نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار

محمود مقديش

تصدير

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تصدير مضت سنوات منذ أن خامرتنا الفكرة الأولى في تحقيق «نزهة الأنظار» ثم العزم على القيام بهذا التحقيق ومحاولة العمل عليه، فاستحال لعدم حصولنا على نسخة من مخطوطة شيخ الإسلام أحمد عارف حكمت بالمدينة المنورة وهي ضرورية، ثم الشروع فيه لما تيسرت الظروف وحصلت لدينا نسخة من هذه المخطوطة بفضل صاحب دار الغرب الإسلامي السيد الحبيب اللمسي، جزاه الله كل خير. ولم يكن استقرار عزمنا بدون تردد، هل هذا الكتاب، الذي طبع بالحجر في سنة 1321/ 1903 م، لما كانت الطباعة والنشر في تونس في الخطوات الأولى، يستحق ترك مشاغلنا وتخصيص كل أوقاتنا له، والعناء الطويل، لينشر بين الناس باحثين وقراء؟ وللمختصين، آراء مختلفة في «نزهة الأنظار»، وبعضهم ممن تباحثنا معهم في الموضوع يرون فيها أثرا لا يستحق الإهتمام والجهد والنشر لإعتبارهم أن مؤلفها نقل عن غيره دون اجتهاد من نفسه، ولا يمكن فعلا لأي قارئ أن يكون له غير هذا الرأي إن اكتفى بتقليب الجزء الأول من هذا الأثر، ومع ذلك خالف الصغير نور الدين هذه الآراء. وقال: «إن النقل الذي قام به مقديش من المصادر التي كتبها أسلافه جعلته يكتب كتابا رائعا ممتازا» (¬1). وعند بقية الناس، في مدينة صفاقس، خاصة يعتبر هذا الكتاب من النفائس المفقودة المطلوبة - وكل مفقود نفيس - ويعتبره هؤلاء الناس، معدن أخبار صفاقس ورجالها وعائلاتها، ومن له نسخة أو وريقات منه صار يعتز بها، ¬

(¬1) Temps et espace chez Maqdish - أطروحة دكتوراه مرحلة ثالثة، مرقونة، جامعة السربون، سنة 1983 - 1984 ص: 42.

ويخفيها، ويتباهى بها، ويضن بها على من شوقوه إليها، فصار الكتاب أسطورة. وتعطش الناس إليه توالى على مر الزمن، ومرجعه إلى فقدانه من أصله، إذ صادرته الحكومة التونسية لما ظهر، ولعل سبب ذلك ما أبداه مؤلفه فيه من تقدير لعلي باشا الأول المنازع لسلطة عمه حسين بن علي وذريته، حكام تونس، فقال كراتشكوفسكي في ذلك: «ويبدو أنه قد مسّ مسائل معاصرة لأن حكومة تونس صادرته على الفور ولم ينشر الكتاب» (¬2). وكتب أحمد بن أبي الضياف عن قلة انتشار تآليف مقديش رغم معرفة الناس له فقال: «وكتب تاريخه المعروف ولم نر تآليفه لأنها لم تصل إلى حاضرة تونس» (¬3)، وكما قال محمد مخلوف في نفس الإتجاه: «وتاريخه غالبه في صفاقس وعلمائها» (¬4). ويرجع تعطش الناس إلى هذا المؤلف أيضا إلى مادة الكتاب، فالمؤلف أرخ لمدينته، بناء على طلب كما ذكر في مقدمته، وفي اتجاه معين يستجيب لميول دينية، وبطولية وملحمية، وخرافية كما نفهم من اختياره، وتقصيره أو تمديده لمختلف مواد الكتاب، ويستجيب لمستويات متوسطة في الفهم والثقافة باستعمال لغة بين العامية والفصحى، فنزهة الأنظار كتاب تاريخ، وأسطورة، ومعتقد ديني، وأخبار اجتماعية، يقرأ ويحكى، الوحيد في شكله الذي يداعب شعور أهل صفاقس ويستجلبهم للبحث فيه عن ذاتهم وأصولهم، لعدم مزاحم له. وشغف الناس بالمفقود، وارضاء طلباتهم المتكررة لنشره، سبب من الأسباب التي دعتنا لتحقيقه، وليس السبب الوحيد ولا الأساسي، فالذي دعانا إلى تحقيقه أساسا، وإرضاء رغبات الناس في آن واحد، سببان متكاتفان: استعماله كمرجع للبحث التاريخي، وإصلاح الأخطاء التي وردت في مخطوطاته، وخاصة النسخة المطبوعة المستعملة لدى الباحثين. فنزهة الأنظار كتاب له قيمة لا يمكن نكرانها رغم نقائصه التي سنبينها في المقدمة، وإن كانت فائدة الجزء الأول من الكتاب محدودة فإن الجزء الثاني له أهمية خاصة وأهمه الخاتمة التي يؤرخ فيها المؤلف لمدينته، وهي ثلث الكتاب بجزئيه وهو في هذا ينفرد بما لم يسبقه إليه غيره، ولا من لحق بعده من المؤرخين، فيضيف عن طريق التاريخ الجهوي، الذي أخذ حديثا مكانته في مفاهيم التاريخ الحديث، ¬

(¬2) تاريخ الأدب الجغرافي عند العرب، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، القاهرة 1963، 2/ 768. (¬3) إتحاف أهل الزمان، تونس 1965، 7/ 86. (¬4) شجرة النور الزكية، ص: 366.

أضواء جديدة على التأريخ التونسي، فمدينة صفاقس جزء من التراب التونسي، وتاريخها جزء من تاريخ هذه البلاد، ولون من ألوانه. وبهذا أخذ محمود مقديش مكانته بين المؤرخين التونسيين، فترجم له ابن أبي الضياف في الإتحاف، ومحمد مخلوف في شجرة النور الزكية، وكراتشكوفسكي في الأدب الجغرافي، ونالينو (Nallino) في مقالة طويلة نشرها ضمن مئوية أماري (¬5) وأدرجه أحمد عبد السلام ضمن المؤرخين التونسيين في أطروحته (¬6)، ومحمد محفوظ في تراجم المؤلفين التونسيين (¬7)، وغيرهم، وأخذ كتابه «نزهة الأنظار» مكانه بين كتب التراث التاريخي، وصار يستعمل مرجعا في كتابة التاريخ الحديث المتعلق بالمدن، والإقتصاد، والإجتماع، وعلاقة المغرب بالمشرق أثناء القرن الثامن عشر، وقلما تنشر دراسة في هذه الأبواب دون الإشارة إليه والإعتماد عليه، وخصص له الصغير نور الدين أطروحة دكتوراه، المرحلة الثالثة ناقشها في جامعة السربون سنة 1983 - 1984 سمّاها» «Temps et espace chez Maqdish» : الزمان والفضاء عند مقديش» وقال فيها اعتمادا على محمد الهادي الشريف في مقالته حول التاريخ الإقتصادي والإجتماعي التونسي في القرن الثامن عشر من خلال المصادر المحلية (¬8) «إنّ كتاب مقديش له ميزة خاصة، اعتبارا للمصادر المختلفة التي نقل عنها، وهو يمثل في آن واحد عملا فريدا متميزا لأن مؤلفه ينتمي إلى مدينة ثانوية، وله ارتباط بالوسط التجاري، ولأنه مثقف أيضا يمتثل في كتابته للقواعد التقليدية» (¬9). فإن كان هذا هو اعتبار الكتاب واستعماله، فمن المفيد بل من اللازم تنقيح هذا المرجع وتيسير استعماله، وعلى ذلك عزمنا وشرعنا أملنا التوفيق والإفادة، وبالله نستعين، وعليه نتوكل. ¬

(¬5) Venezia a Sfax Nel Secolo XVIII Secondo il crovista arabo Maqdish. (¬6) Les historiens tunisiens des XVII,XVIII et XIX siecles باريس 1973. (¬7) دار الغرب الإسلامي، 4/ 356 - 364. (¬8) «L' histoire economique et sociale de la Tunisie au XVIII siecle a travers les sources locales», in : les arabes par leurs archives de J. Becque, pp. 116 - 117 (¬9) المصدر السابق، ص: 41.

المقدمة

المقدّمة 1) فكرة عن الحياة العلمية والثقافية بصفاقس في عصر المؤلف. لقد عرفت الحركة العلمية والتعليمية في البلاد التونسية تراخيا ثم ركودا في أواخر أيام الدّولة الحفصية، بعد أيام عزّ وتقدم، حملت رايتها تونس مركز الإمارة، وتحول هذا التراجع الذي سببته الفتن وتدهور الحياة السياسية والإقتصادية، وغموض المصير إلى نكسة خطيرة مع الإحتلال الإسباني، فهاجر علماء تونس، وحرمت البلاد من شعاع هذه المدينة عليها. ومدينة صفاقس لم تكن أوفر حظّا من بقية البلاد، فقد عرفت في تلك المدة اضطرابات واسعة وانطوت على نفسها لما استقل بها المكني، ثم انعزلت عن عاصمتها لمدة 38 سنة (¬1) وقل عدد سكانها، وفشا فيها الفقر والجهل، واضطربت فيها نظم الحياة، ولم تتحسن حالتها إلاّ بعد أن رجعت إلى حظيرة عاصمتها الأولى في سنة 1594 (¬2). لم يبق لنا ما يشير إلى التعليم والعلماء في تلك الفترة من القرن السادس عشر والسابع عشر إلاّ اليسير من المعلومات، نستشفه من بعض الأخبار التي وردت في التراجم والسير. وما من شك أن الكتاتيب كانت تعمل بالمساجد والزوايا، إذ لم يبق لنا في خصوصها شيء من الوثائق، وبضياع هذه الوثائق لا يمكن لنا التعرف على عددها ومستوى التعليم بها، غير أننا نعرف أن الراغبين في العلم اتبعوا طريقة أسلافهم في التنقل إلى العاصمة التي بدأت ترجع إليها الروح الثقافية مع المراديين، والتنقل إلى الأزهر بمصر أيضا، طبقا لسنة قديمة، ومن بينهم أبو الحسن الكراي وعبد العزيز الفراتي الأول وعلي النوري. . . ¬

(¬1) علي الزواري: صفاقس في القرن السادس عشر، مجلة القلم، صفاقس، عدد 2، 1974، ص: 3 - 4. (¬2) عزيز سامح: الأتراك العثمانيون بإفريقيا الشمالية، بيروت 1969، ص: 289.

وحملت مشعل التعليم والعلم في تلك الفترة أسر ثلاث: أسرة الفراتي، وأسرة الشرفي، وأسرة الكراي. أما أسرة الفراتي فقد قال في شأنها حسين خوجة عند ترجمته لعبد العزيز بن محمد الفراتي «وهو من دار علم من قديم الزمان، وهو عاشرهم كلهم علماء أعلام» (¬3). وأما أسرة الشرفي فقد اهتمت بعلوم الميقات والجغرافيا، وبرز منها علي بن أحمد بن محمد الشرفي الذي وضع في سنة 1551 م أطلسا في ثماني ورقات لسواحل البحر الأبيض المتوسط تملك منه المكتبة الوطنية بباريس نسخة فريدة (¬4). وقد ألحق أفراد آخرون من أسرة الشرفي نماذج أخرى للعالم تمثل في جوهرها صورة منقحة لخارطة الإدريسي، ترجع إلى سنوات 1572، 1579 و 1601، وأهمها الخارطة التي وضعها محمد ابن علي الشرفي، وتحدث عنها كراتشكوفسكي اعتمادا على دراسات قام بها كل من ميللر وأماري (¬5). أما أسرة الكراي فهي مشهورة بحركتها الدينية، الصوفية النزعة، المنتمية إلى الحركة الوفائية الشاذلية، وقد برز فيها أبو الحسن بن أبي بكر المتوفي سنة 1703 م وهو من أحفاد الشيخ علي الكراي أبي بغيلة معاصر سيدي أحمد بن عروس، نعته محمد محفوظ في تراجم المؤلفين التونسيين «بالعالم الصوفي الوفائي نسبا وطريقة» (¬6) أنشأ زاوية بصفاقس بعد رحلته إلى الأزهر «واشتغل بنشر العلم وانتفع به جماعة من أهل بلده منهم خليفته على الزّاوية الشّيخ محمد المراكشي ومنهم كذلك الشيخ علي النوري». ويمثل رجوع الشّيخ علي النوري من مصر إلى مسقط رأسه في أواخر سنة 1078/ 1668 م وتأسيسه لزاويته وفتحها للتدريس منعرجا في حياة صفاقس الثقافية والدينية، إذ أعطت شرارة نهضتها، فكان الشيخ علي النوري الذي وصفه حسين خوجة «بالمربي، والمدرس، ومحيي السنة. . .» رائد هذه النهضة. ورآى بعضهم حلوله في مدينته كالغيث في البلد القاحل الجديب، أروى العقول من ظمإ الجهل. وكان للزّاوية النّورية إشعاع، وتأثير كبير في تكوين الطّلبة الذين أتقنوا دراستهم عن الشّيخ علي النوري، وعن شيوخ البلد غيره وأهمهم عبد العزيز الفراتي، وتوزع بعضهم في مساجد المدينة وزواياها، ينشرون التربية والعلوم التي تلقوها، ونذكر منهم محمد وأحمد ولدا الشيخ علي، اللذان أخذا مشعل الزاوية بعد وفاة والدهما، وعلي بن محمد المؤخر الذي كان حيا في سنة 1118 هـ - 1706 م، أخذ عن الشيخ علي النوري علوم اللسان والشريعة والميقات والحساب، وتولى الإمامة والتدريس والتجويد بضريح الشيخ سيدي أبي الحسن اللخمي، ومحمد الغراب الذي خلفه بنفس ¬

(¬3) حسين خوجة: ذيل بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان، تحقيق الطاهر المعموري، الدار العربية للكتاب، 1975، ص: 128. (¬4) القسم العربي عدد 2278. (¬5) تاريخ الأدب الجغرافي 1/ 456. (¬6) 4/ 155.

المقام بعد وفاته، ومنهم رمضان بو عصيدة الذي استقر بزاوية الصّفار، وإبراهيم المزغني الذي اشتغل بمقام سيدي عبد الرحمان الطبّاع، ومحمد الزّواري، ومحمد بن محمد الشّرفي الذي تصدر للتدريس فيما بعد بالزاوية الحسينية. وتعزز التدريس بصفاقس بجانب الزاوية النورية بالحركة التي كان يقوم بها الشّيخ عبد العزيز الفراتي بالجامع الكبير، وتعزّز كذلك بالمدرسة الحسينية التي أحدثها حسين بن علي في سنة 1126/ 14 - 1715 م، وتصدر للتدريس بها أوّلا الشيخ محمد ابن المؤدب محمد الشّرفي الذي أنهى تكوينه كالشيخ علي النوري وعبد العزيز الفراتي بمصر. وكانت الزاوية النورية طيلة حياة الشيخ علي، وبعد وفاته مع ابنيه محمد وأحمد وأحفاده، والمدرسة الحسينية أيضا أهم المدارس في صفاقس خلال القرن الثامن عشر، وكان مستوى التدريس بها هو مستوى مشايخها الذين يدرسون بها، رفيعا، وكان بعض الطلبة يكتفي بما يتلقاه فيهما ليصبح فقيها أو ميقاتيا أو شاعرا. وهكذا تعددت أماكن التدريس، وتعدد المدرسون المتكونون في مختلف فنون المعرفة التي أخذوها عن مشايخهم وغيرها من مراكز التعليم في الإيالة وخارجها، وانتشرت الثقافة بين الناس ونبغ بعضهم في مختلف نواحيها. وهذه النهضة ليست مستقلة بذاتها، إذ هي وجه من النهضة الثقافية التونسية في القرن الثامن عشر، البارزة في تونس العاصمة، وترجع أسبابها إلى عدة عوامل منها الإستقرار السياسي والتقدم الإقتصادي، واعتناء الحكام بها منذ قيام الدولة الحسينية ببناء المدارس وتكوين المكتبات، وتنظيم التدريس بالزيتونة، وإكرام أهل العلم، وإجراء المرتبات لهم والإحسان إلى الطلبة. ويمكن أن نقسم فنون المعرفة التي راجت في صفاقس إلى أقسام ثلاث: - القسم الديني الذي يشمل الفقه والأحكام والأصول والفرائض والقراءات والحديث والتفسير وكل من سبق ذكرهم كان له باع فيها. - قسم الرياضيات وله ارتباط بالأول ويتعلق بالحساب، والفلك، والميقات، وصناعة الأرباع، وقد برع فيها بعض أفراد عائلة الشّرفي بجانب تضلعهم في العلوم الأخرى، وأهمهم محمد ابن المؤدب محمد الشّرفي وابنه أحمد القاضي وحسن بن أحمد الشّرفي. - الأدبيات: النحو والشعر والأدب والتاريخ. ومن شعراء الجيل الأول: محمد ابن المؤدب الشّرفي، وبعده برع في قرض الشعر ثلاثة آخرون تعاصروا: علي ذويب، وإبراهيم الخراط، وعلي الغراب، وكانوا رفقاء وزملاء تتلمذوا على الطيب الشّرفي وعلي الأومي ومحمد بن علي الفراتي. وانفرد في كتابة التاريخ محمود مقديش - المترجم له - إذ لم تكن صناعة التاريخ في مدينته من الآداب الرائجة أو المطلوبة، ولم تكن علما قائما بذاته يدرس. وقد يرجع ميل محمود مقديش إلى هذه المادة إلى عدة عوامل، مرتبطة ببعضها: تعاطيه نسخ الكتب عندما كان مجاورا الأزهر، واعتقاده أن

التاريخ علم نبيل لفوائده، فهو في رأيه «من أفضل العلوم نفعا وأشرف المزايا قطعا» (¬7) وأهم الأسباب إلحاح بعضهم عليه لكتابة «مغازي الصحابة، ومغازي المجاهدين، ومغازي العساكر العثمانية مع تقييد أحوال أمراء الإسلام القائمين بحفظ المغرب من الفتح الأول، وتحديد المغرب برا وبحرا وذكر بلدانه، مع ذكر أهل الفضل من العلماء والصالحين بخصوص صفاقس، وذكر أحوالها مع ذكر ما تيسر من فضلاء غيرها» (¬8). فنزهة الأنظار تبدو وكأنّ مؤلفها صنّفها لإرضاء طلب، ولكن الطلب التقى مع رغبته، فتمت رغم صعوبة السعي إليها الذي لخصه في مقدمتها بقوله: «فرأيت فيما دون ما طلب خرط القتاد سيما من مثلي ممن لا مادة في تعاطي هذا الخطب العظيم الشأن، ومع ذلك فلست أعد نفسي أهلا لأن أكون من فرسان هذا الميدان» (¬9). وفي السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر لاحت بوادر تدهور الحياة التعليمية والعلمية في صفاقس خلال القرن التاسع عشر، وربط محمود مقديش عدم إقبال الناس على التعلم والتعليم بإقبالهم على الدّنيا وتشبثهم بها فقال معلّلا صعوبة الكتابة: «وأحرى وأنا في بلد مطروح في زوايا الإهمال لإقبال أهله على تحصيل الدينار والدرهم والسعي على العيال» (¬10)، ونرى من جهتنا أن هذا التدهور مرتبط أيضا بعمل الطّاعون الجارف الذي انتشر في سنة 1199/ 1786 م فقد أخذ من المؤدبين والمدرسين ومن بقية العلماء عددا وافرا نذكر منهم حسن بن أحمد الشّرفي الفقيه والحيسوبي الفلكي، والشاعرين علي ذويب وإبراهيم الخراط، ومحمد المصمودي القاضي، وعلي المصمودي الفقيه النحوي وغيرهم. وكان عمل الطاعون فاحشا في الناس إلى حد أنه عطل سير حركة العلم والتعليم في وقته وبعده أيضا بموت العديد من رواد الحركة. وقد لخص لنا ذلك محمود مقديش في كلمة معبرة أتت في مقدمة كتابه فقال: «فتصفحت ما لديّ من مادّة فإذا هي بضاعة مزجاة وقد جرف الطّاعون من بلادنا من كنا نعده من الرواة» (¬11). ومحمود مقديش بالنسبة لمدينته واعتبارا لحياته وثقافته ومستوى كتابته، يمثل حدا فاصلا بين عصرين متباينين ثقافيا، القرن الثامن عشر المزدهر، والقرن التاسع عشر الذي نزلت فيه المعرفة والتدريس والكتابة وإقبال الناس على التعلم، درجات. اعتبره كراتشكوفسكي، نظرا لتاريخ وفاته من مؤرخي القرن التاسع عشر القلائل وكذلك اعتبره أحمد عبد السلام إذ ابتدأ به تقديم المؤرخين التونسيين في هذه الفترة، اعتمادا على تاريخ وفاته أيضا، ولاحظ في آن واحد «أن مؤلفه نزهة الأنظار يندرج ضمن الأعمال التاريخية الراجعة إلى نهاية القرن الثامن عشر إذ أن الأحداث الأخيرة التي ذكرها مؤرخة في محرم من سنة 1205 / سبتمبر أكتوبر 1790 م» (¬12). ¬

(¬7) النزهة ص: 36. (¬8) النزهة ص: 36 - 37. (¬9) النزهة ص: 37. (¬10) النزهة ص: 37. (¬11) النزهة ص: 37. (¬12) Les historiens ، ص: 274.

2) المؤلف

2) المؤلف (¬1) أ - نسبه وحياته: هو محمود بن سعيد مقديش (بفتح الميم والقاف المعقدة الساكنة والدال المهملة المكسورة) الفقيه المؤرخ المشارك في علوم. ولد بصفاقس، في سنة 1154/ 1742 م، ونشأ في عائلة نبيهة من أنبه بيوت صفاقس أصلها من أنشلة (Usulla) وتنسب إلى سيدي مخلوف الشّرياني إحدى قرى صفاقس من الجهة الشرقية، وتربى تربية صالحة، فقضى معظم حياته بين طلب العلم والتدريس والتأليف معتمدا على نفسه، مستهينا بالصّعاب والعقبات في عصامية نادرة لا يثبطها ولا يثني عزمها أحرج الظروف المادية. تلقى العلم في مبتدأ أمره عمن أدركه ببلده من تلامذة الشيخ علي النوري كالشيخ محمد الزواري، والمحدث المفسر الشيخ رمضان بو عصيدة، وأخذ الفقه عن المقريء الفقيه الرياضي الشيخ علي الأومي، وشاركه في شيوخه التونسيين والمصريين، والشيخ محمد الدرناوي الليبي عند إقامته بصفاقس قبل أن يستقر نهائيا بالحاضرة، ثم التحق بجامع الزيتونة، ولقي أعلامه كالشّيخ قاسم المحجوب، والشّيخ محمد الشّحمي كبير علماء المعقولات في عصره والشيخ المحدث الفقيه الرحالة عبد الله السوسي السكتاني المغربي، وهو من شيوخ الشيخ علي الأومي، وعاقته قلة ذات اليد عن إرواء غلته من طلب العلم والإقامة بتونس، فانتقل إلى الزاوية الجمنية بجربة التي تتكفل بالإنفاق على الطلبة المقيمين بها من ريع أوقافها ومن تبرعات أهل الفضل والإحسان، وقرأ هناك مختصر الشيخ خليل بشرح الشيخ محمد الخرشي وشرح الشيخ عبد الباقي الزرقاني على الشيخ إبراهيم الجمني الحفيد، والشيخ أحمد بن عبد الصادق الجبالي العيادي الليبي، ثم جاور بالأزهر وهو كهل متزوج له ذرية، فأخذ العلوم الرياضية عن الشّيخ أحمد الدمنهوري وحسن الجبرتي والد المؤرخ عبد الرحمان، وأخذ عن الشيخ علي الصعيدي الفقه والحديث، وقرأ على غيرهم من شيوخ الأزهر. ولا نعلم تاريخ التحاقه بالأزهر، ومدة اقامته بمصر سوى ما ذكره في القسم الأول من تاريخه الخاص بالجغرافيا أنه كان موجودا بالإسكندرية سنة إحدى ومائتين وألف / 1786، ولعل ذلك كان لعرض التجارة. وكان مدة مجاورته بالأزهر ينسخ الكتب الثمينة، ثم يؤوب إلى بلده صفاقس، ويبيع ذلك إلى علماء المدينة، ويترك محصول ذلك لزوجته وذريته، ويرجع إلى القاهرة لاستكمال قراءته، وبعد تخرجه من الأزهر انتصب للتدريس مجانا ببلده، قال الشيخ ابن أبي الضياف: «ولما تضلع من العلوم رجع إلى بلده صفاقس فأفاد وأجاد ونفع العباد، وتزاحمت على منهله الورّاد، وأفنى عمره في هذا ¬

(¬1) يوجد بالمكتبة الوطنية بتونس مخطوط مسجل تحت رقم 235 به ترجمة محمود مقديش وكاتبها مجهول ويبدو من النص أنه أحد تلاميذ من أخذوا عن هذا المؤرخ، وركز فيها على انتاجه وصفاته.

المراد وأتى بما يستجاد فتلاميذه بصفاقس أعلام وأيمة في الإسلام، وكان متخلقا بالإنصاف سمح بما عهد فيه من محمود الأوصاف» (¬14). وكان لا يقتصر في تدريسه على أسلوب الإلقاء والتلقين، بل يستخدم الأسئلة عن المشاكل والقواعد في قالب قصصي مخترع لاختبار ذكاء الطلبة، ومعرفة ما هضموه من معلومات، وتروى له حكايات يرويها بعضهم إلى اليوم. ولبث ببلده مقسما أوقاته بين التدريس والتأليف واحتراف التجارة لكسب قوته متجافيا عن الوظائف الرسمية إلى أن هاجر إلى القيروان في آخر حياته إذ توفي بها، وحمل جثمانه إلى صفاقس. واختلف في تاريخ وفاته، ذكر أحمد بن أبي الضياف في الإتحاف ومحمد مخلوف في شجرة النور الزكيّة وأشار أحمد عبد السلام في أطروحته حول المؤرخين التونسيين أنه توفي في سنة 1228/ 1813 م وهو التاريخ الذي ورد في المخلوط المشار إليه وفي ملحق الطبعة الحجرية وأثبته محمد محفوظ في تراجم المؤلفين مع شيء من الحذر إذ رآه إضافة لنص المؤلف فقال: «فلعل هذه الزيادة كتبت في الهامش فأضافها بعض النساخ إلى صلب الكتاب، وهذه الزيادة شديدة الإختصار مباينة لأسلوب الكتاب» (¬15). ويرى نالينو (Nallino) أن هذا التاريخ قد يخالف الواقع إعتمادا على أحد فهارس مكتبة جامع الزيتونة، المسجل تحت عدد 6233 صفحة 62 إذ جاء فيه نقلا عن الفرنسية: «توفي في سنة 1228 حسب المؤرخ ابن أبي الضياف، أو في سنة 1229 هـ ‍ حسب الباش مفتي الفراتي بصفاقس، وهو أحد تلاميذ المؤلف، وهذان التاريخان يخالفان الواقع لأن محمود مقديش لم يكمل تاريخه إلاّ في سنة 1233 هـ ‍» (¬16). ويضيف نالينو أن مقديش تحدث فعلا عن محمود باشا الذي استمر حكمه إلى سنة 1233 هـ ‍، ونقل كراتشكوفسكي خلاصة نالينو وأثبت أنه توفي بعد عام 1233 هـ - 1818 م. وتعليل نالينو لإسقاط سنة 1228 كتاريخ لوفاة المؤلف ساقط من أساسه، وميله إلى سنة 1233 في غير محله، فنالينو اعتمد في كل ذلك على ما جاء في آخر الباب الأول من المقالة الحادية عشرة عن محمود باشا حيث قيل في - النسخة المطبوعة - «وهو أمير عصرنا سنة ثلاثة وثلاثين ومائتين» (¬17) ولم يهتم هذا المستشرق بما جاء قبله عن حمودة باشا الذي قال عنه مقديش «فهو سلطان وقتنا أقر الله به أعيننا» (¬18) فهذا التكرار المنافي للمنطق يجعلنا نثبت أن الأخبار القليلة التي وردت عن محمود باشا تمثل زيادة عن الأصل من أحد النساخ، وتنبه لها أحمد عبد السلام ورآى أن سنة 1233 تمثل تاريخ الإنتهاء من نسخ المخطوطة التي اعتمدتها الطبعة الحجرية فقال: «إن آخر الأحداث التي تعرض إليها ¬

(¬14) الإتحاف 7/ 85. (¬15) 4/ 362. (¬16) Venezia ، المصدر السابق ص: 5. (¬17) 2/ 72. (¬18) 2/ 71.

ب - تآليفه

مقديش ترجع إلى محرم 1205 / سبتمبر - أكتوبر 1790. . . ولم يتعرض إلى حكم حمودة باشا الذي توفي المؤلف في أواخره إلاّ ببعض أسطر، ولخصت أخبار عثمان باشا ومحمود باشا اللذين تعاقبا بعده حتى سنة 1233، وتمثل هذه السنة تاريخ الإنتهاء من نسخ المخطوطة التي اعتمدتها الطبعة الحجرية، ولا شك أن هذا التلخيص السريع ليس من تحرير المؤلف الذي توفي قبل هذا التاريخ» (¬19). ولا يستبعد أن تكون النسخة المعتمدة هي النسخة الموجودة بالمكتبة الوطنية بتونس، إذ لا تختلف مع الطبعة الحجرية فيما ذكر عن محمود باشا، ومما يؤكد لنا أنها زيادة عدم وجودها في مخطوطة شيخ الإسلام أحمد عارف حكمت بالمدينة المنورة، المرموز إليها عندنا ب ‍ «ش»، وهي أقدم المخطوطات، ونقلها ناسخها عن نسخة بخط المؤلف. اعتبارا لكل هذا نقر عام 1228 هـ - 1813 م تاريخا رسميا لوفاة المؤلف إلى أن تأتي دراسات أخرى تخالفه. وذكر كراتشكوفسكي، اعتمادا مرة أخرى على نالينو أن محمود مقديش «أمضى معظم حياته بمسقط رأسه ولو أنه كما يبدو ساح كثيرا، وزار مواضع كالبندقية مثلا» (¬20). ونالينو اعتمد بدوره نزهة الأنظار ذاتها ليقول أن محمود مقديش زار البندقية حيث قال في نزهة الأنظار عندما تحدث عن واقعة رأس المخبز التي دارت بين الصفاقسيين والبنادقة أو البلنسيان وانتهت آخر يوم من شعبان سنة 1160 هـ - 1747 م: «ولما سافرنا لبلاد المشرق نزلنا بلادهم على الصلح. . .» (¬21). ب - تآليفه: 1) حاشية على العقيدة الوسطى للسنوسي ينقل فيها من كتب قليلة الوجود في عصره كالصحائف للسمرقندي مطبوعة على الحجر بتونس، سنة 1321/ 1903 م، جزءان في مجلد واحد. 2) حاشية على تفسير أبي السعود العمادي سماها «مطالع السعود على تفسير أبي السعود»، في 13 مجلدا بمكتبة المرحوم الشيخ محمد الصادق النيفر. 3) شرح على المرشد المعين في الفقه المالكي للشيخ عبد الواحد بن عاشر، جزءان. 4) شرح جانب من التذكرة للقرطبي، انفرد بذكره الشيخ محمد المهيري في بحثه المنشور بمجلة الثريا، شعبان 1963 جويلية 1946 ص: 109. 5) شرح على كشف الأستار للقلصادي سماه «إعانة ذوي الإستبصار على كشف الأستار عن علم حروف الغبار»، وهو مختصر من كتاب القلصادي كشف الجلباب في علم الحساب، وهذا مختصر من كتابه التبصرة، وهو أول مؤلفات المترجم، توجد منه نسخة بالمكتبة الوطنية بتونس (مكتبة ح. ح. عبد الوهاب بخط محمد المصمودي في أواسط ذي الحجة 1283 في 312 ورقة 21 سطرا، ¬

(¬19) Les historiens ، المصدر السابق، ص: 282. (¬20) Venezia ، المصدر السابق ص: 5. (¬21) النزهة، الطبعة الحجرية 2/ 93.

قياس 16/ 22 سم، وتوجد منه قطعة أخرى في 50 ورقة بنفس المكتبة وأصلها من مكتبة الشيخ علي النوري. ذكر في الخطبة قيمة علم الحساب، وحالته في عصره، والإقبال على تآليف القلصادي في القطر التونسي وخصائص كتابه «كشف الأستار» وتأليفه لهذا الشرح باقتراح من بعض الإخوان، فقال: «أما بعد فإن المآثر وإن تكاثرت، والمفاخر وإن تفاوتت فأشرقها رفعة، وأعلاها رتبة العلم، ثم هو وإن تفننت أفنانه وبسقت فروعه وأغصانه فأبينها تبيانا، وأوضحها حجة وبرهانا - بعد علم الهندسة - علم الحساب، الذي هو أول التعاليم القديمة وأمتن العلوم المستقيمة، ثم هو مع ذلك قد صارت آثاره خفية وأسراره مطوية، ولم يبق منه إلاّ بقايا لا تبل الصدى، ولا تجيب النداء وإن وجد منه رسوم دارسة استولى عليها داء العجل من أصحابها ولا يمكن الإفصاح عنها من أربابها، ومع هذا فالطلب فيه حثيث شديد والباعث عليه من النفوس أكيد، فلما تعلقت همتي به وطمحت نفسي في تحصيله رأيت تآليفه بحرا لا ساحل له وبعدا لا منتهى له، غير أن علماء العصر من إفريقية - حماها الله من كل أذية - قد أكبوا على اختصارات الإمام الأوحد الفاضل الأمجد أبي الحسن علي بن محمد ابن علي القرشي الأندلسي البسطي الشهير بالقلصادي، واختاروا من اختصاراته أخصرها، ومن تواليفه أنورها، وهو أصغر كتبه حجما وأغربها علما المسمى «بكشف الأستار عن علم حروف الغبار» فكنت في جملة من أكب عليه، ولم يجعل معوله إلاّ عليه، فوجدته عظيم الشأن رفيع الأركان محكم البنيان، غير أنه لشدة اختصاره، تكاد النفوس تيأس منه سيما وهو - مع ذلك - مهرة لم تركب ودرة لم تثقب، وإن تعاطاه أحد صار كأنما وقع في أجمة أسد، لم يبلغنا عنه تعليق يليق له لا يليق (¬22) (؟) وصار كلام الناس فيه آثارها تطيرها الرياح وأحاديث ليل تمحوها به الصباح لأن ما يسطر في الدفاتر لا يستقر في الفكر ولا تحويه الضمائر. . . ولما تردد علي بعض الإخوان فربما صدر مني بعض إشارات لمقاصده ولمحات لمراشده، فطلبوا مني أن أقيد لهم ما سمعوه، وأرسم لهم ما فهموه، ثم إني فكرت فيما أمليت وجدته في كل لحظة يتغير فيه الأمر ويقبل الزيادة والنقص والتغيير والتبديل تحاشيا من النقص، وطلبا للكمال المحبوب طبعا للنفس، فإذا أنا لم أجد لذلك غاية، فاضطرب عندي الأمر، سيما ولم يسبق عندي تأليف، فعزمت على محو ما كتبت، ورجعت عما أضمرت حتى رأيت كلام أستاذ البلغاء القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني إلى العماد الأصبهاني معتذرا عن كلام استدركه عليه أنه قد وقع لي شيء، ولا أدري أوقع لك أم لا؟ وها أنا أخبرك به وذلك أني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلاّ قال في غده: لو غيرت هذا الكتاب لكان أحسن ولو زيد هذا لكان يستحسن ولو قدم هذا الكلام أفضل ولو ترى ¬

(¬22) كذا في النسخة المنقول منها، ولعل الصواب: أو لا يليق.

3) نزهة الأنظار

هذا المكان أجمل، وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر. هـ ‍ فأقلعت عن ذلك العزم، وعولت على انقاذه بالفور والحزم». 6) القول الجاوي في جواب وقفة الشيخ يحيى الشاوي في الفرق بين السبب والشرط، مخزون بالمكتبة الوطنية بتونس (مكتبة ح. ح. عبد الوهاب) بخط علي بن عون الساسي بتاريخ ذي القعدة 1242، 7 ورقات، قياس 16/ 22، وتوجد بها نسخة أخرى. 7) وأشهر مؤلفاته هو تاريخه المعروف ب ‍ «نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار» والمعروف أيضا ب ‍ «دائرة مقديش». 3) نزهة الأنظار يبدو أن محمود مقديش كان بصدد كتابة النزهة في سنة 1207/ 1793 م اعتمادا على ما ذكره عند كلامه عن مدينة وهران إذ قال: «وكثيرا ما تغلب عليها إفرنج الأندلس من أيدي المسلمين، ثم يفتحها المسلمون منهم، وساعة تاريخ الكتاب سنة سبع ومائتين وألف بأيدي المسلمين». وذكر من جهة أخرى أن سلطان عصره في سنة 1203/ 1788 - 1789 م هو سليم خان الثالث، فلعل البداية في التأليف كانت في هذه السنة. ويرى المستشرق الروسي كراتشكوفسكي أنه أتم الجزء الأول من مصنفه في عام 1210/ 1796 م. أ - مصادرها: إعتمد محمود مقديش على مصادر متنوعة، هي تقريبا المصادر التي اعتمدها معاصروه، كالوزير السراج مثلا، وقد أتيحت الفرصة للمؤلف في استعمالها بفضل مكتبته الخاصة التي كانت فيما يبدو ثرية تشتمل على كتب التاريخ والتراجم والبلدان، وفي نظرنا نسخه للكتب أثناء إقامته بمصر مدة مجاورته الأزهر كان أهم الوسائل التي مكنته من استكمال تكوينه وتوجيهه نحو المراجع التي احتاج إليها. واستعمل محمود مقديش الأساليب التالية: - النقل الحرفي. - النقل مع تغيير بعض الكلمات، وهو يصيب في بعض الأحيان، فيخف التعبير ويستقيم المعنى ويخطئ في بعض المرات، فتسقم جمله، ويتغير المعنى الذي قصده المرجع. - التلخيص مع استعمال بعض العبارات الجزئية من المرجع المستند إليه، وهو في أغلب الأحيان يحافظ على المعاني الواردة في مراجعه.

- التقديم والتأخير: اقتضى ترتيب محمود مقديش لكتابه، وتصميمه له، واقتضت منه نظرته التاريخية، أن لا يتبع تسلسل النصوص بالمراجع التي استعملها بل كان في نقله وتلخيصه يستعمل ما جاء بها بالتقديم والتأخير دون ضبط أو إشارة. - إشارة محمود مقديش في أغلب الأحيان إلى مراجعه، منذ بداية نقله، أو في أثنائه، أو في آخره، ولم يشر إليها مرات أخرى، فأتى نصه إذ ذاك انتحالا لكلام غيره، ولم نتمكن في بعض الحالات، وهي قليلة من التعرف على المصادر التي استعملها. - استعمل المصادر التي أشار إليها إما بصفة مباشرة كالوفيات لابن خلكان، ونزهة المشتاق للادريسي، ورحلة التجاني، ورحلة العياشي، وتاريخ الدولتين للزركشي، إلى غير ذلك، أو بصفة غير مباشرة بواسطة مراجع نقلها عنها، مثلا ابن الأثير في بعض الحالات، وابن شداد بواسطة ابن خلكان في وفيات الأعيان والذهبي بواسطة السيوطي في تاريخ الخلفاء. . . وتبدو مصادره قليلة، أو فيها بعض التخليط فهو عند كلامه عن الدولة العثمانية نقل كثيرا من كتاب «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام» للقطب النهروالي، وعزا هذا النقل إلى أبي الوليد الأزرقي، وهو متقدم بينه وبين النهروالي قرون، ولعله كانت عنده نسخة من «أخبار مكة» لأبي الوليد الأزرقي يليه «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام» فلم ينتبه لهذا، وظن أن الكتاب كله للأزرقي، وفي ترجمة عيسى بن مسكين لم يعرف تاريخ وفاته حتى أخبره صديق له بذلك ويبدو أنه لم يكن مطلعا على «الديباج المذهب» لابن فرحون، ولو رجع إليه لوجد ترجمته وتاريخ وفاته فضلا عن الرجوع إلى أصله: «ترتيب المدارك» للقاضي عياض. وقائمة المصادر التي ذكرها واستعملها بطريقة أو بأخرى هي التالية حسب الترتيب الأبجدي: 1) الإعلام بأعلام بيت الله الحرام للقطب النهروالي. 2) بشائر أهل الإيمان لحسين خوجة. 3) تاريخ الخلفاء للسيوطي. 4) تاريخ الدولتين للزركشي ولم يصرح بالنقل عنه. 5) تاريخ الطبري. 6) جامع مسائل الأحكام للبرزلي نقل منه مرة واحدة عند ترجمة أبي يحيى زكرياء بن الضابط تلميذ الإمام اللخمي ولم يترجم في ترتيب المدارك والديباج. 7) جذوة المقتبس للحميدي. 8) الحلل السندسية للوزير السراج. 9) حسن المحاضرة للسيوطي. 10) خريدة العجائب لابن الوردي. 11) رحلة التجاني. 12) رحلة العياشي.

ب - تصميمها

13) رقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب الأندلسي. 14) رياض النفوس للمالكي. 15) زبدة التواريخ للبيضاوي. 16) سمط اللآل لمحمد قويسم النواوري. 17) صاحب كتاب فضل الحبيب والنديم اللبيب، طبقات المناوي. 18) عجائب المخلوقات للقزويني. 19) قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس للثعلبي. 20) كتاب العبر لابن خلدون. 21) الكامل لابن الأثير. 22) المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء الأيوبي. 23) مروج الذهب: المسعودي. 24) مسالك الأبصار: لابن فضل الله العمري. 25) معالم الإيمان: للدباغ. 26) معالم التنزيل: للبغوي. 27) مناقب أبي الحسن الكراي. 28) مناقب سيدي أبي إسحاق الجبنياني: للبيدي. 29) مناقب سيدي محرز بن خلف. 30) المؤنس لابن أبي دينار. 31) نزهة المشتاق: للشريف الأدريسي. في القسم الأول من الكتاب (قسم الجغرافيا). 32) وفيات الأعيان لابن خلكان. أما بالنسبة للمقدمة ولاضافاته التي تهم خاصة المدن كالاسكندرية، وتونس، والجزائر، والمهدية، وصفاقس. . . وجل ما جاء بخاتمته فهو من تحريره الذي اعتمد فيه على تكوينه الخاص، ومشاهداته، والأخبار والمعلومات التي تلقاها من أصدقائه أو الوسط الإجتماعي الذي عاش فيه، وعن هذا الوسط أخذ بعض مأثوراته منها طريقة المقاومة الشعبية للإحتلال النرماني، وأخذ بعض الأخبار الأسطورية التي تتعلق بآدم وذريته، والأنبياء والرسل، إذ لا نجد لهذه الأخبار أثرا في كتب التراث. ب - تصميمها: قسم محمود مقديش نزهة الأنظار إلى جزئين متعادلين حجما، يضم الجزء الأول مقدمة وعشر مقالات، ويضم الجزء الثاني مقالة وهي المقالة الحادية عشرة وخاتمة. وقسم بعض المقالات والخاتمة إلى أبواب من اثنين إلى أربعة.

المقدمة: وهي مقدمة قصيرة ضبط المؤلف فيها سبب كتابته للنزهة، وضبط منهاج عمله، ومفهومه للتاريخ الذي هو في نظره: «الضابط لوقائع الأعصار الماضية والحاضرة مما له خطر وشأن بوقته للنقل» (¬23) ومنفعته «بمعرفة أحوال من مضى من أولى الأقطار» (¬24) وغايته من أنه عبرة. المقالة الأولى: في تحديد المغرب برا وبحرا وأسماء البلدان. وهي أطول المقالات، خصصها لجغرافية المغرب، وأقطاره ومدنه، ويراها لازمة إذ كل ما فيها «راجع إلى موضوع الكتاب إذ البحث عن بلاد من بلدان المغرب وعن أمرائها موقوف على معرفة تلك البلاد وذكر غيرها تبع لها فمن ثم مست الحاجة إلى ذكرها» (¬25). وقسمها إلى أربعة أبواب: - الباب الأول في تحديد المغرب برا وبحرا. - الباب الثاني في بر المغرب الأقصى والمغرب الأوسط إلى حدود بجاية. - الباب الثالث في بقية المغرب الأوسط وجميع المغرب الأدنى. - الباب الرابع في جزيرة الأندلس. في هذه المقالة تناول المؤلف الجغرافية البشرية والإقتصادية والوصفية، واعتمد فيها أساسا على نزهة المشتاق للادريسي، وخريدة العجائب لابن الوردي، وعجائب المخلوقات للقزويني، ورحلة التجاني، ووفيات الأعيان لابن خلكان في ضبط الألفاظ ووصف بعض المعالم. ويغلب على هذا القسم النقل، بما في ذلك الأساطير المختلفة التي تهم الأندلس، وأصول البربر وتسميتهم، والأساطير التي تتعلق بتسمية إفريقية، والتفاسير المتعلقة بحركة البحر دون إعمال الرأي فيها، وتقتصر آراؤه على تحديد المغرب الذي في نظره يمتد من بحر الظلمات على سواحل الأندلس، إلى الإسكندرية والصحراء ويقتصر على إضافاته حول بعض مدن إفريقية والجزائر والإسكندرية، وهي هامة على قلتها واختصارها كما سنتعرض إليه فيما بعد. المقالة الثانية: في ذكر الخلافة وخلفاء الصحابة. بها يبتدأ القسم التاريخي وقسمها إلى ثلاثة أبواب. - الباب الأول في الخلافة وخلافة النبيء صلّى الله عليه وسلم، والخلفاء الأربعة. - الباب الثاني في خلافة بني أمية. - الباب الثالث في فتوحات المغرب الواقعة أيام الصحابة وبني أمية واعتمد المؤلف في هذه المقالة على تاريخ الخلفاء للسيوطي، وحسن المحاضرة للسيوطي، ورقم الحلل لابن الخطيب، ومعالم الإيمان للدباغ، والوفيات لابن خلكان. ¬

(¬23) النزهة 39. (¬24) النزهة 39 - 40. (¬25) النزهة 42.

وفيها حدد مفهوم الخلافة وفرق بينها وبين الملك، وعن طريق الخلافة رجع إلى بدء الخليقة، فأول الخلفاء آدم هم تتبع ذريته حتى انتهى إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم ونسبه ومر بسرعة على حياة الرسول، والخلفاء الأربعة وخلفاء بني أمية، وتاريخهم كتوطئة مكنته من الإنتقال إلى فتح أقطار المغرب والأندلس. المقالة الثالثة: في ذكر خلفاء بني العباس وبعض أمرائهم بالعراق، وقسمها إلى ثلاثة أبواب: - الباب الأول: في ذكر خلفاء بني العباس. - الباب الثاني: في ذكر بعض أمراء بني العباس بالمشرق: الصفاريين، السامانيين، الغزنويين، والديالمة، والسلاجقة والخوارزمية وتعرض في أوله إلى التتر وحروبهم. - الباب الثالث: في مشاهير أمراء بني العباس بالمغرب. واستعرض بعض ولاة إفريقية، والدّولة الأغلبية، واعتمد في هذه المقالة على الطبري وذكر الصولي عند كلامه عن المكتفي، ومسالك الأبصار للعمري، وزبدة التواريخ للبيضاوي، ووفيات الأعيان لابن خلكان، ورحلة التجاني، ورقم الحلل لابن الخطيب، وتاريخ ابن خلدون في الباب الثالث، ولا شك أنه استعمل في الباب الأول مصادر أخرى غير الطبري لم يذكرها وتعذرت علينا معرفتها. المقالة الرابعة: في ذكر ملوك الشيعة بالمغرب وكيفية انتقالهم إلى مصر وما تبع ذلك. وهذه المقالة نقل متواصل من عدة مصادر: الوفيات لابن خلكان، وتاريخ الخلفاء للسيوطي بما فيه من نقل عن الذهبي، ورحلة التجاني، ومعالم الإيمان للدباغ والكامل لابن الأثير. المقالة الخامسة: في ذكر ملوك صنهاجة بالمغرب وصلاح الدين بمصر. وفيها بابان وقد يتساءل القارئ ما هي العلاقة بين الأيوبيين والصنهاجيين حتى يقرنوا في مقالة واحدة؟ الخيط الذي يربطهما في ذهن المؤلف أنهم خلفوا الفاطميين هنا وهناك. - الباب الأول: في ذكر ملوك صنهاجة، وكيفية خروجهم عن طاعة الفاطميين، ونزوح العرب من مصر إلى إفريقية. - الباب الثاني: في ذكر دولة نور الدين وصلاح الدين وفيه ركز المؤلف على الحروب الصليبية وانتصارات الأيوبيين على المسيحيين. واعتمد في الباب الأول على مناقب سيدي محرز بن خلف، ومعالم الإيمان للدباغ، وتاريخ ابن خلدون، ورحلة التجاني، ووفيات الأعيان لابن خلكان. واعتمد في الباب الثاني على وفيات الأعيان لابن خلكان، وتاريخ ابن أبي الهيجاء، والكامل لابن الأثير. المقالة السادسة: في ذكر خلفاء بني أمية في الأندلس.

وهذه المقالة سريعة، استعرض فيها خلفاء بني أمية وملوك الطوائف، وكأنها تمهيد لدخول يوسف بن تاشفين إلى الأندلس وانتصاره على المسيحيين. واعتمد فيها مقديش خاصة على رقم الحلل لابن الخطيب، ووفيات الأعيان لابن خلكان. المقالة السابعة: في ذكر ملوك لمتونة. ويسميهم الملثمين والمرابطين، واهتم خاصة بظهور هذه الدولة، وركز على يوسف بن تاشفين وتدخلات المرابطين في الأندلس. واعتمد في هذه المقالة خاصة على وفيات الأعيان لابن خلكان. المقالة الثامنة: في ذكر دولة الموحدين وأمرائهم بالمغرب والأندلس وإفريقية، وقسمها إلى ثلاثة أبواب. - الباب الأول: في قيام الدولة الموحدية وتاريخها العام. - الباب الثاني: في فتح عبد المؤمن للمهدية وللبلاد الساحلية من أيدي النرمان. - الباب الثالث: في ذكر ثوار إفريقية على الموحدين، وفيه يستعرض مقاومة الموحدين لبني غانية، وقراقوش. واعتمد مقديش في مقالته على تاريخ الدولتين للزركشي، ورقم الحلل لابن الخطيب، ووفيات الأعيان لابن خلكان، والكامل لابن الأثير. المقالة التاسعة: في ذكر دولة بني مرين وبني زيان وبني نصر. وقسمها إلى ثلاثة أبواب كل باب لدولة، وتبسط نسبيا في ذكر دولة بني مرين بالمغرب واعتمد فيها على رقم الحلل لابن الخطيب، وتاريخ الدولتين للزركشي. المقالة العاشرة: في ذكر دولة بني حفص بإفريقية. وهي مقالة طويلة، تحدث فيها عن الدولة الحفصية من خلال أمرائها، والأحداث التي تعرضت لها، وتبسط في كلامه عن تحول أبي الحسن المريني وابنه أبي عنان بعده إلى تونس، كما تبسط في انحلال هذه الدولة واحتلال الإسبان لبعض مراكزها. واعتمد فيه على تاريخ الدولتين للزركشي ورحلة التجاني ورحلة العياشي فيما يتعلق بدخول درغوث باشا لمدينة طرابلس وإجلاء المسيحيين عنها. الجزء الثاني: المقالة الحادية عشر: في ذكر دولة آل عثمان وقسمها إلى ثلاثة أبواب. - الباب الأول: في ذكر سلاطينهم وأصلهم ويقف عند سلطان عصره في سنة 1203 سليم خان الثالث. - الباب الثاني: في ذكر دخول العثمانيين إلى افريقة. - الباب الثالث: في ذكر أمراء تونس التابعين للسلطنة العثمانية.

ت - أهميتها

واعتمد في هذه المقالة على بشائر أهل الإيمان لحسين خوجة والمؤنس لابن أبي دينار، وفي خصوص حسين بن علي وابنه علي باشا، يوجه المؤلف القارئ إلى الحلل السندسية للوزير السراج والكتاب الباشي لحمودة بن عبد العزيز. الخاتمة: في ذكر ما يتعلق بصفاقس ووطنها. وقسمها إلى أربعة أبواب: - الباب الأول: في ذكر وضعها وما يتعلق به. - الباب الثاني: في ذكر ولاتها. - الباب الثالث: فيما وقع لأهل صفاقس من الجهاد في الأعصار المتأخرة ويتناول فيه خاصة المعارك التي خاضتها صفاقس مع مالطة والبندقية. - الباب الرابع: في ذكر أهل الخير والصلاح والأولياء المتقدمين بصفاقس ووطنها، وهو أطول الأبواب. واعتمد المؤلف في خاتمته على رحلة التجاني، ومعالم الإيمان للدباغ، ومناقب سيدي أبي إسحاق الجبنياني للبيدي، ومناقب سيدي أبي الحسن الكراي، ويعتمد خاصة في الباب الأخير على معلوماته، والخاتمة - كما سنبينه فيما بعد - أهم ما جاء بالكتاب. ت - أهميتها: ضبط المؤلف لنفسه وصف المغرب ورواية تاريخه ثم التركيز على مدينته صفاقس، والمتتبع لحلقات الكتاب يشعر وكأن المؤلف يتردد فيما ضبطه لنفسه لأنه يتأرجح بين المغرب والمشرق وتاريخ المغرب وتاريخ الإسلام عامة، ويرجع ذلك إلى غاية منهجية جعلته يبدأ بالأصل وينتقل منه إلى الفرع قصد الإيضاح، وفسر ذلك أحمد عبد السلام بقوله: «والحقيقية أن التمييز بين التاريخ الإسلامي والتاريخ المغربي ليس في متناول محمود مقديش ومعاصريه إذ أن تاريخ المغرب جزء من تاريخ العالم الإسلامي، وهذا التاريخ هو في نظر مقديش التاريخ كله، والمغرب يدخله عن طريق الفتح الإسلامي» (¬26). وباستثناء الفقرات والأجزاء التي حررها المؤلف، فإن الكتاب يغلب عليه طابع النقل والتجميع وقد أشار إلى ذلك نالينو، وكراتشكوفسكي اعتمادا عليه، وأحمد عبد السلام في أطروحته، والنقل والتجميع أشمل في الجزء الأول من الكتاب، وقال في ذلك أحمد عبد السلام: «إن المقالات التي خصصها المؤلف للتاريخ تعتمد على النقل، ولكنها أقل شمولا، وأقل غموضا من العمل الذي قام به الوزير السّرّاج في نفس الإتجاه، وإن استعمل نفس مراجعه، ولعله استوحاها من سلفه الجاد هذا، فمقديش لا يعطينا في هذه المقالات معلومات طريقة خاصة به، ولا بد أن نرى في رأيه الذي اقتضته ¬

(¬26) أحمد عبد السلام، Les historiens ، ص: 275.

منه المجادلات خاصة بأحداث سبقت صدى للآراء التقليدية المسلم بها عامة، ولا أن نرى فيها نتيجة لاختياره الشخصي» (¬27). ولا بد أن نستثني - في القسم التاريخي هذا - المعلومات الخاصة به التي أفادنا بها عن المدن الإفريقية، تونس والمهدية والقيروان، وسوسة، والجم، وجربة وصفاقس خاصة، وكذلك عن الجزائر والإسكندرية وطرابلس، وهذه المعلومات هامة ومفيدة وإن كانت مختصرة في بعض الأحيان، وتعطينا فكرة واضحة عن بعض الأحوال خلال القرن الثامن عشر، وفي محاولاته للمقارنة بين مصادره القديمة، ومعلوماته ومشاهداته، أعطى للتأثير الزمني حقه، فمثلا لما عقد كلامه عن الإسكندرية ومعالمها كالمجلس الذي بجنوبها، والاسطوانة المفردة الكائنة في الركن الشمالي من هذا المجلس قال تصحيحا للإدريسي الذي نقل عنه «ولقد وقفت عليها سنة إحدى ومائتين وألف، فلم يبق من هذا المجلس أثر، وإن هذه الإسطوانة المفردة نحتها أصحاب الطمع رجاء أن يجدوا تحتها بعض الكنوز، فلما لم يجدوا شيئا ردموا ما احتفروه» (¬28). وبرأ أهل جربة من الأقوال المشينة التي وردت في نزهة المشتاق «والصفحات التي يتحدث فيها عن جربة تمثل مدخلا ممتازا لدراسة انتشار المالكية داخل هذه الجزيرة، وحركتها المفوقة ضد نظام الخوارج بها بفضل دعم المراديين لها» (¬29). وتصحيح المؤلف لمصادره واكمال معلوماته فيما يتعلق ببعض المدن، المدن التي تعرف عليها مباشرة وألفها، فيه خطر، فاكتفاؤه بالنسبة للمدن الأخرى بنقل الإدريسي وغيره نقلا حرفيا دون أن يعطي لتأثير الزمن حقه فيها كما أعطاه لغيرها قد يوهم القارئ أن الحالة بقيت في عصره على ما كانت عليه في الماضي. ولا بد أن نشير إلى خطر آخر تنبيها للقارئ، فالمؤلف - كما أشرنا - له ميوله الدينية والسياسية، والثانية امتدادا للأولى، فهو سنيّ راسخ العقيدة، فاختار ما يلائم هذا الإتجاه، وصنف كتابه على أساسه، فهو يتحيز للإسلام في معاركه ضد الكفار، والنرمان، فأسقط من نزهة المشتاق جل ما يتعلق باحتلال النرمان لبلاد الإسلام، ومالطة التي يرفق ذكرها بدعائه عليها «دمرها الله»، والصليبيين في الشرق، ويأخذ كذلك موقفا مماثلا تجاه الحركات المضادة للحكومات التي يراها شرعية، ومنها حركة أبي يزيد الخارجي، والحركة الشيعية الفاطمية، وحركة التتر، وفي آخر المطاف يتشيع للدولة العثمانية التي يرى فيها منقذ بلاده «من أهل الكفر والضلال»، فيمجد رجالها وأعمالها، كما يتشيع لعلي باشا الأول ويشيد بالجزائر العثمانية في بعض أوقاتها، ويغض الطرف عن تدخلاتها الحربية في تونس، وإن قبلنا تشيعه كرجل مؤمن مساير لتقاليد عصره فمن المتأكد علينا، إن بقينا في حيز التاريخ، أن نعتبر موقفه هذا من الأحداث موقف المتحذر. ¬

(¬27) نفس المرجع ص: 283. (¬28) النزهة ص: 148. (¬29) أحمد عبد السّلام، المصدر السابق، ص: 283.

4) النسخ المعتمدة في التحقيق

وأهم ما جاء بالكتاب ثلثه الأخير، وسماه الخاتمة وأفرده لمدينته صفاقس، وكأن كلّ ما سبق سياق لها، وفيها يعطينا معلومات ينفرد بها عن هذه المدينة، تتعلق بتأسيسها، وموقعها، وتاريخها منذ أيامها الأولى، واقتصادها الفلاحي والصناعي والتجاري، والحياة اليومية ومقوماتها، والحياة الديمغرافية ومعوقاتها، وطبائع الناس، وحركة التعليم بها، وجملة من تراجم مشايخها وصلحائها، ويطنب في الحديث عن مقاومة هذه المدينة لأعدائها: النرمان، وفرسان مالطة، والبلنسيان، على مر الزمن دون أن يهمل معنى ولا قصة بطولية حتى ولو بدت خرافية، باعتزاز وفخر دون تصريح، فالخاتمة تمثل مرجعا من أهم المراجع لمعرفة أحوال صفاقس في القرن الثامن عشر وكذلك لمعرفة أحداث عامة، أهمها الحرب المالطية التونسية، والحرب التونسية البندقية، وتاريخ هذه المدينة في شتى ألوان حياتها كما قدمه المؤلف يتطابق مع النظرة التاريخية الحديثة، وكما قال أحمد عبد السلام: «إن نزهة الأنظار لمؤلفها محمود مقديش قدّمت بدقة حياة صفاقس بما فيها من أفراح وأتراح، وهذا يمثل أكبر قيمة لها» (¬30). ولغة الكتاب على مستويات مختلفة إذ ليست كلها لمقديش، فهو ناقل ومؤلف، ولغته الخاصة نعجب لها، فهي متينة في المقدمة وضعيفة في أكثر النزهة، ويستعمل فيها الكلمات العامية - يطين في معنى يطمس، وناموس في معنى الهيبة. . .، وأيضا يكتب الكلمة الفصحى كما تنطق في اللغة العامية - مونة العسكر عوض مؤونة، وصرايا عوض سرايا - وأسقط الهمزة مثلا التم عوض التأم. . . وفي القسم الأخير من كتابه لا سيما عند الكلام عن الصوفية والصالحين يصل أسلوبه إلى حد كبير من الإسفاف والضعف». 4) النسخ المعتمدة في التحقيق أ - مخطوطة شيخ الإسلام أحمد عارف حكمت بالمدينة المنورة: جزءان في مجلد. عددها الرتبي 142. مقاسها: 17/ 24. عدد أوراقها: ج 1: 250، ج 2: 350. مسطرتها: 21. لم يذكر الناسخ إسمه، نقلها عن نسخة بخط المؤلف. الإنتهاء من نسخها 1238 هـ ‍. ¬

(¬30) أحمد عبد السلام، نفس المرجع، ص: 284.

ب - مخطوطة المكتبة الوطنية بتونس

خطها: خط مغربي واضح، العناوين بالحبر الأحمر الباهت. الإشارة إليها: ش. هذه المخطوطة هي المعتمدة أساسا. ب - مخطوطة المكتبة الوطنية بتونس: جزءان. عددها الرتبي: 2520. مقاسها: 17/ 5، 23. عدد أوراقها: ج 1: 527، ج 2: 434. مسطرتها: 22. الناسخ: محمد المنوبي الفراتي. الإنتهاء من نسخها: أول شوال 1322 هـ ‍. خطها: مغربي. الإشارة إليها: ت. ت - الطبعة الحجرية: جزءان في مجلد. مقاسها: 19/ 5,26. عدد صفحاتها: ج 1: 256، ج 2: 227. مسطرتها: 26. الإنتهاء من طبعها: 1321 هـ ‍. الإشارة إليها: ط. ج - مخطوطة المكتبة الوطنية بباريس: جزء 2، اعتمدنا عليها في تحقيق الجزء الثاني. عددها الرتبي: القسم العربي 6828. مقاسها: حجم متوسط. عدد أوراقها: 196. مسطرتها: 21. تنتهي بالنص التالي: «وافق الفراغ من تغليفه يوم الثلاث الخمسة والعشرون من محرم 1319. هذه النسخة امتاع محمد بالحاج محمد المذكور. . .». خطها: سمي مغربي. العناوين والفواصل بالحبر الأحمر. الإشارة إليها: ب.

وبالمكتبة الوطنية بباريس نسخة أخرى للجزء الثاني أيضا. عددها الرتبي: القسم العربي 5146. مقاسها: 24/ 16. عدد أوراقها: 191. مسطرتها: 24. تاريخ نسخها: ذكر من جمع الكتاب ونقله إلى فرنسا أن تاريخ نسخه يرجع إلى سنة 1886. ولكن ليس هناك في نص الكتاب ما يثبت هذا التاريخ.

رموز واشارات

رموز واشارات ط: طبعة. م. س: مصدر أو مرجع سابق. [5 أ] أول الورقة وجه. [5 ب] أول الورقة ظهر. [] ما بين حاصرتين إكمال من نسخ أخرى أو مقترح من المحققين لاستقامة المعنى. () ما بين القوسين حصر لكلمة أو لجملة وقع تفسيرها في الهامش، أو إضافة من المؤلف عما هو ناقل عنه. 5/ 120 الرقم السابق للخط المائل يشير للجزء والثاني يشير للصفحة بالنسبة للمصادر والمراجع. ما بين الهلالين آيات قرآنية. التواريخ: الرقم السابق للخط يشير للسنة الهجرية وما يليه مقابله السنة المسيحية. ملحوظة: 1) المؤلف ناقل عن غيره خاصة في الجزء الأول ويتصرف في بعض الأحيان في نقله ويصيب تارة ويخطئ أخرى، وفي بعض المرات. . . رأينا من المفيد الإشارة في الهامش إلى مقابل مقترحه الصائب من النص المنقول عنه، وكلما أخطأ صوبنا خطأه في النص مع الإشارة في الهامش إلى مراجع التصويب. 2) وضعنا كل العناوين التي داخل النص تسهيلا للقراءة.

الصفحة الأولى على وجه من «ش». مخطوط

الصفحة الأولى وجه من «ت». مخطوط

صفحة من «ط». مخطوط

مقدمة الكتاب

مقدّمة الكتاب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلّى الله على سيدنا محمد وسلّم (¬1) تمهيد: الحمد لله ذو المجد والعز والملك الذي لا يزول، الغالب على أمره فلا معقب لحكمه ولا مغير، ولا ينتقض ولا يحول، دائم الوجود، فلا يتحدد بالأعصار والدّهور، والأوقات والفصول، تنزه عن الجهة والمكان، وعن أن يحيط بكنه ذاته الأوهام بل ولا العقول، كرّم بني آدم وحملهم في البرّ والبحر، وفضّلهم على كثير ممن خلق تفضيلا، ورفع بعضهم على بعض خلافة وملكا، وعلما وعملا، وحكمة ونبوءة وولاية، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا، علّم الإنسان بالقلم ما لم يعلم، ووهبه خيرا جزيلا، ويسر علينا ضبط العلوم والآثار، ونقل ما انتقش على صفحات الأيّام من الأخبار، وألهمنا إلى ردّ وقائع الأكوان الماضية إلى أوقاتها، وتقييد الحوادث الحاضرة بساعاتها، وجعل لنا في القصص عبرة وذكرى، وأيقظنا به من سنة الغفلة، وجعل لنا أحسن القصص في كتابه العزيز تلاوة وذكرى، فكم شاهدنا ببصائرنا ما لم نشاهده بأبصارنا، وكم سرحت أفكارنا في ديار قوم نأت عن ديارنا، حتى حضرنا في لحظة واحدة في بقعة واحدة ما تطاولت به الدهور ونأت به الأقطار، وصارت واقعات الكون محصورة في دور من الأدوار، ودار من الديار، وجعلنا القاصين (¬2) لآثار من سلفنا، مبلغين (¬3) ما ثبت لدينا لمن خلفنا، ناقلين ما أبقاه الدهر من الأخبار، راقمين لأحوال من مضى وما لهم من الآثار، والصّلاة والسّلام على سيدنا ومولانا محمد أشرف من تعلّم وعلّم، ووعظ بذكر من مضى من الأمم، وزهد في الدنيا الدنيئة فهي عبرة لمن اعتبر، وفي تقلبها بأهلها تبصرة لمن تبصر، ورضي الله تعالى عن ¬

(¬1) في ط: «وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم». (¬2) في ت، وط: «وجعلنا من القاصين». (¬3) في ت: «ناقلين مبلغين».

آله وصحبه الذين بنقل آثارهم المرضية، وتصفح سيرهم الزكيّة، نهتدي إلى الصّواب والحق المبين، والتمسك بأذيال شبههم السّنية، نفوز بعين اليقين، إن هذا لهو حق اليقين، وسبحان الله العظيم. أما بعد فإن علم التاريخ الذي اعتنى بتحريره أساطين حفّاظ الرواة، واشتغل بتنقيحه الأئمة المحققون الهداة، من أفضل العلوم نفعا، وأشرف المزايا قطعا، إذ بمعرفته يكون اللّبيب في دار الغرور على أهبة سفر، وبتعاطيه يكون الموفق دائما على حذر، وفيه للفضلاء النبلاء تذكرة وهن للتهيئ للرحيل، وإيقاظ للغافل (¬4) من نومة كسله، وتسويفه إلى المبادرة بالتوبة التي هي إلى السعادة أهدى دليل، وتنشيط للمتواني ليتلافى (¬5) ما بقي من عمره فإنه نزر (¬6) قليل، وفيه مع ذلك امتثال لقوله صلّى الله عليه وسلم «ليبلغ الشاهد الغائب» أو كما قال: «فإنه علم شامل لتبليغ جميع ما فيه نفع للخلق، من أحكام ومواعظ وكل نافع من الكلام»، وقالوا: «من كتب وقائع أيامه فقد كتب كتابا لمن بعده، ليشاهد حوادث دهره وأعوامه، ومن قيّد ما شاهد فقد أهدى لمن بعده أسرارا، ومن كتب التاريخ فقد زاد في عمر من يخلفه أعمارا، وبوّأه بسماعه (¬7) ديارا لم تكن له دارا، وأحلّ أهل الآفاق بلادا ما كانت لهم منزلا ولا قرارا. شعر (¬8): فإنني إن لم أر الديار بعيني، فلعلّي أرى الدّيار بسمعي، ولقد أفادنا الأمم الماضون بأخبارهم، وأطلعونا على ما دثر وما بقي من آثارهم، فأبصرنا ما لم نشاهده بأبصارهم، وأحطنا بما لم نحط به خبرا بأخبارهم، فحق على من تيسر عليه نقل ما شاهد، وسمع ما لم يشاهد أن يبلّغ من بعده كما بلغه من قبله كما قال: «لقد غرسوا حتى أكلنا وإننا، لنغرس حتى يأكل الناس بعدنا». هذا وقد سألني بعض اخواننا من أهل العصر لما سمع بعض مغازي الصحابة الأعلام - رضي الله تعالى عنهم - حين فتحوا المغرب الفتح الأول، ومغازي المجاهد في سبيل الله عبد المؤمن - رحمه الله - لإفريقية الفتح الثاني لما استولى عليه الكفار من البلاد البحرية، ومغازي العساكر العثمانية لتونس عند الفتح الثالث لما استولى عليها الكفرة (¬9) فاستنقذوها - رحم الله أسلافهم وأخلافهم وقرن النصر براياتهم -، وطلب مني تقييد شيء من ذلك مع تقييد شيء من أحوال أمراء الإسلام القائمين بحفظ المغرب من الفتح الأول إلى الآن، ¬

(¬4) في ت، وط: «وإيقاظ الغافل». (¬5) في ت، وط: «ليلاقي». (¬6) في ش: «نور». (¬7) في ش: «ساعة»، والظاهر أنها هفوة من الناسخ لعدم استقامة المعنى. (¬8) ما سيأتي ونصن عليه المؤلف بالشعر ليس إلاّ نثرا كما يلاحظه القارئ. (¬9) في ش، وط: «الكفرة اللئام».

وتحديد المغرب برا وبحرا، وذكر بلدان المغرب وخواصها وسكانها، ومساحة ما بينها، مع ذكر أهل الفضل من العلماء والصالحين بخصوص صفاقس من الماضين والحاضرين، وذكر أحوالها مع ذكر ما تيسّر من فضلاء غيرها على سبيل الإختصار، فرأيت فيما دون ما طلب خرط القتاد سيّما من مثلي ممن لا مادة له في تعاطي هذا الخطب العظيم الشأن، ومع ذلك فلست أعد نفسي أهلا لأن أكون من فرسان هذا الميدان، وأحرى وأنا في بلد مطروح في زوايا الإهمال لإقبال أهله على تحصيل الدينار والدرهم والسعي على العيال، ولم يعتن الماضون بضبط أحوالها إلاّ بقدر ما (¬10) ليس له بال. فأكّد علي السائل الطلب، وصار لي كالغريم الممطول، ومدافعتي له كالفضول. فتصفحت ما لدي من المادة فإذا هي بضاعة مزجاة، وقد جرف الطاعون من بلدنا من كنا نعده من الرواة، ورأيت أنه لا يصلح لهذا الأمر إلاّ الوزراء وأرباب الدول الذين يتقلّبون في ظلال الملوك والسلاطين، ويطالعون خزائنهم المحتوية على مادة التواريخ ويتدارسونها كل وقت وكل حين، وتتصرف على أيديهم حوادث العصر والأوطان، ووقائع السلاطين والبلدان، فأحجمت عما سئلت إحجام العاجز الكليل، وتقاعست عن التقدم لهذا الخطب الجسيم، إلاّ أن السائل حسب أن كل بيضاء شحمة وكل سوداء (¬11) تمرة، وظن أن هذا الأمر عندي على طرف اللثام (¬12)، وأنه مما يقال في أيسر أيام. فجعل يكرر السؤال المرة بعد المرة، وأنا أتعلل في كل كرة، فشبهت حاله معي بحال الطفل الصغير، إذ يظن أن أباه على كل شيء قدير. ولما لم ينفع التعلل والمدافعة بالتي هي أحسن وأوفق. قلت: «أدفع السائل بظلف محرق». فعزمت على إسعافه بقدر الطاقة، وتوكّلت على الله، وطلبت منه الإعانة والتّوفيق، فإنه بتحقيق الأمنية حقيق، وبيده أزمّة (¬13) التّحقيق. وكتبت ما تيسر لي وإن كان شيئا يسيرا، لكنه بالنسبة لأمثالي قد يعده المنصف خيرا من الله كثيرا. والمرغوب من ذوي الفضل والكرم أن يعاملوني بالفضل والرضا والسماح، لا بالسخط والإفتضاح. ولله در القائل: [طويل] وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا [طويل] فقلت لهم لا تنسوا الفضل بينكم ... فليس ترى عين الكريم سوى الفضل ¬

(¬10) في ت: «إلاّ ما قدر هما»، وفي ط وش: «إلاّ مما قدره»، والتّصويب من عندنا ليستقيم المعنى. (¬11) كذا في ط، وفي ت: «أسود»، وفي ش: «سواد». (¬12) ما على الفم من النقاب، تاج العروس 9/ 55. (¬13) في ط: «أزمنة».

وإذا عثروا لي علي غلط صريح أو نقل غير صحيح أن يردوه بالّتي هي أحسن بعد التثبت والتحقيق لأن هذه أخبار ينقلها الرواة وكل ينقل على حسب ما ثبت عنده وتقرر، ويؤرخ حسب (¬14) ما لديه تحرر، والتعرض لنقل الأقوال المختلفة قد يفضي إلى الملل (¬15) ويورث الكسل، فيأخذ الإنسان بحسب اجتهاده ما يراه أقرب للصواب، والله أعلم وعنده أم الكتاب. وحصرت ما كتبته في مقدمة وإحدى عشرة مقالة وخاتمة، فجاء بحمد الله مهماته كأحد عشر كوكبا والشّمس والقمر بازغة غير كاسفة ولا آفلة، وسميته «نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار». وها أنا أشرع في المقصود بعون الله المعبود فنقول: أما المقدمة ففي حدّ علوم التاريخ وموضوعه وفائدته ومنفعته، وأول من أرّخ في الإسلام فيكون هو كواضعه. وأما المقالات: فالأولى في تحديد المغرب برّا وبحرا، وأسماء البلدان وخواصّها وسكّانها، ومساحة ما بينها، والمراسي وما يتعلق بذلك. الثانية في ذكر الخلافة وخلفاء الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وخلفاء بني أميّة بالمشرق، وما وقع من الفتح الأول لأرض المغرب على أيدي الصحابة وأمراء بني أمية. الثالثة في ذكر خلفاء بني العباس وبعض أمرائهم بالعراق وأمرائهم بالمغرب. الرابعة في ذكر ملوك الشيعة غربا وشرقا وما يتعلق بذلك. الخامسة في ذكر ملوك صنهاجة بالمغرب، ونور الدّين بالشّام وصلاح الدّين بمصر والشّام، وكيفية قطع مذهب الشيعة من هذه الأقطار. السّادسة في ذكر خلفاء بني أمية بالأندلس ودول الطوائف بعدهم. السّابعة في ذكر ملوك لمتونة بالعدوة والأندلس. الثّامنة في ذكر دولة الموحّدين بالعدوة والأندلس، وفتح عبد المؤمن الفتح الثاني لمّا استولى عليه الكفار من البلاد البحرية. التاسعة في ذكر بني مرين (¬16)، وبني زيّان بتلمسان، وبني نصر بالأندلس. العاشرة في ذكر دولة بني حفص بإفريقية. ¬

(¬14) في ط: «بحسب». (¬15) في ت: «قد يمضي إلى المال». (¬16) في ت، وط: «دولة بني مرين».

المقدمة

الحادية عشرة في ذكر دولة آل عثمان وأمرائهم الذين فتحوا تونس الفتح الثالث من أيدي الكفار عند استيلائهم عليها. الخاتمة فيما يتعلق بخصوص صفاقس ووطنها بقدر الطاقة. المقدمة: أما بيان المقدمة في حد علم التاريخ الخ، فاعلم أن التّاريخ في اللغة مصدر أرّخ الكتاب إذا وقّته، وفي العرف اسم لعلم ضابط لوقائع الأعصار الماضية والحاضرة، مما له خطر وشأن بوقته للنقل، فخرج بالماضية والحاضرة المستقبلة. فإن العلم المتعلق بها أن أسند للرّسول صلّى الله عليه وسلم سمّي علم الملاحم، وإن أسند لغيره كالإمام علي وذريّته - رضي الله تعالى عنهم -، سمّي علم الأجفار (¬17) وبقول ما له خطر ما لا خطر له مما تجري به العادة فإن ذلك لا يضبط (ولا يتعلق بضبط) (¬18) غرض، وبقولنا بوقته (¬19) مخرج للقصص المجرّد، وبقولنا للنّقل ضبط الحقوق الشّرعية للتوثيق بأوقاتها فإن الغرض منها إثبات الحقوق لا مجرد النقل. ثم التاريخ إن تعلّق بأحوال الرّسول صلّى الله عليه وسلم، وأحوال الصّحابة - رضي الله تعالى عنهم - سمّي علم السّير، وقد يخص ما تعلق من ذلك بالقتال في سبيل الله باسم علم المغازي، فيطلق التاريخ (على ما سوى) (¬20) ذلك كما هو الشائع. ومن هذا التعريف يؤخذ موضوعه وهو (الوقائع المعتبرة) (¬21) مما له شأن. وأما منفعته فمعرفة أحوال من مضى ¬

(¬17) الأجفار، جمع جفر بفتح الجيم وسكون الفاء وهو ما بلغ أربعة أشهر من أولاد المعز وفصلت عن أمها. قال المعري: لقد عجبوا لأهل البيت لما أتاهم علمهم في مسك جفر ومرآه المنجّم وهي صغرى أرته كل عامرة وقفر والمسك بفتح الميم الجلد. أنظر حياة الحيوان الكبرى للدميري 1/ 197، وفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 404 - 405 في ترجمة عبد المؤمن بن علي، الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى للناصري 2/ 88 - 89، وفيه كتابة محررة مقيدة، ولهذه الكلمة معان أخرى أنظر مثلا تاج العروس 3/ 104. ويقصد في النص العلم الذي يسمى علم الحروف وهو علم يدعي أصحابه أنهم يعرفون به الحوادث إلى انقراض العالم، لويس معلوف، المنجد، بيروت، ص: 94. (¬18) سقطت من ت. (¬19) في ت: «بقوته». (¬20) في ش، وت: «فجاء ما سوى». (¬21) في ت، وش: «الواقع المعبرة»، وهو تحريف من الناسخ لعدم استقامة المعنى.

من أولى الأقطار، وأما غايته فإليها الإشارة بقوله - علت كلمته - {لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} الآية (¬22) {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ} (¬23) إلى غير ذلك حسبما أشرنا إليه في الخطبة. وأما واضعه فقال الجلال السّيوطي - رحمه الله تعالى -: والمحفوظ أن الأمر بالتاريخ من عمر - رضي الله تعالى عنه - أخرج البخاري في «الأدب المفرد» والحاكم عن مكحول بن مهران: رفع إلى عمر ورقة فيها شعبان، فقال: شعبان الذي نحن فيه أو الآتي أو الذي مضى؟ فقال عمر لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم: ضعوا للناس شيئا يعرفونه من التّاريخ. فكان عمر - رضي الله تعالى عنه - أوّل من حض على ذلك، فقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الرّوم، فقال: إن الرّوم يطول تأريخهم يكتبون من ذي القرنين، فقال: اكتبوا على تأريخ فارس. ولم يزل يدور الحديث (¬24) بينهم إلى أن أجمع رأيهم على الهجرة، فإن الهجرة كانت [من] (¬25) عشر سنين، فكتبوا التاريخ من هجرة النبيء صلّى الله عليه وسلم فكان عمر - رضي الله تعالى عنه - أول من وضع للنّاس (¬26) التاريخ الإسلامي المقيّد بكونه من هجرة النبيء صلّى الله عليه وسلم (¬27) وقال في «سمط اللآل» (¬28): لم يكن في صدر الإسلام تأريخ إلى أن ولي عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - وافتتح (¬29) بلاد العجم ودوّن الدواوين، وجبى الخراج، وأعطى الأعطية، فقيل له ألا تؤرّخ؟ فقال: وما التأريخ؟ فقيل له: شيء كانت الأعاجم تفعله يكتبون في شهر كذا من سنة كذا. فقال عمر: هذا حسن، فأرخوا (¬30). وقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: قد ذكر الله تعالى التأريخ في كتابه العزيز فقال: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجِّ} (¬31). ومن استعمال التاريخ بمعنى التوقيت قوله تعالى {فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً} (¬32). ¬

(¬22) سورة يوسف: 111. (¬23) سورة هود: 120. (¬24) في مكانها في الأصول: «التاريخ»، والمثبت من الوزير السراج الذي يقدم نفس النص في الحلل، المجلد الأول، ص: 158. (¬25) زيادة يقتضيها المقام. (¬26) كلمة سقطت من ت وط. (¬27) ورد الخبر في الكامل لابن الأثير 1/ 10. (¬28) سمط اللآل في تعريف ما بالشفا من الرّجال، تأليف الشّيخ محمد قويسم بن علي التونسي المالكي المعروف بالنواوري (1033/ 1623 - 1114/ 1702). والكتاب توجد منه نسخة بالمكتبة الوطنية وأصله من المكتبة الأحمدية بجامع الزيتونة، ويقع في أحد عشر جزءا من القطع الكبير، أنظر الزركلي، الأعلام، 7/ 233. (¬29) في ت: «وفتح». (¬30) محمد قويسم، سمط اللآل، 1/ 17. (¬31) سورة البقرة: 189. (¬32) سورة القصص: 29.

المقالة الأولى [في تحديد المغرب برا وبحرا وأسماء البلدان]

المقالة الأولى [في تحديد المغرب برا وبحرا وأسماء البلدان] في تحديد المغرب برا وبحرا وأسماء البلدان وخواصها وسكّانها ومساحة ما بينها، وأسماء المراسي وما يتعلق بذلك حسبما ذكره أبو عبد الله محمد الشريف الإدريسي (¬1) في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» الذي ألّفه للجار (¬2) الكافر المتغلّب على صقليّة والبلاد البحرية من افريقية. وهذه المسائل أخذها من «جغرافيا» (¬3) الذي كان استخرجه بطليموس الاقلوذي (¬4) فإنه بحث فيه عن كرة (الأرض، وما اتصل بها وهو في مقابلة المجسطي (¬5) الذي بحث فيه عن كرة) (¬6) الأفلاك وما اتّصل بها، ووجه ذكرنا لهذه ¬

(¬1) أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن عبد الله بن إدريس، ينتمي إلى بيت الادارسة العلويين، ولهذا السبب اشتهر بالشريف الادريسي، عاش مدّة في بالرمو بصقليّة في بلاط روجر وطلب منه هذا الملك وضع شيء في شكل صورة للعالم، فرسم له ما عاينه من البلدان على كرة من الفضّة كانت منطلقا لكتابه الضّخم المعروف «بنزهة المشتاق في اختراق الآفاق» وقد انتهى من تأليفه سنة 1154 م قبل أسابيع من وفاة روجر، واختلفت الأقوال في تاريخ وفاة الادريسي، وعلى أرجح الأقوال فانه توفي سنة 560 هـ - 1166 م، أنظر مثلا كراتشكوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي. . .1/ 279. (¬2) لجار وتكتب أيضا في المصادر القديمة رجار، ويقال فيه أجار بهمزة بدل الراء وجيم مشدّدة وبعد الألف راء (كراتشكوفسكي 1/ 78) وتكتب حديثا روجر وروجار. وهو روجر الثاني Roger II ولد سنة 1095 م وتوفي سنة 1154 م أول ملوك النرمان بصقليّة منذ سنة 1130 م. اشتهر بفتوحاته وتحويل بلاطه إلى مركز مشع للدراسات، ومن عناصره البارزة الشريف الادريسي. (¬3) «المدخل إلى الجغرافيا» المعروف عادة باسم «جغرافيا» هو أحد المصنّفين الكبيرين لبطليموس. (¬4) في الأصول: الأفاودي. فكلوديوس بطليموس عرف عند العرب باسم بطليموس الاقلوذي كما في نزهة المشتاق ص: 56. وهو فلكي يوناني ولد وعاش بمصر خلال القرن الثاني للميلاد. كان لمؤلّفيه «الجغرافيا» و «الجامع» التأثير الكبير على العلوم الجغرافية والفلكية في القرون الوسطى، راجع كراتشكوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي 1/ 78. (¬5) أحيانا بكسر الميم، هو الاسم في شكله العربي لرسالة بطليموس في الفلك والحساب وتقع في ثلاث عشر كتابا بجداولها، وتسمى «الجامع» ودخلت هذه الرسالة إلى أوربا في صورة المجسط Almagest راجع الأدب الجغرافي. . .، 1/ 78 - 79. (¬6) ما بين القوسين سقط من ش.

المقالة أن ما يذكر فيها راجع إلى موضوع الكتاب إذ البحث عن بلاد من بلدان المغرب وعن أمرائها وغير ذلك موقوف على معرفة تلك البلاد، وذكر غيرها تبع لها، فمن ثم مسّت الحاجة إلى ذكرها، وفيها أربعة أبواب.

الباب الأول في تحديد المغرب برا وبحرا

الباب الأول في تحديد المغرب برا وبحرا البحر المظلم: اعلم (¬1) ان أول المغرب برا من جهة مغرب الشّمس هو البحر المحيط، ويسمّى البحر المظلم وبحر الظلمات وهو البحر الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله تعالى من حيث الوقوف والمشاهدة بالعيان وإن كان من المعلوم بالضّرورة أنه ينتهي بالآخر (¬2) من جهة العلو إلى الهواء، ومن جهة السّفل إلى الأرض، لكن لم يقطع ظهره بالرّكوب أحد، فلهذا يقال لا يعلم ما وراءه إلا الله (¬3). وفي هذا البحر من هذه الجهة الجزائر الخالدات الستّ التي أخذ منها بطليموس (¬4) ابتداء أطوال (¬5) البلدان لجميع الأرض، كما أخذ ابتداء الأعراض من خط الاستواء والاعتدال، وفي هذه الجزر جزيرتان في كل واحدة منهما صنم مبني بالحجارة وارتفاع (¬6) كلّ صنم منهما مائة ذراع، وفوق كل صنم منهما صورة من نحاس تشير بيدها إلى خلف، أي ما ورائي شيء ولا مسلك، إحداها (¬7) مسفهان (¬8) والأخرى لقوس (¬9) وإليها وصل الإسكندر ثم رجع. وحديث البحر المظلم وعجائبه يطول. وسنشير إلى بعض منه فيما بعد. وسمّي محيطا لإحاطته بالأرض من جميع الجهات وهي مغرقة في وسطه كالأترجّه الملقاة في بركة من ماء والقدر البارز من الأرض قيل الثلث، وقيل غير ذلك. ¬

(¬1) ينقل عن الادريسي بتصرف، راجع صفة المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس من كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، طبعة ليدن 1668، ص: 2 وص: 28. وسنشير إليها فيما يأتي بنزهة المشتاق اختصارا. (¬2) في ش: «بالأخرى». (¬3) في ط: «ما وراءه أحد إلاّ الله». (¬4) في ت: «بطليموس الحكيم». (¬5) كذا في نزهة المشتاق ص: 28. في ت وط: «طول» وكذلك في نزهة المشتاق، ص: 2. (¬6) في نزهة المشتاق: «وطول كل صنم». (¬7) أي الجزائر الخالدات. (¬8) في الأصول «سفهان» والمثبت من ن. م. ص: 28. (¬9) كذا في بعض نسخ الادريسي وفي غيرها «لغوس».

الحدود البرية للمغرب

وما بقي من الأرض فغامر (¬10) في الماء. وكان مقتضى الاستدارة التي هي طبع الماء أن يحيط بجميع الأرض فلا يظهر منها شيء، لأنه أخفّ من الأرض طبعا فلا ينكشف منها شيء، وتكون إحاطته بها من جميع الجهات على حدّ سواء، لكن اقتضت الحكمة والمشيئة الأزليّة انكشاف بعض الأرض ليكون مسكنا للحيوانات البرية ومنبتا لمعاشها وسمّي مظلما لأن جهة الشّمال منه ممّا يلي القطب الشمالي مظلمة ليلا ونهارا في بعض الفصول، لأن القطب الشمالي يكون فيه محاذيا لسمت الرأس، فإذا بلغت الشّمس البروج الجنوبية اختلطت حصة الليل بحصة النهار وصار الدور كله ليلا فاستولت الظلمة وبطل قوس النهار، ومحل تفصيل ذلك علوم الهيئة. الحدود البرية للمغرب: ونهاية بر المغرب من جهة مشرق الشمس اسكندريّة وما يليها من البحر الثاني (¬11)، ولذا يقال: إن إسكندريّة مصريّة مغربيّة. ونهايته من جهة الجنوب الصّحراء المتاخمة لبلاد السّودان، ونهايته من جهة الشّمال آخر بلاد الأندلس وما يليها من البحر المظلم. حفر الزقاق: وأما بحر المغرب ويسمّى البحر الشامي، والبحر الرّومي فهو فيما يحكى كان بركة منحازة، لا يتّصل بشيء من البحور، وكان أهل العدوة (¬12) من الأمم السالفة يغيرون على أهل الأندلس فيضرون بهم كل الضّرر (¬13)، ويكابدون منهم الأهوال الشّديدة فيحاربونهم جهد الطّاقة إلى زمن الاسكندر، فلما وصل إلى أهل الأندلس، أعلموه بحالهم وما هم عليه من التناكر (¬14) مع أهل السوس ببر العدوة، فقبل شكواهم، فأحضر ¬

(¬10) في ط وش: «فغامر». (¬11) في ط: «الشامي». (¬12) يقصد أهل المغرب الأقصى. (¬13) كذا في الأصول، وفي نزهة المشتاق: «الاضرار» ص: 165. (¬14) في الأصول: «التناكد» والمثبت من ن. م. ص: 165.

المهندسين، وقصد مكان الزقاق، وكان أرضا جافّة فأمرهم بوزن سطح ماء البحر المظلم، وسطح ماء البحر الشامي، فوجدوا سطح ماء البحر المظلم يشف علوه على سطح ماء البحر الشامي بشيء يسير، فأمر برفع البلاد التي على ساحل البحر الشّامي من جميع جهاته ونقلها من أخفض إلى أرفع، ثم أمر أن تحفر الأرض التي بين بلاد طنجة وبلاد الأندلس. فحضرت الفعلة وحفرت حتى وصل الحفر إلى الجبال التي في أسفل الأرض، وبنى عليها (¬15) رصيفا بالحجر والجيار أفراغا من ناحية الأندلس وكان طول البناء إثني عشر ميلا وهو بعد ما بين البحرين من المسافة. وبنى رصيفا آخر يقابله من ناحية أرض طنجة، وكان بعد ما بين الرصيفين ستة أميال فقط. فلما أكمل الرصيفين حفر من جهة البحر المظلم مدخلا للماء، فدخل ومرّ ماؤه بقوّة سيله بين الرّصيفين حتى دخل للبحر الشّامي، فارتفع ماؤه كثيرا لأن ارتفاع سطح المظلم وإن كان قليلا لكنه لعظمه بالنسبة للشّامي يعلو سطح الشّامي كثيرا لصغره بالنسبة للمظلم، وغرقت مدن كثيرة كانت على سواحل الشّامي فهلك من كان بها وارتفع الماء فوق الرصيفين نحو إحدى عشرة قامة. فأما الرّصيف الذي يلي بلاد الأندلس فإنه يظهر في أوقات صفاء البحر في جهة الموضع المسمّى بالصّفيحة ظهورا بيّنا طوله على خط مستقيم، وأهل الجزيرتين (¬16) يسمّونه القنطرة. وأما الرصيف الآخر الذي كان في بلاد طنجة فإن الماء حمله في صدره واحتفر ما خلفه من الأرض (قدر اثني عشر ميلا) (¬17) وما استقرّ حتى وصل الجبال من كلتا الجهتين. وطول هذا المجاز المسمّى بالزّقاق اثنا عشر ميلا وعلى طرفه (ببر الأندلس) (¬18) من جهة المشرق الجزيرة الخضراء، وعلى طرفه في (¬19) جهة المغرب جزيرة طريف ويقابل جزيرة طريف (في الجهة الثانية من برّ العدوة مرسى قصر مصمودة) (¬20) ويقابل الجزيرة الخضراء من بر العدوة مدينة سبتة [وعرض البحر] (¬21) بين سبتة والجزيرة الخضراء ثمانية ¬

(¬15) في الأصول: «وبنى فيها» والمثبت من ن. م. ص: 166. (¬16) في الأصول: «الجزيرة» والمثبت من ن. م. ص: 166. (¬17) زيادة من المؤلف عما في ن. م.، أنظر ص: 166. (¬18) توضيح من المؤلف، أنظر نفس الصّفحة من ن. م. (¬19) في ت: «من». (¬20) ما بين حاصرتين قاله الادريسي هكذا: «ويقابل جزيرة طريف في الضفة الثانية من البحر مرسى القصر المنسوب لمصمودة». ولم يخل المؤلف بالمعنى وان اختصره. (¬21) اضافة من نزهة المشتاق للتدقيق، ص: 167.

المد والجزر

عشر ميلا هي عرض المجاز. وبين جزيرة طريف وقصر مصمودة اثنا عشر ميلا هذا ما ذكره في «النزهة» (¬22) و «خريدة العجائب» (¬23). المدّ والجزر: ونقل (¬24) الشيخ محمد بن محمود القزويني (¬25) في «عجائب المخلوقات» عن كتاب «أخبار مصر» أنه بعد هلاك الفراعنة، كان بمصر ملوك بني دلوكة، وكانوا أصحاب رأي وكيد، فطمع ملوك الرّوم في ملك مصر، فاحتال بنو دلوكة في شق البحر المحيط من المغرب وهو بحر الظلمات فغلب على كثير من البلدان العامرة والممالك (¬26) العظيمة، وامتدّ إلى الشّام وبلاد الروم، وصار حاجزا بين بلاد مصر والرّوم وهو الخليج الذي في زماننا هذا على أحد ساحليه المسلمون، وعلى الآخر النصارى من الإفرنج. وهناك مجمع البحرين وهما بحر الرّوم والمغرب عرضه (ستة فراسخ وطوله خمسة) (¬27) فراسخ، وفيه يظهر مد ماء البحر، وهو (زيادته وجزره وهو) (¬28) نقصانه في كل يوم وليلة كل واحد مرتين. وذلك أن البحر الأسود وهو بحر المغرب عند طلوع الشمس يعلو فينصبّ في مجمع البحرين حتى يدخل في بحر الرّوم وهو البحر الأخضر إلى وقت الزوال. فإذا زالت الشّمس غاض البحر الأسود وانصبّ فيه البحر الأخضر إلى غروب الشّمس ثم يعود المدّ إلى نصف الليل ثم الجزر إلى طلوع الشّمس (¬29) وهكذا، وقال قبل ذلك (¬30): تعرض للبحار أحوال عجيبة من ارتفاع مياهها ومدّها وهيجانها في أوقات مختلفة من الفصول الأربعة، وأوائل الشهور وأواخرها، وساعات الليل والنهار. وأما ارتفاعها فزعموا أن الشّمس إذا أثرت في ¬

(¬22) نزهة المشتاق للادريسي. (¬23) خريدة العجائب لابن الوردي، ص: 16 - 17. (¬24) ما سيأتي نقل من عجائب المخلوقات للقزويني بتصرف، 1/ 218 - 219. (¬25) الصواب أنه زكرياء بن محمد بن محمود كما صرح به في ديباجة كتابه «عجائب المخلوقات». (¬26) في ت وش: «المماليك». (¬27) في عجائب المخلوقات: «وعرضه ثلاثة فراسخ وطوله خمسة وعشرون فرسخا». (¬28) تفسير من المؤلف وهو غير موجود في عجائب المخلوقات. (¬29) في عجائب المخلوقات: «ثم يغيض البحر الأسود، وانصباب الماء من البحر الأخضر إلى طلوع الشّمس 1/ 218 - 219. (¬30) نقل من عجائب المخلوقات 1/ 185 - 186.

مياهها لطفت وتحلّلت وملأت مكانا أوسع ممّا كان فيه قبل فدافعت بعض أجزائها بعضا (¬31) إلى الجهات الخمس: المشرق والمغرب والشمال والجنوب والفوق، فيكون على سواحلها في وقت واحد رياح مختلفة. هذا ما ذكره (¬32) في سبب ارتفاع مياهها. وأما مدّ بعض البحار في وقت طلوع القمر فزعموا أن في قعر تلك البحار صخورا صلدة وأحجارا صلبة فإذا أشرق (¬33) القمر على سطح ذلك البحر وصلت مطارح أشعّته إلى تلك الصّخور والأحجار التي في قرارها (¬34) ثم انعكست من هناك متراجعة فسخنت تلك المياه ولطفت فطلبت مكانا أوسع وتموّجت [إلى ساحلها] (¬35)، ودفع بعضها بعضا وفاضت على شطوطها (¬36) ورجعت المياه التي كانت تنصبّ إليها إلى خلف، فلا تزال كذلك ما دام القمر مرتفعا إلى وسط سمائه، فإذا أخذ ينحطّ سكن غليان تلك المياه وبردت تلك الأجزاء وغلظت ورجعت إلى قرارها وجرت الأنهار على عادتها، فلا يزال كذلك إلى أن يبلغ القمر إلى الأفق الغربي ثم يبتدئ المدّ على مثال عادته في الأفق الشرقي، ولا يزال كذلك إلى أن يبلغ القمر إلى وتد الأرض فينتهي المدّ ثم إذا زال القمر عن وتد الأرض أخذ المدّ راجعا إلى أن يرجع القمر إلى الأفق الشّرقي. هذا قولهم في مدّ البحار وجزرها (¬37). قلت: المناسب لكلامه الأول أن يسند المدّ والجزر للشّمس لا للقمر وخصوصا لما أخذ في تعليل المدّ بقوله: سخنت تلك المياه ولطفت الخ. فإن السّخانة واللّطافة تناسب الشمس لا القمر. كيف وقد قال في خواص القمر: زعموا أن تأثيراته بواسطة الرّطوبة كما أن تأثيرات الشّمس بواسطة الحرارة. لكن قال بعده: من خواصّ القمر أنه إذا صار في أفق من آفاق البحر أخذ ماؤه في المدّ مقبلا مع القمر، ولا يزال كذلك إلى أن يصير القمر في وسط سماء ذلك الموضع، فإذا صار هنالك انتهى المدّ منتهاه. فإذا انحطّ القمر من وسط سمائه جزر الماء ولا يزال كذلك راجعا إلى أن يبلغ القمر مغربه فعند ذلك ينتهي الجزر منتهاه. فإذا زال القمر من مغرب ذلك الموضع ابتدأ المدّ مرّة ثانية إلا أنه أضعف ¬

(¬31) في عجائب المخلوقات: «فدافعت أجزاؤها بعضها بعضا»، 1/ 185. (¬32) أي القزويني وفي عجائب المخلوقات «ذكروه». (¬33) في الأصول: «أشرقت». (¬34) في الأصول: «قراره». (¬35) زيادة من عجائب المخلوقات للتوضيح. (¬36) في الأصول: «سطوحها»، والمثبت من عجائب المخلوقات. (¬37) أنظر فيما سبق عجائب المخلوقات، 1/ 185 - 186.

من الأولى ثم لا يزال كذلك إلى أن يصير القمر في وتد الأرض فحينئذ ينتهي المدّ منتهاه في المرة الثانية في ذلك الموضع ثم يبتدئ بالجزر والرّجوع ولا يزال كذلك حتى يبلغ القمر أفق مشرق ذلك الموضع فيعود المدّ إلى مثل ما كان عليه أولا فيكون في كل يوم وليلة بمقدار سير القمر فيهما في ذلك البحر مدّان وجزران (¬38) انتهى، والله أعلم. ثم قال: وأمّا هيجانها فكهيجان الأخلاط في الأبدان فإنك ترى صاحب الدم (والصفراء وغيرها) (¬39) (عند نزول حمى أو غيرها) (¬40) يهتاج به الخلط ثم يسكن قليلا قليلا، (فللبحر موادّ تمدّه حالا فحالا فإذا قويت هاجت ثم تسكن قليلا قليلا) (¬41) وقد عبّر النبي صلّى الله عليه وسلم عن ذلك بعبارة لطيفة فقال: إن الملك الموكل بالبحر يضع رجله في البحر (¬42) فيكون منه المدّ ثم يرفع فيكون منه الجزر. انتهى (¬43). قلت: ولا مانع من إرادة الحقيقة إذ العقل يجيزه، وما أخبر به الصادق ولم يكن لحمله على حقيقته وظاهره مانع فالحمل عليه أولى، أما مع وجود المانع الصارف فالعمل على مقتضاه واجب، ثم أن في الخمس الأول (¬44) من الشهر والعشر الوسطى والخمس الأخيرة يقوى المدّ والجزر، وتسمّى تلك الأيّام أيّام حياة البحر وفيما عدا (¬45) ذلك يقلّ ذلك فتسمّى تلك الأيّام أيام موته، وهذا الجزر والمدّ لا يظهر غاية الظّهور إلا في أقاصير البحار، ولصيّادي السّمك خبرة زائدة بذلك، لأن اصطيادهم يتيسّر في مدّة الحياة، لأن السّمك يدخل مع قوّة دخول الماء فيحصل فيما نصبوا (¬46) له من الأعمال المعدّة لاصطياده، فإذا جزر الماء نزلوا فأخذوا ما حصل (¬47) في مصائدهم (¬48)، والظّاهر أن ¬

(¬38) أنظر عجائب المخلوقات، 1/ 31 - 32. (¬39) في الأصول: «صاحب الدّم الأصفر أو غيره» والمثبت من عجائب المخلوقات. (¬40) اضافة من المؤلف بالنسبة لعجائب المخلوقات. (¬41) اضافة من المؤلف بالنسبة لعجائب المخلوقات. (¬42) هكذا في ت وش، وفي ط وعجائب المخلوقات: «بالبحر». (¬43) النقل من عجائب المخلوقات 1/ 186. (¬44) هكذا في ش وط، وفي ت: «الأولى». (¬45) هكذا في ط، وفي ت وش: «وفي عدى». (¬46) في ت وط: «نصبوه». (¬47) في ت: «ما حصل لهم». (¬48) تلك هي أهم طريقة لصيد السّمك على سواحل صفاقس في الماضي، وكذلك في جزر قرقنة وجربة والسواحل القصيرة الأخرى من خليج قابس حيث المدّ والجزر قويّان، وهي طرق يعلمها المؤلف ونرى أنه عممها على كل المناطق الساحلية كما نفهم من نصّه.

حدود البحر الشامي

هذه الحياة والممات راجعة بعد مراعاة التدبير الإلاهي إلى القمر، والسرّ فيه أن القمر إذا كان في غاية امتلائه، وذلك في العشر الوسطى أو غاية نقصانه وذلك في الخمس الأولى والخمس الأخيرة حصلت الحياة وإذا (¬49) كان بين بين، وهو فيما سوى ذلك حصل الموت، فسبحان من جعل لكل شيء قدرا {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (¬50). حدود البحر الشامي: وأما تحديد هذا البحر فقد أشار إليه في «نزهة المشتاق» بقوله: وأما البحر الثاني الكبير المعروف بالبحر الشامي فإن مخرجه من البحر المظلم الذي هو في (¬51) جهة المغرب ومبدأه في الاقليم الرابع، ويسمّى هناك بحر الزّقاق لأن سعته هناك تكون ثمانية عشر ميلا، وكذلك طول الزّقاق من جزيرة طريف إلى الجزيرة الخضراء ثمانية عشر ميلا، فيمرّ مشرقا من جهة بلاد البربر بشمال الغرب (¬52) الأقصى إلى أن يقرب (¬53) بالغرب الأوسط ويصل إلى أرض افريقية إلى وادي الرّمل إلى أرض برقة وأرض لوبية (¬54) ومراقية إلى اسكندريّة إلى شمال أرض التيه وأرض فلسطين وسائر بلاد الشام إلى أن ينتهي طرفه إلى السويدية (¬55) وهو نهايته، ومن هناك ينعطف البحر راجعا إلى جهة المغرب فيتصل بالخليج القسطنطيني إلى جزيرة بلبونس برزنة وهناك يخرج الخليج البنادقي ويتّصل إلى مجاز صقليّة إلى بلاد روميّة إلى بلاد سغونية (¬56) إلى أربونة. ويجتاز بجبل البركات (¬57) فيمرّ بشرقي بلاد الأندلس إلى جنوبي وسطها وينتهي إلى الجزيرتين من حيث بدأ. وطول هذا البحر الشّامي من ابتدائه إلى انتهائه ألفا (¬58) فرسخ ومائة وستة وثلاثون ¬

(¬49) في ت وط: «وان». (¬50) سورة يس، 38 وأولها: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها. (¬51) في ت: «من». (¬52) في ت وط: «المغرب». (¬53) في ط: «يمر». (¬54) في الأصول: «لونية» والمثبت من معجم البلدان للحموي، وهي مدينة بين الاسكندرية وبرقة. (¬55) كذا في ت وط، ونزهة المشتاق والروض المعطار للحميري، بيروت، 1975 «مدينة هي فرضة انطاكية على البحر» ص: 330. وفي ش: «سوبدية». (¬56) في ط: «شعونية» وفي ت: «سقونية». (¬57) في ط: «البرنات». (¬58) في ط: «ألف».

فرسخا وفيه من الجزائر نحو مائة جزيرة بين صغار وكبار ومعمورة وخالية، ويخرج من هذا البحر الشّامي خليجان أحدهما خليج البنادقيين ومبدؤه من شرقي بلاد قلّورية من بلاد الرّوم من عند مدينة أذرنت (¬59) فيمرّ في جهة الشّمال مع تغريب يسير فيمرّ بأرض ماري إلى ساحل شنت أنجل (¬60) ثم يأخذ في جهة المغرب إلى بلاد أنكونة إلى أن يمر بساحل البنادقة، وينتهي طرفه إلى بلد انكلاية، ومن هناك ينعطف ريفه راجعا مع المشرق إلى بلاد جراوسه (¬61) وطاسية وبلاد أسقلونية إلى أن يتصل بالبحر الشّامي من حيث ابتدأ. وطول هذا الخليج من حيث ابتدأ إلى أقصى انتهائه ألفان ومائة ميل. ويخرج أيضا من البحر الشّامي الخليج الثاني المسمّى ببحر نيطس (¬62) ومبدؤه من البحر الشامي حيث فم أندة وعرض فوهته هناك رمية سهم ولمسير ثلاث مجار يتصل (¬63) بالقسطنطينية فيكون عرضه هناك أربعة أميال، ويمرّ كذلك ستين ميلا حتى يصل إلى بحر نيطس (62) في جهة المشرق فيتصل من جهة الجنوب بأرض هرقلية إلى أرض أسترويلي إلى سواحل أطرابزندة إلى أرض أشكالة إلى أرض لانية، ويمرّ فينتهي طرف الخليج هناك حيث الخزرية ومنه ينعطف ريفه راجعا فيتّصل ببلاد الرّوسية (¬64) وبلاد برجان وموقع نهر ديابوس، ويمرّ إلى موضع نهر دتو (¬65) إلى أن ينتهي إلى مضيق فم الخليج القسطنطيني ويتّصل بالقسطنطينية ويمرّ بشرقي بلاد مقدونية (¬66) إلى أن يتصل بالموضع الذي بدأ منه. وطول بحر نيطس من فم المضيق إلى حيث ينتهي ألف ميل وثلاثمائة ميل. انتهى. ¬

(¬59) في الأصول: «أذرنة» والتصويب من معجم البلدان 1/ 132. (¬60) في ت: «شت انجل» وفي ش: «شنت الجل». (¬61) في ت: «جراوست». (¬62) في الأصول: «نيطش». والتصويب من الروض المعطار ص: 585. (¬63) في ط: «ويمر ثلاث مجار فيتصل». (¬64) في ط: «ببلاد الروسيا». (¬65) في ت وط: «صح تو». (¬66) في ش: «مقدونة».

الباب الثاني في الكلام على ضبط بر المغرب الأقصى وما يليه من الغرب الأوسط وذكر ما فيه من البلاد والعباد

الباب الثاني في الكلام على ضبط بر المغرب الأقصى وما يليه من الغرب الأوسط وذكر ما فيه من البلاد والعباد فنقول (¬1): إن فيما ذكر من بلاد السّوس الأقصى مدينة تاردانت وتيويوين (¬2) وتانمللت (¬3) وفيه من بلاد الصحراء نول لمطة (¬4) وتازكغت (¬5) وأغرنو. وفيه من بلاد البرّ سجلماسة ودرعة، وداي، وتادلة (¬6) وقلعة مهدي ابن توالة (¬7) وفاس ومكناسة وسلا وسائر المراسي (¬8) التي على البحر الأعظم ومدينة تلمسان وتطّن (¬9) وقرى (¬10) وصفروي ومغيلة وآقرسيف (¬11) وكرانطة (¬12) ووجدة ومليلة (¬13) ووهران وتاهرت وأشير. وفيه من بلاد الغرب الأوسط تنس وبرشك وجزائر بني مزغنّا وتدلّس وبجاية وجيجل ومليانة والقلعة والمسيلة والغدير ومقّرة (¬14) ونقاوس وطبنة (¬15) وقسنطينة وتيجس (¬16) وباغية وتيفاش ودور مدين (¬17) ودار ملول وميلة (¬18). ¬

(¬1) ما سيأتي نقل من نزهة المشتاق ص: 56 وما بعدها. (¬2) في الأصول: «تيورين» والمثبت من ن. م. ص: 56. (¬3) في الأصول: «تينملت» والمثبت من ن. م.، وفي الروض المعطار للحميري ص: 128، والمسالك والممالك للبكري ص: 88: «تامللت» وفي كتاب العبر: «تينملل». (¬4) كذا في نزهة المشتاق وفي ط: «نول لمط» وت: «نول ملط». (¬5) كذا في بعض نسخ ن. م. وفي غيرها: «تازكاغت». (¬6) كذا في ط، في ت وش: «تاذلة». (¬7) في الأصول: «وقلعة مهدي وتوالة» والمثبت من ن. م. (¬8) في الأصول: «البلاد» والمثبت من ن. م. (¬9) في الأصول: «تطاون»، والمثبت من نزهة المشتاق، وعلق محمد الحاج صادق عنها بقوله: «وتطن مدينة بين تلمسان وصفروي وعلى 4 مراحل من تادلة»، راجع هامش المغرب العربي من كتاب نزهة المشتاق، بلجيكا 1983 م. ص: 202. (¬10) في الأصول: «وفزى» والمثبت من ن. م. (¬11) في الأصول: «أكريسف» والمثبت من ن. م. (¬12) في الأصول: «كرناطة» والمثبت من ن. م. (¬13) في الأصول: «مليليا» والمثبت من ن. م. (¬14) في الأصول: «مغرة» والمثبت من ن. م. (¬15) في الأصول: «طنبة» والمثبت من ن. م. (¬16) في الأصول: «بنجس» والمثبت من ن. م. (¬17) في الأصول: «دار مدين» والمثبت من ن. م. (¬18) في الأصول: «مليلة» والمثبت من ن. م.

البربر وأصولهم وافريقية وتسميتها

البربر وأصولهم وافريقية وتسميتها: وكان الغالب على ما ذكرناه من البلاد البربر (¬19) وهم جيل من الناس كما قال في «القاموس» (¬20) والجمع البرابرة وهم كما قال بالمغرب، وأمّة أخرى بين الحبشة والزنج، وكلهم من ولد قيس عيلان، وهم بطنان من حمير صنهاجة وكتامة بضمّ أولهما صاروا (¬21) إلى المغرب أيام فتح افريقش (¬22) الملك افريقية. قال ابن خلكان (¬23): «إفريقية سمّيت بافريقين بن قيس بن صيفي الحميري وهو الذي افتتح افريقية وسمّيت به وقتل (¬24) ملكها جرجير ويومئذ سمّيت البربر بربرا. قال لهم ما أكثر بربرتكم ويقال افريقين وافريقش». اهـ‍. وقيل أن افريقش الذي ملك افريقية هو ابن أبرهة ذي المنار بن الاسكندر ذي القرنين، فلما تملك افريقش بعد أبيه أبرهة نقل البربر من أرض فلسطين ومصر والسّاحل إلى مساكنهم اليوم. وكانت البربر بعثت يوشع - عليه السلام -. وأفريقش هو الذي بنى افريقية وبه سميّت وكانت مدة ملكه مائة وأربعا وستين سنة. وقال التجاني (¬25): إن بلاد البربر كانت أرض فلسطين وما جاورها من الشّام. وكان ملكهم جالوت الذي قتله داوود - عليه السّلام -، وتفرّقوا في البلاد وتوجّه أكثرهم الى افريقية وبلاد المغرب، وكانت افريقية للروم فأجلتهم العرب البرابر عنها إلى جزائر البحر كصقلية وغيرها، ثم تراجعت الروم إلى بلادها على موادعة (¬26) وصلح مع البربر، فاختارت البربر سكنى الجبال والرّمال وأطراف البلاد. وصار (¬27) الرّوم إلى البلدان والعمائر حتى جاء الإسلام وافتتحت البلاد ففرّ جميع من فيها إلا من أسلم أو أدّى ¬

(¬19) كذا في الأصول، وفي نزهة المشتاق: «برابر». (¬20) القاموس المحيط، 1/ 370 - 375. مط. السعادة بمصر. (¬21) في الأصول: «صار». (¬22) في الأصول: «افريقس» والمثبت من وفيات الأعيان، أفريقش بالشين المعجمة في آخره. (¬23) في وفيات الأعيان (القاهرة 1367/ 1948) 1/ 38 في آخر ترجمة أبي اسحاق ابراهيم الحصري.1/ 213 - 214 حيث ضبط لفظة افريقية. (¬24) في الأصول: «وقيل»، والمثبت من وفيات الأعيان. (¬25) ما سيأتي نقل من رحلة التجاني تحقيق حسن حسني عبد الوهاب، تونس 1378/ 1958، ص: 160. (¬26) في الأصول: «مواعدة»، والمثبت من رحلة التجاني. (¬27) في ت وط: «وصارت».

الجزية. وقال: أهل (¬28) توزر من بقايا الرّوم الذين كانوا بافريقية قبل الفتح الاسلامي وكذلك أكثر أهل بلاد الجريد (¬29) لأنهم من (¬30) حين دخلوا (¬31) الإسلام أسلموا على أموالهم وفيهم قوم من العرب الذين سكنوها بعد الفتح (¬32) وفيها أيضا من البربر الذين دخلوها في قديم الزّمان عند خروجهم من بلادهم أهـ‍ (¬33). واسم جالوت (¬34) ضريس ابن لاوي بن نفجار بن لاوي الأكبر بن لوي بن قيس ابن الياس بن؟؟؟. ولما دخلت قبائل البربر إلى المغرب تفرّقوا فنزلت مزّاتة ومغيلة وضريسة الجبال ونزلت لواتة أرض برقة ونزلت طائفة من هوّارة جبال نفّوسة ونزل الغير منهم بالمغرب الأقصى، ونزلت معهم قبائل مصمودة، فعمروا تلك البلاد (وقبائل البربر كثيرة، تذكر كل قبيلة عند ذكر بلادها وأمهات) (¬35) القبائل زناتة، ونفزة، ونفزاوة، ولمطة، ومطماطة، وصنهاجة، وهوارة، وكتامة، ولواتة، وورفجوم (¬36) ومزّاتة وصدراتة، ويصلاسن (¬37)، ومديونة، وربوجة، ومداسة (¬38)، وقالمة (¬39)، وأوربة (¬40)، وهطيطة، ووليطة، وبنو منهوس، وبنو سمجون، وبنو وارقلان، وبنو يسدران (¬41)، وورداسا، وبنو زيرجي (¬42)، وزرهون، وزناتة، كلهم أبناء جالوت (¬43) بن ضريس، ونفزاوة أبناء ¬

(¬28) في ت: «أن أهل». (¬29) في ت وط: «وأكثر أهل بلاد الجريد». (¬30) في رحلة التجاني: «في». (¬31) في ط: «دخول». (¬32) في رحلة التجاني: «الافتتاح». (¬33) ينتهي النقل من رحلة التجاني ص: 160. (¬34) نسب جالوت عند التجاني ص: 143. وهو يخالف ما ذكره المؤلف وجعل نسبه يتصل بالبربر من الخرافات التي لا أساس لها واعتمد المؤلف على نزهة المشتاق مع اختلاف يسير في الألفاظ. ويبدأ نص الادريسي هكذا: «وكان ملكهم جالوت بن ضريس بن جانا. . .» ص: 57 ويستمر في النقل من الادريسي بتصرف. (¬35) اختصر نزهة المشتاق وزاد عليها ما بين القوسين وبداية كلامها: «وقبائل البربر زناتة». . . ص: 57. (¬36) في الأصول «وورنجوم» والمثبت من ن. م. (¬37) في الأصول «سيلاض» والمثبت من ن. م. ولعل الصّواب ويطلاسن. (¬38) في الأصول: «مراسة» والمثبت من ن. م. (¬39) في الأصول: «قسالة» والمثبت من ن. م. ص: 57. (¬40) في الأصول: «وارنبة» والمثبت من ن. م. (¬41) في الأصول: «بنو سبدان» والمثبت من ن. م. (¬42) في الأصول: «بنو ربرحي» والمثبت من ن. م. (¬43) في ت: «جالونا»، وفي ش: «جاتا» والمثبت من ن. م.

نفجار، وصنهاجة (¬44) ولمطة أخوان لأب واحد وأم واحدة، وأبوهما لمط بن زعزاع (¬45) من أولاد حمير، وأمّهما تازكاي (¬46) العرجاء، وأبوهما زناتي. وكان المسور بن المثّنى (¬47) بن كلاع بن أيمن بن سعيد بن حمير، من أمراء العرب ساكنا مع قومه في بلاد الحجاز، فضاعت له إبل فخرج يطلبها ويبحث عنها إلى أن عبر نيل مصر، وسار في بلاد المغرب يطلبها، فمرّ بجبال طرابلس، فقال لغلامه: أين نحن من الأرض؟ فقال له الغلام: نحن بأرض إفريقية، فقال: لقد تهوّرنا. والتهوّر عند العرب الحمق، فسمّي لهذا اللفظ هوّارا، ونزل المسور المذكور بقوم من زناتة فحالفهم، ورأى بأرضهم تازكاي أم صنهاج ولمط، وكانت إمرأة جميلة بدنة بارعة الكمال، فولع بها المسور، فسأل عنها، فوجدها خلوا عن الأزواج، فرغب في زواجها وتزوّجها ومعها ابناها (¬48) صنهاج ولمط (وهما ابنا لمط الأكبر) (¬49) فولد للمسور منها ولد سمّاه المثنى (فسمّى أولاده هوارة لما قاله أبوه المسور) (¬50) ثم مات المسور عنها وبقي ولده المثنّى مع أخويه صنهاج ولمط عند أمهم تازكاي وعند أخوالهم من زناتة. ثم ولد للمط ولصنهاج أولاد كثيرة فكثر نسلهم وتسلّطوا على الأمم، فاجتمع عليهم قبائل البربر فأزعجوهم إلى الصّحارى المجاورة للبحر المظلم، الأعظم، فنزلوها وبها قبائلهم متفرّقة بنواحيها وهم أصحاب إبل ونجب عتاق، رحّالة لا يقيمون بمكان واحد. ولباس الرّجال منهم والنساء أكسية الصّوف ويربطون على رؤوسهم عمائم الصّوف المسمّاة بالكرازي وعيشهم من ألبان الإبل ولحومها مقدّدة وربّما جلبت إليهم الحنطة والزبيب، لكن الزبيب أكثر لأنهم كثيرا ما ينقعون الزّبيب في الماء بعد دقّه ويشربون صفوه نقيعا حلوا. وفي بلادهم عسل كثير وليس عندهم مدينة يأوون إليها إلا مدينة نول لمطة (¬51) ومدينة ازقي للمطة (¬52). ¬

(¬44) في الأصول: «صنهاج» والمثبت من ن. م. ص: 57. (¬45) في ط: «عارع»، وفي ت وش: «عرعار» والمثبت من ن. م. (¬46) كذا في ط ونزهة المشتاق، وفي ش وت: «تزكاي». (¬47) كذا في ش ونزهة المشتاق، وفي ط وت: «المكني». (¬48) كذا في ش وط ونزهة المشتاق، وفي ت: «أبنائها». (¬49) في الأصول: «المتقدما الذكر» والمثبت من نزهة المشتاق رفعا للالتباس. (¬50) اضافة من المؤلف للتفسير. (¬51) في الأصول: «نول لمط» والمثبت من ن. م. ص: 59. (¬52) في الأصول: «أزكي لمط» وفي نزهة المشتاق كما كتبناها في النص. ولعلّها بالقاف المعقدة كالجيم المصرية وهذه الحروف، الكاف الفارسية والقاف المعقدة والجيم كثيرا ما تتعاقب كلفظة انكلترا ومن لا يعرف هذا يقع في الغلط والاشتباه.

نول لمطة

نول لمطة: (فأما مدينة نول فمنها إلى البحر ثلاثة أيام) (¬53) ومنها إلى سجلماسة ثلاثة عشرة مرحلة، ومدينة نول كبيرة عامرة على نهر يأتي إليها من جهة المشرق وعليه قبائل لمطة وقبائل لمتونة. (ولمتونة قبيلة من صنهاجة) (¬54) وبهذه المدينة تصنع الدرق اللّمطيّة التي لا شيء أبدع منها ولا أصلب منها ظهرا ولا أحسن منها صنعا، وبها يقاتل أهل المغرب لحصانتها وخفة حملها (¬55) وبهذه المدينة يصنع السرج (¬56) واللجم وأقتاب الإبل، وتباع بها الأكسية المسمّاة بالسفسارية (¬57) والبرانيس (¬58) التي يساوي الزوج منها خمسين درهما دينارا وأقل وأكثر. وعند أهلها الغنم والبقر الكثير جدا، وكذا السمن واللبن، وإلى هذه المدينة يلجأ أهل تلك الجهات فيما يعرض لهم من مهمّات حوائجهم. ومن قبائل لمطة مسّوفة ووشان وتمالتة [ومن قبائل صنهاجة بنو منصور، وتمية وجدالة، ولمتونة وبنو ابراهيم] (¬59) وبنو تاشفين وبنو محمد [وجمل من صنهاجة] (¬60). آزكّي: وأما مدينة آزكّي وتسمّى تازكغت (¬61) فإنها من بلاد مسّوفة وهي أول مراقي الصحراء، ومنها إلى سجلماسة ثلاثة عشرة مرحلة، ومنها إلى نول سبع مراحل، وهذه المدينة ليست بالكبيرة لكنها متحضّرة وأهلها يلبسون مقندرات (¬62) ثياب الصوف ويسمّونها بلغتهم القداور وهذه المدينة تسمّى أيضا قوقدم (¬63) باللغة الجناوية. ¬

(¬53) اضافة من المؤلف عن نزهة المشتاق. (¬54) اضافة من المؤلف. (¬55) في نزهة المشتاق: «محملها» ص: 59. (¬56) في نزهة المشتاق: «قوم يصنعون السروج». (¬57) في الأصول: «السفاسر». كتبها المؤلف كما تنطق عند العوام بمدينته وتعني اللحاف الذي تستعمله المرأة عند خروجها. والمثبت من ن. م. ص: 59. (¬58) في الأصول: «برانص». كتبها أيضا كما تنطق في صفاقس عند العوام والمثبت من ن. م. (¬59) اضافة من نزهة المشتاق للتوضيح. (¬60) اضافة من نزهة المشتاق للتوضيح. (¬61) اضافة من المؤلف، وقال الادريسي فيما بعد «وتسمّى هذه المدينة بالبربرية آزقي». (¬62) كذا في ط ونزهة المشتاق، وفي ش: «مغزلات»، وفي ت: ساقطة. (¬63) في الأصول: «قوقودم» والمثبت من ن. م. ص: 60.

سجلماسة

ومن أراد الدخول إلى بلاد سلا وتكرور وغانة من بلاد السودان فلا بدّ له من هذه المدينة. سجلماسة: وأما سجلماسة فهي بلاد كبيرة كثيرة العامر وهي مقصد الوارد والصّادر، كثيرة الحضر والجنّات، رائقة البقاع والجهات، ولا حصن لها، وإنما هي قصور وديار وعمارات متّصلة على نهر كثير المياه يأتيها من جهة المشرق من الصحراء، يزيد في الصيف كزيادة النّيل سواء، ويزرع على مائه حسبما يزرع فلاّحو مصر، ولزراعته إصابة كثيرة معلومة. وفي الأعوام الكثيرة المياه المتواترة بخروج هذا النهر، ينبت لهم ما حصدوه في العام السابق من غير بذر إن أبقوا جذوره نابتة بأرضها، وحكى الحوقلي (¬64) أن البذر بها (¬65) يكون عاما واحدا والحصاد منه في كل سنة إلى تمام سبع سنين، لكن (¬66) تلك الحنطة التي تنبت من غير تجديد بذر تتغيّر عن حالها حتى تكون بين الحنطة والشعير وتسمّى هذه الحنطة يرّدن تيزواو (¬67) وبها نخل كثير، وأنواع من التمر لا يشبه بعضها بعضا. وفيها الرطب المسمّى بالبرني أخضر اللون، شديد الحلاوة، صغير النّوى وبها الحنّاء والكمّون، والقطن والكروياء، فيتجهّز به منها إلى غيرها وبناءاتها حسنة. درعة: ومن سجلماسة إلى أغمات وريكة (¬68) (نحو من ثماني مراحل) (¬69). ومن سجلماسة إلى درعة ثلاث مراحل. ودرعة ليست بمدينة يدور بها سور ولا حفير، وإنما هي قرى متّصلة وعمارات متقاربة، ومزارع كثيرة يتناول ذلك فيها جمل وأخلاط من البربر. وهي على نهر سجلماسة النازل إليهم (¬70)، وعليه يزرعون الحنّاء ¬

(¬64) في الأصول: «الجولقي» والمثبت من ن. م. (¬65) في الأصول: «ربما» والمثبت من ن. م. (¬66) في الأصول: «لأن» والمثبت من ن. م. (¬67) في الأصول: «بزدن» والمثبت من ن. م. (¬68) كذا في ش ونزهة المشتاق، وفي ت وط: «وريطة»، وما نقله ممّا يتعلق بنول وأزكي وسجلماسة ينظر عنها المغرب. . . من كتاب نزهة المشتاق ص: 60 - 61. (¬69) كذا في ش ونزهة المشتاق، وفي ت: «نحو ثمانين فرسخا»، وفي ط: «ساقطة». (¬70) في ت وط: «عليها»، وفي ش: «اليها» والمثبت من ن. م. ص: 61.

السوس

والكمّون والكروياء والنيلج (وهو النيلة) (¬71) [وشجر] (¬72) الحناء يكبر بها حتى يكون في قوام الشجر يصعدون إليه ومنه يأخذون بذره ويتجهّز به إلى كل الجهات لعدم وجوده بغيرها. السّوس: ومن أرض درعة إلى السّوس الأقصى أربعة أيام. ومدينة السّوس هي تارودنت (¬73). وبلاد السّوس قرى كثيرة وعمارات متّصلة بعضها ببعض وبها من الفواكه الجليلة أجناس كثيرة مختلفة كالجوز والتّين والعنب العذاري والسّفرجل والرّمان [الامليسي] (¬74) والأترج الكبير المقدار، الكثير العدد والمشمش والتفّاح [المنهدّ] (¬75) وقصب السّكّر الذي ليس على قرار الأرض مثله طولا وعرضا (¬76) وحلاوة وكثرة ماء فيعمل منه سكّر يعم الأرض، ويشف على أنواع سكّر غيره في الصفاء والطيب، ويعمل ببلاد السوس الأكسية الرقيقة والثياب الرفيعة التي لا يقدر أحد على عمل مثلها بغيرها من البلاد، ورجالها ونساؤها (¬77) سمر، وفي نسائهم جمال فائق وحسن بارع، وحذق صناعات. وهي بلاد حنطة وشعير وأرزّ ممكن بأيسر ثمن وأسعارها رخيصة (¬78)، والغالب على أهلها الجفاء وغلظ الطبع وقلة الانقياد. وهم أخلاط من البربر المصامدة ولباسهم الأكسية من الصّوف التفافا وعلى رؤوسهم الشعور الكثيرة. وبين تارودنت وتيويوين (¬79) يوم في جنات وبساتين وكروم وأشجار وثمار وفواكه، واللحوم عندهم رخصية جدا. والغالب عليهم الشره (¬80) والبطر. ومن مدينة السوس إلى مدينة أغمات ست مراحل في قبائل من البربر المصامدة ¬

(¬71) اضافة من المؤلف للتوضيح، تصرف في النقل بالحذف، عن درعة انظر المغرب من نزهة المشتاق ص: 61. (¬72) اضافة من نزهة المشتاق. (¬73) في الأصول: «تارودانت»، والمثبت من ن. م. (¬74) إضاة من نزهة المشتاق للتدقيق. (¬75) إضافة من نزهة المشتاق للتدقيق. (¬76) في الأصول: «غلظا» والمثبت من ن. م. ص: 62. (¬77) في الأصول: «نساؤهم». والأشمل: «نساؤها» كما في نزهة المشتاق ص: 62. (¬78) في الأصول: «رخيسة». (¬79) كذا في ط ونزهة المشتاق، في ش وت: «تيويدين». (¬80) في الأصول «الأشر» والمثبت من ن. م. ص: 63.

جبل درن

[يقال لهم أنتي نتات] (¬81) وبنو واسنو (¬82) وأنكطوطاون (¬83) وأنسطيط (¬84) وأرعن وأكنفيس (¬85) وأنتوزكيت (¬86) وكل هذه القبائل من البرابر المصامدة المعمرين لهذه البلاد والجهات. ومن السّوس نفيس الجبل، وهي مدينة صغيرة حولها عمارات وطوائف من قبائلها المنسوبين إليها، وبها الحنطة والفواكه ما لا يوجد في غيرها كثرة. وبها جامع وسوق نافقة وبها من الزبيب ما لا نظير له منظرا وحلاوة وكثرة وغلظا. جبل درن: والطريق من تارودنت (¬87) السوس إلى مدينة أغمات وريكة مع أسفل جبل درن الأعظم الّذي ليس جبل مثله إلا القليل في السمو وكثرة الخير وطول المسافة، واتصال العمارات، ومبدؤه من البحر المحيط في أقصى السّوس ويمرّ مع الشّرق مستقيما حتى يتّصل بجبل نفّوسة فيسمّى هناك بذلك، ويتصل بعد ذلك بجبال طرابلس، ثم يرق هناك وينقطع أثره. وقد حكى غير واحد أن طرف هذا الجبل يصل إلى البحر [حيث الطرف] (¬88) المسمّى أوثان من برقة. وفي هذا الجبل كل طريفة من الثّمار وغرائب الأشجار، والماء يطرد منه وبوسطه وجوانبه يوجد النبات أبدا مخضرّا في كلّ الأزمان، وعلى أعلاه جمل من قلاع وحصون تنيف على بضع وسبعين حصنا، ومنها الحصن المنيع القليل مثله في حصون الأرض بنية وتحصينا ومنعة، وهو في أعلى الجبل ومن حصانته وثقافة مكانه أن أربعة رجال يمسكونه ويمنعون الصّعود إليه، لأن الصّعود إليه من مكان ضيّق وعر المرتقى لأنه يشبه الدّرج الحرج. ولا ترتقي إليه دابّة إلا بعد جهد ومشقّة. واسم هذا الحصن تانمللت (¬89) وهو كان عمدة محمّد بن تومرت حين ظهر بالمغرب ¬

(¬81) اضافة من نزهة المشتاق للتدقيق. ص: 63. (¬82) في ش وت: «وانسو»، في ط: «واسوار». والمثبت من ن. م. ص: 63. (¬83) في الأصول: «أنكموطاون» والمثبت من ن. م. (¬84) في الأصول: «واسطيط» والمثبت من ن. م. (¬85) في الأصول: «لنكفيس» والمثبت من ن. م. (¬86) في الأصول: «وبنوا، وزكيت» والمثبت من ن. م. (¬87) في الأصول: «رودانة» والمثبت من ن. م. ص: 63. (¬88) اضافة من نزهة المشتاق للتدقيق. ص: 64. (¬89) في الأصول: «يتنملت» والمثبت من ن. م. ص: 64.

أغمات وريكة

- كما يأتي إن شاء الله - وهو الذي زاد في تشييده ونظر في تحصينه وجعله مدّخرا لأمواله وبه قبره لأمره بذلك، ولما مات بجبل الكواكب احتمله المصامدة إليه ودفنوه به فقبره هناك يزار من جميع بلادهم وعليه قبّة عالية بلا تزويق ولا كلفة بل متقنة الصّنع محكمة البناء. وفي هذا الجبل من الفواكه التي لا توجد في غيره، تينا وعنبا مستطيلا عسليّا لا يوجد في أكثره نوى، ومنه يتخذ زبيب يتنقل (¬90) عليه ملوك المغرب لرقّة قشرته (¬91) وعذوبة طعمه واعتدال غذائه، وفيه الجوز واللوز، وأما السّفرجل والرمّان فيباع الحمل منه بقيراط واحد لكثرته، وبه من الأجّاص والمشمش والكمثرى والأترج والقصب الحلو كثير حتى أن أهل هذا الجبل لا يبيعونه بينهم ولا يشترونه لكثرته (¬92). أغمات وريكة: ومدينة أغمات وريكة (¬93) أسفل هذا الجبل من شماله في فحص أفيح طيّب التّراب كثير النّبات والأعشاب والمياه تخترقه يمينا وشمالا وتطرد بساحاته ليلا ونهارا، وحولها جنّات محدقة وبساتين وأشجار ملتفة ومكانها أحسن مكان من الأرض فرجة الأرجاء طيّبة الثّرى عذبة الماء صحيحة الهواء، ولها نهر ليس بالكبير يشق المدينة ويأتيها من جنوبها (94)، فيمرّ إلى أن يخرج من شمالها (¬94) عليه أرحاء طحينهم، فيدخل النهر المدينة يوم الخميس والجمعة والسبت والأحد وباقي الجمعة يأخذونه لسقي جنّاتهم وأرضهم، فيقطعونه عن البلد فلا يجري منه إليها شيء (¬95). وهذا الجبل (¬96) المشرف على المدينة إذا جاء الشّتاء نزل عليه الثّلج فإذا سخن الهواء، وذهب الشّتاء تحلّلت الثّلوج النازلة فيسيل ذوبانها إلى المدينة وربّما جمد به النّهر في وسط المدينة حتى يجتاز عليه الأطفال فلا يتكسر لشدّة جموده. ¬

(¬90) في الأصول: «يشغل» والمثبت من ن. م. ص: 64. (¬91) في الأصول: «بشرته» والمثبت من ن. م. ص: 64. (¬92) عن جبل درن، أنظر النّص الكامل في نزهة المشتاق ص: 63 - 65. (¬93) في الأصول: «أريكة» والمثبت من ن. م. ص: 65. (¬94) في الأصول: «جنوبيها. . . شماليها» والمثبت من ن. م. ص: 65 - 66. (¬95) عن أغمات. أنظر النص الكامل من ن. م. ص: 65 - 66. (¬96) هو جبل درن.

مراكش

وأهل هذه المدينة هوّارة المتبربرون بالمجاورة وهم أملياء تجّار مياسير، يدخلون بلاد السودان بأعداد الجمال الحاملة لقناطير الأموال من أنواع النحاس [الأحمر] (¬97) والأكسية والثّياب والعمائم والمآزر وصنوف النظم من الزجاج والأصداف والأحجار والعطر وآلات الحديد المصنوع، وما منهم رجل يسفر (¬98) عبيده ورجاله إلا وله في قوافلهم المائة جمل والسبعون [والثمانون] (¬99) جملا كلها موقرة (¬100). ولم يكن في دولة الملثّمين أحد أكثر منهم أموالا، ولا أوسع أحوالا، وعلى أبوابهم علامات تدلّ على مقادير أموالهم وذلك أنّ الواحد منهم إذا ملك أربعة آلاف دينار يمسكها مع نفسه، وأربعة آلاف دينار يصرفها في تجارته، أقام عن يمين بابه ويساره عرصتين مبنيتين بالآجر والطوب والطّين، من الأرض إلى أعلى السقف، وكلما ازداد أربعة آلاف دينار زاد عرصة، فإذا مر أحد بدار ونظر إلى تلك العرص مع الأبواب قائمة عدّها (¬101) فيعلم من عددها (¬102) كم مبلغ مال صاحب تلك الدّار، وبعد انقراض دولة الملثمين وتولّي المصامدة تغيّرت أحوالهم ومع هذا فهم لم يزالوا مياسير أملياء، لهم نخوة واعتزاز لا يتحوّلون عنه (¬103). مراكش: وعلى اثنى عشر ميلا من أغمات مدينة استجدّها يوسف بن تاشفين في صدر سنة سبعين وأربعمائة (¬104) بعد أن اشترى أرضها من أهل أغمات بجملة أموال، وهي مرّاكش اختطّها له ولبني عمّه وهي في وطئ من الأرض، ليس حولها شيء من الجبال إلاّ جبل صغير يسمّى ايجليز (¬105)، ومنه قطع الحجر الذي بني منه قصر أمير المسلمين علي ابن يوسف بن تاشفين وهو المعروف بدار الحجر. وليس في مدينة مرّاكش حجر البتّة إلاّ ما ¬

(¬97) اضافة من نزهة المشتاق للتدقيق ص: 66. (¬98) في الأصول: «يسافر» والمثبت من نزهة المشتاق كما يقتضيه المعنى. (¬99) اضافة من نزهة المشتاق ص: 66. (¬100) في الأصول: «مافورة» والمثبت من ن. م. ص: 66. (¬101) في الأصول: «عددها» والمثبت من ن. م. ص: 67. (¬102) في الأصول: «عدتها» والمثبت من ن. م. ص: 67. (¬103) ولتتمة الحديث عن أغمات أنظر النص الكامل للادريسي ص: 67. (¬104) 470 هـ - 1077 م. وتاريخ تأسيسها هذا لا يوافق ما ذكره فيما بعد نقلا عن ابن خلكان. (¬105) في ش وت: «الجليز»، في ط: «الجيلز»، والمثبت من ن. م. ص: 67.

كان من هذا الجبل، وإنما بناؤها من الطّوب والطّين والطّوابي المقامة من التّراب، وماؤها الذي تسقى به البساتين مستخرج بصنعة هندسية حسنة من استخراج عبيد الله بن يونس المهندس، وذلك أن ماؤهم ليس ببعيد الغور، يوجد إذا احتفر قريبا من وجه الأرض، فجاء عبيد الله المذكور إلى مرّاكش في أول بنائها وليس بها إلا بستان واحد لأبي الفضل مولى أمير المسلمين المقدم الذكر، فقصد إلى أعلى الأرض ممّا يلي البستان فاحتفر فيه بئرا مربّعة كبيرة التربيع، ثم احتفر منها ساقية متّصلة الحفر على وجه الأرض وهو يحفر بتدريج من أرفع إلى أخفض متدرّجا إلى أسفله بميزان إلى أن وصل الماء إلى البستان وهو ينسكب مع (¬106) وجه الأرض يصبّ فيه، فهو دائم مع الأيام لا يفتر. وإذا نظر النّاظر إلى سطح الأرض لم ير بها كبير ارتفاع يوجب خروج الماء من قعرها إلى وجهها، وإنما يدرك ذلك من علم وزن الأرض، فاستحسن ذلك أمير المسلمين من فعل المهندس المذكور وأحسن إليه بأموال وأثواب، وأكرم مثواه مدة مقامه عنده، فلما نظر الناس ذلك استخرجوا مياها، وأنشؤوا البساتين الكثيرة والجنّات، واتّصلت بذلك عمارات مراكش وحسن منظرها. ومدينة مرّاكش في وقت بنائها من أكبر مدن المغرب الأقصى، وكانت دار ملك لمتونة ومدار ملكهم، وبها عدة قصور لكثير من الأمراء والقوّاد وخدّام الدّولة، وأزقّتها واسعة ورحابها فسيحة، ومبانيها سامية، وأسواقها مختلفة (¬107) جدا، وسلعها نافقة، وبنى جامعها يوسف بانيها وأميرها، فلما تغلبت عليها المصاميد وتملّكوها - حسبما يأتي إن شاء الله تعالى - تركوا ذلك المسجد (¬108) عطلا مغلق الأبواب، ولا يقيمون فيه صلاة، وبنوا لأنفسهم مسجدا جامعا يصلّون فيه (¬109). وشرب أهل مراكش من الآبار ومياهها كلها عذبة وآبارها قريبة معينة. وكان علي بن يوسف قد جلب إليها عينا بينها وبين المدينة عدة أميال، ولم يستتم ذلك فأتمّه المصامدة فأدخلوا الماء إلى المدينة وجعلوا منه سقايات بقرب دار الحجر وهي الحضيرة التي فيها القصر منفردا متحيّزا بذاته خارج عن المدينة (¬110). ¬

(¬106) في الأصول: «ينسكب على» والمثبت من ن. م. ص: 68. (¬107) في ط: «محتفلة». (¬108) في نزهة المشتاق: «الجامع». (¬109) بعدها: أسقط المؤلف ما يتعلق بسلوك المصامدة في هذا الجامع، راجع نزهة المشتاق ص: 68. (¬110) عن مدينة مراكش راجع النص الكامل للادريسي ص: 68 - 69.

نهر تانسيفت

نهر تانسيفت: وعلى ثلاثة أميال من مراكش نهر يسمّى تانسيفت (¬111) وليس بالكبير لكنه دائم الجري. وزمن الشتاء يحمل بسيل كبير لا يبقي ولا يذر، وبنى عليّ بن يوسف [بن تاشفين] عليه قنطرة عجيبة البناء متقنة الصّنع فجلب إلى عملها صنّاع الأندلس وجملا من أهل المعرفة بالبناء فشدّوها وأتقنوا بنيانها حتى كملت، فلم تلبث أعواما يسيرة حتى أتى السّيل على أكثرها وحلّ عقدها ورمى بها في البحر الزاخر، وهذا الوادي يأتي إليه الماء من عيون ومياه منبعثة من جبال درن من ناحية مدينة أغمات أيلان. أغمات أيلان: ومدينة أغمات أيلان صغيرة في أسفل جبل درن، وهي في الشرق من أغمات وريكة (¬112) وبينهما ستة أميال، وبهذه المدينة يسكن يهود تلك النّاحية، وهي مدينة حسنة كثيرة الخصب، كاملة النعم، وكانت اليهود لا تسكن مدينة مرّاكش عن إذن أميرها علي بن يوسف ولا تدخلها إلا نهارا، وتنصرف عنها عشيّة، وليس دخولهم إليها في النهار إلا لأمور له وخدم تختصّ به، ومتى عثر على واحد منهم بات فيها استبيح ماله ودمه، فكانوا ينافرون المبيت فيها حياطة على أنفسهم وأموالهم. عود إلى ذكر مرّاكش: وأهل مرّاكش يأكلون الجراد ويباع منه بها كل يوم الثلاثون حملا فما دونها بقبالة عليه، وكانت أكثر الصنائع بمراكش متقبلة، عليها مال لازم مثل سوق الدّخان والصّابون والصّفر والمغازل، وكانت القبالة على كلّ شيء يباع دقّ أو جلّ، كل شيء على قدره (¬113). فلما ولي المصامدة وصار الأمر إليهم قطعوا القبالات بكل وجه وأراحوا منها (وتوعدوا عليها بالقتل) (¬114). ¬

(¬111) في الأصول: «تاشفيت» والمثبت من ن. م. ص: 69. (¬112) في الأصول: «أريكة» والمثبت من ن. م. ص: 69. (¬113) في الأصول: «بحسبه» والمثبت من ن. م. ص: 70. (¬114) في مكانها نجد في نزهة المشتاق: «واستحلوا قتل المتقبلين لها ولا تذكر الآن القبالة ذكرا في شيء من بلاد المصامدة».

الطريق من مراكش إلى أم ربيع

الطريق من مرّاكش إلى أم ربيع: ويسكن بقبلة (¬115) مراكش قبائل البربر أيلان وهم مصاميد، وحولها من قبائل البربر أيضا نفيس وبنو يدفر، ودكّالة ورجراجة وزودة وهسكورة (¬116) وهزرجة، ويسكن بغربي أغمات وشرقيها مصاميد وريكة. ومن مدينة مرّاكش إلى مدينة سلا على ساحل البحر تسع مراحل أولها تونيّن، وهي قرية على أول فحص أفيح لا عوج به ولا أمتا، وطول هذا الفحص مرحلتان ويسكنه من قبائل البربر قزولة ولمطة وصدّراتة. ومن تونين إلى قرية تيقطين (¬117) مرحلة إلى غفسيق مرحلة، وهي قرية على آخر الفحص المذكور، وصحن هذا الفحص المذكور كله (نبات السدر المثمر للنبق) (¬118) وفيه السلاحف البرية التي تفوق السلاحف البحرية كبرا وعظما، وأهل تلك النواحي يتّخذون من صدفها (¬119) دساتر (¬120) للغسل، ومعاجن للدقيق. ومن قرية غفسيق إلى قرية أم ربيع (¬121) مرحلة، وهي قرية كبيرة جامعة، وبها أخلاط من برابر رهونة وبعض زناتة وتامسنا. وقبائل تامسنا شتّى فمنهم برغواطة ومطماطة وبنو تسلت (¬122) وبنو ويغمران (¬123)، وزقارة وبعض من زناتة، وبنو يجفش من زناتة. وكل هذه القبائل أصحاب حرث ومواشي وجمال. والغالب عليهم الفروسية. وآخر سكناهم (¬124) مرسى فضالة. ومرسى فضالة على البحر المحيط الغربي، وبينها وبين وادي أم ربيع ثلاث مراحل. وأم ربيع على واد كبير خرّار يجاز بالمراكب، سريع الجري، كثير الانحدار، كثير الصخور والجنادل، وبهذه القرية ألبان وأسمان، ونعم رغدة (¬125)، وحنطة في نهاية ¬

(¬115) في الأصول: «قبل» والمثبت من ن. م. ص: 70. (¬116) في الأصول: «سكورة» والمثبت من ن. م. ص: 70. (¬117) في ت وش: «يتقطن»، في ط: «يتقط»، والمثبت من ن. م. ص: 70. (¬118) في مكانها نجد في نزهة المشتاق: «نبات الشوك المسمى بالسدر المثمر بالنبق». (¬119) في الأصول: «خزفها» والمثبت من ن. م. (¬120) في نزهة المشتاق: «دسائر». (¬121) في الأصول: «أم ربيعة» والمثبت من ن. م. ص: 70. (¬122) في الأصول: «بنوا سلب» والمثبت من ن. م. (¬123) في ش وت: «يغمران»، في ط: «يعمران»، والمثبت من ن. م. ص: 70. (¬124) في الأصول: «مساكنهم» والمثبت من ن. م. ص: 71. (¬125) في الأصول: «ونعم ورغد» والمثبت من ن. م. ص: 71.

آنقال

الرخص، وبها بقول ومزارع المقاثي (¬126) والقطن والكتّان (¬127)، وهي في جنوب الوادي، ويجتاز هذا الوادي إلى غيطة كبيرة من الطرفاء والأنشام، وهي غابة كبيرة ملتفّة والأسود بها كثيرة، وربّما أضرّت بالمار، غير أن أهل تلك النواحي لا يهابونها، وقد تمهروا في مقاتلتها بأنفسهم من غير سلاح، وانما يلقونها بأنفسهم عراة، يلفّون أكسيتهم على أذرعتهم، ويمسكون معهم قتات من شوك السدر، وسكاكينهم بأيديهم لا غير، وقد لقيت الأسود منهم هناك نكايات فلا مهابة لها عندهم بذلك. ومن أم ربيع إلى قرية ايجيسل (¬128) مرحلة، وهي قرية حسنة وبها عيون كثيرة دفّاعة بالماء بين صخور صلدة، وهذا الماء يصرف في كثير من زروعهم. آنقال: ومن هذه القرية إلى قرية آنقال مرحلة، ويقال لها دار المرابطين، وبها عين عليها أقباء، وماؤها معين، وهي حسنة في موضعها، كثيرة الزرع والمواشي والإبل والبقر، ويقابلها فحص طويل قد انحشرت إليه طيور النعام (¬129)، فهي في أكنافه سارحة، وعلى مراقيه دارجة، وهى آلاف لا تعدّ ولا تحدّ، وأهل تلك النواحي يصيدونها طردا بالخيل فيقبضون منها جملا كثيرة كبارا وصغارا، وأما بيضها الموجود في هذا الفحص فلا يحاط به كثرة ولا يحصى، ومنه يحمل إلى كل البلاد، وطعامها وخيم يفسد المعدة، وأما لحوم النعام فباردة يابسة وشحومها نافعة من الصّمم تقطيرا ومن سائر الأوجاع البدنية. مكول: ومن آنقال إلى قرية مكول مرحلة، وقرية مكول على بطح (¬130)، ويتّصل بها فحص يقال له فحص خرّاز وطوله اثنا عشر ميلا لا ماء به، وقرية مكول كالحصن الكبير، عامرة بالبربر، ولها سوق نافقة، يجلب إليها جميع المجلوبات من السلع والمتاجر التي يحتاج إليها، وبها زروع كثيرة ومواش وأنعام. ¬

(¬126) في نزهة المشتاق: «القطاني» وهو تصويب من المؤلف. (¬127) في نزهة المشتاق: «الكمون» وهو تصويب من المؤلف. (¬128) في الأصول: «الجيل» والمثبت من ن. م. (¬129) كذا في ط ونزهة المشتاق، وفي ش وت: «الأنعام». (¬130) في الأصول: «سطح» والمثبت من ن. م. ص: 72.

ايكسيس

ايكسيس: ومن مكول إلى قرية ايكسيس (¬131) مرحلة صغيرة، والطريق على فحص خرّاز، وفي آخر الفحص واد ماؤه جار دائما، وعليه غابات ثمار، والأسود فيها ظاهرة للناس، عادية عليهم بالليل والنهار، لا تستتر في غياضها، وفي قرية ايكسيس بيت متّخذ لصيد الأسود حتى انه ربّما صيد منها في الجمعة الثلاثة والأربعة، والأسود تفر من النار إذا رأتها ولا سبيل لها إلى صاحب نار. سلا: ومن قرية ايكسيس إلى مدينة سلا [مرحلة، ومدينة سلا] (¬132) الحديثة على ضفّة البحر، وكانت في قديم الزمن مدينة شالة (¬133) على ميلين من البحر، وموضعها على ضفّة نهر أسمير الذي يتّصل الآن بمدينة سلا الحديثة، وهناك مصبّه في البحر. وأما شالة القديمة فهي الآن خراب، وبها بقايا بنيان قائم وخراب وهياكل سامية، ويتّصل بخرابها عمارات متّصلة وزروع ومواش (¬134) لأهل سلا الحديثة. وسلا الحديثة على ضفّة البحر، منيعة من جهة البحر، لا يقدر أحد من المراكب على الوصول إليها من جهته (¬135) وهي مدينة حسنة حصينة في أرض رمل، ولها أسواق نافقة وتجارات ودخل وخرج وتصرف لأهلها وسعة أموال ونمو أحوال، والطعام بها كثير رخيص جدا، وبها كروم وجنّات وحدائق وبساتين وغلاّت ومزارع، ومراكب أهل إشبيلية وسائر المدن الساحلية من الأندلس يقلعون عنها ويحطّون بها بضروب من البضائع، وأهل إشبيلية يقصدونها بالزّيت الكثير، وهو بضاعتهم، ويتجهزون منها بالطّعام إلى سائر بلاد الأندلس السّاحلية، والمراكب الواردة عليها لا ترسي منها في شيء من البحر لأنّ مرساها مكشوف، وإنما ترسي المراكب بها في الوادي الذي قدّمنا ذكره، وتجوز المراكب على فمه بدليل لأن في (¬136) فم الوادي أحجارا وتروشا تنكسر عليها ¬

(¬131) في الأصول: «ايكس» والمثبت من ن. م. (¬132) اضافة من نزهة المشتاق كي يستقيم المعنى. (¬133) في الأصول: «سالة» والمثبت من ن. م. (¬134) في الأصول: «مناشر» والمثبت من ن. م. ص: 72. (¬135) في ت: «من جهة البحر». (¬136) ساقطة من الأصول.

فضالة

المراكب وفيه أعطاف لا يدخلها إلا من يعرفها، وهذا الوادي يدخله المدّ والجزر في كل يوم مرتين، وإذا كان المدّ دخلت المراكب به إلى داخل الوادي، وكذلك تخرج في وقته، وفي هذا الوادي أنواع من السّمك وضروب الحيتان، وهو بها لا يكاد يباع ولا يشترى لكثرته، وجودته ظاهرة، وكل شيء من المأكولات في مدينة سلا موجود بأيسر القيمة وأهون الثمن (¬137). فضالة: ومن مدينة سلا مع البحر إلى جزائر الطير اثنا عشر ميلا، ومنها في جهة الجنوب إلى مرسى فضالة اثنا عشر ميلا، ومرسى فضالة ترده المراكب من بلاد الأندلس وحائط البحر الجنوبي فتحمل منه أوساقها طعاما شعيرا وحنطة وفولا وحمصا وكذا تحمل منه الغنم [والمعز] (¬138) والبقر. الطريق من فضالة إلى آسفي: ومن فضالة إلى مرسى انفا أربعون ميلا، وهو مرسى مقصود تأتي إليه المراكب وتحمل منه الحنطة والشعير وتتصل به في ناحية البر (¬139) عمارات من البربر من بني يدفر ودكّالة (¬140) وغيرهما. ومن آنفا إلى مرسى مازيغن [خمسة وستون ميلا روسية. ومن مازيغن] (¬141) إلى البيضاء جون ثلاثون ميلا. ومن البيضاء (¬142) إلى مرسى الغيط خمسون ميلا، وهو جون ثان. ومن الغيط إلى آسفي خمسون ميلا. ومن آسفي (¬143) إلى طرف جبل الحديد ستّون ميلا. ومن طرف جبل الحديد إلى الغيط الذي في الجون خمسون ميلا وكذلك من طرف مازيغن إلى آسفي روسية خمسة وثمانون [ميلا] (¬144) وتقويرا مائة وثلاثون ميلا. ¬

(¬137) عن مدينة سلا، أنظر الادريسي ص: 72 - 73. (¬138) اضافة من نزهة المشتاق ص: 73. (¬139) في الأصول: «البحر» والمثبت من ن. م. ص: 73. (¬140) في نزهة المشتاق: «دكال». (¬141) ما بين الحاصرتين اضافة من نزهة المشتاق. (¬142) في ت: «البيض». (¬143) في الأصول: «ومن آنفا». (¬144) اضافة من نزهة المشتاق للتدقيق، ص: 74.

آسفي

آسفي: ومرسى آسفي كان فيما سلف آخر مرسى تصل إليه المراكب، وأما الآن فهي تجوزه بأكثر من أربعة مجار، وآسفي عليه عمارات وبشر (¬145) كثير من البرابر: رجراجة وزودة، وأخلاط من البرابر، والمراكب تحمل منه أوساقها في وقت السفر وسكون موج البحر المظلم. وإنما سمّي هذا المرسى بآسفي لأنه اجتمع ثمانية رجال أبناء عم بلشبونة (¬146) من بلاد الأندلس يسمّون المغرورين لاغترارهم بانشائهم مركبا حمّالا، وأدخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهر ثم دخلوا البحر المظلم في أول طاروس الريح الشرقية، فجروا بها نحو احد عشر يوما، فوصلوا إلى بحر غليظ الموج، كريه الرائحة كثير النشوز، قليل الضوء، فأيقنوا بالتلف فردّوا قلاعهم في اليد الأخرى وجروا مع الرّيح في ناحية الجنوب اثني عشر يوما فخرجوا إلى جزيرة الغنم، وفيها من الغنم ما لا يأخذه عد ولا تحصيل، وهي سارحة بلا راع ولا ناظر عليها، فقصدوا الجزيرة فنزلوا فيها، فوجدوا عين ماء جارية، وعليها شجرة تين برّي، فأخذوا من تلك الغنم، فذبحوا فوجدوا لحومها مرّة لا يقدر أحد على أكلها، فأخذوا من جلودها وساروا مع الجنوب اثني عشر يوما إلى أن لاحت لهم جزيرة، فنظروا فيها إلى عمارة وحرث فقصدوا إليها ليروا ما فيها، فما كان غير بعيد حتى أحيط بهم في زوارق هناك، فأخذوا وحملوا في مركبهم إلى مدينة على ضفة البحر، فأنزلوا بها [في دار] (¬147) فرأوا فيها رجالا شقرا زعرا، شعورهم سبطة، وهم طوال القدود، ولنسائهم جمال عجيب فاعتقلوا منها في بيت ثلاثة أيام، ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلّم باللّسان العربي، فسألهم عن حالهم، وفيما جاؤوا وأين بلدهم، فأخبروه بكل خبرهم، فوعدهم خيرا، وأعلمهم أنه ترجمان الملك، فلما كان في اليوم الثاني من ذلك اليوم أحضروا بين يدي الملك، فسألهم عمّا سألهم الترجمان عنه فأخبروه بما أخبروا الترجمان بالأمس من أنهم اقتحموا البحر ليروا ما به (¬148) من الأخبار والعجائب ويقفوا على نهايته، فلما علم الملك ذلك ضحك وقال للترجمان: أخبر القوم ¬

(¬145) في الأصول: «شيء» والمثبت من ن. م. ص: 74. (¬146) في الأصول: «القبونية» والمثبت من ن. م. ص: 74 وص: 185. (¬147) اضافة من ن. م. ص: 184. (¬148) في الأصول: «ما فيه» والمثبت من ن. م. ص: 185.

مرسى ماست

أن أبي أمر قوما من عبيده فركبوا هذا البحر (¬149) وأنهم جروا في عرضه شهرا إلى أن انقطع عنهم الضّوء، وانصرفوا (¬150) من غير فائدة تجدي، ثم أمر الملك التّرجمان أن يعد القوم خيرا، وأن يحسن ظنّهم بالملك ففعل، ثم صرفوا (¬151) إلى موضع حبسهم إلى أن بدأ جري الريح الغربية، فعمر بهم زورقا، وعصّبت أعينهم، وجروا بهم في البحر برهة من الدهر، قال القوم: قدّرنا أنه جرى بنا ثلاثة أيام بلياليها حتى جيء بنا إلى البر، فأخرجنا وكتّفنا إلى خلف وتركنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار، وطلعت الشمس ونحن في ضنك وسوء حال من شدة الكتاف، حتى سمعنا غوغاء وأصوات الناس، فصحنا بجملتنا، فأقبل القوم إلينا فوجدونا بتلك الحال السيئة، فحلّونا من وثاقنا وسألونا (¬152) فأخبرناهم بخبرنا، وكانوا برابر، فقال لنا أحدهم: أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم؟ فقلنا: لا، فقال: إن بينكم وبين بلدكم مسيرة شهرين، فقال زعيم القوم: وا أسفي، فسمّي المكان (¬153) إلى اليوم آسفي (¬154). مرسى ماست: ومن مرسى آسفي إلى مرسى ماست في طرف الجون مائة وخمسون ميلا. ومرسى ماست (¬155) مرسى حسن يكنّ من بعض الرياح، والمراكب تصل إليه فتخرج منه الحنطة والشعير، ويتّصل به من قبائل البربر دكّالة، وأرض دكالة كلها منازل وقرى، ومناهل ومياهها قليلة. داي وتادلة: ومن مدينة أغمات مع الشرق والشمال إلى مدينة داي وتادلة أربعة أيام، وبين داي وتادلة مرحلة. ¬

(¬149) في ت: «فركبوا هذا البحر ودخلوا فيه». (¬150) في ت: «وانصرفوا راجعين». (¬151) كذا في ط ونزهة المشتاق، وفي ت: «انصرفوا». (¬152) في ت: «وسألونا عن حالنا». (¬153) في ت: «ذلك المكان». (¬154) قدم المؤلف هذا التفسير عن موضعه في نزهة المشتاق اذ يتحدث عنه الادريسي عند كلامه عن مدينة لشبونة، وعن قصة الفتية المغرورين. أنظر نزهة المشتاق ص: 184 - 185. (¬155) في الأصول ونزهة المشتاق: «الغيط». والأرجح ماست طبقا لما سبق ولما حققه محمد حاج صادق لكتاب المغرب العربي من كتاب نزهة المشتاق ص: 92.

الطريق من تادلة إلى فاس

ومدينة داي في أسفل جبل خارج من جبل درن، وهي مدينة بها معدن النحاس [الخالص] (¬156) الحلو، ولونه إلى البياض يحتمل التّزويج ويدخل في لحام الفضة وهو إذا طرق جاد، ولم يتشرح (¬157) كما يتشرح غيره من أنواع النحاس، وهذا المعدن ينسبه العوام إلى السوس، وليست مدينة داي من بلاد السوس، لأن بينهما مسافات أيام كثيرة، ومن هذا المعدن يحمل إلى سائر البلاد، ويتصرف به في كثير من الأعمال. ومدينة داي صغيرة، لكنها كثيرة العامر، والقوافل عليها واردة ومنها صادرة، ويزرع بها وبأرضها كثير القطن، وبمدينة تادلة أكثر، فيخرج منها إلى كلّ الجهات، ومنه كل ما يعمل من الثّياب القطنية ببلاد المغرب [الأقصى] (¬158). وبهذين البلدين أرزاق ومعايش وخصب ونعم شتّى، وأهلها أخلاط من البربر. وفي شرقي تادلة وداي من البرابر بنو وليم (¬159) وبنو ويزكون (¬160)، ومنداسة. ويسكن بهذا الجبل النازل (¬161) إلى داي قوم من صنهاجة يقال لهم أملو (¬162). الطريق من تادلة إلى فاس: ومن مدينة تادلة إلى مدينة تطّن وقرى أربع مراحل، وهي مدينة صغيرة، لكنها متحضرة يسكنها قوم من أخلاط البربر، وبها مزارع وحنطة كثيرة ولها مواش وأغنام. ومن مدينة تطّن وقرى إلى مدينة سلا التي على الساحل يومان. ومن مدينة سلا إلى مدينة فاس أربع مراحل. فاس: ومدينة فاس منقسمة بمدينتين بينهما نهر كبير يأتي من عيون تسمّى عيون صنهاجة، وعليه في داخل المدينة أرحاء كثيرة لطحن الحنطة بلا ثمن له خطر، والمدينة الشّمالية منهما تسمّى القرويين، والجنوبية تسمّى الأندلسيين، وماء الأندلسيين قليل، يشقها نهر ¬

(¬156) اضافة من ن. م. ص: 74. (¬157) في ت: «يشترح». (¬158) اضافة من نزهة المشتاق ص: 75. (¬159) في الأصول: «وليهم» والمثبت من ن. م. ص: 75. (¬160) في الأصول: «وركون» والمثبت من ن. م. (¬161) في الأصول: «بجبل نازل» والمثبت من ن. م. (¬162) عن داي وتادلة، أنظر نزهة المشتاق ص: 74 - 75.

صفروي

واحد، يمر بأعلاها وينتفع ببعض منه، وأما مدينة القرويين فمياهها كثيرة تجري منها في كل شارع وزقاق ساقية متى شاء أهل الموضع فجّروها فغسلوا مكانهم منها ليلا، فتصبح أزقتهم ورحابهم مغسولة، وفي كل دار، صغيرة كانت أو كبيرة ساقية ماء [نقيا كان أو غير نقي] (¬163)، وفي كل مدينة منهما جامع ومنبر وإمام، وبين المدينتين أبدا (¬164) فتن ومقاتلات، وبمدينة (¬165) فاس ضياع ومعائش ومبان سامية ودور وقصور، ولأهلها اهتمام بحوائجهم ومبانيهم وجميع آلاتهم، ونعمها كثيرة، والحنطة بها رخيصة الأسعار جدا دون غيرها من البلاد القريبة منها، وفواكهها كثيرة، وخصبها زائد، وبها في كل مكان منها عيون نابعة ومياه جارية، وعليه قباب مبنيّة، ودواميس محنيّة، ونقوش وضروب منها الزينة، وبخارجها الماء نابع مطرد من عيون غزيرة، وجهاتها مخضرّة مونقة، وبساتينها عامرة، وحدائقها ملتفّة، ورياضها مزهرة، وفي أهلها عزة ومنعة (¬166). ومنها إلى مدينة تاودا (¬167)، وقد خربت، مرحلتان، كان ابتناها أمراء الملثمين. ومنها إلى سجلماسة ثلاثة عشرة مرحلة. والطريق على صفروي إلى قلعة مهدي إلى تادلة إلى داي إلى شعب الصفا (¬168). ويشق الجبل الكبير إلى جنوبه، ومن هناك إلى سجلماسة. صفروي: فأما مدية صفروي فمنها إلى فاس مرحلة، وكذلك منها إلى قلعة مهدي مرحلتان. وصفروي مدينة صغيرة (¬169) متحضرة، بها أسواق قليلة (¬170) وأكثر أهلها فلاّحون، وزروعهم كثيرة، ولهم جمل مواش وأنعام، ومياههم عذبة غدقة. ¬

(¬163) ما بين الحاصرتين، اضافة من ن. م. ص: 75. (¬164) في ت: «دائما». (¬165) في الأصول: «وبمدينتي». (¬166) في ت: «منفعة»، وعن مدينة فاس أنظر نزهة المشتاق ص: 75 - 76. (¬167) في الأصول: «تاود» والمثبت من ن. م. (¬168) في الأصول: «الصفار» والمثبت من ن. م. ص: 76. (¬169) في ت: «صغيرة جدا». (¬170) في ت: «جليلة».

قلعة مهدي

قلعة مهدي: وأما قلعة مهدي فهي حصن حصين فوق جبل شامخ، ولها أسواق وعمارات، ومزارع وغلاّت، وبقر، وغنم، وبساتين (¬171) واسعة. ومن قلعة مهدي إلى تادلة، مرحلتان، ويسكن قبلة قلعة مهدي قبائل من زناتة من بني سمجون (¬172) وبني عجلان وبني تسكدلت (¬173)، وبني عبد الله، وبني موسى، وبني ماروى (¬174) وتكلمّان (¬175) وأريلوشن (¬176) وأنتقفاكن (¬177)، وبني سامري. مغيلة: وبين فاس ومدائن مكناسة أربعون ميلا في جهة الغرب. ومكناسة مدائن عدة وهي في طريق سلا، والطريق إليها من فاس إلى مدينة مغيلة. ومغيلة كانت متحضّرة، كثيرة التجارات، متّصلة العمارات، وهي في فحص أفيح كثير الأعشاب والخضر والنواوير والأشجار والثمار، وبقي منها عمارات، وخراباتها متّصلة، والمياه تخترق في كل جانب منها، ومكانها حسن، وهواؤها معتدل. ومن مغيلة إلى وادي سنات، إلى فحص النخلة، إلى مكناسة. مكناسة: ومكناسة هي المسمّاة تاكررت (¬178) وهي باقية على حالها لم يدركها كثير تغيّر، وهي مدينة حسنة مرتفعة على الأرض، يجري في شرقيها نهر صغير، وعليه أرحاء، وتّتصل بها عمارات وجنات وزروع، وأرضها طيبة للزّراعة (¬179)، ولها مكاسب، ¬

(¬171) في نزهة المشتاق: «وأحوال» ص: 75. (¬172) في الأصول: «مسجون» والمثبت من ن. م. (¬173) في ط: «بسكرات»، وفي ت: «بسكدات» والمثبت من ن. م. (¬174) في الأصول: «ماري» والمثبت من ن. م. (¬175) في الأصول: «دكلمان» والمثبت من ن. م. (¬176) في الأصول: «أريلوسن» والمثبت من ن. م. (¬177) في الأصول: «أسفقاكن» والمثبت من ن. م. (¬178) «تاكررت» بالكاف الفارسية مثل القاف المعقودة وهي كالجيم المصرية وكتبها «تاقررت» فيما بعد طبقا لنص الادريسي. (¬179) في نزهة المشتاق: «للزراعات».

بني تاورة

وأحوالها طائلة، وسمّيت مكناسة باسم مكناس البربري لما نزلها مع بنيه عند دخولهم (¬180) المغرب، وأقطع كل ابن من بنيه قطعة (¬181) يعمرها مع ولده، وكل هذه المواضع التي أحلهم فيها تتجاور وتتقارب أمكنة بعضها من بعض، وبلاد مكناسة منها التي تسمّى بني زياد، وهي مدينة عامرة لها أسواق عامرة، وحمّامات وديار حسنة، والمياه تخترق أزقتها، ولم يكن في أيام المللثم بعد تاقررت (¬182) أعمر قطرا من بني زياد، وبينهما نحو من ربع ميل (¬183). بني تاورة: ومنها إلى بني تاورة نحو ذلك، وبين تاورة وتاقررت نحو ذلك، وكانت مدينة تاورة متحضرة جامعة عامرة، والماء يأتيها من جنوبها (¬184) من نهر كبير، فينقسم في أعاليها (¬185) ويمرّ ما انقسم هناك من المياه فيخترق جميع أزقّتها [وشوارعها] (¬186) وأكثر دورها، وبين تاورة وبني زياد مدينتان صغيرتان إحداهما القصر، وهي مدينة صغيرة في الطريق. السوق القديمة: ومن تاقررت إلى السّوق القديمة على رميتي سهم، وهذه المدينة بناها بعض أمراء الملثمين (¬187) وجعل لها سورا حصينا، وبنى بها قصرا حسنا، ولم تكن بها أسواق كثيرة ولا طائل تجارات، وإنما كان ذلك الأمير يسكنها مع جملة (¬188) بني عمّه، والمدينة الأخرى في شرقي هذه المدينة، وتعرف ببني عطّوش، وهي ديار متّصلة، وعمارات في بساتين لهم، ولهم هناك أشجار وغلاّت وزيتون كثير وتين وأعناب وفواكه جمة رخيصة في أسعارها، وفي أسفل هذه المنازل قبيلة من مكناسة على مجرى الماء الذي يأتي من بني ¬

(¬180) في نزهة المشتاق: «حلولهم بالمغرب». (¬181) في نزهة المشتاق: «بقعة». (¬182) في الأصول: «تاغورت». (¬183) عن مكناسة أنظر النص الكامل للادريسي نزهة المشتاق ص: 76 - 77. (¬184) في الأصول: «جوانبها» والمثبت من ن. م. ص: 77. (¬185) في نزهة المشتاق: «أعلاها». (¬186) اضافة من ن. م. (¬187) في نزهة المشتاق: «أمير من أمراء الملثمين». (¬188) في الأصول: «جملة» والمثبت من ن. م.

قصر عبد الكريم

عطّوش، وتسمّى [هذه القبيلة] (¬189) بنو برنوس، وهي منازل وديار [لهم] وبها مزارع وكروم، وعمارات وزيتون (¬190) ورمّان وتين كثير، وفواكههم تباع لكثرتها بالثّمن اليسير. وفي شمال قصر أبي موسى سوق يقصد إليها في كل يوم خميس فيجتمع إليها جميع قبائل بني مكناس، وهي سوق نافقة لما جلب إليها، وهي تقصد من قريب وبعيد، وتسمّى السّوق القديمة. ومن قبائل بني مكناس المجاورة لهذه البلاد بنو سعيد وبنو موسى ويسكنها من غير قبائل مكناسة بنو بسيل ومغيلة، وبنو مصعود (¬191) وبنو علي وورياغل ودمّر وصبغاوة (¬192)، وهي من أخصب البقاع أرضا وأنماها زرعا، وأكثرها خيرا، وأنجبها نتاجا، وهم برابر يلبسون الأكسية، ويربطون الكرازي على رؤوسهم. قصر عبد الكريم: ومن بلاد مكناسة في جهة الغرب (¬193) إلى قصر عبد الكريم ثلاث مراحل. ويسكن هذا القصر قوم من البربر يسمّون دنهاجة، وهي مدينة صغيرة عامرة بأخلاط دنهاجة، وهي على نهر أولكس (¬194) ويجري هذا النهر من جهة الجنوب وبينها وبين البحر نحو (من ثلاثة أميال) (¬195). ومن قصر عبد الكريم إلى مدينة سلا [التي على البحر المالح] (¬196) مرحلتان من القصر إلى المعمورة ومن المعمورة إلى سلا. ونهر أولكس نهر كبير من أنهار الغرب المشهورة، وتمدّه أنهار كثيرة وعيون نابعة، وعليه عمارات وقرى وديار. عود إلى ذكر فاس: ومدينة فاس قطب ومدار لمدن المغرب الأقصى، ويسكن حولها قبائل من البربر، ¬

(¬189) اضافة من نزهة المشتاق للتأكيد. (¬190) في نزهة المشتاق: «وشجر زيتون كثيرة» ص: 78. (¬191) في الأصول: «مسعود» والمثبت من ن. م. ص: 78. (¬192) في الأصول: «صفارة» والمثبت من ن. م. (¬193) في ت: «المغرب». (¬194) في الأصول: «أولكش» والمثبت من ن. م. ص: 78. (¬195) كذا في ط، وفي ت: «ثلاثة مراحل أميال» وفي نزهة المشتاق: «ثمانية أميال». (¬196) اضافة من نزهة المشتاق للتدقيق.

الطريق من فاس إلى تلمسان

يتكلمون بالعربية، وهم بنو يوسف وفندلاوة (¬197) وبهلول وزواوة ومجاصة وصباية وسلالجون (¬198)، ومدينة فاس حضرتها الكبرى، ومقصدها الأشهر، وإليها تشدّ الركائب وتقصد القوافل، ويجلب إلى حضرتها كل غريبة من الثياب والبضائع والأمتعة الحسنة، وأهلها مياسير، ولها من كل شيء حسن أكبر نصيب، وأوفر حظ. ومن مدينة فاس (¬199) إلى مدينة سبتة التي على بحر الزّقاق شمالا، سبع مراحل. الطريق من فاس إلى تلمسان: ومن فاس إلى مدينة تلمسان تسع مراحل، والطريق بينهما أن تخرج من فاس إلى نهر سبو (¬200) وهو نهر عظيم يأتي من نواحي جبل القلعة لابن توالة (¬201)، ويمرّ حتى يحاذي فاس من جهة شرقيها وعلى ستة أميال منها، وهناك يقع نهر فاس مع ما اجتمع معه من سائر العيون والأنهار الصغار، وعليه قرى وعمارات. ويمرّ الطريق منه إلى نمالتة (¬202) مرحلة، وهي قرية وعمارات على نهر لها يأتيها من جهة الجنوب يقال له وادي ايناون. ومنها إلى كرّانطة (¬203) مرحلة، وكانت فيما سلف من الزمن مدينة لها كروم كثيرة وفواكه ومزارع على السقي. ومنها إلى باب زناتة نحو من عشرة أميال، وهو واد عليه حرث يسقى به، وبه أغنام وأبقار وزروع كثيرة تقرب من نهر أيناون (¬204). ومنها إلى قلعة كرمطة مرحلة، وبها سوق وزروع وضرع، وهذه القلعة مطلة على نهر أيناون. ¬

(¬197) في الأصول: «قبالاوة» والمثبت من ن. م. ص: 79. (¬198) كذا في ط ونزهة المشتاق، وفي ت: «سلامحون»، وفي ش: «سلالحون». (¬199) في الأصول: «سلا» والمثبت من ن. م. ص: 79. (¬200) في الأصول: «بسو» والمثبت من ن. م. (¬201) في الأصول: «بني نوالة» والمثبت من ن. م. (¬202) في الأصول: «ثمالة» والمثبت من ن. م. (¬203) في الأصول: «كرناطة» والمثبت من ن. م. (¬204) في الأصول: «انباون» والمثبت من ن. م.

تلمسان

ومن كرمطة في أسفل الجبل إلى مزاور (¬205) وهي قلعة صغيرة أكثرها خلاء مرحلة، وبها القمح والشعير كثير. ومنها إلى وادي مسون مرحلة، والطريق عليه إلى (¬206) تابريدا (¬207)، وهو حصن منيع على أكمة مطلة على وادي ملوية. ووادي ملويّة يصل (¬208) إلى وادي صاع فيجتمعان ويصبّان بالبحر ما بين جراوة ابن قيس ومليلة (¬209). ومنها إلى صاع مرحلة، وهي مدينة لطيفة على نهر كبير يشقّ أرباضها ويخترق ديارها، وقد أخربها المصامدة. ومنها إلى جراوة مرحلة، وبين جراوة والبحر ستة أميال، وكانت عامرة. ومنها إلى ترنانة (¬210) مرحلة، وهي قلعة عليها حصن منيع، ولها سوق عامرة، وبها مياه كثيرة، ولها جنّات وكروم. ومنها إلى العلويين مرحلة، وهي قرية كبيرة على نهر يأتيها من القبلة، وفواكهها فاضلة، وخيراتها شاملة، ومنها إلى تلمسان مرحلة لطيفة. تلمسان: وتلمسان مدينة قديمة (¬211) ولها سور حصين، متقن الوثاقة، وهي مدينتان في واحدة، يفصل بينهما سور، ولها نهر يأتيها من جبلها المسمّى بالصخرتين، وهذا الوادي يمر بشرقي المدينة، وعليه أرحاء كثيرة، وما جاورها من المزارع كلها (تسقى منه) (¬212) وغلاّتها ومزارعها كثيرة، وفواكهها جمة، وخيراتها شاملة، ولحومها سمينة، وبالجملة فهي حسنة لرخص أسعارها ونفاق أشغالها، وربح تجاراتها، ولم يكن في بلاد المغرب ¬

(¬205) في الأصول: «مزوار» والمثبت من ن. م. ص: 79. (¬206) في نزهة المشتاق: «اليه على» والصواب ما أثبتنا. (¬207) في الأصول: «تابوندا» والمثبت من ن. م. ص: 80. (¬208) في نزهة المشتاق: «يقع». (¬209) في الأصول: «مليليا» والمثبت من ن. م. (¬210) في الأصول: «بوقانة» والمثبت من ن. م. (¬211) في نزهة المشتاق نجد مكانها: «أزلية». (¬212) في نزهة المشتاق نجد مكانها: «سقي».

الطريق من تلمسان إلى تنس

بعد مدينة أغمات [وفاس أكثر من أهلها أموالا ولا أرفه منهم حالا] (¬213). وفاس أكبر من تلمسان قطرا، وأجلّ منها قدرا، وأكثر خيرا ومالا (¬214) وأعلى همّة في المباني، واتخاذ الدّيار الحسنة، وجبل الصخرتين معترض في قبلتها وفيه كروم وأرحاء (¬215) في سفحه على ساقية كبيرة عذبة قوية، تسمّى ساقية النّصراني، وعليها روابط ومتعبدات ومباني للصالحين (¬216)، وجنّات عظيمة القدر، وهناك عين تسمّى الفوّارة (¬217)، ويصل ماؤها إلى المدينة. وبمقربة من المدينة عين مشهورة تسمّى عين أم يحيى، تدخل منها للمدينة ساقية تصبّ في جابية في المدينة، ومن هناك تنصرف للديار والسقايات والحمّامات والخانات وغير ذلك (¬218). وعلى جبل الصّخرتين حصن بناه المصامدة قبل أخذ تلمسان، ولم يزالوا قاطنين به إلى أن فتحوا تلمسان. ومدينة تلمسان قبل بلاد المغرب، وهي على طريق، الداخل فيه والخارج منه فلا بدّ له منها والاجتياز بها على كل حال. الطريق من تلمسان إلى تنس: والطريق من تلمسان إلى مدينة تنس سبع (¬219) مراحل، تخرج من تلمسان إلى قرية العلويين وهي قرية كبيرة عامرة على ضفة نهر، ولهم بها جنّات ومياه جارية. ومنها إلى قرية بابلوت مرحلة، وهي قرية جليلة كثيرة الأهل والعمارات على نهر تسقى منه مزارع. ومن بابلوت إلى قرية سي (¬220) التي على نهر مرغيت مرحلة، وهي صغيرة (والعيون ¬

(¬213) اضافة من نزهة المشتاق ليستقيم المعنى. (¬214) بعدها كتب المؤلف: «ولا أرفه من أهلها حالا». أسقطناها عمدا رجوعا لنص الادريسي وتفاديا للغموض الذي سقط فيه المؤلف. (¬215) كذا في ط ونزهة المشتاق، وفي ت وش: «أرحية». (¬216) كذا في نزهة المشتاق، في الأصول: «الصالحين». (¬217) في ت: «الفوارت». (¬218) عن مدينة فاس أنظر النص الكامل في نزهة المشتاق ص: 80 - 81. (¬219) في الأصول: «تسع» والمثبت من ن. م. (¬220) كذا في الأصول وفي نزهة المشتاق، في نسخ أخرى من النزهة: «مسي، سني، وسبي» أنظر هامش نزهة المشتاق ص: 82.

تنس

والمياه بها تطرد) (¬221) في كل وجهة. ومنها إلى رحل الصفاصف مرحلة، وهو رحل عامر آهل على نهر يأتي من أفكان من جهة المشرق. ومن الرحل إلى أفكان مرحلة، وأفكان هذه مدينة (فيها أرحايات وحمّامات وخضر وفواكه كثيرة) (¬222) وواديها يشقّها نصفين، ويمضي منها إلى تاهرت. ومنها إلى المعسكر مرحلة، والمعسكر قرية عظيمة لها أنهار وثمار. ومنها إلى جبل فرحان مارّا في أسفله إلى قرية عين الصفاصف، وبها فواكه كثيرة وزروع ونعم دارّة، مرحلة. [ومنها] (¬223) إلى مدينة يلل مرحلة، ومدينة يلّل بها عيون ومياه كثيرة، وفواكه وزروع، وبلادها جيدة للفلاحة، وزروعها نامية. ثم إلى مدينة غزّة، وهي مدينة صغيرة القدر، مشهورة، وبها حمّام وديار حسنة ولها مزارع. ومنها إلى سوق ابراهيم مرحلة، وهي على قدر غزة. ومن سوق ابراهيم إلى بلدة التين (¬224) مرحلة، وهي بلدة صغيرة حسنة كثيرة شجر التين جدا ويعمل بها من التين شرائح مثل الطوب، وبذلك تسمّى، ويحمل منها إلى كثير من الأقطار. تنس: ومنها إلى مدينة تنس مرحلة، وهي مدينة على مقربة من ضفة البحر الملح (¬225)، على ميلين منه، وبعضها على جبل، وقد أحاط بها سور، وبعضها في سهل الأرض، وهي قديمة سورها حصين، وعليها حظائر مانعة دائرة بها، وشرب أهلها من عين، ولها في جهة المشرق واد كثير الماء وشربهم منه في أيام الشتاء والربيع، وبها فواكه وخصب واقلاع وحط، ولها أقاليم وعمارات وأعمال وزروع (¬226)، وبها الحنطة رخيصة (¬227) ¬

(¬221) في نزهة المشتاق: «والعيون بها والمياه تطرد». (¬222) في نزهة المشتاق: «كانت لها ارحاء وحمامات وقصور، وفواكه كثيرة». (¬223) اضافة من ن. م. (¬224) في نزهة المشتاق: «باجة». (¬225) في الأصول: «المالح» والمثبت من ن. م. (¬226) في نزهة المشتاق: «مزارع». (¬227) في نزهة المشتاق: «ممكنة جدا».

وهران

جدا، وسائر الحبوب موجودة وتخرج منها إلى سائر الآفاق في المراكب، وبها من الفواكه كل طريفة، ومن السفرجل الطيّب ما يفوت الوصف. وهران: والطريق من تلمسان إلى وهران الساحلية مرحلتان كبيرتان، وقيل ثلاث مراحل، وذلك بأن تخرج من تلمسان إلى وادي وارو مرحلة، (ومنها (¬228) إلى قرية تانيت مرحلة، ومنها إلى وهران) (¬229). ووهران على مقربة من ضفة البحر، وعليها سور من تراب متقن، وبها أسواق مقدّرة وصنائع كثيرة وتجارات نافقة، وهي تقابل مدينة المرية من ساحل بر الأندلس، وسعة البحر بينهما مجريان. ومنها أكثر ميرة أهل ساحل الأندلس. ولها على بابها مرسى صغير لا يستر شيئا (¬230). وعلى ميلين منها المرسى الكبير، وبه ترسي المراكب الكبار والسفن السفرية، وهذا المرسى يستر من كل ريح، وليس له مثال في سائر (¬231) حائط البحر من بلاد البربر. وشرب أهلها (¬232) من واد يجري إليها من البر، وعليه بساتين وجنّات، وبه فواكه ممكنة، وأهلها في خصب، والعسل بها موجود، وكذلك السمن والزبد (¬233) والغنم والبقر بها رخيصة، ومراكب الأندلس إليها مختلفة، وفي أهلها دهقنة وعزة أنفس ونخوة، (وكثيرا ما يتغلب عليها إفرنج الأندلس من أيدي المسلمين ثم يفتحها المسلمون منهم وساعة تاريخ الكتاب سنة 1207 سبع ومائتين وألف (¬234) بأيدي المسلمين، فتحها الأمير محمد باي (¬235) أحد أمراء الجزائر سنة 1205 (¬236) خمس ومائتين وألف أثابه الله ¬

(¬228) في الأصول: «ومنه» والمثبت من ن. م. (¬229) في الأصول: «ومنها إلى قرية تانيت ومنها إلى وهران مرحلة»، والمثبت من ن. م. (¬230) عن مدينة وهران أنظر النص الكامل في نزهة المشتاق ص: 84. (¬231) في ن. م. «مراسي». (¬232) أي وهران. (¬233) في الأصول: «الزيت». (¬234) 1792 م. (¬235) خلال القرن الثامن عشر، قامت عدة جهات وعروش من الجزائر على سلطة الدايات بانتفاضات استقلالية، فحدت من سلطتهم وقد تمكن الداي محمّد بن عثمان (1766 - 1791) من اخماد بعضها وادخل تحت طاعته القبائل ومنطقة وهران التي انتفضت بزعامة أصحاب الطريقة الدرقاوية، ربما بايعاز من مولاي سليمان سلطان فاس، وصارت وهران منذ سنة 1792 مركز البيليك الغربي أحد الولايات الثلاث التي كانت تتكون منها ايالة الجزائر. راجع على سبيل المثال شارل أ. جوليان (Ch .A .Julien) تاريخ شمال افريقيا، (de l' Afrique du Nord Histoire) باريس 1961، 2/ 292 - 294. (¬236) 1790.

المسيلة

وتقبل عمله، وهو رجل مسلم حسن الإسلام محبّ لأهل الخير وكل من ذكره ذكره بخير، أدام الله بقاءه وأعانه على طاعته، وأجرى الصالحات على يديه، ونصره على الكفرة أعداء الدين، وحفظه ورعاه) (¬237). المسيلة: ومن مدينة تنس إلى المسيلة من بلاد بني حمّاد بالغرب الأوسط، وهي مدينة استحدثها علي بن الأندلسي في ولاية ادريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن (¬238) بن علي ابن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - وهي عامرة في بسيط من الأرض، ولها مزارع ممتدة، ولأهلها سوائم خيل وأنعام، ولها جنّات وعيون وفواكه، وبقول ولحوم، ومزارع قطن وحبوب، ويسكنها من البربر بنو برزال، وبنو زنداح، وهوّارة (¬239)، وصدراتة (¬240)، ومزاتة (¬241)، وهذه المدينة عامرة بالتجّار وهي على نهر فيه ماء كثير منبسط على وجه الأرض، وليس بالعميق، وهو عذب، وفيه سمك صغير، عليه طرق حمر حسنة، ولم ير في معمور الأرض سمك على صفته، وأهل المسيلة يفتخرون به ويكون مقداره من شبر فدون وربّما صيد منه الكثير، فاحتمل منه إلى قلعة بني حمّاد، وبينهما اثنا عشر ميلا. الطريق من وازلفن إلى مليانة: فالطريق أن تخرج من تنس إلى بني وازلفن مرحلة لطيفة في جبال وعرة شواهق متصلة، وهي قرية كبيرة لها كروم وجنّات ذوات سوان لزرع البصل، والحنّاء، والكمّون، ومعظمها على نهر شلف. ¬

(¬237) ما بين القوسين اضافة من المؤلف عمّا في نزهة المشتاق، تتعلق بأحداث معاصرة له. (¬238) في الأصول: «حسين»، والمثبت من نزهة المشتاق ص: 85. ومن المعروف أن السلالة الادريسية حسنيون لا حسينيون، ويفهم من كلام البكري، ص: 59، أنها أسست في عهد أبي القاسم اسماعيل بن عبيد الله الفاطمي لا في عهد الأدارسة. (¬239) كذا في ط ونزهة المشتاق وفي ت: «سوارة» ص: 86. (¬240) في ت: «صدارة»، ص: 86. (¬241) في الأصول: «مزانة» والمثبت من ن. م.

مليانة

ومن تنس إلى شلف مرحلتان. ومن بني وازلفن إلى الخضراء مرحلة، وهي مدينة صغيرة حصينة على نهر صغير عليه عمارات متصلة وكروم، وبها من السفرجل كل بديع، ولها سوق وحمّام، وسوقها يجتمع إليه أهل تلك الناحية. مليانة: ومن الخضراء إلى مدينة مليانة مرحلة، وهي قديمة البناء، حسنة البقعة، كريمة المزارع، ولها نهر يسقي أكثر زروعها (¬242) وحدائقها وجنّاتها، وعليه أرحاء، ولأقاليمها حظ من سقي نهر شلف وعلى ثلاثة أميال منها، وفي جنوبها الجبل المسمّى بجبل وانشريس يسكنه قبائل من البربر منها مكناسة وحرسون (¬243) وأوربة (¬244) وبنو أبي خليل وكتامة ومطماطة وبنو مليلت (¬245) وبنو وارتجان (¬246) وبنو أبي خليفة ويصلاتن (¬247) وزولات وبنو واتمشوس (¬248) وزواوة ونزار (¬249) ومطقوره (¬250) ووارترين (¬251) وبنو أبي بلال (¬252) وايزكرو وبنو أبي حكيم وهوارة وطول هذا الجبل أربعة أيام وينتهي طرفه إلى قرب تاهرت (¬253). الطريق من كزناية إلى المسيلة: ومن مدينة مليانة إلى كزناية مرحلة، وهو حصن قديم له مزارع وأسواق، وهو على نهر شلف وله سوق يوم الجمعة (¬254)، يقصده بشر كثير. ¬

(¬242) في نزهة المشتاق: «مزارعها»، ص: 85. (¬243) في بعض النسخ من نزهة المشتاق: «حوشون»، أنظر هامش النزهة ص: 85. (¬244) في الأصول: «وواربة» والمثبت من ن. م. (¬245) في الأصول: «مليلة» والمثبت من ن. م. (¬246) في الأصول: «والجان» والمثبت من ن. م. (¬247) في الأصول: «يصلان» والمثبت من ن. م. (¬248) في الأصول: «وبنو تموس» والمثبت من ن. م. (¬249) في الأصول: «ونزارة» والمثبت من ن. م. (¬250) كذا في بعض نسخ ن. م. وفي غيرها: «مطغرة». (¬251) في الأصول: «وارتدين» والمثبت من ن. م. (¬252) في الأصول: «بني هلال» والمثبت من ن. م. (¬253) عن جبل وانشريش أنظر النص الكامل بنزهة المشتاق ص: 85. (¬254) في الأصول: «وله سوق يوم في الجمعة» والمثبت من ن. م.

قلعة بني حماد وما جاورها

ومن سوق كزناية إلى قرية ريغة (¬255) مرحلة، ولهذه القرية أرض متّسعة وحروث ممتدة، وفواكه وبساتين، ولها سوق حسنة تقصد في [يوم معلوم من] (¬256) كل جمعة يباع بها (¬257) ويشترى. (وبهذه القرية كروم ومزارع) (¬258) وعيون مطردة. ومنها إلى ماورغة (¬259) مرحلة وهي قرية حسنة. ومنها (¬260) إلى مدينة نقاوس مرحلتان، وهي مدينة صغيرة كثيرة الشجر والبساتين، وأكثر فواكهها الجوز، ومنها يتجهّز به إلى ما جاورها من الأقطار، وبها سوق قائمة ومعايش (¬261) كثيرة. ومن نقاوس إلى المسيلة أربع مراحل / وقيل ثلاث. ومن مدينة نقاوس إلى حصن بسكرة مرحلتان، وهو حصن منيع في كدية تراب عال، وبه سوق وعمارة، وفيه من التمر كل غريبة وطريفة. ومنه إلى حصن ماوس، وهو في أسفل جبل أوراس ثلاث مراحل، وهو حسن عامر بأهله، وكانت العرب تملك أرضه وتمنع أهله من الخروج منه إلا بخفارة رجل منهم ومنه إلى مدينة المسيلة أربعة أميال. قلعة بني حمّاد وما جاورها: (وفي الشرقي من قلعة بني حمّاد مدينة ميلة) (¬262) على أربع مراحل منها، وقلعة بني حمّاد من أكبر البلاد قطرا، وأكثرها خلقا، وأغزرها خيرا، وأوسعها أموالا، وأحسنها قصورا ومساكن، وأعمّها فواكه وخصبا، وحنطتها رخيصة، ولحومها طيّبة، وهي في سند جبل يسمّى تاقربست (¬263)، وأعلى هذا الجبل متّصل ببسيط من الأرض، ومنه ¬

(¬255) في الأصول: «ريقة» والمثبت من ن. م. (¬256) اضافة من نزهة المشتاق للتدقيق. (¬257) في الأصول: «به»، جرى المؤلف على تذكير ضمائر السوق. وهي من الألفاظ المؤنثة في العربية، ولعله مشى على المعروف في اللهجة الدارجة، اذ أن السوق عندها مذكر. (¬258) اضافة من المؤلف عما في نزهة المشتاق. (¬259) في الأصول: «ماء ورغة» والمثبت من ن. م. ص: 85. (¬260) تصرف المؤلف في نقله بالحذف وقد اختل عنده مرجع الضمائر، وفي نزهة المشتاق: «ومن مدينة طبنة إلى مدينة نقاوس»، فالضمير اذن لا يرجع إلى ماورغة التي سبق الكلام عنها. (¬261) في الأصول: «معاش»، والمثبت من ن. م. ص: 94. (¬262) في الأصول: «وفي الشرقي من مدينة المسيلة قلعة بني حماد» والمثبت من ن. م. ص: 94. (¬263) في الأصول: «قاقريست» والمثبت من ن. م. ص: 86.

ملكت القلعة، وبهذه القلعة (¬264) عقارب سود كثيرة تقتل في الحال، فيتحصن من ضررها بشرب نبات الفوليون الحرّاني، وهو بتلك القلعة كثير، فيزعمون أنه ينفع شرب درهمين منه لعام كامل (¬265) فلا يصيب شاربها شيء من ألم تلك العقارب، وأول من بنى هذه القلعة حمّاد (¬266) بن بلقين وإليها تنسب دولة بني حمّاد، وكانت قبل عمارة بجاية دار الملك لبني حمّاد، وفيها كانت ذخائرهم وجميع أموالهم وسلاحهم، وتبقى الحنطة بها إلى سنتين، وبها من الفواكه والنعم (شيء كثير) (¬267) كله رخيص. [وبلادها وجميع ما ينضاف إليها] (¬268) تصلح فيها السوائم لخصبها وإذا كثرت فلاحتها / أغنت وإذا قلّت كفت، وأهلها أبدا شباع، وأحوالهم صالحة، وهي متعلقة بجبل عظيم مطلّ عليها، وقد احتوى سورها المبني على جميع الجبل طولا وعرضا، وفي جنوبها (¬269) أرض سهلة (¬270) لا يرى الناظر فيها جبلا عاليا ولا شارفا إلا على بعيد (¬271)، وعلى مسيرة أربع مراحل ترى جبالا لا تتبين أرضها. ومن مدينة القلعة في جهة الشرق مدينة الغدير وبينهما ثمانية أميال. وبين الغدير والمسيلة (اثنا عشر ميلا) (¬272). [وفي الشرقي من مدينة قلعة بني حمّاد مدينة ميلة] (¬273) ومدينة ميلة (¬274) حسنة كثيرة الأشجار والثمار، ومحاسنها ظاهرة ومياهها غدقة وأهلها من أخلاط البربر جملة، وكانت في طاعة يحيى بن العزيز صاحب بجاية. ¬

(¬264) في نزهة المشتاق: «المدينة». (¬265) في الأصول: «قابل» والمثبت من ن. م. (¬266) في الأصول: «حمد»، والمعروف حماد بن بلقين بالقاف المعقدة كالجيم المصرية ولذلك تكتب بالقاف أو بالكاف. (¬267) ما بين القوسين ساقط في ط وش. (¬268) اضافة من نزهة المشتاق للتدقيق ص: 86. (¬269) في نزهة المشتاق: «وأمامها في جهة الجنوب». (¬270) في الأصول: «سهلا». (¬271) عن قلعة بني حماد أنظر النص الكامل في نزهة المشتاق ص: 86. (¬272) في الأصول: «ثمانية عشر ميلا» والمثبت من ن. م. (¬273) اضافة من ن. م. للتوضيح اذ أن المؤلف خلط بين ميلة ومسيلة. (¬274) في الأصول: «مسيلة» والمثبت من ن. م. ص: 94.

قسنطينة وما جاورها

قسنطينة وما جاورها: ومنها في الشرق إلى مدينة قسنطينة الهواء (¬275) ثمانية عشر ميلا، ويصل بينهما جبل، والطريق به. ومدينة قسنطينة عامرة، وبها أسواق وتجارات (¬276)، وأهلها مياسير ذووا أموال وأحوال واسعة، ومعاملات للعرب ومشاركة في الحرث والادّخار، والحنطة تقيم بها في مطاميرها مائة سنة لا تفسد، والعسل بها كثير وكذلك السمن، يتجهّز بهما إلى سائر البلاد. وقسنطينة على قطعة جبل منقطع مربّع فيه بعض استدارة لا يتوصّل إليه من مكان إلا من جهة باب في غربيها ليس بكثير السعة، وهناك مقابر أهلها حيث يدفنون موتاهم، ومع المقابر أيضا بناء قائم من بناء الروم الأوّل، وبه قصر قد تهدّم كلّه إلا قليل منه، وبه دار ملعب من بناء الروم / شبيه بملعب ثرمة (¬277) من بلاد صقلية. وقسنطينة يحيط بها الوادي من جميع جهاتها كالعقد مستديرا بها، وليس للمدينة من داخلها سور يعلو أكثر من نصف قامة إلا من جهة القنطرة فإنه من أعجب البناءات (¬278) لأن علوّها يشف على مائة ذراع [بالذراع] (¬279) الرشاشي، وهي من بناء الروم قسيّ [عليا] (¬280) على قسى سفلى، وعددها في سعة الوادي خمس، والماء يدخل على ثلاث منها ممّا يلي جانب الغرب، وهي كما وصفت قوس على قوس، والقوس الأولى يجري بها الماء أسفل الوادي (والقوس الأخرى) (¬281) فوقها وعلى ظهرها المشي والجواز إلى البر الثاني، وباقي القوسين اللتين من جهة المدينة فإنما هما مفردتان عن الجبل، وبين كل قوسين أرجل تدفع مضرة الماء ومصادرته عند حمله بسيوله، وعلى رقاب الأرجل قسيّ فارغة كالبنات صغار، فربّما زاد الماء في بعض الأوقات عند سيله فعلا الأرجل ومر في تلك الفرجات (¬282)، وهي من أعجب ما رئي من البناء. ¬

(¬275) في الأصول: «الهوى» والمثبت من ن. م. (¬276) في نزهة المشتاق: «تجار». (¬277) كذا في ط ونزهة المشتاق، في ش: «تمرمة»، وفي ت: ساقطة. (¬278) حذف وتغير المعنى شيئا، والمحذوف هو: «وللمدينة بابان». (¬279) اضافة من ن. م. ص: 95. (¬280) ساقطة في كل الأصول. (¬281) في الأصول: «والقوس القصوا الجبل» والمثبت من ن. م.95. (¬282) كذا في ش ونزهة المشتاق، في ت: «الفرنصات» وفي ط: «الفرضات».

وليس في المدينة كلها دار كبيرة ولا صغيرة إلا وعتبة بابها حجر واحد، وكذلك جميع عضادات الأبواب فمنها ما يكون من حجرين ومنها ما يكون من أربعة أحجار، وبناؤها من التراب، وأرضها كلها حجر صلد، وفي كل دار منها مطمورتان وثلاث وأربع منقورة في الحجر، ولذلك تبقى بها الحنطة لبرودتها واعتدال هوائها، وواديها يأتي من جهة الجنوب فيحيط بها من غربيها ويمر شرقا مع دائر / المدينة ويستدير في جهة الشمال إلى أن يصب في البحر في غربي وادي سهر. وقسنطينة من أحصن بلاد الله، وهي مطلة على فحوص متصلة بها، ولها مزارع الحنطة والشعير ممتدة في جميع جهاتها، ولها في داخل المدينة ومع سورها (¬283) مستقى يستقون منه ويتصرفون في أوقات حصارها ممن يطرقهم. وبين قسنطينة وباغاي (¬284) ثلاث مراحل، وبين قسنطينة وبجاية ستة أيام، أربعة منها إلى جيجل. ومن جيجل إلى بجاية خمسون ميلا، وكذلك من قسنطينة إلى أبرس خمس مراحل (¬285). ومنها إلى بجاية أربع مراحل. ومنها إلى قلعة بشر يومان. ومنها إلى تيفاش يومان كبيران. ومنها إلى قالمة يومان كبيران. ومنها إلى القصرين ثلاثة أيام. ومنها إلى دور مدين ستة أيام. ومنها إلى مرسى القلّ يومان [في أرض العرب] (¬286). والطريق من قسنطينة إلى بجاية؛ من قسنطينة إلى النهر إلى فحص فارة إلى قرية بني خلف إلى حصن كلديس. ¬

(¬283) في الأصول: «أسواقها» والمثبت من ن. م. ص: 96. (¬284) في الأصول: «باغية» والمثبت من ن. م، وفي المسالك والممالك للبكري ص: 50 - 51 وفي كتاب العبر لابن خلدون: «باغاية». (¬285) عن قسنطينة أنظر النص الكامل في ن. م. ص: 95 - 96. (¬286) اضافة من ن. م.

جبل سحاو

وحصن كلديس منيع جدا، ومنه لقسنطينة عشرون ميلا وليس بينهما جبل ولا خندق، وكلديس على جرف مطل على نهر قسنطينة. جبل سحاو: ومن حصن كلديس إلى جبل سحاو ثمانية أميال، وهو من أعظم الجبال علوا وأسماها ارتقاء وأصعبها مسلكا وعلى أعلاه حصن، ويصعد إلى أعلاه نحو من خمسة أميال، ويسار في أعلاه أيضا نحو من ثلاثة أميال، وينحدر منه إلى أسفل واد هناك / يسمّى وادي شال، ويمرّ معه إلى سوق يوسف وهي قرية في سند جبل ممتنع السلوك اثنا عشر ميلا، وهو جبل تخترقه مياه عذبة. سوق بني زندوي: ومنه إلى سوق بني زندوي (¬287) وهو حصن في بسيط من الأرض قليل الحصانة، وهي سوق لها يوم في الجمعة، وأهل تلك الناحية يقصدونها في ذلك اليوم، وهذه القبيلة نعمر تلك الجهات، ولهم منعة وتحصّن، وهم أهل خلاف وقيام بعض على بعض، والجبايات التي يلتزمونها لا يؤدّونها إلاّ بعد نزول الخيل والرّجال عليهم في تلك النواحي. ومن عوائدهم التي هم عليها (¬288) أن صغيرهم وكبيرهم لا يمشي من موضع إلى غيره إلا وهو شاكي السلاح. جيجل: ومن هذا الحصن إلى تالة وهو حصن خراب، وبه المنزل [ومنه] (¬289) إلى المغارة إلى ساحل البحر [إلى مسجد بهلول، إلى المزارع] (¬290) إلى مدينة جيجل، وهي مدينة على ضفة البحر، والبحر يحيط بها، ولها ربض. ومن (¬291) مدينة جيجل إلى طرف مزغيطن إلى جزائر العافية إلى فج الزرزور، إلى ¬

(¬287) في الأصول: «بني يزيد» والمثبت من ن. م. (¬288) في ت: «عليها الآن». (¬289) ساقطة من الأصول، عن بني زندوي أنظر نزهة المشتاق ص: 97. (¬290) اضافة من ن. م. ص: 97. (¬291) تصرف في النقل بحذف كل ما له صلة باحتلال رجار لها، وحياة السكان بعد الاحتلال ومنتوجاتها الفلاحية أيضا، والمؤلف سيحذف أيضا فيما بعد كل ما يتعلق برجار النرماني ربما لشدة كراهيته له.

مدن أخرى

حصن المنصوريّة (¬292) على البحر إلى متّوسة، وهي قرية عامرة وبها معدن (¬293) الجص ومنها يحمل إلى بجاية، وبينهما اثنا عشر ميلا، وكذلك من جيجل إلى بجاية الناصريّة خمسون ميلا. ومدينة جيجل لها مرسيان، مرسى منهما في جنوبها وهو مرسى وعر، والدخول إليه صعب لا يدخل إلا بخبير (¬294) حاذق / ومرسى من جهة الشمال، ويسمّى مرسى الشعراء، وهو ساكن الحركة كالحوض، يحسن الإرساء به، لكنه لا يحتمل الكثير من المراكب لصغره، وهو رمل (¬295). ومن جيجل إلى مدينة القلّ سبعون ميلا. والقلّ قرية عامرة وهي مرسى وعليه عمارات، والجبال تكتنفها من جهة البر. مدن أخرى: ومن القلّ إلى قسنطينة مرحلتان جنوبا، وعلى مقربة من بجاية إلى جهة الجنوب حصن سطيف وبينهما مرحلتان، وهو حصن كبير القطر كثير الخلق كالمدينة، كثير المياه والشّجر والفواكه، ومنه يحمل الجوز لكثرته به إلى سائر الأقطار، وهو بالغ الطّيب. ومنه إلى أشير زيري مرحلتان، وهو حصن حسن البقعة، كثير المنافع، وله سوق يوم معروف يجلب إليه كل طريفة، ويباع به كل لطيفة. ومنه إلى تامزكيدة مرحلة، ثم إلى المسيلة مرحلتان. والطريق من مدينة تلمسان إلى مدينة المسيلة (¬296). ومن تلمسان إلى مدينة تاهرت أربع مراحل. وتخرج من تلمسان إلى تادرة، وهي قرية في حضيض جبل فيه عين ماء خرّارة مرحلة. ومنها إلى قرية ندّاي مرحلة، وهي قرية صغيرة في فحص أفيح، بها بئران معينان. ¬

(¬292) كذا في ن. م. وفي ط وش، في ت: «المنصورة». (¬293) في نزهة المشتاق: «معادن». (¬294) في نزهة المشتاق: «دليل». (¬295) عن جيجل أنظر النص الكامل في نزهة المشتاق ص: 98. (¬296) رجع المؤلف إلى الوراء بحيث أن صنيعه يوهم أن الكلام متصل ببعضه خلافا للواقع، لأن الكلام عن جهجل؟؟؟ والقل وسطيف وقع ص: 97 - 98 من نزهة المشتاق، والكلام عن أشير ص: 85 - 86. والكلام عن تلمسان وتادرة ونداي في ص: 87 - 88. وهذا الصنيع يتعب المحقق وربما يوقع في الغلط.

ومنها إلى مدينة تاهرت (¬297) مرحلتان، وبين تاهرت والبحر أربع مراحل. وتاهرت كانت فيما سلف من الزمن مدينتين كبيرتين [إحداهما] (¬298) قديمة [والأخرى] (¬299) محدثة، والقديمة عامرة ولها مزارع وضياع / جمة، وبها من نتاج الخيل والبراذين كل حسن. والبقر والغنم كثير جدا، وكذا السمن والعسل. وجميع غلاّتها كثيرة، وبها مياه متدفقة، وعيون جارية، تدخل أكثر ديارهم، ويتصرفون بها، وعلى هذه المياه بساتين وأشجار تحمل ضروبا من الفاكهة الحسنة، وبالجملة فهي بقعة حسنة. ومن تاهرت إلى قرية أعبر مرحلة. [ومنها إلى قرية دارست مرحلة] (¬300) وهي قرية صغيرة على نهر صغير جدا وزروعها كثيرة ومواشيها عامة. ومنها إلى مدينة ماما (¬301) مرحلتان، وهي مدينة صغيرة لها سور تراب وأكثره طوب، ولها بما استدار بسورها (¬302) خندق محفور، ولها واد عذب عليه مزارع وغلات، واصابتها في الحنطة كثيرة. ومن مدينة ماما إلى قرية ابن مخبر (¬303) مرحلة، وهي قرية كثيرة الزرع، عذبة المياه، وشربهم من العيون وسكّانها زناتة. ومنها إلى أشير زيري مرحلة. ومن أشير زيري إلى قرية سطيت (¬304) مرحلة، وبها عين ماء جارية. ومنها إلى قرية هاز (¬305) في فحص رمل مرحلة، وبها (عيون ومياه) (¬306) وقد خربت. ومنها إلى المسيلة مرحلة. ¬

(¬297) في الأصول: «زارة» والمثبت من ن. م. ص: 87. (¬298) اضافة من نزهة المشتاق للتدقيق. (¬299) اضافة من نزهة المشتاق للتدقيق. (¬300) اضافة من نزهة المشتاق ليستقيم المعنى اذ بحذف قرية دارست يختل مرجع الضمائر، ص: 87. (¬301) في الأصول: «ملها» والمثبت من ن. م. (¬302) في الأصول: «بسوقها» والمثبت من ن. م. (¬303) كذا في بعض نسخ ن. م. وفي غيرها: «ابن مجبر». (¬304) في الأصول: «سعيد» والمثبت من ن. م. (¬305) في الأصول: «كهان» والمثبت من ن. م. (¬306) في نزهة المشتاق: «مياه عيون».

وبين مدينة تلمسان وتاهرت تسكن قبائل من بني مرين (¬307) وزيري وورتيد (¬308) وماني (¬309) وأومانوا وسنجاسة، وغمرة، ويلومان (¬310)، وورماكسين، وتجين (¬311) وورشفّان (¬312)، ومغراوة، وبني راشد، وتمطلاس، ومنان (¬313)، وزقارة، وكل هذه القبائل / بطون زناتة، وهم أصحاب هذه الفحوص، وهم قوم رحّالة ظواعن ينتجعون من مكان إلى غيره لكنهم متحضرون، وأكثر زناتة فرسان يركبون الخيل، ولهم عادية لا تؤمن، ولهم معرفة بارعة وحذق وكياسة، ويد جيدة في علم الكف، ولا يدري أحد من الأمم أعلم من زناتة بعلم الكف، وهم منسوبون إلى جانا بن ضريس، وهو جالوت [الذي قتله داود - عليه السّلام -] (¬314)، فجانا أبو زناتة كلها حسبما مرّ. ولنرجع إلى [ذكر] (¬315) وهران فنقول (¬316): منها إلى مدينة تنس مجريان، وهما من الأميال مائتا ميل وأربعة أميال (كل مجرى مائة ميل وميلان) (¬317). ومن مدينة تنس (إلى برشك على الساحل ستة وستون ميلا. ومن مدينة تنس) (¬318) إلى مليانة في البر مرحلتان. وبين مليانة وتاهرت ثلاث مراحل، ومدينة برشك مدينة صغيرة على تلّ، وعليها سور تراب، وهي على ضفة البحر (¬319)، وشرب أهلها من عيون، وماؤها عذب وبها فواكه وجمل مزارع وحنطة كثيرة وشعير. ومنها إلى شرشال عشرون ميلا، ويصل بينهما جبل منيع تسكنه قبيلة من البربر تسمّى ربيعة، ومدينة شرشال صغيرة القدر، وأهلها كلهم متحضرون، وبها مياه جارية وآبار عذبة، وبها فواكه حسنة كثيرة، وبها كروم وبعض [شجر] (¬320) تين وما دار بها ¬

(¬307) في الأصول: «مدين» والمثبت من ن. م. (¬308) في الأصول: «ووتيل» والمثبت من ن. م. ص: 88. (¬309) في الأصول: «وماوي» والمثبت من ن. م. (¬310) في ط: «تطومان»، وفي ش: «تلوحان» والمثبت من ن. م. (¬311) في الأصول: «تجن» والمثبت من ن. م. (¬312) في الأصول: «ورسفان» والمثبت من ن. م. (¬313) في الأصول: «بنان» والمثبت من ن. م. (¬314) اضافة من نزهة المشتاق للتوضيح. (¬315) اضافة من نزهة المشتاق. (¬316) يقول لكن على لسان الادريسي بتصرف، النقل هنا يبدأ من ص: 88. (¬317) اضافة من المؤلف. (¬318) ما بين القوسين ساقط من ت وط. (¬319) أسقط المؤلف ما يتعلق باحتلال رجار لها. (¬320) اضافة من ن. م.

الجزائر

من السكان فهم بواد لهم مواش وغنم كثيرة / والنخل والعسل عندهم كثير، وأكثر أموالهم الماشية. ومن شرشال إلى جزائر بني مزغنا سبعون ميلا (¬321). الجزائر: ومدينة الجزائر على ضفة البحر، وشرب أهلها من عيون عذبة على البحر، ومن آبار، وهي عامرة آهلة، وتجاراتها رابحة، وأسواقها قائمة، وصناعاتها نافقة، ولها بادية كبيرة، وجبال فيها قبائل من البربر، وزراعتها الحنطة والشعير، وأكثر أموالهم المواشي من البقر والغنم، ويتّخذون النحل، فكثر عندهم السمن والعسل فيتجهّز بهما إلى سائر البلاد والأقطار المجاورة لهم والمتباعدة عنهم، وأهلها قبائل، ولهم حرمة مانعة، هذا ما وصفها به في النزهة (¬322). وأقول (¬323): إن مدينة الجزائر - أدامها الله تعالى للإسلام، وأيّد عساكرها بالنصر (¬324) على أعداء الدين - ليس في بلاد المغرب زمن التاريخ أنكى منها للكفّار، فهي حصن المغرب الحصين وقفله المتين منذ دخلتها العساكر العثمانية المنصورة المحمية، ولقد قصده أعداء الدين مرارا فهزمهم الله (¬325)، وكبتهم وقهرهم حتى رمى طاغيتهم تاجه عن رأسه وحرم لبسه فدل (¬326) على استمرار نحسه، وآخر خروجهم أواخر مائتين وألف (¬327) فيما لا يحصى عدّه من المراكب والعدد. واستعانوا بجميع أجناسهم، واستلفوا ¬

(¬321) عن شرشال أنظر النص الكامل في ن. م. ص: 89. (¬322) ص: 89. (¬323) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬324) ساقطة في ت. (¬325) بعدها في ت: «وهزم». (¬326) في ت: «وحرم لبس يدل»، وهو تحريف من الناسح. (¬327) 1785. إن تقهقر الايالة الجزائرية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر أدى بالدول الأوربية إلى محاولة فرض نفوذها عليها، ومن المحاولات ما قامت به اسبانيا عن طريق دون انجلو (DON Angelo Barcelo) محاولتان حربيتان فاشلتان في أوت 1783 وجويلية 1784 وكانتا امتدادا لمحاولة اورايي (O. Reilly) التي فشلت رغم كثرة العساكر (25000 عسكري) التي أنزلها قرب حراش في جويلية من سنة 1775، وانتهت المناورات الحربية الاسبانية بامضاء عقد صلح سنة 1785 بين الجزائر واسبانيا لصالح الجزائر. ومحمود مقديش سيتكلم عن هذه الأحداث القريبة منه بشيء من الفخر، راجع على سبيل المثال ش. جوليان، تاريخ شمال افريقيا 2/ 297.

من بعضهم قناطير الأموال، واستمدّوا بالخيل والمال والرجال / طمعا في أخذ الجزائر لا ظفّرهم الله لظنّهم أنهم إذا غلبوا عليها فقد انحلّ قفل المغرب واستولوا على جميعه، قطع الله آمالهم ولا ظفّرهم إلا باللعنة والخزي والهوان وسوء المنقلب والخسران. فلما وصلوا نزلوا ليلا، ونصبوا حصونا وأسوارا من أخشاب (¬328) وحديد تمشي على وجه الأرض بأشغال أحكموها بمكرهم وكيدهم، فدفعوا ذلك على عربات فمشى وهم من خلفه، فجعلوا يرمون المسلمين بالنيران وأنواع الصواعق والمدافع بشيء خارج عن الطاقة، فتوجهوا نحو المدينة وعساكر المسلمين، فلما رأى المسلمون مكر الكفرة جعلوا لهم أسوارا من الإبل، فأكثروا منها وقدّموها بين أيديهم، وضربوا من خلفها بالطبول والبوقات، وركبوا الخيول، وزنقوا الإبل، فتوجّهت نحو العدو، فصار ضرب العدو في الإبل وسلم المسلمون، ثم دفعوا الإبل على الكفرة (¬329) فرفضتهم أسوارهم، ووقعت الهزيمة على الكفّار، وجاء للمسلمين النصر (¬330)، فغنم المسلمون ما حصل بالبر من العدو، ولم ينج منهم إلا من أشرع قلاعه بالمراكب، وفرّوا منهزمين. وفي السنة الثانية (¬331) رجعوا بأكثر ممّا تقدم ولكن يئسوا من نزول البر، وعملوا حيلة ثانية وهي الإفساد وهم في البحر بأن أنشأوا أجفانا وجعلوا فيها المدافع والبونبة، وطمعوا أن يرموا على المدينة وحصونها وعساكر الإسلام ليطحنوهم ويحرقوهم / بالنار فركب المسلمون في مثل ما قدموا من الأجفان، وأرهقوهم عسكرا وعاجلوهم بالرمي فاشتغلوا بأنفسهم فغرق منهم جمع وهلك آخرون، فما لبثوا غير ساعة حتى جاء النصر ووقع على الكفرة اللئام (¬332) الهزيمة والكسر فولّوا (¬333) مدبرين وتفصيل هاتين الواقعتين ممّا يعد من أكبر غزوات المسلمين. ولما أعيت الكفرة الحيلة ورد الله كيدهم في نحرهم فأخذتهم القهرة والذلّة، وكثر نهب المسلمين لمراكبهم وقطعوا عليهم أسفارهم بالبحر، وطلبوا السّلم ببذل أموالهم للمسلمين ليأمنوا في أسفارهم وليمتاروا ويطمئنوا في أنفسهم، فأبى المسلمون عليهم ذلك، فجعلوا يلتجئون ويستغيثون بسلاطين الإسلام وبأولي الجاه من المسلمين حتى صالحوهم على ذلة الكفر وعزة ¬

(¬328) في ت: «خشب». (¬329) في ت وط: «الكفرة اللئام». (¬330) في ت: «النصر والظفر». (¬331) في سنة 1784 كما ذكرنا. (¬332) ساقطة من ت. (¬333) بعدها في ت: «جميع اللئام منهزمين»، وظاهر أنها زيادة من النّاسخ لما في الجملة من ثقل.

تامدفوس

الإسلام (¬334)، امتثالا لقوله علت كلمته: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} (¬335) وبالجملة فالجزائر ساعة التاريخ فريدة الدنيا ووحيدة العصر في صغر الجرم، وقوة النكاية في الكفر، مع شدة الحزم لا يماثلها في ذلك غيرها. فهي قامعة لجميع أنواع الكفّار مع كثرتها {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصّابِرِينَ} (¬336) وفي الجزائر من أسارى النصارى ما يعجز اللسان عن احصائه وذلك كله / فضل من الله أفاضه عليها منذ دخلتها العساكر العثمانية - زادها الله عزّا ونصرا -، وأمدهم الله وجميع عساكر الإسلام بالنصر والتأييد وروح منه، إنه عزيز حكيم. وتفصيل أحوال الجزائر وفتوحاتها ومغازيها وغنائمها وجملة أحوالها مفرد بالتأليف، وإنما المعنى ببرقة (¬337) من سحائب فضائلها ليدعو المؤمن لهم بالنّصر على أعداء الدين وقبول العمل وحسن الجزاء يوم الدين. تامدفوس: ولنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول (¬338): من الجزائر إلى تامدفوس شرقا ثمانية عشر ميلا، وتامدفوس مرسى حسن، عليه مدينة حصينة صغيرة خراب، وبها بقايا بناء قديم وهياكل وأصنام وحجارة ويذكر أنها كانت من أعظم البلاد قدرا (¬339) وأوسعها قطرا. مرسى الدّجاج: ومن تامدفوس إلى مرسى الدجاج عشرون ميلا، ومدينة مرسى الدجاج كبيرة القطر لها حصن دائر بها وبها (¬340) مرسى مأمون ومزارع متصلة، وإصابة أهلها في زراعتهم واسعة، وفيها من جميع الفواكه واللحوم أشياء كثيرة، تباع بالثمن اليسير، والتين يحمل منها منثورا وشرائح إلى سائر الأقطار، وأقاصي المدائن والأمصار، وهي بذلك مشهورة. ¬

(¬334) وقع الصلح بين الجزائر والأسبان لصالح الجزائر كما ذكره مقديش سنة 1785. (¬335) سورة الأنفال: 61. (¬336) سورة البقرة: 249. (¬337) من البرق ويعني بها بسرعة خاطفة. (¬338) يرجع للنقل من نزهة المشتاق بتصرف كعادته فيما سبق. ص: 89. (¬339) في نزهة المشتاق: «كبرا». (¬340) تصرف في النقل بالحذف، والمحذوف يكشف عن قلّة سكانها.

تدلس

تدلس: ومن مرسى الدجاج إلى مدينة تدلس أربعة وعشرون ميلا، وهي على شرف متحصنة، لها سور حصين، وديار ومتنزهات، وبها من رخص الفواكه والأسعار ما لا يوجد / بغيرها مثله، وبقرها وأغنامها كثيرة تباع بثمن رخيص، وتخرج من أرضها إلى كثير من الأراضي والآفاق (¬341). بجاية: ومن تدلس إلى مدينة بجاية في البر سبعون ميلا، وفي البحر تسعون ميلا، ومدينة بجاية على البحر فوق جرف حجر، ولها من جهة الشمال جبل يسمّى مسيون (¬342)، وهو سامي العلو، صعب المرتقى، وفي أكنافه جمل من النبات المنتفع به في صناعة الطب مثل شجر الحضض (¬343) والسقولوفندوريون (¬344) والبرباريس (¬345) والقنطوريون (¬346) الكبير والزّراوند (¬347) والقسطون (¬348) والأفسنتين (¬349) وغير ذلك من الحشائش. ¬

(¬341) عن تامدفوس، ومرسى الدجاج، وتدلس أنظر النص الكامل في نزهة المشتاق ص: 89 - 90. (¬342) في الأصول: «ميون» والمثبت من ن. م. ص: 90. (¬343) ومن الأسماء التي ذكرها ابن البيطار «عرقد» وهو الاسم المعروف به في الجزائر ويسمى أيضا حضاض اليمن، حضض، حضيض، أنظر إحياء التذكرة لرمزي مفتاح، القاهرة 1372/ 1953 ص: 463، ويسمى الخولان بمصر، نفس المرجع ص: 252، ويسمى بتونس الخولان المكي (حل الرموز خط، لتونسي مجهول) ص: 62 أعارنيه شيخنا العلامة المرحوم محمد المصيري ومزيّة هذا الكتاب أنه يذكر الحشائش باللهجة التونسية. (م. محفوظ). (¬344) كذا في ن. م. وش. في ط وت: «اسقولوقيدوريون» وفي تذكرة الأنطاكي «سقولوقندريون» بالواو والنّون وقد يبدلان بباء. والأول يسمّى كف النّسر وكف الضبع (التذكرة 1/ 178) ويسمّى بتونس سوط الخيل، ويسمى بالجريد النشر شمانة، ويسمى عند بعضهم ورل الماء. راجع حل الرموز ص: 100. (¬345) البربارس أو الأمير بارس وهو نبات شائك، يعرف في العطارة المصرية باسم القشرة، وثماره حامضة عنبية يصنع منها نبيذا. راجع احياء التذكرة ص: 104 وفي تونس يعرف بياسمين الصوة. حل الرموز ص: 19، التذكرة 1/ 53. (¬346) بالفرنسية «La grande Centauree» والقنطوريون أصناف كثيرة تقارب الثلاثين ومنه نوع في تونس يسمّى أرجيقن أو أرجقينة. ويستعمل للصباغة باللون الأصفر. راجع احياء التذكرة ص: 521 - 523. والقنطوريون الكبير يسمّى بتونس جناح الغراب، وقصة الحية، وبالاسم الأخير يعرف في الجزائر راجع حل الرموز ص: 41، وكشف الرموز لعبد الراق بن أحمدوش الجزائر 1347/ 1928، ص: 137 - 138. (¬347) هو الببرالة، الزراوند الطويل بلغة افريقية. بطرس الستاني، محيط المحيط 1/ 63. وانظر عنه أيضا احياء التذكرة ص: 533 والتذكرة 1/ 162 ويسمّى في تونس بوزردوم والترياق، راجع حل الرموز ص: 92. (¬348) في الأصول: «الأقسط»، والمثبت من الادريسي ص: 90. لم نعثر على هذا الاسم في كتب الحشائش ولعله قسوس. (¬349) هو شجرة مريم في تونس والجزائر وبالمغرب الأقصى: العجوز. أنظر كشف الرموز ص: 26، وحل الرموز ص: 119، والتذكرة 1/ 47 ويسمّى باللغة العربية الخترف وبالألمانية فرموت، وبالفرنسية «absinthe» وبالانكليزية «worwood» راجع احياء التذكرة ص: 96.

وفي هذا الجبل كثير من العقارب صفر اللون، إلاّ أنّ ضررها قليل. ومدينة بجاية كانت مدينة الغرب الأوسط وعين بلاد بني حمّاد، والسفن إليها مقلعة، وبها القوافل وإليها منحطّة، والأمتعة إليها برّا وبحرا مجلوبة، والبضائع بها نافقة، وأهلها مياسير تجّار، وبها من الصّناعات والصنائع ما ليس بكثير من البلاد، وأهلها يجانسون تجّار الغرب الأقصى، وتجّار الصحراء وتجّار المشرق، وبها تحل الشدود وتباع البضائع بالأموال المقنطرة، ولها بواد ومزارع، والشعير والحنطة بها كثير، والتين وسائر الفواكه بها ما يكفي لكثير البلاد وبها دار صناعة لإنشاء الأساطيل للقتال، ولإنشاء السفن الحمّالة، والمراكب النقّالة، لأن الخشب في جبالها (¬350) وأوديتها كثير موجود، ويجلب إليها من أقاليمها / الزّفت البالغ الجودة والقطران، وبها معادن الحديد الطيّب، موجودة ممكنة، وبها من الصناعات كل غريبة ولطيفة وعلى بعد ميل منها نهر يأتيها من جهة المغرب من نحو جبال جرجرة، وهو نهر عظيم يجتاز عند فم البحر [بالمراكب] (¬351) وكلّما بعد عن البحر كان ماؤه قليلا فيجوزه كل من شاء في كل موضع (منه وقد انمحى في هذه الأعصار أكثر معالمها، واندرس جل مفاخرها وانتقل جميع مآثرها لمدينة الجزائر، فهي اليوم الجامعة لجميع ما ذكر لبجاية وزيادة فوق ذلك) (¬352) وبجاية قطب لكثير من البلاد وذلك (من (¬353) بجاية إلى أيكجان) (¬354) يوم وبعضه. ومن بجاية إلى بلزمة مرحلتان وبعض. ومن بجاية إلى سطيف يومان. وبين بجاية وباغية ثمانية أيام. وبين بجاية وقلعة بشر خمسة أيام. وهي من أعمال (¬355) بسكرة. وبين بجاية وتيفاش ست مراحل. ¬

(¬350) في الأصول: «واديها» والمثبت من ن. م. ص: 91. (¬351) اضافة من ن. م. للتدقيق. ص: 91. (¬352) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬353) كذا في ش وط ونزهة المشتاق، وفي ت: «. . . أن بجاية بينها وبين أريحان. . .». (¬354) في الأصول: «أريحان» والمثبت من ن. م. (¬355) في ن. م: «عمالة».

الطريق من بجاية إلى القلعة

وبين بجاية وقالمة ثماني مراحل. وبين بجاية وتبسة ستة أيام. وبين دورمدين وبجاية إحدى عشرة مرحلة. وبين بجاية والقصرين ستة أيام. وبين بجاية وطبنة (¬356) سبع مراحل. وأصل عمارة بجاية في ذاتها كان بخراب قلعة حمّاد. الطريق من بجاية إلى القلعة: والطريق من بجاية إلى القلعة: تخرج من بجاية إلى المضيق إلى سوق الأحد (¬357) إلى وادي وهت إلى حصن تاكلات وبه المنزل، وهو حصن منيع على شرف مطل على جبل بجاية / وبه سوق دائمة وبه فواكه ولحوم كثيرة رخيصة، وبحصن تاكلات قصور حسان وبساتين وجنّات كانت ليحيى بن العزيز صاحبها. ومن حصن تاكلات إلى تادرقت (¬358) إلى سوق الخميس إلى حصن بكر، وبه المنزل. وحصن بكر حصين (وله مزارع) (¬359) ممتدة، والوادي الكبير يجري مع أصلها ويحتويها، وفيه سوق وبيع وشراء. ومن حصن بكر إلى حصن وارفو ويسمّى أيضا وافو إلى القصر، وهو قرية، وهناك تترك وادي بجاية غربا وتمرّ في الجنوب إلى حصن الحديد مرحلة إلى الشعراء (¬360) إلى قصر بني تراكش (¬361) إلى تاورت، وهي قرية كبيرة عامرة على نهر ملح (¬362)، وبها المنزل، وشرب أهلها من عيون محتفرة ببطن واد يأتيها من جهة المشرق، وهذا الوادي لا ماء به. ومن تاورت إلى الباب وهي جبال يخترق بينها الوادي الملح. وهناك مضيق وموضع مخيف. ¬

(¬356) في الأصول: «طنبة» والمثبت من ن. م. ص: 91. (¬357) في الأصول: «سوق الأربع» والمثبت من الادريسي ص: 92. (¬358) في الأصول: «تادركت» والمثبت من نزهة المشتاق، تادرقت ولعله بالقاف المعقدة كالجيم المصرية لأن الكاف والقاف في هذه الحالة كثيرا ما يتعاقبان. (¬359) في نزهة المشتاق: «مراع». (¬360) في الأصول: «الشعر» والمثبت من ن. م. ص: 92. (¬361) في الأصول: «بني برانس» والمثبت من ن. م. ص: 92. (¬362) في الأصول: «مالح» والمثبت من ن. م.

ومدن أخرى

ومنه إلى السقائف، وهو حصن، ثم إلى حصن الناظور إلى سوق الخميس، وبه المنزل. وهذه الأرض كلها تجولها العرب وتضر بأهلها. وسوق الخميس حصن في أعلى جبل وبه مياه جارية، ولا تقدر العرب عليه أبدا لمنعته، وبه من المزارع والمنافع (¬363) قليل. ومنه إلى الطماطة (¬364) وهو فحص (¬365) في أعلى جبل. ومنه إلى سوق الاثنين، وبه المنزل / وهو قصر حصين، والعرب محدقة بأرضه، وفيه رجال يحرسونه مع سائر أهله. ومنه إلى حصن تافلكانت (¬366) وهو حصن حصين إلى تازكا، وهو حصن صغير. ومنه إلى قصر عطيّة، وهو حصن على أعلى جبل، ثم إلى حصن القلعة مرحلة. وجميع هذه الحصون أهلها مع العرب في مهادنة، وربّما أضرّ بعضهم ببعض، غير أن أيدي الأجناد بها مقبوضة، وأيدي العرب مطلقة (¬367) في الإضرار، وموجب ذلك أن العرب لها ديّة مقتولها، وليس عليها دية فيمن تقتل. ومدن أخرى: ومن المسيلة إلى طبنة مرحلتان، وطبنة مدينة الزّاب وهي مدينة حسنة كثيرة المياه والبساتين والزّروع والقطن والحنطة والشّعير، وعليها سور من تراب، وأهلها أخلاط، وبها صنائع وتجارات، وأموال أهلها متصرّفة في ضروب من التجارات، والتّمر بها كثير وكذلك سائر الفواكه. ثم تخرج من المسيلة إلى مقرّة (¬368) مرحلة، وهي مدينة صغيرة، وبها مزارع وحبوب، وأهلها يزرعون الكتّان، وهو عندهم كثير. ومن مقرة إلى طبنة ومدينة بجاية ست مراحل. ¬

(¬363) في ت: «المنفعة». (¬364) في الأصول: «مطماطة» والمثبت من ن. م. ص: 93. (¬365) في الأصول: «حصن» والمثبت من ن. م. ص: 93. (¬366) في الأصول: «تافكلات» والمثبت من ن. م. (¬367) كذا في نزهة المشتاق وفي ش وط، وفي ت: «بها مطلوقة». (¬368) في الأصول: «مغرة» والمثبت من ن. م.

بلزمة

وكذلك من طبنة إلى باغاية (¬369) أربع مراحل. ومن طبنة شرقا إلى دار ملّول مرحلة كبيرة، وكانت فيما سلف من الدّهر مدينة عامرة، وأسواقها / قائمة، ولها مزارع وغلاّت جمّة، وفيها حصن مطلّ فيه مرصد من البلد، ينظر إلى محال العرب في بلادهم ويتطلع منه إلى ما بعد من الأرض، وشربهم من ماء عيون بها جارية، وبين دار ملّول ونقاوس ثلاث مراحل، وجبل أوراس منها على مرحلة وزايد. ومن دار ملول إلى القلعة ثلاث مراحل. وجبل أوراس (قطعة يقال إنها متصلة من جبل درن بالمغرب كالاّم محني الأطراف) (¬370) وطوله نحو من اثني عشر ميلا، ومياهه كثيرة، وعماراته متسعة [وفي أهله نخوة وتسلّط على من جاورهم من الناس] (¬371). وبين سطيف وقسنطينة أربع مراحل، وبقرب سطيف جبل به قبائل كتامة، وبه حصن حصين ومعقل منيع، وكان سابقا من عمالة بني حمّاد، ويتّصل بطرفه من جهة المغرب جبل يسمّى جلاوة، وبينه وبين بجاية مرحلة ونصف. وقبيلة كتامة تمتدّ عمارتها إلى أن تتجاوز أرض القل وبونة (¬372). بلزمة: وبمقربة من قسنطينة حصن يسمّى بلزمة، وبينهما يومان، وهو حصن لطيف، وفي أهله عزة ومنعة، وله ربض وسوق، وبه آبار طيّبة، وماؤه غدق، وهو في وسط فحص أفيح، وبناؤه بالحجارة الكبار القديمة، ويذكر أهل تلك الناحية أنه من أيام المسيح - عليه السّلام - وهذا السّور يراه الراؤون من خارج عاليا، والمدينة في ذاتها مردومة بالتّراب والأحجار، فإذا نظر الناظر / من خارج رأى سورا كاملا، وإذا دخل المدينة لم يجد سورا لأن أرض الحصن متساوية لشرفات السور، وهذا غريب في البناء. ¬

(¬369) في الأصول: «باغية» والمثبت من معجم البلدان 2/ 325 والمسالك والممالك للبكري ص: 50 وكتبها الادريسي «باغاي». (¬370) كذا في ش ون. م. وفي ت وط: «يقال أنه قطعة من جبل درن المغرب وهي كالاّم منحنية الاطراف». (¬371) اضافة من نزهة المشتاق هامة للتعرف على سكان جبل أوراس. (¬372) حذف المؤلف ما يتعلق بقبيلة كتامة، وهو نصف صفحة تقريبا ولعله حذفه لأن فيه من عادتهم ما يخل بالمروءة والآداب.

حصن بشر

حصن بشر: وأما حصن بشر فهو قلعة عامرة من أعمال بسكرة، وهو في ذاته حصن جليل ومعقل جميل، وله عمارات، وبينه وبين بجاية أربعة أيام، وهو إلى قسنطينة أقرب، وبينهما يومان (¬373). وقد ذكرنا من صفات البلاد وغرائب البقاع التي تضمنها هذا الباب ما فيه كفاية. فلنرجع إلى ذكر سواحل ما تضمنه، وأجوانه، ومراسيه، فنبدأ من فم الزقّاق داخلا في البحر الشامي مع ذكر مبادئ البحر المحيط من فم الزقاق، ونعرض عن باقيه غير ما تقدمت الإشارة إليه وذلك لأن الحاجة ماسّة كثيرا إلى مراسي البحر الشامي أكثر من مراسي المحيط (¬374). سبتة: فنقول (¬375): والابتداء من سبتة، قد تقدم أن سبتة تقابل الجزيرة الخضراء، وهي سبعة جبال صغار متصلة، طولها من المشرق إلى المغرب نحو ميل، ويتصل بها من جهة المغرب وعلى ميلين [منها] (¬376) جبل موسى بن نصير فاتح الأندلس في صدر الإسلام، سمّي به لنزوله به عند إرادته عبور الأندلس، (وتجاه هذا الجبل) (¬377) جنّات وبساتين، وأشجار وفواكه كثيرة، وقصب سكّر، وأترج، فيتجهز به إلى ما جاور سبتة من البلاد لكثرة الفواكه بها، ويسمّى / هذا المكان الجامع لهذا كله بليونش (¬378) وبهذا الموضع مياه جارية، وعيون مطردة، وخصب زائد، ويلي المدينة من جهة المشرق جبل عال، يسمّى جبل المينة (¬379)، وأعلاه بسيط، وبأعلاه سور بناه محمد بن أبي عامر عندما جاز إليها من الأندلس وأراد أن ينقل المدينة إلى أعلى الجبل فمات عند فراغه من بناء السور وعجز أهل سبتة عن الانتقال إلى هذه المدينة المسمّاة بالمينة فمكثوا في مدينتهم وبقيت المينة خالية، وإنما سمّيت سبتة بهذا الاسم لأنها جزيرة منقطعة، والسبت ¬

(¬373) في نزهة المشتاق: «مرحلتان». (¬374) نقل بالمعنى: ص: 99. (¬375) يقول لكن على لسان الادريسي بتصرف، النقل هنا يبدأ من ص: 166. (¬376) اضافة من نزهة المشتاق للتدقيق ص: 167. (¬377) في نزهة المشتاق: «تجاوره». (¬378) في الأصول: «بلبونس» والمثبت من ن. م. ص: 167. (¬379) في الأصول: «المنية» والمثبت من ن. م. والبكري ص: 66.

الجزر والمدن والمراسي والمواقع الساحلية من سبتة إلى بونة

القطع، لإحاطة البحر بها من جميع جهاتها، إلا من جهة المغرب فإن البحر يكاد يلتقي بعضه ببعض، ولم يبق بينهما إلا أقل من رمية سهم. واسم البحر الذي يليها شمالا «بحر الزقاق»، واسم البحر الذي يليها من الجنوب «بحر بسول»، وهو مرسى حسن يرسى به فيكنّ من كل ريح. الجزر والمدن والمراسي والمواقع الساحلية من سبتة إلى بونة: ومن مدينة سبتة إلى قصر مصمودة في جهة المغرب اثنا عشر ميلا. ومن قصر مصمودة إلى مدينة طنجة غربا عشرون ميلا. ومن مدينة طنجة ينعطف البحر المحيط آخذا في جهة الجنوب إلى أرض تشمش (¬380). [ومن تشمش إلى] (¬381) قصر عبد الكريم وهو على مقربة من البحر، وبينه وبين طنجة يومان. ومن مدينة طنجة إلى مدينة أزيلا مرحلة [خفيفة جدا] (¬382) / وعلى مقربة منها في طريق القصر مصب نهر سفدد (¬383) وهو كبير تدخله المراكب (¬384). ومن سبتة بين جنوب وشرق إلى حصن تطاون مرحلة، وبينه وبين البحر الشّامي خمسة أميال وتسكنه قبيلة من البربر تسمّى مجكسة (¬385). ومنه إلى أنزلان وهو مرسى عامر، وهو أول بلاد غمارة. وبين سبتة وفاس على طريق زجان ثمانية أيام (¬386). ومن تيقساس إلى قصر تازكا خمسة عشر ميلا (وله مرسى. ومنه إلى حصن مسطّاسة نصف يوم. ومن مسطّاسة إلى حصن كركال خمسة عشر ميلا) (¬387). ¬

(¬380) في الأصول: «تشمس» والمثبت من ن. م. (¬381) ساقطة من الأصول والاضافة من نزهة المشتاق للتدقيق. (¬382) ساقطة من الأصول والاضافة من نزهة المشتاق للتدقيق. (¬383) في الأصول: «صفردة» والمثبت من ن. م. ص: 169. (¬384) حذف المؤلف ما يتعلق بالنهر، والبضرة، ومدينة قرت، وقرية ماسنة ومدينة الحجر، أنظر نزهة المشتاق ص: 169 - 170. (¬385) في الأصول: «محكمة» والمثبت من ن. م. ص: 170. (¬386) حذف المؤلف ما يتعلق ببلاد غمارة وأهلها أنظر ص: 170. (¬387) ما بين القوسين ساقط من ش.

ومن مدينة بادس (¬388) إلى مرسى بوزكور عشرون ميلا. وبين بوزكور ومدينة بادس جبل متّصل يعرف بالأجراف، ليس فيه مرسى. ومن بوزكور (¬389) إلى المزمة عشرون ميلا. ومن المزمة إلى واد بقربها، ومنه إلى طرف تغلال اثنا عشر ميلا. وهذا الطرف يخرج في البحر كثيرا، ومنه إلى مرسى كرط عشرون ميلا، وبشرقي كرط واد يأتي من جهة صاع. ومن كرط إلى جهة (¬390) جون داخل في البحر عشرون ميلا. ومن كرط إلى مدينة مليلة (¬391) في البحر اثنا عشر ميلا وفي البر عشرون ميلا (¬392). ومن مليلة إلى مصبّ الوادي الذي يأتي من آقرسيف (¬393) عشرون ميلا، وأما مصبّ هذا الوادي (¬394) جزيرة صغيرة، ويقابل هذا الموضع من البرية مدينة جراوة (¬395). ومن مصبّ وادي آقرسيف إلى مرسى تافركنيت (¬396)، على البحر، وعليه حصن منيع صغير أربعون ميلا. ومن تافركنيت إلى حصن تابحريت (¬397) / ثمانية أميال، وهو حصن حصين، حسن آهل، وله مرسى مقصود. ومن تابحريت إلى هنين (¬398) [على البحر أحد عشر ميلا. ومن هنين] (¬399) على الساحل إلى مرسى الوردانية ستة أميال. ¬

(¬388) حذف المؤلف ما يتعلق بمدينة بادس، أنظر ن. م. ص: 171. (¬389) حذف ما يتعلق ببوزكور، أنظر ن. م. ص: 171. (¬390) في نزهة المشتاق: «طرف». (¬391) في الأصول: «مليليا» والمثبت من ن. م. ص: 171. (¬392) حذف المؤلف ما يتعلق بمليلة، أنظر ن. م. ص: 171. (¬393) في الأصول: «اكريسف» والمثبت من ن. م. ص: 172. ولعل القاف معقدة كالجيم المصرية، اذ كثيرا ما يتعاقب هذان الحرفان. (¬394) في نزهة المشتاق: «النهر». (¬395) في الأصول: «جزاوة» والمثبت من ن. م. ص: 172. (¬396) في الأصول: «تافركيت» والمثبت من ن. م. ص: 172. (¬397) في الأصول: «تامجريت» والمثبت من ن. م. (¬398) في الأصول: «هنينا» والمثبت من ن. م. بعدها حذف المؤلف عدة جمل تتعلق بندرومة فاختل المعنى. (¬399) ما بين الحاصرتين اضافة من نزهة المشتاق ليستقيم الربط والمعنى ص: 172.

ومنها إلى جزيرة القشقار (¬400) ثمانية أميال، ومنها إلى جزيرة أرشقول (¬401) [ويروى أرجكون] (¬402) ومرساها فيه مياه ومواجل كثيرة للمراكب. ومن مصبّ الوادي إلى حصن أسلان ستة أميال على البحر. ومنه إلى طرف خارج في البحر عشرون ميلا، ويقابل هذا الطرف في البحر جزيرة الغنم. وبين جزيرة الغنم وآسلان اثنا عشر ميلا. ومن جزيرة الغنم إلى بني وزّار (¬403) سبعة عشر ميلا، وبنو وزّار حصن منيع في جبل على البحر. ومنه إلى الدفالي، وهو طرف خارج في البحر اثنا عشر ميلا. ومن طرف الدفالي إلى طرف الحرشا اثنا عشر ميلا. ومنه إلى وهران اثنا عشر ميلا. ومن وهران (¬404) إلى طرف مشانة روسية، خمسة وعشرون ميلا، وعلى التقوير اثنان وثلاثون ميلا. ومن طرف مشانة إلى مرسى أرزاو (¬405) ثمانية عشر ميلا، وهي قرية كبيرة تجلب إليها الحنطة فيسير بها التجّار إلى كثير من البلاد. ومنها إلى مستغانم على البحر مع الجون، وهي مدينة صغيرة لها أسواق وحمّامات وبساتين وجنّات ومياه كثيرة، وسور على جبل مطل إلى ناحية المغرب، وهذا الجون تقويره أربعة وثلاثون ميلا، وروسيّة أربعة وعشرون / ميلا. ومن مستغانم إلى حوض فروج تقويرا أربعة وعشرون ميلا، وروسية خمسة عشر ميلا. وهو مرسى حسن وعليه قرية عامرة، ويلي حوض فروج في البحر ومع الشرق مدينة مازونة، على ستة أميال من البحر. وهي مدينة (بين أجبل في أسفلها) (¬406) مزارع ¬

(¬400) في الأصول: «قشقال» والمثبت من ن. م. ص: 172. (¬401) في الأصول: «أشكول» والمثبت من ن. م. ص: 172. (¬402) اضافة من نزهة المشتاق للتدقيق. (¬403) في الأصول: «والزان» والمثبت من ن. م. (¬404) يرجع إلى الوراء لينتقل إلى سواحل المغرب الأوسط، راجع ابتداء من ص: 100. (¬405) كذا في ط ونزهة المشتاق، وفي ش وت: «أرزلو». (¬406) ساقطة في ت وفي مكانها: «كبيرة لها».

وبساتين، وأنهار وأسواق عامرة، ومساكن مونقة، ولسوقها يوم معلوم في الشهر وبها أصناف من البربر ولها ضروب من الفواكه والألبان، والسمن والعسل بها كثير، وهي من أحسن البلاد بقعة (¬407)، وأكثرها فواكه، وأرخصها. ومن حوض فروج إلى طرف البحر تقويرا أربعة وعشرون ميلا، وفي البر اثنا عشر ميلا، ومن هذا الطرف تأخذ جونا إلى جهة الجنوب. فمن هذا الطرف مع الجون إلى جزائر الحمام، أربعة وعشرون ميلا تقويرا وثمانية عشر روسية. ومن جزائر الحمام إلى مصبّ وادي شلف اثنان وعشرون ميلا. ومنه إلى قلوع الفراتين في وسط الجون اثنا عشر ميلا، والقلوع جباه بيض. ومن القلوع إلى مدينة تنس اثنا عشر ميلا مع الجون. ومنها إلى طرف الجون ستة أميال، فذلك من طرف جوج إلى طرف الجون تقويرا ستة وستون ميلا وروسية أربعون ميلا. ومن الطرف إلى مرسى أمتكوا عشرة أميال. ومن أمتكوا طالعا في الجون إلى مرسى وقور تقويرا أربعون ميلا. / وروسية ثلاثون ميلا، وهو مرسى ضيّق يستر من الريح الشرقية ولا يستر من غيرها، ووقور في آخر الجون. ومن وقور إلى مدينة برشك عشرون ميلا. وشرشال على البحر متصل بجبل كبير منيع يسكنه قوم من البربر يسمّون ربيعة كما تقدّم. ومن شرشال إلى طرف البطال وهو خارج في البحر إثنا عشر ميلا، ويقابل هذا الطرف جزيرة صغيرة في البحر. ومن طرف البطال ابتداء (جون هور) (¬408)، وهذا الجون يقطع روسية بأربعين ميلا وتقويره بستين ميلا، وهور (¬409) قرية صغيرة في وسط الجون على بعد من البحر، وبها قوم صيّادون للحوت ومكانه أقصار لا يسقط فيه أحد ويتخلص منه البتة. ومن آخر جون هور إلى جزائر بني مزغنا ثمانية عشر ميلا. ¬

(¬407) في نزهة المشتاق: «صفة». (¬408) في الأصول: «سون» والمثبت من ن. م. ص: 101. (¬409) في الأصول: «وهو» والمثبت من ن. م.

ومنها إلى تامدفوس ثمانية عشر ميلا، وهو مرسى، وعليه عمارات ومزارع متّصلة. ومنه إلى مرسى الدجاج (¬410) عشرون ميلا. ومنه إلى طرف بني جناد، وهو أيضا يدخل في البحر اثنا عشر ميلا. ومن مدينة تدلس إلى طرف بني عبد الله أربعة وعشرون ميلا تقويرا، وروسية عشرون ميلا. ومن طرف بني عبد الله إلى جون زفون (¬411) [روسية عشرون ميلا وتقويرا ثلاثون ميلا. ومن زفون] (¬412) إلى الدهس (¬413) الكبير تقويرا ثلاثون ميلا، وروسية خمسة وعشرون ميلا، ومنه إلى الدهس الصغير ثمانية أميال. ومن الدهس إلى طرف جربة (¬414) خمسة أميال وهي مزارع كثيرة. ومن طرف جوبة] (¬415) إلى مدينة بجاية في البر ثمانية أميال، وفي البحر اثنا عشر ميلا، ومدينة بجاية في جون ينظر إلى الشرق. ومن مدينة بجاية إلى متوسة اثنا عشر ميلا على التقوير، وروسية ثمانية أميال. ومن متّوسة إلى المنصورية في وسط الجون على التقوير عشرة أميال. ومن المنصورية إلى فج الزّرزور اثنا عشر ميلا، ومنه إلى مزغيطن، وهو طرف خارج في البحر أحد عشر ميلا. ومن مزغيطن إلى مدينة جيجل خمسة أميال. ومن متوسة إلى فج الزّرزور روسية خمسة وعشرون ميلا. ومن فجّ الزّرزور إلى جيجل على التقوير عشرون ميلا. ومن جيجل إلى وادي القصب عشرون ميلا، وهناك مسقط واد يأتي من ظهر ميلة مع الجنوب. ¬

(¬410) في ت: «الزجاج» وكذلك في نسخ أخرى من ن. م. أنظر هامش ص: 102. (¬411) في الأصول: «أرفون» والمثبت من ن. م. ص: 102. (¬412) ساقطة من ت. (¬413) في الأصول: «الدميس» والمثبت من ن. م. ص: 102. (¬414) كذا في البيان المغرب للبكري ص: 19، وفي ن. م. ص: 102 وفي معجم البلدان لياقوت: «جربة»، 2/ 118 وقال عنها: «قرية من قرى المغرب». (¬415) في الأصول: «ومن طرف جوبة وهي مزارع كثيرة»، والمثبت من نزهة المشتاق، ويقتضيه السياق أيضا اذ قدم الناسخ كلمات وأخر أخرى أنظر ن. م. ص: 102.

ومن وادي القصب إلى مرسى الزّيتونة (¬416) على التقوير ثلاثون ميلا وروسيّة عشرون ميلا، ومرسى الزيتونة أول [جبال الرحمان، وهي] (¬417) جبال عالية مشرفة على البحر. ومنها إلى القلّ، وبها ديار وأناس ساكنون. ومن القلّ إلى مرسى أستورة (¬418) عشرون ميلا. ومن أستورة إلى مرسى الروم ثلاثون ميلا تقويرا وروسيّة ثمانية عشر ميلا. ومن مرسى الروم إلى تكوش ثمانية عشر ميلا، وهي رابطة، وبها قوم ساكنون. ومنها إلى رأس الحمراء ثمانية عشر ميلا. ومن رأس الحمراء إلى بونة في قاع الجون / ستة أميال، وسنذكر بونة فيما بعد - إن شاء الله تعالى -، فمن بجاية إلى بونة روسية مائتا ميل (¬419). ¬

(¬416) في الأصول: «الزيتون» والمثبت من ن. م. ص: 102. (¬417) اضافة من نزهة المشتاق للتدقيق. (¬418) في الأصول: «سنتورة» والمثبت من ن. م. والبكري، ص: 83. (¬419) هنا ينتهي الجزء الأول من الاقليم الثالث من ترتيب الادريسي والباب الثاني من ترتيب المؤلف.

الباب الثالث: في الكلام على بقية الغرب الأوسط وجميع الغرب الأدنى

الباب الثالث: في الكلام على بقية الغرب الأوسط (¬1) وجميع الغرب الأدنى وفيه من المدن والقلاع (¬2) والحصون وأجناس الأمم ما نذكر - إن شاء الله تعالى -. فمن المدن باغاية (¬3)، ومسكيانة، ومجانة، وباجة، وبونة، ومرسى الخرز، وبنزرت، والأربس، وقسطيلية، وتقيوس، وزرود، وسبيطلة، وقفصة، والحمّة (¬4)، وتونس، وقرطاجنة، وقليبية، وهرقلية (¬5)، والقيروان، وصبرة، وسوسة، والمهدية، وصفاقس، وقابس، ورغوغا، وطرابلس، ولبدة مع ما سيذكر بعد - إن شاء الله تعالى - (¬6). باغاية: فأما مدينة باغاية (3)، فهي كبيرة عليها سوران من حجر، وربض عليه سور، وكانت به الأسواق، خلي الربض، ونقل السوق إلى المدينة، وهي أول بلاد التمر ولها واد يجري إليها من جهة الجنوب، منه شربهم ومن آبار عذبة، وكانت لها بواد وقرى، وعمارها برابر يعاملون العرب، وأكثر غلاتهم الحنطة والشعير، ويتصل بها قريبا جبل أوراس، وطوله نحو من إثني عشر يوما (¬7) وأهله مسلطون على من جاورهم. ومن باغاية (3) إلى قسنطينة ثلاث مراحل. ومن باغاية (3) إلى طبنة الزاب أربع مراحل. ¬

(¬1) في نزهة المشتاق: الجزء الثاني من الأقليم الثالث، ص: 103. (¬2) في الأصول: «قلع». (¬3) في الأصول: «باغية» وفي ن. م. «باغاي»، والتصويب من كتاب العبر ومعجم البلدان 1/ 325، والبكري في المسالك ص: 50 - 51، والروض المعطار، ويصح باغاي وباغاية. (¬4) كتبها: «حامة» وكتبها حمة فيما بعد طبقا للنزهة. (¬5) في الأصول: «وهريغاية» والمثبت من ن. م. (¬6) بالنسبة لنزهة المشتاق أسقط المؤلف «قمودة، ومرماجنة، وبيلقان، ونفطة»، وزاد عليها سبيطلة وقرطاجنة. (¬7) في الأصول: «ميلا» والمثبت من ن. م.

توزر

توزر: ومن باغاية إلى مدينة قسطيليّة أربع مراحل وهي تسمّى توزر ولها سور حصين / وبها نخل كثير جدا، وتمرها يعمّ بلاد إفريقية، وبها أترج كثير، حسن طيّب مع كثرة، فواكهه حسنة في نهاية الجودة، وماؤها غير طيب ولا مرّو (¬8)، وسعر الطعام بها غال في أكثر الأوقات لأنه يجلب إليها، ولا يزرع بها من الحنطة والشعير إلا اليسير. وبقربها بين جنوب وشرق الحمّة بينهما مرحلة صغيرة (وقد يقال حمّة البهاليل احترازا من حمّة مطماطة) (¬9) وماء الحمّة غير طيّب لكنه مشروب قنع به أهلها (ونخلها كثير وتمرها غزير) (¬10). ومنها إلى تقيوس نحو من عشرين ميلا، وهي مدينة حسنة عامرة، لها غلاّت الحنّاء والكمّون والكروياء، وبها نخل وتمر حسن، وجملة بقول طيّبة ناعمة. قفصة: ومن تقيوس إلى قفصة مرحلة، وقفصة مدينة حسنة (كانت) (¬11) ذات سور (حصين فهدمه أبو فارس الحفصي ثم أعادوه من تراب يتحصّنون به من أعدائها) (11)، ولها نهر جار أطيب من ماء قسطيلية، وفي وسطها العين المسمّاة بالطرميذ (¬12)، وأسواقها عامرة، ومتاجرها كثيرة، وصناعتها قائمة، ويطيف بها نخل كثير يشتمل على ضروب من التمر العجيب، وبها جنّات وبساتين، وقصور قائمة معمورة، وبها بزر الحنّاء والكمون والقطن. الطرقات من قفصة إلى ما جاورها: ومن مدينة قفصة إلى جهة الغرب ومع الجنوب مدينة قاصرة، ومدينة نقاوس، ومدينة / جمونس (¬13) في الشرق منها، وهذه البلاد كلها تتقارب في صفاتها، ونخيلها، ومياهها، وغلاّتها، والحنطة بها أبدا قليلة لأنها تجلب إليها من غيرها، ومدينة قفصة مركز والبلاد بها دائرة. ¬

(¬8) في بعض النسخ من ن. م.: «مر»، ص: 104. (¬9) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق أراد بها الدقة. (¬10) اضافة أخرى من المؤلف. (¬11) إضافة من المؤلف لها بعد تاريخي. (¬12) في الأصول: «الطرميل» والمثبت من ن. م. ص: 104. (¬13) في الأصول: «حمدنس» والمثبت من ن. م. ص: 105.

جبل نفوسة

فمن قفصة إلى مدينة القيروان شمالا مع الشرق أربع مراحل، وعلى جهة المغرب مع الجنوب مدينة بيلقان (¬14) على خمس مراحل، وقد استولت عليها يد الخراب فهي متغلّبة بوادي الأعراب. ومن قفصة في جهة الجنوب إلى ناحية جبل نفّوسة مدينة زرّود، وبينهما خمس مراحل. ومن قفصة إلى نفطة مرحلتان صغيرتان، وهي مدينة متحضرة عامرة بأهلها، لها أسواق وتجارات ونخيل وغلاّت، ومياه جارية. ومن قفصة (¬15) إلى نفزاوة جنوبا يومان وبعض يوم. ومن توزر إلى نفزاوة يوم ونصف يوم كبير. جبل نفوسة: ومن قفصة إلى جبل نفوسة في الجنوب نحو من ستة أيام، وهو جبل عال يكون نحوا من ثلاثة أيام، وفيه منبران لمدينتين تسمّى إحداهما شروس (¬16) وهي في الجبل، وبها مياه جارية وكروم وتين، وأكثر زروعهم الشعير الطّيب المتناهي في الطيب، ولأهلها في صنعة الخبز منه حذق ومهارة فاقوا في ذلك على الناس (¬17). وفيما بين جبل نفوسة ومدينة نفزاوة مدينة لوحقة (¬18)، وتتصل / بها غربا مدينة بسكرة وبادس (¬19) وكل هذه البلاد تتقارب في مقاديرها وصفاتها ومتاجرها وأسواقها. ومن جبل نفوسة إلى وارقلان اثنا عشر مرحلة. قابس: (ومن قفصة إلى مدينة قابس مرحلة وبعض منها) (¬20). وقابس مدينة جليلة عامرة حفت بها من نواحيها غابات وجنّات ملتفّة، وحدائق مصطفّة، وفواكه عامة رخيصة، وبها من التمر والزرع والصنائع والضياع ما ليس بغيرها ¬

(¬14) في الأصول: «يتلقاق» والمثبت من ن. م. ص: 105. (¬15) في الأصول: «نفطة» والمثبت من ن. م. (¬16) في الأصول: «شروسا» والمثبت من ن. م. (¬17) بعدها أسقط المؤلف ما يلي: ومن مدينة قفصة إلى مدينة صفاقس ثلاثة أيام. (¬18) في الأصول: «لوحصة» والمثبت من ن. م. ص: 105. (¬19) في الأصول: «نقاوس» والمثبت من ن. م. والبكري ص: 102. (¬20) غير المؤلف ما جاء في نزهة المشتاق وهو: «ومن نفطة إلى مدينة قابس ثلاث مراحل وبعض منها».

من البلاد (وكان) (¬21) عليها سور منيع محيط بها، ومن ورائه (¬22) خندق، ولها أسواق عامرة وتجارات رابحة وبضاعات نافقة وكان بها فيما سلف طرز يعمل به الحرير الحسن، وبها إلى الآن مدابغ للجلود ويتجهّز بها منها، ولها واد يأتيها من غدير كبير، وعلى هذا الغدير (¬23) قصر [سجّة] (¬24) بينه وبين قابس ثلاثة أميال، وهو مدينة صغيرة متحضرة وبها من ناحية البحر أيضا سوق وباعة، وكان به حريريّون كثيرون وشربهم من الوادي، وهو غير طيب لكنه مشروب، وبين قابس والبحر ستة أميال من جهة الشمال، ويتّصل بغابة أشجارها إلى البحر رملة متصلة مقدار ميل، وهذه الغابة أشجار وكروم (وكان) (¬25) بها زيتون (¬26) يعتصر منه زيت كثير يتجهّز به إلى سائر / النواحي، وبها نخل ملتفّ به من الرطب الذي لا يوجد مثله (وذلك أنهم يجنون نخيلهم طرية فيودعون جنيها في جرار الفخار، ويسدون عليها سدا محكما، فإذا كان بعد مدة خرجت عليه عسلية سكنجبينية بين حلاوة وحموضة، وإذا كان صالحا علته سكرية) (¬27) ومرساها في البحر ليس بشيء لأنه لا يستر من ريح، وإنما ترسي القوارب بواديها، وهو نهر صغير يدخله المدّ والجزر، وترسي به السفن الصغار وليس بكثير السعة، فإن الذي يدخله المدّ ويرسي به نحو من رمية سهم ولا يدخل فيه ولا يخرج منه إلا وقت المدّ إذ وقت الجزر تبقى السّفن غير عائمة، وفي أكثر أهل قابس (شراسة أخلاق) (¬28) وقلة دماثة (وكانوا ذوي) (¬29) زي ونظافة، وفي باديتها عتو وفساد وقطع سبل، (وبين أهلها عداوة ومقاتلة على مائهم وهي منقسمة بقسمين سواء، فيستبيحون دماء بعضهم مع أن بها فقهاء وصالحين لغلبة أهل البغي والفساد على أهل الفضل والصلاح كما هو شأن أهل الزمان) (¬30). ¬

(¬21) اضافها المؤلف عما هو موجود بالنزهة لتسجيل البعد التاريخي. (¬22) في نزهة المشتاق: «خارجه». (¬23) في الأصول: «الوادي» والتصويب من ن. م. ص: 106. (¬24) اضافة من نزهة المشتاق للتدقيق. (¬25) اضافة من المؤلف لها بعد تاريخي. (¬26) في ت: «زيتون طيب». (¬27) ما بين القوسين دققه الادريسي هكذا: «وذلك أن أهل قابس يجنونها طرية ثم يودعونها في دنانات. فاذا كان بعد مدة من ذلك خرجت لها عسلية تعلو وجهها بكثير، ولا يقدر على التناول منها الا بعد زوال العسل عنها من أعلاها. وليس في البلاد المشهورة بالتمر شيء من التمر يشبهه ولا يحاكيه ويطابقه في علوكته وطيب مذاقه». ص: 106 - 107. (¬28) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬29) اضافة من المؤلف لمقارنة الحاضر بالماضي اذ قال الادريسي: «ولهم زي ونظافة». ص: 107. (¬30) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق.

صفاقس

صفاقس: ومن مدينة قابس إلى مدينة صفاقس (¬31) نازلا مع الجون سبعون ميلا. وبين قفصة وصفاقس بين جنوب وغرب ثلاثة أيام، ومدينة صفاقس / قديمة (اسلامية) (¬32) عامرة، لها أسواق كثيرة، وعمارة شاملة، وعليها سور حصين من حجارة، في غاية السمو، وأبوابها مصفحة بصفائح من حديد منيعة، وعلى سورها محارس نفيسة للرّباط، وأسواقها نافقة، وشرب أهلها من المواجل (وكان) (¬33) يجلب إليها من قابس نفيس الفواكه، وعجيب أنواعها، ويصاد بها من السمك ما يعظم خطره ويكبر قدره (قبل أن تدخله الأمكاس وظلم الأنجاس) (¬34) وأكثر صيدهم بالزّروب المنصوبة لهم في الماء الميت بضروب من الحيل، وأكثر غلاّتها (في سابق الزمن) (¬35) الزيتون والزيت. وبها منه ما ليس يوجد بغيرها مثله، وبها مرسى حسن ميت الماء. قال في «نزهة المشتاق» (¬36): «وبالجملة فهي من عز البلاد، ولأهلها نخوة، وفي أنفسهم عزة، وهي الآن معمورة وليست مثل ما كانت عليه من العمارة والأسواق والمتاجر في الزمن القديم» أهـ‍. يعني وقت تأليفه لكتابه. وكان (¬37) زمن استيلاء الخبيث لجار عليها وغيرها، - عليه لعنة الملك الجبّار - فإنها في تلك المدة (¬38) قتلت أبطالها وعلماؤها جهادا في سبيل الله حسبما يأتي إن شاء الله تفصيل ذلك في المقالة الثامنة. ¬

(¬31) كتبها الادريسي بالسين في أولها، وكذلك كانت تكتب إلى القرن الثامن، ثم أبدلت السين صادا كما نقرأه في رحلة التجاني، وتاريخ ابن خلدون، وهي كلمة بربرية الأصل، واللغة البربرية لا صاد فيها وفي اللهجة الدارجة تنطق بالسين موافقة للغة البربرية. (¬32) اضافة من المؤلف، ويقصد بها أن صفاقس اسلامية المنشأ كما سيبينه في الجزء الثاني من كتابه. (¬33) اضافة تسجل بعدا تاريخيا، ففي القرن الثامن عشر الذي عاش المؤلف ثلثه الأخير امتدت الأراضي الفلاحية حول صفاقس، وصارت هذه المدينة تنتج من الثمار والفواكه عديدها، وتصدر منها الكثير داخل الايالة وخارجها نحو طرابلس ومصر و «بلاد الترك». (¬34) اضافة من المؤلف، ويشير بها إلى مختلف الضرائب التي كانت تدفع على مختلف المنتوجات الفلاحية ويزيد فيها القياد واللّزامون الذين اشتروها لزمة من حكام البلاد طلبا للربح ظلما. (¬35) اضافة من المؤلف لها بعد تاريخي، اذ في زمانه تعددت الأشجار المثمرة وتنوعت كما ينص عليه في الفقرة الموالية، وفي الجزء الثاني من كتابه. (¬36) ص: 107، تصرف في النقل كعادته بشيء يسير في هذه المرة. (¬37) هنا يبدأ محمود مقديش تأليفا خاصا به. (¬38) من سنة 543 - 551 هـ - 1148 - 1156، راجع رحلة التجاني، ص: 74 - 75، وشارل جوليان (Ch. A Julien) تاريخ شمال افريقيا 1/ 107 (Histoire).

وقال التجاني (¬39) في «رحلته» وصلنا ظهرا إلى صفاقس فرأيت / مدينة حاضرة ذات سورين يمشي الراكب بينهما، ويضرب البحر في الخارج منهما، وكانت بها غابة زيتون ملاصقة لسورها فأفسدتها العرب، فليس بخارجها الآن شجرة قائمة، وفواكهها مجلوبة إليها من قابس (¬40). قلت (¬41): وهذا كان في تلك الأعصار وأما الآن منذ دخلت العساكر العثمانية (¬42)، ولا سيّما في دولة سيدي حسين باي بن علي (¬43) وعترته، فصفاقس لها بساتين وجنّات مشتملة على غرائب الأشجار، وبدائع الثّمار خصوصا الفستق (¬44) الذي لا يوجد مثله إلاّ مجلب، والتين والكروم المختلفة الألوان والأشكال، والكمثرى بجميع أنواعها، خصوصا السكّري منها، والتفّاح بجميع طعومه، والمشمش الفائت الحصر، واللّوز بجميع أنواعه، والمقاثي، والبطيخ بجميع أنواعه وأشكاله، وعيون ¬

(¬39) أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد التجاني، ولد بتونس العاصمة ما بين 670 - 675/ 1272 - 1276 ونشأ في بيئة مخزنية راقية، قام برحلته في البلاد التونسية والقطر الطرابلسي من سنة 706 - 708/ 1306 - 1308. راجع مقدمة حسن حسني عبد الوهاب، محقق الرحلة، ص: 19 وما بعدها. رحلة التجاني. تونس 1958. (¬40) رحلة التجاني، تحقيق حسن حسني عبد الوهاب، تونس 1378/ 1958 ص: 68. (¬41) ما يلي خاص بالمؤلف. (¬42) دخلت صفاقس مع عدة مدن تونسية تحت النفوذ العثماني، على يد درغوث باشا، قبل دخول تونس العاصمة تحت نفوذهم بنحو عشرين سنة، وألحقت صفاقس نهائيا بعاصمتها تونس في رجب 1002 هـ - مارس 1593 بعد فترة طويلة بقيت فيها مرتبطة اداريا بطرابلس. راجع علي الزواري: صفاقس في القرن السادس عشر، مجلة القلم، صفاقس 1974 عدد 2، ص: 4 وما بعدها، وأنظر عزيز سامح: الأتراك العثمانيون بشمال افريقيا، ترجمة من التركية، عبد السلام أدهم، بيروت 1969، ص: 86. (¬43) أسس الدولة الحسينية في سنة 1705 إلى أن افتكها منه ابن أخيه علي باشا في سنة 1740 بعد مدة من الاضطرابات بدأت سنة 1728، والمؤلف من الممجدين للدولة الحسينية كما يتبين من تأليفه، وربما لأن الايالة التونسية وصفاقس، مدينة المؤلف، مشت على درب التقدم أشواطا خلال القرن الثامن عشر أي منذ انتصاب الحسينيين. وخاصة مدة حكم حمودة باشا الذي عاصره محمود مقديش. (¬44) كتبها المؤلف «فزدق». هذا في عصر المؤلف، أما الآن فإن انتاجها منه قليل لأن شجرة الفستق تحتاج إلى عناية كبيرة، وأهم غراسة للفستق الآن موجودة بضيعة الشعال الحكومية التي بها ما يقرب من 30000 شجرة. والطقس وطبيعة التربة بمنطقة صفاقس يساعدان على نمو هذه الشجرة لذلك بدت الرغبة الآن في غراستها من جديد وجربت بين الزيتون كما في الماضي فتعايشت معه.

قصر الجم

البقر بأنواعه، وأنواع الرياحين من الورد والفل، والياسمين (¬45)، والقرنفل إلى غير ذلك. وبالجملة فبساتين صفاقس في هذه الأعصار مشهورة، ولأهلها بها قصور (¬46) يسكنونها زمن الحر، ولا يتخلف أحد عن الخروج بجميع أهله، ويعملون من شرائح التين والزبيب والفستق واللّوز ما يعمّ أكثر البلاد، وبساتينها محيطة بها كنصف دائرة من البحر / إلى البحر، تبعد من السور إلى منتهاها شمالا بقدر سبعة أميال أو أزيد، فتتصل بساتينها بزيتون السّاحل القريب من قصر الجم، وهذا القصر أحد عجائب الدنيا من أبنية الأوائل. قصر الجم: قال التجاني (¬47): هو أعظم حصون إفريقية بناء وأشهرها على القدم، وليس بعد الحنايا التي بقرطاجنة بناء أضخم منه ولا أعجب، وشكله مستدير، وارتفاعه في الهواء مائة ذراع، وذكر البكري أن تكسير دائرته في الأرض ميل (¬48)، ويقال أن الكاهنة المعروفة بكاهنة لواتة حصرها عدوها في هذا الحصن فحفرت منه سربا في الحجر الصلّد نفذت به إلى مدينة سلّقطة، يعني التي على البحر، وكانت أختها هنالك فكان الطعام يجلب إليها في ذلك السرب على ظهور الدّواب، وقد قاتل أهله يحيى بن إسحاق الميورقي - الآتي ذكره إن شاء الله - فأعياه وارتحل عنه خائبا، ويذكر أنهم رموه منه بعد الحصر الطويل بالسّمك حيّا، وأنهم جلبوه من ذلك النقب النافذ إلى سلقطة، فحينئذ أيس منهم، وارتحل عنهم. وإلى جانب هذا الحصن قرية عامرة بها جنّات، ومزارع متّسعة، ومسجد جامع، وأسواق نافقة، يسكنها قوم من البربر كانوا قبل هذا ساكنين بقصر ملّيتة، من أرض زوارة بأرض / طرابلس، فأخلته العرب وأجلتهم منه، فسكنوا بهذه الأرض. ¬

(¬45) في ت: «الياسمين الأبيض» ومن الواضح أن الناسح زاد الأبيض، ففي صفاقس لا يوجد ياسمين له غير هذا اللون. (¬46) تسمى الأبراج ج: برج. وهي هرمية الشكل. راجع محمد المصمودي، المسكن التقليدي في أحواز مدينة صفاقس. (L' habitation traditionnelle dans la banlieue de Sfax) ، مجلة مركز الفنون والتقاليد الشعبية بتونس، عدد 1، 1968 ص: 11 - 39. (¬47) سينقل المؤلف عن رحلة التجاني بتصرف، ص: 57 - 66. (¬48) الكتاب المغرب من المسالك والممالك، ص: 31.

ومن هذا الموضع يظهر الكوكب المعروف بسهيل، وليس يظهر بتونس ولا ما قاربها، قيل وقد يظهر من جبل سهيل من أعمال مالقة، وبه سمي الجبل وإليه ينسب أبو القاسم السهيلي (¬49) العالم. ثم قال (¬50): وكان مسيرنا منذ فارقنا الجم في الزيتون القديم المتصل المعروف بزيتون الساحل وقد أذهب إفساد العرب أكثره، وغير بعد الاستواء أسطره، فكأنه كان مغروسا على «قالة» (¬51) معلومة، وأسطر متناسبة منظومة، فأبطل الإفساد أكثر ذلك، وعلى هذا الزيتون كان مدار غلات إفريقية في القديم، وقد روى أن (ابن أبي سرح) (¬52) لما افتتح إفريقية، وقتل ملكها وجد أكثر أموالهم الذّهب والفضّة، فغنم منها ما ملأ أيدي جنده، وسألهم أنّى لكم هذا؟ فجعل أحدهم يلتمس شيئا في الأرض حتى أتاه بنواة (¬53) زيتون فقال له: من هذا أصبنا هذه الأموال. قال الرشّاطي في كتابه المسمّى «باقتباس الأنوار»: إنما سمّي هذا الموضع الساحل وليس بساحل بحر لكثرة ما فيه من سواد الزيتون والشجر والكرم، ولما قتل عبد الله بن الزبير جرجيرا أصاب الروم الرعب فلجؤوا إلى الحصون والقلاع فاجتمع / أكثرهم بحصن الجم وطلبوا من عبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير عساكر الإسلام أن يأخذ منهم ثلاثمائة قنطارا ذهبا على أن يكف عنهم ويخرج من بلادهم، فقبل ذلك منهم وقبض المال (¬54). وذكر (¬55) بعض أهل هذا الحصن أنه مبني على سبعة أدوار من وسطه إلى خارجه، فالدّور الخارج أقواس متّصلة بعضها ببعض بين كل قوسين دعامة عدة أقواس السّفلى أربعة وستون، ثم الدّور الذي فوق هذا كذلك أربعة وستّون، ثم كذلك الثالث، فجملتها مائة واثنان وتسعون قوسا. قال: وهكذا الدّور الأدخل منه ثم الذي يليه، وهكذا إلى الوسط، فعلى هذا تكون أقواس السطر الخارج أكبر، وأقواس الدور الذي في الوسط ألطف، وفي جهة الغرب من هذا الحصن كان أصل المدينة، وهي إلى الآن ¬

(¬49) هو أبو القاسم عبد الرحمان بن عبد الله بن أحمد السهيلي صاحب كتاب «الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية» لابن هشام. (¬50) يعني التجاني، ويستمر النقل بتصرف. (¬51) بالعامية الصفاقسية، وتعني هنا الفرجة أو المسافة، وفي الرحلة: «حالة». (¬52) في ت: «أن الأمير عبد الله بن أبي سرح رضي الله عنه». (¬53) كذا في ط ورحلة التجاني، وفي ت وش: «نواية». (¬54) رحلة التجاني ص: 58. (¬55) تأليف خاص بالمؤلف، اعتمد فيه كما ذكر على أقوال أهل مدينة الجم، ولا ينطبق على الواقع الأثري لهذا الملعب.

جمال

يستخرج منها غرائب الرّخام الذي كان عضادة أبواب الدّور وغيرها، ويحمل منه الحكّام ما يحتاجون إليه، ولم يبق من هذه المدينة بناء قائم على وجه (¬56) الأرض إنما يستخرج الرخام من تحت الأرض. ولقد حاول (¬57) بعض الأمراء هدم هذا الحصن عقوبة لأهله فخسر أموالا فائتة الحصر، ولم يؤثر فيه شيئا فعجز عنه، وتركه ومسافة ما بين صفاقس والجم خمسون ميلا (¬58). جمال: ومنه إلى جمال ثمانية وعشرون ميلا، / وهي بلدة عظيمة كثيرة الزّيتون، وإصابة الشّعير والحنطة، وبها سوق في الجمعة يوم السبت، يقصد من كل مكان، ويباع به كل شيء، وللناس به اعتناء للتجارة. ومن جمّال لسوسة ثمانية عشر ميلا (¬59). المهدية: ومن صفاقس إلى المهدية مرحلتان، وكانت (¬60) مدينة ذات حطّ وإقلاع للسفن الحجازية القاصدة إليها من بلاد المشرق، وسفن المغرب والأندلس، وبلاد الرّوم، وغيرها من البلاد، وإليها تجلب البضائع الكثيرة بقناطير الأموال على مر اللّيالي والأيّام، (ثم انقطع ذلك بعد اخراب الإفرنج لها كما يأتي - إن شاء الله تعالى -) (¬61) وهي ممّا أحدثه عبيد الله المهدي فسمّيت باسمه، وهي في نحر البحر، وهي من القيروان على مرحلتين، وكانت فيما سلف كثيرة السفّار والتجّار، مقصودة بالبضائع من سائر الأقطار، وتجارتها نافقة، والهمم على أهلها موقوفة، وإليها راجعة، ولها حسن مبان، نظيفة المنازل، وديارها حسنة، وحمّاماتها جليلة وبها خانات كثيرة، وهي في ذاتها حسنة الداخل والخارج بهية المنظر، وأهلها حسان الوجوه، نظاف الثّياب، ويعمل بها من الأكسية الحسنة الرقيقة الجيدة، المنسوبة إليها ما يحمل ويتجهّز به إلى جميع الآفاق، ¬

(¬56) ساقطة من ت وش. (¬57) في ت وش: «حال». (¬58) وبالأميال المعاصرة 64 والجم وسط الطريق بين صفاقس وسوسة. (¬59) ينتهي من تأليفه ويرجع للنقل من نزهة المشتاق بتصرف ص: 107. (¬60) في الأصول: «وهي كانت». (¬61) إضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق.

في كل وقت / وكل حين ما ليس يقدر على عمل مثله في غيرها من البلاد والأمصار لجودته وحسنه، وشرب أهلها من المواجل (¬62) وآبارها غير عذبة وكان يحيط بها سور حسن مبني من الحجارة، وعليها بابان من حديد لفّق بعضه على بعض من غير خشب، وليس يدرى في معمور الأرض مثلهما صنعة ووثاقة، وهما من عجائبها الموصوفة (ولم تكن) (¬63) لها جنّات ولا بساتين، وإنما يجلب إليها من قصور المنستير ما تحتاجه من الثمار، وبينهما في البحر ثلاثون ميلا. والمنستير قصور ثلاثة يسكنها العبّاد والصلحاء والأعراب لا تضرهم في شيء من شجرهم ولا من عماراتهم (لأنها محل رباط وعبادة، والمنستير سيأتي اسم من عمل عليها سورا) (¬64). وكان أهل المهدية يدفنون موتاهم بالمنستير (تبركا بها) (¬65) يجلبونهم في الزوارق إليها فيدفنوهم بها، ثم يعودون إلى بلدهم، (ولم تكن) (¬66) بالمهدية جبانة معروفة. (وفي المهدية كانت وفاة الإمام المازري - رحمه الله تعالى ونفعنا به - ومنها نقل للمنستير) (¬67). وكانت المهدية مدينتين إحداهما المعهودة (¬68) والثانية زويلة، فالمهدية يسكنها السلطان وجنوده وبها قصره الحسن البناء العجيب الإتقان، والارتقاء (وكانت قبل استيلاء الإفرنج عليها) (¬69) بها طيقان الذهب / التي تفتخر بها ملوكها. وفي «خريدة العجائب» (¬70): ولها أبواب من حديد في كل باب ما يزيد على مائة قنطار ولما بناها وأحكمها قال: الآن أمنت (على الفاطميين) (¬71) {فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} (¬72). ¬

(¬62) في الأصول: «مواجن». (¬63) في نزهة المشتاق: «وليس لها». (¬64) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬65) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬66) اضافة من المؤلف. (¬67) اضافة من المؤلف. (¬68) في نزهة المشتاق: «احداهما مدينة المهدية» ص: 109. (¬69) في نزهة المشتاق: «وكان بها قبل ان يفتحها الملك المعظم رجار في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة» 1148 - 1149 م. (¬70) خريدة العجائب وفريدة الغرائب لعمر بن الوردي، مصر بلا تاريخ، ص: 16. (¬71) كذا في ش وخريدة العجائب والضمير يعود على المهدي الفاطمي. (¬72) في الأصول: «ولما جاء. . .» سورة الكهف: 98.

وكان (¬73) بمدينة زويلة الأسواق الجميلة، والمباني الحسنة والشّوارع الواسعة والأزقّة الفسيحة، وأهلها تجّار مياسير نبلاء، ذوو أذهان ثاقبة، وأفهام ذكية، وجل لباسهم البياض. ولهم همم في أنفسهم وملابسهم، وفيهم (¬74) الجمال، ولهم معرفة زائدة في التجارة وطريقتهم حميدة في المعاملات. ولهذه المدينة أسوار عالية حصينة جدا (¬75) تطيف بها من جميع جهاتها البريّة والبحريّة، وجميعها مبني بالحجارة، وفيها فنادق كثيرة، وحمّامات جمّة، ولهذه المدينة من جهة البر خندق كبير يستقرّ به ماء السماء، وبخارجها من جهة غربيها حمى كان قبل دخول العرب لأرض إفريقية وإفسادهم لها (في أيام صنهاجة كله) (¬76) جنّات وبساتين بجميع الثمار العجيبة والفواكه الطيبة، ولم يبق منها بهذا الحمى شيء (ثم تراجع الأمر في هذا الأعصار، وكثرت بها بساتين الفواكه والزيتون الذي في غاية الجودة / وكثرة الإصابة) (¬77). وبمقربة من هذه المدينة قرى كثيرة، ومنازل وقصور، (ورباطات للعبّاد يطول تتبعها) (¬78)، وسكّانها بواد (متحضرة) (¬79) لهم زروع كثيرة، ومواش وأغنام، وأبقار، وإصابات كثيرة من الزروع، وبها زيتون كثير، يعتصر منه زيت طيّب يعمّ سائر بلاد إفريقية. (وقد اندرس أكثرها لاستيلاء مفسدو البوادي عليها، والمهدية قاعدة بلاد إفريقية وقطب مملكتها في سالف الزمن. فأما زويلة فلم يبق لها أثر، وأما المدينة المعهودة فقد أخربها الإفرنج، على يد الحسن آخر الملوك الصنهاجيين (¬80) - حسبما يأتي ذلك إن شاء الله - وهي الآن تعد من القرى، وسيأتي لها مزيد بيان - إن شاء الله تعالى -) (¬81). ¬

(¬73) يرجع للنقل من نزهة المشتاق بتصرف، انظر ص: 109. (¬74) في ت: «وعندهم». (¬75) بعدها أسقطنا جملة زائدة: «ولها خندق عظيم». تخل بالمعنى الذي ورد في نزهة المشتاق ولأن المؤلف يكررها في النص فيما بعد. (¬76) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬77) إضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬78) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬79) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬80) كذا في ش وط وهو الصحيح أما في ت: «الحفاصة». (¬81) ما بين القوسين اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق.

نفزاوة

نفزاوة: ولنرجع (¬82) الآن إلى نفزاوة فنقول: إن مدينة سبيطلة كانت مدينة جرجيس ملك الروم الأفارقة، وكانت من أحسن البلاد منظرا، وأكبرها قطرا، وأكثرها مياها، وأعدلها هواء، وأطيبها ثرى، وكان بها بساتين وجنّات فافتتحها المسلمون في صدر الإسلام، وقتلوا بها ملكها جرجيس كما يأتي. ومنها إلى مدينة قفصة مرحلة وبعضها. ومنها إلى القيروان سبعون ميلا. القيروان: والقيروان أم أمصار / وقاعدة أقطار (أسسها الصّحابة الأخيار - رضي الله تعالى عنهم وعني بهم -) (82) فكانت أعظم مدن المغرب قطرا، وأكثرها بشرا، وأيسرها أموالا، وأوسعها أحوالا، وأتقنها بناء، وأربحها تجارة، وأكثرها جباية، وأنفقها سلعة، وأنماها ربحا، (وهي مأوى الأولياء والصالحين، والأتقياء العابدين ممن غلب عليه) (¬83) التمسّك بالخير، (والعلم والعمل) (¬84) والوفاء بالعهد، والتخلي عن الشبهات والمحظورات، ومنبع العلوم والولاية والصّلاح والهداية، فهي لأهل المغرب أصل كل خير، والبلاد كلها عيال عليها، فما من غصن في الآفاق المغربية مطلقا إلا منها علا، ولا فرع في جميع نواحيها إلا عليها ابتنى، فضلها ظاهر على جميع البلاد، وإليها ينتمي فضلاء جميع العباد، كيف لا ومنها خرجت علوم المذهب، وإلى أئمتها كل عالم ينتسب، ولا ينكر هذا الفضل خاص ولا عام، ولا يزاحمها في هذا الفضل أحد على طول الأمد والأيام، (قال سيدي أبو إسحاق الجبنياني) (¬85) - نفعنا الله به وبأمثاله آمين -: القيروان رأس وما سواها جسد. ما قام بردّ الشّبه والبدع إلا أهلها، ولا قاتل وقتل على ¬

(¬82) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬83) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬84) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬85) في ت: «قال الشيخ أبو اسحاق ابراهيم الجبنياني رضي الله تعالى عنه» وعن اللبيدي: انه أبو اسحاق ابراهيم بن أحمد بن علي بن أسلم البكري من رجالات القرن الرابع الهجري. حج في سنة 314/ 926 انظر عنه على سبيل المثال أبو القاسم اللبيدي: مناقب أبو إسحاق الجبنياني، تحقيق هادي إدريس. باريس 1959.

احياء السنّة إلا أئمتها، فجزاهم الله عنّا وعن المسلمين أحسن الجزاء، اللهم انفعنا بمحبّتهم واحشرنا يا ربّنا / في زمرتهم وأعد علينا من بركتهم (¬86). ولما اختلفت الأمراء وانتقلت الدّولة تسلط عليها أهل البغي والفساد من البرابر والبدو والشيع، فتوالت عليها الحوائج حتى بكت عليها العيون وقرحت القرائح لما صارت ملعبة لأهل الطغيان والفجور، فتسلطوا عليها بالتخريب والتثريب، فلم يبق بها (¬87) من أصول أخيارها إلا النزر القليل مستضعفين، واستولت عليها أخلاط بغاة، أجهر الناس عصيانا، وأكثرهم طغيانا، وكذا شأن كل بلاد يضعف أخيارها، ويطغى فجارها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، قيل انها سترجع إلى ما كانت عليه وهيهات. (أما عمارة الأسواق وسعة الأرزاق فهي - والحمد لله - قد تراجعت بعض تراجع. وأما العمارة وسعة البلاد فإلى الآن ما رجعت لأنه قيل أن المسجد الأعظم كان بها وسطا، وهو الآن في ركن من أركانها. وأما العلم فبعيد أن ترجع كما كانت، ولكن فضل الله واسع وليس لما يعطي الله مانع، وسيأتي ذكر شيء ممّا نالها من المحن فيكون كالشرح لما ذكر) (¬88). ومياه (¬89) القيروان قليلة وشرب أهلها من فساقي بني الأغلب، فمنها الماجل الكبير، وهو من عجيب البناء لأنه مبني على تربيع، وفي وسطه بناء قائم كالصومعة، وذرع كل جهة / منه مائتا ذراع، فيمتلئ كله ماء إذا سالت الأودية. والقيروان كانت مدينتين إحداهما اسمها القيروان، والثانية صبرة، (وهي في دولة صنهاجة الذين بنوها) (¬90) كانت دار الملك، قيل كان فيها من أيام عمارتها ثلاثمائة حمّام، وأكثرها للديار وباقيها مبرز للناس قاطبة، وهي الآن خراب، ليس بها ساكن، وعلى ثلاثة أميال منها قصور رقادة الشاهقة الذري الحسنة البناء، الكثيرة البساتين والثمار، وبها كانت الأغالبة تربع في أيام دولتهم، وزمن بهجتهم، وهي الآن خراب لا ينتظر جبرها. (والقيروان لا يحتاج لوصفها بكثرة الحنطة والفلاحة لأنها مشهورة بذلك، وأما اللّحوم والعسل والسمن والزيت فأمر خارج عن الوصف، وثمارها من غيرها لأن الفتن لم ¬

(¬86) بعدها في ت «آمين يا رب العالمين». (¬87) ساقطة من ت. (¬88) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬89) يرجع للنقل من الادريسي بتصرف ص: 110. (¬90) توضيح من المؤلف.

تونس

تبق لها أشجارا تنتج ثمارا، لكن فيما يجلب إليها من غير [ها] كفاية جعلها الله دار بركة، وحماها من كل فتنة، وأكثر فيها الأخيار، وطهّرها من الأشرار) (¬91). تونس: ومن (¬92) مدينة القيروان إلى مدينة تونس مرحلتان وبعض مرحلة بسير القوافل، وهي مدينة في غاية الحسن تحيط بها من جميع جهاتها فحوص ومزارع الحنطة والشعير، وهي أكبر غلاّتها، وكان عليها سور تراب / وثيق ولها أبواب ثلاثة وجميع جنّاتها ومزارع بقولها في داخل سورها، (ولم يكن) (¬93) لها خارج السور شيء يعوّل عليه، والعرب تجاور أرضها وتأتي بأنواع الحبوب إليها، والسمن والعسل ما يكفي أهلها غدقا، ويعمل بها من الخبز وأنواعه ما لا يمكن عمله في غيرها من البلاد. ومدينة تونس في ذاتها قديمة واسمها في التواريخ ترشيش (¬94). ولما افتتحها المسلمون وأحدثوا بها البناء سمّوها تونس. (وكان) (¬95) شرب أهلها من آبار شتّى لكن أعظمها قدرا، وأعلاها سرا، ماء بئران احتفرتهما بعض سيدات (¬96) المسلمين ابتغاء الثواب، وهما في نهاية من سعة القدر، وكثرة الماء، هذا ما ذكرها به في النزهة (¬97). (وأقول: إن تونس - حرسها الله تعالى من كل سوء - هي الآن كرسي إفريقية ولا كرسي بها غيرها، إذ هي مقرّ ملكها ودار سلطانها، وجميع ما ذكر من أوصاف الحسن لغيرها، من بهجة الدنيا والعلماء والصلحاء والملوك والخيرات، والمتاجر، والعزة والنخوة والمراكب والأرزاق وكل شيء يذكره اللسان (¬98) في سائر البلاد، احتوت تونس في عصرنا هذا منه على الحظ الأوفر ويكفي في وصفها أن السفار قالوا: لم ير الرّاؤون مثلها، والنفوس فيها راغبة، والطباع إليها مائلة، والخارج / منها يعد نفسه بالرجوع إليها، ¬

(¬91) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬92) رجع للنقل من نزهة المشتاق بتصرف كعادته ص: 111. (¬93) في نزهة المشتاق: «وليس لها» وتغيير المؤلف لكلمة الادريسي له أهميته التاريخية لتغير الحالة. (¬94) كذا في معالم الايمان 1/ 60 وفي رياض النفوس 1/ 48، ونقل ياقوت عن معجم البلدان عن ابن رشيق القيرواني: «أن ترشيش اسم مدينة تونس بالرومية». وفي نزهة المشتاق «طرشيش». (¬95) في نزهة المشتاق: «وشرب» وتغيير المؤلف له بعد تاريخي. (¬96) في ش: «سادات» وفي ت: «سيدان» والمثبت من ن. م. ص: 111. (¬97) عن تونس، انظر النص الكامل في ن. م. ص: 111. (¬98) في ط: «الانسان».

واسمها مشتقّ من الأنس، فهو اسم طابق مسمّاه، وهي وان أصابها من نوائب الدّهر من الهرج والمرج ما أصاب غيرها إلا أنها بفضل الله تنقضي فتنتها في أقرب حين، وترجع إلى أحسن ممّا كانت عليه من الوثاقة والتمكين. وأما مراكب التّجارة من جميع الأقطار من بر الإسلام وجميع بلاد النصارى فأمر معلوم مشهور، وأما حسن البناء ونزهات الطرقات، ونظافة الثياب، وجمال الصّورة ذكرانا وإناثا، وحسن الأصوات، ونجابة الخيل المسوّمة، فهي بذلك مشهورة، وكذا أنواع الطيب فهو بها تجارة (¬99) واستعمالا أكثر ممّا بغيرها، ولا سيّما عطر الورد الذي لا نظير له في معمور الأرض، وأكثر عمل أهلها عمل القلانس المسمّاة بالطاقية (¬100)، فهو شيء فاقوا به على أهل الأرض قاطبة حسنا وإتقانا، فكم حاول أهل المغرب وأنواع النصارى قريبا منه فما قدروا (¬101)، ومنها يحمل ما يعمّ أقطار الدنيا. فإن ملوك الأرض لا يلبسون إلا منها (¬102)، ولهم فيها (¬103) حذق زائد وافتخار بين صناعها، وإن أحدهم يخدم فيها باتقان، وحسن صنع وصبغ، ولو تعيّن عليه الخسران (¬104) خوفا من سقوط اسمه، ولا يخرج صنعه إلا وعليه ختمه وعليهم (أمناء) (¬105) يرجع إليهم فيما يختلفون فيه من ضرورات الصنعة. وأما العلوم من معقول ومنقول ولا سيّما فقه الإمام مالك - رضي الله تعالى عنه - وكذا المنطق والكلام، والعلوم الأدبية العربية، فحدث عن البحر (¬106)، وهي وإن ¬

(¬99) في ت: «تجارة عظيمة». (¬100) الشاشية، وبالعامية «كبوس» وهو تحريف لكلبوش، وكانت هذه اللفظة رائجة إذ ذاك بجانب لفظة طاقية، حسب ما ترشدنا إليه وثائق الحكومة التونسية ووثائق متحف صفاقس للفنون والتقاليد الشعبية، وفي مصر تعني الطاقية غطاء للرأس من القطن، وتنعت الطاقية التونسية بالطربوش المغربي. (¬101) يشير إلى محاولة جنوب فرنسا في صناعة الشاشيّة، هاته المحاولة التي أريد بها منافسة صناعة الشاشية التونسية والحدّ من رواج منتوجاتها في بلدان شرق البحر الأبيض المتوسط، عن هذه المحاولة، أنظر على سبيل المثال ماسون (La Provence au XVIIIe siecle, P. Masson) باريس 1966. ولوسيت فلانسي (L .Valensi) الإسلام والرأس مالية (Islam et capitalisme .Revue d' histoire moderne et contem poraine) ج.16، 1969، ص: 376 - 400. وروني دوزي (R. Dozy, Supplement aux dictionnaires arabes, 2/ 71) (¬102) مبالغة. (¬103) ساقطة من ش. (¬104) في ش وط: «خسر». (¬105) ساقطة من ش وت. ج. أمين، وأمناء الشواشين بتونس كانوا أهم الأمناء وأقواهم سلطة لأهمية صناعة الشاشية إذ ذاك. (¬106) كان جامع الزيتونة يقوم بدور أساسي في نشر العلم والمعرفة، والمؤلف يشير إلى النهضة العلمية والتعليمية التي عرفتها تونس خلال القرن الثامن عشر.

أصابها هذه المدة طاعون جارف آخر المائة الثانية عشرة (¬107) ونقصت عمّا كانت عليه إلا أن الله جعل البركة فيمن بقي، وفي أهلها اعتقاد في أهل الفضل (¬108) والخير، ولا سيّما أموات الصالحين، ولهم لطف بالخطاب وحسن سياسة، وآداب مشهورة، والمسؤول من الله تعالى أن يحميها وجميع بلاد الإسلام من عيون (¬109) سوء، وأن يؤمن أوطانها وينصر سلطانها، ويجري الصّالحات على يديه، ويبصّره لمصالح الخلق، ويعينه على نصرة الحق، ويجنّبه أهل الطّغيان والفجور، ويحول بينه وبين كل رذيلة ونقيصة وغرور آمين، امين، امين، ورحم الله من قال آمين، فإن هذا دعاء ينفع البلاد والعباد، ويقمع آثار أهل البغي والفساد) (¬110). وتونس (¬111) في وسط جون (داخل من البحر في البر على نحر بحيرة) (¬112) عرضها أكثر من طولها فطولها ستة أميال وعرضها ثمانية أميال، ولها فم يتصل بالبحر وهو المسمّى فم الراعي (¬113) وهي لم تكن قبل (وإنما احتفرها سيدنا حسّان بن النعمان الغسّاني، وذلك أنه لما أجلى / الكفّار عن افريقية جعلوا يغيرون على رادس ومن به من المسلمين بالمراكب، وليس عند المسلمين مراكب يلاقون بها العدو، وكان استقراره بالقيروان، فانتقل لرادس يرابط ويحرس المسلمين، وكتب بذلك إلى عبد الملك (بن مروان) (¬114) وأرسل مع كتابه أربعين رجلا من أشراف العرب يخبرونه بما نال المسلمين من الجهد، فعظم ذلك عليه فبعث عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز، وهو أميره على مصر، فأمره أن يوجّه إلى حسّان ألف نبطي وألف قبطي يستعين بهم، فجمّلهم عبد العزيز في البر، (وسار بهم) (¬115) فلما وصلوا إلى حسّان أثبت كثيرا منهم في رادس، وفرّق كثيرا منهم في مراسي ¬

(¬107) قال أحمد بن أبي الضياف في الاتحاف: «وفي سنة 1198/ 1783 وقع بالمملكة طاعون جارف، وهو المعروف عند أهل الحاضرة بالوباء الكبير، مات بسببه أعيان من الحاضرة، وأثّر في عمران البلاد نقصا فادحا»، إتحاف أهل الزمان، تونس 1963، 3/ 14. (¬108) ساقطة من ت وش. (¬109) في ت: «عين». (¬110) اضافة من المؤلف تخص القرن الثامن عشر. (¬111) يرجع للنقل من نزهة المشتاق ص: 111. (¬112) في نزهة المشتاق: «جون خارج عن البحر وهي على بحيرة محتفرة»، ص: 111. (¬113) في نزهة المشتاق: «فم الوادي». (¬114) ساقطة من ش وط. (¬115) ساقطة من ش وط.

قرطاجنة

افريقية، وأمر عبد الملك حسّان أن يخرق البحر إلى تونس من جهة رادس، وكان موضع البحيرة الآن، على ما ورد في التواريخ، مزارع وبساتين، فحفره حفرا وخرقه إلى دار صنعتها، وأنشأ فيها مراكب، فكان يغير فيها على ساحل الروم، فشغلهم بأنفسهم عن الإغارة إلى افريقية، وكان صفة حفره أنه جعل) (¬116) سعة (¬117) هذا الحفر نحو من أربعين ذراعا، وعمقه أيضا نحو من أربع قيم، وقعره طين ثم أجرى ماء البحر في ذلك الحفر، فعلا على الحفر حتى جاوز أعلاه بربع قامة وأكثر (¬118) إلى أن بلغ الماء حدّه، فوقف، وعند آخر هذا الحفر يتّسع الماء ويعمق، ويسمّى ذلك الموضع وقور / وإليه تصل المراكب الحمّالة فترسي هنالك، ويتّصل فيض الماء في البحر المحفور إلى مدينة تونس، فهو على نحر البحيرة وأوساق المراكب تفرغ بوقور في زوارق صغار، وتعوم في أقاصير الماء إلى مدينة تونس، ودخول السفن من البحر إلى البحيرة لا يكون إلا واحدة بعد واحدة لأن سعة الفم (¬119) لا تحتمل أكثر من ذلك (وهو المسمّى بحلق الوادي) (¬120). قرطاجنة: ومن هذا الفم إلى (¬121) مدينة قرطاجنّة في جهة الغرب ثلاثة أميال ونصف، ومدينة قرطاجنّة الآن خراب، والمعمور منها قطعة يسيرة مرتفعة تسمّى المعلّقة، يعمرها ناس من العرب يسمّون بني زياد، وكانت قرطاجّنة في أيام عمارتها من غرائب البلاد لما فيها من عجائب البناء، وإظهار القدرة في ذلك، وكان بها الطياطر (¬122) التي ليس لها نظير في مباني الأرض قدرة واستطاعة، وهي من بناءات الروم الأفارقة، وذلك أن هذه الطياطر هي بناء مستدير فيه نحو من خمسين قوسا قائمة في الهواء سعة كل قوس منها أزيد من ثلاثين شبرا، وبين كل قوسين سارية وعضادتان، وسعة ¬

(¬116) ما بين القوسين اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬117) في ت: «صفة». يرجع للنقل من ن. م. بتصرف ص: 112. (¬118) في ن. م.: «وأقل وأكثر». (¬119) في ن. م.: «النهر». (¬120) ما بين القوسين اضافة من المؤلف أراد بها التفسير. (¬121) في ن. م.: «ومن فم هذه البحيرة». (¬122) في الأصول: «طياطير» وربما أراد بها المؤلف جمع طياطر، والمثبت من ن. م.، والبكري في البيان المغرب: ص: 43 - 44، ودوزي (Dozy) في قاموسه، وحسب دوزي، الإدريسي هو أول من استعمل هذه الكلمة التي هي تحريف لكلمة، Theatre أي المسرح، 2/ 76، باللاتينية «Theatrum».

السارية والعضادتين أربعة أشبار ونصف، وتقوم على كل قوس من هذه الأقواس خمسة أقواس، قوس على قوس، صفة واحدة وبناء واحد من الكذان (¬123) الذي لا يجانسه شيء في الجودة أو فوق كل قوس / من هذه القسي حجر دائر، وقد صورت في الحجر الدائر على القسي السفلى أنواع من الصّور، وضروب من التماثيل العجيبة الثابتة (¬124) في الصخر من صفات الناس والضباع (¬125) والمراكب، والحيوانات، وكل ذلك قد أتقن بأبدع صنعة وأحذق حكمة، وسائر البناء الأعلى أملس لا شيء به، ويقال أن هذا البناء كان ملعبا ومجتمعا في فصل ما، ويوم ما من السنة. ومن عجائب بناءات قرطاجنة الدواميس التي تبلغ عدتها أربعة وعشرين داموسا، في سطر واحد وطول واحد، طول كل داموس منها مائة وثلاثون خطوة في عرض ستين (¬126) خطوة (وارتفاع كل واحد أزيد من مائتي ذراع) (¬127) بين كل داموسين أثقاب محكمة تتصل بها المياه من بعضها إلى بعض في العلو الشاهق بهندسة عجيبة وإحكام بليغ، وكان الماء يأتي إلى هذه الدّواميس من عين شوقار، وهي بقرب القيروان، ومسافة جري هذا الماء من العين إلى الدّواميس ثلاث مراحل، وكان جري الماء من هذه العين إلى هذه الدواميس على عدة قناطر لا يحصى لها عدد، وجري الماء بوزنة (¬128) معتدلة، وهذه القناطر قسي مبنية بالصّخر، فما كان منها في نشر الأرض كان قصيرا، وما كان منها في متواطئ الأرض كان عاليا جدا، وهذا من أغرب شيء رئي على وجه الأرض، وقد تعطّلت / هذه الأقواس وماؤها ودواميسها لخراب قرطاجنّة، وبعد خرابها بقي الناس سنين متطاولة يحفرون على ما تهدّم من قصورها وأصول بنائها، فيستخرجون من أنواع الرخّام ما يكل عنه الواصف، وربّما استخرج منها ألواح من رخام طول الواحد أربعون شبرا في عرض عشرة أشبار (¬129) (ويستخرج منها أنواع الرخام والمرمر المجزّع والملوّن ما يشتهي الناظر شيء كثير) (¬130) ويستخرج منها أعمدة ¬

(¬123) في الأصول: «كذال» كما تنطق في اللهجة العامية بصفاقس والمثبت من ن. م. ص: 113. (¬124) كذا في نزهة المشتاق، وفي نسخ أخرى من النزهة «ناتئة» انظر هامش ن. م. ص: 113. (¬125) في الأصول: «سباع» والمثبت من ن. م. ص: 113. (¬126) في نزهة المشتاق: «ستة وعشرون». (¬127) ما بين القوسين اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬128) في الأصول: «بركة» والمثبت من ن. م. ص: 113. (¬129) في نزهة المشتاق: «سبعة أشبار». (¬130) ما بين القوسين، اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق.

بنزرت

طول كل عمود يزيد على أربعين شبرا فما دون ذلك، ولم تكن مركب تسافر إلا وفيها شيء من رخامها حتى انقطع أثر ذلك. بنزرت: وتحيط بمدينة قرطاجنّة أوطية من الأرض وسهول، ولها مزارع وضروب غلات، ومنافع جمّة (¬131). ويتصل بقرطاجنة من جهة المغرب إقليم سطفورة (¬132) وهو إقليم جليل به ثلاث مدن. فأقر بها إلى تونس أشلونة وتينجة وبنزرت، وهي مدينة على البحر أصغر من مدينة (سوسة) (¬133) في ذاتها (وكانت غير مسوّرة حتى سوّرها المرحوم علي باشا في نيف وخمسين ومائة وألف) (¬134). وبين تونس وبنزرت يوم كبير في البر، وهي مدينة عامرة بأهلها وبها مرافق وأسواق قائمة، وبجهة الشرق منها بحيرتها المعروفة بها، والمنسوبة إليها، وطولها ستة عشر ميلا، وعرضها ثمانية أميال، وفمها متصل / بالبحر، وكلما أخذت في البرية اتسعت وما قربت من البحر ضاقت وانخرطت. وهذه البحيرة من عجائب الدّنيا، وذلك أن بها اثنا عشر نوعا من السّمك، يوجد منها في كل شهر نوع واحد لا يمتزج بغيره من أنواع السمك، فإذا تمّ الشهر لم يوجد شيء من ذلك النوع في الشهر الذي بعده، بل يوجد فيه نوع آخر غير الأول لا يمتزج بغيره، هكذا لكل شهر نوع إلى تمام السنة، فهي اثنا عشر نوعا في السنة ترجع عودا على بدء، وتلك الأنواع هي البوري، والقاجوج، والمجّل، والطلنطة، والأشبلينيات، والشلّبة، والقاروص، واللاج، والجوجة، والكحلاء، والطنفلوا، والقلا. وتتصل بهذه البحيرة من جهة الجنوب مع انحراف إلى الغرب (¬135) بحيرة ثانية تسمّى بحيرة تينجة، طولها أربعة أميال في عرض مثلها، وبينهما فم تتصل منه [مياه] (¬136) إحداهما بالأخرى. وفي هاتين البحيرتين أمر عجيب، وذلك أن ماء بحيرة تينجة عذب (من مياه ¬

(¬131) عن قرطاجنة انظر النص الكامل في نزهة المشتاق ص: 113 - 114. (¬132) في الأصول: «سفطورة» والمثبت من ن. م. ص: 114. (¬133) كذا في الأصول ونزهة المشتاق طبعة ليدن وفي نسخ أخرى من ن. م. «تونس» انظر هامش النزهة ص: 114. (¬134) 1738 م، ما بين القوسين اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬135) في الأصول: «الغرب» والمثبت من ن. م. وهو الأصح جغرافيا. (¬136) اضافة من نزهة المشتاق.

طبرقة

الأمطار) (¬137)، وماء بحيرة بنزرت ملح (من البحر) (¬138) وكل واحدة منهما تصبّ في أختها ستة أشهر حتى ينعكس جريها فتمسك الجارية عن الجري، وتصب البحيرة الثانية إلى الأولى ستة أشهر أخرى، فلا بحيرة تينجة يملح ماؤها، ولا بحيرة بنزرت يعذب ماؤها، (وذلك أن زمن الخريف والشّتاء تكثر السّيول / وتهب ريح الدبور، فتغلب تينجة، وزمن الربيع والصيف تقل السّيول، وتهب ريح الصّبا، فتغلب بحيرة بنزرت (¬139) والسمك بتونس كثير مجلوب إليها من بنزرت. طبرقة: ومن بنزرت إلى طبرقة سبعون ميلا. وطبرقة حصن على البحر، قليل العمارة وحوله عرب، وبها مرسى للمراكب، ومراكب الأندلس تسافر إليها وتأخذها روسية في قطعها (وكانت معمورة بطائفة من الإفرنج، فافتتحها المرحوم علي باشا - رحمه الله تعالى - قبل بناء سور بنزرت، فهدمها لئلا يعودوا إليها) (¬140). باجة: وعلى بعض الطريق بين طبرقة وتونس مدينة باجة، وهي مدينة حسنة في وطاء (¬141) من الأرض كثيرة القمح والشّعير، وبها من ذلك ما ليس مثله بالمغرب كثرة وجودة. وهي بذلك كثيرة الرّخاء، وبها عين في وسطها ينزل إليها بأدراج ومنها شرب أهلها، وليس لها في خارجها عود نابت إلا فحوص (¬142) ومزارع. وبين باجة وطبرقة مرحلة وبعضها. مرسى الخرز: وتقابل باجة في جهة الشمال وعلى نحر البحر مدينة مرسى الخرز، وبينهما مرحلة كبيرة، وهي مدينة صغيرة عليها سور حصين، ولها قصبة وحولها عرب كثير، وعمارة ¬

(¬137) تفسير من المؤلف. (¬138) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬139) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬140) أخذ علي باشا طبرقة في سنة 1153/ 1740 وهدم القرية التي بناها أهل جنوة المتمسكين بها. وعن هذه الحادثة راجع مثلا أحمد بن أبي الضياف، الاتحاف تونس 1963، 2/ 124. (¬141) كتبها: «وطء» وأصلحناها كما أثبتنا فيما يلي من النص دون الإشارة لذلك. (¬142) في ت: «فحوص كبيرة».

بونة

أهلها على صيد المرجان لكثرته بها، وهو أجل من جميع (¬143) المرجان بسائر الأقطار من صقلية وسبتة وغيرهما. ويقصد التجّار من سائر الأقطار / إلى هذه المدينة فيخرجون منه الكثير إلى جميع الجهات، ومعدن المرجان بهذه المدينة مخدوم في كل سنة، ويعمل به في كل الأوقات الخمسون قاربا وأقل وأكثر، وفي كل قارب نحو العشرين رجلا، والمرجان ينبت كالشّجر في قعر البحر ثم يتحجّر فيصاد بآلات ذات ذوائب كثيرة تصنع من القنّب تدار هذه الآلات في أعلى القوارب فتلتفّ الخيوط على ما قاربها من نبات المرجان فيجذبه الرجال إلى أنفسهم، ويستخرجون منه الشيء الكثير، ممّا يباع بالأموال الطائلة، وعمدة أهلها على عمله، وشرب أهلها من الآبار، وهي قليلة الزّرع، وإنما يجلب إليها قوتها من بوادي العرب (¬144) المجاورة لها، وكذلك الفواكه ربّما جلبت إليها من بونة وغيرها. بونة: وبين مدينة بونة ومرسى الخرز مرحلة خفيفة، وفي البحر أربعة وعشرون ميلا روسية. ومدينة بونة متوسطة، ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة، ونعتها في بقعتها كالأربس، وهي على نحر البحر، وكانت لها أسواق حسنة وتجارة مقصودة، وأرباح موجودة، وبها كثير من الخشب موجود، جيد الصّفة، وبها بساتين وشجر، وأنواع الفواكه ما يعمّ أهلها وأكثر فواكهها من باديتها، والقمح بها والشّعير في أوقات الإصابة كثير جدا، وبها معادن حديد جيد (¬145)، ويزرع / بأرضها الكتّان، والعسل بها موجود وكذلك السّمن، وأكثر سوائمهم البقر، ولها أقاليم وأرض واسعة تغلّبت العرب عليها. وقد ضعفت وذهبت عمارتها (ثم رجعت الآن وهي المسمّاة الآن بمدينة العناب) (¬146) وبقرب بونة جبل يدوغ (¬147) وهو عالي الذروة، سامي القمة وبه معادن الحديد. ¬

(¬143) ساقطة من ت. (¬144) في ت: «الأعراب». (¬145) ساقطة من ش. (¬146) ما بين القوسين اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬147) في الأصول: «يروع» والمثبت من ن. م. ص: 117.

الأربس

الأربس: ومن مدينة باجة إلى مدينة الأربس مرحلتان [خفيفتان] (¬148). ومن الأربس إلى القيروان ثلاث مراحل، وكذلك بين باجة والبحر. ومدينة الأربس في وطاء عليها سور، وفي وسطها أعين ماء جارية لا تجف، وشرب أهلها من تلك العيون واسم عين منها رباح، والأخرى عين زياد، وماء عين زياد أطيب من ماء عين رباح، وماؤها صحيح، ولها معدن حديد وليس حولها من خارجها عود نابت البتة، وهي على مزارع الحنطة والشعير، ويدّخر منه الشيء الكثير. ومدن أخرى: ومنها على اثني عشر ميلا مدينة أبّة، وبها عين جارية منها شربهم، وهي غدقة وماؤها غزير، وكان عليها سور من طين، وهي الآن خراب (¬149). ومن الأربس إلى مدينة صغيرة تسمّى تامديت مرحلتان، وعليها سور تراب، وشرب أهلها من عيون بها، وغلاّت أهلها من الحنطة والشعير المقدار الكثير. وبين الأربس ومدينة تامديت مدينة صغيرة / تسمّى مرماجنة ولأهلها من القمح والشعير المقدار الكثير ما يعمّ بالكفاف وزيادة. ومن تيجس (¬150) (إلى بونة الساحلية ثلاث مراحل. ومن الأربس إلى تونس مرحلتان. ومن مدينة تيجس) (¬151) إلى قسنطينة يومان. وبين الأربس ومدينة باجة اثنتا عشرة مرحلة. ومن مرماجنّة (¬152) إلى مدينة مجّانة مرحلة كبيرة وهي مدينة صغيرة عليها سور تراب، وكان يزرع بها قديما بصل الزعفران، ولهم واد غزير الماء، يأتي من جبل بمقربة منها، يزرعون عليه غلاّتهم، وهو جبل شاهق تقطع منه [أحجار] (¬153) الطواحن التي ¬

(¬148) اضافة من ن. م. (¬149) في نزهة المشتاق: «وأكثرها الآن خراب» ص: 117. (¬150) في الأصول: «تينجس» والمثبت من ن. م. ص: 118. (¬151) ما بين القوسين ساقط من ش. (¬152) في الأصول: «باجة» والمثبت من ن. م. ص: 118. (¬153) اضافة من نزهة المشتاق للضبط ص: 118.

جزيرة باشو

إليها الانتهاء في الجودة وحسن الطحين، حتى أن الحجر منها ربّما مرّ عليه (¬154) عمر الانسان فلا يحتاج إلى نقش ولا إلى صنعة لصلابته ودقة أضراسه، وأرض مجانة تغلبت عليها العرب فتختزن بها طعامها. وبينها وبين قسنطينة ثلاث مراحل. ومنها إلى بجاية الناصريّة ست مراحل. جزيرة باشو: وبين تونس والحمّامات مرحلة كبيرة، وهذه المرحلة هي عرض الجزيرة المسمّاة بجزيرة باشو (¬155). وهي أرض مباركة طيبة ذات أشجار وعمارات متصلة، وبركات وخيرات، ومياه ليست بعيدة من وجه الأرض، فهي ممكنة بالآبار، وفيها خصب كثير زائد. وهذه الجزيرة إقليم بها مدينة باشو. ولم يبق الآن إلا مكانها، وفيه قصر معمور [ومنها قصر على البحر يسمّى نابل] (¬156)، وكذلك قصر توسيهان، وبالقرب منها أثر / مدينة كانت عامرة في أيّام الروم خربت، وبقي مكانها. جبل زغوان: وبين تونس والقيروان جبل زغوان وهو عال جدا، تقصده المراكب من ظهر البحر لعلوّه وارتقائه في الجو؛ وهو من أكثر الجبال ماء، وفيه خصب ومزارع، ومياه جارية، وعمارة، ويعمر في أماكن منه عبّاد المسلمين، ينفردون بأنفسهم. جبل وسلات: وكذلك جبل وسلات (وبينه وبين تونس يومان) (¬157)، وبينه وبين القيروان خمسة عشر ميلا، وفيه عمارات كثيرة، ومياه جارية، وفيه من الحصون حصن الجوزات، وحصن تيفاف، وحصن القيطنة، ودار اسماعيل، ودار الدّواب، وكل هذه البلاد (كان) (¬158) يعمرها قبائل من البربر، وهم أهل هذه النّاحية، وهم في خصب ولهم ¬

(¬154) في الأصول: «على» والمثبت من ن. م. (¬155) في الأصول: «باشق» والمثبت من ن. م. ص: 118. (¬156) اضافة من نزهة المشتاق أكيدة، تفاديا للخلط ص: 118. (¬157) في الأصول: «وطوله يومان» والمثبت من ن. م. ص: 119. (¬158) في نزهة المشتاق: «وكل هذه البلاد يعمرها» والتغيير الصادر عن المؤلف يسجل الفارق الحاصل بين الماضي وحاضره.

ومدن أخرى

مواش أبقار، وأغنام وبغال، ورماك (¬159) (وساعة التاريخ غضب سلطان تونس المرحوم سيدنا علي باشا ابن سيدنا حسين (بن علي) (¬160) - رحمهما الله تعالى - على أهل وسلات وأخرجهم (¬161) من هذا الجبل، فلم يبق به أنيس) (¬162). ومدن أخرى: ولنذكر الآن (الطرقات) (¬163) المسلوكة بين هذه البلاد. فالطّريق من القيروان إلى تاهرت (¬164). فمن القيروان إلى الجهنيين وهي قرية مرحلة، إلى مدينة سبيبة مرحلة وهي مدينة قديمة، كثيرة المياه والجنّات، وعليها سور من حجارة، ولها ربض فيه الأسواق والخانات وشربهم (من عيون جارية كثيرة) (¬165) عليها جنّاتهم / ومنها إلى مرماجنة وهي قرية لهوارة مرحلة. ومنها إلى مدينة مجانة مرحلة ثم إلى مسكيانة (¬166) مرحلة وهي [قرية] (¬167) عامرة قديمة، وبها زروع ومكاسب وعيون، ولها سوق ممتدّة كالسّماط وهي أكبر من مرماجنة (¬168). ومنها إلى باغاية (¬169) وهي مدينة عامرة - كما تقدم -. وطريق ثانية تأخذ من القيروان إلى المسيلة على غير الطريق الأولى. فمن القيروان إلى جلولا (¬170) مرحلة خفيفة، وهي مدينة صغيرة عليها سور وبها عين ماء جارية، عليها بساتين كثيرة ونخل كثير. ¬

(¬159) ج. رمكة وهي الفرس التي تتخذ للنسل. انظر تاج العروس 7/ 137. (¬160) ساقطة من ش وط. (¬161) في ش وط: «فأخرجوا». (¬162) ما بين القوسين اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. وبعدها في ت: «أبدا إلى الآن» وهي زيادة من الناسخ كما هو ظاهر. (¬163) في ت: «الطريق». (¬164) بعدها في الأصول: «بأن تخرج» أسقطناها طبقا لنزهة المشتاق وليستقيم المعنى. (¬165) في نزهة المشتاق: «من عين جارية كبيرة» ص: 119. (¬166) في الأصول: «مسكانة» والمثبت من ن. م. ص: 119. (¬167) اضافة من ن. م. (¬168) في الأصول: «مجانة» والمثبت من ن. م. (¬169) في الأصول: «باغية» والمثبت كما أشرنا فيما سبق. (¬170) كذا في الأصول وفي البيان المغرب للبكري ص: 31 - 33. وكتبها الادريسي في نزهة المشتاق بالتاء ص: 120.

ومنها إلى آجرّ (¬171) مرحلة، وهي قرية حسنة ماؤها من الآبار، وفيها زروع وحنطة، وشعير كثير. ومنها إلى قرية طامجنة (¬172) مرحلة، ولها فحص كبير، وحنطتها وشعيرها كثير، رخيص جدا. ومنها إلى مدينة الأربس مرحلة. ومن الأربس إلى تيفاش مرحلة، وهي أيضا مدينة قديمة عليها سور قديم بالحجارة والجير، وبها عين جارية، ولها بساتين ورياضات وأكثر غلاتها الشعير. ومن تيفاش إلى قصر الافريقي مرحلة، ولا سور لها، ولها مزارع وإصابات جمة من الحنطة والشعير. ومنها إلى قرية أركو مرحلة، ولها جنّات وعيون ومياه وبساتين. ومنها إلى قرية البردوان مرحلة، وكانت قرية كبيرة، وهي من أقاليم القمح والشعير. / ومنها إلى قرية النهروين مرحلة وهي في وطاء من الأرض، وفيها آبار عذبة، والغالب عليها البربر من كتامة ومزاتة. ومنها إلى قرية تامسيت مرحلة وبها أشجار وعمارات. ومنها إلى دكمة مرحلة وهي (قرية لها أسواق وأصلها من كتامة. ومنها إلى أوسحنت مرحلة وهي) (¬173) قرية للبربر، وبها مياه جارية، ومزارع حنطة وشعير. ومنها إلى المسيلة أقل من مرحلة. ومن المسيلة إلى وارقلان (¬174) اثنتا عشرة مرحلة كبار، وهي مدينة فيها قبائل مياسير، وتجّارها أغنياء يتجولون في بلاد السودان إلى بلاد غانة وبلاد ونقارة، فيخرجون منها التبر، ويضربونه في بلادهم باسم بلدهم وهم وهبيّة إباضية نكّارة (¬175) خوارج في دين ¬

(¬171) في الأصول: «أخرى» والمثبت من ن. م. ص: 120، وفي مراصد الاطلاع «أجر». (¬172) في ت: «مامجنة»، وفي ش: «صامجنة»، وفي ط: «سمجنة» والمثبت من ن. م. ص: 120. (¬173) ما بين القوسين ساقط من ت. وفي نزهة المشتاق عوض أسواق نجد «سوق» ص: 120. (¬174) بالقاف المعقودة كالجيم المصرية، وهي المعروفة بورقلة، وهي واحة في الجنوب الجزائري. (¬175) هكذا في الأصول وفي بعض نسخ نزهة المشتاق، وفي طبعة ليدن منها «نكار».

طرابلس

الإسلام. قاله في «نزهة المشتاق» (¬176). ومن وارقلان إلى غانة ثلاثون مرحلة. ومن وارقلان إلى كوغة (¬177) نحو من شهر (ونصف) (¬178). ومن وارقلان إلى قفصة ثلاثة عشرة مرحلة. طرابلس: ومن قابس إلى طرابلس (¬179) ست مراحل (¬180) (وكلها كانت آهلة، وهي الآن خراب، استولت عليها قبائل الأعراب كانوا فيما مضى يسمّون مرداس ورياح. ومدينة طرابلس كانت حسنة حصينة وهي الآن خراب) (¬181) وهي في نحر البحر (كانت) (¬182) بيضاء حسنة الشّوارع متقنة الأسواق، وبها صنّاع وأمتعة يتجهّز بها / إلى كثير من الجهات، وكانت متّصلة (¬183) العمارة من جميع جهاتها، كثيرة شجر التين والزيتون وبها فواكه جمة، ونخل إلا أن العرب أضرّت بها وبما حولها من ذلك وأجلت أهلها وأخلت بواديها وغيّرت أحوالها، وأبادت أشجارها، وغوّرت مياهها، وكانت (¬184) عديمة المثال في إصابة الزرع، ولا يدرى في معمور الأرض مثلها في ذلك، وكان ذلك عندهم معلوما مشهورا (ثم ان هذه المدينة أهلكت بالمرة حتى أتى السلطان (¬185) درغوث باشا - رحمه الله تعالى - أحد أمراء السّلطنة العثمانية فأنشأ مدينة جديدة بالقرب من الأولى (¬186)، وهي مدينة لطيفة جليلة في قدر مدينة سوسة) (¬187). ¬

(¬176) انظر ن. م. ص: 121. (¬177) في الأصول: «كونة» والمثبت من ن. م. ص: 121. (¬178) كذا في ط ونزهة المشتاق. وساقطة في ت وش. (¬179) كتبها الادريسي والبكري «اطرابلس» وكذلك في مختلف كتب التراث. (¬180) لم يذكر الادريسي عدد المراحل بين قابس وطرابلس، وحذف المؤلف جملا قبل ذلك تتعلق بمنازل اندثرت. راجع ن. م. ص: 121. (¬181) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق، وينطبق على واقع طرابلس القديمة التي اندثرت ولا ينطبق على طرابلس النشيطة في القرن الثامن عشر. (¬182) اضافة من المؤلف تسجل بعدا تاريخيا. (¬183) في نزهة المشتاق «مفضلة العمارات» ص: 121. (¬184) حذف المؤلف تاريخ فتح الملك النرماني رجار لطرابلس ص: 122 - 123. (¬185) لم يكن درغوث باشا سلطانا على طرابلس بل كان واليا عليها، تابعا للسلطنة العثمانية من سنة 1556 - 1565. أتوري روسي: «ليبيا»، تعريب خليفة محمد التليسي، بيروت 1974، ص: 181 - 186. (¬186) دخل العثمانيون مدينة طرابلس في 14 أوت 1551، ولم تذكر كتب التاريخ إحداث مدينة جديدة قريبة من الأولى، على يد درغوث باشا، بل ذكرت أنه عمل جاهدا على تجديد بناء طرابلس التي تدهور عمرانها في الفترة السابقة وتجميلها، وجلب السكان إليها، كما عمل على تشييد القلاع والحصون للدفاع عنها. راجع على سبيل المثال: شارل فيرو (Ch. Feraud) الحوليات الطرابلسية، (Les annales Tripolitaines) تونس، باريس 1927، ص: 49 - 57. وطرابلس الغرب لمحمد ناجي، ومحمد نوري، تعريب اكمال الدين محمد إحسان، طرابلس 1973، ص: 166. واتوري روسي، المرجع السابق ص: 187. يقول «ووجه درغوث عناية خاصة وكبيرة إلى التحصينات العسكرية وشيد المسجد الذي يحمل اسمه، وشرع في اقامة البرج الذي عرف فيما بعد باسم «برج التراب». . . كما رمم القلعة وبنى قصرا كبيرا في قلب المدينة اتخذ منه سكناه». (¬187) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق تدقق الفارق بين طرابلس القديمة التي تحدث عنها الادريسي وطرابلس التي جددها درغوث باشا وبعث فيها النشاط.

الطرقات من طرابلس إلى ما جاورها

الطرقات من طرابلس إلى ما جاورها: ومن مدينة طرابلس في جهة الشّرق إلى مدينة سرت مائتا ميل وثلاثون ميلا، وهي إحدى عشرة مرحلة، فيخرج السّائر من مدينة طرابلس إلى المجتنى عشرون ميلا. ومن المجتنى إلى ورداسا اثنان وعشرون ميلا. ومن ورداسا إلى رغوغا خمسة وعشرون ميلا. ومن رغوغا إلى تاورغا اثنان وعشرون ميلا (ثم إلى المنصّف خمسة وعشرون ميلا) (¬188) ثم إلى قصر حسّان بن النّعمان الغسّاني - رضي الله تعالى عنه - أربعون ميلا، ثم إلى الأصنام ثلاثون ميلا، ثم إلى سرت ستة وأربعون ميلا، وهذا الطّريق يبعد عن السّاحل تارة ويقرب أخرى، وساكن (¬189) ذلك كله قبيلتان من العرب / وهما عوف ودباب. وبين مدينة سرت والبحر ميلان، وعليها سور تراب، وما استدار بها رمل، وبها بقايا نخيل، ومياهها من المطر في المواجل وآبارها قليلة وعليها قبائل من البربر. ومن مدينة طرابلس إلى جبل نفوسة ست مراحل، وكذلك من جبل نفوسة إلى صفاقس تسع مراحل، وبأعلى طرابلس جبل مقدة (¬190) (وهو غريان) (¬191) ثلاث مراحل. ومن جبل نفوسة إلى قسطيلية (¬192) ست مراحل، وأهل جبل نفوسة كلهم إسلام ولكنهم خوارج نكّار على مذهب ابن منبّه اليماني كأهل وارقلان. ¬

(¬188) كذا في ت وط وفي ن. م. ساقطة من ش، وفي المغرب العربي من نزهة المشتاق تحقيق محمد حاج صادق. (¬189) في نزهة المشتاق: «وكل ذلك في ملك قبيلتين من العرب» ص: 122. (¬190) في الأصول: «مغرة» والمثبت من ن. م. (¬191) تفسير من المؤلف، أضافه عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬192) في الأصول: «قشتيلية» والمثبت من ن. م. والبيان المغرب من المسالك. . .، للبكري. ص: 14 - 48.

جبل دمر

جبل دمر: ومن جبل نفوسة إلى جبل دمّر ثلاث مراحل في رمل متصل، وفي أطراف هذا الجبل قوم من البربر يسمّون رهانة (¬193) وهم قوم ينتجون الإبل، ويركبون أمضاها وأسرعها خطا، ويسيرون فرقا إلى ما تباعد منهم من قبائل العرب، فيغيرون عليهم وعلى إبلهم ويعودون بغنائمهم إلى جبلهم ومواضع مساكنهم التي يأوون إليها، وليس لهم شغل إلا هذا، وليس أحد من العرب المجاورين لهم إلا ويشتكي أذيّتهم، وقليلا ما يظفر بأحد منهم لسرعة جري نجبهم، ودلالتهم تلك الأرض، وتحصّنهم في أمكنتهم (¬194). وتتصل هذه البلاد في جهة الجنوب ببلاد ودّان، ثم بعد هذه البلاد تنقطع العمارة / إلى اسكندرية، فأكثر هذه الأراضي خالية، وفيها من البلاد زويلة ابن خطاب (¬195) وزالة، ومستيح وأوجلة وبرقة، وعلى الساحل (¬196) جمل من القصور يحيط بها التفصيل، وبها من البلاد المشهورة سرت وأجدابية. برقة: فأما مدينة برقة فمدينة متوسطة المقدار، ليست بكبيرة القطر، وتخرج منها التربة المنسوبة إليها، فينتفع بها الناس، ويتعالجون بها مع الزّيت للجرب والحكّة وداء الحيّة، وهي تربة غبراء، وإذا ألقيت في النار ظهرت (¬197) لها رائحة كريهة كرائحة الكبريت، وهي فظيعة الدّخان كريهة الطعم (¬198). الطريق من برقة إلى العين: ومن برقة إلى مدينة أوجلة في البريّة عشر مراحل بسير القوافل، وكذلك من برقة إلى أجدابية ست مراحل، وهي من الأميال مائة واثنان وخمسون ميلا. ¬

(¬193) في الأصول: «زبيانة» والمثبت من ن. م. ص: 123. (¬194) عن جبل دمر انظر النص الكامل في نزهة المشتاق ص: 123. وجبل دمر سلسلة جبلية في الجنوب الليبي والتونسي تمتد من حدود طرابلس إلى جنوب قابس، ويطلق خاصة على الجهة الغربية، وتقابل جهة بني خداش، راجع على سبيل المثال «نظام العزابة عند الأباضية الوهبية في جربة، ص: 160، هامش 11، لفرحات الجعبيري». (¬195) في الأصول: «بني خطّاب» والمثبت من ن. م. ص: 130. (¬196) في نزهة المشتاق: «وعلى ساحل البحر الشاميّ من القصور جمل. . .». (¬197) في نزهة المشتاق: «فاحت». (¬198) عن برقة انظر النص الكامل في نزهة المشتاق ص: 131 - 132.

ومن برقة إلى الاسكندريّة احدى وعشرون مرحلة وهي من الأميال خمسمائة ميل وخمسون ميلا (¬199). فإذا خرج الخارج من طرف قانان صار إلى قصور حسّان وقطع في البريّة أربع مراحل كبارا، ليس بها من الماء شيء. ومنها إلى الأصنام ثلاثون ميلا، ويسمّى هذا الجون جون زديك (¬200)، والماء يوجد بها في خروق أحساء محفورة في الرمل على ضفة البحر. ومن الأصنام إلى القرنين (¬201) وهو قصر كبير عامر وفي وسطه بئر عميقة وإليها تصبّ مياه الأمطار. ومنها إلى قصر العبّادي على البحر أربعة وثلاثون ميلا. ومن قصر العبادي إلى اليهوديّة أربعة وثلاثون ميلا. ومن اليهودية إلى قصر العطش (أربعة وثلاثون ميلا وفيه ثلاث جباب. ومن قصر العطش) (¬202) إلى منهوشة ثلاث مراحل، لا ماء فيها، وهي سباخ وطئة، ومنهوشة على البحر، ومياهها أحساء. ومن منهوشة إلى بئر الغنم نحو من ثلاث عشر ميلا، وهي على آخر السبخة المنسوبة إلى منهوشة. ومنها إلى الفاروخ مرحلة، وهي من الأميال ثلاثون ميلا. ومن الفاروخ إلى حرقرة (¬203) خمسة وعشرون ميلا، ثم إلى توسمت (¬204) عشرون ميلا، ثم إلى سلوق أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى أويرار (¬205) ثلاثون ميلا، ثم إلى قصر العسل اثنا عشر ميلا، [ثم إلى مليتية سبعة وعشرون ميلا] ثم إلى برقة خمسة عشر ميلا. والطريق من سلوق إلى قافز مرحلة، وقافز في وسط وطاء برنيق، وفي شرقيها غابة متصلة إلى البحر وبينها وبين البحر أربعة أميال. ¬

(¬199) حذف المؤلف ما يتعلق بأجدابية وأوجلة ومستيح، أنظر ن. م.132 - 134. (¬200) في نزهة المشتاق: «جون زديق» (لعل الكاف فارسية والقاف معقودة). (¬201) في الأصول: «الفرس» والمثبت من ن. م. ص: 135. (¬202) ما بين القوسين ساقط من ت. وط. (¬203) في الأصول: «جرقدة» والمثبت من ن. م. ص: 135. (¬204) كذا في بعض نسخ ن. م. وفي غيرها: «برسمت». (¬205) في ش: «أوراز» في ت وط: «أورار» والمثبت من ن. م.

الطريق من برقة إلى الإسكندرية

وبمقربة من قافز في جهة الشرق بحيرة مع طول البحر يحجزها تل رمل، وماؤها عذب، وطولها ستة عشر ميلا، وفي سعتها نحو من نصف ميل. ومنها إلى قمانس (¬206)، وهو قصر، عشرة أميال. ومنه إلى أوطليط، وهو قصر عامر بالناس نصف يوم. ومنه إلى أربعة أبراج، وهو قصر، يوم. ومنه إلى قصر العين عشرة أميال ومنه إلى قصر طلميثة. الطريق من برقة إلى الإسكندرية: ونقول (¬207) إن من مدينة برقة إلى الإسكندرية على طريق مستقيم إحدى وعشرون مرحلة / وذلك من برقة إلى قصر النّدامة ستة أميال، ومنها إلى تاكنست (¬208) ستة وعشرون ميلا، إلى مغار الرقيم خمسة وعشرون ميلا، وهنا يجتمع هذا الطريق بالطريق الأعلى. ومن مغار الرقيم إلى جب حليمة خمسة وثلاثون ميلا. ومن جبّ حليمة إلى وادي مخيل (¬209) خمسة وثلاثون ميلا. ومن وادي مخيل إلى جبّ الميدان خمسة وثلاثون ميلا. ومن جبّ الميدان إلى جناد الصغير خمسة وثلاثون ميلا، ثم إلى جبّ عبد الله ثلاثون ميلا، ثم إلى مرج الشيخ ثلاثون ميلا، ثم إلى العقبة عشرون ميلا، ثم إلى حوانيت أبي حليمة عشرون ميلا. ومن حوانيت أبي حليمة إلى خربة القوم خمسة وثلاثون ميلا، ثم إلى قصر الشماس (خمسة عشر ميلا. ومن قصر الشمّاس) (¬210) إلى سكة الحمام خمسة وعشرون ميلا. ومن سكة الحمام إلى جبّ العوسج ثلاثون ميلا. ¬

(¬206) في الأصول: «مماقس» والمثبت من ن. م. ص: 135. (¬207) يتكلم على لسان الادريسي دائما، يدخل في باب الجزء الرابع من الاقليم الثالث من ترتيب الادريسي بنزهة المشتاق وينقل منه ص: 136. (¬208) في ش: «ماكنست» وفي ت وط: «ما كنت» والمثبت من ن. م. ص: 136. (¬209) في الأصول: «تحيل» والمثبت من ن. م. ص: 137. (¬210) ما بين القوسين ساقط من ش.

الطريق الساحلي من بونة إلى نابل

ومن جبّ العوسج إلى كنائس الحرير إلى الطاحونة أربعة وعشرون ميلا. ومن الطّاحونة إلى حنية الروم ثلاثون ميلا. ومن حنية الروم إلى ذات الحمام أربعة وثلاثون ميلا، وإلى ثونية ثمانية عشر ميلا، ثم إلى الاسكندرية عشرون ميلا، وهذه الطريق هي الطريق العليا في الصحراء. الطريق الساحلي من بونة إلى نابل: ولنرجع (¬211) إلى ذكر ما تضمنه هذا الباب من مراسي البحر وقراطيله، وما عليه من القصور المعمورة والبلاد المقصودة، وبالله الإستعانة وعليه التكلان. فمن مدينة بونة الغربية إلى الطّرف ستة أميال إلى جون الأزقاق (¬212)، وهو جون (¬213) صغير وفي آخره مرسى الخرز، وهذا القرطيل داخل في البحر أربعون / ميلا. ومن مرسى الخرز إلى طبرقة أربعة وعشرون ميلا، ومنها إلى طرف الجون خمسة عشر ميلا روسيّة، وعلى التّقوير أربعة وعشرون ميلا، وهناك طرف (¬214) يسمّى المنشار ستة عشر ميلا. ومن طرف المنشار إلى قلعة أبي خليفة عشرة أميال، ومنها قطع جون روسيّة عشرون ميلا، وتقويرا ثمانية وعشرون ميلا. وإلى رأس الطرف اثنا عشر ميلا، ومنها إلى بنزرت ثمانية أميال، ومنها إلى مرسى بني وجّاص اثنا عشر ميلا. ومن مرسى بني وجّاص إلى رأس الجبل ثلاثة عشر ميلا جونا، وعلى هذا الجون قصور. فمن أول رأس بني وجّاص إلى قصر مرسى الوادي ثلاثة أميال، وهو مسقط نهر صغير، ومنه إلى قصر مرسى داود (¬215) ثلاثة أميال، ومنه إلى قصر موسى (¬216) خمسة ¬

(¬211) هنا يخالف المؤلف ترتيب الادريسي، ويرجع لينقل ما أخره فيما يتعلق بالسواحل، وذلك من بونة إلى طرابلس وهذه الفقرة توجد في الجزء الثاني من الاقليم الثاني من ترتيب الادريسي ص: 123 - 130. (¬212) في الأصول: «الزقاق» والمثبت من ن. م. ص: 123. (¬213) ساقطة من ش. (¬214) كذا في بعض نسخ ن. م. وفي غيرها: «رملة». (¬215) في نزهة المشتاق: «ترشة داود» ص: 124. (¬216) في نزهة المشتاق: «قصر صونين» ص: 124.

أميال، ومنه إلى طرف الجبل ميلان، وهذا الطرف يعرف بالكنيسة، وهو أول الجون الذي في وسطه مدينة تونس وبحيرتها. فمن طرف الجبل مع التقوير إلى موقع نهر مجردة (¬217) ستة أميال. ومن موقع الوادي إلى قصر جلّة أربعة (¬218) أميال، ومنه إلى قصر جردان ميلان، ومنه إلى قرطاجنّة ميلان، ومنها إلى حلق وادي تونس ثلاثة أميال، وهذا الوادي في نصف الجون. ومن فم الوادي إلى قصر فهم (¬219) اثنا عشر ميلا، وإلى قصر قربص ستة عشر ميلا، وإلى طرف أفران أربعة عشر ميلا، وهو قرطيل داخل في البحر، فجميع تقوير هذا الجون أربعة وسبعون ميلا / وقطعه روسيّة. ومن رأس الجبل إلى طرف أفران ثمانية وعشرون ميلا، وكذلك من وسط الجون حيث فم وادي تونس إلى طرف أفران إذا قطع روسيّة ثمانية وعشرون ميلا، وتقويرا ستة وخمسون ميلا. ومن طرف أفران إلى مرسى قصر النخلة ستة أميال ومنه إلى قصر بنزرت (¬220) اثنا عشر ميلا، ومنه إلى قصر بونة ثلاثون ميلا. فمن فم وادي تونس إلى نوبة سبعون ميلا، ويوازي نوبة في البحر الجامور الكبير والجامور الصغير، وبينهما سبعة أميال، ومن الجامور الكبير إلى نوبة اثنا عشر ميلا، ومن نوبة روسيّة إلى رأس الرخيمة ميل واحد جونا، وهذا الجون على التقوير ستة أميال، وكله قصير. ومن رأس الرخيمة إلى طرف البقلة (¬221) وهو طرف الجبل المسمّى أدارون (¬222)، وهو من ناحية اقليبية في المشرق. ومن رأس الرخيمة إلى الجامور الصغير ستة أميال، وهذان الجاموران جبلان قائمان ¬

(¬217) في نزهة المشتاق: «بجردة» وهو الاسم القديم لهذا النهر. (¬218) في نزهة المشتاق: «نحو من أربعة أميال» ص: 124. (¬219) كذا في بعض نسخ ن. م. وفي غيرها: «جهم». (¬220) في الأصول «متروت» والمثبت من ن. م. ص: 124. (¬221) في ش وت «البلغة» وفي ط: «النخلة» والمثبت من ن. م. (¬222) في ت «ما دار» وفي ش وط: «أدار» والمثبت من ن. م. ص: 124.

نابل

في البحر، ويرسى بهما عند انغلاق (¬223) الرياح، فجميع ما بين نوبة واقليبية ثلاثون ميلا. ومن طرف اقليبية إلى المنستير مجرى (مائتان وخمسون ميلا) (¬224). فمن اقليبية إلى قصر أبي مرزوق (¬225) سبعة أميال، ومنه إلى قصر لبنة ثمانية أميال. ومن لبنة إلى قصر سعد، أربعة أميال. ومن قصر سعد إلى قصر قرية ثمانية / أميال إلى طرف توسيهان عشرة أميال، وطرف توسيهان يدخل في البحر ميلا ونصفه، وهو كالضرس الخارج. ومن هذا الضرس (¬226) الخارج إلى قصر توسيهان في الجون أربعة أميال. نابل: ومن توسيهان إلى قصر نابل ثمانية أميال، وكانت نابل مدينة للروم، كبيرة جدا عامرة، فلما فتحت الجزيرة في صدر الإسلام استبيحت جميع محاسنها حتى لم يبق لها رسم ولا أثر إلا مكان قصر فقط، وبقيت بقايا خرابها دالّة عليها (¬227). الطريق الساحلي من نابل إلى سوسة: ومن قصر نابل إلى قصر الخيّاط ثمانية أميال، وبينه وبين البحر نحو من ميلين. ومن قصر الخيّاط إلى قصر النخيل ستة أميال، ثم إلى طرف الحمّامات سبعة أميال، وهذا الطرف المسمّى طرف الحمّامات هو قصر مشيّد على طرف يدخل (¬228) في البحر نحوا من ميل. ومن الحمّامات إلى المنار وهو قصر خمسة أميال، وهذا القصر على بعد من البحر. ومنه إلى قصر المرصد إلى قصر المرابطين ستة أميال، وهذا القصر في قاع جون المدفون. ومنه إلى طرف قرطيل المدفون ستة أميال، ومن لقرطيل المذكور إلى حصن أهرقلية ثمانية أميال. ¬

(¬223) كذا في ش وط، وفي ت: «انفلاق» وفي ن. م. «انقلاب». (¬224) اضافة من المؤلف عما هو موجود في ن. م. (¬225) في الأصول: «أبي منصور» والمثبت من ن. م. ص: 125. (¬226) في الأصول: «القصر» والمثبت من ن. م. ص: 125. (¬227) بعدها حذف المؤلف ما يتعلق بقصر الخيّاط والحمامات، انظر ن. م. ص: 124. (¬228) كذا في ت وط ون. م.، وفي ش: «يخرج».

سوسة

سوسة: ومن أهرقلية إلى مدينة سوسة ثمانية عشر ميلا، وهي مدينة عامرة كثيرة المتاجر، والمسافرون إليها قاصدون وعنها صادرون، ويعمل بها من أنواع الثّياب المنسوبة إليها / ما يعدم نظيره، وبها أسواق عامرة ومياههم من المواجل، وعليها سور من حجر حصين (وشجر الزيتون محيط بها من جميع جهاتها إلا ما أحاط به البحر، فأكثر غلاّتها الزّيتون وما يعتصر من زيته، وفواكهها كثيرة من بساتينها ومن قراها المحيطة بها، وبها من الحنطة والشّعير كثير منها، وممّا يجلب إليها من غيرها، وأهلها مياسير متشبهون بأهل تونس (¬229) في الزيّ والوضع، وهي في سند ربوة من الأرض مواجهة للبحر من جهة المشرق، ووضعت كذلك طلبا لنسيم البحر (¬230) ليصلح هواؤها ويذهب فساده، ولا تبقى بها مياه الأمطار ولا مستنقعات الطّرقات، فبذلك خفّت على النفس، وجلبت النشاط، وبها من أهل الخير والصّلاح بقية خاملون، كما هو شأن غالب هذا الزّمان لغلبة الفساد وأهله، وقلة الصلاح وأهله، لأن الأرض قد ملئت جورا، والله المستعان) (¬231). الطريق الساحلي من سوسة إلى صفاقس: ومن سوسة إلى قصر شقانس ثمانية أميال. [ومن شقانس إلى قصر ابن الجعد أربعة أميال] (¬232). ومنه إلى قصر (¬233) المنستير ميلان. ويقابل المنستير في البحر جزيرة قورية، ومنها إلى المنستير تسعة أميال. ومن هذه الجزيرة إلى لمطة عشرة أميال، ومنها إلى الدّيماس اثنا عشر ميلا، ومنه (¬234) إلى المهديّة ثلاثون ميلا. ومن المنستير إلى قصر لمطة سبعة أميال. ومن قصر لمطة إلى الدّيماس ثمانية أميال. ¬

(¬229) ساقطة من ت. (¬230) كذا في ش وت، وفي ط: «الريح». (¬231) ما بين القوسين اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬232) اضافة من نزهة المشتاق يقتضيها السياق. (¬233) في ن. م.: «قصور». (¬234) أي المنستير.

ومن الديماس إلى المهدية / (عشرون ميلا) (¬235)، والمهدية مما أحاط به البحر، فمنها يبتدئ التجوين في جهة جنوبها. فمن المهدية إلى قصر سلّقطة ستة أميال، ومنه إلى قصر العالية ستة أميال، إلى قبّودية (¬236) ثلاثة عشر ميلا. وقبوديّة قصر حسن، ويصاد به من الحوت كل طريفة، وهو بها كثير. ومن قبوديّة إلى قصر مليان (ثمانية أميال. ومن قصر مليان) (¬237) إلى قصر الرّيحانة أربعة أميال، إلى قصر قناطة أربعة أميال، (وكان) (¬238) يعمل بقصر قناطة فخّار كثير (¬239) ساذج (من الدهن) (¬240) ويتجهّز به إلى المهدية وغيرها وطينه أحمر [ثم] إلى قصر اللّوزة أربعة أميال، إلى قصر زياد ستة أميال. ومن قصر زياد إلى قصر مجدونس ثمانية أميال. ومن قصر مجدونس إلى قصر قاساس (ثمانية أميال. ومن قصر قاساس) (¬241) إلى قصر قزل ميلان، فمن قصر زياد إلى قصر (¬242) قزل ثمانية عشر ميلا. (وقصر قزل هو المسمّى بقصر عمار، اسم رجل كان يحرسه، واليوم صار مشهورا بسيدي منصور الغلام - نفعنا الله به - لأن ضريحه تحت القصر المذكور) (¬243). ومن قصر قزل إلى قصر جبلة ميلان، وهو في جون، ومنه إلى قصر (¬244) صفاقس في الجون خمسة أميال. فمن قبودية (¬245) إلى صفاقس ثمانية وأربعون ميلا تقويرا، وروسيّة ثلاثون ميلا. ¬

(¬235) في ن. م.: «ثمانية أميال» ص: 126. (¬236) رأس قبودية على ساحل مدينة الشابة بين المهدية وصفاقس. (¬237) كذا في ط وفي ن. م.، ساقطة من ش وت. (¬238) اضافة من المؤلف تضبط الفارق التاريخي لصناعة الفخار بقناطة. (¬239) في ت: «كبير». (¬240) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬241) ما بين القوسين ساقط من ت. (¬242) كذا في الأصول وفي بعض نسخ ن. م.، انظر هامش ن. م. ص: 126 وفي نصها المثبت «طرف». (¬243) اضافة من المؤلف عما هو بنزهة المشتاق. (¬244) كذا في الأصول، وفي بعض نسخ ن. م.، وفي نسخ أخرى من النزهة: «مدينة». انظر ن. م. ص: 126 وهامشها. (¬245) في ن. م.: «فمن قصر زياد. . .» والأصح ما ذكره مقديش.

