أن تكون منيته في أمنيته، حببت إليه التوجه إلى بغداد لمنازلة الكسائي الذي كان ينفس عليه ما نال من جاه كبير ومال وفير، ثقة منه بالظفر عليه، فتلاقى القرينان وجرت بينهما تلك المناظرة المشئومة التي سلف الكلام عليها، فخاب الأمل، وفارق سيبويه بغداد مقهورا، وعز على نفسه أن يعود إلى البصرة بعد هذا الخزي والخذلان، فاستقدم تليمذه أبا الحسن الأخفش في طريقه إلى بلده في فارس، وبث إليه حزنه، وما كاد يرد بلده حتى اشتدت علته، فمات في ريعان شبابه قبل جل شيوخه رحمه الله سنة 188هـ. 2- اليزيدي: هو أبو محمد يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي مولى بني عدي، نشأ بالبصرة وتلقى عن "أبي عمرو بن العلاء وابن أبي إسحاق1 والخليل ويونس" وغيرهم، ثم اشتهر فضله فيها وعرف باللغة والنحو وأخبار الناس، وعرضت فتنة بالبصرة اقتضت اختفاءه عنها، ثم ظهر بعد في بغداد عند يزيد بن منصور الحميري خال المهدي فأدب أولاده ونسب إليه ولقب باليزيدي من هذا الحين، وسرى هذا اللقب في أولاده

_ 1 في المزهر أن اليزيدي توفي سنة 202 "كما هنا" وله أربع وسبعون سنة فكيف يتلقى عن ابن أبي إسحاق المتوفى سنة 117، أو 129، كما سبق.

وأحفاده من بعده، ولم يلبث أن وصله يزيد بالرشيد فاختصه بأدب المأمون كما كان الكسائي يؤدب الأمين، وصار اليزيدي يدرس في مساجد بغداد كما يدرس الكسائي، فتولدت بين الشيخين المنافسة، وتطلع كل منهما لغلب الآخر، فحدثت المناظرات بينهما، وكان اليزيدي مظفرا في أغلبها، وقد أسلفنا القول على إحداهما، ولما مات الكسائي قبله لم يقصر في رثائه، كان اليزيدي مع علمه أديبا شاعرا له مجموعة شعرية فيها شعر كثير في مدح النحاة البصريين وهجاء الكوفيين، وسنذكر بعضا منها في الكلام على المذهب الكوفي بمشيئة الله تعالى، وله مؤلفات متنوع العلوم، منها مختصر في النحو وقد بورك له في نسله فكان العلم والأدب والفضل في أبنائه وحفدته، توفي رحمه الله بمرو سنة 202هـ1.

_ 1 ترجمته في المعاجم، وخزانة الأدب شاهد 897.

الطبقة الخامسة

الطبقة الخامسة: 1- الأخفش الأوسط: هو أبو الحسن سعيد بن مسعدة مولى بني مجاشع بن دارم "بطن من تميم" أوسط الأخافشة الثلاثة المشهورين، فقبله أبو الخطاب الأخفش الأكبر شيخ سيبويه الذي سلفت ترجمته، وبعده أبو الحسن الأخفش الأصغر تلميذ المبرد وثعلب وستأتي ترجمته، وأشهرهم ذكرا في النحو فلذا ينصرف إليه الحديث عن ذكر الأخفش مجردا من الوصف في كتب النحو، فإن قصد غيره وجب ضم الأكبر أو الأصغر إليه على وفاق المطلوب، ولد ببلخ وأقام بالبصرة لطلب العلم وتلقى مع سيبوبه عن جل شيوخه سوى الخليل، ثم أخذ عنه بعد المشاركة مع كبر سنه عنه فكان أنحى تلاميذه، وكان ضنينا بكتاب سيبويه لنفاسته حتى ظن به ادعاؤه لنفسه لأن سيبويه لم يقرأه على أحد ولا قرأه عليه أحد ما عداه، قال: ما وضع سيبويه في كتابه شيئا إلا عرضه علي وكان يرى أنه أعلم به مني وأنا اليوم أعلم به منه، فتشاور تلميذا الأخفش: "الجرمي والمازني" على الحيلولة بينه وبين ما

ظن فيه بترغيبه في المال إذ كان الجرمي مثريا فقرآه عليه وظهر الكتاب، فليس للكتاب طريق إلا الأخفش، فإليه يرجع الفضل في استبقائه كما يرجع للكتاب الفضل في إقبال العلماء على الأخفش. لما قفل سيبويه من بغداد بعد خذلانه في المناظرة الماضية استشخص تلميذه الأخفش في طريقه إلى الأهواز لما سبق أنه ولى وجهه عن البصرة خزيا وشكا إليه بثه وحزنه مما هاضه، فتحرش الأخفش بالكسائي ووصل بغداد في الغلس1 وصلى خلف الكسائي الغداة في مسجد، ثم سأله أمام تلامذته "الفراء والأحمر" وغيرهما وخطأه في إجابته حتى هم التلامذة بالوثوب عليه فمنعهم الكسائي وقال له: بالله أما أنت أبو الحسن بن سعيد بن مسعدة؟ فقال: بلى، فقام إليه وعانقه وأجلسه بجنبه وأكرم مثواه، فاستحال تحرشه محبة له وأقام عنده ينعم بالحياة السعيدة الجديدة، وبقي في جواره ببغداد بقية حياته، وصار مؤدب أولاده وقرأ له كتاب سيبويه سرا، وقد تغيرت لذلك عصيبة الأخفش حتى وافق الكوفيين كثيرا في آرائهم فكان أكثر البصريين موافقة للكوفيين، وكتب النحو ملأى بالمسائل التي وافقهم فيها، وإني ذاكر لك بعضا منها على سبيل التمثيل. من المسائل التي وافق فيها الأخفش الكوفيين: 1- إعراب فعل الأمر وجزمه بلام الأمر المقدرة على أنه مقتطع من المضارع المجزوم بها، قال ابن هشام: "وزعم الكوفيون وأبو الحسن أن لام الطلب حذفت حذفا مستمرا في نحو قم واقعد، وأن الأصل. لتقم ولتقعد، فحذفت اللام للتخفيف وتبعها حرف المضارعة"2. 2- جواز رفع الوصف فاعلا ظاهرا من غير اعتماد للوصف وكذا

_ 1 الغلس بفتحتين ظلمة آخر الليل. 2 راجع المغني الباب الأول مبحث اللام، واللام العاملة للجزم.

الظرف قال الرضي"والأخفش والكوفيون جوزوا رفع الصفة للظاهر على أنه فاعل لها من غير اعتماد على الاستفهام أو النفي نحو: قائم الزيدان كما يجيزون في نحو: "في الدار زيد" أن يعمل الظرف بلا اعتماد"1. 3- جواز زيادة "من" في غير الإيجاب مع المعرفة قال الرضي "وغير الأخفش والكوفيين شرط فيها شرطين كونها في غير الموجب ودخولها في النكرات، والكوفيون والأخفش لا يشترطون ذلك استدلالا بقوله تعالى: {يَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} "2. كما تغيرت نزعته البصرية "نزعة السماع" إلى النزعة الكوفية "نزعة القياس" بل أسرف فيها، فعول على قياسه النظري في كثير من المسائل التي لم يأبه فيها بالفريقين، وهاك بعضا منها: من المسائل التي انفرد فيها الأخفش بالقياس: 1- جواز وقوع "أن" بعد "لعل" قياسا على "ليت" قال الزمخشري: "وقد أجاز الأخفش "لعل أن زيدا قائم" قاسها على ليت"3. 2- تجويزه رفع المضارع بعد حتى المسبوقة بالنفي قياسا على الإيجاب واعتبار النفي داخلا على الكلام برمته، قال ابن هشام: "وأجاز الأخفش الرفع بعد النفي على أن يكون أصل الكلام إيجابا ثم أدخلت أداة النفي على الكلام بأسره لا على ما قبل حتى خاصة إلخ"4، قال الدماميني: "فكأنه إنما أجاز بالقياس لا بالسماع" وقد سبق إلى هذا النقل الرضي. 3- جواز منع الصرف لأفعل الصفة مع قبوله التاء نحو أرمل قياسا

_ 1 شرحه على الكافية باب المبتدأ والخبر، تقسيم المبتدأ. 2 شرحه على الكافية حرف الجر: من. 3 متن المفصل القسم الثالث: الحروف لعل. 4 راجع المغني الباب الأول: حتى الجارة.

على أحمر1، قال الأشموني: "وأجاز الأخفش منعه لجريه مجرى أحمر لأنه صفة وعلى وزنه"2. 4- قياسه مجيء اسم فعل الأمر من الرباعي على فِعلال، قال الرضي: "وعند الأخفش فعلال أمرا من الرباعي قياس"3. 5- تصغيره اللاتي واللائي على لفظهما، قال الرضي: "وقد صغرهما على لفظهما قياسا لا سماعا، وكان لا يبالي بالقياس في غير المسموع إلخ"4 فيقال اللويتا واللويئا. وبعد فالمخالفات التي خرج فيها عن الفريقين معتمدا على قياسه النظري غير متقيد فيها بقانون السماع كثيرة جدا، ولهذا يقول الرضي: "وأجاز الأخفش الكسر أيضا في "الم الله" قياسا لا سماعا كما هو عادته في التجرد بقياساته على كلام العرب الذي أكثره مبني على السماع"5. على أنه كان لتحلله من التقليد أثره في آرائه، فكثر ما كان له في المسألة الواحدة رأيان فصاعدا، قال ابن جني: "وقد كان أبو الحسن ركابا لهذا الثبج6 آخذا به غير محتشم منه، وأكثر كلامه في عامة كتبه عليه، وكنت إذا ألزمت عند أبي علي رحمه الله أن أقول لأبي الحسن شيئا لا بد للنظر من إلزامه إياه، يقول لي: مذاهب أبي الحسن كثيرة إلخ"7. وله مؤلفات كثيرة منها في النحو: المقاييس، والأوسط، توفي ببغداد سنة 215هـ.

_ 1 وذلك للشبه الصوري في الصيغة. 2 شرحه على الألفية لقول الناظم "ووصف أصلي ووزن أفعلا إلخ". 3 شرح الكافية: أسماء الأفعال 2/ 76. 4 شرح الشافية: التصغير 1/ 288. 5 شرح الشافية: التقاء الساكنين والأصل في تحريك أول الساكنين الكسر 2/ 235. 6 الثبج محركة ما بين الكاهل إلى الظهر ووسط الشيء ومعظمه. 7 الخصائص باب "في اللفظين عن المعنى الواحد يردان عن العامل متضادين".

2- قطرب: هو أبو علي محمد بن المستنير، نشأ بالبصرة وتلقى عن "عيسى بن عمر وسيبويه" وغيرهما إلا أن اتصاله بسيبويه أكثر، كان كلما خرج سيبويه من بيته سحرا وجده على بابه فقال له: إنما أنت قطرب1 ليل، فأطلق عليه ولصق به، حذق الجدل والكلام ومال إلى مذهب المعتزلة النظامية، له تصانيف كثيرة، منها في النحو "كتاب العلل"، توفي ببغداد عام 206هـ.

_ 1 من معاني القطرب: دويبة لا تستريح نهارها سعيا.

الطبقة السادسة

الطبقة السادسة: 1- الجرمي: هو أبو عمر صالح بن إسحاق مولى بني جرم1 من قبائل اليمن نشأ بالبصرة فتعلم عن شيوخها النحو واللغة، وسمع من "يونس والأخفش الأوسط" ولم يلق "سيبويه"، وزامله في عصره وتلقيه المازني، وإليهما انتهت الرياسة النحوية، وسبق أنهما ذوا الفضل في إظهار الكتاب على يد شيخهما الأخفش، كان الجرمي أديبا شاعرا ديِّنا صحيح العقيدة، وله مناصرة مع الفراء، ومصنفاته كثيرة، منها في النحو مختصره المشهور لدعائه له بالبركة، وكتاب "فرخ كتاب سيبويه" ورد بغداد وأقام فيها حتى قضى نحبه سنة 225هـ. 2- التوزي: هو أبو محمد عبد الله بن محمد مولى قريش من توز "بلد بفارس"، أخذ عن "الجرمي" كتاب سيبويه، واشتهر باللغة والأدب فكان أعلم بالشعر من المازني والرياشي، توفي ببغداد سنة 238هـ. 3- المازني: هو أبو عثمان بكر بن محمد مولى بني سدوس، ولد بالبصرة، وتربى في بني مازن بن شيبان فنسب إليهم، وأخذ عن "أبي عبيدة وأبي زيد والأخفش" وغيرهم، مع مشاركة رفيقه الجرمي، كما تقدمت

_ 1 في النجوم الزاهرة: أنه سمي الجرمي لأنه نزل في قبيلة من جرم، وكان إماما فاضلا عارفا بالعربية وأيام الناس وأشعار العرب وله اختيارات وأقوال. اهـ. سنة 225.

الإشارة لذلك، وما لبث أن صار علم البصرة الخفاق. وقال الناس: لم يكن بعد سيبويه أعلم من المازني بالنحو، ساعده على نبوغه قوة بيانه وأدبه، فكان له الفلج1 في الحجاج، وقد تغلب على الأخفش مع تلقيه عنه. استقدمه من البصرة أمير المؤمنين هارون الواثق إليه في "سامرا" مقر الخلافة آنذاك لما أنشد مخارق قول الحارث بن خالد المخزومي: أظليمُ إن مصابكم رجلا ... أهدى السلامَ تحيةً ظلمُ2 بنصب رجل، ورأى علماء الكوفة حوله رفعه مع تمسك مخارق بإنشاده رواية عن المازني، فلما قدم المازني أوجب النصب مدللا عليه في حديث طويل، فأصاب نجحا عظيما عند الواثق، ثم حمله الواثق على اختبار العلماء فوقفوا من المازني على علم جم، ورغبه الواثق في البقاء فاعتذر، وعاد أدراجه إلى البصرة مرعي الجانب من الواثق ثم من أخيه المتوكل بعده، والمازني على طول باعه أبى التصنيف في النحو إذ كان يقول الكلمة المتقدمة في كتاب سيبويه: "من أراد أن يصنف كتابا واسعا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحيي". نعم، ألف كتابا في علل النحو، وكتاب التصريف، وله كتب أخرى في غير النحو، ومن شعره: شيئان يعجز ذو الرياضة عنهما ... رأيُ النساء وإمرةُ الصبيان أما النساء فإنهن عواهر ... وأخو الصبا يجري بكل عنان

_ 1 الفلج بزنة فلس الظفر والفوز. 2 البيت المذكور من شواهد النحاة في المصدر الميمي، وحادثته مع ما نجم عنها من الحظوة عند الخليفة مفصلة في الأغاني أخبار الحارث، وفي المغني الباب الخامس آخر الجهة الأولى، وفي الوفيات، وكذا معجم الأدباء وإنباه الرواه مع تفصيل الأسئلة التي وجهها المازني، ونقل كل ذلك في شرح درة الغواص عند الوهم 60 "النجوم الزاهرة سنة 232".

توفي رحمه الله بالبصرة سنة 249هـ على الأشهر. 4- أبو حاتم السجستاني: هو سهل بن محمد، نشأ بالبصرة، وأخذ عن "أبي زيد والأصمعي وأبي عبيدة"1 وقرأ كتاب سيبويه مرتين على الأخفش، ثم نبه شأنه فانتفع الناس بدراسته، إلا أنه لم يكن حاذقا بالنحو، له مصنفات مختلفة منها إعراب القرآن، وكتاب الإدغام، توفي سنة 250هـ. 5- الرياشي: هو أبو الفضل العباس بن الفرج مولى محمد بن سليمان الهاشمي، ولقب بالرياشي لأن أباه كان عبدا لرجل من جذام اسمه رياش فانتقل اللقب من أبيه بعد الشهرة إليه. نشأ بالبصرة وأخذ النحو عن المازني وسمع منه كتاب سيبويه، واللغة عن الأصمعي، ثم صار من كبار النحاة واللغويين، له تصانيف ليس منها كتاب نحو، قتل وهو يصلي الصبح قائما في الفتنة المشئومة "موقعة الزنج" بالبصرة المضروب بها المثل المشهور، كان دخولهم فيها وقت صلاة الجمعة في شوال سنة 257هـ.

_ 1 لم يترجم المؤلف رحمه الله لهؤلاء الأعلام الثلاثة مع أنهم من أبرز علماء العربية في القرن الثاني الهجري ومطلع القرن الثالث. توفي أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري سنة 215هـ، وقيل 214هـ، وله 93 سنة. وولد أبو عبيدة معمر بن المثنى سنة 112هـ وتوفي سنة 207هـ وقيل 208 وقيل 209 وقيل 210 وقيل 211هـ. وولد الأصمعي سنة 123 ومات سنة 210هـ وقيل 215هـ.

الطبقة السابعة

الطبقة السابعة: 1- المبرد: هو أبو العباس محمد بن يزيد من بنى ثمالة "بطن من أزد شنوءة" ولد بالبصرة وأخذ عن "الجرمي والمازني وأبي حاتم" وغيرهم إلا أن أغلب تلقيه عن المازني، ثم نبه قدره في البصرة وانتهت إليه الرياسة حتى قال الناس: ما رأى محمد بن يزيد مثل نفسه. فأما سبب تلقيبه بالمبرد فقال ياقوت: "وإنما لقب بالمبرد لأنه لما صنف المازني "كتاب الألف واللام" سأله عن دقيقه وعويصه فأجابه بأحسن

جواب، فقال له المازني: قم فأنت المبرد "المثبت للحق" فحرفه الكوفيون وفتحوا الراء"، آراؤه في النحو مستفيضة في الكتب. كان غير متقيد برأي المذهبين: البصري والكوفي، متى بدا له رأي آخر، فمن ذلك على سبيل التمثيل منعه تقديم خبر ليس عليها، قال ابن جني بعد مقدمة يعيب فيها اللائمين على المتفرد برأي جديد: "وذلك كإنكار أبي العباس جواز تقديم خبر ليس عليها، فأحد ما يحتج به عليه أن يقال له أجاز هذا مذهب سيبويه، وأبو الحسن وأصحابنا كافة، والكوفيون أيضا معنا، فإذا كان إجازة ذلك مذهبا للكافة من البلدين، وجب عليك يا أبا العباس أن تنفر عن خلافه. إلخ"1. ومن آرائه الغريبة تجويزه ظهور "كان" بعد "أما" في نحو: أما أنت منطلقا انطلقت، قال الرضي: "وأجاز المبرد ظهور كان على أن "ما" زائدة لا عوض ولا يستند ذلك إلى سماع"، كما أنه كان كثيرا ما يخطئ بعض الأساليب لسعة أفقه في الاطلاع، فمن ذلك على سبيل المثال إنكاره وقوع الضمير المتصل بعد لولا مثل: لولاي ولولاك ولولاه ونحوها، فقد ذكر بعد كلام رد به تخريجي سيبوبه والأخفش لها ما نصه: "والذي أقوله إن هذا خطأ لا يصلح لا أن نقول: لولا أنت، كما قال الله عز وجل: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} 2 وتعقبه لسيبويه مشهور، وقد ذكرنا شيئا منه في الكلام على الكتاب. استشرفت نفسه بغداد فاتصل بالخلفاء والأمراء ينافس ثعلبا إمام الكوفيين ذا المكانة في بغداد فوقعت بينهما العداوة والبغضاء، بلغه يوما أن ثعلبا نال منه، فقال في ذلك مغيظا: رب من يعنيه حالي ... وهو لا يجري ببالي

_ 1 الخصائص: باب "في الاحتجاج بقول المخالف" جـ1 ص196. 2 راجع الكامل مع الرغبة جـ8 ص49، والكلام مستوفى في الخزانة شاهد 395.

قلبه ملآن مني ... وفؤادي منه خالي وجرت بينهما مناظرات تكلمنا على واحدة منها سابقا، ظفر فيها ثعلب، ودام النفور بين الإمامين حتى لقي المبرد ربه فرثاه ثعلب. ولقد خلف مصنفات في علوم متنوعة برهنت على أدبه الجم وعلمه الغزير، منها في النحو: المقتضب1. وشرح شواهد سيبويه، والرد عليه، وله في تاريخ النحاة: طبقات النحويين البصريين وأخبارهم، وقد نوهنا في كلمة سابقة عن كتابه الكامل، والتعريف الكافي عنه يتطلب بسطا لا يسعه المقام، توفي ببغداد سنة 285هـ.

_ 1 وهو كتاب ضخم أشرف على طبعه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بتحقيق الأستاذ الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة.

طبقات الكوفيين الخمس

طبقات الكوفيين الخمس: الطبقة الأولى: 1- الرؤاسي: هو أبو جعفر محمد بن الحسن، مولى محمد بن كعب القرظي، لقب بالرؤاسي لكبر رأسه، نشأ بالكوفة وورد البصرة فأخذ عن "أبي عمرو بن العلاء" وغيره من علماء الطبقة الثانية البصرية، ثم قفل إلى الكوفة، واشتغل فيها بالنحو مع عمه معاذ وغيره، فتكونت الطبقة الأولى الكوفية. ثم صنف كتابه "الفيصل" في النحو، وقد مر في الكلام على الطور الثاني أن الخليل بعث إلى الرؤاسي يطلبه فأرسله إليه، وأن سيبويه نقل في كتابه عنه كما نقل عن البصريين، فإلى الرؤاسي يرجع بدء النحو في الكوفة دراسة وتأليفا. فهو رأس الطبقة الأولى الكوفية، وكتابه أول مؤلف في النحو بالكوفة، توفي بالكوفة في عهد الرشيد. 2- معاذ الهراء: هو أبو مسلم، لقب بالهراء لبيعه الثياب الهروية، وهو عم الرؤاسي ومولى القرظي أيضا، أقام بالكوفة واشتغل مع ابن أخيه في النحو، غير أن ولوعه بالأبنية غلب عليه، حتى عده المؤرخون واضع الصرف، ولم يوقف له على مصنف، عمر طويلا، وتوفي بالكوفة سنة 187هـ.

الطبقة الثانية

الطبقة الثانية: 1- الكسائي: هو أبو الحسن علي بن حمزة: مولى بني أسد، فارسي الأصل، سئل عن تلقيبه بالكسائي فقال: "لأني أحرمت في كساء"، وقيل في السبب غير هذا، نشأ بالكوفة وتعلم النحو على كبر، ذلك لأنه حادث قوما من الهباريين لحنوه فأنف من التخطئة، وقام من فوره وطفق يتعلم النحو، فأخذ عن معاذ الهراء ما عنده ثم توجه تلقاء البصرة فتلقى عن " عيسى

ابن عمر والخليل " وغيرهما، ولما أعجب بالخليل قال له: من أين أخذت علمك هذا؟ قال: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة، فجاب هذه البوادي وقضى وطره، ثم انحدر إلى البصرة فألفى الخليل قضى نحبه، وخلفه يونس، فجلس في حلقته ومرت بينهما مسائل اعترف له يونس بها، من ذلك ما قال المبرد "ويروى أن يونس بن حبيب قال لأبي الحسن الكسائي: كيف تنشد بيت الفرزدق فأنشده: غداة أحلت لابن أصرم طعنة ... حصين عبيطات السدائف والخمر فقال الكسائي: لما قال: "غداة أحلت لابن أصرم طعنة حصين عبيطات السدائف" تم الكلام، فحنل الخمر على المعنى، أراد: وحلت له الخمر، فقال له: ما أحسن ما قلت"1. ثم عاد إلى الكوفة ينشر علمه، والكوفة متعطشة إلى نحو مضارع نحو البصرة وفي الكسائي نشاط في الدراسة والتصنيف فتقوى المذهب الكوفي، وبدأ يناهض البصري على يد الكسائي الذي دوى ذكره حتى وصل مسمع أمير المؤمنين المهدي في بغداد فاستقدمه لحادثة خاصة، ورأى فيه عالما خريتا لقنا2 فاستبقاه في بغداد وضمه إلى حاشية ابنه الرشيد، فاحتضنه الرشيد بعد الخلافة ليؤدب ولديه الأمين والمأمون، ثم صعد به جده وصار من الجلساء المؤانسين، ومن هنا ساد المذهب الكوفي وتكاثرت أتباعه وعز علماؤه، فعز على علماء البصرة شأنهم وجاءوا بغداد يناهضونهم فكانت

_ 1 راجع الكامل مع الرغبة جـ4 ص59 وما بعدها، وعبيطات جمع عبيط: اللحم الطري، والسدائف جمع سديف: شحم السنام، والبيت من شواهد التوضيح في باب الفاعل، ومن قصيدة في مدح أخواله بني ضبة. "وفي البيت رواية أخرى على القلب أي بنصب طعنة وإن كانت فاعلا. ورفع عبيطات وإن كانت مفعولا على حد قولهم خرق الثوبُ المسمارَ، وكسر الزجاجُ الحجرَ". 2 الخريت: الحاذق الماهر، واللقن: الحسن التلقن.

المناظرات الماضية وكان الكسائي ذا تدره1. الكوفيين في أغلبها. له مصنفات كثيرة، منها في النحو مختصر. وعلى يد الكسائي تكاثرت الفوارق بين المذهبين لاختلاف الاتجاهين، وسنعقد مبحثا خاصا نفصل ذلك فيه بمشيئة الله تعالى، وأخباره ذائعة مشهورة. وبقي الكسائي أثيرا عند الرشيد، صاحبه مع محمد بن الحسن الشيباني في رحلته إلى فارس حتى كانوا في رنبويه "بلد قرب الري" وأحس الكسائي بقرب المنية فتمثل بقول مؤرج السدوسي: قدر أحلك ذا النجيل وقد أرى ... وأبى مالك ذو النجيل بدار إلا كداركم بذي بقر الحمى ... هيهات ذو بقر من المزدار2 ثم مات هو ومحمد فقال الرشيد: اليوم دفنت الفقه والنحو برنبويه، وذلك سنة 189هـ3.

_ 1 يقال هو ذو تدرههم أي: الدافع عنهم. 2 الشطر الثاني من البيت الأول من شواهد النحاة على رد لام أب عند إضافته لياء المتكلم. راجع مجالس ثعلب "الجزء العاشر"، وأمالي ابن الشجري "المجلس التاسع والأربعين" والرضي راجع خزانة الأدب الشاهد 327. 3 قال صاحب النجوم الزاهرة: "وكان الكسائي إماما في فنون عديدة: النحو، والعربية، وأيام الناس وقرأ القرآن على حمزة الزيات أربع مرت، واختار لنفسه قراءة صارت إحدى القراءات السبع". وذكر الدورقي قال: اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد فحضرت العشاء فقدموا الكسائي فارتج عليه في قراءة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فقال اليزيدي: قراءة هذه السورة يرتج فيها على قارئ أهل الكوفة! قال: فحضرت الصلاة فقدموا اليزيدي فارتج عليه في الحمد، فلما سلم قال: احفظ لسانك لا تقول فتبتلى ... إن البلاء موكل بالمنطق

الطبقة الثالثة

الطبقة الثالثة: 1- الأحمر: هو أبو الحسن علي بن الحسن المعروف بالأحمر، كان جنديا من رجال النوبة على باب الرشيد، ثم سمت نفسه إلى العلم، فكان يترصد في الطريق الكسائي عند حضوره للرشيد ويسير في ركابه وبحاشيته جيئة وذهابا، يستفيد منه المسألة بعد الأخرى حتى عد في أصحاب الكسائي، وناظر سيبويه عند مقدمه بغداد، كما سلف. فلما أصيب الكسائي بالوضح1، وكره الرشيد ملازمته أولاده، فأشار عليه باختيار نائب عنه، فاستخلف الأحمر إبقاء على مجده واطمنئنانا منه على خضوع الأحمر له، وعاهد الأحمر على أن يلقنه يوما فيوما ما يؤدب به أولاد الخليفة، وكان الأحمر يقظا فطنا فأجاد التعلم والتعليم حتى بز أصحاب الكسائي، وتبوأ مكانته، ونعم برفهنية2 العيش. وقد أملى شواهد نحوية واجتمع عليه الناس، وصنف كتاب التصريف، ومات بطريق الحج سنة 194هـ. 2- الفراء: هو أبو زكريا يحيى بن زياد، مولى بني أسد، لقب بالفراء "لأنه كان يفري الكلام". ولد بالكوفة من أصل فارسي، وتلقى عن "الكسائي" وغيره، وتبحر في علوم متنوعة، فكان فذا في معرفة أيام العرب وأخبارها وأشعارها، والطلب والفلسفة والنجوم، وتقصى أطراف علم النحو حتى قيل فيه: "الفراء أمير المؤمنين في النحو، وهو الذي قال: أموت وفي نفسي شيء من حتى لأنها ترفع وتنصب وتخفض ".

_ 1 الوضح: بفتحتين، البرص. 2 سعة العيش.

طمع في نوال الخلفاء فانحدر إلى بغداد ولج في الاتصال بالمأمون حتى وصله ثمامة بن أشرس 1، فحاطه الخليفة برعايته، ورغب إليه أن يؤدب ابنيه، كما اقترح عليه أن يؤلف كتابا يجمع أصول النحو، وهيأ له دارا خاصة فيها وسائل النعيم متكاملة فأخرج له كتاب "الحدود" بعد سنتين، وما زال الفراء وجيها عند المأمون، مغبوط المنزلة بين الأمة، يؤلف ويفيض علمه حتى توفي سنة 207هـ. 3- اللحياني: هو أبو الحسن علي بن المبارك من بني لحيان، أخذ عن الكسائي وغيره، وله كتاب النوادر، توفي سنة 220هـ2.

_ 1 ثمامة بن أشرس، كان زعيم القدرية في زمان المأمون والمعتصم والواثق وهو الذي دعا المأمون إلى الاعنزال -وتروى عنه قصص تشير إلى استخفافه بالدين- قتل في زمان الواثق الذي تولى الخلافة من "227-232" وقيل مات سنة 231هـ انظر الفرق ولسان الميزان ومعجم الفرق والنجوم الزاهرة سنة 213هـ. 2 في هذه السنة توفي "قالون" المقرئ واسمه عيسى وكنيته أبو موسى كان إماما عالما، انتهت إليه الرياسة في النحو والعربية، والفراء في زمانه بالحجاز وهو أحد أصحاب نافع، ورحل إليه الناس، وطال عمره وبعد صيته، النجوم الزاهرة.

الطبقة الرابعة

الطبقة الرابعة: 1- ابن سعدان: هو: أبو جعفر الضرير محمد بن سعدان، نشأ بالكوفة، وأخذ عن "أبي معاوية الضرير" وغيره، ثم اشتهر بالعربية والقراءات، صنف كتابا في النحو، وتوفي سنة 231هـ1. 2- الطوال: هو: أبو عبد الله محمد بن أحمد، نشأ بالكوفة، وسمع من الكسائي وغيره وقدم بغداد، مات سنة 243هـ. 3- ابن قادم: هو: أبو جعفر محمد بن عبد الله بن قادم، أخذ عن الفراء، وحذق النحو وتعليله، واتصل بالعباسيين فأدب المعتز قبل الخلافة، وله مؤلفات منها في النحو: الكافي، والمختصر، توفي ببغداد سنة 251هـ.

_ 1في هذه السنة توفي كثير من أعلام الفكر العربي.

الطبقة الخامسة

الطبقة الخامسة: 1- ثعلب: هو: أبو العباس أحمد بن يحيى، المعروف بثعلب: مولى بنى شيبان، ولد ببغداد في عصرها الذهبي، وتلقى عن ابن الأعرابي 1 وابن قادم، وسلمة بن عاصم وغيرهم غير أنه كان للنحو من بين علوم اللغة العربية النصيب الأوفى من عنايته، واعتماده فيه كان على سلمة بن عاصم. وهبه الله حافظة واعية مكنته أن يستظهر ما يقرأه، فحفظ كتب الكسائي والفراء، واستطاع أن يقرأ بنفسه كتاب سيبويه فتزعم رياسة النحو للكوفيين إلا أنه كان لا يحبذ القياس. اتصل بالخلفاء والأمراء كأسلافه الكوفيين، فأدب ابن المعتز وابن طاهر، وجمعت بغداد بينه وبين أبي العباس المبرد زعيم البصريين الذي نافسه شرف الرياسة العلمية والزلفى عند الخلفاء والأمراء، فكانت بينهما مناظرات ذكرنا سابقا واحدة منها فاز فيها ثعلب، ولكل منهما شيعته وحزبه، وسعى بينهما القتاتون2. وكان المبرد يتطلب لقيا ثعلب كثيرا فيراوغه ويتلكأ عن إجابته، ولثعلب مجالسة مع الرياشي سلفت أيضا، وله نادرة طريفة تتعرف منها نفاسة علم النحو، وأنه أحرى العلوم كلها بالرعاية، رأيت إرجاءها الآن لتكون مسك الختام لهذا الكتاب. له رحمة الله عليه مصنفات شتى منها في النحو: اختلاف النحويين،

_ 1 هو محمد بن زياد أبو عبد الله بن الأعرابي، كان أحد العلماء باللغة والمشار إليه فيها، وكان يزعم أن الأصمعي وأبا عبيدة لا يعرفان من اللغة قليلا ولا كثيرا، سأل إمام "محنة خلق القرآن" أحمد بن أبي داود: أتعرف معنى استولى؟ قال: لا، ولا تعرفه العرب، لأنها لا تقول: استولى فلان على شيء حتى يكون له فيه مضاد ومنازع، فأيهما غلب استولى عليه والله تعالى لا ضد له. توفى سنة 232هـ، وقيل 231هـ، وقيل 233هـ. 2 النمامون، وفي الحديث: "لا يدخل الجنة قتات".

والموفقي وما ينصرف وما لا ينصرف، وحد النحو، وفي اللغة: الفصيح وسترى في ترجمة الزجاج تخطئته فيه، وفي الأدب وغيره: مجالس ثعلب وكانت وفاته ببغداد من صدمة دابة له في الطريق، لم يسمع وقع حوافرها وراءه لصممه، سنة 291هـ.

الاختلاف بين البصريين والكوفيين

الاختلاف بين البصريين والكوفيين: أسبابه: إقليم العراق العربي من أسبق الأقاليم مدنية وعمرانا لخصب تربته ووفرة مياهه واعتدال جوه، تعاقبت عليه قدما متحضروا الأمم من البابليين والأشوريين والفرس، كما انحدر إليه العرب من بكر وربيعة وكانت منهم إمارة المناذرة بالحيرة، ولما أشرقت عليه شمس الإسلام في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- أنشأ فيه المسلمون البصرة سنة 15. ثم الكوفة بعدها بستة أشهر على أصح الروايات، وسرعان ما ازدهر البلدان وتحولت إليهما حضارة بابل والحيرة وهوت إليهما أفئدة من المسلمين وزخرا بالعلماء والقواد وتقاسما مدنية العراق، حتى كان إذا قيل العراق فمعناه البصرة والكوفة، وكانوا يطلقون أحيانا عليهما العراقين. ومع أن البلدين يضمهما سياج العراق فقد غرست النزعة السياسية بينهما بذرة الضغن لما هبط علي كرم الله وجهه الكوفة واتخذها مقر خلافته وقدمت أم المؤمنين عائشة البصرة على رأس جيش فيه طلحة والزبير طلبا لثأر عثمان -رضى الله عنه- فكانت موقعة "الجمل" المعروفة بينهما موقعة بين البلدين1 ولعل السر في مجاوزة الإمام علي البصرة مع أنها على حرف البادية وتكبده مشاق السفر إلى الكوفة مع توغلها في العراق ما عرف عن الكوفة من ميل أهلها إلى الطاعة ديانة دون البصرة التي اشتهر أهلها بالعصيان والشقاق والعصبية، ولكثرة اليمنيين بها المخلصين للهاشميين المصدورين من القرشيين، ومن حين هذه الموقعة اختلف هواهما فالبصرة عثمانية والكوفة علوية، وازداد هذا الاختلاف بتعاقب الأيام، قال أعشى همدان -عبد الرحمن- على لسان الكوفة: فإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلنا بكم يوم الجمل2

_ 1 قال البلاذري: التقوا بمكان يقال له "الخريبة" في جمادى الأولى سنة 36 وفيها قتل طلحة والزبير رضى الله عنهما. 2 البيت من قصيدة له راجع الأغاني أخبار أعشى همدان جـ6 ص55.

جاءت دولة بني أمية فكان ضلعها مع البصرة التي ظاهرتها وناصرتها، والكوفة على تبرم وحنق مستجنين في قلبها بضغط الأمويين عليها، وفي الدولة قسوة ورجالها صرامة، ثم قامت الدولة العباسية على أنقاضها وكان مبدأ ظهورها في الكوفة، فإن أبا العباس السفاح أول خلفائها إنما تمت له البيعة فيها بفضل تشيعها ومظاهرتها للهاشميين، ولقد حفظ العباسيون لها تلك الصنيعة وعطفوا عليها وكافئوها، فانقلب الأمر في البلدين، وعزت الكوفة بعد ذل وأفل نجم البصرة بعد تألق {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} 1. كل ذلك مما أوسع شقة الخلاف بين البلدين حتى تألب كل على الآخر وقلب له ظهر المجن، وفي كتاب "البلدان" لأبي عبد الله أحمد بن محمد الهمذاني المعروف بابن الفقيه الشيء الكثير مما تراميا به من الأقوال وتباريا فيه من المفاخرات، نسوق هذا لتعرف متى ولد سبب الاختلاف الذي جرهما إلى تطاول بعضهما على بعض، وحبب إليهما إيثار المخالفة في المسائل العلمية على الموافقة فيها؟ إذ ما بدأت المنافسة العلمية النحوية بينهما إلا بعد أن عملت عوامل الخلاف عملها، ووضعت السدود الحصينة التي تحول دون الوفاق بينهما، وتسلطت الأثرة عليهما. وكان ذلك كما سبق في أول الطور الثاني على عهد الخليل والرؤاسي بعد اجتماعهما أولا في الأخذ عن الطبقة الثانية البصرية، وبعد تكوين هذا الفن ونشوئه في البصرة.

_ 1 سورة آل عمران، الآية: 140.

المذهب البصري

المذهب البصري: لقد كان من حسن الحظ للنحو أن كانت البصرة مولده ومهده لأنها اختصت بما حرمته الكوفة التي ناهضتها بعد ذلك للأمور التالية: أولا: أن العرب النازحين إليها من القبائل العريقة في اللغة الفصحى استطابوها فاتخذوها دراهم وأكثرهم من قيس وتميم الذين بقوا على عربيتهم. ثانيا: أنه كان على كثب منهم "المِرْبَدُ" الذي قد اتخذه العرب سوقا في الجهة الغربية منها مما يلي البادية بينه وبينها نحو ثلاثة أميال، يقضون فيه شئونهم قبل أن يدخلوا الحضر أو يخرجوا منه، وقد صارت هذه السوق في الإسلام صورة موازنة لعكاظ الجاهلية، فكانت فيه النوادي الأدبية والمجامع الثقافية تألفت فيه حلقات الإنشاد والمفاخرة والمنافرة والمعاظمة ومجالس العلم والأدب، فكان الشعراء يؤمونه ومعهم رواتهم، وكانت لفحولهم حلقات خاصة فيه، قال الأصفهاني: "وكان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة يجلسون فيها"1. كما كان العلماء والأدباء والأشراف ينزلون فيه للمذاكرة والرواية والوقوف على ملح الأخبار، واللغويون يأخذون عن أهله ويدونون ما يسمعون، والنحويون يسمعون فيه ما يصحح قواعدهم ويؤيد مذاهبهم، وكثيرا ما نجد التنويه عنه في تراجم النحاة واللغويين. ثالثا: موقعها الجغرافي فإنها على طرف البادية مما يلى العراق وأدنى المدن إلى العرب الأقحاح الذين لم تلوث لغتهم بعامية الأمصار فعلى مقربة منها بوادي نجد غربا والبحرين جنوبا، والأعراب تفد إليهم منهما ومن داخل الجزيرة العربية بكثرة، وكل أولئك يسر لعلماء البصرة حينما قاموا بتدوين القواعد أن يجدوا طلبتهم وينالوا رغبتهم، ففي هذه الثلاثة مدد من اللسان العربي الفصيح لا ينفدوهم في بصرتهم مقيمون لا يتجشمون بعدئذ أسفارا ولا يجربون قفارا، إذ لم تشتد الحاجة أولا للرحلة في مدى الطبقتين

_ 1 راجع الأغاني أخبار جرير ج8 ص29 طبع الدار. "وراعي الإبل هو عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل ويكنى أبا جندل والراعي لقب غلب عليه لكثرة وصفه الإبل وجودة نعته إياها وهو شاعر فحل من شعراء الإسلام".

الأوليين من طبقاتهم. لأنهم لما يبلغوا الغاية في تجريد القياس وتعليل النحو وتفريعه ولم تضطرب الروايات في هذا الحين، ومادة اللغة قوية. ولا ريب أن نشوء النحو بالبصرة إنما كان تلبية لداعي المحافظة على صيانة اللغة العربية مما نزل بها منذرا بالخطر المدلهم الذي لو ترك وشأنه لدرجت كما درج غيرها من اللغات، كما كان واجبا على من دخل في الإسلام من غير أبناء العرب أن يتعلمه ليتعرف لغة القوم الذين صار منهم حتى يتم الاندماج بينهما وتستحكم أواصر الوحدة فيها: قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1. والفضل في ذلك راجع إلى أبي الأسود الذي توطنها مع تشيعه للعلويين ومناوأة البصريين للعلويين وشيعتهم، إلا أن سلطان هذا العلم استرعاهم فأقبلوا إليه يزفون، وتحلقوا حوله وتدارسوا مسائله حبا في المعرفة لذات المعرفة ورغبة في العلم لذاته غير طامعين في مغنم أو حريصين على شيء من حطام الدنيا، وأغلبهم من الموالي الذين سعد بهم هذا العلم منذ بزغ فجره لأنهم من أمم مرنت على مزاولة العلوم والفنون بحسب لغاتها، فشدوا عضد أبي الأسود في التدوين وكانوا له خير معين. كان لتعاون تلك البيئة التي تموج بمختلف العرب الذين يمثلون أغلب القبائل المعترف بينهم بسلامة سلائقها -كما كانت تعج بالرواة والحفظة والنقدة، وهذا الداعي العلمي الخالص- الأثر الطيب في سلوك البصريين في قواعدهم، ونمطهم العلمي، فحولهم الأساليب العربية متوافرة تجود لهم بشواهد القواعد دون مجهود يلحقهم، ولا منافس لهم يستعجلهم ويقطع عليهم سلسلة الاستقراء حتى يثقوا بما يدونون متئدين مطمئنين إلا شيئا واحدا، وذلك هو منادي العلم المحض، فكان لزاما لذلك أنه لم تدون قواعدهم إلا مدعومة على عناصر ثلاثة:

_ 1 سورة الحجرات، الآية: 10.

1- سلامة من أخذوا عنه من العرب المقطوع بعراقتهم في العروبة وصونهم فطرهم من تسرب الوهن إليها من رطانة1 الحضارة حتى لم يأخذوا إلا عن سكان البوادي، بل كانوا يتحرزون عنهم إذا لمحوا عليهم ضعفا اعتراهم، فكانوا يختبرونهم أحيانا قبل التقبل لما يروون عنهم، قال ابن جني: "ومن ذلك ما يحكى أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبي خيرة لما سأله فقال: كيف تقول استأصل الله عرقاتهم؟ ففتح أبو خيرة التاء فقال له أبو عمرو: هيهات أبا خيرة لان جلدك"2. 2- الثقة برواية ما سمعوه عنهم من طريق الحفظة والأثبات الذين بذلوا النفس والنفيس في نقل المرويات عن قائليها معزوة إليهم. 3- الكثرة الفياضة من هذا المسموع التي تخول لهم القطع بنظائره وتسلمهم إلى الاطمئنان عليه في نوط القواعد به، وإلا اعتبروه مرويا يحفظ ولا يقاس عليه إلا إذا لم يرد من نوعه ما يخالفه، فلا بأس من اعتباره مبنى للتقعيد عليه، ومن هنا ارتضى العلماء رأي سيبويه في إلحاق فعولة بفعيلة في النسب في حذف حرف المد وقلب الحركة فتحة اعتمادا على سماعه في النسب إلى "شنوءة" شنئيا" وعدم سماع ما يخالفه نسبا من هذه الزنة، ولذا قال ابن جماعة في حاشيته على الجاربزدي: "فهو جميع المسموع منها فصار أصلا يقاس عليه". تلك حالة السابقين منهم وهم بذلك خطوا الخطة التي ترسمها خلفهم بعدهم عندما حانت المنافسة بين البلدين، وأخذت الكوفة تنحاز لنفسها

_ 1 الرطانة بفتح الراء وكسرها الكلام بالأعجمية نقول رطن من باب كتب وراطنه إذا كلمه بها وتراطن القوم فيما بينهم. 2 الخصائص جـ1 ص413، وأبو عمرو وهو أبو عمرو بن العلاء، وأبو خيرة هو نهشل بن يزيد، راجع هذه الحكاية في ترجمة أبي عمرو في نزهة الألبا.

