نزول القرآن الكريم والعناية به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

عبد الودود مقبول حنيف

مقدمة

المقدمة الحمد لله المنان، الذي أكرمنا بالقرآن، فأنزله على عبده المصطفى ولم يجعل له عِوجاً نزله فرقاناً وتبياناً لكل شيء فقد قال في محكم التنزيل {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان: 1) وقال: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44) ، والصلاة والسلام على من أرسله الله تعالى بالقرآن رحمةً للعالمين، فأخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان واليقين، فعَلَّم القرآن، وبَلَّغَ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلوات الله عليه وعلى أصحابه الكرام الذين لازموه واستفادوا من مدرسته فاعتنوا به كعناية النبي صلى الله عليه وسلم له، وعلى آله ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بأن أنزل عليه هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد وفيه نبأ ما كان قبلَكم، وخبر ما بعدكم، وحُكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخْلَق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سَمِعَته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قرآناً عجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} (الجن:1-2) ، من قال

به صُدِّق، ومن عمِل به أُجِر، ومن حكم به عدَل، ومن دعا إليه هدى إلى صراطٍ مستقيم1 ومنذ نزوله اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم به تلاوةً وتدبراً، تعليماً وتربيةً، سلوكاً ومنهاجاً.ويسرني ويشرفني في هذا المقام أن أشارك في الندوة التي تقوم بعقدها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ممثلةً في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بعنوان (عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه) ، وقد تضمن العنوان بحوثاً كثيرة، وكان نصيبي من تلك البحوث هو نزول القرآن الكريم والعناية به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويتكون البحث من مقدمة وفصلين وخاتمة. المقدمة وأذكر فيها خُطة البحث. الفصل الأول عن نزول القرآن على المصطفى عليه الصلاة والسلام وفيه ثلاثة مباحث:- * المبحث الأول: نزول القرآن الكريم ويشتمل على:- 1. نزوله جملةً من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا والحكمة منه. 2. نزوله مفرقاً على النبي صلى الله عليه وسلم. * المبحث الثاني: حِكَم نزول القرآن مفرقاً. * المبحث الثالث: نزول القرآن على سبعة أحرف، ويشتمل على: 1. طرف من الروايات الواردة في نزول القرآن على سبعة أحرف.

_ 1 أخرجه الترمذي من طريق الحارث الأعور، وقال هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال، انظر الترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن 5/ 172، والحديث ضعيف.

1. حكم نزول القرآن على سبعة أحرف. 2. المراد بالأحرف السبعة. الفصل الثاني عن العناية بالقرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيه ثلاثة مباحث:- المبحث الأول: العناية بالقرآن الكريم حفظاً. المبحث الثاني: العناية بالقرآن الكريم كتابةً. المبحث الثالث: العناية بالقرآن الكريم تطبيقاً. خاتمة، وفيها أهم التوصيات والنتائج التي توصلت إليها، وملحق بالبحث الفهارس العامة وهي على النحو الآتي:- فهرس المصادر والمراجع. فهرس الموضوعات. وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه وأن يرزقنا الإخلاص في القول والفعل وأن ينفع بهذا البحث الكاتب والقارئ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك علي نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

بين يدي الموضوع أنزل الله تبارك وتعالى القرآن على المصطفى عليه الصلاة والسلام لهداية البشرية إلى ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم فقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء:9) ،وقال: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم:1) ، وبين لهم في إنزاله أن من اتبع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يَضِل ولا يشقى {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} (طه:123) ، وأن من أعرض عنهما فقد حصل له الشقاء في الدنيا والآخرة فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (طه:124-126) . وأول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم آيات من سورة (اقرأ) ، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَ تْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جاءه الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى

بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ} فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ1. ولو تأملنا النصوص القرآنية الواردة في نزول القرآن لوجدناها على قسمين، فقسم منها فيه إشعار وبيان بأن القرآن نزل جملةً، وقسم منها فيه إشعار وبيان بأن القرآن نزل مفرقاً على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك جعلنا الحديث في الفصل الأول عن نزول القرآن على المصطفى عليه الصلاة والسلام وفيه ثلاثة مباحث:-

_ 1 انظر البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ص1 3.

الفصل الأول: نزول القرآن الكريم

الفصل الأول: نزول القرآن الكريم المبحث الأول: نزول القرآن الكريم أولاً: نزوله جملةً من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا والحكمة منه: ... المبحث الأول: نزول القرآن الكريم ويشتمل على:- أولاً: نزوله جملةً من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا والحكمة منه: فقد أنزل الله تبارك وتعالى القرآن جملةً واحدة في شهر رمضان المبارك فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة:185) ، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: 1) ، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (الدخان: 3) ، ولا تعارض بين هذه الآيات الثلاث لأن الليلة المباركة هي ليلة القدر، وليلة القدر في شهر رمضان المبارك، إنما يتعارض ظاهرها مع الآيات الأخرى التي تفيد بأن القرآن نزل مفرقاً مثل قوله تعالى: {وقرآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تنزيلاً} (الإسراء: 106) ، ويتعارض كذلك مع الواقع العملي لنزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم 1. فمنها:- 1) ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، فكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئاً أوحاه أو أن يحدث منه في الأرض شيئاً أحدثه 2.

_ 1 انظر مباحث في علوم القرآن لمناع القطان صـ86. 2 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير 2/222، وقال عقبه هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وانظر الروايات في الدر المنثور 1/456، 457.

2) وما رواه ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر، قال: أنزل القرآن جملةً واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض، قال: وقالوا: {لولا نًزِّل ُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} 1. 3) وما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أنزل القرآن جملةً واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك بعشرين سنة، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً، {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} 2. 4) وأخرجه ابن أبي حاتم3 من هذا الوجه وفي آخره: فكان المشركون إذا أحدثوا شيئاً أحدث الله لهم جواباً 4. 5) وما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فُصِل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل عليه السلام ينزله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويرتله ترتيلاً 5.

_ 1 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير 2/222، وقال عقبه هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والآية رقم 32 من سورة الفرقان. 2 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير 2/222، وقال عقبه هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وانظر الإتقان 1/117، والآية 106 من سورة الإسراء. 3 ترجمت في هذه الرسالة للأعلام غير المشهورين والمعروفين ترجمة مختصرة، وابن أبي حاتم هو عبد الرحمن بن محمد بن أبي حاتم الرازي، أبو محمد حافظ للحديث، من كبار المحدثين، له كتب كثيرة منها كتاب في الجرح والتعديل، وكتاب في التفسير يقع في عدة مجلدات وزع على طلاب جامعة أم القرى لتحقيقها في مرحلتي الماجستير والدكتوراة، الأعلام للزركلي 3/324. 4 انظر الإتقان 1/117. 5 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير 2/222، وقال عقبه هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وانظر الإتقان 1/117، وقال السيوطي في الإتقان: أسانيدها كلها صحيحة.

6) وما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين ثم تلا هذه الآية: {فلا أقسم بمواقع النجوم} ، قال: نزل متفرقاً 1. 7) وما رواه ابن عباس أنه قال: أنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلى السماء جملةً واحدة ثم أنزل نجوماً 2. 8) وما رواه ابن عباس في قوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} (القدر: 1) أنه قال: أنزل القرآن جملةً واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا، ونزله جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم بجواب كلام العباد وأعمالهم 3. 9) وما روي عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال: أوقع في قلبي الشك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (البقرة: 185) ، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: 1) . وهذا أنزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي محرم، وفي صفر، وشهر ربيع فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملةً واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم رسلاً4 في الشهور والأيام 5.

_ 1 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الواقعة 4/477 وقال عقبه هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. 2 قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه عمران القطان وثقه ابن حبان وغيره وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات 7/140.، وقال السيوطي: إسناده لا بأس به الإتقان 1/117. 3 قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني والبزار باختصار، ورجال البزار رجال الصحيح وفي إسناد الطبراني عمرو بن عبد الغفار وهو ضعيف. 4 رَسَلاً: أي فرقاً وعلى مواقع النجوم أي على مثل مساقطها، يريد أنه أنزل مفرقاً يتلو بعضُه بعضاً على تُؤَدة ورفق، انظر الإتقان 1/117، 118، النهاية في غريب الحديث 2/222. 5 انظر الإتقان 1/117.

وبنظرة عامة للآثار السابقة يتضح لنا أن للقرآن الكريم نزولين، وهذا يدل على أن القرآن نزل في رمضان وفي غيره، وعلى أن القرآن الكريم نزل جملةً واحدة ونزل مفرقاً، وأن المراد بنزوله في ليلة واحدة في شهر رمضان هو نزوله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا كما جاءت بذلك الآثار السابقة التي ذكرناها، وأن المراد بنزوله مفرقاً هو نزوله من بيت العزة من السماء الدنيا على المصطفى صلى الله عليه وسلم حسب الوقائع والحوادث وغير ذلك، وإليكم مذاهب العلماء في كيفية إنزاله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة ثم نزوله من بيت العِزة على المصطفى عليه الصلاة والسلام1:- المذهب الأول:- مذهب جمهور العلماء وهو قول ابن عباس أن القرآن الكريم نزل جملةً واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك منجماً على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، على حسب الخلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد البعثة، وهذا هو المذهب الذي دلت عليه الأخبار الصحيحة وعليه جمهور العلماء، ورجحه ابن حجر حيث قال في شرح البخاري: وهو الصحيح المعتمد 2، وهو القول الذي ينبغي أن نصير إليه جمعاً بين الأدلة الموجودة في

_ 1 انظر التذكار في أفضل الأذكار 24، 25. 2 الإتقان 1/117، 118، البرهان في علوم القرآن 1/228، وانظر كلام ابن حجر في فتح الباري، كتاب فضائل القرآن باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل 9/4.

هذا الباب، وقد ورد عن ابن عباس بطرق متعددة، وحكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا مجال للرأي فيه. المذهب الثاني: أنه نزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر من عشرين سنة، وقيل في ثلاث وعشرين ليلة قدر من ثلاث وعشرين سنة، وقيل في خمس وعشرين ليلة قدر من خمس وعشرين سنة، في كل ليلة منها ما يقدر الله سبحانه إنزاله في كل السنة، ثم ينزل بعد ذلك منجماً في جميع السنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. المذهب الثالث: أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة من سائر الأوقات وبه قال الشعبي 1. الحكمة من نزول القرآن جملة: أولاً: تفخيم شأن القرآن وشأن من سينزل إليه، وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليها لننزله عليها، وهي الأمة الإسلامية، وفي هذا تنويه بشأن المنزل والمنزل عليه، والمنزل إليهم وهم بنو آدم ففيه تعظيم شأنهم عند الملائكة

_ 1 الإتقان 1/117، 118، البرهان في علوم القرآن 1/228، والشعبي هو عامر بن شراحيل الشعبي الحميري، أبو عمرو، راوية من التابعين، يضرب المثل بحفظه، من رجال الحديث الثقات، الأعلام 3/251.

وتعريفهم عناية الله بهم ورحمته لهم 1، ثم إن وضعه في مكان يسمى بيت العزة يدل على إعزازه وتكريمه. ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجماً بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين. ثانياً: تفضيل القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية السابقة وذلك بإنزاله مرتين، مرة جملة ومرة مفرقاً بخلاف الكتب السماوية السابقة فقد كانت تنزل جملةً مرة واحدة، وبذلك شارك القرآن الكتب السماوية في الأولى وانفرد في الفضل عليها بالثانية، وهذا يعود بالتفضيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء السابقين 2. ثانياً: نزوله مفرقاً على النبي صلى الله عليه وسلم:دل القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة أن القرآن الكريم كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً إلى أجزاء كل جزء منها يسمى نجماً، فقد صح أن الآيات العشر المتضمنة لقصة الإفك نزلت جملة، وأن عشر آيات من أول سورة المؤمنين نزلت جملة، وورد أيضاً أنه نزل قوله تعالى: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (الضحى:1-2) إلى قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى:5) ثم نزل

_ 1 انظر البرهان 1/230،231، الإتقان 1/119 نقلاً عن أبي شامة في المرشد العزيز، البيان في مباحث من علوم القرآن ص52، 53، مناهل العرفان 1/46، 47، المدخل لدراسة القرآن الكريم 52، 53. 2 انظر المراجع السابقة.

باقي السورة بعد ذلك، وبالجملة فكون القرآن لم ينزل جملة وإنما نزل مفرقاً حسب الوقائع والحوادث مما لم ينازع فيه أحد. وقد اختص القرآن الكريم من بين الكتب السماوية بأنه نزل مفرقاً كما دل على ذلك القرآن والسنة: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} (الإسراء: 106) ، وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} (الفرقان: 32) ، وكما ذكر العلماء في نزول القرآن الكريم أن أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (اقرأ: 1) ، أما الكتب السماوية السابقة فإنها نزلت جملةً واحدة كما هو المشهور بين العلماء وعلى ألسنتهم حتى كاد يكون إجماعاً لما ذكرناه ولما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير1 عن ابن عباس قال: قالت اليهود: يا أبا القاسم لولا أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى فنزلت وأخرجه من وجه آخر بلفظ (قال المشركون) ، قال السيوطي2: فإن قلت: ليس في القرآن التصريح بذلك، وإنما هو على تقدير ثبوت قول الكفار، قلت: سكوته تعالى عن الرد عليهم في ذلك وعدوله إلى بيان حكمته دليل على صحته، ولو كانت الكتب كلها نزلت مفرقة لكان يكفي في الرد عليهم أن يقول: إن ذلك سنة الله في الكتب التي أنزلها على الرسل السابقين.