جزيرة قرقنة

جزيرة قرقنة: ومقابلة قصر زياد في البحر من المشرق جزيرة قرقنة، وموضعها من قصر زياد وصفاقس (وسطا) (¬246)، وذلك لأن من قرقنة إلى قبودية (¬247) عشرون ميلا، ومن قرقنة إلى صفاقس نحو خمسة عشر ميلا، وهي جزيرة حسنة / عامرة بأهلها، (ولم يكن) (¬248) بها مدينة (وكان) (¬249) سكناهم في أخصاص (إلا أنها في هذه المدة اشتملت على قرى بكل قرية جماعة بنوا لهم ديارا، وسورها من الأعراب بحرها، ومن عدو الدّين (¬250) قصر بحرها (¬251)، على أنها غير مأمونة منهم، وهي كثيرة الأعناب والرطب والتين) (¬252) وفي (الطرف الغربي منها) (¬253) كهوف وغيران يتحصنون فيها ممن يريدهم من (النصارى) (¬254) وتسمّى القرمدي (¬255)، وهناك يتصل به بحر (¬256) قصير عشرون ميلا. ومن القرمدي إلى بيت القصير (¬257) خمسة وثلاثون ميلا، وطول هذه الجزيرة ستة ¬

(¬246) اضافة من المؤلف أتى بها وصفا لموضعها. (¬247) كذا في الأصول وفي بعض نسخ من ن. م.، وفي نزهة المشتاق طبعة ليدن «قصر زياد». انظر ص: 126 وهامشها. (¬248) في نزهة المشتاق: «وليس بها»، وتغيير المؤلف يسجل تغييرا تاريخيا. (¬249) اضافة من المؤلف اشارة للبعد التاريخي. (¬250) أي المسيحيون المتمثلون في النرمان، والاسبان، وفرسان مالطا، الذين تعرضوا للأرخبيل القرقني بالغزو عديد المرات. (¬251) جزر قرقنة كصفاقس لها حصانة طبيعية في قصر بحرها فلذلك لا تتمكن سفن العدو من الاقتراب من شواطئها. (¬252) اضافة من المؤلف عما في نزهة المشتاق تسجل حالة قرقنة في عصره. (¬253) في الأصول: «وفي جهة المشرق» والمثبت من ن. م. وهو الصحيح ص: 127، والقرمدي جزيرة مقابلة لقرية العطايا بالشرقي، وبها صهاريج رومانية هي ولا شك التي نعتها المؤلف بالكهوف والغيران، راجع أندري لويس (A. Louis) جزر قرقنة (Les Iles Kerkena) تونس، 1861، 1/ 4 - 8. (¬254) اضافة من المؤلف عما في ن. م. (¬255) في نزهة المشتاق: «القربدي» وفي هامشها الفرندي، والصحيح ما ذكره مقديش وهي جزيرة صغيرة من جزر قرقنة، وتعرف بالقرمدي إلى اليوم، والنون والميم كثيرا ما يتعاقبان في اللهجة الدارجة لتقارب مخرجيهما. (¬256) في نزهة المشتاق: «حجر» والصحيح ما أثبته المؤلف. (¬257) قال عنه البكري: «على رأس القصير بيت مشرف مبني بينه وبين البر الكبير نحو أربعين ميلا فاذا رأى قلب البيت أصحاب السفن الواردة من الاسكندرية والشام وبرقة أداروها إلى مواضع معلومة» المصدر السابق ص: 20.

الطريق الساحلي من صفاقس إلى جربة

عشر ميلا، وعرضها ستة أميال (وهي منقسمة على جزيرتين: كبراهما الشرقية (¬258) وصغراهما الغربية (¬259)، ويمكن المشي بين الجزيرتين على الأرجل في وسط الماء وقت الجزر (¬260)، وتمشي دواب هذه إلى هذه والعكس، وليس لهم في جزيرتهم سوق وانما سوقهم صفاقس، ومعائشهم من البحر، وبها اسفنج (¬261) الماء الذي لا يوجد بغيرها، وبها جميع أنواع السّمك وخصوصا القرنيط (¬262)، ومن اصطياده تتيسر أحوالهم في الشّدة، ومنها يتجّهز به إلى الآفاق (¬263)، وخصوصا القرنيط، فإنه يحمل منه إلى جزر القريق (¬264) مراكب، يأكلونه (¬265) أيام صيامهم لأنهم يزعمون أن الصّيام إنما هو عن أكل الحيوان الذي له دم، وهذا القرنيط لا دم له ولا شوك فيأكلونه عوضا عن اللحم، وبقية أنواع السمك التي يزعمون تحريمها عليهم وكذا الأنعام / إنما حرموها بأنفسهم افتراء على الله، قد ضلوا وما كانوا مهتدين) (¬266). الطريق الساحلي من صفاقس إلى جربة: ومن صفاقس إلى حدّ (¬267) الرملة أربعة أميال. ومن طرف الرملة راجعا في جهة الجنوب وهو أول الجون إلى قصور (¬268) المجوس (وهو الكبلة) (¬269) أربعة أميال. ومنها إلى قصر ينقة (¬270) (وهو المسعودة) (¬271) عشرة أميال. ¬

(¬258) تسمى الآن «الشرقي». (¬259) تسمى الآن «الغربي». (¬260) بين الجزيرتين قنطرة من مخلفات الرومان. (¬261) في ت: «السميخ»، وفي ش وط: «اسميح». (¬262) هو الأخطبوط، ويكثر على سواحل جزر قرقنة. (¬263) بعد تجفيفه وربطه. (¬264) في ش: «رقريق» وفي ط: «جزيرة رقريق». والقريق تحريف للكلمة الأجنبية Grec وتنطق بقاف معقودة كالجيم المصرية، والمراد بها أهل اليونان. (¬265) أي اليونانيون. (¬266) ما بين القوسين اضافة من المؤلف، وعن جزر قرقنة أسقط المؤلف من نزهة المشتاق ما يتعلق ببعض غلاتها، وفتحها من طرف النرماني رجار. راجع ن. م. ص: 127. (¬267) في نزهة المشتاق: «طرف». (¬268) كذا في الأصول، وفي ن. م. وفي بعض نسخ من النزهة: «قصر» انظر نزهة المشتاق وهامشها ص: 127. (¬269) إضافة تفسيرية من المؤلف عما في ن. م. (¬270) في الأصول: «بيعة» وفي نزهة المشتاق: «بنقة»، والصحيح: «ينقة» كما كتبها المؤلف فيما بعد (بضم الياء بنقطتين من أسفل وسكون النون وفتح القاف المعقودة كالجيم المصرية، وينقة حصن بيزنطي في غربي صفاقس على ساحل البحر على مقربة من ضريح ابن خارجة عنبسة بن خارجة الغافقي. (¬271) إضافة تفسيرية من المؤلف عما في ن. م.

جربة

ومن قصر ينقة إلى قصر تليدة (¬272) ثمانية أميال. ومنه إلى قصور (¬273) الرّوم أربعة أميال، (وقصر تليدة هو طرف الكنائس (¬274) وهناك وادي (¬275) المالطين) (¬276). ومن قصور (¬277) الروم إلى قابس أربعة (¬278) وسبعون ميلا (فالجملة من صفاقس إلى قابس مائة تقويرا، ومن صفاقس لقابس روسية سبعون ميلا - حسبما تقدّم - وقد سمّيت جزيرة الكنائس جزيرة بصيلة) (¬279). ومن قابس إلى قصر ابن عيشون ثمانية أميال، إلى قصر زجونة ثمانية أميال. [ومن قصر زجونة إلى قصر] (¬280) بني مأمون عشرون ميلا. [ومن قصر بني مأمون] (¬281) إلى أمرود أحد عشر ميلا، [ومنه] (¬282) إلى قصر الجرّف ثمانية عشر ميلا. جربة: ومن طرف الجرف إلى جزيرة جربة في البحر أربعة أميال، وهي جزيرة عامرة بقبائل من البربر، وكلامهم (¬283) بالبربرية أكثر، وكان طولها من المشرق إلى المغرب ستين ميلا، وعرض الرّأس الشّرقي خمسة عشر ميلا. ومن هذا الطرف إلى البر الكبير عشرون ميلا، وهذا الرأس (¬284) الضيق يسمّى ¬

(¬272) في نزهة المشتاق: «تنيذة»، ويبدو أن المؤلف عارف لهذه الأماكن الموجودة بجهة مدينته فرسمه هو الصحيح. وبعدها نجد في الأصول: «وهي يونقة» أسقطناها عمدا ليستقيم المعنى. (¬273) في بعض نسخ نزهة المشتاق: «قصر» انظر هامش ن. م. ص: 127. (¬274) يقصد جزر الكنائس التي في عرض البحر، غربي ينقة، وسميت هكذا لوجود بقايا معابد مسيحية من العصر الروماني. (¬275) في ت: «واد». (¬276) ما بين القوسين اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬277) في الأصول: «واد» والمثبت من ن. م.، وأيضا طبقا لنص المؤلف فيما سبق. (¬278) في نزهة المشتاق: «خمسة» ص: 127. (¬279) ما بين القوسين اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬280) اضافة من ن. م. رفعا للالتباس. (¬281) اضافة من ن. م. رفعا للالتباس. (¬282) اضافة من ن. م. رفعا للالتباس. (¬283) حذف المؤلف خاصة ما فيه قدح لأهل جربة وتاريخ افتتاح الملك النرماني رجار لها. (¬284) في ن. م.: «الرأس» ص: 128.

رأس كرين، ويسمّى الطرف الواسع أنتيجان، ويتصل بهذه الجزيرة في جهة الشرق جزيرة زيزو (¬285) وهي صغيرة نحو من ميل، ويقابلها قصر بني خطّاب (¬286)، وغالب أهلها وهبية / (وقد فشا فيها مذهب الإمام مالك - رضي الله تعالى عنه - ونزر قليل من مذهب أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - من حين دخلت العساكر العثمانية، وحكي في «نزهة المشتاق» و «رحلة التجاني» عن أوائل هذه الجزيرة أمورا لا تليق يتنزهون اليوم عن أكثرها، فقد استصلحوا - والحمد لله - عن تلك الرذائل وربنا يوفقنا وإيّاهم وعامّة المسلمين لما فيه سعادة الدنيا والدين (¬287) ففيهم حسن عهد وكرم نفس وضيافة، ويسالمون النّاس ما سالموهم في أموالهم ولا يخونون، ولهم صبر زائد على الاغتراب في الأوطان، فكثرت بذلك أموالهم، فهم أيسر الناس (¬288)، ولهم رفق زائد في معائشهم فيصبرون على الشدّة أكثر من غيرهم، ويعمل بهذه الجزيرة من أصناف ثياب الصوف الساذج، والممزوج بالحرير كل مفتخر يعم آفاق الدنيا وأقطارها، وإليها تجلب قناطير الأموال، فتحمل طيالسهم وأكسيتهم وأحزمتهم وبرانسهم لجميع الأراضي. وبها من جميع أنواع الثمار ما لا يوجد في غيرها وتستمرّ ثمارها على حول السّنة، وتبقى ثمارها في أشجارها إلى إنتهاء نضجها لقوة الأمن بها وقلة الخيانة. وخيل أهلها البغال، فهي بها أكثر من غيرها، وبها الحمر الفارهة التي لا توجد في غيرها وتحمل منها إلى غيرها من البلاد، وبها من الزّيتون وزيته ما يعمّ الآفاق. وبالجملة فهي من غزر / الجزر وربنا يحميها وسائر بلاد الإسلام من عدو الدين. ويعمل بها من أنواع الفخّار ساذجا ومطليا كل غريب يعم الآفاق، وخصوصا أوعية الزّيت والماء (¬289) وسيأتي لنا - إن شاء الله تعالى - التنبيه على ما وقع لها من عدو الدين. وهي الآن - والحمد لله - في حماية الله ورسوله، منذ دخلت ¬

(¬285) في ت: «رمزو»، وفي ط: «ريزو»، وفي ش: «ريزوا» والمثبت من ن. م. (¬286) في الأصول: «خطار» طبقا لبعض نسخ ن. م. واخترنا «خطاب» طبقا لطبعة ليدن لأن المؤلف كتبها كذلك في نصه فيما بعد. (¬287) بعدها في ت: «آمين». (¬288) تيسرت أحوال جربة كثيرا خلال القرن الثامن عشر بفضل أعمالها الصناعية والتجارية، وخاصة التجارة الشرقية مع مصر و «بلاد الترك» كما تذكر الوثائق وخاصة منها اسلامبول، وازمير وكذلك مع جزر اليونان. (¬289) على الخزف في جربة راجع لويس كومباس (J. L. Combes) وأندري لويس (A. Louis) الخزافون بجربة، (Les potiers Jerba) تونس 1967.

الطريق الساحلي من جربة إلى لبدة

العساكر العثمانية (¬290)، ربّنا يمدّهم بالنصر ويعينهم على أعداء الدين (¬291) ويجعلهم نكاية عليهم إلى يوم الدّين. وأهل هذه الجزيرة يستنبتون جميع الحبوب والبقول حتى أن جميع الناس يحتاجون إليهم في البذر (¬292) كلها، وهم لا يحتاجون إليهم فيها. وأكثر زروعهم على السّقي من الآبار، وشربهم من المواجل) (¬293). الطريق الساحلي من جربة إلى لبدة: ومن طرف هذه الجزيرة المسمّى أنتيجان (¬294) إلى قصير البيت (من جهة قرقنة) (¬295) تسعون ميلا. وكذلك من طرف أنتيجان إلى القنطرة التي بقرقنة اثنان وستون ميلا. ومن طرف الجرف المتقدم إلى رأس الأودية على الساحل أربعة وعشرون ميلا. ومنها إلى قصور الزارات [عشرون ميلا. ومن قصور الزارات] (¬296) إلى قصر بني ذكومين خمسة وعشرون ميلا. ومن بني ذكومين إلى قصر الهواء (¬297) ستة أميال. ومنه إلى قصر جرجيس ستة أميال. ¬

(¬290) لقد كانت جربة أثناء التنافس الاسباني العثماني هدفا استراتيجيا سعى إليه الطرفان المتنازعان، استولى درغوث باشا علي جربة في سنة 1556 وفي سنة 1560 لم تفلح الحملة الاسبانية لاحتلال جربة، وبقيت جربة تابعة للحكم العثماني بطرابلس إلى أن ألحقت نهائيا بتونس بعد أن وقع احتلالها من طرف العثمانيين في سنة 1574. راجع أتوري روسي، ليبيا منذ الفتح العربي، ص: 184 وما بعدها. وشارل فيرو (ch. fereaud) الحوليات الطرابلسية (Les annales Tripolitaines) ص: 70، وبرودال (Braudel La Mediterranee et le Monde mediterraneen, Paris 1967). (¬291) بعدها في ت: «آمين». (¬292) في ط: «البذور». (¬293) ما بين القوسين اضافة عما هو موجود بنزهة المشتاق وتكلم المؤلف على جربة باعجاب واطناب وما قاله ينطبق عنها خلال القرن الثامن عشر ومعرفته لها جيدة اذ أقام بها مدة، كان يتعلم فيها بالزاوية الجمنية التي كانت تتكفل بالانفاق على الطلبة المقيمين بها من ريع أوقافها ومن تبرعات أهل الفضل والاحسان، فهو من هذه الناحية مدين لأهل جربة. راجع محمد محفوظ: تراجم المؤلفين التونسيين، دار الغرب الإسلامي 1985، 4/ 356. (¬294) في ش وط: «أيتجان»، وفي ت: «أتيجان» والمثبت من ن. م. (¬295) اضافة من المؤلف. (¬296) اضافة من نزهة المشتاق للضبط. (¬297) كذا في الأصول وفي بعض نسخ من نزهة المشتاق وفي النزهة طبعة ليدن: «هري» انظر ص: 128 وهامشها.

ومنه إلى قصر بني خطّاب خمسة وعشرون ميلا، وقصر بني خطّاب هو على آخر سباخ الكلاب من جهة المغرب، ويقابل قصر بني خطاب في البحر اسقالة جزيرة زيزو، وطولها أربعون ميلا، وعرضها [نحو] (¬298) نصف ميل، وبعضها معمور به نخل وكروم وباقيها تحت الماء، والماء يشف على وجهها / نحو قامة أو أقرب من ذلك. ومن قصر بني خطّاب إلى قصر شمّاخ خمسة وعشرون ميلا، وبينهما جون صغير يسمّى جون صلب الحمار. ومن قصر شماخ إلى قصر صالح عشرة أميال، وقصر صالح على قرطيل يأخذ من المشرق إلى المغرب طوله خمسة أميال، ويسمّى رأس المخبز. ومنه إلى قصر كوطين عشرون ميلا. ومن قصر كوطين إلى قصر بني ولول عشرون ميلا. ومنه إلى مرسى مركيا عشرون ميلا. ومن قصر مركيا إلى قصر عسقلات (299) عشرون ميلا. ومن قصر عسقلات (¬299) إلى قصر سرية (¬300) أربعة أميال، ومنه إلى قصر سنان ميلان ومنه إلى قصر البنداري (¬301) ثلاثة أميال. [ثم] إلى قصر غرغرة عشرة أميال. ومنه إلى قصر صيّاد ستة أميال، ثم إلى مدينة طرابلس عشرون ميلا. ومن مدينة طرابلس إلى قصر على رأس قاليوشا أربعة عشر ميلا، ومنه إلى قصر الكتاب ثمانية أميال، ومنه إلى قصر بني غسّان اثنا عشر ميلا، إلى مصب وادي لادس ثمانية عشر ميلا، ومنه إلى طرف رأس الشعراء أربعة عشر ميلا. فمن رأس قاليوشا إلى رأس الشعراء روسيّة أربعون ميلا، وعلى التّقوير اثنان وخمسون ميلا. ومن رأس الشعراء إلى قصر شريكس أربعة عشر ميلا، إلى قرطيل المسن، وهو طرف داخل في البحر، أربعة أميال، ومنه إلى لبدة أربعة أميال. ¬

(¬298) تدقيق من ن. م. (¬299) كذا في الأصول، وفي بعض نسخ ن. م. وفي غيرها: «عسفلات وعفسلات»، ص: 129. (¬300) في الأصول: «سوبة» والمثبت من ن. م. (¬301) في الأصول: «البندار» والمثبت من ن. م. ص: 129.

لبدة

لبدة: وكانت مدينة لبدة كثيرة العمارة مشتملة على الخيرات، وهي على بعد من البحر، فتسلّط بدو الأعراب عليها وعلى أرضها فغيّرت ما كان بها من النعم، وأجلت أهلها إلى غيرها / فلم يبق منها (إلاّ) (¬302) قصران كبيران، وعمارهما قوم من هوارة البربر، ولها على نحر البحر قصر كبير عامر (¬303) آهل (¬304) به صناعات وسوق عامرة، وفي لبدة نخل كثير، وزيتون. الطريق الساحلي من لبدة إلى الإسكندرية: ومن لبدة إلى قصر بني حسن سبعة عشر ميلا، ومنه إلى قصر باكرو (¬305) ميل واحد وهو مرسى حسن يكنّ من كل الرّياح، ومنه إلى قصر هاشم إلى قصر سامية اثنا عشر ميلا. ومن قصر سامية إلى سويقة ابن مثكود (¬306) اثنا عشر ميلا. ومن السويقة إلى طرف قانان المشهور عشرون ميلا. فمن طرابلس إلى طرف قانان روسية مائة وثمانون ميلا، وعلى التقوير مائتان وعشرة أميال. والسويقة تنسب إلى ابن مثكود، ويسكنها وما حواليها قبائل من هوارة البرابر (¬307) وبها سوق (¬308) مشهورة مشهودة، وهي قصور كثيرة وأهلها يحرثون الشعير (¬309) والعرب يخزنون بها طعامهم. (وبقية هذه المراسي إلى الاسكندرية على أن نبتدئ من الاسكندرية إلى ما وقفنا عليه) (¬310) أن نقول (¬311): فمن الاسكندرية إلى مرسى الكنائس ثلاث مجار. ¬

(¬302) ساقطة من ش. (¬303) كذا في ن. م. ساقطة من ش. (¬304) بعدها في ت وش: «بأهله» أسقطناها طبقا لبقية الأصول ون. م. وللتخفيف ص: 130. (¬305) في الأصول: «باكور» والمثبت من ن. م. ص: 130. (¬306) في الأصول: «بني مذكور» والمثبت من ن. م. ص: 130. وفي بعض نسخ نزهة المشتاق «منكود ومكثود» انظر هامش ص: 130. (¬307) في ط: «برابر»، وفي ن. م.: «برابر تحت طاعة العرب». (¬308) في ت: «أسواق». (¬309) بعدها في ن. م.: «على السقي» ص: 130. (¬310) هنا يرجع المؤلف إلى حيث خالف الادريسي في ترتيبه ليواصل نقله من نزهة المشتاق فيما يتعلق بسواحل الإسكندرية الموجود في الجزء الرابع من الإقليم الثالث من ترتيب الإدريسي، أنظر ص: 137 وما قبلها. (¬311) يقول المؤلف نقلا عن الادريسي بتصرف، ص: 137.

الإسكندرية

ومن مرسى الكنائس إلى مرسى الطرفاوي [مجرى. ومن مرسى الطرفاوي] (¬312) إلى أول جون رمادة خمسون ميلا. ومن عقبة السلم إلى مرسى عمارة عشرة أميال. ومن مرسى عمارة إلى الملاحة ثلاثون ميلا. ومن الملاحة إلى لكّة عشرة أميال، وممّا يلي لكّة في البرية قصران يسمّى أحدهما كيب والثاني قمار. ومن لكّة إلى مرسى طرقة (¬313) خمسون ميلا. ومن طرقة إلى مرسى رأس تيني (¬314) مجرى (¬315) ونصف. ومن رأس تيني / إلى البندرية مجريان. ومن البندرية ينعطف البحر مارّا في جهة المغرب على استواء إلى طرف (¬316) التعدية مجريان لا عمارة بها (¬317)، ومن طرف التعدية يأخذ جون زديق في الإبتداء إلى آخره، وهذا الجون الذي أوله البندرية إلى أن ينتهي إلى اسكندرية قطعه روسية ستة مجار، وهو ستمائة ميل. وطول هذا الجون إلى الإسكندرية على التقوير احد عشر مجرى ونصف، وهي من الأميال ألف ومائة وخمسون ميلا. الإسكندرية: (وأما الاسكندرية فهي آخر مدن المغرب) (¬318) «وهي على ضفة البحر وبها الآثار العجيبة والرسوم الهائلة التي تشهد لبانيها بالملك والقدرة والحكمة (وكانت) (¬319) حصينة ¬

(¬312) ساقطة من الأصول. والاضافة من ن. م. ص: 137. (¬313) في ن. م. طبعة ليدن: «طبرقة» وفي نسخ أخرى «طبرونة» انظر ص: 137 وهامشها ومن المستبعد أن تكون طبرقة الموجودة في الشمال التونسي. (¬314) في ط: «يثني»، وفي ش: «لشيني»، وفي ت: «شيني» والمثبت من ن. م. ص: 137. (¬315) في الأصول: «ميل» والمثبت من ن. م. (¬316) في الأصول: «رأس» والمثبت من ن. م. (¬317) كذا في الأصول وبعض نسخ ن. م. وفي غيرها: «بهما». أنظر ص: 137 وهامشها. (¬318) اضافة من المؤلف قصد بها الدقة، والاسكندرية في رأيه الحدّ بين المغرب والمشرق. (¬319) في ن. م.: «وهي» وتغيير المؤلف يشير إلى ما حصل بالإسكندرية من تغيير.

الأسوار، عامرة الديار» (¬320). ذكر الطبري (¬321) في «تاريخه» أن عمرو بن العاص لما افتتحها أرسل إلى عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنهما - يقول: قد افتتحت لك مدينة عظيمة فيها اثنا عشر ألف حانوت يبيع البقل (¬322) (¬323). وبهذه المدينة (¬324) المسلّتان وهما حجران مربعان، وأعلاهما ضيّق حاد، طول كل واحد منهما خمس قامات (¬325)، وعرض قواعدها في كل واحد من وجوهها عشرة أشبار. ومحيط كل الجهات الأربع أربعون شبرا، وعليهما كتابات بالخط السرياني. وحكى أنهما منحوتتان من جبل بريم (¬326) في غربي بلاد مصر، وعليها مكتوب أنا يعمر بن شدّاد، بنيت هذه المدينة حين لا هرم فاش ولا موت / ذريع، ولا شيب ظاهر، وإذا الحجارة كالطين وإذا الناس لا يعرفون لهم ربّا. فأقمت اسطواناتها، وفجّرت أنهارها وغرست أشجارها، وأردت أن أطول على الملوك بما أجعله فيها من الآثار المعجزة، فأرسلت الثبوت بن مرة العادي، ومقدام بن القمر (¬327) بن أبي رغال الثمودي إلى جبل بريم (326) الأحمر، فاقتطعا منه حجرين وحملاهما على أعناقهما، فانكسرت ضلع الثبوت، فوددت أن أهل مملكتي كانوا فداء له، وأقامهما لي الفطن بن جارود المؤتفكي في يوم السعادة. وهذه المسلة الواحدة في ركن البلد من الجهة الشرقية، والثانية منهما في بعض المدينة، وقيل إن المجلس الذي بجنوبي الإسكندرية المنسوب الى سليمان بن داود - عليهما السلام - أن يعمر بن شدّاد بناه، وقيل إن بانيه سليمان بن داود - عليهما السلام - واسطواناته وعضادتاه (قد ذهبت في هذه الأعصار المتأخرة) (¬328). ¬

(¬320) ما بين الظفرين نقله عن خريدة العجائب بتصرف ص: 24. (¬321) أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (224 - 310/ 838 - 922)، أملى اسمه على التاريخ وكتابه المعروف بتاريخ الطبري يشمل تاريخ الرسل والملوك. (¬322) لم نعثر على هذا الخبر في تاريخ الطبري، ولعل المؤلف نقله بالمعنى من الفصل المخصص لفتح مصر والإسكندرية، راجع تاريخ الطبري تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار سويدان، بيروت، 4/ 104. (¬323) لم يذكره الادريسي، وذكره ابن الوردي في خريدة العجائب ص: 24. (¬324) أي الاسكندرية. يرجع للنقل من ن. م. بتصرف وحذف فقرات تتعلق بالاسكندرية ص: 140. (¬325) في ت: «خمسون قامات» وفي ن. م: «قيم» عوض قامات. (¬326) في الأصول وفي بعض نسخ ن. م: «تريم» وفي نسخ أخرى: «بديم» والمثبت من خريدة العجائب ص: 24. (¬327) في الأصول: «بن عمر». والاصلاح من ن. م. وخريدة العجائب. (¬328) ما بين القوسين اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق وخريدة العجائب.

وصفته على ما حكى صاحب خريدة العجائب أنه مجلس مربع الطول (¬329) في كل رأس منه ستة عشر سارية، وفي الجانبين المتطاولين سبع وستّون سارية، وفي الركن الشمالي منه اسطوانة عظيمة ورأسها عليها، وفي أسفلها قاعدة رخام في محيط تربيع ودورها ثمانون شبرا (¬330) وطولها من القاعدة إلى رأسها تسع قامات (¬331)، والرأس محرم / بأحكم صنعة وأتقن وضع، ولا أخت لها ولا يعلم أحد من أهل الإسكندرية، ولا من أهل مصر، ما المراد بوضعها مفردة في مكانها، وهي الآن مائلة ميلا كثيرا، لكنها ثابة آمنة من السقوط أهـ‍ (¬332). (قلت: ولقد وقفت عليها سنة احدى ومائتين وألف فلم يبق لهذا المجلس أثر، وأن هذه الإسطوانة المفردة باقية، احتفر تحتها أصحاب الطّمع رجاء أن يجدوا تحتها بعض الكنوز، فلما لم يجدوا شيئا ردموا ما احتفروه، ولقد رأيت بأعلى الاسطوانة عودا منصوبا فيه قدر ذراع من قماش على صورة الرّاية، ولم نكن نعهده قبل ذلك من السنين، فسألت عنه فأخبرت أن بعض تجّار الإفرنج كان له مركبا مشحون (¬333) فاجتمع مع بعض تجارهم، وجرى بينهما اختلاف (¬334) في أنه هل يمكن الوصول إلى أعلى هذه الأسطوانة. فقال صاحب المركب المشحون (333) لا يمكن. فقال الآخر: يمكن. فقال له: إن طلعت إلى أعلاه، فلك مركبي بما فيه فأحضر جماعة، وأشهد عليه وذهبوا، فأخذ نشابا وربط به خيطا طويلا بحيث يصل إلى أعلى الأسطوانة، وينزل حتى يصل إلى الأرض، ومسك طرفه عنده ورمى به فوقع من الجهة الثانية، فربط بطرف الخيط حبلا وثيقا وجذب الخيط حتى وصل الحبل، فربطه بالأرض ربطا محكما من الجهتين، وطلع معه حتى / وصل، فوضع تلك الرّاية (¬335) وأخذ المركب، فمات صاحب المركب أسفا. واليوم لم يبق بهذه المدينة إلا القليل، ولم يبق من الأشجار خارجها شيء، لم يبق إلا شيء قليل من شجر الكبر، بعد ما كانت في سالف (الأعصار) (¬336) نزهة للناظرين (¬337)، عامرة ¬

(¬329) كلمة لا توجد بالخريدة وتوجد بنزهة المشتاق. (¬330) بعدها أسقط المؤلف جملا تتعلق بالأقيسة، وفي خريدة العجائب نجد: «قاعدة من الرخام جرمها»، ونفهم من هنا أن المؤلف ينقل عن الادريسي لا عن خريدة العجائب. (¬331) كذا في خريدة العجائب وفي الأصول، وفي ن. م.: «قيم»، والقامات ج قامة هو المناسب. (¬332) انتهى نقله من ن. م. (¬333) في الأصول: «مشحونة». (¬334) في ت: «خلاف». (¬335) في ت: «الراية هناك». (¬336) ما بين القوسين اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬337) يربط مع خريدة العجائب وينقل منها ص: 25.

الدّيار، كثيرة الأشجار، غزيرة الثمار، وبها يعمل من الثياب الفاخرة كل عجيب، ومن الأعمال الباهرة كل غريب، وليس في معمور الأرض مثلها، وهي إلى الآن مزدحم الرّجال ومحطّ الرحال، ومقصد التجّار، من سائر القفار والبحار، والنيل يدخل إليها من تحت أقبية إلى معمورها، ويدور بها وينقسم في دورها بصنعة عجيبة، وحكمة غريبة، يتصل بعضها ببعض أحسن اتصال، لأن عمارتها تشبه رقعة الشطرنج في المثال، واحدى عجائب الدنيا فيها، وهي المنار التي لم ير مثلها في الجهات والأقطار. وبين (¬338) المدينة (¬339) والمنار ميل واحد [في البحر] (¬340) وفي البر ثلاثة أميال، أحجارها من صميم الكذان، وقد أفرغ الرّصاص في أوصالها، فبعضها مرتبط ببعض (¬341) معقود لئلا (¬342) ينفكّ البناء، والبحر يصدم أحجارها من الجهة الشمالية. وارتفاع هذه المنارة ثلاثمائة ذراع بالرّشاشى (¬343) وهو ثلاثة أشبار وذلك أن طولها مائة قامة، وستة وتسعون قامة إلى القبّة التي بأعلاها، وطول القبّة أربع قامات. ومن الأرض إلى الحزام الأوسط / سبعون قامة، ويصعد إلى أعلاها من درج عريض في وسطها كالعادة في أدراج الصوامع، وينتهي الدرج الأول إلى نصفها، ثم ينقبض البناء في نصفها من الأربعة أوجه. وفي جوف هذا البناء وتحت أدراجه بيوت مبنية. ومن هذا الحزام الأوسط يطلع بناؤها إلى أعلاها، مقبوضا على مقدار البناء الأسفل بمقدار ما يستدير به الانسان من كل ناحية. ويصعد أيضا إلى أعلاها من هذا الحزام في أدراج أقل أقبية من الأدراج السّفلى، وفيه زراقات وأضواء في كل وجه منها، يدخل الضوء عليها من خارج إلى داخل بحيث يبصر الصاعد فيها حيث يضع قدميه حتى يصعد، والمنفعة فيها أنها علم توقد النار بها في وسطها، بالليل والنهار، في أوقات سفر المراكب، فيرى أهل المراكب تلك النار، فيعملون عليها وترى من بعد مجرى، لأنها تظهر بالليل كالنجم وبالنهار يرى منها دخان، وذلك أن الاسكندرية في آخر الجون متّصلة بها أوطية وصحار متصلة (¬344)، لا جبل بها ولا علامة يستدل بها (¬345) عليها. ولولا تلك النار لضلت أكثر ¬

(¬338) يرجع للنقل من ن. م. ص: 139. (¬339) كذا في ن. م. وفي خريدة العجائب: «وبين المنار والنيل» ص: 25. (¬340) اضافة من ن. م. للدقة. (¬341) في ت «وبعضها». (¬342) في الأصول: «لا» والاصلاح من عندنا. (¬343) في الأصول: «الرشراشي» والمثبت من ن. م. ص: 139 ومن معجم دوزي. وفي خريدة العجائب: «بالرشاشي لا بالساعدي». (Dozy : Supplement aux dictionnaires urabes, 1/ 529) . (¬344) ساقطة من ش. (¬345) ساقطة من ط.

المراكب عن القصد إليها، وهذه النار تسمّى فانوسا (¬346). ويقال (¬347) إنه كان في أعلاها مرآة ترى فيها المراكب من مسيرة شهر، وكان بالمرآة أعمال وحركات تحرق المراكب في البحر إذا كان عدوا بقوة (¬348) شعاعها، فارسل صاحب الروم يخدع صاحب / مصر ويقول له إن الاسكندر قد كنز بأعلى المنارة كنزا عظيما من الجواهر واليواقيت (¬349) والأحجار التي لا تقوم (¬350) خوفا عليها فإن صدقت فبادر إلى إخراجه، فإن شككت فأنا أرسل إليك مركبا موسوقا من ذهب وفضة وقماش وأمتعة لا تقوّم (¬351) ومكّني من استخراجه (¬352) ولك من الكنز ما تشاء، فانخدع لذلك، وظنّه حقّا (¬353)، فهدّم القبّة فلم يجد شيئا ممّا ذكر، وفسد طلسم المرآة. ونقل أنّ هذا المنار (¬354) كان في وسط المدينة، وأن المدينة [كانت] (¬355) سبع قصبات متوالية، وأنها أكلها البحر، ولم يبق منها إلا قصبة واحدة، وهي المدينة الآن، وصار المنار في البحر لغلبة البحر (¬356) على قصبة المنار. ويقال إن مساجدها حصرت في وقت من الأوقات فكانت عشرين ألف مسجد (¬357)، ويقال (¬358) أيضا المنار من بنيان الاسكندر (ذي القرنين) (¬359) عند بنيان الاسكندرية والله أعلم بصحة ذلك (¬360). ¬

(¬346) ينتهي نقل المؤلف من ن. م.، عن الإسكندرية أنظر النص الكامل في النزهة ص: 138 - 141. (¬347) يرجع للنقل من خريدة العجائب بتصرف. (¬348) في ت: بعدها «بقوة شغالة يحرق بشعاعها» والظاهر أنه تحريف من الناسخ. (¬349) في ت وط: «ياقوت». (¬350) في الأصول: «لا قيمة لها»، وأصلحناها ليستقيم المعنى وكذلك طبقا لمثيلتها فيما يلي من النص. (¬351) كذا في ش وط، وفي ت: «لا قيمة لها». (¬352) في ت: «اخراجه». (¬353) في ت: «وظن أنه حقا». (¬354) في خريدة العجائب: «منارة» ص: 124. (¬355) اضافة من خريدة العجائب يقتضيها السياق. (¬356) في خريدة العجائب: «الماء». (¬357) ينتهي النقل من خريدة العجائب المتعلق بالمنارة ص: 124. (¬358) رجع للنقل من ن. م. ص: 140. (¬359) ساقطة من ش وط. (¬360) بعدها في ط: «وأحكم».

الباب الرابع: في الكلام على جزيرة الأندلس

الباب الرابع: في الكلام على جزيرة (¬1) الأندلس (¬2) جغرافية الأندلس: وهي من المغرب الأوسط، قال ابن خلكان (¬3) في ترجمة ابراهيم بن خفاجة «والأندلس بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الدال المهملة وضم اللام، وبالسين المهملة، هي جزيرة متصلة بالبر الطويل، وهو متصل بالقسطنطينية العظمى، وإنما قيل للأندلس جزيرة لأن البحر محيط بها من جميع جهاتها، إلا الجهة الشمالية، وهي مثلّثة الشّكل فالركن الشرقي منها / متّصل بجبل يسلك منه إلى إفرنجة، ولولاه لأحاط البحر بها من جميع الجهات، وحكي أن أول من عمّرها بعد الطّوفان أندلس بن يافث بن نوح - عليه السلام -، فسمّيت باسمه» أهـ‍ (¬4) بالمعنى. فالرّأس (¬5) الشرقي يضيق حتى يكون بين البحر الشّامي والبحر المظلم المحيط خمسة أيام، والرّأس العريض في أقصى المغرب عرضه من نحو سبعة عشر يوما، وهو محصور بالبحر المظلم والبحر الشامي. اليونان ودورهم بالأندلس: وأول من أظهر شأن الأندلس اليونان (¬6). وهم الطّائفة المشهورة بالحكمة. وذلك أنهم كانوا يسكنون بلاد المشرق قبل عهد الاسكندر، فلما ظهر الفرس واستولت على البلاد، ¬

(¬1) كذا في ش وط، وفي ت: «جزائر». (¬2) هذا العنوان يدخل في باب الجزء الأول من الاقليم الرابع من ترتيب الادريسي في ن. م. ص: 165. (¬3) هو أبو العباس شمس الدّين أحمد بن أبي بكر بن خلكان (608 - 681/ 1211 - 1282) وكتابه المشار إليه هو «وفيات الأعيان، وأنباء أنباء الزمان». (¬4) وفيات الأعيان: دار الثقافة بيروت، 1/ 40. (¬5) يرجع للنقل من ن. م. ص: 165. (¬6) منذ الألف الثانية قبل ميلاد المسيح، أسس الفينيقيون ثم اليونان مستعمرات تجارية على سواحل اسبانيا المتوسطية وفي القرن الثالث قبل الميلاد، سيطرت قرطاج على القسم الشرقي منها ثم حل الرومان محل قرطاج في سنة 201 قبل الميلاد لكن سلطة الرومان لم تتركز من جراء المقاومة المحلية إلا في سنة 19 بعد الميلاد وبقيت السلطة في أيدي الرومان إلى أن حل محلهم الفيزيقوط (Visigoths) الذين استنجدت بهم روما لمقاومة الغزو الوندالي بإسبانيا، وهكذا فإن ما ذكره المؤلف فيما يلي من نصه نقلا عن غيره من المؤرخين العرب أن اليونان نزحوا إلى الأندلس تحت وطأة الاكتساح الفارسي هو محض خيال.

وزاحمت اليونان فيما كان بأيديهم من الممالك، انتقل اليونان إلى أرض الأندلس لكونها طرفا في آخر العمارة، ولم يكن لها ذكر يومئذ ولا ملكها أحد من الملوك، ولا كانت عامرة في الغاية إلا ما عمّره فيها أندلس بن يافث - كما تقدم -. وفي بعض التواريخ نقلا عن المسعودي (¬7) في «مروج الذهب» أن الناس تنازعوا في نسب اليونان، فذهبت طائفة إلى أنهم ينتمون إلى الرّوم، ويضافون إلى العيص بن إسحاق، وقالت طائفة إن يونان من أولاد يافث بن نوح - عليه السلام -، وذهب قوم (¬8) إلى أنهم جبل متقدم في الزمن الأول، ينتمون إلى جدّهم ابراهيم - عليه السلام -، لأن الديار كانت مشتركة، والمواطن كانت متساوية، وكان الروم قد شاركوا القوم / في السّجيّة والمذهب، فلذلك غلط من غلط في النسبة، وجعل الأب واحدا (¬9). وكانت اليونان من أعقل الناس، وجميع العلوم العقليّة مأخوذة عنهم، مثل العلوم المنطقيّة والطبيعيّة والإلاهية والرّياضية، وكانت خزائن ملوكهم بقبرس، فحملت إلى المأمون، فأمر بنقلها إلى العربية، فهي التي في أيدي الناس اليوم من العلوم المذكورة. والعالم بهذه العلوم يسمّى فيلسوفا أي (محب للحكمة) (¬10) وكانت ملوكهم من أعظم الملوك، حتى غلبت عليهم الروم، قيل كان (¬11) مسكنهم على الخليج القسطنطيني، من شرقيه وغربيه إلى البحر المحيط. وذكر المسعودي: أن يونان أخو قحطان، وأنه من ولد عابر أخي أرفخشد، وأنه انفصل عن ديار أخيه في جماعة من أهله وولده، فخرج من أرض اليمن، حتى وافى المغرب، فأقام هناك، ونسل في تلك الأماكن، واستعجم لسانه فنسي نسبه (¬12). وكانت عمارة الأرض بعد الطوفان على شكل طائر رأسه المشرق، ورجلاه الشمال والجنوب، وما بينهما بطنه، والمغرب ذنبه، فكانوا يزدرون المغرب لنسبته لإخراج الطائر. وكانت اليونان لا ترى فناء الأمم بالحروب لما فيه من الأضرار والاشتغال عن العلوم ¬

(¬7) أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي توفي في سنة 347/ 958. وكتابه في التاريخ هو «مروج الذهب ومعادن الجوهر» والنسخة المعتمدة طبعة مصر، 1367/ 1948، 1/ 185. (¬8) ساقطة من ت. (¬9) إلى هنا ينتهي كلام المسعودي. (¬10) في ت: «يحب الحكمة» وفي ط: «صاحب حكمة». (¬11) في ت: «كان مسكنهم في الزمان السابق». (¬12) مروج الذهب، 1/ 285.

التي كان أمرها عندهم أهم الأمور. فلذلك انحازوا بين يدي الفرس إلى الأندلس، فلما صاروا إليها أقبلوا على عمارتها، فشقّوا الأنهار، وبنوا المعاقل، وغرسوا الجنّات والكروم / وشيّدوا الأمصار وملؤوها حرثا ونسلا وبنيانا، فعظمت وطابت، حتى قال قائلهم لما رأى بهجتها: إن الطائر الذي صورة العمارة على شكله، وكان المغرب ذنبه كان طاووسا، معظم جماله في ذنبه، فاغتبطوا بها أتمّ اغتباط، واتخذوا دار الملك والحكمة بها مدينة طليطلة، لأنها وسط البلاد، وكان أهمّ الأمور عندهم تحصينها عمن يتصل به خبرها من الأمم، فنظروا فإذا لم يحسدهم على رغد العيش إلا أرباب الشظف والشّقاء، وهم يومئذ طائفتان: العرب والبربر، فخافوهم على جزيرتهم المعمورة، فعزموا أن يتّخذوا لهذين الجنسين من الناس طلسما، فرصدوا لذلك أرصادا، ولما كان البربر بالقرب منهم، وليس إلا بتعدية البحر، وترد عليهم منهم طوائف منحرفة الطّباع، خارجة عن الأوضاع ازدادوا منهم نفورا وكثر تحذيرهم من مخالطتهم في نسل أو مجاورة، حتى استقرّ ذلك، وثبت في طباعهم، فصار بغضهم طبيعيا. فلما علم البربر عداوة أهل الأندلس لهم وبغضهم، بغضوهم وحسدوهم، فلا تجد أندلسيّا إلاّ مبغضا بربريّا، ولا بربريّا إلاّ مبغضا أندلسيا، إلاّ أن البربر أحوج إلى أهل الاندلس من أهل الأندلس إلى البربر، لكثرة وجود الأشياء بالأندلس وعدمها ببلاد البربر. وكان بنواحي / غربي جزيرة الأندلس ملك يوناني بجزيرة يقال لها قادس (¬13) وكانت له ابنة في غاية الحسن والجمال، فتسامع بها ملوك الأندلس، وكانت جزيرة الأندلس كثيرة الملوك لكل بلدة أو بلدتين ملك تناصفا منهم في ذلك، فخطب البنت كل ملك منهم، وكان أبوها يخشى من تزويجها لواحد منهم سخط الباقين، فتحيّر في أمره، وأحضر ابنته المذكورة. وكانت الحكمة مركّبة في طباع القوم ذكرهم وأنثاهم، ولذلك قيل إن الحكمة نزلت من السماء على ثلاثة أعضاء من أهل الأرض، على أدمغة اليونان، وأيدي أهل الصّين، وألسنة العرب. ¬

(¬13) في الأصول: «قابوس». عن قادس انظر الروض المعطار للحميري ص: 448 - 449. ففيه تفاصيل عن بنائه وتاريخه وهدمه في النهاية، وأنظر كذلك ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4/ 290.

فلما حضرت بين يديه قال لها: يا بنية، إني قد أصبحت في حيرة من أمري، قالت: وما خبرك؟ قال: قد خطبك جميع ملوك الأندلس ومتى أرضيت واحدا أسخطت الباقين. قالت: اجعل الأمر لي تخلص من اللوم. قال: وما تصنعين؟ قالت: أقترح لنفسي أمرا فمن فعله كنت زوجته، ومن عجز عنه فليس يحسن به السخط، فقال: وما الذي تقترحين؟ قالت: أقترح أن يكون ملكا حكيما. قال: نعم الذي اخترته لنفسك. فكتب في أجوبة الملوك الخطاب: أني قد جعلت الأمر إليها فاختارت من الأزواج الملك الحكيم. فلما وقفوا على الأجوبة سكت عنها كل من لم يكن حكيما، وكان في الملوك رجلان حكيمان، فكتب كل واحد منهما إليه أنا الملك الحكيم، فلما وقف على كتابيهما قال: يا بنية بقي الأمر / على اشكاله، وهذان ملكان حكيمان أيهما أرضيت أسخطت الآخر، قالت: سأقترح على كل واحد منهما أمرا يأتي به، فأيهما سبق إلى الفراغ ممّا التمسته، تزوجت به، قال: وما الذي تقترحين عليهما؟ قالت: إنا ساكنون بهذه الجزيرة، وانا محتاجون إلى رحى (¬14) تدور بماء، وإني مقترحة على أحدهما إدارتها بالماء العذب الجاري إليها من ذلك البر، ومقترحة على الآخر أن يتخذ لي طلّسما يحصن به جزيرة الأندلس من البربر (¬15). فاستظرف أبوها اقتراحها وكتب إلى الملكين بما قالته ابنته، فأجابا إلى ذلك، وتقاسماه على ما اختارا، وشرع كل واحد في عمل ما قبله من ذلك. فأما صاحب الرّحى فإنّه عمد إلى خرز عظيمة اتخذها من الحجارة، ونضد بعضها إلى بعض في البحر المالح الذي بين الأندلس والبر الكبير، في الموضع المعروف بزقاق سبتة وسد الفرج التي بين الحجارة بما اقتضته حكمته، وأوصل تلك الحجارة من البر إلى الجزيرة (¬16)، وبقيت آثارها في الزّقاق الذي بين سبتة والجزيرة الخضراء، وأكثر أهل الأندلس يزعمون أن هذا أثر قنطرة كان الاسكندر قد عملها ليعبر النّاس عليها من سبتة إلى الجزيرة والله أعلم بأصح القولين، فلما تمّ تنضيد الحجارة للملك الحكيم، جلب إليها الماء العذب من موضع عال في الجبل بالبر الكبير، وسلّطه على ساقية محكمة، وبنى بجزيرة الأندلس رحى على هذه / الساقية (¬17). وأما صاحب الطلسم فإنه أبطأ عمله ¬

(¬14) رحى بضم الراء، صيغة جمع وواحدها رحى بفتح الراء. (¬15) في ت: «البربر والعرب». (¬16) في ت: «تلك الجزيرة». (¬17) في ت: بعدها «وأتمها».

بسبب انتظار الرّصد الموافق لعمله، غير أنه عمل أمره وأحكمه، وابتنى بنيانا مربعا من حجر أبيض، على ساحل البحر، في رمل حفر أساسه إلى أن جعله تحت الأرض مقدار ارتفاعه فوق الأرض ليثبت، فلما انتهى البناء المربّع إلى حيث اختار، صوّر من النحاس الأحمر والحديد المصفّى (¬18) مخلطين بأحكم الخلط صورة رجل بربري له لحية، وفي رأسه ذؤابة من شعر جعد قائم في رأسه بجعودته، متأبط بصورة كساء، قد جمع طرفيه على يده اليسرى بأضبط تصوير وأحكمه، وفي رجليه نعلان، وهو قائم على رأس البناء على مستهدف (¬19) بمقدار رجليه فقط، وهو شاهق في الهواء، طوله ينيف على ستين ذراعا، وهو محدودب (¬20) الأعلى إلى أن ينتهي إلى ما سعته ذراع، وقد مدّ يده اليمنى بمفتاح قفل قابضا عليه كأنه يقول: لا عبور، فكان من أمر هذا الطلسم في البحر الذي تجاهه أنه لم ير قط ساكنا، ولا كانت تجري فيه قط سفينة بربري، حتى سقط المفتاح من يده. وكان الملكان العاملان للرحى والطلسم يتسابقان إلى إتمام عملهما، إذ كان بالسبق يستحق التزويج، وكان صاحب الرحى قد فرغ لكنه يخفي أمره عن صاحب الطلسم حتى لا يعلم به فيبطل الطلسم، وكان يود عمل الطلسم حتى يحظى بالمرأة والرحى / والطلسم. فلما علم باليوم الذي يفرغ صاحب الطلسم في آخره، أجرى الماء بالجزيرة من أول واد إلى الرحى (¬21) واشتهر (¬22) ذلك، فاتصل الخبر بصاحب الطلسم وهو في أعلاه يصقل وجهه، وكان الطلسم من ذهب (¬23) فلما تحقق أنه مسبوق ضعفت نفسه، فسقط من أعلى البناء ميتا، وحصل صاحب الرحى على المرأة والرحى والطلسم (¬24). وسيأتي خبر بيت الحكمة التي وضعها اليونان بطليطلة عند التعرض لذكرها في غزوة موسى بن نصير لبلاد الأندلس - إن شاء الله -. ¬

(¬18) في ت: «المصفى النقي». (¬19) في الأصول: «مستدق». (¬20) في الأصول: «ممدد». (¬21) في ت: «من أوله وأدار الرحى». (¬22) في ت: «وأشهر». (¬23) في ت وط: «مذهبا». (¬24) عن هذه القصة أنظر نفح الطيب، 1/ 229 - 231. وياقوت الحموي في معجم البلدان عند تقديمه لقادس، بيروت، بدون تاريخ، 4/ 291.

طليطلة وما جاورها

وطول (¬25) بلاد الأندلس من كنيسة الغراب التي على البحر المظلم إلى الجبل المسمّى بهيكل الزّهرة ألف ومائة ميل، وعرضها من كنيسة شنّت ياقوب (¬26) التي على أنف بحر الانقليشين (¬27) إلى مدينة المرية التي على البحر الشامي ستمائة ميل. طليطلة وما جاورها: وبلاد الأندلس مقسومة من وسطها في الطول بجبل طويل يسمّى الشارات، وفي جنوب هذا الجبل مدينة طليطلة، وهي مركز لبلاد الأندلس، (وهي قاعدة ملك اليونان (¬28)، ولها بساتين محدقة وأنهار مخترقة، ورياض وجنان، وفواكه حسان، مختلفة الطعم والألوان، ولها من جميع جهاتها أقاليم وسيعة) (¬29) وهي (¬30) من بناء العمالقة العادية، ولها أسوار حصينة، وهي على ضفة البحر الكبير، يشقها نهر يسمّى تاجة ولها / قنطرة عجيبة على قوس واحد، والماء يدخل من تحته بشدة جري، وفي آخر النهر ناعورة طولها تسعون ذراعا بالرشاشي، يصعد الماء إلى أعلى القنطرة، فيجزي على ظهرها، ويدخل إلى المدينة، ولها رساتيق مربّعة، وضياع وسيعة، وقلاع منيعة، وبجبل الشارات الذي في شمالها من الغنم والبقر ما يعمّ البلاد كثرة ونموا. وما خلف الجبل في جهة الجنوب يسمّى اشبانيا، وما خلفه في جهة الشمال يسمّى قشتالة. ومن مدينة طليطلة إلى مدينة قرطبة بين غرب وجنوب تسع مراحل. ¬

(¬25) عاد إلى النقل من نزهة المشتاق بتصرف ص: 173 وهذه القصة هي مثال للأساطير التي أدخلها المؤرخون العرب في تآليفهم دون نقد وتمحيص، وليس من المستبعد ان العرب أخذوا هذه الأساطير من سكان الأندلس، بعد فتحهم لها، وتاريخ الاسبان مشحون بكثير من هذه الخرافات. (¬26) في الأصول: «سنت ياقوت» والمثبت من ن. م. والروض المعطار، ص: 348، وفي معجم البلدان: «شنت ياقب»، 4/ 369. (¬27) في الأصول: «الانقليسيين» والمثبت من ن. م. (¬28) يخلط بين اليونان والفيزيقوط والمقصود هم الأخيرون فطليطلة كانت قاعدتهم قبل الاحتلال العربي الاسلامي لبلاد الاندلس. (¬29) ما بين القوسين اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬30) يعود إلى النقل من نزهة المشتاق، وعن طليطلة أنظر النص الكامل بنزهة المشتاق، ص: 173 - 184 ثم 187 - 188.

قرطبة

ومنها أيضا إلى مدينة المرية (بفتح الميم وكسر الراء المخففة) (¬31)، وهي على البحر الشامي تسع مراحل. ومن طليطلة إلى لشبونة غربا تسع مراحل. ومن طليطلة إلى شنت ياقوب (¬32) على بحر الانقليشين تسع مراحل. قرطبة: (ولما صارت الأندلس في ملك الإسلام، وتولاها بنو أميّة، جعلوا قاعدة الأندلس مدينة قرطبة عوضا عن طليطلة فيما سبق من أيّام اليونان والروم، فكانت قرطبة دار الخلافة الإسلامية، وهي مدينة عظيمة، وأهلها أعيان البلاد، وسادات الناس في كمال الحسن والملابس، والمراكب وعلوّ الهمم، وبها أعلام العلماء، وسادات الفضلاء، وأجلاء القراء، وأمجاد الحروب) (¬33) وهي (¬34) في نفسها خمس مدن، يتلو بعضها بعضا / وبين المدينة والمدينة سور حصين حاجز، لكل مدينة منها ما يكفيها من الأسواق والفنادق والحمّامات والصّناعات، وطولها ثلاثة أميال، وعرضها ميل واحد [وهي] في سفح جبل مطلّ عليها يسمّى جبل العروس (¬35)، وبمدينتها الثالثة، وهي الوسطى، باب القنطرة. وبها الجامع الذي ليس في معمور الأرض مثله، فيه من السواري الكبار ألف سارية، وفيه مائة وثلاثة عشرة ثريا للوقيد، أكثر ما تحمل الواحدة (¬36) ألف مصباح، وفيه من النقوش والرقوم ما لا يقدر على وصفه (¬37)، وبقبلته صناعات تدهش العقول، وعلى فرجة المحراب سبع قسي قائمة على عمد، طول كل قوس فوق القامة، قد تحيّر الرّوم والمسلمون في وصف حسنها، وفي عضادتي المحراب أربعة أعمدة، اثنان أخضران، واثنان لازورديان (¬38)، (لا تقوّم بمال) (¬39) وبه منبر ليس على معمور الأرض مثله في ¬

(¬31) اضافة من المؤلف أراد بها الضبط. وانظر في ضبطها بالحركات مراصد الاطلاع 2/ 1264. (¬32) في الأصول: «سنت ياقوت» انظر الهامش السابق. (¬33) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬34) يعود إلى النقل من نزهة المشتاق ص: 208. (¬35) في الأصول: «أنقروس»، والمثبت من ن. م. ص: 208. (¬36) في ن. م.: «أكبرها واحدة منها تحمل. . .». (¬37) في ت: «وصفه واصف». (¬38) في ن. م.: «زرزوريان». (¬39) مثبتة من ن. م. وفي الأصول: «ليس لها قيمة» وهو تعبير عامي كيفه المؤلف، ويقصد به نفس المعنى الذي قصده الادريسي.

حسن صنعته، وخشبه ساج وآبنوس وبقس (عود قاقلي) (¬40) ويذكر في تاريخ بني أمية أنه أحكم عمله ونقشه في سبع سنين، وكان يعمل فيه ثمان (¬41) صناع، لكل صانع في كل يوم نصف مثقال محمّدي، فكانت (¬42) جملة ما أصرف على المنبر أجرة لا غير، عشرة آلاف مثقال وخمسون مثقالا. وفي الجامع حاصل كبير فيه آنية الذهب والفضة لأجل الوقود، وبهذا / الجامع أربع ورقات من مصحف (¬43) عثمان بن عفّان - رضي الله تعالى عنه - بخطّ يده (¬44)، وفيه نقط من دمه (¬45)، وله عشرون بابا مصفّحة (¬46) بالنحاس (¬47) الأندلسي، محزمة (46) تحزيما يعجز عن وصفه البشر، وفي كل باب حلقتان (¬48) في نهاية الصّنعة والحكمة، وبه الصومعة التي هي من عجائب الدّنيا، وارتفاعها مائة ذراع بالمالكي المعروف بالرّشاشي (¬49) كل ذراع بثلاثة أشبار، وفيها من أنواع الصنائع الرقيقة ما يعجز الواصف عن وصفه واتقانه، (وبهذا الجامع ثلاثة أعمدة مكتوب على كل واحد اسم محمد صلّى الله عليه وسلم وعلى الآخر صورة عصا موسى - عليه السلام - وأهل الكهف، وعلى الثالث صورة غراب نوح - عليه السلام (¬50) - الجميع خلقة ربّانية) (¬51). وبمدينة قرطبة القنطرة العجيبة، التي فاقت قناطر الدنيا حسنا وارتفاعا، وعدد أقواسها سبعة عشر قوسا، سعة كل قوس منها خمسون شبرا، وبين كل قوسين خمسون شبرا، ومع هذا فمحاسنها أعظم من أن يحيط بها وصف. ومن عجائب قرطبة الزّهراء بالألف الممدودة، قال ابن خلكان (¬52): فهي من ¬

(¬40) في ن. م.: «وعود المجمر» ص: 210. (¬41) في ن. م.: «وكان عدد صناعه 6 رجال غير ما يخدمهم تصرفا» ص: 210. (¬42) في الأصول: «فكان». (¬43) بعدها في ت: «أمير المؤمنين». (¬44) بعدها في ت: «المباركة». (¬45) بعدها في ت: «رحمه الله». (¬46) في الأصول: «مصفحات. . . ومحزمات». (¬47) بعدها في ط: «الأحمر». (¬48) في الأصول: «حلقة» والمثبت من ن. م. ص: 211. (¬49) في الأصول: «الرشراشي» والمثبت من ن. م. ومعجم دوزي كما أشرنا سابقا، ولم يزد دوزي أي تفسير عن الادريسي اذ اعتمده كمرجع وضبط الذراع بثلاثة أشبار. (¬50) ساقطة من ط وت. (¬51) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬52) وفيات الأعيان 4/ 117، والمؤلف تصرف في النقل بالحذف وابدال بعض العبارات كعادته مع المحافظة على المعنى، والصحيح أنه نقل مما في وفيات الأعيان لابن خلكان. وأنظر عن قرطبة نزهة المشتاق ص: 208 - 212 وعن الزهراء ص: 212، وانظر عن قرطبة أيضا الروض المعطار ص: 456 - 458 لأنه فيما يبدو أخذ كثيرا من نزهة المشتاق للاتفاق في العبارات والتفاصيل وان لم يصرح بالنقل.

المرية

أعاجيب أبنية الدّنيا أنشأها أبو المظفر عبد الرحمان بن محمد بن عبد الله، الملقّب بالنّاصر (¬53)، أحد ملوك بني أميّة بالأندلس بالغرب من قرطبة، أول سنة خمس وعشرين وثلاثمائة (¬54) ومسافة ما بينهما أربعة أميال وثلثا ميل: / وطول الزّهراء من الشّرق إلى الغرب ألفان وسبعمائة ذراع، وعرضها من القبلة (¬55) إلى الجنوب ألف وخمسمائة ذراع، وعدد السّواري التي بها أربع ألاف سارية وثلاثمائة سارية، وعدد أبوابها يزيد على خمسة عشر بابا (¬56). وكان النّاصر يقسم جباية البلاد أثلاثا، فثلث للجند وثلث مدّخر وثلث ينفقه على عمارة الزّهراء، وكانت جباية الأندلس [يومئذ] خمسة آلاف ألف دينار، وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن السوق المستخلص سبعمائة ألف [وخمسة وستون ألف] (¬57) دينار، وهي من أهول ما بناه ملوك الأندلس (¬58) وأجله قطرا وأعظمه شأنا. المرية: وأما المرية (¬59) فكانت مدينة الإسلام في أيام الملثمين من شيعة يوسف بن تاشفين، وكان بها من جميع الصّناعات كل غريبة وكان بها نسج طراز الحرير ثمانمائة نول (¬60)، ولحلل الحرير النفيسة والديباج الفاخر ألف نول (¬61) والسقلاطون كذلك، وللثياب الحركانية كذلك والأصبهاني كذلك، وللعباني (¬62) كذلك وبها يصنع المعاجر المدهشة والستور المكللة، وكان يصنع بها جميع آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف. ¬

(¬53) (300 - 350/ 912 - 961) المعروف أيضا بعبد الرحمان الثالث أكبر أمراء بني أمية بالأندلس، وأول خليفة بها، راجع ليفي بروفنسال (L. Provencal) دائرة المعارف الاسلامية، (Encyclopedie de l' Islam) باريس 1975، 1/ 85. (¬54) 936 م، في الأصول: «خمس وعشرين ومائة» وهو غلط تاريخي. (¬55) في الأصول: «الشمال» والمثبت من ابن خلكان. (¬56) في ت: «خمسة عشر ألف باب»، خلافا لما ورد في النصوص التاريخية، وما يقبله المنطق. (¬57) اضافة من الوفيات. (¬58) بعدها في ت: «ولا ثم أعظم وأهول منها». (¬59) يرجع إلى النقل من ن. م. بتصرف ص: 197 بعد أن نقل عن ابن خلكان. (¬60) في ن. م.: «طراز». (¬61) لم يذكر الادريسي عدد الطرز (الأنوال). (¬62) ج عبانة، غطاء من الصوف، وفي ن. م: «للعتابي».

أقاليم الأندلس

وكان بها من أنواع الفاكهة العجيبة تأتيها من وادي بجانة (¬63) ما يقصر عنه الوصف حسنا وطيبا، وكثرة واتّساعا، وتباع بأرخص ثمن. وهذا الوادي طوله أربعون ميلا في مثلها / كلها بساتين مغلقة، وجنّات وأنهار مطردة، وطيور مغردة، ولم يكن في بلاد الأندلس أكثر مالا من أهلها، ولا أكثر متاجر، ولا أعظم ذخائر. وكان بها من الفنادق والحمّامات ألف فندق إلا ثلاثين. وهي بين جبلين (¬64) بينهما خندق معمور، على الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة، وعلى الجبل الآخر ربضها، والسّور محيط بالمدينة والرّبض، وبغربيها ربض آخر يسمّى ربض الحوض، ذو أسواق وحمّامات، وفنادق وصناعات، وقد استدار بها من كل جهة حصون مرتفعة، وأحجار قديمة، وكأنها غربلت تربتها، وبها مدن وضياع عامرة، متّصلة الأنهار. أقاليم الأندلس: واعلم أن جزيرة الأندلس تشتمل على أقاليم كثيرة ومدة وحصون، فأوّل (¬65) أقاليمها إقليم البحيرة، وهو إقليم مبدؤه من البحر المظلم، ويمر مع البحر الشّامي، وفيه من البلاد جزيرة طريف والجزيرة الخضراء، وجزيرة قادس، وحصن أركش، وبكّة (¬66)، وشريش، وطشانة (¬67)، ومدينة ابن السليم (¬68)، وحصون كثيرة كالمدن [عامرة]. فأما جزيرة طريف (¬69) فهي على البحر الشامي في أول المجاز المسمّى بالزّقاق، ويتّصل غربيها ببحر الظلمة، وبها مدينة صغيرة، وأمامها جزيرتان، وهما على مقربة من البر. وأما الجزيرة الخضراء فهّي أول جزيرة افتتحت من الأندلس في صدر الإسلام ¬

(¬63) في الأصول: «باجة» والمثبت من ن. م. (¬64) في ن. م.: «والمرية في ذاتها جبلان وبينهما خندق معمور». (¬65) يرجع إلى الوراء ويستمر في النقل من ن. م. ص: 174. (¬66) في الأصول: «ريكة» والمثبت من ن. م. ص: 174. (¬67) في الأصول: «طلشانة» والمثبت من ن. م. ص: 174. (¬68) في الأصول: «ابن سلام» والمثبت من ن. م. ص: 174. (¬69) حذف المؤلف كثيرا قبل الكلام عن جزيرة طريف، ويبدو أنه ينقل الكلام عن الأماكن المشهورة فقط

(على يد طارق بن عبد الله بن ونمو الزناتي مولى موسى بن نصير) (¬70) وبهذه الجزيرة مدينة، وعلى باب البحر منها / مسجد يسمّى بمسجد الرّايات، ويقال إن هناك اجتمعت رايات القوم للرأي، وكان وصولهم إليها من جبل طارق، سمي بذلك لأن طارقا لما نزل بمن معه من البرابر وتحصّنوا بهذا الجبل أحس في نفسه أن العرب لا تثق به، فأراد إزاحة ذلك عنه، فأمر بإحراق المراكب التي جاز فيها، فتبرأ بذلك ممّا اتّهم به (وغلب اليوم عليه التسمية بجبل الطارق فرخم في غير الندا وأدخل عليه ال) (¬71). ويتلو هذا الإقليم إقليم شذونة، وهو من إقليم البحيرة شمالا، وفيه من المدن إشبيلية ومدينة قرمونة، وغلسانة، وحصون كثيرة. ويتلوه اقليم الشرف، وهو ما بين إشبيلية ولبلة والبحر المظلم، وهو أربعون (¬72) ميلا في مثلها، يمشي فيه السّائر في ظلّ التّين والزّيتون فيه ثمانية ألاف قرية بالأسواق والحمّامات، والفنادق والدّيار الحسنة، وفيه من المعاقل (¬73) حصن القصر، ومدينة لبلة وولبلة، وجزيرة شلطيش، وجبل العيون. ثم يليه إقليم الكنبانية وفيه من المدن قرطبة، والزّهراء وأستجة (¬74)، وبيّانة، وقبرة، واليشانة (¬75). ويلي اقليم الكنبانية اقليم أشونة، وفيه حصون عامرة كالمدن، مثل لورة، وأشونة، وهو اقليم صغير. ويليه مع الجنوب اقليم ريّة، وفيه من المدن مدينة مالقة، وهي (¬76) مدينة واسعة الأقطار، عامرة الدّيار، قد استدار بها من جميع جهاتها شجر التّين، المنسوب / إلى ¬

(¬70) في نزهة المشتاق: «وافتتحها موسى بن نصير من قبل المروانيين ومعه طارق بن عبد الله بن ونموا الزناتي» ص: 176. وهو طارق بن زياد الذي فتح جلّ بلاد الأندلس في سنة 92/ 711 ثم التحق به مولاه موسى بن نصير في سنة 93/ 712 فأتم ما شرع طارق في فتحه. (¬71) إضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬72) انتقل إلى الموضع الأول من الكلام عن اقليم الشرف ص: 178. (¬73) عاد إلى النقل من الموضع الأول من الكلام عن اقليم الشرف ص: 174. وعن اقليم شذونة انظر نزهة المشتاق ص: 174 وكذلك عن اقليم الشرف. (¬74) في الأصول: «أسحة» وفي نسخ أخرى «أسجة» والمثبت من ن. م. ص: 174. (¬75) في الأصول: «السيانة» والمثبت من ن. م. ص: 174. (¬76) ينتقل إلى ص: 200.

ريّة، وهو من أحسن التّين لونا، وأكبره جرما، وأنعمه شحما، وأحلاه طعما، حتى يقال إنه ليس في الدّنيا مدينة عظيمة، يحيط بها سور من حلاوة، عرض السّور يوم للمسافر، إلاّ مالقة، يعني أن شجر تينها الشبيه بالحلاوة، يحيط بها إحاطة السّور، ويحمل من تينها إلى سائر الأقاليم حتى للهند (والصّين، وذلك مسافة سنة، لحسنه وحلاوته، وعدم دخول السّوس فيه، وصحة بقائه) (¬77) ولها ربضان عامران، ربض عامر بالناس (¬78) وربض التبانين (¬79). وفي إقليم ريّة (¬80)، وأرشذونة، ومربلّة، وببشتر (¬81)، وبشكصار (¬82) وغيرها من الحصون. ويتلو هذا الأقليم اقليم البشارات، وفيه من المدن جيّان، وجملة حصون وقرى كثيرة تشفّ على ستمائة قرية، يتّخذ بها الحرير. ثم اقليم بجّانة، وفيه من المدن المرية، وبرجة، وحصون كثيرة منها مرشانة، وبرشانة، وطرجالة، وبالش. ويتلوه في جهة الجنوب اقليم إلبيرة (¬83) وفيه من المدن غرناطة، وهي مدينة (¬84) أحدثها حبوس (¬85) الصّنهاجي، وبنى قصبتها وأسواقها، ثم زاد في عمارتها ابنه باديس بعده، وهي مدينة يشقها [نهر يسمّى حدرّو وعلى جنوبها] (¬86) نهر الثّلج المسمّى شنيل (¬87)، ومبدؤه من جبل شلير (¬88)، والثّلج بهذا الجبل لا يبرح. وبهذا الإقليم وادي آش والمنكب وحصون وقرى كثيرة، ثم كورة تدمير، وفيها من المدن مرسية، ¬

(¬77) اضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬78) في ن. م.: «ربض فنتنالة». (¬79) في الأصول: «التين» والمثبت من ن. م. (¬80) يرجع إلى ص: 174. (¬81) في ش: «ويشتر» في ط وت: «بيشنن» والمثبت من ن. م. ص: 174 و 204. (¬82) كذا في بعض نسخ ن. م. وفي غيرها: «يسكنصار». (¬83) في الأصول: «الفيرة» والمثبت من ن. م. ص: 175. (¬84) في ت: «مدينة عظيمة» عن غرناطة انظر النص الكامل بنزهة المشتاق ص: 203. (¬85) في الأصول: «حسن» والمثبت من ن. م. (¬86) اضافة من ن. م. ليستقيم المعنى. (¬87) في الأصول: «سيدل» والمثبت من ن. م. ص: 203. (¬88) في الأصول: «يشكور» والمثبت من ن. م.

وأوريولة (¬89)، وقرطاجنة، ولورقة، ومولة، وجنحالة ويتصل / بكورة كونكة (¬90)، وفيها ألش، ولقنت، وكونكة وشقورة. ويليه اقليم مرباطر، وفيه من البلاد بلنسية، ومرباطر، وبريانة، وحصون كثيرة. ويليه مع الجوف اقليم القواطم، وفيه من البلاد شنت مارية المنسوبة لابن رزين (¬91). ويتصل به اقليم الولجة، وفيه من البلاد سرتة وفتة (¬92) وقلعة رباح. ويلي هذا الإقليم إقليم البلالطة وفيه حصون كثيرة، ومن أكبرها بطروش وغافق، وحصن ابن هارون، وغيرها دونها في الكبر. ويلي هذا الإقليم غربا اقليم الفقر (¬93)، وفيه من البلاد شنت مارية (¬94)، ومارتلة، وشلب، وحصون كثيرة وقرى. ويلي هذا الإقليم [اقليم القصر وفيه القصر] (¬95) المنسوب لأبي (¬96) دانس، وفيه يابورة، وبطليوس، وشريشة، وماردة، وقنطرة السيف وقورية. ويليه اقليم البلاط، وفيه مدينة البلاط، ومدلين. ويلي هذا الإقليم اقليم بلاطة، وفيه شنترين (¬97)، ولشبونة، وشنترة. ويليه اقليم الشارات وفيه طلبيرة، وطليطلة، ومجريط (¬98)، والفهمين، ووادي الحجارة، وأقليش ووبذة. ويليه أيضا اقليم أرنيط، وفيه من البلاد قلعة أيوب، وقلعة دروقة، ومدينة سرقسطة (¬99). ¬

(¬89) في الأصول: «أويرولة» والمثبت من ن. م. ص: 175 - 196. (¬90) في الأصول: «فوتكة» والمثبت من ن. م. ص: 175. (¬91) في الأصول: «ابن زريق» والمثبت من ن. م. ص: 175. (¬92) في الأصول: «مية» والمثبت من ن. م. ص: 175. (¬93) في ت: «العقر». (¬94) في الأصول: «شنتمرية» والمثبت من ن. م. ص: 175. (¬95) إضافة من ن. م. ليستقيم المعنى. (¬96) في الأصول: «لابن أبي دانس». (¬97) في الأصول: «شنشرين» والمثبت من ن. م. (¬98) في الأصول: «مجليط» والمثبت من ن. م. ص: 175. (¬99) في الأصول: «سرقطة» والمثبت من ن. م. ص: 176.

مدن ساحلية

ثم يليه اقليم الزيتون، وفيه جاقة، ولاردة، ومكناسة، وافراغة. ويليه اقليم البرتات، وفيه طرطوشة، وطركونة، وبرشلونة. ويلي هذا الإقليم غربا / اقليم مرمرية، وفيه حصون خالية ومما يلي البحر حصن طشكر وكشطالي، وكتندة (¬100). فهذه كلها أقاليم [أشبانيا المسمّى جملتها] (¬101) الأندلس (ولولا خشية السآمة لذكرنا مسافة ما بين هذه البلدان، لكن لا فائدة لنا في ذكرها هنا، لأن الأندلس ساعة التاريخ في يد العدو - أعادها الله تعالى للاسلام - والكلام عليها يطول، وتتبعه هنا يعد من الفضول. مدن ساحلية: واعلم أن جنوبي بلاد الأندلس متصل بالبحر الشامي - كما تقدم - وتقدم أنه مار ما بين بلاد الأندلس وبلاد العدوة) (¬102). فمالقة (¬103) من بلاد الأندلس يقابلها من العدوة المزمّة، وبادس، وبينهما عرض البحر مجرى يوم بالريح الطيبة المعتدلة. وكذلك المرية من الأندلس يوازيها من العدوة هنين، وعرض البحر بينهما مجريان. وكذلك أيضا مدينة دانية يقابلها من العدوة مدينة تنس، وبينهما ثلاث مجار. وكذلك مدينة برشلونة تقابلها من [عدوة المغرب الأوسط] (¬104) مدينة بجاية، وبينهما أربع مجار في عرض البحر، والمجرى مائة ميل. جزر البحر الشامي: وبين بر الأندلس وبر العدوة جزر كثيرة، صغيرة وكبيرة، معمورة ومغمورة، فمن الجزر الكبيرة جزيرة سردانية وجزيرة قرسقة، وجزيرة صقليّة، ومن الصغار جزيرة مالية وبانوشة (¬105)، وأسقرنجلو، وجبل اليركان، ثم جزيرة اليركان، وجزيرة لبيس، وجزيرة ¬

(¬100) في الأصول: «كندة» والمثبت من ن. م. ص: 176. (¬101) اضافة من ن. م. للضبط. (¬102) ما بين القوسين إضافة من المؤلف عما هو موجود بنزهة المشتاق. (¬103) رجع إلى النقل من ن. م. بتصرف ص: 214. (¬104) إضافة من ن. م. للضبط. (¬105) لعل الصواب: «أنبدوشة».

دندمة، وجزيرة أم الحمار، وجزيرة الطرفانية، وجزيرة أنكوذة، وأشتقة، والبالية، وجزيرة الراهب، ومليطمة، وقوصرة (¬106)، / والكتاب، ونموشة، وكمونة، ومالطة، وغودش، ولنبدوشة. ولنذكر بعض هذه الجزر المشهورة، ونعرض عن الباقي لطول الكلام عليها. وهذه الجزر العامرة كلها فتحها الإسلام، ثم رجعت الآن في يد العدو، وقال (¬107) في رحلة التجاني: «وبجزيرة شريك يعني (من أرض تونس) (¬108) اجتمع الرّوم عند دخول عبد الله بن سعد بن أبي سرح المغرب ثم ارتحلوا إلى اقليبية وركبوا منها إلى جزيرة قوصرة فيقال أنهم أقاموا بها إلى خلافة عبد الملك بن مروان فأغزى عبد الملك ابن قطن في البحر فافتتح جزائر افريقية كلها» (¬109). فأما جزيرة (¬110) يابسة، فهي حسنة، وأقرب مدن الأندلس إليها دانية، وبينهما مجرى. وفي شرقي جزيرة يابسة جزيرة ميورقة، وبينهما مجرى. وتقابل منورقة شرقا، مدينة برشلونة من الأندلس، وبينهما مجرى. ومن منورقة إلى جزيرة سردانية أربع مجار شرقا (¬111). وسردانية جزيرة كبيرة القطر، كثيرة الجبال، قليلة المياه، طولها مائتان وثمانون ميلا وعرضها من المغرب إلى المشرق، وطولها مار من الجنوب إلى الشمال مع قليل تشريق، وفيها ثلاث مدن، منها القيطنة، وهي مما يلي جنوبيها، وهي عامرة، ومنها مدينة خالدة وهي رأس المجاز إلى جزيرة قرسقة، ومنها إلى قشتيلية. وأهل جزيرة (¬112) سردانية في الأصل روم أفارقة متبربرون. وفي جزيرة سردانية / ¬

(¬106) كذا في معجم البلدان وكتبها التجاني في رحلته ص: 13. وابن حوقل في صورة الأرض والادريسي على خارطته: «قوسرة» وهي المعروفة في اللغات الأوروبية «Pantellaria». (¬107) أي التجاني في رحلته. (¬108) تفسير إضافي من المؤلف ويقصد بها الوطن القبلي كما فسرنا سابقا. (¬109) رحلة التجاني ص: 13. (¬110) رجع إلى النقل من ن. م. ص: 214. (¬111) هنا ينتهي النقل عن «المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس» المأخوذ من كتاب نزهة المشتاق والذي أشرنا إليه اختصارا ب ‍ (ن. م.). (¬112) في ت: «مدينة».

صقلية

معادن الفضة الجيدة، ومنها تخرج الفضة إلى كثير من بلاد الروم. وبين سردانية وجزيرة قرسقة (¬113) مجاز طوله عشرون ميلا. صقلية: وأما جزيرة صقلية (¬114) وتوصف بسيسليا (¬115) فهي مثلثة الشكل، فالجهة الشرقية منها من مدينة مسينة إلى جزيرة الأرنب مائتا ميل، ومن جزيرة الأرنب إلى اطرابنش (¬116) أربعمائة وخمسون ميلا، وهو الوجه الجنوبي، والوجه الثالث من اطرابنش إلى الحرّاش إلى الغار مائتان وخمسون ميلا، فمساحة محيطها تسعمائة ميل، وانتهت عمارتها سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة (¬117) إلى مائة بلد وثلاثين بلدا، وكان فتحها أسد بن الفرات - رحمه الله تعالى - وهي اليوم بيد العدو أعادها الله للاسلام. وأول مدنها المشهورة بلرم (¬118)، وهي المدينة العظمى على ساحل البحر في الجانب الغربي، والجبال محدقة بها، وهي على قسمين، قصر وربض، فالقصر هو القديم المشهور، وهو في ذاته على ثلاثة أسمطة، وكل سماط مشتمل على قصور، والربض مدينة أخرى تحدق بالمدينة من جميع الجهات، وبه المدينة القديمة المسماة بالخالصة (¬119) التي كان بها مسكن السّلطان والخاصة في أيام المسلمين، وبها دار الصناعة للانشاء، والمياه بجميع جهات مدينة صقلية مخترقة، وعيونها جارية متدفقة، وبخارج الربض من الجهة الجنوبية منها نهر (¬120) عباس، وهو جار، عليه جمل من الأرحاء الطاحنة ما لا يحتاج معها إلى غيرها / وبالشرق من المدينة على مرحلة منه قلعة ثرمة (¬121) وبها حمتان ¬

(¬113) كتبها ابن حوقل في صورة الأرض «قرشقة» ص: 113. (¬114) قال ياقوت في معجم البلدان: «بثلاث كسرات وتشديد اللام والياء أيضا، وبعض يقول بالسين، وأكثر أهل صقلية يفتحون الصاد واللام» 3/ 416. (¬115) الاسم العامي لصقلية. (¬116) في ش: «اطرابش»، في ت وط: «أطرانيش» والمثبت من معجم البلدان لياقوت 1/ 218، وكتبها: «طرابنش» عند حديثه عن صقلية 3/ 417. (¬117) 1148 م. (¬118) Palerme . (¬119) أنظر عنها: إبن حوقل، صورة الأرض، بيروت 1979، ص: 114. (¬120) في صورة الأرض: «وادي عباس» ص: 114. (¬121) كذا في ش وت ومعجم البلدان، وفي ط: «ثرمدة». قال ياقوت: «بالكسر ثم بالسكون بلد في جزيرة صقلية كثيرة البراغيث شديدة الحر».2/ 76.

متقاربتان من أجل الحمّامات، وعليها بنيان قديم الزمان، وبجانبها الغربي محل يعرف بالتّربيعة، وهو من المنازه البديعة. وبشرقي جزيرة صقلية مدينة مسّينا، والجبال من الناحية الغربية محدقة بها، ومرساها من أعجب المراسي المتحدّث به في سائر البلاد، لأن أكبر ما يكون من السفن العظام يرسي من الشاطىء بحيث يتناول ما فيها من البر بالأيدي، ومن بلاد صقلية شكلة، وهي قلعة في أعلى جبل على البحر بنحو ثلاثة أميال، وبها العين المعروفة بعين الأوقات، ومن غريب أمرها أنها تجري في أوقات الصّلاة، وتجف في غير ذلك. ومنها مازر واليها ينسب الإمام المازري - رحمه الله تعالى - والخراز واليها ينسب الخرّازي (¬122). وأما جزيرة مليطمة، فهي توازي تونس. وفي شرقي مليطمة، قوصرة (¬123)، وبين قوصرة وبرّ افريقية مجرى، وقوصرة جزيرة حصينة فيها آبار وسواحل وأشجار زيتون، وهي توازي نابل، وتوازي بين الشاقة ومازر، وبينهما مجرى. ومن قوصرة في عين الشرق جزيرة غودش، وبينهما مائة ميل وفيها مرسى مأمون. ومن جزيرة غودش إلى جزيرة كمونة وهي كبيرة. ومنها في شرقيها جزيرة مالطة - دمّرها الله - وهي جزيرة كبيرة وفيها مرسى مأمون / وبينها وبين (أقرب بر من) (¬124) صقليّة، وهو موضع يقال له أكرنتة، ثمانون ميلا، وليس بعد مالطة لناحية الشّرق والجنوب إلاّ جزيرة أقريطش. وأما جزيرة لنبدوشة (¬125) فبينها وبين أقرب بر من أفريقية وهو قبودية (¬126) مجريان، وبالأنبدوشة مرسى مأمون يكنّ من كل ريح، ويحمل الأساطيل الكثيرة، وهذا المرسى منها في الغرب والجنوب. ومنها في جهة الشمال جزيرة لطيفة هي جزيرة الكتاب، بينهما خمسة أميال وفيما ذكرناه (¬127) كفاية والله سبحانه وتعالى أعلم (¬128) وأحكم. ¬

(¬122) ذكر ابن حوقل أن عثمان بن الخراز ولي قضاء بلرم. . . صورة الأرض ص: 118. (¬123) أو قوسرة كما أشرنا. (¬124) ساقطة من ت. (¬125) Lampedusa . (¬126) بالفتح ثم بالتشديد والضم، وواو ساكنة، ودال مهملة، وياء خفيفة، معجم البلدان: 4/ 208، ويقال رأس قبودية. (¬127) بعدها في ت: «في هذا الأمر». (¬128) في ت وط: «أعلم بغيبه وأحكم».

المقالة الثانية في ذكر الخلافة وخلفاء الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من خلفاء بني أمية بالمشرق وفتوحات المغرب في أيامهم

المقالة الثّانية في ذكر الخلافة وخلفاء الصّحابة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن بعدهم من خلفاء بني أميّة بالمشرق وفتوحات المغرب في أيّامهم وفيه ثلاثة أبواب الباب الأول في الخلافة وخلافة النبي صلّى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - مفهوم الخلافة: فنقول إن الخلافة التي جعلها الله لآدم - على نبيّنا وعليه (¬1) أفضل الصلاة والسلام - في الأرض، ولذريته الصالحين من بعده، هي إقامة الله تعالى بشرا من خلقه لاقامة أحكام الله وتنفيذ قضاياه بين خلقه تعالى، وعمارة أرضه وسياسة عباده، وتكميل نفوسهم، رحمة منه تعالى لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه، تعالى، وتلقّي أمره بلا / واسطة، ولذلك لم يكن النبيء ملكا، وفي ذلك لطف ورفق بالعباد. هذه هي الخلافة الحقيقية، وعليها تقع المبايعة، وهي المعاقدة على القيام على موجب الكتاب والسنة، حسبما يرشد إليه قوله علت كلمته: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا} ¬

(¬1) في ت: «عليه أفضل الصّلاة».

{يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} الآية (¬2) وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬3). فالكتاب والسّنّة طريق الخلافة الحقيقية، فمن قام بهذه الخلافة على حقها سمي خليفة راشدا، كالخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهذا هو الإمام العادل، وإليه الإشارة بقوله علت كلمته: {وَإِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ} (¬4) الآية. ومن كان مخالفا لما بويع عليه من الكتاب والسنة فهو غير راشد، وإن أخذها بغير حقها، بل جبروتا وغصبا فهو مستخلف لا خليفة، وهو باسم الملك أحق من اسم الخليفة، واطلاق الخليفة عليه من حيث اظهار صورة البيعة التي عقدت له غصبا. واعلم أن منصب الخلافة عظيم، وخطب جسيم، إلاّ على من وفقه الله وعصمه وحفظه، فروى البغوي (¬5) في تفسير قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ} (¬6): أن لقمان كان نائما نصف النهار / فنودي يا لقمان: هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض لتحكم بين الناس بالحق، فأجاب الصّوت وقال: إن خيّرني ربّي قبلت العافية، ولم أقبل البلاء، وإن عزم علي فسمعا وطاعة، فإني أعلم إن فعل ذلك بي أعانني وعصمني (¬7). فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأن الحاكم بأشقى المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان إن يعن فبالحري (¬8) أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة، ومن يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون شريفا، ومن تخيّر الدّنيا على الآخرة تفتنه (¬9) الدنيا ولا يصيب الآخرة، فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة، فأعطي الحكمة، فانتبه وهو يتكلم بها اهـ‍ (¬10). ولا بد في خلافة الاسلام من شرط (¬11) كون الخليفة قريشيّا، لقوله - عليه ¬

(¬2) سورة الممتحنة: 12. (¬3) سورة الفتح: 18. (¬4) سورة البقرة: 124. (¬5) هو الحسين بن مسعود الفراء الملقب بمحيي السنة (ت.516 هـ - 1122 م) وتفسيره يسمى «معالم التنزيل» وهو مطبوع. (¬6) سورة لقمان: 12. (¬7) في ت: «أعانني عليه وعصمني» وفي ط: «ربي أعانني عليه وعصمني». (¬8) في الأصول: «أن يعدل فالاحرى أن ينجو». معالم التنزيل 5/ 178 بهامش لباب التأويل للخازن (مصر بدون تاريخ). (¬9) في ت وط: «أتته». (¬10) البغوي: «معالم التنزيل». (¬11) في ت: «شروط».

الصلاة والسلام - الخلافة في قريش، والفرق بين الخليفة الحقيقي، والملك والسّلطان، أن الخليفة يأخذ بالحق ويعطي بالحق، والملك من لا يبالي من أين أخذ ولا فيما أعطى، حسبما ترشد له قصّة عمر - رضي الله تعالى عنه - حين قال لبعض أصحابه: أملك أنا أم خليفة؟ فقيل له إذا وضعت شيئا من بيت المال في غير حقه، وأخذته من غير حقه، مصادرة أو غصبا قصد الأخطاء فأنت ملك لا خليفة، وذلك لأن الملك يعسف الناس ولا يبالي بما فعل، وأما السّلطان فهو من يأخذ ويعطي مطلقا / وفي ولايته أمراء يكون ملكهم تحته، ويكون عسكره عشرة آلاف فأكثر ويملك ممالك متعددة، كالشام ومصر، فإن زاد مملكة أو جيشا كان أعظم في السلطنة، وجاز أن يطلق عليه سلطان السلاطين، والسّلطان الأعظم. ويشترط أن يخطب له في ممالك متعددة أقلها ثلاثة أيام، وأكثرها ثلاثة أشهر، فما فوق اهـ‍ من حسن المحاضرة (¬12) بالمعنى. وقد أرشدنا لمدة الدّنيا ولحكمة الخلافة ما روي عن ابن عباس (¬13) - رضي الله تعالى عنهما - دنياكم هذه أسبوع من أسابيع الآخرة، وانكم في آخر يوم منه، فإن الله يبعث في كل ألف سنة نبيئا بمعجزات واضحة، وبراهين قاطعة، لرفع أعلام دينه القويم، وظهور سراطه المستقيم، فكان في الألف الأولى آدم - عليه السلام - وفي الثانية، ادريس - عليه السلام -، وفي الثالثة نوح - عليه السلام - وفي الرابعة ابراهيم - عليه السلام -، وفي الخامسة موسى - عليه السلام - وفي السّادسة عيسى - عليه السلام - وفي السّابعة محمّد - عليه الصلاة والسلام - وبه ختمت النبوءة وتمّت به آلاف الدّنيا، كذا قال في «أصول التواريخ»، ولم يبق بعد النبوءة الاّ الخلافة من الأمة المحمدية، وفي هذه اشارة إلى أن ما بعد الألف السابعة (لا يبلغ ألفا بل كسور ألف) (¬14) وإلاّ لم يكن أسبوعا، ولا يشترط في الرسول صاحب الألف / أن يكون على رأس الألف، ولا أن يكون بينه وبين غيره ألف. ¬

(¬12) حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة لجلال الدين السيوطي تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1387/ 1968، 2/ 125 - 126. (¬13) عبد الله بن العباس، اختصار ابن عباس المعروف بالحبر وبالبحر أيضا لسعة اطلاعه، يعتبر أكبر علماء الطبقة الأولى، أول المفسرين للقرآن الكريم. ولد قبل الهجرة النبوية بثلاث سنوات، أنظر عنه دائرة المعارف الإسلامية، (L' encyclopedie de l' Islam) باريس 1975، 1/ 41 - 42. (¬14) في ت وط: «طور ألف».

آدم عليه السلام أول الخلفاء

وذكر الشيخ محي الدين بن العربي (¬15) في «مسامرته» نقلا عن ابن عباس أن ما بين آدم ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلم خمسة آلاف سنة، وخمسمائة وخمسة وسبعون سنة، وعلى ما رواه الكلبي عن أبي صالح أنه ستة آلاف سنة وتسعة عشرة سنة، وتفصيل ذلك من آدم إلى نوح - عليهما السلام - ألف سنة ومائتا سنة، ومن نوح إلى ابراهيم - عليهما السّلام - ألف ومائة سنة، ومن ابراهيم إلى موسى - عليهما السّلام - خمسمائة وخمسة وسبعين سنة، ومن موسى إلى داود - عليهما السّلام - ألف وثلاثمائة وخمس وستون سنة، ومن عيسى إلى محمّد - صلّى الله عليهما وسلّم - ستمائة سنة، وللناس من الأمم في ذلك اختلاف كثير. آدم عليه السّلام أول الخلفاء: وأول خلفاء هذا النوع الإنساني في الأرض هو أبو البشر آدم - عليه السلام - حسبما يرشد إليه قوله علت كلمته {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (¬16) فلما نزل إلى الأرض نزل حزينا كئيبا لمفارقة دار الكرامة، ووحشته في الأرض، اذ لم يكن فيها أحد من هذا النوع غيره وزوجه، ونزل هو بجبال سرنديب (¬17) من أرض الهند، ونزلت هي بجدّة، وقد جعل الله سكون الزوج لزوجه كما قال: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها} (¬18) الآية. واستصحب في خروجه من الجنة سفرجلة (¬19) فشمّها فحصل له من طيبها منيّ في صلبه، خلقه الله ¬

(¬15) كذا في ت وط: وفي ش «بن عربي» وهو محي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن العربي الحاتمي الطائي (560 - 638/ 1165 - 1240) وبعضهم يكتب اسمه «ابن عربي» وبعض المصادر تعطيه كنية أبو بكر، بينما يسمي نفسه بأبي عبد الله فقط. صوفي مشهور، من أنصار وحدة الوجود. له تصانيف، بقي من كتبه أكثر من 150 مؤلفا ويبدو أن هذا نصف عدد ما كتبه وطبع منها عدد. انظر دائرة المعارف الإسلامية، (L' encylopedie de l' Islam) باريس وليدن 1975، 3/ 729 - 734. (¬16) سورة البقرة: 30. (¬17) راجع الكامل لابن الأثير، بيروت 1965، 1/ 37. وتاريخ الطبري 1/ 122. أنظر قصص الأنبياء المعروف «بعرائس المجالس» لإسحاق أحمد بن محمد بن ابراهيم الثعلبي، طبع محمد أفندي مصطفى، مصر 1301/ 1884، ص: 26. (¬18) سورة الرّوم: 21 وبداية الآية من النص محرّفة: «وجعلنا لكم. . .». (¬19) لم نعثر على خبر السفرجلة في أي كتاب من كتب التراث ولعل المؤلف أخذها عن الأساطير الشعبية كما يفعل في =

لتناسل النوع البشري، فتحركت فيه الشهوة، فاشتد شوقه لحواء، حكمة إلا هية، فطلب حواء فوجدها بعرفة فتغشّاها، فحملت بذكر وأنثى في بطن واحد، واستمر التوالد بينهما حتى بلغ عشرين بطنا، بذكر وأنثى في كل بطن (¬20)، ثم أمره الله تعالى بتزويج الذّكر من هذا البطن بأنثى البطن الآخر، وأنثاه بذكر الآخر وهكذا. ولما أراد الله تعالى خروج نور نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلم أوحى الله إليه بعد قتل قابيل أخاه هابيل (¬21)، أنّي مخرج منك نورا أجعله خاتم الأنبياء وخيار الأئمة والخلفاء، أختم الزمان بمدته فشمّر يا آدم وتطهّر وقدّس وسبّح، ثم اغش زوجك على طهارة منكما فإن وديعتي ونوري ينتقل إلى الولد الكائن بينكما، فغشيها - عليهما السّلام - فحملت لوقتها بشيث (¬22) - عليه السّلام - وهو عوض عن هابيل الذي قتله قابيل، فتلألأ النور في وجهها، فلما وضعته كان أكمل الأولاد خلقا وخلقا، وصورة وبشرا، فسمّاه آدم عليه السّلام شيث، ومعناه هبة الله فكان وصيّه وولي عهده بنبوءته، فلما حضرته الوفاة، أوصى لابنه شيث بالقيام بالشريعة، وعمر آدم تسعمائة سنة وثلاثين سنة على ما نقل / عن «التوراة» وقال وهب: عاش آدم ألف سنة وقبره قيل بأبي قبيس (¬23) بغار فيه يقال له غار الكنز، فلما جاء الطّوفان حمله نوح في السّفينة، فلما نزل منها ردّه إلى ذلك الغار (¬24)، وقيل إن قبر آدم في بيت المقدس، رأسه عند مسجد ابراهيم - عليه السّلام - ورجلاه عند الصّخرة الشّريفة، وقيل غير ذلك وعاشت حواء بعده سنة واحدة ودفنت معه، وقيل بجدّة وعمرها تسع مائة وسبع وستون سنة، فكان فيه وفي بنيه النبوءة، وأوصى لابنه كيومرث (¬25) بالملك والسياسة. ¬

= بعض الأحيان عندما يتحدث عن أصل الخليقة وعصورها الأولى ويؤيد هذا أن آدم حين هبط من الجنة كان له ولدان هابيل وقابيل كما ذكره المؤرخون. (¬20) قصص الأنبياء، ص: 33، والطبري 1/ 133 مع بعض الاختلاف. (¬21) عن قصة قابيل وهابيل أنظر على سبيل المثال تاريخ الطبري 1/ 137، والثعلبي: قصص الأنبياء ص: 5. (¬22) الكامل لابن الأثير، 1/ 47، والطبري 1/ 152. (¬23) في ت: «قيس». (¬24) الكامل 1/ 52. (¬25) في الطبري وفي كتب التاريخ التعرانية: جيومرت بالتاء المثناة وبالفارسية: كيومرث كما كتبها المؤلف، انظر هامش الكامل لابن الأثير، 1/ 45. وعن كيومرث ومختلف الأقوال في نسبه وتمليكه، راجع على سبيل المثال: الطبري 1/ 153.

كيومرث

كيومرث: فكان كيومرث أول ملوك بني آدم، كما أن شيث أول نبيء بعد آدم، وسبب ذلك أن آدم - عليه السّلام - ما حضرته الوفاة إلاّ وقد بلغ عدد أولاده وأولاد أولاده أربعين ألفا، ومن ضرورة الكثرة الإختلاف والتّنازع، والتّغالب لاختلاف الطباع، وتنافي الاختيارات، فلما كان آدم قائم الحياة كان يسوسهم بحق الأبوة والنبوءة، ولما حضرته الوفاة اختار خلاصة أولاده، وهما شيث وكيومرث، فأقام كل واحد منهما فيما خلقه الله لأجله، ثم أن آدم - عليه السّلام - أعطاهما أربعين صحيفة ليعملا بما فيها، فولى شيث حفظ أمور الدين والآخرة، وكيومرث حفظ الممالك ونظامها التام، والسياسة بالضبط وتعمير الأرض. مهلائيل: فأما كيومرث فكان ملكه مائتي سنة وثلاث وعشرين سنة، وعمره ألف سنة فعهد لولده (¬26)، وولده لولده حتى / أفضى الملك للخامس، وهو مهلائيل (¬27) بن قينان (¬28)، فكثر الخلق في زمنه، وتضايقوا وتزاحموا، وكان سكناهم بالكهوف والغابات والجبال، ففرق الخلق للأقطار فنزل مهلائيل (27) مع من كان معه إذ ذاك من أولاد شيث بأرض بابل، فابتدأ ببناء مدينة بابل، فهو أول من بنى المدائن، وقيل إن كيومرث هو الذي ابتدأ بناية مدينة اصطخر، ومدينة نهاوند. شيث وذريته: وأما شيث فكان بأرض مصر، فلما مات وعمره تسعمائة سنة واثنا عشر سنة، دفن بقرب آدم - عليه السّلام - وكان أوصى بعهده إلى ابنه أنوش، ثم إلى ابنه قينان، ¬

(¬26) في ت: «فعهد بعده لولده». (¬27) كذا في الكامل، في ط: «مهيافيل» 1/ 57. (¬28) في الأصول: «قنيان» والمثبت من الكامل 1/ 57.

ادريس

ثم إلى ابنه مهلائيل (¬29) ثم إلى ابنه يرد (¬30)، ثم إلى ابنه أخنوخ (¬31)، وهو ادريس - عليه السّلام - ثم إلى متّوشلخ، ثم إلى ابنه لامك (¬32)، ثم إلى ابنه نوح النبيء - عليه السّلام - فكانت الوصيّة تارة تجتمع مع النبوءة وتارة مع الولاية والحكمة، وتملّك فيهم عشرة آباء من أكابر أولاد آدم، فكانوا على شرع آدم ووصيته وعهده، وكان فيهم النبوءة والولاية، والحكمة والملك، وكان لهم سلاطين وملوك على شرائعهم إلى آخر أيّام نوح - عليه السّلام - وكان ملك زمانه فرعان الذي قام عليه الطوفان. ادريس: وادريس - عليه السّلام - هو أول من دبّر الأرض ووزن الماء وأجرى النّيل للزراعات، ونصب الجر عليه لمعاملات القرى، وصعد إلى أول مسيل / النّيل، لأنه ولد بمصر، فخرج منها وطاف الأرض، ودعا الخلق إلى الله، ثم رحل إلى المشرق وأطاعه جميع الملوك، وابتنى مائة وأربعين مدينة، ثم عاد إلى مصر، ودبّر أمر النيل من أول مجراه إلى موضع انصبابه في البحر الرّومي بقرب دمياط (¬33) وكان جمع أهل مصر، وأمرهم باصلاح الأرض من خفض المرتفع ورفع المنخفض بما رآه في علم النجوم والهيئات، وهو أوّل من تكلّم في هذه العلوم، وأخرجها من القوّة إلى الفعل ووضع فيها الكتب، ورسم فيها التّعاليم، ثم سار إلى أرض الحبشة والنّوبة، وجمع أهلها وزاد في مسافة جري النيل، ونقّص بحسب بطئه وسرعته في طريقه، حتى كمل حساب جريه ووصوله إلى أرض مصر في أول زمان الزّراعة على ما هو عليه الآن، فهو أول من دبّر جري النيل إلى أرض مصر، وهو الهرمس الأول، النبوي الحكمي السّلطاني، الفلكي ¬

(¬29) في الأصول: «مهيائيل» والمثبت من الكامل 1/ 54، واليعقوبي. (¬30) في الأصول: «يزد» والمثبت من الكامل 1/ 54. (¬31) كذا في الأصول، وفي مروج الذّهب، وتاريخ اليعقوبي، وفي الكامل: «حنوخ» 1/ 55. وفي غير الكامل حنوخ هو غير أخنوح الذي ورد ذكره. (¬32) كذا في الأصول وفي الكامل، وفي الكامل أيضا وفي مروج الذهب: «لمك» عن أخبار هذه السلسلة انظر الكامل 1/ 54 - 55. (¬33) في الأصول: «ذمياط» والمثبت من معجم البلدان 2/ 472 - 473 قال الحموي: مدينة قديمة بين تنيس ومصر على زاوية بين بحر الروم الملح والنيل، والوفيات 6/ 258 قال ابن خلكان «ولفظة دمياط سريانية وأصلها بالذال المعجمة، ويقولون: «ذمط».

الملكي، الرّوحاني العقلي الإنساني، ويسمّى هرمس الهرامسة، أي حكيم الحكماء المشهورة، فله ثلاث مناصب: نبوءة آدمية، وحكمة إلاهيّة، وسلطنة أرضية، وله تجرد ملكي وسياحة فلكية (¬34)، عرج إلى الأفلاك، وشاهد أطوارها وأدوارها، غلبت روحانيته بشريته، فصار كثير الإنسلاخ عن البدن، وهو صاحب المعراج الملكي، خالط الملائكة الكرام، والأرواح المجرّدة، ولم يأكل، قيل لم يتم ستة عشر عاما حتى بقي عقلا / مجردا وروحانية في فلك الشمس، وهو وسط الأفلاك حسبما يرشد إليه علت كلمته بقوله: {وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا} (¬35) تحته ثلاثة أفلاك، وفوقه مثلها، حسبما ذكره الشيخ الأكبر في الفصل الادريسي. وادريس هو أوّل من كتب الكتب في أسرار الهياكل، وأدوار الأفلاك، وأطوار الأرواح المجرّدة، وأول من صنف كتاب «كنز الأسرار في علم الحروف» ولما صنّف الكتب الكثيرة، حرصا على تخليد علومه، أخذ جبريل أكثرها، فألقاه في البحر لحكمة الاهية، لما فيها من اظهار أسرار الرّبوبيّة التي اقتضت الحكمة اخفاءها عن العامة، فمن أراد أخذ تلك العلوم أخذها بالقوة العاقلة القليلة القدسيّة، مما بقي من كتبه، فإنها اقتبس (¬36) منها أساطين الحكماء أحكام علوم الأفلاك، وأسرار الحروف، والخواص الفلكية والأرضية، ثم خلطت طوائف أرذال الحكماء من الدهريّة والطبيعيّة، زخارف الفلسفة بتلك العلوم، فيجب الاحتراز عن علومهم المزخرفة، فإنها لا تخفى على العقلاء، وإلاّ وقع الإنسان في سوء الاعتقاد كما وقع لابن سيناء والفارابي ومن تبعهم. وهو - عليه السّلام - أول من خاط بالإبرة، واشتهر بالحرفة. ولما ظهر في زمنه عبادة أولاد قابيل لغير الله تعالى أرسله الله تعالى نبيئا بعد شيث، فزجر وأمر ونهى، وجاهد وسبى وهو أول من أرسل بالدعوة / القهريّة، فسن الجهاد والقتل والسّبي لمن كفر، واستخرج آلات القتال من السيف والسرج، وما يتوقف عليه الجهاد، واستنبط علوم الكتابة من الأوضاع الحرفية والأقلام. وهو أول من أسّس الهياكل، ومجّد الله فيها، وبنى الأهرام والمناير، وصور فيها جميع الصنائع والآلات، ورسم فيها العلوم، حرصا على تخليدها لمن بعده، لما تحقق وقوع الطوفان. ولما مضى من عمره ثلاثمائة سنة وستون ¬

(¬34) في ت: «وسياسة ملكية». (¬35) سورة مريم: 57. (¬36) في ت: «استبين».

إبراهيم وإبنيه

سنة، رفعه الله إلى السماء من أرض مصر، فهو الآن فيها، والعامة تزعم أنه مات بمصر، وأن أحد أهرام مصر قبر شيث، والآخر قبر ادريس - عليهما السّلام - (¬37). وبأرض مصر ثمانية عشر أهراما، قيل في كل واحد منها قبر ملك من ملوكها، البعض قبل الطّوفان، والبعض بعده، كذا قيل، وفي أمرها اختلاف كثير، والله أعلم. وفي الخبر النبوي أن ادريس هو الياس، وقيل ينزل مرّة أخرى كما ينزل عيسى - عليه السّلام - قال مشايخ الصّوفية: له جولان في الأرض، وقطبيّة برّيّة، مع خلافة محمديّة كما للخضر أخيه قطبيّة بحرية، وبينهما اجتماع برا وبحرا، عند سد ياجوج وماجوج، وفي مكة وعرفات، كما ورد في أحاديث أوردها السّيوطي - رحمه الله تعالى - في «الجامع الصغير والجامع الكبير» وتواترت عليهما أخبار الصّوفية كشفا ومشاهدة واجتماعا بهما، كما ذكر ابن العربي في «الفتوحات / المكية». وبعد الطوفان أول ملوك مصر هو مصر بن حام بن نوح - عليه السّلام -، وهو أبو القبط كلهم، وبه سمّيت تلك البلاد، وبعث هود - عليه السّلام - في زمنه فدعاه إلى التّوحيد فما آمن، فهو أول الفراعنه بعد الطوفان. إبراهيم وإبنيه: ومن الفراعنة فرعون ابراهيم - عليه السّلام - قال الثّعلبي في كتاب «العرائس» (¬38) من قصص الأنبياء، لما نجّى الله خليله ابراهيم من نار النمرود، وآمن به من آمن، خرج مهاجرا إلى ربّه، وتزوج ابنة عمه سارة، وسار ومن معه فقدم إلى مصر، وبها فرعون الفراعنة الأولى (¬39)، وكانت سارّة من أحسن النساء، وكانت لا تعصي ابراهيم، وبذلك أكرمها الله تعالى، فأتى ابليس إلى فرعون وقال له: إن ههنا رجلا ومعه امرأة من أحسن النساء، فأرسل الجبار إلى ابراهيم - عليه السّلام - فقال له: ما هذه المرأة منك؟ (¬40) ¬

(¬37) أخذ بعض ما قاله عن أدريس من قصص الأنبياء للثعلبي، ص: 37. (¬38) وقعت الإشارة إليه، وللتذكير الكتاب هو: قصص الأنبياء المسمى بعرائس المجالس، وعن قصة ابراهيم وسارّة وفرعون مصر أنظر: قصص الأنبياء ص: 61. (¬39) الكامل 1/ 100 قال ابن الأثير بعدها: «كان اسمه سنان بن علوان بن عبيد بن عولج، بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح». (¬40) في ت: «ما تقرب هذه المرأة».

فقال: هي أختي، وخاف إن قال هي امرأتي أن يقتله، فقال له: زينها وأرسلها إلي، فرجع إبراهيم إلى سارة فقال لها: إن هذا الجبّار قد سألني عنك، فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني عنده، فإنك أختي في كتاب الله، فإنه ليس مسلم في هذه الأرض غيري وغيرك، ثم أقبلت سارّة إلى الجبّار وقام ابراهيم يصلّي وقد رفع الله الحجاب بين ابراهيم وسارّة، ينظر إليها منذ أن فارقته إلى أن / عادت إليه، اكراما له وتطييبا لقلب ابراهيم - عليه السّلام - فلما دخلت سارة على الجبار ورآها، دهش في حسنها، ولم يملك نفسه أن مدّ يده إليها، فيبست يده على صدره، فلما رأى ذلك أعظم أمرها، فقال لها: سلي ربّك أن يطلق يدي عليّ فو الله اني لا أوذيك فقالت سارة: اللهم إن كان صادقا فاطلق يده، فأطلقها الله تعالى، فوهب لها هاجر، وهي جارية قبطيّة جميلة، وردها إلى ابراهيم، فأقبلت إلى ابراهيم - عليه السّلام - فلما أحس بها انتقل من صلاته، وقال: هيه؟ قالت: كفى الله كيد الفاجر ووهبني هاجر، وقد وهبتها إليك فلعل الله يرزقك منها ولدا صالحا، وكانت سارة قد منعت الولد حتى أيست، فتغشّى ابراهيم هاجر فحملت وولدت له اسماعيل. وأقام ابراهيم بأرض فلسطين بين الرّملة وإيليا، وهو يضيّف من يأتيه، وقد وسّع الله عليه وبسط له في الرّزق والمال والخدم. قيل إن فرعون مصر لما وهب هاجر وهب معها تلك الأرض فأقطعها ابراهيم، فبقيت له ولبنيه من بعده، فهو يستطعم ويضيّف منها، فظهر من هذا أن الفراعنة كانت تعظّم الأنبياء، وكانوا يعترفون بملكوت السموات (والأرض) (¬41) وبه صدر أمر الأنبياء - عليهم الصّلاة والسّلام - وامتنعوا من تصديق الأنبياء احتجاجا بالكهانة والسحر والنجوم والسيمياء / ودعوا الألوهية ممن يدعيها، إنما هو طغيان وعتوّ واظهار للناس مع الاعتراف في أنفسهم بالعجز والافتقار، ثم إن الله - تعالى - تفضّل على سارّة بأن رزقها اسحاق، وأرسل الملائكة لابراهيم ولها بالبشارة، فرزق ابراهيم اسماعيل من هاجر، واسحاق من سارّة. قيل إن اسماعيل واسحاق تهاوشا وتضاربا كما يتهاوش الأطفال، فقالت سارّة: فرّق بين ابنيك، فأوحى الله إلى ابراهيم - عليه السّلام - أن يأتي بهاجر وابنها إلى مكة، فذهب بها حتى قدم مكة وهي اذ ذاك عضاة وسلم، وموضع البيت ربوة حمراء، فعمد ¬

(¬41) ساقطة من ت وط.

بها إلى موضع الحجر - بسكون الجيم -، فأنزلهما فيه، وأمرهما أن يتخذا عريشا، ثم انصرف فتبعته هاجر فقالت: أمرك بهذا ربّك؟ قال: نعم. قالت: اذن لا يضيعنا، فرجعت عنه وكان معها شن ماء فنفذ، فعطشت وعطش ولدها، حتى نزلت في الوادي، فغابت عنه فهرولت حتى صعدت الجانب الآخر وهو موضع الصّفاء فرأته واستمرت إلى أن صعدت مكان المروة فما رأت أحدا وتردّدت كذلك سبعا، فعادت إلى ولدها وقد نزل جبريل - عليه السلام - فضرب موضع زمزم بجناحه فنبع الماء، فبادرت هاجر إليه وحبسته من السيلان كي لا يضيع (¬42). روي لولا أنها / حبسته لكانت عينا معينا، فشربت وأروت ولدها وقال لها جبريل: لا تخافي الضّيعة فإن هنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، فإن الله لا يضيع أهله». قال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي في «تفسيره» (¬43): لا يجوز لأحد أن يتعلق بهذا في جواز طرح ولده وعياله بأرض مضيعة اتكالا على الله العزيز الرحيم، واقتداء بفعل ابراهيم - عليه السّلام - فإنه فعل ذلك بأمر الله اهـ‍ (¬44). ولأنه قيل إن ابراهيم - عليه السّلام - سخّر الله له البراق، فكان ابراهيم يركبه متى أراد فيتفقدهما ويرجع من ساعته (¬45). ثم إنه مرت فرقة من جرهم قبيلة من عرب اليمن كانوا قاصدين الشّام، فاستاذنوا هاجر في المقام معها ليؤنسوها، ويشربون من زمزم على جهة الفضل على أن الماء ماؤها فأذنت (لهم بذلك) (¬46) ثم شب اسماعيل وتزوج منهم (¬47) وتكلم بلسانهم لنشأته معهم، فتعرّب وولد من بنات جرهم أولادا يتكلمون بلغة جرهم، فمن ثم يقال لبني اسماعيل: العرب المستعربة، ويقال لجرهم وقحطان: العرب العاربة، والعرب العرباء، وكان لسان ابراهيم عبرانيا، ولسان اسماعيل عربيا. ¬

(¬42) عن قصص الأنبياء بتصرف ص: 62 - 63. (¬43) القرطبي، ينقل عنه بواسطة الثعلبي. (¬44) انتهى نقله من قصص الأنبياء ص: 55 - 64. (¬45) في ت: «ويرجع إلى مقره من ساعته». (¬46) ساقطة من ش وط. (¬47) قصص الأنبياء ص: 63.

العرب: طرف من أصلهم وبعض من أخبارهم

العرب: طرف من أصلهم وبعض من أخبارهم: ولما جرى ذكر جرهم فلا بد من ذكر طرف من أصلهم، وبعض من أخبارهم. فنقول: «ذكر صاحب (¬48) «المختصر في أخبار البشر» (¬49) أن المؤرخين قسمت / العرب ثلاثة أقسام بائدة (¬50) وعاربة ومستعربة. أما البائدة فهم العرب الأولى الذين ذهبت عنا تفاصيل أخبارهم لتقادم عهدهم وهم عاد وثمود وجرهم الأولى، فكانت على عهد عاد فبادوا (¬51) ودرست أخبارهم، وأمّا جرهم الثانية فهم أولاد قحطان بن الهميسع بن ثابت بن اسماعيل، وبجرهم الثانية اتصال (¬52) اسماعيل النبيء - عليه السّلام - ولم يبق من العرب البائدة إلاّ القليل. وأما العرب المستعربة فهم ذريّة اسماعيل النبيء - عليه السلام -. وأما العرب العاربة فهم عرب اليمن والحجاز من ذريّة قحطان المتقدم، وذلك أنه خلف واحدا وثلاثين ذكرا أمّهم واحدة، كانوا نزلوا أولا بالهند، فلما هلكت عاد وبقي من عقبهم طائفة من مكة وهم عاد الأخرى هلكوا، وفي الحديث أنهم مسخوا نسانس (¬53)، لكل واحد منهم يد ورجل بشق واحد، ينقرون كما ينقر الطيور، ويرعون كما ترعى البهائم، وقيل أولائك انقرضوا، والموجود من النّسانس خلق على صفتهم كالقردة، والخنازير الموجودين الآن، غير الممسوخ من بني اسرائيل. وأصل جرهم الثانية أنهم نجب من أولاد قحطان اثنان أحدهما جرهم الثاني المقدّم الذّكر، فملك الحجاز ثم ملك بعده ولده عبد ياليل ابن جرهم، ثم ابنه جرهم، ¬

(¬48) هو الملك المؤيد اسماعيل بن علي الأيوبي المعروف بأبي الفداء (672 - 1273/ 732 - 1331)، ملك حماة وألف كتابه المختصر في أخبار البشر، طبعة أولى، مصر بدون تاريخ، 1/ 99 و 104. (¬49) في الأصول: «أنباء» وهو ما يخالف العنوان الأصلي. (¬50) في ش: «بادية». (¬51) في ت: «فبادوا كلهم». (¬52) «وبهم اتصال اسماعيل بن ابراهيم الخليل عليه السّلام» تصرف المؤلف في النقل بالحذف ص: 105. (¬53) النسناس بكسر النون وفتحها نوع من القردة، أنظر حياة الحيوان الكبرى للدميري 2/ 352 - 354 وذكر الحديث بدون بيان لمخرجه. وفي حديث أبي هريرة «ذهب الناس وبقي النسناس»: قيل هم ياجوج وماجوج وقيل خلق على صورة الناس أشبهوهم في شيء وخالفوهم في شيء وليسوا من بني آدم وقيل هم من بني آدم. ومنه الحديث «إن حيا من عاد عصوا رسولهم فمسخهم الله نسناسا لكل رجل منهم يد ورجل من شق واحد ينقرن كما ينقر الطائر ويرعون كما ترعى البهائم»، من كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير، ج 5 ص: 50 تحقيق محمود محمد الطناحي.

ولاية الكعبة

ثم بعد جرهم ابنه المدّان / ثم بعد المدان ابنه نفيلة، ثم بعد نفيلة ابنه عبد المسيح، ثم بعد عبد المسيح نفيلة، ثم عمر بن مضاض، ثم بعده أخوه الحارث بن مضاض مائة سنة، ثم ابنه عمر بن الحارث مائة وعشرين سنة، ثم أخوه البشر بن الحارث، ثم مضاض الأصغر أربعين سنة وجرهم المذكورون هم الذين اتصل بهم اسماعيل النبيء - عليه السّلام -، وقد انقرضوا (¬54). وثاني نجبا: أولاد قحطان ابنه يعرب بن قحطان وسيأتي خبره. ولاية الكعبة: ثم إن ابراهيم - عليه السّلام - تزوّج بعد وفاة سارّة قطورا بنت يقطن الكنعانية (¬55) فولدت له ستة أولاد، وولد (¬56) لاسماعيل بن ابراهيم من زوجته رعلة (¬57) ابنة مضاض ابن عمرو الجرهمي اثنا عشر رجلا منهم نابت بن اسماعيل، وقيدار (¬58) ووطور (¬59)، فلما بلغ اسماعيل مائة وثلاثين سنة مات، ودفن بالحجر مع أمّه - عليه السّلام - فولي البيت بعده نابت بن اسماعيل، ونشر الله العرب من نابت فكثروا ونموا ثم توفي نابت، فتولى البيت بعده جده لأمه مضاض بن عمرو الجرهمي، وضمّ إليه بني نابت بن اسماعيل، وصار ملكا عليهم وعلى جرهم، ونزلوا بقيقعان (¬60) بأعلى مكّة، وكانوا أصحاب سلاح كثير، ونزل العمالقة بأسفل مكّة، فصاروا إلى رجل منهم ولوه ملكا عليهم يقال له السّميدع، ونزلوا بأجياد، وكانوا أصحاب خيل، وكان الأمر بمكة لمضاض بن عمرو دون السميدع إلى أن حدث بينهما البغي واقتتلوا، فقتل السميدع، وتم الأمر لمضاض بن ¬

(¬54) المختصر 1/ 73 - 74. (¬55) الطبري 1/ 309. (¬56) النقل عن الأزرقي بواسطة الإعلام بأعلام بيت الله الحرام لقطب الدين النهروالي، مكتبة خياط، بيروت - لبنان 1964، ص: 39. (¬57) في الطبري: «السيدة» 1/ 314، وفي تاريخ اليعقوبي: «الحيفاء» 1/ 27. (¬58) كذا في بعض كتب التاريخ، ونص عليها الطبري على أنها صيغة من الصيغ وفي نصه قيدر 1/ 314. وقال اليعقوبي في تاريخه «وهذه الأسماء تختلف في الهجاء واللغة لأنها مترجمة من العبرانية» 1/ 222. (¬59) في الأصول: «أيطور» والمثبت من الطبري 1/ 314 وعن أسماء أولاد اسماعيل كلهم انظر نفس المرجع. وفي الإعلام: «قطور». (¬60) في الإعلام: «قعيقعان».

عمرو، وفي ذلك يقول قائلهم: / [طويل] ونحن قتلنا سيّد الحيّ عنوة ... فأصبح فيها وهو حيران موجّع (وما كان يبغي أن يكون خلافنا ... بها ملك حتى أتانا السّميدع) (¬61) فذاق وبالا حين حاول ملكنا ... وعالج منا غصّة متجرّع فنحن عمرنا البيت كنّا ولاته ... ندافع عنه من أتانا ونمنع (¬62) وما كان (¬63) حقا أن يلي ذاك غيرنا ... ولم يك حي قبلنا ثم يدفع (¬64) وكنا ملوكا في الدّهور التي مضت ... ورثنا ملوكا لا ترام فتوضع ثم نشر الله بني اسماعيل وأخوالهم جرهما، فكانت جرهم ولاة البيت لا ينازعهم بنو اسماعيل لخؤولتهم وقرابتهم، فلما ضاقت مكّة وانتشروا في الأرض، فلا يأتون قوما ولا ينزلون بلدا إلاّ أظهرهم الله عليهم بدينهم، وهو يومئذ دين ابراهيم - عليه السّلام - حتى ملؤوا البلاد ونفوا عنها العمالقة، وكانوا ضيّعوا الحرم، بل حرمة الحرم (¬65)، ثم أن جرهما استخفوا بأمر البيت الحرام، وارتكبوا الأمور العظام، وأحدثوا فيها ما لم يكن قبل ذلك، فقام فيهم مضاض (¬66) بن عمرو بن الحارث بن مضاض (¬67) خطيبا، فقال: يا قوم احذروا البغي، فقد رأيتم من كان قبلكم من العمالقة كيف استخفّوا بأمر البيت، فلم يعظّموه، فسلّطكم الله عليهم فأخرجتموهم، فتفرقوا في البلاد، وتمزقوا كل ممزق، فلا تستخفوا بحق الله فيخرجكم منه. فلم يطيعوه، وقالوا: من يخرجنا ونحن أعزّ ¬

(¬61) في الأصول: وما كان بغيا أن يكون بها إذا لها ملك حتى أتانا السّميدع والمثبت من الإعلام بأعلام بيت الله الحرام ص: 39. (¬62) في الإعلام: «وندفع». (¬63) في الإعلام: «وما كان يبغي». (¬64) في الإعلام: «يمنع». (¬65) بعدها في ط: «واستحلوها واستخفوا بأمر البيت فأخرجهم الله بعد من أرض الحرم»، وعن هذا الخبر أنظر اليعقوبي 1/ 222. (¬66) اختصر نسبه. أنظر عن نسبه الكامل اليعقوبي 1/ 222. (¬67) هو «المضاض بن عمرو الجرهمي جد ولد اسماعيل، ولي البيت، ونازع فيه السميدع بن هوبر ثم ظهر عليه المضاض فمضى السّميدع إلى الشام وهو أحد ملوك العمالقة واستقام الأمر لمضاض حتى توفي» اليعقوبي، 1/ 222.

العرب، وأكثر رجالا وسلاحا، فقال لهم: إذا جاء أمر الله بطل ما تقولون. واعتزل / جرهما وأخذ معه بني اسماعيل، فسلّط الله على جرهم خزاعة فحاربوهم واعتزل عمرو مع بني اسماعيل حربهم، فغلبت خزاعة وأخرجت جرهما من الحرم (¬68)، فاستأذن عمرو خزاعة أن يساكنهم، فأبت خزاعة ذلك وقالوا: من قارب الحرم من جرهم فدمه هدر، وأبقوا معهم بني اسماعيل. ثم نزلت ابل لمضاض بن عمرو، ودخلت مكة فأخذتها خزاعة، ونحرتها وأكلتها، فتبع أثرها مضاض فوجدها دخلت مكة، فسلك الجبال حتى طلع على جبل أبي قبيس، فتبصّر ابله في بطن الوادي، فرأى الابل تنحر وتؤكل، ولا سبيل إليها، ورأى أنه إن هبط الوادي قتل فولى منصرفا إلى أهله (¬69) ويقول: [طويل] كأنّ لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ... أنيس ولم يسمر بمكّة سامر (¬70) وكنّا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بهذا البيت والخير ظاهر (وكنّا لاسماعيل صهرا وجيرة) (¬71) ... فأبناؤه منّا ونحن الأصاهر فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك بين (¬72) الناس تجري المقادر وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة (¬73) ... كذلك عضّتنا السنون الغوابر وسحّت دموع العين (تبكي لبلدة) (¬74) ... بها حرم أمن وفيها المشاعر بواد أنيس لا يطار حمامه ... ولا ينفرن يوما لديه العصافر (وفيها وحوش) (¬75) لا تراب أنيسة ... (إذا خرجت منها فما أنت غادر) (¬76) ¬

(¬68) اليعقوبي 1/ 238. (¬69) بعدها في ت: «حيرانا من ذلك وهو ينشد ويقول». (¬70) خلافا لما جاء في النص، نسبت هذه الأبيات لعامر بن الحارث الجرهمي، أنظر المختصر الذي ذكر منها البيتين الأولين، 1/ 105، والقطعة بالأعلام مع أبيات ناقصة ص: 14. (¬71) في الأصول: «وكنا لابراهيم صهرا وخيرة» والمثبت من الإعلام بيت الله الحرام ص: 41. (¬72) في الأصول: «ما» والمثبت من نفس المصدر. (¬73) في ط: «بقبلة»، في ت وش: «بغيظة» والمثبت من نفس المصدر. (¬74) في الأصول «منا لبلدة» والمثبت من نفس المصدر. (¬75) في الأصول: «وفيه الوحوش» والمثبت من نفس المصدر. (¬76) في الأصول: «إذا قربت منه فما أن تغادر» والثبت من نفس المصدر.

فيا ليت شعري هل يعمّر بعدنا ... (جياد ويقضي سيله والظواهر) (¬77) وهل فرح يأتي بشيء نريده ... وهل جزع ينجيك مما تحاذر / فانطلق مضاض بمن معه إلى اليمن (¬78) وهم محزونون على مفارقة مكة، وصارت خزاعة حجّاب بيت الله الحرام (¬79)، وولاة أمر مكّة، وفيهم بنو اسماعيل لا ينازعونهم في شي، ولا يطلبونه، إلى أن كبر شأن قصيّ بن كلاب بن مرة، فاستولى على حجابة البيت وأمر مكّة، وقالوا: قصيّ أول رجل من بني كنانة أصاب ملكا بمكة، فكانت إليه الحجابة والوفادة، والسقاية والنّدوة، واللواء والقيادة وهو الذي جمع أمر قريش فسمي مجمّعا، بكسر الميم المشددة، وفي ذلك يقول القائل: [طويل] أبوكم (¬80) قصيّ كان يدعى مجمّعا ... به جمّع الله القبائل من فهر هم ملكوا البطحاء مجدا وسؤددا ... وهم طردوا عنها غزاة بني عمرو قيل سميت قريشا لاجتماعهم على قصيّ، والتّقرّش هو الاجتماع، وقيل لغير ذلك، واستمرّ بنو قصيّ كذلك إلى زمن ظهور النبيء صلّى الله عليه وسلم. روي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه قال: كان بمكّة حيّ يقال لهم العمالقة، كانوا في عز ثروة، وكانت لهم خيل وابل ومواش ترعى حول مكّة، وكانت العضاة ملتفة والأرض مبقلة، وكانوا في عيش رخي، فبغوا في الأرض وأسرفوا على أنفسهم، وأظهروا الظلم والالحاد، وتركوا شكر الله، فسلبوا نعمتهم، وكانوا يكرون الظّل، ويبيعون الماء، فأخرجهم الله من مكّة بأن سلّط عليهم النّمل حتى خرجوا من ¬

(¬77) في الأصول: «جبال وتمضي سيله والطوائر» والمثبت من الإعلام ص: 41. (¬78) يختلف مع اليعقوبي، ووقع الاشكال لتكرار نفس الإسم، ونورد ما قاله اليعقوبي تفاديا للخلط «فبعد المضاض بن عمرو الجرهمي ملك الحارث بن مضاض، ثم ملك عمرو بن الحارث بن مضاض، ثم ملك المعتسم ابن الظليم، ثم ملك الحواس بن جحش بن مضاض، ثم ملك عدد بن صداد بن جندل بن مضاض، ثم ملك فحص بن عداد بن صداد، ثم ملك الحارث بن مضاض بن عمرو، وكان آخر من ملك جرهم» اليعقوبي: 1/ 222، إذا حسب اليعقوبي الحارث بن مضاض بن عمرو هو آخر من ملك بالبيت من جرهم بينما مقديش يذكر أنه مضاض بن عمرو بن الحارث، ولعل الناسخ قلب الأسماء بالتقديم والتأخير. (¬79) الإعلام: ص: 42 واليعقوبي 1/ 238. (¬80) في الأصول: «أبوهم» والإصلاح من الإعلام ص: 42، وتاريخ اليعقوبي 1/ 240 وتاريخ الطبري 2/ 256 ومن النص فيما بعد.

الحرم (¬81)، ثم ساقهم بالجدب حتى ألحقهم الله بمساقط رأس آبائهم من بلاد اليمن، فتفرقوا وهلكوا / وأبدل الله بعدهم الحرم بجرهم فكانوا سكانه إلى أن بغوا فيه أيضا، فأهلكوا جميعا اهـ‍ (¬82). فظاهر هذا الأثر يقتضي سبق العمالقة على جرهم، وكان مبدأ قصيّ وترقّية أن أباه كلاب بن مرّة تزوّج فاطمة بنت سعد بن سيل (¬83) فولدت له زهرة وقصيّا، فهلك كلاب وقصي صغير واسمه زيد، فسمي قصيّا، مصغّر قصي، لأنه أبعد عن أهله ووطنه مع أمه لما توفي أبوه، فتزوجها ربيعة بن حرام (¬84)، فرحل بها إلى الشام، وولدت له رزاحا (¬85)، فلما كبر قصي وقع بينه وبين آل ربيعة شر، فعيّروه بالغربة، وقالوا له: ألا تلحق بقومك؟ وكان لا يعرف له أبا غير ربيعة بن حرام زوج أمه، فشكا إليها ما عيروه به فقالت له: يا ولدي أنت أكرم أبا منهم، أنت ابن كلاب بن مرّة، وقومك بمكّة عند البيت الحرام (¬86) فقدم مكة فعرف (له قومه فضله) (¬87) وقدّموه وأكرموه وكانت خزاعة مستولية على البيت ومكة، وكان كبيرهم حليل (¬88) بن حبشية الخزاعي بيده [مفتاح] (¬89) البيت الشريف والسدانة فخطب إلى حليل ابنته، فعرف حليل نسبه فزوجه ابنته حييّ (¬90)، فتزوجها قصي فكثرت أولاده وأمواله، وعظم شرفه، وهلك حليل، فأوصى بمفتاح البيت الشريف لابنته حييّ، فقالت: لا أقدر على السّدانة، فجعلت ذلك لأبي غبشان وكان سكّيرا يحب الخمر، فأعوزه في بعض الأوقات ما يشربه من الخمر، فباع المفتاح / بزق خمر، فاشتراه منه قصيّ، وسار في الأمثال: «أخسر من ¬

(¬81) أنظر عن العمالقة بالحجاز، المختصر 1/ 98. (¬82) الإعلام بأعلام بيت الله الحرام ص: 43. (¬83) في الأصول: «شبل» والمثبت من الإعلام بأعلام بيت الله الحرام ص: 44، وفي تاريخ اليعقوبي: «بن بسيل الأزدي» 1/ 237. (¬84) في ش: «خزام» وفي ت وط: «حزام» والمثبت من الإعلام بأعلام بيت الله الحرام ص: 44. (¬85) كذا في الأصول وهو الصحيح، في الإعلام: «دواجا» وفي أخبار مكة للأزرقي: «رزاح». (¬86) وردت هذه القصة في تاريخ اليعقوبي 1/ 237. (¬87) في ت: «فعرف قومه وأتوا إليه وقدموه». (¬88) في الأصول: «خليل» والمثبت من اليعقوبي 1/ 239 وكذلك بالإعلام للنهروالي ص: 44. (¬89) إضافة من الإعلام للتدقيق. (¬90) كذا في ش وفي اليعقوبي 1/ 239 في ط: «صبي» وفي ت: «صبا».

صفقة أبي غبشان» (¬91). فلما صار المفتاح إلى قصيّ، تناكرته خزاعة وكثر كلامها عليه، فاجتمع على حربهم، فحاربهم وأخرجهم من مكّة، وولي قصي أمر الكعبة (¬92)، وجمع قومه فملكوه على أنفسهم وكانوا يحترمون أن يسكنوا مكة ويعظمونها عن أن يبنوا بها بيتا مع بيت الله فكانوا يكونون بها نهارا فإذا أمسوا خرجوا إلى الحل، ولا يستحلون الجنابة بمكة، فلما جمع قصي قومه إليه أذن لهم أن يبنوا بمكّة بيوتا وأن يسكنوها، وقال لهم: ان سكنتم الحرم هابتكم العرب ولم تستحل قتالكم، ولا يستطيع أحد إخراجكم، فقالوا له: أنت سيدنا ورأينا تبع لرأيك، فجمعهم حول البيت وفي ذلك يقول قائلهم: «أبوكم قصيّ كان يدعى مجمعا. . .» (¬93). وابتدأ فبنى دار النّدوة (¬94) والنّدوة في اللغة الاجتماع، فكانوا يجتمعون فيها للمشورة وغيرها من المهمات، فلا تنكح امرأة ولا يتزوج رجل من قريش إلاّ فيها، ولا يدخلها من قريش ولا غيرهم إلاّ ابن أربعين سنة، وبنو قصي يدخلونها كلهم، وقسم جهات البيت الشريف بين طوائف قريش، فبنوا دورهم حول الكعبة من الجهات الأربع (¬95)، وتركوا للطواف (¬96) ببيت الله مقدارا، وهو المسمى بالمطاف، فاجتمع لقصيّ ما لم يجتمع لغيره / من الحجابة والسّقاية، والرّفادة (¬97)، والنّدوة، واللّواء، والقيادة - حسبما مر -. فالحجابة هي سدانه البيت بتولي مفتاحها، والسّقاية سقي الحجّاج كلهم الماء العذب، وكان عزيزا بمكة فيجلب إليها ليسقى الحجاج منه، وينبذ لهم بالتّمر والزّبيب لتقوى حلاوته، فكانت وظيفة فيهم، وأما الرّفادة فإطعام الطعام لسائر الحجاج، تمدّ لهم الأسمطة أيّام الحجّ، وكانت السّقاية والرفادة مستمّرة إلى أيام الخلفاء ومن بعدهم ¬

(¬91) وفي ت وط: «أحسن». (¬92) الإعلام 45 واليعقوبي 1/ 239 - 240 وأورد رواية أخرى في صعود قصي إلى ولاية البيت أنظر نفس المرجع ص: 238. (¬93) مطلع بيتين سبق ذكرهما. (¬94) لما ثبت البيت في يد قصي «بنى داره بمكة، وهي أول دار بنيت بمكة، وهي دار الندوة» اليعقوبي 1/ 239 والنقل من الإعلام كما أشرنا. (¬95) اليعقوبي 1/ 239 والطبري 2/ 259. (¬96) كذا في ت، في ش: «للطوائف»، وفي ط: «الطوائف». (¬97) في الأصول: «الوفادة» والمثبت من الإعلام ص: 46 واليعقوبي 1/ 241 والطبري 2/ 259. عن قصي ووظائفه أنظر أخبار مكة للأزرقي 1/ 92 - 96 والإعلام بأعلام بيت الله الحرام ص: 45 - 46، المؤلف ناقل لما في الإعلام.

من الملوك والسلاطين. قال التقي الفاسي (¬98) - رحمه الله -: إن الرّفادة كانت أيّام الجاهلية وصدر الإسلام، واستمرّت إلى أيامنا، وهي الطعام يصنع بأمر السّلطان بمنى للناس حتى ينقضي الحج اهـ‍ (¬99). وأما الآن فقد انقطع ذلك. وأما اللّواء (¬100) فراية تعقد إلى محاربة عدو، ويجتمعون تحتها، وأما القيادة فإمارة الجيش إذا خرجوا إلى حرب، فاجتمعت هذه كلّها لقصيّ، فلما كبر سنه، وضعف بدنه، قسّمها بين أولاده، وكان عبد الدار أكبر أولاده، وكان عبد مناف شرف في زمن أبيه. فقال قصيّ لعبد الدار: لألحقنّك يا بني بالقوم وإن شرفوا عليك، فأعطاه الحجابة باسلام مفتاح البيت إليه، وقال: لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تفتحها له أنت، وأعطاه السّقاية واللّواء. وقال: لا يشرب أحد إلاّ / من سقايتك، ولا يعقد لواء لقريش لحربها إلاّ أنت بيدك، وجعل له الرّفادة وقال: لا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلاّ من طعامك، وكانت الرّفادة خرجا تخرجه قريش من أموالها في كل موسم، فتدفعه إلى قصيّ، فيصنع به طعاما للحجّاج، فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد، وكان قصيّ فرض ذلك على قريش جميعهم وقال لهم: يا معشر قريش، إنّكم جيران الله وأهل بيته وأهل حرمه، وإن الحجّاج ضيفان الله وزوّار بيته، وهم أحق الاضياف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيّام الحج حتى يصدروا عنكم، فجعل قصيّ كل ما كان بيده من أمر قومه إلى عبد الدّار (¬101)، وكان قصيّ لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه لعظم شأنه، وعز سلطانه. قال ابن اسحاق: ثم إن قصيّا هلك فأقام على أمره بنوه من بعده، ثم ان بني عبد مناف: هاشما وعبد شمس والمطّلب ونوفلا، أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدي بني عبد الدّار من الحجابة واللّواء والسّقاية والرّفادة، ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم ولفضلهم، وتفرقت قريش، فكانت طائفة منهم يرون أن بني عبد مناف أحق من بني عبد الدار، وطائفة يرون أن إبقاء بني عبد الدار على ما جعله قصيّ لأبيهم أولى / فأجمعوا على الحرب، ثم اصطلحوا على أن تكون السّقاية والرّفادة لبني عبد مناف، ¬

(¬98) كذا في ت وط، في ش: «العباسي» والمثبت من الإعلام. (¬99) الأعلام ص: 46 ووردت هذه الأخبار أيضا في تاريخ اليعقوبي 1/ 242. (¬100) يستمر في النقل من الأعلام ص: 46. (¬101) في تاريخ اليعقوبي: قسم قصي المهام بين أولاده ولم يجمعها في يد عبد الدّار. فجعل السقاية والرئاسة لعبد مناف، والدار لعبد الدار، والرفادة لعبد العزى، وحافتي الوادي لعبد قصي 1/ 241.

والحجابة واللّواء والنّدوة لبني عبد الدار، وتحالفوا على ذلك، فولى الرّفادة والسّقاية هاشم، وكان عبد شمس مقلاّ ذا ولد، وكان هاشم موسرا، وهو أول من سنّ الرحلتين لقريش، (رحلة الشتاء إلى الشام ورحلة الصيف إلى الحبشة) (¬102)، وهو أول من أطعم الثّريد بمكة، واسمه عمرو، فسمّي هاشما لهشمه الخبز وثرده لقومه. ثم هلك هاشم بغزّة من أرض الشام تاجرا، فولي السّقاية والرّفادة أخوه المطّلب ابن عبد مناف، فكان ذا شرف وكرم، وكان أصغر من عبد شمس، فتوفي المطلب برومان (¬103) من أرض اليمن (¬104)، وتوفي عبد شمس بمكة، وتوفي نوفل بالعراق. ثم ولي عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقام لقومه ما كانت تقيمه آباؤه من قبله، وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه، فأحبه قومه وعظم خطره فيهم، وكان أكبر أولاده الحارث، لم يكن له أوّل أمره غيره، وبه كان يكنّى، ثم كثر بنوه حتى بلغوا عشرة، وكان أصغرهم سنّا عبد الله أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان أحبهم لأبيه (¬105). ولنذكر الآن خبر يعرب بن قحطان (¬106)، أخي جرهم - المقدم الذكر - فإنه أول من تملّك بالملك والرئاسة بأرض اليمن، لأنه جمع اخوته فاستولى على جميع اليمن سنين / متطاولة وهو أوّل من نطق بالعربية، واول من حيّاه ولده بتحية الملك، أبيت اللعن وأنعمت صباحا (¬107)، وذكر السيوطي إن أوّل من كتب بالعربية حرب بن أمية. قيل له: من أين تعلمته؟ قال: من عبد الله بن جدعان، وهو أخذه عن طريق كاتب الوحي هود - عليه السلام - فلما هلك يعرب ملك بعده ابنه يشجب بن يعرب، فملك سنين كثيرة، ثم ملك بعده ابنه عبد شمس، فلما ملك، أكثر الغزو في أقطار الأرض، وسبى خلقا كثيرا، وهو أول من فعل ذلك من ولد قحطان فسمي لذلك سبأ، وهو أول من بنى السّد بأرض مأرب باليمن، وفجر إليه سبعين نهرا، وساق إليه السّيول من مدى بعيد على بعض الأقوال، وقيل بنته بلقيس، وكان فرسخا في فرسخ، وكانت مدة ملكه ¬

(¬102) في الأصول: «رحلة الشتاء لليمن ورحلة الصيف للشام» والمثبت من اليعقوبي. (¬103) كذا في الأصول وهو الصحيح. وفي اليعقوبي 1/ 246 «بردمان». (¬104) عن هذه الأخبار أنظر اليعقوبي 1/ 246 - 247. (¬105) انتهى نقله من الإعلام ص: 48. (¬106) عن نسبهم ونسب سلالتهم أنظر اليعقوبي 1/ 195. (¬107) في اليعقوبي: «أنعم صباحا وأبيت اللعن» 1/ 195.

أربعمائة سنة (¬108) وهو المذكور في سورة سبأ بقوله تعالى {لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} (¬109) الآية، وكانت هذه المدينة بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث. ولما هلك سبأ ملك بعده الملك ابنه حمير، فكان أشجع النّاس في وقته وأكثرهم جمالا، وكان أوّل من وضع تاج الذهب على رأسه من ملوك اليمن (¬110)، وإنّما سمي حميرا لكثرة لباسه الثياب الحمر، وكان ملكه خمسمائة سنة. ولما توفي تولى ملكه أخوه كهلان بن سبأ (¬111)، وكانت مدة ملكه تقرب من ثلاثمائة سنة. ولما توفي تولى بعده واثل بن حمير، ثم تولى بعده ابنه / السكسك (¬112) بن واثل، ثم ملك بعده ابنه يعفر بن السكسك. ثم وثب على ملك اليمن ذورياش (¬113) وهو عامر بن باران بن عوف (¬114) بن حمير. ثم نهض من بني واثل النعمان بن يعفر بن [السكسك بن واثل] (¬115) بن السكسك. ثم ملك بعده ابنه أشمح (¬116) بن النعمان، (ثم ملك بعده عاد بن عوض، ثم ولده الأكبر شديد) (¬117)، ثم شدّاد بن عاد فهما أبناء عاد. وشدّاد هو الذي بنى مدينة إرم ذات العماد، ببعض صحارى عدن، في خمسمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وملك الأرض كلّها على ما قيل. (وملك بعده ابنه مرثد بن شدّاد. وكان على دين هود - عليه السلام - على كتمان من قومه، ثم بعده ولده عمر بن مرثد، وهو على دين أبيه، فملك مائة سنة، ثم بعده ملك عم أبيه نعمان بن عاد، عاش دهرا طويلا) (¬118) ثم بعده ¬

(¬108) ينقل عن المختصر لأبي الفداء بتصرف 1/ 66. (¬109) سورة سبأ: 15 وتمامها «آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ، كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاُشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ». (¬110) ذكرها اليعقوبي أيضا 1/ 195. (¬111) في المختصر: «تولى بعده وائل بن حمير». (¬112) في الأصول: «سكسك» والثبت من المختصر 1/ 66. (¬113) في الأصول: «زورباش» والمثبت من المختصر 1/ 66. (¬114) في الأصول: «مازان بن عون» والمثبت من المختصر 1/ 66. (¬115) إضافة من المختصر لأبي الفداء للتوضيح 1/ 66. (¬116) في ت: «أفسخ» في ش: «أفسيح» في ط: «أمسح» والمثبت من المختصر 1/ 67. (¬117) ما بين القوسين غير موجود في المختصر. (¬118) يختلف عن اليعقوبي 1/ 165. والمختصر 1/ 67 بالزيادة.

أخوه ذو سدد (¬119) بن عاد، ثم بعده ابنه الحارث، وهو تبّع الأول، وذكر أئمة التفسير عند قوله تعالى {وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} (¬120) من قصة سبأ. وعلى ما رواه الكلبي عن أبي صالح أن عمر بن عامر من أولاد سبأ، وبينهما اثنا عشر أبا وهو الذي يقال له مزيقيا بن ماء السّماء، أخبرته زوجه طريفة الكاهنة بخراب سد مأرب وتغريق سيل العرم الجنتين، وعن أبي زيد الأنصاري أن عمر رأى جرذا يحفر السد فعلم أنه لا بقاء له بعد. وقيل إنّه كان كاهنا وقد علمه بكهانته، فباع أملاكه وسار بقومه وهم ألوف من بلد إلى بلد حتى انتهى / إلى مكة المشرفة، وأهلها جرهم، وكانوا قد قهروا الناس وحازوا ولاية البيت على بني اسماعيل وغيرهم، فأرسل إليهم ثعلبه بن عمرو بن عامر، يسألهم المقام معهم إلى أن يرجع إليه رواده الذين أرسلهم إلى أصقاع البلاد يطلبون له موضعا يسعه ومن معه من قومه فأبوا، فاقتتلوا فانهزمت جرهم ولم يفلت منهم إلاّ الشّديد، وأقام ثعلبه بمكة وما حولها في قومه وعساكره حولا، فأصابتهم الحمّى فاضطروا إلى الخروج، وقد رجع إليه رواده فافترقوا فرقتين، فرقة توجهت نحو عمان، وهم الأزد وكندة وحمير ومن يتلوهم، وسارت ثعلبة نحو الشام فنزل الأوس والخزرج أبناء حارثة بن ثعلبة بالمدينة، وهم الأنصار، ومضت غسّان فنزلوا بالشّام وانخزعت خزاعة بمكة، فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو لحي، فولي أمر مكة وحجابة البيت، ثم جاءهم أولاد اسماعيل - عليه السّلام - فسألوهم السّكنى معهم حولهم، فأذنوا لهم في ذلك. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن فروة بن مسيك القطيفي سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن سبأ، فقال - عليه الصّلاة والسّلام - هو رجل كان له عشرة أولاد، ستة منهم سكنوا اليمن، وهم مذحج، بالذال المعجمة، وكندة، والأزد، والأشعريون، وحمير / وأنمار، منهم بجيلة وخثعم (¬121)، وأربعة منهم سكنوا الشّام وهم لخم وجذام، وعاملة، وغسّان. ولما هلكت أموالهم وخرّبت بلادهم تفرّقت أيادي سبأ شذرا مذرا، فنزلت طوائف منهم بالحجاز، فمنهم خزاعة نزلت بظاهر مكّة، ونزلت الأوس والخزرج بيثرب فكانوا ¬

(¬119) في الأصول: «وسيدد» والمثبت من المختصر 1/ 67. (¬120) سورة سبأ: 19. وأول الآية «فقالوا ربّنا باعد بين أسفارنا». (¬121) كذا في ش واليعقوبي 1/ 201 في ط: «ختعم» وفي ت «خشعم» وعن هذه الأخبار أنظر نفس المراجع.

الخليفة الأكبر محمد صلى الله عليه وسلم

أول من سكنها، ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود، بنو قينقاع وبنو قريضة والنضير، فحالفوا الأوس والخزرج، وأقاموا عندهم، ونزلت أخرى بالشّام، وهم الذين تنصّروا فيما بعد، وهم غسان وعاملة ولخم وجذام، وتنوخ وثعلب وغيرهم. وسبأ تجمع هذه القبائل كلّها. والجمهور على أن جميع العرب قسمان: قحطانية وعدنانية، والقحطانية شعبان: سبأ وحضرموت، والعدنانية شعبان: ربيعة ومضر، وأما قضاعة فمختلف فيها، فبعضهم ينسبها إلى قحطان، وبعضهم إلى عدنان والله أعلم. ثم إن العرب انقسمت إلى شعوب وقبائل كما قال تعالى {وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ} (¬122) فالشّعب الجمع العظيم المنتسب إلى أصل واحد، وهو يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ يجمع الفصائل. فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة. الخليفة الأكبر محمد صلّى الله عليه وسلم: فإذا تمهّد هذا (¬123)، لنرجع إلى ما نحن بصدده من ذكر خلفاء الإسلام / وأئمتهم، فنقول: إنّ الخليفة الأكبر الذي لولاه ما خلقت شمس ولا قمر، بل لا دنيا ولا آخرة، فهو نتيجة مقدّمات الكون واكسير معدن الكائنات، وروح جسد المخلوقات، وسرّ وجود المخترعات، هو نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم بن عبد الله، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرّة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن النّضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن الياس، بن مضر، بن نزار، بن معدّ، بن عدنان (¬124). هذا هو النسب الذي اتفقت أئمة النّسب على معرفته، وما وراءه وقع فيه اختلاف واضطراب في تعيين الأسماء وزيادة بعضها، وأما النّسب الشّريف فصحيح إلى آدم - عليه الصّلاة والسّلام - قال صلّى الله عليه وسلم: ¬

(¬122) سورة الحجرات: 13. (¬123) بعدها في ت: «فقد تمّ الأمر». (¬124) عن بقية النسب اتصالا بآدم مرورا بإسماعيل وشيث. أنظر مروج الذهب 2/ 265.

«خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء» (¬125) قال الإمام (¬126) الأجهوري في «شرح ألفية العراقي» عند قولها: [رجز] وهو ابن عدنان وأهل النسب ... قد أجمعوا إلى هنا في الكتب وبعده خلف كثير جم ... أصحه حواه هذا النظم قال الحافظ (¬127) في «الفتح» (¬128) بعد أن ساق نسب سيدنا ابراهيم إلى نوح - عليهما الصّلاة والسّلام - كما سيأتي: «لا يختلف جمهور أهل النسب ولا أهل الكتاب في ذلك إلاّ في النطق ببعض هذه الأسماء»، نعم ساق ابن حبّان (¬129) في «تاريخه» خلاف ذلك وهو / شاذ اهـ‍ (¬130). وقال ابن دريد (¬131) في كتاب «الاشتقاق»: وأما نسب ابراهيم إلى آدم - عليهما الصّلاة والسّلام - فصحيح لا خلاف فيه لأنّه منزّل في التّوراة، ومذكور فيها نسبهم، ومبلغ أعمارهم، وعلى هذا فقول الناظم وبعده خلف الخ، أي في بعض ما بعد عدنان، وهو ما بينه وبين ابراهيم. ¬

(¬125) كذا عند العدني وابن عدي في الكامل والطبراني في الأوسط عن علي، وعن ابن سعد عن ابن عباس «خرجت من لدن آدم من نكاح غير سفاح». وعن ابن سعد في الطبقات عن عائشة «خرجت من نكاح غير سفاح» الجامع الصغير حرف الحاء لجلال الدين السيوطي. (¬126) بعدها في ت: «العلامة الفاضل الشيخ سيدي علي الأجهوري». (¬127) إذا أطلق الحافظ بدون بيان أو تقييد فالمقصود به ابن حجر العسقلاني أحمد بن علي توفي سنة 852 هـ - 1448 م. (¬128) هو فتح الباري شرح صحيح البخاري. (¬129) ابن حبان محمد بن أحمد اليسبي توفي 965 م، مؤلف ومحدث عربي، تولى منصب القضاء بسمرقند لكنه صرف عنه متهما بالزّندقة، أهم مصنفائه مجموعة الأحاديث التي اشتهرت بترتيبها المسماة كتاب التقاسيم والأنواع: الموسوعة العربية الميسرة ص: 13، دار القلم ومؤسسة فرانكلين للطّباعة والنشر بإشراف محمد شفيق غربال. (¬130) فتح الباري. (¬131) ابن دريد محمد بن الحسن 837 - 933 م لغوي أديب ولد بالبصرة ومات ببغداد وله مؤلفات كثيرة في اللغة والأخبار الأدبية واشتهر كتابه «الإشتقاق» في إبانة أصول ومعاني أسماء القبائل والرّجال وله المعجم الكبير «الجمهرة»، الموسوعة العربية الميسرة ص: 13.

وقال الحرّالي في «المقدمة»: النسب فيما بين آدم واسماعيل - عليهما الصّلاة والسّلام - صحيح لا خلاف فيه، ولا خلاف إلاّ في أسماء الآباء لأجل ثقلها على الألسنة، وأصحّ ما قيل في عدد وأسماء ما فوق عدنان (¬132)، أنه ابن أدد، وقيل عدنان ابن أدّ بن أدد بن مقوم (¬133) بن ناحور (¬134) بن مشرح (¬135) بن يعرب بن يشجب بن نابت بن اسماعيل بن ابراهيم بن تارح وهو آزر بن ناحور بن شاروخ (¬136) بن أرغو (¬137) بن فالع (¬138) بن عبير (¬139) بوزن جعفر بن شالخ بن أرفخشد (¬140) بن سام بن نوح بن لامك (¬141) بن متّوشلخ بن أخنوخ وهو ادريس بن يرد (¬142) بن مهلائيل (¬143) بن قينان (¬144) بن أنوش (¬145) بن شيث بن آدم - عليه السّلام -. وقال العلامة الأجهوري (¬146) - انظر ما حكم معرفة نسبه - صلّى الله عليه وسلم إلى عدنان، وأما ما زاد عليه فهو مكروه عند مالك لقول مالك: ومن يخبره أن فلان بن فلان قال: ورأيت في «شرح عقيدة ابن الحاجب» للمكي عن القرافي ما يفيد أن معرفة نسبته إلى عدنان واجب، ونحوه مستفاد من «شرح عقيدة ابن الحاجب» لابن زكرياء، بل يستفاد منه أن معرفة نسبه من جهة أمه واجب إلى كلاب إذ ما بعده يشترك / فيه نسب أبيه وأمّه. قال: وقد ذكر القرافي في «ذخيرته» أن جميع الأحوال المتعلقة برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فضلا عما به ¬

(¬132) تختلف الشجرة باختلاف الرواة وقد ذكر الطبري بعضها 2/ 274. والرواية التي أوردها المؤلف قريبة من الرواية التي وردت في مروج الذهب مع تحريف في الأسماء 2/ 265 - 266. (¬133) في مروج الذهب: «المقوم». (¬134) كذا في الأصول وفي تاريخ اليعقوبي وفي مروج الذهب: «ناخور». (¬135) في ت: «يترح» وفي ش: «يبرح». (¬136) كذا في الأصول وتاريخ اليعقوبي وفي مروج الذهب: «ساروخ». (¬137) كذا في الأصول وفي مروج الذهب: «أرعواء». (¬138) في الأصول: «فالج» والمثبت من مروج الذهب. (¬139) في مروج الذهب 2/ 265 والكامل 1/ 48: «عابر». (¬140) كذا في الكامل 1/ 48 وفي مروج الذهب: «أرفشخذ» و «أرفخشد» أيضا. (¬141) في الأصول: «لمك» أنظر هامش 4 ص: 137. (¬142) في الأصول: «يزد» والمثيت من مروج الذهب وتاريخ اليعقوبي 1/ 10. (¬143) في الأصول: «مهليل» والمثبت من مروج الذهب، والكامل والطبري. (¬144) في ت وش: «قيتين»، وفي ط: «قيقن»، والمثبت من مروج الذهب 2/ 266. (¬145) في الأصول: «يانش» والمثبت من مروج الذهب 2/ 266 والكامل 1/ 54 وتاريخ اليعقوبي 1/ 10. (¬146) بعدها في ت: «رحمه الله تعالى».

خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -

يتعين ترجع إلى العقائد لا إلى العمل، فيجب البحث عن ذلك لتحصيل كمال المعتقد بذلك» اهـ‍. فهو صلّى الله عليه وسلم ختم الله (¬147) به الرّسالة، وأنقذ به الخلق من الكفر والضّلالة، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، فأتمّ الله به على خلقه النّعمة، وظهر من معجزاته ما قامت به الحجة، وقد اعتنى الأيمة بضبط نسبه ومولده وبعثته، وهجرته ومغازيه، وفتوحاته وشرائعه، وشمائله وحياته ما هو مشهور مسطور. وأما وفاته ففي «طبقات المناوى» ابتداء مرضه صلّى الله عليه وسلم في العشر الأخيرة من صفر سنة إحدى عشرة (¬148) في بيت أم المؤمنين ميمونة - رضي الله تعالى عنها - فلما اشتدّ وجعه تحرّك لبيت أم المؤمنين عائشة - رضي الله تعالى عنها -. فأقام مريضا نحو اثني عشر يوما. وتوفي يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول (¬149) عند الجمهور اهـ‍، فتوفي صلّى الله عليه وسلم وعمره ثلاث وستون سنة. خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -: فقام بالأمر بعده خليفته أبو بكر بن أبي قحافة، الصّديق الأكبر، أفضل هذه الأمة بعد نبيّها. قال ابن اسحاق: لما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم عظمت به مصيبة المسلمين، فصاروا كالغنم المطيرة في الليلة / الشتائيّة لفقد نبيّهم، حتى جمعهم الله على أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - فبويع يوم الثلاثاء، فنظم النثر، وجبر الصدع، وأقام عماد الدين، وردّ للاسلام أهل الرّدة من الأعراب بعد وفاة النبيء صلّى الله عليه وسلم، وقاتل مانعي الزّكاة من الأعراب. وقال: والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. فجهّز لهم جيوش الاسلام ولم ترعه كثرتهم، وضرب المرتدّين مع كثرتهم بقليل المسلمين، فردّ ¬

(¬147) ساقطة من ش وط. (¬148) 632 م. (¬149) كذا في مروج الذهب 2/ 280، وفي كتاب «التوفيقات الإلهامية في مقارنة التواريخ الهجرية» لمحمد مختار باشا، مصر 1980، 1/ 43 الموافق 7 جوان 632 م وأكثر المصادر الأخرى، وفي تاريخ اليعقوبي: «لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول»، 2/ 113.

خلافة عمر - رضي الله عنه -

المرتدين ومانعي الزّكاة راغمة الأنوف ناكسة الرّؤوس، فاستقرّ الدّين، وثبتت قواعده (¬150)، ولم يتعد في أيّامه أحد إلى المغرب غازيا. ومآثره ومفاخره قد ملأت الكتب والدّفاتر، ولا تجد للنبي صلّى الله عليه وسلم تجدد حال إلاّ والصّدّيق - رضي الله تعالى عنه - مصاحب له فيه، وله به تعلّق حتى لم تفته معه صلّى الله عليه وسلم صلاة. وكان ثانيه في الغار. ولما مرض قيل له: ألا ندعو لك طبيبا؟ فقال: رآني الطبيب، فقال: اني فعّال لما أريد، فمات سنة ثلاث عشرة (¬151) عن ثلاث وستين سنة (¬152) على الأصح. خلافة عمر - رضي الله عنه -: وبعد عهده (¬153) [بويع] (¬154) لعمر بن الخطاب فاروق هذه الأمة - رضي الله تعالى عنه - فرست قواعد الاسلام وعظمت بخلافته، وهو أوّل من تسمّى بأمير المؤمنين / ومتانته في الدّين أشهر من أن تذكر حتى أنه إذا سلك فجّا سلك الشّيطان خلافه (¬155)، وفتحت في خلافته الفتوح فأتمّ ما ابتدأه الصّديق من فتوح الشّام فعظم الفتح، ثم العراق، فأوقع بالفرس وقعة القادسيّة بالقرب من الكوفة، فانكسر بها عمود عز الأكاسرة، ثم توالت الفتوح كمصر واسكندرية وبرقة (¬156)، وطرابلس على ما يأتي - إن شاء الله - بيان ذلك. ومآثره وكراماته وزهده وحكمه ملأت الكتب محل استيفاء ¬

(¬150) بعدها في الأصول: «ثم خطب الناس وعرض عليهم غزو الشام، فنفر الناس متوجهين إليها فوقعت بينهم وبين الرّوم وقعة تبوك»، أسقطناها من النص لتنافيها مع الحقيقة التاريخية، فغزوة تبوك وقعت في أيّام الرسول عليه الصّلاة والسّلام في سنة 9 من الهجرة لا في ولاية أبي بكر. راجع على سبيل المثال الكامل 2/ 276 وحسن ابراهيم حسني: تاريخ الإسلام، القاهرة 1953، 1/ 155. (¬151) 634 - 635 م. (¬152) كذا في مروج الذهب مع الإشارة أنه توفي ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة / 23 أوت 634 م. (¬153) بعد خلافة أبي بكر. (¬154) إضافة للتدقيق. (¬155) من حديث طويل رواه الشيخان وذكره الشيخ منصور علي ناصف في كتاب التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول ج 3، ص: 312، وفيه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلاّ سلك فجا غير فجك». (¬156) في الأصول: «طبرقة» فمن المعروف أن في سنة 22 هـ - 642 م سار عمرو بن العاص إلى برقة وصالح أهلها على الجزية.

خلافة عثمان - رضي الله عنه -

ذلك كتب السّير. توفي - رضي الله تعالى عنه - في آخر سنة ثلاث وعشرين (¬157)، وسنه ثلاثة وستون سنة. قتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة في المسجد وقت الغلس. خلافة عثمان - رضي الله عنه -: وجعل الأمر بعده شورى في ستة (¬158): عثمان، وطلحة، وعلي، والزّبير، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الرّحمان بن عوف - رضي الله تعالى عنهم - فوقع الاتفاق على عثمان بن عفان ذي النّورين، شهيد الدّار، من استحيت منه ملائكة الرحمان. وفي أيّامه - رضي الله تعالى عنه - تواردت أمراؤه على افريقية، ووقع في المغرب الفتح العظيم، - حسبما يأتي إن شاء الله تعالى -. ومآثره ومفاخره لا تحصى، أعتق نحو ألفين وجهز جيش العسرة (¬159) فقال له - عليه الصّلاة والسّلام - «ما على عثمان ما فعل بعد اليوم» (¬160) وقال عليه الصّلاة والسّلام - «اللهم اغفر له ما أقبل وما أدبر وما أخفى وما أعلن وما أسرّ وما أجهر» / قتل بداره شهيدا أيام التّشريق سنة خمس وثلاثين (¬161)، وسنه اثنان وثمانون سنة. ¬

(¬157) في 26 من شهر ذي الحجة / 3 نوفمبر 643 م. (¬158) في ت: «ستة رجال». (¬159) وذلك في غزوة تبوك، وفي الأصول: «العشرة». (¬160) ونقل ابن حجر في فتح الباري عن الطبراني قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يضر عثمان ما فعل بعدها»، مطبعة السلفية مصر 8/ 111. وجاء في السّيرة النبوية لابن هشام، ط دار الجيل، بيروت، ج 4 ص: 119 تحت عنوان: ما أنفقه عثمان، قال ابن هشام حدثني من أثق به أن عثمان بن عفان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار. فقال رسول صلّى الله عليه وسلم: «اللهم أرض عن عثمان فإني عنه راض» جاء في كتاب التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول للشيخ منصور علي ناصف، ط دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج 4 ص: 330: وقال عبد الرحمان بن خبّاب: شهدت النبيء صلّى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة فقام عثمان وقال: يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال: يا رسول الله علي مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال: يا رسول الله علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله تعالى فأنا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينزل عن المنبر وهو يقول: ما على عثمان ما عمل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه (رواه الترمذي). ونقل صاحب التاج في نفس المرجع ص: 329 عن الترمذي «جاء عثمان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة فينثرها في حجرة فرأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم. (¬161) في 18 ذي الحجة / 17 جوان 655 م.

خلافة علي - رضي الله عنه -

خلافة علي - رضي الله عنه -: ثم ولي الخلافة بعده الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه وكرّم وجهه - باب مدينة علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم زوج البتول، وابن عمّ الرسول، حكمه وأحكامه وخطبه وغرائب علومه، معقولا ومنقولا أمر خارق للعادة، خارج عن طوق البشر، لولا اكرام الله له بهذه الكرامة العظيمة والمنقبة الجسيمة حتى افتتن به الشيعة الرّافضة، ونقل الخلافة إلى الكوفة لعظم العساكر والجنود، ولم تكن في أيّامه فتوح بل كان اشتغاله بقتال الخوارج والبغاة. قتله عبد الرحمان بن ملجم في رمضان سنة أربعين (¬162)، وقد نيف عن الستين (¬163). وقصة قتله مبسوطة في السير حاصلها أنه - رضي الله تعالى عنه - لما أباد الخوارج ففي سنة أربعين إلاّ واحدا (¬164) اجتمع بمكة ثلاثة من بقاياهم، وتعاهدوا على احتساب انفسهم في إراحة الناس من علي ومعاوية وعمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنهم - وكان تواعدهم ليلة سبع وعشرين من رمضان، فانطلق أحدهم (¬165) إلى معاوية ولقبه «البرك» فطعنه بخنجر وهو يصلي، فأصاب إليته فسلمه الله منه، وانطلق الثاني ويعرف بزادوية (¬166) فقتل قاضي مصر وهو خارجة (¬167) لشبهه بعمرو، فظنه إياه، وانطلق الأشقى عبد الرحمان بن ملجم فأخذ على علي بعض / زوايا المسجد، فكمن به فلما خرج علي ضربه ابن ملجم بالسيف على رأسه فقبض عليه واحتمل علي إلى منزله فتوفي في السابع عشر (¬168) من رمضان من السنة المذكورة. ¬

(¬162) في 17 رمضان / 24 جانفي 661 م. (¬163) أنظر عن الإختلاف في سنّه «اثنان وسبعون واثنان وستون» مروج الذهب 2/ 414. (¬164) 659 - 660 م وفي مروج الذهب: «سنة أربعين». (¬165) وهو الحجاج بن عبد الله الصريمي ولقبه «البرك» مروج الذهب 2/ 411 و 417. (¬166) في الأصول: «رادوية» والمثبت من مروج الذهب 2/ 411 وقال: «وزادوية مولى بني العنبر» وقيل أنه عمرو بن بكر التميمي. مروج الذهب 2/ 417 أنظر أيضا التوفيقات الإلهامية 1/ 72. (¬167) خارجة بن حذافة. أنظر حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام 1/ 295. ومروج الذهب 2/ 417. (¬168) في الأصول: «ليلة إحدى وعشرين» والمثبت حسب ما اتفقت عليه الروايات، وذكر اليعقوبي ومات ليلة الجمعة أول ليلة من العشر الأواخر من شهر رمضان» 2/ 212.

خلافة الحسن بن علي - رضي الله عنه -

خلافة الحسن بن علي - رضي الله عنه -: وتولى الخلافة (¬169) بعده الإمام الحسن ابن الإمام علي - رضي الله تعالى عنهما - فأقام في الخلافة خمسة أشهر وخمسة وعشرين يوما. فزاحمه سيدنا معاوية فرآى الإمام الحسن - رضي الله تعالى عنه - صلاح الناس في تفويض الأمر إلى معاوية - رضي الله تعالى عنه - وفي ذلك مصداق قوله - عليه الصّلاة والسّلام -: «إن ابني هذا سيد يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (¬170) فكانت خلافة الحسن - رضي الله تعالى عنه - تمام الثّلاثين التي وعد بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقوله «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا» (¬171) ففي تفسير البغوي لقوله تعالى {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ (¬172)} الآية. خلافة أبي بكر الصديق سنتان وخلافة عمر عشرة، وعثمان اثنا عشر، وعلي ست (¬173) اهـ‍. فاندرجت خلافة الحسن في خلافة أبيه (رضي الله تعالى عنهم جميعا) (¬174). وفي «الكشاف» (¬175) عنه - عليه الصّلاة والسّلام - «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم (¬176) يملّك الله من يشاء، فتصير ملكا، ثم تصير بزيزى (¬177) قطع سبيل وسفك دماء وأخذ أموال بغير حقها» (¬178) انتهى. ¬

(¬169) بويع الحسن بالكوفة بعد وفاة علي بيومين في شهر رمضان سنة أربعين، مروج الذهب 2/ 426. (¬170) إن ابني هذا (أي الحسن بن علي) سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. رواه أحمد والبخاري والترمذي وأبو داود والنسائي من حديث أبي بكرة رضي الله عنه (حديث صحيح). (¬171) أورد الحديث كاملا فيما يلي من نصه. (¬172) سورة النور: 55. (¬173) أنظر معالم التنزيل للبغوي 5/ 71. (¬174) ساقطة من ت وط. (¬175) الكشاف للزمخشري محمود بن عمر، من أعلام اللغة والأدب والإعتزال توفي سنة 538/ 1143 - 1144 م. (¬176) أخرجه الطبري من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية، أنظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف للحافظ ابن حجر العسقلاني، المطبوع مع الكشاف. (¬177) اسم من بزّه بزا إذا سلبه، والبزيزي مثل الخصيصي، أنظر حاشية محمد بن عليان المرزوقي المطبوعة مع الكشاف. (¬178) أنظر الكشاف 3/ 198 في تفسير الآية 55 من سور النور: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً.

الباب الثاني: في خلافة سيدنا معاوية - رضي الله تعالى عنه - بالشام ودولة بني أمية

الباب الثاني: في (¬1) خلافة سيدنا معاوية - رضي الله تعالى عنه - بالشّام ودولة بني أمية (¬2) معاوية: فالأول هو معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن [أمية] بن عبد شمس، يلتقي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في عبد مناف، وله المجد المسطور والفخر (¬3) المشهور، كتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وصهره على أمّ حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبيء صلّى الله عليه وسلم وهو كسرى العرب (¬4) وأول سلاطين الاسلام، وأما حلمه ودهاؤه فأمر مشهور، توفي - رضي الله تعالى عنه - في رجب سنة ستين (¬5)، وله ثمانون سنة (¬6). يزيد: وتولّى بعده ولده يزيد فكان حائدا عن الصواب والعدل، فهو أول من شرب الخمر جهارا من ملوك الإسلام، واتخذ الملاهي واستحل محارم الله، واختلف في اسلامه وزندقته. قالوا لما ولي يزيد اتفق رأي أهل المدينة على خلعه واخراج من بها من بني أميّة، وجعلوا أمرهم إلى عبد الله بن حنظلة، فجهز يزيد إليهم الجيوش وأمر عليهم مسلم (¬7) بن عقبة المرّي فأحاط بالمدينة ثلاثة أيام، وعطلت الصلاة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبلغ عدد من قتل من قريش والمهاجرين والأنصار، ووجوه الناس ألف رجل وسبعمائة رجل، ومن سائر الناس عشرة آلاف رجل سوى النساء والصبيان. ولم يبق بعدها بدريّ ¬

(¬1) في ط: «في ذكر». (¬2) نقل المؤلف هذا الباب بتصرف دون أن يذكر ذلك خلافا لعادته، عن «رقم الحلل في نظام الدول» لابن الخطيب، تونس 1316 - 1317 ص: 15 - 20. (¬3) في ت: «والفخر العظيم». (¬4) ساقطة من ش. (¬5) في الأصول: «إحدى وستين» أنظر اليعقوبي 2/ 238 وغيره، 679 - 680 م. (¬6) ومن يقول 77 سنة، نفس المرجع ص: 239. (¬7) في ش وت: «سلم» وهو غلط.

بقية خلفاء بني أمية

من الصحابة. وفي أيامه قتل الحسين ابن الإمام علي (بن أبي طالب) (¬8) - رضي الله تعالى عنهما -، وذلك أنه لما مات معاوية أرسل أهل الكوفة يستقدمونه فلحق بمكّة / ووجه مسلم بن عقيل إلى الكوفة فخاطبه في القدوم، فتوجه نحو الكوفة وكتب اليزيد إلى عبد الله بن زياد، فخرج من البصرة مسرعا حتى لحق بالكوفة، وقتل مسلم بن عقيل والحسين متوجه إلى الكوفة ولا علم عنده، وذلك يوم ثامن الحجة (¬9)، فلقيته خيل عبد الله بن زياد بكربلاء وكاثرته العساكر، فلم يزل يقاتل حتى قتل، وقتل معه سبعة وثمانون من أهل بيته يوم عاشوراء (¬10)، واحتملت نساؤه أسارى على الإبل، وبعث إلى يزيد برأسه. وأراح الله الخلق من يزيد الخبيث لأربع عشرة خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين (¬11). بقية خلفاء بني أمية: ثم تولى بعده ولده معاوية بن يزيد بعهد من أبيه، وهو ابن عشرين سنة، فلبث فيها أربعين يوما محتجبا مستخيرا، وكان زاهدا منقبضا، ثم خرج وجمع الناس وترك لهم خلافتهم ومضى لأيّامه. فقام (¬12) بعده مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميّة في أربع وستين (¬13) وهو ابن اثنين وستين (¬14) سنة، فمكث تسعة (¬15) أشهر وأيّاما. وصار الأمر إلى ولده عبد الملك بن مروان، وهو أبو الملوك الأموية، وصاحب السّياسة ودعا على عهده لنفسه عبد الله بن الزّبير بالحجاز وما يليه، واستقامت له الخلافة، ودخل في أمره العراق، وبعث إليه عبد الملك الحجّاج بن يوسف الثقفي (¬16)، ¬

(¬8) ساقطة من ت وط. (¬9) من سنة 60 هـ - 680 م. (¬10) 10 محرم 61 هـ - 10 أكتوبر 680 م. (¬11) 10 نوفمبر 683 م. (¬12) ساقطة من ش. (¬13) 683 م. (¬14) في اليعقوبي: «إحدى وستين سنة» 2/ 258. (¬15) في ت: «سبعة» وهو غلط. (¬16) ساقطة من ش وط.

فحاصر مكّة ورمى البيت بالمجانيق ودخلها لخمسين ليلة / من حصاره، وقاتل عبد الله بن الزبير بإزاء البيت حتى قتل يوم الثلاثاء لأربع عشرة من جمادي الأولى (¬17) سنة ثلاث وسبعين (¬18). وصلب الحجّاج جثّته وكذا عمر بن سعيد بن العاص، دعا لنفسه بدمشق. وقد خلفه عبد الملك بها، فكرّ إليها واستنزله عن صلح ثم اغتاله فقتله، وكذا ابن الأشعث بن قيس، فخلع طاعته، وتوجّه إليه الحجّاج، والتقيا بدير الجماجم، فكانت الدائرة على ابن الأشعث سنة نيف وثمانين، فتفانى فيها الخلق، ثم لمّا ساءت طاعة أهل العراق قلّده الحجّاج فكان من أمره ما هو مشهور. وفي مدة عبد الملك كان معظم فتوحات المغرب كما يأتي - إن شاء الله تعالى - وتوفي عبد الملك بدمشق يوم السبت لأربع عشرة من شوال سنة ست وثمانين (¬19). وتولى بعده ولده الوليد بن عبد الملك (¬20) فكان ملكا عظيما، فارس بني أميّة، وولى موسى بن نصير افريقية، وأغزاه الغرب الأقصى، وأجاز البحر مولاه طارقا ففتح الأندلس. ومات الوليد بدير مروان. ودفن بدمشق منتصف جمادى الأخيرة سنة ست وتسعين (¬21). فقام بعده أخوه سليمان بن عبد الملك، فكان قيّما برسوم الشريعة، فارسا صحيحا، إلاّ أنه كان منهوما كثير الأكل، فيأكل القنطار أكلة واحدة، توفي سنة تسع وتسعين (¬22). فتولى الخلافة ثاني العمرين ويلقب «الأشج» لشجّة في وجهه، وهو عمر بن عبد العزيز بن مروان / أحد الخلفاء الرّاشدين، أمّه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فهو جدّه لأمّه فكان ثانيه في الزّهد والورع والعدل، وكان من خيار الأمّة - رضي الله تعالى عنه - أفردت مآثره بالتآليف (¬23). توفي بدير سمعان من عمل حمص، أواخر رجب (¬24) سنة إحدى ومائة. وقبره مشهور، يزار ويتبرك به. ¬

(¬17) وقيل من جمادى الثانية 962 م. (¬18) 1 أكتوبر 692 م. (¬19) 8 أكتوبر 705 م. (¬20) في ت: «عبد الملك بن مروان». (¬21) 25 فيفري 714. وفي الأصول: «ثلاث وتسعين» وهو غلط. (¬22) 717 م وفي الأصول: «ست وتسعين» وهو غلط. (¬23) في ش وت: «التأليفات». (¬24) على الأرجح في 25 منه / 719 م.

ثم تولّى بعده اليزيد بن عبد الملك، فكان مضيّعا للأمر (¬25) لاشتغاله بلهوه فخلع (¬26) فتولى (¬27) بعده أخوه هشام بن عبد الملك فكان ملكا حازما صلبا، جمع الأموال وعمر الأرض واصطنع الرجال. وتولّى (¬28) الوليد بن يزيد بعد عمه، فكان صاحب شراب ولهو وبطالة، بلغ خبثه أنّه قرأ في المصحف الكريم {وَاِسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبّارٍ عَنِيدٍ} (¬29) عند استفتاحه، فجعل المصحف غرضا لنشابه، وأقبل يرميه لما توعّده به وأنشد يقول: [وافر] تهددني بجبار (¬30) عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب مزقني (¬31) الوليد فسمّه (¬32) يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فبطش به امتغاصا للدين. فتولّى بعده (¬33)، فكان خيّرا، ذا عدل ونسك وورع، حزما ولكن كان جمّاعا بخيلا، فلقّب بالناقص لكونه نقّص الجند عطاءهم، ويقال الأشج والنّاقص أعدلا بني مروان، أي عادلاهما إذ لا عدل إلاّ فيهما، وكانت ولايته خمسة أشهر وليلتين. وولي (¬34) بعده أخوه ابراهيم بن الوليد، فكانت أيّامه / كثيرة الهرج، فلم تطل مدّته حتى خلع (¬35). فقام بعده (¬36) مروان بن محمد بن الحكم، ويسمّى مروان الحمار (¬37)، أقبل من الجزيرة ودخل الشام، فقتل ابراهيم بن محمّد بن علي بن عبد الله بن عباس بعد ما سجنه أربعة أشهر خوفا من قيام بني العباس بالأمر. فكان ما خافه. وكان مروان شهما عظيم ¬

(¬25) بعدها في ت: «ليس له بال عليه». (¬26) الخلع مخالف للرّواية التاريخية، يقول المسعودي ان هشام أخ اليزيد «بقي في جواره مخافة أهل البغي والسّعاية حتى مات يزيد» مروج الذهب 3/ 202. (¬27) تولى هشام بعد وفاة أخيه يزيد بن عبد الملك في 25 شعبان سنة 105 هـ - 28 جانفي 724 م. (¬28) في ربيع الثاني 125 هـ - فيفري 743 م. (¬29) سورة ابراهيم: 15. (¬30) في مروج الذهب: «أتوعد كل جبار». (¬31) في مروج الذهب: «خرقني». (¬32) لم يقتل سمّا. (¬33) في جمادى الثانية 126 / مارس 744 م. (¬34) 7 ذو الحجة 126/ 20 سبتمبر 744. (¬35) في محرم 127 / أكتوبر 744. (¬36) بويع بدمشق في صفر 127 / نوفمبر 744. (¬37) لأنه كان لا يجف له لبد في محاربة الخارجين عليه. حسن ابراهيم حسن، تاريخ الإسلام 1/ 361.

الدّهاء عارفا بالسّير والأخبار، إلاّ أنّ لله أمرا هو بالغه. فلما كانت سنة اثنتين وثلاثين ومائة (¬38)، بويع أبو العباس عبد الله بن محمد السفاح بالخلافة - حسبما يأتي تفصيل ذلك في خلافة بني العباس - وفرّ مروان حتى قطع النيل، وأغرق الجسور، فنزل ببوصير، فجاءه صالح بن علي فقتله وفرغت بموته خلافة بني أمية من المشرق، وفر باقيهم إلى المغرب. سئل بنو أمية: ما أقوى أسباب زوال ملككم؟ فقالوا: إنّا اعتمدنا على المال واستهونّا بالرّجال، فوفّرنا المال وقلّلنا الرجال، فأخذ العدو مالنا وتقوّى به علينا، وأبعدنا الصّديق اعتمادا على صداقته، وقرّبنا العدو استجلابا لمحبته، فصار الصديق عدوا بالأبعاد، ولم يصر العدو صديقا بالاحسان، كما يقال: [مجزوء الكامل] احذر عدوك مرة ... واحذر صديقك ألف مرة فلربما انقلب الصديق ... فصار أدرى بالمضرة فكانت عدة بني أمية من معاوية إلى مروان أربعة عشر، والمدة اثنين وتسعين سنة (¬39). ¬

(¬38) 749 م. (¬39) من سنوات الهجرة و 89 من سنوات الميلاد، بعدها في ط: «والله تعالى أعلم»، وفي ت: «وزال ملكهم وتشتت شملهم في كل مكان».

الباب الثالث: في ذكر فتوحات المغرب الواقعة في أيام الصحابة ومن بعدهم من بني أمية

الباب الثالث: في ذكر فتوحات المغرب الواقعة في أيام الصّحابة (¬1) ومن بعدهم من بني أميّة غزوات عمرو بن العاص: فأقول: «إن أول من دخل المغرب غازيا سيدنا عمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنه - ففي «رحلة التجاني» (¬2) كان افتتاح طرابلس في القديم على يد عمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنه - بعد افتتاحه لمصر والاسكندرية وذلك سنة اثنين وعشرين (¬3). سار إليها في جيشه فنزل على شرفها من الجهة الشّرقية وأقام عليها شهرا لا يقدر منهم على شيء، وقد كان أهلها استعانوا بقبيل من البربر يعرفون بنفوسة دخلوا معهم في دين النّصرانية، فخرج ذات يوم من عسكر عمرو رجل من بني مدلج يتصيّد في نفر معه فأمعن عن العسكر إلى جهة غربي المدينة ومال إلى شاطىء البحر، والبحر لاصق بالمدينة، وليس بالمدينة إذ ذاك من جهة البحر سور، بل كانت سفنهم شارعة إلى بيوتهم، فنظر المدلجي وأصحابه إلى البحر قد حسر (أي جزر) (¬4) من جهة المدينة عن مسلك يمكن النفوذ إليها منه، فندبوا معهم جماعة واقتحموا المدينة فلم يكن للروم مفزع إلاّ سفنهم، (وأبصر عمرو أصحابه) (¬5) في جوف المدينة فأقبل بجيشه حتى دخل عليهم، فلم يفلت من الروم سوى من خف في سفينته، واحتوى عمرو على المدينة فهدم سورها وارتحل عنها ثم (إنه لما أتى من افريقية) (¬6) جدد بناء سورها من البر» أهـ‍ (¬7). ¬

(¬1) بعدها في ت: «رضي الله تعالى عنهم». (¬2) ص: 239. (¬3) 642 - 643 م. (¬4) تفسير من المؤلف. (¬5) في الأصول: «فأبصرهم عمرو وأصحابه»، والمثبت من الرحلة ص: 239. (¬6) إضافة من المؤلف عما هو موجود بالرحلة. (¬7) رحلة التجاني ص: 239.

غزوة عبد الله بن سعد بن أبي سرح

فعمرو - رضي الله تعالى عنه - افتتح برقة وطرابلس وما قاربهما من المغرب الأدنى ومفاخر / عمرو بن العاص ومآثره - رضي الله تعالى عنه - وغزواته وفتوحاته مشهورة، وفي كتب السّير مسطورة. غزوة عبد الله بن سعد بن أبي سرح: ثم غزا المغرب بعد عمرو بن العاص أبو يحيى عبد الله بن سعد بن أبي سرح بن الحسام القرشي العامري - رضي الله تعالى عنه - قال في «معالم الإيمان» (¬8) أسلم عبد الله قبل الفتح وهاجر وكان أخا لعثمان بن عفان من الرضاع وكان يكتب الوحي للنبيء صلّى الله عليه وسلم وكان أحد العقلاء النّجباء من قريش، وكان فارس بني عامر، والمقدم فيهم، شهد فتح مصر، وكان صاحب ميمنة عمرو بن العاص في فتوحاته، ثم ولاّه عثمان غزو افريقية سنة سبع وعشرين (¬9)، فسار إليها من مصر، فدخلها في عشرين الفا من المسلمين فيهم جماعة من الصّحابة منهم العبادلة السبعة، ولذلك تسمى غزوة العبادلة، فنزل السّبخة التي في شرق القيروان، ولذلك يسمى ذلك المكان بباب عبد الله. قال: «وكانت وفاته سنة ست أو سبع وثلاثين (¬10) قبل اجتماع الناس على معاوية. قلت (¬11): واختلف أين توفي فقيل بإفريقية والصّحيح بعسقلان». (¬12) وقال: «روى الواقدي عن ربيعة بن عباد الدّيلي، قال: أغزانا عثمان - رضي الله تعالى عنه - افريقية، فخرجنا مع الناس حتى قدمنا مصر، فخرج عبد الله بن سعد بن أبي سرح - وهو أمير الناس - من مصر بمن كان معه وبمن قدم عليه من المدينة، فكانوا عشرين ألفا ونحن نريد بطريق / الروم من افريقية يقال له جرجير. كان قد غلب على ما هنالك من أرض المغرب فلما فصل عبد الله من مصر، كان يقدم الطلائع [والمقدمات ¬

(¬8) معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان تأليف عبد الرحمان بن محمد الأنصاري الأسيدي الدّباغ (ت. 696 هـ - 1296) ينقل بتصرف. (¬9) 647 - 648 م. (¬10) 656 - 657 م. (¬11) كذا في المعالم. (¬12) أنظر ترجمة عبد الله بن سعد بن أبي سرح في معالم الإيمان 1/ 137 - 140. نشر مكتبة الخانجي بمصر 1968. تحقيق وتعليق ابراهيم شبوح.

أمامه، وكثيرا ما أكون في الطلائع] (¬13) فو الله إنا لبطرابلس، إذا مراكب قد أرست بالساحل، فشددنا عليهم، فأقاموا ساعة ثم استؤسروا، فكتّفناهم وهم مائة، حتى لحقنا ابن أبي سرح فقتلهم. وقد تحصّن منا أهل طرابلس، ولم يعرضوا لنا، فأخذنا ما في السّفن، فكانت هذه أول غنيمة أصبناها ونحن في وجهتنا، ثم لحق بنا الناس وأقاموا أياما، وكانت السّرايا في كل وجهة تأتي بالبقر والشاة والعلف، ثم تمادينا حتى وردنا افريقية فأقمنا أياما تجري بيننا وبين جرجير ملكهم الرّسل، ندعوه إلى الإسلام، وكلما دعوناه إلى الإسلام نخر (¬14)، ثم استطال وقال: لا أقبل هذا أبدا. فقلنا له: تخرج خراجا في كل عام، فقال: ولو سألتموني درهما واحدا لم أفعل، ثم إنا تهيأنا للقتال بعد الأعذار إليه فهيّأنا (¬15) عبد الله بن أبي سعد فجعل ميمنة وميسرة وقلبا، وسار بأصحابه فقال له رجل من قبط مصر كان معه: إن القوم لا يصافونك، وهم يهربون، فاجعل لهم كمينا وفرّقهم في أماكن ففعل ذلك عبد الله وغدا بنا على تعبئة، والروم قد رفعوا الصليب وعليهم من السلاح ما الله به عليم (¬16) ومعهم / من الخيل ما لا يحصى، فتصاولنا ساعة من النهار حتى صارت الشمس قدر رمحين أو أكثر، ثم حمل عبد الله بالناس وحملنا [معه] فكانت الهزيمة عليهم، وكرّ الكمين عليهم في كل مكان فأكثروا فيهم القتل والأسر، فطلبوا الصلح. فصالحهم عبد الله بن أبي سرح على خراج. روي عن أسامة بن زيد [الليثي] أن الذي صالحهم عليه عبد الله بن سعد (¬17) ألفا ألف دينار. وذكر بعض المؤرخين أن عبد الله بن سعد غزا افريقية في جماعة من الصّحابة. فلقي جرجيرا في سبيطلة وهي مدينة على سبعين ميلا من القيروان، فقتل جرجيرا وهو في مائة ألف، وصالح ابن أبي سرح أهل الحصون وأهل المدائن على مائة ألف (¬18) رطل من الذهب. ¬

(¬13) إضافة من المعالم ليستقيم المعنى، 1/ 34. (¬14) في الأصول: «نكص» والمثبت من المعالم. (¬15) في الأصول: «تهيانا» والمثبت من المعالم ليستقيم المعنى. (¬16) في الأصول: «أعلم». (¬17) في الأصول: «عبد الله بن أبي سرح» والمثبت من معالم الإيمان. (¬18) في الأصول: «مائة ألف ألف» والمثبت من المعالم 1/ 35.

قال أبو عثمان سعيد بن عفير (¬19) في «تاريخه»: «لما سمعت الرّوم والأفارقة (¬20)، بخروج عبد الله بن سعد ووصوله إلى إفريقية، خرجوا إليه ومعهم جرجير في جمع من الرّوم. فلما التقى بهم المسلمون بادر جرجير بالبراز، فبرز إليه عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم، فقتله ابن الزبير، ومنهم من قال قتلاه جميعا. ثم كانت الهزيمة، واتخذ المسلمون ذلك المنزل معسكرا ومنزلا، وأصابوا لهم غنائم كثيرة، وقسم عبد الله الفيء على الصحابة، فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار وسهم الرّاجل ألف دينار» (¬21) وتولى قسم الغنيمة / عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب - رضي الله تعالى عنهما - ونفل عبد الله ابن أبي سرح عبد الله بن الزبير ابنة جرجير لأنه قتل جرجيرا. وبلغ الخمس أربعمائة ألف دينار واجتمعت الرّوم بعد قتل جرجير إلى كورة من الكور حصينة (هو قصر الجم) (¬22) فسار إليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح بمن معه (من المسلمين) (¬23) فصالحوه على ثلاثمائة قنطار (ذهبا وهي) (¬24) ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، فقبضها منهم وانصرف عنهم. وسئل يومئذ بعض النّصارى من أين كثرت أموالكم؟ فبادر إلى شجرة زيتون كانت بين يديه فأخذ منها عودا وقال: من هذا جمعنا هذه الأموال، نصيب الزّيت فيأتينا أهل البحر والجزائر [والصحارى] (¬25) فيبتاعونه منا، فمنه كثرت أموالنا». ثم قال (¬26): وأقام ابن أبي سرح بسبيطلة، وهو الأمير على عسكره والحاكم بينهم، فلما رأى [الرّوم] (¬27) الذين بالساحل ما حل بجرجير وأهل سبيطلة، غارت ¬

(¬19) هو أبو عثمان سعيد بن كثير بن عفير، مصري من أصحاب مالك، كان علامة بأخبار الناس (147 - 226/ 764 - 840.841) عن محقق رياض النفوس للمالكي، دار الغرب الإسلامي، هامش 52، ص: 19. (¬20) في نص معالم الإيمان: «الأزارقة»، وكذا في الرياض وقال عنها المحقق في هامشه «ولعلها الأقارقة» وهي تسمية قديمة استعملها ابن عبد الحكم والبكري وغيرهما. أنظر هامش 1، 1/ 35. (¬21) في الأصول وفي معالم الإيمان: «مثقال» والمثبت من محقق معالم الإيمان اعتمادا على ابن عبد الحكم، فتوح مصر وإفريقية والأندلس. أنظر هامش 2، 1/ 35. (¬22) ما بين القوسين تفسير من المؤلف زائد عما هو موجود بمعالم الإيمان. (¬23) إضافة من المؤلف. (¬24) كذا في ط ومعالم الإيمان 1/ 35. في ت: «من الذهب وألف ألف». (¬25) إضافة من معالم الإيمان وفي مكانها من الأصول: «التجار». (¬26) معالم الإيمان 1/ 42. (¬27) إضافة من معالم الإيمان 1/ 42.

ولاية معاوية بن خديج

أنفسهم وتجمّعوا وكاتب بعضهم بعضا، (وأمّلوا حرب) (¬28) ابن أبي سرح، فخاف منهم لما معه من الغنائم، فكتب إلى خليفته بمصر يأمره أن يوجه (¬29) إليه مراكب في البحر يجعل فيها غنائم المسلمين، فوصل كتابه إلى مصر، وأخذ خليفته فيما أمره به، واتّصل بالروم قصد ابن أبي سرح إياهم واستقباله (¬30) حربهم، فخافوه وراسلوه ودار بينهم / تشاجر، فجعلوا له جعلا على أن يرتحل بجيشه ولا يعترضون لشيء معه فأجابهم إلى ذلك، ووجهوا إليه مائة قنطار ذهبا فقبضها منهم وانصرف عنهم راجعا إلى مصر بعد أن أقام بافريقية سنة وشهرين، فلما وصل إلى طرابلس وافته المراكب، فحمل فيها أثقال جيشه ونفذ هو وأصحابه سالمين إلى مصر، ووجّه إلى عثمان - رضي الله تعالى عنه - بالأموال التي معه (¬31) من الخمس وغيره، فوقعت الفتنة في اثر ذلك واستشهد عثمان - رضي الله عنه -. وولي بعده علي - رضي الله تعالى عنهما -، وبقيت افريقية على حالها إلى ولاية معاوية. ولاية معاوية بن خديج: «فلما ولي معاوية عزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن مصر وإفريقية، وولى عليهما معاوية بن خديج الكندي كان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬32) وهو (¬33) بضم الخاء مصغر، بن جفنة بن قتيرة (¬34) بن حارثة بن عبد شمس بن معاوية بن جعفر بن أسامة بن سعد بن أشرس بن شبيب (¬35) بن السّكون (¬36) بن كندي (¬37) السّكوني ¬

(¬28) في الأصول: «واستقلوا حزب» وهي غير ذات معنى والمثبت من المعالم 1/ 42. (¬29) في المعالم: «يندب». (¬30) في الأصول: «استقبله» والمثبت من المعالم 1/ 42. (¬31) في الأصول: «عنده» والمثبت من المعالم. (¬32) أنظر معالم الإيمان 1/ 42. (¬33) ينتقل إلى موضع آخر من المعالم، أنظر المعالم 1/ 140. (¬34) في الأصول: «عقبة بن قيس» والمثبت من المعالم بعد تحقيق وإصلاح، أنظر هامش 2، المعالم 1/ 140. (¬35) في الأصول: «شعيب» وكذلك في أصول المعالم والمثبت من محقق المعالم، أنظر هامش 3، المعالم 1/ 140. (¬36) في الأصول: «السكن» والمثبت من المعالم 1/ 141. (¬37) في الأصول: «كندة» والمثبت من المعالم 1/ 141.

الكندي، هكذا سرد نسبه أبو نصر (¬38) بن ماكولا الكرخي. فمن نسب معاوية بن خديج إلى جدّه الأقرب قال: السّكوني، ومن نسبه إلى جده الأبعد، قال: الكندي» (¬39) واختلف في كنيته، فقيل أبو عبد الرحمان وقيل أبو نعيم، وفد على النبيء صلّى الله عليه وسلم وشهد فتح مصر وكان هو الوارد بفتح الإسكندرية على عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - وغزا افريقية ثلاث غزوات / احداهن سنة أربع وثلاثين (¬40) في خلافة عثمان، فنزل بمكان القيروان اليوم واحتفر بها آبارا تسمّى آبار خديج إلى الآن غلب عليها (¬41) اسم أبيه (¬42) وهذه الآبار خارج باب تونس منحرفة عنه إلى المشرق عند مصلّى الجنائز، وكان معه في هذه الغزوة عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وجبلة بن عمرو الساعدي، وأبو زمعة البلوي، فمات أبو زمعة ودفن بالبلويّة أحد مقابر القيروان الآن فسميت به. ثم غزا معاوية افريقية سنة إحدى وأربعين (¬43) وسنة خمسين (¬44)، في إحداهما نزل القرن (¬45) وأقام بها ثلاثة أعوام، وبنى هنالك بيوتا وذلك قبل أن تختط القيروان» (¬46). وتوفي سنة اثنين وخمسين (¬47). ولما ولاه (¬48) معاوية بن أبي سفيان على مصر أراد معاوية غزو افريقية، فأغزاه إياها، فخرج ابن خديج من مصر ومعه جماعة من الصّحابة والتابعين وكان معه عبد الملك بن مروان ويحيى بن الحكم، والأكدر بن حمام (¬49) اللخمي، وخالد بن ثابت الفهمي (¬50) وأشراف من جند مصر حتى وصل افريقية، فقصد جلولا (¬51) وعليها ¬

(¬38) في الأصول: «بن نصر» والمثبت من المعالم 1/ 141. (¬39) معالم الإيمان 1/ 141. (¬40) 654 - 655 م. (¬41) في الأصول وفي أصول معالم الإيمان: «عليه» والمثبت من محقق المعالم اعتمادا على الرياض. (¬42) حديج. عن التفريق بين معاوية بن خديج وأوله معاوية بالحاء المهملة مصغرا وهو ما ضبطه ابن حجر في الإصابة بالحرف، أنظر هامش ابراهيم شبوح بالمعالم، 1 - 1/ 140. (¬43) 661 م. (¬44) 670 م. (¬45) في الأصول: «القيروان» والمثبت من المعالم 1/ 142 إذ القيروان لم تتأسس بعد. (¬46) المعالم 1/ 142. (¬47) 672 م. أخذ الخبر عن المعالم 1/ 144. (¬48) ينقل عن الرياض 1/ 28 بتصرف يسير، تحقيق البشير البكوش، دار الغرب الإسلامي 1983. (¬49) في الأصول: «همام» والمثبت من الرياض 1/ 28 والمعالم 1/ 43. (¬50) في الأصول: «فهري» والمثبت من الرياض 1/ 28 والمعالم 1/ 43. (¬51) في المعالم وفي الرياض «جلولاء».

عامل لجرجير الرّومي الذي كان ملك سبيطلة، فنزل بجيشه على قمّونيّة (¬52) وهي قيروان افريقية. فرحل (¬53) منها إلى جبل يقال له القرن، قيل إنما سمّي بذلك لقول معاوية: ارحلوا بنا إلى ذلك القرن، ويقال إنّه نزل جبلا بإفريقية يقال له ممطور في غربي / مدينة قمّونيّة على فراسخ منها، فأصابه مطر شديد فقال: إنّ جبلنا هذا الممطور فسمي إلى اليوم بذلك. وقال: إذهبوا بنا إلى ذلك القرن. ثم رحل منه إلى مدينة جلولا، فلما وصل إليها امتنعوا منه وتحصنوا فحاصرهم حتى فتحها وكان سبب فتحها أن معاوية لما طال مقامه عليها، رحل عنهم يريد القفول، فلما سار عنهم قليلا، ذكر رجل من عسكره أنه نسي قوسا بمعسكره، فرجع في طلبها فرآى ركنا من أركان جلولا قد انهدم، فلحق معاوية فأخبره. ويقال إنّه لما انصرف جعل فرسان النّاس وحماتهم على ساقة للعسكر، فساروا غير بعيد، ثم نظروا فإذا خلفهم غبار شديد. ورهج، فوقف العسكر وزحف من كان على الساقة نحو ذلك الغبار حتى وقفوا على المدينة، فإذا هي قد وقع حصنها من ناحية واحدة من ركن إلى ركن، فلم يبق منه شيء إلاّ لصق بالأرض، فانصرف المعسكر إليها، فنزلوا على حصنها من جهة الهدم، وألقوا بأنفسهم على الموت، فقاتلوهم قتالا شديدا فانهزم الروم، وقتل رجالهم وأنجادهم، ودخلوها بالسيف، فأصابوا بها سبيا كثيرا وغنائم، ويقال إنّ معاوية بن خديج مضى إليها بجميع عسكره، فغنم كل ما كان فيها، ثم أنفذ الغنائم إلى معاوية بن أبي سفيان بالشام. ويقال إنّ الذي نسي القوس عبد الملك بن مروان» (¬54). ونقل في «معالم الإيمان» (¬55) / عن أبي العرب (¬56) «إن معاوية بن خديج غزا افريقية ثلاث غزوات أما الأولى فسنة أربع وثلاثين (¬57)، في خلافة عثمان - رضي الله تعالى عنه - (وكانت تلك الغزوة لا يعرفها كثير من الناس) (¬58) وأما الثانية فسنة أربعين (¬59)، وأما الثالثة فسنة خمسين (¬60) من الهجرة». ¬

(¬52) في الأصول: «القيروان» والمثبت من الرياض 1/ 29 والمعالم 1/ 43. (¬53) في الأصول: «فدخل» والمثبت من الرياض 1/ 29 والمعالم 1/ 43. (¬54) من رياض النفوس للمالكي مع اختلاف يسير في الألفاظ 1/ 29 - 30. (¬55) معالم الإيمان 1/ 44 والمالكي في رياض النفوس (ط / 1) 1/ 30. (¬56) المعالم 1/ 44. (¬57) 654 - 655 م. (¬58) ما بين القوسين موجود في رياض النفوس، والمعالم. (¬59) في الأصول: «خمس وأربعين» والمثبت من معالم الإيمان 1/ 44، ورياض النفوس «سنة أربعين أيضا» 1/ 30. 40 هـ - 660 - 661 م، وفي معالم الإيمان 1/ 165 «سنة إحدى وأربعين» متقاربا مع ما سبق منه. (¬60) 670 م.

ولاية أبي المهاجر

وقال محمد بن يوسف الورّاق القيرواني: «إنّ معاوية بن خديج غزاها سنة أربع وثلاثين (¬61). وأول غزوة غزاها عقبة بن نافع بن عبد القيس بن عامر بن أمية بن الحارث بن فهر بن مالك سنة اثنتين وأربعين (¬62)، وقيل سنة إحدى وأربعين (¬63)، ثم غزاها معاوية بن خديج وهي حرب كلها. وغزا معاوية بن خديج جزيرة صقلية في مائتي مركب وأصاب بها غنائم كثيرة (¬64)، وانصرف إلى قمّونيّة فقسم عليهم فيأهم، وبعث بالخمس إلى معاوية بن أبي سفيان، وهو إذ ذاك خليفة وهذه الغزوة هي غزوة معاوية بن خديج الثانية، كانت سنة خمس وأربعين (¬65) وقيل كانت سنة إحدى وأربعين» (¬66) اهـ‍ كلام الوراق (¬67). قال أبو بكر المالكي: فلما وصلت الغنائم إلى معاوية بن أبي سفيان، أعاد معاوية ابن خديج بجيوش الشّام ومصر إلى إفريقية وكان ذلك في سنة خمسين (¬68) ومعه عبد الملك ابن مروان، فوصل إلى إفريقية، واحتفر الآبار التي تسمى الآن آبار خديج بباب تونس، وإنّما احتفرها إذ كان عسكره هناك. ولاية أبي المهاجر: «ثم غزا منها بنزرت وغنم غنائم كثيرة من نواحيها، ورجع قافلا / إلى قمّونيّة وبنى بناحية القرن (¬69) مساكن وسمّاها قيروانا، وموضع القيروان غير مسكون ولا معمور. ثم ¬

(¬61) 654 - 655 م. (¬62) 662 - 663 م. (¬63) كذا في المعالم 1/ 44 - 45 وفي ص: 166 «وقيل سنة ست وأربعين» وهو الأصح. (¬64) عن غزوة معاوية بن خديج لصقلية أنظر المؤنس لابن أبي دينار نشر المكتبة العتيقة، بدون تاريخ، ص: 28، والمؤلف ناقل عن معالم الإيمان بتصرف 1/ 45، في أول كلامه عن افريقية، وأنظر البيان المغرب لابن عذاري: دار الثقافة بيروت 1/ 18. (¬65) 665 - 666 م. (¬66) بعدها في المعالم: «وقيل سنة واحد وخمسين» 1/ 45. (¬67) نقلا عن معالم الإيمان 1/ 45. (¬68) 670 م. (¬69) في الأصول: «القيروان» والمثبت من معالم الإيمان.

ولاية عقبة بن نافع وغزواته

رحل معاوية بن خديج من إفريقية إلى معاوية بن أبي سفيان، فدفع الغنائم إليه، ثم عزله معاوية عن مصر وولى عليها مسلمة بن مخلّد الأنصاري، فوجه مسلمة خالد بن ثابت الفهمي (¬70) إلى افريقية وكان من التابعين. فخرج في محرم سنة خمسين (¬71)، فانتهى إلى مواضع منها، وأصاب غنائم كثيرة، ثم عزله مسلمة وولى أبا المهاجر مولاه بجيش من قبله، فوصل إلى افريقية، فأخذ عقبة بن نافع الفهري، فحبسه وضيق عليه، فبلغ خبره معاوية، فكتب إلى أبي المهاجر يأمره بتخليته ويعنفه (¬72) فيما صنع به، فأطلقه أبو المهاجر وأرسله برسل من قبله، حتى أخرجه من قابس، فمضى وهو حنق على أبي المهاجر، فدعا الله عز وجل أن يمكّنه منه، فلم يزل أبو المهاجر خائفا من دعائه، وقال هو عبد لا تردّ له دعوة. ثم إن أبا المهاجر صالح برابر افريقية وفيهم كسيلة الأوربي (¬73) وأحسن إليه واتّخذه صديقا وصالح عجم افريقية، وخرج بجيوشه نحو المغرب ففتح كل ما مرّ به، حتى انتهى إلى العيون التي تسمى الآن عيون أبي المهاجر، نحو تلمسان، ولم يستخلف على القيروان أحدا ينظر فيها لأن أكثرهم خرج معه ولم يبق إلاّ شيوخ ونساء وأطفال، ثم رجع إليها وأقام بها» اهـ‍ (¬74). ولاية عقبة بن نافع وغزواته: (وحبس أبي المهاجر لعقبة وأخذه له / لأن عقبة سبقه لإفريقية) (¬75) في غزوته الثانية التي كانت في سنة ست وأربعين (76) من الهجرة، قال محمّد بن يوسف الورّاق: إن عقبة بن نافع الفهري غزا افريقية غزوته الثانية في سنة ست وأربعين (¬76) من الهجرة، فافتتح كثيرا من حصونها، وأثخن في قتل الرّوم والبربر، واختط مدينة القيروان، وتحوّل بها أيّاما، ثم قدم أبو المهاجر دينار مولى مسلمة بن مخلّد الأنصاري إلى افريقية سنة ¬

(¬70) في الأصول: «الفهري» والمثبت من معالم الإيمان 1/ 46. (¬71) في الأصول: «أربع وخمسين» والمثبت من معالم الإيمان 1/ 46. (¬72) كذا في معالم الإيمان وفي رياض النفوس: «ويعقبه مما صنع من ذلك» 1/ 23. (¬73) في الأصول: «اللوزي» والمثبت من معالم الإيمان. (¬74) معالم الإيمان 1/ 45 - 46. رياض النفوس 1/ 33. (¬75) ما بين القوسين إضافة من المؤلف. (¬76) 666 م.

خمس وخمسين (¬77)، فعزل عقبة وقيّده وحبسه وأخرب ما كان اختطه بالقيروان، واختط مدينة تاكروان (¬78) وهي بجوفي (¬79) افريقية على نحو ميلين، وجدّ في بنائها وتشييدها، ولم يزل عقبة في حبسه حتى أتاه كتاب الملك الخليفة معاوية بن أبي سفيان يأمره باطلاقه. قال أبو بكر المالكي (¬80): ولما سرح عقبة من وثاقه (¬81) توجه إلى معاوية بن أبي سفيان فوجده؟؟؟ توفي. وولي بعده يزيد، فدخل عليه وأخبره بما صنع (¬82) أبو المهاجر بالقيروان، وما حل به منه. وقال: فتحت افريقية وبنيت مسجد الجامع فبعثتم عبد الأنصار فأهانني وأساء عزلي (¬83) فغضب اليزيد وقال أدركوها قبل أن يخرّبها، ورد عقبة إليها وأزال ولاية مسلمة عنها وأقره بمصر، وذلك سنة اثنين وستين (¬84) من الهجرة، فقدم عقبة إليها في عشرة آلاف فارس، فوصل إلى القيروان، وأخذ أبا المهاجر وحبسه وقيّده وأخذ / منه ما وجد بيده من الأموال، فبلغ ذلك مائة ألف دينار ذهبا، وجدّد بناء القيروان وشيّدها ونقل إليها الناس، فعمرت (وعظم بناؤها) (¬85) وعلا قدرها وأعز الله بها الإسلام وأقر بها أعين الأنام. ثم إن عقبة خرج بأصحابه وبكثير من أهل القيروان إلى المغرب، واستخلف عليها عمر بن علي القرشي، وزهير بن قيس البلوي، وخرج بأبي المهاجر معه موثوقا. ولما خرج عقبة دعا بأولاده فقال لهم: إني بعت نفسي من الله ولا أدري ما يقضي علي في سفري، ثم قال: يا بني أوصيكم بثلاث خصال فاحفظوها ولا تضيعوها: إيّاكم أن تملؤوا صدوركم شعرا وتتركوا القرآن، املؤوا صدوركم من كتاب الله فإنه دليل على الله، وخذوا من كلام العرب ما تهتدي به ألسنتكم، ويدلكم على مكارم الأخلاق، ثم انتهوا عما وراءه، وأوصيكم أن لا تداينوا ولو لبستم العباء، فإن الدين ذلّ بالنهار وهمّ ¬

(¬77) 674 م. (¬78) في الأصول: «تاكران» والمثبت من معالم الإيمان 1/ 47. (¬79) الجوف هو الشمال في لهجة أهل المغرب والأندلس. (¬80) لا ينقل عنه مباشرة كعادته وإنما هذا من كلام معالم الإيمان وأنظر رياض النفوس 1/ 33. (¬81) معالم الإيمان 1/ 47 والرياض 1/ 33: «ثقافه». (¬82) كذا بالأصول. وبرياض النفوس وفي المعالم: «فعل». (¬83) في الأصول: «عزلتي» والمثبت من معالم الإيمان 1/ 47. (¬84) 681 - 682 م. (¬85) في مكانها في المعالم: «وصلح شأنها» 1/ 47.

بالليل، فدعوه تسلم لكم أقداركم وأعراضكم، وتبقى لكم الحرمة مع الناس ما بقيتم، ولا تقبلوا العلم من المغرورين المرخصين، فيجهّلوكم (¬86) دين الله ويفرقوا بينكم وبين الله، ولا تأخذوا دينكم (¬87) إلاّ من أهل الورع والحيطة فإنه أسلم لكم، ومن احتاط سلم ونجا (فيمن نجا ثم عليكم سلام الله) (¬88) وأراني لا تروني بعد يومكم هذا (¬89). ثم سار (¬90) حتى انتهى إلى باغاية (¬91) والرّوم يهربون بين يديه (¬92) يمينا وشمالا، فحاصرها وقد اجتمع بها الرّوم، فقاتلهم وحاصرهم أشدّ القتال / ثم انهزم عدوهم فقتلهم قتلا ذريعا وغنم أموالهم، ثم كره أن يقيم عليهم، فرحل عنهم ونزل على تلمسان، وهي من أعظم مدائنهم، وانضم إليها من حولها، فخرجوا إليه في عدد لا يحصى ولا يعلم عددهم إلاّ الله، فقاتلهم حتى ظن المسلمون أنه الفناء، فضرب الله في وجوه الرّوم، فقاتلهم إلى باب حصنهم، وأصاب الناس منهم غنائم كثيرة، ثم كره المقام عليهم، فرحل يريد الزّاب، فسأل عن أعظم مدائنه فقيل له مدينة يقال لها آذنة، وهي (مدينة ملكهم) (¬93)، وكان حولها ثلاثمائة قرية، وستون قرية، كلها عامرة، فلما بلغهم قدوم المسلمين عليهم هربوا إلى حصنهم وإلى الجبال، فلما قدم عقبة نزل على واد منها على ثلاثة أميال أو أكثر قليلا، فلقوه عند الوادي في وقت المساء، - وكان وقت نزوله - فكره قتالهم بالليل، فتواقف القوم الليل كله، لا راحة لهم ولا فترة ولا نوم فسماه الناس إلى اليوم وادي سهر (¬94) لأنهم سهروا عليه فلما أصبح عقبة صلّى الصّبح، ثم أمر المسلمين بقتالهم فقاتلوهم قتالا ما رآه المسلمون قط حتى يئس المسلمون من أنفسهم، ثم أعطاهم الله - عز وجل - الظفر، فانهزم الرّوم وقتل فرسانهم وأهل النّكاية والبأس منهم، واستولت الهزيمة على بقيتهم. ¬

(¬86) في الأصول: «فيحلوا لكم» وفي أصول المعالم: «فيحلوكم» والمثبت من المحقق في المعالم من الرياض أنظر هامش المعالم 1/ 48 والرياض 1/ 34. (¬87) في المعالم: «1/ 48. (¬88) في مكانها في المعالم: «ثم قال: وعليكم سلام الله» 1/ 48. (¬89) وجاء في الرياض تتمة الدعاء هكذا «ثم قال اللهم تقبل نفسي في رضاك واجعل الجهاد رحمتي من دار كرامتي عندك» وأثبتها محقق معالم الإيمان في النص استنادا إلى حاشية أحد أصوله وإلى الرياض أيضا. (¬90) بعدها في المعالم: «لا يدافعه أحد» 1/ 48. (¬91) في الأصول: «باغار» وفي المعالم: «باغاي» والإصلاح طبقا لما أثبتنا سابقا. (¬92) في المعالم: «من طريقه». (¬93) في المعالم: «دار ملكها» 1/ 49. (¬94) في الأصول: «السهر» والمثبت من المعالم 1/ 49 والرياض 1/ 37.

وفي هذه الغزوة ذهب عزّ الرّوم / من الزّاب وذلّوا، فكره عقبة المقام عليهم وقد تحصّنوا فرحل عنهم يريد المغرب حتى نزل تاهرت فاستغاث الرّوم بالبربر فأجابوهم ونصروهم، فقام [عقبة] في الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إن أشرافكم وخياركم الذين رضي الله عنهم وأنزل عليهم كتابه، بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيعة الرضوان على قتال (¬95) من كفر بالله إلى يوم القيامة وهم [أشرافكم] (¬96) والسّابقون منكم إلى البيعة باعوا أنفسهم من ربّ العالمين بجنته بيعة رابحة وأنتم اليوم في دار غربة، وإنّما بايعتم رب العالمين، وقد نظر إليكم في مكانكم هذا، ولم تبلغوا هذه البلاد إلاّ طلبا لرضاه واعزازا لدينه، فأبشروا فكلما كثر العدو كان أخزى لهم وأذلّ إن شاء الله وربكم - عزّ وجل - لا يسلمكم، فالقوهم بقلوب صادقة فإن الله - عزّ وجلّ - جعلكم بأسه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين، فقاتلوا عدوكم على بركة الله وعونه. فالتقى المسلمون بهم فاقتتلوا قتالا شديدا فلم يكم لهم بقتال العرب من طاقة، فولوا (¬97) هاربين، فقاتلهم المسلمون قتالا ذريعا أبادوا فيه فرسان البربر، وتفرق جمعهم وقليل من نجا منهم. ثم رحل حتى نزل طنجة فنزل على البحر المحيط، وهو بحر الأندلس، فقيل له: ذلك بحر لا يرام، وعليه ملك عظيم الشأن، وما أظنك تقدر أن تجوز هذا البحر، فقال لهم: دلّوني على رجال البربر والرّوم، فقالوا له: قد / تركت خلفك الروم وقد أفنيتهم، وما أمامك إلاّ البربر وهم في عدد لا يعلمه إلاّ الله. فسألهم عن موضعهم فقالوا له: السّوس الأدنى فلقي البربر في عدد لا يعلمه إلاّ الله تعالى، فانهزموا وقتلهم قتلا ذريعا وأمعنت خيل المسلمين في البلاد، ثم رحل عنهم إلى السّوس الأقصى، فاجتمع عليه البربر في عدد لا يحصى فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر القتلى من الفريقين، ثم ضرب الله في وجوه الكفّار، فهزمهم المسلمون وقتّلوهم وغنموا أموالهم وسبوا نساءهم، (وهنّ في غاية الحسن والأدب) (¬98) فبلغ (¬99) ثمن الجارية منهن بالمشرق ألف دينار، ثم هربوا من بين يديه. ¬

(¬95) زائدة عن المعالم. (¬96) إضافة من المعالم 1/ 50. (¬97) أي الروم وفي المعالم: «فولى الرّوم» 1/ 50. (¬98) إضافة من المؤلف عما هو موجود في المعالم. (¬99) في المعالم: «فبلغنا أن» 1/ 51، وفي الرياض: «فبلغت الجارية» 1/ 38.

ورحل يريد البحر المحيط، فانتهى إليه وأقحم فيه فرسه - لا يقف بين يديه أحد، ولا يرومه بشر - ثم نادى بأعلى صوته وهو يشير بسوطه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقال له بعض أصحابه: على من تسلم يا ولي الله؟ فقال: على قوم يونس من وراء هذا البحر، ولولاه لوقفت بكم عليهم، ثم رفع يديه إلى السّماء وقال: اللهم اشهد أني قد بلغت المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في الأرض أقاتل من كفر بك حتى لا يعبد أحد من دونك، ثم انصرف راجعا يريد افريقية، وداخل البربر منه خوف (¬100) عظيم، وتفرقوا في الجبال / فلما دنا منها أمر أصحابه أن يتفرقوا، فتفرقوا أفواجا أفواجا إلى افريقية، فلما انتهى إلى ثغر افريقية وهو طبنة (¬101)، وبينها وبين القيروان (¬102) ثمانية أيام، أذن لمن بقي معه في الانصراف إلى القيروان (ومال في خيل يسيرة يريد تهودة) (¬103) فلما انتهى إليها، نظر الروم في خيل يسيرة (فقرب لينظر إليها) (¬104) ويعرف قدر ما يكفيها من الخيل، فيقطع ذلك إليها، وجيوشها متياسرة عن طبنة (101) فلما انتهى إليها نظر الروم إلى قلة ما معه من الخيل، فقالوا: في قتل هذه الخيل قتل أهل الأرض كلهم وظنوا أن ذلك هو عسكره فأغلقوا باب حصنهم دونه، وأقبلوا يرمونه بالحجارة وهم في ذلك يشتمونه، وكل ذلك وهو يدعوهم إلى الله وإلى رسوله، فلما توسط البلاد نزل. وبعث الروم إلى كسيلة الأوربي، فأعلموه بقلة من معه، فجمع له جمعا كثيرا من الروم والبربر وتسارعوا إليه ثم زحف إليه ليلا حتى نزل بالقرب منه وأحاط بعسكر عقبة وأقام كذلك حتى أصبح فلما رأى ذلك عقبة استعد له وأمر أصحابه أن لا يركب منهم أحد ويئس المسلمون من أنفسهم، وقاتل المشركون قتالا شديدا حتى بلغ البلاء، وتكاثرت في المسلمين الجراح، وتكاثر عليهم العدو، فاستشهد عقبة - رضي الله عنه - وجميع من معه - رضي الله تعالى عنهم جميعا - / واستشهد معه أبو المهاجر وكان موثوقا في الحديد (¬105). ¬

(¬100) في المعالم: «رعب» 1/ 51. (¬101) في الأصول: «طنجة» والمثبت من المعالم 1/ 51 والرياض 1/ 39. (¬102) في الأصول: «افريقية» والمثبت من المعالم. (¬103) في الأصول: «ومال هو متياسر لطنجة» وفي المعالم: «وقال هو متياسر عن طبنة» وقال عنها محقق المعالم: ورد هذا النص مضطربا في جميع الأصول وصوابه كما في الرياض هامش 3 - 1/ 51 وما أثبتناه من الرياض. (¬104) في الأصول: «فقرب إليها ينظرها» والمثبت من المعالم 1/ 51. (¬105) معالم الإيمان 1/ 52.

فلما (¬106) استشهد عقبة وأصحابه، جمع كسيلة أهل المغرب، وزحف بهم يريد القيروان، فاشتعلت (¬107) افريقية نارا، وعظم البلاء على المسلمين، ومضى كسيلة بالعساكر حتى جاوز (¬108) القيروان فخرجت العرب منها هاربة، ولم يكن لهم بحربه من طاقة لعظم ما اجتمع عليه من الروم والبربر، وأسلموا القيروان وبقي بها أصحاب العيال، وكل مثقل من التجار وأهل الذمّة، فحار الناس ولم يدروا كيف يفعلون فأرسلوا إلى كسيلة يسألونه الأمان فأجابهم إلى ذلك، ودخل القيروان (¬109) إلى الموضع الذي كان فيه عقبة فنزله وأقام بها أميرا، وصارت بقيّة المسلمين تحت يده، ومضى الذين هربوا حتى قدموا على يزيد فوجدوه قد مات، وذلك في سنة أربع وستين» (¬110). «قال في «معالم الإيمان» (¬111): وقيل إن زهير بن قيس البلوي - خليفة عقبة - ثبت بالقيروان حين (¬112) زحف إليه كسيلة البربري، وخرج الروم من حصونهم، ونقضوا العهود، وزحف كسيلة وقاتله زهير قتالا شديدا، فانهزم كسيلة وقتل من أصحابه ما لا يحصى، ومضت عنه تلك الجموع فهرب الرّوم وتفرقت جموعهم فأقام زهير يسيرا بالقيروان، ثم خرج إلى مصر، وذلك في سنة خمس وستين (¬113)، فوجد يزيدا قد مات وعبد الله بن الزبير خليفة / بمكّة ومروان بن الحكم أميرا (¬114) بالشام (¬115). (واعلم أن عقبة بن نافع - رضي الله تعالى عنه -) (¬116) ولد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يرو عنه شيئا، وكان رجلا صالحا، مستجاب الدعاء، وله كرامات، منها ما رواه عبد الرحمان بن عبد الله بن عبد الحكم (¬117)، أن عقبة بن نافع أصابه في بعض مغازيه بالمغرب عطش شديد هو وأصحابه أشرفوا منه على الموت، فصلّى عقبة ودعا الله - عزّ ¬

(¬106) النقل من 1/ 51. (¬107) في المعالم: «فانقلبت». (¬108) في الأصول: «وصل» والمثبت من المعالم 1/ 55. (¬109) بعدها في ت: «وسار». (¬110) 683 - 684 م. تصرف المؤلف في النقل عن المعالم بالحذف وتبديل بعض الكلمات. (¬111) في مكانها في المعالم: «وذكر أبو العرب أن» 1/ 55 وتصرف المؤلف بعد ذلك بالحذف قرابة صفحة. (¬112) في المعالم: «حتى». (¬113) 784 - 785 م. (¬114) في الأصول: «خليفة» والمثبت من المعالم 1/ 57. (¬115) نقل الفقرة التي انتهت بتصرف حذفا وتلخيصا 1/ 55 - 56. (¬116) إضافة من المؤلف إذ انتقل بعدها إلى موضع آخر من المعالم حيث يترجم فيه لعقبة 1/ 164. (¬117) ابن عبد الحكم: الفتوح 195، ونقله الدباغ عن المالكي: الرياض 1/ 98 والنص في فتوح مصر 194 - 195. ومسالك البكري 13 - 14 وهو أوفى من نص ابن الحكم المطبوع.

وجل - فجعل فرسه يبحث بيده في الأرض حتى كشف عن صفاة، فانفجر منها الماء فجعل الفرس يمص ذلك الماء فانصرف عقبة فنادى في النّاس أن احتفروا، فاحتفروا سبعين حسيا (¬118) فشربوا واستقوا وصار ذلك ماء معينا، فسمي ذلك الماء «ماء فرس» إلى اليوم. قال (¬119): وروى أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم قال: حدثنا حبيب بن نصر، وأحمد بن أبي سليمان، وعيسى بن مسكين، قالوا: أخبرنا سحنون بن سعيد - رحمه الله تعالى - عن عبد الله بن وهب، عن اللّيث بن سعد أنّ عقبة بن نافع الفهرى لما قدم من عند يزيد بن معاوية في جيش لغزو المغرب مرّ على عبد الله بن عمرو وهو بمصر فقال عبد الله بن عمرو: يا عقبة، لعلّك من الجيش الذين يدخلون الجنة برحالهم؟ قال: فمضى (¬120) عقبة بجيشه حتى قابل البربر وهم كفار، فقتلوا جميعا. قال أبو العرب: كان هذا في غزوة عقبة الثالثة (¬121)، قتل هو وأصحابه وكان كسيلة نصرانيّا / وقبر عقبة ظاهر بالزّاب يتبرك به. وكان دخوله افريقية ثلاث مرات، الأولى سنة إحدى وأربعين، فأقام بها ثلاث سنين، وقيل سنة ست وأربعين، وهو الأصح، وعلى كل حال كان ذلك في دولة معاوية بن أبي سفيان. والمرة الثانية سنة خمسين وفيها اختط القيروان ومن جملتها الجامع الأعظم ودار الإمارة وهي في قبلة الجامع المسمى اليوم بالمخزن، وترك ما أسسه (معاوية بن خديج بالقرن) (¬122). وغزوته هذه في مدة معاوية أيضا. والمرة الثالثة سنة إحدى وستين وقيل سنة اثنين وستين وكانت غزوته هذه في خلافة يزيد بن معاوية، وكان - رحمه الله تعالى - حريصا على الجهاد بلغ في مغازيه إلى سوس المغرب وإلى بلاد السّودان، وفتح سائر افريقية وودّان وعامّة بلاد البربر (ولم يختلف أنه كان مجابا - رضي الله تعالى عنه -) (¬123). ¬

(¬118) في الأصول: «سقيتين» والمثبت من المعالم 1/ 165 والرياض 1/ 98. (¬119) أي الدباغ في معالم الإيمان 1/ 165. (¬120) في الأصول: «فمشى» والمثبت من المعالم 1/ 165. (¬121) في المعالم: «الثانية» والصحيح الثالثة. (¬122) في الأصول: «عقبة بن عامر بالقيروان» والتحريف بين عقبة ومعاوية بعيد، وورد في بعض مخطوطات معالم الإيمان: «عقبة بن نمير» و «قمير» بالقاف وهو اسم لم يرد في حركة الفتح الإسلامي لإفريقية مطلقا أنظر تعليقات ابراهيم شبوح، محقق معالم الإيمان هامش 2 - 1/ 166. (¬123) في المعالم: «ولم يختلفوا في أنه كان مستجابا» نقل المؤلف ما ورد في ترجمة عقبة بن نافع في معالم الإيمان مع تبديل بسيط 1/ 164 - 167.

غزوة عقبة بن عامر الجهني

غزوة عقبة بن عامر الجهنّي: كان من أكابر الصحابة. قال في «المعالم» (¬124): «يكنّى أبا حمّاد (¬125)، وقيل أبا الأسود وقيل أبو أسيد (¬126)، وقيل أبو أسد، (وقيل أبو عمران) (¬127)، وقيل أبو سعاد، وقيل أبو عمّار، وقيل أبو عامر. قال: سكن مصر وكان واليا عليها وابتنى بها دارا، وغزا منها افريقية قبل عقبة بن نافع. وروى سحنون بن سعيد عن عبد الله بن وهب، عن اللّيث بن سعد، قال: بلغني أن عقبة / بن عامر الجهني لما غزا افريقية أتى إلى وادي القيروان، فبات عليه حتى إذا أصبح وقف على رأس الوادي فقال: يا أهل الوادي أظعنوا، فإنّا نازلون، قال ذلك ثلاث مرات، فجعلت الحيّات والعقارب وغيرها، مما لا يفر (¬128) من الدّواب يخرجن وهم قيام ينظرون إليها من حين أصبحوا حتى أوجعهم حرّ الشمس، (وحتى لم يروا) (¬129) منها شيئا، فنزلوا الوادي عند ذلك. قال اللّيث: حدثني زياد بن عجلان أن أهل افريقية أقاموا [بعد ذلك] أربعين سنة، ولو التمست حية أو عقرب بألف دينار ما وجدت، هكذا روى الليث. وقال عبد الله بن لهيعة: إنّما هو عقبة بن نافع عندما أراد أن يختط القيروان وهو الأشهر من القولين. وتوفي عقبة بن عامر بالشّام سنة ثمان وخمسين (¬130) في خلافة معاوية. وقال: والواقدي توفي بمصر (¬131). غزوة رويفع بن ثابت: هو رويفع بن ثابت بن السّكن بن عدى بن حارثة (¬132) بن عمرو بن زيد مناة بن ¬

(¬124) النقل من 1/ 120 وما بعدها. (¬125) في الأصول: «أبا حامد» والمثبت من المعالم. (¬126) في الأصول: «أبا يسيد» والمثبت من المعالم. (¬127) إضافة من المؤلف عما هو موجود بالمعالم. (¬128) كذا في الأصول، وفي أصول المعالم، والطبقات، وقد أصلحها ابراهيم شبوح في تحقيقه للمعالم: «يعرفون» 1/ 120. (¬129) في الأصول: «وما يرون» وفي أصول المعالم: «وما يرونه» والإصلاح من محقق المعالم. (¬130) 677 - 678 م. (¬131) معالم الإيمان في ترجمة عقبة بن عامر 1/ 120 - 122. (¬132) في الأصول: «خارجة» والمثبت من المعالم 1/ 122.

عدى بن عمرو بن مالك بن النجّار (¬133) الأنصارى. قال أبو سعيد بن يونس: كانت لرويفع بالمغرب وافريقية ولايات وفتوحات، وشهد قبلها فتح مصر واختط بها دارا. وقال أبو عمر بن عبد البرّ: ولي معاوية بن أبي سفيان رويفع بن ثابت على طرابلس سنة ست وأربعين (¬134)، فغزا منها افريقية سنة سبع وأربعين (¬135)، ودخلها وانصرف من عامه. قال في «المعالم»: حدثنا أبو القاسم عبد الرحمان بن مكي (¬136) قال: أخبرنا أحمد بن محمد (¬137) الأصبهاني، قال: أخبرنا محمد بن أحمد (¬138) / الرّازي، قال: «أخبرنا محمّد بن أحمد (¬139) السّعدي، قال: أخبرنا عبيد الله بن محمد العكبري (¬140) قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي عن هارون الحربي قال: حدثنا أحمد ابن خالد السّرخسي، قال: حدّثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق مولى تجيب (¬141)، قال: أخبرنا حنش الصنعاني، قال: غزونا المغرب وعلينا رويفع ابن ثابت الأنصاري، فافتتحنا جزيرة (¬142) يقال لها جربة، فقام فينا رويفع خطيبا فقال: «إني لا أقول (¬143) فيكم إلاّ بما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام فينا يوم خيبر حين افتتحناها، فقال: «لا يحل لأمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره - يعني اتيان الحبالي من الفيء - ولا يحل لأمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي ثيّبا حتى يستبرئها (¬144)، ولا يحل لأمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة ¬

(¬133) في الأصول: «النجاري» والمثبت من المعالم 1/ 122. (¬134) 666 - 667 م. (¬135) 667 - 668 م. (¬136) هو سبط الحافظ السلفي. (¬137) في ط: «حمد» وفي ت وش: «أحمد» والمثبت من المعالم 1/ 123 وهو الحافظ السلفي. (¬138) في الأصول: «أحمد بن محمد» والمثبت من المعالم. (¬139) في الأصول: «أحمد بن محمد» والمثبت من المعالم. (¬140) في الأصول وفي أصول المعالم: «البكري» والمثبت من محقق المعالم 1/ 123 هامش 1. (¬141) في الأصول وفي أصول المعالم: ابن مرزوق موسى التجيبي» والمثبت من محقق المعالم 1/ 123 هامش 5. (¬142) في الأصول وفي أصول المعالم: «قرية» والمثبت من محقق المعالم هامش 6. (¬143) في الأصول: «لا أقوم» والمثبت من المعالم. (¬144) في الأصول: «من كان منكم. . . يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأتين شيئا من السّبي حتى يستبرئها» والمثبت من محقق المعالم 1/ 124 هامش 1 عن أسد الغابة.

غزوة زهير بن قيس البلوي

من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردّها فيه (¬145) [ولا يحل لأمرئ] (¬146) يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه» (¬147). غزوة زهير بن قيس البلوي: وتوفي رويفع بن ثابت ببرقة وهو وال عليها، وتوفي سنة ثلاث وخمسين (¬148) وقبره بها معروف (¬149). ولما بلغ أهل الشام وفاة عقبة بن نافع اجتمع (¬150) المسلمون إلى مروان ابن الحكم فسألوه أن يبعث الجيوش إلى إفريقية لخلاص من فيها من المسلمين من يد كسيلة وأن يعز بها الإسلام كما كان في أيام عقبة بن نافع، فقال لهم: ومن يوجد مثل عقبة؟ فاتفق رأيه ورأي المسلمين على زهير بن قيس البلوي (نسبته إلى بلي) (¬151) قبيلة من العرب /، كان - رضي الله تعالى عنه - من رؤساء العابدين - وأشراف المهاجرين، فوجه إليه عبد الملك يأمره بالخروج على أعنّة الخيل فيمن معه من المسلمين لغزو افريقية حتى يعود إليها الإسلام كما كان. فلما اتصل ذلك بزهير سرّه وسارع إلى الجهاد، وكتب إلى عبد الملك يخبره بقلّة من معه من الرّجال وقلة الأموال، فأرسل عبد الملك رجال العرب وأشرافهم يحشدون عليه الناس من مدائن الشام (¬152) وأفرع عليه الأموال، فسارع الناس إلى الجهاد واجتمع منهم خلق كثير، فأمرهم أن يلحقوا بزهير، فلما وصلوا إليه خرج بهم إلى افريقية، فلما دنا من القيروان نزل بقرية يقال لها قلشانة (¬153)، وكان ذلك في سنة تسع وستين (¬154)، ¬

(¬145) في الأصول: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركبن دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردّها فيه» والمثبت من المعالم. (¬146) في مكانها في الأصول: «ومن كان» والمثبت من محقق المعالم. (¬147) ورد في السيرة النبوية لابن هشام، نشر دار الجيل، وقدمها وعلق عليها وضبطها طه عبد الرؤوف سعد ج 3 ص: 113 - 114. (¬148) 672 - 673 م. (¬149) معالم الإيمان، من ترجمة رويفع بن ثابت 1/ 122 - 125. (¬150) النقل من 1/ 57 مع تغيير بسيط في بعض الكلمات. (¬151) تفسير من المؤلف. (¬152) في الأصول: «الناس» والمثبت من المعالم 1/ 57. (¬153) في المعالم: «قرشانة». (¬154) 688 - 689 م.

فبلغ ذلك كسيلة وكان في خلق عظيم من الرّوم والبربر، فدعا كبارهم وشاورهم في أمره، وقال لهم: إني رأيت أن أرحل إلى ممسّ (¬155) فأنزل عليها لأنّي أخاف إذا التقينا مع القوم (¬156) والتحم القتال أن يركبنا من في القيروان من المسلمين فنهلك، ولكن ننزل بعسكرنا على ممسّ (155) لأن ماءها كثير، فهو يحمل عسكرنا، فإن هزمناهم رحلنا (¬157) معهم لطرابلس وقطعنا آثارهم من الدّنيا وتكون افريقية لنا وفي ملكنا إلى آخر الدّهر، وإن هزمونا كان الجبل منا قريبا فتحصّنا به، فأجابوه إلى ذلك فرحل إلى ممسّ فنزل بها. فبلغ ذلك زهيرا وكان ينتظر أن يخرج إليه من القيروان، فلما نزل كسيلة ممسّ رحل زهير بعسكره فنزل القيروان وأقام بها ثلاثة أيام / حتى استراح وأراح أصحابه خيلهم، ونظر إلى ما يعمل كسيلة فإذا به يريد (¬158) قتاله، فزحف إليه زهير يوم الأربعاء صباحا، فسار نهاره أجمع حتى أشرف على عسكر كسيلة في آخر النهار، فأمر الناس بالنزول فنزلوا، وبات الناس على مصافّهم، فلما أصبح زهير صلّى الصّبح غلسا ثم زحف إليه بمن معه، فالتقى الفريقان فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر البلاء في الفريقين جميعا، فضرب الله في وجه (¬159) كسيلة فانهزم هو وأصحابه وقتلوا قتالا ذريعا، وأثخن العرب فيهم القتل، وقتل كسيلة بممسّ ولم يتجاوزها، وتمادت العرب في طلب أصحابه حتى سقوا خيلهم من ملويّة «واد بطنبة» (¬160) وأفنوا رجال الروم، وفتح شقبناريّة (¬161) وقلاعا [أخر] (¬162) ثم رحل إلى القيروان وقد فزع منه جميع (¬163) الرّوم والبربر. ثم إن زهيرا رأى من افريقية رفاهية العيش وملكا عظيما فأبى من المقام، وقال: إنما قدمت إلى الجهاد ولم أقدم لحب الدنيا، - وكان - رضي الله تعالى عنه - من رؤساء ¬

(¬155) في الأصول: «معسكر» والمثبت من المعالم 1/ 57. (¬156) في الأصول: «المسلمين» والمثبت من المعالم 1/ 58. (¬157) في المعالم: «دخلنا». (¬158) في الأصول: «أراد» والمثبت من المعالم 1/ 58. (¬159) في الأصول: «وجوه» والمثبت من المعالم 1/ 58. (¬160) في المعالم: طنجة» وهو مستبعد. (¬161) ويقال شقبانريّة وهو تعريب لاسمها الروماني «Sicca Veneria». (¬162) الرياض 1/ 47. (¬163) في الأصول: «فزع جمع» والمثبت من المعالم 1/ 58 والرياض 1/ 47.

ولاية حسان بن النعمان وغزواته

العابدين - فراوده أصحابه على المقام بافريقية فأبى ورجع إلى المشرق ونزل ببرقة، وكانت له بها وقائع كثيرة مع المشركين. وكانت الرّوم لما بلغهم أن زهيرا خرج غازيا إلى افريقية لقتال الرّوم والبربر وأيقنوا أنه خرج من برقة أمكنهم ما يريدون، فخرجوا إليها في مراكب كثيرة، وقوّة عظيمة، فأغاروا على برقة / وأصابوا منها سبيا كثيرا وأفسدوا وذهبوا فوافق ذلك قدوم زهير من افريقية إلى برقة فأخبروه بالذي حلّ بهم من الروم، فأمر عسكره أن يمضي على الطريق، وعدل هو إلى الساحل في خيل يسيرة من فرسان أصحابه وأنجادهم، وطمع أن يدرك شيئا من سبي المسلمين، فلما انتهى إلى السّاحل أشرف على الروم فإذا هم في خلق كثير، ولم يقدر أن يرجع، واستغاث ذراري المسلمين وصاحوا والرّوم يدخلونهم في المراكب، وعسكر الروم بوفرة في البر، فنادى زهير بأصحابه وقال: أنزلوا رحمكم الله، فنزل المسلمون وبرز الروم لقتالهم، فالتقى الفريقان فاقتتلوا قتالا شديدا حتى عانق بعضهم بعضا، وتكاثرت عليهم الروم فاستشهد زهير وكلّ من معه من المسلمين - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - ولم يفلت منهم إلاّ رجل واحد، فأدخل الروم خيلهم وسلاحهم والسبي الذي كان معهم في المراكب، فلما وصل الخبر إلى عبد الملك بن مروان اشتدّ عليه وعلى المسلمين ذلك، وكانت المصيبة بزهير وأصحابه - رضي الله تعالى عنهم -[مثل المصيبة بعقبة بن نافع وأصحابه - رضي الله عنهم أجمعين -] (¬164). ولاية حسان بن النعمان وغزواته: فسأل (¬165) عبد الملك أشراف المسلمين أن ينظروا إلى أهل افريقية من يؤمنهم من عدوّهم ويبعث الجيوش إليهم، فقال عبد الملك: «ما أعلم أحدا أكفأ بإفريقية من حسان بن النّعمان الغسّاني» فبعثه عبد الملك أميرا على افريقية في سنة تسع وستين (¬166) / في جيش فيه نحو من ستة آلاف وهو أول من دخل افريقية من أهل الشام في زمن بني أمية فخرج حسان بجيوشه حتى وصل افريقية فسأل أهل افريقية عن أعظم ملك بإفريقية فقالوا: «صاحب قرطاجنة»، فرحل إليه حسّان، وفي قرطاجنة من الروم ما لا يعلمه إلاّ ¬

(¬164) إضافة من المعالم 1/ 59. (¬165) في الأصول: «قال» والمثبت من المعالم. (¬166) 688 - 689 م.

الله، وهي على شاطئ البحر، (قرب مدينة تسمى ترشيش) (¬167)، وهي من مدينة القيروان على مائة ميل وميل، فمشى حسّان حتى نزل على مدينتهم ترشيش، ووجه خيله إلى قرطاجنّة ولم يكن فيها بحر، فضيق عليهم حسّان، وتواقف القوم فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل رجالهم وفرسانهم. واجتمع رأي الروم على أن يهربوا في البحر في سفن كثيرة، فحملوا فيها، فمنهم من هرب إلى صقلية ومنهم من هرب إلى الأندلس، فدخلها حسان بالسيف فسباها وغنم ما فيها وقتل الرجال وأرسل إلى ما حولها من العمران فاجتمعوا إليه مسرعين خوفا منه، فأمرهم بهدم قرطاجنة وقطع القناة عنها، ثم اجتمع عليه الروم وعقدوا عليه عسكرا عظيما لا يعلمه إلاّ الله، ومعهم البربر وذلك بموضع يسمّى سطفورة (¬168)، فزحف إليهم حسّان وقاتلهم قتالا شديدا، وأصيب من أصحابه رجال كثيرون - رضي الله تعالى عنهم -. ثم ضرب الله في وجوه الروم والبربر، فانهزموا بعد بلاء عظيم، فقتلهم حسّان / قتلا ذريعا، واستأصلهم وحمل بأعنّة الخيل عليهم فما ترك في بلادهم موضعا إلاّ وطأه بخيله، ولجأ بقية الرّوم خائفين هاربين إلى مدينة باجة، فتحصنوا فيها، وهرب البربر (¬169) إلى إقليم بونة، واخترق حسان البحر فاحتفره وجعل دار (صناعة لإنشاء المراكب (¬170) وأخرج البحر إليها - حسبما مرّ - ثم انصرف إلى مدينة القيروان فأقام بها حتى برئت جراح أصحابه. ثم سأل حسان عن أعظم ملك بإفريقية، فقيل له ليس بإفريقية أعظم قدرا ولا أبعد صيتا ولا أشد حربا من امرأة يقال لها الكاهنة (وهي كاهنة لواتة) (¬171) وهي في جبل أوراس (¬172)، وجميع من بإفريقية يخافها والرّوم سامعون لها مطيعون، فإن قتلتها يئس الروم والبربر من افريقية فإنها لهم ملجأ. فلما سمع ذلك حسان عزم على غزوها، فخرج إليها بجيوشه، فلما بلغ موضعا يقال له مجّانة نزل به وكانت قلعة مجانة لم ¬

(¬167) تفسير من المؤلف إذ أن معالم الإيمان تفهم القارئ أن ترشيش هي قرطاجنة إذ أن «ترشيش» هو إسم مدينة تونس القديم. (¬168) هي في بعض ولاية بنزرت. (¬169) في الأصول: «الروم» والمثبت من المعالم 1/ 61. (¬170) في المعالم: «دار الصناعة». (¬171) تفسير من المؤلف. (¬172) في الأصول: «أوراسن» والمثبت من المعالم 1/ 61.

تفتح - فتحصن بها الروم، فمضى وتركهم، وبلغ الكاهنة أمره فزحفت من جبل أوراس في عدة لا يعلمها إلاّ الله تعالى، فنزلت بمدينة باغاي (¬173) فأخرجت من بها وهدّمتها لظنها أن حسّانا يريد حصنا يتحصن به، ثم أقبل حسّان حين بلغه الخبر إلى واد يقال له مسكيانة (¬174) فقيل له أنها أقبلت في عدد لا يحصى، فقال لهم: دلّوني على ما يسع العسكر الذي أنا فيه، فمالوا به إلى نهر فنزل عليه / وزحفت إليه الكاهنة حتى أتت إلى أسفل النهر فنزلت عليه، فكان شربه هو وأصحابه من أعلى النهر وتشرب هي من أسفله، فلما دنا بعضهم من بعض تواقفت الخيل، وأبى حسان أن يقاتلها بالليل، فوقف كل فريق على مصافه، فلما أصبحوا زحف بعضهم إلى بعض واقتتلوا قتالا شديدا فعظم البلاء بينهم وظن المسلمون أنه الفناء، وانهزم حسّان بعد بلاء عظيم، وقتل من العرب خلق كثير، فسمي ذلك النهر «نهر البلاء»، فأتبعته الكاهنة بمن معها حتى خرج من حد قابس، فأسلم افريقية ومضى على وجهه، وأسّرت من أصحابه ثمانية رجال، وقيل إنها أسّرت ثمانين رجلا، منهم (خالد بن يزيد) (¬175) العبسي وكان رجلا مذكورا. فلما فصل من قابس كتب إلى أمير المؤمنين يخبره بما نزل بالمسلمين من البلاء وبخبر الكاهنة، وطفق يرفق في سيره طمعا فيمن نجا من أصحابه أن يلحقوا به. ثم إن أمير المؤمنين عبد الملك كتب إليه: إنه بلغني أمرك وما لقيت ولقي المسلمون، فحيثما لقيك كتابي هذا فأقم ولا تبرح حتى يأتيك أمري، فلقيه كتابه وهو نازل بالموضع الذي يقال له اليوم قصور (¬176) حسّان من بر برقة، فابتنى هناك قصرا لنفسه وأقام بذلك الموضع هو ومن معه ثلاث سنين. وملكت الكاهنة افريقية كلها. وكانت الكاهنة حين أسّرت / أصحاب حسان أساءت أسرهم إلاّ رجلا واحدا وهو (خالد بن يزيد) (175) العبسي فإنها تبنته ثم عمدت إلى دقيق شعير مقلي (¬177)، فأمرت به ¬

(¬173) في الأصول: «غائر» والمثبت من المعالم 1/ 61. (¬174) في الأصول، وفي بعض أصول المعالم: «مكناسة» والمثبت من محقق المعالم اعتمادا على البكري، أنظر هامش 1 - 1/ 62، والرياض 1/ 501 هامش 178. (¬175) في الأصول: «يزيد بن خالد» والمثبت من المعالم 1/ 62. ووقع الإضطراب في اسمه عند المؤرخين فهو يزيد أو خالد أنظر تحقيق اسمه من طرف البشير البكوش، الرياض، هامش 185، 1/ 51. (¬176) في الأصول: «قصر» والمثبت من المعالم 1/ 63. (¬177) وهذه الأكلة معروفة إلى الآن وتسمّى في بعض الجهات «بسيسة» وتسمى في غيرها مثلا صفاقس «زميط» أو «زميطة».

فلث بزيت والبربر تسمي ذلك بسيسة، ثم دعت (خالد بن يزيد) (*) وابنيها فأمرتهم، فأكل ثلاثتهم، وقالت لهم: أنتم الآن قد صرتم اخوة، وذلك عند البربر (¬178) من أعظم العهود في جاهليتهم إذا فعلوه. ثم أن حسّانا بعث لخالد رسولا وهو عند الكاهنة فقال: إن حسّانا أرسلني إليك وهو يقول لك: ما منعك من الكتب إلينا بخبر الكاهنة؟ فكتب خالد كتابا إلى حسان مع رسوله في خبزة ملّة قد أنضجها ثم دفعها إلى الرسول ليخفي الكتاب وليظن من رأى الخبزة أنه زاد للرجل، فلم يغب شخص الرسول عنهم حتى خرجت الكاهنة ناشرة شعرها وهي تقول: يا معشر بني، ذهب ملككم ودنا هلاككم فيما يأكل النّاس، فكرّرته ثلاث مرات. ومضى الرّسول حتى قدم على حسّان بالكتاب وفيه كلّ ما يحتاج إليه من خبر الكاهنة، يقول له فيه، إن البربر يعقدون عساكرهم بالنهار ويفترقون بالليل، وليس لهم حزم في الرأي، وإنّما ابتلينا بأمر أراده الله، وأكرم به من أراد منا بدرجة الشهادة، فإذا نظرت في كتابي هذا فاطو (¬179) المراحل وجدّ السير فإن الأمر إليك، ولست أسلمك إن شاء الله تعالى، ولا حولا ولا قوة / إلاّ بالله العلي العظيم. ثم إن خالدا كتب بعد ذلك إلى حسّان بخبر الكاهنة، ثم عمد إلى قربوس (¬180) فنقره ثم وضع فيه الكتاب وأطبق عليه القربوس وأخفى مكان النقر منه ثم حمل رسولا على دابّة بالكتاب إلى حسّان فلما فصل الرسول بالكتاب خرجت الكاهنة ناشرة شعرها وهي تقول: يا بني قد دنا هلاككم في شيء من نبات الأرض، وهو بين خشبتين، وكانت أعلم أهل زمانها بالكهانة، ومضى الرسول حتى قدم على حسان، فلما بلغ الكاهنة أن حسّانا مقيم بقصره لا يبرح، قالت للروم والبربر: إنما طلب حسان من افريقية المدائن والذّهب والفضّة والشّجر، ونحن نريد المراعي والمزارع، فما نرى لكم إلاّ خراب افريقية، فوجهت البربر يقطعون الشجر ويهدّمون الحصون التي بها، وكانت افريقية ظلا واحدا من طرابلس إلى طنجة (¬181) [قرى متصلة] (¬182) وقد استأصلت ذلك ¬

(*) في الأصول: «يزيد بن خالد» والمثبت من المعالم 1/ 62. ووقع الإضطراب في اسمه عند المؤرخين فهو يزيد أو خالد أنظر تحقيق اسمه من طرف البشير البكوش، الرياض، هامش 185، 1/ 51. (¬178) في الأصول وأصول المعالم: «العرب» والمثبت من محقق المعالم أنظر هامش 2 - 1/ 63. وهو المنطقي. (¬179) في الأصول: «وأطل» والمثبت من المعالم 1/ 64. (¬180) كتبها المؤلف «قربوص» كما تنطق باللغة العامية وهو حنو السرج. (¬181) في الأصول: «طبنة» والمثبت من المعالم 1/ 64. (¬182) إضافة من المعالم.

كله وأخربته الكاهنة، فخرج من النّصارى ثلاثمائة رجل يستغيثون بحسّان مما نزل بهم من الكاهنة (من خراب الحصون وقطع الشجر وكان قد وجه إليه عبد الملك رسولا يأمره بالنهوض إلى افريقية قبل أن تخربها الكاهنة) (¬183)، فوافق ذلك وصول الرّوم إليه وقدوم رسول خالد بن يزيد، فرجع بجميع عسكره إلى افريقية، فيقال إنه لما رحل من قصوره بجميع عسكره خرجت الكاهنة ناشرة / شعرها، فقالت يا بني: انظروا ماذا ترون في السماء؟ قالوا: نرى شيئا من سحاب أحمر، فقالت لهم: لا والاهي، إنما هو رهج (¬184) خيل العرب أقبلت إليكم، ثم قالت لخالد بن يزيد: إنما تبنيتك لمثل هذا اليوم، أما أنا فمقتولة، ولكن أوصيك بأخويك هذين خيرا - تريد ولديها - فانطلق بهما (¬185) إلى العرب فخذ لهما أمانا. فلما وصل حسان قابسا لقيته الكاهنة في جيوش عظيمة، فقاتلهم حسان فهزمهم الله، وهربت الكاهنة منهزمة تريد قلعة بشر (¬186) لتتحصن بها، فأصبحت القلعة لاصقة بالأرض فذهبت تريد جبال أوراس ومعها صنم عظيم من خشب كانت تعبده، يحمل بين يديها على جمل، فتبعها حسّان حتى قرب من موضعها فلما كان الليل قالت الكاهنة لابنيها: إني مقتولة وأرى رأسي تركض به الدواب يمضى به إلى المشرق من حيث تطلع الشمس وأراه موضوعا بين يدي ملك العرب الأعظم الذي بعث إلينا بهذا الرجل. فقال لها خالد بن يزيد وولداها: فإذا كان الأمر هكذا عندك فارحلي وخلي له البلاد، فقالت: وكيف أفرّ وأنا ملكة، والملوك لا تفر من الموت، فأقلّد قومي عارا إلى آخر الدهر؟ فقالوا لها: ألا تخافين على قومك الموت؟ فقالت: إذا أنا متّ فلا أبقى الله أحدا منهم في الدنيا. فقال لها خالد بن يزيد وولداها: فما نحن صانعون؟ فقالت: / أما أنت يا خالد بن يزيد، فستنال ملكا عظيما [عند الملك الأعظم، وأما أولادي فسيدركون ملكا بإفريقية] (¬187) مع الملك الذي يقتلني، ثم قالت لهم: اركبوا واستأمنوا إليه. فركب خالد بن يزيد وولداها بالليل متوجهين إلى حسّان. ¬

(¬183) ما بين القوسين ساقط من ت. (¬184) في الأصول: «وهج» والمثبت من المعالم، والرهج هو الغبار. (¬185) في الأصول: «بها». (¬186) كذا بالأصول والمعالم، وجاء في المسالك للبكري: «قلعة بشر بن أرطأة» ص: 145 والأصح «بسر» نسبة لفاتحها بسر بن أرطأة العامري كما جاء في كتب التراجم والطبقات. (¬187) إضافة من رياض النفوس يقتضيها ضبط المعنى 1/ 55.

فلما أصبح حسّان زحف إلى الكاهنة وأقبلت زاحفة إليه، فلقيت أعنة الخيل خالدا وولديها فسلموا عليهم ومضوا بهم إلى حسّان فدخل خالد بن يزيد على حسّان وأخبره بما قالت الكاهنة وأنها وجهت إليه بولديها فأمر بهما حسان فأدخلهما عسكره ووكّل بهما قوما، وقدّم خالد بن يزيد على أعنّة الخيل، فالتقى القوم ووضعوا السلاح ووقع الصبر حتى ظن المسلمون أنه الفناء، فانهزمت الكاهنة وقتلت عند بئر سماه الناس بئر الكاهنة، فنزل حسّان على الموضع الذي قتلت فيه. وقيل إنها قتلت عند طبرقة فعجب الناس من خلقتها، فكانت الأترجة تجري فيما بين عجيزتها (¬188) وأكتافها. ثم إن الروم تحزّبوا على قتال حسّان، واجتمعوا فزحفوا إليه وقاتلوه فهزمهم الله تعالى، فخافه البربر، واستأمنوا إليه، فلم يقبل أمانهم حتى يعطوه من جميع قبائلهم اثنا عشر ألف فارس تكون مع العرب برسم الجهاد، فأجابوه إلى ذلك وأسلموا على يديه، فعقد لولدي الكاهنة بعد اسلامهما لكل واحد منهما ستة آلاف فارس من البربر [وجعله] (¬189) واليا عليهم / وأخرجهم مع العرب [يفتتحون افريقية] (¬190)، فمن ذلك صارت الخطط بافريقية للبربر، فكان يقسّم الفيء والأراضي بينهم فحسنت طاعتهم له، ودانت له افريقية ودوّن الدّواوين. ثم قدم القيروان فأمر بتجديد بناء الجامع الأعظم (¬191) فبناه بناء حسنا وجدّده، وذلك في شهر رمضان المعظم سنة أربع وثمانين من الهجرة (¬192). قال في «معالم الإيمان»: «ثم رحل يريد قرطاجنة فانتهى إلى طنبذة (¬193) فوجّه أبا صالح مولاه إلى قلعة زغوان (¬194) فنزل بموضع يسمى (فحص أبي صالح) (¬195) فأقام به شهرا، فقاتل أهلها ثلاثة أيام، فلم يقدر عليهم، فخلّى حسّان عسكره بطنبذة، ثم رحل إلى زغوان في خيل ¬

(¬188) في الأصول: «فخذيها» وفي المعالم عجرتها وهو تصحيف والمثبت من الرياض 1/ 56 وفي تاج العروس «العجيزة» هي العجز وتقال للمرأة 4/ 49. (¬189) إضافة من المعالم 1/ 67. (¬190) إضافة من المعالم 1/ 67. (¬191) في المعالم والرياض: «المسجد الجامع». (¬192) سبتمبر 703 م. (¬193) في الأصول: «طنبة» وفي أصول المعالم: «طنجة» وفي أصول الرياض: «طبنة»، والإثبات من محقق المعالم استنادا إلى المسالك، أنظر هامش 3 - 1/ 67. ومن محقق الرياض، هامش 233 - 1/ 56. وعن طنبذة أنظر معجم البلدان، والروض المعطار ص: 387، وصلة السمط 4/ 143. (¬194) في الأصول وفي أصول المعالم: «زعفران» والمثبت من الرياض 1/ 57. (¬195) في الأصول: «يسمى بفحص أبي صالح» وفي المعالم: «بموضع فحص أبي صالح» وفي الرياض: «فسمي فحص أبي صالح» 1/ 57.

مجردة فافتتحها صلحا وانصرف إلى طنبذة. ثم سار إلى قرطاجنة فنزل بموضع دار الصّناعة، فخرج إلى حسّان أهل قرطاجنة بأجمعهم، فحاربوه حربا شديدة، فهزمهم الله - عز وجل - بين يديه، فلما رأى الرّوم (شدة قهره لهم) (¬196) وعلموا أنهم لا طاقة لهم به سألوه الصلح وأن يضع لهم الخراج، فأجابهم حسّان إلى ذلك، ووافقهم عليه، فأدخلوا عند ذلك ثقلهم في مراكب كانت معدة عندهم في البحر، وهربوا ليلا بأجمعهم من باب يقال له باب النّساء، وحسان لا علم عنده بما فعلوه من هربهم، وتركوا مدينتهم خاليه لا أحد فيها، ونزلوا بجزيرة صقليّة، ومضى بعضهم إلى بلاد الأندلس، فدخل عند ذلك حسّان إلى المدينة / وبنى بها مسجدا وأخرب بناءها» (¬197). وذكر التجاني في «رحلته» أن مرناق كان صاحب قرطاجنة فلما دخل المسلمون لأرض افريقية وكان ملكه للبلاد المسماة بمرناق بخديعة تمّت على حسّان بن النعمان وذلك أن مرناق الملك المذكور نهض له حسّان - رضي الله تعالى عنه - بعد فتح تونس يريد قتاله، فكان يغدو كل يوم له ثم يروح إلى تونس، وكانوا إذا غدوا للقتال، قابلتهم الشمس فآذتهم في أعينهم، فكتبوا بذلك إلى أمير المؤمنين فأمرهم بقتالهم بعد الزّوال، فضاق الروم بها، وكانت لهم سفن بباب النّساء فحملوا فيها نساءهم وأولادهم ليلا، وأسلموا المدينة، ولم يبق بها إلاّ الملك المسمي بمرناق وأهله وولده، فكتب إلى حسّان هل لك أن تعاهدني في أهل لي وولدي، وأشترط لنفسي ما شئته من المنازل، وأسلم لك المدينة ولا علم عند المسلمين بفرار من فر منها؟ فأجابه حسان إلى ذلك، فاشترط الأرض المسماة بمرناق وهي إذ ذاك قرى كثيرة (¬198)، ثم أمكنهم من المدينة فلم يجدوا فيها غيره وغير ولده وأهله، فوفّى له حسّان بما أعطاه من العهد، وأقام مرناق مالكا لهذه الأرض» اهـ‍ (¬199). ثم «إن حسان بن النّعمان رحل عن قرطاجنّة راجعا إلى مدينة القيروان، فأقام بها وعمّزها المسلمون وبنوا بها المساكن وانتشروا فيها وكثروا وأمنوا من أعدائهم / وقطعوا شوكتهم. ¬

(¬196) في المعالم: «شدته وقهره لهم» 1/ 68 وكذلك في الرياض 1/ 57. (¬197) معالم الإيمان بتصرف 1/ 66 - 69. (¬198) في الرحلة: «فاشترط هذه الأرض المسمّاة به الآن وهي إذ ذاك قرى كثيرة» ص: 11. (¬199) الرحلة ص: 10 - 11.

فتح الأندلس

وولى حسان على صدقات الناس والسعي عليهم حنش بن عبد الله الصنعاني [التابعي] (¬200) سمّي (¬201) صنعانيا لأنه ولد بصنعاء كان من أهل الفضل والدين. يروي عن علي أبي طالب - رضي الله تعالى عنه وكرّم وجهه - وكذا يروى عن عبد الله بن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو، ورويفع بن ثابت الأنصاري - رضي الله تعالى عنهم - وروى عنه خلق شهد غزوة الأندلس مع موسى بن نصير، وله بافريقية آثار محمودة ومقامات، وهو الذي فتح جزيرة بني شريك (¬202) (التي مبدؤها مرناق إلى الحمامات) (¬203)، ثم سكن القيروان، وكانت وفاته بافريقية سنة مائة (¬204) وإنما سميت بجزيرة بني شريك، لأن شريك العبسي كان أحد العاملين عليها، وهو والد قرة بن شريك والي مصر من قبل الوليد بن عبد الملك (¬205). ولما تمهّدت (¬206) (بلاد افريقية وأمن أهلها رحل حسّان بن النعمان عنها بما معه من الغنائم) (¬207) والأموال والناس قاصدا إلى عبد الملك بن مروان، ومعه خمسة وثلاثون ألف فارس من سيي البربر، وكان معه من الذّهب ثمانون ألف دينار جعلها في قرب الماء حياطة عليها. واستقامت افريقية كلها وأمن أهلها وقطع الله منها (ثائرة الكفر) (¬208) من المغرب غير الأندلس في ذلك الوقت. فتح الأندلس: والآن نذكر فتح الأندلس على يد طارق مولى موسى بن نصير اللّخمي بالولاء. كان موسى (¬209) بن نصير من التّابعين - رضي الله تعالى عنهم -. ¬

(¬200) إضافة من المعالم 1/ 69. (¬201) ينقل من المعالم بتصرف 1/ 187. (¬202) كذا في الأصول وفي معالم الإيمان 1/ 188، في رحلة التجاني وفي المغرب للبكري: «جزيرة شريك» وفي طبقات أبي العرب: «جزيرة أبي شريك»، وهي ما يعرف اليوم في البلاد التونسية بالوطن القبلي وهو شبه جزيرة. (¬203) تفسير من المؤلف إضافة عن الرحلة. (¬204) 718 م. (¬205) ما يتعلق بجزيرة شريك أنظر رحلة التجاني ص: 11. (¬206) يرجع إلى النقل من المعالم 1/ 69 بتصرف. (¬207) ما بين القوسين ساقط من ش. (¬208) في ش: «ثائرة الكافرين»، وفي المعالم 1/ 69 والرياض 1/ 57: «مدّة أهل الكفر». (¬209) النقل بتصرف يسير من ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت مطبعة الغريب، 5/ 318 وما بعدها.

وروى عن تميم الدّاري: وكان عاقلا كريما شجاعا ورعا تقيا لله تعالى لم يهزم له جيش قط / وكان والده نصير على حرس معاوية بن أبي سفيان، ومنزلته عنده مكينة، ولما خرج معاوية لقتال علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - لم يخرج معه، فقال له [معاوية]: ما منعك من الخروج معي ولي عندك يد لم تكافئني عليها؟ فقال: لم يمكني أن أشكرك بكفر من هو أولى بشكري، فقال: ومن هو؟ قال: الله عزّ وجل (¬210) فأطرق معاوية مليّا، ثم قال: استغفر ورضي عنه. وكان عبد العزيز بن مروان، واليا على مصر وافريقية، فبعث ابن أخيه الوليد بن عبد الملك أيام خلافته يقول: أرسل موسى بن نصير إلى افريقية وذلك في سنة تسع وثمانين للهجرة (¬211). وقال الحافظ أبو عبد الله الحميدي (212) في كتاب «جذوة المقتبس» (¬212): إن موسى بن نصير تولّى افريقية والمغرب سنة سبع وتسعين (¬213)، فأرسله إليها، فلما قدمها ومعه جماعة من الجند، بلغه أنّ بأطراف البلاد جماعة خارجين عن الطّاعة، فوجّه إليهم ولده عبد الله، فأتاه بمائة ألف رأس من السّبايا، ثم وجّه ولده مروان إلى جهة أخرى فأتاه بمائة ألف رأس. قال الليث بن سعد: بلغ الخمس ستين ألف رأس. وقال أبو شبيب (¬214) الصدفي: لم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير. ووجد أكثر مدن افريقية خالية لاختلاف أيدي البربر عليها، وكانت / البلاد في قحط شديد فأمر النّاس بالصّوم والصّلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصّحراء ومعه سائر الحيوانات، ففرّق بينها وبين أولادها، ووقع البكاء والضجيج، وأقام على ذلك إلى ¬

(¬210) أسقط المؤلف شيئا من الحوار: «فقال: وكيف؟ لا أم لك قال: وكيف لا أعلمك هذا، فأعض وأمصّ» الوفيات 1/ 319. (¬211) 707 - 708 م. (¬212) الحميدي الأزدي (1029 - 1095 م) ولد في ميورقة وتوفي في بغداد، فقيه محدث ومؤرخ وأديب درس في الأندلس والقيروان وزار بلاد المشرق لم يبق من مؤلفاته الا «جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس» «وأسماء رواة الحديث وأهل الفقه والأدب وذوي النباهة والشعر» والمؤلف ينقل عن الوفيات 5/ 319 لا عن الحميدي. (¬213) 715 - 716 م. وفي الوفيات: «سبع وسبعين» ومن الصعب ضبط بداية ولاية موسى بن نصير بإفريقية لاختلاف المصادر على اتساع مدة عشر سنين وسنة 85/ 704 هي في ذلك أكثر اعتمادا. (¬214) كذا في ت وط والوفيات، في ش: «شيب» وفي بعض نسخ من الوفيات: «شيث» أنظر هامش المحقق 2 - 5/ 319.

منتصف النهار، ثم صلى وخطب بالناس فلم يذكر الوليد بن عبد الملك، فقيل له: ألا تدعو الأمير المؤمنين؟ فقال: هذا مقام لا يذكر فيه إلاّ الله عز وجلّ. فسقوا حتى رووا. ثم خرج موسى غازيا وتتبع البربر، وقتل منهم قتلا ذريعا وسبى سبيا عظيما وسار حتى وصل إلى السوس الأدنى لا يدافعه أحد فلما رأى بقية البربر ما نزل بهم استأمنوا وبذلوا له الطاعة فقبل منهم، وولى عليهم واليا، واستعمل على طنجة وأعمالها مولاه (طارق بن عبد الله البربري، ويقال ابن زياد، قيل أنه من الصّدف) (¬215) فترك عنده تسعة عشرة ألف فارس من البربر بالأسلحة والعدّة الكاملة، وكانوا قد أسلموا وحسن اسلامهم، وترك موسى خلقا يسيرا من العرب لتعليم البربر القرآن وفرائض الاسلام، ورجع إلى افريقية ولم يبق في البلاد من ينازعه من البربر ولا من الرّوم. فلما استقرّت له القواعد كتب إلى طارق وهو بطنجة يأمره بغزو بلاد الأندلس في جيش من البربر ليس فيه من العرب إلاّ قدر يسير، فامتثل طارق أمره وركب البحر من سبتة إلى الجزيرة الخضراء من بلاد / الأندلس، وصعد إلى جبل يعرف بجبل طارق نسب إليه، وكان صعوده إليه يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة اثنتين وتسعين (¬216) من الهجرة، في اثني عشر ألف فارس خلا اثني عشر رجلا. وذكر عن طارق أنّه كان نائما في المركب وقت التّعدية، وأنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة - رضي الله تعالى عنهم - يمشون على الماء حتى مرّوا به، فبشّره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالفتح وأمره بالرّفق بالمسلمين والوفاء بالعهد، ذكر ذلك ابن بشكوال (¬217) في «تاريخ الأندلس». وكان صاحب طليطلة ومعظم بلاد الأندلس ملك يقال له لذريق، ولما حلّ طارق بالجبل المذكور كتب إلى موسى بن نصير يقول له: إني فعلت ما أمرتني به، وسهّل الله - سبحانه - في الدّخول، فلما وصل الكتاب إلى موسى؟؟؟ على تأخّره وعلم أنه إن فتح الله تعالى على طارق نسب الفتح إليه دونه، فأخذ في جمع العساكر وولّى على القيروان ولده عبد الله، وتبعه فلم يدركه إلاّ بعد الفتح، وكان لذريق المذكور قد قصد عدوّا له، ¬

(¬215) في الوفيات: «طارق بن زياد البربري، ويقال إنه من الصّدف» 5/ 320. (¬216) 28 أفريل 711 م. (¬217) هو أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بشكوال (494 - 578/ 1101 - 1182 م) كان من علماء الأندلس، له كتاب «الصلّة» وله تاريخ صغير في أحوال الأندلس وتصانيف أخرى، أنظر ترجمته في الوفيات 2/ 240 - 241.

واستخلف في المملكة شخصا يقال له تدمير وإلى هذا الشخص تنسب بلاد تدمير بالأندلس (¬218)، فلما نزل طارق من الجبل بالجيش الذي معه، كتب تدمير إلى لذريق الملك أنه وقع بأرضنا قوم لا ندري من السماء هم أم من الأرض، فلما بلغ / ذلك لذريق رجع من قصده في سبعين ألف فارس ومعه العجل يحمل الأموال والمتاع، وهو على سريره بين دابتين عليه قبة مكلّلة بالدّر والياقوت والزّبرجد، فلما بلغ طارقا دنوه قام في أصحابه فحمد الله تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حثّ المسلمين على الجهاد ورغّبهم في الشهادة، ثم قال: «أيها الناس، أين المفر، البحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس لكم والله إلاّ الصدق والصبر، واعلموا أنّكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم غير سيوفكم، ولا أقوات (¬219) لكم إلاّ ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم وإن امتدت بكم الأيام [على افتقاركم] (¬220) ولم تنجزوا لكم أمرا، ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب بروعتها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذه الطّاغية فقد ألقت به إليكم مدينته المحصّنة وأن انتهاز الفرصة (فيه لممكن لكم) (¬221) إن سمحتم بأنفسكم للموت ولا أحملكم (¬222) على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلاّ أبدأ فيها بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقّ قليلا استمتعتم بالأرفه الألذّ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفر من حظّي وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان / من بنات اليونان الرّافلات في الدرّ والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التّيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا، ثقة منه لارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجادلة الأبطال والفرسان، ليكون حظه معكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، ويكون مغنمها خالصا لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذخرا (¬223) في ¬

(¬218) ما يتعلق بتدمير أنظر الوفيات 5/ 321. (¬219) في الأصول: «قوة» والمثبت من الوفيات. (¬220) إضافة من الوفيات ليكتمل المعنى. (¬221) في الأصول: «منه لكم تمكن» وهي غير ذات معنى، والمثبت من الوفيات 5/ 321. (¬222) في الوفيات: «وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة ولا حملتكم على». (¬223) في الوفيات: «ذكرا».

بيت الحكمة بالأندلس

الدّارين، واعلموا أني [أول] (¬224) مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وإني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية قومه (¬225) لذريق فقاتله - إن شاء الله تعالى - فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتم (¬226) أمره ولن يعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه بعدي وإن هلكت قبل وصولي إليه، فاخلفوني في عزمتي (¬227) هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا (¬228) المهمّ من فتح هذه الجزيرة بقتله فإنهم بعده يخذلون. فلما فرغ طارق من تحريض أصحابه على الصّبر في قتال لذريق وأصحابه وما وعدهم من النّيل الجزيل انبسطت نفوسهم، وتحقّقت آمالهم وهبت ريح النصر عليهم وقالوا له: قد قطعنا الآمال (مما يخالف) (¬229) ما عزمت عليه، فاحضر إليه فإنّا معك وبين يديك، فركب طارق وركبوا وقصدوا مناخ لذريق وكان قد نزل بمتسع / من الأرض، فلما تراءى الجمعان نزل طارق وأصحابه، وباتوا ليلتهم في حرس إلى الصبح. فلما أصبح الفريقان ركبوا وعبّوا كتائبهم وحمل لذريق على سريره، وقد رفع على رأسه رواق ديباج يظلّه، وهو مقبل في غاية من البنود والأعلام وبين يديه المقاتلة والسلاح، وأقبل طارق وأصحابه عليهم الزرود، ومن فوق رؤوسهم العمائم البيض، وبين أيديهم القسي العربية، وقد تقلدوا السيوف، واعتقلوا الرماح، فلما نظر إليهم لذريق قال: أما والله هذه الصور التي رأيت في بيت الحكمة ببلدنا، فداخله منهم رعب» (¬230). بيت الحكمة بالأندلس: فلنتكلّم هنا على بيت الحكمة ما هو، ثم نكمل بعده حديث هذه الواقعة. وأصل (¬231) بيت الحكمة أن اليونان كان من تقدم ملوكهم يخشى على جزيرة ¬

(¬224) في الأصول: «إني مجيبكم» والمثبت من الوفيات 5/ 322. (¬225) في الأصول: «القوم» والمثبت من الوفيات. (¬226) في الوفيات: «كفيتكم». (¬227) في الوفيات: «عزيمتي». (¬228) في الأصول: «والتقوا» والمثبت من الوفيات. (¬229) في الأصول: «فلا تحالف» والمثبت من الوفيات. (¬230) أخذه من ترجمة موسى بن نصير، الوفيات: 5/ 318 - 323. (¬231) يرجع للنقل من الوفيات بتصرف 5/ 327 في المقال المخصص لبيت الحكمة، وطرح المؤلف الجزء الأول من هذا الباب المتعلق خاصة بملك قادس وابنته التي قدمها المؤلف فيما سبق من حديثه.

الأندلس من البربر والعرب لما بينهم من المنافرة، وتباين الطباع فاتفقوا وعملوا طلسمات في أوقات اختاروها أرصادا، وأودعوا تلك الطلسمات تابوتا من الرّخام وتركوه في بيت بمدينة طليطلة، وركبوا على ذلك البيت بابا وأقفلوه وعهدوا إلى كل ملك منهم بعد صاحبه أن يلقي على ذلك الباب قفلا، تأكيدا لحفظ ذلك البيت فاستمر أمرهم على ذلك. ولما كان وقت انقراض دولة اليونان ودخول العرب والبربر إلى جزيرة الأندلس، وذلك بعد مضي ستة وعشرين ملكا من ملوك اليونان من يوم عملهم / الطّلسمات بمدينة طليطلة وكان الملك لذريق المذكور السابع والعشرين من ملوكهم، فلما جلس في ملكه قال لوزرائه (¬232) وأهل الرّأي من دولته قد وقع في نفسي شيء من أمر هذا البيت الذي عليه ستة وعشرون قفلا، وأريد أن أفتحه لأنظر ما فيه، فإنه لم يعمل عبثا فقالوا: أيّها الملك صدقت، فإنه لم يعمل عبثا ولا أقفل سدى، فالمصلحة أن تلقي أنت أيضا عليه قفلا أسوة بمن تقدمك من الملوك، وكانوا آباءك وأجدادك ولم يهملوا هذا فلا تهمله وسر سيرهم، فقال: إنّ نفسي تنازعني إلى فتحه، ولا بد لي منه، فقالوا: إن كنت تظن فيه مالا فقدره ونحن نجمع ذلك من أموالنا فخذه، ولا تحدث علينا بفتحه حدثا لا نعرف عاقبته فأصرّ على ذلك - وكان رجلا مهيبا - فلم يقدروا على مراجعته، وأمر بفتح الأقفال وكان على كل قفل مفتاحه معلّق فيه، فلما فتح الباب لم ير في البيت شيئا سوى مائدة عظيمة من ذهب وفضة مكللة بالجواهر وعليها مكتوب: هذه مائدة سليمان بن داود - عليهما السّلام - ورأى في البيت ذلك التّابوت، وعليه قفل ومفتاحه معلّق، ففتحه، فلم يجد فيه سوى رق، وفي جوانب التابوت صور فرسان مصوّرة بأصباغ محكمة التصوير، على أشكال [العرب] (¬233) وعليهم الفراء، وهم معمّمون على ذوائب جعد، ومن تحتهم الخيل / العربية، وبأيديهم القسي العربية، وهم متقلّدون السّيوف المحلاّة، ومعتقلون بالرماح، فأمر بنشر ذلك الرّقّ، فإذا فيه: متى فتح هذا البيت وهذا التّابوت المقفلان بالحكمة دخل القوم الذين صورهم في التّابوت إلى جزيرة الأندلس، وذهب ملك اليونان من أيديهم، ودرست حكمتهم، فهذا هو بيت الحكمة» (¬234). ¬

(¬232) في الأصول: «لوزيره» والمثبت من الوفيات. (¬233) إضافة من الوفيات ليستقيم المعنى. (¬234) وفيات الأعيان 5/ 323 - 328 وأنظر أيضا عن بيت الحكمة نفح الطيب 1/ 227 - 232 والروض المعطار للحميري.

تتمة الحديث عن فتح الأندلس

تتمة الحديث عن فتح الأندلس: ونعود الآن (¬235) إلى حديث لذريق وجيش طارق بن زياد، فلما رآى طارق لذريق قال لأصحابه: هذا طاغية القوم، فحمل وحمل أصحابه معه، فتفرّقت المقاتلة من بين يدي لذريق، فخلص إليه طارق، وضربه بالسّيف على رأسه فقتله على سريره، فلما رآى أصحابه مصرع ملكهم التحم الجيشان، فكان النّصر للمسلمين ولم تقف هزيمة اليونان على وضع بل كانوا يسلمون بلدا بلدا ومعقلا معقلا. فلما سمع بذلك موسى بن نصير عبر الجزيرة بمن معه، ولحق بمولاه طارق، فقال له: يا طارق، إنه لا يجازيك الوليد بن عبد الملك على بلائك بأكثر من أن يبيحك الأندلس، فاستبحها هنيئا مريئا، فقال طارق: أيها الأمير، والله لا أرجع عن قصدي هذا حتى أنتهي إلى البحر المحيط وأخوض فيه بفرسي، فلم يزل طارق يفتح وموسى معه إلى أن بلغ إلى جلّيقية (¬236) وهي على ساحل البحر المحيط، ثم رجع. وقال الحميدي في «جذوة المقتبس» (¬237): إن موسى نقم على طارق إذ غزا بغير إذنه وسجنه وهم بقتله / ثم ورد عليه كتاب الوليد باطلاقه فأطلقه، وخرج معه إلى الشّام، وكان خروج موسى من الأندلس وافدا على الوليد يخبره بما فتح الله سبحانه على يديه، وما معه من الأموال في سنة أربع وتسعين (¬238) للهجرة، فكانت معه مائدة سليمان بن داود - عليهما السّلام - التي وجدت في بيت الحكمة على ما حكاه بعض المؤرخين، قال: كان عليها طوق لؤلؤ وطوق ياقوت وطوق زمرّد، وهي مصنوعة من الذّهب والفضّة، وكانت عظيمة بحيث حملت على بغل فما سار إلاّ قليلا حتى تفشّخت (¬239) قوائمه، وكان معه تيجان الملوك الذين تقدّموا من اليونان، وكلها مكلّلة بالجواهر، واستصحب ثلاثين ألف رأس (¬240) من الرّقيق. ولما وصل موسى بن نصير إلى الشام ومات الوليد بن عبد الملك وقام من بعده أخوه سليمان وحج في سنة سبع وتسعين (¬241) للهجرة وقيل سنة تسع وتسعين (¬242)، حج معه ¬

(¬235) يستمر في النقل من الوفيات 5/ 328. (¬236) في الأصول: «خليقة» والمثبت من الوفيات 5/ 329. (¬237) المؤلف ينقل عن الوفيات لا عن «جذوة المقتبس». (¬238) 712 - 713 م. (¬239) في الوفيات: «تفسّخت». (¬240) في الأصول: «فارس» والمثبت من الوفيات. (¬241) 715 - 716 م. (¬242) في الأصول: «ست وتسعين» والمثبت من الوفيات وهو ما يوافق سنة 717 - 718 م.

ولاية عبد الله بن موسى بن نصير

موسى بن نصير ومات في الطريق بوادي القرى، وقيل بمر الظهران، على اختلاف فيه. وكانت ولادته في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -[في سنة تسع عشرة (¬243) للهجرة] (¬244). وفي خريدة العجائب «أن طليطلة من بناء العمالقة إلى أن ذكر بيت الحكمة وأنه مما وجد فيه مائة وسبعون تاجا من الدّر والياقوت والأحجار النفيسة وايوان تلعب فيه الرماح برماحهم قد ملئ بأواني الذّهب والفضّة ما لا يحيط به الوصف وذكر أن المائدة من زمرّد أخضر وأن / هذه المائدة إلى الآن في مدينة رومة باقية وأوانيها من الذهب وصحافها من اليشم والجزع (¬245). (قلت ولعل وصولها إلى رومة كان في مدة استيلاء الروم على الديار الشامية والله أعلم بغيبه) (¬246) قال: «ووجد «الزّبور» بخط يوناني في ورق من الذّهب مفصل بجوهر ووجد مصحفا يحكي فيه منافع الأحجار والنبات والمعادن واللغات والطلاسم، وعلم السّيمياء، وعلم الكيمياء، ووجد كتابا فيه صناعة أصباغ اليواقيت والأحجار وتركيب السّموم والترياقات، وصورة شكل الأرض والبحار والبلدان والمعادن، والمسافات. ووجد قاعدة كبيرة مملوءة من الأكسير يردّ الدرهم منه ألف درهم من الفضة ذهبا ابريزا، ووجد مرآة [مستديرة] (¬247) مدبّرة عجيبة من أخلاط، قد صنعت لسليمان بن داود - عليهما السلام - إذا نظر الناظر فيها رآى الأقاليم السبعة عيانا، ووجد مجلسا فيه من الياقوت البهرماني (¬248) وسق بعير فحمل ذلك كله إلى الوليد بن عبد الملك» (¬249). ولاية عبد الله بن موسى بن نصير: ولما رجع موسى إلى الشام استخلف ولده عبد الله بن موسى بن نصير. قال في «معالم الإيمان» في مناقب عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة الكناني قاضي ¬

(¬243) 640 م. (¬244) إضافة من الوفيات إتماما للفائدة، انتهى نقله من الوفيات 5/ 329. (¬245) خريدة العجائب بتصرف يسير ص: 21 - 22. (¬246) ما بن القوسين إضافة من المؤلف كما نص عليه. (¬247) إضافة من خريدة العجائب. (¬248) كذا في ش، وفي ط: «الياقوت والبهرمان» والياقوت البهرماني نوع من اليواقيت يشبه لون البهرمان وبهرام اسم للمريخ، تاج العروس 8/ 208. (¬249) خريدة العجائب ص: 22.

ولاية علي بن رباح

عمر بن عبد العزيز [بالقيروان] (¬250). «سبب ولايته القضاء بالقيروان، أن سليمان بن عبد الملك كان قد وجّه إلى عبد الله بن موسى بن نصير عامل افريقية، أن يوجه إليه ما تحصّل عنده من خراج افريقية صحبة عشرة / من عدول القيروان، يشهدون عنده أن هذا المال أخذه من وجهه، ففعل ذلك، فلما دخلوا على سليمان سألهم عن ذلك، فقالوا: لم يأخذ إلاّ من وجهه - وعبد الله بن المغيرة ساكت لم يتكلّم بشيء - وكان عمر بن عبد العزيز حاضرا لذلك المجلس، فعلم أنه إنما منعه من الكلام الورع والخوف من الله تعالى ولا يتكلم إلاّ بحق، فسأل عنه عمر بعد انصرافهم فعرّف بدينه وورعه وفضله. فلما أفضت الخلافة إلى عمر ولّى عبد الله قضاء افريقية، وذلك سنة تسع وتسعين (¬251)، فاقام بها قاضيا إلى زمن كلثوم بن عياض (¬252)، فاستعفى من القضاء وذلك سنة ثلاث وعشرين ومائة» (¬253). ولاية علي بن رباح: «وممن ولي افريقية عليّ بن رباح (¬254)، كانت له منزلة من (¬255) عبد العزيز بن مروان فأولاه افريقية، فقدمها مجاهدا في سبيل الله. روى أنه حضر مجلسا مع موسى بن نصير، فقال موسى بن نصير إنّه ورد على بشائر ثلاث، منها كتاب أمير المؤمنين، ومنها كتاب ولدي يخبرني بفتح عظيم بالأندلس، ومنها ما صحبني من الأموال في مقدمي هذا، فهنّأه جميع الناس، وعليّ بن رباح ساكت، فقال له موسى ألاّ تتكلم؟ فقال له أيها الأمير، ما من دار امتلأت حبرة إلاّ امتلأت عبرة، ولا انتهى شيء إلاّ رجع، فارجع قبل أن يرجع بك، فانكسر موسى بعد ذلك ونفعه بموعظته (¬256). مات بافريقية سنة أربع / عشرة ومائة والله أعلم. ¬

(¬250) إضافة من المعالم للضبط. (¬251) 717 - 718 م. (¬252) في الأصول: «عاصم» والمثبت من المعالم 1/ 210. (¬253) 740 - 741 م أخذ ما سبق من ترجمة عبد الله بن المغيرة من المعالم 1/ 210. (¬254) علي بن رباح بن قصير اللخمي، أنظر ترجمته بالمعالم ص: 199 والمؤلف ينقل منها. (¬255) في الأصول: «عند» والمثبت من المعالم. (¬256) معالم الإيمان 1/ 200.

المقالة الثالثة في ذكر خلفاء بني العباس وبعض أمرائهم بالعراق وأمرائهم بالمغرب

المقالة الثّالثة في ذكر خلفاء بني العبّاس وبعض أمرائهم بالعراق وأمرائهم بالمغرب وفيها ثلاثة أبواب الباب الأول في ذكر خلفاء بني العباس قيام الدولة وخلافة أبي العباس السفّاح: قال ابن جرير الطبري (¬1) كان بدء أمر بني العبّاس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أعلم عمّه العبّاس أن الخلافة ترجع (¬2) إلى ولده، فلم يزل أولاده يتوقعون ذلك [ويتحدّثون به بينهم] (¬3) إلى أن بويع لمحمّد بن علي بن عبد الله بن عبّاس، فلما مات محمّد عهد لولده إبراهيم، فسجنه مروان الحمار آخر ملوك بني أمية، وقتله في السجن (¬4). فعهد إبراهيم لأخيه عبد الله أبي العباس السّفاح، بويع له في الكوفة في شهر ربيع الأول سنة اثنين وثلاثين ومائة (¬5)، وكان القائم بهذه الدعوة أبو مسلم عبد الرحمان بن ¬

(¬1) النقل بتصرّف واختصار كبير من باب «خلافة أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس» 7/ 421 وعدّة أبواب قبلها. (¬2) في تاريخ الطبري: «تؤول» وكذلك في الكامل لابن الأثير 5/ 408. (¬3) إضافة من تاريخ الطبري لإتمام المعنى 7/ 421. (¬4) الطبري 7/ 423. (¬5) نوفمبر 749 أنظر الكامل 5/ 408.

مسلم الخراساني (¬6) وذلك أنه كان قائما بخدمة إبراهيم بن محمد - المقدّم الذكر - لما سجنه مروان الحمار بالكوفة. فلما قدم على إبراهيم نقباء أبيه محمد بن علي (¬7) سألوه رجلا يقوم بأمر خراسان، فقال: إني جرّبت هذا الأصبهاني وعرفت ظاهره وباطنه فوجدته حجر الأرض، ثم دعا أبا مسلم وقلّده الأمر وأرسله إلى خراسان (¬8) فكان أول ظهوره يوم الجمعة لسبع بقين وقيل لخمس من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة (¬9). والوالي بخراسان نصر بن سيّار (¬10) الليثي من جهة مروان بن محمد، فكتب نصر إلى مروان يقول: أرى جذعا ان يثن لم يقوريض / ... عليه فبادر قبل أن يثنى الجذع وكان مروان مشغولا عنه بغيره من الخوارج بالجزيرة وغيرها فلم يجبه عن كتابه، وأبو مسلم إذ ذاك يؤم في خمسين رجلا، فكتب إليه ثانيا: [وافر] أرى بين (¬11) الرّماد وميض نار (¬12) ... ويوشك (¬13) أن يكون له ضرام فإن النّار (بالعودين تذكى) (¬14) ... وإن الحرب أوّلها (¬15) كلام (فإن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام) (¬16) أقول (¬17) من التّعجّب ليت شعري ... أأيقاظ أميّة أم نيام (فإن كانوا لحينهم نياما) (¬18) ... (فقل قوموا) (¬19) فقد حان القيام فأبطأ عليه الجواب واشتدّت شوكة أبي مسلم، فهرب نصر بن سيّار من خراسان، وقصد ¬

(¬6) أنظر عن نسب أبي مسلم الكامل 5/ 254. (¬7) أنظر الكامل 5/ 255. (¬8) الطبري 7/ 344 وكان ذلك في سنة 128 هـ - 745 م. (¬9) 746 - 747 م. (¬10) في الأصول: «نصر بن يسار» والمثبت من تاريخ الطبري، ولاّه الوليد على خراسان وأفرده بها.7/ 224. (¬11) كذا في الكامل والطبري، في مروج الذهب والأصول «خلل». (¬12) كذا في الكامل والأصول، في الطبري ومروج الذهب «جمر». (¬13) كذا في الأصول ومروج الذهب، في الكامل «أخشى». (¬14) كذا في الكامل والطبري ومروج الذهب، في الأصول: «بالزندين تورى». (¬15) كذا في الأصول ومروج الذهب، في الكامل: «مبدأ» وفي الطبري: «مبدؤها». (¬16) كذا في الأصول، في مروج الذهب: «فإن لم تطفئوها تجن حرباه، مشمرة يشيب لها الغلام». (¬17) كذا في الأصول ومروج الذهب، بالطبري والكامل: «فقلت». (¬18) كذا في الأصول، في مروج الذهب: «فإن يكن قومنا أضحوا نياما». (¬19) في الأصول: «فقوموا» والمثبت من مروج الذهب.3/ 240.

العراق فمات في الطريق بناحية ساوة في يوم الثّلاثاء لليلتين بقيتا من المحرم سنة اثنتين وثلاثين ومائة (¬20). ووثب أبو مسلم على ابن الكرماني (¬21) بنيسابور فقتله بعد أن قيّده وحبسه وقعد في الدّست وسلّم عليه الامارة وصلّى وخطب ودعا لأبي العبّاس السّفاح بالكوفة وصفت له خراسان وانقطعت منها ولاية بني أمية. فبويع لأبي العباس عبد الله السّفاح بالكوفة في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة (¬22). ثم أرسل العساكر لقتال مروان بن محمّد الملقّب بالحمار بعدما ظهر السّفاح بالكوفة، فجهّز القوّاد في تسعة آلاف فارس وأمر عمّه عبد الله بن علي بقتال مروان فاقتتلا بالزّاب وذلك أن عليا لما قدم على / أبي عون تحول له عن سرادقه (¬23) فنزل بها وجاء مروان ونزل الزّاب فأمر عبد الله بن عتبة فعبر إلى عسكر مروان في خمسة آلاف فاقتتلوا إلى الليل، ورجع عتبة فعبر المخاضة وأصبح مروان عند الجسر، وعبر عبد الله بن علي. فقال مروان لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إن زالت الشّمس اليوم ولم يقاتلونا كنا الذين ندفعها لعيسى ابن مريم، وإن قاتلونا قبل الزوال فإنا لله وإنا إليه راجعون (¬24). فقطع عبد الله بن علي الزّاب في أثني عشر ألف وكان مروان في سبعين ألف وكان السّفاح عمل بيتين وقال لرجل إذ التقى الجمعان فاصعد على رأس جبل وأنشدهما وهما: [بسيط] يا آل مروان إن الله مهلككم ... ومبدل ملككم خوفا وتشريدا لا عمّر الله من أولادكم أحدا ... وبثّكم في بلاد الخوف تطريدا فلما سمع ذلك أهل الشام انزعجوا وارتاع مروان وكان سبب خذلانه، فحمل الوليد ابن معاوية بن مروان، فكشف ميمنة عبد الله فانحاز أبو عون إلى عبد الله وصاح عبد الله: الأرض الأرض، فنزلوا وجثوا على الركب ونزعوا الرّماح فانهزم مروان وأهل الشام، ووقف عبد الله على الزاب وقرأ: {وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ} الآية (¬25). ¬

(¬20) أوت 749 م. (¬21) أنظر الكامل لابن الأثير 5/ 383. (¬22) والأرجح في 13 ربيع أول / 30 أكتوبر 749. (¬23) الطبري 7/ 432. (¬24) نفس المرجع، ص: 433. (¬25) سورة البقرة: 50 وتمامها: فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. أنظر عن هذه الحوادث تاريخ الطبري 5/ 432 - 434 والكامل 5/ 417 - 421.

أبو جعفر المنصور

وسار عبد الله بن علي يطلب مروان فوصل فلسطين (¬26)، وسير أخاه صالح بن علي خلف مروان، فسار إلى مصر وتتبّع عبد الله بن علي أولاد خلفاء بني أمية / فأخذ منهم سبعين فقتلهم على الرّملة، وجعل عليهم الموائد وهو يأكل ويسمع أنينهم، ولا يرقّ لهم، والنّاس يبكون (¬27)، وقطع مروان النيل وأغرق الجسور، فنزل بوصير فجاءه صالح فقتله وبعث برأسه مع ما وجد في خزائنه من بردة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقضيبه لبني العبّاس: فتوارثوهما إلى خلافة المقتدر فكان آخر العهد بهما. وفرغت بموت مروان بن محمد خلافة بني أمية من المشرق، ولم يفلت منهم إلاّ القليل فصفت الخلافة للسّفاح، وتواطأت له الممالك من المشرق إلى المغرب الأقصى حتى الأندلس وكان كثير التعظيم لأبي مسلم الخراساني لما صنعه ودبّره وكان تولّيه الملك وهو ابن ثمان وعشرين سنة، وكان كثير سفك الدماء فلذلك لقّب «السّفاح» لأن السّفح هو السّفك، ومنه قوله علت كلمته {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} (¬28). وجرت عادة الله في الملوك والسلاطين تعجيل هلاك من أسرف في الدماء. وكان بذولا للأموال وما شانه إلاّ سفك الدماء، فتوفي السّفاح بالجدري في ذي الحجّة الحرام سنة ست وثلاثين ومائة (¬29). فكانت مدة إمارته أربعة أعوام [وثمانية أشهر] (¬30). أبو جعفر المنصور: وولي بعده الخلافة أخوه أبو جعفر عبد الله المنصور، وهو أسن من السّفاح. بويع له بعهد من أخيه سنة ست وثلاثين، وكان ظلوما غشوما، وهو أول من أدخل الفتنة بين العباسيين والعلويين / وقتل الأخوين محمدا وإبراهيم ابني محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنهم - وكانا خرجا عليه (¬31) وآذى ¬

(¬26) مرّ المؤلّف عن ذهاب مروان إلى الموصل وغيرها قبل أن يصل إلى بلاد الشام اختصارا، أنظر عنه الكامل 5/ 424 وتاريخ الطبري 7/ 439. (¬27) تاريخ الطبري 7/ 430. (¬28) سورة الأنعام: 145. (¬29) في 13 منه / 9 جوان 754 م، أنظر عن موت أبي العباس تاريخ الطبري 7/ 470. (¬30) بالتاريخ الهجري. (¬31) الكامل 5/ 521 - 526 الطبري 7/ 539 - 551.

بسببهما خلقا كثيرا من العلماء قتلا وضربا ممّن أفتى بجواز الخروج عليهم، منهم الإمام أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وأكرهه على القضاء فأبى، فسجنه فمات في السجن (¬32)، وقيل إنه سمّه في السّجن لكونه أفتى بالخروج عليه، ويسمّى لبخله أبا الدوانيق فيحاسب العمّال والصنّاع على الدّانق (¬33) والحبّة (¬34). ومن مساوئه قتل أبي مسلم القائم بدعوتهم لأسباب غيّرت قلبه عليه، ولمّا عزم على قتله تحيّر في الإستبداد برأيه في أمره والإستشارة فقال يوما لمسلم بن قتيبة: ما ترى في أمر أبي مسلم؟ فقال {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا} (¬35). فقال حسبك يا ابن قتيبة، لقد أودعتها أذنا واعية. ولم يزل المنصور يخدع أبا مسلم حتى أحضره إليه. وكان أبو مسلم ينظر في كتب الملاحم ويجد خبره فيها، وأنه مميت دولة ومحيي دولة، وأنه يقتل في بلاد الروم، وكان المنصور يومئذ برومية المدائن التي بناها كسرى، ولم يخطر ببال أبي مسلم أنّها موضع قتله، بل راح وهمه إلى أنها بلاد الروم، فلمّا دخل على المنصور رحّب به، ثم أمره بالإنصراف إلى مخيّمه، وانتظر المنصور فيه الفرصة والغوائل، ثم إن ابا مسلم ركب إليه مرارا، فأظهر له التّحنّن، ثم جاءه يوما فقيل له: إنه يتوضأ للصلاة، فقعد / تحت الرّواق ورتّب المنصور جماعة يقفون وراء السرير الذي خلف أبي مسلم، فإذا عاتبه لا يخرجون، فإذا ضرب يدا على يد خرجوا وضربوه بسيوفهم، ثم جلس المنصور ودخل عليه أبو مسلم فسلّم فردّ عليه السلام وأمره بالجلوس وحادثه ثم عاتبه وقال: فعلت وفعلت فقال أبو مسلم: ما يقال لي هذا بعد سعيي واجتهادي وما كان مني، فقال: يا ابن الخبيثة إنما فعلت ذلك بجدنا وحضّنا، ولو كانت مكانك سوداء لعملت عملك، ألست الكاتب إليّ تبدأ بنفسك قبلي، وعدد عليه أشياء فأخذ أبو مسلم يعرك يده ويفتلها ويعتذر إليه، فقال له المنصور وهو آخر كلامه: قتلني الله إن لم أقتلك، ثم صفّق بإحدى يديه على الأخرى، فخرج إليه القوم فخبطوه بأسيافهم، والمنصور يصيح: إضربوه، ¬

(¬32) كتب المسعودي في مروج الذهب: «وفي سنة خمسين ومائة مات أبو حنيفة النعمان بن ثابت. . . في أيام المنصور ببغداد، توفي وهو ساجد في صلاته وهو ابن تسعين سنة» 3/ 304. (¬33) الدانق: جاء في المنجد للويس معلوف: فارسية، ج دوانق ودوانيق والدانق سدس الدرهم ص: 226. (¬34) عند دوزي (Supplements. Dozy 1/ 241) الحبة قطعة نقدية صغيرة وفي المنجد قطعة نقدية لها وزن الشعيرتين، وتساوي سدس عشر الدينار. (¬35) الإستدلال بآية قرآنية وتمامها: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} سورة الأنبياء: 22.

قطع الله أيديكم، وكان أبو مسلم قال عند أول ضربة: استبقني يا أمير المؤمنين لعدوّك قال: لا أبقاني الله أبدا، وأيّ عدوّ أعدى منك! فقتلوه (¬36). وكانت ولادة أبي مسلم سنة مائة (¬37) من الهجرة، وقتل يوم الخميس لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة (¬38) وقيل غير ذلك. فكان المنصور أسدا شهما ذا علم وتدبير فارس الدّولة، ولم يبق له ضدّ، وحجّ غير مرّة، فكان يخرج من دار النّدوة إلى الطواف آخر الليل، يطوف ويصلّي على عادته، ويرجع ولا يعلم أحد، فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة فيجيء المؤذّنون / ويسلّمون عليه ويؤذّنون للفجر ويقيمون الصلاة فيخرج ويصلّي بالناس، فخرج ذات ليلة بالسحر وشرع يطوف، فبينما هو كذلك إذ سمع رجلا عند الملتزم يقول: اللهمّ إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحقّ وأهله من الظّلم والطّمع، فأسرع المنصور في مشيته حتى ملأ مسامعه من كلامه، ثم خرج من الطّواف إلى ناحية من المسجد ثم أرسل إلى ذلك الرجل يطلبه فجاء وصلّى ركعتين وقبل الحجر، وأقبل مع الرسول وسلّم على المنصور فقال له المنصور: ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحقّ وأهله من الظّلم والطّمع، فو الله لقد حشوت مسامعي ما أقلقني وأمرضني، وأشغل خاطري، فقال: يا أمير المؤمنين إن أمّنتني على نفسي وأصغيت إليّ بأذن واعية أنبأتك بالأمور من أصلها وإلاّ احتجبت عنك بقدرة الله تعالى فلا تصل إليّ واقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل عن غيري، فقال: أنت آمن على نفسك، فقل: إني ألقي إليك السّمع وأنا شهيد بالقلب، فقال: إن الذي داخله الطّمع حتى حال بينه وبين الحقّ ومنع من إصلاح ما ظهر من الفساد والبغي في الأرض هو أنت، فقال: أيها الرجل كيف يداخلني الطّمع والصّفراء والبيضاء بيدي، والحلو والحامض في قبضتي، ومن يحول بيني وبين ما أريد من ذلك. فقال: هل داخل الطّمع أحدا من الناس ما داخلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله - عزّ وجلّ - استرعاك أمور المسلمين وأنفسهم / وأموالهم، فأغفلت أمورهم واهتممت بجميع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم ¬

(¬36) لخّص المؤلّف خبر مقتل أبي مسلم وتصرّف فيه عن الطبري 7/ 479 - 495. أنظر أيضا الكامل لابن الأثير 5/ 468 - 481. (¬37) 718 - 719 م. (¬38) 13 فيفري 755 م. عن قتل أبي مسلم أنظر الطبري 7/ 491 - 522.

حجابا من الحجر والطّين، وأبوابا من الخشب والحديد وحجّابا (¬39) معهم السّلاح، واتّخذت وزراء فجرة وأعوانا ظلمة، إن نسيت لا يذكّروك، وإن أحسنت لا يعينوك، وقوّيتهم على ظلمهم للناس بالأموال والسلاح والرجال، وأمرت أن لا يدخل عليك غيرهم من الناس، ولم تأمر بايصال المظلوم إليك، ومنعت من إدخال الملهوف عليك، وحجبت الجائع والعاري (¬40)، وما أحد منهم إلاّ وله حقّ في هذا المال، فما زال هؤلاء النّفر الذين استخلصتهم (¬41) لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، وأمرت أن لا يحجبوا عنك يقولون في أنفسهم: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه، فاتّفقوا على أن لا يصل إليك من أخبار الناس إلاّ ما أرادوه، ولا يخالف أمرهم عامل إلاّ أقصوه (¬42) عنك وأبعدوه، فلمّا انتشر (¬43) ذلك عنك وعنهم عظّمهم الناس وهابوهم (¬44) وأكرموهم وهادوهم، وكان أول من صانعهم وداراهم عمالك بالأموال والهدايا والرشا، فتقووا بها على ظلم رعيتك ليظلموا من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالظّلم والغشم، وزاد بغيهم وطمعهم وكثر فسادهم فصار هؤلاء شركاؤك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاءك متظلّم حيل بينه وبين الوصول إليك، وإن أراد رفع قضيته إليك وصرخ بين يديك ضرب ضربا مبرحا (ليكون نكالا لغيره وأنت تنظر بعينك ولا ترحم) (¬45) فإن سألتهم / عنه قالوا: أساء معنا الأدب فأدّبناه، وجهل مقامك فضربناه (فما بقاء بالإسلام) (¬46) على هذه المظالم والآثام، فإني سافرت لأرض الصّين فقدمتها وقد أصاب ملكهم آفة أذهبت سمعه، فجعل يبكي، فقال له وزراؤه: لم تبكي لا بكت عيناك؟ فقال: أنا لا أبكي على فقد سمعي، ولكن أبكي على المظلوم يصرخ ببابي يطلب رفع ظلامته فلا أسمع صوته وحسّه، وحيث ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، فنادوا في الناس أن لا يلبس الأحمر إلاّ مظلوم لأميّزه بالنظر فأعينه، وكان يركب الفيل كلّ يوم ليرى المظلوم ليستدنيه ويرفع عنه ظلامته، أنظر يا ¬

(¬39) بعدها في ت: «من الأحرار والعبيد». (¬40) في ط: «والعاري والمحتاج». (¬41) في ت: «استخلفتهم». (¬42) في ط: «أمضوه». (¬43) في ت: «اشتهر». (¬44) في ت: «أهابوهم». (¬45) ساقطة من ط. (¬46) في ط: «بقاء الإسلام» وفي ت: «فما بقاء في الإسلام».

مسكين هذا مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين على رأفتك بالمسلمين، وأنت تؤمن بالله وابن عمّ نبيه، وإن الأموال لا تجمع إلاّ لأحد أمور، فإن قلت أجمعها لولدي فقد أراك الله تعالى عبرا في الطفل، يخرج من بطن أمه عريانا ما له على وجه الأرض مال، وما من مال إلاّ وله يد شحّيحة تحويه وتصونه من كلّ أحد، فما زال الله يلطف بذلك الغلام حتى يسوق إليه ما قدره له من المال فيملكه ويحويه كما حواه غيره، ولست الذي تعطي، بل الله يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وإن قلت أجمع المال ليشتدّ به سلطاني فقد أراك الله عبرا فيمن كان قبلك، ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب / والفضّة وما أعدّوا من السلاح والكراع، وما أضرّك ما كنت فيه، فو الله ما فوق ما أنت فيه منزلة إلاّ بالعمل الصالح، واعلم انك لا تعاقب أحدا من رعيّتك إذا عصاك بأعظم من القتل، وإن الله يعاقب من عصاه بالعذاب الأليم، وإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، فكيف يكون وقوفك غدا (¬47) بين يدي الله وقد نزع ملك الدّنيا من يدك ودعاك إلى الحساب، هل يغني عنك ما كنت فيه شيئا؟ قال: فبكى المنصور بكاء شديدا حتى ارتفع صوته ثم قال: كيف احتيالي فيما خولت، ولم أر من الناس إلاّ خائنا؟ قال: يا أمير المؤمنين عليك بالأعلام الرّاشدين. قال: ومن منهم؟ قال: العلماء العاملون. قال: فإنهم قد فرّوا مني، قال: نعم! فرّوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر لهم من طريقتك، فإذا فتحت الباب وسهّلت الحجاب، ونصرت المظلوم ومنعت الظالم، وظهرت بالعدل ونشرت الفضل، فأنا ضامن لمن هرب منك أن يعود إليك، فجاء حينئذ المؤذّنون وسلّموا عليه، وأذنوا للفجر وأقاموا الصّلاة. فقام المنصور للصّلاة، وصلّى بالناس وإذا بالرجل قد غاب من بين أيديهم، فلمّا فرغ المنصور من الصّلاة سأل عنه فقالوا: ذهب. فقال: إن لم تأتوني به عاقبتكم عقابا شديدا، فذهبوا يلتمسونه فوجدوه في الطّواف، فتقدّم إليه الحرسي فقال له: انطلق معي الآن وإلاّ هلكت وهلك من معي، قال: كلاّ، فلست بذاهب معك، فقال له: يقتلني إن لم / آته بك، قال: كلاّ، لا يقدر عليك، وأخرج من جيبه ورقة وقال: ضعها في جيبك فلا يصيبك منه سوء فإنه دعاء الفرج، وقال: هذا دعاء لا يرزقه الله تعالى إلاّ للسّعداء ومن دعا به صباحا ومساء هدمت ذنوبه، واستجيب دعاؤه، وبسط الله رزقه عليه، وأعطاه أمله، وأعانه على عدوّه، وكتب عند الله ¬

(¬47) ساقطة من ت.

صديقا، فقال: اقرأه لي لآخذه عنك (¬48)، وأنقله منك، قال: قل: «اللهم كما لطفت في عظمتك دون اللطفاء، وعلوت بعظمتك على العظماء، وعلمت ما تحت أرضك كما علمت ما فوق عرشك، وكان وسواس الصّدور كالعلانية عندك، وعلانية القول كالسّر في علمك، وانقاد كلّ شيء لعظمتك، وخضع كلّ سلطان لسلطانك، وصار أمر الدنيا والآخرة كلّه بيدك، اجعل لي من كلّ هم أمسيت فيه فرجا ومخرجا، اللهم إنّ عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي، وسترك عن قبيح عملي أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه منك، فصرت أدعوك آملا وأسألك مستأنسا، وانك المحسن إليّ وأنا المسيء لنفسي فيما بيني وبينك، تتودّد إليّ بالنعم وأبتغض إليك بالمعاصي، ولكن حملني على الجرأة عليك حلمك، فعد إليّ بفضلك وإحسانك، إنك أنت التوّاب الرحيم»، قال: فقرأته وأخذت الورقة في جيبي وإذا بالرسل قد أتت إليّ لتحملني، فأتيته فإذا هو جمر يتلظّى، فلمّا وقع بصره عليّ سكن غضبه (¬49) وتبسّم وقال لي: ويلك أتحسن السحر؟ فقلت: / لا والله يا أمير المؤمنين، ثم قصصت عليه أمري، ثم قال: هات الورقة! فناولته إياها، فأخذها وصار يبكي إلى أن بلّ لحيته وأمر لي بعشرة آلاف درهم، ثم قال لي: أتعرف الرجل؟ قلت: لا، قال: ذلك الخضر - عليه السلام - اهـ‍ (¬50). وأن الخليفة المنصور هو الذي بنى مدينة بغداد، ومولده سنة خمس وتسعين (¬51)، ومدّة ملكه اثنان وعشرون سنة إلاّ أربعة أيام (¬52)، وعاش أربعا وستين سنة (¬53) وكان رأى مناما يدلّ على قرب أجله فعهد إلى ولده محمد (¬54) وسار إلى الحجّ في سنة ثمان وخمسين ومائة (¬55) وكان يريد قتل سفيان الثوري - رضي الله تعالى عنه - فلمّا وصل إلى ¬

(¬48) في ت: «لآخذه عنك صحيحا». (¬49) في ت: «غيضه». (¬50) لم يذكر الطبري هذه القصة في سيرة المنصور. (¬51) 713 - 714 م. (¬52) في الأصول: «اثنان وعشرون سنة وثلاثة أشهر» والإصلاح اعتمادا على تاريخ ولايته وموته. في اختلاف مدة خلافته قال ابن الأثير: «فكانت مدة خلافته اثنين وعشرين سنة إلاّ أربعة وعشرين يوما، وقيل إلاّ ثلاثة أيام، وقيل إلاّ يومين» الكامل 6/ 22. (¬53) عن اختلاف الأقوال في سنه يوم توفي أنظر الطبري 8/ 61. (¬54) هو المهدي واسمه محمد. (¬55) 774 - 775 م.

محمد المهدي

بئر ميمون بعث إلى الخشّابين وقال لهم: إن رأيتم سفيان الثوري فاصلبوه، فجاؤوا ونصبوا له الخشب وكان جالسا بفناء الكعبة ورأسه في حجر الفضيل بن عياض، ورجلاه في حجر سفيان بن عيينة، فقيل له: يا أبا عبد الله قم واختف ولا تشمّت بنا الأعداء، فتقدّم إلى أستار الكعبة وأخذها وقال: برئت منه ان دخلها أبو جعفر المنصور، وعاد إلى مكانه فركب أبو جعفر المنصور من بئر ميمون، فلمّا كان بين الحجونين سقط عن فرسه فاندقت عنقه فمات (¬56) سابع ذي الحجّة (¬57) من التاريخ المتقدّم، فحفر له مائة قبر ودفنوه في أحدها ليعموا (¬58) قبره. محمد المهدي: وتولّى بعده ولده أبو موسى محمد المهدي، فكان - لمّا شبّ - أولاه أبوه طبرستان والريّ وما يليهما، فتأدّب وتميّز وجالس العلماء (¬59) / وكان كريما وسيما شجاعا محبّا للعلماء، وكان يقول: أدخلوا عليّ العلماء والقضاة وأحضروهم عندي، فلو لم يكن من حضورهم إلاّ ردّ المظالم حياء منهم لكان فيه خير كثير وكان يكره الزّنادقة وقتل منهم خلقا كثيرا وأوصى ابنه الهادي (¬60) بقتلهم حيث وجدهم، وكان مولده في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين ومائة (¬61)، ومدّة ملكه عشر سنين وشهرا (¬62)، وعاش ثلاث وأربعين سنة، ومات لثمان بقين من محرّم سنة تسع وستين ومائة (¬63). ¬

(¬56) ذكر ابن الأثير روايات في كيفية موت المنصور ومنها موته بسقوطه عن دابته ودفنه ببئر ميمون بينما كان نازلا في آخر منزل بطريق مكة، ولم يتعرض ابن الأثير إلى خبر سفيان الثوري، الكامل 6/ 22. وذكر الطبري أنه صار إلى بئر ميمون ومات بمرض في بطنه، الطبري 8/ 60 وعن الثوري أنظر الطبري 8/ 58 وقصته تختلف عمّا أورده مقديش في كتابه. (¬57) 8 أكتوبر. (¬58) في الكامل: «ليغموا» وهو تحريف. وذكر ابن الأثير أنه «دفن في غيرها» 6/ 22. (¬59) في ت: «وجالس العلماء كثيرا والقضاة». (¬60) موسى الهادي. (¬61) مارس 745 م. (¬62) في الأصول: «إحدى عشر سنة» والمثبت من الكامل 6/ 82 وغيره من المراجع، وزاد ابن الأثير: «وقيل عشر سنين وتسعة وأربعون يوما». (¬63) 4 أوت 785 م وذكر المسعودي: «لسبع بقين من شهر محرّم» 3/ 324.

محمد موسى الهادي

محمد موسى الهادي: فتولّى بعده ابنه محمد موسى الهادي، ولد بالريّ سنة سبع وأربعين ومائة (¬64)، وكان حين موت أبيه بجرجان، وقد عهد إليه أبوه بالخلافة، فأخذ له البيعة أخوه هارون الرّشيد لمّا مات أبوه، ولم يل أحد الخلافة قبله في مقدار سنة (¬65)، وتوفي شابّا عمره أربع وعشرون سنة، منتصف ربيع الأول سنة سبعين ومائة (¬66). هارون الرشيد: فتولّى بعده أخوه هارون الرّشيد بعهد من أبيه بتاريخه (¬67)، وكان فصيحا بليغا أديبا، كثير العبادة والحجّ والغزو، يحجّ عاما ويغزو عاما، وقد يجمع بينهما في عام واحد، ويصلّي في خلافته كلّ يوم مائة ركعة لا يتركها إلاّ لعلّة، ويتصدّق كلّ يوم بألف درهم، ويحبّ العلم وأهله، ويعظّم حرمات الإسلام، وبلغه عن بشر المريسي (¬68) أنه كان يقول بخلق القرآن، فقال: لئن ظفرت به لأضربن عنقه، وكان يأتي بنفسه إلى بيت الفضيل بن عياض / - رضي الله عنه - ويعظّمه وكان يبكي على نفسه وإسرافه وذنوبه، وكان يعظّم قاضيه أبا يوسف كثيرا ويمتثل أمره. وأراد الرّشيد أن يوصل ما بين بحر الرّوم والقلزم ليتهيأ له أن يغزو الرّوم ببلادهم، فقال له يحيى بن خالد البرمكي: لو فعلت ذلك وصلت سفن الرّوم أرض العرب واختطفوا المسلمين من المسجد الحرام فتركه. وكان الرشيد قسّم مملكته بين أولاده الأمين والمأمون، والمؤتمن (¬69) دون بقية ¬

(¬64) 764 م. (¬65) عن اختلاف الأقوال في مدة خلافته أنظر الكامل 6/ 101. (¬66) في الأصول: «إحدى وسبعين» والمثبت من مروج الذهب 3/ 324 والمراجع الأخرى، وقيل إنه توفي في منتصف ربيع الأول كما ذكر المؤلّف، واختلف فيه، وذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء ص: 280 أنه قيل توفي في ربيع الآخر، وعن اختلاف الأقوال عن هذا أنظر الكامل 6/ 101. (¬67) ذكر السيوطي: «أنه تولّى الخلافة ليلة السبت لأربع عشرة بقيت من ربيع الأول سنة سبعين ومائة» ص: 283. وأقرّ المسعودي أنه تولّى الخلافة صبيحة الليلة التي مات فيها الهادي 3/ 336. (¬68) كذا في ت وط، في ش: «المرسي». (¬69) ابنه القاسم، وسمّاه المؤتمن، الطبري 8/ 276.

محمد الأمين

أولاده، فجعل الأمين وليّ عهده بعده، ثم المأمون، ثم المؤتمن (¬70)، وطوى الرّشيد الملك عن ولده الرابع وهو المعتصم لكونه أمّيا، فأراد الله خلاف ما أراده الرّشيد لكون الخلافة صارت بعد المأمون للمعتصم، وصار الخلفاء بعده كلّهم من نسله، ولمّا كمل عهد أولاده الثلاثة جمع الجموع وأمرهم بمبايعة أولاده المذكورين، فبايعوهم وعاهدوهم، وكتب بذلك عهدا محكما وكتبا مبرما، ووضع الأعيان خطوطهم عليه، وبعد ذلك جهّزه إلى بيت الله تعالى وأمر بتعليقه في وسط الكعبة المشرّفة ليشتدّ الوثوق به ولا يقع في ذلك خلاف (¬71)، ولم يغن التدبير عمّا سطّره قلم التدبير في لوح المقادير. ثم إن الرّشيد رأى في منامه أنه يموت بطوس فلمّا وصل إلى طوس غلب عليه الوعد، وعرف أنه ميّت بكى واختار لنفسه مدفنا بطوس، فمات بها (¬72) وصلّى عليه ولده صالح (¬73) لثلاث مضين من جمادى / الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة (¬74). فكانت مدة ملكه ثلاثا وعشرين سنة وشهرين ونصف (¬75). محمد الأمين: فتولّى الخلافة بعده ولده محمد الأمين، فكان وسيما سيء التّدبير كثير التّبذير، ضعيف الرّأي فاتّخذ الخمور واللهو ديدنا، واشترى مغنّية بمائة ألف دينار، وعزل أخاه المؤتمن، وأخاه المأمون، وأرسل إلى الكعبة المعظّمة من جاءه بصحيفة عهد والده لإخوته فمزّقها، وعهد إلى ولد له رضيع سمّاه الناطق بالحق، ودعا له على المنابر فنصحه ومنعه ¬

(¬70) كان ذلك لما طلب الحج في سنة 186 هـ - 802 م أنظر الطبري 3/ 275. (¬71) «كتابين لعبد الله المأمون: «الأول فيما اشترط على ابنه الأمين من الوفاء بما فيه من تسليم ما ولّى عبد الله من الأعمال، والثاني نسخة البيعة التي أخذها على الخاصة والعامة والشروط لعبد الله على محمد. . . وجعل الكتابين في البيت الحرام بعد أخذه البيعة على محمد». الطبري 8/ 277. (¬72) «وتوفي - فيما يذكر - بموضع يدعى المثقّب» الطبري 8/ 345. (¬73) ابن الأثير 6/ 212. (¬74) في الأصول: «سنة إحدى وتسعين» والمثبت من الطبري 8/ 345 ومروج الذهب 3/ 336. وتاريخ الخلفاء للسيوطي 296، في مروج الذهب: «يوم السبت لأربع ليال خلون من جمادى الآخرة» وفي الطبري: «لثلاث ليال». (¬75) عن اختلاف الأقوال في مدة خلافته أنظر مروج الذهب 3/ 336.

عن هذا الغدر والنكث خزيمة بن خازم (¬76) فقال له: يا أمير المؤمنين لن ينصحك من كذّبك، ولن يغشّك من صدقك، وإني أنصحك: لا تجر القوّاد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد، فينكثوا عهدك، وإن الغدر شؤم والناكث منكوث مغلوب، وصاحب الحق مظلوم، وجرت عادة الله بنصر المظلوم، وتوجّه القلوب إليه ورقّة النفوس عليه، ولذلك تأثير في الظاهر والباطن! فأبى الأمين ذلك منه، ونبذ كلامه وعمل بسقيم رأيه، وأرسل جيشا مع علي بن عيسى إلى أخيه المأمون عدّتهم أربعون ألفا، وأرسل المأمون لقتاله طاهر بن الحسين ومعه أربعة آلاف، فانهزم علي بن عيسى وقتل وذبح وشتّتت عساكره، وجاء طاهر بن الحسين برأسه إلى المأمون (¬77) {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ} (¬78). فقوي قلب المأمون بذلك وكثر أتباعه، / ومال النّاس إليه، فجمع الجموع وسار إلى بغداد لقتال الأمين، ولا زال أمر المأمون يزيد لحسن تدبيره وانتقال الناس إليه، وأمر الأمين يضعف لكثرة لهوه وتقصيره ونفور القلوب عنه إلى أن حوصر في بغداد، وتفرّقت عنه جنوده وهربوا منه إلى المأمون، كلّ ذلك والأمين في لهوه وغفلته ولعبه مع جواريه واحتجابه عن أهل دولته (¬79) إلى أن هجم طاهر بن الحسين، ودخل بغداد فجاء مسرور الخادم إلى الأمين وهو في جنب حوض ماء مع جواريه يصيد معهن السّمك في ذلك الحوض، وكان وضع في أنف كلّ سمكة درّة نفيسة شبّكها بقضبان الذهب، فكلّ من صادت من جواريه سمكة كانت الدّرّة التي في أنفها لها، فرفع الأمين رأسه إلى مسرور فقال له: إن طاهر بن الحسين دخل بعسكره إلى بغداد، فقال له: دعني فإن الجارية فلانة صادت الآن سمكتين (¬80) وأنا ما صدت شيئا، فرجع مسرور باهتا، وإذا بالجند قد ¬

(¬76) في الأصول: «حازم بن خزيمة» والمثبت من الكامل 6/ 228. وفي الطبري وفي مروج الذهب: «هرثمة بن حازم» 3/ 389. (¬77) عن محاربة علي بن عيسى وطاهر أنظر مثلا الكامل 6/ 239. والطبري 8/ 390 - 397. (¬78) سورة البقرة: 249. (¬79) عن صفات الأمين أنظر مروج الذهب 3/ 394. (¬80) في ت: «منشفتين» وفي ط: «مشنعتين» والمثبت من الكامل 6/ 245. قال ابن الأثير: «لمّا أتى نعي علي بن عيسى الأمين وهو يصطاد السمك، قال للذي أخبره: ويلك دعني، فإن كوثرا قد صادت سمكتين، وأنا ما صدت شيئا»، وهذا يخالف ما ذكره مقديش من أن طاهر بن الحسين دخل بغداد والأمين يصطاد السمك، فدخول طاهر إلى بغداد وقع بعد ثلاث سنوات من حادثة السمك، إذ تمّت في سنة 198 هـ - 813 - 814 بينما تمّ قتل علي بن عيسى في سنة 195 هـ - 810 - 811 م.

المأمون وقضية خلق القرآن

أحاطوا بدار الخلافة ونهبوها ومسك طاهر بن الحسين الأمين بيده وحبسه، فلمّا شاهد الأمين هذا الحال قال لطاهر بن الحسين: يا طاهر اعلم أنه ما قام لنا قائم قطّ فكان جزاؤه عندنا إلاّ السيف، فانظر لنفسك أو دع يلوّح بأبي مسلم الخراساني وأمثاله الّذين بذلوا أنفسهم وأموالهم في قيام الدّول، فكان مآلهم القتل، وهذه عادة الله في مقيمي الدّول، كعمر بن سعيد أقام دولة عبد الملك بن مروان فقتله، ووقع بعد ذلك / لأبي عبد الله الشّيعي حيث قام بدعوة عبيد الله المهدي، فلمّا تمّت قتله (حسبما يأتي تفصيله) (¬81) فأثّرت هذه الكلمة في قلب طاهر، وصار يحذر منها إلى أن قتله المأمون (¬82). ثم أن طاهر بن الحسين لما رأى أن الفتنة لم تسكن بالإستيلاء على الأمين وحبسه أدخل أعجاما لا يعرفون اللسان على الأمين، وأمرهم بقتله فقتلوه وأخذ رأسه فطيف به في مدينة بغداد، ونودي عليه: هذا رأس المخلوع (¬83) إلى أن سكنت الفتنة، وكان ذلك في المحرّم سنة ثمان وتسعين ومائة (¬84). المأمون وقضية خلق القرآن: فآل الأمر إلى أخيه عبد الله المأمون، فكان من أجلّ بني العباس حزما وعلما وفراسة وفروسية وأقواهم ذكاء وفهما، سمع الحديث على جماعة، وتأدّب وتفقّه وبرع في فنون التاريخ والأدب، ولمّا كبر اعتنى بالفلسفة وعلوم الأوائل، فضلّ وأضلّ، وامتحن الناس بالقول بخلق القرآن، ولولا ذلك لعدّ من الخلفاء الرّاشدين، وكان يضرب المثل بحلمه، فمن حلمه أنه خرج لبعض حروبه وخلّف عنه خليفة، فثار عليه إبراهيم بن محمد ابن طباطبا (¬85)، دعا لنفسه ببغداد ثم أظفره الله به، ووقف بين يديه، واستشار في أمره ¬

(¬81) ما بين القوسين يثبت أن ما سبق من تذكير الأمين لطاهر بمن كان مثله في خدمة الخلفاء وقتل، زيادات من المؤلّف عن الواقع التاريخي. (¬82) هذه الرواية تخالف ما ذكرته كتب لتراث، فطاهر بن الحسين «مات. . . من حمّى أصابته» الكامل 6/ 381. وذكر الطبري «أنه وجد في فراشه ميتا» 8/ 593. توفي جمادى أولى 207 هـ - 822 - 823. (¬83) يشك في الطواف برأس الأمين في مدينة بغداد. (¬84) سبتمبر 813 م. (¬85) في الأصول: «محمد بن المنصور» والمثبت من الطبري أنظر عن خروجه الطبري 8/ 528.

المعتصم

الحسن بن سهل، فقال: يا أمير المؤمنين، إن قتلته عملت بما عمله الملوك قبلك وإن عفوت عنه عملت ما لم يعمله الملوك قبلك، فعفا عنه ونادمه بعد ذلك، وكان كثير الجهاد، افتتح عدة حصون، وكان كثير العبادة، قيل إنه ختم في شهر رمضان ثلاثا وثلاثين ختمة، ولمّا جبر العلماء على القول بخلق القرآن دعوا عليه، فأهلكه الله / وهمّ أوّلا بخلع نفسه من الخلافة ليولّيها لذريّة الإمام علي لكونهم أولى بذلك، فلم يتمّ له ذلك، فجعل وليّ عهده علي بن موسى الكاظم (¬86) عين أعيان العلويين في ذلك الوقت، فمات ولم يتيسّر له إقامة علوي بعده، فتوفي المأمون لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين (¬87) بأرض الرّوم غازيا فدفن بطرسوس. المعتصم: فولّي الخلافة أخوه أبو إسحاق محمّد المعتصم، وكان يقال له المثمّن لأنه ثامن الخلفاء، وثامن أولاد الرّشيد، والثامن من ولد العبّاس، واستخلف سنة ثمان عشرة ومائتين، وملك ثمانية أعوام وثمانية أشهر وثمانية أيّام (¬88)، وكان أمّيّا. وروى الصولي: كان مع المعتصم غلام في المكتب يتعلّم معه القرآن، فمات الغلام، فقال له الرّشيد: يا محمد مات غلامك، قال: نعم يا سيدي، وقد استراح من المكتب، فقال: يا ولدي، إن المكتب يبلغ بك هذا المبلغ!؟ وقال لمعلّمه اتركه لا تعلّمه شيئا، فنشأ عاميّا يكتب كتابة مشوّشة، ويقرأ قراءة ضعيفة. وهو أول من أدخل الأتراك الدّواوين وكان يتشبّه بملوك الأعاجم، وبلغت غلمانه الأتراك ثمانية عشر ألفا، وبعث إلى سمرقند وفرغانة أموالا كثيرة لشراء الأتراك وألبسهم أطواق الذّهب والفضّة والدّيباج (¬89)، فكانوا يركضون الخيل في بغداد ويؤذون النّاس وضاقت بهم البلاد، فشكاهم أهل بغداد إلى المعتصم واجتمعوا / على بابه وقالوا: لئن لم تخرج جنودك الأتراك عنّا حاربناك، قال: وكيف تحاربوني وأنتم عاجزون عن محاربتي؟ ¬

(¬86) الطبري 8/ 554. (¬87) 10 أوت 833 م. وذكر الطبري هذا التاريخ كرواية من الروايات، وعن اختلاف الأقوال فيه أنظر الطبري 8/ 650. (¬88) أنظر مروج الذهب 3/ 459. (¬89) أنظر مروج الذهب 3/ 465.

قالوا: نحاربك بسهام الأسحار ونسلّ عليك سيوف الدعاء، فقال: والله لا أطيق ذلك ولكن أنظروني حتى أنظر بلدا أنتقل بهم إليها ولا تتضرّرون بي وكفّوا عني سهام دعائكم، فبنى مدينة سمّاها (سرّ من رآى) (¬90) بقرب بغداد وانتقل إليها سنة عشر ومائتين (¬91). وللمعتصم عدة غزوات مع الكفّار من أشهرها غزوة عمّورية (¬92)، ظهرت له فيها اليد البيضاء ونصر فيها الملّة المحمّدية، وملخّصها أن ملك الرّوم إذ ذاك من أكبر ملوك النّصارى أرسل كتابا إلى المعتصم يهدّده، فاستشاط المعتصم غضبا، وأمر بجوابه فكتب له الجواب، فلم ترضه عدّة كتب كتبوها فمزّق الكتاب الذي ورد عليه، وأمر أن يكتب في ظهر قطعة منه: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الجواب ما تراه لا ما تقرؤه، {وَسَيَعْلَمُ الْكُفّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدّارِ} (¬93)، وتجهّز من ساعته فمنعه المنجمّون وقالوا له: إنّ الطالع نحس، فقال لهم: هو نحس عليهم لا علينا، وسار يومه وتلاحقته العساكر (¬94)، ووقع حرب عظيم قتل فيه سبعين ألفا وأسر منهم ستين ألفا، وهرب ملكهم، وتحصّن بحصن عمّورية، فحاصره المعتصم، ونزل به إلى أن فتحها، وأسّر ذلك الملك الكافر وقتله وكان ذلك من أعظم فتوح الإسلام. ولكن شان ملكه بالتعصّب لأخيه في القول بخلق القرآن ولولا سابق القضاء والقدر لما دخل في هذه المضائق / وهو أمّي، ووصلت هذه البدعة حتى لبلاد المغرب، ودافعها رجال السّنة كمحمّد بن سحنون - رضي الله تعالى عنه - وأضرابه، حتى أخمد الله نارها وانقطع شرارها بموت أشرارها، وانطمست آثارها بهلاك فجّارها. ولمّا احتضر قال: اللهم [إنك تعلم] أني أخافك من قبلي، ولا أخافك من قبلك، وأرجوك من قبلك، ولا أرجوك من قبلي، فيا من لا يزول ملكه، إرحم من زال ملكه، وتوفي - رحمه الله - يوم الخميس لإحدى عشر ليلة بقيت من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين (¬95). ¬

(¬90) أي سامرا. مروج الذهب 3/ 466. (¬91) 835 م. أنظر الحديث الكامل لابن الأثير 8/ 451. (¬92) مروج الذهب 3/ 472 - 473. (¬93) سورة الرعد: 42. وفي قراءة: «وسيعلم الكفار. . .». (¬94) والسبب الذي ذكرته المراجع التراثية يختلف عما قدّمه مقديش، ففي مروج الذهب 3/ 472 - 473، وفي تاريخ الطبري 9/ 57 - 71، يرجع سبب هذا الفتح إلى خروج «توفيل ميخائيل ملك الروم إلى بلاد الإسلام واضراره بأهل زبطرة وغيرها». (¬95) 7 جانفي 842 م أنظر الكامل لابن الأثير 6/ 524 ومروج الذهب 3/ 459.

الواثق بالله

الواثق بالله: فولّي بعده ولده أبو جعفر هارون ولقّب بالواثق بالله، واستخلف تركيا اسمه أشناس (¬96) ولقّبه بالسّلطان، وهو أول خليفة استخلف سلطانا وألبسه وشاحين مجوهرين وتاجا مجوهرا (¬97) وتبع أباه [في القول] بخلق القرآن، ورجع عنه في آخر أمره، وذلك أنه كان القائم له بهذه البدعة أحمد بن أبي دواد لاستيلائه على الواثق حتى رفع إليه أبو عبد الرحمان [عبد الله بن محمد الأهرمي] (¬98) بن محمد الأزدي شيخ النسائي، فقال الشّيخ وهو مكبّل بالحديد في مناظرته: أخبروني عن هذا الرّأي الذي دعوتم الناس إليه، هل هو شيء علمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم يدع الناس إليه، أو هو شيء لم يعلمه؟ فقال ابن أبي دواد: بل علمه، فقال: أفكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه وأنتم لا يسعكم؟ فبهتوا وضحك الواثق وقام قابضا على فمه ودخل بيته ومدّ رجليه وهو يقول / وسع النبيء أن يسكت ونحن لا يسعنا! وأمر أن يعطى الشيخ ثلاثمائة دينار، وأن يردّ إلى بلده، ولم يمتحن بعدها أحدا، وسقط مقام ابن أبي دواد من يومئذ (¬99). وكان الواثق عالما (¬100) شاعرا مات بسرّ من رآى يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجّة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين (¬101). المتوكل على الله: فولّي بغداد أخوه جعفر المتوكّل على الله، وكان سنّيا كريما، أظهر السّنّة وأكرم علماء الحديث، وأمات البدع، وشنع على الجهمية والمعتزلة (¬102)، وأمر نائبه بمصر أن ¬

(¬96) في الأصول: «أشناش» والمثبت من الطبري 9/ 58. والمعتصم هو الذي قدم أشناس كما مكّنه من القيام بدور حربي هام في فتح عمورية، نفس المرجع. (¬97) أنظر الطبري 9/ 124. (¬98) إضافة من الطبري. (¬99) أنظر الطبري 9/ 135 - 138. (¬100) في ت: «عالما أديبا». (¬101) كذا بالأصول والصحيح سنة اثنين وثلاثين ومائتين كما في مروج الذهب 3/ 477 وابن الأثير 9/ 29 وغيرهما من المراجع، ويوافق بالتاريخ الميلادي 30 جويلية 847. (¬102) أنظر مروج الذهب 4/ 3.

المنتصر بالله

يحلق لحية قاضي القضاة بمصر أبي بكر محمد بن أبي الليث (¬103) ويطاف به الأسواق بمصر على حمار لأنه كان جهميا معتزليا، يقول بالجهة وخلق القرآن، ففعل به ذلك. ولمّا كثرت المماليك الأتراك دخلوا في أمر الملك، واستولوا على المملكة وصار بأيديهم الحلّ والعقد والولاية والعزل، إلى أن حملهم الطغيان أن سطوا على الخليفة المتوكل لما أراد أن يصادر مملوك أبيه وصيفا التّركي لكثرة ماله وخزائنه [وأقطاعها الفتح بن خاقان] (¬104) فتعصّب ببغا (¬105) التركي وقد انحرف الأتراك عنه، فدخل باغر (¬106) عليه ومعه عشرة أتراك وهو في مجلس أنسه وعنده وزيره الفتح بن خاقان بعد أن مضى من الليل ثلاث ساعات فصاح الفتح، وقال: ويلكم هذا سيدكم وابن سيدكم وهرب من كان حوله من الغلمان والنّدماء على وجوههم، وبقي الفتح، وصار المتوكّل غائبا عن حسه من السّكر فضربه باغر (¬107) ضربة بالسّيف على عاتقه فقده إلى خاصرته فطرح الفتح نفسه عليه فضربهما باغر / ضربة ثانية فماتا جميعا (¬108) فلفّهما معا في بساط، ومضى هو ومن معه ولم ينتطح فيها عنزان، وكان قتله ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين (¬109) في القصر الجعفري الذي بناه المتوكّل، ولمّا قتلا دفنا فيه وكانت خلافته أربعة عشر عاما [وعشرة أشهر وثلاثة أيام] (¬110) وعمره إحدى وأربعون سنة (¬111). المنتصر بالله: وولّي بعده [بعهد منه] (¬112) ولده أبو جعفر محمد المنتصر بالله، فلم يستقل بالملك لاستيلاء المماليك الأتراك على المملكة، ويقال إنه تواطأ مع الأتراك على قتل أبيه ليلي ¬

(¬103) في الأصول: «محمد بن أبي بكر بن الليث». (¬104) إضافة من ابن الأثير للإيضاح 7/ 95. (¬105) في الأصول: «باغر» والمثبت من الكامل 7/ 97. (¬106) أنظر الكامل في التاريخ لابن الأثير 7/ 98 - 99. (¬107) ورد في الكامل والطبري أن الذي ضربه بغلول، وباغر مشاركه. (¬108) عن خبر مقتل المتوكّل، واشتراك باغر وبغا وغيرهما من الأتراك في قتله أنظر الطبري 9/ 222 - 230، ومروج الذهب 4/ 33 - 40. (¬109) 9 ديسمبر 861 م، وقيل لأربع خلون من شوال، الطبري 9/ 230. والكامل 7/ 100 وفي مروج الذهب: «لثلاث خلون من شوال» 4/ 3. (¬110) المصدرين السابقين اعتمادا على أنه توفي لأربع خلون من شوال. (¬111) في الطبري: «أربعون سنة» وفي ابن الأثير: «نحو أربعين سنة». (¬112) ساقطة من ت.

الخلافة بعده، وكان حذرا من الأتراك يسبّهم ويقول: هؤلاء قتلوا الخلفاء فلم يؤمنوه وأرادوا قتله فما أمكنهم الإقدام على ذلك لشدّة محاذرته، فدسّوا إلى طبيبه ابن طيفور (¬113) ثلاثين ألف دينار عند توعكه ليسمّه ففصده بمبضع مسموم فأحسّ بذلك وأراد قتله، فقال له إنك تصبح طبيبا وتندم على قتلي، فامهلني إلى الصبح، فأمهله فأصبح ميّتا (¬114). وحكى إنه بات ليلة في وعكه وانتبه فزعا وهو يبكي، فسألته أمه (¬115): ما يبكيك؟ فقال: أفسدت ديني ودنياي، رأيت أبي الساعة وهو يقول: قتلتني يا محمد لأجل الخلافة والله لا تتمتّع بها إلاّ أياما قلائل، ثم مصيرك إلى النار (¬116)، فاستمرّ مهموما من هذا المنام فما عاش بعد ذلك إلاّ أياما قليلة. وذكر علي بن يحيى المنجّم أن المنتصر جلس يوما للهو، وأمر بفرش بساط من ذخائر الخزانة / تداولته الملوك ففرش، فرأى فيه صورة رأس عليه تاج وعليه كتابة بالفارسية، فطلب من يستخرج تلك الكتابة، فأحضر لذلك رجل من الأعاجم فقرأها بلسانه وعبّس عند قراءتها، فسأله المنتصر عنها، فقال: لا معنى لها، فألحّ عليه، فقال: أنا الملك شيرويه بن كسرى بن هرمز، قتلت أبي فلم أتمتّع بالملك بعده إلاّ ستة أشهر وهي مشهورة، فتغيّر وجه المنتصر لذلك وقام من ذلك المجلس، وترك اللهو الذي أراد، وصار مغتمّا لذلك مهموما، فكانت خلافة المنتصر ستة أشهر (¬117) كما توهّمه فمات مفصودا، لخمس مضين من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين (¬118) وكان عمره خمسا وعشرين سنة (¬119). ثم ولّي بعده عمّه (¬120) أبو العباس أحمد المستعين بالله بن المعتصم، وإنّما قدّمه الترك واختاروه على أولاد المتوكل لأنهم كانوا قتلوه فخافوا ان ولّي أحد من أولاده أخذ ¬

(¬113) في الكامل والطبري: «ابن الطيفوري». (¬114) اختلفت الروايات في موت المنتصر ومنها أنه مات من علّة الذبحة والمبضع المسموم. . . أنظر الكامل 7/ 114 والطبري 9/ 251 - 252. (¬115) في الكامل: «فسأله عبد الله بن عمر البازيار» 7/ 115. (¬116) أورد ابن الأثير هذه القصة 7/ 115. (¬117) الكامل 7/ 115. (¬118) كذا في الكامل، «وقيل توفي لأربع خلون من شهر ربيع الآخر» الطبري 9/ 251.8 جوان 862. (¬119) في الأصول: «ست وأربعين سنة». وفي الكامل والطبري: «وكان عمره خمسا وعشرين سنة، وقيل أربعا وعشرين سنة» 7/ 115، 9/ 253. وفي تاريخ الخلفاء: «ست وعشرين» ص: 357. (¬120) في الأصول: «أخاه».

المعتز بالله

بثأر أبيه، فما كان للمستعين إلاّ الإسم، وكانت المماليك الأتراك متولّية على الملك، وكان الأمر كلّه لوصيف التركي وبغا (¬121) التّركي، فاستمرّ كذلك وهو يترصّد لهما إلى أن ظفر بوصيف التركي فقتله وبقي بغا التركي الذي كان فتك بالمتوكل وسفك دمه، وتنكّرت حالة الأتراك فخاف [المستعين] وخرج من سرّ من رأى إلى بغداد فأرسلوا إليه يعتذرون ويسألونه في العود إلى سرّ من رأى وهو محل الأتراك فامتنع، وكان فاضلا ديّنا، اخباريا مطّلعا على التواريخ / متجمّلا في ملبسه. المعتز بالله: ولما امتنع المستعين من العود إلى سرّ من رأى قصد الأتراك خلعه، فأتوا إلى الجوسق (¬122) واستخرجوا منه أبا عبد الله محمد بن المتوكل على الله بن المعتصم، ولقّبوه «المعتز بالله»، وبايعوه وعمره تسعة عشر عاما، ولم يل الخلافة أصغر منه سنا، وخلعوا المستعين بالله في أول سنة إحدى وخمسين ومائتين (¬123)، وجيّشوا إلى بغداد جيشا كثيفا على المستعين بالله، وتقاتل معهم شهرا، وكثر القيل والقال، وغلت الأسعار، وعمّ البلاء، وتلاشى أمر المستعين بالله إلى أن خلع نفسه وأشهد العدول والقضاة على نفسه بذلك (¬124)، فأخذوه وانحدروا به إلى واسط وحبسوه بها تسعة أشهر، ثم ندب له سعيد الحاجب فذبحه في الحبس في ثالث شوال سنة اثنين وخمسين ومائتين (¬125)، وله خمس وثلاثون سنة (¬126). واستمرّ المعتز بالله خليفة، وكان جميل الصّورة، مستضعفا مع الأتراك، وكان صالح بن وصيف متواريا على المعتز خائفا منه، فاجتمع الجند عليه وطلبوا أرزاقهم، ووعدوه أنه إذا أنفق عليهم أرزاقهم ركبوا معه على صالح بن وصيف وقتلوه، ويصفو له ¬

(¬121) في الأصول: «باغر» والمثبت من مروج الذهب 4/ 76، وباغر هو أحد قوّاد بغا، وأمر المستعين بغا ووصيف بقتل باغر فقتل سنة إحدى وخمسين ومائتين، الكامل 7/ 137 - 138 والطبري 9/ 278 - 279. (¬122) في الأصول: «الجسر» والمثبت من الطبري 9/ 284 وفي مروج الذهب: «لؤلؤة الجوسق» 4/ 77 حيث كان المعتز معتقلا مع أخيه المؤيد. (¬123) في الأصول: «اثنين وخمسين ومائتين»، والمثبت من مروج الذهب والطبري. (¬124) الطبري 9/ 348. (¬125) وفي المسعودي: «لست خلون من شوال» 17 أكتوبر 866. (¬126) في الأصول: «إحدى وثلاثون سنة» والمثبت من مروج الذهب 4/ 79.

المهتدي بالله

الملك، ولم يكن له في خزائنه مال يصرفه عليهم، فطلب من أمّه وكانت تركية اسمها «قبيحة» لفرط جمالها (¬127) بين النساء فأبت عليه بالمال وسمحت بولدها وهو خليفة وكان معها مال عظيم، فاتفق الأتراك على خلعه، وركب معهم / صالح بن وصيف، ومحمد ابن بغا (¬128) التركي، وأتوا إلى دار الخلافة وهجموا على المعتز، وجرّوه برجله وأوقفوه في الشمس، وعذّبوه حتى خلع نفسه (¬129) وأدخلوه الحمّام ومنعوه شرب الماء حتى مات عطشا (¬130). المهتدي بالله: وأحضروا (¬131) أبا عبد الله محمد بن الواثق بن المعتصم، ولقّبوه المهتدي بالله، وبايعوه بالخلافة لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين (¬132) وله بضع وثلاثون سنة (¬133). وصار صالح بن وصيف إلى قبيحة أمّ المعتز وعذّبها حتى أخذ منها ألف ألف دينار ذهبا، ونصف أردب (¬134) لؤلؤ ومثله زمرّد وسدسه ياقوتا أحمر ثم خرجت إلى مكة فأقامت بها إلى أن ماتت (¬135) وقلّل الناس الترحّم عليها حيث ظهر عليها هذا المال، وشحّت به على ولدها (¬136). وكان المهتدي بالله كثير العبادة، ليس له من الأمر شيء، وكان قد طرّح الملاهي، ومنع الظلمة من الظلم، فاتّفق الأتراك على خلعه، وركبوا إلى داره فخرج ¬

(¬127) سمّاها المتوكل، الكامل 7/ 200. (¬128) في ت: «باغور» وفي ط: «باغر» والمثبت من الطبري 9/ 389. (¬129) خلع نفسه لثلاث بقين من رجب سنة 255 هـ - 868 م الطبري 9/ 389 مروج الذهب 4/ 81. (¬130) عن هذه الأخبار أنظر الكامل 7/ 195 - 196 والطبري 9/ 389 - 390. قال: «أدخلوه سردابا وأطبقوا عليه بابه فأصبح ميتا وكانت وفاته لليلتين خلتا من شعبان سنة 255 هـ ‍». (¬131) تمّت بيعته قبل موت المعتز كما أشرنا. (¬132) 3 أوت 869 م. (¬133) «وله يومئذ سبع وثلاثون سنة، وقيل تسع وثلاثون سنة» مروج الذهب 4/ 96. (¬134) الأردب بكيل القاهرة: 6 ويبات. (¬135) أنظر الكامل 7/ 199 - 200 والطبري 9/ 393 - 394. (¬136) من استنتاج المؤلف.

المعتمد وحركة الزنج

إليهم وقاتلهم بنفسه إلى أن أمسكوه باليد، وعروا عليه بطنه إلى أن مات - رحمه الله - في رجب (¬137) سنة ست وخمسين ومائتين (¬138) فكانت خلافته سنة إلاّ خمسة عشر يوما. المعتمد وحركة الزنج: ثم ولّي الخلافة بعده ابن عمّه أحمد - الملقّب بالمعتمد - بن أبي جعفر (¬139) المتوكّل على الله، أخرجه التّرك من الحبس وبايعوه على الخلافة في رجب من التاريخ السابق، فانهمك في اللهو واللّذات فقدم أخاه طلحة ابن المتوكل على الله، ولقبه الموفّق بالله، وجعله وليّ عهده وولاّه المشرق والحجاز / واليمن وفارس وطبرستان وسجستان والسند، وكان [للمعتمد] ولد صغير اسمه جعفر، لقّبه المفوّض إلى الله (¬140) وولاّه المغرب والشام والجزيرة وعقد لهما لوائين أبيض وأسود وعقد لهما البيعة، وشرط على أخيه الموفّق أنه إن حدث به حدث الموت وولده صغير، كان الموفّق وليّ عهده، وكتب له بذلك عدة كتب على كلّ منها خطه، وكتب عليها القضاة والعدول خطوطهم، وأرسلها إلى مكّة لتعلّق في الكعبة، فعلّقت فيها، وما أفاد مع هذه التدابير حذر عن قدر، وما وقع إلاّ ما قدّره الله تعالى، وكان الموفّق عاقلا مدبّرا شجاعا مشتغلا بأمر المملكة ملتفتا لحال الرعيّة، وكان أخوه المعتمد منكبّا على لهوه ولذّاته، مهملا لأحوال رعيّته فكرهه الناس وأحبّوا أخاه الموفّق وظهرت فيه نجابات كثيرة، وكان ميمونا مظفّرا في الحروب فظهر في أيّامه الزّنج فتغلّبوا على المسلمين وكان صاحب الزّنج اسمه يهبود، يدّعي أنه أرسله الله إلى الخلق وادّعى علم المغيّبات فذكر الصّولي: أنه قتل من المسلمين ألف ألف وخمسمائة ألف (¬141)، وكان يستأسر نساء المسلمين، ويبيعهن بأبخس الأثمان وكان ينادي على العلويّة والشّيعيّة بدرهمين، وكان عند الزنجي الواحد عشرة من العلويّات الأشراف يطؤهن ويخدمن في الخدمة التافهة، وكان ذلك من أعظم مصائب الإسلام. وتملّك هذا الكافر، مدنا كثيرة، أخذها من المسلمين واستأصل أهلها، كواسط ¬

(¬137) «لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب» الكامل 7/ 228. (¬138) جوان - 870 م. (¬139) في الأصول: «أبو جعفر أحمد» والمثبت من الطبري 9/ 474. وفي مروج الذهب: «أحمد بن جعفر المتوكل» وفي الكامل: «أحمد بن المتوكل». (¬140) أنظر مروج الذهب 4/ 123. (¬141) مبالغة.

المعتضد بالله

ورام هرمز وما والاهما (¬142)، فانتدب لقتاله الموفق (¬143)، وجمع العساكر والجنود، وخرج لقتال الزّنج فكانت الواقعة عليهم، فقتل كبيرهم يهبود واستراح منهم العباد واستردّ البلاد التي كانوا استولوا عليها، ورجع الموفّق مؤيدا منصورا ورأس ذلك الكافر ورؤوس كباره على الرّماح، فدعا المسلمون للموفّق وامتدحه الشّعراء، واستمرّ أخوه منهمكا، وجميع الأمور جارية على يد الموفّق بقلب منشرح، ثم وقعت بينهما وحشة، فكاتب المعتمد أحمد بن طولون صاحب مصر يستنجده على قتال الموفّق، فانتدب له وأرسل له العساكر، فجرت بينهم وبين عساكر الموفّق حروب وطالت على ذلك أعوام، وكان للموفّق ولد نجيب اسمه أحمد جعله ولّي عهده، واستعان به في حروبه ثم خشي منه على نفسه لقوة بطش الولد وبسالته، فأودعه بطن الحبس، ووكّل به من يثق به في أموره واستمرّ محبوسا إلى أن حضر أجل الموفّق فلمّا اشتدّ مرضه، وتحقّق غلمانه موته بادروا إلى الحبس وكسروه، وأخرجوا منه ولده أحمد وآووه ونصروه (¬144) ولقّبوه المعتضد بالله، وجاءوا به إلى والده الموفّق، فلمّا رآه أيقن بحلول الأجل وقال له: يا ولدي لهذا اليوم خبّأتك، وفوّض إليه (¬145) وأوصاه بعمّه المعتمد وكان قبل الموت بثلاثة أيام، فمات سنة ثمان وسبعين ومائتين (¬146) فشمت في موته المعتمد / فما حال عليه الحول إلاّ وقد لحق به ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين (¬147). المعتضد بالله: فتولّى الملك والخلافة المعتضد، وكان ملكا مهابا، ظاهر الجبروت، وافر العقل، شجاعا يقدم على الأسد وحده، حسن السّياسة قليل الرّحمة، إذا غضب على أحد ألقاه ¬

(¬142) اختصر المؤلف خبر قيام الزنج اختصارا كبيرا حتى بانت وكأنها ثورة قصيرة لا حركة متداخلة متشعّبة كانت فيها وقائع وحروب بين الزنج والعباسيين على مستويات عدة قبل أن يتحمل الموفق مسؤولية قتالهم، أنظر عن هذه الحركة الثورية الطبري 9/ 478، 488، 504، 534، 536، 542، 554، 588، 589، 591، 594. (¬143) أنظر عن هذه الواقعة الطبري 9/ 602 والكامل 7/ 343، 345، 359، 374، 377، 399، 406. (¬144) بمكة، أنظر الكامل 7/ 395. (¬145) أنظر مروج الذهب 4/ 139 - 140 والكامل 7/ 442. (¬146) «وخلع الموفق على ابنه أبي العباس» الكامل 7/ 443. (¬147) كذا في الكامل 7/ 455، 15 أكتوبر 892 م وقبل موته خلع المعتمد ولده المفوض من ولاية العهد وقدم ابن أخيه المعتضد على ولده المفوض، الكامل 7/ 452 - 453.