وتهيئ لها طريقا آخر، بل زاد عندئذ البصريون نشاطا ومثابرة على السير في منهاجهم، إذ قد بدأ وقت ذاك اختبال1 الألسن ودخل إلى الطباع الفساد وخلص شيء من ذلك إلى الأجيال الناشئة في الحضر فاختلف المصران بعضهما عن بعض وتمكنت منهما العصبية، وأخذ كل في الطعن على الآخر. كل ذلك حمل كثيرا من البصريين على التطواف في الجزيرة العربية ولم يقنعهم ما بين ظهرانيهم2 فارتحل من رجال الطبقة الثالثة الخليل ويونس وغيرهما، ومن الرابعة أبو زيد وأبو عبيدة والأصمعي، وأخذوا عن القبائل، وإن توافر على الأصمعي ميله إلى غير النحو والصرف من علوم اللغة العربية. فأخذوا عن القبائل البعيدة من أطراف الجزيرة والباقية في سرتها3 من جفاة الأعراب وأهل الطبائع المتوقحة، وتحاموا سكان الأطراف الحضريين المخالطين لغير العرب، وربما كان أوفى كتاب استقرأ القبائل من الصنفين كتاب الألفاظ والحروف للفاربي، وقد نقل كلامه بنصه السيوطي في المزهر "النوع التاسع الفصل الثاني في معرفة الفصيح من العرب". فأجهد هؤلاء العلماء أنفسهم وشرقوا وغربوا وتحملوا ذلك الشهور والأعوام وما بالوا ما نالهم من نصب أو مخمصة تفانيا في التثبت بأنفسهم من سلامة ما يروون عن العرب، فشافهوهم في أوديتهم وسمعوا منهم في أخبيتهم ومراعيهم وأسواقهم ومجتمعاتهم، وقدموا للعلم خدمة جلى4 ويدا

_ 1 اضطراب الألسن: مأخوذ من قولهم: اختبلت الدابة لم تثبت في موطنها. 2 يقال هو بين ظهريهم وظهرانيهم ولا تكسر النون وبين أظهرهم أي وسطهم وفي معظمهم. 3 سرة الوادي: خير منابته. 4 جلى: أي عظيمة، ولم يقصد التفضيل، وإلا وجب التذكير.

وتهيئ لها طريقا آخر، بل زاد عندئذ البصريون نشاطا ومثابرة على السير في منهاجهم، إذ قد بدأ وقت ذاك اختبال1 الألسن ودخل إلى الطباع الفساد وخلص شيء من ذلك إلى الأجيال الناشئة في الحضر فاختلف المصران بعضهما عن بعض وتمكنت منهما العصبية، وأخذ كل في الطعن على الآخر. كل ذلك حمل كثيرا من البصريين على التطواف في الجزيرة العربية ولم يقنعهم ما بين ظهرانيهم2 فارتحل من رجال الطبقة الثالثة الخليل ويونس وغيرهما، ومن الرابعة أبو زيد وأبو عبيدة والأصمعي، وأخذوا عن القبائل، وإن توافر على الأصمعي ميله إلى غير النحو والصرف من علوم اللغة العربية. فأخذوا عن القبائل البعيدة من أطراف الجزيرة والباقية في سرتها3 من جفاة الأعراب وأهل الطبائع المتوقحة، وتحاموا سكان الأطراف الحضريين المخالطين لغير العرب، وربما كان أوفى كتاب استقرأ القبائل من الصنفين كتاب الألفاظ والحروف للفاربي، وقد نقل كلامه بنصه السيوطي في المزهر "النوع التاسع الفصل الثاني في معرفة الفصيح من العرب". فأجهد هؤلاء العلماء أنفسهم وشرقوا وغربوا وتحملوا ذلك الشهور والأعوام وما بالوا ما نالهم من نصب أو مخمصة تفانيا في التثبت بأنفسهم من سلامة ما يروون عن العرب، فشافهوهم في أوديتهم وسمعوا منهم في أخبيتهم ومراعيهم وأسواقهم ومجتمعاتهم، وقدموا للعلم خدمة جلى4 ويدا

_ 1 اضطراب الألسن: مأخوذ من قولهم: اختبلت الدابة لم تثبت في موطنها. 2 يقال هو بين ظهريهم وظهرانيهم ولا تكسر النون وبين أظهرهم أي وسطهم وفي معظمهم. 3 سرة الوادي: خير منابته. 4 جلى: أي عظيمة، ولم يقصد التفضيل، وإلا وجب التذكير.

وتهيئ لها طريقا آخر، بل زاد عندئذ البصريون نشاطا ومثابرة على السير في منهاجهم، إذ قد بدأ وقت ذاك اختبال1 الألسن ودخل إلى الطباع الفساد وخلص شيء من ذلك إلى الأجيال الناشئة في الحضر فاختلف المصران بعضهما عن بعض وتمكنت منهما العصبية، وأخذ كل في الطعن على الآخر. كل ذلك حمل كثيرا من البصريين على التطواف في الجزيرة العربية ولم يقنعهم ما بين ظهرانيهم2 فارتحل من رجال الطبقة الثالثة الخليل ويونس وغيرهما، ومن الرابعة أبو زيد وأبو عبيدة والأصمعي، وأخذوا عن القبائل، وإن توافر على الأصمعي ميله إلى غير النحو والصرف من علوم اللغة العربية. فأخذوا عن القبائل البعيدة من أطراف الجزيرة والباقية في سرتها3 من جفاة الأعراب وأهل الطبائع المتوقحة، وتحاموا سكان الأطراف الحضريين المخالطين لغير العرب، وربما كان أوفى كتاب استقرأ القبائل من الصنفين كتاب الألفاظ والحروف للفاربي، وقد نقل كلامه بنصه السيوطي في المزهر "النوع التاسع الفصل الثاني في معرفة الفصيح من العرب". فأجهد هؤلاء العلماء أنفسهم وشرقوا وغربوا وتحملوا ذلك الشهور والأعوام وما بالوا ما نالهم من نصب أو مخمصة تفانيا في التثبت بأنفسهم من سلامة ما يروون عن العرب، فشافهوهم في أوديتهم وسمعوا منهم في أخبيتهم ومراعيهم وأسواقهم ومجتمعاتهم، وقدموا للعلم خدمة جلى4 ويدا

_ 1 اضطراب الألسن: مأخوذ من قولهم: اختبلت الدابة لم تثبت في موطنها. 2 يقال هو بين ظهريهم وظهرانيهم ولا تكسر النون وبين أظهرهم أي وسطهم وفي معظمهم. 3 سرة الوادي: خير منابته. 4 جلى: أي عظيمة، ولم يقصد التفضيل، وإلا وجب التذكير.

لكنه شاقه أن قيل ذا رجبُ ... يا ليتَ عدةَ حولٍ كُلِّهِ رجَبَا1 فيقولون: الرواية عدة حولي، أو للضرورة. 6- عدم إظهار "أَنْ" بعد كي فيعترض عليهم بقول الشاعر: أردتَ لكيما أن تطيرَ بِقِرْبتِي ... فتتركها شنا ببيداءَ بلقَعِ2 فيقولون: لا يعرف قائله، أو لضرورة الشعر، أو غير ذلك. 7- عدم عمل "أَنْ" محذوفة في غير مواطنها المعروفة فيرد عليهم: خذ اللص قبلَ يأخذَكَ، وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وأمثال هذا فيقولون: إن ذلك شاذ يحفظ ولا يجارى في الاستعمال. كل ذلك إنما سرى لهم من التعويل على قواعدهم، بل لقد بلغ بهم الاعتزاز بها إلى الاعتراض على العربي المطبق على الاستشهاد بقوله كما رأيت فيما تقدم من اعتراض ابن أبي إسحاق على الفرزدق، وأغرب من ذلك تعقب تلميذه عيسى بن عمر قول النابغة: فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرُّقش في أنيابها السم ناقع 3 إذ قال أساء النابغة إنما هو ناقعا، وقد خطأ أبو عمرو ذا الرمة في قوله: حراجيج ما تنفك إلا مناخة ... على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا4 لأن أفعال الاستمرار بمعنى الإيجاب فلا يصح الاستثناء في خبرها.

_ 1 البيت من قصيدة في معجم البلدان "أحزاب"، وفي رغبة الأمال على الكامل جـ7 ص214 وما بعدها، وفي مجال ثعلب الجزء التاسع ص474. 2 البيت من شواهد شرح المفصل والرضي راجع الخزانة شاهد 653 ومقدماتها. 3 البيت من شواهد سيبويه ج1 ص261 والمغني "الباب الخامس الجهة السادسة النوع الثاني" والبيت من قصيدة مشروحة في خزانة الأدب شاهد 155. 4 ذكر التخطئة الزمخشري في المفصل، والرضي على الكافية راجع الخزانة شاهد 736، والمغني مبحث "إلا"، والبيت من شواهد سيبويه على رفع "نرمي" جـ1 ص428، وهو من قصيدة يقال لها أحجبية العرب.

ضجر الشعراء من النحاة، ولهذا قال عمار الكلبي لما عيب عليه بيت من شعره: ماذا لقيت من المستعربين ومن ... قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا1 ومرجع هذه النزعة إلى عيسى بن عمر وشيخه ابن أبي إسحاق من متقدمي البصريين، دون غيرهما من معاصريهما، فإن يونس وشيخه أبا عمرو كانا يتحرزان عن تخطئة العربي ويعتمدان قوله وإن خالف القياس، وقد غلبت النزعة الأولى الثانية على البصريين بعد سيبوبه وصارت لهم منهاجا، وانتقلت الثانية إلى الكوفيين، ثم اتخذوها إحدى دعائم القواعد كما ترى.

_ 1 مطلع قصيدة في الخصائص باب "في أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض إلخ" والإمتاع والمؤانسة "الليلة الخامسة والعشرون" وأنباه الرواة ترجمة الأخفش، وفي معجم الأدبا ترجمة ابن جني مع ذكر البيت المعيب.

المذهب الكوفي

المذهب الكوفي: لقد عرفت أن الكوفيين تأخروا عن البصريين في هذا العلم حقبة طويلة، وذلك لانصرافهم أولا عن التلقي عنهم ربا بأنفسهم عن الأخذ منهم، وما لبثوا أن شغلهم الشعر ورواياته والأدب وطرائفه، فاستأثروا بهذا وتنفلوا به على البصريين مدة طويلة لم يشاركوا فيها البصريين النظر إلى علم النحو. تنبه الكوفيون بعدئذ وصحوا من سباتهم وأرادوا مساهمة البصريين فيه بعد أن عرفوه منهم وشق عليهم أن تنماع شخصيتهم في البصريين إن لم يكن لهم نحو خاص وبينهما ما بينهما من دواغل وإحن، دعاهم ذلك إلى تنظيم نحوهم على نمط خاص لا ينتحون فيه اتجاه البصريين، ولديهم في معتقدهم من الوسائل ما يهيئ لهم نيل مأمولهم، فاستمعوا من الأعراب الثاوين بالكوفة، وقد كانوا أقل عددا وأضعف فصاحة ممن كانوا بالبصرة وإن كان منهم لفيف من بني أسد وغيرهم إلا أن أغلبهم اليمانون، وأهل اليمن في عين أهل التمحيص ممن لا يستند إليهم، لخلاطهم الحبشة والهند والتجار

الذين يفدون إليهم من مختلف الأمصار، ولم تقم سوق "الكناسة" بالكوفة التي كانوا يرتفقون منها حاجتهم مقام "المريد" بالبصرة مهبط الشعراء والخطباء من العرب المياسير، والأعراب العقف1 المنتجعين للأرزاق. هذا مع قصوهم عن جزيرة العرب ينبوع معين هذا العلم، وحيلولة صحراء السماوة بينهم وبينها، فلم تكن لهم فيها إلا رحلات قليلة لبعد الشقة وثقل المؤونة كرحلة الكسائي المعروفة، وهو زعيم طبقتهم الثانية التي تحاذي الرابعة البصرية، أما طبقتهم الأولى فلم تكن لها رحلات، على حين أن الطبقة الثالثة البصرية التي تقابلها أبلت في الرحلات بلاء حسنا عاد على اللغة العربية بالأثر الذي لا يبلى. على أنه لم يقف ذلك دون رواج الشعر فيما بينهم، والشعر على كل حال ذو النصيب الأوفى في تدوين القواعد بعد كتاب الله تعالى وسنة رسوله لتماسكه ومصايرته لأحداث الزمان بل قد فاقوا البصريين في علمه بفضل الأوراق المطمورة من عهد النعمان بن المنذر، نقل ابن جني في حماد الراوية الكوفي "قال: أمر النعمان فنسخت له أشعار العرب في الطنوج2 "الكراريس" ثم دفنها في قصره الأبيض فلما كان المختار بن أبي عبيد الثقفي قيل له: إن تحت القصر كنزا فاحتقره، فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة"3. ولقد كانوا قبل العثور على هذه الأوراق مسوقين إلى الشعر عن رغبة ملحة وغريزة فيهم متأصلة منذ حل العرب الكوفة، يؤيد ذلك أن عليا كرم الله وجهه لما رجع بهم من قتال الخوارج، على أن يستعدوا لقتال أهل الشام

_ 1 جمع أعقف، وهو العربي الجافي. 2 ولا واحد لها. 3 الخصائص باب "في ما يرد عن العرب مخالفا لما عليه الجمهور"، ومن خبر المختار أنه وثب بالكوفة سنة 66هـ في عهد عبد الله بن الزبير طلبا لثأر البيت العلوي فوجه إليه أخاه مصعبا فقتله سنة 67هـ وهو من رءوس الفتن في الإسلام.

ثم تخاذلوا عنه، لم ير أبلغ في ذمهم من صفة التشاغل بالشعر، فقال في خطبته حين خطبهم: "إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقا عزين تضربون الأمثال وتناشدون الأشعار تربت أيديكم وقد نسيتم الحرب واستعدادها وأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل". إن العثور على الأوراق السالفة الذكر صادف هوى من نفوسهم فازدادوا بها إقبالا على الشعر، وزخر بحره عندهم وقذف فيه بالملح والطرف إلا أن النحل والافتعال طغيا عليه، حتى التبس الأمر على الناس، وأسند القول إلى غير قائله، قال أبو الطيب: "الشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بين في دواوينهم"1. حقا لقد كان ذلك، إذ كان من رواتهم حماد المذكور الذي جر عليهم التلبيس في المرويات والازدياد عليها مختلقاته، وقد كان ضليعا في الشعر وآداب العرب إلا أنه رقيق الأمانة، قال فيه المفضل الكوفي: "قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا، فقيل له وكيف ذلك أيخطئ في روايته أم يلحن؟ ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل عنه ذلك في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك؟ "2. بل إن خلفا الأحمر البصري زاد ذلك ضغثا على إبالة3 فقد كان كذلك مضرب المثل في محاكاته من ينسب إليهم الشعر، روى عنه الكوفيون كثيرا

_ 1 مراتب النحويين ص119 ونقل في المزهر النوع الرابع والأربعين. 2 هذه الكلمة في الأغاني ترجمة حماد، وفي معجم الأدباء في كل من ترجمة حماد وترجمة المفضل، وفي خزانة الأدب شاهد 774. 3 الإبالة: الحزمة من الحطب، والضغث: قبضة من حشيش مختلطة الرطب باليابس -وهو المثل رقم 2202- في مجمع الأمثال ومعناه: بلية على أخرى.

من الشعر "وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية لأنه قد أكثر الأخذ عنه وبلغ مبلغا لم يقاربه حماد، فلما نسك خرج إلى أهل الكوفة فعرفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم"1. ومع أنه بصري فلم يعرف عنه أنه لبس على البصريين وروى لهم شعرا منحولا وربما كان منشأ ذلك العصبية البلدية التي تملي على المتأثر بها ارتكاب ما لا يجمل في المسائل العلمية، وقيل: إنه فعل ذلك انتقاما لنفسه إذ ذهب إلى الكوفيين أولا للتلقي عنهم فبخلوا عليه بشعرهم قال أبو زيد: "حدثني خلف الأحمر قال: أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر فبخلوا علي به، فكنت أعطيهم المنحول وآخذ عنهم الصحيح، ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم أنا تائب إلى الله. هذا الشعر لي، فلم يقبلوا مني، فبقي منسوبا إلى العرب لهذا السبب"2. إن المصادفة التي جمعت بين هذين الوضاعين لكفيلة بتوريث الكوفيين توهينا لمذهبهم فليس في الرواة جميعا على كثرتهم ومحاولة بعضهم الصنع من يداني حمادا وخلفا، فهما طبقة في التاريخ كله يعرف ذلك من له إلمام بالأدب. أبصر ذلك البصريون فصدفوا عن شواهد الكوفيين واطرحوها ظهريا ولم يسمع عنهم إلا ما وقع من أبي زيد البصري الذي نقل عن المفضل الضبي الكوفي لأنه غير متأثر بالعصبية البلدية وقر عنده صدقه، قال السيرافي: "ولا نعلم أحدا من علماء البصريين بالنحو واللغة أخذ عن أهل الكوفة شيئا من علم العرب إلا أبا زيد فإنه روى عن المفضل الضبي. قال أبو زيد في أول كتاب النوادر أنشدني المفضل لضمرة بن ضمرة النهشلي، جاهلي:

_ 1 المزهر النوع الرابع والأربعين. 2 هذه الكلمة في وفيات الأعيان "ترجمة أبي زيد".

بكرت تلومك بعد وهن في الندى ... بسل عليك ملامتي وعتابي الأبيات ... وعامة كتاب النوادر لأبي زيد عن المفضل"1 بينما الكوفيون يتلقون بالقبول رواياتهم ويعتمدون على شواهدهم. على أنه ما كان الكسائي وهو ناشر المذهب الكوفي وصاحب الفضل فيه يبن2 ببغداد حتى استمع إلى الأعراب الذين فيها وحولها وهم أوشاب من مختلف القبائل غير العريقة في العروبة، ومنهم أعراب الحليمات الذين قدموا بغداد وضربوا خيامهم في "قطربل" "قرية من متنزهات بغداد اشتهرت باللهو والخمر" فاعتد بكلامهم واستشهد به وهم من زعانف العرب الذين اختبل لسانهم، فازداد مذهبه ضعفا على ضعف قال أبو زيد: "قدم علينا الكسائي البصرة فلقي عيسى والخليل وغيرهما وأخذ منهم نحوا كثيرا، ثم سار إلى بغداد فلقي أعراب الحليمات فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن، فأفسد بذلك ما كان أخذه بالبصرة كله"3. ولولاهم ما فاز الكسائي وانخذل سيبويه في المناظرة البغيضة، فإن الكسائي إنما اعتمد على لغتهم واحتج بكلامهم وكانوا له مظاهرين، ولذلك قال اليزيدي: كنا نقيس النحو فيما مضى ... على لسان العرب الأول فجاء أقوام يقيسونه ... على لغى أشياخ قطربل فكلهم يعمل في نقض ما ... به يصاب الحق لا يأتلي إن الكسائي وأصحابه ... يرقون في النحو إلى أسفل4

_ 1 أخبار النحويين البصريين ترجمة أبي زيد. 2 بن يبن: أقام كأبن. 3 راجع أخبار النحويين البصريين ترجمة أبي زيد، والتصحيف والتحريف ما وهم فيه الكسائي، ومعجم الأدباء ترجمة الكسائي. 4 راجع شعر اليزيدي في ترجمته في أخبار النحويين البصريين، ومعجم الأدباء، وفي التصحيف والتحريف "ما وهم فيه الكسائي".

وقد اقتفى الكوفيون طريق الكسائي، فعولوا على شعر الأعراب بعد أن امتزجوا وتأشبوا "اختلطوا" بالمحتضرين ولان جفاؤهم، ومن أجل هذا كان البصريون يغتمزون الكوفيين فيقول الرياشي البصري "نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وهؤلاء أخذوا اللغة عن أهل السواد أصحاب الكواميخ وأكلة الشواريز"1. من ذلك كله ترى أنه لم تتهيأ لهم بيئة تصلح أن تكون منبعا لنمير هذا الفن كبيئة البصريين بمن فيها وفي أرباضها2 وما دنا منها من العرب الخلص، يضاف إلى هذا ما استفزهم للعمل حثيثا في إبراز فن لهم يضارع الفن البصري غيرة منهم وحنقا على البصريين، فأصاخوا إلى كل مسموع لهم وقاسوا عليه فعثرت بهم عجلة الرأي، ولم يدققوا تدقيق البصريين بل تدرجوا مطاوعة لمناديهم إلى الاكتفاء بالشاهد الواحد ولو خالف الأصل المعروف المتفق عليه بين الفريقين، قال الأندلسي: "الكوفيون لو سمعوا بيتا واحدا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا وبوبوا عليه بخلاف البصريين"3. وقد يتساهلون مع هذا في التثبت من معرفة القائل، وربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الآخر ولا يعلم قائله كدليلهم على جواز دخول اللام في خبر "لكن" يقول المجهول: ................................ ... ولكنني من حبها لعميد4 وأول من سن لهم طريقة التسامح إلى أبعد مدى شيخهم الكسائي "وذلك أن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز من الخطأ واللحن وشعر

_ 1 حرشة جمع حارش صائد الضب، الكواميخ جمع كامخ نوع من الأدم، والشواريز جمع شيراز اللبن الثخين، راجع ترجمة الرياشي. 2 جمع ربض بالتحريك والمراد به هنا الناحية. 3 الاقتراح ص100. 4 باب إن وأخواتها من شواهد الزمخشري في المفصل، والرضي في شرح الكافية راجع الخزانة 865، والمغني مبحث "لكن".

أهل الفصاحة والضرورات فيجعل ذلك أصلا ويقيس عليه حتى أفسد النحو"1. وسترى عند حكمة تخصص كل من المذهبين إشادة الكسائي بالقياس وكثر ما انحدر الكوفيون فناطوا القاعدة بالقياس دون ورود لمطلق شاهد، فمن ذلك: أمثلة للقياس الكوفي: 1- تجويزهم مجيء العدد للتكرار على وزني فعال ومفعل ممنوعا من الصرف للوصيفة والعدل من خمسة إلى تسعة مع أن المسموع عن العرب في ذلك من واحد لأربعة، لكنهم قاسوا في الباقى عليها قال الرضي: "والمبرد والكوفيون يقيسون عليها إلى تسعة نحو خماس ومخمس وسداس ومسدس، والسماع مفقود"2. 2- تجويزهم تثنية أجمع وجمعاء وتوابعهما قياسا على جمعها، قال الرضي: "وقد أجاز الكوفيون والأخفش لمثنى المذكر أجمعان أكتعان أبصعان أبتعان، ولمثنى المؤنث جمعاوان كتعاوان بصعاوان بتعاوان، وهو غير مسموع"3. 3- تجويزهم الجزم بكيف مطلقا قال الرضي: "والكوفيون يجوزون جزم الشرط والجزاء بكيف وكيفما قياسا، ولا يجوزه البصريون إلا شذوذا"4. 4- تجويزهم النصب بأن مضمرة في غير المسائل المعدودة قياسا

_ 1 معجم الأدباء ترجمة الكسائي. 2 شرح الكافية غير المنصرف "حكى بعض النحويين كأبي حيان أن البناء من "مفعل وفعال" سمعا من واحد إلى عشرة". 3 شرح الكافية التأكيد. 4 شرح الكافية باب الظروف "كيف".

قال الرضي: "وقد تنصب مضمرة شذوذا، والكوفيون يجوزون النصب في مثله قياسا"1. 5- ومثل ما تقدم تجويزهم عطف المفرد بلكن بعد الإيجاب نظير بل بعده قال الرضي: "أجاز الكوفيون مجيء العاطفة للمفرد بعد الموجب أيضا نحو: جاءني زيد لكن عمرو حملا على بل، وليس لهم به شاهد"2. 6- ومثل ذلك تجويز إضافة "كذا" إلى مفرد أو جمع قياسا على العدد الصريح، قال ابن هشام "خلافا للكوفيين أجازوا في غير تكرار ولا عطف أن يقال كذا ثوب كذا أثواب قياسا على العدد الصريح"3. إن الكوفيين بعملهم هذا قد فتحوا بابا واسع الفوهة على أنفسهم، فهم إذ أقاموا كل مسموع وزنا، والمسموع في اختلافه لا يقف عند نهاية، واعتمدوا بعد هذا على القياس النظري عند انعدام الشاهد انعداما كليا، قد اضطروا إزاء هذا أن وضعوا قواعد كثيرة خالفوا فيها البصريين، بل قد وضعوا جريا على سنتهم للشيء الواحد متى ورد على صور متغايرة قواعد بقدر صوره، فكثر عندهم التجويز للصور المتخالفة كما قل عندهم ما كثر عند البصريين من التأويل والشذوذ والاضطرار والاستنكار، وعلى سبيل الإيضاح نوجه نظرك إلى ما ذكرنا من الشواهد السبعة التي عقبنا بها اعتراضا على المذهب البصري وقد رأيت كيف تخلص منها البصري، أما الكوفي فقد اعتمدها وضم ما يستفاد منها إلى قواعد مذهبه وجعلها دعائم أقيسة أخرى تضاف إلى أقيسته، ولا جناح في تعدد الأقيسة وإن اعترت نوعا خاصا في المعنى فما ذلك عنده إلا ذريعة من ذرائع التنويع في التعابير وبقدرها تكون الأقيسة، وفي ذلك من السرف والإرهاق لطالب النحو ما فيه؛ لكنا بعد ذا لا

_ 1 شرح الكافية آخر نواصب المضارع. 2 شرح الكافية حروف عطف النسق. 3 المغني الباب الأول "كذا".

نقصد رمي هذا المذهب بالضعف في كل قواعده وإلا كان تجنيا عليه، فقد ظهر عند الموازنة بين المذهبين فيما اختلفا فيه تفضيله في بعض مسائل ذات بال، والحق أحق أن يتبع ولترى ذلك مجلوا نسوق إليك أربع قواعد لهم على سبيل الإرشاد إلى صحة ما نقول: 1- عدم لزوم إبراز الضمير مع الوصف الجاري خبرا على غير ما هو له حالا أو أصلا مع أمن البس، والشواهد على ذلك كثيرة قال الأعشى: وإن امرأ أسرى إليك ودونه ... من الأرض موماة وبيداء سملق لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفق1 وقد حاول البصريون إجابات كلها لا تقوم كلها على قدم، منها أن المصدر المنسبك من أن والفعل نائب فاعل لمحقوقة وتأنيثها حينئد جائز لأن نائب الفاعل الاستجابة فلا ضمير في الوصف، وغير ذلك، ولهذا قال ابن مالك في كافيته: وإن تلا غير الذي تعلقا ... به فأبرز الضمير مطلقا في المذهب الكوفي شرط ذاك أن ... لا يؤمن اللبس ورأيهم حسن 2- صحة الفصل بين المتضايفين في السعة بمنصوب المضاف مفعولا به أو ظرفا أو بالقسم ولا شك في ورود ما يصحح هذه القاعدة فقد وردت الشواهد في النثر للثلاثة، ولنكتف بشاهد على الفصل بالمفعول به، قرأ ابن عامر أحد السبعة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} 2 وقد ردها الزمخشري الذي وافق البصريين قال الصبان: "ولا عبرة برده مع ثبوتها بالتواتر" فالحق مع الكوفيين ولذا يقول ابن مالك:

_ 1 استشهد بهما الرضي في الكافية لمذهب الكوفيين راجع الخزانة شاهد 387 وهما من قصيدة في مدح المحلق الكلابي شرح بعضهم في الخزانة للشاهد المذكور وشاهد 204 و521، وكلها في رغبة الأمل على الكامل جـ1 ص40 وما بعدها. 2 سورة الأنعام، الآية: 137.

فصل مضاف شبه فعل ما نصب ... مفعولا أو ظرفا أجز ولم يعب فصل يمين............................ ... ....................................... 3- عمل اسم المصدر عمل فعله، وشواهده أكثر من أن تحصى، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قبلة الرجل امرأته الوضوء"، وقال القطامي: أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا1 ليس أمام البصريين إلا الاستنكار لرواية الحديث، والضرورة للنظم، والتمسح بهذين مجلبة إلى الإعنات والتضييق، ولقد أجاد ابن مالك إذ قال: .................................. ... ............ ولاسم مصدر عمل 4- جواز العطف على الضمير المخفوض بدون عود الخافض في السعة قرأ حمزة وغيره قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} 2 بجر الأرحام، لقد ضاق الخناق على البصريين، والرضي بعد الترديد لما عساه أن يدافع به البصريون لم ير بدا من أن يقول: "والظاهر أن حمزة جوز ذلك بناء على مذهب الكوفيين لأنه كوفي ولا نسلم تواتر القراءات السبع"3. وفي هذا الدفاع شطط، ومن ذلك جنح ابن مالك إلى رأي الكوفيين فقال: وعود خافض لدى عطف على ... ضمير خفض لازما قد جعلا وليس عندي لازما إذ قد أتى ... في النظم والنثر الصحيح مثبتا حتى في تعبيره بخافض بدل جار كما هو معروف، ولولا خوف الإطالة لوافيناك بشواهد كثيرة تفضي إلى الاطمئنان لهذه القواعد كوضح النهار ومعها دفاع البصريين الذي لم يضرها، والواقع أن البصريين كانت

_ 1 البيت من شواهد الرضي راجع الخزانة شاهد 599 وهو من قصيدة طويلة في مدح زفر الكلابي. 2 سورة النساء، الآية: 1. 3 شرحه على الكافية عطف النسق.

محاولاتهم في نقضها غير مجدية ومجردة عن النصفة فقد تعسفوا غاية التعسف بما لا ترضاه العدالة، ولا يستقيم في المنطق "وما كل مرة تسلم الجرة". من هذا البيان يتضح لك معرفة طريقة كل من المذهبين الخاصة به، وبقي أننا نجيب على ما قد يدور بخلد الناظرين من السؤال عن الحكمة في تخصص كل باتجاهه، ولم لم يعكس الأمر؟ فنقول:

حكمة تخصص كل من المذهبين باتجاهه

حكمة تخصص كل من المذهبين باتجاهه: إن ذلك يعتمد في الحقيقة أولا وبالذات على اختلاف نزعتهما الطبيعية، فهي التي توجه كلامهما على حسب ما تقتضيه وتوجبه، ونزعتهما متغايرة لتغاير الموقع الطبيعي للبلدين. ذلك أن البصرة قد أنشئت على طرف البادية في صقع عاش في الحرية البدوية الآماد الطويلة فلم يمتد إليه نفوذ أجنبي يلين من شكيمته، والعرب النازلون فيها لم يعرهم ما يبدل صلابة عقليتهم العربية وقد تجلى ذلك في كل ما يتصل بهم من علوم وغيرها، أما الكوفة فقد أنشئت على مدني1 من "الحيرة" قاعدة المناذرة قديما في صقع كان تحت إشراف الأكاسرة خانعا لإمرتهم، دبت إليه الروح الفارسية في علومها وأنظمتها من حرية التفكير والعنو2 لسلطان العقل والدأب على التوسع في الابتكار وانفساح الميدان للآراء، تسربت هذه الروح فيمن توطنها من العرب وأقام فيها، فكانت نزعة الكوفة في عمومها، تخالف نزعة البصرة في عمومها أيضا ولا جرم أن هذا الاختلاف إنما كان بفعل الطبيعة البلدية التي لا يرد قضاؤها في النفوس والعقول والعلوم والدربة وما إلى ذلك، فكان حتما مقضيا أن يسلك البصري في أصول مذهبه مسلك الشدة والمحافظة على المأثور وأن ينهج الكوفى في أصول مذهبه طريق السهولة والرواية، ومن ثمة اختلف مبنى المذهبين في قواعدهما على ما تقدم تفصيلا، والتزام البصري هذا التشديد أمل منه أن يسود اللغة نظام مطرد بقوانين محدودة مستقاة من الأساليب العربية الصحيحة المتضافر على أمثالها، إذ ما من ريب أن اللغة العربية لغات قبائل شتى تغايرت في بعض ألفاظها ولهجاتها وتميزت في شيء من تراكيبها، ذلك أن العربي غير مقيد بضوابط وضعية لا يتخطى حماها، بل يرسل الكلام حسب

_ 1 اسم مكان من دنا. 2 مصدر عنا يعنو: خضع.

مشيئته في أي غرض كان غير خاضع لنظام يسيطر عليه، وقد ينزع في غير قوسه لتأثره بعامل أجنبي يعرض له فيجانف جادة الطريق في بعض الأحيان، وقد مر في المذهب البصري تعقب ابن أبي إسحاق للفرزدق، وعيسى بن عمر للنابغة، وأبي عمرو لذي الرمة، وعيبهم لعمار الكلبي مع شعره، قال أبو علي الفارسي في تعليل أغلاط العرب: "إنما دخل هذا النحو كلامهم لأنهم ليست لهم أصول يراجعونها ولا قوانين يستعصمون بها وإنما تهجم بهم طبائعهم على ما ينطقون به فربما استهواهم الشيء فزاغوا به عن القصد" 1. رأى ذلك البصري وقد رغب رغبة صادقة في وضع قواعد عامة لأنواع الإعراب في جزئيات الكلام عند الاستعمال يجب أن تطبق ويسار على منهاجها بدقة وحزم، ويتحامي بها عن الأساليب المبهرجة2، فلم يجد بدا من أن يقف عند الشاهد المذعن بصحته المتكاثرة نظائره ضاربا صفحا عما عداه من المرويات الضعيفة، أو الشاذة، أو المنحولة مما يؤدي اعتمادها إلى الفوضى والاضطرابات وعدم الوقوف عند غاية، وذلك كله من البصري نزوع إلى شنشنته3 الأولى، أما الكوفي فقد حمله على مسلكه احترامه لكل ما ورد مسموعا من العرب وكفى، والتيسير للناس أن يستعملوا استعمالاتهم على مقتضى ما أثر عنهم، فلا ضير على القائل متى حاكى أي استعمال كان، وما القواعد إلا وليدة اللغة فهي ذات السلطان عليها دون العكس، هذا مع الترخيص بالقياس على مقتضى الرأي إذا فقد الشاهد، وما كان ذلك من الكوفى إلا تأثرا بنزعته الطبيعية أيضا. بذلك ترى أنه قد اتخذ كل من المذهبين سبيلا له خاصة عرف بها حتى صار لكل طابع يحالف طابع الآخر فكان نتيجة ضرورية، لهذا أمران: "الأول" أن ما كثر من الأمور الأربعة التي تخلفت عن القياس عند

_ 1 المزهر أول النوع الخمسين، معرفة أغلاط العرب. 2 المعدول بها عن الأساليب العربية السليمة. 3 الشنشنة: الطبيعة والعادة.

البصري حسب المقتضيات من "التأويل والشذوذ والاضطرار والاستنكار" قد قلت عند الكوفي. "الثاني" أن الأقيسة التي اعتمد عليها البصري في تدوين مذهبه على العكس من ذلك فهي قليلة عنده بالنسبة إلى الأقيسة التي تكون منها المذهب الكوفي، ومن ثمة قيل: إن مذهب البصريين مذهب السماع ومذهب الكوفيين مذهب القياس، ولذا يقول الكسائي: إنما النحو قياس يتبع ... وبه في كل أمر ينتفع1 وفي المسألة الزنبورية الماضية في المناظرة ما يشهد بذلك، فسيبويه يتمسك بالرفع ويأبى النصب لأنه الإعراب المستفيض في التراكيب الواردة على سننه، ويجيز الكسائي النصب للقياس عنده. تلك هي الحالة العامة في المذهبين بالنظر إلى جمهوريهما، ولا ينافي ذلك أن بعض البصريين قد يميل إلى المذهب الكوفي في بعض المسائل لما انقدح في ذهنه، وقد عرفت في ترجمة الأخفش أنه أكثر البصريين موافقة للكوفيين وأن منشأ ذلك راجع إلى توطنه ببغداد في جوار الكسائي الذي احتفى به وأكرم مثواه طيلة حياته الأخيرة، كما أن بعض الكوفيين قد يرى المذهب البصري في بعضها أيضا لمثل ذلك، وربما خرج على الرأيين بعض من الفريقين وابتكر مذهبا له خاصا، بل قد يتشعب الخلاف بين رجال الفريق وحده، على أنه لم يقف الخلاف بين الفريقين عند المسائل العلمية بل سرت عدواه إلى التسمية في المصطلحات العلمية الكثيرة جدا، والحقيقة أن ذلك ليس من صالح العلم في شيء، فربما جر على المتعلم الإرهاق والنصب، فإنه إذا اطلع على كتب البصريين وعرف قواعد باب باسمه مثلا ثم قرأ كتب الكوفيين وأراد الباب نفسه فلا ريب أنه محتاج إلى اسمه عندهم حتى يهتدي إليه وفي ذلك مضيعة للوقت، وهاك بعض أمثلة من هذا:

_ 1 البيت مطلع قصيدة في المعجم، والإنباه ترجمة الكسائي

مظاهر الاختلاف في المصطلحات بين المذهبين: يقول البصري: النعت، والكوفي: الصفة، والبصري: البدل، والكوفي الترجمة، والبصري الظرف، والكوفي الصفة أو المحل، والبصري حروف الجر، والكوفي الإضافة، والبصري الجر، والكوفي الخفض، والبصري المصروف وغير المصروف، والكوفي المجرى وغير المجرى، والبصري واو المعية، والكوفي واو الصرف، والبصري ضمير الشأن، والكوفي ضمير المجهول، وهكذا. والمربي على هذا في العجب اختلافهم في التعليل، نطق العربي بسكران ممنوعا من التنوين فيقول البصري للشبه بألفي التأنيث والكوفي لزيادة الألف والنون، وفي معنى الكلمة نطق العربي "باسم الفعل" فيتفرق البصريون والكوفيون في مدلوله وموقعه على أقوال شتى. لقد شغف القوم بالخلاف وثوران المراء بينهم فيما جل من العلم وما دق، ولذا يقول فيهم على سبيل التندر يزيد بن الحكم الثقفي: إذا اجتمعوا على ألف وواو ... وياء ثار بينهم جدال1 ولم يك عجيبا وغريبا أن يتبرم أبو غسان دماذ صاحب أبي عبيدة لما سمع رأي البصريين في نصب المضارع بأن مضمرة وجوبا بعد "الفاء والواو وأو" دون اعتبار هذه الأحرف ناصبة كما يقول الكوفيون، فيكتب إلى شيخ البصرة أبي عثمان المازني قصيدة مطلعها: تفكرت في النحو حتى مللت ... وأتبعت نفسي له والبدن ثم يستعرض فيها رأي البصريين السابق ويختمها بقوله:

_ 1 أي إذا اجتمعوا للبحث عن أحرف العلة سار النزاع، والبيت من شواهد النحاة على إعراب أسماء الحروف الهجائية إذا ركبت كما في البيت، راجع شرح المفصل جـ6 ص29 والرضي راجع الخزانة شاهد 9 وروى الحريري في درة الغواص عن الأصمعي: أنشدني عيسى بن عمر بيتا هجا به النحويين راجع الوهم 175.

فقد كدت يا بكر من طول ما ... أفكر في أمر "أَنْ" أَنْ أجن1 ولو أن الخلاف النحوي أغلق بابه بعد البصري والكوفي على ما به في مناحيه المختلفة المضطربة لهان الخطب، ولكنه تشعبت مسالكه بعدهما، فكان المذهب البغدادي والأندلسي وغيرهما من المذاهب الشخصية الخاصة الملفقة مما أجهد النحوي وأنصبه، على أنه في خلال هذه المذاهب الرئيسية خرج الكثير من علمائها عليها فلم يقف عند إجماع وسبق في ترجمة الأخفش والمبرد ما تعرفت منه خروجهما على المذهبين: البصري والكوفي، وما عاب العلماء اتخاذ أحدهم مذهبا مستحدثا متى كان مستنده قويا، فإن المذاهب مبنية على ظنون قوية فقط، قال ابن جني "وإنما لم يكن فيه قطع لأن للإنسان أن يرتجل من المذاهب ما يدعو إليه القياس، ما لم يلو2 بنص أو ينتهك حرمة شرع إلخ"3. ولقد مني هذا الفن من بين الفنون قديما وحديثا بكثرة الأقوال وتضارب الآراء، ويشفع لذلك أن أساسه الأهم من استعمالات العرب لم يسلك اتجاها متوحدا معينا، فالقبائل التي اعتد بها وأخذت عنها الشواهد مختلفة في كثير من الأساليب، يضم إلى ذلك اضطراب المرويات نفسها وورودها بألوان متغايرة قد تتباعد معانيها في بعض الأحيان فينتقل البيت من مدح إلى ذم وبالعكس وهكذا، وربما عمي الأمر واشتبه الحال وهنأ المرتع للتصحيف والتحريف، والأمثلة في كل ذلك متعارفة مشهورة، وتقدم لك بعض منها في شواهد سيبويه، وسيرد عليك كثير منها في الكلام على المغني وشرح الأشموني وحاشية الصبان، بما تعرف منها انتشار التصحيف والتحريف في كتب النحاة ووراء هذين الأمرين الفوضى المنتشرة في نسبة الشواهد

_ 1 القصيدة في عيون الأخبار كتاب العلم والبيان "الإعراب واللحن" جـ2 والنوادر للقالي ص186، والعقد الفريد الياقوتة في العلم والأدب "نوادر من النحو" وأخبار النحويين البصريين ترجمة المازني، والإنباه ترجمة دماذ. 2 من ألوى بحقه إذا جحده. 3 الخصائص باب "في الاحتجاج بقول المخالف" جـ1، ص196.

لقائليها، فقد ينسب الشاهد لاثنين فأكثر وقد يقع التوزيع للبيت فبعضه لقائل وبعضه لقائل آخر، لقد زاد الأمر عن حده وطفح الكيل أمام النحويين فلا غرابة أن يختلف النحاة حينئذ في أحكامهم لاختلاف التقادير بينهم في الشواهد فتكاثرت الأقوال حتى تقابلت وتناقضت، وحق لكل أن يقول ما يقول لأنه قد قيل، ومن هنا يدرك صدق القائل: "عجبت لنحوي يخطئ". الواقع الذي لا يتمارى فيه اثنان أن علم النحو واسع المضطرب كثير القواعد متشعب التطبيق على الجزئيات الكلامية التي لا تحد بغاية، وليس مقصودنا الآن هذا، إنما زج بنا إليه الاستطراد، وسنذكر كلمة خاصة في ذلك بمشيئة الله تعالى، إنما الذي نعنى به بيان الأسباب التي أوحت إلى التخالف بين الفريقين فحسب، ونمط التخالف بينهما، وما نجم عن هذا التخالف من المسائل على أن يكون البحث محصورا في المسائل العلمية لا فيما يتصل بالتسمية للأبواب، ولا فيما يرتبط بالتوجيه لما وقع الخلاف فيه، ولا فيما يعود إلى المدول لبعض الأنواع، فإن ذلك يقتضينا شيئا كثيرا. فإذا كان البصري قد تحفظ في أقيسته وتشدد، والكوفى قد تحلل من القيود التي تقيد بها البصري واحتفى بكل مسموع له على كثرة روايته للشعر عنه، وكلفه بالشاذ منه ورواج المنحول عنده، واكتفائه بالشاهد الواحد أيا كان شأنه، مع التعويل على القياس النظري. أدركت سعة الفجوة بين الفريقين في مسلكيهما.