_ 1 سعيد بن جبير الأسدي بالولاء الكوفي أبو عبد الله، تابعي، كان أعلم زمانه على الإطلاق، قتله الحجاج بواسط، الأعلام 3/93. 2 عبد الرحمن بن أبي بكر الخضيري السيوطي، جلال الدين، إمام حافظ مؤرخ أديب، له نحو ستمائة مصنف، الأعلام 3/301.

ثم ذكر بعض الآثار والأحاديث التي تفيد بأن التوراة نزلت جملة ومنها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ثابت بن الحجاج1 قال جاءتهم التوراة جملة واحدة، فكبر عليهم، فأبوا أن يأخذوها حتى ظلل الله عليهم الجبل فأخذوها عند ذلك 2 إضافة إلى ما سبق فإنه لو لاحظنا وتأملنا في الآيات القرآنية لوجدنا أن التعبير كان بلفظ التنزيل والإنزال، وعلماء اللغة يفرقون بين الإنزال والتنزيل فالتنزيل لما نزل مفرقاً والإنزال أعم، ولذلك قال الراغب3 في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر:1) ، وإنما خُص لفظ الإنزال دون التنزيل لما روي أن القرآن نزل دفعةً واحدة إلى سماء الدنيا ثم نزل نجماً فنجماً 4.

_ 1 ثابت بن الحجاج الكلابي الجزري الرقي، من أتباع التابعين، روى عن الصحابة، تهذيب التهذيب 2/4. 2 انظر الإتقان للسيوطي 1/122، 123. 3 الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد بن المفضل أبو القاسم، أديب من العلماء الحكماء، له كتب كثيرة منها المفردات في غريب القرآن، الأعلام 2/255. 4 المفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهاني 488، 489.

المبحث الثاني: عن حكم نزول القرآن مفرقا:-

المبحث الثاني عن حِكَم نزول القرآن مفرقاً:- لنزول القرآن مفرقاً على النبي صلى الله عليه وسلم حِكَمٌ كثيرة تُعرف من الآيتين السابقتين وتُدرك بالعقل والاجتهاد أذكرها فيما يلي:- أولا: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتطييب قلبه وخاطره، وإمداده بأسباب القوة والمجابهة أمام حملات المشركين ودسائس المنافقين، فتجديد الوحي يوماً بعد يوم وحالاً بعد حال يمثل لوناً من ألوان الرعاية الإلهية التي تمده بأسباب الثبات والْمُضِيِّ فيما اختاره الله تعالى له 1، وقد تولى الله الإجابة عن المشركين الذين قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (الفرقان:32) {كذلك} ، أي أنزلناه كذلك مفرقاً – {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} ، وكان للنزول المفرق أبلغ الأثر في مواساته وإزاحة معاني الغربة والضعف عن نفسه، وقد ثبت الله فؤاد المصطفى عليه الصلاة والسلام في أشد المواقف وأحرجها، فانظر إلى قول أبي بكر فيما حكاه عنه الله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40) ، وما ذلك إلا من قوة يقينه ووثوقه بنصر الله تعالى مع ما يحيط به من الأعداء. وهذه الحكمة من أجل الْحِكَم وأعظمها. ويندرج تحت تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم أشياء كثيرة منها:-

_ 1 انظر علوم القرآن، مدخل إلى تفسير القرآن وبيان إعجازه ص74، 75.

* تسليته صلى الله عليه وسلم بكثرة نزول الوحي عليه حتى لا يجد اليأس إلى نفسه سبيلاً، ومما لا شك فيه أن كثرة نزول الوحي أقوى بالقلب وأشد عناية بالمرسل إليه، فيحصل للنبي صلى الله عليه وسلم الأُنْس والارتباط بالله تعالى يقول الإمام أبو شامة1 (فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى بالقلب، وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجدد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل) 2. ومنها تسليته صلى الله عليه وسلم ببيان ما يثبت قلبه على الحق ويشحذ عزمه للمضي قدماً في طريق دعوته لا يبالي بظلمات الجهالة التي يواجهها من قومه، فما حصل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم قد حصل للأنبياء السابقين {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6) ، {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} (الأنعام: 33-34) ، وكلما اشتد أذى المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم نزلت الآيات لطمأنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتسليته، وتهديد المشركين والمكذبين بأن الله يعلم أحوالهم وسيجازيهم على ذلك أشد الجزاء {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا

_ 1 أبو شامة هو العلامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي أبو القاسم شهاب الدين، فقيه شافعي له كتاب المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز، وكتب أخرى، توفي سنة 665هـ، انظر الأعلام /299. 2 انظر البرهان 1/231، الإتقان 1/121.

نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (يس:76) {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (يونس:65) {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} (المزمل:10) {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 35) {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل: 127) {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (هود:115) ، فكان لاتصال الوحي بالرسول صلى الله عليه وسلم وتتابع نزول الآيات عليه تسليةً له بعد تسلية تشد من أزره وتحمله على الصبر والمصابرة، وكان لذلك أبلغ الأثر في مواساته والتخفيف عنه، ولو أن القرآن نزل جملةً واحدة لكان لانقطاع الوحي بعد ذلك أثر كبير في استشعار الوحشة والغربة. * ومنها تسليته صلى الله عليه وسلم بذكر قصص الأنبياء السابقين {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود:120) ، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (يوسف: 111) ، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف:35) . ثانياً: تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين بسبب ما كان يقصه القرآن عليهم من قصص الأنبياء السابقين ومعاناتهم من أقوامهم وكيف أن الغلبة والنصر والأجر والتأييد والتمكين كانت لهم ولعباد الله الصالحين في نهاية الأمر، وكانت الهزيمة لأعداء الله المخالفين، والآيات في هذا المعنى كثيرة، واستمع إلى قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}

(البقرة:214) . وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55) . وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:142) . وقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت:2) . ثالثاً: تيسير حفظه وفهمه على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يتعجل الأخذ من الوحي، ولقد بلغ من حرص النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا ينتظر حتى يفرغ جبريل من قراءته بل كان يتعجل بالقراءة فأنزل الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16-19) ، فتكفل الله لنبيه الحفظ والفهم. رابعاً:تيسير حفظه وفهمه وتدبر معانيه، ومعرفة أحكامه وحِكَمه على الأمة، وكما هو معلوم أن القرآن الكريم نزل على أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الجمعة: 2) {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} (الأعراف: 157) ، وكانت ظروف المسلمين في مكة المكرمة صعبة حيث كانوا مضطهدين من كفار قريش مستضعفين لقلة عددهم ليس لديهم من قوة السلطان ما يحميهم

من عدوهم ولا من فراغ الوقت وهدوء البال ما يمكنهم من الانقطاع لحفظ ذلك الكتاب وعندما اضطروا للهجرة قام اليهود والمنافقون في المدينة بمناوأتهم، ولو نزل جملةً واحدة لوجدت هذه الأمة الأمية-مع ما ينتابها من ظروف صعبة- صعوبةً في حفظ القرآن الكريم فكان من رحمة الله عز وجل أن نزل القرآن مفرقاً لكي يسهل حفظه وفهمه، فكانت الآيات تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكان النبي يعلمها أصحابه فكلما نزلت الآية أو الآيات حفظها الصحابة، وتدبروا معانيها، ووقفوا عند أحكامها 1، بل صار الصحابة والتابعون يعلمون من بعدهم بنفس الطريقة فصارت سنة متبعة فعن أبي العالية الرِّياحي2أنه قال (تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذه خمساً خمساً) 3. وقال عبد الله بن مسعود (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن) 4. وفي بعض الروايات أن أبا عبد الرحمن السلمي5قال حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا

_ 1 المدخل لدراسة القرآن الكريم 71، مباحث في علوم القرآن 95. 2 اسمه رُفَيْع بن مهران، من رواة الحديث، ثقة كثير الإرسال، التقريب / 210. 3 أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب فضائل القرآن، في تعليم القرآن كم آية 10/461، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 2/219، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 1959. 4 المصنف 3/380. 5 هو عبد الله بن حبيب بن رُبَيِّعَة الكوفي المقرئ، مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، التقريب / 299.

إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً 1. ثم إن أدوات الكتابة لم تكن ميسورة للكُتَّاب على ندرتهم، فلو أنزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه وكتابته، فاقتضت حكمة الله العليا أن ينزله إليهم مفرقاً ليسهل عليهم حفظه ويتهيأ لهم استظهاره 2. خامساً: ترتيل القرآن الكريم كما ينبغي بالصورة الصحيحة التي نزل عليها {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ ترتيلاً} (المزمل:4) فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتلقى القرآن من الوحي عن رب العزة والجلال، فنحن بقراءتنا وترتيلنا إن أحكمناه إنما نتبع ما علم الله نبيه من ترتيل محكم جاء به التنزيل وأُمِر به النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان تعليم هذا الترتيل الْمُنَزَّل من عند الله تعالى ليتوافر إذا لم ينزل القرآن منجماً، فلو نزل جملة واحدة ما تمكن النبي عليه الصلاة والسلام من تعلم الترتيل، ولو علمه الله تعالى بغير تنجيمه ما كان في الإمكان أن يعلمه قومه وهم حملته إلى الأجيال من بعده 3. سادساً: من حِكَم هذا التنجيم بصورة عامة رسم صورة المجتمع الآخَر أو الفئات الثانية من المشركين والمنافقين، وفضح أساليبهم ونواياهم ومفاجأتهم بحقيقة ما يقولون ويُبَيِّتُون ويمكرون {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ

_ 1 انظر المصنف للصنعاني 3/380، والمصنف لابن أبي شيبة، كتاب فضائل القرآن، في تعليم القرآن كم آية 10/460، وقال الهيثمي في المجمع، باب السؤال عن الفقه، رواه أحمد وفيه عطاء بن السائب اختلط في آخر عمره. مجمع الزوائد 1/165 وأخرجه الصنعاني في المصنف بنحوه، كتاب فضائل القرآن، باب تعليم القرآن وفضله 3/380. 2 مناهل العرفان 1/56. 3 انظر القرآن المعجزة الكبرى، محمد أبو زهرة ص23.

تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} (التوبة:64) 1، وقد كان المنافقون يتظاهرون بالإسلام ويختلطون بالمسلمين ويقفون على أسرارهم وأحوالهم فكانوا كلما عزموا أمراً نقضه الله تعالى، أو بيتوا كيداً أظهره الله، فأظهر فضائحهم وجعل مكنون أسرارهم معلوماً لرسوله ولمن آمن معه واقرأ إن شئت {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة:8-9) ، وقوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (المنافقون: 1) ، وغير ذلك من الآيات التي كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقةً تنبيهاً له وتحذيراً له وللمؤمنين. سابعاً: التحدي والإعجاز وهو ظاهر وواضح في كل مرحلة من مراحل نزوله مفرقاً فقد تحداهم الله تعالى أن يأتوا بالقرآن فلم يستطيعوا، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله فلم يستطيعوا، وتحداهم أن يأتوا بحديث مثله فلم يستطيعوا، وأتاح لجميع المشركين والمعارضين الدخول في معركة التحدي فلم يفلحوا. {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (الطور:33، 34) ، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (هود:13) ، {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:23) .

_ 1 وانظر علوم القرآن 76.

بل إن المشركين تمادَوا في غيهم وأسئلتهم للرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم أسئلة تعجيز وتحد ومبالغة مثل متى الساعة {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} فينزل الجواب من الله تعالى {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} (الأعراف:187) ومثل ما المراد بالروح {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} ، فيقول القرآن: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (الإسراء:85) رد الله عليهم بقوله: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} (الفرقان:33) ، وحيث عجبوا من نزول القرآن منجماً بين الله لهم الحق في ذلك، فإن تحديهم به مفرقاً مع عجزهم عن الإتيان بمثله أدخل في الإعجاز، وأبلغ في الحجة من أن ينزل جملة ويقال لهم: جيئوا بمثله، ولهذا جاءت الآية عقب اعتراضهم {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (الفرقان:32) أي لا يأتونك بصفة عجيبة يطلبونها كنزول القرآن جملة إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا وبما هو أبين معنى في إعجازهم وذلك بنزوله مفرقاً1. ثامناً: التدرج في التشريع ويدخل تحت هذا أمور منها: التدرج في انتزاع العادات الضارة، وذلك بالتخلى عنها شيئاً فشيئاً والتدرج في نقل الناس من حياة الفوضى والتفلت إلى حياة النظام والتقييد بالمعايير

_ 1 انظر مباحث في علوم القرآن 94.

الإسلامية الصحيحة، فقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وهم يعبدون الأصنام، ويشركون بالله ومع الله، ويسفكون الدماء ويشربون الخمر ويزنون، ويقتلون الأولاد خشية الفقر، ويتعاملون بالربا الفاحش، ويلعبون الميسر، ويستقسمون بالأزلام، وينكحون نساء الآباء ويجمعون بين الأختين ويكرهون الفتيات على البغاء، وذكر العلماء في كتب التاريخ أن الحروب كانت تقع بين القبائل العربية لأوهى الأسباب ومجرد حب الانتقام، حتى أدى هذا إلى قطع حبال المودة بينهم وجعلهم شيعاً متباغضة يتربص كل فريق منهم بغيره الدوائر، واعتادوا على كثير من هذه الأخلاق المنحطة وتغلغلت فيهم حتى صارت جزءاً لا يتجزأ منهم ومن المعلوم أنه يصعب على المرء والمجتمع ترك هذه الأمور مرة واحدة لأن للعقائد حتى ولو كانت باطلة وللعادات ولو كانت مستهجنة سلطاناً على النفوس، والناس أَسْرى ما أَلفوا ونشأوا عليه، فلو أن القرآن نزل جملة واحدة وطالبهم بالتخلى عما هم منغمسون فيه من كفر وجهل وشرك مرة واحدة لما استجاب إليه أحد ولكن القرآن نجح معهم في هدم العادات الباطلة وانتزاعها بالتدريج بسبب نزول القرآن عليهم شيئاً فشيئاً 1. وأبلغ دليل على ذلك هو انتزاع الخمر من ذلك المجتمع الذي كان يشربه كالماء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حرمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويلعبون الميسر، فسألوا رسول الله عنهما فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم

_ 1 انظر مناهل العرفان 1/56، المدخل لدراسة القرآن الكريم 72.