في حفرة وطمّ عليه التراب وأسقط المكوس في أيّامه، ورفع الظّلم عن رعيّته فجدّد ملك بني العباس بعد ما وهى ووهن وأظهر عزّ الملك، فكان يسمّى السّفاح الثاني حيث جدّد كلّ منهما ملك بني العباس، ومع ذلك كان يتوخّى العدالة، ويظهر أمورا في صورة الجبروت والعنف، وهو في الباطن محقّ فيما يفعله، وهذا هو الرأي السّديد للحاكم الرّشيد لجمعه بين سياسة الدنيا والآخرة بمراعاة ما هو حقّ عند الله تعالى. نقل الحافظ السيوطي - رحمه الله تعالى - في «تاريخ الخلفاء» عن عبد الله بن حمدون قال (¬148): «خرج المعتضد للصّيد يوما وأنا معه فمرّ بمقثأة، فدخلت بعض خيوله فيها، وصاح صاحبها بالمعتضد، فأحضره وسأله عن سبب صياحه، فقال: ثلاثة من غلمانك نزلوا المقثأة فأخربوها، فأمر عبيده بإحضارهم، فضرب أعناقهم ومضى وهو يحدّثني، ثم قال: أصدقني يا عبد الله ما الذي ينكر الناس علي من أحوالي؟ قلت: تسفك الدماء كثيرا، فقال: ما سفكت دما حراما قط منذ ولّيت الخلافة، / فقلت: لم قتلت أحمد بن الطيّب؟ فقال: إنه دعاني إلى الإلحاد، وظهر لي منه الإلحاد فقتلته لنصرة الدّين، قلت: فالثلاثة الذين نزلوا المقثاة الآن بم استحللت دماءهم ولأي شيء قتلتهم؟ فقال: والله ما قتلتهم وإنما أحضرت ثلاثة من قطاع الطريق وأوهمت الناس أنهم هم الذين نزلوا المقثأة وأمرت بضرب أعناقهم، (ثم انه أحضر صاحب الشرطة فأمره بإحضار الثلاثة الذين نزلوا المقثأة فأحضرهم بأنفسهم وشاهدتهم، ثم أمر بإعادتهم إلى الحبس) (¬149). وهكذا ينبغي تدبير السياسة وإظهار النصفة وتخويف الجند وإرهابهم، وأبطل المواريث مما كانوا يأخذونه ظلما، وكتب به إلى الآفاق لأنه كان لا يصل لصاحب الحقّ إلاّ بعض حقّه وبعض ذلك باق في بعض البلاد خصوصا مصر، وكان من قضاته أبو خارم (¬150) بالخاء المعجمة والراء المهملة، وهو من أكابر العلماء وأهل الدّين والتّقوى، فكان من بعض ثباته في الدين أن شخصا انكسر عليه مال كثير وثبت عليه ذلك عند القاضي المذكور، فأمر بتوزيع ماله على الغرماء بالمحاصّة، وكان قد انكسر على ذلك المديون مال للمعتضد أيضا، فأرسل للقاضي يطلب أن يشركه مع الغرماء ¬

(¬148) النقل من ص: 368، وتصرّف المؤلف في النقل بتغيير قليل من الألفاظ وبالزيادة. (¬149) ما بين القوسين غير موجود في تاريخ الخلفاء. (¬150) في تاريخ الخلفاء: «أبي حازم».

المكتفي بالله وظهور القرامطة

بالمحاصّة ويقول: اجعلني كأحدهم، فقال: لا أحكم لمدع بدون بينة عادلة، فأرسل وكيلا وبيّنة أرضاها فتكون كأحدهم، فأمر المعتضد شهودا يشهدون عند القاضي وكانوا من أكابر أمرائه فما حضر أحد منهم إلى القاضي / خوفا من ردّ شهادتهم، فلم يحكم القاضي للمعتضد فأعجب من ديانته وعدم ميله (¬151) وما أحوج زماننا إلى قضاة مثل هذا خصوصا في أطراف البلاد، يقول الحقّ ويثبته ولا يميل لخواطر الخلق. وتوفي المعتضد - رحمه الله تعالى - يوم الإثنين لثمان بقين من ربيع الآخر سنة تسع (¬152) وثمانين ومائتين (¬153)، فكان مدة ملكه تسع سنين وتسعة أشهر ونصفا (¬154). المكتفي بالله وظهور القرامطة: ثم تولّى بعده ولده أبو محمد علي ولقّب المكتفي بالله وأخذت له البيعة قبل موت أبيه بثلاثة أيام، وكان المكتفي غائبا بالرّقة، فقام له بالبيعة الوزير القاسم بن عبيد الله (¬155)، وكتب إليه فوصل إلى بغداد من الرقّة لثمان خلون (¬156) من جمادى الأولى، وكان حسن السيرة ففرح الناس بخلافته ودعوا له. ومن أعظم الحوادث في أيامه ظهور القرامطة الملحدين (¬157)، الكفرة المفسدين، فأول من خرج منهم يحيى [بن زكرويه] (¬158) بن مهرويه القرمطي (¬159) ومحل ظهورهم ودار ملكهم هجر، وهم طائفة يستحلون دم الحجّاج والمسلمين، يزعمون أن الإمام الحقّ بعد النبيء صلّى الله عليه وسلم محمد بن الحنفيّة بن علي بن أبي طالب (¬160) - رضي الله تعالى عنهما - ¬

(¬151) تاريخ الخلفاء ص: 371 - 372. (¬152) في الأصول: «ست» والمثبت من الكامل 7/ 513 وغيره من المراجع. (¬153) 6 أفريل 902 م. (¬154) في مروج الذهب: «ويومين» 4/ 143. (¬155) في الأصول: «أبو الحسن عبد الله بن سليمان» والمثبت من الكامل 7/ 513 ومروج الذهب 4/ 187 والطبري 10/ 88. (¬156) في الأصول: «سابع جمادى الأولى»، والمثبت من الكامل والطبري، وفي مروج الذهب: «لسبع ليال خلون». (¬157) ظهور القرامطة سبق خلافة المكتفي إذ كان ظهورهم في سنة 278 في آخر أيام المعتمد أنظر الطبري 10/ 23. (¬158) إضافة من الطبري للدقة 10/ 94 - 95، وفي مروج الذهب: «ذكروية» 4/ 190. (¬159) عن بداية الحركة القرمطية أنظر الطبري 10/ 23 - 27. (¬160) أنظر الطبري 10/ 25.

المقتدر بالله وقيام أبي طاهر القرمطي

فينتسبون إليه بالباطل، وينسبون إليه أقاويل لا أصل لها، ويكفّرون من عاداهم {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ} (¬161)، طغاة بغاة فجرة، ولمّا أظهر يحيى القرمطي الخروج، جهّز المكتفي له جيشا واستمرّ القتال بين الفريقين إلى أن قتل القرمطي، فقام بعده أخوه / الحسين القرمطي، وأظهر شامة في وجهه، وزعم أنها آيته، وظهر ابن عمّه عيسى بن مهرويه وتلقّب بالمدّثر، وزعم أنه المراد في السورة الشريفة القرآنية (¬162) ولقّب غلاما له «بالمطوّق بالنّور»، وتسمّى بأمير المؤمنين، وزعم أنه المهدي، ودعا لنفسه على المنابر، وأفسد بالشّام وعاث، فحوربوا وقتل الثلاثة وطيف برؤوسهم في البلاد سنة إحدى وتسعين ومائتين (¬163)، وخلف من بعدهم خلف ظهرت منهم مفاسد يأتي تفصيلها إن شاء الله. وكانت مدّة خلافة (¬164) المكتفي تسعة أعوام ونصفا (¬165)، فلمّا أيقن بالموت سأل عن أخيه أبي الفضل جعفر بن المعتضد فقيل له: قد احتلم، فجعله وليّ عهده ولقّبه «المقتدر» وبويع له على أن يكون الخليفة بعده (¬166)، قال الصّولي: «سمعت المكتفي يقول في علّته التي مات فيها: والله ما أسفي إلاّ على سبعمائة ألف دينار صرفتها من بيت مال المسلمين في أبنية وعمارات لا أحتاج إليها» (¬167). ومن جملة مخلّفاته مائة ألف ألف دينار عينا، وأمتعة وعقارات وأوان، فمن جملة الأمتعة سبعون ألف ثوب ديباج، وكانت وفاته ليلة الأحد لاثنتي (¬168) عشرة ليلة خلت من ذي القعدة الحرام سنة خمس وتسعين ومائتين (¬169). المقتدر بالله وقيام أبي طاهر القرمطي: وولّي بعده أخوه أبو الفضل جعفر المقتدر بالله ابن المعتضد باستخلاف أخيه، بايعه الناس وعمره ثلاثة عشر عاما. ¬

(¬161) سورة آل عمران: 167. (¬162) المدثر. (¬163) أنظر الطبري 10/ 108.903 - 904 م. (¬164) في الأصول «ملك». (¬165) في مروج الذهب: «ست سنين وسبعة أشهر واثنين وعشرين يوما وقيل ست سنين وستة أشهر وستة عشر يوما على تباين الناس في تواريخهم» 4/ 186، وفي الكامل: «ست سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوما». (¬166) الكامل 8/ 8 - 9. (¬167) هنا ينتهي كلام الصولي، أنظر تاريخ الخلفاء للسيوطي ص: 377. (¬168) في مروج الذهب: «لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة». (¬169) 13 أوت 908 م.

وولّي الخلافة ثلاث مرات: هذه الأولى / فتغلّب عليه الجند لصغر سنّه فخلعوه وعقدوا البيعة لأبي العباس عبد الله بن المعتزّ بن المتوكّل بن المعتصم، ولقّبوه «الراضي بالله» (¬170) وبايعوه لعشر بقيت من ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين (¬171)، وخلع من يومه فكانت الأولى إسقاطه من الخلفاء ولكن ذكر لفضله، قال المعافى بن زكرياء: لما بويع ابن المعتز دخلت على شيخنا محمد بن جرير الطّبري المحدّث المشهور فقال لي: ما الخبر؟ فقلت له: بويع بالخلافة لعبد الله بن المعتز، قال: فمن رشّح لوزارته؟ قلت: محمد بن داود قال: فمن قاضيه؟ قلت: أبو المثنى، فأطرق قليلا ثم قال: هذا أمر لا يتمّ، قلت ولم؟ قال: كلّ أحد ممّن ذكرت ذو شأن عظيم متقدّم في علمه وفضله، وإن الدّنيا مولّية والزّمان مدبر، ولا مناسبة لأحد ممن ذكرت برئاسة في مثل هذا الزّمان، وما أرى هذا العقد إلاّ إلى الإنحلال، فقدّر الله أنهم خلعوه في ذلك اليوم (¬172). فإن عبد الله بن المعتز لمّا عقدت له الخلافة أرسل إلى المقتدر يأمره بإخلاء دار الخلافة (¬173)، وأن يذهب إلى دار محمد بن طاهر لينظر في أمره، فلمّا جاء الرسول إلى المقتدر وبلّغه الرّسالة قال: ليس له عندي جواب إلاّ السّيف، ولبس السلاح وركب معه جماعة قليلة من خدمه وهم مستسلمون للقتال في غاية الخوف والرّعب، وهجموا على عبد الله بن المعتز فهاله ذلك وألقى الله في قلبه / الرعب فانهزم هو ووزيره (¬174) وقاضيه، وكلّ من في ديوانه ظنا أن خلف هؤلاء أعوانا وأنصارا، وقبض المقتدر على عبد الله بن المعتز (¬175) وعلى بعض الأمراء والفقهاء، فقتل منهم من أراد وحبس عبد الله بن المعتزّ ثم أخرج من الحبس ميّتا واستقام الأمر للمقتدر. وهذه ثاني ولايته: فسار أحسن سيرة واستقام أمره بعد الإضمحلال، واستوزر أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات (¬176) فسار أحسن سيرة، واستقرّ في الخلافة إلى سنة سبع عشرة وثلاثمائة (¬177). ¬

(¬170) في الأصول: «الغالب بالله» والمثبت من الطبري الذي عاش هذه الأحداث. (¬171) 908 م. (¬172) أنظر الكامل: 8/ 14. (¬173) «التي كان يقيم فيها المعتز» الكامل 8/ 15. (¬174) محمد بن داود بن الجراح. (¬175) قبل ذلك هرب ابن المعتز إلى الصحراء. (¬176) في سنة تسع وتسعين ومائتين. مروج الذهب 4/ 213. (¬177) 929 م.

فخرج مؤنس الخادم (¬178) على المقتدر، فركب ومعه الجيش والأمراء وجاءوا إلى دار الخلافة فهرب خواص المقتدر من داره ونهبوا دار الخلافة، فكان مما نهبوا ستمائة ألف دينار لأم المقتدر فأشهد المقتدر على نفسه بالخلع لأربع عشرة ليلة خلت من المحرّم سنة سبعة عشر وثلاثمائة (¬179) وأحضر أخوه أبو منصور محمد بن المعتضد بن الموفّق بن المتوكّل ابن المعتصم، وبايعه مؤنس والأمراء ولقّبوه «القاهر بالله» وفوّضت الوزارة إلى أبي علي بن مقلة الكاتب المشهور، وجلس القاهر يوم السبت فكتب ابن مقلة (¬180) إلى سائر البلاد، وعمل يوم الإثنين الديوان، فجاء الجند يطلبون منه انعام الجلوس، فارتفعت الأصوات، فمنعهم الحاجب من الدخول إلى الخليفة، فقتلوه ومالوا إلى دار مؤنس وأخرجوا المقتدر من الحبس، وحملوه على أعناقهم إلى دار الخلافة، وجلس على السّرير / وأتوا بأخيه محمّد القاهر إليه وهو مقهور يبكي، ويقول: الله الله يا أخي في روحي (¬181)، فاستدناه المقتدر وقبّله بين عينيه وقال له: يا أخي لا ذنب لك، وأنت مغلوب على أمرك والله لا ينالك مني ما تكره فطب نفسا وقرّ عينا. ولمّا زال روعه آوى إليه أخاه وقال: {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} (¬182) وبذل المقتدر الأموال للجند واسترضاهم وثبتت له الخلافة. وهذه المرّة الثالثة: وهي الثابتة لآخر عمره، وكان كثير الجود والعطاء في الحجّ وغيره بشيء خارج عن المعتاد، وله أبهة عظيمة، فمن ذلك أنه قدمت عليه رسل ملك الرّوم بهدايا يطلب الهدنة، فعمل المقتدر موكبا عظيما لإرهاب العدو (¬183) فأقام مائة وستين ألف مقاتل بالسّلاح الكامل سماطين من باب الشّماسية إلى دار الخلافة بتعداد يمرّ الرسل بينهما في هذه المسافة، وأقام بعدهم الخدّام وهم سبعة آلاف خادم، ثم الحجّاب وهم سبعمائة حاجب، وكانت الستور التي نصبت على حيطان دار الخلافة ثمانمائة وثمانين ألف ستر من الدّيباج، وكانت البسط التي فرشت على الأرض اثنين وعشرين ألف بساط، وفي الحضرة مائة سبع بسلاسل الذّهب والفضّة ومن ذلك برد فيه شجرة ¬

(¬178) ابن الأثير 8/ 200 - 201. (¬179) 27 فيفري 929 م. (¬180) الكامل 8/ 202، مروج الذهب 4/ 221. (¬181) في الكامل: «نفسي، أذكر الرحم التي بيني وبينك» 8/ 206. (¬182) سورة يوسف: 69. (¬183) عن حرب المقتدر مع الروم أنظر الكامل: 8/ 233 - 235.

صيغت من الذهب والفضّة والجواهر، تشتمل على ثمانية عشر غصنا أوراقها من الذّهب والفضّة وأغصانها تتمايل بحركات مصنوعة، وعلى الأغصان طيور من ذهب وفضة تنفخ فيها الريح، فيسمع لكلّ طير / تغريد وصفير خاص. وفي أيام المقتدر كان ظهور أبي طاهر القرمطي (¬184) في عسكر جرّار، فدخلوا بخيلهم وسلاحهم إلى المسجد الحرام، ووضعوا السّيف في الطّائفين والمصلّين والناس مجرّدون محرمون في إحراماتهم، إلى أن قتلوا في المسجد الحرام ومكّة وشعابها ثلاثين ألف إنسان، وركض أبو طاهر بسيفه مشهورا في يده وهو سكران يصفّر بفرسه عند البيت الحرام، فبال وراث والحجّاج يطوفون حول البيت العتيق والسّيوف تنوشهم، فقتل في المطاف الشريف ألف وسبعمائة طائف وطمي بأشلاء الشهداء بئر زمزم (¬185) وما بمكة من آبار وحفر قد ملئت بهم، وطلع أبو طاهر إلى الكعبة وقلع بابها وهو يقول: [رمل] أنا بالله وبالله أنا ... نخلق الخلق وأفنيهم أنا وصاح في الحجّاج «يا حمير أنتم تقولون {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً} (¬186) فأين الأمن؟ وقد فعلنا ما فعلنا» فأخذ شخص بلجام فرسه فقال وقد استسلم للقتل: معنى الآية الشريفة ليس ما ذكرت، وإنما معناها من دخله فأمّنوه، فلوى أبو طاهر عنان فرسه عنه ولم يلتفت إليه وصانه الله تعالى ببركة بذل نفسه في سبيل الله وتوكّله عليه، وأراد قلع الميزاب وكان من ذهب فأطلع قرمطيا ليقلعه (¬187) فأصيب بسهم من أبي قبيس فما أخطأ نحره وخرّ ميتا وأمر آخر مكانه فسقط من فوق إلى أسفل على رأسه ميتا، فهاب الثالث الإقدام على القلع / فمضى أبو طاهر وتركه على رغم أنفه، وقال: أتركه حتى يأتي صاحبه، أعني المهدي الذي يزعمون أنه يخرج فيهم، وقتل من فقهاء المذاهب وعلماء الأمة وأعيان الصّوفية ومن الحجّاج الأفاقية: مغاربة وخرسانيين وما بين ذلك، ما لا يحصى ولا يعدّ ولا يستقصى، وسبيت نساؤهم وذراريهم، ونهبت دور أهل مكّة حتى افترقوا بعدها، ولم يقف بالجبل هذه السنة إلاّ نفر يسير فوقفوا بدون إمام، سمحوا بأنفسهم ابتغاء مرضاة الله ¬

(¬184) أنظر الكامل 8/ 207 - 208. (¬185) الكامل 8/ 208. (¬186) سورة آل عمران: 97. (¬187) في الأصول: «ليقسه» والمثبت من الكامل 8/ 208.

فسلّمهم الله حتى أكملوا حجّهم، وأخذ أبو طاهر خزائن الكعبة وما فيها من الذّهب والفضّة وكسوة الكعبة وحليتها مع ما نهبوه من الحجّاج فقسّمه في أصحابه، وأراد أخذ مقام إبراهيم فغيّبه السّدنة في بعض شعاب مكّة فتألّم ودعا جعفر بن أبي سلاح البنّاء وأمره بقلع الحجر الأسود من محلّه فقلعه بعد العصر يوم الإثنين لأربع عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة وصار يتردّد فيه بقوله - قاتله الله -: [طويل] فلو كان هذا البيت لله ربّنا ... لصبّ علينا النار من فوقنا صبّا لأنا حججنا حجّة جاهلية ... محلّلة لم تبق شرقا ولا غربا وإنا تركنا بين زمزم والصفا ... جنائز لا تبغي سوى ربّها ربّا وقلع ذلك الكافر قبّة زمزم وباب الكعبة وأقام بمكّة أحد عشر يوما وقيل ستة أيام، ثم انصرف إلى بلد هجر وحمل / معه الحجر الأسود (¬188) يريد أن يحوّل الحجّ إلى مسجد ضرار الذي سمّاه دار الهجرة وعلّقه في الأسطوانة السّابعة مما يلي حجرة الجامع الغربيّة من المسجد، وبقي موضح الحجر الأسود من البيت الحرام خاليا يضع الناس أيديهم فيه ويلثمونه تبرّكا بمحلّه، وأمر هذا الفاجر أن يكتب لعبيد الله المهدي أول الخلفاء المهديين الفاطميين القائم بالمغرب، - حسبما يأتي إن شاء الله شرح حاله - وكان أول ظهوره، فبلغ ذلك عبيد الله المذكور فكتب إليه: «إن أعجب العجب إرسالك بكتابك إلينا ممتنا بما ارتكبت في بلد الله الأمين من انتهاك حرمة بيت الله الحرام الذي لم يزل محترما جاهلية وإسلاما، وسفكت فيه دماء المسلمين، وفتكت بالحجّاج والمعتمرين، وتجرّأت وتعدّيت على بيت الله الحرام، وقلعت الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض يصافح بها عباده وحملته إلى أرضك، ورجوت أن أشكرك، فلعنك الله ثم أبعدك الله، والسلام على من سلم المسلمون من لسانه ويده، وقدم في يومه ما ينجو به في غده»، فلمّا وصل كتاب عبيد الله المهدي إلى أبي طاهر القرمطي، وعرف ما فيه انحرف عن طاعته واستمرّ الحجر عندهم أكثر من عشرين سنة (¬189)، يستجلبون به الناس طمعا أن يحوّل الحجّ إلى بلدهم، ويأبى الله ذلك، وهذه من أعظم مصائب الإسلام، / واستمرّت حسرتها في ¬

(¬188) الكامل 8/ 207. (¬189) ذكر ابن الأثير: «أنه لمّا وصله كتاب المهدي أعاد الحجر الأسود على ما نذكره واستعاد ما أمكنه من الأموال من أهل مكة». الكامل 8/ 208.

قلوب أهل الإيمان إلى أن دمّر الله تلك الطائفة، وابتلى الله أبا طاهر هذا بأكلة فصار يتناثر لحمه بالدّود ومات أسوا ميتة بعد أن عذّب بأنواع العذاب {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى} (¬190). ولمّا يئست القرامطة من تحويل الحجّاج حجّهم ردّوا الحجر الأسود إلى محلّه، وورد سنبر بن الحسن القرمطي إلى مكّة يوم النّحر يوم الثلاثاء عاشر ذي الحجّة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة (¬191) ومعه الحجر الأسود (¬192)، فلمّا بلغ الكعبة حضر معه أمير مكة أبو جعفر محمد بن الحسن بن عبد العزيز العبّاسي، فأظهر سفطا أخرج منه الحجر الأسود وعليه ضباط من فضّة في طوله وعرضه لضبط شقوق فيه، وأحضر معه جصّا يشدّه به، فوضع حسن بن المزوق البنّاء الحجر في مكانه الذي قلع منه، وقيل وضعه سنبر بيده، وقال: أخذناه بقدرة الله تعالى وأعدناه بمشيئته، وقد أخذناه بأمر ورددناه بأمر، ولمّا أعيد الحجر الأسود إلى مكة حمل على قعود هزيل فسمن، وكان لمّا ذهبوا به مات تحته أربعون جملا، وكانت مدّة استمراره عند القرامطة اثنين وعشرين سنة إلاّ أربعة أيام، وكان المنصور بن القائم بن المهدي العبيدي، أرسل أحمد بن أبي سعيد القرمطي - أخا طاهر - بخمسين ألف دينار ذهبا في الحجر الأسود لردّه فلم يفعل، وكذا بذل بجكم التّركي مدبّر الخلافة خمسين ألف دينار للقرامطة على ردّ الحجر فأبوا، وقالوا: أخذناه بأمر ولا نردّه إلاّ بأمر / حتى أراد الله ردّه فردّ، ثم إن الحجبة خافوا على الحجر الأسود من استطالة يد خائن إليه لعدم استحكام بنائه فقلعوه وجعلوه في البيت العتيق حفظا له، ثم أمروا صانعين فصنعا له طوقا من فضّة وزنه ثلاثة آلاف وسبعة وثلاثون درهما، فطوّقوا به الحجر وشدّوا عليه به وأحكموا بناءه في محلّه كما كان كذلك قديما وكما هو الآن. ثم إن المقتدر وقع بينه وبين مؤنس حرب (¬193) فتوغل في المعركة فضربه واحد من البربر من خلفه فسقط إلى الأرض، فقال لضاربه: ويلك أنا الخليفة، فقال: أنت المطلوب، فذبحه بالسّيف سنة عشرين وثلاثمائة (¬194) ورفع رأسه على الرمح وسلب ما عليه ¬

(¬190) سورة طه: 127. (¬191) 20 ماي 951 وفي التوفيقات الإلهامية في مقارنة التواريخ الهجرية بالسنين الإفرنكية والقبطية لمحمد مختار باشا: «رجع الحجر الأسود إلى مكانه في محرّم من نفس السنة».1/ 371. (¬192) عن رجوع الحجر الأسود أنظر الكامل 8/ 486. (¬193) سمّاها الكامل: «وحشة» وتعدّدت، أنظر 8/ 224 و 232 و 237. (¬194) 932 م.

القاهر بالله والراضي بالله

وحفر له ودفن وأخفى أثره، فكانت مدة خلافته من أولّها أربعا وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وستة عشر يوما (¬195). القاهر بالله والراضي بالله: وولّي مكانه أخوه أبو منصور محمد بن المعتضد، ولقّب القاهر بالله، ثم سملوا عينيه (¬196). وجاءوا بأبي العباس محمد (¬197) بن المقتدر بالله بن المعتضد ولقبه «الراضي بالله»، وبايعوه سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة (¬198). المتقي بالله: وبويع لأخيه أبي العباس (¬199) إبراهيم بن المقتدر بعده، ولقّب «المتقي بالله» (¬200) [وذلك سنة تسع وعشرين وثلاثمائة] (¬201). وقبض عليه توزون التركي، وسمل عينيه في صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة (¬202) [وخلعه] (¬203). المستكفي بالله: وبويع بعده لابن عمّه أبي القاسم عبد الله بن المكتفي بالله بن المعتضد بالله، ولقّب «المستكفي بالله» واستمرّ في خلافته سنة واحدة، وقبض عليه معز الدولة بن بويه، وسمل ¬

(¬195) في الأصول: «خمسا وعشرين سنة إلاّ أياما» والمثبت من الكامل ومروج الذهب 4/ 202. (¬196) «كانت خلافته سنة وستة أشهر وستة أيام» مروج الذهب 4/ 221. (¬197) كذا عند السيوطي في تاريخ الخلفاء ص: 390، وفي مروج الذهب 4/ 221، والأوراق للصولي ص: 1 وعند ابن الأثير 8/ 244، وابن كثير: البداية والنهاية 11/ 178، وعند أبي الفداء الأيوبي في المختصر: «أحمد بن المقتدر» 2/ 80. (¬198) 933 م. (¬199) في مروج الذهب: «أبو إسحاق» 4/ 247. (¬200) في مروج الذهب: «المتقي لله» 4/ 247. (¬201) 940 م. (¬202) 944 م. (¬203) مروج الذهب 4/ 247، وابن الأثير 8/ 418 - 419.

المطيع لله

عينيه [وخلع في شعبان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة] (¬204)، وضمّه إلى / المتّقي بالله والقاهر بالله وصاروا ثلاثة أثافي (¬205) في العمي. المطيع لله: وولّي الخلافة أبو القاسم الفضل بن المقتدر بن المعتضد، ولقّب «المطيع لله» وبويع له بالخلافة في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وكان ردّ الحجر الأسود من بلاد هجر إلى الكعبة في أيام المطيع هذا، وتمّ أمره على ضعف الخلافة واستيلاء بني بويه على الملك، وطالت أيّامه إلى أن خلع نفسه [في منتصف ذي القعدة سنة ثلاث وستين] (¬206). الطائع لله: وبويع لولده أبي الفضل عبد الكريم سنة ثلاث وستين وثلاثمائة (¬207)، ولقّب «الطائع لله»، وكان مغلوبا عليه من قبل أمرائه، وما كان له من العظمة إلاّ ظاهرا لا غير، بحيث لما ورد في سنة تسع وستين وثلاثمائة (¬208) رسول العزيز بالله بن المعز العبيدي صاحب مصر إلى بغداد، سأل عضد الدولة بن بويه وهو يومئذ ملقّب بالسّلطنة من الطّائع وبيده أمر المملكة أن يزيد في ألقابه، ويقال له «تاج الملّة» ويجدّد له الخلع ويلبسه التاج فأجابه إلى ذلك، فجلس الطّائع على سرير عال، وأوقف حوله مائة سيف مسلول وبين يديه مصحف عثمان - رضي الله تعالى عنه - وعلى كتفه بردة النّبي صلّى الله عليه وسلم وبيده قضيبه صلّى الله عليه وسلم متقلّدا سيفه صلّى الله عليه وسلم وكان جميع ذلك مما يتوارثه الخلفاء ويجعلونه ¬

(¬204) أنظر مروج الذهب 4/ 276 والكامل 8/ 450 - 451، 945 - 946. (¬205) في الأصول: «أتا في العمي» والأثافي، ويقال أثاف مفرده أثفية، حجر مثل رأس الإنسان، والحجر توضع عليه القدر وهو المقصود في النص، أنظر تاج العروس 10/ 58. (¬206) 8 أوت 974 م. قال ابن الأثير في خبر خلع المطيع: «وكان به مرض الفالج وقد ثقل لسانه، وتعذّرت الحركة عليه، وهو يستر ذلك، فانكشف حاله لسبكتكين هذه الدفعة فدعاه إلى أن يخلع نفسه من الخلافة ويسلّمها إلى ولده الطائع لله»، الكامل 8/ 637. (¬207) 973 م. (¬208) 979 - 980 م.

لمواكبهم العامة، واحتجب بستارة عالية حتى لا يقع عليه نظر الجند قبل رفع الستارة، وحضر الجند من الأتراك والدّيلم، ووقف / أرباب المراتب صفين، ثم أذن لعضد الدولة فدخل، ثم رفعت الستارة وقبّل الأرض، ودخل رسول العزيز صاحب مصر فهاله ما رأى وارتاع وقال لعضد الدولة: هذا (¬209) هو الله؟ فقال له: بل هو خليفة الله في أرضه ثم استمرّ عضد الدولة يمشي ويقبّل الأرض سبعا، فالتفت الطائع إلى خادمه المقرّب منه واسمه خالص وقال له: استدنه وقرّبه، فصعد عضد الدولة وقبّل الأرض دفعتين وقال له الطائع: أدن إلي، فدنا وقبّل رجله، فثنى الطائع يمينه عليه وأمره فجلس على كرسي وضع له قريبا من السّرير، فاستعفى عضد الدولة من ذلك، فأقسم عليه فجلس وقبّل الكرسي لمّا جلس عليه، فلمّا استقرّ جالسا قال له الطائع: قد فوّضت إليك ما وكّل الله إليّ من أمور الرعية في مشرق الأرض ومغربها فقال: يعينني الله على طاعة أمير المؤمنين وقبّل الأرض فأمر أن يفاض عليه سبع خلع فأفيضت عليه وهو يقبّل الأرض في كلّ واحدة، وانصرف فانصرف الناس خلفه وقد هالهم ما رأوه واستعظموا ما شاهدوه، وما كانت هذه العظمة إلاّ صورة صناعية لا حقيقة لها. فإن السّلطنة لمّا آلت إلى أبي نصر (¬210)، ركب الطائع إليه وخلع عليه سبع خلع فأفيضت عليه، وطوّقه بطوق مجوهر وسوّره بسوارين ولقّبه «بهاء الدولة» و «ضياء الدولة» (¬211) في سنة تسع وسبعين وثلاثمائة (¬212). [وفي محرّم سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة] (¬213) جاء بهاء الدولة إلى الطائع / وقبّل الأرض بين يديه، وأمر خدّامه من الدّيلم فجذبوا الطائع من سريره ولفّوه في كساء وأمره بهاء الدولة أن يخلع نفسه ففعل. ¬

(¬209) في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص: 408، أن قائل ذلك هو زياد القائد لا رسول العزيز صاحب مصر. (¬210) بعد أن تولاها في العراق شرف الدولة أبو الفوارس شيرزيل بن عضد الدولة. ابن الأثير 9/ 61. (¬211) الكامل 9/ 62. (¬212) 989 - 990 م. (¬213) إضافة للتوضيح، مارس 991 م.

القادر بالله

القادر بالله: وأتي بأبي العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر، ولقبه «القادر بالله» (¬214) وبويع له بالخلافة لعشر مضين من رمضان (¬215) من ذلك العام، وكان على غاية من العبادة والدّيانة والصّيانة والفضل، صنّف كتابا في الردّ على القائلين بخلق القرآن، وأمر أن يقرأ في كلّ جمعة في حلق أصحاب الحديث [بجامع المهدي] (¬216) بحضرة الناس، وعدّه ابن الصلاح في كبار الشافعية وذكره في طبقاته، وطالت مدة خلافته حتى نيفت على إحدى وأربعين سنة وثلاثة أشهر [وعشرون يوما] (¬217) وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة (¬218). القائم بأمر الله: وولّي بعده بعهد منه ولده أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله، ولقّب «القائم بأمر الله» وكان خيّرا ديّنا، بويع له بالخلافة يوم موت أبيه بحضرة الإمام الكبير الولي الشهير، أبي إسحاق الشيرازي أحد أئمّة الشّافعية، وكان خير خلفاء بني العباس وصالحهم، ومن جملة صلاحه وبركته أن السّلطان ملك شاه من آل سبكتكين قصد أن يتحكّم عليه ويظهر له الحيف والخلف على الخليفة المذكور، فأرسل إليه وهو يقول: لا بدّ أن تترك لي بغداد، وتذهب إلى أيّ بلد شئت، فأرسل الخليفة إليه يتلطّف له في ذلك، فأبى إلاّ شدّة وغلظة، فقال لرسوله: اسأله / المهلة لي ولو شهرا، فأبى وقال: ولا ساعة، فأرسل إلى وزيره فاستمهله عشرة أيام فأمهله، فصار الخليفة يصوم النهار ويقوم الليل، ويتضرّع إلى الله سبحانه وتعالى، ويضع خدّه على التّراب ويناجي ربّ الأرباب، ويدعو على ملك شاه، فنفذ دعاؤه فهلك السلطان ملك شاه قبل مضي العشرة أيام، وكانت وفاة الخليفة القائم بأمر الله في [الثالث عشر من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة (¬219) وولّي ¬

(¬214) ويعرف بالإمام القادر بالله، لمعرفته بأمور الدّين وتصنيفه كتابا على مذهب السنة. (¬215) في الكامل: «دخل دار الخلافة ثاني عشر رمضان» 9/ 81. (¬216) ابن الأثير 9/ 414. (¬217) ابن الأثير 9/ 414 - 415. (¬218) 1030 - 1031 م. (¬219) 3 أفريل 1075 م أنظر الكامل 10/ 96.

المستظهر بالله

بعده ابنه المقتدي بأمر الله، عبد الله بن محمّد وتوفي في خامس عشر المحرّم] (¬220) سنة سبع وثمانين وأربعمائة (¬221). المستظهر بالله: وولّي بعده ولده أبو العباس أحمد ولقّب «المستظهر بالله» بويع له بالخلافة يوم موت أبيه (¬222)، وكان كريم الأخلاق حافظا للقرآن، عالما فاضلا، وكان قد غلب عليه سلاطين آل سلجوق، ومدّة خلافته أربع وعشرون سنة وثلاثة أشهر، وتوفي يوم الأربعاء سادس عشر ربيع الآخر (¬223) سنة اثنتي عشرة وخمسمائة (¬224). المسترشد بالله: وولّي بعده ولده أبو منصور الفضل بن المستظهر بالله، ولقّب «المسترشد بالله»، وبويع له بالخلافة يوم مات والده، وكان شجاعا ديّنا مشغولا بالعبادة، حفظ القرآن والحديث (¬225) وخرج لقتال مسعود بن محمد (¬226) بن ملك شاه السّلجوقي، فلم يقاتله معه أحد (¬227) إلى أن قتل في ذي القعدة الحرام سنة تسع وعشرين وخمسمائة (¬228). ¬

(¬220) إضافة لما أسقطه المؤلف، وهو خلافة المقتدي بأمر الله. (¬221) 4 فيفري 1094 م. (¬222) الكامل 10/ 534. (¬223) في الأصول: «لست بقين من ربيع الآخر» والأرجح هو ما أثبتناه من ابن الأثير 10/ 534. (¬224) 6 أوت 1118 م. (¬225) ترجم له ابن الصلاح في طبقات الشّافعية والسّبكي في طبقات الشافعية، وذكر أنه في أول أمره تنسّك ولبس الصوف وانفرد في بيت للعبادة. (¬226) في الأصول: «محمود بن مسعود» والمؤلف خلط بين مسعود وأخيه محمود، والمثبت من الكامل 11/ 27. (¬227) لأن أكثر العسكر غدر بالخليفة، فظفر به السلطان مسعود وأسره مع خواصّه، وحبسهم بقلعة قرب همذان، وأرسل السلطان سنجر السلجوقي إلى ابن أخيه مسعود بإطلاق سراح الخليفة وإرجاعه معزّزا إلى مقرّه، وبينما مسعود مستعدّ لتلبية اقتراح عمّه والعسكر ما زال مخيما والخليفة في خدمته، اندسّ في العسكر سبعة عشر من الباطنية قيل أن السلطان مسعود ما علم بهم، وقيل بل هو الذي دسّهم فهجموا على الخليفة وفتكوا به وقتلوا جمعا من أصحابه وهو آخر خليفة رؤي خطيبا. أنظر الكامل 11/ 27 - 28. (¬228) أوت 1135 م.

الراشد بالله

الراشد بالله: وولّي بعده ولده أبو جعفر المنصور ولقّب «الراشد بالله»، بويع به بالخلافة يوم قتل أبيه، ولم تطل مدّته بل قبض عليه السّلطان مسعود بن محمد (226 /، وخلعه من الخلافة يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة الحرام (¬229) سنة ثلاثين وخمسمائة (¬230) (وخلعه، وقتل فيما بعد) (¬231). المقتفي لأمر الله: وولّي عمّه أبا عبد الله محمّد بن المستظهر بالله، ولقبه «المقتفي لأمر الله» بويع له يوم خلع ابن أخيه، وكان عالما فاضلا حسن السيرة والأخلاق، شجاعا، توفي يوم الأحد لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة (¬232). المستنجد بالله: وولّي بعده ولده المظفّر يوسف ابن المقتفي ولقّب «المستنجد بالله»، بويع له يوم وفاة أبيه، وتوفي - رحمه الله - يوم تاسع ربيع الثاني (¬233) سنة ست وستين وخمسمائة (¬234). ¬

(¬229) وقيل منتصف ذي القعدة. (¬230) أوت 1136 م. (¬231) في مكانها في الأصول: «وحبسه ثم قتله في حبسه» أسقطنا هذه الجملة لأنها تخالف الحقيقة فالسلطان مسعود لم يقتل الراشد بل قتله جماعة من الخراسانيين كانوا في خدمته عند مسيره إلى أصفهان أثناء الحرب التي قامت بين مسعود وبنيه مع الملك داود وملوك تلك الأطراف محاولة منهم لاسترجاع الخلافة. أنظر الكامل لابن الأثير 11/ 62. (¬232) 12 مارس 1160 م. (¬233) في الأصول: «لليلتين خلتا من ربيع الثاني» والمثبت من الكامل 11/ 360. وابن الأثير متفق مع عدة مراجع. (¬234) 20 ديسمبر 1170 م.

المستضيء بالله

المستضيء بالله: وولّي بعده ولده أبو محمد الحسن بن المستنجد، ولقّب «المستضيء بالله»، بويع له يوم وفاة أبيه، وكان حسن السّيرة كريم النفس، أسقط المكوس في أيامه في جميع مملكته، وكثر الثناء عليه، وتوفي مستهلّ (¬235) ذي القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة (¬236). الناصر لدين الله: وولّي بعده ولده أبو العباس أحمد ولقّب «الناصر لدين الله»، بويع له بالخلافة [إثر] (¬237) موت أبيه، وفي أيامه [زادت قوة] (¬238) السلطان صلاح الدّين بن أيّوب المستخلص لبيت المقدّس من أيدي الإفرنج، المستولي على مصر والشام، المزيل للدولة الفاطمية (¬239) المعيد للخطبة بمصر للدولة العباسية، فخطب بها للناصر (¬240) /، وطالت مدة الناصر العباسي (¬241)، وكان قبيح السيرة في رعيته، (فأحيى رسوم الخلافة، ¬

(¬235) 2 ذي القعدة، الكامل 11/ 459. (¬236) في الأصول: «سنة سبعين وخمسمائة» والمثبت من الكامل 11/ 459.29 مارس 1180 م. (¬237) في مكانها في الأصول: «لثمان بقين من ذي القعدة الثاني ليوم» أسقطنا هذه الجملة لأنها تخالف ما أثبته التاريخ وتتضارب مع ما أثبته المؤلف من تاريخ وفاة المستضيء بالله. (¬238) في مكانها في الأصول: «ظهر» وأسقطنا هذه الكلمة لأنها تخالف الحقيقة التاريخية، فصلاح الدين الأيوبي استوزر في مصر من طرف الخليفة العاضد الفاطمي ولقّبه بالملك النّاصر في 22 جمادى الثاني 564 هـ - 23 مارس 1169 م وذلك في أيّام الخليفة العباسي المستنجد بالله، الكامل لابن الأثير 11/ 343 - 344. (¬239) تمّ ذلك في محرّم سنة 567 / سبتمبر 1171 م إذ قطعت الخطبة للعاضد الفاطمي وأقيمت الخطبة العباسية، الكامل 11/ 368. (¬240) بعدها أسقطنا «ثم وقع بينه وبين الناصر العبّاسي منافرة بسبب تلقّب صلاح الدين بالناصر لدين الله» أسقطناها لمخالفتها الحقيقة التاريخية، فالخليفة الفاطمي العاضد هو الذي خلع عليه لقب الملك الناصر، أنظر الكامل 11/ 344. (¬241) «كانت خلافته ستا وأربعين سنة وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوما. فلم يل الخلافة أطول مدة منه إلاّ ما قيل عن المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، فإنه ولّي ستين سنة، ولا اعتبار به فإنه ولّي وله تسع سنين فلا تصحّ ولايته»، ابن الأثير 12/ 439.

المستنصر بالله

وامتلأت الأرض من هيبته، وكان ذا فكرة صائبة، وكانت أيامه من غرر الزمان) (¬242)، وكانت وفاته سلخ شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة (¬243). وولّي بعده ولده محمد بن الناصر ولقّب الظاهر [بأمر] الله، بويع له بالخلافة يوم موت أبيه بعهد منه إليه، فأظهر العدل والإحسان، وأبطل المكوس، وكان العمّال يكيلون بكيل زائد للديوان على ما يكيلون به للناس، فأبطل الظاهر ذلك، وكتب إلى وزيره {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (¬244) {الَّذِينَ إِذَا اِكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ} (¬245) إلى {يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} (¬246) فقال الوزير إن تفاوت الكيل يتوفر عليه ثلاثون ألف دينار، فأعاد الجواب إليه أنه يبطل ولو بلغ ثلاثمائة ألف دينار، وفرّق ليلة عيد النحر على الفقراء مائة ألف دينار، فلامه الوزير على ذلك، وقال: اتركني أفعل الخير فإني لا أدري كم أعيش فلم يلبث أن توفاه الله في رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة (¬247). المستنصر بالله: وولّي بعده ولده أبو جعفر المنصور بن الظّاهر، ولقّب «المستنصر بالله» (¬248) بويع له بالخلافة يوم موت أبيه، فنشر العدل وقرّب أهل العلم، وبنى المساجد والربط والمارستانات والمدارس، وهو الذي بنى المدرسة المستنصرية (¬249) ببغداد التي لم يبن مثلها ¬

(¬242) ما بين القوسين ينطبق على صلاح الدين أكثر مما ينطبق على الخليفة الناصر لدين الله، فبالنسبة لأبي الفداء وابن الأثير هو ظالم خرّب في أيامه العراق، وتفرّق أهله في البلاد، وكان منصرف الهمّة إلى رمي البندق ويلبس سراويلات الفتوّة، وأعظم سيئاته أنه كاتب التتار وأطمعهم في البلاد، ورأى فيها ابن الأثير «الطامة الكبرى التي يصغر عندها كلّ ذنب عظيم». أنظر على سبيل المثال الكامل 12/ 440. (¬243) 5 أكتوبر 1225 م. (¬244) سورة المطففين: 1. (¬245) سورة المطففين: 2 «ساقطة من ط وش». (¬246) سورة المطففين: 6. (¬247) في الأصول: «ثلاث وثلاثين» والمثبت من الكامل 12/ 456 وغيره، 14 رجب / 11 جويلية 1226 م. (¬248) في الأصول: «المنتصر» والمثبت من الكامل 12/ 458 وغيره. (¬249) في الأصول: «المنتصرية» والمثبت من المختصر لأبي الفداء 3/ 171.

في مدائن الإسلام، ولم يوجد في المدارس أكثر كتبا منها ولا أكثر أوقافا عليها، وكان لهذه المدرسة / أربعة مدرّسين يدرّسون فيها المذاهب الأربعة، ورتّب فيها الخبز واللّحم والفاكهة وكسوة الشتاء والصيف، وأوقف على ذلك ضياعا وقرى كثيرة، وجعل عليها ثلاثين قيّما وكانت مدارس بغداد يضرب بها الأمثال في ارتفاع العماد وسعة الطّعام والشّراب، وقد حكي أن أول مدرسة بنيت في الدنيا مدرسة نظام الملك في بغداد، فبلغ علماء ماوراء النهر هذا الخبر، فاتّخذ العلماء مأتما وحزنوا على سقوط حرمة العلم، فسئلوا عن ذلك فقالوا: إن العلم ملكة شريفة وحلية لطيفة، لا تطلبه إلاّ النّفوس الفاضلة الشّريفة لمادة الشّرف الذّاتي والمناسبة الطبيعية، ولما جعل عليه أجرة، طلبته النفوس الرّذيلة وجعلته مكسبا لحطام الدّنيا، وتزاحمت عليه لا لتحصيل شرف العلم، بل لتحصيل المناصب الدّنيوية الفانية، فرذل العلم برذالتهم، ولم يشرفوا بشرفه، أنظر إلى علم الطبّ فإنه مع كونه علما شريفا، طلبه أرذال اليهود فرذل برذالتهم، ولم يشرف أرذال اليهود بشرف علم الطبّ، وهذا حال أكثر طلبة العلم في هذه الأعصار الفاسدة، وهذا شأن طلاّب هذه العلوم المتداخلة في هذا السّوق الكاسد الخاسر تجارّه، فإنك ترى أكثرهم مع دأبه في الطّلب وانكبابه على فنون العلم والأدب يزداد كلّ وقت / عجبا وكبرا، ويتعاظم على كلّ أحد بهاء وفخرا، ولم ينتقل عن الأخلاق الرذيلة ولو اكتسب من العلم ما اكتسب من الفضيلة، وقلّما يتحلّى أحد منهم بحلي الأخلاق الحسنة الجميلة والمزايا الجليلة، وما ثمرة كسب العلوم غير التّخلق بحسن الأخلاق، والعمل بطيب الأصول والأعراق. وهذا المستنصر (*) هو الذي دعا له (¬250) بالأندلس الأمير أبو عبد الله محمد بن هود (¬251) ووصلت إليه من قبله الخلعة والرّاية وغير ذلك من طرائف العراق، وكانت وفاته يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة سنة أربعين وستمائة (¬252). ¬

(*) في الأصول: «المنتصر» والمثبت من الكامل 12/ 458 وغيره. (¬250) ثار ابن هود على الموحدين بالأندلس وزحف إلى مرسية فدخلها واعتقل السيد (أبا العباس والي مرسية) وخطب للمستنصر صاحب بغداد. أنظر تاريخ العبر لابن خلدون، دار الكتاب اللبناني 1968، 4/ 362. (¬251) أنظر نسبه في نفس المرجع ص: 361. (¬252) وقيل في 11 منه، 7 نوفمبر 1242 م.

المستعصم بالله

المستعصم بالله: وولّي (¬253) بعده ابنه أبو فهر (¬254) عبد الله بن المستنصر ولقّب «المستعصم بالله»، فكانت أيامه خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرين يوما، وهو آخر الخلفاء العباسية ببغداد (¬255). فعدة الخلفاء العباسية بعد انقراض بني أمية ثمان وثلاثون وإن ضمّ إليهم محمد وإبراهيم الأولان كانوا أربعين. التتار: وفي سنة ست وخمسين وستمائة تحرك خاقان التتار (¬256) لأخذ بغداد من يد المستعصم بالله، وسبب ذلك أن محمد بن محمد بن عبد الملك العلقمي صار وزيرا للمستعصم، وكان رافضيا سبابا للشيخين، مستوليا على المستعصم عدوا له ولأهل السنة، يوافقهم في الظاهر وينافقهم في الباطن، وكان قصد بتدبيره إزالة خلافة بني العباس وجعل الخلافة في الشيعة، فطمس آثار أهل السنة وأطفأ نورهم، ورفع منار البدعة، فجعل يسعى في توقيف أمرائها وتعمير ديارها وذلك بمكاتبة / هولاكو خان آخر السلاطين المغولية وأولهم جنكز خان (¬257)، كان خروجه سنة تسع وتسعين وخمسمائة (¬258). وأصل هذا الجنس أنهم ترك رحالة يسكنون الخيام من اللبود لشدّة برد بلادهم، ¬

(¬253) في الأصول: «وملك». (¬254) كذا في ط وفي ش: «أبو مهد». (¬255) قتل ببغداد على يد هولاكو الذي دخل هذه المدينة في 20 محرّم 656 هـ - 28 جانفي 1258 م. (¬256) جاء في دائرة المعارف الإسلامية الطبعة العربية «تتر وتكتب تتار، «اسم مدلوله يختلف باختلاف العصور» وفي النص يشير إلى القبائل المغولية 9/ 236. (¬257) في الأصول: «جنكر» والمثبت من دائرة المعارف الإسلامية النسخة الفرنسية 3/ 42 والنسخة العربية 12/ 379 وكتاب العبر اعتمادا على مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري وقال: «وزايه بين الكاف والخاء ليست صريحة».5/ 1117. وتكتب عادة جنكيز خان وسنكتبها كما أشرنا فيما يلي من نص المؤلف دون الإشارة إلى ذلك. (¬258) 1202 - 1203 م.

واكثر دوابهم الخيل قوتهم الأرز ولحوم الخيل وألبانها، وكلّ من ملكهم يسمّى خان، وهم من بقايا ياجوج وماجوج، سمّوا تركا لأن الإسكندر تركهم خارجين عن سدّ ياجوج وماجوج، قيل مسيرة مساكنهم ثمانية أشهر طولا في مثلها عرضا، متهارجون كالحيوان الهاملة لا يجمعهم دين ولا حاكم، وهم طوائف يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا، يعبدون الأوثان والشمس والنجوم والجن، لباسهم جلود الكلاب، فأول ملوكهم الأخباث، رأس الخبث جنكز خان، اسم قبيلته قتاة. وفي مسالك الأبصار (¬259) أن جدّة جنكز امرأة اسمها مودنجة (¬260) مات زوجها فحملت بعده، فأنكروا عليها، فقالت: كنت ذات يوم فرأيت نورا دخل في فرجي ثلاث مرات، وان في بطني ثلاثة ذكور، فوضعت ثلاثة كما قالت، فصدّقوها، أحد الثلاثة اسمه برقد (¬261)، والثاني قونا (¬262)، والثالث نجعو (¬263) وهو جدّ جنكز خان (¬264)، وابتداء أمره أنه خدم عند ملوك الخطأ المسمّى أزبك خان (¬265)، فقرّبه وأدناه فحسده الوزراء حتى أثّر كلامهم فيه، فتبعه حتى كبر أزبك خان فقتله واحتوى على جميع كنوزه سنة تسع وتسعين وخمسمائة (¬266)، ثم تقوّى فقصد ملك الصين بعدد كالرمال، فقبض عليه سنة / إحدى وستمائة (¬267)، وكان أمّيا لا يقرأ ولا يكتب، فأسّس قواعد سياسته يذعن لها العقلاء، ثم قهر ملوك الأرض قياصرة وأكاسرة، وعسكره من كلّ ¬

(¬259) لابن فضل الله العمري، يذكره المؤلف وكأنه ينقل عن غيره، قال نالينو (Nallino) في دراسة محمود مقديش ونزهته «ذكر مقديش أنه أخذ من ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار ما يتعلّق بجدود جنكز خان، وأظن أنه استعمل مراجع أخرى دون أن يلتجأ إلى المسالك كما زعم» Nel Secolo XVIII Venizia E sfax في مائوية أماري ص: 317. (¬260) في الأصول: «قوي» والمثبت من كتاب العبر 5/ 1118. (¬261) في الأصول: «يوقن والمثبت من كتاب العبر 5/ 1118. (¬262) في الأصول: «قوناغني» والمثبت من كتاب العبر 5/ 1118. (¬263) في الأصول: «بودنجر» والمثبت من كتاب العبر 5/ 1118. (¬264) أورد ابن خلدون هذه القصة عن كتاب ابن فضل الله العمري فيما نقله عن شمس الدين الأصفهاني. (¬265) في الأصول: «ياونك» و «أونك» والمثبت من كتاب العبر 5/ 1119. وزيادة عن هذه الرواية التي تخصّ انطلاق جنكز خان أورد ابن خلدون رواية أخرى عن بداية هذا الرجل. لزيادة الاطلاع أنظر دائرة المعارف الإسلامية الطبعة الفرنسية 3/ 42. (¬266) 1202 - 1203 م. (¬267) 1204 - 1205 م.

ملّة، وكان يعظّم علماء كلّ ملّة مسلمين ويهود ونصارى ومجوس، فلم يتعرّض لأحد في دينه، ولم يكن لقومه ملّة ولا كتاب، فأمر أكابره فوضعوا له قلما يسمّى «قلم العقل»، وجعلوا له كتابا يسمّى «إلياسي الكبير»، فجعل له ملّة على ما خيّل له شيطانه، فمن أحكامه صلب السّارق وخنق الزاني، وان شهد عليه واحد، وان السابق بالشكوى على الحق مطلقا، واستعباد الأحرار، وعدم العدة، ونكاح الرجل ما شاء فلا ينحصر في أربع، والأخذ بقول الجواري والصبيان، وغير ذلك من الأوهام، وكرسي مملكته قراقروم، ولمّا استقرّ أمره توجّه لمحاربة السّلطان خوارزم شاه (¬268) من سلاطين الخلفاء العباسية، وقاتله مرارا حتى غلبه وقتله (¬269)، ثم خرج بعساكره المختلطة من كلّ الأديان واستولوا على ما توجّهوا إليه من بلاد الإسلام حتى انتهوا إلى بخارى سنة سبع عشرة وستمائة (¬270)، فجمع العلماء والعباد والصّلحاء والزهاد، ودخل جنكز خان المدينة حتى انتهى إلى باب الجامع فقال: هذا بيت السّلطان لما رأى من حسنه، فقالوا: بل بيت الرّحمان فنزل عن دابّته وكذلك جماعته، واستدعى الخمور والطّبول والمزامير، فجلس مع كفّاره في مجالس العلم والعلماء واستمرّوا على شرب الخمور، والعلماء حاضرون مقهورون، ثم أدخلوا الخيل / إلى المسجد الجامع وربطوا لها مرابط وبقيت الكتب والمصاحف تحت أرجل الخيل والحمير والبغال، ثم استخلص مال الناس وأمر بقتلهم وأسّر النساء والأطفال، ثم أمر بالنهب وهدّم البلاد، ثم توّجهوا لسمرقند وفعلوا بها كذلك، ثم استمرّ على عراق العجم فأهلكوا أمّهات الأمصار فضلا عن القرى ثم مات جنكز الخبيث بعد ما أهلك الأرض سنة أربع وعشرين وستمائة (¬271)، ومدّة ملكه ثلاثة وعشرون سنة. وخلّف عدة أولاد فرّق بينهم البلاد، وأوصى بالتخت لولده الصغير تولي خان (¬272)، فقام أبناؤه الخباث على ما كان عليه أبوهم من التخريب والإفساد. ¬

(¬268) خوارزم شاه محمد بن تكش. (¬269) لم يقتل بن إن التتر تتّبعوه وهو هارب إلى أن وصل إلى جزيرة في بحر طبرستان فأقام بها وطرقه المرض. . . ثم هلك بها في سنة 617 هـ - 1220 - 1221 م أنظر ابن خلدون: كتاب العبر 5/ 236 - 238. (¬270) 1220 - 1221 م، أنظر عن مسير التتر إلى أذربيجان كتاب العبر 5/ 244 - 247. (¬271) 1226 م. (¬272) كذا في الأصول: «تولي» وفي كتاب العبر 5/ 1120: «طولي» وقال: «طولى بين التاء والطاء» وعن أولاد جنكيز خان وتقسيم الممالك بينهم، أنظر كتاب العبر 5/ 1121.

هولاكو وسقوط بغداد وانقراض الدولة العباسية

هولاكو وسقوط بغداد وانقراض الدولة العباسية: فلمّا مات طولي خان قام مقامه ولده هولاكو خان (¬273)، وكان هولاكو أحد الدّجّالين الموعودين في الأخبار النبويّة، وكان كبار المغولية من المجوس أضلّوه وأعادوه بعد الإسلام إلى الملّة المجوسية فمال إليهم وأراد قلب الملّة الإسلامية إلى المجوسية، - ملّة أجداده والعياذ بالله -، فأراد الخروج على جميع البلاد الإسلامية، وسلّ السّيف على جميعها، فلمّا جلس على سرير الملك، قصد بغداد، وتواترت عليه الرسل من العلقمي ويطمعه في ملك بغداد، ويطالعه بأخبارها، ويعرّفه بصورة أخذها (¬274) وضعف الخليفة وانحلال العسكر، وصار يحسن للمستعصم توفير الخزانة وعدم الصّرف على العسكر والإذن لهم بالتفرّق والذهاب أين شاؤوا / ويقطع أرزاقهم ويشتّت شملهم، بحيث أذن مرّة لعشرين ألف مقاتل أن يذهبوا أين أرادوا، ووفّر علوفاتهم للخزانة، وأظهر للمستعصم أنه وفّر من علوفاتهم خزائن أموال عظيمة توفّرت في بيت المال، فأعجب المستعصم رأيه وتوفيره وكان يحبّ المال ويجمعه وما علم أنه يجمعه لعدوّه فزحف هولاكو على بلاد الإسلام بعسكر جرّار، لا يعلم عدده إلاّ الله، وكان أقوى سلاطين الإسلام أولاد السلطان علاء الدين خوارزم شاه، وكان أبوهم يملك من العراق إلى بلاد المشرق، وكانت له قوّة وشوكة وعسكر وافر وجند متكاثر، فقاتلهم هولاكو مرارا وهو يكسّرهم إلى أن قتلهم هولاكو وبدّد ومزّق جنودهم (¬275) وخيولهم قتلا وأسرا، واستباح كثيرا من بلاد الإسلام، وأهلك من فيها بالقتل العام، وصار هولاكو يجول (¬276) الدّيار والمستعصم ومن معه في غفلة عنه لإخفاء ابن العلقمي عنه سائر الأخبار إلى أن وصل هولاكو إلى بلاد العراق، واستأصل من بها قتلا وأسرا، وتوجّه إلى بغداد، وأرسل إلى الخليفة يطلبه إليه، فاستيقظ الخليفة من نوم الغرور (¬277) وندم على غفلته حيث لا ينفعه الندم، ¬

(¬273) قام قبل هولاكو «منكوفان بن طولي» نفس المرجع. (¬274) كتاب العبر 5/ 1149. (¬275) في ت: «وبدّد شملهم، ومزّق جموعهم وجنودهم». (¬276) كذا في ط وفي ش: «يجوز». (¬277) بعدها في ت: «وصار حائر العقل مذهولا ما يعرف من أمره ولا يحسن ما يقول، وعلم أن الحيلة تمّت عليه، وذهب الملك من بين يديه، فصار متحيرا في أمره ولا يعرف ما يعمل في هذه المصيبة، فأرسل إلى كبراء دولته ووزرائه وأهل بيته وقال لهم: ما عندكم من الرأي في هذه الواقعة وكيف يكون انفصالها علينا وتزحزحها من =

وجمع من قدر عليه، وبرز إلى قتال هولاكو، فجمع من أهل بغداد وخاصة عبيده وخدّامه ما يقارب أربعين ألفا، لكنّهم مرفهون بلين الأنهار، ساكنون على شطّ بغداد في ظلّ ظليل، وماء معين / وفاكهة وشراب واجتماع أحباب وأصحاب، ما كابدوا حربا ولا دافعوا طعنا ولا ضربا، وعساكر التتار ينيفون على مائتي ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، وسالب وباسل وفاتك وقاتل يثبون وثوب القردة، ويتشكّلون بأشكال المردة، يقطعون المسافات الطويلة في ساعات قليلة، ويخوضون الأوحال ويتعلّقون بالجبال، ويصبرون على العطش والجوع، ويهجرون الغمض والهجوع، ولا يبالون بالحرّ والبرد، والسّهل والوعر، والبرّ والبحر، طعامهم كفّ من شعير وشربهم (¬278) حما البير، يكاد أحدهم يتقوّت بطرف أذن فرسه يقصّها ويأكلها نيّة ويصبر على ذلك أياما عديدة، ويكتفي هو وفرسه بحشيش الأرض مدة مديدة، فوقع المصاف والتحم القتال، وأوقد نار الحرب والنزال، وزحف الجيش للجيش في يوم الخميس عاشر محرّم الحرام سنة نيف (¬279) وخمسين وستمائة، وثبت أهل بغداد مع ترفهم على حدّ السيوف، وصبروا على حرّ الحتوف، واستمرّوا كذلك من قبل الفجر إلى ادبار النهار، فعجزوا وفرغ الاصطبار فانكسروا شرّ انكسار، وولّوا الأدبار، وغرق كثير منهم في دجلة وقتل أكثرهم أفظع قتلة وأعقبهم التتار بالسّيف والنّار، ونهبوا الخزائن والأموال، فأخذ هولاكو بغداد (¬280) واحتوى على ذخائرها فاستصفى النّقد، وأمر بإحراق الباقي، ورموا كتب مدارس بغداد في بحر الدجلة، فكانت لكثرتها / جسرا، يمرّون عليها ركبانا ومشاة، وتغيّر لون الماء بمداد الكتابة إلى السواد، وكانت هذه الفتنة من أعظم مصائب الإسلام، وسيق المستعصم هو وأولاده وأمراؤه إلى هولاكو أسارى ذليلين، فقرأ: فسبحان المعزّ المذلّ القادر القاهر تعالى شأنه وعزّ سلطانه، فاستبقى هولاكو الخليفة أيّاما إلى أن استصفى أمواله وخزائنه وذخائره ¬

= بين يدينا فقالوا له: يا أمير المؤمنين وخليفة ربّ العالمين أنت الذي فعلت تلك الأمور وتركت عساكرك ذهبت من بين يديك، وأخربت بيت شرفك حتى ذهبت جلالة الملك عليك ونحن وقت الذي نصحناك وقلنا لك سر في ملكك كما سارت آبائك ولا تسمع قول القائلين، وصن حرمتك وحسّن ملكك ودولتك فأبيت عن هذا الكلام واتّبعت كلام ذلك العلقمي الخائن الولهان، فلمّا سمع منهم ذلك الكلام فاق من نومه». (¬278) ج حمأة: الطين الأسود المنتن. قال الله تعالى مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وفي كتاب المقصود والممدود لأبي علي القالي: «الحما»: الطين المتغير، تاج العروس لمحمد مرتضي الزبيدي، دار مكتبة الحياة بيروت لبنان 1/ 58. (¬279) في كتاب العبر: «ست وخمسون وستمائة» 1258 م. (¬280) في 20 محرّم، وعن أخذ بغداد أنظر كتاب العبر 5/ 1150. =

ودفائنه، ثم رمى رقاب أولاده دونه، وأمر أن يوضع الخليفة في غرارة وترفس إلى أن يموت، ففعل ذلك واستشهد - رحمه الله - يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من صفر سنة ست وخمسين وستمائة (¬281)، وكانت القتلى من أهل بغداد ما ينيف على ألفي ألف وثلاثمائة ألف وثلاثين ألفا (¬282) ممن قدّر الله له الشهادة من المؤمنين منهم ثلاثة عشر ألف فقيه وأقام القتل والنهب ببغداد نحو من ثمانين يوما، ثم أحضر هولاكو الوزير العلقمي وعاتبه وقال: يا خائن خنت أستاذك، لا يرجى منك صلاح، فقتله شرّ قتلة (¬283). ثم ان هولاكو أراد قلب الملّة الإسلامية إلى المجوسية، فتدارك الله عباده بلطفه، قال البيضاوي في «تاريخه» إن الله منّ على عباده المؤمنين ببركة سيد المرسلين، فألهم بعض أوليائه بفيض فضله أن يظهر من كرامات الأمة المحمدية عند هولاكو، منهم أبو يعقوب، ومحمد خوجة، ورنبدي (¬284) - قدّس الله سرّهم - فوصلوا / حضرة هولاكو ودخلوا النّار وشربوا السّموم والنحاس المذاب، فلمّا عاين هولاكو الأمر كذلك رجع عن مذهب الكفر والزّندقة، وخاف من الأولياء وعظّم الملّة الإسلامية وأهلها وهلك من الكفرة المضلّة عند هولاكو من رهابين المجوس جماعة، لما دخلوا النار بأمر هولاكو فاحترقوا، وشربوا السموم فتمزّقوا، وهلك هولاكو بعلّة الصرع، فكان يعتريه في اليوم الواحد مرارا، فمرض ولم يزل ضعيفا نحو شهرين، وكانت وفاته في سابع ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وستمائة (¬285) ببلد مراغة، وكان عمره نحو ستين سنة. وخلّف من الأولاد سبعة عشر ذكورا، وتولّى الملك بعده ولده أبغا، وقيل أخوه قبلاي (¬286) فامتدّت أيامه (¬287) إلى أن توفي سنة خمس وتسعين وستمائة (¬288)، وكان كرسيّ مملكته مدينة ماليق أم بلاد الخطأ، وكانت مدة ملك قبلاي اثنين وثلاثين سنة. ¬

(¬281) 20 فيفري 1258 م. (¬282) في كتاب العبر: «ألف ألف وثلاثمائة ألف» 5/ 1150. (¬283) «استبقى هولاكو ابن العلقمي على الوزارة. . . فبقي على ذلك مدة ثم اضطرب وقتله» كتاب العبر 5/ 1150. (¬284) كذا في ش وت، في ط: «زبندي». (¬285) جانفي 1265. وفي كتاب العبر: «اثنتين وستين» 5/ 1154. (¬286) لم يذكر ابن خلدون هذا الإحتمال، وجعل أبغا خليفة هولاكو، ومات في سنة 681 هـ - 1282 - 1283 م، وخلفه أخوه تكدار، ثم خلف تكدار أرغو بن أبغا الخ. . . أنظر كتاب العبر 5/ 1155 وما بعدها. (¬287) أي قبلاي كما نفهم من سياق الحديث، وهو عكس ما أثبته ابن خلدون كما أشرنا في الهامش السابق. (¬288) 1295 م.

العباسيون بمصر

واتفق المؤرّخون على أنه لم يبق من بني هولاكو من يتحقّق نسبه لكثرة ما وقع فيهم من القتل غيرة على الملك ومن بقي طلب الإختفاء بنفسه، ولمّا توفي قبلاي ملك ابنه أرغون، وبعده ابنه قازان (¬289). وستأتي بقية أخبارهم قريبا إن شاء الله تعالى. والمقصود هنا بيان انقراض الدولة العبّاسية من بغداد على يد هذه الطائفة الخبيثة على أفظع الأحوال {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (¬290) {إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} (¬291). وهذه الواقعة من أعظم / معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في «شرح الصحائف» وروى أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - أن النبيء صلّى الله عليه وسلم قال: «ينزل أناس من أمتي بغائط يسمّونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر، يكثر أهلها ويكون من أمصار المسلمين، فإذا كان في آخر الزّمن جاء بنو قنطورا، عراض الوجوه، صغار الأعين، حتى ينزلوا على شطّ النهر، فيتفرّق أهلها ثلاثا، فرقة يأخذون أذناب البقر بالبرية وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وهلكوا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء» (¬292) قال: وهذه صفة بغداد فإنها على شطّ دجلة وعليه الجسر، وتسمّى تلك النواحي غائط البصرة، وهي ما كانت زمان النبيء صلّى الله عليه وسلم بناها خلفاء بني العباس - رضي الله تعالى عنهم - وجاءهم من المشرق هولاكو بن تولي بن جنكز خان سنة ست وخمسين وستمائة هجرية (¬293)، وعسكره على الوصف الذي وصفه النبيء صلّى الله عليه وسلم وتفرّق أهل بغداد ثلاث فرق كما قال صلّى الله عليه وسلم وهذا من أبين المعجزات اهـ‍. العباسيون بمصر: وكانت مدة ملك بني العبّاس خمسمائة سنة وأربعة وعشرون سنة غير أربعة وثلاثين يوما، ولم ينج من بني العباس في هذه الوقعة إلاّ الفرد النادر منهم، أبو العباس أحمد بن ¬

(¬289) هذه السلسلة غير السلسلة التي قدّمها ابن خلدون. (¬290) سورة آل عمران: 173. (¬291) سورة البقرة: 156. (¬292) رواه أبو داود في باب ذكر البصرة بشرح عون المعبود شرح سنن أبي داود للأبادي الجزء الحادي عشر ص: 417 عدد 4284 الحديث مع اختلاف يسير في الألفاظ. (¬293) 1258 م. في الأصول «أربع وخمسين».

الظاهر بن الناصر بن المستضيء / بن المستنجد بن المقتفي بالله ويلقّب «بالمستنصر بالله» فوصل إلى مصر وافدا على سلطانها الملك الظاهر بيبرس (¬294) في سنة تسع وخمسين وستمائة (¬295)، فأكرمه وأثبت نسبه، وجهّز له جيشا توجّه به إلى بغداد فقتل، ثم توجّه من بغداد إلى مصر من بني العباس أحمد ولقّب «بالحاكم بأمر الله» (¬296) فأكرمه الملك الظّاهر أيضا، بعد إثبات نسبه، وأجرى عليه نفقة وسكن مصر، وليس له من الأمر شيء، وإنما اسمه الخليفة وأولاده من بعده على هذا المنوال ليس لهم إلاّ اسم الخلافة فيأتون به إلى السلطان الذي يريدون توليته يبايعه ويقول: ولّيتك السّلطنة، وهكذا كانوا يلقّبون بألقاب الخلافة واحدا بعد واحد، فكانت سلاطين الأقاليم يتبرّكون بهم ويراسلونهم أحيانا يطلبون منهم تفويض السّلطنة باللّسان، فيكتبون لمن راسلهم تقليدا، ويعهدون إليه بالسلطنة عهدا، ويولونه سلطنة الجهة التي هو فيها، فيتبرّك بهذا التقليد، ولا يخفى أن هؤلاء ليس لهم من الخلافة إلاّ الصّورة كما كان لآخر الخلفاء العباسيين ببغداد، واستمرّ أمرهم هكذا إلى دخول السلطان سليم خان - رحمه الله - إلى مصر فاستصحب معه أبا عبد الله محمد بن يعقوب الملقّب «بالمتوكل على الله» ثم رجع بعد وفاة السلطان سليم من القسطنطينية إلى مصر، وبقيت ذريته بمصر إلى أن تقلّبت الأحوال. وذكر السيوطي: أن الخلافة استمرّت بمصر إلى سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة (¬297) ففي السابع والعشرين من رجب انقطعت (بتنازل) (298) المتوكل على الله (عنها لسليم الأول) (¬298). ¬

(¬294) في 16 ذي القعدة 658/ 1260 م بويع لبيبرس من المماليك في مصر، وتلقّب بالقاهر، ولتشاؤمه من هذا اللقب استبدله بالظاهر، وأضاف إليه أبا الفتوح، التوفيقات الإلهامية 1/ 692. (¬295) 1260 - 1261 م في الأصول: «سنة ست وستين» والمثبت من التوفيقات الالهامية 1/ 692. (¬296) قدم في سنة 659 هـ - 1260 - 1261 م بايعه الظاهر بيبرس ولقّبه الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، وقد اختلف في نسبه، التوفيقات الالهامية 1/ 693. (¬297) 1517 م وفي الأصول: «سنة ثمان وثمانين وثمانمائة» وهو غير صحيح. فالمتوكل على الله استمر عليها حتى دخول سليم الأول العثماني إلى مصر في محرّم سنة 923/ 1517، أنظر الهامش الموالي. (¬298) في الأصول: «انقطعت بوفاة المتوكل على الله» والمعروف أنه تنازل عنها لفائدة سليم العثماني «وسلّمه الآثار النبوية الشريفة وهي البيرق والسيف والبردة». أنظر تاريخ الدولة العلية العثمانية لمحمد فريد بك المحامي، تحقيق إحسان حقي، دار النفائس بيروت 1981، ص: 194.

تيمورلنك

تيمورلنك: ولنرجع إلى الكلام على بقية أخبار المغولية الذين عمّت بهم البلية فإنهم استمرّت منهم بحار الفتن تمور إلى أن نبع الأعرج تيمور (¬299)، فأهلك الحرث والنسل، وأفسد في الأرض، {وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ} (¬300)، فهو أحد الدجّالين. ذكر صاحب المنتخب أن له نسبا يصل به إلى جنكز خان من جهة النساء، فهو فرع خبيث نشأ عن أصل خبيث، وكان رجلا له قامة شاهقة كأنه من بقايا العمالقة، عظيم الجبهة والهامة، شديد القوّة والبأس، قيل إن طول قامته تسعة وعشرون ذراعا (¬301) وكان من أبهته أن ملوك الأطراف مع استقلالهم بالخطبة والسكة كانوا إذا قدموا عليه بهدياتهم يجلسون على أعتاب العبودية نحوا من مدّ البصر من سرادقته، وإذا أراد منهم واحدا أرسل من الخدمة نحوه قاصدا، فيدعون ذلك الواحد باسمه فيغدو نحوه. وكان بدء خروجه في حدود الستين والسبعمائة (¬302)، وهو من قرية تسمّى خواجا أبغار من أعمال كش (¬303) وهي مدينة من مدن ما وراء النهر، ذكر أنه لمّا ولد سقط على الأرض فرفع فإذا كفّاه مملوءتان من الدم العبيط، فقال بعضهم، يكون شرطيّا، وقال بعضهم ينشأ لصا حراميا، وقال قوم يكون قصّابا سفّاكا / وقالوا: بل يصير جلاّدا وكان أبوه فقيرا إسكافيا (¬304) فنشأ هو شابّا جلدا لكنه من القلّة يتلصّص، ففي بعض الليالي سرق غنما فشعر به الرّاعي فضربه بسهمين أصاب بأحدها فخذه فأخطأها وبالآخر ¬

(¬299) هو تيمورلنك واللنك هو الأعرج، ثم خفّفت فقيل لنك، راجع الضوء اللامع للسخاوي 3/ 46 - 50 والسخاوي هو شمس الدين بن محمد بن عبد الرحمان (ت.902/ 1496 - 1497) وهو محدث مؤرخ، وانظر شذرات الذهب لعبد الحي بن العماد الحنبلي (1089 هـ - 1678 م)، وعجائب المقدور في أخبار تيمور لابن عرب شاه، وأنباء العمر للحافظ ابن حجر العسقلاني 2/ 301 - 304، وعن غزوة حلب وما ارتكب فيها من العظائم، أنظر روضة المناظر لأبي الوليد محمد بن الشخنة بهامش الكامل لابن الأثير 12/ 191 - 197 وابن الشخنة كان حاضرا في مجلس تيمورلنك مع علماء حلب ليعنيهم بمسائله، وانظر دائرة المعارف الإسلامية الطبعة العربية 10/ 298، 303. (¬300) البقرة: 205. (¬301) شاهد آخر على ميل المؤلّف إلى الأساطير الشعبية واستعمالها كمرجع تاريخي. (¬302) 1358 - 1359 م. (¬303) في الأصول: «الكش» والمثبت من دائرة المعارف الإسلامية 10/ 298. (¬304) وقيل انه ابن راع من الرعاة، نفس المرجع.

كتفه فأبطلها فازداد كسرا على فقره ولم يملك سوى ثوب قطن فباعه واشترى بثمنه ماعزا وقصد الشيخ شمس الدين الفاخوري بمدينة كش، وقد ربط بطرف حبل عنق الماعز وربط عنقه بالطرف الآخر وجعل يتشحّط على عصا من جريد حتى دخل على الشيخ فصادفه هو والفقراء مشغولين بالذّكر، فلم يزل قائما في صف النّعال حتى فرغوا مما هم فيه، فلمّا وقع نظر الشيخ عليه سارع إلى تقبيل يديه ورجليه فتفكّر الشيخ ساعة؛ ثم قال لتلامذته: هذا الرجل استمدّنا فيما لا يساوي عند الله جناح بعوضة، فنرى أن نمدّه ولا نحرمه، فأمدّوه بالدّعاء فدعوا له، ولمّا قدم خراسان اجتمع بالشيخ أبي بكر الخوافي فأكبّ على رجليه، فوضع الشيخ يديه على ظهره فقال تيمور: لولا أن الشيخ رفع يديه بسرعة لخلت (¬305) أرتض، ولقد تصوّر لي أن السّماء وقعت على الأرض وأنا بينهما رضضت أشدّ رضّ، ثم إنه جلس بين يديه وقال: يا مولانا الشيخ فما تأمرون مملوككم أبا لعدل والإنصاف، وأن لا يميل إلى الجور والإعتساف؟ فقال له الشيخ: أمرناهم بذلك / فلم يأتمروا فسّلطناك عليهم، فخرج من فوره من عند الشيخ وهو يقول: ملكت الدنيا وربّ الكعبة، وكان كثيرا ما يقول بعد ذلك: كلّ ما نلته هو بدعوة الشيخ الفاخوري وهمّة الشيخ الخوّافي والسيد بركة (¬306) فكان من أمره أن له رفقاء يتلصّصون ويقطعون الطريق ببلاد ما وراء النهر حتى شعر بهم السّلطان حسن حاكم هراة فظفر بهم، فبعد ضربه أمر بصلبه، وكان للسّلطان ولد رأيه غير متين يدعى الملك غياث الدين، فشفع فيه فقال له أبوه: هذا حرامي مادّة الفساد، لئن بقي ليخربن البلاد وليهلكنّ العباد، فقال له ابنه: وما عسى أن يصدر من نصف آدمي وقد أصيب بالدّواهي، فوهبه له، فوكّل به من داواه إلى أن اندمل جرحه، فكان في خدمته، فقرّبه وزوّجه بشقيقته فغاضبها في بعض الأيام فقتلها، فلم يسعه إلاّ الخروج والعصيان والتمرّد والطغيان، فكان من أمره ما كان، فاستصفى ممالك ما وراء النّهر، ثم شرع في استخلاص البلاد من ملوكها واسترقاق العباد، فدبّ في البلاد دبيب السّم في ¬

(¬305) لعلّ الأصوب «لبقيت أرتض». (¬306) أعطى المؤلف أهمية كبرى لهذه القصة التي هي من جملة الأساطير التي تتعلّق بتيمورلنك وجاء في دائرة المعارف الإسلامية في شأنها: «وقد غالى ابن عربشاه في الحطّ من شأن تيمور لنك، فقال إنه ابن راع من الرعاة، عاش أول حياته على السلب والنهب».10/ 299.

الأجساد، ومن رأيه أنه صاهر المغول وصافاهم وتزوّج بنت ملكهم (¬307) فأمن شرّهم، ثم أرسل إلى محدومه سلطان هراة الملك غياث الدين فطلب منه الدّخول في طاعته فأرسل غياث الدين يقول صحبة الرسول: أما كنت خادما لي وأحسنت إليك بعد أن نجّيتك من الصّلب فإن لم تكن إنسانا تعرف / الإحسان فكن كلبا، فعبر جيحون وتوجّه إليه فلم يكن لغياث الدين قوة الوقوف له، فحصر نفسه في القلعة، فأمّنه ثم قبض عليه، وكان خلف أن لا يريق له دما، فقتله جوعا في الحبس، ثم عاد إلى خراسان وعمل على الإنتقام من أهل سجستان فوضع السّيف فيهم عن بكرة أبيهم، وأخرب المدينة فما أبقى بها شجرا ولا مدرا، ولا عينا ولا أثرا، فارتحل عنها بعد أن جعلها قاعا صفصفا. ثم بلغه أن فيروز شاه ملك الهند انتقل إلى رحمة الله ولم يكن له ولد يخلفه، فسعى لتولّي تلك الوظيفة، فوصل إليها وقتل أقبالها (¬308)، وقدم عليه المبشر بأن أحمد (¬309) [أمير بغداد والعراق] والملك الظاهر برقوق حاكم مصر والشام انتقلا إلى دار السلام، فسرّ بذلك صدره وفرح. فأقام بالهند نائبا وتوجّه نحو مدينة سيواس (¬310)، وكان بعد وفاة واليها استولى عليها الأمير سليمان ابن السّلطان بايزيد يلدرم خان ابن عثمان، فوصل إليها تيمور فقال أنا فاتح هذه المدينة وكانوا قد حصّنوها فأقام في محاصرتها ثمانية عشر يوما، ثم فتحها بعد أن حلف لأهل البلد أن لا يريق دمهم، فلمّا دخل المدينة حفر لهم في الأرض خندقا، وألقى فيه ثلاثة آلاف نفس أحياء وأطبقه عليهم (¬311)، فكان قبرهم، ثم نهب البلد وسلّط عليها حكم التدمير فصارت خاوية على عروشها. ¬

(¬307) كان تيمور لنك يعرف أيضا باسم كوركان أي زوج ابنة الخاقان والأمير الكبير وصاحب قران، دائرة المعارف الإسلامية الطبعة العربية 10/ 299. (¬308) في رجب 800 هـ - مارس - أفريل 1398. (¬309) في الأصول: «أحمد حاكم سيواس» هو أحمد جلاير أمير بغداد والعراق، وسيواس في أرمينيا، أنظر تاريخ الدولة العلية العثمانية 146، وسبب إغارة تيمور لنك على الدولة العثمانية أن أحمد جلاير أغار على أذربيجان والتجأ إلى بايزيد حينما هاجمه المغول في بلاده. (¬310) في الأصول: «سواس» والمثبت من المرجع السابق ودائرة المعارف 10/ 300. (¬311) في دائرة المعارف أبقى تيمورلنك على الجند المسلمين، ولكنه دفن أربعة آلاف من جند النصارى، ومقديش في سرده الأحداث، يخلط بين الواقع التاريخي والأسطورة.

ثمّ توجّه نحو المماليك الشامية / ففي سنة ثلاث وثمانمائة (¬312) أصبح تيمورلنك محيطا بحلب، فتقابل التتار مع أهلها، ثم ان النواب وغالب عسكر المماليك برزت إليهم، فأخذ نائب الشام الميمنة، ونائب حلب الميسرة، وبقية النوّاب بالقلب، وقدّموا العامة بين أيديهم فزحف عليهم تيمور بجيوشه، فما لبثوا غير ساعة ثم ولّوا مدبرين نحو البلد، فاقتحمت عسكر التتار المدينة، فجاسوا خلال الدّيار فالتجأت المخدّرات (¬313) إلى المساجد فمالوا عليهن وقرنوهن في الحبال، وشرعوا في قتل الأطفال ونهب الأموال، وتخريب المنازل وافتضاض الأبكار، فاستمرّ الأمر على ذلك من يوم السّبت إلى يوم الثلاثاء، وقد تحصّن بالقلعة النوّاب مع خلق كثير، فتوجّهوا نحوهم بردم الخندق ونقب الأسوار، فنزل دمرداش نائب حلب في طائفة الأمراء من القلعة يطلبون الأمان فأجابهم تيمورلنك وخلع عليهم فاطمأنّت نفوسهم، فنزل بقيّة أصحابهم من القلعة كلّ طائفة مع نائبها فقرنهم في الأصفاد، فأقام بحلب نحو شهر (¬314) وأصحابه في نهب وإفساد، وهدّم حلب وقراها وقطع أشجارها وقلع أحجارها وبنى من رؤوس القتلى منارا مرتفعا دوره نيف وعشرون ذراعا وارتفاعه نحو العشرة أذرع، وبنى عدة منائر مثل تلك ثم تركها خاوية على عروشها. وفي اليوم السّادس من جمادى الأولى دخل السلطان فرج بن برقوق صاحب مصر / إلى دمشق، فأقام بها يومين وخرج في اليوم الثالث فخيّم [بساحة قبّة يلبغا] (¬315) ثم ظهر في أثناء النّهار بعض جماعة على الخيل مما يلي عقبة دمر من عسكر تيمور مقدار ألف فارس، فخرج إليهم من العسكر دون المائة فارتفعوا معهم، فانكسر أصحاب تيمور (¬316) كسرة قوية ثم إنهم مسكوا من عسكر السلطان فرج ثلاثة فرسان وأضرموا تلك الليلة نارا كثيرة، فخيّل للسلطان أن التتار ملأ الأرض بقدر أماكن النار، وأخذ تيمور اثنين من الأسارى وسلخهم وشواهم على النار، وأطلق الثالث فرجع وأخبر السلطان بذلك ¬

(¬312) 1400 - 1401 م. (¬313) ج مخدّرة أي الملازمة للبيت. (¬314) في دائرة المعارف: «3 أيام». (¬315) في الأصول: «بقية بليغيا» والمثبت من كتاب العبر 7/ 1201. (¬316) قال ابن خلدون الذي كان شاهدا حاضرا لهذه الأحداث، «ويئس الأمير تمر من مهاجمة البلد، فأقام بمرقب على قبّة يلبغا يراقبنا ونراقبه أكثر من شهر، تجاول العسكران في هذه الأيام مرات ثلاثا أو أربعا، فكانت حربهم سجالا» نفس المرجع.

فانقطعت قلوب العسكر، ففي تلك الليلة رجع السلطان إلى الدّيار المصرية هاربا (¬317) وصحبه الأمراء والخليفة مع كلّ أمير مملوكان أو ثلاثة، وليس معهم خيل ولا قماش، وتشتّت بقية العسكر حفاة عراة، وأما أهل دمشق فلم يشعروا برجوع السّلطان، فأصبحوا ورأيهم جميعا على مناشبة الحرب، فركبوا الأسوار وأعلنوا بالنداء يستحث بعضهم بعضا على الجهاد وتراموا على التتار من فوق الأسوار وقتلوا منهم وغنموا من خيلهم، فكانت بينهم مقاتلة هائلة حتى قتلوا من التتار نحو ألف فارس وآخر النهار حضر اثنان من أصحاب تيمورلنك ينادي أحدهما بطلب الصلح (¬318) وأن يحضر أحد ممن يعقل حتى يكلّمه الملك، فوقع الإختيار على إرسال القاضي [برهان الدين] ابن مفلح الحنبلي (¬319)، فغاب ثم رجع فأخبر أنه اجتمع بتيمورلنك، وأنه / تلطّف معه وقال له: هذه بلد الأنبياء، وقد أعتقتها صدقة عن أولادي، وأخذ ابن مفلح يحلّ عزائم الناس حتى صاروا فرقتين، فرقة ترى ما يراه القاضي من بذل الطّاعة، وهم الفقهاء، وفرقة باقية على المحاربة وهم سواد الناس (¬320) فباتوا تلك الليلة على حالتهم تلك ثم أصبحوا وقد غلب رأي ابن مفلح، ومن عادة تيمور إذا أخذ بلدا صلحا أن يخرج إليه أهل البلد من كلّ نوع تسعة أشياء ويسمّون ذلك الظفران (¬321)، فطلب منهم تجهيز ذلك، وهمّوا بإخراجه من باب النصر، فمنعهم نائب القلعة وهدّدهم بإحراق البلد، فأعرضوا عن ذلك وتدلّوا من أعلى السّور فباتوا في محيّم تيمورلنك، ورجعوا وقد تقرّر منهم قضاة ووزير ومستخرج ¬

(¬317) تطابق هذه الرواية رواية ابن عربشاه التي اعتمدها L. Bouvat في مقاله في دائرة المعارف، أما ابن خلدون الذي عاش الأحداث كما أشرنا فإنه يقول «ثم نمى الخبر إلى السلطان وأكابر أمرائه أن بعض الأمراء المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب إلى مصر للثورة بها، فأجمع رأيهم للرجوع إلى مصر خشية من انتفاض الناس وراءهم واختلال الدولة بذلك» كتاب العبر 7/ 1201. (¬318) مرّ ابن خلدون عن الحرب بين أهل دمشق وتيمورلنك وكتب أن أهل دمشق لمّا علموا أن السلطان رجع إلى مصر اتفقوا على طلب الأمان 7/ 1202. (¬319) هو برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح الراميني الأصل ثم الدمشقي (749 - 803/ 1389 - 1400 م) «وكان يحسن اللغتين التركية والفارسية ولعلّهم لذلك اختاروه للسفارة» أنظر هامش كتاب العبر 1 - 7/ 1202، ووقعت بينه وبين عبد الجبار المعتزلي أمام تيمور مناظرات وإلزامات بحضرة تيمورلنك فأعجبه ومال إليه فتكلّم معه في الصلح فأجاب إلى ذلك ثم غدر فتألّم صاحب الترجمة إلى أن توفي. . . شذرات الذهب 7/ 22 - 23. (¬320) حسب ابن خلدون وقعت المناشبات قبل خروج القاضي إلى تيمورلنك، ووافق القضاة والفقهاء على طلب الأمان، ورفض نائب القلعة وأنكره عليهم. نفس المرجع. (¬321) سمّاها ابن خلدون: «التقدمة» كتاب العبر 7/ 1202.

للأموال، ومعهم فرمان وهو مرسوم (¬322) فيه تسعة أسطر يتضمن الأمان لأهل دمشق خاصّة، فقرئ ذلك على المنبر وفتحوا الباب الصغير، ودخل أمير من أمراء تيمور ثم شرعوا في جباية الأموال التي قرّرها عليهم، وهي ألف ألف دينار، فحملت إليه، فلمّا وضعت بين يديه غضب وأمر بأن يحمل له ألف تومان، والتومان عشرة آلاف دينار، فرجعوا آخذين في جباية الأموال، فتزايد البلاء (¬323). وفي هذه المدة كلّها لم تقم الجمعة إلاّ مرّة واحدة، وفي أثناء الجباية خرّب ما بين الجامع والقلعة بالنار، وذلك نحو ثلث البلد، ثم سلّمت القلعة بعد تسع وعشرين يوما من الإستيلاء على البلد، وجمعت الأموال التي قرّرها ثانيا (¬324)، وأحضرت بين يديه / فقال لابن مفلح وأصحابه: هذه ثلاثة آلاف دينار ببلادنا، وقد بقي عليكم سبعة آلاف دينار (¬325) وأراكم عجزتم عن الإستخلاص ثم طلب منهم ما تركه العسكر من كلّ شيء ثم طلب جميع ما في البلد من الأموال والدواب وكان عدتها نحو الإثني عشر ألفا، ثم جميع ما فيها من السّلاح، فلمّا انقضى ذلك كلّه أمر باستكتاب خطط دمشق، فكتب بها أوراقا وفرّقها في أمرائه فحينئذ طمت الأمواج فنزل كلّ أمير في خط، وطلب سكان ذلك الخط فكان الرجل يطالب بالمال الثّقيل الذي لا يقدر عليه، فإذا امتنع عوقب بأنواع العذاب ثم تخرج نساؤه وبناته فيوطأن بين يديه، فأقاموا على ذلك تسعة عشر يوما حتى علموا أنّهم قد أتوا على مال البلد، فخرجوا منها ثم صحّ فيهم عذاب الله المنزّل، فهجموا عليهم كالجراد (¬326) المنتشر، فنهبوا ما بقي وسبوا النّساء والشباب والرجال، وألقوا ¬

(¬322) سمّاها ابن خلدون: «رقاع الأمان» نفس المرجع. (¬323) لخّص ابن خلدون هذا الخبر بقوله: «وخرج القاضي برهان الدين بن مفلح الحنبلي ومعه شيخ الفقراء فأجابهم إلى التأمين، وردّهم باستدعاء الوجوه والقضاة فخرجوا إليه متدلين من السور بما صحبهم من التقدمة، فأحسن لقاءهم وكتب لهم الرقاع بالأمان، وردّهم على أحسن الآمال، واتفقوا معه على فتح المدينة من الغد». ونلمح من نص ابن خلدون ونص مقديش الفرق بين مؤلف مركز وعلمي ومؤلف يميل إلى الملحمة والأسطورة فيبتعد بتأليفه عن الواقع التاريخي. وتدلّى ابن خلدون أيضا وكان لقاؤه مع تيمورلنك التاريخي بصفته القاضي المالكي المغربي كما قدّموه له أنظر كتاب العبر 7/ 1203 - 1222. (¬324) في ط «التي قدرها». (¬325) في ش وط: «سبعة آلاف ألف دينار». (¬326) في ت: «كالجراد في بيوتهم».

الأطفال، وأطلقوا النار في الجامع والبلد فأحرقت حتى صارت النّار ترمي بشررها، واستمرّ ذلك ثلاثة أيام حتى اندرست رسومها (¬327)، وفي ثالث شعبان ركب تيمورلنك وسار نحو حلب راجعا إلى بلاده، وكانت مدّة إقامته في دمشق أربعة وسبعون يوما، ولم يتوجّه إلى مصر. وكان قبل هذه المدّة في سنة تسع وتسعين وسبعمائة (¬328) في أيّام الملك الظّاهر سيف الدين برقوق الجركسي حضر في ثلاثة عشر / من صفر (¬329) أربعة رسل من تيمورلنك ومعهم كتابه للسلطان المشار إليه، نسخة الكتاب بعد البسملة الشريفة: {قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ} (¬330) {قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (¬331) اعلموا أننا جند الله في أرضه، مخلوقون من سخطه، مسلّطون على من يحلّ به غضبه، لا نرقّ لشاك ولا نرحم عبرة باك، نزع الله الرّحمة من قلوبنا، فالويل كلّ الويل لمن لم يكن من جهتنا، قد حرقنا البلاد ويتّمنا الأولاد، وأظهرنا في الأرض الفساد، خيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، ملكنا لا يرام، وجارنا لا يظام، من سالمنا سلم، ومن حاربنا ندم، فإن أنتم قبلتم شرطنا واصطلحتم معنا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أنتم خالفتم وعلى بغيكم تماديتم فلا تلوموا إلاّ أنفسكم، فالحصون لا تمنع والعساكر لا تنفع، ودعاؤكم لا يسمع لأنّكم أكلتم الحرام وضيّعتم الجمع، فابشروا بالمذلّة والهوان {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} (¬332) فقد غلب عندكم أنّا كفرة، وثبت عندنا أنكم فجرة، وقد سلّطنا عليكم الإلاه بأمور مقدّرة وأحكام مدبّرة، فعزيزكم عندنا ذليل، وكثيركم لدينا قليل، وقد أوضحنا لكم الخطاب فأسرعوا بردّ الجواب قبل ¬

(¬327) جاء في دائرة المعارف: «وسقطت مدينة دمشق، فأعمل فيها السّلب واستعبد أهلها، واغتصب من علماءها فتوى «تؤيد مسلكه» الطبعة العربية 10/ 301 ولم يتعرض إليه ابن خلدون الذي أعطانا فكرة أخرى عن تيمورلنك في حسن معاملته له. (¬328) 1396 م. (¬329) 16 نوفمبر. (¬330) سورة آل عمران: 26. (¬331) سورة الزّمر: الآية 46. (¬332) سورة الأحقاف: آخر الآية 19.

أن ينكشف الغطاء وترمي الحرب نارها (¬333) وتلقي أوزارها، ولم تبق لكم باقية، وينادى عليكم منادي الفناء: {هَلْ تُحِسُّ / مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} (¬334)، الآن قد أنصفناكم إذ راسلناكم فردّوا رسلنا بجواب هذا الكلام والسلام». فلمّا سمع السّلطان هذا اغتاظ غيظا شديدا وأمر بكتب جوابه فكتب بإنشاء ابن فضل الله (¬335) - رحمه الله - ونسخته: «بعد البعدية والاصدار حصل الوقوف على الكتاب مخبر الحضرة السلطانية ما وقفنا عليه، فقولكم: إنا مخلوقون من سخطه مسلّطون على من يحلّ عليه غضبه، وإنكم لا ترقّون لشاك ولا ترحمون عبرة باك وقد نزع الله الرّحمة من قلوبكم فهذا من أكبر عيوبكم، وهذه صفات الشياطين لا صفات السلاطين {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ} (¬336) {لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ} (¬337) فأي كتاب كريم ذكرتم، وعلى لسان أي رسول بعثتم، وبكلّ قبيح وصفتم، وعندنا خبركم من حين خلقتم، وزعمتم أنكم كفرة {فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ} (¬338) من تمسّك بالأصول لن يبالي بالفروع، نحن المؤمنون حقا، القرآن على نبينا أنزل صلّى الله عليه وسلم وهو بنا رحيم لم يزل، إنما النّار لكم خلقت، ولجلودكم أضرمت إذا السماء انفطرت، ومن أعجب العجائب تهديد الرّتوت بالتوت، والسّباع بالضباع، والكماة بالكراع، ونحن خيولنا برقية، وسهامنا يمانية وسيوفنا شديدة المضارب، ذكرها في المشارق والمغارب، إن قتلناكم فنعم البضاعة وإن قتلنا بيننا وبين الجنة ساعة، {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (¬339). وقولكم: قلوبنا كالجبال، وعددنا / كالرمال، فالقصّاب لا يبالي بكثرة الغنم وكثير من الحطب يكفيه قليل من الضّرم {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصّابِرِينَ} (¬340) فالفرار الفرار من المنايا لا ¬

(¬333) في ت بعدها: «وترى شرارها». (¬334) سورة مريم: 98. (¬335) ابن فضل الله العمري صاحب «مسالك الأبصار» وهو أحمد بن يحيى الدمشقي (ت 749/ 1349) كتبه المطبوعة: مسالك عباد الصليب، والتعريف بالمصطلح الشريف في مراسم الملك وما يتعلّق به. أنظر الأعلام لخير الدين الزركلي 1/ 268 (ط / 5). (¬336) سورة الكافرون: 1. (¬337) سورة الكافرون: 2. (¬338) في الأصول: «ألا لعنة. . .» سورة البقرة: 89. (¬339) سورة آل عمران: 169. (¬340) سورة البقرة آخر الآية 249.

الرزايا، ونحن من الطمأنينة على غاية الأمنية، إن قتلنا فشهداء، وإن عشنا كنا سعداء، {فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ} (¬341)، أبعد أمير المؤمنين وخليفة ربّ العالمين تطلب منا طاعة؟ لا سمع ولا طاعة، وطلبتم أن نوضح لكم أمرنا قبل أن ينكشف الغطاء، هذا الكلام في نظمه تركيك، وفي سبكه تفكيك، لو كشف لبان بعد البيان، أكفر بعد إيمان أم اتخذتم ربا ثان؟ {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} (¬342) {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا} (¬343) قل لكاتبك الذي وضع رسالته ووصف مقالته وجعل كتابه كصرير الأبواب أو كطنين الذباب، {كَلاّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا} (¬344). فلمّا وصل إليه الكتاب غضب غضبا شديدا، إلاّ أن الله حال بينه وبين ما أراد من مصر، فلم يتعدّ منهم أحد جسر يعقوب. فرجع بعد الفراغ من الشّام على طريقته العوجاء حتى وصل إلى الموصل وهو يمحو آثار الإسلام، ثم توجّه إلى مدينة بغداد، فلمّا سمع السّلطان أحمد (¬345) ذلك استناب مكانه نائبا، ولحق هو إلى سلطان الرّوم بايزيد فأخذ بغداد عنوة يوم عيد الأضحى (¬346)، فتقرّبوا بزعمهم بأن جعل المسلمين قرابين، ثم أمر عسكره بأن يأتيه كلّ واحد منهم برأسين من أهل بغداد، فأتوا بهم وطرحوا أبدانهم في تلك الميادين، وجمع رؤوسهم فبنى منها / مآذن (¬347)، ومن عجز من الجند عن رؤوس الرجال قطع رؤوس النساء والأطفال، ثم خرّب مدينة بغداد بعد أن أخذ ما بها من الأموال، ثم توجّه ناحية قرى باغ ونوى المسير نحو ممالك الرّوم، فراسل سلطانها بايزيد المجاهد الغازي وجعل السّلطان أحمد حاكم بغداد، وقره يوسف حاكم أذربيجان سببا، وذكر أنهما من سطوات سيوفه هربا، فتوجّه نحوه، فكان لا يدخل قرية إلاّ أفسدها، ولا ينزل على مدينة إلاّ بدّدها، فلمّا بلغ السلطان بايزيد (¬348) مجيئه توجّه إلى ملاقاته، فدخل تيمورلنك حدود الرّوم ¬

(¬341) في الأصول «ألا إنّ حزب الله. . .» سورة المائدة: 56. (¬342) سورة مريم: 89. (¬343) سورة مريم: 90. (¬344) في الأصول: «فسنكتب. . .» سورة مريم: 79. (¬345) أحمد جلائر الإشارة السابقة. (¬346) وقيل أخذها في السابع والعشرين من ذي القعدة 803 هـ - 9 جويلية 1401، دائرة المعارف الإسلامية 10/ 301. (¬347) في الأصول: «مياذين». (¬348) في الأصول: «أبا يزيد» وأثبتناها كما تكتب في النصوص التاريخية وهي تكتب بالوجهين، وقد كتبها المؤلف بايزيد فيما بعد من نصّه.

أواخر سنة أربع وثمانمائة (¬349) وأرسل إلى الملك بايزيد في الصّلح على عادته من المكر والدّهاء، وقال: إنك رجل مجاهد في سبيل الله، وأنا لا أحبّ قتالك ولكن أنظر إلى البلاد التي معك من أبيك وجدّك فاقنع بها وسلّم لي البلاد التي كانت من إرثنا، فاستشاط بايزيد (348) غضبا عندما وقف على كتابه، وكان السّلطان على مدينة القسطنطينية (¬350) محاصرا لها، وقد قارب فتحها ولكن جعل الله الفتح على يد غيره فتركها وتوجّه لقتاله، وخاف من الهجوم على بلاد الرّوم فأجرى من عساكره السّيول، وأخذ بهم على قفار غير عامرة خوفا على رعاياه من وطء عساكره، وكان شفوقا على الضّعفاء والفقراء، وكان غالب عسكره التتار وهم قوم ذووا يمين ويسار، فأرسل تيمور إلى زعمائهم والكبار من رؤسائهم يستميلهم ويذكرهم الجنسية / ويعدهم ويمنّيهم {وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً} (¬351)، فوعدوه بالمعاونة وكان تيمور قد نزل أنكورية (¬352) فلم يفق السلطان من رقاده إلاّ وتيمور قد دمّر معظم بلاده، فقامت عليه القيامة وتدانت الجيوش، فلمّا التقى الجمعان (¬353) اندفعت من العساكر العثمانية التتار (¬354) فاتّصلت بعسكر تيمور وكانوا هم صلب العسكر بل كانوا نحوا من جند تيمور، وكان مع السلطان من أولاده أكبرهم، السلطان سليمان، فلمّا رأى ما فعله التتار أخذ باقي العسكر وتقهقر عن ميدان المصاف، فرجع إلى بروسا، فلم يبق مع السّلطان بايزيد إلاّ المشاة وبعض الشّجعان وقليل ما هم، فثبت للمجادلة بمن معه من الرّفاق، فأحاطت به أساورة الجنود، فلمّا عجزوا عن الدّنو منه ألقوا عليه بساطا ومسكوه، وكانت هذه الواقعة على نحو ميل من مدينة أنقرة يوم الأربعاء سابع عشر ذي الحجّة سنة أربع وثمانمائة (¬355)، ولمّا صفا لتيمور الأمر فعل ما سوّلت له نفسه، وأما السّلطان سليمان ابن السلطان بايزيد فوصل إلى بروسا ¬

(¬349) 1402 م. (¬350) في الأصول: «اسلامبول» وأثبتناها حسب تسميتها الضرفية التاريخية، إذ أن هذه المدينة ما زالت إذ ذاك تحت نفوذ الروم. (¬351) سورة النساء: 120. (¬352) هي مدينة أنقرة. (¬353) في سهل أنقرة. (¬354) فرق آيدين، ومنتشا، وصاروخان، وكرميان، أنظر تاريخ الدولة العليّة العثمانية ص: 146. (¬355) 18 جويلية 1402 م، وفي تاريخ الدولة العليّة ص: 146: «تاسع عشر». =

معقل آل عثمان، فاحتاط على ما فيها من الخزائن والأموال والحريم والأولاد ونفائس الأثقال فاشتغل بنقل ذلك إلى أدرنة (¬356). وكان للسّلطان بايزيد من الأولاد سليمان المذكور وهو أكبرهم وعيسى ومصطفى ومحمد وموسى وهو أصغرهم، وكلّ طلب مهربا لنفسه [إلاّ موسى الذي سقط مع أبيه أسيرا] (¬357) فانحاز إليه من العسكر طائفة نجا بها فكان محمد (¬358) في قلعة أماسية وهي الخرشنة الشّاهقة / القاصية، وأما عيسى فإنه لجأ إلى بعض الحصون، وأما مصطفى فإنه فقد قتل بسببه نحو ثلاثين نفسا. ثم إن تيمور قسّم بلاد الرّوم على زعمه للملوك الذين خلفهم السّعيد بايزيد ما كان لهم (¬359)، وأطلق ابن قرمان من السّجن وسلّم له مقاليد أبيه وفوّض بلاد الأناضول على زعمه إلى موسى وعيسى ابني بايزيد، ثم مضى إلى سبيله بعد ما خان وأهلك العباد، وأخرب البلاد وهتك السّتور وأباح البكور، ولم يسلم من شرّه من رعايا الرّوم الثلث ولا الربع، وصارت جماعاتهم ما بين منخنقة وموقوذة ومتردية ونطيحة وما أكل السبع، وكان أمر أن يخطب باسمه وكتب أيضا اسمه على السّكة. وحصل جميع مآربه فعند ذلك توجّه إلى بلاده (¬360) [واستقرّ بها مدة، ثم دبّر حملة جديدة انفذها على الصين] (¬361) فلمّا وصل إلى مدينة اترار (¬362) لحقه المرض، فأخذ بمبادئ حتفه فاشتدّ به الحال، فجعل يتعلّل بشرب الخمر (¬363) ويتداوى ويتسلّى به وفي ذلك هلاكه فلم يزل به حتى فتّت كبده ولم ينفعه ماله ولا ولده، وصار يتقايأ الدّم فانتقل إلى لعنة الله ليلة الأربعاء سابع ¬

(¬356) في الأصول: «برادرنة». (¬357) إضافة للدقة التاريخية، وتوفي بايزيد في 15 شعبان 805/ 10 مارس 1403 م وكان قد عامله تيمورلنك بالحسنى ثم شدّد عليه بعد أن شرع في الهروب ثلاث مرات. (¬358) في الأصول: «محمد وموسى» وأسقطنا الثاني لأنه أسر مع والده كما أشرنا. (¬359) أعاد تيمورلنك إلى أمراء قسطموني وصاروخان، وكرميان، وآيدين، ومنتشا، وقرمان، ما فقدوه من البلاد، أنظر عن هذا تاريخ الدولة العلية ص: 147. (¬360) مدينة سمرقند وصلها في 807 هـ - 1404 م. (¬361) إضافة اقتضاها تسلسل الأحداث، المرجع السابق. (¬362) في الأصول: «أنذار» والمثبت من الضوء اللامع 3/ 49 وفي دائرة المعارف الإسلامية: «أوترار» 10/ 301 وفي التوفيقات الإلهامية: «أورنارة» 2/ 843. (¬363) في بعض النصوص: «يتعلّل بشرب روح الخمر».

عشر شعبان سنة سبع وثمانمائة (¬364) بنواحي مدينة أترار، ثم نقل إلى مدينة سمرقند وقد جاوز السبعين (¬365) ومدة ملكه واستيلائه مستقلا ست وثلاثون سنة. {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (¬366). فتولّى بعده ابنه شاهرخ واستولى على ممالك ما وراء النهر وجميع عراق العجم (¬367) والله أعلم بغيبه وأحكم. ¬

(¬364) 18 فيفري 1405 م. (¬365) في الأصول: «الثمانين» وفي النصوص التاريخية واحد وسبعون سنة، أنظر على سبيل المثال دائرة المعارف الإسلامية، النسخة العربية 10/ 301. (¬366) سورة الأنعام: 45. (¬367) في ت: «العجم وما حولها».

الباب الثاني في ذكر بعض أمراء بني العباس بالمشرق

الباب الثاني في ذكر بعض أمراء بني العباس بالمشرق فنقول ذكر البيضاوي في «زبدة التواريخ» أن طوائف السلاطين الذين ظهروا في الدّولة العباسية ثمانية: أولها الصفارية، ثم السامانية، ثم الغزنوية، ثم الديلمية، ثم السلجوقية، ثم السلقدية، ثم الخوارزمية، ثم المغولية، فكلها في العراق وما وراء النّهر. أما المغولية فقد فرغنا منها الآن، وهي التي كان انقراض الدولة العباسية من بغداد على أيديها. الصفارية: وأما الصفارية فأولهم يعقوب بن الليث وأول ظهوره في سنة خمس وخمسين ومائتين (¬1) وتهدد (¬2) بغداد واستولى على فارس (¬3) [ومات تاسع شوال سنة خمس وستين ومائتين وخلفه أخوه عمرو بن الليث] (¬4) وهلك [عمرو] في حبس المعتضد (¬5) بالله حين أسر على يد اسماعيل الساماني بأمر الخليفة المعتضد وآخر الصفارية طاهر بن محمد. ¬

(¬1) 868 - 869 م وعن خروج يعقوب انظر ابن الأثير 7/ 191. (¬2) في الأصول: «وخطب في بغداد» وهو منافي للوقائع التاريخية. (¬3) في الأصول: «على العراق» والمثبت من المرجع السابق. (¬4) إضافة اقتضاها التوضيح إذ أن المؤلف خلط بين يعقوب الذي مات بالقولنج وأخيه عمرو الذي أسرّ على يد اسماعيل الساماني وقتل. أنظر ابن الأثير 7/ 325. (¬5) ذكر ابن الأثير أن المعتضد أمر بقتل عمرو عند ما كان على فراش الموت ولكنه لم يقتل إلاّ في خلافة المكتفي بالله في اليوم الذي دخل فيه بغداد، ابن الأثير 7/ 516.

السامانيون

السامانيون: وأما السّامانيّة فأولهم نصر بن أحمد وآخرهم عبد الملك بن نوح (¬6)، ملكوا ديار الترك وفارس والعراق إلى حدود الهند، وكان كرسي مملكتهم بخارى، وعدّتهم عشرة وكانوا في طاعة العبّاسيين (¬7). الغزنويون: وأما الغزنوية فهم منسوبون إلى غزنة (مدينة في خراسان) (¬8) فأول سلاطينهم السلطان أبو القاسم محمود بن ناصر الدّولة أبي منصور سبكتكين (¬9)، الملقّب أوّلا سيف الدّولة، ثم لقّبه الخليفة القادر بالله العباسي لما سلطنه بعد أبيه «يمين (¬10) الدّولة وأمين الأمة» (¬11) فهو قائد الجيوش / العبّاسية وناصر دولتهم وفي طاعتهم، «ولما انتظم الأمر للسّلطان محمود، كان في بعض بلاد خراسان نواب لصاحب ما وراء النّهر من ملوك بني سامان، فجرى بين السّلطان محمود وبينهم حروب انتصر فيها عليهم، وملك بلاد خراسان، وانقطعت الدّولة السّامانية منها، وذلك في سنة تسع وثمانين وثلاثمائة (¬12)، واستتبّ له الملك، وسيّر له القادر بالله خلعة السّلطنة، وتبوّأ سرير المملكة، وقام بين يديه أمراء خراسان [سماطين مقيمين] (¬13) برسم الخدمة، ملتزمين حكم الهيبة، وأجلسهم بعد الاذن على مجلس الأنس، وأمر لكل واحد منهم ولسائر ¬

(¬6) في الأصول: «المنتصر بالله اسماعيل» والمثبت من الكامل 9/ 145. (¬7) انتهت دولتهم على يد محمود بن سبكتكين في سنة 389 هـ - 98 - 999 م ابن الأثير 9/ 147 وكذلك في الوفيات لابن خلكان. (¬8) في الأصول: «بلد بالعراق» والمثبت من معجم ياقوت 4/ 201. قال: «ويقال لمجموع بلادها زابلستان وهي مدينة عظيمة وولاية واسعة في طرف خراسان، وهي الحدّ بين خراسان والهند». (¬9) النقل الآتي من الوفيات لابن خلكان من ترجمة محمود بن سبكتكين 5/ 175، وأخبار محمود موجودة أيضا في ابن الأثير، وابن خلدون والشذرات الخ. . . (¬10) في الأصول: «بأمين» والمثبت من الوفيات. (¬11) في الوفيات 5/ 175: «في الملة». (¬12) 999 م. (¬13) اضافة من الوفيات يقتضيها اكمال المعنى 5/ 177.

غلمانه وخاصّته ووجوه أوليائه وسائر حاشيته من الخلع والصّلات ونفائس الأمتعة بما لم يسمع بمثله. واتّسعت الأمور عن آخرها في كنف ايالته، واستوسقت الأعمال في ضمن كفالته، وفرض على نفسه في كل عام غزو الهند، ثم انه ملك سجستان في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة (¬14)، بدخول قوّادها وسائر ولاتها في طاعته من غير قتال. ولم يزل يفتح في بلاد الهند حتى انتهى إلى ما لم تبلغه في الاسلام راية، ولم تتل به سورة ولا آية، فدحض عنها أرجاس (¬15) الشّرك وبنى بها مساجد وجوامع، وتفصيل ذلك كما قال ابن خلكان يطول. ولما فتح (¬16) بلاد الهند كتب إلى الدّيوان العزيز ببغداد كتابا يذكر فيه ما فتح الله على يديه من بلاد الهند، وأنه كسّر الصّنم المعروف بسومنات (¬17) وذكر في كتابه (¬18) أن هذا الصّنم عند الهنود / يحيي ويميت بزعمهم ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأنه اذا شاء أبرأ من جميع العلل، وربما كان يتفق لشقوتهم وصول عليل يقصده فيوافقه طيب الهواء وكثرة الحركة فيبرأ، فيزيدون به افتتانا ويقصدونه من أقاصي البلاد رجالا وركبانا، ومن لم يصادف منهم انتعاشا احتجّ بالذّنب، وقال: انه لم يخلص له الطّاعة، ولم يستحق منه الاجابة، ويزعمون أن الأرواح اذا فارقت الأجسام اجتمعت لديه على مذهب التّناسخية، فينشئها فيمن يشاء، وأنّ مدّ البحر وجزره عبادة له وطاعة، وكانوا بحكم هذا الاعتقاد يحجّونه من كلّ صقيع بعيد، ويأتونه من كل فجّ عميق ويحبونه (¬19) بكل مال جزيل، ولم يبق في بلاد الهند والسّند على تباعد أقطارها وتفاوت أديانها ملك ولا سوقة الا وقد تقرّب لهذا الصّنم بما يعزّ عليه من أمواله وذخائره حتى بلغت أوقافه عشرة آلاف قرية مشهورة في تلك النّواحي، وامتلأت خزائنه من أصناف الأموال، وفي خدمته من البراهمة ألف رجل يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه ولحاهم عند الورود عليه، وثلاثمائة رجل وخمسمائة امرأة يغنون ويرقصون عند بابه، ويجري من مال الأوقاف المرصدة له لكل طائفة من هؤلاء رزق معلوم. ¬

(¬14) 1002 - 1003 م. (¬15) في الوفيات: «أدناس» 5/ 178. (¬16) في الأصول: «بلغ» والمثبت من الوفيات وطبقا لما يأتي به النص بعدها. (¬17) في الأصول: «دسوسات» والمثبت من الوفيات 5/ 178 ومن طبقات الشافعية للسبكي 1/ 14. (¬18) كذا في الوفيات. (¬19) في الوفيات: «ويتحفونه».

وكان بين المسلمين وبين القلعة التي فيها الصّنم المذكور (¬20) مفازة موصوفة بقلة المياه وصعوبة المسالك واستيلاء الرمال على طرقها، فسار إليها السّلطان [محمود] في ثلاثين ألف فارس جريدة مختارة من عدد كثير / وأنفق عليهم من الأموال ما لا يحصى، فلما وصلوا إلى القلعة وجدوها حصنا منيعا، وفتحوها في ثلاثة أيام، ودخلوا بيت الصّنم وحوله من أصنام الذّهب المرصّع بأنواع الجواهر عدد كثير محيطة بعرشه، يزعمون أنها الملائكة، وأحرق المسلمون الصّنم المذكور ووجدوا في أذنيه نيّفا وثلاثين حلقة ذهب، فسألهم السّلطان محمود عن معنى ذلك فقالوا: كل حلقة عبادة ألف سنة، وكانوا يقولون بقدم العالم ويزعمون أن هذا الصّنم يعبد منذ أكثر من ثلاثين ألف سنة، كلّما عبدوه ألف سنة علّقوا في أذنه حلقة» (¬21). والحاصل أن هذا السّلطان من أوتاد الرّجال عند الأولياء، وكان ملوك الدّيلم قد عظم أمرهم وزاد شرّهم في ممالك العراق فأظهر الله هذا السّلطان ومكّنه من رقابهم وسلّط السّيف عليهم وصلب أعيان الشّيعة والزّنادقة والرّافضة وقاتل اليهود والمجوس والصّابئة، وأحرق الأصنام، وقتل ملوك الهند والصّين، ويقال إنه اسكندر هذه الأمة، وظهرت له في تلك الأسفار والغزوات خوارق عادات وكرامات ملأت دفاتر التّواريخ، وأخذ من الغنائم من بيوت الأصنام للمجوس مالا عظيما لا يحصى من الجواهر، فأخذ أربعين قنطارا من الجواهر الألماسية والياقوتية. وقد جمع سيرته أبو النصر (¬22) محمد بن عبد الجبّار العتبي (¬23) الفاضل، في كتاب [سمّاه «اليميني»] (¬24) وذكر في أوّله أن السّلطان المذكور ملك الشّرق بجنبيه، والصّدر من العالم ويديه لانتظام / الأقليم الرابع بما يليه من الثّالث والخامس في حوزة ملكه وحصول ممالكها الفسيحة وولايتها العريضة في قبضته وملكه، ومصير أمرائها وذوي الألقاب الملوكية من عظمائها تحت حمايته وجبايته، واستظلالهم (¬25) من آفات الزّمان بظلّ ولايته ورعايته، واذعان ملوك الأرض لعزّته، وارتياعهم بفائض هيبته، وقد كان منذ لفظه ¬

(¬20) في الوفيات: «مسيرة شهر في مفازة» 5/ 179. (¬21) الوفيات لابن خلكان 5/ 179. (¬22) في الأصول: «الرضا» والمثبت من الوفيات. (¬23) في الأصول: «العيني» والمثبت من الوفيات 5/ 179. (¬24) اضافة من الوفيات. (¬25) في الوفيات: «واستدرائهم» 5/ 179.

السلاجقة

المهد وجفاه الرضاع، وانحلت عن لسانه عقدة الكلام، واستغنى عن الاشارة بالافهام، مشغول اللّسان بالذكر والقرآن، مشغوف النّفس بالسّيف والسّنان، ممدود (¬26) الهمّة إلى معالي الأمور، معقود الأمنية بسياسة الجمهور (¬27) اهـ‍. مولده ليلة عاشوراء سنة احدى وعشرين وثلاثمائة (¬28) وتوفي سنة احدى وعشرين وأربعمائة (¬29) بغزنة - رحمه الله تعالى -. وتولى بعده مسعود (¬30) وجرى له مع بني سلجوق خطوب يطول شرحها، وقتل سنة ثلاثين وأربعمائة (¬31)، واستولى على المملكة بنو سلجوق لكن بقيت للغزنوية بقية ملوك إلى سنة خمس وخمسين وخمسمائة (¬32) ومن بقيتهم خسرو شاه بن بهرام شاه (¬33)، وابتداء سلطنة السلطان محمود من سنة سبع وثمانين وثلاثمائة (¬34). السلاجقة: وأما السلجوقية فأولها أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق (¬35)، الملقّب ركن الدّين طغرلبك كان هؤلاء القوم قبل استيلائهم على الممالك [يسكنون] فيما وراء النهر بموضع بينه وبين بخارى مسيرة عشرين فرسخا، وكانوا عددا يحل عن الحصر والاحصاء وكانوا لا يدخلون تحت طاعة سلطان، واذا قصدهم / جمع ما لا طاقة لهم به دخلوا المفاوز وتحصّنوا بالرّمال، فلمّا عبر السّلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي - المقدّم ¬

(¬26) في الأصول: «محدود» والمثبت من الوفيات 5/ 180. (¬27) انتهى النقل من الوفيات أنظر ترجمة محمود بن سبكتكين 5/ 175 - 181، نقل منها المؤلف أجزاء مع تغيير في بعض الكلمات. (¬28) 933 م وفي الكامل لابن الأثير: «سنة ستين وثلاثمائة» 9/ 398. (¬29) في الأصول: «اثنين وعشرين» والمثبت من ابن الأثير 9/ 398، 1030 م. (¬30) لم يخلف مسعود والده اثر موته مباشرة بل قام بالأمر قبله أخوه محمّد بوصية من أبيه، ولكنه كان سيء التدبير منهمكا في ملاذه فعزله الجند سريعا. (¬31) كذا في الأصول والوفيات وفي الكامل: «اثنتين وثلاثين» 9/ 486، 1040 - 1041 م. (¬32) 1160 م. (¬33) انظر ابن الأثير 11/ 262. (¬34) 997 م انظر ابن الأثير 9/ 657. (¬35) أخذ المؤلف ترجمته من الوفيات 5/ 63 - 68.

الذكر - إلى ما وراء النهر وكان سلطان خراسان وغزنة وتلك النواحي وجد زعيم بني سلجوق قوي الشّوكة كثير العدّة، يتصرّف في أمره بالمخاتلة والمراوغة (¬36) وينتقل من أرض إلى غيرها، ويغير في أثناء ذلك على بعض البلاد، فاستماله وجذبه ولم يزل يخدعه حتى أقدمه إليه، فأمسكه وحمله إلى بعض القلاع [واعتقله] (37) وشرع في اعمال الحيلة في تدبير [أمر] (¬37) أصحابه، واستشار أعيان دولته في شأنهم، فمنهم من أشار باغراقهم في نهر جيحون، ومنهم من أشار بقطع إبهام كل رجل منهم ليتعذّر عليه الرّمي والعمل بالسّلاح، واختلفت الآراء في ذلك، وآخر ما وقع الاتّفاق عليه أن يعبر بهم جيحون إلى أرض خراسان ويفرّقهم في النّواحي، ويضع عليهم الخراج، ففعل ذلك، ودخلوا في الطّاعة واستقاموا، وأقاموا على ذلك مدّة، فطمع فيهم العمّال وظلموهم وامتدّت إليهم أيدي النّاس وتهضموا جانبهم، وأخذوا من أموالهم ومواشيهم، فانفصل منهم ألفا بيت ومضوا إلى بلاد كرمان (¬38) وملكها يومئذ الأمير أبو الفوارس ابن بهاء الدّولة ولد عضد الدّولة بن بويه، فأقبل عليهم وخلع على وجوههم، وعزم على استخدامهم فلم يستتمّوا عشرة أيّام حتى مات أبو الفوارس، وخافوا من الدّيلم، وهم أهل ذلك الاقليم، فبادروا / إلى أصبهان ونزلوا بظاهرها، وصاحبها علاء الدّولة أبو جعفر بن كاكويه (¬39) فرغب في استخدامهم، فكتب إليه السّلطان محمود يأمره بالايقاع بهم، فتواقفوا وقتل من الطّائفتين جماعة، وقصد الباقون أذربيجان، وانحاز الذين بخراسان إلى جبل قريب من خوارزم، فجرّد السّلطان محمود جيشا وأرسله في طلبهم، فتبعوهم في تلك المفاوز مقدار سنتين، ثم قصدهم محمود بنفسه ولم يزل في أثرهم حتى شرّدهم وشتتهم. ثم توفّي محمود عقب ذلك في تاريخ وفاته المتقدم، فلمّا قام بعده ولده مسعود احتاج إلى الاستظهار بالجيوش، فكتب إلى الطائفة التي بأذربيجان لتتوجه إليه، فجاءه منهم ألف فارس، فاستخدمهم ومضى بهم إلى خراسان، فسألوه في أمر الباقين الذين شتتهم والده محمود، فراسلهم وشرط عليهم لزوم الطّاعة، فأجابوه لذلك وأمنهم، وحضروا لديه ورتبهم على ما كان والده قد رتبهم أولا، ثم دخل مسعود بلاد الهند لاضطراب أحوالها عليه، فخلت لهم البلاد وعادوا إلى الفساد. ¬

(¬36) في الأصول: «مواعدة» والمثبت من الوفيات. (¬37) اضافات من الوفيات للضبط. (¬38) في الأصول: «الديلم» والمثبت من الوفيات. (¬39) في الأصول: «خالويه» والمثبت من الوفيات.

هذا كلّه والسّلطان طغرلبك المذكور وأخوه داود ليسا معهم، بل كانا في موضعهم من نواحي ما وراء النهر، وجرت بينهما وبين ملك شاه صاحب بخارى وقعة عظيمة قتل فيها خلق كثير من أصحابهما، ودعت حاجتهما إلى اللّحوق بأصحابهما الذين بخراسان فكاتبوا مسعودا وبذلوا له الطّاعة وضمنوا له أخذ خوارزم من صاحبها، فطيب قلوبهم وأفرج عن الرسل الواصلين من جهة ما وراء النّهر وسألوه / أن يفرج عن زعيمهم الذي اعتقله أبوه محمود في أول الأمر، فأجابهم إلى سؤالهم وأنزله من تلك القلعة، وحمله إلى بلخ مقيدا واستأذن مسعودا في مراسلة ابني أخيه طغرلبك وداود (¬40) المقدم ذكرهما فأذن له، فراسلهما. وحاصل الأمر أنهما وصلا إلى خراسان ومعهما جيش كبير، فاجتمع الجميع، وجرت لهما مع ولات (¬41) خراسان ونواب مسعود في البلاد أسباب وخلاصة الأمر أنهم استظهروا عليهم وظفروا بهم، وأول شيء ملكوه من البلاد طوس، وقيل الري، وكان تملكهم في سنة تسع وعشرين وأربعمائة (¬42)، ثم بعد ذلك بقليل ملكوا نيسابور، احدى قواعد خراسان في شهر رمضان (¬43) من السنة المذكورة، وكان السّلطان طغرلبك كبيرهم، واليه الأمر والنّهي في السّلطنة، وأخذ أخوه داود (40) مدينة بلخ، وهو والد ألب أرسلان، واتّسع لهم الملك [واقتسموا البلاد] (¬44) وانحاز مسعود إلى غزنة وتلك النواحي، وكانوا يخطبون له في أول الأمر، ثم عظم شأنهم إلى أن بعث لهم الامام القائم بأمر الله رسولا وهو القاضي أبا الحسين علي بن محمد بن حبيب الماوردي (¬45)، وأوصاهم بتقوى الله العظيم، والعدل في الرعية والرفق بهم وبث الاحسان إلى النّاس. وكان طغرلبك حليما كريما محافظا على الصلوات الخمس في أقاتها جماعة، ويصوم الخميس والاثنين ويكثر الصدقات ويبني المساجد، ويقول: أستحي من الله أن أبني لي دارا ولا أبني إلى جانبها مسجدا. ¬

(¬40) كتبها المؤلف بواوين ويصح ذلك وقد اتبعنا الرسم المألوف. (¬41) في الأصول: «ملوك» والمثبت من الوفيات 5/ 65. (¬42) 1037 - 1038 م. (¬43) جوان. (¬44) اضافة من الوفيات 5/ 66. (¬45) مصنف «الحاوي» انظر ترجمته في الوفيات 3/ 282.

ولمّا تمهّدت له البلاد وملك العراق / وبغداد، سيّر إلى الامام القائم يخطب ابنته، فشق ذلك على القائم واستعفى منه، وتردّدت الرسل بينهما سنة ثلاث وخمسين [وأربعمائة] (¬46)، فلم يجد من ذلك بدّا فزوجه بها، وعقد العقد بظاهر مدينة تبريز، ثم توجّه إلى بغداد سنة خمس وخمسين وأربعمائة (¬47) ولمّا دخلها طلب الزّفاف وحمل مائة ألف دينار برسم حمل القماش فزفّت إليه ليلة الاثنين خامس عشر صفر (¬48) بدار المملكة، وجلست على سرير ملبّس بالذّهب، ودخل السّلطان إليها وقبل الأرض بين يديها ولم يكشف البرقع عن وجهها وقدم لها تحفا يقصر الوصف عن ضبطها، وقبل الأرض وخدم وانصرف وظهر عليه سرور عظيم. ابن خلكان (¬49). وبالجملة فأخبار الدّولة السلجوقية كثيرة، وقد اعتنى بها جماعة من المؤرخين فألفوا فيها تآليف كثيرة اشتملت على تفاصيل أمرهم وما قصدت (¬50) من الاتيان بهذه النبذة الا التنبيه على مبدإ حالهم، ليكشف جلية ذلك من يروم الوقوف عليه. وتوفي طغرلبك يوم الجمعة ثامن شهر رمضان سنة خمس وخمسين وأربعمائة (47) بالرّي، وعمره سبعون سنة، ونقل إلى مرو ودفن عند قبر أخيه داود وقيل غير ذلك (¬51). ولمّا حضرته الوفاة قال: انّما مثلي مثل شاة شدّت قوائمها لجزّ الصّوف، فتظنّ أنها تذبح فتضطرب حتى اذا أطلقت فرحت، ثم تشدّ للذبح فتظنّ أنه لجزّ الصوف فتسكن فتذبح وهذا المرض الذي أنا فيه هو شدّ القوائم للذبح، فمات منه - رحمه الله - ولم تقم بنت الامام القائم في صحبته / الا قدر ستة أشهر، ولم يخلّف ولدا ذكرا بل انتقل ملكه لابن أخيه ألب أرسلان، وماتت زوجته بنت الامام القائم في سنة ست وتسعين وأربعمائة (¬52) سادس محرم. وطغرلبك: بضم الطاء المهملة وسكون العين المعجمة وضم الراء وسكون اللام وفتح ¬

(¬46) 1061 م. (¬47) 1063 م. (¬48) وفي الأصول: «رجب» والمثبت من الوفيات.17 فيفري. (¬49) الوفيات 5/ 67. (¬50) ابن خلكان هو الذي يتكلم 5/ 67. (¬51) قال ابن خلكان: «وقال ابن الهمداني في تاريخه إنه دفن بالري في تربة هناك. وكذا قال السمعاني في «الذيل» في ترجمة السلطان سنجر. (¬52) في الأصول: «ست وخمسين» والمثبت من الوفيات الذي ينقل عنه المؤلف 20 اكتوبر 1102 م.

الباء الموحدة وبعدها كاف، وهو اسم علم تركي مركب من طغرل وهو اسم علم بلغة الترك لطائر معروف عندهم، وبه سمي الرجل، وبك معناه الأمير. وسلجوق بفتح السّين المهملة. وجيحون بفتح الجيم وسكون الياء المثناة تحت وضمّ الحاء المهملة وسكون الواو وبعدها نون، وهو النّهر العظيم الفاصل ما بين خوارزم وبلاد خراسان وبين بخارى وسمرقند وتلك البلاد، وكل ما كان من تلك النّاحية فهو ما وراء النّهر، والمراد من النّهر هو النّهر المذكور، وهو أحد أنهار الجنة التي جاء ذكره في الحديث «أنه يخرج من الجنّة أربعة أنهار: نهران ظاهران ونهران باطنان، فالظاهران النيل والفرات، والباطنان سيحون وجيحون» (¬53). وسيحون بضم الحاء المهملة وسكون الواو وبعدها نون، وهو وراء جيحون فيما يلي بلاد التّرك وبينهما مسافة خمس وعشرين يوما، وهذان النّهران مع عظمهما يجمدان في زمن الشّتاء، وتعبر القوافل عليهما بدوابّهم وأثقالهم ويقيمان كذلك مدة ثلاثة أشهر (¬54). وكان ألب أرسلان (¬55) بعد عمّه (¬56) استولى على الممالك، فعظمت مملكته ورهبت سطوته، وفتح من البلاد ما لم يكن لعمّه طغرلبك / مع سعة ملكه، وقصد بلاد الشّام وانتهى إلى مدينة حلب وضاحبها يومئذ محمود بن نصر بن صالح بن مرداس الكلابي، فحاصره مدة ثم جرت المصالحة [بينهما]، فقال ألب أرسلان: لا بد له من (¬57) بساطي، فخرج إليه محمود ليلا ومعه أمّه، فتلقاهما بالجميل وخلع عليهما وأعادهما إلى البلد ورحل عنها. ¬

(¬53) جاء في شرح النووي علي صحيح مسلم ج 10 ص: 292 ط بولاق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة، وعلق النووي على الحديث فقال: فيه تأويلان أحدهما أن الايمان عم بلادها والثاني وهو الأصح أنه على ظاهرها وأن لها مادة في الجنة. وروى مسلم في حديث الإسراء والمعراج أن نبي الله رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت يا جبريل ما هذه الأنهار؟ فقال: أما النهران الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات. صحيح مسلم بشرح الأبي. ج 1 ص: 318، ط. السعادة. (¬54) انتهى ما جاء في ترجمة طغرلبك في الوفيات 5/ 68. (¬55) ينقل من ترجمته في الوفيات 5/ 69 بشيء من التصرف. (¬56) بعد أن نازع أخاه سليمان وتغلب عليه، الوفيات 5/ 69. (¬57) في الوفيات: «دوس».

قيل (¬58) إنه لم يعبر الفرات في قديم الزّمان ولا حديثه في الاسلام ملك تركي قبل ألب أرسلان، فانه أوّل من عبره من ملوك التّرك، ثم رجع من بلاد التّرك وقد كمل عسكره مائتي ألف فارس أو يزيدون فمدّ على جيحون جسرا، وأقام العسكر يعبر عليه شهرا، وعبر هو بنفسه ومدّ السّماط في بليدة يقال لها «فربر»، وبتلك البليدة حصن على شاطئ جيحون، في السادس من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وأربعمائة (¬59)، فأحضر إليه أصحابه مستحفظ الحصن يقال له «يوسف الخوارزمي» [وكان] قد ارتكب جريمة في أمر الجيوش، فحمل إليه مقيّدا، فلمّا قرب منه أمر بضرب أربعة أوتاد وتشدّ أطرافه الأربعة إليها ويعذّب ثم يقتل، فقال يوسف المذكور: ومثلي يفعل به مثل هذه المثلة؟ فغضب ألب أرسلان، وأخذ قوسه، وجعل فيه سهما، وأمر بحلّ قيده ورماه فأخطأه وكان مدلا برميه، وكان جالسا على سريره، فنزل عنه فعثر ووقع على وجهه فبادر يوسف المذكور وضربه بسكين كانت معه في خاصرته، فوثب عليه فراش أرمني فضربه / في رأسه بمرزبة فقتله، فانتقل ألب أرسلان إلى خيمة أخرى مجروحا، وأحضر وزيره نظام الملك أبا [علي] الحسن، وأوصى إليه، وجعل ولده ملك شاه وليّ عهده، وتوفي يوم السبت عاشر الشهر (¬60)، وكانت ولادته سنة أربع وعشرين وأربعمائة (¬61)، ومدة ملكه تسع سنين وأشهرا. فتولّى بعده ملكشاه أبو الفتح بن ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق الملقب «جلال الدّولة» (¬62). ولمّا توفي والده ألب أرسلان - في التاريخ المذكور - كان ملكشاه في صحبته، ولم يصحبه قبلها في سفر غير هذه السّفرة، فولي الأمر من بعده بوصيته وتحليف الأمراء والأجناد على طاعته، وأوصى وزيره نظام الملك على تفرقة البلاد بين أولاده، ويكون مرجعهم لملكشاه، ففعل ذلك وعبر [بهم] نهر جيحون راجعا إلى البلاد. فلمّا وصل إلى البلاد وجد بعض أعمامه [وهو قاروت بك] (¬63) قد خرج عليه. فعاجله وتصافا بالقرب من همذان، فنصره الله على عمّه، فتبعه بعض جند ملكشاه ¬

(¬58) نقلا عن المأمون في تاريخه، كما ذكر ابن خلكان. (¬59) 4 أوت 1082 م. (¬60) 8 أوت 1082 م. (¬61) 1032 - 1033 م. (¬62) النقل من ترجمة ملكشاه السلجوقي في الوفيات 5/ 283. (¬63) الاضافة من الوفيات 5/ 284.

فأسّره وحملوه إلى ملكشاه، فبذل التّوبة ورضي بالاعتقال وأن لا يقتل، فلم يجبه ملكشاه فأنفذ له خريطة مملوءة من كتب أمرائه وأنهم حملوه على الخروج عليه وعن طاعته وحسّنوا له ذلك، فدعا السّلطان بالوزير نظام الملك وأعطاه الخريطة ليفتحها ويقرأ ما فيها، فلم يفتحها / وكان هناك كانون نار فرمى الخريطة فيه فاحترقت الكتب، فسكنت قلوب العساكر [وأمنوا] (64) ووطنوا أنفسهم على الخدمة، بعد أن كانوا خائفين من الخريطة لأن أكثرهم [كان قد] (64) كاتبه، وكان ذلك سبب [ثبات] (¬64) قدم ملكشاه وكانت هذه معدودة في جميل آراء نظام الملك. ومن جميل آرائه ما ذكره صاحب كتاب «فضل الحبيب والنديم اللّبيب» أن نظام الملك (¬65) لما استوزره بالعراق السّلطان أبو الفتح السّلجوقي قام بالدّولة أحسن قيام، فشيّد أركانها وأسّس بنيانها، ووالى الأولياء واستمال الأعداء، وعمّ احسانه الولي والصّديق والقريب والبعيد، وكان أقبل اقبالا عظيما على العلماء والصّالحين والفقهاء، وبنى المدارس العظيمة والخانات العالية، وأجرى الخيرات الكثيرة والكساوي الجليلة الفاخرة لطبقات طلبة العلم والمشايخ الصّوفية وغيرهم ممّن يتوهّم فيهم الدّين والصلاح، وعمّ بذلك سائر الأقطار من بلاد العراقيين إلى الحرمين الشريفين، بحيث كان يخرج من خاصة الخالصة السّلطانية والخزائن الدّيوانية في هذه الوجوه ما ينيف على ستمائة ألف مثقال ذهبا غير الذي ينفقه من خاصة أمواله ومحصلات غلاته وما كان يدخل عليه من الهدايا وغيرها، ولعلّه كان يفوق القدر الذي يخرج من مال السّلطنة، فطار بذلك صيته في الآفاق، وكثر حسّاده ولا يخلو السّعداء من الحسّاد في كلّ زمان كما هو مشاهد بالعيان، وما وجدوا للطّعن على نظام الملك / طريقا غير اجحافه في الاخراج من الأموال السّلطانية من هذه الوجوه فوشوا إلى السّلطان أبي الفتح السّلجوقي من طرق شتّى، وكرّروا في سمعه أن نظام الملك أضر ببيت المال، والأولى أن يصرف في جمع جيش كثيف تركز رايته في سور القسطنطينية (¬66) وكان ذلك قبل أن يفتحها السّلطان المرحوم برحمة الحي ¬

(¬64) اضافات من الوفيات تقتضيها دقة المعنى. (¬65) أبو علي الحسن بن علي بن اسحاق بن عباس، ونظام الملك لقبه، انظر ترجمته على سبيل المثال في ابن خلكان 2/ 128. وعن علاقته بملكشاه 5/ 287. (¬66) ذكر ابن خلكان نقلا عن صاحب «الدول المنقطعة» ومن جملة ما سعى تاج الملك (صاحب خزانة السلطان) في نظام الملك الوزير أن قال للسلطان: انه ينفق في كل سنة على أرباب المدارس والرباطات ثلاثمائة ألف دينار. ولو جيش بها جيشا لبلغ باب القسطنطينية» 5/ 287.

القيوم محمد خان (¬67) - أعاد الله علينا من سحائب بركاته - فلمّا تكرر ذلك الوشي في آذان السّلطان أبي الفتح أثر كلامهم في قلبه واعتقد نصحهم فطلب نظام الملك وقال له: يا أبي - وكان يخاطبه بذلك تعظيما له لكبر سنّه وعقله - بلغني أنك تخرج من بيت المال في كل سنة ستمائة ألف دينار إلى من لا ينفعنا ولا يغني عنّا، فبكى نظام الملك وقال: يا بني أنا شيخ عجمي لو نودي عليّ في السّوق ما سويت خمسة دنانير (¬68)، وأنت شاب تركي (¬69) لو نودي عليك عساك تساوي ثلاثين دينارا، وقد اختارنا الله تعالى وفوّض أمور بلاده وعباده الينا فلم نقابله بالشّكر، ولا عرفنا قدر نعم الله تعالى، فاستمريت أنا في كتابتي وضبطي، وأنت منهمك في لذّاتك ولهوك، وأكثر ما يصعد إلى الله تعالى معاصينا دون طاعتنا وشكرنا، ويوشك الذين أعددتهم للنوائب اذا حشروا يوما كافحوا عنك بسيف طوله ذراعين وسهم لا يبعد مرماه، وهم مع ذلك منهمكون في المعاصي والخمور والملاهي، وهم أحرى بنزول القهر من نزول الفتح / والنّصر فاتّخذت لك جيشا كثيفا وعسكرا منيفا يسمّى جيش الليل وعسكر السّحر، اذا نامت جيوشك ليلا قامت هذه الجيوش على أقدامها صفوفا بين يدي ربّهم، وأرسلوا دموعهم، وأطلقوا بالدّعاء ألسنتهم، ومدّوا إلى الله أكفّهم فرموا سهاما تخترق الأرضين، وسلّوا سيوفا يعمل في كل حين طوالا، تبلغ إلى الصّين، فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون، وببركاتهم تمطرون وبدعائهم تنصرون، فبكى السّلطان أبو الفتح بكاء شديدا وقال: شاباشر - أي يا أبي - استكثر لنا من هذا الجيش، فانه هو الذي لا بد لنا منه (¬70)، ولمّا كانت هذه النّفوس لها قابلية الخير لم يؤثر فيها كلام الحسّاد الا قليلا زال [ما بها] في الحال، وعادت إلى حبّ الخير الذي جبلت عليه، فرحم الله تلك الأرواح الطّاهرة، فلقد زالوا وما زالت أخبارهم تروى، وأحاديثهم تنشر على ألسنة الرّواة ولا تطوى. ثم إن ملكشاه (¬71) أمر بقتل عمّه الذي قام عليه وطلب الاعتقال دون الموت فخنق ¬

(¬67) محمد الثاني الفاتح. وتم فتح القسطنطينية في سنة 957 هـ - 1453 م وسميت المدينة اسلامبول أي «تحت الاسلام أو مدينة الإسلام» تاريخ الدولة العلية العثمانية ص: 164. (¬68) في ابن خلكان: «ثلاثة دنانير» 5/ 287. (¬69) في ابن خلكان: «حدث». (¬70) يختلف النص في الوفيات مع نفس المعنى 5/ 287. (¬71) رجع إلى النقل من الوفيات 5/ 284.

بوتر قوسه واستقرّت القواعد للسلطان ملكشاه، وفتح البلاد واتّسعت [عليه] المملكة، وملك ما لم يملكه أحد من ملوك الاسلام بعد الخلفاء المتقدّمين، فانه ملك من كاشغر بفتح الكاف وبعد الألف شين معجّمة ساكنة وغين معجّمة مفتوحة بعدها راء - وهي مدينة (¬72) في أقصى بلاد الترك - إلى بيت المقدس طولا، ومن القسطنطينية إلى بلاد الخزر [وبحر الهند] عرضا. وكان من أحسن الملوك سيرة حتى لقّب «بالسّلطان العادل» / وكان منصورا في الحروب، ومغرما بالعمائر، فحفر كثيرا من الأنهار، وعمّر كثيرا من البلدان بالأسوار، وأنشأ في المفاوز رباطات وقناطر، وهو الذي بنى جامع السّلطان ببغداد سنة خمس وثمانين وأربعمائة (¬73)، وبنى له نظام الملك المدرسة المشهورة ببغداد، وهي أول مدرسة بنيت - كما تقدّم - وزاد في دار السّلطنة بهاء ووضع في طريق مكّة مصانع، وبذل فيها أموالا كثيرة خارجة عن الحصر، وأبطل المكوس والخفارات في جميع البلاد. وكان لهجا بالصّيد حتى قيل إنه ضبط ما اصطاده بيده فكان عشرة آلاف، فتصدّق بعشرة آلاف دينار بعد أن نسي كثيرا منه، وقال: إنني خائف من الله تعالى من أجل ازهاق أرواح لغير مأكلها (¬74)، وصار (¬75) بعد ذلك كلّما قتل صيدا تصدّق بدينار. وخرج من الكوفة لتوديع الحاج، فجاوز العذيب وشيّعهم بالقرب من الواقصة، وصاد في طريقه وحشا كثيرا فبنى هنالك منارة من حوافر حمر الوحش وقرون الظّباء التي صادها في ذلك الطريق وكانت تعرف بمنارة القرون، وذلك سنة ثمان وسبعين وأربعمائة (¬76). وكانت السبل في أيامه سالكة والمخاوف آمنة، تسير القوافل من ما وراء النّهر إلى أقصى الشّام وليس معها خفير، يسافر الواحد والاثنان من غير خوف ولا رهبة. ¬

(¬72) في الأصول: «بلاد» والمثبت من الوفيات 5/ 284، وقال عنها ياقوت: «وهي مدينة وقرى ورساتيق. . .» معجم البلدان، 4/ 430. (¬73) 1092 م. (¬74) في الوفيات «مأكلة». (¬75) في الأصول «وجعل» والمثبت من الوفيات. (¬76) 1085 - 1086 م.

ولمّا توجّه إلى حرب [أخيه] تتش (¬77) اجتاز بقبر (¬78) علي بن موسى الرضا - رضي الله تعالى عنهما -[بطوس] فدخل المشهد مع نظام الملك فصليا فيه / وأطالا الدّعاء، ثم قال لنظام الملك: بأي شيء دعوت؟ فقال: دعوت الله أن ينصرك وأن يظفرك بأخيك قال: أما أنا فقلت «اللهم أنصر أصلحنا للمسلمين وأنفعنا للرعية». وحكي أن واعظا دخل عليه ووعظه، فكان من جملة ما حكى له أن بعض الأكاسرة اجتاز منفردا عن عسكره على باب بستان، فتقدّم إلى الباب وطلب ماء يشربه، فأخرجت له صبية اناء فيه ماء قصب السّكر والثلج، فشربه واستطابه، فقال: كيف يعمل هذا الماء؟ [فقالت: ان قصب السّكر يزكو عندنا حتى نعصره بأيدينا فيخرج منه هذا الماء] (¬79) فقال: ارجعي واحضري شيئا آخر، وكانت الصّبية غير عارفة به، فذهبت فقال في نفسه: الصّواب أن أعوّضهم عن هذا المكان وأصطفيه لنفسي، فما كان بأسرع من خروجها باكية، وقالت: إن نيّة السّلطان قد تغيّرت، فقال: ومن أين علمت ذلك؟ قالت: كنت آخذ من هذا ما أريد من غير تعسّف، والآن قد اجهدت في عصر القصب فلم يسمح ببعض ما كان يأتي، فعلم صدقها، ثم رجع عن تلك النيّة، ثم قال: ارجعي الآن فانك تبلغين الغرض، وعقد على نفسه أن لا يفعل ما نواه، فخرجت [الصبية] بما شاءت من [ماء] قصبّ السّكر وهي مستبشرة، فقال السّلطان للواعظ: ولم لا تذكر للرعية أن كسرى اجتاز على بستان فقال للنّاظر: ناولني عنقودا من الحصرم، فقال له: ما يمكنني ذلك، فان السّلطان ما أخذ حقّه ولا تجوز لي خيانته، فعجب الحاضرون من مقابلته للحكاية بمثلها، ومعارضته بما أوجب الحق له لما أوجب الحق عليه. ولقيه سوادي وهو يبكي، فسأله / السّلطان عن سبب بكائه فقال: ابتعت بطّيخا بدريهمات لا أملك غيرها، فلقيني ثلاثة غلمان أتراك فأخذوه مني، وما لي حيلة سواه، فقال: أمسك، واستدعى فرّاشا، وكان ذلك عند باكورة البطّيخ، وقال له: ان نفسي قد تاقت إلى البطّيخ، فطف في العسكر وانظر من عنده شيء فأحضره، فعاد ومعه ¬

(¬77) كذا في الأصول وتاريخ الدولة العلية ص: 67، وفي الوفيات 5/ 285 وتاريخ الخلفاء للسيوطي وكتاب العبر لابن خلدون: «تكش». (¬78) في الوفيات: «بمشهد». (¬79) اضافة من الوفيات يقتضيها السياق.

بطّيخ، فقال: عند من لقيته؟ قال: عند الأمير فلان، فأحضره وقال: من أين لك هذا؟ قال: جاء به الغلمان، فقال: أريدهم الساعة، فمضى وقد عرف نيّة السّلطان فيهم، فهرّبهم وعاد وقال: لم أجدهم، فالتفت إلى السوادي وقال: هذا مملوكي وقد وهبته لك حين لم يحضر الغلمان الذين أخذوا متاعك، والله لئن خليته لأضربنّ عنقك، فأخذ السّوادي بيده وأخرجه من بين يدي السّلطان [فاشترى الأمير نفسه بثلاثمائة دينار] (¬80) ثم رجع السّوادي وقال: يا سلطان قد بعت المملوك بثلاثمائة دينار. فقال: أو قد رضيت؟ قال: نعم، قال: امض مصاحبا. وكانت البركة واليمن مقرونين بناصيته، فكان اذا دخل أصبهان وبغداد وأي بلد من البلاد دخل معه عدد لا يحصى لكثرته فيرخص السعر وتنحط أثمان الأشياء عمّا كانت عليه قبل، ويكتسب المتعيّشون مع عسكره الكسب الكثير. وأحضرت إليه مغنية وهو بالري، فأعجب بها واستطاب غناءها، فهمّ بها فقالت: يا سلطان، اني أغار على هذا الوجه الجميل أن يعذّب بالنار، وان الحلال أيسر، وبينه وبين الحرام كلمة، فقال: صدقت / ودعا القاضي فتزوجّها وابتنى بها وتوفي عنها. وتزوج الامام المقتدي (¬81) بأمر الله أمير المؤمنين ابنة السّلطان، وكان السّفير بالخطبة الشّيخ أبا اسحاق الشيرازي - رحمه الله تعالى - أنفذه الخليفة إلى نيسابور لهذا السبب، لكون السّلطان كان هناك، فلمّا وصل إليه أدّى الرّسالة ونجّز الشغل. ولمّا أراد الانصراف من نيسابور، خرج امام الحرمين لوداعه، وقد كان ناظره فأخذ بركابه حتى ركب أبو اسحاق، وظهر له في خراسان منزلة عظيمة، حتى كانوا يأخذون التراب الذي بطؤه نعلاه (¬82) فيتبركون به. وكان زفاف ابنة السّلطان إلى الخليفة في سنة ثمانين وأربعمائة (¬83)، وفي صبيحة دخوله عليها أحضر الخليفة عسكر السّلطان على سماط صنعه لهم كان فيه أربعون ألف منّا من السّكر، وفي بقية هذه السّنة ولد له ولد من ابنة السّلطان سمّاه أبا الفضل جعفر، وزيّنت بغداد لأجله. ¬

(¬80) إضافة من الوفيات لاكمال المعنى، 5/ 286. (¬81) في الأصول: «القائم» والمثبت من الوفيات التي ينقل عنها المؤلف 5/ 287. (¬82) في الوفيات: «الذي وطئته بغلته». (¬83) 1087 - 1088 م.

وكان السّلطان قد دخل بغداد دفعتين، وهي من جملة بلاده التي تحتوي عليها مملكته، وليس للخليفة فيها سوى الاسم، فلمّا عاد إليها في الدّفعة الثّالثة أول شوال سنة خمس وثمانين وأربعمائة (¬84)، وخرج من فوره إلى ناحية دجيل (¬85) لأجل الصّيد، فاصطاد وحشا وأكل من لحمه فابتدأت به العلّة، فافتصد، ولم يكثر من اخراج الدّم، فعاد إلى بغداد مريضا، ولم يصل إليه أحد من خاصّته، فلما دخلها توفّي بها ثاني يوم دخوله، وهو السّادس عشر من شوال سنة خمس وثمانين وأربعمائة (¬86) ولمّا مات / لم تشهد له جنازة ولا صلّى عليه أحد في الصّورة الظّاهرة، ولا جلسوا للعزاء، ولا حلق (¬87) عليه ذنب فرس كعادة أمثاله بل كأنه اختلس من العالم. وحمل تابوته إلى اصبهان ودفن بها في مدرسته العظيمة الموقوفة على طلبة الشّافعية والحنفية، وانما أخمد ذكره عند موته عقوبة من الله، وذلك أنه لما دخل بغداد في هذه المرّة وكان للخليفة [المقتدى] (¬88) ولدان أحدهما الامام المستظهر بالله والآخر أبو الفضل جعفر ابن بنت السّلطان، وكان الخليفة قد بايع لولده المستظهر بولاية العهد من بعده، فألزمه السّلطان أن يخلعه وأن يبايع لابن ابنته، ويسلّم بغداد إليه، ويخرج الخليفة إلى البصرة، فشقّ ذلك على الخليفة، وبالغ في استنزال السّلطان عن هذا الرأي فلم يفعل، فسأله المهلة عشرة أيام ليتجهز فأمهله، فقيل إن الخليفة في تلك الأيام جعل يصوم ويصلّي (¬89) واذا أفطر جلس على الرّماد للافطار، وهو يدعو الله سبحانه وتعالى على السّلطان، فمرض [السّلطان] في تلك الأيام ومات، وكفى الله الخليفة أمره، وتزوج الامام المستظهر ابنة السّلطان واسمها خاتون [العصمة] (¬90) في سنة اثنتين وخمسمائة (¬91). وقد خلف ملكشاه ثلاثة أولاد اقتسموا مملكته، بركياروق، وسنجر، ومحمّد، ولم يكن لسنجر ومحمّد الشقيقان حديث ولا ذكر مع وجود بركياروق، لأنه كان هو ¬

(¬84) 4 نوفمبر 1092 م. (¬85) في الأصول: «رحيل» والمثبت من الوفيات 5/ 288 ومعجم البلدان 2/ 443. (¬86) 19 نوفمبر 1092 م. (¬87) في الوفيات: «حذف». (¬88) اضافة من الوفيات. (¬89) في الوفيات: «ويطوي» 5/ 289. (¬90) اضافة من الوفيات 5/ 289، وفي بعض النسخ: «العظمة». (¬91) 1108 - 1109 م، انتهى نقله من ترجمة ملكشاه بالوفيات.

السّلطان المشار إليه وهما كالأتباع له، ثم اختلف محمّد وبركياروق، فدخل محمّد وأخوه سنجر إلى بغداد / وخلع عليهما الامام المستظهر بالله، وكان [محمّد] قد التمس من أمير المؤمنين أن يجلس له ولأخيه سنجر، فجلس لهما في قبّة التّاج وحضر أرباب المناصب وأتباعهم، وجلس الخليفة على سدّته، ووقف سيف الدّولة [صدقة] (¬92) بن مزيد صاحب الحلّة عن يمين السّدة، وعلى كتفه بردة النبيء صلّى الله عليه وسلم وعلى رأسه العمامة وبين يديه القضيب، وأفيض على محمّد الخلع السّبع التي جرت عادة السّلاطين بها، وألبس الطوق والتّاج والسّوارين، وعقد له الخليفة اللّواء بيده وقلّده سيفين، وأعطاه خمسة أفراس بمراكبها، وخلع على أخيه سنجر خلعة أمثاله، وخطب لمحمّد بالسّلطنة في جامع بغداد على جاري عادتهم [في] ذلك الزمان، وتركوا الخطبة لبركياروق، كان ذلك سنة خمس وتسعين وأربعمائة (¬93)، وقيل سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة (¬94). واستمرّت السّلطنة فيهم إلى أن كملت عدّة السلاطين السّلجوقية أربعة عشر سلطانا وآخرهم السّلطان مغيث الدّين طغرل بن أرسلان بن طغرل بك (¬95) وظهورهم وعلوّ شأنهم في خلال خمسين وأربعمائة (¬96). وأما السّلجوقية ببلاد الرّوم فأوّلهم قتلمش (97) فقد ذكر صاحب الدّول الإسلامية (¬97) إن السلجوقية لمّا انتشروا في البلاد طالبين الملك دخل منهم قتلمش (¬98) ابن اسرائيل إلى بلاد الرّوم وملك مدينة قونية وأقصرا (¬99) ونواحيهما، ثم توجّه إلى بلاد الري ليأخذها فانهزم جيشه ووجد هو بين القتلى (¬100). ¬

(¬92) اضافة من الوفيات 5/ 72. (¬93) 1101 - 1102 م. (¬94) 1098 - 1099 م. (¬95) انظر الكامل لابن الأثير 11/ 196. (¬96) 1058 - 1059 م. (¬97) في الأصول وفي كتاب العبر 5/ 342: «قطلمش» وفي تاريخ الدولة العلية: «قطلومش» ص: 66 والمثبت من الوفيات 5/ 69، والكامل لابن الأثير 9/ 625 - 630، وبروكلمان «تاريخ الشعوب الإسلامية»، 3/ 7. (97 مكرر) دول الإسلام في التاريخ لشمس الدّين الذهبي المتوفي سنة 746 (والصواب 748)، كشف الظنون، 1/ 762. (¬98) هو شهاب الدّولة قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق، الوفيات 5/ 71، وكتاب العبر 5/ 342، وابن الأثير يقول: «قتلمش ابن عمر طغرلبك وتارة يقول: ابن اسرائيل بن سلجوق»، العبر 5/ 342. (¬99) في الأصول «وأقسرامي» والمثبت من كتاب العبر 5/ 342. (¬100) انظر الوفيات 5/ 71 كان ذلك في محرم 456 / ديسمبر - جانفي 1064 م.

فقام بعده ولده سليمان (¬101) فسار لحرب حلب فهزم وطعن نفسه بخنجر. فملك بعده ابنه قلج أرسلان (¬102) فملك زيادة على ما خلفه أبوه الموصل وديار بكر وأعمالهما فسار لقتال جاولي (¬103) فقتل قلج أرسلان. فملك بعده ولده مسعود فتوفّي [سنة احدى وخمسين وخمسمائة] (¬104). فملك ولده قلج أرسلان بن مسعود فقسّم ممالكه بين أولاده السّبعة وابن أخيه (¬105). وملك بعد وفاته ولده غياث الدّين كيخسرو (¬106) فعظم شأنه وقتله أشكر (¬107) صاحب قسطنطينية في حروبه معه سنة سبع وستمائة (¬108). فملك بعده ولده كيكاوس (¬109) فقاتل عمّه طغرل شاه فقتله سنة عشرة وستمائة (¬110). فتولّى بعده أخوه السّلطان المجاهد علاء الدّين كيقباد، وكان محبّا للغزو فاتّسعت رقعة ملكه ببلاد الرّوم، ومدّ يده إلى ما يجاوره من البلاد وخدم عنده عسكر جلال الدّين خوارزم شاه بعد مهلكه، توفّي سنة أربع وثلاثين وستمائة (¬111) ومدّة ملكه أربع وعشرون. ثم ملك بعده ابنه غياث الدّين فمات سنة أربع وخمسين وستمائة (¬112). فملك بعده ابنه علاء الدّين كيقباد، وكان ولي عهده، وكان اذ ذاك هلك جنكز خان، وولي مكانه ابنه تولي خان (¬113)، فملك أكثر بلاد الرّوم، وكان ملوك الرّوم تحت حكم التتار. ¬

(¬101) أسس دولة سلجوقية بقونية استمرت إلى أن فتحها العثمانيون، انظر بروكلمان تاريخ الشعوب الاسلامية 3/ 7 وكتاب العبر 5/ 342. (¬102) في كتاب العبر: «قليج أرسلان» 5/ 343 خلافا لعدة مصادر أخرى كابن الأثير 8/ 607. (¬103) انظر كتاب العبر: 5/ 345 - 348. (¬104) إضافة من نفس المرجع 5/ 349، 1156 م. (¬105) انظر كتاب العبر: 5/ 352. (¬106) في الأصول: «كيخرود» وفي كتاب العبر: «كسنجر» 5/ 353 وفي ابن الأثير: «خسرو شاه»، والمثبت من تاريخ الشعوب الاسلامية 3/ 7. (¬107) في الأصول: «المشكري» والمثبت من كتاب العبر 5/ 356 وفي مكان آخر ص: 366 من كتاب العبر: «الشكرى». (¬108) 1210 - 1211 م. (¬109) في الأصول: «كيكاروس» والمثبت من كتاب العبر 5/ 356 وتاريخ الشعوب الاسلامية 3/ 9. (¬110) 1213 م، أنظر كتاب العبر 5/ 356. (¬111) 1236 - 1237 م. (¬112) 1256 م. (¬113) في كتاب العبر «طلوخان» 5/ 362.

الديلمية

وآخر من تولّى الملك من السّلجوقية بالدّيار الرّومية مسعود بن كيكاوس في سنة ثمان عشرة وسبعمائة (¬114) فاضمحل أمره، وبقي الملك بها للتتار. ثم فشل أمرهم فاستولى على غالب بلادهم بنو عثمان، ثم استولوا عليها جميعا / - رحمهم الله تعالى ونفعنا بهم -. وعلاء الدّين الثاني هو صاحب السّلطان عثمان جدّ آل عثمان، وتوفّي علاء الدّين المذكور سنة سبعمائة (¬115). الديلمية: وأما الدّيلميّة فأول ملوكهم عماد الدّولة أبو الحسن علي بن بويه بن فناخسرو (¬116) والديلمية (¬117) بن تمام بن (كوهي بن شيرزيك الأصغر بن شيركوه بن شيرزيك الأكبر ابن سران شاه بن سيرقند بن سيسانشاه) (¬118). فعماد الدّولة صاحب بلاد فارس، وكان أبوه صيادا وليست له معيشة إلاّ من صيد السّمك، وكان أحد ثلاثة أخوة، فهو أكبرهم، ثم ركن الدّولة الحسن والد عضد الدّولة، ثم معز الدّولة أحمد، والجميع ملكوا، وسبب سعادتهم عماد الدّولة وبه انتشار صيتهم، فاستولوا على البلاد، وملكوا العراقين والأهواز وفارس، وساسوا أمور الرّعية أحسن سياسة، وشاركوا الخليفة العبّاسي في الخطبة ببغداد لنصرتهم وطاعتهم للخليفة، وكانت وفاة عماد الدّولة يوم الأحد لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين (¬119) بشيراز، وأقام في المملكة ست عشرة سنة، وعاش سبعا وخمسين سنة، ولم يعقّب. ¬

(¬114) 1318 م. (¬115) 1300 - 1301 م. (¬116) في الأصول: «فناخر» وفي كتاب العبر 4/ 909. «فناخس» وهو تحريف والصواب ما أثبتناه. (¬117) في ط: «والديلمي». (¬118) في الأصول: «لوهي بن شيزل الأصغر بن شيركوه بن شيزل بن شرين شاه بن شيرمية بن ساسان شاه» والمثبت من كتاب العبر 4/ 909. اعتمادا من ابن خلدون على ابن ماكولا. ويقدم أيضا رواية ابن مسكويه، ويرى ابن خلدون أن هذا النسب مصنوع تقرب إليهم به من لا يعرف طبائع الأنساب في الوجود. (¬119) في الأصول: «جمادى أولى» والمثبت من ابن الأثير 8/ 482، 949 م. وفي كتاب العبر: «توفي منتصف سنة ثلاث وثلاثين» 4/ 934.

السلقدية

وأما أحمد معزّ الدّولة فكان وصوله إلى بغداد من جهة الأهواز، فدخلها متملكا يوم السّبت لاحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة (¬120) في خلافة المستكفي، وملكها بلا كلفة. وذكر أبو الفرج بن الجوزي في كتابه «شذور العقود» / أن معزّ الدّولة أحمد كان في أول أمره يحمل الحطب على رأسه، ثم ملك البلاد هو وأخوه، وكانت مدّة ملكه بالعراق احدى وعشرين سنة واحد عشر شهرا، وتوفي يوم الاثنين سابع عشر (¬121) ربيع الآخر سنة ست وخمسين وثلاثمائة (¬122) ببغداد، ولمّا توفّي تولّى موضعه ولده عزّ الدّولة أبو منصور بختيار، وتزوّج الطائع لله ابنته سارة ريّان على صداق مبلغه مائة ألف دينار، وذلك سنة أربع وستين وثلاثمائة (¬123)، وكان بين عزّ الدولة [بختيار] وابن عمّه عضد الدّولة منافسات في الممالك أدّت إلى التّنازع والتّصاف والمحاربة، فالتقيا يوم الأربعاء ثامن شوال سنة سبع وستين وثلاثمائة (¬124) فقتل عزّ الدّولة، وكان عمره ستّا وثلاثين سنة، وحمل رأسه في طشت ووضع بين يدي عضد الدّولة، فلمّا رآه وضع يديه على وجهه وبكى. وكان عدّتهم ستّة عشر سلطانا آخرهم أبو علي بن عزّ الملوك. السلقدية: وأما السلقدية فآخرهم أثابك (¬125) معظم بن سعد بن أبي بكر سنقر بن زنكي ممدوح ذكره الشّيخ السّعدي في كتابه الشهير «بكلستان»، وهو أكرم السّلقدية، ذكره البيضاوي وغيره. ¬

(¬120) 19 ديسمبر 945 م. (¬121) في ابن الأثير: «ثالث عشر» 8/ 575. (¬122) 1 أفريل 967 م. (¬123) 974 - 975 م. (¬124) 19 ماي 978 م. (¬125) في ت: «أتابك».

الخوارزمية

الخوارزمية: وأما الخوارزمية فأولهم خوارزم شاه محمد بن أنوشتكين (¬126)، وآخرهم السّلطان غياث الدّين محمود خوارزم شاه، وهم ثمانية نفر، خرج من طاعة المقتدر بالله وأرسل إليه يقول: اخرج من بغداد إلى أي مكان تريد، فأرسل إليه المقتدر يقول: أصبر عشرة أيام، فلبس / المقتدر جبّة من الصّوف وكان مجاب الدّعوة، فدعا عليه فمات خوارزم شاه في اليوم العاشر فجأة، وفي رواية: حين رجع من بغداد قامت عليه صواعق بسبب دعوة الشّيخ غضبان عليه، فقامت قيامة الصّواعق عليهم وقلعت الرّياح خيامهم. ¬

(¬126) في الأصول: «أنو شركين» والمثبت من الكامل في التاريخ.

الباب الثالث في مشاهير أمراء بني العباس بالمغرب

الباب الثالث في مشاهير أمراء بني العبّاس بالمغرب يزيد بن حاتم: فمنهم أبو خالد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدى. قال ابن خلكان: (¬1) قال أبو سعيد [بن يونس] في تاريخه: ولي يزيد بن حاتم مصر سنة أربع وأربعين ومائة (2) زاد غيره في منتصف ذي القعدة (¬2). ثم إن المنصور خرج إلى الشّام في زيارة بيت المقدس في سنة أربع وخمسين (¬3)، ومن هناك سيّر يزيد بن حاتم إلى افريقية لحرب الخوارج الذين قتلوا عامله عمر بن حفص، وجهّز معه خمسين ألف مقاتل، واستقرّ يزيد المذكور واليا بافريقية من يومئذ، وكان وصوله إليها واستظهاره على الخوارج في سنة خمس وخمسين (¬4)، ودخل القيروان في هذا التاريخ. وكان جوادا سريا مقصودا ممدوحا، قصده جماعة من الشّعراء فأحسن جوائزهم، وقال الطرطوشي في كتاب «سراج الملوك» قال سحنون بن سعيد: كان يزيد بن حاتم حكيما يقول: والله ما هبت شئيا قط هيبتي لرجل ظلمته وأنا أعلم انه لا ناصر له الا الله تعالى، فيقول: حسبك الله، الله بيني وبينك. وذكر أبو سعد السمعاني في كتاب «الأنساب» (¬5) أن المشهر التميمي الشاعر / وفد على يزيد بن حاتم بافريقية فأنشده: ¬

(¬1) النقل من ترجمة يزيد بن حاتم المهلبي في الوفيات بتصرف في اللفظ 6/ 321. (¬2) 14 فيفري 762 م، وذكر ابن خلكان رواية أخرى تقول أنه ولي في سنة 143 هـ - 760 - 761 م. (¬3) 770 - 771 م. (¬4) 771 - 772 م. (¬5) في الأصول: «الأمثال» والمثبت من الوفيات 6/ 324.

هرثمة بن أعين

[طويل] إليك قصرنا النصف من صلواتنا ... مسيرة شهر ثم شهر نواصله فلا نحن نخشى أن يخيب رجاؤنا ... لديك ولكن أهنأ (¬6) البرّ عاجله فأمر يزيد بوضع العطاء في جنده وكان معه خمسون ألف مرتزق، فقال: من أحب أن يسرّني فليضع لزائري هذا من عطائه درهمين، فاجتمع له مائة ألف درهم، وضم يزيد لذلك مائة ألف درهم أخرى ودفعها إليه (¬7). ولمّا قدم عليه ابن المولى أنشده وهو أمير مصر: [مجزوء الكامل] يا واحد العرب الذي ... أضحى وليس له نظير لو كان مثلك آخر ... ما كان في الدنيا فقير فدعا يزيد بخازنه وقال: كم في بيت مالي؟ قال: فيه من العين والورق عشرون ألف دينار، فقال: ادفعها إليه، ثم قال: يا أخي، المعذرة إلى الله ثم إليك، [والله] لو كان في ملكي غيرها ما ادخرتها عنك. ولم يزل يزيد واليا بافريقية إلى أن توفي بها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة سبعين ومائة (¬8)، ودفن بباب سلم، واستحلف على افريقية [ولده] داود بن يزيد (ابن زائدة وهو ابن أخي معزّ بن زائدة) (¬9). هرثمة بن أعين: وتولّى هرثمة ابن أعين الهاشمي عن هارون الرّشيد، فقدم على افريقية يوم الخميس ثالث شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبعين ومائة (¬10). (فبنى القصر الكبير) (¬11) في سنة ثمانين ومائة (¬12). ¬

(¬6) في الأصول: «أحسن» والمثبت من الوفيات 6/ 325. (¬7) بعدها في ت وزيادة عن ابن خلكان: «ودفعها إليه فأخذها من عنده ودعا له». (¬8) 13 مارس 787 م. (¬9) اضافة من المؤلف عمّا هو موجود بالوفيات. (¬10) كذا في ابن الأثير 6/ 139، 26 جوان 795 م. (¬11) في الأصول: «سور» والمثبت من ابن الأثير وغيره اذ أن هرثمة هو الذي يرجع إليه بناء قصر المنستير. (¬12) 796 - 797 م.

بداية بني الأغلب

بداية بني الأغلب: ومن أشهر أمراء بني العباس بالمغرب بنو الأغلب وهم عدة / سلاطين وجدّهم الذي ينتمون إليه هو الأغلب [ابن ابراهيم] بن سالم، وأوّلهم ابراهيم، كان رئيسا شريف النّفس فاضلا نبيلا عالما فصيحا حسن السّيرة ولاه افريقية هارون الرّشيد ليضايق على مولاي ادريس جد أشراف المغرب، وهو ادريس ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - فاحتال عليه ابراهيم في خبر طويل. أبو العباس عبد الله: ولمّا فرغت مدّة ابراهيم تولّى بعده ابنه أبو العباس عبد الله (¬13) [في سنة 197] (¬14) نقل التجاني «أنه أراد أن يحدث على النّاس مظالم من جملتها أن يرفع على النّاس طلب العشر ويضع على كل زوج ثمانية دنانير أصابوا أو لم يصيبوا، فاشتدّ ذلك على النّاس، وقدم حفص بن حميد (¬15) الجزري ومعه قوم صالحون من أهل جزيرة شريك وغيرها، فاستأذنوا عليه - وكان من أجمل الناس - فكلّمه حفص وقال له: اتّق الله أيها الأمير، وارحم جمالك وشبابك فان النّار أمامك، فلم يجبه لشيء ممّا أراد، وأظهر الاستخفاف به وبمن معه، فخرج حفص وأصحابه فلمّا صاروا ببعض الطريق قال لهم: انا يئسنا من الخلق ولن نيأس من الخالق، فما فتح باب الدعاء حتى فتح باب الاجابة، فنزلوا وأسبغوا الوضوء، فصلّى بهم حفص ركعتين ودعوا على ابن الأغلب أن يمنعه الله ممّا أراد من أذيّة المسلمين، ويكفّ عنهم جوره، فبعد خمسة أيام خرجت له قرحة تحت أذنه فقتلته في اليوم السابع من دعائهم، [قال]: فحكى المتولي غسله أنه كشف عنه ثوبه فوجده أسود كأنه / زنجي بعد ذلك الجمال العظيم» (¬16). ¬

(¬13) في الأصول: «أبو العباس أحمد» والمثبت من محمد الطّالبي، الدولة الأغلبية ترجمة المنجي الصيادي، دار الغرب الاسلامي 171، وابن خلدون كتاب العبر 4/ 420. (¬14) اضافة من عندنا.813 م. (¬15) كذا في ت، وفي ط وش: «حمير» كما في بعض أصول رحلة التجاني، وفي النص المحقق من الرحلة: «حميد» أيضا اعتمادا على البيان المغرب لابن عذاري. (¬16) رحلة التجاني ص: 11 - 12.

زيادة الله

زيادة الله: فتولّى بعده أخوه زيادة الله [الأول] (¬17) فكان ملكا جليلا على عهد المأمون وابراهيم ابن المهدي القائم على المأمون، وتوفي زيادة الله يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثلاث وعشرين ومائتين (¬18). وولي الأمر بعده أخوه أبو عقال الأغلب بن ابراهيم (¬19)، فكان مثله في الخير، وغير حوادث كثيرة. أبو العباس محمد: ثم تولّى بعده ابنه أبو العباس محمد (¬20) بن أبي عقال الأغلب بن ابراهيم (¬21) فكان جاهلا (¬22) وتوفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين (¬23). ثم تولّى بعده ولده أبو ابراهيم أحمد، فأحسن السّيرة وأكثر عطاء الجند، وكان مولعا بالعمارة، فبنى بافريقية أكثر من عشرة آلاف حصن بالحجارة والكلس وأبواب الحديد، واتخذ العبيد جندا، وخرج عليه بناحية طرابلس خوارج من البربر فغلبهم عاملها، وهو يومئذ أخوه عبد الله بن محمد بن الأغلب، سرح إليهم أخاهما زيادة الله فحاربهم واستلحمهم وكتب إلى أخيه أبي ابراهيم بالفتح، وفي أيامه افتتح قصر يانة (¬24) ¬

(¬17) بويع في ذي الحجة من سنة 201 هـ - جوان 817. (¬18) 11 جوان 838 م. (¬19) في الأصول: «أبو عقال محمد» والمثبت من الدّولة الأغلبية ص: 239 وكتاب العبر 4/ 428. (¬20) في الأصول: «أحمد» والمثبت من المرجع السابق وولي الامارة سنة 226 هـ - 840 - 841 م. (¬21) في الأصول: «محمد بن الأغلب» والمثبت من نفس المرجع. (¬22) وصفه ابن الابار بالحلم والجود. ووصف أيضا أنه «كان مظفرا في حروبه» ومن جهة أخرى ذكر ابن عذاري أنه «كان قليل العلم» وذكر النويري: «أنه كان من أجهل الناس، لكنه أعطي في إمارته ظفرا على ما نواه» وعلق محمد الطالبي في أطروحته «الدولة الأغلبية» على هذا القول بقوله: «ويبدو أن المؤلف لم يفهم جيدا انتصاراته». ويميل محمد الطالبي إلى موقف ابن عذاري فاستخلص ما يلي بعد نقاش: «كان شابا عديم التجربة، قليل العلم، لم تسعفه طبيعة خلقه إلاّ قليلا»، أنظر الدّولة الأغلبية، ص: 245. (¬23) 856 - 857 م. (¬24) في الأصول: «قصر بالة» والمثبت من كتاب العبر 4/ 430.

زيادة الله الأصغر

من مدن صقليّة في شوال سنة أربع وأربعين ومائتين (¬25)، وبعث بفتحها إلى المتوكل، وأهدى له من سبيها، ثم توفي أبو ابراهيم آخر سنة تسع وأربعين ومائتين (¬26)، فكانت مدّته ثمان سنين. زيادة الله الأصغر: وتولّى بعده زيادة الله بن أبي ابراهيم بن محمد، ويعرف بزيادة الله الأصغر، فجرى على سنن أسلافه، ولم تطل أيامه فتوفي سنة خمسين ومائتين (¬27). أبو الغرانيق: فتولّى مكانه / ابن أخيه (¬28) محمد [الثاني] ويلقّب «بأبي الغرانيق» لشغفه بصيدها، فغلب عليه اللهو والشرب، وكانت أيّامه حروب وفتن، وفتح جزيرة مالطة سنة خمس وخمسين (¬29)، وتغلّب الرّوم على مواضع من جزيرة صقليّة، وبنى محمد حصونا ومحارس على ساحل البحر بالمغرب على مسيرة خمسة عشر يوما من برقة إلى جهة المغرب وهي الآن معروفة، ثم توفي أبو الغرانيق منتصف احدى وستين (¬30) لاحدى عشر سنة من ولايته (¬31). ¬

(¬25) جانفي - فيفري 859 م. وفيما يتعلق بأبي ابراهيم أحمد نقله المؤلف حرفيا من كتاب العبر 4/ 429 - 430. (¬26) 863 - 864 م. (¬27) 864 - 865 م. النقل من كتاب العبر 4/ 430. (¬28) في الأصول تبعا لابن خلدون «أخوه» العبر 4/ 430 اذ «اعتبره ابنا لزيادة الله الثاني الذي قيل أنه ابن لا أخ، لأبي ابراهيم أحمد» الدولة الأغلبية، المرجع السابق هامش 149، ص: 283. (¬29) 868 - 869 م. (¬30) دقق محمد الطالبي تاريخ وفاته فقال «سمي الميت لأن خبر وفاته شاع مسبقا عدة مرات يوم الأربعاء 6 جمادى الأولى 261 / فيفري 875 م» ص: 291. (¬31) نقل المؤلف ما يتعلّق بأبي الغرانيق من كتاب العبر حرفيا 4/ 430، وحدد محمد الطالبي طيلة حكمه فقال «دام حكمه عشرة أعوام وخمسة شهور وستة عشر يوما» ص: 291.

ابراهيم

ابراهيم: فتولّى بعده أخوه ابراهيم بن أحمد وكان أبو الغرانيق عهد لابنه أبي عقال، واستحلف أخاه ابراهيم المذكور على أن لا ينازعه ولا يتعرّض له، بل يكون نائبا عنه إلى أن يكبر، فلمّا مات عدا عليه أهل القيروان، وحملوه على الولاية عليهم لحسن سيرته وعدله فامتنع، ثم أجاب وترك وصيّة أبي الغرانيق في ولده أبي عقال، وهو الذي نقل القصور إلى رقّادة خارج القيروان، وقام في أول الأمر أحسن قيام، فكان عادلا حازما قطع أهل البغي والفساد، وجلس لسماع شكوى المتظلّمين فأمنت البلاد، وبنى الحصون والمحارس بسواحل البحر حتى كانت النّار توقد في سواحل سبتة للنذير بالعدو فيتصل ايقادها بالاسكندرية في اللّيلة الواحدة، وفي أيّامه كان مسير العبّاس بن أحمد بن طولون مخالفا على أبيه صاحب مصر سنة خمس وستين ومائتين (¬32)، فملك برقة من يد محمد بن قهرب (¬33) قائد ابن الأغلب، ثم ملك لبدة ثم حاصر طرابلس واستمدّ ابن قهرب نفوسة فأمدّوه ولقي العبّاس بن طولون / بقصر حاتم سنة سبع وستين ومائتين (¬34) فهزمه، ورجع إلى مصر، ثم خالفت هوارة ولواتة وغيرهما وقتل ابن قهرب (33) في حروبهم، فسرح ابراهيم ابنه أبا العباس عبد الله إليهم في العساكر سنة تسع وستين (¬35)، فأثخن فيهم. وفي سنة ثمانين ومائتين (¬36) كثر الخوارج وفرّق العساكر إليهم فاستقاموا، واستركب العبيد السّودان واستكثر منهم فبلغوا ثلاثة آلاف. وفي سنة احدى وثمانين ومائتين (¬37) انتقل إلى سكنى تونس، واتخذ بها القصور ثم تحرك إلى مصر سنة ثلاث وثمانين (¬38) لمحاربة ابن طولون، فاعترضته نفوسة فهزمهم وأثخن فيهم، ثم انتهى إلى سرت فانفضت عنه الحشود فرجع، وبعث ابنه أبا العباس عبد الله على صقليّة سنة سبع وثمانين ومائتين (¬39)، فوصل إليها في مائة وستين مركبا وحصر طرابنة (¬40)، وانتقض عليه بليرم وأهل كبركيت، وكانت بينهم فتنة فأغراه كل [واحد ¬

(¬32) 878 - 979 م. (¬33) في الأصول: «مذهب» والمثبت من كتاب العبر الذي ينقل عنه المؤلف 4/ 434. (¬34) 880 - 881 م. (¬35) 882 - 883 م. (¬36) 893 - 894 م. (¬37) 894 - 895 م. (¬38) 896 - 897 م. (¬39) 900 م. (¬40) في المعاجم: «طرابنش» ياقوت 4/ 26 وقال عنها الحميري: «بجزيرة صقلية والنصارى يسمونها «اطرابنة» الروض المعطار ص: 390.

عبد الله بن ابراهيم

منهم] بالآخر، ثم اجتمعوا لحربه، وزحف إليه أهل بليرم في البحر فهزمهم واستباحهم (وملك بلدهم) (¬41) وبعث جماعة من وجوهها إلى أبيه، وفرّ آخرون من أعيانهم إلى القسطنطينية وآخرون إلى طرابنة (¬42) فأتبعهم وعاث في نواحيها، وتجهز سنة ثمان وثمانين ومائتين للغزو فغزا دمقش ثم مسينا فهدم سورها، ثم جاء في البحر إلى ريو (¬43) ففتحها عنوة، وشحن مراكبه بغنائمها، وجاء مدد القسطنطينية في المراكب فهزمهم، وأخذ لهم ثلاثين مركبا» (¬44). ثم ان ابراهيم بن أحمد غلب عليه خلط سوداوي فتغيّر وأسرف في القتل، فقتل أصحابه وكفاته وحجّابه، وقتل ثمانية إخوة له صبرا بين يديه، وقتل بناته، ثم أظهر النسك (¬45) ومات لثمان بقين من شهر ربيع الأول (¬46) سنة تسع وثمانين ومائتين (¬47). عبد الله بن ابراهيم: وولي بعده ابنه أبو العبّاس عبد الله بن ابراهيم على عهد المعتصم، فردّ المظالم وتنسّك ولبس الصّوف إلى أن قتل بتدبير ابنه زيادة الله (¬48)، وكان في سجنه وبادر بقتل من شاركه في دمه، وأظهر التبرّي منه، فعاقبه الله تعالى فلم يتمتّع بالملك، ولم يصف له بل خرج مهزوما ومات طريدا شريدا في البلاد بظهور بني عبيد الشّيعة، فلقيت جيوشه جيوشهم فلم تقم له قائمة ففرّ إلى المشرق (¬49) وترك البلاد، فاستولى عليها الشّيعة بعدما ملكها بنو الأغلب مائة سنة واثنتي عشرة سنة وعدّتهم أحد عشر سلطانا. ¬

(¬41) اضافة من المؤلف عما هو موجود بكتاب العبر. (¬42) في العبر 4/ 435: «طرميس» قال عنها الحموي «انها من قرى دمشق» 4/ 32. (¬43) في الأصول وفي كتاب العبر: «ربو»، وليس لها ذكر في المعاجم والتصويب من معجم البلدان 3/ 116 وقال الحموي «بفتح أوله وضم ثانيه. . . مدينة للروم مقابل جزيرة صقلية من ناحية الشرق» وكذلك في الرّوض المعطار ص: 280 قال الحميري: «مدينة من بلاد قلورية على ضفة المجاز إلى صقلية». (¬44) ما سبق ذكره عن ابراهيم الثاني نقله المؤلف من كتاب العبر حرفيا مع اسقاط جمل يسيرة 4/ 434 - 436. (¬45) وتخلى عن الحكم انظر «الدولة الأغلبية» المرجع السابق ص: 348. (¬46) في الأصول: «لاثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة» والمثبت من نفس المرجع وكتاب العبر 5/ 439. (¬47) مارس 902 م. (¬48) في 28 شعبان سنة 290/ 27 جويلية 903 م. (¬49) انظر كتاب العبر 5/ 441.

المقالة الرابعة في ذكر ملوك الشيعة بالمغرب وكيفية انتقالهم لمصر وما يتبع ذلك

المقالة الرّابعة في ذكر ملوك الشّيعة بالمغرب وكيفيّة انتقالهم لمصر وما يتبع ذلك عبيد الله المهدي وقيام الدّولة الفاطمية: أقول الشّيعة فرقة مبتدعة يرون أفضليّة علي - رضي الله تعالى عنه - على الشّيخين أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - ويرون استحقاق ذرّية علي للخلافة دون بني أميّة والعبّاس، والنّسبة إلى الشّيعة شيعي، وأول من ظهر منهم بالمغرب فادعى الخلافة لنفسه أبو محمد عبيد الله الملقّب «بالمهدي». نقل ابن خلكان (¬1) عن صاحب «تاريخ القيروان» (¬2) أنه عبيد الله بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد / بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنهم - وقيل هو عبيد الله بن التّقي (¬3) بن الوفي (¬4) بن الرّضي، وهؤلاء الثّلاثة يقال لهم المستورون في ذات الله، والرّضي المذكور ابن محمد بن اسماعيل بن جعفر المذكور، واسم التّقي (¬5) الحسين، واسم الوفي أحمد، واسم الرّضي عبد الله، وانما استتروا خوفا على أنفسهم لأنهم كانوا مطلوبين من جهة خلفاء بني العبّاس، لأنهم علموا أن فيهم من يريد الخلافة أسوة بغيرهم من العلويين، ووقائعهم في ذلك مشهورة، وانما تسمّى المهدي عبيد الله تستّرا. ¬

(¬1) الوفيات 3/ 117. (¬2) لا نعرف من يقصد اذ كثير هم الذين كتبوا عن القيروان ولعله ابن شداد لأنه قضى قسما من حياته في الشرق واشتهر تأليفه بينهم. (¬3) ذكر ابن خلكان روايات أخرى في نسبه 3/ 117. (¬4) في الأصول: «الموفي» والمثبت من نفس المرجع. (¬5) في الأصول: «المتقي» والمثبت من الوفيات 3/ 117.

وكانت ولادة عبيد الله سنة تسع وخمسين ومائتين (¬6) بالكوفة (¬7)، «وكان داعيته ببلاد المغرب أبو عبد الله بن أحمد بن زكرياء المعروف بالشّيعي، سمّي بذلك لأن الشّيعيّ هو المنتسب للشّيعة وهو من صنعاء اليمن، كان من الرّجال الدّهاة الخبيرين بما يصنعون» (¬8)، كان تعرّف بالحجاز بجماعة من كتامة وترأّس فيهم رئاسة دينية، وقرر عندهم مذهب الشّيعة، فغرّهم برأيه ومذهبه، ووعدهم الملك بالمغرب فاتّبعوه، فمن ثمّ كان أخصّ النّاس بدولة العبيديين، ثم لمّا تمكن من قلوب أولائك الكتاميين دخل معهم المغرب بلا مال ولا رجال بل بالوعد (¬9) والأماني، فلم يزل يسعى بالمغرب حتى استنزل زيادة الله آخر ملوك بني الأغلب، فهرب - حسبما تقدّم آنفا - ولمّا فرّ زيادة الله ومهّد قواعد البلاد أبو عبد الله الشّيعي أقبل المهدي من المشرق / متوجها إلى سجلماسة (¬10) فأحسّ به اليسع آخر ملوك بني مدرار (¬11) فمسكه واعتقله، ومضى إليه أبو عبد الله الشّيعي فأخرجه من الاعتقال، وفوض إليه أمر المملكة، وقيل إن أبا عبد الله الشّيعي لمّا سمع باعتقاله حشد جمعا كثيرا من كتامة وغيرهم وقصد سجلماسة لاستنقاذه، فلمّا سمع اليسع بقدومهم قتل المهدي، فلمّا دخل أبو عبد الله السّجن وجد المهدي مقتولا وعنده رجل من أصحابه كان يخدمه، فخاف أبو عبد الله أن ينتقض عليه ما دبّره من الأمر ان عرفت العساكر بقتل المهدي، فأخرج الرّجل وقال: هذا هو المهدي (¬12). فمن هنا نشأ اختلاف كثير في نسب المهدي، وأهل العلم من المحقّقين ينكرون دعواه في النّسب حتى أن ابن طباطبا لما ملك المعزّ من العبيديين مصر كما يأتي - ان شاء الله - قال له: إلى من ينتسب مولانا؟ فقال: سنعقد مجلسا ونجمعكم ونسرد عليكم نسبنا، فلمّا استقرّ المعزّ بالقصر جمع النّاس في مجلس عام وجلس لهم فقال: هل بقي من ¬

(¬6) 872 - 873 م. (¬7) الوفيات: 3/ 119. (¬8) الوفيات لابن خلكان 2/ 192. (¬9) في الأصول: «الأوعادي» كما ينطقها بعض العوام، وجاء في تاج العروس: «الوعد من المصادر المجموعة ويقال الوعود، وتجمع عدة على عدات والوعد لا يجمع» 2/ 536. (¬10) بعدها في الأصول: «بلاد كتامة» أسقطناها لان سجلماسة في المغرب وهي ساقطة أيضا في الوفيات. (¬11) هو «اليسع» صاحب سجلماسة، الوفيات 3/ 118 وكتاب العبر 7/ 72. (¬12) نقل حرفي من الوفيات 3/ 118.

رؤسائكم أحد؟ فقالوا: لم يبق معتبر، فسلّ عند ذلك نصف (¬13) سيفه وقال: هذا نسبي ونثر عليهم ذهبا كثيرا، وقال: حسبي، فقالوا جميعا: سمعنا وأطعنا (¬14). قال ابن خلكان: وفيه دليل على عدم صحة نسبه اذ لو عرفه لذكره (¬15). وقال الجلال السيوطي في «تاريخه» إن الخلفاء العبيديين امامتهم غير صحيحة لأمور منها أنهم غير قرشيين لأن جدّهم مجوسي، وقال القاضي عبد الجبار البصري: اسم جدّ الخلفاء / المصريين سعيد كان أبوه يهوديا حدّادا بسلميّة (¬16) بفتح السّين المهملة واللاّم وكسر الميم وتشديد الياء المثنّاة تحت وتخفيفها أيضا، بليدة بالشّام، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: القدّاح جدّ عبيد الله الذي يسمّى المهدي كان مجوسيا، ودخل عبيد الله المغرب وادّعى أنه علوي، ولم يعرفه أحد من علماء النّسب وسمّاهم جهلة النّاس فاطميين (¬17)، وقال الذهبي: [اتفق] المحققون على أن عبيد الله المهدي ليس بعلوي (¬18). ولمّا دخل عبيد الله الشّيعي افريقية، ونزل رقّادة ترك جبلة بن حمّود سكنى الرّباط، ونزل القيروان، فكلّم في ذلك فقال: كنّا نحرس عدوّا بيننا وبينه البحر، والآن حلّ هذا العدو في ساحتنا، وهو أشدّ علينا من ذلك، فكان اذا أصبح وصلّى الصّبح خرج إلى طرف القيروان من ناحية رقّادة معه سيفه وترسه وفرسه وسلاحه، وجلس محاذيا لرقّادة إلى غروب الشّمس ثم يرجع إلى داره ويقول: أحرس عورات ¬

(¬13) في الأصول: «نصل» والمثبت من تاريخ الخلفاء ص: 5، وابن خلكان 3/ 82. (¬14) النقل من الوفيات في ترجمة عبد الله بن طباطبا، 3/ 82، ووردت القصة باختصار في تاريخ الخلفاء الفاطميين بالمغرب «القسم الخاص من كتاب عيون الأخبار للداعي ادريس عماد الدّين» تحقيق محمد اليعلاوي، دار الغرب الإسلامي 1985، ص: 5. (¬15) غير موجود في الوفيات. (¬16) في الأصول: «سليمة» وهذه الكتابة لا تتماشى مع شكلها الموصوف في النص وكتبها الطبري سلمية كما في معجم البلدان 3/ 230 «سلمية» بفتح أوله وثانيه وسكون الميم وياء مثناة من تحت خفيفة، ولا يعرفها أهل الشام الا بسلميّة كما وصفها المؤلف، وكتبها على هذا النحو الحميري في الروض المعطار ص: 320، وهي بلدة من أعمال حمص الشام. (¬17) السيوطي «تاريخ الخلفاء» ص: 4. وقول الذهبي ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء ص: 5. (¬18) الخلاف في نسب الفاطميين كبير بين الشّيعة وأهل السّنة، فالشّيعة مثبتون وأهل السّنة نافون، ما عدا ابن خلدون وتلميذه المقريزي، والمقريزي في كتابه: «اتعاظ الحنفاء» ذكر أقوال النافين تحت عنوان «ما قيل في أنساب الخلفاء الفاطميين اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء» 1/ 22 - 34 تحقيق المرحوم الدكتور جمال الدّين الشيّال، القاهرة 1387 هـ - 1967 م، وللمحقق تعليقات طويلة مفيدة، وذكر أقوال المستشرقين المؤيدين لصحة النسب، ونفيهم لأقوال أهل السنّة.

المسلمين منهم. وكان ينكر على من يخرج من القيروان إلى سوسة أو نحوها من الثّغور ويقول: جهاد هؤلاء أفضل من جهاد أهل الشرك. قال أبو بكر المالكي (¬19) لم يكن في وقته - رحمه الله - أكثر اجتهادا منه في مجاهدة عبيد الله الشّيعي، فسلّمه الله - عزّ وجلّ - منه قال: واتّصل به أن بعض أهل القيروان خرجوا ليتلقوا عبيد الله الشّيعي تقية من شرّه ومداراة له فقال جبلّة بن حمود: اللهم / لا تسلم من خرج يسلم عليه، واغتمّ لذلك غمّا شديدا فلمّا انتهوا إلى وادي أبي كريب جرّدوا وأخذت ثيابهم، فلمّا عرّفوا جبلة بذلك قال ما غمّني فيهم الا رجل واحد (¬20) هو حماس بن مروان القاضي. ولمّا دخل عبيد الله القيروان «دعي له بالخلافة على منابر رقّادة والقيروان يوم الجمعة لتسع بقين من ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين» (¬21) بعد رجوعه من سجلماسة (¬22) بالسين المهملة وسكون الجيم وفتح اللام والميم وبعد الألف سين مهملة وهاء تأنيث، وتقدم التّعريف بها صدر الكتاب. ثم ان العبيديين لمّا استولوا على افريقية انضاف إليهم طوائف كثيرة من الشيع الغالبة قدموا عليهم من كل بلاد متوسلين إليهم بحب أهل البيت والتعصّب لهم حتى ولّوهم الولايات ورفعوا منازلهم، أظهروا مذهبهم الفاسد في سب الصّحابة - رضي الله عنهم - وتبديل الشرائع والاضرار بأهل السنّة، فمن المتعصّبين محمد بن عمر المروذي (¬23) القاضي، وعبد الله بن محمد بن أبي خنزير الكتامي وكان محمّد بن عمر المروذي القاضي معتقدا لمذهب الشّيعة معروفا بذلك، فلما دخل الشّيعي بادر إليه، ودخل في دعوته ¬

(¬19) النقل عن المالكي وموجود في معالم الايمان في ترجمة جبلة بن حمود 2/ 270 وانظر رياض النفوس 2/ 27 - 45. (¬20) بعدها في رياض النفوس: «فيه خير ولا دنيا له» 2/ 42. (¬21) كذا في «تاريخ الخلفاء الفاطميين بالمغرب»: القسم الخاص من كتاب عيون الأخبار وفي كتاب العبر «في رجب سنة ست وتسعين» وهو التّاريخ الذي اعتمده فرحات الدّشراوي في أطروحته Le Califat fatimide au Maghreb ، ص: 112. (¬22) «سجلماسة»: «بكسر أوله وثانيه وسكون اللام وبعد الألف سين مهملة» وكذا تعرف وكتبت في مختلف النّصوص، معجم البلدان 3/ 192. (¬23) في الأصول: «مروزي» والاصلاح من تاريخ الخلفاء، و «مروذي» نسبة إلى «مرو الروذ» وهي مرو الصغرى وأما الكبرى فالنسبة إليها مروزي بالزاي، راجع معجم البلدان لياقوت 8/ 32 وموقعها الآن بالاتحاد السوفياتي على مقربة من حدود إيران وأفغانستان غربي بخارى. أنظر أطلس التاريخ الإسلامي لمازارد (تعليقات د. محمد الأحمدي أبو النور ومحمد ماظور على معالم الايمان 2/ 289 هامش 4).

ولزمه وولاّه قضاء افريقية، فتصلّب وتكبر وتجبر، وكانت أيّامه صعبة جدّا على أهل السّنة، فأخافهم، ولمّا خرج أبو عبد الله الشّيعي / إلى سجلماسة، واستخلف مكانه أخاه أبا العبّاس، أطلق يد المروذي وقوّى أمره، فأخذ أبا العبّاس بطريقة قاضي طرابلس - وكان من الفقهاء العالمين -، وأبا القاسم الطوزي قاضي صقليّة، والمحتسب بمدينة القيروان، فضربهم وقتل ابن هذيل، وابراهيم بن البرذون، وأول ما ولي زاد في الآذان: «حي على خير العمل»، وترك النّاس يصلّون برمضان سنة واحدة، ثم منعهم، وترك أكثر النّاس الصّلاة بالمساجد، وأخذ أموال الأحباس والحصون، وأخذ السّلاح الذي بالحصون التي على البحر، وأمر الفقهاء أن لا يكتبوا وثيقة ولا يفتوا فيمن سرق وكفر، وأمر أن تزال من الحصون والمساجد أسماء الذين بنوها وأمر ببنائها السّلاطين، ويكتب اسم المهدي (¬24). واختلف في سبب قتل ابن هذيل وابراهيم بن البرذون «فقيل: لمّا وصل عبيد الله إلى رقّادة أرسل إلى القيروان من أتاه بهما، فلمّا وصلا إليه وجداه على سرير ملكه جالسا، وعن يمينه أبو عبد الله الشّيعي، وعن يساره أخوه أبو العبّاس، فلمّا وقفا بين يديه قال لهما أبو عبد الله وأخوه: اشهدا أن هذا رسول الله، وأشار إلى عبيد الله، فقالا جميعا بلفظ واحد: والله الذي لا إلآه إلاّ هو لو جاءنا هذا والشّمس عن يمينه والقمر عن يساره يقولان أنه رسول ما قلنا أنه رسول الله، فأمر عبيد الله حينئذ بذبحهما جميعا، وأمر بربطهما إلى أذناب البغال، فقيل إن / ابراهيم لمّا جرّ للقتل قال له ابن أبي خنزير عامل القيروان: أترجع عن مذهبك؟ فقال له: أعن الاسلام تستتيبني؟ فقتل. وقال أبو بكر المالكي (¬25) انه لمّا امتنع هو وصاحبه من ذلك قال لهما: اخرجا إلى النّاس فقولا أنه قد فعلنا ولا تفعلا فأبيا عليه [ذلك] واعتلاّ بأنه يقتدى بهما، وقالا: عذاب الدّنيا أيسر من عذاب الآخرة، فأمر بضربهما بالسّوط حتى ماتا (¬26) وقيل ضرب أعناقهما وطيف بهما مسحوبين على وجوههما قد ربطا إلى بغل فجرّهما من باب تونس إلى باب أبي الرّبيع فصلبا هنالك. أما ابن البرذون، فنقل عنه أنه قال: كان علي بن أبي ¬

(¬24) عن القاضي المروذي انظر معالم الايمان 2/ 291 - 292 والمؤلف ناقل ما فيه. (¬25) رياض النفوس والنقل من معالم الايمان عن المالكي 2/ 264 - 265 (ط.2). (¬26) معالم الايمان 2/ 264.

طالب - رضي الله تعالى عنه - يقيم الحدود بين يدي عمر بن الخطاب، أو أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنهما - ويعينه على أموره، فلو لم يكن عنده امام هدى مستحقا للتقدمة ما فعل، فبلغ قوله إلى أبي العبّاس الشّيعي، فقال: كان يوسف الصّديق من أعوان العزيز في أموره فما كان فيه نقص ليوسف ولا زيادة في مقدار العزيز، وكان قتلهما في سنة تسع وتسعين ومائتين (¬27) - رحمة الله عليهما - وسعى القاضي المروذي إلى المهدي بأبي جعفر محمد بن محمد بن خيرون المعافري الأندلسي القرطبي، فأمر المهدي عامله ابن أبي خنزير بقتله فعذّبه إلى أن مات. «حكى الشيخ أبو الحسن القابسي - رحمه الله تعالى - قال: أخبرني من أثق به أنه كان جالسا عند ابن أبي خنزير اذ دخل عليه شيخ / ذو هيئة جميلة، وقد علاه اصفرار مع حسن سمت وخشوع، فلمّا رآه ابن خنزير بكى، فقال: ما الذي يبكيك؟ قال: السّلطان - يعني عبيد الله - وجّه إلي يأمرني بدوس هذا الشيخ حتى يموت - يعني ابن خيرون -، ثم أمر به فأدخل إلى مجلس، وبطح على ظهره، وطلع السودان فوق سرير، فقفزوا عليه بأرجلهم حتى مات، وذلك من أجل جهاده على دين الله وبغضه لبني عبيد الله (¬28). قال أبو بكر المالكي (¬29): ولمّا مات أخذوه وحملوه على بغل وألقوه في حفير، ونهب ابن أبي خنزير ماله، وأخذ مولدة كانت له، وجعلها مع خدمه (¬30) «فلم يمر الا شهر حتى أخذ عبيد الله القاضي المروذي فسجنه وعذّبه حتى مات، وسبب أخذه انه لما طال على ابن أبي خنزير كثرة من يأتي به المروذي من العلماء والصلحاء ليقتلهم سعى به عند عبيد الله، ومضى به إلى المهديّة، فقبل عبيد الله قوله، ومكّنه منه فأخذه وألبسه ملبسا، ورماه في اصطبل الدّواب تمشي عليه فركضت في بطنه حتى قتلته، فكانت ¬

(¬27) 911 - 912 م هذا التاريخ غير دقيق لأن أبا العباس قتل مع أخيه أبي عبد الله في جمادي 298، وجميع النّقول تقول على أن لهما يدا في دم هذين الشيخين فلا بدّ أن يكون استشهادهما قبل قتل الآخرين والراجح أنه سنة 297 لأنهما من أول ضحايا ذلك الإنقلاب، تعليق محققي معالم الإيمان د. محمد أحمدي أبو النور ومحمد ماضور 2/ 263. وترجمة ابن البرذون وابن هذيل في معالم الإيمان الذي اقتصر عليه المؤلف 2/ 261 - 269. (¬28) كذا في ت وط وفي ش: «وبغضه لعبيد الله» وفي معالم الايمان: «وبغضه لبني عبيد» 2/ 290. (¬29) نقل من معالم الايمان 2/ 290. (¬30) معالم الايمان 2/ 290 وفي آخر الترجمة من ص: 291 أخبار القاضي محمد بن عمر المروذي.

مولدة ابن خيرون تأتيه وهو تحت أرجل الدّواب فيقول لها: إنك بسببي صرت عند السّلطان؟ فتقول له: يا شيخ السوء! قتلت سيدي ابن خيرون شيخ القيروان، وأزلتني من عنده، ورددتني عند خنزير ابن خنزير، وتأمر خدمها فيلطمنه ويعضضنه (¬31)، وكانت هي المتوليّة لعذابه حتى هلك. قيل إنه لما ضرب مائة سوط / وعذّب قيل له: هات الأموال التي جمعت، فقال: والله لو أن تحت قدمي جبّا مملوءا بمال الدّنيا كلّها ما أخرجت لكم منه درهما، واني قد عصيت الله تعالى فيكم فسلّطكم علي، فاضربوا ما شئتم وعذّبوا كيف شئتم هذا ما كان من أمر القاضي» (¬32). وأما أبو عبد الله الشّيعي وأخوه أبو العبّاس - وكان هو الأكبر - فانهما لما اجتمعا بعد تمكين عبيد الله من المملكة لام أبو العبّاس أخاه على ما فعل من تمكينه عبيد الله بالمملكة وقال له: تكون صاحب البلاد والمستقلّ بأمورها وتسلّمها إلى غيرك وتبقى أنت من جملة الأتباع؟ وكرر عليه القول، فندم أبو عبد الله على ما صنع وأضمر الغدر فاستشعر منهما المهدي ذلك، فدسّ عليهما من قتلهما في ساعة واحدة وذلك في منتصف جمادى الآخرة سنة ثمان وسبعين ومائتين (¬33) بمدينة رقّادة بين القصرين. وأما ابن أبي خنزير، فانه لمّا اطمأن عبيد الله واستقرّت له المملكة بعث على جزيرة صقليّة ابن أبي خنزير، فوصل إلى مازرة سنة سبع وتسعين ومائتين (¬34)، فولّى أخاه على كبركيت (¬35) وولّى اسحاق بن المنهال قضاء صقليّة، وشكا أهل صقليّة سوء سيرة ابن أبي خنزير، وثاروا به وحبسوه، وكتبوا إلى المهدي معتذرين، فقبل عذرهم، وولّى عليهم علي بن عمر البلوي، فقدمها آخر سنة تسع وتسعين ومائتين (¬36)، وكان شيخا ليّنا فعزلوه، وولّوا عليهم أحمد بن قهرب (¬37) فدعا النّاس إلى طاعة المقتدر العبّاسي، فأجابوه وقطع خطبة المهدي، وبعث أسطوله إلى افريقية فلقوا أسطول المهدي وقائده ابن أبي خنزير فقتلوه وأحرقوا الأسطول، وسار أسطول ابن قهرب إلى صفاقس فأخربها وجاءت ¬

(¬31) في معالم الإيمان: «ويعطونه قدره» 2/ 291. (¬32) معالم الايمان 2/ 291. (¬33) 24 سبتمبر 891 م. (¬34) 909 - 910 م. (¬35) في الأصول: «كركيت» والمثبت من كتاب العبر 4/ 442. (¬36) 911 - 912 في كتاب العبر: «سبع وتسعين» 4/ 442. (¬37) في الأصول: «ابن مذهب» والمثبت من كتاب العبر 4/ 443.

حركة القيروانيين المضادة للفاطميين

الخلع والألوية من المقتدر إلى ابن قهرب فاستقل، وانقطعت طاعة المهدي من صقليّة (¬38) واختلف الأئمة في جواز مقاتلة العبيديين. حركة القيروانيين المضادة للفاطميين: قال في المعالم (¬39): «كان أبو الفضل عبّاس الممسي ممن خرج لقتال بني عبيد مع أهل القيروان لما كان يعتقد من كفرهم، قال أبو بكر المالكي: رأى أن الخروج مع أبي يزيد الخارجي - الآتي خبره - وقطع دولة بني عبيد فرضا لأن الخوارج من أهل القبلة لا يزول عنهم الاسلام ويرثون ويورثون وبنو عبيد ليسوا كذلك لأنهم مجوس زال عنهم اسم المسلمين فلا يتوارثون معهم ولا ينسبون إليهم» (¬40) وقال (¬41): «عوتب ربيع بن القطان في خروجه مع أبي يزيد إلى حرب بني عبيد فقال: وكيف لا أفعل وقد سمعت الكفر بأذني؟ فمن ذلك أني حضرت اشهادا وكان فيه جمع كثير - أهل سنّة ومشارقة - وكان بالقرب مني أبو قضاعة الدّاعي فأتى رجل مشرقي [من أهل الشرق ومن أعظم المشارقة فقام إليه رجل مشرقي] (¬42) وقال: إلى هاهنا يا سيدي إلى جانب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعني أبا قضاعة الدّاعي ويشير بيد، إليه، فما أنكر أحد شيئا من ذلك! فكيف ينبغي أن أترك القيام عليهم؟ ووجد بخطه قال: لمّا كان في رجب سنة احدى وثلاثين، قام الصّبي المكوكب يقذف الصّحابة / ويطعن على النّبي صلّى الله عليه وسلم وعلقت عظام رؤوس أكباش وحمير وغيرها على أبواب الحوانيت والدّروب عليها قراطيس معلّقة فيها أسماء يعنون بها رؤوس الصّحابة - رضوان الله عليهم - فلمّا رأى ربيع ذلك لم يسعه التأخر عن الخروج عليهم - وكذلك كان جميع الشيوخ يتأوّلون أبا اسحاق السبائي وغيره ولما اجتمعوا للخروج عليهم قال ربيع القطّان: أنا أول من يشرع في هذا الأمر ويخرج فيه ويندب المسلمين ويحضهم عليه، وتسارع جميع الفقهاء والعباد لذلك، فلمّا كان بالغد خرج ¬

(¬38) عن هذه الأخبار أنظر كتاب العبر 4/ 442 - 443. (¬39) معالم الايمان 3/ 29 (ط.2). (¬40) معالم الايمان: 3/ 29. (¬41) معالم الايمان: 3/ 31 - 32 (ط 2). (¬42) اضافة من المعالم ليستقيم المعنى.

الربيع وجماعة الفقهاء ووجوه التجّار إلى المصلّى بالسلاح الشاك (¬43) والعدّة العجيبة التي لم ير مثلها، وضاق بهم الفضاء وتواعد النّاس أن ينظروا في الزّاد وآلة السّفر إلى يوم السبت - وذلك يوم الاثنين - وركب بعض الشيوخ من الموضع إلى الجامع بالسّلاح، وشقّوا السّماط بالقيروان، وزادوا في استنهاض (¬44) الناس، فلمّا كان يوم الجمعة اجتمعوا في الجامع وركبوا بالسّلاح الكامل وعملوا البنود والطبول» (¬45). «قال أبو الحسن علي بن سعيد الخرّاط الفقيه: لما بلغني أن الفقهاء قد تجمّعوا في الجامع في تدبير الخروج إلى المهديّة في أيام أبي يزيد بكّرت إلى الجامع فأصبت أبا العرب محمد بن أحمد بن تميم بن تمّام التّميمي، وأبا الفضل عبّاس الممسي، وربيع القطّان، وأبا اسحاق السّبائي، ومروان بن نصر وغيرهم جلوسا عند المنبر فتكلموا / في الخروج على بني عبيد فاختلفوا وتناظروا حتى قال أبو العرب: اسكتوا، فسكت النّاس فقال: حدّثني عيسى بن مسكين عن محمّد بن عبد الله الجرجاني باسناده إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يكون في آخر الزمان قوم يقال لهم الرّافضة فاذا أدركتموهم فاقتلوهم فانهم كفّار» (¬46) فلمّا أتمّ الحديث كبّر النّاس وعلت أصواتهم في الجامع حتى ارتجّ، ثم خرجوا لقتال بني عبيد، وهذا يدلّك على كمال عدالته وصحّة نقله، ولولا ذلك لما اتفقوا بعد الاختلاف على الخروج على من ذكره» (¬47). ولم يتخلّف من العلماء والفقهاء أحد «وكانت عدة بنودهم سبعة ركّزوها قبالة مسجد الجامع المعروف بالحدّادين، بندا أصفر لربيع القطّان مكتوب عليه البسملة ومعها لا إلآه إلاّ الله محمد رسول الله، وفي الثاني - وهو لربيع أصفر أيضا - نصر من الله وفتح قريب على يد أبي يزيد اللهم انصره على من سبّ نبيك، وفي الثالث - وهو أصفر أيضا لأبي الربيع - بعد البسملة - {فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} (¬48) وفي الرّابع - وهو أحمر لأبي الفضل عبّاس الممسي - لا إلآه إلاّ الله محمد رسول الله، وفي الخامس - وهو ¬

(¬43) في الأصول: «شائك» والمثبت من معالم الايمان 3/ 32. (¬44) في الأصول: «أشخاص» والمثبت من المعالم 3/ 32. (¬45) النقل من المعالم 3/ 32. (¬46) روى أحمد بن حنبل في سننه أن عليا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يظهر في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام». مسند أحمد ج 1 ص: 103. (¬47) النقل من نفس المرجع ص: 35. (¬48) سورة التوبة: 12 وأولها وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ. . . .

أخضر لمروان العابد - بعد البسملة - {قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} (¬49) وفي السادس - وهو أبيض بعد البسملة - لا إلآه إلاّ الله محمد رسول الله أبو بكر الصدّيق / عمر الفاروق، وفي السابع - وهو لابراهيم ابن الحبشا (¬50) - وكان أكبر البنود لونه أبيض، لا إلآه إلاّ الله محمد رسول الله {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اِثْنَيْنِ} (¬51) الآية، فلمّا اجتمع النّاس وحضرت الجمعة، طلع الامام على المنبر - وهو أحمد بن محمد بن أبي الوليد، وكان أبو الفضل الممسي هو الذي أشار به - وخطب خطبة أبلغ فيها وحرّض النّاس على الجهاد، وأعلمهم بما لهم فيه من الثّواب وتلا {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ} (¬52) الآية، وقال: يا أيها النّاس، جاهدوا من كفر بالله، وزعم أنه ربّ من دون الله، وغيّر أحكام الله، وسبّ نبيّه وأصحاب نبيّه وأزواج نبيّه، فبكى النّاس بكاء شديدا، وقال في خطبته: اللهم ان هذا القرمطي الكافر الصنعاني المعروف بأبي عبيد الله المدّعي الرّبوبية من دون الله جاحد لنعمك، كافر بربوبيتك، طاعن على أنبيائك ورسلك، مكذّب لمحمّد نبيّك وخيرتك من خلقك، سابّ لأصحاب نبيّك وأزواج أمّهات المؤمنين، سافك لدماء أمّته، هاتك لمحارم أهل ملّته افتراء عليك واغترارا بحلمك، اللهم فالعنه لعنا وبيلا، واخزه خزيا طويلا، واغضب عليه بكرة وأصيلا، واصله في جهنم وساءت مصيرا، بعد أن تجعله في الدّنيا عبرة للسائلين وأحاديث الغابرين، وأهلك اللهم متّبعه وشتّت كلمته وفرّق جماعته واكسر شوكته واشف صدور قوم مؤمنين منه، ونزل، فجمع الجمعة ركعتين وسلّم وقال: إن الخروج غدا يوم السبت / إن شاء الله تعالى، وركب ربيع القطان فرسه وعليه آلة الحرب وفي عنقه المصحف وحوله جماعة من النّاس من أهل القيروان متأهّبون مستعدّون لجهاد أعداء الله عليهم آلة الحرب، فنظر إليهم ربيع القطّان فسرّ بهم، وقال: الحمد لله الذي أحياني حتى أدركت عصابة من المؤمنين (¬53) اجتمعوا لجهاد أعدائك وأعداء نبيّك، يا ربّ بأي ¬

(¬49) سورة التوبة 14. (¬50) في الأصول: «ابن المثنى» والمثبت من المعالم 3/ 33. (¬51) سورة التّوبة: 40. (¬52) سورة النساء: 95. (¬53) كذا في ط ومعالم الايمان 3/ 33 وفي ت وش: «المسلمين».

عمل وبأي شيء وصلت إلى هذا، ثم أخذ في البكاء حتى جرت دموعه على لحيته ثم قال: والله لو رآكم محمّد صلّى الله عليه وسلم لسرّ بكم. قال الشّيخ أبو الحسن القابسي: فلمّا تلاقوا للقتال، أقبل ربيع وهو يطعن فيهم ويضرب وهم يتوقفون عن طعنه طمعا أن يأخذوه حيّا، فلمّا أثخنهم بالضّرب والطّعن عمد إليه جماعة منهم فقتلوه، واستشهد معه أئمّة وعبّاد وصلحاء، عدّتهم خمسة وثمانون رجلا. وقال أبو الحسن أيضا عن شيوخه الذين أدركهم: إن الذين ماتوا في دار البحر بالمهديّة من حين دخل عبيد الله إلى الآن أربعة آلاف رجل في العذاب ما بين عالم وعابد ورجل صالح» اهـ‍. وكان القرويّون (¬54) غلبوا من كان بالمهديّة، وطمعوا في أخذها فمكر بهم أبو يزيد فقال لجيشه: القرويون اذا حكموا على بني عمّنا واستأصلوهم رجعوا علينا فلا نقدر عليهم، فاذا كان من الغد والتحم النّاس في القتال انهزموا (¬55) عنهم حتى تقع الكسرة (¬56) عليهم فترتاحوا من شوكتهم، أو نحو هذا الكلام، ففعلوا ذلك، فوقعت الهزيمة عليهم / لما سبق في سابق علم الله فاستشهد من استشهد كأبي الفضل الممسي (¬57)، وربيع القطان. قيل إن ربيع القطان قتل قرب المهديّة بالوادي المالح، وقطع رأسه وأتي به إلى أبي القاسم بن عبيد في طشت (¬58)، فلمّا كشفوا عنه فتح الرأس عينيه وفمه، فقال أبو القاسم: أبعدوه عني، وكانت وفاته في رجب سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة (¬59). قال أبو محمد التبّان: رأيت ربيعا القطان في المنام بعد أن قتل، فسألته عن حاله، ¬

(¬54) يستمر في النقل من المعالم 3/ 34. (¬55) في المعالم: «انعزلوا». (¬56) في المعالم: «الكرّة». (¬57) هو عباس بن عيسى الممسي نسبة إلى ممس وقيل بتشديد الميم الثانية وهي Mamma البيزنطية، وتقع غربي القيروان على بعد 50 كلم منها، و 33 كلم من سبيطلة، وهي التي تحصن بها كسيلة عند زحف زهير بن قيس البلوي نحو القيروان، توفي الممسي سنة 333 هـ ‍ وترجمته في الأعلام 3/ 363 - 4 (ط / 5) وترتيب المدارك 3/ 313 - 323 والديباج 317 وشجرة النور الزكية 33 وطبقات علماء افريقية للخشني 34 ومعالم الايمان 3/ 27 - 30 (ط / 2) وغير ذلك، وانظر تراجم المؤلفين التونسيين لمحمد محفوظ 4/ 381 - 383. (¬58) في المعالم: «طست»، والطشت لغة في معنى الطست (فارسية). (¬59) فيفري 945 م.

أقوال بعضهم في الفاطميين والمجادلة حول رميهم بالكفر والزندقة وتبرئتهم منهما

فقال: تارة يزخرف لنا الجنان، وتارة [تشرف علينا الحور والولدان] (¬60)، وتارة تبسط (¬61) لنا الحجب، فقلت له: من أعلى درجة أنت أو الممسي؟ فقال جمعنا في حديقة واحدة. قال أبو بكر المالكي (¬62): وكان يكثر من الاشارة بأنه يستشهد، فكان ذلك في قتال بني عبيد، وكان يقول: والله ليدارنّ بهذا الرأس، فقدّر الله أن أدير برأسه بطرابلس» وهذا كله مبني على القول بكفر بني عبيد (¬63). أقوال بعضهم في الفاطميين والمجادلة حول رميهم بالكفر والزندقة وتبرئتهم منهما: قال الجلال السّيوطي (¬64): إن أكثر الخلفاء العبيديين زنادقة خارجون عن الاسلام منهم من أظهر سب (الصّحابة) (¬65) والأنبياء، ومنهم من أباح الخمر، ومنهم من أمر بالسّجود له، والخيّر منهم رافضي خبيث لئيم بسبّ الصّحابة، ومثل هؤلاء لا تنعقد لهم بيعة، ولا تصحّ لهم امامة. قال القاضي أبو بكر الباقلاني (¬66): كان المهدي عبيد الله باطنيا (¬67) خبيثا حريصا على إزالة ملّة الاسلام، أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه أباحوا الخمر والفروج / وأشاعوا الرّفض. وقال الذّهبي: كان القائم بن المهدي أشرّ (¬68) من أبيه زنديقا ملهونا، أظهر سبّ الأنبياء، وقال: وكان العبيديون على ملّة الاسلام أشرّ (¬69) من التتر، وقال أبو الحسن ¬

(¬60) في الأصول: «وتارة يشرق علينا» والاضافة من المعالم 3/ 36. (¬61) في الأصول: «تصطك» والمثبت من نفس المرجع. (¬62) يستمر في النقل من المعالم 3/ 36. (¬63) انتهى النقل من المعالم 3/ 36 وعن ربيع القطان انظر النص الكامل في المعالم 3/ 30 - 36 (ط.2) وترجمته في الأعلام للزركلي 3/ 15 (ط.5) وترتيب المدارك 3/ 323 وشجرة النور الزكية ص: 83، ورياض النفوس ومحمد محفوظ، معجم المؤلفين التونسيين 4/ 92 - 93. (¬64) تاريخ الخلفاء ص: 5. (¬65) زائدة عن نص السيوطي. (¬66) النقل من تاريخ الخلفاء. (¬67) في الأصول: «إباضيا» والمثبت من تاريخ الخلفاء. (¬68) في تاريخ الخلفاء: «شرا». (¬69) في تاريخ الخلفاء: «شرا».

القابسي: إن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه من العلماء والعبّاد أربعة آلاف رجل ليردّوهم عن الترضي عن الصّحابة، فاختاروا الموت، فيا حبّذا لو كان رافضيا فقط، ولكنه زنديق. وقال القاضي عياض: سئل أبو محمد القيرواني والكثير من علماء المالكية عمن أكرهه بنو عبيد - يعني خلفاء مصر - على الدّخول في دعوتهم أو يقتل؟ قال يختار القتل، ولا يعذر أحد في هذا الأمر، كان [أول دخولهم] (¬70) قبل أن يعرف أمرهم (¬71) وأما بعد فقد وجب الفرار، فلا يعذر أحد بالخوف بعد إقامته، لأن المقام في موضع يطلب من أهله تعطيل الشرائع لا يجوز، وانما أقام من الفقهاء مع المباينة لهم (لئلا يخلو بالمسلمين عدوهم فيفتنهم عن دينهم) (¬72). وقال يوسف الرعيني: أجمع العلماء بالقيروان [على] أن حال بني عبيد حال المرتدّين والزّنادقة، لما أظهروا من خلاف الشّريعة. وقال ابن خلكان (¬73): قد كانوا يدعون علم المغيبات وأخبارهم في ذلك مشهورة، حتى أن العزيز صعد يوما على المنبر فرأى ورقة فيها مكتوب: [مخلع البسيط] بالظّلم والجور قد رضينا ... وليس بالكفر والحماقة إن كنت أعطيت علم غيب (¬74) ... بيّن لنا كاتب البطاقة وكتبت إليه امرأة رقعة فيها مكتوب بالذي أعز اليهود بمنشأ (¬75) / والنّصارى بابن نسطور (¬76) وأذلّ المسلمين بك، الا نظرت في أمري، وكان قد ولي منشأ اليهودي عاملا على الشّام وابن نسطور النّصراني على مصر اهـ‍ (¬77). ¬

(¬70) ساقطة في الأصول. (¬71) في الأصول: «الأمر منهم» والمثبت من الخافاء ص: 6. (¬72) في تاريخ الخلفاء: «لئلا تخلو للمسلمين حدودهم فيفتنوهم عن دينهم». (¬73) النقل من تاريخ الخلفاء على لسان ابن خلكان ص: 6، أنظر في ذلك: الوفيات 5/ 373 - 374. (¬74) في الأصول: «الغيب» والمثبت من تاريخ الخلفاء ص: 6. (¬75) في تاريخ الخلفاء: «ميشا» والأصوب كما في النص اذ هو اسم معروف عند اليهود. (¬76) في الأصول: «نسطول» والمثبت من تاريخ الخلفاء. (¬77) تاريخ الخلفاء ص: 5 - 6.

وقيل الأبيات للحاكم بن العزيز المذكور، ففي تاريخ الذّهبي: أن الحاكم ادّعى علم الغيب في وقت، فكان يقول فلان قال في بيته كذا وكذا، وفعل كذا وكذا، وأكل كذا وكذا، وكان ذلك باتفاق اعتمده مع العجائز اللاّتي تدخلن بيوت الأمراء وغيرهم، ويعرّفونه بذلك، فرفعت إليه رقعة فيها بالجور والظّلم قد رضينا (¬78) إلى آخر البيتين، فحين رآها سكت عن الكلام في المغيبات، وكان هو وأسلافه بمصر يدّعون الشّرف ويقولون: نحن أولاد فاطمة وأبونا علي بن أبي طالب - كرّم الله وجهه - وكان الحاكم في كل سبعة أيام يقول ذلك على المنبر، وكانت الرّقاع ترفع إليه وهو على المنبر، فرفعت إليه رقعة مكتوب فيها: [رجز] انا سمعنا نسبا منكرا ... يتلى على المنبر في الجامع إن كنت فيما قلته (¬79) صادقا ... فانسب لنا نفسك كالطائع (¬80) أو كان حقّا كلّما تدعي ... فاذكر أبا بعد الأب السابع (¬81) أو لا فدع الأنساب مستورة ... وادخل بنا في النسب الواسع فانّ أنساب بني هاشم ... يقصر عنها طمع الطامع فرماها من يده ولم ينتسب فيما بعد، وكان الحاكم الخبيث يعمل الحسبة بنفسه فيدور في الأسواق على حمار له فمن وجده غشّ في معيشته أمر عبدا أسواد معه يفعل به الفاحشة العظمى، وهذا أمر منكر لم يسبق إليه اهـ‍ (¬82). وقال في معالم / الايمان (¬83): «فان قلت وهل يعذر أحد بالاكراه على الدّخول في ¬

(¬78) ساقطة في ط. (¬79) تدعي. (¬80) هو الطائع الخليفة العباسي، ووردت رواية أخرى. وإن ترد تحقيق ما قلته فانسب لنا نفسك كالطائع (¬81) رواية أخرى للبيت: إن كنت فيما تدعي صادقا فاذكر أبا بعد الأب الرابع والأبيات وردت في وفيات الأعيان 5/ 9 - 10 في ترجمة العزيز بالله. وذكرها السيوطي في تاريخ الخلفاء ص: 4 - 5 نقلا عن ابن خلكان. (¬82) تاريخ الخلفاء ص: 6. (¬83) ما نقله عن معالم الايمان موجود في 2/ 265 في أواخر ترجمة أبي اسحاق بن البرذون.

مذهبهم؟ قلت: قال يوسف بن عبد الله الرّعيني في كتابه: قال الشيوخ أبو محمد بن أبي زيد، وأبو القاسم بن شبلون، وأبو الحسن القابسي، وأبو علي بن خلدون، وأبو محمد الضبي (¬84)، وأبو بكر بن عذرة: لا يعذر أحد في ذلك، لأنه قام بعد علمه بكفرهم - وكفرهم ارتداد وزندقة - بخلاف غيرهم». وقال الشّيخ أبو القاسم بن الدّهّان: لأن كفرهم خالطه سحر، فمن اتصف بهم (¬85) وخالطهم خالطه السحر، والسحر كفر. ولما حمل اهل طرابلس لبني عبيد أظهروا أن يدخلوا في دينهم عند الاكراه ثم ردّوا من الطريق سالمين، فقال ابن أبي زيد: هم كفّار لاعتقادهم ذلك. قلت: الأقرب أنهم ليسوا بكفار، وانما صرح أبو محمد بما ذكر، مبالغة لتنفير العامة لأن المطلوب سدّ هذا الباب، وأما فيما بينهم وبين الله فما قلنا والله أعلم (¬86). وقال أيضا: ولم يزل أهل القيروان في جهاد مع الفرق الضالة والفئة المارقة، ولم يزل الشّيخ الأوحد أبو عثمان سعيد بن الحداد، وأبو محمّد عبد الله بن اسحاق التّبان، يناظران على مذهب أهل السّنة ويرون ذلك من أعظم الجهاد حتى أخمد الله نارهم، وقلّ عددهم، وظهر حزب الحقّ وأعلى الله كلمته والحمد لله رب العالمين. قال (¬87): وكان أبو اسحاق ابراهيم بن حسن بن يحيى المعافري التونسي امتحن بسبب أنه «ورد عليه سؤال من مدينة / باغاية (¬88) استفتى فيه، وكانت المسألة مسألة طلاق ومراجعة، وذكر السائل أن ولي النّكاح كان من الفرقة المعروفة بافريقية بالمشارقة وهم دعاة بني عبيد - فأجاب الشّيخ أبو اسحاق - رحمه الله تعالى - أن هذه الفرقة على قسمين أحدهما كافر مباح الدّم، والقسم الآخر وهم الذين يقولون بتفضيل علي بن أبي طالب على سائر الصّحابة، لا يلزمهم القتل ولا يبطل نكاحهم، وأنكر عليه جميع فقهاء افريقية بالقيروان وغيرها ذلك، واحتجوا عليه بجماعة من أهل الزّهد والعلم والعبادة بالقيروان كانوا أشدّ النّاس مباينة بالعداوة والتكفير لبني عبيد وأتباعهم، منهم أبو اسحاق ¬

(¬84) في الأصول: «بن الطيبي» والمثبت من المعالم 2/ 265. (¬85) في الأصول: «انضاف لهم» والمثبت من المعالم 2/ 265. (¬86) معالم الايمان: 2/ 265. (¬87) معالم الايمان 3/ 177 (¬88) في الأصول: «باغية» والمثبت من معالم الايمان 3/ 177 وكتاب العبر، وقد سبقت الاشارة إلى ذلك.

السبائي، ومروان العابد، وربيع القطّان وأضرابهم، وأرسلوا إليه أن يعاود النّظر، وأن يرجع عن هذا القول فأبى ذلك، وانتهت القضيّة إلى المعزّ بن باديس (الذي كان سببا في قطع مذهب الشّيعة) (¬89) فجمع بعض الجمع عنده في المقصورة وناظروه فأظهر الانابة إلى قولهم والرّجوع، ثم خلا بأصحابه فأنكروا عليه رجوعه إلى قولهم وأنه على الحق الذي لا يجب سواه، وكان رأي الفقهاء سدّ هذا الباب للعامّة على هؤلاء الكفرة بني عبيد الزّنادقة، وأن الدّاخل في دعوتهم - وان لم يقل بقولهم - كافر لتوليه الكفر، فأظهر أبو اسحاق التّمادي على قوله وانكار الرجوع عنه، فأطلق الفقهاء الفتيا بسبب مقالته / هذه بالتّضليل والتّبديع، وقال فيها الشّعراء قصائد كثيرة تضمنت التبرّي من أبي اسحاق، وأنشدها الشعراء والطلبة عند الفقهاء في دورهم (وجمعهم) (¬90)، وأمر السّلطان بسجل في القضيّة من التبري من قوله، وقيل فيه ما يعظم به أجره، وأمر بقراءته يوم الجمعة على المنبر قبل الصّلاة مستهل صفر عام ثمان وثمانين وأربعمائة (¬91)، ثم أمر السّلطان باحضاره بالمقصورة في ذلك اليوم اثر الصّلاة، وأحضر معه الفقهاء: أبا القاسم اللبيدي فقيه مشيخة الفقهاء وكبيرهم، والفقيه أبا الحسن، والقاضي أبا بكر بن أبي محمد بن أبي زيد خاصّة من بين سائر الفقهاء، وكان هذان الفقيهان من أشدّ الناس في ذلك إلى مذهب الجماعة، وحكم في المسألة اللّبيدي، فحكم أن يقرّ بالتّوبة على المنبر بمشهد جميع النّاس وأن يقول: كنت ضالاّ فيما رأيته ورجعت عن ذلك إلى مذهب الجماعة، فاستعظم الأمر على المنبر وقال: ها أنا أقول هذا بينكم، فساعدوه وقنعوا منه بقول ذلك بمحضر السّلطان والجماعة، وأن يقوله بمجلسه ويشيعه عنه، وافترقوا على ذلك، وحصلت على الشّيخ منه غضاضة فخرج في صبيحة يومه متوجّها إلى منستير الرّباط، وهو المراد بقول من قال: خرج إلى قصر الرّباط، ولا يحمل على ظاهره، وهو قصر الرّباط بسوسة (¬92). [وكان] ذلك يوم السبت الثاني من صفر من السنة المذكورة، / وانما خرج على الفور مسكّنا للقضية ومنسيا لها فتغيب بشخصه ثم عاد إلى القيروان. قال عياض: ولا امتراء عند كلّ منصف أن الحق فيما قاله أبو اسحاق، ولا امتراء أن مخالفته أوّلا لرأي أصحابه في حسم الباب لمصلحة العامة لجاج وأن رأي الجماعة كان ¬

(¬89) زيادة عن معالم الايمان. (¬90) زيادة عن معالم الايمان. (¬91) كذا في المعالم وفي ط: «وثلاثين» 10 فيفري 1095. (¬92) ما يتعلق بفتوى أبي اسحاق التونسي ورد في ترجمته من معالم الايمان 3/ 177 - 179 (ط / 2).

أسدّ للحال وأولى، وفتواه هذه جرى على العلم وطريق الحكم، ومع هذا فما نقصه هذا عند أهل التّحقيق ولا حط منصبه عند أهل التوفيق. ولما دخل عبيد (¬93) الله القيروان، وخطب أول جمعة وجبلة بن حمود جالس عند المنبر فلمّا سمع (¬94) كفرهم قام قائما وكشف عن رأسه حتى رآه النّاس، وخرج يمشي إلى آخر الجامع وهو يقول: قطعوها قطعهم الله، فما حضرها أحد من أهل العلم بعد ذلك. وهو أول من نبّه على هذا (¬95). ولمّا لعن الشّيخ ابن الدّباغ من ذكر من الشّيعة، ونقل كفرهم ورضيه ولم ينكره حسبما نقل في معالم الايمان، قال الشّيخ ابن ناجي: ما ذكره من لعنه لمن ذكر، ونسبتهم بهذا إلى الكفر والزندقة، قال العواني: أفرط في ذمّهم في هذا الكتاب، ثم أنه في كتابه المسمّى «واسطة النظام في تواريخ ملوك الاسلام» ذكر ضدّ ذلك، ووصفهم بأوصاف من تغيير المنكر والنهي عن شرب الخمر، وبرّأهم من المذام (¬96) كلّها التي نسبت إليهم ونسبها لبعض دعاتهم، وانهم لما اتصل بهم ما اتصل من بعض دعاتهم عاقبوهم أشد العقوبة / على ذلك وتبرّءوا منهم، وأن المنصور بالله اسماعيل بن القائم بن محمّد بن عبيد الله المهدي كان محسنا لرعيته فصيح اللّسان خطيبا منصفا، ولم يزل على الحالة الحسنة من العدل والعفو والحلم، وأسقط الخراج عن الرّعية حتى صحّت أحوالهم، وكان قاضيه محمد بن أبي المنظور (¬97) في غاية الدّين والورع والصّلابة في الحق إلى أن مات. فولي بعده عبد الله بن هشام القاضي فكان من أفضل النّاس. ولم يزل المنصور هذا شأنه من حفظ المسلمين وتوليه أهل الورع والدّين ومحبّة (¬98) الفقهاء والصّالحين. ولمّا سار إلى الساحل مرّ بقرية عيسى بن مسكين القاضي فصلّى في مجلسه ركعتين تبركا به وأوصى العامل بحفظ القرية. هكذا ذكر ابن الدباغ في تأليفه» اهـ‍. ¬

(¬93) النقل الموالي من ترجمة جبلة بن حمود في معالم الايمان 2/ 273. (¬94) في الأصول: «فسمع». (¬95) معالم الايمان 2/ 273. (¬96) في ت: «الذمام». (¬97) في الأصول: «بن أبي المنصور». (¬98) كذا في ت وط، وفي ش: «صحبة».

تأسيس المهدية

قلت لا منافاة بين كلامي الشيخ ابن الدباغ - رحمه الله - فان العبيديين كثيرون منهم صريح الفسق، ومنهم صريح الكفر، ومنهم المستور، فان من ثبت عنه سبّ الصّحابة ولم يتب فاسق، ومن ثبت عنه سبّ الأنبياء ولم يتب كافر، ومن سلم من ذلك فهو مستور، صالح في سياسته، فاسق في اعتقاده الا من سلم ظاهرا وباطنا من الكفر والابتداع، وقليل ما هم، وقد تقدّم قول السّيوطي أن أكثرهم زنادقة خارجون عن الاسلام منهم من أظهر سبّ الصّحابة والأنبياء ومنهم من أباح الخمر، ومنهم من أمر بالسّجود له، والخيّر منهم رافضي خبيث لئيم يأمر بسبّ / الصّحابة، وأما اظهار العدل والانصاف من بعضهم وتولية قضاة الحق وفصاحة الخطبة فلا يدل على شيء، فان أكثر الكفرة اذا استولوا على الخلق غلبة وأدخلوهم تحت حكمهم أمرا ونهيا فانقادوا لهم يظهرون العدل فيهم والانصاف سياسة لا ديانة وطاعة لله، فكم ظهر من عدل في بعض أحكام فرعون، وبعض الأكاسرة مع انكار الصّانع أو دعوى الرّبوبيّة وقد يكون تمدينا من بعض النصارى مع صريح كفرهم الذي لا شك فيه. تأسيس المهديّة: «وفي سنة ثلاث وثلاثمائة لخمس خلت من ذي القعدة (¬99) ابتدأ المهدي بناء المهديّة المدينة المشهورة فلذا نسبت إليه، وعندما كمل بناؤها قال: الآن آمنت على الفاطميات» (¬100) «قال أبو اسحاق ابراهيم بن القاسم بن الرّقيق في كتابه (¬101): خرج عبيد الله المهدي بنفسه في سنة ثلاثمائة إلى مدينة تونس فاجتاز على قرطاجنة وغيرها، ومرّ على جميع السّواحل يرتاد موضعا على ساحل البحر يتخذ فيه مدينة تحصّنه، وتحصّن بنيه من بعده، وقد كان عنده علم (حدثاني بقيام قائم) (¬102) على ذرّيته، فأقام يلتمس ذلك مدّة، فلم يجد موضعا أحسن ولا أحصن من موضع المهديّة فبناها هنالك، وجعلها دار مملكته. قال: وكان أول ما ابتنى منها سورها الغربي الذي في أبوابها، وعندما وضع ¬

(¬99) 11 ماي 916 م، انظر رحلة التجاني ص: 320، وانتقل إليها في شهر شوال من سنة ثماني وثلاثمائة فسكنها، تاريخ الخلفاء الفاطميين، المرجع السابق ص: 209. (¬100) نقلا عن التجاني بتصرف يسير. (¬101) النقل من رحلة التجاني ص: 320. (¬102) في الأصول: «حدثان بقائم» والمثبت من رحلة التجاني ص: 321.

أوّل حجر منه وهو حاضر أمر ناشبا كان بين / يديه أن يوتر قوسه ويقف على ذلك الحجر ويرمي بسهمه، ففعل الرّامي ذلك، فانتهى السّهم إلى المصلّى، ووقع قائما على نصله (¬103)، فقال المهدي: إلى ذلك الموضع ينتهى صاحب الحمار - يعني أبا يزيد - فقد كان وصول أبي يزيد إلى ذلك الموضع ولم يتجاوزه. قال معلم الفتيان (¬104) في تاريخه: وأمر المهدي بقياس مسافة هذه الرّمية فكانت مائتي ذراع وثلاثا وثلاثين ذراعا، فقال المهدي: هذا منتهى ما تقيم المهديّة في أيدينا من السنين، قال: ولمّا تم بناء السّور هنّأه أولياؤه (¬105) بذلك، فقال لهم: ان جميع ما ترون انما عمل لساعة واحدة يعني ساعة وصول أبي يزيد إلى المهديّة - قال: وكان يقف على فرسه فيأمر الصّناع بما يصنعون، [قال] وأمر بعمل باب الحديد للمدينة فجعل صفائح مصمّتة من غير خشب ثم أثبتت فيها المسامير، فبقيت تتقلقل، فقال للصّناع: ما عندكم في هذا، فقالوا: لا ندري، فأمرهم بتسميرها كذلك، ثم أمر بايقاد النّار تحت الباب كلّه حتى التهبت واتّصلت المسامير بالصفائح فعادت كلها قطعة واحدة. ولمّا تمّ الباب على هذه الصفة أحب اختبار وزنه فكلهم أخبره أن لا سبيل إلى ذلك لفرط ثقله، فأمرهم أن يضعوا أحد مصراعيه على ظهر سفينة ففعلوا ذلك، ونظر إلى منتهى غوص السفينة في الماء، ثم أنزل وشحنت السّفينة بالرّمل والحجارة إلى أن / وصل منها ما وصل أولا، واستخرج الرّمل والحجارة منها فوزنا على كرّات، فكان وزن كل مصراع منهما مائة قنطار، وفي كثير من نسخ المؤرخين ألف قنطار، وكذا حكى أبو عبيد (¬106) في «المسالك» (¬107) ولمّا علموا قدره وحاولوا تحريكه (¬108) صعب عليهم فتحه واغلاقه، فلم تكن المائة من الرجال تستطيع ذلك، فأمر المهدي بأن يكون مداره على الزّجاج، فهان أمره وصار الرجل الواحد يتولّى منه ما كانت المائة تعجز عنه، فعجب من هذا كله ومن فطنة المهدي [ونفوذ فكرته] (¬109). ¬

(¬103) في الأصول: «نعله» والمثبت من رحلة التجاني. (¬104) النقل من الرحلة وتساءل حسن حسني عبد الوهاب محقق الرحلة: «لعله محرز بن خلف المعلم المتوفي سنة 413 هـ - 1022 - 1023 م». (¬105) في ت وش: «ولايته»، وفي ط: «ولاته» والمثبت من الرحلة. (¬106) أبي عبيد الله ابن عبد العزيز البكري. (¬107) المسالك والممالك. (¬108) في الرحلة: «تركيبه». (¬109) اضافة من الرحلة.

وأمر المهدي بحفر مرسى المهديّة وكان حجرا صلدا، فنقر نقرا وجعله حصنا لمراكبه الحربية (¬110)، وأقام على فم هذا المرسى سلسلة من حديد، يرفع أحد طرفيها عند دخول السفن ثم تعاد كما كانت تحصينا للمرسى من طروء (¬111) مراكب النّصارى (¬112)، وابتنى دار الصّناعة، وهي من عجائب الدّنيا، ثم شرع في حفر الأهراء بداخل المدينة، وبنى الجباب (113) والمصانع، واختزن الأهراء بالطّعام، وملأ الجباب (¬113) بالماء، ثم أمر بحفظها ولم (¬114) تفتح إلاّ في أيّام أبي يزيد، ولولا ذلك لما أطاقوا الحصار، وكان اتّساع المهديّة في أول بنائها من الشمال (¬115) إلى الجنوب (¬116) قدر غلوة سهم فاستصغرها المهدي عند ذلك فردم من البحر مقدارها وأدخله في المدينة فاتسعت، والجامع الأعظم والدّار المعروفة في القديم بدار المحاسبات من جملة ما ردم من البحر. وأخذ عبيد الله / في بناء قصوره بها فبنى القصر الكبير المعروف الذي كلّله بطيقان الذّهب، وبنى ابنه أبو القاسم بازائه قصره المعروف به [أيضا] وبينهما فسحة، وبشرقي قصر عبيد الله حيث كان هي دار الصّناعة [الآن]. ولمّا كمل سور البلد (¬117) وقصورها أراد عبيد الله الانتقال إليها فثقل ذلك على أوليائه وجنده، وصعب عليهم استبدالهم بالموضع الذي استوطنوه، فقال لهم: ان صعب عليكم ذلك فنحن ننتقل ونترككم هاهنا ونجري عليكم الأرزاق والصّلات، وعمّا قليل ستنتقلون إلينا مسارعين. قال المؤرخون: فلم يكن بعد ذلك إلاّ زمان يسير حتى أرسل الله السّماء بأمطار غزيرة أخربت مساكن رقّادة وأهدمت دورها وأهلكت خلقا عظيما من ¬

(¬110) في الأصول: «بحرية». (¬111) في الرحلة: «دخول». (¬112) قال البكري في خصوص مرسى المهدية: «ومرساها منقور في حجر صلد يسع ثلاثين مركبا على طرفي المرسى برجان بينهما سلسلة من حديد فاذا أريد ادخال سفينة فيه أرسل حراس البرجين أحد طرفي السلسلة حتى تدخل السفينة ثم مدوها كما كانت بعد ذلك لئلا يطرقها مراكب الروم» كتاب المغرب في ذكر بلاد افريقية والمغرب (جزء من المسالك) تحقيق دي سلان (De Slane) باريس 1965 ص: 30. (¬113) في الرحلة: «الجباب» وعند مقديش «المصانع» والجباب لها نفس المعنى، وكذلك كانت تطلق كلمة المصانع على صهاريج الناصرية بصفاقس، واستعمل البكري كلمة «مواجل» في نفس المعنى. (¬114) في الأصول: «وأن لا» والمثبت من الرحلة ص: 322. (¬115) في الرحلة: «الجوف». (¬116) في الرحلة: «القبلة». (¬117) في الرحلة: «المدينة». وفي لهجة صفاقس وكما سيكتبها المؤلف في عدة مواضع من هذا الكتاب: «البلاد» وتعني المدينة.

القائم وثورة أبي يزيد

أهلها، فخرج النّاس في الأخبية، وكتبوا إلى المهدي يسألونه الانتقال إلى المهديّة، فأجابهم إلى ذلك، فانتقلوا إليها وتمّت عمارتها. وابتنى لعامّة النّاس مدينة أخرى سمّاها زويلة، وبينهما غلوّة سهم، وجعل بها الأسواق والفنادق وأدار بها خنادق متّسعة تجتمع بها مياه الأمطار، فكانت كالرّبض لمدينة المهديّة، ولمّا جاء المعز (¬118) بن باديس جعل عليها سورا لما دخل العرب افريقية (¬119) سنة أربع وأربعين وأربعمائة (¬120)، وقد خرّبت هذه المدينة فلا أثر لها الآن، (فهي اسم بلا رسم) (¬121) وكان بخارجها الحمى المعروف بحمى زويلة كله جنّات وبساتين بسائر الثمار / وأنواع الفواكه فأفسدته العرب. وأقام المهدي ساكنا بالمهديّة بقية عمره حتى مات بها (وقيل برقادة) (¬122) سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة (¬123). القائم وثورة أبي يزيد: فولي بعده ولده محمّد أبو القاسم ولقّب «القائم» فأخفى موت أبيه سنة (¬124) حتى أحكم أمره، وكان شهما ذا بطش، غزا جنوة فافتتحها عنوة (¬125)، فكان فتحا جليلا، وفي آخر أيامه ابتلي بأبي يزيد مخلد بن كيداد النّكّاري، كان رجلا من الإباضية يظهر الزّهد والقيام غضبا لله تعالى، ولا يركب غير حمار ولا يلبس غير الصّوف تصنّعا واظهارا للتّنسّك والصّلاح مع تمسّكه بأقبح البدع، وشاع جميع أمره من بلاد افريقية، ولمّا سمع القائم بتوجهه إلى باجة وجّه خادمه بشرى الصقلبي (¬126) ليبادره «بدخول (¬127) باجة ¬

(¬118) في الأصول: «العزيز» والمثبت من الرحلة ص: 324. (¬119) في رحلة التجاني: «أرضه». (¬120) 1052 - 1053 م. (¬121) اضافة من المؤلف. (¬122) اضافة من المؤلف. (¬123) 933 - 934 م ينتهي النقل من الرحلة 320 - 324. (¬124) الحلل السندسية 2/ 26. (¬125) نفس المرجع. (¬126) في الأصول: «بشريا الصقلي» والمثبت من الرحلة ص: 24. (¬127) يرجع إلى النقل من الرحلة ص: 24.

فيضبطها ويعسكر بها، فما وصل أبو يزيد إلاّ وقد وجد بشرى (*) فاقتتلا فانهزم أبو يزيد هزيمة فاحشة، فلمّا رأى أبو يزيد ما حلّ به نزل عن فرسه وركب حماره الأشهب وقال لمن بقي معه: هذه ليست حال من يريد الهروب بل حال من يطلب الموت [ثم] خالف بشرى (*) إلى أخبيته فجازها، فعلم بشرى بذلك، فأدركه رعب فولى منهزما وتبعه أصحاب أبي يزيد يأسّرون ويقتلون، ووصل بشرى إلى تونس منهزما ودخل أبو يزيد باجة بالسّيف، ثم خرج بشرى من تونس بعد أن ولى عليهم واليا من قبله، وسار حتى وصل سوسة، فلمّا علم القائم بالهزيمة أمدّه بالجيوش والأموال وأمره / أن يستعد (¬128) للقاء أبي يزيد ثانية، فكتب أهل تونس لأبي يزيد يلتمسون تأمينه فأمنهم، وخرج بشرى من سوسة فوصل إلى المرصد (¬129) [وهي] قرية كانت قرب المنارة، فلمّا علم أبو يزيد وجّه للقائه أيوب (¬130) بن خيران، فوصل إلى المرصد فتقهقر بشرى إلى اهريقلية فتحيّز بسور القلعة، ولحقه أيوب فالتقيا فانهزم أيّوب وقتل من أصحابه ألوف وأسّر منهم مئون فوجههم بشرى إلى المهديّة فقتلهم العامة بالعصي والحجارة، وانقلب أيّوب إلى أبي يزيد منهزما فساءه ذلك ورحل بنفسه قاصدا بشرى فوجده انصرف إلى المهديّة، فوقف على المعترك وترحم (¬131) على قتلاه وأمر بمواراتهم (¬132). ثم توجّه إلى القيروان فملكها ووجّه مستوية (133) النكّارى إلى تونس لما بلغه من مخالفتهم عليه بعدما كانوا دخلوا في طاعته فعلم بذلك القائم فوجّه عمار بن علي بن الحسين ليسبقه إليها فما قرب إليها الاّ وقد علم أن مستوية (133) قد دخلها وقتل كثيرا من أهلها وأخرب كثيرا من مساجدها فعزم على الرجوع فخرج إليه مستوية (¬133) فيمن معه من النكارية فالتقوا بصلتان (¬134) قرب سليمان «فانهزم عمار بن علي والكتاميون هزيمة شنيعة، وقتل منهم جماعة، وحال الليل بينهما، فلجأ عمّار إلى جبل الرّصاص، ¬

(*) في الأصول: «بشريا الصقلي» والمثبت من الرحلة ص: 24. (¬128) في الأصول كما في بعض أصول الرحلة: «يعتد» والمثبت من محقق الرحلة ص: 25. (¬129) هو مرصد شريك من طرف الجزيرة وطرف الجزيرة المذكور في النص هو بدون شك الطرف الغربي أي في جهة بئر بورقية، (المصدر السالف، تعليق 77) المحقق. (¬130) في الأصول: «أبا أيوب» والمثبت من الرحلة ص: 25 وكتاب العبر 4/ 89، وهو أيوب بن خيران الزويلي أبو سليمان، وهو رجل كثير الشر من مزاتة. (¬131) في الأصول «متأسفا» والمثبت من الرحلة ص: 25. (¬132) الرحلة: ص: 24 - 25. (¬133) في الأصول: «مستاوية» والمثبت من الحلل 2/ 27 والرحلة ص: 22. (¬134) عن واقعة صلتان انظر الحلل السندسية 2/ 27.

وامتنع ليلته تلك وأصبح مرتحلا فأتبعه مستوية (*) بجنوده، فالتقوا ثانية فانهزم النكارة / وقتل بشر (¬135) كثير منهم وجرح مستوية (133)». وبلغ ذلك أهل تونس فأخرجوا من كان عندهم من النكارّة، وقتلوا كثيرا منهم، ولم تزل الحرب بين عساكر القائم وأبي يزيد سجالا مرة لهذا وأخرى للاخر (¬136)، وآخر الأمر استعلى أبو يزيد على القائم واحتوى على كثير من البلاد، واجتمع عليه أكثر العباد، وقام معه جماعة القيروان فزحف بجنوده نحو المهديّة سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة (¬137) فعلم (¬138) القائم بذلك فأمر بحفر خندق حول المهديّة وزويلة، ووصل أبو يزيد في جيوشه فأحاط بالمهديّة وعسكر بخربة جميل (¬139) على أميال قريبة من المهديّة، فكانت خيله تصل إلى أرباضها، فتقتل وتنهب، فلجأ جميع الناس إلى المهديّة، وأخلوا أرباضها. قال الشّيخ أبو الحسن القابسي: «وأبصر القائم ذات يوم غرة من أبي يزيد لتفرق أكثر جيشه للنهب فأخرج طائفة من جيشه الكتاميين وغيرهم فقصدوا أبا يزيد، وسبق الخبر إلى أبي يزيد بذلك، فوافق ذلك وصول ابنه الفضل بجمع عظيم من ضريسة، فأمرهم بلقائهم وأن يكفّ عن قتالهم ما كفوا عنه، فان أبوا الا قتاله وجه إليه من يعلمه بذلك، فالتقوا بسوق الأحد وهو موضع بين سور المهديّة ومعسكر أبي يزيد وسطا، فأبى الكتاميون الا قتال فضل، فوجّه إلى أبيه يعلمه بذلك، فركب أبو يزيد من حينه يجمع من معه فوافاهم وهم يقتتلون وقد هزم ابنه فضل وقتل من أصحابه جماعة، فلمّا / رآه الكتاميون انهزموا من غير قتال وبحأوا إلى المهديّة فدخلوا إليها. ووصل أبو يزيد في أثرهم إلى أن أشرف على المهدية، فأحب نقل مآربه (¬140) إلى موضعه ذلك فأشار عليه أصحابه بالرجوع إلى معسكره وأن تكون اقامته به إلى أن ¬

(*) في الأصول: «مستاوية» والمثبت من الحلل 2/ 27 والرحلة ص: 22. (¬135) في الأصول: «بشرى» وفي الحلل: «خلق»، والمثبت من الرحلة ص: 23. (¬136) انظر كتاب العبر 4/ 89. (¬137) 944 - 945 م. (¬138) النقل الموالي من رحلة التجاني ص: 325. (¬139) كذا في رحلة التجاني ص: 325، وهي على خمسة عشر ميلا من المهدية، وفي تاريخ الخلفاء من كتاب عيون الأخبار: «خربة جميلة» ص: 304، وهي غير مذكورة في المصادر الأخرى وقال محمد اليعلاوي: «ويبدو أن التجاني والداعي ادريس يستقيان من منبع واحد، وربما استخدم ابن الأثير أيضا هذا المصدر المفقود» أنظر هامش 136 ص: 304 من تاريخ الخلفاء. (¬140) في الرحلة: «فازاته».

يستقصي الأمور فرجع إليه وأقام هنالك أياما، ثم انتقل منه وزحف إلى المهديّة فوصل إلى خندقها واقتحم (¬141) الماء بمن معه، فوصل الماء إلى صدور خيلهم وجيوش القائم في ذلك كلّه متقهقرة عنه، ووصل أبو يزيد بنفسه في تلك الخطرة (¬142) إلى مصلّى المهديّة فلم يبق بينه وبين المهديّة إلاّ رمية سهم حسبما أنذر به المهدي عند بناء سورها، فلمّا رأى الناس ذلك لم يشكّوا في تغلّبه على المهديّة فاجتمعوا على القائم وعظموا له (¬143) الأمر وسألوه الخروج إلى أبي يزيد فقال لهم: انه قد بلغ إلى أقصى غايته ولن يتجاوزه ولينجزن الله وعده، ثم قال [لبعض] من بين يديه: اصعد إلى السّور فاذا رأيت أبا يزيد انتقل عن مكانه من المصلّى فأشر إلينا باشارة نعرف ذلك بها ففعل الرجل ما أمر به، فقال لهم القائم: أبشروا فلن يعود أبو يزيد إلى مكانه ذلك أبدا، وانتقل أبو يزيد إلى الموضع المعروف «بترنوط» وهو على خمسة أميال من المهديّة، فعسكر هنالك، واتّصل حصاره لها فقتل بين الفريقين في ذلك على توالي الأيام أمم لا تحصى أكثرها من جيوش القائم. وذكر البكري [أن] (¬144) في كتاب الحدثان: ويل لأهل السواد (¬145)، / من محلة ابن كيداد» ويقال من مخلد بن كيداد (¬146). ولمّا طال على جيش (¬147) أبي يزيد المقام وسئموا التغرب على بلادهم وتحققوا حصانة المهديّة [وامتناعها] وذلك في شهر صفر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة (¬148) انفصلوا عن أبي يزيد بأجمعهم فلم يبق معه إلاّ طوائف من هوارة وزناتة، فأقلع عن المهديّة، ومات القائم في آخر هذه السنة وأبو يزيد محاصر لسوسة» (¬149). وسبب محاصرته لها أنها امتنعت منه سنة (¬150) اثنين وثلاثين وثلاثمائة (¬151) فلم يزل ¬

(¬141) كذا في ط والرحلة، وفي ت وش: «لجمعهم». (¬142) في ش: «حضرة» والمثبت من الرحلة ص: 326. (¬143) في ش: «عليه» والمثبت من الرحلة. (¬144) النقل من الرحلة وفي الأصول: «وذكر البكري في كتاب الحدثان» مما يوهم أن للبكري كتاب الحدثان، والاضافة من الرحلة لأن الصحيح أن البكري نقل عن كتب الحدثان. (¬145) أهل السواد: «أهل الساحل» الرحلة نقلا عن البكري ص: 326. (¬146) انظر الكتاب المغرب من المسالك والممالك المرجع السابق ص: 30. (¬147) في الرحلة: «جند». (¬148) سبتمبر 945 م. (¬149) الرحلة 325 - 327. (¬150) ينتقل إلى صفحة 27 من الرحلة. (¬151) 943 - 944 م.

المنصور وفشل ثورة أبي يزيد

معها حتى تغلّب عليها، ففعل بهم الأفعال الشنيعة من قتل الرجال وسبي النساء وقطع الأعضاء وبقر البطون، فلمّا ارتحل عنهم خالفوا عليه ووجّهوا عامله إليه فلمّا يئس من المهديّة رجع (¬152) إلى حصار سوسة حصارا شديدا، فكان يقاتلها كل يوم، فيوم له ويوم عليه» (¬153). المنصور وفشل ثورة أبي يزيد: فلمّا مات القائم (¬154) وولي ابنه اسماعيل الملقب «بالمنصور» بادر بانفاذ جيش بري وجيش بحري إلى أبي يزيد (¬155) بعد أن أحبّ النّهوض بنفسه فمنعه أولياؤه [منه] فتوجهت جيوشه إلى سوسة، وكان ما أخذه التحصيل من جند أبي يزيد المحاصرين لها مائة ألف خصّ، يسكن الخص الواحد والاثنان والثلاثة والأربعة فصاعدا، وكان جيش المنصور البري أربعمائة فارس لا تزيد على ذلك، فهجموا على جيش أبي يزيد في معسكره في يوم كثير الغيم، وأطلقوا النّار في مجتمع حطب كان هناك فتطاير شرارها إلى أخصاص (¬156) أبي يزيد / فأظلم الجو، وتخاذل البربر، وأسلموا أبا يزيد، فقتل من أتباعه أمم كثيرة، وتوجه أبو يزيد منهزما إلى القيروان فلم يقبلوه، وقتلوا جماعة من أصحابه خارج القيروان، فهرب عنهم. وخرج المنصور من المهديّة في طلبه بشجاعة قوية، قال المؤرخون: فلم يزل يهزمه ويقتفي أثره إلى أن أخذه جريحا في جبل كيّانة (¬157) وذلك في شهر محرم سنة ست وثلاثين (¬158)، فسلخ (¬159) جلده وجعل فيه ما ملأه حتى عاد صورة هائلة فطيف به من ¬

(¬152) سنة 333 هـ - 944 - 945 م. (¬153) في الرحلة: «فمرة له ومرة عليه» ص: 28 انتهى نقله فيما بين صفحتي 27 - 28. (¬154) النقل من الرحلة ص: 327. (¬155) عن حملتي المنصور لتخليص سوسة انظر أيضا تاريخ الخلفاء الفاطميين المرجع السابق ص: 352 - 356. (¬156) كذا في الأصول والرحلة وفي تاريخ الخلفاء: «الخصوص» ص: 354. (¬157) في الأصول وفي بعض أصول الرحلة: «كتامة»، والمثبت من محقق الرحلة انظر هامش 1 ص: 327. (¬158) جويلية 947 م. (¬159) سلخ جلده بعد أن مات من أثر جراحه.

جبال صنهاجة بالمغرب (الأوسط إلى المهديّة) (¬160) ثم صلب بها إلى أن مزّقته الرّياح بعد أن مزّق شمل العالم في البلاد، وكان يبيح دم أهل القبلة ويستحل الفروج ويفعل في الاسلام أشدّ مما يفعل في دار الحرب» (¬161). قال التجاني في رحلته (¬162): «ومن قرية الزّارات (¬163) كان ابتداء سيرنا بسلوك منازل البربر المستمسكين بمذهب الخوارج المستحلين لدماء المسلمين وأموالهم، وهذا المذهب هو الغالب على جميع البقاع التي بين قابس وطرابلس وخصوصا أهل السّاحل منهم، فهم بهذا المذهب المذموم يتقربون ببيع (¬164) من يمر بهم من المسلمين للروم فتجد النّاس لأجل ذلك يتحامون الانفراد في قراهم ويتجنّبون ايواءهم وقراهم، وهم من بقايا الشّرذمة الضّالة التي قام بها أبو يزيد مخلّد بن كيداد في افريقية، فانه لمّا أظفر الله به وأراح البلاد والعباد منه تفرّقت أتباعه في الأقطار فسكنت هذه الشّرذمة / هذه البقاع، وسكنت طائفة أخرى بجبال بجاية وقسنطينة وما والاها إلى بونة (¬165)، ومالت طائفة أخرى إلى بلاد الجريد فاستوطنت نفطة ونفزاوة وما والاها من البلاد» اهـ‍ (¬166). قلت: وقد طهر الله من هذا المذهب نفزاوة وكثيرا من البلاد، وربنا يحسن خلاص الباقين من أسر هذه البدعة، وأشد الناس به تعلقا في هذه الأعصار جبل نفّوسة ويسمونه اليوم «فسّاطو» لتعاصيه عن أحكام سلاطين تونس وطرابلس لبعده عنهما وشدة حصانته، وما ذكر من بيع المسلمين للكفار لم يبق ذلك وقطع الله آثار الكفر ولله الحمد، وكذلك استحلال الفروج ودماء المسلمين، وربنا يطهر المسلمين من هذه البدعة وشنائعها. ثم ان المنصور بنى موضع الوقعة مدينة سمّاها المنصورية وهي صبرة التي كانت ملاصقة للقيروان، فاستوطنها وبنى بها قصرا، ثم خرج في شهر رمضان سنة احدى وأربعين من المنصورية إلى جلولا يتنزّه بها ومعه حظية كان مغرما بها، فأمطر الله عليهم ¬

(¬160) في الأصول وفي بعض أصول الرحلة: «إلى وسط المهدية» والمثبت من محقق الرحلة انظر هامش 1 ص: 328. (¬161) انتهى نقله من الرحلة ص: 327 - 328. (¬162) النقل من الرحلة ص: 119 بشيء من التصرف. (¬163) في الأصول: «زوارة» والمثبت من الرحلة، وقد تكلم عنها التجاني فيما سبق من الكلام الذي نقله مقديش. (¬164) في الأصول: «يبيعون» والمثبت من الرحلة. (¬165) في الأصول: «من جبل بجاية» والمثبت من الرحلة. (¬166) انتهى نقله من الرحلة 119 - 120.

المعز لدين الله وانتقال الفاطميين إلى مصر.

بردا كثيرا وسلّط عليهم ريحا عظيما فأخرج منها إلى المنصورية فاشتد عليهم البرد فأوهى جسمه ومات أكثر من معه ووصل إلى المنصورية فاعتل بها، ومات (¬167) يوم الجمعة آخر شوال سنة احدى وأربعين وثلاثمائة (¬168)، ودفن بالمهديّة، ومولده بالقيروان سنة اثنتين وثلاثمائة (¬169)، فكانت مدة ملكه سبع (¬170) / سنين وستة أيام. المعز لدين الله وانتقال الفاطميين إلى مصر. وقام بعده ولده أبو تميم معدّ الملقب «بالمعز لدين الله» وهو واسطة عقدهم. «كان بويع (¬171) بولاية العهد في حياة أبيه المنصور (¬172)، ثم جدّدت له البيعة بعد وفاة أبيه في التّاريخ المذكور لوفاة أبيه، ودبّر الأمور وساسها وأجراها على قانون السّياسة إلى يوم الأحد سابع ذي الحجة سنة احدى وأربعين وثلاثمائة (¬173). فجلس يومئذ على سرير ملكه (¬174)، ودخل عليه الخاصّة وكثير من العامّة، وسلّموا عليه بالخلافة، وتسمّى «بالمعزّ» ولم يظهر على أبيه حزنا. ثم خرج إلى بلاد افريقية يطوف فيها، ليمهّد [قواعدها] (¬175) ويقرر أسبابها، (فانقاد له جميع العباد، في سائر البلاد) (¬176) ودخلوا تحت طاعته (¬177)، وعقد لغلمانه ¬

(¬167) قال ابن خلدون: «أصابه الجهد من مطر وثلج تجلد على ملاقاته، ودخل على أثره الحمام فعيت حرارته، ولازمه السهر فمات» العبر 4/ 95. (¬168) كذا في تاريخ الخلفاء الفاطميين، 19 مارس 953، وفي كتاب العبر: «ثم توفي المنصور سلخ رمضان سنة احدى وأربعين» 4/ 95. (¬169) 914 - 915 م. (¬170) في الأصول: «تسع» وهو مخالف للحقيقة اذ كانت خلافته من سنة 334 هـ ‍ إلى سنة 341 هـ ‍ وأثبت ابن خلدون: «وتوفي لسبع سنين من خلافته» 4/ 95، والمختصر: 2/ 99. (¬171) النقل من ترجمة المعزّ العبيدي في الوفيات 5/ 225 بتصرف. (¬172) انظر أيضا تاريخ الخلفاء الفاطميين. (¬173) 25 أفريل 953 م. (¬174) كتم المعزّ وفاة أبيه المنصور شهرا وعشرة أيام. تاريخ الخلفاء الفاطميين ص: 541. (¬175) اضافة من الوفيات. (¬176) في الوفيات: «فانقاد له العصاة من أهل تلك البلاد». (¬177) انظر كتاب العبر 4/ 96.

وأتباعه الأعمال واستنوب (¬178) لكل ناحية من يعلم كفايته وشهامته، وضمّ إلى كل واحد منهم جمعا كثيرا من الجند وأرباب السّلاح. ثم جهّز أبا الحسن جوهر (¬179) القائد، ومعه جيش كثير (¬180) لفتح ما استعصى عليه من بلاد المغرب، فسار إلى فاس، ثم منها إلى سجلماسة ففتحها، ثم توجّه إلى البحر المحيط وصاد من سمكه وجعله في قلال الماء، وأرسله إلى المعزّ، ثم رجع إلى المعزّ (¬181) ومعه صاحب فاس [أحمد بن بكر] (¬182) وصاحب سجلماسة [ابن واسول] (¬183) أسيرين في قفصي (¬184) حديد، وما رجع [إلى المعزّ] حتى وطّد له (¬185) البلاد (وطوّع العباد من باب المهديّة إلى البحر المحيط، من أقصى المغرب / وإلى أعمال مصر من المشرق) (¬186). ولم يبق بلد من هذه البلاد إلاّ وقد أقيمت فيها دعوته (وخطبت في جميعها خطبته) (¬187) إلاّ مدينة سبتة، فانها بقيت لبني أميّة أصحاب الأندلس. ولمّا وصل الخبر إلى المعزّ بموت كافور الإخشيدي صاحب مصر (واشتغال بني العباس بقتال الديلم) (¬188) تقدم المعزّ إلى القائد جوهر ليتجهز إلى الخروج إلى مصر، فخرج أولا إلى جهة المغرب لاصلاح أموره (¬189)، وكان معه جيش عظيم، وجمع قبائل العرب الذين يتوجّه بهم إلى مصر، وجبى القطائع التي كانت على البربر، فكانت خمسمائة ألف دينار. ¬

(¬178) في الرحلة: «استندب». (¬179) عن ترجمة جوهر انظر الوفيات 1/ 375 - 380 وتاريخ الخلفاء الفاطميين ص: 604. (¬180) في الوفيات «كثيف». (¬181) في الأصول: «المغرب» والمثبت من الوفيات. (¬182) اضافة من كتاب العبر للتوضيح. (¬183) اضافة من كتاب العبر للتوضيح. (¬184) انظر كتاب العبر 4/ 98 وفي تاريخ الخلفاء الفاطميين: أن المعز اخترع لهما قفصين تفنن في صنعهما لعرض الأسيرين على الرعايا، ص: 613. (¬185) في الأصول: «ولم» والمثبت من الوفيات. (¬186) في الوفيات: «وحكم على أهل الزيغ والعناد من باب افريقية إلى البحر المحيط في جهة الغرب، وفي جهة الشرق من باب افريقية إلى أعمال مصر» 5/ 225. (¬187) في الوفيات: «وخطب له في جمعته جماعته». (¬188) اضافة من المؤلف عما هو موجود بالوفيات. (¬189) في كتاب العبر: «لحشد كتامة. . . وذلك سنة خمس وخمسين» 4/ 99.

وخرج المعزّ بنفسه في الشّتاء إلى المهديّة فأخرج من قصور آبائه خمسمائة حمل دنانير وغيرها، وعاد إلى قصره. ولمّا عاد جوهر بالأموال والرّجال، وكان قدومه على المعزّ يوم الأحد لثلاث بقين من المحرم سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة (¬190)، أمره المعزّ بالخروج إلى مصر» «فخرج (¬191) من افريقية يوم السبت رابع عشر ربيع الأول من السنة المذكورة» «ومعه (¬192) أصناف القبائل فأنفق المعزّ على هذا العسكر المسيّر صحبته أموالا كثيرة، فأعطى من ألف دينار إلى عشرين دينار وغمر النّاس بالعطاء، وتصرفوا في القيروان في شراء جميع حوائجهم، ورحلوا ومعه ألف حمل من المال والسّلاح، [ومن] الخيل والعدد ما لا يوصف، وكان بمصر في تلك السّنة غلاء عظيم ووباء، حتى مات من مصر وأعمالها / في تلك المدّة ستمائة ألف إنسان على ما قيل. فانتهى جوهر بمن معه إلى مصر» «فتسلمّها (¬193) يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان السنة المذكورة (¬194)، فصعد المنبر يوم الجمعة ودعا لمولاه المعزّ» (¬195) وهو بافريقية، «ولمّا كان (¬196) منتصف رمضان من السّنة المذكورة، وصلت البشائر إلى المعزّ بفتح الدّيار المصرية، ودخول عساكره إليها، ثم وصلته النجب بعد ذلك تخبره بصورة الفتح». «فأقام (¬197) جوهر بمصر نافذ الأمر، [وسيّر عسكرا إلى دمشق وغزاها فملكها] (¬198)، وبنى القاهرة» (¬199) باذن سيّده، وانما سمّيت القاهرة لأنه أراد وضع أساسها عند طالع معيّن لتكون لذريّة سيّده لآخر الدّهر، فحفر الأرض لوضع الأساس فعمل أحجار الاساس لجماعة، وجعل لهم حبالا متّصلا بعضها ببعض، دائرة بدور حفر الأساس، وجعل في الحبال أجراسا، وأمر حملة الأحجار برميها اذا سمعوا صوت ¬

(¬190) 21 ديسمبر 968 م. (¬191) النقل من ترجمة جوهر الصقلي بالوفيات 1/ 375. (¬192) يرجع إلى النقل من ترجمة المعز العبيدي 5/ 226. (¬193) يرجع إلى النقل من ترجمة جوهر الوفيات 1/ 375. (¬194) جويلية 969 م. (¬195) في الوفيات: «بالجامع العتيق» وهو جامع عمرو بالفسطاط، أنظر تاريخ الخلفاء الفاطميين 685. (¬196) يرجع إلى النقل من ترجمة المعز العبيدي 5/ 226. (¬197) يرجع إلى النقل من ترجمة جوهر الوفيات 1/ 376. (¬198) اضافة من الوفيات. (¬199) الوفيات 5/ 224 - 226 و 1/ 375 - 376.

الأجراس وقعد (¬200) يرصد استحقاق الرّمي ليحرّك لهم الأجراس ليرموا الحجارة، فخطر غراب على تلك الحبال فتحركت الحبال بالأجراس فصوّتت، فسمعها حملة الأحجار فحسبوا أن الذي يرصد الطّالع هو الذي حرّكها فرموا [الأحجار] (201) قبل [ظهور] (¬201) الطّالع المقصود، وكان الطّالع وقت رمي الأساس (¬202) نجم يسمّى القاهر فسميت القاهرة، فهي إلى الآن تقهر المعتدين والجبابرة ولو ساعدتهم بعض الأيام فلا بد من دائرة السوء عليهم. ثم صارت / كتبه ترد (¬203) إلى المعزّ باستدعائه إلى مصر، ثم أخبره بانتظام الحال بمصر والشّام (¬204) والحجاز، واقامة الدعوة له بهذه المواضع، فسرّ المعزّ بذلك سرورا عظيما، ولمّا تقرّرت قواعده بالدّيار المصرية استخلف على افريقية بلكّين بن زيري بن مناد الصّنهاجي (¬205)، وخرج المعزّ متوجّها إلى مصر بأموال جليلة المقدار، ورجال عظيمة الأخطار، وكان خروجه من المنصوريّة - دار ملكه اذ ذاك - يوم الاثنين، لثمان بقين من شوال سنة احدى وستين وثلاثمائة (¬206)، ولم يزل في طريقه يقيم بعض الأوقات في بعض البلاد أياما، ويجدّ السّير في بعضها، وكان اجتيازه على برقة، ودخل الاسكندرية لست بقين من شعبان (¬207)، فدخل الحمام وقدم عليه بها قاضي مصر أبو طاهر محمّد بن أحمد، وأعيان أهل البلاد، وسلّموا عليه وجلس لهم عند المنارة، وخاطبهم بخطاب طويل يخبرهم فيه أنه لم يرد دخول مصر زيادة في ملكه ولا لمال، وانما أراد اقامة الحق والحج والجهاد، وأن يختم عمره بالأعمال الصّالحة، ويعمل بما أمره به جدّه صلّى الله عليه وسلم ووعظهم وأطال حتى بكى بعض الحاضرين، وخلع على القاضي وبعض الجماعة، وحملهم وودّعوه وانصرفوا، ثم رحل من الاسكندرية أواخر شعبان. ونزل يوم السبت ثاني شهر رمضان بالجيزة بساحل النيل مقابل مصر (¬208)، فخرج إليه القائد جوهر، وترجّل عند لقائه وقبّل الأرض بين يديه، وبالجيزة / اجتمع به الوزير ¬

(¬200) في ت وش: «قصد». (¬201) اضافتين من عندنا للتوضيح. (¬202) كذا في ط وفي ت وش: «الأجراس». (¬203) رجع إلى النقل من الوفيات 5/ 326، وفي الأصول: «تتردد». (¬204) انظر أيضا كتاب العبر 4/ 102. (¬205) في كتاب العبر: «واستخلفه على افريقية والمغرب، وأنزله القيروان وسماه يوسف، وكناه أبا الفتوح» 4/ 103. (¬206) 6 أوت 972 م. وفي كتاب العبر: «آخر شوال» 4/ 103. وبعدها أسقط ما يتعلق بمرور المعز بسردانية. (¬207) في الأصول: «شوال» والمثبت من الوفيات 5/ 227 ومن تاريخ العبر 4/ 103. (¬208) مصر هي القاهرة.

الفاطميون بمصر

أبو الفضل جعفر بن الفرات، وأقام المعزّ هناك ثلاثة أيام، وأخذ العسكر في التعدية بأثقالهم إلى ساحل مصر العتيق - وكانت قد زيّنت له - وظنّوا أنه يدخلها، وأهل القاهرة لم يستعدّوا للقائه لأنهم بنوا الأمر على دخوله مصر (¬209) أولا، ولمّا دخل القاهرة، ودخل القصر ودخل مجلسا منه خرّ ساجدا لله تعالى، ثم صلّى فيه ركعتين، وانصرف النّاس عنه. وفي يوم الجمعة لثالث عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة أربع وستين (¬210) عزل المعزّ قائده جوهرا عن دواوين مصر وجباية أموالها والنّظر في سائر أمورها. وكانت ولادة المعزّ بالمهديّة (¬211)، ووفاته بمصر يوم الجمعة (¬212) حادي عشر شهر ربيع الآخر (¬213) وقيل الثالث عشر منه سنة خمس وستين وثلاثمائة (¬214) ولم يقم المعزّ بمصر القاهرة إلاّ سنتين ونصفا وكانت مدة ملكه بالمغرب والقاهرة ثلاثا وعشرين سنة ونصفا» (¬215). الفاطميون بمصر: واستمرت ولاية العبيديين بمصر إلى أن بلغوا أربعة عشر خليفة (¬216) حسبما نقل السيوطي عن الذهبي. وذكر منهم عدة فقال: «قام (¬217) بعد المعزّ ابنه العزيز نزار ومات سنة ست وثمانين (¬218)، وقام ابنه الحاكم بأمر الله المنصور» (¬219) «وكان شيطانا مريدا سيء الاعتقاد سفّاكا للدماء، قتل خلقا كثيرا بغير ذنب» (¬220) وادعى ¬

(¬209) في الأصول: «العتيق» والمثبت من الوفيات 5/ 227. (¬210) 7 أكتوبر 974 م. (¬211) «يوم الاثنين حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة»، الوفيات 5/ 228. (¬212) في الأصول: «الاثنين» والمثبت من الوفيات. (¬213) 18 ديسمبر 975 م. (¬214) «وقيل لسبع خلون منه» الوفيات، وفي كتاب العبر: «وفي منتصف ربيع الآخر لثلاث وعشرين سنة من خلافته» 4/ 107، وفي التوفيقات الالهامية «في يوم الجمعة 10 ربيع ثاني» 1/ 397. (¬215) انتهى نقله من الوفيات 5/ 228. (¬216) في الأصول: «ملكا». (¬217) نقل من تاريخ الخلفاء للسيوطي مع حذف. (¬218) 996 م. (¬219) يتوقف عن النّقل من تاريخ الخلفاء. (¬220) الوفيات بتصرف من ترجمة الحاكم العبيدي 5/ 292 - 293.

الألوهية (¬221)، وأمر بسبّ الصّحابة، قال ابن الجوزي (¬222): «ادّعى الحاكم المذكور الرّبوبية، وكان قوم من الجاهلين اذا رأوه / قالوا: يا واحد يا أحد، يا محيي يا مميت (¬223)، وصنّف بعض الباطنية (¬224) كتابا ذكر فيه أن روح آدم - عليه السّلام - انتقلت إلى علي بن أبي طالب، وأن روح علي انتقلت [إلى أبي الحاكم ثم انتقلت] (¬225) إلى الحاكم، وقرئ هذا الكتاب بجامع القاهرة، فقصد النّاس قتل مؤلفه فصيره الحاكم إلى جبال الشام، فنزل بوادي تيم (¬226) وناحية (¬227) بانياس، فاستمال قلوب النّاس، وأباح لهم الخمر والزنا، وأقام عندهم يدعوهم فأضلّ منهم خلقا كثيرا» (¬228)، وفي وادي التيم (226) ونواحي الشّرق إلى يومنا هذا يدعون بالدّروز، يعتقدون خروج الحاكم، ولهم كتب يتدارسونها فيما بينهم، ويعتقدون أنه لا بدّ أن يعود ويمهّد الأرض، وتلك خيالات فاسدة وظنون كاذبة، وكانت له شنائع وقبائح وأفعال منكرة خارجة عن الطّبع والعرف والشرع، فمن ذلك أنه أمر بغلق الأسواق نهارا وفتحها ليلا، فامتثلوا ذلك دهرا طويلا، حتى اجتاز مرة بشيخ يعمل النجارة بعد العصر فوقف عليه وقال: أما نهيتكم عن هذا؟ فقال يا سيدي: أما كانوا يستهزؤون ويسخرون (¬229) بهذا من ذاك؟ فأعاد النّاس إلى أمرهم الأول، وبالجملة فهو أخبث القوم» (¬230) «وقتل في (¬231) سنة احدى عشرة وأربعمائة (¬232). ¬

(¬221) قال ابن خلدون: «وكان حاله مضطربا في الجور والعدل، والإخافة والأمن، والنسك والبدعة، وأما ما يرمى به من الكفر، وصدور السجلات باسقاط الصلوات فغير صحيح» كتاب العبر 4/ 125. (¬222) «أبو الفرج عبد الرحمان بن علي» علامة في التاريخ والحديث مكثر من التآليف، أنظر الأعلام للزّركلي 3/ 316 - 317 (ط.5). (¬223) النجوم الزّاهرة: 4/ 183. (¬224) جاء في النجوم نقلا عن ابن الجوزي: «رأيت في بعض التواريخ بمصر أن رجلا يعرف بالدّرزي قدم مصر وكان من الباطنية القائلين بالتناسخ» والدّرزي هو محمد بن اسماعيل داع أعجمي كما في تاريخ يحيى بن سعيد الأنطاكي. أنظر هامش النجوم 1، 4/ 184. (¬225) الاضافة من النجوم. (¬226) في الأصول: «سيم» والمثبت من النجوم 4/ 184. (¬227) في النجوم: «من أعمال». (¬228) انتهى ما ذكره ابن الجوزي. (¬229) كذا في ش وفي ت وط: «يسهرون ويسحرون». (¬230) في كتابه مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، وورد الخبر في النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 4/ 184. (¬231) يرجع إلى النقل من تاريخ الخلفاء ص: 524. (¬232) 1020 - 1021 م، عن فقدانه ثم وجوده ميتا خارج القاهرة انظر كتاب العبر 4/ 127.

وقام ابنه الظاهر لاعزاز دين الله علي، ومات سنة سبع وعشرين (¬233). وقام ابنه المستنصر (¬234) معد، ومات سنة سبع (¬235) وثمانين. فأقام في الملك ستين سنة (¬236). قال الذّهبي: ولا أعلم أحدا في الاسلام - لا خليفة ولا سلطانا - / أقام هذه المدة. وقام بعده ابنه المستعلي [بالله] أحمد ومات سنة خمس وتسعين (¬237). وقام [بعده] ابنه الآمر (¬238) بأحكام الله منصور (¬239) وقتل سنة أربع وعشرين وخمسمائة (¬240). وقام ابن عمّه الحافظ لدين الله ثم الظّافر، ثم الفائز، ثم العاضد. (وخلع سنة سبع وستين وخمسمائة، ومات بها») (¬241) ثلاثة بالمغرب والباقي بالقاهرة. وانقرضت الدّولة العبيدية، وأقيمت العبّاسية على يد صلاح الدّين باشارة نور الدّين كما يأتي - إن شاء الله تعالى - «قال الذّهبي: كانوا أربعة عشر متخلفا لا مستخلفا» اهـ‍ (¬242). [قال] ابن خلكان (¬243): آخر العبيديين العاضد، سمعت جماعة من المصريين يقولون: إن هؤلاء القوم في أول دولتهم قالوا لبعض العلماء: تكتب لنا ورقة تذكر فيها ¬

(¬233) في الأصول وفي تاريخ الخلفاء: «ثمان» والمثبت من تاريخ العبر 4/ 129، وابن الأثير 9/ 447 والنجوم الزاهرة 4/ 282، 1035 - 1036 م. (¬234) في الأصول: «المنتصر» والمثبت من تاريخ الخلفاء. (¬235) 1094 م. (¬236) كذا في كتاب العبر وزاد: «ويقال لخمس وستين» وفي تاريخ الخلفاء الذي ينقل عنه المؤلف: «ستين سنة وأربعة أشهر». (¬237) في منتصف صفر / ديسمبر 1101 م. (¬238) في الأصول: «القائم» والمثبت من تاريخ الخلفاء وكتاب العبر. (¬239) «طفل له خمس سنين» نفس المرجعين. (¬240) 1129 - 1130 م. (¬241) في الأصول: «وقام ابن عمه الحافظ لدين الله (وخلع سنة سبع وستين وخمسمائة، ومات بها)» وما بين القوسين يهمان العاضد آخر الفاطميين بمصر، والجملة مأخوذة من تاريخ الخلفاء وأصلحنا النص على هذا الأساس. (¬242) نقلها عن تاريخ الخلفاء ص: 524 - 525. (¬243) ترجمة / 110.

ألقابا تصلح للخلفاء، حتى إذا تولّى واحد لقّبوه ببعض تلك الألقاب، فكتب لهم ألقابا كثيرة، وآخر ما كتب في الورقة «العاضد» (¬244) اهـ‍. ولمّا خشينا الخروج عن المقصود باستقصاء جميع أحوال كل فرد، أعرضنا عمّا زاد عن الغرض المهم وبالله تعالى التوفيق، لا رب غيره ولا معبود سواه. ¬

(¬244) بعدها في الوفيات: «فاتفق أن آخر من ولي منهم تلقب بالعاضد، وهذا من عجيب الاتفاق» ص: 110 - 111.

المقالة الخامسة في ذكر ملوك ضهاجة بالمغرب وصلاح الدين بمصر

المقالة الخامسة في ذكر ملوك ضهاجة بالمغرب وصلاح الدّين بمصر وفيها بابان الباب الأول في ذكر ملوك صنهاجة زيري بن مناد: أول (¬1) من ملك في أيام العبيديين من صنهاجة «زيري بن مناد بن منقوش بن زناك (¬2) بن زيد الأصغر [بن واشفال بن وزغفي بن سري بن وتلكي بن سليمان بن الحارث ابن عدي الأصغر] (¬3) وهو المثنى (¬4)، ابن المسور بن يحصب بن مالك بن زيد بن الغوث (¬5) الأصغر بن سعد وهو / عبد الله بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سدد (¬6) بن زرعة، وهو حمير الأصغر بن سبأ الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث (¬7) بن حيدان (¬8) ابن قطن بن عوف بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن عمرو بن حمير [وهو ¬

(¬1) النقل الآتي من ترجمة تميم بن المعز الصنهاجي في الوفيات 1/ 304. (¬2) في الأصول: «ريان» والمثبت من الوفيات. (¬3) اضافة من الوفيات. (¬4) في الأصول: «بن المثنى» والمثبت من الوفيات. (¬5) في الأصول: «الغور» والمثبت من الوفيات. (¬6) في الأصول: «مسدد» والمثبت من الوفيات. (¬7) في الأصول: «الضرب» والمثبت من الوفيات. (¬8) في الأصول: «حيران» والمثبت من الوفيات.

بلكين بن زيري

العرنجج] (¬9) بن سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر، وهو هود - عليه السلام - بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح - عليه السلام -» (¬10) وزيري هذا هو الذي بنى مدينة آشير (¬11) «بمدّ الهمزة وكسر الشين المثلثة وسكون الياء المثناة تحت وبعدها راء مهملة، بليدة (¬12) بافريقية بين بجاية وقلعة بني حماد» (¬13) بناها وحصّنها (¬14) في أيّام أبي يزيد الخارجي، لما خرج على القائم بن المهدي وعلى ولده المنصور اسماعيل وملكه اياها وما حولها. وأعطاه المنصور تاهرت وما حولها، وهي بفتح التاء المثناة الفوقية وبعد الألف هاء مفتوحة وراء ساكنة ثم تاء فوقية، مدينة بافريقية، ابن خلكان، وثمّ أيضا أخرى تسمّى باسمها واحداهما تسمّى القديمة، والأخرى الجديدة ولا أدري أي المدينتين ملكها زيري» (¬15) اهـ‍ (¬16)، «وكان زيري حسن السيرة تام السياسة شجاعا صارما (¬17)، وكانت بينه وبين جعفر بن علي الأندلسي ضغائن وأحقاد أفضت إلى الحرب، فلما تصافا انجلى المصاف عن قتل زيري المذكور برمضان سنة ستين وثلاثمائة (¬18)، كبا به فرسه فسقط إلى الأرض فقتل، وكانت مدة ملكه / ستا وعشرين سنة» (¬19). بلكين بن زيري: فملك بعده ولده «بلكّين» (¬20) بن زيري، ويسمى يوسف، إلاّ أن بلكّين أشهر وهو الذي استخلفه المعزّ العبيدي عند توجّهه إلى مصر، فأمر الناس بالسّمع والطاعة له، ¬

(¬9) ساقطة من الأصول. (¬10) وختم ابن خلكان سلسلة نسب زيري بقوله: «هكذا قاله العماد في الخريدة الحميري الصنهاجي»، الوفيات 1/ 304. (¬11) الوفيات 2/ 343. (¬12) في الأصول: «بلدة» والمثبت من الوفيات. (¬13) الوفيات 1/ 63 و 2/ 343. (¬14) النقل الموالي من ترجمة زيري بن مناد الصنهاجي في الوفيات 2/ 343 - 344. (¬15) الوفيات 2/ 344. (¬16) النقل دائما من الوفيات 2/ 343. (¬17) في الأصول: «ضاريا» والمثبت من الوفيات. (¬18) جوان - جويلية 971 م. (¬19) الوفيات 2/ 343. (¬20) أوله وثانيه مضموم والكاف مشدّدة مكسورة، وتكتب أحيانا قاف وهي معقدة تلفظ كالجيم المصرية، والقاف المعقدة والكاف كثيرا ما يتعاقبان.

باديس

فتسلّم البلاد، وخرجت العمّال وجباة الأموال باسمه، وأوصاه المعزّ بأمور كثيرة، وأكّد عليه في فعلها، ثم قال: إن نسيت ما أوصيتك به فلا تنس ثلاثة أشياء: إيّاك أن ترفع الجباية عن أهل البادية، والسّيف (¬21) عن البربر، ولا تولّ (¬22) أحدا من أخوتك وبني عمّك، فانهم يرون أنّهم أحقّ بهذا الأمر منك، وافعل مع أهل الحاضرة خيرا، وفارقه على ذلك، وعاد من وداعه، وتصرّف في الولاية. ولم يزل حسن السيرة، تام النّظر في مصالح دولته ورعيّته إلى أن توفي يوم الأحد لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة (¬23)، بموضع يقال له: واركلان مجاور افريقية، وهو بفتح الواو وبعد الألف راء مفتوحة أيضا ثم كاف ساكنة وبعد الألف نون كلاهما بعد لام مفتوحة» (¬24). فولي بعده ولده المنصور. باديس: ثمّ بعد المنصور ولده باديس، وممّا وجد في مناقب العارف بالله تعالى سيدي محرز بن خلف المتوفي سنة ثلاث عشرة وأربعمائة (¬25) المدفون بباب السويقة من تونس - نفعنا الله به - أنّه أتاه رجل (¬26) مستجير من مظلمة نالته من قبل باديس بن المنصور فكتب له المؤدب سيدي محرز بعد البسملة والصلاة على النبيء صلّى الله عليه وسلم: من محرز بن خلف / إلى باديس، أما بعد، فانّ الله حقق الحق في قلوب المؤمنين من عباده، ونقل المذنبين إلى ما افترض عليهم من طاعته، أنا رجل عرف كثير من الناس اسمي، وهذا من البلاء (¬27)، وأنا أسأل الله أن يتغمّدني برحمته، وربّما أتاني المضطر يسأل الحاجة، فان رددتها خفت، وإن التزمت ذلك كثر عليّ، وقد ورد عليّ رجل يزعم أنه طلب في دراهم ¬

(¬21) النقل من ترجمة بلكين بن زيري في الوفيات 1/ 286. (¬22) في الأصول: «ولا توال» والمثبت من الوفيات. (¬23) 27 ماي 984. (¬24) الوفيات 1/ 286 وانظر البيان المغرب لابن عذاري (ت في القرن 7 هـ ‍) دار الثقافة بيروت 1/ 339. (¬25) كذا في المناقب ص: 174، وبالسّنة الميلادية 1022 م. (¬26) النقل من مناقب أبي اسحاق الجبنياني، مناقب سيدي محرز بن خلف، تحقيق هادي روجي ادريس، باريس 1959 ص: 140. (¬27) في الأصول: «البلاد» والمثبت من المناقب.

وخاف، وليس عنده شيء، فاعمل على رضى من لا بدّ لك من لقائه، واستحي ممّن بنعمته وجدت لذائذ العيش، ولا يغرّنك حلم الله تعالى عليك، ولا تعاد من أنت محتاج إليه، وحاذر بطانة السّوء فانهم يأكلون مالك ويقرّبون من النار لحمك، وشاور في أمرك من يتّقي الله {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} (¬28) الآية، وخف ممّن لا يحتاج عونا عليك بل لو شاء اتلافك لأخرجك عن نفسك، حتى يكون هلاكك عن يديك، سالم تسلم، فأنت على رحيل، فخذ في الزاد، والسلام» (¬29). «وممّا (¬30) وقع في أيام باديس أنه أتاه قوم من بطانته فزعموا أن أهل تونس مبغضون فيه وفي دولته، فبعث نجيبا إلى عامل له كان بتونس وهو يقول: إقبض على من يشار إليه من أهل تونس من العلماء وأهل الدنيا، فخذ أموالهم واضرب رقابهم، وكان بالقيروان رجل من أهل السّنة، محبّا لأهل تونس (وكان صديق الشيخ - رضي الله تعالى عنه - وكان لذلك الرجل القروي صديق بتونس، وكان عند كل من المتصادقين القروي والتّونسي في بلده حمام ضار، فكان كلّما طرأ عند أحدهما / خبر في بلده كاتب به صاحبه وأرسله مع حمامه فيصل الخبر في يومه فالحمامان مقبوضان عند صاحبيهما برسم الارسال بالأخبار، فلمّا سمع القرويّ ما أنفذ به باديس إلى تونس) (¬31) كتب كتابا وعلّقه على الحمام، وبعثه إلى صديقه بتونس، فلمّا وصل الحمام لداره أخذ الكتاب وقرأه ومضى به لأهل العلم وأوقفهم عليه، فلمّا نظروا إليه قال بعضهم لبعض: ما لنا في هذا الأمر إلاّ المؤدّب سيدي محرز بن خلف، فأتوه وقرأوا عليه الكتاب، فلما سمع ما فيه قال: أكتبوا فيه: «قالت طائفة ليست من أهل العلم والكتاب أن أعيان تونس يؤخذون فيطلبون في أموالهم وأرواحهم وعلى السّلطان النظر في ذلك، فاحذر [رأي] وزراء السوء الذين يأكلون مالك، ويقربون لحمك وعظمك إلى النار، وأنت على سفر، فخذ في الزّاد، والسّلام على من اتّبع الهدى». ¬

(¬28) سورة الطلاق آخر الآية 2. (¬29) المناقب 140. (¬30) ينتقل إلى ص: 144 من المناقب. (¬31) في المناقب: «وكان له صديق فيها، وكان عند الرجل حمامان ضاريان حمام بتونس، وحمام بالقيروان، فما جرى من خبر بالقيروان كتب به إلى تونس لصديقه، وما جرى من خبر بتونس كتب به إلى القيروان، فلمّا سمع الرجل الساكن بالقيروان هذا الخبر وما أنفذه باديس إلى تونس» ص: 144 - 145.

وبعث الرجل الكتاب مع الحمام إلى القيروان، فلمّا وصل أخذه وقرأه ومضى به إلى القاضي، فقرئ على من حضر المجلس، فاتّفق أهل المجلس على أنهم يكتبون كتابا يمجّدون فيه السّلطان، فلما استوى رأيهم قام رجل من أهل المجلس وقال: يا قوم، لا تغيروا كتاب الرّجل، فالذي كتبه عرف لمن كتب، والذي يصل إليه الكتاب يعلم من كتبه، فحمل الكتاب ولم يغيّر فيه شيء حتى وصل إلى باديس، فلما قرئ عليه الكتاب قال وزيره: لم يزل أبو كسية في بغضه / ونفاقه، فقال له باديس: وبلغ من قدري وقدرك عند الشيخ محرز بن خلف حتى يكتب إلينا، إنّما هي هديّة من الله سبحانه أهداها لنا، ونكّل بالوزير وأمر بقلع أسنانه ثم دعا بعض خدّامه وقال: خذ هذا الكتاب واحمله إلى السّيدة وقل لها: هذا كتاب سيدي محرز بن خلف فاحتفظي به، ولعلّ بركته تعود علينا وعليك، فلمّا وصل الكتاب إلى السيدة طيّبته وخرزت عليه وعلّقته عليها وكانت حاملا، فقالت: لعلّ بركته تعود عليّ، فعادت بركته عليها وولدت المعزّ بن باديس بالمنصوريّة يوم الخميس لخمس مضت من جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة (¬32)، ثم قال باديس: سبحان الله، (والذي بعثنا إلى تونس ما وصل إليها) (¬33) (ثم كتب من ساعته إلى العامل بتونس وأرسل إليه أن لا ينتقم من المسلمين وناول الكتاب للذي ناوله كتاب الشيخ فأخذه وعلّقه على الحمام وبعثه به فوصل الكتاب) (¬34) إلى تونس قبل وصول الرسول، كل ذلك في يوم واحد، فلما قدم الرسول بعث العامل إلى أهل المدينة ليعلمهم بما أمر به السلطان، فأتوه والكتاب معهم، فلمّا نظر العامل للكتاب سقط في يده وسرح أمورهم ولم يعاقب أحدا (¬35)، «وتوفي باديس سلخ ذي القعدة سنة ستّ وأربعمائة (¬36). ¬

(¬32) 17 جانفي 1008 م. وانظر الوفيات 5/ 234. (¬33) في الأصول: «ومن كتب إلى تونس» والمثبت من المناقب ص: 146. (¬34) في المناقب: «وكتب من ساعته إلى تونس: قد عفا عنكم ببركة كتاب المؤدب محرز بن خلف، كتابا إلى الرسول الذي بعثه ينتقم من المسلمين، فأعطاه الذي أتى بالكتاب وعلقه على الحمام، ووصل الحمام. . .» (¬35) المناقب: ص: 144 - 147. (¬36) الوفيات: 1/ 266.10 ماي 1016 م.

المعز بن باديس: قطعه الدعوة للفاطميين واجتياح العرب افريقية

المعزّ بن باديس: قطعه الدعوة للفاطميين واجتياح العرب افريقية فتولّى بعده المعزّ بن باديس [وكانوا قد أخفوا موت باديس ورتبوا] (¬37) عمّه (¬38) كرامت (¬39) بن المنصور ظاهرا / حتى وصلوا إلى المعزّ فولّوه، وتمّ أمره بالمحمدية يوم السبت لثلاث مضين من ذي الحجة سنة ست وأربعمائة (¬40)، «وكان المعزّ واسطة عقد جماعته، وهو الذي قطع مذاهب الشيعة، واستأصل شأفتها وقطع آثارها بقتل من ينتسب إليها، ابن خلكان» (¬41). ولمّا توجه المعزّ العبيدي إلى مصر استخلف بلكّين بن زيري - حسبما شرحناه - وكانت الخطبة في تلك النواحي جارية على عادتها لهذا البيت إلى أن قطعها المعزّ بن باديس في أيام المستنصر (¬42) وذلك في سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة (¬43). وقال في تاريخ القيروان: أن ذلك في سنة خمس وثلاثين (¬44)، والله أعلم بالصواب» (¬45). ولمّا قطع خطبته وخلع طاعته، خطب للامام القائم بأمر الله العبّاسي خليفة بغداد فكتب إليه المستنصر (42) يتهدده ويقول له: هلا اقتفيت آثار آبائك في الطاعة والولاء، في كلام طويل، فأجابه المعزّ: إنّ آبائي وأجدادي كانوا ملوك المغرب قبل أن يملكه أسلافك، ولهم عليهم من الخدم أعظم من التقديم، ولو أخروهم لتقدّموهم بأسيافهم، واستمر على قطع الخطبة له، ولم يخطب بعد ذلك بافريقية لأحد من المصريين إلى اليوم. وكان مذهب أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - بافريقية أظهر المذاهب، فحمل المعزّ المذكور جميع أهل المغرب على / التّمسّك بمذهب مالك - رضي الله تعالى عنه -، وحسم مادّة الخلاف في المذهب، قال: واستمرّ الحال في ذلك إلى الآن» (¬46) اهـ‍. ¬

(¬37) زيادة للتوضيح. (¬38) أي عمّ المعزّ. (¬39) في الأصول: «كرامة» والمثبت من الوفيات 1/ 266. (¬40) 13 ماي 1016 م. (¬41) الوفيات بتصرف 5/ 233 - 234. (¬42) في الأصول: «المنتصر» والمثبت من الوفيات 5/ 234. (¬43) 1051 - 1052 م. (¬44) 1043 - 1044 م. (¬45) من ترجمة المستنصر العبيدي، الوفيات 5/ 229 - 230. (¬46) من ترجمة المعزّ بن باديس الصنهاجي، الوفيات 5/ 233 - 234.

قلت هذا في زمانه، وأما الآن فقد رجع مذهب أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - إلى المغرب منذ دخلت العساكر العثمانية إلى المغرب، ولكن مذهب الامام مالك - رضي الله تعالى عنه - أشيع. وقال في معالم الايمان: «لمّا قدم المعزّ بن باديس القيروان بعد موت أبيه واستفتاح ولايته، وذلك يوم الجمعة منتصف محرم عام سبعة وأربعمائة (¬47)، قتلت (¬48) العامّة الرّافضة بالقيروان أقبح قتل، وحرقوهم، وانتهبوا أموالهم وهدّموا ديارهم، وقتلوا نساءهم وصبيانهم، وجرّوهم بالأرجل، فكانت صيحة من الله سلّطها عليهم، وخرج الأمر من القيروان إلى المهديّة وسائر بلادهم، فقتلوا حيث وجدوا، وأحرقوا بالنار، فلم يترك منهم بمدائن افريقية إلاّ من اختفى ولجأت الرّافضة إلى مساجد المهدية، فقتلوا فيها، وهدّموا دار الامارة، وتعدّت العامّة ذلك إلى جماعة من أهل السّنّة ظنّا أنّهم من غيرهم، فلقد حكي أن العامة جاءت متعلّقة برجل اتّهموه برأيهم فمرّوا به على شيخ من العامّة، فسألهم عن تعلّقهم به فقالوا: نسير به إلى الشيخ أبي علي بن خلدون فننظر ما يأمرنا به، فقال لهم الشيخ العاميّ: لا، اقتلوه الآن فان كان / رافضيا أصبتم، وان كان سنّيا عجّلتم بروحه إلى الجنّة الآن، أو كما قال: فانتقم الله منهم بعامة المسلمين، وقتلوهم كل مقتل، فرعب المعزّ منهم، ورأى كسر شوكتهم، فدبّر قتل زعيم أهل السّنّة وشيخ هذه الدعوة - يعني حسن بن خلدون - فلما كان يوم الخميس ثاني عشر شوال من السنة المذكورة (¬49)، أتى عامل القيروان مع الشرطة وخيل ورجال إلى مسجد الشّيخ أبي علي بن خلدون البلوي بعد صلاة العصر (¬50)، فدخلوا المسجد على الشيخ وهو في مسجده ومعه جماعة من الناس فقتلوا أبا محمد الغرياني الفقيه، وآخر بدويا ظانين أنه أبو علي، فلمّا عرفوه مالوا على أبي علي بسكاكينهم وجرّدوا جماعة ممّن كان بالمسجد، فحمل أبو علي إلى داره وقد وقع فيه ثلاث جراحات إحداها في صدغه أخذت إلى قفاه، واثنتان في جانبه الأيسر أنفذتا مقاتله، توفي في داره بعد العشاء. ¬

(¬47) 24 جوان 1016 م. (¬48) ممّا يلي صنفه المؤلف كواقعة مقتل الشيعة أيام المعزّ بن باديس. ذكره الدباغ كسبب قتل أبي علي حسن بن خلدون البلوي، انظر ترجمته في المعالم 3/ 151 - 156. (¬49) 4 مارس 1107 م. (¬50) بعدها أسقطنا: «يوم الخميس الثاني عشر من شوال سنة سبع وأربعمائة» لانها تكرر سابقتها في نفس الجملة.

فلمّا توفي - رحمه الله - إرتجّت المدينة، وثارت الصيحة من نواحي القيروان، فمال أهل المنصورة (¬51) من الرجال والعبيد فنهبوا جميع ما في حوانيتها حتى لم يتركوا حانوتا، وألقيت النار في كبار الأسواق، ونهبت أموال التجار، فذهب الناس واشتغلوا بأنفسهم عن مقتل الشيخ أبي علي وخبره، وأراد عامل القيروان استرضاء الناس فجاء برجلين فقال: إنّهما اللذان / قتلاه فقتلهما. وما تقدم من قوله خرج الأمر من القيروان إلى المهديّة وسائر بلادهم خلاف ما كان يقول شيخنا أبو الفضل أبو القاسم البرزلي (¬52) أن الوقت الذي قام عليهم فيه أهل القيروان قام فيه كلّ شيخ على من في بلده كالشّيخ محرز على أهل تونس، من غير أن يكون اتفاق منهم على ذلك، بل هي كرامة في حقّ جميعهم» قال: «ولم يبق المعزّ من آثار بني عبيد إلاّ أسماءهم على السّكّة والبنود، فسأله أبو عمران الفاسي عن ذلك، فاعتذر بالخوف على الحجّاج لبيت الله الحرام والمسافرين» (¬53) اهـ‍. يعني لو أزال ذلك من السّكّة لأدّى إلى إضرار بني عبيد ملوك مصر بالحجّاج الواردين عليهم من المغرب والمسافرين أما بقتل، أو أخذ مال، أو منع الطريق، أو غير ذلك. وممّا وجد مسطورا في مناقب سيدي محرز بن خلف (¬54) - نفعنا الله به - قال: «كان السّلاطين يأتونه في كل الأوقات يتبرّكون به ويحضرون مجلسه ويسألونه الدّعاء فلمّا كان سنة ستّ وأربعمائة قتل الناس المشارقة واستأصلوهم فكان يؤتى بالرجل منهم إلى حضرته فيشهد عليه فيقتل بشهادة الشّيخ خاصة لا يحضر غيره من العدول، أو يترك اذا لم يثبت عليه شيء» (¬55) «قال الشيخ أبو محمد من الله: «كنت عند المؤدب محرز بعد قتله المشارقة بتونس، فقلت له قتلوا المشارقة بتونس ولم يقتلوا عندنا، فقال أرجو أن يقتلوا ¬

(¬51) كذا في معالم الايمان، والصواب «المنصورية» نسبة إلى المنصور العبيدي، وهي المسماة «بصيرة» أيضا. (¬52) أبو الفضل أبو القاسم بن أحمد بن المعتل البلوي المعروف بالبرزلي القيرواني (740 - 841/ 1339 - 1440) من أعلام المالكية في العصر الحفصي ويلقب بشيخ الاسلام ومن أشهر مؤلفاته الحاوي في الفتاوي ويعرف بنوازل البرزلي، مخطوط بالمكتبة الوطنية بتونس رقم 4851 اختصره تلميذه حلولو. انظر محمد محفوظ: تراجم المؤلفين التونسيين، 1/ 115 - 117. (¬53) نقل من معالم الايمان بتصرف يسير 3/ 154 - 155 (ط / 2). (¬54) بعدها في ت: «رضي الله تعالى عنه» والنقل من المناقب ص: 142. (¬55) المناقب ص: 142 - 143.

عندكم، ثم دعا لنا وقال: غسل الله عنكم العار وألحقكم بالناس، / قال: فوصلت إلى باجة يوم الخميس، وقتل المشارقة يوم الاثنين» (¬56) وكتب المعزّ ظهيرا للشيخ سيدي محرز صورته: «هذا ظهير كريم من القائم النّاصر لدين الله، المعزّ بن باديس للشّيخ الصالح الكبير القدر محرز بن خلف، لطّف الله به، قصد به وجه الله العظيم، ورجاء ثوابه الجسيم، وما أمر به السّلف المتقدم من إكرام أهل الدّين والعلم، لأن من تبع طريقهم خلص من الشكّ واقتدى، ومن قصد طريقتهم أخرج من الضلالة واهتدى، وأنقذ من الجهالة والردى، فان القصد أن يؤولوا إلى معرفته ويعرفوا اثبات برهانها، ويراقبوا وحدانيته، ويتحقّقوا حقائق ربوبيّته وجبروته، ويحافظوا على أوليائه، وقد ذكر الله العظيم في كتابه وتنزيله {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬57) وقال - عزّ وجلّ - {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (¬58). فقد أعلى درجاتهم وأعز منزلتهم، وأسبغ عليهم نعمه، وضاعف لهم مواهبه، ووعدهم برحمته، فقال وهو أصدق القائلين {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ} (¬59) الآية، فأنتم أفاضل أوليائه وأصفيائه وأتقيائه لأن الله جعل من عرف وتبصّر وفتح على باطنه وقلبه بخصوصيتكم فقد أفلح ونجح، فالله سبحانه يمنّ على من يشاء من عباده، ويختصّ من يشاء بخصوصيته، وقد جعلكم من أهل اختصاصه بالعلم والعبادة، ولحظكم بجميل ملاحظاته، فأنتم أغصان / بسقت وفروع شجرتكم التي غرست في أطيب تربة، ثم سقيت من أعذب الماء، وغذاؤها بالهواء من الأرض إلى السّماء، ثم نقلت إلى الحضرة السعيدة. فاقتضى النّظر بهذا الظهير لجماعتكم بحفظكم ورعايتكم وحمايتكم وحسن معاملتكم، وحفظ الأنصار الصائرة إلى حضرتكم وحسم الأيدي الممتدة إلى اساءتكم وأهلكم وأموالكم ورعاياكم بحضرة تونس وباديتها وشركائكم وأتباعكم، ومن عرف بكم، وانتسب إلى نسبتكم، وأوى إلى جنابكم، ورفع الأيدي عن عشوركم في قرية أو سانية وقرية الفول وطراقش وماينة (¬60)، ومنزل خارجة، وقرية الحمام، وما أطاف ¬

(¬56) المناقب ص: 112. (¬57) سورة يونس: 62. (¬58) سورة النحل: آخر الآية 43. (¬59) سورة البقرة أول الآية 269 وتمامها: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ. (¬60) كذا في ت وط، وفي النص المحقق من المناقب، وفي ش كما في بعض أصول المناقب: «مانبة».

بمدينة تونس، وحرم دياركم وزاويتكم ورفع الأيدي عن الاعتراض عليكم بدخول النساء بحماماتكم، وحوانيتكم، وأجرائكم ومحلكم، وتسريح أعشاركم، واجرائكم على [فارط] رسمكم (وجري عادتكم) (¬61) طائعين لجميع ما تضمّنه هذا الظهير الكريم، فلا يغيره مغير عليكم، ولا يكدّره مكدر لديكم، ولا يخيل فيه متخيل عليكم، ولا يتطاول فيه متطاول، فمن وقف على هذا الظّهير من العمّال وسائر الولاة أمره بذلك القائم بالله، النّاصر لدين الله، وليعمل به ممتثلا لشروطه، إن شاء الله، واقفا عند حدوده وزواجره، غير عاجل لنفسه بالعقوبة لمخالفته أو مخالفة شيء منه، إن شاء الله - تعالى - بتاريخ عشر بقين من ربيع الآخر عام سبع [عشرة] (¬62) وأربعمائة» (¬63). وفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة (¬64) أخربت الأعراب مدينة القيروان. قال في «معالم الايمان»: وسببه دعاء الشيخ الواعظ عبد الصّمد فانهزم سلطان القيروان - يعني المعزّ - مع كثرة عساكره وقلّة من جاءه، وذلك أنه كان لعبد الصّمد هذا ولد اسمه محمّد، ويكنى أبا الحسن، ورد على القيروان، وكان رجلا صالحا فاضلا واعظا زاهدا صوفيّا عالما عاملا، وكان له مجلس بالجامع الأعظم بالقيروان يجتمع إليه فيه، ويسمع كلامه، وله لسان فصيح، وقلب قريح، كثير الحزن والبكاء، والخوف من أولياء الله تعالى المنقطعين إليه، الخائفين الخاشعين المتبتلين القائمين الصّائمين، قد ركب طريقة القوم من الزّهد والورع والخشية وصدق المقال في الوعظ، لم يسلكها في وقته غيره، فطبق ذكره الآفاق، وكثر ازدحام الناس عليه في مجلسه لاستماع وعظه، ومالت إليه القلوب والأسماع، وكثرت له الأتباع، حتى حذره السلطان، وخاف على نفسه منه، فاستعار السلطان منه بعض كتبه وأظهر أنه أحب مطالعة شيء منها، فأقامت عنده أياما ثم أمر بردّها، فتصفح الواعظ أوراقا منها فوجد فيها ورقة بخط السلطان كأنه نسيها بين أوراق كتابه، فاذا فيها: زعمت ملوك الفرس وحكماء السّير والسّياسة أن أهل التنمس والوعظ وتأليف العامة واقامة المجالس أضرّ الأصناف (¬65) على الملوك وأفظعهم / أثرا في ¬

(¬61) كذا في ت وط، وفي النص المحقق من المناقب وفي ش «وجريكم على اعادتكم». (¬62) ساقطة من الأصول. (¬63) 10 جوان 1026 م. (¬64) 1057 - 1058 م. (¬65) ساقطة من ش.

الدّول فيجب أن يتدارك أمرهم، ويبادر إلى حسم الأذى منهم، فلمّا قرأ الواعظ أبو الحسن محمد بن عبد الصّمد البطاقة علم أنها أمر (¬66) استعمل له، وقصد به ونبّه على الرّأي فيه، فاستعمل الحجّ، وخرج معه عامّة وخاصة من أهل القيروان، وأمر له السلطان بزاد فخرج متوجها إلى الحجّ في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شهر رجب الفرد سنة إحدى وأربعين وأربعمائة (¬67)، ومعه رجال وكّلوا به ليصلوا معه إلى مدينة قابس، ونهى أن يشيّعه أحد أو يخاطبه الخطاب، وكان الرفقة الخارجة إلى مصر قد قرب خروجها، فأمر أن ينتظرها بمدينة قابس إلى أن يصحبها وكوتب (¬68) عامل قابس بأن لا يدخل إليه أحد هناك، ولا يجتمع عنده اثنان، ولا يخرج من المكان الذي ينزل فيه الاّ يوم سفره، فخرج وهو غير آمن على نفسه، وأظهر السّلطان ما كان (¬69) يخفيه من أمره، وصار من ذكره بخير، أو قال فيه جميلا مبخوسا (¬70) مذموما حتى صار من كان يفرط في مدحه يظهر الإفراط في ذمّه خوفا على نفسه من السّلطان، فلما فصل عن مدينة قابس قتله رجل من الأعراب في طريقه ذلك، فكثر الظنّ من الناس على السّلطان أنه دس عليه من قتله، واختلف النّاس في ذلك فبعضهم (¬71) يثبت ذلك له وبعضهم ينفيه عنه، فلمّا بلغ الخبر أباه عبد الصّمد، وكان في آخر درس وعظه بمسجد عمرو بن العاص بمصر نعاه له من عرفه بسبب قتله، فخرج من وقته قبل أن يرجع لبيته ملبّيا / فحجّ ذلك العام وجعل يطوف ويتعلّق بأستار الكعبة (¬72) ويصيح يا ربّ المعزّ عليك بابن باديس، فكانت الهزيمة الواقعة بالقيروان في العام الثاني من حجّه، وذكر عياض (¬73) أنه حجّ ورجع» اهـ‍ (¬74). هذا هو السّبب الباطن، وأما السّبب الظاهر فهو ما أشار إليه ابن خلدون في تاريخه بقوله: «كان المعزّ ابن باديس قد انتقض دعوة العبيديين بافريقية وخطب للقائم ¬

(¬66) في ت: «من». (¬67) 1049 - 1050 م. (¬68) في ش وت: «وكتب». (¬69) ساقطة من ش. (¬70) في ش: «منجوسا». (¬71) في ت: «حتى أن». (¬72) في ن: «البيت الحرام»، وفي ط: «البيت». (¬73) في ت: «القاضي عياض». (¬74) معالم الإيمان 4. وانظر البيان المغرب لابن عذارى 1/ 279 - 280.

العبّاسي وقطع الخطبة للمستنصر العلوي سنة أربعين وأربعمائة (¬75)، فكتب إليه المستنصر يتهدده ثم إنّه استوزر أبا محمد الحسن بن علي اليازوري (¬76) بعد الجرجرائي (¬77) ولم يكن في رتبته، فخاطبه المعزّ دون ما كان يخاطبه به من قبله، كان يقول في كتابه إليهم «عبده» ويقول في كتاب اليازوري «صنيعته» فحقد ذلك عليه، وأغرى (¬78) به المستنصر وأصلح بين زغبة ورياح من بطون هلال، وبعثهم إلى إفريقية وملّكهم كلّ ما يفتحونه، وكتب: [أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا، وأرسلنا عليها رجالا كهولا، ليقضي الله أمرا كان مفعولا] (¬79)، فساروا إلى برقة فوجدوها خالية، لأن المعزّ كان أباد أهلها من زناتة، فاستوطن العرب برقة واستحقر المعزّ شأنهم، واشترى العبيد، واستكثر منهم، حتى اجتمع له منهم ثلاثون ألفا، وزحف بنو زغبة إلى طرابلس فملكوها سنة ست وأربعين وأربعمائة (¬80)، وجازت رياح والأثبج (¬81) وبنو عدي إلى افريقية، فأضرموها نارا / ثم سار أمراؤهم إلى المعزّ وكبيرهم مؤنس بن يحيى من بني مرداس من رياح، فأكرمهم المعزّ وأجزل لهم عطاياه، فلم يغن شيئا، وخرجوا إلى ما كانوا عليه من الفساد، ونزل بافريقية بلاء لم ينزل مثله بها، فخرج إليهم المعزّ في جموعه من صنهاجة والسّودان نحو من ثلاثين ألف والعرب في ثلاثة آلاف فهزموه وأثخنوا في صنهاجة بالقتل واستباحوهم، ودخل المعزّ القيروان مهزوما ثم وقع القتال بينهم يوم النّحر وهم في صلاتهم فهزموه أعظم من الأولى. ¬

(¬75) 1048 - 1049، العبر 6/ 325. (¬76) في الأصول: «علي بن الحسن التازوري» والمثبت من كتاب العبر 6/ 30. (¬77) في الأصول وفي العبر: «جرجاني» والمثبت من معجم الأنساب والأسر الحاكمة، ومن رحلة التجاني ص: 18، وفي بعض أصول العبر: «جرجرائي»، أنظر هامش 1 من كتاب العبر 6/ 29. (¬78) أي اليازوري، وفي رحلة التجاني: «الجرجرائي هو الذي كان سبب بعث بني هلال» ص: 19، وينفي ابن خلدون ذلك وينسبه إلى اليازوري، قال: «وقيل إن الذي أشار بذلك وفعله وأدخل العرب إلى افريقية إنما هو أبو القاسم الجرجاني، وليس ذلك بصحيح» العبر 6/ 30 - 31. (¬79) يبدو أن مقديش ينقل من مصدر آخر نقل عن ابن خلدون به تحريف ففي الأصول نجد «فقد أرسلنا إليك خيولا، وحملنا عليها رجالا فحولا، ليقضي الله أمرا كان مفعولا» والمثبت من كتاب العبر 6/ 31 ورحلة التجاني ص: 19. (¬80) 1054 - 1055 م. (¬81) في الأصول: «الأشج» والمثبت من العبر 6/ 30 والرحلة 18.

ثم سار إليهم بعد أن احتشدت زناتة معه فانهزم ثالثة وقتل من عسكره نحو من ثلاثة آلاف، ونزل العرب بمصلّى القيروان، ووالوا عليهم الهزائم وقتلت منهم أمما، ثم أباح لهم المعزّ دخول القيروان للميرة، فاستطالت عليهم العامّة، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأدار المعزّ السور على القيروان سنة ست وأربعين وأربعمائة (¬82)، ثم ملك مؤنس بن يحيى مدينة باجة في التاريخ المذكور، وأمر المعزّ أهل القيروان بالانتقال إلى المهديّة للتّحصن بها، وولى عليها انه تميما، ثم انتقل إليها سنة تسع وأربعين وأربعمائة (¬83)، وانطلقت أيدي العرب على القيروان بالنهب والتخريب، وعلى سائر الحصون والقرى» اهـ‍ (¬84). وقال التجاني في رحلته: أنصف الله من الجرجرائي (¬85) فهو الذي أمكن العرب - يعني المفسدين - (¬86) من الدّخول إلى هذه البلاد، وعن مكره (¬87) / السيء نشأ بافريقية ما نشأ من الفساد، فانهم كانوا قبل ذلك نازلين بصعيد أرض مصر، لا يحدّثون أنفسهم بالجواز إلى هذه الأرض إلى أن ندبهم الجرجرائي (85) إلى ذلك وأفرج لهم عن طريقهم (¬88)، فأغص منهم أهل هذه البلاد بريقهم (¬89) لحاجة كانت في نفسه من افساد هذه البلاد تعجل قضاءها، ووجد عند (¬90) الله بما لقيه من جزائها. قال ابن بسّام في «الذخيرة»: لمّا تغلّب بنو عبيد الناجمون بافريقية على مصر فخلص لهم صميمها، وتمّ لهم ملكها ونعيمها، وأراد معدّ بن اسماعيل بن محمد بن عبيد الله المتلقّب (¬91) بالمعزّ لدين الله اقتعاد صهوتها (¬92) واثبات قدمه على ذروتها (¬93) دعا ¬

(¬82) 1054 - 1055 م. (¬83) 1057 - 1058 م. (¬84) حوصل كلام ابن خلدون، انظر كتاب العبر 6/ 28 - 35 و 325 - 326. (¬85) في الأصول: «الجرجاني» وفي الرحلة: «الجرجرائي الأقطع» وكذلك في كتاب العبر، قال ابن خلدون: «يلقّب بالأقطع، بما كان أقطعه الحاكم بجناية ظهرت عليه في الأعمال وانتهضته السيدة بنت الملك عمة المستنصر» 6/ 29. (¬86) زيادة من المؤلف. (¬87) في رحلة التجاني «فكرة» ص: 16. (¬88) أشرنا سابقا أن ابن خلدون ينفي هذا عن الجرجرائي ويحمله اليازوري. (¬89) في الأصول: «يريد بهم حاجة» والمثبت من الرحلة ص: 16. (¬90) ساقطة من الأصول. (¬91) بعدها في الأصول: «كان من الألقاب السلطانية» أسقطناها تقويما للسياق وطبقا للرحلة التي ينقل عنها المؤلف. (¬92) في ط: «صوتها، وفي ش: «صموتها» والمثبت من الرحلة. (¬93) في الأصول: «دولتها» والمثبت من الرحلة.

زيري بن مناد وهو يومئذ من صنهاجة بمكان السّنام من الغارب، وبمنزلة الوجدان من نفس الطّالب، وكان له عشر من الولد آساد شرى وأقمار سرى فقال له: ادع لي بنيك، فقد عملت رأيي فيهم وفيك، وكان أصغرهم سنّا، وأهونهم شأنا، يوسف بن زيري فدعا ولده ما عداه، والمعزّ ما يريد سواه، وكان عند المعزّ إثارة من علم الحدثان، وقد عرف بها مصاير أحواله، وأهل الغناء (¬94) من أعيان رجاله، وكانت عنده لخليفته على افريقية (¬95) إذا صار إليه ملك مصر علامة (¬96) يأنس بها أنس الكبير بذكر شبابه، ويعرفها عرف العاشق بدار / أحبابه، فنظر في وجوه بني زيري فأنكرها حين تفقد تلك العلامة، فلم يرها فقال لزيري: هل غادرت من أبنائك أحدا، فلست أرى لمن هاهنا منهم أيدا [ولا يدا] (¬97) فقال له: لا الا غلاما [وطفق] (¬98) يصغّر شأنه، والمقدار قد عناه وأعانه، ويطوي أخباره والاختيار يدير عليه مداره، فقال له المعزّ: لا أراك حتى أراه، فلست أريد سواه، فلمّا رآه عرفه، وفوّض إليه من حينه واستخلفه، فاستولى من وقته على الأمور، وزاحمت مهابته الأهواء في الصّدور، وبعدت أسفاره، واشتهرت أخباره، واشتمل على طرف الليالي والأيام إيراده وإصداره، فبلغ بغزواته سبتة، ثم أجاب صوت مناديه، وخلع الامارة على أعطاف بنيه، حتى انتهت منهم إلى المعزّ بن باديس شرف (¬99) العشيرة، وآخر ملوكهم المشهورة، فأول ما افتتح به شأنه وأثبت به - فيما زعم (¬100) - سلطانه، قتل الرّافضة ومراسلة أمير المؤمنين ببغداد، فكتب إليه بعهده، وجاءت الخلعة (¬101) واللّقب من عنده، واتّصل ذلك بالجرجرائي وهو المتحكّم في الدّولة العبيدية، فاضطغنها عليه، وفوّق سهام مكروهه إليه (¬102)، وكان بطون من بني عامر بن صعصعة زغبة، والأثبج (¬103)، وعدي، ورياح، وغيرهم تنزل بالصّعيد لا يباح لها ¬

(¬94) في الأصول: «العناية» والمثبت من الرحلة ص: 17. (¬95) ساقطة من الأصول. (¬96) في الأصول: «علامات» والمثبت من الرحلة. (¬97) في الأصول: «يدا» والمثبت والاضافة من الرحلة ص: 17. (¬98) اضافة من الرحلة. (¬99) في الأصول: «مترف» والمثبت من الرحلة. (¬100) في الأصول: «زعم» والمثبت من الرحلة. (¬101) في الأصول: «الخلافة» والمثبت من الرحلة ص: 17. (¬102) كذا في ط وفي الرحلة، وفي ت وش: «عليه». (¬103) في الأصول: «الأشج» والمثبت من الرحلة ص: 18.

بالرّحيل، ولا يخلّى بينها وبين إجازة النّيل، فأفرج لهم الجرجرائي عن السّبيل، وأذن لهم في المعزّ أمنية طالما سرت إليها أطماعهم، فغشيه / منهم سيل العرم، ورماه منهم بدؤلول (¬104) وابنة الرّقم (¬105) وتهاون المعزّ بهم أولا فشغلهم بخدمته، وأثقلهم بأعباء نعمته، وهم في خلال ذلك يتحرسون لحياته (¬106)، ويدبون إلى أنصاره وحماته، ويطلعون على مقاتله وعوراته، حتى بان لهم شأنه وهان (¬107) عليهم سلطانه، فجاهروه بالعداوة، وأرادوه على الإتاوة (¬108)، وجرت بينهم أثناء ذلك حروب كان من أفراها لأديمه، وألصقها بصميمه وقعة «حيدران» (¬109) سنة أربع وأربعين وأربعمائة (¬110) فانها أوهنت بطشه، وثلّت عرشه، وأحاط الأعراب بالقيروان وانبسطوا في البلاد يخطفون حريمها، ويتعرّضون راحلها ومقيمها، إلى أن أعطاهم الدّية (¬111) وناشدهم التقيّة، واشترط المهديّة، وقد كان نظر في ماله وفكر (فيمن بازائه من أقياله) (¬112) فزف إلى زعمائهم بنات كنّ نجوم اللّيالي، وأماني المغالي فأصبحوا له أصهارا، وقاموا دونه أنصارا، ثم استجاش من قبله، واحتمل حرمه وثقله وترك الملك لمن حماه وحمله (¬113)، وجاء بأنصاره فكانوا بحيث يسمعون نئيمه (¬114) ويمنعونه ممّن عساه أن يكيده أو يضيمه، حتى بلغ المهديّة أسقط من الشمس في الميزان (وأوهن من الفقر عند العيان) (¬115). قوله في هذا الفصل فأول ما افتتح به شأنه، وثبت به - فيما زعم (¬116) - سلطانه، قتل الرافضة، كان المعزّ لا يزال يتحامل على بني عبيد، ويلعنهم خفية، / ويؤذي ¬

(¬104) في الأصول: «زهلول» والمثبت من الرحلة ص: 18. (¬105) في الأصول: «أرقم». (¬106) في الرحلة «يتمرسون بجهاته». (¬107) في الأصول: «وعز». (¬108) في الأصول: «الاثارة». (¬109) في ش: «جندار» والمثبت من الرحلة ص: 18. (¬110) 1052 - 1053 م. (¬111) في الرحلة: «الدنية». (¬112) في الأصول: «برأيه من إقباله». (¬113) في الأصول: «حرمه». (¬114) في الأصول: «قيمه». (¬115) في الرحلة: «وأهون من الفقير على القيان». (¬116) في الأصول: «عزم».

أشياعهم حتى آل الأمر به إلى التصريح بلعنهم على المنابر (جهرة) (¬117) وقتل أشياعهم المرة بعد المرة، وتتبعهم في الأقطار بالقتل، وكان قبل ذلك يكاتب الوزير الجرجرائي مستميلا له ومعرضا بالتّحزّب معه على بني عبيد، وإنّما يفعل ذلك رمزا وتعريضا له [لعله] (¬118) يرى منه قبولا له فيجد في السعي معه على القوم، وكتب إلى الجرجرائي مرّة بخطّه قطعة تمثّل بها منها: [بسيط] وفيك صاحبت قوما لا خلاق لهم ... لولاك ما كنت أدري أنّهم خلقوا يشير إلى بني عبيد الله، ويزعم أنه إنّما أبقى عليهم بعض الابقاء من أجل حبّه فيه، فلمّا وقف الجرجرائي عليها قال: ألا تعجبون من أمر (¬119) صبي مغربي بربري يحبّ أن يخدع شيخا بغداديّا عربيّا، وإنما اتّهمه بأنه فعل ذلك ليوقع بين القوم ووزيرهم إن عثروا على هذه الرّموز، ثم قال الجرجرائي: والله لا جيّشت له جيشا ولا تحمّلت فيه نصبا، وكلّف العرب العبور بمجاوزة النّيل، ولم يأمرهم بشيء لعلمه أنهم لا يحتاجون إلى وصاية، وكتب إليه معهم: «أما بعد فقد أرسلت إليك خيلا (¬120) فحولا، وحملنا (¬121) عليها رجالا كهولا، ليقضي الله أمرا كان مفعولا» (¬122)، وقد كان كتب إليه قبل ذلك كتاب تهديد ووعيد وقال فيه: إن لم ترجع عن رأيك أتتك الجيوش موصلة بسنابك خيلها، ناسخة بنقعها ووميضها (¬123) حكم نهارها وليلها. وقوله: فأفرج لهم عن السبيل أمنية طالما سرت إليها أطماعهم، ليس كذلك، فالمنقول أنه لما كلّفهم العبور امتنعوا، / فجعل لكلّ عابر فروا ودينارا فحينئذ جازوا، ثم لمّا وصلوا إلى بلاد افريقية واستطابوها كتبوا لاخوانهم في اللحاق بهم فلم يتركهم الجرجرائي أو يؤدي كلّ عابر فروا ودينارا، فأخذ بذلك أكثر ممّا أعطى، وقوله: وكانت ¬

(¬117) اضافة من المؤلف. (¬118) اضافة من الرحلة. (¬119) في الرحلة: «من هذا الأمير، صبي. . .». (¬120) ساقطة من الأصول. (¬121) في الأصول: «مطلقا». (¬122) سبق أن ذكر هذه القولة في النص الذي أخذه عن ابن خلدون وهي من التكرار الذي تعدد بالنسبة لعدة أحداث نقلها مرتين، مرّة عن ابن خلدون ومرة عن التجاني. (¬123) في الأصول: «ووبيضها».

من أفراها لأديمه وقعة «حيدران» (124) - حيدران - (¬124) اسم جبل معروف بمقربة من القيروان، كانت الوقيعة به وكان جيش المعزّ ثلاثين ألفا ومبلغ جيش الأعراب ثلاثة آلاف، فهزم جيش المعزّ ومن سلم منهم من القتل لم يسلم من النّهب، وفي ذلك يقول علي بن رزق (¬125) الرّياحي أحد أولائك الأعراب من قصيدة (¬126). [طويل] ثلاثة آلاف لنا غلبت له ... ثلاثين ألفا انّ ذا لنكال (¬127) واسم الجرجرائي أحمد بن علي، ويكنّى بأبي القاسم، كان أحد رجال الدّنيا سياسة ودهاء وبعد غور ونفوذ فكرة، ووزّر للظاهر العبيدي بمصر ثم لابنه المستنصر، وعتب عليه الظّاهر في أمر فقطع يديه معا فقطعتا فخرج من فوره وجلس بدسته لخدمته (¬128) على عادته، وقال: إن الخليفة إنما أمر بقطع يدي عقوبة لي ولم يعزلني، فاستعظم له الظّاهر ذلك وشرف لديه، وكان ذلك سببا لارتقائه إلى الوزارة، وكان كثير المصادرة للعمّال وربما صرّح لهم بقوله: أبيتم الا الخيانة، فقال فيه أبو طالب محمد بن عبد الله الأنصارى: [مجزوء الكامل] إغمد لسانك والتزم ... طرق السّلامة (¬129) والصّيانة / كم ذا تقول أبيتم ... إلاّ الجناية (¬130) والخيانة أتراهم قطعوا يديك على النّزاهة والأمانة ¬

(¬124) في الأصول: «جندار». (¬125) في الأصول: «زروق». (¬126) في الرحلة: «من قصيدة اشتهرت في زماننا أولها» أي زمن التجاني. (¬127) وفي رواية أخرى: [طويل] ثلاثون ألفا منكم هزمتهم ثلاث آلاف اذا لنكال راجع البيان المغرب 1/ 290. (¬128) في الأصول: «لدست خدمته» والمثبت من الرحلة ص: 21. (¬129) في الأصول: «الصماتة». (¬130) في ت: «الجيانة»، وفي ش: «الجبانة»، وفي ط: «الجباية» والمثبت من الرحلة.

وتوفي سنة ست وثلاثين وأربعمائة (¬131). ومن النّاس من نسب إجازة العرب لغير الجرجرائي واستدلّ على ذلك بما ذكر من تاريخ موت الجرجرائي، وإنما كان جواز العرب بعد ذلك بأعوام، وقال: إن المجيز لهم أبو محمد الحسن بن علي اليازوري، وقد كانت وزارته بعد الجرجرائي، ولا يبعد أن يكون هذا هو الصحيح» (¬132). فلمّا رأى (¬133) المعزّ اختلال الأحوال، وتغلّب الأعراب على البلاد علم أن صبرة لا تحصّنه منهم، فبنى على الانتقال إلى المهديّة، فولّى ابنه تميما عليها، وذلك في سنة خمس وأربعين وأربعمائة (¬134)، وجعل ينقل إليها أهله وذخائره شيئا فشيئا، وكان رجاله وخاصّته حذروه من تولية ابنه تميما، وخوّفوه أن يستبدّ بنفسه ويمتنع بالمهديّة من أبيه، فلم يسمع منهم، ووصل تميم إلى المهديّة فوجد بها عبيدا لأبيه كان قد أعدّهم هنالك لضبطها، قد قويت شوكتهم، وكثر ملأهم (¬135)، فوقعت بين عبيده وبينهم فتنة ومنازعة، فأطلق عليهم أيدي العامّة فقتلوا أكثرهم، وفرّ من بقي منهم إلى المعزّ بصبرة، فأتبعهم تميم طائفة من الأعراب لحقوهم قبل وصولهم إلى صبرة فقتلوهم أجمعين، وبلغ المعزّ ذلك فقوي (¬136) في نفسه ما كان يذكر له عن تميم من الإستبداد والاستئثار / بما حصل لديه من الذّخائر ولكنّه لم يجد بدّا من مداراته، والاغضاء له عن فعلته. فلما كانت سنة تسع وأربعين وأربعمائة (¬137) توجّه إلى المهديّة في خفارة رجلين من العرب قد كان صاهرهما ببنتيه يعرف أحدهما الفضل بن أبي علي وهو مرداسي، ويعرف الآخر بفارس بن أبي الغيث توجها إليه فاستخرجاه من صبرة سرّا، وأحس باقي الأعراب بخروجه فلحقوه في أثناء الطّريق فواقفهم (¬138) فارس بن أبي الغيث في جماعة من قومه، وجعل يؤنّبهم على الاستخفاف بخفارته، فقالوا له: إنك قد أعظمت التّحامل علينا في خفارة مثل المعزّ، وتركنا له عظيم، والفائدة في أخذه كبيرة فلا ¬

(¬131) 1044 - 1045 م. (¬132) نقل بتصرف يسير في الالفاظ واسقاط بعض الجمل من الرحلة 16 - 22. (¬133) الانتقال إلى ص: 328 من الرحلة. (¬134) 1053 - 1054 م. (¬135) في الأصول: «مالهم» والمثبت من الرحلة ص: 329. (¬136) في الأصول: «فقرأ». (¬137) 1057 - 1058 م. (¬138) في الأصول: «يدافعهم».

تمنعنا منه، فلم يزل يواقفهم (¬138) ويراجعهم إلى أن خلص المعزّ وصاحبه الفضل بن أبي علي ودخل المهديّة، ويقال أنه قد كان أخرج بعض قطعه البحرية وسيّرها في البحر محاذية له خوفا ممّا عساه أن يعرض له في طريقه، فلمّا لحقه الأعراب ناداه أرباب القطع بالبدار إليهم ليعتصم بالبحر من أولائك الأعراب فلجّ في السّير وأبى من الدخول إليهم (وأنفت منه نفسه) (¬139)، إلى أن خلص، فدخل المهديّة وهو خائف من ولده تميم أن يقبض عليه، فخرج تميم للقائه، وترجّل وقبّل الأرض بين يديه، ومشى أمامه، ولم يزل في خدمته وبره إلى وفاته» (¬140). «وكان (¬141) / أهل سوسة خالفوا على المعزّ سنة خمس وأربعين وأربعمائة (¬142) ومنعوه ما كانوا يحملون إليه من المال وقالوا: نحن أولى به لنذبّ عن بلدنا، وتوفّت أخت المعزّ عندهم فضمّوا أموالها، وأبوا توجيهها إليه، فبعث إليهم المعزّ في ذلك، فقالوا لرسوله: كيف ندفع له أموالا نتقوى بها نحن عن مدافعته وحربه، وبعث إليهم المعزّ من المهديّة أسطولا ضخما فأصبح بمرسى سوسة، فأحرق ما فيه من المراكب، وكانت نيّفا وستّين مركبا أكثرها لأهل سوسة، فعمد أهل سوسة إلى من كان عندهم من أهل القيروان فأخذوا أموالهم، وأهانوهم أشدّ الإهانة، فوجّه إليهم المعزّ جيشا فيه مائة فارس وأمرهم أن يتظافروا مع الأسطول على حصار سوسة ليأخذوا بمخنقها برّا وبحرا، فكان من قدر الله الغريب الاتفاق أن اجتاز على سوسة يوم خروج هذا الجيش أسطول من قبل صاحب صقليّة فتهيّبه (¬143) أسطول المعزّ، فانصرف راجعا إلى المهديّة ولا علم عند المعزّ بذلك، فوصل جيش المعزّ إلى سوسة فسألوا عن الأسطول فأخبروا باقلاعه، فسقط في أيديهم، فخرج أهل سوسة ومن حف بها من الأعراب فأدخلوهم إلى المهديّة وأعلوا (¬144) السّيف على جميعهم ونصبوا روؤسهم على السّور، قال ابن شرف: أخبرني من شاهدها أن عدتها نيّف وخمسون رأسا، وإنّما سلم من سلم من ¬

(¬138) في الأصول: «يدافعهم». (¬139) بعدها في الأصول: «فجد في السير» أسقطناها لأنها تكرر سابقتها، وفي رحلة التجاني التي ينقل عنها: «وأبى من الدخول إليهم أنفة منه وجلدا». (¬140) رحلة التجاني بتصرف يسير 328 - 330. (¬141) ينتقل إلى موضع آخر من الرحلة ص: 28. (¬142) 1053 - 1054 م. (¬143) في الأصول: «فتهيأ له» والمثبت من الرحلة ص: 29. (¬144) في رحلة التجاني: «فأجالوا».

تميم بن المعز

الجيش لضعف في دوابّهم منعهم / من اللّحاق باخوانهم، فلمّا تحقّقوا الخبر ولّوا راجعين فسلموا بذلك، فمات (¬145) المعزّ وسوسة مخالفة [عليه]. تميم بن المعز: فلمّا ولي ابنه تميم أنابوا له فعفا عنهم وتغمّد ذنوبهم وذلك سنة ست وخمسين وأربعمائة (¬146) «[وتوفي المعزّ] بضعف الكبد (¬147) وكان موته بالقيروان ولم تطل مدّة أحد من أهل بيته في الولاية كمدّته» (¬148). ولمّا تولّى تميم استبدّ بالملك (¬149) «ولمّا (¬150) كانت سنة ثمانين وأربعمائة (¬151) وقع ما وقع من (استيلاء الافرنج) (¬152) على المهديّة وزويلة وأسّروا (¬153) أهلها وقتلوا من شاؤوا منهم وأحرقوه بالنّار، وكانت عدّة القطع التي نزلوا بها عليها ثلاثمائة قطعة تشتمل على ثلاثين (¬154) ألف مقاتل، قال أبو الصّلت: وكسفت الشّمس في هذا العام ببرج الأسد طالع تخطيط المهديّة كسوفا كلّيا مزج بهذا الواقع (¬155) بأثر ذلك، قال: وكان من أعظم الأسباب [فيه]- مع قضاء الله تعالى الذي لا يرد - غيبة عسكر السّلطان عن المهديّة ومفاجأة الرّوم دون استعداد لهم وأخذ أهبة للقائهم وخلوّ كافّة النّاس عن السّلاح والعدد وقصر الأسوار وتهدّمها وتكذيب تميم بما يرد عليه من أخبار النّصارى وسوء رأي فلان (¬156) متولّي البلاد ومدبّرها اذ ذاك في المنع من الخروج إليهم ولقائهم في الماء فتركوا إلى أن نزلوا ¬

(¬145) في 4 شعبان 454/ 13 أوت 1062 م الرحلة ص: 29، الوفيات 5/ 342، وقيل في سنة 455. (¬146) 1063 - 1064 م رحلة التجاني ص: 28 - 29 بتصرف يسير. (¬147) كذا في ت وط والوفيات. وفي ش: «الكبر». (¬148) وفيات الأعيان 5/ 234. (¬149) بعدها في ت: «ووقف لتنظيمه». (¬150) ينتقل إلى موضع آخر من الرحلة ص: 331. (¬151) 1087 - 1088 م. (¬152) في الرحلة: «من نزول أهل بيشر وجنوة من النّصارى». (¬153) في الرحلة: «وسبوا». (¬154) في الأصول: «ثلاثمائة» والمثبت من الرحلة التي ينقل عنها المؤلف، وكذا عدد المقاتلين في البيان المغرب 1/ 301. (¬155) في الرحلة: «فجرى بها هذا». (¬156) هو عبد الله بن منكور كما في البيان المغرب 1/ 301.

في البرّ، وكان من تغلبهم على المهديتين (¬157) وعيثهم فيهما ما هو مشهور»، قال التجاني: «ولجأ تميم إلى قصره المعروف / بقصر المهدي وهو قصر حصين، فأقام به إلى أن وقع الصّلح بينه وبينهم على مائة ألف دينار تدفع لهم ويقلعون بما حصل في أيديهم من المسلمين، فدفعت لهم وأقلعوا بأموال المسلمين ونسائهم وأبنائهم، وفي ذلك يقول أبو الحسن [علي] بن محمّد بن الحدّاد في قصيدة طويلة. [منسرح] غزا حمانا العدو في عدد ... هم الدّبا (¬158) كثرة أو النغف (¬159) عشرون ألفا ونصفها ائتلفوا (¬160) ... من كل أوب (¬161) لبئسما (¬162) ائتلفوا جاؤوا على غرة إلى نفر ... قد جهلوا في الحرب ما عرفوا وأقام تميم بعد ذلك بالمهديّة (¬163)». قال في «معالم الايمان»: «إن الشيخ عبد الحميد الصايغ قيرواني سكن سوسة، وأن المعزّ صاحب المهديّة لمّا أراد تولية أبي الفضل بن شعلان قضاء المهديّة شرط ابن شعلان أن لا يتقلد ذلك إلاّ باستجلاب عبد الحميد إلى المهديّة ليقوم بفتواها - اذ لا يرى استفتاء أحد من فقهائها لأمور - فجلب له ولزم المهديّة ودارت عليه فتواها، فلمّا (تغير أهل) (¬164) سوسة على تميم قبض على جماعة فيها ابن عبد الحميد، فضربه وغرمه خمسمائة دينار، فباع فيها عبد الحميد كتبه، فكانت سبب انقباض عبد الحميد عن الفتيا، فلقيه بعد ذلك تميم واعتذر إليه، فلم ينفعه، ولزم الانقباض ولزم داره ولم يفت في شيء، وجعل لا يجالس أحدا وتحيّل في الخروج إلى سوسة بعلّة المداواة لحسن هوائها، فبقي على حالته تلك ستة أعوام إلى أن دخل / الافرنج المهديّة واستباحوا أهلها ¬

(¬157) كذا في الأصول والرحلة، وفي البيان المغرب: «المدينتين» 1/ 301. (¬158) في الأصول: «بنت الربى» والتصويب من الرحلة ص: 332. (¬159) في ش: «النفقوا» وفي ط: «النقف». (¬160) في الأصول: «ليتلفوا». (¬161) في ط: «أرب». (¬162) في الأصول: «بئسما». (¬163) وبعدها في الرحلة: «إلى أن مات سنة إحدى وخمسمائة 1107 - 1108 م»، انظر الرّحلة ص: 332 - 333، نقل عنها بتصرف يسير. (¬164) في المعالم: «شقت سوسة».

أبو زكرياء يحيى

ودخلوا قصر صاحبها (¬165) فانكسر بعد ذلك تميم ودائرته وهان على النّاس، فظهر (¬166) عبد الحميد ورجع إلى حالته الأولى وأفتى ودرس وانتفع به إلى أن مات - رحمه الله تعالى» اهـ‍ (¬167). وكانت ولادة تميم بالمنصوريّة (¬168) يوم الاثنين ثالث عشر (¬169) رجب سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة (¬170)، وتوفي ليلة السّبت منتصف رجب سنة إحدى وخمسمائة (¬171)، ودفن في قصره، ثم نقل إلى قصر السّيدة بالمنستير، وخلف من البنين أكثر من مائة» (¬172). أبو زكرياء يحيى: فتولّى بعده ولده أبو زكرياء يحيى بالمهديّة. كان تولّى عن أبيه يوم الجمعة لأربع بقين من ذي الحجّة سنة سبع وتسعين وأربعمائة (¬173) والطّالع الدّرجة السّابعة من الجدي، واستقلّ بالأمر يوم وفاة أبيه، وكان عمره يوم استقلاله ثلاثا وأربعين سنة وستة أشهر وعشرين يوما. ونقل ابن خلكان عن «أخبار الجمع والبيان في أخبار القيروان» (¬174) أن الأمير تميما قبل وفاته بمدّة يسيرة دعا ولده يحيى المذكور، وكان في دار الامارة مع خاصّته وجلسائه فمضى يحيى ومن معه إليه فوجدوا تميما في بيت المال، فأمرهم بالجلوس، ثم قال ¬

(¬165) في المعالم: «ودخلوا جلّ قصورها». (¬166) قال العلامة الحجوي في «الفكر السامي» 4/ 51: «وأنا لا أعجب من انبساطه وانقباضه لقد فسدت أحوال وأخلاق ذلك الزمان، ولذلك كانت دولة افريقية في اضمحلال حيث صارت أفكار أكابر علمائها وأعمال أمرائها إلى ما سمعت». (¬167) معالم الايمان 3/ 200 - 201. (¬168) في الأصول: «بالمنصورة» والمثبت من الوفيات 1/ 305. (¬169) ساقطة من الأصول. (¬170) 6 جويلية 1031 م. (¬171) 1 مارس 1108 م. (¬172) نقل المؤلف ترجمة تميم من الوفيات 5/ 305 - 306. (¬173) 19 سبتمبر 1104 م. (¬174) لعز الدين عبد العزيز بن شدّاد بن تميم بن المعز بن باديس، وهذا الكتاب مفقود الآن.