نتائج المخالفة بين المذهبين

نتائج المخالفة بين المذهبين: لقد ترتب على ما سلف أن اختلف البلدان في فروع كثيرة جدا يخطئها العد ويعيي الحاصر استقراؤها، وذهب كل منهما ينصر مذهبه بأدلة نقلية وعقلية على وفق منهجه، واحتدم الخلاف بينهما في ذلك طويلا، وقد ألف في بعض هذه المسائل أسفار خاصة، وأغلب الظن أن أول من كتب في ذلك ثعلب، ألف كتابه "اختلاف النحويين" ثم ترادفت المؤلفات فصنف ابن كيسان كتابه "المسائل على مذهب النحويين مما اختلف فيه البصريون والكوفيون"، ثم دون بعده أبو جعفر النحاس المصري مؤلفه "المقنع في اختلاف البصريين والكوفيين"، ثم ألف بعده ابن درستويه كتابه الرد على ثعلب في اختلاف النحويين، وهذه الكتب لم نطلع عليها حتى نقدر ما فيها عن خبرة، وجاء بعد هؤلاء كمال الدين الأنباري وجرد قلمه لتقصي طائفة كبيرة من هذه المسائل فدمج كتابه "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين" وأجاد فيه أيما إجادة، فقد ذكر فيه ثماني عشرة ومائة مسألة، وفيها بعض مسائل صرفية، وزيد في بعض النسخ عليها ثلاث، وأيد كل مسألة بأدلة الفريقين: قياسية وسماعية مع البسط والتفصيل على نحو ما بين فقهاء الشافعية والأحناف، ووقف منها موقف الفيصل العادل غير متعسف في حكمه ولا متعصب في قضائه، فيؤيد البصري مرة ويرجح الكوفي أخرى "كما يقول في مفتتح الكتاب" إلا أن المتتبع للكتاب من ألفه إلى يائه يرى آخرا أن الفوز الباهر للبصري، فإنه إنما رجح الكوفي في سبع مسائل منها فقط، ولا أطيل عليك بما بسطه من أدلة الفريقين فيها ورده على البصري، فالكتاب بين الأيدي، وأكتفي بذكرها مجردة معتمدا في الإرشاد على أرقام المسائل باعتبار ترتيب الكتاب لتيسير معرفتها، فهاكها؛ قال الكوفيون: مسألة 10- "لولا" ترفع الاسم بعدها نحو لولا زيد لأكرمتك، والبصريون بالابتداء. مسألة 18- لا يجوز تقديم خبر ليس عليها، والبصريون يجوز. مسألة 26- اللام الأولى في لعل أصلية، والبصريون زائدة. مسألة 70- يجوز للضرورة ترك صرف المنصرف، والبصريون لا يجوز. مسألة 97- الياء والكاف في لولاي ولولاك في موضع رفع، والبصريون خفض. مسألة 101- الاسم المبهم نحو هذا أعرف من العلم، والبصريون العلم أعرف.

مسألة 106- جواز الوقف بالنقل على المنصوب المعرف باللام، والبصريون لا. ولا يستطيع من له دربة علمية أن يتغاضى عن هذا الحكم القاسي من الأنباري فغير خليق به أن ينصب نفسه حاكما بين المذهبين في مسائل تنيف على المائة، وقد أخذ على نفسه أول الكتاب ميثاق النصفة1 ثم تكون نهاية القضاء أن يؤيد الكوفي في سبع منها فقط، ولولا أن المقام لا يتسع لاستدركنا عليه مسائل أخرى من مسائله التى رجح فيها البصري مستندين إلى أدلة الحذاق من النحاة، ولعلك لم تنس المسائل الأربع السابقة التي ذكرت آخر الكلام على المذهب الكوفي فقد رجحت كفتهم فيها، وليس غرضنا أن نعدل المذهب الكوفي بالمذهب البصري، وإنما الغرض درء الحيف وإعطاء كل ذي حق حقه. ولنرجع إلى موضوعنا: فقد ألف بعد الأنباري أبو البقاء العكبري كتابه "التبيين في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين"، ولم نعثر على هذا الكتاب2 إلا أن المعروف عن العكبري أنه كوفي النزعة كما يتضح جليا من مؤلفاته، ومما لا مرية فيه أنه قد اطلع على كتاب الإنصاف، وشاهد هذا أنه في شرحه لديوان أبي الطيب المتنبي قد ينقل عبارة الإنصاف بنصها عند ذكر الخلاف بين الفريقين، أو يلخصها تلخيصا لا يذهب معه تعرف الأصل المأخوذ منه، ولأذكر لك شيئا من هذا على سبيل التمثيل فأضع أمامك ست مسائل من الإنصاف مرقومة بأرقام الكتاب وبحزائها أبيات ستة للمتنبي نقل العبكري في شرحها عبارة الإنصاف بحروفها أو ملخصها غير أنه لم ينسبها للأنباري -وها هي على ترتيب الإنصاف: مسألة 14- "نعم وبئس" اسمان أم فعلان، شرح العكبري لقول المتنبي:

_ 1 النصفة بالتحريك العدل. 2 طبع محققا ومتداولا الآن بين طلبة اللغة وشيوخها.

بئس الليالي سهرت من طربي ... شوقا إلى من يبيت يرقدها مسألة 26- "لعل" لامها الأولى أصلية أم زائدة، وشرحه لقوله: لعل بينهم لبنيك جند ... فأول قرح1 الخيل المهار مسألة 45- "المنادى المفرد المعرف" مبني أم معرب، وشرحه لقوله: أيا أسدا في جسمه روح ضيغم ... وكم أسد أرواحهن كلاب مسألة 53- "اسم لا النافية للجنس" معرب أم مبني، وشرحه لقوله: لا خلق أسمح منك إلا عارف ... بك راء نفسك لم يقل لك هاتها مسألة 78- "كي" يجوز أن تكون جر، وشرحه لقوله: جوعان يأكل من زادي ويملكني ... لكي يقال عظيم القدر مقصود مسألة 83- "حتى" تنصب الفعل بنفسها أم لا، وشرحه لقوله: أقر جلدي بها علي فلا ... أقدر حتى الممات أجحدها فبالضرورة لا بد أنه قد رجح كثيرا من آراء الكوفيين انتصارا لمذهبه في كتابه "التبيين" وحاج الأنباري فيها، وهكذا حال المسائل العلمية تتأرجح موازينها بين العلماء حسب التقادير المختلفة تبعا لاختلاف النظر، ثم ألف بعد العكبري ابن إياز البغدادي كتابه "الإسعاف في مسائل الخلاف" واستدرك مسائل زادها، ولم نعثر على هذا الكتاب أيضا، ورحم الله السيوطي فقد لخص في الجزء الثاني من كتابه "الأشباه والنظائر" الفن الثاني "التدريب" ما في كتابي "الإنصاف والتبيين" بما بلغ اثنتين ومائة وأضاف إليها من زيادات الإسعاف مسألتين مع الإيجاز والإفادة لأنه عني بجمعها غير مكررة، عارية من الأدلة والتمثيل ولقد أحببت أن أنقل كلامه بحروفه ابتغاء لإدراك مقدار كبير من هذه المسائل، وها هو ذا.

_ 1 قرح بضم القاف وتشديد الراء المفتوحة جمع قارح وهو الذي انتهت أسنانه وإنما ينتهي في خمس سنين لأنه في السنة الأولى حولي ثم جذع ثم ثني ثم رباع فخيار ثم قارح. يقال: أجذع المهر وأثنى وأربع وقرح، وهذه وحدها بلا ألف. اهـ.

سرد مسائل الخلاف بين الكوفيين والبصريين

سرد مسائل الخلاف بين الكوفيين والبصريين: حسب ما ذكره الكمال أبو البركات الأنباري في "كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف" وأبو البقاء العكبري في "كتاب التبيين في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين". 1- الاسم مشتق من السمو عند البصريين. وقال الكوفيون من الوسم. 2- الأسماء الستة معربة من مكان واحد. وقال الكوفيون من مكانين. 3- الفعل مشتق من المصدر. وقالوا المصدر مشتق من الفعل. 4- الألف والواو والياء في التثنية والجمع حروف إعراب. وقالوا إنها إعراب. 5- الاسم الذي فيه تاء التأنيث كطلحة لا يجمع بالواو والنون. وقالوا يجوز. 6- فعل الأمر مبني. وقالوا معرب. 7- المبتدأ مرتفع بالابتداء والخبر بالمبتداء. وقالوا المبتدأ يرفع الخبر والخبر يرفع المبتدأ. 8- الظرف لا يرفع الاسم إذا تقدم عليه. وقالوا يرفعه. 9- الخبر إذا كان اسما محضا لا يتضمن ضميرا. وقالوا يتضمن. 10- إذا جرى اسم الفاعل على غير من هو له وجب إبراز ضميره. وقالوا لا يجب. 11- يجوز تقديم الخبر على المبتدأ. وقالوا لا يجوز. 12- الاسم بعد لولا يرتفع بالابتداء. وقالوا بها أو بفعل محذوف قولان لهم. 13- إذا لم يعتمد الظرف وحرف الجر على شيء قبله لم يعمل في الاسم الذي بعده، وقالوا يعمل. 14- العامل في المفعول الفعل وحده، وقالوا الفعل والفاعل معا. أو الفاعل فقط. أو المعني، أقوال لهم.

15- المنصوب في باب الاشتغال بفعل مقدر، وقالوا بالظاهر. 16- الأولى في باب التنازع إعمال الثاني، وقالوا الأول. 17- لا يقام مقام الفاعل الظرف والمجرور مع وجود المفعول الصريح، وقالوا يقام. 18- نعم وبئس فعلان ماضيان، وقالوا اسمان. 19- أفعل في التعجب فعل ماض، وقالوا اسم. 20- لا يبنى فعل التعجب من الألوان، وقالوا يبني من السواد والبياض فقط. 21- المنصوب في باب كان خبرها وفي باب ظن مفعول ثان، وقالوا حالان. 22- لا يجوز تقديم خبر ما زال ونحوها عليها، وقالوا يجوز. 23- يجوز تقديم خبر ليس عليها، وقالوا لا يجوز. 24- خبر ما الحجازية ينتصب بها، وقالوا بحذف حرف الجر. 25- لا يجوز طعامك ما زيد آكلا، وقالوا يجوز. 26- يجوز ما طعامك لآكل زيد، وقالوا لا يجوز. 27- خبر إن وأخواتها مرفوع بها، وقالوا لا تعمل في الخبر. 28- إذا عطفت على اسم إن قبل الخبر لم يجز فيه إلا النصب، وقالوا يجوز الرفع. 29- إذا خففت إن جاز أن تعمل النصب، وقالوا لا تعمل. 30- لا يجوز دخول لام التوكيد على خبر لكن وقالوا يجوز. 31- اللام الأولى في لعل زائدة، وقالوا أصلية. 32- لا النافية للجنس إذا دخلت على المفرد النكرة بني معها، وقالوا معرب. 33- لا يجوز تقديم معمول أسماء الأفعال عليها نحو: دونك وعليك، وقالوا يجوز. 34- إذا وقع الظرف خبر مبتدأ ينصب بفعل أو وصف مقدر، وقالوا بالخلاف.

35- المفعول معه ينتصب بالفعل قبله بواسطة الواو، وقالوا بالخلاف. 36- لا يقع الماضي حالا إلا مع "قد" ظاهرة أو مقدرة، وقالوا يجوز من غير تقدير. 37- يجوز تقديم الحال على عاملها الفعل ونحوه، سواء كان صاحبها ظاهرا أو مضمرا، وقالوا لا يجوز إذا كان ظاهرا. 38- إذا كان الظرف خبر المبتدأ وكررته بعد اسم الفاعل جاز فيه الرفع والنصب نحو: زيد في الدار قائما فيها وقائم فيها، وقالوا لا يجوز إلا النصب. 39- لا يجوز تقديم التمييز على عامله مطلقا، وقالوا يجوز إذا كان متصرفا. 40- المستثني منصوب بالفعل السابق بواسطة إلا، وقالوا على التشبيه بالمفعول. 41- لا تكون "إلا" بمعنى الواو، وقالوا تكون. 42- لا يجوز تقديم الاستثناء في أول الكلام. وقالوا يجوز. 43- كان في الاستثناء حرف جر وقالوا فعل ماض. 44- إذا أضيفت "غير" إلى متمكن لم يجز بناؤها. وقالوا يجوز. 45- لا يقع "سوى وسواء" إلا ظرفا. وقالوا يقع ظرفا وغير ظرف. 46- "كم" في العدد بسيطة، وقالوا مركبة. 47- إذا فصل بين "كم" الخبرية وبين تمييزها بظرف لم يجز جره. وقالوا يجوز. 48- لا يجوز إضافة النيف إلى العشرة. وقالوا يجوز. 49- يقال قبضت الخمسة عشر درهما ولا يقال الخمسة العشرة الدرهم. وقالوا يجوز. 50- يجوز هذا ثالث عشر ثلاثة عشر وقالوا لا يجوز. 51- المنادى المفرد المعرفة مبني على الضم. وقالوا معرب بغير تنوين. 52- لا يجوز نداء ما فيه أل في الاختيار. وقالوا يجوز.

53- الميم المشدودة في اللهم عوض من "يا" في أول الاسم. وقالوا أصله يا الله أمنا بخبر فحذف ووصلت الميم المشددة بالاسم. 54- لا يجوز ترخيم المضاف، وقالوا يجوز. 55- لا يجوز ترخيم الثلاثي بحال. وقالوا يجوز مطلقا أو إذا كان ثانيه متحركا قولان. 56- لا يحذف في الترخيم من الرباعي إلا آخره. وقالوا يحذف ثالثه أيضا. 57- لا يجوز ندبة النكرة ولا الموصول. وقالوا يجوز. 58- لا تلحق علامة الندبة الصفة. وقالوا يجوز. 59- لا تكون "من" لابتداء الغاية في الزمان. وقالوا تكون. 60- رب حرف. وقالو اسم. 61- الجر بعد واو رب برب المقدرة. وقالوا بالواو. 62- منذ بسيطة. وقالوا مركبة. 63- المرفوع بعد "مذ ومنذ" مبتدأ. وقالوا بفعل محذوف. 64- لا يجوز حذف حرف السم وإبقاء عمله من غير عوض إلا في اسم الله خاصة. وقالوا يجوز في كل اسم. 65- اللام في قولك لزيد أفضل من عمرو لام الابتداء. وقالوا لام القسم محذوفا. 66- أيمن الله في القسم مفرد. وقالوا جمع يمين. 67- لا يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول. وقالوا يجوز. 68- لا يجوز إضافة الشيء إلى نفسه مطلقا، وقالوا يجوز إذا اختلف اللفظان. 69- كلا وكلتا مفردان لفظا مثنيان معنى، وقالوا: مثنيان لفظا ومعنى. 70- لا يجوز توكيد النكرة توكيدا معنويا. وقالوا يجوز إذا كانت محدودة. 71- لا يجوز زيادة واو العطف. وقالوا يجوز.

72- لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار. وقالوا: يجوز بدونه. 73- لا يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع. وقالوا يجوز. 74- لا تقع أو بمعنى الواو ولا بمعنى بل. وقالوا يجوز. 75- لا يجوز العطف بلكن بعد الإيجاب. وقالوا يجوز. 76- يجوز صرف أفضل منك في الشعر. وقالوا لا يجوز. 77- لا يجوز ترك صرف المنصرف في الضرورة, وقالوا يجوز. 78- الآن اسم في الأصل. وقالوا أصله فعل ماض. 79- يرتفع المضارع لوقوعه موقع اسم الفاعل. وقالوا بحروف المضارعة. 80- لا تأكل السمك وتشرب اللبن منصوب بأن مضمرة. وقالوا على الصرف. 81- الفعل المضارع بعد الفاء في جواب الأشياء السبعة منصوب بإضمار أن. وقالوا على الخلاف. 82- إذا حذفت أن الناصبة فالاختيار ألا يبقى عملها. وقالوا يبقي. 83- كي تكون ناصبة وجارة وقالوا لا تكون حرف جر. 84- لام كي ولام الجحود ينصب الفعل بعدهما بأن مضمرة وقالوا باللام نفسها. 85- لا يجمع بين اللام وكي وأن وقالوا يجوز. 86- النصب بعد حتى بأن مضمرة. وقالوا بحتى. 87- إذا وقع الاسم بين "إن وفعل الشرط" كان مرفوعا بفعل محذوف يفسره المذكور. وقالوا بالعائد من الفعل إليه. 88- لا يجوز تقديم معمول جواب الشرط ولا فعل الشرط على حرف الشرط. وقالوا يجوز. 89- "إن" لا تكون بمعنى إذ. وقالوا تكون. 90- إذا وقعت إن الخفيفة بعد ما

النافية كانت زائدة. وقالوا نافية. 91- إذا وقعت اللام بعد إن الخفيفة كانت إن مخففة من الثقيلة واللام للتأكيد. وقالوا إن بمعنى ما واللام بمعنى إلا. 92- لا يجازي بكيف، وقالوا يجازى فيها. 93- السين أصل. وقالوا أصلها سوف حذف منها الواو والفاء. 94- إذا دخلت تاء الخطاب على تاء الفعل جاز حذف الثانية. وقالوا الأولى. 95- لا يؤكد فعل الاثنين وفعل جماعة المؤنث بالنون الخفيفة. وقالوا يجوز. 96- ذا والذي وهو وهي بكمالها الاسم. وقالوا الذال والهاء فقط. 97- الضمير في لولاي ولولاك ولولاه في موضع جر. وقالوا في موضع رفع. 98- الضمير في نحو إياي وإياك وإياه "إيا". وقالوا الياء والكاف والهاء. 99- يقال فإذا هو هي. وقالوا فإذا هو إياها. 100- أعرف المعارف المضمر، وقالوا المبهم. 101- ذا وأولاء ونحوهما لا يكون موصولا. وقالوا يكون. 102- همزة بين بين غير ساكنة، وقالوا ساكنة. وقد فات الأنباري مسائل خلافية بين الفريقين استدركها عليه "ابن إياز" في مؤلف منها: "الإعراب أصل في الأسماء فرع في الأفعال عند البصريين، وقال الكوفيون أصل فيهما، ومنها لا يجوز حذف نون التثنية لغير الإضافة وجوزه الكوفيون"1.

_ 1 النسخة الموجودة بتحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد: فيها 121 مسألة خلافية بين البصريين والكوفيين، ولا أدري لماذا ذكر المؤلف رحمه الله "102 مسألة فقط فمن أراد استيفاء المسائل فليرجع إلى النسخة المذكورة".

موازنة بين المذهبين

موازنة بين المذهبين: لا إخالك بعد أن تستحضر ما عرضناه عليك إلا مرجحا كفة مذهب البصريين، ولسنا في حاجة إلى البسط بعد ما فات، غير أنا هنا نلم التشعيب الفائت ليتركز في الذهن ويبقى في الذاكرة، فنقول: إن مذهب البصريين إنما رجح لأنه نشأ على ملاحظة أمور ثلاثة لا يراها الكوفيون: 1- أنهم يؤثرون السماع على القياس فلا يصيرون إليه إلا إذا أعوزتهم الحاجة، وحملهم على هذا سهولة اتصالهم بجمهرة العرب، ولكثرتهم حولهم قد تعصبوا في رواياتهم فلا يحملونها إلا عن موثوق بفطرته، أما الكوفيون فعلى عكسهم فضلوا القياس على السماع في كثير من مسائلهم لتنائيهم عن خلص العرب، ولذا تساهلوا في رواياتهم فتلقوها عن أعراب لا يرى البصريون سلامتهم. 2- أنهم احتاطوا في أقيستهم فلم يدونوها إلا بعد توافر أسباب الاطمئنان عليها بخلاف الكوفيين الذين تفككوا من قيودهم، ولذا يقول السيوطي: "اتفقوا على أن البصريين أصح قياسا لأنهم لا يلتفتون إلى كل مسموع ولا يقيسون على الشاذ"1. 3- أنهم لا يعولون على القياس النظري عند انعدام الشاهد إلا فيما ندر جدا، أما الكوفيون فطالما جنحوا إليه، وسلفت لك أمثلة من هذا النوع. فهده الأمور الثلاثة التى تولد عنها الاختلاف بين الفريقين في المسائل الجمة تضافرت في النهوض بمذهب البصريين على الكوفيين، إذ لا ريب أن السماع في اللغة ركن أول لأنها ليست فلسفة يتحكم فيها ميزان العقل والدراية، والتشدد في القياس الذي يؤذن بصحة نظائره حتم لازم، وإلغاء القياس النظري في اللغة مستقيم مع الواقع، هذا حال المذهبين في مجملهما وإن ظفر مذهب الكوفيين في بعض المسائل.

_ 1 الاقتراح ص100.

وقد ذكرنا لك أربعا منها في الكلام على المذهب الكوفي، وسبعا منقولة عن الأنباري في نتائج المخالفة بين الفريقين. وما مثل الفريقين عند التقريب إلا كمثل الطبيب والمتطبب، فالبصريون كالطبيب الذي عانى المهنة حدثا وحذقها مدركا فأحكمها وأفاد المجتمع عن طول مدة ودقة خبرة، والكوفيون كالمتطلب الذي قد اكتهل ونظر الطبيب وما يسديه فوجد عليه ثم نعرف منه وقارعه، فإن الكوفيين ما منهم إلا من أخذ عن البصريين أرباب هذا الشأن بينما لم يتلق أحد من البصريين عن واحد منهم، قال السيوطي "وكذلك أهل الكوفة كلهم يأخذون عن البصريين وأهل البصرة يمتنعون من الأخذ عنهم لأنهم لا يرون الأعراب الذين يحكون عنهم حجة"1. إن احتضان العباسيين للكوفيين خصوصا بعد اتصال الكسائي وأصحابه هو الذي رفع من شأنهم عند أنفسهم واستخفهم إلى مناصبة البصريين، لحبهم إياهم وإيثارهم على البصريين لما قدموا من مؤازرتهم في تكوين دولتهم إذ كانوا شيعتهم من جهة ولقربهم عن البصريين من جهة أخرى، فأدنوهم منهم قبل البصريين، وأسبغوا عليهم نعمهم وأجزلوا لهم منحهم وأدخلوهم قصورهم واتخذوا منهم السمار والمؤذبين والمعلمين، فالمفضل الضبي وشرقي بن القطامي الكلبي مؤدبا المهدي، والكسائي معلم الرشيد ثم مؤدب ولديه الأمين والمأمون، والفراء رائد أولاد المأمون، وابن السكيت شيخ أولاد المتوكل، وابن قادم معلم المعتز بالله، وثعلب أستاذ عبد الله بن المعتز وابن طاهر، وبذلك قبضوا على أعنة الحركة العلمية في بغداد وساد مذهبهم فيها وانتشر قبل المذهب البصري، حتى انقاد إليه كثير من العلماء حرصا على التقريب من الدولة، وتغلغلت الناس في الأخذ بدعمائه فنفقت سوق الروايات الشاذة والموضوعة، حتى عمي على الناس الطريق

_ 1 المزهر النوع الرابع والأربعين جـ2 ص256.

اللاحب1، يقول أبو الطيب: "فلم يزل أهل المصرين على هذا حتى انتقل العلم إلى بغداد قريبا وغلب أهل الكوفة على بغداد، وخدموا الملوك فقربوهم، فأرغب الناس في الروايات الشاذة، وتفاخروا بالنوادر وتباهوا بالترخيصات وتركوا الأصول واعتمدوا على الفروع فاختلط العلم"2. لقد استحوذ الكوفيون على بغداد وحالوا دون اتصال البصريين بها، بينما حاول البصريون الولوج إليها تلهفا على مقاسمة الكوفيين حظوتهم فلم يفلحوا، وفي حادثة سيبويه الماضية التي كان فيها القضاء عليه ما يشهد بتآمرهم عليهم ومناصرة العباسيين وبطانتهم لهم. على أنه مع هذا العنت الشديد والضغط المقيت قد نفذ إلى بغداد قليل منهم "كاليزيدي" توفي 202هـ إلا أن اتصاله يرجع إلى حسن وقته الذي سهل له الدخول في غمار العلماء الكوفيين ببغداد، فإنه قدم إليها قبل استفحال العداء العلمي بين البلدين وقد ظهر فضله عند يزيد بن منصور خال المهدي فاستبقاه عندما استعرت نار المخاصمة، وطار به إلى قصور الخلفاء فجعله الرشيد من مؤدبي المأمون، ومع هذا فقد كان متطامنا أمام الكسائي أولا. أما الأخفش الأوسط الذي قضى الشطر الأخير من حياته في بغداد فلسنا نحسبه فيمن نعد؛ إذ ما ارتحل إليها ليأخذ يحق سيبويه أستاذه من الكسائي وجها لوجه، لا رغبة في منزلة ولا في دنيا يصيبها، لكن الكسائي قد تغلب عليه بدهائه وقيده بإحسانه، فأقام عنده مؤدب أولاده حتى لقي ربه، ولقد كان لإقامته الطيبة مع الكسائي تأثيرها في نفسه حتى وافق الكوفيين في مسائل عدة ذات بال واحتذى حذوهم في العناية بالقياس وقد مر في ترجمته بسط المقال في ذلك.

_ 1 اللاحب الطريق الواضح كاللحب والملحب ولحب كمنع وطئه وسلكه كالتحبه. 2 مراتب النحويين ص147، ونقل في المزهر المبحث الماضي.

هذا، وكما نفذ اليزيدي إليها كذلك نفذ إليها المبرد توفي 285هـ، بفضل لياقته البادية للخلفاء والأمراء فنال مكانته عندهما وبقي ناعم البال فيها، وشارك ثعلبا تعليم ابن المعتز، ولا سيما وقد هدأت فيها المنازعة وكادت تضع أوزارها، وما أشبه كلا الرجلين - اليزيدي والمبرد - بالآخر في الوسائل التي أتاحت لهما طيب الحياة ببغداد وإن اختلف زمانهما. الحق أن السياسة هي التي عاضدت الكوفيين وأوجدت منهم رجالا كونوا مذهبا ناضل المذهب البصري، ولولاها لما ثبتوا أمام البصريين في مساجلاتهم بل ولما قهروهم في مواطن كثيرة ظلما وعدوانا، والدنيا منذ الخليقة مملوءة بالأغراض والشهوات. والبصريون وإن لم ينصفوا في حياتهم إلا أنهم كوفئوا بعد مماتهم بتفضيل العلماء لمذهبهم، وببقاء أغلب مؤلفاتهم تشيد بذكراهم، أما الكوفيون فلم ينالوا الأمرين، فالعلماء يرون مذهبهم في وضعه اللائق به، ومؤلفاتهم قد أسدل التاريخ ستاره على كثير منها، حتى كأن لم تكن لولا تراجم أصحابها التي تطلعنا على مؤلفاتهم، ولولا ذكرها عرضا خلال الكتب في بعض الأحيان لمناسبة ذكر خلاف. وعلى كل حال فقد كان تلاقي الفريقين في بغداد موجها أنظار العلماء فيها إلى عرض المذهبين وانتقادهما.

أثر تلاقي الفريقين ببغداد في تنويع النزعات إلى ثلاث

أثر تلاقي الفريقين ببغداد في تنويع النزعات إلى ثلاث مدخل ... أثر تلاقي الفريقين ببغداد في تنويع النزعات إلى ثلاث: لقد تبينت مما سلف أن الطور الثالث "طور النضوج والكمال" قد تم على يد الفريقين، بعد أن توطدت أقدامهما في بغداد بعد منتصف القرن الثالث الهجري ومر عليهما حين من الزمن وهما يتطاحنان في مناصرة مذهبيهما على مرأى من العلماء الذين تنوعت اختياراتهم حينذاك، فمن مؤيد البصري ومن مؤثر الكوفي، ومن مازج بين المذهبين، وإن قل هؤلاء إذ كانت حدة الخلاف بين الفريقين مع كثرة عديهم وعظيم شأنهم في حياة المجتهدين من دواعي تغلب الانحياز إلى أحد الطرفين على اختيار مذهب خليط، حتى إذا قضى المجتهدون نحبهم في أواخر القرن الثالث الهجري، وأسدل الستار عليهم، وانكسرت حدة النعرة الحزبية عرض العلماء المذهبين على بساط البحث والنقد، فاستعرضوا دعائم القواعد، التي تركزت عليها من الرواية والشواهد والأقيسة ليتعرفوا مقدار هذه القواعد من الصحة والضعف حتى يبتنى حكمهم في الاختيار على أساس غير منهار، وهم ما يزال فيهم فئة تلقت عن البصري، وأخرى عن الكوفي، بينما أخذت عن الفريقين فئة ثالثة. على أنهم بعد هذا في أنفسهم بين محافظ على ترسم خطى سلفه فغلبت عليه النزعة الطائفية، وبين منصف تحلل من قيود الحزبية ونظر إلى العلم نظرة خالصة لا يشوبها عاطفة، فآثر ما رجح عنده وتمذهب به، فلم يكن غريبا على من لقنه عن بصري أن يجنح بعد إلى إيثار المذهب الكوفي أو المكون منهما والعكس بالعكس، كما لم يكن بدعا على من تتلمذ لهما أن يؤازر أحدهما. نجم عن ذلك كله أنهم اختلفوا طرائق قددا1، فكان منهم من غلبت عليه النزعة البصرية، ومنهم من غلبت عليه الكوفية، ومنهم من جمع بين النزعتين. وقد قسم ابن النديم في الفهرست "المقالة الثانية" إلى فنون ثلاثة: الفن الأول في البصريين، والثاني في الكوفيين، والثالث في الخالطين بين المذهبين، واستعرض في الأولين علماءهما سلفهم وخلفهم المشايعين لهم إلى عصره. ويقتضينا ترتيبنا في كتابنا أن نذكر كلا من المشايعين المتأخرين

_ 1 المفرد، قدة بكسر القاف وتشديد الدال من معانيها كما في القاموس الفرقة من الناس هوى كل واحد على حدة، ومنه: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} أي فرقا مختلفة أهواؤها.

للفريقين المعاصرين للجامعين بين النزعتين في هذا العهد، فإن المجتهدين السابقين من المصرين مضى الحديث عنهما حين كان كل في مصره إبان تكوين النحو ونموه ونضوجه، فالحديث الآن عن النحاة الذين رفرفت عليهم بغداد بظلها الظليل. وطبعي أن البلاد الإسلامية التي كانت مستشرفة لهذا العلم قد تأثرت بهذه النزعات لأن بغداد كعبة الجميع، وقد نزح إليها من مصر في ذلك العهد عدد كبير سنذكر المشهورين منهم بعد الطوائف الثلاث العراقية، فإليهم يرجع الفضل في دخول النحو وكتبه ودراسته البلاد المصرية. ونحن الآن بصدد الطوائف العراقية الثلاثة، غير أنا نكتفي بترجمة المشهورين فقط، مع إحالة الراغب في الاطلاع على الكل على كتاب الفهرست لأنه مؤرخ هذا العهد على ما نبهنا سابقا. فهاك أشهر الطوائف الثلاثة:

من غلبت عليه النزعة البصرية

من غلبت عليه النزعة البصرية: 1- الزجاج: هو أبو إسحاق إبراهيم بن السري، ولقب بالزجاج لأنه كان يخرط الزجاج، نشأ ببغداد، وتلقى عن ثعلب ثم عن المبرد في مقابل أجر معين دائم، ورفع المبرد من شأنه حتى أدب القاسم بن عبيد الله الذي أخذ يناصره بعد توليه الوزارة للمعتضد، ثم ساعدته الأقدار ونادم الخليفة المعتضد. دخل يوما دار ثعلب فوجد معه أبا موسى الحامض، واستطرد الحديث إلى ذمهما "المبرد ثم سيبوبه ويونس"، فاغتاظ الزجاج وخطأ ثعلبًا في نصف كتابه "الفصيح" لما عرض ثعلب لتخطئة سيبويه في الكتاب، إذ تعقبه باعتراضات عشرة بينما كتاب الفصيح كله عشرون ورقة، وقد ذكرت هذه الاعتراضات في معجم الأدباء ترجمة الزجاج، كما ذكرت أيضا في الأشباه والنظائر، الفن السابع في الجزء الرابع، والمزهر النوع التاسع معرفة الفصيح.

وما من ريب أن العصبية المذهبية هي التي حملت الزجاج على تجبيه1 ثعلب، وشينه كتابه حتى قيل إن ثعلبا كاد ينكر نسبته بعد إليه، كما أنها حملت في مقبل الأيام ابن خالويه -وهو كوفي النزعة- على تخطئة الزجاج في اعتراضاته على ما سترى في ترجمته إن شاء الله. له مؤلفات منها: مختصر النحو، وما ينصرف وما لا ينصرف، وشرح أبيات سيبويه، وكتاب فعلت وأفعلت، توفي ببغداد سنة 310هـ2. 2- ابن السراج: هو أبو بكر بن السري، نشأ ببغداد وسمع من المبرد، وكان أحدث تلاميذه وقرأ عليه كتاب سيبويه، ثم انصرف إلى علم الموسيقي، لكن لم ينشب أن رجع إلى الكتاب والبحث في المسائل النحوية وبرز في اللغة العربية وخلف المبرد في بغداد، وله من التصانيف النحوية "كتاب الأصول"، "وهو أحسنها وأكبرها، وإليه المرجع عند اضطراب النقل واختلافه، جمع فيه أصول العربية، وأخذ مسائل سيبويه ورتبها أحسن ترتيب"، وكتاب جمل الأصول، وشرح كتاب سيبويه، والموجز، توفي سنة 316هـ. 3- الزجاجي: هو أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق من نهاوند قدم بغداد وسمع من ابن السراج والأخفش، ولازم الزجاج فنسب إليه، وسكن دمشق وانتفع الناس بعلمه، وله مؤلفات في النحو منها: "الجمل" ولهذا الكتاب حظوة عند المغاربة، تداني كتاب سيبويه عند المشارقة فتصدى الكثير لشرحه وشرح شواهده، والكافي، وفي النحو والأدب واللغة وغيرها "الأمالي" الصغرى والوسطى والكبرى، توفي بدمشق سنة 337هـ. 4- مبرمان: هو أبو بكر محمد بن علي العسكري، سمع من المبرد

_ 1 أي جعله ينكس رأسه خجلا. 2 في النجوم الزاهرة أنه توفي سنة 311هـ وذكر الذهبي أنه توفي في جمادى الآخرة سنة 311 وذكر له صاحب النجوم الزاهرة من المؤلفات: كتاب "معاني القرآن" و"الاشتقاق" و"القوافي والعروض".

وأكثر من الأخذ عن الزجاج وبعد صيته في النحو، إلا أنه كان غير وقور، ضنينا بالتعليم إلا مع الجزاء المرضي له، من مؤلفاته النحوية: شرح شواهد سيبويه، وشرح كتاب سيبويه ولم يتم، وشرح كتاب الأخفش، والتلقين، توفي بدمشق سنة 345هـ. 5- ابن درستويه: هو أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه الفارسي، نشأ بفسا "من بلاد فارس" وأقام ببغداد، عن ابن قتيبة، والمبرد، وثعلب وغيرهم، ثم لازم المذهب البصري مع التعصب الشديد له، وتصانيفه في غاية الجودة، منها في النحو: الإرشاد وأسرار النحو، والرد على ثعلب في اختلاف النحويين، وأخبار النحويين، وتوفي ببغداد سنة 347هـ1.

_ 1 ترجمته في سائر المصادر، وفي درستويه ضبط آخر، راجعهما في وفيات الأعيان، وفي القاموس.

من غلبت عليه النزعة الكوفية

من غلبت عليه النزعة الكوفية: 1- أبو موسى الحامض: هو سليمان بن محمد، ولقب بالحامض لشراسته، لازم ثعلبا زهاء أربعين حولا، ثم خلفه بعد موته، وكان موهوب البيان، شديد العصبية الكوفية، له في النحو مختصر، وتوفي ببغداد سنة 305هـ. 2- ابن الأنباري: هو أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، أقام مع أبيه في بغداد، وأخذ عنه وعن ثعلب وغيرهما، ثم أربى عن الكل لما أوتيه من حافظة نادرة، فقد كان يملى مصنفاته المبسوطة من حفظه مع صدق الرواية، ومنها في النحو: الكافي، والواضح والموضح، توفي ببغداد سنة 327هـ1.

_ 1 مات في ذي الحجة -وكان إماما في النحو وغيره- ومن مؤلفاته "خلق الإنسان"، "كتاب الوحوش والنبات"، "غريب الحديث".

من جمع بين النزعتين

ومن جمع بين النزعتين: 1- ابن قتيبة: هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ولد بالكوفة1، ونسب إلى الدينور "من بلاد فارس" لتوليه القضاء بها، أقام ببغداد وسمع من الزيادي والسجستاني وابن راهويه وغيرهم، وصنف مؤلفات تشهد له بعلو كعبه، منها في النحو: جامع النحو الكبير، وجامع النحو الصغير، وشهرته تغني عن التعريف به، توفي ببغداد سنة 276هـ2. 2- ابن كيسان: هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كيسان، "كان يحفظ مذاهب البصريين والكوفيين في النحو لأنه" أخذ عن أبوي العباس: المبرد وثعلب، وغيرهما، ثم ذاع اسمه فكان درسه غاصا بالأمراء والأشراف والدهماء، والكل لديه سواسية. وله مصنفات في مختلف علوم العربية، منها في النحو: المهذب، والمختار في علل النحو، والمسائل على مذهب النحويين مما اختلف فيه البصريون والكوفيون، والفاعل والمفعول به، توفي ببغداد سنى 299هـ. 3- الأخفش الصغير: هو أبو الحسن علي بن سليمان، وقد مضى الأخفش الأكبر شيخ سيبويه، والأوسط تليمذه. أخذ الأخفش الصغير عن أبوي العباس: المبرد وثعلب، واليزيدي وأبي

_ 1 قيل ببغداد. 2 ومن أخباره: أنه مات فجاءة، صاح صيحة عظيمة ثم مات في شهر رجب، وقال الدارقطني: كان يميل إلى التشبيه وكلامه يدل عليه. وقال البيهقي: كان يرى رأي الكرامية وذكر عنه أشياء غير ذلك وكان خبيث اللسان يقع في حق كبار العلماء. ومن مؤلفاته: غريب الحديث، غريب القرآن، ومشكل القرآن ومشكل الحديث، وعيون الأخبار، والشعر والشعراء، وإعراب القرآن، وكتاب الأنواء وكتاب الأشربة، وإصلاح الغلط، وكتاب المسائل والجوابات، وكتاب الميسر والقداح وغير ذلك من الكتب المفيدة، واقرأ كتبه ببغداد قبل وفاته.

العيناء ولم يبلغ حد الكمال في النحو فكان يتبرم من السؤال فيه، وله وقائع مع ابن الرومي انتهت بالصداقة، ورد مصر، ثم عاد إلى حلب ضيفا على ابن مقلة1 ثم قفل إلى بغداد، وله مصنفات منها: كتاب التثنية والجمع، وأخباره معروفة توفي ببغداد سنة 315هـ. 4- ابن شقير: هو أبو بكر أحمد بن الحسين البغدادي، وله كتاب مختصر في النحو، توفي سنة 317هـ. 5- ابن الخياط: هو أبو بكر محمد بن أحمد، أصله من "سمرقند" قدم بغداد بعد وفاة المبرد وضعف ثعلب عن الإفادة لصممه الشديد، فاستمع من أترابهما، وجرت بينه وبين الزجاج ببغداد مناظرة، وكان دمث الخلق. وله من الكتب: النحو الكبير، والموجز، والمقنع، مات بالبصرة بسنة 320هـ. 6- نفطويه: هو أبو عبد الله إبراهيم بن محمد المهلبي من "واسط"، أخذ عن المبرد وثعلب وغيرهما، ثم انتفع الناس بدراسته، وكانت بينه وبين ابن دريد مهاجاة، وله تصانيف حسان، منها في النحو: المقنع، توفي ببغداد سنة 323هـ.

_ 1 هو محمد بن علي بن الحسن بن مقلة أبو علي الوزير صاحب الخط المنسوب إليه ولي بعض أعمال فارس ثم وزر للمقتدر سنة 316هـ ثم قبض عليه وصادره وحبسه عامين ثم وزر بعد ذلك ثانيا وثالثا لعدة خلفاء ووقعت له حوادث ومحن حتى قطعت يده ولسانه وحبس حتى مات سنة 328هـ.

نحاة مصر الآخذون عن العراقيين

نحاة مصر الآخذون عن العراقيين: يحار الناظر في تعريف الأسباب التي أقعدت مصر عن النهوض بهذا العلم دون مشاطرة العراق في إبان تكوينه ونشوئه حتى أوشك أن ينضج ويكمل، مع توثق الصلات بينها وبين العراق في ذلك العهد، ومع وفود العرب الخلص إليها مع الفاتحين كالعرب الذين نزحوا إلى العراق، وكانوا مثابة لنحاته في تدوين النحو، والسير به قدما إلى أن تم على أيديهم، ومع وجود العلماء الذين يعتمد عليهم، وفيهم غناء أي غناء بين ظهرانيهم من أمثال عبد الرحمن بن هرمز الذي استوطن قديما الإسكندرية حتى قضى نحبه سنة 117هـ، وقد مضى في الكلام على واضع النحو أن بعض العلماء عده الواضع له. وأعجب من هذا تواني الشام عن المشاركة في هذا العلم تلك الأيام السالفة، فإن للشام بعد هذه الدواعي المساوية فيها مصر امتيازها عنها بالقرب من العراق من جهة واقتراب بادية الشام منها من جهة أخرى، فكان سهلا على علماء الشام اتصالهم بها عن كثب منهم دون اغتراب وعناء. أما بلاد الأندلس فبعد الشقة بينها وبين العراق حال دون اقتفائها العراق حينا من الدهر، ولا سيما إذا أضيف لذلك تقطع الأسباب بين المشرق والمغرب في فترات اتفق فيها أن كانت النهضة في العراق سائرة إلى الأمام، في سبيل الاستكمال لهذا العلم، فما طفقت الأندلس تشتغل بهذا العلم إلا بعد نضوجه وكماله في العراق. نعم، لا غرابة في سبق العراق القطرين وغيرهما في مزاولة هذا العلم، فقد توافر في العراق أسباب متضافرة تجعله خليقا أن يكون مهده، وقد بيناها أوائل الكتاب في الكلام على وضعه زمانا ومكانا، وعلى مشاهير البصريين والكوفيين، إنما الذي نبحث عنه وننشده الآن تعرف الأسباب التي أخرت مصر والشام فلم تتأثر1 دمشق وحلب ولا القاهرة عاجلا البصرة والكوفة وبغداد. والذي يلوح لنا -والله أعلم بالحقيقة- أن العراق كان دائم الاتصال بالبلاد الحجازية المقدسة، والرحلات بينهما متبادلة، فسمع أهل العراق من الصحابة ومن التابعين أحكام الدين فامتد نظرهم إلى ذلك الأمر الجديد أمر

_ 1 يقال: تأثره بمعنى تبع أثره: كما هنا.