{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (البقرة:219) ، فقال الناس: ما حرم علينا إنما قال فيهما إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أمَّ أصحابه في المغرب خَلَط في قراءته فأنزل الله فيها آية أغلظ منها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء:43) ، وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق، ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:90) فقالوا: انتهينا يا رب، فقال الناس: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويلعبون الميسر وقد جعله الله رجساً ومن عمل الشيطان فأنزل الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (المائدة:93) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم 1. ومن هذا الحديث نستنبط أن الخمر حرمت على مراحل فتاب الناس والصحابة منها حتى جرت في سكك المدينة، ولو حرمت دفعة واحدة

_ 1 أخرجه الإمام احمد في المسند، انظر الفتح الرباني، كتاب التفسير، باب قول الله عز وجل يسألونك عن الخمر والميسر 18/85، 86 وإسناده ضعيف، وله شواهد تقويه منها حديث عمر بن الخطاب اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآيات الثلاثة بالتدريج، حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد في المسند 18/86، وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر 3/325، وأخرجه الترمذي في سننه كتاب التفسير، باب ومن سورة المائدة 5/253، 254، 255 وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه 2/278.

لاستمروا عليها، ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها (إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل1 فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء (لا تشربوا الخمر) لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا قالوا: لا ندع الزنى أبداً) 2. والتدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علماً وعملاً، فبدأت الآيات تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم سالكة التدرج في تربية الأمة، فأول ما نزلت الآيات المتعلقة بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره والتوحيد وما يتعلق بذلك من أمور العقيدة، بدأت الآيات أولاً بفطامهم عن الشرك والإباحية وإحياء قلوبهم بعقائد التوحيد والجزاء، فإذا اطمأنت قلوبهم بالإيمان وأشربوا حبه انتقل بهم بعد ذلك إلى العبادات فبدأهم بالصلاة ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج ثم الأمور الأخرى، ولذلك كان مدار الآيات في القسم المكي على إثبات العقائد والفضائل التي لا تختلف باختلاف الشرائع، بخلاف القسم المدني فكان مدار التشريعات فيه على الأحكام العملية وتفصيل ما أجمل قبل ذلك 3.

_ 1 سور القرآن على أربع أقسام وأنواع فمنها السبع الطوال أولها البقرة، ومنها المئون، والمثاني، والمفصل: ما وَلِيَ المثاني من قصار السور، وسمي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة، انظر الإتقان 1/179، 180 2 أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن ص1087 4993 3 المدخل لدراسة القرآن 74.

لذا أنزل القرآن مفرقاً فحصلت النتيجة المطلوبة وهي التغير في العادات من حسن إلى أحسن ومن شر إلى خير ومن تفرق في الكلمة إلى اتحاد واعتصام بحبل الله المتين فكانت خير الأمم. تاسعاً: بيان بلاغة القرآن الكريم فقد نزل مفرقاً في ثلاثة وعشرين عاماً، وكلما نزلت آية أو آيات قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (ضعوا هذه الآيات في موضع كذا من سورة كذا) 1 ومع ذلك فهو مترابط في الألفاظ والمعاني، حسن التنسيق، محكم النسج، دقيق السبك، متناسق الآيات والسور، متين الأسلوب، قوي الاتصال، لا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك كأنه عِقْدٌ فريد نظمت حباته بما لم يعهد له مثيل في كلام البشر {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود:1) . وكل ذلك فيه دلالة على أن القرآن مُنَزَّلٌ من الله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وأنه كلام الله تعالى ولا يمكن أن يكون كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا كلام مخلوق سواه، وصدق الله إذ يقول: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الفرقان:6) . عاشراً: مسايرة الحوادث والطوارئ في تجددها وتفرقها فكانت تحدث حوادث لم يكن لها حكم معروف في الشريعة الإسلامية فيحتاج المسلمون إلى معرفة ذلك فتنزل الآية من الله تبارك وتعالى لحكم تلك الحوادث، ومن ذلك حادثة خولة بنت ثعلبة2 حين ما جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 سيأتي تخريجه ص47 في المبحث الثاني العناية بالقرآن كتابة. 2 خولة بنت ثعلبة الأنصارية الخزرجية، صحابية، وهي التي ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت، فنزلت فيها سورة قد سمع، الإصابة 4/289، أسد الغابة 5/442.

تشتكي زوجها، وتصف لنا ذلك عائشة رضي الله عنها ذلك فتقول تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلَ شَبَابِي وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي حَتَّى إِذَا كَبِرَتْ سِنِّي وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرَائِيلُ بِهَؤُلَاءِ الْآيَاتِ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} (المجادلة:1) 1، وكذلك حادثة الإفك فعندما حصل ما حصل من المنافقين والمشركين واتهموا السيدة عائشة رضي الله عنها أنزل الله تعالى براءتها من فوق سبع سماوات وأدان الذين رموها بدون شهود ولا بينة فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ، لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين} إلى قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2. والقرآن مليء بتلك القصص والمواقف المشابهة، ومما هو طبيعي ومعروف أن هذه الحوادث لم تكن لتقع في وقت واحد فنزل القرآن في هذه الحوادث مفرقاً لذلك.

_ 1 انظر ابن ماجة، كتاب الطلاق، باب الظهار 1/166 2063، والنسائي في كتاب الطلاق، باب الظهار 6/186 3460، والحديث صحيح. 2 الآيات من سورة النور 11-20، وانظر الحديث في البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضاً ص530 2661، وانظر مسلم في كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف 2770.

الحادي عشر: تنبيه المسلمين من وقت لآخر لأخطائهم التي وقعوا فيها وكيفية تصحيحها، وتحذيرهم من عواقب المخالفة وبيان الامتنان عليهم بالنصر مع القلة، ولنقرأ ما قصه الله تعالى في سورة آل عمران بشأن غزوة بدر وأحد من الامتنان والتنبيه والتحذير، ففي غزوة أحد خالف الرُّماة نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم متأولين فكانت النتيجة أن أوتي المسلمون من جهتهم وأن شاعت الهزيمة بينهم وشُجَّ وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رُباعيته فأنزل الله تعالى الآيات محذراً المخالفين {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 152) 1. وكذلك في غزوة حنين والأحزاب وغير ذلك كثير، ففي يوم حنين أعجب المسلمون بكثرتهم فكانت الهزيمة فقال تعالى لهم: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (التوبة:25-26) وتعلم المسلمون من ذلك أن النصر ليس بالعدد والعُدَّة فحسب، وإنما هو من عند الله {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (آل عمران:126) 2.

_ 1 وانظر القصة في البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أحد ص832 4043 2 وانظر منهج الفرقان 26، 27.

الثاني عشر: توثيق وقائع السيرة النبوية المباركة والتاريخ وذلك عن طريق معرفة الحادثة ووقتها وأين كانت ومتى، فنستطيع أن نرتب السيرة النبوية من خلال الحوادث وضمها إلى قصص الأنبياء وسير المرسلين وحياة الأمم السابقين 1. الثالث عشر: أن في القرآن الكريم ناسخاً ومنسوخاً ولا يمكن أن يكون ذلك إذا نزل القرآن جملةً على المصطفى عليه الصلاة والسلام إذ لا يُتصور النسخ إلا مع التفريق ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا على تباعد الزمن فإن حكمة التربية الانتقالية قد تقتضي تشريعاً تجيء به آية إلى أجل مسمى ثم تجيء آية أخرى بتشريع آخر، ولا يكون هذا إلا مع تنجيم النزول 2.

_ 1 الواضح في أصول القرآن 52. 2 القرآن الكريم إبراهيم أبو الخشب 44.

المبحث الثالث: نزول القرآن على سبعة أحرف

المبحث الثالث: نزول القرآن على سبعة أحرف أولاً: طرف من الروايات الواردة في نزول القرآن على سبعة أحرف ... المبحث الثالث: نزول القرآن على سبعة أحرف ويشتمل على أولاً: طرف من الروايات الواردة في نزول القرآن على سبعة أحرف:- 1) عن ابن عباس قال" قَال النبي صلى الله عليه وسلم "أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ1، قال ابن شهاب2 وهو راوي الحديث بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحداً لا يختلف في حلال ولا حرام ". وعن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَقُولُ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ3يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف ص1087، 4991، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، انظر مسلم بشرح النووي 6/101. 2 محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أبو بكر أول من دون الحديث، وأحد أكابرة الحفاظ والفقهاء، تابعي من أهل المدينة توفي سنة 124هـ، الأعلام 7/97، تهذيب التهذيب 9/445، تذكرة الحفاظ 1/102. 3 هشام بن حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي، صحابي بن صحابي، أسلم يوم فتح مكة، الأعلام 8/85.

1) مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسِلْهُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ " 1. وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِراءةً سِوَى قراءة صَاحِبِهِ فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِراءةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأ سِوَى قراءة صَاحِبِهِ فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَآ فَحَسَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَأْنَهُمَا فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَدْ غَشِيَنِي ضَرَبَ فِي صَدْرِي فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرَقًا "فَقَالَ لِي يَا أُبَيُّ أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف 1087، 4992، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، انظر مسلم بشرح النووي 6/99.

1) الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِي وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" 1. 2) وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ قَالَ" فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَقَالَ أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ فَقَالَ أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ ثُمَّ جَاءهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَقَالَ أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ ثُمَّ جاءه الرَّابِعَةَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا" 2. وعن أبي بن كعب قَالَ" لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلامُ

_ 1أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، انظر مسلم بشرح النووي 6/103. 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، انظر مسلم بشرح النووي 6/103.

1) وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" 1. 2) وعن النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ2 قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ "، قَالَ شُعْبَةُ (3) أَظُنُّهُ قَالَ لَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا 4.

_ 1 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب القراءات، باب ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف 5/193، وقال عقبه هذا حديث حسن صحيح، وقد ذكر الترمذي هذا الحديث بعد أن ذكر قصة عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم، والحديث حسن. 2 النزال بن سَبْرَة الهلالي الكوفي، من الثقات قيل إن له صحبة، تقريب التهذيب 560. 3 شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي، مولاهم أبو بسطام، من أئمة رجال الحديث حفظاً ورواية وتثبتاً، وهو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين، الأعلام 3/164. 4 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودي ص476، 2410، وانظر 3476، 5062.

ثانيا: حكم نزول القرآن على سبعة أحرف

ثانياً: حِكَم نزول القرآن على سبعة أحرف، وأذكر أهمها فيما يلي:- 1) التخفيف على الأمة الإسلامية وإرادة اليسر بها والتهوين عليها شرفاً لها وتوسعةً ورحمةً وخصوصيةً لفضلها، خصوصاً الأمة الإسلامية التي شوفهت بالقرآن فإنها كانت قبائل كثيرة، وكان بينهما اختلاف في اللهجات ونبرات الصوت.

الإجابة لقصد نبيها أفضل الخلق وحبيب الحق حيث أتاه جبريل فقال له (إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال صلى الله عليه وسلم: " أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك"، ولم يزل يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف 1 وكما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه) 2، وكما قال عليه السلام لجِبْرِيلُ " إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ 3،" وذلك أن الأنبياء السابقين عليهم السلام كانوا يبعثون إلى قومهم الخاصين بهم، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى جميع الخلق أحمرها وأسودها عربيها وعجميها، وكانت العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لغاتهم مختلفة وألسنتهم شتى ويعسر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها أو من حرف إلى آخر، فلو كلفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يستطاع4 لظروف الأمية واللغات واللهجات، وهذه التوسعة كانت في الألفاظ دون المعاني وفي حدود ما نزل به جبريل وما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بدليل أن كلا من المختلفين كان يقول

_ 1 انظر ص 25. 2 انظر ص 24. 3 أخرجه الترمذي في كتاب القراءات، باب ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف 5/195 2944، وقال عقبه هذا حديث حسن صحيح. 4 النشر في القراءات العشر 1/22.

1) أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعقب على قراءة كل من المختلفين بقوله (هكذا أنزلت) ، ولا يتوهمن متوهم أن ذلك كان باتباع الهوى والتشهي فذلك ما لا يقوله عاقل لأن القراءة سنة متبعة 1. 2) جمع الأمة الإسلامية الجديدة على لسان واحد يوحد بينها وهو لسان قريش الذي نزل به القرآن الكريم، والذي انتظم كثيراً من مختارات ألسنة القبائل العربية التي كانت تختلف إلى مكة في موسم الحج وأسواق العرب المشهورة فكان القرشيون يستملحون ما شاءوا، ويصطفون ما راق لهم من ألفاظ الوفود العربية القادمة إليهم من كل صوب وحدب ثم يصقلونه ويهذبونه ويدخلونه في دائرة لغتهم المرنة التي أذعن العرب لها بالزعامة، وعقدوا لها راية الإمامة 2. 3) تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين لأن حفظ كلمة ذات وجوه في الأداء أيسر من حفظ جمل من الكلام تؤدي معاني تلك القراءات. 4) إعجاز القرآن الكريم للفطرة اللغوية عند العرب وفي المعاني والأحكام3. فيه آية بالغة وبرهان قاطع على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وعظمة الآية القرآنية إذ أنه برغم تنوع الأداء لم يتطرق إليه تناقض ولا

_ 1 انظر منهج الفرقان لمحمد على سلامة 58، 59، والمدخل لدراسة القرآن الكريم171، 172، مناهل العرفان 151، 252. 2 انظر مناهل العرفان 1/146، 147. 3 انظر مباحث في علوم القرآن مناع القطان 145، 146.