لأحدهم: قم وادخل ذلك البيت وخذ منه الكتاب الذي صفته كذا في مكان كذا، فقام وأتى به، واذا هو كتاب ملحمة، فقال له: عدّ من أوله كذا وكذا ورقة، واقرأ الصفحة التي تنتهي / إليها، [فقرأها] (¬175) فاذا فيها «الملك المغدور وهو الطويل القامة الذي بوركه الأيسر خال وفي جنبه (¬176) الأيسر شامة» فقال له الأمير تميم: «أمّا العلامتان فقد رأيتهما، وقد بقيت عليّ الثالثة، قم أنت يا شريف وأنت يا فلان حتى تحقّقا (¬177) عندي خبر العلامة الثّالثة، فقاموا وقام يحيى معهم إلى موضع مستور عن تميم، وكشف لهم عن جسمه، فرأوا على جنبه الأيسر [شامة] هلالية الشّكل، فأتوا تميما فعرفوه، فقال: لم أعطه أنا شيئا، الله الذي أعطاه» اهـ‍ (¬178). ولما (¬179) جلس في الملك قام بالأمر وعدل في الرّعية وفتح قلاعا لم يتمكّن أبوه من فتحها. وفي سنة سبع وخمسمائة (¬180) أتى إلى المهديّة قوم (¬181) غرباء قصدوا يحيى بمطالعة زعموا فيها أنهم من أهل الصّناعة الكبرى (¬182) الواصلين إلى نهايتها، فأذن لهم في الدّخول عليه (فلمّا مثلوا بين يديه طالبهم بأن يظهروا له من الصّناعة ما يقف عليه) (¬183) فقالوا: (ندبّر القصدير) (¬184) حتى يرجع لا فرق بينه وبين الفضّة ولمولانا من السّروج (¬185) والقضب والبنود والقباب (¬186) والأواني قناطير من الفضّة يجعل عوضها [منها] ما تريد وتستعمل جميع ذلك في مهمّاتك، وسألوه أن يكون ذلك في خلوة، فأجابهم وأحضرهم للعمل، ولم يكن عند الأمير يحيى سوى الشريف أبي الحسن علي والقائد إبراهيم قائد ¬

(¬175) ساقطة من الأصول. (¬176) في الأصول: «جانبه». (¬177) في الأصول: «يتحقق» والمثبت من الوفيات. (¬178) وفيات الأعيان من ترجمة يحيى بن تميم 6/ 211 - 212. (¬179) عود إلى النقل من الوفيات. (¬180) كذا في الوفيات 1113 - 1114 م، وفي البيان المغرب: «تسع وخمسمائة». (¬181) رجلان أو ثلاثة ذكروا أنهم من طلبة المصامدة، البيان المغرب 1/ 305. (¬182) أي صناعة الكيمياء التي تقلب المعادن الخسيسة إلى معادن شريفة (الذهب والفضة). (¬183) ساقطة من ش. (¬184) في الوفيات: «نحن نزيل من القصدير التدخين والصرير حتى». (¬185) في الأصول: «سرج». (¬186) زيادة من المؤلف عمّا هو موجود بالوفيات.

علي بن يحيى وابنه الحسن

الأعنة. وكانوا هم ثلاثة، وكانت بينهم امارة، فأمكنتهم الفرصة، فقال أحدهم: دارت البوتقة فتواثبوا (¬187) وقصد (¬188) كلّ واحد منهم واحدا بسكاكينهم، / فأمّا الذي قصد الأمير يحيى فقال: أنا سرّاج، وكان يحيى جالسا على مصطبة فضربه فجاءت على رأسه (¬189)، فقطعت طاقات من العمامة، فلم تؤثّر في رأسه، وانجرت (¬190) يده بالسّكين على صدره فخدشته، وضربه يحيى برجله، فألقاه على ظهره (¬191) فسمع الخدم الجلبة ففتحوا باب القصر من عندهم، فدخل يحيى وأغلق الباب دونهم، وكان زيّهم زيّ أهل الأندلس، فقتلوا وقتل في البلد جماعة ممّن كان على زيّهم، وخرج الأمير يحيى في الحال، وركب في البلد، وسكّن الفتنة، وتحقق نعته في كتاب الملاحم بالمغدور في هذه الواقعة. وكان عادلا في دولته ضابطا لأمر رعيّته عارفا بدخله وخرجه، مدبّرا في جميع ذلك على ما يوجبه النّظر العقلي، وكان كثير المطالعة لكتب الأخبار والسّير عارفا بها، رحيما للضعفاء شفيقا على الفقراء يطعمهم في الشّدائد ويرفق بهم، ويقرّب أهل العلم والفضل من نفسه، وساس العرب في بلاده فهابوه وانفكّت (¬192) أطماعهم، وكان له نظر حسن في صناعة النّجوم والأحكام، وتوفي يوم الأربعاء عيد النحر سنة تسع وخمسمائة (¬193) فجأة وكان ولده علي نائبا على صفاقس [فأحضر] وعقدت له الولاية، ودفن يحيى بالقصر على ما جرت به العادة، ثم نقل بعد سنة لقصر السّيدة بالمنستير، وخلّف ثلاثين ولدا ذكورا. علي بن يحيى وابنه الحسن: وكانت ولادة علي بالمهديّة / صبيحة يوم (¬194) الأحد لخمس عشرة ليلة خلت من صفر سنة تسع وتسعين وأربعمائة (¬195)، وكان أبوه قد ولاّه صفاقس، فلمّا مات أبوه ¬

(¬187) في ت وط: «فثبوا»، وفي ش: «فبئوا» والمثبت من الوفيات. (¬188) في ت: «وثق» وفي ط وش: «فقد» والمثبت من الوفيات. (¬189) في الوفيات: «على أم رأسه». (¬190) في الوفيات: «أسترخت». (¬191) وفي البيان المغرب: «بقي يعاني جرحه حتى مات وقالا له حين جرحاه: أيها الكلب نحن أخواك فلان وفلان، نفيتنا وبقيت في الملك» 1/ 305. (¬192) في الوفيات: «انكفت». (¬193) 25 أفريل 1116 م. (¬194) في الأصول: «ليلة». (¬195) 27 أكتوبر 1105 م.

إجتمع أعيان دولته على كتاب كتبوه إليه عن أبيه يأمره بالوصول إليه مسرعا، فوصل الكتاب ليلا، فخرج لوقته ومعه طائفة من أمراء العرب، وجدّ في السّير، فوصل الظّهر يوم الخميس الثّاني من يوم العيد، ودخل القصر ولم يقدم شيئا على تجهيز أبيه والصّلاة عليه، ودفنه صبيحة يوم الجمعة ثالث عشر ذي الحجة، ولم يزل علي على أمور جارية على السّداد إلى أن توفي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ربيع الآخر سنة خمس عشرة وخمسمائة (¬196) ودفن بالقصر بعد أن فوّض الأمر من بعده إلى ولده الحسن بن علي، المولود بسوسة في رجب سنة اثنتين وخمسمائة (¬197)، وتولى وعمره اثني عشرة سنة وتسعة أشهر، وعليه خرج لجار الكافر اللّعين من صقليّة» (¬198) وسيأتي تفصيل ذلك - إن شاء الله - في المقالة الثامنة في ذكر دولة الموحّدين، والله أعلم. ¬

(¬196) 11 جويلية 1121 م. (¬197) فيفري 1109 م. (¬198) الوفيات بتصرف 6/ 212 - 217.

الباب الثاني في ذكر دولة نور الدين

الباب الثاني في ذكر دولة نور الدين وصلاح الدين القاطعين لمذهب الشّيعة الفاطميين من مصر والشام نور الدين: أمّا نور الدّين فهو أبو القاسم محمود بن عماد الدّين زنكي بن آق (¬1) سنقر (¬2) «بن عبد الله، وهو وأبوه وجده كلهم ملوك». «أما آق سنقر فانه كان مملوك السلطان ملك شاه / بن ألب أرسلان السلجوقي - المتقدّم الذكر - فكان آق سنقر نائبا في حلب عن تتش السّلجوقي، ثم عصى عليه فقتله في محارباته» (¬3). وأما زنكي فانه كان صاحب الموصل وما والاها فتوجّه إلى قلعة جعبر (¬4)، ومالكها يومئذ سيف الدولة أبو الحسن بن ملك شاه (¬5)، فحاصرها وأشرف على أخذها، فأصبح يوم الأربعاء خامس شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة (¬6) مقتولا، قتله خادمه وهو راقد على فراشه، وكان نور الدين محمود في خدمته (¬7) فملك هو بعد أبيه مدينة حلب، وحماة، وحمص، ومنبج (¬8) وحرّان في ذلك التاريخ، وملك أخوه سيف الدين غازي مدينة الموصل وما والاها من تلك النواحي. ثم ان محمود نور الدين ملك دمشق سنة تسع وأربعين وخمسمائة تاسع صفر (¬9)، ثم ¬

(¬1) في ت وش: «أن». (¬2) الوفيات ترجمة الملك العادل نور الدّين 5/ 185. (¬3) الوفيات من ترجمة آق سنقر الحاجب بتصرف 1/ 241. (¬4) في الأصول: «جعفر» والمثبت من الوفيات 2/ 328. (¬5) في الوفيات: «أبو الحسن علي بن مالك». (¬6) 14 سبتمبر 1146 م وتطبيقا لتقويم كتاب التوفيقات الالهامية يكون يوم السبت. (¬7) الوفيات 2/ 328. (¬8) في الأصول: «منيج» والمثبت من الوفيات 5/ 185. (¬9) 25 أفريل 1154 م.

استولى على بقية بلاد الشّام كبعلبك، وهو الذي بنى سورها، وغيرها من البلاد، وافتتح من بلاد الروم عدّة حصون منها مرعش وبهسنا سنة ثمان وستين وخمسمائة (¬10) بذي القعدة وذي الحجة، وتلك الأطراف، وفتح أيضا من بلاد الافرنج حارم أواخر شهر رمضان سنة تسع وخمسين وخمسمائة (¬11) وفتح بانياس وغير ذلك ممّا تزيد عدته على خمسين حصنا (¬12). ثم سيّر الأمير شيركوه إلى مصر - كما يأتي قريبا إن شاء الله - (¬13). وكان نور الدين عادلا زاهدا عابدا ورعا، مستمسكا بالشّريعة مائلا إلى أهل الخير / مجاهدا في سبيل الله تعالى، كثير الصّدقات، بنى المدارس بجميع بلاد الشّام الكبار (¬14) مثل دمشق وحلب وحماة وحمص وبعلبك ومنبج والرّحبة، وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي وجامع الرّها وجامع منبج، وبيمارستان دمشق، ودار الحديث بها، وله من المناقب والمآثر والمفاخر ما يستغرق الوصف. وكانت ولادته يوم الأحد عند طلوع الشّمس سابع شهر شوال سنة إحدى وعشرين وخمسمائة (¬15)، وتوفي يوم الأربعاء حادي عشر شوال سنة تسع وستين وخمسمائة (¬16)، بدمشق بعلة الخوانيق - ابن خلكان - (¬17). وسمعت من جماعة من أهل دمشق يقولون أن الدّعاء عند قبره مستجاب ولقد جرّبت ذلك فصح» (¬18). ¬

(¬10) جوان - جويلية 1173 م. (¬11) أوت 1164 م. (¬12) حروبه مع الافرنج وتسييره للأمير أسد الدّين شيركوه إلى مصر يدخل في باب الحروب الصليبية الثانية، أنظر على سبيل المثال: محمد العروسي المطوي. «الحروب الصليبية في المشرق والمغرب» دار الغرب الإسلامي، 8/ 65 - 76. (¬13) زيادة من المؤلف عن الوفيات. (¬14) في الأصول «الكثيرة» والمثبت من الوفيات. (¬15) 16 أكتوبر 1127 م. (¬16) 15 ماي 1174 م. (¬17) الوفيات من ترجمة الملك العادل نور الدّين بتصرف 5/ 184 - 187. (¬18) نفس المرجع ص: 187.

عماد الدين اسماعيل

عماد الدّين اسماعيل: وكان قد عهد بالملك إلى ولده الصّالح [عماد الدّين] إسماعيل فقام [بالأمر] من بعده، ولمّا خرج صلاح الدين إلى الشّام، لم يبق له إلاّ حلب، فلم يزل بها حسن السّيرة إلى أن توفي في الخامس والعشرين من رجب (¬19) سنة سبع وسبعين وخمسمائة (¬20) - رحمة الله عليه -. عود إلى ذكر نور الدين: وفي تاريخ ابن أبي الهيجاء قال: «إن نور الدين كان يخيط الكوافي، ويعمل سكاكير الأبواب، وله عجائز يبيعنّها ولا يدري بهن أحد، فكان يصوم ويفطر على أثمانها وخرج يتصيّد فاذا بأعجمي قد أقبل من ناحية دمشق، وكان صاحبا لنور الدين فقدم بخيل ومماليك، وفيهم مملوك مستحسن جدا، فقبله وردّ الباقي، وكان له خادم أبيض اسمه سهيل، فقال له: خذ هذا المملوك / وادفع لصاحبه خمسمائة دينار وخلعة وبغلة، فقال سهيل في نفسه: {إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} (¬21)، هذا ما اشترى مملوكا قط بخمسين دينارا ففعلت ما أمرني (¬22)، وتركني أياما وقال: احضر المملوك مع المماليك كل يوم يقف في الخدمة، قال: فأحضرته، فلمّا كان بعد أيام قال لي: احضره وقت العشاء الآخرة إلى الخيمة، وقم أنت وهو على باب البرج، فقال الخادم: هذا الشّيخ في أيّام شبابه ما ارتكب معصية، فلما كبر يقع فيها، والله لأقتلنه، - يعني المملوك - قبل أن يقع في معصيته، وجئته بالمملوك إلى الخيمة فسهرت أكثر الليل، ونور الدين في البرج، فلما كان السّحر نمت ثم انقلبت فوقعت يدي على جسد المملوك فاذا به مثل الجمرة قد أخذته حمّى، فلمّا أصبحت أحضرت الطبيب فرآه وقال: هذا مرضه سماوي، فلمّا كان وقت الظهر مات، فدعاني نور الدّين وقال: يا سهيل {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (¬23)، فاستحييت، فقال نور الدّين: والله لمّا رأيت الغلام وقع في قلبي منه ¬

(¬19) في الأصول: «جمادى الأولى» والمثبت من الوفيات 5/ 188. (¬20) 4 ديسمبر 1181 م. (¬21) سورة البقرة: 156. (¬22) بعدها في ت: «به في الحين». (¬23) سورة الحجرات: 12.

الحملات الصليبية الأولى واستقرار الافرنج بالشام

مثل النار، فقلت لك: اشتره لعلّ يذهب ما في قلبي فلم يذهب، فقالت لي نفسي: أريد أن أراه كل يوم، فأمرتك باحضاره، فلمّا كان تلك الليلة ما تركتني أنام وبقيت أنا واياها في حرب إلى وقت السّحر، فهممت أن أفتح باب البرج وأصعده فكشفت رأسي وقلت: إلاّ هي! محمود عبدك يختم أعماله بمثل هذا، فسمعت هاتفا يقول: قد كفيناك / أمره فعلمت أنه قد حدث عليه حادث، ثم قدم سهيلا وأحسن إليه» اهـ‍. الحملات الصليبية الأولى واستقرار الافرنج بالشام: «واعلم أن العبيديين الشّيعة ملوك مصر لما أفضت دولتهم إلى أبي العباس أحمد المنعوت «بالمستعلي» بن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعزّ» (¬24) - الذي كان انتقل من المغرب إلى مصر - «وكان المستعلي ولي الأمر بعد أبيه بالدّيار المصرية والشامية [وفي أيامه] (¬25) اختلت أحوالهم، وضعف أمرهم، وانقطعت من أكثر مدن الشّام دعوتهم، وانقسمت البلاد الشّامية بين الأتراك والافرنج - خذلهم الله تعالى - فانهم دخلوا الشّام ونزلوا على انطاكية في ذي القعدة سنة تسعين وأربعمائة (¬26). ثم تسلّموها في سادس عشر من رجب سنة احدى وتسعين وأربعمائة (¬27)، وأخذوا بيت المقدس سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة (¬28) وأخذوا معرّة النّعمان في السّنة المذكورة وكان الافرنج أقاموا على بيت المقدس نيّفا وأربعين يوما [قبل أخذه وكان] (¬29) أخذهم لها ضحوة يوم الجمعة، ¬

(¬24) الوفيات من ترجمة المستعلي الفاطمي 1/ 178. (¬25) زيادة من الوفيات يقتضيها السياق. (¬26) أكتوبر 1097 م وصلت في هذه السنة إلى بلاد الشام «أولى الحملات الصّليبية وكانت تضم شخصيات بارزة من البلاد الأوروبية، جاءت هذه الحملة عن طريق القسطنطينية ومنها عن طريق نيقية إلى أنطاكية، وفي أثناء الطّريق بعد معركة مع السّلاجقة عند «أسكي شهر» انتصر فيها الصّليبيون، انقسمت الحملة إلى قسمين، القسم الأول اتّجه إلى النّواحي الشّرقية من آسيا الصّغرى، والقسم الثاني ويعدّ أكثر الصّليبيين اتّجه نحو انطاكية في طريقه إلى بيت المقدس وانتهت الحملة الصّليبية الأولى بتكوين الإمارات الصّليبية». أنظر على سبيل المثال: عمر عبد السلام تدمري، تاريخ طرابلس، 1/ 386 - 387، الحروب الصّليبية في المشرق والمغرب، المرجع السابق، ص: 45 - 58. (¬27) 19 جوان 1098 م. (¬28) 1098 - 1099 م. (¬29) اضافة من الوفيات.

وقتل فيها من المسلمين خلق كثير في مدّة أسبوع، وقتل في الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا، وأخذوا من عند الصّخرة من أواني الذّهب والفضّة ما لا يضبطه الوصف، وانزعج المسلمون في جميع بلاد الاسلام (¬30) بسبب أخذه غاية الانزعاج، وكان الأفضل [شاهنشاه] (¬31) ابن «أمير الجيوش» (¬32) (وزير المستعلي) (¬33) قد تسلّمه من سقمان (¬34) بن أرتق يوم الجمعة لخمس بقين من شهر رمضان سنة إحدى وتسعين (¬35) وكان أحفظ لها لولا سابق قضاء الله، فولى ابن أمير الجيوش / في القدس من قبله من لم تكن له طاقة بالافرنج فتسلّموه منه، ثم استولى الافرنج على كثير من البلاد السّاحلية في أيامه، فملكوا حيفا (¬36) في شوال سنة ثلاث وتسعين (¬37)، وقيسارية سنة أربع وتسعين (¬38)، فلمّا مات المستعلي سنة خمس وتسعين وأربعمائة (¬39) كان ولده الأمير أبو علي المنصور ويلقب «بالآمر (¬40) بأحكام الله صغير السنّ، ابن خمس سنين (¬41) فأقاموه مقام أبيه، واستمر الأفضل ابن أمير الجيوش وزيرا مدبّرا للملك» (¬42)، «وكان المنصور سيء التدبير، مقبلا على لهوه وشهواته، فنهاه الأفضل عن ذلك، فحقد عليه ولم يمتثل للحق، فلما قوي جأشه قتل الأفضل» (¬43)، فخرب الملك بمزّة (¬44) وغلب على أمره، وأخذ أمر (¬45) الفاطميين في الهلاك، «وأخذ الافرنج في أيّامه عكا في شعبان سنة سبع وتسعين ¬

(¬30) في الأصول: «الشام بل وغيرها». (¬31) اضافة من الوفيات. (¬32) تفسير من المؤلف. (¬33) بدر الجمّالي، الوفيات 2/ 448. (¬34) كذا في نسخ من الوفيات وفي غيرها: «سقمان» الوفيات هامش 5 - 1/ 179. (¬35) 2 أوت 1098 م. (¬36) في الأصول: «حماة» والمثبت من الوفيات الناقل عنها المؤلف. (¬37) أوت 1100 م. (¬38) 1100 - 1101 م. (¬39) 1101 - 1102 م. (¬40) في الأصول: «القائم» وهو الحاكم كما في النصوص التاريخية، وفي الوفيات 1/ 180، 5/ 299. (¬41) وزاد عليها ابن خلكان: «وشهر وأربعة أيام» 1/ 180. (¬42) الوفيات من ترجمة المستعلي الفاطمي بتصرف 1/ 178 - 180. (¬43) الوفيات من ترجمة الأفضل ابن أمير الجيوش 2/ 450. (¬44) بالكسر ثم التشديد قرية بينها وبين دمشق نصف فرسخ. أنظر معجم البلدان 5/ 122. (¬45) في ط: «أمن».

وأربعمائة (¬46)، وأخذوا طرابلس الشّام بالسّيف يوم الاثنين لاحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة اثنتين وخمسمائة (¬47)، ونهبوا ما فيها، وأسّروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها، وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها وكتب دار علمها وما كان في خزائن أربابها ما لا يحدّ عدده ولا يحصى، وعوقب كثير (¬48) من أهلها، واستصفيت أموالهم، وهو في ذلك كله مقبل على لهوه ولذّاته، وبعد ما فات الأمر وصلتها نجدته (¬49)، وفي هذه السّنة ملكوا عرقة (¬50)، وكان نزولهم عليها أوّل شعبان، وكذا بانياس وجبيل (¬51) بالأمان وأخذوا صيدا لأربع / وخمسمائة (¬52) وكذا قلعة تبنين (¬53) يوم الجمعة لثمان بقين من ذي الحجة سنة إحدى عشرة وخمسمائة (¬54)، وتسلّموا مدينة صور يوم الاثنين لسبع بقين من جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وخمسمائة (¬55)، وأخذوا ببيروت يوم الجمعة الحادي والعشرين من شوّال سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة (¬56) بالسّيف. وفي أيام الآمر المذكور سنة أربع وخمسمائة (¬57)، وقيل سنة احدى عشرة وخمسمائة (¬58)، قصد بلدوين الافرنجي الدّيار المصرية ليأخذها، فانتهى إلى الفرما فدخلها وأحرقها وأحرق جامعها ومساجدها، ورحل عنها (وقد نفذ فيه وعد الله بهلاكه) (¬59) فهلك في الطّريق قبل وصوله إلى العريش، وكان بلدوين هذا اللّعين هو المستولي على بيت المقدس وعكا ويافا ¬

(¬46) ماي 1104 م. (¬47) جويلية 1109 م. (¬48) في الوفيات: «من بقي». (¬49) في الوفيات: «نجدة المصريين». (¬50) هي (Archas) في الأصول «غزنة» والتصويب من تاريخ طرابلس 1/ 390، معجم البلدان 4/ 109، قال الحموي: «بكسر أوله، وسكون ثانيه، بلدة في شرقي طرابلس بينهما أربعة فراسخ». (¬51) في الأصول: «حنبل» والمثبت من الوفيات ومعجم البلدان 2/ 109، قال الحموي «بلد في سواحل دمشق، وهو بلد مشهور في شرقي بيروت». (¬52) 1110 - 1111 م. (¬53) في الأصول: «بنيبن» والمثبت من الوفيات، ومعجم البلدان 2/ 14 قال الحموي: «بكسر أوله وسكون ثانيه، بلدة في جبال بني عامر المطلّة على بلد بانياس بين دمشق وصور». (¬54) 11 أفريل 1118 م. (¬55) 8 جويلية 1124 م. (¬56) 7 أكتوبر 1129 م. (¬57) 1110 - 1111 م. (¬58) 1117 - 1118 م. (¬59) الزيادة من المؤلف عن الوفيات.

صلاح الدين وحروبه مع الصليبيين

وعدّة بلاد من ساحل الشّام لأنه الذي أخذها من المسلمين» (¬60) حتى قيض الله لنصرة هذا الدين وإعزازه وتطهير هذه الأرض المقدّسة من هذا الرجس على يد الرجلين الصالحين نور الدين المذكور (¬61) وصلاح الدّين، فانهما استنقذا هذه البلاد من أيدي الكفرة اللئام وطهّر بهما أرض مصر والشّام من بدعة الشّيعة وردّاها للاسلام على طريق السّنة فكانا نورا على نور، وصلاحا على صلاح لإذهابهما فساد ظلمة الكفر وظلمة البدعة، ونشرا نور الدين والسّنة والحق، فهما نور الدين وصلاحه، فطابق اسماهما مسماهما. صلاح الدين وحروبه مع الصليبيين: ولما بيّنا نور الدين وجب علينا / أن نذكر صلاح الدين وكيفية إماتته البدعة، وفتح بلاد الشّام من أيدي الكفرة اللئام، فنقول (¬62): «إن صلاح الدّين هو السّلطان الملك النّاصر صلاح الدّين يوسف بن أيّوب بن شادي، عزّ الدولة الأيوبية الكردية، وصاحب الدّيار المصرية والبلاد الشّامية والعراقية (¬63) واليمنية، وهو من بيت كلهم ملوك، أولاده وأخوه الملك العادل، وعمّه أسد الدين شيركوه، ووالده. واتفق أهل التّاريخ على أن أباه وأهله من دوين بضم الدّال المهملة وكسر الواو وسكون الياء المثناة تحت وبعدها نون، وهي بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج وأنهم من روّاد (¬64) بطن من الأكراد، فولد شادي أسد الدين شيركوه ونجم الدّين أيوب، وخرج بهما إلى بغداد» (¬65). قال ابن الأثير (¬66) «كان أسد الدّين شيركوه ونجم الدّين أيّوب، وهو الأكبر، ابنا ¬

(¬60) من ترجمة الآمر بأحكام الله، الوفيات بتصرف 5/ 300 - 301. (¬61) تألق في الحروب الصّليبية الثانية كما أشرنا. (¬62) بل ينقل عن الوفيات من ترجمة صلاح الدّين 7/ 139. (¬63) في الوفيات: «الفراتية». (¬64) في الوفيات: «وأنهم أكراد روادية». (¬65) الوفيات 7/ 139. (¬66) الوفيات 7/ 139 وانظر أيضا الكامل لابن الأثير 11/ 141 في تاريخه الصغير في الدولة الاتابكية، والمؤلف ينقل عنه بواسطة ابن خلكان الوفيات 7/ 141.

شادي من بلد دوين وأصلهما من الأكراد الرّوادية، فقدما العراق، وخدما مجاهد الدّين، فتولى شحنة بالعراق من جهة السّلطان مسعود غياث الدّين محمّد بن ملكشاه السلجوقي. فرأى مجاهد الدّين في نجم الدّين عقلا ورأيا حسنا فجعله حافظا على قلعة تكريت، وتبعه أخوه أسد الدّين، ثم أخرجهما مجاهد الدّين من تكريت، فقصدا عماد الدّين زنكي فقبلهما وأحسن إليهما، فلمّا فتح عماد الدّين زنكي بعلبك جعل نجم الدّين حافظا عليها فلمّا قتل زنكي حضر نجم الدّين عسكر دمشق / في بعلبك، فلما خاف طلب الصلح وسلّم القلعة، وخرج بالأمان على اقطاع يأخذها من صاحب دمشق مجير الدّين محمد بن بوري بن الأتابك ظهير الدّين طغتكين (¬67)، وصار عنده من أكبر الأمراء» (¬68). «واتصل أخوه أسد الدّين شيركوه بخدمة نور الدّين بعد قتل أبيه زنكي، فقرّبه نور الدّين وأقطعه، وكان يرى منه في الحرب آثارا يعجز عنها غيره لشجاعته وجرأته، فصارت له حمص والرحبة وغيرهما، وجعله مقدم عسكره. ولمّا ملك نور الدّين محمود بن عماد الدين زنكي دمشق لازم نجم الدّين خدمته ومعه ولده صلاح الدّين، وكانت مخايل السّيادة (¬69) عليه لائحة، ونور الدّين يرى له ذلك ويؤثره، ومنه تعلّم صلاح الدّين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد. ثم ان شاورا، وزير المعتضد العبيدي صاحب مصر، غلبه على وزارته أبو الأشبال ضرغام (¬70)، وقتل له ولده علي (¬71) بن شاور، فتوجه إلى نور الدّين بالشّام، مستغيثا به في رمضان سنة ثمان وخمسين وخمسمائة (¬72)، فوجّه معه الأمير أسد الدين شيركوه بن شادي في جماعة من عسكره ومعه ابن أخيه صلاح الدّين في خدمته، وهو كاره للسفر معهم، وكان لنور الدّين في إرسال هذا الجيش غرضان: أحدهما قضاء حق (¬73) شاور ¬

(¬67) في الأصول: «طفتكين» والمثبت من الوفيات 7/ 143. (¬68) ينتهي نقل ابن خلكان من ابن الأثير، وبعده يبدأ تأليفه الخاص به، والمؤلف يلخّص ما قاله ابن خلكان. (¬69) في الوفيات: «السعادة». (¬70) هو ابن عامر اللخمي الملقب فارس المسلمين. (¬71) ولده الأكبر «طيّ بن شاور» الوفيات: 7/ 145. (¬72) أوت 1163 م. (¬73) ساقطة من ت وش.

لكونه استغاث به، والثاني كشف أحوال مصر فانه كان بلغه أنها ضعيفة من جهة الجند، فجعل شيركوه صلاح الدّين مقدم / عسكره، وخرج معهم شاور، فخرجوا من دمشق في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وخمسمائة (¬74)، فدخلوا مصر، واستولوا على الأمر في رجب من تلك السنة وقتلوا ضرغاما، وحصل لشاور مقصوده من عدوه لمنصبه، فلمّا تمهّدت قواعده غدر بأسد الدّين شيركوه، واستنجد بالافرنج عليه، وحصروه في بلبيس، وكان أسد الدّين قد شاهد البلاد وعرف أحوالها، وأنها مملكة بغير رجال، تمشي الأمور فيها بمجرد الإيهام (¬75) والمحال، فطمع فيها، وعاد إلى الشّام في الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وخمسين (¬76)، فأقام بها مدّة مفكّرا في تدبير عوده إلى مصر، محدثا نفسه بالملك لها، مقررا قواعد ذلك مع نور الدّين، إلى سنة اثنتين وستين وخمسمائة (¬77)، وبلغ شاور حديثه وطمعه في البلاد، فخاف عوده إليها، وعلم أن أسد الدّين لا بدّ له من قصدها، فكاتب الافرنج وقرر معهم أنهم يجيئون إلى البلاد ويمكنهم منها تمكينا كلّيا (¬78) ليعينوه على استئصال أعدائه. وبلغ نور الدّين وأسد الدّين مكاتبة شاور للافرنج وما تقرر بينهم، فخافا على الدّيار المصرية أن يملكوها ويملكوا بطريقها جميع البلاد (¬79)، فتجهز صلاح الدّين في خدمة عمّه أسد الدّين، وكان توجههم من الشّام في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمائة (¬80)، فكان وصول أسد الدّين إلى البلاد مقارنا لوصول الافرنج / إليها، واتّفق شاور والمصريّون جميعهم والافرنج على أسد الدّين، فجرت بينهم حروب كثيرة ووقائع شديدة، فانفصل الافرنج عن البلاد وانفصل أسد الدّين أيضا راجعا إلى الشّام، وسبب انفصال الافرنج عن البلاد أن نور الدّين جرّد العساكر إلى بلادهم، وأخذ المنيطرة (¬81) ¬

(¬74) مارس - أفريل 1164 م. (¬75) في الأصول: «الأوهام» والمثبت من الوفيات 7/ 147. (¬76) في الأصول: «ثمان وخمسين» والمثبت من ابن خلكان. وعلى ما سبق من نص المؤلف إذ أن دخولهم إلى مصر كان في سنة تسع وخمسين 12 نوفمبر 1164 م. (¬77) 1166 - 1167 م. (¬78) في الأصول: «تمليكا» والمثبت من الوفيات. (¬79) يدخل في باب الحرب الصليبية الثانية. (¬80) ديسمبر جانفي 1166 - 1167 م. (¬81) في الأصول: «المعرّة» والمثبت من الوفيات 7/ 147 قال الحموي: «مصغر، بالطاء مهملة حصن بالشام قريب من طرابلس».

منهم في رجب من هذه السنة، ولمّا علم الافرنج ذلك خافوا على بلادهم فانصرفوا، وسبب انفصال أسد الدّين ضعف عسكره لتعصّب الافرنج والمصريين، فعاين شدائد وأهوالا لكن ما انفصل حتى صالح الافرنج على أن ينفصلوا كلّهم عن مصر، فعاد إلى الشّام في بقية السنة، وقد انضاف إلى قوة الطمع في الديار المصرية شدّة الخوف عليها من الافرنج لعلمه بأنهم قد كشفوها كشفا وعرفوها كما عرفها هو، فأقام بالشّام على مضض وقلبه قلق، والقضاء يسوقه إلى شيء قدّر لغيره، وهو لا يشعر بذلك، وكان عوده في ذي القعدة من هذه السنة إلى الشّام، وقيل في ثامن عشر (¬82) شوال. ثم إن الإفرنج جمعوا فارسهم وراجلهم (¬83) وخرجوا يريدون الدّيار المصرية ناكثين جميع ما استقرّ مع المصريين وأسد الدّين طمعا في البلاد، فلمّا بلغ ذلك أسد الدّين ونور الدّين لم يسعهما الصّبر دون أن يسارعا إلى قصد البلاد، أما نور الدّين فبالمال والرجال، ولم يمكنه المسير بنفسه خوفا على البلاد من الافرنج، وأما أسد الدّين فسار بنفسه / وماله وإخوته ورجاله، قال السّلطان صلاح الدّين: كنت أكره النّاس للخروج في هذه الوقعة، وما خرجت مع عمّي باختياري، وهذا معنى قوله تعالى {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬84). ثم إن شاور لمّا أحسّ بخروج الافرنج [إلى مصر] على تلك القاعدة أرسل إلى أسد الدّين شيركوه يستصرخه ويستنجده، فخرج مسرعا، وكان وصوله إلى مصر في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وخمسمائة (¬85)، ولمّا علم الافرنج بوصول أسد الدّين إلى مصر باتفاق بينه وبين أهلها رحلوا راجعين وعلى أعقابهم ناكصين، وأقام أسد الدّين بها يتردد إليه شاور في الأحيان، وكان وعدهم بمال في مقابلة ما خسروه من النّفقة، فلم يوصل إليهم شيئا، وعلقت مخالب أسد الدّين في البلاد، وعلم أنه متى وجد الافرنج رخصة أخذوا البلاد، وأن شاور يلعب به تارة وبالافرنج أخرى، وكان ملوكها على البدعة المشهورة، وتحقّق أسد الدّين أنه لا سبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور، فأجمع رأيه على القبض عليه اذا خرج إليه، وكان الأمراء الواصلون مع أسد الدّين ¬

(¬82) في الأصول: «ثاني» والمثبت من الوفيات 7/ 148. (¬83) في ت: «أرجلهم». (¬84) سورة البقرة: 214. (¬85) ديسمبر - جانفي 1168 - 1169 م.

يترددون إلى خدمة شاور، وهو يخرج في الأحيان إلى أسد الدّين فيجتمع به، وكان يركب على عادة وزرائهم بالطّبل والبوق والعلم، ولم يتجاسر على قبضه أحد من الجماعة إلاّ السّلطان بنفسه، وذلك أنه / لمّا سار إليهم تلقّاه راكبا وسار إلى جانبه وأخذ يحادثه، وأمر العساكر أن يقصدوا أصحابه، ففروا ونهبهم (¬86) العسكر وأنزل شاور في خيمة منفردة، وفي الحال ورد توقيع على يد خادم خاص من جهة المصريين يقولون: «لا بدّ من رأسه»، جريا على عادتهم في وزرائهم، فجزّ رأسه وأرسله اليهم، وأرسلوا إلى أسد الدّين خلع الوزارة فلبسها، وسار ودخل القصر وترتب وزيرا، وذلك بسابع عشر ربيع الأول سنة أربع وستين وخمسمائة (¬87) وراح آمرا ناهيا، والسّلطان صلاح الدّين - رحمه الله - يباشر الأمور مقررا لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته إلى الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة (¬88). فمات أسد الدّين بعلة الخوانيق، ودفن بدار الوزارة ثم نقل إلى المدينة المنورة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام - وكانت مدة وزارته شهرين وخمسة أيام، وقيل إنه سمّ في صكّ الوزارة. فلما مات استقرت الأمور للسّلطان صلاح الدّين، وتمهّدت القواعد، ومشى الحال على أحسن الأوضاع وبذل الأموال، وملك قلوب الرّجال، وهانت عنده الدّنيا فملكها، وكان سنّي المذهب، ممارسا لأهل السّنة مجانبا للبدعة التي عليها ملوك مصر الشّيعة، وقصده النّاس من كلّ صوب فلا يخيّب قاصدا إلى سنة خمس وستين وخمسمائة (¬89). فلمّا عرف السلطان / نور الدّين استقرار صلاح الدّين بمصر أخذ حمص من نوّاب أسد الدّين شيركوه في رجب سنة أربع وستين (¬90). ولمّا علم الافرنج ما جرى من المسلمين وعساكرهم وما تمّ للسلطان من استقامة الأمر بالديار المصرية، علموا أنه يملك بلادهم ويقلع (¬91) آثارهم، لما حدث له من القوة والملك فاجتمع الافرنج والرّوم جميعا وقصدوا الدّيار المصرية، وقصدوا دمياط ¬

(¬86) في الأصول: «وتبعهم» والمثبت من الوفيات 7/ 149. (¬87) 19 ديسمبر 1168 م. (¬88) الوفيات: 7/ 151. (¬89) 1169 - 1170 م. (¬90) أفريل 1169 م. (¬91) في ش: «يقطع».

ومعهم آلات الحصار وما يحتاجون إليه من العدد، ولمّا سمع افرنج الشّام ذلك اشتدّ أمرهم، فأخذوا حصن عكا من المسلمين وأسروا صاحبها، وهو مملوك لنور الدين يقال له خطلخ العلم دار، وذلك في شهر ربيع الآخر من سنة خمس وستين (¬92) ولمّا رأى نور الدّين ظهور الافرنج ونزولهم على دمياط قصد شغل قلوبهم، فنزل على الكرك محاصرا لها في شعبان من السّنة المذكورة، فقصده افرنج السّاحل فرحل عنها وقصدهم، فلم يقفوا له ولمّا بلغ صلاح الدّين قصد الافرنج دمياط استعد لهم بتجهيز الرّجال وجمع الآلات إليها، ووعدهم بالإمداد بالرجال ان نزلوا عليها، وبالغ في العطايا والهبات وكان وزيرا متحكّما لا يرد أمره في شيء، ثم نزل الافرنج عليها، واشتدّ زحفهم وقتالهم عليها، وهو - رحمه الله - يشنّ الغارات من خارج، والعساكر تقاتلهم من داخل، ونصر الله المسلمين به وبحسن تدبيره، / فرحلوا عنها خائبين خائفين (¬93)، فأحرقت مجانيقهم، ونهبت آلاتهم، وقتل من رجالهم خلق كثير، واستقرّت قواعد صلاح الدّين، وأرسل يطلب والده نجم الدّين أيّوب ليتمّ له السرور وتكون قصته مشاكلة لقصة يوسف - عليه السلام - فوصل إليه والده في جمادى الآخرة من سنة خمس وستين (¬94)، وسلك معه من الأدب ما جرت به عادته، وألبسه الأمر كلّه، فأبى أن يلبسه، وقال: «يا ولدي ما اختارك الله تعالى لهذا الأمر الا وأنت كفء له، ولا ينبغي أن يغير موضع السعادة» فحكّمه في الخزائن كلها (¬95). وثبت قدم صلاح الدّين ورسخ ملكه، وهو نائب عن نور الدّين، والخطبة لنور الدّين في البلاد كلّها، لا يتصرّفون الا عن أمره، وكان نور الدّين يكاتب صلاح الدّين ولا يفرده (¬96)، بل يكتب للأمير صلاح الدّين وكافة الأمراء بالدّيار المصرية يفعلون كذا وكذا، واستمال صلاح الدّين قلوب النّاس، وبذل الأموال ممّا كان قد جمعه عمّه أسد الدّين، فمال النّاس إليه وأحبوه، وقويت نفسه على القيام بهذا الأمر والثّبات فيه، وضعف أمر العاضد العبيدي صاحب مصر ذلك الوقت. ¬

(¬92) ديسمبر جانفي 1169 - 1170 م. (¬93) عن نزول الإفرنج دمياط ومحاربة صلاح الدّين لهم أنظر ابن الأثير 11/ 351. (¬94) فيفري - مارس 1170 م. (¬95) الوفيات 7/ 153. (¬96) ينعته بالاصفهسلار أو الاسفهسلار أي مقدم العسكر. الوفيات 7/ 155.

قال ابن الاثير (¬97) «قد اعتبرت التواريخ فرأيت كثيرا من التّواريخ الاسلامية، فرأيت كثيرا ممّن يبتدئ الملك تنتقل الدولة عن صلبه إلى بعض أهله وأقاربه، منهم بنو مروان انتقلت إليهم الدولة من بني عمّهم، ثم بعده السّفاح أول من ملك من بني / العبّاس، انتقل الملك من أعقابه إلى أخيه المنصور، ثم يعقوب الصّفار هو أول من ملك من أهل بيته، فانتقل الملك عنه [إلى أخيه عمرو وأعقابه ثم عماد الدولة بن بويه أول من ملك من أهل بيته ثم انتقل الملك عنه] (¬98) إلى أخويه ركن الدّولة ومعزّ الدّولة، ثم السّلجوقية أول من ملك منهم طغرل بك، ثم انتقل الملك إلى أولاد أخيه داود، ثم شيركوه هذا - كما ذكرنا - انتقل الملك عنه إلى ولد أخيه نجم الدّين أيّوب، ولولا خوف الاطالة لذكرنا أكثر من هذا، والذي أظنّه السبب في ذلك أن الذي يكوّن أول دولته يكثر القتل فيأخذ الملك وقلب الذي كان فيه متعلق به، فلهذا يحرم الله تعالى أعقابه ويفعل ذلك عقوبة له لأجلهم». ثم أرسل صلاح الدّين يطلب من نور الدّين إخوته فلم يجبه إلى (¬99) ذلك، وقال: أخاف أن يخالف أحد منهم عليك فتفسد البلاد. ثم ان الافرنج اجتمعوا ليسيروا إلى مصر (¬100)، فأرسل نور الدّين العساكر وفيهم أخوة صلاح الدّين، منهم شمس الدّولة توران شاه بن أيوب - وهو أكبر من صلاح الدّين - فلمّا أراد المسير قال له نور الدّين: إن كنت تسير إلى مصر وتنظر إلى أخيك أنه يوسف الذي كان يقوم في خدمتك وأنت قاعد، فلا تسر فإنك تفسد البلاد، وأحضرك حينئذ وأعاقبك بما تستحقه وإن كنت تنظر إليه أنه صاحب مصر وقائم مقامي وتخدمه بنفسك كما تخدمني فسر إليه، واشدد أزره / وساعده على ما هو بصدده، قال: أفعل معه من الطاعة والخدمة ما يتصل بك - إن شاء الله تعالى -، فكان معه كما قال. ¬

(¬97) لم ينقل عنه مباشرة وانما بواسطة ابن خلكان 7/ 155 - 156، وأنظر ابن الأثير، الكامل 11/ 129 تحت عنوان: ذكر ملك صلاح الدّين مصر. (¬98) ساقطة من الأصول والاضافة من الوفيات 7/ 156. (¬99) وقال ابن الأثير في الكامل 11/ 129: «فأرسلهم إليه وشرط عليهم طاعته والقيام بأمره ومساعدته وكلهم فعل ذلك». (¬100) يدخل في باب الحروب الصّليبية الثانية.

وفي المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة (¬101) قطعت خطبة العاضد صاحب مصر، وخطب فيها للامام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين، وسبب ذلك أن صلاح الدّين لما ثبّت قدمه في مصر وزال المخالفون له، وضعف أمر العاضد، ولم يبق من العساكر المصرية أحد، كتب إليه نور الدّين يأمره بقطع خطبة العاضد واقامة الخطبة العبّاسية، فاعتذر صلاح الدّين بالخوف من وثوب أهل مصر، وامتناعهم عن الاجابة إلى ذلك لميلهم إلى دولة المصريين، فلم يصغ نور الدّين إلى قوله وأرسل إليه يلزمه بذلك إلزاما لا فسحة فيه، واتّفق أن العاضد مرض، وكان صلاح الدّين قد عزم على قطع الخطبة، فاستشار أمراءه كيف الابتداء بالخطبة [العباسية] فمنهم من أقدم على المساعدة وأشار بها، ومنهم من خاف ذلك الا أنه لا يمكنه الا الامتثال لأمر نور الدّين، وكان قد دخل إلى مصر رجل أعجمي (¬102)، فلمّا رآى ما هم فيه من الإحجام قال: أنا أبتدئ بها، فلمّا كان أول جمعة من المحرّم صعد المنبر قبل الخطبة، ودعا للامام المستضيء بأمر الله [فلم ينكر أحد ذلك، فلمّا كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدّين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد واقامة الخطبة للمستضيء بأمر الله] (¬103) ففعلوا ذلك، فلم ينتطح فيها عنزان، وكتب بذلك إلى سائر البلاد المصرية. وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أهله وأصحابه بذلك، / وقالوا: إن سلم فهو يعلم وان توفي فلا ينبغي أن ننغص عليه هذه الأيام التي بقيت من أجله، فتوفي يوم عاشوراء [ولم يعلم]. ولمّا توفي جلس صلاح الدّين للعزاء، واستولى على قصره وجميع ما فيه، وكان قد رتّب فيه قبل وفاة العاضد بهاء الدين قراقوش وهو خصي يحفظه، وحفظ ما فيه حتى تسلّمه السّلطان صلاح الدّين، ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد، ووكل بحفظهم وجعل أولاده وعمومته وأبناءهم في ايوان القصر، وجعل عندهم من يحفظهم وأخرج من كان فيه من العبيد، فأعتق البعض، ووهب البعض، وأخلى القصر من ساكنه وأهله، فسبحان من لا يزول ملكه، ولا يغيره الأعصار وممر الليل والنهار، وتقلّبات الفلك الدوّار، واختار من ذخائر القصر ما أراد، ووهب أهله وأمراءه، وباع منه كثيرا، وكان فيه من الجواهر والأعلاق النّفسية ما لم يكن عند ملك من الملوك، قد جمع على طول ¬

(¬101) سبتمبر - أكتوبر 1171 م. (¬102) يعرف بالأمير العالم، قال ابن الأثير: «قد رأيناه كثيرا بالموصل» الوفيات 7/ 157. (¬103) ساقطة في الأصول وهي اضافة يقتضيها السياق من نفس المرجع.

السّنين وممرّ الدّهور، فمن ذلك قضيب الزّمرد، طوله نحو قصبة ونصف، والحبل الياقوت وغيرهما، ومن الكتب المنتخبة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد. ولمّا خطب للمستضيء بأمر الله بمصر أرسل إليه نور الدّين وعرّفه بذلك، فحل عند المستضيء أعظم محل، وسيّر إليه الخلع الكاملة مع عماد الدّين صندل إكراما له، لأن عماد الدّين كان كبير المحل في الدولة / العبّاسية، وكذلك أيضا سيّر خلعا لصلاح الدّين، الا أنها أقل من خلع نور الدّين، وسيّرت الأعلام [السود] (¬104) لتنصب على المنابر، وكانت هذه أعظم أبهة (¬105) عباسية دخلت مصر بعد استيلاء العبيديين عليها (¬106). وفي سنة ثمان وستين وخمسمائة (¬107) أخرج العساكر يريد بلاد الكرك والشّوبك وبدأ بها لأنها كانت أقرب إليه، وكانت في الطريق تمنع من يقصد الدّيار المصرية، وكان لا يمكن أن تسير قافلة حتى يخرج هو بنفسه يعبّرها (¬108)، فأراد توسيع الطريق وتسهيلها، فحاصرها في هذه السّنة، وجرى بينه وبين الافرنج وقعات، وعاد ولم يظفر منها بشيء، ولمّا عاد بلغه وفاة والده نجم الدّين أيّوب قبل وصوله إليه، ولمّا كانت سنة تسع وستين (¬109)، رأى قوة عسكره وكثرة عدده، وكان بلغه باليمن انسان استولى عليها وملك حصونها، يسمى عبد النّبي بن مهدي (¬110)، فأرسل أخاه توران شاه فقتله، وأخذ البلاد منه، ثم توفي نور الدّين سنة تسع وستين وخمسمائة (¬111) - كما تقدّم -. وبلغ صلاح الدّين أن انسانا يقال له «الكنز» جمع بأسوان خلقا كثيرا من السّودان وزعم أنه يعيد الدّولة المصرية، وكان أهل مصر يؤثرون عودها، فانضافوا إلى «الكنز» المذكور فجهّز إليه صلاح الدّين جيشا كثيفا وجعل مقدمه أخاه الملك العادل، وساروا ¬

(¬104) اضافة من الوفيات 7/ 159، والسّواد هو اللون الذي اختاره العباسيون لهم. (¬105) في الوفيات: «أول أهبة» 7/ 159. (¬106) المؤلف تابع لابن خلكان عن قطع الخطبة للعاضد واقامتها للمستضيء العباسي، وهو ينقل بتصرف عن شيخه ابن الأثير، وانظر ابن الأثير: الكامل 11/ 368 - 369. (¬107) 1172 - 1173 م. (¬108) في ش: «يغفر» وفي ت وط: «يغفرها» والمثبت من الوفيات 7/ 164. (¬109) 1173 - 1174 م. (¬110) في الأصول: «مهري» والمثبت من الوفيات 7/ 165. (¬111) 1173 م - 1174 م.

فالتقوا بهم وكسروهم، وذلك سابع صفر سنة سبعين وخمسمائة (¬112)، واستقرّت له قواعد الملك / واحتوى على الشّام بأسره، وعلى حلب، وعبر الفرات، وملك ما هناك وقهر الملوك، وافتك البلاد من أمرائها ممّن ناوءه وحاربه. ثم بعد تمهيد البلاد، وتطويع العباد رجع إلى مصر لتفقّد أحوالها، وكان مسيره إليها في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة (¬113) وكان أخوه شمس الدّولة توران قد وصل إليه من اليمن فاستخلفه بدمشق ثم تأهب للغزو (¬114) وخرج يطلب السّاحل حتى وافى الافرنج على الرّملة (¬115) وذلك في أول (¬116) جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين (¬117)، فكانت الوقعة عليه، ولم يحصل له فتح، فرجع إلى مصر، وأقام بها حتى لمّ شعثه وشعث أصحابه (¬118)، فلمّا كانت سنة ثلاث وثمانين (¬119) وسط يوم الجمعة كانت وقعة حطّين المباركة على المسلمين، وكان كثيرا ما يقصد لقاء العدو في يوم الجمعة عند الصّلاة تبركا بدعاء المسلمين، في الخطب على المنابر، فسار في ذلك الوقت بمن اجتمع له من العساكر الاسلامية، وكانت تفوت العدّ والحصر على تعبئة حسنة وهيئة جميلة، وكان قد بلغه عن العدو أنه اجتمع في عدد كثير بمرج صفّوريّة بأرض عكّا عندما بلغهم اجتماع العساكر الاسلامية، فسار ونزل على بحيرة طبريّة على سطح الجبل ينتظر قصد الافرنج له، اذ بلغهم نزوله بذلك الموضع يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر، فلمّا رآهم / لا يتحركون تحرك جريدة ¬

(¬112) 7 سبتمبر 1174 م. (¬113) سبتمبر - أكتوبر 1176 م. (¬114) في الوفيات: «للغزاة». (¬115) «لم يكن صلاح الدّين أثناء توسّع مملكته وتوطيد أركانها متجها كليا إلى محاربة الصّليبيين بل كانت تقع بينه وبينهم مناوشات وكان مع البعض هدنة ومسالمة، وفي سنة 58/ 1186 م اعتدى أرناط Renaude de Chatillon) صاحب الكرك على قافلة تجارية تابعة لصلاح الدّين فكان هذا الإعتداء الشرارة الأولى لاندلاع الحروب التي شنّها صلاح الدّين ضدّ الصليبيين والتي أذاقهم فيها الأمرين وذاع اسمه في أوروبا على ممر الأجيال ويعرف عندهم بصلادين (Saladin) . وحروب صلاح الدّين مع الافرنج تدخل في باب الحروب الصّليبية الثالثة. أنظر على سبيل المثال الحروب الصّليبية في الشرق والغرب، ص: 83 - 84. (¬116) في الوفيات: «أوائل». (¬117) في الأصول: «ثمان وسبعين» والمثبت من الوفيات 7/ 168. 26 أكتوبر 1177 م وانظر الكامل لابن الأثير 11/ 442 - 443. (¬118) انظر الوفيات 7/ 168. (¬119) 1187 - 1188 م.

على طبريّة، وترك الأطلاب (¬120) على حالها قبالة العدو، ونازل طبريّة وهجمها فأخذها في ساعة واحدة، وانتهب النّاس ما بها، وأخذوا في القتل والسبي، وبقيت القلعة محتمية بمن فيها. ولمّا بلغ العدو ما وقع بطبريّة قلقوا ورحلوا نحوها ولحقوا بالعسكر، والتقى بالعدو على سطح جبل طبريّة الغربي منها، وذلك في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر ربيع الآخر، وحال الليل بين العسكرين فناما على مصاف، إلى بكرة يوم الجمعة الثالث (¬121) والعشرين منه، وركب العسكران وتصادما، والتحم القتال، واشتدّ الأمر، وذلك بأرض قرية ب ‍ «لوبين» (¬122) وضاق الخناق بالعدو وهم سائرون {كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} (¬123)، وقد أيقنوا بالويل والثبور، وأحست نفوسهم أنهم في غد يومهم من زوار القبور، ولم تزل الحرب تضطرم، والفارس مع قرينه يصطدم، ولم يبق الا الظفر ووقوع الويل والوبال على من كفر، فحال بينهما الليل بظلامه، وبات كل واحد من الفريقين بمقامه، وتحقّق المسلمون أن من ورائهم الأردن ومن بين أيديهم بلاد العدو، وأنهم لا ينجيهم الا الجهاد بالحزم والاجتهاد فحملت أطلاب المسلمين من جميع الجوانب، وحمل القلب، وصاحوا صيحة رجل واحد (¬124) فألقى الله الرّعب في قلوب الكافرين، وكان حقا عليه نصر المؤمنين، ولمّا أحس القومص (¬125) بالخذلان هرب منهم في أوائل الأمر / وقصد جهة صور، فتبعه جماعة من المسلمين، فنجا منهم، وكفى الله شرّه، وأحاط المسلمون بالكافرين من كل جانب، وأطلقوا عليهم السّهام، وحكّموا فيهم السّيوف، وسقوهم كأس الحتوف، وانهزمت طائفة منهم بتلّ يقال له تلّ حطين (¬126)، وهي قرية عندها قبر النّبي شعيب - عليه السلام - فضايقهم المسلمون وأشعلوا حولهم النّيران، واشتدّ بهم العطش وضاق بهم الأمر، حتى كانوا يستسلمون ¬

(¬120) في الأصول: «أطناب» والمثبت من الوفيات 7/ 174 وممّا يوجد في نص المؤلف فيما بعد. (¬121) كذا في ط وفي الوفيات 7/ 175، وفي ش وت: «الثاني». (¬122) في الأصول والوفيات: «لوبيا» والصواب ما أثبتناه. (¬123) سورة الأنفال: 6. (¬124) «الله أكبر». (¬125) في الكامل: «قمص» 11/ 535 وهو تحريف للكلمة اللاتينية «Comes» ومعناه في مصطلح العصور الوسطى الأروبية حاكم القلعة وحارسها، وقومص طرابلس إذ ذاك هو الكونت (Comte) ريموند (Raymond) الثالث آخر حكام طرابلس من الأسرة التولوزية، انظر تاريخ طرابلس 1/ 508. (¬126) عن هذه الواقعة، انظر الكامل 11/ 535 - 536.

للأمر خوفا من القتل، فأسّر مقدّموهم، وقتل الباقون، وكان ممّن أسّر من مقدّميهم الملك جفري (¬127) وأخوه البرنس (¬128) أرناط (¬129) صاحب الكرك والشّوبك، وابن الهيفري (¬130) وابن صاحب طبريّة ومقدم الدّاوية (¬131)، وصاحب جبيل ومقدّم الاسبتارية (¬132) قال ابن شدّاد (¬133) «ولقد حكى لي من أثق به أنه رأى بحوران شخصا واحدا معه نيّف وثلاثون أسيرا قد ربطهم بطنب خيمة لما وقع عليهم من الخذلان». ثم ان القومص الذي هرب في أول الأمر وصل إلى طرابلس (¬134) وأصابه ذات الجنب فهلك منها، وأما مقدم الاسبتارية (¬135) والدّاوية فان السّلطان قتلهما، وقتل من بقي من صنفهما حيّا (¬136)، وأما البرنس (¬137) أرناط فان السّلطان كان قد نذر أنه إن ظفر به قتله، وذلك لأنه كان قد / عبر به بالشّوبك قوم من الدّيار المصريّة في حال الصّلح فغدر بهم وقتلهم، فناشدوه الصّلح الذي بينه وبين المسلمين، فقال ما يتضمّن الاستخفاف بالنبي صلّى الله عليه وسلم وبلغ ذلك السّلطان فحملته حميّة دينيّة على أن نذر دمه. ولما فتح الله عليه بنصره جلس في دهليز الخيمة لأنها لم تكن نصبت بعد، وعرضت عليه الأسارى، ونصبت له الخيمة فجلس بها شاكرا الله تعالى على ما أنعم عليه، فاستحضر الملك جفري وأخاه والبرنس (137) أرناط، وناول الملك جفري شربة من ¬

(¬127) Geoffri de Lusignan ، الوفيات 7/ 176. (¬128) في الأصول: «برقش» والمثبت من الوفيات 7/ 176 وهي تحريف لكلمة «Prince» ومعناها الأمير. (¬129) هو «Renaud de Chatillon». (¬130) «Humphray». (¬131) ومن يكتبها الديوية وتشير إلى فرسان المعبد (Les Templiers) وقد أنشأت ونظم قانونها منذ استقرار الصليبية الأولى. (¬132) في الأصول: «الاستبار» وفي بعض المراجع كتبت «استبارية» والمثبت من تاريخ طرابلس 1/ 516 وغيره والاسبتارية تعني (Les Hospitaliers) ويرجع تأسيسها إلى ما قبل الحروب الصليبية الأولى عندما طلب جماعة من تجار مدينة أمالفي الايطالية من الخليفة الفاطمي المستنصر معد سنة 440 - 1048 أن يسمح لهم بإقامة دير وبيمرستان (Hopital) ببيت المقدس على أن يكون مأوى وملجأ للحجاج النصارى للإقامة والعلاج أثناء زيارتهم لبيت المقدس «الحروب الصّليبية» المرجع السابق، ص: 96 - 97. (¬133) ينقل عنه بواسطة ابن خلكان. (¬134) أنظر تاريخ طرابلس 1/ 532 - 533. (¬135) في الأصول «الاستبار». (¬136) في الأصول: «صفهما طبرا» والمثبت من الوفيات 7/ 176. (¬137) في ش وط: «برقش» وفي ت: «برتقش» والمثبت من الوفيات.

حلاب بثلج فشرب منها، وكان على أشد ما يكون من العطش، ثم ناولها البرنس (¬137) وقال السلطان للترجمان: قل للملك أنت الذي سقيته أو أنا الذي سقيته، وكان من عادة العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير اذا أكل وشرب من مال الذي أسّره أمن، فقصد السّلطان بقوله ذلك، ثم أمر بمسيرهم إلى موضع عيّنه لهم، فأكلوا شيئا ثم عادوا بهم، ولم يبق عنده سوى بعض الخدم فاستحضرهم، وأقعد الملك في دهليز الخيمة، واستحضر البرنس أرناط وأوقفه بين يديه وقال له: ها أنا أنتصر لمحمّد منك ثم عرض عليه الاسلام فلم يفعل، فسل عليه المنشا (¬138) وضربه بها فحلّ كتفه وتمم قتله من حضر، وأخرجت جثّته ورميت على باب الخيمة /. فلما رآه الملك جفري على تلك الحال لم يشكّ أنه يلحقه به، فاستحضره وطيّب قلبه، وقال له: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك، وأما هذا فانه تجاوز الحدّ على الأنبياء - عليهم صلوات الله وسلامه - وبات النّاس في تلك الليلة على أتم سرور ترتفع أصواتهم بحمد الله تعالى وشكره وتهليله وتكبيره، حتى طلع الفجر، ثم نزل السلطان على طبريّة يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر، وتسلم قلعتها في ذلك النهار، وأقام عليها إلى يوم الثلاثاء. ثم رحل عنها طالبا عكّا فكان نزوله عليها يوم الأربعاء سلخ شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين (¬139) فأخذها واستنقذ من فيها من المسلمين الأسارى، وكانوا أكثر من أربعة آلاف أسير، واستولى على ما فيها من الأموال والذّخائر والبضائع لأنها كانت مظنّة التجّار، وتفرّقت العساكر في بلاد السّاحل يأخذون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة، فأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفّورية (¬140) والنّاصرة (¬141)، وكان ذلك لخلوّها من الرجال لأن القتل والأسر أفنى كثيرا منهم. ولمّا استقرت قواعد عكّا وقسّم أموالها وأساراها سار يطلب تبنين (¬142) فنزل عليها يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى، وهي قلعة منيعة، فنصب عليها المجانيق وضيّق بالزحف خناق / من بها، وكان فيها أبطال معدودون، وفي دينهم متشددون، فقاتلوا قتالا شديدا، ونصر الله - سبحانه وتعالى - ¬

(¬137) في ش وط: «برقش» وفي ت: «برتقش» والمثبت من الوفيات. (¬138) في الأصول: «النهجاة». (¬139) 8 جويلية 1187، وفي الأصول: «مستهل جمادى الأولى» وهو اليوم الذي قاتلها فيه، انظر الوفيات 7/ 177 وتاريخ طرابلس 1/ 533. (¬140) في الأصول: «سفوريا». (¬141) في الأصول: «الناصرية». (¬142) في الأصول: «سنا» والمثبت من الوفيات 7/ 177 ومعجم البلدان 2/ 14.

المسلمين عليهم، فتسلّمها منهم يوم الأحد ثامن عشر [جمادى أولى] عنوة (¬143)، وأسر من بقي فيها بعد القتل، ثم رحل عنها إلى صيدا (¬144) في يوم الأربعاء، وأقام عليها ريثما قرّر قواعدها، وسار حتى أتى بيروت فنازلها ليلة الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى وركّب عليها المجانيق، وداوم الزحف والقتال حتى أخذها في (يوم الخميس وهو التاسع) (¬145) والعشرين من الشهر المذكور وتسلم أصحابه جبيل (¬146) وهو على بيروت. ولمّا فرغ؟؟؟ اله من هذا قصد عسقلان، ولم ير (¬147) الاشتغال بصور بعد أن نزل عليها، ثم رأى أن العسكر تفرّق بالساحل، وذهب كلّ واحد منهم يحصل لنفسه (محلا) (¬148) وكانوا قد ضجروا من القتال، وملازمة الحرب والنّزال، وكان قد اجتمع في صور من بقي في السّاحل من الافرنج فرأى أن قصده عسقلان أولى لأنها أيسر من صور، فنزل عسقلان يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة من السنة (¬149)، وأقام عليها إلى أن تسلّم أصحابه غزة وبيت جبريل والنطرون بغير قتال. وكان بين فتح عسقلان وأخذ الافرنج لها من المسلمين خمس وثلاثين سنة، فإنهم كانوا أخذوها من المسلمين في السابع والعشرين من جمادى الآخرة / سنة ثمان وأربعين وخمسمائة (¬150). ولمّا تم تسلّم عسقلان والأماكن المحيطة بالقدس شمّر عن ساق الجدّ والاجتهاد في قصد القدس المبارك، واجتمعت إليه العساكر التي كانت متفرّقة في السّاحل فسار (¬151) نحوه معتمدا على الله تعالى مفوضا أمره إليه تعالى [منتهزا الفرصة] في فتح باب الخير الذي حث عليه صلّى الله عليه وسلم بقوله «من فتح له باب خير فلينتهزه فانه لا يعلم متى يغلق دونه» (¬152) وكان نزوله عليه يوم الأحد الخامس عشر من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة (¬153). ¬

(¬143) في الأصول: «قعدة» والمثبت من الوفيات 7/ 177. (¬144) ومثل صيدا أخذ الناصرة، وقيسارية، وحيفا، ومعليا، والسقيف، والتولع، والطور، وسبسطية، ونابلس، ويافا، وصرخد، أنظر تاريخ طرابلس 1/ 533. (¬145) في الأصول: «في اليوم الخامس وهو السابع». (¬146) في الأصول: «جنبلا» قال ياقوت: «بلد مشهور شرقي بيروت» 2/ 109. (¬147) في الأصول «يزل» والمثبت من الوفيات 7/ 178. (¬148) زائدة عن الوفيات. (¬149) في يوم الخميس التاسع والعشرين من الشهر المذكور. (¬150) 19 سبتمبر 1153 م. (¬151) في الأصول: «فساروا نحوه معتمدين». (¬152) لم نجد لهذا الحديث ذكرا في كتب السّير. (¬153) 20 سبتمبر 1187 م.

وكان نزوله بالجانب الغربي، وكان مشحونا بالمقاتلة من الخيّالة والرّجالة، وحزر (¬154) أهل الخبرة من كان به من المقاتلة فكانوا يزيدون على ستين ألفا غير النّساء والصّبيان، ثم انتقل لمصلحة رآها إلى الجانب الشّمالي يوم الجمعة العشرين من رجب، ونصب عليه المجانيق، وضايق البلد بالزّحف والقتال حتى أخذ في نقب السور ممّا يلي وادي جهنم، ولمّا رأى أعداء الله ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع له عنهم، وظهرت لهم امارات فتح المدينة وظهور المسلمين عليهم، وكانوا قد اشتدّ روعهم على أبطالهم وحماتهم من القتل والأسر وعلى حصونهم من التّخريب والهدم، وتحققوا أنهم صائرون إلى ما صار أولائك إليه، فاستكانوا وأخلدوا (¬155) إلى طلب الأمان، واستقرت القاعدة بالمراسلة / من الطائفتين فكان تسليمه (¬156) يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وكانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم، فانظر إلى هذا الاتّفاق العجيب كيف يسّر الله تعالى عوده إلى المسلمين في مثل زمان الاسراء بنبيهم صلّى الله عليه وسلم وهذه علامة قبول الله تعالى لهذه الطّاعة، وكان فتحا عظيما شهده من أهل العلم [خلق] (¬157)، وأرباب الخرق والزهد عالم كبير، وذلك أن الخلق (¬158) لمّا بلغهم ما يسّر الله على يد هذا الرجل الصالح من فتوح الساحل وقصده القدس، قصده العلماء من مصر والشّام، بحيث لم يتخلّف أحد منهم، وارتفعت الأصوات بالضّجيج والدّعاء والتّهليل والتكبير، وصليت (¬159) فيه الجمعة يوم فتحه - وخطب الخطيب [وقيل إن الخطبة أقيمت يوم الجمعة] (¬160) في رابع شعبان، ونكّس الصّليب الذي كان على قبّة الصّخرة، وكان شكلا عظيما، ونصر الله الاسلام، وكان استيلاء الافرنج عليه يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة (¬161) وقيل في ثاني شعبان وقيل يوم الجمعة السادس والعشرين من شهر ¬

(¬154) في الأصول: «حذر». (¬155) في بعض نسخ الوفيات: «أخذوا». (¬156) أي القدس الشريف. (¬157) اضافة من الوفيات. (¬158) في الوفيات: «الناس». (¬159) عن ابن شداد عزّ الدّين أبو عبد الله محمد بن علي (توفي 684/ 1285 م) الذي ينقل عنه ابن خلكان. (¬160) ابن خلكان عن القاضي الفاضل انظر الوفيات 7/ 179. (¬161) 14 جويلية 1099 م، وفي ضبط استيلاء الافرنج عليها في 22 شعبان انظر تاريخ طرابلس 1/ 395، وفي التوفيقات الالهامية 21 شعبان 1/ 524.

رمضان من تلك السنة، ولم يزل بأيديهم حتى استنقذه السّلطان صلاح الدّين في التاريخ المذكور، فتكون مدة بقائه في أيديهم احدى وتسعين سنة. وكانت قاعدة (¬162) الصّلح بينهم أنهم قطعوا على أنفسهم عن كلّ رجل عشرين دينار، وعن كل امرأة خمس دنانير صورية / وعلى كلّ صغير ذكرا كان أو أنثى دينارا واحدا، فمن أحضر قطيعته نجا والا أخذ أسيرا، وأفرج عمّن كان بالقدس من أسارى المسلمين، وكانوا خلقا كثيرا، وأقام به يجمع الأموال ويفرّقها على الأمراء والرّجال، ويحبو بها الفقهاء والعلماء والزّهّاد والوافدين عليه، ويقوم بايصال من قام بقطيعته (¬163) إلى مأمنه، وهي مدينة صور، ولم يرحل عنه ومعه من المال الذي جبي له شيء، وكان يقارب مائتي ألف دينار وعشرين ألفا، وكان رحيله عنه يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان من تلك السنة. ولمّا فتح القدس حسن عنده فتح صور وعلم ان أخّرها ربما عسر عليه فتحها، فسار نحوها حتى أتى عكا (¬164) فنزلها ونظر في أمورها، ثم رحل عنها متوجها إلى صور يوم الجمعة خامس شهر رمضان، فنزل قريبا منها، وأرسل لاحضار آلات القتال وضايقها، واستدعى أسطول مصر، فكان يقاتلها في البر والبحر، ثم خرج أسطول صور ليلا فكبس على أسطول المسلمين، فأخذوا المقدم والريّس وخمس قطع للمسلمين، وقتلوا خلقا كثيرا من المسلمين في السابع والعشرين من الشهر، فعظم ذلك على السّلطان، وكان الشّتاء قد هجم وتراكمت الأمطار، فجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بالرّحيل ليستريح الرّجال، ويجتمعوا للقتال / فرحل عنها، وحمل من الآلات المعدّة للحصار ما أمكن حمله، وحرق ما عجز عن حمله لكثرة الوحل والمطر، فرحل يوم الأحد ثاني ذي القعدة من تلك السنة، وتفرّقت العساكر، وأعطى كل طائفة منهم دستورا، وسار كل قوم إلى بلادهم، وأقام هو مع جماعة من خواصّه بمدينة عكّا إلى أن دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة (¬165). ونزل على كوكب (¬166) في أوائل محرم من هذه السنة، ولم يبق معه من العساكر إلاّ القليل، وكان حصنا حصينا وفيه من الرّجال والأقوات كثير، فعلم ¬

(¬162) نقل عن ابن شداد بواسطة ابن خلكان الوفيات 7/ 188. (¬163) أي: دفع دينه. (¬164) في الأصول: «عكة». (¬165) 1188 - 1189 م. (¬166) في الأصول: «نول» والمثبت من الوفيات 7/ 189.

أنه لا يؤخذ إلاّ بقتال شديد، فرجع إلى دمشق ودخلها سادس [عشر] ربيع الأول من السنة. وبعد خمسة أيام من قدومه بلغه أن الافرنج قصدوا جبيل (¬167) واغتالوها، فخرج مسرعا وقد سير من يستدعي العساكر من جميع البلاد، (فلمّا وصل جبيل وعلم الإفرنج بوصوله كفوا عن ذلك) (¬168). ثم قدم عليه عماد الدّين صاحب سنجار ومظفر الدّين بن زين الدّين وعسكر الموصل [إلى حلب] طالبين الجهاد، فسار نحو حصن الأكراد. ولمّا كان يوم الجمعة رابع جمادى الأول دخل السلطان بلاد العدو على هيئة صالحة (¬169)، ورتّب الأطلاب، وسارت الميمنة أولا ومقدمها عماد الدّين زنكي والقلب في الوسط، والميسرة في الأخير، ومقدّمها مظفر الدّين بن زين الدّين، فوصل إلى أنطرسوس (¬170) [ضحى] نهار الأحد سادس جمادى الأولى، فوقف قبالتها (¬171) ينظر إليها لأن قصده كان أخذ بلد جبلة / فاستهان بأمرها وعزم على قتالها، فسيّر من رد الميمنة، وأمرها بالنزول على جانب البحر، والميسرة على الجانب الآخر، ونزل هو موضعه، والعساكر محدّقة بها من البحر إلى البحر، وهي مدينة راكبة على البحر ولها برجان كالقلعتين، فركبوا وقاربوا البلد وزحفوا واشتدّ القتال، وباغتوها، فما استتم نصف النّهار (¬172) حتى صعد المسلمون سورها، وأخذوها بالسّيف، وغنم المسلمون جميع ما فيها ومن بها، وأحرقوا البلد، وأقام عليها إلى رابع عشر جمادى الأولى، وسلّم أخذ البرجين إلى مظفر الدّين، فما زال يحارب حتى أخذهما، وقدم عليه ولده الملك الظّاهر في عسكر عظيم. ثم سار يريد جبلة فوصلها ثاني عشر جمادي الأولى، فما استتم نزول العسكر عليها حتى أخذ البلد، وكان فيه مسلمون مقيمون وقاض يحكم بينهم، وقوتلت القلعة قتالا شديدا، ثم سلمت بالأمان يوم السبت تاسع عشر جمادى الأولى من السنة، وأقام عليها إلى الثالث والعشرين منه. ¬

(¬167) في الأصول: «حنبل» والمثبت من الوفيات. (¬168) في الوفيات: «وسار يطلب جبيل، فلمّا عرف الفرنج بخروجه كفوا عن ذلك». (¬169) في الوفيات: «على تعبئة حسنة». (¬170) في ش: «طرطوش» وفي ط: «طرطوس» والمثبت من الوفيات. (¬171) في ش: «قبلها». (¬172) في الوفيات: «نصب الخيام» 7/ 190.

ثم سار عنها إلى اللاذقيّة فنزلها يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الأولى، وهو بلد مليح (¬173) غير مسور، وله ميناء (¬174) مشهور وقلعتان متّصلتان على تلّ مشرف على البلد، فاشتدّ القتال إلى آخر النّهار، فأخذ البلد دون القلعتين، وغنم المسلمون غنيمة عظيمة لأنه كان / بلد التّجار، وجدّوا في أمر القلعتين بالقتال والنقوب حتى بلغ طول النقب ستين ذراعا وعرضه أربعة أذرع، فلمّا رأى أهل القلعتين الغلبة طلبوا الصّلح عشيّة يوم الجمعة الخامس والعشرين من الشهر على سلامة أنفسهم وذراريهم وأموالهم ما خلا العين والدّنانير والسّلاح وآلات حرب فأجابهم إلى ذلك، ووقع الصّلح يوم السبت، وأقام عليها إلى يوم الأحد السابع والعشرين من الشهر. ثم رحل عنها إلى صهيون (¬175)، وقاتلهم فأخذ البلد يوم الجمعة ثاني جمادى الآخرة، ثم تقدّموا إلى القلعة، وصدقوا القتال، فلمّا عاينوا الهلاك طلبوا الأمان، فأجابهم إلى ذلك ووقع الصّلح، بحيث يؤخذ من الرّجل عشرة دنانير ومن المرأة خمسة دنانير ومن كلّ صغير ديناران، الذكر والأنثى سواء، وأقام بهذه الجهة حتى أخذ عدة قلاع منها بلاطنس (¬176) وغيرها من الحصون المتّصلة بصهيون (175). ثم رحل عنها وأتى بكاس (¬177)، وهي قلعة حصينة، ولها نهر يخرج من تحتها، وذلك يوم الثلاثاء سادس جمادى الآخرة، وقاتلوها قتالا شديدا إلى يوم الجمعة تاسع الشهر، ثم يسّر الله فتحها عنوة، فقتل من قتل وأسّر الباقون، وغنم المسلمون جميع ما كان فيها، ولها قليعة (¬178) تسمّى الشغر (¬179)، وهي في غاية المنعة يعبر إليها منها بجسر وليس عليها طريق فسلطت عليها المجانيق من جميع الجوانب، ورأوا أنهم لا ناصر لهم فطلبوا ¬

(¬173) في الوفيات: «خفيف على القلب». (¬174) في الأصول: «عين» والمثبت من الوفيات 7/ 190. (¬175) في ش: «صيدون»، وفي ط: «صيحون» والمثبت من الوفيات، أنظر عنها معجم البلدان 3/ 436 ملخصة: «حصن حصين من أعمال سواحل بحر الشام من أعمال حمص». (¬176) في الأصول: «بلاطس» والمثبت من الوفيات 7/ 191، ومعجم البلدان 1/ 478 قال عنها الحموى: «بضم الطاء والنون والسّين مهملة، حصن منيع ببلاد الشام مقابل اللاذقية من أعمال حلب». (¬177) قلعة من نواحي حلب على شاطئ العاصي انظر معجم البلدان 1/ 474. (¬178) في الأصول: «قلعة» والمثبت من الوفيات. (¬179) في الأصول: «الشعراء» والمثبت من الوفيات 7/ 191 ومعجم البلدان 3/ 352 قال الحموي: «قلعة حصينة مقابلة أخرى يقال لها بكاس على رأس جبلين بينهما واد كالخندق. . . وهما قرب أنطاكية».

الأمان يوم الثلاثاء / ثالث عشر الشهر، ثم سار إلى برزية (¬180)، وهي من الحصون المنيعة في غاية القوة، يضرب بها المثل في بلاد الافرنج، يحيط بها أودية من جميع جوانبها، وعلوّها خمسمائة ونيف وسبعون ذراعا على ما ذكره ابن خلكان (¬181)، ولعلّها كانت على شاهق جبل، وكان نزوله عليها يوم السبت الرابع والعشرين من الشهر، ثم أخذها عنوة يوم الثلاثاء السابع والعشرين منه. ثم سار إلى دربساك (¬182) فنزل عليها يوم الجمعة ثامن رجب، وهي قلعة منيعة فقاتلها قتالا شديدا وصعد العلم الاسلامي عليها يوم الجمعة الثاني والعشرين من رجب، وأعطاها الأمير علم الدّين سليمان بن جندر. وسار عنها بكرة يوم السبت الثالث والعشرين من الشهر، ونزل على بغراس، وهي قلعة حصينة تقرب من انطاكية، فقاتلها قتالا شديدا، وصعد العلم الاسلامي عليها ثاني شعبان وراسله أهل انطاكية في طلب الصّلح، فصالحهم لشدّ ضجر العسكر (¬183)، وكان الصّلح معهم على أن يطلقوا كل أسير عندهم، ومدة الصّلح سبعة أشهر، فان جاءهم من نصرهم، والا سلموا البلد. ثم رحل السلطان فسار إلى دمشق (¬184) قبل شهر رمضان بأيام يسيرة. ثم سار في أول شهر رمضان يريد صفد فنزل عليها، ووالى عليها القتال حتى تسلمها بالأمان في رابع عشر شوال. وفي رمضان سلمت الكرك عن نوّاب صاحبها. ثم سار إلى كوكب / وضايقها بالقتال الشديد، مع شدّة الوحل والمطر وعصف الأرياح، فلمّا تيقنوا أنهم مأخوذون طلبوا الأمان فأجابهم، وتسلّمها منهم منتصف ذي القعدة من السنة. ثم نزل إلى الغور، وأقام بالمخيم بقية الشهر، وأعطى الجماعة دستورا، وسار مع ¬

(¬180) في الأصول: «برزنة» والمثبت من الوفيات ومعجم البلدان 1/ 383. قال الحموي: «برزويه» بالفتح وضم الزاي وسكون الواو وفتح الياء، والعامة تقول «برزيه» حصن على السواحل الشامية على سن جبل شاهق». (¬181) الوفيات: 7/ 192 والحموي أيضا بنفس العبارات، نفس المرجع. (¬182) في الأصول: «درسباك» والمثبت من الوفيات 7/ 192. (¬183) في الأصول: «السلطان» والمثبت من الوفيات. (¬184) بعد أن مر بحلب، وحماة، وسار على طريق بعلبك، انظر الوفيات 7/ 192.

أخيه [الملك] العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه لأنه كان متوجها إلى مصر، فدخل القدس ثامن (¬185) ذي الحجة وصلّى به العيد. وتوجه في حادي عشر ذي الحجة إلى عسقلان لينظر في أمورها، ثم مرّ على بلاد الساحل متفقدا أحوالها ثم دخل عكّا، وأقام بها معظم المحرم من سنة خمس وثمانين (¬186) يصلح أحوالها، ورتب فيها الأمير بهاء الدّين قراقوش واليا بعمارة سورها. وسار إلى دمشق، ودخلها في مستهلّ صفر من السنة، وأقام بها إلى شهر ربيع الأول من السنة. وخرج إلى شقيف أرنون (¬187)، وهو موضع حصين فخيم به في مرج عيون بالقرب من الشقيف (¬188) في سابع عشر ربيع الأول، وأقام أيّاما يباشر قتاله كل يوم، والعساكر تتواصل إليه، فلمّا تحقق صاحب شقيف (188) أن لا طاقة له به نزل إليه بنفسه، فلم يشعر به إلاّ وهو قائم على باب خيمته، فأذن له في دخوله إليه وأكرمه واحترمه، وكان من أكبر الافرنج [وعقلائهم] وكان يعرف بالعربية وعنده اطلاع على شيء من التواريخ والأحاديث، وكان حسن التأتي لما حضر بين يدي / السّلطان وأكل معه الطّعام، ثم خلا به وذكر أنه مملوكه وتحت طاعته، وأنه يسلم إليه المكان من غير تعب، واشترط أن يعطي موضعا يسكنه بدمشق لأنه بعد ذلك لا يقدر على مساكنة الافرنج، واقطاعا بدمشق يقوم به وبأهله، وشروطا غير ذلك فأجابه إلى ذلك. وفي أثناء شهر ربيع الأول وصله الخبر بتسليم الشوبك، وكان السّلطان قد أقام عليه جمعا يحاصرونه مدة سنة كاملة إلى أن نفذ زاد من كان به، فسلموه بالأمان. ثم ظهر للسلطان بعد ذلك أن جميع ما قاله صاحب الشقيف كان خديعة فرسم عليه. ثم بلغه أن الافرنج قصدوا عكّا، ونزلوا عليها يوم الاثنين ثالث عشر رجب سنة خمس وثمانين وفي ذلك اليوم سيّر صاحب شقيف إلى دمشق بعد الاهانة الشديدة. ¬

(¬185) في الأصول: «ثاني». (¬186) 1189 م. (¬187) في الأصول: «ثقيف أريون» والمثبت من الوفيات 7/ 193 ومعجم البلدان 3/ 356. قال الحموي: «قلعة حصينة قرب بانياس من أرض دمشق بينها وبين الساحل». (¬188) في الأصول: «ثقيف» والمثبت من الوفيات 7/ 194.

وأتى عكّا (¬189) ودخلها بغتة لتقوى قلوب من بها، وسيّر لاستدعاء العساكر من كل ناحية [فجاءته] وكان مقدار العدو ألفي (¬190) فارس وثلاثين ألف راجل، ثم تكاثر الافرنج واستفحل أمرهم وأحاطوا بعكّا، ومنعوا الدّخول إليها والخروج، وذلك يوم الخميس سلخ رجب، فضاق صدر السّلطان لذلك [ثم اجتهد في فتح الطريق] (¬191) إليها لأجل الميرة والنجدة، ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدّة أيام. ثم جاءت أمداد الافرنج من البحر فضايقوا من بها من المسلمين إلى أن غلبوا / عن حفظ البلد، ففي يوم الجمعة السّابع عشر من جمادى الآخرة من سنة سبع وثمانين وخمسمائة (¬192) خرج من عكّا رجل من المسلمين بالعوم، ومعه كتب من المسلمين يذكرون ما هم فيه وتيقّنهم الهلاك، وان أخذوا البلاد عنوة ضربوا أعناقهم، وأنهم صالحوا على تسليم البلد وجميع ما فيه من الآلات والعدّة والسّلاح والمراكب ومائتي ألف دينار، وخمسمائة أسير مجاهيل ومائة أسير معيّنين من جهتهم، وصليب الصّلبوت على أن يخرجوا بأنفسهم سالمين، وما معهم من الأموال والأقمشة المختصّة بهم وذراريهم ونسائهم، وضمنوا للمركيس (¬193) لأنه كان الواسطة في هذا الأمر أربعة آلاف دينار، فلمّا وقف السّلطان على الكتاب أنكر ذلك إنكارا عظيما وعظم عليه هذا الأمر، فجمع أهل الرّأي من أكابر الدّولة وشاورهم فيما يصنع، واضطربت الآراء (¬194) وعزم على أن يكتب مع العوام وينكر عليهم المصالحة على هذا الوجه، فبينما هو يتردد [لم يشعر] الا وأعلام العدوّ وصلبانه [قد ارتفعت] على السّور وذلك ظهيرة يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من السنّة. ثم خرج الافرنج من عكّا لقصد عسقلان إلى أن وصلوا إلى أرسوف، فكان بينهم وبين المسلمين قتال شديد، ثم ساروا على تلك الهيئة تتمّة عشر منازل من مسيرهم من عكّا، فأتى السّلطان الرّملة، وأتاه من أخبره بالقوم على عزم عمارة يافا وتقويتها بالرّجال والعدد، فأحضر السّلطان أرباب / مشورته وشاورهم في أمر عسقلان وهل الصّواب ¬

(¬189) في الأصول: «عكة». (¬190) في الأصول: «بمائتي ألف» والمنبت من الوفيات 7/ 194. (¬191) اضافة من الوفيات يقتضيها السياق. (¬192) 12 جويلية 1191 م. (¬193) في الأصول: «المراكيش» والمثبت من الوفيات 7/ 197، ولعلها تحريف لكلمة Marquis الفرنسية. (¬194) في الوفيات: «واضطربت آراؤه وتقسم فكره وتشوش حاله».

خرابها أو بقاؤها؟ فاتفقت آراؤهم على أن يبقى الملك العادل قبالة العدو، ويتوجّه السّلطان بنفسه ليخربها خوفا من أن يصل العدو إليها ويستولي عليها وهي عامرة، ويأخذ بها القدس، وتنقطع بها طريق مصر، وامتنع (¬195) العساكر من الدّخول، ورأوا أن حفظ القدس أولى، فتعيّن خرابها من عدّة أمور، وكان الاجتماع سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانين وخمسمائة (¬196)، فسار إليها يوم الأربعاء ثامن عشر الشهر فأخربها وأخرب الرملة وكذلك أخرب النطرون لما في ذلك من إصلاح الحال. ثم ان النصارى طلبوا الصّلح فصالحهم بعد جهد جهيد، وإباء شديد من السّلطان، وكان (¬197) يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة (¬198) ونادى المنادي بانتظام الصّلح، وأن البلاد الاسلامية والنصرانية [واحدة في] (¬199) الأمن والمسالمة (¬200) فمن شاء من كل طائفة أن يتردد إلى بلاد غيره فعل من غير خوف عليه ولا محذور، وكان فيه صلاح للمسلمين لأنه اتفقت وفاة السّلطان مع الصّلح، فلولا انعقاد الصّلح ومات السّلطان أثناء المقاتلة لكان الناس على خطر. ثم أعطى العساكر الواردة عليه من البلاد البعيدة برسم النجدة دستورا فساروا عنه، وتردد المسلمون إلى بلاد النّصارى وجاؤوا هم (¬201) إلى بلاد المسلمين، وحملت البضائع / والمتاجر إلى البلاد، وحضر منهم خلق كثير لزيارة القدس لاشتراطهم ذلك في عقد الصّلح. وتوجّه السّلطان إلى القدس ليتفقد أحوالها، وأخوه الملك العادل إلى الكرك، وابنه الملك الظّاهر إلى حلب، وابنه الملك الأفضل إلى دمشق، وأقام السّلطان بالقدس يقطع النّاس الإقطاعات ويعطيهم دستورا، ولمّا صحّ عنده أن الانكتار - أكبر ملوك الافرنج الذي وقع الصّلح على يديه - سافر إلى بلاده، قوي عزمه على أن يدخل السّاحل جريدة يتفقد القلاع البحرية، فلمّا فرغ من تفقّد (¬202) أحوال القلاع واصلاح خللها دخل ¬

(¬195) في الأصول: «ويمتنع». (¬196) 9 سبتمبر 1191 م. (¬197) أي الصلح، وفي الوفيات نقلا عن ابن شداد: «وكانت الأيمان» 7/ 199. (¬198) 2 سبتمبر 1192 م. (¬199) اضافة من الوفيات يقتضيها السياق. (¬200) في الأصول: «السلامة». (¬201) كذا في ط والوفيات، وفي ش: «أجلوهم». (¬202) في الأصول والوفيات: «افتقاد» وما وضعناه أخف.

دمشق بكرة الأربعاء سادس عشر شوال، وفيها أولاده: الملك الأفضل، والملك الظاهر، والملك الظافر مظفر الدّين الخضر المعروف بالمشمر، سمي بذلك لأن السلطان لمّا قسّم البلاد بين أولاده الكبار دون المشمر، قال: أنا مشمر، فغلب الاسم عليه، وبها أيضا غيره من أولاده الصّغار. وكان يحب البلد ويؤثره بالاقامة فيه على سائر البلاد، وجلس للناس بكرة يوم الخميس السابع والعشرين من شوال، وحضروا عنده وبلوا شوقهم [منه]، وقصده عامّة النّاس وخاصّتهم، فنشر عليهم جناح العدل والفضل، وكشف سحاب الجور والظلم. ولمّا أصلح الملك العادل أحوال الكرك سار قاصدا (إلى البلاد الفراتية) (¬203) - لأن السّلطان أعطاه إياها، كما أعطى أولاده الكبار البلاد المتقدمة، وأعطاه / أيضا البلاد الساحلية - (¬204) فوصل إلى دمشق يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة (¬205) وخرج السّلطان إلى لقائه، ثم أقام معه أياما يتصيدان مع أولاده، فحصلت له راحة ممّا كان فيه من ملازمة التّعب والسهر. فلمّا كانت ليلة السبت ابتدأه مرض حمى صفراوية، فلمّا كان اليوم العاشر من مرضه يئس الأطبّاء منه فتوفي بعد صلاة الصّبح يوم الأربعاء السابع والعشرين من [صفر] سنة تسع وثمانين وخمسمائة (¬206) ولم يخلّف في خزائنه الا سبعة وأربعين درهما ناصرية وجرما (¬207) واحدا ذهبا صوريا، ولم يخلف على ملكه دارا ولا غقارا، ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة الا الثناء الجميل، ودفن بدمشق في قبّة شمالي جامع دمشق، وكان - رحمه الله تعالى - من محاسن الدّنيا وأصاب المسلمين من موته كآبة وحزن لم يصب المسلمين مثلهما منذ فقد الخلفاء الراشدون - رضي الله تعالى عنهم وعنه - ورثاه الشعراء بمراثي كثيرة يطول تتبعها» (¬208). ¬

(¬203) في الأصول: «للديار المصرية» والمثبت من الوفيات 7/ 201. (¬204) بعدها في الأصول: «فلما قدم من الكرك فعند وصوله» أسقطناها لأنها تدخل اضطرابا على الانشاء. (¬205) في الأصول: «ذي الحجة». (¬206) 4 مارس 1193 م. (¬207) في الأصول: «دينارا» والمثبت من الوفيات 7/ 204. (¬208) وفيات الأعيان من ترجمة السّلطان صلاح الدّين الذي اعتمد فيها ابن خلكان خاصة على ابن الأثير وابن شداد، وقد نقل المؤلف عن ابن خلكان بتصرف بالحذف والاختصار، 7/ 139 - 205.

الملك الكامل والحروب الصليبية الخامسة

الملك الكامل والحروب الصليبية الخامسة: «ثم ان الافرنج توجهوا لطلب بلاد المسلمين (¬209) بعده في سنة خمس عشرة وستمائة (¬210)، فقصدوا أولا لقاء الملك العادل بساحل الشّام، فتوجه أمامهم (¬211) نحو دمشق يتجهز ويتأهب إلى لقائهم، فلمّا وصل إلى عالقين، بفتح العين المهملة وبعد الألف لام فقاف مكسورين فياء مثناة من أسفل ساكنة فنون، قرية بظاهر دمشق توفي بها، فأعرض جميع الافرنج عن السّلم وقصدوا الدّيار المصرية» (¬212) «فنزلوا / على دمياط يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة من السنة. فأخذوها يوم الثلاثاء السابع (¬213) والعشرين من شهر شعبان سنة ست عشرة وستمائة» (¬214)، «فنزل لمقاتلتهم (¬215) أبو المعالي محمد ابن الملك العادل الملقّب «بالملك الكامل» صاحب الديار المصريّة، وأخوه الملك المعظم صاحب الدّيار الشامية، والملك الأشرف صاحب البلاد الشرقية، فبعد تملّك العدو دمياط خرجوا منها قاصدين القاهرة ونزلوا في رأس الجزيرة التي دمياط في برها، وكان المسلمون مقابلين لهم في قرية المنصورة، وبحر أشموم (¬216) حائل بينهم، فلمّا التقى ¬

(¬209) الدخول في الحرب الصليبية الخامسة، وتشير إلى أن الحروب الصليبية الرابعة التي أثارها البابا اينسوسان الثالث (Innocent III) تحولت عن طريقها إذ وجهها دوق البندقية هانري دندولو (Henri Dandolo) إلى القسطنطينية عوضا عن بيت المقدس كما كان مقررا، والمتسبب في الحرب الصليبية الخامسة هو البابا هنوريوسي الثالث (Honorius III) وكان الغرض منها انقاذ بيت المقدس واستخلاصها من أيدي المسلمين، وكان صلاح الدّين قد حررها منهم كما سبقت الاشارة إلى ذلك في النص. انظر على سبيل المثال الحروب الصليبية. . .، المرجع السابق ص: 101 - 108. (¬210) 1218 - 1219 م. (¬211) في الأصول: «قدامهم». (¬212) انظر الوفيات ترجمة الملك العادل ابن أيوب أخو صلاح الدّين 5/ 78. (¬213) في الأصول: «السادس» والمثبت من الوفيات 6/ 257. (¬214) 7 نوفمبر 1219 م: الوفيات من ترجمة تاج الدّين الجراح (يحيى بن منصور) 6/ 257 انظر أيضا الكامل لابن الأثير 12/ 323 - 325. (¬215) ينتقل إلى ترجمة الملك الكامل الأيوبي في الوفيات 5/ 80. (¬216) في الأصول: «أشمون» والمثبت من الوفيات ومعجم البلدان، قال الحموي: أشموم» بضم الميم وسكون الواو، اسم لبلدتين بمصر، أشموم طناح قرب دمياط، والأخرى أشموم الجريمات بالمنوفية، أما أشمون، وأهل مصر يقولون أشمونين هي مدينة قديمة بالصعيد الأدنى» 1/ 200 وفي المختصر لأبي الفداء: «أشمون طناح».

الملك الصالح نجم الدين أيوب والحروب الصليبية السادسة

الجمعان نصر الله عساكر الاسلام ليلة الجمعة سابع رجب سنة ثمان عشرة وستمائة (¬217) وتمّ الصّلح بينهم وبين المسلمين في حادي عشر الشهر المذكور، ورحل الافرنج عن البلاد بشعبان من السنة المذكورة، فكانت مدّة اقامتهم ما بين الشّام والدّيار المصرية أربعين شهرا وأربعة عشر يوما» (¬218)، واتفق «أن نزولهم على دمياط كان يوم الثلاثاء وكان يوم احاطتهم بها، وكذا يوم أخذها، وقد جاء في الخبر أن الله خلق المكروه يوم الثلاثاء» (¬219)، ولمّا «رجع الملك الكامل منصورا ودامت أيامه واتّسعت مملكته الشرقية من آمد، وحصن كيفا، وحرّان، والرّها، ورأس العين، وسروج، وما انضم إلى ذلك، أعطى ولده الملك الصّالح أبا الفتح أيوب الملّقب نجم الدّين البلاد الشرقيّة، وأعطى ولده الأصغر الملك العادل سيف الدّين أبا بكر الدّيار المصريّة، ثم اتسعت / مملكة الملك الكامل حتى خطب الخطيب يوم الجمعة بمكّة المشرفة، ودعا للملك الكامل فقال: صاحب (¬220) مكّة وعبيدها، واليمن وزبيدها، ومصر وصعيدها، والشّام وصناديدها، والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين، وربّ العلامتين، وخادم الحرمين الشّريفين، الملك الكامل أبو المعالي ناصر الدّين محمد خليل أمير المؤمنين. ولم يزل على ملكه إلى أن توفي يوم الأربعاء بعد العصر، ودفن بدمشق يوم الخميس الثاني والعشرين من رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة» (¬221). الملك الصّالح نجم الدّين أيّوب والحروب الصليبية السادسة ثم «تقلبت الأحوال بالملك الصّالح نجم الدّين أيوب إلى أن تملك مصر (¬222) سنة سبع وثلاثين وستمائة (¬223)، ثم أخذ دمشق (¬224)، ثم مضى إلى الشّام سنة ست ¬

(¬217) 27 أوت 1221 م. (¬218) الوفيات 5/ 80. (¬219) الوفيات 6/ 258 من ترجمة يحيى بن منصور الجراج. (¬220) في الأصول: «ملك» 5/ 82. (¬221) 10 مارس 1238 وترجمة الملك الكامل محمد بن الملك العادل في وفيات الأعيان 5/ 79 - 83. (¬222) عن تقلبات الأحوال بالملك الصالح نجم الدّين أيوب وتملكه لمصر، انظر وفيات الأعيان 5/ 84 - 85 في آخر ترجمة الملك الكامل. (¬223) 1239 - 1240 م، نازع فيها أخاه الملك العادل ابن الملك الكامل. (¬224) من عمه الملك الصالح.

نهاية الأيوبيين

وأربعين (¬225)، فدخل دمشق (¬226) أوائل شعبان من السنة، وسيّر العساكر لحصار حمص (¬227)، ثم رجع أول سنة سبع وأربعين وهو مريض. وقصد الافرنج دمياط (¬228) بعد اجتماعهم بجزيرة قبرس فنزل هو بأشموم ينتظر وصولهم فوصلوا يوم الجمعة العشرين من صفر سنة سبع وأربعين وستمائة (¬229)، وملكوا بر الجزيرة يوم السبت وملكوا دمياط يوم الأحد، ثلاثة أيام متوالية لأن العساكر وجميع أهلها هربوا منها، ثم فكت منهم. نهاية الأيوبيين: وانتقل الملك الصّالح من أشموم إلى المنصورة، ونزل بها وهو في غاية المرض، وأقام بها على تلك الحال إلى أن توفي هناك ليلة الاثنين نصف شعبان من السّنة المذكورة، وحمل إلى القلعة الجديدة في الجزيرة، وترك في مسجدها هنالك، وأخفي موته / مقدار ¬

(¬225) 1248 - 1249 م. (¬226) لما مات الملك العادل اختلف أبناؤه الثلاثة: الملك الكامل صاحب مصر، والملك الأشرف صاحب الجزيرة وخلاط، والملك المعظم صاحب دمشق وبيت المقدس، وتحالف الملك المعظم ضدّ أخويه مع جلال الدّين ابن خوارزمشاه ونتيجة لهذا التخوف بعث الملك الكامل إلى الإمبراطور فريدريك الثاني يستقدمه إلى عكا ليشغل أخاه المعظم بما هو فيه، ومات الملك المعظم قبل وصول الإمبراطور لكن فريدريك استولى على بيت المقدس صلحا مع شروط، واستسهل الملك الكامل هذا الصلح للمصلحة نظرا للخلافات في البيت الأيوبي، وتولى الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل ويعتبر آخر سلاطين بني أيوب، وكانت له عداوة مع عمه الملك الصالح اسماعيل الذي استولى على دمشق وتحالف مع الصليبيين وتنازل لهم على بعض البقاع، ونزلت قوات صليبية جديدة قادمة من فرنسا، وجرت بين الملك أيوب مع عمه اسماعيل والصليبيين حروب واسترجع بيت المقدس، وكل هذه الأحداث من احتلال بيت المقدس من طرف الصليبيين إلى حين استرجاعها من طرف الملك أيوب يدخل في باب الحرب الصليبية السادسة، انظر الحروب الصليبية، المرجع السابق ص: 113 - 117. (¬227) في الأصول: «مصر» والمثبت من الوفيات 5/ 85. (¬228) كان استرجاع المسلمين بيت المقدوس رد فعل في أوربا المسيحية تتجلى في الحروب الصليبية السابعة، التي قام بها ملك فرنسا لويس التاسع (St. Louis) التي تجهّز لها تجهيزا عظيما، واصطحب معه الكثير من الأمراء، ومن مراحلها الاستيلاء على دمياط وأسر الملك لويس التاسع، عن هذه الحملة انظر الحروب الصليبية، المرجع السابق ص: 117 - 122. (¬229) 5 جوان 1248 م.

المماليك بمصر

ثلاثة أشهر، والخطبة باسمه، إلى أن وصل ولده المعظّم توران شاه (¬230) إلى المنصورة، فعند ذلك أظهروا موته، وخطب لولده المذكور، ثم بنى له ولده بالقاهرة إلى جانب مدرسته تربة، ونقل إليها في رجب سنة ثمان وأربعين وستمائة» (¬231). ثم شرع في قتال الكفّار فكسّرهم بدمياط كسرة عظيمة، وقتل منهم ألف نفس وأزيد من ذلك، وأسر ملكهم الفرنسيس (¬232) واعتقله بالمنصورة (¬233)، ثم شرع المعظّم في إبعاد أمراء والده ومماليكه فاتفق الأمراء (¬234) على قتله، فقتل (¬235)، وكانت مدة ملكه أقل من شهر (¬236)، فالسّنة التي تولّى فيها توفي فيها، وكانت وفاة الملك المعظّم بمصر، فولوا بعده في التّاريخ الملك المظفّر موسى، وهو ثامن الأيوبية، فأجلسوه على سرير الملك وهو ابن ست سنين، فتغلّب عليه مماليكهم الأتراك، فانقرضت من مصر الدولة الكردية إلى الدولة التركية. المماليك بمصر: وتسلطن الأتراك بها يوم الأربعاء سابع عشر رمضان سنة ثمان وأربعين وستمائة (¬237) وفي بعض التواريخ (¬238) أن الأمراء بعد قتل الملك المعظّم اتفقوا على سلطنة شجرة الدر أيبك (¬239) الصالحية (¬240) لمّا علموا أنها كانت أحسن تدبيرا من زوجها الصالح، فكانت تعلّم على المناشير والتواقيع، فمال إليها جميع العسكر وخطب لها (¬241)، وضربت ¬

(¬230) وكان بحصن كيفا، الوفيات: 5/ 86 انظر ترجمته في النجوم الزاهرة 6/ 364 - 373. (¬231) سبتمبر - أكتوبر 1250 م، الوفيات 5/ 85 - 86. (¬232) في الأصول: «ملكهم الفرنسيس»، وهو كما أشرنا لويس التاسع ملك فرنسا. (¬233) بتل منية أبي عبد الله قرب المنصورة، أنظر الحروب الصليبية، المرجع السابق ص: 122، والنجوم الزاهرة 6/ 367. (¬234) المماليك البحرية الذين كان والده جعلهم بقلعة البحر بجزيرة الروضة، انظر النجوم الزاهرة 6/ 367. (¬235) في 27 محرم 648 هـ - 1 ماي 1250 م الوفيات 5/ 89 والنجوم 6/ 371. (¬236) في الأصول: «سبعة وستين يوما» والمثبت من النجوم 6/ 372. (¬237) 13 ديسمبر 1250 م. (¬238) مثلا النجوم الزاهرة 6/ 371. (¬239) انظر ترجمتها بالنجوم الزاهرة 6/ 373 - 377. (¬240) نسبة إلى زوجها الملك الصالح نجم الدّين أيوب، وكانت جاريته وزوجته وأم ولده خليل. (¬241) كان الخطباء يقولون على المنبر بعد الدعاء للخليفة «واحفظ اللهم الجهة الصالحية ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين أم خليل المستعصمية صاحبة السّلطان ملكة الصالح»، ابن تعري بردي في النجوم الزاهرة عن الصفدي 6/ 374.

السّكّة باسمها، وولّت وعزلت، وجعلت عزّ الدّين أيبك التركماني نائبا عنها وأتابك العسكر، وذلك بصفر سنة ثمان وأربعين وستمائة (¬242)، / وأطلقت لويس (¬243) ملك الافرنج بعد مراسلات كثيرة، واشترطت عليه أن يسلم دمياط للمسلمين ويحمل أموالا مقرّرة، وتوجّه إلى بلاده بعد أن أقامت دمياط بيد الافرنج أحد عشر شهرا وتسعة أيام، ثم تزوّجت بنائبها الأمير عزّ الدّين أيبك (¬244)، ثم اتفق رأي الأمراء أن يسلطنوا التّاسع من بني أيوب، وهو الملك الأشرف مظفر الدّين موسى ابن الملك الناصر صلاح الدّين، فجلس على سرير الملك يوم الأربعاء ثاني جمادى الأولى عام ثمانية وأربعين وستمائة (¬245)، وأشركوا إسمه مع إسم شجرة الدرّ على السكّة، ويعلّمان معا على المناشير وغيرها. وفي ذلك الوقت عظم أمر المماليك البحرية (¬246) فتسلطوا على المسلمين وكان ألف مملوك تركي بالرّوضة، فكانوا يسبون الحريم، ويأخذون الأموال، وكان كبيرهم الفارس اقطاي الصالحي وكلّما طلب من الأموال أخذ من الخزائن حتى أقطع الاسكندرية بمفرده، وهاداه الأشرف المتقدم الذكر. (وأول الأتراك زوج شجرة الدر أيبك المقدم الذكر) (¬247) وسبب توليه أن الأشرف عجز عن القيام بالملك لصغر سنّه، وبلغ أهل مصر قدوم التتار للبلاد فاتفقت الآراء على اقامة أيبك بمفرده، ولمّا تولى فرّ منه جماعة البحرية إلى الشّام (¬248). ومن أعظم ملوك الأتراك رابعهم (¬249) الملك الظاهر بيبرس (¬250) فتح من بلاد الشّام ما بقي تحت يد الكفّار كقلعة بانياس ويافا وغيرهما نحو الخمسة عشر بلدا، وجميع حصون / الاسماعيلية فكانت فتوحات مشهورة، فلمّا كملت عدة الأتراك أربعا وعشرين في سنة أربع وثمانين وسبعمائة (¬251) وكان رابع العشرين الملك الصّالح حجي بن الأشرف ¬

(¬242) ماي / جوان 1250 م. (¬243) في الأصول: «أفرنسيس». (¬244) النجوم 6/ 374 - 375. (¬245) 2 أوت 1250 م. (¬246) البحرية، والمماليك البحرية هم أتراك، وسماهم بحرية الملك الصالح أيوب، وبثهم حول دهليزه. أنظر تاريخ ابن الوردي المسمى تتمة المختصر 2/ 263 - 264 لزين الدّين عمر بن الوردي. (¬247) ساقطة من ط. (¬248) عن ولايته انظر مثلا النجوم الزاهرة 7/ 3 - 40. (¬249) الملك المعز أيبك ثم الملك المنصور ثم الملك المظفر قطز. (¬250) انظر ترجمته بالنجوم الزاهرة 7/ 94 - 256 (¬251) 1382 - 1383 م.

شعبان بن الأمجد حسن بن النّاصر محمد بن قلاوون، وقد كان قلاوون وأولاده استكثروا من شراء المماليك الجراكسة، فاشترى الأتابك يلبغا (¬252) العمري التركي مملوك بني أيوب برقوق، سمي بذلك لجحوظ عينيه فتنقلت به الأحوال إلى أن صار أمير مائة ألف مقدم، فكان أتابك للملك الصّالح (¬253)، فلمّا بلغ الملك الصّالح عشر سنين ليس له من السّلطنة غير الاسم، ألزم الأمير الأتابك يلبغا (252) العمري برقوق أن يخلع الملك الصّالح ويتولّى السّلطنة بدله فخلعه يوم الأربعاء سابع (¬254) عشر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة (¬255)، وتولّى السّلطنة بعده، فكان أول الجراكسة (¬256)، السّلطان الملك الظاهر سيف الدّين أبو سعيد برقوق ابن أبيض العثماني الجركسي، جلبه عثمان بن مسافر فنسب إليه فتولّى من الجراكسة اثنان وعشرون ملكا آخرهم الغوري الآتي ذكره، عند ذكر الدّولة العثمانية، وكانت مدة ملكهم مائة وتسعة وثلاثين سنة، فسبحان مفني الأمم ومزيل الدّول (¬257). ¬

(¬252) في الأصول «بليقا» والمثبت من النجوم الزاهرة 11/ 219. (¬253) الملك الصالح أمير حاج. أنظر ترجمته في النجوم الزاهرة 11/ 216 - 221. (¬254) في النجوم: «تاسع». (¬255) 24 نوفمبر 1382 م. (¬256) جاء في النجوم الزاهرة: «وهو السلطان الخامس والعشرون من ملوك التّرك بالدّيار المصرية والثاني من الجراكسة، ان كان الملك المظفر بيبرس الجشنكير جركسيا، وان كان بيبرس تركي الجنس فبرقوق هذا هو الأول من الملوك الجراكسة وهو الأصح وبه نقول. . .» 11/ 221. (¬257) بعدها في ط: «لا رب غيره ولا أحد سواه».

المقالة السادسة في ذكر خلفاء بني أمية بالأندلس وذكر الطوائف بعدهم

المقالة السّادسة في ذكر خلفاء بني أميّة بالأندلس وذكر الطوائف بعدهم بنو أميّة: ولمّا انقرضت دولة بني أميّة من المشرق، وانتقل بعض من أفلت منهم إلى المغرب كان / منهم عبد الرّحمان بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ويسمّى صقر (¬1) بني أميّة، وكانت أمّه بربرية اسمها راح نفزية (¬2)، فلحق بأخواله من نفزة (¬3) وكتب إلى من بالأندلس من صنائعهم، ثم لحق بهم وملك الأندلس في السّنة الثّامنة أو التّاسعة والثلاثين ومائة (¬4)، وأقام بالأندلس ملكا كبيرا له ولعقبه، وتوفي لخمس بقين من ربيع الآخرة في سنة اثنتين وسبعين ومائة (¬5). وولي بعده ولده هشام، فكان ملكا جليلا صالحا متقشّفا، وغزا وفتح الكثير، ولم تطل أيامه فهلك في صفر سنة ثمانين ومائة (¬6). وولي بعده ولده الحكم ولقب «بالرضي»، وقام عليه أهل الرّبض (¬7)، فأظفره ¬

(¬1) فسرها المؤلف في طرة كتابه «بالبازي». (¬2) من برابرة طرابلس، كتاب العبر 4/ 262. (¬3) في كتاب العبر: «نفرة». (¬4) بالنسبة لابن خلدون في خلافة أبي جعفر المنصور 138/ 755 - 756. (¬5) 2 اكتوبر 788 م. (¬6) افريل 796 م. (¬7) بعدها في ط: «الربض القبلي من قرطبة لأمور أنكروها عليه وكاثروه وكادوا يأتون عليه»، انظر عنها كتاب العبر 4/ 274.

الله بهم، ووضع السيف فيهم ثلاثة أيام، وتوفي لأربع بقين من ذي الحجة سنة ست ومائتين (¬8). وولي الأمر بعده عبد الرحمان ولده (¬9)، وهو أول من فخم الملك بالأندلس، ونوّه الألقاب، واستكثر الوزراء، ثم توفي في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين (¬10). وولي بعده محمّد، فكان ملكا كبيرا شبيها بعبد الملك بن مروان، وكان آية في تحقيق الحساب، آخذا بحظ من الشعر والكتابة، وتوفي في ربيع الأول (¬11) سنة ثلاث وسبعين ومائتين (¬12). وولي بعده ولده المنذر، وكان شهما حازما، ومات محاصرا ابن حفصون (¬13). وولي بعده أخوه عبد الله بن محمد بن عبد الرحمان، وكان عفّا فاضلا، وفي أيامه تناهت الفتنة (¬14)، وضاقت عليه الحضرة / واشتدّ عليه كلب ابن حفصون (¬15)، فشمّر وبرز بمن معه ففتح الله عليه، واستوسقت له الطاعة، وابن حفصون هذا هو عمر بن حفصون كان أبوه من مسلمة أهل الذمة، وكان شجاعا ثائرا، اشتهر وضمّ إليه الأشرار، وملك مدينة يشتر (¬16)، وانقادت إليه الجهات، وتمادى الأمر فيه وفي عقبه أزيد من تسعين سنة شقيت بهم المروانية ما شاء الله. ولمّا توفي عبد الله (¬17) تولى الأمر بعده حفيده عبد الرحمان بن محمد بن عبد الله، النّاصر لدين الله، وكانت الأرض تضطرم نارا وشقاقا، فأخمد نيرانها، وسكّن زلزالها، وتسمّى «بأمير المؤمنين»، وكان كثير الغزو، فأوقع الرّوم عليه هزيمة تسمّى وقعة الخندق، ثم (¬18) أغزى قوّاده، ففتح الله عليه فتوحات كثيرة، وطال عمره، فبنى ¬

(¬8) في الأصول: «ست وثمانين ومائة» والمثبت من كتاب العبر 4/ 277 وغيره 12 ماي 823 م. (¬9) ويعرف بعبد الرحمان الأوسط. (¬10) سبتمبر - أكتوبر 852 م. (¬11) بالنسبة لابن خلدون في «صفر» كتاب العبر 4/ 287. (¬12) أوت - سبتمبر 886 م. (¬13) بجبل يشتر سنة خمس وسبعين ومائتين لسنتين من امارته. (¬14) ينعتهم ابن خلدون بالثّوار، وأولهم ابن مروان ببطليوس وأشبونة، انظر كتاب العبر 4/ 288. (¬15) انظر عن نسبه وثورته كتاب العبر 4/ 292. (¬16) في الأصول: «مدينة بيشتر» والمثبت من كتاب العبر، وجبل يشتر من ناحية رية ومالقة 4/ 292. (¬17) في آخر المائة الثالثة من شهر ربيع الأول، العبر 4/ 298. (¬18) «ولم يغز الناصر بعدها بنفسه» انظر كتاب العبر 4/ 309.

مدينة الزّهراء، وله الأثر في مسجد قرطبة وجسرها وغير ذلك (¬19)، وكانت وفاته سنة خمسين وثلاثمائة (¬20). وولي الأمر بعده ولده الحكم بن عبد الرحمان الملقب «بالمستنصر بالله» أبو العاص، ولي الملك [وهو] ابن خمسين سنة، وبلغ من تناهي الجلالة وحسن السّيرة وبراعة العلم وتخليد الآثار ما لم يبلغه أحد من قومه، ثم توفي سنة ست وستين وثلاثمائة (¬21). وبويع بعده لولده هشام المؤيد وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وعليه انشقت عصا الأمّة، عقد له البيعة أبو عامر محمّد بن أبي عامر المعافري، وجرت عليه / حجابته وحجابة ولديه من بعده إلى أن مضى لسبيله، ولم تتحقق وفاته (¬22). وهذا محمّد ابن أبي عامر تلقب «بالمنصور» (¬23)، وكان صاحب السّياسة المشهورة، والغزوات العظيمة التي دوّخ بها البلاد، وروّع الأقطار، وسبى المدن، ذكر أنه انصرف من غزوة سمورة بتسعة آلاف فارس من السبي. ولمّا توفي تولى الحجابة بعده ولده المظفر عبد الملك، فاقتفى سيرة أبيه في الجهاد والفتوحات العظيمة، وتوفي منصرفا من غزوته لشانجة بن غرسية ملك جليقية في صفر سنة تسع وتسعين وثلاثمائة (¬24). وتولّى الأمر بعده أخوه عبد الرحمان بن أبي عامر الملقّب «بشنجوال» ثم قتل لما وثب ابن عبد الجبار بالخلافة، وانقضت الدّولة العامرية، وانقضت بقضائها دولة الجماعة. وابن عبد الجبار هذا هو المهدي محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمان النّاصر لدين الله (¬25)، وكان مقداما جسورا. فلمّا توفي عبد الملك بن أبي عامر - المتقدّم الذكر -، وخرج أخوه عبد الرحمان ¬

(¬19) عن مباني الناصر انظر كتاب العبر 4/ 311 - 312. (¬20) في الأصول: «خمس وأربعين» والمثبت من كتاب العبر 4/ 312 والمختصر لأبي الفداء 2/ 102.961 - 922 م. (¬21) 976 - 977 م. (¬22) في ط: «ولما تحقق وفاته». قتل هشام حوالي سنة 403 هـ ‍ اثر الحرب التي تواجه فيها المهدي والمستعين، انظر كتاب العبر 4/ 327. (¬23) عنه وعن أعماله انظر كتاب العبر 4/ 318 - 321. (¬24) اكتوبر 1008 م. بمدينة سالم منصرفا من بعض غزواته، كتاب العبر 4/ 321. (¬25) انظر ثورة المهدي، كتاب العبر 4/ 323 - 324.

إلى غزواته وخلى البلد من الجند، وثب هو (¬26)، فملك القصر وأخذ بيعة النّاس لنفسه، وبلغ الخبر ابن أبي عامر فقفل ظانّا أن الريح تنشاله، فقتل لمّا خذله النّاس. فلمّا استوسق الأمر للمهدي أظهر جنازة ادّعى أنها جنازة هشام، وخالف أمراء عسكره البربر، فنافروه، وبايعوا سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمان النّاصر [ولقّبوه بالمستعين بالله] (¬27) واستعان بالجلالقة (¬28)، / وقصد قرطبة فنالها، ولم يطق المهدي مدافعته فاتّقاه بالانخلاع، وأخفى نفسه إلى أن لحق بطليطلة، فاستجاش أيضا بجمع الرّوم (28) وزحف إلى قرطبة فكان له الظّهور على سليمان، وجمع البربر وأزعجهم، فانتدبوا إلى حوز الخضراء، وخيّموا بوادي جازوت (¬29) يرومون الجواز إلى بلادهم، وتبعهم عقب الظّهور عليهم المهدي، وناجزهم الحرب فاستماتوا واستبصروا في حربه، فنصرهم الله عليه، وهزموه أقبح هزيمة (¬30)، وتبعوه إلى قرطبة وحاصروه واختلّت أحواله، وأعملت عليه الحيلة، فقتل. وأخرج هشام المؤيّد للناس فلم يستقم الأمر [وقتل] (¬31). واستولى سليمان بن الحكم أمير البربر على الخضراء فظهر عليه علي بن حمّود بن ميمون بن علي بن عبيد الله بن عمر بن أدريس بن أدريس بن حسن بن حسن بن علي ابن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقال إن هشاما المحجوب لمّا شعر بالهلاك خاطب ابن حمّود بسبتة يستنصر به ويقلّده دمه والطّلب بثأره، ويفضي إليه بعهده، فتحرّك سنة خمس وأربعمائة (¬32) وبرز إليه سليمان بن الحكم فانهزم سليمان وقبض عليه وعلى أخيه وأبيه وسيقوا إلى علي بن حمّود فضرب أعناقهم بيده وفاء لهشام. وتمّت البيعة لعلي بن حمّود، وكان فظّا شديدا، اغتاله صبيته من مماليكه الصقالبة في الحمّام، فقتلوه غرة ذي القعدة من سنة ثمان وأربعمائة (¬33). ¬

(¬26) أي المهدي. (¬27) اضافة من كتاب العبر 4/ 325. (¬28) النصرانيون أصحاب جليقية (Galice) وهي مقاطعة في الشمال الغربي من اسبانيا. (¬29) في ش: «يارود». (¬30) عن الخلاف والحروب بين المهدي والمستعين، انظر مثلا كتاب العبر 7/ 324 - 328. (¬31) اضافة للايضاح. (¬32) 1014 - 1015 م. (¬33) مارس - أفريل 1018 م.

وتولّى أمره من بعده أخوه القاسم، ثم نازعه يحيى بن علي بن حمّود / وفرّ من قرطبة وتملّكها منهم طائفة كثيرة، فاجتمع الموالي العامريون بشرق الأندلس على مبايعة عبد الرّحمان بن محمد الملقّب «بالمرتضي» وتحركوا به فنزلوا غرناطة وبها أمير صنهاجة فناجزهم الحرب فهزمهم، وقتل الخليفة المرتضي، ولمّا أعيى الناس نزاع بني حمّود بقرطبة بايعوا من بقايا المروانيّة أبا البقاء عبد الرحمان بن هشام بن عبد الجبّار، وكان ذكيّا أديبا بارعا، ولم يكن له عيب إلاّ أن نقم العامّة عليه لايواء طائفة من البربر، فوثبوا عليه ولم يشعر إلاّ وقد تسوّروا عليه من فوق حيطان القصر، فقتل وبويع لابن عمّه «المستكفي» وهو محمّد بن عبد الرحمان [بن عبيد الله بن] النّاصر، فلم يضطلع بالأمر، وأخلد إلى الرّاحة فضعف أمره، واتّفق الملأ على خلعه فخرج على وجهه مستترا، فهلك بحصن أقليش (¬34)، وكانت دولته سبعة عشر شهرا (¬35). فقام [وصار أهل قرطبة إلى طاعة المعتلي، ثم نقضوها وبايعوا] (¬36) هشام بن محمد من ولد النّاصر أخو المرتضي (¬37) وكان مقيما بحصن البنت لجأ إلى أميره (¬38) عند هلاك أخيه المرتضي وبويع (¬39) له بقرطبة سنة عشرين وأربعمائة (¬40)، واستدعي من حيث ذكر، وتقلّد الأمر في سنّ الشّيخوخة وقعد على سرير الملك، ثم اجتمع الملأ على خلعه، وهو آخر الأمويين (¬41). ¬

(¬34) في كتاب العبر: «هلك بمدينة سالم» 4/ 332. (¬35) انظر كتاب العبر 4/ 332. (¬36) اضافة للإيضاح، العبر 4/ 332. (¬37) هو المعتمد. (¬38) هو عبد الله بن قاسم الفهري. (¬39) بايعه أهل قرطبة بمكانه من الثغر المذكور (أي حصن البنت) يوم الأحد لخمس بقين من ربيع الآخر سنة 418، وأقام كذلك سنتين وسبعة أشهر وثمانية أيام، فخطب له بقرطبة غائبا عنها، ثم أتى قرطبة في سنة 420. ولم تطل مدته فخلع. . . لسان الدّين بن الخطيب، أعمال الاعلام في من بويع قبل الاحتلام من ملوك الاسلام، تحقيق وتعليق أ. ليفي بروفنسال، دار المكشوف، بيروت، ط.2 آذار 1956، ص: 138. (¬40) 1029 م. (¬41) المعتز هو آخر خلفاء بني أمية بالأندلس، العبر 4/ 343.

ملوك الطوائف

ملوك الطوائف: ولمّا تبدّد شمل الجماعة من بني أميّة جاءت دول (¬42) الطوائف، فقام بكلّ خطة من بلاد الأندلس ملك، فكان لكلّ ملك ما بيده، فضبط أشراف العملات أزمّة أمورهم، وركبوا ظهور غرورهم، فتنافسوا في انتحال الألقاب السّلطانية، / فأتوا بكلّ شنيعة (¬43)، فاقتسم أقطار الأندلس الطوائف. فضبط (¬44) قرطبة بعد خلع المعتز (¬45) أبو الحزم بن جهور (¬46) ولتوفّر خصاله اجتمعوا (¬47) عليه فأعطوا القوس باريها، فحمل أمرهم من السياسة ومسالمة من يجاوره من الملوك، وتوفي أبو الحزم سادس محرّم سنة خمس وثلاثين وأربعمائة (¬48). وولي مكانه ولده أبو الوليد (¬49)، فاقتفى سنن أبيه ولمّا أدركه الهرم استناب ولده عبد الملك (¬50)، فاشتغل باللهو، وطمع ابن ذي النّون في قرطبة، وتحرّك إليها فاستغاث (¬51) بنو جهور (46) بجارهم ابن عبّاد أمير إشبيلية، فوجّه إليهم عددا من جيشه لنظر وزيره فدخلها وحماها من ابن ذي النّون، فلمّا انصرف عنها ثار العبّاديون بعبد الملك بن جهور (46) واستولوا على المدينة في سنة اثنتين (¬52) وسبعين وأربعمائة (¬53). وقام في حمص (¬54) بنو عبّاد وأول من ترأس منهم رئاسة السّيف (¬55) القاضي ¬

(¬42) في الأصول: «دولة». (¬43) كذا في ط وفي ش وت: «شيعة». (¬44) في كتاب العبر 4/ 343: «استبد بقرطبة». (¬45) في الأصول: «هشام» والمثبت من كتاب العبر. (¬46) في الأصول: «جوهر» وهو كما أثبتناه من كتاب العبر: «ابو الحزم جهور بن محمد بن جهور» انظر تتمة نسبه بالعبر 4/ 342 - 343. قال لسان الدّين بن الخطيب (م. سبق ذكره) ص: 147 «واتفق الملأ على اسناد الأمور بالحضرة إلى شيخ الجماعة وبقية الأشراف من بيوت الوزارة، أبي الحزم جهور بن محمد بن جهور». (¬47) أي الجند الذين خلعوا المعتز. (¬48) 15 أوت 1043 م. (¬49) أبو الوليد محمد. (¬50) لما مات أبو الوليد بن جهور بقرطبة غلب عليها الأمير المأمون صاحب طليطلة فدبرها إلى أن مات بها (انظر الكامل لابن الأثير 9/ 106). (¬51) في الأصول: «فاستخرج» والمثبت من كتاب العبر 4/ 344. (¬52) يوم الأحد لتسع بقين من شعبان سنة 461، أعمال الإعلام، ص: 150. (¬53) 1079 - 1080 م. (¬54) حمص بالأندلس هي اشبيلية، ومن أجداد القاضي أبو القاسم أول ملوك اشبيلية من بني عباد عاصف وهو الداخل إلى الأندلس في طوالع لخم وأصلهم من جند حمص، العبر 4/ 337. (¬55) ساقطة من ط.

أبو القاسم محمد بن عبّاد (¬56) بن محمّد بن اسماعيل بن قريش بن عبّاد، وكان رجل المغرب قاطبة، له الاشارة والصّيت، ولمّا انقرضت الدولة [الأموية] أسند إليه أهل قطره النّظر والتسديد، فاستبدّ بالأمر. ولمّا توفي سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة (¬57) قام بالأمر ولده أبو عمرو عباد [وتلقّب] «المعتضد بالله»، وهو أبعد ثوّار الأندلس همّة، وأشدّهم بأسا، وأفخمهم أثرا، جمع خزانة مملوءة من رؤوس الملوك (¬58) البائدين بسيفه، وكانت وفاته سنة احدى وستين وأربعمائة (¬59). وولي بعده ولده محمد «المعتمد على الله»، وعليه انقرض أمرهم / كما يأتي على يد يوسف بن تاشفين. وقام بنو حمّود الادريسيين بقرطبة وسبتة وقد تقدّم خبرهم. وقام بسرقطة [والثغر الأعلى] منذر (¬60) [بن يحيى التّجيبي] (¬61) وكان كريما وهّابا للقصّاد. وتولّى بعد موته [ابنه يحيى وتلقّب المظفّر، ثم صارت إلى] (¬62) سليمان بن هود الجذامي (¬63)، وله أعقاب لهم آثار وأخبار شهيرة، فكان من أعقابه آخرهم (¬64) محمّد ابن يوسف، فاستولى على مرسية، وملك منها الأندلس، وقام بدعوة العبّاسيين، وعليه كان قيام دولة بني نصر كما يأتي. وقام ببطليوس الحاجب المنصور أبو بكر محمّد بن عبد الله بن مسلمة [التّجيبي] (¬65) المدعو بابن الأفطس أصله من تجيب (¬66)، كان أديبا جليلا، وقال ابن حيان: كان ¬

(¬56) أخذ المؤلف؟؟؟ يهم دولة يحيى بن عباد من ترجمة المعتمد بن عباد في وفيات الأعيان 5/ 21 - 39. (¬57) 1041 - 1052 م. (¬58) «وتحصلت في خزائنه جملة من رؤوس ملوك البرابرة والأدارسة». اعمال الاعلام: ص: 155. (¬59) 1068 - 1069 م. (¬60) يحيى بن منذر بن يحيى: اعمال الاعلام ص: 170. (¬61) في الأصول: «وقام سرقسطة منذ الثغر» والمثبت من كتاب العبر 4/ 350. (¬62) اضافة للتوضيح من كتاب العبر 4/ 351. (¬63) هو «سليمان بن محمد بن هود» العبر 4/ 351. (¬64) بعد يوسف بن احمد المؤتمن تولى ابنه احمد المستعين بالله، ثم ولي بعده ابنه عبد الملك عماد الدولة ثم ولي بعده ابنه المستنصر بالله وعليه انقرضت دولتهم على رأس الخمسمائة فصارت بلادهم جميعا لابن تاشفين. أنظر مثلا الكامل لابن الأثير 9/ 108. تاريخ ابن خلدون 4/ 351 - 352. (¬65) اضافة من العبر. (¬66) أصله من قبائل مكناسة قال ابن حيان ومن النادر الغريب انتماؤه في تجيب (المصدر السالف، ص: 182).

عبد الله أبوه رجلا من مكناسة خدم سابور ببطليوس، وتغلّب عليه ثم ورثه ملكه، ثم أورثه المظفّر أبا بكر، ثم انتهى إلى عمر ولده، وكان من هلاكه وولده صبرا عندما تغلّب الملثمون على رؤساء الطوائف ما هو معروف. وقام بغرناطة حبّوس (¬67) بن بلكّين (¬68) بن زيري بن مناد ملك عمّه الحاجب المنصور بن زيري بن مناد كورة إلبيرة (¬69) وما جاورها نحو سبع سنين، ثم رحل (¬70) عن الأندلس إلى بلاده عام عشرين وأربعمائة (¬71)، واستخلف ابن أخيه حبّوس بن بلكّين فتوسّع النّظر إلى أن مات، وولي بعده ولده باديس الحيّة الذكر، فضخم ملكه واشتهرت سطوته ودهاؤه. وولي بعده حفيده عبد الله بن بلكّين بن باديس، فخلعه أمير الملثمين سنة ثلاث وأربعمائة (¬72)، وغربه إلى أغمات. وقام بالجوف (¬73) / بنو ذي النّون (¬74)، وأوّل من ثار بطليطلة الحاجب الظّافر اسماعيل بن عبد الرحمان [بن ذي النّون] (¬75) الملقّب بناصر الدّولة، ثم عهد إلى ابنه يحيى الملقّب بالمأمون ذي المجدين، ثم ملك بعده حفيده أيضا يحيى الملقّب «بالظافر» ومنه انتزع (¬76) الأدفونش (¬77) طليطلة. وقام بالمرية النجيب ذو الوزارتين أبو الأحوص [المعتصم] معن بن محمد بن عبد الرحمان بن صمادح [التّجيبي] (¬78) وكان رجل المشرق رأيا ودهاء ولسانا، وعارضه ¬

(¬67) عن ملوك بني حبوس بغرناطة، انظر كتاب العبر 6/ 366 - 373. (¬68) لعل الصّواب بن ماكسن وكيف يكون متفقا في اسم الأب مع ابن أخيه حبوس الوارد ذكره بعد قليل. (¬69) في الأصول: «الفيرة» والمثبت من كتاب العبر 4/ 345. (¬70) واتصلت أيامه إلى أن هلك في رمضان سنة 429. وولي بعده الأمر ابنه باديس، أعمال الإعلام ص: 209. (¬71) 1029 م. (¬72) 1012 - 1013 م. (¬73) الجوف في لهجة الأندلسيين والمغاربة هو الشّمال، والمقصود هنا «بالجوف» الثغر الجوفي بطليطلة. (¬74) وابن الخطيب يسميهم بني دنّون، وقال: «هؤلاء الملوك برابرة من قبيل البربر الذين كانوا يخدمون الدّولة العامرية، وأن اسم جدهم الذي ينتسبون إليه زنّون، فغير بالدال لطول المدة». أعمال الاعلام ص: 177. ولاحظ أ. ليفي بروفنسال في تعليق له على كلام ابن الخطيب أن مؤرخي ملوك الطوائف كابن حيّان وابن بسام وابن عفاري يسمونهم بني ذي النون، وهو تعريب اسم جدهم زفّون البربري. (¬75) أنظر كتاب العبر 4/ 350. (¬76) الصواب أن ابن ذي النون طلب من الأذفونش معاونته على العودة إلى طليطلة والتمكن منها لأن عليه مزية سابقة فشدد عليها الحصار إلى أن دخلها حفيد ذي النون. (¬77) الفنسو السادس (Alphonse VI). (¬78) انظر كتاب العبر 4/ 350.

ولي المريّة بعد زهير الصقلي، وقد خلفه عليها، فامتنع عنه بها، ثم تصير الأمر بعد إلى إبنه أبي يحيى محمّد، ومات زمن حصار الملثمين له، وفرّ ولده حسام (¬79) الدولة إلى العدوة الشرقية (¬80)، فاستقرّ بها في جملته. وقام بنو طاهر بشاطبة وغيرها من شرق الأندلس، وقام طاهر وزعيم بينهم ذو الوزارتين أبو عبد الله ومدّ له في البقاء إلى أن أسّر عند التغلّب على بلنسية. وقام ذو الرئاستين أبو مروان عبد الملك بن رزيق، ويدعى «حسام الدّولة» فاستبدّ بالسعلة - وهي بلد كبير وسط بين الثغر الأعلى منها والأدنى - شهير بالمنع. وقام من الصقالبة عدة كانوا مماليك المنصور بن عامر الذي ولاّهم البلاد، ومنهم خيران ملك المريّة وما يليها، وزهير ومجاهد ملكا مدينة دانية، ومظفّر ومبارك ملكا بلنسية، وملك لبيب ما بعدهما. ولمّا كثرت ملوك الطوائف اختلفت الكلمة، وتباينت الآراء، وانشقّت العصا، فصار أهل الدّين في أيدي عدوهم / قتلا ونهبا وأسرا، فاستولى الأدفونش على طليطلة أصل قاعدة الأندلس سنة ثمان وسبعين وأربعمائة (¬81)، وفي أخذها يقول أبو محمد عبد الله المعروف بابن العسال الطليطلي: [بسيط] حثوا رواحلكم يا أهل أندلس ... فما المقام بها الا من الغلط السلك ينثر من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثورا من الوسط ومن جاور الشرّ لا يأمن عواقبه ... كيف الحياة مع الحيات في سفط وصار الخبيث متحكّما على المسلمين، وصاروا يؤدون له الضّرائب، ثم ردّها عليهم طمعا في البلاد الأندلسية بأسرها، فاتّسع الخرق على الرّاقع ولم ينقطع أمل الطّامع إلى أن دخلها يوسف بن تاشفين رحمه الله تعالى. ¬

(¬79) معز الدولة ابن المعتصم بالله: أعمال الاعلام ص: 191. (¬80) يقصد الجزائر الشرقية بالاندلس جزائر البليار وأعمل الحيلة للخروج من جزيرة دانية من طريق البحر إلى أن ينزل بالجزائر حسب وصيّة والده، قال ابن الخطيب: «ونزل الجزائر على البخت وطائر اليمن إلى أن ملك بها وانقضت أيام بني صمادح»، أعمال الأعلام ص: 192. (¬81) 1085 - 1086 م.

المقالة السابعة في ذكر ملوك لمتونة وهم الملثمون بالعدوة والأندلس

المقالة السّابعة في ذكر ملوك لمتونة وهم الملثمون بالعدوة والأندلس بداية المرابطين: أصل هذه الطائفة أنهم قبيلة من حمير (¬1) بن سبأ، وهم أصحاب خيل وإبل وشاة، يسكنون الصّحارى الجنوبيّة، وينتقلون من ماء إلى ماء كالعرب، وبيوتهم من شعر ووبر، ويسمّون المرابطين لكثرة رباطهم، فكانوا بالصّحراء المجاورة للسودان، وكان الذي جمع أمرهم وقرّر قواعد الاسلام لديهم عبد الله بن ياسين (¬2) الفقيه، فهو الذي حرّضهم على القتال (¬3) وأطمعهم في البلاد، وقتل في حرب ابن حواط فقام مقامه (¬4) وعقد أمرهم يحيى بن عمر بن تلاككين (¬5) المدعو «بأمير الجّن». ¬

(¬1) الصحيح أنهم بربر من صنهاجة وأعقابهم موجودون إلى الآن، ويعرفون بالطوارق بالقاف المعقدة كالجيم المصرية، وفنّد ابن خلدون انتسابهم إلى حمير فقال: «وأما القول أيضا بأنهم من حمير من ولد النّعمان أو من مضر من ولد قيس بن عيلان فمنكر من القول وقد أبطله أمام النسّابين والعلماء أبو محمد بن حزم» كتاب العبر 6/ 190 - 191. (¬2) في الأصول: «عبد الله بن أنيس» وهو عبد الله بن ياسين بن مكو الجزولي، كتاب العبر 6/ 374. (¬3) أخذ ابن ياسين يعلم لمتونة أصول الدّين ويعلمهم القرآن: «واستصعبوا علمه وتركوا الأخذ عنه، فأعرض عنهم وترهّب، وتنسّك معه يحيى بن عمر من رؤساء لمتونة وأخوه أبو بكر» في رباط أقاموه في احدى جزر وادي النيجر أو السنغال، سماه ابن خلدون «بحر النيل» وانضم إليهم بعض الناس ولما كمل معهم ألف من الرجالات وجههم ابن ياسين نحو القيام «بالحق والدعاء إليه»، أنظر كتاب العبر 6/ 374 - 375. Ch. A. Julien : Histoire de l' Afrique du Nord,II, 78 - 79 . (¬4) ابن ياسين هو الذي جعل أمر العرب إلى الأمير يحيى بن عمر منذ قيام الدعوة المرابطية، العبر 6/ 375. (¬5) في كتاب العبر: «يحيى بن عمر بن تلاكاكين» 6/ 374.

ثم بعده صار الأمر إلى أخيه أبي بكر بن عمر، «وكان رجلا ساذجا خير الطّباع، مؤثرا لبلاده على بلاد المغرب، غير مائل إلى الرفاهية» (¬6). وفي / بعض التّواريخ كان أول مسير لمتونة من اليمن في زمن أبي بكر الصدّيق - رضي الله تعالى عنه - سيّرهم إلى جهة الشّام، ثم انتقلوا إلى مصر، ثم إلى المغرب مع موسى بن نصير، وأحبّوا الانفراد فدخلوا إلى الصّحراء واستوطنوها إلى سنة أربعين وأربعمائة (¬7). وكان من أمرهم أنهم ينتسبون إلى حمير، فلمّا كانت هذه السّنة توجه رجل منهم اسمه (يحيى بن ابراهيم) (¬8) من قبيلة جدالة إلى إفريقية طالبا الحجّ، فلمّا عاد استصحب معه فقيها من القيروان يقال له عبد الله بن ياسين (¬9) ليعلّم أهل تلك البلاد دين الاسلام، فانه لم يبق فيهم غير الشّهادتين والصّلاة في بعضهم، فتوجّه عبد الله مع يحيى (8) حتى أتيا قبيلة لمتونة وهي قبيلة يوسف بن تاشفين، فدعاهم إلى العمل بشرائع الاسلام فأجاب أكثرهم، وامتنع أقلّهم، فقال الفقيه للمجيبين: يجب عليكم قتال المخالفين فأقيموا لكم أميرا: فقالوا: أنت أميرنا، فامتنع الفقيه وقال ليحيى بن ابراهيم (¬10): أنت الأمير، فامتنع أيضا، ثم اتّفقا على يحيى (¬11) بن عمر رأس قبيلة لمتونة فعرضا عليه فقبل، وعقدت له البيعة وسمّاه الفقيه «أمير المسلمين» واجتمع إليه خلق كثير، وحرّضهم الفقيه على الجهاد وسمّاهم المرابطين (¬12)، فقتلوا المخالفين. ثم جرى بين المرابطين وبين أهل السوس قتال شديد، قتل فيه الفقيه، وكان برّ العدوة لقبيلة زناتة وكان أمراؤهم ضعافا، فخرج أبو بكر بن عمر من الصّحراء على أهل العدوة / في ثلاثين ألف جمل مسرّج، وكانوا مشهورين بالرّمي والطّعن، فلم تقاومهم زناتة، فأخذوا البلاد من أيديهم من باب تلمسان إلى ساحل البحر المحيط. وكان يوسف ¬

(¬6) الوفيات من ترجمة يوسف بن تاشفين 7/ 113. (¬7) في الأصول: «ثمان وأربعين وأربعمائة» والمثبت من المرجعين السابقين 1048 - 1049. (¬8) في الأصول: «جوهر» والمثبت من المرجعين السابقين. (¬9) أصله من سجلماسة، وقد انتدبه أبو عمران الفاسي شيخ المذهب المالكي بالقيروان بعد أن طلب منه يحيى بن ابراهيم أحدا يعلم قومه قضايا دينهم. العبر 6/ 373 - 374. (¬10) في الأصول: «جوهر». (¬11) في الأصول: «اتفقا على أبي بكر» والمثبت من كتاب العبر وغيره، اذ أن يحيى سبق أخاه أبو بكر في ذلك وتم ليحيى الأمر بعد وفاة يحيى بن ابراهيم وبعد أن صار للمرابطين بعض من قوة. (¬12) سموا كذلك لالتزامهم بالرباط الذي أقاموه في أول أمرهم.

يوسف ابن تاشفين وحروبه الموفقة في الأندلس

ابن تاشفين مقدّم جيش أبي بكر وكان خروجهم سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة (¬13)، ففتحوا سجلماسة بعد حصار ومقاتلة شديدة وحروب أجلت عن ظهورهم على زناتة. يوسف ابن تاشفين وحروبه الموفّقة في الأندلس: ثم خرج أبو بكر سنة أربع وخمسين وأربعمائة (¬14) «لأنه سمع أن عجوزا في بلاده ذهبت لها ناقة، فبكت وقالت: ضيّعنا أبو بكر بدخوله إلى بلاد المغرب، فحمله على ذلك أن استخلف على بلاد المغرب يوسف بن تاشفين ورجع هو إلى بلاده الجنوبية» (¬15) ومات في حرب السّودان. «وكان يوسف رجلا شجاعا عادلا مقداما [اختط بالمغرب مدينة مراكش] (¬16). فلمّا تمهّدت له البلاد تاقت نفسه إلى العبور إلى بلاد الأندلس، وكانت محصّنة بالبحر، فأنشأ شواني ومراكب وأراد العبور إليها، فلمّا علم ملوك الأندلس بما يرومه أعدّوا له عدّة من المراكب والمقاتلة وكرهوا إلمامه بجزيرتهم، إلاّ أنهم استهولوا جمعه واستفظعوا مدافعته وكرهوا أن يصبحوا بين عدوّين: الافرنج من شمالهم، والملثّمون من جنوبهم، وكانت الافرنج تشدّ وطأتها عليهم، إلاّ أن ملوك الأندلس كانت ترهب الافرنج باظهار موالاتهم لملك المغرب يوسف بن تاشفين، وكان له اسم كبير لنقله دولة زناتة وملك الغرب / إليه في أسرع وقت، وكان قد ظهر لأبطال الملثّمين في المعارك ضربات بالسّيوف تقدّ الفارس وطعنات تنظّم الكلى، فكان لهم بذلك ناموس ورعب في قلوب المنتدبين لقتالهم. وكان ملوك الأندلس يفيئون إلى ظلّ يوسف بن تاشفين ويحذّرونه على ملكهم مهما عبر إليهم وعاين بلادهم، فلمّا رأوا عزيمته متقدّمة على العبور أرسل بعضهم إلى بعض، وتكاتبوا ليستنجدوا آراءهم في أمره، وكان مفزعهم في ذلك إلى المعتمد بن عباد لكونه أشجع القوم وأكبرهم مملكة، فوقع اتّفاقهم على مكاتبته [وقد تحققوا أنه يقصدهم] (¬17) ¬

(¬13) 1061 م. (¬14) 1062 م. (¬15) الوفيات 7/ 113. (¬16) اضافة من الوفيات لأهمية الموضوع وتم ذلك في سنة 450 هـ - 1058 م، والمؤلف ينقل من وفيات الأعيان من ترجمة يوسف بن تاشفين بتصرف. (¬17) اضافة من الوفيات 7/ 114.

يسألونه الاعراض عنهم وأنهم تحت طاعته، فكتب عنهم كاتب من أهل الأندلس كتابا وهو: «أما بعد، فانك إن أعرضت عنّا نسبت إلى كرم ولم تنسب إلى عجز، وإن أجبنا داعيك نسبنا إلى عقل ولم ننسب إلى وهن، وقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا (¬18)، فاختر لنفسك أكرم نسبتيك (¬19)، فانك بالمحلّ الذي لا يجب (¬20) أن تسبق فيه إلى مكرمة، وان في استبقائك ذوي البيوتات ما شئت من دوام أمرك وثبوته والسلام». فلمّا جاء ذلك الكتاب مع تحف وهدايا - وكان يوسف لا يعرف اللّسان العربي، لكنّه كان يجيد فهم المقاصد، وكان له كاتب يعرف اللغة العربية والمرابطية - فقال له: أيها الملك، هذا كتاب من ملوك الأندلس يعظّمونك فيه ويعرفونك أنهم أهل دعوتك [وتحت] طاعتك، ويلتمسون منك / أن لا تجعلهم في منزلة الأعادي، فانهم مسلمون ومن ذوي البيوتات، فلا تغير لهم، وكفاهم ما وراءهم من الأعداء الكفّار، وبلدهم ضيّق لا يحتمل العساكر، فاعرض عنهم إعراضك عمّن أطاعك من أهل المغرب، فقال يوسف بن تاشفين لكاتبه: فما ترى أنت؟ فقال: أيّها الملك، اعلم أن تاج الملك وبهجته وشاهده الذي لا يردّ بابه خليق بما حصل في يده من الملك أن يعفو اذا استعفي وأن يهب اذا استوهب، وكلّما وهب جزيلا كان أعظم لقدره، [فاذا عظم قدره] (¬21) تأصل ملكه، واذا تأصّل ملكه تشرّف النّاس بطاعته، وإذا كانت طاعته شرفا جاءه النّاس ولم يقتحم (¬22) المشقّة إليهم، وكان وارث الملك من غير إهلاك آخرته، واعلم أن بعض الملوك الأكابر والحكماء البصراء بطريق تحصيل الملك، قال: من جاد ساد ومن ساد قاد ومن قاد ملك البلاد، فلمّا ألقى الكاتب هذا الكلام على يوسف بن تاشفين بلغته فهمه وعلم أنّه صحيح، فقال للكاتب: أجب القوم، واكتب بما يجب (¬23) في ذلك، واقرأ عليّ كتابك، فكتب الكاتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من يوسف بن تاشفين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحيّة من سالمكم (¬24)، وسلم إليكم، وحكّمه التأييد ¬

(¬18) في الأصول: «نسبتنا» والمثبت من الوفيات. (¬19) في الأصول: «نسبتك» والمثبت من الوفيات. (¬20) في الأصول: «لا تحب». (¬21) اضافة من الوفيات. (¬22) في الوفيات: «يتجشم». (¬23) في الأصول: «تحب» والمثبت من الوفيات. (¬24) في الأصول: «من سالم».

والنّصر فيما حكم عليكم، وانكم بما في أيديكم من الملك في أوسع اباحة، مخصصون منّا بأكرم إيثار وسماحة فاستديموا وفاءنا / بوفائكم، واستصلحوا إخاءنا باصلاح إخائكم، والله تعالى ولي (¬25) التوفيق لنا ولكم، والسلام». فلمّا فرغ من كتابه قرأه على يوسف بن تاشفين بلسانه فاستحسنه، وقرن به يوسف درقا لمطيّة ممّا لا يكون إلاّ في بلاده - واللّمطية بفتح اللام وسكون الميم بعدها طاء مهملة ثم ياء مشددة مثناة من تحت بعدها هاء ساكنة، نسبة إلى لمطة، وهي بليدة بالسوس الأقصى - (¬26)، وأنفذ ذلك إليهم. فلمّا وصل كتابه أحبوه وعظموه وفرحوا بولايته، وتقوت أنفسهم على دفع الافرنج، وأزمعوا إن رأوا من ملك الافرنج ما يريبهم أن يجيزوا إليه يوسف بن تاشفين، ويكونوا من أعوانه على ملك الافرنج، فتحصّل ليوسف برأي وزيره ما أراد من محبّة أهل الأندلس له، وكفاه الحرب لهم. ثم ان الادفونش (¬27) بن فرذلند (¬28) صاحب طليطلة قاعدة ملك الافرنج، أخذ يجوس خلال الدّيار ويفتتح الأندلس ويشترط على ملوكهم ويطلب البلاد منهم، خصوصا المعتمد بن عبّاد، فانه كان مقصودا، فنظر المعتمد في أمره فرأى أن الادفونش قد داخله طمع فيما يلي بلاده، فأجمع أمره على استدعاء يوسف بن تاشفين إلى العبور، على ما فيه من الخطر، وعلم أن مجاورة (¬29) يوسف عين الخسر مؤذنة بالبوار، وكان الافرنج والملثّمون ضدّين له، إلاّ أنه قال: إن دهينا من مداخلة الأضداد فأهون الأمرين أمر الملثّمين، ولئن يرعى أولادنا / جمالهم أحب إليهم من أن يرعوا خنازير الافرنج، ولم يزل هذا الرّأي نصب عينيه مهما اضطر إليه. وان الادفونش خرج في بعض السّنين يتخلل بعض بلاد الأندلس في جمع كثير من الافرنج فخافه ملوك الأندلس على البلاد، وأجفل أهل القرى والرساتيق من بين يديه ولجأوا إلى المعاقل، فكتب المعتمد بن عباد إلى يوسف بن تاشفين يقول له: إن كنت ¬

(¬25) في الأصول: «متولي». (¬26) بعدها في الوفيات: «بينهما وبين سجلماسة عشرون يوما، قاله ابن حوقل في كتاب «المسالك والممالك»: «وهي معدن الدرق اللمطية، ولا يوجد مثلها في الدنيا على ما يقال» 7/ 115. (¬27) الفونسو السادس بن فرديناند ملك قشتالة أكبر ممالك اسبانيا النصرانية في ذلك العهد. (¬28) في الأصول: «فرند» والمثبت من الوفيات وهو فرديناند الأول كما أشرنا. (¬29) في الوفيات: «وعلم أن مجاورة غير الجنس مؤذنة بالبوار» 7/ 115.

مؤثرا للجهاد فهذا أوانه، فقد خرج الأذفونش إلى البلاد، فاسرع في العبور إليه، ونحن معاشر أهل الجزيرة بين يديك، وكان يوسف بن تاشفين على أتمّ أهبة. وقيل أن الأدفونش كاتب أيضا يوسف (¬30) يتهدده، وصورة كتابه (¬31): باسمك اللهم فاطر السموات والأرض، وصلى الله على السيّد المسيح روح الله وكلمته الرسول الفصيح، أما بعد فانه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب، ولا على ذي عقل لازب، أنك أمير الملّة الحنيفية، كما أني أمير الملّة النّصرانية، وقد علمت ما عليه أمراء الأندلس من التّخاذل والتّواكل واهمال الرّعية، وإخلادهم إلى الرّاحة والامنية (¬32)، وأنا أسومهم بحكم القهر وجلاء (¬33) الدّيار، وأسبي الذراري وأمثّل بالرجال، ولا عذر لك في التّخلّف عن نصرهم اذا أمكنتك يد القدرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى فرض عليكم (¬34) قتال عشرة منّا بواحد منكم، «فالآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا» (¬35)، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منّا، لا تستطيعون / دفاعا ولا تملكون امتناعا، وقد حكي [لي] عنك أنك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتماطل نفسك عاما بعد عام، ثم تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى، فلا أدري أكان الجبن أبطأ بك أم التّكذيب بما وعدك ربّك، ثم قيل لي انك لا تجد إلى جواز البحر سبيلا لعلّة لا تسوغ لك التّقحم معها (¬36)، فأنا أقول لك ما فيه الرّاحة لك، وأعتذر لك وعنك [على] أن تفي (¬37) بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرّهان (¬38)، وترسل إليّ جملة من عبيدك ¬

(¬30) في الوفيات 5/ 6، الرسالة موجهة إلى الأمير يعقوب بن عبد المؤمن الموحّدي الملقب «بالمنصور» ونقلها ابن خلكان عن البياسي وعلق عليها بقوله: «وذكر البيّاسي بعد هذا ما يدل على أنه نقلها من خط ابن الصّيرفي الكاتب المصري فان كان كذلك فما يمكن أن تكون هذه الرسالة إلى يعقوب بن يوسف، لان ابن الصّيرفي متقدم التاريخ على زمان يعقوب بكثير، والله أعلم» الوفيات 7/ 7، وقد يكون المؤلف اعتمد على تعليق ابن خلكان، واجتهد فيما ذهب إليه. (¬31) «من انشاء وزير له يعرف بابن الفخار» الوفيات 7/ 6. (¬32) زائدة عن الوفيات. (¬33) في الأصول: «خلال» والمثبت من الوفيات 7/ 6. (¬34) كذا في الوفيات وبعدها في ط: «في كتابكم». (¬35) اقتباس من سورة الأنفال: 66. (¬36) في الأصول: «التهجم» والمثبت من الوفيات. (¬37) في الأصول: «ان نفسي». (¬38) في الأصول: «الرهائن».

بالمراكب والشواني والطرائد والمسطّحات، وأجوز بجملتي إليك، وأقاتلك في أعزّ الأمكنة لديك (¬39) فان كانت لك فغنيمة كبيرة جلبت إليك، وهديّة عظيمة مثلت بين يديك، وان كانت لي كانت يدي العليا عليك، واستحقيت امارة الملّتين والحكم على البرّين، والله يوفق للسعادة ويسهّل (¬40) الارادة، لا ربّ غيره ولا خير إلاّ خيره. فلمّا وصل كتابه إلى الأمير يوسف (¬41) مزّقه وكتب على ظهر قطعة منه {اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ} (¬42) الجواب ما ترى لا ما تسمع (¬43). [طويل] ولا كتب الا المشرفية عنده ... ولا رسل الا الخميس العرمرم (¬44) فلمّا وقف (¬45) عليه الأذفونش ارتاع لذلك وقال هذا رجل حازم. «فشرع (¬46) يوسف في إجازة عساكره، فلمّا أبصر ملوك الأندلس عبور أهل المغرب يطلبون الجهاد، وكانوا قد وعدوا من أنفسهم بالمساعدة، اعتدوا أيضا للخروج، فلمّا رأى الأذفونش / اجتماع العزائم على مناجزته علم أنه عام نطاح، فاستنفر الافرنجة للخروج فخرجوا في عدد لا يحصيه إلاّ الله تعالى. ولم تزل الجموع تتألف وتتدارك إلى أن امتلأت جزيرة الأندلس خيلا ورجالا من الفريقين، كلّ أناس قد التفّوا على ملكهم. فلمّا عبرت جيوش يوسف بن تاشفين عبر في آخرها وأمر بعبور الجمال، فعبر منها ما أغصّ الجزيرة وارتفع رغاؤها إلى عنان السماء، ولم يكن أهل الجزيرة رأوا جملا (¬47) قط، ولا كانت خيلهم رأت صورها ولا سمعت أصواتها، فكانت تذعر منها وتقلق، وكان ليوسف بن تاشفين في عبورها رأي مصيب، فكان يحدق بها معسكره، وكان يحضرها الحرب، وكانت خيل الافرنج تحجم عنها. ¬

(¬39) في الأصول: «عليك». (¬40) في الأصول: «ويسعد». (¬41) الوفيات: «يعقوب»، اذ أن الرسالة في الوفيات موجهة إلى يعقوب لا إلى يوسف بن تاشفين. (¬42) سورة النمل: 37. (¬43) كذا في ط والوفيات وبعدها في ش: «وسيعلم لمن عقبى الدار». (¬44) البيت للمتنبي. (¬45) الوفيات 7/ 7. (¬46) يرجع للنقل من ترجمة يوسف بن تاشفين بالوفيات حيث تركها قبل تقديم رسالة الأذفونش 7/ 116. (¬47) في الأصول: «جمالا» والمثبت من نفس المرجع.

فلمّا تكاملت العساكر بالجزيرة قصدت الأذفونش وكان نازلا بمكان أفيح من الأرض يسمّى الزلاّقة بالقرب من بطليوس، بين المكانين أربع فراسخ، وقدم يوسف بين يدي حربه للأذفونش كتابا على مقتضى السّنّة يعرض عليه الدّخول في الاسلام أو الحرب أو الجزية، ومن فصول كتابه: وبلغنا يا أذفونش أنّك دعوت إلى الاجتماع بك، وتمنّيت أن يكون لك فلك تعبر البحر عليها إلينا، فقد أجزناه إليك، وجمع الله في هذه العرصة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك {وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ} (¬48) فلمّا سمع الأذفونش ما كتب إليه جاش [بحر] غيظه وزاد طغيانه وأقسم أنه لا يبرح من موضعه حتى يلقاه. ثم أن يوسف / ومن معه قصدوا الزلاّقة، فلمّا وافاها المسلمون نزلوا تجاه الافرنج بها، فاختار المعتمد بن عباد أن يكون هو المصادم لهم أوّلا، وأن يكون يوسف بن تاشفين اذا انهزم المعتمد بعسكره بين أيديهم وتبعوه، يميل عليهم بعساكره، وتتألّف معه عساكر الأندلس، فلمّا عزموا على ذلك وفعلوه خذل الله الافرنج وخالطتهم عساكر المسلمين واستمرّ القتل فيهم، فلم يفلت منهم غير الأذفونش في دون الثلاثين من أصحابه، فلحق ببلده على أسوء حال، فغنم المسلمون من خيله وأسلحته وأثاثه ما ملأ أيديهم خيرا. وكانت هذه الوقعة يوم الجمعة الخامس عشر من رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة (¬49)، وقيل في شهر رمضان في العشر الأواخر (¬50) منه من تلك السّنة، ونقل ابن خلكان (¬51) عن البيّاسي أنه قال: كان حلول العساكر الاسلاميّة بالجزيرة الخضراء في المحرم سنة تسع وسبعين وأربعمائة (¬52) فحكى أن موضع المعترك على اتّساعه ما كان فيه موضع قدم الا على جسد أو دم، وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام حتى جمعت الغنائم، فلمّا حصلت عفّ يوسف بن تاشفين عنها وآثر بها ملوك الاندلس، وعرّفهم أنه ما كان مقصده الاّ الغزو، لا النّهب، فلمّا رأت ملوك الأندلس إيثار يوسف بن تاشفين لهم بالغنائم استكرموه وأحبّوه وشكروا له. ¬

(¬48) سورة غافر: آخر الآية 50. (¬49) 26 أكتوبر 1086 م. (¬50) في الأصول: «الأول» والمثبت من الوفيات 7/ 117. (¬51) الوفيات 7/ 117. (¬52) افريل 1086 م.

ثمّ أن يوسف أزمع على الرجوع إلى بلاده، وكان عند قصده ملاقاة الأذفونش تحرّى المسير / بالعراء (¬53)، من غير أن يمرّ بمدينة أو رستاق حتى نزل الزلاّقة تجاه الأذفونش، وهناك اجتمع بعساكر الأندلس. وذكر أبو الحجاج يوسف بن محمّد البيّاسي في «كتاب تذكير العاقل وتنبيه الغافل» أن إبن تاشفين نزل على أقلّ من فرسخ من عسكر العدو في يوم الأربعاء وكان الموعد في المناجزة يوم السبت الآتي فغدر الأذفونش ومكر، فلمّا كان سحر يوم الجمعة منتصف رجب من العام، أقبلت طلائع ابن عباد والرّوم في آثارها والنّاس على طمأنينة، فبادر ابن عباد للركوب، وانبث الخبر في العساكر فماجت بأهلها، ووقع البهت (¬54) ورجفت الأرض، وصارت النّاس فوضى (¬55) على غير تعبئة ولا أهبة، ودهمتهم خيول العدو، فغمرت ابن عباد وحطّمت ما تعرض لها، وتركت الأرض حصيدا خلفها، وصرع ابن عباد وأصابه جرح أسوأه وفرّ (¬56) رؤساء الأندلس وأسلموا محلاتهم، وظنّوا أنها وهنة لا ترقع ونازلة لا تدفع، وظنّ الأذفونش أن أمير المسلمين في المنهزمين ولم يعلم أن العاقبة للمتّقين، فركب أمير المسلمين وأحدق به أنجاد (¬57) خيله ورجاله من صنهاجة ورؤساء القبائل، وقصدوا إلى محلّة الأذفونش ودخلوها وقتلوا حاميتها، فضربت الطّبول واهتزّت الأرض وتجاوبت الآفاق وتراجع الرّوم إلى محلاّتهم بعد أن علموا أن أمير المسلمين سالم فقصدوا أمير المسلمين فأفرج لهم عنها، ثم كرّ فأفرجهم منها ثمّ كرّوا عليه / فأفرج لهم عنها، ولم تزل الكرات تتوالى بينهم إلى أن أمر أمير المسلمين حشمه السّودان فترجل منهم زهاء أربعة آلاف، ودخلوا المعترك بدرق اللّمط وسيوف الهند ومزاريق الزان فطعنوا الخيل فرمحت بفرسانها وأجمحت عن أقرانها (¬58)، وتلاحق الأذفونش بأسود (¬59) يقذف مزاريقه، فأهوى ليضربه بالسيف، فلصق به الأسود وقبض على أعنته وانتضى خنجرا كان متمنطقا به، فأثبته في فخذه فهتك حلق درعه وشكّ فخذه مع بداد سرجه، وكان وقت الزّوال من ذلك اليوم، فهبّت ريح النّصر وأنزل الله ¬

(¬53) في الأصول: «الغدات» والمثبت من الوفيات 7/ 117. (¬54) في الأصول: «النهب» والمثبت من الوفيات 7/ 117. (¬55) في الأصول: «ترمي». (¬56) في الأصول: «وبعضا». (¬57) في ش: «أجناد». (¬58) كذا في ط والوفيات وفي ش: «أقواتها». (¬59) كذا في ط والوفيات 7/ 118، وفي ش: «السود».

سكينته على المسلمين ونصر دينه، وصدقوا الحملة على الأذفونش وأصحابه، وأخرجوهم عن محلّتهم فولوا ظهورهم، وأعطوا أعناقهم، والسيوف تصفعهم إلى أن لحقوا بربوة فلجأوا إليها واعتصموا بها، وأحدقت بهم الخيل، فلمّا أظلم اللّيل انساب الاذفونش وأصحابه من الرّبوة، وأفلتوا بعدما نشبت فيهم أظفار المنيّة، واستولى المسلمون على ما كان في محلّتهم من الأثاث والآنية والمضارب والأسلحة، وأمر ابن عباد بضمّ رؤوس القتلى من الرّوم فنشر منها كالتلّ العظيم» (¬60). قال ابن أبي الهيجاء: «جمعت رؤوس القتلى فكانت عشرين ألف رأس، فبنوها أربع منائر وأذن المسلمون عليها»، ثم كتب (¬61) ابن عباد إلى ولده الرّشيد كتابا وأطار الحمام به في يوم السبت سادس عشر المحرم يخبره بالنّصر. وقد روي أيضا / أن أمير المسلمين طلب من أهل البلاد المعونة على ما هو بصدده، فوصل إلى المريّة كتابه في هذا المعنى، وذكر فيه أن جماعة أفتوه بجواز طلب ذلك اقتداء بعمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - فقال أهل المريّة لقاضي بلدهم وهو أبو عبد الله بن الفراء (¬62) أن يكتب جوابه، وكان القاضي من أهل الدّين والورع على ما ينبغي، فكتب إليه: أما بعد ما ذكره أمير المسلمين من اقتضاء المعونة [وتأخري عن ذلك] (¬63) وأن أبا الوليد الباجي وجميع القضاة والفقهاء بالعدوة والأندلس أفتوا بأن عمر ابن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - اقتضاها، وكان صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وضجيعه في قبره ولا يشكّ في عدله، فليس أمير المسلمين [بصاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا بضجيعه في قبره ولا] (¬64) ممّن لا يشكّ في عدله، فان كان الفقهاء والقضاة أنزلوك هذه المنزلة في العدل فالله سائلهم عن تقلّدهم فيك، وما اقتضاها عمر حتى دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحلف أن ليس عنده درهم واحد في بيت المال ينفقه عليهم، فلتدخل أنت المسجد الجامع هناك بحضرة أهل العلم (¬65) وتحلف أن ليس عندك درهم واحد في بيت مال المسلمين، وحينئذ تستوجب ذلك، والسلام» (¬66). ¬

(¬60) ابن خلكان، وفيات الأعيان 7/ 116 - 118. (¬61) يرجع إلى النقل من الوفيات 7/ 118. (¬62) في الأصول: «البراء» والمثبت من الوفيات 7/ 119. (¬63) اضافة من الوفيات. (¬64) اضافة من الوفيات. (¬65) في الأصول: «المسلمين». (¬66) الوفيات 7/ 119.

ولمّا قضى أمير المسلمين من هذه الوقعة ما قضى أمر أن تشنّ الغارات على بلاد الافرنج، وأمّر عليهم سير (¬67) بن أبي بكر، وطلب الرجوع في طريقه، فتقدم (¬68) له ابن عباد / فعرج به إلى بلاده وسأله أن ينزل عنده، فأجابه يوسف إلى ذلك. فلمّا انتهى إلى اشبيلية مدينة المعتمد، وكانت من أجمل المدن منظرا، ونظر إلى موضعها والى نهر عظيم [مستبحر] (¬69) تجرى فيه السفن بالبضائع جالبة من برّ المغرب وحاملة إليه، في غربيه رستاق عظيم مسيرة عشرين فرسخا يشتمل على آلاف من الضّياع كلّها تين وعنب وزيتون، وهذا الموضع هو المسمّى شرف اشبيلية وتمير بلاد المغرب كلّها من هذه الأصناف، وفي جانب المدينة قصور المعتمد وأبيه المعتضد في غاية الحسن والبهاء، وفيها أنواع ما يحتاج إليه من المطعوم والمشروب والملبوس والمفروش وغير ذلك، فأنزل المعتمد يوسف بن تاشفين [في أحدها] (¬70) ولم يزل أصحابه (¬71) ينبهونه على تأمّل تلك الحال وما هو عليه من النّعمة، ويغرونه (¬72) باتّخاذ مثلها لنفسه ويقولون [له]: إن فائدة الملك قطع العيش فيه بالتّنعّم واللّذة كما هو عليه المعتمد وأصحابه، وكان يوسف بن تاشفين مقتصدا في أموره غير متطاول ولا مبذّر، ولا متنوّق في صنوف (¬73) الملاذ بالأطعمة وغيرها، وكان قد ذهب صدر عمره في بلاده في شظف العيش، فأنكر على مغريه بذلك الاسراف، وقال: الذي يلوح من أمر هذا الرجل - يعني المعتمد - أنه مضيّع لما في يديه من الملك، لأن هذه الأموال التي تعينه في هذه الأحوال لا بدّ أن يكون لها أرباب لا يمكن أخذ هذا القدر منهم على وجه العدل / أبدا فأخذه بالظّلم وأخرجه من هذه النزهات وهذا من أفحش الاستهتار، ومن كانت همّته في هذا الحدّ (من الاسراف فيما لا يغرو إلاّ جوفه) (¬74) فمتى يستجدّ همة في حفظ بلاده وضبطها وحفظ رعيّته والتوفير على مصالحها. ¬

(¬67) في الأصول: «سيرن» والمثبت من الوفيات 7/ 119 وكتاب العبر 6/ 385. (¬68) في الوفيات «وتكرم». (¬69) اضافة من الوفيات. (¬70) اضافة من الوفيات. (¬71) أي أصحاب يوسف بن تاشفين. (¬72) كذا في ط والوفيات، وفي ش «مغيرونه». (¬73) في الأصول: «أصناف» والمثبت من الوفيات، و «صنوف» أدل على المقصود من أصناف الذي هو جمع قلة. (¬74) في الوفيات: «من التصرف فيما لا يعدو إلاّ جوفين».

ثمّ أن يوسف بن تاشفين سأل عن أحوال المعتمد في لذّاته هل تختلف عمّا هي عليه في بعض الأوقات؟ فقيل له: بل كلّ زمانه هكذا، فقال: أفكلّ (¬75) أصحابه وأنصاره على أعدائه ومنجديه على الملك ينال حظا من ذلك؟ فقالوا: لا، فقال: فكيف ترون رضاهم عنه؟ قالوا: لا رضا لهم عنه، فأطرق يوسف [وسكت] (¬76). وأقام على تلك الحال عند المعتمد أيّاما. وفي بعض تلك الأيام استأذن رجل على المعتمد، فدخل وهو ذو هيئة رثة، وكان من أهل البصائر، فلمّا دخل عليه قال [له]: أصلحك الله أيها الملك، إن من أوجب الواجبات شكر النّعمة، وإن من شكر النّعمة اهداء النّصائح، واني رجل من رعيّتك، حالي في دولتك إلى الاختلال أقرب منها إلى الاعتدال، لكنني ملتزم لك من النّصيحة ما يستوجبه الملك على رعيّته، فمن ذلك خبر (¬77) وقع في أذني من أصحاب ضيفك هذا يوسف بن تاشفين ما يدلّ على أنهم يرون أنفسهم وملكهم أحق بهذه النّعمة منك، وقد رأيت رأيا فان آثرت الاصغاء إليه قلته، قال المعتمد: قله، قال: رأيت أن هذا الرّجل الذي أطلعته على ملكك رجل مستأسد على الملوك، قد حطّم ببر العدوة زناتة /، وأخذ الملك من أيديهم ولم يبق على أحد منهم، ولا يؤمن أن يطمح إلى الطّماعية في ملك جزيرة الأندلس كلّها لما قد عاينه من لذّات عيشك، وانه لمتخيّل في مثل حالك سائر ملوك الأندلس، وأن له من الولد والأقارب ممّن يؤثر مسرّاتهم ويود له الحلول فيما أنت فيه من خصب الجنات، وقد أودى الأذفونش وجيشه واستأصل شأفتهم، فقد كان لك منه أقوى عضد وأوقى مجن (¬78) وبعد فان فات الأمر في الأذفونش فلا بدّ أن تقبل الحزم فيما هو ممكن اليوم، قال المعتمد: وما هو الحزم اليوم؟ قال: أن تجمع أمرك على قبض ضيفك هذا واعتقاله (¬79) في قصرك، وتجزم أنك لا تطلقه (¬80) حتى يأمر كلّ من هو في جزيرة الأندلس من عسكره أن يرجع من حيث جاء حتى لا يبقى منهم في الجزيرة ظفر واحد، ثم تتفق أنت وملوك الجزيرة على حراسة هذا البحر من سفينة تجري فيه بغير ¬

(¬75) في الأصول: «وكل». (¬76) اضافة من الوفيات 7/ 120. (¬77) في الأصول: «حين». (¬78) كذا في ط والوفيات، في ش: «محن». (¬79) في الأصول: «واعقالك له» والمثبت من الوفيات. (¬80) كذا في ط والوفيات، وفي ش: «يطلقه».

إذن (¬81)، ثمّ بعد ذلك تستحلفه بأغلظ الأيمان أن لا يضمر في نفسه عودا إلى هذه الجزيرة الاّ باتفاق منكم ومنه، وتأخذ على ذلك رهائن، فانه يعطيك من ذلك ما تشاء، فنفسه أعزّ عليه من جميع ما تلتمس (¬82) [منه] فعند ذلك يقنع هذا الرجل ببلاده التي لا تصلح إلاّ له، وتكون قد استرحت منه بعد ما استرحت من الأذفونش، وتقيم في موضعك على خير حال، ويرتفع ذكرك عند ملوك الجزيرة، ويتّسع ملكك وتنسب بهذا الاتفاق لسعادة وحزم، / ثم اعمل بعد هذا ما يقتضيه حزمك في مجاورة (¬83) من عاملته هذه المعاملة، واعلم أنه قد تهيأ لك من هذا أمر سماوي تتفانى الأمم وتجري بحور الدّم دون حصول مثله. فلمّا سمع المعتمد كلام الرّجل استصوبه وجعل يفكر في انتهاز الفرصة. وكان للمعتمد ندماء قد انهمكوا معه في اللّذات، فقال أحدهم لهذا الرّجل النّاصح: ما كان المعتمد على الله، وهو إمام [أهل] المكرمات ممّن يعامل بالحيف ويغدر بالضيف، فقال الرّجل: الغدر أخذ الحق من يد صاحبه لا دفع الرجل عن نفسه المحذور اذا ضاق به، فقال ذلك النّديم: لضيم مع وفاء خير من حزم مع جفاء، ثمّ أن ذلك النّاصح استدرك الأمر فتلافاه، فشكر [له] المعتمد ووصله بصلة حسنة، وانصرف. واتّصل الخبر بيوسف فأصبح غاديا، فقدم له المعتمد الهدايا السّنيّة والتحف الفاخرة فقبلها، ثم رحل فعبر من الجزيرة الخضراء إلى سبتة. وأقام عسكره بجزيرة الأندلس ريثما يستريح ثم تتبّع آثار الأذفونش فتوغّل في بلاده، ولمّا رجع الأذفونش إلى موضعه سأل عن أصحابه وشجعانه وأبطال عسكره فوجد أكثرهم قد قتلوا، ولم يسمع إلاّ نوح الثكالى (¬84) عليهم، فلم يأكل ولم يشرب حتى مات همّا وغمّا، ولم يخلّف إلاّ بنتا جعل الأمر إليها، فتحصّنت بمدينة طليطلة. وأما عسكر ابن تاشفين فانهم في غاراتهم هذه كسبوا من الغنائم / ما لا يحد ولا يحصى ولا يوصف وأنفذوا ذلك إلى برّ العدوة، واستأذن سير (¬85) بن أبي بكر الأمير ¬

(¬81) في الوفيات: «بغزاة له». (¬82) في الأصول: «يلتمس» والمثبت من الوفيات 7/ 121. (¬83) في الوفيات: «محاورة». (¬84) في الأصول: «الثكلى» والمثبت من الوفيات 7/ 122. (¬85) في الأصول: «سيرن» والمثبت من الوفيات 7/ 119 وكتاب العبر 7/ 385 وكتبها المؤلف «سيرين» في بقية نصه وأصلحناها على اساس ما ذكرنا.

يوسف بن تاشفين في المقام بجزيرة الأندلس وأعلمه أنه قد افتتح معاقل في الثّغور ورتّب فيها مستحفظين ورجالا يسكنون فيها، وأنّه لا يستقيم لهذه الجيوش أن تقيم بهذه الثّغور في ضنك من العيش تصابح العدو وتماسيه، وتحضى ملوك الأندلس من الأرياف برغد العيش فكتب إليه ابن تاشفين [يأمره] باخراج ملوك الأندلس من بلادهم والحاقهم بالعدوة، فمن استعصى عليه منهم قاتله ولم ينفس عليه حتى يخرجه، وليبدأ منهم بمجاوري الثغور، ولا يتعرّض للمعتمد بن عباد ما لم يستول على البلاد، ثم يولي تلك البلاد أمراء عسكره وأكابرهم، فابتدأ سير بن أبي بكر بملوك بني هود من ملوك الأندلس يستنزلهم من معاقلهم وهي روطة بضمّ الراء وسكون الواو ثم طاء مهملة بعدها تأنيث قلعة منيعة من عاصمات الذرى، فلم يقدر عليها فرحل عنها ثم جنّد أجنادا على صور الافرنج وأمرهم أن يقصدوا هذه القلعة مغيرين عليها، ويكمن (¬86) هو وأصحابه بالقرب منها، ففعلوا ذلك فرآهم صاحب القلعة فاستضعفهم ونزل في طلبهم، فخرج سير بن أبي بكر فقبض عليه وسلّم القلعة، ثم نازل بني صمادح بالمريّة (¬87)، وكانت قلعتهم حصينة إلاّ أنهم لم يكن عندهم أجناد / من الرجال فزحفوا عليهم (¬88) وغلبوهم، فلما رأى المعتصم ابن صمادح أنه مغلوب دخل قصره فأدركه أسف فقضي عليه، ومات من ليلته، فاشتغل أهله به، وسلّموا المدينة، ثم نازلوا المتوكّل عمر بن الأفطس ببطليوس، وكان رجلا شجاعا عظيم القدر، كبير البيت، كان أبوه المظفّر بالله أبو بكر محمد بن عبد الله بن مسلمة التّجيبي من فحول العلماء، وكان ملكا له تصانيف من أعظمها وأشهرها الكتاب المنسوب إليه وهو «المظفري» في علم التاريخ، [وكانت] مدينة بطليوس من أجمل البلاد فلم يذعن ولا أقبل على غير المدافعة والقتال إلى أن خامر (¬89) عليه أصحابه فقبض عليه باليد وعلى ولدين له، فقتلوهم صبرا، وحمل أولاده الأصاغر إلى مراكش، وسائر ملوك الجزيرة سلموا وتحولوا إلى برّ العدوة إلاّ ما كان من المعتمد بن عباد، فان سير بن أبي بكر لمّا فرغ من ملوك الجزيرة، كتب إلى يوسف بن تاشفين أنه لم يبق بالجزيرة من ملوكها غير المعتمد بن عباد، فارسم في أمره بما تراه، فأمره بقصده وأن يعرض عليه ¬

(¬86) في الأصول: «وكمن». (¬87) كذا في ط والوفيات وأعمال الأعلام ص: 191، وفي ش: «المرسية». (¬88) في الأصول: «لهم». (¬89) كذا في ط والوفيات، وفي ش: «خلص».

التّحول إلى برّ العدوة بأهله وماله، فان فعل ونعمت، وان (¬90) أبى فنازله فلمّا عرض عليه سير (91) بن أبي بكر لم يعطه جوابه، فنازله وحاصره أشهرا ثم دخل عليه البلد قهرا واستخرجه من قصره قسرا، فحمل إلى العدوة مقيّدا، فأنزل / بأغمات وأقام بها على أسوإ حال إلى أن مات، ولم يعتقل من ملوك الأندلس سواه، وتسلم سير (¬91) بن أبي بكر الجزيرة كلّها واستحوذ عليها» (¬92). (وقيل ان الأمير يوسف بن تاشفين عاد إلى الأندلس بعد غزوة الزلاّقة مرة أو مرتين (¬93)، وأنه أخذ البلدان بنفسه وأن سير (91) بن أبي بكر هو الذي استخرج ابن عباد آخر الأمر) (¬94). وفي سنة [أربع] وستين وأربعمائة (¬95) نزل يوسف على مدينة فاس، وكانت اذ ذاك من قواعد بلاد المغرب العظام، فضيّق على أهلها ثم أخذها فأقر العامة بها ونفى (¬96) البربر والجند، بعد أن حبس بعضهم وقتل بعضهم، فعند ذلك قوي شأنه، وتمكّن بالمغرب الأقصى والأدنى سلطانه، مع ما صار بيده من بلاد جزيرة الأندلس. وكان حازما سائسا للأمور ضابطا لمصالح مملكته، مؤثرا لأهل العلم والدّين كثير المشورة لهم، ويحكمهم في بلاده ويصدر عن آرائهم. قيل إن الامام حجّة الاسلام أبا حامد الغزالي - تغمّده الله برحمته - لمّا سمع ما هو عليه من الصّفات الجليلة وميله إلى [أهل] العلم عزم على التّوجه إليه، فوصل الاسكندرية وشرع في تجهيز ما يحتاج إليه، فوصله خبر وفاته، فرجع عن ذلك العزم. وكان يحب العفو والصّفح عن الذّنوب العظام، فمن ذلك أن ثلاثة أنفار اجتمعوا، فتمنّى أحدهم ألف دينار يتجر بها، وتمنّى الثّاني عملا يعمل فيه لأمير المسلمين، وتمنّى الثالث زوجة أمير المسلمين / يوسف وكان لها الحكم في بلاده، ¬

(¬90) ساقطة من «ش». (¬91) في الأصول: «سيرين» وأثبتناها كما سبق. (¬92) ابن خلكان: وفيات الأعيان، بتصرف 7/ 118 - 123. (¬93) دخل ابن تاشفين الأندلس أربع مرات والمرة الرابعة كانت سنة 497/ 1103 م راجع كتاب العبر لابن خلدون 7/ 386. (¬94) اضافة من المؤلف عما هو موجود بالوفيات. (¬95) 1071 - 1072 م وفي أعمال الاعلام «سنة أربع وثمانين وأربعمائة» / 1091 - 1092 م. وفي تاريخ شمال افريقيا (A. Julien,Histoire) ، أخذها سنة 1069 م.2/ 82. (¬96) في الأصول: «وبقى» والمثبت من الوفيات 7/ 124.

فأعطى متمني المال ألف دينار، واستعمل الثاني، وقال للذي تمنّى زوجته: يا جاهل، ما حملك على هذا الذي لا تصل إليه؟ ثم أرسله إلى زوجته فتركته في خيمة ثلاثة أيام تحمل إليه كلّ يوم طعاما واحدا من جنس واحد، ثم أحضرته وقالت له: ما أكلت في هذه الثلاثة أيام؟ قال: طعاما واحدا، قالت: كلّ النساء شيء واحد، وأمرت له بمال وكسوة وأطلقته» (¬97). «وبنى مدينة مراكش في سنة خمس وستين وأربعمائة (¬98)، وكان موضعها مزرعة لأهل نفّيس - بفتح النّون وتشديد الفاء وسكون الياء المثناة - تحت جبل مطل على مرّاكش، وكانت تلك الأرض مأوى اللّصوص فكان المارّون فيها يقولون لرفقائهم مرّاكش، ومعنى هذه الكلمة بلغة المصامدة أمش مسرعا، فعرف الموضع بها. وسميّت المدينة باسم ذلك الموضع، وذلك لأنه لمّا توطنت نفسه على الملك وأطاعته قبائل البربر وذهب من يخالفه من زناتة ولمتونة سمت همّته إلى بناء هذه المدينة، وكان في موضعها قرية صغيرة في غابة من الشّجر، وبها قوم من البربر» (¬99). «ويقال إن الأرض كانت لعجوز من المصامدة فاختط يوسف هذه المدينة» (¬100) «وبنى بها القصور والمساكن الأنيقة، وهي في مرج فسيح» (¬101)، وقيل إن شراءها عليه كان بسبعين / ألف درهم، وجعل دورها سبعة أميال، وأن ابنه عليّا هو الذي بنى سورها وسقايتها وجامعها وقصر إمارتها، وأن يوسف كان بنى مسجدها بالطوب. «ويوسف هو أول من تسمّى بأمير المسلمين، ولم يزل على حاله وعزّة سلطانه إلى أن توفي يوم الاثنين لثلاث خلون من المحرم سنة خمسمائة (¬102) وعاش تسعين سنة (¬103)، ملك منها مدّة خمسين سنة - رحمه الله تعالى - (¬104). ¬

(¬97) راجع ابن خلكان، وفيات الأعيان 7/ 125 نقلا عن تاريخ شيخه ابن الأثير، وانظر الكامل 10/ 156. (¬98) 1073 - 1074 م. (¬99) الوفيات: 7/ 124، وعندما نقل عن الادريسي أحداث تأسيس مراكش ذكر: «. . . استجدها يوسف بن تاشفين في صدر سنة سبعين وأربعمائة بعد أن اشترى أرضها من أهل أغمات». (¬100) الوفيات: 7/ 123. (¬101) الوفيات: 7/ 124. (¬102) في الأصول: «خمس وتسعين وأربعمائة» والمثبت من الوفيات 7/ 125 والكامل لابن الأثير.4 سبتمبر 1106 م. (¬103) كذا في ط والوفيات، وفي ش: «سبعين» وفي بعض الروايات: «عاش مائة سنة» انظر جوليان (Ch. A. Julien) تاريخ شمال افريقيا 2/ 86 (Histoire de l' Afrique du nord). (¬104) الوفيات 7/ 125.

نهاية المرابطين

نهاية المرابطين: ثم أفضى (¬105) الملك بعده لولده علي بن يوسف، فكان رجلا حليما وقورا منقادا للحق والعلماء، تجبى إليه الأموال من البلاد، لم يزعزعه عن سريره حادث قط، ولا طاف به مكروه، حتى غشيه محمد بن تومرت صاحب عبد المؤمن - الآتي قريبا إن شاء الله خبره - (¬106)، وكانت وفاة علي لسبع خلون من رجب سنة سبع وثلاثين وخمسمائة (¬107)، وكان موته عند خروج عبد المؤمن عليه قاصدا أخذ جهة البلاد المغربية (¬108) [ليأخذها] من علي بن يوسف، فكان مسير عبد المؤمن على طريق الجبال، فسير علي في حياته ولده تاشفين ليكون في مقابلة (¬109) عبد المؤمن، ومعه جيش فساروا في السهل وأقاموا على هذا مدة، فتوفي علي (بن يوسف) (¬110) بن تاشفين في أثنائها في التاريخ المذكور آنفا، فقدّم أصحابه ولده اسحاق بن علي بن تاشفين وجعلوه نائبا عن مرّاكش عن أخيه تاشفين، وكان اسحاق صبيّا، فظهر أمر عبد المؤمن ودانت له الجبال / وفيها غمارة وتادلة والمصامدة، وهم أمم لا تحصى، فخاف تاشفين بن علي واستشعر القهر، وتيقن زوال دولتهم، فأتى مدينة وهران، وهي على البحر وقصد أن يجعلها مقره، فان غلب عن (¬111) الأمر ركب منها في البحر إلى برّ الأندلس فيقيم بها كما أقامت بنو أميّة بالأندلس عند انقراض دولتهم بالشّام وبقيّة البلاد، وفي ظاهر وهران ربوة تسمى صلب الكلب، وبأعلاها رباط يأوي إليه المتعبّدون. وفي الليلة السابعة والعشرين من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة (¬112)، صعد تاشفين إلى ذلك الرّباط ليحضر الختم في جماعة يسيرة من خواصه، وكان عبد المؤمن بجمعه في تاجرة - وهي قرية صغيرة بساحل البحر من أعمال تلمسان، هي مولد عبد المؤمن، كما هو مقرر في ترجمته، واتّفق أنه أرسل منسرا (¬113) أي ¬

(¬105) يرجع إلى صفحة 123 من الوفيات. (¬106) في ط: «ذكره». (¬107) 26 جانفي 1043 م. (¬108) في الأصول: «القريبة» والمثبت من الوفيات 7/ 126. (¬109) كذا في ط والوفيات، وفي ش: «مقاتلة». (¬110) ساقطة من ش. (¬111) في الأصول «على». (¬112) 23 مارس 1145 م. (¬113) في الأصول: «مسيرا» والمثبت من الوفيات 7/ 126.

جمعا - إلى وهران، فوصلوها في السادس (¬114) والعشرين من شهر رمضان، ومقدمهم الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى صاحب المهدي، فكمنوا (¬115) عشيّة وأعلموا بانفراد تاشفين في ذلك الرّباط، فقصدوه وأحاطوا به، وأحرقوا بابه، فأيقن الذين فيه بالهلاك، فخرج تاشفين راكبا فرسه، وشدّ الركض عليه ليثب الفرس فوق النّار وينجو، فترامى الفرس بالرّوعة، ولم يملكه اللّجام حتى تردّى في جرف هناك إلى جهة البحر على حجارة في وعر، فتكسر / تاشفين وهلك في الوقت، وقتل الخواص الذين كانوا معه، وكان عسكره في ناحية أخرى ولا علم بما جرى في الليل. وجاء الخبر بذلك لعبد المؤمن، فوصل إلى وهران، وسمّي ذلك الموضع الذي فيه الرّباط «صلب الفتح»، من ذلك الوقت نزل عبد المؤمن من الجبل إلى السّهل، ثم توجّه إلى تلمسان، ثم توجّه إلى فاس فحاصرها، وأخذها في سنة أربعين وخمسمائة (¬116)، ثم قصد مرّاكش في سنة إحدى وأربعين (¬117) فحاصرها أحد عشر شهرا، وفيها اسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين، فأخذها، وقد بلغ القحط من أهلها الجهد، وأخرج إليه اسحاق بن علي ومعه سير بن الحاج (¬118)، وكان من الشجعان وخواص دولتهم، وكانا مكتوفين، واسحاق دون البلوغ، فعزم عبد المؤمن أن يعفو عن اسحاق لصغر سنّه فلم يوافقه خواصه، وكان لا يخالفهم، فخلى بينهم وبينهما فقتلوهما، ثم نزل عبد المؤمن في القصر، وذلك في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة (¬119)، وانقرضت من العدوة دولة بني تاشفين ملوك لمتونة الملثمين» (¬120). «وانما (¬121) سمّوا ملثّمين لأنهم قوم يتلثّمون ولا يكشفون وجوههم، وذلك سنّة لهم يتوارثونها خلفا عن سلف، وقيل سمّوا ملثّمين لأن حمير الذين هم أصلهم، كانت تتلثّم ¬

(¬114) في الأصول: «السابع» والمثبت من الوفيات 7/ 126. (¬115) في الأصول: «مكثوا». (¬116) 1145 - 1146 م. (¬117) 1146 - 1147 م. (¬118) في الأصول: «يسر بن الحجاج» والمثبت من الوفيات 7/ 127. (¬119) 1147 - 1148 م. (¬120) بنصه من وفيات الاعيان 7/ 126 - 127 في ترجمة يوسف بن تاشفين ما عدا الجملة الأخيرة فقد تصرف فيها المؤلف. (¬121) ينتقل إلى ص: 129 من الوفيات.

لشدّة الحرّ والبرد يفعله الخواص منهم، فكثر ذلك فيهم حتى صار يفعله عامتهم، وقيل سبب ذلك أن قوما من أعدائهم / كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابوا عن بيوتهم فيطرقون الحي فيأخذون المال والحريم، فأشار عليهم بعض مشايخهم أن يبعثوا النّساء في زيّ الرّجال، وأن يقعدوا هم في البيوت متلثّمين في زيّ النّساء، فاذا أتاهم العدوّ ظنوهم نساء فيخرجون عليهم، ففعلوا ذلك وثاروا عليهم بالسّيوف فقتلوهم، فمن ثمّ لازموا اللّثام»، وقيل غير ذلك، والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم لمراده، لا اله غيره، وقد يسمّون بالمرابطين لكثرة غزوهم ورباطهم.

المقالة الثامنة في ذكر دولة الموحدين وأمرائهم بالعدوة والأندلس وافريقية

المقالة الثّامنة في ذكر دولة الموحّدين وأمرائهم بالعدوة والأندلس وافريقية وفيها ثلاثة أبواب الباب الأول في أول ملوكها ومن بعده من الملوك المهدي بن تومرت: أقول: إن أول من قام بهذه الدّولة وثبّت هذه الدعوة محمد بن عبد الله بن عبد الرحمان بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان بن سفيان (¬1) بن صفوان بن جابر بن يحيى بن عطاء بن رباح بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن [بن الحسن] (¬2) بن علي بن أبي طالب (¬3)، «وقيل إنه محمد بن عبد الله بن تومرت» (¬4) وبقية النسبان ¬

(¬1) في الأصول وفي إحدى نسخ تاريخ الدولتين للزركشي محمد بن إبراهيم، نشر المكتبة العتيقة، تونس 1966، ط 2، تحقيق محمد ماضور: «شعبان» والمثبت من هذا المحقق اعتمادا على سياقة ابن خلدون. ص: 3 هامش 1، وفي الوفيات: «عدنان بن صفوان بن سفيان» 5/ 46. (¬2) اضافة من تاريخ الدولتين للزركشي، وهي ساقطة في بعض نسخ هذا الكتاب، نفس المرجع. (¬3) هذا النسب ينطبق مع النسب الوارد في تاريخ الدولتين وأورده ابن خلدون وعزاه لابن نخيل وأشار إلى الاضطراب فيه بنقل سلاسل أخرى بأسماء بربرية عن ابن رشيق وابن القطان وغيرهما من مؤرخي العرب كما نقل الخلاف في نفس النسب الطالبي وجعله من زعم المؤرخين على افتراض التحامه في هرغة من قبائل المصامدة المنحدر منها المهدي تاريخ الدولتين هامش 1 من صفحة 3، انظر ابن خلدون كتاب العبر 6/ 465 ويختلف ابن خلكان مع الزركشي وابن خلدون بعد الجد رباح، يقول ابن خلكان في الوفيات: «بن رباح بن يسار بن العباس بن محمد ابن الحسن بن علي بن أبي طالب» 5/ 46. (¬4) الوفيات 5/ 45.

الحسن، وهو المنعوت بالمهدي، مولده سنة ست وثمانين وأربعمائة (¬5)، وقيامه بالدّعوة سنة خمس عشرة وخمسمائة (¬6)، وساح بالمشرق مدّة ولقي أبا حامد الغزالي وأخذ عنه، وذكروا أن أبا حامد كان يتفرّس فيه، ومولده «عند ابن خلكان سنة أربع وثمانين (¬7)، وعند الغرناطي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، / وقرأ بقرطبة على القاضي ابن حمدون، ثم ارتحل إلى المهديّة فأخذ عن الامام المازري، ثم انتقل إلى الاسكندرية وهو ابن ثماني عشرة سنة فأخذ عن الامام أبي بكر الطرطوشي، ثم انتقل إلى بغداد فأخذ عن الامام الغزالي، ولمّا وصل كتاب الأحياء إلى المغرب أشار من أشار على الملك المتولي على لمتونة بتمزيقه فبلغ ذلك الغزالي فقال: اللهم مزّق ملكهم، فقال له [المهدي] على يدي يا سيدي؟ فقال له على يدك (¬8) فأكّدت هذه الدّعوة ما في علم المهدي من ذلك، فتوجه المهدي إلى المغرب بعد أن قام (¬9) بالمشرق خمسة أعوام» (¬10). وقال ابن خلكان (¬11): «وهو من جبال السّوس من أقصى بلاد المغرب، ونشأ هنالك، ثم رحل إلى المشرق طالبا للعلم، فانتهى إلى العراق، واجتمع بأبي حامد الغزالي، والكيا الهرّاسي (¬12)، والطّرطوشي وغيرهم، وحجّ وأقام بمكّة مدّة (¬13) وحصل طرفا صالحا من علم الشّريعة والحديث النبوي وأصول الفقه والدّين. وكان ورعا ناسكا متقشفا كثير الإطراق بسّاما في وجوه النّاس، مقبلا على العبادة، لا يصحبه من متاع الدّنيا إلاّ عصا وركوة، وكان شجاعا فصيحا (¬14) لا يتتعتع ¬

(¬5) 1093 م على رواية ابن الخطيب الأندلسي، وعند ابن خلكان سنة خمس وثمانين، وعند الغرناطي سنة احدى وسبعين، وعند ابن سعيد في البيان المغرب: «سنة احدى وتسعين» وناقشها محمد ماضور ورأى في التسعين تصحيفا عن السبعين لتقارب الحروف، انظر تاريخ الدولتين ص: 4 هامش 1 بها. (¬6) 1121 م الزركشي، تاريخ الدولتين ص: 6 وفي الوفيات «سنة أربع عشرة وخمسمائة» 5/ 53. (¬7) هكذا نقلها عن الزركشي، وفي الوفيات «سنة خمس وثمانين وأربعمائة» 5/ 53. والنص الذي يلي ناقله عن الزركشي أيضا. (¬8) في الأصول: «يديك» والمثبت من تاريخ الدولتين ص: 4. (¬9) كذا في ش وتاريخ الدولتين، وفي ط: «أقام». (¬10) انتهى النقل من الزركشي ص: 4. (¬11) 5/ 46. (¬12) في ش: «الهراشي» وفي ط: «الهواشي» والمثبت من الوفيات، 5/ 46. (¬13) في الوفيات: «مديدة». (¬14) «في لسان العربي والمغربي» الوفيات 5/ 53.

في الشّرع (¬15) ولا يقنع في أمر الله بغير اظهاره. وكان مطبوعا على الالتذاذ بذلك محتملا للأذى من الناس بسببه، وناله بمكّة شيء من المكروه بسبب ذلك، فخرج منها إلى مصر وبالغ في الانكار، فزيد (¬16) في أذاه، وطردته الدّولة، وكان إذا خاف من البطش وايقاع الفعل [به] خلط في كلامه فينسب إلى الجنون / فخرج من مصر إلى الاسكندرية، وركب البحر متوجّها إلى بلاده، وكان قد رأى في منامه وهو في بلاد المشرق كأنه شرب البحر جميعه كرّتين، فلمّا ركب في السّفينة شرع في تغيير المنكر على أهل السّفينة، وألزمهم باقامة الصّلاة وقراءة أحزاب من القرآن، ولم يزل كذلك حتى انتهى إلى المهدية (¬17)، فنزل بمسجد معلّق على الطريق (¬18) فجلس في طاق شارع إلى المحجة ينظر إلى المارّة فلا يرى منكرا من آلة الملاهي أو أواني الخمور إلاّ نزل عليها وكسّرها، فتسامع النّاس به في البلد، فجاءوا إليه، وقرأوا عليه كتبا من أصول الدّين، وبلغ خبره الأمير يحيى (بن تميم بن المعز بن باديس) (¬19) فاستدعاه مع جماعة من الفقهاء، فلمّا رأى سيمته وسمع كلامه أكرمه وأجله وسأله الدعاء، فقال له: أصلحك الله لرعيتك، ولم يقم بعد ذلك بالمهدية إلاّ أياما يسيرة، وقيل كان دخوله المهدية في مدة علي بن يحيى بن تميم بن المعز، ثم انتقل إلى بجاية فأقام بها مدة وهو على حاله بالانكار، فأخرج منها إلى بعض قراها واسمها ملاّلة، فوجد بها عبد المؤمن (¬20). وفي «كتاب المعرب (¬21) عن سيرة [ملوك] المغرب» أن محمد بن تومرت كان قد اطّلع على كتاب علوم يسمّى «الجفر» (المأثور عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -) (¬22) وأنه رأى فيه صفة رجل يظهر بالمغرب الأقصى ببلاد السوس (وهي بلاد المترجم) (¬23) من ذريّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، / يدعو إلى الله تعالى، يكون مقامه ومدفنه بموضع من المغرب يسمّى باسم هجاء حروفه (ت ي ن م ل) (وذلك لأن هذا الموضع بين ¬

(¬15) في الوفيات: «شديد الانكار على الناس فيما يخالف الشرع». (¬16) في الوفيات: «فزادوا». (¬17) الوفيات 5/ 46. (¬18) الوفيات 5/ 47. (¬19) زيادة من المؤلف عما هو موجود بالوفيات. (¬20) عبد المؤمن بن علي القيسي، الوفيات 5/ 47. (¬21) قال احسان عباس: «يتردد اسم هذا الكتاب في النسخ بين المعرب والمغرب»، الوفيات 5/ 47 هامش 8. (¬22) زيادة عما هو موجود بالوفيات. (¬23) توضيح من المؤلف وفي ط: «مترجم» وفي ش: «المتمزح».

قريتين اسم احداهما مل، واسم الثانية تين - الذي هو اسم الفاكهة) (¬24) ورأى فيه أيضا أن استقامة ذلك الأمر وتمكّنه يكون على يد رجل من أصحابه هجاء اسمه (ع ب د م وم ن) ويجاوز وقته المائة الخامسة للهجرة، فأوقع الله في نفسه أنه القائم بأوّل الأمر، وأن أوانه قد أزف، فكان محمد لا يمرّ بموضع إلاّ سأل عنه، ولا رأى أحدا إلاّ أخذ اسمه وتفقّد حليته، وكانت حلية عبد المؤمن معه، فبينما هو في الطريق رأى شابّا قد بلغ أشدّه على الصّفة التي معه، فقال له محمد بن تومرت: ما اسمك؟ فقال: عبد المؤمن، فرجع إليه بعد ما كان جاوزه وقال: الله أكبر، أنت بغيتي، فنظر في حليته فوافقت ما عنده، فقال له: من أين أنت؟ قال: من كومية، فقال: أين قصدك؟ قال: المشرق، فقال له: ما تبغي؟ قال: أطلب علما (¬25)، قال: وجدت علما وشرفا وذكرا، اصحبني تنله فوافقه على ذلك، فألقى إليه ابن تومرت أمره وأودعه سرّه» (¬26). قال ابن الخطيب (¬27) الأندلسي: وقالوا كان يزعم أنه مأمور بنوع من الوحي الالهامي، وينكر كتب الرأي والتقليد، وله باع في علم الكلام، وجرت عليه نزعة خارجية وكان ينتحل القضايا الاستقبالية، ويشير إلى الكوائن الآتية، ورتّب قومه ترتيبا غريبا فمنهم أهل الدّار، وأهل الجماعة، وأهل خمسين، وأهل سبعين، والطّلبة، والحفّاظ، وأهل / السّاقة، وأهل القبائل. فأهل الدّار للامتهان والخدمة، وأهل الجماعة للتفاوض والمشورة والمباهاة، وأهل خمسين وسبعين والطّلبة (¬28) لحمل العلم والتلقي، وسائر القبائل لمدافعة العدو، وكان يعلّمهم أوجه العادات (¬29)، وكان يأمرهم باتخاذ مرابط الخيل التي ينالون من فئ عدوّهم (¬30)، وأنه يعطي الرجل على قدر ما أعد من مرابطه (¬31) فكان ذلك (¬32)، ووافقت أيامه أيام المسترشد بن المستظهر بن القائم بن العادل» اهـ‍. ¬

(¬24) زيادة من المؤلف عما هو موجود بالوفيات للتوضيح. (¬25) في الوفيات: «علما وشرفا». (¬26) ابن خلكان، وفيات الأعيان: 5/ 48. (¬27) من الطبيعي أن النقل عن ابن الخطيب الأندلسي لا يكون في ابن خلكان ذكر ذلك لسان الدّين بن الخطيب في «رقم الحلل». أنظر الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى لأحمد بن خالد الناصري السّلاوي (1315/ 1896)، 2/ 86 الدار البيضاء 1964. (¬28) «والحفّاظ والطلبة». (¬29) أوجه العبادات والعادات. (¬30) «من عدوهم» بعدها. (¬31) المرابط. (¬32) المصدر السالف 2/ 81.

وكان حين خرج من ملالة ومعه عبد المؤمن لحق بونشريس (¬33) - بفتح الواو وسكون النون وفتح الشين المعجمة وكسر الراء وسكون المثناة التحتية ثم سين (¬34) معجمة - بليدة من أعمال بجاية، فصحبه من برابرها جملة هم أجلة أصحابه، ثم لحق بتلمسان وقد تسامع النّاس بخبره فرحل إلى فاس، ثم إلى مكناسة، ونهى فيها عن المنكر، فأوجعه الأشرار ضربا. ابن خلكان: (¬35) «كان ابن تومرت قد صحبه رجل يسمّى عبد الله الونشريسي (36) ففاوضه فيما عزم عليه من القيام، فوافقه على ذلك أتمّ موافقة، وكان الونشريسي (¬36) ممّن تهذّب وقرأ على الفقهاء، وكان جميلا فصيحا في لغة العرب وأهل المغرب، فتحدثا يوما في كيفية الوصول إلى الأمر المطلوب، فقال ابن تومرت لعبد الله: أرى أن تستر ما أنت عليه من العلم والفصاحة عن النّاس وتظهر العيّ (¬37) واللّكن والحصر والتّعريّ عن الفصاحة (¬38) ما تشتهر به عند الناس، ليظهر ما أنت عليه دفعة واحدة / وقت الحاجة إليه، فيكون كالمعجزة والكرامة فتصدّق بما تقوله، ففعل ذلك عبد الله. ثم ان محمد استدنى أشخاصا من أهل المغرب أجلادا في القوى الجسمانية أغمارا، وكان إلى الأغمار أميل من أولي الفطن والاستبصار، فاجتمع له منهم ستة سوى عبد الله الونشريسي (¬39) فتوجّهوا إلى مرّاكش وملكها يومئذ أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين، - المقدم الذكر - ملك الملثّمين، وكان علي ملكا عظيما حليما ورعا عادلا متواضعا وكان بحضرته رجل يقال له مالك بن وهيب (¬40) الأندلسي، قاضي مرّاكش، فشرع ابن تومرت في الإنكار على عادته، حتى أنكر على الملك وعلى أهل بيته (¬41). فبلغ ذلك الملك وأنه تحدث في تغيير الدّولة، فقال مالك بن وهيب للملك: نخاف من فتح باب يعسر علينا سدّه، والرأي أن تحضر هذا الشخص وأصحابه لتسمع كلامهم ¬

(¬33) في الأصول: «ونشريش» والمثبت من الوفيات 5/ 48 وتاريخ الدولتين ص: 5. (¬34) في الأصول: «شين». (¬35) الوفيات 5/ 48. (¬36) في الأصول: «الونشريشي». (¬37) كذا في ط وفي ش: «الغي»، وفي الوفيات: «العجز». (¬38) في الوفيات: «الفضائل». (¬39) في الأصول: «عبد المؤمن» والمثبت من الوفيات التي ينقل عنها المؤلف. (¬40) في الأصول: «وهب». (¬41) في الوفيات: «حتى أنكر على ابنة الملك».

بحضور جماعة من العلماء، فأجاب الملك إلى ذلك، وكان ابن تومرت وأصحابه مقيمين بمسجد خراب خارج البلد، فطلبهم، فلمّا ضمّهم المجلس قال الملك لعلماء بلده اسألوا هذا الرجل ما يبغي منّا، فانتدب إليه قاضي المريّة محمد بن أسود فقال: ما هذا الذي يذكر عنك من الأقوال في حق الملك العادل الحليم المنقاد إلى الحق المؤثر طاعة الله على هواه؟ فقال له ابن تومرت: ما نقل عنّي فقد قلته ولي من ورائه أقوال، وأما قولك انه يؤثر طاعة الله / على هواه وينقاد إلى الحق فقد حضر اعتبار صحة هذا القول [عنه] ليعلم بتعريّه عن (¬42) هذه الصّفة أنه مغرور بما تقولون له، مع علمكم (¬43) أن الحجة عليكم (¬44) فهل بلغك يا قاضي أن الخمر يباع جهارا، وتمشي الخنازير بين المسلمين، وتؤخذ أموال اليتامى؟ وعدّد من ذلك شيئا كثيرا. فلمّا سمع الملك ذلك ذرفت عيناه وأطرق حياء، ففهم الحاضرون من فحوى كلامه أنه طامع في المملكة، ولمّا رأوا سكوت الملك وانخداعه لكلامه لم يتكلّم أحد منهم، فقال مالك بن وهيب، وكان كثير الاجتراء على الملك مخاطبا له فيما بينه وبينه: إن عندي لنصيحة إن فعلتها حمدت عاقبتها، فقال الملك: وما هي؟ فقال: إني خائف عليك من هذا الرّجل، (فاني أظنه صاحب الدرهم المربع - لأنه كان ينظر في علم النجوم -) (¬45) ثم قال له: أرى أن تعتقله وأصحابه وتنفق عليه كلّ يوم دينارا لتكفي شرّه وان لم تفعل ذلك لتنفقن عليه خزائنك، ثم لا ينفعك ذلك فوافقه الملك، ثم قال له (¬46): يقبح عليك أن تبكي من موعظة هذا الرّجل ثم تسيء إليه في مجلس واحد، وأن يظهر منك الخوف منه مع عظم ملكك، وهو رجل فقير لا يملك سدّ جوعته، فلمّا سمع الملك كلامه أخذته عزّة النفس واستهون أمره وصرفه وسأله الدعاء. ولمّا خرج من عند الملك لم يزل وجهه تلقاء وجه؟؟؟ الملك إلى أن فارقه / فقيل له: نراك قد تأدّبت مع الملك إذ لم توله ظهرك، فقال: أردت أن لا يفارق وجهي الباطل ما استطعت حتى أغيره. فلمّا خرج ابن تومرت وأصحابه من عند الملك قال لهم: لا مقام لنا بمرّاكش مع ¬

(¬42) في الأصول: «من». (¬43) كذا في ط والوفيات، وفي ش: «علمه». (¬44) في الأصول: «عليه». (¬45) زيادة عما هو موجود بالوفيات وموجودة بتاريخ الدّولتين للزّركشي ص: 5 وكتاب العبر لابن خلدون 6/ 469. (¬46) «فقال له وزيره».

وجود مالك بن وهيب، فما نأمن أن يعاود الملك (¬47) في أمرنا فينالنا منه مكروه، وإن لنا بأغمات أخا في الله، فنقصد المرور به فلا نعدم منه رأيا ودعاء صالحا، واسم هذا الرّجل عبد الحق بن ابراهيم، وهو من فقهاء المصامدة (ولمّا مرّ بهنتاتة لقيه من أشياخهم الشّيخ أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي) (¬48) ولمّا وصل للشيخ عبد الحق خرج إليه مع جماعة المصامدة وأنزلوه، فأخبره ابن تومرت خبره، وأطلعهم على مقصوده، فقال عبد الحق: هذا الموضع لا يحميكم، وان أحسن المواضع المجاورة لهذا البلد تين مل (¬49) وبيننا وبينها مسيرة يوم في هذا الجبل، فانقطعوا فيه برهة ريثما يتناسى (¬50) ذكركم، فلمّا سمع ابن تومرت بهذا الاسم تجدد له اسم الموضع الذي رآه في كتاب الجفر، فقصده مع أصحابه، فلما أتوه رآهم أهله على تلك الصّورة فعلموا أنهم من طلاّب العلم، فقاموا إليهم وأكرموهم وتلقوهم بالتّرحاب وأنزلوهم في أكرم منازلهم، وسأل الملك عنهم بعد خروجهم من مجلسه فقيل له: إنّهم سافروا فسّره ذلك، وقال: تخلّصنا من الاثم بحبسهم. ثم إن أهل الجبل تسامعوا بوصول ابن تومرت / إليهم، وقد كان شاع ذلك فيهم، فجاؤوه من كلّ فجّ عميق وتبرّكوا بزيارته، وكان كل من أتاه استدناه وعرض عليه ما في نفسه من الخروج على الملك، فان أجابه أضافه إلى خواصّه، وان خالفه أعرض عنه، وكان يستميل الأحداث وذوي الضراوة (¬51)، وكان أولوا العلم والعقل من أهاليهم ينهونهم ويحذّرونهم من أتباعه ويخوّفونهم من سطوة الملك، ولمّا لم يتمّ لابن تومرت مع ذلك حال، وطالت المدّة، وخاف من مفاجأة الأجل قبل بلوغ الأمل، وخشي أن يطرأ على أهل الجبل من جهة الملك ما يحوجهم إلى تسليمه إليه والتّخلي عنه (¬52)، شرع في إعمال الحيلة فيما يشاركونه فيه ليعصوا على الملك بسببه، فرأى بعض أولاد القوم شقرا زرق العيون، وألوان آبائهم السّمرة والكحل، فسألهم عن سبب ذلك فلم يجيبوه، فألزمهم بالإجابة فقالوا: نحن من رعيّة هذا الملك وله علينا خراج، وفي كلّ ¬

(¬47) بعدها في ش: «لف». (¬48) زيادة عما هو موجود بالوفيات التي ينقل عنها المؤلف، انظر عنها ابن خلدون 6/ 469. (¬49) كذا في ط والوفيات، وفي ش: «يزمل». (¬50) «ينسى». (¬51) في الوفيات: «ذوي الغرة»، 5/ 51. (¬52) كذا في ط والوفيات، وفي ش: «منه».

سنة تصعد مماليكه إلينا ينزلون بيوتنا ويخلون بمن فيها من النساء، فيأتي الأولاد على تلك الصفة، وما لنا قدرة على دفع ذلك عنّا، فقال ابن تومرت: والله إن الموت خير من هذه الحياة، وكيف رضيتم هذا وأنتم أضرب خلق الله بالسّيف وأطعنهم بالحربة؟ فقالوا: بالرغم لا بالرضا قال: أرأيتم لو أن ناصرا نصركم على أعدائكم ما كنتم تصنعون؟ قالوا: نقدم أنفسنا بين يديه للموت، فمن هو؟ قال: ضيفكم - يعني نفسه - قالوا: السّمع والطاعة، / وكانوا يغالون في تعظيمه، فأخذ عليهم العهود والمواثيق واطمأن قلبه» (¬53) «قيل (¬54) إن المصامدة بايعوه يوم الجمعة الرابع عشر لشهر رمضان من عام خمس عشرة وخمسمائة (¬55)، فأول من بايعه أصحابه العشرة تحت شجرة خرنوب وهم عبد المؤمن بن علي، وعمر أصناك (¬56) الصنهاجي، والشيخ أبو حفص عمر الهنتاتي واسماعيل بن مخلوف وابراهيم [بن اسماعيل] (¬57) واسماعيل بن موسى، وأبو يحيى بن مكيث (¬58)، ومحمد بن سليمان، وأبو محمد (¬59) عبد الله بن ملويات (¬60) وعبد الله بن عبد الواحد المكنّى بالبشير، والعاشر (¬61) الشّيخ عبد الواحد بن أبي حفص، ثم بايعه من هنتاتة يوسف بن وانودين، وابن يغمور (¬62) وابن ياسين، (ومن ينتمي إلى) (¬63) عمر بن تافراجين وجميع قبيلة هرغة، ولمّا كملت بيعته لقّبوه بالمهدي، وكان لقبه قبل «الامام» وانتقل بعد بيعته بثلاث سنين إلى جبل تينمل (¬64) فأوطنه وبنى داره ومسجده بينهم، وقاتل من تخلف عن بيعته من المصامدة حتى استقاموا له» (¬65). ¬

(¬53) الوفيات: 5/ 46 - 52. (¬54) النقل الآن من تاريخ الدولتين للزركشي ص: 6. (¬55) 26 نوفمبر 1121 م. (¬56) كذا في كتاب العبر 6/ 470 وفي تاريخ الدولتين: «الشيخ ابو علي عمر الصّنهاجي». (¬57) اضافة من تاريخ الدولتين ص: 6. (¬58) كذا في تاريخ الدولتين، وصوابه: «يكيت» كما في ابن خلدون 6/ 469 والاستقصا. انظر تعليق الشيخ محمد ماضور هامش 2 ص: 6 من تاريخ الدولتين. (¬59) في الأصول: «ابن». (¬60) في ط وفي تاريخ الدولتين: «ملتوتات» وفي ش: «حلوتات»، وعلق عليها الشيخ ماضور بقوله: صوابه «ملويات» كما في أولها» وكتبها ابن خلدون ملويات أيضا 6/ 470. (¬61) به صار العدد احدى عشر خلافا لما نصّ عليه المؤلف، وما رتبه من الأسماء مطابق للعبر وتاريخ الدولتين. (¬62) في ش: «ابن مغمور» وفي ط: «ابن مغور». (¬63) في الأصول: «ومن تين مل» والمثبت من تاريخ الدولتين ص: 6. (¬64) كذا في ط، وفي تاريخ الدولتين وفي كتاب العبر: «تينملل» 6/ 470 - 471. وفي ش والوفيات: «تين مل». (¬65) انتهى النقل من تاريخ الدولتين ص: 6.

ثم قال لهم (¬66): استعدّوا لحضور مماليك السّلطان بالسّلاح فاذا جاؤوكم فأجروهم على العادة وخلّوا بينهم وبين النّساء وميلوا عليهم بالخمور، فاذا سكروا فأذنوني بهم، فلمّا حضر (¬67) المماليك فعل أهل الجبل ما أشار به ابن تومرت، وكان ليلا، وأعلموه بذلك، فأمر (¬68) بقتلهم، فلم يمض من الليل ساعة حتى أتوا على آخرهم، فلم يفلت منهم إلاّ مملوك واحد كان خارج المنازل لحاجة له، فسمع التّكبير عليهم / والوقع بهم فهرب عن غير الطريق حتى خلص من الجبل ولحق بمرّاكش فأخبر الملك بما جرى، فندم على فوات ابن تومرت من يده، وعلم أن الحزم كان مع مالك بن وهيب (¬69) فيما أشار به، فجهّز من وقته خيلا بمقدار ما يسع وادي تين مل (¬70) لأنه ضيّق المسلك، وعلم ابن تومرت أنه لا بدّ من وصول عسكر إليهم، فأمر أهل الجبل بالقعود على أنقاب الوادي ومراصده، واستنجد لهم بعض المجاورين فلمّا وصلت الخيل إليهم أقبلت عليهم الحجارة من جانبي الوادي مثل المطر، وكان ذلك من أوّل النّهار إلى آخره، وحال بينهم الليل فرجع العسكر إلى الملك، وأخبروه بما تمّ لهم، فعلم أن لا طاقة له (¬71) بأهل الجبل، فأعرض عنهم. وتحقّق ابن تومرت ذلك منه، وصفت (¬72) له مودّة أهل الجبل، فعند (¬73) ذلك استدعى الونشريسي (¬74) وقال له: هذا أوان فصاحتك (¬75) دفعة واحدة، تقوم لك مقام المعجزة لنستميل بك قلوب (¬76) من لا يدخل تحت الطّاعة، ثم اتّفقا على أنه يصلّي الصّبح ويقول بلسان فصيح - بعد استعمال العجمة واللكنة [في] تلك المدّة -: إنّي رأيت البارحة في منامي أنّه قد نزل ملكان من السماء وشقّا فؤادي وغسلاه وحشياه علما ¬

(¬66) عود إلى الوفيات 5/ 52. (¬67) كذا في ط والوفيات، وفي ش: «جاء». (¬68) كذا في ط والوفيات، وفي ش: «أمرهم». (¬69) في الأصول: «وهب» وأثبتناها كما أشرنا سابقا. (¬70) كذا في الأصول والوفيات، وكتبها الزركشي: «تينمل» والمؤلف يكتبها حسب النّص الذي ينقل عنه. (¬71) في الأصول: «لهم» والمثبت من الوفيات 5/ 52. (¬72) في الأصول: «وصفى». (¬73) في الأصول: «ومن». (¬74) في الأصول: «الونشريشي» وأثبتناها كما سبقت الإشارة إليه. (¬75) في الوفيات: «اظهار فضائلك». (¬76) في الأصول: «القلوب».

وحكمة وقرآنا، فلمّا أصبح فعل ذلك، فانقاد له كلّ صعب القياد، وعجبوا من حاله وحفظه القرآن في النّوم، فقال له ابن تومرت: فعجّل لنا البشرى في أنفسنا وعرفنا أسعداء نحن أم أشقياء؟ فقال له: أما أنت فانك المهدي القائم بأمر الله / فمن تبعك سعد ومن خالفك هلك، ثم قال: اعرض عليّ أصحابك حتّى أميّز أهل الجنّة من أهل النّار، وعمل في ذلك حيلة فقتل بها من خالف ابن تومرت، وأبقى من أطاعه، قال ابن خلكان (¬77): وشرح ذلك يطول، وكان غرضه أن لا يبقى في الجبل مخالف لابن تومرت، فلمّا قتل من خالفه علم ابن تومرت أن في الباقين من له أهل وأقارب قتلوا وأنه لا تطيب قلوبهم بذلك، فجمعهم وبشّرهم بانتقال ملك مرّاكش إليهم، واغتنامهم أموالهم، فسرّهم ذلك وسلاّهم عن أهلهم، (وقد تقدم ما أمرهم به من اتّخاذ مرابط للخيل التي يغنموها، وكلّ ينال بقدر ما أعد) (¬78). ولم يزل ابن تومرت حتى جهّز جيشا عدد رجاله عشرة آلاف ما بين فارس وراجل، (وقيل عدة الأفراس أربعين، وقيل أربعمائة) (¬79) وفيهم عبد المؤمن والونشريسي (74) وأصحابه كلّهم، وأقام هو بالجبل، فنزل القوم لحصار مرّاكش، وأقاموا عليها شهرا، (ثمّ خرج إليهم الملك بمن معه وصابرهم الحرب خارج الحصن) (¬80) فكسّرهم كسرة فاحشة وقتل الونشريسي (¬81)، ونجا عبد المؤمن ورجعوا إلى الجبل وقد بلغ خبرهم لابن تومرت وحضرته الوفاة قبل وصولهم إليه، فأوصى من حضر أن يبلّغ الغائبين أن النّصر لهم، وأن العاقبة حميدة، فلا يضجروا وليعاودوا القتال، وأن الله تعالى سيفتح على أيديهم، والحرب سجال، وأنكم ستقوون وتعلون وتكثرون، وأنتم في مبدإ أمر وهم في آخره» (¬82). وكان يقول: «إن مثل هذا الأمر كالفجر يتقدمه / الفجر الكاذب وبعده ينبلج الصّبح ويستعلي الضوء» (¬83) وهذه الوقعة أتت على معظم أصحابه، وكادت تمحو أثره إلاّ أن لله مشيئته هو منفذها {وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (¬84). ¬

(¬77) الوفيات 5/ 53. (¬78) زيادة عما هو موجود بالوفيات. (¬79) زيادة عن الوفيات من تاريخ الدولتين ص: 7. (¬80) زيادة عن الوفيات، نقلها المؤلف بتصرف عن تاريخ الدولتين ص: 7. (¬81) في الأصول: «الونشريشي». (¬82) ابن خلكان الوفيات 5/ 52 - 53. (¬83) انظر الاستقصا للناصري 2/ 81. (¬84) سورة يوسف: 21.

وتوفي سنة أربع وعشرين وخمسمائة (¬85)، «ودفن في الجبل، وقبره هناك مشهور يزار» (¬86)، «وكانت مدّته (¬87) من حين بويع تسع سنين» (¬88) وكان «حصورا لا يأتي النّساء» (¬89) ومات ولم يبلغ أربعين سنة. قال في حقّه صاحب «المعرب في أحوال المغرب» (¬90): [وافر] آثاره تنبيك عن أخباره ... حتى كأنّك بالعيان تراه قدم في الثّرى وهمّة في الثّريا، ونفس ترى (¬91) إراقة ماء الحياة دون إراقة ماء المحيا، وكان قوته كلّ يوم رغيفا من غزل أخته بقليل زيت أو سمن، ولم ينتقل عن هذا حين كثرت عليه الدّنيا، ورأى أصحابه يوما وقد مالت نفوسهم إلى كثرة ما غنموه، فأمر بضمّ ذلك جميعه وأحرقه وقال: من كان يبتغي الدّنيا فما له عندي إلاّ ما رأى، ومن يبتغي (¬92) الآخرة فجزاؤه على الله تعالى. وكان مع خمول زيّه وبسطة [مهيبا] (¬93) وجهه منيع الحجاب [الا] (¬94) عند المظلمة (¬95) وكان يتمثّل بقول المتنبي: [وافر] إذا غامرت في شرف (¬96) مروم ... فلا تقنع بما دون النّجوم فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم (¬97) ¬

(¬85) كذا بالأصول والوفيات وزاد عليها الزركشي: «لثلاث عشرة خلون من شهر رمضان» ص: 7 ويقابله بالمسيحي 1129 - 1130 م وفي كتاب العبر: «هلك المهدي سنة اثنتين وعشرين» 6/ 472. (¬86) الوفيات 5/ 53. (¬87) في ش: «مدة». (¬88) الزركشي تاريخ الدولتين ص: 7. (¬89) تاريخ الدولتين ص: 7، وكتاب العبر 6/ 471. (¬90) نقله بواسطة ابن خلكان، الوفيات 5/ 53 - 54. (¬91) في ش: «ترا». (¬92) في ش: «يبتغ». (¬93) اضافة من الوفيات يقتضيها السياق. (¬94) اضافة من الوفيات يقتضيها السياق. (¬95) للمهدي ابن تومرت أخبار في كتب التاريخ المعروفة، ومن الغريب أن تاج الدّين السبكي ترجم له في طبقات الشافعية الكبرى 5/ 71 - 74. (¬96) في الأصول: «اذا ما كنت في أمر مروم» والمثبت من الوفيات وديوان المتنبي دار صادر، بيروت. (¬97) انظر ديوان المتنبي، دار صادر بيروت ص: 232 والأبيات من قطعة بها 9 أبيات قالها عندما كبست انطاكية وهو فيها فقتل الطخرور وأمه.

عبد المؤمن

وبقوله أيضا: وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام. ولم يفتح شيئا من البلاد، وانما قرّر القواعد ل عبد المؤمن، فكانت الفتوحات له». «ولمّا مات ابن تومرت كتم أصحابه موته وبايعوا (¬98) / الشّيخ أبا علي عمر الصّنهاجي عرف أصناك (¬99) ثم قال لهم بعد أيام: هذا هو الذي عهد إليه الامام - يعني عبد المؤمن بن علي -» (¬100). عبد المؤمن: «وهو عبد المؤمن بن علي بن مخلوف بن يعلى (¬101) بن مروان بن نصر بن علي بن عامر بن الأمير بن (¬102) موسى بن عبد الله بن يحيى بن ورنيغ (¬103) بن صطفور (¬104) بن نفور (¬105) بن مطماط بن هودج بن قيس عيلان بن مضر» (¬106)، ويقال له الكومي نسبة لقريته الكومية (¬107)، والقيسي نسبة لقيس عيلان (¬108). كان والده وسطا في قومه، وكان صانعا في عمل الطين، يعمل منه الآنية، فيبيعها، وكان عاقلا من الرجال وقورا، ابن خلكان (¬109): «يحكى أن عبد المؤمن في صباه كان نائما وأبوه مشتغل بعمل الطين، فسمع ¬

(¬98) في ش: «وباعوا». (¬99) كذا في الأصول وتاريخ العبر، وفي تاريخ الدولتين: «عرف الصناكي» ص: 7. (¬100) تاريخ الدولتين ص: 7. (¬101) في الأصول: «يملا» والمثبت من ابن خلدون كتاب العبر الذي ينقل عنه المؤلف 6/ 258. (¬102) في الأصول: «أبي» والمثبت من كتاب العبر. (¬103) في الأصول: «وزرايغ» والمثبت من كتاب العبر. (¬104) في الأصول: «ابن منصور». (¬105) في ط: «تينور» وفي ش: «بنور» والمثبت من كتاب العبر. (¬106) هكذا ساق نسبه ابن خلدون نقلا عن مؤرخي دولة الموحدين 6/ 258. وقال: «وفي أسماء هذا العمود من نسب عبد المؤمن ما يدل على أنه مصنوع، اذ هذه الأسماء ليست من أسماء البربر، وانما هي كما تراه كلها عربية، والقوم كانوا من البرابرة معروفون بينهم، وانتساب مطغور إلى مطماط تخليط أيضا فانهما أخوان عند نسّابة البربر أجمع». (¬107) انظر عنها كتاب العبر 6/ 257 - 261. (¬108) فأما انتسابهم (أي البربر) في قيس عيلان فقد ذكرنا أنه غير صحيح. كتاب العبر: 6/ 258. (¬109) النقل من ترجمة عبد المؤمن صاحب المغرب بالوفيات لابن خلكان 3/ 237 وما بعدها.

أبوه دويّا من السماء، فرفع رأسه فرأى سحابة سوداء من نحل قد هوت مطبقة على الدّار، فنزلت كلّها مجتمعة على عبد المؤمن وهو نائم، فغطّته ولم يظهر من تحتها ولا استيقظ، فرأته أمّه على تلك الحالة فصاحت خوفا على ولدها، فسكتها أبوه فقالت له: أخاف عليه، فقال: لا بأس عليه، بل إني متعجّب ممّا يدل عليه ذلك، ثم غسل يديه من الطّين ولبس ثيابه ووقف ينتظر ما يكون من أمر النّحل، فطار عليه بأجمعه، فاستيقظ الصّبي وما به من ألم، فتفقّدت أمه جسده فلم تر به أثرا، ولم يشك لها ألما، وكان بالقرب منهم رجل معروف بالزّجر، فمضى أبوه إليه فأخبره بما رآه من النّحل مع ولده، فقال الزّاجر: يوشك أن يكون له شأن / يجتمع على طاعته أهل المغرب، فكان من أمره ما اشتهر» (¬110) اهـ‍ يعني من فتح البلاد، وتطويع العباد بأرض المغرب، وقد تقدّم كيفية انقراض دولة الملثّمين على يديه، وفتح البلاد من وهران لمرّاكش، وأخذه لمرّاكش أوائل سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة (¬111)، «وكانت هذه الغزوة المشتملة على هذه الفتوح من أربع وثلاثين إلى إحدى وأربعين (¬112)، واستوثق له الأمر وامتد ملكه إلى المغرب الأقصى والأدنى وكثير من بلاد الأندلس» (¬113). ومن أعظم فتوحاته فتح المهدية والبلاد الساحلية من أيدي الكفّار حسبما يأتي تفصيل ذلك في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى. «وقدم على (¬114) عبد المؤمن بمرّاكش وفد اشبيلية يقدمهم القاضي أبو بكر بن العربي - بعد قتل ولده عبد الله في فتح اشبيلية - فقبل طاعتهم وانصرفوا بالجوائز والاقطاعات لجميع (¬115) الوفد سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة (¬116)، وتوفي القاضي أبو بكر في طريقه في جمادى الآخرة من سنة اثنتين وأربعين (¬117)، عند وصوله إلى مدينة فاس فدفن بروضة الجياني (¬118) بفاس وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل توفي في سابع ربيع ¬

(¬110) الوفيات 3/ 238. (¬111) 1147 م. (¬112) تاريخ الدولتين ص: 7. (¬113) الوفيات 3/ 239. (¬114) رجع إلى النقل من تاريخ الدولتين ص: 8. (¬115) كذا في ط وتاريخ الدولتين، وفي ش: «بجميع». (¬116) 1147 - 1148 م. (¬117) في الاستقصا: «سنة ثلاث وأربعين». (¬118) في تاريخ الدولتين: «الجياشي» «دفن خارج باب المحروق منها (أي فاس) بتربة القائد مظفر وقبره مزار إلى الآن وعليه قبة حسنة» الاستقصا 2/ 105. وفي الوفيات 5/ 239 «وقيل، أنه حمل إلى تين مل. . . ودفن هناك والله أعلم».

الأول، وقيل في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين، وقيل إنه سمّ ما بين فاس وسبتة، قال ابن الدباغ: بقي يفتي أربعين سنة. وفي سنة إثنتين وأربعين المذكورة توفي القاضي الامام / أبو محمد عبد الحق بن غالب المعروف بابن عطيّة مفسر القرآن العظيم، وقال الغبريني في «عنوانه» إنه توفي سنة إحدى وأربعين، قال الشّيخ القاضي المفتي أحمد بن محمد القلجاني (¬119) إن بعض الأدباء دخل محلة عبد المؤمن فوجد أهل المرية يشكون قاضيهم الامام أبا محمد عبد الحق ابن غالب وينسبونه إلى الزندقة فأنشد: [بسيط] قالوا تزندق عبد الحق قلت لهم ... والله ما كان عبد الحق زنديقا أهل المرية قوم لا خلاق لهم ... يفسّقون قضاة الحق (¬120) تفسيقا وفي ليلة الجمعة سابع جمادى الآخرة من سنة أربع وأربعين وخمسمائة (¬121)، توفي القاضي أبو الفضل عياض بمرّاكش، وقيل في شهر رمضان، وقيل سنة اثنتين وأربعين، ومولده بسبتة منتصف شعبان سنة ست وسبعين وأربعمائة (¬122)، وقيل سنة خمس (¬123)، وولي قضاء سبتة سنة خمس وعشرين وخمسمائة (¬124)، ثم انتقل لقضاء غرناطة في صفر سنة إحدى وثلاثين، وصرف عنها في رمضان من عام ثلاث (¬125) وثلاثين، وأعيد لقضاء سبتة سنة تسع وثلاثين (¬126)، وقيل إنه لمّا ولي قضاء قرطبة ولم يطل مقامه بها، ثم أعيد لها، ثم أعيد لبلده. ولمّا اجتمع بالخليفة عبد المؤمن وجده (¬127) تغير عليه، فاستعطفه بالمنظوم والمنثور ¬

(¬119) كذا في تاريخ الدولتين، والقلشاني ضبط صحيح نسبة إلى قرية قلشانة ويقال قلجانة. (¬120) في تاريخ الدولتين: «العدل». (¬121) 12 أكتوبر 1149 م. (¬122) 27 ديسمبر 1083 م «قاله ابن بشكوال وحفيده» تاريخ الدولتين ص: 10. (¬123) عن ابن سعيد انظر تاريخ الدولتين ص: 10. (¬124) 1130 - 1131 م. (¬125) في الأصول «اثنين» والمثبت من تاريخ الدولتين التي ينقل عنها المؤلف ص: 10. ماي 1139 م. (¬126) 1144 - 1145 م. (¬127) كذا في ط وتاريخ الدولتين، وفي ش: «وجد».

أبو يعقوب يوسف

حتى رقّ له وعفا (¬128) عنه، فلازم مجلسه إلى أن ردّه لحضرة (¬129) مرّاكش، فلمّا وصلها بقي ثمانية أيام وتوفي. ومن نظمه في صيفية باردة - رحمه الله وسامحه -: / [بسيط] كأن كانون أهدى من ملابسه ... لشهر تمّوز أنواعا من الحلل أو الغزالة من طول المدى (¬130) خرفت ... فما تفرّق بين الجدي والحمل ومن نظمه يصف خامة الزرع - رحمه الله وعفا عنه -: [سريع] انظر إلى الزرع وخاماته ... [تحكي] (¬131) وقد ماست أمام الرياح كئيبة خضراء مهزومة (¬132) ... شقائق النّعمان فيها جراح (¬133) «ولمّا انتهت أيام عبد المؤمن وكان بمدينة سلا (¬134) أصابه بها مرض شديد توفي منه في العشر الأخير من جمادى الأخرى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة (¬135) فكانت مدّة ولايته ثلاثا وثلاثين سنة وأشهرا، وكان عند موته شيخا نقي البياض» (¬136). أبو يعقوب يوسف: «ثم تولى (¬137) بعده ولده محمّد بعهد من أبيه واستخلافه له ونقش الدّنانير باسمه، فحصل منه اشتغال بالرّاحة وانهماك في البطالة فخلعه أخوه أبو يعقوب يوسف (¬138) (في ¬

(¬128) كذا في ط وتاريخ الدولتين، وفي ش: «عفى». (¬129) في الأصول: «بحضرة». (¬130) في الأصول: «المدا». (¬131) اضافة من تاريخ الدولتين. (¬132) في الأصول: «مهذومة». (¬133) تاريخ الدولتين للزركشي ص: 8 - 10. (¬134) في الأصول: «سلى». (¬135) كذا في الوفيات، ماي 1163 م، وفي تاريخ الدولتين: «توفي ليلة الخميس العاشر لجمادى الآخرة من سنة ثمان وخمسين وخمسمائة» ص: 13. (¬136) ابن خلكان الوفيات 3/ 239. (¬137) النقل من ترجمة يوسف بن عبد المؤمن بالوفيات بتصرف 7/ 130. (¬138) في تاريخ الدولتين: «ولما كانت سنة ثمان وخمسين استدعى عبد المؤمن ولده أبا يعقوب يوسف من الأندلس لمراكش لولاية العهد عوضا من أخيه محمد فلحق بمراكش وخرج مع أبيه للجهاد».

شعبان سنة ثمان وخمسين وخمسمائة) (¬139) وكان له أخ آخر اسمه أبو حفص [عمر] ولاّه جزيرة الأندلس. ولمّا خلع يوسف أخاه محمّد تولى الملك فكان أحق به وأهله اذ هو فقيه حافظ متفنن لأن أباه هذّبه وجال (¬140) الحروب والمغازي (¬141) فنشأ في ظهور الخيل بين أبطال الرّجال، وفي قراءة العلم بين أفاضل العلماء، وكان ميله إلى الحكمة والفلسفة أكثر من ميله إلى الأدب وبقية العلوم، وكان جمّاعا منّاعا ضابطا لخراج مملكته عارفا بسياسة رعيّته، وكان يحضر حتى لا يكاد يغيب ويغيب حتى لا يكاد يحضر، وله في غيبته نوّاب وخلفاء وحكّام وقد / فوّض الأمور إليهم لما يعلم من صلاحهم لذلك، والدّنانير اليوسفية المغربية منسوبة إليه. فلمّا تمهّدت له الأمور واستقرّت قواعد ملكه دخل جزيرة الأندلس لكشف أحوال دولته وتفقّد مصالحها، وكان ذلك في سنة ست وستين وخمسمائة (¬142) وفي صحبته مائة ألف فارس من العرب والموحّدين، فنزل باشبيلية، فخافه الأمير أبو عبد الله محمد بن سعد بن محمد بن سعد المعروف بابن مردنيش بفتح الميم وسكون [الراء وفتح] الدّال المهملة وكسر النّون وسكون المثناة تحت بعدها شين معجمة وهو بلغة الافرنج اسم العذرة (¬143) صاحب شرق الأندلس: مرسية وما انضاف إليها، وحمل على قلبه فمرض مرضا شديدا ومات، وقيل إن أمّه سقته السّم لأنه كان قد أساء على أهله وكبراء دولته وخواصه العشرة، فنصحته أمّه وأغلظت عليه في القول وهددها فخافت بطشه، فعملت عليه وسقته السّم فقتله في رجب سنة سبع وستين وخمسمائة (¬144) باشبيلية، ومولده سنة ثمان عشرة وخمسمائة (¬145) في قلعة من أعمال طرطوشة يقال لها بنشكلة بضمّ الموحدة والنون وسكون الشّين المعجمة وضمّ الكاف وفتح اللام بعدها هاء تأنيث (¬146)، وهي من ¬

(¬139) زائدة عن الوفيات. (¬140) وخاض. (¬141) في الوفيات: «لأن أباه هذّبه وقرن به وبإخوته أكمل رجال الحرب والمعارف فنشأوا». (¬142) 1170 - 1171 م. (¬143) الوفيات 7/ 133. (¬144) مارس 1172 م. (¬145) 1124 - 1125 م. (¬146) الوفيات 7/ 133.

أبو يوسف يعقوب

الحصون المنيعة. ولمّا مات محمّد بن سعد جاء أولاده، وقيل هم أخوته، إلى الأمير يوسف بن عبد المؤمن وهو باشبيلية فسلّموا له جميع بلاد شرق الأندلس التي كانت / لأبيهم أو أخيهم فأحسن إليهم الأمير يوسف وتزوّج أختهم فأصبحوا عنده في أعز مكان. ثم ان الأمير يوسف شرع في استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الافرنج، وكانوا قد استولوا عليها، فاتّسعت مملكته بالأندلس وصارت سراياه تصل (¬147) مغيرة إلى باب طليطلة، ثم أنه حاصرها، فاجتمع الافرنج عليه كافة، واشتد الغلاء في عسكره، فرجع عنها وعاد إلى مراكش. وفي سنة خمس وسبعين (¬148) قصد بلاد افريقية وفتح مدينة قفصة، ثم دخل إلى جزيرة الأندلس في سنة ثمانين ومعه جمع كثيف، وقصد غربي بلادها فحاصر مدينة شنترين شهرا فأصابه مرض فمات منه في شهر ربيع الأول سنة ثمانين وخمسمائة (¬149) وحمل في تابوت إلى اشبيلية - رحمه الله تعالى -. أبو يوسف يعقوب: وبعد وفاته اجتمع رأي أشياخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديم ولده (¬150) أبي يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن فبايعوه، وعقدوا له الولاية ودعوه أمير المؤمنين، ولقّبوه المنصور فقام بالأمر أحسن قيام» (¬151)، «وكان من أهل العلم، وحسن التوقيع، طلب يوما من قاضيه أن يختار له رجلين لغرضين: من تعليم ولد، وضبط أمر، فعرّفه برجلين، قال في أحدهما: هو برّ في دينه، وقال في الآخر: هو بحر في علمه، فاختبرهما السّلطان بنفسه فقصّرا بين يديه وأكذبا الدعوى (¬152)، فكتب على رقعة القاضي التي سيّرها / معهما بتعريفهما: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ¬

(¬147) في الأصول: «تتصل». (¬148) 1179 - 1180 م. (¬149) كذا بالوفيات، جوان - جويلية 1184 وفي تاريخ الدولتين: «الثامن عشر من ربيع الآخر» ص: 14. (¬150) ما يتعلق بالأمير يوسف بن عبد المؤمن نقله المؤلف من وفيات الأعيان لابن خلكان 7/ 130 - 132. (¬151) الوفيات من ترجمة «المنصور الموحدي» 7/ 3. (¬152) في الأصول: «الدعوة».

{ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (¬153). وهذا من التّوقيع العزيز (¬154) في الاجادة والصّنعة» (¬155). «وهو (¬156) الذي أظهر أبهة الملك، ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، وبسط أحكام النّاس على حقيقة الشّرع، ونظر في أمر الدّين والورع، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته وأقاربه كما أقامها في سائر النّاس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات، ولمّا مات أبوه كان معه في الصّحبة، فباشر تدبير المملكة هنالك، وأول ما رتّب قواعد الأندلس، فأصلح شأنها ورتّب المقاتلة في مراكزها، ورتب أحوالها في مدة شهرين وأمر بقراءة البسملة في [أول] الفاتحة في الصلاة، وأرسل بذلك إلى سائر بلاد (¬157) الاسلام التي في مملكته، فأجابه قوم وامتنع آخرون (لاختلاف الآراء في كونها آية من الفاتحة، وهي مسألة مشهورة محلّها كتب الفروع) (¬158). ولمّا رجع إلى مرّاكش كرسي ملكهم خرج عليه علي بن اسحاق» (¬159) (وأخوه يحيى أولاد [ابن] غانية بقية الملثّمين كما سيأتي نبؤهم في الباب الثالث) (¬160). «وفي سنة واحد وثمانين (¬161) توفي القاضي الامام الشهير أبو محمد عبد الحق الاشبيلي ببجاية وهو صاحب الأحكام والعاقبة وغيرهما» (¬162). «وفي سنة ست وثمانين (¬163) بلغه أن الافرنج ملكوا مدينة شلب (¬164) وهي في غرب ¬

(¬153) سورة الروم: 41. (¬154) في تاريخ الدولتين: «الغريب». (¬155) ما بين الظفرين نقله بتصرف من تاريخ الدولتين للزركشي ص: 15. وذكر ذلك لسان الدّين بن الخطيب في «رقم الحلل»، أنظر الاستقصا 2/ 179. (¬156) رجع إلى النقل من الوفيات لابن خلكان 7/ 3. (¬157) في ش: «البلاد». (¬158) ما بين القوسين زيادة من المؤلف عن الوفيات. (¬159) وفيات الأعيان 7/ 3 - 4. (¬160) زيادة عن الوفيات. (¬161) 1185 - 1186 م. (¬162) نقل من تاريخ الدولتين ص: 15. (¬163) 1190 م. (¬164) في الأصول: «سلف» والمثبت من الوفيات 7/ 4 «واستولوا على غيرها من مدن غرب الأندلس كباجة ويابرة». انظر الاستقصا 2/ 164.

جزيرة الأندلس، فتجهز إليها بنفسه وحاصرها وأخذها، وأنفذ في الوقت / جيشا من الموحدين ومعهم جماعة من العرب، ففتحوا أربع مدائن من مدن الافرنج كانوا أخذوها من المسلمين قبل ذلك بأربعين سنة، وخاف صاحب طليطلة وطلب الصّلح، فصالحه خمس سنين وعاد إلى مرّاكش» (¬165). «وفي حدود تسعين وخمسمائة (¬166) توفي الشيخ الصّالح القطب أبو مدين شعيب بن الحسين (¬167) الأندلسي ببلد تلمسان بالموضع المعروف بالعبّاد ودفن هنالك» (¬168). «ولما انقضت مدة الهدنة (¬169) ولم يبق سوى القليل خرجت طائفة من الافرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين فنهبوا وسبوا وعاثوا عيثا فظيعا، فانهى الخبر إلى الأمير يعقوب وهو بمراكش، فتجهز لقصدهم [في] جحفل عرمرم من قبائل العرب والموحدين، واحتفل وجاز إلى الأندلس، وذلك في سنة احدى وتسعين، وخمسمائة» (¬170)، «فعلم الافرنج به فجمعوا خلقا كثيرا من أقاصي بلادهم» (¬171) «وقصدوه فبلغ الأمير يعقوب خبر مسيرهم، وكثرة جموعهم، فما هاله ذلك، وجدّ في السّير نحوهم، حتى التقوا في شمال قرطبة على قرب قلعة رباح (¬172) في مرج (¬173) الحديد وفيه نهر يشقّه وعبروا إلى منزلة الافرنج وصافهم وذلك في يوم الخميس التاسع (¬174) من شعبان سنة احدى وتسعين وخمسمائة (¬175) واقتفى في ذلك أثر أبيه وجدّه، انهما كانا أكثر ما يصافون يوم الخميس، ومعظم حركاتهم في صفر، ووقع القتال وبرزت الأبطال ¬

(¬165) الوفيات 7/ 4. (¬166) 1194 م. (¬167) في تاريخ الدولتين ص: 16: «الحسن». (¬168) نقل حرفي من تاريخ الدولتين ص: 16 وانظر الاستقصا 2/ 187 وفيه أنه توفي سنة 572 ولعله تحريف عن 92 وذكر الاستقصا في ص: 189 أنه توفي سنة 594 وهو التاريخ الصحيح، وهو الذي ذكره ابن قنفد القسنطيني في الوفيات (الجزائر) 146. (¬169) في الأصول: «المهدية» والمثبت من الوفيات 7/ 4. (¬170) 1194 - 1195 م. (¬171) الوفيات لابن خلكان 7/ 4 - 5. (¬172) في الأصول: «رياح» والمثبت من الوفيات 7/ 8. (¬173) كذا بالأصول والوفيات، «وفحص الحديد» في المعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي كان موجودا سنة 621. تحقيق محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، القاهرة 1368/ 1949 ص: 282. (¬174) في الأصول: «السابع» والمثبت من الوفيات التي ينقل عنها المؤلف. (¬175) 19 جويلية 1195 م.

وصبرت الرجال، فأمر الأمير يعقوب فرسان / الموحدين وأمراء العرب أن يحملوا ففعلوا، وانهزم الافرنج وعمل فيهم السّيف فاستأصلهم قتلا، وما نجا (¬176) ملكهم الا في نفر يسير، ولولا دخول الليل لم يبق منهم أحد، وغنم المسلمون أموالهم، حتى قيل ان الذي حمل (¬177) لبيت المال من دروعهم ستّون ألف درع، وأما الدّواب على اختلاف أنواعها فلم يحص لها عدد، ولم يسمع في بلاد الأندلس بكسرة مثلها (¬178). ومن عادة الموحدين أنهم لا يأسرون مشركا محاربا ان ظفروا به ولو كان ملكا عظيما، بل تضرب رقابهم قلّوا أو كثروا، فلما أصبح جيش المسلمين اتبعوهم فألفوهم قد أخلوا (¬179) قلعة رباح لما داخلهم من الرّعب، فملكها الأمير يعقوب وجعل فيها واليا وجيشا، ولكثرة ما حصل له من الغنائم لم يمكنه الدّخول إلى بلاد الافرنج في ذلك الوقت، فعاد إلى مدينة طليطلة وحاصرها وقاتلها أشدّ القتال، وقطع أشجارها وشن الغارات على بلادها، وأخذ من أعمالها حصونا كثيرة وقتل رجالها وسبي حريمها وخرّب مبانيها وهدّم أسوارها، وترك الافرنج في أسوء حال، ولم يبرز إليه أحد من المقاتلة. ثم رجع إلى اشبيلية وأقام بها إلى سنة ثلاث وتسعين (¬180)، فعاد إلى بلاد الافرنج مرّة ثالثة، وفعل بها كفعله المتقدم، فلم يبق للافرنج قدرة على لقائه وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فأرسلوا إليه يلتمسون الصّلح، فأجابهم إلى ذلك لما اتصل به من أخبار يحيى بن اسحاق (¬181) / الميورقي ابن غانية لما دخل افريقية عند اشتغال الأمير يعقوب بجهاد الأندلس ثلاث سنين، فأوقع الصلح بينه وبين ملوك الافرنج بالأندلس ¬

(¬176) في ش: «نجى». (¬177) في الوفيات: «حصل». (¬178) وهذه الوقعة تعرف بوقعة الارك. قال عبد الواحد المراكشي في «المعجب» ص: 283: «وكانت هذه الهزيمة أختا لهزيمة «الزّلاقة» وسيذكرها المؤلف بعد قليل. (¬179) في الأصول: «دخلوا». (¬180) 1196 - 1197 م. (¬181) في الوفيات: «علي بن اسحاق» وعلي هو أخ يحيى، وجاء في رحلة التجاني: «وفي مياومة الفاضل ابن البيساني أن الخبر وصلهم في جمادى الاخرى من سنة خمس وثمانين ان يحيى بن اسحاق الميورقي وأبا زياد المغربي دخلا إلى جزيرة باشو بقرب من تونس واستأصلا أهلها فانتقلوا إلى تونس ودخلوا حفاة عراة فمات منهم بالجوع والبرد والانقطاع نحو اثني عشر ألفا، هكذا ذكر الفاضل ان ذلك من فعل يحيى بن اسحاق وفي الحديث المتقدم ان ذلك من فعل علي بن اسحاق أخيه فيمكن أن تكون قضية واحدة وقع الغلط في نسبتها ويمكن أن تكونا قضيتين وهذا هو الظاهر فان سنة اثنين وثمانين على ما ذكر ابن شدّاد انما كان الأمر فيها لعلي ابن اسحاق وبعده ولي أخوه يحيى والله أعلم» ص: 14 - 15.

جميعهم على ما اختاره لمدة خمس سنين، ثم عاد إلى مراكش في أواخر سنة ثلاث وتسعين، ولما وصل إليها أمر باتخاذ الأحواض والرّوايا (¬182) وآلة السفر للتوجه إلى بلاد افريقية، فاجتمع إليه أشياخ (¬183) الموحدين وقالوا له: يا سيدنا قد طالت غيبتنا بالأندلس، فمنا من له خمس سنين ومنا من له ثلاث سنين وغير ذلك، فتنعم علينا بالمهلة هذا العام وتكون الحركة سنة خمس وتسعين، فأجابهم إلى سؤالهم وانتقل إلى مدينة سلا (184) وشاهد ما فيها من المنتزهات المعدّة له، وكان قد بنى بالقرب منها مدينة عظيمة سمّاها «رباط الفتح» على هيئة الاسكندرية في اتّساع الشّوارع وحسن التّقسيم واتّساع البناء وتحسينه وتحصينه، وبناها على البحر المحيط الذي هناك، وهي على نهر بسلا (¬184) مقابلة لها من البرّ (¬185)، وطاف تلك البلاد وتنزّه فيها ثم رجع إلى مرّاكش» (¬186). ابن خلكان (¬187) «ثم بعد هذا اختلفت الروايات في أمره فمن النّاس من يقول إنه ترك ما كان فيه وتجرد وساح في البراري وانتهى إلى بلاد المشرق وهو مستخف لا يعرف، ومات خاملا، ومنهم من يقول أنه رجع إلى مرّاكش كما ذكرنا، وتوفي في غرة جمادى الأولى وقيل في شهر ربيع الآخر سنة / خمس وتسعين وخمسمائة بمرّاكش، ولم ينقل شيء من أحواله بعد ذلك إلى حين وفاته، وكانت ولادته يوم الأربعاء رابع عشر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وخمسمائة» (¬188). وقال ابن الخطيب (¬189) «لما تم له ما أراده من تمهيد بلاد افريقية صرف عنانه إلى الجهاد بالأندلس فأجاز البحر، واحتل اشبيلية (¬190)، ولحقت به ارسال طاغية الروم، ¬

(¬182) في ط: «الراويات»، وفي ش: «الروايات». (¬183) في الوفيات: «مشايخ». (¬184) في الأصول: «سلى». (¬185) في الوفيات: «البر القبلي» 7/ 9. (¬186) الوفيات 7/ 8 - 9. (¬187) ما سيذكره ابن خلكان في خصوص موت المنصور لا أساس له من الصحة، بل توفي بقصره في مراكش في 22 ربيع الثاني سنة 595. انظر مثلا تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين تأليف يوسف أشباح ترجمة محمد عبد الله عنان، القاهرة 1360/ 1941، 2/ 90، ويقابله بالمسيحية 22 مارس 1199 م. وقال الزركشي: «اختلف في موته. . . ثم توفي في ليلة الجمعة الثانية والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وتسعين». (¬188) الوفيات 7/ 9 - 10. (¬189) في رقم الحلل. أنظر أيضا الاستقصا 2/ 168. (¬190) في الأصول: «باشبيلية».

فصرفهم وعرض الجيش، وأخذ في التقرّب بالقرب إلى الله بين يدي جهاده فاستبرا (¬191) السّجون وأدرّ الأرزاق، وعيّن الصّدقات، ورحل ونزل الأرك (¬192) وقد خيّمت بأحوازها محلاّت العدو يضيق عنها المتسّع (¬193)، وقام بعد أن اجتمع النّاس فتحلل من المسلمين، وقال: اغفروا لي فيما عسى أن يكون صدر مني، فبكى النّاس، وقالوا منكم يطلب الرضا والغفران، وخطب الخطباء بين يديه محرّضين، فنشط النّاس، وطابت النّفوس، ومن الغد صدع بالنّداء وأخذ السّلاح والبروز إلى اللقاء، فكانت التعبئة تحت الغلس، وكان اللقاء فسال العدو على المسلمين كالبحر، فزلزل مسيرة المسلمين، وعند ذلك أمر المنصور بالهجوم على العدو، فاختلط الفريقان واعتركا، وصدقت حملات المسلمين، حتى أخلت مراكز العدو، فولوا الأدبار ضحى يوم الأربعاء التاسع من شعبان (¬194) عام واحد وتسعين وخمسمائة (¬195)، وانتهبت محلات العدو وانجلت المعركة عن حصيد من القتلى لا يحصى عدده، فذكر المقلل / أنه بلغ ثلاثين ألفا، وصرف وجهه عزيزا ظافرا رحمه الله. وفي الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين توفي (¬196) المنصور ودفن بمجلس سكناه من مراكش، وكذب العامة بموته ولوعا وتمسكا به فادعوا أنه ساح في الأرض» اهـ‍. وكان (¬197) رحمه الله ملكا جوادا عادلا متمسّكا بالشّرع المطهر، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر من غير محاباة، ويصلّي بالناس الصّلوات الخمس، ويلبس الصّوف ويقف للمرأة والضعيف ويأخذ لهم بالحق، ابن خلكان (¬198): أوصى أن يدفن على قارعة الطريق ليترحم عليه من يمرّ به قال: وسمعت عليه حكاية يليق أن أذكرها هنا، وهي أن الأمير الشيخ عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص عمر والد الأمير أبي زكرياء يحيى [بن عبد الواحد] (¬199) صاحب افريقية كان قد تزوج أخت الأمير المذكور، ¬

(¬191) في الأصول: «اسبرأ». (¬192) Alarcos وفي الأصول: «الاراك». (¬193) في الأصول: «فضيق المتسع». (¬194) في الأصول: «التاسع عشر من شعبان» والاصلاح من ابن خلكان وغيره وقد ذكر المؤلف هذه الواقعة بالتاريخ هذا عندما نقل أحداثها عن ابن خلكان. (¬195) 25 جويلية 1195 م. (¬196) لقد ناقش المؤلف تاريخ وفاة المنصور فيما سبق واعادة هذا تكرار. (¬197) النقل من ابن خلكان، وفيات الأعيان 7/ 10. (¬198) بل يستمر في النقل. (¬199) اضافة من الوفيات.

وأقامت عنده، ثم جرت بينهما مشاجرة (¬200) فجاءت إلى بيت أخيها الأمير يعقوب، فسير الأمير عبد الواحد في طلبها فامتنعت عليه، فشكى الأمير عبد الواحد [ذلك] (¬201) إلى قاضي الجماعة بمرّاكش، وهو القاضي [أبو] (¬202) عبد الله محمد بن علي بن مروان، فاجتمع القاضي المذكور بالأمير يعقوب وقال له: ان الشيخ أبا محمد عبد الواحد يطلب أهله، فسكت الأمير يعقوب، ومضى على ذلك أيام (¬203) ثم ان (¬204) الشيخ عبد الواحد اجتمع بالقاضي المذكور في قصر الأمير يعقوب بمراكش وقال: أنت قاضي المسلمين، وقد طلبت أهلي فما جاؤوني (¬205) فاجتمع القاضي بالأمير يعقوب / وقال له: يا أمير المؤمنين، الشيخ عبد الواحد قد طلب أهله مرة وهذه الثانية، فسكت الأمير يعقوب، ثم بعد ذلك بمدة لقي الشيخ عبد الواحد القاضي بالقصر وقد جاء إلى خدمة الأمير يعقوب فقال له: يا قاضي المسلمين، قد قلت لك مرتين وهذه الثالثة: أطلب أهلي وقد منعوني عنهم (¬206)، فاجتمع القاضي بالأمير يعقوب وقال له: يا مولانا قد تكرّر طلبه لأهله، فاما أن تسيّر إليه أهله والا فاعزلني من القضاء، فسكت الأمير يعقوب، وقيل إنه قال له: يا [أبا] عبد الله ما هذا الاّ جدّ كثير (¬207)، ثم استدعى خادما وقال له في السّرّ: تحمل أهل الشيخ عبد الواحد إليه (فحملت إليه) (¬208) في ذلك النهار ولم ينتهر القاضي ولا قال له شيئا يكرهه، وتبع في ذلك حكم الشّرع المطهر وانقاد لأوامره، وهذه حسنة تعدّ له وللقاضي أيضا فانه بالغ في اقامة منار الشّرع والعدل. وكان الأمير يعقوب شدّد في الزام الرعية باقامة الصّلوات الخمس، «وقتل [في] بعض الأحيان على شرب الخمر، وقتل العمّال الذين تشكوا الرّعايا (¬209) منهم، وأمر برفض فروع الفقه، وأن العلماء لا يفتون الاّ بالكتاب والسّنة (¬210)، ولا يقلّدون أحدا من ¬

(¬200) الوفيات: «منافرة». (¬201) اضافة من الوفيات. (¬202) اضافة من الوفيات. (¬203) في ش: «أياما». (¬204) ساقطة من ش. (¬205) في الأصول: «جاءتني». (¬206) كذا في ط والوفيات، وفي ش: «عنها». (¬207) في الوفيات: «كبير». (¬208) ساقطة من ش. (¬209) في ش: «الرعاية». (¬210) أمر باحراق كتب المذهب المالكي كالمدونة وتهذيب المدونة والواضحة وكان قصده محو المذهب المالكي واحلال المذهب الظاهري محله، وكان أبوه وجده يسيران في هذا الطريق الا أنهما لم يخطوا هذه الخطوة، وشجع على طلب علم الحديث، ونالوا ما لم ينالوا في أيام أبيه وجده. انظر المعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي، ص: 78 و 280.

الأيمة المجتهدين المتقدمين، بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباطهم القضايا من الكتاب والسنّة والاجماع والقياس. قال: وقد أدركنا جماعة من مشايخ المغرب وصلوا الينا إلى البلاد وهم على ذلك الطريق مثل أبي الخطاب بن دحية وأخيه أبي عمر ومحي الدّين ابن العربي (¬211) / نزيل دمشق وغيرهم. وكان يعاقب على ترك الصّلاة ويأمر بالنّداء في الأسواق بالمبادرة إليها، فمن غفل عنها واشتغل بمعيشته يعزره (¬212) تعزيرا بليغا. وكان قد عظم ملكه واتّسعت دائرة سلطنته حتى لم يبق بجميع أقطار المغرب من البحر المحيط إلى برقة إلاّ من هو على طاعته وداخل في ولايته، إلى غير ذلك من جزيرة الأندلس وكان محسنا محبّا للعلماء مقرّبا للأدباء مصغيا إلى المدح مثيبا عليه. والى الأمير يعقوب تنسب الدّنانير اليعقوبية المغربية. وكان قد أرسل إليه السلطان صلاح الدّين يوسف بن أيوب رسولا من بني منقذ في سنة سبع وثمانين وخمسمائة (¬213) يستنجده على (¬214) الافرنج الواصلين من بلاد المغرب إلى الديار المصرية وساحل الشام، ولم يخاطبه بأمير المؤمنين بل خاطبه بأمير المسلمين، فعزّ عليه ذلك، ولم يجبه إلى ما طلبه (¬215) منه». «ولما (¬216) حضرت الوفاة الأمير يعقوب وقضى نحبه بايع النّاس ولده أبا عبد الله محمد بن يعقوب وتلقب «بالنّاصر» (فاستوزر الشّيخ أبا محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص) (¬217) واتّصل (¬218) به ما فعل الميورقي، فنهض إلى افريقية وهزم الميورقي - كما يأتي ان شاء الله تعالى - ثم تحرّك إلى جزيرة الأندلس (فلم يرزق فتحا بل كانت الهزيمة ¬

(¬211) في الأصول: «محي الدّين المغربي» والمثبت من وفيات الأعيان لابن خلكان 7/ 11. (¬212) يقصد يؤنبه. (¬213) كذا في ابن خلكان ويوافقها بالميلادي 1191 م وفي الاستقصا سنة 585، وفي الروضتين لابي شامة المقدسي سنة 586، انظر الاستقصا والتعليقات عليه 2/ 163. (¬214) قال ابن خلدون: «وفي هذا دليل على اختصاص ملوك المغرب يومئذ بالأساطيل الجهادية، وعدم عناية الدول بمصر والشام لذلك العهد بها»، الاستقصا 2/ 163 - 164. (¬215) وفيات الأعيان بتصرف يسير 7/ 10 - 11. (¬216) انتقل إلى صفحة 15 من نفس المرجع. (¬217) زيادة عما هو موجود بالوفيات، ونقلها المؤلف عن تاريخ الدولتين ص: 17. (¬218) في ط: «وامتثل».

المنتصر بالله

عليه) (¬219) وتسمى وقعة العقاب (¬220) سنة تسع وستمائة (¬221). المنتصر بالله: «ثم ولي بعده ولده أبو يعقوب يوسف بن محمد ابن الأمير يعقوب ويلقب «بالمنتصر بالله» (¬222) ولم يكن في بني عبد المؤمن أحسن منه / وجها، ولا أبلغ في المخاطبة» (¬223) فتولّى وسنه عشرة أعوام (¬224) وغلب عليه وزيره ابن جامع ومشيخة الموحدين فقاموا بأمره وبقي مشغوفا براحته (¬225) فضعفت الدّولة بخروج بني مرين - كما يأتي خبرهم -. ونزل الافرنج (¬226) تونس على عهده فظهر من صبره وشدة جلاده ما طال به الحديث حتى انصرفوا، ومات سنة عشرين وستمائة (¬227)، ولم يخلّف ولدا. العادل: «فاتفق (¬228) أرباب الدّولة على تولية أبي محمد عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن (¬229) لكبر سنه، فلم يحسن التدبير، ولا دارى (¬230) أهل دولته فخلعوه وخنقوه ¬

(¬219) زيادة عما هو موجود بالوفيات. (¬220) بكسر العين، هي من الوقائع الحاسمة في حركة الاسترداد الاسبانية المسيحية وفي انحسار المد الإسلامي من الأندلس، وقد توالت بعدها الهزائم على المسلمين إلى أن أجلوا من الأندلس، والعقاب تسمى بالافرنجية Las Nas de Tolosa وبعد هذه الواقعة وموت الخليفة النّاصر سارت الدّولة الموحدية بخطى سريعة نحو الانحلال والاضمحلال بسبب تنازع الأسرة الخلافية على السّلطة. (¬221) 1212 - 1213 م. (¬222) اتبعت «ش» في ذلك تاريخ الدولتين للزركشي. وفي الاستقصا والحلل السندسية «المنتصر» أيضا، وفي ط وتاريخ ابن خلدون والوفيات: «المستنصر» واعتمد شارل جوليان في تاريخ شمال افريقيا 2/ 118 «المستنصر». (¬223) في الأصول: «المخاصمة» والمثبت من الوفيات من ترجمة الخليفة أبي يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن 7/ 16. (¬224) وهو ابن ست عشرة سنة، الاستقصا: 2/ 202. (¬225) «واشتغل عن تدبير الأمر والجهاد بما يقتضيه الشباب» نفس المصدر، وتاريخ ابن خلدون 6/ 524. (¬226) لم يذكر أحد من المؤرخين نزول الافرنج تونس في عهد الخليفة المستنصر؟؟؟ الموحدي، ولا ندري على ما اعتمد المؤلف. (¬227) 1223 م. (¬228) رجع إلى النقل من وفيات الأعيان 7/ 16. (¬229) هو أخو المنصور وهو المعروف بالمخلوع، تاريخ الدولتين ص: 20 وكتاب العبر 7/ 525. (¬230) في الأصول: «دارا».

المعتصم

بعد تسعة أشهر من ولايته (¬231)، وكان يوم ولايته أبو محمد عبد الله ابن الأمير يعقوب المذكور بالأندلس، فامتنع بمرسية، ورأى أنه أولى بالأمر من عبد الواحد، وخرج إلى ما في جهته من بلاد الأندلس فاستولى عليها بغير كلفة وتلقب «بالعادل»، فلما خنق عبد الواحد بمرّاكش، ثارت الافرنج بالأندلس على العادل وتواقفوا (¬232)، فانهزم أصحابه هزيمة شنيعة وهرب هو فركب البحر يريد مرّاكش، وخلف باشبيلية أخاه أبا العلاء (¬233) ادريس ابن الأمير يعقوب، وقاسى (¬234) العادل شدائد في طريقه إلى مرّاكش [من العربان]» (¬235). «ثم (¬236) خلع العادل واقتحم عليه القصر وانتهبوه، وقتل العادل خنقا في الثاني والعشرين من شوال سنة أربع وعشرين وستمائة (¬237) فكانت مدته من حين بويع بمرسية ثلاث سنين وثمانية أشهر وعشرة أيام». المعتصم: «وبويع بعده بمرّاكش أبو زكرياء يحيى بن النّاصر ولقب «المعتصم» (¬238) «وكان اذ ذاك كما بقل (¬239) / وجهه (غير أنه) (¬240) لم يجرّب الأمور، ولم يلبث إلاّ أياما قلائل حتى ورد الخبر من الأندلس أن أبا العلاء (¬241) ادريس ابن الأمير يعقوب ادعى الخلافة لنفسه باشبيلية وبايعه أهل الأندلس، ولقب «المأمون»، فآل أمر المعتصم إلى أن حصره العرب بمرّاكش وهزموا عسكره مرة بعد أخرى، حتى ضجر منه أهل مرّاكش وتشاءموا به وأخرجوه، فهرب إلى جبل درن، ثم أرسل في الباطن جماعة من أهل مرّاكش ليعود إليها ويقتل من بها من (العربان) (¬242) أعوان المأمون، فحضر إليها وقتل المذكورين. ¬

(¬231) الوفيات 7/ 16. (¬232) وفيات الأعيان التي ينقل عنها المؤلف: «وتواقعوا» 7/ 16 والصحيح تواقفوا. (¬233) في الأصول: «العلي» وفي الوفيات: «العلا»، والمثبت من تاريخ الدولتين ص: 22. (¬234) في ش: «وقاس». (¬235) وفيات الأعيان 7/ 16. (¬236) رجع إلى النقل من تاريخ الدّولتين ص: 21. (¬237) 5 أكتوبر 1226 م. (¬238) تاريخ الدولتين ص: 22. (¬239) كذا في ط والوفيات، وفي ش: «نفل». (¬240) في الوفيات: «غرّ لم» 7/ 16. (¬241) في الأصول: «العلى». (¬242) زائدة عن الوفيات التي ينقل عنها المؤلف.

المأمون ومن ولي بعده إلى نهاية الدولة الموحدية

المأمون ومن ولي بعده إلى نهاية الدولة الموحدية: وجاء أبو العلاء (*) المأمون من الأندلس، وقد خرج عليه بها الأمير محمد بن يوسف بن هود الجذامي، ودعا بنفسه لبني العبّاس فمال إليه النّاس ورجعوا عن المأمون، فلما انتهى المأمون إلى مرّاكش وجد بها المعتصم، فتواقفا فانهزم المعتصم إلى الجبل فاستولى المأمون على مرّاكش. فجمع (¬243) المعتصم رجالا وقصد المأمون بمرّاكش فهزمه المأمون مرارا وضعفت جماعته، فألجأته الضرورة إلى الاستجارة بقوم في حصن بجهة تلمسان (¬244) وكان لغلام منهم ثأر بأبيه فرصده يوما وهو راكب فطعنه فقتله، واستبد المأمون بالأمور. وكان شجاعا حازما صارما فتاكا (¬245) «استدعى الأشياخ وأهل الرأي من الموحدين واستظهر عليهم بعهودهم التي نبذوها واستفتى من حضر بمشهد منهم فأفتى الفقهاء بحكم الله فحمل عليهم السّيف وأبادهم، وظهر له (¬246) أن يطمس أثر دعوة / المهدي فمحا اسمه من السّكّة، وأعاد شكل الدّرهم إلى معناه، ولعنه فوق المنبر، ولما قفل من حركته التي دوخ بها المغرب إلى مرّاكش بوادي العبيد (¬247) أدركه المرض فأسرعوا به ثم مات المأمون في الغزو حتف أنفه «قيل سنة ثلاثين وستمائة (¬248)، وأخفى ولده موته حتى دبّر أمره وبلغ مأمنه، وهو أبو محمد عبد الواحد بن المأمون، ولقّب الرشيد، فتقدم بعد موت أبيه وغلب على أخيه الأكبر، واستبدّ بالأمر، وأعاد اسم المهدي في الخطبة، فاستمال بذلك قلوب النّاس، فملك المغرب الأقصى، وبعض الأندلس» ثم توفي سنة أربعين وستمائة (¬249) غريقا ببركة من برك القصر وكتم حاجبه أمره حتى تولى بعده أخوه ¬

(*) في الأصول: «العلى». (¬243) في ش «أجمع». (¬244) وكان يحيى بن النّاصر لما نكث الخلط بيعته لحق بعرب معفل فأجاروه ووعدوه النصرة، وأشطوا في المطالب، فآسف بعضهم بالمنع، فاغتاله في جهة تازان وسيق رأسه إلى الرشيد بفاس (الاستقصا 2/ 219) تاريخ ابن خلدون 6/ 529 - 530. (¬245) وفيات الأعيان 7/ 16 - 17. (¬246) في ش: «لهم». (¬247) في تاريخ الدولتين: «بوادي أم الربيع» ص: 26. (¬248) 1132 - 1133 م، والنقل الآتي من الوفيات 7/ 17. (¬249) قالها ابن خلكان في شيء من التحفظ، وقال: «قيل وكان إلى سنة احدى وأربعين وستمائة ملك المغرب الأقصى وبعض الأندلس» 7/ 17.

لأبيه ويلقّب السّعيد وهو أبو الحسن علي بن ادريس (¬250)، ثم خرج إلى ناحية تلمسان، وحاصر قلعة بينها وبين تلمسان مسافة يوم واحد، فقتل هناك على ظهر فرسه في صفر سنة ست وأربعين وستمائة (¬251) «- وفي هذه الوقعة ظهرت دولة بني زيّان وقوي أمر بني مرين كما يأتي خبرهما - ان شاء الله تعالى -». وبعد وفاته تولى ابنه المرتضي أبو حفص عمر بن ابراهيم (¬252) بن يوسف في شهر ربيع الآخر من السنة، وفي الحادي والعشرين من المحرم سنة خمس وستين وستمائة (¬253)، دخل الواثق أبو العلاء (¬254) ادريس بن أبي عبد الله يوسف (¬255) بن عبد المؤمن المعروف «بأبي دبوس»، مرّاكش، وهرب المرتضي إلى آزمور، وهي من نواحي مرّاكش، فقبض عليه عامله بها وبعث إلى الواثق بذلك / فأمر الواثق بقتله، فقتله في العشر الأخير من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وستمائة (¬256) بموضع يقال له كتامة، يبعد عن مرّاكش ثلاثة أيام. وأقام الواثق ثلاث سنين وقتل في الحرب التي كانت (¬257) بينه وبين بني مرين (¬258)، ومنشأ هذه الحرب (¬259) أن أبا دبّوس لما كان الملك في يد المرتضي (هرب لملك بني مرين، وانتدب إليه في اجتثاث أصل أبي حفص المرتضي) (¬260) وعاهده على تسليم شطر ما يناله، فعقد عليه الجيش، وأصحبه إلى السّلطان المرتضي في آخر عام أربعة وأربعين وستمائة (¬261) فتغلّب على الحضرة وفرّ المرتضي، فلما قتل استبدّ أبو دبوس، ¬

(¬250) كذا بالوفيات، وهو أدريس المأمون. (¬251) كذا بالوفيات 7/ 18، وتاريخ الدولتين ص: 31. ماي جوان 1248 م. (¬252) كذا بالوفيات التي ينقل عنها المؤلف، وهو «ابراهيم اسحاق» أخ المنصور، كتاب العبر 6/ 452. (¬253) 22 أكتوبر 1266 م. (¬254) كذا بالأصول والوفيات وفي كتاب العبر: «أبو العلى» 6/ 547. (¬255) كذا بالوفيات 7/ 18 وفي كتاب العبر 6/ 547 «أبو العلي بن السيد أبي عبد الله محمد بن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن». (¬256) جانفي 1266 م. (¬257) في ش: «الذي كان». (¬258) انتهى نقله من الوفيات 7/ 17 - 18. (¬259) عن هذه الحرب انظر ابن خلدون كتاب العبر 6/ 547 - 552. (¬260) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬261) 1247 م.

وخان عهد بني مرين فحاربوه بوادي اغفو (¬262) ثاني شهر محرم فاتح سنة ثمان وستين وستمائة (¬263). فلما بلغ خبر موته بايع النّاس ولده عبد الواحد وخطب جمعة واحدة من المحرم، فزحف إليه أبو يوسف يعقوب المريني فخرج هاربا هو واخوته وبنو عمه وجميع الموحدين فنهبوا من ساعتهم فقتل وكانت مدته سبعة أيام (¬264)، وانقضت دولة بني عبد المؤمن فكان قتل عبد الواحد في المحرم سنة ثمان وستين وستمائة تحت جبلها. «وأما أبو دبّوس فقتل بموضع بينه وبين مرّاكش مسيرة ثلاثة أيام في جهة الشمال منها» (¬265). واستولى بنو مرين على ملكهم والملك لله الواحد القهّار {قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ} (¬266). فكانت دولة عبد المؤمن وبنيه مائة سنة وأربعة وأربعين سنة / وأحد عشر شهرا وثلاثة وعشرين يوما والله أعلم بغيبه. ¬

(¬262) في الأصول: «عفو» والمثبت من ابن خلدون 6/ 551 وفي الاستقصا: «دغفو» 2/ 24. (¬263) كذا في العبر.1 سبتمبر 1269 م. (¬264) في كتاب العبر «خمسة أيام». (¬265) كذا في كتاب العبر (سبتمبر 1269 م). وبعدها في نص المؤلف: «فقتل يوم الجمعة غروب الشمس آخر يوم من ذي الحجة من سنة سبع وستين» أسقطناها اذ كيف يمكن محاربة بني مرين لأبي دبوس في محرم سنة 668 ويكون قتله في ذي الحجة سنة 667، وقد بويع ابنه عبد الواحد في محرم لمدة خمسة أيام كما ذكر ابن خلدون والصحيح أن يعقوب بن عبد الحق استولى على مراكش في أوائل محرم سنة 668 أي اثر قتل أبي دبوس اذا اعتبرنا كلام ابن خلدون صحيحا وفي الوفيات أيضا قتل في سنة 668 هـ ‍ وأسقطناها أيضا لأنه أعطى التاريخ الصحيح بعد أسطر. (¬266) سورة آل عمران: 26.

الباب الثاني في فتح عبد المؤمن للمهدية والبلاد الساحلية بعد استيلاء الافرنج عليها حسبما ذكره ابن الأثير وغيره من أئمة التاريخ

الباب الثاني في فتح عبد المؤمن للمهدية والبلاد الساحلية بعد استيلاء الافرنج عليها حسبما ذكره ابن الأثير وغيره من أئمة التاريخ أسباب احتلال النرمان للمهديّة: ذكر التجاني في رحلته (¬1): «ان يحيى بن تميم الصّنهاجي تولّى بعد وفاة أبيه تميم سنة احدى وخمسمائة (¬2) فكان مما حدث في أيامه من الأسباب المؤدية إلى تغلب النّصارى على المهديّة التّغلّب الثاني الذي أدّى إلى انقراض دولة صنهاجة منها أن نصرانيا اسمه جرجير الأنطاكي (¬3)، كان قد هاجر إلى تميم من المشرق، وكان قد عرف لسان العرب وبرع في الحساب وتهذّب بالشّام بأنطاكية وغيرها، فحكّمه تميم في دخله وخرجه، وجعل مصارف الأموال إلى نظره فصارت أموال المسلمين كلّها في يده وأيدي أقاربه، وكان في غاية الاتّساع من الأموال، فلمّا مات تميم خاف هذا النّصراني من يحيى فكاتب لجار صاحب صقلية، وأعلمه أنه يحبّ الانتقال إليه، (فوجه لجار إليه) (¬4) قطعة أظهرت أنها وصلت في رسالة، فخرج هذا النّصراني وأقاربه في يوم جمعة (¬5) عند اجتماع النّاس للصلاة، وتزيّوا بزي البحريين، فطلعوا فيها، وتمّ لهم أمرهم، فلم يفطن النّاس لهم الاّ وقد أقلعوا، ولمّا وصلوا إلى صقليّة حكّمهم عبد الرحمان النّصراني صاحب أشغالها (¬6) في الجبايات فنصحوا وأظهروا نصحهم، واحتاج لجار أن يوجه رسولا إلى مصر فأشار عليه (¬7) عبد الرّحمان النّصراني بجرجير هذا فأرسله ونصح وأقبل بذخائر ملوكية أحظته عند لجار. ¬

(¬1) رحلة التجاني بتصرف يسير ص: 333 - 334. (¬2) 1107 - 1108 م. (¬3) كذا في الأصول وفي رحلة التجاني، وفي كتاب العبر 6/ 344 والكامل لابن الأثير 126: «جرجي». (¬4) في الأصول: «فتجهز في» والمثبت من الرحلة ص: 333. (¬5) كذا في ط والرحلة، وفي ش: «الجمعة». (¬6) أي وزير ماليتها. (¬7) في الأصول: «اليه».

ثم مات يحيى بن تميم بالمهدية سنة تسع وخمسمائة (¬8). وولي بعده ابنه علي بن يحيى / فوقعت الوحشة بينه وبين لجار بسبب السّفينة التي أنشأها رافع بن مكي بن كامل بقابس حيث منعه منها علي، فاستنصر رافع بلجار فوقعت المقاتلة بين أسطول علي وأسطول لجار بسببها» (¬9). «وأصل (¬10) رافع هذا، أن قابس خالفت على تميم إلى طاعة العرب القادمين من مصر على المعز حين تغلّبوا على بعض البلاد، فوليها منهم مكي بن كامل بن جامع، ثم وليها بعد ابنه رافع بن مكي فتوفي تميم ورافع هذا متولي قابس، ثم ولي يحيى بن تميم فصالحه وداراه طول حياته، ولما توفي يحيى وتولى بعده ابنه علي، أنف من مصالحة رافعا. وكان يحيى يحتمل (¬11) لرافع أمورا منها: أن رافعا أنشأ بساحله (¬12) سفينة أعدّها لما يعرض له في البحر من الأمور، فلم يظهر يحيى انكارا لذلك، بل أعانه عليها وأمدّه بما احتاج إليه فيها، فلما ولي أنف من ذلك وكره أن يقاومه أحد من أهل افريقية في اجراء السّفن في البحر، فأنفذ أسطولا إلى قابس يمنع هذه السّفينة من الاقلاع وأخذها ان أقلعت، وعلم بذلك رافع فكتب للجار يسأله الاعانة على علي، ويخبره [أنه] (¬13) انما أنشأ السّفينة لهديّة يحب أن يهديها إليه، فبعث لجار أسطولا ضخما إلى قابس لنصرة رافع، فلما بلغ ذلك عليّا جمع رجال دولته واستشارهم في ذلك فكلهم أشار (¬14) عليه باسترجاع أسطوله والتغاضي عن رافع في هذه المسألة حفظا لما بينه وبين لجار من المصالحة، فرأى علي أن عليه وهنا في ذلك، فأمر بقية أسطوله فأخرج في الحين ووجّهه إلى قابس فوجدوا الروم قد نزلوا / من قطعهم لضيافة أعدّها رافع لهم، فلم يرعهم الاّ وصول الأسطول، فبادروا إلى قطعهم فغلبهم المسلمون على أكثرها وقتلوا منهم جماعة كبيرة (¬15)، ثم ان رافعا خرج إلى القيروان. وملك قابس بعده محمد بن رشيد - مصغر راشد، وهو من بني جامع - وغلب على دولته مولاه يوسف، فاتفق أن خرج محمد من قابس لحرب عدو له وترك أحد بنيه نائبا عنه فطرده يوسف، واستولى على المدينة، وانتسب إلى طاعة لجار، فقام عليه أهل ¬

(¬8) 1115 - 1116 م. (¬9) الرحلة ص: 333 - 334. (¬10) انتقل إلى صفحة 97 منها. (¬11) في الأصول: «يتحمل». (¬12) بساحل قابس. (¬13) اضافة من الرحلة يقتضيها الاملاء. (¬14) في الأصول: «أشاروا». (¬15) في ش: «كثيرة».

احتلال النرمان للمهدية

قابس ودفعوه إلى العرب فعذبوه عذابا شديدا وقطعوا مذاكره لأنهم نسبوه للتعرض لحرم مولاه، وكان ليوسف أخ اسمه عيسى ففرّ إلى صقلية مستنصرا بطاغيتها، وزعم أن أخاه إنما فعل ما فعل لأنه منتسب إلى طاعته، فأخرج لجار أسطوله لحصار قابس فحاصرها مدة ثم رجع» (¬16)، فهذا ما كان من أحد الأسباب الموجبة لوحشة لجار الخبيث مع علي بن يحيى. ثم إنه «وصل (¬17) باثر ذلك رسول لجار إلى علي يقتضي أموالا كثيرة كانت تثقفت له بالمهديّة، وكان علي عند تلك الوحشة أمسك وكلاءه فسرّحهم له علي ووجههم إليه بأمواله، فلما وصلت إليه وجّه رسولا ثانيا بمكاتبة فيها إغلاظ وتهديد وتقصير على العادة وإساءة أدب، فأغضب ذلك عليّا وصرف رسوله دون جواب، وبلغ عليّا أن النّصراني يتهدده ويتوعده فأمر باستجداد الأساطيل والاستعداد لقتاله، / فأنشأ أسطولا قويت الأنفس به، ولم تزل الفتنة متأكدة بينهما إلى أن مات علي وولي بعده ابنه الحسن، فكاتب أمير الملثمين بالمغرب علي بن يوسف بن تاشفين، واتّفق باثر ذلك أن وصل أسطول علي بن يوسف مع قائده علي بن ميمون إلى بلاد لجار، فاستفتح منها حصونا وسبى منها سبايا كثيرة، فلم يشك النّصراني أن الباعث لعلي بن يوسف على ذلك انما هو الحسن، فاستجاش من كان قبله وحشد أجناده ومقاتليه، وبالغ في كتم أمره بمنع السفر إلى سواحل المسلمين، ولم يخف عن الحسن مقصده وخشي أن يطرق بلاده دون تأهّب له فأمرهم باتّخاذ الأسلحة وتشييد الأسوار واستقدام القبائل من العرب وغيرهم للجهاد، فوصلت الحشود إليه من كل جهة ونزلت الأعراب بظاهر المهديّة. احتلال النرمان للمهديّة: فلمّا كان يوم السبت لخمس بقين من جمادى الأولى سنة سبع عشرة وخمسمائة (¬18) وصل أسطول لجار إلى المهديّة فأرسى بالجزيرة المعروفة هناك «بجزيرة ¬

(¬16) عن أمراء بني جامع وأمراء المهدية من سلالة المعز بن باديس ورجار ملك صقلية أنظر رحلة التجاني ص: 97 - 98 عند الكلام عن قابس، ومنه نقل المؤلف نصه بتصرف. (¬17) عاد إلى النقل مما ذكره التجاني عن المهدية ص: 334. (¬18) 21 جويلية 1123 م.

الأحاسي» (¬19) وهي على عشرة أميال من المهديّة، ونزل قائده عبد الرحمان وجرجير إلى الجزيرة، وضربت لهما ولمقدمي الافرنج مضارب هنالك، وكان وصولهم آخر النهار فخرج منهم إلى البر تلك الليلة خلق كثير وانبسطوا حتى بعدوا عن البحر أميالا ثم عادوا إلى الجزيرة، ووصل القائدان في اليوم الثاني في البحر في بعض / قطعهم إلى المهديّة فأطافا بها وانتهيا إلى ساحل زويلة فهالهما (¬20) ما رأيا بالأسوار والسّواحل من النّاس وانصرفا عائدين إلى الجزيرة، فوجدا طائفة من العرب ومن الأجناد قد دخلوا إليها وكشفوا من كان بها من الرّوم عن مواضعهم، وقتلوا منهم قوما وانتهبوا أسلحتهم. فلمّا كان اليوم الثالث تمكّن النّصارى من القصر المعروف بقصر الدّيماس، وحصل به زهاء (¬21) مائة منهم باعانة بعض الأعراب لهم على ذلك لما مناهم به عبد الرّحمان وصاحبه، وقد كان لجار أمرهما (¬22) بالنزول بجزيرة الأحاسي والتّحيّل في أخذ قصر الدّيماس بمباطنة العرب ثم الزّحف من هناك في البر بالرّجال والخيل إلى المهديّة. فلمّا كان اليوم الرّابع اجتمع المسلمون وخرجوا من المهديّة وكبّروا تكبيرة واحدة راعت من في الجزيرة، فظنّوا أنهم داخلون إليهم فانهزموا إلى مراكبهم وقتلوا بأيديهم كثيرا من خيلهم، ودخل المسلمون الجزيرة وليس بها أحد منهم فوجدوا فيها خيلا وآلات وأسلحة أعجلهم الهرب عن حملها، وأحاطوا بقصر الدّيماس يقاتلونه والأسطول في البحر يعاين ذلك ولا يستطيع اغاثة من في القصر لكثرة ما اجتمع في البر من عساكر المسلمين، فلمّا علموا أنهم غير قادرين على انقاذ (¬23) من في القصر أقلعوا عائدين إلى صقليّة، وأقام المسلمون يقاتلون من حصل بقصر الدّيماس منهم إلى أن اشتدّ عليهم الحصار وفني ماؤهم وطعامهم فخرجوا منه ليلة الأربعاء لرابع عشر من جمادى الآخرة، فتخطفتهم سيوف الأعراب / فقتلوا عن آخرهم. ¬

(¬19) هي جزيرة كائنة في عرض رأس الديماس على نحو 10 أميال شمال المهدية، والاحاسي ج حسي أو حسا بمعنى بئر في أرض رمليه، أرض صلبة مغطاة بالتراب حيث تتسرب إليها المياه وحيث يوجد الماء فيها بسهولة وفي عمق قليل. أنظر: بلاد البربر الشرقية في عهد الزيريين لهادي روجي ادريس، باريس 1962، 1/ 335. La Berberie orientale sous les Zirides . (¬20) في ش: «أهالهما». (¬21) في ش: «زهى». (¬22) في ش: «أمرهم». (¬23) في الرحلة «استنقاذ».

وهنئ الحسن بهذا الفتح، ولم يدر ما تحت طيه من المحنة التي خصته وعمّت المسلمين لسببه. ولما أقلع الأسطول إلى صقلية خائبا خاسرا أغاظ لجار ذلك، ثم اتفق باثره أن وصل أسطول الملثم من المغرب وقائده محمد بن ميمون، فعاث في بلاد لجار وقتل وحمل نساءها سبيا إلى بلاده، وكان لجار كلّما وصله أسطول من المغرب إلى بلاده نسبه إلى الحسن فعزم العزم المصمّم على غزو المهديّة وأنشأ في ظاهر الأمر بينه وبين الحسن صلحا وفي نفسه ما فيها لتتم خديعته ويتمكّن من مراده، وكان بين الحسن وبين ابن عمّه يحيى ابن العزيز بن باديس بن المنصور بن النّاصر بن علناس (¬24) بن حماد صاحب بجاية من المخالفة ما أوجب أن بعث يحيى في هذه المدّة لمحاصرته (¬25) بالمهديّة أسطولا في البحر وجيشا في البر، قائده مطرّف بن علي بن حمدون الفقيه، فحصر المهديّة بحرا وبرا ونزل مطرّف بن علي بجيشه بظاهر زويلة فاستمدّ الحسن لجار فأمدّه بأسطول، فعلم مطرّف بذلك فارتحل عن المهديّة مسرعا، وكانت للجار جواسيس بالمهديّة فكتبوا إليه يعلمونه أن بمرساها مراكب قد استوفت وسقها، فأمر جرجير قائد الأسطول المتوجه للنصرة بالهجوم عليها وأخذها ففعل ذلك غدرا وحملها إلى صقلية، ثم هجم بعد ذلك على مرسى المهديّة فأخذ منها مركبا كان الحسن قد احتفل به وشحنه بذخائر ملوكية ليوجه بها إلى الحافظ / العبيدي صاحب مصر وكان ذلك المركب يسمّى «نصف الدنيا». ولم يزل يرسل الغزو عليها بأساطيله والمقدم عليها جرجير المذكور وهو العارف بالمهديّة حاضرة وبادية ويضعفه بذلك إلى أن دخلت سنة ثلاث وأربعين. وقال ابن الأثير (¬26) ففي سنة احدى وأربعين وخمسمائة (¬27) سار أهل قابس إلى لجار مستعينين (¬28) به على ردّ محمد بن رشيد (¬29) وكان بين لجار وبين الحسن بن علي صاحب ¬

(¬24) في الأصول: «علقاس» والمثبت من رحلة التجاني ص: 339. (¬25) في الأصول: «لمحاصرة المهدية» والمثبت من رحلة التجاني ص: 340. (¬26) باختصار كبير من الكامل لابن الأثير 11/ 118 - 129 في حوادث سنة 541 و 542 وحوادث سنة 543. (¬27) 1146 - 1147 م. (¬28) في ش: «مستعين». (¬29) معمر (الكامل) وفي ص: 120 محمد ولعل معمر تحريف، وفي تاريخ ابن خلدون 6/ 342 «محمد» وفي المؤنس: «معمر» ومحمد ومعمر أخوان من أبناء رشيد بن كامل صاحب قابس، وهم من بني جامع، ولم يأت في ابن الأثير ولا في كتاب العبر أن أهل قابس استعانوا برجار على رد محمد بن رشيد الذي خرج من قابس بعد أن استبد مولى أبيه يوسف بها، بل ان أهل قابس ثاروا على يوسف واستجاشوا عليه بالحسن صاحب المهدية وولوا معمر بن رشيد فاستجار واستغاث برجار عليهم أنظر الكامل 11/ 120.

المهديّة صلح وعهود إلى مدّة سنتين فلمّا كانت سنة اثنتين وأربعين (¬30) زاد ما نزل بالنّاس من شدّة الغلاء الذي ابتدأ جميع بلاد المغرب من سنة سبع وثلاثين، ففارق النّاس البلاد والقرى ودخل أكثرهم إلى جزيرة صقليّة، وأكل النّاس بعضهم بعضا (¬31)، وكثر الموت في النّاس، وكان لجار يتمنى الاستيلاء والتّغلب على بلاد افريقية (فاغتنم الفرصة وقدر أنه لم يبادر في هذه الشدّة لم يتأت له مطلوب) (¬32) «زاد غيره فأضعف الغلاء أكثر جند الحسن، وأهلك خيلهم ومع ذلك فكانت بقية العسكر في محاربة ابن خراسان صاحب تونس عضدا لمحرز بن زياد صاحب المعلّقة» (¬33)، فلمّا كانت سنة ثلاث وأربعين (¬34) «عمّر (¬35) أسطولا كبيرا وأكثر من المراكب فبلغ نحوا من مائتين وخمسين شينيا (¬36) وقيل ثلاثمائة مركب مملوءة رجالا وسلاحا وقوتا (¬37) وسار الأسطول عن صقليّة فوصل إلى جزيرة قوصرة، فصادفوا بها مركبا وصل من المهديّة فأخذ / أهله وأحضروا بين يدي جرجير (¬38) فسألهم عن حال افريقية ووجد في المركب قفص حمام فسألهم هل أرسلوا منها شيئا فحلفوا أنهم ما أرسلوا شيئا، فأمر الرّجل الذي كان الحمام صحبته أن يكتب بخطه أنه لما وصلنا إلى جزيرة قوصرة وجدنا بها مراكب من صقليّة فسألناهم عن الأسطول المخذول، فذكروا أنه أقلع إلى جزائر القسطنطينيّة. وأطلق (¬39) الحمام فوصل إلى المهديّة، فانخدع الأمير حسن والنّاس، وفرحوا بذلك وأراد جرجير بذلك أن يصل بغتة، ثم سار - وقدر وصولهم إلى المهديّة وقت ¬

(¬30) 1147 - 1148 م. (¬31) تعبير مجازي أقرب للعامية منه للفصحى وقريب من المثل الشعبي: «حوت ياكل حوت وقليل الجهد يموت» وما بالنص يعبر عن اشتداد الأزمة. (¬32) في الكامل: «فاغتنم رجار هذه الشدة» 11/ 125. (¬33) رحلة التجاني 341. (¬34) 1148 - 1149 م. (¬35) رجع إلى النقل من الكامل 11/ 125. (¬36) وشيني بالفرنسية (Galere) وبالايطالية (Galera) أقدم أنواع السّفن وردت في التاج للزبيدي «الشونة» المركب المعد للجهاد في البحر وجاء في المستدرك «الشين» المركب الطويل. وفي العصور الوسطى كانت أهم القطع التي يتركب منها الأسطول الاسلامي انظر سعاد ماهر، «البحرية في مصر الاسلامية»، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، ص: 352. (¬37) في الأصول: «وقوة». (¬38) في الكامل 11/ 125 وفي كتاب العبر 6/ 344 «جرجي مقدم الأسطول». (¬39) في ش: «وأطلقوا».

السحر - ليحيط بها قبل أن يخرج أهلها، فلو تمّ له ذلك لم يفلت من النّاس أحد فقدّر الله عليهم بارسال ريح هائلة عاكستهم (¬40)، فلم يقدروا على المسير الاّ بالمقاذيف، فطلع النّهار ثاني صفر من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة (¬41) قبل وصولهم، فرآهم النّاس، فلما رآهم جرجير (¬42)، وعلم أن الخديعة فاتته، أرسل إلى الأمير حسن يقول: إنما جئت بهذا (¬43) الأسطول طالبا ثأر محمد بن رشيد صاحب قابس وردّه إليها، وأما أنت فبيننا وبينك عهد وميثاق إلى مدة، ونريد منك عسكرا يكون معنا. فجمع (¬44) الحسن النّاس من الفقهاء والأعيان وشاورهم، فقالوا: نقاتل عدونا فان بلدنا حصين، فقال: أخاف أن ينزل إلى البر ويحصرنا برا وبحرا، ويحول بيننا وبين الميرة، وليس عندنا ما يقوتنا شهرا، فنؤخذ قهرا، وأنا أرى سلامة المسلمين من القتل والأسر خيرا / من الملك، وقد طلب مني عسكرا لقابس، فان فعلت فما يحلّ لي معونة الكفّار على المسلمين، وإن امتنعت يقول: انتقض ما بيننا من الصّلح، وليس يريد الاّ أن يثبطنا حتى يحول بيننا وبين البر، وليس لنا بقتاله طاقة، والرأي أن نخرج بالأهل والولد ونترك البلد، فمن أراد أن يفعل كفعلنا فليبادر معنا، وأمر في الحال بالرّحيل وأخذ معه من حضره [وما] خف حمله، وخرج النّاس على وجوههم بأهاليهم وأولادهم وما خف من أموالهم وأثاثهم، ومن النّاس من اختفى عند النّصارى وفي الكنائس، وبقي الأسطول في البحر تمنعه الرّيح من الوصول إلى المهديّة إلى ثلثي النّهار، ولم يبق في البلد ممن عزم على الخروج أحد، فوصل الافرنج ودخلوا البلد من غير مانع ولا مدافع، ودخل جرجير (42) القصر فوجده على حاله لم يأخذ الحسن منه الاّ ما خفّ حمله من ذخائر الملوك وفيه جماعة من حظاياه، ورأى الخزائن مملوءة من الذخائر النفيسة وكل شيء غريب قلّ وجود مثله، فختم عليه، وجمع سراري الحسن في قصره (¬45) فكان ولاية صنهاجة من زيري إلى الحسن (مائة سنة وثمانين سنة من سنة احدى ¬

(¬40) في ش: «ريح هائل عاسفهم» وفي ط: «عاصفهم» والمثبت من الكامل 11/ 126. (¬41) 22 جوان 1148 م. (¬42) في الكامل «جرجي» وفي رحلة التجاني جرجير كما أشرنا. (¬43) في ش «بهذه». (¬44) في ش «أجمع» وفي ط «اجتمع» والمثبت من الكامل. (¬45) في الأصول «القصر».

هروب الحسن الصنهاجي والتقائه بعبد المؤمن

وستين وثلاثمائة) (¬46) إلى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة (¬47)، وكان بعض القواد أرسله الحسن إلى لجار برسالة، فأخذ لنفسه وأهله منه أمانا، فلم يخرج معهم، ولما ملك جرجير المهديّة (¬48) نهبت مقدار ساعتين، ونودي بالأمان، فخرج من كان مستخفيا، وأصبح جرجير من الغد، فأرسل إلى من قرب من العرب مشاكليه (¬49) / فدخلوا عليه، فأحسن إليهم وأعطاهم أموالا جزيلة (¬50)، وأرسل من جند المهديّة الذين تخلّفوا بها جماعة، ومعهم أمان لأهل المهديّة الذين خرجوا منها، ودواب يحملون عليها الأطفال والنّساء، وكانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع والعطش والتّعب (¬51)، ولهم بالمهديّة خبايا وودائع، فلما وصل إليهم الأمان رجعوا فلم تمض جمعة الاّ وقد رجع أكثر أهل البلد. هروب الحسن الصنهاجي والتقائه بعبد المؤمن: وأما الأمير الحسن فانه سار بأهله وأولاده، وكانوا اثني عشر ذكرا غير الاناث، وخواص خدّامه، قاصدا إلى محرز بن زياد، وهو بالمعلّقة، فلقيه في طريقه أمير من العرب يسمّى حسن بن ثعلب، فطلب منه مالا انكسر له في ديوانه، فلم يمكن الحسن اخراج مال لئلا يؤخذ، فسلّم إليه ولده يحيى رهينة وسار، فوصل في اليوم الثاني إلى محرز الذي كان أرسل إليه عسكره فوجد عسكره هناك (¬52)، «ولقيه محرز (¬53) بالبر والكرامة، وأنزله عنده، وتوجّع لما حلّ به، فأقام عنده أشهرا، والحسن كاره للاقامة لما رأى في عيني محرز من السآمة فأراد المسير إلى مصر وواليها اذ ذاك الحافظ عبد المجيد (¬54) ¬

(¬46) في الأصول نقلا عن ابن الأثير «مائني سنة وثماني سنين من سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة» وما أثبتناه هو الواقع التاريخي. (¬47) 1148 - 1149 م. (¬48) في الكامل: «المدينة». (¬49) زائدة عن الكامل. (¬50) في ش: «جزيلا». (¬51) زيادة عن الكامل. (¬52) الكامل لابن الأثير: 11/ 125 - 128. (¬53) النقل الآتي من رحلة التجاني ص: 342. (¬54) كذا في ط ورحلة التجاني، وفي ش: «عبد الحميد».

ابن محمد المستنصر بن الظاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي، وباسمه كان الحسن يخطب في بلاده، فابتاع من تونس مركبا لسفره فعلم جرجير (¬55) بذلك فأعد له عشرين قطعة ترقب إقلاعه فتتبّعه، وعلم بذلك الحسن فعدل عن السّفر لمصر، ونظر في التّوجه للخليفة عبد المؤمن بن علي بالمغرب، وأنفذ / كبار أولاده يحيى وتميما وعليا إلى ابن عمه يحيى بن العزيز صاحب بجاية وهو من بني حمّاد وهما أولاد عمّ، وكتب إليه يستأذنه في الوصول إلى حضرته وأن يكون توجهه إلى عبد المؤمن بعد الاجتماع به فتلقى بنيه ميمون بن حمدون وزير يحيى أحسن تلق وكتب على لسان يحيى إلى الحسن بالتوجع على ما جرى عليه والتحريض على الوصول إليه والعدول على ما خطر بخاطره من قصد غيره، فأعلم الحسن محرز بن زياد بما كتب إليه ابن عمه، فأشار عليه بالتنكب عنه، وأن يتوجه حيث شاء فهو خير له منه، فلم يطعه الحسن، وتوجه إلى بجاية، فلما قرب منها ندب يحيى وزيره إلى لقاء الحسن فامتنع من ذلك، فأمر أخاه قائد بن العزيز بالخروج إلى لقائه مع مشيخة البلد وأن يعدلوا به عن بجاية إلى الجزائر فيكون مقامه بها، ففعل أخوه ذلك وأنزله هو وأولاده بمدينة الجزائر في أمكنة لا تليق بهم، وأجرى عليهم جرايات لا تكفيهم، وأمر ميمونا بمراعاة الحسن ومنعه من السّفر والكتب إلى الخليفة عبد المؤمن لما توقعه من استعانة عبد المؤمن به في أخذ بجاية، فبولغ في التّشديد عليه في ذلك، وأقام ساكنا بها إلى أن نزل عبد المؤمن المغرب الأوسط وقد تغلّب على جميع بلاد المغرب الأقصى وجميع جزيرة الأندلس وذلك عام سبعة وأربعين وخمسمائة (¬56) فتغلّب على مليانة والجزائر، فاجتمع الحسن به هنالك، وقد سار إليه وهو / بمدينة متّيجة فأقبل عبد المؤمن عليه وقرّبه (¬57) إليه واستصحبه معه وجعل الحسن يغريه بأخذ بجاية حسدا لابن عمّه ورغبة في خروج الملك من يده ليتساويا (¬58) في ذلك، فنزل عبد المؤمن إلى بجاية والحسن معه فاستولى عليها وعلى جميع أعمالها، وذلك بعد هزيمته لعساكر صنهاجة بجبل زيري وأعان أيضا يحيى على نفسه بانهماكه في لذّاته وإهماله تدبير دولته وتفويض الأمر لغيره. ¬

(¬55) كذا في رحلة التجاني. (¬56) 1152 - 1153 م. (¬57) أنظر ابن الأثير، الكامل 11/ 158 - 159 في حوادث سنة 547. (¬58) في الأصول وفي رحلة التجاني: «ليتساووا» وقد علق محقق الرحلة من جهته أن الصواب «ليتساويا».

احتلال النرمان لصفاقس والساحل

فلمّا استولى عبد المؤمن على بجاية فرّ يحيى بن العزيز في البحر، وكان مراده التّوجه إلى برقة والنّفوذ من ذلك إلى بغداد لعلمه أن الخليفة العبيدي بمصر ينقم عليه (¬59) الخلع الأول، فلمّا وصل إلى بونة جعل الحارث يتأفّف منه ويؤنّبه على اهمال الملك فخرج منها يحيى إلى قسنطينة وبها اذ ذاك أخوه الحسن بن العزيز فأكرمه الحسن وتخلّى له عن الأمر فأقام بقسنطينة أياما يعمل رأيه إلى أن أناب الطاعة، ودخل في ولاية الموحدين، ووصل إلى الخليفة فأكرمه وأنزله مع ابن عمّه الحسن بن علي. ثم كانت لعبد المؤمن على العرب الوقيعة المعروفة بوقيعة سطيف (¬60) هزم فيها طوائفهم، وطلع إلى الحضرة بجميع من حكم عليهم ومن جملتهم الحسن ويحيى فأسكنا في مرّاكش في مساكن حسنة ورفاهية ورزق جار، فلمّا كانت سنة ثمان وأربعين (¬61) وصل الخليفة إلى سلا (¬62) واستصحب يحيى معه فأسكنه بها / في قصور بني عشرة (¬63) وأقام بسلا (62) إلى أن مات هنالك ودفن في مقابرها الجوفية مما يلي البحر. وأما الحسن فانه أقام بمرّاكش إلى أن عاد عبد المؤمن إليها وجعل يغريه بالحركة إلى افريقية ويحضه على استنقاذ المهدية من أيدي النّصارى» (¬64). احتلال النرمان لصفاقس والسّاحل: «ولمّا استقر جرجير (¬65) بالمهديّة سير أسطولا، بعد أسبوع، إلى مدينة صفاقس (¬66)، وسيّر أسطولا آخر إلى مدينة سوسة. قال التّجاني (¬67): «أما سوسة فان أهلها سمعوا خبر المهديّة، وكان واليها علي بن الحسن بن علي الأمير، فخرج إلى أبيه ¬

(¬59) في الأصول: «عليهم». (¬60) انظر عنها مثلا الكامل 11/ 185 - 186. (¬61) 1153 - 1154 م. (¬62) في الأصول: «سلى». (¬63) في ط: «كنزه» وفي ش: «عترة» والاصلاح من الرحلة ص: 344. (¬64) إلى هنا ينتهي النقل من رحلة التجاني ص: 342 - 343. (¬65) عن استقراره بالمهدية وارساله أسطولا إلى صفاقس وسوسة انظر الكامل 11/ 128. (¬66) في ابن الأثير: «سفاقس» كما كانت تكتب آنذاك. (¬67) ولم يقل ذلك التجاني وانما قاله ابن الأثير في الكامل 11/ 128، ولعل المؤلف انتقل ذهنه من النقل عن ابن الأثير إلى النقل عن التجاني بدون تنبه.

وخرج النّاس لخروجه، فدخلها الافرنج في [ثاني] (¬68) عشر صفر بلا قتال، وأما صفاقس فان أهلها أتاهم (¬69) كثير من العرب فامتنعوا بهم، فقاتلهم الافرنج، وخرجوا لظاهر البلد، فأظهر الافرنج الهزيمة، وتبعهم النّاس حتى أبعدوا عن البلد، ثم عطفوا عليهم، فانهزم قوم إلى البلد وقوم إلى البرية، وقتل منهم جماعة، ودخل الافرنج البلد فملكوه بعد قتال شديد وقتلى كثيرة، وأسّر من بقي من الرجال وسبي الحريم، وذلك في الثالث والعشرين من صفر من السّنة المذكورة (¬70) لتملك الافرنج المهديّة، ثم نودي بالأمان، فعاد أهلها إليها، وافتكوا حريمهم وأولادهم (وسكن بالبلد طائفة من النّصارى الذين افتكوها فأمنوهم) (¬71) ورفقوا بهم وبأهل سوسة والمهديّة، وبعد ذلك وصلت كتب من لجار، (عليه غضب الجبار) (¬72) لجميع أهل افريقية بالأمان / والمواعيد الحسنة (طمعا في بقاء المسلمين تحت حكمه) {وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} (¬73) ولمّا استقرت أحوال الساحل سار جرجير (¬74) - اللعين - (¬75) في أسطول إلى قلعة اقليبية، وهي قلعة حصينة، فلمّا وصل إليها سمعت العرب فاجتمعوا إليه، ونزل إليهم الافرنج فاقتتلوا فانهزم الافرنج، وقتل منهم خلق كثير، فرجعوا خاسرين إلى المهديّة، وصار للافرنج من طرابلس الغرب إلى قريب تونس» (¬76). وفي سنة ثمان وأربعين وخمسمائة (¬77) مات الخبيث لجار (¬78) - فعجل الله به إلى سخطه وعذاب النّار وبئس القرار -، وملك بعده ابنه اللعين غليالم (¬79) فكان فاسد الدّين والتدبير خرج عن حكمه عدة من حصون صقليّة. ¬

(¬68) اضافة من ابن الأثير: الكامل، 11/ 128. (¬69) في الأصول: «أتاها». (¬70) 14 جويلية 1148 م. (¬71) زائدة عن الكامل، وفي ش: «فأمنوا لهم». (¬72) زائدة. (¬73) سورة التوبة: 32. (¬74) جرجي في الكامل كما أشرنا. (¬75) زائدة. (¬76) وبعدها في الكامل: «ومن المغرب إلى دون القيروان» 11/ 129. (¬77) 1153 - 1154 م. (¬78) انظر الكامل لابن الأثير 11/ 187 وهو روجار الثاني. (¬79) الملقب «بالسيء» لسوء سياسته.

انتفاض صفاقس وغيرها من المدن على النرمان

انتفاض صفاقس وغيرها من المدن على النرمان: فلمّا كانت سنة احدى وخمسين وخمسمائة (¬80) يسّر تعالى خلاص معظم البلاد، فأول ما أنقذ من بلاد افريقية صفاقس (¬81)، فأظهروا مخالفة الكفار، وتبعهم النّاس، وخالفت جربة وقرقنة وطرابلس وقابس وغيرها، وكيفية اظهار صفاقس الخلاف أن لجار - لعنه الله - لمّا تغلّب على البلاد طلب الرّهائن من البلدان فمن جملة رهائن صفاقس الشّيخ الولي الصالح العالم سيدي أبو (¬82) الحسن علي الفرياني، بعد ما طلبوه أن يكون هو مقدم البلاد، فادّعى العجز، وأقيم ولده الشيخ سيدي عمر - رحمه الله - فجعل مقدما، «ولمّا أرادوا الخروج لصقليّة قال الشيخ أبو الحسن (¬83) لولده: «يا بني أنا كبير السنّ / وقد قرب (¬84) أجلي، فمتى أمكنتك الفرصة في الخلاف على العدو فافعل ولا تراقبهم ولا تنظر الي فاني أقتل، وأحسب أني قد متّ. فلمّا وجد الشّيخ عمر فرصة دعا أهل المدينة إلى مخالفة الافرنج وجميع النّصارى، وقال: ليطلع منكم جماعة إلى السّور، وجماعة إلى مساكن الافرنج والنّصارى، جميعهم وليقتلوهم، فقالوا له: إن الشيخ والدك نخاف عليه، فقال: هو أمرني بهذا، واذا قتل بالشيخ ألوف من الأعداء فما مات، فلم تطلع الشّمس حتى قتل الافرنج عن آخرهم، وكان ذلك أول السّنة المذكورة، (وذلك أوائل يناير) (¬85) (وما قاموا عليهم حتى جعلوا صهريجا تحت الأرض شرقي المسجد الأعظم (¬86) في صورة مخزن للماء، وصاروا كل ليلة ينزلون إليه لعمل السّلاح، والى الآن يسمّونه ماجل الصّاغة، وكان بابه مكشوفا، فلمّا أحدثوا السّاباط الشّرقي (¬87) من المسجد للموازين، وجعلوا هناك حانوتا صار بجانبه، وهو تحت الطّريق ¬

(¬80) 1156 - 1157 م. (¬81) قال ابن الأثير: «فلما كان هذه السنة قوي طمع الناس فيه، فخرج عن طاعته جزيرة جربة وجزيرة قرقنة، وأظهروا الخلاف عليه وخالف عليه أهل افريقية، فأول من أظهر الخلاف عليه عمر بن أبي الحسن الفرياني بمدينة سفاقس. . .» 11/ 203. (¬82) انظر الكامل لابن الأثير 11/ 203 - 204 ورحلة التجاني 75 عند الكلام عن صفاقس، وتاريخ ابن خلدون 6/ 344 - 345. (¬83) الذي في ابن خلدون أنه كتب إلى ابنه عمر من صقلية، المؤلف تابع فيما يبدو لابن الأثير. (¬84) في الأصول: «وقد قارب أجلي». (¬85) زيادة عما في ابن الأثير. (¬86) يوجد هذا المسجد ويسمى «الجامع الكبير» في قلب المدينة المسورة طبقا لتخطيط المدن العربية الاسلامية. (¬87) جزء مغطى من الشارع ويسمى الرّمانة نسبة إلى الات الوزن التي كانت تسمى كذلك، وما يزال هذا الإسم قائما وان تغيرت خلال هذا القرن مهمة الساباط المشار إليه.

من جهة شرق المسجد، ولما جاءن ليلة يناير عيد النصارى (¬88)، أظهروا معهم الفرج بموسم النصارى، وأمروا بطبخ الفول في كلّ دار، وجعلوا جماعة يدورون على الدّور في صورة شحّاتين يشحتون الفول، وأمر كل صاحب دار أن يخرج من الفول بقدر ما عنده من الرّجال، فجمعوا ما تحصّل وعدّوه وعرفوا ما عندهم، وأعطوا كل أحد من السّلاح بقدر ما أعطاهم من الفول (¬89)، وأحدثوا لعبا سموه لعب ضرب النّار (¬90) والى الآن يلعبن به الأصاغر ولما أتقنوا / وجه الحيلة مالوا على الكفرة ليلا، فلم تطلع الشمس حتى قتل الكفار عن آخرهم كما تقدم) (¬91) «وتبعهم أبو يحيى بن مطروح (¬92) بطرابلس ثم محمد بن رشيد بقابس، (ولم يبق تحت حكم الكفار غير المهديّة وزويلة) (¬93) فأرسل الشيخ سيدي عمر بن علي الفرياني إلى زويلة يحرّضهم على الوثوب على من معهم فيها من النّصارى، ففعلوا ذلك، وقدم عرب البلاد إلى زويلة، فأعانوا أهلها على من بالمهديّة من الافرنج، وقطعوا الميرة على المهديّة، فلما اتّصل الخبر بغليالم أحضر الشّيخ أبا الحسن، وعرّفه بما فعل ولده، وأمره أن يكتب إليه ينهاه عن ذلك، ويأمره بالعود إلى طاعته، ويخوّفه عاقبة فعله، فقال له الشّيخ: من أقدم على هذا لا يرجع بكتاب، فأرسل غليالم ¬

(¬88) ما نسميه اليوم «عيد رأس السّنة الميلادية» وجاء في الحلل السندسية للوزير السراج «حسب زعم الروم ان أول يوم منه (أي يناير) هو سابع مولد المسيح وأنه يوم ختانه وهو من أكبر أعيادهم» 1/ 182. (¬89) طبخ الفول بمناسبة رأس السنة المسيحية حسب تقويم يوليوس قيصر عادة بربرية قديمة، وما زالت موجودة إلى الآن ويسمونها الحاجوجة ويطلقونها أيضا على نفس الليلة الجديدة من رأس العام وكلمة حاجوجة محرفة عن كلمة الحاجوز فاعول بمعنى فاعل كفاروق بمعنى فارق وتطلق هذه اللفظة على الليلة الأولى من السنة الجديدة لأنها تحجز بين السنة القديمة والجديدة وجاء في التقويم الشمسي لخارطة علي بن محمد الشرفي الصفاقسي المحفوظة بالمكتبة الوطنية بباريس بالقسم العربي تحت عدد 2278 «وأول ليلة منه (أي يناير) ليلة العجوز وتسمى الحاجوز لأنها تحجز بين السنة والسنة» وانفرد علي الشرفي بادماج حاجوز في معنى العجوز واعتبر العجوز ليلة واحدة بينما يرى الوزير السراج في الحلل السندسية 1/ 85 ويرى الزبيدى في تاج العروس 4/ 49 وغيرهم أن أيام العجوز سبعة أيام ابتداء من السادس والعشرين من فيفري وأنها سميت كذلك لأنها عجز الشتاء. (¬90) لعب ضرب النار عادة بربرية قديمة أيضا بقي أثرها بمناسبة الاحتفال بموسم عاشوراء. أنظر: بلاد البربر الشرقية في عصر الزيريين، مصدر سبق ذكره 1/ 381. (¬91) ما بين القوسين لم يذكره المؤرخون المتقدمون كالتجاني وابن الأثير وابن خلدون ولعل المؤلف تلقّنه من الروايات الشعبية الشائعة في عصره. (¬92) كذا في الأصول وفي «ليبيا منذ الفتح العربي» لأتوري روسي ص: 88 وفي «طرابلس الغرب» لمحمد ناجي ومحمد نوري ص: 158 «أبو يحيى رافع بن مطروح» وفي الكامل لابن الأثير 11/ 204 «أبو محمد بن مطروح». والمؤلف ينقل عن ابن الأثير وخالفه في نقل كنية بن مطروح. (¬93) زيادة عما في الكامل.

اللعين رسولا يتهدد الشّيخ عمر ويأمره بترك ما ارتكبه، فلم يمكنه الشّيخ عمر من دخول البلد يومه ذلك، فلمّا كان الغد خرج أهل البلد جميعهم ومعهم جنازة والرسول يشاهدهم فدفنوها» (¬94) «قال الرسول (¬95): وصلت صفاقس فلم أمكن من النّزول إلى البرّ، ولمّا كان من الغد سمعت في البلد ضجّة، ثم فتح باب البحر، وخرج النّاس يكبّرون ويهلّلون ومعهم نعش قد رفعوه على رؤوسهم فحطوه، ثم تقدّم عمر فصلّى عليه ودفنه وعزاه النّاس وانفصلوا، قال: فاستدعيت الجواب فقيل لي: إن الشّيخ مشغول بالعزاء في والده الذي بصقليّة والنعش الذي رأيت نعشه، وقد عزم على موته والسلو عنه، وليس له / جواب الاّ ما رأيت، فلمّا بلغ ذلك طاغية صقليّة أمر بالشيخ أبي الحسن علي فسحب إلى المشنقة بوادي عبّاس فشنق وهو يتلو كتاب الله إلى أن فاضت نفسه رحمه الله» (ورحمنا به ونفعنا به وبأمثاله) (¬96). قال التجاني (¬97): وكان انتقاض صفاقس على النّصارى سببا في انتقاض سائر بلاد السواحل وزوالها من أيديهم، وأقام عمر يدبّر أمر البلد إلى أن قدم عبد المؤمن. «وأما أهل زويلة فانهم كثر جمعهم بالعرب وأهل صفاقس وغيرهم، فحصروا المهديّة وضيّقوا عليها، وكانت الأقوات بالمهديّة قليلة، فسيّر إليهم غليالم (¬98) عشرين شينيا فيها الرّجال والطعام والسلاح، فدخلوا إلى البلد، وأرسلوا إلى العرب مالا لينهزموا ثم خرجوا من الغد فاقتتلوا هم وأهل زويلة فانهزم العرب، وبقي أهل زويلة وصفاقس يقاتلون الافرنج بظاهر البلد، فأحاط بهم الافرنج (¬99) فركب أهل صفاقس مراكبهم في البحر لما تكاثر عليهم العدو (¬100)، وذهب أهل زويلة لبلدهم فرأوا أبوابها مغلقة، فلحقهم العدو فقاتلوا تحت السور وصبروا حتى قتل أكثرهم ولم ينج منهم الاّ القليل فتفرقوا، ومضى بعضهم لعبد المؤمن، ومن ثم فتحت أبواب زويلة وخرج من كان بداخلها من غير المقاتلة فمن له قدرة على الفرار فرّ بنفسه ومن عجز أسر ونهبت الأموال واستقرّ الافرنج بالمهديّة». (¬101) ¬

(¬94) الكامل 11/ 204. (¬95) رجع إلى النقل من رحلة التجاني ص: 75. (¬96) زيادة من المؤلف. (¬97) رحلة التجاني 75 - 76. (¬98) في ش: «غليالم اللعين». (¬99) بعدها أسقط المؤلف من نص ابن الأثير «فانهزم أهل صفاقس». (¬100) في الكامل: «وركبوا في البحر فنجوا». (¬101) الكامل 11/ 205.

عبد المؤمن يسير نحو افريقية ويخلصها من النرمان وتمتثل لطاعته

عبد المؤمن يسير نحو افريقية ويخلصها من النرمان وتمتثل لطاعته: ولمّا (¬102) وصل من ذهب لعبد المؤمن من أهل زويلة إلى مرّاكش ودخلوا على عبد المؤمن أخبروه بما جرى على المسلمين وأنه ليس في ملوك / الاسلام من يقصد سواه، ولا يكشف هذا الكرب غيره مع ما كان يغريه الحسن على غزو افريقية وافتكاك المهديّة، فأثّر فيه كلامهم تأثيرا عظيما حتى دمعت عيناه، وأطرق مليا وأخذته غيرة الدّين وعصبيّة الاسلام وعزّة الملك فرفع رأسه وقال: أبشروا لأنصرنّكم ان شاء الله ولو بعد حين، وأكرم نزلهم وأطلق لهم ألفي دينار، ثم أمر بعمل الروايا (¬103) والقرب والحياض وما يحتاج إليه العساكر من آلة السفر، وكتب إلى جميع نوّابه بالمغرب، وكان قد ملك إلى قرب تونس يأمرهم بحفظ جميع ما يحصل من الغلات، وأن يترك في سنبله ويخزن في مواضعه، وأن يحفروا الآبار في الطّريق، ففعلوا جميع ما أمرهم به فجمعوا غلاّت ثلاث سنين ونقلوها إلى المنازل، وطينوا (¬104) عليها فصارت كالتلال. فلمّا كان صفر من سنة أربع وخمسين وخمسمائة (¬105) سار عن مرّاكش، وكان أكثر أسفاره في صفر، فسار يطلب افريقية، واجتمع معه من العساكر مائة ألف مقاتل، ومن الأتباع والسّوقة مثلهم (¬106)، (وقيل الخيل مائة ألف وأما الرجالة فلا يحصون كثرة) (¬107) وبلغ من حفظه لعساكره أنهم كانوا يمشون بين الزّرع فلا تتأذى بهم سنبلة، واذا نزلوا صلوا جميعهم مع امام واحد بتكبيرة واحدة لا يتخلف منهم أحد كائنا من (¬108) كان. وقدم بين يديه الحسن بن علي صاحب المهديّة» (¬109) «(¬110) ومن تاريخ ابن شدّاد أن عبد المؤمن لمّا سار إلى تونس بالجموع العظيمة / كانوا يمرّون بالمزارع في الطّريق الضيّقة فلا يؤذون شيئا منها، وكانت هذه العساكر تمتدّ أميالا وكلّهم يصلّي الصّلوات ¬

(¬102) ينتقل إلى ص: 241 من نفس المرجع. (¬103) في الأصول: «الروايات» والصواب ما أثبتناه والروايا جمع روية. (¬104) يقصد: «وطمسوا عليها». (¬105) 1159 م. (¬106) كذا في ط وفي الكامل، وفي ش: «أمثالهم». (¬107) زيادة عما في ابن الأثير 11/ 242، وانظر رحلة التجاني ص: 345. (¬108) في الأصول: «ما». (¬109) الكامل 11/ 241 - 242. (¬110) نقله من رحلة التجاني ص: 346 - 347.

الخمس وراء إمام واحد بتكبيرة واحدة، وكانت مقدّمة هذا العسكر اثني عشر ألفا قد كلّفوا بحفر الآبار واستخراج المياه، فكانوا يمتدون قبله بيومين، فلا يأتي الاّ وقد هيّئت الغلاّت وملئت الأحواض بالمياه، ولولا هذا التّدبير لم يقدر على قطع هذه المسافة البعيدة بهذه الجيوش العظيمة، وكان كلّما مرّ بأرض فيها عرب بادروا إليه فاستصحب أعيانهم معه، وقد كانت وقعة سطيف أذلّتهم، وكان أسطوله في البحر سبعين مركبا قوّادها محمد ابن عبد العزيز بن ميمون من البيت المشهور (¬111) في قيادة البحر وابن الخرّاط (¬112) وأبو الحسن الشاطبي، وغير هؤلاء ممّن هو مثلهم في المعرفة والشهرة. ولمّا (¬113) وصل إلى باجة أقام بها ووجّه إلى أهل تونس بالتأمين التام والعفو، فما ازدادوا الاّ عصيانا، وقد كانوا قاتلوا ولده عبد الله قبل ذلك ومزقوا جيشه وفعلوا به الأفاعيل لمّا وصل إلى محاصرتهم سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة (¬114) وانفصل عنهم أسوأ انفصال، فارتحل عبد المؤمن من باجة ونزل على طبريّة (¬115) وأعاد إليهم التّرغيب في الطّاعة والتّرهيب من المخالفة فلم يقبلوا، فارتحل إلى تونس، وكان نزوله عليها يوم السبت العاشر من جمادى الأولى، وقيل في الرّابع والعشرين من جمادى الأخيرة من السّنة المذكورة، واتصلت الأخبية من الحنايا / إلى حلق الوادي فعاين أهل تونس أمرا عظيما، وأقام العسكر ثلاثة أيام لا يقاتلون، فنزل إلى عبد المؤمن أشياخ [لطلب] (¬116) السّلم من أهل تونس منهم بنو عبد السّيد: عمر ومعاوية وعبد السّيد، ومنهم أبناء منصور اسماعيل وابن عمّه عتيق وغيرهم تمام الاثني عشر، وقيل سبعة عشر، فوصلوا إلى عبد المؤمن وطلبوا العفو فاستعفوا به بعد مكابدة شديدة، فأمّنهم في أنفسهم وأهاليهم وأموالهم لمبادرتهم إلى الطّاعة وأما من عداهم من أهل البلد فيؤمنهم في أنفسهم وأهاليهم ويقاسمهم في أموالهم وأملاكهم نصفين وأن يخرج صاحب البلد وهو أحمد بن خراسان هو وأهله إلى بجاية، فاستقر ذلك (¬117) لأهل تونس، وأما غير أهل تونس من قراها وسائر بلادهم ¬

(¬111) في الأصول: «مشهورة». (¬112) في الأصول: «ابني» والمثبت من رحلة التجاني. (¬113) رحلة التجاني ص: 345. (¬114) 1157 م. (¬115) في الأصول: «طبرقة» والمثبت من رحلة التجاني ص: 345. (¬116) في مكانها في الأصول: «إلى». (¬117) في الرحلة: «ذلك».

فانهم يشاطرون في أموالهم، وتسلّم عبد المؤمن تونس، وأخرج ابن خراسان من يومه فمات في الطريق» (¬118). «ثم ان (¬119) عبد الله بن عبد المؤمن لما فعل به أهل تونس ما فعلوا حين نزل عليهم قبل هذا حلف أن يدخلها بالسّيف، ويقتل جميع من تقع عينه عليه من أهلها فأمر النّاس في هذه الخطرة أن يدخلوا دورهم ولا يخرج أحد حتى يسمع النّداء فدخل عبد الله البلد وسيفه في يده فلم يلق الاّ شيخا قتله وانصرف وقد برت يمينه (¬120) ومنع العسكر من الدّخول. وأقام (¬121) عليها ثلاثة أيّام، وعرض (¬122) الاسلام على من بها من اليهود والنّصارى فمن أسلم / سلم، ومن امتنع قتل. ثم ارتحل (¬123) إلى المهديّة وخلّف بتونس أبا محمد عبد السلام الكومي ومعه أشياخ من الموحّدين لاستخلاص الأموال من أهل تونس فوقع البحث عن أموالهم ودخلت دورهم فحمل جميع ما فيها وبيع ما أمكن بيعه من رباعهم وأملاكهم وخرج الأمناء إلى سائر بلاد افريقية لمشاطرة الرّعيّة في جميع ما بأيديهم حتى لم يبق من افريقية بقعة الاّ عمّها ذلك» (¬124) (وقيل أقام أهل تونس بها بأجرة تؤخذ من نصف مساكنهم) (¬125) «وسار عبد المؤمن (¬126) منها إلى المهديّة والأسطول يحاذيه في البحر فوصل إليها ثاني عشر رجب ضحوة يوم الأربعاء وكان حينئذ بالمهديّة أولاد (¬127) ملوك الافرنج وأبطال الفرسان، وقد أخلوا زويلة، فدخل عبد المؤمن زويله وامتلأت بالعساكر والسّوقة، فصارت مدينة معمورة في ساعة واحدة، ومن لم يكن له موضع من العسكر نزل بظاهرها، (وانضاف إليهم من ¬

(¬118) ما يتعلق بتونس نقله من رحلة التجاني 345 - 346. (¬119) انتقل إلى صفحة 347 من رحلة التجاني. (¬120) عن عبد الله بن عبد المؤمن في تونس انظر رحلة التجاني ص: 347. (¬121) الذي أقام بتونس بعد الفتح ثلاثة أيام هو عبد المؤمن بن علي (رحلة التجاني ص: 346). (¬122) في الأصول: «أعرض» الذي عرض الاسلام على اليهود والنصارى هو عبد المؤمن بن علي، رحلة التجاني ص: 347 والكامل لابن الأثير 11/ 242. (¬123) رجع إلى صفحة 346 من الرحلة. (¬124) رحلة التجاني ص: 346. (¬125) زيادة عما في رحلة التجاني. (¬126) النص الموالي موجود في رحلة التجاني وابن الأثير: الكامل، مع اختلاف بسيط والمؤلف ينقل عن ابن الأثير. (¬127) كذا في الكامل 11/ 243 وفي الرحلة ص: 347 نقلا عن ابن شداد: «ولاة ملوك الافرنج».

صنهاجة والعرب وأهل البلاد ما يخرج عن الاحصاء) (¬128) فأقبلوا يقاتلون المهديّة مع الأيام (¬129) فلا يؤثر (¬130) فيها لحصانتها وقوّة سورها وضيق موضع القتال منها لأن البحر دائر بأكثرها وكأنها كفّ في البحر وزندها متّصل بالبر، فكانت الافرنج تخرج شجعانها إلى أطراف العسكر فتنال منه وتعود سريعا، فأمر عبد المؤمن أن يبني سور من غرب المدينة يمنعهم من الخروج، وأحاط بها الأسطول في البحر، وركب عبد المؤمن في شيني ومعه / الحسن بن علي الذي كان صاحبها فطاف بها في البحر، فهاله ما رأى من حصانتها، وعلم أنها لا تفتح بقتال برا ولا بحرا، وليس لها الاّ المطاولة، وقال للحسن: كيف نزلت من مثل هذا الحصن؟ فقال: لقلة من يوثق (¬131) به وعدم القوت وحكم القدر، قال: صدقت (فعاد من البحر، وأمر بجمع الغلاّت والأقوات وترك القتال فلم يمض غير قليل حتى صار في العسكر كالجبلين من الحنطة والشّعير، فكان من يصل إلى العسكر من بعيد يقول: متى حدثت هذه الجبال ههنا؟ فيقال لهم: هي حنطة وشعير، فيعجبون من ذلك فتمادى الحصار)» (¬132). وكان لمّا وصل إلى المهديّة عبد المؤمن «وصل إليه الشّيخ عمر الفرياني مع جماعة من مشايخ صفاقس فأذعنوا له بالطّاعة، وعيّن لهم عبد المؤمن حافظا من الموحّدين، وأمر عمر بالرجوع إلى بلده وأن تكون الأشغال المخزنية تتصرف على يديه، فأقام على ذلك إلى أن توفي» (¬133)، و «في (¬134) تلك المدّة أطاع أهل طرابلس وجبال نفوسة وقصور افريقية وما والاها، وفتح مدينة قابس بالسيف، وسير ابنه أبا محمد عبد الله في جيش ففتح بلادا، ثم أن أهل قفصة لمّا رأوا تمكن عبد المؤمن أجمعوا على المبادرة إلى طاعته، وتسليم المدينة إليه فتوجه صاحبها يحيى بن تميم بن المعتز (¬135)، ومعه جماعة من أعيانها وقصدوا عبد المؤمن، فلمّا أعلمه حاجبه بهم قال له عبد المؤمن: قد اشتبه عليك، ليس هؤلاء أهل قفصة، فقال له: ما اشتبه علي /، فقال عبد المؤمن: كيف ¬

(¬128) زيادة عما في رحلة التجاني وموجود حرفيا في الكامل 11/ 243. (¬129) كذا في الكامل، وفي الرحلة: «الامام». (¬130) في الأصول: «يؤثرون» والمثبت من الكامل والرحلة. (¬131) كذا في ط والكامل، وفي ش: «يثق». (¬132) ما بين القوسين زيادة عما في رحلة التجاني وهو موجود في الكامل لابن الأثير 11/ 243. (¬133) رحلة التجاني ص: 76. (¬134) عاد إلى النقل من الكامل 11/ 243. (¬135) ابن الرند كما في تاريخ الدولتين ص: 12.

يكون ذلك والمهدي يقول ان أصحابنا (¬136) يقطعون أشجارها ويهدّمون أسوارها، ومع هذا فنقبل (¬137) منهم ونكف عنهم {لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً} (¬138) فلمّا دخلوا عليه أنشده شاعرهم (¬139) أبو محمد عبد الله بن أبي العبّاس التيفاشي قصيدة امتدحه بها أولها: [بسيط] ما هزّ عطفية بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي فوصله بألف دينار، (وأشار إليه عند ذكر هذه البيت أن اقتصر) (¬140). ولمّا كان الثاني والعشرين من شعبان من السنة جاء أسطول صاحب صقليّة في مائة وخمسين شينيا غير الطّرائد وكان قدومهم من جزيرة يابسة (¬141)، وقد سبى أهلها وأسّرهم وحملهم معه، فأرسل إليهم طاغية الافرنج يأمرهم بالمسير إلى المهديّة، فقدموا في التاريخ، فلمّا قاربوا المهديّة حلوا (¬142) قلوعهم ليدخلوا الميناء، فخرج أسطول عبد المؤمن، وركب جميع العسكر ووقفوا [على] جانب البحر، فاستعظم الافرنج ما رأوا من كثرة العساكر، ودخل الرّعب في قلوبهم، وبقي عبد المؤمن يمرّغ وجهه على الأرض ويبكي ويدعو للمسلمين بالنّصر، واقتتلوا في البحر فانهزمت (¬143) شواني الافرنج، وأعادوا القلوع، وتبعهم المسلمون، فأخذوا منهم سبع شواني، ولو كان معهم قلوع لأخذوا أكثرهم، وكان أمرا عجيبا وفتحا غريبا (¬144)، وعاد أسطول المسلمين مظفرا منصورا، وفرق عبد المؤمن فيهم الأموال فيئس (¬145) أهل المهديّة من النجدة وصبروا على هذا الحصار ستة أشهر إلى آخر ذي / الحجّة من السنّة، فنزل من فرسان الافرنج إلى عبد المؤمن عشرة وسألوه الأمان لمن فيها من الافرنج على أنفسهم وأموالهم ليخرجوا منها ويعودوا إلى بلادهم، وكان قوتهم قد فني حتى أكلوا الخيل، فعرض عليهم الاسلام ودعاهم إليه فلم يجيبوا، فما زالوا يتردّدون إليه ويستعطفونه بالكلام اللين، حتى أجابهم ¬

(¬136) كذا في ش وفي الكامل، وفي ط: «أصحابها». (¬137) في ط: «فقبل»، وفي ش: «يقبل» والاصلاح من الكامل لابن الأثير 11/ 244. (¬138) سورة الأنفال: 42. (¬139) اقتصر ابن الأثير 11/ 244 على قوله «مدحه شاعر منهم بقصيدة أولها». (¬140) زائدة عما في الكامل. (¬141) من بلاد الأندلس (الكامل 11/ 92) وهي احدى الجزائر الشرقية المعروفة بجزائر الباليار. (¬142) في الكامل: «حطوا». (¬143) في الأصول: «فانهزم». (¬144) في الكامل: «قريبا» 11/ 244. (¬145) في الأصول: «فأيس».

إلى ذلك، وأمّنهم وأعطاهم سفنا فركبوا فيها، وكان الزّمان شتاء فغرق أكثرهم ولم يصل منهم إلى صقليّة الاّ النّفر اليسير. وكان صاحب صقليّة قال: ان قتل عبد المؤمن أصحابنا بالمهديّة قتلنا المسلمين الذين عندنا بجزيرة صقليّة، وأخذنا حريمهم وأموالهم، فأهلك الله الافرنج غرقا وكان مدّة ملكهم للمهديّة اثنتي عشرة سنة. ودخل عبد المؤمن المهديّة بكرة عاشوراء من المحرّم سنة خمس وخمسين وخمسمائة (¬146)، فسمّاها عبد المؤمن سنة الأخماس، وأقام بالمهديّة عشرين يوما فرتب أحوالها، وأصلح ما ثلم من سورها، ونقل إليها الذخائر من الأقوات والرجال والعدد، وولى عليها أبا عبد الله محمد بن فرج الكومي (¬147)، وأسكن الحسن زويلة، وأمر الكومي أن يقتدى به في أقواله وأفعاله وأقطع الحسن اقطاعا، وأعطاه دورا نفيسة يسكنها، وكذا فعل بأولاده، ورحل عن المهديّة أول صفر من السّنة المذكورة إلى بلاد المغرب» (¬148). «وأقام (¬149) الحسن وبنوه بعد عبد المؤمن عشر سنين على ما هم عليه إلى أن توفي عبد المؤمن / وولي ابنه أبو يعقوب فوصل أمره بطلوع الحسن إلى المغرب، فطلع بأهله وولده وحاشيته سنة ست وستين وخمسمائة (¬150)، فلمّا وصل إلى الموضع المسمى بتامسنا (¬151) توفي هنالك (¬152) وبه قبره، وكانت وفاته في شهر رجب من العام المذكور. وذكر التجاني (¬153) في «رحلته» ان عبد المؤمن لمّا وصل إلى افريقية واستنقذ المهديّة من أيدي النّصارى، وقام (¬154) أهل كل بلد على من عندهم امتثل أهل سوسة ذلك، ورحل (¬155) أشياخهم إلى عبد المؤمن، ووصل إليه أيضا جبارة بن كامل الذي كان مستوليا عليها، فقدم على سوسة حافظا من الموحدين يعرف بعبد الحق بن علناس ¬

(¬146) 21 جانفي 1160 م. (¬147) لم يذكر اسمه ابن الأثير، وذكره التجاني ص: 349. (¬148) بتامسنا. (¬149) النقل من رحلة التجاني ص: 349. (¬150) 1170 - 1171 م. (¬151) في الأصول «بتماس» والمثبت من الرحلة ص: 349. (¬152) ببقعة تعرف بآبار زلو (رحلة التجاني ص: 350). (¬153) رحلة التجاني ص: 30 عند الكلام عن سوسة. (¬154) في ش: «وأقام». (¬155) في الأصول: «ووصل» والاصلاح من رحلة التجاني.

الكومي، فطرقهم أسطول النّصارى ثانية وهم على غرّة، فاستولى على البلد وقتل من أهله (¬156) من قتل وسبى من سبى، وخرّب البلد تخريبا عظيما لأنه لم يبن على الاقامة فيه (¬157)، وأسّروا الحافظ المذكور وأهله وولده، وتوجّه بهم إلى صقليّة فأقاموا بها مدّة، ثم افتدوا بعد ذلك، وخرجوا، ومن حينئذ استولى الخراب على مدينة سوسة. وكفى فخرا لسوسة أن المنستير الذي وردت الأحاديث في فضله محرس من محارسها ومنسوب إليها. روى أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم في تأليفه (¬158) بسنده إلى سفيان بن عيينة عن عبد الله بن دينار عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من رابط بالمنستير ثلاثة أيام وجبت له الجنّة» (¬159) وبسنده إلى خالد بن معدان عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «بمدينة يقال لها المنستير باب من أبواب الجنة (¬160) / ينقطع الجهاد [في] آخر الزمان من كل موضع فكأني أسمع صرير المحامل من مشارق الأرض ومغاربها إلى ساحل قمونية» (¬161)، وبسنده عن عبّاد بن كثير، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «بساحل قمونية باب من أبواب الجنّة يقال له المنستير من دخله فيرحمه الله، ومن خرج عنه فيعفو الله عنه» (¬162). وعبّاد (¬163) بن كثير الواقع في هذا السند متروك الحديث عندهم، وليث بن سليم (¬164) ¬

(¬156) في الأصول: «من أهلها» وما أثبتناه موجود بالرحلة وهو أحسن لتنسيق الضمائر لأن المؤلف أعاد عليه ضمير التذكير بعد قليل. (¬157) في الأصول: «به». (¬158) المصدر السالف ص: 45 - 46. (¬159) كذا في الرحلة التي ينقل عنها المؤلف ولم نجد لهذا الحديث ذكرا في كتب الحديث. (¬160) في رحلة التجاني التي ينقل عنها المؤلف «بمدينة قمونية باب من أبواب الجنة يقال له المنستير». (¬161) الحديث بهذا السند غير موجود في طبقات أبي العرب. (¬162) في الرحلة: «. . . من دخله فبرحمة الله ومن خرج منه فبعفو الله». (¬163) من كلام التجاني: أبي العرب وعباد بن كثير الثقفي البصري. قال الامام أحمد: روى أحاديث كذب: تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني 1/ 393، دار المعرفة بيروت ط 2، 1975، وفي طبقات أبي العرب، هامش 2 لمحققي الكتاب ذكر للمصادر التي ترجمت له وهناك عباد بن كثير آخر هو رملي فلسطيني ويقال له التميمي، وهو ضعيف الحديث. قال ابن عدي هو خير من عباد الثقفي، مات في حدود 170: ابن حجر، المصدر السالف، نفس الجزء والصفحة. (¬164) ليث بن أبي سليم بن زنيم (مصغر الأب والجد)، صدوق، اختلط أخيرا، ولم يتميز حديثه فترك، مات سنة 148، ابن حجر المصدر السالف 2/ 38، وانظر هامش 13 ص: 14 من طبقات أبي العرب، ومن الشذرات 1/ 207، (وفيات 138) 1/ 212، (وفيات 143)، العبر للذهبي 1/ 188 - 189، طبقات، خليفة ابن خياط، 196 - 197.

ضعيف لا يحتج به اهـ‍ (¬165) من كتاب أبي العرب. وبسند أبي العرب (¬166) إلى عبد الرحمان بن زياد بن أنعم عن مطرّف بن عبد الله قال: المنستير باب من أبواب الجنّة، فبينما هم في الصّلاة اذ سمعوا هاتفا (¬167) فبعثوا رسولهم ليأتيهم (¬168) بالخبر، فما لبثوا أن انصرف (¬169)، فقالوا له ما طرفك (¬170) قال (¬171): سيرت الجبال، فيخرّون سجّدا لله، فيقول الله تبارك وتعالى «يا أهل المنستير لولا أن كتبت الموت على خلقي لأدخلتكم الجنة (¬172) يعني قبل الموت، فتخرج عليهم ريح صفراء ما بين القبلة والمشرق فتخرج أرواحهم (¬173) فتتلقاهم أزواجهم من حور العين وخدمهم». وعبد الرحمان (¬174) بن زياد متروك الحديث أيضا ضعفه ابن معين والبهلول ابن راشد. سمعت سفيان بن عيينة يقول: جاءنا عبد الرحمان بن زياد الافريقي بستة أحاديث رفعها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لم أسمع أحدا من العلماء ذكرها ورفعها. وبسند أبي العرب (¬175) إلى سفيان بن عيينة موقوفا عليه قال: الفضل في ثلاثة مواضع / المصّيصة باب من أبواب الجنّة ليحشرن (¬176) منها يوم القيامة سبعون ألف شهيد، وعسقلان باب من أبواب الجنّة، وموضع هناك بالمغرب يقال له الياقوتة بالمنستير ¬

(¬165) يعني الأحاديث التي أوردها، لا الكلام عن عباد بك كثير وليث بن أبي سليم. (¬166) في ش: «أبي العربي» وهو تحريف. (¬167) الذي في رحلة التجاني التي ينقل عنها المؤلف ص: 31 وطبقات أبي العرب ص: 51 «هدة» وأشار محقق الرحلة في هامش 4 «في بعض الروايات «هاتفا» بدل «هدة». (¬168) في الأصول: «رسلهم ليأتوهم». (¬169) في الأصول: «انصرفوا». (¬170) في الأصول: «فقالوا لهم ما طرفكم» والاصلاح من رحلة التجاني ص: 31. (¬171) في الأصول: «قالوا». (¬172) في طبقات أبي العرب ص: 51 بعد «الجنة»: «بأوساخ ثيابكم». (¬173) زيادة وفي رحلة التجاني التي ينقل عنها المؤلف: «فتخرج أزواجهم من الحور العين» وفي طبقات أبي العرب: «فتخرج أرواحهم فما ينزع عنهم أخلاقهم الا أزواجهم». (¬174) من كلام التجاني وعبد الرحمان بن زياد بن انعم المعافري السفياني الشعباني تولى قضاء القيروان مرتين (ت. سنة 156 أو 161) انظر طبقات أبي العرب، ص: 95 - 105 هامش 5 ص: 95، ويزاد شذرات الذهب 1/ 140، العبر للذهبي 1/ 225 - 226، وفيات 156. (¬175) في ش: «أبي العربي» وهو تحريف. (¬176) في الأصول: «يحشر».

داخل في البحر إلى جانب سبخة على جانب (¬177) تلك السبخة قنطرة من قناطر (¬178) الأولين يحشر منها يوم القيامة سبعون ألف شهيد (¬179)، وفي كتاب «الرقيق» قال: يقال إن (¬180) بافريقية ساحلا يقال له المنستير هو باب من أبواب الجنّة، وبها جبل يقال له ممطور هو باب من أبواب جهنّم (¬181)، اهـ‍ كلام الرحلة» (¬182) وذكرته لأنه لا يخلو من فائدة وان ضعفت هذه الأحاديث ليعلم الواقف عليها حالها، والله تعالى أعلم (¬183). ¬

(¬177) كلمة زائدة عن الرحلة. (¬178) في ش: «قناطير». (¬179) هذا الأثر نقله التيجاني عن أبي العرب ولا وجود له في كتاب الطبقات المطبوعة. (¬180) ساقطة من ش. (¬181) قال التجاني: وهذا الجبل وهو المعروف في وقتنا هذا بجبل وسلات يسكنه أخلاط من البربر. (¬182) الكلام عن المنستير في رحلة التجاني ص: 30 - 32 والملاحظ أن أحاديث خصائص البلدان موضوعة فالأحاديث الواردة في بلدان المشرق وضعت في زمن الحروب الصليبية، والأحاديث الواردة في خصوص بلدان افريقية وضعت في أزمان مختلفة من بداية الفتح أو بعد غارات الروم البيزنطيين على الشواطئ. والمنستير رباط يرابط فيها العباد ويحرسون الشواطئ من غارات الأعداء. (¬183) بعدها في ط: «بغيبه وأحكم».

الباب الثالث في ذكر ثوار افريقية على الموحدين

الباب الثالث في ذكر ثوار افريقية على الموحدين ثورة بني غانية: وهم أولاد غانية (¬1) أبوهم إسحاق بن حمّو (¬2) - بفتح الحاء بعدها ميم مشدّدة مضمومة ثم واو - بن علي الصنهاجي (¬3) الملثّمي صاحب ميورقة ومالقة ويابسة، فلمّا توفي اسحاق سنة ثمانين وخمسمائة (¬4) خلفه نجباء بنيه وهم أربعة: أبو عبد الله محمّد، وأبو الحسن علي، وأبو زكرياء يحيى، وأبو محمد عبد الله. فأما محمّد فانه توجّه بعد موت أبيه إلى الموحّدين بالأندلس فأعطوه مدينة دانية، وأحسنوا إليه غاية الإحسان، وأما عبد الله وهو أصغرهم فانه تملك ميورقة إلى سنة تسع وتسعين وخمسمائة (¬5)، فجهز إليه النّاصر أسطولا في البحر نزل بساحة ميورقة، فبرز إليهم، وكان شجاعا كريما فعثر به فرسه فسقط إلى / الأرض، فقتلوه وعلّقوا جثّته على السّور (¬6)، وحملوا رأسه إلى مرّاكش وأخذوا ميورقة، فبقيت بأيديهم إلى أن تغلّب الافرنج عليها في سنة سبع وعشرين وستمائة (¬7)، وفعلوا فيها (¬8) العظائم من القتل والأسر، وأما علي ويحيى فخرجا إلى افريقية وفعلا الأفعال العجيبة المشهورة بين النّاس من الحروب والعيث في البلاد، وكان خروجهم من ميورقة في شعبان سنة ثمانين وخمسمائة (¬9) لما تولّى المنصور، واشتغل بقتال الأندلس ثلاث سنين، فوصلوا لبجاية في اثنتين وثلاثين قطعة على حين غفلة (وأهلها ومن ¬

(¬1) وغانية اسم جدتهم، لأن جدهم يحيى، اذ زوّجه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بامرأة من أهل بيته تسمى غانية. انظر تاريخ ابن خلدون، 11/ 360. (¬2) كذا في ط وفي ش: «حمود»، وفي المؤنس ص: 119 وفي الحلل السندسية 2/ 126: «حمدية». (¬3) المسوفي. (¬4) كذا في ط وكتاب العبر 6/ 391.1184 - 1185 م. (¬5) 1202 - 1203 م. (¬6) أي على سور ميورقة. انظر المؤنس لابن أبي دينار 119 - 120 والحلل السندسية 2/ 127. (¬7) 1229 - 1230 م. (¬8) في ش: «بها». (¬9) 1184 - 1185 م.

واليها) (¬10) [أبي الربيع] (¬11) بن عبد الله بن عبد المؤمن وكان (¬12) خارجها في بعض مذاهبه فاستولوا عليها وعلى تونس، وبلغوا إلى بلاد طرابلس - كما يأتي -، ولمّا بلغوا تونس دخلوا على أميرها أبي زيد (¬13) واعتقلوه، وأخربوا البلاد، وأهلكوا العباد، فمن شنائعهم أنهم لما نزلوا منزل باشو (¬14) من جزيرة شريك سألهم (¬15) أهله الأمان فأمّنوهم، ودخل عسكرهم المنزل المذكور فانتهبوا جميع ما فيه، وسلبوا أهله حتى ثيابهم التي تواري عوراتهم، وامتدّت أيدي العبيد، وجفاة (¬16) الأعراب، واضطر أهله إلى الفرار، ففروا بأجمعهم إلى تونس ونزلوا بين سوريها، فدخل عليهم الشتاء هنالك فأهلكهم البرد والماء، فأحصي من مات منهم بتونس فكانوا اثني عشر ألفا، وقيل إن خراب المنزل كان على يد قراقش الأرمني (¬17). فقد نقل التجاني (¬18) في رحلته عن الفاضل بن البيساني (¬19) «ان الأجناد وصلت من الاسكندرية / في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة (¬20) وأن قراقش الأرمني (¬21) عاث في جزيرة باشو (¬22) وأفسد قطرها وقطر (¬23) صفاقس والمهديّة» (¬24)، والكل صحيح، فان قراقش (21) كان صديقا للميورقيين لاجتماعهم على مخالفة ¬

(¬10) ساقطة من ش. (¬11) ساقطة من الأصول وبعدها فيها: «أبي عبد الله» والاصلاح من كتاب العبر 6/ 392. (¬12) وكان بايميلول من خارجها (المصدر السالف نفس الصفحة). (¬13) الذي يفهم من ابن خلدون 6/ 396 أن الخليفة المنصور الموحدي نهض إلى تونس وسرح في مقدمته السيد أبا يوسف يعقوب بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن ومعه عمر بن أبي زيد من أعيان الموحدين، ولما التقوا بابن غانية انهزم الموحدون، وقتل ابن أبي زيد وجماعة منهم. (¬14) في الأصول: «باشق» والمثبت من رحلة التجاني ص: 15. (¬15) رحلة التجاني ص: 15 نقلا عن ابن شداد. (¬16) في الأصول: «حافت». (¬17) في الأصول: «قراقش الأرميني». (¬18) رحلة التجاني ص: 15. (¬19) في الأصول: «اليساني» قال عنه حسن حسني عبد الوهاب محقق رحلة التجاني «هو القاضي الفاضل أبو علي عبد الرحيم بن محمد اللخمي الغساني المعروف بابن البيساني، حرف اسمه في اكثر النسخ التي بأيدينا». (¬20) 1192 م. (¬21) كذا في الأصول وفي كتاب العبر 6/ 394، وفي رحلة التجاني «قراقوش» وهو الرسم الشائع وثم من يكتبها «قرقوش» مثلا: ليبيا لأتوري روسي المصدر السابق ص: 94. (¬22) في الأصول: «باشق» والمثبت من الرحلة. (¬23) في رحلة التجاني: «نضرتها ونضرة» ص: 15. (¬24) رحلة التجاني ص: 15.