اللغة والمحافظة على سلامتها حتى يكمل لهم الشأن من جميع نواحيه، وفي العراق حضارة علمية تليدة سهلت عليهم السير في تنظيم هذا العلم واستكمال بنائه، أما القطران فكانا في أشد الحاجة إلى تعلم الدين وعلومه، فغلب على العرب النازلين فيهما داعي الدين والناس من ورائهم، فساهم القطران في العلوم الشرعية ونبغ فيهما أئمة في القراءات والحديث والفقه كانوا يعاصرون أئمة العراق فيها. وقصارى القول أن القطرين لم يتجها لهذا العلم إلا بعد نشوئه ونموه وبوادر استكماله في العراق، فهبا يذهبان إليه أرسالا1 للتلقي عن علمائه في أخريات أيامه، كما ترى. نعم، قد وفد على القطرين نفر من المشارقة كالأخفش الصغير، على أن مصر كانت أسبق من الشام وأكثر وفادة، ولهذا فإنا نقصر الكلام على علماء مصر في تلك الحقبة، وقد تحدث عنهم الزبيدي في "الطبقات" بعنوان خاص بهم بعد البصريين والكوفيين، كما أفردهم السيوطي في كتابه "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة" بمبحث أواخر الجزء الأول، وقد ذكرت أخبارهم في كتب التراجم موزعة فيها على طباق نظامها. ولا يغيب عن الذهن أن علماء هذا العصر هم أصحاب الفضل في دخول النحو مصر دراسة وتصنيفا، وقد حملوا معهم إلى مصر بعض مؤلفات المشارقة كما سترى أما نزعتهم المذهبية فمرجعها إلى شخصية شيوخهم، وستعرف في تراجمهم شيوخهم فلسنا بحاجة إلى أن نعين نزعة كل كما سبق في المشارقة، وهاك أسماء المشهورين منهم مرتبين بحسب سني وفاتهم: 1- ولاد: هو الوليد بن محمد التميمي، أصله من البصرة، ونشأ بمصر ثم رحل إلى البصرة يطلب العلم فتلقى عن المهلبي تلميذ الخليل وعن غيره، فروى كتب اللغة والنحو وحذقهما، ثم قفل إلى مصر ومعه كتب

_ 1 جمع ترسل بالتحريات: القطيع من كل شيء.

النحو واللغة التي رواها بأسانيدها، فهو أول من أدخل كتب النحو واللغة إلى مصر، وقد بورك له في بنيه وحفدته، توفي بمصر سنة 263هـ. 2- أبو على الدينوري: هو أحمد بن جعفر الدينوري ختن ثعلب، وأصله من الدينور، قدم البصرة وأخذ عن المازني كتاب سيبويه، ثم دخل بغداد فقرأه على المبرد أيضا مع تحمله الملام من ثعلب، ثم وفد إلى مصر متوطنا، وله مؤلفات في النحو منها: المهذب، توفي بمصر سنة 289هـ. 3- ابن ولاد: هو أبو الحسين محمد بن الوليد التيمي السابق، أخذ بمصر عن الدينوري وغيره ثم يمم بغداد فلقي المبرد وثعلبا وجاد بالمال في سبيل نقل كتاب سيبويه من المبرد وقراءته عليه، وبعد التزود رجع أدراجه إلى مصر، فهو أول من أدخل كتاب سيبويه البلاد المصرية، توفي بمصر سنة 298هـ. 4- ابن ولاد: هو أبو العباس أحمد بن محمد التميمي السابق، فهو نحوي ابن نحوي ابن نحوي، شدا على أبيه وغيره شيئا من العربية، ثم صوب نظره إلى بغداد فسمع من الزجاج وغيره مع معاصره أبي جعفر النحاس المصري إلا إن الزجاج كان يؤثره على النحاس حتى كان بعد مغادرتهما بغداد يختصه بالسؤال ويشيد بعلمه، ولذا فإنهما أقاما في مصر على نفور دائم بينهما، ومما زاد توتر العلاقة جمع بعض ملوك مصر بينهما في مناظرة تلتها مناظرات احتدم بينهما فيها الشجار، وبسطها السيوطي في الأشباه والنظائر "الفن السابع فن المناظرات إلخ" في الجزء الثالث، وله كتاب الانتصار لسيبويه، وكتاب المقصور والممدود1 توفي بمصر سنة 332هـ. 5- النحاس: هو أبو جعفر أحمد بن محمد المصري، تلقى مبادئ اللغة العربية في مصر، ثم ارتحل إلى العراق، فتلقى عن الأخفش الصغير والزجاج ونفطويه وابن الأنباري وغيرهم، ثم آب إلى مصر، وقد سبق الحديث

_ 1 هو مطبوع.

عما حدث بينه وبين ابن ولاد، كان قوي الذاكرة جيد التصنيف في متنوع العلوم، من مؤلفاته في النحو: كتاب "المقنع في اختلاف البصريين والكوفيين"، والتفاحة، والكافي، وغيرها، مر عليه المنذر بن سعيد البلوطي الأندلسي وهو يملي من قصيدة مجنون ليلى: خليلي هل بالشام عين حزينة ... تبكي على نجد لعلي أعينها قد أسلمها الباكون إلا حمامة ... مطوقة باتت وبات قرينها1 فقال له: ماذا أعزك الله باتا يصنعان؟ فقال: وكيف تقول أنت يا أندلسي؟ فقال: بانت وبان قرينها، فسكت وحقد عليه فمنعه استنساخ كتاب العين، وكان على علمه وسعة ثقافته وشغف الناس بالأخذ عنه شحيح النفس رث الهيئة، جلس يوما على درج المقياس على شاطئ النيل في أيام الفيضان يقطع بيتا من الشعر فظنه بعض العامة ساحر النيل فرفسه برجله، فلم يوقف له على خبر، وذلك سنة 337هـ.

_ 1 ملاحظة الأندلسي على النحاس مذكورة في معجم الأدباء في كل من ترجمة النحاس وترجمة المنذر، وفي نفح الطيب القسم الأول الباب الخامس ترجمة المنذر وفي طبقات الزبيدي ترجمة النحاس.

نشوء المذهب البغدادي على أيدي الجامعين بين النزعتين

نشوء المذهب البغدادي على أيدي الجامعين بين النزعتين: قد مر بك أن فترة من الزمن بعد تلاقي الفريقين في بغداد اختلف فيها اتجاهات العلماء إلى ثلاثة أنحاء، وقد تمايزت طوائفهم الثلاثة تبعا لاختلاف نزعاتهم، وكانت الطائفة الخالطة بين النزعتين البصرية والكوفية تزاول المذهبين وتنظر فيهما نظرة غير مشوبة بالعصبية، فهي لا بد واجدة رجحان هذا المذهب في مسائل وذلك المذهب في مسائل أخرى، وكان عمل هذه الطائفة منبها بعض معاصريهم إلى استقراء ما صح من القوانين النحوية دون التحيز إلى فريق دون آخر، فجر ذلك إلى الخلط بين المذهبين لاستخلاص مذهب منهما مرضي عليه عندهم. ولقد اتسعت هذه الحركة ونمت فعالجها الكثيرون، حتى احتل مكانا بين المذهبين مذهب آخر جديد مؤلف من المذهبين بفروق قليلة، اشتهر ذلك المذهب بالبغدادي، إذ كانت أرض بغداد هي التي أقلته وسماؤها التي أظلته، ظهرت بواكيره في أخريات القرن الثالث الهجري على مرأى من المتنازعين من الفريقين في الدور الأخير من أدوار سجالهم، فجعل العلماء يأخذون من هذا المذهب مسألة ومن ذاك أخرى مثلا، وهكذا دواليك تبعا لما تترجح كفتها1 عند النظر، وما أهل القرن الرابع الهجرى حتى كثرت قواعد هذا المذهب الجديد وأيده النظار له، واشتهرت طائفة به، فقاسم المذهبين عملا ومزاولة، وشق له سبيلا معهما، وامتدت به الأيام قليلا، فحدث للنحو به عهد جديد، قضى أن يعتبر طورا آخر من أطواره.

_ 1 الكفة: بفتح الكاف وكسرها وتجمع على كفف بالكسر.

الرابع: طور الترجيح "بغدادي"

الرابع: طور الترجيح "بغدادي" سلف أن هذا الطور كان التمهيد إليه على أيدي الخالطين النزعتين، وأن أساسه المفاضلة بين المذهبين: البصري والكوفي وإيثار المختار منهما. ولقد أمعنوا في هذا الاختيار، فاصطفوا مسائل ذات بال مزيجا من المذهبين، على أنهم قد أسلمهم هذا الاستقراء البالغ خلال تلك الأيام إلى العثور على قواعد أخرى من تلقاء أنفسهم لا تمت بصلة إلى المذهبين تولدت لهم من اجتهادهم قياسا وسماعا، ذلك لأن سلائق العرب ما انفكت سليمة في البوادي إلى أواسط القرن الرابع الهجري كما تقدم، ومشافهة العلماء لهم حينئذ متيسرة إما بالرحلة إليهم في البادية وهي دانية منهم أو بالسماع منهم في الحضر إذ كان لفيف منهم ينتجعه استجداء للعطاء والتماسا للرزق، فكان ذلك المذهب في عمومه ملفقا من المذهبين مع بعض قواعد استنبطوها، وعلى هذا فمسائله إما كوفية أو بصرية أو مبتكرة بيد أنه لا يعزب عن الذهن أن مسائل المذهب الكوفي المختارة في أول تكوين المذهب الجديد كانت أكثر من البصرية، لأن الكوفيين غلبوا على أمرهم، فكان النفوذ في بغداد لهم، ولم يلبث هذا الشأن أن تغير بعد حين، فبعد موت العصبية وانقراض المتأثرين بها رجعوا إلى تقدير المذهب البصري والتنديد بالكوفي والحط من حججه، فابن الشجري يقول في أماليه "المجلس السادس" عند القضاء في المناظرة السابقة بين الكسائي والأصمعي وقد عرفت ما فيها ما لفظه "ولنحاة الكوفيين في أكثر كلامهم تهاويل فارغة من الحقيقة". فهذا حكم يعطينا صورة صادقة عن عزوف المتأخرين عن المذهب الكوفي، وقد سلفت الإشارة إلى شيء من هذا عند الموازنة بين المذهبين.

من القواعد التي ركن فيها البغاددة إلى المذهب الكوفي: 1- إعمال اسم المصدر عمل فعله كما تقدم. 2- مجيء "بله" للاستثناء1. 3- إعطاء المستثنى المتقدم على المستثنى منه حكم المستثنى منه على سبيل القياس، فيصير المستثنى منه المؤخر بدل كل لأنه عام أريد به خاص2. 4- جواز نداء المعرف بأل في الاختيار دون التوصيل إليه بأي أو اسم إشارة3. 5- عدم تنوين المنقوص الممنوع من الصرف مع الفتح حال الجر4. 6- مراعاة لفظ الجمع في العدد فيجرد من التاء في نحو ثلاث حمامات5. ومن القواعد التي عولوا فيها على المذهب البصري: 1- عمل المصدر المنون عمل فعله، قال تعالى: {أَوْ إ ِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} {يَتِيمًا} 6. ومن القواعد المستدركة وراء المستحسن من المذهبين: 1- جواز تعريف الحال مطلقا خلافا للبصريين الموجبين التنكير مطلقا، والكوفيين إن لم يشعر بالشرط نحو عبد الله المحسن أفضل منه المسيء.

_ 1 المغني الباب الأول "بله"، وجمع الجوامع باب الاستثناء. 2 همع الهوامع باب الاستثناء. 3 باب المنادى، الرضي على الكافية، وابن الناظم على الألفية. 4 شرح ابن يعيش: ما لا ينصرف. 5 شرح الأشموني: أول باب العدد. 6 سورة البلد، الآية: 14.

2- جواز عدم الفصل بين أن المخففة والفعل المتصرف، قال الرضي "وحكى المبرد عن البغاددة علمت أن تخرج بالرفع بلا عوض إلخ"1. 3- جواز بناء اسم لا مع ارتباط الظرف والجار به، قال الرضي "وحكى أبو علي عن البغداديين أنهم يجيزون كون الظرف والجار في نحو لا آمر بالمعروف ولا عاصم اليوم من أمر الله من صلة المنفي المبني إلخ"2. 4- جواز إتباع محل المعطوف عليه مع عدم أصالته، قال ابن هشام بعد ذكره الشرط الأول لصحة العطف عليه: "الثاني أن يكون الموضع بحق الأصالة فلا يجوز هذا ضارب زيدا وأخيه، لأن الوصف المستوفي لشروط العمل الأصل إعماله، لا إضافته لالتحاقه بالفعل، وأجازه البغداديون إلخ"3. 5- تقدير عامل النصب في ويحه وأختيها من مادتها، قال خالد: "وذهب بعض البغداديين إلى أن "ويحه وويله وويسه" منصوبة بأفعال من لفظها"4. هذا هو نمط المذهب البغدادي الذي زاوله كثيرون، ذكرنا بعضا منهم فيمن جمع بين النزعتين، ولقد مالوا أخيرا في مؤلفاتهم إلى جعل المذهب البصري أساسا وتلك السنة سرت فيمن بعدهم، وما تزال إلى أيامنا هذه في أكثر الكتب النحوية. ظل المذهب البغدادي مدة مديدة، إذ كانت بغداد بلد الخلافة ومحج

_ 1 شرح الكافية نواصب المضارع أن. 2 شرح الكافية اسم لا النافية للجنس. 3 المغني الباب الرابع، العطف على المحل. 4 التصريح المفعول المطلق.

العلماء طرا من أقاصي بلاد الإسلام، وإن كانت بغداد مضطربة الأحوال في هذا الحين باستبدال الأتراك بعد جرأتهم على الفتك بالخليفة جعفر المتوكل سنة 247هـ1. إلا أن ذلك الاضطراب قد نفر قلوب أهل العلم الذين كان معظمهم من العرب والفرس، فأخذوا يتفرقون في البلاد شرقا وغربا، زرافات ووحدانا، والخلافة تزداد ضعفا على ضعف حتى انتثر نظمها بتغلب "بني بويه" على أمرها، وذلك على يد معز الدولة أبي الحسين أحمد بن أبي شجاع بويه، فقد دخل بغداد من جهة الأهواز في عهد الخليفة "المستكفي بالله" وقبض على أزمة الدولة سنة 334هـ مع بقاء الخلافة صورية في بغداد2. وقد تحاصت الدولة الإسلامية الجديدة من هذا الوقت في باقي الأقطار، وبذلك اختصت البويهية الفارسية بالعراق وفارس وخرسان إلى أن تغلب عليها السلاجقة التركية سنة 447هـ في عهد الخليفة القائم بأمر الله إذ ملك بغداد والعراق طغرلبك "محمد بن ميكائيل بن سلجوق" أول ملوك السلجوقيين، كما اختصت السامانية الفارسية بما وراء النهر، والغزنوية التركية

_ 1 قتله مماليكه الأتراك باتفاق مع ولده محمد المنتصر على ذلك لأن المتوكل كان أراد خلعه من ولاية العهد وتقديم ابنه المعتز عليه فاتفق مع وصيف وموسى بن بغا وباغر على قتله فدخلوا عليه وعنده وزيره الفتح بن خاقات فأول من ضربه بالسيف باغر ثم أخذته السيوف حتى هلك فصاح وزيره ويحكم أمير المؤمنين فلما رآه قتيلا قال: ألحقوني به فقتلوه ولف وهو والفتح بن خاقان في بساط ثم دفنا بدمائهما من غير تغسيل في قبر واحد وذلك في ليلة الخميس خامس شوال سنة 247. وبويع بالخلافة بعده ابنه المنتصر محمد ويقال: إنه رأى أباه المتوكل في المنام فقال له: ويحك يا محمد! ظلمتني وقتلتني، والله لا تمتعت في الدنيا بعدي إلا أياما يسيرة ومصيرك إلى النار، فانتبه فزعا وقال لأمه: ذهبت عني الدنيا والآخرة، ومرض بعد أيام ومات بالذبحة في أوائل ربيع الأول سنة 248. 2 راجع حوادث 334 في النجوم الزاهرة.

بأفغانستان والهند، والحمدانية العربية بحلب وما بين النهرين، والإخشيدية التركية فالفاطمية العربية بمصر وبلاد المغرب، والأموية العربية بالأندلس، وغير هؤلاء بأقاليم أخر. وتبع هذه التقاسيم توزع العلماء في مختلف هذه الأقطار، فتنقل هذا العلم في المدائن الإسلامية، وتدرج الانتقال من بغداد شرقا إلى العراق العجمي فخراسان فما وراء النهر، وغربا إلى الشام ومصر فالمغرب والأندلس، وقامت علماء هذه الدول الحديثة يشتغلون به كل في قطره على طبق ما توحيه إليهم الحياة الجديدة، فأخذ المذهب البغدادي يتلاشى رويدا رويدا.

انفراط عقد المذهب البغدادي بعد استيلاء بني بويه على بغداد: لقد ظهر هذا المذهب -كما عرفت- على أيدي الخالطين النزعتين أواخر القرن الثالث، وبلغ أشده منذ أوائل الرابع، واستحكم شأنه تلك المدة التي التأم فيها الفريقان ببغداد إلى أن تضعضع شأن الخلافة العباسية بغلبة البويهيين عليها، فحينذاك تمزق الشمل، وتفرق العلماء، وما المذهب البغدادي إلا مذهب العلماء في بغداد، فكما انتثر جمعهم انفرط عقده. ومن هنا يعرف أن انفراط المذهب البغدادي كان على سبيل التقريب بعد منتصف القرن الرابع الهجري، وبعبارة أخرى بعد انصرام النصف الأول تقريبا من عمر الدولة العباسية. نعم، إن روح المذهب البغدادي بقي فيها ذماء1 في العراق العربي وما يليه شرقا ويقرب منه غربا إلى حين، لتقارب هذه البلاد وتماثل نزعات ذوي الشأن فيها، ويرى العلماء على حسب الاصطلاح المتواطأ عليه بينهم أن انفراط عقد المذهب البغدادي يعتبر حدا فاصلا بين المتقدمين والمتأخرين.

_ 1 الذماء: الحركة، والمراد بقيت حية.

تشاطر الدول الإسلامية نهضة هذا العلم

تشاطر الدول الإسلامية نهضة هذا العلم انتهاء المتقدمين وابتداء المتأخرين ... تشاطر الدول الإسلامية نهضة لهذا العلم: انتهاء المتقدمين وابتداء المتأخرين: لا ريب أن انتثار عقد المذهب البغدادي الناشئ عن انحلال عروة الدولة الإسلامية على يد البويهيين لم يصحبه تحديد الزمن الحقيقي في الفصل بين المتقدمين والمتأخرين، فما برح المتقدمون قبل الانتثار من العلماء أحياء على اختلاف في تفاوت أزمنتهم بعد قصرا وطولا، وجدير بهؤلاء أن يحفظ لهم ما اكتسبوه قبله، وأن يعدوا في مصاف المتقدمين، وأما من نشأ

من العلماء قبيله وامتدت أيامه وعاصر من جاء بعده فيسري عليه وضعه ويعد في جماعة المتأخرين. فمناط العنوانين في الحقيقة راجع إلى طول المعاصرة للجيل المتقدم أو المتأخر، ومن ثمة اعتبر العلماء ابن درستويه، وابن الأنباري، ونفطويه وأندداهم من ساقه المتقدمين، كما اعتبروا أبا سعيد السيرافي، وأبا على الفارسي وابن خالويه وأترابهم مقدمة المتأخرين. يؤيد هذا ما قاله الرضي استطرادا في باب اسم المفعول، لمناسبة الكلام على شروط عمله: "وليس في كلام المتقدمين ما يدل على اشتراط الحال أو الاستقبال في اسم المفعول، لكن المتأخرين كأبي علي ومن بعده صرحوا باشتراط ذلك فيه، كما في اسم الفاعل" وهذا الذي يتفق مع الواقع في الفصل بين المتقدمين والمتأخرين فالمتأخرون عندهم يبدءون من العلماء الذين قاموا بنهضة هذا الفن بعد انفراط المذهب البغدادي، واشتغالهم بعلم النحو في الممالك الإسلامية الحديثة، لا تجمعهم زعامة في قطر دون آخر طوعا للوضع الجديد من تعدد المماليك واستقلال كل بشئونها لضعف نفوذ الخلافة العباسية، إلا أن هدف العلماء على اختلاف مواطنهم واحد، فاستقروا في أوطانهم يتشاطرون الرفع من شأن هذا العلم، ويتبارون في الاستزادة منه. وبعثهم هذا النشاط المتواصل إلى تقصي المسائل التي حدث فيها الاختلاف بين البصريين والكوفيين، وتدوينها للموازنة بين المذهبين، وتصويب المصيب وتخطئة المخطئ دون هوى أو ميل، والتاريخ لا يقول الحق إلا حين يطمئن لقوله بعد مواراة أرباب الشأن في الثرى، ولهذا ظهرت في هذه الحقبة بكثرة مؤلفات خاصة استعرضت ما اختلف فيه المذهبان ووازنت بينهما.

أما المؤلفات السابقة على هذه الحقبة فكانت تشوبها العصبية المذهبية، وقد عرضنا لسرد هذه المصنفات عامة فيما تقدم عند الكلام على "نتائج المخالفة بين المذهبين" للمناسبة هناك. والمقصود هنا أن علماء هذه الحقبة أفرغوا جهدهم في إعلاء منارة هذا العلم، ونوعوا في مصنفاتهم ابتغاء الإحاطة بكل ما يتصل به، وافتنوا في تلوين عرض هذا الفن بصور مختلفة، وأدوا رسالتهم خير تأدية، وما فتئوا جادين في خدمة هذا العلم حتى آذنت شمس الدولة العباسية بالمغيب سنة 656هـ، فسقط كثير من هذه الممالك الإسلامية وراءها وطويت صفحاتها حينا من الدهر، فوهنت فيها اللغة العربية نفسها، وخفت صوت هذا الفن. وبذلك انحصر الكلام في مطلبين: الأول: في حالة هذا العلم ورجاله في عهد الدول الإسلامية الحديثة المتعاصرة من عهد بني بويه إلى سقوط بغداد. والثاني: من سقوط بغداد إلى أيامنا الحاضرة.

المطلب الأول: علم النحو وعلماؤه في عهد الدول الإسلامية المتعاصرة

المطلب الأول: علم النحو وعلماؤه في عهد الدول الإسلامية المتعاصرة مدخل ... المطلب الأول: علم النحو وعلماؤه في عهد الدول الإسلامية المتعاصرة إن تعدد هذه الدول الحديثة وإن كان قد فت في عضد الدولة الإسلامية إلا أن تنافس ملوكها على اختلاف أصولهم من فارسي وتركي وعربي حملهم على مناصرة علمائهم استكمالا لاستقلالهم الجديد، وقد تبع ذلك أن العلماء أنفسهم تأثروا بهذه الروح، فتغيرت تقاليدهم النسبية إذ كانوا قبلئذ ينتسبون غالبا إما إلى أصولهم: "كالدؤلي، والمازني، والجرمي، والزيادي، واللحياني"، أو صناعتهم: "كالهراء، والزجاج، والنحاس"، أو ما يتصل بهم على وجه ما: "كالكسائي، والزجاجي"، فصاروا ينتسبون بعدئذ بكثرة إلى الأقطار المقيمين بها أو المدن التي نشئوا فيها، فقيل: "السيرافي، والفارسي، والرماني1، والبغدادي، والتبريزي2، والزمخشري، والأنباري3، والعكبري4، والسهيلي، والإشبيلي، والبطليوسي5، والشمنتري6، والمصري، والحلبي، والدمشقي"، وما إلى ذلك مما ستراه كثيرا إن شاء الله تعالى. على أنه مما يلاحظ أن هذا النوع من النسب لقي ارتياحا من نفوس العلماء فاتخذوه لقبا وارتضوه، وبقي على مر الزمن شعار العلماء حتى عصرنا الحاضر. فاتسعت الحركة العلمية بعد حصرها في دائرة ضيقة ونشطت بعد

_ 1 منسوب لقصر الرمان بواسط، كما في القاموس. 2 بفتح التاء وقد تكسر قاعدة أذربيجان. 3 أنبار بلد بالعراق قديم. 4 في القاموس: عكبراء بفتح الباء قرية والنسبة عكبراوي وعكبري، أقول: النسب في الأول للممدود وفي الثاني للمقصور. 5 بطليوس: بفتح الباء والطاء والياء وإسكان اللام والواو: بلد بالأندلس. 6 نسبة إلى شنتمرية مدينة في غرب الأندلس.

خمود خيم عليها حينا، وقد اجتهد علماء كل مملكة في داخلها لقلة التواصل بين المماليك من كثرة الفتن والاضطرابات، فكثرت آراء العلماء الفردية وتراكمت سحب الخلافات، وتنوعت التعليلات النحوية، وتضخمت المؤلفات، إلا أنه لم يعرض مذهب جديد خاص بجمهرة في قطر، غير أنه لما أقبلت الأندلس عليه في عصرها الزاهر واستكانت أقطار المشرق لما انتابها استحدثت الأندلس مذهبا رابعا سنذكر عنه لمحة في موطنه. وعلى الجملة فقد كان هذا العصر ذهبيا لهذا العلم، ففيه صنفت الموسوعات، واكتشف المكنون من أصدافه، وتعددت ألوان صوره المختلفة في عرضه لاختلاف مشارب الأقطار في مناحيهم الفكرية مع إصابة الجميع الهدف المقصود، بل كان هذا العصر كما يمليه الواقع ذهبيا لعلوم اللغة العربية كافة بالرغم أنه عصر ضعف وانحلال في رابطة الدولة الإسلامية، فإنه قلما عكف بعض علمائه على النحو وما يتصل به، وبعضهم على الأدب وما يرتبط به وبعضهم على اللغة وما يتبعها، شأن السابقين قبلهم في تخصصهم، بل اتسعت آفاق مباحثهم وبذلوا عناياتهم في متنوع فروع العربية فأحاطوا بها مع اختلاف نسبي في العناية ببعضها دون البعض، ولذا فإن كثيرا منهم ربما عده مؤرخو الفنون مرة في اللغويين وثانية في النحويين وثالثة في الأدباء ورابعة في الأصوليين، "فالسيرافي والفارسي وابن جني والتبريزي والزبيدي والبطليوسي لغويون نحويون صرفيون أدباء"، وكذا كثير منهم ممن لست في حاجة إلى التعريف عنه الآن فستعرف ذلك في ترجمته، بل إن بعضهم تجاوز أفق العلوم العربية إلى علوم الشريعة، فالزمخشري لغوي نحوي صرفي بلاغي أديب مفسر متكلم، وابن الحاجب أصولي نحوي صرفي فقيه، وقد امتدت تلك الظاهرة الجديدة إلى من بعدهم من العلماء، ومع هذا فإن الذي سوغ لنا ذكر من نذكر في النحويين شهرتهم الذائعة في النحو دراسة وتأليفا. نعم كانت هذه الأقطار مختلفة المشارب في نهجها العلمي، تتماثل وتتقارب وتتباعد بمقدار الاتصال والانفصال في مواقعها، فلذا كانت العراق وما يليها شرقا من فارس وخرسان وما يتصل بها غربا من الشام تتشابه في مسلكها، والأندلس والمغرب يتدانيان في مأخذهما، والشام ومصر يتلاقيان في موردهما، وقد بدا لنا تقسيم الحديث عن هذا العلم ورجاله في هذا المطلب على هذا الاعتبار إلى ثلاثة فصول:

الفصل الأول: علم النحو في العراق وما يليه شرقا وما يقرب منه غربا وعلماؤه

الفصل الأول: علم النحو في العراق وما يليه شرقا، وما يقرب منه غربا وعلماؤه إن الغالبين على هذه البلاد وإن كانوا ممن لا يمتون إلى أصول عربية إلا أنهم كانوا على علوم اللغة العربية أحدب من الخلفاء قبلهم، فسخوا ببدر الأموال في رفع منارها ومكافأة المبرزين في علومها، بل لقد حبب إلى كثير من أولى الشأن فيهم مشاركة العلماء في هذا الشرف الأدبي فنالوا فيه مرتبة محمودة، ولم يفت جلهم الحرص على أن تتوج مؤلفات علمائهم بأسمائهم، فمن ذلك كتابا "الإيضاح والتكملة لأبي علي الفارسي" إذ صدرهما بالاهتداء لعضد الدولة البويهي ولهما حكاية طريفة سنذكرها في ترجمته، وما ذلك إلا لأنهم يرونه مما يزيد في أبهتهم ويكبرهم في عيون شعوبهم، ولم يك عصر الدولة السلجوقية بعد الدولة البويهية بالعراق أقل نصرا للنحو ولعلوم اللغة، فللمدرسة النظامية التي أنشأها في بغداد نظام الملك "أبو علي الحسن بن إسحاق بن العباس وزير السلطان ألب أرسلان وولده السلطان ملكشاه وقتل رحمة الله عليه سنة 485هـ"1. الأثر الحسن في توجيه العلماء إلى التعليم فنبغ بفضلها عدد وفير من العلماء، وهي أول مدرسة بنيت ببغداد خاصة بالتدريس فكان قبلها في المساجد الجامعة وجعلت فيها الرواتب للمدرسين وللطلبة، وأجريت عليهم الجرايات، وسترى في تراجم العلماء أن منهم الأساتذة فيها وأن منهم من تلقى بها ثم رقي إلى الدراسة فيها، ولم تقصر

_ 1 تراجم الوزير والسلطانين مستوفاه في وفيات الأعيان.

عنها شأو المدرسة النظامية في نيسابور، فكان لزاما لهذا وذاك أن كثر الإنتاج للمؤلفات النحوية، وأربى عدد المشتغلين بالنحو عمن كانوا قبلهم في هذه البلاد غير أنهم ما برحوا يقتفون طرائق أسلافهم، فكانوا مرآة صادقة لهم انطبعت فيها اتجاهاتهم لأخذهم عنهم، فظلت النزعات الثلاثة: البصرية والكوفية والبغدادية، وهكذا تنقلت هذه النزعات من الأساتذة لمن يتلقون منهم حينا من الدهر، إذ أنهم تحللوا في أخريات أيامهم من الوقوف في هذا المحيط الثلاثة أو أن يبتدع رأيا جديدا بدا له، ولسنا بحاجة إلى ذكر أمثلة نبين فيها مختلف آرائهم في جزئية، فإن أقوال العلماء الذين نحن بصددهم منثورة مشهورة في كتب النحو، ولقد استمر نشاط هؤلاء المشارقة إلى أن دهمتهم حوادث التتر فصرفتهم عن العناية بهذا العلم، وهاك مشاهيرهم مرتبين بحسب وفياتهم مع ذكر بعض مؤلفاتهم. 1- السيرافي: هو أبو سعيد الحسن بن عبد الله1 نشأ بسيراف "من بلاد فارس على الخليج الفارسي" وارتحل إلى عمان في سبيل العلم، ثم عاد إلى سيراف، ثم اتجه إلى عسكر مكرم، ثم توطن بغداد وولي القضاء فيها، تلقى عن "ابن السراج ومبرمان وابن دريد" وغيرهم، دخل على ابن دريد مرة وهو يقول أول من أقوى في الشعر آدم في قوله: تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي لون وطعم ... وقل بشاشة الوجه المليح فقال له: يمكن إنشاده على وجه لا إقواء فيه، وذلك بنصب بشاشة على التمييز ورفع المليح بقل، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين، فرفعه حتى

_ 1 كان مجوسيا واسمه بهزاد فأسلم فسمي عبد الله، وكان السيرافي مفتنا في علوم القراءات والنحو واللغة والفقه والفرائض والكلام والشعر والعروض والقوافي والحساب وسائر العلوم مع الزهد والورع.

أقعده بجانبه، نبه شأن السيرافي وخاصة في النحو إلا أنه كان بصري النزعة، وكان بينه وبين أبي الفرج الأصبهاني ما بين المتعاصرين، وألف الكتب القيمة، فشرح كتاب سيبويه بما لم يسبق إليه، حتى حسده أترابه، وله كتاب أخبار النحويين البصريين، وهذا الكتاب من المراجع التي اعتمدنا عليها، توفي ببغداد سنة 368هـ1. 2- ابن خالويه: هو أبو عبد الله الحسين بن محمد "في الذهبي: ابن أحمد" نشأ بهمذان، ووفد إلى بغداد وأخذ عن "ابن الأنباري وابن دريد" وغيرهما، وقرأ على السيرافي، ثم توطن حلب وعطف عليه سيف الدولة، وله مع المتنبي مناظرات، وكان كوفي النزعة قصير الباع في النحو طويله في اللغة، يشهد بذلك ما ساقه في انتصاره لثعلب عند رده الاعتراضات العشرة التى فند بها الزجاج نصف كتابه "الفصيح" كما سبق التنويه عن ذلك في ترجمة الزجاج، وقد ذكر ردود ابن خالويه مبسوطة السيوطي بعد ذكر اعتراضات الزجاج في الأشباه والنظائر "الفن السابع" في الجزء الرابع، وغير خاف أن للنزعة الكوفية في نفس ابن خالويه أثرها في الدفاع عن ثعلب، ومن مؤلفات ابن خالويه في العربية كتاب "ليس في كلام العرب" توفي بحلب سنة 370 هـ2. 3- الفارسي: هو أبو على الحسن بن أحمد، نشأ بفسا "من بلاد فارس" ثم ورد بغداد فأخذ النحو عن "الزجاج ومبرمان وابن السراج وابن الخياط" وغيرهم، ثم طار صيته في الأقطار الإسلامية ورفع من شأن المذهب البصري، فاتصل بملوكها ونال الزلفى عند سيف الدولة الحمداني بحلب مدة أوغرت صدر ابن خالويه الذي كان عالم بني حمدان، ولهذا لما ألف كتابه

_ 1 ترجمته في سائر المعاجم، والحادثة مذكورة أيضا في أمالي ابن الشجري المجلس الخامس والأربعين "والنجوم الزاهرة سنة 368". 2 وتوفي في هذه السنة أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري صاحب تهذيب اللغة.

"الأغفال" ذكر فيه ما أغفله شيخه الزجاج تعقبه ابن خالويه عائبا ما ارتآه الفارسي، فلم يسع الفارسي انتصارا لنفسه إلا أن يصنف كتابا آخر يفند فيه تعقبات ابن خالويه سماه "نقض الهاذور"، ثم عاد إلى فارس ولقي من عضد الدولة البويهي "فناخسرو" بن ركن الدولة "حسن بن بويه" فوق الأمل، فقد كان عضد الدولة يفخر أنه غلامه، ولما ألف له كتاب "الإيضاح" استصغره فأردفه مغيظا بكتاب "التكملة" فقال: "غضب الشيخ وجاء بما لا نفهمه نحن ولا هو"، وقد اتبع أبو علي في الإيضاح السابقين قبله في شواهده، فلم يعتمد على شعر المحدثين في أحكامه، بيد أنه استشهد في باب "كان" ببيت لأبي تمام وهو قوله: من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا1 وهذه الملاحظة عدت عليه، لكن قالوا الحامل عليها أن عضد الدولة كان كثير الإنشاد لهذا البيت، فاعتماد الفارسي عليه مجاراة له في تقديره لحكمة البيت. هذا؛ وكما كان ابن خالويه واجدا على الفارسي كذلك السيرافي كان حاقدا عليه، وتلك سنة المعاصرة بين أهل الفضل، ومن مصنفات الفارسي أيضا التذكرة، والمسائل الحلبية، والبغدادية، والشيرازية، والحجة في القراءات وغيرها، توفي بعد حياة حافلة بالدراسة والتأليف ببغداد سنة 377هـ عن نيف وتسعين سنة. 4- الرماني: هو أبو الحسن علي بن عيسى، نشأ بالرمان "بمدينة واسط" ثم وفد إلى بغداد فأخذ عن الزجاج وابن دريد وابن السراج وغيرهم، ونبغ في العربية مؤيدا المذهب البصري مع ميل إلى الفلسفة لأنه معتزلي، وظهر ذلك في دراسته وتأليفه حتى قال الفارسي: "إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء وإن كان النحو ما نقوله فليس معه منه شيء"، ومن مؤلفاته في النحو شرح كتاب سيبويه، وشرح مقتضب المبرد،

_ 1 البيت من قصيدة في مدح نوح بن عمر الكسكي من كندة.

وشرح أصول ابن السراج، توفي في بغداد سنة 384هـ1. 5- ابن جني: هو أبو الفتح عثمان، وأبوه جني "معرب كني" مملوك رومي لسليمان بن فهد الأزدي، ولد أبو الفتح بالموصل ممتعا بإحدى عينيه، وتلقى عن علماء الموصل ولم ينشب أن تصدر بها للدراسة يافعا، فمر الفارسي عليه وسأله والناس حوله فلم يحر جوابا، فقال له: "تزببت وأنت حصرم" فلازمه بعدئذ، ثم خلفه بعد وفاته في بغداد، وملأ اسمه الأسماع، وحذق علوم اللغة العربية، وارتحل إلى حلب كثيرا وتناظر مع المتنبي فيها، ثم توثقت بينهما أواصر المحبة، ومؤلفاته تبهر الأفكار فإنها مع كثرتها في غاية الإتقان، منها في النحو الخصائص، وسر الصناعة، والمذكر والمؤنث والمحتسب، واللمع، توفي ببغداد سنة 392هـ. 6- الربعي: هو أبو الحسن علي بن عيسى المشهور بالربعي "نسبة إلى ربيعة" قال ابن خلكان: "ولا أدري أهو ربيعة بن نزار أم غيره" أخذ عن السيرافي ببغداد، ثم ارتحل إلى شيراز فلازم الفارسي عشرين عاما، ثم آب إلى بغداد وتصدر للإفادة، غير أن شذوذه الخلقي نفر الناس منه فقد تبذل في المجون إلى غير حد، ودأب على قتل الكلاب ومطاردتها، ومن تصانيفه النحوية شرح الإيضاح، وشرح مختصر الجرمي، توفي ببغداد سنة 420هـ. 7- ابن برهان: هو أبو القاسم عبد الواحد بن علي العكبري، كان أول أمره منجما، ثم نظر في النحو واشتهر فيه إلى أن استقدمه إلى بغداد وزيرها عميد الدين فنال حظا وفيرا، غير أنه كان سيئ البزة2، ومع هذا

_ 1 في النجوم الزاهرة سنة 384 برع في علم اللغة والنحو والأصول والتفسير وغيرها وله كتاب "التفسير الكبير" وهو كثير الفوائد إلا أنه صرح فيه بالاعتزال وسلك الزمخشري سبيله وزاد عليه مات ببغداد ودفن بالشونيزية "مقبرة الصالحين ببغداد". 2 البزة: بكسر الباء الهيئة.

كان الأمراء والسوقة يجلونه لدينه وورعه، توفي ببغداد سنة 456هـ1. 8- التبريزي: هو أبو زكريا يحيى بن علي بن الخطيب الشيباني من تبريز "من أكبر مدن أذربيجان"، هاجر في سبيل العلم فسمع من "ابن برهان، وعبد القاهر الجرجاني" وغيرهما، زار البلاد المصرية ولبث فيها أياما تلقى عنه فيها ابن بابشاذ، ثم أقام ببغداد ودرس الأدب بالمدرسة النظامية، وطبقت شهرته الأرجاء فقصده الخلق يفيدون من عرفانه، ومصنفاته العديدة برهان صدق على تفوقه في علوم اللغة العربية، منها في النحو مقدمة. وشرح اللمع لابن جني، تجاوز الله عن سيئاته فإنه أدمن شرب الخمر ولبس الحرير وذهب العمامة، توفي فجأة ببغداد سنة 502هـ2. 9- ملك النحاة: هو أبو نزار الحسن بن صافي، أبوه مولى الحسين الأرموي التاجر، ولد الحسن ببغداد فأخذ النحو عن الفصيحي وغيره، ثم سافر إلى واسط وإربل وخراسان وكرمان3 وغزنة، وقصد الشام فلبث في دمشق مدة طويلة وخرج منها ثم عاد إليها ورغد عيشه فيها برعاية نور الدين محمود بن زنكي، كان معتزا بنفسه فاستخف بمن قبله، لقب نفسه ملك النحاة، وكان يسخط على من لا يخاطبه بذلك، ومن مصنفاته النحوية "الحاوي، والعمدة، والمسائل العشر المتعبات إلى الحشر"، وقد تحدى بها علماء العصر، وهي مذكورة بنصها في سفر السعادة للسخاوي، ونقلها السيوطي عنه في الأشباه والنظائر "الفن السابع"، وممن أجاب عنها ابن بري المصري وستأتي ترجمته، توفي الملك بدمشق سنة 538هـ.

_ 1 في النجوم الزاهرة. كان إماما فاضلا نحويا وفيه شراسة ولم يلبس سراويل قط ولا غطى رأسه أبدا ومات ببغداد في جمادى الأولى سنة 456. 2 في النجوم الزاهرة. كان إماما في علم اللسان رحل إلى الشام وقرأ اللغة على أبي العلاء المعري وسمع الحديث وحدث وأقرأ اللغة ومات في جمادى الآخرة سنة 501 وله إحدى وثمانون سنة. 3 كرمان بفتح الكاف وقد تكسر أو هو لحن إقليم بين فارس وسجستان وبلد قرب غزنة وإربل كإثمد بلد قرب الموصل.

10- الزمخشري: هو أبو القاسم محمود بن عمر جار الله، ولد بزمخشر "بلد بخوارزم"، وتلقى عن النيسابوري وغيره، ثم أربى على من تقدمه، وغدا الإمام المعلم في كثير من الفنون، فشدت إليه الرحال، وكان معتزلي العقيدة ومؤلفاته بأيدينا تغنينا عن الإشادة بمعارفه، منها في النحو: "النموذج1، والأمالي، والمفرد، والمؤلف، والمفصل"، وعني العلماء بالمفصل شرحا وتعليقا فمن أشهر شروحه شرح ابن يعيش، وشرح الأندلسي، ولما وصل بغداد قاصدا الحج احتفى به ابن الشجري وتبادلا تحية يجمل بالأدباء تعرفها في ترجمتيهما، وبعد أن جاور حرم مكة مدة قفل إلى وطنه فمات به سنه 538هـ2. 11- ابن الشجري: هو أبو السعادات هبة الله بن على الشريف البغدادي، قال ياقوت: "نسب إلى بيت الشجري من قبل أمه"، أخذ عن ابن طباطبا والتبريزي وغيرهما، ثم تفرد بالزعامة في بغداد، فقد توافر فيه من كرم النجار، وغزارة العلم، وحسن الحظ ما هيأها له. ومن تصانيف ابن الشجري "الأمالي" وهو سفر ممتع مشتمل على فنون من الآداب أملاه في أربعة وثمانين مجلسا، وقد التمس سماعه منه ابن الخشاب الآتي ذكره، ولما لم يجبه إلى سماعه فأحفظه حتى إذا وقف عليه خطأه في كثير مما فيه، فأحنق ابن الشجري ونهض للرد عليه في كل ردوده، وألف من ذلك كتابا سماه "الانتصار" وهو على صغر حجمه مفيد جدا، ومن مؤلفاته النحوية: شرح اللمع لابن جني، وما اتفق لفظه واختلف معناه، توفي ابن الشجري بالكرخ من بغداد سنة 542هـ.

_ 1 النموذج بفتح النون والذال وهو مثال الشيء الذي يعمل عليه وهو تعريب نموذه. 2 وكان يقال له: جار الله لأنه جاور بمكة المشرفة زمانا وقرأ بها على ابن دهاس الذي يقول: لولا ابن دهاس وسابق فضله ... رعيت هشيما واستقيت مصردا "من الترصيد وهو السقي دون الري".