1) تخالف، بل يصدق بعضه بعضاً ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد وأسلوب واحد. 2) في تعدد الحروف دلالة على عظمة هذه الأمة وشرفها التي تلقت القرآن بحروفه المختلفة ووعته هذا الوعي، وقامت بما ينبغي له من ضبط وإحكام ودقة في الأداء مما يجعل أعلام هذه الأمة محلاً لفضل الله ومثوبته وتكريمه1.

_ 1 في علوم القراءات، السيد رزق الطويل ص 146،147.

ثالثا:- الأحرف السبعة

ثالثاً:- الأحرف السبعة ويشتمل على:- 1) معنى الحرف. 2) المراد بالأحرف السبعة. 1) معنى الحرف:- الحرفُ من كل شيء طرفه، وشفيره، وحَدُّه، ومن الجبل أعلاه المحدد، وواحد حروف التهجي، والناقة الضامرة أو المهزولة أو العظيمة، ومسيل الماء، وآرام سود ببلاد سليم وعند النحاة ما جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل2، والحرف الأداة التي تسمي الرابطة لأنها تربط الاسم بالاسم والفعل بالفعل كعن وعلي ونحوهما.

_ 1 في علوم القراءات، السيد رزق الطويل ص 146،147. 2 القاموس المحيط 3/130، 131.

قال الأزهري1: كل كلمة بُنيت أداةً عارية في الكلام لتفرقة المعاني واسمها حرف وإن كان بناؤها بحرفين أو فوق ذلك مثل حتى وهل وبل ولعل، وكل كلمة تقرأ على الوجوه من القرآن تسمى حرفاً، تقول: هذا في حرف ابن مسعود أي في قراءة ابن مسعود. وقال ابن سيده 2: والحرف القراءة التي تقرأ على أوجه وما جاء في الحديث من قوله عليه السلام نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف أراد بالحرف اللغة. قال أبو عبيد3 وأبو العباس4: نزل على سبع لغات من لغات العرب قال: وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه هذا لم يسمع به، قال ولكن يقول هذه اللغات متفرقة في القرآن فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة أهل اليمن وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة هذيل، وكذلك سائر اللغات ومعانيها في هذا كله واحد 5.

_ 1 تهذيب اللغة 5/12، وهو محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي، أبو منصور، أحد الأئمة في اللغة والأدب، عني بالفقه فاشتهر به أولاً، ثم غلب عليه التبحر في العربية، له تصانيف منها، تهذيب اللغة وغريب الألفاظ التي استعملها الفقهاء، توفي سنة 370هـ، الأعلام 5/311، الوفيات 1/501. 2 علي بن إسماعيل المعروف بابن سيدة أبو الحسن، إمام في اللغة وآدابها، كان ضريراً، صنف المخصص وغيره، توفي سنة 458هـ، الأعلام 4/263. 3 أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي الأزدي الخزاعي بالولاء الخراساني البغدادي، أبو عبيد، من كبار العلماء بالحديث والأدب والفقه، له كتب ومصنفات كثيرة منها، الغريب المصنف في غريب الحديث، الأعلام 5/176، تهذيب التهذيب 7/315. 4 أبو العباس أحمد بن علي بن يوسف، أبو العباس البوني، صاحب المصنفات في علم الحروف، له كتب منها شمس المعارف الكبرى في علم الحروف والخواص، توفي سنة 622هـ، الأعلام 1/174. 5 لسان العرب 9/41، القاموس المحيط 3/130، 131.

قال الحافظ أبو عمرو الداني 1: معنى الأحرف التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم هاهنا يتوجه إلى وجهين أحدهما: أن يعني أن القرآن أنزل على سبعة أوجه من اللغات لأن الأحرف جمع حرف في القليل كفلس وأفلس، والحرف قد يراد به الوجه بدليل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} (الحج:11) ، فالمراد بالحرف هنا الوجه أي على النعمة والخير وإجابة السؤال والعافية فإذا استقامت له هذه الأحوال اطمأن وعَبَدَ الله وإذا تغيرت عليه وامتحنه بالشدة والضر ترك العبادة وكفر فهذا عَبَد الله على وجه واحد فلهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأوجه المختلفة من القراءات والمتغايرة من اللغات أحرفاً على معنى أن كل شيء منها وجه. والوجه الثاني من معناها أن يكون سمى القراءات أحرفاً على طريق السعة كعادة العرب في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه وما قاربه وجاوره وكان كسبب منه وتعلق به ضرباً من التعلق كتسميتهم الجملة باسم البعض منها، فلذلك سمى صلى الله عليه وسلم القراءة حرفاً وإن كان كلاماً كثيراً من أجل أن منها حرفاً قد غُير نظمه أو كُسر أو قُلب إلى غيره أو أُميل أو زِيد أو نُقص منه على ما جاء في المختلف فيه من القراءة فسمى القراءة إذ كان ذلك الحرف فيها حرفاً على عادة العرب في ذلك واعتماداً على استعمالها.

_ 1 عثمان بن سعيد بن عثمان أبو عمرو الداني، ويقال له ابن الصيرفي، من موالي بني أمية، أحد حفاظ الحديث، ومن الأئمة في علم القرآن ورواياته وتفسيره منها التيسير في القراءات السبع، الأعلام 4/206.

قال الإمام ابن الجزري1: وكلا الوجهين محتمل إلا أن الأول محتمل احتمالاً قوياً في قوله صلى الله عليه وسلم (سبعة أحرف) أي سبعة أوجه وأنحاء، والثاني محتمل احتمالاً قوياً في قول عمر رضي الله عنه في الحديث سمعت هشاماً يقرأ سورة الفرقان على حروف كثيرة وكذا قوله في الرواية الأخرى سمعته يقرأ فيها أحرفاً لم يكن نبي الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها فالأول غير الثاني كما سيأتي بيانه 2. 2) المراد بالأحرف السبعة:- اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في تفسير هذه الأحرف اختلافاً كبيراً حتى قال ابن حبان3: اختلف أهل العلم في معنى الأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولاً وأوصلها السيوطي في الإتقان إلى أربعين قولاً وأكثر هذه الآراء متداخل وهي من المباحث الشائكة التي زلت فيها أقدام بعض العلماء، واستعصى الفهم فيه على بعض العلماء ولاذ البعض بالفرار منه، وكثر فيه القيل والقال، والحديث عنه ضروري لصلته الكبرى بنزول القرآن فاختصرته وذكرت القول الراجح عند جمهور العلماء وأتبعته بأقوال العلماء في هذا الباب4:-

_ 1 محمد بن محمد بن علي ين يوسف أبو الخير شمس الدين العمري الدمشقي ثم الشيرازي الشافعي الشهير بابن الجزري، شيخ الإقراء في زمانه، من حفاظ الحديث، له مؤلفات كثيرة منها النشر في القراءات العشر، وغاية النهاية في طبقات القراء وغير ذلك توفي سنة 833هـ، الأعلام 7/45، 2 انظر النشر في القراءات العشر 1/23، 24. 3 هو أبو حاتم محمد بن حبان البستي، صاحب الصحيح، توفي 354 هـ، انظر شذرات الذهب 3/16. 4 للتوسع في هذا المبحث يرجع إلى الكتب الآتية البرهان في علوم القرآن 1/211، 213، جامع البيان في تفسير القرآن، المقدمة، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/41، 49، التذكار في أفضل الأذكار ص30، فضائل القرآن لابن كثير 67-72 النشر في القراءات العشر لابن الجزري 1/21، 51 الإتقان 1/131-142، مناهل العرفان 1/137، 192، منهج الفرقان في علوم القرآن 53، 79،

أنها وجوه التغاير السبعة التي يقع فيها الاختلاف وهو الذي قال به الامام أبو الفضل الرازي1 في اللوائح، كما يقرب منه مذهب الامام ابن الجزري وبه قال ابن قتيبة والقاضي أبو الطيب، وأيده من المتأخرين الشيخ محمد بخيت المطيعي 2والشيخ محمد عبد العظيم الزُّرْقَاني 3، وهذه الوجوه هي:- الأول: اختلاف الأسماء بالإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث نحو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (المعارج:32) فقُرئ هكذا لأماناتهم جمعاً، وقُرئ لأمانتهم بالإفراد. الثاني:اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر نحو قوله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} (الأعراف:138) بكسر الكاف وضمها في الفعل، فقد وافقت كلتا القراءتين رسم المصحف العثماني أيضاً لأن هيكل الفعل واحد في الخط لا يتغير في كلتا القراءتين ومثل قوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} (سبأ:19) ، قُرئ {رَبَّنا بَاعِد} بنصب لفظ ربنا على أنه منادى مضاف وبَاعِد بصيغة الأمر، وقُرئ {ربُّنا باعَدَ} برفع ربُّنا وفتح باعَد على أنه فعل ماض، وقرئ {ربَّنا بَعِّد} بنصب باء ربنا وبحذف الألف بعد باء باعد مع تشديد العين مكسورة وإسكان الدال فعل أمر وكلها صحيحة.

_ 1 هو أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن بن بُنْدار العجلي الرازي المقرئ، ثقة ورع متدين عارف بالقراءات، عالم بالأدب والنحو، له كتب منها فضائل القرآن وتلاوته، التقييد 2/84، السير 18/137. 2 محمد بخيت المطيعي الحنفي، مفتي الديار المصرية، ومن كبار فقهلئها، له مصنفات منها، الكلمات الحسان في الأحرف السبعة وجمع القرآن، توفي 1354هـ، اللأعلام 6/50، مرآة العصر 2/467. 3 محمد بن عبد العظيم الزُّرقاني، من علماء الأزهر بمصر، من كتبه مناهل العرفان في علوم القرآن، توفي في القاهرة 1367هـ، الأعلام 6/210.

الثالث: اختلاف وجوه الإعراب كقراءة {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} (البقرة:282) بفتح الراء وضمها فإن الرسم يحتملها كالوجه السابق، ومثل قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (البقرة:37) قُرئ برفع آدم ونصب كلمات، كما قرئ بنصب آدم ورفع كلمات وكلاهما قراءة صحيحة، ومثل قوله سبحانه {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} (البروج:15) فقد قرئ برفع لفظ المجيد وجَرِّه، فالرفع على أنه نعت لكلمة ذو، والجر على أنه نعت لكلمة العرش فلا فرق في هذا الوجه بين أن يكون اختلاف وجوه الإعراب في اسم أو فعل. الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة كقوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} (التوبة:100) فقرأ الجمهور بحذف لفظ من الجارَّة، وقرأ ابن كثير1 بزيادة لفظ من، وكقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (آل عمران: 133) قرأ الجمهور بالواو، وقرأ نافع2 وابن عامر3 وأبو جعفر4 من غير واو، والقراءتان صحيحتان، وكقوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (الليل: 3) قُرِئ بهذا اللفظ، وقُرِئ أيضاً {وَالذِّكْرِ وَالْأُنْثَى} بنقص كلمة {ما خلق} .

_ 1 عبد الله بن كثير الداري المكي، أبو معيد أحد القراء السبعة، توفي 120هـ، معرفة القراء الكبار 1/72، الأعلام 4/115 2 نافع المدني أبو عبد الله، من أئمة التابعين بالمدينة، كان كثير الرواية للحديث، ثقة، أصابه عبد الله بن عمر صغيراً في بعض مغازيه، توفي سنة 117هـ، الأعلام 8/5. 3 عبد الله بن عامر اليحصبي أبو عمران، تابعي وهو قاضي دمشق في أيام الوليد بن عبد الملك أحد القراء السبعة، إمام ثقة متقن عالم في حفظه، توفي سنة 118هـ، الأعلام 4/95، النشر 1/144. 4 يزيد بن القعقاع المخزومي المدني القارئ، من التابعين، أحد القراء العشرة، صالح متعبد توفي سنة 130هـ، الأعلام 8/186، النشر 1/178.

الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير، إما في الحرف كقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} قُرئ ييأس، وقُرئ يايس بتقديم الهمزة على الياء مع إبدالها ألفاً،وإما في الكلمة في قوله تعالى: {فيَقْتلون ويُقْتلون} (التوبة:111) قرئ الفعل بالبناء للفاعل في الأول، وللمفعول في الثاني وقرئ بالعكس. السادس:الاختلاف بالإبدال سواء أكان إبدال حرف بحرف، أو كلمة بكلمة مثل قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} (البقرة:259) قرئ بالزاي المعجمة مع ضم النون الأولى، وقرئ بالراء المهملة مع ضم النون الأولى، والقراءتان صحيحتان، وفي قراءة شاذة بالراء المهملة مع فتح النون الأولى وضم الشين {نَنْشُرُها} ، وكذلك قوله تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} (الواقعة:29) بالحاء قُرِئ وطلع بالعين، ومثل قوله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات:6) ، وقرئ فتثبتوا، وهما قراءتان صحيحتان. السابع: اختلاف اللهجات بالتفخيم والترقيق، والفتح والإمالة، والإظهار والإدغام والهمز والتسهيل، والإشمام ونحو ذلك مثل قوله تعالى: {َهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} (طه: 9) تقرأ بالفتح والإمالة في أتى، ولفظ موسى، ومثل قوله: {بَلَى قَادِرِينَ} (القيامة:4) تقرأ بالفتح والإمالة في بلى. وهذا القول الذي صار إليه الرازي هو الذي أميل إليه للأسباب الآتية:- 1) أن هذا هو الذي تؤيده الأحاديث السابقة التي ذكرناها. 2) أنه لا يوجد محذور من المحذورات على هذا الرأي.