الموحدين، والدّعوى لبني العبّاس، وسعوا جميعا في فساد البلاد، وهلاك العباد، وكانوا يلتقون في كثير من الحروب وبينهم معاونة ومصالحة. وأصل قراقوش (*) هذا وسبب دخوله من المشرق إلى المغرب «أن صلاح الدّين (¬25) يوسف بن أيوب - المقدّم الذكر - كان حصل بينه وبين نور الدّين بعد تسلطنه بمصر وحشة خاف بسببها أن ينتزعها منه نور الدّين فاحتاط لنفسه وبنى [على] (¬26) الدفاع لنفسه أمامه ان وصل، وذلك سنة ثمان وستين وخمسمائة (¬27)، فانقسم أمره بين بلاد اليمن وبلاد المغرب فقال له أخوه تورانشاه (¬28) بن أيوب: أنا أتوجّه إلى اليمن، [وأستفتحها وأعيدها لك ان احتجت إليها] (¬29) فتجهز إليها (¬30) في السنة المذكورة وافتتحها في السنة التي بعدها، وقال له الملك المظفر تقي الدّين ابن أخيه شاهنشاه بن أيّوب: أنا أتوجّه إلى المغرب فأفعل مثل ذلك، فاشتغل تقي الدّين بالنّظر في حركته ثم انه زهد في بلاد المغرب وعرف ما بينه وبين افريقية من العربان والمهالك فاستعفى من ذلك. وقد كان سرى خبر تغريبه إلى جمع من خواصّه وجنده فاستشرفوا (¬31) لذلك وبنوا عليه، فلمّا امتنع (¬32) تقي الدّين من التغريب فرّ مملوكه شرف الدّين قراقش الأرمني (¬33) بطائفة من قومه وابراهيم بن قراتكين (¬34) بطائفة أخرى، وكان سلاح دار (¬35) الملك المعظّم شمس الدولة أخي صلاح الدّين، الاّ أنه كان في أجناد / تقي الدّين فجاز المذكوران بمن معهما إلى المغرب، ولمّا جازا العقبة رأيا أن يفترقا لينفرد كل واحد بما قدر له من الملك والرئاسة (¬36)، فأما ابراهيم (¬37) بن قراتكين فانه سار بجمعه ووقع في ¬

(*) كذا في الأصول وفي كتاب العبر 6/ 394، وفي رحلة التجاني «قراقوش» وهو الرسم الشائع وثم من يكتبها «قرقوش» مثلا: ليبيا لأتوري روسي المصدر السابق ص: 94. (¬25) رحلة التجاني ص: 111 - 112. (¬26) اضافة من الرحلة. (¬27) 1172 - 1173 م. (¬28) في الأصول: «تور شاه» والمثبت من رحلة التجاني ص: 112 والكامل لابن الأثير 11/ 347. (¬29) اضافة من الرحلة يقتضيها التوضيح. (¬30) في الأصول: «إليه». (¬31) في الرحلة: «فاشرأبوا». (¬32) كذا في ط والرحلة، وفي ش: «اتقى». (¬33) في الأصول: «أرميني». (¬34) في الأصول وفي نسخة من رحلة التجاني أشار إليها المحقق «ابن فراتكين» والمثبت من رحلة التجاني النص المحقق ص: 112 وتاريخ ابن خلدون 6/ 397. (¬35) في الرحلة: «سلاح دار المعظمى وهو منسوب إلى الملك المعظم» ص: 112. (¬36) رحلة التجاني 112. (¬37) رحلة التجاني 114.

خاطره المهاجرة إلى بني عبد المؤمن والركوب عندهم فصدّه أشياخ العرب المخالفون عليهم عن (¬38) ذلك وحملوه على الانفراد، وطلب الرئاسة، فساروا معه إلى قفصة واستولوا على جميع منازلها، وأرسل إلى بني الرند (¬39) رؤساء قفصة فمكنوه من البلاد لانحرافهم عن بني عبد المؤمن وحبهم في الخطبة العباسية التي ألفوها، فدخلها ابراهيم وخطب فيها للخليفة العباسي ثم لصلاح الدّين، وقدر أن كان قتل ابراهيم المذكور وجملة من أصحابه على يد المنصور يعقوب بن يوسف بن؟؟؟ المؤمن بعد ذلك بقفصة. وأما قراقش (¬40) فسار إلى سنترية (¬41) فافتتحها وخطب فيها للسلطان صلاح الدّين ولأستاذه تقي الدّين بعده وكتب اليهما بذلك وفتح زلة (¬42) وأوجلة (¬43) وأزال من بلاد فزّان دولة «بني خطاب» الهواريين وكانت (¬44) قاعدة ملكهم زويلة وهي المعروفة «بزويلة بني الخطاب» (¬45) وعذّب ملكها (¬46) محمد بن خطاب بن عبد الله بن زنفل بن خطاب آخر ملوكهم على المال حتى هلك، وخطب فيها لصلاح الدّين ولتقي الدّين. ولم يزل على هذه الطّريقة يفتح البلاد، ويخطب فيها لمن ذكر إلى أن وصل إلى طرابلس، فاجتمع عليه الدّبّابيون، ونهضوا معه إلى جبل نفوسة / فاستولى عليه، واستخلص منه أموالا عظيمة أرضى بها العرب، وكان الاتفاق أن مسعود بن رمان (¬47) أمير الرّياحيين خالف في ذلك الزّمن على بني عبد المؤمن، وفرّ أمامهم ووصل إلى هذه البلاد، فكان تارة يكون مع زغب وتارة يكون مع ذبّاب، فلمّا سمع بوصول قراقش ومن عنده من رماة الغزّ سرّ بهم، وتوجّه بمن معه من أبطال الرياحيين إليهم فحاصر قراقش ¬

(¬38) في الأصول: «من». (¬39) في ط: «الرنة» وفي ش: «رنة» والتصويب من الرحلة ص: 114. (¬40) رحلة التجاني ص: 112. (¬41) في الأصول: «شنترية» والتصويب من رحلة التجاني. (¬42) في الأصول: «زويلة» وأثبت حسن حسني عبد الوهاب «زلة» عوض زويلة وقال «في بعض النسخ زويلة وهو غلط والأظهر أن تلك المدينة هي التي سمّاها البكري زلهى شيء واحد». (¬43) كذا في ط والرحلة، وفي ش: «واجلة». (¬44) في الأصول: «وكان». (¬45) في ش: «ابن خطاب» وفي ط: «ابن الخطاب» والتصويب من الرحلة ص: 112. (¬46) في الأصول: «ملكهم». (¬47) في الأصول: «ريان» وأثبت حسن حسني عبد الوهاب في الرحلة: «رمان» وقال في الهامش: «في بعض النسخ ابن زمان» وعند ابن خلدون: «ابن زمام» 6/ 394.

طرابلس، وصادف بلادا لم تتوقع (¬48) ثائرا ولا مخالفا فهي خالية من الأجناد ومن العدد والأقوات، فاستولى عليها، فعظم اذ ذاك أمره، وتوقّع من بتونس وغيرها شرّه، ووصلت إليه العربان من كل مكان، فاحتاج إلى تكليف الرّعيّة فوق طاقتهم، فانفض النّاس عنه بعد أن كانت القلوب مالت إليه، وأقبلت عليه، ثم زاد بعد ذلك، ودخل افريقية، وتعاون في حرويه بالميورقيين عند مقاتلة الموحدين ومكث كذلك نحوا من أربعين سنة» (¬49). ولمّا اتّصل بالخليفة المنصور يعقوب (¬50) ما نزل بافريقية نهض من مرّاكش سنة ثلاث وثمانين (¬51) لحسم هذه الدّول، فوصل إلى تونس واستراح بها، ثم سرّح مقدمه الشّيخ أبا يوسف يعقوب (¬52) بن أبي حفص بن عبد المؤمن «فالتقوا قرب قفصة فانهزم الشّيخ يعقوب وجماعته، وأخذت أسلابهم، وتسمى هذه الوقعة وقعة عمرة، قتل فيها أكثر جيش المنصور، وتحامل من سلم من القتل فوصل قفصة فاستدعاهم الميورقي موهما (¬53) لهم بالأمان، فلمّا اجتمعوا أجال (¬54) فيهم السّيف، فامتعض المنصور من ذلك، / ونكب عن المشورة، واستبدّ برأيه وتحرّك من تونس واستخلف عليها أخاه السّيد أبا اسحاق ونزل رادس متلوما وقد ظهر تكاسل النّاس، فعاقب أقواما على تأخّرهم، وتوجّه سنة ست وثمانين وخمسمائة (¬55) فلمّا كان على فرسخين من الحمّة سرّح سريّة إلى منازل العرب الذين مع الميورقيين، فشنّت الغارة عليهم واكتسحت أموالهم، ففلّ ذلك شوكتهم، ثم لبس المنصور لامته وناجزهم الحرب مباشرة بنفسه، فاستؤصلت الميورقية، واتفق أن أصاب علي (¬56) بن غانية الميورقي سهم في ترقوته فكانت فيه روحه، وأفلت أخوه يحيى وقراقش فتبعهم الموحّدون سالكين سبيلهما حتى أشرفوا على توزر، فوجدوهما ¬

(¬48) في الأصول: «تستوقع». (¬49) رحلة التجاني ص: 113. (¬50) يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن. (¬51) وخمسمائة 1187 م. (¬52) وهو ابن عمه. (¬53) في الأصول: «فاشتد عليهم الميورقية موهمين» والتصويب من الرحلة ص: 136. (¬54) في الأصول أجالوا. (¬55) 1190 م. (¬56) لم يقتل علي بن غانية في هذه الواقعة وانما هلك قبل ذلك سنة 584/ 1188 م في حروبه مع أهل نفزاوة، أصابه سهم غرب كان فيه هلاكه فدفن هنالك وعفي على قبره، وحمل شلوه إلى نيورقة فدفن بها وقام بالأمر أخوه يحيى بن اسحاق، انظر تاريخ ابن خلدون 6/ 397 والتجاني الذي ينقل المؤلف عباراته حرفيا الا في القليل، لم يذكر ذلك بل ذكر أنه أفلت مع قراقوش، الرحلة ص: 136.

قد توغلا في صحرائها فرجعوا عنهما، وانصرف المنصور لقابس فأحاط بها برا وبحرا إلى أن فتحوا له أبوابها واستسلموا. ثم توجّه المنصور إلى قفصة، فحاصرها حصارا شديدا إلى أن خرج إليه أهلها راغبين في العفو فشارطهم على تأمين أهل البلد في أنفسهم خاصّة وتبقى أملاكهم في أيديهم على حكم المساقاة وجميع ما عندهم من الحشود والغرباء (¬57) ينزلون على الحكم، فوقع الاتفاق على ذلك، وخرج جميع من في البلد من أهله (¬58) وغيرهم حتى لم يبق فيه (¬59) الاّ النّساء فميّز أهل البلد وأمرهم بالرّجوع إلى بلدهم، وبقي من كان به (¬60) من الغرباء (57)، والحشود والجنود فثقفوا ساعة، ثم جلس المنصور باثر صلاة الظهر بموضع جلوسه وأخذ النّاس مراتبهم، وأمر بأولائك / المثقفين فذبحوا بين يديه أجمعين، ولم يفلت منهم أحد، وأمر المنصور بهدم سور قفصة وفرّق عليه الجند، ففرغوا منه في يومين، وعاد خبرا بعد عين، وكان المنصور آلى على نفسه أيّام حصارها أن يقطع كل يوم ألف نخلة، فقطع أكثر نخيلها» (¬61). فلمّا استعاد المنصور ما كان استولى عليه بنو غانية رجع لتونس، ثم انصرف إلى مرّاكش فأظهر قراقش الإنابة، وهاجر إلى الموحدين، وذلك في سنة ست وثمانين وخمسمائة (¬62) «فاجتمع (¬63) قراقش بالسيد زيد ابن السيد [أبي] (¬64) حفص وهو اذ ذاك الوالي عليها من قبل المنصور، فأقام بها زمانا تحت كرامته، ثم انصرف فارا عنه إلى قابس، وخادع (¬65) أهلها حتى دخلها فقتل جماعة منهم، وأظهر الرجوع عن الانابة، واستدعى أشياخ العرب الدّبابيين (¬66) فقتل أعيانهم [بقابس] (¬67) ومن جملة من قتل منهم ¬

(¬57) في الأصول: «الغرب» والتصويب من رحلة التجاني ص: 138. (¬58) في الأصول: «أهلها». (¬59) في الأصول: «فيها». (¬60) في الأصول: «بها». (¬61) رحلة التجاني ص: 136 - 138. (¬62) 1190 م. (¬63) انتقل إلى صفحة 104 من رحلة التجاني حيث الحديث عن قابس. (¬64) الزيادة من الرحلة ص: 104 وكتاب العبر 6/ 398 وهكذا كتبها المؤلف فيما بعد في نصه. (¬65) في ش: «وخادم» وهو تحريف. (¬66) «والكعوب من بني سليم» ابن خلدون 6/ 398. (¬67) ساقطة من ش.

محمود بن طوق بن بقية وإليه تنسب المحاميد، وحميد بن جارية وإليه تنسب الجواري في سبعين من كبارهم، وذلك بداخل قصر العروسين من قابس في موضع منها معلوم، ثم توجّه قراقش بعد فتحها أيضا إلى طرابلس فحصل تحت ولايته قابس وطرابلس، ثم وقع بين يحيى بن غانية الميورقي وقراقش تغير بعد وصول ابن غانية للجريد فسار إليه بطرابلس فخرج قراقش وفرّ إلى الجبال ولم يدخل طرابلس خوفا من الحصار» (¬68) فرجع ابن غانية لطرابلس وحاصرها حصارا شديدا حتى فتحها بعد مقاساة ومدافعات ووقعات / «ثم أخذ (¬69) في الحركة إلى قابس، وكان نائب قراقش خرج منها لمّا انهزم قراقش، ووجّه إليها الشّيخ أبو سعيد بن أبي حفص من تونس حافظا من الموحدين يعرف بابن تافراجين، فتحرّك ابن غانية إليها ووصل إلى المنزل المعروف بزريق - بتقديم الزاي على الراء -، وكتب إلى أهل قابس ينذرهم ويحذّرهم بما حاصله (¬70): «ولمّا عزمنا على قرع بابكم، والحلول بجنابكم، رأينا تقديم الإنذار إليكم، وإيراد النّصيحة عليكم والكفّ عنكم ثلاثة أيّام لا تمدّ لكم فيها يد (¬71)، ولا يتقدم (¬72) إليكم بالإضرار أحد، لنعلم ما عندكم، ونتبين (¬73) غيّكم من رشدكم، فان آثرتم الطّاعة، وتبعتم الجماعة، مددنا لكم أكناف العدل، واتّبعنا فيكم كريم القول وصحيح الفعل، وان أبيتم الاّ خلاف ذلك فقد أبلغنا النّفس عذرا، وأتينا بالتبرئ من أمركم برا، ولا تغتروا بأهل طرابلس فلو كان لهم سواد يقطع، أو مياه تصدع (¬74)، أو مياه تصدع (74) وتمنع، لجروا إلى الطاعة، وحملوا أنفسهم منها فوق الاستطاعة». فلمّا انقضى أجله الذي حدّ، (ولم يبرز إليه منهم أحد) (¬75)، ولم ير منهم إجابة ولا أنس منهم إنابة، زحف إليها بجموعه فحاصرها حصارا شديدا، وقطع جميع غابتها، فيقال إنه لم يترك منها الاّ نخلة واحدة تركها عبرة لهم، فأنابوا إليه بعد أن اشترطوا عليه ¬

(¬68) ورجع إلى بلاد الجريد فاستولى على أكثرها، ابن خلدون 6/ 398. (¬69) عاد إلى النقل من رحلة التجاني ص: 105. (¬70) في رحلة التجاني: «ومن بعض فصول كتبه في ذلك». (¬71) في الأصول: «يدا». (¬72) في الأصول: «نقدم». (¬73) في الأصول: «يتبين». (¬74) كذا بالأصول وبعض نسخ رحلة التجاني، وفي النص المحقق منها «تصد» وهو أصوب ص: 106 هامش 1. (¬75) زيادة عما في رحلة التجاني.

ثورة محمد بن عبد الكريم الرجراجي

مسالمة واليهم بن تافراجين، وان يتوجّه بماله وأهله في البحر، فاشترط لهم ذلك، ووفّى به، وأغرمهم ستين ألف دينار عقوبة / لهم» (¬76) وكان ذلك سنة احدى وتسعين وخمسمائة (¬77). ثورة محمد بن عبد الكريم الرجراجي: «وفي سنة خمس وتسعين (¬78) ثار بالمهديّة محمد بن عبد الكريم الرجراجي (¬79) على المنصور فلمّا توفي المنصور ليلة الجمعة ثاني ربيع الأولى من السنة المذكورة وولي ابنه بعده النّاصر واستوزر أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص صاحب عبد المؤمن استبدّ ابن عبد الكريم بنفسه، وقبض على والي المهديّة الشّيخ أبي علي يونس بن الشّيخ أبي حفص ابن عبد المؤمن، وكان محمّد بن عبد الكريم هذا ممن نشأ بالمهديّة وكان أبوه من جندها السّاكنين بها المنظور (¬80) اليهم فيها، وهو مضاف إلى قبيلة كومية (¬81)، وكانت (¬82) لمحمد هذا شجاعة وبسالة ظهرت له في مواطن كثيرة مع الأعراب وغيرهم، وكان قد جمع لنفسه خيلا ورجالا من الرّعايا (¬83) يغزو بهم على الأعراب المفسدين، فيكّف ضررهم واعتداءهم، وقد علم إقدامه وغناؤه فقدّمه الوالي على ذلك وأطلق يده فيمن (¬84) اعتدى منهم، فكان يقبض عليهم فيقتل (¬85) منهم من يقتل ولا يطلق من حبسه (¬86) منهم إلاّ بعد دفع أموال كثيرة واعطاء العهود والمواثيق على الكفّ عن العناد والفساد، فكانت العرب تهابه ولا تنتجع أرضا إلاّ باذنه، فارتفع صيته بذلك وسما ذكره وحصل الأمن به في تلك ¬

(¬76) رحلة التجاني ص: 105 - 106 أثناء الكلام عن قابس، والمؤلف نقل عباراته حرفيا الا في القليل. (¬77) 1195 م وانتقل المؤلف إلى صفحة 350 من رحلة التجاني. (¬78) 1198 م. (¬79) كذا في الأصول ورحلة التجاني، أو الركراكي بالكاف الفارسية التي تلفظ كالجيم المصرية. (¬80) في رحلة التجاني: «المترتبين». (¬81) في الأصول: «كريمة» والتصويب من رحلة التجاني ص: 350. (¬82) في الأصول: «وكان». (¬83) في ش: «الرعاية». (¬84) ساقطة من ش وفي ط: «في من». (¬85) في ش: «فقتل». (¬86) في الأصول: «حيي» والتصويب من رحلة التجاني.

الجهات، فكان يدعى له في المساجد وعقب الصلوات. فاتفق أن قدم الشيخ أبو سعيد ابن الشّيخ أبي حفص على افريقية / من قبل المنصور فولى أبو سعيد على المهديّة أخاه أبا علي يونس بن أبي حفص، فلمّا وصل إليها واطلع على حال ابن عبد الكريم بها طالبه باسهامه فيما يناله من أموال الأعراب المفسدين، فامتنع ابن عبد الكريم من ذلك وطلب من الشّيخ أبي علي أن يجريه على ما أجراه عليه الولاة من قبله، فقبض الشّيخ أبو علي عليه وأهانه وامتحنه، فبعث ابن عبد الكريم إلى أخيه الشّيخ أبي سعيد يستشفع به فأعرض الشّيخ أبو سعيد عنه، واتّفق باثر ذلك أن عظم فساد العرب في الساحل وكثر التشكّي منهم، فألح النّاس على الشّيخ أبي علي في اطلاق ابن عبد الكريم وكادت (¬87) تقوم بسبب ذلك فتنة فاضطر إلى اطلاقه ورد إليه جنده الذين كانوا متميزين بصحبته، وأمره بالخروج لكف أولائك العربان عن الفساد، فاغتنم ابن عبد الكريم ذلك وخرج عن المهديّة مبادرا وضرب أخبيته بظاهرها، وأقام هنالك يومين إلى أن اجتمع إليه النّاس، فشكا إليهم ما فعل الشيخ أبو علي به وعرفهم أنه عازم على الغدر به إن وقعت منهم موافقة له، فأجابوه إلى ذلك وصوّبوا له رأيه، فنهض بهم في ثلث الليل الأخير إلى المهديّة، فلما فتح بابها دخل إليها بمن أحبّ من جنده وأمر باغلاق الباب، ثم بادر إلى قصر الشّيخ أبي علي وكان ابن عبد الكريم متلثما فأنكره البواب وأغلق باب القصر / فحسر عن وجهه فعرفه ففتح له وهرب فدخل ابن عبد الكريم وجماعته إلى القصر، وسمع الشّيخ أبو علي أصواتهم فخرج إلى رحبة القصر عزلا (¬88) من السلاح، فقبض ابن عبد الكريم عليه وأحب قتله فشفع فيه بعض أصحابه فاستحياه (¬89) وثقفه في موضع من القصر، وذلك في شهر شعبان من سنة خمس وتسعين (¬90) المذكورة آنفا، فلم يزل هنالك إلى أن وصل فداؤه من قبل أخيه أبي سعيد ابن أبي حفص على يدي محمد بن عبد السلام الكومي [وذلك] خمسمائة دينار ذهبا، فأطلقه ابن عبد السلام المذكور وكان صهرا لابن عبد الكريم. ¬

(¬87) في الأصول: «وكاد أن» وكادت تقوم بحذف «أن» قبل تقوم كما في رحلة التجاني، وهو الصحيح الفصيح قال تعالى: «اذا أخرج يده لم يكد يراها». (¬88) جاء في تاج العروس: «ومنه حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله تعالى عنه - رآني رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالحديبية عزلا فأعطاني جحفة، الحديث أي ليس معي سلاح» 8/ 15. والأكثر استعمالا: «أعزل». في الرحلة «عاريا». (¬89) في الأصول: «فاستحيى» والمعنى أنه أبقى على حياته. (¬90) جوان 1199 م.

ووصل الشّيخ أبو علي لأخيه الشّيخ أبي سعيد بتونس فزجره وهجره ولم يزل غاضبا (¬91) عليه مدّة من الدّهر، واستبدّ ابن عبد الكريم بحصن المهديّة وتسمى من الأسماء السلطانية «بالمتوكل على الله» وكانت الكتب تنفذ عنه بذلك وقوي أمره، ووصل إلى تونس والسيد أبو زيد بن أبي حفص بن عبد المؤمن واليا عليها، فعزم ابن عبد الكريم على محاصرته فحشد جموعه ووصل إلى تونس في شهر المحرم سنة ست وتسعين (¬92)، وكان الشّيخ أبو سعيد اذ ذاك معزولا فدار ابن عبد الكريم بعسكره إلى قرطاجنة فضرب أخبيته وخيامه عند مدخل البحر (¬93) وهو حلق الوادي، فأمر السيّد أبو زيد عند ذلك بتسيير (¬94) القطع في البحر وخروج العسكر في البر، وكان ابن عبد الكريم قد أكمن للجيش كمينا في بعض المواضع، فلمّا وصل عسكر تونس / ووقع القتل بينه وبين ابن عبد الكريم خرج ذلك الكمين فولى العسكر منهزما وقتل منه مقتلة عظيمة، ولم ينج منه إلاّ القليل، وترامى منه جماعة في البحر فقتلوا هنالك، وانبسطت جموع ابن عبد الكريم في تلك الجهات فأخذوا من المرسى المعروفة بمرسى البرج أموالا كانت للنّاس هنالك وأمتعة، وانتهبوا من تلك القرى ما قدروا عليه. وبعث السيّد أبو زيد والشّيخ أبو سعيد إلى ابن عبد الكريم أشياخا من الموحدين يعيبون عليه فعله ويذكرون انتماءه للموحدين ويسألونه الرّجوع عنهم، فأجاب إلى ذلك، ورجع إلى المهديّة فأقام بها أشهرا، ثم حدثته نفسه بحصار يحيى بن اسحاق الميورقي وهو اذ ذاك بقابس، وقد حدثت بينهما وحشة ومنافرة، فخلف على المهديّة ابنه عبد الله، وتوجّه إلى قابس، فلمّا أشرف عليها هاله أمرها وعلم أن لا طاقة له بها فارتحل عنها إلى قفصة وحكم عليها، وعند استقراره بها وصل إليه الخبر أن الميورقي خرج إليه من قابس في اتباعه فخرج ابن عبد الكريم بجيوشه من قفصة ونزل بقصور لالة، ووصل إليه الميورقي فالتقيا هنالك فكانت (¬95) الهزيمة على ابن عبد الكريم وولى هاربا لا يلوي على شيء إلى أن حصل بالمهديّة، وتسرب إليه من سلم من جنده فحصلوا بها واحتوى ¬

(¬91) في الأصول «مغضبا». (¬92) أكتوبر - نوفمبر 1199 م. (¬93) عند مدخل البحر إلى البحيرة وهو المكان المعروف بحلق الوادي: رحلة التجاني ص: 352. (¬94) في الأصول: «تعمير». (¬95) في ش: «فكان».

يحيى الميورقي يستولي على المهدية وتونس وغيرهما

الميورقي (¬96) على أخبيته وجميع أمواله وأتبعه إلى المهديّة فنزل عليها / محاصرا لها أول سنة سبع وتسعين وخمسمائة (¬97). يحيى الميورقي يستولي على المهديّة وتونس وغيرهما: وكان من دهاء الميورقي أن بعث إلى السيّد أبي زيد بتونس يسأله السلم ويطلبه في أثناء كتابه الاعانة بقطع في البحر يتمكن بها من ابن عبد الكريم، وكان السيّد أبو زيد حقد على ابن عبد الكريم، فأجابه إلى ذلك وبعث إليه قطعتين، فلمّا رآهما ابن عبد الكريم سقط في يديه فأجمع على توجيه ابنه عبد الله إلى الميورقي ليصالحه على تسليم المهديّة إليه ويشترط المسالمة في نفسه وأهله وماله، فأجابه إلى ذلك، ورجع عبد الله فأخرج أباه من المهديّة وتوجها إلى يحيى للسلام عليه، فلمّا وقعت عينه عليهما أمر بهما فصرفا إلى خيمتين ثقفا بهما مفترقين، ودخل يحيى لحصن المهديّة، واستولى على ما كان لابن عبد الكريم بها من الذخائر السنية، ثم أدخله هو وولده المهديّة فثقفهما ببعض سجونها فلمّا كان بعد أيام يسيرة أخرج الأب من السّجن ميتا لا أثر به فسلّم إلى أهله فدفنوه بقصر قراضة، وبقي ابنه عبد الله يتوقع الموت كل ساعة إلى أن أخرجه يحيى وأظهر نفيه إلى جزيرة ميورقة ليكون هناك تحت نظر أخيه فعمر له قطعة توجّه فيها، فلمّا حاذى أرباب السّفينة به القلّ بمقربة من قسنطينة ألقوه بقيوده في البحر، فانقضى أمر ابن عبد الكريم وولده (¬98). وحصلت المهديّة للميورقي ولم يبق له بافريقية منازع وحصلت تحت بيعته / طرابلس، وقابس، وصفاقس، وبلاد الجريد كلّها، والقيروان، وتبسة، ووصلت بيعته بونة فبنى على محاصرة تونس، فنزل عليها يوم السّبت من محرّم السّنة المذكورة، فنزل بالجبل الأحمر (¬99) جوفيها، وأقام هنالك أياما ثم انتقل منه فنزل بابي السويقة وقرطاجنة ونزل أخوه الغازي على الموضع المعروف بحلق الوادي فردمه حتى عاد أرضا يبسا ¬

(¬96) يحيى. (¬97) 1200 م. (¬98) ما يتعلق بالرجراجي وابنه نقله المؤلف من رحلة التجاني ص: 350 - 354 أثناء كلامه عن المهدية ويستمر النقل منها. (¬99) في الأصول: «الأخضر» والتصويب من رحلة التجاني ص: 355.

وقطع تصرّف القوارب الداخلة إليه والخارجة عنه، وترك عليه من يحرسه، وتوجّه فنزل بقبلي المدينة بمقربة من باب الجزيرة وردم الخندق الذي هنالك ونصب أمام البلد مجانيق وآلات الحرب وأقام محاصرا لها كذلك أكثر من أربعة أشهر. فلمّا كان يوم السّبت السابع من شهر ربيع الآخر (¬100) استولى على البلد وقبض على السيّد أبي زيد (¬101) وولديه وجماعته من الموحدين فثقفوا بدار بنيت لهم داخل القصبة وجعل عليهم من يحرسهم، وأمّن أهل تونس في أنفسهم ورباعهم، وأغرمهم مائة ألف دينار، ذكر أنها هي التي لزمته في النفقة عليها، قسّطها أهل تونس على أنفسهم بحسب أحوالهم وسعة أموالهم. وجعل القابض لها أبا بكر بن عبد العزيز بن السكّاك من أهلها، ولحقهم في استخلاصها من العنف والشدّة على يدي ابن عصفور - ثقة الميورقي وكاتبه - مما أدى إلى قتل جماعة منهم أنفسهم ورأوا أن ذلك أروح لهم، ومن جملتهم ابن عبد الرفيع المقدم على قبض مال المخزن وغيره / من النّاس، ولمّا علم الميورقي بذلك أمر برفع الطّلب عن أهل تونس فيما بقي قبلهم (¬102) من مال المغرم وذلك خمسة عشر ألف دينار، وعامل النّاس بالإحسان، ونادى فيهم بالأمان. وفي أثناء ذلك بلغه عن أهل جبل نفوّسة توقّف عن أداء مغرمهم، فخرج بنفسه إليهم واستصحب معه السيّد أبا زيد وولديه يرحلون برحيله وينزلون بنزوله إلى أن استوفى من أهل نفوسة مغرمهم وعاد إلى تونس، واستقرّ بقصبتها، فاتّصل (¬103) بالنّاصر ما دهم أهل افريقية منه ومن ابن عبد الكريم وقراقش فامتعض (¬104) لذلك وأخذ في الحركة إليها، وكانت الأخبار تأتي على الميورقي بحركته فيدفعها إلى أن وصل رجاله فأخبروه بوصول النّاصر إلى بجاية، فوجّه حينئذ ذخيرته (¬105) وأمواله إلى المهديّة لتكون تحت احاطة (¬106) ابن عمّه علي بن الغازي، وخرج من تونس فوصل إلى القيروان وأقام بها أيّاما ثم انتقل إلى قفصة، فاجتمع بالعربان هنالك، وأخذ مواثيقهم ورهائنهم على الخدمة معه. ¬

(¬100) من سنة ستمائة ديسمبر - جانفي 1203 - 1204 م. (¬101) كذا في ط ورحلة التجاني، وفي ش: «يزيد». (¬102) كذا في ط ورحلة التجاني، وفي ش: «عليهم». (¬103) كذا في ط ورحلة التجاني، وبعدها في ش: «الخبر». (¬104) أشار محقق الرحلة إلى أنها مختلفة باختلاف النسخ، ووجد «فانتغص» و «فامتعض» و «فانتهض» واختار الكلمة الأخيرة لنصه. (¬105) في الرحلة: «ذخائره». (¬106) في الرحلة: «حياطة».

يحيى الميورقي يستمر في ثورته ويصده عنها الناصر الموحدي ويفتك منه افريقية

يحيى الميورقي يستمر في ثورته ويصده عنها النّاصر الموحدي ويفتكّ منه افريقية: وبلغه في خلال ذلك أيضا عن أهل طرّة من بلاد نفزاوة ما أوجب أن ارتحل إليها، فأطلق أيدي الجند عليها فقتلوا كثيرا من أهلها وانتهبوا أموالهم، وأطلقوا النّار في بعض دورهم (¬107)، ثم انتقل إلى حامّة مطماطة، ووصله الخبر أن النّاصر نكب عن طريق تونس وأخذ على طريق قفصة في أتباعه، فانتقل إلى جبل دمّر متحصنا به، ووصل النّاصر إلى قفصة / فأقام بها أيّاما ثم توجّه إلى قابس مستفهما عن أخبار يحيى فعرف بانتقاله إلى جبل دمّر فولى على قابس بعض ولاته وتوجّه إلى المهديّة، (وكان الوالي عليها علي بن الغازي ابن عم يحيى) (¬108) فنزل عليها بجموعه ونصب عليها الآلات الحربيّة، وقدم في أثناء ذلك الشّيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص لقتال الميورقي، فتوجّه الشّيخ أبو محمد بجيش ضخم إليه فأحب يحيى الفرار من الجبل إلى الصّحراء فشجعه أصحابه وحرّضوه على الثّبوت له فالتقيا، فكانت للشيخ أبي محمد الوقعة المعروفة بوقعة «تاجرا» (جبل قرب قابس) (¬109) فاستأصل فيها أكثر أجناد يحيى، وأجلت الحرب عن قتل أخيه جبارة، وكاتبه علي بن اللمطي، وعامل له يقال له «الفتح بن محمد» وفرّ يحيى في شرذمة قليلة، وكان قد قدم عياله وأهله على نحو خمسة فراسخ من المعركة فلمّا فرّ أخذهم بين يديه ولولا ذلك لسبوا، واستنقذ الشّيخ أبو محمد من يده السّيد أبا زيد حيا بعد أن ضربه الموكل به بسيفه ضربات قصد بها قتله فأعجل عن الاجهاز عليه، واستنقذ أيضا جماعة من الموحّدين سواه كانوا في يده وأخذ رايته السوداء، وأحاط الموحّدون بجميع ما في العسكر من الأموال والابل فانتهبوها، ورجع الشيخ أبو محمد بجميع ذلك إلى النّاصر وهو محاصر للمهديّة، وأركب الأمين الوكيل بثقاف الشّيخ أبي زيد على جمل سام شهرة له وبيده الرّاية السّوداء فطيف به (¬110) على المهديّة، وكانت الهزيمة ثاني عشر شهر ربيع الأول سنة / اثنتين وستمائة (¬111)، ووضع (¬112) ¬

(¬107) في الأصول: «دورها» والتصويب من الرحلة ص: 356. (¬108) زيادة عما بالرحلة. (¬109) تفسير من المؤلف. (¬110) في الأصول: «بها» والتصويب من رحلة التجاني ص: 358. (¬111) 2 أكتوبر 1205 م. (¬112) في الرحلة: «ورفع».

حمادى (¬113) المالقي المشهور بالابداع في قطع الكاغذ هذين البيتين مقطوعتين [في الكاغذ] (¬114) [وافر] رأى (¬115) يحيى امام الحق (¬116) يأتي ... ففرّ (¬117) أمام من وافى اليه فشبهت الشقي بياء يرمى (¬118) ... ولام الأمر قد دخلت عليه وكمل (¬119) التبريز بالغنائم على ملاحظة من المحصورين بالمهديّة وهم مع ذلك مكذبون بهزيمة يحيى مفحشون في السّب، فألحّ النّاصر في قتالهم، وجمع المجانيق على جهة واحدة من السّور، حتى كثر الموت والجراحات فيهم وتحققوا انهزام يحيى فسقط في أيديهم وطلبوا الأمان فاستعفوا به ونزل علي بن الغازي وشيعته على أن يخلي سبيلهم ويسلموا البلد ويكونوا في أمان الموحّدين إلى أن يصلوا إلى يحيى حيث كان، وكان ذلك في السابع والعشرين من جمادى الأولى، فكان بين هزيمة «تاجرا» وفتح المهديّة أربعة وسبعون يوما. وخرج علي بن الغازي من المهديّة بجملته وحاشيته فضرب أخبيته بقصر قراضة فبات هنالك تلك الليلة ثم دعته نفسه للدخول تحت طاعة الموحّدين، فبعث إلى النّاصر يعرفه بذلك ويقول الآن أطعت بعد أن صرت في حكم نفسي فاستحسن النّاصر ذلك منه واستدعاه وأحسن إليه وأنزله عنده، ووافق ذلك وصول [مملوك النّاصر] (¬120) ناصح صاحب ديوان سبتة بالهدايا العظيمة التي جمعها في المدّة الطّويلة، وكان فيها ثوبان قد نسجا بأنواع الجواهر وجعلت فيهما أعلام من الياقوت والأحجار النفيسة (¬121) / فأمر النّاصر بحمل جميع تلك الهديّة إلى علي بن الغازي فمات ناصح (¬122) بأثر ذلك كمدا، ¬

(¬113) في الأصول: «حماد». (¬114) زيادة من الرحلة يقتضيها السياق. (¬115) في الأصول: «أرى». (¬116) في الأصول: «الخلق». (¬117) في الأصول: «يفر». (¬118) في مختلف نسخ الرحلة: «يغرى» و «يقرى» و «يفرى». (¬119) في الأصول: «وعمل». (¬120) زيادة من رحلة التجاني للتوضيح. (¬121) في الأصول: «ياقوت وأحجار نفيسة». (¬122) كذا في ط والرحلة، وفي ش: «ناصر».

نهاية قراقوش ويحيى الميورقي بن غانية

وترك ابنين كالبدرين (¬123) قال فيهما أبو الحسن علي بن محمد الاشبيلي (¬124). [رمل] ناصح قد كان عبدا (¬125) ناصحا ... في جميع الأمر (¬126) حتى [في] البنين لم يلد الا هلالا نيّرا ... فاتنا حيث بدا للناظرين وأقام علي بن الغازي مع النّاصر إلى أن توجّه إلى تونس فتوجّه صحبته ثم طلع معه إلى مرّاكش، وتحرك الموحدون إلى غزو جزيرة الأندلس فتحرّك معهم واستشهد بها مع من استشهد من الموحّدين - رحمهم الله ونفعنا بهم -. وعفا النّاصر على جميع من كان بالمهديّة من المقاتلين وغيرهم واشتغل برم سورها، وترتيب أمورها، ثم ترك الشّيخ أبا عبد الله محمد بن يغمور الهنتاتي واليا عليها من قبله، وكان انتقاله عنها موفى عشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وستمائة (¬127). ونفذت كتب الفتح إلى المغرب والأندلس واستقرّ بتونس بغرّة رجب فأقام بها بقية العام المذكور وأكثر عام ثلاثة وستمائة» (¬128). نهاية قراقوش ويحيى الميورقي بن غانية: «وسرح (¬129) أثناء ذلك أخاه السّيد أبا اسحاق ليتتبّع المفسدين فسار إلى أن دوّخ ما وراء طرابلس، وشارف أرض سرت وبرقة، وانتهى إلى سويقة ابن مذكور، وفرّ ابن غانية إلى صحراء برقة وانقطع خبره، وانكفأ السّيد أبو يوسف راجعا إلى تونس، وعزم ¬

(¬123) في الأصول: «كالبدور» كما في بعض نسخ رحلة التجاني والتصويب طبقا لتصويب محققها ص: 359 هامش 2. (¬124) في رحلة التجاني: «أبو الحسن بن حجرى الاشبيلي». (¬125) في الأصول: «عندنا». (¬126) في الأصول وفي بعض نسخ رحلة التجاني: «الأمور» والتصويب طبقا لما صوبه محقق الرحلة ص: 359 هامش 4. (¬127) 1 فيفري 1206. (¬128) نقل المؤلف عن رحلة التجاني قدوم الخليفة الناصر الموحدي إلى تونس وأمره بمطاردة يحيى بن غانية وابن عبد الكريم الرجراجي بالمهدية وحصار تونس، رحلة التجاني ص: 350 - 360 أثناء كلامه عن المهدية، وحذف ما ليس له صلة بيحيى بن غانية. (¬129) النقل الموالي من كتاب العبر لابن خلدون باختصار قليل 6/ 582 - 583.

النّاصر على الرحيل للمغرب» (¬130) «فنظر فيمن يوليه افريقية فوقع اختياره على الشّيخ أبي محمد عبد الواحد ابن الشّيخ أبي حفص، / فعقد له على ذلك، وسار إلى المغرب سنة ثلاث وستمائة» (¬131)، فلمّا استقر بها وسافر النّاصر «جمع (¬132) الميورقي بن غانية العرب من الذواودة وغيرهم، فجاء بهم إلى قتال الموحّدين بتونس، فخرج إليه الشّيخ أبو محمد عبد الواحد مع بني عوف من سليم فالتقوا بنواحي تبسة (¬133) سنة أربع وستمائة (¬134) فانهزم الميورقي (¬135) ولجأ إلى جهة طرابلس» (¬136) وكان يحيى بن غانية اذا رأى أحوال افريقية وما آل إليه الأمر يتمثل بقول القائل في الحجاج: [وافر] وقد كان العراق له اضطراب ... فثقّف أمره بأخي ثقيف «وفي هذه المدّة (¬137) استقر قراقش بودّان بعدما كسره يحيى بن غانية على طرابلس - كما تقدّم - فتوجّه الميورقي إليه بمن استصحب معه من العرب الدّبابيين الموتورين من قبل قراقش فحصره بها إلى أن فني طعامه وأعطى بيده سلما، واشترط على العرب أن يقتلوه قبل قتل ولده، وكان شديد المحبة له، فلمّا خرج هو وولده اليهم قال له الولد: يا أبت إلى أين يروحون (¬138) بنا؟ فقال له: إلى حيث رحنا بآبائهم فقتلوه ثم قتلوا ولده بعده وصلبه الميورقي بظاهر ودّان سنة تسع وستمائة (¬139). «(وفي سنة عشر توفي النّاصر، وقام بالخلافة بعده ابنه يوسف المستنصر) (¬140) ¬

(¬130) كتاب العبر 6/ 583. (¬131) 1206 - 1207 م والجملة التي بين ضفرين مشتركة بين صفحة 403 وصفحة 404 من كتاب العبر ج 6، الأولى في الخبر عن ابن غانية، والثانية في باب الخبر عن امارة أبي محمد ابن الشيخ حفص بافريقية. (¬132) النقل من صفحة 403 من كتاب العبر الجزء 6. (¬133) بشبرو من نواحي تبسة، نفس المصدر. (¬134) 1207 - 1208 م. (¬135) قصد أولا بلاد زناتة من نواحي تلمسان، وانفض عسكره بتاهرت ودخلوا افريقية فكانت هزيمة ساحقة دارت على الميورقي وجموعه ولحق فلّهم بناحية طرابلس، كتاب العبر: 6/ 585. (¬136) كتاب العبر 6/ 403. (¬137) النقل بتصرف بسيط من رحلة التجاني ص: 110 أثناء الكلام عن قابس. (¬138) كذا في ط وفي ش: «يريدون» وفي الرحلة: «يروحوا». (¬139) 1212 - 1213 م. (¬140) زيادة عما في رحلة التجاني.

وترك قراقش ولدا آخر وكان شجاعا كريما حسن الصّورة جدا تميل العيون إلى شخصه والأسماع إلى ذكره فرتّبه المستنصر بالحضرة في أجناده وقدّمه على طائفة منهم فحدّثته نفسه بالثيارة وأراد النّسج على منوال أبيه فأشعل تلك البلاد (¬141) نارا / فأنفذ إليه من (¬142) قتله وأراح تلك البلاد من فتنته وحمل رأسه إلى بلاده فطيف به (¬143) فيها» (¬144). وفي يوم الخميس أول محرم فاتح سنة ثمان عشرة وستمائة (¬145) توفي الشّيخ أبو محمد فتولى بعده السّيد أبو العلاء (¬146) ادريس بن يوسف بن عبد المؤمن فقام الميورقي وأشهر نعاقة فخرج إليه أبو زيد وتزاحفوا (¬147) بظاهر تونس أوائل سنة احدى وعشرين (¬148)، فانهزم ابن غانية (وجموعه وامتلأت أيدي الموحّدين من الغنائم (¬149)، ولم يزل ابن غانية) (¬150) في شيل وحط بافساد وهزيمة عليه حتى مات بالبريّة من قصر تلمسان (¬151) أواخر شوال من سنة ثلاث وثلاثين وستمائة (¬152) فكانت مدته من خروجه من ميورقة إلى موته ثلاثا وخمسين سنة والبقاء لله وحده والله سبحانه وتعالى أعلم (¬153). ¬

(¬141) يقصد ودان، وفي الرحلة «فهرب بجمع من أصحابه ولحق ببلاد ودان حيث قتل أبوه وأشعل تلك البلاد نارا»، رحلة التجاني ص: 111. (¬142) فأنفذ إليه ملك الكانم من قتله. (¬143) في الأصول: «بها». (¬144) رحلة التجاني ص: 111 عن ابن قراقوش. (¬145) 25 فيفري 1221 م. (¬146) في الأصول: «أبو العلي» والمثبت من كتاب العبر 6/ 405. (¬147) في الأصول: «تراجعوا». (¬148) 1224 م. (¬149) كتاب العبر 6/ 405. (¬150) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬151) ويقال أنه توفي بوادي الرجوان قبلة الأربس، ويقال بجهة مليانة من وادي شلف، ويقال بصحراء بادس من بلاد الزاب، كتاب العبر 6/ 406. (¬152) جوان - جويلية 1236 م. حكى هذا ابن خلدون بصيغة التمريض (قيل)، وذكر أولا أنه هلك لخمسين سنة من امارته سنة احدى وثلاثين وقيل ثلاث وثلاثين، ودفن وعفى اثر مدفنه، المصدر السالف نفس الصفحة. (¬153) عن ثورة بني غانية انظر المعجب لعبد الواحد المراكشي ص: 266، 274 - 275، 317.

المقالة التاسعة في ذكر دولة بني مرين وبني زيان وبني نصر

المقالة التّاسعة في ذكر دولة بني مرين وبني زيان وبني نصر وفيها ثلاثة أبواب الباب الأول في ذكر دولة بني مرين بالعدوة عبد الحق بن محيو ومن ولي بعده: لمّا كانت أيام المنتصر (¬1) خامس الموحّدين المتولي سنة عشرة وستمائة (¬2) كان ابتداء بني مرين ملوك الغرب الأقصى (¬3)، وكان أولهم عبد الحق بن محيو بن [أبي] بكر بن حمامة بن محمد بن ورزين بن فكوس (¬4) بن كرماط بن مرين، يكنّى أبا محمد ظهر بالمغرب الأقصى في جماعته وكانوا نحو أربعمائة فاستخلص الملك بسيفه حين ضعفت دولة بني عبد المؤمن، وذلك باقبال المنتصر على لذّاته - حسما مرت الإشارة / إليه - وكان عبد الحق رأى في منامه كأن شعلا أربعا من نار خرجت منه فعلت في جو المغرب ثم احتوت على جميع أقطاره، فكان تأويل رؤياه تملك أربع من بنيه بعده، وكان ¬

(¬1) سبق أن أشرنا إلى عدم اتفاق المراجع في هذا اللّقب. (¬2) 1213 - 1214 م، وهذا التاريخ يتّفق مع ما جاء في الحلل السندسية 2/ 130 وفي كتاب العبر لابن خلدون 6/ 523 سنة 611 هـ ‍. (¬3) بجهات فاس سنة ثلاث عشرة 1216 - 1217 م أنظر ابن خلدون كتاب العبر 6/ 524. (¬4) ورزين بن فكوس انظر ابن خلدون، الخبر عن بني مرين وأنسابهم وشعوبهم في التاريخ الكبير 13/ 343 والحلل السندسية 2/ 171.

أبو يوسف يعقوب

لعبد الحق من الولد ادريس وعثمان وعبد الله ومحمد وأبو يحيى [أبو بكر] (¬5) ويعقوب، فلمّا توفي عبد الحق تولى بعده ابنه عثمان ثم بعده محمد، ثم بعده أبو يحيى [أبو بكر] فمات حتف أنفه (¬6) بفاس في رجب سنة ست وخمسين وستمائة (¬7). أبو يوسف يعقوب: وولي بعده رابع الأخوة أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق، وهو الذي استخلص جميع ملك بني عبد المؤمن من المغرب الأقصى، وسبب ذلك ما تقدمت الاشارة إليه أنه لمّا تولى المرتضي من بني عبد المؤمن في آخر دولتهم كانت بينه وبين بني مرين وقائع وحروب فالتحق أبو دبوس آخر بني عبد المؤمن بسلطان المرينيين وانتدبه إلى اجتثاث المرتضي وعاهده على تسليم شطر ما يناله، فعقد له الجيوش وتحرك إلى آخر ما تقدم في انقراض دولة بني عبد المؤمن (¬8). ولمّا تملّك أبو يوسف يعقوب المريني بمرّاكش (¬9) وجميع أملاك بني عبد المؤمن شاع صيته في الأقطار، وكان المسلمون بالأندلس في تلك المدّة عظمت فيهم نكاية عدو الدّين، وكان ملك الأندلس اذ ذاك محمد بن محمد بن نصر فاشتد عليه الالتحاق وذهبت عنه أوجه الحيل، فاستصرخ أبا يوسف يعقوب المريني المترجم، فأجاب / الدّاعي وابتدر الجهاد في أوائل عام اثنين وسبعين وستمائة (¬10)، فعبر البحر إلى جزيرة طريف، وعجّل السير إلى الوادي الكبير من قبل أن يسبق للروم التدبير، فقتل الكفّار في بطاحها، وعجل محمد بن نصر المسير إليه، وكان زعيم النّصارى ذا النّون (¬11) فاستعد ¬

(¬5) أبو بكر: الاستقصا 3/ 9، ابن خلدون 3/ 31، والحلل السندسية 2/ 136، وفي تاريخ شمال افريقيا لشارل أندري جوليان: أبو يحيى أبو بكر، وهو كما قال السراج وجوليان أول من اشتهر من بني مرين. (¬6) يقصد مرضا. (¬7) جويلية - أوت 1258 م وهو التاريخ الذي اعتمده جوليان في تاريخ شمال افريقيا 2/ 165، وفي الحلل السندسية توفي سنة ثلاث وخمسين وستمائة، 2/ 136. (¬8) أنظر كتاب العبر 6/ 547 - 551. (¬9) دخلها فاتح سنة ثمان وستين وستمائة 1259 م. أنظر كتاب العبر 6/ 551. (¬10) 1273 م، وفي تاريخ شمال افريقيا «كان خروج الصفوف المرينية الأولى إلى الأندلس في أفريل سنة 1275، ثم لحق بها أبو يوسف يعقوب مع بقية العسكر في 16 أوت من نفس السّنة»، 2/ 170. (¬11) هو Don Nuno Gonzales de Para المشهور وهو أحد قواد جيوش «قشطيلية»، تاريخ شمال افريقيا 2/ 170.

للقائهم وقد جمع من الجموع ما لا يعد، وكانت الوقعة على الرّوم بظاهر إستجة (¬12)، فاستأصل من الرّوم ما يفوق ثمانية آلاف، منهم زعيمهم ذا النّون، فقتل وطيف برأسه على البلاد، ثم قسّمت الغنائم في عساكر المسلمين، ثم توجّه إلى جهاد حمص (¬13) ثم إلى شريش ثم نزلوا بأعلى قرطبة فدوّخوا وأحرقوا وقطعوا آثار الكفر حيث وجد، ثم عبروا إلى الزهراء ثم نزلوا على جيّان ولمّا طوّع البلاد، ومهّد الأطواد، دخل بين أبي يوسف المريني وبين محمد بن نصر جماعة بالفساد، وذلك أن بني اشقيلولة (¬14) الرؤساء بمالقة ووادي آش وقراش كانوا قد خرجوا عن طاعة محمد بن نصر (¬15)، فلمّا جاز الأمير أبو يوسف إلى الأندلس لحقوا به ونصحوا له وأغروه بابن نصر سلطانهم فأفسدوا ما بين أبي يوسف، وابن نصر، وكان آخر أمرهم أن خرجوا له عن مدينة مالقة (¬16) فملّكوها السّلطان أبا يوسف، فولى عليها عاملا من قبله فضاق ذرع ابن نصر بذلك، وأعمل الحيلة في استنزال عامل (¬17) أبي يوسف بمال بذله وعوّضه عن مالقة بحصن شلوبانية (¬18)، ثم تدارك الله أمر المسلمين بصلاح ذات بينهم / واتصال أيديهم، ولولا فضل الله ورحمته لحلّ بابن نصر (¬19) ما حلّ بابن عبّاد من يوسف بن تاشفين، وتوفي السّلطان أبو يوسف المريني بالجزيرة الخضراء سنة خمس وثمانين وستمائة (¬20). ¬

(¬12) في ط: «السجة» وفي ش: «ماسجة» والمثبت من معجم البلدان، قال ياقوت: «بالكسر ثم السكون، وكسر التاء فوقها نقطتان وجيم وهاء اسم لكورة بالأندلس متّصلة بأعمال ريّة بين القبلة والمغرب من قرطبة. . .» 1/ 174. (¬13) بالأندلس وهم يسمّون مدينة اشبيلية حمص، وذلك أن بني أميّة لمّا حصلوا بالأندلس وملكوها سمّوا عدة مدن بها بأسماء مدن الشّام، معجم البلدان 2/ 304. (¬14) أي أهل تلمسان. (¬15) المعروف بابن الأحمر وهو محمد بن يوسف بن نصر يدعى بالشيخ وولده المتولي بعده محمّد المعروف بالفقيه وهو الذي استنجد بالمرينيين للجهاد في الأندلس. (¬16) وكان ذلك في المرة الثانية التي رجع فيها أبو يوسف إلى الأندلس في سنة 1277 م، عن هذه الأحداث أنظر مثلا تاريخ شمال افريقيا 2/ 172. (¬17) هو عمر بن يحيى بن محلى. (¬18) وبذل له مالا أيضا وتنازل ابن محلى عن مالقة لابن الأحمر. (¬19) وابن نصر هذا كان متقلبا يميل مع الريح حيث مالت، ولا يستنكف من مصادقة النّصارى حفاظا على ملكه وخوفا من السلطان أبي يوسف، ولمّا بان له سوء نيّة النّصارى وتكالبهم على بلاد المسلمين بادر إلى الصّلح مع الأمير أبي يوسف المريني، ومن هذا يظهر أنه انتهازي وصولي تهمّه بالدرجة الأولى مصلحته الشخصيّة لا مصلحة الاسلام ومستقبل جزيرة الأندلس. (¬20) 1286 - 1287 م.

أبو يعقوب يوسف

أبو يعقوب يوسف: فتولى بعده ولده أبو يعقوب يوسف فكان ملكا جليلا، فبدأ أمره أولا بالجواز للأندلس، فجاهد أعداء الدّين، وأفنى جموعهم، وثلّ عروشهم وبادر سلطانها ابن نصر للقائه فجدّد معه الودّ (¬21) ثم رجع إلى محاصرة تلمسان وصيّرها دار ملكه (¬22) وأناخ عليها بكلكله وابتنى بها القصور والرّباع والمساجد (¬23) ولازم المدينة بالحصار سبع سنين حتى ذهبت الأوماق وعجزت الحيل، ونفذت الأقوات، فبينما السّلطان مبتذل بين نسائه اذ دخل عليه عبد من أخابث الخصيان القصر وبيده مدية فضربه ضربة مزّقت معدته، وولى هاربا، فكاد يفلت ويدخل البلد المحصور لولا أنه عوجل، وعاش السّلطان بقية يومه ثم مات (¬24). أبو ثابت عامر: فتولى بعده حفيده ولد ابنه أبو ثابت عامر ابن عبد الله بن يوسف بعد أن فتك بعمّه أبي يحيى، وشرع في الارتحال من تلمسان إلى مدينة فاس، وبادر إلى معاضدة المحصور موسى بن زيّان بتلمسان والافراج عنه، فأتاهم (¬25) الفرج من حيث لم يحتسبوا وكتبوا على سكتهم بعدها: ما أقرب فرج الله. وكان أبو ثابت هذا جريئا سفّاكا للدماء (¬26)، فعاجله الحمام على عادة الله في (¬27) كل من يعتدي في الدّماء فقصرت مدته (¬28). / ¬

(¬21) ثم داخله شانجة زعيم النّصارى وخوفه من السّلطان يوسف واتّفقا على أن يحتل شانجة طريف وأعانه ابن الأحمر بالمدد والرجال والسلاح على أن تكون طريف له بعد سقوطها ولم يوف شانجة بهذا الشرط، انظر الاستقصا 3/ 71. (¬22) لم يدخل أبو يوسف تلمسان بل «قتل وهو محاصر لها» كما ذكر المؤلف فيما بعد وكما في مختلف المراجع التاريخية. (¬23) في مدينة سمّاها المنصورة بها بنو يغمراسن من بني عبد الواد لمّا ارتحل السّلطان أبو ثابت المريني إلى فاس، وكان التخريب سنة 707 السّنة التي استقرّ فيها في الملك. (¬24) في منتصف سنة سبع وسبعمائة 1307 م، وعن سبب قتله - ويرجع إلى قضية نسائية -، انظر مثلا الحلل السندسية 2/ 137. (¬25) أي أهل تلمسان. (¬26) أمر بقتل الخادم الذي كان قتل عمّه يوسف، ثم أمر بقتل الخدام عن آخرهم وألقاهم في النيران، ولم يترك أبو ثابت في مملكته خادما خصيا حتى أباده. . . ثم وثب على عمّه يحيى فقتله في ثاني يوم استقراره في الملك. الحلل السندسية 2/ 137 - 138. (¬27) في ش: «على». (¬28) توفي في نفس السنة أي 707 هـ - 1307 - 1308 م.

أبو الربيع سليمان

أبو الربيع سليمان: وتولّى الأمر أخوه السّلطان أبو الربيع سليمان، فاستقرّ حاله وصارت إليه سبتة وما يليها مما كان تغلب عليه الأندلسيون، في صفر عام تسعة وسبعمائة (¬29)، وتوفي بتازا في جمادى الآخرة من عام عشرة وسبعمائة (¬30). أبو سعيد عثمان: ثم تولى بعده أخو جده أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق، بويع بعده، فكانت أيّامه أعيادا ومواسم، وصرفت إليه الجزيرة ورندة ومربلة من بلاد الأندلس لما استصرخ لنصرها، فأجاز إليها الحصص وكان تصييرها إليها منتصف ذي الحجة من عام سبعة وعشرين وسبعمائة، وكان قد أطلق يد ولده عمر في الملك، واتّبعه النّاس فرجع في بعض حركاته إلى مدينة أبيه فملكها عليه، وناهضه وخرج إلى لقائه، فكان اللقاء بالقرمدة من أحواز تازا، فانهزم السّلطان فدخل تازا جريحا مفلولا وحاصره ابنه، ثم أقلع عن مهادنته وأصابه مرض اختلّ به أمره، فنازل عليه البلد الجديد أشهرا، ثم خرج عن عهده وسار إلى سجلماسة معوضا بها (فأقام بها) (¬31) إلى أن توفي أواخر ذي القعدة سنة احدى وثلاثين وسبعمائة (¬32). أبو الحسن المريني ودخوله إلى تونس: وقد عهد لولده غير عمر، وهو الأمير أبو الحسن علي بن عثمان، فبادر إلى منازلة أخيه عمر فظفر به وقتله وبعث الجيوش إلى جبل الفتح فنازله حتى فتحه، ونال الفخر والأجر وكان نسيج (¬33) وحده في العزّ والجلالة وبعد الصيت وفخامة (¬34) / الآثار، فمهّد الملك وأسدى المنن، وبنى المدارس الظريفة، والمباني الشّريفة، وقطع دهره في الجدّ فلا يرى إلاّ في مجلس معظّم إمّا لتدبير أو علم يدرس أو لحراسة بلد أو نسخ قرآن أو عرض حزب أو اصلاح عدة معدّة لحرب، ولما نازل أبو تاشفين أمير بني زيّان مدينة بجاية، ¬

(¬29) جويلية 1309 م. (¬30) نوفمبر 1310 م. (¬31) ساقطة من ط. (¬32) أوت 1331 م. (¬33) في ش: «سيح». (¬34) كذا في ط، وفي ش: «مخافة» وهو تحريف.

وضايق ملوكها الحفصيين استجاروا به وصاهروه، فكتب إلى أبي تاشفين في الأفراج عن بلادهم والاقصار عن مضايقتهم، فلجّ بما كان داعية لإعمال الحركة الثقيلة إليه ومنازلته ثلاث سنين على تلمسان، لم يغن عن أبي تاشفين مع الحزم والمضايقة ما أعدّه ولا نفعه ما ادّخره حتى دخلها عنوة، ولمّا فرغ - رحمه الله - من أمر تلمسان واستضاف بلادها إلى إيالته شرع في الاجازة إلى الأندلس، وشمّر للجهاد، فأوقع بعدوّ البحر وأساطيل الرّوم الوقيعة المشهورة يوم السّبت سادس شوال من سنة أربعين وسبعمائة (¬35) وعبر إلى جبل الفتح (¬36) ونازل طريف (¬37) ثالث محرم، وتمادى حصاره اياها فأعيته، وخرج ملكها المحصور يستمدّ العساكر من سلطان البرتغال (¬38) وسواه، فأسرع السّلطان أبو الحجاج بن نصر سلطان الأندلس اللحاق به ممدّا اياه، فكان اللقاء بين الطائفتين بظاهر طريف (¬39) وساء التّدبير فاختل مصاف المسلمين، وأضاعوا الحزم فانهزموا، ولم يحصل فتح لهم، وكان ذلك ضحوة يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة من عام واحد وأربعين وسبعمائة (¬40)، وفي ليلة اليوم بعده لحق بسبتة، ثم لحق بمرّاكش آخذا بالجدّ في تفقّد بلاده والاستعداد لطلب ثأره وجبر انكساره، فرتّب الأمور، واستطلع الأحوال، ثم توجّه إلى بلاده القبلية فاتّصل به ما كان من وفاة أبي بكر ملك تونس (¬41)، واختلاف أولاده وتوثب ولده عمر (¬42) وسطوته في النّاس، ولحق به وجوه الدّولة من الشّيخ محمد ابن تافراجين (¬43) وأشباهه فأطمعوا السّلطان في تملكها وتوسع نظره فيها، وأوجبوا عليه ¬

(¬35) 5 أفريل 1340 م. (¬36) جبل طارق. (¬37) مدينة بالأندلس على جبل طارق سميت باسم طريف بن مالك، جاء في كتاب العبر 4/ 254 ونزل طارق بهم جبل الفتح فسمّي جبل طارق به، والآخر على طريف بن مالك النخعي ونزل بمكان مدينة طريف فسمّي به «Tarifa». (¬38) في تاريخ شمال افريقيا: «بفضل أسوارها المتينة، ونجدة من بحرية جنوة، قاومت مدينة طريف حتى أتتها المدد المسيحية الحربية وجملتها 000.35 مقاتل» 2/ 179. (¬39) على ضفاف نهر Rio Salado». (¬40) 18 نوفمبر 1340 م. (¬41) أبو يحيى أبو بكر المتوكل على الله الحفصي. (¬42) عن اختلاف الأمراء أبناء السّلطان الحفصي أبي يحيى أبي بكر بعد وفاته أنظر تاريخ الدولتين ص: 79 - 81. (¬43) كذا في الأصول وتاريخ الدولتين وفي الحلل السندسية، وكتبها ابن خلدون «تافراكين» وهو أبا محمد عبد الله شيخ الحضرة أولا، قدمه السّلطان أبو بكر يحيى الحفصي على حجابته ولمّا توفي الحاجب الشّيخ أبو القاسم بن عبد العزيز الغساني، أنظر مثلا تاريخ الدولتين 77.

النّظر للمسلمين بها لأمر قدره الله عليه، ولو تمّ (¬44) في إقباله (¬45) على الجهاد لكان أوفق به، ولكن {لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً} (¬46) وتحرك إلى تونس في صفر سنة ثمان وأربعين وسبعمائة (¬47)، واستولى على مدينة بجاية، ثم قسنطينة، وقد ظفر بعض حصصه بعمر (¬48) صاحب الأمر بتونس فارا عنها فقتل (¬49)، واهتزّت الأرض لطاعة السّلطان من العرب والبلدان، وحذر الملوك بمصر ما شاع من بسطته وانفساح إيالته وشهرة ذكره. ودخل تونس في حفل لم يسمع بمثله في الثامن من جمادى الآخرة من عام ثمانية وأربعين وسبعمائة (¬50)، ولمّا رأى سكانها من العرب المعودين هضم الدّولة ما حلّ بهم من العزّ الذي غمر بأوهم وقصر خطوهم وكسح آمالهم، نفروا منه بواحدة وشرعوا في إزالة الشّحناء واعتضدوا وصاروا نفسا واحدة على تباين أغراضهم وفساد ذات بينهم ونابذوه وجهروا / بخلافه وقد نهك محاله طول الثوى، وغلاء الأسعار فناوشوه الحرب، فبرز عليهم واتبع آثارهم، ولمّا بلغ ظاهر القيروان اشتدّ كلبهم عليه، وقد نصبوا لاقامة أمرهم أحمد بن عثمان بن أبي دبّوس، وخذل النّاس، وفرّ من أرباب الأمر إليهم كثير، وانهزم السّلطان هزيمة شنيعة تخلف لها المضارب والعدد والآلات، ولجأ بنفسه إلى القيروان، فاستجار بها، ودافع عنه أهلها، وكانت الهزيمة يوم الاثنين سابع محرم من عام تسعة وأربعين وسبعمائة (¬51)، وأخذت العرب بمخنقة ويئس من النّجاة وتوجّه أميرهم إلى منازلة من بقصبة تونس من خواص السّلطان والأمناء على بيت ماله وعياله، وقد أخذوا أهبتهم، فكانوا أملك بها إلى أن أزمع السّلطان على الفرار ليلا من القيروان لسوسة، فخرج والعربان تطارد أذياله، وحرابها تنوشه إلى أن أمن على نفسه، وقد أخذ من معه النهب، ومنها توصّل في البحر إلى تونس، فاستقرّ بها، ونازلته العرب فأبلى أهلها في الذّب عنه، وصابرهم بمن خلص معه من ثقاته وحصّن المدينة، ثم اتّصل به الخبر الكاسر في عضده من استبداد ولده أبي عنان فارس بالأمر، وامتساك حفيده بدار ملكه ¬

(¬44) يقصد: استمر. (¬45) في ش: «ولو أتم في قباله». (¬46) سورة الأنفال: 42. (¬47) ماي 1347 م. (¬48) أبي حفص عمر. (¬49) قتل عند قابس: الحلل السندسية 2/ 169. (¬50) في الأصول: «الثالث عشر من جمادى الآخرة»، والتصويب من الاستقصا 3/ 156، وتاريخ الدولتين ص: 83، وتاريخ شمال افريقيا 15، 2/ 181، (Histoire) سبتمبر 1347 م. (¬51) 7 أفريل 1348 م.

فاس مودع ماله، فجعل يشكو منهما إلى غير منصت، وطال به الأمر، وأعيى من لديه الصّبر، فحملوه على الرّحيل عن افريقية واللحاق ببلاده يحسبون أن جبر حاله موصول بالوصول إليها، ولم يعلموا أن كلام النّاس معه / وسيوفهم عليه، وقد كان ولده سلك سبيلا من البذل والاستيلاء لم يسبق إليه، ورحل إلى تلك الحضرة وسلم في تلمسان لعدوّه ليكون من بها سدّا بينه وبين أبيه، فركب البحر في الفصل المحذور والوقت المشؤوم، وعقد لابنه أبي الفضل على تونس خوفا من الغوغاء ومعرات هيعتهم (¬52)، فأقامه لنظر من خلص له من أهل الوطن وذلك بشوال من عام خمسين وسبعمائة (¬53). ولمّا فصل عن تونس طرق الأسطول الهول ففرّقه شذر مذر وتكسر الجفن المختص بركوبه (¬54) ببعض السّواحل من مدينة بجاية، وقد صارت إلى عدّوه، ونجا بعد الغرق فتعلق بحجر قريب من البرّ عاري الجسد مباشرا للموت، وهلك من كان معه من الفقهاء والعلماء والكتّاب والأشراف والخاصّة، وهو يشاهد مصارعهم، وينظر اختطاف البحر إياهم من فوق الصّخور التي تعلّق بها في البحر، وعدوه بالساحل (متهيء لقتاله وقد كان منعهم أهل بجاية من الماء وبعث إلى السّواحل أن) (¬55) يمنعوهم، فاستقوا بعد قتال، ثم ان الله تعالى تداركه بجميل لطفه بإقبال جفن من بقية أسطوله حائر الوجه، رفعه وقد سكن الهول فاستصحبه لمدينة الجزائر وقد تمسكت بطاعته - فاستنشق (¬56) بها ريح الحياة وأقام الرسم. ولمّا اتّصل الخبر بأبي العبّاس الفضل الحفصي وهو بالجريد خبر السّلطان أبي الحسن وخروجه في البحر أجدّ السير إلى تونس، ونزل عليها محاصرا لابن السّلطان أبي الحسن وهو أبو الفضل الذي كان السّلطان عقد له على تونس، فغلبه ومن كان / معه بعدما أحاط الحفصي وأهل تونس بالقصبة، فاستنزلوا الأمير أبا الفضل ابن السّلطان أبي الحسن على الأمان من القصبة، وخرج إلى بيت أبي الليل بن حمزة، وأنفذ معه من بلّغه مأمنه فلحق بأبيه بالجزائر. ¬

(¬52) في تاريخ الدولتين: «خوفا من توارث الغوغاء ومضرة هيعتهم» ص: 89. (¬53) ديسمبر - جانفي 1350 م. (¬54) أي السّلطان. (¬55) ما بين القوسين ساقط من ش. (¬56) أخذ هذه العبارة من تاريخ الدولتين ص: 89، وأخذ المؤلف خبر خروج السّلطان أبي الحسن من تونس ونجاته من الغرق من تاريخ الدولتين بتصرف.

وقدم السّلطان أبو الحسن بالجزائر عاملا، وخرج إلى المغرب بعد اقامة الرّسم بالجزائر، واستلحق واستركب والتف (¬57) عليه بعض العرب من أحوازها وأوباش من قبائلها، ورحل إلى الجهات التلمسانية وقد برز من بها إلى قتاله، فكان لهم الظفر وهزموه هزيمة شنيعه استؤصل بها فلّه، والبقية التي خلصت له، وأصيب ولده النّاصر، وظهر يومئذ من بسالته وصدق دفاعه وشدة حملاته (¬58) حتى ارتكب ظاعنوه (¬59)، وخلص ناجيا، واحتمل ولده النّاصر جريحا وتوفي فواراه وأخفى مدفنه، واتّصل بمدينة مرّاكش فدخلها وارتاش بما علله به ولاته والمتوثقون بعهده وغّرته العرب والأطماع، فتحرّك وقد أسرع إليه ولده في العساكر النقاوة (¬60) المختارة، وكان اللقاء بجهة الغرب من ضفتي وادي أم الرّبيع في العام المذكور، ولمّا التقى الجمعان وقعت الهزيمة على السّلطان، وأجاز الوادي «ولحق به أبطال بني مرين، فرجعوا حياء منه وهيبة له، وكبا به فرسه فسقط إلى الأرض والفرس تحوم حوله، واعترض دونه الشّيخ أبو دينار شيخ الذواودة فدافع عنه حتى ركب، وخلص إلى جند هنتاتة ومعه كبيرهم عبد العزيز / بن محمد بن علي، فنزل عليه وأجاره واجتمع عليه الملأ من هنتاتة وبايعوه على الموت، وجاء الأمير أبو عنان على أثره ونزل بعسكره على جبل هنتاتة، وطلب السّلطان أبو الحسن من ابنه أبي عنان الابقاء وأن يبعث له حاجبه محمّد بن أبي عمر، فبعثه فحضر عنده واعتذر له على الأمير أبي عنان وطلب له الرّضا، فرضي عنه بولاية عهده واعتلّ السّلطان أبو الحسن خلال ذلك فمرّضه أولياؤه وخاصّته وافتصد لاخراج الدّم ثم باشر الماء بعضده للطّهارة فتورّم وهلك لليالي قريبة لثلاث وعشرين من ربيع الثاني من سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة (¬61)، وبعث أولياؤه بالخبر إلى أبي عنان ابنه بساحة مرّاكش ورفعوه على أعواد إليه فتلقاه حافيا حاسرا وقبل أعواده وبكى واسترجع ورضي عمن كان معه وأكرمهم ودفنه بمرّاكش إلى أن نقله إلى مقبرة سلفهم بشالة في طريقه إلى فاس» (¬62). ¬

(¬57) في ش: «وألفت». (¬58) في ش: «حمالته». (¬59) في ش: «ارتكب صعانيه» وفي ط: «أركب ضعاينة». (¬60) في ش: «التقاوة». (¬61) 19 جوان 1351 م. (¬62) ما بين ظفرين نقله المؤلف من تاريخ الدولتين حرفيا ص: 90، وعن أول الخبر عن رحيل السّلطان أبي الحسن إلى المغرب نقله باختصار مع المحافظة على عباراته ص: 89 - 90.

أبو عنان وأعماله بافريقية

أبو عنان وأعماله بافريقية: ثم استبدّ أبو عنان فارس بن علي بالأمر، فكان سلطانا عالما، عليّ الهمّة، متراقيا إلى الغاية، جدّد الملك، وعدّد الألقاب، وصيّر الايالة في أضيق من خرت، وبنى المدارس والزّوايا، واستجلب الأعمال، وتحرّك إلى تلمسان فهزم قبيلها، وأعمل السّيف فيهم، وتقبض على سلطانها عثمان وأخيه أبي ثابت فقتلهما، واستضاف الايالة الزيّانية على ما كانت عليه أيام أبيه، وللحين هدّ / أسوارها كي لا تكون محلّ امتناع على قبيله (¬63) ولا دار ملك لعدوّه. «وفي سنة خمس وخمسين وسبعمائة عاشر ربيع الأول (¬64) أخذ النّصارى مدينة طرابلس غدرا - أظهروا أنهم تجّار فصدّقهم صاحبها ابن ثابت - فلمّا كان عند الصّباح نصبوا السلالم وركبوا الأسوار واستولوا عليها، وفرّ صاحبها فحصل في أيدي العرب وقتلوه وأخاه لدم كان أصابهما (¬65) منهم، وأسر [النّصارى] (¬66) جميع [أهل] (66) البلد، ومكث النّصارى فيها نحوا من أربعة أشهر، وكان خروجهم منها ثاني عشر شعبان (¬67) من العام بعد أن نقلوا جميع ما فيها لبلدهم جنوة وتركوها خالية (¬68)، والعرب أثناء ذلك يردون من أراد قتالهم من المسلمين، إلى أن داخلهم ابن مكي صاحب قابس في فدائها فاشترطوا عليه خمسين ألفا من الذّهب العين، فبعث فيها للسّلطان أبي عنان المترجم بطرفه بمثوبتها (¬69)، ثم تعجّلوا عليه فجمع ما عنده واستوهب ما بقي من أهل قابس والحامّة وبلاد الجريد فوهبوه له رغبة في الخير، ومكنه (¬70) النّصارى من طرابلس فملكها، وبعث السّلطان أبو عنان إليه بالمال صحبة الخطيب أبي عبد الله بن مرزوق وأن ¬

(¬63) في ش: «قيله». (¬64) 4 أفريل 1354 م. (¬65) في الأصول: «أصابه» والتصويب من تاريخ الدولتين. (¬66) اضافتان من تاريخ الدولتين ص: 94. (¬67) 1 سبتمبر. (¬68) «وكانت الغنائم وفيرة - طبقا لما تؤكده المصادر الايطالية المعاصرة - وقد بلغت مليونا وثمانمائة فيورين (Florino) من الذهب، بين نقود وبضائع، وسبعة آلاف أسير» ليبيا منذ الفتح العربي المصدر السابق ص: 119. (¬69) كذا في تاريخ الدولتين ص: 94. (¬70) في ش: «أمكنته» وفي ط: «أمكنه» والاصلاح من تاريخ الدولتين.

نهاية المرينيين

يردّ على النّاس ما أخذ منهم وأن ينفرد هو بمثوبتها فامتنع، وعقد السّلطان أبو عنان على طرابلس لأحمد بن مكي وعلى قابس وجربة (¬71) لأخيه عبد الملك» (¬72). وتحرك لافريقية ففتح قسنطينة بعد أن تملك على بجاية، ودخل أسطوله تونس فملكها ثقاته في رمضان / من عام ثمانية وخمسين وسبعمائة (¬73) واستقرّت دعوته بها إلى ذي القعدة من العام (¬74). وفي الرابع والعشرين من ذي الحجّة من عام تسعة وخمسين وسبعمائة (¬75) كانت وفاة السّلطان أبي عنان وسنه ثلاثون سنة، ومدته عشر سنين. نهاية المرينيين: فولي بعده ولده السّعيد، ومن بعده غيره إلى أن أفضت الدّولة إلى عبد الحق ابن السّلطان أبي سعيد المريني، «ففي سبع وعشرين من رمضان من سنة سبع وستين وثمانمائة (¬76) قام بمدينة فاس مزوار (¬77) الشّرفاء بها محمد بن علي بن عمران الادريسي على السّلطان عبد الحق، وملك البلاد، وذلك أن السّلطان كان بمحلته خارج البلد، فلمّا سمع فرّ عنه أصحابه، ورجع هو إلى البلد في أناس قليلين فقبض عليه وقتل صبرا (¬78)، وقتل معه رئيس دولته هارون اليهودي، وسبب ذلك أنه كان في أيدي بني وطّاس كالمحجور عليه وهم المتولّون أمر المملكة سنين كثيرة، ثم أراد الاستقلال دون بني وطّاس فأخذهم، وأخذ أموالهم ولا نجا من فرّ، واستقلّ بأمور مملكته، فباشر الأمور بنفسه، وصار يسافر بمحاله، وأوقف بين يديه في ذلك هارون اليهودي يتولى أمور المسلمين بفاس هو وجماعته، فصاروا يحكمون في المسلمين، بل ويهينونهم، فوقع ذلك في النّاس موقعا عظيما إلى أن خرج السّلطان بمحلته ليهدن أوطانه، وليضايق بني وطّاس الذين أخذوا له ¬

(¬71) زائدة عمّا في تاريخ الدولتين. (¬72) ما بين ظفرين وهو ما يتعلق باحتلال طرابلس من طرف النّصارى نقله المؤلف من تاريخ الدولتين ص: 94 - 95. (¬73) أوت 1357 م. (¬74) أكتوبر - نوفمبر 1357 م. (¬75) 27 نوفمبر 1358 م. (¬76) 15 جوان 1463 م. (¬77) المزوار في لسان زناتة معناه الرئيس، الاستقصا 3/ 118. (¬78) في ماي من سنة 1465 م.

السلطة بالمغرب الأقصى في عصر المؤلف

طنجة وتازا وغيرهما، / فتحدّث النّاس مع مزوار الشّرفاء وقاموا على من بفاس من اليهود فقتلوهم، وتخوّفوا من السّلطان عبد الحق ومن هارون اليهودي، فضبطوا البلاد إلى أن قدم عبد الحق عقب تلك الهيعة، فقتل هو واليهودي هارون صبرا، وبويع الشّريف على رضا من النّاس، واستقلّ بالخلافة وعادت الخلافة في فاس ادريسية كما كانت. وانقضت دولة بني مرين» (¬79). السلطة بالمغرب الأقصى في عصر المؤلف: وفي هذه الأعصار صارت في أيدي ذرية مولانا اسماعيل (¬80) الشّريف - أبقاها الله فيهم - وأجرى الصّالحات على أيديهم، فاتّفق منهم سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله بن اسماعيل مع جميع أصناف الكفر على استخلاص أسرى المسلمين بأي بلد من بلدانهم، وبذل لهم الأموال الخارجة عن ميزان الأنظار، فبلغت الأسارى الذين استنقذهم من بلاد الكفرة وقاربت عشرين ألفا، وبذلك لهم فيهم على أقدارهم من قنطار فضة على ما قيل إلى مائة دينار ذهبا، واستمر فداؤه إلى أن حضرت وفاته في حدود ست ومائتين وألف (¬81) - رحمه الله تعالى - وهذا شيء لم يتّفق لغيره من سلاطين الاسلام واستفتح بلادا في بر العدوة كان استولى عليها الكفّار وبنى مدينة جديدة سمّاها صويرة (¬82) عظيمة الشأن، وكان عالما فاضلا خيرا عفيفا نزيها في غاية الكمال حتى قيل إنه المهدي المنتظر، لأن اسمه على اسم النبيء صلّى الله عليه وسلم واسم أبيه عبد الله كاسم أبي / النبيء صلّى الله عليه وسلم رحمه الله تعالى وأحسن مثوبته وتقبّل عمله. ¬

(¬79) إلى هنا ينتهي الكلام عن السلطان عبد الحق المريني وقد نقله المؤلف من تاريخ الدولتين ص: 156 وما بعده من كلام المؤلف ويتعلق بأحداث عاشها. (¬80) عنه وعن الدّولة التي كونها أبوه مولاي الرشيد أنظر تاريخ شمال افريقيا 2/ 224 - 225 (Histoire de l' Afrique du Nord). (¬81) 1791 - 1792 م. وعند جوليان (Julien) في تاريخ شمال افريقيا: «توفي في سنة 1790 م». (¬82) في ط: «صورية».

الباب الثاني في ذكر بني زيان ملوك تلمسان

الباب الثاني في ذكر بني زيّان ملوك تلمسان يغمراسن: أول ملوكهم يغمراسن ويكنّى أبا يحيى، وقد يسمّى يغمور؟؟؟، وهو ابن زيّان، بن ثابت بن محمد [بن زكدان] (¬1) بن تيدوكين (¬2) بن طاع الله بن علي بن يمل بن فزقين بن القاسم. وأول من عمل الحيلة في استخلاص تلمسان جابر بن يوسف بن محمد من هؤلاء، وكان أمرها إلى صنهاجة ملوك الجهة الشّرقية منها، فتصيّرت بعدهم إلى يغمور، ثم لمّا كانت سنة ست وأربعين وستمائة (¬3) خرج السعيد أبو الحسن علي بن أدريس خليفة الموحّدين - المقدّم الذكر - في ذلك التاريخ وتوجّه إلى محاربة يغمور فاستجمع إلى حربه، والتقى الجمعان بظاره تلمسان، فكانت الهزيمة على الخليفة السّعيد، فقتل هو وولده يوم الثلاثاء سلخ صفر من السّنة وانتهبت محلّته، واحتوى عليها بنو عبد الوادي، واختص يغمراسن سلطان بني زيّان بفسطاط السّعيد، وما فيه من الذّخائر ومن جملتها مصحف عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - أحد المصاحف العثمانية، فكان في خزائن قرطبة عند بني أميّة ملوك الأندلس فانتقل للملثمين ثم للموحّدين ثم إلى بني زيّان، لكن لما تغلب عليهم المرينيون أخذوه منهم. فمن وقعة السعيد مع يغمراسن تأثّلت بنو زيّان بما احتووا عليه من الذّخائر والعدد والآلات. وكان يغمراسن هذا ملك / بني زيّان آية من الآيات في رجوليته وجرأته وجزالته ودهائه، ومواقفه لأعدائه شهيرة، وكانت بينه وبين الأمراء على عهده من بني مرين وقائع حتى هلك. ¬

(¬1) اضافة من كتاب العبر 13/ 181. (¬2) في الأصول: «تبدوين» والمثبت من تاريخ العبر 13/ 181. (¬3) إلى أن تلف في البحر عند غرق الأسطول بالسّلطان أبي الحسن بمراسي بجاية مرجعة من تونس، كتاب العبر 13/ 170 - 171.1248 م.

عثمان ومن ولي بعده

عثمان ومن ولي بعده: وتولّى بعده ولده عثمان إلى أن تحرك السّلطان أبو يعقوب المريني الذي استخلص جميع ملك الموحّدين من الغرب الأقصى، فتوجّه إلى منازلة تلمسان فشدّ حصارها - حسما مر - وابتنى قصور الملك بخارجها، وتوفي عثمان أثناء الحصار على انقضاء خمس سنين من منازلته. فقام بالأمر بعده أبو زيّان محمّد، ولم يلبث أيضا أن هلك أثناء الحصار لعام فما دونه. أبو تاشفين عبد الرحمان ودخوله تونس: وقام بالأمر أخوه أبو حمّو موسى بن عثمان، وصنع الله له في التّفريج وحلّ الأزمة وهلاك عدوه - ما تقدمت الاشارة إليه - فأقلعت عنه الجيوش عن عهد توثقه وشرط أخذه، فاستمرّ حال أبي حمّو على وتيرة من استقبال السّعد وتمهيد القطر، ثم فتك به ولده عبد الرحمان المكنّى بأبي تاشفين، فاستقام له الأمر، وتمهّد له القطر، وأمكنته من نواصيها الآمال، وبلغ من تشييد القصور والمتنزهات الغاية البعيدة، وخلا له الجو بمسالمة ملك المغرب على عهده أبي سعيد، فهفا به الطمع إلى تملّك بجاية، وأقحم افريقية الجيوش، فدخل جيشه تونس فعقد بها لأمير حفصي تحت طاعته، ثم تطارح أربابها على السّلطان أبي الحسن المريني - كما تقدم - وظاهروه فطالب بني زيّان بالافراج عن بلدهم فأبوا، فتوجّه / إليهم وحصرهم ثلاث سنين هلك بها من الأمم ما لا يحصى، وعظم أمر المجانيق فيما حواه السور من القصور العظيمة والقباب الرفيعة، وباشر العمل بنفسه فألصق البناء بالأرض، وفي ليلة سبع وعشرين لرمضان (¬4) اقتحم الملعب المتّخذ أمام البلد، وفي عشرين من شوال تملّك البلد عنوة، فأقام أميرها عبد الرّحمان وولده بازاء القصر مدافعين عن أنفسهما، وقاما مقام الصبر، وصدقا في الدّفاع عن أنفسهما إلى أن كوثرا وأعجلتهما ميتة العزّ عن شدّة الوثاق وامكان الشمات. ¬

(¬4) من سنة 737 هـ ‍، 28 أفريل 1337 م أنظر عن هذا تاريخ الدولتين ص: 72.

نهاية بني زيان

نهاية بني زيّان: واستولى أبو الحسن المريني على تلك الايالة المؤثلة بما اشتملت عليه من نفيس الحلي وثمين الذخيرة وخطير العدّة وبديع الآنية وفاخر المتاع وصامت المال وضروب الرّقيق، وانقضى تلك الساعة ملك بني زيّان. ولمّا توجّه أبو الحسن المريني لافريقية واستبدّ أبو عنان بالأمر بعده، ورحل قاصدا دار ملكه، وترك بتلمسان من يقوم له ببعض رسمه، وجرت على أبي الحسن المريني الحوادث المتقدّمة صرف القبيل الزيّاني وجوههم في جملة المنهزمين عن أبي الحسن، وربما جروا عليه الهزيمة ولحقوا بوطنهم وهو شوكة، وقدّموا عليهم عثمان بن عبد الرحمان ابن يحيى بن يغمراسن شيخا قد جرّب الأمور، ومارس الدّهور، شهير الذكر، متحليّا بالانقباض، جانحا للنسك، مشمّرا للتسديد، مستعينا على أمره بأخيه أبي / ثابت، وهو مشار إليه بالبسالة والفتوة، فاستقام الأمر، وأعاد الدّولة، وأقامهم السّلطان أبو عنان سدّا بينه وبين أبيه، ولمّا قدم أبو الحسن المريني الجزائر - حسبما مر - وتوجّه نحو المغرب ناجزوه الحرب، فأوقعوا به، وأثكلوه ولده النّاصر، ونجا منهم وبلغ البلاد المراكشية، فتشاغل أبو عنان بما دهمه من جوار أبيه، فتملّى بنو زيّان الحظ أياما يسيرة ارتاشوا فيها، واكتسبوا (¬5) الخيول والظهر والعدة ثم خلص أبو عنان بوفاة أبيه فصرف وجهه إليهم، وتحرّك في الجيش الذي يجرّ الشّجر، وحملتهم ضرامة نفوسهم على مناجزته فخالطوا محلته على حين غفلة فكسروا قوتها، وأوهموا هزيمتها، فثبت أبو عنان بأهل الحفيظة وذوي الصّدق، فحمل عليهم غير مبال بهيض جناحيه، فنصر عليهم، فكانت القاضية، وأتى بعثمان وقد أخفى نفسه، وغير زيّه، واتّبع من أفلت منهم مع أخيه وهم شوكة حادثة، فجرّت الهزيمة عليهم ذيلها، وقبض عليه مع أشراف من قومه وأهل بيته، فثقفوا جميعا وقتلوا صبرا، واستولى أبو عنان على الوطن ثانية، وأخذ وجوه ذلك القبيل وأعيانه التشتيت والتمزيق. فلمّا توفي السّلطان أبو عنان، وولي الأمر ولده الصّبي المسمّى بالسّعيد، واضطرب الأمر، تغلّب جل هؤلاء الزّيانين على الوطن، فدخلوا مدينة تلمسان، وأجفل من كان بها إلى مقرّ ملكهم، فعادت دولتهم، مجتمعين على سلطانهم أبي حمّو موسى بن يوسف ¬

(¬5) في ط: «وأسبوا».

ابن / عبد الرّحمان بن يحيى بن يغمراسن، وتحرّك إليه أبو سالم إبراهيم بن علي بن عثمان المريني سلطان بني مرين، فأصحروا وتركوا البلاد، ولجؤوا إلى أطرافها، ولم يتّكلوا على ما اتّكل عليه آباؤهم من الرّكون إلى الأسوار فنجوا. وبعد انجلائه عن وطنهم رجعوا لدار ملكهم، ولم يزالوا مع بني مرين في رخاء وشدّة حتى فرغت دولة بني مرين، وبقوا بعدهم لقرب دخول العساكر العثمانية لأرض المغرب واستيلائهم على الجزائر، فاستولوا على تلمسان فهي الآن تحت حكم العساكر العثمانية المقيمين بالجزائر، وبها حافظهم، وسبحان من بيده ملكوت كل شيء واليه رجوع (¬6) جميع خلقه لا الاه غيره ولا معبود بحق سواه. ¬

(¬6) اقتباس من سورة يس: 83 فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

الباب الثالث في ذكر دولة بني نصر بالأندلس

الباب الثالث في ذكر دولة بني نصر بالأندلس قد تقدّم أن من جملة ملوك طوائف الأندلس بعد بني أميّة بنو هود، فلمّا انقضت دولة الملثّمين والموحّدين، واضطرب أمر الأندلس، وضعفت قوتها، وتشاغل بفتن العدوة الغربية أمراؤها ببلد أرجونة، وتكالب عليها النّصارى، وضاق أمر من بها من المسلمين، وكان أمير الوقت محمد بن يوسف آخر بني هود الباقين من ملوك الطّوائف تحت حكم الموحّدين، ثم أنه ملك مرسية، وملك منها الأندلس، وقام بدعوة العباسيين، فاضطربت عليه البلاد، واختلفت الآراء، وعجز عن ضبطها لقلة المساعد، فظهر عند ذلك / ملك بني نصر (¬1) وأوّل ملوكهم محمّد بن يوسف بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن خميس بن نصر بن قيس الأنصارى الخزرجي بن ولد سعد بن عبادة - رضي الله تعالى عنه - سيّد أنصار رسول الله صلّى الله عليه وسلم استقرّ سلفه عند الفتح الأول بقرية من قرى المشرق، وتعرف بقرية الخزرج، فدعا محمّد لنفسه ببلد أرجونة عام تسعة وعشرين وستمائة (¬2)، فساعده السّعد، قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى -. [رجز] وبان في الأندلس الفساد ... وانتشرت من ضعفها البلاد وأخذت أمانها النّصارى ... فأصبح الناس بها سكارى تراهم من هولها حيارى ... قد أشغل الرّوع بها الأفكارا وانبهم الأمر على ابن هود ... ولم يوافق طالع السعود فحيثما وجّه جيشا هزما ... وحيثما قدّم حكما حكما فجدّد الله رسوم الملّة ... في قطرنا بالأمراء الجلة العظماء سادة الأعلام ... أبناء نصر ناصري الاسلام ¬

(¬1) ويقال لهم بنو الأحمر. (¬2) 1231 - 1232 م.

أول أملاكهم محمّد ... وهو الأمير الغالب الموحّد (¬3) قد لمّ شمل الدّين من شتات ... والرّوم تستولي على الجهات فنعش الدّين به لمّا عثر ... ونظم السلك وقد كان انتشر وثار في أرجونة لنفسه ... وكان شهما غرة في جنسه ودخلت في أمره جيّان ... واغتبطت بقربه الأعيان وأوجبت طاعته الحصون ... فالخوف أمن والحمى مأمون فاطرد السّعد بها واكتملا ... واستوسق الأمر بها وكملا وأحكم السلم سريعا وعقد ... وصارت الذئاب ترعى والنّقد واستكثر العدد فيها والعدد ... وكل من قدم مصياجا وجد وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - يوم الجمعة التاسع والعشرين لجمادى الثانية من عام أحد وسبعين وستمائة (¬4). فتولّى بعده وليّ عهده ولده محمّد، وهو من أعظم الملوك قدرا، وأبعدهم صيتا، وأعلاهم فخرا، وأرسخهم في السياسة قدما، وأسرعهم إلى المكارم تقدما، وهو الذي استصرخ السّلطان أبا يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني لما طغا عليه النّصارى - كما تقدم - ثم خلا له الجوّ، وأنام الأنام في ظلّ الأمان، وأجابته الآمال، حتى حضرت منيته ليلة الأحد ثامن شهر شعبان من عام أحد وسبعمائة (¬5) وهو يصلّي - رحمه الله تعالى -. وولي من بعده ولي عهده ولده محمّد، فكان ملكا جليلا، وملك أسطوله سبتة ليلة الخميس السّابع والعشرين من شوال سنة خمس وسبعمائة (¬6) وكان كثير الأسقام في جسمه، فاستغلب وزيره، فخلعه أخوه يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة (¬7)، وقام بالأمر أخوه الذي خلعه، وهو نصر، فكانت أيّامه أيام نحس مستمر، ووقعت على المسلمين في أيامه وقائع من عدو الدّين، فقام في مالقة ابن عمّه فرج بن اسماعيل بن ¬

(¬3) في ط: «المؤيد». (¬4) 21 جانفي 1273 م. (¬5) 8 أفريل 1302 م. (¬6) 12 ماي 1306 م. (¬7) 14 مارس 1309 م.

يوسف بن نصر، ففسد ما بينهما، ونصب فرج ولده اسماعيل إماما للناس، وأغراه بطلب الأمر إلى أن تحصّل له الأمر بعد حروب وحركات، واستولى / اسماعيل على ملك الحضرة، واستنزل نصرا منها على عهد إلى مدينة وادي آش، فانتظم له ملك الأندلس غلس اليوم السّابع والعشرين لشوال من عام ثلاثة عشر وسبعمائة (¬8)، وفي غرة ذي القعدة دخل الحمراء دار الملك، وأقام نصر - رحمه الله - بوادي آش مقيما للرسم بين حرب وسلم، إلى أن توفي سادس ذي القعدة من عام اثنين وعشرين وسبعمائة (¬9). واستبدّ بالأمر اسماعيل، وهو السّلطان الكبير الشأن، وفي أيّامه كانت الوقيعة الشهيرة بملكي الرّوم (¬10)، في المرج (¬11) بحضرته بعد أن أجليا واستوليا على كثير من البلاد فأتاح الله لهذا السّلطان عليهما وقيعة عظيمة حصدت منهما الشّوكة، وسدلت على المسلمين العصمة وقتل الملكين المذكورين يومئذ، وطارت الأخبار إلى أقاصي بلاد المسلمين، وكانت هذه الوقعة في اليوم الخامس (¬12) لجمادى الأولى من عام تسعة عشر وسبعمائة (¬13)، «وغدر به أقاربه فأوقعوا به جراحات دهش منها، فعاجل بالقتل من غدر به ثم توفي السّلطان إثر ذلك ضحى يوم الاثنين السّابع والعشرين من شهر رجب عام خمسة وعشرين» (¬14). وأخذت البيعة لولده محمّد فتغلّب عليه وزيره، وهكذا تتابع الأمراء بالأندلس دائما في شدّة ورخاء من بعضهم لبعض ومن عدو الدّين، واستمر أمراء بني نصر إلى أن تغلّب عليهم النّصارى فأخذوها وأخرجوا / من بها من المسلمين حسبما تأتي الاشارة إليه إن شاء الله تعالى. ¬

(¬8) 14 فيفري 1314 م. (¬9) 16 نوفمبر 1322 م. (¬10) أي الأسبان وهما: سانجه بن اذفونش وعمّه دون جوان، أنظر أعمال الاعلام: ص: 294 - 295. (¬11) لعلّها مرج فريش، أنظر معجم البلدان 5/ 101. المرج من غرناطة، أعمال الأعلام ص: 295. (¬12) ظهر يوم الاثنين السادس من جمادى الأولى: أعمال الاعلام ص: 295، وبعد قليل يفهم منه أن السّنة 725. (¬13) 24 جوان 1319 م وعند ابن خلدون في سنة ثمان عشرة، كتاب العبر 4/ 373. (¬14) 9 جويلية 1325 م.

المقالة العاشرة في ذكر دولة بني حفص بأفريقية

المقالة العاشرة في ذكر دولة بني حفص بأفريقية أبو محمد عبد الواحد أول هذه الدولة الشيخ أبو محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص عمر بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي بن أحمد بن والال (¬1) بن ادريس بن خالد [بن اليسع] (¬2) بن الياس بن عمر بن وافتن (¬3) بن محمد بن تحية (¬4) بن كعب بن [محمد بن] (¬5) سالم بن عبد الله ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - كذا نسّبه ابن نخيل (¬6) وغيره من المؤرخين حكاه ابن خلدون في كتاب (¬7) العبر في أخبار العرب والبربر (¬8). وقال ابن الخطيب الأندلسي: هو عبد الواحد بن أبي حفص عمر بن عبد الواحد، وأصحاب المهدي قبيلتهم هنتانة، وعدّهم سابق بن سليمان النسّابة من قبائل السّوس من ولد صنهاج بن عاسل، ولما توطأ له الأمر كان عبد الواحد من الثمانية أهل دار ¬

(¬1) في الأصول: «ولال» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 24، وكتاب العبر 6/ 578. (¬2) الإضافة من نفس المرجعين. (¬3) في الأصول: «وأمين» والتصويب من كتاب العبر، وفي تاريخ الدولتين: «ياسين» في مكانها. (¬4) في ط: «نجية» وفي ش وتاريخ الدّولتين: «نجبة» والمثبت من كتاب العبر الذي ينقل عنه المؤلف. (¬5) إضافة من المرجعين السالفين. (¬6) في الأصول: «بخيل» والتصويب من كتاب العبر. (¬7) في الأصول وتاريخ الدولتين: «ترجمان». (¬8) تاريخ ابن خلدون: 6/ 578، المؤلف ناقل من تاريخ الدولتين ص: 24، واحترز ابن خلدون من هذا النسب بقوله «ويظهر منه أن هذا النسب القرشي وقع في المصامدة والتحم به، واشتملت عليه عصبيتهم شأن الأنساب التي تقع من قوم إلى قوم وتلتحم بهم».

المهدي، ولما خرج النّاصر إلى افريقية في وسط جمادى الآخرة سنة إحدى وستمائة (¬9)، وفتح بلادها وهزم الميورقي بها وبلغ غرضه من الحركة اليها ولّى على عمل افريقية أبا محمد عبد الواحد ابن الشيخ ابي حفص عمر بن عبد الواحد في سابع شوال سنة ثلاث وستمائة، وتمادت مدّته بافريقية إلى زمان المأمون اهـ‍. وكيفية استخلافه أن الناصر لما دخل عليه رمضان وهو بتونس من السنة المذكورة «أشاع (¬10) الحركة إلى المغرب، وتحدّث مع اشياخه ومدبّري دولته فيمن يترك / بافريقية فأجمعوا على الشيخ أبي محمد عبد الواحد المذكور ولم يختلف في ذلك اثنان، وكانوا أرادوا تبعيده عن الخلافة ليجدوا السبيل الى اغراضهم، فأمر النّاصر بعض خدّامه في الحديث معه استحياء من مواجهته به، فامتنع، ولم تسمح نفسه بمفارقته (¬11)، وخاطبه النّاصر في ذلك بنفسه فاعتذر له ببعد الشّقة عمن خلفه بمراكش من أهله وولده وبما يلزم ذلك من مفارقة الخليفة والبعد عنه، ونظر النّاصر فلم يجد عوضا عنه، ولم يرد إكراهه على المقام فحكى نبيل مملوك الشّيخ عبد الواحد المذكور قال: بينما أنا جالس على خباء الشّيخ ليلة اذ بضوء قد خرج من مضارب الخليفة فاذا بطائفة من الفتيان قد قصدوا نحو خباء الشّيخ، قال: فعرّفته بذلك، قال: اذا وصلوا فافتح لهم الباب، فلما وصلوا فتحت لهم فدخل ولد الخليفة النّاصر ومعه ولد الشّيخ أبي محمد من ابنة المنصور وهو المعروف بالسيّد أبي الحسن، وكان النّاصر (¬12) خاله قد رباه مع ولده يوسف المستنصر ولي عهده واختصه كولده فوجهه مع ولده ومعهما سالم الفتى مربي النّاصر وفتيان آخرون سواه، فقام الشيخ أبو محمد لولد النّاصر وأجلسه معه وقال له: ما حاجتك أيّها الطّالب ولو كان عندي غير نعمتكم (¬13) لقابلتك به، فقال له الفتيان: كرامته عندك قضاء حاجته، فقال: نعم، حاجته / مقضية، فقال له الولد: إن مولانا وسيّدنا يخصّك بالسلام، ويقول لك هذه البلاد هي من أول هذا الأمر العزيز مع هؤلاء الثوار في شأن عظيم، وتحت ليل بهيم، وقد وصل اليها سيدنا عبد المؤمن وسيدنا أبو يعقوب وسيدنا النّاصر، وما منهم الا وقد أنفق عليها أموالا وأفنى في الحركة إليها رجالا، والشّقة بعيدة، ¬

(¬9) فيفري، 1205 م. (¬10) النقل من رحلة التجاني ص: 360. (¬11) في الرحلة: «بمفارقة وطنه». (¬12) كذا في ط وفي الرحلة، وفي ش: «المنصور». (¬13) في الأصول: «نعمتك».

والمشقّة شديدة، وما عاد واحد منهم إلى حضرته الا وعاد الويل، وأظلم ذلك الليل، وهذه الدّعوة كما يجب علينا القيام بها والذّب عنها كذلك يجب عليك، وقد طلبنا في جميع اخوانك السّادة وأعيان هذه الجماعة من ينوب عنا في هذه البلاد، فلم نجد عند أحد معوّلا فانحصر الأمر الينا وإليك، فأما أن تطلع الى حضرة مرّاكش فتقوم هناك مقامنا، ونقيم نحن بهذه البلاد، أو نطلع نحن الى حضرتنا وتقيم أنت هنا مقامنا، فقال الشيخ: يا بني أما القسم الأول فهو مما لا يمكن، وأما القسم الثاني فأجبت اليه على شروط، فسرّ الولد بذلك، وقبّل يديه، فقبّل الشيخ أبو محمد رأسه، وانفصلوا فكأنما كان عندهم تلك الليلة فتح جديد بالسّرور الذي عمّهم، والطمأنينة مما كان أهمهم. ثم خلا النّاصر به مستفهما عن شروطه فشرط أن لا يتولى افريقية الا بقدر ما تصلح أحوالها، وينقطع طمع الميورقي عنها، ويرسل النّاصر من يكون عوضا عنه، وجعل النهاية / في ذلك ثلاث سنين، وأنه يعرض عليه الجيش فيبقى معه من يقع اختياره عليه، وأنه إن فعل فعلا أي فعل كان لا يسأل عنه ولا يعاتب فيه، وان من (¬14) بقي بعد انفصال النّاصر واليا على بلد من بلاد افريقية فهو فيه بخير النظرين (¬15): إن شاء أبقاه وإن شاء عزله، وغير (¬16) هذه الشّروط، والنّاصر مقبل عليه قابل لشروطه، وبعد تقرر ذلك خرج النّاصر متوجها الى المغرب وذلك سابع شوال، وصحبه الشيخ أبو محمد ثلاثة أيام رحل معه فيها الى باجة. وكان أهل تونس عند خروج النّاصر قد وقفوا ورفعوا أصواتهم بين يديه مستشفعين (¬17) من الميورقي وخائفين أن يصل اليهم بعد انفصال الخليفة عنهم، فاستدعى النّاصر وجوههم وقربهم منه وكلّمهم بنفسه وقال: إنّا قد اخترنا لكم من يقوم مقامنا فيكم وآثرناكم به على أنفسنا مع شدّة حاجتنا اليه، وهو فلان، فتباشر النّاس بولايته اذ كان لا يسمع له كلام ما دام راكبا إلى أن ينزل، وكان يلقب «بالصّامت» ورجع الشيخ أبو محمد من باجة إلى تونس واليا على جميع بلاد افريقية» (¬18). ¬

(¬14) ساقطة من ش. (¬15) كذا في ط ورحلة التجاني ص: 362، وفي ش: «الناظرين». (¬16) في الأصول: «وإن شاء أعزله وغيره» والتصويب من رحلة التجاني. (¬17) في الرحلة: «مشفقين». (¬18) نقل المؤلف من رحلة التجاني ص: 360 - 363 ما كان من الخليفة الناصر في تولية الشّيخ أبي محمد عبد الله بن أبي حفص.

أبو العلا ادريس.

«واستكتب (¬19) أبا عبد الله محمد بن أحمد بن نخيل (¬20) المشهود له بالجود وحسن الوساطة والتدبير واصلاح الأحوال، ورتّب الأجناد، واخترع زمام التضييف للوفود، وكان يجلس كل يوم سبت لمسائل النّاس في القصبة «وأول جلوسه يوم السبت العاشر من شوال سنة ثلاث وستمائة» (¬21). وكان عالما فاضلا شجاعا محسنا ذكيا فطنا. توفي (¬22) يوم الخميس غرة محرم سنة ثماني عشرة وستمائة (¬23) بتونس، ودفن بقصبتها (¬24) بعد صلاة الصبح. أبو العلا ادريس. فتولى بعده السّيد أبو العلا ادريس بن يوسف بن عبد المؤمن من الموحدين، وتوفي بتونس في شهر شعبان من سنة عشرين وستمائة (¬25)، وكان ابنه السّيد أبو زيد المشمر بالقيروان فلما بلغه مهلك أبيه انكفأ راجعا الى تونس، ولما خرج العادل من الأندلس حين خلع عبد الواحد بن يوسف عبد المؤمن أخا المنصور المخلوع، وعقد البيعة للعادل صاحب مرسية - حسبما مرّ - جاز العادل الى العدوة فلقيه أبو محمد عبد الله المعروف (¬26) بعبّو ابن الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص الذي استخلفه النّاصر فولاّه افريقية وكتب للسّيد أبي زيد المشمّر ابن عمه أبي العلا ادريس بالقدوم عليه بمراكش، فارتحل ووصل أبو محمد عبّو لتونس، فأبو محمد عبد الله عبو هو ثاني الحفصيين، فقدم لتونس وبين يديه أخوه المولى الأمير أبو زكرياء يحيى يوم السبت سابع عشر ذي القعدة من عام ¬

(¬19) نقل من تاريخ الدولتين ص: 18. (¬20) في الأصول وفي المؤنس: «ابن بخيل» والمثبت من تاريخ الدولتين ص: 18 وغيرها. وهو محمد بن ابراهيم بن عبد العزيز بن نخيل الأندلسي، أبو عبد الله، نزيل تونس، الأديب، الكاتب، المؤرخ. أنظر مثلا ترجمته محمد محفوظ: تراجم المؤلفين. . .5/ 25. (¬21) 10 ماي 1207 م وما بين الظفرين أخذه من رحلة التجاني ص: 363. (¬22) تاريخ الدولتين ص: 19. (¬23) 25 فيفري 1221 م. (¬24) داخل القصبة قرب مغارة كان يتعبد فيها، ولم تزل معروفة يتبرك بها، ويزار قبره إلى عهد الزركشي، وعفاه الترك في وقائع القصبة. (إتحاف أهل الزمان لابن أبي الضياف) 2/ 127، ط. وزارة الشؤون الثقافية تونس 1963. (¬25) سبتمبر 1223 م. (¬26) ساقطة من ش.

ثلاثة وعشرين وستمائة (¬27)، فلمّا استقر بتونس عقد لأخيه المولى أبي زكرياء يحيى المذكور على مدينة قابس وأضاف اليه الحامّة وسائر تلك البلاد، وعقد لأخيه أبي ابراهيم على توزر ونفطة وسائر بلاد قسطيلية (¬28)، فلم يزل المولى أبو زكرياء وليا على قابس وأعمالها، الى أن وقعت بينه / وبين أخيه أبي محمد عبّو وحشة عزله بسببها عن قابس وأعمالها، وأمر أخاه أبا ابراهيم صاحب قسطيلية (28) بالسّير إلى قابس والقبض عليه، فسار إليه فبلغه في أثناء طريقه أن المولى أبا زكرياء يحيى كتب بيعته للمأمون من بني عبد المؤمن، فنكب أبو ابراهيم عن قابس الى المهدية، وخاطب أخاه أبا محمد عبّو بذلك، فلما قتل الموحدون العادل بمراكش، وبويع بعده للمعتصم، قام أبو العلا ادريس الملقب بالمأمون وهو أخو العادل، وكان باشبيلية فدعا لنفسه باشبيلية - حسبما مرّ - فخلع الموحدون المعتصم، وبايعوا المأمون بفاس وتلمسان، وسبتة، فبعث (¬29) المأمون لصاحب افريقية أبي محمد عبّو ليأخذ له البيعة، فتوقف وظن أنها مكيدة عليه وقال للرسول: نحن مقيمون على بيعة العادل، فاذا تحققنا موته بايعنا أخاه، فرجع الرّسول بلا بيعة ولا جواب ولا كتاب فلما بلغ الرسول للمأمون بلا كتاب ولا جواب كتب إلى الأمير أبي زكرياء يحيى ابن الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص، وكان اذ ذاك واليا على قابس بالولاية على افريقية، فكان أبو زكرياء يحيى ثالث الحفصيين وأمر المأمون أبا زكرياء بخلع عبّو وعزله لأجل امتناعه من بيعته، فبادر أبو زكرياء يحيى بالبيعة للمأمون، فاتصل ذلك بأخيه أبي محمد عبّو، فخرج من تونس متوجّها اليه فلما وصل القيروان جمع من معه من / أشياخ الموحدين وعرّفهم بما عزم عليه من قتال أخيه فأظهروا الكراهية لذلك لمحبّتهم في المولى أبي زكرياء، واعتذروا له فلم يقبل منهم، وقاموا قيام رجل واحد عليه ورجموه بالحجارة، فقام أولاده دونه يقونه بأنفسهم الى أن دخل فسطاطه، فوجّه النّاس أشياخا منهم إلى المولى أبي زكرياء يحيى يعرّفونه بذلك، ويطلبون منه المبادرة بالوصول، فبادر المولى أبو زكرياء الخروج صحبة أولئك الأشياخ، وتسلّم العسكر من أخيه [وسار] (¬30) الى تونس وحمل أخاه محتاطا عليه فأدخله ليلا الى القصر المعروف بقصر ابن فاخر فاعتقله به. ¬

(¬27) 9 نوفمبر 1226 م. (¬28) في الأصول: «قسنطينة» والمثبت من تاريخ الدولتين ص: 21، وقسطيلية هي الجريد. (¬29) هذه الأحداث اي اعتقال أبي زكرياء أخاه نقلها المؤلف من تاريخ الدولتين ص: 22 - 23. (¬30) إكمال من تاريخ الدولتين.

أبو زكرياء يحيى

أبو زكرياء يحيى: وكان دخول المولى أبي زكرياء يحيى لتونس يوم الأربعاء الرابع والعشرين لرجب من سنة خمس وعشرين وستمائة (¬31) ولم يكن أهم لديه من القبض على أبي عمرو (¬32) كاتب أخيه فأخذه وبسط عليه العذاب إلى أن مات ورميت جثته، وكان يغري أخاه به، ثم إن الأمير أبا زكرياء وجّه بأخيه أبي محمد عبو إلى المغرب في البحر. ثم إن المأمون بعث عمّالا لتونس، فأنف من ذلك المولى أبو زكرياء يحيى المعتصم ابن النّاصر من بني عبد المؤمن، وهو حينئذ المنازع للمأمون في الخلافة بمراكش، وكتب المولى أبو زكرياء الحفصي إلى جميع بلاد افريقية بخلع أبي العلا المأمون، ثم أسقط المولى أبو زكرياء اسم المعتصم من الخطبة في بلاد افريقية، / واقتصر على الدّعاء للمهدي وللخلفاء الراشدين، وكان ذلك أول درجة في الاستبداد، وذلك أول سنة سبع وعشرين وستمائة (¬33)، وسمّى نفسه بالأمير وكتبه في صدر كتبه، ولم يتعرّض لذلك في الخطبة سياسة منه واختبارا لأحوال افريقية، ثم أخذ لنفسه البيعة في العام المذكور بتونس وبلادها (¬34)، وكتب علامته: «الحمد لله والشكر لله» وأبقى اسم المهدي في الخطبة وغيرها، ولم يذكر اسمه هو في الخطبة. وكان فقيها (¬35) عارفا ظريفا له شعر كثير مدوّن مع الجزالة في الأمر، وصلحت به البلاد، ورخصت الأسعار، وأمنت الطرق، وجمع من الأموال والسلاح ما لا جمعه أحد. وفي السّنة المذكورة بنى المصلّى خارج باب المنارة من تونس، ولما استقل المولى أبو زكرياء بتونس، وخلع بيعة بني عبد المؤمن نهض إلى قسنطينة في سنة ثمان وعشرين ¬

(¬31) 30 جوان 1228 م. (¬32) طرأ من الأندلس، واستكتبه أبو محمد فغلب على هواه، وكان يغريه بأخيه (تاريخ ابن خلدون 6/ 593 - 594). (¬33) نوفمبر 1229 م. (¬34) عما يتعلق بالأمير أبي زكرياء وأخيه عبو إلى أن استبد بالإمارة نقله المؤلف من تاريخ الدولتين ص: 21 - 24 مع حذف ما له صلة بأخبار المغرب الأقصى. (¬35) تاريخ الدولتين ص: 25 وانظر اتحاف أهل الزمان 1/ 156، وترجم له ابن شاكر الكتبي (ت.764) في فوات الوفيات 2/ 632 - 633 تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد القاهرة 1951.

وستمائة (¬36) فنزل ساحتها وحاصرها أياما، ثم داخله ابن علناس في شأنها، وأمكنه من غرتها، فدخلها وقبض على واليها، وولى عليها ابن النعمان، ورحل إلى بجاية ففتحها، وقبض على واليها وصيّره مع والي قسنطينة إلى المهدية معتقلين، وبعث معهما معتقلا [إلى المهدية] (¬37) محمد بن جامع وابن أخيه جابر بن عون (¬38) بن جامع من شيوخ مرداس بن عوف، وابن [أبي] الشيخ ابن عساكر من شيوخ الذواودة فاعتقلوا جميعا / بمطبق (¬39) المهدية. وكان أبو عبد الله ابن الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص - ويسمّى اللحياني لكبر لحيته - هو صاحب أشغال بجاية، فلما افتتحها أخوه المولى أبو زكرياء صار في جملته فولاّه بعد ذلك الولايات الجليلة، وكان يستخلفه بتونس في مغيبه (¬40). وفي ليلة الإثنين السادسة عشرة لشعبان من سنة ثمان وعشرين وستمائة (¬41) توفي بتونس الشيخ الصّالح أبو سعيد خلف بن يحيى التّميمي (¬42) ودفن بجبانته المعروفة في جبل المرسى بمقربة من المنارة، وكان مولده سنة إحدى وخمسين وخمسمائة (¬43)، فعمره سبع وسبعون سنة. وفي سنة تسع وعشرين وستمائة (¬44)، ابتدأ السّلطان أبو زكرياء ببنيان جامع القصبة بتونس، وجدّد رسوم القصبة، ولما كملت الصّومعة بالبناء في رمضان سنة ثلاثين وستمائة (¬45)، صعد إليها ليلا وأذّن فيها بنفسه وفرغ من بنائه مسجد القصبة سنة ثلاث وثلاثين وستمائة (¬46). ¬

(¬36) 1230 - 1231 في ابن خلدون سنة ست وعشرين 6/ 595 والمؤلف تابع لما في تاريخ الدولتين ص: 25 ولعل هذا التاريخ هو الصحيح لأن رسوخ القدم واختيار الأحوال يستدعي فترة من الزمن والمؤلف ناقل لعبارات الزركشي بنصها. (¬37) إكمال من تاريخ الدولتين ص: 25. (¬38) في الأصول: «عبون» والتصويب من تاريخ الدولتين. (¬39) في الأصول: «بمطيف» والتصويب من تاريخ الدولتين. (¬40) عن احتلال قسنطينة وبجاية والإعتقال بمطبق المهدية نقله المؤلف حرفيا من تاريخ الدولتين ص: 25. (¬41) 19 جوان 1231 م. (¬42) هو الباجي. (¬43) 1156 - 1157 م. (¬44) 1231 - 1232 م. (¬45) جوان - جويليه 1233 م. (¬46) 1235 - 1236 م.

وفي سنة أربع وثلاثين وستمائة (¬47) ذكر المولى أبو زكرياء نفسه في الخطبة بعد ذكر الإمام المهدي مقتصرا عليه، وبويع البيعة الثانية التّامة التي لم يتخلّف فيها أحد من الناس، ولم يتسم بأمير المؤمنين. وبايعه أهل بلنسية في رابع محرّم فاتح سنة ست وثلاثين وستمائة (¬48)، ولما وقعت عليهم وقعة كبيرة، وضيّق عليهم / العدو أنشده ابن الأبّار بين يديه قصيدة منها بيتان (¬49) وهما: [بسيط] أدرك بخيلك أرض الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها اندرسا وهب لها من عزيز النّصر ما التمست ... فلم يزل منك عز النّصر ملتمسا فعاجلهم المولى أبو زكرياء في الوقت بما أمكنته المبادرة إليه من طعام وإنعام، وكانت قيمته مائة ألف دينار، فأعجل تغلّب الرّوم عليها عن تمام نصرته لهم. وفي العام المذكور تجهّز المولى أبو زكرياء من تونس يؤم بلاد زناتة بالمغرب الأوسط فسار إلى بجاية، ثم ارتحل إلى الجزائر فافتتحها وولى عليها من قبله، ثم نهض إلى بلاد مغراوة، فأطاعه بنو منديل وتجاهر بنو توجين بالخلاف، فأوقع بهم وقبض على رئيسهم عبد القوي بن العباس (¬50) واعتقله وبعثه إلى تونس، وأقبل راجعا إلى حضرته، وعقد في رجوعه على بجاية لابنه الأمير أبي يحيى وأنزله بها. وفي يوم الخميس الثاني لشهر رجب من سنة ثمان وثلاثين وستمائة (¬51) كتب المولى أبو زكرياء صاحب تونس عهده لولده الأمير أبي يحيى زكرياء صاحب بجاية وخطب له على جميع بلاد افريقية. وفي شهر شوال من سنة تسع وثلاثين وستمائة (¬52) تحرك الأمير أبو زكرياء صاحب تونس إلى تلمسان في جيش جملته أربعة وستون ألفا من الفرسان فحاربها حتى أخذها ¬

(¬47) 1236 - 1237 م. (¬48) 17 أوت 1238 م. (¬49) قصيدة طويلة وهي ستة وستون بيتا والبيتان من طالعها ذكرهما الزركشي في تاريخ الدولتين ص: 27 والمؤلف ناقل عنه ص: 28. (¬50) في الأصول: «الباسي» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 28. (¬51) 17 جانفي 1241 م. (¬52) أفريل 1242 م.

عنوة في شهر ربيع الأول من سنة أربعين (¬53) من باب كشّوط، ولما رأى صاحبها يغمراسن بن زيان / بن عبد الوادي أنه قد أحيط بالبلد قصد باب القصبة لابسا [سلاحه] (¬54) في خاصّته فاعترضته عساكر الموحدين فقصد نحوهم وجدل بعض أبطالهم، فأفرجوا له ولحق بالصحراء، وافتتحت جيوش الموحدين تلمسان من كل حدب، وعاثوا فيها، ثم لما تجلّى غشاء تلك الهيعة أعمل المولى أبو زكرياء نظره فيمن يقلّده أمر تلمسان والمغرب الأوسط، وكان يغمراسن قد أرسل للمولى أبي زكرياء راغبا في القيام بدعوته بتلمسان فخاطبه المولى أبو زكرياء بالإسعاف واتّصال اليد على صاحب مراكش، ووفدت أم يغمراسن واسمها «سوط النساء» بالاشتراط والقبول، فأكرم موصلها وأسنى جائزتها، وأحسن وفادتها، ثم ارتحل المولى أبو زكرياء يحيى إلى تونس بعد ردّ يغمراسن إلى بلاده تلمسان، فكانت غيبته تسعة أشهر. وفي سنة ست وأربعين (¬55) توفي ببجاية الأمير أبو يحيى زكرياء (¬56) صاحب بجاية، فكتب السلطان العهد لولده المستنصر (¬57)، عوضا عن أخيه. وفي ليلة الجمعة الثامنة والعشرين لجمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وستمائة (¬58) توفي المولى أبو زكرياء يحيى صاحب تونس في محلته بظاهر بونة، ودفن غدا بجامعها إلى جانب الشيخ الصّالح أبي مروان، ثم نقل بعد ذلك إلى قسنطينة ودفن بها، وكانت ولادته بمراكش سنة تسع وتسعين وخمسمائة (¬59)، فكان عمره تسعا وأربعين سنة، وخلافته بتونس عشرون سنة [ونصف السنة] (¬60). ¬

(¬53) سبتمبر 1242 م. (¬54) الإكمال من تاريخ الدولتين ص: 29. (¬55) 1248 - 1249 م. (¬56) ابن أبي زكرياء يحيى «صاحب تونس» تاريخ الدولتين ص: 30. (¬57) في الأصول: «المنتصر» والتصويب من تاريخ الدولتين. (¬58) 7 أكتوبر 1249 م. (¬59) 1202 - 1203، وقد أقرّه برونشفيك (R. Brunschvig) في أطروحته «بلاد البربر الشرقية تحت حكم الحفصيين» (La Berberie Orientale sous les Hafsides) ، باريس 1940، 1/ 20: أما في تاريخ الدولتين وقد خالفه المؤلف مع أنه ينقل عنه فإنه ولد سنة «سبع وتسعين وخمسمائة» فإن اعتبرنا هذا التاريخ وكانت وفاته وله من العمر تسع وأربعون سنة فإن ميلاده يكون سنة 597 لا سنة 599 كما ذكر مقديش. (¬60) اكمال من تاريخ الدولتين، وعن حركة أبي زكرياء إلى تلمسان ووفاته ببونة نقله المؤلف من تاريخ الدولتين ص: 29 - 32.

المستنصر ومن توفي من العلماء في أيامه

المستنصر ومن توفي من العلماء في أيامه: وتولّى / بعده بلاد افريقية ولده وولي عهده السّلطان أبو عبد الله محمد - المقدّم الذكر - الملقب «بالمستنصر» (¬61) بويع أولا وهو ببونة بعد وفاة أبيه، وكان الذي أخذ له البيعة من الخاصّة وسائر العسكر عمّه محمّد اللحياني، ثم بويع بعد وصوله من بونة إلى حضرة تونس وذلك ثالث رجب من سنة سبع وأربعين وستمائة (¬62)، وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، وتسمى بالأمير (¬63). وفي يوم الإثنين الرابع والعشرين لذي الحجة من سنة خمسين وستمائة (¬64)، رأى أن يتسمّى بأمير المؤمنين (¬65)، وأن يذكر ذلك في الخطبة، وأن يطبع في الذّهب، واختار للعلامة «الحمد لله والشكر لله» فبايعه النّاس بذلك البيعة التّامة واتبع بذلك ردّ المظالم، واتفق أن كان المطر قد احتبس، ففي ثالث يوم من هذه البيعة نزل المطر فهنّأه الشعراء بذلك، ثم رأى شيخ الدّولة أبو سعيد عثمان المعروف «بالعود الرطب» حين تقرر من أمر العامة ما تقرر أن الأوامر السّلطانية قد تنفذ بأمر حقير لا ينبغي الكتب بمثلها عن الخلافة، فقسم الكتب إلى علامة صغيرة وإلى كبيرة، فالأوامر الكبيرة الصّادرة عن الخلافة تكتب بالعلامة التي وقع / الإختيار عليها، والكتب الصغيرة التي يكبر قدر الخليفة عنها تكتب عمن يعيّنه الخليفة لذلك، وتنفذ بعلامة أخرى تشعر بأن ذلك من أمر الخليفة، فانقسمت العلامة إلى صغرى وكبرى، فالكبرى موضعها في أول الكتاب بعد البسملة، والصغرى معلمة في آخره. ¬

(¬61) في الأصول «المنتصر». (¬62) 2 اكتوبر 1249 م. (¬63) بعدها في الأصول: «ثم تسمى بأمير المؤمنين يوم الإثنين الرابع والعشرين لذي الحجة من سنة خمسين وستمائة وذلك لما قدمت عليه بيعة أهل مكة بإنشاء عبد الحق بن سبعين وقدمت عليه بيعة الشام والأندلس» أسقطناها لأنها تكرار لما جاء بعدها مباشرة وما أثبتناه يتماشى مع تسلسل نص الزركشي الذي ينقل عنه المؤلف. (¬64) 25 فيفري 1253 م. (¬65) وعلق برونشفيك (Brunschvig) على هذا الحدث بقوله: «لقد أحسن المستنصر اختيار الوقت بذلك فالخلافة العباسية انحطت وهي تعيش آخر سنواتها تحت تهديد سطوة التتر المتصاعدة وانقرضت السّلطة الأيوبية في مصر سنة 648/ 1250 م. في الوقت الذي كان فيه الصّليبيون تحت قيادة ملك فرنسا التاسع يحاربون داخل الأراضي الاسلامية، وفي الأراضي المغربية، فإن الدولة المومنية كانت تعيش أيضا آخر مراحل حياتها منذ أن افتكّ منها المرينيون شمال المغرب الأقصى، أما في اسبانيا فقد سقطت عدة مدن منها اشبيلية، وقادس. . . بين أيدي ملوك قشتيلية فيما بين سنتي 1246/ 1248 م لكل هذا لم يكن المستنصر يخاف من رد فعل خارجي، بينما كان يتعين على الضّمير الشعبي المتقيّد داخل افريقية قبول هذا الحدث».

وفي سنة تسع وخمسين (¬66) وصلت بيعة (¬67) مكة المشرّفة على يد الشيخ أبي محمد عبد الحق بن سبعين (¬68)، وكان الواصل بها المحدّث الرّاوية أبو محمد بن برطلة (¬69)، فأنشد بعض الشعراء: [كامل] اهنأ أمير المؤمنين ببيعة ... وافتك بالاقبال والإسعاد فلقد حباك بملكه ربّ الورى ... فأتى يبشّر (¬70) بافتتاح بلاد وإذا أتت أمّ القرى منقادة ... فمن المبرّة طاعة الأولاد. وفي السنة المذكورة توفي الفقيه المحدث أبو بكر بن سيد الناس. وفي شهر ربيع الآخر لعشر منه توفي أبو عبد الله محمد بن ابراهيم المهدوي المعروف بابن الخباز (¬71). وفي الرابع لربيع الأول من السنة المذكورة توفي بتونس الفقيه الإمام المصنف عبد العزيز بن ابراهيم القرشي شهر ابن بزيزة (¬72)، شارح الإرشاد (¬73). وفي ليلة الأحد الخامسة والعشرين لذي القعدة من سنة تسع وستين (¬74)، توفي الأستاذ النحوي أبو الحسن علي بن موسى الخضرمي عرف بابن عصفور بتونس، ولد باشبيلية سنة سبع وتسعين وخمسمائة (¬75)، وسبب موته فيما نقل عن الشّيخ أحمد القلجاني وغيره أنه / دخل على السّلطان يوما وهو جالس برياض أبي فهر في القبّة التي على الجابية ¬

(¬66) 1260/ 1261 م. (¬67) نص البيعة في تاريخ ابن خلدون 6/ 635. (¬68) هو الصوفي الأندلسي نزيل مكة من القائلين بوحدة الوجود المتوفي سنة 667. (¬69) في الأصول: «بردلة» والمثبت من تاريخ الدولتين ص: 37 وابن برطلة الأزدي من أهل مرسية بالأندلس ونزل تونس وتوفي بها، شجرة النور الزكية ص: 196. (¬70) كذا في ط وتاريخ الدولتين، وفي ش: «مبشر». (¬71) الذي يفهم من تاريخ الدولتين أنه تولى القضاء في هذا التاريخ بعد وفاة القاضي أبي موسى عمران بن معمر الطرابلسي وابن الخباز توفي سنة 683 كما سيأتي. (¬72) في تاريخ الدولتين ابن نويرة وهو تحريف. (¬73) الإرشاد لإمام الحرمين في أصول الدين الشرح يسمى «الاسعاد بمقاصد الارشاد»، منه نسخة جيدة بالمكتبة الوطنية بتونس، وأصلها من مكتبة الشّيخ علي النوري، وانظر عن ابن بزيزة تراجم المؤلفين التونسيين 1/ 127 - 129، والسراج، الحلل السندسية، 1/ 645. (¬74) 4 جويلية 1271 م. (¬75) 1200 - 1201 م.

الكبيرة فقال السّلطان على جهة الفخر بدولته: قد اصبح ملكنا عظيما! (¬76) فأجابه ابن عصفور بقوله: بنا وبأمثالنا فوجدها المستنصر (¬77) في نفسه، فلما قام الشيخ ليخرج أمر المستنصر (77) بعض رجاله أن يلقيه بثيابه في الجابية الكبيرة، وكان يوما شديد البرد، وقال له [لا] (¬78) تتركه يصعد مظهرا اللعب معه، فألقاه من أمر بذلك، فكلما أراد الصعود ردّ، وبعد صعوده أصابه برد وحمّى بقي ثلاثة أيام وقضى نحبه، فدفن بمقبرة ابن مهنا قرب جبّانة الشيخ ابن نفيس شرقي باب ينتجمي أحد ابواب القصبة. وفي يوم الأحد رابع عشر جمادى الآخرة سنة خمس وسبعين وستمائة (¬79) ابتدأ السلطان المستنصر (77) مرض موته وكان مسافرا فأصابه ذلك بعين أغلان فسيق إلى تونس في محفّة على أعناق الرّجال في كسوف القمر وأدخل القصبة، وكثر إرجاف الناس بموته، فجعل يوم عيد الأضحى في محفة من خشب، وأصعد إلى قبّته ورآه الناس وتجلّد لإظهار حركة علم منها أن فيه بقية رمق، ثم عاد إلى منزله وتوفي من ليلته بعد صلاة العشاء الآخرة ليلة الأحد الحادي عشر لذي الحجة سنة خمس وسبعين وستمائة (¬80)، فكانت خلافته ثمانية وعشرين عاما وخمسة أشهر واثني عشر يوما / ويقال إن أصل مرضه أنه كان في صيادة فقام بين يديه وحش فطردته (¬81) الجوارح، فدخل مغارة ودخل وراءه الرجال فوجدوا بها رجلا قائما يصلّي، فسلم من صلاته وقال لهم: هذا دخيل الفقراء اتركوه، فذهبوا إلى السّلطان فعرفوه فقال لهم: ايتوني بالصّيد، فرجعوا إلى المرابط فمنعهم منه، فرجعوا إلى السّلطان فقال لهم: إن منعكم أعطوه الرّماح، فرجعوا إلى المرابط وعرفوه، فقال لهم: وأنا أقرع السّلطان بالرّماح، ثم طلبوه فلم يجدوه، وسقط السّلطان من حينه مغشيا عليه ثم أفاق بعد زمان، ولم يزل ذلك المرض يتعهده إلى أن مات (¬82). ¬

(¬76) «وهو مصراع بيت كأنه يريد اجازته» اتحاف أهل الزمان 5/ 162. (¬77) في الأصول: «المنتصر». (¬78) اكمال من تاريخ الدولتين يقتضيه السياق. (¬79) 23 نوفمبر 1276 م. (¬80) 15 ماي 1277 م. (¬81) في الأصول: «طرده». (¬82) نقل المؤلف أخبار السّلطان المستنصر مع حذف قليل من تاريخ الدولتين ص: 33 - 40.

الواثق

الواثق: فتولى بعده ولده أبو زكرياء يحيى الواثق، ولد سنة سبع وأربعين وستمائة (¬83)، وبويع له ليلة مات أبوه فأصبح خليفة، وبايعه من بقي صبيحة تلك الليلة وذلك يوم الأحد الحادي عشر لذي الحجة عام خمسة وسبعين وستمائة (¬84)، فكانت سيرته أحسن سيرة، وأخباره مع أولي الفضل مشهورة، جدّد ما اختل من جامع الزيتونة وغيره من المساجد، وسرّح أهل السجن، وأحرق أزمّة المظالم، وأحسن إلى الأجناد، إلاّ أنه كان لا يحسن القيام بأمر الخلافة، وتغلّب على دولته يحيى بن عبد الملك الغافقي المعروف بابن الحببّر (¬85)، وكان لا يشتغل بأمر الملك بل بأمور غير مفيدة من البناء وأنواع الملابس واقتناء الأثاث، / فساء تدبيره الملك ولم يحسنه، فتلاشت الدّولة بسبب ذلك. وفي سنة ست وسبعين (¬86) أخذ سعيد بن يوسف بن أبي الحسين وأخذت منه أموال عظيمة، وكان المتولي تعذيبه خديمه عبد الرّحمان بن أبي الأعلام، فكان اذا اشتد به الألم يقول له: من أعان ظالما سلّطه الله عليه، ولمّا بلغ الخبر الواثق وهو بتونس منتبذ عن الحامية والبطانة (¬87) وضعف أمر المملكة خلع نفسه وبايع لعمّه أبي اسحاق، وذلك يوم الأحد الثالث لربيع الثاني عام ثمانية وسبعين وستمائة (¬88)، فكانت خلافته سنتين (¬89) وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوما: وقيل خلع نفسه لعمه يوم الجمعة من ربيع الأول سنة تسع وسبعين وستمائة (¬90). ¬

(¬83) 1249 - 1250 م. (¬84) 16 ماي 1277 م. (¬85) في الأصول: «علي بن عبد الله الغافقي المعروف بالحمير» والتصويب من تاريخ الدولتين وتاريخ ابن خلدون 6/ 680 وغيرهما. (¬86) 1277 - 1278 م. (¬87) في الأصول: «الباطنة» وفي الكلام بتر صار به المعنى غير واضح وتمامه أن ابن الحببّر حمل الواثق على أن يكتب لعمه أبي حفص ووزيره ابن جامع يغري كل واحد منهما بصاحبه فتفاوضا واتفقا على الدعاء للأمير أبي اسحاق وبعثا إليه بذلك، ولما بلغ الخبر للواثق وهو بتونس منتبذ عن الحامية والبطانة أيقن بذهاب ملكه فخلع نفسه وبايع لعمه أبي اسحاق. أنظر تاريخ الدولتين ص: 52. (¬88) 13 أوت 1279 م. (¬89) في الأصول: «ثلاث سنين». (¬90) جوان 1280 نقل المؤلف أخبار الواثق بن المستنصر باختصار من تاريخ الدولتين ص: 40 - 43.

أبو اسحاق ابراهيم ابن أبي زكرياء

أبو اسحاق ابراهيم ابن أبي زكرياء: ولما خلع الواثق نفسه تولى بعده عمه المولى أبو اسحاق ابراهيم ابن المولى الأمير أبي زكرياء ابن الشيخ أبي محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص، ولد سنة احدى وثلاثين وستمائة (¬91) وصلّى بالمصلى هناك صلاة العيد، ودخل بجاية من يومه، ودخل تونس يوم الثلاثاء الخامس لربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وستمائة (¬92)، وجدّدت له البيعة يوم الأربعاء، وانتقل الواثق المخلوع من القصبة إلى دار الغوري بالكتبيين وسكن بها أياما، ثم إن السّلطان سمع به أنه بعث إلى قائد النّصارى وتكلّم معه أن يثور على عمه بليل، فرفع (¬93) القصبة / هو وبنوه وكانوا ثلاثة: الفضل والطّاهر والطّيب، فثقفوا بها وذبحوا جميعا في صفر سنة تسع وسبعين وستمائة (¬94). وفي ثالث يوم من دخول السّلطان أبي اسحاق لتونس أخذ ابن الحببّر (¬95) رئيس دولة الواثق وقتله تحت العذاب، وكان السّلطان أبو اسحاق فيه غلظة وشدة (¬96)، ولا ينظر في عواقب الأمور، فكان ولده الأمير أبو زكرياء يردّ عليه أكثر أوامره بالتّلطّف، واستولت العرب في أيامه على القرى، وهو أول من كتب البلاد الغربية بالظهارة للعرب. الدّعي ابن أبي عمارة: وفي الرابع من محرم مفتتح عام واحد وثمانين وستمائة (¬97) ظهر عند دبّاب رجل ادّعى أنه الفضل بن يحيى الواثق، وادّعى أنه انفلت من السّجن، وسبب وصوله لهذه الدّعوى أن الفضل كان له فتى خصي يربيه، فلما قتل الفضل فرّ الخصي للمغرب، فلقي فتى خياطا من أهل تونس يعرف بابن [أبي] (¬98) عمارة أشدّ النّاس شبها بالفضل بن ¬

(¬91) 1233 - 1234 م. (¬92) 15 أوت 1279 م. (¬93) واعتقله بالقصبة. (¬94) جوان 1280 م. (¬95) في الأصول: «الحمير». (¬96) في تاريخ الدولتين: «شجاعة». (¬97) 14 أفريل 1282 م. (¬98) اكمال من تاريخ الدولتين وتاريخ ابن خلدون.

الواثق المقتول معه، فداخله وأطمعه في الأمر وعرفه بتأتي الحيلة، ولقّنه أمور الملك وأسماء القرابة، ثم قصد العرب فعرضه عليهم واغتنم منهم نفرة عن الأمير أبي اسحاق، فلبس عليهم، وجعل الفتى يبكي كلما رآى الدعيّ موهما أنه الفضل، ويقبّل أقدامه، واسم الخصي نصير، فأقبل على أمراء العرب مناديا بالسّرور بابن مولاه حتى خيّل عليهم بأن أخبرهم الدعي بن أبي عمّارة لمحاورات [وقعت] بين العرب وبين الواثق قصّها / عليهم كان عرّفه بها نصير، فلما سمعها الأعراب وقد كانت جرت بينهم وبين الواثق صدّقوه ولم يشكّوا فيه واطمأنوا له، وبايعوه، وألقيت محبته في قلب أبي علي بن مرغم (¬99) بن صابر شيخ دبّاب، فعضده وجمع عليه العرب ونزل معه طرابلس، وصاحبها حينئذ من قبل السّلطان أبي اسحاق محمد بن عيسى الهنتاتي المعروف بعنق (¬100) الفضة فأغلقها (¬101) ووقع القتال مدّة، ثم رحل عنها وجبى تلك النواحي، ثم رحل إلى قابس وقد ظهر أمره، ولم يشك أهل الأوطان أنه من البيت الحفصي، فخرج اليه عبد الملك بن عثمان بن مكي وفتح له قابسا فدخلها، وبايع له أهلها يوم الأربعاء السّابع عشر لرجب من سنة احدى وثمانين المذكورة (¬102)، وجاءته بها بيعة جربة والحامّة ونفزاوة وتوزر وسائر بلاد قسطيلية (¬103)، ثم فتحت له قفصة يوم الجمعة فدخلها سابع رمضان من العام المذكور، وأخرج له السّلطان أبو اسحاق من تونس جيشا عظيما أمر عليه ولده الأمير أبا زكرياء يحيى فنزل القيروان، وأغرم أهلها أموالا، ثم توجّه نحو الدعي، فنزل قمّودة، والنّاس يتسللون منه حتى كاد يبقى وحده، فرجع إلى تونس ورحل الدّعي من قفصة إلى القيروان فدخلها وبايعه أهلها وجاءته بيعة المهدية وصفاقس وسوسة، فخرج السّلطان أبو اسحاق من تونس في جيش عظيم، ونزل المحمدية في العشر / الأوسط من شوال من السنة المذكورة، وأخرج من العدد حمل تسعين بغلا، فنهب ذلك كله من منزل المحمديّة، وفرّ كثير من الناس عنه إلى المدّعي، ثم فرّ إلى الدّعي الشيخ أبو عمران موسى بن ياسين في جماعة عظيمة من الموحدين، فالتقى به على مقربة من شاذلة ¬

(¬99) في الأصول «عمر» والتصويب من تاريخ الدولتين وهو شيخ الجواري من بني دباب، أسّره الصقليون بنواحي طرابلس وأطلقه صاحب برشلونة لغرض سياسي، راجع ابن خلدون 6/ 703. (¬100) كذا في تاريخ الدولتين ص: 45، وتاريخ ابن خلدون 6/ 698، وفي الأصول «بعين الفضة». (¬101) في ش: «فغلقها». (¬102) 21 أكتوبر 1282 م. (¬103) في ط: «قسنطينة» وفي ش: «قسنصينة» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 45.

وبايعه، ورجع السّلطان أبو اسحاق إلى سبخة تونس حتى أخرج نساءه وأولاده، وارتحل من تونس مغربا فلقي شدائد وأهوالا من المطر والثّلج والجوع والخوف، فكان يبذل الأموال للقبائل مصانعة على نفسه وأولاده وأهله حتى وصل إلى قسنطينة فأغلقها صاحبها أبو محمد عبد الله بن توفيان (¬104) الهرغي (¬105) في وجهه فطلب منه ما يأكل، فأنزل له من أعلى السّور الخبز والتّمر، فأكلوا ورحلوا من يومهم إلى بجاية، فمنعه ولده أبو فارس عبد العزيز الدّخول اليها فأقام بقصر الرّبيع على شاطئ وادي بجاية، وسكن بقصر الكوكب، وكان فراره من تونس ليلة الثلاثاء الخامس والعشرين لشوال سنة إحدى وثمانين وستمائة (¬106)، وكانت خلافته بتونس من حين خلع الواثق نفسه إلى حين فراره ثلاثة أعوام ونصفا واثنين وعشرين يوما. وفي يوم الخميس السابع والعشرين لشوال من سنة إحدى وثمانين (¬107) بويع الدّعي بتونس على أنه الفضل بن أبي زكرياء يحيى الواثق، وانما هو أحمد بن مرزوق ابن أبي عمارة المسيلي / أمه فرحة من فران من بلاد الزّاب، مولده بالمسيلة سنة اثنتين وأربعين وستمائة (¬108)، وتربيته ببجاية، وخطب له بهذا الإفتراء على جميع منابر افريقية. وكان هذا الدّعي سفّاكا للدماء ظالما يظهر قطع المنكر ويأتيه، ويوم دخوله لتونس عاث العرب في النّاس، فأخذ منهم ثلاثة وضرب أعناقهم وصلبهم، ثم أخرج جيشا وأمر عليه شيخ الموحدين أبا محمد عبد الحق بن تافراجين، وأمره بقتل من ظفر به من العرب، ومات يوم دخوله تونس في زحام باب المنارة ثلاثة عشر رجلا منهم الفقيه القاضي أبو علي حسن بن معمّر الهواري الطرابلسي، وفي الخامس والعشرين من يوم دخوله أخذ أمراء العرب الملاقين له وكانوا نحوا من ثمانين، وفي يوم السبت بعده أخذ الزّناتيين وأخرجهم من القصبة عراة إلى السّجن، وكانوا نحوا من ثلاثمائة (¬109)، وفي الثالث والعشرين من ذي الحجة أخرج (¬110) قرابة السّلطان أبي اسحاق كلّهم وسجنهم، واستأصل أموالهم، وهمّ بقتلهم، فمنعهم الله منه. ¬

(¬104) في ش: «بوفيان» وفي ط: «توفيال» وتاريخ ابن خلدون 6/ 692: «يوقيان» والتصويب من تاريخ الدولتين التي ينقل عنها المؤلف. (¬105) في الأصول: «المزغني» والتصويب من المرجعين السالفين. (¬106) 26 جانفي 1283. (¬107) 28 جانفي 1283 م. (¬108) 1244 - 1245 م. (¬109) ثلاثمائة وخمسين: تاريخ الدولتين ص: 47. (¬110) كذا في ط وتاريخ الدولتين، وفي ش: «أخرج».

وفي يوم السبت الثاني عشر من صفر سنة اثنين وثمانين (¬111) خرج الدعي من تونس يريد بجاية لما أحس بخروج الأمير أبي فارس صاحبها إليه، وقد كان أبو فارس جيّش الجيوش، وجمع الجموع، وخرج قاصدا للقائه، وخرج عمّه الأمير أبو حفص خلفه بتاج على رأسه تعظيما له لأنه جرت عادة ملوك هذه الدّولة الحفصية باستعماله، وإنما ترك من دولة ابن اللّحياني الآتي إلى هلم جرا /، فخرج الدّعي من تونس في عسكر عظيم، والتقى الجمعان بفج الأبيار قريبا من قلعة سنان، وذلك يوم الإثنين الثالث لربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وستمائة (¬112)، فكان يوما هائلا فظيعا خانت (¬113) فيه أبا فارس أنصاره عقوبة من الله حين أغلق الباب في وجه أبيه ومنعه من الدخول لبجاية، فأخذ رجال الدّعي أبا فارس وقتلوه وقطعوا رأسه ونهبوا محلته وأخذوا مضاربه وخزائنه وسيق رأسه إلى الدّعي، ثم سيق أخوه عبد الواحد حيا فقتله الدّعي بحربة كانت بيده، ثم سيق أخواه لأبيه عمر وخالد فأمر بهما فقتلا صبرا، ثم سيق محمد بن أخيه عبد الواحد فقتل. وكانت ولاية أبي فارس ببجاية وأحوازها ثلاثة اشهر وثلاثة عشر يوما، وسيقت رؤوس أولاد السلطان وأقاربه إلى تونس فطيف بها على أطراف الرّماح في الأسواق يوم الخميس السادس لشهر ربيع الأول من سنة اثنتين وثمانين وستمائة (¬114)، وعلّقت على باب المنارة، ولم ينج منهم أحد إلاّ الأمير أبو حفص ابن الأمير أبي زكرياء فانه فرّ إلى قلعة سنان وهو على رجليه، ولاذ به في ذهابه ثلاثة من صنائعهم: أبو الحسن بن أبي بكر بن سيّد النّاس، والوزير ابن الفزاري، ومحمد بن أبي بكر بن خلدون، وربما كانوا يتناوبونه على ظهورهم اذا أصابه الكلل إلى أن بلغ القلعة فتحصّن بها، وأما الأمير / أبو زكرياء ابن الأمير أبي اسحاق فإنه بقي خائفا ببجاية ومعه الشيخ أبو زيد الفزاري (¬115)، ولما بلغ خبر الوقعة إلى بجاية اضطرب اضطرابا شديدا، واجتمع الناس في الجامع الأعظم وفيهم القاضي أبو محمد عبد المنعم بن عتيق، ومعه ابنه فتكلم بكلام أغضب به العامّة، فوثبوا على الولد وقتلوه في المحراب، وحملوا القاضي من مجلس حكمه إلى السجن (ثم إلى البحر) (¬116) وصرفوه إلى بلد الجزائر، وخاف الأمير أبو اسحاق على نفسه فخرج هاربا من ¬

(¬111) 12 ماي 1283. (¬112) 1 جوان 1283 م. (¬113) في الأصول: «خان» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 48. (¬114) جوان 1283 م. (¬115) وكذا في تاريخ الدولتين وفي تاريخ ابن خلدون الفزاري ولعله هو الصواب. (¬116) ساقطة من ش.

القصبة يريد تلمسان ومعه ابنه الأمير أبو زكرياء وعامة أهل بجاية يتّبعونه، فخرج أهل بجاية في طلبه فأدركوه في جبل بني غبرين وقد سقط عن فرسه ودقت فخذه، ونجا ابنه الأمير أبو زكرياء إلى تلمسان، وكان له بها أخت في عصمة والي تلمسان عثمان بن يغمراسن بن زيّان، فأكرمه ورحّب به، وأخذ الأمير أبو اسحاق وردّ إلى بجاية فدخلها راكبا على بغل عليه برذعة وألقوه بدار بحومة ساباط الأموي (¬117) ببجاية إلى أن أرسل الدّعي في قتله محمد بن عيسى بن داود الهنتاتي، فقتله يوم الخميس السابع والعشرين (¬118) ربيع الأول عام اثنين وثمانين وستمائة (¬119). ثم رفع رأسه إلى تونس وطيف به (¬120) على عصا في الأسواق، والسفهاء يضحكون والنساء تولول، وفي ذلك عبرة لأولي الأبصار. ويوم الخميس ثاني صفر من السنة المذكورة خرج الدّعي مسافرا يريد قتل الأمير أبي حفص لأنه ظهر عند العرب وعظم سلطانه / في البلاد، واجتمع عليه خلق كثير لكون الدّعي أساء في العرب وقتل منهم، فسمعوا بالأمير أبي حفص في قلعة سنان، فرحلوا اليه وأتوه بيعتهم في ربيع الأول من السنة المذكورة، وجمعوا له شيئا من الآلات والأخبية، وقام بأمره أبو اللّيل بن أحمد شيخهم، وبلغ الخبر الدّعي فخرج من تونس يريد القتال، فأرجف أهل عسكره ومالت نفوسهم إلى الأمير أبي حفص، فلما تبيّن الدّعي ذلك رجع إلى تونس رجوع منهزم، وذلك يوم الخميس الخامس والعشرين من ربيع الأول من سنة ثلاث وثمانين وستمائة (¬121) وطوى الأمير أبو حفص البلاد إلى أن نزل قريبا من تونس بسبخة سيجوم، فخرج اليه الموحّدون والجند وقاتلوه أياما كثيرة ولم يظفروا منه بشيء، ونهب العرب البلاد إلى أن خرج الدّعي يوم الأحد الثاني والعشرين لربيع الآخر من السنة المذكورة، فأقام برهة بذيل السّبخة، فلما علم بهلاكه فرّ بنفسه رغبة في الحياة، واختفى في دار بمقربة من الصفّارين بتونس عند رجل فرّان أندلسي ليلة الإثنين الثالث والعشرين لربيع الآخر من السنة المذكورة، فكانت دولة الدّعي بتونس سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوما، وأقام الدّعي بتلك الدّار سبعة أيام إلى أن دخلت ¬

(¬117) في الأصول: «الأصولي» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 49. (¬118) في الأصول: «تاسع عشر» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 49. (¬119) 25 جوان 1283 م. (¬120) في الأصول: «بها». (¬121) 11 جوان 1284 م.

أبو حفص عمر ابن أبي زكرياء

عليه امرأة فأخذ وأخرج من تلك الدّار وهدّمت لحينها، وحمل إلى الأمير أبي حفص فقرره بحضرة القاضي ابن الغماز (¬122) والشهود، / فأقر بأنه أحمد بن مرزوق بن أبي عمارة المسيلي وأشهد الشهود عليه بذلك، وأمر الأمير أبو حفص بضرب عنقه بعد ضربه مائتي سوط، وأخرج جسمه دون الرأس وطيف به (¬123) على حمار أشهب (¬124)، وجرّ إلى السّبخة بخارج باب البحر، فرمي بها، ثم طيف برأسه على عصا يوم الثلاثاء الثاني لجمادي الأولى من السنة المذكورة، قيل كان سبب فضيحته على يد امرأة حفصية أراد تزوّجها، وكانت (¬125) لا تحل للفضل لأنها من محارمه فامتنعت منه فألحّ في طلبها لما غلب عليه من حبّها وحسنها، وعرّفها بأنه ليس هو الفضل فافتضح مع ما اتفق من قبح السيرة وخبث السريرة (¬126). أبو حفص عمر ابن أبي زكرياء: وتولى بتونس الأمير أبو حفص عمر ابن السّلطان أبي زكرياء ابن الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص، ولد بتونس بعد صلاة الجمعة الموفّى ثلاثين من ذي القعدة سنة إثنين وأربعين وستمائة (¬127)، وبويع له بها يوم الأربعاء الخامس والعشرين لربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وستمائة (¬128)، وتلقب «بالمستنصر». وفي السابع والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة توفي بالمهدية القاضي ابن الغماز. وفي السادس والعشرين لذي الحجة من سنة ثلاث وتسعين (¬129) توفي السّلطان أبو ¬

(¬122) «أبو العباس أحمد بن محمد بن الحسن بن الغماز الأنصاري» (609 - 693/ 1212 - 1294 م) ذكره ابن فرحون في الديباج. وصفه الغبريني صاحب عنوان الدراية بأنه القاضي الكبير الشهير العدل الرضي، ولي قضاء بجاية ثم استدعي لحاضرة تونس وقدم للقضاء بها، عن الحلل السندسية 1/ 644. (¬123) في الأصول: «بها». (¬124) كذا في ط وتاريخ الدولتين، وفي ش «أشهب أحمر اللون». (¬125) في الأصول: «وكان». (¬126) دولة الأمير ابراهيم بن أبي زكرياء ودولة الدعي نقل المؤلف أخبارهم باختصار وزيادة في الأخير من تاريخ الدولتين (ص: 43 - 50). (¬127) 29 أفريل 1245 م. (¬128) 11 جويلية 1284 م. (¬129) 21 نوفمبر 1294 م.

أبو عصيدة ومن توفي من العلماء في أيامه

حفص فكانت خلافته أحد عشر عاما وثمانية أشهر إلاّ يومين، وكان عهد لولده عبد الله فتحدّث الموحّدون في صغره وأنه لم يبلغ الحلم، فبعث السّلطان / إلى الشّيخ الصّالح أبي محمد المرجاني وتحدّث معه في ذلك، وكان الواثق بن المستنصر (¬130) لما قتل هو وأولاده - حسبما مرّ - فرّت إحدى جواريه حاملا منه إلى زاوية الشّيخ الولي أبي محمد المرجاني، فوضعت الولد في بيته وسمّاه الشّيخ «محمّدا»، وعقّ (¬131) عليه وأطعم الفقراء يومئذ عصيدة الحنطة، فلقّب بأبي عصيدة، ثم صار بعد اختفائه إلى قصورهم، ونشأ في ظلّ الخلفاء حتى شبّ، وبقيت له مه مع الشّيخ المرجاني ذمّة، فلما فوضّه السّلطان في شأن العهد، وأخبره بنكير الموحدين لولده أشار عليه الشّيخ بصرف العهد إلى محمّد بن الواثق، فقبل إشارته ووقع الإتفاق على ذلك فأخرجه الشّيخ أبو محمّد المرجاني، وبارك عليه ودعا له، وبويع البيعة الخاصة يوم الأربعاء الثاني والعشرين لذي الحجة. أبو عصيدة ومن توفي من العلماء في أيامه: ثم لما توفي السّلطان أبو حفص في التاريخ المذكور بويع الأمير أبو عبد الله محمد ابن المولى السّلطان محمد الواثق الملقب «بأبي عصيدة» وافتتح أمره بقتل عبد الله ابن السّلطان أبي حفص لأجل ترشحه للولاية. ثم خرج السّلطان أبو عصيدة من حضرة تونس بمحلّته حتى تجاوز تخوم عمله إلى أعمال قسنطينة، وجفلت قدامه الرّعايا، ثم رجع إلى حضرته. وفي شهر جمادى الأولى سنة تسع وتسعين (¬132)، توفي الشّيخ الصّالح المرجاني، ودفن بجبل الزّلاج (¬133) وكان صديقا لقاضي الجماعة / بتونس الفقيه أبي يحيى بن أبي بكر الغوري الصفاقسي وكان القاضي مريضا، فكتم أقاربه موت صديقه، فلم يخبروه به، وجعلوا يوصون من يعوده ألاّ يخبره بموته، فأتى الفقيه أبو اسحاق بن عبد الرّفيع لعيادة ¬

(¬130) في الأصول: «المنتصر». (¬131) في الأصول: «عن» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 53. «عقّ يعقّ عن المولود حلق عقيقته أو ذبح عنه شاة وفي التهذيب والصحاح يوم أسبوعه» تاج العروس 7/ 16. (¬132) جانفي - فيفري 1300 م. (¬133) في الأصول: «جلاز».

القاضي فأوصوه فنسي وأخبره، فازداد مرضه، وتوفي يوم الأحد رابع عشر جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وستمائة (¬134). ونقل عن الشّيخ أبي محمد عبد الواحد الغرياني أنه أخبره من يثق به أن عادة الموحدين (¬135) قديما بتونس أنهم لا يولّون القضاء أكثر من عامين عملا بما أوصى به عمر ابن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - حين كتب عهده أنه لا يلي عامل أكثر من عامين وأيضا فإنهم يرون أن القاضي اذا طالت مدة قضائه اتخذ الأصحاب والإخوان، واذا تيقّن العزل فلا يغتر، وأيضا فإن الحال اذا كانت هكذا ظهرت مخايل المعرفة بين الأقران، وكثر فيهم القضاة بتدربهم على الوقائع، فيبقى الحال معروفا محفوظا، بخلاف ما اذا استبد الواحد بالعمل لم يقع تناصف ولم يحصل لمن بعده النفوذ لا ياسهم من الولاية إلاّ بعد مشقة. وفي ثاني صفر من سنة سبعمائة (¬136) توفي الشّيخ الفقيه النّحوي أبو زكرياء اليفزني (¬137) كان تلميذ ابن عصفور وخليفته في فنّه. وفي شهر جمادى الأولى من سنة ست وسبعمائة (¬138) سافر شيخ الموحدين أبو يحيى / زكرياء بن أحمد اللحياني بالعساكر إلى جربة برسم خلاصها من أيدي النّصارى، فقاتل القشتيل (¬139) شهرين (¬140)، ولما عجز عنه رحل إلى قابس (¬141) وانتهى إلى توزر، وأعانه على الخدمة أحمد بن محمد بن يملول مخدوم التجاني صاحب الرّحلة، ¬

(¬134) 6 فيفري 1300 م. (¬135) هم الحفصيون لأنهم فرع من الدولة الموحدية. (¬136) 17 أكتوبر 1300 م. (¬137) في الأصول: «اليفري» والتّصويب من تاريخ الدولتين ص: 56. (¬138) نوفمبر - ديسمبر 1306 م. (¬139) هو حصن حربي بناه الأميرال الأرقوني (Aragonais) روجي دي لوريا (Roger de Lauria) في جزيرة جربة اثر احتلاله لها في ما بين سبتمبر واكتوبر من سنة 683/ 1284 م. عن هذه الأحداث أنظر بلاد البربر تحت إمارة الحفصيين (La Berberie) ، المصدر السابق 1/ 93. وعن القشتيل أنظر رحلة التجاني 126 - 128 ورشيد غريب: برج غازي مصطفى بجربة. المجلة التاريخية المغربية عدد 4 السنة 1975 ص: 85 - 91. (¬140) لما توفي روجي دي لوريا خلفه ابنه روجر الذي لم يكن يتمتع بحظوظ والده، وثار عليه أهل جربة، ولما علم ابن اللحياني ذلك خف لنصرتهم كما أتى في النص وحاصر القشتيل الذي استقرت به حامية عسكرية نصرانية في شهر جمادى الآخرة 706/ 31 ديسمبر 1306، بلاد البربر 1/ 123. (¬141) كذا في ط وتاريخ الدولتين، وفي ش وت: «صفاقس».

أبو بكر الشهيد

فخلص مجابي الجريد، ورجع إلى قابس، فأنزله عبد الملك بن مكي فصرف العساكر إلى الحضرة، وعمل على السفر إلى الحج، فتولى رئاسة الموحّدين بتونس أبو يعقوب بن يزدوتن، وتحوّل هو عن قابس إلى بعض جبالها خوفا من وخمها، وأقام في انتظار الرّكب. ثم انتقل إلى طرابلس، فأقام بها حولا ونصفا إلى أن وصل وفد التّرك من المغرب في آخر سنة ثمان، كانوا أتوا بهدية من صاحب مصر ليوسف المريني، فخرج معهم حاجا فقضى حجّه. وفي يوم الثلاثاء الثالث عشر (¬142) لربيع الآخر سنة تسع وسبعمائة (¬143) توفي الأمير أبو عبد الله محمد أبو عصيدة، فكانت خلافته أربعة عشر عاما وثلاثة أشهر وسبعة عشر يوما (¬144) وكان في قائم حياته عقد عهدا مع الأمير أبي البقاء خالد صاحب قسنطينة وبجاية على أن أيّهما توفي قبل صاحبه أخذ صاحبه بلاده. أبو بكر الشهيد: وكان السلطان خالد قد نزع إليه حمزة بن عمر بن أبي الليل يرغّبه في ملك الحضرة (¬145) واستنهضه اليها، فلما مرض السّلطان أبو عبد الله، وتحقّق ذلك الأمير خالد وهو ببجاية جدّ في / الحركة على تونس، وأظهر أنها للجزائر، ثم سار إلى قسنطينة وترك بها نائبا (¬146)، فلما قرب من تونس ونزل قصر جابر توفي الأمير أبو عبد الله أبو عصيدة فاجتمع الأشياخ وكبار الموحدين وتحدثوا هل يقع الوفاء بالعهد والشّرط المتقدم أو ينظرون من يبايعونه لأنفسهم فاتّفق رأيهم على مبايعة الأمير أبي يحيى أبي بكر المعروف بالشهيد ابن الأمير أبي زيد عبد الرحمان ابن الأمير أبي يحيى بن أبي بكر ابن السّلطان أبي زكرياء، فبويع يوم وفاة أبي عصيدة، وذلك يوم الثلاثاء الثالث عشر لربيع الآخر من سنة تسع وسبعمائة (¬147). ¬

(¬142) في الأصول: «العاشر» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 58. (¬143) 21 سبتمبر 1309. (¬144) عن الأمير أبي حفص عمر والأمير أبي عصيدة انظر تاريخ الدولتين ص: 50 - 58 واختصر المؤلف ما يتعلق بأبي حفص عمر. (¬145) «عند اياسه من خروج أخيه من محبسه»، تاريخ الدولتين. (¬146) هو الفقيه أبي الحسن علي بن عمر، تاريخ الدولتين ص: 58. (¬147) 20 سبتمبر 1309 م.

أبو البقاء خالد

فما أتم ثمانية أيام حتى خرج لقتال أبي البقاء خالد فأقام بمحلته تسعة أيام، والتقى أبو البقاء وأبو بكر، فانهزم أبو بكر، ودخل القصبة، ثم لما أصبح أراد الوقوف بالسّبخة مع خاصته، وظن أن من بقي من الأجناد بتونس يقفون معه، فوقف عند الأقواس يسيرا، ثم انصرف فقبض عليه من ساعته وقتل في السابع (148) والعشرين من الشهر المذكور فكانت دولته ستة عشر يوما. أبو البقاء خالد: وبايع الناس لأبي البقاء خالد يوم الجمعة السابع (¬148) والعشرين من ربيع الآخر سنة تسع وسبعمائة، ولقب «بالناصر لدين الله». وفي يوم الخميس التاسع لجمادى الأولى من سنة إحدى عشرة وسبعمائة (¬149)، وصل الشّيخ أبو عبد الله المزدوري صحبة العرب إلى تونس نائبا عن الأمير أبي يحيى زكرياء بن أحمد بن محمد اللّحياني، وكان وصل من الحجاز / إلى افريقية، فوجد الأحوال اضطربت ووجد الأعراب غلبت على افريقية، فعزم على الولاية فبويع بطرابلس، فلما دخل المزدوري حكم أبا البقاء خالدا (¬150)، فكانت دولته بتونس سنتين وثلاثة عشر يوما وتوفي بتونس قتيلا في سنة إحدى عشرة وسبعمائة (¬151)، وقيل سنة ثلاثة عشرة. أبو يحيى زكرياء ابن اللحياني: وفي يوم الأحد الثاني من رجب من سنة إحدى عشرة بويع البيعة العامة بمنزل المحمّدية الأمير أبو يحيى زكرياء ابن الشّيخ أبي العبّاس أحمد ابن الشّيخ أبي عبد الله ¬

(¬148) في الأصول: «السادس والعشرين» والتصويب من تاريخ الدولتين. (¬149) 23 سبتمبر 1311 م. (¬150) الكلام غير واضح والأمير أبي يحيى زكرياء ارتحل إلى تونس وبعث في مقدمته أولاد أبي الليل ومعهم شيخ دولته محمد المزدوري فوصلوا إلى تونس، فكانت بها معركة وتسارع الناس إلى المزدوري ومكّنوه من تونس بعد اشهاد أبي البقاء خالد على نفسه بالخلع. أنظر تاريخ الدولتين ص: 61. (¬151) 1311 - 1312 م.

محمّد اللّحياني ابن الشيخ أبي عبد الواحد، كان - رحمه الله - مشاركا في العلوم والآداب، فلذا كان يألف أهل العلم والأدب، وكان في أول أمره كثير التّمنّع من الأمر، وكان أحب الأمر إليه أن يكون نائبا عن خليفة يكون قابلا لكلامه مؤثرا له عمّا سواه، عاملا بمقتضى السّياسة، فلذا ردّ (¬152) أفعال من كان قبله، واسترجع البلاد التي سوغت، وقال: لا يمضي عطاء من لا يعرف قدر ما اعطى، ثم عرض الجيش فأسقط منه من لم يكن له أصل ثابت في القبائل، وسار في النّاس سيرة حسنة، ومكّن (¬153) ولده للحكم عند القاضي أبي اسحاق بن عبد الرّفيع في دم ادعي عليه به، وهو كان سبب محنة القاضي المذكور. ثم إن السّلطان أبا يحيى زكرياء بن اللحياني رأى اضطراب الأحوال، وافتتان العربان، وظهر له خروج الأمر من يده، فجمع الأموال وباع / جميع الذّخائر التي كانت في القصبة حتى الكتب التي كان الأمير أبو زكرياء الأكبر جمعها، واستجاد أصولها ودواوينها، أخرجت للكتبيين وبيعت بدكاكينهم، زعموا أنه جمع ما يجاوز عشرين قنطارا من الذّهب، وجولقين من حصى الدّر والياقوت، واستعمل حركة لقابس وخرج اليها في أول عام سبعة عشر وسبعمائة (¬154)، بعد أن رتّب بتونس أجنادا يذبّون عنها مع قائد البلد ألف فارس، بعضهم بأنف الجبل الذي بقبلة تونس، وبعضهم بالعلويين، وبعضهم على طريق باجة، وخرج من تونس في قدر ألف فارس، واستخلف بها أبا الحسن بن وانودين، ورحل إلى قابس فسكنها بأهله وولده إلاّ ولده محمد، ويدعى «أبا ضربة» فإنه تركه معتقلا. ولما خرج هو من تونس تحرك السّلطان أبو يحيى أبو بكر، وارتحل (¬155) من قسنطينة في جمادى الآخرة من سنة سبع عشرة قاصدا الحضرة فلقيه وفد العرب وانتهى إلى باجة، وانصرفت حاميته لتونس، وكان نوّاب ابن اللحياني كتبوا له بحركة أبي بكر على تونس، فكتب لهم: عندكم الأموال والأجناد، وما فعلتم فقد أمضيته، فوجدوا عندهم من المال المجتمع من حين سافر مائة ألف دينار (¬156) وخمسين ألفا، ووجدوا من ¬

(¬152) كذا في ط وتاريخ الدولتين ص: 62، وفي ش: «أراد». (¬153) كذا في ط وتاريخ الدولتين ص: 62، وفي ش: «مكنه». (¬154) مارس 1317 م. (¬155) كذا في تاريخ الدولتين وط، وفي ش: «تحرك». (¬156) ساقطة من ش.

محمد أبو ضربة

الأجناد سبعمائة فارس، فأخرجوا ولده أبا ضربة من الثّقاف، واستنابوا الشّيخ أبا الحسن بن وانودين على تونس، وخرجوا إلى القيروان ومعهم محمّد أبو ضربة راكبا بغلا دون سلاح، وخرج جميع الأشياخ /، وخالفهم الشّيخ مولاهم ابن عمر بن أبي الليل، فذهب إلى أبي بكر لما كان في نفسه من السّلطان ابن اللحياني لكونه كان يؤثر عليه أخاه حمزة، فلقي أبا بكر بمنزلة قشبة (¬157) واستحثه لتونس، فوصلها ونزل برياض السّناجرة في شعبان من سنة سبع عشرة (¬158). محمد أبو ضربة: وكان أبو ضربة ومن معه من تونس لقيهم حمزة بن عمر بن أبي الليل فقال لهم: إلى أين؟ فقالوا له: إلى القيروان، ومن ثم نكاتب السّلطان بقابس، ونعرّفه أن صاحب قسنطينة قد ملك تونس، فقال لهم: هذا هو السّلطان - يعني أبا ضربة - ونزل فبايعه هو وجميع الناس، واجتمعت عليه كلمة الموحدين والعرب، وذلك أواسط شعبان من عام سبعة عشر، ثم رجعوا بأجمعهم إلى تونس، وكتب حمزة لأخيه مولاهم: ارجع بسلطانك، فرجع خالد ورحل به مولاهم من رياض (¬159) السناجرة، بعد أن أقام به سبعة أيام، وعمل المفرّحات هنالك، وسار إلى قسنطينة ورجع عنه مولاهم من تخوم وطنه. وفي وسط شعبان بويع بتونس الأمير أبو عبد الله محمد أبو ضربة، وبقي هو بتونس وأبوه بقابس، والخطبة مشتركة بينهما فيقول الخطيب بعد ذكر الأب: اللهم وارض عن نجلهم (¬160) الناشئ عن مقامات شرفهم (¬161) «المستنصر بالله» أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد، ثم إن حمزة بن عمر بن أبي الليل طلب من أبي ضربة كسوة ألف فارس كل كسوة بثلاثين دينارا وغير ذلك من المطالب حتى ما أبقى شيئا / من المال. ¬

(¬157) «فلقي السّلطان دوين باجة» تاريخ الدولتين ص: 64. (¬158) أكتوبر 1317 م. (¬159) في الأصول: «ربض» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 65 ومن النص فيما يلي. (¬160) في الأصول: «نجله». (¬161) في الأصول: «شرفه».

ثم إن الأمير أبا بكر حشد الحشود في صفر من سنة ثمان عشرة وسبعمائة (¬162)، وقصد تونس، واستعمل على بجاية أبا عبد الله محمد بن القالون، وسار إلى أن وصل الأربس فوافاه وفد هوارة وكبيرهم سليمان بن جامع، فأخبره أن الأمير أبا ضربة إرتحل عن باجة عازما على اللقاء، فجد أبو بكر ولقيه الشّيخ مولاهم صاحبه وراجع الطّاعة له، وارتحل في طلب أبي ضربة وجموعه، فخرج إلى أبي بكر العمّال والمشيخة وبايعوه، فارتحل راجعا عن طلب أبي ضربة إلى حضرة تونس (¬163). ولما ورد (¬164) على ابن اللحياني بقابس خبر ما وقع بتونس وأن أبا بكر هزم ولده، ورأى أمورا تفاقمت خرج من قابس إلى طرابلس، وبنى بها موضعا لجلوسه يقال له الطّارمة، بناه بالزّليج والرّخام، وجبى أموال عمل طرابلس، ثم سرّح ذلك الجيش لنصرة ولده صحبة صاحبه أبي زكرياء بن يعقوب ووزيره ابن ياسين (¬165) بالأموال ففرقها في العرب، وزحفوا بهم إلى القيروان مع الأمير أبي ضربة فخرج أبو بكر فهزمهم، ونجا أبو ضربة إلى المهدية فامتنع بها، ولحق الحاجب المذكور وبعض الفلّ - أي المنهزمين - بالسّلطان ابن اللحياني بطرابلس، فأرسل إلى النّصارى، وطلب منهم عمارة ستة أجفان، فوردت عليه وطلع بولده وأهله وماله وحاجبه ابن يعقوب، وترك صهره أبا عبد الله محمد بن أبي بكر بن أبي عمران من قرابته / حافظا لطرابلس، وسافر هو في الأجفان إلى الإسكندرية فنزل بها على السّلطان محمد بن قلاوون، فاستقدمه إلى مصر فعظم مقدمه واهتز للقائه، وأسنى جائزته واقطاعه إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين وسبعمائة (¬166)، وكانت خلافته بتونس ستة أعوام وأربعة أشهر. ثم إن محمدا أبا ضربة بعد ما حصل بالمهدية أدرك وقتل في ربيع الآخر من سنة ثمان عشرة وسبعمائة (¬167)، فكانت خلافته بتونس تسعة أشهر ونصفا (¬168). ¬

(¬162) أفريل 1318 م. (¬163) تاريخ الدولتين ص: 66. (¬164) تاريخ الدولتين ص: 65. (¬165) في الأصول: «ياسمين» والتصويب من تاريخ الدولتين. (¬166) 1327 - 1328 م. (¬167) جوان 1318 م. (¬168) عن دولة ابن اللحياني ومحمد أبي ضربة وانتصار أبي بكر عليه، أنظر تاريخ الدولتين ص: 60 - 66 فقد نقل المؤلف ما فيه مع زيادة يسيرة.

أبو يحيى أبو بكر

أبو يحيى أبو بكر: وتولّى بعده السّلطان أمير المؤمنين أبو يحيى أبو بكر بن أبي زكرياء يحيى [ابن المولى السّلطان أبي اسحاق ابراهيم ابن الأمير أبي زكرياء يحيى] (¬169) ابن الشّيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص في تاريخه، وقد تحرّك لتونس كرات متعددة أولها وهو أمير المؤمنين بقسنطينة في عام ستة عشر (¬170) فوصل إلى عين تبرسق وهي أصل وادي مجردة، ورجع إلى المغرب، ثم تحرك الحركة الثانية وصل فيها إلى سيجوم، وملك تونس، ولم يدخلها، وبويع له برياض السناجرة في ثامن شعبان عام سبعة عشر وسبعمائة (¬171)، ثم رجع إلى المغرب ثم تحرّك الحركة الثالثة بجيوش وافرة من قسنطينة، فوصل تونس في الثامن لشهر ربيع الأول عام ثمانية عشر وسبعمائة (¬172)، ثم انصرف من تونس، وتحرك إليها رابعة فوصل إليها، وكتب له البيعة بها في غرة صفر عام ثلاثة وعشرين (¬173)، ثم انصرف عنها ووصل مرّة خامسة في سابع شهر رمضان عام خمسة وعشرين (¬174) ثم / انصرف عنها ووصل المرّة السّادسة في صفر عام ثلاثين وسبعمائة (¬175)، وفي أثناء انصرافه عن تونس ملكها ابن أبي عمران الحفصي كرّتين نحو ثمانية أشهر، ونزل الأعراب تونس في أثناء الكرّتين المذكورتين بالأمير ابراهيم ابن الشّهيد، ونزلوا أيضا كدية أبي علي الأمير عبد الواحد بن اللحياني عام إثنتين وثلاثين (¬176)، وهو عبد الواحد ابن السّلطان أبي يحيى زكرياء بن اللحياني أخو أبي ضربة، فوصل إلى تونس بعد قدومه إثر موت أبيه بالمشرق مع دبّاب وابن مكي، وتسامع به الناس وافريقية خالية من حاميتها لنهوضهم لبجاية، فاغتنم (¬177) حمزة بن عمر الفرصة فاستقدمه وبايعه، ودخل الأمير عبد الواحد وحاجبه ابن مكي وأقام بها إلى أن بلغ الخبر إلى السّلطان بمقربة من المسيلة بعد هدمه حصن بني عبد الواحد المحدث على بجاية، فقفل إلى الحضرة، وبعث في مقدمته محمد البطرني مع ¬

(¬169) اكمال من تاريخ الدولتين ص: 66. (¬170) 1316 - 1317 م. (¬171) 16 أكتوبر 1317 م. (¬172) 10 ماى 1318 م. (¬173) 9 فيفري 1323 م. (¬174) 17 أوت 1325 م. (¬175) 24 نوفمبر 1329 م. (¬176) 1331 - 1332 م. (¬177) في ش: «استغنم».

وفاة القاضي ابن قداح

بطانته في عسكر اختارهم لذلك، فأجفل ابن اللحياني وجموعه عن تونس لخمس عشرة ليلة من نزولهم، ودخل البطرني اليها، وجاء السّلطان على أثره أيام عيد الفطر سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وجددت له البيعة بتونس، وهي المرة السابعة له كما قيل. [طويل] فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر وفاة القاضي ابن قدّاح: وفي سنة أربع وثلاثين وسبعمائة (¬178)، توفي القاضي ابن قدّاح، قال ابن عرفة (¬179): حدثني من أثق به قال: لما مات القاضي ابن قدّاح بتونس / قال أهل مجلس السّلطان أبي بكر في ولاية قاض فذكر بعض أهل المجلس الشّيخ ابن عبد السلام، فقال بعض أهل المجلس الكبار: إنه شديد الأمر ولا تطيقونه، فقال بعضهم: نستخبره، فدسّوا عليه رجلا من الموحدين كان جارا له يعرف «بابن ابراهيم» فقال له: هؤلاء امتنعوا من ولايتك لأنك شديد في الحكم، فقال: أنا أعرف الفوائد وأمشّيها، فحينئذ ولوه من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة (¬180) إلى أن توفي عام تسعة وأربعين (¬181). قال الشّيخ البرزلي في «تأليفه»: لعلّه إنما ذكر ذلك لأنه خاف أن يتولى من لا يصلح بوجه [فكان] (¬182) كلامه مانعا. وكان الشّيخ ابن عبد السلام عالما سيدا ساد بالعلم ورأس، واقتبس من الحضرة ما اقتبس، له التأليف المشهور الذي شرح به ابن الحاجب، وجمع بين القضاء والخطابة والتّدريس والفتوى، وكان يدرّس بمدرسة الشّماعين، ولما بنت أخت السّلطان مدرسة عنق الجمل طلبت من أخيها السّلطان أبي بكر أن يكون قاضي الجماعة ابن عبد السلام يدرّس بمدرستها فأسعفها بذلك، فكان يقسم الجمعة بين المدرستين، ثم إنها عزلته من مدرستها ونسبته إلى التفريط وقدمت عوضه أبا عبد الله بن سلامة (¬183). ¬

(¬178) 1333 - 1334 م. (¬179) محمد بن محمد بن عرفة بن حماد الورغمي ولد بتونس (716 - 803/ 1316 - 1401) شيخ الإسلام بالمغرب كان مقرئا فقيها منطقيا فرضيا نحويا، انظر مثلا محفوظ، تراجم المؤلفين التونسيين 3/ 363 - 371 وترجم له مقديش فيما يلي من نصه هذا. (¬180) 1333 - 1334 م. (¬181) 1348 - 1349 م. (¬182) في الأصول: «فوجه كلامه»، وهي غير ذات معنى والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 71. (¬183) وهو شيخ ابن عرفة له ترجمة بنيل الإبتهاج.

وفاة الفقيه محمد بن عبد الله بن راشد القفصي

وفاة الفقيه محمد بن عبد الله بن راشد القفصي: وفي الليلة الموفية (¬184) عشرين من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وسبعمائة (¬185)، توفي الشّيخ الفقيه الحافظ أبو عبد الله محمّد بن عبد الله بن راشد القفصي البكري بمدينة تونس شارح ابن الحاجب، أصله / من قفصة ونشأ بها وقرأ، ثم انتقل إلى تونس، وأخذ عن ابن الغمّاز ثم انتقل للمشرق، فلقي أعلاما كناصر الدّين بن المنيّر والأبياري، وشهاب الدين القرافي، وتقي الدين بن دقيق العيد، وشمس الدين الأصفهاني وغيرهم، وأتقن قراءة المعقولات وحج وزار، ولما عاد من المشرق وقدم لقضاء بلده قفصة حسد وسلق بألسنة حداد، وطرأت (¬186) عليه غصائص وقدّم لقضاء الجزيرة القبلية، ثم عزل وأخمل ذكره وناوأه القاضي أبو اسحاق بن عبد الرفيع فلم يتركه يخرج رأسه طرفة عين حتى لقد منعه الجلوس للوعظ بجامع القصر الأعلى وقال له: إن دخلته كسرت رجليك، فكان ابن راشد يقول: أتمنى أن أجلس أنا وهو للمناظرة حتى يظهر الحق ومن هو المقدم في العلم، وله تصانيف منها «تلخيص المحصول» و «نخبة الراحل في شرح الحاصل» و «الفائق في الأحكام والوثائق» في ثمانية أجزاء و «الشهاب الثاقب في شرح ابن الحاجب» في ثمانية أجزاء و «المذهب في ضبط مسائل المذهب» في ستة أسفار و «تحفة اللبيب في اختصار ابن الخطيب» في أربعة أسفار و «المذاهب السّنية في علم العربية» و «المرتبة العليا في تعبير الرؤيا». قال الشّيخ ابن عرفة: حضرت جنازته بعد أن جلس الفقيه [ابن] (¬187) الحباب بالجبانة مستندا إلى حائط في جبانة أخرى، وكان بالأخرى مستندا إلى ذلك الحائط الشّيخان القاضي ابن عبد السلام والمفتي / ابن هارون، فأخذ [ابن] الحباب في الثناء على ابن راشد، وذكر من فضائله وعلمه ما دعاه الحال إلى أن قال: ويكفي من فضله أنه أول من شرح «جامع الأمهات» (¬188) لابن الحاجب، وجاء هؤلاء السرّاق - وأشار إلى ¬

(¬184) النقل مستمر من تاريخ الدولتين ص: 73. (¬185) 3 فيفري 1336 م. (¬186) من تاريخ الدولتين: «وجرت». (¬187) ساقطة من الأصول. (¬188) هو كتاب من الفقه المالكي ويقال له ابن الحاجب الفرعي تمييزا له عن تأليفه في الأصول الذي يقال له ابن الحاجب الأصولي أو الأصلي.

وفاة الفقيه عبد الله ابن البراء التنوخي

الجالسين خلفه - فعمد كل واحد إلى أن وضع شرحا عليه، وأخذ من كلامه ما لولاه لما علم أين يمور (¬189) ولا أين يجيء. وفاة الفقيه عبد الله ابن البراء التنوخي: وفي التاسع (¬190) والعشرين لجمادى الأخيرة من سنة سبع وثلاثين وسبعمائة (¬191) توفي بتونس الفقيه المؤرخ أبو محمد عبد الله بن محمد بن أبي القاسم بن علي بن البراء التّنّوخي، كان اماما بجامع الزّيتونة، وخطيبا بجامع القصبة، عدلا ذا سمت حسن، له عناية بالتّاريخ والرّواية، اختصر «ذيل (¬192) السمعاني»، واقتضب «تاريخ الغرناطي» (¬193)، وألف تاريخه على طريقة الطّبري مرتبا على السبق من سيد البعثة المحمّدية إلى زمنه، أجاد فيه، وتجزئته في ستة أسفار (¬194). وفي سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة (¬195) فتح القائد ابن الكماد قشتيل جربة واستخلصه من أيدي النّصارى بعد أن حاصره أعظم محاصرة. وفاة الشّيخ علي بن منتصر الصدفي: وفي ليلة الخميس الخامس لجمادى الأولى من سنة اثنتين وأربعين (¬196)، توفي الشّيخ الصّالح الإمام أبو الحسن علي بن منتصر الصّدفي، ودفن بجبل الزلاج (¬197)، كان من أهل العلم والصّلاح لا يبالي بذي سلطان لسلطانه، ولا تأخذه في الحق لومة لائم، كتب للقاضي ابن عبد السلام: يا محمد ليت أمك لم تلدك، وليت اذ ولدتك لم تتكلم، ¬

(¬189) في تاريخ الدولتين: «يمر» ص: 74. (¬190) في الأصول: «السابع» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 74. (¬191) 2 فيفري 1337 م. (¬192) ذيل تاريخ بغداد لأبي سعد عبد الكريم السّمعاني. (¬193) المشرق في علماء المغرب والمشرق لأحمد بن محمد الغرناطي نزيل تونس (ت سنة 692/ 1293 م). (¬194) لابن البراء التنوخي ترجمة في «تراجم المؤلفين» لمحمد محفوظ 1/ 251. (¬195) 1337 - 1338 م. (¬196) 1341 - 1342 م. (¬197) في الأصول: «الجلاز».

وفاة الشيخ أبي حيان

وليت اذ تكلمت لم تتعلم، ورأى يوما / مكسا فأخذ قرطاسا وكتب فيه: من أكل طعاما من مكس ينظر عاقبة أمره، وطوى الكتاب ووجهه إلى الخليفة، فلما نظر فيه قال: ما هذا؟ فأخبر، فقطعه (¬198)، وكذلك أخبر بامرأة رومية وقعت في الجانب العلي، ورام بعض الأمراء عصمتها فكتب للخليفة: أخبروني فإن أردتم عز الاسلام فأعزوه، وإلاّ ارتحلنا من بينكم، فإن مثل هذا الواقع وحماية من فعله ردّة، قال الشّيخ البطرني: فوجه الخليفة للقاضي ابن عبد السلام وقال له: ما قمت ولا قعدت لو أنك نفذت الحكم الشرعي ما سمعت أنا مثل هذا، ثم أمر بالمرأة فرفعت للقاضي، وتمّ الحكم عليها، وقدمه ابن عبد الرفيع للشهادة عدلا بتونس، فكان لا يأخذ أجرا على شهادته، ويأخذ الصّدقة والزكاة، وحكى الشّيخ ابن عرفة عنه أنه قال: يجلس كل يوم الخضر - عليه السلام - بالمقصورة الشرقية من جامع الزّيتونة من أوّل آذان الظهر إلى أن يكثر الناس فيخرج يشير إلى أنه رأى الخضر مرارا. وفاة الشّيخ أبي حيان: وفي شهر صفر من السنة المذكورة (¬199) توفي بالقاهرة الشّيخ الإمام الحافظ النحوي المفسر أثير الدين أبو حيّان (¬200) محمد بن يوسف بن علي بن حيّان الأندلسي، كان إماما عارفا بالتفسير والعربية، انتقل من الأندلس لمصر واستوطنها، وأخذ الناس عنه فأفاد واستفاد، وتمذهب بمذهب (¬201) الشّافعي، وصنّف تصانيف في علوم شتى أربت على خمسين / تصنيفا (¬202)، منها «البحر المحيط» (¬203) في تفسير القرآن الذي اختصر الصفاقسي والسمين اعرابه (¬204) وكان جيد الشعر والنثر فمن شعره: ¬

(¬198) «فأمر بقطعه» تاريخ الدولتين. (¬199) أي سنة 742 والذين ترجموا له ذكروا أنه توفي سنة 745، والمؤلف حذف خبرا وقع سنة 745 ثم نقل ترجمة أبي حيان بدون تنبه إلى ما في كلمة السنة المذكورة من الإشتباه. (¬200) في تاريخ الدولتين ص: 77: «أبو يحيى». (¬201) بعد أن كان ظاهريا إلاّ أنه لبث ظاهريا في الباطن يعظم امام المذهب داود الظاهري كلما مست المناسبة كما نراه في تفسيره. (¬202) وله ديوان شعر مطبوع. (¬203) في 8 مجلدات كبيرة وهو مطبوع. (¬204) وأبو حيان كان يقول عن نفسه أبو حيّات يقصد تلامذته، وكان يستهزئ بالفضلاء من أهل القاهرة، =

[طويل] عداتي لهم فضل علي ومنّة ... فلا أذهب الرحمان عني الأعاديا هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا وفي شهر ربيع الأول من عام سبعة وأربعين وسبعمائة (¬205) كتب صداق الحرة عزّونة بنت السّلطان أبي بكر على سلطان المغرب أبي الحسن المريني، عوضا عن أختها فاطمة التي كان صاهره عليها وكانت توفّيت في غزوة طريف من بلاد الأندلس التي أشرنا اليها في دولة بني مرين، وكان صداق عزّونة خمسة عشر ألف دينار ذهبا ومائتي خادم، وتوجّهت إلى المغرب في البر في شهر جمادى الثانية من العام المذكور، صحبة أخيها شقيقها الأمير الفضل، وبسبب المصاهرة اعتضد الأمير أبو بكر، وقهر أعداءه من بني زيّان ملوك تلمسان وغيرهم. وفي ليلة الأربعاء الثانية من رجب من سنة سبع وأربعين وسبعمائة (¬206) توفي السّلطان أبو بكر بتونس، فبلغ عمره خمسا وخمسين سنة إلاّ شهرا، ودفن في روضة جدّه الشّيخ أبي محمد عبد الواحد بالقصبة، ومدّة خلافته من حين ولي في المرة الأولى تسع وعشرون سنة وعشرة أشهر وخمسة / وعشرون يوما، وفي أيامه يرحى كل يوم أربعة آلاف قفيز قوت الناس، وهو كناية عن قوة عمارة مدينة تونس وسعة رزقها تلك الأيام (¬207). ¬

= ويحتملونه لحقوق اشتغالهم عليه، (كذا في تتمة المختصر لابن الوردي) وقد ترجم لأبي حيان من كتب عن أهل القرن 8 ومن كتب عن طبقات المفسرين وطبقات اللغويين: فله ترجمة في بغية الوعاة للسيوطي 1/ 280، البلغة في تاريخ أئمة اللغة للفيروزابادي صاحب القاموس (ت.817) ص: 203 - 204، تتمة المختصر في أخبار البشر لابن الوردي 2/ 482 - 483، الدرر الكامنة 5/ 70 - 72، طبقات الشافعية للاستوى 1/ 456 - 457، ذيل العبر للحميني 243 - 244، طبقات المفسرين للماوردي 2/ 286 - 291، طبقات النحاة واللغويين لابن قاضي شهبة (ت.851) 289 - 291، نكث الهميان في نكث العميان لصلاح الدين الصفدي تلميذ أبي حيان وترجم له لأنه؟؟؟ قبل وفاته بفترة، ص: 280 - 286. (¬205) جوان - جويلية 1346. (¬206) 19 أكتوبر 1346 م. (¬207) أخبار دولة السّلطان أبي بكر يحيى وما ذكر من تراجم في الأثناء نقلها المؤلف باختصار يسير من تاريخ الدولتين ص: 66 - 79.

أبو حفص عمر بن أبي بكر والتنافس بين الحفصيين

أبو حفص عمر بن أبي بكر والتنافس بين الحفصيين: ثم تولى بعده ولده الأمير أبو حفص عمر، بويع له بالخلافة يوم الأربعاء الثاني لرجب الفرد من عام سبعة وأربعين وسبعمائة، وذلك أنه لما مات والده بادر بملك القصر وضبط أبوابه، وبعث للقاضي ابن عبد السلام وقاضي الأنكحة الأجمي (¬208) فقال لهما: تبايعاني؟ فقالا له: نحن شهدنا في بيعة أخيك أحمد صاحب قفصة، فاعطنا شهادتنا نقطعها، فنشهد (¬209) حينئذ في بيعتك، قال الشّيخ ابن عرفة: فخاض بعض الناس في بعض وهم جلوس في القبّة الكبرى، فأمر الشّيخ ابن تافراجين أن لا يخرج أحد من القبة، وفسخ المجلس بقول القاضيين: نحن نمشي نشتغل بمؤونة دفن السّلطان وحينئذ نجتمع، واستدعى وجوه الموحدين وبعض وجوه البلد، وأخرج لهم الأمير عمر، فبايعوه، فما شعر القاضيان ومن معهما حتى سمعوا جلبة الطبول والبوقات، فقيل ما هذا؟ قيل قد بايع الناس الأمير واستدعى القاضيين ومن معهما فرأوا تمام القضية لوقوع البيعة وانعقادها من الجم الغفير فكتبت (¬210) وثيقة بعقد البيعة للأمير عمر لاختيار العامّة والخاصّة له عن ولي العهد، وهذا من حسن سياسة ابن تافراجين، وكان الأمير خالد نجل السّلطان / أبي بكر برياض رأس الطّابية، وكان قدم من بلد المهدية زائرا فبلغه الخبر ليلا، فخرج فارّا بنفسه في نفر قليل من خدّامه، فتبعه من العرب أولاد منديل والكعبيون (¬211) مظهرين أنهم في خدمته، فلما أصبح قبضوا عليه، وجاؤوا به إلى أخيه أبي حفص فاعتقله، واستقام له الملك، وتلقّب بالنّاصر، ولما بلغ الخبر للأمير أبي العباس أحمد صاحب قفصة موت والده وتولية أخيه بادر بمن التفّ عليه من العرب إلى تونس ولقيه أخوه أبو فارس عبد العزيز صاحب عمل سوسة بالقيروان، فأتاه طاعته وصار في جملته، وجمع السّلطان أبو حفص جموعه، وخرج في غرة شعبان بمحلته من تونس ومعه حاجبه الشّيخ أبو محمد بن تافراجين منذر منه بالهلكة، فعمل في أسباب النجاة، ولما تراءى الجمعان رجع الحاجب إلى تونس في بعض الشغل، وركب لاجئا (¬212) إلى ¬

(¬208) في الأصول: «الأحسن» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 80. (¬209) في ش: «فشهدا». (¬210) في الأصول: «فكتبا». (¬211) في تاريخ الدولتين: «كعوب». (¬212) في تاريخ الدولتين: «ناجيا».

المغرب على (¬213) قسنطينة، فبلغ أبا حفص خبر سفر الحاجب فاختل مصافه وذهب إلى باجة، وتخلّف عنه العسكر ولحقوا بأخيه أبي العباس (¬214). وسار أبو العباس بجيوشه فملك تونس، وبويع بها يوم السبت التاسع لرمضان من السنة، ونزل برياض رأس الطابية، وتلقب «بالمعتمد على الله» وأطلق أخاه خالدا من اعتقاله، ودخل إلى قصره لسبع ليال من ملكه، ثم إن أبا حفص رحل من باجة، وأصبح على تونس (¬215) يوم السبت / سادس [عشر] (¬216) شهر رمضان، وفرّق خيله ورجله على أبواب المدينة، وكسّرت الأقفال، وفتحت الأبواب، وقامت معه العامة، فلم يحصل وقت الضحى إلاّ وقد استولى على المدينة، وقتل أخاه الأمير أحمد، ونصب رأسه على قناة، وقتل أيضا أخويه خالدا وعبد العزيز بعد أن قطع يديهما، وقتل في ذلك اليوم في المدينة والرّبض نيّفا وثمانين رجلا من العرب الواصلين صحبة أخيه الأمير أحمد، فكانت دولة أخيه أحمد بتونس سبعة أيام، واستوثق الأمر أبو حفص عمر، وملك الحضرة. ثم بلغ الأمير أبا الحسن المريني أن الأمير عمر قتل أخاه أبا العباس أحمد ولي العهد وأخويه، وكان أحمد يستظهر على عهده بكتاب أبيه وما أودعه السّلطان أبو الحسن المريني بطرته من الوفاق على ذلك بخطه لما اقتضاه منه حاجبه أبو القاسم بن عبّو في سفارته إليه، فتمغص السّلطان أبو الحسن من ذلك، وامتعض ورأى أن الأمير أبا حفص ارتكب مذهب العقوق في أخوته، فأجمع أبو الحسن الحركة على افريقية، وقوي عزمه على ذلك قدوم الحاجب ابن تافراجين، فلما انقضى عيد الأضحى من سنة سبع وأربعين وسبعمائة عقد لابنه أبي عنان على المغرب الأوسط تلمسان وأحوازها، وتحرّك هو لافريقية - حسبما مر مفصلا - ووفد عليه أبناء حمزة بن عمر بن أبي الليل يستصرخونه بثأر أخيهم أبي الهول الذي قتله أبو حفص فيمن قتل، ونزل عليه أهل القاصية / من افريقية بطاعتهم في وفد واحد، وابن مكّي صاحب قابس، وابن يملول صاحب توزر، وابن العابد صاحب قفصة، والشّيخ مولاهم ابن أبي عنان صاحب الحامة (¬217) وابن ¬

(¬213) في تاريخ الدولتين: «من عمل قسنطينة» ص: 81. (¬214) عن دولة السّلطان عمر بن أبي بكر، أنظر تاريخ الدولتين ص: 79 - 81 ومنه نقل المؤلف مع حذف واختصار. (¬215) في الأصول: «وصبح تونس»، والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 81. (¬216) اضافة من تاريخ الدولتين. (¬217) في الأصول: «الجريد» والتصويب من تاريخ الدولتين الذي ينقل عنه المؤلف ص: 82.

الخلف صاحب نفطة، فلقوه بوهران، وأتوه بيعتهم رغبة ورهبة، وأدوا بيعة ابن ثابت صاحب طرابلس، ولم يتخلف عنهم إلاّ لبعد داره، ثم جاء على أثرهم صاحب الزّاب يوسف بن منصور (¬218) ومعه مشيخة الذواودة وكبيرهم يعقوب بن علي فلقوه بأرض بجاية، فأوسع لكل تكرمة، وعقد لكل منهم على بلده وعمله، وبعث مع أهل الجريد حاميته للجباية والحماية لنظر مسعود بن ابراهيم (¬219) من وزرائه، ولما قدم لبجاية خرج له أميرها عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكرياء، فأتاه طاعته، فصرفه إلى المغرب مع إخوته، وقدم على بجاية، وسار لقسنطينة، فخرج إليه بنو الأمير أبي عبد الله محمد ابن الأمير أبي بكر يقدمهم كبيرهم الأمير أبو زيد، فأتوه طاعتهم، فقبل منهم وصرفهم إلى المغرب وأنزلهم بوجدة وأقطعهم جبايتها، وأنزل قسنطينة أمراءه وعمّاله، وأطلق المعتقلين بها من المغاربة، وورد عليه هنالك بنو حمزة بن عمر ومشايخ قومهم الكعوب وأخبروه بفرار الأمير أبي حفص من تونس مع أولاد مهلهل، واستحثوه لاعتراضهم قبل فوتهم (¬220)، فوجه السّلطان أبو الحسن في طلبه وزيره حمّو (¬221) في محلة كبيرة، وبعث [معه] (¬222) أولاد أبي الليل، وسرّح عسكرا إلى تونس لنظر يحيى بن سليمان / من بني عسكر، ومعه أحمد بن مكّي، فسار حمّو ومن معه حتى أدركوا السّلطان أبا حفص ومن معه بأرض الحامّة من جهات قابس بموضع يسمّى المباركة بقرب جبل السّباع فصبحوهم، فدافعوا عن أنفسهم بعض الدّفاع، ثم انفضّوا، فقبض على السّلطان أبي حفص وعلى مولاه ظافر، وسيقا إلى الأمير حمّو، فاعتقلهما إلى الليل، فذبحهما وبعث برأسيهما إلى السّلطان أبي الحسن [المريني] فأدركه بباجة، وخلص الملأ إلى قابس، فقبض عبد الملك بن مكّي كبارا من رجال الدّولة منهم أبو القاسم ابن عبّو وصخر بن موسى وعلي بن منصور وغيرهم، فبعث بهم ابن مكّي إلى السّلطان أبي الحسن، فقطعهم من خلاف. وكان مقتل السّلطان أبي حفص يوم الأربعاء سابع عشر جمادى الأولى من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة (¬223) فكانت ولايته بتونس عشرة أشهر وخمسة وعشرين يوما، منها سبعة أيام لأخيه أحمد كما تقدم. ¬

(¬218) «ابن مزني»: تاريخ الدولتين. (¬219) «اليرساوي»: تاريخ الدولتين. (¬220) في تاريخ الدولتين: «قبل التحاقهم بالقفر». (¬221) حمو العشري: تاريخ الدولتين ص: 83. (¬222) اكمال من تاريخ الدولتين. (¬223) 25 أوت 1347 م.

عود إلى ذكر تملك أبي الحسن المريني تونس وأعمالها وما وقع له بها

عود إلى ذكر تملك أبي الحسن المريني تونس وأعمالها وما وقع له بها: وملك تونس وأعمالها أبو الحسن المريني، ودخل تونس ثامن جمادى الآخرة من السنة المذكورة، ودخل معه ابن تافراجين، وأعطاه فرسه مسرّجا ملجّما، ودخل معه حجر القصر ومساكن الخلفاء، فطاف عليها، ودخل من القصبة إلى الرياض المتصلة (¬224) برأس الطّابية، فطاف على بستانه، وخرج منه إلى عسكره، وأنزل يحيى ابن سليمان بقصبة تونس بعسكره لحمايتها، ثم صرف للبلاد المغربية ولاتها، ورحل بعد مدة إلى القيروان، فزار من بها من الصّالحين / والعلماء، ثم إلى سوسة والمهدية ووقف على آثار ملوك الشّيعة وصنهاجة، ومرّ بقصر الجم ورباط المنستير، وانكفأ راجعا إلى تونس، فحلّ بها غرة رمضان من العام المذكور، ولما استوثق له ملك افريقية منع العرب من البلاد التي ملكوها بالإقطاعات، فوجسوا لذلك وتربّصوا به الدوائر وأغاروا بعض الأيام في ضواحي تونس، فاستاقوا (¬225) الظهر الذي كان للسّلطان في مراعيها، وتوقّعوا بأسه ووفد عليه أيام الفطر خالد بن حمزة وأخوه أحمد من أولاد أبي اللّيل، وخليفة بن عبد الله بن مسكين، وخليفة بن أبي زيد بن حكيم، وساءت ظنونهم في السّلطان، فداخلوا عبد الواحد بن اللّحياني في الخروج على السّلطان، فقبض أربعتهم لما بلغه الخبر، وأحضرهم مع عبد الواحد فأنكروا وبهتوا، ثم وبّخهم واعتقلهم، فبلغ الخبر إلى أحيائهم وانطلقوا يحزّبون الأحزاب، وينظرون فيمن يقيم الملك، وكان أولاد مهلهل أمثالهم (¬226) وعديلة حملهم، قد أيأسهم السّلطان من القبول لما بالغوا في نصيحة أبي حفص، فلحقوا (¬227) بالقفر، ودخلوا الرّمل، فركب قتيبة (¬228) بن حمزة وأمه ومعهم صغار (¬229) منادين لأولاد مهلهل بالعصبيّة، فأجابوهم، واجتمعوا بقسطيلية (¬230)، وتواهبوا الدماء وتوامروا فيمن ينصبوه للأمر، وكان بتوزر أحمد بن عثمان بن أبي دبّوس آخر خلفاء بني عبد المؤمن وكان خيّاطا، فجاءوا به ونصبوه للأمر، وبايعوه على الموت، ¬

(¬224) في الأصول: «المتصل» وبعدها من تاريخ الدولتين «المدعوة برأس الطابية». (¬225) كذا في ط وتاريخ الدولتين، وفي ش: «استقاموا». (¬226) في تاريخ الدولتين: «اقتالهم» ولعل الصواب: أقيالهم. (¬227) كذا في ش وتاريخ الدولتين، وفي ط: «فلجوا». (¬228) في الأصول: «فتية»، والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 84. (¬229) في تاريخ الدولتين: «ظعائن ابنائهما». (¬230) في الأصول: «قسنطينة» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 84.

وزحف إليهم السّلطان أبو الحسن، فالتقوا / قرب القيروان، فغلبهم وأجفلوا أمامه، ثم رجعوا مستميتين في ثاني محرم سنة تسع وأربعين وسبعمائة (¬231)، وتواقفوا، واختل مصاف السّلطان، ونهبت محلّته بكل ما فيها، وكان جيشه يزيد على ثلاثين ألف فارس، ونجا السّلطان بنفسه في شرذمة قليلة، فتحصّن بالقيروان، وأخذوا بمخنقه، وكان الشّيخ ابن تافراجين وجد السّلطان أبا الحسن لم يجره على مألوفه كما كان مع السّلطان أبي بكر لقيام هذا على أمره، فكان في قلبه مرض منه، وكان العرب يفاوضونه بذلك (¬232)، فلما أحاط العرب بالسّلطان تحيّل ابن تافراجين في الخروج عليه، فبعثه السّلطان يتحدث مع العرب في الطّاعة، فخرج إليهم فقلدوه حجابة سلطانهم أحمد بن أبي دبّوس ودفعوه لمحاربة من بقصبة تونس ونصب المجانيق عليها فلم تغن شيئا، فجعل يحاول نجاة نفسه لاضطراب الأمور إلى أن بلغه خلوص السّلطان من القيروان إلى سوسة، وكان السّلطان داخل أولاد مهلهل وحكيما في الصّلح على أموال اشترطها لهم، فاختلف رأي العرب لذلك، ودخل إليه قتيبة (¬233) بن حمزة مكانه بالقيروان زعما بالطّاعة فقبله، وأطلق أخويه خالدا وأحمد، ولم يثق بهم، ثم دخل إليه محمّد بن طالب من أولاد مهلهل وجماعته فأسرى معهم إلى سوسة بعسكره فصبحها، وركب منها في البحر لتونس، وسبق الخبر إلى ابن تافراجين فتسلّل عن أصحابه وركب البحر إلى الإسكندرية في ربيع [الآخر] / فأصبحوا وقد فقدوه، فاضطربوا وأجفلوا عن تونس، ولما دخل السّلطان لتونس من البحر في ربيع الآخر أصلح أسوارها وأدار الخندق بها، ولحق أولاد أبي اللّيل وسلطانهم أحمد بن عثمان الدّبوسي بتونس ونازلوها والسّلطان بها، فامتنعت عليهم، وخلص (¬234) للسّلطان أولاد مهلهل، فلما أحس بهم أولاد أبي اللّيل أتوا إليه ودخل عليه كبيرهم عمر وافدا عليه في شعبان من السنة، فحبسه إلى أن يقبضوا على سلطانهم أحمد ابن عثمان الدّبوسي، فقبضوا عليه وقادوه إلى السّلطان أبي الحسن استبلاغا في الطّاعة، فقبل ذلك منهم، وأودع سلطانهم المذكور السّجن إلى أن لحق المغرب، ولحق هو بالأندلس، فأقام السّلطان أبو الحسن بتونس، ووفد عليه أحمد بن مكّي، فعقد ¬

(¬231) 2 أفريل 1348 م. (¬232) في تاريخ الدولتين: «يفاوضونه بذات صدورهم من الخلاف والاجلاب» ص: 84. (¬233) في الأصول: «فتية». (¬234) في تاريخ الدولتين: «وخلصت ولاية أولاد مهلهل للسّلطان. فلما أحس بهم أولاد أبي الليل رجعوا إلى مهادنته» ص: 85.

لعبد الواحد اللّحياني على الثغور الشّرقية وطرابلس وقابس وصفاقس وجربة، وسرّحه مع ابن مكي، فهلك عبد الواحد عند وصوله في الطّاعون الجارف، وعقد لابن عبّو على قسطيلية (¬235) وسرّحه إليها، وعقد السّلطان أبو الحسن لابنه أبي الفضل على ابنة عمر بن حمزة. ولما وقع على السّلطان أبي الحسن في (¬236) القيروان ما وقع هرب بنو مرين مشاة بالمرقعات إلى المغرب فقدموا على ولده الأمير أبي عنان، وشاع الخبر أن أباه أبا الحسن توفي على القيروان، وكتب بذلك رسم شهادة (¬237) فيه خلق كثير من الواصلين من بني مرين، فدعا أبو عنان لنفسه فبويع بتلمسان، ثم خرج لفاس / بعد أن استعمل على تلمسان عثمان بن يحيى - كما تقدم - فعند انفصال أبي عنان دعا لنفسه وعاد ملك بني عبد الواد (¬238) لتلمسان، ولما قدمت الطّائفة التي كانت (¬239) مع أبي الحسن بافريقية بعد وقوع الهزيمة عليه قدموا ومعهم عثمان بن عبد الرّحمان بن يحيى بن يغمراسن، وجعلوه خليفة على تلمسان، فاستأمن عند وصولهم عثمان بن يحيى خائفا على نفسه من عثمان بن عبد الرّحمان فأمّنه، ثم أودعه المطبق إلى أن مات، وكان السّلطان أول قدومه من تلمسان أخرج صاحب بجاية وصاحب قسنطينة - حسبما أسلفنا - وصرفهم للمغرب، وأبقى الأمير الفضل ببلدة بونة لما غلب (¬240) على ظنه من عافيته وتقدمت معرفته به بمصاهرته بأخته، فلما وقعت الواقعة على أبي الحسن على القيروان كاتب الأمير الفضل أهل قسنطينة، ثم قدمها وحاصرها، فدخلها صبيحة يوم الجمعة غرّة محرم فاتح سنة تسع وأربعين وسبعمائة (¬241)، وقصد القصبة فأغلقت في وجهه وعمّرت أسوارها، فقصد جامع البلد وصلّى فيه الجمعة، ولم يصل فيه خليفة حفصي قبله، ثم بعث لأهل القصبة بالأمان ففتحوا له فدخلها عصر ذلك اليوم، واحتوى الفضل على أموال كثيرة في القصبة، وهي مما أتت به الوفود من الهدايا لأبي الحسن، وما ¬

(¬235) في الأصول: «قسنطينة» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 85. (¬236) في الأصول: «علي». (¬237) في تاريخ الدولتين: «شهد فيه». (¬238) كذا في ط وتاريخ الدولتين، وفي ش: «عبد الواحد». (¬239) في الأصول: «ولما قدم الطائفة التي كانوا» وظاهر السياق أن هذه الطائفة من بني عبد الواد. (¬240) في الأصول: «غولب». (¬241) 1 أفريل 1348 م.

كان بالقصبة من المجابي، فأقام بها ثلاثة أشهر (¬242)، ثم تحرّك إلى بجاية فأخذها بقيام أهلها على بني مرين، وارتفع له بذلك صيت، وعزم على الرّحيل / إلى الحضرة والسّلطان أبو الحسن مقيم بها. ولما تبيّن للأمير أبي عنان حياة أبيه خاف من عقوبته فأرسل صاحب بجاية وصاحب قسنطينة لبلديهما ليعظم الأمر على أبيه وليكونوا حائلين بينه وبين بلاده (¬243)، وربط معهم في ذلك ربطا فرجع كل لبلده، ورجعت البلدان لأربابها، وتوجّه الفضل من بجاية لبونة في البحر بعد أن أخذ بيده (¬244) وسيق للأمير أبي عبد الله الداخل عليه ببجاية، فعفا عنه ووجهه إلى بلاده بونة (¬245)، وذلك بشوال من سنة تسع وأربعين وسبعمائة (¬246)، فوجد بعض قرابته قد ثار ببونة، ولم يتم لهم ذلك، فدخل إلى قصره واستقلت (¬247) الثغور الغربية بأربابها وأمرائها. وفي السنة المذكورة توفي بتونس الشّيخ أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عمر المعافري المعروف بابن الحباب، كان ابن عرفة يثني عليه بتحصيل العلم وتحقيقه (¬248) - وهو أحد أشياخه وشيخ ابن عبد السلام أيضا - قال ابن عرفة: ولما مات ابن الحباب حضرت جنازته فكنت سادس ستة، وكان توفي ذلك اليوم السّكوني (¬249) فضاق الفجاج بالازدحام على نعشه لأن منزلة ابن الحباب عند العامّة لا تكون بذلك. وفي سنة خمسين وسبعمائة (¬250)، انتفض (¬251) العرب على السّلطان أبي الحسن، واستقدموا السّلطان الفضل ابن السّلطان أبي بكر من بونة لطلب حقّه واسترجاع ملك ¬

(¬242) في الأصول: «ثلاثة أيام» والتصويب من تاريخ الدولتين الذي ينقل عنه المؤلف ص: 86. (¬243) في الأصول: «بينه وبينه» والتصويب من تاريخ الدولتين. (¬244) في الأصول: «ما بيده». (¬245) في البحر. (¬246) ديسمبر - جانفي 1248 - 1249 م. (¬247) في الأصول: «استقامت». (¬248) قال الأبي في اكمال المعلم (شرح صحيح مسلم) 4/ 308 «ابن الحباب هذا لم يكن عارفا بالفقه وإنما كان إماما في العقليات». وله ترجمة في كتاب تراجم المؤلفين التونسيين 2/ 84 - 87. (¬249) لعله من أسرة السكوني الاشبيلية المشهورة بالعلم، نزحت إلى تونس بعد سقوط اشبيلية بيد الاسبان وانتهاء الحكم الاسلامي بها وكان نزوحها حوالي منتصف القرن السابع. (¬250) 1349 - 1350 م. (¬251) كذا في ط وتاريخ الدولتين، وفي ش: «ابتغض».

الفضل بن أبي بكر

آبائه، فأجابهم ووصل إليهم آخر السّنة المذكورة فنازلوا تونس، ثم أفرجوا / عنها آخر الصّيف، واستدعي أبا القاسم بن عبّو صاحب الجريد من توزر فدخل في طاعة الفضل وحمل أهل الجريد على الطّاعة وانتقضت افريقية على السّلطان أبي الحسن من أطرافها، فلما رأى الأحوال تغيّرت بافريقية خرج من تونس في البحر - كما تقدم - في دولة بني مرين. الفضل بن أبي بكر: ولما خرج أبو الحسن (¬252) ولحقه ولده الفضل (¬253) قدم الأمير أبو العباس الفضل بن أبي بكر من الجريد مع العرب وبويع في التاسع والعشرين لذي القعدة (¬254) سنة خمسين وسبعمائة (¬255) واستولى على القصبة يوم منى من الشهر المذكور، وتغلب العرب على دولته، ثم وصل الخبر أن الشّيخ أبا محمد بن تافراجين وعمر بن حمزة اللّيلي قدما من الحج، فخرج السّلطان للقائهما، فأخذ وسلب من معه من أهل تونس، ودخل به ابن تافراجين مأخوذا في الثامن عشر لجمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة (¬256) فجميع دولته (¬257) خمسة أشهر وسبعة عشر يوما (¬258). أبو اسحاق ابراهيم بن أبي بكر وابن تافراجين: ولما دخل ابن تافراجين بالفضل (¬259) على تلك الحالة ورأى الأمور اختلت ومات أكثر أولاد السّلطان أبي بكر حدثته نفسه بأن يطلب الملك لنفسه، فمنعه القاضي عمر بن ¬

(¬252) عن حلول السّلطان أبي الحسن المريني بتونس، وما وقع له من أحداث انظر: تاريخ الدولتين ص: 82 - 90 ونقل المؤلف باختصار. (¬253) في الأصول: «أبو الفضل». (¬254) في الأصول: «غرة حجة» والتصويب من تاريخ الدولتين الذي ينقل عنه المؤلف ص: 91 وبرونشفيك. 1/ 171، (La Berberie ... Brunschvig). (¬255) 8 فيفري 1350 م. (¬256) 24 جويلية 1350 م. (¬257) أي الفضل. (¬258) عن السّلطان الفضل بن أبي بكر، أنظر تاريخ الدولتين ص: 90 - 92. (¬259) ساقطة من ش.

حركة أبي عنان المريني في اتجاه تونس

عبد الرفيع (¬260) فمن ثم طلب المولى ابراهيم ابن السّلطان أبي بكر أخا (¬261) الفضل، وبايعه في اليوم المذكور، وكان يوم بيعته صغير السن مناهز البلوغ، فاستخرجه ابن تافراجين من داره بعد أن بذل لأمه من العهود ما أرضاها (¬262)، وجاء به إلى القصر وأقعده على كرسي الخلافة، وهو السّلطان أبو اسحاق ابراهيم ابن السّلطان / أبي بكر، فعقد له البيعة، فبايعه النّاس خاصة وعامة، وكان ذلك في الحادي عشر لجمادى الأولى سنة احدى وخمسين وسبعمائة (¬263)، ودخل بنو كعب فأتوه طاعتهم، وسيق إليه أخوه الفضل فاعتقله، وغطّ ليلا بحبسه حتى فاضت روحه، وخوطب العمال في الجهات، فأخذوا البيعة في قبلهم، ووقف ابن تافراجين بين يدي الأمير المولى السّلطان أبي اسحاق ابراهيم، ومهّد أموره وأحكم دولته، ولقب «بالمستنصر بالله»، وتغلّب ابن تافراجين على دولته مستبدا بتدبير الملك، واستخلص البلاد من أيدي العرب بأحسن الوجوه، فاستجبى المجابي المخزنية. حركة أبي عنان المريني في اتجاه تونس: ولما كان آخر شعبان من سنة ثمان وخمسين وسبعمائة (¬264) قدم السّلطان أبو عنان فارس المريني وهو يسوق الدّنيا (¬265)، فاستولى على البلاد حتى انتهى إلى قسنطينة، فلما فتحها بعث رسله إلى أبي محمد بن تافراجين في الأخذ بطاعته والنزول عن تونس، وقدم أسطوله في البحر أوائل رمضان (¬266)، فجاهر (¬267) من نزل منهم إلى البر بالمنكر في رمضان وفيما بعده، ولما طلب النزول عن تونس ردّهم ابن تافراجين، وأخرج سلطانه أبا اسحاق ¬

(¬260) محاولة ابن تافراجين في طلب الملك لنفسه ومنع القاضي ابن عبد الرفيع له خبر انفرد به المؤلف ولم نجد له ذكرا في تاريخ ابن خلدون وتاريخ الدولتين والفارسية في مبادئ الدولة الحفصية. (¬261) في الأصول: «أخو الفضل». (¬262) في الأصول: «رضيها». (¬263) 17 جويلية 1350 م. (¬264) 17 أوت 1357 م، عن هذه الأحداث أنظر تاريخ الدولتين ص: 92 - 93. (¬265) في ط: «يسوس». (¬266) استولت عساكر بني مرين على تونس في شهر رمضان المعظم من سنة ثمان وخمسين: تاريخ الدولتين ص: 97، وانظر تاريخ ابن خلدون 13/ 618. (¬267) هذا لم يذكره أحد من المؤرخين السابقين في سياق الكلام عن حملة أبي عنان المريني على تونس.

عود إلى ذكر أبي اسحاق ابراهيم وابن تافراجين

ابراهيم مع أولاد أبي اللّيل بعد أن جهّز له عسكرا وما يحتاجه من آلات الحرب، وأقام هو بتونس، وأجمع أبو عنان على النهوض إليه، ووفد إليه أولاد أبي اللّيل يستحثّونه لذلك، فأرسل إلى تونس مع الأسطول - المقدّم / الذكر - جيشا مع أولاد مهلهل فملكوا البلد المدافعة، فخرج ابن تافراجين إلى المهديّة، واستولت عساكر بني مرين على تونس في شهر رمضان. ومكث السّلطان أبو اسحاق ابراهيم الحفصي بالجريد مع خالد بن حمزة (¬268) وعياله وثقيلته بالمهدية مع الشّيخ ابن تافراجين. ثم ارتحل أبو عنان من قسنطينة لتونس، فلما انتهى إلى فحص تبسّة تحدّث رجال بني مرين في الرّجوع عن سلطانهم أبي عنان، حذرا من أن يصيبهم بإفريقية ما كان أصابهم من قبل مع أبي الحسن والد أبي عنان - مما تقدم - فانفضّوا متسلّلين إلى المغرب ولما خفّ المعسكر من أهله نادى من بقي من الجند: الغرب الغرب، فقال أبو عنان: ما هذا؟ فأخبر بتسلّل الجند، فأمر بالرجوع إلى المغرب، ولما وصل إلى فاس عاقب أكثر المتسللين لامتناعهم من السّير معه لتونس، وثقف نحو مائة شيخ من شيوخهم وقتل وزيره، وكان أبو عنان أرسل مع الجيش المسير لتونس الفقيه المحدّث الخطيب ابن مرزوق برسم خطبة ابنة السّلطان أبي بكر، فوقف الفقيه على والدتها، فقالت له: غدا إن شاء الله يكون الحديث بمحضر القاضي وغيره، فرجع إليها من الغد، فاختفت عنه ولم يجدها، فجدّ السّلطان في طلبها فلم يقف لها على أثر، وإنما امتنعت البنت لأنها قالت: بلغني أن فيه خلقا يمنع عشرته، ولما رجع لفاس / ثقف الفقيه ستة أشهر، وقال: لم قصّرت في خطبتها؟ عود إلى ذكر أبي اسحاق ابراهيم وابن تافراجين: ثم إن ابن تافراجين لما تحقق رجوع أبي عنان إلى المغرب قدم من المهدية، وخرج بنو مرين من تونس، وكانت مدة غيبته سبعين يوما، وأقبل السّلطان ابراهيم من الجريد إلى حضرته فدخل في رابع الحجة من السنة المذكورة. ¬

(¬268) في الأصول: «يحيى» والتصويب من تاريخ الدولتين الذي ينقل عنه المؤلف، ص: 97.

وفاة ابن تافراجين

وفاة ابن تافراجين: وفي هذه السنة (¬277) توفي الشّيخ الحاجب أبو محمد عبد الله بن تافراجين بتونس ودفن بمدرسته (¬278) بقنطرة ابن ساكن (¬279)، داخل باب السويقة، وكان في حياته سار في أهل تونس بالرفق، وساس الأعراب وأعظم جبايته من سفار البحر، وكانت له مواصلة بالمهدية مع السّلطان أبي عنان حتى فسدت بإباية ابنة المولى الخليفة أبي بكر من قبول خطبته - حسبما مر - ولما مات ابن تافراجين استبد السّلطان بملكه وأقام سلطانه لنفسه. وفاة القاضي أبي القاسم بن سلمون البياسي: وفي الثالث عشر لجمادى الأولى سنة سبع وستين وسبعمائة (¬280) توفي قاضي الجماعة بغرناطة الفقيه الموثق أبو القاسم بن سلمون بن علي بن عبد الله الكناني البيّاسي (¬281) الأصل، الغرناطي المولد والمنشأ، صاحب التأليف في الأحكام المسمى «بالعقد المنظّم للحكام فيما يجري بين أيديهم من الوثائق والأحكام» (¬282). وفاة أبي اسحاق ابراهيم: وتوفي السّلطان أبو اسحاق ابراهيم ثاني رجب سنة سبعين وسبعمائة (¬283) فجأة بليل بعد أن قضى وطرا من محادثة السّمر وغلبه النّوم من آخر الليل فنام ولما أيقظه الخادم وجده قد مات، فكانت مدّة خلافته بتونس ثمانية عشر عاما وعشرة أشهر ونصف (¬284). ¬

(¬277) رجع إلى النقل من تاريخ الدولتين ص: 101 وما بعدها. (¬278) وهذه المدرسة هي الآن دار سكنى. (¬279) قرب حوانيت عاشور (اتحاف أهل الزمان 1/ 179) وقنطرة ابن ساكن هي الآن ساباط سيدي ابراهيم الرياحي، والرأي عندنا أن المدرسة والدار كانت تربطان دار الطربيق القديم وتصلان بطحاء خير الدين حيث يوجد مسجد ابن تافراجين تعليق (1) للمرحوم عثمان الكعّاك على الأدلّة البينة النورانية لابن الشماع ص: 435. (¬280) 26 جانفي 1366 م. (¬281) في الأصول: «اليابسي» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 103. (¬282) عن ابن سلمون مراجعة الديباج ونيل الابتهاج وغيره. (¬283) 11 فيفري 1369. (¬284) عن دولة السّلطان ابراهيم بن أبي بكر وما وقع فيها من الأحداث كمنازلة السّلطان أبي عنان المريني لتونس، نقل المؤلف ما في تاريخ الدولتين ص: 92 - 104 باختصار.

أبو البقاء خالد

أبو البقاء خالد: فبويع بعده لولده أبي البقاء / خالد بتونس صبيحة موت أبيه، أخذ له البيعة عن الناس مولاه منصور وعتيقه من العلوج وحاجبه أحمد بن ابراهيم المالقي، فاستبد به، فلم يكن له حكم عليهما. وفي رابع ذي الحجة من سنة احدى وسبعين وسبعمائة (¬285)، توفي الشّيخ الشريف أبو عبد الله محمد بن أحمد الحسيني شارح جمل الخونجي بتلمسان، وكان إماما ذا عقل وذهن ثابت ثاقب، قال الشّيخ ابن عرفة: رأيته لما قدم تونس فرأيت منه علما تامّا ومعرفة (¬286). ثم إن ابن المالقي ومنصورا سارا في النّاس سيرة غير مرضية فاختلّت أحوال افريقية، وكان أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله محمّد ابن السّلطان أبي بكر ببجاية، فذهب إليه شيوخ عرب افريقية فحضّوه على الوصول إلى افريقية فسار معهم في جنده حتى وصل تونس فقاتل من بها أيّاما ثم دخل تونس يوم السبت ثاني عشر ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة (¬287)، وخرج خالد فارا من باب الجزيرة في جماعة من خدامه، فأخذوا من يومهم، فكان جميع دولة السّلطان سنة وتسعة أشهر، ثم بعث أبو العباس أحمد خالدا إلى قسنطينة في البحر فغرق (¬288). أبو العباس أحمد ونزول النصارى بالمهدية: وبويع للسّلطان أبي العباس أحمد بتونس يوم السبت الثامن عشر لشهر ربيع الثاني من سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة (¬289)، فسكن ما تزلزل من تونس، وقوّم ما اعوج، وقطع أنواع الفساد على البلاد والعباد. وفي السنة المذكورة / قدّم الشّيخ الفقيه الإمام أبو عبد الله محمد بن عرفة الورغمي إماما بجامع الزيتونة، وفي السنة التي بعدها قدّم للفتوى (¬290). ¬

(¬285) 29 جوان 1370 م. (¬286) عن الشريف التلمساني، يراجع الديباج. (¬287) 3 نوفمبر 1370 م. (¬288) عن دولة خالد بن ابراهيم انظر تاريخ الدولتين ص: 104 - 106، فقد نقل المؤلف ما فيه باختصار. (¬289) 9 نوفمبر 1370 م. (¬290) للفتوى بجامع الزيتونة لا الفتوى بالمحكمة الشرعية.

ولما مهّد السّلطان أحمد البلاد، وتمكن ملكه بتونس انتزع ما بأيدي العرب من الأمصار فأهمّهم ذلك، وتنكّر منصور بن حمزة شيخ [بني] (¬291) كعب وأولاد أبي اللّيل، فنزع يده من الطّاعة، وتابعه، على الخروج من طاعة السّلطان أبو صعنونة أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسكين شيخ حكيم، وارتحل إلى الذواودة صريخا بالأمير أبي يحيى زكرياء ابن المولى السّلطان أبي يحيى، فبايعوه ورحل معهم إلى تونس، ولقي منصور بن حمزة بمن معه فبايعوه، وأوفدوا مشيختهم على يحيى بن يملول يستحثونة للطّاعة فبايعوا له، وبعث السّلطان أخاه زكرياء بعسكر فالتقوا فانهزم عسكره، ونزل العرب على تونس بسلطانهم، ونمي إلى السّلطان أن حاجبه أبا عبد الله محمد بن أبي محمد ابن تافراجين داخل العرب في أخذ تونس، فقبض عليه وأشخصه في البحر إلى قسنطينة، فلم يزل بها معتقلا إلى أن هلك، ثم أن العرب عاودوا الطاعة إلى السّلطان أحمد ونبذوا طاعة سلطانهم. وفي سنة خمس وسبعين وسبعمائة (¬292)، تولى الملك بفاس أبو العباس أحمد ابن الأمير أبي سالم المريني، فقبض على أبي عبد الله ابن الخطيب الأندلسي لما كان أوصاه ابن الأحمر (صاحب الأندلس، فأودعه السجن، ثم قدم رسول (¬293) ابن الأحمر) (¬294) يهنّيه بالملك، فقتل ابن الخطيب / بمحبسه خنقا. وكان ابن الخطيب كاتبا بليغا أديبا مؤرخا جيد النظم عارفا بالنجوم (¬295) وأحكامها، سمعت بعض الشيوخ يحكي أن من نظمه في اليوم الذي قتل فيه: [منسرح] قف كي ترى مغرب شمس الضّحى ... بين صلاة العصر والمغرب واسترحم الله قتيلا بها ... كان وحيد العصر في المغرب وفي سنة احدى وثمانين وسبعمائة (¬296)، تولّى قضاء الجماعة بتونس الفقيه أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن البلوي القطّان من أهل سوسة بعد ما كان الشّيخ ابن عرفة دلّهم عليه، فقال السّلطان: «ما تأتي بقاض من القرى حتى تكون تونس قد خلت ممّن يصلح»، وولّوا ذلك محمد بن خلف النّفطي، لكن ما قضاه الله يكون. {وَاللهُ} ¬

(¬291) اتمام من تاريخ الدولتين ص: 107. (¬292) 1373 - 1374 م. (¬293) في ش: «رسل». (¬294) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬295) في تاريخ الدولتين: «النجامة». (¬296) 1379 - 1380 م.

{غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (¬297). وفي السنة المذكورة توفي الشّيخ الفقيه الخطيب أبو عبد الله محمد بن أبي أحمد بن مرزوق (¬298) بالقاهرة ودفن بين ابن القاسم وأشهب وقد ناهز السبعين. وفي ثاني عشر صفر من سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة (¬299) توفي الشّيخ الفقيه الحافظ المفتي أبو محمد عبد الله البلوي الشبيبي (¬300) القروي (¬301)، ودفن بدار الشّيخ أبي محمد عبد الله بن أبي زيد بازاء قبره داخل مدينة القيروان. وفي سنة خمس وثمانين وسبعمائة (¬302)، توفي قاضي الجماعة ابن القطان. وفي سنة سبع وثمانين (¬303) تولى أبو مهدي عيسى الغبريني (¬304) تلميذ ابن عرفة قاضي الجماعة بتونس. وفي سنة اثنتين وتسعين (¬305) نزل النصارى (¬306) / - دمّرهم الله - على المهدية في مائة قطعة بين مراكب كبيرة (¬307) وأغربة (¬308)، فوجه السّلطان أبو العباس أحمد محلة نزلت قرب البلد قدم عليها ولده المولى أبا فارس عبد العزيز صحبة أخيه المولى زكرياء، فاتفقت للمولى أبي فارس مع النّصارى وقائع منها في يوم نزولهم وقعت بين الفريقين وقعة عظيمة بحيث أسلم المسلمون المحلّة، فدخلها العدو فلم يجد فيها عينا تطرف غير رجل واحد ¬

(¬297) سورة يوسف: 21. (¬298) هو ابن مرزوق الجد المعروف بالخطيب، أشهر علماء عصره له ترجمة واسعة بالديباج وذيله، وابن خلدون. (¬299) 18 ماي 1380. (¬300) شيخ البرزلي وابن ناجي، له ترجمة بذيل الدّيباج. (¬301) يقصد القيرواني. (¬302) 1383 م. (¬303) 1385 م. (¬304) الغبريني نسبة إلى بني غبرين من بربر زواوة كما يفهم من كلام ابن خلدون، والغاء رأيتها مضبوطة الضم والفتح ووفاة أبي مهدي الغبريني عند غير المؤلف في 813 راجع اتحاف أهل الزمان 1/ 83 وشجرة النور الزكية ونيل الإبتهاج. (¬305) 1390 م. (¬306) الفرنسيين والجنويز معا عن هذه الحملة انظر مثلا زيادة عن تاريخ الدولتين برونشفيك (Brunschvig) بلاد البربر ... (La Berberie) ، المرجع السابق 1/ 199 ص: 200. (¬307) في ط: «كثيرة». (¬308) يقال أغربة وغربان ج غراب وهو نوع من المراكب أخذه العرب عن القرطاجيين والرومان. وبقيت إلى عهد الدولة العثمانية وقد سمّي بهذا الإسم لأن مقدمه يشبه رأس الغراب أو الطائر وهذا المركب يسير بالقلع كما كان يسير بعدد من المجاذيف لا يتجاوز 180 مجذافا انظر سعاد ماهر «البحرية في مصر الإسلامية» ص: 359.

أبو فارس عبد العزيز

قتلوه، فبينما هم في سلب الأزواد اذ بالمولى أبي فارس نادى بالمسلمين وجمع القوّاد ومن حضره من الجند وكرّ راجعا تجاه العدو حتى أخذ المحلة من أيديهم قهرا وحميت العرب، وانصرف العدو منهزما، وقتل منهم نحو خمسة وسبعين، وواجه العدو بنفسه، ودفع في صدورهم دفعة شتّتت شملهم، فلم يلتفت إلاّ والعدو قد أحاط به وعلموا أنه ابن الخليفة، ومن عادتهم في الحرب أنّهم اذا أخذوا ملكا أو ابن ملك لا ينزلونه عن فرسه، فمن ثم أخذوا بعنان فرسه وساروا به فألهمه الله تعالى أن خلع عنان فرسه من رأسه وألح الفرس وهمزه فخرج الفرس من بينهم، فرموه بسهام وأسنّة، واتبعوه بخيل وأعنّة وهو لا يلتفت إليهم حتى وصل المسلمين سالما، ثم إن النّصارى اختلفوا فيما بينهم، وأراد الجنوي الغدر بالفرنسيسي، فرحل الفرنسيسي بسفنه، ولما علم الجنوي أنه لا يقدر وحده رحل أيضا، وكفى الله المؤمنين شرهم برد كيدهم / عليهم، فانصرفوا خائبين بعد أن أقاموا (¬309) شهرين ونصف (¬310). وفي يوم الأربعاء ثالث شعبان من سنة ست وتسعين وسبعمائة (¬311)، توفي السّلطان أبو العباس أحمد بتونس ودفن بقصبتها عن سبع وستين سنة، ومدة خلافته بتونس أربعة وعشرين سنة وثلاثة أشهر ونصف (¬312). أبو فارس عبد العزيز: فتولى بعده ولده أبو فارس عبد العزيز، بويع بتونس يوم وفاة والده على رضا من النّاس وألّف بين اخوته واعتضدهم في دولته، وكان والده أغمي عليه وأشرف على الهلاك في غرة شعبان، فاجتمع أولاده وتآمروا في كتم حاله ودسّوا إلى عمهم أبي زكرياء يحيى وهو اذ ذاك ساكن بالرياض الذي صار مدرسة بالحلفاوين من باب السويقة من أخبره أن أخاه المولى الخليفة أصبح في عافية، فجاء برسم عيادته على عادته، فلما دخل القصبة وجد أولاد السّلطان بالقصبة، فظنّ أن أخاه قد توفي، فأراد الرّجوع إلى رياضه، فقام ¬

(¬309) في الأصول: «قدموا». (¬310) في تاريخ الدولتين نقل ذلك عن ابن الخطيب (أي ابن القنفذ القسنطيني) الذي ذكر ذلك في الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية ص: 188. (¬311) 3 جوان 1394 م. (¬312) عن دولة السّلطان أبي العباس أحمد ابن الأمير محمد ابن السّلطان أبي يحيى أبي بكر انظر تاريخ الدولتين ص: 106 - 114 فقد نقل المؤلف ما فيه باختصار.

إليه بعضهم وحلف له ومنعه الخروج حتى يدبروا أمرهم، فقبضوا عليه وأدخلوه لداره بالقصبة واعتقلوه بها، فلما سمع أولاده بالقبض على أبيهم خرجوا من حينهم لأخيهم الأمير أبي عبد الله صاحب بونة، فرجع الأمير أبو فارس، فاجتمع باخوته على أكبرهم أبي بكر وهو ولي عهد أبيهم فقال له: ابن عمنا صاحب بونة جالس بمحلّته على الطريق يستمع الأخبار، فان هو سمع بأخذ / أبيه مشي إلى قسنطينة وأخذها فاختر إما أن تجلس هنا بتونس وأمشي أنا أمنعها، وإلاّ فامش أنت إليها وأجلس أنا هنا بتونس، فرأى أبو بكر أنه لا قدرة له على القيام بتونس، فقال: أنا أمشي إلى قسنطينة، فاجتمع أولاد الخليفة أبي العباس أحمد وكتبوا على اسم أبيهم كتابا بولاية قسنطينة للمولى أبي بكر، فخرج يوم الإثنين من غرّة شعبان إلى قسنطينة فوصلها يوم الخميس رابع يوم خروجه، فخرج البوّاب القائد ابراهيم حتى وقف على الكتاب وتردّد في الجواب، ثم لم يسعه إلاّ دخوله واستقل بتونس أبو فارس، فأخذ بالحزم في أموره وأوقف في كل خطة من يصلح لها، فاستقامت الأمور في أيّامه كلّها أحسن استقامة ثم شرع في إحداث الخيرات بتونس وغيرها فمنها بناؤه لزاوية باب البحر بتونس، وكانت بقعة معدة للمعاصي مجباها للمخزن عشرة آلاف دينار ذهبا في كل سنة، ومنها بناؤه للماجل الذي بمصلّى العيدين من تونس (¬313)، وهو من الأبنية الضخمة التي قلّ أن يبنى مثلها، ومنها بناؤه للزاوية التي خارج باب أبي سعدون بحومة باردو، وجعلها منهلا للوارد من أي أفق كان، يأوي إليها عشية إلى أن ينشأ (¬314) سفره من هناك سحرا، وحبس عليها ما يقوم بها، ومنها بناؤه للزّاوية التي بحومة الدّاموس خارج باب علاوة المعروفة بالشّيخ الصّالح سيدي فتح الله (¬315)، جعلها مأوى لمبيت الواردين من تلك الجهة اذا لم يقدر على الوصول / إلى المدينة، ومنها بناؤه محارس جملة تحوط ثغور المسلمين كمحرس آدار والحمامات وأبي الجعد ورفراف وغير ذلك، ومنها اقامة الخزنة بجوف جامع الزّيتونة، وحبّس ما فيها من الكتب الشّرعية والعربيّة واللّغة والطب والحساب والتاريخ والأدب وغير ذلك، ومنها احداث قراءة البخاري في كل يوم بعد صلاة الظهر بجامع الزّيتونة وكتاب «الشفا» و «الترغيب والترهيب» (¬316) بعد العصر، وأوقف على ذلك وقفا، ومنها احداث المارستان ¬

(¬313) خارج الباب الجديد، تاريخ الدولتين ص: 116. (¬314) في الأصول: «ينشي» وفي تاريخ الدولتين: «يشخص». (¬315) هو فتح الله العجمي. (¬316) للحافظ زكي عبد العظيم المنذري وهو مطبوع.

بتونس للضعفاء والغرباء وذوي العاهات من المسلمين، وأوقف على ذلك أوقافا كثيرة تقوم به، ومنها ما عيّن لأهل الأندلس اعانة لهم على العدو في كل عام ألفا قفيز طعام من عشر وطن وشتاتة سوى ما يتبعها من ادام (¬317) وغير ذلك، ومنها ما ترك من المجابي المخزنية لوجه الله تعالى، فمنها مجبى سوق الرهادرة (¬318)، وكان قدرها ثلاثة آلاف دينار ذهبا في كل عام اذ كان كل من اشترى شيئا من انواع الأمتعة واللباس يغرم نصف عشر الدينار، ومجبى رحبة الماشية وقدرها عشرة آلاف دينار ذهبا (ومجبى فندق الخضرة وقدرها ثلاثة آلاف دينار ذهبا) (¬319) ومجبى سوق العطارين وقدره مائتان (¬320) وخمسون دينارا ذهبا، ومجبى فندق الملح وقدره ألف دينار ذهبا وخمسمائة دينار، ومجبى فندق البياض (¬321) وقدره ألف دينار ذهبا (ومجبى قائد الأشغال وقدره ثلاثة آلاف دينار ذهبا، ومجبى سوق القشّاشين (¬322) وقدره مائة دينار ذهبا) (¬323) ومجبى سوق العزّافين وقدره خمسون دينارا ذهبا، ومجبى الصابون وقدره ستة آلاف، وأبيح عمله للنّاس بعد أن كان عمله محضورا (¬324) / متوعدا فاعله بالعقوبة الماليّة والبدنيّة، وترك ما كان على المنكر من ¬

(¬317) في تاريخ الدولتين: «آدم» ويقصد بها الزيوت. (¬318) الأصح «الرهادنة» كما ورد في رياض النفوس في ترجمة أبي محرز محمد الكناني 1/ 280 «وهم باعة الأمتعة القديمة ولهم أسواقهم وهي متعارفة قديما والرهادنة ج رهدن ورهدون بفتح الراء في الأول وضمها في الثاني. والرهدون في الأصل طائر كالعصفور بمكة ويقال كذلك لأحمق. والرهدون الكذاب، ولعلهم سموا «الرهادنة» لهذا فإنهم يتوسلون إلى رواج سلعهم بالكذب غالبا». ويقال الرهادرة بعد أن عوضت الراء النون. وجاء في معالم الإيمان 2/ 37 - 38 «وسوق الرهادرة عندنا اليوم: أصله للمخزن، وكان خرابا - وكان سوق الرهادرة للرعية الذي هو الآن للشواشين». وجاء في بعض وثائق ملكية في صفاقس «سوق الرهادرة» ويقصد به «سوق الربع» حيث تباع الملابس والأصواف. أنظر أبو بكر عبد الكافي، تاريخ صفاقس 1/ 80 - 81 وفي مكانها في تاريخ الدولتين «سوق الدهانة» وأصلح المحقق بالهامش «رهادنة» ص: 116. (¬319) ما بين القوسين ساقط من ش. (¬320) في الأصول: «مائة» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 117. (¬321) المراد به الفحم، وكأن اللفظة من أسماء الأضداد أو للتفاؤل، في اللهجة الدارجة يستعمل «البياض» بمعنى «الفحم» إلى الآن. وفيما يتعلق باسقاط مجابي هذه الأسواق راجع تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب لعبد الله الترجمان، لأنه أول من ذكر ذلك ونقل عنه من جاء بعده كصاحب تاريخ الدولتين وابن أبي دينار في المؤنس. (¬322) باعة القش، الأشياء القديمة، ما يعبر عنه الآن بالخردة. (¬323) ما بين القوسين ساقط من ش. (¬324) في الأصول: «محدورا» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 117.

خراج كالشرطة (¬325)، كان غير واحد من المكاسين (¬326) التزمها بثلاثة دنانير ونصف دينار ذهبا في كل يوم، وكذلك كان على المقامرين (¬327) وظائف قطعها، وقطع موضع اجتماعهم، وكذلك على العزافين (¬328) والمغنيات (¬329)، وكذلك قطع ما كان على المخنثين وأجلاهم من جميع بلاده لما بلغه عنهم من عمل المناكر، فقطع جميع المجابي لوجه الله تعالى. ثم إن المولى أبا بكر لما دخل قسنطينة وبعد عشرة أيام من دخوله، جمع النّاس وطلبهم بيعته لما بلغه وفاة والده فبايعوه، وبعد مبايعته لازم داره في لذّاته مقتصرا على راحته فظهرت كلمة العرب، وفتحوا باب الطّمع والطلب، وزيّن لهم الكاتب أحمد بن الكمّاد كل نوع من أنواع الفساد، ثم توجه أحمد بن الكماد مع بعض الأعراب لصاحب بونة الأمير أبي عبد الله محمد ابن المولى أبي يحيى زكرياء وحضه على المبادرة إلى ملك قسنطينة فجمع الأمير أبو عبد الله أجناده وأهل وطنه ونزل قسنطينة سادس قعدة من سنة ست وتسعين وسبعمائة (¬330)، ومنع الواصل والدّاخل، وقطع الأشجار ورمى بالحجارة، واقتصر أهل البلد على مدافعته من الأسوار، فأقام عليها خمسة وسبعين يوما، ثم ارتحل يئسا منها، وعاد في السّنة الثانية إليها، فخرّب المنازل وأهلك الزّرع والمناهل، فتحرك إليه أبو فارس والتقى الجمعان في رمضان من سنة سبع وتسعين وسبعمائة (¬331) /، فهزمه أبو فارس من تبسّة (¬332) [الكائنة] بأرض الحنانشة عند أصل وادي مجردة إلى سيبوس هزيمة شنيعة فرّ فيها الأمير أبو عبد الله بنفسه على فرسه حتى دخل بونة مع من لحقه فظنوا اقامته فارتقب يوم وصوله الظّلام، وركب البحر من غير وداع أهله ولا سلام، وقصد فاس ¬

(¬325) «يبدو في تحفة الأريب بأنه أداء لحاكم المدينة. . .» ص: 117. (¬326) في تاريخ الدولتين: «المساكين». (¬327) في مكانها في تاريخ الدولتين: «الفخارين». (¬328) في تاريخ الدولتين «الزفافين» وشرح الشّيخ ماضور ذلك بقوله «صوابه الزفانين وأصله من الزفن وهو الرقص» وفي حديث لعب الأحباش في العيد عند مسلم «أنهم كانوا يزفنون أي يرقصون وينقزون» وبقيت هذه المادة مستعملة إلى عهد قريب لا سيما بالساحل فيقولون الطبّال والزكار ومن معهما من رقاصة الزنوج «زفانة» ولا شك أنهم المقصودون هنا كما أن المقصود بالغانيات «المغنيات». (¬329) في ط: «غنايات» وفي تاريخ الدولتين: «الغانيات» والمقصود هو «المغنيات». (¬330) 2 سبتمبر 1394 م. (¬331) جوان - جويلية 1395 م. (¬332) في الأصول: «تبرسق» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 118.

مستصرخا بصاحبها، ودخل أبو فارس بونة، وأمن أهلها ومن وجد بها عن خدمة الأمير أبي عبد الله وخدمة أبيه، ثم قدم أبو بكر من قسنطينة، فسلّم عليه أبو فارس، ورحّب به، وعند وداعه اعتذر إليه بالعجز فقبل منه، وكتب أبو بكر خلع نفسه بيده في عشرين من رمضان من السنة المذكورة. وفي السنة المذكورة بعث أهل قسنطينة إلى أبي فارس يستغيثونه من أخيه أبي بكر فجيش، وسار إلى صفاقس قاصدا صاحبها أخاه عمر، وكان والده تركه عاملا بها، فنزل بها أبو فارس، وحاصرها إلى أن تحدث معه أهلها، فدخلوا على الأمير عمر الحمّام، فقبضوا عليه وأتوا به إلى السّلطان أبي فارس، فملك البلد، وقدّم عليها عاملا من قبله، وقفل راجعا بمحلته إلى أن قرب من تونس، فجدّد حركة منها إلى قسنطينة، فحين أشرف عليها أظهر أخوه أبو بكر عصيانا وامتناعا من اللقاء مع تيقن الأمان، والمدبّر لذلك كاتبه، فنزلها أبو فارس خامس عشر شعبان من سنة ثمان وتسعين وسبعمائة (¬333)، وقرر ما عنده / من الخير لأخيه وشافهه من شاطئ الهواء (¬334) بكلام دل على تصافيه، ودام الحصار مدة تزيد على عشرين يوما واسم أبي فارس لم يزل يذكر في قسنطينة على المنابر، ولم تتفق هذه القضية لمحاصر قبل هذا، وفعل أبو فارس ما لا يفعله محاصر من حفظ الجنّات والزّروع ودفع المضرّات عن جميع جهات البلد، ولما طال أمر الحصار نادى بعض من في السّور الفرار، وتوجّهت الإغاثة في ذلك، وانتظمت الكلمة من هنالك، ودخل بعض النّاس من سور الحبشية، ودخل السّلطان ومن تبعه من باب الحمّة ليلة الأحد ثامن عشر رمضان سنة ثمانمائة (¬335)، وقبض على أخيه أبي بكر، وقتل كاتبه، وأقام أبو فارس نحو شهر حتى مهّد البلاد ثم رجع إلى تونس آخر شوال ورجع بأخويه أبي بكر وعمر معه. وفي سنة اثنتين وثمانمائة (¬336) خرج السّلطان واسترجع توزر من ابن يملول، ثم استرجع قفصة، وقبض على بني العابد شيوخها، وأمر بتخريب سورها، وعفا عن أهلها. وفي أول سنة ثلاث وثمانمائة (¬337) تحرّك السّلطان إلى طرابلس، فحاصرها طويلا ثم فتحها سادس رجب من السّنة المذكورة (¬338). ¬

(¬333) 24 ماي 1396 م. (¬334) في الأصول: «الهوى». (¬335) 4 جوان 1398 م. (¬336) 1399 - 1400 م. (¬337) أوت 1400 م. (¬338) 20 فيفري 1401 م.

ترجمة الشيخ ابن عرفة

ترجمة الشّيخ ابن عرفة: وفي الرابع والعشرين لجمادى الآخرة من السنة المذكورة (¬339) توفي الشّيخ الحجة ابن عرفة، ودفن بجبل الزّلاّج (¬340) وجملة عمره سبعة وثمانون عاما وأشهر، ولذا قال في أبيات له خمّسها في حياته تلميذه الإمام الأبي (¬341). / [متقارب] علمت العلوم وعلّمتها ... ونلت الرئاسة بل حزتها وهاك سنيني عددتها (¬342) ... بلغت الثمانين بل جزتها فهان على النفس صعب الحمام فلم يبق لي في البقاء (¬343) رغبة ... ولا في العلا والنّهى بغية وكيف أرجّى (¬344) [ولو] (¬345) لحظة ... وآحاد عصري مضوا جملة وعادوا خيالا كطيف المنام ونادى الردى بي ولا لي مغيث ... وحثّ المطية كلّ الحثيث وإني لراج وحبي أثيث ... وأرجو بها نيل صدق الحديث بحب اللقاء وكره المقام فيا رب حقّق رجاء الذليل ... ليحضى بدارك عما قليل فيمسي رجائي بموتي كفيل ... وكانت حياتي بلطف جميل لسبق دعاء أبي في المقام وكان - رحمه الله تعالى - إماما في العلوم العقليّة والنقليّة، صنّف في أكثرها، والغالب على كلامه شدة الإيجاز حتى التحق بالألغاز، واشتغل آخر عمره بالفقه على مذهب مالك، وكان كثير الإعتناء بالمدوّنة ملازما لنظرها محتجبا بها، قرأ القرآن العظيم ¬

(¬339) في الأصول: «السابع والعشرين» والتصويب من تاريخ الدولتين، 9 فيفري 1401 م. (¬340) في الأصول: «الجلاز». (¬341) في الأصول: «الرملي»، ولا يعرف من لقبه الرملي من تلامذة ابن عرفة، والمخمس هو الإمام الأبي. (¬342) في الأصول: «أعددها». (¬343) في تاريخ الدولتين: «الورى». (¬344) في تاريخ الدولتين: «أرجو». (¬345) ساقطة من الأصول.

حركة أبي فارس عبد العزيز داخل افريقية والمغرب

في صغره على ابن سلامة من طريق الدّاني وابن شريح، وقرأ أصول الفقه على ابن علوان (¬346)، وأصول الدّين على ابن سلامة وابن عبد السلام، والمعقول على الشّيخ الآبلي، وكان يثني عليه بخير هو والشريف التلمساني، وكان مجدا في الأمور الدّينية / والدنيوية، ولي امامة جامع الزيتونة، وابتدأ تصنيف المختصر الفقهي سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة (¬347)، وكمّله سنة ست وثمانين (¬348)، ومختصره المنطقي آية كبرى لم يتصد لشرحه ابتكارا غير الإمام أبي عبد الله سيدي محمد السنوسي التلمساني - رحمه الله - وحج سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة (¬349)، وكان كثير الصّوم والتّلاوة لكتاب الله، وكان مسعودا حتى في دنياه، موسعا عليه فيها مالا وجاها ونفوذ كلمة لمصادقة هذا السّلطان السعيد أبي فارس وأبيه - رحمهما الله تعالى -، ولما توفي تولى بعده الصّلاة بالجامع والخطبة والامامة والفتيا به بعد صلاة الجمعة نائبه الفقيه القاضي الغبريني (¬350). حركة أبي فارس عبد العزيز داخل افريقية والمغرب: وفي سنة أربع وثمانمائة (¬351) تحرّك السّلطان إلى بسكرة، فأقام ببئر الكاهنة مدّة حتى دبّر أمره، ثم ارتحل اليها وضاق أمر شيخها أحمد بن يوسف [ابن] (¬352) مزني، ولم يبق غير الفرار والتّسليم، فدخل السّلطان بسكرة يوم السبت سابع جمادى الآخرة من السّنة المذكورة، فأقام بها مدّة وانصرف إلى حضرته، ورفع معه أحمد بن يوسف، وقدم على البلد قائدا من قوّاده بعد أن مضت لبني مزني بها المشيخة المستقلة نحو مائة وأربعين سنة، منها لأحمد هذا أربعون سنة (¬353). وفي سنة سبع وثمانمائة (¬354) تحرّك السّلطان من تونس إلى غدامس. ¬

(¬346) في الأصول: «ابن غلبون» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 121. (¬347) 1370 - 1371 م. (¬348) 1384 م. (¬349) 1390 م. (¬350) تاريخ الدولتين ص: 121 - 122. (¬351) 1401 - 1402 م. (¬352) في الأصول: «يوسف المزني» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 122. (¬353) تاريخ الدولتين ص: 122. (¬354) 1404 - 1405 م.

وفي السّنة المذكورة توفي ببونة الفقيه الشهير / أبو عبد الله محمد المرّاكشي (¬355) المشهور بالضّرير، كان جيّد النّظم والنّثر. وفي سنة ثمان وثمانمائة (¬356) توفي أبو زيد عبد الرحمان بن محمّد بن محمّد الشّهير «بابن خلدون» عن تسع وسبعين سنة دون شهر، وهو أستاذ العلاّمة بدر الدين الدماميني. وفي ليلة الجمعة الثاني عشر لربيع الأول سنة تسع وثمانمائة (¬357) توفي قاضي قسنطينة أبو العباس أحمد بن الخطيب (¬358) شارح رسالة ابن أبي زيد وجمل الخونجي وغيرهما. وفي سنة عشر وثمانمائة (¬359) خرج السّلطان أبو فارس من تونس بمحلّته للقاء الأمير أبي عبد الله محمّد ابن عمه المولى أبي يحيى زكرياء، وذلك أنه لما هزم الهزيمة الشنعاء سنة سبع وتسعين وسبعمائة (¬360) - حسبما مر تفصيلها - ركب - كما تقدم - من بونة بلده وقصد فاس مستصرخا صاحبها على السّلطان أبي فارس، فلما وقع على السّلطان وقعة عين الغدر (¬361) بين الحامّة ونفزاوة، فكاد السّلطان يتلف فيها لولا أن الله سلّم، وذلك كله من العرب (¬362) حكيم ومن شايعهم، فثبّته الله بعد الإشراف على السّقوط، وراجع فيها المرابط بن أبي صعنونة الأعراب للطاعة، وهربت منهم طائفة إلى صاحب فاس مستصرخين على أبي فارس، فبعث معهم الأمير أبا عبد الله محمّد (¬363) - المقدم الذكر - في جيش عظيم من جيوش بني مرين، وأمرهم أن لا يرجعوا إلى بلادهم إلاّ باذن أبي عبد الله محمّد حين لا تبقى له بهم حاجة. / فجاؤوا معه إلى أن وصلوا إلى اطراف عمالة بجاية، فوفد على الأمير أبي عبد الله هنالك عرب افريقية وأتوه طاعتهم، ووفد عليه شيخ حكيم، وهوّن عليه أمر افريقية، فلما رأى الأمير أبو عبد الله وفود العرب عليه وكثرتهم، أمر جيش بني مرين بالإنصراف فانصرفوا، وسار مع العرب فلقيه القائد ¬

(¬355) في الوفيات لابن قنفد القسنطيني، تصحيح وتعليق هنري بيريس (ط. مصر) ص: 63 أنه توفي سنة 807 وابن قنفد أعرف بأخبار بني وطنه من غيره، وراجع نيل الابتهاج. (¬356) 1405 - 1406 م. (¬357) 27 أوت 1406 م. (¬358) المعروف بابن قنفد أيضا، وهو من الأعلام المكثرين من التآليف، ألّف في الفقه والفلك والتاريخ. (¬359) 1407 - 1408 م. (¬360) 1394 - 1395 م. (¬361) في الأصول: «القدر» والمثبت من تاريخ الدولتين ص: 123. (¬362) في تاريخ الدولتين: «عرب». (¬363) كذا في ط وتاريخ الدولتين، وفي ش: «أبا محمد عبد الله».

أبو النّصر ظافر بمحلّته، لأن السّلطان أبا فارس لما بلغه مجيء هذه الجيوش مع الأمير أبي عبد الله خشي على بجاية، فعقد عليها لأخيه زكرياء صاحب بونة فصرفه إليها، وصرف عنها القائد ظافر - المقدّم الذكر - فأمره بالخروج بالمحلّة للقاء الأمير أبي عبد الله محمّد، فالتقى الجمعان، فهزم أبو عبد الله محمّد القائد ظافرا وأخذ محلّته بجميع ما فيها، ثم سار الأمير أبو عبد الله لبجاية، فقام أهلها على الأمير زكرياء وأخرجوه منها، ففرّ في البحر، وملك الأمير أبو عبد الله بجاية، وعقد عليها لولده محمّد المنصور، وسار للقاء السّلطان أبي فارس، وسار أبو فارس بمن معه من العرب فمر ببجاية فأخذها بمداخلة بعض أهلها بعد أن قاتلها أيّاما وانبعثت أيدي العيث في ديار أهلها فانتهبت، وقبض أبو فارس على الأمير محمد المنصور وعلى كبار البلد كالاشبيليين، فبعث بهم إلى الحضرة فاعتقلوا بها، وعقد على بجاية لصاحبها، كان المولى أبي العباس أحمد ابن أخيه (¬364) المولى / أبي عبد الله خرج من بجاية للقاء أبي عبد الله محمّد، فلما التقى الجمعان تحوّل شيخ العرب المرابط ابن أبي صعنونة شيخ حكيم عن الأمير أبي عبد الله محمّد وتركه لعهد كان بينه وبين السّلطان على ذلك، فانهزم من كان مع الأمير أبي عبد الله محمّد، وفرّ هو بنفسه طالبا نجاته فلحقه خيل السّلطان بموضع يقال له بتيتة (¬365) جوفي بلد تامغزة فقتلوه ودفنت جثته هنالك، واحتزّ رأسه وأتي به إلى السّلطان أبي فارس، فبعث به رجلا من رجال الطّريق إلى مدينة فاس فعلّقه ليلا بباب المحروق بها فأصبح أهل فاس يتوارونه، وكان قتله أول محرم سنة اثنتي عشرة وثمانمائة (¬366). وفي سنة ثلاث عشرة (¬367) أخذ السّلطان الجزائر صلحا من أهلها. وفي يوم السبت السابع والعشرين لربيع الثاني من السنة المذكورة (¬368) توفي قاضي الجماعة الخطيب المدرس عيسى الغبريني، ودفن بالزلاج، وقدّم عوضه أبو يوسف يعقوب الزّغبي وقدّم لامامة الجامع والفتوى به الحافظ أبو القاسم البرزلي. وفي سنة سبع عشرة وثمانمائة (¬369) توفي أبو عبد الله محمّد بن خلف (¬370) ألأبي بضم ¬

(¬364) في الأصول: «بن أخي». (¬365) في ش: «تبسة» وفي ط: «سبيبة» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 124. (¬366) 16 ماي 1409 م. (¬367) 1410 - 1411 م. (¬368) 29 أوت 1410 م. (¬369) الصحيح أن الأبي توفي سنة 828. (¬370) ابن خلفة بكسر المعجمة وفتحها ثم لام ساكنة ثم بعدها فاء، نيل الإبتهاج ص: 287 نقلا عن الحافظ ابن حجر، البدر الطالع للشوكاني 2/ 169.

نزول النصارى بقرقنة

الهمزة نسبة لأبّة (¬371) قرية من قرى تونس مؤلف «اكمال المعلم في شرح مسلم» (¬372) في ثلاث (¬373) مجلدات ضخمة، وشرح المدوّنة، سكن تونس، وتوفي بها - رحمه الله تعالى -. وفي عام سبعة وعشرين وثمانمائة (¬374) / افتتح السّلطان أبو فارس تلمسان المرّة الأولى من يد صاحبها عبد الواحد بن حمّو الزّياني لما بلغه أن سيرته غير مرضيّة، ونهاه فلم ينته وفرّ هاربا بعد كسر ولده عند خروجه بمحلة لملاقاة السّلطان أبي فارس، ودخل أبو فارس تلمسان، واستقر بها في قصبتها، واستولى على جميع ما فيها ثالث عشر جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وثمانمائة (¬375)، ثم قلدها الأمير محمد ابن السّلطان أبي تاشفين بن أبي حمّو الزّياني، فعقد له عليها، ثم ارتحل قاصدا مدينة فاس حتى لم يبق بينه وبينها إلاّ مسيرة يومين، فوجّه له صاحبها أن البلاد بلدكم والسّلطنة لكم وجميع ما تأمرنا به نمتثله، فقبل أبو فارس كلامه ووجّه له هديّة عظيمة، فكافأه عليها بأكثر منها وقفل راجعا إلى تونس غانما منصورا ولحقته بيعة فاس ثم صاحب الأندلس، فصارت افريقية والغرب الأقصى والأوسط كلها تحت نظره وفي ملكه. نزول النصارى بقرقنة: وفي سنة سبع وعشرين المذكورة بعث سلطان النّصارى القطلاني (¬376) رسولا من قبله إلى حضرة تونس برسم التحدّث في الصّلح، فوجد الرسول السّلطان أبا فارس بالمغرب، فبعث له الغراب وقال: «ارجع فورا، فرجع في الغراب، فوجه عمارة عددها خمسون جفنا (¬377)، وقصدوا قرقنة ونزلوها ليلا على حين غفلة من أهلها والنّصارى نحو عشرة آلاف مقاتل / والمسلمون نحو الألفين ما بين رجال ونساء وأولاد، ولا ¬

(¬371) وأبة في اللغة القرطاجنية بمعنى السّوق. (¬372) اكمال المعلم للقاضي عياض، وتأليف الأبي اسمه «اكمال اكمال المعلم». (¬373) وهو مطبوع في سبع مجلدات ضخمة. (¬374) 14 ماي 1424 م. (¬375) 13 ماي 1424 م. (¬376) هو الفونس الخامس (Alphonse V) ملك أرغون (Aragon) وكانت بينه وبين أبي فارس وقائع، انظر عن هذه العلاقات برنشفيك، (La Berberie) المصدر السابق 1/ 230 الذي اعتمد فيها على مراجع غربية. (¬377) جمعها 1/ 201، Dozy - Supplements ، على جفان أو جفون، وجمعها ابن بطوطة على أجفان، وهي سفينة حربية بطيئة الحركة انظر عنها سعاد ماهر «البحرية في مصر الاسلامية» ص: 336.

حركة أبي فارس عبد العزيز بمالطة والمغرب الأوسط

حصن بالجزيرة يتحصّنون به، فوقفوا وقاتلوا عن (¬378) أنفسهم وحريمهم، فقتلوا من النّصارى نحو أربعمائة، واستشهد من المسلمين نحو المائتين، وأسّر باقيهم، واستولى العدو على ما في الجزيرة، وكان السّلطان قد انصرف إلى المغرب، فلما وصل إلى قفصة بلغه خبر العمارة، فجدّ في السّير إلى أن اتفق وصوله ووصول النّصارى لصفاقس فطلبوا من السّلطان الأمان لينزلوا ويتحدّثوا في فدية المسلمين، فأعطاهم الأمان ونزل منهم نحو ستمائة نفس من كبارهم، فأعطاهم السّلطان خمسين ألف دينار فدية فأبوا، فأتى المرابط بن أبي صعنونة للسّلطان وقال له: «النّصارى خانوك فانهم بعثوا رسلهم للصّلح، وفعلوا ما فعلوا وليس لخائن أمان، فالرأي الصّواب عندي القبض على هؤلاء حتى يردوا المسلمين فأبى ذلك، وقال: لا، [لئلا] (¬379) يتحدث الناس (¬380) أني خائن نعطي الأمان ونخون نعوذ بالله من ذلك، فقال له المرابط: إذا لم تفعلها أنت نفعلها أنا، تمشي أنت تتصيد وأنا نأخذهم في غيبتك، فنهاه وطلعوا لأجفانهم على الأمان، وسافروا بالمسلمين لبلدهم، ولكن بعد ذلك افتداهم كما افتدى أكثر أسارى المسلمين من أيدي الكافرين لأنه التزم فداء جميع من يرد لمرسى تونس من الأسارى من بيت المال مدّة حياته، وأوصى تجّار النّصارى من جميع أجناسهم / أن يأتوه بكل من يقدرون عليه من أسارى المسلمين، وعيّن لهم في كل شاب منهم من ستين دينارا إلى سبعين، وفي كل شيخ وكهل من الأربعين إلى الخمسين، فما مضت مدّة يسيرة حتى جاء تجّارهم بعدد كثير من الأسارى ففداهم جميعا من بيت المال، وما زال يفعل ذلك مدّة حياته، ثم أوقف أوقافا كثيرة معتبرة، وحفظ مجابيها، وكلّما يتحصل من المجابي يشتري بها ربعا برّانيا ودخلانيا بحضرة تونس أعدّه لفداء الأسارى بعد وفاته». حركة أبي فارس عبد العزيز بمالطة والمغرب الأوسط: وفي سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة (¬381) عمّر من تونس أسطولا كبيرا وبعث معه مملوكه القائد رضوان أميرا عليه، وأمره أن يسافر به إلى جزيرة مالطة - دمّرها الله - وينازلها ثلاثة أيام فإن تيسر أخذها وإلاّ رحل عنها، فلما وصلها ضيّق عليها أشدّ الحصار، ثم أقلع عنها بعد أن أشرف على أخذها. ¬

(¬378) في ش: «على». (¬379) ساقطة من الأصول. (¬380) كذا في ط وتاريخ الدولتين، وفي ش: «يتحدث الناس بي». (¬381) 1428 - 1429 م.

نزول النصارى بجربة ومواجهة أبي فارس لهم

وفي حدود السنة المذكورة بعث السّلطان أبو فارس عسكرا صحبة قائد قسنطينة القائد «جاء الخير» إلى تلمسان لما بلغه عن صاحبها الأمير محمد ابن السّلطان أبي تاشفين من العتو والإستبداد، وقطع اسم السّلطان من الكتب والخطبة، وبعث معه السّلطان أبو محمد عبد الواحد الذي كان صاحبها، وكان قدم تونس بعد فراره بين يديه حين ملك تلمسان، فلما وصلوا وخرج الأمير محمد بجيشه، والتقى الجمعان فهزمهم، فسار أبو محمد عبد الواحد إلى الجبال، واستصرخ أعداءها، فأتى بها إلى تلمسان فملكها. / وبعث بيعتها للسّلطان بتونس وخرج ابن أبي تاشفين فارا بنفسه إلى الجبال. ثم رجع (¬382) ودخل على [عمه] (¬383) أبي محمّد عبد الواحد فقتله وملك تلمسان، فسار السّلطان أبو فارس بعساكره حتى نزل على تلمسان وأخذ بمخنقها محاصرا لها أشدّ الحصار فلما علم ابن تاشفين أن لا قدرة له على القيام في البلد واشتدّ عليه الحصار خرج ليلا هاربا إلى جبل بني يزناسن (¬384) وأصبح أهل البلد فاتحين الأبواب، فدخل السّلطان بمن معه وبعث القائد نبيل بن أبي قطاية في عسكر إلى الجبل وحاصره إلى أن طلبوا منه الأمان على أن يمكّنوه من الأمير محمّد، فأنزلوه إلى أبي فارس، فقبض عليه وقلّد البلد للأمير أحمد ابن السّلطان أبي حمّو موسى بن يوسف الزّياني، ورجع في عام خمسة وثلاثين وثمانمائة (¬385) واعتقل ابن أبي تاشفين بقصبة تونس إلى أن هلك سنة أربعين (¬386). نزول النصارى بجربة ومواجهة أبي فارس لهم: وفي عام خمسة وثلاثين وثمانمائة (¬387) في العشر الأول من ذي الحجة نزل (طاغية النصارى ملك أرغون) (¬388) القطلاني على جزيرة جربة في أمم لا تحصى، وكان أبو ¬

(¬382) أي محمد ابن السّلطان أبي تاشفين، اختصر المؤلف الأحداث، وقرنها ببعضها دون مراعاة فارق الزمن، فرجوع محمد بن تاشفين إلى تلمسان ثم خروج السّلطان الحفصي إليه كان في سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة. (¬383) اكمال من تاريخ الدولتين للتوضيح. (¬384) في الأصول: «يزناش» وفي تاريخ الدولتين ص: 129: «يزناتن» والصواب ما أثبتنا. (¬385) 1431 - 1432 م. (¬386) 1436 م. (¬387) 1431 - 1432 م. (¬388) في الأصول: «نزل رمي النّصارى رغون» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 129.

حركة أخرى بالمغرب الأوسط لأبي فارس ووفاته

فارس نازلا بعمرة بمحلته، فلما بلغه الخبر ارتحل حالا وجدّ السير، فلما وصل وجد النّصارى قطعوا القنطرة فنزل السّلطان بمحلته خارج الجزيرة مما يلي القنطرة، وكان قد بعث قبل العدو عسكرا صحبة قائد من قوّاده لحفظ الجزيرة من العدو، فمنعوا العدو من نزول الجزيرة، فكان أبو فارس بمن معه / خارج الجزيرة والعسكر السّابق داخلها والعدو في البحر على طرف القنطرة، وقد جعل بينه وبين المسلمين سورا من الخشب، وكان المولى أبو فارس يجلس كل يوم بطرف القنطرة مع أصحابه ويجلس بين يديه القائد نبيل بجيش معه للقتال، فأخبر العدو بذلك، وبأن أصحابه ينصرفون عنه لمأربهم في وقت القائلة، فلما صار وقت القائلة ولم يبق إلاّ الخواص بعث النّصراني سفنا عدة فأحاطت بالقنطرة وأرادوا القبض على السّلطان ومن معه، فركب السّلطان وسلّمه الله من كيدهم، واستشهد بعض من كان معه، وأحاط العدو بالميدان وما فيه فأخذوه في رابع محرم من سنة ست وثلاثين وثمانمائة (¬389)، ثم إن بعض أهل جربة قصدوا إلى أبي فارس وأخبروه بأن للجزيرة طريقا غير القنطرة في البحر فبعث معهم عسكرا فأدخلوه الجزيرة فلما رآى العدو العسكر دخل الجزيرة من غير القنطرة أيقن بالخيبة، وأقلع بأساطيله خائبا وكانت اقامة العدو عليها سبعة وعشرين يوما، وأصلح السّلطان القنطرة. حركة أخرى بالمغرب الأوسط لأبي فارس ووفاته: وارتحل سالما، وأعطى للجند عطياتهم، وجدّد (¬390) حركته وسار متوجها إلى تلمسان لما بلغه عن صاحبها أحمد بن أبي حمو الزّياني من التحدّث بالإستقلال كعادة أسلافه فلما بلغ ولجة السدرة - موضع قرب جبل ونشريس - من عمل تلمسان وبه عين تسمى عين الزال (¬391)، وكان يوم الأضحى من سنة سبع وثلاثين وثمانمائة (¬392) تطهر وجلس ينتظر صلاة العيد / فحضرته وفاته - رحمه الله تعالى - فجأة قبل الوصول إلى تلمسان، فكانت مدّة خلافته بتونس إحدى وأربعين سنة وأربعة أشهر وسبعة أيام. ¬

(¬389) 31 أوت 1432 م. (¬390) في تاريخ الدولتين: «وجرد». (¬391) كذا في ط وتاريخ الدولتين، وفي ش: «عين الذال». (¬392) 18 جويلية 1434 م.

مزايا أبي فارس

مزايا أبي فارس: وما مات - رحمه الله تعالى - حتى حصل له من الفتوحات كل عظيم، وطوّع العصاة والبغاة وفتح المدائن، ومهّد السّبل، وفي أوّل أيّامه أغزى أسطوله مدينة طرقونة بجزيرة صقليّة فافتتحها عنوة، وهدّم سورها وأتى منها بالغنائم الكثيرة والسّبي الكثير، وصار ملكه من طرابلس لأقصى المغرب، وأذلّ الله بعزه كل جبّار من العرب والبربر، وقد كان عرب افريقية قبله بالاختيار على ملوكها ويحاصرون المدائن، ويشاركون السّلطنة في مجابيها وله مع الأعراب وقائع شهيرة - مما أشرنا لبعضها - فقهرهم الله جلت قدرته بهذا السّلطان المؤيّد فصار يقودهم معه أجنادا في أعراض أسفاره شرقا وغربا بعد أن أباد أكثر أعيانهم ورؤوس مشايخهم، وصار يبعث قوّاده يتّبعون نجوع العرب لاستيفاء زكاة مواشيهم وهم صاغرون تحت السّمع والطّاعة مذعنون، فهو واسطة عقد بني حفص، ولقد ألّف مآثره صاحب كتاب «تحفة الأريب» (¬393) فذكر منها كل غريب، فهو - رحمه الله تعالى - واسطة عقد بني حفص، واليه انتهى شرفهم، فهو غاية ارتفاع قوس شمس عزهم، ونهاية أوج ملك فخرهم، فمنه أخذ قوس شمس عزهم في الإنحطاط / حتى بلغ حضيض الاهانة والخسران في أيام الحسن وأولاده كما - يأتي إن شاء الله - وإنما أطلنا وأكثرنا بذكر مآثره لأنّها جميلة، والله يحب الجميل، فلذا استتبّعنا ما قدرنا عليه، ومن ثم وجب امساك عنان القلم عما بعده إلاّ بذكر أسمائهم إلاّ ما لا بد منه من أحوال الحسن وأبنائه لمسيس الحاجة الأكيدة إليه مما ستقف عليه - إن شاء الله تعالى -. أبو عبد الله محمد المنتصر: وبعد وفاته (¬394) - رحمه الله تعالى - قام بالأمر بعده حفيده ولد ولده وولي عهده أبو عبد الله محمّد المنتصر، ابن أبي عبد الله محمّد ابن السّلطان أبي فارس، بويع له بالخلافة في التّاريخ، ورحل بالمحلة بعد غسل جده وتكفينه، وبعث به إلى حضرة تونس ¬

(¬393) لعبد الله الترجمان وهو راهب اسباني أسلم بتونس، والكتاب مطبوع وهو صغير الحجم. (¬394) عن دولة السّلطان أبي فارس عبد العزيز انظر تاريخ الدولتين ص: 114 - 131 فقد نقل المؤلف ما فيه باختصار وزاد زيادات قليلة.

أبو عمرو عثمان ومن توفي في أيامه من المشايخ

فدفن بها بازاء قبر والده بالتّربة المجاورة لسيدي محرز بن خلف، وجدّدت له البيعة بتونس يوم عاشوراء من محرّم سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة (¬395)، ولأول ولايته أمر ببناء المدرسة بسوق الفلقة من تونس، وبه تسمّى المنتصرية، وبناء السّقاية بداخل باب أبي سعدون من تونس، وفي ليلة الجمعة ثاني عشر من صفر سنة تسع وثلاثين وثمانمائة (¬396)، توفي بسانية باردو، فدفن مع آبائه، فكانت خلافته سنة واحدة وشهرين واثني عشر يوما. أبو عمرو عثمان ومن توفي في أيامه من المشايخ: وبويع صبيحة يوم (¬397) موت شقيقه السّلطان أبو عمرو عثمان بن محمد ابن السّلطان أبي فارس فكان - رحمه الله - قائما على طريقة جده سائرا / في ظل سطوته، وكان عالما فاضلا مشهورا، طالت مدّته حتى أربت على مدّة جدّه، وكان قاهرا للعرب وله معهم وقائع مشهورة، ومساعي محمودة مأثورة، تتبّعها يخرج بنا عن صواب الإختصار. وفي أيّامه توفي بتونس أبو القاسم البرزلي (¬398) خامس القعدة من سنة احدى وأربعين وثمانمائة (¬399). وفي سنة اثنتين وأربعين عصر يوم الخميس رابع عشر شعبان (¬400) توفي بتلمسان الشّيخ الفقيه العلاّمة أبو عبد الله محمد بن مرزوق (¬401). وفي السنة التي قبلها سنة احدى وأربعين، توفّي العباس أحمد بن عبد الرّحمان ¬

(¬395) 16 أوت 1434 م. (¬396) 6 سبتمبر 1435 م. (¬397) ساقطة من ش. (¬398) البرزلي من تلامذة الإمام ابن عرفة لازمه نحو أربعين سنة، ومن تلامذته ابن بلدته ابن ناجي القيرواني، وحلولو والرصاع وعبد الرحمان الثعالبي الجزائري وهو مؤلف جامع مسائل الأحكام فيما نزل بالمفتين، ويعرف بديوان البرزلي أو فتاوى البرزلي وهو أربعة أجزاء في مجلدين كبيرين منه أربع نسخ بالمكتبة الوطنية بتونس، راجع تراجم المؤلفين التونسيين 1/ 175 - 178، ومزية هذا الكتاب أنه يحاول بقدر الإمكان احصاء تآليف المترجم واستقصاء المصادر والمراجع التي تكلّمت عن المترجم. (¬399) 30 أفريل 1438 م. (¬400) 30 جانفي 1439 م. (¬401) هو الحفيد وله ترجمة في نيل الإبتهاج.

الزليطني عرف حلولو (¬402) أخذ عن البرزلي، ولي قضاء طرابلس، ورجع إلى تونس وشرح «جمع الجوامع» لابن السبكي، و «مختصر خليل»، و «تنقيح القرافي»، و «اشارات الباجي»، و «عقيدة الرسالة». وفي سنة احدى وخمسين وثمانمائة (¬403)، قدم الفقيه القاضي أبو عبد الله محمّد بن أبي بكر الونشريسي (¬404) للامامة والخطبة بجامع الزّيتونة ثالث محرم، وتوفي في عصر يوم الأربعاء خامس ربيع الثاني من سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة (¬405). وفي سنة خمس وخمسين وثمانمائة (¬406) توفي بتلمسان الشّيخ المفتي العلاّمة أبو القاسم العقباني (¬407). وفي أواخر شهر رمضان سنة سبع وستين وثمانمائة (¬408)، توفي مفتي بجاية وعالمها الشّيخ الفقيه أبو عبد الله محمد المشذّالي (¬409)، بفتح الميم (¬410) وشين معجمة ثم ذال معجمة مفتوحة بأشباع مشددة ثم لام، نسبة لقبيلة / من زواوة، كان إماما كبيرا مقدما على أهل عصره في الفقه وغيره، ذا وجاهة عند صاحب تونس المترجم أبي عمرو عثمان، قيل كان يضرب به المثل، فيقال أتريد أن تكون مثل أبي عبد الله المشذالي؟. وفي ثاني عشر من محرم سنة ثمان وستين وثمانمائة (¬411)، توفي بتونس الشّيخ الولي ¬

(¬402) هو قيرواني النشأة والدار وليس له من الليبية إلاّ الإنتساب لأحد مدنها، وقد عدّه الشيخ طاهر أحمد الزّاوي من أعلام ليبيا، وهو تعدّ على الحقيقة والتاريخ، إذ من المعروف لدى كتاب الطبقات أن الشخص ينتسب إلى المكان المتوفي فيه ولا ينتسب إلى أصل بلدته، مثل الصحابة المشهورين المتوفين بالمدينة كسيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وغيرهما فإنهم يعدون من أهل المدينة لا من أهل مكّة التي هي مسقط رأسهم. والشيخ طاهر الزاوي عد في أعلام ليبيا الذين مر على استقرارهم بالقيروان قرون، ولم يبق لهم صلة بليبيا إلاّ صلة النسب الأصلي، وحلولو له ترجمة في تراجم المؤلفين التونسيين 1/ 165 - 167. (¬403) 1447 م. (¬404) في الأصول: «الونشريشي» والتصويب من تاريخ الدولتين ص: 143. (¬405) 28 ماي 1449 م. (¬406) 1451 م. (¬407) المؤلف مقلد في هذا للزركشي لأن اسم العقباني هو قاسم أبو الفضل بن سعيد، ووفاته في ذي القعدة سنة 854 وله ترجمة في الأعلام لخير الدين الزّركلي ونيل الإبتهاج. (¬408) جوان 1463 م. (¬409) الصواب اهمال الدال لأن اللغة البربرية لا ذال فيها والمشدالي له ترجمة في نيل الإبتهاج. (¬410) في الأصول: «الهمزة». (¬411) 26 سبتمبر 1463 م.

الصّالح أبو العباس سيدي أحمد بن عروس، ودفن بزاويته المشهورة به قرب جامع الزّيتونة. وفي ثاني عشر صفر من سنة تسع وستين وثمانمائة (¬412)، توفي الشّيخ الصّالح أبو العباس أحمد ابن الشّيخ الصّالح محمد بن زيد بالمنستير ودفن بها. وفي خامس جمادى الأولى توفي قاضي الأنكحة الفقيه محمد الزّنديوي سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة (¬413). وفي يوم الجمعة سابع جمادى الأولى سنة تسع وسبعين (¬414)، توفي بتونس الشّيخ الفقيه العالم الكبير أبو اسحاق ابراهيم الأخذري (¬415). وفي أواسط محرم سنة اثنتين [وثمانين] (¬416) وثمانمائة (¬417). ورد على السّلطان أبي عمرو عثمان نصر بن صولة شيخ الذواودة طالبا عفوه فعفا عنه وأكرم نزله (¬418). وفي سنة احدى وتسعين وثمانمائة (¬419) توفي بباجة افريقية الشّيخ أبو الحسن علي بن محمّد بن محمّد بن علي القرشي القلصادي، أصله من بسطة (¬420) بالأندلس، وبها تفقّه على الشّيخ أبي الحسن علي بن موسى القرباقي (¬421)، ومن تأليفه «تاج أشرف المسالك إلى مذهب مالك» و «شرح مختصر الشّيخ خليل» و «شرح الرسالة»، و «شرح التلقين»، و «هداية الأنام في شرح مختصر قواعد الإسلام»، و «شرح رجز القرطبي» / و «تنبيه الإنسان إلى علم الميزان»، و «شرح أيساغوجي»، وله «شرح على الأنوار السنية» وعلى «حكم ابن عطاء الله» و «على رجز قاضي الجماعة بن منظور في أسماء النبي صلّى الله عليه وسلم»، وعلى «البردة» وعلى «رجز أبي مقرّع»، و «هداية النظار في الأحكام» و «كشف الأستار ¬

(¬412) 14 أكتوبر 1464 م. (¬413) 21 نوفمبر 1468 م. (¬414) 19 سبتمبر 1474 م. (¬415) ويقال الأخضري وانظر اتحاف أهل الزمان 1/ 189. (¬416) ساقطة من الأصول. (¬417) 29 أفريل 1477 م. (¬418) هنا ينتهي تأليف الزركشي في تاريخ الدولتين الطبعة المشار إليها وقد أخذ عنه المؤلف ما يتعلق بالدولة الحفصية كما أشرنا مع اضافات قليلة من عنده. (¬419) 1486 م. (¬420) ويقال بسطة، أيضا بمصر، انظر معجم البلدان 1/ 422. (¬421) في الأصول: «الفرياني».

أبو زكرياء يحيى بن مسعود وعبد المؤمن بن ابراهيم

عن علم الغبار» والتبصرة»، و «كشف الجلباب عن علوم الحساب» و «شرح تلخيص ابن البناء بكبير وصغير»، و «شرح (¬422) ابن الياسمين في الجبر والمقابلة»، وغير ذلك (¬423) مما يطول تعداده - رحمه الله تعالى -. أبو زكرياء يحيى بن مسعود وعبد المؤمن بن ابراهيم: ولما انقضت (¬424) مدة أبي عمرو عثمان الحفصي - رحمه الله تعالى - تولّى بعده [أبو زكرياء] (¬425) حفيده يحيى بن مسعود، فسار سيرة جدّه أبي فارس إلاّ أنه كان بخيلا فمال الجند عنه إلى عبد المؤمن بن ابراهيم بن عثمان، فاستولى على الملك. ثم أبو زكرياء من جديد (¬426). وفي سنة تسع وتسعين وثمانمائة (¬427) وقع فناء عظيم فمات أبو زكرياء. محمد بن الحسن وتغلب النصارى على مواقع من افريقية: فتولّى السّلطان محمّد بن الحسن، فاشتغل بالخمر واللهو، وفي أيامه سنة ثلاث عشرة وتسعمائة (¬428) تغلّب النّصارى (¬429) على كثير من البلاد إلاّ أن الله تعالى لطف بالعباد. ¬

(¬422) ويسمى هذا الشرح «تحفة الناشئين على أرجوزة ابن الياسمين». (¬423) القلصادي من المكثرين من التأليف، واشتهرت تآليفه بالخصوص في علم الحساب والفرائض. (¬424) لم ينقل المؤلف من الأخبار والحوادث في مدّة السّلطان أبي عمرو عثمان إلاّ التراجم من تاريخ الدولتين عدا ترجمة القلصادي لأن تاريخ الدولتين يقف في سنة 882 هـ ‍ بحيث أنه لم يستوف الكلام عن دولة أبي عمرو عثمان. (¬425) اكمال من المؤنس ص: 159 وفي الأتحاف 1/ 189 أبو يحيى زكرياء. (¬426) في الأصول: «ثم تولى أخوه زكرياء» والواضح أنه وقع في ذهن المؤلف خلط بين الأحداث ففرق بين الإسم والكنية وأضاف بسبب ذلك أميرا على القائمة التاريخية قال ابن أبي دينار «وذلك أنه لما استبد بالملك أبو محمد عبد المؤمن جيء بجثة الأمير يحيى ودفن. . . وكل ذلك مفتعل، ولما افتضح الأمر فرّ عبد المؤمن واستقل أبو زكرياء بملكه» المؤنس ص: 159. (¬427) في 9 شعبان - 15 ماي 1494 م. (¬428) 1507 - 1508 م. (¬429) هم الإسبان والصحيح أنهم احتلوا البلاد في مدة الأمير الحسن سنة 941.

الحسن بن محمد والتصارع العثماني الاسباني بافريقية

ذكر الشّيخ عبد اللّطيف بن بركات العربي في «الذخيرة السّنية» أنه اتفق عندنا بافريقية تغلب العدو - دمره الله تعالى - على حصن وهران فأخذه عام ثلاثة عشر وتسعمائة (¬430)، ثم تغلّب أيضا على بجاية فأخذت في عام خمسة عشر وتسعمائة (¬431)، ثم تغلّب على طرابلس عام ستة عشر وتسعمائة (¬432)، وتكالب العدو - دمّره الله / تعالى - على البلاد والعباد وعاث وأظهر الفساد، واغتر بقوته وصولته، واعتزّ بحوله وقوّته، ونزلوا جربة وبها شيخها الشّيخ يحيى بن سمومن (¬433) الوهبي، وكان صاحب يقظة وحزم ونباهة وعزم، فهيّأ لهم الرّجال من الفرسان الأبطال، فلما حصل جميعهم بالجزيرة وانتشروا ورأوا أنها لهم كغيرها واغترّوا، أيد الله المسلمين بالنّصر والظّفر، ورزقهم الصّبر، فقتلوهم بكل بقعة وهزموهم هزيمة شنيعة، وعن اثني عشر ألف قتيل غير ما رمى البحر من فرائسهم ببلاد السّواحل، انجلت الوقيعة فحصل للمسلمين بالجزيرة من سلاحهم وأسلابهم عدد كثير، ومال غزير {فَالْحُكْمُ لِلّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (¬434)، والعجب أنه مات من المسلمين ثلاثة عشر رجلا أو أربعة عشر. وكذلك اتّفق للعدو - دمّره الله - بجزيرة قرقنة من بلاد السّاحل فانهم نزلوا بها مطمئنين وأرادوا أن يبنوا البناءات والحصون للقرار والسكنى، فكمن لهم المسلمون وصابحوهم فلا يرى منهم إلاّ صريع طريح، أو أسير جريح، أو قتيل تنسفه الريح. ثم مات محمّد بن الحسن بعد أن ملك أزيد من ثلاثين سنة، فكانت وفاته سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة (¬435). الحسن بن محمد والتصارع العثماني الاسباني بافريقية: وتولّى بعده ولده الحسن بن محمد بن الحسن، بويع بعد موت أبيه بالتّاريخ المذكور ولما تولى رفع المكوس على الناس وأجرى عوائد جميلة وسار سيرة مرضيّة، ثم انقلبت أحواله فاضطربت عليه / البلاد، وخرجت عليه الحامّة، وخرجت عليه صفاقس فقام بها المكّني - كما يأتي إن شاء الله - وخرجت عليه سوسة، قام بها صهره ¬

(¬430) 1507 - 1508 م. (¬431) 1509 - 1510 م. (¬432) 1510 - 1511 م. (¬433) في الأصول: «سمو بن». (¬434) سورة غافر: 12. (¬435) 1525 - 1526 م.

القليعي (¬436) وقام عليه بالقيروان الشّيخ عرفة من أولاد الشّيخ نعمون (¬437)، وهو جد الشّابيين، فبايع لرجل من لمتونة اسمه يحيى مدّعيا أنه حفصي ورد من المغرب، ثم فر يحيى المذكور، ودخل تونس متنكرا، فمسك وقطع رأسه. ولما مات الشّيخ عرفة صاحب القيروان قام بالأمر بعده محمد بن أبي الطيب وهو ابن أخيه (¬438)، وفي آخر أيام الحسن استنجد أهل القيروان بدرغوث باشا وكان بطرابلس لما قاسوا من جور ابن أبي الطيب، ودخلت صفاقس في طاعة درغوث باشا. وفي أيّام الأمير الحسن انقلبت قسنطينة على يد التّرك أيضا، وتغلبت الأعراب بالفساد، وكانت الشّوكة في أولاد سعيد إلى أن هادنهم السّلطان حسن بستين ألفا عن الوطن. وفي أيامه جاءت عمارة من بر التّرك لأخذ تونس أرسلها ابراهيم باشا، وكان وزيرا للسّلطان سليمان ابن السّلطان سليم - رحمهما الله تعالى - وكان ابراهيم باشا ضرب الدّنانير باسمه، وهو أول وزير تولّى الوزارة من أولاد السّراية (¬439) - كما قيل - ومات سنة احدى وأربعين وتسعمائة (¬440)، فأرسل خير الدّين إلى تونس عن غير اذن السّلطان سليمان، فنازل تونس وأخذها، وفرّ عنها الحسن، ودخلها خير الدّين، او استقل (¬441) بقصبتها. وقام ربض / باب السويقة على خير الدين وكانت بينهم مقتلة عظيمة مات فيها خلق كثير من الفريقين، وكان محل القتل من باب القصبة إلى باب البنات وحومة العلوج، ونادى المنادي بالأمان من قبل خير الدّين وكف الفريقين (¬442). وخير الدين هذا هو الذي ابتدأ بدخول العساكر العثمانية لتونس. وقيل إن محمد بن الحسن خلف خمسا وأربعين ولدا ذكرا وضع فيهم الحسن السّيف ولم يفلت منهم إلاّ أخواه الرّشيد وعبد المؤمن كانا غائبين فلحقا ببعض أحياء العرب. ¬

(¬436) في الأصول: «القلعي» والتصويب من المؤنس ص: 161. (¬437) المؤلف تابع لما قاله ابن أبي دينار في المؤنس، والصحيح أنه من أولاد الشّيخ أحمد بن مخلوف الشّابي. (¬438) في الأصول: «أخوه» والتصويب من المؤنس ص: 162. (¬439) في الأصول: «العرابة» والتصويب من المؤنس. (¬440) 1534 - 1535 م. (¬441) كذا في ط والمؤنس، وفي ش: «اشتغل». (¬442) المؤنس 162 - 163.

واشتغل الحسن باللهو، وجمع من الملاهي كثيرا، ومن المردان (¬443) أزيد من أربعمائة للفسق بهم، وشقّ ذلك على أهل البلد وطلبوا منه ترك ذلك حتى رموه بالحجارة، فأبى أن يترك فنفرت عنه القلوب، فأرسلوا إلى الرّشيد ليملّكوه فلم يمكن، فذهب الرّشيد إلى خير الدّين باشا صاحب الجزائر، والتجأ إليه، فلما علم ذلك السّلطان الحسن شقّ عليه ذلك، وأرسل إلى السّلطان سليمان يشكو من خير الدّين، فانه آوى أخاه، وأرسل صحبة الرّسول هدايا متحفة، فأجابه السّلطان بأن: طب نفسا فإنّا نأمر خير الدين باستصحاب أخيك معه فإذا حصل عندنا أودعناه عندنا فلا يعود إليك، فلما قدم خير الدّين على السّلطان ومعه الرّشيد، عيّن له السّلطان كل يوم خمسمائة درهم جامكية (¬444)، ومن المأكول ما يكفيه، وكانت عمارة السّلطان مترددة على المغرب لاستنقاذ البلاد من أيدي الكفّار / فعرف خير الدّين السّلطان بأن العمارة لا تطيق أن تخرج من هاهنا وتسير مسافة أشهر، ثم تجتمع بالكفار، فلا بد أن تشتّي (445) عمارتكم قرب بلاد الكفار، ثم تسير منه إلى حيث شاءت، وليس ثم موضع تشتّي (¬445) فيه أليق من حلق الوادي بتونس، وكيف ذلك والسّلطان حسن بتونس، فقال: إن أهل تونس متضجّرون منه وهذا الرّشيد عندكم يحبّه أهل تونس، فإن أمر السّلطان سرت بالعمارة، وعرّفتهم بأن الرّشيد معنا فنملك تونس باتفاق من أهلها فتكون البلاد كلها للسّلطان، فوافقه السّلطان على ذلك، فسار خير الدّين بالعمارة، فدخل حلق الوادي، وعرّف أهل تونس بأن معهم الرّشيد ليملّكوه البلاد، فقام أهل البلد قومة واحدة وقالوا: نصر الله الرّشيد، وساروا نحو العمائر، ففرّ الحسن بأهله وماله إلى مشايخ العرب، فاستولى خير الدّين على البلد وقتل مشايخ الحفصيين خفية فتحقّق أهل البلد عدم مجيء الرّشيد، وإنّما هي حيلة من خير الدين، فقاموا عليه وقاتلوه، وقتل من أهل تونس ما يزيد على ثلاثين ألفا بين رجال ونساء، ثم كفّ عنهم وصالحهم، فأغار الحسن على تونس ليلا وقتل أزيد من ألف بقباشي، وسافر لإسبانية، واستمدّ من ملكهم، ولما تمكّن من ¬

(¬443) ج أمرد. (¬444) قال دوزي اعتمادا على النويري ووصف مصر (Deseription de Egypte) ، «تعني في الأصل الأموال المخصصة للأزياء ثم صارت تعني الأجرة، المرتب، المعاش الخ. . .» 1/ 168. (¬445) أي تقضي الشتاء.

البلاد «وردت عليه عمارة (¬446) من النّصارى واستنجدها الحسن من قبل الامبراطور (¬447) فيها مائة ألف مقاتل. ولما نزلت النّصارى تلقّاهم جند خير الدّين / ومن انضاف إليه من أهل تونس، وكانوا نحو ثمانية عشر ألفا، فالتقى الجمعان شرقي تونس (¬448)، وخير الدّين يحرّض المؤمنين على القتال، وظهر منهم في تلك الحرب ثبات وشدّة إقدام وتمكّن في أنواع الحرب، وكاد أن يكون الظّفر له في ذلك اليوم، فبينما هو كذلك اذ ورد الخبر على خير الدّين أن الحسن تملّك بالقصبة، وأن الأعلاج التي بها فتحوا الباب له، ففرّ خير الدّين ومن معه إلى المغرب وتعرّض له العرب بنواحي تبرسق ووقعت بينهم حروب شديدة، وتخلّص منهم إلى أن وصل إلى بلاد العنّاب - بونة - فركب البحر في عشرين غرابا وتوجه لبر الترك» (¬449) فانفتح على تونس باب البلاء وجاءها ما كانت توعد {إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} (¬450). ونال الحسن الحفصي الاسم القبيح الفعل بهذه الفعلة الشّنيعة ما دعته إليه نفسه القبيحة {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (¬451) مما حل بالمسلمين. وقيل إن الحسن لما ذهب إلى اسبانية عينوا له كل يوم أربعة آلاف دينار افرنجي لمأكله، وكانت مدة المكث سبعة أيام، ثم سار بعمارة فيها نحو أربعمائة غراب فنازل تونس، فاتّفق أهل تونس مع خير الدّين أن لا يخرج للكفار بل (¬452) يبقى بالقصبة، ويباشرون بأنفسهم قتال الكفار، فاستمر القتال نحو شهر، فاستطال خير الدّين المقاتلة فنزل بنفسه من القصبة، وفوض أمرها إلى قائده جعفر آغة، وكان افرنجيا يبطن الكفر، وكان في البلد جيوش خير الدّين بها نحو أربعين ألفا / فقام جعفر المذكور فأطلقه من الحبس ومكّنه من القصبة وأسوارها ومدافعها، فصار المسلمون بين عدوّين: المدافع من البلد والسّيف أمامهم، فانهزموا أقبح هزيمة، والهاربون هلك أكثرهم من العطش، ودخل طاغية النّصارى، وأجلس السّلطان حسنا على التّخت، وأعطاه الحسن نفائس الأموال، ومن أسارى المسلمين ما يزيد على سبعين ألفا ممن يتهم بموالاة أخيه الرّشيد، ¬

(¬446) النقل بتصرف من المؤنس ص: 163. (¬447) كذا في المؤنس وفي الأصول: «الإنبلاذور». (¬448) بقرية الكلخ شرقي تونس (المؤنس ص: 164)، وفي اتحاف أهل الزمان 2/ 12 ونزل (أي الأسبانيول) للبر بمحل يقال له «برج العيون» قرب حلق الوادي. (¬449) المؤنس 163 - 164. (¬450) سورة البقرة: 156. (¬451) سورة آل عمران: 183. (¬452) في ش «بأن».

«ثم إن النّاس اطمأنوا فافتتحوا أسواقهم ولزم كل صانع صنعته، فبينما المسلمون في هذه الغفلة اذ دهمهم العدو فجأة ودفعت النّصارى دفعة، والأسواق مفتوحة، فنهبوها سبيا وقتلا، وفرّ المسلمون بعيالهم إلى ناحية زغوان، فبعث طاغية النّصارى إلى العرب، وعيّن لهم جعلا على كل مسلم من الحاضرة أتوه به شيئا معلوما، فخرجت العربان في طلبهم وأخرجوهم من كل شعب وواد، وأتوا بهم إلى النّصارى، فكان طلب العرب أشدّ على المسلمين من طلب النّصارى، وأعطاهم ما شرط لهم، والبعض افتدى من البادية، وبلغت فدية الرّجل الموسر ألف دينار، ومن لم يفد نفسه أرسلوه إلى النّصارى، وكان خطبا على المسلمين جسيما. وهذه هي الواقعة المعروفة بواقعة (¬453) الأربعاء، وأباح الحسن للنّصارى البلاد (¬454) ثلاثة أيام، ويقال في هذه الواقعة أسر الثلث ومات الثلث وهرب الثلث. قال صاحب المؤنس وسمعت من أهل الحضرة من يقول كل ثلث / ستون ألفا وكانت (¬455) هذه الواقعة سنة إحدى وأربعين وتسعمائة (¬456). وعندما استقر الحسن بتونس، تراجع أهل البلد بعد التشتّت والنهب حبّا في الوكر» (¬457) ولما استقر أمر السّلطان حسن بتونس، وأراد طاغية النّصارى السفر التمس السّلطان حسن من الطاغية أن يؤخر عنده قدر أربعة آلاف افرنجي يقيمون عنده بحلق الوادي، ويبنوا هناك معقلا، وذلك سنة إحدى وأربعين وتسعمائة (¬458)، فوافقوه على ذلك، وبنوا مدينة مسوّرة فتضرّر بهم كافة الخلق، فكان الحسن سببا لقرار الكفار هناك. «(¬459) ثم خرج الحسن لافتكاك القيروان من يد الشّابيين قبل قدوم الباشا درغوث، فقاتلوه ليلا بالسّيف، واغتنموا ماله وسلاحه، فأقسم لا يرجع عنها بحال، وعزم على أن يستنجد لها النّصارى ويفتكها بعد اباحتها للنّصارى، وكان ابنه أحمد عاملا ببونة، فلما سمع بتوجه أبيه لبرّ النّصارى لمعاداة القيروان اختلس نفسه خفية، ودخل القصبة ¬

(¬453) كذا في الأصول وفي المؤنس: «خطرة». (¬454) في المؤنس: «البلد» ساقطة من ش. (¬455) في الأصول: «وكان». (¬456) 1534 - 1535 م. (¬457) المؤنس بتصرف ص: 165، الوكر هو العش، وفي العامية: المسكن، ويقصد بها هنا الموطن. (¬458) 1534 - 1535 م. (¬459) رجع إلى النقل من المؤنس ص: 165.

وتملّكها، ففرحت به البلاد، وقال لهم: إنما حملني على أمري هذا حماية الدّين، ورأيت ما حل بكم أولا فقلت: لعلي نتدارك الأمة» (¬460). وقيل إن الحسن لما خرج لقتال القيروان خلّف في تونس ولده أحمد، ويقال له مولاي «حميدة»، فلما أبعد الحسن قام أهل البلد فأتوا حميدة وقالوا: لا يخفى عليك ما حلّ بنا من شؤم أبيك، فإن كان لك حاجة بالملك فقم نبايعك وإلاّ دعونا عمك عبد المؤمن نبايعه، فلما رأى منهم الجدّ، رضي بذلك / فبايعوه وقلّدوه الأمر، ولما بلغ الحسن ذلك الأمر ترك حرب ابن أبي الطّيب (¬461) بالقيروان، وركب (¬462) البحر وعاد إلى اسبانية ثانية، وأتى بعمارة عظيمة، فبينما الناس في ما هم فيه اذا بالحسن ورد بالعمارة، ونزل البر، فتوجهوا للجهاد، ونادى منادي الأمير أحمد: إن من يأتيني برأس أو أسير فله مائة دينار، وجلس عند باب القصبة، وأظهر لهم المال، وحرّض المؤمنين على الجهاد، فخرج أهل الربضين والتقوا بالنّصارى، والحسن الذي جاء معهم وهو في وسطهم، وكان الملتقى في محل يعرف بخربة الكلخ، وامتدت العساكر إلى سانية العنّاب، وكان سيدي علي المحجوب من أحفاد سيدي طاهر المزوغي - نفعنا الله بهما - حاضرا واقفا بكدية القيروان، فأخذ قبضة من تراب وقرأ عليها حزب البحر، ورمى بها في وجوه العدو، فانهزم الكفار وأعزّ الله الاسلام بنصره، وفرّ الحسن إلى شكلى (¬463) وهي الجزيرة التي بوسط البحيرة (¬464)، فتبعه أبو الهول - رجل من المسلمين - وأخرجه ملوثا بحمأة (¬465) البحر وكساه برنسا، وجيء به لابنه أحمد فوبّخه وسجنه، وطلب أهل تونس قتله، فأشار بعض أرباب دولة ولده أن يكحّل عيون الحسن بالنّار ليكفّ بصره، ففعل به ذلك، واستأذن ولده في الزّيارة، فكان يخرج أحيانا إلى أن زار قبر الأستاذ سيدي أبي القاسم الجليزي (¬466)، ¬

(¬460) المؤنس ص: 165 - 166. (¬461) في الأصول: «ابن الخطيب» والتصويب من المؤنس ص: 162. (¬462) النقل من المؤنس ص: 165. (¬463) في الأصول: «شكلة» وجزيرة شكلى الآن خربة قرب بحيرة تونس. (¬464) بحيرة تونس كما أشرنا. (¬465) في المؤنس: «الغرم». (¬466) كذا كتبها ابن أبي دينار ومارسي (Marcais) وكتبها عبد العزيز الدولاتلي «الزليجي» وهكذا يجب أن تكتب ان نسبناه إلى صنعة الزليج التي كان يحذقها. وحسب نقيشة داخل قبة زاويته هو «أبو الفضل قاسم أحمد =

وورد عليه صهره القليعي (¬467) وهرب به إلى القيروان. ومن ثمّ احتال (¬468) حتى ذهب لبرّ النّصارى ليأتي / بعمارة لأخذ المهديّة. قيل السّبب في جلب العمارة للمهدية أنه لما جاء بالعمارة لتونس، وطلب من المهدية مالا ليدفعه للنّصارى، بعث ولده لهم لذلك، وكانت المهدية أيسر بلاد افريقية، فلمّا وصل الولد للمهدية أنزل بدور بعض كبرائهم، فاجتمع على سيدي علي المحجوب - رحمه الله تعالى - وكان يعرفه فسأله عن السّبب الحامل له على القدوم للمهدية فعرّفه بطلب المعونة ليدفعوا للنّصارى ما عليهم من المال، فقال له الشّيخ: لا تسألهم شيئا فإن النّاس متغيّظون عليكم من أجل استعانتكم بالكفّار، وانج بنفسك قبل أن يسعوا في قتلك، فخرج فارّا وعرّف أباه بحقيقة الحال، فحقد عليهم، وأظهروا له العداوة والعصيان كغيرهم من البلاد، فجاء بالعمارة للمهديّة وقاتلهم، وفي هذه الوقعة قتل سيدي علي المحجوب - رحمه الله تعالى - وكذا الحسن مات بالبحر فأنزل للبر، وجيء به للقيروان فدفن بها، وأنشد بعض أدباء المهديّة قصيدة في مجيء العمارة وأخذهم المهديّة، ولا بدّ من ايرادها وإن كان فيها طول لاشتمالها على بيان القضية وما فيها من الغرائب وهي هذه (¬469): [بسيط] وقفت تنشد رسم الدار محترقا ... على الحبيب فقال الرسم ما الخبر لا علم عندي إلاّ كنت تنصرهم ... بجمع شمل فيأوي ظله البشر كما الملوك فكل الناس يرقبهم ... مثل الهلال هلال الفطر ينتظر نلت السلو عن الأحباب منك جفا ... تنسى عهودهم والحق تذّكّر ¬

= الصدفي الفاسي» فهو إذا من أصل فاسي خلافا لما شاع عنه من أنه أندلسي، وربما تعلم بالأندلس صناعة الزليج التي صار ينسب إليها عبد العزيز الدولاتلي Tunis sous les Hafsides ، تونس 1976 ص: 206. حول أبو القاسم منزله إلى زاوية وقال عنه ابن أبي دينار: «توفي أبو القاسم الجليزي أول صفر سنة اثنتين وتسعمائة ودفن بزاويته داخل باب خالد من تونس وحضر السّلطان جنازته» المؤنس ص: 160 وانظر إيضاح ج. مارسي Manuel d art musulman ، باريس 1927، 2/ 860 - 861. (¬467) في الأصول: «القلعي». (¬468) قال ابن أبي دينار في المؤنس: «وكان في خبري أنه مات بالقيروان لأنه مقبور هناك حتى وقفت على ورقة بخط الشّيخ بركات الشريف يذكر فيها أن السّلطان الحسن هرب إلى بلاد النّصارى وهو أعمى وأتى بعمارة لأخذ المهدية فمات في البحر فأنزل إلى البر ورفعوه إلى القيروان فدفن بها» ص: 168. (¬469) سيلاحظ القارئ أن لغة القصيدة هزيلة، وبعضها لا يخضع للموازين الشعرية كما أن الشاعر ضحى في بعض الأحيان بالقواعد النحوية لفائدة الميزان.

ما كان فيك من الغزلان ساكنة ... أهيل حبك في أحشائك اغتمروا (¬470) / أين الظباء التي قد كنت مرتعها ... تسبي العقول ومنها القلب منسحر لها سيوف من الأجفان في مقل ... سفك الدماء بها في الحب مغتفر في لحظ مقلتها سحر به فتنت ... يا ما أميلح ذلك اللحظ والحور غارت عليها خيول البين فانزعجت ... من الديار وما بالربع معتمر بانت سعاد وما بانت لها خرق ... أمست حديثا وفي أثنائها الخبر يا ربّ باكية في ضمن بكيتها ... رثا سعاد به الأحشاء تنحشر أشئم به من نهار البين حين غدت ... ولا وداع لها يطفى به الجمر ألا مجيب فكل نال نائبة ... من العباد عراة السقم والخور خط القضاء خطوط البين ما كتبت ... على الرؤوس فماذا ينفع الحذر فلا محيص لكل الخلق عنه اذا ... حل القضاء وجاء الوقت لا وزر من لي برد وكيف كنت أعهده ... يجلي همومي وهو القصد والوطر صرف (¬471) الزمان عراني (¬472) ثم وانبعثت ... طلائع البين والهجران والكدر نآى الحبيب الذي قد كان يلزمني ... أودعته الله حسبي الصبر نصطبر أصبحت تنشد رسم الدار مهتبلا ... كذا الغراب على الأرجاء ينشمر أين استقر أهيل الحي وانتجعوا ... وهل تلاق لذاك الحي ينتظر أكرم به من أهيل كان مفتخري ... به شغفت، وكان الطالع القمر أجابني الربع ما أنسيت عهدهم ... وكيف ننسى وفي عيني هم النظر وترب أرضي حقا كان مسكنهم ... وليس أرض سواي الدهر ما عمروا (¬473) لكن ظننت بأن الدهر خانهم ... أعطى أمانا تلاه الغدر والخفر الله أعلم داء العين حل بهم ... من حاسديهم فبئس الداء محتذر أجلاهم الدهر لا أدري مقرهم ... صوارم الدهر لا تبقي ولا تذر / وسل حمائم تلك الدار تنبيك [عن] ... يوم النوى قد جرى من عينها نهر فهي التي تعرف الأحكام كيف جرت ... وحالها النوح والتغريد والهدر ما طاقت الصّبر يوما لا ولا برحت ... عن رسم مسكنهم بالحب تنتظر ¬

(¬470) في الأصول: «اغتمر». (¬471) في الأصول: «حرف». (¬472) كذا في ط وت، وفي ش: «على أني». (¬473) في الأصول: «ما عمر».

قمرية (¬474) الدار هل عرفت حالهم ... أين استقروا؟ وهل بالوصل تنجبر؟ قلبي حزين على ليلى وما هجعت ... مني العيون ودمع العين منهمر ألا وصال إلى ليلى ألا خبر ... ألا حديث على الأحباب يعتبر معنعن بأداء الصّدق أسنده ... عدل الثقات صحيح المتن مشتهر ولا غريب بنعت الضعف يخبرني ... أين استقروا؟ وهل بالوصل تنجبر؟ بصيغة الجزم والتعليق إن وردت ... أمسى فؤادي عزيز القلب معتمر لا تحسبنّ سعاد نسيها حسن ... إن قيل ذا فشذوذ ما له أثر ليلى مثيلتها حقا بها قرنت ... لها التساوي على الاطلاق ينهزر (¬475) بها الفؤاد فمن لي أن نلاقيها ... لقد تناءت وفي أثنائها الخبر أعر جناحك يا قمريّ (474) يحملني ... لكي نعاين أين الحب مستتر ففضل جنسي ذاب القلب منه أسى ... والنوع منه بشخص الهجر ينحصر وكم تغرد طول الليل من أسف ... أجب سؤالي إن القلب منفطر ترجيع نوحك بالأسحار قد عميت ... منه العيون وفي تلحينه خبر أبا لتجاهل قال الأرق تسألني ... أما علمت صروف الدهر تعتور فكم عزيز ضحا (¬476) بالصرف في محن ... وكم ذليل غدا بالعز يفتخر كانوا عزازا وكان العز رقّهم ... أمسوا عبيدا بأرض الكفر يحتقر [وا] (¬477) الله أكبر! يا لهفي صغيرهم ... يبكي عليه غمام السحب والمطر أسير قوم عداة الله حنّ له ... صلد الحديد وقاسي القلب والحجر / فقدت الفي وأهلي والديار ترى ... لا أنس فيها عدا الغربان تنحدر وحق لي أن ننوح الدهر من حرق ... من أجلها زاغت الأبصار والفكر قوم عزاز على مثلي ومثلهم ... يبكي عليه ويبكي الجندل الصخر كانوا فبانوا فيا لله من زمن ... يبدي أمانا (¬478) ونكثا ليس يعتذر عدت عليهم خطوب البين فاندرسوا ... غدوا أسارى فلا علم ولا خبر آه عليهم، وآه من فراقهم ... واحزن نفسي على ذا الحي ما ظهروا ¬

(¬474) نوع من الطيور. (¬475) في ط: «ينهدر». (¬476) في الأصول: ضحى. (¬477) إضافة. (¬478) في ش: «إماما».

تعمى علي وقد نالتك محنتهم ... وأنت منهم برأى كيف تستتر خبّر بحالك أني عنك ننشد من ... يرد ويصدر حتى الطير نختبر رفقا بنفسك عين منك هاملة ... قد استعارت مجاز الدّمع ينهمر على الحقيقة قد فارقت نهجهم ... كأنها لم تكن بالعزّ تفتخر من أجل فرقتهم قد حل بي وصب ... من لي برؤيتهم نشفى وننجبر من كسر قلبي أنت الرّب يا أملي ... ما خاب عبد دعاك الله معتذر أنا الدّخيل ومن يلجأ بجنبك يغ‍ ... د سالما ومن الآفات ينتصر يا أكرم الرسل خير الخلق أجمعها ... أصل العلوم، وروح الكون مفتخر البدر شق سريعا من جلالته ... حتى تظاهر في الآفاق منشطر وكلمته الظّبا حقا لما نظرت ... من حسن طلعته وانقادت الشجر حتى أقرّت بأن الله أرسله ... للخلق طرّا كذا الأملاك والبشر أمّ الملائك وأمّ الرسل أجمعها ... رقى الطباق بهذا الفخر يفتخر إن قيل موسى كليم الله قل بشر ... تحت اللواء لواء الحمد ينتظر أو قيل عيسى فقل الرّسل أجمعهم ... قالوا الشّفاعة للمختار وافتخروا لولاه حقا لكان الكون منعدما ... لكنه من سناه النور منبهر / سما سموا على الأنباء حين رآى ... وجه الالاه رآه القلب والبصر صلّى عليه الاه العرش تكرمة ... فهو الممجد بالتمجيد مشتهر وقلت للورق تصغي أن نحدثها ... لا بالكناية (¬479) أنّى راعني الأسر حل اجتماعا لنا كالعقد منتظما ... أبقى جواهره في الأرض تنتشر مضت سنون ولا ندري متى ذهبت ... من حسنها كخيال الطيف تفتكر كنا بحصن من الأذكار يذكرنا ... كل الملوك جميع الناس تفتقر عرب وعجم إلى أهليه أن له ... على البلاد جميعا فيه تنعمر قفل السواحل للمهدي نسبته ... صنع الملوك التي بالمجد تشتهر ماذا رآى أهلها من عز حرمتهم ... لم يخشوا البؤس يوما لا ولا ذعروا بكل (¬480) نوع من الإحسان تتحفهم ... هم حارسوه بطول الدهر ما قصروا ¬

(¬479) في ط: «الكتابة». (¬480) في ش: «بل كل».

قد ضمنوه عظيما من حروبهم ... مدافع وعظيم الدرع والحجر من الحديد مع البارود عدته ... من الألوف كذاك القوس والوتر من النصال سيوف لا نظير لها ... صرح المدائن ذاك الحسن تختبر ما قاسها الدهر افرنجي فقاتلها ... إلاّ غدا بأليم الحرب منكسر كم قاتلوها وراموا ملك قصبتها ... غدوا حيارى بذاك الوقت ما ظفروا وسل رؤسائهم (¬481) تعلمك حالهم ... كم أغرقت سفنا بالجيش فانكسر [وا] وكم لعين من الأبطال مات بها ... غيظا وذرعا كذا الفرسان تنصبر وحالة الدهر طول الوقت تغلب من ... قد جاءها بجنود ليس تنحصر حتى مضت مدة التعمير في أول ... مضى الفخار وزال العز والفخر فسبب الله أسباب الهلاك لها ... حل القضاء وحال الحين ما شعر [وا] ألا وجند من الكفار في سفن ... قد أحدقوها جمادى الثاني مشتهر / من عام سبع وخمسين وتسعمائة ... يا ليته لم يكن في الدهر منذكر من الفراقيط (¬482) بالتحقيق نحو مائة ... من الشواطئ مثل العد ينحصر أما الغراب حقيقا كان عدته ... خمسين فردا ونحو العشر ما قصروا فنزلوا الجيش نصف الليل اذ وردوا ... وصابحوا الحصن عند الباب وأنتشر [وا] حازوا المياه وحازوا أرض ملتها (¬483) ... وغلق الباب أهل الحصن وانحصر [وا] لهم بكاء كيوم الحشر تبصرهم ... تبكي عليهم وقلب الخلق منهزر سووا مدافعهم تلقاء قصبتها ... رموا عليها حجار الهد ما قصر [وا] خمسون رطلا وثلثا كان مبلغها ... عشرون وجها (¬484) تلاقي السّور ينفطر منها القلوب ومنها الناس داهشة ... في اليوم ألف فهد السور والقصر فضجت الناس بالتكبير تسأل من ... قضى الأمور بغيث الناس ينتصر رموا عليها حجار الجو تسقط في ... جوف الديار فشاب الرأس والشعر الفرد منها كما القنطار زايدة ... تغلي سماء وفي الأرضين تنفطر فقاتلوها قتال الجد وانتدبوا ... برا وبحرا إلى الهيجاء ما جسر [وا] ¬

(¬481) بالعامية «الرايس» وهو ربان السفينة. (¬482) ج فرقاطة، وهي تحريف عن اللاتينية، بالفرنسية «Fregate» وتعني في القديم مركب صغير له مجاذيف ثم صارت تشير إلى مركب حربي مجهز بالمدافع. (¬483) في ط: «رملتها». (¬484) أي طلقة نارية.

رموا عليها من الأحجار ما عظمت ... عن الحساب فكل النّاس قد حذر [وا] نحو الثلاثين ألفا كلها وصلت ... سورا لحصن تكاد الأرض تنفجر من الحجار حجار لا فتور لها ... يقاتلون بها بالليل ما فتر [وا] يا ما تقاسي نساء الحي من نصب ... فضحن وجها وليس البكر تتزر يندبن غيظا سبقن الرجل من حنق ... عن اللقاء وفي الميدان ما ستر [وا] تلك الرجال أسود الحرب تحسبها ... كما الصواعق ما ردوا ولا قهروا وقامت الحرب في سوق النزال على ... ساق القتال وأهل الحصن قد نفر [وا] كما الليوث جبالا في لقائهم ... مقاتلين ونوم العين قد هجر [وا] / وخربوا السور من تلقا محلّتهم ... كروا وفروا أرادوا الصدم ما قدر [وا] ففي المساء كثير البطل قد تركوا ... هذا قتيل وذا ملقى وذا صبر تلك الرجال رجال الله قد نشرت ... قواضب العزم جيش الكفر قد نهر [وا] فسرمد الحرب ليلا والنهار فلا ... يمضي زمان خلي الرمي بل عمر [وا] وكلت الناس واحتاجوا لقوتهم ... وطال حصرهم والجهد (¬485) والسهر وحرموا النوم طول الليل أن قدموا ... ذاك الحفير مع نسوانهم حفر [وا] كما البدور يذوب القلب من أسف ... لما رأى قد بدا من حسنها الشعر طال القتال، وطال الحصر مدته ... نحو الثلاثة أشهر كلها ضرر واستنفروا جنوة مع نابل وردت ... تلك الجيوش بذلك الرمل تنحشر والرمي يخدم (¬486) من كل الجهات فلم ... يفتر فريق ولم يهجع له بصر فكم جريح من الاسلام قد كسرت ... رجلاه برمي النار ما جبر [وا] وكم قتيلا غدا بالنار محترقا ... استشهدوا ولهم في قتلهم أجر وخربوا السور رميا ثم وانفتحت ... أماكن وتلاشى الحال واحتقر [وا] أما العباد فداس (¬487) الحسن أجمعهم ... برا وبحرا وماج الناس وافتكر [وا] فضل الجهاد وفضل الصبر فيه لذا ... قد قاتلوا قتلوا لكنهم ظفر [وا] فشاركوا الناس في جوف الحصون لذا ... مات الكثير وباقي القوم قد كسر [وا] يا لو ترى من بنات الناس كيف جرت ... منها الدموع على الخدين تنهمر ¬

(¬485) في ش: «جد». (¬486) أي ينبعث. (¬487) في ط: «الرأس».

درغوث باشا

من كل فاخرة بالمجد شامخة ... يغضى حياء لها من حسنها القمر كما الغزال (¬488) من الأشراف يملكها ... كمن كان عبد لها كالكلب يحتقر أشؤم به من نهار البين حين بدا ... أخذ الخليفة شر فيه مزدجر هذا الزمان الذي كنا نحذّره ... يا ليته ما بدا أو كان مندثر / إسمع كلامي فعل الله قد حكمت ... به المقادير إن الله مقتدر واستفرغ الدمع يا قمري منتحبا ... وقل قفا نبك هذا الدمع منهمر إني غريب وحالي صرت تعرفه ... ومن تغرب عن أهليه يحتقر وصرت تكره من نفسي تلاقيها ... أهل الصدور تخاف المل أن نظر [وا] ثم الصلاة على المختار سيدنا ... مدى الزمان بلا عد ولا حصر وارض عن الآل والأصحاب كلهم ... يا ربنا يا الاه العرش يا وتر درغوث باشا: وفي سنة ثمان وخمسين وتسعمائة (¬489) كان فتح (¬490) درغوث باشا (¬491) لمدينة طرابلس فمما نقل من رحلة العياشي (¬492) ما نصه: «ومما أفادنيه بعض فضلاء طرابلس من تاريخها أن العدو - دمره الله -، استولى عليها الإستيلاء الأخير سنة ست عشرة وتسعمائة بستة عشر من محرم (¬493)، وافتكت منهم سنة ثمان وخمسين وتسعمائة، وتاريخه نقط قولك: «جاء الترك بس» (¬494)، وافتكها منهم درغوث باشا وكان بجربة، ¬

(¬488) في ط: «الغزلان». (¬489) 1551 م. (¬490) في الأصول: «السّلطان درغوث» وأسقطنا «السّلطان» لتنافيها مع الحقيقة. (¬491) عنه وعن أعماله انظر مثلا عزيز سامح «الأتراك العثمانيون» ترجمة عبد السلام أدهم دار لبنان 1969. (¬492) هو أبو سالم عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي (ت.1090/ 1679 م) والرحلة العياشية، النسخة المعتمدة: طبعة ثانية مصورة بالأوفست، الرباط 1977، 1/ 66. (¬493) 25 أفريل 1510 والحقيقة أنه وقع الاستيلاء على طرابلس في 25 جويلية من نفس السنة أنظر مثلا «ليبيا منذ الفتح العربي» المصدر السابق ص: 138، وكان احتلال طرابلس بأمر من فرديناند الثاني الكاثليكي (Ferdinand II le Catholique) وتمّ على يد الكونت بدرودي نافارا (Le Conte Pietro di Navarro) وفي سنة 1530 ترك شارل الخامس المعروف بشرلكان (Charles Qint) أمر طرابلس، ولم تمض فترة طويلة حتى استرجعها شرلكان ووهبها للرهبان بمالطة». (¬494) عبارة وردت في عدة مصادر وترمز إلى احتكار الأتراك العثمانيين مدينة طرابلس وترجم فيرو (Feraud) محتواها بقوله: «ما على الأتراك إلاّ أن يأتوا».

ومراد باشا وكان بمسلاّتة (¬495)، وبقي بها درغوث إلى أن توفي، وقبره الآن مزار وعليه بناء عظيم». وسبب أخذها من العدو أن مراكب المسلمين جاءت من اسلامبول (¬496) مددا للعمارة المحاصرة لحلق الوادي بتونس - يعني بعد قدوم خير الدّين أولا، وكان باشا العمارة سنان باشا، أخا الوزير الأعظم رستم باشا وزير المرحوم السّلطان سليمان خان - (¬497) فمرت بسواحل طرابلس فكلمهم أهل السواحل في اعانتهم على النّصارى فقالوا انا لم نؤمر بذلك من السّلطان، فقال لهم الباشا مراد أعينوني في هذا الأمر فإن / كانت عقوبة فأنا المؤاخذ بها دونكم، فحاصروها برّا وبحرا إلى أن أخذوها فذهب معهم مراد باشا إلى السّلطان، وقال له: إن كانت عقوبة فأنا المؤاخذ بها دون هؤلاء الأمراء، فرضي السّلطان عنه وعنهم وأكرمهم (¬498). وأما أخذ النّصارى لها فذكروا لذلك قصّة غريبة، وهي أن أهل هذه المدينة فيما مضى كانوا أهل دنيا عريضة (¬499) فيما يقال، وليس فيهم عناء ولا لهم بالحرب خبرة، فبينما هم كذلك اذ قدمت سفن للنّصارى تجّارا بها سلع كثيرة فنزلت بالمرسى، فخرج إليهم رجلا من التجار فاشترى منهم جميع ما بأيديهم من السلع ونقد لهم ثمنها، ثم استضافهم رجل آخر فصنع لهم طعاما فاخرا، فلما قرب لهم الطعام أخذ ياقوتة ثمينة ودقّها دقّا ناعما وذرها على الطعام فبهتوا من ذلك، فلما فرغ قدم لهم دلاعا (¬500) فطلبوا سكينا لقطعها فلم توجد في داره سكين (¬501) ولا عند جاره إلى أن خرجوا للسوق فأتوا ¬

(¬495) مراد آغة، وكان بك تاجوراء. (¬496) في الرحلة العياشية: «اصطنبول» وكتبها المؤلف اسلامبول أي مدينة الإسلام طبقا لما كان شائعا، وكذلك كتبها تجار أهل مدينته آنذاك حسبما تثبت الوثائق التجّارية المحفوظة بمتحف صفاقس، واسلامبول كلمة معروفة في المشرق والمغرب. (¬497) اضافة تفسيرية من المؤلف عما في رحلة العياشي. (¬498) ما أورده العياشي عن سبب احتلال طرابلس من طرف درغوث ونقله مقديش هنا يتفق مع رواية ابن غلبون في تاريخه ص: 94 وتبناه فيرو (Feraud) في حولياته، ولكن روسي يرى في كتابه «ليبيا» أن الحملة ضد طرابلس كانت مدبرة من اصطنبول وبتوجيهات من السّلطان العثماني، ص: 174، ويقف عزيز سامح الذي اعتمد وثائق عثمانية نفس الموقف في كتابه: «الأتراك العثمانيون» ص: 49. (¬499) أي موسرة. (¬500) ما يعرف في الشرق بالبطيخ الأخضر. (¬501) ذكر بعض المؤرخين هذه القصة وهي شبيهة بالأسطورة لأن المسالمة والقصور من السلاح لا يبلغ هذا الحد اذ السكين لازمة الوجود في المطبخ وغاية ما في هذه القصة أننا نفهم منها أن هؤلاء التجار كانوا جواسيس.

أحمد الحفصي واستمرار التصارع العثماني الإسباني

بسكين، فلما رجعوا إلى بلدهم سألهم ملكهم عن حال البلدة التي قدموا منها فقالوا له: ما رأينا بلدا أكثر منها مالا وأقل سلاحا وأعجز أهل عن مدافعة عدو فحكوا له الحكايتين، فتأهّب ملكهم لدخولها في مراكب البحر فدخلها في ليلة واحدة بلا كبير مشقّة، واستولى عليها، ولم ينج من أهلها إلاّ من كان تسوّر ليلا، وانحاز المسلمون إلى تاجوراء، وجبال غريان ومسلاتة، وصارت المدينة للنّصارى / إلى أن كان من أمرها ما كان» (¬502) اهـ‍. ومما وقع في أيّام الحسن لما أدخل النّصارى لتونس انهم تمكنّوا من بناء حصار حلق الوادي (¬503)، وشاركوه في تصرّفاته في الأحكام، فأقاموا منهم كبيرا اسمه جوان بن جاكمو (¬504) في القصبة مشاركا للحسن في أحكامه وتصرّفاته، وصار معه كالمتمكّن على حلقومه بمدية أن قال لأقطعه. أحمد الحفصي واستمرار التصارع العثماني الإسباني: ثم إن أحمد الحفصي لما استقلّ بالأمر بعد أبيه التفت بما يقوم به في مصالح البلاد «وجد (¬505) الخزائن خالية لأن أباه أتلفها، وغلب النّصارى على أكثرها، وشرع أولاد سعيد في النهب على جاري عوائدهم، وكانوا يجاهرون بشن الغارات إلى أن آل بهم الحال ووصلوا إلى الجبل الأخضر (¬506) وساقوا (¬507) مواشي الأمير أحمد الحفصي، فخرج لهم بنفسه وأدركهم بسيجوم، وطعن شجاعا من شجعانهم، وركب ثلاثة آلاف فارس سمّاهم زمازمية وكانوا قبلا يسمون موحدية (¬508)، واستفتى أرباب الأحكام الشرعية في شأنهم» (¬509)، فأجابوا بأن ابن يونس المالكي لما سئل عن حكم أموال المفسدين القاطعين للطّرق المغيرين على المسلمين ويسفكون الدّماء وينهبون الأموال كبوادي الغرب وشبههم، ¬

(¬502) رحلة العياشي نقلا حرفيا ص: 66 - 67. (¬503) انظر اتحاف أهل الزمان 2/ 13. (¬504) في الأصول: «جاكموا» والتصويب من المؤنس ص: 168. (¬505) النقل بتصرف من المؤنس ص: 169. (¬506) فجاه باردو، الاتحاف 2/ 16. (¬507) في الأصول: «وسبوا» والتصويب من المؤنس. (¬508) في الأصول: «موحدين» والتصويب من المؤنس. (¬509) المؤنس ص: 169.

قال: قال سحنون لمالك - رضي الله تعالى عنهما -: أتكون دماؤهم وأموالهم هدرا؟ قال: نعم. قال ابن القاسم: وإن كان فيهم ركن من أركان الاسلام / مثل الذين يصلّون ويصومون شهر رمضان ويقولون لا إلاه إلاّ الله، محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال مالك - رحمه الله تعالى -: لو كانوا مسلمين ما ضرّوا باخوانهم المسلمين، وإن الجهاد فيهم فريضة، وقال مالك أيضا: جهادهم أحبّ إليّ من جهاد الرّوم، قال سحنون بن سعيد: مالهم سائغ حلال لمن أخذه كان بالوجفة (¬510) أو بغير الوجفة أو بسبب من الأسباب، صح من الأحكام، نقله ابن يونس من المدوّنة، ونقل عن الرّصاع مثل ذلك، وفي ابن ناجي تحريم مبايعتهم السّلاح حتى الأخفاف والرواحي. وكان المولى أبو عمرو عثمان الحفصي أجلاهم عن الوطن، وحددّ لهم السّكنى من وادران إلى القبلة لا يتعدونه (¬511). ثم إن أحمد الحفصي اتخّذ عسكرا من السّود لما كان يتوقّع من تملّك البلاد لقوم لغتهم العربية، فاتخذ لذلك الجيش السّوداني، ورفع منزلتهم رجاء أن يكونوا أولائك المرموز إليهم - حسبما وقع عليه في الأجفار أو أخبره به منجّموه - وكان له اهتمام بهذا الفن ودار على آذانه كثيرا أن الحكم ينتقل عنهم إلى رجل اسمه علي من غير جنس العرب، ويكون انقراض ملكهم على يديه، فأقام مملوكا من أعلاجه سمّاه عليا، وأجلسه مجلسه، وفوّض له الأمر (¬512)، ويأبي الله أن يكون إلاّ ما أراده وقدره ولا ينفع حذر مع قدر. هذا وإن النّصارى / الذين تخلفوا من نجدة الحسن - المتقدم الذكر - في غاية الاهتمام والإعتناء بانشاء الحصارات التي بحلق الوادي واحداث ما لم يسبق لحدوثه من قبل، وضايقوا الحضرة غاية الضّيق إلى أن صاروا يرمون الصّوف والجير على أهل تونس فإن أتوا به فذلك مرادهم، وإلاّ أغاروا عليهم برّا وبحرا وبارت (¬513) الحيلة في مدافعتهم فمن أعظم بناءاتهم حصار حلق الوادي والبرج المقارب له، والثّالث البستيون خارج باب البحر، أما الحصار فهو بناء عظيم كالمدينة مربّع، وعلى أركانه (¬514) الأربع أربعة ابراج في غاية الضخامة على كل ركن برج، والبحر من جنوبيها والبحيرة من الغرب، وحفروا ¬

(¬510) ساقطة من ش. (¬511) المؤنس ص: 170. (¬512) المؤنس ص: 171. (¬513) أي انعدمت. (¬514) في الأصول «أركانها».

حفيرا عميق الماء بينهما حتى أحاط الماء من جميع الجهات، وعند مجتمع البحر والبحيرة البرج، وتدخل سفنهم على هذا الحصن الأعظم، فترسي عند بابه، وعمق الخليج ستّون ذراعا، وقعره متّصل بالبحر، وخارج الحصن دور يسكنها المنافقون، وقدرها أزيد من مائتي دار والخندق والبحر محيط بالجميع، ونقبوا تحت الأرض نقبا طويلا يتّصل إلى البرج الخارج عن الحصن، وبين الحصن والدّور سور يمنع من يريدهم بسوء وعرض سور الحصن يسير عليه سبعة من الخيل من غير مضايقة ولا مزاحمة، وهو ذو وجهين خارج وداخل بحجارة ضخمة اقتطعوها / من الحنايا التي مرّ وصفها، وما بين وجهي السّور حشو الجير افراغا مع دقيق الحصباء كي يعسر نقبه، ولا تعمل فيه الآلات من البونبات والألغام والمدافع، وجعلوا كنيستهم وسطه ودواميس المياه المحكمة بأتقن الصّنع، وأقاموا في بنائه ثلاثا وأربعين سنة لم يخل يوم فيها من التّحصين، وأما البستيون فكان خارج باب البحر قرب كنيسة النّصارى، وكان أشد ضررا على أهل تونس من غيره لأنهم أرادوا أن يبنوا فيه حصارا ومدينة وقد ابتدؤوها، وفصّلوا (¬515) شوارعها وأسواقها، وكادت أن تسكن لولا لطف الله ومعالجة العساكر العثمانية، والذي تمّ لهم منه قلعة واحدة، فكانت الحرب عليها لما دخلت العساكر العثمانية كما يأتي إن شاء الله تعالى. ولما اشتدت أذيّة الكفّار للمسلمين وعجزوا عن مدافعتهم جعل الأمير أحمد حيلة فأظهر سفرا لافريقية (¬516) على جاري عادته وصحب في محلّته ألف فارس، وأردف كل فارس رجلا وسار إلى أن بلغ ماطرا، ورجع منعطفا وقصد الغزو إلى أهل حلق الوادي، ولكن خاف من جواسيس المنافقين من الأعراب الذين تزندقوا، فأخفى أمره ورجع على ناحية المعلّقة، وكمن هنالك وأرسل طائفة يسيرة من الخيل نحو الحصار، فتبعهم النّصارى ففر المسلمون أمامهم راجعين لتونس، فلما تباعدوا عن الحصار خرج الكمين لنحو / الحصار، فهرب من كان باقيا فيه من النّصارى، ودخلوا الحصار، وذهلوا من شدّة الفزع عن غلق الباب، ووصل المسلمون إلى الباب، فلم يقدروا على الدّخول لظنهم أن النّصارى أبقوه مفتوحا مكيدة، فرجع المسلمون فالتقوا بالنّصارى الذين كانوا تابعين للفارّين لتونس، فاقتتل الفريقان، فوقعت هناك مقتلة عظيمة بين الفريقين، وأكثر ما لاقى المسلمون من الأذى إنما كان من الزّنادقة المرتدّين من الأعراب، ثم إن الأمير ¬

(¬515) أي رسموا. (¬516) هي الشمال التونسي في اصطلاح للتونسيين.

أحمد جعل يكاتب باشاوات العساكر العثمانية بطرابلس والجزائر، وهادنهم وطمع في اعانتهم، فكانوا عليه لا له. فبعث أولا محمد القصبي في أيام الحسن بن خير الدّين، وجاء معه إلى الجزائر لاحسانه إليه، وبعث بعد ذلك أبا الطّيب تاجا الخضار للباشا علي وهو بمدينة طرابلس، وعاد مع الباشا علي إلى الجزائر، وكاتب حاكم قسنطينة، وجعل مع درغوث باشا صحبة أكيدة، ولما نزل درغوث باشا على جربة ليفتكها من أيدي النّصارى أرسل له الأمير أحمد مددا من العساكر والمؤونة (¬517) وافتكها على يد علي باشا الذي كان على طرابلس، وكان مكث جربة في أيدي النّصارى ستة أشهر. ثم إن الأمير أحمد خاف من علي باشا أن ينتزع منه تونس فطرقه همّ أشد من همّ النّصارى، وصار حائرا في أمره فدخل عليه أبو الطّيب الخضار فوجده / مطرقا إلى الأرض مطيل الفكرة، فسأله عن ذلك فقال له: «خوفا يفاجئني علي باشا ولا طاقة لي (¬518) به»، وكان الخضّار يود دخول العساكر العثمانية لفساد الحفصية من أجل أن أحمد الحفصي بعد أن استقامت أحواله رجع بالفساد وظلم العباد، ومدّ النظر إلى حريم النّاس، على عكس ما كان عليه أبوه من النّظر إلى أطفال المسلمين، فاجتمع عند أحمد أكثر من ثلاثمائة امرأة من بنات النّاس، فامتدت أيّامه حتى بلغ خمسا وعشرين وثلاثة أشهر ونصف. فخرج أحمد الحفصي من تونس إلى قتال بعض أحياء العرب، فلما بعد عن البلد اتفق الخضّار مع أهل البلد باستدعاء علي باشا من الجزائر لاستنقاذ البلاد من أيدي الحفصيين لفساد نظام ملكهم وغلبة الفساد عليهم، فراسل علي باشا وحرّضه على القدوم واغتنام الفرصة، فخرج من الجزائر في عساكر عظيمة، وانضاف إليه طوائف من الأعراب كمغراوة وسويد وغيرهم نحو سبعة آلاف، وأقبل يجرّ ذيل عسكره لتونس، فلما سمع الأمير أحمد تلقّاهم بما التأم (¬519) عليه من العساكر ليدافع عن نفسه، وكان الملتقى على باجة، ولم يكن معه سوى الزمازمية (¬520) مع ما انضاف إليه وهو ألف وستمائة رجل، فلم يغن عنه ذلك شيئا فانهزم عند الملتقى، وأخذت محلته، ووصلت عساكر علي باشا / إلى مجردة، وكان زائدا، فعسر عليهم مجاوزته، فأرسلوا إلى بنزرت فجاءت الأخشاب ¬

(¬517) في الأصول: «مونة». (¬518) في الأصول: «له». (¬519) في الأصول: «التم». (¬520) في الأصول: «زمازمة» والتصويب مما سبق ومن المؤنس ص: 173.

محمد الحفصي: نهاية الدولة الحفصية والاستقرار العثماني بتونس

والألواح فصنعوا جسرا عبرت عليه العساكر، فالتقى معهم ثانيا فهزم، ثم ثالثا فهزم، وتلاشت جموعه، فدخل تونس وجمع مهمّاته وذخائره وخرج خفية ليلا، فتبعه الأعراب ونهبوا ما قدروا عليه من ورائه وسار على طريق رادس، وقطع إلى حلق الوادي، فدقّ باب الحصار ليلا فلما عرفه النّصارى قبلوه وفتح أهل تونس لعلي باشا والمنادي ينادي بالأمان، ودخل القصبة، وفرح النّاس، وقبل البيعة للسّلطان سليمان خان - رحمه الله تعالى - ليلة النّصف من شعبان سنة سبع وسبعين أو ثمان وسبعين وتسعمائة (¬521)، وخطب بتونس وبجميع بلاد افريقية باسم السّلطان سليمان خان الثاني - رحم الله جميعهم - ثم إن علي باشا أقام رجلا مكانه باشا، وسار حتى لحق بعمارة السّلطان في البحر، وكانوا عازمين على ملاقاة الكفار، ثم إن الأمير أحمد أخذ يسعى في استجلاب عمارة من برّ النّصارى حتى وصلت لحلق الوادي فأخرج كبير النّصارى مكتوبا لأحمد فاذا فيه مقاسمة البلاد مالا وحكما بينهم وبين الأمير أحمد، فقال أحمد: إنما شارطتكم على المال لا على مشاركة الحكم، فقال النصراني: إن قبلت وإلاّ فعندي تحت يدي من يقبل المشروط وهو أخوك محمد، فرفع الأمير أحمد يده عن ذلك وذهب إلى بليرمو / من بلاد صقلية، فأقام بها إلى أن مات، وأتي به ليدفن في الزلاج، فبعد ثلاثة أيام دفن بسيدي قاسم الجليزي (¬522). محمد الحفصي: نهاية الدولة الحفصية والاستقرار العثماني بتونس: وأما محمد الحفصي فانه تقدم، وتحمل الشروط، ولما تحقق أهل تونس تولية محمد تذكروا وقعة الأربعاء التي كانت في أيام أبيه الحسن، ففروا إلى ناحية جبل الرّصاص وجعلوا لهم دواميس يستقرّون بها، فصدم النّصارى تونس وعجز عن مدافعتهم وصار في أهل تونس {إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} (¬523) ما تقشعرّ منه الجلود، حتى إن الذين فرّوا صنعوا نوالات (¬524) في الغابة، وتسولوا على بيوت الأعراب، ونالهم من الخوف والجوع ¬

(¬521) 1570 - 1571 م. (¬522) عن احتلال علي باشا التركي لتونس، وانهزام السّلطان أحمد الحفصي واستنجاده باسبان حلق الوادي وخاتمة أمره انظر المؤنس 172 - 175 والمؤلف ينقل عنه بتصرف. (¬523) سورة البقرة: 156. (¬524) الأفصح أن يقال «نواويل» جمع نوال لأن نوالات جمع قلة والنوال بيت من القصب.

ما يدهش الألباب، وبعد مدّة أظهر النّصارى الأمان واسترجعوا المسلمين لديارهم على شرط أن من وجد داره غير معمورة بالنّصارى سكنها، ومن وجد بها كافرا فوّض أمره إلى الله. وقسّمت المدينة بين المسلمين والنّصارى، فاختلط النّصارى بالمسلمين، وأهين المسجد الأعظم، ونهبت خزائن الكتب التي كانت به، وداستها الكفرة بالأرجل، وألقيت تصانيف الدّين بالأزقّة تدوسها حوافر خيل الكفّار، حتى قيل إن أزقة الطيبيين بجانب جامع الزيتونة كانت كلها مجلدات ملقاة تحت الأرجل، وضربت النواقيس، وربطوا الخيل بالجامع الأعظم ونبش قبر سيدي محرز بن خلف، فلم يجدوا به إلاّ الرمل وفعلوا بالمسلمين ما يفعل العدو بعدوه / وكل دار مسلم مجاورة لدار نصراني، وكبير النّصارى ساكن بالقصبة مع محمّد الحفصي يجلسان معا بالقصبة للحكم، واستعمل النّصراني سياسة الرّفق بالنّاس ورفع الجور في الحكم، هذا كله وقع لأهل المدينة والربض القبلي (¬525)، لانهم تحت رمية المدفع، فلم يجدوا بدّا من المساعدة، وأما ربض باب السويقة فإنهم (¬526) انحازوا إلى ناحية، ومنعوا أنفسهم من الإهانة. وفي هذه المدّة كان شروعهم في مدينة البستيون (¬527) - المقدمة الذكر - فلاقى أهل تونس من الكفار سوء العذاب. وأما الباشا الذي بتونس وجنوده فانهم لما دهمتهم النّصارى ورأوا أمرا لا طاقة لهم به خرجوا لناحية الحمّامات، فامتنعوا (¬528) من فتح الأبواب، فذهبوا للقيروان، وكان بها حيدر باشا الذي ضرب الحيدري (¬529)، وقيل إن الباشا الذي كان بتونس هو حيدر المذكور وإنه لما أحس بغلبة الكفّار خرج هو وأهل البلد جميعا إلى جهة القيروان، فجاء عسكر الكفّار واستولى على تونس. فلما خرج حيدر بمن معه أتبعهم في ذهابهم النّصارى فاقتتلوا فانهزم النّصارى، وبعث من رؤوسهم أحمالا للقيروان، ورجعوا للحمّامات محاصرين لهم ففتحوها عنوة، فقتلوا الرّجال وسبوا النّساء والأطفال، ونهبوا / الأموال وافتكّ الشّيخ الجديدي [منهم] ¬

(¬525) هي ربض باب الجزيرة. (¬526) أي أهله. (¬527) في الأصول: «البستيور». (¬528) أي أهل الحمامات. (¬529) بعدها في المؤنس «المشهور بالقيروان» ص: 177.

تتمة من الناسخ

النساء والأطفال ثم التحق العسكر وحيدر باشا بالقيروان، فأقاموا بها عشرة أيام وتقوّت شوكة النّصارى بتونس، وضاق الأمر على من بالقيروان حتى أراد حيدر باشا الفرار من القيروان، وكان يتردد على الشّيخ الصالح سيدي أحمد الرّنان (¬530) - رحمه الله - يصبّره ويعده النصر فيقف الباشا عند اشارته، ثم تحرّك حيدر باشا بمن معه من العساكر لتونس فنازلوها، وأقاموا عليها، فعجزوا عن فتحها حتى فرغت أزوادهم لأن الكفار أبقوا بتونس لمقاتلة المسلمين الواردين عليهم ثمانية آلاف مقاتل، فعجز حيدر باشا ومن معه عن الفتح وهموا بالإنصراف عنها، فبينما هم كذلك اذ قدمت العساكر العثمانية في المراكب لتونس (¬531)، وفتحوها حسبما يأتي - إن شاء الله تعالى -. وكان بذلك انقراض دولة الكفّار ودولة بني حفص، وكان ابتداء دولة بني حفص سنة ثلاث وستمائة (¬532) من أول ما تولّى أبو محمد عبد الواحد، وإن دخل في ذلك غيرهم حسبما مرّ تفصيله وانقرضت سنة احدى وثمانين وتسعمائة (¬533) فكانت المدة من أولها إلى آخرها ثمانية وسبعين وثلاثمائة سنة. ولنرجع الآن إلى ذكر أصل الدولة السعيدة دولة / آل عثمان - أبقاها الله ببقاء الزمان وجعلها دولة مباركة - {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ} (¬534) {تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها} (¬535) وهي خاتمة الدول وختامه مسك. تتمة من الناسخ: كمل الجزء الأول من نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار، ويتلوه - إن شاء الله تعالى - الجزء الثاني، مبدؤه المقالة الحادية عشر في ذكر دولة آل عثمان تأليف الشّيخ الإمام وقدوة الأنام، ومجلي الظلام علامة زمانه، وفريد دهره وأوانه، حامل قول التحقيق، ومالك أزمة التوفيق، قدوة الأفاضل ومجلي المعاطل، بقية السلف، وعمدة ¬

(¬530) كذا في المؤنس، وفي اتحاف أهل الزمان 2/ 19، «الزقاق» هو تحريف أو خطأ مطبعي. (¬531) المؤلف ناقل لما في المؤنس ص: 177 - 178. (¬532) 1206 - 1207 م. (¬533) 1573 - 1574 م باحتلال حلق الوادي من طرف سنان باشا. (¬534) في الأصول «كشجرة مباركة. . .» سورة ابراهيم: 24. (¬535) سورة ابراهيم: 25.

الخلف، شيخنا وشيخ شيوخنا الحاج الناسك الأبر أبو الثناء محمود بن سعيد مقديش الصفاقسي أصلا ووطنا وقرارا المالكي مذهبا، الأشعري اعتقادا، أسبل الله علينا وعليه جلابيب ستره بجاه سيدنا محمد نبيه وعبده، ونسأل الله المنان بفضله أن ينفع به من تسبب فيه، ومن كتبه وقرأه، وأن يجعلنا من حزبه، وأن ينفعنا به وبأمثاله، ورحم الله عبدا قرأه ورآى فيه نقصا أو تحريفا أو زيادة أو تقديما أو تأخيرا أو غلطا فقل أن ينجو من ذلك لأن الناسخ لا يخلو من النقص والغلط كتابه فأصلحه ليحصل الثواب للجميع، و {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (¬536)، ونعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد النبي المصطفى الكريم وعلى آله وأصحابه الطاهرين الطيبين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، ووافق الفراغ من نسخه من الأصل بخط المؤلف رضي الله عنه ونفعنا به ضحوة يوم الثلاثاء المبارك السابع من شهر جمادى الثانية سنة ثمان وثلاثين ومائتين بعد الألف (¬537) من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ¬

(¬536) سورة آل عمران: 183. (¬537) 1822 م.

المقالة الحادية عشرة في ذكر دولة آل عثمان

المقالة الحادية عشرة في ذكر دولة آل عثمان وفيها ثلاثة أبواب الباب الأول في ذكر سلاطينهم لوقت التاريخ بداية الدولة العثمانية: وأصلهم من التراكمة (¬1) الرحالة النزالة (¬2) (وهم طائفة من التتار) (¬3) وأوّل من تولّى منهم السّلطنة (¬4) في بلاد الرّوم ونسبوا إليه السّلطان عثمان - رحمه الله تعالى - ابن أرطغرل (¬5)، إبن سليمان شاه، ويتصل نسبه إلى يافث إبن نوح - عليه السّلام - وهو تمام [الجد] (¬6) الأربعين لحضرة سلطاننا (¬7) السّلطان سليم خان (الذي فتح مصر من يد ¬

(¬1) النقل من الإعلام بأعلام بيت الله الحرام للنهروالي بتصرف، ص: 250. (¬2) كذا في ط والنهروالي، وفي ش وب وت: «النازلة». (¬3) ما بين قوسين ساقط من ط. وتتار تكتب أيضا تتر وتاتار، دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة العربية 9/ 210. (¬4) في ش: «السلطنية». (¬5) كذا في ط وبروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية 3/ 13، ومحمد فريد بيك المحامي: تاريخ الدولة العلية العثمانية ص: 115، وفي ش وب: «الطغرل»، وفي ت: «أرطغل». (¬6) إضافة من الإعلام. (¬7) إن يقصد سلطان عصره فهو سليم خان الثالث، ولا يتماشى ذلك مع ما سيأتي إذ أن الذي دخل مصر وتملّكها هو سليم خان الأول بن با يزيد، ولي السلطنة: 918 - 927/ 1512 - 1520.

الغوري) (¬8)، وكان (¬9) توليه السلطنة (¬10) في بلاد الروم سنة تسع وتسعين وستّمائة (¬11)، وإنما لم نذكر أسماء أجداده لأنها أسماء غير عربية يعسر ضبطها، فلذا قال الأزرقي (¬12): «لما كانت أسماؤهم بلغة الترك القديمة لم نذكرها لعسر ضبطها، وهي مذكورة في التواريخ التركية، وكان سليمان شاه سلطانا في المشرق ببلاد ماهان (¬13) قرب بلخ، فلما ظهر جنكز (¬14) خان - المقدم الذكر - في آخر دولة بني العباس أخرب (¬15) بلاد بلخ، وأخرج منها السّلطان علاء الدين (¬16) خوارزم شاه، وتفرقت (¬17) أهل تلك الممالك، وخرج / سليمان شاه من بلاد ماهان (13) بمن معه من التركمان إلى أرض الروم ومرّ بحلب، وعبر من (¬18) بحر الفرات، فغرق بفرسه في الفرات (¬19) وسار إلى عفو الله تعالى - رحمه الله - ¬

(¬8) هو الملك الأشرف أبو النصر سيف الدين قانصوه الغوري الظاهري الأشرفي أصله من مماليك الأشرف الظاهر خشقدم، ثم انتقل إلى الأشرف قائد باي، تولى السلطنة بمصر 906 - 922/ 1501 - 1516 م، التقت جيوشه مع جيوش سليم الأول في واد يقال له مرج دابق قرب حلب من بلاد الشام وهزم الغوري وقتل، وتولى بعده على مصر طومان باي الذي هزمه سليم قرب القاهرة في محرم 923 / جانفي 1517 م وشنق طومان باي فكان آخر سلاطين المماليك بمصر. وما بين القوسين إضافة من المؤلف عما في الإعلام. (¬9) يقصد السلطان عثمان. (¬10) في ش: «السلطنية». (¬11) 1299 - 1300 م. (¬12) كذا في الأصول، والصحيح النهروالي لأن أبا الوليد الأزرقي محمّد بن عبد الله بن أحمد صاحب أخبار مكّة توفي قبل قيام الدّولة العثمانية بقرون، إذ أنّه توفي نحو سنة 250/ 865، وقطب الدين النهروالي محمد بن أحمد بن محمد (917 - 990/ 1511 - 1582) أو توفي 988/ 1580 م. من أهل مكّة، المحدث المؤرخ الأديب، فمن المقبول والمعقول أن يتحدث عن سلاطين الدولة العثمانية، وذلك في كتابه المطبوع «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام»، ويظهر أن الذي أوقع المؤلف في الخطأ أنه ربما كان يملك مجلدا في أوله أخبار مكّة للأزرقي ثم بعده كتاب النهروالي فظنهما كتابا واحدا، وهذا يدلّ على قصور في معرفة التراجم إذ لو كان يعرف تاريخ وفاة الأزرقي لتحامى من الوقوع في مثل هذا الخطأ الفاحش. (¬13) في ش وط وب: «ماهرة» وفي ت: «قاهرة» والمثبت من الإعلام ص: 250 ومعجم البلدان 5/ 48. قال عنها ياقوت: «مدينة بكرمان». والعرب تسميها بالجمع فتقول «الماهات» قال القعقاع بن عمرو: [الطويل] جدعت في الماهات أنف فارس بكل فتى من صلب فارس خادر (¬14) أثبتناها كما في الجزء الأول من هذا الكتاب، وفي الأصول: «جنكر» وفي الإعلام «جنكيز». (¬15) في الأصول: «قرب» والمثبت من الإعلام ص: 251. (¬16) في ش وب: «علاي الدين». (¬17) في الأصول: «تفرقت». (¬18) في ت: «على بحر الفرات» وفي الإعلام: «عبر بحر الفرات». (¬19) كذا في ب وت والإعلام ص: 251، وفي ش وط: «بحر الفرات».