12- ابن الخشاب: هو أبو محمد عبد الله بن أحمد البغدادي، أخذ النحو عن الجواليقي والفصيحي وابن الشجري وغيرهم، حتى عد من أعلم أهل وقته فيه، مع الحظوة الكبرى في سائر الفنون فذاع اسمه، وكان حسن الخط والحظ فانتفع الناس به، إلا أنه كان بخيلا متبذلا في ملبسه، قليل المبالاة بالمحافظة على ناموس العلم، لم يتزوج ولم يتسر وله مصنفات في النحو وغيره، فمن النحوية: شرح جمل الزجاجي، والرد على ابن بابشاذ وغيرهما، توفي ببغداد سنة 567هـ. 13- ابن الدهان: هو أبو محمد ناصح الدين سعيد بن المبارك البغدادي، أخذ عن مشايخ العصر، ثم عد في أعلام بغداد، فكان يقال في عصره: النحويون ببغداد أربعة: "الجواليقي 1، وابن الشجري، وابن الخشاب، وابن الدهان" وله مصنفات نحوية منها: شرح الإيضاح والتكملة لأبي علي، والفصول الكبري، والفصول الصغرى والدروس، وغيرها. خرج من بغداد قاصدا دمشق، فاعترضه في الطريق بالموصل وزيرها جمال الدين الأصفهاني، وقيده بإحسانه، فأقام في كنفه إلى أن مات بها سنة 569هـ، وله خمس وسبعون سنة. 14- الأنباري: هو أبو البركات عبد الرحمن كمال الدين بن محمد الأنباري، سمع من أبيه في الأنبار، ثم نزح إلى بغداد وتعلم بالمدرسة النظامية، فأخذ عن الجواليقي، ولازم ابن الشجري، ثم تبحر في علوم اللغة العربية، مع الزهد والورع والعبادة، وتيمن الناس به، فتخرج على يده الكثير، وكان محمود السيرة، وخلف مصنفات متنوعة نالت رواجا، ولنقتصر

_ 1 ترجم الشيخ لثلاثة ولم يترجم للجواليقي. وهو موهوب بن أحمد بن محمد الجواليقي الشيخ أبو منصور، سمع الحديث ببغداد وقرأ الأدب فأكثر وانتهى إليه علم اللغة ودرس النحو والعربية بالمدرسة النظامية بعد أبي زكريا التبريزي، فلما ولي المقتفي الخلافة اختصه وجعله إماما فكان غزير العلم طويل الصمت متواضعا مليح الخط توفي في المحرم سنة 540هـ.

هنا على ما طبقت شهرته العالم العربي، فمنها: "أسرار العربية والإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين"، وقد سلف التعريف عن هذا الكتاب عند الكلام على نتائج الخلاف بين المذهبين: البصرى والكوفي بما نتبين منه ما احتواه من مسائل الاختلاف، وإن صغو1 الأنباري مع البصريين، ونزهة الألبا في طبقات الأدبا، شرح فيه تراجم النحاة من الإمام علي إلى شيخه ابن الشجري الذي أطال في مديحه، وكان للتراجم مسك الختام، وقد رفع سنده من شيخه في التلقي عمن فوقه حتى وصله بالإمام علي كرم الله وجهه. وهذه الكتب مما لا غنى لطالب العربية عن الانتفاع بها، وهي من المراجع التي اعتمدنا عليها في هذا الكتاب. ومما تجب ملاحظته أن صاحب الترجمة غير ابن الأنباري السابق ترجمته فيمن كانت نزعته كوفية، توفي الأنباري في شعبان ببغداد سنة 577هـ. 15- المطرزي: هو أبو الفتح ناصر صدر الأفاضل بن أبي المكارم عبد السيد الخوارزمي، ولد بخوارزم في السنة والبلدة التي مات فيها الزمخشري، ولذا قيل له بعد خليفته، لأنه كان يدعو إلى الاعتزال. قرأ على أبيه وغيره فنبغ في العربية، وسار ذكره وبعد صيته، ودرس وصنف فمن مؤلفاته النحوية: المصباح، والمقدمة المطرزية، ومن آرائه النحوية أن "سحر" مبنية عند قصد التعيين مع الظرفية، ورد عليه ابن الناظم في شرحه عليه قول أبيه: والعدل والتعريف مانعا سحر ... إذا به التعيين قصدا يعتبر بأوجه ثلاثة نقلها عنه خالد في التصريح، ثم الأشموني في شرحه. والمطرزي، قال ابن خلكان: "هذه النسبة إلى من يطرز الثياب

_ 1 بفتح الصاد مصدر صغا، بمعنى مال.

ويرقمها، ولا أعلم هل كان يتعاطى ذلك بنفسه أم كان في آبائه من يتعاطى ذلك فنسب له والله أعلم"، توفي المطرزي بخوارزم سنة 610هـ. 16- الكندي: هو أبو اليمن زيد تاج الدين بن الحسن، ولد ببغداد، وتلقى العلوم عن جلة العصر، فقرأ النحو على ابن الشجري وابن الخشاب وغيرهما، ثم قصد حلب للتجارة منها إلى بلاد الروم مدة طويل، ثم رحل إلى دمشق وفيها طاب له المقام في كنف الأمير "فروخشاه" ابن أخي السلطان صلاح الدين الأيوبي حتى استوزره، فدرس وأفاد وازدحم الطلاب على الأخذ عنه، وسمع منه الملك عيسى الأيوبي صاحب دمشق كتاب سيبويه، وشرحه لابن درستويه، وإيضاح الفارسي توفي في شوال بدمشق سنة 613هـ1. 17- العكبري: هو أبو البقاء عبد الله الضرير بن الحسين، أصله من عكبرا "بليدة على دجلة فوق بغداد"، ولد ببغداد وتلقى النحو عن ابن الخشاب وغيره، ثم حاز قصب السبق في علوم اللغة العربية، حتى لم يكن في آخر حياته من معاصريه من يضارعه فيها، وتصدر لتعليم الناس، وغلب عليه اتجاهه إلى النحو، وقد سبق أنه كوفي المذهب وله مصنفات مفيدة، منها في النحو: "شرح الإيضاح لأبي علي، وشرح اللمع لابن جني، وشرح المفصل للزمخشري، والتبيين في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين"، ومضت كلمة عن هذا الكتاب عند ذكر مسائل الخلاف بين الفريقين تعرفت منها أن هذا الكتاب يظن ظنا مسامتا لليقين أنه آثر المذهب الكوفي في كثير

_ 1 توفي وله 93 سنة وشهران، لأنه ولد في شعبان سنة 520 وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين وكمل القراءات العشر وله عشر سنين. قال الذهبي: "وكان أعلى أهل الأرض إسنادا في القراءات فإني لا أعلم أحدا من الأئمة عاش بعد ما قرأ القراءات ثلاثا وثمانين سنة غيره، هذا مع أنه قرأ على أسن شيوخ العصر بالعراق ولم يبق أحد ممن قرأ عليه مثل بقائه ولا قريبا منه، ثم إنه سمع الحديث على الكبار وبقي مسند الزمان في القراءات والحديث".

مما فيه، يشهد لقوة هذا الظن ما ذكره العكبري نفسه في شرحه لديوان المتنبي عند المناسبة لذكر الخلاف، فكما عزز الأنبارى المذهب البصري عزز العكبري المذهب الكوفي. توفي رحمه الله ببغداد "في شهر ربيع من سنة 616هـ، وقد قارب الثمانين". 18- ابن الخباز: هو أحمد الضرير بن الحسين، نشأ بإربل، وتلقى العلم بالموصل، واشتهر قدره، ومن مصنفاته النحوية، النهاية، وشرح ألفية ابن معط، توفي بالموصل سنة 637هـ. فإنها كانت تحل العلماء وتحبوهم، وقد عرفت في ترجمة الكندي أن الأمير "فروخشاه" أحسن وفادته في دمشق واستوزره وبوأ له مقاما رغيبا فيها حتى قضى نحبه، وأن الملك "عيسى" الأيوبي تلقى عنه كتاب سيبويه وشرحه، وإيضاح الفارسي، كما تلقى عضد الدولة عن الفارسي من قبل، بل إن هذا الملك بلغ حبه للعربية وإجلاله لذويها "أنه قد شرط لكل من يحفظ المفصل للزمخشري مائة دينار وخلعه، فحفظه لهذا السبب جماعة"1. لهذا نشأ بالقطرين في هذا العهد بعض علماء النحو الذين أخذوا عن أسلافهم من القطرين، فكانوا يقتفون كمن سبقهم من العلماء مذاهب العراقيين لأنهم تلقوا نحوهم عنهم قبل إقفار المشرق من هذا العلم وعلمائه، وقد توارد إليهم في هذا الحين فئة من المغاربة والأندلسيين في عهد الدولتين: الفاطمية والأيوبية، وليس بخاف أن المشتغلين بالنحو في القطرين لهذا العهد وإن زادت نسبتهم عن سابقيهم نسبيا، فقد كانوا قليلي العدد ولم تمتد أيامهم، على أن الشام كانت أوكس نصيبا من مصر لكثرة الشغب بها من عدوان الصليبيين والتتر حينا بعد آخر، حتى آل الأمر إلى المماليك وولَّى المسلمون وجوههم شطر القطرين بعد أن عصفت العواصف بالخلافة، حدثت نهضة جديرة بالتقدير لهذا العلم، والكلام عليها في المطلب الثاني إن شاء الله، ودونك أشهر العلماء في القطرين مرتبين على حسب وفياتهم.

_ 1 راجع ترجمة الملك عيسى في وفيات الأعيان، وفي شذرات الذهب.

الفصل الثاني: علم النحو في مصر والشام وعلماؤه

الفصل الثاني: علم النحو في مصر والشام وعلماؤه قد مضى أن القطرين في عصورهما الأولى لم يكونا مهدا وثيرا للنحو كما كانت بلاد المشرق، وحانت منهم التفاتات في أخريات الأيام إلى النحو، فظعنوا إلى العراق وسمعوا من علمائه ثم نشروه في القطرين، غير أنهم كانوا يعدون على الأصابع، وقد ذكرنا أشهرهم سابقا. وفي غضون هذه المدة وقبيلها وبعيدها ورد بعض علماء العراق الشام كالزجاجي والفارسي وابن خالويه وابن جني، وبعضهم مصر كالتبريزي فقد عرفت في ترجمته أنه أقام بمصر فترة من الزمن تلقى عنه فيها ابن بابشاذ، وبعضهم القطرين غير أن ورود العلماء إلى القطرين يعتبر كرحلات في بلادهم الإسلامية فلا يترتب عليه آثار تجعل القطرين كالعراق مبعث العلم. نعم، كان لتشجيع بني حمدان في الشام وتمجيدهم العروبة وعلماءها لأنهم عرب الداعي القوي في تحبيب العلماء الإقامة في الشام، فقد سبق أن ابن خالويه توطنها في ذرا سيف الدولة حتى توفي بحلب، ومن قبله الزجاجي الذي ما برح الشام حتى توفي بدمشق، ومن بعده ملك النحاة الذي نعم بخفض العيش في دمشق تحت ظلال نور الدين محمود بن زنكي، كما عرفت في ترجمته. ظل القطران كذلك حتى قيضت لهما دولة الفاطميين التي كانت أوفر عناية مما قبلها، وبخاصة في الدواوين، إذ كانت تعمد إلى تعيين المراقب عليها ممن عرف بالنحو وعلوم اللغة العربية فلا تصدر مكاتبتها إلا بعد وقوفه عليها وموافقته على ما فيها لأن الدولة عربية، وممن تولى هذا المنصب فيها ابن بابشاذ وابن بري، ثم أعقبتها الدولة الأيوبية ولم تقصر شأوا عنها في هذا المضمار وإن كانت كردية الأصل.

أشهر نحاة القطرين: 1- الحوفي: هو أبو الحسن علي بن إبراهيم، وأصله من شبرا النخلة "من حوف بلبيس" بمحافظة الشرقية، ورد القاهرة فسمع من أبي بكر الأدفوي وبعض علماء المغرب الذين نزحوا إلى القاهرة، وسرعان ما اشتهر علمه وأدبه، فتصدر لإقراء العربية، وصنف في النحو "الموضح" استوفى فيه العلل والأصول، وقد لاحظ عليه ابن هشام في مقدمة كتابه "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" فرط عنايته بإعراب الواضحات كالمبتدأ والخبر والفاعل ونائبه والجار والمجرور والعاطف والمعطوف مما لا حاجة إليه، توفي سنة 430هـ. 2- ابن بابشاذ: هو أبو الحسن طاهر بن أحمد المصري، وأصله من الديلم ولد ونشأ بمصر، ثم وفد إلى العراق لتجارة اللؤلؤ فجنحت نفسه إلى تلقي العلم عن علمائه وفتح عليه، ثم قفل إلى مصر وتصدر للإفادة في جامع عمرو بن العاص وتولى ديوان الإنشاء للفاطميين حتى لا يخرج منه كتاب إلا بعد عرضه عليه، وله مصنفات نحوية، منها شرح الجمل للزجاجي، وشرح الأصول لابن السراج، والتعليق المشهور بتعليق الغرفة، وقد انقطع آخر أيامه لعبادة الله في جامع عمرو، وعلا سطحه في ليلة مقمرة وبعينيه بقية من النوم، فزلت قدمه، ومات سنة 469هـ1. 3- ابن بري: هو أبو محمد عبد الله بن بري المصري، وأصله من المقدس، ولد ونشأ بمصر فأخذ عن الشنتريني النحوي وغيره، وشاع علمه فانتفع بالتلقي عنه خلق كثير، ورأس ديوان الرسائل كابن بابشاذ، وله مصنفات نحوية منها جواب المسائل العشر التي سأل ملك النحاة كما تقدم في ترجمته، ومع طول باعه في علوم اللغة كان يرسل كلامه كيفما

_ 1 بابشاذ كلمة أعجمية بسكون الباء الثانية أو كسرها، وبإعجام الذال أو إهمالها معناها الفرح والسرور.

اتفق، وكانت فيه غفلة عجيبة في غير العلم توفي بمصر في شوال سنة 582هـ، وله ثلاث وثمانون سنة. 4- ابن معط: هو أبو الحسين يحيى زين الدين بن عبد المعطي بن عبد النور الزواوي، ولد بالمغرب من قبيلة زواوة، سمع من الجزولي وابن عساكر، ثم رحل إلى دمشق واستوطنها، وفيها انتفع الخلق بعلمه دراسة وتصنيفا، ثم أرغبه الملك الكامل الأيوبي في القدوم إلى مصر فتصدر بالجامع العتيق لدراسة النحو والأدب على أجر جزيل، ومن مصنفاته النحوية "الألفية" التي أشار إليها ابن مالك في مستهل ألفيته، وشرح الجمل للزجاجي، توفي في ذي القعدة بالقاهرة ودفن بالقرب من الإمام الشافعي سنة 628هـ. 5- ابن يعيش: هو أبو البقاء يعيش موفق الدين بن علي بن يعيش، نشأ بحلب، وتلقى النحو عن فتيان الحلبي وغيره ثم ارتحل إلى بغداد أملا في السماع من كمال الدين الأنبارى لكن شاء القدر أن لا يراه، فقد توفي قبيل وصوله إلى بغداد فعرج على الموصل ولبث بها مديدة، ثم عاد إلى حلب، ولما عزم على التصدر للإقراء رحل إلى دمشق فالتقى بالشيخ تاج الدين الكندي السالف ترجمته، ثم سأله عن مسائل كثيرة، ومنها إعراب ما ذكره الحريري في المقامة الرحبية العاشرة وهو "حتى إذا لألأ الأفق ذنب السرحان، وآن انبلاج الفجر وحان" فاستبهم الإعراب على الكندي، ثم قال له: أردت إعلامي بمكانتك، وكتب بخطه شهادة بالثناء عليه، ثم قفل ابن يعيش بعد هذا التطواف إلى بلدة "حلب" واستقر فيها للإفادة فانتفع الناس به حتى دان له رؤساؤها بالتلمذة، وله شرح على "المفصل" في غاية الجودة، وشهرته تغني عن التعريف به، ولولا ضيق المجال لكتبت كلمة عنه أعرض فيها مزاياه وقد أفاض في ترجمة ابن يعيش تلميذه ابن خلكان في وفيات الأعيان، فقد تلقى عنه معظم كتاب "اللمع" لابن جني ونعته بالعلم والظرف والكياسة وخفة الروح، توفي رحمه الله بحلب "في جمادى الأولى"

ودفن بتربته بالمقام المنسوب إلى سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام سنة 643هـ "وله تسعون سنة". 6- السخاوي: هو أبو الحسن علي علم الدين بن محمد، ولد في سخا "بمديرية الغربية" تلقى العلم عن البوصيري وغيره، ثم انتقل إلى دمشق وسمع من الكندي وغيره، وأربى على معاصريه مع الخلال الحميدة فازدحم الطلاب عليه في جامع دمشق، ومن تصانيفه النحوية شرح أحاجي الزمحشري، وشرحان للمفصل، وله ألغاز في النحو بديعة، توفي بدمشق سنة 643هـ1. 7- ابن الحاجب: هو أبو عمر عثمان جمال الدين بن عمر الكردي الأصل المشهور بابن الحاجب لأن أباه كان حاجبا للأمير عز الدين موسك الصلاحي بالقاهرة، ولد ابن الحاجب بأسنا ثم تعهده أبوه بالقاهرة فحفظ القرآن ولما ييفع، وتلقى العلوم عن الشاطبي 2 وغيره فتبحر في العربية حدثا، ثم انتقل إلى دمشق فأكب الناس عليه في متنوع الفنون إلا أنه غلب عليه النحو، وتردد مرارا أمام قاضي الشام ابن خلكان بسبب أداء شهادات، فكان يسأله عن مشاكل في العربية ذكر بعضا منها في ترجمته في وفيات الأعيان، ثم عاد إلى القاهرة وتصدر بالمدرسة الفاضلية، ثم انتقل إلى الإسكندرية، كان رحمه الله أصفى الناس ذهنا وأقدرهم بيانا مع الإيجاز اشتهر بالتصانيف المختصرة المنقحة في جملة من العلوم ورزقت مصنفاته القبول، فمنها في النحو: "الإيضاح" شرح المفصل للزمخشري، و "الأمالي" الذي هو الغاية في الدقة، "والكافية" وشرحها، والكافية على وجازتها حوت مقاصد النحو بأسرها، فلا غرابة أن يتسابق حذاق النحاة في شرحها، ويضيق المقام عن استيعاب شروحها، وفي كشف الظنون تفصيلها، وممن شرحها: الرضي، والجامي، وسنذكر نبذة عن هذين الشرحين، في ترجمة أصحابهما، توفي رحمه الله في "شوال" بالإسكندرية سنة 646هـ، وله ست وسبعون سنة.

_ 1 في النجوم الزاهرة. كان إماما علامة مقرئا محققا مجودا بصيرا بالقراءات ماهرا في النحو واللغة إماما في التفسير شيخا للقراء بدمشق مات في جمادى الآخرة سنة 463 وله خمس وثمانون سنة. 2 الشاطبي توفي سنة 790 فكيف يتلقى عنه وقد توفي قبله بأربع وأربعين ومائة سنة.

الفصل الثالث: علم النحو في الأندلس والمغرب وعلماؤه

الفصل الثالث: علم النحو في الأندلس والمغرب وعلماؤه تباعد الشقة بين هذه البلاد وبين العراق مهد النحو قضى عليها أن تتأخر ردحا من الزمن عن اقتفائها العراق في مزاولته إلى أن نضج وكمل، وعناية الولاة على الأندلس من قبل بني أمية منذ فتحه سنة 93هـ منصرفة إلى إخضاع البلاد للخلافة فحسب، نعم لما استقلت بنو أمية بالأندلس على يد عبد الرحمن الداخل صقر قريش سنة 138هـ، وتوطد فيها الملك له ولعقبه من بعده استقبلت الأندلس عهدا جديدا وبدأت الحركة العلمية فيها، بفضل مناصرة بني أمية اللغة جريا على دأب بني أبيهم في المشرق، فأرغبوا العلماء في العلم وكافئوهم على دراستهم وتصنيفهم، فاستحث ذلك دول المغرب التى كانت تموج بالاضطرابات آنئذ، لأنها دول عربية تقدس الكتاب الكريم وتحدب على اللغة العربية لغة الدين، ففي المغرب الأقصى دولة الأدارسة العلوية نشأت على يد إدريس بن عبد الله بن حسن في مدينة "وليلي" سنة 172هـ، وضمت إليها بلاد تلمسان، وفي شمال إفريقية دولة الأغالبة التي أسسها إبراهيم بن الأغلب التميمي المتوفى سنة 184هـ. ثم قامت على أنقاض الدولتين الدولة الفاطمية واحتازات المغرب سنة 297هـ، وامتد نفوذها من المحيط الأطلسي إلى مصر سنة 358هـ، فنهضت المغرب تجاري الأندلس، بحكم قرب الجوار واتحاد اللغة والدين، لذلك تجشم أفراد من الأندلس والمغرب الأسفار إلى المشرق ورووا عن علمائه واقتبسوا من معارفهم إذ لم يكن في مقدورهم الرحلات إلى البوادي،

ومشافهة الأعراب فيها كما صنع المشارقة، وقفلوا إلى المغرب والأندلس مزودين بعلوم المشارقة زيادة على ما جلبوا معهم من مؤلفاتهم، إلا أنه كان للمغاربة فضل السبق على الأندلسيين لقرب بلادهم من المشرق وبعد الأندلسيين منه، وستقف على هذا عند الكلام على تراجم الفريقين قريبا. وقد تجاوب مع هذه الرحلات المشرقية في رفع شأن اللغة العربية تقاطر المشارقة وتوافد كثير من علمائهم إلى المغرب والأندلس لتوافر المرغبات في النزوح إليهما ماديا وأدبيا، وممن ورد الأندلس أبو علي القالي الذي رعاه أحسن رعاية "الحكم المستنصر" ولي عهد أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر سنة 330هـ، وأحسن مثواه حتى لقي ربه في الأندلس وتوفي بقرطبة سنة 356هـ. فتولد من هذين العاملين حركة في علم النحو في ظل الأمويين، والأغالبة والفاطميين، واطرد نموها وازدهرت في آخر عهدهم، وازداد ازدهارها في عصر ملوك الطوائف الذين قاموا على أنقاض الأمويين وتقاسموا بلاد الأندلس بينهم من سنة 428هـ، فإنهم كانوا يتبارون في تقدير العلم وأهله حتى كان منهم العلماء والمؤلفون، وفي خلال تلك الحقبة هبت نسمة من الأندلس على بلاد المغرب انتعشت فيها، فظهر في الأندلس والمغرب علماء ضارعوا علماء المشرق وانتشرت دراسة النحو في سائر المدن، وكادت الأندلس تحكي صورة العراق في عصره الزاهر، فكان غير عجب أنه لما فسدت السليقة بالبادية أواسط القرن الرابع الهجري وانصرف علماء المشرق إلى درس ما حفظوه ودونوه من كلام العرب، أن يصنع كذلك بعد حين المغاربة والأندلسيون في اجتزائهم بما نقلوا من ألسنة وكلام العرب المروي لهم عن علماء المشارقة والقواعد التي تلقنوها منهم، فلم يرتحلوا بعد إلى المشارقة، وعكفوا على ما حصلوا عليه، وصدقوا العزيمة في تثمير ما عندهم. وتقضي البداهة أن إنعام الفكر في المسائل موح وملهم باستكمال بعض

النقص الفائت، وهكذا ما كان من الأندلسيين بعد استغنائهم عن المشارقة واعتمادهم على أنفسهم فإنهم عدلوا عن بعض آراء المشارقة في النحو وخالفوهم في منهاج تعليمه وتدوينه، واستدركوا عليهم مسائل فاتتهم، وبذلك استحدثوا مذهبا رابعا عرف بمذهب المغاربة أو الأندلسيين، ظهرت مبادئه من أوائل القرن الخامس الهجري، الذي يعد بحق فجر النهضة النحوية في هذه البلاد، ولقد كانت نهضة رائدها المقة1 المحضة لهذا الفن في تلك البلاد المحرومة منه زمنا طويلا، ومن ذلك الحين قرروا كتاب سيبويه. كتاب سيبويه عندهم: لكتاب سيبويه عندهم منذ فجر النهضة العلمية بينهم المكانة المقدسة، فجدوا وتحملوا المشاق والأخطار في ارتحالهم من بلادهم إلى المشرق للحصول على صورة منه، وإنها لمشقة لا تسهل إلا على هؤلاء الذين أحبوا العلم للعلم، والرغبة الخالصة لا يحول دونها حاجز وإن تعذر اجتيازه، وسيأتي ذكر أعلام منهم استطاعوا نقله من الشرق في فجر النهضة عندهم، فتكاثرت نسخه بعدئذ وصار كتابهم المقدس في العربية، وإليه تؤول فضيلة النهضة الأندلسية المغربية، فقد شغف به الأندلسيون والمغاربة من هذا الحين، وتنافسوا في استظهاره، إذ كان حفظه عندهم شارة النبوغ في العربية. فمن حفظته: حمدون النحوي القيرواني، وخلف ين يوسف الشنتريني وغيرهما وعنوا بشرحه والتعليق عليه، فشرحه منهم: أبو بكر الخشني، وابن الطراوة، وابن خروف، وابن الباذش وغيرهم، وما انفكت العناية به تزداد تترى حتى انتهت رياسة النحو إلى ابن الضائع، فقد شرح كتاب سيبويه وأبدى مشكلات فيه عجيبة. لقد اطرد تثمير هذه النهضة في تلك البلاد وشيكا، ونمت الحركة

_ 1 المقة: المحبة.

العلمية وكثر العلماء وتباروا في تصنيف المؤلفات مع تنويع الإنتاج بين نحوية وغيرها، فتطلعت إليهم الأنظار في سائر البلاد الإسلامية، وملأت قرطبة الأندلس الأسماع وخلفت بغداد العراق، ولا سيما في النحو الذي حظي منهم بما حرمه غيره من فنون أخرى فقد سارت نهضتهم النحوية قدما حتى القرن السابع الهجري، إذ فيه تسنم الذروة العليا من عناياتهم. قال ابن سعيد المغربي، ونقل كلامه المقري قال: "والنحو عندهم في نهاية من علو الطبقة حتى أنهم في هذا العصر "القرن السابع" فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه، لا يزداد مع هرم الزمان إلا حدة، وهم كثير، والبحث فيه وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه، وكل عالم في أي علم لا يكون متمكنا من علم النحو بحيث لا تختفي عليه الدقائق فليس عندهم بمستحق للتمييز ولا سالم من الازدراء "1. وعلى كر الأيام تكاثرت مسائل مذهب المغاربة والأندلسيين الجديد وذاعت قواعده وامتدت حياته حتى أخذه عنهم المشارقة بعد ما ضعف شأنهم، إذ قد نزح كثير من المغاربة إلى المشرق إما للحج أو للإقامة، ودرسوا في مساجده ومدارسه ومعهم مؤلفاتهم كابن مالك وغيره. وستعرف في المطلب الثاني بعد سقوط بغداد وانقطاع المدد من العراق إلى القطرين "مصر والشام" أنه كثر تدفق الأندلسيين والمغاربة إليهما فنفحوهما نفحة لا ينساها التاريخ لهم، وهنا يحسن أن نذكر على سبيل الإرشاد بعض ما عرف عن جمهور المغاربة والأندلسيين من عناصر مذهبهم مخالفا للمعروف من المذاهب البصرية والكوفية والبغدادية.

_ 1 نفح الطيب الباب الأول من القسم الأول "القرآن والعلوم الشرعية بالأندلس".

أمثلة للمذهب الأندلسي المغربي: 1- منع توكيد العائد المنصوب المحذوف قياسا، نحو: جاء الذي ضربت نفسه، قال الأشموني "ومنعه ابن السراج وأكثر المغاربة"1. 2- اعتبار الفعل القلبي معلقا عن الجملة المسبوقة بالمعلق بعد المفعول الأول، قال ابن هشام "قال جماعة من المغاربة: إذا قلت: علمت زيدا لأبوه قائم، أو ما أبوه قائم، فالعامل معلق عن الجملة وهو عامل في محلها النصب على أنها مفعول ثان، وخالف في ذلك بعضهم لأن الجملة حكمها في مثل هذا أن تكون في موضع نصب وأن لا يؤثر العامل في لفظها وإن لم يوجد معلق، وذلك نحو: علمت زيدا أبوه قائم"2. 3- تجويزهم تأخير حال الفاضل عن اسم التفضيل، قال السيوطي: "وأجاز بعض المغاربة تأخير الحالين عن أفعل بشرط أن يليه الحال الأولى مفصولة عنه من الثانية، فيقال: هذا أطيب بسرا منه رطبا، وزيد أشجع أعزل من عمرو ذا سلاح قال أبو حيان: وهذا حسن في القياس لكنه يحتاج إلى سماع"3. 4- اعتبارهم نصب "غير" في الاستثناء كنصب المستثنى بإلا، قال ابن هشام: "وانتصاب "غير" في الاستثناء عن تمام الكلام عند المغاربة كانتصاب الاسم بعد إلا عندهم"4. 5- جواز العطف في تمييز المقدار المكون من الجنسين، نحو: عندي رطل سمنا وعسلا، قال السيوطي: "وقال بعض المغاربة: الأمران

_ 1 شرحه على الألفية باب الموصول العائد المنصوب. 2 المغني الباب الثاني، الجمل التي لها محل من الإعراب، والجملة الثالثة الواقعة مفعولا. 3 همع الهوامع باب الحال. 4 المغني الباب الأول "غير".

سائغان العطف وتركه"1. 6- عدم اعتبار العطف لأم المنقطعة مطلقا، قال الصبان: "فابن جني والمغاربة يقولون ليست بعاطفة أصلا لا في مفرد ولا في جملة"2. 7- تصحيحهم عمل "أن" المخففة المفتوحة في الظاهر أيضا، قال السيوطي: "الثاني أنها تعمل في المضمر وفي الظاهر نحو علمت أن زيدا قائم، وقرئ "أن غضب الله عليها" وعليه طائفة من المغاربة"3. 8- تسويغهم نصب المضارع بعد الفاء في جواب الاستفهام المتضمن وقوع الفعل، نحو: لم ضربت زيدا فيجازيك؟ مخالفين اشتراط النحاة عدم الوقوع، قال الأشموني: "ولم يشترط ذلك المغاربة"4. 9- قصر حذف "أن" الداخلة على المضارع على السماع سواء أبقي منصوبا أم رفع، قال الأشموني: "وإليه ذهب متأخرو المغاربة، قيل وهو الصحيح"5. تلك بعض قواعدهم، أما خلافاتهم الشخصية، وتعليلاتهم، وطريقتهم فهي تحت البصر بكتبهم، ولا تنس ما سبق التنبيه عليه في آخر المطلب الأول من أن علماء الأندلس والمغرب يشاركون علماء العراق وعلماء القطرين في استيفاء المصادر كلها تراجمهم، ونريد هنا أن نقول: إن علماء الأندلس والمغرب قد ترجمهم أيضا المقري في "نفح الطيب"، وهاك بعض مشهوريهم مرتبين بحسب مماتهم.

_ 1 همع الهوامع باب التمييز. 2 حاشيته في عطف النسق. 3 همع الهوامع "تخفيف أن". 4 شرحه على الألفية إعراب الفعل. 5 شرحه على الألفية آخر باب إعراب الفعل، النواصب.

أشهر نحاة الأندلس والمغرب: 1- جودي: هو ابن عثمان النحوي المغربي، نشأ في مورور "قرب القيروان" ورد العراق وأخذ عن الكسائي والفراء والرياشي، وروى عن الكسائي كتابه واستصحبه معه في عودته إلى وطنه، غير أنه اتجه بعد إلى قرطبة، فكان أول من أدخل كتاب الكسائي في هذه البلاد، وألف في النحو وتصدر للإفادة حتى توفي بقرطبة سنة 198هـ. 2- حمدون: هو النحوي المغربي "محمد بن إسماعيل" نشأ بالقيروان وتلقى عن المهري، ثم بلغ الغاية في النحو والغريب، وهو أول من عرف بحفظ "كتاب سيبويه" وطبعي أن الكتاب كان في المغرب ولا يعرف على التعيين أول من جلبه، ولحمدون كتب في النحو، توفي بعد 200هـ. 3- الأفشنيق: هو "محمد بن موسى" الأندلسي رحل إلى المشرق، فأخذ بمصر عن أبي علي الدينوري كتاب سيبويه، وانتسخه، وبالبصرة عن المازني، ثم عاد إلى الأندلس ومعه الكتاب، ويغلب على الظن أنه أول من أدخل الكتاب الأندلس، توفي بقرطبة سنة 307هـ. 4- محمد بن يحيى: هو الرباحي الأندلسي وأصله من جيان وانتقل أبوه إلى قلعة رباح "من أعمال طليلة" حذق علوم العربية واشتهر بالنحو؛ ورحل إلى مصر فلقي أبا جعفر النحاس وروى عنه كتاب سيبويه ثم عاد إلى الأندلس وتلقى عنه الزبيدي؛ وكرمت منزلته عند الحكم المستنصر بالله وأشرف على الدواوين، وبقي أثيرا إلى أن توفي بقرطبة سنة 358هـ. 5- الزبيدي: هو أبو بكر محمد بن الحسن، أصله من زبيد "قبيلة يمنية" ولد في إشبيلية وتأدب على أبيه ثم سمع من أبي علي القالي ومحمد بن يحيى الرباحي وغيرهما في قرطبة، حتى غدا أوحد زمانه في النحو وحفظ اللغة، فاختاره الحكم المستنصر بالله لتأديب ولده وولاه قضاء إشبيلية وخطة الشرطة بها، وله مؤلفات: الواضح في النحو، وأبنية الأسماء في الصرف، واستدراك العين في اللغة، وطبقات النحويين واللغويين في التراجم.

تعريف بكتابه طبقات النحويين واللغويين: لهذا الكتاب منهج خاص في التراجم يرشد إلى المقصود بسهولة، فإنه من جهة فصل بين النحويين واللغويين وجعل لكل بابا، ومن جهة أخرى ذكر البصريين وحدهم ثم الكوفيين ثم الإفريقيين ثم الأندلسيين، ورتبهم طبقات طبقة تلي أخرى مشيرا إلى مدارسهم وشيوخهم مع جودة الضبط. نعم قد اضطررت في التعبير الإقليمي إلى مخالفته "في الإفريقيين" فاستبدلت بها "المغاربة" لأنها المذكورة في كتب النحو التي بأيدينا. ومن الاعتراف بالفضل لصاحبه الإشادة بصنيع الزبيدي فإنه الذي مهد لنا السبيل في توزيع علماء النحو خاصة إقليميا -وهو الهدف الذي ننظره- منذ كان من أبي الأسود إلى شيخ الزبيدي السابق محمد بن يحيى الرباحي المتوفى سنة 358هـ لأن ترجمته آخر تراجم الطبقات، فلو تأخر عهد الزبيدي لامتد هذا التفصيل النافع إلى أمده وخفف عنا عناء التفتيش فترة أخرى، في المعاجم المعنية بعلماء النحو دون التنصيص على من عرفوا به واشتهروا دون اللغة، فإن جلهم جامعون بين الفنين وبعضهم ضم إليهما فنونا أخرى ودون التعيين في أبواب لأقاليمهم ولكل إقليم طابعه الخاص في النحو والنحاة؛ أما طبقات الزبيدي فإنها أضافت على فائدة الترجمة ثلاث فوائد: شهرة المترجم بالنحو ومذهبه فيه وموطنه المنسوب إليه، لهذا كانت مطمح أنظار العلماء. ظل الزبيدي موضع التجلة في قرطبة حتى توفي سنة 379هـ. 6- الأعلم: هو أبو الحجاج يوسف بن سليمان المعروف بالأعلم "لانشقاق شفته العليا"، ولد بشنتمرية "مدينة في غرب الأندلس" ورحل إلى قرطبة فتلقى عن الإقليلي وغيره وشهرته قوة الحافظة فبعدت سمعته فكانت تضرب إليه أكباد الإبل، وكف بصره آخر حياته، وكانت تغلب عليه النزعة

الأدبية كما ترى في مؤلفاته فله شرح الجمل للزجاجي وشرح شواهد سيبويه، وشواهد الجمل، وديوان زهير، والحماسة وغيرها، توفي بإشبيلية سنة 476هـ. 7- ابن السيد البطليوسي: هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد وليد في بطليوس واستوطن بلنسية موفور الكرامة لعلمه الجم فترامت سمعته إلى ابن الحاج صاحب قرطبة الذي استقدمه إليها، غير أنه أقام عنده قليلا وخافه فعاد إلى بلنسية، ومؤلفاته كثيرة، له في النحو المسائل المنثورة، وإصلاح الخلل الواقع في الجمل، والخلل في شرح أبيات الجمل، توفي ببلنسية سنة 521هـ. 8- ابن الطراوة: هو أبو الحسين سليمان بن محمد، ولد بمالقة ورحل إلى قرطبة فسمع من الأعلم كتاب سيبويه كما أخذ عن غيره ثم تجول كثيرا في الأندلس، فانتفع به خلق كثير، وكان جريئا في آرائه لهذا انفرد بمسائل جمة خالف فيها النحاة، ولم يتحاش تغليط سيبويه في الكتاب في "باب النعت" كما رأيت عند الكلام في ترجمة سيبويه، ومن مصنفاته المقدمات على كتاب سيبوبه، والترشيح، توفي بمالقة سنة 528هـ. 9- ابن الباذش: هو أبو الحسن علي بن أحمد، ولد بغرناطة وشب على حب الفضيلة والزهد في الدنيا وبرع في الشريعة والعربية فأكبره لذاته، بذل همته في النحو فشرح أمهات الكتب: إذ شرح كتاب سيبويه؛ والأصول لابن السراج، والمقتضب للمبرد، والإيضاح للفارسي، والجمل للزجاجي، والكافي للنحاس، توفي بغرناطة سنة 538هـ. 10- اللخمي: هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن هشام اللخمي، ولد في سبتة، ولما شدا1 مبادئ اللغة والشريعة، انكب على التزايد فيهما حتى صنف مؤلفات، منها في النحو كتاب الفصول والجمل، توفي بسبتة سنة 570هـ.

_ 1 مأخوذ من قولهم: شدا شعرا أو غناء إذا غنى به وترنم.

11- ابن طاهر: هو أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر المشهور بالخدب ولد في إشبيلية ورحل إلى مراكش فدرس في "فاس" كتاب سيبويه وذاع اسمه وأقبل الناس عليه من الجهات النائية وله طرر على الكتاب توفي بفاس سنة 580هـ. 12- السهيلي: هو أبو القاسم، وأبو زيد عبد الرحمن بن عبد الله، ولد بمالقة، وسمع من ابن الطراوة وغيره، وكف بصره في السابعة عشر فعوضه الله نور البصيرة، وأحسن الناس فيه عقيدتهم، ونفذت سمعته العلمية والدينية إلى بلاد المغرب، ونمى خبر إملاقه إلى ملكها فاستقدمه ومكث بها ثلاثة أعوام مغمورا بالإحسان؛ وله مصنفات منها التعريف والإعلام بما في القرآن من الأسماء والأعلام، والروض الأنف شرح السيرة. حدثت مسائل بينه وبين ابن خروف مذكورة "في الفن السابع" من الأشباه والنظائر الجزء الثالث، توفي رحمه الله بمراكش سنة 583هـ1. 13- ابن مضاء: هو أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن اللخمي القرطبي، نشأ بقرطبة في بيت حسب محبا للعلم، فأخذ عن ابن الرماك في إشبيلية كتاب سيبويه تفهما وسمع عليه وعلى غيره من الكتب النحوية واللغوية والأدبية ما لا يحصى، وامتد نهمه إلى سائر العلوم من الأصول والهندسة وغيرهما، فكان وحيد عصره، وتولى رياسة القضاء في عهد أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن من دولة الموحدين. وله في النحو كتاب "المشرق في النحو" وكتاب "الرد على النحاة" وهذا الكتاب هجم فيه على نحاة المشرق وفند بعض قواعدهم: في اعتبار العامل، وفي توجيه العلل، وفي اعتبار القياس، وفي التعويل على التمارين الفرضية؛ ويحتاج بسط ما في الكتاب إلى تفصيل لا يسعه المقام وكتاب "تنزيه القرآن عما لا يليق بالبيان" وخطأه ابن خروف في هذا الكتاب

_ 1 السهيلي منسوب إلى سهيل بلدة قريبة من مالقة فيها أهله وأقاربه، وسميت بذلك لأن كوكب سهيل لا يرى في بلاد الأندلس إلا من جبل مطل عليها.

وناقضه بكتاب سماه "تنزيه أئمة النحو عما نسب إليهم من الخطأ والسهو"، ولما بلغ ابن مضاء اغتاظ ثم قال: نحن لا نبالي بالأكباش النطاحة وتعارضنا أبناء الخرفان، توفي ابن مضاء في إشبيلية سنة 592هـ. 14- الجزولي: هو أبو موسى عيسى بن يللبخت من قبيلة "جزولة" من قبائل البربر بمراكش نشأ بمراكش، ولما حج عرج على مصر فتلقى النحو عن ابن بري وقرأ عليه كتاب "الجمل" للزجاجي، وجرى فيها بحث نتج عنه مقال طويل جعله مؤلفا "المقدمة" للزجاجي، وقد عنى الناس بها، وفي كشف الظنون: "هي المسماة بالقانون، أغرب فيها وأتى بالعجائب، وهي في غاية الإيجاز مع الاشتمال على شيء كثير من النحو لم يسبق إلى مثلها" ثم عاد إلى المغرب وأخذ الناس عنه، حتى توفي بمراكش سنة 605هـ. 15- ابن خروف: هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي الحضرمي الإشبيلي، ولد في إشبيلية وأخذ عن ابن طاهر السابق ترجمته، ثم برز في العربية، ومن مصنفاته النحوية: شرح كتاب سيبويه أهداه إلى صاحب المغرب فمنحه ألف دينار، وشرح الجمل للزجاجي ومع طول باع المترجم في النحو وذيوع صيته في التدقيق وغزارة مؤلفاته كان في خلقه زعارة1 فلا عجب أن يندفع إلى منازلة السهيلي في المسائل المنوه عنها في ترجمته وأن يعدو على ابن مضاء في مناقضته لكتابه المذكور آنفا في ترجمته. ومما هو حري بالملاحظة أن ابن خروف النحوي غير ابن خروف الشاعر المشهور وإن اتفقا اسما وكنية ولقبا وأبا، فقد اختلفا جدا ونسبا ووطنا ووفاة ومدفنا، فإن ابن خروف الشاعر هو أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف القيسي القرطبي، وهو الذي أرسل قصيدة للقاضي في حلب يوسف بهاء الدين المعروف بابن شداد يستجديه فرو خروف، وتوفي مترديا في جب بحلب سنة 604هـ.

_ 1 الزعارة: الشرا.

ولعل الاشتباه بين النحوي والشاعر هو الذي تسرب منه الخطأ في نسبة شعر للنحوي، ولم ينتبه لهذا أحد ممن ترجم النحوي قبل ابن خلكان وبعده، فإنه وحده الذي حقق هذا الفرق في وفيات الأعيان ترجمة القاضي يوسف المذكور، وهذا التحقيق من ابن خلكان جدير بالتقدير والاعتبار، توفي ابن خروف النحوي بإشبيلية سنة 610هـ. 16- الشلوبيني: هو أبو علي عمر بن محمد المعروف بالشلوبيني، ولد بإشبيلية، وأخذ عن السهيلي والجزولي وغيرهما، ثم انتهت إليه رياسة النحاة غير مدافع، بل تغالى معاصروه ففضلوه على أبي علي الفارسي وبه انتهت دولة الأئمة المجتهدين، وكان مع هذا فيه غفلة وحكايته في ذلك غريبة، ومن مصنفاته النحوية: التوطئة، والتعليق على كتاب سيبويه، توفي بإشبيلية سنة 645هـ1. 17- ابن هشام الخضراوي: هو أبو عبد الله محمد بن يحيى الخزرجي، من الجزيرة الخضراء، أخذ عن ابن خروف وغيره، وعني في تصنيفه بكتاب الإيضاح، فألف الإفصاح بفوائد الإيضاح والاقتراح في تلخيص الإيضاح، وغرر الإصباح في شرح أبيات الإيضاح توفي بتونس سنة 466هـ. 18- ابن الحاج: هو أبو العباس أحمد بن محمد، قرأ على الشلوبيني وأمثاله، ومهر في علوم اللغة العربية وصنف فيها، وله في النحو إملاء على كتاب سيبويه، ومختصر الخصائص لابن جني، وشرح الإيضاح، كان يقول: إذا مت يفعل ابن عصفوري في كتاب سيبويه ما شاء توفي سنة 647هـ.

_ 1 الشلوبيني بياء النسبة قال في معجم البلدان "شلوبين أو شلوبينه أو شلوبينية: حصن بالأندلس" وقال في القاموس "شلوبين أو شلوبينية: بلد بالمغرب" وقال في وفيات الأعيان "الشلوبين: الأبيض الأشقر بلغة الأندلس"، وروي بغير النسبة والباء على كل مشوبة بالفاء لأنها أعجمية.