3) أن هذا المذهب يعتمد على الاستقراء التام لاختلاف القراءات وما ترجع إليه من الوجوه السبعة بخلاف غيره فإن استقراءه ناقص أو في حكم الناقص1. وهناك قول آخر صار إليه بعض العلماء وقالوا 2: أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد يعني سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة نحو: أقبل، وتعال، وهلم، وعجل، وأسرع فهي ألفاظ مختلفة لمعنى واحد، فإن هذه ألفاظ سبعة مختلفة يعبر بها عن معنى واحد وهو طلب الإقبال وإلى هذا القول ذهب سفيان بن عيينة3وابن جريرالطبري 4 والطحاوي5 وغيرهم، وليس معنى هذا أن كل كلمة كانت تقرأ بسبعة ألفاظ من سبع لغات بل المراد: غاية ما ينتهي إليه الاختلاف في تأدية المعنى هو سبع، قال الإمام الطحاوي: وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ على حرف، فقال ميكائيل: استزده فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ إلى سبعة أحرف، فقال: اقرأ فكل شاف كاف

_ 1 انظر مناهل العرفان للزرقاني 1/157، والقراءات للدكتور شعبان محمد إسماعيل 45. 2 انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/42، الإتقان للسيوطي 1/134، جامع البيان للطبري، المقدمة 17، منهج الفرقان محمد علي سلامة 61، مباحث في علوم القرآن لمناع القطان 136. 3 سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي الكوفي أبو محمد، محدث الحرم المكي من الموالي، كان حافظاً ثقة واسع العلم، توفي سنة 198هـ، الأعلام 3/105. 4 محمد بن جرير الطبري أبو جعفر المؤرخ المفسر الإمام، له تصانيف منها جامع البيان في تفسير القرآن، توفي سنة 310هـ، الأعلام 6/69. 5 أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي الطحاوي، أبو جعفر، فقيه انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، له تصانيف منها شرح معاني الآثار ومشكل الآثار، توفي سنة 321هـ، الأعلام 1/206.

إلا أن تخلط آية رحمة بعذاب، أو آية عذاب بآية رحمة على نحو هلم وتعال وأقبل واذهب وأسرع وعجل. قال الإمام ابن عبد البر1: إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها إنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون في شيء منها معنى وضده، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافاً ينفيه ويضاده كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده. وهذا القول الأول لا يسلم من بعض الاعتراضات ومن أهمها: 1) أن ما ذكروه ليس من قبيل حصر الأحرف السبعة حتى يصح الاستدلال بذلك. 2) أن أصحاب هذا المذهب قد وضعوا أنفسهم في مأزق ضيق لأن ترويجهم لمذهبهم اضطرهم إلى أن يتورطوا في أمور خطرها عظيم إذ قالوا إن الباقي من الأحرف السبعة هو حرف واحد، وأن عثمان بن عفان جمع الناس على حرف واحد وهو كلام لا يستقيم ولا يتفق مع الأدلة التي ذكرناها والتي ترجح الرأي الأول. وهناك أقوال أخرى مرجوحة أذكر لكم في هذا المقام ثلاثة منها: القول الأول: إنه من المشكل الذي لا يُدْرَى معناه لأن الحرف يصدق لغة على حرف الهجاء وعلى الكلمة وعلى المعنى وعلى الجهة، فيكون مشتركاً لفظياً لا يعرف ولا يُدرى أي معانيه هو المقصود وهذا القول نسب إلى أبي جعفر محمد بن

_ 1 يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي، أبو عمر، من كبار حفاظ الحديث له كتب كثيرة منه الاستيعاب في معرفة الأصحاب وغير ذلك، الأعلام 8/240.

سعدان النحوي1، ونحا نحوه الحافظ السيوطي في شرحه على سنن النسائي، وهذا القول غير صحيح وهو بمعزل عن التحقيق فإن مجرد كون اللفظ مشتركاً لفظياً لا يلزمه الإشكال لأن ذلك يلزم لو لم تقم قرينة تعين بعض المعاني، وهنا قامت قرينة تعين بعض المعاني، بل قامت قرائن تمنع ما عدا ذلك البعض من المعاني الأخرى. القول الثاني: إن لفظ السبعة في الحديث لا يراد به حقيقة العدد، إنما المراد منه التيسير والتسهيل والسعة، ولفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلقون السبعة في العشرات والسبعمائة في المئين، ولا يراد العدد المعين، وإلى هذا جنح القاضي عياض2 ومن تبعه، ويرده ما في حديث ابن عباس في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) 3وغيرها من الأحاديث الواضحة التي تدل على إرادة حقيقة العدد وانحصاره. القول الثالث: أن المراد بالأحرف السبعة سبع قراءات، وهذا ليس بصحيح لأنكم إذا أردتم أن كل كلمة تقرا بقراءات سبع فهذا نادر وقليل، وإن أردتم أن بعض الكلمات تقرأ بوجه وبعضها بوجهين وبعضها بثلاث وهكذا إلى سبع فذلك

_ 1 أبو جعفر محمد بن سعدان النحوي الكوفي مقرئ ضرير، له كتب في النحو والقراءات منها الجامع والمجرد وغيرهما، الأعلام 6/137. 2 القاضي عياض بن موسى بن عياض اليحصبي البستي، أبو الفضل عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته، كان من أعلم الناس بالعرب وأنسابهم وأيامهم، له تصانيف كثيرة، توفي سنة 544، الأعلام 5/99. 3 انظر ص 25.

مردود أيضاً لأن هنالك كلمات تقرأ على أكثر من سبعة أوجه، وأخطأ كل الخطأ من زعم أن الأحرف السبعة هي القراءات السبع المشهورة وهو غاية الجهل، قال أبو شامة: ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل 1.

_ 1 انظر هذه الأقوال بتوسع في جامع البيان للطبري، المقدمة، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/41 وما بعده، والنشر في القراءات العشر 1/24، 31،36 ومناهل العرفان في علوم القرآن 1/155، 192، والمدخل إلى القرآن الكريم 174، 205.

الفصل الثاني: عن العناية بالقرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

الفصل الثاني: عن العناية بالقرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم المبحث الأول: العناية بالقرآن الكريم حفظاً:- ... المبحث الأول: العناية بالقرآن الكريم حفظاً:- فقد تلقى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن من أمين الوحي جبريل عليه السلام، وكانت أول آية نزلت عليه قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (اقرأ:1) ثم تتابع نزول القرآن، وكانت همة النبي عليه الصلاة والسلام هو حفظ القرآن الكريم واستظهاره، وقد بلغ من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على استظهار القرآن وحفظه أنه كان يحرك لسانه في أشد حالات حرجه وشدته ويقصد بذلك استعجال حفظه خشية أن تفلت منه كلمة أو يعزب عنه حرف حتى طمأنه ربه فقال له {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16-19) ، وفي هذا تعليم من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملَك فإنه كان يبادر إلى أخذه ويسابق الملَك في قراءته فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملَك بالوحي أن يستمع له وتكفل الله أن يجمعه في صدره وأن ييسره لأدائه على الوجه الأكمل الذي ألقاه إليه وأن يبينه له ويفسره ويوضحه، فالحالة الأولى جمعه في صدره والثانية تلاوته والثالثة تفسيره وإيضاح معناه1. "وكان المصطفى عليه الصلاة والسلام يعرض القرآن في كل عام مرة واحدة مع جبريل عليه السلام وعارضه مرتين في العام الذي توفي فيه صلى الله عليه

_ 1 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/449.

فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ" 1. وكان القرآن الكريم شغل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته وتهجده وفي سره وعلانيته، وفي حضره وسفره، وفي وحدته وبين صحابته، وفي عُسره ويسره ومنشطه ومكرهه ولا يغيب عن قلبه، ولا يألوا جهداً في تعهده وتكراره والإئتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والاعتبار بمواعظه وقصصه، والتأثر بأمثاله وحكمه، والتأدب بآدابه، وأخلاقه، وتبليغه إلى الناس كافة، كما كان المصطفى عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بأسباب نزوله ومكان تنزلاته، وكان المرجع الأول للمسلمين في حفظ القرآن وفهمه، والوقوف على معانيه وأسراره والتثبت من نصوصه وحروفه وقراءته 2. وكان الصحابة رضوان الله عليهم يلازمون النبي صلى الله عليه وسلم فيحفظون القرآن عن ظهر قلب وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرغبهم في ذلك بالمنازل الكبيرة والمناصب الرفيعة فيقول لهم (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) 3، "ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على قوم يقدم أكثرهم قراءة للقرآن فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ

_ 1 انظر البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كان جبريل بعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ص1088 4997 2 المدخل إلى القرآن الكريم 396. 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة 290.

وَسَلَّمَ بَعْثًا وَهُمْ ذُو عَدَدٍ فَاسْتَقْرَأَهُمْ فَاسْتَقْرَأَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَتَى عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقَالَ: " مَا مَعَكَ يَا فُلَانُ قَالَ مَعِي كَذَا وَكَذَا وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ قَالَ: أَمَعَكَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ? فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ: " فَاذْهَبْ فَأَنْتَ أَمِيرُهُمْ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مَنَعَنِي أَنْ أَتَعَلَّمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ إلا خَشْيَةَ ألا أَقُومَ بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَاقْرَءُوهُ فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَهُ فَقَرَأَهُ وَقَامَ بِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا يَفُوحُ رِيحُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَيَرْقُدُ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ وُكِئَ عَلَى مِسْكٍ" 1، وإذا بعث عليه الصلاة والسلام بعثاً جعل إمامهم في صلاتهم أكثرهم أخذاً للقرآن، بل إذا جمع بين اثنين أو أكثر في قبر لضرورة قدم أكثرهم قرآناً، كما حدث في شهداء أحد فعن جَابِرَ بْنَ عَبْد ِاللَّهِ رَضِي اللَّه عَنْهمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ:" أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا" 2. وكان الذي يمر ببيوت الصحابة في غسق الدُّجى يسمع دوياً كدوي النحل بالقرآن، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال (كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان يسمع

_ 1 أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، باب ماجاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي، وقال عقبه هذا حديث حسن، 5/156، وأخرجه ابن ماجة في سننه، في المقدمة، باب فضل من تعلم القرآن وعلمه 1/78 217، والحديث ضعيف. 2 انظر البخاري، كتاب المغازي، باب من قتل من المسلمين يوم أحد ص840 4079.

مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا) ومن هنا نجد أن العناية الكبرى كانت من الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حفظه واستظهره عليه الصلاة والسلام، ورغب أصحابه في استظهاره وحفظه فحفظه عدد كبير منهم واستظهره منهم الخلفاء الراشدون، وطلحة، وسعد، وابن مسعود، وحذيفة، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله، ومعاوية، وابن الزبير، وعبد الله بن السائب، وعائشة وحفصة، وأم سلمة وغيرهم كثير وهؤلاء كلهم من المهاجرين، ومن الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبا زيد ومجمع بن حارثة وأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين. وهذا يدل على أن حفاظ القرآن كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كثرة كبيرة، ومما يؤيد هذا ما ثبت أن كثيراً من الصحابة اشتهروا في عهده صلى الله عليه وسلم بحفظ القرآن حتى كانوا يعرفون باسم القراء، فعن عَاصِمٌ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ فَقَالَ قَدْ كَانَ الْقُنُوتُ قُلْتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ قَالَ قَبْلَهُ قَالَ فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَقَالَ كَذَبَ "إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا أُرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلًا إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ دُونَ أُولَئِكَ وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ" 2.

_ 1 لم أجده، ولكن الزرقاني ذكره بهذا اللفظ في كتابه مناهل العرفان 1/241. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوتر، باب القنوت قبل الركوع وبعده 197 1002، وفي كتاب الجهاد والسير باب من ينكب أو يطعن في سبيل الله ص569 2801، وفي مواضع أخرى.

وهذا يدل على كثرة الصحابة الذين حفظوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الحقيقة ميزة مباركة اختص الله تعالى بها الأمة المحمدية كما قال العلامة المحقق ابن الجزري (ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ربي قال لي قم في قريش فأنذرهم فقلت له رب إذاً يَثْلَغوا1 رأسي حتى يدعوه خُبْزَةً فقال: مبتليك ومبتلٍ بك ومنزل عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرأه نائماً ويقظان فابعث جنداً أبعث مثلهم وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأنفق ينفق عليك) 2، فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء بل يقرؤه في كل حال كما جاء في صفة أمته (أناجيلهم في صدورهم) ، وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه لا في الكتب ولا يقرأونه كله إلا نظراً لا عن ظهر قلب، ولما خص الله تعالى بحفظه من شاء من أهله أقام له أئمة ثقات تجردوا لتصحيحه وبذلوا أنفسهم في إتقانه وتلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم حرفاً حرفاً لم يهملوا منه حركةً ولا سكوناً ولا إثباتاً ولا حذفاً ولا دخل عليهم في شيء منه شك ولا وهم وكان منهم من حفظه كله، ومنهم من حفظ أكثره، ومنهم من حفظ بعضه 3.