وتفرق من معه من التركمان في تلك البلاد، وذراريهم باقون رحالون نزالون إلى الآن، وكان لسليمان شاه أربعة أولاد اثنان منهم توجها لبلاد العجم [وهما] سنقر (¬20) وديندار (¬21)، وتوجه (¬22) الباقيان وهما أرطغرل (¬23) وكون دوغدي (¬24) إلى بلاد الرّوم، فقدما على السّلطان علاء الدّين السّلجوقي، وكان إذ ذاك سلطان قرمان، وتحت ملكه قونية، فأكرم نزلهما (¬25) وأذن لهما بالإقامة في أرضه فاستأذناه في جهاد الكفار، واجتمع عليهما من التراكمة طائفة من الغزاة (¬26)، فصار دأبهم الجهاد في سبيل الله، وكان مقرّهم ما بين قره (¬27) حصار وبليجك (¬28) في محل يقال له سكوتجك (¬29) صيّروه ملتقى لهم (وجبل أيلاتيج (¬30) جعلوه ملتقى لهم أيضا) (¬31) فسكنوهما مع مواصلة الجهاد والغزو حول (¬32) تلك البلاد إلى أن توفي أرطغرل في سنة تسع وثمانين وستمائة (¬33). وخلّف أولادا أنجادا أشدّهم وأقواهم جأشا وبأسا السّلطان عثمان. وكان مولده سنة ست وخمسين (¬34) وستمائة، دأب مع والده في الجهاد في سبيل الله، فاستمرّ بعده على قتال الكفار، فرآى السّلطان علاء (¬35) الدّين / (¬36) [جدّه وجهده في الجهاد وعلم قابليته ونجابته في فتح ¬

(¬20) في الأصول: «سنقرد» والمثبت من الإعلام. (¬21) في الأصول: «روبندار» والمثبت من الإعلام. (¬22) كذا في ط وب والإعلام، وفي ش وت: «توجها». (¬23) كذا في ط وفي بقية الأصول محرفة. (¬24) في الأصول: «كوز دوغدي» والمثبت من الإعلام. (¬25) في ش: «نزالهما». (¬26) في ش وت: «الغزات». (¬27) في ش: «قرة حصار»، وفي ب وت: «كرة حصار»، وفي ط: «كره حصار» والمثبت من الإعلام ص: 251 وتاريخ الدّولة العلية ص: 118 وتوجد أماكن في تركيا باسم قره حصار أي القلعة السوداء، والمكان المقصود هنا هو بلدة أفيون قره حصار القريبة من قونية. (¬28) في الأصول: «بلجة» والتصويب من الإعلام ص: 251. (¬29) بالكاف الفارسية كالجيم المصرية. (¬30) في ش: «أيتاليج» والتصويب من الإعلام. (¬31) ما بين القوسين ساقط من ط وت وب، وفي الإعلام: «وجبل أيلاتيج صيروه ملتقى لهم أيضا» ص: 251. (¬32) في الأصول: «وحول». (¬33) 1290 م. (¬34) في الأصول: «سنة 659» والتصويب من الإعلام، ويقابله بالميلادي 1258 م. (¬35) في ش: «علاي الدين». (¬36) بعدها في ش بياض 3/ 2 صفحة [2 - أ] وفي بقية الأصول، الكلام بعدها مسترسل.

السلطان أورخان

أطراف تلك البلاد، فأكرمه وأعزّه وأمدّه بأنواع الإعانة والإمداد، وأرسل إليه الرّاية السّلطانيّة، والطّبل والزمر ووسمه بإسم السّلطنة تقوية ليده وشدّا لعضده، فلمّا وصل الطّبل والزّمر إليه عملوا نوبة بين يديه، فعند أول سماعه صوت الطّبل والزّمر قام على قدميه تعظيما لذلك، فصار ذلك قانونا لآل عثمان باقيا مستمرّا إلى الآن، فإنهم يقومون على أقدامهم عند ضرب النوبة على أبوابهم] (¬37). السّلطان أورخان: [ثم ولي بعده إبنه السّلطان أورخان الغازي في سنة 726 (¬38)، وكان السّلطان أورخان فاق والده في الجهاد، وكان له ولد نجيب إستأذن من والده أن يعدى إلى روميلي ويقاتل الكفّار مع خدّامه، فعدوا إلى روميلي] (¬39) فصادفوا الكفّار في غفلة، وهم يريدون العبور إلى جهة أناضول (¬40)، فوقع حرب عظيم قتل فيه من الكفّار ما لا يعدّ ولا يحصى، وانهزم الباقون إلى القلاع والحصون، وتبعهم المسلمون يأسرون ويقتلون، فنصر الله الإسلام، وهزم الكفّار، وفتح المسلمون عدة قلاع وحصون، ورجع سليمان بك إلى والده مؤيّدا منصورا، وتوفي السّلطان أورخان سنة إحدى وستين وسبعمائة (¬41) وعمره ثلاث وثمانون سنة. السّلطان مراد خان الغازي: ثم ولي بعده السّلطان مراد الغازي، مولده سنة سبع وعشرين وسبعمائة، وجلوسه على التخت في بروسا (¬42) سنة إحدى وستين وسبعمائة، وافتتح كثيرا من البلاد منها ¬

(¬37) إضافة من الإعلام لسد البياض المشار إليه، وأسقط المؤلف أيضا الكلام عن بقية سلطنة عثمان. (¬38) 1326 م. (¬39) إضافة ملخّصة من الإعلام ص: 252 - 253 ليتمّ الرّبط. (¬40) في الأصول: «أنضولي» وصوبناها كما تكتب عادة وكتبها النهروالي «أناطولي»، وتكتب أيضا «أناطول». (¬41) 1359 - 1360 م. (¬42) في ت: «برزق»، وفي ط: «بروق»، وفي ب: «برون»، وفي ش: «بروز» والمثبت من الإعلام ص: 253.

السلطان با يزيد خان الأول

أدرنة (¬43) في السنة المذكورة، وهو أول من اتّخذ المماليك وسمّاهم يكيجري (¬44) أي العسكر الجديد وكساهم اللّباد البيض (¬45) المثني إلى خلف، ويسمى بركا (¬46)، بضم الباء الموحدة وسكون الراء آخره كاف. وكانت له - رحمه الله - صولة عظيمة على الكفّار، واجتمعت النّصارى على سلطانهم أسبوت (¬47)، فقاتلهم السّلطان مراد قتالا شديدا، قتل سلطانهم وانهزموا، فأظهر واحد من ملوكهم الطّاعة إسمه يلواش (¬48) فتقدّم لتقبيل يد السّلطان، فلما قرب منه أخرج خنجرا كان أعدّه في كمّه فضرب السّلطان مراد فاستشهد - رحمه الله تعالى - سنة اثنين وتسعين وسبعمائة (¬49)، فصار القانون العثماني من ذلك اليوم أن لا يدخل على السّلطان أيلجي ولا غيره بسلاح، وأن تفتّش ثيابه وأن لا يدخل / على السّلطان إلاّ بين رجلين يكتنفانه (¬50)، فكانت مدة سلطنته إحدى وثلاثين سنة (¬51). السّلطان با يزيد خان الأول: وولي السّلطنة بعده السعيد يلدرم (¬52) با يزيد (¬53)، مولده سنة ثمان وخمسين وسبعمائة (¬54) وولي السّلطنة وعمره اثنتان (¬55) وأربعون سنة، واستولى - رحمه الله - على ¬

(¬43) تنسب للإمبراطور الرّومي أدريان الّذي أجرى فيها عدة تحسينات أوجبت إطلاق إسمه عليها وذلك خلال القرن الثاني للميلاد. (¬44) في ط: «يكنجري» وفي ش وت وب: «يكنجدي» وفي تاريخ الشعوب الإسلامية: «يني جري» «يكي جري» 3/ 21، والتصويب من الإعلام ص: 253. والكاف تلفظ نونا ومعنى اللفظة الجند الجديد. (¬45) في الإعلام: «أبيض». (¬46) في الأصول: «برك». (¬47) في ت: «السهوة»، وفي ب وش وط: «استهوت» والتصويب من الإعلام. (¬48) في ش وت: «بلواش»، وفي ب: «بلواس»، وفي تاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان «ميلوش كوبيلتش» 3/ 26 والتصويب من الإعلام. (¬49) 1390 م. (¬50) في ش وب: «يكشفانه»، وفي ط وت: «يكتّفانه» والمثبت من الإعلام. (¬51) عن السّلطان مراد، أنظر الإعلام للنهروالي ص: 253. (¬52) كذا في ط والإعلام ص: 254، وفي ت: «بلدوم»، وفي ب: «بلدرم» وكلاهما تحريف ويلدرم معناها «الصاعقة» وللسّلطان يلدرم با يزيد ترجمة في الضّوء اللاّمع للسخاوي 11/ 148 - 149، وشذرات الذهب 7/ 47 في ترجمة تيمور لنك. (¬53) في الأصول: «أبو يزيد». (¬54) 1356 - 1357 م. (¬55) في الأصول: «اثنان».

كثير من قلاع النّصارى وبلادهم وأراضيهم، فصارت النّصارى تلتمس إلى بعض ملوك الطّوائف في بلاد الرّوم الإستعانة (¬56) على السّلطان يلدرم (52) فلزمه - رحمه الله تعالى - أن يستولي على ملوك الطّوائف، وضيّق على جماعة منهم مثل إبن كرميان (¬57) أخذه وحبسه مع أحد وزرائه، فهرب مع وزيره من الحبس إلى تيمور لنك، وهرب أيضا إبن منتشا (¬58) منه وحلق لحيته وحواجبه وصار في صورة قلندري (¬59) وهرب إلى تيمور لنك وكذلك ابن أيدين (¬60) هرب (¬61) في صورة سقطي بياع (¬62) الخرزات (¬63)، وكذا إبن أسفنديار (¬64) وغيرهم من أمراء تلك الدّيار وملوكها، فملك جميع بلادهم، فوصلوا (¬65) إلى تيمور لنك وشكوا من (¬66) السّلطان با يزيد (¬67) خان، وحسّنوا له أن يصل إلى بلاد الرّوم، فوصل إلى البلاد الشّامية والحلبية (¬68)، وقتل فيها وسفك الدّماء، وعاث في الأرض، وأخذ تلك البلاد، وأسّر أهلها ونهب المسلمين، وشرح ذلك يطول حسبما أشرنا إليه في ترجمة تيمور لنك، واستمرّ تيمور على الفساد (¬69) إلى أن وصل إلى أذربيجان (¬70)، فخرج با يزيد - رحمه الله - إلى قتاله، فلما التقى الجمعان قرب أنقره (¬71) هرب من عساكر السّلطان با يزيد (67) طائفة التّتار / وعسكر منتشا وعسكر ¬

(¬56) في ط: «الاستمانة». (¬57) في ط: «أمير كرميان»، وفي ت: «ابن كرتمان»، وفي ش وب: «ابن كرمتان»، والتصويب من الإعلام ص: 254. (¬58) في ط: «أمير منتشا». (¬59) في ش وط وب: «قلزري»، وفي ب: «قلوزي» والتّصويب من الإعلام. (¬60) في ش وت وب: «ابن يزيد»، وفي ط: «أمير يزيد» والتّصويب من الإعلام. (¬61) كذا في ش والإعلام. ساقطة من بقية الأصول. (¬62) في الأصول: «بسباع» والتّصويب من الإعلام. (¬63) في الأصول: «خرازات» ج خرزة والخرزات هي فصوص من حجارة وقيل فصوص من جيد الجوهر ورديئة من الحجارة. تاج العروس 4/ 33. (¬64) في ش وب وت: «ابن سفنديار»، وفي ط: «أمير سقنديار» والتّصويب من الإعلام. (¬65) كذا في ش وب وت، وفي ط والإعلام: «وصلوا». (¬66) في ط: «إلى». (¬67) في الأصول: «أبي يزيد». (¬68) كذا في ط والاعلام، وفي ب: «فوصل إلى بلاد الشامية»، وفي ت: «فوصل إلى البلاد الشامية»، وفي ش: «فوصل تلك البلاد الشامية». (¬69) في ط وت: «فساده» وفي الإعلام: «يفسد في الأرض». (¬70) في الأصول: «أدريافك» والتصويب من الإعلام. (¬71) في الإعلام: «أنكورية» وتكتب بالطريقتين.

كرميان، وتركوا السّلطان با يزيد (67) خان وذهبوا إلى تيمور لنك، واشتدّ الحرب وقتل من أولاد السّلطان با يزيد (67) مصطفى، فشرع عسكره في الرجوع إلى خلف، وثبت السّلطان با يزيد (67) وقليل ممّن معه واستمرّ يقاتل إلى أن وصل إلى تيمور بسيفه فقاتل بنفسه وقد عجزوا عنه فرموا عليه (¬72) بساطا وأمسكوه (¬73) فحبسوه (¬74) حسبما أسلفنا (¬75). فقبضوا عليه وحملوه عند إنصرافهم من بلاد الرّوم، فلم يزل معهم إلى أن وصلوا إلى حدود تبريز، وكان قصد تيمور أن يطلقه إذا وصلها لكن أخذه - رحمه الله تعالى - مرض الخناق وضيق النّفس فلم ينفع (¬76) فيه الدّواء، ولمّا تحقّق - رحمه الله تعالى - فراغ العمر المعلوم، وحلول الأجل المحتوم، أوصى تيمور لنك (¬77) وقال له: لي إليك (¬78) ثلاث نصائح: أولاهن أن لا تقتل رجال الأروام فإنهم رداء الإسلام، وأنت أولى بنصرة الدّين لأنك تزعم أنك من المسلمين، ثانيهن أن لا تترك التّتار بهذه الدّيار فإنك إن تذرهم يملؤوها من قبائلهم نارا وهم على المسلمين أضرّ من النّصارى، ثالثهن أن لا تدير (¬79) التخريب في قلاع المسلمين وحصونهم، ولا تجلهم عن مواطنهم وحركتهم وسكونهم، فإنها معاقل الدّين وملجأ الغزاة (¬80) والمجاهدين، وهذه أمانة حمّلتكها، وولاية قلّدتكها، فقبلها بأحسن قبول وحمل الأمانة ذلك / الجهول ولمّا قضى نحبه - رحمه الله تعالى - تأسّف وحزن وبكى ودفن بتبريز، ثم نقله ولده موسى جلبي (¬81) بمعرفة (¬82) تيمور إلى تربته بمدينة بروسا (¬83) فتوفي - رحمه الله تعالى - سنة خمس وثمانمائة (¬84). ¬

(¬72) في ط: «عنه». (¬73) في الأصول: «مسكوه». (¬74) هنا ينتهى نقله من الإعلام فيما يتعلق بالسّلطان يلدرم با يزيد، وبعدها في الإعلام: «فحصل له حمى عضبية فتوفي إلى رحمة الله تعالى في سنة 805» ص: 254. (¬75) أنظر ج.1 ص: 296. (¬76) في ت: «يجتمع»، في ب: «ينجع» وفي ط: «ينجح». (¬77) في ط وت وب: «تيمور». (¬78) في ط وت وب: «عليك». (¬79) في ش: «تريد». (¬80) في الأصول: «الغزات». (¬81) مع بقاء موسى في حالة الأسر وفي حراسة أمير كرميان. تاريخ الدولة العلية ص: 147. (¬82) في ط: «بمعونة». (¬83) وتكتب: «بروسة» و «بورصة» أيضا. (¬84) في الأصول: «خمس عشرة وثمانمائة»، وفي الإعلام: «توفي إلى رحمة الله سنة 805 هـ ‍» ص: 254، وفي تاريخ الدولة العلية: «مات في 15 شعبان 805» ص: 146 وهو التاريخ الذي اعتمده بروكلمان 3/ 31، ودائرة المعارف الإسلامية 1/ 1151 - 1153 ويقابله بالميلادي: 1402 - 1403 م.

السلطان مراد خان الثاني

السّلطان محمّد خان: وخلف بعده أولاده (¬85) وهم: موسى وعيسى وسليمان وقاسم ومحمد، فاستقل (¬86) بالسّلطنة السّلطان محمد خان إبن السّلطان يلدرم بايزيد خان سنة ستّ عشرة وثمانمائة (¬87)، ومولده سنة سبع وسبعين وسبعمائة (¬88)، وإستقلّ بالملك وعمره تسع وثلاثون سنة، فمكث في السّلطنة تسع سنين، وعاش ثمان وأربعين سنة، وكان شجاعا مقداما مجاهدا، إفتتح عدة قلاع وبلاد، فمن ذلك قلعة قسطمونية وقلعة أسكب (¬89) وقلعة صامسون (¬90) وأقشهر (¬91) وغيرها، ثمّ انتقل إلى رحمة الله تعالى سنة خمس وعشرين وثمانمائة (¬92). السّلطان مراد خان الثاني: ثمّ ولي بعده السّلطان مراد خان الثّاني ابن محمد خان بن يلدرم خان بايزيد، مولده سنة ست وثمانمائة (¬93). جلس على تخت السّلطنة وعمره ثمانية عشر عاما، ومدة سلطنته إحدى وثلاثون سنة، وكان ملكا مطاعا مقداما، فتح الفتوحات كبلاد سمندرة وقلعة مورة (¬94) وغير ذلك، وقاتل قرال أنكروس (¬95) وهزمه وأسّر منه خلقا كثيرا، واستمرّ يجاهد الكفار إلى أن انتشا (¬96) له ولده السّلطان محمّد فرآى أهليته لسرير السّلطنة فنزع عن الملك لولده (¬97) وتوفّي وسنه تسع وأربعون سنة. ¬

(¬85) رجع إلى النقل من الإعلام، للنهروالي ص: 255. (¬86) بعد فتنة طويلة بين الأخوة. (¬87) 1413 - 1414 م. (¬88) كذا بالأصول والإعلام ويقابله بالميلادي 1375 - 1376، وفي تاريخ الدولة العلية ولد سنة 781/ 1379 م. (¬89) في الأصول: «اسلف» والتصويب من الإعلام ص: 255. (¬90) في الأصول: «صامور» والتصويب من الإعلام. (¬91) في الأصول: «أقشير» والتصويب من الإعلام. (¬92) 1422 م، وعن السلطان محمد خان أنظر الإعلام للنهروالي ص: 255 - 256 نقل المؤلف ما فيه مع إختصار بالحذف. (¬93) 1403 م. (¬94) في ط: «مرورة» وفي ب: «موورة» والتصويب من الإعلام ص: 256. (¬95) في الأصول: «من آل الكروس» والتصويب من الإعلام. (¬96) في الأصول: «انتشى» والتصويب من الإعلام. (¬97) عن السّلطان مراد الثاني أنظر الإعلام للنهروالي ص: 256، والضّوء اللاّمع 10/ 152، ونظم العقيان للسيوطي ص: 175.

السلطان محمد الثاني

السّلطان محمّد الثاني: فتولّى ولده السّلطان محمّد بن مراد خان سنة ست وخمسين وثمانمائة (¬98)، فجلس على التّخت / وقد استكمل عشرين سنة، وكانت مدة سلطنته إحدى وثلاثين سنة كأبيه (وكان من أعظم سلاطين آل عثمان، وهو الملك الأصيل، الفاضل النّبيل، الطاهر الجليل) (¬99) أعظم السّلاطين جهادا، وأقواهم إقداما واجتهادا، وأشدّهم بأسا، وأقواهم على الحرب إيرادا، وأكثرهم على الله توكّلا واعتمادا، وهو الذّي دعّم ملك بني عثمان، وشدّ أركانه وأعلى مناره، وشدّ (¬100) بنيانه، قنّن لهم قوانين صارت كالأطواق في جيد الزّمان، وله مناقب جميلة، ومزايا فاضلة جليلة، وآثار (¬101) باقية على صفحات اللّيالي والأيام، ومآثر لا يمحوها تعاقب السّنين والأعوام، وغزوات كسّر بها أصلاب (¬102) الصّلبان والأصنام، ورغم أنوف الكفرة اللئام، فمن أعظم غزواته، ولو لم يكن له سواها لكفت في علوّ شأنه وعزّة سلطانه، الغزوة العظمى التي فتح بها القسطنطينية الّتي كان بها افتخار الكفرة على الإسلام، ففتحها وبدّلها الله من رجس الكفر بطهارة الإسلام، فلما أراد غزوها - رحمه الله - ساق إليها السّفن بحرا تجري رخاء وسيرا، وجهّز إليها العساكر برّا، وهجم عليها بجنوده، فالتقى الجمعان على أمر قد قدّر وأقدم عليها بخيله ورجله (¬103) فكان على الكافرين يوم نحس مستمرّ وعلى المسلمين يوم ظفر ونصر، فحاصرها ستّين (¬104) يوما أشدّ حصار، حتّى أتاه الله بالفتح المبين، ونزلت بنصره جنود النّصر والتّمكين / ففتحها في اليوم الواحد (¬105) والسّتين من أيّام محاصرتها وهو يوم الأربعاء تمام العشرين من جمادى الآخرة من شهور سنة سبع وخمسين (¬106) أو ست وخمسين ¬

(¬98) 1452 م. (¬99) ما بين القوسين ساقط من ط وب وت، وفي الإعلام نجد: «وكان من أعاظم سلاطين آل عثمان وهو الملك الضليل، الفاضل النبيل، العظيم الجليل» ص: 256 - 257. (¬100) كذا في ت وط وب، وفي ش: «شيد». (¬101) في الأصول: «آثارا». (¬102) في الأصول: «أصالب» والتّصويب من الإعلام ص: 257. (¬103) في الإعلام: «رجاله». (¬104) في الإعلام: «خمسين يوما»، وفي تاريخ الدولة العلية ص: 161 - 164: «بدأ الحصار في أوائل أفريل 1453 م، وانتهى في 29 ماي من السنة». فيتفق معه مقديش في نفس مدة الحصار، وكذلك يتفق مع ما جاء بقصيدة الإمام البقاعي الآتي ذكرها. (¬105) في الإعلام: «الحادي والخمسين». (¬106) 28 جوان 1453 م وفي تاريخ الدولة العلية ص: 164 «20 جمادى الأول سنة 857/ 29 ماي 1453 م».

وثمانمائة، وصلّى في أكبر كنائسها صلاة الجمعة بعد جعلها مسجدا وهي المسماة أيا صوفيا (¬107)، فأبدلها الله من من الظّلمات بالنّور، ولا زالت محلاّ للعبادة وسببا للحسنى وزيادة، ومقرّ عزّ وسعادة، وما أحسن ما أنشده (¬108) الإمام البقاعي - رحمه الله - في صورة هذا الفتح العظيم (¬109)، طالعها: سؤال جرى على لسان مراقب أمسى يخاطب بعض من سهرت عيناه يحرس في سبيل الله، وهي قصيدة من ثالث ضروب البحر الطويل وهو الضرب المحذوف والقافية متواترة (¬110) مطلقة (¬111) مردف فقال (¬112): [الطويل] أمن ذكر من تهوى اعتراك سهود (¬113) ... أم القلب فيه للجحيم وقود أراك لا تزال موكّلا ... برعي الفيافي والأنام رقود كأنك مهجور (¬114) وعدت (¬115) بزورة ... فما يطرق العينين منك (¬116) هجود تجيء وتمضي في السّلاح مسربلا ... كأنك ليث للظباء (¬117) يصيد أما تختشي أن الحبيب يروعه ... لقاك فما ينفكّ (¬118) منه صدود فضع عنك (¬119) هذا الزي والقه سالما ... يذيقك طيبا للقاء وعود لقد ضل عن قصدي (¬120) الرقيب ولم يقع ... على حادث أمضي له وأعود ¬

(¬107) في الأصول: «أيا صوفية». (¬108) كذا في ط، وفي ش وب وت: «نشده». (¬109) ولذلك يلقب: «محمد الفاتح». وانظر الإعلام للنهروالي ص: 156 - 158، شذرات الذهب 7/ 341 - 345 نقلا عن الإعلام للنهروالي باختصار، الضّوء اللاّمع 10/ 147، نظم العقيان ص: 547، أخبار الدول للإسحاقي ص: 140. (¬110) في الأصول: «متواتر». (¬111) في الأصول: «مطلق». (¬112) هذه القصيدة لم يذكرها النّهروالي. (¬113) في ب: «شهود». (¬114) في ب: «مجهور». (¬115) في ش: «عدة». (¬116) في ط: «منا». (¬117) في الأصول: «الضباء». (¬118) كذا في ش وب، وفي ط وت: «ينفعك». (¬119) في ط: «عند». (¬120) في ط: «قصد».

وسفّه في رأي رماني (¬121) برجمه ... فما لي شغل عنه ثمّ سديد (¬122) ألم يدر هذا العمر أنّي إنّما ... أنافس في العلياء وهي جدود / وإنّي لعمري لا أحبّ سوى (¬123) اللّقا ... بجيش العدا لا ضمّ منه عديد أردّهم بالسّيف ضربا وإنهم ... ليقتل منهم بالزّحام جنود كأنهم هيم وسيفي بأثرهم ... بروق وزجري في القلوب رعود (ولم لا وقد سنّ النبيء محمد ... جهاد الأعادي فالجهاد حميد وسار ابن عثمان المليك محمد ... بذا العصر هذا السير فهو فريد) (¬124) ليهنك يا نجل الأكابر ما يرى ... من الشّرف الأعلى لأنت سعيد قصدت لأسطنبول وهي شهيرة ... فحقّق أن الرأي منك سديد بنيت عليها وهي بكر فأصبحت ... ووطؤك فيها للبرية عيد (¬125) أقمت عليها نحو ستّين ليلة ... وطير المنايا ما لهن ركود نصبت لرفع الدين أعلام جرهم ... فكم خرّ جزما في الهياج عمود وكم أغرقت روحا عيون دمائهم ... وحرّق من شهب السّهام مريد وكم مرّ من عيش حلي بربعها ... لهم وتغنت في المحافل غيد وكم أرشفتهم قهوة في كنيسة (¬126) ... مزخرفة (¬127) حسنا (¬128) الشمائل رود وكم ضحكت فيها كواعب (¬129) كنّس ... وطاب لتلك الغانيات نشيد فبدل (¬130) ذاك الضحك همّا وحسرة ... وضرّج فيها بالبكاء خدود ¬

(¬121) في ت: «في رأي زمامي» وفي ب: «في أي زماني». (¬122) في ت وب: «سويد». (¬123) في الأصول: «سوا». (¬124) ما بين القوسين مختصر في ت، وب، وط. في ط: «ولم لا وقد سن النبيء محمدا بذا العصر ذا لسيد فهو فريد» في ب: «ولم لا وقد سن النبيء محمدا بذا العصر هذا السير فهو فريد» في ت: «ولولا وقد سن النبيء محمدا فذا العصر هذا السير فهو فريد». (¬125) في ت: «محيد». (¬126) في ط وت: «كنية»، وفي ب: «كنية». (¬127) في ب: «خوفة». (¬128) في ط: «حسن». (¬129) في ت: «كواكب». (¬130) في ب: «فبذل».

وعادت على تلك الوجوه كباوة ... وحلّ بها بعد الرّفاهة دود وكم قهروا من لوذعي سميدع ... وساعدهم دهر هناك مديد لقيتهم يوم الثلاثاء بكرة ... وقد قارئتكم للإله سعود وخضت إليهم غمرة البحر في الضّحى ... بحرب له شمّ (¬131) الجبال تميد وجللت وجه البر بالخيل فوقها ... ليوث ترى (¬132) منها الليوث تحيد وكنت أشد الناس حزما (¬133) وجرأة ... وكم لك في حوض الحروب ورود / أتوا وكأنّ اللّيل أكناف جيشهم (¬134) ... دروعهم مثل البصائر سود فكنت إليهم أوّل الناس راقيا (¬135) ... وجرّدت (¬136) سيفا والصّقال جديد فكان كنجم والمحارب قادر (¬137) ... عنيد إليه بالنّكال يريد وثبّت (¬138) ذاك الجيش رجلا تجلّدا ... فطارت بريش النّبل منه (¬139) جلود بعثت إليهم عسكر الموت أسهما ... فأمسى به للعاويات (¬140) يجود وعادوا كلمح الطرف جلدا ممزّقا ... وما منهم إلاّ لديك (¬141) حصيد ولم تغن شيئا كثرة الجمع عنهم ... وزاد نوح منهم وعديد ولما تولّوا مدبرين وللضنا ... انبساط إلى تلك الظّهور مديد أقمت عليهم قائم السيف حاكما ... فكلّ قضاء جار فيه سديد فصيرتهم قسمين وهو بوسطهم ... يقول: هم قتلى لكم وعبيد فدونكم أبناءهم ونساءهم ... وأموالهم ما دون ذاك عنيد ولمّا اصطففتم والخيول صواهل ... ترجّع في نغماتها فتجيد وعنفت سيفا قط لم يأل فاعتدى ... وحمرة خديه لديك تزيد فحكّمته فيهم وكان مطاوعا ... فقدّت رؤوس منهم وقدود رآى البيض من فوق الرّؤوس فظنّها ... لآلي تهويها (¬142) وحقك غيد ¬

(¬131) كذا في ط وت وب، وفي ش: «بشم». (¬132) في ط وت وب: «شرا». (¬133) في ط وت وب: «عزما». (¬134) في ط: «جيبهم»، وفي ب وت: «جيهم». (¬135) في ت: «رايقا». (¬136) في ب: «وجروت». (¬137) في ط: «مارد». (¬138) في ت: «وكبت»، وفي ب: «وكتب». (¬139) في ط: «منهم». (¬140) في ط: «للعاريات». (¬141) في ط: «لديه». (¬142) في ت وب: «تهوها»، وفي ط: «تهواها».

فصيرها منشورة (¬143) في جيوشكم ... تنظم منها في الجبال (¬144) عقود وكانوا على خيل يروع ضجيجها (¬145) ... فأضحوا وهم فوق التراب همود وكانوا وقوفا للضروب (¬146) فأصبحوا ... وهم في الرّبى لا للصّلاة سجود وقتّل أبطال جلاد وفرّقت ... جموع وكم جزّت هنا لك جيد وقدّت قلوب (¬147) بالمظالم أظلمت ... وطارت بماضي الشفرتين زنود وحلّق من فوق الرؤوس سلاسل ... ودارت على سوق الرّجال قيود / وكنتم ضحى تحت العجاج كأنكم ... ليوث عرين في الغمام ترود يحامون للشيطان (¬148) وهو عدوّهم ... وتحمي حمى الرّحمان وهو ودود وغودر منكم فتية (¬149) أحمدية ... تداعوا إلى دار السلام فنودوا فشتّان ما بين الفريقين حيّهم ... جحد (¬150) وأمّا ميتكم (¬151) فشهيد وأحياؤكم خير العباد وميتهم ... له في لظى بعد الممات خلود وعدت وسيف الدّين قد طال متنه ... وجلّد (¬152) حدّ الكفر وهو حديد كذاك سميّ (¬153) المصطفى كان بطشه ... فلله بطش منه لهو شديد علا في مراقي العز حقا بحزمه ... وعزم له فوق النّجوم صعود حليم بصير بالأمور مجرّب ... صبور على ريب الزمان جليد لقد سار في الآفاق سؤدد مجده ... وطارت له في الخافقين بنود له عزمات ترعب البحر عند ما ... يصول ألم تنظر إليه يميد تقصّر عاد عن علاها وتنثني ... لها خضّعا من بعد ذاك ثمود وحزم توقّيه كيدها ... وتدفع عن أنصاره وتذود يحيّر من أحكامه كل معجب (¬154) ... وتبهر يونان (¬155) له وهنود هو المتّقي (¬156) بأس الإلاه وبأسه ... لكم ذاب منه جلمد وحديد ¬

(¬143) في ت وب وط: «منثورة». (¬144) في ت وب وط: «في الحبال». (¬145) في ت وب وط: «ضجيجهم». (¬146) في ت وب وط: «للضراب». (¬147) في ط: «قلوبا». (¬148) في ب: «للسلطان». (¬149) في ط وت وب: «فتنة». (¬150) في ط وت: «جحود وأما». (¬151) في ت: «جيبتكم»، وفي ب: «بيتكم». (¬152) في ب وت وط: «وجلل». (¬153) في ط: «سما». (¬154) في ط: «معجز». (¬155) في ت وب: «يوقان». (¬156) في ط وب: «ملتقى».

يجود ليحمي (¬157) بيضة الدين إن رآى ... وبالسيف للباغي تقام حدود فلا زال هذا الملك معتليا به ... يجدد أركان الهدى ويشيد ويصقل سيف الغزو في كل حجة ... فيبدئ نهج المصطفى ويعيد ويورثه ذرّية دام سعدها ... تبيد العدا بالقهر وهي تزيد وتعزى إلى عثمان جدّا وجدّها ... له دائما في العالمين جدود وتبقى على كرّ الدّهور يزينها ... عفاف وعدل في البلاد وجود / وتحفظ للمهدي الهدى فإذا أتى ... تؤدي إليه أمره فتسود. ولمّا تمكّن - رحمه الله تعالى - من القسطنطينية (¬158)، وتمّ أمر فتحها أسّس بها قواعد العدل والإحسان والخيرات، فمن جملة ذلك تأسيس العلم فيها بقدم راسخ لا يخشى عليه فيها الأفول، وبنى بها سنة خمس وستين وثمانمائة (¬159) وفرغ سنة خمس وسبعين وثمانمائة (¬160) جامعا معروفا الآن باسمه ومدرسة (¬161) كالجنان لها ثمانية أبواب، وقنّن بها قوانين تطابق المعقول والمنقول، وترغب في طلب العلم الشّريف، وتكسو (¬162) للطالبين حلل (¬163) القبول، فجزاه الله خيرا عن المسلمين، وذلك أنه جعل لطلبة العلم أيام الطلب ما يسدّ فاقتهم قوتا ولباسا، وجعل لهم بعد ذلك مراقي (¬164) يرقون إليها إلى أن يصلوا إلى سعادة الدّنيا ويتوصلون بها إلى سعادة العقبى إن وفّق الله بفضله، وإنه - رحمه الله تعالى - إستجلب العلماء الأكابر من أقاصي البلاد، وأنعم عليهم، كالعلاّمة مولانا علي قوشجي (¬165) والفاضل الطوسي (¬166) والعلاّمة الكوراني وغيرهم من ¬

(¬157) في ط وب وت: «ليحيى». (¬158) في ط: «من فتح القسطنطينية». (¬159) 1460 - 1461 م. (¬160) 1470 - 1471 م. (¬161) وبنى بها مدارس كالجنان لها ثمانية أبواب، الإعلام للنهروالي ص: 258، والمدارس الثماني المنسوبة إليه معروفة في استانبول إذ نجد في تراجم كثير من العلماء: وتولّى التّدريس بإحدى المدارس الثمان. (¬162) في الأصول: «تكسوه». (¬163) كذا في ط والإعلام، وفي ش وب: «حلال»، وفي ت: «جلال». (¬164) في ط وب: «مراقين»، وفي ت: «راقين». (¬165) هو علاء الدين علي بن محمد، والقوشجي هو حافظ البازي عند أتراك أقصى الشرق، وكان أبو حافظ البازي لدى الأمير ألوع بك حفيد تيمور لنك ملك ما وراء النهر، وكان عالما كبيرا رياضيا (ت.870/ 1465). أنظر الإعلام 5/ 9. (¬166) هو ابراهيم بن عبد الكريم الطوسي المعروف بحلمي له مؤلفات في النحو، أنظر الإعلام، معجم المؤلفين 1/ 50.

نبذة تاريخية عن القسطنطينية قبل الفتح العثماني

علماء الإسلام، فصارت بهم أم الدّنيا، وإجتمع بها أهل الكمال من كل فن، فصار علماؤها من أعظم علماء الإسلام، وأهل حرفها من أدقّ الفطناء في الأنام، وأرباب دولها (¬167) من أهل السّعادة العظام (¬168)، وعساكرها وجيوشها من أعظم جيوش الإسلام، ومراكبها (بحرا وبرا) (¬169) وآلات حروبها من أعز ما يفتخر وينتصر به الأنام، خلّد الله عزّها، وأيّد الدّين بنصرها، وجعلها مقرّا لعقبه وعترته ما دام الدّين. وكانت (¬170) وقائعه - سقى الله ضريحه شئابيب الرّحمة والرضوان - / كثيرة، وغزواته شهيرة، فلا بدّ من الإلماع (¬171) بطرف من ذلك، وذكر طرف من أخبار القسطنطينية (إتماما للفائدة بقدر الطاقة. نبذة تاريخية عن القسطنطينية قبل الفتح العثماني: فنقول: إن القسطنطينية) (¬172) أوّل من بناها من ملوك الرّوم قسطنطين بن قسنطنة (¬173)، وقسنطنة هو الذّي بنى قسنطينة ببلاد المغرب لمّا تملّك على بلاد الرّوم وما وراءها من الممالك إلى أفرنجة والمغرب وإفريقية، وسمّاها قسنطينة بإسمه، وإبنه قسطنطين هو أول من تنصّر من ملوك الرّوم، ثم تبعه من تبع (¬174) وكان أوّلا على دين الصابئة (¬175) يعبدون أصناما على أسماء الكواكب السّبعة، ثم إنه أشير لقسطنطين في المنام (¬176) أن يعمر حصنا في غاية الحصانة والإحكام، فاستشار أكابر خواصّه فوقع ¬

(¬167) في ط والإعلام: «دولتها». (¬168) انتهى نقله من الإعلام ص: 258. (¬169) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬170) في ش: «وكان». (¬171) في ط: «الإلمام». (¬172) ما بين القوسين ساقط من ت وط وب، والقسطنطينية هي بيزنطة القديمة. (Byzance) . (¬173) هو قسطنطين الأول المعروف أيضا بالعظيم (Constantin le le grand) إبن Constance chlore وقسطنطين الأول هو إمبراطور روماني (306 - 337) وهو الذي أسّس مدينة القسطنطينية في سنة 330 م. وكانت تعتبر في مقام رومة بالشرق وسمّيت هذه المدينة بإسمه. (¬174) في ت وب وط: «تبعه». (¬175) في ط: «الصليبيين». (¬176) كذا في ش وت، وفي ب: «المقام».

اختيارهم على موضع يقابل القسطنطينية ويسمى بقاضي كولي، ويروى أنهم لما شرعوا في البناء في هذا المكان المذكور جاءت حيوانات على صور شتّى كالطيور والوحوش وما شاكلها وجعلت تخطف آلات البنائين ومكاتل (¬177) الفعلة ومعاول الحفّارين ودخلوا بها في البحر فاجتازوا إلى الجهة الغربية من البحر ليكشفوا أمر تلك الحيوانات فرأوا مكان القسطنطينية، وهي في غاية اللطافة، وكانت (¬178) إذ ذاك جزيرة خاليه مثلّثة الشّكل معروفة عند الأمم القديمة «سبت جبل» لسبع جبال كانت بها، وأوّل ما شرعوا في بناء الغلطة ويقال إن البحر من الجهة الغربية كان متّصلا من قبر أبي أيوب الأنصاري - رضي الله تعالى عنه - إلى المرسى (¬179) الجنوبية، وكان موضع / البلد جزيرة مستقلّة تدور المراكب حولها، فاستصوب بعض الملوك ردم الجانب الغربي ليسهل إليها السّلوك فردم، ويقال إن هذه المدينة عمّرت ثلاث مرات وتهلك، أما المرّة الأولى فخلت بالزّلزلة، وأما الثانية فبالطّاعون، وأما الثّالثة فبالتّنين والحيّات (¬180) والثّعابين، فاصطنع لها طلسم لدفع ذلك، ولعلّه الموجود الآن من النحاس على شكل ثلاث حيات (180) بالمكان المعروف بآت ميدان، فزال ضررها، وعمرت في هذه المدّة الرّابعة الباقية إلى الآن، وهي من الإقليم الخامس، بينها وبين مكّة المشرّفة ألف وثلاثمائة ميل (وسبع وثمانون ميلا ونصف ميل) (¬181)، وبنى بها كنيسة عظيمة وهي التي تعرف الآن أيا صوفيا (¬182)، وقيل بنيت في العمارة الثّالثة، ولمّا شرع في بنائها أرسل إلى ملوك الأطراف يجمع (¬183) ما يحتاج إليه البناء، وطلب العواميد، (وكان بحرّان العواميد) (¬184) وهي قرية من أعمال دمشق كانت بها كنيسة عظيمة الشأن يتعبد بها إبراهيم الخليل - عليه السّلام - فهدموها، وأرسلوا منها عشرة أعمدة، قيل إن مقطعها بجبل سرنديب فانقطع من الأرض بعد الطوفان لأن الحجارة قبله كانت كالطين، فقطع ما قطع منه ثم يبس، وبقيّة الأعمدة ¬

(¬177) كذا في ش وت، وفي ط وب: «مكايل». مفرد مكتل وهو الزّنبيل يحمل فيه التّمر أو العنب وقيل هو شبه الزّنبيل يسع خمسة عشر صاعا. وفي حديث خيبر: «فخرجوا بمساحيهم ومكاتلهم» تاج العروس 8/ 94. (¬178) في الأصول: «وكان». (¬179) في ط وش: «مرساة»، وفي ت: «مرسات»، وفي ب: «المراشدة». (¬180) في الأصول: «الحياة». (¬181) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬182) Sainte Sophie ، وفي الأصول: «آيا صوفية». (¬183) في ط وب وت: «فجمع». (¬184) ما بين القوسين ساقط من ت.

جيء بها من رومية وبلاد الحبشة، فلما كملت سقط نحو ثلثها ليلة ولادة المصطفى صلّى الله عليه وسلم وذلك من جهة المحراب، وكان الفراغ من بنائها على ما ذكره أصحاب تاريخ الروم لمضي / خمسة آلاف وثمانمائة وثلاثين (¬185) سنة من هبوط آدم - عليه السّلام - إلى الأرض، وتداولتها ملوك الرّوم إلى مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم وملكها إذ ذاك قيصر (¬186) فبعث إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتابه الشريف يدعوه إلى الله ودينه القويم مع سيّدنا دحية الكلبي - رضي الله تعالى عنه - فلقيه بحمص وقيصر ماش للقسطنطينية، فلمّا لقيه أعطاه الكتاب ففتحه فإذا فيه: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمّد رسول الله إلى قيصر صاحب الرّوم، السّلام على من إتبع الهدى، أما بعد: {يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ} (¬187) الآية، وفيه آيات من كتاب الله يدعوه إلى الله، ويزهده في ملكه ويرغّبه في الآخرة، ويحذّره بطش الله وبأسه»، فقرأ قيصر الكتاب، وقال: «يا معشر الروم إني لأظن أن هذا هو الّذي بشّر به عيسى بن مريم - عليه السّلام - ولو علمت أنه هو لمضيت إليه وخدمته بنفسي لا يسقط ماء وضوئه إلاّ على يدي»، قالوا: «ما كان الله ليجعل ذلك في الأعراب الأمّيّين ويدعنا ونحن أهل الكتاب»، فطلب من العرب من يسأله عن أحوال النبيء صلّى الله عليه وسلم فأتاه أبو سفيان وأصحابه، فقال: أخبرني يا أبا سفيان عن حال هذا الرجل الذي بعث فيكم، فقال: أيها الملك لا يكبر عليك شأنه، إنا نقول إنه ساحر ونقول هو شاعر ونقول هو كاهن، قال قيصر /: كذلك والّذي نفسي بيده كان يقال للأنبياء قبله كذلك، فما زال قيصر يسأل وهم يجيبونه حتى قال: ما تزيدونني فيه إلاّ بصيرة، والّذي نفسي بيده ليوشك أن يغلب على ما تحت قدمي، يا معشر الرّوم هلمّ نجيب هذا الرجل إلى ما دعا إليه، ونسأله الشام أن لا يوطأ، فقالوا له: كيف تسأله ملك الّذي تحت رجليك وهو هنا لك لا يملك من ذلك شيئا، فمن أضعف منك؟ فقال: يا معشر الرّوم أليس تعلمون أن بين عيسى وبين السّاعة نبيء بشّركم به عيسى - عليه السّلام - كنتم ترجون أن يجعله الله منكم لا في غيركم وهي رحمة الله يضعها حيث يشاء، فلما رآى ممانعتهم إياه، وخاف ¬

(¬185) في ط: «خمسة آلاف وثلاثة وثلاثين سنة». (¬186) قيصر في بيزنطبة Auguste ليس إسم ملك وإنما هو لقب، وقيصر المعاصر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إسمه هرقل كما جاء في بعض الأحاديث. Heraclius I , 641 - 610. (¬187) سورة آل عمران: 64.

ذهاب ملكه منهم سكت عنهم، ثم قال: يا معشر الرّوم دعاكم ملككم ليرى كيف صلابتكم في دينكم، فدعوا له وخرّوا له سجّدا، فلمّا هلك قيصر ملك بعده ابنه قيصر (¬188) وذلك في أيّام أبي بكر الصّديق - رضي الله تعالى عنه - ثم ملك بعده هرقل إبن قيصر (¬189) في خلافة عمر - رضي الله تعالى عنه - وهو الّذي حاربه أمراء الإسلام حتّى فتحوا بلاد الشّام مثل أبي عبيدة وخالد بن الوليد وغيرهم حتّى أخرجوهم، وكان الملك على الرّوم مورق بن هرقل (¬190) (في خلافة عثمان بن عفّان - رضي الله تعالى عنه - وفي خلافة علي بن أبي طالب - كرّم الله وجهه - وأيام معاوية ثم ملك بعده قليط ابن مورق (¬191)) (¬192) بقيّة أيام معاوية، واستمى أيّام يزيد بن معاوية وأيام مروان، ومددا من أيام عبد الملك بن مروان، ثم ملك أليون (¬193) في بقيّة أيّام عبد الملك (وأيّام الوليد وأيّام سليمان بن عبد الملك) (¬194) وخلافة عمر بن عبد العزيز، فكان إضطراب أليون المذكور من أمر مسلمة بن عبد الملك وغزو المسلمين برّا وبحرا. وقصّته على ما ذكر الشّيخ الأكبر (¬195) - قدّس الله سرّه - في مسامرة الأخيار (¬196) إن عبد الملك بن مروان لمّا جهّز إبنه مسلمة إلى القسطنطينية لغزو أليون إنتخب من المسلمين ثمانين ألف رجل من أهل البأس والنجدة وأمّره عليهم، فتوجّهوا نحو بلاد الرّوم، وهم يغزون الكفّار في طريقهم (¬197)، ويغنمون الغنائم حتى وصلوا إلى شاطئ بحر ¬

(¬188) خلافا لما ذكره المؤلف إستمر هرقل في حكمه طيلة خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - ولم يتركه إلاّ بالممات في سنة 641 م أي بعد وفاة أبي بكر. (¬189) لعلّه يقصد Heracleonas ، لما توفّي هرقل (Heraclius) خلفه إبنه قسطنطين الثالث (Constantin III) ثم هرقل (Heracleonas) وكلاهما في سنة 641 م، أنظر Brethier L : Vie et mort de Byzance,Paris 1947,p .57. (¬190) قسنطين الثاني Constant II (641 - 668 م). (¬191) يقصد قسطنطين الرابع Constantin IV Pogonat (668 - 685 م). (¬192) ما بين القوسين ساقط من ب. (¬193) يقصد Leontios - Leonce (695 - 698 م) وينتمي مع الذين سبق ذكرهم إلى الأسرة الهرقلية Les Heraclides (610 - 705 م). وعن كلّ هذه الأحداث أنظر المرجع السالف ص: 57 - 73 وص 3 من ملحق الكتاب. (¬194) ما بين القوسين ساقط من ط وت وب. (¬195) الشيخ الأكبر هو محي الدّين بن العربي. (¬196) في ش: «الأخبار». (¬197) ساقطة من ط.

القسطنطينية فأقاموا هناك ثمانية أشهر حتّى هيؤوا لهم سفنا فركبوا فيها فقاتلهم أهل المدينة في البحر ثلاثة أيام حتّى وصلوا إلى الجزيرة التّي فيها القسطنطينية، فأقام مسلمة بتلك الجزيرة وبعث إلى أهل عمله من بلاد الرّوم الّتي افتتحها في طريقه وأمرهم أن يبنوا له مدينة فرسخين في فرسخين، فأقاموا فيها، وصارت بلاد الروم كلّها في يد مسلمة ما بين الشام إلى جزيرة القسطنطينية، وجيء إليه بالخراج، وأقاموا يحاصرونها سبع سنين، وسمّى المدينة الّتي بناها مدينة القهر لأنه قهرهم عليها، وهي مدينة الغلطة، ولقد / غرسوا فيها من (¬198) أنواع الفواكه فأثمرت، وأقاموا إقامة قوم لا يرجعون إلى بلادهم، وكانوا مع هذا يغزونهم كلّ يوم، وكان أبو محمد البطال معه يقتل من الكفّار ما بين الخمسين إلى المائة حتى قتل منهم في تلك الأيام خلقا كثيرا، فلما اشتدّ الحصار بهم كتب ملك الروم إلى مسلمة يطلب منه الصّلح وأن يعطيه في كلّ سنة عشرة آلاف أوقية فضة (وخمسة آلاف أوقية ذهبا) (¬199) وخمسة آلاف رمكة، فلم يرض مسلمة بذلك واستمروا واقفين بباب المدينة سبعة أيام لا يفتر أحد منهم ولا يرجعون إلى مدينتهم، وهم يومئذ ستّون ألف مقاتل، فلمّا نظر أليون إلى ذلك قال لمسلمة: ما الّذي تريده؟ قال له مسلمة: عزمت أن لا أرجع حتى أدخل مدينتك، فقال له أليون: أدخل وحدك ولك الأمان، فقال له مسلمة: نعم على أن آمر البطال وأصحابه يقفون على باب القسطنطينية ولا يغلقون الباب، فقال له: لك ذلك، ففتح الباب، ولم يفتح قبل ذلك سبع سنين إلاّ للقتال، فوقف البطّال داخل عتبة الباب ثابتا لا يزول ولا يتحرك، وقال (¬200) مسلمة: إني داخل، فانتظروني على الباب فإن صلّيتم العصر ولم أخرج فاهجموا بخيلكم على المدينة، واقتلوا من أصبتم والأمير بعدي محمد بن مروان، فركب على فرسه الأشهب، وعليه ثياب بيض وعمامة متقلّد بسيفين وبيده الرّمح، فصفّ له ملك الرّوم عسكره بالخيل يمينا وشمالا من باب أدرنة إلى باب أيا صوفيا وهي كنيستهم العظمى كلّما / مرّ بقوم ساروا خلفه وقد رمقوه بأبصارهم، وهم متعجبون من شجاعته وجرأته وشدته، فلم يزل يتقدم حتى وصل إلى باب الكنيسة (¬201) وهو راكب على فرسه، فخرج إليه ملك الرّوم أليون، وقبّل يده، ¬

(¬198) ساقطة من ط وت وب. (¬199) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬200) في ط: «فقال». (¬201) في الأصول: «الكنيسية».

فدخل الكنيسة راكبا على فرسه فجزعت الرّوم من ذلك جزعا شديدا، فلمّا دخل الكنيسة نظر إلى صليبهم الأعظم، وهو موضوع على كرسي من ذهب وعيناه ياقوتتان وأنفه زبرجدة خضراء، فلمّا نظر مسلمة إلى الصّليب أخذه فوضعه على قربوس (¬202) سرجه، فقالت الرهبان لأليون: لا تدعه يأخذه، فقال له أليون: إن الرّوم لا ترضى بهذا، فحلف أن لا يخرج حتى يأخذه معه، فقال أليون للرّوم: دعوه يخرج به ولكم علي مثله، وإن لا دخل عليكم البطّال إن استبطأه فأخذه وخرج وهو راكب وأليون ماش في خدمته، فخرج والصّليب على رأس رمحه (بعد العصر) (¬203) وكان القوم قد همّوا بالدّخول، فلمّا نظروا إليه كبّروا تكبيرة واحدة فكادت الأرض تمور بهم وسرّوا بخروج مسلمة سرورا عظيما، فأرسل أليون المال الّذي عهد إليه به، وبه تاج مرصّع فباعوا (¬204) التّاج من بطارقة الرّوم بمائة ألف دينار، ثم عرض النّاس فكانوا يومئذ أربعة وأربعين ألفا قد أصابهم الجهد، فقسّم المال عليهم، ثم قام فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم صلّى على النبيء صلّى الله عليه وسلم / ثم قال: أيّها الناس إني في غمرات الموت منذ سبع سنين لم أحب أن أخبركم وكرهت أن أفشلكم عن قتال عدوّكم، وقد توفّي خليفتكم عبد الملك، وولي إبنه الوليد فمات، وولي أخوه سليمان بن عبد الملك فبايعوا له، فأقاموا بعد ذلك ثلاثة أشهر بالمدينة حتى أصلحوا سفنهم، ثم أمر أبا محمّد البطّال أن يحمل المسلمين في السفن، فلم يزل ذلك دأبه حتى عدّى الناس كلّهم، وبقي مسلمة، فقبل أليون رجله وودعه، وعبر السفينة هو ومائة فارس، ولم يتخلف بالجزيرة منهم أحد، وتوجّهوا نحو بلادهم، ففي أثناء الطريق أتاه كتاب عمر بن عبد العزيز بموت سليمان بن عبد الملك وبخلافته، وأن يقدم بمن معه جميعا، فقدموا دمشق في ثلاثين ألف. وذكر المولى جنابي في تاريخه أنّ الذي اشتهر عند البطّال الغازي (¬205) هو أبو محمد جعفر ابن السّلطان حسين بن ربيع بن علي بن عبّاس سكن بقرية الشّيحة (¬206) المرسومة (¬207) بمدينة السيد غازي وبها قبره يزار، زوّج أخته لعمر بن زياد بن عمرو بن ¬

(¬202) ج قرابيس، حنو السرج أي قسمه المقوس المرتفع من قدام المقعد ومن مؤخره. (¬203) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬204) في ط: «فباع». (¬205) في بقية الأصول: «القاري». (¬206) في ش: «السيحة». (¬207) في ط: «الموسومة».

معد فولد له بنت اسمها «نظير الجمال» زوّجها لعلي بن مضراب أمير التّركمان بالدّيار الرّومية، فولد منها ولدا سماه أحمد ولقبه دان شمند الغازي، وهو أوّل من ملك من (¬208) الطّائفة الشّمندية، وكان عالما فاضلا كاملا، وعاش السّلطان طورسان بن علي ابن بنت جعفر البطّال بمدينة ملطية (¬209)، وسار سيرة جدّه البطّال (¬210) من الجهاد في / سبيل الله، وطلبا من الخليفة الإذن في الجهاد، فأذن لهما وولاّهما على البلاد الّتي تفتح لهما، فجمعا من العساكر نحو أربعين ألفا وتوجّها بنية الجهاد في شهر رجب سنة ستين وستمائة (¬211) من مدينة ملطية، فغزا السّلطان طورسان بنصف العسكر على ساحل البحر الأسود وهو بحر الكفّار إلى أن وصل إلى (¬212) قرب قسطنطينية، فبنى بالجبل المرسوم بعلم طاغي قلعة عالية، ولم يزل يحارب الكفّار ولم ينجده أحد من المسلمين إلى أن قتل هو ومن معه، فلم يبق منهم أحد، يقال إن الدّعاء هناك مستجاب. وأما الملك دان شمند فإنه سار بمن معه من العسكر حتّى وصل إلى مدينة سيواس فبناها وجعلها مقرّ سلطنته، وكان جعفر البطّال إستخلص سيواس (¬213) من يد الكفّار، وجعلها دارا للإسلام (¬214)، وكان الأمير عثمان جد العثمانية (¬215) أوّل من (¬216) وصل من بلاد المشرق بتلك الأماكن مع والده أرطغرل (¬217) علاء الدين (¬218) السلجوقي، فأرسله السّلطان دان شمند ومعه خمسة آلاف رجل ففتح قسطموني (¬219)، واستولى على معدن الفضّة وضرب الدّراهم بإسم دان شمند، وعزم دان شمند لفتح نكسار فاستشهد، فتولّى مكانه ولده الغازي محمّد، وكان مجاهدا. ¬

(¬208) ساقطة من ط. (¬209) قال ياقوت: بفتح أوّله وثانيه، وسكون الطاء وتخفيف الياء، والعامة تقوله بتشديد الياء وكسر الطاء، بلدة من بلاد الروم مشهورة مذكورة تتاخم الشّام، وهي للمسلمين. معجم البلدان. . .5/ 192. (¬210) ساقطة من ط. (¬211) ماي - جوان 1262 م. (¬212) ساقطة من ط. (¬213) بعدها في ش وقع تكرار: «فبناها وجعلها مقرّ سلطنته، وكان جعفر البطّال إستخلص سيواس». (¬214) في ط وت: «دار الإسلام». (¬215) في ط: «العثمانية». (¬216) في الأصول: «ما». (¬217) في ش وب: «طغرل». (¬218) في ش وب وت: «علاي الدّين». (¬219) في ط: «قسطوني».

فتح محمد خان للقسطنطينية وغيرها

ففي سنة ثمان وعشرين وستمائة (¬220) هجم الإفرنج على الشّام وأخربوا غالبه، فوصل إليهم الغازي محمّد فأبادهم / بالقتل والسّبي. وفي سنة سبع وثلاثين وستمائة (¬221) توفي فولي بعده ولده نظام الدّين أبو المظفّر باغي يوصان، فتوفي سنة إثنتين وستين وستمائة (¬222)، وتولّى بعده المجاهد جمال الدّين فتوفّي سريعا، فتولّى عمّه ابراهيم، فتولّى بعد ابراهيم ولده اسماعيل، فتولّى بعده ذو النّون بن محمّد وهو آخر الدّانشمندية، فاستولى بعدهم السّلجوقية، ثم بعدهم العثمانية. فتح محمّد خان للقسطنطينية وغيرها: ولمّا أفضى الملك لآل عثمان، واستولوا على أكثر ممالك الرّوم، ولم يبق لهم إسم من فتح القسطنطينية تأهّبوا لفتحها، فلمّا أفضت السّلطنة إلى السّلطان محمد خان - رحمه الله تعالى - شرع في مهمات فتحها ومقدماته، وهي من أعظم البلدان وأكثرها أهلا وأمنعها حصنا لإحاطة البحر بها من كلّ جانب إلاّ الطّرف الغربي، وهو طرف يسير، حصّنوه بثلاثة أسوار وعدة خنادق يجري فيها ماء البحر مع ما فيها من المكاحل والمدافع فأظهر السّلطان مسالمة صاحب قسطنطينية، وذلك في سنة ست وخمسين وثمانمائة (¬223)، ثمّ طلب من طرف بلاده أرضا مقدار جلد ثور عيّنها له فاستقلّ ذلك صاحب قسطنطينية، وقال: سبحان الله وما يفعل به. فهو له! فأرسل السّلطان محمّد - رحمه الله تعالى - البنّائين والصّناع فاجتازوا الخليج فقدوا جلد الثّور (¬224) قدّا رقيقا على صورة الخيط وبسطوه على الأرض على أضيق محل من فم الخليج فبنوا على المقدار (¬225) الّذي أحاط به ذلك الجلد / سورا منيعا شامخا، وحصنا رفيعا باذخا (¬226)، فركّب فيه المدافع ثم بنى في مقابلة ذلك الحصن في بر أناظولي حصنا آخر وهو طرف ¬

(¬220) 1230 - 1231 م. (¬221) 1239 - 1240 م. (¬222) 1263 - 1264 م. (¬223) 1452 م. (¬224) هذه الأسطورة شبيهة بأسطورة عليسا (ديدون) Elissa - Didon وبنائها مدينة قرطاج إذ طلبت في أول الأمر شراء مساحة جلد ثور من البربر ثم قدته طولا. (¬225) في ط وب: «القدر». (¬226) الباذخ والشامخ أي الجبل الطويل، تاج العروس 2/ 252. في ب: «فاذجا».

بلاده، وشحنهما بالآلات النّارية حتى ضبط فم الخليج، فلم يقدر يسلكه شيء بعد من مراكب بحر نيطس (¬227) إلى القسطنطينية وإلى بحر الرّوم، ثمّ ثنى عزمه إلى مدينة أدرنة، فأمر بإنشاء دار السّعادة الجديدة، فشرعوا في بنائها، ثم أمر بسبك المدافع الكبار وعمل (¬228) المكاحل لأجل فتح القسطنطينية، فأكثروا منها، ثمّ لمّا تكاملت الآلات والأسباب المتعلّقة بالقتال نهض للفتح، وكان قد أنشأ أربعمائة غراب هو وأبوه من قبله فأرساها عند الحصن الّذي ابتناه على قدر الجلد الموسومة ببقركس، فأمر بتلك الأغربة فسحبت إلى البر بعد أن جعلت تحتها دواليب تجري عليها كالعجلة، وشحنها بالرّجال (¬229) والأبطال، ثم أمر بنشر أقلعتها فنشرت في ريح شديدة موافقة، فساروا في البرّ على هذه الهيئة حتى انصبّوا إلى الخليج الواقع شمال البلد من طرف مدينة غلطة، فامتلأ الخليج من تلك الأغربة، ثم قربوا بعضها من بعض، ثم ربطوها بالسّلاسل فصارت جسرا ممدودا ومعبرا لطيفا للمسلمين، وكان أهل البلد آمنين من هذه الجهة فلم يحصّنوها وإنّما كان خوفهم من جهة البرّ والبحر فكانوا حصّنوها (¬230) وغفلوا عن هذه / الجهة لأمر دبّره الله تعالى، فشرع المسلمون في القتال والحصار من جهة البرّ والبحر، وكان أهل البلد لمّا سمعوا بقصد المسلمين عليهم إستمدوا من الإفرنج فأمدّوهم بجيش عظيم وعدد فتقووا بذلك فأعيى المسلمسن أمرها، وكان السّلطان محمّد أرسل وزيره أحمد باشا ابن ولي الدّين قبل هذا التاريخ إلى خدمة العارف بالله الشّيخ شمس الدّين آق (¬231) وإلى خدمة الشيخ آق بيق يدعوهما إلى الجهاد وإلى الحضور معه في فتح القسطنطينية (فحضرا وبشّر الشيخ شمس الدّين الوزير المذكور بالنّصر وقال: ستفتح القسطنطينية) (¬232) إن شاء الله تعالى على يد المسلمين في هذا العام، وسيدخلونها من الموضع الفلاني في اليوم الفلاني في هذا العام وقت الضّحوة الكبرى، وأنت تكون واقفا ¬

(¬227) في ط محرفة: «ينطش» قال الحميري: بحر نيطس متصل من جهة جنوبه ببلاد اللازقة إلى أن يتصل بالقسطنطينية. . . وبحر نيطس هو بحر أمم من الترك والبرغز والروس وغيرهم. . . ويتصل هذا البحر من بعض جهاته ببحر الخزر، الروض المعطار ص: 585. (¬228) في ط: «وعمر». (¬229) في ش وب: «الرجل». (¬230) في ط: «يحصنوها». (¬231) آق شمس الدّين صوفي طبيب، وله تصانيف فيه، ترجم له ترجمة مطولة طاش كبرى زادة (ت.968/ 1560 - 1561) في الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية، (دار الكتاب العربي، بيروت 1395/ 1975) ص: 138 - 142. (¬232) ما بين القوسين ساقط من ط وت وب.

حينئذ عند السّلطان محمد، فبشّر الوزير السّلطان بما بشّر به الشّيخ من خبر الفتح، فلما صار ذلك الوقت الموعود ولم تفتح القلعة حصل للوزير خوف شديد من جهة السّلطان فذهب إلى الشّيخ فمنعوه من الدّخول عليه لأنه أوصى جماعته أن لا يدخلوا عليه أحدا، فرفع الوزير أطناب الخيمة فنظر فإذا الشّيخ ساجد على التّراب ورأسه مكشوف وهو يتضرع ويبكي، فما رفع الوزير رأسه إلاّ وقد رفع (¬233) الشّيخ رأسه وقام على رجليه وكبّر وقال: الحمد لله الّذي منحنا فتح هذه المدينة، قال الوزير: / فنظرت إلى جانب المدينة فإذا العسكر قد دخل بأجمعه ففتح الله ببركة دعائه في ذلك الوقت، وكانت دعوته تخرق السّبع الطّباق، فلمّا دخل السّلطان محمد خان المدينة نظر إلى جانبه فإذا وزيره إبن ولي الدّين واقف عنده فقال: هذا ما أخبر به الشيخ الأجل، وقال: ما فرحت بهذا الفتح، وإنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زماني (¬234)، وقد كان طبيب الأشباح والأرواح، فكانت الأعشاب إذا مرّ بها تناديه وتقول: أنا أنفع للمرض (¬235) الفلاني، وكان في أيام المحاصرة لمّا حصل الإعياء (¬236) والفتور من الجند أمر أن ينادى في الناس أن الغنائم كلّها والأموال والدّواب لهم، ويكفيني فتح المدينة، فنشط الناس وذهب كللهم وإعياؤهم، وهذا الفتح من أعظم فتوح الإسلام الجليلة، وكم رامه من الخلفاء والملوك وصرفوا هممهم وبذلوا أموالهم، وأفنوا أعمارهم وعساكرهم فما نالوه، وحبى الله به هذا السّلطان، وضمّن بعضهم تاريخ الفتح في قوله: [الرمل] رام أمر الفتح قوم أوّلون ... حازه بالنّصر قوم آخرون (¬237) فوقع لفظ آخرون تاريخ فتح المدينة بعدد حساب الحروف، وقيل في تاريخها أيضا «بلدة طيبة»، ولمّا دخل السّلطان المدينة سارع بالتّوجّه إلى كنيستها وجعلها مسجدا جامعا للمسلمين، ثم إلتمس من الشيخ شمس الدّين / أن يريه (¬238) موضع قبر أبي أيوب الأنصاري (¬239) - رضي الله تعالى عنه - فقال الشيخ إني شاهدت في موضع نورا لعلّ ¬

(¬233) في ط: «روج». (¬234) في ط: «في زماننا». (¬235) في ت وط وب: «من المرض». (¬236) في ط: «من الأعياء». (¬237) بعدد حساب الحروف سنة 858 هـ ‍ / 1454 م. (¬238) في ط وب: «أن يمر به»، وفي ت: «أن يمر به إلى». (¬239) أستشهد حين حصار القسطنطينية في سنة 52 هـ ‍ / 672 م في خلافة معاوية بن أبي سفيان: تاريخ الدّولة العلية ص: 162.

قبره (¬240) هناك، فجاء إليه وتوجّه زمانا ثم قال: إجتمعت مع روحه فهنّاني بهذا الفتح، وقال: شكر الله سعيكم خلّصتموني من ظلمة الكفر، فأخبر السّلطان بذلك فحضر بنفسه إلى هنا لك، فقال: ألتمس منك يا مولانا الشيخ أن تريني علامة أراها بعيني ويطمئن بذلك قلبي، فتوجه الشيخ (¬241) ساعة ثم قال (¬242): أحفروا هنا (¬243) في هذا الموضع، وهو من جانب الرّأس من القبر مقدار ذراعين يظهر لكم رخام عليه خطّ عبراني، فلمّا حفروا ظهر رخام عليه خطّ فقرأه من يعرفه وفسّره، فإذا هو: هذا قبر أبي أيوب الأنصاري، فتحير السّلطان محمد، وغلب عليه الحال حتى كاد أن يسقط لولا أن أمسكوه (¬244)، ثم أمر ببناء القبّة عليه (¬245) وأمر ببناء الجامع والحجرات (¬246)، والتمس من الشيخ شمس الدّين آق أن يجلس في ذلك المكان مع توابعه فامتنع واستأذن في الرجوع إلى وطنه «قصبة كونيك» فأذن له السّلطان تطييبا لقلبه، ولمّا دخل المسلمون القسطنطينية أرسل صاحب الغلطة مفاتيح قلعتها ففتحت ودخل المسلمون وسارعوا إلى مسجدها القديم الّذي كان بناه مسلمة بن عبد الملك يوم حصارها وكان الكفّار صيّروه / كنيسة لهم، وفي هذه السنة بعث أهل سلوري وهي من أمنع الحصون وأحسنها موقعا بمفتاح (¬247) قلعتها، وكذلك بمفتاح (247) قلعة برغوس بقرب أدرنة، وسلك هذا المسلك كثير من أهل القلاع بعد ما بلغهم فتح القسطنطينية. وفي سنة ستين وثمانمائة (¬248) غزا السّلطان محمد خان بلاد أنكروس، وإنتصر عليهم وجرح كبيرهم ثم مات، ثم نازل (¬249) مدينة بلغراد مدّة ثم ارتحل عنها لمصادفة الشّتاء. ¬

(¬240) في ط وب: «نورا أهل قبره»، وفي ت: «نورا هل هو قبره». (¬241) في ط: «إليه». (¬242) ساقطة من ط. (¬243) ساقطة من ط. (¬244) في الأصول: «مسكوه». (¬245) ساقطة من ش. (¬246) جاء في تاريخ الدولة العلية: «وبعد الفتح بني له مسجد جامع وجرت العادة بعد ذلك أنّ كلّ سلطان يتولّى يتقلّد سيف عثمان الغازي الأوّل بهذا المسجد وهذا الإحتفال يعدّ بمثابة التّتويج عند ملوك الإفرنج» ص: 162. وقال عنه إحسان حقي: «ومسجد أبي أيوب الأنصاري مبني فوق ربوة ذات طلالة على القرن الذّهبي (La corne d' or) جميلة جدا ولكنّه مهمل ولا يليق بهذا الصّحبي الجليل». تاريخ الدولة العلية، هامش 1 ص: 162. (¬247) في ط: «بمفاتيح». (¬248) 1456 م. (¬249) في ط: «نزل» وهو غير المقصود.

وفي سنة ثمان وخمسين وثمانمائة (¬250) أمر السّلطان بتجديد دار السّعادة العتيقة بقرب الجامع الّذي أنشأه السّلطان بايزيد (¬251) خان، وهي أول دار أنشأت الملوك العثمانية في مدينة القسطنطينية. وفي سنة إحدى وستّين وثمانمائة (¬252) غزا السّلطان محمّد بلاد مورة فافتتحها وأسكن فيها طائفة من العرب، ثم غلب عليها الروم فتنصر جماعة منهم ورحل جماعة أخرى، ثم عاد السّلطان لما بلغه ذلك وافتتحها، وإفتتح نحو ستين قلعة لم يدخلها مسلم قط، وبالجملة لم يبق في بلاد مورة حصن إلاّ فتحه (¬253). وفي هذه السّنة خاف على نفسه السّلطان محمّد، صاحب سناب الأمير قزل (¬254) (أحمد بن السفنديار بن بايزيد) (¬255) ولحق إلى سلطان العجم حسن بيك الطّويل لينجده ويحرّكه على المسير إلى السّلطان محمّد /، فلمّا بلغ السّلطان ذلك سار إلى بلد (¬256) السّفنديار (¬257) واستولى على مدينة قسطموني وعلى سناب وعلى قلعة قطرة بوزون (¬258) ثم توجّه إلى بلاد الكرج، فعاث عسكره فيها وغنموا منها شيئا كثيرا. وفي سنة خمس وستين وثمانمائة (¬259) جهّز السّلطان من جهة البحر عمارة عظيمة إلى فتح جزيرة مدلو وكان قد كثر الضّرر منها للمسلمين في البحر فضبطوا جميع الجزيرة وصيّروها دار إسلام، وشحنوها بالمسلمين. وفي سنة نيف وسبعين وثمانمائة غزا السّلطان بلاد بوسنة بعسكر كثير، وقاتلهم أشد القتال، واستولى على عامّة بلادهم، وجعلها دار إسلام، ولم يقم بها للكفار بعد ذلك قائم، ثم بعد ما مهّد أمور تلك البلاد صرف عزيمته إلى فتح بلاد أرنؤود (¬260) وهم صنف من النّصارى يصبرون على المحن، ويتكلّفون الأعمال الشاقة، قيل أصلهم من عرب ¬

(¬250) 1454 م. (¬251) في ط: «أبو يزيد». (¬252) 1456 - 1457 م. (¬253) عن كلّ هذه الأحداث أنظر مثلا تاريخ الدّولة العلية، ص: 167 - 168. (¬254) في ط: «نزل». (¬255) في ط وب وت: «أحمد بن السفنديار يزيد». (¬256) في ت وب: «بلاد». (¬257) في ط وب وت: «اسفنديار». (¬258) في ت: «برزون»، وفي ط: «بوزوق» وفي ب: «بورون». (¬259) 1460 - 1461 م. (¬260) في الأصول: «أرنود» والمقصود بها «ألبانيا».

الشّام من بني غسان، إرتحلوا من الشّام بعد ما فتحها الإسلام فقدموا إلى هذه البلاد، وتوطّنوا بها فازدادوا وكثروا، وقيل هم طائفة من عرب البربر عبروا البحر إلى هذا الصوب مع يعقوب بن منصور الموحدي فبقوا فيها مدّة، ولم يزالوا بها حتى غلب الجهل فتنصروا فدخل السّلطان بلاد أرنؤدد (¬261) فنهبها واستولى على عدة قلاع هناك، وأمر ببناء قلعة حصينة في ثغر عظيم هناك كالسد بين المسلمين والكفار وشحنها بالرّجال وسمّاها آق / حصار، وأودع فيها ما تحتاجه من المدافع وآلات الحرب ما يكفيه ويقيه. وفي سنة إثنين وسبعين وثمانمائة (¬262) غضب السّلطان محمّد على صاحب قونية ولارندة أحمد بك بن قرامان فانتزع الملك منه وفوض بلاد قرمان (¬263) لإبنه السّلطان مصطفى، ثم استولى على بعض قلاع عاصية هناك مثل قلعة أركلي وقلعة أصراي وقلعة كولك وسلّم الجميع إلى إبنه المذكور. وفي سنة ست وسبعين وثمانمائة (¬264) بعث صاحب العجم حسن بك الطويل أميرا مع عسكر التّتار إلى نهب بلاد إبن عثمان (¬265) فجاءوا ونهبوا مدينة توقات (¬266) وأحرقوها، ثم إغتر بذلك أميرهم فهجم [على] بلاد قرمان (263) وأغار (¬267) عليها، وكان واليها يومئذ السّلطان مصطفى، وكان شجاعا في الغاية، فقاتلهم وهزمهم وأسّر أميرهم فكبّله بالحديد وأرسله مع عدّة أسارى من الأمراء إلى أبيه. وفي سنة سبع وسبعين وثمانمائة (¬268) إستجاش السّلطان محمّد خان وسلطان العجم جيوشهم للقتال بينهما فالتقى الجمعان قرب مدينة بابيرد، فمال السّلطان مصطفى على طرف ولد سلطان العجم زنبيل شاه فقاتله شديدا (¬269) حتى ظفر به فقتله، ففرّ أبوه حسن الطويل وحصل النصر لآل عثمان، فأتبعوا التتار أسرا وسبيا حتى استولوا على عدة بلاد من العجم فصارت لآل عثمان. ¬

(¬261) في الأصول: «أرنود». (¬262) 1467 - 1468 م. (¬263) في ش: «قرامان» وهو تحريف. (¬264) 1471 - 1472 م. (¬265) في ط: «بني عثمان». (¬266) في الأصول: «توفات» والمثبت من تاريخ الدولة العلية ص: 173. (¬267) في ش: «غار». (¬268) 1472 - 1473 م. (¬269) في ط: «فقاتله قتالا شديدا».

السلطان بايزيد خان الثاني

وفي هذه السّنة أرسل وزيره كرك أحمد باشا لفتح الكفّة ففتحها مع عدّة قلاع. وفي / سنة تسع وسبعين وثمانمائة (¬270)، غزا السّلطان محمّد كفار بغدان (¬271) ففرّ كبيرهم رستفان (¬272) النصراني فهرب إلى أقصى بلاده، فتوغل السّلطان في بلاده فأذعن النّصراني وأدّى الجزية، ثم سافر السّلطان محمد إلى بلاد أنظولي، فلّما خيّم بعسكره في ظاهر اسكدار بسفح جبل هناك إتفق أن مرض السّلطان مرض موته - سقى الله ضريحه شئابيب الرحمة والرّضوان - سنة ست وثمانين وثمانمائة (¬273). السّلطان بايزيد خان الثّاني: ثم ولي بعده السّلطان بايزيد (¬274) خان إبن السّلطان محمّد مولده (¬275) سنة ست وخمسون وثمانمائة (¬276)، وجلس على تخت السلطنة ثامن عشر ربيع الأول سنة ست وثمانين وثمانمائة (¬277) وعمره إذ ذاك ثلاثون سنة، وهو من أعيان السّلاطين العظماء، إفتتح الفتوحات كقلعة ملوان وقلعة كوكلك وقلعة آق كرمان في سنة ثمان وثمانين وثمانمائة (¬278) وقلعة متون وغير ذلك من القلاع (¬279) والحصون. وفي أيامه إبتدأ أمر شاه اسماعيل إبن الشّيخ حيدر (¬280) في بلاد العجم سنة خمس وتسعمائة (¬281) وكان له ظهور عجيب على ما يأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى. وكان السّلطان بايزيد - رحمه الله تعالى ونفعنا به - من العباد المرتاضين بالعبادة، ¬

(¬270) 1474 - 1475 م. (¬271) هي المنطقة الشرقية من رومانيا المتاخمة لحدود الإتحاد السوفياتي والكائنة بين نهري بروت (Prut) وسيرت وكانت هذه المنطقة تصغر وتكبر حسب إرادة الفاتح. تاريخ الدولة العلية هامش 2 ص: 173. (¬272) في تاريخ الدولة العلية كتبها: «اسطفن»، وهو اسطفن الرابع. (¬273) في 4 ربيع أول / 3 ماي 1481 م. (¬274) في الأصول: «أبو يزيد». (¬275) رجع إلى النقل من الإعلام من ترجمة السلطان بايزيد خان ص: 258. (¬276) 1452، في الأصول: «824» والمثبت من الإعلام. وهذا التاريخ يوافق قدر عمره عند ولايته السّلطنة، وفي تاريخ الدولة العلية ص: 179 «ولد سنة 851/ 1447 م». (¬277) 17 ماي 1481 م. (¬278) 1483 م. (¬279) في ش: «القلوع». (¬280) إبن الشّيخ جنيد الصّفوي. الإعلام ص: 259. (¬281) 1499 - 1500 م.

السّالكين في مقامات اليقين، فقد دخل الخلوة، وإرتاض بها، ودخل معه مولانا الشيخ محيي الدّين ياوضي أفندي، والد مولانا أبي السعود أفندي المفتي المفسّر - رحمهم الله ونفعنا بهم - وكان رحمه الله ابتنى الجوامع / والمدارس والعمارات ودار الضّيافات والتّكايا والزوايا ودار الشّفاء للمرض والحمّامات والخانات والجسور، ورتّب للمفتي الأعظم ومن في رتبته من العلماء في زمنه لكل عام عشرة آلاف عثماني، ولكل واحد من مدرسي الثمانية من مدارس والده المرحوم السّلطان محمد خان في كلّ عام سبعة آلاف عثماني، (ولمدرسي شرح المفتاح لكلّ واحد أربعة ألاف عثماني) (¬282)، ولكلّ واحد من مدرسي شرح التجريد (¬283) ألفي عثماني، وكذلك رتّب لمشايخ الطّريق إلى الله تعالى ومريديهم وأهل الزّوايا لكلّ واحد على قدر مرتبته وإستحقاقه هذا غير كسوة الصيف من الأصواف ونحوها، وغير كسوة الشتاء من الفراء (¬284) والجوخ لكلّ واحد منهم على قدر مرتبته، فصار ذلك قانونا جاريا بعده مستمرّا، وكان له - رحمه الله - عدّة أبناء كرام أعلاهم في الكمالات السّلطان سليم، فولاّه بحياته لما رأى فيه من علامات السّعادة (¬285) الزائدة على إخوته إلى أن حضرت وفاة السّلطان بايزيد - رحمه الله - سنة ثمان عشرة وتسعمائة (¬286) وعمره اثنتان وستون سنة. ¬

(¬282) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬283) تجريد العقائد، تأليف نصير الدّين محمّد بن محمّد الطّوسي (ت.672/ 1273) قال في كشف الظنون 346: «هو كتاب مشهور إعتنى عليه الفحول وتكمّلوا عليه بالرد والقبول له شروح كثيرة وحواش عليها. وممّن شرحه شمس الدّين محمّد بن عبد الرّحمان الإصبهاني (ت.746/ 1345) وإشتهر هذا الشّرح بين الطّلاّب بالشّرح القديم، وعليه حاشية عظيمة للسّيّد الشّريف الجرجاني (ت.816/ 1414) وقد اشتهر هذا الكتاب بين علماء الروم (الأتراك) بحاشية التجريد والتزموا تدريسه بتعيين بعض السّلاطين الماضية، ولذلك كثرت عليه الحواشي والتعليقات، وهي من تأليف علماء الأتراك وهي كثيرة، وله شروح من علماء آخرين». انظر كشف الظنون 1/ 346 - 351. (¬284) في الأصول: «الفراوي». (¬285) السّلطان بايزيد الثّاني عصاه أولاده وتمرّدوا عليه وقادوا الجيوش ضده وابنه سليم ممن تمرّد عليه وكان محبوبا من الجند لمحبته للحرب، وقد فرضه الأنكشارية على والده السّلطان وألزموه بالتنازل لفائدته فقبل واستقال في 8 صفر 918/ 25 أفريل 1512 وبعد 20 يوما سافر للإقامة ببلد ريموتيفا فتوفّي في الطّريق يوم 10 ربيع الأول سنة 918/ 26 ماي 1512 عن 67 سنة ومن حكمه 32 سنة (تاريخ الدولة العلية 187). (¬286) 1512 م.

السلطان سليم خان الأول الغازي

السّلطان سليم خان الأوّل الغازي: فاستقل بالسّلطنة بعده (¬287) ولده السّلطان سليم خان الأوّل كاسر أكاسرة العجم، وفاتح أقاليم مصر والشّام - طيّب الله ثراه وجعل الجنّة متقلبه ومثواه - مولده في أماسية (¬288) سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة (¬289)، وجلس على تخت السلطنة سنة وفاة والده وعمره إذ ذاك ست / وأربعون سنة، ومكث في السّلطنة تسع سنين وثمانية أشهر، ووفاته عن أربع وخمسين سنة (¬290) - كان رحمه الله - سلطانا قاهرا قوي البطش، كثير الفحص عن أخبار الملوك والرعايا، وكان يغيّر زيه ولباسه باللّيل والنّهار ليتفقّد أحوال رعيّته وأسرار مملكته، وله عدّة مصاحبين يدورون تحت قلعته وأسواق بلده والجمعيات (¬291) والمحافل، ومهما سمعوا شيئا ذكروه له في مجلس المصاحبة فيعمل على مقتضى ما يثبت عنده، وكان - رحمه الله - قامعا للبدعة. حركة شاه اسماعيل ومقاومة السّلطان سليم له: فمن ذلك أنه ظهر غاية الظهور في أيّامه شاه إسماعيل إبن الشيخ حيدر إبن الشّيخ جنيد إبن الشّيخ إبراهيم، إبن السّلطان خواجا شيخ (¬292) علي إبن السّلطان صدر الدّين موسى إبن الشّيخ صفي الدّين (¬293) صاحب زاوية أردبيل (¬294) له سلسلة في الصّلوحية، ¬

(¬287) النّقل من الإعلام من ترجمة سليم خان ص: 266. (¬288) كذا بالأصول والإعلام، ومن كتبها: «أماسيا». (¬289) 1467 - 1468 م. (¬290) كذا بالأصول والإعلام، والصّحيح عن 51 سنة لأنّ ولادته كانت في سنة 875/ 1470 - 1471 ووفاته في 9 شوال سنة 926/ 22 سبتمبر 1520، ويلقب بياوز أي القاطع، أنظر تاريخ الدولة العلية ص: 197. (¬291) في الأصول: «الجمعياة». (¬292) في الأصول: «السلطان خواجا الشيخ» والمثبت من الإعلام ص: 271، وهو علاء الدّين أبو الحسن علي إبن الشّيخ صدر الدّين إبن الشّيخ صفي الدّين الأردبيلي، توفّي بالقدس في جمادى الأولى سنة 832، أنظر الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل لمحي الدين الحنبلي 2/ 169، دار الجيل لبنان 1973. (¬293) إسحاق الأردبيلي وإليه ينسب أولاده فيقال لهم الصّفويون، الإعلام للنهروالي ص: 271. (¬294) في الأصول: «أدربيل» والمثبت من الإعلام، قال عنها ياقوت: «من أشهر مدن أذربيجان. . . وقال أبو سعد: لعلّها مسوبة إلى أردبيل بن أرميني بن لنطي بن يانون» معجم البلدان 1/ 145.

أخذ عن الشّيخ الزّاهد الجيلاني (¬295) ويتقرّبون (¬296) بالنسبة إلى الإمام الغزالي، توفّي الشّيخ صفي الدّين في سنة خمس وثلاثين وسبعمائة (¬297) وهو أوّل من ظهر منهم بطريق التّصوّف، وأوّل من اختار سكنى أردبيل، وبعد موته جلس في مكانه ولده الشّيخ صدر الدّين موسى، وكانت السّلاطين تعتقده وتزوره، وممّن زاره والتمس بركته تيمور لنك لمّا عاد من الرّوم، وسأله أن يطلب منه شيئا فقال له: أطلب منك أن تطلق كلّ من أخذته من بلاد الرّوم سركنا (¬298) فأجابه إلى سؤله فأطلق السّركن (¬299) جميعهم، فصار أهل الرّوم يعتقدون الشّيخ صدر الدّين وجميع المشايخ / الأردبيليين من ذريته، وحجّ ولده السّلطان خواجا علي، وزار النبي صلّى الله عليه وسلم وتوجّه إلى زيارة بيت المقدس فتوفّي هنا لك، وقبره مشهور في بيت المقدس، وكان ممّن يعتقده ميرزا شاه (¬300) رخ بن تيمور لنك ويعظّمه، فلمّا جلس الشّيخ جنيد بعد والده في الزّاوية بأردبيل كثر مريدوه وأتباعه في أردبيل، فتوهّم منهم صاحب أذربيجان يومئذ وهو السّلطان جهانشاه (¬301) إبن قرا يوسف التّركماني من طائفة قره قوينلو (¬302) فأخرجهم من أردبيل فتوجه الشّيخ جنيد مع بعض مريديه إلى ديار بكر، وإنصرف عنه الباقون، وكان من أمراء ديار بكر يومئذ عثمان بيك بن قتلق بيك بن علي بيك البابندري (¬303) وهو أوّل من تسلطن من طائفته (¬304)، وولي السّلطنة منهم تسعة أنفس، ومدّة ملكهم إثنان وأربعون سنة، وأخذوا ملك فارس من طائفة قره قوينلو (¬305)، واوّل سلاطينهم قره يوسف (¬306) بن قره محمّد التّركماني، ¬

(¬295) كذا بالأصول، وفي الإعلام: «زاهد الكيلاني». (¬296) في ش وب وت: «يتقربن»، وفي ط: «يتقرب»، وهم علويون حسنيون والشاه إسماعيل هو مؤسس الدّولة الصّفوية الفارسية. (¬297) 1334 - 1335 م. في الأصول: «سنة ثلاثين وثمانمائة» والتّصويب من الإعلام ص: 271. (¬298) في الأصول: «تركيا» والمثبت من الإعلام ص: 271. (¬299) في الأصول: «الترك» والمثبت من الإعلام. (¬300) في الأصول: «فرزشاه» والمثبت من الإعلام. (¬301) في الأصول: «شاهنشاه» والمثبت من الإعلام. (¬302) في الأصول: «آق قونيلو»، والمثبت من الإعلام ص: 271. (¬303) في الأصول: «البندقداري» والمثبت من الإعلام ص: 272. (¬304) أي من طائفة آق قوينلو. (¬305) في الأصول: «آق قوينلو» والتصويب من الإعلام ص: 272. (¬306) في الأصول: «قرا» والتصويب من الإعلام.

ومدّة سلطنتهم ثلاث وستّون سنة، وإنقرض ملكهم على يد أوزون (¬307) حسن بيك المبرور (¬308) في شوّال سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة (¬309)، وكان أوزون (307) حسن ملكا شجاعا مقداما مطاعا (¬310) مظفّرا في حروبه، ميمونا في نزوله وركوبه إلاّ أنّه وقع بينه وبين السّلطان محمّد إبن السّلطان مراد خان حرب عظيم في بابرت فانكسر أوزون (307) حسن، وقتل ولده زنيل بيك، وهرب هو وسلم من القتل وعاد إلى أذربيجان وملك / فارس والعراقين، ولمّا إلتجأ الشّيخ جنيد إلى طائفة آق قوينلو (¬311) صاهره أوزون (307) حسن بيك وتزوّج إبنته خديجة بيكم فولدت له الشّيخ حيدر، ولمّا استولى أوزون (307) حسن بيك على البلاد وطرد منها ملوك قره قوينلو (¬312) وأضعفهم عاد الشّيخ جنيد مع ولده الشّيخ حيدر إلى أردبيل وكثر مريدوه وأتباعه، وتقوّى بأوزون (¬313) حسن بيك لأنه صهره، فلمّا توفّي أوزون (313) حسن بيك ولي موضعه ولده السّلطان خليل ستّة أشهر، ثم ولده الثّاني السّلطان يعقوب فزوج إبنته حليمة بيكم من الشّيخ حيدر فولدت له شاه (¬314) إسماعيل في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من رجب سنة إثنتين وتسعين وثمانمائة (¬315)، وكان على يديه هلاك ملوك العجم طائفة آق قوينلو (¬316) [وقره قوينلو وغيرهم] (¬317) من سلاطين العجم كما هو مشهور، وكان الشّيخ جنيد (جمع طائفة من مريديه) (¬318) وقصد قتال كرجستان ليكون من المجاهدين في سبيل الله، فتوهّم منه سلطان شروان أمير خليل [الله] (¬319) شروان شاه فخرج إلى قتاله فانكسر الشّيخ جنيد وقتل وتفرّق مريدوه ثم ¬

(¬307) في الأصول: «أزن»، وفي الإعلام: «أوزن» والتصويب من تاريخ الدولة العلية. (¬308) في الإعلام: «المذكور». (¬309) أفريل ماي - 1469 م وفي الأصول: «اثنين وسبعين» والتصويب من الإعلام. (¬310) في الأصول: «مطيعا». (¬311) يقال أيضا قوينلي. (¬312) في الأصول: «آق قيونلو» والتصويب من الإعلام. (¬313) في الأصول: «أزن». (¬314) في الأصول: «الشيخ» والتصويب من الإعلام. (¬315) 17 جويلية 1487 م. (¬316) في الأصول: «قونيلو». (¬317) إضافة من الإعلام. (¬318) كذا في ش والإعلام، وفي ط وت وب: «مع طائفة مريديه. (¬319) إضافة من الإعلام.

إجتمعوا بعد مدة على الشّيخ حيدر وحسّنوا له الجهاد والغزو في حدود كرجستان، وجعل لهم رماحا من [أعواد] (¬320) الشجر، وركّبوا في كلّ عود سنانا من حديد، وتسلّحوا بذلك، وألبسهم الشّيخ حيدر تاجا أحمر من الجوخ، فسمّاهم النّاس قزلباش (¬321) وهو أول من ألبس أتباعه التاج الأحمر فأرسل شروان شاه إلى السّلطان يعقوب / بن أوزون (¬322) حسن يخوّفه من خروج الشّيخ حيدر على هذه الصفة فأرسل أميرا من أمرائه اسمه سليمان بيك بأربعة آلاف من العسكر، وأمره أن يمنعهم من هذه الجمعية (¬323)، فما أطاعه، فاتّفق مع شروان شاه فقاتلاه ومن معه، فقتل الشّيخ حيدر، وأسّر ولده شاه إسماعيل وهو طفل، وأسّر معه إخوانه وجماعته، وجاء بهم سليمان بيك إلى السّلطان يعقوب فأرسل بهم إلى قاسم بك الفرناك وكان حاكم شيراز (¬324) من قبل السّلطان يعقوب، وأمره أن يحبسهم في قلعة إصطخر (¬325)، فحبسهم بها واستمروا محبوسين إلى أن توفّي السّلطان يعقوب في سنة ست وتسعين وثمانمائة (¬326)، وتولّى بعده السّلطان رستم (¬327) ونازعه في سلطنته أخوانه، وتفرقت المملكة واستقر (¬328) في كل قطر ملك من أولاد السّلطان يعقوب، فهرب أولاد الشيخ حيدر إلى لامجان (¬329) من بلاد كيلان، وخرج من إخوان شاه اسماعيل خواجة شاه علي إبن الشّيخ جنيد (¬330) وجمع عسكرا من مريدي ¬

(¬320) إضافة من الإعلام. (¬321) ومعناه الرؤوس الحمر بالتركية، وهذا التّاج الأحمر ذو إثنتي عشرة ذؤابة كناية عن الإثني عشر إماما، تاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان 3/ 120. (¬322) في ش: «أزن». (¬323) في الأصول: «الصفة» والتصويب من الإعلام ص: 273. (¬324) في ش وب وت: «شريان»، وفي ط: «شرنان» والتصويب من الإعلام. (¬325) في الأصول: «اسطمي» والتصويب من الإعلام. وإصطخر مدينة من كور فارس ولها نواح. . . وهي أقدم مدن فارس وأشهرها إسما وكانت دار ملوكها إلى أن ولي ازدشير الملك فنقل ملكهم إلى جور وجعلها دار الملك، الرّوض المعطار 43، أنظر عنها أيضا معجم البلدان 1/ 210. (¬326) 1490 - 1491 م. وفي الأصول «ست عشرة وثمانمائة» والتصويب من الإعلام. (¬327) في الأصول: «رسيم». (¬328) في الإعلام: «واستقل». (¬329) في الإعلام: «لاهجان» وهو تحريف قال الحموي: «لامجان بكسر الميم، وجيم وآخره نون: قرية بينها وبين همذان سبعة فراسخ». معجم البلدان 5/ 8. (¬330) في الأصول: «الجنيد».

أبيه وقاتل به فقتل [أيام السّلطان رستم ابن السّلطان يعقوب، ثم توفّي] (¬331) السّلطان رستم (327) وولي مكانه السّلطان مراد بن يعقوب وألوند بيك إبن عمه وكان شاه (¬332) إسماعيل في لامجان في بيت صائغ إسمه زركر (¬333). وبلاد لامجان فيها كثير من الفرق كالرّافضة والحروفية (¬334) والزّيدية وغيرهم، فتعلم منهم شاه إسماعيل في صغره مذهب الرّفض وكان شعار آبائه مذهب السّنّة / ولها مطيعين منقادين، ولم يظهر الرّفض غير شاه إسماعيل، وتطلبه أكثر أمراء ألوند بيك من سلطان لامجان فأبى أن يسلّمه لهم (¬335)، وأنكر كونه عندهم وحلف على ذلك وورّى في يمينه، وكان مختفيا في بيت نجم زركر (333)، وكان يأتيه مريدو والده خفية، ويأتونه بالنذور ويعتقدون فيه، ويطوفون بالبيت الذي هو فيه إلى أن أراد الله بما أراد، وكثرت داعية الفساد أتباع شاه إسماعيل، فخرج بمن معه من لامجان، وأظهر الخروج لأخذ ثأر والده وجده (في أوائل سنة خمس وتسعمائة) (¬336) وعمره يومئذ ثلاث عشرة سنة، وقصد مملكة الشروان لقتل (¬337) شروان شاه قاتل أبيه وجده وكلّما سار منزلا كثر عليه سفلة النّاس داعية الفساد، واجتمع عليه عسكر كثير إلى أن وصل بلاد شروان، فخرج إلى مقاتلته شروان شاه بعساكره فاقتتلوا فانهزم عسكر شروان (وأسر شروان شاه) (¬338) وأتوا به (إلى شاه إسماعيل أسيرا) (¬339) فأمر أن يضعوه في قدر كبير وأن يطبخوه ويأكلوه ففعلوا كما أمروا وأكلوه، ثم توجه لأخذ البلاد من سلاطينها فاستولى على خزائن ألوند بيك بعد قتله ونهب أمواله، ثم قتل كل من ظفر به من الملوك فملك تبريز (¬340) وأذربيجان وبغداد وعراق العرب وعراق العجم وخراسان، وكان يدعي (¬341) الرّبوبية، وتسجد له العساكر ويأتمرون بأمره، وقتل / خلقا ¬

(¬331) إضافة من الإعلام يقتضيها السياق. (¬332) في الأصول: «الشيخ» والتصويب من الإعلام. (¬333) في الأصول: «زوكر» والتصويب من الإعلام ص: 274. (¬334) في الأصول: «الحرورية». (¬335) كذا في ط والإعلام ص: 274، وفي ش وت وب: «فأبى إسلامه». (¬336) 1499 م. وفي ط: 950 هـ ‍، وفي الإعلام: «أواخر 905 هـ ‍». (¬337) في الإعلام: «لقتال». (¬338) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬339) كذا في ط والإعلام، وما بين القوسين ساقط من ش وب وت. (¬340) في الأصول: «برين» والتصويب من الإعلام ص: 275. (¬341) في الإعلام: «وكاد أن».

كثيرا ينيف على ألف ألف نفس بحيث لم يعهد في الإسلام ولا في الجاهلية، ولا في الأمم السابقة من قتل النفوس ما قتله إسماعيل شاه، وقتل عدة من أعاظم العلماء بحيث لم يبق أحدا من أهل العلم في بلاد العجم، وأحرق جميع كتبهم ومصاحفهم لكونها مصاحف أهل السّنّة، وكلّما مرّ بقبور المشايخ نبشها وأحرق عظامهم بعد إخراجها، وكان مختلّ العقل فمن جملة حماقاته (¬342) أن جعل كلبا من كلاب الصّيد أميرا ورتّب له ترتيب الأمراء من الخدم والكواخي والسّماط والأوطاق وفرش الحرير ونحو ذلك، وجعل له سلاسل من ذهب ومسندة ومرتبة يجلس عليها كالأمراء، وكان أتباعه يعتقدون ألوهيته (¬343) وأنه لا ينهزم أبدا. فلما وصلت أخباره إلى السّلطان سليم خان غضب لله من هذه الكفريات المبكية والسّخريات المضحكة، فأقدم على نصر الشريعة المشرّفة والسّنّة المطهّرة، وعدّ قتال هذه الفرقة الضّالّة المضلّة من أفضل الجهاد ليمحو آثار هذه الفتنة الخبيثة وينصر السّنّة المحمّدية والملّة الحنيفية، فركب بخيله ورجله حتّى التقى الجمعان بعد مقاساة أهوال وشدة أحوال وكادت (¬344) الخلائق تفنى [ثم] أنزل الله النّصر على أهل السّنّة والدّمار والهلاك على أهل الكفر والبدعة، فانهزم شاه إسماعيل وقتل غالب جنوده ونصر الله تعالى السّلطان سليم وعساكر السّنّة / فأتبعت عساكره آثار القوم الفاسقين، وذهب شاه إسماعيل منهزما فارّا مذموما مدحورا، {ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ} (¬345)، وغنم السّلطان سليم وعساكره ما كان جمع شاه إسماعيل ممّا لا نظير له من ذخائر الملوك وكنوزهم، ثم أعطى الأمان العام بعد قتل من يستحقّ القتل، وأسر من يستحقّ الأسر من رؤوس الفساد، وأراد السّلطان سليم أن يقيم في تبريز للإستيلاء (¬346) على إقليم العجم والتّمكّن (¬347) من تلك البلاد على الوجه الأتم، فما أمكنه ذلك لكثرة القحط واستيلاء الغلاء حتى بيعت العليقة بمائتي درهم، وبيع الرّغيف بمائة درهم، لأن القوافل الّتي ¬

(¬342) في ت وط: «حماقته». (¬343) في الإعلام للنهروالي: «يعتقدون فيه الألوهية». (¬344) في ط وب: «وكانت»، وفي ش: «وكانت الخلايق في عسر إذ أنزل». (¬345) إقتباس من الآية 2: سورة المسد. (¬346) في الأصول: «تدبير الإستيلاء». (¬347) في الأصول: «الممكن».

كان أعدّها السّلطان سليم لأتباعه (¬348) بالميرة والعليق والمؤن تخلفت عنه في محلّ لا مطمع فيها منه، ولم يجدوا في تبريز (¬349) شيئا من المأكولات والحبوب لأن شاه إسماعيل عند قدوم (¬350) السّلطان سليم أمر بإحراق جميع الحبوب من الشّعير وغيره، فاضطرّ السّلطان سليم إلى العود من تبريز (349) إلى بلاده، فترك تبريز (349) خاليه خاوية على عروشها هذا ما ذكره الأزرقي في كتاب «أعلام مكّة» (¬351). وقال الشّيخ علي دده (¬352) في «محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر»: أول من تجبّر وطغى، ورفض أحكام الشريعة وغوى، وخان الملّة الإسلامية خيانة لم يسمع بمثلها من الفراعنة، وقهر ملوك العراقين، وأبطل الخطبة من الجوامع كلّها، ومنع من الأنكحة في محافل القضاء، وأفشى منع النكاح بل عدل عنه / إلى الزّناء، وأباح فروج النّساء حتّى الجمع بين الأخوات والخالات واللّواط لمردة الأشقياء، الملك الشقي الغوي الشهير شاه إسماعيل بن حيدر بن جنيد بن إبراهيم إبن الشّيخ العثماني خواجة بن صدر الدّين ابن الشّيخ الصفي الأردبيلي، قطع الله أعراقهم من العراق وجميع ممالك الآفاق مع أشياعهم الشّيعة النجسة المنجوسة المجوسية الدهرية، بل إنهم أخبث الفرق الضّالّة المضلّة، أهلك الله أسرارهم، ومحا من وجه الأرض آثارهم بسيوف الملوك العثمانية السنية المؤيّدة بالقوة القدسيّة، لا زالت سيوفهم مسلولة عليهم وعلى أمثالهم من أعداء الدين. وجنيد هو أوّل من ظهر بالبغي (¬353) والتمرّد، وطائفته يسمّون بقزلباش، فهو أول الفرقة القزلباشية، ومنه ثار العدوان لأهل الإيمان، فتملّك العراق بكيده وحيله الّتي لم ¬

(¬348) في ط: «لا تباع». (¬349) في الأصول: «برين» والتصويب من الإعلام. (¬350) في الإعلام ص: 277: «عند انكساره». (¬351) كذا في الأصول والصّواب: النّهروالي في الإعلام بأعلام بيت الله الحرام كما سبق التّنبيه إليه والمؤلف نقل ما في الإعلام مع اختصار قليل لبعض الفقرات ص: 271 - 277. (¬352) علي دده بن مصطفى الموستاري، ثم السكتواري علاء الدين، الملقب بشيخ التربة، فاضل بوستوي مستعرب (ت.1007/ 1598) ولما فتح السّلطان سليمان العثماني قلعة سكتوار من بلاد المجرومات بها، أقيم علاء الدين شيخا لتربته، فلقب بشيخ التربة، وتوفي عائدا من غزوة، فنقل إلى سكتوار ودفن بها. وكتابه محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر، مطبوع ولم نره وممّا طبع من مؤلفاته خواتم الحكم، ومن مؤلفاته الباقية تمكين المقام في المسجد الحرام، ومناقب مكة. أنظر الإعلام للزركلي 4/ 287 (ط.5) وله ترجمة قصيرة في خلاصة الأثر للمحبي 3/ 200. (¬353) في ط: «الغي».

يسمع بمثلها من إبليس الأبالسة، وذلك أنّه شبّه نفسه بمشايخ الصّوفية والسّنّة، وأظهر السّمعة (¬354) والرّياء، وتعلّم من أقوال الصّوفية واصطلاحاتهم، فاجتمع مع خواص السّلطان السّعيد حسن خان بن علاء الدين (¬355) البايزيدي ووزرائه وأعوانه، وأخذ البيعة عنهم، وعلّمهم التّوحيد والأذكار، وتابعوه إلى أن تزوّج بنت السّلطان، فسلك طريق الإمارة، وتجبر وطغى وادّعى السّلطنة، وأظهر البدعة / واللّواط، وأفسد عقائد الخلق، لا جرم خذله الله وقهره على يد الملك الصالح خليل خان الشّرواني، ثم بعد هلاكه فرّت المتصوّفة الزنادقة بولده حيدر المذكور، ومكث زمانا إلى أن بلغ فسعى في صورة الصّوفية، وقصد بذلك كيدا وجمع الأشقياء مردة أبيه، واتخذ التاج من الجوخ الأحمر بإثني عشر رقاعا ويسمّى بتاج حيدرية، ثم هجم على أهل شروان بالقتال والحرب، ثم خرج شروان شاه مع سليمان خان العثماني فهزموا الملاحدة بإذن الله سبحانه وتعالى، وقتل حيدر الشّقي الغوى في المكان الّذي قتل فيه أبوه، ثم أخذ بعض مردته ابنه الشقي الشهير بشاه إسماعيل - المتقدّم الذّكر - وفرّ به وستره بين النّصارى، ثم ظهر بعد سنين، وجمع الملاحدة واغتنم فرصة واستولى على العراق، وقتل الملوك والأمراء والعلماء إلى أن قهره وهزمه الملك الغازي سليم خان العثماني - عليه الرّحمة والرّضوان -. ثم مات الشّقي شاه إسماعيل حتف أنفه، وعجّل الله بروحه إلى النّار وبئس القرار، ثم جلس مكانه ولده الغوي طهمساب (¬356) الفتّان، فأظهر ونشر الرفض والطغيان في ممالك خراسان إلى أن قهره وغلبه السّلطان المجاهد سليمان خان - عليه الرّحمة والرّضوان -. ثم جرى ما جرى بين الرّافضة (¬357) من الفتن والشّر والطغيان إلى أن انتقم الله منهم وسلّط الله سيوف / عساكر الإسلام على رقابهم عشر سنين في دولة الملك المنصور مراد خان - عليه الرّحمة والرضوان - ولا زالوا إلى الآن ظاهرين بالخلاف ومعادات أهل السّنّة {حَتّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ} (¬358) اهـ‍. ¬

(¬354) في ط وب: «السمع». (¬355) في الأصول: «علاي الدين». (¬356) في ش وب وت: «طسماسب»، وفي ط: «سطماسب». (¬357) كذا في ط، وفي ب وت وش: «الرفضة». (¬358) إقتباس من الآية 87 من سورة الأعراف.

أخذ سليم الأول لبلاد الشام ومصر

قلت: وإلى الآن ما زالوا متمسكين ببغيهم وبدعتهم، وسبب طول مدتهم مع أن العساكر العثمانية - نصرهم الله على كل من عاداهم - هو إشتغال العساكر العثمانية بعدوّ الدّين من النّصارى لقرب داره وخوفا على حوزة الإسلام بخلاف قزلباش فإنه بعيد الدّيار ونكايته أضعف، والسّبب في الحقيقة هو إرادة الله {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} (¬359). أخذ سليم الأوّل لبلاد الشّام ومصر: ولمّا استقرّ السّلطان سليم - رحمه الله تعالى - بدار سلطنته سأل عن سبب تأخّر قوافل (¬360) الذّخيرة عنه فأخبر أن سبب ذلك سلطان مصر الغوري فإنه كان بينه وبين شاه إسماعيل محبّة أكيدة ومراسلات حتى اتهم الغوري بالرفض في عقيدته بسبب ذلك، فصمّم السّلطان سليم على قتال الغوري أوّلا فإذا استولى عليه وعلى بلاده توجّه إلى قتال شاه إسماعيل ثانيا، فتجهّز لأخذ مصر وإزالة دولة الجراكسة (¬361) منها بقتل الغوري وأتباعه. والجراكسة جنس من الترك في مشارق الأرض لهم مدائن عامرة، وفيهم الجمال البارع، ولهم في بلادهم أغنام يرعونها ومزارع يزرعونها، وهم أتباع سلطان سراي (¬362) قاعدة ملك خوارزم، وملوك هذه الطّوائف / لملك سراي كالرعية، فهم يقاتلونهم ويسبون منهم النّساء والأولاد، ويجلبونهم إلى أطراف البلاد والأقاليم، ذكره المقريزي في عقوده، وقد أسلفنا أنهم ملك منهم طائفة مصر بعد الأتراك. وآخر الجراكسة هو الغوري المذكور، وذكروا لتوليته أمرا غريبا وذلك أن عساكر مصر لما ولّوا (¬363) عليهم طهمان الملقب بالملك العادل فما استكمل يوما واحدا حتى هجموا ¬

(¬359) سورة هود: 118. (¬360) رجع إلى النقل من الإعلام للنهروالي ص: 277. (¬361) إنتهى نقله من الإعلام. (¬362) جاء في معجم البلدان: «سراو، مدينة بأذربيحان بينها وبين أردبيل ثلاثة أيام، وهي بين أردبيل وتبريز» 3/ 204. (¬363) في ط: «ولي».

عليه وقتلوه، فما أقدم (¬364) أحد على السّلطنة، وكانت الأمراء متوفرة، وكلّهم (¬365) يشير لصاحبه بالجلوس على تخت الملك خوفا على نفسه من الموت إذا تولّى، فاتفقوا على أن يولّوا قانصوه (¬366) الغوري، ولقّبوه بالملك الأشرف، وإنما إتفقوا عليه لكونه في أول أمره كان ليّن العريكة، سهل الإزالة فأي وقت أحبّوا إزالته أزالوه لقلّة ماله وضعف حاله، فأشاروا له بالتقدم فأبى فألزموه بذلك، فقال: لا أقبل ذلك منكم إلاّ بشرط أن لا تقتلوني، فإذا أردتم خلعي من السّلطنة أخبروني وأنا أوافقكم على ما تريدونه وأترك لكم الملك، وأمضي حيث أشاء، فعاهدوه على ذلك، فقبل منهم ما طلبوه، فتولّى السّلطنة سنة ست وتسعمائة (¬367)، ففرح العسكر بولايته لأنهم يسموا بتبدل (¬368) السّلاطين، وسرعة تقصي صرفهم، بل فرح (¬369) العامة ووطنوا الأمن على أنفسهم وأموالهم، وكان كثير الدّهاء ذا رأي وفطنة وتيقظ، إلاّ أنّه كان شديد الطّمع فظلم وعسف وبخل، وكان مغرما مولعا بالعمارات والأبنية، فمن جملة عماراته الجامع والتربة / المشهورين بالغورية في وسط القاهرة بالقرب من الجامع الأزهر وما بين القصرين، وكان في نيته أن يدفن بتربته فأوقف عليها أوقافا كثيرة، وما قدر له دفنه فيها {وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (¬370) فلمّا حضرت منيّته ذهب تحت سنابك الخيل - كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى -. وكان يبسط حرمته على الأمراء بالتنزل معهم من غير تشديد عليهم، ولا إظهار عظيم أمر ولا نهي في ابتداء أمره إلى أن تمكّن من قوّته وبأسه حتى حكي أنه توهّم من عساكره مبادئ فتنة أراد الأمراء إحداثها ليجعلوها مقدّمة لخلعه من السّلطنة، فعمل ديوانا جمع فيه الأمراء والمقدّمين وأمرهم بالجلوس، وجلس بينهم كأحدهم، وكانت عادة الأمراء الوقوف معه إلاّ على سماط الأكل فقط، فلمّا جلس بينهم إستنكروا ذلك منه فجعلوا يسألون عن سبب ذلك فرفقهم وصاروا كلهم مصغين لما يقوله متوجهين إليه ¬

(¬364) كذا في ط، وفي ش وت وب: «قدم». (¬365) في ط: «وكل منهم». (¬366) في ش وت وب: «قانوصاه»، وفي ط: «قانوصوه». (¬367) 1501 م. (¬368) في ط: «يسرون بتبديل». (¬369) في ش: «خرج». (¬370) سورة لقمان: 34.

غاية التّوجّه فقال لهم: إنما جمعتكم لأسألكم الآن عن سؤال خطر ببالي وأريد منكم جوابه على الوجه الّذي ترونه صوابا، فقالوا: نعم، فقال: أسألكم عن جماعة جاؤوا إلى رجل بوديعة مربوطة مختومة، وطلبوا إيداعها عنده، فقال: لا أستودعها إلاّ بشرط أنكم إذا طلبتموها أخذتموها بلا نزاع ولا خصومة فأردّها إليكم، فقالوا له: نعم، فأودعوها على ذلك الشرط ومضوا، ثم عادوا إليه بعد مدّة وقالوا له: نريد الوديعة بنزاع شديد / ومخاصمة ومضاربة، فقال لهم: هذه وديعتكم خذوها بلا نزاع عملا بمقتضى الشّرط فأبوا قبولها إلاّ بمقاتلة، فأيّهم على الباطل وأيّهم على الحقّ؟ فعلموا مراده، واستحيوا منه، وقال لهم: ما جلست معكم إلاّ لتعلموا أنّي كأحدكم لا أمتاز عنكم بشيء، وهذه السلطنة أسلّمها إليكم بلا نزاع، وأنا واحد من الجند، فقبّل كلّ منهم يده وأذعنوا له وسألوه البقاء على السّلطنة، فسكنت الفتنة دهرا ثم استعلوا عليه بضروريات أخر، فطاولهم (¬371) بالحيل إلى أن أخذهم واحدا بعد واحد، ويتغافل ثم يجعل حيلة أخرى فيأخذ هذا بهذا ويوقع بينهم الدّسائس، ويدسّ لهم السّمّ في العسل حتى أفنى قرانصتهم (¬372) ودهاتهم إلاّ قليلا منهم ممّا لا بدّ له، واتخذ لنفسه مماليك جددا واستجلب جلبانا وأعدّ عددا وعددا، فصاروا يظلمون النّاس ويعسفونهم ويعاملونهم غشما وصار هو يقضي عن مماليكه فأظهروا الفساد وأهلكوا البلاد والعباد حتى أن أحدهم يأكل فإذا خرج إلى الطّريق ووجد أحدا من الناس مسح يديه في أثوابه فأعدّ النّاس لهم الفوط على أكتافهم، فإذا لقوا أحدا منهم وأراد مسح يديه بثيابه ناوله تلك الفوطة، فمن أجل ذلك إستعمل النّاس الطّيالس على أكتافهم عوضا عن تلك الفوطة الّتي إعتادوها بعد زوال تلك المحنة، ثم إن الغوري صار يصادر النّاس بأخذ أموالهم غصبا وقهرا، وكثرت السّعاية / في أيامه بالنّاس لكثرة ما يصغي إلى مماليكه، فصاروا إذا شاهدوا واحدا توسّع في دنياه أو أظهر التّجمّل في ملبسه ومثواه سعوا به إلى الغوري، فيرسل إليه الأعوان ويطالبه بالعرض ويستصفي ماله ويسلّمه إلى الأعوان والضوباشي ليأخذ ماله، ويهتك أهله وعياله ويعذّبه بأنواع الأسلحة إلى أن يصير فقيرا، فجمع من هذا أموالا كثيرة وخزائن وسيعة فذهبت في آخر الأمر سدى (¬373)، وتفرقت للعداء، وهكذا كلّ مال أخذ ¬

(¬371) في ط: «فعالجهم». (¬372) لعل الصواب: «قراصنتهم». (¬373) في الأصول: «سدا».

ظلما لا ينفع من جمعه بل يكون سببا لهلاكه لأن القدرة غيورة. قال الشّاعر: [الطويل] ألا إنّ مالا كان من غير حلّه ... سيخرب يوما دار من كان جامعه وأبطل في أيامه الإرث فإذا مات أحد أخذ الغوري جميع ماله وترك أولاده عالة (¬374) يتكففون ومن رفق بهم أبقى لهم شيئا يسيرا يسدّ الرّمق، فاشتد طلبه على الحطام الفاني، وتهالك على الظلم والفساد فعتا عتوا كبيرا، فاستجاب الله تعالى فيه دعاء المظلومين بقطع دابره، وذلك إنه لمّا سمع بخروج السّلطان سليم لقتاله جمع الغوري جنوده وخزائنه وخرج إلى حلب لملاقاة السّلطان سليم. فلمّا التقى الجمعان بمرج دابق (¬375) قرب حلب إشتد القتال بين الفئتين، وقامت الحرب على ساقها ودارت (¬376) الدّائرة على الّذين ظلموا، ونصر الله من نصر دينه فغار (¬377) الغوري (¬378) تحت سنابك الخيل ولم يظهر له خبر إلى الآن وذهبت ظلمات ظلم الجراكسة، فكانوا هباء / منثورا، وكأنهم لم يكونوا شيئا مذكورا. فأقبلت (¬379) رايات السّلطان سليم على قلعة حلب الشّهباء، فطلب أهلها منه الأمان، فأجابهم إلى القبول لطفا وكرما، فخرجوا إلى لقائه بالمصاحف وهم يجهرون (¬380) بالتّسبيح والتّكبير يتلون: {وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى} (¬381)، فقابلهم بالإحسان والإكرام، وتصدّق بأنواع الصدقات، وحضرت صلاة الجمعة فخطب الخطيب باسمه الكريم، ودعا له ولآبائه وأسلافه، وبالغ في المدح والتّعريف، فلمّا سمع قول الخطيب في وصفه «خادم الحرمين الشريفين» سجد شكرا لله تعالى وقال: الحمد لله ¬

(¬374) كذا في ط، وفي ش وب: «عالي». وفي ت: «عراي». (¬375) «بكسر الباء وقد روي بفتحها وآخره قاف، قرية قرب حلب من أعمال عزار. . . عندها مرج معشب». معجم البلدان 2/ 416. (¬376) كذا في ط وت، وفي ش وب: «ودايرت». (¬377) في ت: «فصار». (¬378) وسبب هزيمة الغوري وقوع الخلاف بين فرق جيشه المؤلف من المماليك، وساعدت المدافع العثمانيين على النصر، وقتل الغوري أثناء انهزام الجيش وسنه 80 سنة وكان ذلك في يوم الأحد 25 رجب سنة 922/ 24 أوت 1516 م. أنظر تاريخ الدّولة العليّة ص: 192. (¬379) رجع إلى النّقل من الإعلام للنّهروالي بتصرف ص: 278. (¬380) كذا في ط والإعلام. وفي ت: «يجرون إليه بالتسبيح»، وفي ش وب: «يجرون بالتسبيح». (¬381) سورة الأنفال: 17.

الذي يسّر لي أن صرت خادم الحرمين الشريفين، وأظهر الفرح والسرور بتلقيبه بهذا اللقب المنيف (¬382) والاسم الشريف، وخلع على الخطيب الخلع المتعددة وهو على منبره، وزاد في إحسانه بعد ذلك، ثم أقام بحلب أيّاما يسيرة وهو يمهّد الملك (¬383) ويجري أحكام العدل والسياسة، ويحسن إلى العرب والعجم من كافة الأمم، ثم انتقل بجيوشه إلى الشّام، فعاملهم بالإكرام معاملة أهل حلب، وأمر بعمارة قبة (¬384) الشّيخ محيي الدّين ابن عربي - رحمه الله تعالى - وأوقف عليه مرتبات كثيرة وجعل] له [مطبخا يطبخ فيه الطّعام للفقراء المجاورين للضريح المذكور، وجعل عليها متولّيا وناظرا لجمع غلات الأوقاف ويصرفها (¬385) في وجوهها حيث ما عيّن السّلطان (¬386). وهذا الشّيخ محيي الدّين هو الّذي / نوّه (¬387) بشأن السّلطان سليم تنويها عظيما ونصّ عليه وعلى وقائعه وفتوحاته ونصره وتمكين الله له في الأرض، فمن جملة ما نصّ عليه ما وجد على قبره، وذلك أن السّلطان أوّل ما وصل إلى المدينة وجد عند بابها تلاّ عظيما من مزابل النّاس الّتي يطرحونها خارج البلد حتى كادوا يزاحمون الباب ويغمرونه في المزابل، فأمر السّلطان بإزالة تلك المزابل في الحين ليفرج عن باب المدينة، فما زالوا يزيلون شيئا فشيئا حتى انكشف لهم قبر الشيخ، وإذا عليه مكتوب: إذا دخل السين الشين ظهر محيي الدّين، ففسّره أهل المعرفة بكلام الرّموز بأنه إذا دخل السّلطان سليم الشام ظهر أمر الشّيخ محيي الدّين (¬388)، فأظهر السّلطان أمر الشيخ غاية الظّهور، ولم يزل إلى الآن أمره قائما ظاهرا ببركته، وبركة السّلطان سليم - رحم الله الجميع ونفعنا بهم وببركاتهم وبركات أمثالهم -. ¬

(¬382) ساقطة من ش. (¬383) في الأصول: «الممالك» والتصويب من الإعلام ص: 279. (¬384) في الإعلام: «تربة». (¬385) في الأصول: «صرفها». (¬386) إنتهى نقله من الإعلام. (¬387) قال النّهروالي: «ولا شكّ أنّ روحانية الشّيخ - رضي الله عنه - هي الّتي جلبت السّلطان سليم طيّب الله ثراه إلى سلطنة بلاد العرب، وحصل له الإمداد العظيم بالبركة والتأييد في حصول ما أمّله وطلب. . .» الإعلام ص: 479. (¬388) الكلام المتعلّق بالشّيخ محي الدّين بن العربي يصدر عن عقلية مغرقة في التقديس لا عن عقليّة مؤرخ، ومناقشة كلّ هذا الكلام أمر يطول، مع العلم بأنّ الأتراك يقدّسون الصّوفية كالشّيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ محي الدّين بن العربي.

أخذ سليم الأول لمصر

أخذ سليم الأوّل لمصر: ثم بعد الفراغ من إصلاح الشّام، وتفقد أحواله إنتقل لإصلاح مصر وتفقد أحوالها، فتوجّه مسافرا لها، فلمّا حاذى (¬389) القدس والخليل إنفرد ببعض خواصه متوجّها لزيارة الخليل وبيت المقدس وزيارة المشهور من الأنبياء والمرسلين، وأحسن إلى أهل القدس والخليل، وجعل كلّما وصل إلى بلد أحسن إلى أهله وأظهر فيهم العدل وأزال ظلم الظالمين عن الخاصّة والعامّة، وكان لمّا انهزم (¬390) الغوري فرّ بقية (¬391) من عسكره إلى مصر وولّوا عليهم الدّوادار (¬392) / الكبير مقدّم ألف طومان باي، ولقّبوه بالملك الأشرف واجتمعوا عليه، وحشدوا ما قدروا عليه، وبرزوا إلى الريدانية خارج مصر (¬393) ونصبوا المدافع، وتهيؤوا لقتال السّلطان سليم، فأخبرته العيون بصنعهم فعدل إلى ميسرتهم (¬394) وجاء من خلف جبل (¬395) المقطّم من وراء عسكر الجراكسة، فما أغنى عن الجراكسة تدبيرهم شيئا، بل كان سعيا في تدميرهم فانهزموا ورجعوا منكسرين، ودخل السّلطان سليم مصر بعساكره ونزل بساحلها في الجزيرة الوسطانية، وطاف عسكره بالبلد، وأمّنوا الناس، وأزالوا عنهم الخوف والبأس، إلاّ من كان من الجراكسة، فكلّما ظفروا بواحد منهم أمر بضرب عنقه، فعفنت الأرض والنّيل من جيفهم، وأحضر طومان باي أسيرا فأمر أن يركب على بغلة (¬396) ويطوف (¬397) بالعسكر ويمضي به إلى باب زويلة ويصلب فيه ليراه الناس بأعينهم، ويصدقوا بأنه مسك، وصلب لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة (¬398)، ورتّب بها القضاة الأربعة، فولّى كمال الدّين الطّويل قضاء الشافعية، ونور الدّين علي بن ياسين ¬

(¬389) في الأصول: «حاذا». (¬390) في ش: «هزم». (¬391) رجع إلى النقل من الإعلام ص: 280. (¬392) كذا في ط والإعلام. وفي ش وب وت: «الدويدار». (¬393) على الحدود بين مصر وفلسطين. (¬394) في الأصول: «مسيرتهم». (¬395) في الأصول: «الجبل». (¬396) كذا في ط وب وت والإعلام ص: 281. وفي ش: «بغل». (¬397) في الإعلام ص: 282: «ويحف به اليكييجرية». (¬398) 3 أفريل 1517 م.

السلطان سليمان خان الأول القانوني

الطرابلسي قضاء الحنفية، وقاضي القضاة الدّميري قضاء المالكية، وشهاب الدّين أحمد ابن النجار قضاء الحنابلة، لأن هذه الأربعة رؤساء المذاهب الأربعة، فكل رئيس مذهب الذي جعل قاضيا فيه، وولّى ملك الأمراء خير بك / على مصر، وولى جان بردي الغزالي (¬399) على الشّام، ومهّد الأمور، وسار إلى إسكندرية [وعاد إلى مصر ثم إلى تخت مملكته] (¬400) راجعا إلى القسطنطينية يوم الخميس لخمس بقين من شعبان سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة (¬401)، وأخذ معه كثيرا من أعيان مصر سركنا إلى القسطنطينية، ولم يتيسر له العود إلى العراق وبلاد العجم لمقاتلة القزلباش كما أضمر في نفسه لظهور جراحات فيه إتّصلت بموته في سنة ست وعشرين وتسعمائة (¬402)، - رحمه الله تعالى - (¬403). السّلطان سليمان خان الأوّل القانوني: فتولّى بعده ولده السّلطان سليمان خان (¬404) في التّاريخ المذكور، ومولده سنة تسعمائة (¬405)، وتولّى وسنّه (¬406) ست وعشرون سنة [واستمر في السلطنة تسعا وأربعين سنة وكان] (¬407) عمره أربعا وسبعين سنة وشهرين، وهو سلطان غاز (¬408) في سبيل الله، مجاهد في إعلاء كلمة الله، كان - رحمه الله - مؤيدا في حروبه ومغازيه، أين سلك ملك، وصلت سراياه مشارق الأرض ومغاربها، فافتتح البلاد الشاسعة والأقطار الواسعة بالقهر ¬

(¬399) كذا في ط والإعلام ص: 282، وفي ش وب: «جاو بردى بك الغزالي». (¬400) إضافة من الإعلام للدقة. (¬401) 13 سبتمبر 1517 م. (¬402) 9 شوال / 22 سبتمبر 1520 في السّنة التّاسعة من حكمه والحادية والخمسين من عمره إذ كانت ولادته في سنة 875، تاريخ الدولة العلية ص: 197. (¬403) عن فتح السّلطان سليم للشام ومصر أنظر: الإعلام للنّهروالي ص: 277 - 283 ونقل المؤلف ما فيه مع تصرف قليل بالحذف وزيادة فيما يتصل بأمر الشيخ محي الدّين بن العربي. (¬404) سليمان خان الأول الملقّب بالقانوني وهو عاشر سلاطين آل عثمان. (¬405) في غرة شعبان / 27 أفريل 1495 م. (¬406) النقل من الإعلام ص: 291 بتصرف. (¬407) إضافة من الإعلام ليستقيم المعنى. (¬408) في الأصول: «غازي».

والحجّة والسّيف، وأقام السّنّة وأحيى الملّة، ورفع شعائر الشريعة وأعلى منارها، وأحيى ما اندرس من آثارها، فكان من المجددين لهذه الأمة دينها في القرن العاشر لكثرة علمه وعمله وأدبه وفضله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. وفي أيّامه السعيدة عمل له العلامة مولانا أبو السعود (¬409) تفسيره المشهور وغزا - رحمه الله تعالى - بنفسه ثلاث عشرة غزوة (¬410) منها ثلاث غزوات (¬411) لقتال قزلباش لإطفاء نار البدعة، والعشرة الباقية لإطفاء نار الكفر / واستقصاء تفاصيل جميعها يحوّج إلى الدّواوين الكبار، وقد قام بذلك أهله وهو غير مناسب لهذه العجالة، وليس غرضنا من ذكر هذه النّبذة إلاّ تزيين كتابنا بذكر شيء من مآثر هذه السّلالة الكريمة، فإن مغازي آل عثمان صارت طرازا للكتب من هذا الشأن، كما أن سيرة (¬412) المصطفى صلّى الله عليه وسلم ومغازيه وسيرة أصحابه ومغازيهم أصل وعماد لهذا الدين في كل عصر وأوان. فعلينا بالإشارة إلى بعض مآثر هذا السّلطان - رحمه الله ونفعنا به -. فنقول: كان - رحمه الله ورضي عنه - كأسلافه الطّيّبين محبّا للجهاد في سبيل الله، باذلا نفسه وخزائن أمواله لإعلاء كلمة الله، بحيث لم ترفع راية في زمانه للإسلام على رأس أحد من السّلاطين العظام مثله، ولم يكن أكثر جهادا ونصرة للدّين، وأكمل عدّة وآلة لقطع دابر المشركين، وأكثر جيوشا وأعوانا، وأغزر رجالا وفرسانا، وأعدى للإفرنج (¬413) الملاعين، وأقمع لأهل البغي والبدعة والكفرة الملحدين، وأشدّ عضدا وأشدّ نصرا لأهل السّنّة والدّين منه - رحمه الله تعالى - فهو سليمان زمانه وفريد عصره وأوانه، فكم دوّخ بلاد الكفر واجتاحها، وجاس خلال مغانيها ورباعها، وافتتح صياصيها وقلاعها، وأخرب معاهد الأصنام، وبنى مساجد للإسلام. ولمّا تعسّر ضبط فتوحاته علينا لكثرتها إخترنا بعضا منها له تعلق / بغرضنا، فمن ذلك غزوة رودس، وهي جزيرة في وسط البحر الشامي ما بين مصر والقسطنطينينة (¬414) إبتنى ¬

(¬409) أبو السعود هو محمد بن مصطفى العمادي (ت.981/ 1573 - 1574) عالم تركي مستعرب، أديب له شعر جيّد بالعربية، وتفسيره اسمه إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، مطبوع، له ترجمة في الإعلام. (¬410) في ش: «غزاة». (¬411) في الأصول: «غزاوة». (¬412) في ش وط: «مسيرة». (¬413) في الأصول: «اعداء على الإفرنج». (¬414) لتكون حلقة إتصال بينهما من جهة البحر ولكي لا تكون للمسيحيين مركزا حصينا في وسط بلاده تلجأ إليه عمارات الدّول المعادية للدّولة وقت الحرب: تاريخ الدولة العلية ص: 203.

بها الكفّار حصنا حصينا في غاية الإحكام (¬415) ذا (¬416) أسوار وخنادق متعددة (¬417) يتلو بعض تلك الأسوار بعضا، إتخذها الكفّار مكمنا (¬418) لأخذ المسلمين، فإنهم ينظرون من أعلى (¬419) قلعتها إلى السّفن الّتي تمر في البحر (¬420)، فإن علموها مشحونة بعساكر المسلمين (تهيؤوا للتحصين، وإن علموها بتجارة المسلمين) (¬421) أخذوها قهرا، فاتخذ النّصارى هذا الحصن لهم متعبدا يجهّزون أموالهم إليه لتصرف في بنائه وإتقانه واتخاذ آلات الحرب ومراكبه وغير ذلك، وجعلوا أسواره مفتّحة الطيقان من أعلاها إلى أسفلها من جميع الجهات، ووضعوا فيها مدافع كبيرة كثيرة ترمي على من يقصدها من خارج فتصيبه من أي جهة من الجهات (¬422)، ولهذا الحصن أبواب (¬423) من حديد وسلسلة عظيمة على فم مرساة تمنع المراكب من الوصول إلى الأبواب (423)، وهيؤوا أغربة مشحونة بالسّلاح والمدافع الكبيرة، فإذا أحسّوا بسفينة في البحر من الحجّاج أو التّجّار (¬424) أخرجوا إليها تلك الأغربة وأخذوها ونهبوا ما فيها من الأموال وأسّروا المسلمين، فيقطعون على المسلمين الطّريق على هذا الأسلوب، ويجمعون الأموال ويصرفونها على مقاتلتهم، فكان هذا دأبهم، وعجزت ملوك الإسلام عن دفع ضررهم، وعمّ أذاهم المسلمين، فتجهز السّلطان سليمان / - رحمه الله تعالى - بعسكره المنصور إلى أخذ هذه الجزيرة (¬425)، وكان ¬

(¬415) في الإعلام ص: 310: «الاستحكام». (¬416) في الأصول: «ذو». (¬417) في ط: «وخنادق ومنطردة»، وفي ب: «وخنادق منظورة». (¬418) في ش: «ممكنا» وهو تحريف. (¬419) في الأصول: «في أعلى». (¬420) في الإعلام: «تمرّ في البحر من مسافة بعيدة». (¬421) ما بين القوسين ساقط من ط وب. (¬422) في ش: «الجهاة». (¬423) في الإعلام: «باب». (¬424) في الأصول: «والتجار». (¬425) وملوك أوربا لم يكونوا بحالة تسمح لهم مساعدة الرّهبنة المحتلة للجزيرة، فكان ملك فرنسا فرنسوا الأول وشارل الخامس الشهير بشرلكان ملك إسبانيا وألمانيا معا مشتغلين بمحاربة بعضهما والبابا لاون العاشر Leon X مشتغلا بمجادلة ومقاومة الرّاهب الألماني لوثر Luther مؤسس مذهب البروتستانت، وبلاد المجر مضطربة في الدّاخل بسبب عدم إتفاق أمرائها وأعيانها وصغر من ملكها لويس الثّاني، كلّ هذه الأسباب حملت السّلطان على إنتهاز هذه الفرصة لفتح هذا الحصن المنيع، تاريخ الدولة العلية ص: 203 - 205.

سفره المبارك إليها لعشرين من رجب سنة ثمان وعشرين وتسعمائة (¬426)، وكان وصوله إلى رودس ونزوله عليها في شهر رمضان من السّنة المذكورة، فأحاطوا بها برّا وبحرا، ولم يمكن من في (¬427) البرّ أن يقرب من سور حصارها للخندق العظيم المحيط به مع صونه بالمدافع العظيمة، ولم يمكن من في البحر القرب والدّخول للمرسى (¬428) للسلسلة الممدودة من الحديد في البحر وللرمي على من يقربها بالمدافع الكبار، فكانوا يصيبون المسلمين بالمدافع ولا تصيبهم مدافع المسلمين، وإن وصل منها شيء لم ينفذ من السّور لمتانته وعلوه، فتأخّرت عساكر البرّ قليلا وأمروا بسوق التراب فساقوه حتى صار أمثال (¬429) الجبال فتمترسوا به، وصاروا يقدّمون تلك المتاريس قليلا قليلا إلى أن وصل التّراب إلى الخندق فألقوه فيه فامتلأ وقرب من جدار الحصن (¬430) وارتفع عليه، وصار الكفّار الفجّار تحت المسلمين يصابون ولا يصيبون على الضّدّ ممّا كان حالهم قبل، فرمى المسلمون عليهم بالنّار إلى أن عجزوا ووهنوا وتحققوا أنهم مأخوذون، فطلبوا من السّلطان سليمان الأمان وسلّموا له البلاد على شرط أن يخرجوا نساءهم وأولادهم وأموالهم ويتوجّهوا حيث شاؤوا ولا يتعرض لهم أحد من الجند، فأجابهم السّلطان إلى ذلك بعد أن نهاه الوزراء عن أمانهم لسقوط (¬431) قوة الكفر وإنهم إذا نجوا بهذه / الخزائن أمكنهم التقوي بها وجمع عساكر من النصارى أعداء الدّين، فيعودون لأذيّة المسلمين، فلم يصغ السّلطان إلى منعهم فأعطاهم الأمان، فخرجوا بجميع أموالهم وأهليهم وما يعز عليهم وتوجّهوا للمغرب، وعمّروا جزيرة مالطة - دمّرها الله تعالى - فعادوا لأذيّة المسلمين فقطعوا الطّريق كما كانوا يصنعون برودس (¬432)، فندم السّلطان سليمان على إعطائهم الأمان، وأرسل إليهم عمارة عظيمة وعساكر كثيرة (¬433) لأخذهم واستئصالهم آخر عمره لنظر ¬

(¬426) 16 جوان 1522 م. (¬427) في الأصول: «فم» والتصويب من الإعلام ص: 311. (¬428) في الأصول: «المرسا». (¬429) كذا في ش والإعلام وفي ط وب: «مثل». (¬430) في الإعلام: «الحصار». (¬431) في الإعلام: «فإنهم لم يبق لهم منعة ولا قوة» ص: 311. (¬432) هم فرسان مالطة المتسمّون أيضا بفرسان القدّيس يوحنّا الأورشليمي تاذّت منهم شواطئ البلاد التّونسيّة لقربها منهم وبالخصوص صفاقس، واستمرّت جزيرة مالطة وكرا لهذه المؤسسة الرّهبانية إلى أن احتلّها نابليون بونبارت سنة 1213/ 1798 عند مسيره لفتح مصر. (¬433) في ط وب: «عظيمة».

مصطفى باشا الوزير، فوقع بينه وبين القبودان (¬434) مخالفة أدت إلى منازعة فأفشلوا (¬435) كما توعّد الله على ذلك {وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (¬436) فرجعوا بغير طائل لأمر أراده الله. فالنّاس إلى الآن في مدافعة ضررهم ومقاساة أهوالهم وخصوصا أهل صفاقس فإنهم معهم في محاربة شديدة والأخذ والقتل من الجانبين لما أن الحرب سجال، ولعلّ في ذلك خير وخيرة لأن ممارسة حرب العدوّ يورث شهامة ونشاطا بخلاف النشوء على المسالمة والعافية فإنه يوجب خورا في الطّبع وجبنا في النّفس وفشلا عند ملاقاة (¬437) العدوّ وعجزا ويختار الله لعبده ما لا يختاره لنفسه، وفيه أعظم الفوائد وهي ملازمة الغزو والجهاد والرّباط والرجوع بإحدى الغنيمتين: مال أو شهادة، والأجر حاصل / على كلّ حال. وكان فتح رودس لستّ مضين من شهر صفر الخير سنة تسع وعشرين وتسعمائة (¬438)، وأرخوا بذلك بقوله علت كلمته {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ} (¬439). وفتح أيضا عدة قلاع في ذلك العام منها استان كوى (¬440) وقلعة بودرم (¬441) وقلعة أودوس (¬442) وغير ذلك من القلاع. ومن غزواته المشهورة غزوة أولونية (¬443) المعروفة بكورفس (¬444) من أتباع إسبانيا (¬445)، توجه إليها في البرّ بركابه العالي وأرسل لطفي باشا في البحر والقبودان (¬446) خير ¬

(¬434) القبودان أو القبطان محرّفة عن كلمة كابيتان الفرنسية Capitaine الّتي معناها قائد السفينة إذا جاءت لأمور تتعلق بالبحر. هامش 1 ص: 227 من تاريخ الدولة العلية. (¬435) في الإعلام: «أدّت إلى انكسار المسلمين» وهنا ينتهي - فيما يتعلق بفتح رودس - نقله من الإعلام. (¬436) سورة الأنفال: 46. (¬437) في الأصول: «ملاقات». (¬438) 25 ديسمبر 1522. المؤلّف نقل بتصرف ما يتعلّق بفتح رودس من الإعلام للنّهروالي ص: 301 - 316. وأنظر تاريخ الدّولة العليّة ص: 203 - 206. تاريخ الشّعوب الإسلاميّة 3/ 66. (¬439) سورة الرّوم: 4 - 5. (¬440) في الأصول: «اسنان كومي» والتّصويب من الإعلام ص: 312. (¬441) في الأصول: «بدرم» والتّصويب من الإعلام. (¬442) في الأصول: «ايروس» والتّصويب من الإعلام. (¬443) في الأصول: «قولونية» والتّصويب من الإعلام ص: 318 والحلل السّندسيّة 2/ 286. (¬444) في ط وب: «كورفسيد»، وفي ش: «كورفيس» والتّصويب من الإعلام. (¬445) في الأصول: «سبانيا». (¬446) في الأصول: «القبدان».

الدّين باشا (¬447) بنحو خمسمائة غراب مشحونة بعساكر البحر إلى أن نزل بمخيمه المنصور على أولونية (443) في سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة (¬448) واستباحها أسرا ونهبا، وافتتح من حصون ذلك البحر أربعة وثلاثون حصنا حصينا هدمت إلى الأساس وقتل من فيها، وغنم المسلمون من الكفّار ما لا يحصى من الأموال والسّبي. وآخر غزواته الكبار - رحمه الله ورضي عنه - غزوة سكتوار (¬449)، وكان ذلك عند ما أصابه مرض النقرس فتألم به أشدّ الألم وهو يظهر الجلد والقوة ارهابا للعدوّ، فمنعه حكيمه من السفر فأبى وقال: أريد أن أموت غازيا في سبيل الله، فبرز بجيوشه المنصورة سنة أربع وسبعين وتسعمائة (¬450)، فنزل على قلعة سكتوار (449)، وهي من أعظم قلاع الكفار فأحاط عساكره بها، وكانت في غاية من الحصانة، واسعة شاسعة مكينة راسخة مشحونة بالآلات الحربية، وشجعان الكفّار وأبطالها / فضايقهم المسلمون فبرز الكفار للقتال، فاشتدّ النزال، ووقع في الكفرة الزلزال، فقبل الإنفصال إشتدّ بالسّلطان - رحمه الله - مرضه، وغمرته غمرات (¬451) الوفاة، وهو مع ذلك - رضي الله تعالى عنه - يلهج إلى الله القريب المجيب بطلب الفتح القريب، فاستجاب الله دعاءه فأضرمت النّار في خزانة بارود الكفّار المخزونة بالقلعة، وكانت موفورة عندهم مهيّأة لقتال المسلمين، فأصابها شرر من النّار إجابة لدعاء ذلك الرّوح المقدس، فأخذت جانبا كبيرا من القلعة فرفعته إلى عنان السّماء، وزلزلت الأرض زلزالها إلى تخوم الأرض السّفلى، وتطاير جلاميد صخور الحصن، ورمت النّار بشرر كالقصر من جدران ذلك الحصن، والتهبت النّار وتزايد الدخان حتّى امتلأ الفضاء فضعفت طائفة الكفر وعذّبهم الله بنار الدّنيا {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى} (¬452) فتزاحم الشجعان بآلات الحرب مع صدق النّيّة والإعتماد والتّوكّل على الله تعالى، وطبول الحرب ونيرانه تضرب، وتحاملوا على الكفّار حملة رجل واحد، وتعلّقوا بأطرف القلعة، وهجموا عليها من فوق الأسوار، واستشهد ¬

(¬447) هو خير الدّين بار بروس صاحب الآثار في تاريخ الجزائر بحمايتها من الإسبان واشتهر بمعاركه البحريّة على شواطئ إسبانيا وإيطاليا. (¬448) 1536 - 1537 م. (¬449) في الأصول: «سكتوان»، والتصويب من الإعلام ص: 324، ويقال سكدوار مدينة ببلاد المجر تسمى زيجت (Szeged) في الجنوب على الحدود اليكوسلافية؛ تاريخ الدولة العلية هامش 3 ص: 250. (¬450) 1566 - 1567 م. (¬451) في الأصول: «غمزاة». (¬452) سورة طه: 127.

من سبقت له من الله العناية، وفتح القلعة من نصره الله من المسلمين، ورفعت الرّاية السّليمانية على أعلى مكان من القلعة، ووقع السّيف في الكفّار، فقتل منهم من قتل، وأسّر من بقي، وعند وصول خبر الفتح للسّلطان / فرح، وحمد الله على هذه النّعمة العظيمة، وقال: الآن طاب الموت، فهنيئا لهذا السّعيد بهذه السّعادة الأبديّة، وطوبى لهذه النّفس الرّاضية المرضية، (من الّذين) (¬453) {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬454). ولمّا انتقل لدار السعادة، والحسنى وزيادة، أخفى حضرة الوزير الأعظم محمد باشا - رحمه الله تعالى - وفاة السّلطان - رحمه الله - وخرج من عنده وفرق الجوائز السنية والإنعامات، وأعطى الأمراء والأتابكية (¬455) الترقيات (¬456) عملا بمقتضى السياسة السّلطانية عند الفتوحات، وأمر بإرسال البشائر إلى سائر الأقطار والجهات، وأرسل سرّا يستدعي السّلطان سليم خان ولد السّلطان سليمان خان المرحوم واستعجله في سرعة القدوم عليه، وكتم ذلك عن جميع الناس الخاص والعام، فأحسن تدبير السّياسة بذلك لأنهم لم يزالوا بديار الكفر بعيدين من ديار الإسلام، فوصل ركاب السّلطان سليم خان فأمر العساكر بالرجوع إلى أوطانها، وحمل السّلطان سليمان معه وعاد بأركان دولته وعساكر بابه العالي إلى القسطنطينية، فخرج إلى إستقباله جميع العلماء والولاة وسائر الناس من خاص وعام، فصلوا على المرحوم السّلطان سليمان، وأمّ (¬457) النّاس المفتي الأعظم عالم زمانه وعلامة أوانه مولانا أبو السّعود أفندي المفسّر - رحمه الله تعالى - ودفنوه في تربة أعدّها لنفسه في قائم حياته، ورثاه الشّعراء بكل لسان بقصائد سارت بها الرّكبان / أعظمها قصيدة المفتي المشار إليه وهي طويلة فلنذكر بعضها تبرّكا بالقائل والمقول فيه، وهي من البسيط مبدؤها: [البسيط] أصوت صاعقة أم نفخة الصّور ... فالأرض قد ملئت من نقر ناقور أصاب منها الورى دهياء (¬458) داهية ... وذاق منها البرايا صعقة الطّور (¬459) ¬

(¬453) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬454) مستوحاة من الآية 8 سورة البينة. (¬455) في الإعلام: «والبكلاربكية» ص: 327. (¬456) في الأصول: «الطارقاة» والتصويب من الإعلام. (¬457) في الأصول: «أمر». (¬458) في الأصول: «دهماء» والتّصويب من الإعلام ص: 328. (¬459) في الأصول: «الصور».

تهدّمت بقعة الدّنيا لوقعتها ... وانهدّ ما كان من سور ومن دور (¬460) أمسى معالمها تيماء مقفرة ... ما في المنازل من دار وديّور تصدّعت قلل الأطواد وارتعدت ... كأنّها قلب مرعوب ومذعور واغبرّ ناصية الخضراء وانكدرت ... وكاد أن تمتليء (¬461) الغبراء (¬462) بالمور فمن كئيب وملهوف ومن دنف (¬463) ... عان بسلسلة الأحزان مأسور فيا له من حديث موحش نكد ... يعافه السّمع مكروه ومنفور (¬464) تاهت عقول الورى من هول وحشته ... فأصبحوا مثل مسجون (¬465) ومسحور تقطّعت قطعا منه (¬466) القلوب فلا ... يكاد يوجد قلب غير مكسور أجفانهم (¬467) سفن مشحونة بدم ... تجري ببحر من العبرات مسجور أتى بوجه نهار لا ضياء له ... كأنّها غارة شنّت (¬468) بديجور أم ذاك نعي سليمان الزّمان ومن ... مضت (¬469) أوامره في كلّ مأمور ومن ملا جملة الدّنيا مهابته ... وسخّرت كل جبّار وتيهور (¬470) مدار سلطنة الدنيا ومركزها ... خليفة الله في الآفاق مذكور معلي معالم دين الله (¬471) مظهرها ... في العالمين بسعي منه مشكور (¬472) وحسن رأي إلى الخيرات منصرف ... وصدق عزم على الألطاف مقصور ¬

(¬460) في الإعلام والحلل السّندسيّة ص: 287: «وانهدّ ما كان من دور ومن سور». (¬461) في الأصول: «أن تملي». (¬462) في الأصول: «الفقراء» والتّصويب من الإعلام. (¬463) في الأصول: «ومزدنف» والتّصويب من الإعلام. (¬464) في الأصول: «مكفور». (¬465) في الإعلام: «مجنون». (¬466) كذا في ط وب والإعلام، وفي ش: «منها». (¬467) في ش وب وت: «أجسادهم»، وفي ط: «أجسامهم» والتّصويب من الإعلام. (¬468) في الأصول: «شيبت». (¬469) في الأصول والإعلام ص: 329: «قضت» والتّصويب من الحلل السّندسيّة 2/ 287. (¬470) كذا بالأصول والإعلام، وفي الحلل السّندسيّة: «تيمور»، وتيهور: الرجل التائه المتكبر، تاج العروس 3/ 70. (¬471) في الأصول: «معالم الدّين» والمثبت من الإعلام. (¬472) هذا البيت ساقط من ط.

بآية (¬473) العدل والاحسان ممتثل ... بغاية القسط (¬474) والإنصاف موفور مجاهد في سبيل الله مجتهد ... مؤيّد من جناب (¬475) القسط منصور / بلهذميّ (¬476) إلى الأعداء منعطف ... ومشرفيّ (¬477) على الكفّار مشهور وراية رفعت للمجد خافقة ... تحوي على علم بالنصر منشور وعسكر ملأ الآفاق محتشد ... من كلّ قطر من الأقطار محشور له وقائع في الأعداء (¬478) شائعة ... أخبارها زبرت (¬479) في كل طامور (¬480) يا نفس ما لك في الدّنيا مخلّفة ... من بعد رحلته عن هذه الدّور وكيف تمشين فوق الأرض غافلة (¬481) ... أليس جثمانه فيها بمقبور (¬482) فللمنايا مواقيت مقدّرة ... تاتي على قدر في اللّوح مسطور وليس في شأنها للنّاس من أثر ... ومدخل ما بتقديم وتأخير يا نفس فاتّئدي لا تهلكي أسفا ... فأنت منظومة في سلك معذور (¬483) إذ لست مأمورة بالمستحيل ولا ... بما ينوى بمجذول ومسرور (¬484) ¬

(¬473) في الأصول: «لآية» والتّصويب من الإعلام. (¬474) في ش: «القطط». (¬475) في الأصول: «جنان» والتّصويب من الإعلام ص: 329. (¬476) في الأصول: «لهذمي» والتّصويب من الإعلام. واللهذم أي القاطع من الأسنة، يقال سنان لهذم وكذلك سيف لهذم. انظر تاج العروس 9/ 69. (¬477) في الأصول: «مرتضى» والتّصويب من الإعلام. يقال سيف مشرفي، قال كثير: فما تركوها عفوة عن مودة ولكن بحد المشرفي استقالها. أنظر تاج العروس 6/ 154. (¬478) في الأصول: «مع الأعداء»، وفي الإعلام: «في الأكناف». (¬479) في الأصول: «زبدت» والتّصويب من الإعلام والحلل السّندسيّة. (¬480) في الأصول: «مسطور» والتّصويب من الإعلام والحلل السّندسيّة. والطامور والطومار ج طوامير أي الصّحيفة. أنظر تاج العروس 3/ 360. (¬481) في الأصول: «حافلة» والتّصويب من الإعلام. (¬482) بعدها في الإعلام بيت ساقط من كل الأصول: حقّ على كلّ نفس أن تموت أسا لكنّ ذلك أمر غير مقدور. (¬483) في الأصول: «مغرور» والتّصويب من الإعلام ص: 330. (¬484) في الإعلام: «بما سوى بذل مجهود وميسور».

ولا تظنّنّه (¬485) قد مات بل هو ذا (¬486) ... حيّ بنصّ من القرآن مزبور (¬487) له نعيم وأرزاق مقدّرة ... تجرى عليه بوجه غير مشعور إنّ المنايا (¬488) وإن عمّت محرّمة ... على شهيد جميل الحال مبرور مرابط في سبيل الله مقتحم ... معارك الحتف بالرّضوان مأجور ما مات بل نال عيشا باقيا أبدا ... عن عيش فان بكلّ الشّرّ (¬489) مغمور (إبتاع سلطنة العقبى بسلطنة ... الدّنيا) (¬490) فأعظم بربح غير محصور (¬491) بل حاز كلتيهما إذ حلّ منزله ... من لم يغايره في أمر ومأمور أمّا (¬492) ترى ملكه المحمي آل إلى ... سرّ سرىّ له في الدّهر مشهور وليّ سلطنة الآفاق مالكها ... برّا وبحرا بعين اللّطف منظور ظلّ الإلاه ملاذ الخلق قاطبة ... وملتجى كلّ مشهور ومدهور (¬493) فإنّه عينه في كلّ مأثرة ... وكلّ أمر عظيم الشّأن (¬494) مأثور / ولا إمتياز ولا فرقان بينهما ... وهل يميّز بين الشّمس والنّور سميدع (¬495) ماجد زادت مهابته ... تخت الخلافة في عزّ وتيقور (¬496) جدّ (¬497) الجديدان في أيام دولته ... صارا كأنّهما مسك بكافور أضحى بقبضته الدّنيا برّمتها ... ما كان من مجهل منها ومعمور ¬

(¬485) في الأصول: «تظنه». (¬486) في الأصول: «قل». (¬487) مشيرا بذلك لقوله تعالى «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ». (¬488) في الأصول: «المماة» والتّصويب من الإعلام. (¬489) في الأصول: «العيش» والتّصويب من الإعلام ص: 330 والحلل السّندسية 2/ 288. (¬490) في الأصول: «سلطنة الدنيا بسلطنة الأخرى». (¬491) في الأصول: «محسور». (¬492) كذا في الإعلام والحلل السّندسيّة، وفي الأصول: «ألا». (¬493) في الأصول: «وملتجأ كل مقهور ومنهور». والتّصويب من الإعلام والحلل السّندسيّة. (¬494) في الأصول: «أمر عظيم منه» والتّصويب من الإعلام. (¬495) هذا البيت والأبيات الستة بعده في مدح السّلطان سليم خان ولد المرثى السّلطان سليمان القانوني (أنظر العقد المنظوم ص: 279). (¬496) في الأصول: «توفير» والتّصويب من الإعلام. (¬497) في الأصول: «حتى» والتّصويب من الإعلام.

سليم خان الثاني

بدا بطلعته والنّاس في كرب ... وسوء حال من الأحوال منكور فأصبحت صفحات الكون (¬498) مشرقة ... وعاد أكنافها نورا على نور أكرم به ملكا (¬499) جلّت مفاخره ... عن البيان بمنظوم ومنثور كأنّها ويراع الواصفين لها ... بحر خميس (¬500) إلى منقار عصفور لا زال (¬501) أحكامه بالعدل جارية ... بين البريّة حتى نفخة الصّور (¬502). سليم خان الثّاني: وبعد وفاة السّلطان سليمان خان - رحمه الله تعالى - تولّى السّلطان سليم خان الثّاني - رحمه الله تعالى -. كان مولده المبارك سنة تسع وعشرين وتسعمائة (¬503) وجلوسه على تخت السلطنة بالقسطنطينية يوم الإثنين لتسع مضين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وتسعمائة (¬504) ومدّة ملكه تسع (¬505) سنين وعمره يوم تولي السّلطنة أربع (¬506) وأربعون سنة وكان - رحمه الله تعالى - مجاهدا في سبيل الله، محبّا للعلم وأهله، وفي دولته ¬

(¬498) في الإعلام: «الأرض». (¬499) في الإعلام: «سبحان من ملك». (¬500) في ش وب: «عميق»، وفي ط: «عقيق»، والتّصويب من الإعلام ص: 330. والحلل السّندسيّة 2/ 289 وفي العقد المنظوم «مكيس» ولعلّه الأصحّ والأوفق. (¬501) كذا بالأصول والإعلام وفي الحلل: «لا زالت». (¬502) نقل المؤلف مرثية المفتي أبي السعود في السّلطان سليمان القانوني من الإعلام للنّهروالي ص: 328 - 330، وأورد منها الوزير السّرّاج في الحلل السّندسيّة مقتطفات 2/ 387 - 389 وكذلك علي بن لالا بالي الأديب التركي المستعرب (ت.992/ 1584) في كتابه العقد المنظوم في ذكر أفاضل الروم (أي الترك) ط. بعد الشقائق النعمانية دار الكتاب العربي، بيروت 1395/ 1975 ص: 378 - 380. (¬503) كذا بالأصول والإعلام ص: 355: 1522 - 1523 م، وجاء في تاريخ الدّولة العليّة ص: 253 «كان مولده في 6 رجب سنة 930/ 10 ماي 1524 م». (¬504) 24 أكتوبر 1566، وفي الأصول: «لتسع مضين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وسبعين وتسعمائة» والتّصويب من الإعلام ص: 355. وجاء في تاريخ الدّولة العليّة أنه وصل إلى القسطنطينيّة في 9 ربيع أوّل سنة 974 هـ ‍ / 24 سبتمبر 1566 م. (¬505) في الأصول: «سبع» وهو خطأ إذ بقي سليم الثّاني في السّلطنة حتّى سنة 982 هـ ‍ / 1574. (¬506) في الأصول والإعلام: «ستّ» وهو خطأ والتّصويب من مقارنة تاريخ ميلاده وتاريخ تولّيه السّلطنة.

السّعيدة وأيامه الغرّ الحميدة، وقعت فتوحات عديدة عظيمة، فمن أشهرها وأعظمها فتح حلق الوادي بمدينة تونس تخت سلطنة إفريقية بعد إستيلاء الكفرة اللئام عليها، ولنفرد هذا الفتح بباب لأنه المقصود الأعظم. ومنها فتح جزيرة قبرس بالسين المهملة (¬507) /. قال في القاموس في باب السّين: قبرس جزيرة عظيمة للرّوم توفّت بها أمّ حرام (¬508) بنت ملحان اهـ‍. وهي (¬509) من البحر الشامي كبيرة القطر، مقدارها مسيرة ستة عشر يوما، وبها قرى ومزارع وأشجار كثيرة ومواش، وفيها معدن الزّاج القبرسي، ومنها يجلب إلى سائر الأقطار، وبها ثلاث مدن، ومن قبرس إلى طرابلس الشام مجريان في البحر، وبينها وبين ساحل مصر خمسة أيام، ورخاء قبرس شامل وخيراتها كاملة على ممر الأيام، وإنّما سميت بهذا الإسم أخذا من إسم وثن (¬510) هناك يسمى قابرس (¬511) كان يعظّمه الكفّار، ويعظّمون لأجله هذه الجزيرة، وأهل قبرس موصوفون بالغناء واليسار، وبها معادن الصفر، ويجمع منها اللاّذن (¬512) الحسن الرائحة الّذي يغلب العود [في] طيبه إذا جمع من فوق شجره (¬513) خاصة فيحمل إلى سلطان القسطنطينيّة لأفضليته، وما تساقط منه على وجه الأرض يباع للناس. وكانت أمّ حرام (¬514) بنت ملحان الصّحابية - رضي الله تعالى عنها - شهدت غزوة قبرس فتوفّيت بها، فأهل قبرس يتبرّكون بقبرها، ويقولون: هو قبر المرأة الصّالحة، كانت سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين سمعته يقول: «يركب ثبج هذا البحر أناس من أمّتي ملوكا على الأسرّة»، الدّعاء أن يجعلها منهم، فدعا لها، وهو حديث معروف أخرجه رجال الصّحيح (¬515). ¬

(¬507) هكذا كتبها الحموي والحميري وغيرهما. (¬508) كذا في ش وب والإعلام ص: 359 والرّوض المعطار، وفي ط وت: «حزام». (¬509) النّقل فيما يتعلق بقبرس عن الإعلام للنّهروالي ص: 358 والنّهروالي ناقل عن الرّوض المعطار للحميري، والحميري ناقل عن نزهة المشتاق للإدريسي ص: 453 - 454. (¬510) في الأصول: «دير» والتّصويب من الإعلام ص: 358 والرّوض المعطار ص: 454. (¬511) في الأصول: «قابوس» والتّصويب من نفس المرجعين. (¬512) في الإعلام: «اللاّدن». (¬513) في الإعلام ص: 359: «الّذي يغلب العود في طيبه وهو الّذي يجمع منه على الشجر خاصة». (¬514) كذا في ش وب، وفي ط وت: «حزام». (¬515) أخرجه الشّيخان والإمام مالك في الموطّأ والترمذي وأبو داود والنسائي، وفيه اختلاف قليل في الألفاظ، وهو حديث طويل وله قصّة اقتصر المؤلّف على محلّ الحاجة منه.

وكان معاوية - رضي الله تعالى عنه - غزاها وصالح أهلها على جزية سبعة آلاف دينار فنقضوا عليه، فغزاهم ثانية / فقتل وسبى كثيرا منهم، روي أنّه لما فتحت مدائن قبرس، واشتغل المسلمون بقسم السّبي بينهم (¬516) بكى أبو الدّرداء - رضي الله تعالى عنه - وتنحّى عنهم ثم احتبى بحمائل سيفه ودموعه على خدّيه فقال له أحد الحاضرين: أتبكي في يوم أعزّ الله فيه الإسلام وأهله، وأذلّ الكفر وأهله؟ فضرب على منكبيه وقال: ويحك ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره، فبينما هي قوّة ظاهرة وسطوة قاهرة لهم على النّاس إذا تركوا أمره فصاروا أذلّة وصار حالهم على ما ترى من السّي والإهانة. وقال أبو عبد الله محمّد بن عبد النّور (¬517) في كتابه الرّوض المعطار في خبر (¬518) الأقطار: كان الأوزاعي يقول: إنا نرى هؤلاء أهل قبرس أهل عهد، وإن صلحهم وقع على شيء فيه شرط لهم وشرط عليهم، وإنّه لا يسع أحدا (¬519) نقضه إلاّ بأمر يعرف به غدرهم (¬520) ورآى (¬521) عبد الملك، في حدث أحدثوه، أنّ ذلك نقض لعهدهم فكتب إلى عدّة من الفقهاء يشاورهم في أمرهم منهم اللّيث بن سعد، وسفيان بن عيينة وأبو إسحاق الفزاري، ومحمّد بن الحسن، فاختلفوا عليه، وأجاب كلّ واحد بما ظهر له، قالوا (¬522) وانتهى خراج أهل قبرس الّذي يؤدّونه إلى المسلمين بعد المائتين من الهجرة إلى أربعة آلاف ألف [وسبعمائة ألف] (¬523) وسبعة وأربعين ألفا (¬524) اه‍. ثم إنّهم (¬525) هادنوا في الدّولة العثمانية بأداء ما كان مقرّرا عليهم غير أنّهم أخذوا في المكر والخداع وإظهار الطّاعة وإخفاء / الغدر، فيقطعون الطّريق في البحر على المسلمين ¬

(¬516) كان ذلك إثر غزوة معاوية الثانية لقبرس، أنظر عنه الرّوض المعطار ص: 454. (¬517) محمّد بن محمّد بن عبد الله بن عبد المنعم بن عبد النّور الحميري في كتابه «الرّوض المعطار في خبر الأقطار» ويبدو أنّ المؤلّف ينقل ما في الإعلام للنّهروالي ولم يطّلع على كتاب الحميري. (¬518) في الأصول: «أخبار». (¬519) في الرّوض المعطار والإعلام: «يسعهم». (¬520) كذا بالأصول والإعلام، وفي الرّوض المعطار: «عذرهم». (¬521) كذا بالأصول والرّوض المعطار، وفي الإعلام: «روى». (¬522) ساقطة من ش. (¬523) إضافة من الإعلام والرّوض المعطار. (¬524) إلى هنا ينتهي ما نقله صاحب الإعلام عن الرّوض المعطار، والمؤلّف نقل كلام صاحب الإعلام بتصرف يسير ص: 358 - 359. والكلام عن قبرس نقله عن الإعلام صاحب الحلل السّندسيّة ص: 292 - 293. (¬525) يستمرّ في النّقل من الإعلام بتصرّف ص: 360.

حتّى [إذا] (¬526) أخذوا سفينة من المسلمين قتلوا جميع من كان فيها وغرّقوها في البحر لإخفاء ما فعلوه، ويؤوون قطّاع الطّريق من النّصارى ويساعدونهم على المسلمين إلى أن كثر أذاهم وعمّ ضررهم، فاستفتى السّلطان سليم خان المفتي العلاّمة أبا السّعود العمادي - رحمه الله تعالى - فأفتاه بأنّهم غدروا ونقضوا العهد (¬527)، وأن قتالهم جائز بسبب ما ارتكبوا من الغدر والخيانة، فجيّش (¬528) عليهم السّلطان سليم جيشا كثيفا أرسله في البرّ وعمارة في البحر، وجعل سردار الجميع الوزير الأعظم مصطفى باشا اللالا - رحمه الله تعالى - فبرز بعسكر ملأ الأرض برا وبحرا فساروا إلى أن بلغوا جزيرة قبرس، ففرّق الجند على حصونها وقد تحصّن بها الكفّار، وأحكموا خنادقها، وكان من أحكم الحصون المشيّدة بها ثلاثة عامرة، وهي في غاية الإرتفاع مشحونة بالسّلاح والأبطال واللّئام والقوت ومن دونهم خنادق غويطة (¬529) عريضة محمية بالمدافع الكبار ترمي من يقرب منها، فأحاطت العساكر بتلك القلاع فناوشوهم القتال برمي المدافع العظيمة باللّيل والنهار حتّى حطّمت دورهم وقصورهم، ففتحوا حصنين منها، وبقي الثّالث وهو المسمّى ماغوسا (¬530)، وفيه سلطانهم محصور، فاضطرّ إلى طلب الأمان، فشرط عليه الوزير إطلاق من عنده من أسارى المسلمين ويحضر بين يديه، فوافق / على ذلك ورضي به، فلمّا قدم (¬531) الأسارى أخبروا أنه خان بعد إنعقاد الأمان (¬532)، فقتل جماعة من الأسارى صبرا خفية على المسلمين، فلمّا علم الوزير ذلك طالبه (¬533) بالحضور بين يديه، فحضر فأهانه غاية الإهانة بسبب ما ارتكبه من الخيانة، وأمر بضرب عنقه، وأخذ أمواله وذخائره، وقتل من أراد وأسّر وأطلق من أراد، فصارت قبرس دار الإسلام، ومن جملة الممالك العثمانية. ¬

(¬526) إضافة يقتضيها السياق. (¬527) كذا في ط والإعلام، وفي ش وب وت: «العهود». (¬528) في الإعلام: «فجهز». (¬529) في ش وت وب: «عويطة»، وفي ط: «غويصة» وأثبتنا «غويطة» والتّغويط: ابعاد قعر البئر. تاج العروس 5/ 194 وفي الحلل السّندسيّة 2/ 294: «وضاق الخناق بالقلعتين». (¬530) في الأصول: «ماغور» والتّصويب من الإعلام ص: 362. (¬531) في ش: «قدموا». (¬532) كذا في ط وت والإعلام، وفي ب وش: «الأمن». (¬533) في ط والإعلام: «طلبه».

بقية سلاطين آل عثمان

وتوفّي السّلطان سليم خان - رحمه الله تعالى - لسبع مضين من شهر رمضان سنة إثنين وثمانين وتسعمائة (¬534) ودفن قرب أيا صوفيا (¬535) - رحمة الله عليه -. بقيّة سلاطين آل عثمان: ولنمسك عنان القلم عن التّعرض إلى تفصيل مغازي من بقي من سلاطين هذه السّلالة المباركة لأنّ غرضنا بيان أحوال إفريقية، فوجب صرف عنان العناية لما يتعلّق بذلك، ولكن لا بدّ من ذكر أسمائهم - رحمهم الله - لتحصيل بركتهم وتزيينا لكتابنا بنظم عقدهم ورونق مجدهم، وإظهارا لحبّهم وتعظيما لشأنهم فإنهم أحقّاء بكلّ ثناء جميل - أدخلهم الله ظله الظّليل، وحشرنا معهم في زمرة أفضل الخلق أجمعين - فنقول: تولّى (¬536) السّلطنة بعد السّلطان سليم - رحمه الله تعالى - ولده السّلطان مراد خان (¬537) سنة إثنين وثمانين وتسعمائة (¬538) ومدّة سلطنته واحد وعشرون سنة. ثمّ بعده السّلطان محمّد خان (¬539) (تولّى سنة ثلاث وألف) (¬540) ومدّة سلطنته تسع سنين (¬541). ¬

(¬534) كذا في الإعلام وشذرات الذّهب 8/ 396، وفي العقد المنظوم ص: 455 - 456 «كان منهمكّا على لذّاته في المساء والصّباح، ومنكبّا على اللّعب واللهو، ويرجّح السكر على الصّحو، مبتلي بشرب الرّاح ومبتهجا بالكؤوس والأقداح» إلى أن قال: «وقد منّ الله عليه قبل موته بالتّيقّظ العظيم والتّنبّه التّام، فأعرض عن الملاهي، ورغب في صحبة المشايخ الكرام، وقعد عن كلّ خلق رديء، وتاب على يد الشّيخ سليمان الخلوتي الآمدي وكسّر آلات اللهو وأواني الشراب، وانقطع مدة عن النّدمان والأصحاب وبدّل ترنّمات المغاني بتلاوة السّبع المثاني، ودام على هذه الصّفات السّنية حتّى غالبته أحوال المنيّة، وانتقل من هذه الدّنيا الدّنيّة». يقابله بالتّاريخ الميلادي 21 ديسمبر 1574، وفي تاريخ الدّولة العليّة توفي في 27 شعبان سنة 982 هـ ‍ / 12 ديسمبر 1574 م. (¬535) في الأصول: «ايا صوفية» وهنا ينتهي نقله من الإعلام ص: 398. (¬536) يرجع للنّقل من الإعلام ص: 399. (¬537) ساقطة من ط. والمقصود هو مراد خان الثالث. (¬538) في الأصول: «سنة خمس وثمانين» والتّصويب من الإعلام والحلل السّندسيّة، وحسب هذين المرجعين تولّى مراد خان في العاشر من رمضان. يقابله بالتّاريخ الميلادي 1574. (¬539) محمّد خان الثالث. (¬540) في ش: «تولّى سنة ستّ وألف» وفي ت وب: «سنة خمسة وعشرة وألف»، وفي ط: «خمس وألف». والتّصويب من تاريخ الدّولة العليّة والحلل السّندسيّة ص: 301. يقابله بالميلادي 1595. (¬541) بقي محمّد خان الثّالث في السّلطنة إلى أن توفّي في 12 رجب 1012/ 16 ديسمبر 1603 م. تاريخ الدّولة العليّة ص: 270. وفي الحلل السّندسيّة توفّي سادس عشر رجب ص: 303.

ثمّ تولّى بعده السّلطان أحمد خان سنة إثني عشرة / وألف (¬542) ومدّة سلطنته أربع عشرة سنة (¬543). ثمّ [تولّى بعده السّلطان مصطفى وخلع ثالث ربيع أوّل سنة سبع وعشرين وألف] (¬544). ثمّ تولّى بعده السّلطان عثمان خان (¬545) سنة سبع وعشرين وألف (¬546) ومدّة سلطنته أربع سنين (¬547). ثمّ تولّى بعده السّلطان مصطفى خان سنة واحد وثلاثين وألف (¬548) ومدّة سلطنته سنة واحدة (¬549). ثمّ تولّى بعده السّلطان مراد خان (¬550) سنة إثنين وثلاثين وألف (¬551) ومدّة سلطنته ستّة عشرة سنة (¬552). ¬

(¬542) في الأصول: «سنة خمس عشرة وألف» وهو خطأ. يقابله بالتاريخ الميلادي 1603 - 1604. (¬543) توفّي في 23 ذي القعدة 1026/ 22 نوفمبر 1617 وعمره 28 سنة، تاريخ الدّولة العليّة ص: 275. وترجم له ترجمة مطولة المحيي في خلاصة الأثر 1/ 284 - 292. (¬544) إضافة مستوحاة من الحلل السّندسيّة وتاريخ الدّولة العلية، إذ أنّ المؤلّف أسقط سلطنة مصطفى سنة سبع وعشرين ولم يتسلطن إلاّ نحو ثلاثة أشهر تقريبا وعزل في أوّل سنة 1027/ 26 فيفري 1618 م، ولمّا عزل تولّى مكانه السّلطان عثمان الثّاني وعزل في 9 رجب 1031/ 20 ماي 1622 وأعادوا مكانه السّلطان مصطفى، والسّلطان عثمان أعدم بعد عزله، ومدّة حكمه أربع سنوات وأربعة أشهر، وكان عزل السّلطان مصطفى في المرّة الثانية في 15 ذي القعدة سنة 1032/ 11 سبتمبر 1623 م. وبقي معزولا إلى أن توفي وولّوا مكانه عند عزله السّلطان مراد الرّابع. راجع تاريخ الدّولة العليّة ص: 277 - 279، الحلل السّندسيّة 2/ 306 - 309، وللسّلطان عثمان ترجمة في خلاصة الأثر 3/ 105 - 108 وترجم للسّلطان مصطفى 4/ 393 - 395. (¬545) عثمان خان الثّاني. (¬546) 1617 م وفي الأصول: «سنة تسع وعشرين» والتّصويب من الحلل السّندسيّة ص: 306 وتاريخ الدّولة العليّة. (¬547) في الأصول: «سبع سنين» وهو خطأ إذ أنّه خلع في 9 رجب من سنة 1031 هـ ‍ / 20 ماي 1622 م. (¬548) في الأصول: «ستّ وثلاثين». (¬549) بل بضعة أشهر. (¬550) هو مراد الرّابع وكانت وفاته في 16 شوال 1049/ 9 فيفري 1640 ومدّة حكمه 16 سنة و 11 شهرا وتولى بعده أخوه إبراهيم، تاريخ الدولة العلية ص: 280 - 285، الحلل السّندسيّة 2/ 309 - 314، خلاصة الأثر 4/ 336 - 341. (¬551) 1622 - 1623 م وفي الأصول: «سبع وثلاثين». (¬552) في الأصول: «ثمان عشرة سنة» وهو خطأ إذ توفّي كما أشرنا في 16 شوّال 1049 هـ ‍ / 1640.

ثمّ تولّى بعده السّلطان إبراهيم خان سنة تسع وأربعين وألف (¬553) ومدّة سلطنته ثمانية سنين (¬554). ثمّ تولّى بعده السّلطان محمّد خان (¬555) غازي وفاتح كندية (¬556)، جلس على تخت السّلطنة سنة ثمان وخمسين وألف (¬557) ومدة سلطنته أربعون سنة (¬558)، وكان فتحه لكندية فيما بلغنا بذي القعدة سنة إحدى وثمانين وألف (¬559). ثمّ تولّى بعده السّلطان سليمان خان (¬560) سنة تسع وتسعين وألف (¬561) ومدّة سلطنته ثلاث سنين. ثمّ تولّى بعده السّلطان أحمد خان (¬562) سنة إثنين ومئة وألف (¬563)، ومدّة سلطنته أربع سنين (¬564). ثمّ تولّى بعده السّلطان مصطفى (¬565) خان سنة ستّ ومائة وألف (¬566) ومدّة سلطنته تسع سنين (¬567). ¬

(¬553) في الأصول: «سنة خمس وخمسين وألف». (¬554) في الأصول: «خمسة عشر سنة» وهو خطأ إذ بقي في السّلطنة 8 سنين و 9 أشهر ومات مقتولا أنظر تاريخ الدّولة العليّة ص: 286 - 288 والحلل السّندسيّة 2/ 314 - 317 وخلاصة الأثر 1/ 13 - 16. (¬555) محمّد خان الرّابع. (¬556) Candia كانت تطلق على جزيرة أقريطش (الكريت) ثمّ صارت تطلق على أحد موانيها، ويقع في منتصف هذه الجزيرة من الجهة الشمالية. والصّحيح أن الّذي فتحها السّلطان المتولّي بعده. (¬557) في الأصول: «سبعين وألف» والتّصويب من الحلل السّندسيّة ص: 317 وتاريخ الدّولة العليّة 288. يقابله بالميلادي 1648 م. وعزل في 2 محرم 1099/ 8 نوفمبر 1687 م. (¬558) في الأصول: «تسع وعشرون سنة» وهو خطأ إذ أنه خلع في سنة 1099/ 1687 - 1688 م في 2 محرم. الحلل السّندسيّة ص: 323 وتاريخ الدّولة العليّة. (¬559) مارس 1671 وفي تاريخ الدّولة العليّة في 29 ربيع الثّاني سنة 1080/ 27 سبتمبر 1669. (¬560) هو سليمان الثّاني، ووفاته في 26 رمضان 1102/ 23 جوان 1691 ومدّة حكمه 3 سنوات و 8 أشهر. تاريخ الدّولة العليّة ص: 305 - 306، الحلل السّندسيّة 323 - 325. (¬561) 1687 - 1688 م. (¬562) أحمد خان الثّاني. (¬563) في 26 رمضان 1102/ 23 جوان 1691 م، تاريخ الدّولة العليّة ص: 306. (¬564) وثمانية أشهر. (¬565) مصطفى خان الثّاني. (¬566) في 22 جمادى الثّانية / 17 فيفري 1695 م. (¬567) بل 8 سنوات و 8 أشهر. إذ عزل في 2 ربيع آخر 1115/ 15 أوت 1703 م.

ثمّ تولّى بعده السّلطان أحمد خان (¬568) غازي فاتح المورة، جلس على تخت السّلطنة سنة خمس عشرة ومائة وألف (¬569)، ومدّة سلطنته سبع وعشرون سنة (¬570). ثمّ تولّى بعده السّلطان محمود (¬571) خان سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف (¬572) ومدّة سلطنته خمس وعشرون سنة (¬573). / ثمّ تولّى بعده السّلطان عثمان خان (¬574) سنة ثمان وستّين ومائة وألف (¬575) ومدّة سلطنته ثلاث سنين (¬576). ثمّ تولّى بعده السّلطان مصطفى خان (¬577) سنة واحد وسبعين ومائة وألف (¬578) ومدّة سلطنته ستّ عشرة سنة (¬579). ثمّ تولّى بعده السّعيد السّلطان عبد الحميد (¬580) خان سنة سبع وثمانين ومائة وألف (¬581) ومدّة سلطنته خمسة عشرة سنة (¬582). ¬

(¬568) أحمد خان الثّالث، أوّل من أدخل المطبعة وأسّس دار طباعة في الإستانة، تاريخ الدّولة العليّة 312 - 319. (¬569) في 2 ربيع الثّاني 1115/ 15 أوت 1703 م، تاريخ الدّولة العليّة ص: 311. (¬570) و 11 شهرا. (¬571) محمود الأوّل. (¬572) 1730 - 1731 م وفي الأصول: «إثنين وأربعين ومائة وألف». (¬573) في الأصول: «ستّ وعشرون سنة»، وهو خطأ إذ «كانت وفاته في 27 صفر 1168/ 13 ديسمبر 1754 ومدّة حكمه 25 سنة، تاريخ الدّولة العليّة ص: 320 - 325. (¬574) هو عثمان خان الثّالث. (¬575) 1754 م. (¬576) و 11 شهرا وكانت وفاته سنة 1171/ 30 أكتوبر 1757، تاريخ الدّولة العليّة ص: 327 - 328. (¬577) مصطفى خان الثّالث. (¬578) في 16 صفر / 30 أكتوبر 1757 م. (¬579) وثمانية أشهر إذ توفّي في 8 ذي القعدة سنة 1187/ 21 جانفي 1774. أنظر عنه تاريخ الدّولة العليّة ص: 329 - 340. (¬580) عبد الحميد خان الأوّل. (¬581) 1773 م. (¬582) و 8 أشهر. وفي الأصول: «ستّة عشرة سنة» كانت وفاته في 12 رجب سنة 1203/ 8 أفريل 1789 م، تاريخ الدّولة العليّة ص: 362.

فضائل العثمانيين

فضائل العثمانيّين: ثمّ تولّى بعده سلطاننا السّعيد السّلطان سليم خان (¬583) سنة ثلاث ومائتين وألف (¬584) بارك الله في حياته، وقرن النّصر براياته، ونكس أعلام الكفر تحت أقدام جيوشه ومقدماته، وجعله محفوظا مؤيّدا معززا منصورا بالقرآن العزيز وآياته، وخلّد السّلطنة في عقبه وأهل بيته إلى يوم الحقّ وعلاماته، والله تعالى يتولّى أسلافه الكرام البررة بالروح والرّيحان وتمام المغفرة، ويبوّء الجميع وإيانا فردوسا مع نبيّنا صاحب الشّفاعة المنتظرة، ويديم على الأمّة المحمّدية هذه الدّولة السّعيدة على توالي الأيام، ويحمي بحمايتها كافّة الإسلام، ويبقي سلطنتها القاهرة على الدّوام (إلى يوم القيام) (¬585) فكم لأسلافها الغزاة المجاهدين في نصرة الملّة المحمّديّة الغرّاء من يد بيضاء للنّاظرين، وكم فتحوا من أقاليم للكفر فصارت دار إسلام على رغم أنوف الكافرين، فالتحقت فتوحاتهم بفتوحات الصّحابة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - وقلّدوا / هذه الأمّة مننا تعظم عن الحصر والإحصاء (¬586) وتجلّ عن التكييف والإستقصاء (¬587)، فهم - رضي الله عنهم - في هذه الأعصار حماة هذا الدّين بالسّيف والقلم، وحجّته الواضحة بالكلام (¬588) والكلم. ولقد حكمت علماء أئمّة الإسلام واتّفقت كلمتهم - رضي الله تعالى عنهم - على أنّ سيوف الحقّ أربعة وما عداها للنّار، سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المشركين، وسيف أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - في المرتدّين، وسيف علي - رضي الله تعالى عنه - في الباغين، وسيف القصاص بين المسلمين، فسيوف آل عثمان - رضي الله عنهم - إذا سبرت لم تخرج عن هذه السّيوف الأربعة، فإنهم ما زالوا منذ كانت أسلافهم إلى نشأة أخلافهم - بارك الله فيهم - يجاهدون الكفّار والمرتدّين، ويقاتلون الباغين والمارقين، ¬

(¬583) هو سليم خان الثّالث وعزل عن السّلطنة في 21 ربيع الثّاني سنة 1222/ 28 جوان 1807، ومدّة حكمه 19 سنة، وبقي إلى أن توفّي في 4 جمادى الأولى سنة 1223/ 28 جوان 1808 وعمره 48 سنة تقريبا، أنظر عنه تاريخ الدّولة العليّة ص: 363 - 393، وإشارته إلى كونه سلطان زمانه، هل يفهم منها بداية تاريخ تأليف كتابه؟ (¬584) 1788 م. (¬585) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬586) كذا في ط، وفي ش وت: «الاحصار». (¬587) في ش: «الاستقصار». (¬588) كذا في ط، وفي ش وب وت: «الكلم».

ويقيمون حدود شرائع الدّين، فالله تعالى يمدّ ظلال سلطنتهم على المسلمين ويؤيّد بهم أهل السّنّة والدّين، ويقمع بهم أهل الكفر والأهواء والمخالفين، من قال آمين أبقى الله مهجته فإن هذا دعاء ينفع البشر. قيل في سبب عصمة العثمانية من الفتن وتغلب الأمراء والوزراء الّتي وقع فيها غيرهم من الدّول بعد عصمة الله السّابقة في سابق قضائه وقدره أنّ ملوكهم في أعصارهم منعوا أن يبايعوا غيرهم في تصرف الملك والإمارة والمناصب الجليلة والإشتراك / في الخطبة والسّكّة والإستقلال بزمام (¬589) المناصب واتخاذ الحصون والقلاع، وتسيير الأغربة البحرية فخصّوا بذلك أنفسهم، وميّزوا ألقابهم عن ألقاب الوزراء، فما شاركهم في أسباب القوة والعدّة وجمع الخزائن الجهادية وغيرها أحد، وقطعوا رأس من تسمّى بالسّلطان والملك، وقطعوا ولاية العهد بتقديم البيعة، وفهموا الإشارة النبوّية في إشتراك (¬590) البيعة إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر أو كما قال اهـ‍. من محاضرة الأوائل لعلي ددة، ثمّ (¬591) قال: سمعت بعض الأولياء نقلا عن الجفر (¬592) الجامع أنه تمتد دولتهم إلى زمان المهدي، ويسلّمون الخلافة إليه ويكونون من شيعته وناصري دولته، وسمعت ممن أثق بقوله أنه ذكر ذلك عند حضرة السّلطان سليمان الغازي - رحمه الله تعالى - فقيل له: إن خرج المهدي في عصرك هل تسلّم له الخلافة بلا منازعة؟ فقال: أرى نفسي تنازعني في رياسة الخلافة لأنّه قيل آخر ما يخرج من قلوب الصّدّيقين حبّ الرياسة، فأنظر إلى كمال معرفته - رحمه الله - بحقيقة النّفس الإنسانيّة حسبما قال الصّدّيق (¬593): {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ} (¬594) الآية، اهـ‍. وقال الشّيخ أحمد بن قاسم بن أحمد ابن الفقيه قاسم إبن الشّيخ الحجري الأندلسي (¬595)، وأنا أدعو للسّلطان مراد إبن السّلاطين العثمانيين الّذين أشهر الله / ¬

(¬589) كذا في ط، وفي ش وب وت: «زمامة». (¬590) في ش: «إشراء». (¬591) ساقطة من بقية الأصول. (¬592) كذا في ت، وفي ب: «الحبر»، وفي ط: «الحفر»، وفي ش: «الخبر». (¬593) هو سيّدنا يوسف عليه السّلام. (¬594) سورة يوسف: 53. (¬595) هذا الشّيخ كان حيّا بعد 1042/ 1632 وهو باحث مترجم عن الإسبانية، أصله من إشبيلية، إنتقل إليها من قرية الحجر (إحدى قرى غرناطة) ثم هاجر إلى المغرب بعد أن عكف سنين على درس الإسبانية حتى ظنّ أنه إسباني، وتمكّن بهذا من السفر إلى المغرب سنة (1007 هـ ‍) وأقام بمراكش إلى 1046، فكان ترجمانا للسّلطان =

بركاتهم في أرضه وبلاده، حتّى حصلت الرّوعة الموروثة خوفا منهم في قلوب النّصارى المشركين الكفّار، أهلكهم الله وأخزاهم وخذلهم ودمّرهم أشدّ الدّمار، وقد شاهدت في كثير من بلادهم وكتبهم وتحققت من خاصّتهم وعامّتهم أنّ الخوف الّذي في قلوبهم منهم لم يفارقهم في اللّيل والنّهار، وانقطع رجاؤهم الّذي كانوا يرجونه أن الدّولة العثمانيّة يكون إنقراضها عند السّادس عشر من سلاطينهم، واستدلّوا على ذلك من قول (¬596) يوحنّا الحواري الّذي كتب رابع الأناجيل، ثم كتب كتابا مرموزا يسمّى ببقلبش (¬597)، فتأوّلوا بعض رموزه على مقتضى غرضهم الفاسد، ومرادهم الخاسر، فأظهر الله بالبرهان أنّ قولهم كان باطلا وزورا، إذ هذا السّلطان الموجود الآن الثّامن عشر من السّلاطين، فزاد الحساب وظهر الغلط فيما تأوّلوه من الكتاب، وقال علماؤهم: إنّ من بركات (¬598) الإنجيل الظّاهرة الآن أن يشغل السّلاطين العثمانيين عنهم وقد كذبوا، بل من بركات الإنجيل الظّاهرة أن نصر الله سلاطين الإسلام على النّصارى، حتّى يهينهم (¬599) الله ويهلكهم لعدم إيمانهم بما أمرهم بالإيمان به (¬600) لأن من جملة ما أمرهم به تصديق أحمد محمّد صلّى الله عليه وسلم لأنّ عيسى - عليه السّلام - (¬601) بشّر به وأمر بالإيمان به، قال تعالى: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ} (¬602) وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ / لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} (¬603) الآية. قلت: هذا ما كان في زمنه، وأمّا الآن فإن الله قد أظهر بركته في هذا النّسل السّعيد، وزاد عدده زيادة واضحة، فانقطع آمال الكافرين، وفرح بذلك المؤمنون، ¬

= زيدان بن أحمد المنصور السعدي كما كان كاتبه باللّغة الإسبانية، وحجّ سنة 1046، وفي إيابه زار مصر، وصنّف كتابا في مناظراته مع بعض علماء النّصارى واليهود في أوربا سمّاه «ناصر الدّين على القوم الكافرين»، وقصد تونس فترجم فيها عن الإسبانية كتاب «العز والمنافع للمجاهدين بالمدافع» وله غير ذلك. الإعلام 1/ 198 - 199، ط.5. (¬596) في ط: «بقول»، ولعلّ المقصود «رؤيا يوحنا». (¬597) Apocalypse المنشور مع رسائل الرّسل بعد الأناجيل. (¬598) في ش: «بركاة». (¬599) في ط: «يفنيهم». (¬600) في ط: «من الإيمان». (¬601) ساقطة من ط. (¬602) سورة الصّف: 6. (¬603) سورة آل عمران: 187.

كما (¬604) قال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (¬605)}، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (¬606)! وممّا نقل من تاريخ آل عثمان أنّ السّلطان عثمان خان أوّل السّلاطين العثمانيّة كان - رحمه الله تعالى - محبّا للمشايخ، ومستمدّا منهم، وكان في زمنه شيخ شهر «باده بالي» (¬607) بات ليلة في زاويته وكان مجاب الدّعوة، وله كرامات مشهورة، فرآى رؤيا كأنّ القمر طلع من حرم الشيخ ودخل في حضنه فاستضاءت منه الأطراف، وعند ذلك نبت من سرّته شجرة قد سدّت الآفاق أغصانها، والأنهار تجري من تحتها، والنّاس ينتفعون بما حولها، فقصّ رؤياه على الشّيخ فقال الشيخ - قدّس الله سرّه - معبّرا للرّؤيا الدّولة المنصورة المؤبّدة (¬608) بالقوّة القدسيّة، فزوّج الشّيخ إبنته من السّلطان عثمان، فكان من أمرهما ما كان - عليه وعلى أجداده وأعقابه الرّحمة والرّضوان - وأيّد دولتهم، وأصلح سريرتهم وسيرتهم (¬609) إلى انقضاء الدّوران، والله المستعين المستعان، وقد كان إسم الزوجة المذكورة مال خاتون (¬610)، وهي والدة السّلطان أورخان، وهو أوّل من افتتح بورصة (¬611)، وعثمان غازي أوّل من / دفن بها بعد الفتح لأنّها فتحت بعد وفاته بأيّام اهـ‍. ¬

(¬604) ساقطة من ط وت. (¬605) سورة التّوبة: 124. (¬606) سورة التّوبة: 125. (¬607) هو من أهل العلم صوفي، ترجم له طاش كبرى زاده في الشّقائق النّعمانيّة ص: 6 - 7، وقصّ الرؤيا الّتي رآها السّلطان عثمان، وهذا الشّيخ مات عن سنّ عالية إذ بلغ 120 سنة، ومات في سنة 726/ 1325 - 1326، وماتت إبنته بعد شهر وهي زوجة السّلطان عثمان وأمّ ولده السّلطان أورخان، وبعد مضي ثلاثة أشهر من وفاتها مات زوجها السّلطان عثمان، وهذا المنام ذكره صاحب الدّولة العلية ص: 116، وقال عقب ذكره له: «ومع اعتقادنا أنّ هذا المنام لا بدّ أن يكون موضوعا كما يضع المؤرّخون مثل هذه الأحلام لتعليل ظهور وتقدّم كل دولة سواء كان في ممالك الشرق أو الغرب، فقد ذكرناه تتميما للفائدة». (¬608) ساقطة من ت. (¬609) ساقطة من بقية الأصول. (¬610) لفظ خاتون يطلق غالبا على المرأة ذات الشأن أي السيدة كما يطلق على زوجات العظماء، تاريخ الدّولة العليّة ص: 118 هامش 1. (¬611) هي أوّل عاصمة للسّلطنة العثمانية ثم انتقلت العاصمة إلى أدرنة ثم إلى إستانبول، وهي مدينة بآسيا الصّغرى شهيرة بجودة هوائها وجمال مناظرها الطّبيعية وبها مياه معدنية شافية لكثير من الأمراض، تاريخ الدّولة العليّة ص: 119 هامش 1 بتصرّف قليل.

الباب الثاني في دخول العساكر العثمانية المنصورة لإفريقية لإنقاذها من أيدي أهل الكفر والضلال

الباب الثّاني في دخول العساكر العثمانية المنصورة لإفريقية لإنقاذها من أيدي أهل الكفر والضّلال قد تقدّم أنّ محمّد الحفصي إشترك في حكم المؤمنين مع أهل الكفر (¬1) فصار لا يقضي أمرا دون رضا كبير الكفرة، وآل به الأمر حتى تغلّب عليه الكفّار، فلمّا تمكّن الكفّار (¬2) كاتب صاحب إسبانيا (¬3) رئيسه وأعلمه أنّ تونس في قبضته، فصار الكافر في بلده يفتخر بذلك بين أرباب ملّته وكبرائه، وإذا رآى منهم ميلا عنه يقول لهم: بلادي عندي متى أشاء أرحل إليها عنكم، يريد بذلك تونس، فأراد الإستيلاء عليها مرّة واحدة، فتكون تحت ذمّته ظاهرا وباطنا، كما تغلّب على بلاد الأندلس. واتّصلت هذه الأخبار المدهشة بحضرة السّلطان السّعيد سليم خان الثّاني - رحمه الله تعالى - فاستشاط غضبا لله ورسوله، وأخذته حميّة الدّين وعصبيّة الإسلام، وقد قيل إنّه رآى في النّوم الوليّ الصّالح العارف بالله قاطع آثار الشيعة في حياته الشّيخ سيدي محرز (¬4) - رحمه الله ورضي عنه ونفعنا به - فأشار عليه باستنقاذ تونس من أيدي أهل الزّيغ والكفر والضّلال. وكان أهل الأندلس لمّا طغى عليهم أهل الكفر ولم يجدوا في ملوك أهل العدوة نجدة صرفوا همّتهم لاستنجاد هذه الأعتاب الشّريفة، فأخذ في (¬5) تهيئة عمارة لنجدتهم، فلما بلغه إستيلاء الكفر عليهم، وتعسّر / ذلك الوقت إنقاذهم لاتصال بلادهم بأرض الكفر، ومزاحمة النّصارى المطرودين من البلاد الّتي إفتتحها الإسلام، فصاروا مزنوفين من جهة ¬

(¬1) أي الأسبان. (¬2) في ب وت: «الكافر». (¬3) في الأصول: «سبانية». (¬4) هو محرز بن خلف صالح مدينة تونس وعالمها في عصر المعز بن باديس توفّي سنة 413/ 1022 ومثل هذا المنام للتّبرير والتّقديس، والله أعلم بصحته. (¬5) ساقطة من ش وت.

العساكر الإسلامية لقوّتها (¬6) عليهم فالتجؤوا إلى مضايقة الأندلس ومزاحمتهم وإزعاجهم من أرضهم حتّى طلبوا منهم الخروج لبرّ العدوة وإفريقية بلا قتال ولا حرب، فخرج أكثر النّاس، وإستضعف الكفّار من بقي، واستولوا على البلاد طوعا أو كرها ففات السّلطان سليم - رحمه الله - تدارك الأندلس، فصرف عنان عنايته نحو إفريقية، وخاطب (¬7) الوزراء العظام والبكلاربكية (¬8) الفخام وقال (¬9): من يقوم منكم بهذا الأمر، ويتقدّم لنصرة الإسلام وإذلال عبدة الصّليب والأصنام، ويستنقذ أسارى المسلمين من أيدي النّصارى الفجرة اللئام، فبادر الوزير الأعظم أبو الفتوحات سنان باشا - رحمه الله - وقال: أنا لها، أنا لها، فقابله السّلطان بالقبول والإكرام، وحسن الثّناء والإنعام، فجعله سردار (¬10) العساكر أي الناظر عليها والحاكم فيها، وأمر بالتوجه معه لضبط العساكر في البحر وتسيير المراكب قابودان الباب العالي أمير الأمراء العظام قلج علي باشا - رحمه الله تعالى - فشرعا في أخذ أسباب السّفر وأخذا معهما من أمراء السّناجق من له خبرة بالتّصرف في أحوال البحر من الماء والريح وإجراء المراكب وضبط أحوالها، فشحنوا مائتي غراب وعدّة كثيرة من شونات (¬11) المراكب الكبار لحمل الأثقال / والمدافع، قيل كان عدّة السّفن ألفا وخمسمائة سفينة، وكان يوم بروزهم من القسطنطينية يوما مشهودا في ساعة مباركة بغرّة أشرف الرّبيعين سنة إحدى وثمانين وتسعمائة (¬12)، فشرعوا في السّفر، ¬

(¬6) في ط: «لتقويها». (¬7) من هنا يبتدئ النّقل من الإعلام بأعلام بيت الله الحرام للنّهروالي ص: 371 والنّقل ببعض تصرّف. (¬8) في الأصول: «الكبلاركية» والتّصويب من الإعلام للنّهروالي ص: 371. وواحده بكلربك يلفظ بيلر به أي بك البكوات أو سيّد السّادات، أنظر تاريخ الدّولة العليّة ص: 113 هامش 1. (¬9) ساقطة من ش. (¬10) سردار، كلمة فارسيّة بمعنى السّيّد، وتعني أيضا القائد الأعلى للجيش، تاريخ الدّولة العليّة ص: 556 هامش 1. (¬11) في ط: «انشوات»، وفي الإعلام: «من المونات الكبار» ص: 372، والصّحيح ما بالنّص ورد في تاج العروس للزبيدي: «الشونة المركب المعدّ للجهاد في البحر والجمع الشواني لغة مصرية»، وجاء في المستدرك: «الشين المركب الطّويل» وعند دوزي الشيني (Calere) بالفرنسية وبالإيطالية (Galera) وهي أقدم أنواع السّفن وكانت أهمّ القطع التي يتألف منها الأسطول الروماني، وفي العصور الوسطى كانت هي أهمّ القطع الّتي يتألّف منها الأسطول الإسلامي لأنّها كانت أكبر السّفن وأكثرها إستعمالا وتحمل المقاتلة للجهاد. . . وظلّ إسم شيني متداولا في الملاحة حتّى أيّام الدّولة العثمانية. أنظر البحرية في مصر الإسلامية لسعاد ماهر ص: 352. (¬12) 31 جويلية 1573 م.

واجتمعوا بميناء ناورين (¬13) ومن هناك توجّهوا لبرّ المغرب إلى أن وصلوا إلى ماللو كليسان (¬14) من مملكة البندقية، فوصلوا يوم الخميس لخمس مضت من ربيع الأول ليمان الخير (¬15)، فاستقروا بها ليلة كاملة، وأصبحوا متوجّهين فعبروا بسفنهم إلى العمّان (¬16) وهو موضع ضيق يتعسر على أمثالهم لكثرتهم العبور منه بهذه السّفن الكثيرة خوفا من تصادمها عند شدّة تموّج البحار، ولكنّ الله سلّم، فساروا حتّى وصلوا وقت ظهر اليوم التّاسع إلى طبرق حصار وهو حصن منيع للكفار على ساحل البحر، فلمّا وصلوا حاربهم الكفّار فدهكهم عساكر الإسلام، فهرب الكفار إلى قلعة حصينة تسمّى تيجة (¬17) ولحقهم المسلمون فاقتتلوا فاستشهد من رزق الشهادة من المسلمين، وعجّل الله إلى النّار من مات من الكافرين، فلمّا غربت الشّمس رمي مدفع لإعلام الغزاة بالعود إلى سفنهم فحضروا وركبوا، فسافروا إلى أن وصلوا إلى جزيرة مسينة (¬18) في اليوم الرّابع عشر، فاستقرّوا بها يسيرا، ثم ساروا وافترقوا بالنّو (¬19)، ثم إجتمعوا ومرّوا بقلل يان (¬20) فحوصرت وهدمت قلعتها، وقتلوا من بها من النّصارى، وعادوا إلى سفنهم، وصاروا ينزلون كلّ يوم للماء إلى جانب من ساحل / صجلية (¬21)، وكلّما وصلت يدهم إليه من نهب وغارة وقتل بادروا إليه، وأخربوا قرى الكفرة وبساتينهم، وعادوا إلى سفنهم، فاجتمع كلّ من في ذلك السّاحل من النّصارى من فارس وراجل وصاروا عسكرا فتقدموا لقتال من نزل من المسلمين إلى البر، فنزل إليهم المسلمون فهزموهم فقتل منهم كثير، وأسّروا النّساء والصّبيان، وفرّ من أمكنه الفرار من الرّجال، وأطلق المسلمون النّار في تلك السّواحل وحرقوا أشجارهم ودورهم. ¬

(¬13) في الأصول: «ميناء أورين»، والتّصويب على الطّريقة التركية كما في تاريخ الدّولة العليّة وكتب المتن. وفي الإعلام: «ليمان ناوارين»، وهي Navarin وتقع شمال مودون (Modon) وهي ميناء مجرية في بلاد اليونان. (¬14) في الأصول: «مالوكلسيان» والتّصويب من الإعلام ص: 373. (¬15) في الأصول: «ليمان الخيبر» والتّصويب من الإعلام. (¬16) في ش وت: «القمان»، وفي ب: «الطقمان»، وفي ط: «لقمان» والإصلاح من الإعلام ص: 373. (¬17) في ش: «سخية»، وفي ط: «شخية»، وفي الإعلام: «نحية»، والتّصويب من المؤنس ص: 187. (¬18) Messine وكتبها الحموي وغيره: «مسّيني» وهي مدينة في ركن جزيرة صقلية في شرقيها. (¬19) مكانها بياض في ط، والنّو: «الرّيح القويّة». (¬20) في الأصول: «ملكبان» والتّصويب من الإعلام ص: 374. (¬21) في الأصول: «صلحية» والتّصويب من الإعلام ص: 374.

وفي اليوم السّادس عشر من ربيع الأوّل ظفر المسلمون (¬22) بسفينة للنصارى مشحونة بالقمح كانت متوجهة إلى بعض قلاعهم، فغنم المسلمون ذلك، فكان أخذها فالا حسنا للمسلمين. وفي ثامن عشر وصلوا إلى جهودا واسي (¬23) وطاب ريح المسلمين، فوصلوا إلى قلعة خراب في أرض تونس قرب قليبية، فزيّنت السّفن والأغربة بالرّايات الملوّنة إظهارا لهيبة الإسلام وعنوانا للعساكر العثمانية، فأرسوا في اليوم الرابع والعشرين بمرسى حلق الوادي، ونزلت العساكر المنصورة، ونصبت وطاقات الباشا على مسافة لا تصل المدافع من حصن حلق الوادي إليها، ونصب معه أوطاق (¬24) قلج علي وغيره من الكبراء، وأنزلوا المدافع الكبار، وشرعوا يتقربون قليلا قليلا إلى القلعة، ويبنون المتاريس يستترون بها، ويسوقون الأتربة أمامهم ويستترون / خلفها، ويحفرون الخنادق فينزلون فيها، فلا تصيبهم (¬25) المدافع، فيتقدّمون إلى القلعة على هذا الأسلوب إلى أن وصلت العساكر المنصورة إلى القلعة، فتقدّموا بالبنادق وآلات الجهاد، ونصبوا بقرب القلعة المنجنيقات والمدافع، فوجهت إلى صوب (¬26) الكفرة مع المكاحل (¬27) الكبار، فأقدم الباشا بعساكره بصدق إعتقاد وإعتماد على الله تعالى، وتهيّأ الكفّار للنّزال، فتراموا بالمدافع، فبينما هم كذلك إذ وصل الخبر بوصول حيدر باشا - المقدّم الذّكر - وكذلك بكلاربكي طرابلس الغرب مصطفى باشا - رحم الله الجميع برحمته الواسعة - فوصلا ليلا (¬28) مع قليل من الغلمان إلى وطاق سردار (¬29) العمائر (¬30) المنصورة، فدخلا على الوزير المعظم سنان باشا - رحمه ¬

(¬22) في ط: «عساكر المسلمين». (¬23) في الأصول: «جهودادهي» والتّصويب من الإعلام ص: 375. (¬24) في الأصول: «وطاق» والتّصويب من الإعلام ص: 375 والمؤنس ص: 187. (¬25) في الأصول: «يصيبهم». (¬26) في الأصول: «سور» والإصلاح من الإعلام. (¬27) في الإعلام: «أفواه المكاحل»، والمكاحل ج مكحلة: البندقية. (¬28) الذي يستفاد من المؤنس ص: 187 أنّهما وصلا إلى تونس قبل وصول العمارة العثمانية بيوم، ونزلا معا بإزاء المدينة في سيجوم لقصد محاصرتها، وفي الحلل السّندسيّة 2/ 227، كانا نازلين على تونس بمقدار نصف يوم بقصد محاصرتها وأخذها، وكان نزولهم بالمحمدية، وفي الإعلام: «كانا وصلا تونس قبيل وصول العمارة الشريفة السّلطانية من البر إلى مقدار نصف يوم عن تونس» ص: 376. (¬29) في الأصول: «سرادق» والتّصويب من الإعلام. (¬30) في الإعلام: «عمارة».

الله - فأراد أن يتوجّه معهما بنفسه، وأمر طائفة من أمرائه وعيّن نحو ألف نفس من التوفكجية وبعض المدافع الكبار والضربزانات (¬31)، وأن يتوجّهوا مع حيدر باشا ومصطفى باشا إلى محاصرة تونس وأخذها من النّصارى، وأرسل معهم من أمراء السناجق إبراهيم بك في سناجق محروسة مصر، ومحمود بك سنجق قرشتي (¬32)، وسنجق قره حصار (¬33) بكر بك (¬34) وتوجّهوا إلى تونس فوصلوها وأحاطوا بها وناوشوا الكفّار (الذين بها بالقتال، فلمّا رآى الحفصي (¬35) ومن معه من الكفّار) (¬36) كثرة العساكر علموا أن لا طاقة لهم بقتالهم، مع أن قلعة تونس كان غالبها خراب لتواتر المحن وقلّة الإهتمام بها، وكذلك البلاد غلب عليها الخراب، فعجزوا عن تحصين البلاد / وقلعتها، فخرجوا من البلاد إلى البستيون (¬37) - المقدّم الذّكر - خارج باب البحر شرقي تونس، فتحصّنوا به، فاجتمع به نحو سبعة آلاف مقاتل ما بين كافر ومرتدّ، وشحنوه بآلات الحرب والمدافع الكبار، وجمعوا فيه من الأقوات شيئا كثيرا، فخلت المدينة وقصبتها ولم يبق بهما من يصونهما فدخلتها العساكر العثمانية من كل جهة وضبطوها وحصّنوها، ثم عادوا إلى (قتال أولئك) (¬38) الملاعين فحاصروهم في قلعتهم الّتي أحدثوها وأحكموها وأرسلوا خبر ذلك إلى سنان باشا (فأرسل إلى نصرتهم قلج علي باشا) (¬39) بطائفة من العساكر المنصورة - رحم الله جميعهم - إلى إعانة من بتونس، فرآى قلج علي صعوبة القلعة الّتي بالبستيون (¬40) لكثرة من فيها من المقاتلة وطلب عسكرا آخر وعدّة ومدافع أخرى من الباشا سنان، فأرسل إليه ألف ينكجري (¬41) مع علي آغة سلحدار الباب العالي وثمانية مدافع وستّة ¬

(¬31) في الأصول: «الزربزانات» والتّصويب من الإعلام ص: 376، وفي المؤنس ص: 187: «زرابز». (¬32) في الأصول: «قرشنتي»، والتّصويب من الإعلام، وفي المؤنس: «قبرص». (¬33) في الأصول: «قاز حصار» والتّصويب من الإعلام. (¬34) في الأصول: «باكير بك» والتّصويب من الإعلام. (¬35) هو أحمد الحفصي، وفي المؤنس ص: 188: «محمد الحفصي» وفي إتحاف أهل الزمان 2/ 20: «محمد بن الحسن الحفصي». (¬36) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬37) في الأصول: «البستيور». (¬38) في ش: «تلك»، وفي ط: «قتل أولائك». (¬39) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬40) في الأصول: «البستيور». (¬41) في الأصول: «يكنجد» والتّصويب من الإعلام، وفي المؤنس ص: 188: «ينشري».

ضربزانات (¬42) فلمّا وصلوا القلعة إجتمع رأيهم أن يدوروا بالقلعة من كلّ جهاتها، وكان بها من الكفرة من تقدّم رجالا وفرسانا وجاء لنصرتهم طوائف عربان، فخرجوا من قلعتهم مرارا ودهموا المسلمين واقتتلوا مرارا، واستشهد من سبقت له الحسنى وألقي في نار جهنّم بعد نار الحرب من كذّب بالحسنى فريق في الجنّة وفريق في السعير، واشتدّ الأمر على المسلمين والمدد متّصل / بأعداء الدّين. فلمّا بلغ الخبر إلى الوزير الأعظم سنان باشا - رحمه الله - توجّه بنفسه وترك أصحاب حلق الوادي على قتالهم، فلمّا وصل إلى قلعة البستيون (40) وشاهدها وزّع على جوانبها عساكر المسلمين، ووعدهم النّصر المقرون بالصّبر في قوله تعالى {اِصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاِتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬43) وعيّن في كلّ موضع طائفة، وأشار عليهم بما هو الأليق والأصوب في الحروب، فاطمأنّوا واشتدّت قلوبهم، وعاد من يومه إلى حلق الوادي لاحتياج من به لحسن تدبيره، وآستمر كلّ من الفريقين على مجاهدة من في مقابلته. ووصل في أثناء هذه المقاتلة بكلاربكي الجزائر كان سابقا أحمد باشا (¬44) لإعانة عساكر الإسلام، فدخل على حضرة الوزير واستأمر بما يأمره به، فأعطاه عدّة من المدافع، وعيّن له جهة الجنوب من حلق الوادي، فتوجّه إليها، وبنى المتاريس فيها، واستمر القتال، ووصل العسكر المنصور إلى حافة خندق الكفّار في مقدار تسعة (¬45) عشر يوما فبنوا على حافته المتاريس، ووصل (¬46) الكفّار للبرج - المقدّم الذّكر - قرب الحصن الكبير من تحت الأرض - حسبما مرّت الإشارة إليه -، فملؤوه بالآلات والرّجال، ففطن ¬

(¬42) في الأصول: «زرابزن» والتّصويب من الإعلام ص: 377، وفي المؤنس ص: 187: «زرابر». (¬43) سورة آل عمران: 200 وهي ختام السورة. (¬44) كذا في الإعلام، وفي الحلل السّندسيّة 2/ 231: «وصل رمضان باشا المتولي على مدينة الجزائر إذاك ومعه ثلاثة آلاف مقاتل، واجتمع مع الوزير سنان باشا وطلب منه تشريف خدمته فيما يأمره به من التّوجه لمقاتلة هذه الكفّار فأمر بالتّوجّه إلى القلعة المحصورة قرب تونس المعبّر عنها بالبستيون فامتثل وأحاط بها من بعض جهاتها»، ولعلّ الأصحّ ما في الحلل السّندسيّة لأنّ هذا الباشا معه بضعة آلاف من العساكر، وهذا أمر له وزنه في ترجيح كفة النّصر، وأمّا القدوم بالشّخص فقط فلا يعدو الشجاعة والخبرة الحربية إن وجدت وصاحب الإعلام أشار إلى وصول أحمد باشا متولّي الجزائر سابقا ورمضان باشا وذكر قريبا ممّا ذكره صاحب الحلل السّندسيّة. الإعلام ص: 379. (¬45) في الإعلام ص: 378: «بعد أربعة عشر يوما». (¬46) في الأصول: «ووصلوا».

المسلمون لذلك وهو أقرب للجانب الّذي فيه حضرة الوزير سنان باشا فتوجّه إليه بنفسه، ووقع فيه حرب شديد، فأخذ ما حصّنه الكفّار، وقتل من فيه منهم، واستخبر (¬47) وأعمق الخندق الّذي وصل العسكر / إليه فإذا هو ستّون ذراعا بذراع العمل، وقعره متّصل بالبحر وهو ممتليء من ماء البحر، فتشاور أمراء الإسلام (¬48) فما وجدوا لذلك حيلة إلاّ ملء الخندق ترابا (¬49) وبقاء المتاريس عليه، فأمر الوزير (¬50) بذلك فتسارع العساكر إلى ذلك، وباشر الوزير فمن دونه ذلك بأنفسهم حتى صار التّراب كأمثال الجبال، ورموا بذلك في الخندق إلى أن امتلأ وزاد في الإرتفاع، فبنوا المتاريس فوق ذلك إلى أن إرتفع وعلا فوق الحصار، قيل إنّهم إستعانوا على ردمه بالصّوف (¬51) فكان ما ألقي فيه سبعون ألف شليف وجعلوا مع كل شليف قنطارين من رصاص ليرسب في قعر الخندق، ولولا ذلك لرفع التيّار ما ألقي فيه من الصّوف، واستجلبت الأصواف من قبائل الأعراب المؤمنين (¬52) لأنه حضر فيه من بقي على الإيمان من عربان طرابلس والجريد والجزائر، وحضره المحاميد وكبيرهم جدّ أحمد بن نوير، والصّوف أكثره كان من نجع دريد (¬53) وباقيه من غيرهم، وكلّ شليف حمل جمل، وهو معروف العدد، والوزن فيه مختلف، عدده مائة جزّة شاة، والوزن يختلف بحسب الكبر والصغر، وكانت لتلك العساكر نيّة صالحة قيل إنه مرّ بعضهم ممن حضر تلك المواطن برجل من العسكر وهو حامل على ظهره حملا من الحطب لكي يلقيه في الخندق وبه عدة جراحات، / وهو على آخر رمق، قال: فأردت أن أخفّف عنه ذلك فأبى، ولم يزل سائرا به إلى أن ألقاه في محلّه ومات لوقته (¬54) بحضور أجله - رحمه الله تعالى -. ¬

(¬47) في ط وت: «اختبروا». (¬48) في الإعلام: «وتشاور الوزير مع الأمراء وأصحاب الرأي في ذلك. . .». (¬49) في ش: «تراب»، وفي ت كما في الإعلام: «بالتّراب». (¬50) في الإعلام: «سائر العسكر بذلك». (¬51) هذه التّفاصيل غير موجودة في الإعلام، وأكثرها موجود في المؤنس ص: 190 - 191 وكلامه يوهم أنه ناقل من الإعلام. (¬52) في ط: «من المؤمنين». (¬53) أنظر المؤنس ص: 190. (¬54) عن هذه القصّة أنظر المؤنس ص: 191.

وكان بناء المتاريس فوق الخندق لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الثّاني من سنة واحد وثمانين وتسعمائة (¬55)، فصارت (¬56) مدافع المسلمين تصل إلى قلعة الكفّار، فنال المسلمون من الكفّار كلّ منال ووصل أثناء ذلك بكلاربكي (¬57) الجزائر المتولّي عليها إذ ذاك رمضان باشا ومعه ثلاثة آلاف مقاتل، فاجتمع بحضرة الوزير الأعظم سنان باشا وطلب منه خدمة يؤدّيها، فأرسله بمن معه من العساكر إلى إعانة من بالبستيون (¬58)، فتوجّه ونزل في جهة من جهات تلك القلعة، واستمر الوزير في محاصرة حلق الوادي، ثمّ أقدم المسلمون على الدّخول إلى الحصار لما شاهدوا من وهن الكفار، قيل ومن قدر الله أنّ محمود بك (¬59) سنجق غربي كان بعسكره من ناحية رادس (¬60)، فعزم أهل الحصار أن يدهموه ليلا، على حين غفلة، فخرجوا عليه حين الفجر فوجدوه مستيقظا على أهبة فأوقع بهم، فانهزموا بين يديه فتبعهم بالقتل (¬61) إلى أن أدخلهم حصنهم، ووافق الحال أنّ الوزير صاح: من يقدّم نفسه إلى البرج ويبيع نفسه في مرضاة (¬62) الله؟ ووعدهم بعطايا سنية زيادة على أجر الآخرة، وعيّن لهم من ألف دينار فدون، الأول فالأول وعمّم ذلك في جميع الأجناس وجميع الجهات (¬63)، وإتفق أنّ المنهزمين / من ناحية رادس دخلوا وهم ذاهلون فلم يستطيعوا غلق الباب والمسلمون على أهبة، فحملوا حملة رجل واحد من كلّ الجهات، وأعلنوا بكلمة التّوحيد، وإرتفعت الأصوات، فتزلزلت الأرض لحملتهم ودخلوا القلعة وفتحوها عنوة بالسيف لستّ مضت من جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وتسعمائة (¬64)، فوضعوا السيف فيمن وجدوا فيها من الكفرة الفجرة، وغنموا ما وجدوا بها من آلات الحرب والذّخائر، واستأسروا (¬65) النّصراني كبير القلعة ¬

(¬55) 13 أوت 1573 م، أنظر المؤنس 191 والإعلام 379. (¬56) عود إلى النّقل من الإعلام. (¬57) في ط: «بكلار»، وفي ش: «بكلابكي». (¬58) في الأصول: «بستيور». (¬59) في المؤنس ص: 192: «محمد عرب». (¬60) واقعة رادس ذكرها صاحب المؤنس 192، والمؤلّف ناقل عنه بتصرّف قليل. (¬61) في ش: «بالقتال». (¬62) في الأصول: «مرضات». (¬63) في الأصول: «الجهاة». (¬64) 4 سبتمبر 1573 م. (¬65) واستؤسر صاحب القلعة كبير النصارى المخذولين، الإعلام 380.

والعرب المرتدّين (¬66)، وفرح بفتح هذا الحصن الحصين كافة المسلمين فإنه يعدّ من جلائل (¬67) فتوحات الإسلام، لأنّ هذه القلعة كانت من أحكم القلاع الّتي أحكمتها النّصارى وأقواها مكنة وإستحكاما، وأشدّها ضررا على الإسلام. ومن أعجب الاتفاق (¬68) أنّ هذه القلعة المنكوسة بنتها النّصارى المخذولون في سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة (¬69)، وأكملوا إستحكامها في ثلاث وأربعين سنة، وفتحت في ثلاثة (¬70) وأربعين يوما من أيّام محاصرتها بعدد السّنين الّتي أحكم فيها بناؤها كلّ يوم بسنة. ولمّا تمّ هذا الفتح رآى (¬71) الوزير سنان باشا - رحمه الله - أنّ ترميم (¬72) هذا الحصن وعمارته وحفظه بالعساكر والآلات الحربية يحوّج إلى مؤونة كبيرة، وخزائن من الأموال كثيرة مع قلّة جدواه (73) وبعده (73) عن الباب العالي، فرآى أنّ الأولى هدمه (73) وتخريبه (73) / حتّى لا يبقى (73) للنّصارى مكمنا، فأمر بهدمه (73) فهدم (73) حجرا حجرا إلى أن وصلوا إلى أساسه (¬73)، قيل ولم يبق من أثره إلاّ المكان الّذي كان مسكنا لقبطانهم. وأرسل الوزير المعظم بشائر النّصر إلى الباب العالي حضرة السّلطان سليم - رحمه الله تعالى - وبعده إلى سائر بلاد الإسلام ليأخذ المسلمون حظّهم من الفرح {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ} (¬74). ¬

(¬66) في الأصول: «المرتدون». (¬67) في ت: «في جملة جلائل»، وفي ط: «في جلة جلائل»، وفي الإعلام: «من أجل فتوحات» ص: 380. (¬68) في ت: «أعجاب الاتفاق»، وفي الإعلام: «من عجيب الإتفاق». (¬69) 1531 - 1532 م. (¬70) في الأصول: «ثلاث». (¬71) ساقطة من ت، وفي ط: «أبان». (¬72) في ش: «ترسيم». (¬73) في الأصول الضّمير مؤنث، والتّصويب لأنّ الضّمير يعود على الحصن، وبالتأنيث يعود على القلعة والمؤلّف ينقل عن الإعلام ويغيّر قليلا من العبارات ثم لا ينتبه إلى هذا التغيّير فيحدث في تركيبه تحريفا وخلطا. (¬74) سورة الرّوم: 4 - 5.

ولمّا قضى مآربه من حلق الوادي توجّه بمن معه من العساكر إلى البستيون (¬75) ليطمئن من به من المسلمين ففرح المسلمون به، وحمل بمن معه على من في القلعة حملة واحدة وتسابقت العساكر إلى إستئصال الكفّار، وصبروا على حدّ السّيف وحرّ النّار، وإستشهد كثير من المسلمين، ولم يزالوا كذلك إلى أن دخلوا القلعة ونصبوا الرّايات السّلطانية على القلعة، ودخل بقيّة العساكر فوضعوا السّيف في الكفّار، وقتلوا منهم ثلاثة آلاف دارع (¬76) مغلغل من قرنه إلى قدمه في سابغات الحديد، ورمى الباقون بأنفسهم من أعلى القلعة إلى أسفلها، وهم زهاء (¬77) خمسة آلاف، فنزلوا على أقدامهم (¬78) في الرّمل، وهربوا مقدار رمية (¬79) سهم أو سهمين، وشرعوا في التّترّس بأتربة أرادوا أن يتحصنوا بها والمسلمون مشغولون بقتل من بقي في (¬80) القلعة ونهب الأمتعة والأسلاب فوجد بها ألواح وأخشاب أعدّها الكفّار لإتقان القلعة وإحكامها وبارودا كثيرا / ومدافع وآلات حرب وبشماط (¬81) كثير لأزوادهم، وكانت القلعة غير محكمة البناء، ثم أمر الوزير الأعظم أن يتتبّع العساكر المنصورة أولئك الهاربين، فتتبّعوهم ووجدوهم في عمل مكان يتحصّنون به فهجموا عليهم هجمة واحدة فأيقن الكفّار أن (¬82) لا مفر، فقاتلوا أشدّ القتال، فانقلب الكفّار صاغرين، وضرب في وجوههم الذّلّة ورجعوا منهزمين، وأعلى الله كلمة الإسلام بنصر المسلمين {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (¬83). وجهّزت البشائر إلى الأعتاب العليّة العثمانيّة، وتطايرت (¬84) أخبار هذه البشارة إلى سائر أقطار المسلمين، ولولا لطف الله تعالى بالمسلمين لعمّ أذى الكفرة الفجّار (¬85) جميع ¬

(¬75) في الأصول: «البستيور». (¬76) كذا في ش والإعلام ص: 382، في ت: «وراع»، وفي ط: «ذراع». (¬77) في الأصول: «زهى». (¬78) في الأصول: «إلى». (¬79) ساقطة من ش وط. (¬80) في ش: «من»، وفي ت: «بالقلعة». (¬81) كذا في اللهجة التّونسيّة ويقصد بها الخبز المجفّف بالتّسخين، وفي الإعلام: «بكسماط». (¬82) ساقطة من ش. (¬83) سورة الأنعام: 45. (¬84) في الأصول: «تطاير». (¬85) في ط وت: «الفجرة».

المسلمين فيتعدّى أذاهم من تونس إلى أخذ الجزائر وطرابلس، فيحكمون قلاعها وأسوارها وحصونها ويرتدّون عن الإسلام عربان المغرب، فيتقوّى الكفّار الفجّار على أخذ مصر وغيرها من ديار الإسلام، فأيقظ الله هذا السّلطان وبصّره لدفع أولائك الفجّار، ومزّقهم كلّ ممزّق وشتّت شملهم، وفرّق جمعهم، فلا يقوم لهم رأس إن شاء الله بعد ذلك، فرحم الله هذا السّلطان وعساكره الّذين سعوا في إستنقاذ بلاد الإسلام، وخلّد الله الملك في آله. وكان هذا الفتح الثّاني (¬86) يوم الخميس المبارك لخمس بقين من جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وتسعمائة (¬87)، قيل إن طاغية النّصارى / الّذي كان طامعا في الإستيلاء على تونس لمّا سمع بمجيء العساكر العثمانيّة همّت نفسه أن يمدّ الحصار بمدد من عنده ويرسل عمارة بذخائره وجنوده، فبعث رجالا (¬88) من حكمائه يتجسسون الأحوال، فرجعوا إليه مسرعين، فسألهم عمّا شاهدوه من أحوال عساكر الإسلام، فقالوا له: رأينا ما أذهلنا، فإنا رأينا كلّ ذي صنعة مشتغلا بشأنه، وكلّ من عيّن في مكان للجهاد ملازم لفرضه ونفله، والقوم بين جزّار وطبّاخ، وأسواق ملآنة بالبائع (¬89) والمشتري وسمسار وحدّاد ونجّار وبيطار (¬90)، ومنهم من يتداول الحرب ويعتمد عليه، ومنهم من همّه شأن نفسه ولا يلتفت إليه، وليس لأحد علم بما صنع الآخر، فلو بعثت إليهم بجميع النّصرانيّة لم (¬91) تغن شيئا، ولم تبق (¬92) منها بقيّة، فبطل عزمه وزعمه، وانفشل حزمه، وانقطع رجاؤه وخاب أمله (¬93). ولما فتحوا البستيون (¬94) وجدوا الجامع الّذي بخارج باب البحر ملآن بالسّلاسل (¬95) والأغلال كانوا أعدّوها (¬96) للمسلمين، فكانت والحمد لله بعد الفتح في أعناق من ¬

(¬86) هو فتح البستيون. (¬87) 23 سبتمبر 1573 م. (¬88) في الأصول: «رجلين» والتّصويب من المؤنس ص: 194. (¬89) في المؤنس: «وأسواق ملئانة بالباعة من كلّ صنف والمشتري بين دلاّل وسمسار». (¬90) في ط: «وبنائين»، وفي المؤنس: «وبيطار وأكثرهم مشتغل بجمع الدّرهم والدّينار. . .». (¬91) في ش وت: «فلم». (¬92) في الأصول: «يبق». (¬93) في ط: «دهشان». (¬94) في الأصول: «البستيور». (¬95) في الأصول: «السلاح»، والمثبت من المؤنس ص: 194. (¬96) في الأصول: «أعدوه».

يقتل منهم، وأسرّ قبطانهم فأراد أن يفتدي بالمال، فضرب عنقه لأنّهم كانوا وجدوه يبني في رودس (¬97) وفي جربة لمّا أخذها درغوث باشا، ووجدوه هنا في البستيون (94) فأراح الله منه الإسلام. وكان (¬98) تحصّن منهم طائفة بجزيرة شكلي / وهي في وسط البحيرة، فلمّا رأوا ما حلّ بهم وبقومهم طلبوا الأمان من الوزير الباشا سنان، فأمّنهم لمصلحة رآها، فجاءه مائتان منهم فأخبروه بأمور مهمّة منها [أنّ عندهم مائتين وخمسة من رجالهم أهل صناعات غريبة منها] (¬99) عمل الطّوب الّذي يعجز عنه، ومنها تذويب الحديد والنّحاس وعمل المدافع الكبار، وغير ذلك من بديع الصّناعات، فأعطاهم الأمان، وأخذ أولئك المعلّمين وشرط عليهم تفريغ المدافع (¬100) وسبك النّحاس، وتكون في أرجلهم القيود وربط (¬101) بعضهم ببعض، فرضوا بذلك، وأعطاهم على هذا الشّرط الأمان وكساهم، وجعل لهم العلوفة واستخدمهم الباب العالي، ومن ذلك الزّمان كثرت صناعة المدافع (¬102) بتلك الدّيار العليّة (¬103). وقتل في القلاع الثّلاثة عشرة آلاف مقاتل، واستشهد من الغزاة ما يقارب ذلك العدد، واستشهد من أعيان الأمراء أعلام، فمن مشاهيرهم صفر بك (104) صاحب إسكندرية، وبايزيد بك (¬104) سنجق (¬105) ترخانة (¬106)، وأحمد بك (104) سنجق (105) أولونية (¬107)، ومصطفى بك (104) سنجق (105) أسيس (¬108)، ومن أمراء الأكراد خضر بك (104) وغير ذلك عدد كثير، وأخذ الوزير من الأماكن الثّلاثة مائتي مدفع وخمس ¬

(¬97) كذا في ش وت والمؤنس، وفي ط: «دروس». (¬98) عن هذا الجامع وما أعد فيه الأسبان لفتنة الإسلام، وعن أسر قبطانهم الّذي أراد الإعتداء أنظر المؤنس 195. (¬99) إضافة من المؤنس يقتضيها السّياق. (¬100) في الأصول: «الحديد» والتّصويب من المؤنس ص: 195. (¬101) في المؤنس: «ويتكفل». (¬102) في الأصول: «كثر صنايع». (¬103) عن إستسلام جماعة جزيرة شكلي وطلبهم الأمان ومنح الوزير سنان باشا لهم الأمان بشروط أنظر المؤنس 195. (¬104) في الأصول: «بيك»، وكأنّه كتبها كما يتلفظ بها. (¬105) في الأصول: «صنجق». (¬106) في الأصول وفي المؤنس: «ترحالة» والتّصويب من الإعلام ص: 384. (¬107) في الأصول والمؤنس: «أولونة» والتّصويب من الإعلام ص: 384. (¬108) كذا بالأصول والمؤنس، وفي الإعلام: «أينة يختي».

مدافع من الكبار ومن (¬109) الصّغار وضربزانات (¬110) ما لا يحصى فترك لحفظ تونس من الكبار خمسة وثلاثين مدفعا، وأرسل للباب العالي مائة وثمانين للإستعانة بها على الجهاد في أعداء الدّين. ولمّا (¬111) فرغ الوزير الأعظم من هذا الفتح الأفخم أنعم على جميع من / بالعسكر من الأمراء والكبراء والبكلاربكية وسائر الزّعماء وأرباب الجوامك والعلوفات بالتّرقيات العظيمة والمناصب الكبيرة لكلّ بحسب سعيه ورتبته، وعرض (¬112) ذلك على (¬113) الأعتاب العليّة، وكان مبلغا عظيما من الخزائن العامرة السّلطانية، فقوبل جميع (¬114) ذلك بالقبول، ووقعت موقع الإجابة في المأمول والمسؤول، كما أنعمت الحضرة العليّة على الوزير بأنواع الإنعامات السّنية والتّرقيات العليّة زيادة على أجره المشكور لبذل نفسه في نصرة الدّين وأمواله لعساكر المسلمين، وأخذ ثأر المسلمين من الكفرة الملحدين بهذا الفتح العظيم، الّذي أجراه الله على يديه السّعيدة، ومساعيه الحميدة. ثم عاد حضرة الوزير الأعظم (¬115) الأكرم بمن معه من عساكر الباب العالي إلى الحضرة العلية (¬116)، وصحب معه كبير النّصارى ومحمّد الحفصي (¬117)، فكان آخر العهد به، وقيل حبس في القلال السبع إلى أن مات بها، وأذن لسائر العساكر المنصورة وسائر الأمراء والبكلاربكية بالعود إلى أوطانهم وأماكن حكوماتهم مثل أمراء الجزائر وطرابلس ومصر، وورد الوزير الأكرم على الباب العالي الأفخم بمن معه ممّن يسدّ الثّغر، فقبّل قوائم سرير السّلطنة، فجلس السّلطان الأكرم والمقام الأعظم والسّلطان الأفخم، سلطان ¬

(¬109) في المؤنس: «غير الصّغار» وغير موجودة بالإعلام. (¬110) في الأصول: «الزرابزن»، وفي المؤنس: «زرابز»، وصوّبناها كما سبقت الإشارة، هذه الكلمة في مكانها هذا زائدة عن الإعلام، والمؤلّف فيما يبدو ناقل عن المؤنس ص: 194 - 196، فقد جاءت فيه الألفاظ كما عند المؤلّف مثل «ترحالة» و «أولونة» و «أسيس». (¬111) رجع إلى النّقل من الإعلام ص: 385. (¬112) في الأصول: «أعرض». (¬113) كذا في ش، وفي ب وط: «من». (¬114) ساقطة من ش. (¬115) ساقطة من ط وت. (¬116) إنتهى نقله من الإعلام ص: 386. (¬117) أخذها عن المؤنس ص: 199، وعن فتح العساكر العثمانيّة بقيادة الوزير سنان باشا لتونس وحلق الوادي والقضاء على الإحتلال الأسباني، أنظر الإعلام ص: 369 - 385 والمؤنس 185 - 199.

العرب والعجم، السّلطان سليم خان - سقى الله ضريحه شئابيب الرّوح والرّيحان والرّضا والرّضوان، وأسكنه وأسلافه وأخلافه / وإيانا فراديس الجنان -، فقوبل بأنواع التّشريف والبشر والإكرام، ونال من الله وأمير المؤمنين كلّ ما تمنّاه، وفاز بمحبّة الله ورسوله، وظفر بجميع مأموله. وكان يوم دخوله يوما مشهورا مشهودا، وازدحمت الخلائق لمشاهدة طلعته البهيّة، وتبرّكت الأنفس بمطالعة أنوار محيّاه السّنيّة، وحصل مثل ذلك للقبودان من العزّ والإقبال ونيل المنى (¬118) والتّبرك به، وكذا تبرّك النّاس بالنّظر إلى جميع المجاهدين، ومع ذلك فالكفّار يقادون في السّلاسل والأغلال مقرنين في الأصفاد مع شديد الذّلّ (¬119) والنّكال، ودخلت المراكب مزيّنة بالألوية الملوّنة تخفق عليها رايات الفرح بالنّصر والظّفر، وأطلقت المدافع حتّى كادت الأرض أن تهتزّ ووردت (¬120) العساكر صفّا صفّا، وألفا ألفا، ورحم الله هذا السّلطان ووزرائه الكرام وأمرائه العظام وعساكره جنود الإسلام الّذين أخلصوا لله الطّاعة ولم يشقّ أحد منهم عصا (¬121) الإسلام، ولا شذّ عن الجماعة، جعل الله سعيهم سعيا مشكورا، {وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً، وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} (¬122). وما رجع الوزير - رحمه الله - إلى الأعتاب العليّة حتى مهّد البلاد، وأمّن العباد، وترك بتونس من العساكر العثمانية مائتي دار (123) على عادة العساكر العثمانية والمتعارف بينهم، كلّ دار (¬123) عبارة عن جماعة من الخمسة والعشرين رجلا وما يقرب منها، وعلى كلّ دار (¬124) قيّم يقوم (¬125) بها (¬126) على جاري قوانينهم (¬127) / ورتّب لهم ¬

(¬118) في الأصول: «منا». (¬119) في ط: «الذلة». (¬120) في الأصول: «وورد». (¬121) في الأصول: «عصى». (¬122) سورة الإنسان: 11 - 12. (¬123) في ط: «داي». (¬124) في ط: «داي». (¬125) في ط: «يقدم». (¬126) ساقطة من ش. (¬127) عن التّرتيب الّذي تركه سنان باشا بتونس، أنظر: ذيل بشائر أهل الإيمان 87 - 88، المؤنس 200، إتحاف أهل الزمان 2/ 26 - 27، الحلل السّندسيّة 2/ 318.

قوانين السّياسة، فصارت من بعده (¬128) ظاهرة الرّسم، باقية الحكم، وأضهر فيها نواميس الملك والسّلطنة وقرّر فيها المعلوم المرتّب، ويعبّر عن هذا العسكر الباقي بالينكشرية (¬129)، وعيّن لكلّ مقام من يصلح له، وقنّن القوانين الموافقة للشّرع والسّياسة المناسبة للحكمة والكياسة. ¬

(¬128) في ش: «من بعد»، وفي ت: «من بعدهم». (¬129) في الأصول: «الينشرية»، كتبها المؤلّف كما تنطق إذ الكاف لا تلفظ ومعناها العسكر الجديد Janissaire .

الباب الثالث في ذكر أمراء تونس من العساكر العثمانية بعد فتح الباشا سنان - رحمه الله تعالى -

الباب الثّالث في ذكر أمراء تونس من العساكر العثمانية بعد فتح الباشا سنان - رحمه الله تعالى - عهد الباشوات: ولمّا تمّ الفتح المبارك، وسافر الباشا سنان قام الينكشرية (¬1) بعده فضبطوا ملك تونس، ومهّدوا قواعده ودعموها فتمكّن قدمهم ورسخت، واستمرت البلاد بأيديهم خلفا بعد سلف، وساعدهم القدر فأصلحوا ما فسد من قلعتها وأسوارها وسكنوا، وجعلوا دار الإمارة بها، وهي المعبّر عنها بدار الباشا، وجعلوا دار الدّيوان ليرسم (¬2) بها عند التّشاور في الأمور، وجعلوا لهم قوانين يتميّزون بها، وأجروا (¬3) في أوّل أمرهم الأحكام على قانون الجزائر، فجعلوا المتصرّف في البلاد دولاتليا (¬4)، والمتصرف في دفع المرتّبات والنّظر في الأمور العامّة من السّراحات والإقطاعات وما ينضاف إلى ذلك هو الباشا الوارد من الأعتاب العثمانية (¬5) فكلّما ذهب باشا خلفه باشا، ولا يكون إلاّ بتوليه من الأعتاب العثمانية، وجعلوا نظر العساكر لآغتهم (¬6)، وجعلوا ولاة (¬7) لجمع الجبايات، وسمّوهم ¬

(¬1) في الأصول: «الينتشرية». (¬2) ساقطة من ط. (¬3) في الأصول: «وجروا». (¬4) في ت: «دولتليا»، وفي ط: «دوليته». (¬5) بعدها في ش: «وجعلوا». (¬6) كلمة فارسية ويلفظها الإيرانيون آقا، ولكن القاف تكون بين القاف والغين في اللّفظ وهي تعني السّيّد وقد استعمل الأتراك هذه الكلمة لدلالات كثيرة، منها أنّها كانت تطلق على الضّباط الأميّين وعلى موظّفي الدّولة الأميّين الّذين لا يحتاج عملهم إلى معرفة للقراءة والكتابة مثل المحصلين وأفراد الدرك. وكانت تطلق على بعض الأسر الوجيهة وعلى وجهاء الأكراد بصورة خاصة كما هي الحال إلى اليوم، وهي اللّفظ الوحيد الّذي يستعمله الإيرانيون اليوم كما كانوا من قبل بمعنى «السّيّد». تعليق د. إحسان حقي هامش 1 تاريخ الدّولة العليّة ص: 177. (¬7) في ش: «أولاة».

بايات (¬8)، ودونوا الدواوين / وخرج الولاة لجباية الأموال على مقتضى تلك الدّواوين، وجعلوا تفرقة ذلك المال الّذي تجبيه البايات على العساكر في دار الباشا على مقتضى مراتب العساكر، فانتشرت الأحكام والأعلام في أقاليم إفريقية، وخطب الخطباء باسم السلاطين العثمانية، وضربت السّكّة باسمهم، وتوجّهت الآمال نحوهم، وانضافت إفريقية إلى السّلطنة العثمانيّة. واستمرّت عليها ولاياتهم (¬9)، وتوجّه إليها زعماؤهم، وحكم فيها باشاواتهم، فكانت قطرا من أقطارهم، ودارا من ديارهم، (وجعلوا إصطلاحا على عادة) (¬10) أهل الجزائر المتحكّم في الدّيوان والعسكر جماعة البلكباشية (¬11) (فساروا على ذلك زمانا، ثم أظهر (¬12) البلكباشية) (¬13) الحيف على إخوانهم من بقيّة العساكر، وساروا في أحكامهم بعنف، فجاروا على بعضهم حتّى أنّ الواحد من البلكباشية (11) إذا كان عنده صبي (¬14) كانت له حرمة وافرة، فإذا شاء مدّ يده في اليلداش وما عسى من دونه (¬15)، فأنفت نفوس العسكر من ذلك، وأضمروا (¬16) لهم الشّرّ، وتعاهد العسكر بينهم على الفتك بهم في يوم معلوم [وهو] يوم جمعة وكان وكيل الخرج في الدّيوان واحدا معلوما منهم إسمه طبّال رجب فساعدهم على ما أرادوه ووعدهم أن لا يحضر ذلك اليوم لتكون بيت السّلاح مغلوقة حتى لا يجدوا سلاحا يدافعون به عن أنفسهم. فلمّا كان يوم وعدهم واجتمع الدّيوان دخل عليهم / العسكر على حين غفلة، ووضعوا السّيف فيمن وجدوه هنا لك، ولم يمنع (¬17) إلاّ من لم يحضر ذلك اليوم، وتتّبعوهم في منازلهم فقتلوا من وجدوه حيث كان، ولم ينج إلاّ من فرّ بنفسه، وكانت ¬

(¬8) وهو برتبة أمير لواء، أنظر الحلل السّندسيّة 2/ 318، وعن هذه التّنظيمات أنظر ذيل بشائر أهل الإيمان ص: 87 - 88. (¬9) في ط وت: «ولايتهم». (¬10) كذا في ط وت والمؤنس، وفي ش: «وجعلوا عادة على اصطلاح». (¬11) في ذيل بشائر أهل الإيمان «البلقباشية» (طبعة قديمة). وبولكباشية في الطّبعة المحققة من طرف الطّاهر المعموري، وفي المؤنس: «بلوكباشية». (¬12) ساقطة من ت، وفي ش: «ظهر في». (¬13) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬14) في المؤنس ص: 200: «إذا كان عنده صبيان وهم المعبّر عنهم بالعزرية تكون له حرمة وافرة». (¬15) المؤنس ص: 200. (¬16) كذا في ط والمؤنس، وفي ش: «ظهر»، وفي ت: «أظهروا» والنّقل الموالي من المؤنس بتصرّف يسير. (¬17) يقصد «ولم ينج».

بداية عهد الدايات

هذه الواقعة آخر ذي الحجّة سنة تسع وتسعين وتسعمائة (¬18)، وتقدم هذه الواقعة إشارة إليها من الشّيخ سيدي أبي الغيث القشّاش (¬19)، وكان من رجال الله، صاحب صدقات وخيرات، وهو أستاذ الشّيخ (¬20) سيدي عامر المزوغي (¬21) - رحمه الله ونفعنا بهم وبأمثالهم -، وكان على باب الإنفاق من فيض الله، فينفق على الفقراء، ويعمّر الزّوايا داخل تونس وخارجها، ويفكّ الأسارى، فلمّا رأوا تيسّر الدّنيا عنده، سوّلت لهم أنفسهم مطالبته بمال يستعينون به على مرتّباتهم فأبى، فألجأوه إلى ذلك، فبعث جماعة إلى الجزارين الّذين بتونس وأمرهم بشراء رؤوس الكباش، فاجتمع له منها شيء كثير، فلما وقع ما وقع من قتل العسكر للبلكباشية رآى الناس أنّ تلك الواقعة كانت عقوبة من الله لهم على إكراههم للشّيخ بغير موجب شرعي ولا عادي. بداية عهد الدايات: ثمّ إن العساكر تحزّبوا أحزابا وصار لكلّ حزب منهم رئيس فاجتمع عدّة رؤساء وصار كلّ رايس يدعى باسم الدّاي، ومعنى هذه اللّفظة بلغة الترك خالي بلسان العرب وهي تكبرة (¬22) لمن ينادى بها (¬23) في عرفهم، فاجتمع منهم نحو ثلاثمائة داي / وإذا حلّ بهم أمر إجتمعوا في القصبة وتشاوروا بينهم إلى أن يتّفقوا على أمر واحد، ولكن لا يتم لهم أمر إلاّ بعد مشقّة لكثرة الخلاف النّاشئ عن كثرة الدّايات. ابراهيم داي: وكان أكبرهم إذ ذاك إبراهيم داي (¬24) إشتهر بينهم بشجاعته وكثرة جماعته إلاّ أنّه لم ينفرد من بينهم بالحكم، فمكث على حالته ثلاث سنين، وطلب منهم دستورا لحجّ ¬

(¬18) 29 أكتوبر 1590 م. (¬19) من صلحاء تونس (959 - 1031/ 1552 - 1622 م). (¬20) ساقطة من ط. (¬21) وإليه تنسب قرية سيدي عامر من ولاية سوسة، وإنما ذكره المؤلّف لأنّه عاش ما يقرب من نصف قرن بصفاقس، وكان الصّفاقسيّون يخرجون لزيارة ضريحه بالقرية المذكورة في يوم معين. (¬22) في الأصول: «تكبير» والتّصويب من المؤنس ص: 201. (¬23) ساقطة من الأصول. (¬24) هو الرودسلي كما في الإتحاف 2/ 28، الحلل السّندسيّة 2/ 341 والرودسلي نسبة على الطريقة التّركية إلى جزيرة رودس، وبه ابتدأ عهد الدّايات.

موسى داي

بيت الله الحرام، فأذنوا له ففارقهم ولم يعد إليهم بل عاد إلى وطنه من بلاد الروم (¬25)، ومات هناك عن عمر طويل، قيل مات بعد الستّين والألف (¬26). موسى داي: ولما خرج من بينهم قام مقامه موسى داي فأراد أن ينفرد بالكلمة في الحكم فلم يتم له ذلك، فمكث نحو سنة، فلما رآى إضطراب الأحوال طلب الدّستور في الذّهاب لحجّ بيت الله الحرام، فأذنوا له على شرط عدم العود إليهم، فذهب ولم يرجع. عثمان داي: ثمّ تتابع فيهم الرؤساء، وطلب كلّ أحد الإنفراد بالكلمة، فقام من بينهم إثنان أحدهما قاره صفر، والآخر عثمان، وهو أقلّ الدّايات جمعا إلاّ أنّ القدر ساعده، فوقع بينه وبين صفر داي مشاجرة، فذهب كلّ واحد إلى منزله ولبس لامة حربه وأقبل إلى القصبة، فسبق إليها عثمان فجلس في سقيفتها، واجتمع إليه بعض جماعته فلمّا رآى صفر داي مقبلا للقصبة، بعث إليه من ردّه وأمره بالخروج من البلد فخرج إلى الجزائر (¬27) ومكث بها / دهرا طويلا ولم يعد حتّى فرغت أيام عثمان داي (¬28) وكان خروجه سنة سبع وألف (¬29). وفي أوّل حجّة منها كانت خطرة الجوامر، وهي ثلاث مراكب مالطية حرثوا هناك من النّو وفلت منهم إثنان بقية الخمسة فأخذ الثلاثة غنيمة. ¬

(¬25) كذا بالمؤنس أيضا، ويقصد بها إلى جزيرة رودس وهي تحت نفوذ تركيا (بلاد الروم). (¬26) في الأصول: «بعد المائة والألف» والتّصويب من الحلل السّندسيّة 3/ 342 والمؤنس 201. (¬27) إنتهى نقله من المؤنس ص: 202. (¬28) رجع إلى تونس في أيّام يوسف داي وعاش لحدود 1050/ 1640 - 1641، ودفن بتونس. المؤنس 202 قال إبن أبي الضّياف في الإتحاف 2/ 28 «وله عقب لهذا العصر». (¬29) 1598 - 1599 م وجاء في الأصول: «سنة أربع عشر وألف»، والتّصويب من الإتحاف 2/ 28 والمؤنس ص: 202، وذيل البشائر ص: 92.

وفي سنة خمس عشرة وألف (¬30) عركوا جبل وسلات، وكذلك (¬31) الحملاجي باب عجم. ولمّا خرج صفر داي انفرد عثمان داي فهابه الرّجال وهربوا لأطراف البلاد خوفا من بطشه وبوادره، فهو أوّل داي إنفرد بالكلمة في سنة سبع وألف (¬32)، فباشر الولاية بجأش متين وربّما باشر الأمر (¬33) بنفسه وأحاط البلاد (¬34) خارجا وداخلا، وربّما سمع بالرجل في الغابة فيخرج بجماعة حتّى يظفر به، وكان أصحاب البساتين قبل تولّيه إذا طابت غلاتهم طلبوا من الدّيوان من يحرسهم خوفا من وارد ولص ينهب غلاّتهم، فيعيّنون لكلّ مكان حفظة (¬35)، ويجعلون لهم جعلا على حفظهم فأبطل عثمان داي تلك العوايد، وصار يحرسهم بعنايته لخوف العادين والسّرّاق منه، وجعل تلك العادة يأخذها الساقجي (¬36) من الباعة الّذين يدورون على كلّ واحد فلسان، ولمّا تمّ أمره أرادوا قتله مرارا فلم يتمّ لعدوّه ذلك، ونفى أهل جربة القاطنين بتونس لأنّهم كانوا إذ ذاك تحت حكم طرابلس (¬37) / فأجلاهم من تونس، وكثرت في أيامه غنائم البحر، وظهر في أيّامه صيت محمد باي إبن حسين (¬38) باشا، فكان قبطان البحر بغلائطه فأتى بعدة غنائم، فكان عثمان داي إذا جاءته الغنائم طلع لحلق الوادي فيبيع الغنيمة كلّها من التّجّار فيربحون ربحا عظيما، وجاء في أيّامه دالي (¬39) قبطان من برّ النّصارى وحاصر مراكب حلق ¬

(¬30) 1606 م. (¬31) في الأصول: «وكان». (¬32) في الأصول: «سنة سبع عشرة وألف»، والتّصويب كما أشرنا. (¬33) كذا في ط، وفي ش وت: «الأمير». (¬34) عاد إلى النّقل من المؤنس. (¬35) في المؤنس: «ساقجيا» ص: 202 والساقجي هو حارس الغابة. (¬36) في الأصول: «السقجي»، والتّصويب من المؤنس. (¬37) كانت جربة في منتصف القرن السّادس عشر محلّ صراع بين الإسبان والأتراك لأهميتها الإستراتيجية، وعملت كلّ قوة على أخذها، وفي آخر جولة إحتلها درغوث باشا وجيالي باشا في سنة 968/ 1560 إثر معركة شهيرة جالها ضدّ المسيحيين الّذين كان يقودهم نائب الملك بصقلية جان دي لاسردا (Jean de la Cerde) وألحقت إلى إمارة طرابلس التّابعة إذ ذاك للسّلطنة العثمانيّة، وبقيت تابعة لهذه الإمارة إلى ما بعد دخول العثمانيين إلى تونس والحاقها بالسّلطنة العثمانيّة مدّة طويلة، أنظر على سبيل المثال ليبيا لأتوري روسي 188 - 189 والأتراك العثمانيون في شمال إفريقيا لعزيز سامح ص: 55 - 81. (¬38) أنظر خبره في الإتحاف 2/ 29 والمؤنس ص: 204. (¬39) في المؤنس: «دال».

الوادي، ومنعهم من الخروج فخادعه عثمان داي إلى أن ظفر به وأسره فسجنه بالقصبة إلى أن مات بها. وفي سنة سبع عشرة وألف (¬40) قتل عثمان داي محمد باي إبن حسين باشا خوفا من قيامه مقامه، وكان عمره يوم موته ثمانيا وعشرين سنة، وكانت فيه شهامة شديدة ونكاية لعدوّ الدّين - رحمه الله تعالى -. وفي هذه السّنة والّتي تليها جاء أهل الأندلس حين أخرجهم السبنيور (¬41) لمّا تقوّوا عليهم، وكانوا أوّلا بالخيار في البقاء والخروج فأوسع لهم عثمان داي في البلاد مع كثرتهم، وفرّق ضعفاءهم على النّاس وأذن لهم أن يعمّروا حيث شاءوا فانتشروا في البلاد وبنوا فيها، واستوطنوا عدّة أماكن فأنشؤوا بلاد سليمان وبلّي ونيانو وقرنبالية وتركي والجديدة وزغوان وطبربة وقريش الواد ومجاز الباب والسلوقية (¬42) وتستور وبلاد العالية والقلعة وغيرها مما يزيد على عشرين بلدا (¬43)، فصارت لهم مدن عظيمة / وغرسوا التّين والعنب والزّيتون وأكثروا البساتين ومهّدوا الطرقات (¬44) للمسافرين بالكرارط (¬45) وغيرها (¬46) وصاروا يعدّون من أهل البلاد، وسكن طائفة منهم بتونس، فصاروا من أعيانها، وتخلّق أهل تونس بأخلاقهم. وبنى عثمان داي قنطرة مجردة على ثنيّة بنزرت سنة سبع عشرة وألف. وفي سنة ثمان عشرة وألف (¬47) عركوا بلاد أركو والحملاجي باب عجم، وعركوا مطماطة ثلاثة أيام، والحملاجي درويش الطّويل. وتوفي عثمان داي - رحمه الله تعالى - يوم سبعة عشر من شوّال من سنة تسع عشرة وألف (¬48)، ودفن بتربة الشّيخ سيدي أحمد بن عروس - رحمه الله -. ¬

(¬40) 1608 - 1609 م. (¬41) الاسبان. (¬42) ساقطة من ش. (¬43) جلّ هذه البلدان كانت موجودة من قبل، وإنّما استوطنوها وعمّروها وكبرت عمّا كانت عليه. (¬44) في ش: «الطرقاة». (¬45) في المؤنس: «الكراريط» ج كريطة، وفي الإتحاف: عربات مجرورة لها عجلتان من الخشب مصفّحتان بالحديد. (¬46) إنتهى نقله من المؤنس. (¬47) 1609 م. (¬48) 2 جانفي 1610 م.

يوسف داي

يوسف داي: وتولّى بعده يوسف داي (¬49)، فاستقام أمره بلا تعب وكان عثمان داي - رحمه الله - رشّحه في حياته وعقد له على إبنته، ولم يدخل عليها، وكانوا سألوه في مرضه من يلي بعده فقال لهم: صاحب الأمر عجم داي، وإن أردتم راحة أنفسكم قدّموا يوسف داي، (وكان عجم داي بباجة، وفيه شهامة زائدة، وقصد تولية يوسف داي) (¬50) لمصاهرته، فبعد موت عثمان داي بعثوا لعجم رسولا وأصبحوا منتظرين وتجمّعوا عند دار عثمان داي، فبينما هم كذلك إذ دخل علي ثابت (¬51) وكان من أصحاب يوسف داي - رحمهم الله جميعا - فلما رآى جمعهم أقبل بقوّة نفس وقبّل يد يوسف داي وبارك له، فما بقي أحد من الجماعة إلاّ وقبّل يده / وفعل كفعله فبايعه كبراء العسكر وطلعوا (¬52) به إلى القصبة وأجلسوه كعادة أمثاله، فجاء بقيّة النّاس وبايعوه على طبقاتهم وتمّ الأمر، فمن الغد أقبل عجم داي من باجة فوجد الأمر قضي بليل فلم يسعه إلاّ المبايعة، فعرفها له يوسف داي، وعامله بالمبرّة والإكرام مدّة حياته سياسة وحسن جزاء - رحمة الله عليهما -. فأخذ علي ثابت، وكان أيضا ذا سياسة وتدبير، يساعد يوسف داي على الأمور وتدبير المملكة، وصرف نيّة يوسف داي عن التّزوج ببنت عثمان داي، فتخلّى عنها، ودبّر عليه (¬53) بتزوّج (¬54) حظايا الأعلاج لأنه خاف من مصاهرة أولاد عثمان داي مواجهة يوسف داي لهم دونه، فصرف عزمه ليستبدّ بالأمر، فكان كذلك فاستقام له الأمر، وقام هو بجده إلى أن بلغ رتبة لم ينلها غيره. وفي أيّام يوسف داي تحضّرت البلاد، وكثرت عمارتها، وكثرت مراكب الجهاد ¬

(¬49) رجع إلى النّقل من المؤنس ص: 205. (¬50) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬51) كان رمّالا، بشّر يوسف عند قدومه من طرابلس، بأنه يكون له في تونس شأن عظيم إلى أن يكون الحاكم بها، فقال له يوسف داي: إن ثبت ذلك لأكرمنّك غاية وبعد أن نزل يوسف بدفتر العسكر وترقى في العسكرية أحوجه الحال إلى شراء فرس، فوجد فرسا عظيما عند رجل يتّجر في الخيل فتأمله فإذا هو الرّمال السّالف، وأخبره بما تقدّم ذكره وجدّد العهد. الحلل السّندسيّة 2/ 350. (¬52) في ش: «اطلعوا». (¬53) يقصد نصخه. (¬54) في الأصول: «بتزويج».

في البحر، وبلغت عدّتها خمسة عشر مركبا من الكبار، فكثرت رؤساء البحر، وكان لمراكبه في البحر صيت وشهرة، ومن أعظم رؤسائه أولا قبطان صمصوم وقبطان وردية، كانا نصرانيين فأسلما، وكانا مسعودين فصار لهما صيت في البحر فساعدت (¬55) المقادير بغنائم البحر واطمئنان البرّ. وكان مغرما بالأبنية الفاخرة كسوق الترك بتونس، فنمّقه على أبدع نظام ومسجده المشهور براس سوق (¬56) الترك المذكور / ومدرسته الملاصقة للمسجد المذكور، وجعل للطّلبة مرتّبات وأرغفة وغير ذلك، وبنى بالسّوق المذكور ميضاة، وبنى سوق الجرابة والحمّام القريب منه وعدة فنادق لسكنى طائفة اللّوند، والبركة لبيع العبيد والحلي، وفتح باب البنات في شهر ربيع الأوّل سنة عشرين وألف (¬57)، بعد ما كان مسدودا، وجعل عليه مصراعين وعدة حوانيت وسوقا قربه لبيع الغزل وعمرت في أيامه تلك الجهات بعد ما كانت خرابا والمار منها يخاف على نفسه نهارا. وكان إبتداء الصّلاة في المسجد المذكور يوم الجمعة في شهر رمضان المعظم سنة خمس وعشرين وألف (¬58). ومن خيراته جلب الماء العذب على الحنايا (¬59) المشتهرة به، وفرّق ماءها في المدينة في عدّة أماكن منها القبّة المرخّمة الّتي تحت صومعة جامع الزيتونة، لكنّ تلك المياه تارة تجري وتارة تتعطّل بحسب أمراء الوقت، فمنهم من يجريها بعنايته، ومنهم من يعطّلها باعراضه. ومن خيراته بناء قنطرة مجردة من ناحية طبرية، فكانت من أجلّ القناطر منظرا وإتقانا ومتنزّها، وكان عليها برج في حياته، ثم زاد فيه (¬60) بعده مولاه نصر آغة، ثم تولّع به ولد الداي المذكور أحمد شلبي فضخّمه، ثم صار بعده لحفيده أبي الحسن علي باي، فزاده ضخامة حتى ضرب به المثل. ومن خيراته بناء / المواجل في الأماكن المعطشة، وجلب الماء من أماكن بعيدة لنفع المسافرين، وله صدقات عديدة (¬61). ¬

(¬55) كذا في ت، وفي ش وط: «فساعدة». (¬56) عن هذا المسجد أنظر ج مارسي G. Marcais : Manuel d' art musulman,Paris 1927, 2/ 847 - 849. (¬57) ماي - جوان 1611 م. (¬58) سبتمبر - أكتوبر 1616 م. (¬59) في الأصول: «الحناية». (¬60) كذا في ط وت والمؤنس، وفي ش: «عليه». (¬61) إنتهى نقله من المؤنس.

وفي سنة عشرين (¬62) عركوا جبل مطماطة تسعة أيام. وفي سنة إحدى وعشرين (¬63) عركوا تيفاش والحملاجي باب عجم. وفي سنة إثنتين وعشرين (¬64) عركوا سدّادة (¬65) فأخذوها، وهدّموا قلعتها يوم الخميس والحملاجي باب مصطفى. وفي السّنة المذكورة كانت محلّة الجزائر الأولى ولم يكن فيها قتال وكان آغة المحلّة رتاز آغة في ثلاث من رجب. وفي السّنة المذكورة كان ابتداء بناية المسجد - المقدّم الذّكر -. وفي سنة خمس وعشرين (¬66) عركوا مطماطة خمسة عشر يوما والحملاجي باب عجم وهدموها سنة سبع وعشرين (¬67). وجاء الطّاعون (¬68) لتونس سنة إحدى (¬69) وثلاثين وألف (¬70)، فيها مات الشّيخ سيدي أبو الغيث القشّاش - رحمه الله - ومات فيها خلق كثير. وفي سنة أربع وثلاثين وألف يوم عشرين من رمضان (¬71) أخذوا زوج أغربة للمالطيين، وزيّنت لهما البلاد، وكان القبطان مراد داي قبل تولّيه دايا كانت ستة أغربة عمّرها من تونس، وخرجت خمسة أغربة مالطية من صقلية فجاءت في طلبهم، ووقع الحرب العظيم بينهم، ومات من الجانبين خلق كثير، فنصر الله المسلمين، وأخذ من الكفّار الغرابين، الكبير منهما يسمى ببطرونة الّذي ينوب عن غراب القبطانة، والآخر كان إسمه برانسيشق (¬72) وفر الّذي كان فيه قبطان / النّصارى بعد أن أشرف على الأخذ، ووجد في الغرابين نحو خمسمائة مسلم. ¬

(¬62) 1611 م. (¬63) 1612 م. (¬64) 1613 م. (¬65) في الأصول: «سدارة» والتّصويب من الحلل 2/ 349. (¬66) 1616 م. (¬67) 1618 م. (¬68) هو المعروف عند أهل تونس (العاصمة) بوباء سيدي أبي الغيث، أنظر المؤنس ص: 207. (¬69) في الأصول: «واحد». (¬70) 1622 م. (¬71) 26 جوان 1625 م. (¬72) في ط: «فرانشيشق».

وفي سنة سبع وثلاثين وألف (¬73) كانت (¬74) الواقعة العظمى (¬75) بين عساكر الجزائر وعساكر تونس (¬76) مات فيها خلق كثير، وكانت لثلاث عشرة خلت من رمضان يوم السبت، وكان السّبب في إستجلابهم الشّيخ ثابت بن شنّوف (¬77)، وكان شيخا على نجعه، وكانوا متغلّبين على بلد الكاف ورعيّته، وهم أصل الفتنة بين العسكرين، فكانت البايات (¬78) تهابهم، ولا يحوم أحد حول حماهم ولا يطرق دارهم، فاستجلبوا عسكر الجزائر بإطماعهم إياهم في البلاد، ولمّا التقى الجمعان كانت الدّائرة أوّل يوم على أهل الجزائر حتّى طلبوا الأمان لأنفسهم، ثم خانت أولاد سعيد وأشباههم فاختلّت مصاف العساكر التّونسية (¬79) فتسارع الأعراب إلى نهب المحلّة والوطق، ولم تسكن الفتنة حتّى ذهب الشّيخ تاج العارفين العثماني والشّيخ إبراهيم الغرياني والشّيخ مصطفى شيخ الأندلس وغيرهم فصالحوا ما بين العسكرين. وفي السّنة الّتي تلتها كانت محلّة الكاف لقيام ابن شنّوف (77) بها، وكابد هذه الأهوال مراد باي - رحمه الله تعالى - وكان صاحب دهاء. وفي سنة ثمان وثلاثين وألف (¬80) أخذ النّصارى زوج غلايط لأهل تونس. وفي سنة إحدى (¬81) وأربعين (¬82) توفّي الحاج علي ثابت، وجاء منصب الباشوية لمراد باي. وفي سنة سبع وأربعين / وألف مات يوسف داي - رحمه الله - ليلة الجمعة الثالث والعشرين من رجب (¬83) عن سنّ عالية، ودفن بتربة أعدّها مجاورة لمسجده (¬84). ¬

(¬73) 1627 - 1628 م. (¬74) في الأصول: «كان». (¬75) رجع إلى النّقل من المؤنس ص: 208. (¬76) وسببها الإختلاف في الحدّ بين المملكتين. (¬77) كذا في ت والمؤنس، وفي ش: «سنوب»، وفي ط: «شنوب». (¬78) في الأصول: «البيات». (¬79) كان تغلّب الجزائريين في واقعة تعرف بواقعة السطارة، وغنم الجيش الجزائري من الجيش التونسي 22 مدفعا، وأنظر أيضا تاريخ الجزائر العام لعبد الرّحمان محمّد الجيلالي، الجزائر 1375/ 1955، 2/ 371 - 372، الحلل السّندسيّة 2/ 360 - 364. (¬80) 1628 - 1629 م. (¬81) في الأصول: «أحد». (¬82) 1631 - 1632 م. (¬83) 11 ديسمبر 1637 م. (¬84) يبدو أنّ المؤلف إعتمد في أخبار يوسف على المؤنس 205 - 208، ينقل عنه بتصرّف بدون إشارة كما أنّه فيه تفصيلات أخرى غير موجودة في المؤنس، ولم يذكر المصدر الّذي رجع إليه.

الداي أسطى مراد

الداي أسطى مراد: فتولى بعده أسطى (¬85) مراد داي إبن عبد الله، بويع صبيحة اليوم الّذي مات فيه يوسف داي، وكان أكبر من سعى في توليه أسطى مراد مامي، وهو أكبر مماليك يوسف داي، وكان يرى أنّه أحقّ بالأمر من غيره (¬86)، إلاّ أنه قدم أسطى مراد على أنّهم إن رضوا به دبّر في خلعه واستبدّ بالأمر، فلمّا تمّ أمر أسطى مراد عاجله ونفاه لزغوان، فقتل هناك. فلمّا تمكّن وانقطع المخالف وأمنت المخاوف أخذ في تدبير مصالح البلاد، فأوّل شيء إبتدأ به أن قطع الخمّارات الّتي بين الأزقة، وكانت كثيرة وأبطل برج البستيون (¬87) بإبطال بيع السّميد والدّقيق والقمح الّذي كان يباع هناك به، ونظر في معايش المسلمين أحسن نظر. وفي هذه السّنة أخذ السّلطان مراد (بغداد وفي سنة ثمان وأربعين وألف (¬88) توفّي السّلطان مراد) (¬89) حسبما مرّ وتولّى بعده السّلطان إبراهيم - رحمهم الله تعالى -. وأسطى مراد أوّل من أمر القوّاد بملازمة بابه كلّ عشية للإنصاف منهم لمن يشتكيهم. وفي أيامه بنى البرج الذي بغار الملح، وبنى هناك مدينة فاستوطنها جمع من الأندلس (¬90)، وغيرهم، وكانت مخبأ للنّصارى، فانقطع ضررهم وهو أحد من رأس البحر ورزق فيه سعادة (¬91) كما تقدّم. وتوفّي سنة خمسين وألف (¬92). / ¬

(¬85) في ط: «السطا»، وفي المؤنس وغيره من المراجع: «سطا» والنّقل من المؤنس ص: 209 بتصرّف. (¬86) وكان يرى نفسه أنه أحقّ بالأمر من غيره إلاّ أنّه خاف من العسكر أنّهم لا يقدّمونه. المؤنس 209. (¬87) في الأصول: «البستيور». (¬88) 1638 - 1639 م. (¬89) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬90) كذا في المؤنس 210. (¬91) ولذلك يقال له مراد قبودان، وكان من الأعلاج وقبودانا في البحر، وله خصال محمودة في الجهاد، وعلا صيته في جميع بلاد الكفرة والإفرنج، وسار سيرة حسنة ورخصت الأسعار في زمانه وخصبت البلاد في أيامه، ذيل بشائر أهل الإيمان 93. ويبدو أنّ المؤلّف نقل ما في المؤنس 209 - 210 بتصرّف. (¬92) 1640 - 1641 م.

الداي أحمد خوجة

الداي أحمد خوجة: فقام بالأمر بعده (¬93)، أحمد خوجة ويقال له أوزون (¬94) خوجة، وكانت توليته باتفاق من العسكر لأنّه كان رحيم القلب محسنا للفقراء والأيتام والأرامل، فمالت إليه القلوب، وكان أوّلا خوجة (¬95) الدّيوان، فمن ذلك الوقت ظهر إحسانه وشفقته على أيتام العسكر وفقرائه، فكان سبب تولّيه. وفي أوّل تولّيه جاءت أغربة مالطة فدخلوا حلق الوادي، وأخذوا منه مراكب وأحرقوا عدّة مراكب فلم ينفعهم البرج، فمن ثمّ زيد برج آخر (¬96) تحصينا للمرسى. وفي سنة خمس وخمسين (¬97) كان إبتداء العمارة لكندية (¬98)، وجاءت الأوامر السّلطانيّة بتجهيز المراكب والعسكر، فندب أحمد خوجة النّاس لذلك وجعل على أهل المدينة والرّبطين (¬99) أموالا لتجهيز الّذين عيّنوا للسفر، وهم جماعة، وجعل لكلّ واحد مقدار ثلاثين كرونة (¬100)، وهيّأ معهم جملة من المساحي (¬101) والفيسان (¬102) والقفاف، وحملهم في المراكب لحفر الخنادق وردمها وللمتاريس وشبهها ممّا تدعو إليه ضرورة الحرب، ثمّ توجّهت في السّنة الثانية. محمد لاز: وتوفّي أحمد خوجة (¬103) سنة سبع وخمسين وألف (¬104). فتولّى بعده الحاج محمد لاز، ومن هنا إرتفعت رتبة الباي عن رتبة الداي، فلا بدّ ¬

(¬93) يستمرّ في النقل من المؤنس بإختصار وتصرّف 210. (¬94) في الأصول: «أزن» والتّصويب من المؤنس ومعناه «الطّويل». (¬95) أي كاتبا، وفي ذيل بشائر أهل الإيمان ص: 93، كان دفتر دار بالدّيوان. (¬96) وهو البرج الصّغير قرب باب رادس المعروف ببرج الخريطة، ثم صار قصرا للملوك الحسينيين البايات. أنظر إتحاف أهل الزّمان 2/ 38. (¬97) 1646 م. (¬98) Candie . (¬99) باللهجة التّونسية، وبالفصحى «الرّبضين». (¬100) لعلها Coronat وهي سكة ضربت في نهاية القرن الحادي عشر ميلادي من طرف Provence Les comtes de ، تعليق 3 ص: 409، الحلل السّندسيّة ج 2. (¬101) ج مسحاة. (¬102) ج فأس. (¬103) نقل المؤلّف أخباره باختصار من المؤنس 210 - 212. (¬104) 1647 م.

بداية البايات

من التّعرّض لذكر شيء من البايات الماضين عن هذا الدّاي، ثمّ نسوق الكلام على البايات بالذّات وعلى الدّايات بالعرض. بداية البايات: فنقول: لمّا كانت دولة بني حفص في أيّام إستقامتها، كان (¬105) سلاطينهم يخرجون بمحالهم لجباية أموالهم، ولمّا جاءت دولة العساكر العثمانيّة تقسّمت البلاد بين القياد، وصار أعظم قيّادهم يخرج بالمحلّة، وكانت الأعراب مع ذلك في قوّة واستحوذوا على جلّ البلاد كعرب إفريقية أولاد أبي اللّيل وأولاد أبي سالم (وأولاد حمزة (¬106)) (¬107) وأولاد شنّوف (¬108) عرب الكاف وأولاد سعيد وأولاد مدافع، وأهل الجبال غالبهم عصاة، فكان صاحب المحلّة يعاملهم بالمخادعة والرّفق والقوّاد يتعاقبون في التزامات المحال، فكانت أحوالهم غير مضبوطة، وكثرت الحكّام في المدينة، فكانوا في جهد مع الرّعيّة، وفي أقلّ الأمور يتعذّر الخلاص معهم وخصوصا أهل جبل عمدون ومن جاورهم وأهل جبل وسلات وأهل جبل مطماطة وغيرهم. فأوّل من سما (¬109) وأظهر ناموس البايات (¬110) وتسامى وتسمى بهذا الإسم على الحقيقة القائد رمضان من الأعلاج، أصله من أهل الجزائر فخدم المناصب هناك، وانتقل إلى تونس، وتحصّل على هذه المرتبة، وكانت له سياسة وتدبير حسن فاقتنى المماليك وعلت رتبته، وتخرّج من مماليكه عدّة رجال أخذوا المناصب في حياته، وتسمّوا (¬111) بهذا الإسم قبل مماته، فمنهم مراد باي، ورمضان باي، وحسن باي، فهؤلاء مشاهير مماليكه، وكان أعلاهم همّة وأبعدهم صيتا مراد، فكان فيه زيادة حذق وقوّة علم بسياسة الرّعيّة وتدبيرها، وجباية الأموال وتحصيلها، فاستولى / في حياة سيّده ¬

(¬105) النّقل من المؤنس ص: 227. (¬106) في الأصول: «همزة». (¬107) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬108) كذا في ت والمؤنس، وفي ش وط: «شنوب». (¬109) في الأصول: «سمى». (¬110) في الأصول: «البياية». (¬111) كذا في ط، وفي ش: «تسمى».

مراد باي وبداية الدولة المرادية

على الولاية (¬112) الضّخمة، واستخلفه في حياته، وكان يتفرّس فيه النّجابة على الإثنين الآخرين. مراد باي وبداية الدولة المرادية: ولمّا مات أستاذه أراد [أخوه] (¬113) رجب باي أن يستبدّ وحده بالأمر، فلمّا خرج بالأمحال لم يقم بها حقّ القيام كما يقوم مراد باي، ولمّا خرج بها مراد أتى بها على أحسن مراد، فكانا تارة يفترقان، وتارة يجتمعان، وفي محلّة الجزائر - المقدّمة الذّكر -، كان مراد وحده بمحلّة على جبالها، وهرب غالب مماليك سيّده إليه، ولمّا رجعوا إلى محلّة الكاف ساس الأمور بنفسه فكانت على وفق المراد، فلم يزل يعلو وغيره يسفل إلى أن بعث إلى الباب العالي فجاءه التّقليد من السّلطان سنة إحدى وأربعين وألف (¬114) - حسبما مرّ -، وكان مغرما بقتال الفئة الباغية أولاد سعيد فاعتنى بتمزيق شملهم، وكانت له القدرة عليهم إلاّ أنه لم ينفرد بتدبير البلاد لمشاركة رجب له فيها، وآخر غزواته الّتي أجلاهم (¬115) فيها، وقطعهم (¬116) وأخرجهم من البلاد إلى وطن طرابلس، فلم يستقرّوا فيها وهي آخر محاله، جاءه (¬117) خبر الباشوية وحيازة منصبها وهو على صفاقس، فتسمّى باسم الباشا (¬118) وتخلّى لولده حمّودة باشا عن المحال فباشر منصب الباشالك، ولكن لم تصف له الأيام فمات من سنته ودفن بجوار سيدي أحمد بن عروس - رحمه الله تعالى ونفعنا به - ولما بنى ولده حمودة (¬119) تربته / المجاورة للشّيخ في الجامع الّذي إستحدثه هناك نقله إليها (¬120). ¬

(¬112) في ش: «الولايات»، وفي ط: «الولاة»، والتّصويب من المؤنس ص: 227. (¬113) إضافة من المؤنس ص: 228. (¬114) 1631 - 1632 م. (¬115) في الأصول: «جلاهم». (¬116) كذا في ط والمؤنس، وفي ش: «أقطعهم». (¬117) كذا في ط والمؤنس، وفي ش: «فجاءه». (¬118) في الأصول: «الباشوية». (¬119) هو أبو محمّد حمّودة باشا. (¬120) عن إبتداء أمر البايات وعهد مراد باي نقل المؤلّف ما في المؤنس 227 - 228 باختصار مع نقل كثير من عبارات إبن أبي دينار بنصّها.

الباي حمودة باشا المرادي

الباي حمّودة باشا المرادي: فقام ولده بعده بالأمور وساسها على أحسن منوال، وأظهر من أبّهة الإمارة ما لم يظهره غيره، وفعل ما لم يفعله بنو حفص، فانفرد بالأمر، وباشر الولاية بقوّة جأش، وقابل الرّعيّة برفق وإحسان، وقرّب القاصي، وانتقم من العاصي، وكان كامل الذّات حسن الصّورة والأفعال والأخلاق، وله شهامة زائدة وجودة فكر مع رزانة ولين، وجعل كاتبه الصّغير بن صندل كاتب أبيه ومستشاره من قبل، وكان خليفته في السّفر رمضان باي وحسن باي وجعفر باي ومصطفى باي، وهؤلاء هم المشهورون من مماليكه، وكان جوادا شجاعا محبّا لأهل العلم والخير، وكان مجلسه مجمع أهل الفضل والعلم والأدب، وتجري في مجلسه مباحثة في العلوم، فيشارك فيها بفهم ثاقب وفكر صائب، ولأهل مجلسه مرتّبات سنيّة فيعمّ الجميع بالإحسان على قدر مراتبهم بالبرّ والبقر والغنم والدّينار والتّمر، والتّفاصيل إلى غير ذلك ممّا هو شأن السّلاطين. ولمّا مات رجب باي، إستقل بالأمر مطلقا فبعد شأوه وتهيّأ لقتال المفسدين من الأعراب {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} (¬121) {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ} (¬122) فتصدّى أوّلا لأولاد سعيد، وكانوا أوّلا مشتّتين في البلاد، ولمّا وقعت فتنة العسكرين (¬123) بسبب إبن شنّوف (¬124) - المتقدّمة الذّكر - قامت قيامة أولاد سعيد، فلجّوا في الشّقاق والنّفاق، وسدّ الطّرق وإظلام الآفاق، وكان المرحوم مراد باي لم يبلغ منهم مراده فكانوا يلجأون إلى حوالي الحامة ويتحصّنون بها لأنها ساعدتهم على نفاقهم سبع سنين، فخرج لهم حمّودة باشا - رحمه الله - في محلّة الشّتاء سنة إحدى (¬125) وأربعين (¬126) وشدّ أزر مدينة القيروان بعد ما كاد يقع بها من أولاد سعيد الخسف، فاستوثق أمرها، وولّى عليها مملوكه القائد علي الحنّاشي، ودخل بمحلّته إلى بلاد الجريد، وخلّص مجباه، ثم إلتفت إلى الحامّة بعد تشتيت شمل أولاد سعيد وبني ¬

(¬121) سورة الشّعراء: 152. (¬122) إقتباس من الآية 205 من سورة البقرة. (¬123) أي الجزائري والتونسي. (¬124) كذا في ت، وفي ش وط: «شنوب». (¬125) في الأصول: «واحد». (¬126) 1631 - 1632 م.

شنّوف (¬127) وغيرهم من أخابث الأعراب، وضرب بعضهم ببعض، وألحق الغنيّ منهم بالفقير، والكبير بالصّغير، والجليل بالحقير، فقطع أهل الفساد، ونفاهم من البلاد، فخرج إلى الحامة وأرسل المؤونة في البحر، وحشد إليها الحشود، وجمع الجموع، ونصب عليها آلات الحرب من المدافع وغيرها، وحفر المتاريس، وأمر بقطع نخيلها، وحاصرها من جميع جهاتها، وأعذر (¬128) إليهم وأنذرهم بنزول البلاء فلم يلتفتوا، فلمّا لم يأنس منهم رشدا وأيس من إصلاحهم ولم ير منهم أحدا أقسم أن لا يرتحل عنهم إلى أن يحكم الله بينه وبينهم /، وجاءهم المدد من إخوانهم المتمرّدين فلم يغن (¬129) عنهم شيئا فضايقهم بالحصار، وناوشهم بالقتال، فمات من الفريقين كثير، وكانت في غاية من الحصانة، ولأهلها قوّة بأس وحرب والنخل محيط بها من جميع (¬130) جهاتها، والخندق محيط بها، فلمّا نفذ فيهم القضاء، بارت حيلهم، ودارت عليهم الدّوائر، فلم ينفعهم المدد ولا كثرة العدد ولا مداومة الحرب ومدافعتهم وإستعانتهم بالمفسدين، ففتحها بعد جهد جهيد، والإستعانة بكل ما يمكن من المال والرّجال وبعد موت الأبطال والشجعان، فدخلها عنوة بالسّيف، فقتل رجالها وسبى نساءها، ونهب أموالها، وبيعت أطفالها، وأخرجت مساكنها وأقفرت من ساكنها، وذلك سنة خمس وأربعين وألف (¬131). وكان جبل وسلات قد رفع أنفه (¬132) فلمّا سمع ما حلّ بالحامّة إنقاد، وكذا غيره من العصاة والبغاة، وأذلّ بني شنوف، وأطاعه جميع العربان في جميع الأوطان حتّى أنّ ورغمّة أدخلهم في عمالته بعد أن كانوا يدّعون أنّهم من أجواد العرب، فنظّمهم في سلك أهل جبايته. وفي حدود الخمسين وألف (¬133) أخذ في تزميل الزّمول (¬134)، فأضاف دريد إلى ¬

(¬127) كذا في ت وفي ش وط: «شنوب». (¬128) كذا في ش، واستعمل إبن أبي دينار في المؤنس: «ومع ذلك كان يبالغ في الإرسال إليهم بالأعذار والإنذار»، ص: 232، وفي ت وط: «أحذرهم». (¬129) في المؤنس: «فلم يجد نفعا لكبير ولا صغير»، ص: 232. (¬130) ساقطة من ط وت. (¬131) أواخر ذي الحجة / جوان 1636 م. (¬132) في المؤنس: «شمخ بأنفه». (¬133) 1640 - 1641 م. (¬134) في المؤنس: «ولمّا عزم على ممارسة قبائل العرب شرع في تزميل فرسانهم» ص: 236.

رعيّته وركب منهم عدّة فرسان، وجعلهم من جملة رجاله، فابتدأ بتزميل رجالهم، وجعل في كل فج زمالة من فجوج أوطانه، ولكل زمالة / رئيسا من رجاله مثل القائد حسن المنتسب لحسين (¬135) باي وهو أشجع رجاله، والقائد علي الحنّاشي، والقائد أحمد الرقيعي، وركب عدّة رجال من عسكر زواوة يقال لهم الصبايحية، وجعلهم ملازمين لركابه يسيرون معه حيث سار، وجعل صبايحية أخر فقرّر سكناهم بالقيروان، وجماعة منهم بالكاف، وجماعة بباجة لتأمين الطرقات والوطن. ثمّ توجّه لتطويع من شذّ عن الطّاعة من طاغية العرب كالشّيخ خالد بن نصر الحنّاشي وكان أشهر العرب صيتا ومنعة، وله عدّة وقائع مع عسكر الجزائر، وكان عمّر طويلا، ومارس الحروب، وشمخ بأنفه على العمالة التّونسية ويمتدّ في وطنها لمجاورتها لوطنه، ويتعرّض لمحلّتها فيتّقون شرّه ويهادونه بالهدايا فهزمه الله على يدي حمّودة باشا - رحمه الله تعالى - سنة أربع وخمسين وألف (¬136)، فلم تقم له بعد قائمة، وصار أولاده من خدّام ركاب حمّودة باشا، وكذلك الشّيخ إبن علي (¬137) دخل في الخدمة والطّاعة وكان من المتمرّدين على عساكر الجزائر، وهزمهم مرارا متعددة، فكان يتصرّف عن إذن حمّودة باشا مدّة حياته، وأوصاه بأولاده فكانوا لا يتشيّخ منهم شيخ إلاّ بمشورته، وإذا أصابهم ضيم دخلوا عمالته، فأمنت العباد، واطمأنت البلاد، وزال الفساد، فأمنت الظعينة في السفر من بلد إلى بلد، وزال الخوف عن الجمع والفرد، وبقيت / العمالة بستانا مثمرا والقفار حاضرة مزهرة (¬138). وفي سنة ثلاث وستين وألف (¬139)، توفّي الحاج محمّد (¬140) لاز. وتولّى بعده الحاج مصطفى لاز، وتوفّي سنة خمس وسبعين (¬141)، فتولّى قارقوز (¬142). ¬

(¬135) في الأصول: «حسن». (¬136) 1644 م. (¬137) شيخ مشايخ العرب الّذين كانوا في ناحية الغرب: المؤنس 237. (¬138) نقل أخبار دولة حمّودة باشا المرادي باختصار من المؤنس ص: 229 - 242. (¬139) في 23 شوّال / 16 سبتمبر 1653 م. (¬140) الداي المتولي بعد أحمد خوجة. أنظر المؤنس ص: 212 - 213. (¬141) ليلة الجمعة التّاسعة عشرة من ذي الحجة، المؤنس ص: 215/ 3 جويلية 1665 م. (¬142) أنظر عنه المؤنس 215، والإتحاف 2/ 40، والخلاصة النّقية ص: 96 وذيل البشائر 96.

وفي سنة ثمان وستين وألف (¬143) جاءت خلع الباشوية لحمّودة باشا مقرونة بالأوامر السّلطانية، فصار سلطان إفريقية على الإطلاق، وكانت محاله إذا خرجت لجباية الأموال تجعل سفرها نزهة تخرج وتعود في مدة شهرين مغمودة السّيف، ويهيّأ لها الخراج بنفس وصولها. وفي سنة ثلاث وسبعين (¬144) بعث إلى الباب العالي يطلب الإستعفاء (¬145) من المنصب، فعوفي فتخلّى عن التّدبير وقسّم البلاد بين أولاده الثّلاثة، فقدّم على المحال وخراجها ولده الأكبر مراد باي، وجعل بيد أخيه الذي يليه وهو محمّد الحفصي صنجق القيروان وسوسة والمنستير وصفاقس وجملة رعاياهم، وجعل بيد أصغرهم وهو حسن باي صنجق إفريقية، وكلّهم سمي في حياته وتلقّب بألقاب البايات (¬146)، ولم يخرج من الدّنيا حتى رآى ما سرّه في بنيه وبني بنيه. وله - رحمه الله تعالى - مآثر جميلة منها تشييد منارة الجامع الأعظم ببناء ضخم، وجعل في أعلاها داربيز (¬147) يقي المؤذّنين من الحرّ في الصّيف والبرد (¬148) في الشّتاء، وجعل فيها بسيطة لضبط أوقات الصّلوات مقابلة للنّاظر إليها، وإسمه منقوش عليها وتاريخ البناء / بأبيات الأديب الشّريف السّوسي. ومنها الحنايا لجلب الماء من مسافة بعيدة من آبار قصّة ضاهى بها الحنايا القديمة في ضخامة البناء، فأدخل الماء إلى البلد وفرّق في أزقّتها بحسب الإمكان. ومنها إنشاء المارستان بحومة العزّافين مع توفية ما يحتاج من طبيب وأدوية وطعام وأكسية للمرضى إلى غير ذلك من أوقاف يصرف من ريعها ما يحتاج إليه بعد ذلك. ومنها المسجد المجاور لسيدي أحمد بن عروس، وكان مكانه دورا أشتريت من أربابها، وأوقف عليه أوقافا تقوم به وبما يتوقف أمره عليه. ¬

(¬143) 1657 - 1658 م. (¬144) 1662 - 1663 م. (¬145) كذا في ت والمؤنس، وفي ش وط: «الاستصفاء». (¬146) في الأصول: «البيات». (¬147) في ت وط: «دائرا»، وفي المؤنس ص: 240: «درابز» ج دربوز. ويقال أيضا درابزين، وتعني عادة الحاجز المفرغ المتكوّن من أعمدة صغيرة من الخشب المخروط، وتعني أيضا الرّواق الخشبي، وفي بعض الحالات تعني الشّرفة. (¬148) كذا في ش والمؤنس، وفي ط وت: «القر».

الدايات في عهد المراديين

ومنها افتكاكه للمراكب الّتي أخذت للجزائر من أيدي النصارى المرّة بعد المرّة وعدّة أسارى ممن عداهم. ومنها تشييده باردو زيادة على ما أصلحه الحفاصة. ومات - رحمه الله تعالى - سنة ستّ وسبعين وألف (¬149). الدايات في عهد المراديين: وفيها إنعزل قارقوز (¬150)، وانفتح باب خلع الدّايات حتى خلع منه نحو أربعة عشر دايا، وأكثرهم يعزل بقرب توليته. فتولّى بعد قارقوز الحاج علي آغلي (¬151) وعزل سنة تسع وسبعين (¬152). فتولّى الحاج شعبان خوجة (¬153)، وعزل سنة ثلاث وثمانين (¬154)، فتولّى الحاج محمد منتشالي، وعزل سنة ثلاث وثمانين (¬155)، فتولّى الحاج علي لاز، وعزل سنة أربع وثمانين (¬156)، فتولّى مامي جمل (فعزل سنة سبع وثمانين (¬157)، فتولّى الحاج محمد بيشارة، وعزل سنة ثمان ¬

(¬149) في شوال / أفريل 1666 م. (¬150) رجع إلى المؤنس ص: 216 وما بعدها. (¬151) كذا بالأصول والحلل السّندسيّة 2/ 433، وفي المؤنس وذيل البشائر ص: 96: «أوغلي»، وفي الإتحاف 2/ 43 «أغلو» وهو الحاج محمّد حاج أوغلي، ويعرف بحاجي أوغلي وأوغلي معناها الإبن، وحيث لم يكن للعثمانيّين أسماء أسر فإنهم كانوا ينتسبون إلى آبائهم مثل علي أوغلي، وكامل أوغلي أي ابن علي أو ينتسبون إلى بلدانهم مثل إستانبولي وأزميرلي، أي إستانبولي وازميري، تاريخ الدّولة العليّة ص: 116 هامش 3. (¬152) 1668 - 1669 م جاء في المؤنس ص: 217: «ودام على حالته إلى أول سنة ثمانين وقيل إحدى وثمانين»، وفي الإتحاف 2/ 43 كان خلعه: «يوم السّبت الرّابع عشر من صفر سنة إحدى وثمانين وألف / 3 جويلية 1670». وفي ذيل البشائر: «عزل في سنة 1080/ 1669 - 1670»، وفي الحلل السّندسيّة: «كان خلعه يوم السّبت الرّابع عشر من صفر سنة ثمانين وألف» 2/ 435. (¬153) أي خوجة الدّيوان كما في ذيل البشائر. (¬154) 1672 - 1673 م وفي الأصول: «إثنين وثمانين»، والتّصويب من المراجع السّابقة. وفي الحلل السّندسيّة وذيل البشائر: «كان ذلك في 14 حجّة، 2 أفريل 1673 م». وفي المؤنس: «17 ذي القعدة»، وفي الإتحاف: «في ذي القعدة». (¬155) 1672 - 1673 م. (¬156) منتصف صفر / 1 جوان 1673 م. (¬157) 1676 - 1677 م.

مراد باي

وثمانين (¬158)، فتولّى مامي جمل (¬159)) (¬160)، وعزل من سنته، فتولّى طاباق (¬161)، وعزل سنة ثلاث وتسعين (¬162)، فتولّى أحمد شلبي / بن يوسف داي، وله نبأ عظيم. مراد باي: فلنرجع لذكر البايات حتى تنتهي إن شاء الله تعالى ونتكلم عليه بالذات فنقول: لمّا توفّي حمّودة باشا - رحمه الله تعالى - تولّى بعده أكبر أولاده وهو مراد باي، فانفرد بتدبير الأوطان، وسلك مسلك أبيه في تطويع العصاة من الأعراب وأهل الجبال. وفي سنة ثلاث وثمانين (¬163) خرج كعادته (¬164) إلى بلد الجريد فجاءته الأخبار أنّ أهل طرابلس عصوا عن باشتهم، وحاصروه في قلعتها إلى أن مات بها وأنّه أوصى بأولاده إليه، فسار إليها ليكشف الخبر، فخرج إليه عسكرها فأعذرهم وأنذرهم، فأبوا إلاّ قتاله، فقتل أكثرهم وأسّر باقيهم، ثمّ عفا (¬165) عنهم (¬166). وفي غيبته إتفق جماعة من العسكر على المكر به، فدخلوا القصبة وخلعوا الحاج محمد (¬167) منتشالي الدّاي - المقدّم الذّكر - وجعلوا مكانه الحاج علي لاز، وتعاقدوا على المكر بالبايات، فخرج محمد الحفصي ولحق بأخيه مراد باي، فبعث لاز يخادعهما فلم يغن شيئا فعند ذلك أمر أن تنهب (¬168) ديارهم ومنازلهم وأخذوا من متاعهم ما قدروا عليه، وكره النّاس هذه الفعلة لما وقع في البلاد من الهرج، ثمّ قدّموا على أنفسهم ¬

(¬158) 1677، «لم يمكث سوى ثلاثة أشهر» ذيل البشائر ص: 97. (¬159) للمرّة الثّانية في صفر 1088 هـ ‍ / افريل 1677 وهي إلى آخر ربيع ثاني من السّنة. (¬160) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬161) تولّى قبله أوزون أحمد، «بويع في السّابع والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين / 29 جوان 1677، وأقام يومين ولم يبرز حكما» المؤنس ص: 222. (¬162) 1682 م. (¬163) 1672 - 1673 م. (¬164) النّقل من المؤنس ص: 244. (¬165) في الأصول: «عفى». (¬166) عن مراد باي بطرابلس أنظر: حوليّات طرابلسيّة ص: 113 - 115 - 133 - 135. (¬167) أنظر المؤنس ص: 244. (¬168) أنظر الحلل السّندسيّة 2/ 442.

محمّد آغة (¬169) وجعلوه بايا، فركب في الأسواق، وجلس في منازلهم وأخذ يستعدّ للحرب، وبعث إلى طائفة (¬170) من العربان ينتصر بهم، وخرج بمحلّته ونزل بالملاّسين، وهو مكان في طريق سيجوم، فبعث إليهم / الباي يحذّرهم عاقبة مكرهم فأبوا، لأنّ هؤلاء الخارجين كانوا رؤوس العسكر، فكرّر عليهم الإنذار، فأبوا إلاّ اللّجاج، فكانوا يخرجون كلّ يوم خارج البلد، ويستنفرون من على رأيهم فجاءتهم أشرار الأعراب (¬171)، وهوّنوا الأمر عليهم ليأخذوا منهم الأموال، فأعطوهموها (مع ثياب) (¬172) وعزموا على الرّحيل فلم يجدوا ظهرا يحملهم، فلم تمض أيام إلاّ وقد طلع الباي عليهم فتناوشوا القتال، فلم تكن إلاّ ساعة من نهار وقد ولّوا على أدبارهم منهزمين، فأخذت مدافعهم وأمتعتهم، ووقعت فيهم مقتلة عظيمة، ومن أفلت التجأ إلى القصبة فغلقوا بابها سنة خمس وثمانين (¬173) وألف، ومن الغد أصبحت القصبة مغلقة الأبواب، وأهل البلد في حيرة لم تكن في حساب، وعاثت الأعراب في أطراف البلاد، ويوم الأحد قدّموا دايا: مامي جمل، وبعث أكابر العسكر إلى الباي يعتذرون إليه فقبل منهم وأمرهم بإخراج المفسدين من بينهم، فبعثوا إلى الجماعة المتحيزين بالقصبة فخادعوهم حتّى أخرجوهم وقتلوهم، وتتبّع آثار المفسدين بالقتل والنفي، واسترجع ما نهب من ديارهم، وردّ الأعراب الّذين كانوا معه إلى أوطانهم وكتب أوامر إلى الباب العالي، فجاء الجواب على مقتضى مراده. وفي هذه السّنة أخذ أهل وسلات في الشّقاق والنّفاق، وكان قد إلتجأ إليهم أبو القاسم الشوك لخوفه من سطوة مراد باي لأنّه كان والس عليه، وساعد بعض / أعدائه فاعتصم بالجبل (¬174) مع أبناء جنسه (¬175)، فكاتب الشّوك وحذّره فلم يقبل، ففي سنة ¬

(¬169) هو رجل من الجند. (¬170) في ش: «بطائفة». (¬171) من أولاد سعيد والمثاليث وغيرهم ممّن شرّدهم مراد باي لفسادهم: (الإتحاف 2/ 46). (¬172) ما بين القوسين ساقط من ط وفي ت: «إثبات». (¬173) انحجز مع محمد آغة في القصبة مع صاحبه الحاج علي لاز وذلك يوم الخميس 16 صفر سنة 1084/ 1673، وأصبح باب القصبة مغلقا، فأرسل مراد باي إلى سائر الجند بالأمان، وأمرهم بخلع الحاج علي لاز وولاية الداي مامي جمل: الإتحاف 2/ 46، المؤنس 244 - 265، وذكر أنّ انهزام محمّد آغة وجنده كان يوم الجمعة 15 صفر سنة 1085/ 21 ماي 1674 م ومن الغد أصبحت القصبة مغلقة الأبواب، ويبدو أنّ المؤلّف نقل ما في المؤنس باختصار مع الاتفاق أحيانا في العبارات وأنظر الحلل السّندسيّة 2/ 442 - 443. (¬174) ساقطة من ش. (¬175) وكان شيخ الجبل.

محمد باي بن مراد

خمس وثمانين وألف (¬176)، خرج إليه بمحلّتين عظيمتين، وخرج أخوه (¬177) بمحلّة من صبايحيته، ونازل الجبل ودار به من كلّ فجّ، فبعد الإعذار والإنذار بادر إلى قطع أشجارهم وضايقهم، ثم دخل الجبل عنوة، وفرّ الشّوك أمامه بعد قتال شديد، وقتل نفسه بيده وجيء برأسه (¬178) وذلك بصفر من السّنة المذكورة (¬179)، ورجع بمحلّته مؤيّدا منصورا، فقسم المحال قسمين، ودخل تونس ومع ولده الأكبر محمد داي محلّة، ومع ولده الأصغر علي باي محلّة، وهذه آخر سفراته. ولم تطل بعد ذلك أيامه فتوفّي - رحمه الله - بمنزله ببارد وفي العشر الأواخر من جمادى الأولى سنة ست وثمانين وألف (¬180)، ودفن بتربة آبائه. ومن آثاره الجميلة إنشاؤه بباجة مسجدا (¬181) إمامه حنفي، والمدرسة الّتي عند باب الرّبع غربي جامع الزّيتونة بتونس وهي منسوبة إليه، ومدرسة بجربة للشّيخ الصّالح سيدي إبراهيم الجمّني - نفعنا الله به - قبل وفاته بسنة. محمد باي بن مراد: وبعد وفاته قام مقامه إبناه الشّقيقان - المقدّما الذّكر - محمّد باي وعلي باي - رحمهم الله تعالى -. ويوم وفاة والدهما كان محمّد باي بالمحلّة وعلي حاضر الوفاة، فاتفق أهل الحلّ والعقد على تولية الأخوين، وسيروا لمحمّد باي صحبة أخيه جماعة من أغوات العسكر، وصحبتهم خلع سلطانية وأوامر شريفة / بتوليتهما جميعا، (فقرئت الأوامر) (¬182) بالمحلّة على العسكر ولبست (¬183) الخلع وضربت الطّبول ونشرت الأعلام، فقام بالأمر محمد ¬

(¬176) 1674 - 1675 م. (¬177) هو محمّد الحفصي. (¬178) المؤنس 246 - 247 والمؤلّف نقل ما فيه باختصار. (¬179) كذا في المؤنس، وفي الحلل السّندسيّة 2/ 450: «وكان دخول وسلات وكسره يوم الخميس 8 محرم سنة 1086/ 4 أفريل 1675، وهذا موافق لما في الإتحاف 2/ 42. (¬180) الأيّام الأولى من أوت 1675 م. (¬181) أنظر المؤنس 248 - 249 ولم يذكر بناءه للمدرسة الجمنية بجربة. (¬182) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬183) في الأصول: «لبس».

محمد باي الحفصي

أحسن قيام، واستوفى خلاص رعيته، ونفذت الأوامر على مراد الأخوين، ورجعا إلى حضرتهما في رجب من السّنة، فخرج النّاس للتّسليم (¬184)، واجتمع بكلّ منهما من وسوس له من الشّياطين فألقى إليهما أباطيل كانت سببا للبلاء على الخلق لما سبق في سابق القضاء والقدر، فانفتح عليهما باب الفتنة، فطلب محمّد أن ينفرد بالأمر على ما كان عليه في قائم حياة أبيه، وطلب علي المشاركة على ما اتفق عليه أهل الحلّ والعقد، وأبى كل أن يسلّم للآخر مراده، فجرت بينهما مشاجرة أفضت إلى التّحاكم، وحضرا في الدّيوان وتقارعا، ثم إتفقا أن يسلّما الأمر إلى عمّهما الأكبر محمّد الحفصي فرضي أهل الديوان فقدّموا عمهما وجعلوا بيده التّصرف في الحضرة والممالك، وخلعت عليه خلع الولاية. محمّد باي الحفصي: ولمّا تمّ أمره أخذ في إصلاح شأنه، فأنفت نفس محمّد باي من تقديم عمّه وكتم سرّه ولم يظهر لأحد خبره، فعزم على الخروج من الحضرة، ووافقه بعض جماعته، وخرج إلى ظاهر البلد كعادته فتوجّه إلى بلد الكاف أواخر شعبان (¬185)، وجدّ في السّير إلى أن بلغها، فانقسم النّاس، واختلفت آراؤهم، وتزايدت الأقوال، فاجتمع عليه بالكاف خلق كثير من كلّ الجهات، فأحسن إليهم، واستخرج من ذخائر أبيه، وأنعم على وفوده، وكان قبل خروجه من الحضرة / إتّفق إقبال ركب الحاج، وكان شيخه محرز ابن هندة، وكان من رجال الدّولة قبل الفتنة، وقد خاف الحفصي من هذه الفتنة، فخلع نفسه وردّ الأمر لابن أخيه محمّد باي، وبعث الشّيخ المذكور لبلد الكاف لإصلاح ذات البين، فلمّا وصل أحكم العداوة أكثر مما كانت عليه، وشاع الخبر أنّ محمّدا عزم (¬186) من الكاف إلى باجة، وأخذ منها ما يستعدّ به، ثم عزم (186) إلى ناحية القيروان، وأخذ شيخ الزّمالة أحمد الرقيعي وفتك به، وأنه معوّل على القدوم لتونس لمحاربة أخيه وعمّه. ¬

(¬184) في ط: «للتسليم عليهما». (¬185) سنة 1086/ 19 نوفمبر 1675 م. (¬186) في المؤنس: «غزا».

الفتنة بين محمد باي بن مراد وأخوه علي

فلمّا سمع عمّه بذلك خرج من المدينة ومعه إبن أخيه علي باي ليجمعوا أمرهم، فهرجت البلاد، ثم رجع محرز من الكاف فهوّن الأمر عليهما، وهو خلاف ما في باطنه، فرجعا إلى البلد، ثم أرسلوا ستّة من أكابر الدّولة، ورجع محرز المذكور برسالة غير الأولى فزاد بكيده في الشّرّ، وترادفت الأخبار أن الباي أقسم أن لا يدخل البلد وعمّه فيها، وذلك برمضان المعظّم من السّنة المذكورة، فلمّا صحّ الخبر عند عمّه كره إراقة الدّماء بين الفريقين فعزم على الخروج من البلاد، فهيّأ مركبا [حمل] فيه ما يحتاجه وسلّم ملكه ومتاعه وركب البحر من جهة رادس، وتوجّه نحو الأعتاب الشّريفة العثمانية. الفتنة بين محمد باي بن مراد وأخوه علي: وأمّا محمّد باي فلمّا علم بخروج عمّه من تونس أقبل إلى البلد، فخرج غالب النّاس للقائه، وخرج أخوه علي باي للقائه أيضا مع من خرج، فأظهر التّنكّر والحقد في / باطنه أكثر، ونزل في منزله بباردو، فجاءه النّاس للتّهنئة، ثم وقع بينه وبين أخيه إتّفاق تراضوا عليه (¬187) أوّلا، ثمّ نقضوه، وألزم أخاه الإقامة ببعض قصورهم خارج البلد وأن لا يدخل الحضرة في غيبته. وتهيّأ للمحلّة في شوّال سنة ستّ وثمانين وألف (¬188)، فسافر إلى بلاد الجريد، وفي غيبته تكاثر الوباء بتونس، ومات فيه عمّهما حسن باي، فحضر علي باي جنازته، وبعد زمان شاع الخبر أنّ علي باي توجّه نحو الغرب لخوف لحقه. وبعد ما استخلص محمّد باي مجابيه من الجريد رجع إلى إفريقية بمحلّته فاضطرمت (¬189) نار الفتنة، وخرجت المحلّة الصّيفيّة سنة سبع وثمانين (¬190) للوطن الإفريقي لخلاص المجابي، وجاء الخبر أن محمّد الحفصي نال رتبة الباشوية، فرجع محمّد باي إلى الحضرة وإتفق مع أهل الحلّ والعقد على أنّهم لا يقبلون أحدا جاءهم من عمّه ولا من أخيه، فوافقه العسكر على ذلك، وعقدوا مجلسا بجامع الزّيتونة، واتفقوا على كلمة ¬

(¬187) في ط: «تراضوه» وفي المؤنس: «رضوه أولا». (¬188) ديسمبر - جانفي 1675 - 1676 م. (¬189) كذا في المؤنس وفي ط، وفي ش: «أضرمت». (¬190) 1676 - 1677 م.

واحدة، وفي أثناء ذلك جاء الخبر أنّ محلّة الصبايحية كانت قادمة من جبل عمدون أخذها من أتباع علي باي القائد مصطفى سبنيور ومن معه من الأعراب، فخرج محمّد باي من فوره من المسجد وجدّ في سيره، ومن الغد بعث برؤوس الأعراب لتسكين الفتنة، والأراجيف كل يوم تتزايد. ولمّا تمّ من إفريقية توجّه نحو القيروان لأنّه بلغه نفاق وسلات، فسار إليه وحاصره من جميع الجهات وبعث / إليهم جماعة من المرابطين، فرضوا بأداء المال فلم يقبل منهم إلاّ أن ينزلوا على حكمه، فخافوا من ذلك ورضوا بالموت في منازلهم، ثم بعث إلى تونس فأمدّوه بعسكر ثان في شوّال سنة سبع وثمانين (¬191)، ورجع في أثناء ذلك إلى تونس، واستحكم من العسكر بما أراد، ورجع من فوره إلى محلّته، وتتابعت رسله إلى أهل الجبل، ولم يتم له ما أراد فعزم على إستئصال الجبل من أوّله إلى آخره، فهيّأ له جموعه بعد ترادف العساكر عليه من كلّ الجهات (¬192). ودخل إلى الجبل من طرق شتى، ودهمهم أهله بما لا طاقة لهم عليه ولا قبل لهم به، فلمّا توسّط جل العسكر في الجبل وانتشب الحرب بين الفريقين كادت الدائرة أن تكون على أهل الجبل إلاّ أنه من قضاء الله المقدور ما اتفق أن علي باي كان في الجبل بطائفة من جماعته، وكان قائده مصطفى بكمين خارج الجبل، فلمّا سمع توسّط العسكر بالجبل بادر إلى المحلّة، وأخذ عدّة من الخيل والجمال وكاد يأتي على آخر المحلّة، فحاربه من بها من العسكر، ورموا عليه بالمدافع، فلمّا سمع من في الجبل من العسكر حسّ المدافع علموا بحادثة وقعت بعدهم، فوجلت قلوبهم وداخلهم الرعب، فولّوا منهزمين لا يلوي أحد منهم على أحد، فركب أهل الجبل ظهورهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ومات (¬193) جملة من رؤساء العسكر وخليفة الباي القائد محمد بن علي وجماعة من الأعيان، وكاد الباي / أن يقع في المكروه لولا أجله، فنجا بنفسه وترك المدافع في الجبل، ورجع إلى الأخبية بمن نجا (¬194) معه، ومن الغد رجع إلى المدافع وأتى بها ورحل إلى القيروان (¬195)، فمن هناك إتّسع الخرق على الرّاقع. ¬

(¬191) ديسمبر 1676 - 1677 م. (¬192) في الأصول: «الجهاة». (¬193) في الأصول: «وماة». (¬194) في الأصول: «نجى». (¬195) في ش: «ورحل القيروان».

وفي ذي القعدة من سنة سبع وثمانين (¬196) وألف بعث إلى العسكر يستنجده فأمدّوه بعسكر ثالث ولكن لم يخرج (¬197) هو وبعث بمحلّة للجريد وسردارها محمّد رايس عرف طاباق المعدود في الدّايات، وقائده [القائد] (¬198) مراد، وبقي هو بمحلّته الثّانية، وجاءه الخبر بأنّ أخاه رحل من الجبل، وأنّه في جمع قليل، فطمعت نفسه في لقائه فلحقه وجدّ في طلبه بالسّير إلى أن لحقه بمكان يعرف بسبيبة، وكان يوم عيد الأضحى وعلي باي مقيم، فلم يشعر إلاّ والخيل أقبلت وأخبرته بأنّ أخاه قادم (¬199) عليه، وكان ذا حزم وشدّة، فأصلح شأنه وتهيّأ بجموعه فأدركه أخوه بمن معه، وكان غالب من معه أدركهم التّعب لعنف السّير، والتحقوا إبلا كثيرة أخذوها وبدا النّهب من العرب، فلمّا أمعنوا في النّهب دهمهم علي باي بمن معه، وحملوا حملة منكرة، وممّن كان في نجدته ذلك اليوم صهره شيخ العرب سلطان بن منصر (¬200) بن خالد وجماعة من الصبايحية، فقابلوهم بنفوس أبية، فلم تمض ساعة إلاّ وهزموهم (¬201). وكان عسكر المحلّة أدركه التّعب فما وصلوا وبهم قوة، فلمّا رأوا المنهزمين نصبوا خيمهم وتحصّنوا بها فبعث إليهم علي باي يأمرهم أن يدافعوا عن أنفسهم خوفا عليهم من العرب / وقتل من الفريقين من حضر أجله، وفرّ محمّد باي إلى الكاف بمن قدر معه. وغنم أصحاب علي باي ما خلفه أخوه وعجز عن حمله، وكان شيئا مستكثرا لاستصحابه (¬202) في هذه الوجهة (¬203) من الذّخائر ما لا يوصف، فامتلأت أيدي العرب من المال والأمتعة. ولمّا انفصل الحرب بعث إلى أكابر العسكر وأمّنهم وسكّن روعتهم، ثم بعث جماعة من أصحابه إلى المحلّة الّتي توجّهت نحو الجريد، فاستوثقوا بها وجبيت المجابي ¬

(¬196) جانفي 1677 م. (¬197) «لم يخرج إلاّ والفشل دبّ في أكثرهم وخامرهم الرّعب ولم تطمع نفوسهم بالنّجاة إلى القيروان فلمّا وصلوا إلى من تبقى من إخوانهم من العسكر إنتخب منهم جماعة مستفيضة وبعث إلى الجريد محلّة مشحونة. . .». المؤنس 254، وهو ينقل منه باختصار. (¬198) إضافة من المؤنس. (¬199) في الأصول: «قادما». (¬200) في الأصول: «سلطان بن نصر» والتّصويب من المؤنس. (¬201) في ش: «هزمهم». (¬202) في ت وب وط: «لأصحابه». (¬203) كذا في المؤنس ص: 255، وفي ش: «الوجه»، وفي ت: «الرجعة».

باسمه، ولما تيسّر له هذا الواقع بعث بالخبر إلى تونس، فوصل الخبر ثالث العيد، فاشتدّ الأمر على أهل الدّولة، واختلف رأيهم، ولم يفتح لهم من الرّأي إلاّ أن بعثوا جماعة من أكابر العسكر إلى المحلّة مع جماعة من العلماء ليقضوا بما فيه الصّلاح، فلمّا وصلوا خلعوا الحاج علي مامي جمل الدّاي، وولّوا الحاج محمّد بيشارة. واحتوى علي باي على منصب أخيه، وتصرّفت الأمور عن إذنه، وهذه آخر محلّة خرجت في تصرّف محمّد باي، (وأوّل محلّة دخلت في طاعة علي باي) (¬204). ثمّ إنّه رحل من هناك فكانت له وقعة القرويين فكانت سببا لنفاقهم، فنزل بالفحص وأقام به أيّاما إلى أن تلاحق به العسكر، وأجمع رأيه أن يتوجّه إلى الكاف، فنزل قريبا منها، وبعث إلى تونس طالبا (¬205) للمدافع، فسيّروا له ما أراد، وهناك جمع جموعه وقصد محاربة البلد، فنزل عليها ورمى المدافع وجعل العساكر [نوبا] (¬206) في المتاريس فأصابت / المدافع أماكن من الحصار فتصدّعت ولم تقع. وكان في العسكر جماعة لهم ميل إلى محمّد باي فبعثوا إليه يستنجدونه، وكان في ناحية الغرب، فجدّ في سيره راجعا ودخل الكاف ليلا، ومشت بينه وبين العسكر عدّة رسل، فاتّفقوا معه ومكّنوه من المحلّة، فاستشعر علي باي بذلك وكان منعزلا بمحلّته خارج العسكر، فلم يشعر إلاّ والمدافع مالت إليه، والعسكر الّذي كان معه صار عليه فسقط في يده، ورحل من ساعته للجريد حثيث السّير خوفا أن تصل الأخبار إلى من هناك فوصل قفصة، ولم يخبر المحلّة الّتي هناك فأمر برحيلها، ورجع كعادته على الطّريق الجادة، فلمّا تسامع أهل المحلّة هرب بعضهم، وأقبل عليه أهل الفساد من الأعراب أولاد سعيد وأتاه الشّيخ أحمد بن نوير وجماعة من المحاميد وجمع عظيم من دريد، وجاءت الأجناد من كلّ فجّ عميق، فأقبل بجمع لا يعلمه إلاّ الله، ولمّا قرب من القيروان أظهروا (¬207) له الشّرّ، فلم يعرّج عليهم فنزل بالفحص وترادفت عليه النّجوع من كلّ بلاد. ثمّ إنّ محمّد باي لمّا احتوى على المحلّة جدّد عهده مع أكابرها، وبعث إلى ¬

(¬204) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬205) في ش: «طلبا». (¬206) إضافة من المؤنس. (¬207) في الأصول: «أظهر».

تونس، فقام العسكر على ساق ومضوا للحاج مامي جمل داي وكان مختفيا بزاوية الشّيخ القشّاش، فأخرجوه وطلعوا به إلى القصبة وأعادوه (إلى منصبه وخلع بيشارة) (¬208)، وبعد أيام قتل، ومن هناك ظهر التخالف، وعظم الإرجاف (¬209) واشتدّ الخطب. فخرج من تونس / جماعة من أهل الفضل والصّلاح وأكابر الدّيوان لإصلاح ذات بين الأخوين فلم يقض الله ما أرادوه لطلب كلّ واحد من الأخوين ما لا يرضى (¬210) به أخوه، ففشا (¬211) النّفاق في الأوطان، وتقاسمت النّاس، وسدّت (¬212) الطّرقات. ثمّ جاءت الأخبار لتونس أن علي باي فارق الفحص بجموعه وأنّه قادم لتونس، فلم يقبلوه وأمروا من معه من العساكر بمفارقته بالهروب إن أمكن فهرب منهم جماعة. ولمّا سمع محمد باي تثاقل عن المجيء لتونس، وجمع ما قدر عليه من الأعراب، فجاءه الشّيخ الحاج إبن نصر (¬213) وجماعته، فأضاف من انحاز إليه إلى محلّته وأقبل في عدد لا يعلمه إلاّ الله فجدّ في السّير إلى أن التقيا في الفحص، وتنازلا الحرب، فكانت الدّائرة لعلي على أخيه وغنموا ما معه، وكان الحرب بين أهل الخيل دون العسكر. والمحلّة الّتي كانت قدمت من الجريد بعثها علي باي لزغوان، وقال لهم: أقيموا هنا لك فإن كنتم معي رجعتم إليّ وإلاّ رجعتم إلى صاحبكم فأعطوه عهدهم فلم يقبل، وكان سردارها محمّد رايس طاباق، والمحلّة الّتي جاءت من الكاف انحازت بنفسها على ربوة ومترسوا على أنفسهم، ومنع علي باي من التّعرّض لها. فلمّا همدت (¬214) نار الحرب بعث إلى أكابر المحلّة فعدّد عليهم ذنوبهم، وكان آخر العهد بهم / واستقدم محلّة الجريد (¬215) فقدمت عليه، وبعث قائده مصطفى سبنيور ¬

(¬208) في ش وب وط: «وأعادوه لمنصب بيشارة»، وفي ت: «وأعادوه لمنصبه فباشره» والتّصويب من المؤنس ص: 261. (¬209) في الأصول: «وعظمت الأراجيف». (¬210) في ش: «يرض». (¬211) في الأصول: «في ت: «فغشى». (¬212) في المؤنس: «وقطعت» ص: 262. (¬213) في الأصول: «أبو النصر» والتّصويب من المؤنس. (¬214) في ت: «أخمدت» وفي المؤنس: «ارتفع الحرب» ص: 263. (¬215) في المؤنس: «زغوان» وهي في الحقيقة محلّة الجريد وكانت نازلة بزغوان».

[وبلوك باشية] (¬216) إلى تونس ليخبروا (¬217) بالواقع، وكانت الواقعة آخر ربيع أوّل سنة ثمان وثمانين وألف (¬218). ولمّا جاءت الأخبار اشتدّ كرب أهل تونس لميلهم إلى محمّد باي، وبعث علي باي لقائده مصطفى فحاصر المدينة إلى أن أذعنت له البلاد بالطّاعة، وبعث لها الدّولاتلي محمّد طاباق داي بعد ما بايعوه بالمحلّة، وطلع لإفريقية لاستخلاص وطنها، فكانت له وقعة أخرى مع جموع أخيه كابن الحاج شيخ الحنانشة وأولاد أبي زيّان وجماعة من دريد، فكانت الطّامّة الكبرى، ومات الشّيخ سلطان الحنّاشي لأنّهم دهموه على غفلة عشيّة نهار فطعن ومات، وبات النّاس على عسس (¬219)، ومن الغد جدّد الحرب فمات خلق كثير، ووقعت الدّائرة لعلي باي (على أولاد الشابي ومن معهم، فغنم ما معهم (¬220)، ثمّ استوفى علي باي) (¬221) مجابيه ورجع إلى وطنه وأحسن إلى الشّيخ أحمد بن نوير (¬222) ورده إلى وطنه فمات قبل أن يصل قرب الحامة في معركة مع جنود محمد باي، وأخذ غالب نجعه هنا لك. ودخل علي باي تونس وصام بعض رمضان بها، وخرج بمحلّة الشّتاء فنزل القيروان أواخر رمضان، فرمى عليها بالمدافع ولو اتفقت كلمة عساكره لاستأصلها، فعيّد عليها. ثمّ رحل حين بلغه أنّ أخاه طرق البلاد الجريدية، فلمّا وصلها وجد / أخاه قد إحتوى على معظمها، وحصّن حصار قفصة وشحنه وفرّ إلى الزّاب عند قدوم علي باي فتبعه عدّة مراحل فلم يلحقه، ثمّ رجع فحاصر حصار قفصة (¬223) فاستأمنه من به، فأمّنهم واحتوى على الحصار وما فيه (وجعل فيه) (¬224) نوبة من رجاله. ثمّ بعد استكمال مجابيه رجع قاصدا تونس، فاتّصل به الخبر أن أخاه قد قصد تونس فبعث قائده مصطفى في عسكر صبايحية لحراستها فلم يغن شيئا لمحاربتهم إيّاه ¬

(¬216) إضافة من المؤنس ص: 263. (¬217) في الأصول: «ليخبر». (¬218) 2 جوان 1677 م. (¬219) «على إحتراس»: المؤنس ص: 263. (¬220) «وملئت أيدي الأعراب ومن سواهم من الإبل والمتاع وكانت بمكان يقال له وادي تاسة». المؤنس: 263. (¬221) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬222) في الأصول: «بن نويرة». (¬223) «وعمل له لغما» المؤنس. (¬224) ما بين القوسين ساقط من ط.

فأحرقت الأبواب ونهبت الأسواق، وحاصر من بالقصبة، وحضر جميع عساكر تونس لقتال علي باي، وخرج في ذلك العسكر الدّاي الجديد ساقصلي، وخرجوا بأموالهم وأولادهم فبلغ علي باي الخبر قبل الوصول فجدّ في سيره، وبعث إلى أكابر المحلّة وأخبرهم بالقصّة فأعطوه عهودهم فوعدهم بزيادة (¬225) خمسة نواصر [ترقيا] لكلّ واحد، ورحل إلى الفحص، فالتقى هناك بالمحلّة الخارجة من تونس ومعها محلّة من القيروان وغيرها من الكاف وصفاقس وعربان (¬226) في أوائل محرّم سنة تسع وثمانين (¬227) وألف، فلمّا التقى الجمعان صار النّاس على كلمة واحدة، فلمّا تحقّق علي باي خدعتهم رجع على عقبيه بمن معه من الصبايحية والزمول واجتمع العسكران، وبعثوا إلى محمّد باي وملّكوه أمرهم فرحل بهم في أثر أخيه وقد تمسّح (¬228) أمامهم إلى مكان يعرف / بالمنزل، فلمّا توسّطوا كرّ علي بمن معه وصدقوا (¬229) الحملة فبدّد شملهم، ومات خلق كثير وغنم كثيرا وقطع رؤوس القتلى وحملها على الجمال وبعث بها إلى تونس فوضعها بباب القصبة، ومات ساقصلي أكبرهم. ثمّ جاءته رسل القيروان لطلب العفو فعفا (¬230) عنهم ورحل ونزل قريبا منهم وأمّنهم ما عدا إبن الشاطر الّذي دعاهم (¬231) إلى النفاق، فلم يعف عنه فمات في سجنه، ثمّ كرّ راجعا إلى تونس. وبعد استراحته خرج بمحلّة الصّيف المذكورة فخلّص مجباها ورجع لتونس قبل إبّانه ليلتقي بعمّه محمّد الحفصي لمّا أتى من أعتاب الحضرة العليّة العثمانيّة مستنصبا بالباشوية (¬232) وصام رمضان بتونس، وعيّد وتوجّه إلى المنستير وقد استنفر لها [جمعا] (¬233) من كلّ مكان، فنزل قريبا منها وحاصرها، وقطع ما قدر عليه من ¬

(¬225) في الأصول: «بطاراق» والتّصويب من المؤنس ص: 265. (¬226) بعدها في المؤنس: «اجتمعت معهم من الاقليم لا يعلم قدرهم إلاّ الله». (¬227) 23 فيفري 1678 م. (¬228) في المؤنس: «انسحب». (¬229) في المؤنس: «وصادق بعضهم بعضا في القتال» ص: 265. (¬230) في الأصول: «فعفى». (¬231) في المؤنس: «الذي دعم أساس النفاق» ص: 266. (¬232) في المؤنس: «مستوليا على منصب الباشوية». (¬233) إضافة من المؤنس ص: 267.

أشجارها، وكاد أن يستولي عليها. فأتاه الخبر أن أخاه في جمع بازاء جربة، فاستدركه خوفا من دخوله الجريد، فتوجّه نحوه ففرّ أمامه ودخل الرّمل وفاته لحوقه فخلّص مجباه وأخذ في رجعته على طريق صفاقس، فشنّ غارته عليها، فرعب أهلها، وأخذ جماعة منهم وقد خرجوا لبساتينهم على غفلة، ثمّ عفا (¬234) عنهم ولم يهرق منهم دما. ثمّ أرسل محلّته لتونس سنة تسعين وألف (¬235)، وسار هو بمن معه من الأعراب والصبايحية إلى ناحية الغرب لمّا بلغه / رجوع أخيه إلى هنا لك، وخرجت طائفته وامتدت في البلاد [لخلاص] (236) مجباها وهو مقيم [بعساكره] (¬236) من ناحية الحدادة لئلاّ يأتيه من قبل أخيه شيء. وأتاه الخبر أنّ أهل توزر اختلفوا عليه وأنّ أخاه ابتنى بها حصارا عظيما، فبعث إليهم جماعة من الصّبايحية، ثمّ وجّه لهم محلّة الشّتاء مع خليفته القائد مراد، وانتصر القائد مراد، ونزل العسكر على البرج (¬237) وجعلوا متاريس، وحفروا لغما فهدّموا منه جانبا ودخله العسكر بالسّيف، فجاءت الأخبار [بأخذه] (236) لتونس فرحل علي باي إلى الجريد فكمّل مجباها، ورحل (¬238) لناحية المغرب بعساكره أوّل سنة إحدى وتسعين وألف (¬239)، فأقام مقابلا لأخيه لئلاّ يحدث شيئا في البلاد، وأقام (¬240) بمن معه من العرب ومحلّة الترك في ناحية الزوارين (¬241) وبعث إلى محلّة الصّيف، فخرجت له قبل أوانها، والتقت (¬242) المحلّتان هنا لك، ودفع لهم مرتّباتهم في المحلّة لمّا اشتكوا الضعف. وعزم في وجهته هذه هلى منازعة بلد الكاف، فبعث إلى تونس في طلب المدافع، ثم قرب إلى بلد الكاف بجموعه فوقعت الحرب بينهم أيّاما. وفي أوّل ربيع الثّاني (¬243) من السّنة المذكورة استنفر الدّاي العسكر بالأمر الشّديد وبعث إلى الكاف نصرة، وجاء الخبر إلى تونس أنّ الحرب وقع بين أهل الكاف وعلي باي يوم الجمعة في ستة وعشرين من ربيع الثّاني، وأنّه غزا (¬244) على أخيه يوم الأحد ¬

(¬234) في الأصول: «عفى». (¬235) في آخر صفر / 10 أفريل 1679 م. (¬236) إضافة من المؤنس ص: 267. (¬237) في المؤنس: «البرج المذكور». (¬238) كذا في ط وت، وفي ش: «دخل». (¬239) فيفري 1680 م. (¬240) في الأصول: «قام». (¬241) في الأصول: «الزواريين». (¬242) في الأصول: «التقى». (¬243) 1 ماي 1680. (¬244) في الأصول: «غزى».

فاحتوى على ما / كان معه ولم يفلت من جمعه إلاّ القليل، ووقع الحرب بينه وبين أهل الكاف، فوقعت الهزيمة على عسكره. ويوم إحدى (¬245) وعشرين [منه] نادى المنادي [في الحضرة] (¬246): من أراد مرتّبه فليخرج إلى الكاف نجدة للعسكر (¬247)، وحدّد لهم الدّاي أن لا رجوع للمرتّب إلاّ لمن بيده تسكرة (¬248) بها طابع الباي، فخرجت النّاس ووقع الحرب بينهم وبين أهل (¬249) الكاف، ورحلوا عنه في تسعة من جمادى الأولى. وفي إثنين وعشرين منه جاء الخبر لتونس من قبل أهل الجزائر طلبا للصّلح، فالتقوا بالباي ثمّ أرسلهم لتونس فأكرم الدّاي نزلهم، وبلغ الخبر إلى الباي أنّ أولاد سعيد أهلكوا الحرث والنّسل بعد ما كانت نارهم طافئة، وهم مجتمعون على عمّه وأخيه، فبعث إلى تونس فعيّنوا له عسكرا وارتحل بزموله ومن معه إلى القيروان فالتقى بهم، ووقع الحرب ساعة من نهار، فانهزم ذلك الجمع وهرب أولاد سعيد إلى ناحية المنستير ودخل الباشا للقيروان، ورحل علي من القيروان فنزل قريبا من المنستير وقد تحصّن به أخوه وأولاد سعيد، ولمّا طال الحال بأولاد سعيد رجعوا إلى خداعهم وبعثوا إلى الباي يطلبون منه أن يرحل عنهم يسيرا لكي يخرجوا له وينزلوا على حكمه، فرحل عنهم ونزل قريبا من سوسة، وأرسل إلى جماعة من فضلاء تونس يتوجهوا إليه ويحادثهم بمراده. وفي إقامته هنا لك بعث أهل صفاقس وطلبوا الأمان / منه، وأن يسلّموا له مقاليدهم، فأجابهم لما طلبوه وبعث معهم جماعة من أصحابه ليسلموا له البلد وهرب من كان فيها من قبل أخيه. وجاءت الأخبار لتونس، فامتنع الدّاي من إطلاق المدافع على جاري العادة لأنّه لم يأت كتاب من عند الباي، ثم جاء الخبر بعد أيام، ثم بعد العيد رحل إلى القيروان فغلقوا الأبواب ولم يخرج إليه أحد، فلم يتعرّض لهم، ونزل تحت وسلات. وفي خامس شوّال جاءت رسل الجزائر إلى تونس ثانية، وأظهروا قصد الصّلح بين الأخوين، فتبيّن أنّ قصدهم غير ذلك، فبعث الداي إلى أشياخ البلد واستخبر أحوالهم ¬

(¬245) في الأصول: «وأحد». (¬246) إضافة من المؤنس ص: 268. (¬247) في ش: «نجدة العسكر»، وفي ب: «نجدة إلى العسكر». (¬248) أي تذكرة، وتسكرة كلمة عامية شاعت في العصر العثماني. (¬249) ساقطة من ط.

علي باي

فقالوا: ندافع عن أنفسنا وأولادنا، فشكر لهم ذلك، وجاءت الأخبار إلى أنّ الباشا خرج من القيروان فلحق بأهل الجزائر ودخل بهم الوطن، وأنّهم بعثوا جماعة منهم للكاف لأخذ المؤونة، وأنّهم أرادوا الدّخول للحصار، فمنعهم كافله، وفتكوا بأهل البلد، وتقوّى طمعهم في أخذ الكاف ومشت (¬250) رسلهم إلى الباي وهو في منزله السّابق، فأجابهم بإرضائهم وقال: أنا قاصد إليكم فرحل بهم، ثمّ إن أهل الجزائر رحلوا عن الكاف، وفتح الكاف وتوجّه علي باي نحو الزوارين (¬251). علي باي: وفي ذي الحجة من السّنة المذكورة وقع الصّلح بين الباشا والباي، فتوجّه محمّد باي القيروان، وبقي علي باي حتّى أخذ خاطر أهل الجزائر ورجعوا إلى أوطانهم فأخذ يستجلب / خاطر أولاد سعيد ويماكرهم حتّى نزل عليهم بليل في الفحص فأحاط بهم صباحا وأخذهم أخذة رابية، ورحل إلى الجريد ومرّ بالقيروان وقابس وانتهى لجربة فصالح أهلها ومهّد الأوطان، ثمّ كرّ على الجريد راجعا لتونس، فلما قرب من القيروان خرج إليه أخوه للسّلام عليه فتعانقا ورجع كلّ إلى مكانه، وانفرد علي بتدبير المحال (¬252) السّلطانية، وتصرّفت أحكامه في الأوطان والرّعية، وكانت غيبته ثلاثين شهرا ودخل مستقرّه في ثلاث من ربيع الثّاني سنة إثنين وتسعين وألف (¬253). ثمّ إنّ محمّد باي (¬254) صار كلّما ترقّى أخوه اغتاظ (¬255)، فمن عجيب مكره أنّ أخاه لمّا اعتضد بطاباق (¬256) أراد زرع الفتنة بينهما ليقطع عضده فكتب لطاباق صورة جواب خطاب مقرّر من طاباق مضمونه: ¬

(¬250) في الأصول: «ومشى». (¬251) في ش: «الزواريين». (¬252) في ط: «المحال المنصورة السلطانية». (¬253) 22 أفريل 1681 وهنا ينتهي نقله المختصر من المؤنس ص: 275. (¬254) من هنا يبتدئ النّقل باختصار من الحلل السّندسيّة 2/ 494. (¬255) في الأصول: «اغتاض». (¬256) معناها بالتركية «الدباغ» قال الوزير السراج: «يقال إن طاباق لما كان ببر الترك تعاطى في صغر صنعة الدباغ عن رجل أندلسي كان صاحب بركة وإشارات، ومن جملتها أنّه كان يقول له: يا محمّد تذهب إلى تونس وتصير حاكما بها». الحلل السّندسيّة 2/ 497.

«أما بعد فقد بلغنا خطابكم وحمدنا الله على بذل نصحكم وليس بضائع في جانبنا، وما أوصيتنا كلّه صار في البال، ونعم النّظر، وهو أقرب لبلوغ الآمال (¬257)، وجزاكم الله خيرا، ونحن ليس لنا تأخّر عن الشّروط الّتي اشترطت فكلّ منها سهل والسّلام». وأمر حامله أن يتوجّه به لعلي باي على وجه الخيانة لمحمّد باي، وطلب (¬258) البشارة من علي، فلمّا قرأ الكتاب وكان بالجريد كرّ راجعا لتونس، ونصب شباك الخداع لطاباق حتّى ورد للسّلام (¬259)، ولم يظهر له ممّا في نفسه شيئا. فلمّا ورد عيد الفطر وقد شمّ / طاباق رائحة التّغيّر من علي باي تأخّر يوم العيد فوقع ذلك التّأخّر بخاطر علي باي، فبعث من الغد القائد مراد له فلاطفه وحضّه (¬260) على المسير فنبّه طاباق [طائفة] (¬261) الّذين كان أعدّهم بين يديه بالسّلاح، وسار إلى أن دخل باردو فغلق (¬262) الباب في وجوه من خلفه، فتفرّق عنه جموعه. وكان علي باي أرسل خيلا قبل ورود طاباق، فكان كلّما فارق مكانا عمّروه حائلين بينه وبين رجوعه، فلمّا حصل بباردو (¬263) قبضوا عليه وأتوا به لعلي باي فسجنه سبعة عشر يوما (¬264)، ثمّ أرسله (¬265) مع بلكباشية المعيّنة من الدّيوان على أن يدخلوه لغار الملح لمسكنه هناك قبل ولايته في المدّة الّتي كان فيها رئيسا بالبحر، وأوصاهم علي باي أن يخنقوه في بعض بساتين الطّريق، فلمّا بلغوا البستان المسمّى برأس الطابية ونظروا إليه قال لهم: أنزلوني هنا أسرّح نظري فساعدوه، فلمّا دخلوا تكلّموا خفية: أين نجد مكانا أليق من هذا؟ فقال أحدهم: وأين النّصارى أهل الخنق؟ ففطن طاباق (¬266) فقال: إن ¬

(¬257) في الحلل: «الأمل». (¬258) في الحلل: «وطلبا للبشارة والإحسان». (¬259) في ط: «للسّلام عليه». (¬260) في الأصول: «وحظه». (¬261) ساقطة من ش، وفي الحلل: «طائفته». (¬262) في الحلل السّندسيّة: «فأغلقوا». (¬263) في ش: «باردو». (¬264) في الأصول: «يوم سبعة عشر» والصّواب كما أثبتنا وطبقا كذلك لما ورد في الحلل السّندسيّة 2/ 496. (¬265) «ثم أرسله في عربة»، الحلل. (¬266) وذلك أنّ عادة هؤلاء الترك، أنّ من يحكم عليه بالقتل منهم لا يباشر قتله جندي لأنّه أخوه، والأخ لا يقتل أخاه، فيأمرون النّصارى الّذين في الحانات مباشرة ذلك، ويرونه مثل من قتل في الجهاد جهلا منهم: إتحاف أهل الزّمان 2/ 56 - 57.

الداي أحمد شلبي ودوره في الفتنة بين الأخوين محمد باي وعلي باي

أردتم الخنق فاتركوني أتوضّأ، فتوضّأ وصلّى ركعتين وأخذ الحبل ووضعه في عنقه وأخرج محرمة من جيبه لربط يديه، ثمّ قال للنّصارى: إذا جذبتم فلا تريّحوا كالعادة ثمّ التفت للحاضرين وقال: سبحان الله! دخلت النّار خلف علي باي مرارا (¬267) فانظروا بما كافأني، واشتغل بكلمة الشّهادة إلى أن فاضت روحه وكان صاحب / صدقات وإحسان فقدم على ما قدم. الداي أحمد شلبي ودوره في الفتنة بين الأخوين محمّد باي وعلي باي: ولمّا رأى أحمد شلبي إبن المرحوم يوسف داي ما وقع بطاباق من غير جرم وكان إذ ذاك آغة القصبة خاف ثائرة علي باي وبطشه فأغلق (¬268) باب القصبة عليه، فأرسل علي باي أخاه رمضان باي وخليفته القائد مراد وجماعة من صبايحية الترك فكسوه قفطان الولاية وبايعوه، فأضحى أحمد شلبي دايا في إثنين من شوّال سنة ثلاث وتسعين وألف (¬269). فلمّا بويع أخذته رعشة فاختلج جميع جسده لقوّة شهامته وشجاعته. فمن مآثره الحميدة النّاشئة عن شجاعته أنّه قدم مركبان (¬270) من الجزائر غازيان (¬271) في سبيل الله فنزل بعض جندهما لتونس، ونزلوا بوكالة العطّارين، فمرّ إثنان منهم فمسكا غلاما من أطفال المسلمين للفاحشة، ومن الغد توجّها إلى مركبيهما (¬272) بغار الملح فلمّا بلغه ذلك أرسل خلفهما لغار الملح من مسكهما في الطّريق، فلمّا وصلاه خنقهما وألقاهما ببطحاء القصبة. وكاتب حاكم الجزائر (¬273) يقول له: إن بعضا من جندك تعدّى على أبناء المسلمين وصدر منه ما صدر، وقد فتكت به، وأنت كذلك إذا رأيت ما يوجب ذلك من عسكرنا فافعل كفعلنا. ¬

(¬267) ساقطة من ط. (¬268) في الأصول: «فغلق». (¬269) 4 أكتوبر 1682 م. (¬270) كذا في ط والحلل السّندسيّة 2/ 503، وفي ش وب وت: «مركبا»، وكلمة غازيين الّتي أتت للوصف تدلّ على أنّ الموصوف مركبين، والصّواب مركبان غازيان. (¬271) في الأصول: «غازيين». (¬272) في الأصول: «مركبهما». (¬273) هو الحاج محمّد ميز مورتو: الحلل 2/ 503.

ولمّا استقر به الأمر أخرج طائفة [طاباق] (¬274) من القصبة فنفى بعضهم وأبقى بعضا ساكنا بتونس، وأرى (¬275) النّاس من هيبته ما أزعجهم. وكان جهّز فرقاطة للجهاد في سبيل الله فأخذها عدوّ الدّين / وبلغه أنّ بعض معاهدي النّصارى أرسل من يخبر العدوّ بشأنها وضعفها فكان سبب خروجهم لأخذها، فعند ذلك جمع القسيسين بتونس وسجنهم وقال: لا ينجيكم من يدي إلاّ إرسالها (¬276) فكان بينهم (¬277) لجاج كبير، فأطال حبسهم حتّى جيء بها. ومن سعادته أنّه جاءته غنيمة عظيمة كانت سببا لقيامه بأمره. ثمّ إنّه لم يهن (¬278) باطنه خوفا من بطش علي باي خصوصا وقد مشى أتباع علي باي بالعنف في النّاس، وطالت أيديهم بالجور، ولم يزجرهم سيّدهم، فاستباحوا بعض ما في أيدي النّاس. ثمّ فسد ما بينه وبين علي باي بموجب أنّ رجلا من قبيلة ورشفّانة (¬279) من أعراب طرابلس إسمه خليفة (¬280) بن زايد كان له ولد في بلد راس الجبل بقرب غار الملح، فسمع إبنه بعرس مارّ على بابه فنزل وافتكّ البنت على رؤوس الإشهاد وفتك بها وأرسلها إلى أهلها، فجاؤوا مستغيثين رجالا ونساء لباب أحمد شلبي، فلما طرق سمعه هذا الخطب أرسل خلفه في الحين وسجنه، فجاء أبوه يتكلّم في شأنه فما التفت إليه، فأغلظ أبوه في الخطاب بحضرة الداي (¬281) إلى أن قال للدّاي: حكمي ليس تحت نظرك وإنّما هو تحت نظر صاحب البلد علي باي، فازداد الداي غضبا وأمر بخنق ولده من ساعته، فما ازداد الأب إلاّ إغلاظا (¬282) في الخطاب فألحقه بابنه وألقاهما ببطحاء القصبة، فلمّا قرع هذا الواقع آذان أتباع علي باي ممّن كان بالمدينة ركبوا خفية ومن جملتهم / مصطفى ¬

(¬274) إضافة من الحلل 2/ 504. (¬275) كذا في ط وت والحلل، وفي ش وب: «رأى». (¬276) في الحلل: «إرجاعها». (¬277) في الأصول: «منهم» والتّصويب من الحلل 2/ 504. (¬278) في ش: «يحن». (¬279) وهي قبيلة بربرية متعرّبة ما زالت موجودة إلى الآن ومن الأقوال الشائعة عندنا: «السّلام عليكم يا أهل الجبّانة إذا ما فيكمش كيّال وإلاّ واحد من ورشفانة». (¬280) هذه القصة وردت في الحلل السّندسيّة 2/ 505 والإتحاف 2/ 57. (¬281) في الحلل: «لما يعلم من مكانة أمثاله عند علي باي» 2/ 505. (¬282) في ش: «غلاظا».

سبنيور (¬283) فحكى للباي ما وقع (¬284)، فامتلأ حقدا على أحمد شلبي فتجهّز في نحو خمسة وعشرين ألف عنان لما تبين له مخالفة أهل المدينة لقيامهم مع الداي ونزل بالحريرية، وسال الدّم من الفريقين، وحاصر تونس تسعة أيّام. فلمّا اشتدّ الأمر بأحمد شلبي أرسل خفية لمحمّد باي بالقيروان، وعقد معه عهدا على القدوم عاجلا وأنّه يمكّنه (¬285) البلاد، فأرسل إليه نجدة (¬286)، فاشتدّ ساعد أحمد شلبي وقوي عزمه، فرحل علي باي من الحريرية، ونزل بقرب أريانة (¬287) شرقي تونس، وشرع قومه في حرق الزّيتون وقتل عابر (¬288) السّبيل وسلبه واستباحوا زروع المسلمين، وضيّعوا (¬289) أحوال الفقراء والمساكين، واشتدّ الأمر على أهل المدينة، وقاتلها من ناحية نزوله. وفي يوم الجمعة بين الصّلاتين (¬290) خرج جمع عظيم من أهل تونس وشنّوا الغارة على إبل علي باي وكانت بالمرسى قرب سيدي أبي سعيد الباجي (¬291) - نفعنا الله به -، وكان في الغارة أولاد سعيد فجسروا على حرم الشّيخ، فبلغ الخبر لعلي باي فركب بمن معه والتقى الجمعان قرب باب الخضراء ولم يبق بالمدينة أحد لمحبّتهم لأخيه وكرههم فيه لجوره وعتوّ أتباعه، فعظمت الملحمة بين الفريقين، فكانت الهزيمة على أحمد شلبي، وتراجع النّاس وافترق الحرب. وبعد يومين قدم محمّد باي لتونس، ووقع ديوان عظيم فحضر الباشا والداي وأكابر الدّيوان وأجلة العلماء والصّلحاء والخاصة والعامّة / وخلعوا على محمّد باي، وبويع في ذلك الجمع. ومدّ أحمد شلبي يده لحواشي علي باي الّذين كانوا بتونس، ثمّ اشتغل محمّد باي بتجهيز العسكر لمقاتلة أخيه علي باي. ¬

(¬283) ويقال إسبنيول، وهي بالعامية: الإسباني. (¬284) ساقطة من ط. (¬285) في الحلل: «يملكه» 2/ 506. (¬286) في الحلل: «أرسل له نجدة فأخرى». (¬287) في ب وش: «ريانة». (¬288) في ش: «عابري». (¬289) في الحلل: «وضيقوا بأحوال». (¬290) أي صلاة الظّهر والعصر، وذلك أواخر ربيع الثّاني 1093/ 8 ماي 1682 الحلل السّندسيّة 2/ 506. (¬291) ويعرف هذا المكان بسيدي أبي سعيد وجبل المنار إذ يحتلّ المنار من ضواحي تونس الشّمالية.

وفي خلال سنة أربع وتسعين وألف (¬292) قتل علي باي (أحمد باي إبن أخيه محمّد باي الّذي كان أخذه علي باي) (¬293) رهنا يوم الصّلح السّابق على يد الجزيريين (¬294)، وسبب ذلك أنّ أحمد باي كان في مجلس عمّه علي باي فدخل رجل لا يعرف شخص علي باي وقد رآى جمعا عظيما، فقال: دلّوني علي الباي، فقال له أحمد: كلّ واحد باي، فوقعت في نفس علي باي، وكان فيما سبق أن علي باي اجتمع برجل عارف بالرّمل وأحكام النّجوم فأخبر علي باي بأنّه يتحرّك عليه رجل إسمه أحمد فيقوم عليه، فكان ذلك مستقرّا بباله فظنه هو، فأتاه بطبيب ففصده لمرض أصابه، فبعد فصده ترك (¬295) دمه يسيل إلى أن مات، ولم يدفع حذر من قدر، فقام عليه أحمد شلبي. (وهذه المسألة يقع فيها غلط الأمراء حيث يقول لهم صاحب أحكام النّجوم: يكون كذا وكذا على يد شخص صفته كذا فيذهبون يدبّرون في قطع ذلك بقتل من يتوهّمونه هو الموصوف، وأوّل من وقع في هذه المحنة فرعون حين أخبر بخراب ملكه على يد رجل يولد من بني إسرائيل فقتل من قتل من بني إسرائيل ولم ينفعه ذلك حتّى جاء موسى / - عليه السّلام - وهذا من الحمق إذ الحكم إن كان حقّا فهو واقع ولا بدّ، وإن كان كذبا فلا يضرّ شيئا، وقد نبّه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم على وجه الخطأ في هذه المسألة من قضيّة إبن صيّاد (¬296) حين قيل إنه شبيه بالدّجّال فقال عمر - رضي الله تعالى عنه -: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن يكنه فلن تسلّط عليه، وان لا يكنه فلا خير لك في قتله (¬297)، ولمّا قيل لعلي - رضي الله تعالى عنه - هذا قاتلك الّذي قال فيه المصطفى ¬

(¬292) 1683 م. (¬293) ما بين القوسين ساقط من ط وت وب، وفي الحلل السّندسيّة: «أحمد باي إبن محمّد باي إبن مراد باي» 2/ 508. (¬294) كلمة عامية تطلق على الجزائريين، وفي ت: «الجريديين»، وفي الحلل: «على يد بابا حسن حاكم الجزائر». (¬295) كذا في ت والحلل، وفي ش: «تحرك». (¬296) إبن الصّياد من اليهود الخيلا في جملتهم، وبلغ رسول الله خبره وما يدّعيه من الكهانة وتعاطي الغيب، فامتحنه النّبيء صلّى الله عليه وسلّم ليبرز أمره ويختبر شأنه، فلمّا كلّمه علم أنّه مبطل، وأنّه من جملة السّحرة أو الكهنة أو ممن يأتيه رئى الجنّ أو تعاهده شيطان فيلقي على لسانه بعض ما يتكلم به. أدركه عليه السّلام وهو دون الحلم، ولمّا تقدّمت به السّنّ روي أنّه تاب ومات بالمدينة وقيل إنّه فقد يوم الحرّة فلم يجدوه. أنظر جامع الأصول لابن الأثير المبارك بن محمّد (ت. سنة 606/ 1210) 11/ 206. (¬297) من حديث طويل أخرجه البخاري ومسلم ومالك في الموطّأ والترمذي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.

صلّى الله عليه وسلم وقد وضع يده الشّريفة على رأس علي - رضي الله تعالى عنه - ويل لمن يخضب هذه بيده يعني لحية علي بدم رأسه، قال علي - رضي الله تعالى عنه - في جواب القائل له أقتل هذا الّذي هو قاتلك: إذا قتلته فمن يقتلني؟ فانظر لهذا التّفويض والإستسلام للقضاء والقدر، وإن ما قضاه الله يقع ولا يدفعه حذر، وقد يدّعي بعضهم العلم بالأحكام وهو لا يعلم. فمن ذلك أنّ يهوديّا دخل على بعض الخلفاء وأخبره أنّ أجله قد حضر فاغتمّ الخليفة لذلك غمّا شديدا، فدخل عليه بعض النّبلاء فوجده في غمّ شديد، فقال: ما شأنك؟ قال: أجلي قد حضر، فقال: وما علمك بأجلك والله تعالى يقول: {وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً (¬298)} وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ (¬299)، قال: أخبرني اليهودي المنجّم، فقال: وأين هو؟ فأحضر، فقال: وما قلت للخليفة؟ فقال: أجله قد حضر / في يوم كذا في ساعة كذا، فقال: أنظر أنت في أجلك كم بينك وبينه؟ فنظر وقال: ما زال بعيدا وذكر مدّة طويلة، فاخترط ذلك النّبيل سيفا كان حاضرا وضرب به عنق اليهودي فمات من ساعته، فانتهره الخليفة وقال: قتلته في غير حق، فقال له: لتعلم كذبه وأنّك لم يحضر أجلك وإنّما حضر أجله فهو فداؤك، فزال ما بالخليفة من الغمّ) (¬300). ثمّ إنّه (¬301) في [أثناء] (¬302) مقاتلة علي باي لأحمد شلبي وأخيه محمّد باي قدمت محلّة الجزائر نصرة لمحمّد باي وأحمد شلبي، فارتحل علي باي عن تونس بجنوده ومعه بقية المحلّة الّتي بالجريد وسردارها الحاج محمّد الزمرلي (¬303)، فبايعوه على أنّه داي، وبايعوا علي باي بمقامه تطمينا منهم، ثمّ هرب كثير من محلة علي باي (ودخلوا المدينة، ولم يزل علي باي) (¬304) مشمّرا (¬305) على النّهب والغارة وكلّ من ظفر به أضافه إلى فريقه طوعا أو ¬

(¬298) ساقطة من ش وب. (¬299) سورة لقمان: 34. (¬300) ما بين القوسين تعليق من المؤلف إضافة عمّا في الحلل. (¬301) النّقل من الحلل 2/ 309. (¬302) إضافة من الحلل. (¬303) ويقال: «ازميرلي» الحلل. (¬304) ما بين القوسين ساقط من ط وت. (¬305) كذا في ط وت والحلل، وفي ش: «مستمر».

كرها إلى أن نزل على الكاف فوضع بحصاره خزائنه من {الشَّهَواتِ [مِنَ] النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} (¬306)، ونزلت محلّة الجزائر بقرب منه، وعظمت عليهم كيفيّة دخول الوطن. فبينما هم كذلك إذ أقبل محمّد باي على محلّة الجزائر وصار معهم لحمة واحدة، هذا وعلي باي يركب كلّ يوم يجاذبهم الحرب حين رآهم بعين الحقارة وهم كأنّهم صمّ بكم إلى يوم السّبت أواخر جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين وألف (¬307) تهيّؤوا / وأوقدوا نار الحرب وتركوه حتّى توجّه لمحلّتهم وظنّ أنّه ظفر بهم دهموا محلّته وأخذوها، فرجع علي باي متقهقرا فنزل أهل الكاف وقبلوا محمد باي وبقي الحصار (¬308) مغلقا متمسكا بعهد علي باي، وكان من فيه لا يلتفتون إلى من حولهم ممّن هو خارج الحصار لاستغنائهم بما عندهم من الذّخيرة وآلات الحرب، فكان من رأي محمد باي أن كتب كتابا لصاحب قفصة يأمره أن يحضّر له أخبية، فسقط الكتاب ووقع بيد أهل الكاف الّذين فتحوا وأطاعوا وعلموا أن هذه الخيم لم تكن (¬309) إلاّ لحصول الدّرك الأكبر وإن إنفتح هذا الباب تعسّر سدّه، فكان من رأيهم أن يغتنموا الفرصة بمضايقة الحصار أشدّ المضايقة ليفتح وتخلص القضية (¬310)، فهيّؤوا رجالا تقوم بالعسس ليلا ونهارا، واتّفق أنّ القائد مراد باي خليفة علي باي قدم بعسكره ولا علم عنده بما وقع على أستاذه وحسب أنّ الكاف باق من غير فتح، فخرج له أهل الكاف مقاتلين، فلمّا رآهم فرح وظنّهم له فكانوا عليه، فلم ينج إلاّ هو وخاصته ففرّوا هاربين فعثروا في هربهم بقوم إجلاص (¬311) أتباع محمد باي فما خلصوا إلاّ أن قالوا: إنّا من جانب محمد باي وقصدنا المسير للقيروان، فأدخلوهم (¬312) القيروان فبلغ الخبر لتونس فأخبروا محمد باي وسيّروا جوابهم صحبة محمّد سبنيور، فلمّا بلغ سبنيور ذبحه محمد باي وقيّد من جاء / صحبته، وسبب ذلك أنّ أحمد شلبي الدّاي (¬313) لمّا بلغه دخول مراد للقيروان إستبشر وأطلق المدافع فخشي محمد باي أن يكون ذلك السّرور تحته داء دفين فأهانه بهذه الفعلة. ¬

(¬306) سورة آل عمران: 14. (¬307) 25 جوان 1683 م. (¬308) أي القصبة. (¬309) في الحلل: «لم تتيسّر إلاّ بحصول» 2/ 510. (¬310) في ط: «القصبة». (¬311) ويقال «جلاص» قبيلة بربرية متعرّبة بولاية القيروان. (¬312) في الحلل: «فدخلوها». (¬313) ساقطة من ش.