المطلب الثاني: علم النحو وعلماؤه بعد سقوط بغداد

المطلب الثاني: علم النحو وعلماؤه بعد سقوط بغداد مدخل ... المطلب الثاني: علم النحو وعلماؤه بعد سقوط بغداد لقد كان سقوط بغداد سنة 656هـ على يد الطاغية "هولاكو" المغولي التتري حدث الأحداث، إذ تقوض عرش الخلافة الذي كان ملاذ المسلمين ردحا من الدهر على اختلاف أجناسهم وثنائي أقطارهم، سادوا فيه العالم، وبسطوا نفوذهم على رقعة فسيحة من البسيطة، رفرفت عليها راية اللغة والدين. قضى الله ودالت دولة الخلافة العباسية من بغداد وتمزق شمل المسلمين {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 1 ففر من فر من بغداد، وقتل فيها من قتل، وارتكب المغول في هذا الحادث الجرائم النكر، وأزالوا معالم المسلمين وأبادوا ثروتهم العلمية وألقوها في اليم بدجلة فعبرت عليها الخيول، ولم يقف شر هؤلاء الطغاة عند بغداد، بل استشرى شرهم وعم بلاد المشرق في عهد عقبه "تيمورلنك" الذي روع المشرق بجحافله الزاحفة وجيوشه المظفرة، اتخذ قاعدة ملكه "سمرقند" واتجه شرقا وغربا يلتهم الممالك ويثل العروش ويعيث في البلاد الفساد، لا يثنيه عن ضراوته الوحشية صارف، دخل "أنقرة" عنوة وأسر السلطان العثماني "بايزيد الأول" المعروف بالصاعقة وزج به في غياهب السجن سنة 804هـ، دانت له الدولة الإسلامية من حدود الهند شرقا إلى سوريا غربا، فامتدت أطماعه إلى الاستيلاء على القطرين "مصر والشام" لكنه خاب أمله بفضل بسالة المماليك سلاطين مصر حينذاك كما سيجيء الكلام عليه في الفصل الثالث. وبلغ من جبروته أنه ألجأ الشيخين "سعد الدين التفتازاني والسيد

_ 1 سورة الرعد، الآية: 11.

الشريف الجرجاني" إلى أن يتناظرا بين يديه يمتع عينيه فشجر بينهما الخلاف في الاستعارة التمثيلية، فجوز السعد فيها أن تكون تبعية، ومنع السيد التبعية فيها، وطال احتجاج الطرفين، وكانت العاقبة انهزام السعد فموته هما وحزنا، كما كان يفكر في القضاء على ابن خلدون لكن ابن خلدون احتال عليه وأمله في عودته من القاهرة حاملا كتبه إليه فذهب وخلص من شره، طالت مدة هذه الطاغية، فلم يمت حتى دوخ الشرق في عهده الطويل فقد ملك ستا وثلاثين سنة والشعوب الإسلامية تحت نير العسف والاضطهاد لا هم لهذه الشعوب المغلوبة فيها إلا سلامة أرواحهم حتى توفي سنة 807هـ، فاختلف أعقابه من بعده وألقيت بينهم العداوة والبغضاء، وقد أسلم بعضهم ودان الآخرون بالبوذية، فتفككت أواصرهم وانشعبت مملكتهم، وكان الشرق يموج يومئذ بالفتن فتدول دولة وتقوم أخرى، أو ينحل فتل دولة ويبرم فتل أخرى. فقد توطد في هذا الحين ملك الدولة العثمانية التي اتخذت بعد فترة من نشأتها عاصمتها الجديدة "القسطنطينية" بعد فتحها المعدود أعجوبة الدهر سنة 758هـ على يد السلطان محمد الثاني الفاتح، وقد اطرد على مرور الزمن تقدم نهضة الدولة العثمانية حتى استولت على القطرين في عهد السلطان سليم سنة 923هـ وكان لهذا الاستيلاء أثره البالغ في طرو عهد جديد على اللغة العربية، وبالتالي على النحو الذي نتحدث عنه وسترى تفصيل ذلك في الفصل الثالث، وقد بلغت الدولة العثمانية أوج مجدها في عهد السلطان سليمان القانوني المتوفى سنة 973هـ فكان لها شطر كبير من بلاد الشرق، فقد وصلت المملكة العثمانية زمن السلطان المذكور فيه إلى آخر العراق شرقا باقتطاع جزء كبير من أملاك الدولة الصفوية الآتي الكلام عليها بعد، فدخلت "بغداد" في ملكه. وظهرت أيضا في هذا الحين الدولة الصفوية بخراسان وحالفها الظفر في المشرق حتى أدال الله لها على الدولة التيمورية بعد حرب ضروس في

موقعة "شرور" سنة 907هـ انتصر فيها الشاه إسماعيل الصفوي رأس الدولة الصفوية، واتسع ملكه فامتد بين جيحون وخليج البصرة وأفغانستان والفرات، فلم يعد بعدئذ للدولة التيمورية أثر وكأن لم تغن1 بالأمس وكان آخر سلاطينها سلطان هراة "حسين مرزا" المتوفى سنة 911هـ. فنشوء الدولتين الفتيتين: "العثمانية والصفوية" حول التيمورية قضى عليها القضاء النهائي، لكن الطمع الدنيوي لم يدع الصفاء بين الدولتين الباقيتين، فقامت حروب بعدئذ بين السلطان سليم والشاه إسماعيل مدة طويلة، وبالجملة كان المشرق بركان ثوران في نواحيه عامة ولا قرار فيه للهدوء والسكون، والعلماء كافة أنأى الناس عن مثار الاضطرابات يركنون إلى مثابات الاستقرار في مواطن الأمن الشامل؛ لهذا قد تصوبت أنظار النحاة إلى القطرين "مصر والشام" فأخذوا يرتحلون من المشرق رويدا رويدا، إلى أن حان وقت تفردت فيه القاهرة بالقيام بأعباء النهضة الثقافية للمسلمين وآضت2 كعبة القاصدين. هذه حال بلاد المشرق. أما الأندلس وبلاد المغرب فإنه ما انفك فيهما بقية من علماء النحو تشتغل به بعيدة عن فوضى بلاد المشرق حتى ألمت بهم النوائب فاختلف ملوك بني الأحمر وتفرقوا أحزابا واستعرت الحروب بينهم فطفق العلماء يهبطون من الأندلس والمغرب إلى القطرين كالمشارقة أرسالا إلى أن سقطت الأندلس واستولى عليها الفرنجة سنة 897هـ وستعرف تفصيل ذلك في الفصل الثاني، فلم ير المطرودون من الأندلس والمغرب ملجأ لهم إلا القطرين كما سبقهم من قبل إخوانهم المشارقة، ومن ذلك تعرف أن القطرين: "مصر والشام" اتسع رحبهما للوافدين إليهما من اليمين واليسار؛ من المشرق والمغرب، وفيهما التقى علماء المشرق والمغرب بعلماء القطرين، وقامت القاهرة عاصمة القطرين بدورها بعد أختيها: "بغداد وقرطبة"، وعلى هذا ينبغي في الكلام على هذا العلم ورجاله في هذا العهد أن نسير على طباق ما تقدم في المطلب الأول إذ الحال من حيث الاتجاه في النزعة لم تتغير عند كل فريق من الثلاثة وبذلك انقسم الحديث إلى ثلاثة فصول:

_ 1 من عنى بالمكان: أقام به. 2 صارت.

الفصل الأول: علم النحو في المشرق وعلماؤه

الفصل الأول: علم النحو في المشرق وعلماؤه إن بلاد المشرق لما منيت بهذا الخطب الجلل الذي أباد تراثها العلمي وأودى بحياة علمائها العاملين، دهشت طويلا من الأيام، وعشش عليها بوم الآلام، غير أن بعض علمائها في إبان الشدة والقسوة لأول عهد المغول نجوا بأنفسهم إلى حيث يأمنون في سربهم، فمنهم من وجدوا لهم مراغما 1 في الأرض وسعة، ومنهم من رضوا من الحياة الدنيا بالغذاء العلمي الروحي، ومن هؤلاء الرضي الذي ولى وجهه شطر الحرمين ونعم بجوار الحرم المدني وألف كتابه المشهور الذي سجل له على النحو فضل الأبد، وستقف على شأنه عند التعريف به في ترجمة الرضي. نعم لما أسلم بعض سلائل التتر في أخريات أيامهم، وقد ناهضتهم الدول العثمانية أولا ثم الدولة الصفوية ثانيا التفت بعض سلاطينهم وأولي الشأن فيهم إلى وجوب استجلاب مودة الشعوب المملوكة استبقاء لملكهم فتوددوا للعلماء وأهابوا بهم في القيام بما يعود على البلاد بالنفع والخير، ولعل من أكبرهم مظهرا في ذلك سلطان هراة "السلطان حسين"، فقد غمر الجامي بما جعله لا يصوب نظره إلى سلطان آخر في إقليم آخر رغم استزارته من كثير من سلاطين ذلك الوقت كما سترى في ترجمته. كذلك الدولة العثمانية والدولة الصفوية، وهما دولتان إسلاميتان ناشئتان

_ 1 المراغم: المذهب والمهرب.

يحفزهما الدين إلى إحاطة العلماء بالتكريم، والعلماء حفظة الدين ولغة الدين. على كل حال كان طبعيا وحتما مقضيا على هذه الدول أن تصانع شعوبها وتتقرب إلى خواصها للتنافس بينها. والشعوب العربية تواقة إلى استرجاع مجدها الحائل واللغة عندهم عنوان المجد وسبيل الإبقاء على الدين، فلا ريب أنهم عندما تنقشع سحب الاضطرابات وتسكن الثورات يكون أول هم الخواص فيهم أن ينتشروا ما اندرس فيهم مما كادت تذهب الحوادث بأصوله، حقا لقد شعر العلماء بواجبهم إزاء كارثة بغداد التي اجتاحت ثروتهم العلمية، ولولا بقية مما في صدورهم لذهبت وانطمست معالمها، والنحو معبر العلوم فهو أجدرها بالجد والنشاط كما كان أسبقها في التكوين، إلا أن العلماء لم يستطيعوا استعادة مجده القديم في هذه البلاد ذلك الحين لأمرين: الأول: أن الشغب كان منتشرا في جميع ربوع البلاد الشرقية فالنفوس قلقة والأفكار متبلبلة، والعلم إنما يترعرع في كنف السكون والاستقرار. الثاني: أن هذه الدول لم تحن على اللغة من أعماق قلوبها لأنها ليست عربية تغار على لغة أصلها، فالتتر إن حدبوا عليها في آخر عهدهم فلاسترضاء شعوبهم، والترك بالطبيعة لا يؤثرونها على لغتهم وستعرف في الفصل الثالث أنهم فرضوها على القطرين بعد فتحهما، والدولة الصفوية كانت تؤثر الفارسية عليها، لكن علماء المشرق مع هذا كله لم يألوا في النهوض بواجبهم في النحو لأنهم نشئوا في المشرق مهد اللغة العربية وعلومها، والبيئة غلابة في توجيه المرء مدة حياته، والنحو أساس اللغة العربية، بيد أنه لا يخفى أن علماء المشرق في العهد المغولي فما بعده يختلف حالهم عن علمائهم قبله، وبعبارة ثانية يختلف حال النحاة بعد سقوط بغداد عن حالهم قبله، فإن السابقين على سقوط بغداد لم يدركهم المذهب الأندلسي، الذي أدرك من كان من المشارقة بعد سقوط بغداد في بلادهم ولذلك عرضت مؤلفات علماء العهد المغولى وما بعده إلى المذهب الأندلسي فالمذاهب التي يفاضلون بينها أربعة: "البصري والكوفي والبغدادي والأندلسي"، بينما أولئك كانوا يوازنون

بين الثلاثة الأولى. هذا؛ والحقيقة الناصعة أن مؤلفات النحويين في هذا العهد وإن أتقن ضبطها وأحكم ترتيبها إلا أن تأثير البيئة العجمية في المؤلفين على اتساع آفاقهم في مداركهم وقوة بداهتهم جعلت كتبهم على شرق موضوعها وجلال مباحثها صعبة التناول ضعيفة الأثر في تقدم اللسان العربي لما حشيت به من الفلسفة القديمة في تبيان قواعدها والأسلوب المنطقي في توجيهها، وما للسان العربي بذلك من صلة على ما لا يخفى، ومن البدهي أن الحديث عن المشارقة بعد سقوط بغداد يقتضي "بعد ترك العراق العربي الذي انتهى أمره وانقضى الحكم فيه" التطواف والسيحان في "خراسان والهند والسند وإيران والبلاد العثمانية" في هذه الحقبة الممتدة، وفي تلك الأقاليم أعلام مشاهير سارت بذكرهم الركبان، ولهم آثارهم التي تعنو لها الجباه، فالتلبية لهذا الاقتضاء ينوء بحملها الكاهل، فكل إقليم يتطلب سفرا وحده في تراجم علمائه، والحاجة عندنا يجزئ فيها الاقتصار على قليل منهم، على أننا لا نعرض إلا لمن غلب عليه النحو واتسم به ممن لهم آثار بين أيدينا وتردد الكتب أسماءهم فلا نذكر أمثال السعد والسيد والعضد، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق، فدونك أشهر المشارقة مرتبين على حسب وفياتهم. أشهر نحاة المشرق: 1- ابن إياز: هو أبو محمد الحسين جمال الدين بن بدر، نشأ ببغداد وتلقى عن سعد بن أحمد البياني وقرأ على التاج الأرموي، وكان حسيبا دمث1 الأخلاق، ومن مصنفاته النحوية: المحصول في شرح الفصول "شرح فصول ابن معط" وشرح الضروري لابن مالك، والإسعاف في مسائل الخلاف، ومضت كلمة عن هذا الكتاب عند الحديث عن نتائج المخالفة بين المذهبين "البصري والكوفي"، توفي ببغداد سنة 681هـ. 2- الرضي: هو محمد بن الحسن نجم الملة والدين الأستراباذي،

_ 1 سهل.

هجر بلاد المشرق وأقام بالمدينة المنورة وألف شرحه على الكافية لابن الحاجب في النحو، وله شرح ألفه بعد على الشافية لابن الحاجب أيضا في الصرف وأعجب العجب أن هذا الإمام التعلامة1 يفوت على أصحاب المعجمات الإفاضة في ترجمته، فلم ندر متى وأين ولد ونشأ؟ وأين كانت مراحل حياته؟ وكم مؤلفاته وفيم كانت؟ ومتى وأين كانت وفاته على التحقيق؟ ومن تلقى عنهم؟ ومن تخرج على يديه؟ ومما يزيد الأسف عدم معرفتهم اسمه، فإن السيوطي وهو من متأخري أصحاب المعجمات المعنيين بالتراجم اضطر إلى ذكره في بغية الوعاة "حرف الراء" اكتفاء بشهرة لفظ "الرضي" وقال في ترجمته ولم أقف على اسمه ولا على شيء من ترجمته" ثم قرظ شرحه للكافية بما فيه الكفاية وأشار إلى شرحه للشافية، نعم إن البقاعي المعاصر للسيوطي في "مناسبات القرآن" قد ذكر اسمه لمناسبة الكلام على تاريخ شرح الكافية. أما بعد فإن المحقق البغدادي في مقدمة خزانة الأدب قد جمع نتفا متفرقة من المصدرين السابقين ومن غيرهما فيها إلمام إجمالي بترجمة الرضي والتنويه بشرحه للكافية وإن لم تف بالمقصود، وبحسبنا في تقدير الرضي علميا وأنه حجة عصره غير منازع ما خلفه من "شرحي الكافية والشافية" وهم الكتابان اللذان لم يتركا شيئا من الفنين إلا أوفياه حقه وكشفا النقاب عن سره "فليس وراء عبادان قرية"، ومن الواجب أن نذكر نبذة خاصة عن شرح الكافية فإنما نحن بصدد النحو. شرح الرضي على الكافية: هذا الشرح قد جمع بين دفتيه قواعد النحو وأسرارها بابتكار يدل على تعمق في النحو واستكشاف لمخبآته وإحاطة بأوابده، ويعجبني منه ولوعه بضم الأنواع في محاولاته التي يعني فيها بلم أطراف الكلام الذي يراد التقعيد

_ 1 العالم جدا.

له، حتى لا يدع بابا إلا قضى وطر العلم فيه، هذا من ناحية التأليف، أما من ناحية الفن فإنه ليس في شرحه جماعا وإنما هو الفيصل تستحكم الفكرة عنده فيبرزها مدعومة بالدليل النقلي والنظري غير متحيز إلى مذهب خاص من المذاهب الأربعة السابقة وإن كان في الجملة بصري الاتجاه، فقد يرتضي مذهب الكوفيين أحيانا إذا صح لديه حكمته، وإليك أمثلة مما رأى قربه إلى الصواب فيها على ترتيب الشرح. من الأمثلة التي رأى قرب المذهب الكوفي فيها للصواب: 1- يرى الكوفيون شرطية "أن" المدغمة في "ما" في النحو: أما أنت منطلقا انطلقت قال: "ولا أرى قولهم بعيدا من الصواب لمساعدة اللفظ والمعنى إياه إلخ"1. 2- يرون الضمير في "أنت" وأخواته "التاء" وفي "إياك" وأخواته "الكاف" قال: "وما أرى هذا القول بعيدا من الصواب في الموضعين"2. 3 يرون المصدر المنسبك من أن والفعل في نحو: يعجبني زيد أن يقوم بدل اشتمال من الاسم الظاهر، قال "والذي أرى أن هذا وجه قريب"3. على أنه قد يبدو له ابتكار جديد يخرج به على كل النحاة، عماده في ذلك استقلال الرأي ورجاحة الحجة، وإني أسوق إليك بعض أمثلة من هذا النوع على ترتيب الشرح أيضا.

_ 1 حذف كان. 2 المضمر. 3 أفعال المقاربة.

من الأمثلة التي خالف فيها النحاة: 1- مخالفته في اشتراط أصالة الصفة في منع الصرف فقال: "وأنا إلى الآن لم يقم لي دليل قاطع على أن الوصف العارض غير معتد به في منع الصرف إلخ"1. 2- مخالفته في عدهم عطف البيان نوعا مستقلا في التوابع، ورأى إدماجه في بدل الكل فيقول: "وأنا إلى الآن لم يظهر لي فرق جلي بين بدل الكل من الكل وبين عطف البيان بل لا أرى عطف البيان إلا البدل إلخ"2. 3- مخالفته في اعتبارهم فعال معدولة عن فعل الأمر، فقال: "والذي أرى أن كون أسماء الأفعال معدولة عن ألفاظ الفعل شيء لا دليل عليه والأصل في كل معدول عن شيء ألا يخرج من نوع المعدول عنه أخذا من استقراء كلامهم، فكيف خرج الفعل بالعدل من الفعلية إلى الإسمية"3. 4- مخالفته في تعميمهم المنع في الثلاثة الآتية: تقدم معمول المصدر عليه والفصل بينه وبين معموله بأجنبي وحذفه مع بقاء معموله، ورأى جوازها مع الظرف والجار والمجرور، فقال: "وأنا لا أرى منعا من تقدم معموله عليه إذا كان ظرفا أو شبهه، ويجوز الفصل بينه وبين معموله بأجنبي، وكذا يجوز إعماله مضمرا مع قيام الدليل"4. 5- مخالفته في جعلهم الصفة المشبهة موضوعة للدوام، ورأى أنها موضوعة لمجرد الثبوت، فقال: "والذي أرى أن الصفة المشبهة كما أنها ليست موضوعة للحدوث في زمان ليست أيضا موضوعة للاستمرار في جميع الأزمنة لأن الحدوث والاستمرار قيدان في الصفة ولا دليل فيها عليهما إلخ"5.

_ 1 غير المنصرف. 2 البدل. 3 أسماء الأفعال. 4 المصدر. 5 الصفة المشبهة.

6- مخالفته في "إذن" فليست بحرف ناصب للمضارع كما يقول البصريون وبعض الكوفيين ولا "اسم" أصله "إذا" والنصب بعده بأن مضمرة بعدها بأن مضمرة، ولهذا قال: "الذي يلوح لي في إذن ويغلب في ظني أن أصله إذ إلخ"1. 7- مخالفته في جعلهم فاء السببية وواو المعية عاطفتين المصدر المسبوك من الناصب المحذوف والمضارع على المصدر المتصيد من الكلام قبلهما، ورأى أن الفاء لمحض السببية والواو للحال أو بمعنى مع فقط2. وفي الكتاب أمثلة كثيرة من هذا الطراز لمن شاء أن يستزيد، ومن البدهي أن من بلغ هذا الحد فقد وصل إلى العنقود. نعم قد يتحاشى الخروج على الإجماع مع لمحه أسباب النزوع عنه، فقد انقدح عنده استحسان ادعاء البناء للمضارع المجزوم لولا إجماعهم، فقال: "ولولا كراهة الخروج عن إجماع النحاة لحسن ادعاء كون المضارع المسمى مجزوما مبنيا على السكون إلخ"3. بقي أن تعرف مسلكه في الكتاب من حيث الاستشهاد، وهذا أمر جدير بالنظر لأن الشاهد في علم النحو هو النحو، ومن المعروف أن الشاهد إما نثر أو نظم وليس كل نثر أو نظم مما يصح في علم النحو الاعتماد عليه كما بسطه تفصيلا البغدادي في مقدمة خزانة الأدب بما فيه المقنع. شواهده: إن قارئ الكتاب من أوله إلى آخره يقف على شواهد نثرية مستفيضة من القرآن الكريم وكلام العرب المعترف بالاحتجاج بهم والحديث الشريف

_ 1 نواصب المضارع. 2 المبحث السابق. 3 الفعل وعلاماته.

وقول الإمام علي كرم الله وجهه، وشواهد شعرية. الشواهد النثرية: أما القرآن وكلام العرب فكثر ما استشهد بهما وهو في ذلك موافق للنحاة القدامى والمتأخرين قبله فليس ثمة داع إلى ذكر نصوصهما في الكتاب. وأما الحديث: فقد استدل به كثيرا أيضا حتى على غير القواعد، وقلما تقرأ بابا في الكتاب إلا رأيت الحديث فيه. تقرأ من أول الكتاب أنواع الإعراب فيستشهد على معنى المعرب بقوله -صلى الله عليه وسلم- "الثيب يعرب عنها لسانها"، ثم تقرأ باب غير المنصرف فسيشهد على الصرف للتناسب بالنظير بقوله: "خير المال سكة مأبورة وفرس مأمورة" 1. وعلى صيغة الجمع المنتهي بقوله: "إنكن صواحبات يوسف" وعلى وزن الفعل بقوله "إن الله نهاكم عن قيل وقال"، ثم تقرأ باب الفاعل فيستشهد على الحصر بقوله "إنما الأعمال بالنيات وإنما الولاء للمعتق" و: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، ثم تقرأ باب الاختصاص فيستدل على قيام الاسم المضاف الدال على المراد من الضمير مقام أي بقوله: "إنا معاشر الأنبياء فينا بَكَاء"، أي قلة كلام، وهلم جرا، والرضي في الاستدلال بالحديث متابع لابن مالك قبله. وأما قول علي كرم الله وجهه فإن الكتاب ممتلئ به مع النسبة في بعض الأحيان إلى نهج البلاغة، ويكفيك لتقدير ثقة الرضي بكلام الإمام ما ذكره عند التمهيد على الاستدلال لورود إذ بعد بينا في "في باب الظروف" إذ

_ 1 السكة: السطر من النخل، والمأبورة: الملقحة، والمأمورة: كثيرة النسل من آمر المزيد بحرف فكان حقها مؤمرة لولا الإتباع، وهذا ما قاله القالي أيضا في الأمالي جـ1 ص103، ولكن البكري في التنبيه على أوهام القالي فند مراعيا أن الفعل الثلاثي مؤد هذا المعنى راجع التنبيه ص42 "وكتب اللغة تؤيد البكري".

يقول: "ألا ترى قول أمير المؤمنين -رضي الله عنه- وهو هو من الفصاحة بحيث هو: بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته"1. فلا عجب أن يلجأ إليه في عدة أبواب. يقول في حذف الخبر وجوبا "وفي نهج البلاغة: وأنتم والساعة في قرن واحد، وقريب منه قول أمير المؤمنين علي -رضى الله عنه-: فهم والجنة كمن رآها"، وفي باب المفعول المطلق لمناسبة جواز ذكر العامل وحذفه يقول: "وفي نهج البلاغة في الخطبة البكالية: نحمده على عظيم إحسانه ونير برهانه ونوامي فضله وامتنانه حمدا يكون لحقه أداء"، وفي باب المفعول له استدلال على عدم لزوم التشارك بين الفعل والمفعول في الفاعل يقول: "والدليل على جواز عدم التشارك قول أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- في نهج البلاغة: فأعطاه الله النظرة استحقاقا للسخطة واستتماما للبلية، والمستحق للسخطة إبليس والمعطي للنظرة هو الله تعالى" والكلام في الشيطان، وهكذا استرسل الرضي في الكتاب والرضي في الاستدلال بكلام الإمام غير مسبوق، ولم أقف على شيء في ترجمة الرضي أتلمس منه هذه الوجهة الجديدة أترجع إلى أنسب أم إلى التشييع؟ وأيا ما كان فإن الإمام لا نكران في صحة الاستشهاد به. الشواهد الشعرية: وأما الشعر فقد دعم الرضي القواعد بالشواهد الشعرية أيضا فذكر في كتابه سبعا وخمسين وتسعمائة، والمستقرئ لها يتبين أن أكثرها للجاهلين والمخضرمين والإسلاميين ممن يستشهد بكلامهم سواء منها ما عرف قائلها وما لم يعرف، فإن مصدر المجهول القائل إما سيبويه في أبياته الخمسين المعدودة ولا ريب في خلو الكتاب من المحدثين، وإما من بعده من الرضي

_ 1 هذه الجملة المذكورة من الخطبة الشقشقية المعروفة، يتعجب من أبي بكر في استقالته من الخلافة أول الأمر مع حرصه آخر حياته على عقدها لعمر، وقد ذكر بعضها في نهج البلاغة.

ممن جزم العلماء بحظرهم 1 الاستشهاد بهم، وقليلا منها للشعراء المحدثين الذين لا يعتمد للنحاة بهم في قواعدهم. هذا؛ وقد ساق الرضي قليلا من الشعر لمناسبات معنوية لا علاقة لها بالقواعد، وإن أرتنا سعة اطلاعه في الأدب بما لم يتح لنحوي غيره. فمن هذا في باب المبتدأ والخبر لتوجيه تقديم المبتدأ على الخبر في نحو "سلام عليكم" قوله إن تقديم الخبر ربما يتسرب منه الدعاء عليه قبل المبتدأ، ونظير ذلك أن أبا تمام لما أنشد في مطلع قصيدة مدح أبي دلف العجلي: على مثلها من أربع وملاعب ... تُذال مصونات الدموع السواكب قال بعض الحاضرين قبل نطقه بالشطر الثاني: "لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" فانخذل أبو تمام عن إتمام الإنشاد. ومنه في باب التنازع عند ذكر رأي الكسائي الموجب حذف الفاعل من الأول عند إعمال الثاني خوف الإضمار قبل الذكر، مع أن الحذف أشنع من الإضمار قبل الذكر، قوله: فحال الكسائي "سعيد بن حسان" إذ يقول: فكنت كالساعي إلى مثعب2 ... موائلا3 من سبل4 الراعد ومنه في باب المفعول به لمناسبات حذف الفعل جوازا ووجوبا في قولهم: "انته أمرا قاصدا" قوله: القصد خلاف القصور والإفراط كقول الشاعر: ولا تك فيها مفرِطا أو مفرِّطا ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم ومنه في باب أسماء الأصوات عند الكلام عليه "ويلُمِّهِ" وأن الدعاء

_ 1 الحظر: الحجر وهو ضد الإباحة. 2 مسيل الوادي. 3 لاجئا. 4 السبل بفتحتين المطر وهذا المعنى شبيه بقولهم كالمستجير من الرمضاء بالنار.

على حد: قاتله الله عند التعجب قوله: فإن الشيء إذا بلغ الكمال يدعى عليه صونا له عن عين الكمال، كما قال جميل: رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح1 وهكذا؛ وليس في مثل هذا النوع من مؤاخذة على الرضي، إنما المؤاخذة عليه في استشهاده بشعر المحدثين، والنحاة لا ينظرون إليه في اتخاذه أساسا للقوانين النحوية، وقد ذكر منه مقدارا كبيرا سأذكر لك بعضا منه على سبيل الشرح مكتفيا به عن الباقي لسهولة الوقوف عليه. من شواهد الشعراء المحدثين: قد استشهد رحمه الله في باب الفاعل بقول أشجع السلمي2: كأن لم يمت حي سواك ولم تقم ... على أحد إلا عليك النوائح وفي المبتدأ والخبر بقول أبي نواس: غير مأسوف على زمن ... ينقضي بالهم والحزن وبقول أبي تمام الطائي: لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجني اشتارته أيد عواسل وفي باب الحال بقول بشار: إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها ... خرجت مع البازي عليّ سواد وبقول أبي الطيب المتنبي: قبلتها ودموعي مزج أدمعها ... وقبلتني على خوف فما لفم بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا وفي باب اسم الفعل بقول ربيعة الرقي: لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر بن حاتم

_ 1 جمع قادح: وهو أكال يقع في الأسنان، كما يقع في الشجر. 2 كان معاصرا للرشيد، والبيت من قصيدة في ديوان الحماسة جـ2 ص329.

ولا ريب أن استشهاده بالمحدثين إحدى الهنات الملاحظة عليه. انتقاد هين: الواقع أن الكتاب برهان حق على عبقرية صاحبه وإذا ما تشبثنا بالملاحظات الطفيفة فإنا لا نعدم العثور على شيء منها، ولا بأس لسرد بعض منها الآن فدونكها "الأولى" استشهاده بالمحدثين "الثانية" أنه ربما لاح له تعقب ابن الحاجب في الكافية فلا يبالي التشهير "ورب لائم مليم" فانظر إلى عبارته في رده عليه تجويزه دخول "مِنْ" على تمييز كم الاستفهامية إذ يقول "فلم أعثر عليه مجرورا بمن لا في نظم ولا نثر ولا دل على جوازه كتاب من كتب النحو ولا أدري ما صحته؟ "، ولهذا كان حسنا من السعد في المطول رده على الرضي بشاهد فيه التلميح البديع وهو قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} 1 "الثالثة" أنه اعتبر قياسية تاء الوحدة في الفرق بين الآحاد والأجناس في المخلوقات والمصادر كتمر وضرب فقال في باب المذكر والمؤنث "وهو قياسي في كل واحد من الجنسين المذكورين أعني المخلوقة والمصادر" ثم هو بعد هذا ناقض نفسه إذ يقول في شرحه على الشافية أواخر باب جمع التكسير "وليس أسماء الأجناس التي واحدها بالتاء قياسيا إلا في المصادر نحو ضربة وضرب إلخ". على أن تلك الهنات تتلاشي تجاه المحاسن التي انطوى عليها ذلك الشرح، وقد تم تأليفه كما قال الرضي في ختامه في شوال سنة ست وثمانين وستمائة، وللسيد الشريف على الجرجاني تعليقات على الشرح جمعت بين الوجازة والإفادة، وقد نال هذا الشرح الإعجاب منذ شع نوره في المشرق، ولم ينبثق نوره في مصر إلا أخيرا.

_ 1 سورة البقرة، الآية: 211.

ظهوره بمصر: من العجب العاجب أن يطول الأمد على اختفاء هذا الشرح النفيس بعد تأليفه عن نحاة مصر، فلا يدخل مصر إلا بعد ابن هشام المتوفى سنة 761هـ. قال البقاعي إبراهيم بن عمر المتوفى سنة 885هـ، في كتابه مناسبات القرآن "ولم ينقل الشرح من العجم إلى الديار المصرية إلا بعد أبي حيان وابن هشام"1. وإني لأعلم غير ظان أنه مع نقله إلى مصر بعد ابن هشام لم تتداوله الأيدي العامة وإن قليلا من العلماء اطلع عليه فلم يتيسر لكثيرهم السماع به، بله الوقوف عليه، فالأشموني المتوفى سنة 929هـ لم يذكر الرضي مرة واحدة في شرحه، والأشموني أولع المؤلفين بجمع المعلومات والقائلين لها في شرحه، وستعرف هذا عند التعريف بجميع المعلومات والقائلين لها في شرحه، وستعرف هذا عند التعريف بشرح الأشموني، فمما لا شك فيه أن شرح الرضي حرمت منه مصر طويلا، إذ الكتب النحوية التي تعتمد عليها مصر إنما هي مؤلفات ابن الناظم وابن هشام وابن عقيل والأشموني، وهي خالية من كل جزئية علمية لها اتصال بذكر الرضي، ولم يجد البحث الطويل الذي بذلته لمعرفة الوقت الذي تناولته الأيدي في مصر ولو على سبيل التقريب، ومن اليقين أن الأيام لو تقدمت بظهور شرح الرضي لارتشف منه هؤلاء المؤلفون المتدارسة، كتبهم بأيدينا وعليها اعتمادنا من مناهله السائغة العذبة، والذين اعتادوا في الأحكام محاولة ضم كل شيء إلى لِفْقِهِ، وازدادوا في تنقيح عللها وما وسعتهم الفكرة توفي الرضي سنة 688هـ. 3 الكافيجي: هو أبو عبد الله محمد بن سليمان، ولد في بلدة "ككجة كي" من آسيا الصغرى ثم ارتحل إلى فارس فسمع من الفنري وغيره، واشتهر بالكافيجى لملازمته "كافية" ابن الحاجب، ثم هبط مصر وفيها نبه قدره ودان له العلماء في متنوع الفنون، فازدحم الطلاب على دروسه طبقة

_ 1 نقلها البغدادي في مقدمة الخزانة "الأمر الثالث".

بعد أخرى، وصنف كثيرا، من أنفس مصنفاته في النحو شرح "القواعد الكبرى" لابن هشام توفي بالقاهرة سنة 879هـ1. 4- الجامي: هو أبو ضياء الدين عبد الرحمن نور الدين بن أحمد نظام الدين، ولد في قرية خرجرد من قرى جام "ولاية بخراسان" وانتقل مع والده صغيرا إلى هراة، فشب معروفا بالجامي، وتلقى بالمدرسة النظامية في هراة عن السمرقندي وشهاب الدين الحاجري وغيرهم، ثم طمحت نفسه إلى الازدياد في العلم، فتوجه إلى سمرقند، وسمع من قاضي زاده الرومي الذي أطراه كثيرا، وتنبأ عن أمل فيه كبير، وهنا طارت شهرته في المشرق، فقفل إلى هراة، ودنا من قلب سلطانها أبي الغازي السلطان حسين مرزا آخر سلاطين بني تيمور المتوفى سنة 911هـ، وطوفت سمعة الجامي حتى رغبت السلاطين في لقياه، ولهذا لما سافر إلى الحج أرسل له السلطان محمد الفاتح العثماني يستزيره بعد عودته من الحج غير أنه اعتذر رغبة في سرعة العودة إلى هراة كما كاتبه ابنه السلطان بايزيد الثاني، فقد آثر الإقامة الممتعة في هراة في ظلال السلطان حسين، ولقد خلف الجامي مؤلفات شتى في متنوع الفنون ومن آثاره النحوية شرحه على كافية ابن الحاجب وسماه "الفوائد الضيائية" "نسبة لولده ضياء الدين"، والشرح صغير الحجم كبير المادة، ومن أبسط المسائل فيه مسألة الكحل وباب "لو" ونقل فيه كثيرا عن شرح الرضي للكافية مع عزو النقل إليه، وللإقبال على شرح الجامي عني العلماء به، فعليه حاشية لمحرم مات قبل إكمالها إذ وصل فيها إلى بدل الكل من الكل فأكملها الأنصاري، وحاشية للبسنوي، وحاشية لعصام الدين، وحاشية لمحمد عصمة الله، توفي الجامي بهراة سنة 898هـ2.

_ 1 ترجمته في الضوء اللامع والبغية وحسن المحاضرة والشذرات والبدر الطالع. 2 ترجمته في الشقائق "الطبقة السابعة. السلطان محمد"، والشذرات، والبدر الطالع.

الفصل الثاني: النحو والنحاة في الأندلس والمغرب

الفصل الثاني: النحو والنحاة في الأندلس والمغرب إن بلاد الأندلس والمغرب في هذا الحين قد كثر فيهما علماء النحو الذين دوَّى ذكرهم في كتبه، لأنهم نشئوا بعد نضوجه واستكمال مذهبهم الخاص الذي تقدم شرحه وبعض مسائل منه، وقد خدموا هذا العلم بمصنفاتهم التي أعاضت النحو معظم ما فقده من كارثة بغداد الصماء لتوافر رغبتهم فيه وقدسية منزلته في نفوسهم، بل إن منهم من وقف بحثه ونشاطه عليه كابن عصفور وابن الضائع وغيرهما، فاكتسب النحو منهم قوة ساعدته على استطالة عمره بعد عوامل الفناء التي أصابته بإبادة كثير من كتبه وبفترة الخمول التي خيمت على علمائه من أعاصير اضطرابات المشرق وما تولد عنها مدة طويلة. ولقد سبق لك أن النحو أوفى على الغاية في هذه البلاد هذا العصر "القرن السابع"، وكان عندهم شارة النبغ والفوق، وأن عنوان عرفانه وسمة الرسوخ فيه استظهار كتاب سيبويه، لأن له المكانة السُّمْيا عندهم، فمن لم يشتهر به فعلمه مطروح مهما حصل، ولذا كانوا يقولون عن أحمد بن عبد النور النحوي المعروف المتوفى سنة 702هـ، إنه لا يعرف شيئا، ولا دهشة من هذا الحال عندهم لأن النهضة الأندلسية في النحو هبت مصاحبة الكتاب عندهم، فللكتاب اليد الطولي في كونها وإنمائها والابقاء عليها، ولها فضل إكبارهم منزلة الكتاب عندهم والاحتفاظ به كأنفس ذخيرة لديهم. هذا؛ وعند الاعتبار والتبصر يجب أن يدرك أن ذلك إيذان بأفول نجمه من هذه البلاد، وهذا ما حدث فإنه ما تم أمر إلا بدا في النقصان، فقد اتفق أن شب ضرام الاضطرابات في البلاد وقد استولى على ملك الأندلس بنو الأحمر الذين يؤثرون الأدب على النحو والناس على دين ملوكهم، فدعا ذانك الأمران علماء النحو في البلاد إلى الاستشراف إلى القطرين "مصر والشام" وصاروا ينزحون إليهما زرافات ووحدانا إلى أن بلغ الشر أناه، وتفرق ملوك بني الأحمر شيعا

واستعدى بعضهم على بعض ملوك الإفرنج فقضوا عليهم القضاء الأخير في حادث تقشعر منه الجلود وسقطت آخرة حواضر الأندلس "غرناطة" على يد فرديناند سنة 897هـ، ونكل الإفرنجة بالمسلمين، ومثلوا بتراثهم العلمي في غرناطة الصورة الكريهة التي ارتكبها المغول في بغداد "وما أشبه الليلة بالبارحة" ففر جل من بقي من العلماء إلى القطرين كما سبق. وفي الحق أنه لولا العلماء الذين جلوا إلى القطرين من بلاد المغرب ومعهم أغلب مؤلفاتهم لفات العالم العربي من هذا العلم قسط كبير، وهاك بعض المشهورين منهم مرتبين باعتبار سني وفياتهم: 1- الأندلسي: هو أبو محمد القاسم علم الدين اللورقي بن أحمد، ولد بمرسية وتردد إلى بلنسية، وفيهما أخذ النحو عن ابن شريك وابن نوح وغيرهما ولقي الجزولي، وورد مصر، ثم اتجه إلى دمشق فسمع من تاج الدين الكندري كتاب سيبويه وغيره، ودفعه طموحه إلى علماء بغداد فجلس في حلقة أبي البقاء العكبري، وعاد إلى حلب واستوطن الشام، والتف الناس حوله ينهلون من معارفه إذ كان موطأ الأكناف حسن البزة، كما انتفعوا بمؤلفاته الكثيرة، منها في النحو: شرح مقدمة الجزولي، وشرح المفصل، توفي بدمشق سنة 661هـ1. 2- ابن عصفور: هو أبو الحسن علي بن مؤمن الإشبيلي، أخذ عن الدباج والشلوبيني، وكان أصبر الناس على المطالعة، بيد أنه وقف عنايته على النحو فما لبث أن توحد بحمل راية النحو في بلاد الأندلس التي تجول فيها كثيرا، وحدثت جفوة بينه وبين الشلوبيني، وله مصنفات منها: المقرب وشرحه لم يتم، ومختصر المحتسب لابن جني، وثلاثة شروح على الجمل الكبيرة للزجاجي، كان رقيق الدين، جلس آخر حياته في مجلس شراب رمي

_ 1 ترجمته في معجم الأدباء ونفح الطيب القسم الأول الباب الخامس، وبغية الوعاة.

بالنارنج إلى أن مات سنة 663هـ1. 3- ابن مالك: هو أبو عبد الله محمد جمال الدين بن عبد الله الطائي، ولد بجيان "بلد بالأندلس" وسمع من الشلوبيني أياما، ثم ورد المشرق حاجا، ثم استوطن الشام فسمع بدمشق من السخاوي، وبحلب من ابن يعيش الحلبي، ثم تصدر لإقراء العربية في حلب مدة فدمشق التي توطنها، فأتى بما أعجز الأوائل لقوة حافظته، فكان يستشهد بالقرآن، فإن لم يجد فالسنة، فإن لم يجد فأشعار العرب التي كان في استذكارها نسيج وحده، وصنف مؤلفات نظما ونثرا تشهد له بالتفوق على من تقدم، وجمع بعضهم أكثرها في نظم ذكره السيوطي في البغية، ولنقتصر هنا على النحوية، فمن النظم "الكافية الشافية" استوعب فيها كل ما سمعه وشرحها و"الألفية" وهي ملخص الكافية طبقت شهرتها الآفاق، وترجمت إلى لغات، وعليها شروح كثيرة استقرأها كشف الظنون، ومن شروحها شرح ابن الناظم، وشرح المرادي، وشرح ابن عقيل، وشرح الأشموني، وسنذكر عنهما نبذة عند الكلام على ترجمة مؤلفيها، ومن النثر "الفوائد" و"تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد"، ولا غرو أن طلاب اللغة العربية مدينون لهذا الإمام الذي أسدى هذه الذخائر، فما أحراه بكتاب منفرد، فيه التعريف بحياته ومؤلفاته وما فيها بالتفصيل، نعم إن المحسن لا يضيع عمله عند الله فقد جعل الله لابن مالك لسان صدق فيمن بعده، فمؤلفاته وأقواله تناقلتها العلماء في كتبهم مشارقة ومغاربة، فالرضي القريب منه زمنا وهو من المشارقة نقل عنه في شرحه الكثير من مقاله، والمغاربة ومن في القطرين اتبعوه واعتمدوا عليه فكان قطب دائرتهم. هذا؛ والغريب من ابن خلكان الذي كان يشيعه إلى بيته بعد صلاة كل يوم تعظيما له ألا يترجم له في وفيات الأعيان، توفي رحمه الله بدمشق سنة 672هـ.

_ 1 ترجمته في فوات الوفيات، وبغية الوعاة، وشذرات الذهب.