_ 1 أي يشدخوه ويشجوه كما يشدخ الخبز أي يكسر، شرح النووي على مسلم 17/ 198، والنهاية في غريب الحديث 1/220. 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة والنار 4/1741، 2865. 3 النشر في القراءات العشر ص6.

ولكن يشكل على ما ذكرناه ما ورد في بعض الروايات وفيه تعارض لما ذكرناه وهو قول أنس رضي الله عنه (مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة، أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد) 1، ولا إشكال في ذلك لأن الحصر المذكور في الحديث حصر إضافي وليس حصراً حقيقياً بدليل أن قتادة سأل أنساً عمن جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال (أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت وأبو زيد) 2، فقد ذكر أنس رضي الله عنه في إحدى الروايتين أبي بن كعب دون أبي الدرداء، وذُكر في الرواية الثانية أبو الدرداء دون أبي بن كعب إضافة إلى ذلك فإن حصر الحفظة في أربعة لا يقول به أحد لوجود البواعث الكثيرة التي تحمل على حفظه وترغب فيه كل الترغيب، ومع توافر الصحابة وكثرتهم إلى حد أنهم بلغوا في آخر عهده عشرات الألوف، وقد جمع الحافظ ابن حجر رحمه الله بين الحديثين فقال يحتمل أن مراد أنس (لم يجمعه غيرهم) أي من الأوس بقرينة المفاخرة المذكورة ولم يرد نفي ذلك عن المهاجرين، ثم ذكر الحافظ أجوبة كثيرة نقلاً عن القاضي أبي بكر الباقلاني منها:- 1) أنه لا مفهوم له فلا يلزم ألا يكون غيرهم جمعه. 2) المراد لم يجمعه على جميع الوجوه والقراءات التي نزل بها إلا أولئك.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ص 1089 5004. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ص1089 5003.

3) لم يجمع ما نُسِخ منه بعد تلاوته وما لم يُنْسخ إلا أولئك. 4) أن المراد بجمعه تلقيه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بواسطة بخلاف غيرهم فيحتمل أن يكون تلقي بعضه بالواسطة. وقال عقب ذلك: وفي غالب هذه الاحتمالات تكلف، وقال أيضاً: الذي يظهر من كثير من الأحاديث أن أبا بكر رضي الله عنه كان يحفظ القرآن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد بنى مسجداً بفناء داره وكان يقرأ فيه القرآن، وهو محمول على ما كان نزل منه إذ ذاك، وهذا مما لا يرتاب فيه مع شدة حرص أبي بكر على تلقي القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وفراغ باله له وهما بمكة وكثرة ملازمة كل منهما للآخر وقد أخرج النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر قال: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأه في شهر1. وقال القرطبي: قد قُتِل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثل هذا العدد، وإنما خص أنس الأربعة بالذكر لشدة تعلقه بهم دون غيرهم، أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم 2. وخلاصة القول في هذا: أن الصحابة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم عنوا عناية كبيرة وفائقة بحفظ القرآن الكريم، فمنهم من حفظه واستظهره، ومنهم من حفظ بعضه، وما روي عن أنس في هذا مؤول بما ذكرناه.

_ 1 انظر الحديث في النسائي في السنن الكبرى، كتاب فضائل القرآن، باب في كم يقرأ القرآن 5/24، وانظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/51، 52، البرهان للزركشي 1/ 241 242، الإتقان للسيوطي 1/200 2 لم أجده بهذا اللفظ في الجامع ولا في التذكار، إنما ذكره التأخرون ومنهم الزرقاني، مناهل العرفان 1/245.

وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقد حفظه عدد كبير وخلق كثير، واشتُهِروا بإقرائه بجميع قراءاته ومروياته، فمن الصحابة عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين وتتلمذ علي يديه الكثيرون منهم المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، وعلي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين وتتلمذ عليه كثيرون منهم أبو عبد الرحمن السلمي، وكذلك أُبي بن كعب من كتاب الوحي تتلمذ عليه كثيرون منهم عبد الله بن عباس وأبو هريرة، وكذلك زيد بن ثابت الأنصاري وهو الذي جمع القرآن في عهد الخليفتين فقد تتلمذ عليه كثيرون منهم عبد الله بن عمر وأنس بن مالك، وعبد الله بن مسعود الذي قال عنه المصطفى عليه الصلاة والسلام (من أحب أن يقرأ القرآن غضاً 1كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) 2 فقد تتلمذ عليه كثيرون منهم علقمة بن قيس 3، والأسود بن يزيد النخعي4، وأبو موسى الأشعري الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) 5 فقد تتلمذ على يديه الكثيرون منهم سعيد بن المسيب وأبو رجاء العطاردي6

_ 1 الغَضّ هو الطَّري الذي لم يتغير، أراد طريقه في القراءة وهيأته فيها، النهاية في غريب الحديث 4/371 2 أخرجه الامام أحمد في المسند 1/445، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير 2:3/ 308. 3 علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها، جود القرآن على ابن مسعود، السير 4/53. 4 الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي ابن أخي علقمة، من رؤوس العلم قرأ على عبد الله بن مسعود، السير 4/50. 5 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن 5048 وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحسان تحسين الصوت بالقرآن 1/457 236. 6 أبو رجاء العطاردي، عمران بن مِلْحَان التميمي البصري، من كبار المخضرمين، أدرك الجاهلية وأسلم بعد فتح مكة، السير 4/254، تقريب التقريب /431.

وكل هذا يدل على الاهتمام الكبير والعناية الفائقة من الصحابة رضوان الله عليهم لكتاب الله تعالى قولاً وعملاً 1. وهناك بعض العوامل التي أدت بالصحابة إلى العناية بالقرآن الكريم حفظاً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أهم تلك العوامل 2:- 1) أن الصحابة كانوا أميين لا يعرفون القراءة والكتابة إلا نذر يسير منهم، ولذلك كانوا يعتمدون على حافظتهم لأن الحفظ هو السبيل الوحيد إلى إحاطتهم بالقرآن الكريم. 2) المحبة الصادقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وما يتصل به وما نزل عليه، ومن المعلوم أن الحب إذا صدق وتمكن حمل المحب حملاً على ترسم آثار محبوبه والتلذذ بحديثه والتنادر بأخباره، ولذلك كان حب الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم من أقوى العوامل على حفظهم كتاب الله تعالى حيث كانوا يتسابقون إلى كتاب الله يأخذون عنه ويحفظون منه. 3) أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أمة يضرب بهم المثل في الذكاء وقوة الحافظة وصفاء الطبع وسيلان الذهن وحدة الخاطر. الترغيب في حفظ القرآن الكريم وتطبيق أحكامه مما جعل الصحابة يعتنون به اعتناءً خاصاً، فقد وردت الآيات والأحاديث الكثيرة في فضل حفظ القرآن الكريم وقراءته، فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ

_ 1 الإتقان للسيوطي 204، مناهل العرفان 1/414، فضائل القرآن العظيم لابن كثير 85 –93، القراءات للدكتور شعبان إسماعيل 62، 63، 64. 2 انظر البيان في مباحث من علوم القرآن لعبد الوهاب غزلان 146-156.

تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر:-3029) . ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) 1، "وقوله عليه الصلاة والسلام (إن لله أهلين من الناس، قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته) 2، وقوله عليه الصلاة والسلام لأسيد بن حضير (تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ) فعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ قَالَ بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ فَقَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ وَسَكَتَتِ الْفَرَسُ ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ فَانْصَرَفَ وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى مَا يَرَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (اقْرَأْ يَابْنَ حُضَيْرٍ اقْرَأْ يَابْنَ حُضَيْرٍ) قَالَ فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ فَخَرَجَتْ حَتَّى لَا أَرَاهَا قَالَ: (وَتَدْرِي مَا ذَاكَ قَالَ لَا قَالَ تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ) 3.

_ 1 انظر البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه ص1093 5027. 2 أخرجه ابن ماجة في سننه في المقدمة، باب فضل من تعلم القرآن وعلمه 1/78، وقال ابن الجزري: رواه ابن ماجة وأحمد والدارمي وغيرهم من حديث أنس بإسناد رجاله ثقات، النشر 1/5، والحديث صحيح 3 أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، بَاب نُزُولِ السَّكِينَةِ وَالْمَلَائِكَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، ص1091 5018.

"وقوله عليه الصلاة والسلام (مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَالَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا) 1. "وقوله صلى الله عليه وسلم (الذي يقرا القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرا القرآن وهو يَتَتَعْتَعُ فيه وهو عليه شاق له أجران) 2. وقوله صلى الله عليه وسلم (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) 3. إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في فضل قراءة القرآن وحفظه وفضل آيات معينة وفضل سور مخصوصة. وكل هذا جعل الصحابة رضوان الله عليهم يعتنون بحفظ القرآن، ويتسابقون في قراءته ولا يتوانون لحظة واحدة عن قراءة القرآن واستظهاره وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ومن ذا الذي يسمع كل هذا الترغيب والتشويق ولا يسارع في قراءة القرآن وحفظه.

_ 1 أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن على سائر الكلام صـ1092 5020. 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه 1/460 244. 3 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ماله من الأجر 5/175، وقال عقبه هذا حديث حسن صحيح غريب، والحديث صحيح.

بل بلغ من العناية بالقرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم " أن امرأة من الصحابيات جمعت القرآن ففي سنن أبي داود عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا غَزَا بَدْرًا قَالَتْ قُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي الْغَزْوِ مَعَكَ أُمَرِّضُ مَرْضَاكُمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي شَهَادَةً قَالَ: (قَرِّي فِي بَيْتِكِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْزُقُكِ الشَّهَادَةَ) قَالَ فَكَانَتْ تُسَمَّى الشَّهِيدَةُ قَالَ وَكَانَتْ قَدْ قَرَأَتِ (1) الْقُرْآنَ فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَتَّخِذَ فِي دَارِهَا مُؤَذِّنًا فَأَذِنَ لَهَا قَالَ وَكَانَتْ قَدْ دَبَّرَتْ غُلَامًا لَهَا وَجَارِيَةً فَقَامَا إِلَيْهَا بِاللَّيْلِ فَغَمَّاهَا بِقَطِيفَةٍ لَهَا حَتَّى مَاتَتْ وَذَهَبَا فَأَصْبَحَ عُمَرُ فَقَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ هَذَيْنِ عِلْمٌ أَوْ مَنْ رَآهُمَا فَلْيَجِئْ بِهِمَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَصُلِبَا فَكَانَا أَوَّلَ مَصْلُوبٍ بِالْمَدِينَةِ" 2.

_ 1 أي جمعته كما في الطبقات لابن سعد 8/457، وانظر الإتقان 1/203. 2 أخرجه أبو داو د في سننه، كتاب الصلاة، باب إمامة النساء 1/161 591، والحديث ضعيف.

المبحث الثاني: العناية بالقرآن الكريم كتابة

المبحث الثاني: العناية بالقرآن الكريم كتابةً:- اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن كاعتنائه بحفظه، فلم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ القرآن واستظهاره بل جمع مع حفظه في الصدور حفظه في السطور زيادة في التوثق والضبط والاجتهاد فكان القرآن ينزل شيئاً فشيئاً، وكلما نزل شيءٌ قرأه النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه أصحابه، وبلغ من عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن مبلغاً عظيماً أنه كان يحثهم على كتابته فعن عُثْمَانُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ فَيَقُولُ: (ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا) وَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةَ فَيَقُولُ: (ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا) 1. وكان نزول القرآن على غير الترتيب الذي نقرؤه الآن في السور الكريمة، بل كان ذلك الترتيب من بعد النزول بعمل النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله تعالى، فكان عليه الصلاة والسلام يقول لهم كما نُقل (ضعوا آية كذا في موضع كذا) فتكون بجوارها متسقة متلاحقة المعنى مترابطة متناسقة اللفظ تلتقي بها كأنها لقف معها، وكأنهما كلام واحد قيل في زمن واحد أحدهما

_ 1 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبة 3/272 3086 وقال عقبه هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب من جهر بها 1/208 786، 787، وأخرجه ابن أبي داود في المصاحف، خبر قران سورة الأنفال بالتوبة 230، وأخرجه الإمام أحمد في المسند 1/57 69، وأخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، بسم الله الرحمن الرحيم 2/220 وكتاب التفسير، باب تفسير سورة التوبة 2/330، وقال عقبه هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى كتاب الصلاة 1/42، والحديث حسن لغيره.