ثمّ لمّا أتي بالقائد مراد لمحمّد باي ألحقه بسبنيور ذبحا، وعلي باي لم يكن عنده خبر بحال أخيه محمّد حتّى بلغ قفصة وأيقن أهلها أنّهم إن استند إليهم (¬314) يوقعهم فيما يعجزون (¬315) عنه، فكان من رأيهم أن منعوه دخول البلد وصدّوه حتّى عن شرب الماء وقاتلوه ولم تكن له قوة ولا نهضة للقتال فألوى عنانه إلى بلد لالا (¬316)، فتسلّط عليه أهل جبل القطار، ونجا منهم، ودخل صفاقس لأنّ الآغة الّذي كان بها من رجاله فمرض بها حتّى أرجف بموته وعزم على الفرار بحرا لأنه بلغه أنّ أحمد شلبي ربط مع أهل صفاقس أن يرسل لها نائبا من عنده، فخشي وركب في البحر لسوسة وذلك بشوّال سنة خمس وتسعين وألف (¬317) فبرئ بها. ولمّا وقع لعلي باي ما وقع ببحيرة الكاف ونهبت خيامه - حسبما مرّ - رحل محمّد باي بمحلّة الجزائر ورجع لحصار قلعة الكاف وأحاط بها من جميع الجهات فلم يقدر من بالحصار على أدنى مدافعة له، وكان رئيس القلعة فرج خرطان، فلمّا تحقّق حفر محمد باي للألغام جعل ينصت لحسّ الحفر ويحفر أمامه لإبطال العمل، وكان فرّ منهم نفر لمحمّد باي فجرّهم في أذناب الخيل فازداد غيظ / أهل القلعة وعظم الأمر عليهم، فبينما هم كذلك إذ أمر محمّد باي (¬318) بإيقاد الألغام فانفلق جانب القلعة من جهة الوادي وصارت القتلى أمامه كالتّل العالي، فلم يسع رئيس القلعة فرج خرطان إذّاك إلاّ أن إتّفق مع الّذين كانوا معه محصورين أنهم يجلسون على البرامل متاع (¬319) البارود (¬320)، ومن جملة المحصورين مصطفى بن موسى خزنادار علي باي، وأمّا مصطفى سبنيور فإنه قتل نفسه بخنجر كان بيده، وممّن كان بداخل الحصار رمضان باي أخو محمّد وعلي باي وكذا مراد باي إبن علي باي وكانا صغيرين فكنفهما (¬321) محمد باي، ودخل العسكر واتّصل بما تقدّم ذكره من الذّخائر والخزائن. ¬

(¬314) في الأصول: «استندوا إليه» والتّصويب من الحلل 2/ 511. (¬315) في الحلل: «فيما يعجزهم عن أمره لما يعلمون من شدّة مكره». (¬316) من ضواحي قفصة. (¬317) سبتمبر 1684 م. (¬318) في الأصول: «إذ مرّ محمد باي» والتّصويب من الحلل 2/ 512. (¬319) كلمة دارجة لا حاجة بها، يقال «براميل البارود». (¬320) «وأوقدوا بها النّار فصاروا إلى ما به طاروا، والّذين طاروا بالبارود هم فرج خرطان ومصطفى بن موسى كان خزنادار عند علي باي. . .»، الحلل 2/ 512. (¬321) في ط: «كفلهما».

فتنة أحمد شلبي وإتفاق الأخوين محمد باي وعلي باي على قتاله

ثمّ رحل محمّد باي بمحلّة الجزائر وقدم نحو تونس، ونزل بهم في الحريرية أواسط رمضان سنة خمس وتسعين وألف (¬322)، وهي أوّل نزلة نزلوها (¬323) في الحريرية على تونس، ومنها انفتحت لهم أبواب الجسارة على تونس وعلى وطن إفريقية. ثمّ وقعت بينهم وبين أحمد شلبي ملاحّاة (¬324) أوجبت وحشة بعد ما كانوا عازمين على محاصرة سوسة وبها علي، وراودوا محمد باي على محاربة أحمد شلبي فأبى إلاّ العافية والنّهي عن التجري. ثمّ إنّه وقعت بينه وبين محمّد باي وحشة، وآخر الأمر أظهر الصّلح وطلب من محمّد باي مرتب العسكر فأجابه ووقع الإتفاق بينهما وما ازداد أهل الجزائر إلاّ حقدا. ورحل محمّد باي من الحريرية ونزل مرناق آخر شهر رمضان المذكور وبعد / رحيله بيومين رحلت محلّة الجزائر تجاه بلدهم، ورحل محمّد باي إلى القنطرة بقرب طبربة وأقام (¬325) ثلاثة أيّام، ثمّ كرّ راجعا لمرناق لأمر أراده، وأظهر أحمد شلبي أنّه يجهّز العسكر لمحاربة علي باي بسوسة، ولم يزل كذلك إلى أن تحقّق ذهاب محلّة الجزائر فدبّت مبادئ العداوة بين أحمد شلبي ومحمّد باي، فالتفت عن التّجهيز لسوسة ومنع خروج العسكر لها. فتنة أحمد شلبي وإتّفاق الأخوين محمّد باي وعلي باي على قتاله: هذا ومحمّد باي ماكث بمرناق إلى أن استهلّ عليه هلال شوّال وهو يكرّر على أحمد شلبي الرّسل في التّجهيز فلم يلتفت لذلك، ولمّا ظهرت مخايل العدواة مسك شعبان كاهية ومحمّد بن شكر خليفة محمّد باي وسجنهما، فلمّا رآى محمّد باي هذه الأمور لم يجد (¬326) محيصا عن صلح أخيه علي باي وأخبره أنّ ما بيننا من الفتن موجب (¬327) لتكسير ¬

(¬322) أواخر أوت 1684 م. (¬323) في ط: «نزلهما». (¬324) في الأصول: «ملاحات». (¬325) في ط: «وأقام بها». (¬326) في ط: «لم يظهر». (¬327) ساقطة من ش.

واحد منّا بالآخر [وتتغلّب علينا أيدي الغير] (¬328) وإذا تمادى هذا الحال يظفر أحمد شلبي بالبلاد، ومن جميل الرّأي أن نصطلح ونقسّم البلاد بيننا نصفين [ونتظاهر عليه] (¬329) فطابت نفساهما (¬330) بذلك وأرسل محمّد باي أخاه رمضان ومراد إبن أخيه وجميع الحريم الّتي (¬331) كان إتصل بها (¬332) من قلعة الكاف مع هدايا وثياب وخيم، والتقى الفريقان بين سوسة والقيروان وصارا يفكّران في حيلة للوصول إلى غرضهما من أحمد شلبي، وبقيا كذلك إلى صفر من سنة ستّ وتسعين وألف (¬333) فأمر محمّد باي أخاه عليّا بتجهيز مائة خباء، فادّعى علي عدم ما يقوم به من الخرج فلامه محمّد باي (¬334) / ثمّ قيّد محمّد باي جميع ما أخرجه على المحلّة من أمواله ممّا يقوم بها كلّها. ونزل علي باي نحو الدّخلة القبلية (¬335) من تونس ونزل محمّد باي بغدير السّلطان (¬336) وتأهّبوا لقتال أحمد شلبي وجهز هو أيضا جيشا عظيما وركب نحو الألف من صبايحية الترك عدا (¬337) ما انضاف إليه من أولاد سعيد والمسعي، وتربّص ينصب شباك مكره لأنّه كان ذا حيل ومكر فجمع جندا عظيما وأخرجهم ليلا على محمّد باي فأحاطوا به وهاجموا (¬338) محلّته على حين غفلة، وهرب محمّد باي في نفر قليل من توابعه، ورجع أحمد شلبي بما غنمه، وأحاط بحريم محمّد باي وجواريه، فسرّ بذلك سرورا عظيما وذلك في إثنين وعشرين من رجب سنة ستّ وتسعين وألف (¬339). وقام أولاد سعيد على علي باي وهو بالدّخلة القبليّة فنهبوه ومحلّته، ومال النّاس كلّ الميل لأحمد شلبي عند ما بلغهم هذا الواقع بعد ما كان أولاد سعيد مع علي باي ¬

(¬328) إضافة من الحلل 2/ 514. (¬329) إضافة من الحلل. (¬330) في الأصول: «نفوسهما». (¬331) في الأصول: «الذي». (¬332) في الأصول: «به». (¬333) جانفي 1685 م. (¬334) «من حيث أنّه كان تصرّف في البلاد سبع سنين وتمزّقت أمواله في مرضاة توابعه وأبقوه مثلة عند الشّدائد». الحلل السّندسيّة 2/ 515. (¬335) هي دخلة المعاوين: أنظر الإتحاف 2/ 59، النّقل مستمرّ من الحلل السّندسيّة 2/ 515. (¬336) أنظر أيضا الإتحاف 2/ 59. (¬337) في الأصول: «عدى». (¬338) في الأصول: «هزموا»، والتّصويب من الحلل 2/ 515. (¬339) 24 جوان 1685 م.

فانقلبوا عنه مع الدّهر، واجتمع لأحمد شلبي من ذلك جمع عظيم، فعظم أمره وقوي أزره. وكان في أثناء ذلك نشر أعلام الولاية على مملوكه الخزنادار (¬340) محمد منيوط ولقبه بالباي وأولاه ولاية الوطن وجاءه الخبر أن الأخوين جمعا جمعا ثانيا واستنفر النّاس للقتال، ووردت عليهما الوفود أفواجا. وكان محمّد باي وضع قناطر على وادي العلم، فلمّا عبرت جيوشه عليها أمر بنقضها لئلاّ يحدّث أحد نفسه بالفرار، فكانت ضررا عليه، فتهيّأ أحمد / شلبي إذ ذاك ووجه عساكره مع جنود العربان، فالتقى الجمعان بوادي العلم دون القيروان فظفر بهم أحمد شلبي، وانهزمت جيوش الأخوين، ففرّا للقيروان بعد ما مات منهم جمع كثير، وبلغ البشير لأحمد شلبي في يومه، وجيء لتونس بعشرة أحمال (¬341) من رؤوس القتلى (¬342)، فألقيت ببطحاء القصبة من تونس. وبعد ما دخلا للقيروان كتبا للجزائر مع محمد بن شكر يستنجدونهم بنصرة أبيه (¬343) فلم يكن إلاّ يسيرا وقد أتتهم النّصرة، وحصل إجتماع بين الأخوين وتظافرا على محاربة أحمد شلبي [وفي أثناء مجيئهم عزم أحمد المسعي على القدوم نصرة لأحمد شلبي فلمّا ثبت مجيء الجزيريين] (¬344)، أرسل أبو حوش للمسعي يحذّره (¬345) من القدوم لأحمد شلبي فقلبه (¬346) عنه، وهرب أحمد المسعي لناحية الغرب، وكان هروبه من السّرس في ثلاثة من رجب من السّنة المذكورة، ثم هرب من محلّة تونس أبو حوش ولحقته (¬347) خيل محمّد منيوط ليمسكوه فوقع بينهم حرب شديد، ومات من الفريقين خلق كثير، وأتوا بنساء أبي حوش إلى محلّة تونس. ¬

(¬340) في الأصول: «مملوك خزنادار»، والتّصويب من الحلل والإتحاف 2/ 59. قال إبن أبي الضّياف: «وكان له مولى من نجباء الأفراد إسمه محمّد منيوط». (¬341) كذا في ش وت وب، وفي ط والحلل: «جمال». (¬342) في الأصول: «القتلا». (¬343) ساقطة من ش وت وب. (¬344) إضافة من الحلل يقتضيها السّياق. (¬345) في الأصول: «يحذرهم». (¬346) في ش وب: «فغلبه»، وفي ت: «فقابله». (¬347) في الأصول: «لحقه».

وفي أحد عشر من شعبان (¬348) دخلت محلّة تونس لتونس على عادتها، وفي ذلك اليوم جاء الخبر لتونس أنّ بعض رؤساء علي باي (¬349) دخل باجة وهربت النّوبة منه في الحصار ووقع بينهم القتال، ومحال الأخوين إذ ذاك بالكاف، ومن الغد أرسل أحمد شلبي خلف الحاج حسين آغة الّذي كان بالمحلّة فقتله وقتل معه جماعة كبيرة منهم مصطفى سبنيور وكان شاويش الدّيوان، قيل كانت أحواله غير مرضيّة حتّى إنّه لمّا أراد طاباق [وضع] (¬350) الرّمية / على أهل تونس وهربوا لجامع الزّيتونة دخل عليهم بنعله إلى المحراب. وفي منتصف شعبان (¬351) أخذ أحمد شلبي كاهية باجة وفيّأ دورها وأسواقها وقتل منها جماعة، ثمّ إنقلب هاربا لتونس. وفي عشرين منه (¬352) ورد الأخوان لباجة وحازوها وأنزلوا الترك الّذين كانوا بحصارها على الأمان، وهم خمسمائة رجل، وعيّنوا لهم أخبية وأضافوهم إلى عسكرهم، وعقدوا ديوانا على أنّ بقطاش [خوجة] (¬353) يكون دايا، فلمّا سمع أحمد شلبي عقد ديوانا بباب القصبة ومعه الباشا والعلماء والعسكر بجميع طبقات الدّيوان وأهل المدينة والرّبطين (¬354)، وقام أحمد شلبي وخاطب النّاس خطابا عامّا وقال لهم: إنّ هؤلاء القائمين عليكم وعلى أولادكم وأموالكم (¬355) لا يخفاكم ما هم عليه من الجور فما نظركم؟ فكان الجواب من الخاص والعام على كلمة واحدة: أنا نحارب على بلادنا وأولادنا وطاعتك إلى أن نفنى جميعا، وقرأوا فاتحة الكتاب، وحضر ذلك الموطن ثلاثة شوّاش كانوا قدموا من الباب العالي - حفظه الله -. وفي ذلك اليوم بنوا باب سيدي قاسم الجليزي، وباب سيدي علي القرجاني، وباب البنات، وباب قرطاجنة، وباب أبي سعدون، ورتّبوا على كلّ باب نوبة من الترك ¬

(¬348) أي من سنة 1096/ 13 جويلية 1685 م. (¬349) ساقطة من الأصول. (¬350) إضافة من الحلل. (¬351) 17 جويلية 1685 م. (¬352) أي شعبان 1096/ 22 جويلية 1685 م. (¬353) إضافة من الحلل 2/ 519. (¬354) كلمة دارجة للرّبضين وهما بتونس يطلقان على باب السويقة وباب الجزيرة. (¬355) ساقطة من ط.

والزواوة، وركّبوا عليها المدافع، ثم نصبوا ديوانا آخر بجامع الزيتونة واجتمع فيه ضعف ما كان اجتمع بباب القصبة، ووقع الإجماع من جميع الناس بالتّصريح بالقتال والحرب. ومن جملة ما كان بذلك اليوم / أن قرأوا الأوامر العثمانية مضمونها تقرير البلاد لأحمد شلبي ورفع يد الأخوين، ولمّا تقوى أمر أحمد شلبي وضبط الجنود تزاحمت عليه الوفود. وفي أواسط رمضان من السّنة المذكورة (¬356) نزل الأخوان والنّصرة بالقنطرة ثم وقعت محاربة بينهم وبين أهل تونس، ومات من الفريقين جمع كثير. وفي ذلك اليوم ازداد المدد من الجزائر، وميّز أحمد شلبي رجاله بسانية الجربي، وقبل ذلك بيسير رحل (¬357) أولاد سعيد ونزلوا سيدي حسن السيجومي، فأرسل خلفهم أحمد شلبي الصبايحية تركا وعربا ليأخذوهم، فلمّا رآى (¬358) أولاد سعيد الإحاطة بهم أذعنوا وانقلبوا للجبل الأخضر، وخرج لهم الطرابلسيون والجباليون وعقدوا لهم عهودا وتحالفوا على ذلك. ثمّ رحل أولاد سعيد من الجبل الأخضر فنزلوا على ساحل البحيرة من جهة الزّلاّج (¬359)، إلى محلّ القصّارين من باب البحر، واستباحوا غابة الزيتون وثمر البساتين، ولم يبق لأهل الأملاك تصرّف في أملاكهم. وفي أربعة وعشرين من شوّال سنة ستّ وتسعين وألف (¬360) نزل الأخوان بمحالهم ونصرتهم بسانية الجربي، وانتصبت المحال من باردو لسيدي حسن السّيجومي، وتقاتل (¬361) ذلك اليوم الفريقان من الضحى إلى العصر، وماتت أمم من الفريقين، ومكثوا كذلك حينا من الزّمان والحرب بين الفريقين سجال فيوم لقوم ويوم لآخرين إلى أن دخلت السّنة السّابعة بعد التّسعين والألف. ففي ربيع الثّاني (¬362) وردت مكاتيب من أكابر الجزائر يخاطبون أحمد شلبي / ¬

(¬356) 15 أوت 1685 م. (¬357) في الأصول: «دخل» والتّصويب من الحلل 2/ 520. (¬358) في الأصول: «رأووا». (¬359) في الأصول: «الجلاز». (¬360) 23 سبتمبر 1685 م. (¬361) في ش: «تقاتلا». (¬362) في 22 منه / 18 مارس 1686 م.

بالصّلح مع الأخوين فخرقهما وعزم على إخراج النّاس للقتال فتقاتلوا، فكان عدّة ما رمى به أهل تونس من المدافع سبعمائة. وفي خامس (¬363) جمادى الأولى (¬364) رمى المحال على تونس بالبونبة من بعد العشاء أربعة وأربعين، ثم تمادوا على ذلك ليالي متعدّدة، فعظم الأمر في تقليد السّلاح بين الأزقّة والأسواق. وفي ستّة عشر من الشّهر المذكور أخذ أمر تونس في الإنحلال، ومال النّاس للأخوين وأخذوا في الهروب، وشرع الأخوان في حفر الألغام من جهة سيدي عبد السلام، وفي إثر (¬365) ذلك جاءت أوامر من الأعتاب العثمانية لتونس، فلم يقدر أحمد شلبي على إدخالهم (¬366) لضيق الحال، فعقد أحمد شلبي ديوانا بجامع الزيتونة بالخاص والعام، وأظهر أوامر قرئت على رؤوس الإشهاد مضمونها الإذن باستقرار إفريقية تحت نظر أحمد شلبي ورفع يد الأخوين. وفي أربع وعشرين (¬367) من جمادى الأولى أرسل أحمد شلبي الشّوّاش الواردة من الأعتاب العالية إلى المحال ليكفّوهم عمّا هم عليه، فلمّا وصلوا تلقّاهم قاره عبد الله من الأتراك وقال لهم: أرجعوا قد علمنا ما جئتم به، فرجعوا إلى تونس، ثم تزايد المدد من الجزائر بحرا (¬368) وبرا فهرب من تونس خلق كثير ووردت لتونس مراكب بالقمح فتلقّاها الأخوان وأخذا ما فيها فضاق حال تونس. وفي ثمانية من رجب هرب أولاد سعيد فنهب النّاس بيوتهم، ثم تتابع النّاس بالهروب وتسارعوا لتلقّي الأخوين من ربط بني حمّاد ووضعوا لهم السلالم (¬369) وأدخلوهم الرّبط ووقع الإختلال / في مواضع كثيرة وإنحل العقد واتسع الخرق وأدخلوا أصحاب ¬

(¬363) في الأصول: «أول»، والتّصويب من الحلل 2/ 531. (¬364) 30 مارس 1686 م. (¬365) 19 جمادى الأولى 1097/ 12 أفريل 1686 م، والّذي يفهم من الحلل السّندسيّة 2/ 532 أنّه ورد شاوش من تركيا في التّاريخ السّابق، وورد آخر ضحوة يوم الأربعاء 21 جمادى الأولى، وكان ورود الثّاني للجزائر إلاّ أنّ أحمد شلبي أراد أن ينزله للمدينة ليشاهد ما هم فيه هؤلاء المؤمنون. (¬366) الّذي يفهم من الحلل السّندسيّة أنّه دخل وشاهد الأحوال كما يفهم من كلام المؤلّف الآتي. (¬367) في الأصول: «إثنين وعشرين» والتّصويب من الحلل 2/ 533. (¬368) في 29 جمادى أولى 1097/ 24 أفريل 1686 م. (¬369) في ش وط: «السلاح»، والتّصويب من الحلل.

نهاية علي باي

الأخوين، وهدمت الأبواب وأصبحت القصبة مغلقة (¬370) من الغد، والقتال بين من فيها وبين من كان خارجها اليوم كلّه، وآخر أمر أحمد شلبي فراره بنفسه بليل بعد صلاة العشاء (¬371) ليلة الأحد الحادي عشر من رجب سنة سبع وتسعين وألف (¬372) مع بعض حواشيه فأحاط بهم العسس بسبخة سيجوم فقاتل بنفسه فوقعت به جراحات فأثقلته وكبت به فرسه فأخذ وقيّد عند الأخوين ووضع تحت يد إبراهيم خوجة حاكم العساكر الجزائرية. نهاية علي باي: وطلب أهل المدينة الأمان، فأمّنوا وألبس بقطاش خلعة ولاية الدولاتلية فصار (¬373) دايا، واستولوا على جميع مخلّفات أحمد شلبي، وجددت البيعة للأخوين (¬374) إلاّ أنّ نفوس العسكر مائلة لمحمّد لما يعلمون من رفقه وعسف أخيه. ثمّ قسّم الأخوان البلاد فكان سهم محمّد باجة وما يليها والقيروان والمنستير، وسهم علي سوسة ووسلات والسّاحل والكاف وما يليها، وأظهروا أوّلا أمنا ثمّ تنازعوا. ففي سبع وعشرين من الشّهر (¬375) تجمّعت جميع العساكر (¬376) وتقلّدوا السّلاح وخرجوا نحو المحال برأس الطابية، وجمعوا الخاص والعام وقالوا بلسان واحد: إنّ علي باي لا يصلح ولا نرضى إلاّ لمحمّد باي فقط، وكان الأخوان إذ ذاك بخيمة إبراهيم خوجة فاطلعا على العسكر (قائما وقاعدا فخرجا بلطافة) (¬377) فأمّا محمّد باي فطلع على ربوة (¬378) وأمّا أخوه علي فذهب إلى محلّته وخرج في بعض خيل معه ناويا (¬379) / ¬

(¬370) في الأصول: «مغلوقة». (¬371) خرج من باب غدر من القصبة: أنظر الإتحاف 2/ 60. (¬372) 3 جوان 1686 م وفي الأصول: «ليلة إحدى وعشرين وألف»، والتّصويب من الحلل 2/ 539. (¬373) في الحلل: «خلعة الولاية وجلس مرتبة الداي»، 2/ 540. (¬374) يوم الأحد 10 رجب سنة 1097/ 2 جوان 1686 يوم دخولهما لتونس. (¬375) 19 جوان 1686 م. (¬376) أي التونسية والجزائرية. (¬377) في ط: «قائما قاعدا بالطابية». (¬378) «ينظر ما يكون» الإتحاف 2/ 60، وفي الحلل: «طلع على ربوة بالرّواهب» 2/ 543. (¬379) أي بنية.

عود إلى أخبار محمد باي

الفرار (¬380) فلامه بعض أصحابه بقوله: ألم تر إلى أخيك ماكثا على الرّبوة الفلانية وإنّا لا نعلم بما اجتمعوا عليه فربّما إذا فررنا يصير لنا ما صار في فرارا الكاف مع أنّا ظفرنا بالبلاد، وما زالوا يقيمون عليه الحجج وقد قيّدته المقادير وجعل الله لكلّ شيء سببا. فبينما هم كذلك إذ أقبل نحو علي باي خيل مسرعة فظنّ أنّهم أتوه بالبشارة فكانت بحضور أجله المحتوم، فما وصلوه إلاّ وقد بادروه بالبندق دفعة واحدة فأصيب وسقط عن فرسه فأجهز (¬381) عليه ونهبت محلّته، وقطع رؤوس بعض من أصحابه (¬382)، وأرسلوا خلف محمّد باي في تلك السّاعة، وكسوه القفطان، وجددوا له البيعة العامّة، ثم قتل في اللّيلة الآتية أحمد شلبي خنقا برجب سنة سبع وتسعين وألف. وفي أوائل شعبان (¬383) توفّي الباشا محمّد الحفصي ببر الترك وأتي به لتربة آبائه. عود إلى أخبار محمد باي: وجهّز محمّد باي العساكر الجزيرية بعد الثّناء والجزاء الحسن، وتوجّه لإصلاح (¬384) البلاد وتطمين العباد، وقمع أهل الزيغ والفساد بالقتل والنّفي والإبعاد. ثمّ أظهر أهل الحامة مخالفة أوامره، وكان بها أولاد سعيد، فجهّز لهم عسكرا (¬385) في البحر وسافر هو في البرّ فأحاط بهم وقاتلهم إلى أن فتحها، ثم دخل الجريد آمنا مطمئنا منفرد الكلمة وأقبل لتونس آمنا مسرورا فبنى وشيّد بباردو (¬386) زيادة على ما كان قبله. ومآثره - رحمه الله - كثيرة، فبنى مدّة مقامه بالقيروان مسجدا عظيما ومدرسة جليلة / وبنى بعد ذلك قنطرة مجردة بالحثرمين (¬387) واخترع فيها صنعا عظيما بجعل أبواب ¬

(¬380) قاصدا جهة منّوبة قبل أن يعلم شيئا: «أنظر الإتحاف 2/ 60». (¬381) في ش وت: «فجهز»، وفي ط: «فجهر رأسه من عليه». (¬382) وذلك يوم الثلاثاء 27 رجب سنة 1097/ 19 جوان 1686 م. (¬383) سنة 1097 / أواخر جوان 1686. (¬384) في ش: «لتصليح». (¬385) ساقطة من ط. (¬386) في الحلل: «واعتنى بقصور باردو، واخترع فيها غرائب التّفصيل. . .» 2/ 547. (¬387) كذا في ش، والحلل 2/ 549 وهي على طريق بلد طبربة. ذيل بشائر أهل الإيمان 103. وفي ت وط: «الحزمين».

فتنة محمد بن شكر

لها يتصرّفون بها في مائها (¬388) تقييدا وإرسالا، وأحدث بحافتيه بلدانا كثيرة أمر ببنائها، وغرس بها جنّات (¬389)، وقد بلغ مصروفه في ذلك مقدار ألف ألف. وفي تلك السّنة جاءت الأوامر السّلطانية للحاج: بقطاش الدّاي بالباشوية. فتنة محمّد بن شكر: وفي تلك السّنة وقعت وحشة بين محمّد وبين خليفته محمّد بن شكر (¬390)، فاختفى أيّاما وطلب الإجازة للحجّ (¬391) فنفي إلى فرانسة ونهب جميع ما كان بيده ثم إنقلب إلى الجزائر يتقلب بين أعتاب أرباب الدّولة يسعى في الإستنصار على تونس لمقاتلة محمّد باي. وفي تلك السّنة قدم إبراهيم خوجة، كان دايا في الجزائر مغاضبا لعسكره، وكان محاصرا لوهران لمّا بلغه أنّ الحاج ميز مورتو باشا الجزائر تظافر مع العسكر على الفتك بإبراهيم المذكور، فأكرم محمّد باي نزله وهاداه بما يليق بحاليهما. وفي سنة تسع وتسعين وألف (¬392) توفّي بقطاش باشا داي، فتولّى بعده حفيده (¬393) علي رايس. وفيها تجهز إبن شكر بعسكر الجزائر متوجها بها لتونس على يد الدّولاتلي الحاج حسين ميز مورتو وكانت عساكرا وجنودا تسدّ الفضاء، ثمّ إنّ (¬394) أهل الفضل منهم لم يرتضوا ¬

(¬388) في الأصول: «مائة»، وفي الحلل: «يتصرف بها في فياض مائها قيدا وإطلاقا» 2/ 549. (¬389) في ش: «جناة». (¬390) كان متزوجا أخت محمد باي. أنظر بلانتي: Plantet,Correspondance des Beys de Tunis et des consuls de France avec le cour 1517 - 1830 الجزء الأول، باريس 1894 ص: 417 الرّسالة عدد 433. (¬391) فتمّم له ذلك وركب البحر فدفعته يد الأقدار طردا عن بيت الله الحرام وجذبته أقرانه الشياطين إلى منبع الشرك والحرام وحمل إلى افرانسة ونهب كلّ من كان بين يديه وخلص برأسه لا له ولا عليه، وتوجّه إلى الجزائر ومكث أيّاما، يتقلب بين أعتابها، ويتردّد إلى أبوابها، واستفتح في إنشاء خبائث فتنة بذرها في رياض المفسدين وسقاها من جداول الإغراء عددا. . . الحلل السّندسيّة 2/ 552. (¬392) كذا بالأصول والحلل، 1687 - 1688 م، وفي ذيل بشائر أهل الإيمان ص: 102، توفّي سنة 1100/ 1688 - 1689. (¬393) إبن أخته. (¬394) ساقطة من ش.

ذلك ورأوا أنّ فيه سفك دماء المسلمين بغير موجب فرجعوا على الدّولاتلي وعزلوه، فخرج في مركب على حين غفلة من النّاس فاتصل الخبر بمحمّد باي فجهّز مركبا في أثره / أين كان فصادفوه وأتوا به لمحمّد باي فعاتبه ثم عامله بالحلم والإكرام وبذل له أموالا ومماليك وخدمه وجهّزه إلى إسلامبول، فصار من أكابر رؤساء البحر وغنم غنائم عظاما للسّلطان سليمان خان إبن السّلطان ابراهيم خان - رحم الله الجميع برحمته الواسعة -. وفي ربيع أول من سنة مائة وألف (¬395) وقع الطّاعون بتونس، فبلغ تسعمائة نفس في اليوم الواحد، فأقام ثمانية أشهر ثمّ إرتفع، فحزر (¬396) من مات بتونس فناف على ستّين ألف. ثمّ شرع محمّد باي (- رحمه الله تعالى -) (¬397) في فعل الخيرات (¬398)، فاحتفر بئرين بطريق القيروان وبنى بها مواجل كثيرة، وكذا بطريق قفصة آبارا وصهاريج تضاهي مصانع الأقدمين، وأخرى بطريق سوسة، وأحيى مصانع (¬399) صفاقس بسور عليها بعد دثورها وأجرى المياه العذبة لباجة، وبنى (مدرسة ومسجدا ببلد الكاف) (¬400) ومدرسة ومسجدا بباجة، ومدرسة بقابس مجاورة لسيدي أبي لبابة الأنصاري - رضي الله تعالى عنه - صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي سنة ثلاث ومائة وألف (¬401) أنشأ أسواق الشّواشية الثلاثة، وكانت دورا ومخازن فاشتراها. وفي هذه السّنة جاءت الأوامر الخاقانية بزيادة طوخ (¬402) له ثان. ¬

(¬395) ديسمبر - جانفي 1688 - 1689 م. (¬396) كذا في ط، وفي ش وت: «فحوز»، وفي الحلل: «وكانت جملة». (¬397) ساقطة من ط. (¬398) لم يستوف كلّ منشئات محمّد باي، وذكرت في الحلل السّندسيّة 2/ 580. (¬399) في ط: «مواجن» ولعلّها المواجل المعروفة بالنّاصرية، وفي الحلل السّندسيّة 2/ 580: «وأحيى ماجل صفاقس بعد دثوره»، وإن كان ماجلا مفردا فالمقصود به فسقية الشّعري الكائنة بطريق العين على مقربة من المدينة خارج السّور. (¬400) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬401) 1691 - 1692 م. (¬402) وهذه العلامة الرّفيعة تشعر أنّ صاحبها من الدولة العثمانية بمنزلة هي أعلى من منزلة باشا تونس: الحلل السّندسيّة 2/ 580.

وفي سنة أربع ومائة ألف (¬403)، شرع في بناء جامعه الأعظم أمام سيدي محرز بن خلف بباب السويقة، فجاء على أسلوب غريب. وفي سنة خمس ومائة وألف (¬404) قدم إبن شكر المذكور بعساكر الجزائر على يد شعبان خوجة حاكم الجزائر واستنجد / أيضا حاكم طرابلس فأنجده بعساكره في البحر إلى بلد العنّاب، فقدم الجميع لمحاربة محمّد باي بتونس (¬405) فتجهّز لهم والتقى الجمعان على الحدادة، فخان محمّد باي عربانه على جاري عادتهم فاختلّت مصافه منهزمين في ثلاثة من القعدة سنة خمس ومائة وألف (¬406). ولمّا بلغ الخبر لتونس عزم الدّاي علي رايس ورمضان باشا لبر الترك (¬407)، وقدم من الغد محمّد باي لتونس فولّى مكان علي رايس إبراهيم خوجة دايا في سبعة من قعدة (¬408)، ثم أخذ محمّد باي في (تحصين (¬409) حصونه وعسكره وحفر خندقا محيطا وأجراه من البحر إلى) (¬410) البحر (¬411) وجمع جموعا أخرى لمدافعة محاربيه (¬412) وتتابعت عليه العساكر من الجزائر بحرا وبرّا مع أهل طرابلس، وتزايد مدد الجزائر بحرا وبرا، رجالا (¬413) وعدة من المدافع والبونبات، ونزلوا بقرب تونس أوائل ذي الحجة، وعقدوا ديوانا على أنّ إبن شكر: باي، ومحمود: داي. ويوم نزولهم وقعت معركة حتّى كاد يفني بعضهم بعضا، ثمّ رجعوا إلى أخبيتهم وبقوا على تلك الحال يرمون المدافع العظام والبونبات ليلا ونهارا حتّى رموا في اليوم الواحد ¬

(¬403) 1692 - 1693 م. (¬404) 1693 - 1694 م. (¬405) محاصرة أسطول الجزائر وأسطول طرابلس لتونس أشار لها شارل فيرو في حوليات ليبية ترجمة محمد عبد الكريم الوافي، دار الفرجاني، طرابلس - ليبيا، 1/ 314 نقلا عن دي هامير الذي جعل هذه الحادثة سنة 1107/ 1695، ولاحظ أن دي هامير يروي ما سبق إستنادا على الوثائق التركية المفتقرة إلى الصّواب في كلّ ما يتعلّق بشؤون إفريقيا. (¬406) 26 جوان 1694 م. (¬407) أي السّفر إلى مركز الدّولة العثمانيّة. (¬408) جوان 1694 م. (¬409) في الحلل: «تصحيح» 2/ 566. (¬410) ما بين القوسين ساقط من ط وت. (¬411) في الأصول: «البر» والتّصويب من الحلل. (¬412) في الأصول: «محاربه». (¬413) ساقطة من ط.

فتنة الداي محمد طاطار

ما ينيف على مائة قنطار بارودا، وأكثر ما يكون أوقات الصّلوات (¬414)، فبقوا على تلك الحالة ثلاثة أشهر ونصف مع توارد (المدد من الجزائر وتراكم العربان وليس مع محمّد باي إلاّ) (¬415) العسكر الّذي معه، ثمّ إنقسم القتال عليه بقسمين وضاق عليه الحال. ففي ربيع أوّل من سنة ستّ ومائة وألف (¬416) فرّ بنفسه، ودخل إبن شكر بايا / ومعه محمود دايا، فدخلا القصبة معا وقلوب عسكر تونس غير راضية، فدخل شعبان خوجة المدينة، وشرع إبن شكر في أخذ أموال النّاس ليرضي العساكر الواردة معه، ثم عزل محمود داي (¬417) وولّي مكانه محمّد طاطار في ثمانية من ربيع الثّاني سنة ستّ ومائة وألف (¬418)، وكان مسرفا في القتل، قتل في مدّة خمسة (¬419) أشهر ما ينيف على ثمانمائة نفس، إتّخذ جبّا يلقي فيه النّاس أحياء بعضهم فوق بعض. ثمّ سافر العساكر برّا وبحرا وأخذ أهل طرابلس مركبين لأهل تونس ذهبوا فيهما لبلدهم. فتنة الداي محمّد طاطار: وخرجت محلّة إبن شكر لخلاص مال الجريد مع فرحات. ورجع إبن شكر من الكاف بعد توديع عساكر الجزائر، فقصد ناحية القيروان، فعامل أهلها بالظلم، وأخذ الأموال، وحمّلهم في ذلك ما لا طاقة لهم به، وأرسل القائد أبا راوي (¬420) لسوسة ووطنها، وكان على قدم طاطار وابن شكر، فمدّ يده لنهب أرزاقهم فضجّوا وخرجوا عن طاعة إبن شكر، وغلّقوا الأبواب، وأرسلوا إلى محمّد باي، وكان إذ ذاك بالصّحراء، كما قام أهل القيروان على ابن شكر، فخرج منها فارا بنفسه وخرجوا عن طاعته وغلّقوا أبوابهم دونه، وأرسلوا البشائر لمحمّد باي يستقدمونه. ¬

(¬414) في الأصول: «الصلاة». (¬415) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬416) في 24 منه / 12 نوفمبر 1694 م. (¬417) لأنّه غير صالح، ومدّة ولايته 13 يوما. (¬418) 26 نوفمبر 1694 م. (¬419) وهي مدّة ولايته. (¬420) في الحلل: «بوراوي» 2/ 575.

هذا وطاطار لم يزل في غيّه فأباح للنّصارى هدم مسجد كان أنشأه علي رايس داي قرب القصبة، فكان النّصارى يتقرّبون بهدمه. فلمّا بلغ البشير لمحمّد باي أسرج وألوى عنانه نحو البلاد، فلمّا قرب من قفصة بلغ خبره إبن شكر وكان محاصرا / للقيروان، فاستنفر جنوده (¬421) لتلقي محمّد باي فالتقى الجمعان بمرق اللّيل قرب وسلات، فانهزم إبن شكر في ستة من رمضان سنة ست ومائة وألف (¬422)، فاستولى محمّد باي على جميع مخلفات (¬423) إبن شكر، ثمّ نادى بالأمان على من سلم من العسكر، ثمّ تقدّم للقيروان، وأرسل خزناداره رجبا إلى تونس ومعه جريدة خيل فدخلها ليلا، فلمّا سمع به النّاس قبلوه بالتّرحاب ورأوا كأنّه (¬424) قد نزل من السّماء لما لاقوا من إبن شكر وطاطار وبقيّة رجاله. وأعلن النّاس بالطّاعة لمحمّد باي ونبذوا طاطار فوقعت مقاتلة، ثمّ إنّ قوم طاطار أدخلوا من وجدوه من العسكر معهم للقصبة (¬425) كرها وغلّقوا أبوابها، ودخل محمّد باي من الغد لتونس، ورتّب عسكره في كلّ ناحية محاصرا للقصبة، ومترسوا ببراميل التّراب، وأقاموا بها ليلا ونهارا، وولي يعقوب (¬426) دايا فبايعه العسكر في إثني عشر من رمضان (¬427) بدار الباشا، فلمّا لم تغن المتاريس في حصار القصبة حاربها بالألغام فلم يتّفق الفتح. ففي القعدة أرسل محمّد باي لحضرة الجزائر العلماء والصّلحاء كسيدي علي عزّوز - رحمه الله - وأضرابه - نفعنا الله بهم - صحبة أعيان العسكر وخوجة ديوان الوقت محمّد خوجة، فركبوا البحر ووصلوا الجزائر فراودوا شعبان خوجة على الصّلح فامتنع وعمل على إرسال نجدة لطاطار، وردّ الشفعاء غير مشفعين، فأقلعوا في البحر من ليلتهم ¬

(¬421) في ط: «جنده». (¬422) 20 أفريل 1695 وفي الحلل: 2/ 578: «يوم السبت 8 رمضان 1106»، وفي الإتحاف 2/ 66: «يوم السّبت ثالث رمضان». (¬423) في الأصول: «مخلفاة». (¬424) في ش: «أنه نزل». (¬425) في ش: «أدخلوا معهم من وجدوه من العساكر كرها للقصبة»، وفي ط: «أدخلوا معهم من العسكر للقصبة». (¬426) بعد أن قتل محمّد باي طاطار شرّ قتلة أنظر ذيل بشائر أهل الإيمان 105. (¬427) 26 أفريل 1695 م.

عود إلى أخبار محمد باي

فعاصفهم (¬428) الرّيح فرجعوا على خوف من شعبان خوجة فكان / من قدر الله تعالى أن رفض عسكره طاعته، فقتل (¬429) وولّوا غيره فدخل عليه الشّفعاء في طلب الصّلح فقبل شفاعتهم، وطاطار متماد على الحصار ويعد قومه بالنّصر والنّجدة من (¬430) الجزائر، ففي غرّة حجة من السّنة المذكورة قام عليه من معه وفتحت القصبة، وخرج طاطار فدخل زاوية سيدي أحمد بن عروس فصدم العسكر الزّاوية، وضرب بالرّصاص وقطع رأسه ولم يدفع الله عنه ما حلّ به لأنّه كان إنتهك حرمة الشّيخ بإخراج المحتجبين (¬431) بضريحه جزاء وفاقا، وكانت مدّة المحاصرة شهرين ونصف، فمدّته سبعة أشهر. عود إلى أخبار محمّد باي: وجدّدت البيعة لمحمد باي يوم فتح القصبة، ثم خرج محمد باي بالمحلّة الصيفية فعصى عليه جبل عمدون (¬432)، فجهّز لهم عسكرا ثانيا ودخل جبالهم وقطع أشجارهم ومهّد الطرق للسّالكين إلى أن طوّعهم، ثم جاء (¬433) شفعاء الجزائر مسرورون (¬434)، ثمّ لمّا رآى في يعقوب داي غلبة السّن والعجز عقد ديوانا لتولية الحاج محمّد خوجة الّذي كان مع الشّفعاء فقبلوه على رضى من عامّة النّاس في ستّ من ربيع أوّل سنة سبع ومائة وألف (¬435)، وفوّض له أحكام المدينة أتمّ تفويض. ثمّ ظهر الخلاف من جبال مطماطة فجهّز لها عسكرا في البحر، وسار هو في البرّ فأتاهم من حيث (¬436) لم يحتسبوا، فقاتلهم وقتل مفسدهم وقاومهم حتّى أطاعوا (¬437) ¬

(¬428) في ش: «فعاسفهم»، وفي الحلل: «فركبوا البحر وبلغوا الجزائر وراودوا شعبان خوجة على الصّلح. . .»، 2/ 579. (¬429) في ط: «فقتلوه». (¬430) ساقطة من ش. (¬431) في ش: «غير واضحة». (¬432) وخمير. (¬433) في ش: «جات»، وفي ت: «جاءت». (¬434) في الأصول: «مسرورين». (¬435) 15 أكتوبر 1695 م. (¬436) ساقطة من ش وت. (¬437) في ش: «طاعوا».

رمضان باي

وأعطوا مجابيهم على جاري العوائد، وكرّ على الجريد فأخذ من القادر وصفح (¬438) عن العاجز / وفي محرّم سنة ثمان ومائة وألف (¬439) جهّز محلّته الصّيفية وجبى المجابي، وأقام بباجة أيّاما فأخذه مبادي المرض الّذي مات منه، فرحل منها ودخل تونس في ستّة وعشرين من صفر من السّنة المذكورة (¬440)، فكانت وفاته ليلة الإثنين سابع عشر ربيع أول سنة ثمان ومائة وألف، ودفن بتربة آبائه. رمضان باي: وتولّى أخوه رمضان باي إبن مراد باي في ثمانية عشر من ربيع أوّل من سنة ثمان ومائة وألف (¬441)، فأبقى عمّال أخيه على طبقاتهم في مراتبهم، وكان ممن بقي من رجال إبن شكر فرحات، فجمع رمضان باي عظماء دولته واستشارهم في وجه الحيلة في تحصيله، فجهّز محلّته الشتوية، ورحل يجرّ على ساحل سوسة وصفاقس. وفي وجهته نقم على الشّيخ محمّد شيخ جربة (¬442) وقتله قصاصا، وتوجّه نحو الجريد، فلمّا سمع به فرحات كاتبه يهنيه، فردّ له جوابا مفرحا مموّها إنخدع له فأرسل أخاه القائد مراد [لرمضان] (¬443) باي، فقبله وأقبل عليه وردّه بهدايا متحفة، ولم يدر أنّ السّم في العسل فظنّ فرحات أنّ الخيالات فرحات (¬444)، فاستشار يوسف بن حسن في حركته فنهاه عن السّير لرمضان باي وقال له: من الرّأي أن نرسل إبني وإبنك له يقيمان عنده سنة كاملة حتّى نرى ما في ضمائره فنكون على بيّنة من أمره، فألقى كلامه وراء ظهره لمّا حان حمامه، فركب في محفل عظيم حتّى قدم توزر في نحو ثلاثمائة نفر أو يزيدون فأكرم رمضان / باي نزلهم، فاطمأنّ وبات فرحات وجماعته في محل فصدهم محمّد بن مصطفى ورجب خزنادار ومعهما جماعة بأسلحتهم وأغلقوا جميع أبواب البيوت ¬

(¬438) في الأصول: «أصفح». (¬439) أوت 1696 م. (¬440) 25 سبتمبر 1696 م. (¬441) 15 أكتوبر 1696 م. (¬442) في الحلل: «وسجنه ثم قتله»، 2/ 590. (¬443) إضافة من الحلل 2/ 591. (¬444) جمع فرحة والتي قبلها إسم شخص.

على من كان فيها، ثمّ صاروا يخرجونهم واحدا بعد واحد للقتل حتّى استأصلوهم وقطعوا رؤوسهم وطافوا بهم في تونس. وفي محرّم سنة تسع ومائة وألف (¬445)، رحل بمحلّته الصّيفيّة، ودخل بها جبل خمير فأذعنوا وأطاعوا. وفي شوّال من تلك السّنة (¬446) زرع مزهود الفتنة (¬447) بين رمضان باي وبين مراد إبن أخيه علي باي بن مراد باي وذلك أنّ مراد كان ذا شهامة وقوّة بطش من صغره، وكان مزهود شديد الوصلة برمضان باي، فثقل ذلك على قلب مراد باي، فانتبه مزهود لذلك فسعى في التّضييق على مراد باي فوضعه رمضان باي في مكان خاص به وجعل عليه العسس، وكان مزهود وجد لذلك راحة وفسحة، فانفتحت له أبواب التّصرّفات (¬448) حتّى مدّ يده بالجور لبعض العلماء كالشّيخ أبي عبد الله محمّد بن محمّد ابن ابراهيم (¬449) فتاتة شيخ الشّيخ أبي عبد الله محمّد زيتونة، فمنعه من التّحديث بجامع الزّيتونة، ثم منعه حتّى الخروج من داره، ثمّ سعى في قتله. وفي سنة عشرة ومائة وألف (¬450)، كانت وفاة الشّيخ أبي الغيث البكري إمام جامع الزّيتونة وخطيبه ومحدّثه المتّصل النّسب بعثمان بن عفان (¬451) - رضي الله تعالى عنه - خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة الخميس ثانية عشرة ربيع أوّل. ثمّ إنّ رمضان باي لمّا جهّز / محلّته الصّيفية حمل مراد إبن أخيه معه تحت نظره، ولمّا رجع ألزمه عدم الخروج من بيته ونصب عليه العسس، وألقاه في زوايا الإهمال، فتواعد مع مملوكه علي الصّوفي أن يحضر له فرسا خارج السّور وينزل له في السّاعة الخامسة من الغروب، وفكّ شباكا من البيت الّذي هو فيه ونزل خفية من حيث لا يشعر به أحد، فلمّا رقى السّور صاح به العسس وعرفوه فجدّوا في طلبه، فدخل حريم عمّه فردّ إلى موضعه، وجدّد عليه عسس أحفظ من الأوّل، ثمّ استشار رمضان باي في شأنه، ¬

(¬445) جويلية - أوت 1697 م. (¬446) أفريل - ماي 1698 م. (¬447) في الحلل: «الوحشة» 2/ 598. (¬448) في ش: «التصرفاة». (¬449) في الأصول: «محمد بن حمودة». (¬450) ليلة الخميس 12 ربيع الأوّل كما سيذكر / 18 سبتمبر 1698 م، وفي الأصول: «في سنة إحدى عشر ومائة وألف» والتّصويب من الحلل 2/ 610. (¬451) والبكري نسبة إلى الشّيخ أبي بكر دفين المنيهلة من غابة تونس كما ذكره السنوسي في مسامرات الظريف.

فمن مشير بقتله، ومن مشير بسجن مؤبّد إلى أن إتّفقوا على تكحيل عينيه بالنّار بحيث لا ينقطع نسله ولا يطمع في الملك، ففعل به ذلك. ثمّ انهمك رمضان في لذّاته حتّى إنقطع عن النّاس في لهوه بالشهور، وانقطعت شكوى المظلوم، يسهر ليله وينام نهاره، فأشفت دولته على الهلاك، واستقلّ مزهود بالأمور. ولمّا جهّز رمضان محلّته الشّتويّة حمل معه إبن أخيه، ثم وضعه بحصار سوسة، ووضع معه مملوكا إسمه سليمان البيّاس ليرقبه، ثم سار نحو صفاقس فأقام بها أيّاما ثمّ لقابس. ثمّ إن مراد باي برئت عيناه على سلامة في نظره ومادة (¬452) نازلة من جفنه يكفها بمجفّف (¬453). فلمّا اطمأنّت به الدّار عمل على الحيلة في خروجه، فأطلع بعض خدّامه على مراده، فعملوا على قتل سليمان البيّاس فقتلوه ثم نقبوا الحصار وأخرجوه، وكان هناك فرس فعقلوه كالبعير، وأخرجوه من النّقب، فوقعوا / في خندق الحصار، فما زالوا طول ليلتهم يسعون في الخلاص إلى أن خلصوا، وكانت له محفظة (¬454) محتوية على آلة (¬455) التّجفيف لما ينحدر من مادّة عينيه من مقص وحمص وخرق وغير ذلك، فلمّا خرجوا سقطت وهم لا يشعرون، فلمّا انفصلوا تفقّدها عند جموم المادة وأظلمت عليه الدّنيا (¬456) وخاف الفضيحة واجتماع المادة، فإذا برجل يركض خلفهم فخافوه فإذا هو صديقهم ومعه المحفظة، فقوي جأشه وثبت عزمه وقوي حزمه فتوجّه للقيروان في أربعة أنفار، ثم صعد جبل وسلات فقبلوه ومالت إليه أنفسهم وعاهدوه لإهمال عمّه المملكة ظنّا منهم أنّه أصلح من عمّه، فلمّا بلغ الخبر لعمّه أمر أهل وسلات باعتقاله فأبوا إلاّ القيام بدعوته، فلمّا أيس منهم رجع إلى تونس وتجهّز لجبل وسلات، فانحاز أكثر النّاس ¬

(¬452) في ش: «مدت». (¬453) في ش: «يجفف»، ونقرأ في الحلل: «فبينما هو في رحلته إذ تخلّص مراد باي من وحلته وكان في الحقيقة ما ضرّ الإكتحال بالنّار من عينيه شيئا، وإنّما وقع الإضرار في أهداب عينيه فقط، ونشأت عنه دمعة يكفّفها» 2/ 634. (¬454) في ت: «محفة». (¬455) في ت: «آلات». (¬456) ساقطة من ط.

مراد باي بن علي

لابن أخيه ولم يبق مع رمضان باي إلاّ ما قلّ من النّاس، ففرّ لسوسة لقصد ركوب البحر ومعه مزهود، فتبعه القوم وصاحوا بمزهود فتمسّك ببرنس سيّده رمضان باي، فخلع رمضان البرنس وتخلّى عنه في يده وهمز فرسه وخلّفه في أيديهم، فحملوه لمراد باي على أشرّ الحالات في ثمان من رمضان سنة عشر ومائة وألف (¬457). ثمّ نزل مراد باي للقيروان وبايعوه بها وبعث لسوسة أمرا بقتل عمّه فوجدوه بزاوية سيدي أبي راوي - نفعنا الله به - فخنقوه بالقلعة وقطعوا رأسه ودفنوه بها، فأمر بنبشه وإخراج رأسه / والبعث به لتونس ليطاف به في (¬458) الأسواق، فكانت مدّة رمضان باي ثلاثين شهرا. مراد باي بن علي: وبايع (¬459) النّاس مراد باي، فعزل محمّد خوجة الدّاي، وولّي محمّد (¬460) آغة الصبايحية دايا فبايعه النّاس، ولمّا دخل مراد تونس بايعه النّاس بها بيعة (¬461) عامّة يوم الإثنين وسنّه ثمان عشرة سنة. وكان مراد في بداية أمره يظهر الشّكوى للنّاس من عينينه ويبدي لوائح العدل والإنصاف، فصدّقه النّاس ولاموا عمّه وهم لا يعلمون ما انطوى عليه باطنه، فلمّا تمكّن تصرّف بعنف وقساوة قلب وعسف، فسفك الدّماء بغير حقّ، وكان يوقف الرجل ويقطّعه قطعا بيده حتّى يفرغ من لحمه فيدخل يده في جوفه وأمعائه، ويتصرّف فيها تصرّف الجزّار في الشّاة، وانهمك في خموره وجاهر بمعاصيه، ولم يفارق السّلاح ليلا ولا نهارا، وكلّ من معه كذلك، فصار ذكره مفزعا للاسماع مسهلا للأمعاء، وكل يوم تزداد القلوب منه رعبا بظهور أمور لم تعهد. ¬

(¬457) 11 مارس 1699 م، وفي الأصول: «سنة إحدى عشرة ومائة وألف» والتّصويب من الحلل السّندسيّة 2/ 636. (¬458) في ش وت: «على». (¬459) في ش: «وبلغ». (¬460) دالي محمّد آغة صبايحية الترك، وكانت ولايته يوم الأحد 23 رمضان 1110/ 25 مارس 1699 م. (¬461) في اليوم الموالي لتولية دالي محمّد دايا.

ثمّ جمع أكابر دولة عمّه ومن جملتهم مزهود فكحّل أعينهم بالنار كما تسبّبوا له في ذلك، ثمّ فقأ أعينهم وعذّبهم بما لم يعذّب به أحد، وقبل العمي (¬462) ألزمهم أن يلعبوا برأس عمّه بأن يتلقّفوه بين أيديهم، وألزمهم سبّه بجميع أنواع الفحش، وألزمهم يغنّون كما كانوا يغنّون لعمّه، وهو يقطع لحومهم بيده ويعبث بذلك، ثمّ نكّل بهم وثقّلهم بالأغلال، فلمّا كانت ليلة العيد قطع رؤوسهم وأمر رجاله أن يقفوا / على أهل كلّ رأس ليعطوا البشارة على موت أعداء سيّدهم مراد باي ولا ينفصلوا إلاّ بجائزة لها بال، ويفعلون ذلك بالأسواق، فجمعوا أموالا عظيمة. وليلة ثالث العيد أظهر من القتل والخمور والفواحش ما عظم على البلاد أمره، ثمّ إنّ الحقوق ضاعت لخوف الخلق من الوقوف بين يديه، وتمادى على قبيح أفعاله وهو ينتقل من غار الملح لبنزرت إلى غير ذلك، ويقتل الخلق ذبحا ورميا بالرّصاص وغير ذلك، ثم ظفر بالأستاذ مفتي المالكية أبي عبد الله محمد العواني القيرواني (¬463) فقتله وأكل من لحمه مشويّا وأطعم خاصّته منه (¬464)، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون وكان ذلك في الكتاب مسطورا. وضيّق الأمر على العباد وتعطّلت الأحكام الشرعيّة والأسباب، فهلكت البلاد، ثمّ توجّه لسوسة فأمر بإحضار كثير من الحطب فأوقد نارا، وأخرج عمّه من قبره وألقاه فيه، وباتت النّار يحطّم بعضها بعضا ومن الغد أمر بجمع رماد عمّه ووضعه في مركب وألقاه في وسط اليمّ كي لا يعرف له قبر (¬465). وأرسل إلى الجزائر بهديّة فردّوها عليه وأظهروا له العداوة لما بلغهم من قبائح أفعاله الّتي تذهل العقول، فلمّا بلغه ذلك شرع في تجهيز محلّته الصّيفيّة واجتمعت عليه جموع لا نهاية لها، فدخل باجة ونقم على أهلها ففروا منه، فردّ العقوبة على ما وجد من دوابهم بجعلها هدفا للرّصاص حتّى أفناها. ثمّ توجّه نحو الجريد / على طريق القيروان فخافوا شرّه لما بلغهم من جوره وما فعل بباجة، وتشوّشت بواطنهم لما يعلمون من عسفه فأعلنوا بالخروج عن طاعته، فلمّا نزل ¬

(¬462) في الأصول: «العما». (¬463) وهو شريف النّسب، وعائلة العواني من كرائم العائلات بالقيروان ومن أقدمها والمترجم ولاّه رمضان باي الفتيا بتونس. (¬464) الحلل 2/ 641. (¬465) الحلل 2/ 644.

بهم أغلقوا الأبواب دونه فقاتلهم حتّى كاد يفنيهم فاستأمنوه، فأظهر الأمن ثم نقض العهد ومسك منهم الشّيخ الإمام خطيب الجامع الأعظم أبا العباس أحمد بن إبراهيم الرمّاح، والشيخ أبا الحسن علي بن أحمد الغرياني، وحملهم أموالا عظيمة. ثمّ استمرّ للجريد ورجع لتونس، وعقد ديوانا على السّفر للجزائر فامتثلوا أمره فأمر بتجهيز آلات الحرب وما يحتاجه من العساكر (¬466)، وتوجّه بذلك نحو قسنطينة ونزل بها، فخرج له أهلها وبايها علي خوجه بمحلّته واستنفر من حولها فجاء بجيش عظيم، فلمّا التقى الجمعان وقعت الهزيمة على علي خوجة سنة إثنتي عشرة ومائة وألف (¬467). وقتل من كان معه (¬468)، فأقام مراد باي على قسنطينة وحاصرها (¬469)، ثم أرسل لهم الأمان فلم يقبلوا لما يعلمون من عسفه وشدّة بطشه ونقمته، فاحتوى على القلعة الّتي بخارج البلد فنهبها وقتل جميع من بها، وأخذ منها ستّة مدافع نحاس فبعث بها إلى تونس، ثمّ هدّم القلعة، ثم أرسل إلى خليل، باي طرابلس (¬470)، مستنجدا به، فقدم عليه واجتمع معه على قسنطينة، فأكرم نزله وأعطاه فوق من كان يؤمل، وأحاطوا بالبلد من جميع جهاته، وطالت محاصرتهم له، إلى أن رفعوا عرض حالهم لعساكر الجزائر فتأهّبوا للخروج لدفع مراد باي / وجموعه عن قسنطينة وعزلوا الداي الذي كان سامعا ولم يدفع الضّرر عن رعيّته وولّوا دايا غيره، ولم يزل مراد على المحاصرة والمقاتلة إلى أن سمع بقدوم عساكر الجزائر، فتلقّاهم بعد محاصرة قسنطينة خمسة أشهر فسار ثلاثة أيّام متوالية من الزروق (¬471) إلى الغروب، فأتعب عسكره وانقطعوا ضجرا من السير ومع ما هم عليه ألزمهم المقاتلة رابع يوم، فأشار عليه بعض نصحائه بالإمهال لتحصيل راحة النّاس فلم يقبل، ورآى ذلك جبنا، فلمّا التقى الجمعان بالحجار الحمر كانت الهزيمة أوّلا على ¬

(¬466) مع الرّغبة في أخذ ثأر والده الذي قتل في مؤامرة شارك فيها الجزائريون، راجع: Charles Ferraud, Annales tripolitaines, p. 188. (¬467) 1700 - 1701 م. (¬468) أي مع علي خوجة. (¬469) عن حصاره لقسنطينة راجع تاريخ حاضرة قسنطينة للحاج أحمد المبارك ص: 12، التذكار لإبن غلبون (ط. 1) ص: 152. (¬470) هو قائد جيش طرابلس لا بايها بعد أن وافقه على ذلك محمّد الإمام داي والد زوجته. راجع عن هذه الأحداث: حوليات ليبية 1/ 317 - 318. (¬471) كلمة عامية يقصد بها طلوع الشمس.

عساكر الجزائر ففزع خليل، باي طرابلس، ففرّ بمن معه، فانثلم عسكر مراد باي، فظن النّاس أنّ مراد باي فرّ مع خليل باي وتبع الخيول بعضها، وبقيت رجالة العسكر وحدها، فعظم الأمر في الإزدحام، ولم يبق الاّ ضرب السّيوف فانهزمت عساكر مراد باي في تسعة عشر من ربيع الثّاني سنة إثنتي عشرة ومائة وألف (¬472)، فرجع مراد باي لتونس وظنّ أنّ أهل الجزائر يتبعونه، فاستنفر أهل الكاف بأهاليهم فأدخلهم تونس، وكذا فعل بتبرسق وتستور (¬473) وما حولها بلدا بلدا، وأخذ يتأهّب للقائهم، فلم تتبعه عساكر الجزائر، ولكن قطعوا رؤوس من كان معه من الزواوة (¬474) وغيرهم من العرب (¬475)، وردّوا عسكر مراد حفاة عراة بعد أن ألزموهم بجر المدافع السّتّة والعشرين الّتي استصحبها مراد باي عند خروجه من تونس عوض الخيل إلى أن وصلوا بها إلى قسنطينة على ظهورهم /. ولمّا ورد عسكر مراد باي من قسنطينة وفّاهم مرتبهم وانتخب منهم خمسمائة نفر وكساهم كسوة عظيمة وبذل لهم من الإحسان فوق الحصر بحيث يأخذ قفة مملؤوة بأكياس الأموال ويخرج يده من طاق الصّراية ويضرب الكيس بالسّيف فينتشر ما فيه من الأموال، فيتخطّفها الرّجال وهو يضحك، ثمّ كيسا آخر وآخر فاستجلب بذلك ودّهم، وكان يأتيه الجندي بحمامة أو أرنب فيجازيه بما يكفيه مؤونة سنة، فصحّح خيله ورجاله وحصّن أبوابه وانتظر من يأتيه من عساكر الجزائر فلم يأته أحد، فلمّا تحقّق رجوعهم لوطنهم أخذ يتحدث في الرجوع إليهم. وفي تلك الأيّام أرسل خليل باي إلى القيروان فتمّم سبيها وهتك حرمها، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وأخرج من بقي بها من الرّجال فجمعهم بذراع التّمّار فاستأصل رقابهم، ورجع جند طرابلس ومعهم أبناء المسلمين من القيروان وبناتهم، وأمر مراد باي بهدم القيروان لتجعل محترثا عدا المساجد والزّوايا. ثمّ جهّز ثلاثة مراكب ليأتوه بالعسكر من برّ الترك وأمّر عليهم إبراهيم الشّريف وكان آغة صبايحية الترك، فاتفق أن كان هناك مراكب الجزائر فالتقى الجمعان بالحضرة ¬

(¬472) كذا بالحلل الّتي ينقل عنها المؤلّف 2/ 649، الموافق 2 أكتوبر 1700 وفي الإتحاف السّابع عشر منه 2/ 75 - 76 والتّحريف كثير بين سبعة وتسعة، وصاحب الإتحاف يعتمد على الحلل السّندسيّة في أخبار الدّولة المراديّة. (¬473) في ش: «تاستور». (¬474) كذا في ب وط وت، وفي ش: «الزواودة»، وفي الحلل: «الزواويين» 2/ 649. (¬475) في الحلل: «ومن انضاف إليهم من جنس العرب».

الخاقانية، وعرض كلّ من الفريقين أحوالهم واشتكوا من الآخرين فخرج التّوقيع على إيجاب الصّلح بينهم، فافترقوا على ذلك، فلمّا قدموا عليه بذلك أبى قبوله وقويت عزيمته على تحريك الفتنة معهم وأنّه يقصدهم. وفيها عزل دالي محمّد الداي / وولّى عوضه قهواجي محمّد (¬476)، وانفرد مراد بالأمر والنّهي في البلاد. وفيها أمر أن لا يدخل عليه أحد من النّاس مطلقا إلاّ بعد نزع برنسه ومسك إثنين له من اليمين والشّمال، وكان يرسل خلف العلماء وأرباب المناصب ويسألهم عن سيرته فمن ساعده وزيّن له عمله وحسّن له قبايحه سقاه طوعا أو كرها شيئا من المسكرات، ومن أنكر وثبت على قدم الحقّ والصّدق هدّده بالموت. ومن جملة عتوّه أنّه جهّز محلّته الصّيفيّة أوائل محرّم سنة أربع ومائة وألف (¬477)، فلمّا خرج بالمحلّة المذكورة وقع نظره على الشّيخ محمّد شيشار رئيس المؤذّنين بجامع جدّه حمّودة باشا فقال له: ألست عسكريّا؟ ما لي أراك بغير سلاح في مثل هذا الموكب؟ وأمر خدمته بوثاقه ثمّ أرسل به من الغد إلى الدّيوان فجلده ثلاثمائة سوط وردّه للسجن مع كبر سنّه وعجزه عن حمل السّلاح، ثمّ أرسل لجميع المؤذّنين بجوامع الحنفية المعدودين من جملة العسكر فسجنهم وبعث بهم إلى الديوان، وأوصل كلّ واحد منهم خمسمائة سوط، ثمّ أرسل لهم طبيبا يختبرهم فمن وجده لم يؤثّر فيه الضرب أعاده عليه فتفطّرت من ذلك الأكباد، وضجّت العباد، واقشعرّت البلاد، وربّك بالمرصاد. فاتّفق أنّه مكر بهم يوم السّبت فما أتى السّبت الّذي يليه إلاّ ورأسه على رمح يطاف به في الأسواق، وسبب ذلك أنّه لمّا خرج بتلك المحلّة، توجّه لنحو باجة مصرّا على الإرتحال للجزائر / ولم يرتض ذلك أحد من العسكر، فلمّا نزل وادي الزّقاق جدّد ذكر عزمه للجزائر، وبيت تلك اللّيلة على الرّحلة، وركب من الغد في كرّوصته وسار على عادته إلى أن بلغ وادي الزّرقاء (¬478) ويسمّى وادي البول هجم عليه إبراهيم الشّريف الّذي كان وجّهه لجلب العساكر من برّ الترك فرماه ببندقية (¬479) زنتها أربعة وعشرون ¬

(¬476) في ط وب: «محمّد الدّاي». (¬477) أواخر ماي 1702 م. (¬478) في الأصول: «الزرقة»، والتّصويب من الحلل 2/ 673. (¬479) في الأصول: «بندقة».

إبراهيم الشريف

درهما مع كثير من الحب الصّغير، فنزل بحرارة الضّرب إلى الأرض وضرب إبراهيم الشّريف بحبة رصاص أصابت فخذه فلم تؤذه، ونزل رفقاء إبراهيم الشّريف عن خيولهم وقطعوا رأس مراد (¬480) باي بالسّيف وأرسلوا خيلا إثر حسين (¬481) ومراد ولدي محمد باي فقطعوا رأسيهما في الحال وأرسلوا رؤوس الثلاثة إلى تونس، وكان بها من ذرّية مراد باي واحد من البله إسمه حمّودة بن [حسين] (¬482) بن مراد قطعوا أيضا رأسه، ولحمّودة ولد صغير عمره أربع سنين فقطعوا رأسه أيضا، ووضعوا الرؤوس الخمسة ببطحاء القصبة. وممّا شاع أنّ ولاية بني مراد كانت على قدر ولاية بني أمية ألف شهر تقريبا، ويقولون أوّلها مراد وآخرها مراد فكان كذلك (¬483). إبراهيم الشّريف: وتولّى بعده إبراهيم الشّريف يوم السّبت ثالث عشر محرّم فاتح سنة أربع عشرة ومائة وألف (¬484)، فسار أولا سيرة حسنة وأبقى ذوي المراتب على مراتبهم إلاّ قاسم بن أحمد فإنّه عذّبه بالسّجن / حتّى أيس من خلاصه فشرب مقتلا (¬485) ومات في سجنه واستمرّ إبراهيم الشّريف، فسافر لباجة وجبى مجابيه على جاري العادة، وأرسل لتونس بعزل الدّاي محمد قهواجي، وولّى عوضه قاره مصطفى دايا يوم الثّلاثاء ثاني عشر صفر سنة أربع عشرة ومائة وألف (¬486)، وجعل آغة القصبة كاتبه محمّد الأزعر (¬487)، ثمّ رجع من سفره ونزل بدار الباي من تونس. ¬

(¬480) مراد باي هذا يعرف بمراد أبي بالة لسيف له سمّاه بذلك، وإذا مرّ ولم يقتل أحدا يقول: «إنّ البالة قد جاعت» ويخرج بها فيقتل من صادفه. (¬481) في الأصول: «حسن». (¬482) ساقطة من ش. (¬483) أنظر تفصيلها وتحليلها في الحلل السّندسيّة 2/ 673 - 674. (¬484) 9 جوان 1702 م. (¬485) أي زعفرانا. (¬486) 8 جويليه 1702 م، وبعدها في ط: «وأنّ هذا المرحوم المنعّم برحمة الحيّ القيّوم إبراهيم الشريف أبطل جميع القضاة الملتزمين بعمالة تونس حسبما هو مبيّن بأمره مضمونه بعد الخطاب إلى قائد صفاقس: «السّلام عليكم فالّذي أعرّفكم طبق وصول أمرنا هذا إليك تبقى تبعث للقاضي متاع البلد المذكور يرفع يده وأنّنا أبطلنا جميع القضاة الملتزمين في عمالتنا ولا بقت لزمة على القضاة وحضّر جميع أهل بلد صفاقس ويختارون بأنفسهم رجلا مليحا بهم وممّن يصلح أن يكون قاضيا يقضي بين النّاس فيما لهم وعليهم ويكون ديّنا ويكتبون له عدالة - بالتّقديم بأنّهم رضوا به بأنّه يكون قاضيا عليهم ويحكم بين النّاس بالحقّ بما أتت به السّنّة المحمّدية ولا يأخذ من المتحاكمين شيئا سواء كان مدعي أو مدّعى عليه ولا يأخذ على الوفى ولا على جميع القوانين شيئا وجعلنا له من عندنا أربعة نواصر في كلّ يوم تبقى تدفع له العدد المذكور ونحن نحاسبك بذلك والذي نسمع به أعطاه شيئا أو أخذ هو من الناس شيئا حتى ناصري واحد يقع فيه الحكم الشّديد والسّلام من الفقير إلى ربّه الشّريف إبراهيم [دالي] باي وفّقه الله أواخر رجب سنة أربعة عشر ومائة وألف» وبمحوله طابعه وقف عليه كاتبه وابتداؤنا وأن هذا المرحوم المنعّم برحمة الحيّ القيّوم إبراهيم الشريف وجدته في الطّرّة فجعلته في الصّحيفة خوفا من ضيق الطّرة الخ. وهذا النّص موجود في «ب» في غير هذا الموضع وسنشير إليه في الإبّان، وهو كما ذكر في آخره، وجد في الطرة، ربّما بقلم المؤلف ولكن الناسخين اجتهدا كلّ من جهته فأدمجاه دون أن يوفّقا فبدا وكأنّه حشو. وخطاب إبراهيم الشّريف هذا، مع اختلاف يسير في الإملاء معروض بمتحف الفنون والتقاليد الشعبية بصفاقس ومحفوظ تحت رقم 1129 وهو من الوثائق التابعة أصلا لآل النوري. (¬487) محمد خوجة الأزعر، وكان يكتب بين يديه لما كان آغة الصبايحية.

وفي تلك الأيّام ظهر مملوك من مماليك [آل] (488) مراد إسمه [علي] (¬488) الصّوفي فشنّ الغارة على المسلمين، وانضمّ إليه أوباش وطائفة مفسدون، واستند إلى قلعة سنان، وتزايد توارد الأخباث عليه، فبعث إليه إبراهيم الشّريف محمّد بن مصطفى (¬489) وكان من أعالي خاصّته ففاجأه (¬490) ليلا فوجد باب القلعة مغلقا، فخلعه وتسوّر عليه داره وهو في فراشه، فقطع رأسه وأراح العباد من بغيه. وفي سابع جمادى الآخرة سنة أربع عشرة (¬491) عزل قاره مصطفى بعد ما مكث ثلاثة أشهر وأربعة وعشرين يوما وأرسله إلى المنستير، وصار يكتب أوامره «إبراهيم الشريف باي داي». ثمّ خرج بمحلّته الشّتائية فنافق عليه جبل عياش (¬492) قرب قفصة فأخذه، وعصاه [بعض] (¬493) دريد فمسكهم وتصرّف فيهم، ورجع إلى القيروان (¬494) وأمر أهلها بالرّجوع إليها. ¬

(¬488) إضافة من الحلل 2/ 676. (¬489) المعروف بابن فطيمة: «الإتحاف 2/ 81». (¬490) في ش وب: «ففجاه»، وفي ط: «فجاءه». (¬491) 29 أكتوبر 1702. (¬492) في الأصول: «عياشة». (¬493) إضافة من الحلل للدّقّة. (¬494) كذا في ت، وفي بقيّة الأصول: «وراجع القيروان».

وضرب سكّة النواصر (¬495). وفي ذي الحجّة ظهر أحمد بن سليمان باي (¬496) قائما في البلاد فجمع أهل / الفساد، فجهّز له إبراهيم الشّريف العساكر وخرج في أربعة من المحرّم سنة خمس عشرة ومائة وألف (¬497) وقصده نحو السّرس، فالتقى عسكر من عساكر إبراهيم الشّريف بأحمد بن سليمان فوقعت الهزيمة على جيش إبراهيم الشّريف، فرحل أحمد بن سليمان نحو إفريقية بقرب جندوبة، وتبعه إبراهيم الشّريف، والتقيا في الحادي عشر من محرّم المذكور، فانهزم أحمد بن سليمان وتشتّت جمعه وكان ينيف على ثلاثين ألف، ولم يكن مع إبراهيم الشّريف إلاّ نحو ثمانية آلاف، فقصّ آذان القتلى وبعث بها إلى تونس فكانت أزيد من ثلاثمائة زوج، ثمّ دخل جبال خمير وعمدون بنفسه، وقطع قطعة من محلّته وأمّر عليها حسن آغة الصبايحية، وبعث بها نحو القيروان حرسا من العدوّ، فبلغ ذلك أحمد بن سليمان فقصدهم فجأة وصدمهم برئيس (¬498) قومه جلال بن المسعي (¬499)، فانتبه له حسن آغة ونصب لهم كمينا، فلمّا (وردوا ماء المنايا ضربوا) (¬500) جلالا فسقط عن فرسه فقطع رأسه وبعث إلى تونس، فاستراح النّاس من بغيه. وفي سنة ستّ عشرة [ومائة وألف] أتت هدايا لإبراهيم الشّريف من مصر خيول مسوّمة وغيرها، فدخل الرّكب (¬501) إلى طرابلس فمد خليل باي (¬502) يده إليها واغتصبها فكاتبه إبراهيم الشّريف في شأن ذلك فامتنع وأغلظ القول في ردّ الجواب. وفيها جهّز إبراهيم الشّريف مراكب صغارا للغزو في سبيل الله، فغنمت إحداها غنيمة بها / ثلاثون نصرانيا وعدّة صناديق بها أموال جزيلة، فدخلوا طرابلس فأحضرها خليل باي بين يديه واغتصب منها أحد عشر نصرانيا واحتاط على الأموال بأسرها فلم يبق ¬

(¬495) بعدها في «ب»، نص خطاب إبراهيم الشّريف إلى قائد صفاقس المشار إليه في صفحة 177، هامش 3، والمتعلّق بعزل القضاة الملتزمين وتسمية غيرهم. (¬496) إبن رمضان باي مولى مراد باي الأوّل: الإتحاف: 2/ 81. (¬497) 20 ماي 1703 م. (¬498) في الأصول: «رايس». (¬499) كذا بالأصول والحلل 2/ 683، وفي الإتحاف 2/ 81: «جلال بن مسعي الرزقي». (¬500) في الأصول: «ووردوا ضرب» والتّصويب من الحلل 2/ 683. (¬501) في الأصول: «المركب» والتّصويب من الحلل. (¬502) هو خليل الأرنؤوطي الّذي صار حاكم طرابلس.

منها ولم يذر، واغتصب عدّة صناديف بها آلات حرب (¬503) وطردهم (¬504)، فلمّا علم بذلك إبراهيم الشّريف ورآى تجرّؤ (¬505) خليل جمع جموعه ونصب ديوانا في شأن تعدي خليل، فكان إتفاق الدّيوان على المدافعة والذّبّ عن المال (¬506)، فتجهّز إبراهيم الشّريف للخروج على طرابلس لمقاتلة خليل باي، فقدم قهواجي عثمان من الجزائر يحرّضه على النّهوض لطرابلس، وأرسل عساكر الجزائر مركبين لإبراهيم الشّريف يطلبون منه الميرة لقحط بلادهم تلك السّنة، فتعلّل إبراهيم الشّريف باشتغاله بالسّفر وعدم حصول الذّخيرة، وأرسل لهم مائتي قنطار بشماطا، فلمّا جاءهم ذلك جمعوا ديوانا وقال حاكمهم: ألا ترون إلى إبراهيم الشّريف يعطي القمح للنّصارى ويمنع المسلمين فما يريد إلاّ توهين عساكر الجزائر ليتقوّى عليها، فخرج إبراهيم الشّريف إلى طرابلس في العشر الأواخر من جمادى الآخرة سنة ستّ عشرة ومائة وألف (¬507)، فالتقى الجمعان في إثني عشر من شعبان (¬508)، فلم تكن إلاّ ساعة وانهزم خليل باي وأخذ منه مدفعين (¬509) نحاس وثمان رايات وبغلين محملين (¬510) مالا، ومات من قوم خليل أزيد من ألف نفس وأسّر منه مثلها، وفرّ خليل هاربا فتبعته خيول إبراهيم / الشّريف فتنكّر ودخل المدينة خائفا من قومه حيث أوردهم هذه الموارد وما فعل بأهاليهم، ومكث إبراهيم محاصرا لهم (¬511) فضايق بالبلد أشدّ مضايقة فطلبوا العفو وبذلوا المال (¬512)، فأبى وامتنع، فتجدّد الحرب ¬

(¬503) في ش: «الحرب». (¬504) والسبب أن خليل باي بينه وبين مراد باي مودّة محكمة، وآسفه ما وقع به من فتكة إبراهيم الشّريف، فغضب لذلك وناصب العداوة له كلّ ذلك ليثير غضب إبراهيم الشّريف ليكون هو المبتدئ بالحرب. الإتحاف 2/ 82. (¬505) في الأصول: «تجري». (¬506) «هذا وحاكم الجزائر إذ ذاك يغري خليل باي على تلك التّجرّؤات ويعده أنّه في نصرته، وكذلك يغري إبراهيم الشّريف بمثل ذلك، ومكاتيبه تزرع النصيحة في آذان كلّ من الفريقين بما يثير الفتنة ويوقد نارها، ويطير بأجنحة الحزم شرارها، وكان قهواجي عثمان منفيا بالجزائر بعد أن كان حاكما بطرابلس فجهّزه وأرسله إلى إبراهيم الشّريف إغراء في الحركة، وأرسل إثر ذلك مركبين لإبراهيم الشّريف يطلبهما موسوقين قمحا لأنّهم كانوا في قحط ومجاعة»: الحلل السّندسيّة 2/ 696 - 697. (¬507) في 26 منه / 26 أكتوبر 1704 م. (¬508) من السّنة المذكورة / 10 ديسمبر 1704 م. (¬509) في الأصول: «مدفع». (¬510) في الأصول: «بغلان محملان»، وفي الحلل: «وبغلتين بالمال» 2/ 697. (¬511) ساقطة من ش وط. (¬512) وذلك بواسطة حسين بن علي كاهية إبراهيم الشّريف: الإتحاف 2/ 82.

بين الفريقين ولم يزل متماديا حتّى قام الطّاعون في المحلّة ومات منها خلق كثير وفرّ عنه العرب (¬513). وبلغه أن عساكر الجزائر قادمة عليه فثنى عنان فرسه إلى تونس وتأهّب للقائهم، وحصّن حصار الكاف وجدّد بناءه، وحصّن الأسوار وأقام فيها أخاه محمّدا وعمّر الحصار بجميع ما يحتاجه من طعام وآلة حرب، وخرج بمحاله أوّل يوم من محرّم فاتح سنة سبع عشرة ومائة وألف (¬514). وكان من نظره أن بنى بالجبل الأخضر المشرف على تونس حصارا يمنع به مدينة تونس من الضرر الوارد عليها، ثمّ زاد برجين آخرين بذلك الجبل. ووقع الطّاعون بتونس فبلغ سبعمائة كلّ يوم، فأحصي من مات في ستّة أشهر فكان أربعين ألفا، فما خفّ الطّاعون إلاّ وعساكر الجزائر (¬515) قرب الكاف فزاد إبراهيم الشّريف في تقوية الكاف بالرّجال وبقي بالمرصاد، وعوّل على أنّهم إن التفتوا للكاف فالحصار قوي وهو من خلفهم، وإن تقدموا نحو تونس فهو محيط بهم، وجرّد لذلك جميع من استحسنه من العرب والعجم، فلمّا نزلت عساكرهم وبقوا منه رأي العين فرّ أولاد سعيد وتبعهم أمثالهم من العربان (¬516) ولم يبق معه غير صبايحية الترك / وقليل من العرب (¬517)، وفرّ صاحب سرّه محمد بن مصطفى (¬518) وتبعه (¬519) دريد وبقوا على حالهم إلى سبعة عشر من ربيع أوّل (¬520) فنزلوا وادي الرّمل قرب الكاف، وطلبوا من إبراهيم ¬

(¬513) فارتحل عنها أواسط رمضان 1116 / أواسط جانفي 1705، ودخل تونس في أواسط شوّال / أواسط فيفري: الإتحاف 2/ 82، وعن حملة إبراهيم الشّريف على طرابلس وما صاحبها من أحداث أنظر: التّذكار لابن غلبون (ط.1) ص: 156 - 157، حوليات ليبية 1/ 333 - 340، المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب، مكتبة الفرجاني، ليبيا بدون تاريخ، ط.2، ص: 281، وأنظر أيضا Annales - A. Rousseau Tunisiennes ، دار بوسلامة تونس 86 - 87. (¬514) 25 أفريل 1705 م. (¬515) وحاكم الجزائر هو عشجي مصطفى بفتح العين وسكون الشين، ومعناها طباخ بالتركية وكان وظيفة من أهمّ وظائف الدّولة التّركية بالجزائر، فكان هو النّاظر على مطابخ دار الدّاي: تعليقات الأستاذ نور الدّين عبد القادر في أواخر كتاب تاريخ حاضرة قسنطينة. وفي الإتحاف 2/ 83: «عشي»، وهو تحريف ظاهر. (¬516) «الذين استباح أموالهم وقتل ذريتهم واستاق إبلهم وخيلهم»: الإتحاف: 2/ 83. (¬517) «الذين آثروا حقّ الوطن على أنفسهم»: الإتحاف 2/ 83. (¬518) المعروف بابن فطيمة، نفس المرجع. (¬519) في الأصول: «وتبعهم». (¬520) سنة 1117/ 8 جويلية 1705 م.

الشّريف [وجها للصلح] (¬521) على أن يعطيهم جانبا من المال له خطر عظيم وألف بعير على شرط أن يقطعوا رؤوس من عندهم ممّن تسبّب في إنشاء الفتنة ويرسلون له رؤوسهم، ويعطيهم أولاده رهائن حتّى يستوفوا ما طلبوا، فصعب عليه إرسال أولاده وقال: والله لا أفعل هذا ولو قطّعت إربا إربا، فقام خليفته إذ ذاك المرحوم برحمة الله سيدي حسين باي وقال لإبراهيم الشّريف: إذا لم تطب نفسك بإرسال أولادك فأنا أرضى أن أكون بنفسي عوضا عن أولادك رغبة في إطفاء نار هذه الفتنة حتّى تستوفي لهم ما طلبوا، وانفصل الفريقان عن هذا الرّأي، فذهب الرّسل إلى أكابر عساكر الجزائر يخبرونهم بما انفصل عنه المجلس، وإذا بابراهيم الشّريف أذن لجميع جنده بالرّحيل لمقاتلة العساكر الجزيرية فسمع الخليفة المذكور ذلك فاستكره ورآه نقضا للعهد، فعارضه فلم يقبل لما في سابق (¬522) قضاء الله وقدره. [الكامل] إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأوّل ما يجني عليه إجتهاده فلمّا رآه مصمّما لم يسعه إلاّ الإسعاف إذ هو مشير ناصح وليس عليه الإلجاء فعند ذلك إستدعى آغة صبايحية الترك وأوقفه على مائتين من صبايحيته في طريق معلوم وأمره / بتثبيت قدمه، وعين غيره من الآغوات في محلّ مخصوص، وتقدّم ببقيّة العسكر ليأمرهم بالنّزول، وصعد إبراهيم الشّريف إلى محلّ هناك فأبصر عساكر الجزائر وقد انحدرت كالسّيول وانتشرت على وجه البسيطة بأنواع المشاة والخيول، فلمّا رآى إبراهيم الشّريف ذلك كسّر في درعه، فلم يكن له من الرّأي إلاّ إستدعاء الخليفة للإستشارة وقد بدت بروق الحرب ورعوده، فقال: لا يسعني أن ألوي عناني في مثل هذا الموقف الصّعب الهائل (¬523)، وما بقي إلاّ ثبوت الأقدام على المصاف، فألحّ عليه بالإرسال لتزلزل قدمه وذهاب جأشه لما أراد الله من زوال ملكه، فلما أيس إبراهيم الشّريف منه إستدعى آغوات (¬524) الصبايحية ممتثلة (¬525) ولم تنظر في وخامة عاقبة هذه الإجابة، فلمّا وصلت ¬

(¬521) إضافة مستوحاة من الحلل 2/ 704، يقتضيها السّياق. (¬522) في الأصول: «لما سبق في سابق». (¬523) في ط: «الحائل». (¬524) في ط: «استدعى على أغوات». (¬525) في ط: «تمثله».

خيوله الّتي استدعاها وجدوه في مكان وعر لا يمكنهم وصوله فساروا في ظلّ الكهف، وكلّما استرجعهم الخليفة لم يقبلوا فتفرّقت عساكر إبراهيم الشّريف، واختلّ (¬526) المصاف وأخذوا في القهقرى (¬527)، فازدحمت الأعراب على إمساك إبراهيم الشّريف إلى أن وقع في شعاب (¬528) يعسر الخلاص منها، فأحاطوا به فأيس من الخلاص، فقاتل بقدر الطّاقة فكبت به فرسه مرارا إلى أن مسكوه حيّا وساروا به لحاكم العساكر الجزائرية، فانهزم الباقي من عساكره، فقيّد ونصب عليه العسس في ثمانية عشر من ربيع / أوّل سنة سبع عشرة ومائة وألف (¬529)، فكانت مدّته ثلاث سنين وشهرين وخمسة أيّام. ثمّ أخذوا طابعه وأرسلوه إلى أخيه محمّد ببرج الكاف على أنّه يأتي طوعا أو كرها (ويضاف إلى أخيه في قيد واحد) (¬530)، وكان بالبرج تسعمائة نفس فثبت البعض على القتال، وطلب البعض المسالمة، فلم ينفصلوا عن طائل، فقام السلاقجي أحمد (¬531) وكان رئيس القوم إذ ذاك فقال: من الرّأي أن نسير بأنفسنا ونشاهد إبراهيم الشّريف بأعيننا فإن كان محبوسا عندهم فما لنا إلاّ التّسليم، وإلاّ دافعنا عن أنفسنا، فسار ورجع عند الغروب، وأخبرهم بما عاين، فسلّموا (¬532) محمّد أخا إبراهيم الشّريف لطالبه، فلمّا وصل وضعوه في الأغلال مع أخيه إبراهيم، وأخرجوا جماعة العسكر من البرج بغير سلاح، ونهبوا ما فيه من سلاح وذخيرة طعام تكفيهم سنين متطاولة (¬533). ¬

(¬526) في ش: «اختلت». (¬527) كذا في ط وب، وفي ش: «القهقرا». (¬528) في الأصول: «شعب»، وفي الحلل 2/ 706: «يعسر تخلص المنفرد منها». (¬529) 10 جويلية 1705 م. (¬530) في الأصول: «يأتي طوعا أو كرها إلى أخيه» والتّصويب من الحلل السّندسيّة 2/ 707. (¬531) في الأصول: «محمد» والتّصويب من الحلل. (¬532) في الحلل 2/ 707: «ونزلوا بمحمد أخي إبراهيم الشّريف بالسّبحة ودلائل الخيرات على وجه الأمان. ولما وصلهم وصلوه بالأغلال مع أخيه إبراهيم الشّريف ولم يكن للعهد والأمان إلاّ ما شاهدوه لفظا» الحلل السّندسيّة 2/ 707. (¬533) «ومن المال والأثاث ما يخرج عن الحصر، ونهبوا البلاد والعباد، وأضرّوا بالنّساء والبنين، وتصرّفوا فيهم تصرف من يزدري بالبعث، وليس له عن خبر الوقوف بين يدي أحكم الحاكمين بحث، حتّى أنّ الذي احتمى بزاوية أو بيت من بيوت الله أخرجوه كرها وسلبوه، ونبهوه عن الجبن والخذلان ونهبوه، وخرّبوا الدّور والمساكن وحاكمهم فرح بما يحزنه يوم الفزع الأكبر وكل من سوّد الله وجهه بذلك الغرور وسلم في القلعة ندم حيث لا ينفعه الندم، وباء بالإدبار وفضيح الأخبار» الحلل السّندسيّة 2/ 707 - 708.

حسين بن علي وقيام الدولة الحسينية

وانسابت العربان لنهب (¬534) البلاد والعباد وأضرّوا بالبنين والنّساء ولم يحم منهم أحدا مسجد ولا زاوية، وأخربوا الدّور والمساكن (¬535). وتقدّمت العساكر حتّى نزلوا على تونس لتسعة عشرة خلت من جمادى الأولى، ورحلوا ليلة الأربعاء الثامنة عشر خلت من جمادى الثانية (¬536)، وصحبوا معهم إبراهيم الشّريف حيّا فبقيت البلاد بلا باي ولا داي. فقام الخليفة المشار إليه مقامه مستمسكا بحسن عهده / حاكما بمقتضى خلافته عن إبراهيم الشّريف منتظرا قدومه، وبذل في استخلاصه أموالا حتّى خلص من سجنه ثمّ استقدمه لحضرة تونس تمسّكا بالعهد فاكترى مركبا وتوجّه فيها نحو الحضرة فأدركته منيّته قبل وصوله لتونس. حسين بن علي وقيام الدّولة الحسينية: فعند ذلك إجتمع أهل الحلّ والعقد من العلماء وأكابر العسكر بتونس فنصبوا ديوانا لتولية من يصلح للقيام بأمر الخلق، فلم يجدوا أصلح من المقام الأرفع والصّدر الهمام الأمنع ذو السّياسة اللّطيفة والمكارم المنيفة سيدي حسين باي بن علي - رحمه الله تعالى - ورحم أسلافه وبارك في عترته وأخلافه فجددوا بيعته (¬537) وأبقوه على ما هو عليه ¬

(¬534) ساقطة من ط. (¬535) إنتهى نقله من الحلل السّندسيّة 2/ 708، وعن حصار الجزائر لتونس ومقاومة حسين بن علي لها أنظر مثلا: الحلل السّندسيّة 3/ 23 - 48. (¬536) وحاصروا تونس (العاصمة) مقدار الأربعين يوما، فضجروا وعجزوا عن المقاتلة ورحلوا بليل على حين غفلة وساروا على أشر حالة: ذيل بشائر أهل الإيمان ص: 108. (¬537) وقعت بيعة حسين بن علي في 20 ربيع أوّل 1117/ 12 جويلية 1705 م، الحلل 3/ 9 وفي ذيل البشائر ص: 108: «لثلاث بقين من شهر ربيع الأوّل». «تزايد سنة ستّ وثمانين وألف 1086/ 1675، قدم والده من بلاد الرّوم وأصله من جزيرة كندية، كان أبوه قائدا لزمام العربان توفي سنة 1087/ 1676 ونشأ إبنه حسين في خدمة أمراء إفريقية وباياتها وخدم محمّد باي ومن بعده أخاه رمضان باي، ومن بعده حفيده مراد باي ثم بعده القائم إبراهيم الشّريف باي. . .» ذيل البشائر ص: 112. وانظر عن حياته قبل توليته الإتحاف 2/ 85 - 87.

من ولايته لما يعلمون من شفقته وعطفه وحسن عهده وسلامة صدره من المكر والحقد والغدر، ولما جبله الله عليه من اللّين والرفق وحسن التّدبير والسّياسة، ففرح الخلق عامّة من أهل تونس وأوطانها وعجمها وعربها وبلدانها بتوليته، وسقط في يد أهل الفساد ما كانوا يتمنّون، وازداد أهل الخير فرحا به لما كانوا منه يرتقبون، وهو الّذي بشّر به الأولياء والصلحاء، وارتقب دولته العلماء والفضلاء قبل توليه بل قبل وجوده كالشّيخ المجذوب الصّاحي سيدي عبد السّلام الأسمر الطرابلسي الفيتوري تلميذ سيدي أحمد زرّوق وسيدي عبد الواحد / الدّكالي وكان من أهل القرن العاشر فإنّه بشّر به وبعترته قبل وجوده وأنه صاحب تونس، وأنه به تعمر، وهو الّذي يسعد الله به البلاد والعباد، فوقع كما قال ونصّه: «وأمّا تونس فمن حين يموت سبطها المسمّى باسم ولد فاطمة وعترته لا خير فيها، آه آه، آه على أهل إفريقية بعد السبط حسين، ولا يأت أمير أحسن منه إلى انقراض الدّنيا» ونوّه بذكره في مواضع كثيرة من وصيّته، كما نوّه كثيرا بذكر أحمد باشا قرمانلي (¬538)، وكذا الشّيخ الفاضل أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الجمّني (¬539) - رحمه الله ونفعنا به - بشّر سيدي حسين باي - رحمه الله - بالتّولية، وأوصاه بالرّفق بالرّعيّة، ودعا له بالبركة والتّأييد، فطلب من الشّيخ السّتر خوفا من أمير وقته فقال له: لا عليك من بأس فإنّ الله تعالى أولاك ملكه واستخلفك في أرضه على عباده {قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ} الآية (¬540) وكذلك الشّيخ الفاضل أبو الحسن سيدي علي النوري (¬541) أوصاه بمثل ذلك، ومن ثمّ قوي إعتقاده في أولياء الله، وكثرت محبّته للأولياء والعلماء وأهل الخير المنتسبين لجنب الله، وعظمت رغبته فلاحظ الأحياء والأموات بكلّ ما تيسر من الخيرات، فمن ثمّ نمت بركاته، وتزايدت خيراته، وبارك الله فيه وفي عترته، فهو سبب سعادة أهل بيته، وفّقنا الله وإيّاهم لما يحبّه ويرضاه، وأجرى الصالحات / على أيديهم وبارك فيهم. ¬

(¬538) في ت: «قرمالي»، وفي بقية الأصول: «من مالي» وأحمد قرمانلي هو مؤسس الدّولة القرمانللية بطرابلس، وتولاّها من سنة 1714 إلى سنة 1745 م. (¬539) 1037 - 1134/ 1628 - 1722 م، الفقيه الزّاهد صاحب المدرسة الجمنية بحومة السّوق بجربة، مؤلّف هذا الكتاب من تلاميذ تلامذته وسيترجم له المؤلف فيما بعد. (¬540) سورة آل عمران: 26. (¬541) علي النوري 1053 - 1118/ 1644 - 1706 م صاحب المدرسة النورية بصفاقس وصاحب الفضل عليها، سيترجم له المؤلّف فيما بعد.

وكان - رحمه الله تعالى - عفيف البطن من المسكرات والفرج من الفواحش والمنكرات. فاستقامت (¬542) أحواله وانتظمت آماله، وسعدت رعيّته بسعده، ودافع عنهم بجدّه وجهده، فجزاه الله عن نفسه وعن رعيّته ما هو أهله، ومزاياه وفضائله بحر لا ساحل له. وهذه العجالة لا تفي باستقصاء مآثره، وقد اعتنى بجمع ذلك جماعة نبلاء كالشّيخ أبي عبد الله محمّد الوزير (¬543) وأضرابه (¬544) فذكروا من مزاياه ما يثلج (¬545) صدر أهل الخير والفضل الّذين يفرحون بالأمر الصّالحين المحسنين لرعاياهم، وامتدحه الشعراء من كل مكان فأحسن جوائزهم، ووفدت (¬546) عليه الوفود فأكرم نزلهم وأحسن وفادتهم. وافتكّت عساكر الجزائر - رحمهم الله - وهران من يد عدوّ الدّين أواخر شوّال سنة ثمان عشرة ومائة وألف (¬547) ثمّ ارتجعها النّصارى حتّى افتكوها على يد الأمير محمّد، باي تلمسان، حسبما أشرنا إليه عند تعرضنا لذكر بلد الجزائر. وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف (¬548) قدم خمسة أغربة من مالطة - دمّرها الله - دخلوا جزيرة الجنان بنواحي (¬549) البقالطة فنزلوا البر لأخذ الماء، فهجم عليهم أهل وطن المنستير، فدخلوا عليهم الجزيرة، فانهزم الكفّار ومات منهم نحو المائة والعشرين، وأسّر المسلمون منهم نحو المائتين، واستشهد من المسلمين اثنان وكانوا قبل / ذلك باتوا على صفاقس ليلة واحدة، فرموا عليهم بالمدافع فأصابوا سفينة كبيرهم ففرّوا هاربين مخذولين. ولسيدي حسين باي - رحمه الله تعالى - مبان (¬550) عظيمة فمنها صهريجه العظيم الشأن بتونس، وهو مشهور باسمه، ومنها مسجده الأنور بمدينة تونس، ومدرسته المتّصلة ¬

(¬542) في الأصول: «استقت». (¬543) هو السراج الأندلسي الأصل في كتابه الحلل السّندسيّة في الأخبار التّونسيّة. (¬544) مثل الشّيخ محمد سعادة في قرة العين. (¬545) كذا في ط، وفي ت: «يلج»، وفي ش وب: «ينج». (¬546) في الأصول: «وفد». (¬547) 3 فيفري 1707 م. (¬548) 1718 - 1719 م. (¬549) من ولاية المهدية. (¬550) في الأصول: «مباني».

به على أبدع نظام وأبهج: منظر وإحكام، وبه تربته - رحمه الله - متّصلة به، وكذا مدرسته المشهورة بالنّسبة إليه في صفاقس (¬551) ولها نور زائد تنبسط النّفس وتميل إليها عند الدّخول إليها، وكذا جميع مبانيه - رحمه الله تعالى - وذلك يدلّ على حسن نيّته وخلوص طويّته، ومنها إحياؤه للمدرسة اللّطيفة بالطّيبيّين (¬552) من تونس قرب جامع الزيتونة (¬553)، وحبّس على كلّ بناء أحباسا تقوم به، وأجرى المرتّبات على أهل العلم القائمين بذلك من معلمين ومتعلمين، وغير ذلك من المباني العظيمة وتتبّع ذلك يطول. وبالجملة فهو - رحمه الله تعالى - من غرر الزمان ونوادره، وعلامة ذلك أنّ الله جبل القلوب على محبّته، فكلّ من سمعه ترحّم عليه وودّ أنّه كان في زمانه لما يسمعون من حلمه ورفقه برعيّته واكتساب النّاس في أيّامه الدّين والدّنيا وأمن البلاد والعباد، وتطويع أهل البغي والفساد من العربان وقطّاع الطّريق. وفي أيّامه - رحمه الله تعالى - رخصت (¬554) الأسعار، وعمرت الفيافي والقفار فضلا عن المدن والقرى والدّيار، / وتسارع العربان لطاعته لحسن سيرته وصالح نيّته وإرادة الخير لرعيّته. وكان - رحمه الله تعالى - أوّلا أمّر على محاله وأسفاره المرحوم نجل أخيه محمّد - رحمه الله - سيدي علي باشا، وزوّجه إبنته وعلّمه من العلوم ما هو به مشهور، وأحسن إليه غاية المقدور، ثمّ كساه خلع الباشوية بالأوامر السّلطانية العثمانية، وأقامه بدار الباشا لدفع المرتّبات للعساكر والنّظر في أمورهم، وأقام في مقام البياية نجله الأسعد الأكبر سيدي محمّد بن سيدي حسين باي - رحم الله جميعهم - فاستمرّ الحال على ذلك إلى أن آن الأوان وأراد الله إبراز ما قدّر من تولية الباشا على تونس - رحمه الله تعالى وعاملنا وإياه بالعفو والغفران -، فتحرّك لما جرى وسطّر في أمّ الكتاب. ¬

(¬551) وهي موجودة إلى الآن وقد صارت مدرسة إبتدائيّة منذ السّنوات الأولى للإحتلال الفرنسي. (¬552) هو سوق العطارين، وفي الأصول: «الطبيين». (¬553) بعدها في ط: «وتسمّى الآن بمدرسة النخلة لكونها بوسطها نخلة». (¬554) في الأصول: «رخست».

الفتنة الحسينية الباشية

الفتنة الحسينية الباشية: ففي سنة أربعين ومائة وألف (¬555) خرج الباشا - رحمه الله - خفية ليلا من تونس على حين غفلة من أهلها وطلع جبل وسلات أوّلا (¬556) ثم إنتقل لمدينة الجزائر فمكث بها سبع سنين. ففي سنة ثمان وأربعين (¬557) تجهّز مع العساكر الجزيرية، وانضاف إليه من إنضاف من غيرهم، فنزلوا بسمنجة (¬558)، وخرجت عساكر تونس لمدافعتهم، فلم يقدروا على مدافعتهم لما سطّر في اللّوح المحفوظ، فخرج سيدي حسين - رحمه الله تعالى - وخاصّته وأهله ونزلوا بمدينة القيروان، فظنّ خيرا ولا تسأل [عن الخير] (¬559) وتفصيل ذلك يطول، والرّجوع إلى الحقيقة أحقّ ما يرغب فيه أولو العقول. وكان الباشا - رحمه الله تعالى - يودّ لمّا دخل تونس / أن لا يخرج سيدي حسين من تونس بل يبقى على ما كان عليه، ويرجع هو للخروج بالأمحال فينتظم الحال وتتّحد الكلمة، فلمّا خرج سيدي حسين للقيروان سعى العرب في إفسادهم وانشقّت العصا، وتفرّقت الكلمة، فلمّا تفاقم الأمر أخرج الباشا عساكر لإطفاء نار الفتنة وجمع الكلمة. ففي سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف استشهد سيدي حسين باي (¬560) - رحمه الله تعالى - بعد حصار طويل من عساكر الباشا - رحمه الله - وخرّجت القيروان. وخرج أنجال سيدي حسين - رحمهم الله جميعا - لمدينة الجزائر، فأكرموا نزلهم ومكثوا هناك. ونقل سيدي حسين - رحمه الله - لتونس ودفن بتربته المجاورة لمسجده. ¬

(¬555) غروب يوم الجمعة 10 رجب / 20 فيفري 1728 م: الإتحاف 2/ 106. (¬556) بعد أن جرت معارك متعددة بينه وبين جنود عمّه، وانهزم علي باشا في آخر الأمر واخترق الصحراء إلى أن وصل إلى الجزائر ودامت المعارك بينه وبين عمه 18 شهرا، ورجع الأمير حسين بن علي باي إلى الحاضرة في محرّم سنة 1142 / جويلية - أوت 1729: الإتحاف 2/ 110. (¬557) ومائة وألف، «خرج علي باشا بمحلّة عسكريّة فيها جزائريّون من الجزائر في ذي الحجّة 1147 / أفريل - ماي 1736»: المرجع السّالف ص: 111. (¬558) نزل حسين بن علي باي وجنوده بسمنجة، ونزل الجزائريون مقابلين لهم من جهة الغرب (المرجع السالف نفس الصفحة.) وعن عسكر الجزائريين المصاحبين لعلي باشا وما قاموا به من معارك، أنظر تاريخ حاضرة قسنطينة 19 - 20. (¬559) ساقطة من ش. (¬560) قتله يونس بن علي باشا بعد دخوله للقيروان إثر حصارها ثلاث مرّات وكان دخوله القيروان يوم الجمعة 16 صفر سنة 1153/ 13 ماي 1740: المرجع السّالف ص: 114.

علي باشا بن محمد

ولمّا بلغ سيدي الباشا - رحمه الله - وفاة سيدي حسين بكى بكاء شديدا واسترجع (¬561) وتأسّف أسفا كثيرا وحزن عليه حزنا طويلا واستيقظ وعلم أن الأمر كلّه لله كما قال الشّاعر: [الرجز] إذا أراد الله أمرا بامرئ ... وكان ذا عقل وسمع (¬562) وبصر أصمّ أذنيه وأعمى بصره ... وسلّ منه عقله سلّ الشّعر (¬563) حتّى إذا أنفذ فيه حكمه ... ردّ عليه عقله كي يعتبر وكان يودّ أنّه يصل إليه حيّا فيعامله بالمبرّة والإكرام، وحسن النزل والتّعظيم والإحترام لما سلف له من خيراته وإكرامه ومبرّاته. والباشا - رحمه الله تعالى - كان رجلا عالما عاقلا وأهلا للمكافأة بالإحسان ولكن جفّ القلم ومضى الحكم، فمن رضي سلم ومن سخط ندم. وحزن لموت سيدي حسين جميع النّاس / خصوصا العلماء والصّلحاء والفقراء لما أجراه عليهم من إحسانه وصلاته وهباته وعطيّاته، وما زال الخلق يثنون عليه بكلّ ثناء جميل ويترحّمون عليه في كلّ وقت وحين - رحمه الله ورحمنا به ورحم جميع المسلمين -. علي باشا بن محمّد: ولمّا خرج سيدي حسين من تونس، وتخلّى عن العسكر بايعوا بعده سيدي علي باشا إبن محمّد - رحمه الله -. ولمّا توفّي سيدي حسين بايعه النّاس بيعة عامة، فلم يتخلّف أحد إلاّ من بغى وطغى، إذ بعد بيعة أهل الحلّ والعقد لا يتخلّف إلاّ أهل البغي والفساد، فجرّد الباشا - رحمه الله - سيف الشّرع (¬564) لأهل البغي وتتبّع آثارهم في البوادي والقفار وبعيد ¬

(¬561) في الإتحاف 2/ 115: «وانكر فعل إبنه». (¬562) في ط وت وب: «وكان ذا سمع وعقل». (¬563) في ط وت وب: «وسل عقله كسلاّن الشعر». (¬564) علي باشا معروف بجرأته على سفك الدّماء، قتل كثيرين بدون حقّ، وأشاع الرّعب والخوف من سطواته، والمؤلّف فيما يبدو معظّما له غاضّا الطّرف عن سيّئاته، وهذا من الأسباب الّتي دفعت باي عصره إلى حجز نسخ كتابه حتّى قلّت.

المفاوز وقاصي الدّيار، فقطع آثار كلّ جبّار عنيد بعد جهد جهيد، وكان مؤيّدا في حروبه يحصل لأهل الزيع إزلاق أمعائهم بمجرّد سماع ذكره، وبعد ما طوّع طغاة البوادي طوّع طغاة النّصارى، فهابه المعاهد والمحارب، فأسعفوه بمطلوبه وسالموه في حروبه، وكان - رحمه الله تعالى - منتبها لجميع الشّؤون، وله نوادر وغرائب تتّبعها يخرج بنا عن الإختصار. ومن نباهته وحزمه صارت الملوك يسألون عن مآثره ليسلكوها وآثاره ليقتفوها، فمن أغرب نكته أنّ رجلا زيّاتا اشترى قلّة سمن وطبخ عشاءه في دكّانه بالسّوق، وجعل فيه شيئا من ذلك السّمن، فلمّا فارت البرمة مرّت به إمرأة فتعلّقت نفسها بشهوة / الأكل من ذلك الطّبيخ، فألجأها الحال أن سألته أعطني (¬565) شيئا من ذلك الطّعام، فلم يسعه إلاّ إسعافها خوفا أن يكون بها حمل فتزلق حملها، فدخلت للدّكان وناولها شيئا منه، فلمّا أكلت منه كان في ذلك أجلها فماتت، فاحتار الرّجل ولا علم (¬566) لموتها سببا، فغلق دكّانه وبقي خائفا أن يفطن له أحد، فلما كان اللّيل أخذ المرأة فلفّها في حصير جديد كان (¬567) عنده وأخرجها إلى مكان بعيد منه بحيث تنقطع عنه التّهمة (¬568) ووضعها فيه، فلمّا أصبح الصّبح وإذا بالمرأة [وجدت] ميّتة، فأخبر الباشا - رحمه الله - بذلك، ففكّر ساعة وقال: في أي شيء وجدتموها؟ فقالوا: في حصير، فقال: عليّ بشيخ الحصريّين، فحضر، فقال: أتعرف هذا الحصير صنعة من؟ قال: نعرف، فعيّن رجلا من رجال الصّنعة فأحضر، فقال: بعته لفلان (¬569) الزّيّات، فأحضر، فقال: هذا الحصير الّذي اشتريت من فلان وجد فيه إمرأة ميّتة، فكيف القصّة؟ أخبرنا بالواقع ولا بأس عليك، فأخبر بما وقع، فقال: وأين الطّعام؟ قال: حاضر، فأحضر فألقى منه لقمة لقطّة فلمّا أكلتها ماتت، ففكّر وقال: من أين وضعت السّمن؟ قال: من قلّة اشتريتها، قال: هل بعت منها لأحد، قال: لا، قال: هل أكلت منها؟ قال: لا، قال: أحضرها، فأحضرت فإذا هي لم ينقص منها إلاّ ما وضع في الطّعام فأمر بتكسيرها ¬

(¬565) في ط وت وب: «اعطاء». (¬566) في ط وت وب: «أعلم». (¬567) في الأصول: «كانت» وكذلك بقيّة الضّمائر العائدة على الحصير جاءت بصيغة التأنيث فصوّ بناها. (¬568) في ط: «منه». (¬569) في ط وب وش: «من فلان».

فكسّرت، فإذا في أسفلها حيّة ميّتة، فعفا عن الرّجل / لعذره وأمر أصحابه الدّكّاكين (¬570) أن لا يبعوا قلّة إلاّ بعد كسرها وتفقّدها، وأمر أصحاب السّمن أن لا يضعوه إلاّ بعد تفقّد الأوعية. وكان فاضلا عالما مطّلعا على الأحكام الشّرعية والعادية، ولا يقدر أحد من أولي الأحكام أن يتساهل في جزئيّة ولا يولي أحدا ولو مقام التوثيق إلاّ بعد الإختيار الزّائد، وله توغّل في العلوم العربية، فشرح تسهيل إبن مالك (¬571) بشرح عظيم الشأن، فقبله علماء المشرق والمغرب وأقرّوا له بالفضل، وكان يسوس العلماء في تعليمهم ويحثّهم على تعليم العلوم النّافعة والكتب المتداولة وترقية المبتدئين ويحذّر من علوم الأوائل (¬572) وأهل الأهواء، ويحذّر من الخوض في علومهم، ويشدّد النّكير على الخائض فيها وربّما نفاه من عمالته. وكانت له غيرة زائدة على رعيّته ومهما سمع على بعض قوّاده ما يسوء رعيّته انتقم منه بالضّرب والسجن (¬573). واعتنى كثيرا ببناء المدارس فبنى أوّلا مدرسة بحومة عاشور من تونس، ورتّب فيها شيخنا أبا محمد سيدي عبد الله السّوسي (¬574) - رحمه الله تعالى - وأخرى ببير الحجّار (¬575) وهما معا للمالكية، ثم زاد ثالثة بالقشّاشين قرب جامع الزّيتونة وهي للحنفية، وجعل بها تربته، ثم زاد رابعة بالقرب منها للمالكية، وجعل شيخها الشّيخ أبا عبد الله سيدي محمّد الغرياني (¬576) - رحمه الله تعالى - وجعل بكلّ مدرسة خزانة ¬

(¬570) في مكانها في ش: «بياض وشطب». (¬571) إسم هذا الشّرح: «دفع الملم عن قراء التّسهيل بجلب المهم ممّا يقع به التّحصيل». منه نسخة في المكتبة الوطنية بتونس، ولعلي باشا ترجمة في الإتحاف 2/ 117 - 145. (¬572) هي الفلسفة وتشمل حسب المصطلح القديم العلوم الرّيّاضية والموسيقى والطّب والمنطق. (¬573) شديدا على العمّال. محترسا من عسفهم رادعا لعدوانهم، يحبّ أن يظلم وحده ويأنف أن يشاركه غيره فيه: الإتحاف 2/ 118 - 119، وبه يتّضح وجه الحقّ، ويعلم ما في كلام المؤلّف من دعوى أنّه كانت له غيرة زائدة على الرّعيّة. (¬574) السكتاني المغربي، نزيل تونس، وشيخ المؤلّف (ت.1169/ 1752) له ترجمة في كتاب تراجم المؤلّفين التونسيين 3/ 86 - 88. (¬575) هذا المكان يقع بنهج الباشا الآن بالحاضرة. (¬576) أصله من جبل غريان بليبيا، قدم تونس واستقر بها، وعقبه موجود إلى الآن وهو راوية مسند فقيه صوفي. ووفاته بتونس في 1195/ 1781 أنظر تراجم المؤلّفين التّونسيين 3/ 459 - 460.

كتب، وجعل لها مرتّبات من الخبز والدّراهم / إعانة لطالب العلم، وزاد دورا في زاوية الشّيخ سيدي إبراهيم الجمّني بجربة، فوق الدّور الأسفل الّذي بناه مراد باي - رحمه الله تعالى -. ومن غريب ما وقع للباشا مع سيدي عبد الله السّوسي - رحمة الله عليهما - أنّ الشّيخ كان زاهدا في الدّنيا متقلّلا منها مقبلا على العلم، فكان الباشا يحبّه ويجلّه ويفضّله لذلك، فلمّا شيّخه على المدرسة أسكنه في دار بقربها، وأجرى عليه من حبس المدرسة ما يقوم به وبعياله، فاتّفق أنّ الشّيخ - رحمه الله - أصابه تشويش منعه من الخروج للإقراء، فسأل الباشا مقدّم المدرسة عن الشّيخ، فقال: به تشويش منعه من الخروج وطالت مدّته، فقال له: هل وفيته (¬577) مرتّبه ليستعين به في مرضه، فقال: لا، قال: إذهب وفّ له مرتّبه، فصحب المرتّب ودخل على الشّيخ داره وأحضر له المرتّب، فامتنع الشّيخ من قبوله وقال: هذا المرتّب إجارة عن عمل، وقد طال مرضي ولم أعمل، فكيف آخذ من غير عمل؟ وهذا حبس على القراءة ولم تحصل منّي، فرجع إلى الباشا وأعلمه بما وقع، فقال له: إرجع وقل له: هذا إعانة من عندي لا إجارة، فقبله ودعا بخير، رحمة الله على هذه النفوس العفيفة، طيّبوا سرايرهم مع مولاهم فسخّرهم للخير وسخّر لهم من أعانهم عليه. وبنى مصانع للماء بتونس، وبنى سور ببنزرت، وافتكّ طبرقة من أيدي النصارى (¬578) واستحفظها جماعة من العسكر، وله خيرات كثيرة غير ذلك وكان - رحمه الله - / عفيف البطن من جميع المحرّمات، تاركا للمشتبهات، فمن ثمّ إجتنب الدّخان ولو نشوقا، ولا يقدر أحد أن يظهره حيثما حلّ، وكان عفيف الفرج، دخل يوما الحمّام مستصحبا بعض غلمانه فاستدعاه لتدليك رجليه، فظنّ الغلام سوءا وتمادى إلى ¬

(¬577) في ش: «وافيته». (¬578) كان أخذه لها سنة 1153/ 1740 - 41 من أهل جنوة، أعطاهم السّلطان العثماني هذا المكان ليلتقطوا المرجان الموجود بالبحر، وبنوا قرية بطبرقة وجعلوا قصبتها بأعلى الجبل، لأنّها جزيرة فيها جبل مرتفع في البحر، وهي واقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط بين عنابة بالجزائر وبنزرت، وظهر لعلي باشا منهم النكث لتجاوز القدر المأذون لهم في البناء، وقد أرادوا جعلها قلعة حصن ومدافعة، وأمر بهدم القرية الّتي أسّسها أهل جنوة وأبقى قصبتها، وأمر ببناء برج على السّاحل خارج الجزيرة. أنظر إتحاف أهل الزّمان 2/ 124 - 125. واستحواذه على طبرقة يدخل أيضا في نطاق ردّ فعل على محاولات الشّركة الإفريقية الفرنسيّة للتّوسّع في أعمالها السّاحليّة من الجزائر نحو طبرقة. أنظر على سبيل المثال جوليان: تاريخ شمال إفريقيا 2/ 299.

فتنة يونس باي

ما لا يحلّ النّظر إليه ولامسه فدفعه (¬579) الباشا برجله وانتهره نهرة منكرة ففاضت روح الغلام من شدّة الهيبة والفزع. ولقوّة شهامة الباشا وشدّة بطشه وانتقامه من المفسدين صارت الظعينة تمشي وحدها من أرض إلى أرض، وصارت الفيافي والقفار كالحاضرة في الأمن والعافية، ومن قصد الطّريق لا يرتقب الرّفيق لكثرة السّالكين. وبالجملة فقد أقام الدّين بالسّيف والقلم، فالسّيف للبغاة، والقلم للعلماء. وفي سنة ثلاث وخمسين (¬580) إبتدأ النّاس الغلاء، وفي أربع وخمسين إشتدّ الحال بالنّاس حتّى أكل بعضهم بعضا حقيقة فضلا عن الميتة والدّم، وكان إشتدّ ذلك بطرابلس وإفريقية، ثمّ تدارك الله عباده بالرّحمة، فأخصبت الأرض ورخصت الأسعار. وفي سنة تسع وخمسين ومائة وألف (¬581)، قدم أنجال سيدي حسين - رحم الله جميعهم - بعساكر الجزائر، ولمّا سمع الباشا بقدومهم حصّن مدينة الكاف غاية التّحصين بكلّ ما يمكن، فما أمكنهم فتحه لأنّ أوانهم ما آن، ورأوا أن مجاوزته من غير فتح يعود / عليهم بالضّرر لقطع مددهم فرجعوا من حيث قدموا ولم يحصل ما قصدوا (¬582) ولكلّ أجل كتاب. فتنة يونس باي: وفي سنة خمس وستّين ومائة وألف (¬583) وقعت وحشة بين المرحومين أنجال الباشا أكبرهما يونس باي - رحمه الله - وأخوه (¬584) شقيقه محمّد باي - رحمه الله تعالى - ¬

(¬579) كذا في ت، في ش: «فرفضه»، في ط وب: «فرفعه». (¬580) 1740 م. (¬581) في ربيع الأوّل / مارس - أفريل 1746 م. (¬582) «ويقال إن حسين باي قسنطينة لمّا رآى ما في الكاف من الرّجال والعدّة ومنعة القلعة كاتب إبراهيم خوجة صاحب الجزائر يستمدّه، وتثاقل عن إمداده، ويقال إنّ علي باشا جاعله بالمال، فأقلع بمدافعه وتأخّر، وذلك عاشر رجب السنة 1159 (يوم الجمعة 29 جويلية 1746)»: الإتحاف 2/ 129. (¬583) 1752 م. (¬584) في ط: «وآخرة».

محمد بن حسين بن علي

أوجبت غضب الأكبر لقوّة شهامته وبطشه، فدخل (¬585) القصبة بشهر رجب من السّنة المذكورة مغاضبا لأبيه وأخيه، وغلّق أبواب المدينة من جهة ربط (586) باب السويقة، وصار معه المدينة والرّبط (586) القبلي، ومع الباشا ربط (¬586) باب السويقة وما يليه، واشتدّ الحرب بينهما إلاّ أنّ الباشا كان أقوى حربا، فأضر بتونس بكثرة المدافع من الأبراج الّتي على الجبل الأخضر حتّى امتنع النّاس من المشي في الطرقات، واستمرّ الحال على ذلك نحو الشهرين (¬587)، فلمّا اشتدّ الأمر، وضاقت الأرض بما رحبت خرج يونس باي - رحمه الله تعالى - فنهى الباشا - رحمه الله - عن التّعرّض له فلم يتبع، فخرج سائرا حتّى انتهى إلى قسنطينة، فبقى بها إلى أن أدركته منيّته (¬588) - رحمه الله تعالى -. وفتحت تونس أبوابها وطلب النّاس العفو من الباشا فعفا (¬589) عنهم إلاّ من كانوا سعوا في الفتنة فنفاهم من تونس، فاجتمع أكثرهم بالجزائر مع من ذهب من غيرهم خوفا من بطش الباشا، فاجتمع هناك خلق كثير فكانوا أعوانا عليه. فلما آن الأوان ودخلت / سنة تسع وستين ومائة وألف قدم أنجال سيدي حسين أوائل حجّة من السّنة المذكورة (¬590). فدخلوا تونس بعساكر الجزائر وغيرهم بعد حروب ومقاساة أهوال وموت ما لا يحصى، واستشهد الباشا (¬591) - رحمه الله تعالى - وولده محمد باي - رحمه الله تعالى -. محمد بن حسين بن علي: وبايع النّاس أكبر أنجال سيدي حسين - رحمه الله تعالى - وهو المقام الأعظم والهمام الأفخم، سيّدي محمّد باي، بيعة عامّة. ¬

(¬585) إستعمل الحيلة حتّى دخل ظهر يوم الإثنين تاسع جمادى الثانية سنة خمس وستين ومائة وألف / 24 أفريل 1752: الإتحاف 2/ 140. (¬586) ربض. (¬587) وكانت مدّة حصاره القصبة خمسة وعشرين يوما: الإتحاف 2/ 140. (¬588) بعد أن وقع له تضييق على حرّيّته من صاحب قسنطينة وإدخاله الحبس، وخرج منه منتفخ البدن، وتوفّي بعد قليل في ربيع الثّاني 1182 / أوت سبتمبر 1768 المرجع السّالف ص: 142. (¬589) في الأصول: «فعفى». (¬590) أواخر أوت 1756 م. (¬591) قتل خنقا في أواخر ذي الحجّة سنة 1169 / سبتمبر 1756: أنظر الإتحاف 2/ 154.

علي باشا إبن حسين بن علي

وكان - رحمه الله تعالى رحمة واسعة - ذا همّة عالية وشهامة وبطش، فأطاعته العصاة من ساعته وانقادت له العباد، فاطمأنّت البلاد، ومحا (¬592) آثار الفساد وكأنّ الأرض لم تقم بها فتنة، ولا وقع بها حروب، لطفا من الله بعباده. ثمّ جاءت التّشاريف العثمانية والخلع الخاقانية لثاني النجلين صاحب السّياسة الملوكية والرياسة السّلطانية سيدي علي باشا - رحمه الله تعالى - فلبس خلعة الباشوية، فتمّت نعمة الله عليهما، واتّفقت كلمتهما، وسلّمهما من داء الخلاف والشّقاق لما جبلهما الله عليه من المحبّة والإتّفاق، فانتظمت، الأحوال واتّسقت، وأمنت البلاد وسكنت، وانقطعت نار الفتنة وخمدت. ولمّا تمّت نعمة الله عليهما بالملك شرعا في تجديد سور القيروان وتحصينها إذ هي إحدى حصون الإسلام بل أعظم مدينة بإفريقية، بل هي أمّ قراها فهي أحقّ بحفظها وصيانتها - أبقاها الله دار عزّ للإسلام، / وحفظها من طوارق اللّيالي والأيّام. ولمّا كانت سنة إثنتين وسبعين ومائة وألف حضرت منيّة (¬593) سيدي محمّد باي - رحمه الله تعالى - على فراشه فسار لرحمة الله الواسعة ودفن بتربة أبيه - رحمهم الله تعالى -. علي باشا إبن حسين بن علي: فبايع النّاس بعده بيعة عامة لأخيه سيدي علي باشا - رحمه الله تعالى -. فصار باشا بايا، ففرح النّاس به لما يعلمون من رفقه وحلمه ورقّة قلبه على رعيّته وكرمه، فاستقرّت البلاد على أمنها، ولم يقع في الأرض ما يوجب اضطرابها. ثمّ لم تمض أشهر قلائل إلاّ وقد طلعت خيول إسماعيل (¬594) باي، إبن يونس باي إبن الباشا - رحمة الله على جميعهم - وكان لما وقع على جده الباشا ما وقع استبدل ثياب السّلطنة بثياب عامّة النّاس وغير زيّه، وسار حتّى انتهى إلى طرابلس، فنزل على علي باشا (¬595) صاحب طرابلس، فأكرم نزله ورتّب له ما يحتاجه بموجب ما تقتضيه حقوق ¬

(¬592) في الأصول: «محى». (¬593) ليلة الإثنين 14 جمادى الثّانية سنة 1172/ 12 فيفري 1759: الإتحاف 2/ 159. (¬594) وصل إلى جمّال في 15 ذي القعدة 1172/ 10 جويلية 1759: الإتحاف 2/ 162. (¬595) هو علي بن محمد قرامانلي (1745 - 1754): أنظر الإتحاف 2/ 161، وأتوري روسي: ليبيا، 296 - 308.

السّلطنة، فلمّا سمع بموت سيدي محمد باي وتولية سيدي علي أخيه تحرّك لنحو تونس طالبا لملك جدّه، فسار من طرابلس خفية من الباشا مع جماعة من العرب، وصار كلّما مرّ بطائفة من الأعراب تبعه منهم جماعة فانتهى إلى قابس ومعه جموع كثيرة، ولم يزل سائرا حتّى انتهى إلى جمّال (¬596) فأقام بها وقاموا بدعوته، فلمّا بلغ الخبر لسيدي علي باي - رحمه الله تعالى - جهّز له عساكر من تونس، فلمّا التقى الجمعان كان الظّفر لعساكر تونس على عساكر جمّال، فخرج من جمّال / إلى وسلات فتبعته العساكر إلى وسلات، فلمّا علم أنّه لا يحصل من المكث بوسلات (¬597) إلا الهرج وقلة الفائدة عمل على السّفر إلى الجزائر (¬598) فسار إليها حتّى انتهى إليها فأكرموا نزله. وكان - رحمه الله - بطلا شجاعا مقداما على قدم أبيه وجدّه في الشّهامة والشّجاعة. فأقام بالجزائر ما شاء الله حتّى أدركته منيّته بها - رحمه الله -. ولمّا خرج من الجبل رآى سيدي علي باي أنّ أهل الجبل لا يسكنون من الفتنة، وخاف من طارق يقوم به، فرآى الصّواب في نزول أهله إلى البلاد فأمرهم بالنّزول منه فنزلوا وتفرّقوا، وذهب كلّ أحد منهم إلى ما اختار، فمنهم من اختار القيروان، ومنهم من اختار تونس، ومنهم من اختار السّاحل إلى غير ذلك، فأمنت فتنته وانقطعت ثائرته. وانفرد سيدي علي باي بملكه ولم يبق له منازع، فظهر تمام حسن سيرته وسعدت رعيّته، وكان على قدم أبيه، والولد نسخة من أبيه، ومن يشابه أبه فما ظلم، بل زاد في الحلم والعفو على أبيه - رحمهم الله -، وكان يكره قتل النّفوس ولو قصاصا فيصالح أصحاب الدّماء ما أمكن من مال الجاني وإلاّ فمن ماله هو، ولا يقتل قصاصا إلاّ من لم يمكن له خلاص بوجه ما شرعي، وإذا لم يقتل قصاصا فكيف بالقتل ظلما. وكان - رحمه الله - محبّا للعلم وأهله وللصّلاح وأهله، محسنا للفقراء، وجعل مرتّبات للعميان الفقراء، وقطع حانات الخمر أينما كانت، ولقد أفرده وزيره / الشّيخ ¬

(¬596) لمّا كان بالحامة قدم إليه جعفر بن عمر في أعيان من أهل جمّال وفرسان من المثاليت وغيرهم. . . وزّينوا له الرّحلة إلى بلدهم، واتّفق أنّ قائدهم منصور المشرق أساء فيهم السّيرة حتّى أفسد منهم السّريرة وأرهقهم جورا وظلما. . . المرجع السّالف ص: 162. (¬597) دارت عدّة معارك بجبل وسلات كان النّصر فيها لجيوش علي وأنصاره من القبائل، ورآى علي باي ألاّ يقتحم الجبل ويطاوله بالحصار، وأدار بالجبل جلاص وأولاد عون وغيرهم، أنظر المرجع السالف ص: 163. (¬598) فرّ إلى قسنطينة لاحقا بأبيه يونس باي: المرجع السّالف ص: 164.

حمّودة بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى - بكتاب ضخم حافل (¬599) إستقصى فيه دولته ومزاياه وجميع أحواله. وكان الباشا - رحمه الله - يحبّه مع ما بينهما من التّباعد حبّا شديدا لأنّه صاهره الباشا بابنته، ولما يعلم من حلمه وعفّته وكرمه - رحمهم الله أجمعين -. ولمّا منّ الله عليه بطول الملك والسّعادة وعلم أنّ الدّنيا زائلة والرّجوع إلى الله حقّ زهد في الملك (¬600) والحكم ومزاولة الخصومات والدّعوات، وكاتب الأعتاب العثمانية الخاقانية يستعفي من الحكم، فعوفي، ونزلت الأوامر والخلع العثمانية والتّشاريف السّلطانية لنجله الأكبر الأسعد الهمام الأمجد سيدي حمّودة باشا - نصره الله -. وسلّم له والده في البياية فصار باشا بايا كوالده وهو سلطان وقتنا - دام مجده وعلاه وأناله الله من سعادة الدّارين سؤله ومتمناه - (¬601). وانفرد والده (¬602) - رحمه الله تعالى - بنفسه لصلاته ودروس العلم ليلا ونهارا، وبذل المعروف والصّدقات والعفو عن الخطيّات، والإحسان للأرامل والأيتام، ولقد امتدحه الشعراء بما لا يحصى، فأجزل جوائزهم وقد استوفى ذلك وزيره في تاريخه، فليراجع ثمّة من أراد ذلك. وأكثر من البنايات النّافعة فمنها فسقيته بتونس، ومنها مدرسته المشهورة (¬603) بها أيضا، ومنها قنطرة واد مليان على ثنيّة السّاحل، ومنها فسقية (¬604) صفاقس الّتي غفل عنها غيره / ممّن تقدمه من الملوك، ومن تنبّه لها لم يجعل الله له تيسيرا فيها حتى جاء هذا السّلطان الأسعد - رحمه الله تعالى - فكانت من غرر محاسنه، ومنها إتمام سور مدينة القيروان (¬605) إلى غير ذلك من أفعال الخيرات ممّا يطول إستقصاؤه. ¬

(¬599) سمّاه الباشى نسبة إليه، طبع منه الجزء الأوّل، والباقي ما زال مخطوطا. (¬600) «ولمّا طعن في السّنّ، وظهر فيه مبادئ الهرم مع مرض النّقرس المصاحب له، وعيل الصّبر بتعلل أهل الجزائر، لعلمهم بأنّه في قيدي شاخة ومرض، لاذ به رجال دولته، إمّا من تلقاء أنفسهم، أو بإيماء منه إلى ذلك، وطلبوا منه أن يولي عهده لابنه الشّاب المقتبل الخليق للرّئاسة، أبي محمّد حمّودة باي»: الإتحاف 2/ 176. (¬601) هذا الدّعاء يشعر بأنّه يتكلّم عن باي عصره كما صرّح به بعد قليل. (¬602) لم ينعزل تماما إذ كان إبنه حمّودة باشا يكتب الأوامر باسم والده ويأتيه بها، وما ارتضاه منها أمضاه بختمه، وردّ الباقي، وينوب إبنه في مغيبه إذا سافر بالمحلّة لاستخلاص الجباية: المرجع السّابق ص: 177. (¬603) المعروفة بالجديدة، قرب تربته جوار صاباط عجم: الإتحاف 2/ 174. (¬604) الموجودة بقاياها بالحديقة العمومية على طريق المطار. (¬605) وأبوابها وبرجها: المرجع السّالف ص: 175.

حمودة باشا الحسيني

وكان عفيف البطن منزّها عن المسكرات، عفيف الفرج إلاّ ما أباحه الله، ولا عيب فيه، إلاّ أنّه كان يلبس خشن الثيّاب تحت ثياب الملك ليذوق مع فقراء المساكين ما هم فيه ويتذكّرهم ولا يغفل عنهم، وكان رحيم القلب ليس بفظّ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة ولكن يعفو ويصفح، وهذه من أخلاق النبوة، وكل من خرج عن طاعته رجع إليه باختياره لما يعلم من حلمه فيأتيه ويعترف بذنوبه، فيعفو عنه ويكرمه ولا يوبّخه ولا يعاتبه سجيّة طبعه الله عليها وطوّع له بها جميع رعاياه. وفي سنة أربع وثمانين (¬606) قدمت (¬607) مراكب الفرنسيس محاربين (¬608) فرموا على بنزرت بالبونبة شيئا كثيرا، ورموا على سوسة كذلك، فأضرّوا بالبلدين، ثمّ قمع الله شرّهم وقطع ضررهم بوقوع الصّلح. حمّودة باشا الحسيني: وفي سنة ستّ وتسعين ومائة وألف (¬609) حضرت وفاة سيدي علي باشا باي - رحمه الله تعالى - على فراشه، آمنا مطمئنّا على سنّ عالية، قرير العين، ودفن بتربته المعدّة لدفنه بمدرسته، فحزن النّاس لموته، ولكن قلوبهم آمنة مطمئنة بنجله الأسعد سيدي حمّودة باشا / - دام (¬610) علاه -، فجدّد النّاس له البيعة، فكانت تعزيته مقرونة بتهنئة البيعة العامّة، ولم يتخلّف عنها أحد، وأتت الوفود، وقصده النّاس من كلّ فجّ عميق، فأحسن وفادتهم وأكرم نزلهم، فهو سلطان وقتنا أقرّ الله به أعيننا، وأمّن به أوطاننا ¬

(¬606) 1770 - 1771 م. (¬607) في الأصول: «قدم». (¬608) يرجع سبب التّنافر الحاصل بين تونس وفرنسا إلى إحتلال فرنسا لجزيرة كورسيكا ممّا أضرّ بالمصالح التّونسيّة والإخلال بالعقد المتعلّق بصيد المرجان بطبرقة، كما ترجع إلى قضيّة فرعيّة تتعلّق بعدم إحترام مركب فرنسي لمركب تونسي في عرض البحر خلافا لما تقتضيه العادات الجارية. أنظر مثلا الإتحاف 2/ 166 - 170. وشارل جوليان: (Ch. A. Julien: Histoire . . . ,2/ 300) . (¬609) يوم السبت 13 جمادى الثّانية / 26 ماي 1782 م، ومدّة ولايته 24 سنة وكانت ولادته في شوّال سنة 1126 / نوفمبر 1714 م (أنظر إتحاف أهل الزمان 2/ 178). (¬610) في ش: «أدام».

وأرضنا، أدام الله علاه، ونصره على من ناواه، فسار سيرة (¬611) آبائه الكرام، وقام بالأمر أحسن قيام، فأمنت البلاد واطمأنّت العباد، وساسهم بلطف، واجتنب الشدّة والعنف، وفّقنا الله وإيّاه لما يحبّه ويرضاه، وأدام الله في أمن وعافية أيّامه، وثبّت على نهج الهدى والتّقوى أقدامه. ومن مزاياه الجليلة وأخلاقه الجميلة أنّه جمع شمل عترته من إخوته وبني أعمامه وكلّ من ينتمي لنسبه الكريم، وأنزلهم في المقام الأعظم والمبرّة والإحترام، والتّشريف والإكرام، فاتّحدت الكلمة، وتمّت عليهم وعلى الرّعيّة النّعمة، وماتت شياطين الإنس والجنّة، وانقطعت المظالم والظّلمة، وانطفأت (¬612) نيران الفتنة، ولله الحمد والمنّة، والصّلاة والسّلام على نبيء الرّحمة، وعلى آله وأصحابه هداة هذه الأمّة، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة والرّحمة (¬613). / ¬

(¬611) في ط: «سريرة». (¬612) في الأصول: «انطفت». (¬613) [ثمّ أدركته منيّته فانتقل إلى رحمة الله تعالى رحمه الله تعالى برحمته الواسعة فكانت وفاته رحمه الله أوّل يوم من شوّال المبارك سنة تسع وعشرين ومائتين وألف، فكان رحمه الله من يوم توليته دار الملك إلى يوم وفاته ثلاثة وثلاثين سنة إلاّ ثمانية أشهر. تولّى الملك بعده سيدي عثمان باشا باي فأقام في الملك ثلاثة أشهر وإثني عشر يوما من السّنة المذكورة فأدركته منيته فتولّى الملك بعده سيدي محمود باشا باي ابن سيدي محمد باي وهو أمير عصرنا سنة ثلاثة وثلاثين ومائتين وألف، نصره الله وأدام أيّامه وأيّد بالعدل أحكامه، فهو حليم كريم، أقرّ الله به أعيننا، وأمّن به أوطاننا، فسار على سيرة آبائه الكرام، وأقام بالأمر أحسن القيام، فأمنت البلاد واطمأنّت العباد، وساسهم بلطف، واجتنب الشّدّة والعنف، وفّقنا الله وإيّاه لما يحبّه ويرضاه وهذا آخر ما قصدناه في هذا الكتاب من الكلام في هذا الباب والحمد لله وكفا بالله وكيلا]. هذه الزّيادة موجودة في ط وت وب، وفي مكانها في ش بياض، وقد جعلناها بالهامش لأنّنا أثبتنا في مقدّمة الكتاب أنّ المؤلّف توفّي قبل وفاة حمّودة باشا، وقد تكون هذه الزيادة من ناسخ إعتمدته النّسخ المشار إليها.

الخاتمة

الخاتمة: في ذكر ما يتعلق بصفاقس ووطنها وفيها أبواب الباب الأوّل في ذكر وضعها وما يتعلّق بذلك تأسيس سور صفاقس: أقول: كانت صفاقس في ابتداء أمرها محرسا من المحارس، برجا في موضع قصبتها الآن (¬1)، وهو البرج الأحمر المحاذي لسيدي جبلة (¬2)، وكان هناك أناس يقال لهم الأعشاش (¬3)، وآخرون يقال لهم النواولة (¬4) ساكنون في أخصاص من خوص، لا كسب لهم هناك إلاّ صيد السّمك، وكان حوالي ذلك المكان بسواحل البحر وما قاربه من الأراضي قرى كثيرة متّصلة ومتقاربة، ولهم في ذلك الموضع في كلّ يوم جمعة سوق ¬

(¬1) لقد أدّت الحفريات الأثرية الّتي قام بها المعهد القومي للآثار والفنون داخل القصبة الّتي تقع في الرّكن الجنوبي الغربي من سور مدينة صفاقس إلى إكتشاف بقايا مسجد سفلي له طراز مساجد الرّبط القديمة بإفريقية في هندسته وبنائه، ولعلّه مسجد المحرس الّذي يشير إليه المؤلّف، وإن صحّ هذا تصحّ نظريّة مقديش من أنّ إنطلاق تأسيس مدينة صفاقس كان محرسا من المحارس. (¬2) الشّائع على الألسنة سيدي جبلة بكسر الجيم وسكون الباء الموحدة وفتح اللاّم، وبالفصحى بفتح الأحرف الثّلاثة. (¬3) آل العش وآل عشيش من الأسر المعروفة في صفاقس إلى حدّ اليوم. (¬4) أسرة انقرضت من صفاقس، وبقي لنا مسجد الشّيخ سالم النوالي داخل المدينة المسوّرة وذكر أبو بكر عبد الكافي «تاريخ صفاقس 1966 ص: 22: «أنّه تفرع على هذه الأسرة آل الجرّاية والعمّوص وعبّاس».

يجتمع فيه أهالي تلك القرى، فاتّخذوا له فنادق لحفظ دواب الواردين وأمتعتهم، وأحدثت (¬5) هناك مرسى للقادمين من البحر كأهل قابس وجربة وطرابلس وقرقنة وغير ذلك، فابتنى النّاس لهم مساكن وكثرت النّاس. فلمّا كان زمن أبي إبراهيم أحمد بن الأغلب - رحمه الله - وكان له اعتناء بأفعال الخيرات وإنشاء الحصون والمحارس، أمر ببناء سور من الطوب على ما اجتمع من المساكن والفنادق والسّوق على يد علي بن سلم (¬6) جد سيدي أبي إسحاق الجبنياني - نفعنا الله به -. وسبب بناء أحمد بن الأغلب - رحمه الله - على ما نقل في معالم الإيمان (¬7) عن أبي بكر التّجيبي (¬8) أنّه كان - رحمه الله - أجمل بني الأغلب، وكانت له شعرة يعني شيئا من شعر في وسط رأسه، فكان إذا جلس للشّرب مع الجواري نظّمت شعرته بالجوهر / المصنّف، ويجعل من فوقها التّاج المكلّل بالدّرّ والياقوت الأحمر، وكذلك يفعل الجواري، فنظر إلى وجهه في المرآة فتكلّم بكلمات (¬9) كفر فلمّا أفاق أخبر بذلك، فبكى وندم وأمر برأسه فحلق شعرته وتاب، ووجّه في طلب القاضي سليمان وجمع علماء المدنيين والعراقيين (¬10) وسألهم فصعّبوا عليه، وركب إلى دمنة، وهو إسم مكان يجتمع فيه الزّهّاد والمرضى، قال: ركب إلى دحيم (¬11) الضرير (¬12) المتعبّد وكان مستجابا، فأخبره وسأله الدّعاء، ثمّ ركب إلى قصره في قضاته ووزرائه حتّى دخل على محمّد بن يحيى بن سلام التميمي الفقيه، فسأله عمّا صدر منه، وهل له من توبة؟ فقال له: إن كنت اعتقدت ما تكلمت به فهو عند الله عظيم، وإن كنت لم تعتقده فالتّوبة ¬

(¬5) في الأصول: «حدثت». (¬6) كذا في الأصول كما في بعض نسخ الحلل (أنظر هامش 2 من المناقب ص: 2) والدّيباج وفي بعض نسخ المناقب «مسلم» و «أسلم»، وفي رحلة التجاني، وبعض نسخ الحلل (1/ 313) والمناقب «سالم». (¬7) 2/ 147 بتصرف. (¬8) أبو بكر عتيق بن خلف الفقيه الواعظ المؤرّخ (ت.422/ 1031) أشهر مؤلّفاته «كتاب الطّبقات»، و «كتاب الإفتخار بمناقب شيوخ القيروان وما تعلّق بهم من تاريخ فقهاء الأمصار» وهما مفقودان. أنظر معالم الإيمان 3/ 158 والإعلام 4/ 362 ومعجم المؤلّفين 6/ 248 وتراجم المؤلّفين التّونسيين 1/ 224. (¬9) في المعالم: «بكلمة». (¬10) هم أتباع مذهب أبي حنيفة. (¬11) ساقطة من ت. (¬12) في ط: «دحيم الغريق»، وفي المعالم: أبي عبد الضرير.

مبسوطة فتب إلى الله تعالى، وتقرّب إليه بالصّدقة، فقال له: جزاك الله خيرا كما دلّيتني على الله تعالى، ولم تؤيّسني من رحمته التّي وسعت كلّ شيء، فظهرت من أبي إبراهيم آثار جميلة من أفعال البرّ والصّدقات وبناء المساجد والمواجل حتّى مات، ولم يترك في بيوت أمواله شيئا بأن أخرج ثلاثمائة ألف دينار من بيت مال المسلمين فأمر ببناء ماجل باب تونس، وبنى في جامع القيروان القبّة الخارجة عن البهور (¬13) مع الصفتين اللّتين تليانها من جانبيها جميعا، وبلاطها الّذي بين يديها مفروش، وعمل المحراب جلبت له تلك القراميد (¬14) المهيئة (¬15) لمجلس أراد أن يعمله، وجلب له من / بغداد خشب السّاج ليعمل له منه عيدان الملاهي فعملها منبرا للجامع، وجاء بالمحراب مفصّلا رخاما من العراق عمله في جامع القيروان، وجعل تلك القراميد في وجه المحراب وكمّل له رجل بغدادي قراميد زادها إليها وزيّنه تلك الزّينة العجيبة بالرّخام والذّهب والآلة الحسنة، وبنى ماجل باب [أبي] (¬16) الرّبيع، وأمر ببناء ماجل القصر الكبير بسوسة، وبنى جامع مدينة تونس، وبنى سور سوسة، وبنى دار الملك بسوسة، وبنى قصر لمطة (¬17)، وبنى سور صفاقس، وتصدّق بباقي المال على الفقراء والمساكين، قال: وملك إفريقية وهو إبن عشرين سنة، وعاش بعد هذه الحادثة خمس سنين (¬18) اهـ‍. وقد تقدّم أنّ وفاته كانت سنة تسع وأربعين ومائتين (¬19) فيكون بناء سور صفاقس في سنة خمس وأربعين (¬20) وما بعدها. وذكر (¬21) الشّيخ الفقيه أبو القاسم عبد الرحمان بن محمد اللّبيدي الحضرمي - رحمه الله تعالى - «أنّ علي بن سلم جدّ سيدي أبي إسحاق الجبنياني - رحمه الله تعالى - كان من أهل العلم من أصحاب سحنون بن سعيد - رضي الله عنه - وهو ولد سحنون من الرّضاعة، أرضعته أمّ محمد بن سحنون مع محمّد، ثم ولاّه سحنون قضاء ¬

(¬13) في المعالم: «البهو». (¬14) ج قرمد. (¬15) في المعالم: «اليمنية». (¬16) ساقطة من الأصول. (¬17) لمطة: بلدة بالسّاحل التّونسي، وقصر لمطة يدخل في جملة الرّباطات الّتي أحدثت في القرن الثالث، واشتهرت به وكان أمر ببنائه الأمير أبو إبراهيم أحمد ورابط به جماعة من العلماء والعبّاد منهم أبو هارون الأندلسي، ويرجع تأسيس البلدة إلى العصر القرطاجي. (¬18) المعالم 2/ 147 - 148. (¬19) 863 م. (¬20) 859 م. (¬21) في مناقب أبي إسحاق الجبنياني.

صفاقس وسائر السّاحل (¬22)، وهو، فيما ذكر لي أحمد وغيره، كان بنى (¬23) جامع صفاقس وسورها بالطّوب (¬24) وبنى المحرس الجديد (¬25). قال: وكان يعدل في أحكامه، وكانت له دنيا عريضة، ومنازل كثيرة، منها / جبنيانة وغيرها له بها رباع عجيبة، وكان له بصفاقس رباع كثيرة، ولقد وقع في مكاتبات سحنون إلى علي بن سلم قاضي صفاقس أنّه بلغني أنّ قبلك قوما ينكرون المنكر بأنكر منه، فازجرهم عن ذلك والسّلام» (¬26) اهـ‍. ثمّ بعد ذلك جعل النّاس على السّور المذكور أوقافا، إبتغاء لوجه الله، فكلّما وقع جانب من سور الطّوب ردّوه بالحجر والجير، وفي أيّام السّلطان أبي فارس (¬27) الحفصي - رحمه الله تعالى - جدّد الباب الجبلي وما يليه من السّور، واسمه مكتوب على الباب في حجر (¬28) وهو باق إلى الآن، واعتنى النّاس ببناء السّور وترميم ما انهرش منه إعتناء كثيرا، وإلى الآن والحمد لله لا ينقطع منه الفعلة دائما وأبدا، فقد صار في غاية المنعة (¬29) والحمد لله. ¬

(¬22) صفاقس من السّاحل، وما يعبّر عنه بالسّاحل فهو المنطقة السّاحلية الممتدّة من بوفيشة إلى المحرس آنذاك ويحدّده الجغرافيّون حاليا من بوفيشة إلى الشّابة. (¬23) في الأصول: «بنا». (¬24) كشفت لنا الحفريّات الأثريّة في الرّكن الجنوبي الغربي من السور، بقايا من الطوب المبني به هذا المعلم قبل تجديده. (¬25) في المناقب: «الذي يعرف بمحرس علي، وهو الآن يعرف بمحرس علي»، ص: 3، هو البلدة المعروفة الآن ببلدة المحرس. (¬26) المناقب ص: 2 - 3. (¬27) أبي فارس عبد العزيز كما جاء في النّقيشة الّتي تعلو الباب من الدّاخل. (¬28) نقرأ في هذا الحجر: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا محمد النصر والتمكين والفتح المبين لمولانا الخليفة الامام أمير المؤمنين أبو فارس عبد العزيز، عمل هذا الباب بمكانه في أوائل محرم فاتح شهور ثلثة وعشرين وثمانمائة غفر الله لمن وقف وصرف». الموافق جانفي - فيفري 1420 م. وجدّد الباب مرّة أخرى في شعبان 1224 / سبتمبر 1809 م على يد محمّد المنيف والتّاجر الأمين إبراهيم السّلاّمي. (¬29) كانت للسّور أوقاف ورباع ووكيل - مقدّم - يقوم بالإنفاق على السّور من أمواله، لإصلاحه وترميمه بمشورة أهل الحلّ والعقد، وفي سنة 1161/ 1748 كان الحاج عبد العزيز السّلاّمي مقدّما على السّور حسب النقيشة الّتي تعلو باب الدّيوان من الدّاخل المقابل لجامع العجوزين.

الجامع الكبير

الجامع الكبير: ثمّ إنّ المسجد الأعظم لمّا تطاولت الأزمنة، واستولى على البلاد الخراب من الميورقي والنّصارى وإبن كيداد (¬30) الخارجي، والطّاعون، والأعراب، وغير ذلك - حسبما مرّ مفصّلا - إستولى الخراب على معظم المسجد، فاختصروه بتعمير الجانب الشّرقي منه وألغوا الباقي. فلمّا منّ الله على الخلق بدخول العساكر العثمانية أذهب عن البلاد والعباد الفساد بقطع أيدي الجور والعدوان، والبغي والشّقاق والعناد، ولا سيّما دولة سيدي حسين باي - رحمه الله - فعمّت البلاد، واطمأنّت العباد، فظهر فضل في غلات أوقاف المسجد (¬31) مع ما زاده أهل الخير من أموال وأوقاف، فاسترجع في كلّ زمان ما أمكن إرجاعه / من داثر المسجد، بل قد وجد في بعضه إحداث حوانيت ودور فاشتريت من أيدي أربابها إذ بأيديهم حجج إشتراء الأرض من أهل الجور من المستولين على البلاد، وكلّما استرجع جانب أدخل في المسجد ببناء على قدر الطّاقة في ذلك الوقت. وكان الخطيب إذ ذاك سيدي عبد العزيز الفراتي الأكبر (¬32) الآتي ذكره - إن شاء الله - فقام في هذا الأمر غاية القيام مع مساعدة أهل الفضل من رجال البلد. ولمّا وصلوا إلى آخر ما دثر وأرادوا إدخاله وجدوا أساس المسجد الأصلي فاستبشر النّاس بذلك، ثمّ إنهم لمّا فرغوا من ذلك جعلوا على بعضه سقفا من خشب وأبقوا بعضه بلا سقف على صورة الصحن، وبقيت أسطر عمد المسترجع غير مناسبة لأسطر عمد الذي كانوا أبقوه لأنّ الأصلي كان قبوا بالجير والحجر (¬33) فاسطواناته على قالة واحدة وأسطر إسطوانات المسترجع لمّا كان سقفه بالأخشاب، والأخشاب أقلّ من قالة القبو، بل الخشب تارة يوجد طويلا وتارة قصيرا، وبقي المسجد على غير نظام مناسب، فرغب أهل الخير في جعله على قالة واحدة بنقض بناء المسترجع، ولأنّ سقف الخشب كثر فيه القاطر وخيف عليه السّقوط، فاجتمع أهل الفضل من البلد ورأوا الصّلاح في نقض ¬

(¬30) مخلد بن كيداد صاحب الحمار. (¬31) كانت له أوقاف واسعة داخل المدينة وخارجها، ويملك متحف صفاقس وثيقة في تعداد أحباس الجامع مؤرخة في 23 رجب 1251/ 14 نوفمبر 1835 والمحتسب إذ ذاك الحاج محمّد الشّعبوني. (¬32) بن محمد (1050 - 1131/ 1641 - 1719) درس بهذا الجامع بعد تخرجه من الأزهر الشّريف. (¬33) ساقطة من ط.

ذلك البناء، وجعله مناسبا للسابق، ويكون سقفه قبوا بالجير والحجر. ولمّا وجدوا غلات الأوقاف كثيرة خافوا أن تدخل بواطن الوكلاء فتعيّن ما رأوه صلاحا، / فانتدبوا لذلك أكبر المهندسين ممّن له خبرة ونصح للمسلمين، وهما المعلّمان الأكبران أمين البناء الحاج الأبر سعيد القطيّ، والمهندس المتقن المعلّم أسطى طاهر المنيف (¬34)، فتقدّما للقيام بشؤون الصّنعة، وقدم للقبض والصرف الأمين علي العذار وخطيب ذلك الوقت الشّيخ سيدي حسن الشرفي - رحم الله جميعهم -. فشرع المهندسون والفعلة في النّقض وحفر أساس الإسطوانات وتقوية ما يحتاج للتّقوية لأنّهم ربّما وجدوا موضع بعض الإسطوانات كان صهريجا أو بئرا أو مرحاضا فتتبّعوا ذلك كلّه بالحجر الصّلب والجير (¬35) الافراغ (¬36). ولمّا أتقنوا مواضع الإسطوانات وضعوها في مواضعها مؤسّسة البنيان على قوة وإتقان، وما وجدوه من العمدان (¬37) السّابق غير لائق أتوا بعوضه (¬38) بالشّراء أو الهبة من أهل الخير. فجعل من عنده عمودا في داره مبنيا يعرضه للبناء في المسجد رغبة فيما عند الله من الأجر ولو مع أخذ الثّمن، لأنّ النّيّة الصّالحة تثبت الأجر كأمّ موسى أرضعت ولدها وأخذت أجرها، والأعمال بالنّيّات، فأكملوا بناءه على تقوى من الله ورضوان. والفاصل بين المسترجع والذي قبله سطر العمدان الذي فيه بمكان الواحدة ثلاثة، وهو سطر أخذ من الحائط الجنوبي منتهيا لآخر المسجد. ¬

(¬34) من الشّائع أنّ أسرة المنيف من أصل أندلسي، وقد اشتهر أفرادها أبا عن جد بإتقان صنعة البناء، وكانت الحكومة تختار بعضهم للقيام بمهمة أمين هذه الصنعة، وتركت لنا الوثائق المحفوظة بمتحف صفاقس، والنّقائش التي بالمعالم الأثرية عدّة أسماء، منهم زيادة على المعلّم الطاهر بن أحمد المنيف المشار إليه وابنه محمّد الذي كان بنى السقالة الدّفاعية في مقابلة مرسى المراكب. (¬35) يقصد اللّياط، ويعرف عاميا بالبغلي وهو خليط من الكلس (الجير) والرّمل بنسب معينة 3 نسب من الرمل و 2 من الجير ويقع تحضيره على طريقة خاصة. أنظر محمّد المصمودي L' habitation traditionnelle dans la banlieue da Sfax. Cahiers des A. T. P. n° 1, 1968, p. 31. (¬36) في ط: «الافرا». (¬37) في ط: «العمد». (¬38) وهي عمد وتيجان أثرية من بقايا الرومان والرّوم كما نلاحظه اليوم، متناسقة مع العمدان التي بقيت قائمة في الجزء الأول من المسجد.

ونقل المحراب (¬39) من مكانه إلى الوسط، وفي المحراب (¬40) مكتوب قوله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ} (¬41) الآية، ومن تحتها مقطعة من كلام أبي الحسن الغراب وهي هذه /: [الكامل] ته يا صفاقس وافتخر طول المدى (¬42) ... عجبا بمسجدك العديم مثاله سيما بمحراب تكامل حسنه ... ويزيد في نظر اللّبيب جلاله أبدى المنيف به المعلّم طاهر ... ما رقّ من نقش وراق جماله حتّى تكامل قلت فيه مؤرّخا ... محراب مسجدك انتهى اكماله (¬43) وهو إثنان وسبعون ومائة وألف (¬44). ثمّ بعد مدّة ضاق المسجد بأهله فطلبوا زيادة مسجد ثان بخطبة ثانية، فاستفتوا أهل العلم في ذلك فأجاز بعضهم لضرورة الضّيق، ومنع البعض تمسّكا بظاهر مشهور المذهب، فاضطرّ النّاس لزيادة في المسجد طلبا للتّوسعة، وكان في جهة الرّكن الشّمالي الغربي ميضاة يمكن الإستغناء عنها وبعض حوانيت ملك لأربابها وبعضها خلو للمسجد الأعظم، فأرضوا أصحاب الكلّ وأدخلوا الجميع في المسجد (¬45)، وجعلوا العمدان على قالة المسجد. وهذه الزّيادة حائطها الشّرقي ملاصق لصحن المسجد الأصلي، ففتحوا فيه خمسة أبواب بهور وجعلوا عليها مصارع منقوشة بأبدع نقش (¬46)، وتاريخ الفراغ من جميع ذلك سنة ثمان وثمانين ومائة وألف (¬47). ¬

(¬39) طمس المحراب القديم الذي كان يتوسّط الجامع ولم يعد كذلك بعد التّوسعة، وأظهرته التّرميمات الأخيرة ويرجع إلى الفترة الزّيرية. (¬40) أي المحراب الجديد. (¬41) سورة النّور: 36. (¬42) في الأصول: «المدا». (¬43) ما تزال بالمحراب، وقراءتها به واضحة، أنظر أيضا ديوان علي الغراب الصّفاقسي: الدّار التّونسيّة للنّشر 1973 ص: 319، والتّاريخ بحساب الجمل 1171 وما أثبته مقديش هو الصّحيح. (¬44) 1758 - 1759 م. (¬45) أثبتت الحفريّات الأثريّة داخل هذا الركن من المسجد صحّة قول المؤلّف إذ وقع إكتشاف آثار مباني هي بدون شك آثار الحوانيت والميضاة المشار إليها. (¬46) أضيفت إلى أبواب البهور الخمسة الّتي ببيت الصلاة الأولى، وبكلّ هذه الأبواب زخارف وكتابات منقوشة - لآيات قرآنية وأشعار وأخرى تخلّد من أذن بصنعها: وهما المفتيان عبد الرّحمان، والحاج حمّودة والقاضي عبد السّلام أحفاد الشّيخ الإمام عبد العزيز الفراتي. (¬47) 1774 م.

السقاية

وظهر في الخمسة الأبواب بهور المسجد السّابق الّتي تفتح للشّمال بعض انهراش واستاست (¬48) مصارعها لمضي سبعمائة سنة عليها، فاتّفق رأي أهل الفضل على تجديدها ممّا فضل من غلاّت أوقاف المسجد فجدّدوها على نمط الخمسة السّابقة، فاتّسق المسجد في بنائه وأبواب / بهوره، وصار على أبدع نظام، أبقاه الله معمورا بذكره وتلاوة كتابه وقراءة سنّة نبيه صلّى الله عليه وسلم وعلوم شريعته المطهّرة، والفراغ من الخمسة الأخيرة بتاريخ سنة سبع وتسعين ومائة وألف (¬49)، وتجديدها على يد أكبر المعلّمين أسطى أحمد ابن الحاج عبد السّلام الشّعبوني (¬50) وإخوته من الشّعريّين (¬51) أصحاب الصّناعة. السّقاية: ثمّ إنّ البلد لمّا كانت مشتهرة بالعطش لأنّ عمدتهم (¬52) على شرب ما يختزن من ماء المطر، وفي سنة الشّدّة يلجؤون (¬53) إلى ماء الآبار، وآبارها غير عذبة لأنّها سبخة والعذب من الآبار بعيد، فلمّا قدم النّاصر (¬54) من مرّاكش لإنقاذ (¬55) البلاد من يد الميورقي - حسبما مرّ مفصّلا - وقدم إلى صفاقس وجدها في غاية العطش، واشتكى النّاس ما هم فيه من العطش، فأمر ببناء مصانع لطيفة خارج البلد من شمالها، عدّة تلك المصانع بقدر أيّام السّنة: ثلاثمائة وخمسة وستّون (¬56)، وقال: يكفيهم كلّ ليلة ¬

(¬48) نخرها السوس، والسّوس هو الدّود الذي ينخر الخشب وغيره. (¬49) 1783 م. (¬50) كما جاء منقوشا على الباب الثّالث والرّابع في الإتجاه الشّرقي. (¬51) ذكرهم. (¬52) في ط: «عهدتهم». (¬53) في الأصول: «يلجون». (¬54) بن يعقوب بن عبد المؤمن الموحدي. (¬55) في ط وت: «لاستنقاذ» وفي ش: «انتقاذ». (¬56) مما يتفكّه به في الأوساط الشّعبية الصّفاقسيّة هذا اللّغز: أنثى زميمة هي من عمر الجد إترضع في ثلاثمائة وستة وستين ولد

ماجل، فبقيت على ذلك مدّة، وسمّوها النّاصرية (¬57)، ولمّا طالت الأزمان استولى الفساد على أكثرها. فلمّا ملك البلاد محمد باي إبن مراد باي - رحمهم الله - جميعا، واستبدّ بعد أخيه علي باي - حسبما مرّ - وكان محبّا لفعل الخير طلب منه أهل البلد إصلاح الناصرية، فأسعفهم بإحياء ما دثر منها (¬58)، وجعل عليها سورا محيطا بها من جميع جهاتها وجعل عليها بابا يتوصّل منه لدخولها. ولمّا كثر أهل البلد وعمرت ولم يصبها الطّاعون مدة نحو ثمانين سنة شرع أهل الخير / في زيادة مصانع جديدة، وكلّ يعمل بقدر طاقته، فمن مقل ومن مكثر من واحد إلى أربع وأقل وأكثر، وصار أكثر النّاس يوصون بثلث أموالهم (¬59) لبناء مصانع للماء في النّاصرية، فكثرت وكفت النّاس في السّنين المخصبة، وإذا توالت المسغبة رجع النّاس إلى شرب ماء الآبار ويحصل لهم بذلك تعب ومشقة شديدة، فاشتهر البلد بشدّة العطش لا سيّما وهي مرسى مورد السّفّار بحرا وبرّا (¬60)، ومورد الأمحال السّلطانية الشّتائية (¬61). وعلى البلاد عدّة أودية (¬62) إذا نزل المطر حملت الأودية بماء كثير يروي الأراضي ويصل إلى قرب سور البلد ثمّ يصب في البحر مع شدّة حاجة النّاس لبعض ذلك الذي يصب في البحر. فلمّا كانت أيّام الباشا - رحمه الله تعالى - بعد سيدي حسين باي - رحمه الله - بلغه ما يقاسيه أهل صفاقس من شدّة العطش فاستدعى وجوه البلد من صفاقس، وكان رجلا شهما مهيبا صعبا فعرّفهم أنّ قصده إنشاء فسقية لحفظ (¬63) ماء الأودية، فخافوا أن يأمرهم ببنائها من أموالهم لعدم قدرتهم على ذلك، فقالوا: إن الماء قريب من سطح ¬

(¬57) مع الأيّام وبتوسّع العمران إزدادت صهاريج النّاصرية كما سيشير المؤلّف، وردمت النّاصرية باستثناء خمسة منها وبنيت في مكانها مدرسة ثانوية للفتيات تعرف بالنّاصرية. (¬58) ساقطة من ط وت. (¬59) كانت للنّاصرية أوقاف كثيرة تشير إلى أهميّتها في حياة النّاس. (¬60) كانت صفاقس نقطة إستراحة وتزويد على الطّريق السّاحلي الرّابط بين الشّمال والجنوب ثمّ منه إلى طرابلس والشّرق، وطريق القوافل البرّية في نفس الإتجاهات بإضافة إفريقيا السوداء عبر غدامس. (¬61) محلّة الشّتاء تذهب إلى الجريد لاستخلاص مجابيه لأنّ إصابته تعتمد على نتاج النّخيل. (¬62) واد القناطر وواد الشعبوني. (¬63) في ط وت: «تحفظ».

الأرض، وليس في بلادنا عمق في الأرض يتحمّل حفر الفسقية بمجاري الأودية، فقال: إذهبوا وتفحّصوا (¬64) وأخبروني، قالوا: نعم، فلمّا قدموا حفروا في أماكن لا تليق، وعرفوه بعدم الإمكان. فلمّا أفضت السّلطنة للمنعّم المرحوم برحمة الحيّ القيّوم، صاحب الخيرات والإحسان والمبرّات، ذي النّيّة الصّالحة والتّجارة الرّابحة، من ذخّر (¬65) الله له كنزا من دعاء الخير / ونزول الرّحمة لانفاذ له حتّى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين لتجدّد الدّعاء الصّالح عليه من الصّغير والكبير، والغني والفقير، والذّكر والأنثى، والحرّ والعبد، ليلا ونهارا، صياما وإفطارا، إحضارا وإسفارا، في الشّدّة والرّخاء، ألا وهو السّلطان الأفخم، والمقام المعظم والأعظم، سيدي علي باي إبن سيدي حسين باي - خلّد الله الملك في أخلافه - وأحلّه دار الرضى والرضوان مع جملة أسلافه. فلما أقرّ الله عينه بالملك، ولم يبق معه من يخالفه وتمّت عليه نعمة الله، وأراد شكر ما تولاّه، تتبّع بنظره السعيد من هو أحوج لفعل الخير، فكشف الله عن بصيرته حتى رأى حاجة أهل صفاقس لحفظ مياه أوديتها، فأمر قائد البلد إذ ذاك، وهو المرحوم المنعّم صاحب السّياسة السّلطانية، والآداب الملوكية بكّار الجلولي (¬66) بالنّظر في شأن هذه القضيّة وكان - رحمه الله - حريصا على حبّ الخير سيما في شيء يعود نفعه لأهل (¬67) بلده، وأجره لسلطانه، وكان سبّاقا للغايات، محبّا لإظهار المزيّات، لا سيما فيما يبقى ثوابه لفاعله بعد الممات من إجراء الأنهار، وحفر الآبار، وحسبما ذكره النبيء المختار - عليه صلاة الله وسلامه أناء الليل والنهار - والدّال على الخير كفاعله، فامتثل الأمر، وبادر إلى فعل الخير، وأحضر أكابر المهندسين ممّن له خبرة بحفر الأنهار واستنباط المياه كأمين البناء الحاج سعيد القطي، وأسطى طاهر المنيف - المتقدّمي الذّكر - / وغيرهما ممّن له نظر في صناعة المياه، وأمرهم بالخروج للنّظر في الأرض لطلب مكان يصلح لوضع الفسقية، فوقع إختيارهم على موضع معيّن بعده من سور المدينة بقدر ميل ¬

(¬64) في ط: «ابحثوا». (¬65) في ط وت: «ادخر». (¬66) بن علي بن فرحات (ت. في سنة 1782 م) وأسرة الجّلّولي من أكبر أسر صفاقس في القرنين الثّامن والتّاسع عشر، وخدم أفرادها السّلطنة الحفصية والعثمانية في أغلب الأحيان برتبة ولاة (قياد) بصفاقس وغيرها من الأوطان. (¬67) في ط: «على أهل».

من الجهة الغربية (¬68) التي تأتي منها الأودية ويصل إليها الماء بالمطر اليسير، فعرّفوا السّلطان بذلك، فجاء الجواب من السّلطان بالأمر بالشروع في العمل، ولمّا شرعوا في الحفر وأخرجوا التّراب من الأرض، وكان النّاس في شدّة العطش، ولم يكن الوقت أوان المطر أنشأ الله السّحاب، وأنزل من السّماء ماء مباركا بالقرب منها فسالت مياه بقدرها، واجتمعت فيما حفروه فانتفع النّاس به أيّاما ورأوه فألا حسنا، ومن ذلك الوقت لوقت التّاريخ لم تخّل سنة من السّنين إلاّ وتمتليء إما في أوّل السّنة أو وسطها أو آخرها، وفي ذلك دلالة على صلاح نيّة منشئها وقبول عمله لأنّه لله، وما كان لله دام واتصل. ثمّ إنّ أهل البلاد اختاروا للقيام بأمرها في قبض المال وصرفه الحاج الأبر الفقيه النّبيه أبا عبد الله محمّد إبن الحاج الأبر الفقيه العدل الأمثل الشّيخ المسنّ الصّالح أبي العبّاس أحمد الشّعبوني، لأنّه أصلح رجل يقوم بهذا الشأن، ولأنّه قبل بناء الفسقية كان حفر بئرين غربي البلد، وفّق الله فيهما لعذوبة مائهما، كان قصد بهما سقي أشجاره فلمّا استعذبهما النّاس أوقفهما على المسلمين، فانتفع الناس بهما مدة، تقبّل الله عمله. وأمر السّلطان - رحمه الله - أن يكون المال المصروف على / الفسقية من غلّة الزّيتون الجالي (¬69) بغابة صفاقس ممّا لم يعرف له مالك لأنّه فيء للمسلمين ونظره للسّلطان، فبذل المعلّمون جهدهم وكذا القائد والمقدم حرصا على فعل الخير، وخوفا من عوائق الدّهر، فاغتنم النّاس الفرصة، وأمّن الله السّلطان، واطمأنّت الأوطان بقدر حسن نيّة السّلطان، فجاءت في أسرع زمان ورفق في المصروف بالنّسبة لغيرها، فيسّر الله الإتمام، وظهرت بركاتها للأنام، فاستبشر المسلمون وحصل للكلّ من الفرح والسرور ما لا يعلمه إلا الله، وأخبروا السّلطان بالتّمام واستبشر، واستقلّ (¬70) المصروف، وعلم أنّ الأمر كان عناية من الله، تقبّل الله عمله وجعله سببا للسّعادة الأبديّة، وخلّد الملك في ذرّيّته، وأجرى الصّالحات على أيديهم. ولمّا ظهرت بركاتها ونفعها، رغب أهل الخير في العمل الصّالح بأن جمعوا ما تيسّر من الأموال، وحفروا صهريجا عظيما ملاصقا للفسقية، وأبقوا سور الفسقية حاجزا بينهما، فلمّا حملت الأودية دفعت بقوّتها ذلك الحاجز، وكان بعض النّاس فوقه ¬

(¬68) هذه الفسقية ما زالت موجودة إلى الآن وتقع في وسط حديقة عمومية كما أشرنا. (¬69) الجالي في اللّغة الدّارجة «البرّي». (¬70) كذا في ط وت، إستقل أي وجده قليلا، وفي ش: «استقال».

يتفرّجون، فلمّا دفعته المياه وقع من كان فوقه في وسط ذلك الماء (¬71) المستبحر فتسارع النّاس لإنقاذهم فأنقذوهم، وحضر أجل واحد - رحمة الله عليه - مات شهيدا، فأخبروا السّلطان بالواقع فجاء الجواب بأن لا أريد أن يشاركني أحد في هذا الأمر ردّوا الأموال لأربابها وأدخلوا الصّهريج في الفسقية، فامتثلوا الأمر. ولمّا تمّ أمرها وتواترت الأودية / ظهر في مكان إنضغاط الماء بعض تغوير حوالي جدرانها وأساسها فخافوا أن يظهر خلل فيها مع طول السّنين، فسعوا في تدعيم جدرانها وأساسها والإكثار من صبّ التّراب حواليها وبناء أسوار تذهب بقوّة وصول الماء ونزوله فتمّت النّعمة وعمّت الرّحمة، وكلّما امتلأت أخبروا مولانا السّلطان بحصول الخير وبشّروه بانفتاح باب أدعية الخير من كافّة النّاس وبظهور سرورهم وتجديد صالح أدعيتهم في كلّ وقت وحين ولو سكنت ألسنتهم نطقت جوارحهم بالدّعاء والثّناء (¬72) الجميل. قال الشاعر: [الطّويل] فعاجوا فأثنوا بالّذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب (¬73) ويوم امتلائها عندهم يوم عيد كما عند مصر يوم جري (¬74) النّيل وأنشدوا فيها الأشعار (¬75) وأحسن ما قيل فيها ما أنشده الأديب الأريب الشّيخ أبو إسحاق إبراهيم الخرّاط (¬76) صاحب القصائد المشهورة، والأدبيات المنظومة والمنثورة، مادحا للسّلطان ومتوسّلا في تولية منصب الإشهاد فقال: [الوافر] سلوا أهواك (¬77) عين المستحيل ... فما يغني إذا (¬78) عذل العذول أأسلوه وطرفي سارح في ... رياض من محياك الأسيل ¬

(¬71) في ط: «المياه». (¬72) في ط: «انشاء». (¬73) كذا في ط وفي ش: «الحنايب» وفي ت: «المغايب». (¬74) في ش وت: «جبر». (¬75) في ش: «أشاعر». (¬76) سيترجم له المؤلّف فيما بعد. (¬77) في ط وت: «سلو أهواك» وفي ش: «سلو هواك». (¬78) في ش: «اذن».

يلوح عليه خال عنبري ... كزنجيّ يمانع للدخول فيا دور العذار عليه (¬79) ماذا التّسلس‍ ... ـل (¬80) فيه منك بلا دليل وكيف اخضرّ نبتك وسط نار ... أكانت هذه نار الخليل / أحالت لي عيون النّاس دينا ... عليك مثبت بهوى العدول وقاضي الحب يحكم لي (¬81) وهذا ... ثبوت رضى المحال مع المحيل وهبك أسرتني وملكت رقي ... أتقتلني بناظرك الكحيل (¬82) قد استفتيتهم (¬83) قتل الأسارى ... أيذهب قاتل بدم القتيل رويدا إنّني متخلّص من ... وثاق الأسر بالملك الجليل أبي الحسن المليك عليّ باشا ... سليل حسين الملك الأصيل هو النّفّاع والضّرار جودا ... وبأسا للذّليل وللظّليل محاول مجده أتزيل ما في ... مبيت صالح وهنا مقيل وما بالسيف تلتمس المعالي ... ولكن بالسّعادة والقبول أمولاي الذي سلب العدا في (¬84) ... مواقف دونها سلب العقول رقيت مراقي الأفلاك فينا ... فدس هام الكواكب بالخيول وأوردها المجرّة (¬85) واجن زهر الثري‍ ... ‍اواقتطفته بلا ذبول وفضّ نطاق جوزاها وجاوز ... بسبق غير هيّاب ملول فتعتصم الدّراري لو تجارى ... خيولك بالوقوف أو الأفول (¬86) وتحتجب الرّياح فما (¬87) لديها ... مهب من شمال أو قبول فصل واعزم على الاعدا بدهر ... ولا تصحبه الا بالنّصول فأنت حليف (¬88) سرج مع عنان ... ومنطقة وهنديّ صقيل وأنت أخو المكارم والمعالي ... وملجؤنا من الخطب المذيل ¬

(¬79) ساقطة من ت. (¬80) في ط: «اتسلسل»، وفي ت: «السلسل». (¬81) في ط وت: «يحكم ويا». (¬82) في ط: «بنظرك الكليل». (¬83) في ط: «أستقتيهم». (¬84) في ت وط: «العراقي». (¬85) كذا في ش وب، وفي ط: «الجمرة»، وفي ت: «الحجرة». (¬86) بيت ساقط من ب. (¬87) في ط: «فيما». (¬88) في ش: «خليف».

أمير المؤمنين بقيت سترا ... على الخضراء بملك مستطيل ولا زالت عباد الله تثني ... عليك ثنا الرّياض على السّيول أرحت صفاقسا من كدّ محل ... ومن عطش ومن كرب طويل / ومن شرب من الآبار ملحا ... يزيدهم لهيبا في الغليل فقد روّيتهم بسبيل (¬89) ماء ... له تجبى (¬90) السّيول لدى النّزول فيملأ (¬91) بركة عذبت وراقت ... وجعّدها النّسيم لدى الأصيل كأن مياهها عسل مصفى ... فيا لله من ذاك السّبيل فأنشد في تمامه إن تؤرّخ ... سبيل جا كطعم السّلسبيل لك الله المقدّس من أمير ... حكيم الدّين والدّنيا نبيل بثثت صنائعا في الناس كانت (¬92) ... ملوك سواك عنها في نكول وها هي بالعيان دليل صدق ... مدى الأزمان لا قول القؤول ومثلك لا يظنّ المال يبقى ... ولا يبقى سوى قصد السّبيل على المعروف والدّنيا ضمان ... لكم بالملك والعمر الطّويل مدحتك أيّها الملك المعلّى ... بدرّ فاق من بحر الخليل ولو أنّي قدرت على الدّراري ... لكم نضّدتها عوض المقول شهدت بمدحكم نظما فحقّ (¬93) ... لي التّنضيد في سلك العدول بقيت بقا الزمان أخا وفاء ... تحقّق كل مأمول جليل عليك مخلّد ملك ضخيم ... وعزّ في السّعادة والقبول وصلّى الله ربّ النّاس طرّا ... على المختار سيّدنا الرّسول وآله ثم صحبه (¬94) ما تغنّت ... على الأغصان ورق في الأصيل. وكيفية [وضع] (¬95) هذه الفسقية أنّ شكلها مربّع مستطيل وبجانبها من ناحية ¬

(¬89) كذا في ش وت، وفي ب: «سبيل»، وفي ط: «بسيل». (¬90) بياض في ط. (¬91) بياض في ط. (¬92) كذا في ط، وفي ش: «كان أت»، وفي ب: «كا»، وفي ت: «كنت». (¬93) كذا في ش وب، وفي ت: «يحق» وفي ط: «بحق». (¬94) في ط: «صحب». (¬95) ساقطة من ش.

الشّمال فسقية صغرى ينزل الماء (إليها أولا بما احتمل السّيل من زبد وغثاء (¬96)، وبعد ركوده بعض ركود (¬97) ينزل الماء) (¬98) من الصّغرى للكبرى من طيقان بينهما / ويبقى الزّبد والغثاء في الصّغرى، وبعد مضي جملة من السّنين يزيلون ما تجمع فيهما من الحمإ ليبقى الماء على عذوبته ويتّسعان بفراغ موضع الحمأة، وجعل المهندسون في جانبها الشّرقي قبوا على طائفة منها، وجعلوا فيها أفواها لاخراج الماء وجعلوا عليها سورا من جميع الجهات حفظا لها وجعلوا فيه (¬99) أبوابا لدخول المستقين. ولمّا كان شكلها مربّعا بطريق مساحتها ليعلم قدر ما تحمله من الماء يكون (¬100) بضرب أذرع الطّول في أذرع العرض، وما يخرج فيضرب في أذرع العمق، فيخرج عدّة ما فيها من الأذرع. فطول الكبرى من المشرق إلى المغرب مائة وخمسة عشر ذراعا، وعرضها من الشّمال إلى الجنوب مائة ذراع إلاّ ذراعا، وعمقها الحامل للماء سبعة أذرع، فإذا ضرب أذرع الطول في أذرع العرض خرج خمسة وثمانون ذراعا وثلاثمائة وأحد عشر ألف ذراع، والخارج من ضرب هذا الخارج في سبعة العمق خمسة وتسعون وستمائة وتسعة وسبعون ألف ذراع. وطول الصّغرى كطول الكبرى مائة وخمسة عشر، وعرضها أحد وثلاثون ذراعا، وعمقها أربعة أذرع إلاّ ربعا، فإذا ضربت عرضها في طولها خرج خمسة وستون وخمسمائة وثلاثة آلاف ذراع، فاذا ضربت هذا الخارج في العمق، وهو أربعة إلاّ ربعا، خرج ثمانية وستون ذراعا وثلاثمائة وثلاثة عشر ألف ذراع. (وثلاثة / أرباع ذراع، فإذا جمع (¬101) خارج ضرب الكبرى بخارج ضرب الصغرى بلغ ثلاثة وستّين ذراعا وثلاثة وتسعين ألف ذراع وثلاثة أرباع ذراع) (¬102). وأخبرني المهندس أسطى محمّد المنيف أنّ الذّراع من الماء يملأ أربع قلال (¬103) فيكون الخارج من عدة الأذرع هو عدة وقر (104) الحمار لأن وقر (¬104) الحمار أربع قلال فإذا ¬

(¬96) في ت: «عشاب». (¬97) بعض ركود: ساقطة من ت وط. (¬98) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬99) في ش: «فيها». (¬100) ساقطة من ت وب وط. (¬101) في ط: «ضرب». (¬102) ما بين القوسين ساقط من ب. (¬103) ج قلّة وهي من الفخّار. وفي ش: «قلل». (¬104) الحمل الثّقيل. تاج العروس 3/ 605.

الربض القبلي

أريد عدة ما في الكبرى والصّغرى من القلال فاضرب عدة الأذرع في أربع يخرج عدّة ما فيهما من القلال وذلك ظاهر. وجملة ما أصرف على الفسقية من أولها إلى آخرها أربعة عشر ألف ريال ومائة ريال وثمانون ريالا. وكان إبتداء بنائها أوائل شوّال من سنة ستّ وثمانين ومائة وألف (¬105)، وانتهاؤه أواخر ربيع الثّاني من شهور سنة ثمان وثمانين ومائة وألف (¬106). وبعد الفراغ من بنائها على التّمام أمر السّلطان - رحمه الله تعالى - ببناء فندق وقفا عليها، تصرف غلاّته في مصالحها إتماما لهذه النّعمة على الخلق، أتمّ الله عليه وعلينا النّعمة بدخول دار الرضا والرضوان، والتّمتّع بالنظر إلى وجهه الكريم، فشرع المقدّم المذكور في بناء الفندق بالرّبض (¬107) قرب باب بحر المدينة، وكان المصروف عليه نحو ثمانية آلاف ريال، والفراغ من بنائه سنة إثنتين وتسعين ومائة وألف (¬108). الربض القبلي: وهذا الرّبض لم يكن قبل وإنما أحدثه الناس بأمر السّلطان المذكور - رحمه الله تعالى - بعد الإستئذان فيه مرّة بعد أخرى، فأذن في سنة تسع وثمانين / ومائة وألف (¬109) فبنى النّاس فيه، ولولا ما نزل بالناس من الطّاعون سنة تسع وتسعين ومائة وألف (¬110) لضاق بالنّاس. واستجدّ بهذا الرّبض من رغب في فعل الخير وما عند الله من الثّواب (¬111) والوعد الحسن لمن بنى لله مسجدا ولو كمفحص (¬112) قطاة أن يبني الله له بيتا في الجنّة، وهو التّاجر أبو محمّد حمودة إبن التّاجر الحاج الأبر أبي العبّاس أحمد إبن التّاجر الحاج الأبر أبي عبد الله محمد السّلاّمي، فبنى المسجد المشهور بالرّبض في طريق باب البحر من خالص ماله إبتغاء مرضاة (¬113) الله تعالى، ورتّب له ما يحتاجه من إمام ومؤذّنين وقرّاء ¬

(¬105) أواخر ديسمبر 1772 م. (¬106) 10 جويلية 1774 م. (¬107) ما يعرف بالرّبض القبلي. (¬108) 1778 م. (¬109) 1775 م. (¬110) 1784 - 1785 م. (¬111) في ط وت وب: «المثوبات». (¬112) في ط وت وب: «كفحص». (¬113) في الأصول: «مرضات».

كسوف بالشمس

وحفظة، وبنى له ميضة (¬114) وصهريجا، وأجرى عليه ما تتوقّف عليه العبادة عادة من حصر ووقيد وغير ذلك مما تتوقّف عليه المساجد، وأوقف عليه رباعا وعقارا يصرف محصول غلاّتها على المسجد والقائم به، تقبّل الله عمله وجعله عملا خالصا لوجهه الكريم ومقبولا ومشكورا وأناله به جنّة وحريرا، وانتهاء بنائه سنة تسع وتسعين ومائة وألف (¬115)، وابتداء التّعمير سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف (¬116). كسوف بالشمس: وفي سنة سبع وتسعين ومائة وألف (¬117) وقع تغيّر في الهواء فكثف حتّى كان الجوّ يظلم وتظهر الشمس بصورة الإنخساف ولا خسوف بها، وإذا بقي للغروب قيد رمحين (¬118) زال (¬119) نور الشمس بالمرّة من شدّة كدورة (¬120) الهواء فيظهر في مرأى (¬121) العين أنّها غربت والحال أنّها فوق الأفق ولا سحاب هناك بل غلظ هواء / وتتابعت (¬122) خسوفات في القمر. الطّاعون وأثره: وكثر الطّاعون بأرض المشرق من مصر وبلاد الترك، فلمّا كانت سنة ثمان وتسعين ومائة وألف (¬123) (ظهر بجمّال من بلاد السّاحل واستمرّ لتونس (¬124)، وفي أوّل سنة (¬125) ¬

(¬114) تعبير عامي، والفصيح: «ميضاة». (¬115) 1784 - 1785 م. (¬116) 1779 م. (¬117) 1783 م. (¬118) في ط: «قدر رمحين»، وفي ت: «قدر عين»، وفي ب: «قيدر عين». (¬119) في ت: «زوال». (¬120) في الأصول: «كدرة». (¬121) في ط: «بمرآى». (¬122) في الأصول: «تتابع». (¬123) 1784 م. (¬124) في ط: «بتونس». (¬125) جانفي 1785 م.

تسع وتسعين ومائة) (¬126) وألف عمّ إفريقية وطرابلس والجزائر، ففي شهر ربيع أوّل (¬127) من السّنة المذكورة ضرب بصفاقس رجل ومات من يومه، وأصيب غدا آخر وآخر، ثمّ كثر وتضاعف حتى انتهى لنحو مائتين وخمسين في كلّ يوم ببلد صفاقس، ثمّ أخذ في الرّاجع (¬128) على نحو مائة إلى نحو ما نزل (¬129)، ولقد عمّ المدن والقرى والحاضرة، وغالب البادية، والجزر كجزيرة جربة وقرقنة، وحرز (¬130) من مات من صفاقس (¬131) في أمد أيّام الطّاعون فكان نحو خمسة عشر ألفا، وفي النّساء أكثر منه في الرّجال، ولم يبق من الزّنج إلاّ النّادر الّذي لا يعدّ، ومات أكثر أهل الخير والصّلاح، وحملة القرآن العظيم، وأكثر الفقهاء، واسودّت الدّنيا في أعين أبنائها، وأيّس الناس من حياتهم وعجزوا عن الحمل والدّفن، ولا نفع (¬132) تميمة (¬133) ولا رقيا ولا تعاويذ ولا بخور ولا كتابة على أبواب الدّور، ولا غير ذلك ممّا يذكره بعضهم، فلذا قال الشّيخ الأديب أبو الحسن علي ذويب - رحمه الله وعفا (¬134) عنه - وقد مات بالطّاعون في الأمد المذكور لمّا أصيب به، وكان يميل لبعض أقوال الحكماء المتطبّبين وأصحاب الطلسمات وشبههم: الآن أيقنت أنّ التأثير لله، وأنّه الفعّال لما يريد، وكفرت بما يقوله الحكماء المتطبّبون / من إستعمال أكل مخصوص، وشرب مخصوص، وبخور مخصوص، واستفراغ فضول فصدا أو إسهالا، فإن الكلّ باطل، وإن ما قضاه الله كان، فقد فعلت ما أمروا به ولم يغن عنّي شيئا. وأبلغ من هذا أنّ العدل أبا الحسن علي العش - رحمه الله تعالى - كان أغلق بابه وقطع الدّاخل والخارج زعما أنّ الهواء يفسد بالمجاورة فيدفع الفساد بتغليق الأبواب وقطع المخالطة، وكان صحيح الإعتقاد إلاّ أنّ الخوف يحمل الإنسان على أشياء لا اختيار له ¬

(¬126) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬127) جانفي - فيفري. (¬128) تعبير عامي والفصيح التراجع. (¬129) في ط وت وب: «بدى». (¬130) في ت: «وحصر». (¬131) في ط: «بصفاقس». (¬132) في الأصول: «فيه». (¬133) في ت: «تحميه». (¬134) في ش: «عفى».

صوف البحر

فيها كما خاف الكليم - عليه السّلام - (¬135) من العصا حين ألقاها فصارت ثعبانا، فلمّا فرغ الطّاعون واطمأنّ وفتح بابه ودخل وخرج أصيب في جوفه، فأقام ثلاثة أيام ثمّ انتقل إلى (¬136) رحمة الله تعالى، فكان آخر من أصيب بالطّاعون. وفيما ذكرناه من وصف البلد مع ما تقدّم في صدر الكتاب كفاية. صوف البحر: وذكر التّجاني أنّ بحر صفاقس يوجد به صوف البحر (¬137) الذي يعمل منه الثّياب الرّفيعة الملوكية وربّما وجد في بحرها صدف يشتمل على لؤلؤ صغير الحب (¬138) اهـ‍. قلت: أمّا الصّوف البحري فيوجد منه الأخضر، قيل: إن أهلها كانوا يشتغلون منه بعض الثياب والآن ما رأينا من يستعمل ذلك، وبلغنا أنّ الباشا (¬139) - رحمه الله تعالى - أمر أهل جربة فاستخرجوا له صوفا بين السّواد والحمرة واشتغلوا (¬140) له منه طيالسة. وهذا الصّوف ينبت على الحجارة في أقاصير البحر، وأما حبّ اللؤلؤ فما رأيناه ولا أخبرنا أحد / بذلك فلعله كان وانقطع ذلك. ¬

(¬135) ساقطة في ط وب وت. (¬136) ساقطة من ش. (¬137) يرى هادي إدريس (R. H. Idriss: La berberie orientale, 2/ 635) ، أنّ صوف البحر قزّ رطب، ينبت في أطراف نوع من المحار المثلّث الشّكل. ولكنّ النّصوص العربية القديمة تعتبره غير ذلك، يقول القلقشندي في صبح الأعشى إعتمادا على إبن سعيد في تقويم البلدان: «ومن بحرها يستخرج الصّوف المعروف عند العامة بصوف السمك الذي تنجز منه الثّياب النّفيسة» قال إبن سعيد: «أنا رأيته كيف يخرج، يغوص الغوّاصون في البحر فيخرجون كمائم شبيهة بالبصل بأعناق، في أعلاها زويرة، فتنشر في الشمس، فتنفتح تلك الكمائم عن وبر، فيمشط ويؤخذ صوفه فيغزل، ويعمل منه طعمة لقيام من الحرير وتنسج منه الثّياب» والنّسيج المصنوع من هذا الصّوف يتلون عند رؤية العين ويدخل في باب الأنسجة المعروفة بالبوقلمون - القرمسود عند العامّة - ومن المؤرخين من يطلق إسم البوقلمون على الصّوف نفسه، أنظر إدريس (La Berberie) ، نفس المرجع، وعلي الزواري، صفاقس، دار الجنوب للنشر، تونس 1980 ص: 63. (¬138) رحلة التّجاني ص: 68. (¬139) يقصد علي باشا الأول. (¬140) في ط وب: «اشتغل» وفي ت: «وصنعوا».

آراء بعضهم في صفاقس

آراء بعضهم في صفاقس: ثمّ قال التّجاني: ومرساها مرسى حسن ميّت المات والماء يمدّ به ويجزر عنه كلّ يوم، فإذا جزر استوت السفن على الحمأة، واذا مدّ طفت (¬141) على الماء، وفي المدّ والجزر يقول بعض المجيدين من شعرائها وهو علي بن حبيب التنوخي وسيأتي ذكره قريبا: [مجزوء الكامل] سقيا لأرض صفاقس ... ذات المصانع والمصلّى فحمى (¬142) القصير إلى الخليج ... فقصرها (¬143) السّامي (¬144) المعلّى بلد يكاد يقول حين ... تزوره أهلا وسهلا وكأنّه والبحر يجزر (¬145) ... تارة عنه ويملا صبّ يريد زيارة ... فإذا رأى الرّقباء ولّى وأين هذا من قول أبي عبد الله محمد إبن الشّيخ الصّالح أبي تميم المعز (¬146) بن سليمان يذمها ويخيل أنّ هذا الجزر هروب من البحر عنها لقبحها، وقد كان ولي إشرافها (¬147) سنة خمس وستين وستمائة (¬148) فقال فيها: [البسيط] صفاقس لا صفا عيش لساكنها ... ولا سقى أرضها غيث إذا انسكبا ناهيك من بلدة (¬149) من حلّ ساحتها ... عانى (¬150) بها العاديين الرّوم والعربا كم ظلّ (¬151) في البحر مسلوبا بضاعته ... وبات في البحر يشكو الأسر والعطبا ¬

(¬141) في الرّحلة: «عامت». (¬142) في الأصول: «تحمي» والتّصويب من الرّحلة. وفي الحلل السّندسيّة 1/ 312: «يحمي». (¬143) في ش وب وط: «بقصرها» وفي ت: «فقصرا» والتّصويب من الرّحلة. (¬144) كذا في ت وب والرّحلة، وفي ط وش: «اسامي». (¬145) كذا بالأصول والحلل، وفي الرحلة: «يحسر». (¬146) في ط: «المقرى». (¬147) الإشراف هو رئاسة القمارق. (¬148) 1266 - 1267 م. (¬149) في الأصول: «بلد». (¬150) في الأصول: «عانا». (¬151) في الأصول: «ضل».

وليتها فتولتني الهموم وقد ... لقيت من سفري (¬152) في أرضها نصبا قد عاين البحر قبحا (¬153) من جوانبها ... فكلّما همّ أن يدنو لها هربا (¬154) قلت: من بلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال، وكلّ شاعر يتكلم بمقتضى حاله، (فالأول كان صاحب بخت وسعد / فجاء في وقت سعيد ورأى ما يبسطه فنطق بمقتضى حاله) (¬155) (والثّاني كان منحوسا فنحست البلاد به فرأى ما يقبضه فنطق بمقتضى حاله) (¬156) والبلد على بخت أميره (¬157) فإن كان سعيدا سعد (¬158) به وإن كان نحيسا نحس (¬159) به وأمّا البلد (¬160) في حدّ ذاته فلا يقتضي سعدا ولا نحسا. والرّوم والعرب لا تختصّ أذيّتهما (¬161) بصفاقس، فإن أمّ إفريقية وبلاد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم هي مدينة القيروان بلا دفاع ولا نزاع، وقد أصابها من العرب وغيرهم ما يبكي الدّم بعد الدّمع - حسبما مرّ مفصّلا -، وهذه تونس كرسي إفريقية وقد أصابها من الأعراب والميورقي (¬162) والرّوم ما يذهل العقول - حسبما مرّ - وكلّ ذلك لا يوجب قدحا في القيروان وتونس، ولكن ما زالت الأخيار تمتليء بالأشرار من لدن آدم - عليه السّلام - وقد قال جلّ قائلا {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} الآية (¬163)، هذا إن صدق الشّاعر في شعره ونطق بمقتضى حاله، وإلاّ فكثير منهم يذمّ من لا يستحقّ ذمّا من كثرة هيمانهم فيتردّدون بين طرفي الإفراط والتّفريط في المدح والهجاء كما قال جلّ ثناؤه {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ} (¬164) الآية، على أنّا لو عملنا بقول كلّ شاعر وتمسّكنا به وطعنا فيمن طعن فيه لطعنا في أهل تونس وسوسة لقول التّجاني: وممّن ¬

(¬152) في ط: «سفرها». (¬153) في ط: «في». (¬154) أنظر رحلة التّجاني ص: 68 - 69. (¬155) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬156) ما بين القوسين ساقط من ش وب. (¬157) في الأصول: «أميرها» والبلد مذكر. (¬158) في ش وط وب: «سعدت»، وفي ت: «فسعدت». (¬159) في الأصول: «نحست». (¬160) في الأصول: «البلاد». (¬161) في ط: «اذايتهما». (¬162) هو ابن غانية. (¬163) سورة البقرة: 155. (¬164) سورة الشّعراء: 225.

ينسب إلى سوسة شيخ شيوخنا أبو عبد الله محمّد بن عبد الجبّار الرّعيني السوسي قال: كان يداعب طلبته من أهل تونس بسؤاله عن قول الشّاعر: / [الخفيف] لا تلمني على الدّناءة إنّي ... تونسي وجزت يوما بسوسة أيّ البلدين يقتضي الشّعر أن يكون أعظم دناءة؟ فيقولون له سوسة (¬165) اهـ‍. مع أنّا لا يمكننا الطّعن في تونس وسوسة لتحقّقنا قطعا فضل أهلهما، وكفى حطّة في هذا الشّاعر أن جعل كلامه موردا للسّخرية والضّحك لا للموعظة والحكمة. ثمّ قال التّجاني: وقد شاع في النّاس تسمية صفاقس بلعنة الله (¬166)، قلت: هذه التّسمية لموجب لا يقتضي طعنا في البلد، وسبب ذلك أنّ بعض الملوك (¬167) بتونس غضب على بعض النّاس فأمر بنفيه ولم يعيّن بلدا بل قال: أنفوه إلى لعنة الله، فاسترجع بتعيين بلد، فقال: إلى صفاقس، فلمّا سكن (¬168) غضبه، وأظهر البسط، سئل عن تسمية صفاقس بلعنة الله، قال: والله لا علم عندي بشيء إلاّ أنّ الكلام صدر منّي في حالة الغضب، وكثير من النّاس إذا غضب يقول إذهب إلى لعنة الله (¬169) أو إلى سخط الله والله أعلم. ¬

(¬165) رحلة التّجاني ص: 52 - 53. (¬166) الرّحلة ص: 69. (¬167) نقل المعنى من رحلة التّجاني. (¬168) زيادة من عند المؤلّف عمّا في الرّحلة. (¬169) ساقطة من ش.

الباب الثاني في ذكر ولاتها

الباب الثّاني في ذكر ولاّتها قد تقدّم أنّ أوّل من اختطّ سورها وجعلها مدينة أحمد بن الأغلب - رحمه الله تعالى - فكانت ولاّتها تتردّد عليها من قبل بني (¬1) الأغلب. فلمّا تولّى إفريقية بنو عبيد الله الشّيعة (¬2) كانت ولاّتها تتردّد عليها من قبلهم. إستقلال حمّو بن مليل بصفاقس: فلمّا تولّى بنو مناد وهم صنهاجة تردّدت ولاّتها من قبلهم إلى أن ولي المعز بن باديس من صنهاجة فولّى عليها منصور البرغواطي (¬3) / وكان من الفرسان المعروفين بالإقدام فأراد أن يثور بها وأخذ في محالفة العرب ومصادقتهم فعاجله ابن عمّه حمّو بن مليل وقتله غدرا في الحمّام سنة واحد وخمسين وأربعمائة (¬4). ولمّا قتله جاء حلفاء منصور من العرب فحصروا حمّو (¬5) بصفاقس فبعث إليهم يسألهم هل قصدهم الأخذ بثأر إبن عمّه منه أو المال، فقالوا: نحن لا ندخل بينكم (¬6) في الدّماء، وإنّما غرضنا الأموال، فالتزم لهم من المال ما رضوا به وعجّل لهم ما تيسّر وانفصلوا، وثار حمّو بصفاقس وأظهر العناد على بني مناد. فلمّا تولّى تميم بن المعز بعد أبيه طمع حمّو في الإستبداد والتّغلّب على غير صفاقس من البلاد، فحالف جماعة من العرب عديا (¬7) والأثبج (¬8) ومن ضامهم (¬9)، وزحف ¬

(¬1) في ش: «بن». (¬2) في ط: «بنو عبد الله الشيعية». (¬3) أنظر التّجاني ص: 70 والحلل السّندسيّة 1/ 313. (¬4) 1059 م. (¬5) في ط: «حصرا». (¬6) ساقطة من ط. (¬7) في الأصول: «عدي». (¬8) في ش: «الأشج»، وفي ت «الأشيخ»، ساقطة من ط والتّصويب من رحلة التّجاني ص: 70. (¬9) في الأصول: «ضاممهم».

ولاتها بعد فتح تميم بن المعز لها

بهم وبمن معه من رجاله إلى بعض القرى فملكها واستحوذ عليها، ثم نهض إلى المهديّة يريد حصارها فنهض تميم للقائه، فولّت نجدة حمّو أدبارها وأسرعت فرارها ورجعوا إلى صفاقس. ودام أمر حمّو في صفاقس زمانا واتفق أن قدم (¬10) بعض الأتراك من المشرق إلى تميم في جماعة من أصحابه ليكونوا من رجاله فأكرمهم تميم، ورتّب لهم جراية، فلم ترض كبيرهم، وبلغه عن تميم ما أوحشه وكان داهية ذا مكر وخبث (¬11) فخرج هو وأصحابه مع يحيى بن تميم يتصيّد (¬12)، فأبعدوا عن المهديّة فقبض التّركي / على يحيى وعلى جماعته وولّى هاربا وأفلت رجل ممّن حضر فوصل يركض إلى تميم فأعلمه، فأنفذ الخيل في طلبه ففات ولجأ إلى صفاقس، فأكرمهم حمّو بن مليل وبالغ في التّحفّي بيحيى ومسكه عنده، ثم خاف أن يولّيه أهل صفاقس عليهم، فأحبّ إخراجه من البلد فكتب إلى أبيه يعرّفه [أنه] إن بعث أموال الترك الهاربين وأهليهم وجّه إليه إبنه يحيى، ففعل تميم ذلك ووجّه إليه إبنه يحيى، فلمّا وصل يحيى إلى تميم ردّه إلى حصار صفاقس، فحاصر حمّو أيّاما ثمّ رجع عنه، ويقال إنّ يحيى أحبّ الإبقاء على حمّو فلم يبالغ في حصاره، وكان حمّو يقول: إن هذا لعجب: بالأمس أخلص يحيى واليوم يحاصرني. ولاّتها بعد فتح تميم بن المعز لها: فلمّا كانت سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة (¬13) توجّه تميم بنفسه فافتتحها وفرّ حمّو منها فاستجار يمكّي بن كامل الرّياحي بقابس، وكان لحمّو بن مليل أيّام ملكه لصفاقس كاتب يعرف بمظفر إبن علي مشهور بالبلاغة وحسن الكتابة، وكان يكتب عن حمّو إلى تميم ما يغيظه (¬14) ويبلغ منه كل مبلغ، فلمّا فرّ حمّو إلى قابس لم يشعر تميم إلاّ ومظفر قائم بين يديه يطلب العفو فعفا تميم عنه مع شدّة حقده عليه، قال أبو الصّلت: ومثل ¬

(¬10) نقل بالحذف من رحلة التّجاني ص: 70 وأنظر الحلل السّندسيّة 1/ 114. (¬11) كذا في ش وب ورحلة التّجاني والحلل، وفي ط: «حيل»، وفي ش: «خداع». (¬12) في ت وب: «يتصيدوا»، وفي ط: «يتصيدون». (¬13) 1099 - 1100 م. (¬14) كذا في ش والرّحلة والحلل، وفي ط وب وت: «يقبضه».

هذا الذّنب لا تغتفره (¬15) الملوك بل يجاوز التّثريب فيه إلى التّعذيب، ويتعدّى العتاب إلى ضرب الرّقاب، قال التّجاني (¬16): وذكر أبو الصّلت جملة ممّا تمثل به مظفر في الكتب عن مخدومه إلى تميم / قال: أمكنت حمّو فرصة في طائفة من جند تميم فقتلهم بصفاقس وكتب مظفّر في ذلك إلى تميم متمثّلا بقول أبي الطّيب (¬17): [المتقارب] إن كان أعجبكم عامكم ... فعودوا إلى مصر (¬18) في القابل فإن الحسام المصيب (¬19) الذي ... قتلتم به في يد القاتل قال: وتحدّث مرّة بالمهديّة بموت حمّو وبلغه ذلك فأمر مظفر أن يكتب إلى تميم في هذا المعنى فكتب له متمثّلا بقول أبي الطّيب: [البسيط] كم [قد] (¬20) دفنت [وكم] أقرت (¬21) عندكم ... ثمّ انتفضت فزال القبر والكفن ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه ... تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن وكتب إليه تميم يتوعّده ويتهدّده (¬22) وتمثّل فيه بقول الشّاعر: [الطّويل] ستعلم ليلى أي دين تداينت ... وأي غريم للتقاضي غريمها (فراجعه عنه مظفر متمثّلا بقول قيس بن ذريج (¬23): ¬

(¬15) في ط: «تغفره». (¬16) الرّحلة ص: 72. (¬17) هو المتنبّي. (¬18) في الرّحلة: «حمص». (¬19) كذا بالأصول ورحلة التّجاني وفي الحلل السّندسيّة: «الخضيب». (¬20) إضافة من الرّحلة والحلل وديوان المتنبّي. (¬21) في الأصول: «قبرت». (¬22) في ط وت وب والرّحلة: «يهدده». (¬23) في الأصول: «زريح».

[الطّويل] ستعلم إن شطت به (¬24) غربة النّوى (¬25) ... وزالوا بليلى (¬26) أنّ عقلك زائل (¬27) وفي رواية أنّ مظفرا (تمثّل له في مراجعته عن هذا الكتاب) (¬28) ممتثلا بقول جرير: [الكامل] زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ... أبشر بطول سلامة يا مربع وكتب إليه في إثر وقيعة كانت له عليه كتاب إيناس والطاف [فراجعه] (¬29) متمثّلا بقول عبد الله بن محمّد العطّار: [الرّمل] لا تظن (¬30) امرأ أغضبه ... سبب ثمّ انقضى ذاك السّبب سالم الصّدر من الحقد ولو ... أظهر الودّ ولم يبد الغضب كرماد (¬31) النّار يبقى حرّها ... كامنا فيه (¬32) وإن زال اللهب ولمّا فتح تميم صفاقس كانت ولاّتها تتردّد عليها من قبله / إلى أن توفّي. وتولّى إبنه يحيى فولّى عليها إبنه أبا الفتوح (¬33) فقام عليه أهلها ونهبوا قصره وأرادوا قتله، فغضب يحيى لذلك وأخذ في تفريق كلمة أهل صفاقس وتشتيت شملهم، ولم يزل يوالي (¬34) عليهم البؤس، ويملأ منهم الحبوس إلى أن شفى نفسه منهم ثمّ عفا (¬35) عنهم ¬

(¬24) في الأصول: «بك». (¬25) في ش وب وت: «النوا». (¬26) في ط وب وت: «بليل». (¬27) ما بين القوسين ساقط من ت. (¬28) في ت: «فراجعه عنه مظفر ترجعه عن هذا الكتاب» وفي ش وب: «تراجعه عن هذا الكتاب» وفي ط: «راجعه عن هذا الكتاب». والتّصويب من رحلة التّجاني ص: 72. (¬29) إضافة من الرحلة. (¬30) في الأصول: «تظنن». (¬31) في الأصول: «كرما بالنار». (¬32) في الأصول: «فيها». (¬33) في الأصول: «أبا الفتح». (¬34) في الأصول: «يولي». (¬35) في ت وش: «عفى».

بعد ذلك. وفي الواقعة يقول أبو الصّلت (يذكرها ويشكر ليحيى وعفوه عنهم في قصيدة طويلة أوّلها) (¬36). [الطّويل] قضى (¬37) الله أن يفني عداك وأن تبقى (¬38) ... وتخلد حتى تملك الغرب والشّرقا إلى أن قال: وربّ أناس أجّجوا نار فتنة ... يجنّبها (¬39) الأتقى ويصلى بها الأشقى (¬40) وجرّ عليهم جهلهم حلم مالك (¬41) ... يرقّ ويحنو كلّما ملك الرقّا ولو شاء روّى السّيف منهم فطالما ... نضاه فسقاه من الدّم ما استسقى (¬42) ولكن دعاه الفضل والحلم والحجى (¬43) ... إلى أن يكون الأحلم الأكرم الأتقى (¬44) سجية مجبول السّجايا على الهدى ... إذا غضب استأنى (¬45) وإن ملك استبقى (¬46) قال أبو الصّلت: أنشدت يحيى هذه القصيدة وخاصّته بين يديه وعبد العزيز بن عمّار في الجملة وكان في هذه الصّناعة أبصر هذه الجماعة، فقال له يحيى: كيف ترى ما تسمع؟ فقال: حسن الرّدّ (¬47)، محكم السّرد، فقال: أتعرف قائله؟ قال: لا، قال هو ذاك (¬48) الجالس يشير إلي، فعلاه فتور ونفور عن الإستماع (¬49) حسبما يعرض من العوام الرّعاع عند ما ينشدون لمن جمعهم وإياه مكان وزمان، وإن كان في أعلى درجات ¬

(¬36) كذا في ش والرّحلة وساقط من بقية النسخ وما يليه ساقط من ط أيضا. (¬37) في ش وب: «قضا». (¬38) في ش: «وأين تبقا». (¬39) في الأصول: «فيجنبها». (¬40) في الأصول: «الأشقا». (¬41) في ب وش: «مالكا». (¬42) في الأصول: «ما سقا»، والتّصويب من الرّحلة ص: 73. (¬43) في الأصول: «الحجا». (¬44) في الأصول: «الأتقا». (¬45) في الأصول: «استأنا». (¬46) في الأصول: «استبقا». (¬47) في الرّحلة: «الحوك». (¬48) في الأصول: «لذلك». (¬49) في ش: «استماع»، وفي ط وت وب: «اسماع»، والإصلاح من الرّحلة ص: 74.

ولاتها أيام الموحدين

ذوي الإحسان، وإنّما عنوا بامتداح القديم، وتعظيم العظم الرّميم، وسبب ذلك الحسد وكثيرا ما / يعدّون الصّواب محالا، (والعداة (¬50) آلا) (¬51) والقوام إعوجاجا (¬52) والعذب ملحا أجاجا. ثمّ ولّى يحيى على صفاقس إبنه عليّا وهو ولي عهده، فلمّا توفّي يحيى وعلي بصفاقس وصل واستبد بالملك، وكان يبعث الولاة إلى صفاقس إلى أن توفّي. ولاّتها أيّام الموحّدين: وولي إبنه الحسن، فوقعت الوحشة بينه وبين «لجار» الكافر حسبما مرّ، فلمّا تغلّب على المهديّة وصفاقس (¬53) وغيرهما جعل عاملا عليها الشّيخ عمر الفرياني فبقي متصرّفا أعمالها إلى أن افتكّوها كما مرّ، واستمر الشّيخ عمر متصرّفا إلى أن نزل عبد المؤمن، فوصل إليه الشّيخ عمر مع جماعة من أشياخ البلد فأذعنوا له بالطّاعة، وعيّن لهم عبد المؤمن حافظا من الموحّدين، وأمر الشّيخ عمر - رحمه الله - بالرّجوع إلى بلده، وأن تكون الأشغال المخزنية تتصرّف على يده، فأقام على ذلك إلى أن توفّي - رحمة الله عليه - فخلف في ذلك ولده عبد الرّحمان بن عمر وأقام مقامه، فوصل الميورقي إلى صفاقس واستولى عليها، فرغب إليه عبد الرّحمان أن يسرحه إلى الحجّ فارتحل بأهله ولم يعد، وبقي بعض ولده بصفاقس فذرّيته بها إلى الآن (¬54). ولمّا قدم النّاصر واسترجع البلاد (¬55) من يد الميورقي واستخلف أبا محمّد عبد الواحد ابن أبي حفص حسبما مرّ أرسل واليا عليها من قبله. ¬

(¬50) في ت وب وش: «العذب»، والتّصويب من الرّحلة. (¬51) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬52) في الأصول: «عواجا». (¬53) تصرّف في النّقل واختصر ما يتعلّق بثورة عمر الفرياني على النّرمان لأنّه تكلّم عنها فيما سلف. (¬54) إلى هنا ينتهي النّقل عن التّجاني ص: 70 - 76، وأسرة الفرياني من الأسر المعروفة في صفاقس إلى الآن. (¬55) في ط: «البلد».

ولاتها أيام الدولة الحفصية

ولاّتها أيام الدّولة الحفصية: ولمّا أفضت السّلطنة لأولاده الحفاصة بقيت الولاّة ترد على صفاقس من قبل الحفاصة إلى زمن أبي فارس فأرسل أخاه عمر على صفاقس فخالف عنه / فخرج له فافتكها منه حسبما مرّت الإشارة إليه. قال في معالم الإيمان عند التّعرض لكرامات الشّيخ عبيد الغرياني نقلا عن الشّيخ المسراتي قال: حدّثني السّلطان أمير المؤمنين أبو فارس عبد العزيز قال: لمّا حاصرت أخي عمر بمدينة صفاقس ورد علينا ونحن نتعشّى فقلت له: باسم الله، قال: لا حتّى تشرب فرسي ويعلّق عليها علفها فأمر من أتى له بالماء وشربت قدامه وبالشّعير فعلّق عليها علفها بحضرته ودنا معنا فأكل ما تيسّر ثمّ قال: نعم يا سيدي أنتم أولاد مولانا أبي العبّاس أحمد فيكم الخير والبركة والشّفقة والرّحمة والرّأفة، وجئت أطلب من فضلك أن ترحم أخاك عمر فقلت له: يا سيدي لو كنت تعلم أنّ فيه مصلحة لخلق الله لأجبتك فيما طلبتني فيه وهو ممّن يخشى منه على النّاس وسكت أخواني فاستشهدت بهم فصدّقوني فقال: وأنا يا أخي ما جرى مني إلاّ خير، زرت قبر سيدي عيسى بن مسكين وتبرّكت به وقلت: اللهم بحقّك يا ربّ العالمين وبجاه سيدي عيسى بن مسكين أنصر أمير المؤمنين سلام عليكم، فكلّمناه في المبيت عندنا فقال: لا ومشى عند الفقيه إبن قليل الهم واعتقادي أنّه مقيم فسألته عنه من الغد، فقال: يرحمك الرّحمان ما أقام إلاّ يسيرا ومشى، ونحن في المجلس ولا لي في أهل صفاقس طميعة ولا لي معهم حديث وإذا هم بعثوا لي بأخذه وحلّ البلد، فكان كذلك فأنزلوه لي مكتوفا من فوق سور البلد / فهو أشار لبصر الله لي عليه اهـ‍. إستقلال المكّني بها: ثمّ توالت الولاة من الحفاصة إلى زمن الحسن، فلمّا اختلّ نظام ملكه، وخرج أكثر البلاد عليه كالقيروان والمهديّة وسوسة والحامّة، خرجت عليه صفاقس وكان القائم بها عليه أبو عبد الله محمّد المكّني مشدّد الكاف مضموم الأول، وكان رجلا من الشابيين (¬56) نشأ في صغره نوتيا حتّى ترأس وصار يسافر في البحر رئيسا (¬57). ¬

(¬56) نسبة إلى الطّريقة الشّابية الصّوفية. (¬57) أي ربانا.

وسبب قيامه أنّه لمّا قدم من سفره جلس هو وأتباعه قرب باب البحر على عادة أمثالهم، فمر عليهم أتباع قائد البلد بامرأة يقودونها في أيديهم وهي تستغيث من يخلّصها من هؤلاء الظّلمة، فسأل عن قصّتها، فقيل له: إن زوجها طولب (¬58) بمال للمخزن ولم يجد ما يعطيه، ففرّ بنفسه، فربطوا زوجه عوضا عنه لكي تعطي ما عليه من الأداء، وكان رجلا ذا همّة ورأي وحذق وشجاعة، فأخذته الغيرة الإسلامية فنزل لأصحاب القائد وقال لهم: أطلقوا المرأة فإنها عورة وفقيرة وزوجها هارب (¬59) من قلّة ذات يده، ولا يحلّ لكم أن تأخذوا المرأة في زوجها لضعفها وعدم قدرتها على الخلاص، فسطوا عليه بكلام قبيح وتوعّدوه، فأخذ لهم عمودا وضرب كلّ واحد منهم بالآخر، وافتكّ المرأة منهم، وفرّوا هاربين بأنفسهم، ولا زالوا هاربين حتّى دخلوا على قائدهم فرآهم على أسوء حال، فقال: من فعل بكم هذا؟ فقالوا له: أهل البلد، فأمر أن يغلقوا باب الحصار فغلقوه، فلمّا سمع أهل البلد بذلك تحيّروا وخافوا فاجتمعوا وطلعوا / إلى القصبة فوجدوا الباب مغلقا، فما زالوا يرفقون بهم حتّى فتحوا الباب، فسألوهم عن السّبب، فأخبروهم بما جرى لهم من المكّني فقالوا بأجمعهم: لا يصلح بنا هذا ونحن وأنتم فيه سواء فإذا ظفرتم به فافعلوا به ما شئتم، فلمّا سمع المكّني بذلك أجرى مركبه حالا وسافر إلى جربة فاستنفر بها واتخذ أصحابا، وصار النّاس من أهل صفاقس كلّ من تنوبه (¬60) نائبة يذهب إليه (¬61) يحتمي به إلى أن كثر جمعه، وكانت الأخبار تتردّد عليه كلّ وقت وحين من أهاليهم وأقاربهم من صفاقس، فلمّا قوي جمعه خاف أهل صفاقس من هجومه عليهم فاحتزم (¬62) أهل البلد، وكان أكبر مقدميهم إثنان: معلّى (¬63) والزّواري (¬64) فأرسلوا إلى المحرس وطلبوا من أهله أنّهم إذا نظروا مركب المكّني أو سمعوا به أخبروهم بذلك، وكانت البلاد في غاية من الضّعف والحفصي على شفا من ملكه والنّاس في حيرة لا يهتدون سبيلا، فلمّا سمع ضعفهم وقوي جمعه مع شجاعته وقوّة بأسه وعدم النّاصر لأهل الجور إرتقب المصيف. ¬

(¬58) في الأصول: «طلب». (¬59) في ط: «هرب». (¬60) في ط: «تنبه». (¬61) في ش: «به». (¬62) في ط: «فاجتمع». (¬63) اسم لأسرة صفاقسية. (¬64) اسم لأسرة صفاقسية.

فلمّا حصل أوانه ركب بمن معه في مركبه، فأنذر أهل المحرس البلد به، فاحترسوا واجتمعوا بباب البحر ليلا ونهارا، فوصل المكّني ليلا للبلد فربط مركبه ونزل بمن معه من أبطاله فوجدوا البلد محروسا بالعسس، وكان معهم حزام، وكانت داره بالجانب الغربي من البلد ملاصقة للسور قرب البالوعة التي تخرج من سور البلد وإلى الآن يقول أهل البلد فوّارة حزام، وكانت واسعة فأدخلوه / منها فأتاهم بحبل وطلعوا كلهم من السّور، فلمّا نزلوا إلى البلد إتفق رأيهم أن يسيروا لباب البحر (¬65)، فلمّا وصلوه وجدوا به الجماعة والزواري ومعلّى، فلمّا وردوا عليهم مسلّحين خافوهم وقاموا إضطرارا وسلّموا عليهم وقالوا لهم: مرحبا بكم فسيروا بنا معا للقائد بالقصبة (¬66) نسلّم عليه، ونصبوا لهم غدرا ومكرا، وفطن لهم محمّد المكّني، فأجابهم لما طلبوا، فساروا جميعا، فلمّا وصلوا لركن الجامع الجديد بباب البحر، التفت المكّني للزواري ومعلّى فضرب أحدهما بسيفه، فأزال رأسه عن بدنه، فالتفت إليه صاحبه وقال للمكّني: قطع الله يدك، فقال له المكّني (¬67): إن لم أكمّل بك، فضربه فأزال رأسه كصاحبه، ثمّ قال لأصحابه: أتبعوني فتبعوه، فصار يخرج النّاس من ديارهم بأسلحتهم ويحضّهم على القتال حتّى استولى على البلد، فلمّا أصبح الصّبح أتى نحو القصبة فوجدها مغلقة الأبواب فحصر من فيها وطال حصارهم إلى أن ضاقوا (¬68) من كلّ وجه، وكان لهم صهريج ماء يشربون منه خارج القصبة فكسروه وغوّر ماؤه، فعطشوا واشتدّ بهم الأمر، فخرجوا من القصبة ليلا من باب غدر (¬69) وفرّوا بأنفسهم لطرابلس. وحاز المكّني البلد ثمّ جمع النّاس وأوقف واحدا من أهل البلد قائدا يقال له النوالي، وقدّم الشّعري (¬70) وغيره ممن يصلح للمقدمية فجعلهم مشايخ (¬71) البلد وصار هو ¬

(¬65) ما يعرف بباب الدّيوان، وهو الباب القبلي للمدينة، وكان يفتح على المرسى قبل بناء الربض القبلي، ثمّ صار يفتح داخله بعد بنائه، ويطلق اليوم على حي باب البحر الذي تكون شيئا فشيئا بعد انتصاب الحماية على تونس في سنة 1881 م. (¬66) كانت القصبة مقرّ العامل - القائد - المتولي على المدينة من طرف السّلطة المركزية. (¬67) ساقطة من ط. (¬68) في ط: «خافوا». (¬69) أظهرت الحفريات الأثرية بالقصبة العثور على باب غدر صغير في أحد جوانب المسجد السّفلي، وباب الغدر هذا يعظي على المرسى، ولا تفصله عنه إلاّ بعض أمتار، ولعلّه باب الغدر المشار إليه في النّص. (¬70) إسم لأسرة ما تزال موجودة بصفاقس. (¬71) كانت المدينة مقسمة إداريا إلى أحياء، وكل حيّ يرأسه شيخ له إتصال بعامل المدينة.

يحكم في محلّه، فلم يأت أحد للنوالي لانكباب النّاس على المكّني، فاجتمع مشايخ البلد مع النوالي، وقالوا: هذا / نصّبنا للاستهزاء بنا والسّخرية، يتعاطى الأحكام والقائد كالمسجون في حصار، فلا يفيدنا هذا، ولا بدّ أن يرسل القائد إليه ويسجنه ونختبر بذلك النّاس، فإن لم يتكلم منهم أحد قضينا نحبه وتولّينا بلادنا، وإن قاموا في عنايته غالطناهم وسرّحناه وقلنا له: إنما فعلنا ذلك لننظر أمر النّاس هل يثبتون معنا ومعك أو لا، ولا لنا عليك زهدة، فاتّفقوا على ذلك، فأرسل إليه القائد النّوالي، فلمّا حضر بين يديه أمر بسجنه، فلمّا سجن تسامع النّاس بذلك (¬72) وأسرعوا من كلّ مكان وهجموا عليهم [في] القصبة طلبا لخلاص المكّني، فلمّا رأوا ذلك أطلقوه، وقالوا له: يا رئيس إنما فعلنا ما رأيت لننظر أحوال النّاس معنا ومعك وهل يثبتون معنا في المضايق إذا قصد أحد بلدنا بسوء، فقال لهم: وأنا علمت ذلك، ونزل من عندهم وتبعه النّاس، فلمّا وصل محلّه التفت إلى النّاس وقال لهم: يا جماعة البلد، إن رضيتم بالنوالي وأصحابه فابقوا في بلدكم بخير (¬73)، وأنا أذهب حيث أشاء، وإن رضيتم بي فلا بدّ من قتل النوالي وأصحابه، فقالوا كلّهم على كلمة واحدة: لا نرضى إلاّ بك ولا حاجة لنا بغيرك، فشكرهم على ذلك وقرؤوا معه فاتحة الكتاب على انفراده بالأحكام، فلمّا سمع النوالي بذلك فرّ هو وأصحابه لبلد قفصة، فأقاموا بها. وانفرد المكّني بحكم البلد وسار مع النّاس بسيرة حسنة، فعمّر البلاد والوطن، وركب معه ثمانين فارسا من أشجع النّاس فطوّع بهم عصاة / العرب والوطن، فصار النّاس في أرغد (¬74) عيش. فبعد مدّة رجع الشعري أحد المقدّمين للمشيخة خفية لصفاقس فسمع به المكّني، فما زال يتبع آثاره حتّى ظفر به فقتله، وكذا النوالي أتى خفية فما زال معه حتّى قتله وانقطع عنه الاغيار واطمأنّت به الدّار. وكان له ولد مشهور بالشجاعة المفرطة وأحبّه أبوه لذلك لأنّه لا يقابله الأبطال فضلا عن غيرهم، وكان لا يطيق الصّبر عليه، فسمع به الشّيخ عرفة (¬75) صاحب ¬

(¬72) في ش: «ذلك». (¬73) في ش: «الخبر». (¬74) في ط: «أغر». (¬75) هو شيخ الطّريقة الشابية وأوّل من أسّس إمارة بالقيروان منفصلة عن الدّولة الحفصية التي كانت في حالة ضعف وأمراؤها تحت براثن الأسبان المحتلّين للعاصمة.

القيروان - المقدّم الذكر - فأظهر في نفسه التحيّل على قتل الولد نكاية لأبيه وطمعا في إدخال صفاقس تحت حكمه، فكتب للمكّني كتابا زوّره على لسان بعض الصّالحين يذكر فيه: إنّا نظرنا في ولدك فلان فرأيناه من الصّالحين وله نصيب على أيدينا من طريق القوم فلا بدّ من إرساله إلينا لينال ما كتب الله له من الطّريقة، وأرسل الكتاب مع رجل من خواص الشّيخ عرفة ذا دهاء وسياسة، وكان المكّني يعتقد الصّالحين ويخاف منهم كثيرا، فتحيّر المكّني وعزّ عليه ولده ولم يصبر على فراقه، وخاف من عصيان الشّيخ صاحب الكتاب (الّذي زوّره الشّيخ عرفة على لسانه) (¬76) وخاف أن يدعو عليه بخراب ملكه إن لم يسعفه بإرسال ولده، ولم يتفطن أن الكتاب دلسة عليه من الشّيخ عرفة، فشاع الكلام في صفاقس أنّ بعض الصّالحين أرسل للمكّني يطلب ولده ليأخذ عليه العهد والطّريقة، فسمع بذلك الشّيخ عبد المولى السّيالة / وكان الشّيخ سيدي محمّد الكراي - رحمه الله - سافر لبعض شؤونه وعند سفره أمر تلميذه الشّيخ عبد المولى المذكور وقال له: احرس البلد بعدي، واحذر صاحب الخاتم والشّعرة، فلمّا سمع عبد المولى بالرّسول الذي قدم بالكتاب المدلّس بحث عنه، فقيل له: هو يلعب الشطرنج بسوق الرّبع (¬77)، فقصده فوجده يلعب على دكّانة حانوت، فسلّم عليه وتأمّله، فوجد باصبعه خاتما، فقال هذا الخاتم وبقيت الشّعرة، فلاطفه بالكلام وصاحبه ثمّ قال له: لي إليك حاجة فلا بدّ من قيامك معي، فقام وسار معه، فخرجا من باب البحر حتّى دخلا مقام الشّيخ النونشي (¬78) وهو الآن بالرّبض في الرّكن الجنوبي الشّرقي (¬79) فقال له: أخبرني كيف قصّتك؟ فأخبره بأنّه مرسل من الشّيخ صاحب الطّريقة كما هو شائع، فأمره بإزالة العمامة من رأسه فأزالها فوجد الشّعرة، فلمّا رآها تحقّق أنّه هو الذي أوصاه عليه الشيخ سيدي محمّد الكراي، فقال له: يا هذا قد أوصاني شيخي وقال لي: إذا غبت فاحتذر من صاحب الخاتم والشّعرة، وأنت هو لا شك فيك، وأنت أرسلك الشّيخ عرفة تخدع الرّجل في ولده، فلمّا سمع مقالته خاف ¬

(¬76) في ط وب وت: «الذي زوّره الشّيخ عرفة الكتاب على لسانه». (¬77) من أهم أسواق صفاقس المسقوفة القريبة من الجامع الكبير، وسوق الربع يربط بين سوق الكامور وسوق الصباغين في اتجاه باب الجبلي، واختصّ سوق الربع ببيع المنتوجات الصوفية، وما يزال إلى حدّ اليوم على هويته التقليدية. (¬78) لعله الينوشي. (¬79) إندثر هذا المقام.

الفضيحة واضطرب في أمره، فقال له: لا بأس عليك وأنا آتيك بهدية من المكّني وتذهب تحت ستر واحذر أن تعود لمثل هذا، ثمّ ذهب عبد المولى للمكّني، ففرح به وسأله عن حاله، فقال: أنا / في حيرة من أجل ولدي، وقد غاب الشّيخ سيدي محمد الكرّاي وقت الحاجة، فقال له: هو نوّبني في هذه الحاجة فلا بأس عليك - إن شاء الله تعالى - فاجعل لهذا الرّسول هديّة وأنا أكتب له ورقة على لسان الشّيخ لمن أرسله، وأردّه عن قصده، فلا يخالف - إن شاء الله تعالى - فسرّ بذلك وزال عنه ما كان يجده، فعيّن للرسول هديّة تليق بالحال وجهّزه فسار، فبعد يومين أتى الشّيخ عبد المولى للمكّني وعرّفه بحقيقة الأمر وما أوصاه به الشّيخ الكراي، فقال له: لو أخبرتني لقتلته لاستحقاقه لذلك، فقال: لم يأذن لي الشّيخ في ذلك وخفت من قتل نفس من غير موجب شرعي وأنت احتفظ بولدك. ولمّا مضت للمكّني ثمان عشرة سنة أتاه إنسان وقال له: إن أبا الحسن بن جلّول - وهو صاحب قصر إبن جلّول (¬80) المشهور بالبلد (¬81) وهو اليوم حبس على أولاد البجّار، وكان رجلا موسرا - معه فلان وفلان وعدّ له جماعة، عاملون على قتلك، وهم يجتمعون كلّ ليلة يدبّرون في الحيلة ليقتلوك، فأرسل لأبي الحسن بن جلّول فأتي به وسجنه، فأتت أمّه وأقاربه للشّيخ سيدي محمّد الكراي، وطلبوا منه أن يسرّحه من السّجن، فذهب الشّيخ للمكّني، فلمّا رآى الشّيخ قام له ورحّب به وسأله عن مطلوبه، فلمّا عرّفه بمراده قال له: يا سيّدي كلّ ما تريده أقضيه (¬82) من غير تحديد ولا استثناء إلاّ أبا الحسن الجلّولي فإنّه يريد قتلي، فقال له الأستاذ: ما جئتك إلاّ شافعا فيه، وكان لا يعصي للشّيخ / أمرا، وكانت أمّ المكّني مشرفة من كوة عليهما تسمع ما يجري بينهما من المحاورة، فلمّا أيس الشّيخ منه، قال: شدّ الله حبلك وانصرف، فتغيّرت أمّ المكّني لردّه للشّيخ (¬83) بشفاعته وسألت ولدها عمّا قال له الشّيخ، فقال لها: قال شدّ الله حبلك، فقالت: من شدّ حبله قطع، فأمرته بردّ الشّيخ وطلب رضاه، فلحق الشّيخ بعد أن سرح إبن جلّول وقبّل رأسه ويديه وأعلمه أنه سرّح إبن جلّول، وطلب منه رضاه وتطييب قلبه عليه، فقال له: قد قبلت الدعوة فانتظر خراب ¬

(¬80) ما زال معروفا بهذا الإسم قرب سوق بلعج في وسط المدينة غربا. (¬81) في ش: «للبلد». (¬82) في ط: «نقظيه». (¬83) في الأصول: «لرد الشّيخ».

ملكك فقد فرغت مدتك، فتحيّر من مقالة الشّيخ وصار منتظرا لما قال له. فما أتمّت ثمانية عشر يوما إلاّ وقد نزل الباشا درغوث صاحب طرابلس لمّا استدعاه أهل القيروان لما لحقهم من إذاية الشابيين - حسبما مرت الإشارة إليه - في دار الغنم (¬84) قرب البلد بالجهة الغربية منها وكانت قرى مسكونة، فعمل المكّني على محاربة الباشا وقتاله فاستشار الشّيخ في ذلك، فمنعه وقال: لا يفيدك شيئا وكلّ من يموت من الفريقين فأنت محاسب به فسلّم الأمر لله، وقال له: هذا حدّ أمرك وملكك، فخرج للباشا وسلّم عليه وتأدّب معه وقال له: يا مولانا إنّما ضبطت البلاد لكم وأنا خديمكم، فلمّا رآه طائعا قبله وعزم على إبقائه عاملا على صفاقس، فسمع بذلك أهل البلد فمنهم من رضي ومنهم من أبى، فغيّبوا المكّني واجتمعوا بالباشا وقالوا له: يا سيّدنا لا يغرّنّك فعله / معك وخضوعه بين يديك فإنه صاحب دهاء وحيل ومراوغة وشيطنة فإن أبقيته ينقلب عنك ولا تقدر عليه، فوافقهم الباشا على ما قالوا، فلمّا أتاه المكّني قال له: لا بدّ من مسيرك معي، ففهم النّكتة ومن تسبّب فيها ومن سعى في كيده، فقال له: يا مولانا نعم ما رأيت وإن هذا مرادي نفوز بخدمتك ومباشرة شؤونك، ودعا بخير وأظهر السّرور والبشر. وكانت طرابلس قد استولى عليها الخراب وتمزّق شملها وباد أهلها، فاستجدّ درغوث باشا - رحمه الله - هذه المدينة الموجودة الآن بين البرجين الذين استحدثهما النّصارى على الميناء، وكانت البلاد عامرة بالجنود والعساكر محتاجة لمن يقوم بصنائعها، فقال له: يا مولانا إن بلدك ليس بمدينة إلاّ أن تعمّرها بأناس من أهل هذا البلد، فانّ أهلها ذو حذق وقواعد ولهم مدخل في الرأي والأمور، فإذا أنقلت منهم طائفة تجمّلت بهم مدينتك واستقامت وتحضّرت، فاستصوب كلامه لموافقة ما ظهر له من أحوالهم لأنّهم أهل همّة واحتشام في لباسهم وقواعد في كلامهم، فقال له: يا رئيس هذه وظيفتك فاختر من يصلح لهذا الشأن، فقال له: سمعا وطاعة وسأكتب لك أسماءهم، فنظر في أمره وعين أصحابه الّذين دبّروا في عزله وخروجه من وطنه، فكتب أربعين عائلة (¬85) جانبا من كلّ قبيلة، وأعطى الكتاب للباشا فوافقه (¬86) على ما فيه، وأمر كلّ من كان إسمه في الكتاب / بتجهيز عياله لطرابلس، فندموا وعرفوا وبال صنيعهم وتأسّفوا على ما ¬

(¬84) على طريق عقارب من مدينة صفاقس. (¬85) في الأصول: «عيلة». (¬86) في ط: «موافقة».

إبن عطية جلي

صدر منهم، فتأهّبوا للمسير مع الباشا كارهين، فأمّر عليهم المكّني وجعلهم تحت نظره، فتمنّوا الموت لفراق وطنهم وأحبابهم ودخولهم تحت نظر عدوّهم، فلمّا وصلوا لطرابلس فرح النّاس بهم وأنزلوهم، وصار المكّني وزيرا أعظم عند الباشا، وما زالت أعقابه (¬87) وأعقاب تلك الجماعة بطرابلس إلى الآن، ولقد شاهدت دارا عظيمة بالمنشية من طرابلس، ورأيت حولها أطفالا عليهم آثار النخوة ومعهم جوار سود، فسألت عن الدّار فقيل لي هي دار المكّني وهذه بقيّة من ذرّيته وذلك سنة أربع وسبعين ومائة وألف (¬88). ولمّا فتح العساكر العثمانية تونس إسترجعوا صفاقس لحكم تونس (¬89) وصار الولاة واردين عليها من تونس كما كانت في سالف الزمن. إبن عطية جلي: ولمّا تولّى الملك مراد باي إبن حمّودة باشا - رحمهما الله تعالى - ولى على صفاقس إبن عطيّة (¬90) جلّي فكان ظالما غشوما فاستولى على جميع الوظائف المخزنية، وكان في ابتداء أمره معتقدا في الشّيخ أبي الحسن الكرّاي (¬91) - نفعنا الله به - ويظهر الإحسان حتّى تمكّن من البلد، وابتنى له قصرا خارج البلد تشبها بملوك تونس في قصر باردو، وانقلب إحسانه إساءة، ومحبّته في الشّيخ أبي الحسن بغضا. فلمّا نافق أبو القاسم الشّوك بجبل وسلات وخرج له مراد باي - رحمه الله - وحشد له الحشود فمن جملة / من خرج معه بعسكر من صفاقس إبن عطية، وخلّف نائبه على ¬

(¬87) أسرة المكّني كان منهم طلبة علم تولوا الوظائف الشرعية في طرابلس، وقد تكون باقية إلى الآن. (¬88) 1760 - 1761 م. (¬89) بعد إنضمام تونس إلى السّلطنة العثمانية، بقيت صفاقس تتأرجح بين حكم تونس وحكم طرابلس، وطبقا للأمر السّلطاني المؤرخ في رجب 1002 / مارس - أفريل 1594 رجعت صفاقس نهائيا إلى حكم تونس. أنظر عزيز سامح، الأتراك العثمانيون ص: 289. (¬90) وهو الذي ينسب إليه طريق عطية المعروف الآن بمنزل شاكر. (¬91) إبن أبي بكر بن أحمد بن محمد بن عمر بن علي بن ميمون الكراي من أحفاد الشّيخ الصالح علي الكراي أبي بغيلة، العالم الصوفي الوفائي نسبا وطريقة (ت.1115/ 1703) ترجمه مقديش فيما بعد من هذا الكتاب، وأنظر عنه تراجم المؤلفين التونسيين 4/ 155 - 157.

المكوس والغرامات، وأمره أن لا يترك أحدا ولو كان من المساريح (¬92)، فسطا (¬93) على مساريح الشّيخ الكراي ولم يقبل مراجعة، ورضي بذلك إبن عطية وتحامل على حرم الشّيخ ومساريحه، فدعا عليه الشّيخ أبو الحسن الكراي فازدرى (¬94) به وهزأ. فلمّا انتقل مراد باي إلى رحمة الله ووقعت بين أخيه محمّد الحفصي وبين إبني أخيه مراد ما وقع، سعى إبن عطية في الفتنة ولم يراقب الله تعالى، فأوقد نار الحرب ليجد لنفسه فسحة في تصرفاته لاشتغال السّلطنة عنه بما هو أهم. فلمّا تولّى الحفصي ولاّه على صفاقس. ولمّا قدم محمّد باي وخرج محمّد الحفصي فرّ ابن عطية لعنّابة نحو سنتين ونصف. فلمّا استولى على البلاد علي باي في (¬95) ثالث عشر من صفر سنة ثمان وثمانين وألف (¬96) استلزم (¬97) إبن عطية بلد صفاقس من علي باي (¬98)، فتحيّر النّاس قاطبة منه لما يعلمون من شؤمه وظلمه وعسفه، فاجتمع أهل الحلّ والعقد من البلد وهربوا لزاوية الشّيخ سيدي (¬99) علي الكراي بأهاليهم ونقلوا معهم ما يعزّ عليهم (من المتاع والأثاث) (¬100) فجعلوه بدار بعض حفدة الشّيخ قرب (¬101) الزّاوية، فدخل إبن عطية ليلا للبلد في نحو ستّين فارسا مماليك سود وبيض وصبايحية، فقصد زاوية الشّيخ الكراي، فنزل على الدّار التي بها أموال المسلمين وحريمهم وأشعل (¬102) الشموع ¬

(¬92) أي المتمتعون بالإعفاء من الضريبة وأهمهم أصحاب الطرق والزوايا ومن ينعتون بالمرابطين من ذرية أصحاب الربط المجاهدين. (¬93) في الأصول: «سطى». (¬94) في الأصول: «ازدرا». (¬95) في الأصول: «ففي». (¬96) 17 أفريل 1677 م. (¬97) أي اشتراه لزمة. (¬98) بعدها في ط: «قوله استلزم أي الشقي المجتري الفاسق إبن عطية جلي عام ثمانية وثمانين وألف يوم ثلاثة عشر من صفر وكان فارا بنفسه في تلك الأيام في بلد الغرب، فرجع الشقي من بلاد الجزائر واستلزم بلد صفاقس» وهذه الإضافة حشو يكرر بالمعنى جملا سبقته. (¬99) توجد في القسم الغربي من المدينة في آخر سوق الفرياني حاليا. (¬100) ما بين القوسين ساقط من ش، وبعده كررت «ب» النص الذي بالهامش السابق. (¬101) في ب وت وط: «قرب ملاصقة الزاوية». (¬102) في الأصول: «وشعل» طبقا للغة العامية.

والفنارات (¬103)، وأخرج كلّ ما كان بالدّار والزّاوية حتّى أن رجلا دخل تحت صندوق (¬104) الشّيخ أخرجه، ثم خرج وبعد / ذلك حمله بغضه للشّيخ أبي الحسن الكرّاي - نفعنا الله به - على دخول حرم زاويته (¬105)، وكان الشّيخ معتكفا بها ملازما للاعتكاف، فهجم وهو سكران على الشّيخ وأخرجه وأكرهه على المشي معه لداره، فاستغاث الشّيخ بالله تعالى وقال: «يا قهّار» ثلاثا، ثمّ استصرخ أولياء الله، فنادى بسيدي عبد القادر (¬106) ثلاثا (ثم عمّم رجال الله ثلاثا) (¬107) فلمّا ذهب سكره رجع نادما، فأتى الشّيخ وقال له: ندمت (¬108) فقال: ندمت حيث لا ينفعك الندم، وتندم وكررها ثلاثا، ثم أتاه بشربات تطييبا لقلبه، وكان الشّيخ صائما فأبى، فأمره بالرّجوع إلى زاويته نهارا، فأبى ذلك وقال: لا أرجع إلاّ ليلا، فلمّا حلّ الفطر وصلّى المغرب عرض عليه الطّعام فأبى حتّى جيء له بشربة ماء من زاويته فأفطر عليها، فلمّا أراد الإنصراف أتى له بفرس الزّاوية، فلمّا أراد الرّكوب حمل له الفاسق الرّكاب (وتحلّل من الشّيخ وخاف وارتعد قال الشّيخ أبو الحسن - رحمه الله تعالى -) (¬109): وكان مع إبن عطية خليله المتجري الأكبر الذي نزل عليه البلاء واحتاط الشقي قاسم الخرّاط وغيره من أتباعه لا سامحهم الله. وكان الهجوم على الزّاويتين يوم السّبت، فلمّا كان الخميس الذي بعده أتى الخبر من محمّد باي إبن المرحوم مراد باي من بلد الكاف وأنّه حاز المحلّة والبلاد في تلك الساعة التي دخل فيها للزاويتين، فرعب إبن عطية من ذلك رعبا عظيما، وأرسل محمّد باي إبن الانكشاري لصفاقس وأمره بالقبض على إبن عطية، وجهّز معه نحو العشرين فارسا، فتوجّهوا / لصفاقس وسبق إبن الانكشاري ومعه فارس واحد، فلمّا بلغه خبر وصولهم ¬

(¬103) في ش: «فيارات»، وفنارات ج فنار، فانوس زيتي يصعب وصفه لعدم معرفتنا لجزئياته، وكانت للمدينة حسب ما ترشدنا إليه دفاتر الأحباس المحفوظة بمتحف صفاقس فنارات تنير الشوارع ليلا. (¬104) يقصد التابوت الذي يعلو القبر. (¬105) الموجودة الآن في الشارع الذي يحمل إسمه داخل المدينة. (¬106) عبد القادر الجيلاني (1077 - 1166 م) مؤسس الطريقة القادرية ومن كبار الصوفيين، فتح له زاوية في بغداد، وكانت الطريقة القادرية من الطرق الصوفية الرائجة في صفاقس في عصر المؤلّف، ولها أتباع كثيرون. (¬107) في ب وط: «ثم عمم في الاستغاثة فصار يقول: يا رجال الله، ثلاثا، فلمّا أدخله بعض دوره رجع الكلب نادما». (¬108) في ط وب: «قد ندمت». (¬109) ما بين القوسين ساقط من ط.

- وكان يحلق رأسه فحلق منه نصفه وبقي نصفه - حمله (¬110) الفزع على ترك رأسه منصّفا من غير إكمال، وفرّ هو وحريمه وأتباعه (ومماليكه عراة) (¬111) حفاة فلم يهتدوا (¬112) لزاوية أبي بغيلة إلاّ بعد (التي واللتيا) (¬113) فقيّده الله في زاوية سيدي علي الكراي - رحمه الله ونفعنا به - (¬114) وأقام بها أيّاما، وبقيّة فرسان إبن الإنكشاري لمّا وصلوا البلد وجدوا الباب مغلقا فرجعوا للقيروان، وذلك أنّ أهل البلد من شدّة بغضهم في إبن عطية لمّا دخل إبن الإنكشاري خافوا أن يخرج إبن عطية فغلقوا أبواب البلد، ولمّا استقرّ ابن الإنكشاري هجم على إبن عطية فعجز عنه لتحرسه بالبندق. قال الشّيخ أبو الحسن - رحمه الله تعالى - دخل بعض النّاس على إبن عطية يوم موته فرأى (وجهه منتقعا (¬115) وصدره مختلجا فقال له: ما لك؟ فقال: أخذتني سنة فرأيت ثلاثة رجال قد دخلوا علي هذه التّربة، فقال أحدهم: كتّفوه، فكتفني واحد. ثم دقّني واحد منهم في هذا الموضع الذي تراه مختلجا، فقلت لهم: من أنتم؟ فقال أحدهم: أنا عبد القادر الجيلاني، وهذا أبو إسحاق الجبنياني، وهذا الذي دقّك أبو بكر الكرّاي، وجعل الشّيخ الجيلاني ينادي: يا علي يا كراي، فأجابه الشّيخ من القبر، فكان أوّل من ضرب من جماعة إبن عطية هو برصاصة في الموضع الذي اختلج عليه من صدره، ثمّ قتل أتباعه ومماليكه جميعا بالسّيف والبندق وربطت (¬116) أرجلهم بالحبال وجرّوا بالأزقّة (¬117) وكان بين دخول حرم الشّيخ وقدوم إبن الإنكشاري خمسة أيّام فمن ثمّ يسمّى الشّيخ أبو الحسن الخموسي (¬118). ¬

(¬110) في الأصول: «فحمله». (¬111) ساقطة من ش. (¬112) بعدها في ب: «ففرح بذلك الخاص والعام والكبار والصغار فيا له من يوم عند أهل البلد» وهذه الجملة حشو في غير مكانها. (¬113) في ت: «جهد جهيد». (¬114) بعدها في ط: الجملة التي نقلناها من «ب» في الهامش الذي قبل السابق. (¬115) في ت: «وجهه منتفخ وصدره مختلج»، وفي ب: «وجهه منتقعا وصدره مختلجا»، وفي ط: «وجهه منتقعا منتفضا مختلجا». (¬116) في الأصول: «ربط». (¬117) بعدها في ط: «قال الشّيخ أبو الحسن: فعوقبوا مثل ما صنعوا واحدة بواحدة والبادئ أظلم، كما تدين تدان، والعبد يجازى بمثل ما صنع، فأخرج من الزاوية هو وأتباعه ومماليكه وقتلا معا بالحديد الخ. نسئل الله السلامة والعافية، ورأى بعض الناس الشيخ في تلك الليلة. (¬118) يعرف بهذا اللقب إلى الآن، وبعده في ب: «قال الشيخ أبو الحسن: فرقبوا بمثل ما صنعوا واحدة بواحدة =

إبن الإنكشاري

إبن الإنكشاري: قال الشّيخ - رحمه الله تعالى - وأصل إبن الإنكشاري أنّه كان في صفاقس قائدا في زمن مراد باي، وكان ظلوما جهولا، مدمن خمر، قليل خير، فسلّط الله عليه الجذام، وكان متزوّجا بامرأة لها ولد من غيره يقال له «إبن الإنكشاري» نشأ في حجر هذا الظّلوم، فغذّي بالظّلم والفجور ونشأ عليه، فتمكّن من أبواب المخزن والظّلم والشؤم. فلمّا وقعت الفتنة بين محمّد باي وأخيه علي باي تعلّق الإنكشاري بمحمّد باي حسبما مرّ (¬119)، ولمّا اختلفت الأحوال بين البايين، وتردّدت البلاد بينهما إتفق (¬120) أن قيد محمّد باي الحاج قاسم القفال، وجعل رايس أتباعه إبن الإنكشاري، وأرسل علي باي قائده محمّد صبّاح، فلمّا أتى البلاد (121) وجد البلاد (¬121) قد إحتوى عليها القفال والإنكشاري، فخاف صبّاح على نفسه ففرّ لزاوية الشّيخ أبي الحسن - رحمه الله -، فأقام بها مدة طويلة، فاتّفق رأي القفّال والإنكشاري على قتل محمّد صبّاح (¬122) بالزّاوية، فجمعوا نحو سبعين رجلا مسلّحين فتقدّموا بعد صلاة الظّهر للزّاوية فواجههم الشّيخ ونهاهم ووعظهم فلم يتّعظوا إلى قرب العشاء الأخيرة وهو يناشدهم الله تعالى، فأبوا ¬

= والبادي أظلم، كما تدين تدان، والعبد يجازى بمثل ما صنع فأخرج من الزاوية هو وأتباعه ومماليكه وقتلا معا بالحديد الخ، نسئل الله السلامة والعافية ورأى بعض الناس الشيخ في تلك الليلة وهو يشيرها بهذا اهـ‍. قال الشيخ أبو الحسن: وقد أتى ابن ميلاد إلى صفاقس بسفينة بقصد أخذ الناس وقتلهم، أرسله ابن الشوك فتعرض له جماعة من أهل البلد في سفينة فظفروا به وقتلوه صبيحة يوم الرأيا وأراح الله المسلمين منه، وخرج وصيفه هاربا بها اذ كان حاضرا بزاوية أبي بغيلة بعد أن قتل سيده وكان دقّه رجل من أهل صفاقس بمخلب». (¬119) بعدها في ط: «قال أبو الحسن - رحمه الله -، وقد أتى إبن ميلاد إلى صفاقس في سفينة بقصد أخذ الناس وقتلهم أرسله ابن الشوك فتعرض له جماعة من أهل البلد بسفينة فظفروا به وقتلوه صبيحة يوم الرأيا وأراح الله المسلمين منه وخرج وضيفه هاربا بعد أن كان حاصرا بزاوية أبي بغيلة بعد أن قتل سيده وكان دقه رجل من أهل صفاقس بمخلب». (¬120) في الأصول: «فاتفق». (¬121) يقصد المدينة (مدينة صفاقس) طبقا للهجة صفاقس السائدة آنذاك التي سارت عليها العقود والمراسلات الرسمية. والرحالون الأجانب أيضا، وما تزال كلمة «بلاد» مستعملة في الوقت الحاضر لنفس الغرض، وقد استعملها المؤلف تارة، واستعمل «بلد» مرة أخرى لنفس المعنى. وقد عوضنا «بلاد» «ببلد» تفاديا للخلط بين مدينة صفاقس وكامل التراب التونسي دون الإشارة إلى ذلك. (¬122) في بقية الأصول: «إبن صباح».

إلاّ كسر حرم الزّاوية فكسّروا الأبواب، قال الشّيخ أبو الحسن - رحمه الله تعالى - دخل الشّيطان الخبيث هو وبعض شياطينه على الرجل الهارب، فضربه الخبيث برصاصة فخرج فارا بنفسه فتلقاه من كان بوسط الزّاوية من الأشقياء، وهو عمر سعادة، فرموه بالرّصاص حتى وقع ميتا لوقته، ولم يكفهم ذلك حتّى احتزّوا رأسه / وكان الذي اشلاهم صاحب المكر الاسرائيلي قاسم القفّال (¬123) واشترط لهم هو وأمّه، إن حضروا برأسه بين يديه، مالا كثيرا. قال بعض تلاميذ الشّيخ أبي الحسن: إنّ الشّيخ بعث مقدّم الزّاوية للقفّال يستنجده ويقول له: سيّدك واقف بين الرّصاص في باب البيت ربّما انقلبت بعض البندقيات فيصيبه لظنّه أنّه لا يخالف (¬124) لأنّه ربّاه بزاويته وتعلم عليه جملة وافرة من العلم، (فلم يلتفت لقوله وأرسل بعض أعوانه وهو يحضّهم على عدم الخروج حتّى يقتلوا إبن صبّاح) (¬125). قال الشّيخ أبو الحسن: فبعد أيّام يسيرة أتاهم الخبر أنّ علي باي قادم عليهم بجيوشه ففروا بأنفسهم وأموالهم وحريمهم إلى طرابلس، قال: فأمّا المتجرّي الأكبر صاحب المكر الإسرائيلي والغدر أخذ جميع ما كان معه من المال وطلب وعذّب بالعصا ولم يظفر بصفاقس، وأما الفاسق خليفته - يعني إبن الإنكشاري - فرجع إلى البلد بعد ما أخذ العدوّ أهله وماله وجمعا من أصحابه وناله من الذّلّ (والإهانة ما علمه الله، وبقيت أمّه وأخوه وأخته وزوجها وعمّه وزوجه) (¬126) وبنوه ببلاد الكفار فلم يتعظ الفاسق بذلك حتّى فعل من الشّيطنة في البلد وتعدّي الحدود والفجور وارتكاب كل قبيح ما يقصر عنه الوصف، وحاز حصار البلد ولم يبق لأهل البلد شفاعة ولا نجدة، فسلّط الله عليه من اعتزّ به فقتله أشر قتلة بالحديد وغيره كما فعل هو بالمسلمين، وأراح الخلق منه، وتبدّد جمعه فمنهم من مات مقتولا / ومنهم من أسّر ومنهم من نفي، ولم يبق من أعوانه أحد إلاّ عوقب على قدر فعله اهـ‍. وهذه إشارة إلى ما فعله إبن الإنكشاري، وذلك أنّه لما طالت الفتنة بين علي باي وأخيه محمّد باي - رحمهما الله تعالى - (وعفا (¬127) عنهما) (¬128) واشتغل كل منهما بنفسه ¬

(¬123) ساقطة من ط. (¬124) في ت وط: «يخاف». (¬125) في مكانها في بقية الأصول: «فلم يقتلوا صباحا». (¬126) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬127) في ش: «عفى». (¬128) ما بين القوسين ساقط من ت.

انتهز إبن الإنكشاري الفرصة فاستأثر بالبلد وخرج عن طاعة الأخوين ونهب أموال الخلق، وتحكّم بظلمه وشؤمه فلا خاف من الله ورسوله ولا من سلطان يزجره، فمن أقبح صنائعه أن أنشأ له مركبا وجعل له (¬129) مقاذيف، وجمع جماعة من شبان البلد وشجعانهم، ومن عرف فيه أهلية أدخله طوعا أو كرها، وصار يقطع طريق البحر على المسافرين من النّصارى والمسلمين، فينهب الأموال ويقتل النّفوس إن نازعوه، وإذا (¬130) انتصف النّهار يركب بجمعه ويقصد جربة بحيث يكون موافاتها ليلا، فينزل على النّاس في منازلهم في زي النصارى فيأخذ أموالهم، ومن تكلّم منهم قتلوه، ويسافر ليلا فيصبح داخلا للبلد، فيظنّ أهل جربة أنّهم أخذتهم النّصارى ليلا وهربوا، وكذا يفعل بكل بلد قدر عليه، ويظهر لأهل صفاقس أنّه يحرس البلد ويحميهم من عدوّهم، وكلّ من أذنب ذنبا وهو أهل للسّفر معه لا يخلّصه إلاّ الدّخول معه وإلاّ عذّبه عذاب الهدهد، وخندق على البلد الخنادق، وسكن بالقصبة وطغى وبغى وحسب أنّ الشّر يدوم له. فلمّا استقلّ محمّد باي - رحمه الله تعالى - بالأمر بعد وفاة عمّه وأخيه وموت إبن شكر / أرسل لصفاقس من قتل هذا الخبيث الفاجر، وطهّر الله الأرض من شؤمه وبغيه، وتفصيل ذلك يطول ولا فائدة فيه. قال الشّيخ أبو الحسن - رحمه الله -: ولمّا وقع ما وقع من الأشقياء غلقت باب زاويتي وصرت أنتحب ليلا ونهارا، قال بعض تلاميذه: ولمّا صدر منهم ما صدر في الزّاوية غلق الشّيخ باب الزّاوية ولا بقي أحد يدخلها لا لقراءة ولا لزيارة ولا لصلاة ولا لغيرها، وفقدنا درسه (¬131) واشتقنا فيه نظرة، وتكدّر علينا زماننا وهاج شوقنا إليه بسببهم، وربّما عرضت له حاجة فيخبرنا بها بكتابة ورقة (¬132) يرسلها لنا اهـ‍. وفي هذه الأزمان منذ تولي سيدي حسين - رحمه الله وعترته - طهّر الله البلاد والعباد من أهل البغي والفساد، وتوالت الولاة من الحضرة داخلين تحت الأمر والنّهي أدام الله هذه النّعمة على عباده ولا أراهم ما يسوءهم بفضله وكرمه. ¬

(¬129) في الأصول: «لها». (¬130) في بقية الأصول: «ان». (¬131) كان - رحمه الله - يعمل الميعاد (مجلس الوعظ) يوم الجمعة بقراءة كتب الوعظ والسير والمغازي على عادة أهل صفاقس في ذلك التّاريخ، ويعلّم التلاميذ علوم الطّريقة والحقيقة. (¬132) بسبب هذه المحنة بقي سيدي أبي الحسن معتكفا بزاويته مدّة خمسين سنة بين ذكر وعبادة ونسخ وتآليف إلى أن وافاه أجله. نفس المرجع.

الباب الثالث فيما وقع لأهل صفاقس من الجهاد في هذه الأعصار المتأخرة

الباب الثّالث فيما وقع لأهل صفاقس من الجهاد في هذه الأعصار المتأخّرة حروب صفاقس مع مالطة: لمّا كثر جور أهل مالطة (¬1) - دمّرهم الله تعالى - إستشار أهل الفضل بعضهم بعضا كالشّيخ النّوري - رحمه الله تعالى - وأضرابه في شأن جهاد هؤلاء الكفرة، ورأوا أنّه لا يكون إلاّ بإنشاء سفن مخصوصة تناسب القتال، فوافق على ذلك جلّ النّاس ورأوه حسنا شرعا، وطبعا لما رغّب الله فيه، وحماية لأرزاق المسلمين وأنفسهم، وإنّما / قام بهذا الفرض أهل صفاقس لأنّ لهم تعلّقا كبيرا بسفر البحر (¬2)، فهم مضطرون للجهاد دنيا ودينا (¬3) ولا قدرة لهم على تركه، قال تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} (¬4). فلمّا إتفق أهل الفضل على إنشاء السّفن تعاونوا على الخير وبذلوا أموالهم إبتغاء رضوان (¬5) الله، فأنشؤوا عدّة سفن، فوفّق الله رأيهم (¬6)، فغنموا من الكفّار كثيرا، وقمع الله الكفّار. ¬

(¬1) كانت تحت سيطرة فرسان مالطة (فرسان يوحنا الأورشليمي) وهي منظّمة رهبانية مسيحية ترى من أوكد واجباتها محاربة المسلمين. ومؤسّسها وجماعته كانوا في جزيرة رودس، ولمّا احتلّها الأتراك إنتقلوا إلى مالطة. (¬2) وممّا يدلّ على تعلّقهم بركوب البحر والسّفر للتّجارة الخرائط الّتي أنشأها بعض أفراد أسرة الشّرفي الصّفاقسيّة خلال القرن السّادس عشر، وأهمّها الخارطة الّتي وضعها علي بن أحمد الشّرفي في سنة 958/ 1551 وتملك منها المكتبة الوطنيّة بباريس نسخة مخطوطة. أنظر كراتشكوفسكي، تاريخ الأدب العربي 1/ 456. (¬3) نظرا لبعد صفاقس عن العاصمة تونس، كان من المفروض عليها في تلك الأعصار المضطربة أن تعتمد على نفسها عسكريا واقتصاديا. أنظر أحمد عبد السلام Les historiens tunisiens. (¬4) سورة التّوبة: 123. (¬5) في ط: «مرضات». (¬6) في ش: «في رأيهم».

حروب صفاقس مع البلنسيان

ثمّ طالت الأيّام وتهشّمت تلك السّفن، ووقعت فتنة وشدّة، ومات أولئك النّاس، فرجع الكفّار لجورهم لأنّهم - لعنهم الله - ما زالوا على ما كانوا عليه من أذيّة المسلمين (منذ (¬7) خرجوا من رودس، فلمّا سكنت الفتنة وتراجع النّاس إنتبهوا - رحمهم الله - من أمر البحر فرأوا ما وقع من أذيّة الكفّار للمسلمين) (¬8) وعلموا أنّه لا يقمع شرّ هؤلاء الكفرة الفجرة إلاّ إنشاء غير تلك السّفن، فاتّفقوا على ذلك وأنشؤوا ثمان سفن، فأمن بهم البحر وانقطعت (¬9) أذيّة الكفّار. وعادة أهل البلد في غزوهم أنّهم مهما سمعوا بخبر بعض سفن العدوّ (¬10) ضربوا طبلا على سور البلد فوق باب البحر (¬11) وأجرى الرّؤساء سفنهم، وتسارع أهل الخير للنّزول للبحر، وأخذوا ما تيسّر من الزّاد وآلة الحرب، وركبوا في السّفن، فيسيرون طالبين آثارهم من رأس المخبز قرب طرابلس إلى قرب رأس أدار (¬12) بتونس، فإن وجدوا عدوّا حاربوه، فإن قسم فيه النّصيب أخذوه، وإن فلت وفرّ تبعوه إلى بلاده أو إلى ما يقرب / منه، وإن لم يقسم النّصيب أو لم يجدوا عدوّا رجعوا لبلادهم سالمين مأجورين (¬13)، (فغلبت السّلامة في البحر من طرابلس لتونس) (¬14). حروب صفاقس مع البلنسيان: ثمّ إنّ الباشا (¬15) - رحمه الله تعالى - كان حربا على البناديق (¬16) من النّصارى ويسمّيهم النّاس بلنسيانا (¬17)، وبينهم وبين طرابلس صلح وهدنة (¬18)، فأمر الباشا ¬

(¬7) في ش: «من ذو». (¬8) ما بين القوسين ساقط من بقيّة الأصول. (¬9) في الأصول: «انقطع». (¬10) في بقية الأصول: «بعض العدو». (¬11) هو باب الدّيوان الآن كما أشرنا. (¬12) في الأصول: «رأس دار». (¬13) يقصد مأجورين من الله. (¬14) في ط: «فقبلت اسلامة في البحر من طرابلس لتونس». (¬15) يقصد علي باشا الأول. (¬16) سكّان البندقية بايطاليا، والمعروف في الجمع البنادقة. (¬17) بلنسيان تحريف لكلمة venitiens نسبة إلى Venise التي يسمّونها البندقية وكتبها إبن أبي الضّيّاف في الإتحاف: «الفنسيان» 3/ 20. (¬18) كانت البندقية تستغلّ الملح بمناطق زوارة، وكانت تقع بين سفنها وسفن المسلمين مناورات، واستمرّ ذلك مدّة طويلة إلى أن عقد في 11 ديسمبر 1764 اتفاق أولي صودق عليه في أفريل 1765 بين طرابلس والبندقية يضبط =

- رحمه الله - أهل صفاقس بالمسير لرأس المخبز فإذا وجدوا مراكب البلنسيان تشحن بالملح تربّصوا بهم حتّى يفارقوا المرسى ويسيروا فبعد ذلك يتبعونهم ويقاتلونهم، ففعلوا ذلك وغنموا منهم سفنا غير أنّهم ربّما عاجلوهم عن الخروج من المرسى فيهجمون عليهم ويأخذونهم قبل مفارقتهم الميناء التي هي في أرض طرابلس فيردّهم الباشا، فخاف الكفّار من صفاقس فاستعدّوا وصاروا لا يأتون إلاّ بأكبر مراكبهم في أقوى العدد والعدد. ففي سنة ستّين ومائة وألف (¬19) جاء منهم مركبان في غاية الكبر والقوّة والمنعة، فأمر الباشا بالذّهاب إليهما، فركب النّاس في ثمان سفن وتوجّهوا نحوهما، فسمع النّصارى بتوجّههم إليهم فتأهّبوا للقاء المسلمين فربطوا إحدى السّفينتين على الأخرى بحبال في غاية الثّخانة والقوّة حتّى تعسّر المرور بين السّفينتين، ووضعوا أثقالهم في الشّقّ غير المواجه لسفائن المسلمين، فارتفع الشّقّ الآخر المقابل للمسلمين فصار علوّ مراكبهم يحاذي رؤوس قلوع سفن المسلمين، فلمّا وصلت (¬20) سفن المسلمين قريبا من العدوّ وصاروا رأي العين بادر المسلمون (¬21) / بالحرب، ولا علم عندهم بما فعله الكفّار من إمالة مراكبهم وحسبوا أنّهم من الجانبين في ذلك العلوّ على حدّ السّواء فاشتغلوا بالحرب عن تدوير السّفن للجانب الآخر، وكان الرّيح في ذلك اليوم ساكنا، فكثر الكور والبندق والحوارق (¬22) من الجانبين حتّى أطبق الجوّ وصار النّهار ليلا من ظلمة الدّخان، وصمّت الآذان من صوت الصواعق، وفشا (¬23) القتل والجراح في الفريقين وحسبوا أنّه الفناء، فأيس كلّ فريق من نفسه، وانقطع طمع المسلمين في أخذ الكفّار، ففارقوهم وحلّوا قلوعهم ورجعوا لبلادهم بما نالوا من أجر الجهاد وشهادة من استشهد، وكان عدّة الشّهداء أربعين والجرحى (¬24) ستّين، ووقع في الكفّار مثل ذلك وأكثر منه، وما منع المسلمين من أن ينالوا الكفّار إلاّ علو مراكب الكفّار، فصاروا يرمون على المسلمين من علوّ، ولا ينال ¬

= العلاقة بين البلدين، ومن بنوده منح البندقية وحدها امتياز الملح بزوارة، وجدد هذا الإتفاق في أوت 1766 مؤكّدا النّصوص السّابقة إثر الخلاف الذي حصل بين البلدين في سنة 1765. انظر مثلا أتوري روسي: ليبيا ص: 299 - 300. (¬19) 1747 م. (¬20) في ت وش: «وصل»، وفي ط: «وصلوا». (¬21) في ش: «بادر المسلمين». (¬22) في ط: «الحارق». (¬23) في الأصول: «فشى». (¬24) في الأصول: «والجرحا».

المسلمون منهم إلاّ من أظهر رأسه من الطّيقان، فكلّ من أظهر رأسه أصابوه، وطلعوا في رؤوس القلوع يرمون منها ما قدروا عليه، وكان رجوع المسلمين لصفاقس آخر يوم من شعبان سنة ستّين ومائة وألف (¬25). ولمّا سافرنا لبرّ (¬26) المشرق ونزلنا بلادهم على الصّلح، فرأيناهم صوّروا مراكبهم وسفائن صفاقس قادمة عليهم وصورة الكور والحرائق والدّخان، وأبقوا ذلك مصوّرا في كنائسهم، ووجدنا بعضهم أعرج، فسألناهم عن سبب عرجهم فقالوا: واقعة رأس المخبز، فذلك دليل على عظم / مصابهم. وأنشد في هذه الواقعة أبو عبد الله محمّد الخميري - عفا الله عنه - هذه الأبيات وكتبت على ضريح المعلّم أسطى أحمد السيالة - رحمه الله تعالى - وهي: [الرّجز] الحمد والشّكر له (¬27) تعالى ... هذا ضريح أحمد السّياله هذا شهيد المعترك في الغزو ... من قبل رمضان بيوم يحوى (¬28) في عام ستين وألف ومائه ... فيا لها من غزوة مستكمله بها قد استشهد أربعون (¬29) ... عدة جرحاهم بها ستّون يا ربّ سامح جمعهم والحقنا ... بهم على الإيمان واعف عنّا ولمّا رأى البلنسيان ما حلّ بهم وانقطع طمعهم من رأس المخبز لما خافوا إن عادوا أخذوا سارعوا لطلب السّلم مع سلاطين تونس، ولمّا سمع (¬30) أهل مالطة بهذه الواقعة فرحوا وانتهزوا الفرصة، فخرجوا لفسادهم في البحر وظنّوا أنّ أهل صفاقس أصابهم قرح يفشلهم مع أنّ أهل صفاقس نزّلوا الشّهداء ودفنوهم والجرحى للعلاج، وضربوا طبلهم على الفور وخرجوا في طلب الكفّار في (¬31) كلّ جهة، فالتقوا بمركب فرنجي سلما (¬32) ¬

(¬25) 5 سبتمبر 1747 م. (¬26) في ط: «بلاد». (¬27) في ت وب: «لله». (¬28) في ت: «يجرء». (¬29) في ت: «أربعين». (¬30) في ت وش: «سمعوا». (¬31) في ط وب وت: «من». (¬32) في ط: «أسلماه».

لأهل صفاقس، فلمّا فارقهم وجد سفن المالطيين فسألوه عمن لقيت (¬33)، قال: لقيت سفن صفاقس، فرعب المالطيون ورجعوا مذمومين مدحورين، وأيسوا من بحر صفاقس. وفي سنة خمس وتسعين ومائة وألف (¬34) وقع الطّاعون بأرض مصر فاكترى أهل صفاقس مركبا من ريس من جنس البلنسيان، وشحنوه بالغزل والكتان والقماش وغير ذلك من بضائع مصر، وركب بعض التجّار / بها من أهل صفاقس وغيرهم وتوجّهوا لصفاقس، وبلغ خبر الطّاعون لسلطان تونس سيدي حمّودة باشا - دام علاه - فكتب لقائد صفاقس المرحوم القائد بكّار الجلّولي - رحمه الله برحمته الواسعة وعفا (¬35) عنه - وأمره بأن لا يقبل من أتاه من برّ مصر وأن يوجّهه لتونس ليبقى تحت نظره مخافة من المسارعة بالنزول والدّخول للبلد (¬36) فربّما يكون فيه ضرر على المسلمين لقوله عليه الصّلاة والسّلام: «لا يورد ممرض على مصح» أو كما قال عليه الصّلاة والسّلام: «وإن كان الحقّ لا عدوى (¬37) خوفا من ضعف يقين بعض النّاس فيفتتن في دينه» فحسم الشّارع المادة. وعادة السّلاطين بتونس أنّ من كان به من الطّاعون يمنع النّزول حتّى تمضي عليه أربعون يوما (¬38) فإن مات منهم أحد استظهروا (¬39) بأربعين أخرى طمعا في السّلامة ونجاة الخلق، وحكم الفرار من الطّاعون والقدوم عليه معلوم وهو المنع، أمّا القدوم عليه فلأنّه يحرق القلوب، فعدم القرب منه أريح للسّرّ، وأمّا الفرار منه فلا فائدة فيه فإنّه في عنق الفار ولا يفيده الفرار شيئا. وكان القائد - رحمه الله تعالى - شديد الحرص على تتبّع أمر السّلطان، وأمّا المركب فإنها لمّا سافرت من إسكندرية وتلجّجت البحر وقع في أهلها الطّاعون ومات منهم كثير من النّصارى والمسلمين، ومات ريس المركب فخلفه ولده، فقام (¬40) بأمر المركب، (ولمّا مات أكثر (¬41) النوتية من النّصارى) (¬42) وتعطّلت أحوال المركب / وخاف ¬

(¬33) في ط وب وت: «لقيته». (¬34) 1781، وفي الإتحاف كان ذلك في سنة 1204 هـ ‍ / 1789 م وهو مخالف للواقع. (¬35) في الأصول: «عفى». (¬36) في ش: «ليلا»، في ط: البلاد: «المدينة». (¬37) في الأصول: «عدوا». (¬38) ما يعرف بالكرنتينة وهي تعريب للأربعين، وتعرف بالحجر الصّحّي وحكّام تونس اقتبسوها من أوربا. (¬39) في ش: «فاستظهروا». (¬40) في ط: «فأقام». (¬41) في ط: «كبير». (¬42) في ت: «وكان الموت في النصارى كثير».

الباقي الهلاك (¬43) إلاّ أنّ النّاس مسكوا قلوبهم وتعاونوا على السّفر وإجراء المركب، فما زالوا على أسوإ حال حتّى بلغوا صفاقس بعد التي واللتيا، فمنعهم القائد من البقاء بالمرسى وأمرهم بالتّوجّه لتونس تحت نظر السّلطان فأبوا وقالوا: نحن أشفينا (¬44) على الهلاك، فكاتب السّلطان فأكد عليه عدم قبولهم، فبلغهم ما أمر به السّلطان فأبوا إلاّ البقاء، فتهدّدهم وتوعّدهم بأشدّ الأذى، فأيسوا وسافروا وفي (¬45) ظنّ المسلمين التّوجّه لتونس فأبى النّصارى إلاّ الذّهاب لمالطة - دمّرها الله -، فتنازعوا مع المسلمين في ذلك والمسلمون لا يعرفون السّفر، فما شعروا إلاّ وهم داخلون لمالطة - دمّرها الله تعالى - فسألهم أهلها: ما شأنكم؟ فعرّفوهم بحالهم فأمروهم بالخروج من مرساهم والسّفر حيث شاءوا، فامتنع النّصارى من ذلك فخوّفوهم بالحرق فلم يمتثلوا، فطلب المسلمون الذين في المركب من وكيل البلنسيان ويسمّونه قنصلا أن يكتري لهم نصارى يسافرون بهم، فقال: لم أجد من يسافر معكم، فسألوه أن يفتدي لهم أسارى ويعطوا لهم فداءهم فأبى، وحاصل الأمر أنّه تعذّرت الحيلة وتعسّر السّفر بوجه ما، ولم يرض أهل مالطة ببقائهم خوفا أن ينزل منهم أحد فيقع فيهم الطّاعون لأنّهم يقولون بالعدوى فلا شكّ عندهم في وقوعها، فلمّا رأوهم غير ممتثلين لما أمروهم به من الخروج جمع الكفّار بمالطة بعضهم بعضا لينظروا في أمرهم، فاتّفق رأيهم على نزول الآدميين وحبسهم في حبس يتعذر / الفرار منه في مكان منعزل عن النّاس وحرق المركب بما فيه من جميع الأمتعة عدا النقد، فأنزلوا النّاس وغمسوهم في الخلّ وبخّروهم ببخور نتن الرّيح يكاد يزهق الرّوح، وكرروا عليهم ذلك مرات متعدّدة، وحرقوا المركب بما فيه، هذا بحسب ما حكم به أهل الكفر، وأمّا المسلمون أصحاب المركب فإنهم غير راضين بهذا الحكم من النّصارى. ولمّا فرغت مدّة الحبس (¬46) والتّبخير أخرجوا النّاس وأمروهم بالسّفر لبلادهم، فطلبوا منهم كتابا للسّلطان بتونس أنّ الحرق كان من غير اختيارنا خوفا أن يطالبهم التّجّار بثمن أرزاقهم إذا ادّعوا منهم تفريطا، فامتنع النّصارى من ذلك، فاستجاهوا برسول مولاي محمّد الشّريف إبن مولاي عبد الله - رحمهم الله وجعلنا في شفاعة جدّه صلّى الله عليه وسلم - ¬

(¬43) في ت: من الهلاك. (¬44) في ب: «شفينا» وفي ط وت: «أشرفنا». (¬45) في ط: «في». (¬46) ساقطة من ط.

وكان قدم بخزائن الأموال في فكّ أسارى المسلمين من أيدي الكفّار - حسبما مرت الإشارة إليه - فتكلم مع النّصارى واعتذر للنّاس بأنّهم يخافون من المسلمين أن يدعوا عليهم تفريطا، فلم يزل بهم حتّى قبلوا شفاعته وكتبوا لهم بما يبري ساحتهم، ولمّا أخذوا الكتاب عمل قنصل البلنسيان على المكر وطلب منهم الكتاب ليطالع ما فيه ليعمل فيه على مكره، فأنكروه عليه، ثمّ قدموا لتونس وليس معهم إلاّ الذّهب فسلّموه لأصحابه، ورفعوا أمرهم للسّلطان وقد بلغه عملهم تفصيلا، فدعا (¬47) وكيل البلنسيان بتونس وطلب ثمن بضائع المسلمين / لأنّهم ما رضوا بذهاب المركب لمالطة، وطلبوا من وكيلكم بمالطة أن يكتري لهم مركبا أو رجالا أو يفتدي لهم أسارى من أموالهم فأبى، وقائد صفاقس أمر رئيس المركب بالتّوجّه لتونس، فالذي يقدّره على السّفر لمالطة يقدّره على السّفر لتونس، فلمّا وقفت عليه الحجة إستمهل لردّ الجواب لبلاد البلنسيان فأمهل، وكتب لهم (¬48) بذلك. واتّفق أنّ مركبا مشحونا (¬49) بأرزاق المسلمين رئيسه من جنس البلنسيان أيضا، فسرق النّصارى الذين به أكثر أرزاق المسلمين، ولما خافوا الفضيحة حرقوا المركب وزعموا أنّ ذلك من غير إختيار، فأثبت المسلمون عليهم سرقتهم وأنّهم حرقوه باختيارهم فطالبهم السّلطان بثمنها أيضا فصاروا مطلوبين بثمن بضائع المركبين، ولمّا وصل البلنسيان خبر المركب الأوّل توقّفوا أوّلا ثمّ همّوا بالطّوع بثمنه (¬50) ولمّا بلغهم خبر المركب الثّاني (¬51) نكصوا على أعقابهم وأبوا من بذل ثمن الأول والثّاني (¬52) لكثرة أثمان بضائعهما، فقال لهم السّلطان: لا بدّ من دفع أثمان بضائع المركبين وإلاّ فلا عهد لكم عندي ولا ذمّة ويقع الحرب بيني وبينكم، فامتنعوا من بذل الأثمان ولجّوا في طغيانهم يعمهون، فقطع ما بينه وبينهم من العهد والذّمّة وأمر بحربهم، فجهزوا مراكبهم وجاؤوا يلتمسون الصّلح وبذل بعض المال وترك الباقي، فأبى عليهم إلاّ ببذل الجميع، فنشأت من ذلك حروب ¬

(¬47) في الأصول: «فدعى». (¬48) عن قصّة المركبين أنظر: Alphonse Rousseau, Les annales tunisiennes,2e edition, Tunis 1980, pp. 197 - 202 نقلا عن وثائق القنصلية الهولندية بتونس وأنظر الإتحاف 3/ 20. (¬49) في الأصول: «مشحونة». (¬50) في الأصول: «بثمنها». (¬51) في الأصول: «الثانية». (¬52) في الأصول: «الأولى والثانية».

كثيرة في سنين متطاولة، فخرجوا سنة مائتين وألف إلاّ واحدا (¬53) / في تسع مراكب في غاية ما يكون من الكبر {يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} (¬54) فرموا على بنزرت وسوسة شيئا كثيرا من البونبة حتّى أذوهم أذى شديدا، ثم قدموا لصفاقس، فباتوا ليلة واحدة ورموا ما قدروا عليه، فحاربهم المسلمون ومنعوهم من القرب من البلد، فذهب عملهم سدى هباء منثورا، وما أصبحوا إلاّ مسافرين، وكأنّهم مكثوا على صفاقس تحلّة القسم وخرجوا خائفين، {وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ} (¬55). ولمّا دخلت سنة مائتين وألف (¬56) استعدّ الكفّار بأقوى ما عندهم لقتال صفاقس بالخصوص فجمعوا كيدهم وعدّتهم وعددهم لما بينهم وبين صفاقس من العداوة السّابقة، وسمعوا أنّ البلاد قد أصابها من الطّاعون ما أصابها، فظنّوا أنّ البلاد تسوّغ لهم وأنّهم ينالون منها ما نالوا من بنزرت وسوسة، وكان اجتماعهم بمالطة فجعل كبيرهم يأمر بالمناداة (¬57) في مالطة - دمّرها الله -: من أراد الذّهب والفضّة واللؤلؤ والجواري (¬58) الحسان والسّبي الكثير فليتوجّه لصفاقس، فهزأ به أهل مالطة لما يعرفون من حرب صفاقس وشدّة بأسهم على الكفّار ومحبتهم في القتال في سبيل الله وما لهم من تعوّد بمحاربة الكفّار. وعادة النّاس إذا أرادوا قتالا في البحر أن يكون خروجهم (¬59) زمن المصيف لأنّه أطوع لمزاولة آلات الحرب من المدافع والبونبات، غير أنّ هؤلاء الكفرة الفجرة خافوا إذا تأخّروا لزمن المصيف يستعدّ النّاس لقتالهم، وخدعهم أهل مالطة / بأنّ مرسى صفاقس أقاصير لا يكثر هيجان بحرها، فعملوا على الخروج أواخر الشتاء فبلغ السّلطان بتونس - نصره الله - أنّهم قاصدون خصوص صفاقس، فجهّز لها ما تحتاجه من مدافع النّحاس ومدافع الحديد والكور والبارود أحمالا محمّلة، وقناطير مقنطرة وجميع ما تتوقّف (¬60) عليه المحاربة من كلّ شيء أكثره، وجهّز عدة رؤساء عارفين بصناعة الرّمي ¬

(¬53) 1784 - 1785 م. (¬54) إقتباس من الآية 152 سورة الشّعراء. (¬55) سورة الأحزاب: 25. (¬56) 1785 - 1786 م. (¬57) في ش وت وب: «المنادات». (¬58) في الأصول: «الجوار». (¬59) في ط وب وت: «حروبهم». (¬60) في الأصول: «يتوقف».

مع ما عليه أهل البلد من المعرفة، فكان نورا على نور، وأمر عربان الوطن بالنّزول على شطوط البحر وأخرج النّاس أهاليهم إلى البساتين، وحملوا إليها جميع أثقالهم وتركوا البلد كقلب أمّ موسى، فخاف أهل البلد إذا إشتغل الرّجال بالقتال أن يقع من العرب تسوّر (¬61) على الحريم فكاتب السّلطان قائد العرب وعرّفه مهما يثبت أنّ أعرابيا دخل بساتين النّاس وأذاهم في حريمهم ليلا أو نهارا لأعذّبنه عذاب الهدهد، فقرأ عليهم كتاب مولانا السّلطان وحذّرهم بطشه وتوعّدهم بالوعيد الذي توعّدهم به السّلطان، فأعطوه عهودهم على الأمن والمسالمة، فعصمهم الله من المخالفة. فلمّا كان خمسة عشر يوما من جمادى الأولى سنة إحدى ومائتين وألف (¬62) وافق ذلك أوّل يوم من الحسوم (¬63) جاء الخبر من قرقنة أنّ مراكب البلنسيان قدموا وأنّهم سائرون لنحو صفاقس، فاجتمع أهل البلد قاطبة خاصّتهم وأهل الحلّ والعقد منهم وعامّتهم وقائد البلد يومئذ القائد أبو الثّنا محمود إبن المرحوم القائد / بكّار الجلّولي - أعان الله الجميع على طاعته ووفّق الكلّ لصالح القول والعمل وحماهم من الخلاف والزّلل - فاتّفق الكلّ على كلمة واحدة وعصمهم من التّنازع ولو في شيء يسير ممّا يوجب الفشل، فأحضروا أوّلا أمين المهندسين رئيس البناء أبا عبد الله أسطى محمّد إبن المرحوم أسطى طاهر المنيف، وكانوا ابتدأوا إسقالة في مقابلة مرسى المراكب ليمنعوا مراكب العدوّ من القرب للبلد ولم تكمل، فأحضروا جميع ما تحتاجه الإسقالة ممّا يتوقّف عليه القتال، وبات النّاس على ساق الجدّ فما أصبحوا إلاّ وقد أحكموا الإسقالة غاية الإحكام وأحضروا بها ما يتوقّف عليه القتال من مدافع وكور وبارود وعيّنوا بها من يصلح للرّمي، وكذا فعلوا ببرج النّار وهو البرج الذي في ركن البلد الشرقي الجنوبي (¬64) وكذا ببرج الربض (¬65) - وهو أمام البرج المتقدّم - وبباب البحر وبالحصار وبكلّ مكان فيه نكاية للعدوّ، ونصبوا خياما على الإسقالة وساحل البلد من شرقها وغربها وعمّروها بحملة القرآن، وتنافس النّاس في ¬

(¬61) في ت وط وب: «ستور». (¬62) 4 مارس 1787 م. (¬63) في القول الدّارج الحسوم نصفها فراريات ونصفها مارسيات، وهي سبع ليال وثمانية أيّام، تدخل في يوم 10 مارس حسب التقويم الغريغواري (Gregorien) وهو يوافق يوم 24 فيفري حسب التّقويم القديم ليوليوس قيصر (وهو المعروف عند العامة بالعجمي)، وتنتهي يوم 17 مارس بدخول الغاية وهو يوافق يوم 4 مارس العجمي. (¬64) من السّور، وما زال معروفا بهذا الإسم. (¬65) الرّبض القبلي بباب البحر حيث المدينة الحديثة الآن ولعله يقصد البرج الذي بناه حمّودة السّلامي.

الإسقالة لأنّها جاءت في نحر العدوّ وهو متوجّه إليها بالقصد أكثر من غيرها، وعيّن لكلّ مكان من يقوم به من رماة (¬66) وحرّاس وقرّاء وغير ذلك، ورتّب أهل الخير رجالا لحمل الماء لشرب النّاس ليلا ونهارا، وكثرت صدقات (¬67) أهل الفضل، وواسى الغني الفقير، ورتّب أهل الفضل / بالإسقالة الطّعام لمن يبيت من الغرباء بالإسقالة وغيرها، وصارت الأرض كأنّها مسجد من مساجد الله {يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ، رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ} (¬68)، فلا تسمع بها إلاّ تلاوة لكتاب الله، أو صلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو تهليلا أو تكبيرا برفع صوت ونشاط وحزم، إظهارا لعزّة الإسلام وإرهابا لأهل الكفر والضّلال، وإذا جنّ الليل (¬69) ترك النّاس خيامهم (¬70) فيذهب أهل الجانب الشرقي لأهل الجانب الغربي، وأهل الجانب الغربي لأهل الجانب الشرقي زيادة في الحرس وإيقاظا وتنشيطا، فمنهم الرّاكب ومنهم الرّاجل، ولا نوم لأحد بطول الليل، بل رباط مستمرّ ليلا ونهارا، فانتظم أمر النّاس والتأم شملهم طلبا لرضاء الله وإظهارا لكلمة الله العليا، وقمعا لكلمة الذين كفروا السفلى، فانتظر الكفّار سكون البحر والرّيح، فلمّا أحسّوا بذلك شرعوا في الحرب، فأنشؤوا أنشولات إثني عشر، وهي مراكب واسعة قصيرة الجوانب، ملؤوها بالرّجال وآلات الحرب من المدافع والبونبات ومهاريسها، ولهم مراكب يسمّونها هويات معدّة لرمي البونبة، فركّبوا مدافعهم ومهاريسهم وما يحتاجونه، وشرعوا في الحرب أوّل يوم من الزّوال إلى الغروب، فوقع الرمي من المسلمين والكافرين فصار الجوّ ليلا مظلما من الدّخان، فلا يسمع إلاّ صوت القوارع والصواعق / على وجه الأرض وفي جوّ السّماء، فكثر الرّمي من الجانبين وعجز النّاس عن الإحصاء لأنّه يخرج مع الوجه (¬71) الواحد عدة وجوه من الجانبين دفعة واحدة لتعدّد أماكن الرّمي من الجانبين، وكلّما فرغ وجه عمّر غيره (¬72) من غير فتور لأنّ على كل مدفع جماعة، فالبعض للمسح والبعض للتّبريد، والبعض للجرّ، ¬

(¬66) في ش: «رمات». (¬67) في ش: «صدقاة». (¬68) إقتباس من الآية 36 - 37 من سورة النّور. (¬69) في الأصول: «اليل». (¬70) ساقطة من ط، وفي ش: «من خيامهم». (¬71) يقصد رمي المدافع وقصفها. (¬72) تعمير المدافع من الكور وغيره.

والبعض للوزن لتعيين موضع الرّمي، والبعض لوضع النّار وغير ذلك، فما يفرغ المدفع إلاّ وداروا به كلّ من له عمل إستقبله، فأظهر الكفّار غاية طاقتهم ومجهودهم ظنّا أنّ ذلك يجديهم نفعا وحسبوا أنّهم يرهبون المسلمين بذلك، فخيّب الله أمل الكفر وكذّب ظنّهم، فما ازداد المؤمنون إلاّ نشاطا وجدّا واجتهادا، وأنزل الله عليهم النّصر وأفرغ عليهم الصّبر، وجعل المسلمون يتلقّون ما يرميه الكفّار من الكور فيلتقطه الأطفال والمتجالات ويجعلونه في المدافع ويرمون به الكفّار، فسقط عندهم (¬73) البعض من ذلك، فسقط في أيديهم ورأوا أنّهم قد ضلّوا فكان ما يرمونه وبالا عليهم، وكلّما رموا بونبة وسقطت صحيحة (¬74) أخذها المسلمون وأفرغوا ما فيها من البارود، وصار المسلمون يرتقبون ما يسقط صحيحا يغتنمونه. والحاصل لمّا حاربوهم أوّل يوم ورأوا حربهم إستخفّوا بهم واستهانوا (¬75) أمرهم، فمات من الكفّار شيء كثير، وعطب منهم شيء كثير، ولم يقتل في هذا اليوم / من المسلمين إلاّ ثلاثة: أبو عبد الله محمّد الشّهيد إبن الشّهيد المجاهد في سبيل الله حمّودة السّلاّمي، كان ممّن سبّل نفسه على الجهاد في سبيل الله، إنكسر عليه مدفع حديد في برج الرّبض، والثّاني أبو عبد الله محمّد بن (¬76) أحمد بن حسين مساعد أصابته كورة في جوفه بالإسقالة فاستشهد من ساعته، وضرب إثنان كلّ واحد بكورة في فخذه ورفع حيّا، ثمّ استشهد بعد أيام أبو العباس أحمد بن عبد اللطيف المصمودي، كان مارّا بالإسقالة فأصابته الكورة، وأبو عبد الله محمّد بن حمّودة القرمازي، أصابته كورة في برج النّار، وأمّا بعد ذلك فما أصاب أحد من المسلمين شيء إلاّ محمّد الجلباني (¬77) أصابته كورة في برج الربض برأسه فاستشهد من ساعته، ولم يوجب قتل من قتل فزعا ولا رعبا بل استبشر المسلمون بذلك، وتلقوا أهلهم بالتّهنئة بنيل درجة الشّهادة، وسارعوا لدفنهم وحملوهم على أعناقهم بل فوق رؤوسهم متبرّكين بحملهم - رحمة الله عليهم واحشرنا يا ربّنا معهم في زمرة الشّهداء والصّالحين -. ولمّا رأى الكفّار الذين نزلوا في الأنشولات ما حلّ بهم من المسلمين، وكلّما حاولوا القرب من المسلمين نزل عليهم عذاب الدّنيا {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى} (¬78) وضرب رئيسهم (¬79) الذي يدبّر أمرهم في وجهه، وزال بغضه وانقطعت أطماع الكفّار، وعظم ¬

(¬73) في ط: «عنهم». (¬74) كاملة دون أن تتفرقع. (¬75) في ط وش: «استهان». (¬76) ساقطة من ط وب وت. (¬77) في ط: «الجيلاني». (¬78) سورة طه: 127. (¬79) في ش: «رايسهم».

فيهم الرّعب والخوف / فبات المسلمون على مصافّهم منتظرين للقتال، فلمّا أصبح الصّبح أمر كبراء الكفّار رجال الأنشولات بالنّزول إليها ليقربوا من المسلمين بعض قرب فامتنعوا من ذلك وتنازعوا وقال كبراؤهم: أما اكتريناكم لهذا الأمر؟ فقالوا لهم: نحن ما حسبنا أن نلقى من صفاقس هذا الحرب، بل حسبنا أنّا من أوّل وهلة نرميهم فيفروا وننزل البلاد، وها نحن بطلت حيلتنا وضعفت قوانا، ومات أكثرنا، وتعطّب البعض منّا ولم نحصل على طائل، فقالوا لهم: أما ترون المسلمين ثابتين على دينهم يقاتلون؟ قالوا: المسلمون متحصّنون ونحن في أجفان ملقاة على وجه المّاء، فإن رميناهم لم يصبهم رمينا وإذا رمونا أصابونا، ما لنا بهذا القتال طاقة، فرفقوا بهم ووعدوهم أوعادا خدعوهم بها وزادوهم في العطاء كلّ ذلك خوفا من الفضيحة لا سيّما ومراكب بعض أصناف الكفّار المعاهدين حاضرون يعاينون، فأيس الكفّار من الظّفر بشيء من المسلمين، فجعلوا يتجلّدون ويظهرون التّشجّع بشيء لا يجديهم إلاّ خسارة الدّنيا والدّين وفضيحة العاقبة، وكان عاقبة أمرهم خسرا. فصبر الكفّار عدّة أيّام حتّى أصلحوا ما انثلم من سفنهم وبرئ جرحاهم وأرسلوا مركبا لمالطة لتجديد زادهم من الماء والطعام إذ لا طمع لهم في النّزول لبرّ الإسلام لأنّ الأرض مشحونة بالمسلمين من كلّ ناحية، فلمّا سكن الرّيح وهدأ (¬80) الجوّ عادوا لإفسادهم ولكن برمي ظاهر الضعف والفشل / فأظهر المسلمون القوّة والنجدة، ولو كان للمسلمين سفن تضاهي سفنهم ما أمهلوهم لحظة واحدة ولعاجلوهم بالأخذ، ثمّ إنهم فرّقوا أنشولاتهم على جهات شتّى ليشغلوا المسلمين، فساق المسلمون لهم مدافع في مقابلة ما تفرّق منها، ومنعوهم ممّا أرادوا فلم يمهلوهم يقربون من البلد، وجعلت الخيول تجول حول البلاد وعلى ساحل البحر من جميع الجهات. واتّفق في بعض الأيّام أن قدم بعض صنادل (¬81) من قرقنة (¬82) فتلقّاهم النّصارى طمعا في أخذهم، فتسارع المسلمون لإنقاذهم بالخيل والرّجال في ساحل البحر، فحماهم الله تعالى {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً} (¬83) فلامهم ¬

(¬80) في الأصول: «هدى» كما تنطق بالعامية. (¬81) ج صندل، سفينة شراعية. (¬82) الحركة البحرية بين صفاقس وجزر قرقنة دائبة لارتباط حركتيهما الإقتصادية ببعضهما. (¬83) سورة الأحزاب: 25.

كبراؤهم على أخذ الصنادل وهم في وسط البحر والمسلمون في البرّ، فقالوا لهم: رأينا خيولهم تركض في وسط الماء، وذلك لما ألقى الله في قلوبهم من الرّعب وهيبة المسلمين، ولمّا أيسوا من فائدة تعود عليهم من (¬84) الأنشولات رجعوا لضرب البونبة من سفنهم الكبار بالليل، فعاجلهم المسلمون برمي المدافع فأفشلوهم وصار رميهم هدرا لوقوع أكثر ما يرمونه خارج البلد، وربما أصاب سور البلد شيء لا يضر، فيسارع النّاس إلى إصلاحه في أقرب من ردّ الطّرف (¬85) فحمى الله سور المسلمين من أن يناله ما يؤذيه. ولمّا أعيتهم الحيل والمسلمون لا يزدادون كلّ يوم إلاّ قوّة ونشاطا قال كبيرهم - لعنه الله - لرؤساء البونبة: إن أصبتم مأذنة المسلمين (¬86) أو ناظورهم (¬87) فلكم منّي كذا وكذا، وبذل لهم / مالا جزيلا في ذلك، فبذلوا جهدهم في ذلك ولم يحصلوا على طائل، فانقطعت آمالهم ولم ينالوا من المسلمين قلامة ظفر إلاّ صندل سمك تركه صاحبه بعيدا عن البلد لعدم إهتمامه به، وقيل إنّه طلع بالليل يتصيّد به خفية من النّصارى والمسلمين لأنّ المسلمين منعوا اصطياد السّمك خوفا أن ينال الكفّار منهم أحدا بسوء، فلمّا طلع الصندل ليلا أبصره الكفرة فنزلوا ليأخذوه، فلمّا أحسّ بهم نزل في الماء وجعل يسبح حتّى خلص، وأخذ الكفّار الصّندل، ولمّا رجعوا به لكبرائهم رأوا أن لا فائدة فيه، فرجعوا لمركب النّصارى المهادنين وقالوا لهم: أبلغوا المسلمين إن أحبّوا نرد عليهم صندلهم، فأجابهم المسلمون بأنّا ما تركناه في المكان الذي وجدتموه به إلاّ لعدم الحاجة إليه ونحن في غنية عن ألف منه ولنا منه كثير، وأمّا أنتم فقد صارت في وجوهكم فضيحة خسرتم أموالكم ورجالكم وترجعون لبلادكم بأسطولكم (¬88) خائبين خاسرين من غير نتيجة، فهذه نتيجتكم أنّكم وجدتم صندل سمك لا قيمة له مهملا أخذتموه بهذا الأسطول (¬89) وشجعانه فلا بدّ أن تصحبوه وتزخرفوه ليعظم صيتكم بهذه الغنيمة التي عجز عن مثلها أساطيل (¬90) السّلاطين، أفّ لكم من قوم سفهاء لا عقل لكم ولا همّة. ¬

(¬84) في ت وب وط: «في». (¬85) في ط: «في أقرب من طرف العين». (¬86) يقصد مأذنة الجامع الكبير الذي يحتل قلب المدينة. (¬87) كان مرتفعا على سور المدينة الجنوبي المطل على الربض والبحر، وكان محاذيا لباب البحر (باب الديوان) من جهته الغربية، وما تزال آثاره باقية. (¬88) في الأصول: «أصطولكم». (¬89) في الأصول: «الاصطول». (¬90) في الأصول: «أصاطيل».

ولمّا كانت ليلة النّصف من رجب عادوا لفسادهم ليلا، فلمّا بلغ رميهم قريبا من تسعين بونبة إنكسرت (¬91) عليهم واحدة فقتلت رؤساء عملهم وعطّبت / منهم جماعة فبطل عملهم، وأصبحوا مسافرين فردّهم الله خائبين خاسرين لم ينالوا إلاّ خسارة الدّنيا والدّين. فكان مدّة مقامهم على البلد شهرين (¬92). ومن أغرب ما اتفق في هذه الواقعة أنّه قدم قبلها بمدّة يسيرة رجل من بلاد السّوس إسمه] الحاج محمّد السّوسي، وكان من العبّاد المتجرّدين وجاور بالحرم الشريف زمنا طويلا، فحضر هذه المواطن كلّها، وإنّه ملازم للإسقالة مدّة مقامه ليلا ونهارا، ويوم فرّق الكفّار أناشيلهم أخذ بيده سيفا وأشار بيده كالضّارب لأعناقهم مرّتين أو ثلاثا، ثمّ ناولني ذلك السّيف وأمرني بفعل ذلك مثل ما فعل هو فخرجوا ولم يرجعوا في الأنشولات حتّى سافروا، ولعلّ إشارته (¬93) كانت لموت من انكسرت عليهم البونبة، ثمّ أخذه (¬94) مرض حتّى خشينا عليه الموت، ثمّ تداركه الله باللّطف والعافية، ومدّة مرضه لم يقع من الكفّار حرب، فلمّا صحّ ورجعت له عافية حاربوا في الليلة التي انكسرت عليهم البونبة، فحضر تلك الليلة بعافية وسلامة، ولمّا سافر الكفّار سافر هو في ذلك اليوم، فسألناه عن ذلك فقال: لا بقي لي هنا مقام لأني البارحة رأيت سيّدنا عبد الله بن جعفر - رضي الله تعالى عنهما - إبن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومعه جماعة من المسلمين راكبين خيولهم، فقلت: ما شأنكم راكبين؟ قالوا: قد فرغ الجهاد من هذه البلاد فلا بقاء لنا هاهنا، فأنا الآخر فلا بقاء لي هنا، فسافر بعد ما أوصى بكثرة زيارة الإسقالة وعدم الغفلة / عنها وقراءة الفاتحة فيها لأنّه موضع إجتمع (¬95) فيه أولياء الله، وبعد زمان قدم زائرا فمنع اليهود من الدّخول إليها وقال: هذا موضع الجهاد وتلاوة القرآن واجتماع الصّالحين لا يدخله اليهود. ولمّا سافر الكفّار نزل رئيس مركب من الفرنسيس ومعه واحد من البلنسيان أسلم وأخبر بجميع ما حل بالبلنسيان من الموت والعطب وشدّة البلاء وجميع ما أصابهم وما وقع ¬

(¬91) في الأصول: «انكسر». (¬92) ترجم نالينو ما كتبه مقديش عن حروب صفاقس مع البندقية ويراه مخالفا لما جاء في وثائق هذه المدينة، وذلك إثر تقديمه لمحمود مقديش وكتابه نزهة الأنظار في مقالة. (¬93) في ت: «الاشارة» وفي ب وط «اشارة». (¬94) في ش: «ثم انه أخذه». (¬95) في ط: «تجتمع».

عليهم من أوّل الأمر، وأكثر ما يزيدهم قهرا أنّكم تحاربونهم وترقصون وتلعبون وتستبشرون وأنتم غير مكترثين بحربهم ولا سيما يوم سفرهم فإن المسلمين (¬96) اتبعوه بالرمي بالكور، وخرج الكفّار وهم مذمومون مدحورون، والمسلمون في فرح وبشرى أن {رَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً} (¬97). ولمّا دخلوا مالطة جعلوا يضحكون عليهم ويستهزؤون بهم وقالوا لهم: أين الغنائم والسّبايا التي كنتم توعدون؟ ولمّا انصرف الكفّار فكّر المسلمون في شأنهم وقالوا: ربّما استعدّوا بأقوى من هذا ورجعوا، فالأولى بنا أن نستعدّ للقائهم وأن نتّخذ (¬98) أنشولات مثل ما عندهم، ونركب لهم فيها لمقاتلتهم، ونقمع بها أنشولاتهم ونقطع نكايتهم، فأمر السّلطان سيدي حمودة باشا - دام علاه ونصره الله - بإنشاء أربع أنشولات فهيؤوهم للقتال وأرسل الباشا علي القرمانلي (¬99)، وفّقه الله لصلاح الدّارين عدّة مدافع إعانة للمسلمين، وكذا أرسل مهاريس لرمي البونبة، فازداد البلد / قوّة وعدة والمسلمون نشاطا وتأنّسوا بالحرب، وحصلت لهم جرأة قوية على العدوّ. وفي سنة أربع ومائتين وألف يوم رابع شوّال (¬100) قدم من البلنسيان عدّة مراكب للقتال في البحر، وأرسوا على قدر عشرين ميلا من البلد، وقصدوا قطع طريق المسلمين فركب لهم المسلمون في عدّة سفن تليق بحربهم، فوقع بين الفريقين حرب شديد، وكان يوما مشهودا حتّى ذهل فيه كلّ فريق عن الآخر، ومات من كل مركب من مراكب النّصارى وتعطّب منهم شيء كثير، واستشهد من المسلمين أربعون وجرح ما يقرب من ذلك. ولمّا اشتغل كل فريق بما أصابهم وعجزوا عن أخذ عدوهم، رجع المسلمون بما نالوا من أجر الجهاد وشهادة من استشهد، وانصرف الكفّار بما نالوا من عذاب الدّنيا، {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى} (¬101). ¬

(¬96) في ش: «المسلمون». (¬97) سورة الأحزاب: 25. (¬98) في ش: «نتخذوا». (¬99) في الأصول: «علي قرمالي» تولى علي باشا القرمانلى السلطة في طرابلس من سنة 1754 إلى سنة 1793 م. (¬100) 17 جوان 1790 م. (¬101) سورة طه: 127.

وأنشد الأريب الأديب الشّيخ أبو إسحاق الحاج الأبر إبراهيم الخرّاط أبقى الله مهجته وأحسن عاقبته في هذه الواقعة ما كتب على ضريح الحاج الأبر أبي (¬102) الثّناء محمود بن عمر، أحد الشهداء يومئذ - رحمه الله تعالى - هذه الأبيات: [مجزوء الرّجز] هذا الضّريح المشتهر ... فيه الشّهيد ابن عمر محمود البرّ الذي ... طاف وحجّ واعتمر ومات في معترك الك‍ ... فّار من غير مفر وأربعون جاهدوا ... معه فماتوا عن أثر يا ربّنا انفعنا بهم ... بجاه سيّد البشر تاريخه في رابع ... من قرن ثالث عشر وفي عشرين من محرّم سنة خمس ومائتين وألف (¬103) قدم أربع مراكب من أكبر ما يكون للبلنسيان وأربع غلايط / وأرسوا على البلد (¬104)، فاستعدّ النّاس لقتالهم وعمّروا الأناشيل الأربعة بالرّجال وآلات الحرب، وقبل إرسائهم قدم مركب من إسكندرية من جنس الفرنسيس فذهبوا إليهم وسألوهم عن سبب قدومهم فقالوا: فقدنا مركبين منّا أخذهما (¬105) المسلمون فقلنا: أخذوهم أهل هذه البلد لأنّ لهم سفنا يأخذون بها محاربيهم (¬106)، ونحن لهم حرب فلعلّهم أخذوا المركبين فقالوا: لعلّ غيرهم أخذهما (¬107)، أمّا هذه الغنائم التي عندهم فمن صنف غيركم، فلمّا نزل الفرنسيسيون أخبروا المسلمين بخبرهم، فلم يطمئن النّاس لقولهم وباتوا مرابطين، فما أصبح الصّبح إلاّ وقد أقلعوا منصرفين {وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً} (¬108). ولمّا أعيت الكفرة الحيل ولم يقفوا على طائل من محاربة المسلمين بل وقعوا في ¬

(¬102) في ش: «أبو الثناء». (¬103) في سبتمبر 1790 م. (¬104) في الأصول: «البلاد». (¬105) في ش وب: «أخذهم»، في ت: «أخذتهم». (¬106) في ط: «يأخذون بما هو أيسر». (¬107) في الأصول: «أخذهم». (¬108) سورة الأحزاب: 25.

مهاوي التلف وخسارة الدّارين، وضيّعوا أموالهم، وقتلت رجالهم، وتشتّت آراؤهم، وتلفت أحوالهم، وغنم منهم المسلمون غنائم عظيمة، نكسوا على رؤوسهم وأعدّوا عدّة مراكب وقدموا لتونس طالبين الصّلح (¬109) فاشترط عليهم السّلطان - نصره الله - بذل جميع ثمن المركبين وأموالا غيرها (¬110)، فبذلوا جميع ما أحبّ (¬111) ودخلوا في ربقة العهد والذّمّة طوعا أو كرها كغيرهم من أصناف الكفر من إعطاء كلّ سنة ما اشترط عليهم، والله تعالى ينصر مولانا السّلطان وعساكر الإسلام ويحمي الجميع من طوارق الحدثان، وألزم الكفرة الذلّة والهوان بجاه نبيّنا محمّد - عليه / أفضل الصّلاة وأزكى السّلام - (¬112). ¬

(¬109) عن الحرب بين البندقية وتونس الواقعة في عهد حمودة باشا الحسيني أنظر: كتاب روسو (مرجع سبق ذكره) ص: 203، 213. ورشاد الإمام، سياسة حمودة باشا في تونس، 349 - 354، وبلانتي (Plantet) مراسلات 3/ 132 - 133 - 138 - 140 - 142 - 143 - 144 - 146 - 149 - 150 (Correspondance). (¬110) تعويضا قيمته مائة ألف محبوب، الإمام: سياسة حمّودة باشا، ص: 353 نقلا عن رسالة من ج. تريل، قنصل الانقليز إلى حكومته في 2 مارس 1787. (¬111) من شروط المعاهدة الّتي تمّت في 27 رمضان 1206/ 18 ماي 1792 م بين حمّودة باشا والبندقية شرط يوجب على البندقية دفع أربعين ألف محبوب كتعويض، وهدايا ثمينة تقدم لحمّودة باشا: روسو، حوليات. . ص: 212، وقدم نص المعاهدة ص: 562. وأخبر القنصل الفرنسي ديفواز (Devoize) حكومته بشيء يخالف هذا إذ ذكر أنّ المبلغ المتّفق عليه هو ثمانون ألف محبوب تدفعها البندقية بالإضافة إلى الهدايا. . . بلانتى (Plantet) مراسلات، 211/ 3 (Correspondances) ويذكر روسو إعتمادا على نيسن (H. Nyssen) أن البندقية دفعت 40000 محبوب إلى الإيالة التونسية. (¬112) في ط وب وت: «أفضل الصلاة والسلام».

الباب الرابع في ذكر بعض أهل الخير والصلاح من العلماء والأولياء المتقدمين بصفاقس ووطنها

الباب الرّابع في ذكر بعض أهل الخير والصّلاح من العلماء والأولياء المتقدّمين بصفاقس ووطنها مفهوم الولي والكرامة: إعلم أوّلا أنّ الله - جلّ ثناؤه - أرسل المرسلين رحمة للعالمين ولئلاّ يكون للنّاس على الله حجّة، فيرسل بعد كلّ فترة رسولا يوقظ الخلق من سنة الغفلة (¬1) ويسوقهم لما خلقهم لأجله من نيل كراماته (¬2) في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ثمّ ختم الرّسالة بخيرة خلقه محمّد صلّى الله عليه وسلم فجعل شرّ كلّ مائة (¬3) في آخرها فيضعف حملة الدّين إمّا بموت أو ظلم أو جور أو غير ذلك، وجعل على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لهذه الأمّة أمر دينها من العلماء والأولياء، فكانوا ورثة نبيهم (¬4) فلذا كانوا كأنبياء بني إسرائيل (¬5). قال أبو عبد الله المغربي (¬6): «تقع في كلّ مائة سنة فترة، وتموت العلماء والحكماء ثمّ يبعث الله في هذه الأمّة على عدد الأنبياء قوما يذكّرون الخلق (¬7) ويردّونهم إلى الحقّ، فهم أنباء الزّمان»، ذكره في معالم الإيمان (¬8) في ترجمة أبي عبد الله المغربي، فلهذا تعرّضنا لذكر شيء من العلماء والصّالحين ممّن حمل هذا الدّين في هذه البلاد (¬9)، ولكلّ بلاد حملة، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «يحمل هذا الدّين من كلّ خلف عدوّ له ينفون عنه تحريف الغالبين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» فأشار عليه الصّلاة والسّلام إلى حملة هذا الدّين بصفتهم، فمن وجدت فيه العلامة فهو منهم. ¬

(¬1) في ط: «العقبة». (¬2) في ط: «نيل كرامته». (¬3) في ش: «غير واضحة». (¬4) إقتباس من الحديث الشّريف: «العلماء ورثة الأنبياء». (¬5) إقتباس من حديث لم يصحّ: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل». (¬6) أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المغربي. (¬7) في معالم الإيمان: «يذكرونهم». (¬8) 2/ 286. (¬9) يقصد صفاقس.

ولمّا كان ذكر الأولياء (¬10) مستلزما / لذكر شيء من كراماتهم، دعت الضّرورة إلى ذكر مقدّمة مشتملة على بيان حقيقة الكرامة وجوازها وما قال النّاس في ذلك ليكون الواقف على ذكر شيء منها على بصيرة من أمره، فلا يسيء الأدب مع أولياء الله وإلاّ وقع في العطب من بعض الأولياء سيما من يعاصره، (وقد قيل) (¬11) إعتقد ولا تنتقد (¬12) فمن إعتقد سلم، ومن إنتقد ندم. فنقول في حدّها: هي أمر خارق للعادة يظهر على يد الولي مقرون بالطّاعة والعرفان بلا دعوى (¬13) نبوة، فخرج بقيد خرق العادة العاديات ولو قلّ وقوعها كالخسوفات، وبقيد الإقتران بالطّاعة والعرفان السّحر والكهانة لأنّهما كفر، والشعوذة لأنّها امّا من قبيل السّحر فهو كافر، أو غيره شبيه به فهو فسق (¬14) والإستدراج لعدم الطّاعة وبلا دعوى (13) نبوة المعجزة فإنها مقرونة بدعوى (13) النبوة وتكون الدّلالة على صدق الولي وفضله، أو لقوّة يقين صاحبها أو غيره، وحكمها الجواز والوقوع ¬

(¬10) التّصوّف إنتقل على مرّ الزّمن من علاقة روحية بين الإنسان وربّه واتخاذ موقف معيّن من الحياة إلى ظاهرة إجتماعية طرقية، وانفتح هذا الميدان الدّيني الرّوحي الذي كان خاصا بالعلماء إلى شتّى أنواع النّاس حتّى العامّة والأميين، وعرف هؤلاء بالفقراء، «وكثر الأولياء والأدعياء ونسبت إليهم الكثير من الكرامات والخوارق ومعرفة علوم الظاهر والباطن، واختلط الأمر بين الأحياء والأموات. . . وكثرت المزارات. . . وخصّصت لذكرها الكتب والرسائل، وقد أصبح بعضها حرما آمنا وملاذا للمجرمين والهاربين من السّلطة وضاقت الفروق في اللهجة أو زالت بين مفردات الولي والدّرويش والمرابط. . . وسيطر التّصوّف في العصر الحديث على الحياة العقلية سيطرة بالغة وكثرت ألوان الأدب الصّوفي في مؤلّفات الطّبقات والمناقب والسّلاسل والأوراد والأحزاب والوظائف والمرائي وشروحها كما تعدّدت ألقاب السّلّم الصّوفي من نحو القطب والأوتاد والأبرار والنّقباء والنّجباء والأبدال. . . ومن المتصوّفة من كان في حياته صادق التّصوّف ولكنّ النّاس بعد مماته جعلوا منه وليّا ونسبوا إليه ما لم يدّع. . . وكما مارس رجال الطّرق الصّوفية نفوذا واسعا على النّاس فقد أتيح لهم كذلك - أحياء وأمواتا - نفوذ وسلطان على الحكّام وكانوا الوسطاء بينهم وبين الشعب، وقد تحالف العثمانيون مع بعض الطّرق الصّوفية في سبيل هذه الغاية». فتمتّعوا بامتيازات مختلفة وقد تأثّر محمود مقديش بهذه المفاهيم كما سنلاحظه ممّا سيأتي من كلامه عن الصّوفيين والأولياء وكراماتهم في تحمّس عقائدي نستغربه من تلميذ تلاميذ الشّيخ علي النوري الصّفاقسي، الذي كان صوفيا، ولكنّه من الصّوفيين السّنيّين الصّادقين أفزعه ما آلت إليه النّزعة الصّوفية من إنحطاط فقاومها بإحياء طقوس السّنّة، وحذّر من إستعمال حلقات الذّكر والسّماع بآلات الطّرب والمنبّهات، ومنع بناء قبة على قبره حتّى لا تجعل العامّة منه وليّا. (¬11) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬12) هذا مما تسرّب من المسيحية وإلاّ فالقاعدة الإسلامية الصّحيحة: «إنتقد قبل أن تعتقد» لأنّ الإعتقاد لا يكون إلاّ بعد النّظر والدّليل وإقتناع العقل. (¬13) في ش: «دعوا». (¬14) في ش: «فسوق».

عند أهل السنة ولو بقصد الولي على الأصحّ، وإن كان الغالب خلافه، ومن جنس المعجزات من الخوارق على الصّواب لشمول القدرة الإلاهية، لأنّ وجود الممكنات مستند إلى قدرته تعالى الشّاملة لكلّها فلا يمتنع شيء منها على قدرته تعالى ولا يجب. ولا ريب أنّ الكرامة أثر ممكن إذ لا يلزم على فرض وقوعه محال لذاته، فهي جائزة وواقعة حسبما نطق به القرآن والحديث النبوي. أمّا القرآن فكقصّة أصحاب الكهف حيث / أقاموا فيه ثلاثمائة سنة وأزيد نياما أحياء بلا آفة ولا غذاء وليسوا بأنبياء بإجماع الفرق، وكقصّة مريم - عليها السّلام - حملت بلا ذكر، ووجد عندها زكرياء رزقا بلا سبب، وتساقط عليها الرّطب من نخلة يابسة بلا موجب، وكقصّة آصف (¬15) حيث أحضر عرش بلقيس من مسافة بعيدة (¬16) في طرفة عين، وليست كرامة مريم معجزة لزكرياء، ولا إرهاصا (¬17) لعيسى - عليهما السّلام - لأنّ المعجزة لا بدّ أن تكون مقصودة مقرونة بدعوى النبوّة تحقيقا ليدل على صدق مدّعي الرّسالة، ولا كذلك قصّة مريم إذ زكرياء لا علم له بها ولا بسببها فلذا سأل وإلاّ لما سأل بقوله: {أَنّى لَكِ هذا} (¬18)، ولو كانت إرهاصا لما علمت (¬19) مريم من أين حصل ذلك لها، ولا أجابت بقولها: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ} (¬20)، وأيضا فإن الخوارق إنّما سيقت في الآيات لتعظيم حال مريم، ولا ذكر فيها لزكرياء ولا لعيسى بالقصد، وليست قصّة آصف معجزة لسليمان إذ لم تقع على يده بل على يد آصف، نعم قيل إن المراد بالذي عنده علم من الكتاب هو سليمان - عليه السّلام - فلا دليل حينئذ في الآية. وأمّا المنّة (¬21) فلحديث جريج الرّاهب الذي كلّمه الصّبي في المهد، حيث قال له: يا غلام من أبوك؟ فقال: الرّاعي الذي زنى بأمّه ممّا هو مذكور في الصّحيحين (¬22) ¬

(¬15) هو إبن برخيا. (¬16) من اليمن إلى القدس بطلب من سيّدنا سليمان النّبي الملك - ص: -. (¬17) هو الأمر الخارق للعادة الذي يظهر قبل النبيء. (¬18) سورة آل عمران: 37. (¬19) ساقطة من ش. (¬20) سورة آل عمران: 37. (¬21) في بقية الأصول: «السنة». (¬22) عن أبي هريرة في ذكر الأطفال الذين تكلّموا في المهد، وهو حديث طويل، وصاحب جريح ترتيبه الثّاني في الحديث.

وكحديث الثّلاثة (¬23) الذين دخلوا لغار في جبل فوقعت (¬24) على فم الغار صخرة فانطبق عليهم، وذكر كل واحد منهم ما أنعم الله عليه به من طاعته، وتوسّل إلى الله بذلك، فانفرجت عنهم / وأنكرها المعتزلة والحليمي (¬25) بصيغة الكبر من الكرامية أتباع محمّد بن كرام (¬26) وهم محجوجون بما سبق من أدلّة العقل والنّقل ولا تظهر على يد الفسقة الفجرة باتّفاق القائلين بثبوتها فلا تقع إلاّ على يد الأتقياء البررة التّابعين للرّسل، وبذلك فارقت السّحر الواقع على (يد الكفرة كاليهود، والكهانة الواقعة على يد المتنبّي كمسيلمة، والإبتلاء الواقع على [يد] مدّعي الألوهية كالدّجّال (¬27) لكفرهم) (¬28) وكذا الشّعبذة إذ المتّقي يتنزّه عن فعلها، وكذا المعجزة إذ الرّسول مستقلّ بأمره، وإن أمر بشرع من قبله فهو متّبع لما أمر به لا للرسول الذي كلف بشرعه بخلاف الولي فإنه منقاد للرّسول. وقول القاضي أبي بكر الباقلاني (¬29): يجوز ظهور الخارق على يد الفاسق إستدراجا وعلى يد الرهبان وأهل الصّوامع مع أنّهم مقيمون على الكفر، فقال إمام الحرمين (¬30): هذه ليست كرامة، فإن الخارق أعمّ، نعم تظهر الكرامة على يد غير التّقي فتخرجه من الضّلال إلى الهدى والتّقوى، وتسمّى إعانة كما تسمى كرامة، كأهل الكهف حيث أنقذهم الله من ملّة آبائهم إلى الهدى والإيمان. ¬

(¬23) حديث أصحاب الغار مخرج في الصّحيحين عن عبد الله بن عمر وهو حديث طويل. (¬24) في الأصول: «فوقع». (¬25) الحليمي أشعري ليس من الكرامية، وهو الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الجرجاني، أبو عبد الله، فقيه شافعي قاض كان رئيس أهل الحديث فيما وراء النهر، مولده في جرجان (338/ 950) ووفاته في بخارى (403/ 1012) له منهاج في شعب الإيمان (خط) رأيت منه مجلدا ضخما في المكتبة النورية التي نقلت إلى المكتبة الوطنية بتونس، قال الأستوي: جمع فيه أحكاما كثيرة ومعاني غريبة أظفر بكثير منها في عسر، أنظر: الإعلام 2/ 234. (¬26) إبن كرام - بكسر الكاف - أو كرام بتشديد الراء، وهو محمد بن كرام بن عراق بن حزابة، أبو عبد الله السخري إمام الكرامية من فرق الإبتداع في الإسلام، كان يقول بأنّ الله تعالى مستقرّ على العرش، وأنّه جوهر، فهو من المجمعة، ولد في سجستان وجاور بمكة خمس سنين، وورد نيسابور، فحبسه طاهر بن عبد الله ثمّ انصرف إلى الشّام وعاد إلى نيسابور فحبسه محمد بن طاهر، وخرج منها سنة 251/ 865 إلى القدس فمات بها سنة 255/ 869 الاعلام 7/ 14 (ط.5). (¬27) هو المسيح الذي ينتظره اليهود وهو عندهم من نسل داود - ص: - يعيد لهم ملكهم بفلسطين. (¬28) ما بين القوسين في مكانه في ط وت وب: «مدعى الألوهية كالدجال لكفره». (¬29) هو سيف أهل السّنّة. (¬30) هو عبد الملك بن يوسف الجويني الشّافعي من أئمة أهل السّنّة ومن نظّارهم من شيوخ الإمام الغزالي.

ولا تشتبه المعجزة بالكرامة في أعصارنا هذه إذ لا نبي بعد نبيّنا - عليه الصّلاة والسّلام - ومن أظهر خارقا مدّعيا للرّسالة قطعنا بكفره وسمّينا ما وقع على يده كهانة كمسيلمة الكذّاب وإن لم يدّع رسالة فهو إمّا سحر أو كهانة أو إستدراج على ما مرّ. وقد ظهرت الكرامة على يد الخيرة / من هذه الأمّة: فمنها ما ظهر على يد الصّدّيق - رضي الله تعالى عنه - من إخباره في مرض موته بمولود يولد له انثى، وتكثير الطعام القليل فأكل هو وأضيافه من قصعة صغيرة حتى شبعوا وصار ما فيها أكثر ممّا قبله. ومنها ما ظهر على يد عمر - رضي الله تعالى عنه - من مخاطبته - وهو على منبر الرّسول - لسارية أمير جيشه وهو بنهاوند بقوله: يا سارية، الجبل، تحذيرا له ولمن معه من كمين المشركين في الجبل، فسمع سارية وجيشه صوته فحذروا (¬31) ونجوا، وجرى النّيل بكتابه لمّا كانت عادة أهل مصر أن يلقوا فيه أوان الزيادة بكرا، ونهاهم عن ذلك فوقف ولم يزد حتى أشفوا على الجلاء، فكتب للنّيل كتابا فيه: إن كنت تجري من قبلك فلا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بأمر الله فنسأله تعالى ذلك، وألقى فيه الكتاب فزاد فورا، وكذا ضربه الأرض بدرته، بكسر الدال، عصاة، لما ارتجّت (¬32) وقال: قرّي (¬33)، ألم أعدل عليك؟ فقرّت وسكنت؛ وكذا حبسه للنار التي كانت تخرج من الجبل فتحرق ما أصابت فخرجت في زمنه فأمر أبا موسى (¬34) أو تميما (¬35) فجعل يسوقها بردائه حتى دخلت الكهف فلم تعد بعد ذلك، وكذا ردّه لطائفة من الجيش مرة بعد أخرى لما عرضوا عليه، فتبين بعد موته أن منهم قاتل عثمان - رضي الله تعالى عنه -. ومنها قول عثمان - رضي الله تعالى عنه - لرجل لقي إمرأة في الطّريق فقابلها بشهوة: أيدخل عليّ أحدكم وفي عينيه أثر الزّنا؟. ومنها قول إبن عمر لأسد / قطع الطّريق على قافلة هو فيها: تنحّ، فبصبص بذنبه وذهب. ¬

(¬31) في الأصول: «فاحتذروا». (¬32) في ط: «ارتحل». (¬33) في الأصول: «أقرى». (¬34) هو الأشعري صحابي جليل. (¬35) هو الداري، صحابي، كان نصرانيا.

ومنها مشي العلا الحضرمي على الماء هو وجيشه لما كان في غزوة وحال بينه وبين مقصده البحر، وكذا دعاؤه أن لا يرى أحد جسده إذا مات فلم يجدوه في اللّحد. ومنها مشي جعفر إبن أبي طالب في الهواء (¬36). ومنها تسبيح القصعة بما فيها بين يدي سلمان وأبي الدرداء. ومنها سماع عمران بن حصين تسبيح الملائكة إلى أن إكتوى. ومنها شرب خالد بن الوليد السّمّ فلم يضرّه. ومنها إضاءة السّوط كالمصباح بين يدي أسيد بن حضير وعبّاد بن بشر لمّا خرجوا من عند المصطفى صلّى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة. ومنها إيتان العنب لحبيب بن عدي وهو أسير عند مشركي مكّة فيأكل منه وليس بمكّة إذ ذاك عنبة واحدة. ومنها عروض الأسد لسفينة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: أنا مولى رسول الله فمشى حتّى أوصله قصده. ومنها إبرار قسم البراء بن عازب حالا إذ أقسم على الله. ومنها عمي أروى بدعاء سعيد بن يزيد عليه بذلك لمّا كذب عليه. ومنها طلب الأسود العبسي أبا مسلم الخولاني لمّا ادعى النبؤة فقال: أتشهد (37) أنّي رسول الله؟ فقال: لا، فقال: أتشهد (¬37) أنّ محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائما يصلّي وقد صارت عليه بردا وسلاما، فكان عمر بن الخطاب يقول: الحمد لله الذي لم يمتني حتّى رأيت من أمّة محمد صلّى الله عليه وسلم / من فعل به كما فعل بإبراهيم الخليل - عليه السّلام -. ومنها أخذ عامر بن عبد قيس عطاءه في كمه فلا يجد سائلا إلاّ أعطاه بلا عدد، فلمّا رجع إلى بيته وجد الدّراهم كلّها كاملة العدد، إلى غير ذلك ممّا لا حصر له ولا حدّ. واستمرّت الكرامة وهي وإن ظهرت على يد غير الصّحابة ولم تظهر على يد بعض الصّحابة لا تقتضي أفضلية غيرهم عليهم إذ المزية لا تقتضي أفضلية. قال الإمام أحمد ابن حنبل - رضي الله تعالى عنه - إنما كانت الكرامات بعد زمن الصّحابة لأنّ قوة إيمان ¬

(¬36) في ش: «الهوى». (¬37) في ط وت: «اشهد».

الصّحابة لا يحتاج معها إلى الكرامة، ولأنّ الزمن الأول كان كثير النور فلو (¬38) حصلت لم تظهر كلّ الظهور لاضمحلالها في نور النبوّة بخلاف من بعدهم، ألا يرى أنّ القنديل لا يظهر نوره في القناديل بخلافه في الظلام، والنّجوم لا يظهر لها نور مع نور الشّمس. قال الشّيخ عبد الرؤوف المناوي في طبقاته: قال السّبكي: إنّي لأعجب كلّ العجب من منكر الكرامة، وأخشى عليه المقت، ويزداد تعجّبي من نسبة إنكارها إلى الأستاذ الأسفرائيني (¬39) وهو من أساطين السّنّة والجماعة على أنّ نسبة إنكارها إليه على الإطلاق كذب، والذي ذكره الرّجل في كتبه أنّها لا تبلغ مبلغ خرق العادة، وقال: كلّما كان معجزة لنبيء لا يجوز مثله كرامة لولي، وإنما غاية الكرامة إجابة دعوة أو شربة ماء في مفازة أو كسرة في منقطعة وما يضاهي ذلك، وجرى على نحوه القشيري فقال: إن الكرامة لا تنتهي إلى وجود إبن بغير أب، وقلب جماد بهيمة، لكنّ الجمهور على الإطلاق / وقد أنكروا التفصيل على قائله حتّى ولده أبو نصر في الرّشد، وإمام الحرمين في الإرشاد، وقال: إنه مذهب متروك، وبالغ النووي فقال: إنه غلط وإنكار للحسّ، وإن الصّواب (¬40) وقوعها بقلب الأعيان ونحوه. وقد عدّ بعض الأئمة الأنواع الواقعة من الكرامات عشرين، وهي أكثر بكثير. النّوع الأوّل: إحياء الموتى وهو أعلاها، فمن ذلك أنّ أبي عبيد البسري غزا (¬41) ومعه دابّة فماتت، فسأل الله تعالى أن يحييها حتى يرجع إلى بلده، فقامت تنفض أذنيها، فلمّا بلغ بلده سقطت ميّتة. ومنها أنّ مفرجا الدماميني الصّعيدي أحضر له فراخ مشويّة، فقال لها: طيري بإذن الله تعالى فطارت. وكان للشّيخ الأهدل هرّة فضربها خادمه فماتت فرماها فسأله الشّيخ عنها بعد ثلاثة أيّام، فقال: لا أدري، فناداها فجاءت تجري. ووضع الكيلاني يده على عظام دجاجة أكلها وقال: قومي بإذن الله الذي يحيي العظام، فقامت. ¬

(¬38) كذا في ش، وفي بقية الأصول: «فلما». (¬39) في ط وت: «الاسفراني». (¬40) في ت وط: «والصواب». (¬41) في ش: «غزى».

ومات لتلميذ أبي يوسف الدّهماني ولد فجزع عليه، فقال الشّيخ: قم بإذن الله فقام وعاش طويلا، وسقط من سطح القاري (¬42) طفل فمات فدعا الله فأحياه. النّوع الثّاني: كلام الموتى وهو أكثر مما قبله بكثير، ووقع ذلك للجيلاني ولجماعة أخرى منهم بعض مشايخ السّبكي، وقال: كان جدّنا يخاطب الإمام الشّافعي فيكلّمه من قبره. النّوع الثّالث: إنفلاق البحر وجفافه والمشي عليه، وذلك كثير، وممّن وقع له ذلك إبن دقيق العيد. الرّابع إنقلاب الأعيان: ومنه ما نقل عن المختار / اليمني أنّه أرسل إليه بعض المستهزئين بإنائين من خمر فصبّ من أحدهما عسلا ومن الآخر سمنا وأطعم الحاضرين. الخامس: إنطواء (¬43) الأرض لهم، حكوا أنّ بعضهم كان بجامع طرسوس فاشتاق إلى زيارة الحرم فأدخل رأسه في جيبه ثمّ أدخلها في الحرم. والقدر المشترك في هذا بالغ مبلغ التواثر، ولا ينكره إلاّ مباهت (¬44). السّادس: كلام الحيوان والجماد، ولا شك في كثرته، ومنه أنّ إبن أدهم قعد تحت شجرة رمّان، فقالت: يا أبا إسحاق أكرمني بأكلك منّي فأكل منها، وكان رمّانها حامضا فحلى، وحملت في العام مرتين، وسمّيت رمّانة العابدين. وأراد الشبلي أن يأكل من شجرة فلمّا مدّ يده قالت: لا تأكل منّي فأنا اليهودي. وجاء العمدلي (¬45) رجلان يختصمان في بقرة، وكان قاضيا بالصّعيد، فأقام كلّ منهما بيّنة أنّها له، فقالت له: أنا لفلان. قال ومن ذلك أنّ جدنا (¬46) الشرف المناوي زار الشرف الأنصاري وجلس معه بمنطرة (¬47) بيته ببولاق فشكى إليه كثرة زرق (¬48) الطّيور على الكتب والفرش، فرفع رأسه إليها وقال: يا أيّها الطّيور لا تحوموا حول هذا الحمى إلاّ بخير، فلم تعد بعد ذلك. ¬

(¬42) في ش: «الغارفي»، وفي ط: «الغار بطبل». (¬43) في ش: «انزواء». (¬44) في ت: «مناهب» في ش: «مباهب» وفي ط: «متاعب». (¬45) في ط وت: «الغمرلي». (¬46) في ط: «خبرنا». (¬47) في ط: «بنظره». (¬48) في ط: «زق» وهي المعنى العامّي لزرق. وزرق الطّائر رمى بما في جوفه.

السّابع: إبراء العليل كما روي أنّ الجيلاني قال لصبّي مقعد مفلوج أعمى: قم بإذن الله تعالى، فقام لا عاهة به. الثّامن: طاعة الحيوان لهم، كما حكي أنّ اليمني وغيره كان يركب الأسد، بل وطاعة الجماد كما في قول إبن عبد السّلام في واقعة الافرنج: يا ريح خذيهم، فأخذتهم. التّاسع والعاشر والحادي عشر: طي الزّمان ونشره وإجابة الدّعاء وذلك كثير. الثاني عشر: / إخبارهم (¬49) ببعض المغيّبات والكشف وهو درجات تخرج عن حدّ الحصر، وذلك موجود الآن بكثرة (¬50) ولا يعارضه قوله تعالى {عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ} (¬51) لأنّا لا نسلّم عموم الغيب فيجوز أن يخص بحال القيامة بقرينة السّياق. الثّالث عشر: الصّبر على عدم الطّعام والشّراب الأمد الطّويل وهو كثير مشاهد. الرّابع عشر: مقام التّصريف وهو كثير في كلّ زمن ولا ينكره إلاّ المعاند. الخامس عشر: القدرة على تناول الكثير من الطّعام كما نقل عن الشّيخ دمرداش أنّ بعض الامراء عمل له وليمة ودعاه وجماعته، فتوجّه إليه وحده فتشوّش لعدم حضور الفقراء وقال: من يأكل الطّعام؟ فمدّ السّماط فأكله الشّيخ كلّه. السادس عشر: الحفظ عن الحرام أن يدخل الجوف كما حكي عن الحارث المحاسبي أنّه كان إذا أحضر له طعام فيه شبهة تحرّك فيه عرق، وكان المرسي (¬52) يتحرّك منه كلّ عرق. السّابع عشر: رؤية الأماكن البعيدة من وراء الحجاب، فمن ذلك أنّ الشّيخ أبا إسحاق الشيرازي (¬53) كان يشاهد الكعبة وهو ببغداد. الثّامن عشر: الهيبة التي لبعضهم بحيث مات من شاهده عند رؤيته كما وقع لأبي يزيد البسطامي مع بعض الفقراء، ووقع للشّيخ أحمد البدوي وغيره. التّاسع عشر: قصم الله من يريدهم بشر، كما وقع لبعضهم أنّه زاحم رجلا ¬

(¬49) كذا في ط، وفي بقية الأصول: «اخباره». (¬50) ساقطة من ط وت. (¬51) سورة الجن: 26 - 27. (¬52) هو أبو العبّاس المرسي دفين الإسكندرية من أصحاب أبي الحسن الشاذلي. (¬53) هو إبراهيم.

فضربه على وجهه فطارت يده مع الضربة فأبصره رجل فشدّد النّكير عليه وقال له: كف كف إنّ هذا لشيء عظيم، فقال: والله ما أردته / وإنما ربّ الجثّة غار عليها. العشرون: التّطور بأطوار مختلفة وأشكال متباينة ومنه ما وقع لقضيب البان الموصلي أنّ فقيها أنكر عليه لكونه لم يصلّ، فتطوّر له في الفور في صور مختلفة، فقال: في أي صورة من هذه الصّور لم ترني أصلّي. والصّوفية يثبتون عالما متوسّطا بين عالم الأجسام والأرواح يسمّونه عالم المثال (¬54) واستأنسوا بقوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا} (¬55). ووقع أن بعض العلماء رأى فقيرا يتوضّأ في المدرسة الصّوفية وضوءا مشوّشا غير مرتّب فقال: حرام عليك، فقال: لم أتوضّأ إلاّ مرتّبا وإنما أنت أعمى لو أبصرت لأبصرت هكذا، وأخذ بيده فأراه الكعبة والطّائفين وهو بمصر. قال في روض الرّياحين (¬56): وقد سمعت سماعا محقّقا أنّ جماعة شوهدت الكعبة تطوف بهم طوافا محقّقا قال: ورأيت من شاهد ذلك من الثّقات (¬57) بل من السّادة العلماء وقال: قال بعض الكاملين: إظهار الكرامة وإخفاؤها على حسب النّظر لأصلها وفرعها، فمن عبّر عن بساط إحسانه أصمتته الإساءة مع ربّه، ومن عبّر عن بساط إحسان الله إليه لم يصمت إذا أساء، وقد صحّ إظهار الكرامة من قوم، وثبت العمل في إخفائها عن آخرين كالمرسي في الإظهار وابن أبي جمرة في الإخفاء، حتّى قال بعض أتباع إبن أبي جمرة: إن طريقهما مختلف فبلغه، فقال: والله ما اختلفت طريقتنا قطّ لكنه بسطه بالعلم وقبضني بالتّورّع، وقال بعضهم: من النّاس من يغلب / عليه الفناء بالله فيظهر الكرامات وينطلق لسانه بالدعاوي من غير احتشام ولا توقّف، فيدّعي بحقّ عن حقّ لحق في حقّ، كالكيلاني وأبي يعزى وعامة متأخري الشّاذلية، ومنهم من يغلب عليه الفقر إلى الله تعالى فيكلّ لسانه ويقف مع جانب الورع، ومنهم من تختلف أحواله فتارة وتارة، وهو أكمل الكمال لأنّه حال المصطفى صلّى الله عليه وسلم لأنّه أطعم النّاس على صاع وشدّ الحجر على بطنه، ثمّ قال: قال في روض الرّياحين: النّاس في الكرامة أقسام: ¬

(¬54) لعلّهم أخذوه عن أتباع أفلاطون لأنّ أفلاطون هو المثبت لعالم المثال. (¬55) سورة مريم: 17. (¬56) هو لليافعي وهو مطبوع. (¬57) في ش: «الثقاة».

منهم من ينكرها مطلقا وهم أهل مذهب معروفون، وعن الهدى والتّقى (¬58) مصروفون، ومنهم من يصدّق بكرامة من مضى دون أهل زمنه، وهم كبني إسرائيل صدقوا بموسى حين لم يروه، وكذّبوا محمدا حين رأوه مع كونه أعظم، ومنهم من يصدّق بالأولياء في زمنه لكنّه لم يصدّق بأحد معيّن وهذا محروم من الإمداد لأنّ من لم يسلم لأحد مؤمن (¬59) لا ينتفع بأحد أبدا. ثمّ إن ظهور الكرامة لا يدلّ على أفضلية صاحبها بل على فضله، وقد يكون غيره أفضل منه، فالأفضلية إنّما هي بقوة الإيقان وكمال العرفان، ولهذا قال سيّد الطائفة الجنيد: مشى (¬60) رجال على الماء ومات بالعطش أفضل منهم. ولمّا كانت رتبة النبيء أعلى وأرفع من الولي، كان الولي ممنوعا مما يأتي به النبيء على وجه الإعجاز والتحدي أدبا معه، وقال السّبكي: معاذ الله أن يتحدّى نبيء بكرامة ظهرت على يد ولي، بل لا بدّ أن يأتي النبيء / بما لا يوقعه على يد الولي، وإن جاز وقوعه، فليس كل جائز في قضايا العقول واقعا اهـ‍. قال الشّيخ إبن عربي: الشّيخ أبو السّعود إبن شبل أعلى مقاما من شيخه عبد القادر الجيلاني لإعراضه عن التّصرف الذي يفعله الشّيخ عبد القادر، وقال عزّ الدّين عبد العزيز بن عبد السّلام: من أدل دليل على القوم (¬61) قعدوا على أساس الشّريعة، وقعد غيرهم على الرّسوم ما يقع على أيديهم من الخوارق، ولا يقع شيء منها من فقيه إلاّ أن سلك طريقهم. وقال الشّاذلي (¬62): لا يعطى الكرامة من طلبها ولا من حدث بها نفسه، وقال: إبتلى الله هذه الطّائفة بالخلق سيّما أهل الجدال، فلما ينشرح صدر واحد منهم للتصديق بولي معين من معاصريه يقول: نعم إنّ لله أولياء لكن أين هم؟ وقال: لكلّ ولي ستر أو ستور، فمنهم من ستره بالأسباب، ومنهم من ستره بظهور العزّة والسطوة والقهر على حسب ما يتجلى الحقّ سبحانه وتعالى لقلبه، فيقول النّاس: ما هذا بولي وهو في هذه النّفس، وذلك أنّ الحق إذا تجلى في قلب عبد بصفة القهر أو بصفة الإنتقام كان ¬

(¬58) في ش: «التقا». (¬59) ساقطة من ط. (¬60) في ش: «مشا». (¬61) في ط: «على أن القوم». (¬62) أبو الحسن.

منتقما، أو بصفة الرّحمة والشّفقة كان رحيما شفيقا وهكذا!. وقال المرسي: ربّما دخل في طريق الرّجل بعد وفاته أكثر ممّا دخل في حياته، فما دام بين أظهر النّاس لا يلقون إليه بالا، وقال أيضا: طريقتنا هذه لا تنسب للمشارقة ولا للمغاربة بل واحد عن واحد إلى الحسن بن علي، وهو أوّل الأقطاب / وقال: إنّما يلزم الرّجل تعيين مشايخه إذا كان طريقه ليس الخرقة لأنّها رواية، والرّواية يتعيّن رجال سندها، وطريقتنا هداية، وقد يجذب الله العبد فلا يجعل عليه منّة للأستاذ، وقد يجمع شمله برسوله فيكون آخذا عنه وكفى بذلك منّة، وقال: والله ما كان إثنان من أهل هذا العلم في زمن واحد قط إلاّ واحد بعد واحد إلى الحسن بن علي، وقال: شاركنا الفقهاء فيما هم فيه ولم يشاركونا فيما نحن فيه، وقال: إذا ضاق الولي (¬63) هلك من يؤذيه حالا وإن اتّسع الحمل أذى الثقلّين، وقال: لحم الولي سمّ فإيّاك وإيّاه، وكان بخط المقسم من القاهرة، وكلّ ليلة يأتي إسكندرية فيسمع ميعاد الشاذلي ثمّ يرجع للقاهرة من ليلته. وذكر الشّيخ المناوي في ترجمة قضيب البان: إنّ أبا النجا المغربي خرج من بلده يريد المشرق ومعه أربعون وليّا، فكان يستوعب ما في كل بلد من الرّجال حتى وصل الموصل، فسأله قضيب البان عن كلّ رجل لقيه، فذكر رجالا وقضيب البان يقول: وزنه ربع رجل، ونصف رجل، وهذا وازن، وهذا كامل، وهذا وان ملأ صيته ما بين الخافقين لا يساوي عند الله جناح بعوضة، قال: وسئل عن قضيب البان الشّيخ الجيلاني فقال: هو ولي مقرّب ذو حال مع الله، وقدم صدق عنده، فقالوا: ما نراه يصلي، فقال: إنه يصلّي من حيث لا ترونه، وإني أراه إذا صلّى بالموصل وبغيرها من آفاق الأرض يسجد عند باب الكعبة، ثم قال: قال الشّيخ خليل المالكي / صاحب المختصر المشهور: الولي إذا تحقّق في ولايته تمكّن من التّطور في روحانيته (ويعطى من القدرة التّطور في صور عديدة وليس ذلك بمحال لأنّ المتعدّد هو الصّور الروحانية) (¬64) قال: وقد اشتهر ذلك عند العارفين، كما حكى عن قضيب البان لما أنكر عليه بعض الفقهاء عدم الصلاة في جماعة، ثمّ إجتمع ذلك الفقيه به فصلّى بحضرته ثمان ركعات في أربع صور، ثم قال له: أي صورة لم تصلّ معكم؟ فقبّل يد الشّيخ وتاب، ثم قال: ولا ¬

(¬63) ساقطة من ط. (¬64) ما بين القوسين ساقط من ط وت وب.

ترجمة أبو خارجة عنبسة

مانع من أن يخصّ الله من يشاء من أوليائه بالتّصرف في بدنين أو أكثر، فيكون جسمه الأوّل بحاله ثمّ يتغيّر ويقيم له شبحا آخر وروحه تتصرّف فيهما معا في وقت واحد. واعلم أنّ الأولياء على طبقات ومقامات مختلفة، نقل في سيرة الخميس عن أبي بكر الكناني - قدّس الله سره - أنّ النقباء ثلاثمائة، والنّجباء سبعون، والأبدال أربعون، والأخيار سبعة، والعمداء أربعة، والغوث واحد، ثم مسكن النقباء المغرب، ومسكن النّجباء مصر، ومسكن الأبدال الشّام، والأخيار سيّاحون في الأرض، والعمد في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكّة، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة إبتهل فيها النّقباء، ثمّ النّجباء، ثمّ الأبدال، ثمّ الأخيار، ثمّ العمد، فإن أجيبوا وإلاّ ابتهل فيها الغوث، فلا تتمّ مسألة حتّى تجاب دعوته اهـ‍. وزاد بعضهم بعد الأبدال الرجال وهم عشرة، وسمى الأخيار وهم السبعة الأقطاب، ورتبهم هكذا: نجباء فنقباء فأبدال / فرجال فأقطاب فأوتاد فغوث، وفي هذا القدر كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد. ولنرجع إلى ذكر ما قصدنا إيراده من ذكر بعض العلماء والصّالحين من صفاقس ووطنها بقدر الإمكان، وهم - رضي الله تعالى عنهم - متفاوتون بحسب الزّمان، فمنهم السّابق واللاّحق، فلنورد ما تيسّر بحسب ترتيبهم في الزّمان. ترجمة أبو خارجة عنبسة: فنقول: أوّلهم من اجتمع بإمامنا مالك - رضي الله تعالى عنه - وأخذ عنه من أهل الوطن، وهو أبو خارجة عنبسة بن خارجة الغافقي (¬65)، سمع من مالك والثّوري والليث وابن عيينة وإبن وهب والمغيرة المخزومي وغيرهم، وله سماع من مالك فدوّنه كسماع إبن القاسم وأشهب، وكان سحنون يجلّه ويعرف حقّه، وإذا سئل بحضرته أحال عليه، وكان أسنّ من سحنون، وكان ساكنا بحصن من جهة صفاقس غربا منها، ويسمّى ذلك الحصن يونقا - بالياء التّحتّيّة المضمومة بعدها واو ساكنة ثم نون ساكنة فقاف مفتوحة بعدها ¬

(¬65) له ترجمة في ترتيب المدارك 2/ 486 - 489، الدّيباج 2/ 45 - 46، رياض النّفوس للمالكي (ط.2) 241 - 249، طبقات أبي العرب 172، وللشّيخ محمود السّيالة تأليف في مناقبه إعتمد فيه على هذا التّاريخ لشيخه، وزاد زيادات ليست ذات بال.

ألف - وكانت تسمّى قصر تليدة، بينها وبين صفاقس ثمانية وعشرون ميلا، وخرّب ذلك الحصن (¬66) اليوم لأنّه استولى عليه البحر، وضريح الشّيخ إلى الآن مشهور مزار، وله كرامات في حياته وبعد مماته، فيحكى عنه عجائب من الأخبار والوصف لما (¬67) لم يكن، فيكون كذلك مثل ما يحكى بالأندلس عن بقي بن مخلد. ويحكى أنّه وقعت في زمنه شدّة فطلبوا منه الإستسقاء فأمر النّاس بالصّوم والصّلاة وإصلاح (¬68) ذات البين وخرج / بهم إلى الصحراء ومعه سائر الحيوانات ففرّق بينها وبين أولادها، ووقع البكاء والضّجيج، فأقام على ذلك إلى منتصف النّهار، ثم صلّى وخطب بالنّاس فسقوا، وهذا نظير ما وقع لموسى بن نصير - حسبما مرّ -. وممّا وقع في هذه الأعصار أنّ بعض النّاس كانوا مسافرين في البحر فنزلوا لزيارته، فقال بعضهم: وددنا لو وجدنا من يبيع لنا شاة نتعشّى منها، فنظروا فلم يجدوا أحدا من العرب (¬69) ولا من غيرهم، فدخلوا ضريح الشّيخ وخرجوا فإذا بصوت شاة فتبعوا صوتها، فإذا بشاة مكتوفة على عادة العرب ينذرون ويضعون (¬70) نذورهم حذو الشّيخ إذا لم يجدوا زائرا، فأخذوها وأكلوها وعدّوها من كرامات الشّيخ - رحمه الله تعالى ونفعنا به -. وكانت وفاته - رحمه الله - بشهر ربيع سنة عشرين (¬71) ومائتين. وممّن إجتمع بامامنا مالك - رضي الله تعالى عنه - وأخذ عنه إسرائيل بن روح. قال التّجاني (¬72): وارتحلنا عن الجم ففارقنا بمفارقته أرض حكيم وطرود، ودخلنا في أرض أخوتهم حصن، وكان مسيرنا منذ فارقنا الجم في الزّيتون القديم المتّصل بالمعروف بزيتون السّاحل، قال الرشاطي (¬73) في كتابه المسمّى «باقتباس الأنوار»: إنما سمّي هذا الموضع بالسّاحل وليس بساحل بحر لكثرة ما فيه من سواد الزّيتون والشّجر والكرم، قال: ¬

(¬66) من الحصون البيزنطية السّاحلية، وما تزال بقاياه قائمة بجانب مقام هذا الشّيخ المعروف عاميا بسيدي أحمد عبسة. (¬67) في ط: «ما». (¬68) في ط وت: «صلاح»، وفي ب: «صلاح ذلك». (¬69) يقصد أهل البادية. (¬70) في ش: «يصنعون»، وفي ت: «يعطون». (¬71) ربيع الآخر سنة 210/ 825 - 826 وسنه 86 سنة، فيكون ميلاده سنة 124/ 741 - 742. (¬72) الرّحلة ص: 65. (¬73) الرّحلة ص: 66.

ترجمة القاضي عيسى بن مسكين

وكلّه قرى متّصلة البعض بالبعض، وذكر من المنسوبين إليه من العلماء إسرائيل بن روح السّاحلي وأخبر أنّه لقي مالك / بن أنس وحدّث عنه، قال أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب (¬74): أخبرنا أبو الفرج أحمد الواعظ قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن زياد قال: حدّثني إسماعيل بن حصن قال: حدّثنا إسرائيل بن روح السّاحلي قال: سألت مالك إبن أنس فقلت له: يا أبا عبد الله ما تقول في إتيان النّساء في أدبارهن؟ فقال: أما أنتم قوم عرب؟ هل يكون الحرث إلاّ في موضع الزّرع؟ أما تسمعون الله يقول: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ} (¬75) قائمة وقاعدة وعلى جنبها ولا تعدوا الفرج، فقلت له: يا أبا عبد الله إنهم يقولون أنك تخبرهم (¬76) بذلك، فقال: يكذبون عليّ وكرّرها ثلاثا اهـ‍ (¬77). ترجمة القاضي عيسى بن مسكين: ومن فقهاء وطن صفاقس الشّيخ الإمام العالم العلاّم (¬78) الهمام القدوة المتقن المتفنن (¬79) العامل الورع الصالح القاضي سيدي عيسى بن مسكين (¬80) الإفريقي (¬81)، أصله من العجم، سمع من سحنون وابنه وغيرهما، وبالشّام ومصر، وكان محبّا لسحنون وإبنه ويثني عليهما كثيرا، فقال: سحنون راهب هذه الأمّة، لم يكن بين سحنون ومالك أفقه من سحنون، وقال: خير (¬82) من رأيت محمد بن سحنون، كان جامعا لخصال من الخير: العلم والورع ومعرفة الأثر، وكثرة الأخبار، والتّفقّد للإخوان، وقال ¬

(¬74) هو الخطيب البغدادي، المحدّث المؤرّخ صاحب التّصانيف الكثيرة (ت. سنة 463/ 1070 - 1071) في السّنة التي توفّي فيها إبن عبد البر الأندلسي. (¬75) سورة البقرة: 223. (¬76) في الرّحلة: «تخبر». (¬77) الرّحلة 65 - 66. (¬78) في ت وط وب: «العلم». (¬79) في ط: «المفتي». (¬80) ترجمته في ترتيب المدارك 3/ 212 - 228، الدّيباج 2/ 66 - 70 طبقات علماء إفريقية للخشني 193 - 195، المرقبة العليا للنباهي 30 - 32 مرآة الجنان لليافعي 2/ 224. (¬81) تطلق هذه الكلمة على من كان أصله بربريا أو رومانيا. (¬82) كذا في ط وب والمعالم، وفي ت: «خير ما» وفي ش: «خيرت».