4- ابن الضائع: هو أبو الحسن علي بن محمد الإشبيلي الكتامي، لازم الشلوبيني وأخذ عنه كتاب سيبويه بين قراءة وسماع، ثم فاق أترابه وأبدع في التصنيف، له شرح على سيبويه جمع فيه بين شرحي السيرافي وابن خروف مع الاختصار الحسن، وله مشكلات عجيبة أبداها في كتاب سيبويه سبق الإلماع إليها في الكلام على علم النحو وعلمائه في الأندلس والمغرب في المطلب الأول، وشرح على الجمل الكبيرة للزجاجي، وكان لا يعتمد في الاستشهاد على الحديث مخالفا سنة ابن خروف في التعويل عليه، توفي سنة 680هـ. 5- ابن أبي الربيع: هو أبو الحسين عبيد الله بن أحمد الإشبيلي، تلقى عن الدباج والشلوبيني ولم يكن في طلبة الشلوبيني أنجب منه، ثم هاجر من إشبيلية بعد استيلاء الإفرنجة عليها إلى سبتة وتوطنها، ووقعت مناظرة بينه وبين مالك بن المرحل هل يقال: "كان ماذا؟ " ونتج عنها مهاجاة بينهما مقذعة نال فيها ابن الربيع من ابن المرحل وصنف مؤلفا خاصا بمنعها، ولذا قال مالك: عاب قوم كان ماذا ... ليت شعري لما هذا وإذا عابوه جهلا ... دون علم كان ماذا1 ومن مؤلفات ابن أبي الربيع النحوية شرح سيبويه، وشرح الجمل للزجاجي، وقد رأيت في حاشية الشمني على المغني الباب الأول مبحث "لكن" أن كتاب "البسيط" من مؤلفاته مع أني لم أطلع على هذا الكتاب ضمن مؤلفاته في ترجمته، ومع أن ابن عقيل عند قول الناظم: وفعل امر ومضى بنيا ... وأعربوا مضارعا إن عريا قال: "ونقل ضياء الدين بن العلج في البسييط" وتابعه على ذلك

_ 1 ذكرت المناظرة في ترجمة مالك: في نفح الطيب "الباب السابع" من القسم الأول: وبغية الوعاة، وشرح درة الغواص في الوهم 35.

السيوطي في فهرس بغية الوعاة "باب الكنى والألقاب والأسماء والإضافات" عند حرف الباء ونصه: "صاحب البسيط ضياء الدين بن العلج أكثر أبو حيان وأتباعه من النقل عنه ولم أقف له على ترجمة"، والله أعلم بالحقيقة، توفي سنة 688هـ. 6- ابن آجروم: هو أبو عبد الله محمد بن محمد الصنهاجي "نسبة إلى صنهاجة قبيلة بالمغرب" المشهور بابن آجروم "الفقير الصوفي" بلغة البربر، ولد بفاس وذاع فضله في علوم كثيرة إلا أنه غلبت عليه القراءات والنحو ولم يؤثر عنه في النحو إلا مقدمته التي طبقت شهرتها الآفاق وترجمت إلى عدة لغات وتناولها بالتعليق عليها كثير من الأعلام، ومن أشهر شروحها بين أيدينا شرح الشيخ حسن الكفراوي المتوفى سنة 1202هـ، قال السيوطي في بغية الوعاة: "وهنا شيء آخر وهو أنا استفدنا من مقدمته أنه كان على مذهب الكوفيين في الجو لأنه عبر بالخفض وهو عبارتهم، وقال: الأمر مجزوم وهو ظاهر في أنه معرب وهو رأيهم، وذكر في الجوازم كيفما والجزم بها رأيهم، وأنكره البصريون فتفطن" توفى بفاس سنة 723هـ1. 7- أبو حيان: هو محمد أثير الدين بن يوسف الغرناطي، ولد بمطخارش "من ضواحي غرناطة" وتلقى عن كثير منهم ابن الضائع ودرس بين ظهرانيهم، ثم هاجر وضرب في مغارب الأرض ومشارقها وأخذ عن كثير ممن لقيه، ثم انتهى به المطاف إلى القاهرة فأخذ عن ابن النحاس، وتصدر في الجامع الأقمر وصنف كثيرا، فمن مؤلفاته النحوية: "التذييل والتكميل في شرح التسهيل" وملخصه "ارتشاف الضرب من لسان العرب"، وكان على مذهب ابن الضائع في منع الاستشهاد بالحديث، لذا رد على ابن مالك في شرحه على التسهيل بكلام مسهب، توفي رحمه الله بالقاهرة سنة

_ 1 ترجمته في الضوء اللامع، وبغية الوعاء، وشذرات الذهب.

745هـ1. 8- الشاطبي: هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، تلقى العربية وغيرها عن أئمة المغاربة، منهم أبو القاسم السبتي وأبو عبد الله التلمساني والمقري وابن لب فنبغ في فنون متنوعة وصنف فيها مؤلفات أعجب بها العلماء، منها "الموافقات" في أصول الفقه، ومن مؤلفاته النحوية: شرحه على الألفية لابن مالك فإنه المنهل العذب الذي اغترف منه النحاة بعده. ومن آرائه الصائبة تجويزه الاستشهاد بالحديث إذا علم أن المعني به فيه نقل الألفاظ لمقصود خاص بها كالأحاديث المنقولة في الاستدلال على فصاحته -صلى الله عليه وسلم- خلافا لابن خروف وابن مالك المجيزين مطلقا وابن الضائع وأبي حيان المانعين مطلقا، وقد أوفى هذا المبحث حقه في باب الاستثناء، ونقله عنه بحذافيره البغدادي في مقدمة الخزانة، توفي الشاطبي بالأندلس سنة 790هـ2.

_ 1 ترجمته في الوافي، وفوات الوفيات، والدرر، والبغية، وحسن المحاضرة "أئمة النحو واللغة"، ونفح الطيب "الباب الخامس - القسم الأول"، والشذرات، والبدر. 2 ترجمته في "نيل الابتهاج بتطريز الديباج" ديباج ابن فرحون.

الفصل الثالث: النحو والنحاة في مصر والشام في العصرين "عصر المماليك وعصر الترك"

الفصل الثالث: النحو والنحاة في مصر والشام في العصرين "عصر المماليك وعصر الترك" مدخل ... الفصل الثالث: النحو والنحاة في مصر والشام في العصرين "عصر المماليك وعصر الترك" إن مصر والشام في هذه الآونة كانتا مستقلتين تخفق عليهما راية واحدة حملها المماليك الذين ولوا أمرهما بعد الأيوبيين منذ سنة 648هـ واتخذوا القاهرة قاعدة ملكهم، وكان المماليك لشعورهم بنقص أحسابهم، ولأنهم دخلاء يحاولون استكمال مهابتهم بغرس ما يثمر النفع للبلاد، ثم كان حادث بغداد موحيا إليهم جسامة العبء الملقى على كاهلهم إذ لم يبق للإسلام بلاد

ذات شوكة تعقد عليها الآمال سوى القطرين والأندلس في دور احتضارها الأخير، فناصروا اللغة العربية لأنها لغة الدين والشعب، ولم تحل جنسيتهم التركية والجركسية دون اعتمادها لسان الدولة الرسمي، وتحبيب علمائها إلى نشرها، ورفع لوائها ليستعيدوا مجد العراق في بلادهم. وقد كان ذلك مستحكما في أدمغتهم حتى أن الظاهر بيبرس البندقداري استدعى أحد أولاد الخلفاء العباسيين الهاربين من أيدي التتر وعقد له بيعة الخلافة فألبسه تاجها بالقاهرة سنة 658هـ ولقبه المستنصر بالله، واستمد منه سلطة الملك نائبا عنه ولما خرج الخليفة على رأس جيش لمحاربة التتر فقتل، بايع الظاهر بعده عباسيا آخر هو "أبو العباس أحمد" ولقبه الحاكم بأمر الله، وهو جد الخلفاء العباسيين بمصر. وهكذا استمرت الخلافة العباسية في القاهرة مدة ولاية المماليك للقطرين، وإن كانت صورية، فقوي بالاعتزاز بها شأنهم، واشتدت شوكتهم، فاستطاعوا مقاومة "تيمورلنك" الذي حاول بعد فتوحاته إلى سورية أن يستحوذ على القطرين فأرسل إلى السلطان "قلاوون" وكان يضطغن عليه؛ لكن الله أنقذه من شره، وتغلب عليه في موقعة "حمص" فنجا القطران من الوقوع في يده. مضت الحقبة الطويلة التي ولي فيها المماليك القطرين، وكأن الله أراد أن يعيد إلى المسلمين فيهما بعض ما رأوه في العراق إبان مجده الزاهي، فقامت القاهرة مقام بغداد؛ وكما ورثتها في الخلافة العباسية نابت عنها في النهوض بالثقافة العلمية، فلا غرو أن القطرين كانا آنئذ ملتقى علماء المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها. وتوالت النهضة في القطرين إلى أن أدال الله لبني عثمان من المماليك، واستولى السلطان سليم على القطرين سنة 923هـ، فضعفت النهضة وتغيرت الحال، وعلى هذا فينبغي الكلام على النحو وعلمائه في كل عصر من العصرين على حدة لاختلاف الشأن فيها.

النحو والنحاة في عصر المماليك

النحو والنحاة في عصر المماليك: وضح مما فات أن المماليك قبضوا على زمام المقاليد في القطرين، والعراق في الاحتضار والأندلس في سبيل الزوال، وأن علماءهما لم يلفوا أمامهم موطنا يعيشون فيه ويجدون مبتغاهم من الهدوء ونشر العلوم والإفادة والاستفادة إلا القطرين، لا سيما وقد عرف عنهما حرب العلماء وإكبارهم، وأن العلماء بدورهم قد رأوا إقفار البلاد من الكتب العربية، يقول السيوطي وهو من علماء هذا العهد: "وقد ذهب جل الكتب في الفتن الكائنة من التتار وغيرهم بحيث إن الكتب الموجودة الآن في اللغة من تصانيف المتقدمين والمتأخرين لا تجيء حمل جمل واحد"1. وربما كان في هذا الكلام شيء من العلو إلا أنه أيا ما كان دليل على إحساسهم بالنقص والخسارة؛ وواجب الدين في أعناقهم يقضي عليهم بإحياء ما درس من علوم لغة الدين، وبينهم بعض المشارقة الذين فروا من وجه المغول والجم الغفير من المغاربة، والأندلسيين الذين وردوا القطرين من عهد بعيد، فهبت حركة طيبة في علومها وفي مقدمتها النحو. وفي الإنصاف أن نقول إن عماد هذه الحركة التي كانت فيها إمساك للحوباء2 إنما هم جالية الأندلس والمغرب الذين سلف ذكرهم، فإنهم لما ألبوا3 بالقطرين واتخذوهما مقرا لهم بثوا علمهم وأذاعوا مصنفاتهم فيهما بين الناس، فتخرج عليهم تلاميذ كانوا كواكب العصور المتأخرة وصارت مصنفاتهم نبراسا لمن صنف بعدهم من العلماء، ويرجع السبب في ذلك إلى أن رحلاتهم إلى القطرين كانت بعيدة العهد وطالت أيامها فاختلطوا بالعلماء قبل حادثهم بزمن غير قريب، ولا كذلك المشارقة الذين بغتوا بحادثهم

_ 1 المزهر النوع الأول، المسألة السادسة عشرة بعد الكلام على جمهرة ابن دريد. 2 في القاموس: الحوباء: الناس. 3 في القاموس: ألب: أقام.

ولجئوا إلى القطرين فإنهم وردوهما وقد تشبع العلماء من روح المغاربة، ومن هنا ندرك: السر في تغلب المذهب الأندلسي عند نحاة القطرين على البغدادي: من الحديث السالف الذي وقفت منه على تبكير المغاربة عن المشارقة في النزوح إلى القطرين واستيطانهما ومعهم مؤلفاتهم وقد تكون لديهم مذهبهم تدرك أن مذهبهم سبق المذهب البغدادي إلى علماء القطرين، فإن علماءهما قد تتلمذوا لهم فتشبعوا بروحهم وتغلب المذهب الأندلسي عليهم، فتغلغل في الدراسة والتصنيف والرأي أخيرا. فألفية ابن مالك الأندلسي التي كثرت الشروح عليها، وطاف المؤلفون في القطرين حولها هي التي توزعت دراستها على مراحل التعليم باعتبار شروحها سهولة وصعوبة، واختصارا واتساعا، وكذا "الكافية الشافية" له أيضا، وقد راجت أقوال ابن مالك حتى عند المشارقة، وقد نقل الرضي عنه كثيرا في شرحه على "الكافية" لابن الحاجب، وبالجملة فإن اتجاه النحاة بعد اقتفى المنهاج الأندلسي وما برح إلى عصرنا الحاضر في القطرين ففي هذا العصر فاضت دراسة النحو في أغلب مدن القطرين، وبخاصة في القاهرة ودمشق وحلب. وقد كانت الدراسة أول أمرها أشبه شيء بعلاج المريض الذي لم يبق فيه إلا الذماء1 ولكن اطرادها على طول الأيام محفوفة بالترغيب والتقدير قد أكسبها استعادة ما فقد النحو من الازدهار، فظهر في البلدين جهابذة العلام2 الذين حفظوا وجود هذا العلم بعد نكبتي المشرق والمغرب ونقلوه كاملا غير منقوص لمن بعدهم ممن حدثوا في عصورهم الظلام، ونشطت حركة التأليف لتزايد الإقبال عليها، ومن مظاهر هذا النشاط أن توخى أغلب

_ 1 الذماء: بقية النفس. 2 العلام: جمع علامي: الخفيف الذكي.

المؤلفين في مؤلفاتهم المتعددة التدرج والتنويع فيها لاختلاف قدر الطالبين من مبتدئ وشاد ومنته، فجمعوا فيها بين وجيز ووسيط وبسيط حبا في تعميم النفع كما صنع ابن مالك وابن هشام والسيوطي، نعم إن التأليف على عمومه في خلال هذا العهد قد طرأ عليه اتجاه جديد، وذلك أن معظم المؤلفات السابقة كانت زعيمة بالإبانة عن نفسها بنفسها لا ترتقب تفسيرا ولا توضيحا مع النزوع إلى الوجهة النحوية، يستوي في هذا مطولها ومختصرها، إذ لم يقصد واضعو المختصرات سابقا إلا مجرد التسهيل على المبتدئ بذكر جزئيات من مسائل العلم تؤنسه إذ وجه فيه، فساوت عبارتها في التأدية ما فيها من المعاني، وممن ألف مختصرا على هذا النهج قديما الزجاجي في الجمل "الجمل الكبيرة" وعبد القاهر الجرجاني في "جمله" أيضا. أما في هذا العهد فقد طفق المؤلفون ينشئون المتون مع استيعابها لما في المطولات ويفتنون في سبيل إيجازها ما وسعته قدرتهم، ومن هنا مست الحاجة إلى الشروح وربما جللت بالحواشي، وأقرب الأمثلة لهذا شروح كافية ابن الحاجب وألفية ابن مالك وكافيته ومغني ابن هشام وتوضيحه وبعض حواشيها، وهذه المؤلفات التي كانت غزيرة المادة العلمية من الجهة النحوية لم يعبها إلا ما شابها في الشروح والحواشي من: " كثرة بيان اللهجات العربية لكثير من الكلمات مما يمت إلى فقه اللغة بسبب وثيق، ومن التعليل والتوجيه لمتضارب الآراء النحوية مما لا يعود بطائل على النحو، ومن محاولة أخذ القاعدة النحوية من مادة الكتاب المعلق عليه وكثيرا ما يكون في العبارة قصور في الدلالة، لكن هذه الهنات لم تذهب بمحاسن هذه المصنفات، وجلها ما يزال إلى يومنا عتاد طلاب النحو ومطمح أنظارهم، ويظهر أن الحامل لهم على الإكثار من المتون حبهم في سرعة تلافي ما ضاع من كتب النحو، والمتون كفيلة بجمع ما كثر من القواعد في موجز الكلام، فلكي يسهلوا على الراغبين جمع شتات هذا الفن في قبضة اليد صنفوها كعلاج بدا لهم، فلم يكن بعد هذا بد من شروح تكشف قناع هذه المخدرات المكنونة،

وبالتالى قد تقتضي الشروح تفصيلا لما أجمل فيه فكانت بعض الحواشي، فما أجدر عهد المماليك بتسميته عهد المتون والشروح، وسيتبين لك عند تراجم علمائه أن معظم مؤلفاتهم متون وشروح، فقلما ترى حاشية لمؤلف منهم، كل ذلك والأقطار الإسلامية الأخرى منصرفة عن هذا العلم وغيره، ترزح تحت نير الظلم من ملوك لا تحنو على اللغة وعلومها ولا تربطها بها أسباب، فإن المطالع لصفحات تاريخ النحويين لهذا العهد لا تكاد تقع عيناه عليهم إلا متوطنين بالقطرين إما نازحين إليهما أو مولودين بهما، فمما لا مرية فيه أنه لولا القطران في هذا الأمد لانقطعت الصلة بين النحو قديمه وحديثه، ولكان له نظام آخر -تلك هي حالة هذا العلم ورجاله- وهاك بعض مشهوريهم مع الترتيب الزمني في وفياتهم: 1- ابن الناظم: هو محمد بدر الدين بن محمد، ولد بدمشق فأخذ عن أبيه ونشأ حاد الذهن إلا أنه غلبت عليه معاشرة الشذاذ فأقصاه أبوه فأقام في "بعلبك" وانتفع الناس بعلمه، وكانت له مشاركة في علوم كثيرة، ومن مؤلفاته النحوية شرحه على "ألفية" والده. نبذة عن شرح ابن الناظم: يغلب على الظن أنه أول شرح على الألفية مهد السبيل لمن شرحوا الألفية بعده، نقلوا عنه وعنوا ببسط ما فيه حتى امتاز أن يصير علما بالغلبة "للشارح" إذا أطلق في هذه المصنفات، وقد تعقب ابن الناظم أباه كثيرا، دون هوادة، انظر باب "المفعول المطلق والتنازع والصفة المشبهة"، وربما حمله التعقب إلى الإتيان ببيت بدل بيت الناظم، ففي باب التنازع رأى أن قول أبيه: بل حذفه الزم إن يكن غير خبر ... وأخرنه إن يكن هو الخبر يفيد أن ضمير المتنازع فيه إن كان المفعول الأول في باب ظن يجب حذفه مع أنه لا فرق بين المفعولين، فاستصوب أن يقول بدله:

واحذفه إن لم يك مفعول حسب ... وإن يكن ذاك فأخره تصب إلا أن الشراح بعده من: ابن هشام وابن عقيل والأشموني وغيرهم تصدوا للرد عليه بما جعل حملاته على الناظم طائشة كما ترى فيها مبسوطا. وقد وردت فيه بعض شواهد محرفة نقلها عنه من بعده، ومن ذلك على سبيل المثال: استشهاد في أول باب "نعم، وبئس" للكوفيين على اسميتها بقول الراجز: صبحك الله بخير باكر ... بنعم طير وشباب فاخر وصحة الشطر الثاني "بنعم عين إلخ" كما في لسان العرب، وشرح القاموس، وعلى هذا ضاع الاستشهاد بالبيت، مع أنه اقتفاه في هذا الاستشهاد الأشموني. ويلاحظ عليه أنه ربما ساق بعض شعر المحدثين استدلالا، فقد جوز ذكر الخبر بعد لولا إن دل عليه دليل كقول أبي العلاء المعري: يذيب الرعب منه كل عضب ... فلولا الغمد يمسكه لسالا ثم الشارح في الواقع مغلق ولهذا كثرت الحواشي عليه: فكتب عليه ابن جماعة والعيني والسيوطي وزكريا الأنصاري وابن قاسم العبادي وغيرهم، ومنها شرحه على "كافيته" أيضا، ولما توفي أبوه استدعي إلى دمشق فولي وظيفة أبيه ومات بمرض القولنج شابا بدمشق سنة 686هـ1. 2- ابن النحاس: هو أبو عبد الله محمد بهاء الدين بن إبراهيم الحلبي، أخذ العربية عن ابن عمرون، والقراءات عن الضرير وسمع من غيرهما، ودخل مصر وتلقى عن مشايخها ثم صار إمام المصريين في العربية، وفي فوات الوفيات ترجمة "محمد بن رضوان" من شعره إلى الشيخ بهاء الدين: سلم على المولى البهاء وصف له ... شوقي إليه وإنني مملوكه

_ 1 ترجمته في الوافي بالوفيات، وبغية الوعاة، وشذرات الذهب.

أبدا يحركني إليه تشوقي ... جسمي به مشطوره منهوكه لكن نحلت لبعده فكأنني ... ألف وليس بممكن تحريكه واستطرف ابن هشام الأبيات فذكرها للمناسبة في تقدير الحركات الإعرابية في المقصور "شرح شذور الذهب" ولم يصنف ابن النحاس إلا ما أملاه على "المقرب" لابن عصفور، توفي بمصر سنة 698هـ1. 3- المرادي: هو الحسن بن قاسم المصري، أخذ عن أبي حيان وغيره، وصنف وتفنن وأجاد، فمن مصنفاته شرح المفصل، وشرح التسهيل، والجنى الداني في حروف المعاني، وشرح الألفية، ومؤلفات المرادي مصادر لدى النحاة وثيقة، فالدماميني عول في شرح التسهيل على شرحه، والأشموني نقل في شرح "الألفية" كثيرا عن شرحه، وقالوا: إن ابن هشام، استفاد في "المغني" من الجنى الداني، توفي بالقاهرة سنة 749هـ2. 4- ابن هشام: هو أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف الأنصاري، ولد بالقاهرة ولزم عبد اللطيف بن المرحل وسمع على أبي حيان ديوان زهير، وحضر دروس التاج التبريزي، ثم فاق أقرانه بل شيوخه وتخرج على يده الكثير، صنف المؤلفات المليئة بالفوائد الغريبة والمباحث الدقيقة والاستدراكات العجيبة مع التصرف في منهجها والتنويع في إفادتها مما يدل على الاطلاع الغريب، فمنها: شذور الذهب في معرفة كلام العرب وشرحه، وقطر الندى وبل الصدى وشرحه، وأوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، وشرح التسهيل لابن مالك، والجامع الكبير، والجامع الصغير، والإعراب عن قواعد الأعراب، ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب الذي طارت شهرته إلى المغرب، يقول ابن خلدون: "ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من

_ 1 ترجمته في بغية الوعاة، وفوات الوفيات، وشذرات الذهب. 2 ترجمته في البغية، وحسن المحاضرة "أئمة النحو واللغة"، والدرر والشذرات.

مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها إلى أن قال: فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته واطلاعه والله يزيد في الخلق ما يشاء"1. إن ابن هشام نسيج وحده، فما من كتاب له إلا وفيه شاهد على علو كعبه، ولتتبين ذلك فأمامك التوضيح والمغني. تعريف بكتابي التوضيح والمغني: ففي التوضيح توخى شرح الألفية مع الإلماع إلى ما فاتها: من استكمال لبعض الأقسام، ومن انسجام في ترتيب المعلومات، ومن تنسيق في ضم القواعد المتصلة بعضها ببعض كما يظهر جليا في باب التصريف، وذلك فوق التخطئة في الأحكام لمسائل كثيرة سأقتصر على قليل منها على سبيل التمثيل خوف التطويل، فقد عقب على البيت الأول في باب التمييز وهو: اسم بمعنى من مبين نكره ... ينصب تمييزا بما قد فسره بأن تمييز النسبة ناصبه المسند لا النسبة، وفي باب الإضافة عقب على البيت: قبل كغير بعد حسب أول ... ودون والجهات أيضا وعل بأن "حسب" لا تعرب نصبا إذا نكرت وأن "عل" لا تضاف ولا تنصب على الظرفية أو غيرها، وفي باب الوقف عقب على البيت: بأن المضارع المجزوم الباقى على حرفين لا تجب فيه هاء السكت بدليل إجماع المسلمين في الوقف على "ولم أك" بترك الهاء. وفي المغني نهج سبيلا لم يسبق إليه، أتاح له ألا يدع مسألة نحوية إلا

_ 1 المقدمة الفصل الثالث علوم اللسان، علم النحو، ومن إعجاب ابن خلدون ذكر مثل ذلك قبلا في المقدمة فصل "في أن كثرة التأليف في العلوم عائقة عن التحصيل".

عرض لها بإبداع مع عدم تكرار، فأوفى على الغاية، وفي خلال تفصيلاته وازن كثيرا بين المذاهب النحوية وإن كان صغوه1 مع البصريين. فمما اختار من مذهب الكوفيين: 1- إنكارهم وجود أن المفسرة قال: "وعن الكوفيين إنكار أن التفسيرية ألبتة وهو متجه عندي إلخ"2. 2- اختيارهم شرطية "أن" المدغمة في "ما" نحو أما أنت منطلقا انطلقت، قال: "وإليه ذهب الكوفيون ويرجحه عندى أمور إلخ"3. ومن الاتفاق والمصادفات أن هذا الترجيح سبق للرضي كما تقدم في ضمن المسائل التي فضل فيها رأي الكوفيين مستدلا في هذا الاختيار بعين ما استدل به ابن هشام، مع أن ابن هشام ولد بعد وفاة الرضي بنحو عشرين عاما، ولذلك قال البغدادي في خزانة الأدب الشاهد الخمسين بعد المائتين للاشتراك بين الرأيين ما نصه: "وهذا من توافق الخاطر كما يقال: قد يقع الحافر موضع الحافز". 3- إعراب فعل الأمر بالجزم بلام الأمر المقدرة لأنه مقتطع من المضارع المجزوم بها، قال: "فحذفت اللام للتخفيف وتبعها حرف المضارعة، وبقولهم أقول لأن الأمر معنى إلخ"4. 4- عدم وجوب أن تكون أم المنقطعة بمعنى بل والهمزة جميعا، قال: "والذي يظهر لي قولهم إذ المعنى في نحو {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} 5 ليس على الاستفهام إلخ"6. هذا، وفي بعض شواهده عرض تحريف لا نحسبه عليه في هذا المؤلف الكبير ومن ذلك على سبيل المثال:

_ 1 أي: ميله. 2 الباب الأول "أن". 3 المبحث الماضي. 4 الباب الأول "اللام". 5 سورة الرعد، الآية: 16. 6 المغني الباب الأول "أم".

1- استشهاده في مبحث "التاء" للمناسبة على قلة تقدم الخبر جملة بقول الفرزدق: إلى ملك ما أمه من محارب ... أبوه ولا كانت كليب تصاهره1 والصواب "أبوها" كما يقتضيه البيت التالي وهو: ولكن أبوها من رواحة ترتقى ... بأيامه قيس على من تفاخره وبهذا صار البيت شاهدا على تقدم الخبر شبه جملة لا جملة كما هو ظاهر. 2- استشهاده في مبحث "كل" على وجوب مراعاة معناها بحسب المضاف إليه النكرة، فهو مثنى في قول الفرزدق: وكل رفيقي كل رحل وإن هما ... تعاطي القنا قوما هما أخوان2 وبالنظر إلى روايته "قوما" بالتنوين قال: "وهذا البيت من المشكلات لفظا وإعرابا ومعنى فلنشرحه إلخ"، ثم قال ما قال بناء على روايته الخاطئة، وسيأتي في ترجمة الدماميني شارح المغني تصحيحها بما يفيد أنه مثنى مرفوع مضاف لا مفرد منصوب منون. ومما يجدر التنويه به أن ابن هشام في المغني لم يقف عند المسائل النحوية، فتناول فيه بعض المسائل البلاغية، لا لتقليد السابقين من النحاة، ولذا يقول: "ولم أذكر بعض ذلك في كتابي جريا على عادتهم، وأنشد متمثلا: وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد بل لأني وضعت الكتاب لإفادة متعاطي التفسير والعربية جميعا"3

_ 1 البيت من قصيدة في مدح الوليد بن عبد الملك بن مروان. 2 البيت من قصيدة في ذئب نزل به وقراه. 3 آخر الباب الخامس، والبيت لدريد بن الصمة الجشمي من مرثية في أخيه عبد الله المقتول يوم اللوي، وغزية رهط دريد أو جده، والمرثين في الحماسة "الرثاء".

يريد أن ما ذكره منها ليس اقتفاء لغيره حتى يحتاج إلى الاعتذار بإنشاد البيت وإنما لقصده أن المغني يجمع بين الأمرين، ويروى أنه قيل لابن هشام: هلا فسرت القرآن، أو أعربته، فقال أغناني المغني. كنت أود أن أذكر تعريفا خاصا بكتاب "المغني" أعرض فيه سبب التأليف له واتجاهه فيه ونقده للنحاة وانتحاءه منحى قويا في الاستشهاد بالقرآن الكريم، ومآخذه على العلماء في أعاريب مشتهرة، وما إلى أولئك من مزايا أخرى، ولكن لا يتسع هذا الكتاب لكل ما نود، وما يجدي التعريف إلا بسفر خاص به. غير أنه مما لا ينبغي التساهل فيه أن أنبه على أن المغني قد تبارى العلماء في التعليق عليه مذ ظهر فشرحه ابن الصائغ إلى أثناء الباء الموحدة وسمي شرحه "تنزيه السلف عن تمويه الخلف"، والدماميني بعد أن علق عليه في الديار المصرية ونزح إلى الهند شرحه بتوسع وسمى شرحه "تحفة الغريب بشرح مغني اللبيب"، وفي هذا الشرح اعتراضات على المغني كثيرة تعقبها الشمني في حاشيته عليه المسماه "المنصف من الكلام على مغني ابن هشام"، وللسيوطي حاشية على المغني وصل فيها إلى "حتى" وللأمير حاشية تامة، والدسوقى أيضا، وكذا الإبياري سماها "القصر المبني على حواشي المغني" وصل فيها إلى أول الباب الثاني، توفي ابن هشام بالقاهرة ودفن خارج باب النصر سنة 761هـ1. 5- ابن عقيل: هو أبو عبد الرحمن عبد الله بهاء الدين بن عبد الرحمن الحلبى أصلا، تلقى عن الجلال القزويني وأبي حيان وغيرهما، واشتهر في العربية حتى تبوأ منزلة مشايخه، ودرس بالقطبية والخشبية والجامع الناصري بالقلعة والجامع الطولوني، وولي القضاء الأكبر لشهرته بالتدين، إلا أنه كان غير محمود التصرفات المالية على نفسه.

_ 1 ترجمته في الدرر والبغية، وحسن المحاضرة، والشذرات، والبدر الطالع.

ومن مؤلفاته النحوية: شرحه على التسهيل "المساعد على تسهيل الفوائد، وتكميل المقاصد"، وشرحه على الألفية. كلمة عن شرحه على الألفية: يمتاز هذا الشرح بالسهولة، فلا يحتاج الطالب الشادي إلى تفهيمه من موقف، وليس من المبالغة أن يقال: إن هذا الشرح هو الذي أرشد المتعلمين إلى معرفة المراد من الألفية تماما، فإن عنايته متجهة إلى إيضاحها، وتبيان المقصود منها. وهو شرح حسن، متوسط في النصف الأول ومختصر في النصف الثاني، وتتجلى فيه مواءمة ابن عقيل للناظم، ولهذا دافع هجوم ابنه عليه في شرحه كثيرا، فيقول مثلا في باب المفعول المطلق: "وقول ابن المصنف إن قوله: وحذف عامل ... ليس بصحيح". وقد اهتم العلماء بهذا الشرح وكتبوا عليه الحواشي، فمنها: حاشية "إرشاد النبيل إلى ألفية ابن مالك وشرحها لابن عقيل" لابن الميت وحاشية لعطية الأجهوري، وحاشية للسجاعي، وحاشية للخضري، توفي ابن عقيل ودفن بالقرب من الإمام الشافعي سنة 769هـ1. 6- ابن الصائغ: هو محمد شمس الدين بن عبد الرحمن، أخذ عن ابن المرحل، ولازم أبا حيان، فمهر في العربية مع النشاط وحدة الذكاء ودماثة الأخلاق، فسرعان ما تبوأ المناصب العليا، فولي قضاء العسكر، وإفتاء دار العدل، ودرس بالجامع الطولوني، وصنف وأبدع فمن مؤلفاته النحوية: شرح الألفية، والتذكرة عدة مجلدات، والمرقاه في إعراب لا إله إلا الله وحاشية على المغني سلفت الإشارة إليها، والوضع الباهر في رفع أفعل الظاهر، وهذا الكتاب مسطور في "الفن السابع" من الأشباه والنظائر، توفي بالقاهرة سنة

_ 1 ترجمته في الوافي، والدرر، والبغية، وحسن المحاضرة، والشذرات، والبدر الطالع.

776هـ1. 7- ناظر الجيش: هو محمد محب الدين بن يوسف، ولد بحلب واشتغل بها، ثم قدم إلى القاهرة، ولازم أبا حيان وغيره، ومهر في العربية، وولي ناظر الجيش وغيره فكان المثل الأعلى في الكياسة والجود والتدين ومن مؤلفاته النحوية: شرح التسهيل "تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد" توفي بالقاهرة سنة 778هـ2. 8- ابن جماعة: هو محمد عز الدين بن أبي بكر بن عبد العزيز، ولد بينبع، أخذ عن ناظر الجيش والسيرامي وغيرهما، ثم صار المشار إليه في الديار المصرية في فنون شتى، ولم يتزوج وكان فيه ميل إلى السهولة والمزاح، وجاوزت مؤلفاته الألف، منها في النحو: حاشية على شرح ابن الناظم تسمى "المسعف والمعين في شرح ابن المصنف بدر الدين"، وحاشية على المغني، وحاشية على شرح التوضيح، توفي سنة 819هـ3. 9- الدماميني: هو محمد بدر الدين بن أبي بكر بن عمر المخزومي أصله من دمامين "قرية قريبة من الأقصر" ولد بالإسكندرية وتعلم بها ثم هبط مصر وارتفع قدره فيها فالتف حوله الطلاب بالأزهر، ثم اشتغل بالدنيا ولما نكب بالحريق هرب من الغرماء إلى الصعيد فاستقدموه مرغما، وبعد صلاح حاله غادر الديار المصرية فدرس في جامع زبيد باليمن وترك اليمن متجها إلى الهند، وهناك صعد نجمه وأقبلت الدنيا عليه فتفرغ للتعليم والتصنيف. فمن مؤلفاته النحوية: شرح التسهيل لابن مالك "تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد" عول فيه كثيرا على شرح المرادي للتسهيل، وقد ألفه تلبية لطلب السلطان "أحمد شاه"، وفي مستهل الشرح بعد الإهداء كلمة عن ابن مالك ومؤلفاته.

_ 1 ترجمته في الوافي، والدرر، والبغية، وحسن المحاضرة، "الفقهاء الحنفية" والشذرات. 2 ترجمته في الدرر، والبغية، وحسن المحاضرة: الفقهاء الحنفية، والشذرات. 3 ترجمته في الدرر، الضوء اللامع، البغية، حسن المحاضرة، الشذرات، والبدر الطالع.

وله تعليق على المغني كتبه بالديار المصرية، وشرح مزيج على المغني ألفه بالهند سماه "تحفة الغريب في الكلام على مغني اللبيب" إجابة لرغبة السلطان محمد شاه، وفي هذا الشرح جلى عن غزارة مادة وعبقرية فذة، بيد أنه أسرف في تعقبه لابن هشام مما حمل الشمني على محاولة الرد عليه دائما في حاشيته "المنصف من الكلام على مغني ابن هشام" ففي التسمية ما يغني عن البيان. والحقيقة أن "الدماميني" في بعض الأحايين يكون متوخيا لإصابة الحق في اعتراضه، فمن هذا على نمط التمثيل تخريج ابن هشام في مبحث "كل" قول الفرزدق: وكل رفيقي كل رحل وإن هما ... تعاطي القنا قوما هما أخوان بناء على ظنه تنوين "قوما" إذ قال: "وهذا البيت من المشكلات لفظا وإعرابا ومعنى" فأبان الدماميني أن "قوما" مثنى، وطاح كلام ابن هشام من أساسه. كان الدماميني رحمه الله أديبا جيد النظم فترى طلاوة أدبه في ألغازه النحوية المشهورة التي يستهلها بخطاب علماء الهند، فمنها ألغازه في مفرد جمع المذكر السالم فقد اشترطوا علميته إن لم يكن وصفا، ومع هذا فلا يجمع بعد إلا مقصودا تنكيره بأن يراد به واحد مسمى به، وذلك لأن العلم يدل على التشخص والجمع يدل على الشيوع والتعدد فيتنافيان، فيقول: أيا علماء الهند لا زال فضلكم ... مدى الدهر يبدو في منازل سعده ألم بكم شخص غريب لتحسنوا ... بإرشاده عند السؤال لقصده وها هو يبدي ما تعسر فهمه ... عليه لتهدوه إلى سبل رشده فيسأل ما أمر شرطتم وجوده ... لحكم فلم ترض النحاة برده فلما رأيتم ذلك الأمر حاصلا ... أبيتم ثبوت الحكم إلا بفقده وهذا لعمري في الغرابة غاية ... فهل من جواب تنعمون برده

وقد أجاب بعض الفضلاء عليه بشعر من بحر وروي السؤال كما في حاشية العطار على الأزهرية مبحث جمع المذكر السالم، ومنها ألغازه في جر الفاعل وقد ذكره في "تحفة الغريب بشرح مغني اللبيب" عند الكلام على الجملة الرابعة المضاف إليها من الجمل السبع التي لها محل من الإعراب في "الباب الثاني". وذلك أن ابن جني في الجزء الأول من الخصائص "باب في الفرق بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى" للمناسبة قال في بيت طرفة العبدي: بجفان تعتري نادينا ... من سديف حين هاج الصنبرِ1 "يريد الصنبرُ فاحتاج للقافية إلى تحريك الباء، وكان يجب على هذا أن يضم الباء فيقول: الصنبرُ لأن الراء مضمومة إلا أنه تصور معنى إضافة الظرف إلى الفعل فصار إلى أنه كأنه قال حين هيْجِ الصنبرِ، فلما احتاج إلى حركة الباء تصور معنى الجر فكسر الباء، وكأنه قد نقل الكسرة عن الراء إليها إلخ". فقال الدماميني على هذا التقدير ملغزا: أيا علماء الهند إني سائل ... فمنوا بتحقيق به يظهر السر أرى فاعلا بالفعل أعرب لفظه ... بجر ولا حرف يكون به الجر وليس بمحكي ولا بمجاور ... لدى الخفض والإنسان للبحث يضطر فهل من جواب عندكم أستفيده ... فمن بحركم ما زال يستخرج الدر وأجاب عن هذا اللغز نظما أيضا من البحر والروي السجاعي فانظره في ترجمته في الجبرتي. قال الشمني تعليقا على الدماميني: "قد سبقه إلى الإلغاز بهذا فرج بن قاسم الأندلسي في منظومته النونية في الألغاز النحوية"، وهذا مبني على

_ 1 بجفان متعلق بالفعل قبل وهو ندعو، وتعتري نادينا تلم به، والنادي مجلس القوم، والسديف قطع السنام، والصنبر أشد ما يكون من البرد، والبيت من قصيدة طويلة.

القطع بسكون الباء في الصنبر، لكن في الصحاح ورودها بالكسر أيضا فلا إلغاز، وقد نقل ذلك كله تفصيلا البغدادي في الخزانة مكررا في شاهدي 607 و759، بل على السكون قد يكون الكسر للتخلص لا للنقل فلا إلغاز أيضا كما قال الخضري على ابن عقيل أول باب الفاعل، توفي الدماميني بالهند في كليرجا سنة 827هـ1. 10- الشمني: هو أبو العباس أحمد تقي الدين بن محمد المشهور بالشمني "نسبة إلى مزرعة ببلاد المغرب" ولد بالإسكندرية وقدم مع أبيه القاهرة فتلقى النحو عن الشطنوفي وبقية الفنون عن أساتذتها، ثم صار واحد العصر في سائر الفنون، وتزاحم الناس في الأخذ عنه إذ كانت التلمذة له مفخرة، وولي المشيخة والخطابة بقايتباي، وطلب للقضاء فأبى، وله في النحو حاشية على المغني وشرح الدماميني سماها: "المنصف من الكلام على مغني ابن هشام" وسبقت الإشارة إليها، وقد وهبها الله القبول فحرص الناس على قراءتها، غير أنها في الحقيقة ليست من الحواشي الضافية التى أسبغت ثوبا جديدا على ما تعلق عليه، فليس من المبالغة قول الشوكاني عليها في أثناء الكلام على ترجمة الشمني في البدر الطالع: "وقد رأيت حاشية على المغني وحضرت عند قراءة الطلبة علي في الأصل فما وجدتها مما يرغب فيه لا بكثرة فوائده ولا بتوضيح خفي ولا بمباحثه مع المصنف، بل غايتها نقول من كلام الدماميني وإني لأعجب من تنافس الناس في مثلها"، توفي رحمه الله بالقاهرة سنة 872هـ2. 11- خالد الأزهري: هو خالد بن زين الدين بن عبد الله، ولد بجرجا "في الصعيد" وتحول وهو طفل مع أبيه إلى القاهرة، ثم حفظ القرآن وخدم

_ 1 ترجمته في البغية، وحسن المحاضرة، والضوء اللامع، والشذرات والبدر الطالع. 2 ترجمته في البغية، وحسن المحاضرة "الفقهاء الحنفية" الضوء اللامع، والشذرات، والبدر.

في الأزهر وقادا فسقطت منه يوما فتيلة على كراس أحد الطلبة فشتمه وعيره بالجهل فعز عليه شتمه، واشتغل بالعلم بعد أن جاوز العقد الثالث وقرأ في العربية على يعيش المغربي والسنهوري، وأخذ قليلا عن الشمني والمناوي وغيرهما، وقد بورك له في عمله فصنف مؤلفات انتفع بها لإخلاصه، منها في النحو: التصريح بمضمون التوضيح، والأزهرية وشرحها وشرح الآجرومية، وشرح قواعد الإعراب لابن هشام، وإعراب الألفية، توفي عائدا من الحج في "بركة الحج" قليوبية توفي سنة 905هـ1. 12- السيوطي: هو أبو الفضل عبد الرحمن جلال الدين بن أبي بكر، نشأ يتيما وكان ذكيا حُفَظَةً فتلقف مشايخ العصر في كل فن، وأخص مشايخه في النحو الشمني والسيرامي والكافيجي، ونفر في سبيل العلم إلى الشام والحجاز واليمن والهند، فأعطاه ربه ما أرضاه، وصنف مؤلفات في متنوع العلوم تربو على الثلاثمائة فسبحان الوهاب، ومن أشهرها في النحو الأشباه والنظائر، وجمع الجوامع وشرحه همع الهوامع، والنكت تعليقا على "ألفية ابن مالك والكافية والشافية لابن الحاجب والشذور ونزهة الطرف لابن هشام"، والاقتراح في أصول النحو، ومن مؤلفاته الممتعة "المزهر" في علوم اللغة وأنواعها، و"بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة" وهذه الكتب من المراجع القيمة التى لجأنا إليها في هذا الكتاب، وبعد فلا أستطيع في هذه الكلمة الموجزة إيفاء المترجم حقه، وقد ترجم لنفسه في الجزء الأول من كتابه "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" فارجعْ إليه تَرَ العجب العجاب توفي بالقاهرة سنة 911 هـ2. 13- الأشموني: هو أبو الحسن علي نور الدين بن محمد بن عيسى الأشموني أصلا، ولد بقناطر السباع وتوطن القاهرة مكبا على العلم مع

_ 1 ترجمته في شذرات الذهب والضوء اللامع. 2 ترجمته أيضا في البدر، والضوء اللامع، والشذرات.