لاحق والآخر سابق، وكأن المتكلم قالهما في نفس واحد من غير زمن بينهما يتراخى أو يتباعد، وذلك من سر الإعجاز ولا غرابة في ذلك لأن القائل واحد وهو الله سبحانه وتعالى العليم الخبير، ولذلك كان ترتيب القرآن الكريم في كل سورة بتنزيل من الله تعالى 1. واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كُتَّاباً من خيرة الصحابة لهذا العمل الجليل فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وأبان بن سعيد وخالد بن الوليد واُبي بن كعب وزيد بن ثابت وثابت بن قيس وغيرهم. وكان الصحابة رضوان الله عليهم يكتبون القرآن في الْعُسُب2 واللِّخَاف3 والألواح4 والأكتاف5 والأضلاع6 والأقتاب 7والرقاع 8والأديم9،

_ 1 القرآن الكريم، المعجزة الكبرى، محمد أبو زهرة صـ27، وانظر البيان في مباحث من علوم القرآن 164. 2 بضم المهملتين ثم وحدة جمع عسيب وهو جريد النخل الذي كانوا يكشطون الخوص عنه ويكتبون في الطرف العريض، النهاية في غريب الحديث 3/234، فتح الباري 9/14. 3 بكسر اللام ثم خاء معجمة خفيفة وآخره فاء جمع لَخْفة بفتح اللام وسكون المعجمة وهي الحجارة الرقيقة، وقال بعضهم: صفائح الحجارة الرقاق، وخصها بعضهم بالبيضاء فقال: حجارة بيض رقاق، النهاية في غريب الحديث 4/244، فتح الباري 9/14. 4 اللوح: الكَتف وكل عريض يكتب فيه، وفي القاموس المحيط: كل صحيفة عريضة خشب أو عظم، الصحاح 1/402، القاموس المحيط 1/256. 5 جمع كتف وهو العظم الذي للبعير أو الشاة كانوا إذا جف كتبوا فيه، وفي النهاية الكتِف: عظم عريض يكون في أصل كَتِف الحيوان من الناس والدواب كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم، النهاية في غريب الحديث 4/150، فتح الباري 9/14. 6 جمع ضِلَع، والضِّلَع واحد الضلوع والأضلاع وهي معروفة، الصحاح 3/1250. 7 بقاف ومثناة وآخره موحدة جمع قَتَب بفتحتين وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه، النهاية في غريب الحديث 4/11، فتح الباري 9/14. 8 جمع رُقعة بالضم وهي تكون من جلد أو ورق أو كاغد أو غيره، فتح الباري 9/14. 9 هو الجلد، انظر لسان العرب 12/9.

يقول زيد بن ثابت رضي الله عنه (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرِّقاع) 1، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يعرضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لديهم من القرآن حفظاً وكتابة كذلك، ولم ينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا والقرآن كله مكتوب مسطور بالأحرف السبعة غير مجموع في مصحف واحد ولذلك قال الزركشي (وإنما لم يكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مصحف لئلا يفضي إلى تغييره كل وقت فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته صلى الله عليه وسلم) 2، والأدلة على كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) 3. وقول الصديق لزيد بن ثابت (إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم) 4.

_ 1 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب في فضل الشام واليمن 5/734 3954، وقال عقبه هذا حديث حسن غريب، وأخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التاريخ 2/611، وقال عقبه هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وفيه الدليل الواضح أن القرآن الكريم إنما جُمع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث صحيح. 2 البرهان للزركشي 1/262. 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم 4/1818 3004. 4 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم ص974 4679.

وعندما نَزَلَتْ قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النساء:95) الْآيَةَ جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَكَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَأْمُرُنِي إِنِّي ضَرِيرُ الْبَصَرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} الْآيَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِيْتُونِي بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ أَوِ اللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ) 1. وممن اشتهر بكتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو أول من كتب له بمكة، والزبير بن العوام ومعاوية، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية، وأبي بن كعب وهو أول من كتب له بالمدينة، وزيد بن ثابت، وشرحبيل بن حسنة وعبد الله بن رواحة وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، والأرقم بن أبي الأرقم، وثابت بن قيس، وعبد الله بن الأرقم الزهري، وحنظلة بن الربيع الأسدي وغيرهم 2. وكان هؤلاء الصحابة يكتبون ما يمليه عليهم الرسول ويرشدهم إلى كتابته من غير أن يزيدوا فيه حرفاً أو ينقصوا منه حرفاً 3. وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمة الإسلامية قد حفظت القرآن واستظهرته وكتبته بالطرق والوسائل الموجودة لديها، وكانت هذه الكتابة

_ 1 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة النساء 5/240، وقال عقبه هذا حديث حسن صحيح، والحديث صحيح. 2 الاستيعاب على هامش الإصابة 1/51، فتح الباري 9/16-18، المدخل إلى القرآن الكريم 338، 339. 3 المدخل لدراسة القرآن الكريم 339.

ملحوظاً فيها أن تشمل الأحرف السبعة غير أن بعض الصحابة كان قد كتب منسوخ التلاوة وبعض ما هو ثابت بخبر الواحد، وربما كتبه غير مرتب، ولم يكن القرآن على ذلك العهد مجموعاً في صحف ولا مصاحف عامة 1. ولم يجمع القرآن يومئذ في مصحف واحد أو مصاحف للأسباب الآتية:- 1) لم توجد الدواعي لجمعها كما وجدت في عصر أبي بكر وعثمان، فالمسلمون بخير والحفاظ بكثرة، وأكثر الناس يعولون على الحفظ أكثر من الكتابة، وأدوات الكتابة لم تكن متوفرة بالصورة الكبيرة. 2) أن القرآن لم ينزل مرة واحدة بل نزل منجماً في خلال ثلاث وعشرين سنة ولو كتب لكان عرضة للنسخ والتغيير والتبديل وهذا فيه من العناء والمشقة قال الزركشي في البرهان (فثبت أن القرآن كان على هذا التأليف والجمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما تُرِك جمعه في مصحف واحد لأن النسخ كان يَرِدُ على بعضه، فلو جمعه ثم رفعت تلاوة بعضه لأدى إلى الاختلاف واختلاط الدين، فحفظه الله في القلوب إلى انقضاء زمن النسخ، ثم وَفَّق لجمعه الخلفاء الراشدين) 2. 3) كانت الآيات الكثيرة تنزل من السور الكثيرة المختلفة على حسب الدواعي بلا ترتيب ثم يعلم الترتيب فيما بعد، فلو كتب أولاً لاحتيج إلى كتابته ثانياً وفي ذلك من المشقة ما فيه.

_ 1 مناهل العرفان 1/248. 2 البرهان في علوم القرآن 1/235.

المبحث الثالث: العناية بالقرآن الكريم تطبيقا:-

المبحث الثالث: العناية بالقرآن الكريم تطبيقاً:- طبق النبي صلى الله عليه وسلم أحكام القرآن الكريم جملة وتفصيلاً، وحض أصحابه على تطبيق أحكامه والعمل بما فيه، فبلغ رسالة ربه توجيهاً لأمر الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67) ، وهذا هو طريق الأنبياء والمرسلين حيث جاءوا جميعاً لأجل هدف واحد وغاية عظمى وهي عبادة الله وحده لا شريك له. ومنذ خطاب الله وتوجيهه للرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} (المدثر:1، 2) وقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) ، وقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19) ، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يدعو أهله وأقاربه وأمته حتى وفقه الله في تكوين أمة ودولة إسلامية عظيمة على مبادئ صحيحة. فكانت بحق تلك الأمة خير القرون وأفضلها كما أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام حيث جرى القرآن في عروقها فتمثلوا أحكامه قولاً وفعلاً وطبقوا تعاليمه وكل ذلك فيه دلالة على عناية النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام بالقرآن الكريم. ومن الأمثلة الواضحة على عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن وامتثاله لما جاء فيه أنه منذ أن خاطبه الله تعالى بقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا

تَعْمَلُونَ} (الشعراء:214-216) جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة وصدع بها وأنذر عشيرته وتحمل في سبيل ذلك الصعاب والمشاق والشدائد فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ "أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ قَالُوا نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا قَالَ "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} " (المسد (1-2) 1. وفي رواية أخرى أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قَالَ "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا 2.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التفسير، باب وأنذر عشيرتك الأقربين ص1013 4770، وأخرجه مسلم بنحوه، كتاب الإيمان باب وأنذر عشيرتك الأقربين 1/163 348. 2 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التفسير، باب وأنذر عشيرتك الأقربين ص1013 4771، وأخرجه مسلم بنحوه، كتاب الإيمان باب وأنذر عشيرتك الأقربين 1/164 351.

فأظهر المصطفى عليه الصلاة والسلام امتثاله الكبير وحبه الشديد لكتاب الله تعالى وقام وجهر ووقف مواقف حكيمة، فكان لا يطيب له نوم ولا يرتاح له بال حتى يرى الناس قد استجابوا لدعوة الله ودخلوا في دين الله أفواجاً. وعناية الرسول صلى الله عليه وسلم العناية العملية لا تقتصر على الدعوة بل التطبيق العملي لما جاء في القرآن الكريم شامل لجميع الأمور ففي مجال العبادة كان عليه الصلاة والسلام منفذاً للفرائض آخذاً بالنوافل مطبقاً لتعاليم القرآن وما جاء من الله تعالى {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} (المزمل:1-6) ، وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} (الإسراء:79) ، فامتثل الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر ربه بل وصل إلى أعلى مراتب العبادة، وكان يصلي من الليل حتى تتفطر قدماه، ولما قيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً" 1. وفي مجال الأخلاق كان خلقه القرآن فقد سئلت أم المؤمنين عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها السائل: أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ " أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قُلْتُ بَلَى قَالَتْ فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ قَالَ فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ وَلَا أَسْأَلَ أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ ثُمَّ بَدَا لِي فَقُلْتُ أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ أَلَسْتَ تَقْرَأُ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُلْتُ بَلَى قَالَتْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ

_ 1 أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل ص222 1130، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفات المنافقين، باب إكثار الأعمال 4/1722 2819.

افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ قَالَ قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ فِيهَا إِلَّا فِي الثَّامِنَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّ التَّاسِعَةَ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ فَلَمَّا سَنَّ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَنِيعِهِ الْأَوَّلِ فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَلَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ وَلَا صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ" 1. وكل هذا لأنه شعر بلذة الخطاب الإلهي له في قوله: {قُمِ اللَّيْلَ} فاعتنى بهذا الكلمة القرآنية وطبقها تطبيقاً عملياً وأطال القيام، وتوضح لنا بعض الروايات مبلغ قيامه صلى الله عليه وسلم فعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ

_ 1 أخرجه مسلم في المسافرين، كتاب صلاة الليل

افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ قَالَ وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ مِنَ الزِّيَادَةِ فَقَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ1. وفي مجال القوة والجهاد امتثل للآيات القرآنية التي تعني بالجهاد مثل قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال:60) ، فجاهد عليه الصلاة والسلام بنفسه وماله ولسانه، جاهد بنفسه لحماية العقيدة ولإعلاء كلمة الله وصد العدوان، فكان قائد المجاهدين وأولهم لنيل الشهادة في سبيل الله، وجاهد بماله فأنفق وتبرع حتى إنه كان لا يترك في بيته إلا ما يحتاج إليه، وجاهد بلسانه للترغيب في الإسلام وللدفاع عنه وعن مصالح المسلمين فكانت المعارك الكبيرة والانتصارات الحاسمة من المسلمين على الكفار في التاريخ الإسلامي، وما ذاك إلا لامتثاله لتعاليم القرآن الكريم. وفي مجال الأخلاق اتصف وامتثل عليه الصلاة والسلام بالأخلاق الفاضلة التي جاء القرآن بها حتى قالت عائشة رضي الله عنها (كان خلقه القرآن) 2، ودلالة هذه الكلمة على عظمة محمد صلى الله عليه وسلم تبرز من نواحٍ شتى ومن أهمها كونها من عند الله الكبير المتعال، وقد قال الإمام فخر الدين

_ 1 أخرجه مسلم في المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل 1/450 203. 2 انظر ص 53.

الرازي كلاماً نفيساً حول هذا الموضوع، قال (وكان عليه الصلاة والسلام في كل واحدة من هذه الأخلاق الكريمة في الغاية القصوى من الكمال، وكان متمكناً فيها، مستجمعاً لها بأسرها، ولا يتفق ذلك لأحد من الخلق غير أهل العصمة من الله تعالى، فكان اجتماع ذلك في صفاته من أعظم المعجزات) 1، ففي الرحمة مثلاًخاطبه ربه بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159) ، وبقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128) ، وهذه الآية تبين ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام من الأخلاق العظيمة تجاه أمة دعوته من كونه يعز عليه مشقتهم وهلاكهم وضررهم وأذاهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب، ويحرص على هداهم ويرأف بهم ويرحمهم2. والرحمة من أخلاق الرسول صلوات الله عليه، وهو خلق ذو جذور عميقة في النفس ومحلُّها القلب، ومن آثارها في السلوك الظاهر لين الجانب للناس، ونقيضها غلظ القلب وقساوته، ومن مظاهر هذا النقيض الخشونة في معاملة الناس والسلوك الفظ.

_ 1 الأربعين في أصول الدين ص 309،310. 2 البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 5/117.

ورحمة النبي صلى الله عليه وسلم جعلت القلوب تهفو إليه وتؤمن به وتتبعه وتحبه، وبعض من آمن به قد تخطى عقبات كبيرة في نفسه من أنانية وعصبية1. وفي باب التوكل على الله عز وجل تَمثل المصطفى عليه الصلاة والسلام لما جاء في القرآن الكريم، فكان يتوكل على الله تعالى في جميع الأمور وفي أشد الظروف فكان الله تعالى له نعم الوكيل والنصير. والخطابات القرآنية التي خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم بالتوكل كثيرة لم يكن مثلها عدداً ووضوحاً في أي خلق كريم، قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159) وقال: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (النساء:81) وقال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنفال: 61) ، وقال: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (هود: 123) ، وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} (الفرقان: 58) ، وغير ذلك من الآيات التي تحث النبي صلى الله عليه وسلم على التمسك بهذا الخلق العظيم، وكان صلى الله عليه وسلم أولى الناس تطبيقاً لهذا الخلق العظيم لأنه كان خلقه القرآن فهو يمثل القرآن بسلوكه وقوله، ويترجم القرآن بأقواله وأفعاله، فهو سيد المتوكلين عليه الصلاة والسلام، ويكفينا قوله عليه الصلاة والسلام لأبي بكر الصديق مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ

_ 1 الأخلاق الإسلامية 1/440، 441.

اللَّهُ ثَالِثُهُمَا (1) حين ما قال أبو بكر رَضِي اللَّه عَنْه: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ الْمُشْرِكِينَ فقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ لرآنا، فرد النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة تدل على ثقته بالله ونصره، وقد قص القرآن ذلك فقال: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40) . وفي غزوة ذات الرقاع لم يعصمه من ضربة السيف إلا عظيم توكله على الله تعالى فعَنْ جَابِرٍ قَالَ أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ قَالَ كُنَّا إِذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلَّقٌ بِشَجَرَةٍ فَأَخَذَ سَيْفَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرَطَهُ2 فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَخَافُنِي قَالَ لَا قَالَ فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ اللَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ 3. فهذا هو التوكل على الله تعالى حق التوكل، رسول الله صلى الله عليه وسلم يستظل تحت شجرة، ورجل غادر يريد أن يفتك برأس رسول الله صلى الله

_ 1 أخرجه البخاري في التفسير، تفسير سورة براءة، باب قوله تعالى (ثاني اثنين إذ هما في الغار (ص 970 4663، وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه 4/1478، 2381. 2 اخترط السيف: سله من غمده، النهاية في غريب الحديث 2/23. 3 أخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة الرقاع ص 851 4136، وأخرجه مسلم في المسافرين باب صلاة الخوف 1/481 843.

عليه وسلم ووضع السيف فوق رأس المصطفى عليه الصلاة والسلام، فلم يخف النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الموقف ولم يزده ذلك إلا توكلاً على الله عز وجل حتى قال عليه الصلاة والسلام ببرد اليقين والتوكل (الله) ، ومن وصل إلى هذا التوكل على الله وبالله لم يخش أحداً سواه. وكما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالتوكل فعلاً فقد أمره بالتوكل قولاً وذلك كما في قوله: {فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} (التوبة: 129) ، وقوله: {قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون} (الزمر: 38) ، وقوله: {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين} (الْمُلك: 29) ، وامتثل النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الخلق العظيم وغيره من الأخلاق والتوجيهات الربانية فكان عليه الصلاة والسلام يستجيب لأوامر الله ويعتني بالقرآن تطبيقاً وتوجيهاً، تربية وتعليماً في جميع الأمور والأحوال. واعتنى الصحابة رضوان الله عليهم اعتناءً كبيراً بالقرآن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وبلغ الأمر بهم في الاعتناء به أنهم كانوا يقفون عند أوامره فيمتثلون أوامره ويجتنبون نواهيه، وشواهد ذلك كثيرة في كتب السنة والسيرة والتفسير، فهذه القصة تبين لنا كيفية رجوع أبي بكر الصديق إلى كتاب الله تعالى والوقوف عند أحكامه فعندما نزلت آيات الإفك {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ} الْعَشْرَ الْآيَاتِ فِي بَرَاءَة عائشة قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِي اللَّه عَنْه لمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَيه لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ، قال وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، -وكان معه الحق في ذلك لأن مِسْطح تكلم في عائشة وقال

فيها قولا -، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور: 22) ، فامتثل أبو بكر رضي الله عنه لهذه الآيات وقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا 1. وكذلك وقوف عمر بن الخطاب عند قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199) فعن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِي هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ2. وكذلك ما فعله أبو طلحة رضي الله عنه عندما نزل قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران:92) حتى إنه سأل الرسول صلى الله

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً 1007 4750 بتصرف. 2 أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين 964 4642.

عليه وسلم: إن الله تبارك وتعالى يقول ذلك، وما فعل ذلك إلا لمخالطة القرآن قلبه وحبه الكبير لكلام الله تعالى وللآيات التي نزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران:92) قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ" فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ 1. ولم يكتف الصحابي الجليل أبو طلحة رضي الله عنه وأرضاه بالنفقة في سبيل الله بل إنه تحرك بقلبه وعواطفه ونفسه عندما سمع قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} (التوبة: 41) فنذر نفسه لخدمة الأمة الإسلامية من طريق الجهاد، ويروي لنا أنس رضي الله عنه ذلك فيقول أن أبا طلحة قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية (انفروا خفافاً وثقالاً) ، فقال: ألا أرى ربي يستنفرني شاباً وشيخاً، جهزوني، فقال له بنوه: قد غزوتَ مع رسول الله صلى الله عليه

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب 290 1461.

وسلم حتى قبض، وغزوتَ مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر، فنحن نغزوا معك، فقال: جهزوني فجهزوه، فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، فلم يتغير 1. وهذه الكلمة العظيمة لم يقلها إلا بعد أن عرف رضي الله عنه أهمية القرآن وأثره العظيم في التربية فقال (ألا أرى ربي يستنفرني شاباً وشيخاً) . بل إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يستجيبون لله وللرسول والقرآن بمجرد الوصول إليهم ولو من خبر الواحد كما حدث عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ 2. فامتثلوا لقول القائل الذي أخبرهم بأن الله تعالى أنزل قرآناً على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعرفوا الآيات التي أنزلت، فاتجهوا فور سماعهم إلى الكعبة المشرفة دون انتظار أوتأخير ونماذج الاعتناء بالقرآن الكريم من الناحية التطبيقية أكثر من أن تُحصى، فكتب السنة النبوية مليئة بالآثار التي تدل على عناية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالقرآن حفظاً وكتابةً وتطبيقاً.

_ 1 أخرجه أبو يعلى في مسنده 6/138، والحاكم في المستدرك 3/353، وقال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/312، وقال رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة ص87 403.

خاتمة

خاتمة وتتضمن أهم النتائج والتوصيات التي توصلت إليها:- 1) أنه لا تعارض بين نزول القرآن جملةً ونزوله مفرقاً، فقد نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ثم نزل مفرقاً بعد ذلك، وهذا هو أصح الأقوال في الجمع بين الآيات التي ظاهرها التعارض في النزول. 2) أن القرآن الكريم آخِرُ الكتب السماوية، وقد جمع الله له النزولين، فقد شارك الكتب السماوية السابقة في نزوله جملة، وانفرد عنها بنزوله مفرقاً، وفي ذلك تفضيل للقرآن ومن نزل عليه. 3) أنه حصل الخير الكثير لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وللصحابة الكرام في نزول القرآن مفرقاً. 4) أن التعويل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان على الحفظ أكثر من الكتابة. 5) أن القرآن الكريم كُتب كاملاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت كتابته مفرقةً، ولم يجمع في صحف أو مصاحف عامة. أن القرآن الكريم أنزل للقراءة والحفظ والتدبر والعمل، وهذا هو النهج الذي انتهجه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، والعمل بما في القرآن الكريم من أهم الأمور، وهو الغرض الرئيسي من إنزاله، فمن

1) عمل بما فيه وآمن به فقد حصل له الغاية القصوى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} (البقرة:121) . 2) أن الأمة الإسلامية وصلت إلى عزها ومكانتها بسبب تمسكها وعنايتها بالقرآن حفظاً وكتابة وتطبيقاً، فكانوا يحفظون القرآن الكريم ويفهمونه، ثم يعملون بتعاليمه، ويهتدون بهديه. أما التوصيات فأوصي المسلمين في جميع أقطار العالم الإسلامي حكاماً وشعوباً بأن يتمسكوا بالقرآن الكريم ويعتنوا به ويطبقوا تعاليمه في كل صغيرة وكبيرة كما طبقها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من تقدم ورقي وحضارة حتى استطاعوا السيطرة على العالم أجمع، وكتب الله لهم النصر والتأييد على أقوى الدول المعادية لدعوة الحق دولة الفرس في الشرق ودولة الرومان في الغرب ونجحوا نجاحاً مُبهراً ومُدهشاً كان وما زال وسيبقى موضع إعجاب التاريخ والمؤرخين مع أنهم كانوا قلة في العدد وفي خشونة من العيش، وتأخر المسلمون في هذا العصر في الوصول إلى ما وصل إليه السابقون بسبب بعدهم عن تطبيق ما جاء في كتاب الله تعالى ولذلك اكتفوا بقراءة القرآن وترديده في المنابر والمحاريب والمآتم والدور دون الوقوف على مضامين القرآن الحقيقية في التدبر والتفهم {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص: 29) . وفي ختام هذا البحث لا ننسى الجهود المبذولة من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود وحكومته الرشيدة في خدمة كتاب الله تعالى والاعتناء به قولاً وفعلاً، فجهودهم كبيرة وعظيمة، وخير دليل على ذلك المجمع العظيم المبارك الذي أنشأه – حفظه الله - لطباعة

المصحف الشريف، فأكثر بيوت المسلمين فيها إصدار من إصدارات هذا المجمع، فجزى الله خادم الحرمين الشريفين خير الجزاء على قيامه بهذه المهمة العظيمة، وأسأل الله تعالى أن يرفع مقامه وأن يبارك له فيما قدم ويُقدم، وأن يجمع له بين الأجر والعافية، وأن ييسر له ولإخوانه الكرام السبل التي توفقهم إلى الاعتناء بكتاب الله تعالى قولاً وفعلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... فهرس المصادر والمراجع. 1. القرآن الكريم. 2. القرآن الكريم، إبراهيم علي أبو الخشب، دار الفكر العربي. 3. القرآن الكريم، محمد أبو زهرة، دار الحماس للطباعة. 4. الإتقان في علوم القرآن للحافظ جلال الدين السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم 5. أحسن الحديث، د. محمد سعيد رمضان البوطي. 6. الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، لعلاء الدين الفارسي، ط1 1412هـ، حققه شعيب الأرنؤوط. 7. الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن حبنكة الميداني، ط4 1417هـ، دار القلم، دمشق. 8. أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة، د. أحمد عبد العزيز الحداد، ط1 1996م، دار الغرب الإسلامي. 9. الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر، وهو مطبوع على هامش الإصابة، دار الفكر، بيروت. 10. الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني، دار الفكر، بيروت. 11. الأعلام لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين. 12. الأنوار الساطعات لآيات جامعات عبد العزيز المحمد السلمان، الطبعة الثالثة 1403 هـ

1. البرهان في علوم القرآن لبدر الدين الزركشي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت. 2. البيان في مباحث من علوم القرآن، عبد الوهاب عبد المجيد غزلان، مطبعة دار التأليف. 3. التذكار في أفضل الأذكار لابن عبد البر، دار الكتب العلمية بيروت ط1 1406هـ. 4. تفسير القرآن العظيم لابن كثير، دار المعرفة، بيروت. 5. تفسير الطبري (جامع البيان في تفسير القرآن) ، لابن جرير الطبري، دار المعرفة، بيروت. 6. تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد عوامة، ط1 1406هـ. 7. الجامع الصحيح للترمذي، تحقيق إبراهيم عطوة عوض، توزيع دار الباز، عباس أحمد الباز، مكة المكرمة. 8. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. 9. الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، سعيد بن علي بن وهف القحطاني، ط1 1412هـ توزيع مؤسسة الجريسي. 10. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني، دار الفكر، بيروت. 11. الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، جلال الدبن السيوطي، ط1 1403هـ، دار الفكر. 12. السنن الكبرى للبيهقي، دار الفكر.

1. قبسات من حياة الرسول، أحمد عساف، ط6 1405هـ، دار إحياء العلوم، بيروت 2. القراءات، أحكامها ومصدرها، تأليف الدكتور شعبان محمد إسماعيل، سلسلة دعوة الحق، مطبوعات رابطة العالم الإسلامي. 3. الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة، الدار السلفية. 4. الكواكب الدرية فيما ورد في إنزال القرآن على سبعة أحرف من الأحاديث النبوية والأخبار المأثورة لمحمد الحداد بن علي الحسيني المالكي، طبع بمطبعة البابي الحلبي. 5. كيف نحيا بالقرآن، نبيه زكريا عبد ربه، الطبعة الأولى 1403 هـ، دار الحرمين للنشر، الدوحة. 6. لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي، دار إحياء علوم الدين بيروت. 7. مباحث في علوم القرآن، د. صبحي الصالح، دار العلم للملايين. 8. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، الطبعة الخامسة، مكتبة وهبة. 9. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ نور الدين الهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت. 10. مختصر قيام الليل للمقريزي، المكتبة الأثرية 11. المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد محمد أبو شهبة. 12. مذكرة في أصول القرآن، كلية أصول الدين، أ / محمود أبو دقيقة. 13. المستدرك على الصحيحين للإمام النيسابوري، دار الكتاب العربي، بيروت،

1. مسند أبي يعلى الموصلي، حققه وخرج أحاديثه حسين سليم أسد. 2. المصاحف لأبي بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني الحنبلي، دراسة وتحقيق ونقد الدكتور محب الدين عبد السبحان واعظ، إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، إدارة الشئون الإسلامية، دولة قطر. 3. المصنف لعبد الرزاق الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، توزيع المكتب الإسلامي. 4. مع القرآن الكريم في تاريخه وخصائصه، د. شعبان محمد إسماعيل، دار الاتحاد العربي للطباعة. 5. المعجزة الكبرى، القرآن، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي. 6. المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، طبع على نفقة دار إحياء التراث الإسلامي، قطر. 7. المنار في علوم القرآن تأليف الدكتور محمد على الحسن، ط1 1983، دار الأرقم عمان. 8. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، دار الفكر. 9. منهج الفرقان في علوم القرآن للشيخ محمد على سلامة، الجامعة الأزهرية، كلية أصول الدين، السنة الأولى، تخصص دعوة وإرشاد. 10. النشر في القراءات العشر لابن الجزري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

1. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع تحقيق محمود محمد الطناحي. 2. الواضح في علوم القرآن، د. مصطفى ديب البغا، محي الدين مستو، دار العلوم الإنسانية، دار الكلم الطيب، ط1 1417هـ.

§1/1