التقشف في مأكله وملبسه ومفرشه لا هم له إلا العلم والطاعة، أخذ عن الجلال المحلي والكافليجي والتقى الحصني وغيرهم، ومن أشهر مؤلفاته النحوية شرحه على الألفية المسمي "منهج السالك إلى ألفية ابن مالك". تعريف بشرح الأشموني: في الحق أنه أغزر شروح الألفية مادة على كثرتها واختلاف مشاربها، بل إنه من أوفى كتب النحو جمعا لمذاهب النحاة وتعليلاتهم وشواهدهم على نمط البسط والتفصيل، ولا غرابة أن يجمع في شرحه ما جمع، فأمامه من شروح الألفية شرح ابن الناظم والمرادي وابن عقيل والشاطبي والتوضيح وغيرها، ومن شروح الكافية شرح الناظم وغيره، ومن شروح التسهيل المرادي وغيره، وأمامه المغني وهذا كله عدا كتب السابقين، فما عليه وقد رام أن يكون شرحه موسوعة إلا أن يضم كل شيء إلى نظيره ويضعه في موطنه، وإذا أنعم النظر في شرح الأشموني وكانت الأصول السالفة بين يديه فإنه يسهل عليه أن يرجع المقال إلى مصدره. وقد يحسن الأشموني في بعض الأحيان فينسب القول إلى قائله فيصرح بالشاطبي في باب المعرب والمبني عند قول الناظم "في اسمي جئتنا". وبالمغني عند قول الناظم "وفعل أمر ومضي بنيا" وبالتوضيح في باب النكرة والمعرفة عند قول الناظم "كافعل أوفق نغتبط إذ تشكر" وفي الابتداء بعد قول الناظم "وأخبروا باثنين أو بأكثر إلخ"، وبالمرادي في التنازع عند قول الناظم، "وأخرنه إن يكن هو الخبر"، وكثيرا ما يصرح بلفظ الشارح يقصد ابن الناظم، ولكن ذلك كله من الأشموني قليل جدا بالنسبة لإغفاله النسبة إلى صاحب الكلام، فإذا قرأت المباحث فيه المتعلقة بالأدوات في باب "عطف النسق" مثلا أو "النواصب" أو "الجوازم" أو "لو" أو "أما ولولا ولوما" أو "كم وكأين وكذا" وأمثال هذا فإنك واجده قد نقل كلام المغني مع قليل من التغيير: إما بنقص لا يلمح أو زيد لا يذكر أو تقديم أو تأخير ربما أذهب شيئا من المطلوب، زيادة على أنه ربما دعا الكاتبين عليه

إلى تنكب الجادة، ولتهافته على تسطير ما حوته الكتب السابقة، فقد كتب بعض المعلومات في موطن غيره أنسب بالكتابة فيه، وحمله هذا الصنيع إلى تكرارها ثانيا وثالثا، والحيلة في التخلص عنده لجوؤه إلى "التنبيه" مفردا ومثنى وجمعا، هذا مع عدم الدقة في ترتيب التنبيهات من حيث رعاية ارتباطها بالمقصود، فلو اتسقت في الترتيب على المعنى المقصود من البيت المشروح لحسنت وضعا، وكانت الثمرة منها أشهى، ولا يتسع هذا الكتاب لضرب أمثلة لكل هذا، تلك حالة هذا الشرح من الناحيتين: العلمية والتأليفية. بقي علينا -إيفاء للمطلوب- أن نكتب كلمة عن شواهده لأهميتها لدى المستفيد. شواهده: سلك الأشموني في شواهده مَهْيَعَ السابقين عليه الذين دونوها في مصنفاتهم، سواء في ذلك الشعر أم النثر، وسواء في النثر القرآن الكريم أم الحديث الشريف أم كلام العرب "مثلا أو غير مثل". أما الشواهد النثرية فمحشودة في الشرح، فلسنا في حاجة إلى عرض شيء منها لأن النثر متفق على الاستشهاد به في غير الحديث أما فيه فتابع لابن مالك المجيز له على ما سبق في ترجمته، وأما الشعر فكثير أيضا ومقلد فيه من أخذه منهم، وقد ساعده تأخره الزمني على جمع مقدار كبير من مختلف المؤلفات قبله، فمما يمتاز به هذا الشرح زيادة الشواهد فيه عن المصنفات النحوية زيادة يئود الطالب حفظها والإحاطة بما تستوجبه المعرفة بها من قائليها ومن قصائدها، ومما قيلت فيه وغير هذا من مقتضيات الوقوف على جلية الحال في الشعر، وإن المتتبع لهذه الشواهد يعلم أنها للشعراء المعتد بهم إلا قليلا، غير أن قليلا من الشعر المعتد به قد ناله التحريف أو التصحيف، لهذا ناسب أن أذكر الأمرين: الشعر المحدث والشعر القديم الطارئ عليه التغيير.

من شواهد الشعراء المحدثين: ذكرت في الشواهد بعض أبيات الشعراء المحدثين الذين لا يعتد بهم النحاة وإن كان مقلدا من قبله، فمن أمثلة ذلك استشهاده في باب الابتداء مجاراة للرضي بقول أبي نواس: غير مأسوف على زمن ... ينقضي بالهم والحزن ومتابعة لابن الناظم بقول أبي العلاء المعري: يذيب الرعب منه كل عضب ... فلولا الغمد يمسكه لسالا واستشهاده في باب إعراب الفعل مجاراة للسيوطي في الهمع بقول المرتضي: أتبيت ريان الجفون من الكرى ... وأبيت منك بليلة الملسوع وعجب ابن هشام في المغني "الباب السابع" من استشكال بعض علماء العربية ضم التاء من "تبيت" وفتحها من "أبيت" مع الوضوح، ثم شرح الإعراب. من شواهد الشعراء القدامى المحرفة أو المصحفة: كثر ما وقع في شواهده الشعرية من تصحيف أو تحريف، ولا يجمل بي أن أعرض كل ما عثرت عليه من تلك الشواهد فإنه يقتضي مع التفصيل رسالة خاصة، فسأجتزئ بذكر بعض الشواهد، مع بيان أن ذلك التغيير العارض على الشواهد قد يجر عليها عدم صحة الاستشهاد بها في الحقيقة، وربما لا يستدعي ضررا في ناحية الاستشهاد بها، وهاك أمثلة للنوعيين: مما لم يجن التغيير الطارئ فيه على الشاهد: 1- استشهاده في باب أبنية المصادر بعد قول الناظم: "وغير ما مر السماع عادله" على ورود المصدر بزنة اسم المفعول كمعقول في قول الشاعر:

لم يتركوا لعظامه لحما ... ولا لفؤاده معقولا وصحة البيت هكذا: حتى إذا لم يتركوا لعظامه ... لحما ولا لفؤاده معقولا فإنه من قصيدة للراعي النميري مذكورة في جمهرة أشعار العرب "الملحمات" فالتغيير طمس وزن البيت فقط، ولم يستتبع ضررا في موطن الشاهد. 2- استشهاده في باب عطف النسق بعد قول الناظم: "وحذف متبوع بدا هنا استبح" على تقدم المعطوف على المعطوف عليه بقول ذي الرمة: كأنا على أولاد أحقب لاحها ... ورمي السفي أنفاسها بسهام جنوب ذوت عنها التناهي وأنزلت ... بها يوم رباب السفير خيام وصحة البيت الثاني كما في "سيبويه جـ1 ص266" هكذا: جنوب ذوت عنها التناهي وأنزلت ... بها يوم ذباب السبيب صيام فالتغيير جر إلى الإقواء والإبعاد عن مرمى الشاعر فقط. 3- استشهاده في باب إعراب الفعل بعد قول الناظم "وبلن انصبه" على ورود "لن" للدعاء بقول الأعشى: لن تزالوا كذلكم ثم لازلـ ... ـت لهم خالد خلود الجبال وصحة البيت هكذا: لن يزالوا كذلكم ثم لازلـ ... ـت لهم خالد خلود الجبال فإنه من معلقة الأعشى في جمهرة أشعار العرب. مما جنى التغيير فيه على موطن الشاهد: 1- استشهاده في أول باب "نعم وبئس" للكوفيين على اسميتهما بقول الشاعر:

صبحك الله بخير باكر ... بنعم طير وشباب فاخر تبعا لاستشهاد ابن الناظم به، وتقدم في التعريف بشرح ابن الناظم تصحيح البيت بما يضيع الاستشهاد به. 2- استشهاده في إعراب الفعل بعد قول الناظم: ...... كذا بأن ... لا بعد علم ... على أن المضارع نصب شذوذا بأن الواقعة بعد العلم بقول جرير: نرضي عن الله إن الناس قد علموا ... ألا يدانينا من خلقه بشر والرواية "أن لن يفاخرنا" بنصب المضارع بلن، فطاش الاستشهاد للنصب بأن بعد العلم، وبراعة التحريف في البيت ظاهرة في استبدال الفعل الناقص بالتصحيح، واستبدال لا بلن. 3- استشهاده "في إعراب الفعل" أيضا بعد قول الناظم: "وبعد غير النفي جزما اعتمد إلخ" على مجيء المضارع مرفوعا بعد الأمر بقول الأخطل: كروا إلى حرتيكم تعمرونها ... كما تكر إلى أوطانها البقر والاستشهاد بالبيت مبني على فعل الأمر أول البيت، والحقيقة أنه فعل ماض "كروا" فانعدم الاستدلال بالبيت، وتقدم في الحديث عن أبيات سيبويه التي خطئوا فيها روايته ما يتعلق بهذا البيت تفصيلا، لأن سيبويه أول من استدل به. وكنت أحب أن أبسط القول في تحليل هذا الشرح لأنه الكتاب المقرر على الطلاب، وعسى أن تسنح فرصة أكتب فيها تعريفا خاصا به أتناول فيه عناصره تفصيلا ليكون مرشدا لمن يقرؤه عما فيه، وقد رزق هذا الشرح القبول بين العلماء فعلق عليه كثيرون، فمن حواشيه حاشية المدابغي "حسن بن علي"، وحاشية الأسقاطي "أحمد بن عمر"، وحاشية الحفني، وحاشية الصبان، وسأفرد حاشية الصبان بنبذة خاصة في ترجمته. توفي الأشموني سنة 929هـ1.

_ 1 ترجمته في الضوء اللامع، وشذرات الذهب، والبدر الطالع.

النحو والنحاة في عصر الترك

النحو والنحاة في عصر الترك: حان حين دولة المماليك فقضت عليها دولة بني عثمان على يد السلطان سليم الذي فتح بلاد القطرين عنوة بعد قتل السلطان "قانصوه الغوري" فدخل القاهرة عاصمة القطرين سنة 923هـ، وجد في طلب "طومان باي" آخر المماليك، ثم صلبه عند "بوابة زويلة" فتم القضاء على المماليك، وأسر الخليفة العباسي "المتوكل على الله" الذي ما انفك سجينا في الآستانة حتى تنازل عن الخلافة للسلطان "سليمان القانوني" بعد توليه. وبذلك انتهى عصر المماليك وبدأ العصر التركي في القطرين، فانتقلت الخلافة من العباسيين إلى العثمانيين، ومن القاهرة إلى "الآستانة" عاصمة المملكة التركية فاندمج القطران في البلاد التابعة للترك وامحى استقلالهما، واضطرب حبل الهدوء والأمن فيهما، وانتكث فتلهما المبرم ثلاثة قرون، فلا استقلال ولا خلافة، ولا استقرار نظام، وتفشت فيهما أوبئة الضعف من كل النواحي. وكان من هذا أن فرضت اللغة التركية على البلاد، فركدت ريح هذا العلم وانحط شأنه بين الناس، فقل نتاج العلماء فيه، وكان أغلب مؤلفاتهم تلخيص مطولات أو حواشي على الشروح، فلو تقريت مؤلفات النحاة في القطرين لم تقع عيناك إلا على الحواشي المترادفة على الشروح، وناهيك بحواشي شروح "متون ابن مالك" وحواشي شروح "متون ابن هشام". وقد امتدت تلك الخطة إلى المشرق، فتوالت الحواشي على شروح "كافية ابن الحاجب" ولا سيما "الفوائد الضيائية للجامي" فقد جاوز الأمر فيها حده فكتبت على حواشيها حواش أخرى، وإن الثبت أمامك في كشف

الظنون والفهارس العامة، فستقف منه على ما لا يدور بخلدك من كثرة الحواشي كثرة تفضي إلى الاستغراب والدهش، وسترى عين اليقين الدليل ماثلا في يدك عند سرد علماء هذا العصر مع ذكر مؤلفاتهم فإنك واجد أنها حواش على شروح السابقين، وهذه الحواشي على البسط فيها مشوبة بالنقول المضطربة المتخالفة، ولعل ذلك منشؤه عدم السهولة في الوصول للمراجع المسند إليها النقول، ومليئة بالاعتراضات والردود عليها ثم الردود على الردود. هذا كله مع كثرة التعقيد والالتواء في العبارات والتهافت عليها دون الغرض الحقيقي من النحو، ومع كثرة حشوها بالمصطلحات الأخرى من الفنون عربية وعقلية، ومن التعلق بالاستطرد لأوهى الأسباب وعدم ملاحظة من وضع لمستواهم الكتاب، ففي حواشي كتب المبتدئين كالكفراوي والأزهرية والقطر من المسائل ما لا يهضمها إلا من قد تزود من هذا العلم. وقد ترتب على هذا أن نفر بعض الطلبة الذين لم يتحلوا بفضيلة الجلد والصبر حين صدموا في مطلع حياتهم العلمية بهذه الكتب وعيوا بأمرها، وانطمست عليهم مسالكها، لكنه حرص العلماء على صالح العلم دون انتباه إلى ما سواه. والخلاصة أن النهضة التأليفية في هذا العهد الغاشم إن صح لنا اعتبارها كانت في الحواشي، ولم تمنع هذه الحال العامة في التصنيف أن يظهر بين الفينة والفينة بعض أفراد لا تنطبق عليهم أحكام هذا العصر، غير أنهم تقسمتهم الأزمنة المتطاولة جدا، فأجادوا في التصنيف ترتيبا وتقريبا، وإن لم تكن لهم آثار من ناحية ابتداع وتجديد، إذ كان غرضهم الأول إنما هو فهم أو تفهيم عبارات السابقين إذا كانت مغلقة وبسطها إن كانت موجزة فقدموا بعملهم هذا صنعا جميلا، وكانوا منحا في أيام كلها محن، كابن قاسم، والشنواني، والدنوشري، ويس، والحفني، والصبان، ولقد تغالى العلماء بعد هؤلاء وكتبوا تقارير على الحواشي، كتقارير الأنبابي المعروفة.

والواقع أن هذه السلسلة في التأليف الواحد ينوء بحملها الطالب عندما ينتقل نظره مرات مترادفة من متن إلى شرح إلى حاشية إلى تقرير، وإذا ضم إلى هذا ما قلما تسلم منه هذه الخطوات في عرض التفسير والإيضاح من انتقادات شائكة إما على ضعف العبارة أو خطأ الفكرة أو مجانفة الاصطلاح الفني أو غلط الرواية المعزوة، إلى غير ذلك، تضاعف الصوارف التي تصرف الذهن عن لب المقصود إلى القشور اللفظية والفلسفة التأليفية. وليس بخاف أن هذا اللون من التأليف وعر المسلك على المؤلف ويقتضيه مجهودا جبارا يبذله في الوئام بين العلم وبين الكتاب الذي يعلق عليه، فالفرق جلي بين من ينظر إلى العلم للعلم يدون فيه الفكرة الناضجة متوخيا في تصويرها أسلوبه المفطور عليه غير ملتزم محاذاة مؤلف آخر ربما كان متعسفا في منهجه أو متنكبا جادة الصواب أو مشتت المادة، وما إلى ذلك، وبين من ينظر إلى العلم لبيان دواخل الكتاب الذي يعلق عليه باذلا همه في توجيه المراد من العبارة، أو تكميل نقص فيها، أو تمشيها مع عبارة لكتاب آخر، وأمثال هذا مما لم يحل العلم منه بطائل. فهذه المؤلفات النحوية المتراكمة التي يخطئها العدو التي لم يقيض لفن آخر غير النحو مثلها، لو أنها كلها أو معظمها تفردت في طرقها وتوحدت في هدفها وقل منها القيل والقال وأصاب فلان وأخطأ علان واعتمدت في الخلافات النحوية على الأساليب العربية لا غير، لو كان هذا لأضفت هذه المؤلفات على النحو حلل البهجة والرواء. نعم، لا نستطيع أن ننكر أن هذا الأسلوب من التأليف يربي فضيلة البحث والتمحيص في الطالب ويكون فيه حلية الاعتماد على النفس ويعوده دقة الملاحظة. إلا أنه يفوت عليه العناية بتعرف أطراف المسألة وتكوين صورة لها متضامة الأجزاء وفي ذلك نوع من التضييع للفائدة المنشودة، فإن لم يكن الطالب لقنا حاضر البديهة قوي النظر فربما أذهب عليه اللاحق من التعليقات السابق، وانتهى من حيث ابتدأ، وثمة تدهش كثيرا من الطالب

القارئ معظم كتب النحاة المتزود بما فيها من الأقاويل المستظهر للآراء في الأوابد من المسائل النحوية حينما تعرض عليه النصوص العربية، فلست بواحد منه خبرة في التطبيق على معلوماته المكنوزة عنده وذلك الداء العقام والمرض العياء. ومن المعروف أن الشعور بالنقص مبدأ الكمال، ومن ابتغى العرفان سما إليه وإن طال السفر، وإن هذه المحاولات الثقافية منذ انقضاء العصر التركي سنة 1220هـ، في سبيل استعادة النهضة العربية المكللة بالنجاح إن شاء الله تعالى، لأن الثروة العلمية المخلفة لعصرنا الحاضر إنما تتطلب منا تثميرها، والانتفاع بها موكول للرشد وحسن القوام، ودراسة النحو الآن -فيما نعتقد ويصدقه الواقع- يسرته على طالبيه وأدنته إلى راغبيه. ولو أنه تهيأ للأزهر الشريف، وهو ينبوع الدين واللغة تلك الأعصر الغابرة أن يسترد نهضته مرة أخرى ويعيدها جذعة لكانت له الأخرى كما كانت له الأولى، أبقاه الله للغة والدين معقلا، ووقاه كيد الشانئين. ودونك أعلام هذا العهد مرتبين بحسب سني وفياتهم. 1- ابن قاسم العبادي: هو أحمد شهاب الدين الصباغ، أخذ عن ناصر الدين اللقاني وغيره ثم اشتهر بالتحقيق، وله مصنفات في مختلف الفنون غاية في الدقة، منها في النحو حاشية على شرح ابن الناظم، توفي بالمدينة المنورة عائدا من الحج سنة 994هـ1. 2- الشنواني: هو أبو بكر شهاب الدين، ولد بشنوان "من المنوفية" وتلقى بالأزهر عن ابن قاسم العبادي وغيره مع شغف بالاطلاع ورغبة في حفظ الشعر وميل لتتبع مذاهب النحاة وشواهدهم، ومن مؤلفاته النحوية حاشية "قطر الندى وبل الصدى" لابن هشام وحاشية على شرح القطر للفاكهي سماها "هداية مجيب النداء إلى شرح قطر الندى وبل الصدى"

_ 1 ترجمته في شذرات الذهب.

وحاشية على شرح خالد لقواعد الإعراب لابن هشام سماها "هداية أولى الألباب إلى موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب"، توفي بالقاهرة سنة 1019هـ1. 3- الدنوشري: هو عبد الله بن عبد الرحمن أصله من دنوشر "قرية قريبة من المحلة الكبرى" ولد بالقاهرة وتلقى عن الشمس الرملي ومحمد العلقمي وابن قاسم العبادي وغيرهم، ثم ارتحل إلى بلاد الروم وأقام فيها مدة ثم عاد إلى القاهرة وانتفع الناس به في الأزهر وصنف كتبا قيمة في النحو منها "حاشية" على التصريح، وكان يقول النظم وأكثر شعره في مسائل نحوية وهي مسرودة في كتب النحو بكثرة توفي بالقاهرة سنة 1025هـ2. 4- يس: هو يس بن زين الدين ولد بحمص وارتحل مع أبيه إلى مصر، فتلقى عن الشهاب الغنيمي والدنوشوي وغيرهما، ثم برع في علوم متنوعة وألف فيها، ومن مصنفاته النحوية حاشية "قطر الندى وبل الصدى" لابن هشام، وحاشية "مجيب الندا إلى شرح قطر الندى وبل الصدى" للفاكهي، وحاشية "التصريح" لخالد، توفي بالقاهرة سنة 1061هـ3. 5- الحفني: هو يوسف بن سالم ولد بحفنا "قرية بجوار بلبيس" وتلقى بالأزهر عن مشايخ عصره وعنه أخيه محمد، ثم نبغ واشتهر بالأدب والشعر، ومن أبدع مصنفاته النحوية "حاشية" على شرح الأشموني تنافس فيها الفضلاء ولكن الصبان تتبعها في حاشيته هو على الأشموني وفند كثيرا منها، توفي سنة 1178هـ4. 6- الصبان: هو أبو العرفان محمد بن علي، ولد بالقاهرة ونشأ فقيرا متواكلا مستجديا الخلق مع العفة، ولم ينشب أن حفظ القرآن والمتون واجتهد في طلب العلوم وحضر على أشياخ العصر كالمدابغي والبليدي

_ 1 ترجمته في خلاصة الأثر. 2 ترجمته في خلاصة الأثر. 3 ترجمته في خلاصة الأثر. 4 ترجمته في الجبرتي.

والأجهوري والعدوي، فنبغ في العلوم عقليها ونقليها، ودرس الكتب القيمة في حياة أشياخه، واعترف العلماء بفضله في مصر والشام فالتف حوله الخلائق الكثيرون، وصنف مؤلفات في مختلف العلوم، ومن أشهرها في النحو "حاشيته" على الأشموني التي سارت بها الركبان، فاحتفى بها العلماء وعلقوا عليها تقارير كالأنبابي والحامدي والرفاعي، وتلك كلمة خاصة بها: حاشية الصبان: رسم الصبان في مقدمة الحاشية الخطة التي سيتبعها فيها وأنها تقوم على ثلاثة عناصر: تلخيصه زبدة ما كتبه السابقون قبله على شرح الأشموني، وتنبيهه على ما وقع لهم من أسقام الأفهام، وتعليقه مما فتح به الله عليه فاهتدى إليه، كما رسم اصطلاحا خاصا في الإشارة إلى أسماء السابقين ومنهم الحفني الذي التزم التعبير عن اسمه بلفظ "البعض". - أما العنصر الأول فالصبان فيه مواتٍ موفق. - وأما العنصر الثاني فإنه فيه عادل رائده تبيان الحقيقة العلمية مع غير الحفني، فإنه تحامل على الحفني في شدة وعنف لا سجاجة معهما، وأسرف في التشهير به متجاوز العرف التقليدي في رد العلماء بعضهم على بعض حتى في الهنات الهينات، ولهذا كثر ما تندر به وبكتابته، ولو أردنا إحصاء لما وافق فيه الصبان الحفني، ولما خالف فيه لتبين لنا موافقته له في النزر اليسير مما لم يستطع الصبان فيه مجابهة الصحيح المسلم به، وهاك عشرة أمثلة للنوعين: ما وافق فيه الصبان وما خالف فيه على ترتيب الكتاب، مع ذكر العبارات النابية من الصبان فيما خالف فيه: مما وافق فيه الصبان الحفني: 1- ما كتبه في باب "النداء" على قول الأشموني "والمثنى والمجموع" في شرح قول الناظم: "وابن المعرف المنادى المفردا إلخ". 2- ما كتبه في باب "ما لا ينصرف" على قول الأشموني: "ما فيه من

الصيغة إلخ" في شرح قول الناظم: "وإن به سمي أو بما لحق إلخ". 3- ما كتبه في باب "ما لا ينصرف" على قوله "لضعف سبب البناء إلخ" في شرح قول الناظم: "والعدل والتعريف مانعا سحر إلخ". 4- ما كتبه في باب "إعراب الفعل" على قوله: "وبمعنى ما تأتيا فأنت تحدثنا" في شرح قول الناظم: "وبعد فا جواب نفي أو طلب إلخ". 5- ما كتبه في باب "لو" على قوله "إذ لو قدر حصوله" في شرح قول الناظم: "لو حرف شرط في مضي إلخ". مما خالف فيه: 1- ما كتبه في باب "ما لا ينصرف" على قول الأشموني: "يعني ما كان من الجمع إلخ" في شرح قول الناظم: "وذا اعتلال منه كالجواري إلخ"، ثم قال معلقا: "ولغفلة البعض إلخ". 2- ما كتبه في باب "ما لا ينصرف" على قول الأشموني: "وذكر الأخفش إلخ" في شرح قول الناظم: "ولسراويل بهذا الجمع إلخ"، ثم قال معلقا ما نصه: "وأن تبجحه هنا مما لا ينبغي على من لولاه ما راح ولا جاء لم يتم، نسأل الله العافية إلخ". 3- ما كتبه في باب "إعراب الفعل" على قوله: "ولا يطرد إلا بتجوز وتكلف" في شرح قول الناظم "وبعد غير النفي جزما إلخ"، ثم قال معلقا ما لفظه: "ولقد ظهر لك إن كان عندك أدنى تنبه أنه لم يخطئ إلا ابن أخت خالته". 4- ما كتب في باب "العدد" على قوله: "وإن ترد بالوصف المذكور إلخ" في شرح قول الناظم: "وإن ترد بعض الذي منه بني إلخ"، ثم قال معلقا "وللبعض هنا كلام حقيقي بالطرح". 5- ما كتب في باب "التصريف" على قوله: "من الحواية" في شرح قول الناظم: "كذاك همز آخر بعد ألف إلخ"، ثم قال معقبا ما حروفه

"وقول البعض بفتح الحاء لا يعتمد عليه وحده، لكثرة تساهله كما لا يخفى على ممارس حاشيتنا" وما كنت أبغي تسطير هذا التعقيب اللاذع فيما خالف فيه الصبان لكنه مسطور في الحاشية، وليس على الراوي تبعه، وستقف على ما تعرف منه أن الصبان كان متجنيا في بعض الأحيان. وأما العنصر الثالث: فالصبان فيه بحق السابق المجلي في الكثير، إذ لم يسلم في القليل من التثريب واللوم في أمور تتصل بالناحية العلمية، وبالاستطراد إلى غير النحو، وبالخطأ في شرح الشواهد- وسأذكر عن كل من الثلاثة كلمة خاصة به غير مسترسل في التفصيل. التعقيب عليه في أمور ثلاثة: الأمر الأول: وقعت منه مسائل: منها عدم معرفته اصطلاح المذهب الكوفي في تسميته "المنصرف" بالمجرى "وغير المنصرف" بغير المجرى وذلك أنه كتب على قول الأشموني في بيان مذهب الفراء "الأمثلة التي تكون للأسماء والأفعال إن غلبت للأفعال فلا تجره في المعرفة إلخ" في شرح قول الناظم: "كذلك ذو وزن يخص الفعلا إلخ". إن المنفي هو الجر بالكسرة معتقدا أن الفعل "تجره" مفتوح التاء، والواقع أنه مضمومها، والمنفي هو الصرف. الأمر الثاني: من أمثلته الظاهرة ما كتبه في باب عطف النسق عند الكلام على "أم" فقد سطر قوله ضافية فيما تستعار له الهمزة، ثم انجر الحديث إلى غيرها من الأدوات. الأمر الثالث: وهو خليق بالعناية لأن شواهد الأشموني مستفيضة في الأبواب كلها، والصبان كثير الحدس والتخمين فيها، فقد يفسر البيت بما يبدو له دون تنقيب عن أصله، وقد يقف دون بيانه معتذرا، وقد يردد الاحتمالات التي يستغرب التعرض لها ودونك مقدارا كنموذج للباقي على ترتيب الكتاب: 1- في باب "المعرب والمبني" مبحث المثنى شرح قول الفرزدق:

كلاهما حين جد الجري بينهما ... قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي بما يفيد أنه في وصف فرسين، والحقيقة أنه للتندر في ابنة جرير وبعلها. 2- في باب "كان وأخواتها" مبحث الأفعال الموافقة "صار" معنى وعملا، ومنها "آض" شرح قول فرعان بن الأعرف: وبالمخض حتى آض جعدا عنطنطا ... إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه بما يفيد أنه في وصف بعير، والحقيقة أنه في وصف "منازل" ابن الشاعر كما في الحماسة "باب الهجاء". 3- في باب "المفعول المطلق" مبحث ما حذف عامله وجوبا وكان مفيدا التشبيه، شرح قول أبي كبير الهذلي: ما إن يمس الأرض إلا منكب ... منه وحرف الساق طي المحمل بما يفيد أنه في وصف فرس، والواقع أنه وصف ربيب الشاعر "تأبط شرا". 4- في باب "أبنية المصادر" مبحث ورود المصدر بزنة اسم المفعول كتب على قول الراعي: لم يتركوا لعظامه لحما ... ولا لفؤاده معقولا ما يؤخذ منه عدم الاطلاع على أصل البيت، فظن أنه كامل مخمس شذوذا، وتبعة الخطأ على الأشموني، وقد نبهنا على ذلك في ترجمته. 5- في باب "عطف النسق" مبحث تقدم المعطوف شرح بيتي ذي الرمة المذكورين سابقا على شواهد الأشموني التي طرأ عليها التغيير، مع التهافت في الرد على بعض في فهمه، وخفيت معالم الحقيقة في غبار النقاش. 6- في باب "أسماء الأفعال" مبحث "رويد" كتب على قول الهذلي:

رويد عليا جد ماثدي أمهم ... إلينا ولكن بغضهم متماين ما نصه "لم أر من تكلم على هذا البيت" مع أن البيت من شواهد سيبويه جـ1، ص124، ومن شواهد المفصل في الجزء الرابع ص40. 7- في باب "ما لا ينصرف" منتهى الجموع شرح قول ابن ميادة: يحدو ثماني مولعا بلقاحها ... حتى هممن بزيغة الإرتاج بما يفيد أن النياق طربت من الحداء، والحقيقة أن البيت في وصف حمار اشتد شبقه على الأتن. 8- في باب "النسب"مبحث المركب الإضافى شرح قول ذي الرمة: ويسقط بينها المرئي لغوا ... كما ألغيت في الدية الحوارا بما يضحك بعد تغيير الشطر الثاني من البيت بما لا قرابة بينه وبين الأول والواقع أن البيت لجرير من أبيات أسعف بها ذا الرمة في ذمة المرئي. كما في الأمالي للقالي جـ2 ص141، والأغاني الجزء السادس عشر "ساسي". وما قدمناه من الشواهد فإنه قليل من كثير، ويضم إليها الشواهد التي عقبنا على الأشموني فيها، فإن التحري على سلامتها من مستلزمات الكتابة عليها. وصفوة المقال أن حاشية الصبان مفيدة علميا فحسب، ولا يعتمد عليها في شواهد النحو، نعم وكانت الإفادة العلمية أقوى وأقوم لو صرف الصبان النظر عن تتبع عثرات الحفني، فإن النقاش يغيب في عجاجه الأبيض الأزهر، ورحمة الله على الجميع، وقد بسط الجبرتي ترجمة الصبان في الجزء الثاني من تاريخه، توفي وصلي عليه بالأزهر في حفل مهيب سنة 1206هـ.

كلمة الختام

كلمة الختام: ولأبي العباس "ثعلب" نادرة مروية أسوقها ختاما لهذا لكتاب، عسى أن تبعث في طالب النحو الرغبة الصادقة في الإقبال عليه والأخذ بمحاسنه، فإنه يحز في نفوسنا ما نراه من فتور همم الطلاب في هذا العلم الجليل، زعما منهم أن الغرض المنشود منه لا يتكافأ مع ما يعانونه في مسائله وخلافاته المذهبية والشخصية وما يتبع هذا، وقد عزب عنهم أنه سلم الفهوم وعلم العلوم، وفاتهم أن الطالب لا يتذوق فنا من الفنون ويسير فيه على هدى وبصيرة، إلا إذا كان آخذا من هذا العلم بطرف تلك النادرة هي ما حدث به أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد المتوفى سنة 324هـ، قال: "كنت عند أبي العباس ثعلب فقال: يا أبا بكر اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغل أهل الفقه بالفقه ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ما يكون حالي في الآخرة؟ فانصرفت من عنده، فرأيت تلك الليلة النبي -صلى الله عليه وسلم-في المنام فقال لي: أقرئ أبا العباس عني السلام وقل له: أنت صاحب العلم المستطيل. قال الروذباري أحمد بن عطاء المتوفي سنة 369هـ: أراد أن الكلام به يكمل والخطاب به يجمل، أو أراد أن جميع العلوم مفتقرة إليه"1. حقا إن العلوم مفتقرة إليه في مسائلها، ومحتاجة إلى مراعاته في محاوراتها، وعلى قدر النبغ فيه يواتي الفوز بها والله سبحانه وتعالى أعلم. وكان إتمام هذا الكتاب في مساء يوم الخميس الموافق 10 من رمضان سنة 1357هـ و3 من نوفمبر سنة 1938م بتوفيق الله ومعونته، فأنشد إعلانا

_ 1 راجع هذه النادرة في ترجمة ثعلب في النزهة، والمعجم، والإنباه، والوفيات، والبغية.

بالشكر قوله سحيم عبد بني الحسحاس: الحمد لله حمدا لا انقطاع له ... فليس إحسانه عنا بمقطوع1 وصلى الله على سيدنا محمد وسائر الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

_ 1 قال أبو جعفر محمد بن حبيب: أنشد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قول سحيم: البيت، فقال: "أحسن وصدق، وإن الله يشكر مثل هذا، ولئن سدد وقارب إنه من أهل الجنة". راجع الإصابة في تمييز الصحابة حرف السين القسم الثالث، ونقل ذلك البغدادي في خزانة الأدب في الشاهد الرابع والتسعين.

فهرس الكتاب

فهرس الكتاب: الصفحة الموضوع 5 مقدمة المحقق 7 أهم مراجع الكتاب 11 مقدمة المؤلف 13 تمهيد 16 سبب وضع النحو 19 متى وأين كان وضعه؟ 20 وضعه عربي محض 22 واضعه 25 واضعه "أبو الأسود الدؤلي" على الصحيح 29 تسميته بالنحو بعد أبي الأسود 29 سبب التسمية بالنحو 29 نشأة النحو وتدرجه 31 أطوار النحو الأربعة 32 الأول: طور الوضع والتكوين "بصري" 34 الثاني: طور النشوء والنمو "بصري كوفي" 39 الثالث: طور النضوج والكمال "بصري كوفي" 42 كلمة في مناظرات الطورين: "الثاني والثالث" 43 من مناظرات الطور الثاني: بين الكسائي والأصمعي، بين الكسائي وسيبويه، بين الكسائي واليزيدي 48 من مناظرات الطور الثالث: بين المبرد وثعلب 51 من المجالسات: مجالسة الرياشي وثعلب 52 مشاهير البصريين والكوفيين 57 جدول مبين فيه طبقات الفريقين 58 أبو الأسود الدؤلي عماد الفريقين 59 طبقات البصريين السبع 59 الأولى: نصر بن عاصم "المتوفى 89هـ" عنبسة الفيل، عبد الرحمن بن هرمز "المتوفى 117هـ" يحيى بن يعمر "المتوفى 129هـ" 60 الثانية: ابن أبي إسحاق "المتوفى 117هـ" عيسى بن عمر "المتوفى 149هـ" أبو عمرو بن العلاء "المتوفى 154هـ"

64 الثالثة: الأخفش الأكبر "المتوفى 177هـ" الخليل "المتوفى 175هـ" يونس "المتوفى 182هـ" 66 الرابعة: سيبويه "المتوفى 188هـ" "تعريف بكتاب سيبويه شواهده، أبياته المجهولة القائل، بعض الأبيات التي خطئوا روايتها، بعض الأبيات التي قيل إنها مصنوعة، الأبيات المزيدة على الشواهد، تقدير الكتاب" اليزيدي "المتوفى 202هـ" 85 الخامسة: الأخفش الأوسط "المتوفى 215هـ" "من المسائل التي وافق فيها الكوفيين، ومن المسائل التي انفرد فيها بالقياس" قطرب "المتوفى 206هـ" 89 السادسة: الجرمي "المتوفى 225هـ"، التوزي "المتوفى 238هـ"، المازني "المتوفى 249هـ"، أبو حاتم "المتوفى 250هـ"، الرياشي "المتوفى 257هـ" 91 السابعة: المبرد "المتوفى 285هـ" 94 طبقات الكوفيين الخمس 94 الأولى: الرؤاسي "المتوفى 187هـ"، معاذ الهراء "المتوفى 187هـ". 94 الثانية: الكسائي "المتوفى 189هـ" 97 الثالثة: الأحمر "المتوفى 194هـ"، الفراء "المتوفى 207هـ"، اللحياني "المتوفى 220هـ" 98 الرابعة: ابن سعدان "المتوفى 231هـ"، الطوال "المتوفى 243هـ" ابن قادم "المتوفى 251هـ" 99 الخامسة: ثعلب "المتوفى 291هـ" 101 أسباب الاختلاف بين البصريين والكوفيين 102 المذهب البصري، عناصره الثلاثة 108 بعض المسائل التى خالفت قياسه وحاول دفعها 110 المذهب الكوفي، عناصره 116 أمثلة للقياس الكوفي 118 بعض المسائل التى ظفر فيها الكوفي 121 حكمة تخصص كل من المذهبين باتجاهه 126 نتائج المخالفة بين المذهبين 130 سرد مسائل الخلاف بين الكوفيين والبصريين 136 موازنة بين المذهبين 139 أثر تلاقي الفريقين ببغداد في تنويع النزعات إلى ثلاث: 141 من غلبت عليه النزعة البصرية: الزجاج "المتوفى 310هـ" ابن السراج "المتوفى 316هـ"، الزجاجي "المتوفى 337هـ"، مبرمان "المتوفى 345هـ"، ابن درستويه "المتوفى 347هـ" 143 من غلبت عليه النزعة الكوفية: أبو موسى الحامض "المتوفى 305هـ" ابن الأنباري "المتوفى 327هـ" 144 من جمع بين النزعتين: ابن قتيبة "المتوفى 276هـ"، ابن كيسان "المتوفى 299هـ"

الأخفش الصغير "المتوفى 315هـ" ابن شقير "المتوفى 317هـ"، ابن الخياط "المتوفى 320هـ" نفطويه "المتوفى 323هـ" 145 نحاة مصر الآخذون عن العراقيين: ولاد "المتوفى 263هـ" أبو علي الدينوري "المتوفى 289هـ"، ابن ولاد "المتوفى 298هـ"، ابن ولاد "المتوفى 332هـ"، أبو جعفر النحاس "المتوفى 337هـ" 150 نشوء المذهب البغدادي على أيدي الجامعين بين النزعتين 151 الرابع: طور الترجيح "بغدادي" 151 المذهب البغدادي، ومآخذه، وقواعده 152 من القواعد التي ركن فيها البغاددة إلى المذهب الكوفي 152 ومن القواعد التي عولوا فيها على المذهب البصري 152 ومن القواعد المستدركة وراء المستحسن من المذهبين 156 انفراط عقد المذهب البغدادي بعد استيلاء بني بويه على بغداد 156 انتهاء المتقدمين وابتداء المتأخرين 158 تشاطر الدول الإسلامية نهضة هذا العلم وفي ذلك مطلبان 159 المطلب الأول: علم النحو وعلماؤه في عهد الدول الإسلامية المتعاصرة 161 الفصل الأول: علم النحو في العراق وما يليه شرقا وما يقرب منه غربا وعلماؤه أشهر النحاة: السيرافي "المتوفى 368هـ"، ابن خالويه "المتوفى 370هـ"، الفارسي "المتوفى 377هـ"، الرماني "المتوفى 384هـ"، ابن جني "المتوفى392 هـ"، الربعي "المتوفى 420هـ"، ابن برهان "المتوفى 456 هـ"، التبريزي "المتوفى 502هـ"، ملك النحاة "المتوفى 538هـ" الزمخشري "المتوفى 538هـ"، ابن الشجري "المتوفى 52هـ" ابن الخشاب "المتوفى 567هـ"، ابن الدهان "المتوفى 569هـ" الأنباري "المتوفى 577هـ"، المطرزي "المتوفى 610هـ"، الكندي "المتوفى 613هـ"، العكبري "المتوفى 616هـ"، ابن الخباز "المتوفى 637هـ" 172 الفصل الثاني: علم النحو في مصر والشام وعلماؤه 173 أشهر نحاة القطرين: الحوفي "المتوفى 430هـ" ابن بابشاذ "المتوفى 469هـ"، ابن بري "المتوفى 582هـ"، ابن معط "المتوفى 628هـ"، ابن يعيش "المتوفى 643 هـ"، السخاوي "المتوفى 643هـ"، ابن الحاجب "المتوفى 646هـ" 176 الفصل الثالث: علم النحو في الأندلس والمغرب وعلماؤه 178 كتاب سيبويه عندهم 180 أمثلة للمذهب الأندلسي المغربي 182 أشهر نحاة الأندلس والمغرب: جودي "المتوفى 198هـ"، حمدون "المتوفى 200هـ"، الأفشنيق "المتوفى 307هـ"، محمد بن يحيى "المتوفى 358هـ"، الزبيدي "المتوفى 379هـ" 183 "تعريف بكتابه طبقات النحويين واللغويين"، الأعلم "المتوفى 476هـ"، ابن السيد "المتوفى 521هـ"، ابن الطراوة "المتوفى 528هـ"، ابن الباذش "المتوفى 538هـ"، اللخمي "المتوفى

570هـ"، ابن طاهر "المتوفى 580هـ"، السهيلي "المتوفى 583هـ"، ابن مضاء "المتوفى 592هـ"، الجزولي "المتوفى 605هـ"، ابن خروف "المتوفى 610هـ"، الشلوبيني "المتوفى 645هـ"، ابن هشام الخضراوي "المتوفى 646هـ"، ابن الحاج "المتوفى 647هـ" 188 المطلب الثاني: علم النحو والنحاة في المشرق 191 الفصل الأول: النحو والنحاة في المشرق 193 أشهر نحاة المشرق: ابن إباز "المتوفى 681هـ"، الرضي "المتوفى 688هـ". "تعريف بشرح الرضي على الكافية، من الأمثلة التي رأى قرب المذهب الكوفي فيها للصواب، من الأمثلة التي خالف فيها النحاة، شواهده، الشواهد النثرية، الشواهد الشعرية، من شواهد الشعراء المحدثين، انتقاد هين: ظهور الشرح بمصر". الكافيجي "المتوفى 879هـ"، الجامي "المتوفى 898هـ" 205 الفصل الثاني: النحو والنحاة في الأندلس والمغرب 205 أشهر النحاة: الأندلسي "المتوفى 661هـ"، ابن عصفور "المتوفى 663هـ"، ابن مالك "المتوفى 672هـ"، ابن الضائع "المتوفى 680هـ"، ابن أبي الربيع المتوفى 668هـ"، ابن آجروم "المتوفى 723هـ"، أبو حيان "المتوفى 745هـ"، الشاطبي "المتوفى 790هـ" 210 الفصل الثالث: النحو والنحاة في مصر والشام في العصرين: عصر المماليك وعصر الترك 212 النحو والنحاة في عصر المماليك 213 السر في تغلب المذهب الأندلسي عند نحاة القطرين على البغدادي. أشهر النحاة: ابن الناظم "المتوفى 686هـ". "نبذة عن شرح ابن الناظم على الألفية"، ابن النحاس "المتوفى 698هـ"، المرادي "المتوفى 749هـ"، ابن هشام "المتوفى 761هـ". "تعريف بكتابي التوضيح والمغني"، ابن عقيل "المتوفى 769هـ". "كلمة عن شرحه على الألفية"، ابن الصائغ "المتوفى 776هـ"، ناظر الجيش "المتوفى 778هـ"، ابن جماعة "المتوفى 819هـ"، الدماميني "المتوفى 827هـ" الشمني "المتوفى 872هـ"، خالد الأزهري "المتوفى 905هـ"، السيوطي "المتوفى 911هـ"، الأشموني "المتوفى 929هـ"، "تعريف بشرح الأشموني، شواهده: من شواهد الشعراء المحدثين، من شواهد الشعراء القدامى مما لم يجن التغيير الطارئ فيه على الشاهد، مما جنى التغيير فيه على موطن الشاهد" 233 النحو والنحاة في عصر الترك أشهر النحاة: ابن قاسم العبادي "المتوفى 994هـ"، الشنواني "المتوفى 1019هـ"، الدنوشري "المتوفى 1025هـ"، يس "المتوفى 1061هـ"، الحفنى "المتوفى 1178هـ"، الصبان "المتوفى 1206هـ". "تعريف بحاشية الصبان، مما وافق فيه الصبان الحفني، مما خالف فيه، التعقيب عليه في أمور ثلاثة: علمية، استطرادية لغير النحو، خطأ في شرح الشواهد" 243 كلمة الختام 245 الفهرس

§1/1