أيضا: ما رأيت بعد سحنون مثل إبنه، قال في المعالم: قال عيسى بن مسكين القاضي: لمّا وصل كتاب الإمامة (¬83) الذي ألّفه (¬84) محمد بن سحنون إلى بغداد كتب بالذهب وأهدي للخليفة اهـ‍ (¬85). وأخذ عن عيسى - رحمه الله - جماعة / منهم الشّيخ الصّالح سيدي أبو إسحاق الجبنياني - نفعنا الله به - وأبو حفص عمر بن مثنى صاحب الشّيخ أبي إسحاق، قال الشّيخ أبو إسحاق: أهدى عيسى بن مسكين إلى سحنون عسالج خبّيز فقال سحنون: لو علمت لك للقيتك بموضع كذا وكذا، قال: وعلى مزبلة سحنون من الخبّيز كثير لأن فعل سحنون ذلك بعيسى فرحا به ومودة. قال الشّيخ أبو القاسم اللبيدي (¬86): أخبرني أبو حفص عمر بن مثنى عن أبي الحارث ليث بن محمد بن صفوان عن عيسى بن مسكين عن سحنون أنّه كان إذا رأى إعراض الجاهل عن العلماء يقول: [الوافر] لمنزلة الفقيه من السّفيه ... كمنزلة السّفيه من الفقيه فهذا زاهد في رأي هذا ... وهذا أشدّ زهدا منه فيه (¬87) إذا غلب الشّقاء على السّفيه ... تقطع من مخالفة الفقيه وممّن (¬88) أخذ عن عيسى محمّد بن أحمد بن تميم، وكذا أخذ عنه أبو العبّاس أحمد (¬89) بن تميم بن أبي العرب فإنه لقي عيسى وأخذ حديثه عن أبيه أبي العرب، وممّن أخذ عنه مروان إبن نصر بن حبيب، كما سمع منه أيضا أبو محمّد عبد الله إبن قاسم مسرور التّجيبي المشهور بالحجّام، وحدّث عنه بالإجازة أبو القاسم زياد بن يونس ¬

(¬83) في الأصول: «ألف». (¬84) في ت: «الأمة». (¬85) معالم الإيمان 2/ 127. (¬86) في مناقب أبو إسحاق الجبنياني ص: 46. وأبو القاسم اللبيدي (360 - 440/ 971 - 1048) هو عبد الرّحمان بن محمد بن عبد الرّحمان الحضرمي اللبيدي نسبة إلى لبيدة كان له إعتقاد في الصّالحين يزورهم في السّاحل، ويبحث عن مناقبهم وأحوالهم، أنظر المراجع التي تخصّه في تراجم المؤلّفين التّونسيين 4/ 210. (¬87) في بعض نسخ المناقب «وهذا فيه أزهد من فيه». (¬88) في ش: «من». (¬89) ساقطة من ش وب.

اليحصبي السّدري (¬90)، ولي القضاء لإبراهيم إبن الأغلب فاشتهر بالقاضي، وكان كاتبه أيام قضائه محمّد بن الفرج (¬91) بن البنّاء البغدادي الفقيه، قال أبو بكر المالكي (¬92): أودعه عيسى بن مسكين ودائع ثمّ طرأت شدّة عظيمة، فقيل لعيسى بن مسكين: ذهبت / ودائع النّاس عند إبن البناء قال: ولم (¬93)؟ قيل: رأيناه يقطع الميتة، فوجّه إليه عيسى في إحضارها فأحضرها فقال له عيسى إبن مسكين: تأكل الميتة وهذه عندك، قال: نعم لأنّ الميتة حلّت لي مع (¬94) الإضطرار ولم يحل لي أن أخون أمانتي، فقال له: أرجع بها، فقال: والله لا رجعت لي، وامتنع من قبولها. وكان مشهورا بالصّلاح، وعظّمه الصّالحون، بل حتّى الشّيعة يعترفون بفضله. ذكر في معالم الإيمان أنّ المنصور إبن الظّاهر العبيدي لمّا سار إلى السّاحل ومرّ بقرية عيسى بن مسكين (¬95) القاضي صلّى في مجلسه ركعتين تبرّكا به، وأوصى العامل بحفظ القرية. ولم يزل أهل صفاقس عند القحط يذهبون لضريحه يستسقون به فيسقيهم الله. وكان مولده ليلة الجمعة أوّل رمضان المعظّم قدره بالإنزال من سنة ثلاث عشرة ومائتين (¬96)، وتوفّي - رحمه الله - سنة خمس وتسعين ومائتين (¬97)، ودفن بقريته المشهورة به وقبره بها مشهور، وعليه قبّة، وهو على يسار الذّاهب لتونس من صفاقس، بعده من صفاقس يقرب من عشرين ميلا. وممّا يستغرب أنّا لمّا أردنا تحقيق وفاته لم يحضرنا ما نعتمد عليه فسألت عن ذلك الأخ الأكمل ذا (¬98) الذّهن الثّاقب والفكر الصّائب، من فاق من صغره أهل عصره، فنال من كل فنّ عيونه، ومن كلّ علم فنونه، فشارك في العلوم النّقلية والعقلية والأصلية ¬

(¬90) في ط: «السوري». (¬91) في الأصول: «بن فرج»، وجاء في رياض النفوس: أبو علي عبد الله بن محمد بن الفرج المعروف بابن البناء، 2/ 156 وفي المدارك والبيان «بن المفرج». (¬92) رياض النّفوس ص: 157 ومعالم الإيمان 2/ 318 - 319. (¬93) في ب وت وش وفي المعالم: «لم»، وفي ط: «لما». (¬94) في ط: «عند». (¬95) هذه القرية ما زالت معروفة بإقليم السّاحل إلى الآن. (¬96) 13 نوفمبر 828، وفي غيره سنة 314/ 829. (¬97) 907 - 908 م. (¬98) في الأصول: «ذي».

والفرعية، الحسيب النسيب، الشريف النجيب العفيف، أبا عبد الله سيدي محمّد حمزة، وفّقنا الله وإيّاه لما يحبّه ويرضاه / فقال لي: كنت منذ عشر سنين رأيت عند رجل يصنع أسفار الكتب حجرا مكتوبا فيه تاريخ وفاة الشّيخ سيدي عيسى بن مسكين، فكان يبسط الأسفار على ذلك الحجر، قال: فنهيته عن ذلك، فلمّا قال لي ذلك طلبت منه البحث عن ذلك، فقال: الرّجل الذي رأيته عنده مات ولكن عليّ بالطّلب وعلى الله الهداية، فذهب وسأل إبن عمّ الرّجل الذي كان عنده فقال: ليس عندنا من آلته شيء، ثمّ إن إبن عمّ المسفّر كان ذاهبا في الطّريق فرأى رجلا بيده حجر مكتوب ولا درى (¬99) ما فيه فرجع لسيدي محمّد حمزة فأخبره، فقال: وأين الرّجل؟ قال: ذهب، قال: فبينما نحن في الحديث والتّلفّت فإذا بالرّجل جالس بالقرب منهما فسألناه فقال: نعم هو حجر وجدته عند رجل يخصف عليه النّعال، فقلت له: هذا فيه إسم الله لا ينبغي أن يهان، فأخذته منه، فاذهبا معي أعرفكم به، فذهبنا معه فقال: صدق وأنا اشتريته، ولمّا طلبه منّي أعطيته له، ثمّ أمرناه بإحضاره فأحضره، فسألناه عن سبب حمله ذلك اليوم الذي رأيناه في يده، قال: كنت ساكنا في دار فانتقلت منها (¬100) منذ شهر (¬101) وأبقيت بعض مصالحي ومن جملتها هذا الحجر، فسألني من سكن الدّار بعدي نقل ما أبقيته من المصالح فنقلتها، وأخرجت الحجر في ذلك الوقت الذي لقيتني فيه، فأتاني (¬102) به، فحمدنا الله تعالى ودعوت له بخير، وعلمنا أنّ هذا الأمر من بركات الشّيخ - رحمه الله تعالى ونفعنا به -. ¬

(¬99) في ش وت وب: «درا». (¬100) في الأصول: «منه». (¬101) في ط: «أشهر». (¬102) جولة قلمية طويلة للتّعرف على وفاة عيسى بن مسكين، وما ذكره يبدو غريبا ولكنّه ممكن فمثل هذه الأحجار التي ذكرها كانت تستعمل لشتّى الأغراض في البناء والصّناعة كما أشار وكما دلّتنا عليه الأعمال الأثرية داخل المدينة، وقد جاء تاريخ وفاة عيسى بن مسكين في الدّيباج لابن فرحون وفي أصله: ترتيب المدارك للقاضي عياض، ولو كان مطّلعا عليهما لما احتاج إلى هذا اللّفّ والدوران.

ترجمة الشيخ أبي إسحاق الجبنياني ومناقبه

ترجمة الشّيخ أبي إسحاق الجبنياني ومناقبه: ومن أجل أعيان وطن صفاقس الشّيخ الصّالح الجليل أبو إسحاق إبراهيم (¬103) بن أحمد بن علي بن سلم (¬104) الجبنياني البكري / من بكر [بن] (¬105) وائل من ربيعة، كان أبوه وجدّه (¬106) من اهل الخطط ومسجد إبن سالم وربعه بالقيروان مشهور، وكان جدّه علي بن سالم (104) من أهل العلم ومن أصحاب سحنون بن سعيد - رضي الله تعالى عنه - وهو ولد سحنون من الرّضاعة، أرضعته أمّ محمّد بن سحنون مع محمّد، ثمّ ولاّه سحنون قضاء صفاقس وسائر السّاحل فلم يكن يغمض عليه في أحكامه شيء. فلمّا مات علي بن سالم (¬107) ولّى بنو الأغلب أبا العبّاس أحمد والد الشّيخ أبي إسحاق خراج إفريقية فتورّط معهم فيما هم بسبيله. وكان من أهل الأدب والفهم، ثمّ ارتفع شأنه عندهم إلى أن صار في حدّ الوزارة والمشاورة، وكان إذا خرج إلى منازله خرج في عسكر كما يخرج الوزراء، وبين يديه وخلفه النّجائب. وأبو إسحاق في ذلك غلام له معلّمان أحدهما يعلّمه القرآن والآخر يعلّمه العربية والشّعر في رفاهية من العيش. قال الشّيخ أبو القاسم اللبيدي - رحمه الله تعالى - وعليه أعتمد فيما أنقل من أمر هذا الشّيخ: ولقد عرّفني شيخ معمّر يعرفه في تلك الأيام أنّه رأى حوله خمسة عشر صقلبيا موكّلين بحفظه. وسبب انقطاعه عن هذا الحال وزهده أنه كان إذا نزل والده بقرية جبنيانة في أيّام النّزهة (¬108)، يقيم بها الشّهر وأكثر منه. وإلى جانب جبنيانة قرية يقال لها طرس أسباط بها شيخ معلم يعرف بابن عاصم وقد شهر بالعبادة والبكاء وإجابة الدعاء، وكان النّاس يتبرّكون بدعائه، وكان قد نفع ¬

(¬103) له ترجمة في ترتيب المدارك 13/ 497 - 517، الدّيباج 1/ 264 - 265، رحلة التّجاني 80 - 81، شجرة النّور الزّكيّة 95، مناقب أبي إسحاق الجبنياني للبيدي ص: 2، جامع كرامات الأولياء للنبهاني 1/ 392، وفيه الحسباني وهو تحريف، الحلل السّندسيّة 1/ 323 - 324. (¬104) أنظر ص: 172 هامش 6. (¬105) إضافة من المناقب. (¬106) النّقل بتصرّف يسير ص: 12. (¬107) في الأصول: «سلم». (¬108) في ش: «النزاهة».

الله به خلقا كثيرا منهم علماء / ومتعبّدون، وكان أيّام إقامة أبي العبّاس، والد أبي إسحاق بجبنيانة، يوجّه بأبي إسحاق إليه يعلّمه ويقيم عنده يتعلّم فيتخلّف إليه غدوّا وعشيّا تبرّكا به، يفعل ذلك في كلّ سنة إلى أن بلغ أبو إسحاق الحلم، فدخل قلبه من الخير ممّا يسمع من إبن عاصم وما يعاين من فضله ما أزعجه عما كان فيه، فانخلع من الدّنيا ولبس عباءة وهرب، فطلب فلم يوجد. قال الشّيخ أبو القاسم: عرّفني الشّيخ الجليل أبو الحسن علي بن محمّد الفقيه - يعني القابسي - عن أحمد بن عيشون البكّاء، وكان من خيار أصحاب أبي إسحاق، أن أبا إسحاق وجد بعد مدّة يعجن طينا بمدينة سوسة بأجرة، فقيل [له] إن أباك كثير الإجتهاد في طلبك، فقال: قولوا له: أكنت تظنّ أنّه يخرج من ظهرك من يطلب الحلال؟. ولمّا هرب وقع عند رجل بناحية سوسة، فاستأجر نفسه عنده يرعى (¬109) له بقرا، فأتاه يوما بفأس، فقال: إقطع خشبة من هذه الشّجرة، فقال له الشّيخ أبو إسحاق: ليست لك إنّما هي لأخيك، فقال له: صرت له ضدّا، إنما عليك أن تستمع ما آمرك به فتعمله، فقال له الشّيخ: بل عليّ أن أتّقي الله، فانصرف عنه فلحقه، وبذل له أجرته، فقال له الشّيخ: من أين تدفعها إلي، أنت لم تتورع عن قطع شجرة أخيك في غيبته، فمن أين تريد أن تدفع إلي؟ فذهب ولم يأخذ منه شيئا. (وإذا استأجر نفسه لجمع الزيتون وبذلوا له أجره ردّ لهم بعضه خوفا أن يكون حصل منه تقصير في العمل) (¬110)، ثمّ وفّقه / الله لطلب العلم، فكان (¬111) لا يسمع بعالم إلاّ أتاه، فسمع منه وكتب عنه، ولا يسمع برجل صالح إلاّ أتاه وانتفع به، وذلك كلّه أيّام بني الأغلب، وأبوه معهم على حالته إلى أن زال بنو الأغلب، وطولب أبوه فيمن طولب، فأخذت أملاكه ومنازله ورباعه، ولم يبق له إلاّ بعض دور بمدينة صفاقس. كلّ ذلك والشّيخ أبو إسحاق هارب من بلد إلى بلد مجدّ في طلب العلم والعبادة والزّهد في الدّنيا. ثمّ حجّ في سنة أربع عشرة وثلاثمائة (¬112) وانصرف، فكان يبحث عن العلماء ¬

(¬109) في ش: «يرعا». (¬110) في المناقب عن أبي القاسم عن أبي بكر السّيوطي: «ربّما استأجرنا أنفسنا في جمع الزيتون، أنا وهو، إذا دفعت إلينا أجرتنا يحط منها ويقول: نخشى أنا لم نوف فكيف نستوفي». ص: 6. (¬111) «فكان في تصرفاته وسياحته»، المناقب ص: 7. (¬112) 926 م.

ويتبعهم ويكتب عنهم، وأخذ من عيسى بن مسكين الإجازة (¬113)، وكتب عن أبي بكر ابن اللباد، وأقام عنده مدّة وكان به معجبا. ومدّة إقامته بالقيروان للسّماع عن إبن اللبّاد كانت عنده جرادق (¬114) من دقيق شعير يفطر كلّ ليلة على واحدة ويشرب من بئر روطة (¬115)، فلمّا فرغت جرادقه إنصرف ولم يشتر بالقيروان شيئا (¬116) ولا يشرب بها إلاّ من بئر روطة. وكان أكثر دراسته بالسّاحل على أبي عبد الله محمّد بن سهلون الفقيه الزّاهد، صاحب أبي عبد الله محمّد بن عبدوس، وانتفع أيضا بصحبة محمّد بن عبد الرّحيم بن علي بن عبد ربّه، وكان من الحفّاظ. وكان كثير الصّحبة لأبي يوسف بن مسلم بن يزيد بن ربيعة، وكان أبو يوسف من أهل العلم والفهم والعبادة والورع، وكان أبو يوسف هذا قد لقي جماعة من أصحاب سحنون، ولقي بمصر أصحاب الحارث بن مسكين، وكتب عنهم، ولقي بمكة / إبن الجارود النيسابوري (¬117) وإبن المنذر (¬118) والخزاعي (¬119) والجندي (¬120) والمغربي وغيرهم، وكتب عنهم، وأبو يوسف هذا أخوه مسرّة بن مسلم وهو أكبر منه، وهم أهل بيت وعلم وقرآن وعبادة، محمّد وأبو يوسف وأحمد ويزيد ومسرّة كلهم ممّن سمع العلم وتعبّد، وكان أكثر منفعتهم بابن عاصم الذي إنتفع به أبو إسحاق. ¬

(¬113) في المناقب: «أجازه». (¬114) جمع جردقة وهي خبز شعير ينضج في المنزل لا في الفرن، وخبز القمح يسمّونه مبسوط بالتّأنيث والتّذكير. (¬115) ما زالت موجودة إلى الآن بالقيروان في علو. (¬116) في المناقب: «شيئا يؤكل». ص: 8. (¬117) في الأصول: «ابن الجارود والنيسابوري» والتّصويب من المناقب ص: 9، والنيسابوري هو عبد الله بن علي بن الجارود النيسابوري أبو محمد، المجاور بمكة، من حفاظ الحديث، ووفاته بمكة 307/ 920، له المنتقى في الحديث، وهو مطبوع (الإعلام 4/ 104). (¬118) محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري أبو بكر، فقيه مجتهد، من الحفاظ، كان شيخ الحرم بمكّة، قال الذهبي: إبن المنذر صاحب الكتب لم يصنف مثلها منها «المبسوط في الفقه» و «الأوسط في السنن» و «حد الإجماع والإختلاف» و «الإشراف على من أسب أهل العلم» و «تفسير القرآن» وغير ذلك، وتوفّي بمكة سنة 319/ 931 م (الإعلام 5/ 294 - 295). (¬119) لعله أبو القاسم أحمد بن علي الخزاعي الراوي عن الهيثم بن كليب عن الترمذي كما في برنامج الوادي آشي ص: 211، عند الكلام عن الشمائل للترمذي. (¬120) المفضل بن محمد بن إبراهيم الجندي الشعبي، أبو سعيد، مؤرخ يماني الأصل، كان محدث مكة وتوفي بها سنة 308/ 920 م من كتبه «فضائل المدينة وفضائل مكة» الإعلام 7/ 280.

وصحب أبو إسحاق غير هؤلاء فإنه قال: لقد أدركت هذا السّاحل وما منه قرية إلاّ بها رجل من أهل العلم أو من أهل القرآن أو رجل صالح يزار. وعن عيسى بن ثابت قال: يقول أبو إسحاق: انصب شبكتك على هذا البحر، فلا بدّ أن يقع في يدك طائر فاره، يريد أن يقع في يدك رجل ينتفع به لكثرة من كان يرد الحصون من الصّالحين. ولقد كان بقصر زياد المرابط من أصحاب سحنون أربعة عشر رجلا منهم ثابت بن سليمان وهو جليل في أصحاب سحنون. قال يحيى بن عمر (¬121): إذا رأيت محمّد بن سحنون [يقول] (¬122): حدّثني الثّقة عن سحنون، فهو ثابت بن سليمان. وسكن يحيى بن زكرياء الأموي صاحب أبي مصعب (¬123) بقصر زياد، وكانوا يسمّون قصر زياد دار مالك لكثرة من كان به من أهل العلم ذلك الزمان، وكان قد سكنه أبو الحارث ليث بن محمّد، وحمدون بن مجاهد، ومحمّد بن الأنباري (¬124) نشر مصحفا يقرأ فيه فمات من خشية الله، وسكنه قبلهم عبد الرّحيم الزاهد، وعبد الرّحيم بن علي، وصام بقصر زياد سحنون خمسة عشر رمضانا (¬125)، وكان محمّد بن سحنون لا يكاد ينقطع عنه. قال أحمد / بن حبيب (¬126) - وكان من أهل العلم - قال لي أبو إسحاق: أتدرس في هذا الوقت العلم؟ قلت: نعم! قال: فتجتمعون للمذاكرة؟ قال: قلت نعم! قال: إنما العلم بالمذاكرة، لقد كنّا نحن نجتمع، ولقد ألقينا المدوّنة في شهر، ندرس النّهار ونلقي بالليل، فما علمت أنّا نمنا في ذلك الشّهر، ثمّ قال لي: أي كتاب في أيديكم تدرسون؟ قلت: العتق الأوّل (¬127)، قال: فألقى علي من أوله، وسرد المسائل حتى كأنّ الكتاب ¬

(¬121) في الأصول: «يحيى بن عمران» والتّصويب من المناقب ص: 10. (¬122) إضافة من المناقب يقتضيها السّياق. (¬123) أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث بن زراة بن مصعب بن عبد الرّحمان بن عوف الزهري المالكي (ت. 242 بالمدينة) الدّيباج 1/ 140 - 141. (¬124) في ش: «الانبري» وفي ط وب «الانيري» وفي ت «الايزري». (¬125) في الأصول والمناقب: «رمضان». (¬126) في الأصول: «أحمد بن أبي حبيب» والتّصويب من المناقب ص: 11. (¬127) أي من المدونة.

في يده، فإذا ألقى علي مسألة وزاد فيها من غير المدوّنة وقفت ولم أدر ما أجاوبه، فيقول لي: أنت كرجل لا يعرف غير طريقة واحدة، فإذا عرضت له أخرى وقف. وكان أبو إسحاق لا يفتي إلاّ أن يسمع من يتكلّم بما لا يجوز، فيردّ عليه أو يرى من يخطيء في صلاته. قال الشّيخ أبو الحسن القابسي في أوّل سفرة سافر إليه: أوّل ما قربنا من جبنيانة دخل قلبي منه رعب وهيبة عظيمة وقلت لأصحابي: إني خشيت أن يجري على لسان هذا الشّيخ الجليل من أحوالنا ما يظهره الله للنّاس، فوجدناه غائبا، خرج ليصلّي على جنازة في إحدى القرى، قال: فلمّا جاء وقت الصّلاة وأذّن فما هو إلاّ أن وقع أذانه في أذني ما ملكت نفسي حتّى جلست إلى الأرض وسمعت أذانا ما سمعت مثله، ثمّ دخلنا المسجد فلا أسمع أحدا يتكلّم إلاّ أن سلّم سلاما خفيفا، قال: فلما صلّى انصرف فسلمنا عليه، فكان منه إقبال ودعاء. وكان قبل دخولنا جبنيانة تكلّم منّا بعض أصحابنا فقال: أنا رجل من العرب، وقد خطب إلى ابنتي رجلان / من الموالي صالحان، فإن زوجتهما لم يطب على قلبي، وإن رددتهما خشيت أن لا أجد مثلهما، قال: فكان أوّل شيء سمعناه من الشّيخ لمّا أن جلس بعد الصّلاة قال: كان لسحنون بن سعيد صاحب من العرب، وكانت له بنت خطبها إليه رجل من الموالي، فالتمس خلوة من سحنون ليشاوره فلم يجد حتّى خرج إلى السّاحل فأخبره، فقال له [سحنون] زوّج من له دين ومروءة، ولو إنفلقت عنه بعرة، يعني كان غير معروف النّسب، ثمّ حوّل أبو إسحاق وجهه إلى صاحب البنتين فقال: كذا قال سحنون، قال: فقلت له: قد أفتيت في مسألتك على لسان الجبنياني. قال أبو الحسن: ثمّ سألته أن أذكر له إسمي فمتى ذكرني دعا لي، فقال لي: بل أدعو لك في جماعة المسلمين، فقلت له: بل تخصّني، فقال لي: أرأيت من أودع وديعة فضيّعها، أليس يضمن كما يضمن المتعدي؟ فقلت بلى، قال: فما دعا (¬128) الإنسان إلى شيء إن ضيعه صار كالمتعدي قال: فقلت له: فلا عليك أن أعرفك باسمي، فإن نشطت للدعاء لي دعوت وإلاّ تركت، قال: لا. ثمّ أخذ بيدي فرآني كئيبا إذ لم يقبل منّي ما سألته فيه، فقال: ما اسمك؟ فقلت له: علي، فقال لي: أبشر يا علي! أعلى الله قدرك في الدّنيا والآخرة، ثمّ لمّا قرّبت لي دابتي لأركب أخذ بركابي، ¬

(¬128) في ش: «دعى».

وكذلك شأنه أن يأخذ بركاب من فيه علم أو خير. قال أحمد بن عيشون: قال أبو إسحاق يوما بعد صلاة الصّبح: يا أحمد، إني فكرت البارحة فيّ وفيك أن الناس يرون أنّا خير أهل هذه القرية، ونحن شرّها / فقم بنا نبكي على أنفسنا يوما من الدّهر، قال: فخرجنا إلى فحص منقطع نذكر ونبكي النهار كلّه حتّى ذهب بصري فلم يعد لي إلاّ بعد مدّة من الزّمن. قال الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد إذا ذكر أبا إسحاق: طريق أبي إسحاق خالية لا يسلكها أحد في هذا الوقت، وكان يعظّمه كثيرا ويقول: لو لم يكن أمر أويس القرني صحيحا فالجبنياني أويس هذه الأمّة، وكان أيضا يقول: لو فاخرنا بنو إسرائيل بعبّادهم لفاخرناهم بالجبنياني. وقال أيضا: من محبّتي فيه وذكري له أراه في المنام، ولقد قوى قلبي لمّا بلغني أنّه يدعو لي، وبلغني أنّه رأى جامع مختصر المدوّنة الذي ألفت فأعجبه. وكان أبو إسحاق يرغب في طلب العلم وصحبة العلماء ويقول: وددت لو أنّي على أبواب العلماء أفترش خدي لطلبة العلم، ويقول للزّوار: أتتركون العلماء وتأتوني! وكان متقلّلا في أكله ولبسه غاية (¬129) قال منصور إبن هانيء المعلّم: رأيته يوما مهموما فسلّمت عليه وقلت: ما بالك - أصلحك الله - مغموما؟ فقال: لأنّ المنكر على داري {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} (¬130) قلت له: المنكر؟ قال: أي والله، قلت: ما هو يرحمك الله؟ قال: قشور قرع ملقاة (¬131) على بابي رماها أهلي، يمشى عليها وفيها قوت، أيموت أحدكم جوعا ويجد قشر قرع يقتات بها؟ فلمّا صلّى جمع تلك القشور فطبخت (¬132) لقوته. ويلبس الصّوف من موضع يعرف أهله، فلمّا تغيّرت الأمور صار يلبس من خرق المزابل يجمعها فيغسلها ويبطّن بعضها ببعض / فيجعل شيئا منها في وسطه وشيئا على ظهره ويخيطها بمسلّة من عظم غزال، ويأكل البقل البرّي والجراد إذا وجده، ويطحن الشّعير قوته بيده، ثمّ يعجنه (¬133) بنخّالته دقيقا في قدر مع ما يجد من بقل بري أو غيره حتّى إنّه ربّما رمى منه شيئا لكلب أو هرّ فلا يأكله، وربّما عوتب في ذلك، فيقول: ¬

(¬129) في المناقب: «أشدّ الناس أخذا وتضييقا على نفسه ثمّ على أهله» ص: 19. (¬130) إقتباس من الآية 11 من سورة الرّعد. (¬131) في الأصول: «ملقى». (¬132) في المناقب ص: 20 «طبخها». (¬133) كذا في ش وت وط، وفي ب: «يطحنه»، وفي المناقب: «يجعله».

الرّقاد مع الكلاب على المزابل وأكل خبز الشعير بنخّالته كثير لمن يرجو في الآخرة شيئا، وكان قوته من شعير يتولاّه له رجل من إخوانه يحرثه في أرض حلال وبذر حلال وبقر حلال يوجّهه إلى أبي إسحاق شيئا فشيئا، فإذا أصاب فيما زرع أكثر من القوت تصدّق به. وكان يتوطّأ (¬134) الرّمل، فإذا كان الشّتاء أخذ قفاف المعاصر الملقاة على المزابل يجعلها تحته. وأعانه الله بأبناء صالحين، كان عنده سبعة من الولد: أبو بكر وأبو الطّاهر وأحمد وأبو عبد الله محمّد وأبو الحسن علي وأبو زيد عبد الرّحمان، وأبو محمّد عبد الله. مات عبد الله (¬135) وهو دون الثّلاثين سنة، وكان - رحمه الله - أشدّ من الشّيخ إجتهادا في العبادة، قتله القرآن، كلّما مرّ بآية فيها وعد ووعيد يبكي حتّى أذاب الحزن فؤاده، فمات رحمه الله، لقّنه والده حتّى مات فأغمضه، ثمّ استرجع على المصيبة ودعا له، ثمّ قال لزوجته أمّ عبد الله، وكانت قريبة من الشّيخ في الفضل والعبادة: إحمدي الله (¬136) واشكريه فقد مات عبد الله على الإسلام وحصل في صحيفتك، فإن كان عندك طيب فتطيّبي وتجمّلي لنعم الله، ثمّ قام فتوضّأ / وأخرج مئزرا قديما عنده تجمّل به، وركع، ثمّ جلس للنّاس، وظهر عليه من البشر والفرح ما لم يكن يظهر عليه قبل ذلك. وتوفّي عبد الرّحمان (¬137) بعد الشّيخ بثلاث سنين، كان يختم كل ليلة. وكان الشّيخ أبو إسحاق يسرد الصوم ولا يفطر إلاّ في الأيّام التي لا يحلّ صومها (¬138) ويختم القرآن في ثلاثة أيام بلياليها لأنّه كان يقرأ ويتدبّر، وإذا دخل في الصّلاة فلو سقط البيت الذي هو فيه ما التفت إليه إقبالا على صلاته واشتغالا بمناجاة الله، وقام سنة في آية {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} (¬139). وقال أحمد بن عيشون لمّا حججت أتيت معي بحصيّات من حصى المسجد ¬

(¬134) كذا بالمناقب ص: 21. (¬135) مات قبله أبو الحسن علي قبل أن يحتلم، المناقب 21. (¬136) ساقطة من ش. (¬137) توفي قبله أبو الحسن في حياة الشيخ أيضا، المناقب ص: 22. (¬138) أو في مرض، المناقب. (¬139) سورة الصافات: 24.

الحرام فقلت للشّيخ أبي إسحاق الجبنياني: إني أتيت بحصيّات من حصى المسجد الحرام، أتحبّ أن أعطيك منها شيئا تسبّح به؟ فقال لي: إرم بهنّ يا أحمق فعلى أقل من هذا عبدت الحجارة، فبلغ ذلك الشّيخ أبي الحسن القابسي فأعجبه لقول مالك: فيمن يخرج شيئا من حصباء المسجد الحرام في نعليه فإن كان قريبا [منه] ردّه إليه وإن كان بعيدا رماها. وقال الشّيخ أبو إسحاق: لا تعلّموا أولادكم إلاّ عند رجل حسن الدّين، فدين الصبي على دين معلّمه، ولقد عرفت أنّ معلّما كان يخفي القول بخلق القرآن، فلمّا فطن به ضرب فوقف بين يدي صبيان المكتب وقال لصبيانه: ما تقولون في القرآن؟ فقالوا: لا علم لنا، فقال: هو مخلوق، ولا تزولوا عن (¬140) هذا القول ولو قتلتم، ثمّ هرب عنهم فبلغني / أنّهم ماتوا كلّهم، وهم يعتقدون هذا القول. وبلغني عن معلّم عفيف رئي وهو حول الكعبة يدعو ويقول: اللهم أيّما غلام علّمته فاجعله من عبادك الصّالحين، فخرج على يديه نحو من سبعين، ما بين عالم ورجل صالح. فكم بين الرّجلين! وقيل (¬141) للشّيخ لم سكنت جبنيانة؟ قال: رجاء أن يخمل (¬142) ذكري فيها لأنّي رأيتها من أقل القرى ذكرا. وكان للشّيخ أخت إسمها عائشة، وهي سوداء، ولدها أبوه من جارية سوداء، فكانت أكبر من الشّيخ أبي إسحاق، وكانت من العابدات الزّاهدات، وكان يعظّم قدرها ويحقر نفسه عندها في العبادة، وكان أبو إسحاق إبن جارية، فكان إذا ازدحم عليه النّاس يقول: كانت أمّي - رحمها الله - خادما ثمنها كذا وكذا، يذكر ثمنا قليلا. وكان الشّيخ أبو إسحاق يؤثر [أبا بكر] (¬143) مسرّة في العلم لفضله، ويأمر بالسّماع منه ولده وغيره. جاءه الشّيخ عطية الصفاقسي بموطّأ مالك، فسأل الشّيخ أبا إسحاق أن يسمعها ¬

(¬140) كذا في المناقب ص: 25. (¬141) قالها إبنه أبو الطاهر، المناقب ص: 26. (¬142) كذا في ط والمناقب، وفي ش: «يخل». (¬143) مسرة بن مسلم بن ربيعة الحضرمي، من أهل العلم والعبادة (ت.393/ 1002 - 1003 م) ترتيب المدارك: 4/ 533 - 535 نقلا عن اللبيدي والمالكي، شجرة النّور الزّكيّة: 97، وهو قيرواني له رحلة إلى الشرق أخذ فيها عن جماعة من الأعلام.

له، فامتنع منه، وقال: أنا أدلّك على رجل صالح من أهل العلم تسمع منه، فلبس أبو إسحاق نعله وخرج بين يدي الشّيخ عطية، فتبعه حتى انتهى به إلى قرية عظيمة وكان مسرّة يومئذ بها، وهي قرية زوجته، فلمّا دنا أبو إسحاق منها قال: تلك دار الرّجل فاقرئه سلامي، وانصرف راجعا، قال عطية: فدخلت على أبي بكر مسرّة، فسلّمت عليه، وأقرأته سلام أبي إسحاق وأخبرته بما قال لي، فخرج مسرّة ليدركه ففاته / لأنّه كان إذا مشى أسرع حتّى لا يكاد يدرك إلاّ بالجري. وكان أبو بكر مسرّة يجلّ أبا إسحاق ويعرف قدره أيضا فكان إذا ذكر أبا إسحاق بعد موته بكى بكاء شديدا ويقول: كان والله مقدّما علينا في صغره وكبره، مع أنّ أبا بكر مسرّة لم يترك من إجتهاده في العبادة، وكان من البكّائين على أنفسهم حتّى تستقرّ (¬144) الدّموع في موضع سجوده ويسقط من قيامه فيتهشّم وجهه، واجتمعا بقرية لبيدة (¬145) للصّلاة على جنازة سليمان بن يزيد بن أخي مسرّة، وكان صالحا، فقدم مسرة أبا إسحاق للصّلاة مع أنّ مسرّة وليّ الجنازة، فلمّا فرغا من الدّفن جرى بينهما حديث ودعاء ثمّ افترقا على دعاء، وتوادعا وتصافحا، فما اجتمعا بعدها حتّى مات أبو إسحاق، فأقام بعده مسرّة ثلاث سنين - رحمة الله عليهما -. وقال أحد أولاد أبي إسحاق: ضاق بنا الحال فلم نجد قوتا، وكنت جمعت سمارا وعملت منه مصلية (¬146) بعتها بنصف درهم ثمّ عرضته عليه، فقال: حتّى أسأل أبا عبد الله بن سهلون، وبين صفاقس وابن سهلون نحو من يوم، فتوجّه إليه فسأله، قال: ولطف الله بنا من بعده في شيء أكلناه، فرجع من عند إبن سهلون، وكشف عن الأرض التي جمع منها السمار، فوجدها غير طيّبة، فتصدّق بنصف الدّرهم، وكان إذا فرغ قوته يقول: [البسيط] مالي بلاد ولا استطرفت من نشب ... ولا أؤمّل غير الله من أحد إنّ القنوع بفضل الله يمنعني ... من التّعرض للمنّانة النّكد / إني لأكرم وجهي أن أعرّضه ... عند السّؤال لغير الواحد الصّمد ¬

(¬144) في الأصول: «يستقر». (¬145) قال عنها الحميري: إنها قرية من قرى القيروان ص: 508، وذكرها التّجاني وعدّها من منازل صفاقس، ورسمها عنده «لبيدى»، إذ قال: «كذا تحقّقتها وسمّاها الرّشاطي: «لبيدة» وينتسب إليها الفقيه الصالح عبد الرّحمان بن محمد الحضرمي اللبيدي». الرّحلة ص: 83. (¬146) ما يصلّى عليه، وهي المعروفة عندنا بالسّجادة.

وإذا هدأت العيون في جوف الليل يقول: [الوافر] إلى كم أنت في بحر الخطايا ... تبارز من يراك ولا تراه وسمتك سمت ذي ورع وزهد ... وفعلك فعل متّبع هواه أيا من بات مرتكب المعاصي ... وعين الله شاهدة تراه أتطمع أن تنال العفو ممن ... عصيت وأنت لم تبلغ رضاه فتب قبل الممات وقبل يوم ... يلاقي العبد ما كسبت يداه وكان بمرسى أنشلة شيخ يختلف إلى المنستير في كلّ عام، فإذا رجع مرّ بالجبنياني فيقول له: أخوك أبو الحسن الكانشى يقرئك السّلام، فيقول له أبو إسحاق: أنت في ثغر فأولى بك سدّ ثغرك، فلا تدعه وتمشي إلى المنستير، قال: فأتاه مرّة فقال له مثل ذلك، فقال له الرّجل: قد عرفت بما قلت لي أبا الحسن، فقال: قل لأبي إسحاق: انتهاني عن ذلك وأنت تعرف أنّ المنستير باب من أبواب الجنّة؟ فقال أبو إسحاق: قل له: يا أبا الحسن قد جاء في الخبر أن ما بين مصراعي باب الجنّة كما بين المشرق والمغرب (¬147)، فنحن إن شاء الله تعالى بين مصراعي الباب، ليس المنستير وحدها مخصوصة بذلك. ومن خاصة إخوانه الذين يزورهم سيدي مروان، وهو الشّيخ الصّالح، كان يسكن بشريانة (¬148) إلى جانب سوق بدرنة، وكان مشتهرا بالعبادة فهلكت له إبنة، فصلّى عليها الشّيخ أبو إسحاق، فانصرف كلّ من بالسّوق إلى الصّلاة خلفه، وكان معه كبار الموضع وغيرهم (¬149) / ممّن على السّنّة (¬150)، فرفع الأمر إلى السلطان معد، واشتهرت عنده (¬151) المسألة، وقيل [له] (¬152) إنه مطاع (¬153)، فأمر بالبريد فخرجت لتأتي به، ¬

(¬147) جاء في الحديث: «إنّ ما بين مصراعين في الجنّة مسيرة أربعين سنة، ذكره السيوطي في الجامع الصّغير ورمز لحسنه وذكر أنّه أخرجه الإمام أحمد في المسند وأبو يعلى في مسنده عن أبي سعيد الخدري» (أنظر فيض القدير للمناوي 2/ 519). (¬148) بكسر الشين المعجمة وسكون الراء المهملة وفتح النون، من قرى صفاقس من الناحية الشرقية. (¬149) في الأصول: «وغيره». (¬150) في المناقب: «الإسلام». ص: 36. (¬151) كذا في ش والمناقب، وفي ت: «عنه». (¬152) إضافة من المناقب ص: 36. (¬153) كذا في ش والمناقب، وفي ت: «استغاض».

فسمع وزراؤه بذلك، فأتوا حفاة مشاة يقولون: إنّا تحت (¬154) الهلاك ما ظنّك برجل مجاب الدعوة، منقطع عن الدّنيا وأهلها؟ فوجّه بردّ البريد، ثمّ أرسل شيخا من كتامة معه سبعة في زي نسّاك ليحبسوا اخوانه (¬155)، فنزلوا في زي زوّار عند الشّيخ عيشون بن يزيد، وكان من الفضلاء، القوّام الصوّام ويطعم الطعام. فاختفى الشّيخ الكتامي في المسجد خلف حصير كان في مؤخّره، فلمّا جاء الشّيخ أبو إسحاق أذّن بالمغرب وأقام وصلّى، فخرج الكتامي من وراء الحصير فقال للشّيخ: يا منافق على مولاي ألا تؤذّن حيّ على خير العمل ولا (¬156) تقرأ باسم الله الرّحمان الرّحيم، ولا تسلّم على النّاحيتين، ما لمولانا عدوّ مثلك، فدعا عليه وقال: اللهم اجعله آية للعالمين، فطارت عيناه، فما خرج إلاّ بقائد وهو يقول: الموت الموت مع هذا الشّيخ، لا تقربوه، فانصرف هو وأصحابه إلى معد فارتاع وقال لوزرائه: ألم تروا كيف بدر منه فينا بادر! ووقف عليه رجل فقال للشّيخ: عندي دعاء إبراهيم - عليه السّلام - الذي دعا به حين ألقي في النّار، ودعاء يونس - عليه السّلام - حين التقمه الحوت، فقال له الشّيخ: إذا كنت تدعو بدعاء الأنبياء وتفعل فعل الفراعنة فمن تخادع؟ وكان رجل بالسّاحل يقال له نصير / صاحب خبر السّلطان، وكان مارقا معلنا، فمرّ بالشّيخ وهو يؤذّن، وهو راكب على فرس، فقال للشّيخ: يا منافق كم تضل النّاس وتصدّهم عن دعوة مولانا، فلمّا قضى الشّيخ أذانه قال له: أذلّك الله يا فاسق عاجلا على يدي من اعتززت به، فبعث السّلطان إليه بعد ثلاث في أمر نقم (¬157) عليه، فضرب خمسمائة سوط وصلب حيّا، (فكان بعد ذلك يقول: دواء مجرّب، من أحبّ أن يضرب خمسمائة [سوط] (¬158) ويصلب حيّا فليسبّ (¬159) الجبنياني) (¬160). ومن أصحاب الشّيخ أبي إسحاق الشّيخ عيسى بن ثابت. ¬

(¬154) في المناقب: «أنّا نخشى الهلاك». (¬155) في بعض نسخ المناقب: «أحواله». (¬156) كذا بالأصول، والمناقب ص: 36، والشيعة الإسماعيلية يقرؤونها في الصّلاة، وجرت مناظرات وخلاف في ذلك بينهم وبين المالكية. (¬157) في بعض نسخ المناقب: «يقيمه»، هامش ص: 40. (¬158) إضافة من المناقب. (¬159) في ش: «فيسب». (¬160) ما بين القوسين ساقط من ت.

قال الشّيخ أبو القاسم اللبيدي (¬161): بتّ ليلة عنده فسمعته وقد طلع إلى فراشه وهو يبكي، وزوجته تعذله (¬162) وتقول له: تبكي تصلّي، وتبكي تمشي (¬163) وتبكي في فراشك أيضا، فقال لها: ولم لا أبكي؟ والله لا بكى أحد على ذنوبي غيري أبدا، ثمّ غلبته العبرة، فترك النّوم وأحيى ليلته. وكان مجاب الدّعوة، واجتمع بالشّيخ [أبي] محمّد بن أبي زيد فجرى (¬164) بينهما بكاء شديد وذكر، فلمّا أراد فراقه قال له عيسى: أحبّ أن أكتب إسمي في البساط الذي تحتك، فإذا رأيته دعوت لي، فبكى أبو محمّد وقال: قال الله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬165) فهذه دعوتي لك، فأين عمل صالح يرفعه؟ وكذا إجتمع بأبي الحسن القابسي، فتذاكرا وبكيا حتّى سقط كلّ واحد منهما على ظهره، فما اجتمعا بعدها. وجعل (¬166) على نفسه بعد موت أبي إسحاق / أن لا يمرّ بناحية جبنيانة وما قاربها إلاّ زار قبره (¬167)، قال: فزرته يوم الجمعة فدعوت له، ثمّ عرض لي أمر يوم السّبت فمررت بالموضع فلم أزره وقلت: بالأمس كنت عنده، قال: فنمت فرأيته في المنام، فقال لي: يا أبا موسى: ما أقلّ الوفاء، تمرّ قريبا من قبري فلا تقف عليه، وتقول قد زرته بالأمس! فلم يترك زيارته حتّى مات. وكان الشّيخ عيسى هذا - رحمه الله - كثير قيام الليل ولا ينام إلاّ قليلا، وربّما غلبته الخشية، فسقط على (¬168) الأرض على وجهه من قيامه للصلاة فيخدش وجهه. وكان أكثر أصحاب الشّيخ أبي إسحاق فضلاء أجلاّء. فمن أصحابه أبو جعفر أحمد بن عيشون البكّاء، كان بكى حتّى ذهبت أشفار عينيه واتخذ الدّمع في خدّيه أخدودا، وكان كثيرا ما يسكن بقصر زياد، فيسكن في بيت في جوف المسجد، فيغلق ¬

(¬161) المناقب ص: 41. (¬162) في الأصول: «تعزله». (¬163) في المناقب: «كم تبكي، تصلي وتبكي، وتمشي وتبكي. . .». (¬164) في ش، وت: «فجرا». (¬165) سورة فاطر: 10. (¬166) أي عيسى بن ثابت. (¬167) مقام أبي إسحاق حيث قبره مشهور في هذه البلدة، ومزار أهل هذه المنطقة وغيرها إلى اليوم. (¬168) في الأصول والمناقب ص: 42: «في».

باب المسجد وباب البيت إرادة أن لا يسمع قراءته أحد، وكان حزين القراءة إذا قرأ ترك أهل الأحزاب أحزابهم وبكوا لبكائه، حتّى تصير كأنّها مناحة. ومن خيار الشّيخ أبي إسحاق عيشون بن يزيد، وأبو بكر بن داوود، كان عيشون كثير التلاوة والخشية وإطعام الطّعام وإحياء الليل والنّاس نيام، مجاب الدّعوة. قال عيشون - رحمه الله - خرج زيان الصقلي من المهدية ومعه ثلاثمائة فارس حتى وصل جبنيانة، وافترقت خيله في تلك المنازل حولها، وجاء إلى مسجد الشّيخ وأمرهم أن يفرشوا له في ظله فنام في صحن المسجد، فذبحنا له ولرجاله / أرخة (¬169) وغنما، ثمّ دخلنا على الشّيخ وقلنا له: هذا الظّالم في مسجدك، فقال: أظننتم أنّي أترك الصلاة في المسجد؟ فلمّا كان وقت الصّلاة خرج، وكان يبتدئ الأذان من باب داره، فلا يصل إلى المسجد حتّى يتمّ الأذان، فكان كلّ من يسمع الأذان تدخل قلبه خشية عظيمة، فلمّا سمع زيّان أذانه جلس متّكئا على يديه، فلمّا فرغ الشّيخ أذانه دخل المسجد، فركع ثمّ جاء إلى زيان فجعل يديه على كتفي زيان وقال له: يا ظالم يا غلام الظالم، توضّأ وصلّ، فقال زيّان: نعم! ودخل أبو إسحاق المسجد، فأمرهم زيان أن يشدوا له على دابته، وركب بلا عمامة ولا خف ولا سراويل، وقال لخيله: والله لا أقام واحد منكم في هذا المنزل، فقال له رجاله: نفعل بهذا ونصنع، فقال لهم: اسكتوا فو الله لولا أنّه رفع يديه عن كتفي ما غرقت إلاّ في الأرض، وكان زيان طويلا سمينا. قال الشّيخ أبو القاسم (¬170): دخلت على الشّيخ عيشون قبل موته بأيّام يسيرة، وهو مريض، وحبل معلّق من السّقف عند رأسه، فسألت إبنه إبراهيم عن الحبل، فقال: يتعلّق به بالليل ويصلّي. وكان قلّما ينزع ثوبه للنوم ولا ينام إلا مغلوبا. وكان يكثر من قول: لا يأتي بالخير إلاّ الله، لا يذهب السّوء إلاّ الله، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، لا يكاد يزول ذلك من لسانه. قالت زوجته: ما نام معي على فراش قط، فإذا كان منه ما يكون من الرّجال مع نسائهم إغتسل وأحيى ليلته. ¬

(¬169) كذا في المناقب، والأرخة هي العجلة الصغيرة في اللهجة الدارجة. (¬170) اللبيدي في المناقب ص: 43.

ولمّا أيقن بالموت / قال: أخرجوني إلى المكان الذي أجيبت فيه دعوتي أدعو فيه، وذكر أنّ النّاس كانوا يأتمنونه فأودعوه حليا ومتاعا فعمل اللصوص على قصره فأتوا بالشّموع والسلالم وطلعوا ففتحوا باب القصر فخلصوا ما في القصر، ولمّا نزلوا قطعوا علي صلاتي وقالوا: هات ما كان عندك من وداعة. فقلت: ما شاء الله، لا قوة إلاّ بالله، لا يأتي بالخير إلاّ الله، لا يذهب السّوء إلاّ الله، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، فنزعوا ثيابي وتركوني في مئزر، وقالوا: يخرج من كلّ طائفة رجل يقتلونه في مرّة، فوقف ستّة نفر في ناحية، وستّة من ناحية ورفعوا سيوفهم ليقتلونني، فلمّا أيقنت بالهلاك رفعت رأسي تحت ظلال السّيوف إلى السّماء، فقلت: يا غياث المستغيثين أغثني، فوقعوا على ظهورهم وطارت سيوفهم من أيديهم، ونظرت إلى نفسي قائما في أعلى القصر لا أدري والله كيف رفعت وخرجوا هاربين. ومن أصحاب الشّيخ أبي إسحاق محمد بن يزيد أخي مسرّة بن مسلم، فكان من الصّالحين المجتهدين في الدّعاء الشاكرين، كان يخفي الذّكر. وكان الشّيخ أبي زيد يوجّه إليه بالدعاء لما ثبت عنده من فضله، وكذا الشّيخ القابسي. وكان نبت في ساق الشّيخ أبي إسحاق نبت، فقال له محمّد بن يزيد: داوه رحمك الله حتّى يطيب. فقال له: بماذا؟ فقال: بأغثاء البقر يسخن مع الزّيت ويلصق به يطيب، قال أبو إسحاق: هل عندك من بقر؟ فقال: لا. قال: هل تعلم بقرا أصله من حلال؟ قال له: / عند علي بن عيشون، قال: قد مات وترك ورثة فيهم (¬171) أطفال من لنا بهذا. ومات محمّد بن يزيد هذا في السّجود، قرأ سورة «ق» وسجد، فقبض في السّجود وهو من أهل قرية لبيدة، حضر جنازته قوم برؤيا رآها رجل صالح، نام بعد صلاة الفجر يوم موته قال: رأيت سليم بن عزوز كان رجلا استشهد بقتله ظلما وكأنّه راكب فرس، فقلت له: أين تريد؟ فقال لي: نحن جماعة الشّهداء مع عمر بن عبد العزيز، أذن لنا في حضور جنازة الرّجل الصّالح محمّد بن يزيد، يدفن اليوم بعد صلاة الظّهر بقرية لبيدة، فقال جيرانه: فلمّا أخبرنا بالرّؤيا قلنا له: نمضي، فإن كان حيّا زرناه وإن صدقت رؤياك صلّينا عليه، فأدركوا الصّلاة عليه وموضعهم بعيد. ولم يخلّف محمّد بن يزيد إلاّ ثيابه الّتي كان يلبسها، فكفّن فيها، وصلّى عليه ¬

(¬171) في ش: «فهم»، وبقية الأصول تتّفق مع المناقب.

الشّيخ الجليل أبو حفص عمر بن مثنى (¬172) وكان من العلماء بالقرآن (¬173)، يجيد (¬174) رواية ورش وكان مقداما في الإعراب ومعرفة النّاسخ والمنسوخ والخاص والعام، والأحكام والتّفسير والعربية والحساب، والفرائض والفقه، وكان منقطعا في العبادة، كان أبو محمّد الصدفي يقول: ما رأيت في إفريقية (¬175) أعلم منه، لزم بعد وفاة مسرّة بن مسلم سكنى قصر زياد، يؤم فيه ويطلب النّاس عليه. وكان ضحكه التّبسّم ولا يتكلّم فيما لا يعنيه، إنما يجلس لقراءة القرآن أو لمذاكرة في علم أو لانتظار الصّلاة أو للذّكر، وكان من أعلم النّاس بالوثائق والشروط والبلاغة في التّرسّل، وكان من جلّة أصحاب عيسى بن مسكين، / مات وتركه صغيرا، فربّاه الشّيخ الجليل الفاضل أبو الحارث ليث بن محمّد بن صفوان، وكان ليث هذا من الفقهاء، وكان منقطعا في الزّهادة والإنزواء عن النّاس متبتّلا بقصر زياد، فإذا كثر النّاس عليه هرب. ومن أصحاب عمر بن مثنى حمدون بن مجاهد، قال عمر بن مثنى: إذا انصرف حمدون بن مجاهد من المحراب وجد موضع سجوده مبتلاّ بدموعه، ولقد صلّى بنا القيام ليلة سبع (¬176) وعشرين من رمضان فبكى وأبكى، وتاب في تلك الليلة على يديه ممّن شرب (¬177) المسكر ومن غير ذلك نحو من سبعين رجلا. وكان حمدون مشتهرا بالعلم. روى عنه أهل مصر وأهل المغرب ولا يكتب إلاّ ما يفهم، ويعجم كل مشكل. قال مسرّة بن مسلم: قال لي حمدون: كتبت بيدي ثلاثة آلاف كتاب ونيفا، ولعلّ الكتاب الذي أدخل به الجنّة ما كتبته بعد، وكان يحب نشر العلم وإذاعته. وكان أبو حفص عمر بن مثنى من خاصة أبي إسحاق الجبنياني، وكان ينبسط معه ما لا ينبسط مع غيره، فقال للشّيخ يوما: إلى جانبي قوم يقال لهم بنو قراضة يتشيّعون ولا يسبّون أحدا، ولا يخالفون في صلاة ولا زكاة ولا صيام، فما ترى في السّلام عليهم ¬

(¬172) له ترجمة في ترتيب المدارك 4/ 627. (¬173) في المناقب: «بالقراءة». (¬174) في الأصول وبعض نسخ المناقب: «يجود». (¬175) في المناقب: «في خارج إفريقية»، ص: 45. (¬176) في الأصول: «سبعة». (¬177) في المناقب: «يشرب»، ص: 46.

ومخالطتهم، فقال له الشّيخ أبو إسحاق: سلهم من أفضل: أبو بكر وعمر أو علي؟ فقال: يقولون عليّا أفضل، فقال الشّيخ: لا توادهم ولا تسلّم عليهم ولا تناكحهم، فإنّ من فضّل عليّا على أبي بكر وعمر فقد أزرى باثني عشر ألف صحابي صحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنّه صلّى الله عليه وسلم مات وبالمدينة وما حولها ممّن آمن به وصحبه / نحو إثني عشر ألف، كلّهم إتفقوا على ولاية أبي بكر وعمر وتفضيلهما - رضي الله تعالى عنهم أجمعين -، فمن أزرى بواحد منهم هلك، فكيف بمن خالفهم وأزرى بهم أجمعين؟ والصّحابة - رضي الله تعالى عنهم - لا يجتمعون على ضلالة، فمن نسب إليهم أو إلى أحد منهم ظلما أو ضلالا فهو الظّالم المضلّ، وهم الهداة الأئمّة الرّاشدون. وقال أبو حفص عمر بن مثنى: كلّ من أدركت بهذا السّاحل من عالم أو عابد كان يستتر وينزوي بدينه من بني عبيد إلاّ أبا إسحاق، فإنّه بائن، ووثق بالله، فلم يسلّمه، ومسك به قلوب المؤمنين، وأعزّ به الدّين وهيّبه في عيون المارقين. وأخبر أبو حفص عمر بن مثنى عن محمّد بن عبد الرّحيم بن علي بن أخي عبد الرّحيم إبن عبد ربّه الزّاهد أن محمّد بن سحنون أتى بعد موت سحنون هو وأصحابه زائرين إلى عبد الرّحيم بن عبد ربّه الزّاهد، فسلّم عليه، فردّ عليه السّلام، وتركه جالسا حيث بلغ به المجلس ولم يقبل عليه حتّى انصرف، فلمّا كانت الجمعة الآتية إستنهض إبن سحنون أصحابه في الرّجوع إلى عبد الرّحيم، فقالوا له: رأيناه لم يقبل عليك، فقال لهم: ليس هذه بغيتي، هو رجل صالح ترجى بركته وبركة دعائه، وقد كان سحنون يأتيه ويتبرك بدعائه ويلجأ إليه في المهمّات من الأمور، فعاد إبن سحنون وأصحابه إلى عبد الرّحيم فلمّا رآه قام له على رجليه وأجلسه في موضعه، ولم يزل مقبلا عليه حتّى انصرف. فرجع إليه بعض أصحاب إبن سحنون فقال له: أصلحك الله رأينا فيك عجبا، فقال له: وما هو / يا ابن أخي؟ قال: أتاك إبن سحنون تلك الجمعة، فلم تقبل عليه، ثمّ أتاك اليوم فأقبلت عليه. فقال عبد الرّحيم: والله ما أردت بذلك إلاّ وجه الله، رأيت إجتماع النّاس حوله فخفت عليه الفتنة، فعملت ما عملت لأحزنه، فرأيت الليلة المقبلة قائلا يقول لي: ما لك لم تقبل على إبن سحنون وهو ممّن يخشى الله؟ فكان منّي ما رأيت. ومن أصحاب الشّيخ أبي إسحاق الشّيخ أبو زكرياء يحيى، ويعرف بابن المزيدي كان في سبيله، فكتب في جملة البحريين. فرفع إلى المهدية. فوجّه إلى الشّيخ أبي إسحاق وعرّفه أنّ الوقت وقت إستعانة، وتعرّف إلى أين يذهبون، قال: فوصلوا بي عند

الغروب وأدخلت دار الصّناعة فوجدت بها خلقا كثيرا، كلّهم على المعاصي والفسوق لا يذكرون الله إلاّ قليلا، فانزويت خلف مركب فصلّيت سرّا لأنّي ما رأيت أحدا منهم يتوضّأ ولا يصلّي، فبقيت إلى الغد ضحى، فنودي بي، فقال لي صاحب الصّناعة: أنت صاحب الجبنياني؟ قلت له: نعم. قال: إنصرف وها أنا محوت إسمك من الدّفتر، قلت: من سأل في؟ قال: أتاني رجل راكب على فرس له هيبة، سألني فيك، والله ما رأيته قبلها، ولا أعرف من هو، قال: فمضيت فأتيت أهلي ليلا، فسألت إبني متى مضيت إلى أبي إسحاق، فعرفني أنّه ضحوة في حين أطلعت من الصنعة، فقلت لابني: كيف كان دعاؤه؟ قال: لما أخبرته توضّأ وقام يصلّي، وقد أغلق على نفسه باب المسجد، وكنت أسمعه وهو يبكي / ويقول: اللهم، السّاعة السّاعة فكّ أسره وأنقذه من يد عدوه، ولا تجعل لهم عليه سبيلا ونحو هذا من الدعاء، قال: فأتيت الشّيخ وأخبرته، فقال: احمد الله فأنت مضطرّ وقد أجيبت دعوتك، ولكن أعرف كيف تستقبل نعمة ربّك، فاعتزل أبو زكرياء هذا ولزم العبادة بمرسى اللوزة، وكان يسرد الصّوم ويصيد بيده من البحر لقوته ويتصدّق منه حتّى جرت له قصّة في آخر عمره فكتمها، وهي: أن سلاّبة نزلوا عليه في مرسى اللوزة بشماع (¬178) ففتحوا الباب، ثمّ قسموا بيوت المرابطين فانتهبوا ما كان فيها حتّى أتوا إلى بيت أبي زكرياء، فوجدوه قائما في الصّلاة وسراجه يوقد، وهو يصلّي، فقطعوا صلاته وقالوا له: هات ما عندك من الودائع وإلاّ عذّبناك، فقال: إتّقوا الله ولا يغرّنّكم حلمه فيكم، ولا تتّبعوا الشّيطان، فقال بعضهم لبعض: هذا لا يجيئكم منه شيء إلاّ بالعذاب، قال: فجاءوا إليّ بخيط قنب (¬179) ورفعوا مئزري ليلقوه في أنثيني (¬180) فلمّا رأيت البلاء قد نزل رفعت عيني إلى السّماء وأنا أبكي وأتضرّع فقلت: إلا هي، ما هذا ظنّي بك، أعبدك لا أشرك بك شيئا تسعين سنة، فتهتك ستري وتفضحني في آخر عمري، لا وعزتك ما هذا ظنّي بك، قال: فسقط الخيط من أيديهم وولوا هاربين ما أخذوا من البيت شيئا، فقلت: اللهم لا تبق (¬181) على الأرض منهم أحدا! فما أتى عليهم ثلاثون يوما حتى قتلوا كلّهم، ومات أبو زكرياء وقد بلغ المائة. ¬

(¬178) كذا كتبها اللبيدي وكتبها المؤلّف فيما سبق: شموع وهو الصّواب. (¬179) في بقية الأصول والمناقب: «قرنب». (¬180) كذا بالأصول وبعض نسخ المناقب، وفي أخرى: «انثاي»، وفي تاج العروس 1/ 600: «تحت الأذنين». (¬181) في الأصول وبعض نسخ المناقب: «تبقى»، هامش 9 ص: 52.

ومن أصحاب الشّيخ أبي إسحاق موسى المعلّم كان / مشهورا بالعبادة وممّن كان سكن قصر زياد في آخر عمره وبه مات، وكان كتب أسماء إخوانه ليخصّهم بالدّعاء عنده غدوة وعشية ثمّ يدعو لسائر المسلمين. وكان إذا سمع بامرأة فقيرة أرمل لا مال لها ولا جمال، ولها أطفال فقراء، تزوجها ليربي أطفالها، فاذا زوجهم وقاموا بأنفسهم فارق أمهم. حكى بعض أيتام تزوج أمهم أنّه قال: تزوّج أمّي وكانت لا مال لها ولا جمال ولا خلق حسن، وكانت تعاتبه على كثرة صلاته تقول له: كم تصلّي ولا تسأل عن شيء، فيقول: ما جئت رغبة فيك، إنّما جئت رغبة في هذه الأيتام، قال: فزوّج أختي وأدخلها على زوجها، وعلّمني القرآن وجعلني عند من يعلّمني النجارة، فلمّا اكتفينا فارق أمّي فبكت عليه، فقال لها: ما يبكيك؟ ما كنت راغبا فيك، فما لك في فائدة، الذي قصدت إليه قد وفّقه الله لي، يريد كفالة الأيتام. ومن أصحاب الشّيخ أبي إسحاق الفضلاء عبد الله بن صالح، إختفى فلم يعلم به إلاّ بعد دهر طويل، وقد صار كشن قد تقطّع، وليس في بيته غطاء ولا وطاء إلاّ قطعة تليس على ظهره، وقطعة في وسطه، وقطعة من حصير أسود تحته، وقد اتّخذت الدّموع في خدّيه أخدودا، وله أخت متعبّدة، ماتا في يوم واحد، وسبب انقطاعه عن النّاس أنّه شهّر بصحبة أبي إسحاق فهرب، وكان من النّصحاء الفصحاء الدّعاة إلى الله تعالى. ومن أصحاب / الشّيخ أبي إسحاق أبو عبد الله [محمد] بن أبي العبّاس المؤدّب يعرف بابن قشّاش (¬182) كان من العبّاد الصّالحين ومن أهل العلم، فكان أبو إسحاق يعرف حقّه ويقرّبه، وكان إلى جانب أبي عبد الله عين تسمّى عين العافية، إفتتن بها العامّة يأتونها من الآفاق، من تعذّر عليها نكاح أو ولد قالت: أمضوا بي إلى عين العافية. قال أبو عبد الله المذكور: فأنا في سحر ليلة سمعت أذان أبي إسحاق الجبنياني نحو العين فخرجت فوجدته قد هدّمها، وأذّن للصّبح عليها، ثمّ قال: اللهم إني قد هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا، فكان كما قال، ثمّ مشيت معه فأتاه قوم من خدّام السّلطان ينسبون إلى الاعتزال، فسلّموا عليه، وعليهم ثياب جدد، فنزلوا عن خيولهم للسّلام عليه فاعترض لنا كلب فرجمه إنسان عنّا (¬183) فقال له الشّيخ: دعه، فلعلّه خير ¬

(¬182) هو كذلك في مناقب اللبيدي وعرف به ص: 54 - 55، وهو فيما يبدو قريب إبراهيم بن أحمد بن أبي قشاش، من أهل صفاقس، الفقيه الزاهد، له ترجمة في رياض النفوس 2/ 201 - 202. (¬183) في المناقب: «انسان منا»، ص: 54.

ممّن يتقرقع عليه ثيابه، فلمّا سمعوا مقالته هربوا، وكانوا من بني نافد، وكان منهم ومن آبائهم وزراء وكبراء لبني الأغلب ولمن بعدهم. قال أبو عبد الله المذكور عرفني بعض شيوخنا أنّ أبا العبّاس أحمد بن نافد، وزير بني الأغلب، منهم، وكان رجلا على السّنّة، وكان له إبن عمّ على البدعة، فبنى كل واحد منهما قصرا وجعل حوله بستانا بقرية بليانة، فأمّا أبو العباس فإنّه لمّا أكمل قصره وعملت له قبة عجيبة على باب قصره قال: ما تمنّيت إلاّ سماع العلم / فيها على سحنون بن سعيد، وكان إبن عمّه مباينا بعداوة أهل السّنّة، فخرج سحنون بن سعيد من قريته يريد قصر زياد لزيارة عبد الرّحيم المستجاب، فترك الطريق وأخذ غير الجادة فظنّ أصحابه أنّه غلط حتّى قرب من قصر أبي العبّاس بن نافد الوزير، فقال: إذا صرنا هاهنا فلا بدّ من زيارة أبي العبّاس، فأخبر أبو العبّاس، فخرج للقاء سحنون مع أصحابه راجلا فسلّم عليهم، فقال له سحنون: نحبّ أن نرى هذا القصر وهذه القبّة، فمشى معهم فيه، ثمّ جلسوا في القبّة ودعا سحنون بالبركة، ثمّ قال سحنون لأصحابه: أي شيء في أيديكم تسمعون؟ فقالوا له: كتاب الحجّ الأوّل من موطّأ إبن وهب، فقال: اقرؤوا، فسمعوه عليه في القبّة التي تمنّى أبو العبّاس ذلك فيها، ثمّ نهض سحنون ومن معه إلى قصر زياد فتقوّت بذلك نية أبي العبّاس في المذهب ونصرة أهله، وكان نصرة لمن يظلم من أهل السّنّة بعد ذلك اليوم. فلمّا أخبر أبو الحسن القابسي قال: هكذا يفعل من كان إماما داعيا إلى الله تعالى. ومن أصحاب الشّيخ أبي إسحاق العالم العابد أبو عبد الله محمّد بن محمّد الطّومشي، كان من أهل الرّواية الواسعة، روى عنه خلق كثير، وكان زاهدا ورعا، لا يتكلّم عنده أحد في أحد من النّاس، وكان يقول: إني لأرجو أن ألقى الله وما اغتيب عندي أحد قط، وكان مجاب الدّعوة، وربّما نزل به ما يبلى به المؤمنون، فما يلجأ إلى أحد من المخلوقين، بل يستقبل / القبلة، فربّما قام اليومين بلياليها لا يبرح عن القبلة، ولا يخرج إلاّ لما لا بدّ منه حتّى تقضى حاجته، فأعجب بذلك أبو الحسن القابسي، وقد سقطت [أشفار] (¬184) عينية من البكاء والنّحيب ويهرب من مكان إلى مكان، وكان أمير قريته على غير مذهبه، وصاحب المرسى يعافيه من المظالم فلقيه يوما فطلب كلمة ¬

(¬184) إضافة من المناقب، ص: 56.

يقولها له ترضيه ولا تسخط الله تعالى فوجدها ودعا له بها وهي: تولّى الله عنّا مكافأتك فيما ولّيت، وأراد بها الدّعاء عليه، ففرح وظنّ أنه دعا له ونجا بها منه. وكان استنسخ (¬185) من الشّيخ أبي إسحاق كتابا فيه رقائق وحكايات، فقال لعبد الرحمان إبن الشّيخ أبي إسحاق: لعلنا نلاطف الشّيخ، أنا وأنت، لنسمع الكتاب عليه، قال: فجئنا إلى الشّيخ فقلنا له: أصلحك الله نقابل هذا الكتاب بين يديك، قال: إفعلا، فلما أخذنا في المقابلة قلت له: أصلحك الله على من قرأته وعمّن رويته؟ فأخذ الكتاب من يدي وقال لي: إنصرف، فقلت له: أصلحك الله، لو ترك العلماء الرواية لا نقطع العلم، وأنت تعلم ما جاء في الحديث فيمن كتم علما علمه أنه يلجم بلجام من نار (¬186)، فكان من ردّ الشّيخ وهو يبكي: أليس قد جاء في الحديث: «يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوّ له ينفون عنه تحريف القائلين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» فقلت: نعم، فقال لي شيخ جبنيانة: ليس بعدل حتّى تنقل شهادته عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فانصرفت / عنه وأنا أبكي. ولمّا قدم أبو حامد الخراساني لزيارة أبي إسحاق سلّم عليه وقال له: جئتك من خراسان زائرا، فقال له أبو إسحاق: إن صدقت فأنت أحمق، وإن قبلت أنا هذا منك فأنا أحمق منك، كيف تترك العراق ومن به من العلماء ثمّ حرم الله وحرم رسول الله والشّام ومصر، وتأتي إلى المغرب، إلى شيخ جبنيانة تقول له هذا؟ فبكى أبو حامد وقال له: لو لم يكن هذا لم آتك. ولمّا انصرف أبو حامد من المغرب قيل له: ما أعجبك ما رأيت بالمغرب؟ قال: رأيت أربعة لم أر (¬187) مثلهم قطّ، رأيت أبا الحسن علي بن محمّد بن مسرور الدّبّاغ (¬188)، فلم أر أكثر حياء منه (¬189)، ورأيت أبا إسحاق ¬

(¬185) أي أبو عبد الله محمد الطومشي. (¬186) يشير إلى الحديث الشريف «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيام بلجام من نار»، رواه الإمام أحمد في المسند وأصحاب السنن الأربع، أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة، ورمز السيوطي لصحته. أنظر فيض القدير، 6/ 146. (¬187) ساقطة من ش. (¬188) هو الفقيه العابد الورع، له رحلة إلى المشرق (ت. سنة 359/ 969 - 970): ترتيب المدارك 4/ 525 - 528، الديباج 2/ 98 - 99 شجرة النور الزكية: 94 وذكر أنه بقصر أبي الجعد أحد قصور المنستير. (¬189) قال القابسي: «ما رأيت أكثر حياء من أبي الحسن الدباغ ما يكلمه أحد إلاّ احمر لونه ولقد كان أحيا من الأبكار» الديباج.

الشيباني فلم أر أعقل منه (¬190)، ورأيت أبا الحسن الكانشي فلم أر أظهر حزنا منه، ورأيت أبا إسحاق الجبنياني فلم أر أزهد في الدّنيا منه. قال الشّيخ أبو القاسم اللبيدي (¬191): وكان من أصحاب الشّيخ جماعة من أهل العلم والعبادة لو ذهبت إلى ذكرهم لطال الكتاب. وأما زوجة الشّيخ (¬192) فكانت في الفضل بمكان مكين، قيل لها: هل رأيت من الشّيخ شيئا تخبرينا به؟ فسكتت وأبت من القول. فلما مات الشّيخ سئلت فقالت: بينما أنا في ليلة مظلمة إذ رأيت نورا غشى الحجرة والموضع الذي به الشّيخ، وسمعت الحديث، فرعبت، وأقام (¬193) ذلك مدّة، فأحسّ بي الشّيخ وعلم أنّي يقظانة فقال لي: احذري أن تذكري ما رأيت ما دمت حيّا. وكان الشّيخ أبو / إسحاق يؤخّر الظّهرين مخالفة للشيعة لأنّهم كانوا يلزمون النّاس بأدائها لأوّل الوقت، وربّما زاحموا الوقت فخاف الشّيخ أن يعتقد وجوب ذلك أو وقوعها قبل وقتها، واقتدى به أبو الحسن القابسي فكان يؤقّت للظّهرين. وكان الشّيخ محبّا لآثار الصّالحين وحكاياتهم، ويكتب ذلك، وكتب بخطّه على ظهر كتاب الجنائز (¬194) حكاية يقول: بلغنا أن إبن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ضرب يوما مثلا للنّاس فقال: خرج رجل من مدينة فنصب فخاخا نائية عن الطريق وحيدة، قال: فوقع بين يديه عصفور، فأنطق الله الفخّ وألهم العصفور، فقال له العصفور: ما لي أراك نائيا عن الطّريق؟ فقال: اعتزلت شرار النّاس، فقال: ما لي أراك منحنيا؟ قال: نهكتني العبادة، فقال: ما لهذه العصا بين يديك؟ قال: أتوكّأ عليها من طول القيام، قال: فما هذه الحبّة في فيك؟ قال: أترصّد بها أبناء السّبيل، قال: وأنا منهم، قال: فدونك، فنقر العصفور الحبّة فصارت العصا في حلقه، فصاح: غاق غاق والله لا غرّني مرائي (¬195) بعدك. قال إبن عبّاس - رضي الله تعالى عنهما - فهذا مثل قراء يكونون في آخر الزّمان. ¬

(¬190) ساقطة من ش. (¬191) المناقب، ص: 60. (¬192) المناقب، ص: 64. (¬193) في ش: «قام». (¬194) أي من المدوّنة، والكتاب مقصود به الباب. (¬195) في الأصول: «مزائي».

فلمّا سمع أبو الحسن القابسي هذه الحكاية بكى وقال: {أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} (¬196)، وأعوذ بالله من الفتنة في الدّين، واتّباع سبيل المفسدين. قال أبو عبد الله النّجّار: مشيت مع أبي إسحاق في فتنة أبي / يزيد الخارجي حتى دخلنا قرية، فرأينا بعض أعراب أبي يزيد فاختفينا في حجرة في أقصاها حتى دخل فارس منهم بامرأة ذات هيبة وجمال يقودها يراودها عن نفسها، فلما أحسسنا به لم أستطع أن أمسك أسناني (مما تتقلقل) (¬197) من الخوف، وأما أبو إسحاق فوضع خدّه على كفّه وهو يتطلّع إلى السّماء ويدعو، فنزل الفارس عن فرسه وحلّ سراويله، وهي تتضرّع إلى الله تعالى أن يتركها، واستدعى (¬198) انتشار آلته فما جاءه من نفسه شيء فتركها، فانصرفت وانصرف، فخرجنا نمشي بعد ما ذهبوا، فلمّا صرنا في الفحص قلت: يا أبا إسحاق ألا ترى هذا البلاء الذي نزل؟ فقال لي: ما هو يا أحمق؟ قلت له: قتل الأنفس، وهتك الحريم، وذهاب الأموال، وخراب الدّيار، وقطع السّبيل، فأقبل علي وهو مغضب ويقول: أين هذا من أن يدعى الله عجلا في الأسواق، لو خرّت السّماوات على الأرضيين وهلك العباد أجمعون على هذه الكلمة لكان قليلا، قال ذلك وهو يبكي، ثم قال لي: يستعظم الناس هذا ولم يستعظموا أن يجعلوا ربّهم عجلا، ثم هم يقيمون على البيع والشراء والاغترار بالدّنيا. فلمّا بلغ ذلك أبا الحسن القابسي بكى بكاء عظيما وقال: والله إنّه كما قال الجبنياني، ولا أدري كيف خلاص العباد من هذه المسألة يوم القيامة إن لم يتغمدهم الله برحمته. وكانت وفاة الشّيخ أبي إسحاق / يوم الأربعاء سابع عشر من المحرّم فاتح سنة تسع وستين وثلاثمائة (¬199) ودفن شرقي جبنيانة (¬200). وجبنيانة من وطن صفاقس الشرقي، بينها وبين صفاقس مرحلة خفيفة، فهي من منازل صفاقس الراجعة إليها، فما ذكر مع الشّيخ من رجال الوطن فكلهم من رجال صفاقس، فلذا ذكرتهم. ¬

(¬196) إقتباس من الآية 67 من سورة البقرة. (¬197) كذا في الأصول وفي بعض نسخ المناقب، وفي غيرها: «تتقلقل». «ومما تتقلقل بي». (¬198) في الأصول: «استدعا». (¬199) 14 أوت 979 م. (¬200) في ت: «هذه جبنيانة».

ترجمة الأديب عبد الله الجبنياني

ولمّا توفّي الشّيخ أبو إسحاق وجد في رقعة (¬201) معه، تحت قطعة الحصير الذي تحته، مكتوب بخطّه: رجل وقف به هاتف فقال له: حسّن عملك فقد دنا أجلك. قال ولده عبد الرّحمان: كان الشّيخ إذا قصّر في العمل أخرج هذه الرّقعة فنظر إليها ثمّ ردها ورجع إلى الجدّ فيما هو فيه من العبادة. وما وجد له من الدّنيا قليل ولا كثير إلاّ أمداد شعير في قلّة مكسورة، والحجرة التي كان يسكنها لولده أبي الطّاهر إشتراها بثلاثة دنانير، وما كان له على وجه الأرض [شيء] (¬202) يورث (¬203). ترجمة الأديب عبد الله الجبنياني: وكان ولده أبو الطاهر صالحا فاضلا ولأبي الطاهر ولد يسمّى عبد الله (¬204)، كان أديبا شاعرا، ظريفا، ذكره إبن رشيق في الأنموذج، وأخبر أنّ صفاقس موطنه وأنّ بها منشؤه، وكانت له نباهة ولطافة في جميع أحواله مع نزاهة نفس وعلو همة، قال: واجتمعت به في صفاقس فكنت أقطع الغربة بقربه، ثمّ انفصلت إلى الحضرة فلم يكن إلاّ قليل حتّى اجتاز علينا متوجّها إلى الأندلس، فسألته عن سبب ذلك، فأخبرني أنّ عليه دينا ثقيلا قد إستغرق ذمّته وأنشدني لنفسه وهو يتمايل وكان / متعلّق (¬205) القلب بجارية له أم ولد تركها بموضعه. [وافر] سأضرب في بلاد النّاس برّا ... وبحرا بالسّفائن والرّكاب إلى أن تنكر الأحباب منّي (¬206) ... ثوابّي بالمغارب واغترابي (¬207) لأكسب ثروة وأفيد مالا ... وأبلي عذر نفسي في الطّلاب ¬

(¬201) في المناقب: «رق». (¬202) إضافة من المناقب، ص: 69. (¬203) إنتهى نقله من المناقب، ص: 2 - 69. (¬204) ما يتعلّق بعبد الله نقله من رحلة التجاني ص: 81 - 82. الحلل السّندسيّة (نقلا عن التجاني) 324 - 325. (¬205) في ط: «معلق». (¬206) في الأصول: «منا»، والتّصويب من الرّحلة. (¬207) في الأصول: «الاغتراب».

ترجمة الفقيه أبي القاسم عبد الرحمان اللبيدي

فإن نلت المراد فذاك حسبي ... وإن أحرم فإني ذو احتساب وما فارقت إخواني وأهلي ... وما (¬208) أحببت إلاّ عن (¬209) غلاب. قال: وارتحل فاتّصل بالحاجب الموفّق مجاهد بن عبد الله (¬210) فأكرمه وعظّمه وأدناه وقرّبه وكشف عنه، فوجد فضلا وجلالة، فاستمسك به وحسد على مكانه منه فوجد في منزله مذبوحا وسكّين الأقلام بين يديه مغالطة كأنّه فعل ذلك بنفسه، وبقيت الرّوح فيه، فسألوه من به، فأشار إلى فقيه الموضع، وكان الفقيه المذكور كثير الملازمة [له] وهلك من ساعته، فقال الفقيه: إنّما أشار إليّ بالوصية، فقيد وسجن إلى أن جاء وليّ الدم فطلبه فلم يتوجّه له عليه حقّ (¬211)، فأطلقه، وكانت وفاة (¬212) عبد الله المذكور سنة خمس عشرة وأربعمائة (¬213). ترجمة الفقيه أبي القاسم عبد الرّحمان اللبيدي: ومن منازل صفاقس أيضا قرية لبيدة (¬214) كما قال الرّشاطي (¬215)، وإليها ينسب الفقيه الصالح أبو القاسم عبد الرّحمان بن محمّد الحضرمي اللبيدي (¬216)، قال إبن شرف في صلته لتاريخ الرّقيق: كان بقية أهل العلم وله تصانيف في الفقه، وبرع في الفتيا، وذكر الرّشاطي أنّ تأليفه المسمّى «بالشّرح والتّفصيل لمسائل المدوّنة» كتاب كبير. قال في المعالم (¬217): / سمع على الشّيخ أبي الحسن القابسي، وأبي محمّد بن أبي زيد، وغيرهما، وسمع منه أبو عبد الله محمّد بن سعدون وغيره من القرويين والأندلسيين، ¬

(¬208) في الرّحلة: «ومن». (¬209) في الأصول: «من». (¬210) هو العامري. (¬211) في ت: «حق أبدا»، ساقطة من ب. (¬212) في الأصول: «وفات». (¬213) 1024 - 1025 م. (¬214) أنظر رحلة التّجاني، ص: 83. (¬215) بواسطة التّجاني. (¬216) له ترجمة في رحلة التّجاني 83، الحلل السّندسيّة 1/ 325، تراجم المؤلّفين التّونسيين 4/ 208 - 210 وذيّل التّرجمة كعادته بذكر المصادر والمراجع. (¬217) النّقل من معالم الإيمان زيادة عما في رحلة التّجاني.

ووجهه أبو الحسن القابسي لتفقيه أهل المهدية وامتد عمره بعد اقرانه فحاز رئاسة العلم والتّشيّخ (¬218) به بالقيروان، وكان فاضلا فقيها زكيّا له اعتقاد في الصّالحين يزورهم في السّاحل ويبحث عن مناقبهم وأحوالهم، وهو الذي ألّف مناقب (¬219) أبي إسحاق الجبنياني، وله كتاب في الفقه كبير جمع فيه بين النوادر لأبي محمّد (¬220) وموطّأ مالك وغيرهما، فجمع فيه مذهب مالك كله، وألّف اختصار المدوّنة (¬221)، توفّي بالقيروان سنة أربعين وأربعمائة (¬222) وسنه ثمانون سنة (¬223) وأنشد لنفسه بعد ما ذكر مناقب الشّيخ أبي إسحاق الجبنياني وأصحابه هذه الأبيات (¬224): [البسيط] أنت العليّ وأنت الخالق الباري ... أنت العليم بما تخفيه أسراري أنت الغني فما للخلق مقدرة ... في وسع عيش وفي بؤس وإقتار تعطى (¬225) الولاية أقواما فتلبسهم ... ثوب المهابة محروسا من العار تجول في ملكوت العزّ أنفسهم ... تبدو مدامعهم خوفا من النّار قد أسلموا الأهل والأوطان وارتحلوا ... ما أن ترى مثلهم في نازح الدّار يا طول حزني على تركي لوصلهم ... يا ويح نفسي على بعدي وإدباري لم لا أظلّ على الأشجان (¬226) معتكفا ... أدعو المليك بإفصاح وإضمار على (¬227) المليك يذود النّفس عن عطب ... يجلو الغماء (¬228) بتوفيق وأنوار ¬

(¬218) في ت: «مع التشيخ». (¬219) حقّقه وترجمه إلى الفرنسية الأستاذ هادي روجي إدريس مع مناقب محرز بن خلف لأبي طاهر الفارسي، «أطروحة تكميلية»، من منشورات كلية الآداب بجامعة الجزائر، باريس 1959. (¬220) هو إبن أبي زيد القيرواني وهو شيخه، وهذا الكتاب يعرف بزيادات الأمّهات. (¬221) ويعرف بالملخّص كما ذكره إبن شرف في صلته لتاريخ الرّقيق، وذكر الرّشاطي أنّه توفّي سنة ثلاثين وأربعمائة، أنظر رحلة التّجاني 83. (¬222) 1048 - 1049 م. (¬223) فيكون مولده سنة 360/ 971 م. (¬224) المناقب ص: 70. (¬225) كذا في بعض نسخ المناقب، وفي بعض النسخ الأخرى وفي الأصول: «تصفى». (¬226) كذا بالأصول والمناقب. (¬227) كذا بالأصول وفي بعض نسخ المناقب، وفي غيرها: «عسى»، هامش 14 ص: 70. (¬228) في الأصول: «العمى»، والتّصويب من المناقب.

ترجمة أبي عمرو عثمان الصدفي المعروف بابن الضابط

ترجمة أبي عمرو عثمان الصّدفي المعروف بابن الضّابط: ومن علماء صفاقس (¬229) وشعرائها المتقدّمين ولم يذكره إبن رشيق / في الأنموذج وهو من المعاصرين له أبو عمرو عثمان بن أبي بكر بن حمّود الصّدفي المعروف بابن الضّابط، الإمام المحدّث الشّاعر، له رحلة إلى المشرق وأخذ فيها عن جماعة يطول تعدادهم، منهم الحافظ أبو نعيم، صحبه باصبهان، وكتب عنه كثيرا، ذكر أنّه كتب عنه بخطّه مائة ألف حديث، وكان يقول: لم ألق مثل أبي نعيم علما وعملا، ثمّ توجّه إلى الأندلس سنة ستّ وثلاثين وأربعمائة (¬230) فأقرأ بها وأخذ عنه علماؤها وأثنوا عليه، وعاد منها إلى القيروان (¬231)، فوجّهه صاحبها الصنهاجي (¬232) رسولا إلى القسطنطينية (¬233) فمات في طريقه إما صادرا أو واردا بعد أربعين وأربعمائة (¬234)، وذكره أبو عمرو بن الحذّاء (¬235) في تسمية رجاله الذين التقى بهم، فقال: قدم علينا طليطلة وسنه نحوا من خمسين سنة، وكانت له رواية واسعة وكتب كثيرة قد رواها بالعراق وبالشّام والحجاز ومصر، وتجوّل عندنا بالأندلس نحو عامين، ثمّ انصرف إلى القيروان، وكان لي صديقا وتكررت كتبه إلى من القيروان إلى أن أرسله الصنهاجي إلى القسطنطينية فبلغتنا وفاته. وذكره الحميدي (¬236) أيضا فقال: كان حافظا عاقلا، قرأت عليه كثيرا وكتبت عنه وأنشدني: [المتقارب] إذا ما عدوّك يوما سما ... إلى حاجة (¬237) لم تطق نقضها فقبّل ولا تأنفنّ كفّه ... إذا أنت لم تستطع عضّها ¬

(¬229) النقل من رحلة التجاني ص: 78. (¬230) 1044 - 1045 م. (¬231) في أواخر سنة 438/ 1047 م. (¬232) هو المعز بن باديس. (¬233) هذه المرّة الثّانية التي وجّهه فيها المعزّ بن باديس إلى القسطنطينية. (¬234) 1049 م. (¬235) في الأصول: «بن الجواد»، والتّصويب من الرّحلة ص: 79. (¬236) في جذوة المقتبس ص: 285 - 286 (ط. مصر) 2/ 387 - 390. (¬237) في الرّحلة: «حالة».

وذكره إبن بشكوال في الصّلة (¬238) وأثنى عليه وأخبر عنه أنّه قال: / بعث إلي شعراء القيروان، حين مقامي بها، منهم: إبن رشيق وابن شرف وابن حجاج والعطار، يسألونني (¬239) أن أرسل إليهم بشعري، فقلت للرّسول: إنه في مسودّاته، فقال: أحمله كما هو فأخذته وكتبت عليه إرتجالا، ثمّ بعثت به. [المتقارب] خطبتم (¬240) بناتي فأرسلتهنّ ... إليكم عواطل من كلّ زينة لتعلموا (¬241) أنّي (¬242) ممّن يجود (¬243) ... بمحض الوداد وليس (¬244) ضنينه قال فأجابوني بعد بطء بهذه الأبيات: [المتقارب] أتتنا بناتك يرفلن في ... ثياب من الوشي يفتنّ زينة فلمّا سفرن فضحن الشموس ... وسرب الظباء وأخجلن (¬245) عينه ولمّا نطقن (¬246) سحرن العقول ... وظلّ القرين ينادي قرينه أفي بابل نحن أم (¬247) في العراق ... وفوق البسيطة (¬248) أم في سفينة فدعني أراقب (¬249) صوت (¬250) الجميع ... لنسمع من كلّ مدح عيونه وأبو عمرو هذا هو أوّل من أدخل إلى الأندلس كتاب غريب الحديث ¬

(¬238) نقلا عن التّجاني، الرّحلة 79، وأنظر الصّلة عدد 131. (¬239) في ش: «يسئلوني». (¬240) في الرّحلة، ص: 80: «خطبت». (¬241) في الرّحلة: «لتعلم». (¬242) في الأصول: «انني». (¬243) في ش: «أجاد». (¬244) في الأصول: «وشيئا». (¬245) في الأصول: «ونجلاء». (¬246) في الأصول: «نطقنا». (¬247) في الأصول: «أو». (¬248) في الأصول: «البساط». (¬249) في الأصول: «أرقب». (¬250) في الرّحلة: ضوء».

ترجمة الشيخ أبي حفص عمر القمودي

للخطابّي، وله جزء تضمّن عوالي كتبها لأبي محمّد بن عبد الرّحمان إبن عتّاب يعرف بعوالي الصفاقسي (¬251). ومن منازل صفاقس قصر نقّطة قال التّجاني: ويقال أن جماعة من أصحاب معروف الكرخي - رحمه الله - رابطوا بقصر نقّطة هذا وماتوا به فقبورهم هنا لك اهـ‍ (¬252). ترجمة الشّيخ أبي حفص عمر القمّودي: ومن فقهاء صفاقس وشعرائها المتقدمين أبو حفص عمر القمّودي (¬253)، قال في معالم الايمان (¬254): قيرواني الأصل نزل بصفاقس، وكان فقيها أديبا مفتيا من حفاظ المدونة والقائمين عليها، ومن حفاظ الشعراء، أخذ عن / أبي بكر بن عبد الرّحمان، وأبي عمران الفاسي، وصحب أبا القاسم السّيوري، ذكر بعض أصحابه قال: لما ودعني الفقيه أبو حفص عمر القمّودي (253) أنشدني بيتين شعرا: [الرّمل] هيّجوا للبين برقا فلمع ... وأثاروا دمع عيني فاندفع ودعوا قلبي فلما جاءهم ... أوقعوه بين يأس وطمع (¬255) ¬

(¬251) نقل الترجمة من رحلة التجاني 78 - 80، وأنظر الحلل السندسية 1/ 320 - 323، تراجم المؤلفين التونسيين 3/ 261 - 263. (¬252) رحلة التجاني 84، الحلل السندسية 1/ 326 - 327، ونقّطة تقع على ساحل البحر غربي صفاقس، وبها أولاد الرقيق الحسنيون، انتقل بعضهم إلى صفاقس وبعضهم ما زال موجودا بها إلى الآن، وأولاد الرقيق ذكرهم العبدري في رحلته عند عودته من الحج. (¬253) في الأصول: «الغمودي». والقمودي بالقاف المفتوحة المعقدة كالجيم المصرية. (¬254) 3/ 201. (¬255) أنظر عنوان الأريب 1/ 440، ترتيب المدارك 4/ 798.

ترجمة الشيخ أبي الحسن علي اللخمي

ترجمة الشّيخ أبي الحسن علي اللخمي: ومن أعيان فقهاء صفاقس وأفاضلها المشهورين أبو الحسن علي بن محمّد الربيعي المعروف باللخمي (¬256)، وهو ابن بنت اللخمي، تفقه بابن محرز والتونسي والسّيوري وغيرهم، وظهرت فتاويه، وكان فقيها فاضلا متفننا ذا حظ من الأدب والحديث، جيد النظر حسن الفقه، كان فقيه وقته وأبعد النّاس صيتا في بلده، وبقي بعد أصحابه فحاز رئاسة بلاد إفريقية جملة، وتفقّه به جماعة من الصفاقسيين وغيرهم، أخذ عنه أبو عبد الله المازري، وأبو الفضل النحوي، وعبد الحميد الصفاقسي، وأبو علي الكلاعي، وعبد الجليل بن مفوّز (¬257) وغير واحد، وله تعليق على المدونة سماه «التبصرة»، مفيد حسن، وهو مقدم (¬258) بتخريج الخلاف في المذهب واستقراء الأقوال، وربما اتبع نظره فخالف (¬259) المذهب فيما ترجح عنده، فخرجت اختياراته في الكثير عن قواعد المذهب. وكان حسن الخلق مشهور الفضل، زاد ابن ناجي (¬260) قوله: أصله من القيروان ونزل صفاقس، مسجده (¬261) بصفاقس مشهور إذا دخله الداخل يرى فيه نورا زائدا على غيره من المساجد، وفي زماننا يدرس فيه / الشّيخ أبو بكر القرقوري صاحب الزاوية القريبة (¬262) منه، فدرس فيه نحوا من أربعين سنة، ثم قال: ولما قرئ قول المدونة في بيوعات (¬263) الآجال بمنع ضع وتعجل (¬264) في درس بعض مشيخة التونسيين لم يذكر أحد من أهل الدّرس خلافا الا واحدا فقال: هذا المشهور وأجازه ابن القاسم فأنكر عليه، فقال: اللخمي حكاه. فلما انفصل المجلس نظر أهله كلام اللخمي في بيوعات (263) الآجال فلم يجدوا فيه شيئا، فلما كان من الغد قالوا له: ما ذكرت عن ¬

(¬256) النّقل من معالم الإيمان 3/ 199. (¬257) في الأصول: «بن فوز». (¬258) في الأصول: «مقرى». (¬259) في ش: «مخالف». (¬260) في تعليقاته على معالم الإيمان 3/ 199. (¬261) جامع الدريبة الآن، بحومة الرقة سابقا. (¬262) في المعالم: «الغربية». (¬263) في الأصول: «بياعات». (¬264) هذه مسألة من بيوع الآجال بالمدونة، أنظر ص: 185 ج 3 (طبع الخشاب بالقاهرة)، وقد أخذت عند الفقهاء عنوان (ضع وتعجل)، وهي أن يسلف بضاعة لأجل ثم يضع من السلف ويتعجل القبض وفيها مراباة منعها مالك.

اللخمي غير صحيح اذ لم يذكره هنا وهو محله، فانفصل الطالب عنهم في غم شديد، فلما نام (¬265) من الليل رأى في منامه الشّيخ أبا الحسن اللخمي فقال له: يا سيدي نقلت عنك، وذكر له القصة وكون الطلبة نظروا كتابه في بيوع الآجال ولم يجدوا فيه ذلك النقل، فقال له: ذكرته في فصل الخلع، فانتبه الطالب فرحا فقام في ليله ونظر الكتاب فوجده كما نقل، فلما أصبح ذكر ذلك لأهل المجلس واشتهرت قضيته وفضل الله عليه برؤيته المذكورة. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ثمان وسبعين وأربعمائة (¬266) وقبره مزار (¬267) يعرفه الخاص والعام، ولهم فيه اعتقاد تام وحق لهم ذلك (¬268) اهـ‍. قلت: وقد بنى عليه بعض الولاة قبة مشهورة ظاهرة النور والبركة [وعلى باب القبة في العتبة العليا منقوش هذه الأبيات لبعض الشعراء تدل على أن القبة بناها مراد باي: [الطويل] هلال تبدّى (¬269) في علا الأفق ساطع ... وأشرق عنه (¬270) الكون كالبرق لامع (¬271) أمين كريم علي زكي الفواضل ... مراد (¬272) مراد الباي في العزّ طالع فأحيي ضريح الحبر علمه ظاهر ... أبي الحسن اللخمي يكن له شافع فيا ربّنا أبق الباي واحفظه دائما ... فكلّ كريم في حماه تراتع وبلّغه في نجليه ملكا ورفعة ... وقلّده سيف النصر رحبه واسع (¬273) ومعه فيها صاحبه الشّيخ عبد الجبّار الفرياني خلف قبر الأستاذ متّصلا به، وفي مؤخر القبة قبر عليه شباك في الرّكن الشّرقي الشّمالي لبعض / الولاة رجاء بركة الشّيخ أن يعفو الله تعالى عنه، فرؤى الشّيخ في النّوم فقال: فرقوا بيني وبينه، فجعل ذلك الشباك، والله أعلم (¬274). ¬

(¬265) في المعالم: «قام». (¬266) 1085 - 1086 م. (¬267) خارج سور المدينة. (¬268) معالم الإيمان 3/ 200. (¬269) في ت: «تبدأ»، وكذلك في النقيشة الموجودة الآن فوق الباب. (¬270) كذا في ت، وفي بقية الأصول: «عليه». (¬271) في ت: «اللمع». (¬272) في ت: «مرادي». (¬273) إضافة من بقية الأصول. (¬274) لأبي الحسن اللخمي ترجمة في تراجم المؤلفين التونسيين 4/ 214 - 219، وأنظر الحلل السّندسيّة 1/ 322 - 323، وسقطت ترجمته فيما طبع من رحلة التّجاني.

ترجمة الشيخ أبي القاسم عبد الخالق السيوري

ترجمة الشّيخ أبي القاسم عبد الخالق السّيوري: ولما جرى ذكر السّيوري فلا بد من التّعرّض لذكره لفائدة. هو أبو القاسم عبد الخالق بن عبد الوارث القيرواني، آخر طبقة من علماء إفريقية (¬275)، وخاتمة أئمة القيروان، ويقال انه تفقه بأبي بكر بن عبد الرّحمان وأبي عمران (¬276) وتلك الطبقة، وعليه تفقّه اللخمي وعبد الحميد المهدوي إبن (¬277) الصائغ، وأخذ عنه قديما عبد الحق وابن سعدون وغيرهما، وطال عمره، فكانت وفاته بالقيروان سنة ست وستين وأربعمائة (¬278). قال في معالم الايمان (¬279): قال عياض: ويقال أنه مال أخيرا إلى مذهب الشافعي، قلت (¬280): ليس هو بتقليد ولا خلاف في أكثر المسائل، وانما خالف في قليل كقوله: القمح والشعير جنسان. وما زلت أسمع أنه رمى لقطّة لقمة من شعير وأخرى من قمح فشمّت اللقمة الأولى وانصرفت عنها ثم شمت الأخرى فأكلتها ولم تعد للأولى، فقال: هذا الحيوان البهيمي فرق بينهما، وكذلك خالف المذهب في التدمية البيضاء وقال: لا يعوّل عليها، وكذلك قال بخيار المجلس كما قال المخالف، وهو قول ابن حبيب من أصحابنا للدلائل الدّالة على رجحان مذهب من خالف مالكا فيها، قال ابن المواز في كتاب الخيار من تعليقته (¬281): حلف السّيوري بالمشي لمكة لا يفتي مالك في هذه الثلاث مسائل. قال: ولما أرادوا تجديد / السّور بعد خراب القيروان وطلب إدخال داره امتنع بعض من له القول (¬282) فدعا (¬283) عليهم بعدم الاتفاق في الكلمة فمن ثم لم يكن لهم مشيخة أي عرفا (¬284). ¬

(¬275) النّقل من معالم الإيمان بتصرّف 3/ 181. (¬276) هو الفاسي. (¬277) في الأصول: «أبي». (¬278) 1073 - 1074 وجاء في المعالم أنه توفي إمّا في سنة 462 أو في سنة 460/ 1068 م. (¬279) 3/ 183. (¬280) أي مؤلف المعالم. (¬281) في الأصول: «تعلقته». (¬282) في المعالم ص: 184: «لما أخذ الناس في بناء القيروان اختصارا عمّا كانت عليه أراد الشيخ أن يدخلوا داره في البلاد فاختلفوا فغلب من أراد خروجها فدعا عليهم بأن لا تتفق لهم كلمة فيقال أن دعوته أجيبت». (¬283) في ش: «فدعى». (¬284) أنظر عن السيوري أيضا: ترتيب المدارك 4/ 170 - 171، وتراجم المؤلفين التونسيين 3/ 116 - 117.

ترجمة الشيخ أبي يحيى زكرياء إبن الضابط

ترجمة الشّيخ أبي يحيى زكرياء إبن الضابط: ومن تلاميذ الإمام اللّخمي الشّيخ أبو يحيى زكرياء بن الضابط، كان مفتيا بصفاقس بعد الإمام اللخمي معاصر للإمام المازري، قتله النّصارى (¬285) - دمّرهم الله -، لمّا تملّكوا المهدية وسوسة وسائر بلاد الساحل إلى (¬286) طرابلس، دخلوا عليه فوجدوا بيده مصحفا يقرأ فيه فقتلوه، وقتلوا جماعة من الفقهاء - وإنّا لله وإنّا إليه راجعون - اهـ‍ بالمعنى من كتاب جامع مسائل الأحكام (¬287). وكان - رحمه الله تعالى - يفتي بأن الجهل بالأحكام، وما توجبه السنة عذر مقبول على الصحيح فيما سوى الحدود، ومما نقل بالسّماع الشائع أنه - رحمه الله تعالى - لما تملك النصارى البلاد طلبوا من الناس الزيت، فضاق ذرع الناس فقال لهم الشّيخ: لا بأس عليكم، مروا النصارى باحضار مراكبهم وأوعيتهم، فلما أحضروا ذلك أمر من يملأ الماء ويناوله فيعطيه لمن يكيله بحضرة النّصارى فاذا هو من أطيب الزّيت وأعلاه، فملؤوا أوعيتهم وشحنوا مراكبهم وسافروا لبلادهم، فلما وصلوا بلادهم (¬288) فتحوه فوجدوه ماء فرجعوا به فقالوا: هذا ماء، فقال: بل زيت، ففتحوه فاذا هو زيت، فرجعوا إلى بلادهم فوجدوه ماء، فصاروا كلما فتحوه بصفاقس وجدوه زيتا، وكلما فتحوه ببلادهم وجدوه ماء، فلعل ذلك كان سبب قتله وقتل جماعته / لينال رتبة الشهادة. واستيلاء الكفار قد تقدم أنه كان سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة (¬289)، فهو تاريخ وفاة الشّيخ أو بعده بيسير، وضريحه بداخل صفاقس برأس زقاق الذهب (¬290) منها من جهة جنوبيه، وهو مشهور مزار متبرك به. واستيلاء الكفرة (¬291) على ما تقدم من البلاد هو سبب إنقطاع الفقهاء المجتهدين من إفريقية لا سيما وقد استولى عليها مفسدو الأعراب. ¬

(¬285) يقصد النرمان. (¬286) في ش: «الا». (¬287) تمام إسمه، «فيما نزل بالمفتيين والحكام لأبي القاسم البرزلي القيرواني». (ت.841/ 1438). (¬288) أي صقلية. (¬289) 1148 - 1149 م. (¬290) هذه الحومة (الحارة) وتعرف اليوم بهذا الإسم وتقع غربي المدينة. (¬291) في ط: «الكفار».

ترجمة الشيخ أبي بكر الفرياني

قال في معالم الإيمان (¬292): «وانقضت هذه الطبقة بعد الخمسمائة سنة (¬293)، ولم يبق بالقيروان من له اعتناء بتاريخ لاستيلاء مفسدي الأعراب على إفريقية وتخريبها وإجلاء أهلها عنها إلى سائر بلاد المسلمين، وذهاب الشّرائع بعدم من ينصرها من الملوك إلى أن منّ الله تعالى على النّاس بظهور دولة الموحّدين فوضحت بها معالم الدّين وسبل الحقّ ورسوم الشّرع، فظهر بظهورها بإفريقية العلماء والصّلحاء» اهـ‍. ترجمة الشّيخ أبي بكر الفرياني: وقد تقدّمت قضيّة الشّيخ أبي الحسن الفرياني - رحمه الله ونفعنا به - وذكر ولده عمر - رحمه الله ونفعنا به والمسلمين ببركاته ورحمهم الله ورحمنا بهم -، ومن أنجال أبي الحسن الفرياني الفقيه النّبيه العارف بالله تعالى الشّيخ سيدي أبو بكر بن علي بن محمّد الفرياني شهر اللخمي، توفّي - رحمه الله تعالى - لثمان خلون من جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وخمسمائة (¬294)، وقبره مشهور ظاهر مزار، هو أول قبة تلاقيك من مقبرة صفاقس (¬295)، وكان قبره اندثر لطول الزمان فتغطى بالتّراب فحفر النّاس قبرا لميت / فكشف القبر وعليه إسمه ناطق وتاريخه حسبما ذكرنا، وكم تحت التّراب من فضلاء محيت قبورهم وبقيت فضائلهم منشورة مسطورة. ثمّ في حدود خمسين ومائة وألف قدم (¬296) مركب به (¬297) أناس غرباء يسألون عن أبي عبد الله سيدي محمّد الفرياني، وكان معلّم أطفال المسلمين وطبيبا للمرضى احتسابا لله تعالى، فدلّوا عليه فسئلوا عن سبب سؤالهم قالوا (¬298): كنّا بالبحر وأصابنا نوّ كبير فأشفينا على الهلاك فاستغثنا الله ببركة رجاله الصّالحين، وإذا برجل معنا في المركب، ¬

(¬292) 3/ 203 - 204. (¬293) بعد 1106 هـ ‍. / 1694 - 1695 م. (¬294) 16 ماي 1160 م. (¬295) المقبرة شمال المدينة المسورة، قبالة باب الجبلي، وقبر أبي بكر الفرياني يقابل الخارج من هذا الباب، ونقلت المقبرة منذ سنوات إلى مكان آخر، وفي مكانها بدأت تهيئة أحياء جديدة لمدينة صفاقس عرفت على أمثلة التهيئة «بصفاقس الجديدة». (¬296) في الأصول: «قدمت». (¬297) في الأصول: «بها». (¬298) في الأصول: «فدل عليه فسئل عن سبب سؤاله قال».

ترجمة عبد الله الفرياني

وسكن (¬299) وهدأ النّو، فسألناه: من أنت؟ فقال: أبو بكر الفرياني من مدينة صفاقس، فسألناه: هل فيها أحد من ذرّيّتكم، فأرشدنا إلى إسمكم، فخذوا هذا النّصيب الذي حضر عندنا من الدّراهم، فأخذه واستعان بأهل الخير وابتنى على قبره قبة، فهي ظاهرة مشهورة باسمه، وعلى قبره سيف من رخام مكتوب فيه: هذا قبر الفاضل المرحوم المنعّم الإمام الفقيه النّبيه العارف بالله تعالى سيدي الشّيخ أبي بكر بن علي ابن محمّد الفرياني شهر اللخمي. ترجمة عبد الله الفرياني: قال التّجاني (¬300): ومن شعراء صفاقس ثم من الفريانيين ورؤسائها عبد الله بن عبد الرّحمان بن علي الفرياني ممّن تقدّم عصرنا قليلا، مولده بمالقة من بلاد الأندلس، وأبوه هو المنتقل إليها من صفاقس، له رحلة أبعد فيها شرقا وغربا، أخبرنا عنه صاحبنا أبو العبّاس أحمد بن عبد السّلام الأموي التاجوري، وقد رآه وجالسه بطرابلس كثيرا، وسمع منه بعض / شعره وكان هجّاء مقرعا (¬301)، ومن شعره حين ولي السّعيد مراكش وكان السّعيد أسود اللّون. [الكامل] كان الخلائف (¬302) قبل في مراكش ... صورا من الكافور يعجب خالصه فأتى على بعدهم (¬303) ختما لهم ... كالمّسك لونا ليس فيه خصائصه وله في مثل هذا: [الكامل] أسفا على مراكش وولاّتها ... لم يبق للأيّام فيها رونق كانوا حماما فالليالي لم تدع ... في دارهم إلاّ غرابا ينعق ¬

(¬299) في الأصول: «وسكنت». (¬300) الرّحلة 83 - 84 والحلل السّندسيّة 1/ 326 وعنوان الأريب 1/ 61 - 62. (¬301) كذا في بعض أصول رحلة التجاني، وفي النّص المحقّق: «مقذعا»، وفي الأصول: «مفرغا». (¬302) في الأصول: «الخلافة»، والتّصويب من الرّحلة. (¬303) في الأصول: «فأتى على بعداهم ختما لهم»، والتّصويب من الرّحلة.

ترجمة الشيخ عبد الرحمان الطباع

وألمّ إبن الابار (¬304) في التّحفة (¬305) بذكر جماعة من هجاء الشعراء فذكر أوّلهم أبا محمّد عبد الله بن عبد الرّحمان (¬306) الفرياني، وكان بإشبيلية ناظرا في المواريث لأبي سليمان داوود بن أبي داوود وأنشد له بيتين في هجاء إبن زهر (¬307) وهو غير الذي ذكرنا، وإن توافقا في الإسم والأب والنّسب والصّفة لبعد ما بين زمانيهما. ترجمة الشّيخ عبد الرّحمان الطّبّاع: ومن فقهاء صفاقس الشّيخ العالم العلاّمة الفقيه العمدة الفهّامة أبو زيد سيدي عبد الرّحمان الطّبّاع، مقامه مشهور بداخل صفاقس قريب سجن القضاة شرقي البلد، وقبره مشهور قرب الشّيخ اللخمي عليه سيف من رخام مكتوب فيه إسمه، ووفاته سنة سبعين وخمسمائة (¬308)، فهو - رحمه الله تعالى - ممّن قام بنشر العلم بعد فتح عبد المؤمن البلاد من أيدي النّصارى. ترجمة الشّيخ طاهر المزوغي: ومن منازل صفاقس الرّاجعة إليها قصور السّاف (¬309) وهي بلد الشّيخ العارف بالله تعالى سيدي طاهر المزوغي، أصله من عرب مزوغة بإفريقية، فانتقل ونشأ بتونس / ثمّ لما شاخ استوطن قصور السّاف، وطال عمره وانتفع النّاس به. قال الشّيخ أبو علي يونس السماط: بلغ الثّمانين سنة وتوفّي بوطنه من صفاقس، وقبره بها يزار، وله كرامات كثيرة، فمنها ما نقله السماط عن بعض الثّقات أنّه كان شخص جالسا بمسجد الشّيخ إذ خرجت من الشّيخ تفلة فأرسلها فأصابت شخصا أسود، ¬

(¬304) في الأصول: «ابن الأنباري». (¬305) هي تحفة القادم لابن الابار المتوفّي سنة 658/ 1260 م. (¬306) في الأصول: «محمّد». (¬307) في الأصول: «ابن زهير». (¬308) 1174/ 1175 وهذه الرّخامة التي كانت على قبره، محفوظة بمتحف صفاقس. (¬309) هي الآن من ولاية المهدية لقربها منها، وما قاله المؤلّف يدلّ على أنّ صفاقس في القديم معتبرة من إقليم الساحل.

ونفذت من ظهره فوقع على وجهه، فقال له رجل كان معه بالمسجد وقد شاهد ذلك: يا سيدي رأيت كذا وكذا، وذكر ما رأى، فقال له: قل للحاضرين فعرفهم بذلك، ثم قال له: يا سيدي وما ذلك الأسود الذي رأيته، فقال: هو صاحب مراكش جاليا أخذ تلمسان فأخذه الله، فقيد ذلك بالكتابة التي وقعت (¬310)، فجاء الخبر بعد ذلك بما طرأ للملك السّعيد صاحب مراكش من الكائنة (¬311) التي وقعت عليه وعلى جيشه، أنّه لمّا بقي بينه وبين تلمسان مسافة يوم واحد قتل هنا لك على ظهر فرسه هو وجيشه في صفر سنة ستّ وأربعين وستمائة (¬312) - حسبما مرّ -، فنظروا التّاريخ فوجدوه مطابقا، وقد أخذ الطّريق عن أبي مدين شعيب وهو أخذ عن أبي يعزى (¬313) وهو عن أبي الحسن إبن حرازم (¬314)، وهو عن أبي بكر محمّد بن العربي، وهو عن حجّة الإسلام الغزالي وهو عن أبي المعالي (¬315)، وهو عن أبي طالب مكي، وهو عن أبي القاسم الجنيد وهو عن سري السقطي (¬316)، وهو عن معروف الكرخي (¬317)، وهو عن أبي سليمان داوود / الطائي (¬318)، وهو عن حبيب العجمي (¬319)، وهو عن الحسن البصري (¬320) وهو عن ¬

(¬310) ساقطة من ط وب وت. (¬311) كذا في ط وب وت، وفي ش: «الكتابة». (¬312) ماي - جوان 1248 م. (¬313) هو بنور بن ميمون (ت.572/ 1176) وعند إبن قنفذ في الوفيات أنّه توفّي سنة 561/ 1165 وانظر الإستقصا 2/ 187، شجرة النّور الزّكيّة 163، الطّبقات الكبرى للشعراني 1/ 136 - 137. الحقيقة التاريخية للتّصوّف الإسلامي لمحمّد بهلي النّيّال ص: 202 - 204. (¬314) ويقال إبن حرزهم توفّي بمدينة فاس سنة 559/ 1164 م وهو علي بن إسماعيل الفاسي، (ت.559/ 1163) ومن شيوخه أبو الفضل النحوي التوزري: الحقيقة التّاريخيّة للتّصوف الإسلامي ص: 201 - 202، التّسوّف لرجال التّصوّف، والوفيّات لابن قنفذ ص: 43. (¬315) الجويني إمام الحرمين. (¬316) السري بن المغلس السقطي، وهو خال الجنيد وأستاذه (ت. ببغداد سنة 235/ 849) جامع كرامات الأولياء 2/ 89 - 90، الطّبقات الكبرى للشّعراني 1/ 74 - 75. (¬317) أبو محفوظ إمام الصّوفية (ت. ببغداد 201/ 816) جامع كرامات الأولياء 2/ 490 - 491، الطّبقات الكبرى للشعراني 1/ 72. (¬318) من أصحاب الإمام أبي حنيفة (ت. سنة 162/ 778) أنظر جامع كرامات الأولياء 2/ 63. (¬319) هو حبيب بن عيسى بن محمد، أصله من فارس وسكن البصرة، لقي الحسن البصري وابن سيرين وغيرهما، مات سنة 125، وقيل سنة 119 كما ذكره ابن الجوزي في المنتظم، ودفن بها، ذكره ابن حيان في كتاب الثقات، والبخاري في التاريخ، وابن أبي حاتم الرازي في الجرح والتّعديل، وغيرهم. (¬320) سيّد الزّهّاد والعلماء والنّصحاء، وترجمته خصّها بالتآليف د. إحسان عبّاس، (ت.110/ 729)، والمراجع عن ترجمته نكتفي منها بجامع كرامات الأولياء 2/ 21، الوفيات لابن قنفذ 19.

ترجمة الشيخ أبي مدين شعيب

الإمام علي بن أبي طالب (¬321) - رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين - ولم نظفر بتاريخ وفاته لكن يؤخذ من ذكر وفاة الملك السّعيد المتقدّمة تقريب وفاته (¬322). ترجمة الشّيخ أبي مدين شعيب: ولمّا جرى ذكر أبي مدين (¬323) فلا بدّ من ذكر التّعريف به وبعض كلامه فنقول: أبو مدين شعيب بن الحسين الأندلسي أصلا، البجائي مولدا ومنشأ، المشهور بالغوث، كان من أعيان مشايخ المغرب وصدور المقربين. كان سلطان تلمسان لمّا بلغه خبره وما كان فيه من الشّهرة الّتي ملأت الآفاق وصيرورته إمام الصّدّيقين في وقته بلا شقاق، أمر بإحضاره من بجاية ليتبرّك به لتعذّر وصول السّلطان إلى زيارته خوفا من اختلال أمر رعيّته، فأجاب بالسّمع والطّاعة، ثمّ قال بخفض (¬324) صوته: ما لنا وللسّلطان الليلة نزور الإخوان، ثمّ نزل بتلمسان واستقبل القبلة ليلة دخوله وتشهّد وقال: ها قد جئت {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى} (¬325)، ثمّ قال: الله الحيّ (¬326)، ففاضت روحه ولم يمكث في تلمسان شيئا، فمات - كما تقدّم - في حدود تسعين وخمسمائة (¬327) عن نحو ثمانين سنة، فدفن بتلمسان في تربة العبّاد - رحمه الله تعالى ونفعنا ورحمنا به -. وكان رأس العارفين في زمانه، فأخذ عن الكبراء كالعارف إبن عربي وأضرابه من أهل عصره، قال الشّعراني في طبقاته (¬328): كان الشّيخ / أبو الحجاج الأقصري - رضي ¬

(¬321) وهذا السّند في الطّريقة ذكر قريبا منه إبن قنفذ في الوفيّات ص: 58 أثناء ترجمة جدّه لأمّه يوسف بن يعقوب الملاري (ت.764 - 773) سقط من السّند أبو يعزى وجعل أبا مدين أخذ مباشرة عن إبن حرزهم. (¬322) أنظر الحقيقة التاريخية للتّصوّف الإسلامي ص: 228 ويبدو أنّه اعتمد ما قاله المؤلف في وفاته لكنّه أثبت أنّه أخذ عن أصحاب أبي مدين كأبي سعيد الباجي وعبد العزيز المهدوي والدهماني. (¬323) تكنى باسم ولده مدين وهو مدفون بمصر. (¬324) في ط: «فخفض». (¬325) سورة طه: 84. (¬326) في ط وب: «الخبير». (¬327) 1194 م. (¬328) الطّبقات الكبرى 1/ 157 - 159 ترجمة الأقصري.

الله تعالى عنه - يقول: سمعت شيخي عبد الرّزّاق (¬329) يقول: إجتمعت بالخضر - عليه السّلام - سنة ثمانين وخمسمائة (¬330) فسألته عن شيخنا أبي مدين، فقال: هو إمام الصّدّيقين (¬331) في هذا الوقت وقد أعطاه الله مفتاحا من السّرّ المصون بحجاب القدس، فما في هذا الوقت (¬332) أجمع لأسرار المرسلين منه، ثم إنّ أبا مدين مات بعد ذلك بيسير. وقال الشّيخ محيي الدّين بن عربي (¬333) - رضي الله تعالى عنه - ذهبت أنا وبعض الأبدال إلى جبل قاف، فلمّا مررنا على الحيّة المحدقة به سلّمنا (¬334) عليها فردّت علينا السّلام ثمّ قالت: من أي البلاد أنتم؟ فقلنا لها: من بجاية من أرض المغرب، فقالت: ما حال أبي (¬335) مدين مع أهلها؟ فقلنا لها: يرمونه بالزندقة ويؤذونه أشد الأذى (¬336)، فقالت: عجبا والله لبني آدم كيف يؤذون أولياء الله؟ والله ما كنت أظنّ أنّ الله عزّ وجلّ يوالي عبدا من عبيده فيكرهه أحد (¬337)، إنّه (¬338) والله ممّن اتّخذه الله وليّا وأنزل محبّته في قلوب عباده، فقلنا لها: ومن أعلمك به؟ فقالت: أعلمني به الله عزّ وجلّ (¬339) اهـ‍. وقد أجمعت المشايخ على تعظيمه وإجلاله، وتأدّبوا بين يديه، وكان جميلا ظريفا متواضعا زاهدا ورعا محقّقا، قد إشتمل على أكرم الأخلاق - رضي الله تعالى عنه - وكان يقول: ليس للقلب إلاّ وجهة واحدة، متى توجّه إليها حجب عن غيرها، وكان ¬

(¬329) قال الشّعراني: «شيخه الشّيخ عبد الرّزّاق الذي بالإسكندرية قبره، من أجلّ أصحاب سيدي الشيخ أبي مدين المغربي، وله كلام عال في الطّريق، وزاويته وضريحه بالأقصر من صعيد مصر الأعلى. (¬330) 1184 - 1185 م. (¬331) هذا القول غير موجود في ترجمة أبي الحجاج الأقصري في الطّبقات، وإنّما ذكره في ترجمة أبي مدين 1/ 154. (¬332) السّاعة. (¬333) في الفتوحات. (¬334) «فقال لي البدل: سلّم عليها فإنها تردّ عليك السّلام فسلّمنا عليها». (¬335) في ش: «ابن». (¬336) في ش وب وت: «الأذا». (¬337) في ت: «اخوانه»، وفي ط: «لعباده». (¬338) ساقطة من ط وب. (¬339) تصرّف المؤلّف في نقل كلام إبن عربي.

يقول: من خرج إلى الخلق قبل وجود حقيقة تدعوه إلى ذلك / فهو مفتون، وكلّ من رأيتموه يدّعي (¬340) مع الله حالة لا يكون على ظاهره منها شاهد فاحذروه، وكان يقول: من تحقق بمقام العبودية لله - عزّ وجل - شهد أعماله بعين الرياء وأحواله بعين الدعوى (¬341) وأقواله بعين الافتراء، وكان يقول: ما وصل إلى مقام الحرية من بقي عليه من نفسه بقية، ويقول: لا تنظر إلى مشاهدتك له وانظر إلى مشاهدته لك، وكان يقول: الفقر نور ما دمت تستره، فإذا أظهرته ذهب نوره، وكان يقول: كلّ فقير كان الأخذ أحبّ إليه من العطاء فهو كاذب لم يشم رائحة الفقر، وقال: من لم يصلح لخدمته شغله بالدّنيا، ومن لم يصلح لمعرفته شغله بالآخرة، وكان يقول: من لم يخلع العذار لم ترفع له الأستار، وكان يقول: إياكم أن تتعدوا مقاما قبل احكامه فان ذلك يقطعكم عن كمال الوصول إلى حقيقته، وكان يقول: إياكم وصحبة الأحداث المبتدئين في الطّريق ولو كانوا أبناء سبعين سنة إلاّ بعد تعيّن ذلك عليكم. ومكث - رضي الله تعالى عنه - سنة في بيته لا يخرج إلاّ للجمعة، فاجتمع النّاس على باب داره وطلبوا منه أن يتكلّم عليهم، فلمّا ألزموه خرج، فرأته العصافير التي كانت على سدرة في داره ففرت، فرجع وقال: لو صلحت للحديث عليكم لم تفرّ منّي الطّيور، فجلس في البيت سنة أخرى ثمّ جاءوا إليه فخرج، فلم تفر منه الطيور، فتكلّم على النّاس ونزلت الطّيور تضرب بأجنحتها وتصفق حتّى ماتت منها طائفة كثيرة / ومات رجل من الحاضرين. وكان يقول: كلّ فقير لا يعرف زيادته من نقصه فليس بفقير. وكان يقول: نسيان الحقّ تعالى طرفة عين خيانة من العبد يستحقّ بها العقوبة، وكان يقول: الحضور مع الحقّ تعالى جنّة، والغيبة عنه نار، والقرب منه لذّة، والبعد منه حسرة وموت، والأنس (¬342) بذكره حياة، وكان يقول: من طلب الطّريق بلا توبة (¬343) من سائر الآثام (¬344) فهو جاهل. وكان يقول: من قطع موصولا بحضرة ربه قطع به، ومن أشغل ¬

(¬340) في ط وب وت: «يدعو». (¬341) في ش وت: «الدعوا». (¬342) في ب: «الأقس»، وفي ط: «الانسان». (¬343) في ط: «تبرئة». (¬344) في ط وب: «الأنام».

مشغولا بربّه أدركه المقت في الوقت، وكان يقول: من شرط العارف أن يتحكم فيما بين العرش والثرى. وكان الحق تعالى أذلّ له الوحوش فإذا رآه الوحش ارتعد من هيبته، ومرّ يوما على حمار والسّبع قد أكل نصفه، وصاحب الحمار ينظر إليه من بعيد لا يستطيع أن يقرب منه، فقال لصاحب الحمار: تعال (¬345)، فذهب به إلى الأسد وقال له: أمسك بأذنه واستعمله مكان حمارك حتى يموت، فأخذ بأذنه فركبه وصار يستعمله سنين مكان حماره حتى مات الأسد. وفي طبقات المناوي نقلا عن إبن عربي: ان الشّيخ أبا مدين كان يقول: من علامة صدق المريد في إرادته فراره عن الخلق، ومن علامة صدق فراره عنهم وجوده للحق، ومن علامة صدق وجوده للحق رجوعه للخلق، وهذا هو حال الوارث للنبيء صلّى الله عليه وسلم فإنّه كان يخلو بغار حراء وينقطع إلى الله فيه ويترك بيته وأهله ويفرّ إلى ربه حتّى فاجأه (¬346) / الحقّ فبعثه الله رسولا مرشدا لعباده، فهذه حالات ثلاث ورثه فيها من اعتنى الله به من أمته، ومثله يسمى وارثا، فالوارث الكامل من ورثه علما وعملا وحالا. ورأى بعض الأولياء إبليس فقال: كيف حالك مع أبي مدين؟ فقال: ما شبّهت نفسي فيما نلقي إليه (في قلبه) (¬347) إلاّ كشخص بال في البحر المحيط فقيل له: لم تبول فيه؟ قال: حتّى أنجسه فلا تقع به الطّهارة، فهل رأيتم أجهل من هذا؟ فكذا أنا وقلب أبي مدين، كلما ألقيت فيه أمرا قلب عينه، وقال الخواص: كان مذهب الشّيخ تقريب الطّريق على المريدين ونقلهم إلى محلّ الفتح من غير أن يمرّ بهم على الملكوت. ووقع له في سياحته أنّه دخل على عجوز في مغارة فأقام عندها، فجاء إبنها آخر النّهار فسلّم عليه، فقدّمت العجوز سفرة فيها صحن وخبز، فقعد الشّيخ والإبن يأكلان فقال: تمنّيت أن لو كان هذا كذا، فقال له: سمّ الله وكل ما تمنّيت، فلم يزل يعدّد الفتى وهو يقول مقالته الأولى واللون الواحد ينقلب ألوانا كثيرة، ويجد طعم (¬348) ما تمنّى. وكان إذا خطر له خاطر في نفسه وجد جوابه مكتوبا في ثوبه الذي عليه، فخطر ¬

(¬345) في الأصول: «تعالى». (¬346) في الأصول: «فجاه». (¬347) ساقطة من ش. (¬348) ساقطة من ط.

له يوما أن يطلّق امرأته وكان بحضور العارف أبي العبّاس، فرأى مخطوطا في ثوب الشّيخ: أمسك عليك زوجك. قال إبن عربي: شيخنا أبو مدين (¬349) من الثمانية عشر نفسا الظّاهرين بأمر الله عن أمر الله، لا يرون سوى الله من الأكوان، وهم أهل علانية وجهر / مثبتون للأسباب وخرق العوائد عندهم عبادة، قل الله ثم ذرهم، قال: وكان يقول لأصحابه: أظهروا للنّاس ما عندكم من الموافقة يظهر (¬350) للنّاس بالمخالفة، وأظهروا مما أعطاكم الله من نعمه الظاهرة والباطنة، يعني (¬351) خرق العوائد والمعارف، فإنه تعالى يقول {وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (¬352) وهذه الطّائفة اختصت باسم الظّهور لكونهم ظهروا في عالم الشّهادة. وقال في موضع آخر: شيخنا أبو مدين الغالب على قلبه وبصره مشاهدة الحق في كل شيء، فكل حال عنده أعمال فيعلن بالصدقة كما يذكر في الملأ، فان من ذكره في الملأ فقد ذكره في نفسه، فان ذكر النفس متقدم بلا شك، وما كل من ذكره في نفسه ذكره في الملأ فهذه حالة زائدة على الذكر النفسي لها مرتبة تفوق صاحب ذكر النفس، فان ذكر النفس لا يطلع عليه في الحالين فهو سر بكل وجه، فصدقة الاعلان تؤذن بالاقتدار الإلاهي، فمن يخفيها أو يسرّها فهو الظاهر في المظاهر الإمكانية، فهذه كانت طريقة شيخنا. وكان يقول: قل الله ثمّ ذرهم أغير الله تدعون (¬353) قال: وكان يقول لأصحابه: أعلنوا بالطاعة حتّى تكون كلمة الله هي العليا كما يعلن هؤلاء بالمعاصي ولا يستحيون من الله. وكان يقول في قوله تعالى {فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (¬354)، فإذا فرغت من الأكوان فانصب قلبك لمشاهدة الرّحمان، وإلى ربك فارغب في الدّوام، ¬

(¬349) بعدها في ط وب وت: «رضي الله عنه». (¬350) في ط: «ينظر». (¬351) في ط: «ففي». (¬352) سورة الضحى: 11. (¬353) إقتباس من الآية 40 من سورة الأنعام. (¬354) سورة الشّرح: 7 - 8.

ترجمة الشيخ أبي الحسن علي المزوغي

وإذا دخلت في عبادة فلا تحدّث / نفسك بالخروج منها، وقل: {يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ} (¬355). وكان الشّيخ أمّيّا وعلوم الأمّيّ تأتي خالية من الأشكال اهـ‍ (¬356). ترجمة الشّيخ أبي الحسن علي المزوغي: ومن أحفاد سيدي طاهر المزوغي الشّيخ أبو الحسن سيدي علي بن أبي القاسم إبن أحمد بن محمّد بن علي بن عبد العزيز بن عمر ابن الشّيخ سيدي (¬357) طاهر، وأمّه خديجة بنت الشّيخ سيدي علي المزوغي، وكانت من العابدات. مولده بقصور السّاف سنة ستّ وسبعين وسبعمائة (¬358) ووفاته ببلده، فهو من أهل القرن الثّامن ولم يثبت عندنا تعيين سنة وفاته، وقبره مشهور ببلده، مزار يتبرك به. كان من أعيان المحقّقين والعلماء العارفين صاحب كشف وكرامات وأحوال ومقامات. تصدّر - رحمه الله - للفتوى في جميع العلوم وصنّف الكتب المفيدة في علوم الشّريعة والحقيقة، واجتمع عليه وانتفع به جمّ (¬359) غفير من الفقهاء وإليه انتهت تربية المريدين من مشارق الأرض ومغاربها، وتفقّه وأخذ الطّريقة عن الشّيخ أبي علي السّماط، وعن الشّيخ سيدي عبد الغني المزوغي. قيل كان الخضر لا يفارقه ليلا ولا نهارا، وله التّصرّف في الكون بما شاء الله. وقد أخذ عنه من أخيار الإنس والجنّ مائة ألف أو يزيدون، ومن مريديه الشّيخ الصّالح سيدي محمّد الزرمديني ذو الكرامات والمكاشفات، ومن أخصّ مريديه الشّيخ أبو الحسن سيدي علي الكراي أبو بغيلة كما يأتي الكلام / عليه في محلّه إن شاء الله. ¬

(¬355) سورة الحاقّة: 27. (¬356) لأبي مدين ترجمة في الطّبقات الكبرى للشّعراني 1/ 154 - 156 والمؤلّف نقل ترجمته عنها، جامع كرامات الأولياء 2/ 117 - 122، الحقيقة التّاريخيّة للتّصوّف الإسلامي ص: 204 - 207. (¬357) أنظر الحقيقة التّاريخية للتّصوّف الإسلامي ص: 228 ولم يذكر تاريخ وفاته وذكر أنّ له مصنّفات عديدة. (¬358) 1374 - 1375 م. (¬359) ساقطة من ب وط.

ترجمة الشيخ أبي الحسن علي المحجوب

ترجمة الشّيخ أبي الحسن علي المحجوب: ومن أحفاد سيدي علي بن أبي القاسم الشّيخ أبو الحسن سيدي علي المحجوب إبن الشّيخ أبي الحسن علي، إبن الشّيخ أبي عبد الله محمّد إبن الشّيخ أبي الحسن سيدي علي ابن أبي القاسم، سمي المحجوب لكثرة احتجابه، كان شيخ الطّريقة والحقيقة، وانتهت إليه تربية المريدين، أخذ الطريقة عن سيدي علوان بن سعيد (¬360) صاحب المقامات والكرامات. وقبره غربي قصور السّاف بينهما قدر أربعة أميال. قال الشّيخ سيدي علي المحجوب لأولاده: كلّ النّاس تزوركم إلاّ الشّيخ سيدي علوان فزوروه. وأخذ أيضا عن سيدي محمّد بن جابر وقبره بالمهدية مشهور مزار، كان سيدي علي المحجوب - رحمه الله تعالى - صاحب اجتهاد وعبادة ذا حظّ من صلاة الليل، كان ورده كلّ ليلة ألفا ركعة بختمة من القرآن الكريم. ومن كراماته أنّه أشبع خمسمائة زائر من ويبة واحدة، فشبع الجميع ومن حضر، وبقي من الطّعام كثير. قتل - رضي الله تعالى عنه - شهيدا لما أخرب الكفار (¬361) المهدية سنة سبع وخمسين وتسعمائة (¬362) فقاتل قتالا شديدا بنفسه وجواده حتّى أنه يأتيه الكفار من خلفه فيرفسهم (¬363) جواده بسنابكه فيقتلهم، نودي في سرّه ذات يوم من أيام قتاله: يا علي، الأجل قد حضر، فأخبر بذلك أولاده، وان الكّفّار يقتلونه ويقطعونه قطعا ويرمونه في البحر، فارتقبوا أجزائي على شاطئ البحر، فأتوا لشاطئ البحر ليلا، فوجدوا على أبعاضه (¬364) نورا تتميز به عن غيرها، فاستجمعوها / مستكملة ونقلوها لبلده قصور السّاف، فقبره بها مشهور (¬365) قرب جده سيدي علي بن أبي القاسم. ¬

(¬360) الذي سميّت به قرية سيدي علوان غربي قصور الساف، وتاريخ وفاته غير معروف، ولعلّه من أهل القرن العاشر إستنباطا من تاريخ وفاة تلميذه علي بن أبي القاسم المحجوب: وانظر الحقيقة التّاريخيّة للتّصوّف الإسلامي ص: 319. (¬361) الأسبان. (¬362) 1550 م. (¬363) في الأصول: «فيرفصهم». (¬364) في ت وب وط: «الفاظه». (¬365) الحقيقة التّاريخيّة للتّصوّف الإسلامي ص: 228 - 229، إختصر ترجمته من هنا.

ترجمة الشيخ طاهر بن عبد الواحد المزوغي

ترجمة الشّيخ طاهر بن عبد الواحد المزوغي: وممّن أدركنا من أحفاد سيدي طاهر المزوغي الشّيخ الأبر النّاسك سيدي طاهر بن عبد الواحد بن علي بن عبد الواحد بن عبد الرّحمان بن الفضيل بن عبد الرّحمان بن أحمد - شهر زروق - بن محمّد بن عمر بن سعيد بن علي بن محمد إبن الشّيخ سيدي المزوغي، وجدت بخطّه: قدم كاتبه لبلد قصور السّاف المعروفة بزاوية الجدّ الشّيخ سيدي طاهر المزوغي من تونس برمضان من عام ثلاثة وسبعين ومائة وألف (¬366). (وكان زمن مكثه بتونس لطلب العلم مقدار خمس سنين) (¬367) (وكان مكثه قبل ذلك بصفاقس مقدار خمس سنين) (¬368) يطلب العلم، وحجّ عام واحد وستين ومائة وألف (¬369) مع والده عبد الواحد، وكان تفقّه بصفاقس على الشّيخ سيدي طيّب الشّرفي (¬370)، وبتونس على الشّيخ الشّحمي (¬371)، وشيخنا سيدي عبد الله السّوسي (¬372)، وشيخنا المحجوب (¬373)، والشيخ الغرياني (¬374) وغيرهم، وتفقّه في بلده على (375) أخيه الشّيخ أبي عبد الله محمّد بن عبد الواحد، وتفقّه أخوه بصفاقس على (¬375) الشّيخ سيدي محمّد الشّرفي إبن المؤدّب (¬376)، توفّي صاحب التّرجمة آخر شوّال سنة ثمان وتسعين ومائة ¬

(¬366) أفريل - ماي 1760 م. (¬367) ما بين القوسين ساقط من ب. (¬368) ما بين القوسين ساقط من ش. (¬369) 1748 م. (¬370) الطّيب بن محمد ابن المؤدب الشرفي كان من النبهاء وفحول الفقهاء (ت.1198/ 1783) شجرة النور ص: 344 - 345. (¬371) هو محمد الشحمي كبير علماء المعقولات في عصره (ت. بعد 1190/ 1777) شجرة النور 349. (¬372) المغربي نزيل تونس (ت. في حدود 1169/ 1755)، شجرة النور ص: 345. (¬373) أبو الفضل قاسم المحجوب المساكني مولدا ودارا، التونسي قرارا الفقيه المحقق، تولى رئاسة الفتوى مدة الأمير علي باي وتوفي في سنة 1190/ 1776: شجرة النور ص: 348. (¬374) هو محمد بن علي الليبي الأصل، نزيل تونس، المسند الفقيه الصوفي، له مؤلفات (ت.1195/ 1780) شجرة النور، ص: 349. (¬375) في الأصول: «عن». (¬376) الفقيه الفلكي الشاعر، شيخ المدرسة الحسينية بصفاقس من تلامذة الشيخ علي النوري والشيخ عبد العزيز الفراتي، وقرأ بالأزهر (ت.1157/ 1745) شجرة النور ص: 344 - 345.

ترجمة الشيخ الولي عباس الجديدي

وألف (¬377) وعمره ثلاث وستّون سنة، وولادته سنة خمس وثلاثين ومائة وألف (¬378). ووفاة أخيه سنة تسع وتسعين ومائة وألف بربيع الثاني (¬379). ترجمة الشّيخ الولي عبّاس الجديدي: ومن أولياء الله بمدينة صفاقس الشّيخ الولي الصّالح الحسيب النّسيب الشّريف المزار المتبرّك به سيدي أبي الفضل عبّاس الجديدي / إبن الشّيخ السّيّد الشّريف عبد الله إبن السّيّد الشّريف أحمد إبن المعظّم الأجل سيدي إدريس الأصغر، إبن مولانا إدريس الأكبر (¬380) - رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم ونفعنا بهم - مقامه عظيم مشهور (¬381). وكان له خلف صالحون، ولهم إجازات وأسانيد في أخذ الطّريقة والمصافحة ولبس الخرقة، وبأيديهم أوامر سلطانية حفصية وعثمانية باحترام زاويتهم وأخذ أعشار لقوتهم وإطعام فقرائهم. ثمّ انقضت تلك السّنون وأهلها ... فكأنّها وكأنّهم أحلام غير أن المقام معظّم محترم وهو بالرّكن الشّمالي الشّرقي من داخل المدينة، معروف (¬382) معظّم محترم. ونقل الشّيخ أبو الحسن الكرّاي - رحمه الله تعالى - أنّ الشّيخ أبا بغيلة - نفعنا الله به - كان يلتقي بالخضر في مقام سيدي عباس الجديدي، وأنّه دعا له ولذّرّيته بالبركة، ولم نقف على تاريخ وفاته، لكن يعرف بالقرب من [وفاة] مولاي إدريس، وربّما كان ممّن استشهد في وقعة إستيلاء لجار على البلد، فإنّ أكثر أهل الخير والصّلاح استشهدوا بها. ¬

(¬377) 15 سبتمبر 1784 م. (¬378) 1722 - 1723 م. (¬379) فيفري - مارس 1785 م. (¬380) فهو حسني نسبة للحسن السّبط. (¬381) موجود حاليا بآخر نهج الجم شمالا. (¬382) حاليا موجود في آخر نهج السور داخل المدينة العتيقة وتحول هذا المقام فيما مضى إلى مدرسة إبتدائية تعرف بمدرسة الهلال، ثمّ تعطّلت وتحوّل المقام إلى مقرّ للكفيف.

ترجمة المرابطة الست أم يحيى مريم وشيخها أبي يوسف الدهماني

ترجمة المرابطة السّتّ أم يحيى مريم وشيخها أبي يوسف الدّهماني: ومن منازل صفاقس الرّاجعة إليها المنية (¬383) وهي قرية العابدة السّتّ أم يحيى مريم وهي معروفة مشهورة. قال في فضلها سيدي علي بن أبي القاسم - نفعنا الله به -: السّتّ أمّ يحيى خير من ألف لحية من لحية علي بن أبي القاسم، أخذت الطّريقة عن العارف بالله سيدي أبو يوسف يعقوب بن ثابت الدّهماني (¬384). ولا بدّ لنا من ذكر شيء من مآثره ليعلم علو الفرع بعلو أصله، ولتزداد لنا البركة بذكر هؤلاء الأخيار. قال / في معالم الإيمان (¬385): كان من أعلام طريق الإرادة وكبار مشايخها، سمع الفقه على الشّيخ أبي زكرياء بن عوانة، ولازم مجلسه وانتفع به، وسمع الحديث على أبي محمّد عبد الله بن حوط الله وغيره، ورحل إلى بجاية للقاء الشّيخ أبي مدين شعيب، ثمّ رحل إلى الحجّ سنة خمس وتسعين وخمسمائة (¬386)، ولقي الشّيخ أبا عبد الله القرشي - رضي الله تعالى عنه - ثمّ قال: ولد أبو يوسف بالبادية بقرب قرية تسمّى المسروقين (¬387) من حوز القيروان، ونشأ بالبادية والقيروان، وقرأ القرآن على أبي عبد الله محمّد بن عمر بن جابر - رحمه الله -. وكان - رحمه الله - منذ مراهقته البلوغ محافظا على الصّلاة متنزها عن الفواحش، وكان محبّا في ركوب الخيل العتاق. وكان سبب انقطاعه عن العرب (¬388) أنّه قال: سرت مرّة مع جماعة من بني عمّي من عمل القيروان إلى المهدية بنيّة الجهاد عند نزول الرّوم عليها في وقعة الجمعة المشهورة، ¬

(¬383) قرب جبنيانة: الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي ص: 223. (¬384) رحل إلى لقاء أبي مدين ببجانة سنة 570/ 1174 وله نحو 20 سنة، وهو قيرواني كانت له تنقلات وزيارات إلى المهدية وأحوازها، ومن مريديه أم يحيى، وله أشعار تنم على فكرة وحدة الوجود (توفي سنة 621/ 1224 - 1225) ودفن بالقيروان وقبره بجوار قبر أبي الحسن القابسي قرب باب تونس، أنظر: الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي ص: 223، شجرة النّور: 168 - 169، ومعالم الإيمان 3/ 213 - 229. (¬385) 3/ 213 - 229 م. (¬386) 1198 - 1199 م. (¬387) كانت في المكان المعروف في وقتنا هذا بمركز «سيدي الهاني»، قبلي الطّريق الرّابطة بين مدينتي سوسة والقيروان: الحقيقة التّاريخية للتّصوّف الإسلامي، هامش 1 ص: 223. (¬388) المقصود بهم سكّان البادية.

وكان عليّ درع حسن وأنا راكب على فرس أدهم، فلقينا الشّيخ الصّالح الوليّ أبا (¬389) زكريّاء بن الأجباري، فنظر إلينا ثمّ كرّر إليّ النّظر دونهم، ثمّ قبض على ركابي وقال لي: ما اسمك يا فتى؟ فقلت له: يعقوب، فقال: إسأل الله يا فتى أن يفني شبابك في طاعة الله، فثار خاطري لذلك في الحين، وكأنّما رماني بسهم، فخرجت من المهدية وأنا على خلاف ما كنت عليه، ثمّ وصلت إلى القيروان، فتركت ركوب الخيل ومكاثرة أهلي، وانقطعت إلى عمارة مسجد كان هناك بقربنا / ثمّ قصدت إلى ميعاد الشّيخ الصّالح الزّاهد الفقيه أبي زكرياء بن عوانه - رحمه الله تعالى - ثمّ لم يزل ملازما لميعاده حتّى تعلّم كثيرا من العلم (¬390)، ثمّ لازم الخير والخدمة (¬391) في المسجد إلى أن وصل الشّيخ أبو عبد الله البسكري تلميذ أبي الفضل البسكري (¬392) القيروان، فصحبه مدّة وانتفع به، ثمّ ارتفعت أحواله، وأخذ في المجاهدة وسلوك سبيل الرّياضة، وصحب جماعة من كبار المشايخ فانتفع بصحبتهم. وله كرامات كثيرة، فمنها أنّ الشّيخ أبا عبد الله القرشي (¬393) كان قد هجر السّماع وحضوره فقيل له: لم منعته وهجرته؟ قال: لما حدث فيه من المقاصد لغير الله، ولمّا قدم عليه الشّيخ أبو يوسف سأله الاذن فيه، وحضوره معه قال: هذا باب سددناه ومنعناه فقال: أنا قادم ولي عليكم كرامة القدوم، فأجابه إلى ذلك، فجعل مجلس سماع حضر فيه إثنا (¬394) عشر رجلا من الأكابر، وجمع من الطلبة والمحبّين، فلمّا أخذوا في السّماع تواجد الشّيخ أبو يوسف وارتفع من موضعه في الهواء (395) فقام الشّيخ أبو عبد الله القرشي على قدميه وكان زمنا مقعدا منذ أعوام تقدّمت، قال أبو عبد الله القرطبي: فجعلت أمدّ يدي وأنا قائم على صدور قدمي لعلّي ألحق قدم الشّيخ أبي يوسف وهو في الهواء (¬395) فلم أستطع، فدار ذلك البيت جميعه ثمّ عاد إلى موضعه وأنا أنظر إلى بياض ¬

(¬389) في الأصول والمعالم: «أبو». (¬390) في المعالم: «العمل» 3/ 216. (¬391) في المعالم: «الخلوة». (¬392) أبو الفضل ابن النحوي إبن الشّيخ أبي الفضل البسكري (ت.513/ 1119) الوفيات لابن قنفد ص: 40. (¬393) هو محمد بن أحمد بن إبراهيم، أصله من بلاد الأندلس وسكن مصر ثمّ القدس وبه مات في سنة 599/ 1203، ودفن به: أنظر جامع كرامات الأولياء 1/ 190 - 195، الطبقات الكبرى للشعراني 1/ 159 - 160. (¬394) في ش: «اثنى». (¬395) في ش: «الهوى».

قدميه وهو في الهواء (395)، فكان الشّيخ أبو عبد الله يقول: تقولون ذهب الرّجال؟ أنظروا إلى هذا البدوي. قال وعمي في آخر عمره وكان إذا أخذ / المصحف نظر فيه. ورأت أم يحيى مريم بالمنية من قطر صفاقس في منامها قائلا يقول لها: سر إلى الشّيخ أبي زكرياء المعروف بابن هناص بالمهدية وبايعه، قالت: فاستيقظت واستعذت بالله من الشّيطان الرّجيم ونمت، فعاد إليّ ثانية وثالثة فقال لي في الثالثة: ما أنا شيطان وإنّما أنا ملك. قالت: فسرت من بلدي إلى المهدية في طلب من ذكر لي، فلمّا دخلت البلد بقيت حائرة أتوسّم من أسأله يدلّني على موضعه، فبينما أنا كذلك إذ فتح باب دار فخرج رجل عليه ثوب وعلى رأسه قلنسوة دون عمّة، فقال لي على البديهة: أهلا ومرحبا بالمرابطة مريم على عدد ما مشيت من منزلك إلى هنا، والذي يخاطبك يعقوب الدّهماني، والذي خوطبت به في منزلك هو عندي في منزلي، قالت: فبقيت متعجبة لكشفه ما خوطبت به في منامي في بلدي ومخاطبته لي باسمي من غير سابق معرفة، فدخلت الدّار فوجدت بها زوجه أمّ يوسف ولم يكن عنده إذ ذاك غيرها، ووجدت الشّيخ أبا زكرياء عنده في خدمته، فأقمت عنده وقتا، فقال لي الشّيخ أبو زكرياء: عليك بخدمة الشّيخ أبي يوسف فيما أمرت وحسبك ما خاطبك به أول ما رآك وكاشف بما رأيته في المنام وعن السؤال أغناك، قالت: فألزمت نفسي لطاعته من ذلك الزّمان إلى الآن، وكان عندها للشّيخ أبي يوسف زيادة تعظيم وهيبة واحترام لا ينحصر / طول حياته وبعد مماته، وكان لها قرب التّسعين أو الثّمانين، فكانت لا تجلس دون لحاف ولا تستطيع رفع الكلام عنده ولا النّظر إليه، ولا تقرب منه هيبة واحتراما. ولمّا رجعت إلى موضعها ومرض الشّيخ أبو يوسف مرضا شديدا نقل إليها أنّه مات، فدهشت وأقعدت وسكنت دهرا لا تستطيع القيام، فلمّا برئ الشّيخ من ذلك المرض الذي قال فيه: سررت (¬396) بولدين يزدادان لي، وأعيش إثني عشر عاما، فكان كذلك، فعند تمام عافيته وصحّته، وسمع بخبرها سافر لها، فلمّا قرب من موضعها قال: لا يخبرها أحد بي حتى أدخل عليها المنزل، فلمّا دخل قيل لها: الشّيخ طالع إليك! فقامت من زمانتها في ساعتها وتلقّته خارج باب البيت، وقالت: يا سيدي، قيل ¬

(¬396) في المعالم ص: 222: «بشرت».

لي أنّك متّ فدخلت علي حسرة، فقال لها: يا مريم لا شيء يحيي ويميت إلاّ الله تعالى، فكان لها في الشّيخ قصد عظيم ونيّة حسنة، واتّخاذ صحبة. قال بعضهم: نزل الشّيخ عندنا بقصر وكنت بالقصر الآخر، فسرت إليه وقلت في نفسي: تمنّيت لو أطعمني الشّيخ ثلاث لقم بيده في فمي! فلمّا دخلت عليه وجدته في جماعة يتناولون طعاما، والمرابطة مريم جالسة، فلمّا رأتني قالت للشّيخ: إدفع لصاحب الأمنية ما طلب، فأعطاني ثلاث لقم كما خطر في سرّي فتعجّبت من مطابقتهما لذلك. ومن كراماتها ما حدّث به / بعضهم قال: كنا ليلة عند المرابطة في البيت فضربت بيدها، فبقينا ننظر، فقالت: محمد البرزلي أتي من قصر زياد والأسد بالجابية أخشى أن يروعه، وإلاّ فما يرى منه بأسا! ثمّ سكتت ساعة وقالت: قوموا افتحوا له الباب، فقمنا فوجدناه قرب الباب، آتيا، ونظرنا الأسد بالموضع الذي ذكرت لم يتحرك. وقال بعض أصحابها: خرجت من المهدية ومعي شيء من السريس (¬397) برسمها، فلمّا وصلت الغيضة (¬398) وحان الليل سمعت خلفي حسّا، فوقفت أتحسّس إليه، فانقطع عنّي، فلم أزل كذلك حتّى وصلت ولا رأيت شيئا، فلمّا ضربت الباب وفتح لي أخرجت لي رأسها من الطّاق، وقالت: قد (¬399) وصل! فقلت لها: من هو؟ قالت: الأسد كان خلفك يشيعك، فنظرت فإذا هو كما قالت، وكانت أمّ يحيى هذه من أصحاب الشّيخ الأوّلين، وخواصه، وكان يقول: أصحابي الأوّل دخلوا من الباب الذي دخلت منه وحصل لهم مثل ما حصل لي وزيادة. قال (¬400): ومن كرامات الشّيخ أبي يوسف ما حدّثني به أبو علي فضل الصّفاقسي قال: عطشت ليلة عطشا شديدا ولم أجد ماء ولم أطق صبرا، فأخذت الإناء ومددت يدي وقلت: يا ربّ بحرمة سيدي أبي يوسف إلاّ ما أسقيتني السّاعة، والسّماء مصحية، والنّجوم تزهر، ويدي ممدودة بالإناء، ثمّ غلب عليّ غالب حال غيّبني عن حسّي، فلم أدخل يدي إلاّ وقد قيّض الله بمطر غزير / في الوقت فوجدت الماجل (¬401) قد امتلأ حتّى ارتفع الغطاء. ¬

(¬397) في ط: «السريس»، وفي المعالم ص: 222: «السرجس»، وفي نسخ أخرى منه: «الموبس». (¬398) في ت: «الغيظمة». (¬399) في الأصول: «من»، وفي المعالم: «قد وصل وصل» ص: 223. (¬400) المعالم 226. (¬401) في الأصول: «الماجن».

ترجمة الشيخ عبد الواحد إبن التين

وحدّثني أبو علي فضل الصّفاقسي أيضا قال: كنّا بزويلة جلوسا مع الشّيخ في مسجد ورجل جندي ينظر إلينا من كوّة في المسجد، ثمّ إنه سار وعاد ينظر، ثمّ مضى، وقام الشّيخ وقمنا معه، فلمّا جلس في الدّار ساعة دعا (¬402) بفقير كان عنده فقال له: يا سليمان سر إلى المسجد الذي كنّا فيه وانظر حصره، فمضى الفقير ثمّ عاد وقال: يا سيدي ما فيه حصر، فبعد ساعة طويلة سمعنا مناديا ينادي على رأس مقطوع: هذا جزاء من فعل كذا، فأخرج الشّيخ رأسه من طاق في الدار، ونظر فقال: هذا رأس ذلك الرجل الذي كان ينظر إلينا في المسجد، فلمّا خرجنا أخذ حصر المسجد يشرب عليها أصحابه الخمر ففعل الله به هذا. قال (¬403): وتولّى الشّيخ أبو يوسف القطابة، حدّث الشّيخ حزام المدفون بالمرسى قرب مدينة تونس قال: لمّا زار الشيخ أبو يوسف والشّيخ أبو محمّد عبد العزيز أبا مدين ببجاية قال لبعض أصحابهما: احتفظوا بهذين (¬404) فإنه تكون لهما القطابة (¬405) سبعة أعوام بهما شركة، قال: تكون للأوّل، فإذا مات يكون الأمر للّذي يبقى بعده بقدر ما تخلّف بعده، فتوفّي الشّيخ أبو يوسف بالمحرّم من عام واحد وعشرين وستّمائة (¬406)، وتوفّي الشّيخ أبو محمّد في شهر رجب من ذلك العام. ودفن الشيخ أبو يوسف بالقيروان قرب الإمام أبي الحسن القابسي. ترجمة الشّيخ عبد الواحد إبن التّين: ومن مشايخ صفاقس / المشهورين سيدي عبد الواحد ابن التين شارح البخاري، شهرته تغني عن التّعريف بفضله، وشرحه (¬407) مشهور، وله فيه اعتناء زائد بالفقه مع ¬

(¬402) في ش: «دعى». (¬403) المعالم 3/ 227. (¬404) الشيخين. (¬405) في ش وت: «قطيبة». (¬406) جانفي - فيفري 1224 م. (¬407) «يسمّى المخبر الفصيح الجامع لفوائد مسند البخاري الصّحيح»، يوجد الجزء الرّابع منه في المكتبة الوطنية بتونس (مكتبة ح. ح. عبد الوهاب)، وسمعت من بعض أهل العلم أنّه يوجد كاملا في مطماطة. (م. محفوظ).

ترجمة الشيخ الولي سيدي جبلة

رشاقة العبارة ولطف الإشارة، توفّي - رحمه الله - سنة إحدى عشرة وستمائة (¬408) وقبره مشهور مزار متبرّك به، أمام الإمام اللخمي (¬409). ترجمة الشّيخ الولي سيدي جبلة: ومنهم الشّيخ الصّالح سيدي جبلة المدفون خارج البلد بشاطئ البحر (¬410) عند الركن الغربي الجنوبي تحت سور القصبة، كان له سبعة أولاد، فقتل شهيدا في واقعة إستيلاء أصحاب لجار (¬411) في المكان الذي دفن فيه، وقتل جميع أولاده شهداء، وله مقام بداخل صفاقس كان يقرئ به العلم قرب ساباط عريبة (¬412)، وهو اليوم مكتب يقرئ فيه ذرية معلّم أطفال المسلمين شيخ البركة أبو عبد الله سيدي الحاج محمّد المصمودي - رحمه الله تعالى -. وللشّيخ سيدي جبلة كرامات عديدة منها أنّ بعضهم خرج ليلا لصيد الجرمان من البرك التي تخلّفها الأمطار، فلمّا قرب من ضريح الشّيخ قال له رفيقه: وجبت علينا زيارة الشّيخ وقراءة فاتحة الكتاب فقال له مستخفّا: اتركنا ما نعرف شيخا رح بنا، فما استتم كلامه إلاّ ولطمه كفّ على وجهه ذهب بصره، فلم يدر أين يذهب، فأخبر صاحبه بما طرأ له وقال: ارجع بنا إلى الشّيخ، فرجع به يقوده، فلمّا دخل جعل يتضرّع ويطلب الإقالة والعفو، فبعد مشقّة ظهر له بعض ضوء، فخرجا ورجعا إلى محلّ الإصطياد، فدخل كلّ / واحد منهما زريبة (413) فرمى المستخفّ بندقية على الجرمان فانكسرت وخرّ عليه سقف الزريبة (413) فأثقله التّراب فلم يستطع الحراك ولا الجواب ولا شعور لصاحبه بما وقع عليه، فلمّا أراد الإنصراف ناداه فلم يجبه، فظنّه رجع إلى البلد، فلم يجده بالبلد فرجع إلى الزريبة (¬413) فوجده على تلك الحالة بآخر رمق، فاستخرجه هو ومن معه بعد جهد جهيد، وأتوا به إلى ضريح الشّيخ، فتركه (¬414) به (وخرج إلى أهله يخبرهم، ¬

(¬408) 1214 - 1215 م. (¬409) أنظر تراجم المؤلّفين التّونسيين 1/ 276. (¬410) هذا في زمانه أمّا الآن فهو بأرض يابسة بعد أن وقع ردم البحر. (¬411) النرماني ملك صقلية. (¬412) اليوم بآخر نهج الدريبة شرقا، سمي في أول هذا القرن سيدي بو علي وصار اليوم منزلا. (¬413) كذا في ب وت، وفي ط وش: «زيبة». (¬414) في ط: «فتركوه».

فجاء (¬415) أهله إليه يستشفعون) (¬416) ويطلبون الإقالة، فأقاموا به حتّى شفاه الله، فتاب وحسن اعتقاده. ومنها أنّ رجلا بات يحرس مقثاته من اللصوص، فلمّا أحسّ بمبادئ الفجر اطمأن وأخذته غفوة، فانتبه فظهر له أثر لصوص خرجوا من المقثاة وساروا نحو البلد، فاتبعهم قليلا قليلا (فأتوا البلد) (¬417) فوجدوا الباب مغلقا فتمادوا سائرين من الباب فتبعهم حتّى وصلوا ضريح الشّيخ وطلع النّهار، فاستوقفهم فوقفوا، ووجد عندهم غرارة على حمارة مملوءة بالقثاء (¬418) فقال: ما هذا؟ ففرّ منهم إثنان ومسك واحد فطلب منه الإقالة لوجه الله، فأبى إلاّ إدخاله للحاكم ليسجنه ويضربه وينتقم منه، فجعل اللّصّ يتمرّغ (¬419) في تراب الشّيخ فلم يقله، فسمع صوتا ولم ير شخصا يقول: اتركه لوجه الله ولا تفضحه يكفيه ما أصابه، فلم يلتفت لذلك، فكثرت المراجعة فقال: / آخر الكلام، إمّا أن تتركه لوجه الله وإلاّ عاقبتك، تهتكه في حرمي أما تستحي؟ خذ متاعك واتركه، فالتفت وإذا خيال شخص على باب الضّريح (¬420) يخاطبه بعنف وغلظة حتّى خشي على نفسه، فتركه خوفا منه، فلمّا نام فإذا بشخص واقف على رأسه وهو يقول: أما تستحي؟ تهتك حرمي والله لولا تركك له لقطعت ظهرك، فطلب من الشّيخ العفو فعفا (¬421) عنه، فاستيقظ مرعوبا، والقصّارون يقصرون القماش وينشرون بجواره قماشهم، فكثير ما يأتيهم الأعراب على خيولهم يريدون نهبهم، فيصيبهم من البلاء ما يقتل بعضهم، ويذهل بعضهم، ومن سرق شيئا افتضح حتى صار حرما آمنا، ونسوا (¬422) مرّة شدّادتين (¬423) من القماش ولم يتفكّروهما حتّى صار الليل وغلقت الأبواب، فأيسوا منهما، فجاء بعض أهل البادية فوجدهما حول الشّيخ، فأخذهما وسار فوقع في خليج البحر قرب الشّيخ، ¬

(¬415) في بقية الأصول: «وخرج إليه أهله يستشفعون». (¬416) في الأصول: «أخذه». (¬417) ساقطة من ش. (¬418) في ب وت: «القثا»، وفي ط: «القث». (¬419) في ط: «بتضرع». (¬420) في ط: «وإذا خيال على بابا الضريح شخص». (¬421) في ش: «عفى». (¬422) في ط: «وتنشروا». (¬423) ج شدّة أو شدادة، مصطلح تجاري وتعني عادة مجموعة من الأصواف (أغطية أو برانيس) مشدودة مع بعضها برباط.

ترجمة الشيخ علي بن عبد الناظر

وعالج الخروج فلم يقدر حتّى طلع نهار، وجاء أصحاب القماش فأخذوا قماشهم وتركوا سبيله. وعلى ضريحه هيبة وجلالة تقشعّر منه الجلود، قال بعضهم: علامة الولي أنك إذا وقفت على ضريحه وجدت من نفسك قبضا أو بسطا، وعلامة غيره أن لا تجد شيئا منهما، وهذا مشاهد محسوس (¬424)، فضريح الشّيخ اللخمي عليه أنس وبسط مشاهد معروف عند كلّ أحد، وضريح الشّيخ سيدي محمّد الكراي عليه من المهابة ما هو / مشاهد لكلّ من زاره. ترجمة الشّيخ علي بن عبد النّاظر: ومن مشايخ صفاقس المشهورين بالفضل والصّلاح: سيدي أبي الحسن علي بن عبد النّاظر، قبره مشهور (¬425) وعليه قبّة في الرّبض، خارج باب البحر، بالقرب منه من جهة الغرب. أصله من قرية ملّول (¬426)، وهو من ذرية سيدي أبي محمد عبد النّاظر صاحب الشّيخ أبي علي سالم بن أبي عثمان سعيد القديدي بلدا، الحضرمي نسبا، القيرواني مسكنا ومدفنا. قال في معالم الإيمان لمّا ذكر مناقب الشّيخ القديدي المذكور قال: فمن كراماته ما حدّثني من نثق به قال: وقعت بين عروة وملّول فتنة، وهما قريتان من عمل المهدية، وسبب ذلك أنّ أهل عروة سرقوا لأهل ملّول حوائج وحليا، واتّهموهم بذلك، فأنكر أهل عروة ذلك، فمشى الشّيخ الصّالح أبو محمّد عبد النّاظر وهو من أهل ملّول إلى أهل عروة وتحدّث معهم في السّرقة فأنكروها وحلفوا فضاق عبد النّاظر من ذلك ثمّ قال: ما لهذه المسألة غير الشّيخ أبي علي سالم والفقيه أبي زيد عبد الرّحمان الأجمي، فركب وسار إلى الشّيخ أبي علي وهو بمنزل قديد، فلمّا وصل سلّم عليه وقال له: ما أتى بك يا شيخ أبا محمد؟ فأخبره بالقضيّة وقال: تأمرني أن أمشي إلى الشّيخ الفقيه أبي زيد الأجمي لمؤانستك؟ قال له: افعل ما تريد، فمشى وأتى به وساروا جميعا حتّى وصلوا إلى القريتين ¬

(¬424) في ط: «مشاهد معروف عند كل أحد». (¬425) إندثر هذا القبر. (¬426) من قرى السّاحل التّونسي.

فقالوا: بأيّتهما نبدأ؟ فقال الشّيخ أبو علي: نبدأ بعروة، فخرج أهل البلد كلّهم للقاء الشّيخ أبي علي، وحلفوا عليه لينزلنّ عن فرسه، فامتنع / من ذلك، فألحّوا عليه، فقال: ما ننزل عندكم إلاّ على شرط أن تطعمونا الجرادق والعسل، فقالوا: هذا أيسر ما عندنا، وإنّما أردنا أن نذبح الدّجاج ونكثر من الطعام، ولو أمكننا التّقرّب إليك بأنفسنا لفعلنا، قال: لا، (¬427) إلاّ (¬428) الجرادق والعسل، قالوا: نعم، ثمّ نزل الشّيخ عن فرسه وجلس ووجّه معهم فقيرا من فقرائه وبيده قصعة ليأخذ فيها العسل، فلمّا أتوا إلى سرير النّحل وفتحوا أوّل بيت من بيوت النّحل وجدوها دودا فغلقوها وعمدوا إلى الثّانية فكانت كذلك، فعمدوا إلى الثّالثة، فلما فتحوها وجدوا فيها الحوائج والحلي الّذي لأهل ملّول، فأخذ الفقير الحوائج في طرفه وأتى بها إلى الشّيخ أبي علي، فلمّا وضعها بين يديه قال الفقيه أبو زيد الأجمي: يا سيدي أبا علي، لقد أطلعك الله على أمر عظيم، فسبحان من وهبك هذا السّرّ، فقال الشّيخ: يا فقيه أبا زيد تعجب من ذلك؟ المنّة لله وحده وما ذلك على الله بعزيز، ثمّ قال الشّيخ عبد النّاظر: يا فقيه أبا زيد قال الله العظيم {ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬429) ولا تستكثر هذا من الشّيخ أبي علي فإنّه شيخ الإطّلاع والمكاشفة والمراقبة، فقال الشّيخ أبو علي: لا تتّهموني فإني أعرف بنفسي، وهذا الذي ظهر لنا هو نيّتكم وخواطركم ثمّ أخذ أهل منزل عروة من الحياء والحشمة ما أفهمهم (¬430)، واستحيوا من الشّيخ لما وقعوا فيه، وقالوا: ما علمنا من فعل هذا فلا تؤاخذنا واجبر كسرنا / فقال: توبوا إلى الله - عزّ وجلّ - فتابوا، ثم قال الشّيخ: تاب الله علينا أجمعين. وتوفّي الشّيخ أبو علي القديدي يوم الجمعة قبل الزّوال لثمان عشرة ليلة خلت من ذي القعدة من عام تسع وتسعين وستمائة (¬431)، ودفن بقبر كان أمر بحفره قبل وفاته بثلاث سنين بزاويته المبنية بمدينة القيروان (¬432). وتوفّت والدته أمّ سلامة (¬433) واسمها زينب في اليوم الثّاني والعشرين لذي الحجة ¬

(¬427) ساقطة من ط وب وت. (¬428) ساقطة من ب. (¬429) سورة الجمعة: 4. (¬430) في ط: «أبهمهم». (¬431) 5 أوت 1300 م. (¬432) الحقيقة التّاريخية للتّصوّف الإسلامي 258 - 259. (¬433) في ط: «أم سلمة».

مكمل عام تسعين وستمائة (¬434)، وقبرها بمسجد الزّاوية مشهور يزار ويتبرّك به. وكان الشّيخ الصّالح أبو محمد عبد النّاظر الملّولي يزورها، وأوصى ولده الصّالح (¬435) أبا علي محمّد [بأن] يزورها فكان يزورها في كلّ وقت، وعلي الذي كنّي به محمد الذي أمره الشّيخ عبد النّاظر بالزيارة هو سيدي علي عبد النّاظر صاحب هذه الترجمة. فإن أهل ملّول انتقلوا لصفاقس وإلى الآن يقال لهم الملالة (¬436) ومن جملتهم أبناء عبد النّاظر، وأولاد الوافي، والدرايسة (¬437) والبكاكشة (¬438)، كما أنّ أهل عروة (¬439) انتقلوا لسوسة. وسبب انتقال أهل ملّول لصفاقس أنّ شيخ القرية كان له صديق بصفاقس عمل عرسا، فسمع الملّولي بذلك، فاحتمل جانبا من العسل لصاحبه وتوجّه به إليه فلقيه أعرابي فسأله فعرّفه بقصده، فقال: أنا أولى بالعسل من صاحبك، فاعتذر إليه فأبى وأخذه رغما عليه، فرجع من القهر واحتمل أهله إلى صفاقس، فاتبعه أهل القرية وخربت. ومكان هذه القرية مكان قبة سيدي أبي النّور. ذكر إبن ناجي في مناقب الشّيخ أبي عفيف صالح بن عبد المعالي الصدفي (¬440) وكان من أئمة الكتاب / والسّنّة وله كرامات كثيرة من جملتها أنّ الشّيخ كان يوما سائرا مع أصحابه ببني (¬441) جرير بلده، وإذا به قال لأصحابه: كبّرّوا، فكبّروا بتكبيرة أربعا، وسلّم (¬442) وسلّموا معه، فظهر الأمر أنّ تلك السّاعة صلّى فيها على الشّيخ أبي الضّياء بنّور بملّول وبينهما مسيرة نحو يومين. وتوفّي الشّيخ صالح الصدفي ببني (¬443) جرير سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة (¬444) ¬

(¬434) 16 ديسمبر 1291 م. (¬435) ساقطة من ط. (¬436) جمع واحدة - ملّولي. (¬437) جمع واحدة إدريس. (¬438) جمع واحدة بكّوش، وكل هذه الأسر باقية بصفاقس إلى الآن. (¬439) ولقب العروي موجود بسوسة والمنستير. (¬440) معالم الإيمان. (¬441) ساقطة من ط. (¬442) ساقطة من ط. (¬443) في ط: «يعني». (¬444) 1370 - 1371 م.

ترجمة الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الكافي

وصلّى عليه بها، ودفن بالقيروان بجبانة باب سلم اهـ‍. ثمّ إن الشّيخ سيدي علي بن عبد النّاظر صاحب التّرجمة مات عن غير عقب، وخلّف دارا فبيعت، وبني بثمنها تلك القبّة الّتي عليه والله أعلم. ولم نقف له على تاريخ وفاة لعدم اعتناء النّاس في تلك الأزمان بالتّاريخ لكن يؤخذ ممّا مرّ أنّه من أهل القرن الثّامن. ترجمة الشّيخ أبي الحسن علي بن عبد الكافي: ومن مشايخ أهل صفاقس المشهورين بالفضل والصّلاح سيدي أبو الحسن (¬445) علي ابن عبد الكافي صاحب الزّاوية المشهورة خارج البلد بالوطن الغربي بين ضريحه وصفاقس قدر خمسة أميال. وممّا وجد مسطورا بخطوط العدول ما معناه: في علم شهديه حين أتى المكرم جعفر المنصوري وزير المعظّم سيدنا ومولانا أبي حفص عمر (¬446) ملك طرابلس - أيّده الله بالنّصر المبين، وثبّته الله على طريقة طاعته، وكلمة الحقّ واليقين، إلى زاوية الشّيخ الولي الصّالح المزار، المتبرّك به سيدي أبي الحسن علي، صاحب الزّاوية الكائنة بوطن صفاقس الغربي، قرب منزل قلمام، ابن الشّيخ الولي الصّالح القطب الغوث أبي عبد الله محمد إبن الشّيخ الإمام الخطيب المدرّس التّقي / الواعظ العالم العلاّمة الولي الصّالح القطب الغوث أبي الكرامات (¬447) سيدي عبد الكافي القرشي العثماني اليثربي، أعاد الله علينا من بركاته، وزادنا من سحائب خيراته، ومعه خمسة أبغال محمّلة بالذّهب والسّروج والملبوس من أكراك (¬448) وحلل وغيرها من أنواع اللّباس، ونزل في الزّاوية المذكورة هو وخدّامه، فاستقرّ بالزّاوية المذكورة ثلاثة أيام. ففي اليوم الثّالث أقبل نحو الزّاوية قدر ثلاثين فارسا على خيل ظامئة (¬449) من درك السّير وهم يبحثون عن جعفر المذكور، فوجدوا سيدي علي هناك جالسا بباب زاويته، فسلّموا عليه، فردّ عليهم السّلام وأمرهم ¬

(¬445) ساقطة من ط. (¬446) إنتقلت طرابلس من حكم الموحّدين إلى حكم الحفصيين في تونس وذلك خلال القرن الثامن الهجري. (¬447) في ط: «البركات». (¬448) ج كرك وهو ما يلبس بالرّجل. (¬449) في ت وب: «طامية»، وفي ط: «ضامية».

بالنّزول، فقالوا له: يا سيدنا، هل أتاكم وزير سيّدنا الأمير أبي حفص عمر هاربا ومعه خزنة من خزائن الأمير؟ فلك منه العطاء الجزيل، فقال لهم الشّيخ: ليس غير الله بمعط (¬450) ولا مانع والمال محفوظ، وها هو الوزير المذكور عندنا أتى (¬451) دخيلا على الله ونزيلا علينا، انزلوا يا فرسان على بركة الله وكلوا طعام الزّاوية، فأبوا أن يأكلوا الطعام، فقال لهم الشّيخ: ما لكم لا تأكلون من طعام البركة؟ فقالوا له: يا شيخ كيف نأكل الطّعام وعدو سيّدنا عندك؟ فو الله لا نأكل من طعامك شيئا إلاّ أن تمكّننا من عدوّ سيّدنا وما معه من أموال سيّدنا الأمير ونتوثّق منه، فقال لهم الشّيخ: ما سبب هذا الرّجل والأموال (¬452)؟ فقالوا له: (يا شيخ، هذا الرّجل) (¬453) كان عند سيّدنا وزيرا أعظم ووكيلا على خزائنه، ولا أحد أقرب منه عند سيّدنا ولسيّدنا الأمير بنت جميلة الصّورة، ما رأى الرّاءون / أحسن منها، فذات يوم من الأيّام طلب من سيّدنا الأمير أن يزوّجه بها، فأبى سيّدنا من ذلك، وقال له: يا جعفر إبنتي صغيرة السّنّ وتعزّ عليّ ولا نزوّجها لأحد هذه الأعوام، فعند ذلك اشتدّ غضب الوزير وطعن على خزائن سيّدنا، ورفع منها هذه الخزنة، ونحن نريد أن نأخذه هذه السّاعة ونرفعه لسيّدنا، فقال لهم الشّيخ: يا فرسان، الزّاوية زاوية الله، وزاوية الله ملجأ (¬454) الملهوف، وأنتم على بركة الله (¬455) (احترموا الزاوية واعتقوا هذا الملهوف الدّخيل لوجه الله تعالى) (¬456)، فقالوا له: يا شيخ كفّ عن هذا الخطاب، فو الله ثمّ والله، لو اجتمع أهل السّموات وأهل الأرض لم يمنعوه منّا بعد أن أوقعه الله في شباكنا، وأرادوا رفعه من الزّاوية كرها، وكان أولاد الشّيخ الثّلاثة بإزائه (¬457) وهم: سيدي محمد وسيدي عبيد الزّوّاي وسيدي يعقوب حاضرين للخطاب ومعهم جميع أهل الزّاوية عن آخرهم، ثمّ طال الخطاب بينهم، وغضب العمّال وهجموا على الزّاوية المذكورة ليأخذوه كرها، فقال لهم الشّيخ: ارجعوا لله (¬458) ¬

(¬450) في ط: «معطي». (¬451) في ش: «أتا». (¬452) ساقطة من ط. (¬453) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬454) في ط وت: «وملجا». (¬455) في ط: «الله تعالى». (¬456) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬457) في ب: «بزاوية»، وفي ط: «بالزاوية». (¬458) ساقطة من ط.

يا فرسان لا تهتكوا الحرم، فأبوا أن يرجعوا فقال لهم الشّيخ: على الله شباككم ممزّقة وعروقكم مقلّعة، فقام أولاد الشّيخ ثلاثتهم وأخذهم حال وانجذاب، وصاحوا صيحة منكرة، فتكلّم (¬459) في الحين مدفع من تحت الأرض من قبل الله في وسط العمّال، وفرّوا هاربين لم يرجع منهم أحد إلى أن بلغوا طرابلس، فدخلوا على الأمير فقال لهم: ويحكم / أين الوزير؟ قالوا له: وجدناه في زاوية (¬460) بها خلق كثير، وأرادوا قتلنا عن آخرنا، وشتموا أهل الزّاوية عند الأمير شتما زائدا حتّى غضب الأمير غضبا شديدا على أهل الزّاوية، وأمر أن يجهّز لهم عسكرا قدر ثلاثة عشر خباء، فخرجوا من طرابلس، وأمرهم الأمير بتخريب الزّاوية وقتل صغيرها قبل كبيرها، فخرجوا مجدّين السّير إلى أن وصلوا الزّاوية المذكورة، ونزلوا قرب سدرة المحلّة غربي الزّاوية، فوقع الرّعب في قلوب أهل الزّاوية، وكان نزولهم بعد العصر عشيّة الجمعة والشّيخ في الدّرس، فجاء أهل الزّاوية وأخبروه بنزول المحلّة، فقال لهم الشّيخ: ارجعوا يا إخواني على أنفسكم، من أتانا زائرا رجع مجبور الخاطر، ومن أتانا بجور غائر أعمر الله به المقابر، فخرج الشّيخ من الدّرس ونظر العسكر فلم يأت منهم من يرد الخبر بما يقصدون، خيرا أو شرّا، إلى أن أصبح الله بخير الصباح، فبينما الشّيخ في صلاة الصّبح وإذا بالعسكر يضربون طبولهم ويزعقون الأنفرة، ونشروا الرّايات وعزموا على الحرب، فرجع أهل الزّاوية للشيخ فوجدوه قد فرغ من صلاة الصّبح، فقالوا: يا سيّدنا نفذ القضاء ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله، فردّ عليهم الشيخ فقال: أمهلوا فلمّا حلّت النّافلة صلّى ركعتين وخرج ووقف على كوم الزّاوية الذي به الرّوضة، ومدّ بصره إلى العسكر فظهروا له / كلّهم على ساق واحدة، وأهل الزّاوية يبكون بكاء شديدا، فاشتدّ حال الشّيخ وسقطت دمعته وصاح صيحة عظيمة وقال: يا غياث المستغيثين، يا ناصر المستنصرين انصرنا عليهم، يا خير النّاصرين يا ذا القوّة يا متين، وأومأ (¬461) إليهم بكمّ ثوبه وقال: أعمر القبور يا جابر (¬462) المكسور، فما استتمّ كلامه إلاّ والعسكر بلعته الأرض بإذن الله، ونزل في هاوية ولا بقي منه إلاّ رجل واحد، فسار ذلك الرّجل الواحد إلى طرابلس وردّ الخبر، فحكى للأمير ما ¬

(¬459) عامية بمعنى إنطلق. (¬460) في ط: «بزاوية». (¬461) في ط وش: «أومى». (¬462) في ط: «يا جيار».

ترجمة الولي إبراهيم بن يعقوب المعروف بصيد عقارب

وقع فاشتدّ بالأمير الحال وقال: لا بدّ لي من المسير إلى هذا الشّيخ فأنظره، فسار بمن معه من حاشيته إلى أن بلغ الزّاوية، فنزل هنا لك وجعل يسأل عن الشّيخ إلى أن اجتمع به، فتواضع بين يديه وقال: يا سيدي أنا صنعت الوزير لأجلك وسامحته (¬463) فيما أخذ من خزائني، وأنت سامحني، فسامحه لله تعالى، فقال له الأمير: اطلب شيئا من الدّنيا تستعين به على الزّاوية؟ فقال الشّيخ: نطلب من الله الآخرة، وأبى أن يطلب شيئا من الدّنيا، هذا من كراماته - نفعنا الله به - فمن علم ذلك وتحقّقه قيّد بذلك شهادته هنا، بتاريخ أواخر صفر الخيّر سنة خمس وسبعمائة (¬464)، وكتبه محمّد بن محمّد الرّقيق ومحمّد التّميمي، وكانا عدلين من عدول صفاقس. ثمّ إنّ الولد الأكبر من أولاد الشّيخ وهو أبو عبد الله محمّد اشتهر بأبي عتّور، وله / عقب إلى الآن. وأمّا شقيقه المرابط الأصلح الأنجح الأسعد الولي الصّالح المجذوب السّائح في ملكوت الله، وهو سيدي عبيد اشتهر بالزّوّاي، فانتقل لرحمة الله عن غير عقب، واشتهرت الزّاوية في هذه الأعصار باسمه. وأمّا شقيقهما المرابط الأصلح أبو يوسف يعقوب فله عقب إلى الآن. وأمّا الجدّ الأعلى وهو سيدي عبد الكافي فله ضريح مشهور بقرية برشانة بالقرب من قرية سيدي عيسى بن مسكين - رحم الله جميعهم ونفعنا بهم وبأمثالهم -. ترجمة الولي إبراهيم بن يعقوب المعروف بصيد عقارب: ومن أكابر الصّالحين بوطن صفاقس الغربي الشّيخ العارف بالله تعالى (صاحب الكرامات والإشارات) (¬465) أبو إسحاق سيدي إبراهيم بن يعقوب بن فضل بن محمد بن سباع الذوّادي (¬466) الشّهير بصيد عقارب من أولاد صولة. كان - رحمه الله تعالى - من أعراب البوادي، أخذ الطّريقة عن الشّيخ أبي الحسن سيدي علي العبيدلي نزيل القيروان، فجذبه بهمته. ¬

(¬463) في ش: «سمحته». (¬464) 19 سبتمبر 1305 م. (¬465) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬466) في ط وب: «الزوادي».

ترجمة الشيخ أبي الحسن علي العبيدلي

ترجمة الشّيخ أبي الحسن علي العبيدلي: ولمّا جرى ذكر الشّيخ العبيدلي فلا بدّ من ذكر شيء من التّعريف به وبمقامه ليعلم مقام الشّيخ صيد عقارب، ويعلم أنّ له أصلا في الطّريقة مبنيّا عن معرفة محقّقة، ثمّ بعد ذلك ننتقل للكلام على صيد عقارب لأنّ هذه رسوم اندرست وعفت معالمها وانطمست آثارها، فلا بدّ من بيان ما يمكن بيانه، والله وليّ الهداية والتّوفيق فنقول: الشّيخ العبيدلي هو أبو / الحسن علي بن عبد الله بن عياش بن العبيدلي (¬467)، أصله من العرب (¬468)، وجاء إلى القيروان كبيرا فتعلّم بها القرآن، وقرأ على الشّيخ الرماح، وكان فقيها صالحا ناسكا ورعا مهابا، لا ينظر إلى وجه السّلطان ونحوه من أولي الأحكام ممّن لا تأخذه في الله لومة لائم، كثير الخوف من الله - عزّ وجلّ -. قال في معالم الإيمان: سمعت شيخنا أبا محمد عبد الله الشبيبي يقول: كان العبيدلي إذا دخل المحراب يدخله بوجهه، فإذا سلّم وانفتل رجع بوجه آخر (¬469)، وكان إذا حجّ يعمل الميعاد، فإذا فرغ منه أخذ الرّكب في الرّحيل، وكان من اعتقاد النّاس فيه تتوب البوادي على يديه ولا يقبل (¬470) توبتهم حتّى يخرجوا جميع ما عندهم من المظالم، فقد يبقى من يتوب هو وعياله بلا شيء فيلحقهم الضيق ابتداء، فإذا تاب آخر أخرج ما له عنه لمن قبله، وهكذا فتراد (¬471) النّاس مظالمهم، وحسنت أحوالهم، وكان فقراؤه الذين يعرفونه بزاويته وغيرها نحو ستّين أو سبعين بحسب الأوقات، فتارة يقلّون وتارة يكثرون، وكانت حومة الشّيخ تسمّى حارة المرابطين لسكنى من ذكر بها، وكانوا إذا تزوّج واحد منهم أو زوّج لا يشهد في عقد نكاحه إلاّ أصحاب الشّيخ، ولا يشهد عند (¬472) العدول المعينين لأنّهم عندهم ليسوا بعدول لما يسمع عليهم من كلام النّاس، فشقّ ذلك على قاضي الوقت والعدول / فأتى الشّيخ أبو الحسن علي الشّريف شهر العوّاني، وكلّم الشّيخ في ذلك فقال: أصحابي هم العدول لا غيرهم (¬473)، فلا يعقدون (¬474) نكاحا بالمعيّنين بحال، فما زال يلاطفه حتى ¬

(¬467) له ترجمة في شجرة النّور الزّكيّة ص: 211، معجم المؤلّفين 7/ 139، هدية العارفين لإسماعيل باشا البغدادي 1/ 719. (¬468) أي من أعراب البادية. (¬469) في ش: «أخرى». (¬470) في ط: «تقبل». (¬471) في ط: «فترى». (¬472) بعدها في ط: «عند العقد عقد». (¬473) في ط: «لا يجبرهم». (¬474) في ب وت: «يعقد».

قال له: يا سيدي، نجمع بين الحالين، يحضر عدول القاضي وخواص أصحابكم، فعندكم أنتم إنما انعقد النّكاح بالخواص من أصحابكم، وعند القاضي إنما انعقد بعدوله فوافقه على ذلك بعد توقّف، ولو تمادى - رحمه الله - على تمنّعه لنفذ ذلك. وكان - رحمه الله - لا يرى وجه السّلطان ولا قائد ولا قاض لما يسمع عن القضاة من أخذهم مرتّبهم من القيّاد، وغير ذلك. ولمّا وصل أبو يحيى أبو بكر أمير إفريقية القيروان بمحلّته ووصل إليه الشّيخ أبو محمّد الرّمّاح والنّاس فقال: هل في القيروان من يزار؟ فقالوا له: الشّيخ العبيدلي، فهمّ بالمشي إليه، فقيل له: إنّه لا يفتح لك الباب ولا ينظر إليك، فعمل على الإجتماع به ليلا، فأتى هو وقائده إبن سيّد النّاس، ومحمّد بن عبد الحكيم، فدقّ الباب فقالت امرأة من خلف الباب: من هذا؟ فقال لها: قولي للشّيخ إنّ أميرك بالباب ينتظرك، فلم يخرج له، فتعوّذ وقرأ بلسان عال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬475) فأجابه الشّيخ وكان يصلّي بلسان عال حتّى سمعناه (¬476) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ} (¬477)، ولم يخرج له، فقال: لا بدّ لي / من رؤيته، فقيل له: إنّك لا تراه إلاّ يوم الجمعة لخروجه للصّلاة، فوقف في مكان، فلمّا رآه ترجّل عن جواده وانفتل الشّيخ بوجهه إلى حائط السّور ولم ينظر إليه، فقال له: يا سيّدي أحبّ منك أن تدعو لي، فقال له: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «اللهم من ولي أمرا من أمور أمّتي فشقّ عليهم فاشقق اللهم به، ومن ولّي أمرا من أمور أمّتي فرفق بهم فارفق اللهم به» (¬478)، فركب ولم يوله وجهه، وحضر لمشهد هذا اليوم الشّيخ الصّالح العدل أبو العبّاس أحمد إبن الشّيخ العدل المؤلّف أبي عبد الله محمّد بن عثمان بن غانم الحضرمي، فقال في نفسه: هذا رجل بدوي أنظر كيف أعطاه الله ولم ينظر للسّلطان وجها، ونحن أصحاب طريقة وزوايا، عرفنا السّلطان وأخذنا مرتّبه، وتملّقنا له ولا يليق بنا ذلك، فرجع إلى داره وانقطع عن السّلطان وغيره، ولزم المحراب حتّى مات - رحمه الله تعالى -. ولمّا دخل السّلطان أبو الحسن (¬479) القيروان قال الشّيخ العبيدلي للشّيخ الرمّاح: ¬

(¬475) سورة النّساء: 59. (¬476) في ش وب: «سمعاه»، وفي ط: «سمعه». (¬477) سورة الحج: 41. (¬478) رواه مسلم عن عائشة. (¬479) المريني.

اتركني أخطب موضعك وأصلّي حتى أسمعه ما يلزمه، فأبى عليه طلبا للعشرة. قال الشّيخ أبو عبد الله محمّد الشقانسي: كان الشّيخ الفقيه الورفلي (480) من أهل قابس ينزل عنده الشّيخ العبيدلي إذا مشى للحجّ، فتولّى بعد ذلك الورفلي (480) قضاء القيروان فلم يصل إليه، فطلب هو أن يصل إلى الشّيخ فأبى عليه، فبعث له في ذلك، فقال للرسول: قل له لكونك قاضيا، فأجابه انّي إنما تولّيت مكرها / وحلف له على ذلك، فقال للرسول: قل له اعمل الحق تعزل، فعمل الحق، وضرب نائب القائد بموجب شرعي وقائده إبن أبي الرّبيع، فتركه القائد إلى يوم الجمعة، وفزع عليه بخدامه، وهرب خدّام القاضي وأتى له لداره، وكان يسكن قرب الجامع الأعظم بالدّار المعروفة للقضاة، فتحصّن بالجامع ودخل فيه، وأغلق بابه عليه، فسلّمه الله منه، فخرج العبيدلي بأصحابه يدعون في جبابن القيروان، وقال: لا أسكن بلدة جرى فيها هذا المنكر، وكتب الشّيخ الرماح لقاضي الجماعة وللسّلطان وللشّيخ الزبيدي وعرّف كلاّ منهم بالواقع وبخروج الشّيخ العبيدلي، وكتب القائد يعرّف السّلطان بضرب القاضي لخديمه، وكتب أيضا لقائد الاعنّة محمّد بن عبد الحكيم الذي كان يعتمد عليه، وبقي النّاس ينتظرون ما يجيء من الأمر، فجاء رسول السّلطان وأخذ القائد وكبّله ورفعه لتونس، فلمّا وصل به لقيه قائد الأعنّة المذكور فقال له: بعثناك للقيروان قائدا وأرحناك من تعب السّفر في المحلّة، فظلمت القاضي ففزعت عليه حتّى خرج العبيدلي يدعو على مولانا أبي يحيى الذي قدّمك، وأمر من معه بقتله فقتلوه بالرّماح، ثمّ جاء قائد ومعه قاض، فلمّا خرج الورفلي (¬480) معزولا خرج العبيدلي وودّعه. وحدّث أبو بكر بن يعقوب الضاعني قال: خرج العبيدلي مع جماعة من أصحابه بجبل ماكوض، جرت العادة أنّه يتعبّد به ويجتمع فيه الأولياء، وهو بالجزيرة / على شاطئ البحر، فغارت خيل عليه وعلى أصحابه فجرّدوا بعضهم، فقال للخيل: هذا الشّيخ العبيدلي فاعتذروا بأنّه (¬481) لا علم عندهم به، وردّوا ما أخذوا إلاّ رجلا من أصحابه قال: هذا الفارس أخذ لي سبعة دنانير ذهبا، وأنكر الفارس ذلك إنكارا كليّا وقال: نحلف، قال له الشّيخ: لا تحلف إلاّ على يدي الحاكم وليس هو ههنا ولكن الفقراء يعلّمونك دعاء تدعو به ويؤمّنون عليك مرّتين، هذا حقّهم، فقال: نعم، فقال ¬

(¬480) في ش: «الروفلي». (¬481) في ط: «بأنهم».

له الشّيخ: يا غانم، قل اللهم إن كان غانم سالما فسلم، وإن كان كاذبا فاهتك السّتر وعجّل، فقال ذلك، فقال الشّيخ وأصحابه: آمين وكرّرها ثانيا، (وقالوا: آمين) (¬482)، وانصرف (¬483) الشّيخ وأصحابه، وكان غانم هذا قتل والد فارس معه في الخيل، وعفا عنه فقال له ولد المقتول: يا ابن عمّي فضحتنا بين العرب، يقول العرب والنّاس إنّ الفلانيين أخذوا العبيدلي وهو شيخ إفريقية، فقال له: وأي فضول أدخلك في هذا؟ فتغالى معه في الكلام، فضرب الفارس غانما بمزراقه فقتله، وفتّشوا جيبه فوجدوا السّبعة دنانير فيه، فلحقوا الشّيخ وأعلموه بموته، وأعطوا لصاحب الدّنانير دنانيره. ونقل عن الشّيخ ثعلب عن الفقيه أبي عبد الله محمد الجذامي قال: كنا نجوّد على الشّيخ العبيدلي بعد صلاة العشاء الأخيرة وإذا برجل دخل على الشّيخ فقال له: إن عجوز السّلطان من أولاد أبي يحيى / أبي بكر، دخل القيروان، وإنّ النّاس خافوا منه أن يقيم عندهم فقال: انصرفوا، وغلق الباب، فلمّا بقي السّدس الأخير من الليل جئنا للقراءة عليه فقال: عجوز خرج أم لا؟ فقلنا: ما نعرف، فقال: إن رجلا يقرأ عليه المؤمن من الجنّ، قالوا (¬484) له: ما تريد نعمل في عجوز؟ أتقتله أم تخرجه؟ فقال: أخرجوه، والغالب أنّه يخرج، فظهر أنّه سرى بالليل وأصبح في بعض قرى السّاحل، وقال بعض أهل ذلك الموضع: سلموا على الشّيخ العبيدلي وقولوا له: بلدة أنت فيها ما نزاحمك فيها، فعرفنا أنّ الرجل الذي ذكر هو نفسه. وقال لي أبو عبد الله الجذامي المذكور: مرض الشّيخ العبيدلي فأشفق النّاس أن يموت من مرضه ذلك، فدخلت عليه أنا والحاج عبد الرّحمان الشّيحي والحاج أبو بكر الطّرّي، فقال أحدهما: يا سيدي رجل رأى في منامه أنّ السلطان أخذك والنّاس خافوا، فقال: أنعرفكم (¬485) ولا تعرفوا بي حتّى نموت؟ قلنا: نعم، قال: أطلعني الله على ما مضى من عمري وما بقي، وأنا ما نموت من هذه المرضة حتّى نحجّ، فكان كذلك. وكان - رحمه الله - فقيها عارفا بالأحكام الشّرعية على غاية ونهاية، فمن فقهه أنّه يقول: قبول الهديّة أفضل من قبول الزّكاة وخالفه أبو عبد الله الرماح (¬486) شيخه (¬487)، ¬

(¬482) ما بين القوسين ساقط من ب وت وط. (¬483) في ط: «وانصر». (¬484) في ط: «قال». (¬485) في ط: «أنا أعرفكم». (¬486) محمد بن عبد الرّحمان الرماح، أخذ عن إبن زيتون وغيره، الفقيه العمدة مع ديانة وصلاح، درس العلم نحو من 60 عاما (ت. سنة 749/ 1348) شجرة النّور ص: 211. (¬487) ساقطة من ط وب وت.

وأبو العباس أحمد الدّباغ، وأبو عبد الله علي العواني (¬488)، وأبو إسحاق إبراهيم الخطيب، واحتجّ العبيدلي بفعله - عليه الصّلاة والسّلام - / من أنّه كان يقبل الهديّة ولا يأخذ من الزكاة، وأجابه الآخرون (¬489) بأنّ الهدية في حقنا موقوفة على ثلاثة شروط: حلية المال، وطيب نفس صاحبه، وحصول ما يظنّ المعطي في المعطى، وللزّكاة شرط واحد وهو الفقر. قال (¬490) أبو بكر الضاعني: عمل عبد الواحد الحنظلي طعاما ونادى عليه أربعة: أبا عبد الله محمد الرماح، وأبا الحسن العبيدلي، وخليفة اللواتي، وعمر الحسيني، فقال خليفة وعمر: نحن صيام، فقال صاحب الطّعام: وأنا ما عملت إلاّ من أجلهما لكمال فقرهما، فقال العبيدلي: بكم تشتري فطرهما؟ فقال: بثلاثة أقفزة قمحا، قفيزان للفقراء وقفيز لك. فأمرهما بأن يغسلا أيديهما ويأكلا، ففعلا، فأوصل من الفور بعد الأكل قفيزا لدار الشّيخ العبيدلي، وقفيزين للفقراء، ففرّقهما الشيخ، وهذا الذي فعل تبع فيه قول عيسى بن مسكين لصديقه وقد دخل عليه وهو يأكل طعاما وقال: إنّي صائم، قال: إدخالك السّرور على أخيك المسلم أفضل من صومك، ولم يأمره بقضائه، وقال عياض: وقضاؤه واجب وإنّما لم يذكره لوضوحه. قال إبن ناجي وكان شيخنا أبو الفضل البرزلي لا يرتضيه ويحمله على نفيه كقول الشّافعي، وهذا لا يقدح في قولي (¬491)، كان متورّعا لأنّه لم يستعمله في نفسه. واختلف الشّيخان الرّماح والعبيدلي هل يجوز التّخطّي حالة نزول الإمام من على المنبر في خطبة الجمعة أم لا؟ وكان الشيخ إبن عرفة يجري القولين فيها / من نقل إبن العربي قولي مالك في جواز الكلام حينئذ، وله اختلاف مع الفقهاء في مسائل غير هذه. وللشيخ العبيدلي تأليف في الفقه أصل مستقل، وعقيدة في التّوحيد. وتوفّي سنة ثمان وأربعين وسبعمائة (¬492) ودفن بباب تونس، وقبره مزار مشهور. ¬

(¬488) هو الشّريف القيرواني من بيت علم وفضل، الفقيه العالم القاضي العادل، (توفّي في ربيع الأوّل سنة 757/ 1356) شجرة النّور ص: 224. (¬489) في ط وب وت: «الآخر». (¬490) في ط: «كان». (¬491) في ط: «قول». (¬492) 1347 - 1348 م.

تتمة ترجمة الولي إبراهيم بن يعقوب: صيد عقارب

تتمّة ترجمة الولي إبراهيم بن يعقوب: صيد عقارب: ولنرجع إلى الكلام على الشيخ سيدي إبراهيم بن يعقوب المقصود هنا، فنقول: إنّه كما قدّمنا أصله من البادية، قدم به أبوه من المغرب في أحياء من قومه متوجّهين لإفريقية لقحط أصاب بلدهم، فنزلوا على زروع سيدي حراث فأصابوا منها، فأتاهم وأمرهم بالرّحيل عنها، فأبوا فدعا (¬493) عليهم بواد (494) يرفعهم، فاستجاب الله دعاءه فلم يمض جزء من اللّيل إلاّ وقد دهمهم واد (¬494) فأعجلهم عن تحميل مراحيلهم، فأخذ يعقوب أبو سيدي إبراهيم بعيرا فحمله وأخويه عليه، وسيّره على غير مسيل الوادي، ورجع لفرسه وزوجه وبقية أثاثه فحملهم الوادي جميعا فلم يظهر لهم أثر، وسيدي إبراهيم لمّا أصبح الصّبح رجع في طلب أبويه، وترك أخويه على البعير، فذهب البعير بهما إلى السّواسي، ولمّا لم يجد سيدي إبراهيم أبويه ولا عرف أين ذهب البعير بأخويه بقي منفردا محتارا في أمره، فتلقّاه الشّيخ عامر بن جامع، فأخذه وسأله عن حاله، فأخبره بقصّتهم، فقال له: لا بأس عليك، أنا أجعلك من جملة أولادي، فأتى به أهله وعرّف زوجته أمره، فقبلته وتحنّنت عليه / مع جملة بنيها وأكرمت مثواه، وكان رجلا من شجعان العرب ورؤسائهم من صغر سنّه، فأعطوه فرسا وسلاحا على عادة شجعان العرب، وكانوا يخافون عليه من حروب العرب. فاتفق أن اقتتلت (¬495) قبائل العرب فيما بينهم في وادران ويسمّونه شعاب الفرانس، فاستدعى (¬496) سيدي إبراهيم خمسة من رفقائه وذهب بهم إلى موضع الوقيعة، فوجدوا عروسا مهيّأة لدخول زوجها عليها، فلمّا وقعت الواقعة بقيت بناحية، وكان أبوها رجلا صالحا، فلمّا رأت سيدي إبراهيم طلبت منه أن يحفظها حتّى يأتي أبوها، فأخذها بنيّة حفظها وأن لا يصل إليها بسوء، هو ولا أحد من النّاس، عناية من الله تعالى، فبعد مدّة جاء أبوها متطلّبا أثرها، فقال: هذه بنت عندي فانظر فإن كانت لك خذها وإلاّ فاتركها إلى أن يجيئها أبوها، فلمّا رأت أباها عرفته، فتسلّمها منه، وحملها له سيدي إبراهيم على بعير في هودج على صورة العروس، وركب معها هو وستون من قوم إبن جامع إكراما لأبيها، واستصحب فارسين من غير ¬

(¬493) في ش: «فدعى». (¬494) السّيل الجارف. (¬495) في الأصول: «اقتتل». (¬496) في الأصول: «استدعا».

أصحابه، فساروا بالبنت وأبيها على صورة زفاف العرس، فلمّا وصلوا لأهل البنت أخبرهم أبوها بخبره، وأمرهم أن يكرموا سيدي إبراهيم وقومه بذبح شاة لكلّ فارس، ودخل زوج البنت عليها فوجدها سالمة من إصابة الرّجال، ففرح أبوها ودعا (¬497) لسيدي إبراهيم بأن يجعله الله من أوليائه الصّالحين، فاستجاب / الله دعاءه. ثمّ إنّ الشيخ سيدي إبراهيم سار ومعه الإثنان والستّون راجعا إلى أهله، فلمّا وصلوا للعلوين، إسم موضع قرب سيدي عمر بن حجلة (¬498) بنواحي القيروان، وجدوا قفلا (499) محمّلا ببضائع القيروان من النّحاس والجلد وغيرهما، وهو نازل من القيروان للمحرس، وكان به سوق ومرسى، وفي هذا القفل (499) سيدي أبو الحسن علي العبيدلي - المقدّم الذّكر - فعند وصولهم شنّوا الغارة على القفل (¬499) وأخذوا ما فيه، فجاءهم الشيخ العبيدلي وقال: كيف تأخذون قفلا وأنا غفيره، فقالوا له: خذ ما تعرفه لك والباقي يمضي عليه الأخذ، فقال: أنا غفير أغفر الكلّ، ثمّ قال: من زميم (¬500) القوم فيكم؟ فقالوا له: إبراهيم بن يعقوب فناداه فأجابه، فقال له: تعال (¬501)، خذ هذه الوصية الحسنة، هي لك عندي، فحسب أنّها ذخيرة يخصّه بها ليسلم القفل، فلمّا قرب منه وأصغى إليه بأذنه تمكّن منه الشيخ العبيدلي وعلاة ضربا على رأسه وظهره وقال: تب وارجع إلى الله من هذه الفعائل القبيحة وأنا ضامنك وذريتك ومن يحبّه قلبك، فأنا حاملكم على عاتقي، ودعا له بخير، فاجتذبه بهمّته وأناله ما كتب الله له على يديه، وقال له: كلّ من عاداك فهو هالك، ولو كثرت أعداؤك فهم ممحوقون، وكساه الخرقة وأعطاه السّبحة، فأخذه الجذب، وجعل يذكر الله حتّى غلبه الوجد والحال، ورآى إجابة دعوة أبي البنت، ولمّا رأى رفقاؤه ما حلّ به انبهتوا ولم يقدروا على النّطق / وأومأ إليهم فجاؤوا ركضا، فلمّا وصلوا رشّهم الشّيخ بريقه فأخذهم من الوجد ما أخذ زميمهم (500) وقالوا: أطعنا هذا الشيخ، ولمّا كان زميمنا في البغي فهو زميمنا في الهدي والطّاعة، ولم يتأخّر عن الدّخول في الطّاعة إلاّ الإثنان الزّائدان على الستّين، إسم أحدهما رشاشي، واسم الثّاني مريش من أولاد زيد، فبقيا على بغيهما وطلبا الفساد ولم يلتفتا ¬

(¬497) في ش: «ودعى». (¬498) سيدي عمر بن حجلة من ولاية القيروان تسكنه قبيلة جلاص البربرية المتعرّبة. (¬499) يقصد القافلة. (¬500) كلمة عامية تعني الزّعيم. (¬501) في الأصول: «تعالى».

لقول الهدى، فدعا (¬502) عليهما الشيخ العبيدلي بالقلّ والذّلّ، وفاتتهما (¬503) سعادة الدّارين وفرحا بالغنيمة وحسباها لهما خاصة، فكان من قضاء الله تعالى أن كلّ من قرب لشيء من أمتعة النّاس وجد عنده أسدا، وما كان أخذاه في أوّل الأمر مهما فتحاه وجدا فيه حيّة، فرميا كلّ ما بأيديهما ورجعا خائبين، وسلّم الله القفل لأهله. وينسب للشيخ سيدي إبراهيم في هذا المعنى شعر على مقتضى أشعار هذه البوادي وهو كلام طويل فمن جملة قوله - (رحمه الله تعالى) - (¬504): فإذا بقفل محدور (¬505) آخذ ثنية ... واحد يبيع وذا يحب شراه وكان غفير القوم ولد العبيدلي ... سيدي علي عمل فرد رجل معاه مصحوب للمحرس باغين شورها ... فيها كان (¬506) السوق زمن مضاه أتى قبل العلويين (¬507) تجار صبرة ... بجلد يسير (¬508) والنحاس معاه غاروا عليهم وفي الحين سلموا ... أخذوا القفل وربطوا رؤساه طلع الفقير وقال بالله أقصروا ... القفل غفرت وأنا مولاه وإذا وهمتم في فإني العبيدلي إلى آخر ما هو مذكور فيه إلى أن قال: والله يا ذا الشيخ نبغي غرارتك ... وحبّ السبحة والذكر قد رمناه لوح له السبحة ولبس الغرارة ... وشوق بذكر الله وثار معاه (¬509) وما زال ذاك الحين داهش ويذكر ... حتى وعد الصالحين رآه فلمّا رأى الرفقاء ما صار بينهم ... بهتوا ولا عاد منهم من يردّ نباه أومأ إليهم فجاءوه يركضون ... وكلّ من بخه (¬510) بريق شفاه ¬

(¬502) في ش: «فدعى». (¬503) في الأصول: «فاتهما». (¬504) ما بين القوسين ساقط من ط وت وب. (¬505) في ت وط: «محدر»، وفي ب: «محادر أخذ ثنية». (¬506) ساقطة من ب. (¬507) كذا في ط، وفي بقية الأصول: «العلوين». (¬508) في ط وب: «ياسر»، وفي ت: «كثير». (¬509) في ط: «ثار معناه». (¬510) أي رشه.

حتى بقي الستّون في مثل منطرح ... وقالوا جميعا ذا الولي طعناه حين كان (¬511) البغي هو زميمنا ... واليوم في حال الهدى رفقاه وتأخّر الإثنان شيطان قادهم ... عماهم (¬512) على الطاعة وحب هداه رشاشي المسمّى وجاء مريش مثيله (¬513) ... ناحس على منحوس طاح (¬514) معاه قال لهم الشيخ الله يقلّكم ... ويذلّكم ما يكبر لكم جاه توعدهم وعيد الشيخ ودعا عليهم ... وما راحوا حتى حاك دعاه من قلّة التصديق بطل عملهم ... ومن نال حاجة ثار سبع معاه هرب جميع الناس منها وأدبروا ... ومن كان في يده حديد (¬515) رماه ثمّ إنّ الستّين لمّا تمكّنوا من حبّ الله تعالى وثبتت لهم معرفته أرادوا العزلة عن الخلق ليتفرّغوا لطاعة خالقهم لنبذهم الدّنيا وما فيها، ولإقبالهم بكلّيتهم على ما يقرّبهم إلى خالقهم من العبادة والذّكر، فاختار لهم وادي عقارب والشّرب من بئر العرائش، وفي هذا المعنى يقول الشيخ - (رحمه الله تعالى) - (¬516): التموا الستّون وداروا بسيدهم ... وقالوا اقصد بنا موضعا نرضاه قال الوطا معروف هيا اقطرونني ... ولكم وطا معروف يجرى ماه في ملتقا الوديان بطحاء عقارب ... وبير العرائش نشربوا من ماه / ولمّا استوطنوا بوادي عقارب وظهرت بركتهم (¬517) إعتقدهم النّاس من كلّ جهة (¬518) وأعطوهم زكاة مواشيهم (¬519) وحبوبهم، واجتمع عليهم من هداه الله تعالى للخير، ولمّا اجتمع عندهم ما تيسّر من الزكاة وبقوا مشتغلين بالذكر والعبادة تاركين للحرب والمقاتلة سمع بذلك أوباش البدو، ويقال لهم بنو عثمان، فجاءوا لنهب ما اجتمع ¬

(¬511) ساقطة من ط وب، وفي ت: «فحين البغي كان». (¬512) في ط: «أعماهم». (¬513) في بقية الأصول: «مثله». (¬514) في ط: «طاع». (¬515) في ط وب: «حرير». (¬516) ما بين القوسين ساقط من بقية الأصول. (¬517) في ط: «بركاتهم». (¬518) في ش: «جيهة». (¬519) في ط: «زكاة أموالهم ومواشيهم وحبوبهم».

ترجمة الشيخ نصير بن حامد، حفيد صيد عقارب

من الزكاة، فظهر لهم الشيخ بصورة أسد ضارّ (¬520)، وكلّما ضرب واحدا منهم بيده زهقت روحه، وظهر أصحابه بصورة النّيران المحرقة، كلّ من قرب منهم إحترق، فمن ذلك الوقت سمّي الشّيخ صيد (¬521) عقارب لأنّ بعض البوادي (¬522) يسمّون الأسد صيدا. ترجمة الشّيخ نصير بن حامد، حفيد صيد عقارب: ومن أجلّ أحفاد الشّيخ سيدي إبراهيم ولد ولده سيدي نصير بن حامد بن إبراهيم بن يعقوب، وهو مشهور معروف، وله مكاشفات وأخبار عن أمور قبل وقوعها فتقع على نحو ما يخبر، وله بذلك أنظام كثيرة ولا يعرف أحد وقتها إلاّ بعد وقوع الواقع الموعود به، فإذا أطّبق على ما ذكر طابقة، ولم (¬523) نعرف للشيخ ولا لحفيده سنة معينة لوفاتهما لعدم معرفة البوادي للتّاريخ، وعدم الإعتناء، لكن يعرف تقريب تاريخه من تاريخ أستاذه العبيدلي وهو من أهل القرن الثامن. ترجمة الشيخ سيدي عبد الله: ومن أعيان أتباع الشّيخ وأعزّ أصحابه سيدي عبد الله، والبوادي يكسّرون العين من لفظه، وضريحه قريب من ضريح الشّيخ من ناحية الغرب بينهما قدر مرأى / العين، والسّتّون مدفونون بهنشير السّتّين، وهو معروف عندهم، وممّا هو متواتر مشهور خروج الكور من ضريح الشّيخ سيدي إبراهيم فيرمي بها وبالرخام، قال من شاهد ذلك: يخرج من ضريح سيدي عبد الله شهاب من نار تضيء له الأرض في ظلمة الليل، فإذا وصل إلى قبّة ضريح سيدي إبراهيم تزلزلت الأرض ويخرج الكور من الضّريح، ووقوع ذلك دليل على وقوع الفتن والحروب. وممّا شاع واشتهر وصار من المسلّم عند الخاص والعام حتّى صار كالمشاهد بالعيان أنّ بعض أهل صفاقس أنشأ قرب الشّيخ أواخر القرن الثّاني عشر مقثاة بها دلاّع (¬524)، وأقام ¬

(¬520) في الأصول: «ضاير». (¬521) كلمة عامية للأسد. (¬522) بل والمدن أيضا. (¬523) في بقية الأصول: «ولا». (¬524) كلمة عامية للبطّيخ الأخضر.

ترجمة الشيخ أبي بكر القرقوري مع التعرض لشيخيه: الجديدي والشبيبي

هناك يحرسها، فاتّفق أنّ امرأة جاءت من البادية فدخلت المقثاة وأخذت دلاّعة لقلّة صبرها على شهوتها، فبادر إليها صاحب المقثاة ولم يكفه أخذ الدلاّعة بل [انهال] على المرأة ضربا فخرّ صريعا لحينه، واسودّ جسمه، عفا (¬525) الله عنّا وعنه. وأمّا هزم الجيوش الذين يقصدون حرمه فشيء مشهور حتّى يقاوم العشرة من أحفاده وخلفائهم أكبر الجيوش، فتقع الهزيمة على من انتهك حرم الشّيخ، ومن تجاسر على إخراج من التجأ إلى ضريح الشّيخ هلك في الحين، ومن كان راكبا سقط على جواده ميّتا، وتتبّع ذلك يطول. ترجمة الشّيخ أبي بكر القرقوري مع التعرّض لشيخيه: الجديدي والشبيبي: ومن أعيان أهل صفاقس الشّيخ العارف بالله تعالى سيدي أبو بكر القرقوري نسبة لقرقور (¬526) قرية من قرى صفاقس / الغربية منها وإلى صفاقس انتقل أهلها (¬527). كان من تلاميذ الشّيخ الجديدي (¬528) وعنه أخذ الطّريقة، وتفقّه بالشّيخ الشبيبي بمدينة القيروان. والشّيخ الجديدي هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز السبائي، كان يحفظ بعض القرآن، وقرأ البخاري على الشّيخ أبي عبد الله محمد بن فندار (¬529) شهر عظوم صاحب برنامج الشّامل (¬530). ¬

(¬525) في ش: «عفى». (¬526) القافان معقودتان كالجيم المصرية والأولى مفتوحة والثانية مضمومة وبينهما راء مهملة ساكنة. (¬527) ربّما كان ذلك في القرن الخامس أو قبله لأنّه مرّ بي في مطالعاتي أنّ الحافظ السّلفي روى عن القرقوري (محمّد محفوظ). (¬528) هو محمد بن عبد الله السّبائي عرف الجديدي، له زاوية في القيروان وأخرى في المهدية توفّي بمكة سنة 786/ 1384 - 1385. فحلّ محله بزاوية القيروان الشيخ عبيد بن يعيش الغرياني وأصبحت تسمى بالزاوية الغريانية: معالم الإيمان 4/ 26 (ط 1). (¬529) في الأصول: «قيدار». الحقيقة التاريخيّة للتّصوّف الإسلامي، ص: 267، شجرة النّور، ص: 226. (¬530) هو بلقاسم بن محمد بن مرزوق (ت.1013/ 1605) لا يمكن أن يأخذ عنه من كان من أهل أواخر القرن الثامن، وهناك من آل عظوم إثنان آخران عبد الجليل بن محمد (ت. سنة 960/ 1553) ومحمد بن أحمد (ت. حوالي 1009/ 1600). ويحمل لقب عظوم من رجال القرن الثامن محمد بن محمد بن عبد الجليل، ولي قضاء قفصة والقيروان (وتوفي في المحرم سنة 782/ 1380) شجرة النور ص: 225.

والشّيخ الشبيبي (هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف البلوي الشبيبي، قرأ على الشيخ أبي الحسن علي الشريف عرف العواني وعليه كان إعتماده، وعلى أبي عمران موسى المناري، وأبي محمد عبد الله الحجاري (¬531) وأبي عبد الله محمد القلال، وارتحل لتونس فقرأ بها زمنا يسيرا على الشيخ المفتي أبي عبد الله محمد السّكوني، وقرأ عليه خلق كثير، وانتفعوا به كالشيخ البرزلي شيخ إبن ناجي، وانتفع به أيضا) (¬532) أبو عبد الله محمّد بن أبي بكر الفاسي وأبو يوسف يعقوب الزعبي (¬533) وأبو العبّاس أحمد بن عفيف القمودي (¬534)، وأبو حفص عمر بن إبراهيم المسراتي، وأبو العبّاس أحمد الترهوني، وأبو محمد عبد الله بن علي الشريف عرف التكودي، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن مسعود الكنائسي (¬535)، وأبو عبد الله محمد بن علي القيسي الرّماح، وأبو العبّاس أحمد بن محمد بن يونس الغساني، عرف بابن قطانية، وأبو العباس أحمد بن موسى المناري، وغيرهم كأبي محرز محفوظ الأبي، / صاحب شرح مسلم، تلميذ إبن عرفة (¬536). وحكي عن الترهوني عمّن يوثق به أنّه رأى في منامه كأنّ قائلا يقول له: كلّ من قرأ على الشّيخ الشبيبي فهو من أهل الجنّة. وقال (¬537) عن شيخه البرزلي ما رأيت بإفريقية ولا بالمشرق مثله، كان عالما عاملا ورعا واعظا فصيحا ثبتا ثقة سخيا على قدر حاله، له قبول حسن ووجه حسن، لا يمشي إلاّ من داره إلى المسجد أو إلى مهمّ كزيارة مريض من أصحابه، أو صلاة على جنازة استؤذن عليها. درس العلم نحو من خمس وثلاثين سنة. قال إبن ناجي: وصفة ميعاده أنّه كان يصلّي الصّبح في مسجد دار الشّيخ إبن أبي زيد وينوب عنه في الصّلاة بمسجده في هذا الوقت تلميذه الفقيه أبو عبد الله محمد الضريسي ويبكر بذلك، فإذا صلّى أتى جماعة من أصحابنا المجتهدين في تلاوة القرآن فيقرؤون نحو أربعة أحزاب أو خمسة، فإذا جاء الشّيخ سكتوا وقد امتلأ حينئذ المسجد بالعامّة، فيقرأ عليه عشرا من القرآن فينقل ¬

(¬531) في ط وب: «الحجاب». (¬532) ما بين القوسين ساقط من ت. (¬533) في ط وت: «الزعيبي». (¬534) في ت: «المصمودي»، وفي ط وب: «العمودي». (¬535) نسبة إلى قرية الكنايس بإقليم الساحل. (¬536) صاحب شرح مسلم تلميذ إبن عرفة هو محمد بن خلفة الأبي لا أبي محرز محفوظ الأبي. (¬537) هو إبن ناجي.

عليه كلام إبن عطية وغيره كالثعالبي (¬538)، ويتكلّم عليه بالوعظ بما يليق بالمحل، ويجلب لذلك ما يليق من حكايات الصّالحين، ويطول الكلام جدّا وهو لا ينظر إلاّ أمامه، ويقرأ عليه دولة في مسلم وربما يعظ عليه، ودولة في سيرة إبن إسحاق، ودولتان في الرقائق، وربما يزيد ثالثة، وعند فراغ هذا يحضر الطلبة المبتدؤون أصحاب الرّسالة والجلاب وابن الحاجب فيقرؤون / متّصلا بما ذكر فيحصل وقت الظّهر، فيخرج الشّيخ لينال شيئا من الطّعام ليتقوّى به على الطّاعة (¬539) ويفتي بخطّه فيما سئل عنه وهو في الميعاد، ويتوضّأ ويصلّي بالنّاس في مسجده الظّهر قرب أذان العصر ويجلس لمن يجود عليه إلى أذان المغرب فإذا صلّى المغرب جلس للتّجويد إلى صلاة العشاء الأخيرة بعد تأخيرها وقتا ما، ويدخل حينئذ لداره، وكلّ سؤال يأتيه من بعد صلاة الظّهر يفتي فيه بالليل مع نظره دول الميعاد ويناوله بكرة، وكانت الفتوى سهلة عليه وموفّقا فيها على البديهة، من ذلك أنّه سئل: هل يجوز أن يؤمّ النّاس من يأخذ المال من الظلمة قراضا أم لا؟ فأجاب بأنّ منصب الإمامة عال، والإمام شفيع لمن خلفه، ولا يكون الإمام ذا وجاهة عند المشفوع إليه إلاّ إذا كان واقفا عند أمره ونهيه، وبسيرته في ميعاده ووعظه كبر تعظيم النّاس له فوق غيره، وكان لا يأخذ من السّلطان مرتّبا على قراءته بل كان يتقوّت من الفلاحة. ولمّا وصل السّلطان أبو العبّاس أحمد إلى القيروان في أوّل سفرة سافرها من تونس قاصدا بلاد الجريد أسرع النّاس في السّلام عليه خارج القيروان، وكان الشّيخ إذا قيل له: تخرج للسّلام عليه يقول: إنّا ندعو له حتى قيل له: إنه بجامع القيروان، فخرج له، فلمّا مشى يسيرا وجد السّلطان آتيا إليه فأراد أن يزيل إحرامه (¬540) من فوق عمامته عملا بالعادة، فحلف له لا فعلت، فقال له: / أين نجلس؟ فقال له: بدار الشيخ أبي (¬541) محمد بن أبي زيد، وكان مسجده قريبا منها، فدخل هو وأخوه شقيقه زكرياء وطالبان إثنان وغلقوا الباب، فقال السّلطان: يا سيدي طلبت منك أن تكون قاضيا، ¬

(¬538) ويقال الثعلبي أيضا. (¬539) في ط: «على طاعة الله». (¬540) لفظة عامية لكساء الصّوف استعملت منذ العصر الحفصي، والاحرام بقي لباس الطّبقات العالية إلى القرن الثالث عشر، ويؤثر عن الشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشور (الجد) أنّه قال لمن عذله في لبس الاحرام: «هذا حولي فدونك وقولي». (¬541) ساقطة من ط.

فأبيت وقبلت عذرك، وعملت لك بعد ذلك ربيعة فلم تقبل، فأنا أعمل لك نصف دينار كلّ يوم لأنّ عندك عيالا كثيرة، وقد سمعت أنّك تخرج تحرث وللعرب، فقال الشّيخ: أمّا خروجي للعرب فلا بدّ منه ولو لم يكن لي زرع لأنّي نذبّ عن النّاس، وأما كوني نأخذ منك فلا أفعل، ولو كان عندي مال لأعنتك به، ولو كان فيّ شجاعة لقاتلت معك المحاربين، فأنا لا أعطيك مالا ولا أقاتل معك بنفسي وآخذ منك وبركة هذا الشيخ لا أفعل، فلمّا خرج السّلطان قال: هذا الشّيخ ما رأيت مثله، كنت جاهلا به. مات - رحمه الله تعالى - يوم السّبت الثّاني عشر من صفر سنة إثنتين وثمانين وسبعمائة (¬542)، ودفن صبيحة يوم الأحد من الغد بدار الشّيخ أبي محمّد بن أبي زيد في مقصورته قدّام بابها (¬543). وكان الشّيخ أبو بكر القرقوري - رحمه الله - ممّن قرأ بزاوية الشّيخ الجديدي وهي المشهورة الآن بزاوية الشّيخ سيدي عبيد [بن] يعيش الغرياني، لأنّ الشّيخ الجديدي لمّا توجّه إلى الحجّ أقامه بها. ومات الشّيخ الجديدي بالحرم الشّريف بمكّة أواخر سنة ستّ وثمانين وسبعمائة (¬544) ودفن بباب المعلى. ونقل إبن ناجي أنّ كلّ بلدة من عمالة القيروان فغالب الحال أنّ فقيهها قرأ بالزّاوية، ويصل النّاس إليها / من أقصى المغرب يقرؤون بها. والشّيخ الفقيه الصّالح أبو عبد الله محمّد بن زيد (¬545) صاحب قصر المنستير هو من أصحابه قديما، يعني أصحاب الشّيخ الجديدي، وسلك في قصر المنستير طريق الشيخ إبتداء وانتهاء، فعنده من الفقراء نحو المائة، وزاد أنّه جمع لهم من الرّبع ما يقوم بهم أو يقارب، وكذلك الشّيخ الصّالح أبو فارس عبد العزيز إبن الشّيخ الصّالح عياش (¬546) من ¬

(¬542) 17 ماي 1380 م. (¬543) للشيخ الشّبيبي مؤلفات وله ترجمة في تراجم المؤلفين التونسيين 3/ 143 - 147، ويبدو أن المؤلف نقل ترجمته عن تذييل ابن ناجي لمعالم الإيمان 4/ 203 - 206 وسبق أن ترجم له في 1/ 235، (النسخة المطبوعة). (¬544) 1384 م. (¬545) محمد بن أبي زيد المنستيري الإمام الفقيه العمدة الصالح القدوة، واحد كابن عرفة وطبقته، وقبره بقصر المنستير معروف وتاريخ وفاته غير معروف: أنظر شجرة النور ص: 246. (¬546) راجع عنه معالم الإيمان 4/ 240 (ط.1).

خواص الشيخ ومن فقراء زاويته، وهو بزاويته بطبلبة من عمل المهدية (¬547) في بحر كبير، وناس يأكلون عليه (¬548) ويقرؤون القرآن، وكثيرا ما يعين زاوية شيخه الجديدي بالطعام الكثير وخصوصا عند الحاجة، وكلّ من يرد عليه من جميع الناس يضيّفه ويعلّف (¬549) له، ولو ضافته محلّة السّلطان وعربها لقام بها، وكلّما يكتب للسّلطان في حاجة فغالب الحال أنّها تقضى، وكلّ من (¬550) يهرب (¬551) إليه من قوّاد السّلطان وشيوخ العرب وصل للأمان ويكتب فيهم فيجيبه الجواب بما يريد. وكذلك الشّيخ أبو بكر القرقوري بصفاقس كان من تلامذته، وقرأ العلم بالقيروان على الشّيخ الشبيبي، وسلك طريق الشّيخ الجديدي في زاويته قال: ففيها خلق من النّاس، وزاد بأنّه يعمل الميعاد في مسجد الشّيخ أبي الحسن علي الربعي المعروف باللّخمي، لأنّه فقيه عارف موفّق للجواب، فجميع تلك الأوطان والعمالات عامرة بفقرائهم وطلبتهم، والجميع حسنة من حسنات الشّيخ الجديدي نفع الله / الجميع به. قال: وحدّثني الشّيخ الصّالح أبو علي سالم بن أبي القاسم القرشي يعرف بالقاسمي عمّن حدّثه قال: خرج أبو بكر القرقوري هذا وعبد العزيز بن عيّاش ومحمّد بن زيد وغيرهم في حال صغرهم خارج القيروان لتفريج خواطرهم، وكان معهم الشّيخ الجديدي، فأخذوا يمزحون ويلعبون، فقال لهم الشّيخ الجديدي: أنا نحكم بينكم، فأنت يا أبا بكر ولّيتك قيادة صفاقس وعملها فقف بمن معك، وأنت يا عبد العزيز فقد ولّيتك المهدية (¬552) وعملها فقف بمن معك، (وأنت يا محمّد بن زيد فقد ولّيتك قيادة المنستير وعملها فقف بمن معك) (¬553) ولم يتفطّنوا حينئذ لما قال، فتبيّن بعد أنّ كلّ واحد منهم هو شيخ ما حوله. ولم نقف للشيخ أبي بكر القرقوري (¬554) على وفاة لكن تؤخذ تقريبا وفاته من وفاة أشياخه، وقد كانوا أواخر القرن الثّامن. ¬

(¬547) هي الآن من ولاية المنستير. (¬548) تعبير عامي يريد به: «يأكلون على نفقته». (¬549) دابّته. (¬550) في ش: «كلما». (¬551) في ب: «يعرف». (¬552) في بقيّة الأصول: «المنستير». (¬553) ما بين القوسين ساقط من بقية الأصول. (¬554) الشّيخ أبو بكر القرقوري له ترجمة قصيرة في معالم الإيمان ضمن ترجمة أبي الحسن اللخمي.

ترجمة الشيخ أبي عبد الله الأنصاري شهر الصفار

ترجمة الشّيخ أبي عبد الله الأنصاري شهر الصّفّار: ومن أعيان فقهاء صفاقس الإمام العالم العلاّمة أبو عبد الله محمّد بن أحمد الأنصاري شهر الصّفّار، كان - رحمه الله - فقيها محدّثا إختصر إكمال (¬555) القاضي عياض، وتولّى خطابة الجامع الأعظم بصفاقس، ومقامه مشهور (¬556)، وأنواره ظاهرة، وكراماته باهرة. قال الشّيخ العمدة المقري أبو عبد الله محمّد الصّنهاجي في شرحه لنظم الخراز (¬557): قدمنا إلى صفاقس - أدامها الله للمسلمين بالنّصر والتّمكين - لثلاث بقين من شهر ربيع الثّاني من شهور سنة خمس وعشرين وثمانمائة (¬558) فلقينا بها الشّيخ الصّالح سيدي أبا عبد الله محمّد الصّفّار، وكنت أحضر مجلسه وأغتنم بركاته / ويحضر مجلسه من إخوان صالحين واخيناهم (¬559) ونظّمنا الشّيخ معهم في سلك، واجتمعت فيه أيضا مع الشّيخ الخيّر الدّيّن الصّالح سيدي يحيى المصنّف، وأطعمني بيده ودعا لي، جزاهم الله بالجنّة. وفي أثناء الإقامة طلبني الطّالب الخيّر الدّيّن المجتهد المعلّم لأولاد المسلمين سيدي أبو العبّاس أحمد بن علي بن خروف تقرير هذا الرّجز فأخذنا في بسطه اه‍. وقبر الشّيخ الصّفّار ظاهر مزار خارج البلد، وهو أوّل تربة تلاقي الخارج من باب البلد وليس عليه قبّة بل بيت مسطّح (¬560) ولم نقف على تعيين سنة وفاته، ويؤخذ ممّا ذكره الصنهاجي أنّه من أوّل القرن التّاسع. ¬

(¬555) «إكمال المعلم في شرح مسلم» أكمل به القاضي عياض «المعلم» للإمام المازري، وهو مخطوط لم يطبع. (¬556) كان بأوّل نهج العيساوية وأدخل بمسجد سيدي عبد المولى. (¬557) في الأصول: «الخرازي»، محمد بن محمد الشريشي الخراز ورجزه يسمى: «مورد الظمآن في رسم أحرف القرآن» وآخر سماه: «عمدة البيان» وغير ذلك توفي سنة 718/ 1318 شجرة النّور 265، غاية النهاية لابن الجزري 2/ 237. (¬558) 20 أفريل 1422 م. (¬559) في ت: «واخينا معهم». (¬560) وفي السّنين الأخيرة بنت عليه البلدية قبّة.

ترجمة الشيخ إبراهيم الصفاقسي

ترجمة الشّيخ إبراهيم الصفاقسي: ومن أعيان فضلاء صفاقس الشّيخ الإمام البرهان إبراهيم بن محمّد الشهير بالصّفاقسي (¬561) نزيل مصر، صاحب إعراب القرآن المشهور (¬562) به. كان - رحمه الله - غاية في علوم التّفسير والعربيّة، أخذ عن أبي حيّان (ومن في طبقته. وما في كتابه مختصرا من ذكر أبي حيان) (¬563). قال الجلال السيوطي في حواشي البيضاوي: أكثر الإمام أبو حيّان في بحره من مناقشة الزّمخشري في الإعراب ومجادلته بالاضراب، وتلاه تلميذاه الشّهاب أحمد بن يوسف الحلبي المشهور بالسّمين، والبرهان إبراهيم بن محمّد الصّفاقسي في إعرابيهما، ثمّ قد يوافقانه وقد يتبعانه بالجواب ويقرّران الذي قاله الزّمخشري هو الصّواب اهـ‍. ولم نقف على تعيين سنة وفاته / ويؤخذ تقريبها من سنة وفاة أبي حيّان، وكانت سنة خمس وأربعين وسبعمائة (¬564)، فهو من أهل القرن الثّامن (¬565). ترجمة الشّيخ الولي علي الكرّاي: ومن أعيان فضلاء صفاقس ومشاهيرهم شيخ الطّريقة والحقيقة، العارف بالله تعالى، الشّيخ الصّالح سيدي علي الكرّاي بن ميمون الوفائي (¬566) المشهور بأبي بغيلة. ولمّا كان الشّيخ - رحمه الله - منسوبا للسّادة الوفائية فلا بدّ من ذكر أصل هذا النّسب ومآثره الكريمة ليعلم مقام هذا الشّيخ ورتبته. ¬

(¬561) وهو قيسي. (¬562) يسمّى «المجيد في إعراب القرآن المجيد»، وجد منه نسخة في أربعة أجزاء من القطع الكبير في المكتبة الوطنية بتونس وأصلها من المكتبة العبدلية الزّيتونية. (¬563) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬564) 1344 - 1345 م. (¬565) توفّي سنة 748/ 1348 كما ذكره الذين ترجموا له كالسيوطي في بغية الوعاة، وإبن حجر في الدّرر الكامنة، وابن القاضي في درة الحجال، وابن فرحون في الدّيباج المذهّب وغيرهم. أنظر تراجم المؤلفين التونسيين 4/ 132 - 135. (¬566) نسبا وطريقة. والوفائية طريقة بمصر من فروع الشاذلية وربما يكون آل الكراي الوفائيون إنتقلوا إلى الإسكندرية وتناسلوا بها ثمّ رجع فرع منهم إلى صفاقس.

تعريف بالسادة الوفائية

تعريف بالسّادة الوفائية: فنقول: أصل السّادة الوفائية على ما ذكره المناوي في طبقاته: هو الشّيخ سيدي محمّد ابن محمّد وفاء، إسكندري الأصل، ويقال المغربي ثمّ المصري، الشاذلي الصّوفي، ذو الموشّحات التّوحيدية التي لم ينسج على منوالها أحد من البرية، وشيخ الخرقة الوفائية، وافر الجلال فائق الخلال، سار صوت صيته، واشتهر بنا تذكيره وتمكينه، ولد سنة إثنين وسبعمائة (¬567)، واشتهر بوفاء لأنّه كان ينسج المناديل بالرّوضة ولا يعرف، فتوقّف النّيل، فتوضّأ وصلّى بالمقياس، فصار كلّما طلع من الفسقية درجة طلع البحر معه حتّى وفا (¬568) ذلك اليوم، وألّف الكتب وهو أمّي، ولمّا دنت وفاته كان سيدي علي ولده حملا فخلع منطقته (¬569) على الأبزاري بإسكندرية، وقال: هذه وديعة عندك لعلي حتى يبلغ، فعمل الأبزاري الموشحات النفيسة حتى كبر علي، فخلعها عليه، فلم يمكنه عمل بيت واحد بعد ذلك، وله كلام على طريقة القوم كثير / مدوّن. قال الشيخ الشعراني (¬570): كتاب الشعائر له، والمشاهد وعنقاء مغرب لابن عربي، وخلع النعلين لابن قيس، لا يكاد يفهم أكابر العلماء منها معنى مقصودا لقائله أصلا، بل خاص بمن دخل مع ذلك المتكلّم حضرة القدس فإنه لسان قدسي لا يعرفه إلاّ الملائكة أو من تجرّد عن هيكله من البشر وأهل الكشف، مات سنة ستّين وسبعمائة (¬571). وأمّا سيدي وفاء ولده السّابق الذّكر فإنه ولد سنة تسع وخمسين وسبعمائة (¬572) بالقاهرة ومات أبوه وهو طفل فنشأ هو وأخوه أحمد في كفالة وصيّهما الزّيعلي، فلمّا بلغ تسع عشرة سنة جلس مكان أبيه، وعمل الميعاد، وشاع ذكره وبعد صيته، فانتشرت أتباعه، وذكر بمزيد اليقظة وجودة الذّهن، والتّرقّي في الأدب والوعظ، ومعرفة تقرير كلام أهل الطّريقة. قال إبن حجر في إنباء الغمر (¬573): كان يقظا حادّ الذهن، كثرت ¬

(¬567) 1302 - 1303 م. (¬568) يقصد بها: «انتهى». (¬569) في الأصول: «ناطقيته». (¬570) في ش وت وط: «الشعراوي». (¬571) 1358 - 1359 م، أنظر شجرة النّور 1/ 223، الطّبقات الكبرى للشّعراني 2/ 21 - 22. (¬572) 1357 - 1358 م. (¬573) في الأصول: «أنباء العبر»، والعنوان الكامل: «إنباء الغمر في أبناء العمر»، أنظر النّسخة المطبوعة منه 302 - 309.

أتباعه جدّا وأحدث أوزانا فجمع النّاس عليه (¬574) وله اقتدار على جلب الخلق مع خفّة ظاهرة، قال: وله تصانيف منها: «الباعث على الخلاص في أحوال الخواص»، و «الكوثر المترع من الأبحر الأربع» (¬575) وديوان شعر (¬576) وموشّحات (¬577) كثيرة، قال: وشعره يتعلّق بالإتحاد المفضي إلى الإلحاد كنظم (¬578) أبيه، وفي آخر عمره (¬579)، نصب بداره منبرا وصار يصلّي بها (¬580) الجمعة مع كونه (¬581) مالكيا وقال في معجمه: اشتغل بالأدب والعلوم وتجرّد مدّة، ثم انقطع، ثمّ تكلّم على النّاس، ورتّب لأتباعه أذكارا بتلاحين مطبوعة إستمال / بها قلوب العوام ونظم ونثر، وصحبه يتغالون في محبّته وتعظيمه ويفرطون في ذلك اهـ‍. قال: ودأب إبن حجر أنّه إذا ذكر أحدا من الطّائفة لا يبقي ولا يذر، والله يغفر لنا وله، وقال المقريزي (¬582): كان جمال الطريقة، مهابا معظّما، صاحب كلام بعيد، ونظم جيّد سريع، وتعدّدت أتباعه ودانوا بحبّه، واعتقدوا أنّ رؤيته عبادة، وتبعوه في أقواله وأفعاله وبالغوا في ذلك مبالغة مفرطة، وسمّوا ميعاده الشهود، وبذلوا له رغائب أموالهم هذا مع تحجّبه وتحجّب أخيه أحمد التّحجّب الكثير إلاّ عند عمل الميعاد والبروز لقبر أبيهم وتنقّلهم في الأماكن، بحيث نالا من الحظ ما لم يصل إليه من هو في طريقتهم حتّى مات بمنزلتهم في الرّوضة سنة سبع وثمانمائة (¬583)، ودفن عند أبيه. قال: ولم أر جنازة عليها من الخير كجنازته، وأصحابه أمامه يذكرون بطريقة تلين لها قلوب الجفاة. ¬

(¬574) في المصدر السّالف: «له أتباع وأحدث ذكرا بألحان وأوزان فجمع النّاس عليه، وكان له نظم كثير واقتدار على جمع الخلق». (¬575) وهو كتاب في الفقه. (¬576) ذكره في أواخر ترجمته ولم يذكره عند سرد مؤلّفاته. (¬577) كلمة كثيرة زائدة بل جاء بعد موشّحات: «وفصول ومواعظ». (¬578) وكذا نظم. (¬579) أمره. (¬580) زائدة. (¬581) مع أنّه مالكي المذهب يرى أنّ الجمعة لا تصحّ في البلد ولو كبر إلاّ في الجامع العتيق. (¬582) في ش: «المغزيزي»، وفي ب: «المقزيزي»، ولعلّه ترجم له في المقفى وهو مخطوط إذ لم نجد له ترجمة في الخطط. (¬583) 1404 - 1405 م ونرجم له الشّعراني في الطّبقات الكبرى وأورد كثيرا من كلامه 2/ 22 - 65.

وقال غيره: كان مستحضرا لجمل من التّفسير وله تفسير ونظم جسيم، وديوانه متداول بالأيدي، وجيّد شعره أكثر من رديئه، وأمّا نظمه في التّلاحين والحقائق وتركيزه للأنغام فغاية لا تدرك، وتلامذته يتغالون فيه إلى حدّ يفوق الوصف اهـ‍. وللحافظ زين الدّين (¬584) العراقي كتاب: «الباعث على الخلاص من حوادث القصاص» صنّفه في الرّدّ عليه. وقال بعض من صنّف في الطّبقات: كان فقيها عارفا بفنون من العلم، بارعا في التّصوّف، حسن الكلام / فيه، على طريقة إبن عربي وابن الفارض. وقال بعضهم: كان ظريفا لطيفا، يلبس الملابس الفاخرة، ويأكل نفيس الأطعمة حتّى قوّمت الأواني الصّينيّة التّي في سماطه بألف دينار. قال المناوي: وكان شيخنا الشّعراني يقول: كان في غاية في الظّرف واللّطف لم ير في عصره أظرف منه، وموشّحاته في ديوانه تشهد له، قال: مع أنّه سبك فيها أمورا تضرب فيها الأعناق لو فسّرت، ومن كلامه: لا تعبث أخاك ولا تعيّره بمصيبة دنيوية لأنّه إمّا مظلوم فسينصره الله، أو مذنب عوقب فطهّره (¬585) الله، أو مبتلي وقع أجره على الله، ومن الرّعونة أن يفتخر أحد بالآباء من سلفه أو يعيّر بما لا يستحيل عليه، ويعلم أنّ ما جاز على مثله جاز عليه. وقال: الخطوط الدنيوية زبالة، فمن أظهر للنّاس خصوصية ربّانية لينال منها حظّا دنيويا فكأنّه بوطل بالمملكة كلّها على أن يكون زبالا. وقال: ليس لأحد أن يمكّن أحدا من تقبيل يده إلاّ أن صحبه من الحق ما صحب الحجر الأسود من حفظه عهد الحقّ في الخلق، والتّطهّر (¬586) من لوث بحكم الوهم البهيمي وعدم الشهوة المغفلة عن الله، والحظ المشتغل عنه، والرّعونة المضلّة عن طريقه، وتحمل خطايا الخلق ولو أسود بهم وجهه وتذكيرهم بربّهم، فمن جمع هذه الصفات فهو يمين لله في الأرض كالحجر الأسود، {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ} (¬587). ¬

(¬584) في الأصول: «ولحافظ الدين». (¬585) في ش: «فطرده»، وفي ب وت: «فطره». (¬586) في ط: «التأخر». (¬587) سورة الفتح: 10.

وقال: من أراد انقياد العالم له انقيادا ذاتيا / فلا يحبّ إلاّ الله ومن أمر بمحبّته، وحينئذ يتسارع الأكوان كلّها لطاعته. وقال: كلّما كان حادي القوم مناسبا لهم في حالهم كان أشدّ تأثيرا في قلوبهم. وقال: لا ينبغي لعارف أن يظهر من معارفه إلاّ ما يعلم قبوله له {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ} (¬588). وقال: لكلّ وليّ خضر ممثّل من روح ولايته بصورة الخضر المشهور. وقال: لا تخرق حرمة من أمرت باحترامه فتعاقب. وقال: ليس للسّالك أن يتكلّم بما اطّلع عليه للهالك فإنّه يزيده هلاكا وإنكارا. وقال (¬589): من طلب أن لا يكون له حاسد تمنّى أن لا يكون عنده من الله نعمة، فإنّ الحكم الوجودي إقتضى مقابلة النّعم بالحسد، لا بدّ من ذلك، ألا ترى إلى قوله تعالى {وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ} (¬590) عبّر بإذا دون إن، وأمر بالإستعاذة من الحاسد لا من وجوده. وقال: إحذر أن تزدري أهل الخلع الخيّبة (¬591) من الفقراء، الشّعثة رؤوسهم، المغبّرة وجوههم، فإنهم ناظرون إلى ربّهم، وإنّما أنت أعشى البصيرة. وقال: إيّاك أن تحسد من فضّله الله عليك، فتمسخ كما مسخ إبليس من الصّورة الملكيّة إلى الشّيطانية. وقال في حديث: القلب بيت الرّبّ، أي فليس لعبد أن يدخل قلبه إلاّ ما يحبّه الله، فلا يدخله ما يكرهه من الأقذار. وقال: من أحبّ ثبات الإخوان على ودّه وثنائهم عليه بكلّ لسان قابلهم إذا أذوه بالحلم والغفران. وقال: من أشغل (¬592) قلبه بحبّ شيء من الأكوان ذلّ عند الله وهان، / {وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} (¬593). ¬

(¬588) سورة يوسف: 5. (¬589) ساقطة من ط. (¬590) سورة الفلق: 5. (¬591) في ش: «الخيبة»، وفي ط: «الخبيثة». (¬592) في ت وط: «استغل». (¬593) سورة الحج: 18.

وقال: إذا ذكرت ذنوبك فلا تقل: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله فإنّك تبرّئ نفسك منها وتضيفها إلى حول الله وقوّته، وتريد عدم الحجّة عليك، بل قل: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (¬594). وقال: من صحب المعرضين عن ذكر الله أهانه الله في عيون الخلق. وقال: لا تأمن المعتقد فيك فإن نفسه إنّما سكنت حيث عقلها عقلها النّظري بعقال ظنّي سنده حال أو مقال (¬595) والأعراض لا تبقى فكأنّك بالعقال (¬596) وقد انحلّ ورجع المعقول إلى توحّشه. وقال: المحبّ قليل والمعتقد كثير، وما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى (¬597)، وكفى باللهو ضررا. وقال: كلّ ما يراه المحجوب من العارف فهو صورة الرائي لا المرئي، فإن رآه زنديقا فهو زنديق عند الله، أو صدّيقا فهو صدّيق لأنّ العارف مرآة الوجود. وقال: واضع العلم (¬598) في قلب متدنّس بالرّئاسة وحبّ الدّنيا كواضع العسل في قشر الحنظل. وقال: لا تكمل معرفة العبد إلاّ أن ينفذ (¬599) من جميع الأقطار العلوية والسفلية وتجاور حدّ الخفض (¬600) والرّفع. وقال: العلم في غير حليم شمس طلعت من مغربها، والعلم في غير مأدوب شهد وضع في قشّ حنظل. وقال: من التفت إلى بشريّته بالكلية حجب عن الحقائق الرّبّانية، وسلبت عنه الحقيقة الإنسانية. وقال: من ملك أخلاقه فهو عبد الله، ومن ملكته أخلاقه فهو عبدها {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ} (¬601). / ¬

(¬594) سورة القصص: 16. (¬595) في ط: «عقال». (¬596) في ط: «بالعقل». (¬597) في ت: «ولهو». (¬598) ساقطة من ط. (¬599) في بقية الأصول: «نفذ». (¬600) في ط وب: «الحفظ». (¬601) مستوحاة من الآية 43 من سورة الفرقان.

وقال: إنّما تجمل الشاذلية بالثياب إظهارا للغنى (¬602) عن الخلق، ورضّى بما أعطاهم الله في سرائرهم حين لبس غيرهم المرقّعات إظهارا للفاقة، وأمّا السّلف فما لبسوا الرّثّ وأكلوا الخشن إلاّ لمّا وجدوا أهل الغفلة أقبلوا على الدّنيا وزينتها فخالفوهم بإظهار حقارتها. وقال في معنى قول البسطامي (¬603): خضت بحرا وقف الأنبياء بساحله، إنّ الأنبياء عبروا بحر التّكليف إلى ساحل السّلامة، ووقفوا ساحله (¬604) الآخر يتلقّون من أسلم (¬605) وبذلك ارسلوا. وقال: من ذاق حلاوة الطّاعة وصل إلى حضرة ربّه في ساعة. وقال: من ادّعى في نفسه العظمة والكبرياء فلا فرق بينه وبين من قال: إنّي إلاه من دون الله، وكفى به كفرا. وقال: شرط المحقّق أن يخاطب أهل كلّ مرتبة بلسانها لأنّ كلّ شيء عنده بمقدار، فلا يخاطب أهل الحديث بغير حديثهم، ولا أهل النّظر بغير نظرهم، ولا أهل الذّوق بغير ذوقهم. وقال العارف الشعراني (¬606): طالعت كثيرا من كلام الأولياء، فما رأيت أكثر علما ولا أرقى شهدا من كلامه. وكان يركب الخيل المسوّمة ويخرج من بيته بحومة عبد الباسط إلى الروضة ليلا فتفتح له الأبواب بنفسها ثمّ تغلق، فخرج الوالي ليلا فوجد باب زويلة مفتوحا فأراد ضرب البوّاب فقال له: يا سيدي، علي وفاء (¬607) كلّ ليلة يجيء فيشير إلى الباب فيفتح، فتارة أعلم فأغلقه، وتارة أنام. فقال الوالي: رجعت عن إنكاري عليه لبس السخاب، فإن من / تفتح له الأبواب لبس السخاب. وأنكر عليه إبن زيتون الوزير وقال: ما ترك هذا لأبناء الدّنيا شيئا، فأين الفقر الذي هو شعار الأولياء؟ فالتفت إليه وقال: تركنا لكم ولأبناء الدّنيا خزي الدّنيا وعذاب الآخرة. ¬

(¬602) في الأصول: «الغنا». (¬603) أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي مات سنة 261/ 874: الطّبقات الكبرى للشّعراني 1/ 76 - 77. (¬604) في بقية الأصول: «بساحله». (¬605) في بقية الأصول: «السلم». (¬606) في ش وط وب: «الشعراوي». (¬607) في ط: «وفى».

تتمة ترجمة الشيخ علي الكراي

ولم يطل عمره بل مات دون الخمسين. ولمّا عطش الحجّ حتّى أشرفوا على التّلف فأتوه فأنشد موشحة (يقول فيها) (¬608): [مجزوء الكامل] إسق (¬609) العطاشى تكرّما ... فالعقل طاش من الظّما فأمطروا حالا كأفواه القرب - رضي الله تعالى عنه -. تتمّة ترجمة الشّيخ علي الكراي: ولنرجع إلى الكلام على الشّيخ سيدي علي الكراي، يسمّى بذلك لأنّه كان يكثر تكرار القرآن العظيم، فأبدلت الرّاء ياء. قدم أبوه ميمون (¬610) من المشرق، وتزوّج أمّ سيدي علي الكراي، ثمّ سار في سياحته، فربّته أمّه. قيل إنه لمّا توفّي أبوه تزوّج أمّه سيدي علي بن أبي القاسم، وعليه كان ترقّيه في طريق القوم. وأخذ الفقه بصفاقس عن الشّيخ الصّفّار ومشايخ الوقت بها، ثم انتقل إلى القيروان، فكان سيدي علي بن أبي القاسم يوصل إليه عشاءه من صفاقس كلّ ليلة، فنشأ في عبادة الله وخدمة العلم من صغره، وزاد في طاعة الله لمّا كبر سنّه، وفي كلّ يوم يزداد. وكان محبوبا لفضله، مطلوبا لعدم مثله. قال سيدي علي بن أبي القاسم: أخذ عليّ مائة ألف من الجنّ والأنس، أصغرهم علي، وأتقاهم علي. وكان مهابا ويتكلّم على ما في القلوب، ويتكلّم مع أهل السّلوك، ويسلّم للمجذوبين أحوالهم / ويبيّن لهم طريقتهم، ويفرّق بينهم، ويعرف الواصل منهم. وكان في بدايته الغالب عليه الانقباض، فلذا اختار الجولان، فاتّخذ بغيلة يركب ¬

(¬608) ما بين القوسين ساقط من بقية الأصول. (¬609) في ط: «اسقوا». (¬610) في بقية الأصول: «وهو ميمون».

عليها، فلذا سمّي: أبا بغيلة، حتّى انبسط وصار في غاية الألفة والإرتياض، فانكبّ عليه المريدون كما هو شأن رجال الطريقة. فقد كان الشّيخ سيدي محرز بن خلف في ابتداء أمره يسكن مرسى الرّوم لا يألفه إلاّ أصحابه، فلمّا سكن تونس إنبسط للفقراء وألفهم، وصار يلقى كلّ من يرد عليه من الزوّار في المواسم (¬611) بل يلقاهم قبل ورودهم عليه في كلّ وقت، وكثروا حتّى أنّ منهم من يصافحه ومنهم من لم يصل إليه، فيلمس أثوابه بيده (¬612) ويمسح بها على وجهه، وبلغ رتبة القطابة لأنّه سأله بعض تلامذته أن ينظر القطب فقال له الشّيخ: إمض ليلا قرب المسجد الأعظم بعد صلاة العشاء، وامكث حتّى يمرّ بك، ففعل التّلميذ ذلك فلمّا انقطعت الرّجل (¬613) إرتقب حتى طلع الفجر، فلم ير أحدا إلاّ رجلا يشبه أهل البادية، بيده رمح ومخلب، مشتمل بإحرام، وبرجله سبّاط (¬614)، ومتعمّم كأهل البادية، فخاف منه وهابه، فانصرف وصلّى الصّبح مع الشّيخ، فلمّا فرغوا من الوظيفة سأله الشّيخ: هل رأيت القطب؟ قال: ما رأيت إلاّ رجلا بصفة كذا وكذا، فقال له: ذلك هو، ولكن إسمع ما أوصيك به: القطب يموت في اليوم الفلاني من شهر كذا، فما زال يعدّ السّنين والشّهور والأيّام إلى اليوم الّذي وقّت له (¬615) الشّيخ، فكان فيه وفاة الشّيخ، فتعيّن أنّه هو القطب، واجتمع / بالشّيخ سيدي أحمد بن عروس بصحن جامع الزيتونة من تونس، فسلّم كلّ على صاحبه، فأخرج الشّيخ إبن عروس ثديه الأيمن فرضعه حتّى روي، ثمّ ناوله الثّدي الثّاني فأباه وقال: إنه لأخي أبي (¬616) راوي، يقدم علينا - إن شاء الله - فحدّث الشّيخ إبن عروس بعض إخوانه فقال لهم: كانت نوبتي (¬617) البارحة بالمحلّ الفلاني، فباسطه وقال: من يشهد لك؟ فقال: هذا الشّيخ علي الكرّاي، فقال الشّيخ الكرّاي: لا علم لي بهذا، فقال إبن عروس: ألم تكن نوبتك أنت بجبل كذا؟ فقال له: صدقت قد كان ذلك. ¬

(¬611) في ط: «المراسم». (¬612) ساقطة من بقية الأصول. (¬613) في ب وط: «الرجال». (¬614) أي حذاء. (¬615) في بقية الأصول: «وقت له فيه». (¬616) هو غير بوراوي الفحل محمد بن عمران دفين سوسة لأنّه توفّي بعد إبن عروس بزمان (ت.931/ 1524 م). (¬617) في ش: «نومتي».

وتوفّي الشّيخ إبن عروس سنة نيف وسبعين وثمانمائة (¬618). وللشّيخ الكراي كرامات كثيرة في حياته وبعد وفاته، فمن ذلك أنّه طلب منه تلاميذه يوما دقيقا لقوتهم، فأرسل واحدا منهم وأمره أنّه إذا وصل لضريح الشّيخ سيدي طاهر (¬619) بشاطئ البحر وكان خارج السور في جهة الجنوب والشرق، وقد صار الآن داخل الربض بجوار الشّيخ النونشي، قال: فإذا وصلت وجدت على شاطئ البحر تربة بيضاء فاملأ منها وعاءك، ففعل التّلميذ ذلك، فلمّا رجع وفتحه وجده دقيقا من خالص الحنطة. وأرسل تلميذا مرّة لجبل النّور، وهي كدية في الشّمال والشرق من الشّيخ اللّخمي فملأ من ترابه، فوجده من خالص دقيق الحنطة. وكان يجتمع بالخضر (عليه السّلام) (¬620) في سيدي عبّاس الجديدي، فدعا له ولذرّيته بالبركة. ومنها أنّ بعض أهل الشّرّ من أهل صفاقس شهدوا / فيه أنّه زنديق وكانوا ثمانين رجلا، وطلبوا الشّيخ الخطيب أبا العبّاس سيدي أحمد الشّرفي أن يشهد معهم، فامتنع من ذلك وقال لهم: نشهد فيه أنّه رجل صالح لا تأخذه في الله لومة لائم، فدعا له الشيخ ولذرّيته بالبركة، ثمّ إنهم كتبوا شهادتهم وأرسلوها إلى السّلطان الحفصي، فلمّا فتح الكتاب وقرأ ما فيه وجد كلمة صدّيق في مكان زنديق، وتبيّن له أنّ كلامهم باطل، فأرسل من يأتيه بتلك الجماعة الذين شهدوا بالزّور، فأطلع الله الشّيخ عليه قبل وصوله، فركب بغيلته وتلقّاه بالكدية، إسم موضع قرب البلد، فلمّا رآه الرّسول عرّفه بصفته، فنزل عن فرسه إكراما للشّيخ وإجلالا له، فسأله عن سبب قدومه فعرّفه أنّه يطلب شهود الزّور ليحضروا بين يدي السّلطان، فقال له الشّيخ: أرجع من هنا فلا تروّع المسلمين، فقال: أخاف من السّلطان، فقال له: لا بأس عليك، فأنا أكتب للسّلطان وأعرّفه أنّي عفوت عنهم وسامحتهم وأتركهم لوجه الله، فامتثل الرّسول وأخذ كتاب الشّيخ وأخبر السّلطان بخبر الشّيخ، فعمل السّلطان بما أخبره به الشّيخ من العفو والصّفح، قيل لم يخلّف أحد من أولائك الشهود عقبا عقوبة من الله. ¬

(¬618) يظهر أنه مقلّد لما قاله المناوي في طبقاته، أنظر: جامع كرامات الأولياء ليوسف النبهاني 1/ 536، وتوفّي الشّيخ إبن عروس سنة 868/ 1463 م، أنظر الحقيقة التّاريخية للتّصوّف الإسلامي ص: 273 - 274. (¬619) لعلّه سيدي الظّاهر وكان في المكان الذي يشير إليه. وقد انقرضت قبور هذا المكان. (¬620) ما بين القوسين ساقط من بقية الأصول.

ومن أكبر الكرامات ما وقع له عند إراده التّزوّج حسبما ذكره سيدي أبو الحسن الكراي - رحمه الله -، وذلك أنّه لمّا أراد التّزوّج ذكر له امرأة بكر صالحة بقرية قرقور، من وطن صفاقس الغربي قرب صفاقس، فخطبها من أبيها، وكان رئيس القرية ومن الصّالحين / واسم البنت سليمة، وله عدة أولاد أصحاب عزّة ونخوة، فخطبها من أبيها فأجابه، وأنكر الأولاد تعلّلا بفقره، فقال لهم: هو رجل صالح وأخاف إن امتنعت أن يتغيّر خاطره علينا، وأنا أعرف به منكم، ولكن نشترط عليه أمورا فإن وفى بها زوّجناه وإلاّ فلا، وهو يعتقد أنّه يوفّي وإنّما قاله تطييبا لقلوبهم، وتسكينا لحميتهم، فقبلوا كلامه فلمّا رجع الشّيخ وطلب العقد إشترط عليه مائة دينار، ومصوغا على جاري عادتهم، وبعيرا بجحفته، وخمس عشرة شاة، فقبل الشّيخ ذلك، ثمّ توجّه إلى أولياء الله تعالى في قبورهم ليمدّوه بما اشترط عليه، وجعل على كلّ وليّ شيئا، ويبيت عنده في ضريحه، ويصلّي ورده، ويجد ما طلبه صباحا، فأتى ضريح شيخ من المتقدّمين لم يشتهر باسم، غربي المحرس، قرب سيدي غريب، فطلب منه عشرة دنانير، وبات كعادته مع غيره، فلمّا صلّى الصّبح وجد خمسة عشر دينارا، فقال مخاطبا لصاحب القبر: فيّضت يا أبا فياض، فسمع مخاطبا من داخل القبر يقول: أحييت إسمي أحيى الله إسمك، فانصرف لمشايخ الوطن الشّرقي كالشّيخ عبد الرّحيم الزّاهد، والشّيخ الجبنياني، والشّيخ مسرّة وغيرهم، والشّيخ مروان - نفعنا الله بهم وبأمثالهم - وكان ممّا شرط عليه خرصان وزبيبتان من الذّهب، فبات عند الشّيخ الجبنياني على عادته، فلمّا نام رأى الشّيخ أبا إسحاق فقال له: يا علي اقصد سحنون الفلاّح بقرية بليانة، وأمره يبحث / في الركن الفلاني من البيت الفلاني في حوشه (¬621)، فإنه يجد قدرا بالدّنانير وفيها خرصان وزبيبتان، فخذ الخرصين والزّبيبتين ودع الباقي له، فذهب لسحنون وعرّفه وكان بحضرة جماعة من قومه، فأنكروا أولا قوله، ثمّ رجعوا وذهبوا فحفروا فوجدوا (¬622) [ذلك]، فاعتذروا واعتقدوا، فأخذ ما عيّن له وانصرف متوجّها للشّيخ اللّخمي، فلمّا جاوز ضريح سيدي منصور الغلام ببرج (¬623) قزل سمع صوتا خلفه يناديه، فالتفت فرأى شخصا يسوق شياها (¬624)، فوقف حتّى قدم عليه، فإذا برجل أسمر اللّون عليه لباس أهل ¬

(¬621) المنزل الرّيفي، وفي صفاقس صارت تعني خلال القرن التّاسع عشر السّاحة الواسعة التّابعة له. (¬622) ساقطة من ش وب، والزّيادة من ت وفي ط: «فوجدوها». (¬623) على بعد 11 كلم شرقي صفاقس. (¬624) في بقية الأصول: «شاة».

البادية، فسلّم عليه ثمّ قال: تجاوزتنا ولم تلتفت إلينا، فاعتذر له فعرّفه أنّه الشّيخ سيدي منصور الغلام، ففرح به، وقبل منه الخمس عشرة شاة، وشكره على ذلك، وودّعه وانصرف، فودّع الشاة وبات عند الشيخ اللّخمي، فرآه في النّوم وقال له: إذا صلّيت الصّبح سر لدار الغنم (¬625)، فالرّجل الذي يلاقيك تجد عنده جملا صفته كذا بجحفته فخذه منه، فهو حصّتنا من إخواننا، ففعل ما أمره به وانصرف لقرية قرقور فسلّم عليه أهلها، ولمّا سمعوا إخوة البنت بقدومه ومعه ما طلبوا لاموا أباهم ونازعوه، وقالوا: لا يأخذها (¬626) فقال لهم: لا أقدر أخالف فإنه رجل صالح، ولكن نشترط عليه شرطا آخر وهو أنّ ابنتي لا تنزل من جحفتها إذا وصلت باب (¬627) البلد، وكان قصيرا لا يمكن دخول (¬628) الجمل بجحفته عادة منه، فإذا لم يدخل (¬629) الجمل بجحفته بقيت بنتنا وذهب إلى حال سبيله / فاستصوبوا قوله وشرطوه على الشّيخ فقبله، فلمّا وصل الجمل إلى الباب وضع الشّيخ يده على عتبة الباب فارتفعت بإذن الله حتى جاوز الجمل الباب، فسلّم الأولاد وعلموا أنّها عناية من الله تعالى. ورزق منها ثلاثة رجال: عمر وسعد وحسن. وكانت له خابية يخزن بها قوت عياله فتكفيهم طول سنتهم، ويزرع منها، فخرج لسياحته على بغيلته فلمّا قدم قال لأولاده: ليقم أحدكم يأت بعلف البغيلة من الخابية، فقام سعد فرجع بالمخلات فارغة وقال: لم أجد بالخابية شيئا، فقام حسن فرجع مثله، فقام عمر فأتى بالعلف من الخابية، فقال له: أنت صاحب الزّاوية وعندك البركة، وهي في عقبك، فمات أخواه عن غير عقب إلاّ بنتا لأحدهما. ومات الشّيخ - رحمه الله - ودفن بضريحه المشهور في وسط صفاقس بالجهة الغربية منها، ولم نقف على تعيين سنة وفاته، ويؤخذ تقريبها من وفاة الشّيخ إبن عروس كما أسلفنا ذلك. وممّا وقع من كراماته بعد وفاته أنّ إبن نويرة كان خادما لقائد البلد، وكانت ¬

(¬625) مكان قريب من صفاقس من جهتها الغربية على طريق عقارب. (¬626) أي أختهم. (¬627) للمدينة إذ ذاك بابان، باب الجبلي وباب البحر، والمقصود هو باب الجبلي شمال المدينة الذي كان يفتح على ساحة القوافل. (¬628) في بقية الأصول: «خروج». (¬629) في بقية الأصول: «يخرج».

ترجمة الشيخ عمر الكراي

عندهم إمرأة مسجونة ففرّت لزاوية الشّيخ فاقتفاها وجذبها وردّها، فاتّفق في ذلك اليوم عرس لبعض أهل البلد، وكانت عادتهم أنّهم يخرجون سابع العرس مصطفّين من باب البحر، يدورون خارج البلد، ويدخلون من باب الجبلي، بعد ما يكون اجتماعهم بحومة العروسين (¬630) وإلى الآن تسمّى بذلك الإسم (¬631)، فخرج / إبن نويرة من جملة رجال ذلك العرس، وكانت معه بندقية فصرّخها، فانكسرت في يده، ورجع عليه منها قطعة فمات منها، وكان في ذلك الوقت رجل واقف بباب ضريح الشّيخ يقرأ فاتحة الكتاب على عادة المارّين بالشّيخ إبتغاء البركة، فسمع صوت بندقية من قبر الشّيخ، فوقعت له دهشة، فبينما هو كذلك إذ مرّ به أناس يتحدّثون بأنّ إبن نويرة إنكسرت في يده بندقية ومات بها، فأخبرهم بما سمع والله تعالى أعلم. وقد ألّف الشّيخ أبو الحسن (¬632) - رحمه الله تعالى - كتابا في ذكر كرامات أجداده واستوفى ما أمكنه، فمن أراد استقصاء كرامات الشّيخ فليرجع إليه ففيه مقنع والله أعلم. ترجمة الشّيخ عمر الكرّاي: ولمّا مات الشّيخ الكرّاي قام مقامه ولده سيدي عمر الكراي، وسار إلى السّلطان الحفصي، فلقيه وزيره وفرح به، فأعلمه بوفاة الشّيخ، وأنّه يريد الإجتماع بالسّلطان. (فدخل إلى السّلطان) (¬633) وأعلمه بموت الشّيخ وأنّ ولده يريد الإجتماع بك، وقال له: كنت سمعت أن سيدي عليا قال: عمر أعلى منّي درجة، فخرج وقابل سيدي عمر بالإجلال، وقضى له مآربه. ¬

(¬630) هذه العادة زالت. (¬631) حومة العروسين ما زالت على مقربة من الجامع الكبير في هضبة مرتفعة يرقى إليها بدرج إلاّ أنها تنخفض شيئا فشيئا حتى إذا وقع الوصول إلى الحومة لم يبق من الإرتفاع إلاّ ما لا بال له، على أنها يبدو ارتفاعها القليل بالنسبة لما جاورها من الأنهج، وكانت - وما زالت بعض البقايا - حومة الدهانين الذين يزخرفون الأخشاب من صناديق ومرافع. . . (¬632) هو الكراي من سلالة الشيخ علي الكراي. (¬633) ما بين القوسين ساقط من ط وب.

ترجمة الشيخ محمد الكراي

وكان لسيدي عمر ثلاثة أولاد محمد وعثمان وعلي شايب الأذرعة. فلمّا رجع سيدي عمر من تونس مجبور الخاطر عمّر زاوية أبيه، وربّي المريدين، وسار سيرة حسنة، وأتاه النّاس من كلّ جهة، وكان أهل الحامة يعتقدونه فيشتّي عندهم ببلد الحامة، كما كان والده يفعل ذلك، فلمّا خرجت الحامة على الحسن الحفصي / - حسبما مرّ - خرج لها بعساكره مرارا فلم يظفر منها بطائل. وكان سيدي علي دعا لأهلها فقال: الحامة حامية لأهلها ما (¬634) لم يظهر فيهم الفسق وهتك حرمة الشّرع العزيز، فلمّا عجز الحسن عن الحامة أتى إلى الشّيخ سيدي عمر واستنجده بأن يسير لأهل الحامة ويطوّعهم ولهم الأمان التام، فقال له الشيخ: لا أفعل هذا لأنّك تخونهم وتسفك دماءهم وتستبيح أموالهم، فقال له: لا أخونهم وعاهده على ذلك وألحّ عليه في ذلك فأبى الشّيخ، فحلف أنّه لا يخونهم، فقال له الشّيخ: تخونهم ولا بدّ {كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً} (¬635) فسار الشّيخ لأهل الحامة، فلمّا رأوه فرحوا به وقالوا له: هل لك من حاجة نفوز بقضائها؟ فعرّفهم بشأن الحسن وعهده وقسمه إن أطعتم لا يخونكم، ولكن {لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً} (¬636) فقالوا له: أو يخوننا؟ قال: نعم، فقالوا: نطيعه إكراما لكم، ويفعل الله ما يشاء. فقدم الحسن بعساكره ففتحت البلاد ولم يقاتله أحد منهم، فلمّا توسّط جيشه خان وفعل ما سوّلت له نفسه الأمّارة، فلمّا سمع الشّيخ بذلك إغتاظ ودعا عليه، وقال: أللهم كما أوحشني في أولادي فرّق بينه وبين أحبّته، وأعم بصره كما أعميت بصيرته، فلمّا رجع إلى مدينة تونس وقع منه ما تقدّم، ولمّا رجع لمحلّة ولده فعمى من حينه حسبما مرّ ذلك مفصّلا. وسافر سيدي عمر لبلاد المشرق لحجّ البيت الحرام، فلمّا رجع من حجّه مات بوادي القصب وقبره / هناك معروف مزار، وكتب عند وفاته وصية لسيدي محمد الكراي وأوصاه بالقيام بالزّاوية والمحافظة على تقوى الله العظيم. ترجمة الشيخ محمد الكراي: فلمّا وصلت الوصيّة قام بالأمر سيدي محمد، وسار في طريق القوم سيرة حسنة، فأتاه المريدون من جميع البلاد. ¬

(¬634) ساقطة من ط. (¬635) سورة الأحزاب: 6. (¬636) سورة الأنفال: 42.

وكان من أجلّ أصحابه من أهل صفاقس الشّيخ الصّالح سيدي محمد صريح فكان من أهل الكشف، فزوّجه الشّيخ أخته لما رأى من صلاحه ومتابعته لسيرة القوم والسّلف الصّالح، وقدّمه شيخا بزاوية الشّيخ سيدي أبي بكر القرقوري إلى أن مات. ومنهم الشّيخ ساسي اللّبيدي، كان كثير المتابعة للسّنّة، محافظا على رسوم الشريعة، ملازما لآداب الحقيقة والطّريقة، ولمّا ظهرت بركاته تزوّج الشّيخ أخته. وللشّيخ - رحمه الله تعالى - كرامات كثيرة ومكاشفات غزيرة، فمن مكاشفاته أنّه كان إماما بمقام الشّيخ سيدي أبي يحيى الضّابط، فمكث يوما بصحن المسجد يزيل القمل من ثيابه ويضعه في قارورة، فرآه إنسان من طاق فاعترض على الشّيخ في خاطره بأن يجهل هذا الشّيخ حكم قتل القمل بالمسجد، والشّيخ موليه ظهره، فرفع تلك القارورة وقصد بها ذلك المعترض قائلا: من بقّرنا تبّنه الله، أي من جعلنا من البقر حيث حكم بعدم معرفة حكم قتل القمل بالمسجد جعله الله تبنا تأكله البقر، فدخل ذلك المعترض تائبا، فعفا عنه ودعا له بالهداية والتّوبة. ومن كراماته ما وقع من قصّة المكّني وعبد المولى وغير ذلك. ولمّا توفي / أخبر أخوه سيدي علي شايب الأذرعة أنّه كان معه بقرية قلّوس من وطن صفاقس الشرقي قال: فلمّا قفلنا منها وصرنا بين ذراع ابن زياد وغدير النّصف (¬637) وكان بيده قلعي وهو راكب، فهزّ القلعي وقال: يا علي، فنظرت إليه فما وجدته إلاّ قد سدّ بين السّماء والأرض، ثمّ قال: في يومي هذا في ساعتي هذه، قدمي على قدم سيدي عبد القادر الجيلاني، وقصدني، فهبته ممّا أفاض الله عليه من الهيبة والجلالة، وغبت عن حسّي، فلم أرجع لحسّي إلاّ بعد مدّة، فلمّا أفقت وجدت رأسي في حجره ويده على رأسي وقال لي: يا علي أكتم ما رأيت إلاّ بعد موتي، وإن والدي أوصاني بحفظك وأنا الخليفة عليك بعده. ولمّا حضرته الوفاة، استخلف بعده أخاه سيدي علي شايب الأذرعة، ودفن خارج البلد، ضريحه مشهور معروف من جهة ركن البلد الشمالي الغربي، وعلى ضريحه من الهيبة ما ليس على غيره - رحمه الله تعالى - ولم نقف على تعيين سنة وفاته. ¬

(¬637) على بعد 18 كلم تقريبا من صفاقس في اتجاه المهدية وتسمّى الآن بئر النّصف.

ترجمة الشيخ علي بن عمر ابن الشيخ علي الكراي

ترجمة الشّيخ علي بن عمر ابن الشّيخ علي الكرّاي: ولمّا مات - رحمه الله تعالى - قام مقامه سيدي علي شايب الأذرعة فقام بتربية المريدين، وقصده النّاس فسار على طريقة آبائه الكرام، فظهرت منه بركات عظيمة، ومناقب جسيمة، ومكاشفات كريمة، فكان ينظر إلى السّماء ويخبر بما فيها من العجائب حتّى اشتهر ذلك عنه، وسمع به أخوه سيدي محمد، فكان معه يوما مارّا في بعض سكك البلد (¬638) فرفع بصره إلى السّماء وقال: يا سيدي محمد أنظر كم في السّماء من أزقّة وانظر إلى الفلك الذي في السّماء كيف يدور فنظر / إليه سيدي محمد وقال له: بحقّ ما سمعت عنك، افتح فاك يا علي، ففتح سيدي علي فاه، فتفل فيه سيدي محمد، فانحطّ نظر سيدي علي قليلا عمّا كان يعهده. فكان ذات يوم فوق سور البلد فقال لأناس كانوا معه: الآن خرجت القافلة من القيروان، وفي المنكب الأيمن جمل صفته كذا، ويقدم القافلة جمل صفته كذا، فضبط ذلك الوقت، فلمّا قدمت القافلة سلّموا عليهم وسألوهم عن وقت خروجهم من القيروان، فأخبروا بما يطابق ما قاله الشّيخ، وبالجمل الذي كان في المنكب الأيمن والذي كان يتقدّم القافلة على نحو ما قاله الشّيخ. ولمّا أتت العمارة لقرقنة قال لأهل الزّاوية: لا تفتحوا عليّ باب الخلوة حتّى أفتحها بنفسي ولو مكثت أياما، فغلق عليه الباب بعد صلاة الظّهر والعصر، فكانوا يسمعونه يكرّ ويفرّ وينتده (¬639) ويصرخ بقيّة نهاره وعامة ليلته وصبيحتها، ثمّ فتح الباب على نفسه فوجدوه مجروحا ملطّخ الثّياب بالدّماء، فغسلوا ما بها من الدّم وطلب كمّونا فتداوى به. وسبب هذه العمارة أنّ بلاد جنوة كان الحاكم عليها إمرأة نصرانية، وكان لها ولد يعزّ عليها، فركب سفينة سافر فيها لبعض بلادهم متنزّها مع وجوه قومه، فوقع عليهم النوّ فأدّتهم إلى قرقنة فشحط (¬640) المركب فأخذهم أهل قرقنة وحملوهم لتونس لسلطان الوقت، فسمعت تلك الكافرة فجعلت عمارة في أسطول (¬641) ضخم فأخذوا جميع من ¬

(¬638) في بقيّة الأصول: «في سكك بعض البلد». (¬639) في بقيّة الأصول: «يتنده». (¬640) في الأصول: «شحطت». (¬641) في الأصول: «أصطول».

ترجمة الشيخ أبي الحسن الكراي

فيها وحملوهم لبلدهم، وكانوا فقراء، فلمّا قدموا على النّصرانية ورأت حالهم / قالت هؤلاء ما يجيء من فدائهم لا يساوي ثمن الخلّ والبشماط الذي صرفت على الأسطول. وفي قصّتهم أنشأ شاعرهم (¬642) شلّوف قصيدة مشهورة يحفظها غالب أهل قرقنة تركناها خوف الطول. وكان الرّئيس عمر الزّواري له مركب يسافر به (¬643) لإسكندرية في وقت معلوم من السّنة، ويأتي في وقت معلوم، فتخلّف في بعض السّنين عن وقته الذي يأتي فيه، ففقد وأيّس منه أهله، فطلع سيدي علي شايب الأذرعة فوق سور البلد، قرب باب البحر، فوجد النّاس ينظرون لناحية قدوم المراكب رجاء أن يظهر لهم مركب الرئيس عمر الزواري، فقال لهم: هو الآن أقلع من إسكندرية، فقيّد الحاضرون ما قاله، فلمّا قدم الرئيس عمر المذكور سئل عن وقت إقلاعه فطابق ما قيّده الحاضرون، وقال: لما نشرت القلوع مسافرا نزل طائر أبيض على المركب فما فارقني حتّى وصلت للبلد. وتزوّج الشّيخ إبنة الرئيس عمر المذكور، فولدت له ولدا سمّاه عمر، وعاش الشّيخ شايب الأذرعة خمسا وتسعين سنة، وكذا ولده المذكور، ودفن في تربة جدّه سيدي علي أبي بغيلة. ترجمة الشّيخ أبي الحسن الكرّاي: ومن أحفاد (¬644) سيدي علي أبي بغيلة الشّيخ سيدي أبو الحسن بن أبي بكر بن أحمد بن محمد بن عمر بن علي بن ميمون صاحب الموشّحات التي عدّتها ستّ وخمسون على طريقة السّادة الوفائية في تعظيم جانب الحق جلّ ثناؤه، وإمداح للمصطفى صلّى الله عليه وسلم وتشويق للكعبة المشرّفة وغير ذلك، وشرح معظمها بشرح يتكلّم فيه على طريقة القوم. وأنشأ وظيفة أرسلها إلى مصر فشرحها له الشّيخ عبد الوهاب / الأزهري ومدحه أيضا الشّيخ عبد الوهاب بقصيدة أرسلها له مع الشّرح المذكور. وكان الشّيخ فقيها عارفا بالطّريقة والحقيقة، أخذ علوم الظّاهر عن والده الشّيخ ¬

(¬642) أي شاعر قرقنة. (¬643) في الأصول: «بها». (¬644) في بقية الأصول: «ومن أحفاد الشيخ سيدي علي».

سيدي أبي بكر الكراي، وعن الشيخ المفتي سيدي عبيد اللومي (¬645)، ومن كان بعصره من فقهاء البلد. وحصل له الجذب على يد الشيخ سيدي سعيد الوحيشي - رحمه الله - وذلك أنّ والده كان رجلا متّبعا للشّريعة متمسّكا بالحقيقة محبّا للصّالحين، ويكثر من زيارتهم. ففي كلّ سنة يخرج بتلاميذه لزيارة الصّالحين بوطن صفاقس، ويحثّ ولده أبا الحسن على الذّهاب للزّيارة، فأبى ذلك، فلمّا آن الأوان قال لوالده: أريد أن أخرج هذه السّنة للزّيارة ففرح والده بذلك، فلمّا تهيّأ التّلاميذ للخروج تجهّز وخرج معهم وقال لهم: لا بدّ من الذّهاب لزيارة الأشياخ بمدينة القيروان فامتنعوا من ذلك أوّلا لبعدها عنهم، ولم تجر العادة بمجاوزة الوطن، فأبى عليهم إلاّ المسير إليها، فلمّا رأوا جدّه في ذلك طاوعوه، فلمّا قربوا من القيروان نزل عن دابّته وذهب ودخل القيروان وحده ولم يكن قبل يعرفها، فلم يزل سائرا حتّى دخل الزّاوية الوحيشية، وكان سيدي سعيد إذ ذاك في خلوته ولا يدخل عليه أحد إلاّ بإذن، ولم يعلم ذلك الشّيخ أبو الحسن فدخل من غير استئذان فقبله الشّيخ سيدي سعيد الوحيشي، ولحظه وجذبه بهمّته، فخرج من هناك هائما لزيارة الصّالحين، وبقي على ذلك مدّة، ثمّ رجع إلى صفاقس وقد أخذه الحال وانجذب لطريق القوم، فأنشأ له / زاويته المشهورة به، واشتغل بنشر العلم واحتجب وشرع في إنشاء الموشحات على طريق السّادة الوفائية، وأكثر فيها من المواعظ والحظّ على الآخرة، فانتفع بها من هداه الله تعالى. وأقام في حجبته خمسين عاما، وقد تقدّم ما وقع له من محنة إبن عطية وابن الإنكشاري. وعند وفاته رثاه تلميذه الشّيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن علي المراكشي بقصيدة طويلة من جملتها قوله: [الطّويل] محقّق علم ثابت متلطّف ... عكوف على الطّاعات بالعلم عامل فخمسين عاما قد ثوى (¬646) في اعتكافه ... مكبّا على التّعليم من غير شاغل وحقّق أيضا في اعتقاد لطالب ... عقائد في التّوحيد للشكّ زائل ¬

(¬645) الأصحّ الأومي نسبة لهنشير أومة الكائن شمالي قرية نقّطة غربي صفاقس وآثاره باقية إلى الآن، وسينرجم له المؤلّف. (¬646) في ت: «توافي».

ترجمة الشيخ أبي عبد الله محمد المراكشي

بسيّدنا عثمان متّصل النّسب ... فيا حبّذا من نسل تلك الأماثل كراماته تنبيك عن طيب فعله ... تنير ضياء مثل شمس التّوافل بنى داره زاوية مسجد بهي ... وروضة دفن هي (¬647) عذب المناهل فمولده في شهر رمضان ثابت ... بعشرين يوما مع ثمان فواضل مسمّى بيوم جمعة فيه ساعة ... يجاب دعاء البرّ فيها لسائل ففي عام واو ثمّ كاف محقّق ... وبعدهما ألف مضت برواحل وسار إلى عفو الإلاه مهلّلا ... وسبحته مقرونة بالأنامل بآخر يوم بالعروبة (¬648) ينسب ... لشهر رجب فالعفو واللّطف نائل ففي عام ألف ثمّ خمس ومائة ... عفا عنه مولانا كريم الفعائل فعاش من الأعوام سبعين بعدها ... ثلاث وستّ غير شهري (¬649) فواصل ترجمة الشّيخ أبي عبد الله محمّد المرّاكشي: وتفقّه به عدّة تلاميذ من أعيانهم خليفته على زاويته الشّيخ أبو عبد الله / سيدي محمّد المرّاكشي المقدّم الذّكر، أصله من مدينة مرّاكش. قدم أجداده لصفاقس من مقدار أربعمائة سنة على ما قيل وإنّما استخلفه على الزّاوية لأنّه تزوّج إمرأتين لم يفتح له منهما بذكر ولا أنثى، وكان له إبن أخ تبنّاه وأراد استخلافه فحصلت (¬650) بينهما منافرة، فاستدعى أبا عبد الله المرّاكشي لما رأى من حسن سيرته وخلوص طويّته وإقباله على العلم النّافع، فجذبه بهمّته وتفقّه به، قيل إنّه أخذ عليه العهد أن يجتنب المناصب الشّرعية، ولعلّه لخوفه من الإشتغال بها عن القيام بالزّاوية أو لسيره على طريق القوم فإنّهم يفرّون منها إذ لا يسلم من غوائلها إلاّ الفرد النّادر سيّما في هذه الأعصار الّتي صار القابض فيها على دينه كالقابض على الجمر، فقبل العهد ووفى به، ثمّ استأذن شيخه في حجّ بيت الله (¬651)، فلمّا رجع أقامه الشّيخ مقامه في حياته، وصار يعمل الميعاد من ¬

(¬647) في ط: «بها». (¬648) في ط وب: «العروية»، وفي ت: «المروية». وهذا البيت مختلّ الميزان بكلّ الأصول. (¬649) في ط: «ثلاث وست غير شهر هن فواصل». (¬650) في الأصول: «حصل». (¬651) في ط: «بيت الله الحرام».

الجمعة للجمعة بقراءة كتب الوعظ والسّير والمغازي والتّحريض على الجهاد وأفعال الطّاعة، كما هو عادة أهل البلد في كلّ جمعة، ويعلّم التّلاميذ من علوم الطّريقة والحقيقة إلى أن انتقل الشّيخ أبو الحسن، فاستقلّ بعده وكتب الشّيخ في حبسه واستخلافه أنّه يقبض دخل الزّاوية، وينفق عليها، ولا حساب عليه، ولا يدخل معه في ذلك أحد، فقام، وكلّما فضل عنده شيء من غلال الحبس إشترى به عقارا للزاوية، فكثر بذلك دخلها، واتّسع حالها، وسار على طريقة شيخه فأنشأ القصائد / وعمل الموشّحات، وخمّس كثيرا من القصائد، ورثاه بعد وفاته تلميذه الشّيخ الصّالح أبو عبد الله محمّد الفرياني بمرثية من جملتها: [الطّويل] وبعد ثنائي (¬652) بالجميل تأسّيا ... أردت بمرثاتي الذي كان لي يقري محمّد المراكشي الّذي سما ... على عصره في الجود والبذل والقدر له منطق عذب يشوّق من أتى ... لمجلسه المرسوم للوعظ كالعطر فوفّقه ربّ السّما في حياته ... إلى أن توفّاه الصّفوح عن الوزر ففي شهر شعبان المعظّم قدره ... عفا عنه ربّ جاد بالصّفح والسّتر بليلة عشر منه تتلو لتسعة ... توفّاه مولاه قبيل ضيا الفجر لدى عام ألف وأربعين ومائة (¬653) ... تليها ثمان بالحساب وبالحصر ورثاه أيضا ولده الشّيخ أبو العبّاس أحمد بمرثية طويلة وقام مقامه بعده بالزّاوية، وكان رجلا رحيما رقيق القلب، ذا حظّ من الفقه، محبّا للفقراء والزوّار، باذلا للطّعام جوّادا: [البسيط] لا يألف الدرهم المضروب صرّته ... لكن يمرّ عليها وهو منطلق ذا خمول وانجماع عن غير أبناء جنسه، ملازما لميعاد الجمعة، ناشرا للعلم بقدر وسعة سائرا على طريقة والده وشيخه إلى أن توفّاه الله سنة تسع وتسعين ومائة وألف (¬654) شهيدا بالطّاعون، فقام أبناؤه مقامه. ¬

(¬652) في بقيّة الأصول: «ثيابي». (¬653) 26 ديسمبر 1735 م. (¬654) 1785 م.

ترجمة الشيخ الولي عيسى بن عمران البلوي

ترجمة الشّيخ الولي عيسى بن عمران البلوي: ومن معاصري الشيخ أبي بغيلة الشيخ الفقيه العالم الولي الصّالح سيدي عيسى بن عمران البلوي، زوّج إبنته لولد الشّيخ أبي بغيلة، وكان ملازما له، وله مقامات وكرامات كثيرة. قال الشّيخ أبو الحسن الكراي - رحمه الله تعالى - نقلا عن أبيه: دخلت روضة / لسيدي عيسى بن عمران في صغري فرأيت بها أسدا فأخبرت بذلك والدي، فقال لي: ذلك سيدي عيسى. ومنها أنّ الباشا - رحمه الله تعالى - كان أمر بهدم ما بين سور البلد والدّور من الأبنية حتى يبقى السّور منفصلا عن الدّور قائما بنفسه، وكان ضريح الشيخ سيدي عيسى بن عمران (¬655) متّصلا بالسّور، فلمّا وصل الفعلة إلى ضريح الشّيخ هاب النّاس أن يهدموا جدار الضّريح المتّصل بالسّور، فتقدّم رجل يقال له سعيد الأنشلي، وكان فاقدا لإحدى كريمتيه، فأخذ المعول وضرب الجدار، فعمت صحيحة كريمتيه فصار كفيفا. ووقعت فتنة بين السّلاطين، فخاف أهل البلد من عدوّ يطرقهم فركّبوا على الأسوار المدافع، ووضعوا منها مدفعا محاذيا لضريح سيدي عيسى، فلمّا نام المقدّم على تركيب المدافع بالأسوار رأى الشّيخ في منامه وقال له: أنزل ذلك المدفع وأنا أكفيكم هذه الجهة، وإن لا تنزله أقصم ظهرك، فبادر إلى تنزيله، وكفى الله المؤمنين شرّ تلك الفتنة. ترجمة الشّيخ مخلوف الشّرياني: ومن مشايخ وطن صفاقس الشرقي سيدي مخلوف الشرياني، أصله مغربي، صحب الشّيخ العيّاشي بطبلبة، وسكن شريانة، ثمّ انتقل لأنشلة (¬656)، وهو من أكابر الصالحين والعلماء العاملين، له تخميس عظيم على بردة المديح إلاّ أنّه قليل الوجود بأيدي النّاس. وله عقب (¬657) بأيديهم ظهير من أمر الحفاصة وأمراء العساكر العثمانية مراعاة لحقّه / - رحمه الله تعالى ونفعنا به -. ¬

(¬655) ساقطة من بقية الأصول. (¬656) هي Ussila وينسب إليها. (¬657) من أعقابه عائلة عبد الكافي، وهي غير التي تنسب إلى سيدي عبد الكافي العثماني جدّ آل بوعتور.

ترجمة الولي محمد الرقيق أبي عكازين

ترجمة الولي محمّد الرّقيق أبي عكّازين: ومن أعيان وطن صفاقس الغربي الشّيخ الولي الصّالح العارف بالله تعالى، المزار المتبرّك به، الإمام الخطيب، الحسيب النّسيب أبو عبد الله سيدي محمّد الرّقيق (¬658) أبو عكّازين المدفون بالمسعودة (¬659)، وهو من أولاد عنان من نسل مولاي إدريس، فيكون شريفا، أخذ الطريقة عن سيدي أبي يحيى القرقوري، مات أبوه وتركه صغيرا فسمّته أمّه محمّد اليتيم، وأسلمته للمعلّم، فلمّا ترعرع صار يذهب لقرية قرقور يقرأ على الشّيخ العارف بالله تعالى سيدي أبي يحيى القرقوري، وكان جميل الصّوت، حسنه رقيقه، فسمّاه الشّيخ بالرقيق، فاشتهر هذا اللقب، وكان شيخ من مشايخ العرب يتعرّض له في ذهابه للشّيخ القرقوري ويقول له: قل لأمّك تتزوجني، فأنكر ذلك ولم يخبر أمّه به، فجعل شيخ العرب يؤكّد عليه الوصيّة كلّ يوم حتى ضاق صدره من ذلك، وتغيّر حاله، فرآه الشّيخ القرقوري فسأله عن حاله، فعرّفه بما يقاسيه من مدافعة شيخ العرب، فقال له: خذ هذا القضيب واصحبه معك، فإذا لقيك فاستعذ بالله منه واسأله أن يعافيك من هذا القول، فإن رجع عن حاله فذلك المطلوب، وإن أبى فاضرب الأرض بهذا القضيب وقل: خذيه يا أرض، فإن أخذته كلّه وإلاّ فأعد عليها حتّى تأخذه أجمع، ففعل ما أمره به الشّيخ فأخذته الأرض، فعرّف الشّيخ، فقال: إذهب / إلى قريتك وبث علمك فقد بلغت مبلغ الرّجال فقام بقرية أومة. وكان خطيبا، فلمّا جاء العيد سأله أهل المحرس أن يخطب لهم ويصلّي بهم العيد فأبى أهل قريته وتشاجروا فأعطى أهل المحرس عكازا وهو القضيب الذي يعتمد عليه الخطيب، وأخذ أهل قريته العكّاز عندهم، فلمّا حضرت صلاة العيد هيّأ أهل كلّ قرية عكّازهم على منبرهم فإذا بالشيخ داخل عليهم فصلّى بهم وخطب لهم، فلمّا التقى أهل القريتين افتخر كلّ على الآخر بصلاة الشّيخ عندهم، فكذّب كلّ منهم الآخر فرجعوا إلى الشيخ، فقال: والله ما صلّيت إلاّ بالحرم الشّريف، ولكنّ الله كشف عن أبصاركم فرأيتموني، فكلّ فريق في بلاده يحسبني بإزائه كالشّمس في فلكها، وكلّ أحد يحسبها في ¬

(¬658) وأبناء الرقيق ذكرهم العبدري في رحلته ص: 267 بعد رجوعه من الحج، قال: «ثم سافرنا منها (أي قابس) على طريق نقطة وهي موضع على البحر فيها ناس صالحون يعرفون بأولاد الرقيق». وانتقل فريق من أولاد الرّقيق إلى صفاقس منذ قرون والبعض الآخر ما زال موجودا بنقّطة إلى الآن. (¬659) تقع شمالي بلد نقطة غربي صفاقس.

داره، فمن ثمّ سمّي بأبي عكّازين الرقيق، وتنوسي إسم محمد. وممّا شاع عند أهل قرية نقّطة أنّ أحفاد الشّيخ لمّا نزلوا نقّطة على شاطئ البحر وسكنوا بها، وعمرت بهم القرية، رآهم النّصارى فهيّؤوا لهم عمارة ثلاثين مركبا وهجموا عليهم ليلا وقاتلوهم قتالا شديدا حتّى مات الرّجال وهم ستّون، وسبي الحريم، فمن جملة الحريم المسبي إمرأة من أحفاد الشّيخ فأوثقوها وأوثقوا عبدها كتافا، فلمّا أراد الكفّار إدخالهم إلى المركب صاحت بعبدها فقال لها: أنا موثوق بالقياد فلا حيلة عندي، فقالت: اجذب يديك ينقطع القياد، ففعل، فانقطع القياد، ثمّ تقدّم لأوّل كافر / فاحتمله وضرب به الأرض، وأخذ سلاحه، وضربت البنت طبلا فسمعه من أراد الله سعادته، ففزع (¬660) النّاس وبلغ صوته لبعض الصّالحين بأرض السّواسي، فأتى في الحين على جواده ومعه سلوقية (¬661) فأعان الله المسلمين، وقتلوا الكفّار أشدّ قتلة، ولم يفلت منهم إلاّ من بقي في السّفن، فأقلعوا لمّا أيسوا من رجالهم، ثمّ بعد ذلك أرادوا نقل الشّهداء لمقبرة الشّيخ بالمسعودة، فلم يكن عندهم ظهر للحمل غير ذلك الجواد الذي قدم عليه الرّجل الصّالح من أرض السواسي، فذهب منهم جماعة للحفر والدّفن، وبقي جماعة للتّحميل على الفرس، قيل إنّ الفرس يذهب بنفسه من غير سائق ولا قائد ويرجع كذلك، فكلّما أوصل جانبا رجع، فما فرغوا من الدّفن إلاّ وأتى بجانب إلى أن فرغوا، وكان من جملة القتلى (¬662) صاحب الجواد فدفن مع جملة القتلى، وماتت الفرس والسلوقية (661) فدفنا معهم. ومن خاصية تربة هذا الشّيخ أبي عكّازين المشهورة الشّائعة إلى الآن أن من كان من نسله إذا دفنوه قبلته الأرض، ومن كان من غير نسله يصبح منبوذا، حتّى قيل إنّه جاء بعض الصّالحين زائرا فمات ولده فدفنه معهم، فرأى في النّوم قائلا: أنقله، فأبى، فأعيد عليه فأبى، فأصبح مطروحا بأرض قابس، فبعدها لم يتجاسر أحد على الدّفن من غير نسل الشّيخ. ولم نقف للشّيخ على تاريخ وفاة إلاّ إنّه وجد على قبر من قبور أحفاده: هذا ضريح ¬

(¬660) أي أنجدهم. (¬661) السلوقي هو الكلب المنسوب إلى سلوق وهي قرية باليمن تنسب إليها الكلاب الجياد السريعة العدو والضامرة البطن. (¬662) في الأصول: «القتلا».

ترجمة الشيخ منصور بن عبد الله القرقوري

يعقوب بن عبد الله بن أبي عكّازين الرّقيق، توفّي عام سبعة وستين وثمانمائة (¬663). / ووجدنا عقدا مؤرّخا بأواسط صفر سنة خمس وسبعمائة (¬664)، وكتبه محمّد بن محمّد الرّقيق اهـ‍. فيكون الشّيخ - رحمه الله ونفعنا به - من أهل القرن السّابع. ترجمة الشّيخ منصور بن عبد الله القرقوري: ومن مشايخ الوطن الغربي الشّيخ الفقيه سيدي منصور بن عبد الله القرقوري، صاحب زاوية المحرس. كان خطيبا إماما بجامع المحرس، وجدنا له ظهيرا من المرحوم محمّد باي - رحمه الله تعالى - فيه سراحه والإيصاء باحترامه، مؤرّخا بجمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وألف، فكان من القرن الحادي عشر. ترجمة الشّيخ أبي محمّد عبد الله الأومي: ومن أجلّ فقهاء صفاقس المتأخّرين الشّيخ الفقيه المفتي العمدة الثّقة العالم الهمّام أبو محمد عبد الله اشتهر سيدي عبيد بن المنتصر الأومي، كان - رحمه الله - أحد الأعلام الحذاق، وطار صيته وفتاويه فطبق الآفاق، وفتاويه تنبيء عن جلالة قدره، وكان ممّن لا تأخذه في الله لومة لائم، فقام بالدّين لله، فحسده أهل عصره فسعوا به إلى السّلطان فأمر بنفيه مرّة إلى المهدية ومرّة إلى الحامة، فكانت له بالحامة آثار جميلة، فعمل المطاهر والميضاة على ماء الحامة، وهي إلى الآن باقية مشهورة باسمه، وكان مؤيدا في فتواه وتوثيقه، وذهب مرّة لتونس وكانت له عمامة الفقهاء، فرآه بعض أهل السّوق فظنّه خاليا من العلم كما هو شأن بعض المشبّهين بالفقهاء، فقال لآخر من أهل السّوق: إنّها لكبيرة، فأجابه صاحبه بقوله: محشوة قطنا، فقال الشّيخ: بل محشوة علما فاسألها تجبك، وكان السّلطان يرفع قدره ويعلي شأنه، فلامه بعض جلسائه / فقال: هو رجل ذو فضل ثمّ أمر غدا بإحضار العدول وملأ جابية من ماء، وأخذ نارنجة فاستخرج منها ¬

(¬663) 1462 - 1463 م. (¬664) سبتمبر 1305 م.

ترجمة الولي منصور الغلام

لحمها بلطف بحيث لم يظهر تغيرها وألقاها خاوية في وسط الماء، ولم يدر أحد بما جعل، وجعل مكان إستخراج لحمها غامرا في الماء حتّى صار الظاهر صورة نارنجة صحيحة، ثمّ استدعى العدول وجعل يسألهم واحدا بعد واحد، هل هي أترجة أو نارنجة، فكلّ قال بحسب ما غلب على ظنّه، وكتب شهادتهم على ما صمّم عليه، ثمّ استدعى الشّيخ عبيد - رحمه الله - فسأله كما سأل غيره، فأخذ مئزرا وفسخ ثيابه، فقال له السّلطان: ما لك؟ فقال: أنزل الماء، وآخذها في يدي فإذا تحقّقت شيئا أجبتك به، فقال له: كان يسعك ما وسع غيرك من إخوانك العدول، فقال: لا يكفي الأخذ بالظّنّ مع إمكان اليقين، فلمّا أخرجها من الماء فإذا هي قشر فارغ، فقال: هذا قشر نارنجة فارغ، فقال لمن لامه في رفع قدره: أتلومني في رفع قدر مثل هذا؟ وكان تفقّه أوّلا بأهل بلده، ثمّ انتقل لتونس وتفقّه على فقهاء عصره فاشتهر بالفضل والعدالة، وأخذ عنه أهل بلده في بلده وغيرهم في غيرها. وممّن أخذ عنه من أهل صفاقس الشّيخ أبو الحسن الكراي قيل إنّه سأله الشّيخ أبو الحسن قراءة صغرى الشّيخ السنوسي في آخر أمر الشّيخ عبيد، فاعتذر بعدم خلوّ الوقت لاشتغاله بوقائع النّاس، فصار الشّيخ أبو الحسن يأتيه كلّ ليلة وقت صلاة العشاء فسأله على عقيدة / من غير ترتيب ولا كتاب، فتارة من الآخر وتارة من الوسط، وتارة من الأول، فيجيبه عن كلّ مسألة بما تستحقّه، فلمّا كمل الكتاب قال له: يا شيخ أبا الحسن ختمت الكتاب وهذه آخر مسألة منه من غير درس ولا حضور كتاب. وكانت وفاته - رحمه الله - بربيع الثّاني من شهور سنة ستّ وخمسين وألف (¬665)، وقبره بالقرب من ضريح الشّيخ اللّخمي في جهة الغرب والجنوب، وعلى قبره سيف من رخام عليه التّعريف به وتاريخ وفاته - رحمه الله تعالى -. ترجمة الولي منصور الغلام: ومن أولياء الله تعالى العارفين بالله سيدي منصور الغلام (¬666) ذو الكرامات المشهورة والفضائل المأثورة. ¬

(¬665) ماي - جوان 1646 م. (¬666) لعل المقصود بالغلام الأسود اللون، والزّنوج يحتفلون به إلى الآن في الخريف.

قيل كان عبدا لرجل من أهل صفاقس صنعته عمل القطن، وكان يتركه بالليل يشتغل فيصبح كلّ يوم ويأتيه فيجده قد استوفى جميع ما يبقي عنده قلّ أو كثر، ثم إنّه دعته حاجة في بعض الليالي فأتى للمحلّ الذي يشتغل فيه فلم يجده، وارتقبه أكثر الليل فلم يأت، فلمّا أصبح وجده قد استوفى عمل جميع ما عنده من القطن، ففطن له وعلم أنّ له عناية من الله تعالى فرصده ليلة من الليالي فوجده سائرا في سكّة من البلد، فتبعه من حيث لا يشعر به، فما زال سائرا حتّى انتهى لسور البلد، فنزل منه، فتبعه وسار خلفه، فما زال سائرا حتّى وصل إلى برج قزل (¬667) فشرع في الصّلاة ولم يزل كذلك حتّى طلع الفجر فرجع وطلع من حيث نزل، فعند ذلك نجز عنه (¬668)، فلمّا علم أنّ سيده اطّلع على سرّه وأفشاه اعتزل عن النّاس، فظهرت كراماته وبلغ خبره السّلطان / فطلبه فاختفى ولم يظهر، فوجد بعد زمان ميّتا مغسّلا مكفّنا في المكان الذي وجده سيّده يصلّي فيه عند برج قزل، فدفنوه فيه. ولم نعرف له زمانا، وهو أسبق من الشّيخ أبي بغيلة لأنّه تقدّم أنّه لمّا مرّ على ضريحه أعطاه الشّياه - حسبما مرّ -. ومن كراماته المشاهدة بالعين في عصرنا أنّ بعض صيادي (¬669) السّمك تبعوا غلاما وقصدوه بالفاحشة فامتنع منهم وفرّ منهم هاربا حتّى دخل ضريح الشّيخ فتبعوه، وكانوا ثلاثة، فلمّا ضايقوه دخل تحت التّابوت الذي على القبر فتغلّبوا عليه وأخرجوه كرها، فكسر ظهور الثلاثة، فأمّا أحدهم فإنه خرجت روحه حالا، وأما الثّاني فزاد مدة قليلة وجعل يقذف الدم والقيح حتّى مات، وأمّا الثالث فطالت مدّته مكسور الظّهر ثمّ مات، وكلّ من انتهك حرمته وقع به عطب لا يسلم منه، وهذا شيء كثير، ومع هذا يأتيه الزّوّار فيظهرون من أنواع اللعب بجميع أنواع الملاهي والمفرحات فلا يصيبهم سوء ما لم يصدر منهم ما يؤذن (¬670) بانتهاك حرمات الشريعة، فمن فعل شيئا فلا يسلم، ولكنّ الناس لا يقدرون ولا يقدمون على فعل شيء من ذلك احتراما وخوفا من تعجيل العقوبة. ¬

(¬667) بالقاف المعقدة كالجيم المصرية وبعدها زاي مفتوحة يقع على بعد 11 كلم في شرقي مدينة صفاقس على الطريق المعروف الآن بثنية سيدي منصور حيث الآن مقام سيدي منصور الغلام، وبعض الوثائق تسمّيه برج كرك وبقاياه قائمة وتعرف بالنّاظور، وحول الضّريح الآن بساتين مشجرة وقرية سيدي منصور. (¬668) في بقية الأصول: «انجزعت». (¬669) في الأصول: «صيادين السمك». (¬670) في ش: «يؤذون».

ترجمة الشيخ أبي الحسن علي الوحيشي

ولأهل صفاقس وأوطانها فيه اعتقاد زائد فلا يقطعون زيارته على حول السّنة (¬671) وحقّ لهم ذلك، والله تعالى أعلم. ترجمة الشّيخ أبي الحسن علي الوحيشي: ومن أولياء الله العارفين بالله النّاشئين بصفاقس الشّيخ الصّالح المعتقد الجامع بين الحقيقة والطّريقة، الورع الزّاهد سيدي أبو الحسن / علي بن سعيد بن سعد الوحيشي، أصل جدّه - وهو الحاج سعد - من وادي العقيق وقيل من وادي الوحش من أرض الحجاز، نزل بقلّوس قرية من وطن صفاقس الشرقي، وتزوّج بامرأة من قصر تنيور (¬672) وهو (¬673) قصر علم جوفي صفاقس، واسم المرأة خديجة التنيورية، فولدت ولدين إسم أحدهما منصور واسم الثّاني سعيد، فانتقل سعيد لصفاقس فاستوطنها وحجّ وتزوّج بامرأة من صفاقس وصار يتّجر بين صفاقس والقيروان، وصارت له صحبة بذرّيّة الشّيخ عطاء الله (السلمي فزوّجوه بامرأة من ذرّية الشّيخ عطاء الله) (¬674) فأقام بها بالقيروان مدّة يسيرة، ثمّ انتقل بها إلى صفاقس فولدت له سيدي علي الوحيشي، وتوفّيت (¬675) وهو صغير، فحضنته زوجة أبيه الصفاقسية على كره منها له على عادة الرّبيب عند امرأة الأب، وكان في غاية الجمال، وغلب عليه الإنجذاب إلى الله، فلمّا ترعرع أسلمه أبوه للمكتب (¬676)، فلم تمض عليه مدّة إلاّ وقالت له علّم ولدك صنعة يعيش بها، فعلّم صنعة نسج الكتان على عادة أهل صفاقس، فغلب عليه زيارة الأولياء (¬677) كالشّيخ أبي بغيلة، والشّيخ اللّخمي، وابن التّين وغيرهم، وإذا أتى الليل جاء لأبيه (¬678) ¬

(¬671) وللسود ميل خاص لهذا الولي، وكانوا إلى عهد غير بعيد يخصصون له أياما لزيارته ويقصدون ضريحه في موكب له طقوسه السمعية يتقدمهم تيس للذبح، وتحولت هذه العادة الآن إلى مهرجان شعبي منظم من طرف الهياكل الثقافية يقام في الخريف من كل سنة لمدة 3 أيام من 5 إلى 7 سبتمبر. (¬672) من ضواحي صفاقس، وإلى هنا لك طريق تسمّى طريق تنيور، شمال المدينة وتؤدي إلى بقايا قلعة أثرية لم تبيّن الدراسات أصلها بعد، وتنعت هذه البقايا عند العامة بقصر تنيور. (¬673) في ش وب: «هي». (¬674) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬675) في الأصول: «توفت». (¬676) الكتاب. (¬677) في ط: «الصّالحين الأولياء». (¬678) في ط وب: «جاء أبوه»، وفي ت: «جاء لأبوه».

بمقطع (¬679) فاستعجبت إمرأة أبيه وقالت: هذا لا يكون من عمل يده، فتركته حتّى خرج للمنسج وأمهلت قليلا ثمّ ذهبت للمنسج لتبصر كيف ينسج، فوجدت المحلّ مغلقا فجعلت عينها في خرق الباب، فإذا بالمنسج ينسج وحده لنفسه (¬680) كأقوى ما يكون من النّسج (¬681)، فعلمت أنّ له شأنا /، ثمّ قالت لوالده إنّه كبر سنّه ولا يليق أن ينام معنا في بيت واحد، فافض (¬682) له بيتا، فصار إذا غلق الباب [ودخل] (¬683) البيت يسمع معه كلام، فقالت إمرأة أبيه: ما هذا الكلام مع ولدك فلعلّ معه أحدا، فيقول لها: دعيه فإني غلقت باب الدّار (¬684)، ولا يمكن أن يدخل أحد (¬685)، فقالت لا بدّ من أن أذهب وأنظر ما عنده، فذهبت ونظرت من خلال الباب، فوجدته على كرسي ومعه ديوان منصوب بأولياء الله (¬686)، وهو يولي ويعزل، فيقول: أوليت فلانا وعزلت فلانا، [وهو] يتصرف في الولاة (¬687) بما شاء، فالتفت إلى زوجة أبيه وقال لها: كشفت السّتر، أعمى الله بصرك وقطع يدك، فكان ذلك في الحين (¬688)، فصاحت، فخرج والده فوجدها على تلك الحالة، فاعتذر إليه من فعلها وطلب منه العفو عنها إكراما له، فقال له (¬689): هل تابت من شرّها؟ فقالت: تبت (¬690)، فدعا لها ومسح عليها فرجعت لسلامة أعضائها. ثمّ زاد فيه الإنجذاب، وقوي به (¬691) الحال، فأمره والده بالذّهاب إلى البلاد الواسعة، فسار (¬692) إلى تونس وفتح دكّان عطّار وجعل يبيع الكثير بالثّمن القليل، وكلّ ¬

(¬679) من النسيج. (¬680) في ط: «بنفسه»، في ت وب: «لبسه». (¬681) في ب: «المنسج». (¬682) في ش: «فافضي»، وفي ت: «فاجعل». (¬683) ساقطة من ش، وفي ت: «إذا غلق الباب ودخل بيته». (¬684) في ت: «فإني غلقت الباب أي باب الدار»، والصواب: «أغلقت». (¬685) في ط: «أن يدخل أحد من خلال الباب». (¬686) في ت: «منصوب من الرجال بأولياء الله». (¬687) ساقطة من ط وب. (¬688) ساقطة من ط وب وش. (¬689) ساقطة من ط وب وش. (¬690) في ت: «قد تبت». (¬691) في ط: «فيه». (¬692) في ط: «فسافر».

من سأله (¬693) عن شيء أعطاه ولم يره أحد أدخل حانوته (¬694) شيئا فتعجّب النّاس من أمره وكثر ازدحامهم عليه وقصدوه من جميع الجهات، وربحوا منه ربحا كثيرا فاقت الحصر، فغار منه (¬695) أهل السوق، واشتكوه (¬696) لمراد باي أبي (¬697) حمّودة باشا وقالوا (¬698): هذا رجل أقبلت عليه النّاس، ويخشى منه تغيير (¬699) الدولة، فأمروه (¬700) بالخروج من تونس ويتوجّه حيث شاء. وكان الشّيخ سيدي علي العيوني (¬701) - رحمه الله - بالقيروان / عنده دلاعة محتفظا عليها (¬702)، وكلّما سأله تلاميذه أن يعطيها لهم يقول هي لصاحبها، فلمّا خرج الشّيخ من تونس توجّه للقيروان، فزار السّيّد الصاحب ثمّ توجّه للشّيخ العيوني، فلمّا رآه من بعيد قادما عليه قال لتلاميذه: هذا صاحب الدّلاّعة قد أتى، فلمّا وصل سلّم على الشّيخ العيوني ففرح به وأخذ سكّينا وقطع الدّلاّعة قطعا بقدر ما تدخل فيها اليد، فجعل يعصرها في قشرها حتّى صارت ماء فقال: افتح فاك وسقاه جميع ما فيها فخرج وقد أخذه من الحال ما أدّى إلى نبذ ثيابه من فوق جسده، وكان نقي البشرة فجعل النّاس يسترونه وهو يلقي ما يوارونه به، وصار يدور بالأزقّة وهو غير مالك نفسه فغيّر الله بياض بشرته ببعض سواد سترا لجماله. ولمّا دخل حمودة باشا بن مراد للقيروان، وبين يديه شاويشه لمنع النّاس من الطّريق، لقي الشّيخ بالطّريق فأمره بالتنحّي عن الطّريق أوّلا وثانيا وثالثا وهو لا يلتفت إليه ولا يشعر به فضربه بقضيب بيده (¬703) ثلاث ضربات فذهب الشّيخ ولم يقدر الشاويش على الإنتقال من موضع ووقف فرس الباشا ولا علم عنده بما صدر من ¬

(¬693) في ت: «يسأله». (¬694) في ت: «للحانوت»، في ب: «حانوت». (¬695) يقصد حسدوه، وفي ت: «فعرموه». (¬696) في ط: «واشتكوا به». (¬697) في ت: «والد». (¬698) في ت: «وقالوا له». (¬699) في ط: «تغير». (¬700) في ط: «فأمره». (¬701) في ت: «العويني». (¬702) ساقطة من ط. (¬703) ساقطة من ط.

الشّاويش (¬704) فسأل وقال هذه القيروان بلاد الصّالحين ولا ندري كيف الحال، فعرّفوه بما صدر من الشّاويش، فقال: وأين الذي ضربتموه؟ فقالوا: إنه يذهب للشّيخ العيوني، فنزل عن فرسه وأتى الشّيخ (¬705) معتذرا يقبّل اليد والرّجل ويطلب الإقالة والصّفح، فقال: لا أصفح عنك حتّى تذهب معي، فقال: السّمع والطّاعة / فذهب معه إلى مكان الزّاوية الآن فقال له: تبني لي هاهنا زاوية، وحدّد الشّيخ طولها وعرضها وحرمها من المكان الذي وقفت فيه الفرس، فأجابه لما طلبه، فاشترى الأماكن التي أخذها الحدّ، فكانت إحدى عشرة دارا، فجعلت زاوية. ولمّا خرج القائد سعيد بن صندل قائد أعراب محلّة الجريد (وخلصت مجابي الجريد) (¬706) طلب من كبير عساكر الترك أن يأخذ معلومه من المجابي، فأبى عليه كبير العسكر، فتشاجر إلى أن اغتاظ كبير العسكر، فاستلّ سيفه وضرب رأس القائد سعيد فقطع قطعة من رأسه لم تنفصل، فصاح القائد: يا رجال الله، فتقدّم إليه رجل ومسك القطعة وردّها إلى موضعها فصارت كما كانت، فقال: يا سيدي بالله عليك إلاّ ما عرّفتني من أنت؟ فسأله بالله ورسوله والكعبة المشرّفة وطلب له من الله حسن الختام، فبكى وقال: سألتني بالله الذي لا يغيب عن قلبي، وبرسول الله وهو لا يغيب عن بصري، وبالكعبة وأنا لا أصلّي إلاّ بها، ودعوت لي بحسن الختام وهو الموقف الصعب الهائل فلذا أبكاني وقد خاف منه فحول العلم والعمل، فأنا علي الوحيشي بالقيروان (¬707)، فلمّا رجع دخل القيروان، وسأل عن (¬708) الشّيخ، فلمّا رآه عرفه فحبّس على الزاوية حمّاما وهنشيرا وغير ذلك من الرّباع سنة إحدى وستّين وألف (¬709). ثمّ إن الشّيخ كثرت كراماته، وشاعت بركاته، فقصد النّاس الشّيخ بالزّيارة واحتاجت الزّاوية للسّماط، فقام بذلك أخوال الشّيخ من ذرّيّة الشيخ عطاء الله، فقاموا / بذلك حقّ القيام، فتولّوا قبض مدخولها وبسط مخروجها، ومشى حال الزّاوية، فلمّا سمع بذلك عمّه الحاج منصور قدم إليه بولده سيدي سعيد فقام بالزّاوية عوضا عن أخوال الشّيخ. ¬

(¬704) في ت: «الشاوش». (¬705) في ت: «أتى إلى الشيخ». (¬706) ما بين القوسين ساقط من بقية الأصول. (¬707) في ت: «بمدينة القيروان». (¬708) في ط وب: «على». (¬709) 1651 م.

ترجمة الولي سعيد بن منصور الوحيشي

ثمّ إن الحاج منصور أعجلته منيّته وبقي ولده قائما بالزّاوية على غاية ما ينبغي، وكان رجلا صالحا فسار بسيرة الصّالحين من العفّة والورع وحسن السّمت والقيام على حقوق الشّريعة المطهّرة كما ينبغي، فقبلته القلوب ومال (¬710) إليه الخلق وطاعته الملوك، فما توجّه لمطلب إلاّ قبل ونال ما سأل، ثمّ لحظه الشّيخ سيدي علي وجذبه بهمّته، وأمره بامتثال أمر رجل عيّنه له، فقبل الحملة. وسار سيدي علي - رحمه الله تعالى - إلى عفو الله يوم السّبت ثامن عشر محرّم فاتح سنة ستّ وسبعين وألف (¬711)، ودفن بزاويته. ترجمة الولي سعيد بن منصور الوحيشي: وصار سيدي سعيد إذا أخذه الحال لا يقدر أحد أن يقابله إلاّ ذلك الرّجل الذي عيّنه له الشّيخ، ثمّ إنّه أمره بالتّزوّج فامتثل، فأخذ له بنت محمّد خوجة من الأتراك، وكان ساكنا بالقيروان قرب المسجد الأعظم، فولدت له سيدي أحمد، وسيدي علي نزيل صفاقس، وصار ذلك الرّجل إذا أخذ سيدي سعيد الحال يقوم بشؤونه ويدخله الحمّام ويغسله كما تغسل الوالدة ولدها، وقد يشتدّ الحال بالشّيخ سيدي سعيد فيضرب النّاس بالعذرة، فمن اعتقد وجد ريحها طيّبا حتّى أنّ المرحوم مراد بن حمّودة باشا ضربه مرّة فأصاب ثيابه فحلف / لا يزيلها من ثيابه، وأمر بإدخالها في صندوقه بما فيها، فصار إذا فتح وجد لها طيبا لم يجد مثله. ومن كراماته أنّه أتاه رجل من أولاد الهاني بامرأة في هودج طالبا للذّرّية، فتلقّاه الشّيخ خارج البلد، وأنزل المرأة فوقع عليها، وصار يدعكها بيديه ورجليه، فلمّا رأى زوجها ذلك أخذ ثوبا وألقاه عليهما، فاجتمع النّاس وصار من لا يعتقد يضحك ويقول لزوجها: رضيت به يفعل بزوجك ويضحكون منه استهزاء به، فلمّا قام الشّيخ كشف لهم عورته فإذا به لا ذكر فيه بل على صورة المرأة، والتفت لزوجها وقال له: سترتنا سترك الله في الدّنيا والآخرة، فارجع بأهلك ولا تدخل القيروان، فرجع وولدت له سبعة ذكور، وما زالت أعقابه إلى الآن مستورين. ¬

(¬710) في الأصول: «ومالت». (¬711) 31 جويلية 1665 م.

ووقع مرّة بسوق القيروان على حمارة، وظهر لمن لا يعتقد أنّه يعالج الجماع، وأهل الإعتقاد علموا أنّه لأمر لله أعلم به منهم، فقيّدوا ذلك الوقت فإذا بابن صابر السّوسي قادما من الحجار بهدايا وتحف وبيارق وقال: كنا في البحر فانخرقت المركب وأشرفنا على الهلاك، فاستغثنا الله بسيدي سعيد الوحيشي فإذا به واقف على جانب المركب واضعا فرجه على محلّ الخرق منها فانسدّ الخرق، ونجّانا الله تعالى ببركته، فحسب ما مضى من ذلك الوقت إلى زمن الإخبار فإذا به وقت وقوعه على الحمارة. ولمّا دخل / المرحومان محمّد باي وأخوه علي باي ولدا مراد باي قال سيدي سعيد لعلي باي: ائتني بولدك مراد، وكان في قماطه، فأحضروه فمسكه بيده وجعل يخاطبه ويقول له: يا مراد يكون خلاء القيروان على يديك، يكون قتل العواني الشريف على يديك، أبعد عن زاويتي، يا مراد تفسد في الأرض، وتقتل الناس ظلما وبغيا، وجعل يذكر شنائعه التي صدرت منه بعد في حال كبره (¬712)، فلمّا سمع أبوه بذلك، قال: لو نعلم يقع (¬713) هذا منه لقطعت عنقه، فقال له: أتردّ أمرا كان في الكتاب مسطورا؟ فلمّا كبر وقع جميع ما ذكر من شنائع أفعاله. وروي عن الشيخ الخطيب أبي فارس عبد العزيز الفراتي - رحمه الله تعالى - أنّه كان مجتازا ببعض طرقات القيروان فوجد دكّانا عليه خلق كثير وسيدي سعيد الوحيشي في حال انجذابه، وهو يقرأ آيات من القرآن على غير وجهها، قال: فقلت هذا المجنون هكذا يكسّر كلام الله، فإذا به قد خرج من الحانوت وهو ينادي بأرفع صوته: يرفع كما أنزل يرفع كما أنزل على رغم أنف عبد العزيز الفراتي، قال: فتبت إلى الله ممّا وقع منّي من القول. وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - بمدينة القيروان ليلة الخميس لعشر بقت من شوّال سنة إحدى ومائة وألف (¬714). ومات ولده سيدي أحمد بالقيروان ودفن مع أبيه. ¬

(¬712) هو الظّلوم السّفّاك مراد أبو بالة آخر أمراء المراديين. (¬713) في الأصول: «يوقع». (¬714) 27 جويلية 1690 م راجع تكميل الصّلحاء والأعيان. . .

ترجمة الشيخ علي بن سعيد بن منصور الوحيشي

ترجمة الشّيخ علي بن سعيد بن منصور الوحيشي: وأمّا سيدي علي الوحيشي إبن سيدي سعيد الوحيشي فإنه أقام بالقيروان ما شاء الله، وتروّج بها، وكان يكثر التّردّد على صفاقس، وكان / منجمعا عن (¬715) النّاس لا يحبّ ملاقاة الأمراء بل محبّا للخلوة ودرس (¬716) العلم وسماع القرآن، وإذا سمع بالسّلطان أتى للقيروان يخرج كلّ يوم لظاهر البلد صبحا ولا يرجع إلاّ ليلا. ولمّا وقعت فتنة (¬717) الباشا وسيدي حسين - رحمه الله - وعمل أهل القيروان على غلق الأبواب خرج شيخنا سيدي عبد الله السّوسي لتونس، وخرج سيدي علي الوحيشي لصفاقس، فكان ملازما لدروس سيدي أحمد النوري من فقه وحديث وتفسير وصلاة جماعة ووعظ جمعة وغير ذلك، وكان محبّبا للخلق، فاتّفق أن اجتمع بعض الطّلبة يوما وقالوا: سيدي علي الوحيشي ما رأينا عليه شيئا من أمور الولاية، فلقي بعضهم من غير علم بما وقع بينهم، فقال: تسأل عن علي الوحيشي وهو من أهل الجنّة، فقال: ومن أعلمك بذلك؟ قال: لأنّ الخلق كلّهم يثنون علي بخير، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أثنيتم عليه خيرا فقد وجبت، يعني الجنّة» (¬718). وركب يوما على حمارته وسار معه خديمه، رجل يقال له: الرّخيص (¬719) فقال: تحرّكت جوف الشّيخ وخرج منه ريح (¬720)، فقال: يا رخيص (719) ما بقيت تسمع خيرا من فوق ولا من تحت، قال: فما مضت إلاّ مدّة قليلة واشتدّت الفتنة وكثرت فيها (¬721) الأقوال المرعبة فما تسمع إلاّ الهتك والفتك والهرج والمرج. وحضرته الوفاة بصفاقس سنة نيف وخمسين ومائة وألف (¬722)، واختلف النّاس في موضع دفنه، فبعضهم يقول: نحمله للقيروان فيدفن مع آبائه، وبعضهم يقول: ندفنه / ¬

(¬715) في بقية الأصول: «مجتمعا على». (¬716) في ط وت: «دروس». (¬717) علي باشا مع عمه حسين بن علي رئيس الدولة. (¬718) نصّ الحديث: «من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنّة ومن أثنيتم عليه شرّا وجبت له النّار، أنتم شهداء الله في الأرض». رواه الإمام أحمد في المسند، والبخاري ومسلم والنسائي عن أنس بن مالك - رضي الله عنهم - وهو حديث صحيح، أنظر فيض القدير 5/ 28. (¬719) في الأصول: «الرخيس». (¬720) ساقطة من ط. (¬721) في ش: «كثر فيه». (¬722) بعد 1737 - 1738 م.

بالجهة الغربية من المقبرة، وبعضهم يقول: بالجهة الشرقية، فجاء الرخيص (719) خديمه وقال: كنت يوما مع الشّيخ بسانيته التي أحدثها قرب سور البلد وقال: ههنا إن شاء الله (¬723) التّربة، فأراهم المكان الذي عيّنه له الشّيخ فدفنوه به، ثمّ جمع أهل الفضل ما تيسّر من الدّراهم وبنوا عليه قبّة، فالنّاس يتبرّكون به. وكان شيخا نقيّ الثّياب، حسن الهيئة، جميل الذات، حسن الخلق، من رآه أحبّه، لا يفتر عن ذكر الله - رحمه الله تعالى -. ومن أعجب ما رأيت من بركاته فكمل فيه اعتقادي، أنّي كنت زمن المصيف بالحريم في البساتين (¬724) على عادة أهل البلد، فلمّا فرغ المصيف عملنا على الرّجوع إلى المدينة فقلنا: ننزل ليلا نبيت عند الشّيخ الوحيشي وندخل صبحا محافظة على ستر الحريم، فأخذنا مفتاح الرّوضة من حفيظها ونزلنا بالحريم ليلا، فلمّا وصلنا للرّوضة فتحنا الباب الأوّل وأدخلنا المفتاح في الباب الثّاني وحاولنا انفتاحه فلم ينفتح، وعالجناه نحو ساعة، فلمّا لم يتيسّر فتحه تركنا (¬725) المفتاح في الباب، وقلنا: لعلّ الشّيخ لم يرد دخولنا، وانكسرت قلوبنا، وحصل لنا حزن، فبينما نحن كذلك وإذا بطائر لطيف دار على المفتاح مرّتين أو ثلاث، فلمّا رأينا ذلك استبشرنا وقلنا: قد حصل الإذن من الشّيخ بالدّخول، فتقدّمت (¬726) للمفتاح فأدرناه مرّة واحدة فانفتح الباب، فعلمنا أنّ العسر مقرون باليسر كما قال جلّ ثناؤه {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} (¬727) الآية، فدخلنا وحصل لنا بذلك غاية / السّرور والفرح لحصول العناية من الشّيخ. ولمّا كان ثامن عشر ربيع الثاني بعد صلاة الجمعة من سنة ثمان وألف ومائتين (¬728) إجتمعت بالشّيخ أبي العبّاس أحمد بن أبي إسحاق إبراهيم بن أبي العباس أحمد بن سيدي سعيد الوحيشي وبيده كم (¬729) من (¬730) ظهير من سلاطين تونس من العساكر ¬

(¬723) ساقطة من ط وش. (¬724) ما يعرف بين أهل صفاقس بالجنان، وبه المسكن الصّيفي الذي يسمّى البرج، والجنان يتكوّن من شتّى أنواع الأشجار المثمرة، وقد تطوّر البرج خلال القرن التّاسع عشر، فأصبح مسكنا لطيلة السّنة وأخذت الأجنّة والأبراج تضمحلّ في الوقت الحاضر نتيجة التضخّم العمراني وايثار الناس السكنى في مساكن من نوع الفيلا. (¬725) في بقية الأصول: «فلم يتيسر لنا فتحه فتركنا». (¬726) في بقية الأصول: «فتقدمنا». (¬727) سورة الشرح: 6. (¬728) 23 نوفمبر 1793 م. (¬729) ساقطة من ب. (¬730) ساقطة من ط.

ترجمة الشيخ أحمد الحكموني

العثمانية - رحم الله أسلافهم ونصر أخلافهم - وبيده أيضا عدة عقود أحباس من الباشوات وغيرهم مشتمل كلّها على تعظيم الشّيخ سيدي علي الوحيشي الأكبر، وعلى وصفه بالولاية والصّلاح والقطبية وغير ذلك، وكان ذلك كالمتواتر بين عدول وقته وسلاطين زمانه، ثمّ سافر من عندنا، ثمّ وقع بالقيروان فبلغنا أنّه - رحمه الله تعالى - توفّاه الله شهيدا بالطاعون بشهر شوّال من السّنة المذكورة (¬731) - رحمه الله - وكان رجلا فاضلا لطيفا - رحمه الله -. ترجمة الشّيخ أحمد الحكموني: ومن أجلّ أعيان فقهاء صفاقس العالم العلاّمة الشّيخ المفتي سيدي أبو العباس أحمد (بن علي) (¬732) الحكموني، تفقّه بصفاقس على الشّيخ المفتي سيدي عبيد الأومي - المقدّم الذّكر - وعلى الشّيخ الإمام الخطيب أبي محمّد عبد السّلام الشّرفي، وعلى الشّيخ المفتي أبي القاسم الجنان السوسي، وارتحل سنة إثنتين وخمسين وألف (¬733) إلى تونس فتفقّه على الشّيخ العالم سيدي مبارك زرّوق الكافي وله منه إجازة، وكذا تفقّه على غيره من فقهاء تونس، وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - بالقيروان ليلة الأحد الثامنة والعشرين / من حجّة الحرام سنة ثلاث وثمانين وألف (¬734)، ودفن من الغد تحت روضة أبي زمعة البلوي صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الجهة الغربية. ولمّا توفّي - رحمه الله تعالى - تولّى عوضا عنه منصب الفتوى نجله الأسعد الحاج الأبر أبو عبد الله سيدي محمد، فقام مفتيا إلى أن وقعت فتنة إبن الإنكشاري ففرّ بدينه إلى مصر، فأقام هناك قاضيا بالمنصورة وما حواليها حتّى قطع الله فتنة إبن الإنكشاري فاسترجعه محمّد باي إبن مراد - رحمه الله - فرجع إلى صفاقس فأقام بها مفتيا إلى وفاته. وكان تفقّه على الشّيخ سيدي أبي الحسن الكراي، وعلى الشّيخ الخطيب سيدي حسن الشّرفي، وعلى الشّيخ المفتي أبي العباس أحمد السّماوي، وعلى والده المذكور. وكانت وفاته بصفاقس يوم الأربعاء وقت الزّوال الخامس عشر خلت من شهر صفر سنة أربع عشرة ومائة وألف (¬735). ¬

(¬731) أنظر تكميل الصّلحاء والأعيان. (¬732) ساقطة من ط. (¬733) 1642 - 1643 م. (¬734) 1672 - 1673 م. (¬735) 11 جويلية 1702 م.

ترجمة الشيخ أبي عبد الله محمد الحكموني

ترجمة الشّيخ أبي عبد الله محمّد الحكموني: ثم تولّى بعده منصب الفتوى بعد القضاء نجله الأسعد أبو عبد الله محمد، تفقّه على الشّيخ النّوري، والشّيخ الخطيب أبي عبد الله محمد الشّرفي، والشّيخ الفراتي (¬736) الأكبر، وعلى الشّيخ سيدي محمّد الشّرفي إبن المؤدب. وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - يوم الثلاثاء قبل طلوع الشمس، أوّل يوم من شهر محرّم فاتح شهور سنة خمس وأربعين ومائة وألف (¬737). ترجمة الشّيخ أبي الحسن علي النّوري: ومن أجلّ أعيان فضلاء متأخّري (¬738) صفاقس شيخ شيوخنا الشّيخ أبو الحسن سيدي علي النّوري (¬739). كان - رحمه الله تعالى - ثقة عمدة في علوم الدّين من حديث وتفسير وفقه / وقراءة وعربية وأصول الدّين وأصول الفقه ومغاز وسير وميقات وتصوّف وما يتبع ذلك، وما يتوقّف عليه. ألّف في اختلاف القرّاء كتابا حافلا سمّاه غيث النفع، وكتابا في علوم التّجويد سمّاه تنبيه الغافلين حاذى به إبن المفضل (¬740)، وألّف عقيدة في التّوحيد إعتنى النّاس ¬

(¬736) يقصد به عبد العزيز الفراتي. (¬737) 24 جوان 1732 م. (¬738) ساقطة من بقية الأصول. (¬739) ممّا يجب التّنبّه إليه تصحيح إسم والده وسلسلة آبائه لأنّه وقع في مصادر ترجمته ومراجعها حتّى المتأخرة أنّه علي بن محمد بن سالم أو سليم، والذي وقفنا عليه بخط يده أنّه علي بن سالم بن محمد بن سالم بن أحمد بن سعيد، فهذا المعتمد وما سواه خطأ. (¬740) علي بن المفضل بن علي اللخمي المقدسي ثم الإسكندراني المالكي، محدث فقيه (ت. بالقاهرة في مستهل شعبان سنة 611/ 1214)، سمع من الحافظ السلفي، وعنه أخذ عثمان بن سفيان التميمي التونسي عرف بابن شقر، له مؤلفات في الفقه والحديث، ولم يذكر له مترجموه اشتغال بالقراءات والتجويد، والمؤلف سامحه الله شح بالبيان، وغاية ما وجدنا في غاية النهاية 2/ 385 أنه سمع من المقرئ السبع بن عيسى بن حزم الغافقي الجياني الأندلسي نزيل مصر والمتوفي بها سنة 575/ 1179 أنظر: معجم المؤلفين 7/ 244، المستدرك على معجم المؤلفين ص: 514، شجرة النور 165، العبر للذهبي 5/ 38 - 39.

بشرحها كالشّيخ أحمد الغرقاوي (¬741) المصري، والشّيخ أبي الحسن علي المؤخّر (¬742) تلميذه والشّيخ أحمد العصفوري (¬743) التّونسي، وبعض فضلاء الفاسيين (¬744)، وله رسالة مشتملة على قواعد الإسلام وأحكام الطّهارة والصّلاة شرحها الشّيخ النفراوي (¬745) المصري، وشرحها هو بشرح ولم يستكمله (¬746)، وله رسالة في الميقات سمّاها إنقاذ الوحلة في معرفة الأوقات والقبلة (¬747). وكان إبتداء أمره يتعلّم على الشّيخ أبي الحسن الكرّاي وفقهاء بلده، فلمّا اشتدّ عمل على الذّهاب لتونس لتوفّر فقهائها فمنعه والده خوفا عليه فأبى إلاّ الذّهاب، فسافر إليها واشتغل بالعلم، ولم يكن بيده قوّة مال، فلمّا نفذ ما بيده اشتدّ به الحال حتى صار يشتري شيئا يسيرا من التّمر يغليه على بقيّة نار الطّلبة ويشرب ماؤه ليمسك به رمقه، ويفعل به ذلك مرّات، فإذا انقطعت (¬748) حلاوته إشترى شيئا يسيرا غيره والطّلبة يظنون أنّ له (¬749) طعام مثلهم، وذلك حرصا على العلم وتعفّفا كما قال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} (¬750) وكان عليه سيماء الصّالحين فاطّلع عليه بعض أهل الخير، فعيّن له كلّ ليلة نصيبا من الطّعام يبعث له به يقتاته على جاري عادة أهل / الفضل من تونس المحمودة قلّ من يشاركهم فيها إلاّ من تشبّه بهم. ¬

(¬741) أحمد بن أحمد بن عبد الرحمان الفيومي الغرقاوي المالكي (ت.1101/ 1689 - 1690) وسمي شرحه: «الخلع البهية على العقيدة النورية»، ومنه قطعة في المكتبة الوطنية بتونس وكان الشرح في حياة المؤلف. (¬742) بشرح سماه: «مبلغ الطالب إلى علم المطالب»، كتبه في حياة شيخه المؤلف، يوجد في المكتبة الوطنية بتونس. (¬743) وسماه: «الفوائد العصفورية على العقائد النورية». (¬744) هو علي بن أحمد الحريشي (بالتصغير) نزيل المدينة المنورة (ت.1143/ 1730) وشرحه يسمّى: «المواهب الربانية على العقيدة النورية»، منه نسخة في المكتبة الوطنية بتونس ونسخة بالخزانة العامة بالرباط ضمن مجموع. (¬745) أحمد بن غنيم بن سالم النفراوى بالراء المهملة (ت.1225/ 1810) ويوجد شرحه بالمكتبة الأزهرية. (¬746) وهذا الشرح يسمى: «الهدى والتبيين فيما فعله فرض عين على المكلفين» منه قطعة كبيرة غير متتابعة الأوراق وهي بحالة غير جيدة. بالمكتبة الوطنية بتونس. (¬747) بهذا الإسم طبعه الشيخ الحاج صالح العسلي بتونس سنة 1331 هـ ‍، لكن بتصفح الأوراق الأولى منه نجد أن المؤلف سماه: «المنقذ من الوحلة في معرفة السنين وما فيها من الأوقات والقبلة»، في 78 ص: من القطع الصغير. (¬748) في ش: «انقطع». (¬749) في ش: «انه له طعام»، وفي بقية الأصول: «أنه طعام». (¬750) سورة البقرة: 273.

ثمّ أرشده (¬751) بعض أهل الخير والصّلاح للذّهاب إلى مصر لينال من بركة البقعة المباركة التي أسّست في ساعة سعد لهذه الأمّة، وهو الجامع الأنور الأزهر - جعله الله عامرا بالعلم وأهله إلى آخر الدّهر -، فذهب متوكّلا على الله تعالى ففتح الله عليه، ونال سعادة الدّنيا والآخرة، فأخذ عن الشّيخ أبي عبد الله سيدي محمد الخرشي، وعن الشهاب أبي العباس أحمد العجمي، وعن الشّيخ سيدي إبراهيم الشبرخيتي، والشّيخ أبي البركات سيدي يحيى الشّاوي الجزائري، والشّيخ العناني، والشّيخ الشيراملّسي (¬752)، والشّيخ البشبيشي (¬753) ومن في تلك الطبقة من فقهاء المذهب، وأخذ القراءات (¬754) عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن محمد الأفراني المغربي السوسي نزيل مصر، كما أخذ طريق القوم عن الشّيخ سيدي محمد بن ناصر [وقد رأيت مكتوبا بخطّه ما نصّه: قال كاتبه لطّف الله به: قرأت على شيخنا (¬755) الشّيخ شرف الدّين شيخ الإسلام الأنصاري من صحيح مسلم الخ، وسمعت من شيخنا العجمي أوّل حديث من الشّمائل بقراءة صاحبها الشّيخ علي الفرغلي وأجازنا - حفظه الله - وقال أيضا: إجتمعت بالشّيخ الصّالح سيدي علي (¬756) الشّنواني بعد زيارة سيدي أحمد البدوي وأخذت عليه الطّريقة الأحمدية وتلقّنت منه الذّكر، (ثمّ ارتحلت إلى المنصورة واجتمعت فيها بالشّيخ الصّالح المسنّ الشّيخ سالم البحري وتلقّنت منه الذّكر) (¬757) وأخذت عليه الورد وهو أخذ عن قطب الزّمان سيدي أحمد الخامي اهـ‍ كلامه - رحمه الله -، وهذا بعد ما كان ينكر عن أهل الحال (فصار منهم وأخذ طريقتهم نفعنا الله به آمين) (¬758)] (¬759). قيل لمّا فتح الله عليه بما قسم الله له من العلم عرض عليه بعض أغنياء التّجّار التّزويج ببعض بناته، فاستشار الشّيخ سيدي يحيى الشّاوي - رحمه الله - في ذلك، ¬

(¬751) في ط: «أرسله». (¬752) في ش: «الشبراصلي»، وفي ب: «الشيرملسي». (¬753) في ط وب: «الشبيبي». (¬754) في ش: «القراءة». (¬755) في ت: «شيخنا الشريف». (¬756) في مكانها بياض في ط وب. (¬757) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬758) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬759) ما بين حاصرتين زيادة من بقية الأصول.

فأمره بالذهاب إلى ميضاة (¬760) الجامع الأزهر وقال له: أمكث بها ليلا وارتقب ساعة انقطاع النّاس فإذا لم تجد إلاّ رجلا واحدا فهو صاحب الوقت فاستشره وافعل ما يأمرك به، ففعل، فلمّا رأى صاحب الوقت إستشاره، فقال له: يا علي يا نوري (¬761): إذهب نوّر المغرب فمن ذلك الوقت / إشتهر لقبه بالنّوري، فامتثل ما أمره به ورجع إلى المغرب بعد ما أخذ إجازات المشايخ المتقدّمين، وانتظم في سلكهم فقدم على صفاقس بما معه من علوم الدّين، فعلّم المسلمين بنصح، وبذل جهده ومهجته (¬762). ولمّا قدم وجد النّاس يشكون جور أهل مالطة - دمّرها الله وأخلى منهم الأرض - فتشاور مع أهل الفضل في إنشاء سفن للجهاد، فوافقه أكثر النّاس على ذلك فأنشؤوا سفنا جعل الله فيها بركة وانقطع بها جور الكفرة، وغنم المسلمون منهم خيرا كثيرا، وجعل مقدّما على السفن يأتمرون بأمره، ويصلّي بهم إماما الشّيخ الصّالح إبن أخته الحاج الأبر أبا عبد الله محمد قوبعة معلّم أطفال المسلمين، وكان مقدّما على ضريح الشّيخ سيدي منصور الغلام - نفعنا الله به -. ولمّا كان كلّ ذي نعمة محسودا حسد أهل الشّرّ الشّيخ النّوري وسعوا به إلى سلطان الوقت بتونس وخوّفوه أن يكون سببا في تغيير الدّول لما رأى من إقبال الخلق عليه وامتثالهم أمره كما وقع في أيّام ابن تومرت وأمثاله - حسبما مرّ مفصّلا - فأرسل السّلطان جماعة من رجاله لأخذ الشّيخ وأتباعه ونهب أموالهم، فأرسل بعض أهل الفضل كتابا للشّيخ يحذّره قبل وصول رجال السّلطان، فلبس حرام إمرأة ونعلها وخرج [مع نسوان الشّيخ أبي عبد الله السيالة] (¬763) مستخفيا مهاجرا بدينه، وقال: (¬764) {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬765) فذهب في خفاء [مع خديمه إبن الأكحل إلى أن وصل] (¬766) لزاوية الشّيخ سيدي أبي حجبة (¬767) بين تونس وزغوان، ولمّا دخل رجال ¬

(¬760) من العجب أن لا يرى صاحب الوقت إلاّ في هذا المكان دون غيره من الأماكن النّظيفة ممّا يثير الشّكّ في صحّة الحكاية. (¬761) هذا ممّا يدلّ على أنّ لقبه النّوري قبل رؤيته لصاحب الوقت، وأصله من أسرة شطورو، ورأيت في بعض أوراقه أنّه عند ما كان مجاورا للأزهر يكتب لقبه الأصلي شطورو ويضيف إليه النوري. (محمّد محفوظ). (¬762) في بقية الأصول: «جهد ومهجة». (¬763) زيادة من بقية الأصول. (¬764) ساقطة من ط. (¬765) سورة الأحزاب: 21. (¬766) زيادة من بقية الأصول. (¬767) هو حسن أبو حجبة، وهو الباني المؤسس للزاوية الكبرى قرب عين الصيقل شمالي طريق زغوان. أنظر الحقيقة التاريخية للتّصوّف الإسلامي ص: 300.

السّلطان / نهبوا أتباعه وسجنوهم، وسلّم الله الشّيخ فأقام زمنا مشتغلا بالعلم، فلمّا ظهر خبره (¬768) إعتقده أهل الخير وعرّفوا السّلطان أنّه من الصّالحين، ولم يكن قصده في بلده إلاّ الذّبّ عن المسلمين بالعلم والجهاد على سنّة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم فلمّا تحقّق السّلطان الأمر علم أنّ السّاعي كان حاسدا وعفا عن الشّيخ وأمره بالرّجوع لوطنه، وإظهار السّنّة وقمع البدعة، وإن عارضه معارض كاتب السّلطان بذلك، فرجع لوطنه محبورا مسرورا، فبذل جهده في نفع الخلق بقدر الإستطاعة، فكثرت أتباعه وشاع وانتشر فضله، فنصر الدّين ونصره الله وثبت قدمه وجاهد في الله حقّ جهاده فهداه الله لسبل الخيرات {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)} (¬769) {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا} (¬770). وكان - رحمه الله - زاهدا في جميع المناصب لقول القطب الشيرازي (¬771): «المناصب مصائب والولايات بليّات». وهو - رحمه الله تعالى - صاحب وقت القرن الثاني عشر بوطن صفاقس، فأحبى الله به رسوم العلم بهذا الوطن بعد اندراسها، وأظهر على يديه التّعاليم بعد انطماسها، فتفقّه به جملة خلائق من جميع الأوطان (¬772) كالشّيخ سيدي محمد إبن المؤدّب الشّرفي، والشّيخ أبي الحسن علي التميمي شهر المؤخّر (¬773)، والشّيخ أبي عبد الله محمد المكّي، والشّيخ أبي الحسن سيدي علي بن خليفة (¬774) المساكني (والشّيخ أبي عبد الله محمّد الغراب والشّيخ أبي علي / حسين الشرفي) (¬775)، والشّيخ أبي عبد الله السيالة (¬776)، ¬

(¬768) في بقية الأصول: «خيره». (¬769) سورة محمّد: 7، وما بين القوسين ساقط من بقية الأصول. (¬770) سورة العنكبوت: 69. (¬771) محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي، قطب الدين الشيرازي، من بحور العلم، مفسّر عالم بالعقليات، صاحب تآليف كثيرة في التفسير، والطّبّ، والتّصوّف، والبلاغة، والفلسفة، والهيئة، وأصول الفقه، توفي سنة 710/ 1311. أنظر الإعلام 7/ 187 - 188. (¬772) يقصد من البلدان وكلمة وطن غير مستعملة في معناها المعروف الآن وإنما هي مستعملة في معنى مسقط الرأس وبلدة الميلاد. (¬773) ولقبه الأصلي: «المقدم»، وشهر بالمؤخر. (¬774) بصفة التّصغير. (¬775) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬776) في ش: «السيالا» والمعروف في رسمها: «السيالة»، بالهاء بعد اللام.

والشيخ أبي إسحاق إبراهيم المزغنّي، والشّيخ إبراهيم الجمل، والشّيخ الحرقافي (¬777)، والشّيخ رمضان أبي عصيدة (¬778)، ونجله أبي العبّاس سيدي أحمد النّوري، وهو القائم بالزّاوية بعده، فهؤلاء مشاهير تلاميذه الذين تحمّلوا العلم عنه وعلّموه النّاس بعده، وأمّا من سمع ولم يعلم فكثير لا يحصى، والحاصل أنّه تنورّت به البلاد، وانتفع به العباد. قال تلميذه الشّيخ الصّالح سيدي علي بن خليفة - رحمه الله تعالى -: أوّل مشايخي الشّيخ الفاضل المربّي النّاصح الجامع بين الشّريعة والحقيقة سيدي علي النّوري الصّفاقسي، اجتمعت به سنة خمس وتسعين وألف (¬779)، وأقمت عنده خمس سنين، وأخذت عنه جملة علوم في خلالها، وأجازني ولم أر مثله، له الإجازات الكثيرة والإطّلاعات الغزيرة، إطّلع على كثير من فهرسات الأكابر الجامعة لأسانيد المشايخ القريبة والغريبة، واجتمع بمشايخ الأسرار، وأخذ عنهم ما لا يؤخذ إلاّ من الأفواه (¬780)، وبقي بعضها، مخزونا في سرّه (¬781)، مات ولم يبح به ولا فاه، وبعضها قال: أخذ عليّ العهد أن لا ألقّنها حتّى يبوح لي سرّها وأنا إلى الآن لم أشم (لها رائحة) (¬782) كالأسماء الإدريسية والغوثية قال: وليس هذا (¬783) مقامنا ولا (¬784) نحن من أهله، ولم نشرب من علله ولا من نهله. والحاصل أنّ له اعتناء (¬785) بالأخذ من (¬786) المشايخ واتّصال السّند وقربه لأنّ قرب / السّند قربة إلى الله تعالى وإلى سيّد المرسلين، ومن ثمّ قال: عيني خامس عشرة عينا رأت رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنّ الحافظ السّيوطي أخرج العشاريات (¬787) وبيني وبينه ثلاثة ¬

(¬777) بكسر الحاء المهملة وسكون الراء المهملة والقاف المعقدة كالجيم المصرية. (¬778) ومن تلامذته محمد الشّهيد السوسي نسبا والصفاقسي إقامة وبلدا. (¬779) 1684 م. (¬780) في ت وط: «ما لم يؤخذ من الأفواه»، وفي ب: «ما لا يؤخذ من الأفواه». (¬781) في ط: «عنده». (¬782) في ط: «لم أشم رائحتها»، في ت: «لم نشم لها ريحة». (¬783) في ط: «هو». (¬784) في ش: «ولم». (¬785) في ط وب: «الإعتناء». (¬786) في ط: «عن». (¬787) يبدو أن المؤلف نقل باختصار ما في فهرست الشيخ علي بن خليفة المساكني، وهي صغيرة في نحو سبع ورقات غالبها فيما قرأه على الشيخ علي النوري والكتب التي أجازه بها في علوم مختلفة.

وهو الرّابع، وكذلك الحافظ إبن حجر أخرج العشاريات (787) وبيني وبينه ثلاثة (¬788). وأخرج حديثا منها إلى السّيوطي مسندا إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «طوبى لمن رآني ومن رأى من رآني ومن رأى من رأى من رآني» (¬789) اهـ‍. ومن اعتنائه بأخذ طريق القوم أن تلقّى عن الإمام الجليل المربّي سيف السّنّة سيدي محمّد بن ناصر الدّرعي ورد الذّكر، وهو أن تستغفر الله كلّ يوم مائة مرّة، وتصلي على النبيّ صلّى الله عليه وسلم مائة مرّة، وتهلّل بأن تقول: لا إلاه إلاّ الله ألف مرّة إن أمكن بعد صلاة الصّبح وهو الأولى وإلاّ ففي بقيّة الدورة إلى الفجر، وإن طلع فجر اليوم الثّاني فاقض بعده ولا تتركه اهـ‍. قال: قلت وزاد شيخنا سيدي حسن اليوسي، تلميذ سيدي محمّد بن ناصر الدّرعي، وصاحب حاشية الكبرى (¬790) في الورد المذكور أن تقول: لا إلاه إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير، مائة مرّة قبل التّهليل المطلق، سمعته منه حين التقيت (¬791) به في مصر سنة طلوعه للحجّ سنة إثنتين ومائة وألف، وامتدح سيدي علي بن خليفة المذكور شيخه النّوري بقصيدة بليغة وكذا غيره من / تلاميذه، ومن غرر ما مدح به قصيدة الشّيخ سيدي محمد إبن المؤدّب الشّرفي (¬792) - رحمه الله تعالى - وهي هذه: [الطويل] ألا قل لمن قد ضلّ عن طرق الهدى ... وحاد عن النّهج القويم وحيّدا وأصبح في تيه الجهالة هائما ... يروح ويغدو مثل من راح واغتدى ¬

(¬788) في الأصول: «العشريات»، واسمها النادريات من العشاريات وهي ثلاثة أحاديث خرجها من معجم الطبراني وقعت له عشاريات وهي رسالة في نحو ورقتين أثبتها بتمامها الشيخ أبو سالم العياشي «صاحب الرحلة» آخر ثبته «مسالك الهداية». أنظر الفهارس، طبع بيروت، 2/ 686 - 687. (¬789) نصّ حديث أنس: «طوبى لمن رآني وآمن بي مرّة، وطوبى لمن لم يرني وآمن بي سبع مرّات، أخرجه الإمام أحمد في المسند والبخاري في التّاريخ وابن حبّان في صحيحه والحاكم في المستدرك عن أبي أسامة الباهلي، والإمام أحمد في المسند عن أنس وهو حديث صحيح (أنظر فيض القدير 4/ 279). نصّ الحديث الذي ذكره المؤلف أخرجه عبد بن حميد في مسنده عن أبي سعيد الخذري وابن عساكر في تاريخه عن وائلة بن الأسقع وهو حديث حسن، أنظر فيض القدير 4/ 280. (¬790) أي العقيدة الكبرى للسنوسي فالكبرى صفة حذف موصولها. (¬791) الضّمير يعود إلى الشّيخ علي بن خليفة لا إلى شيخه النّوري. (¬792) أنظر ديوانه تحقيق محمد محفوظ ص: 41 - 42.

إذا شئت أن تقفو إلى الحق (¬793) منهجا ... قويما فلا تصحب سوى العلم مرشدا وشدّ نطاق الحزم وارحل لأهله ... فإنّ لهم سبلا تقيك من الرّدى وممّن له في ذاك حظّ موفّر ... وأضحى سناه في الدّجى متوقّدا إمام فريد عالم متورّع ... زكيّ سريّ طاب فرعا ومحتدا حوى من خلال الخير كلّ فضيلة ... ونال علا من كلّ مجد وسؤددا أبو الحسن النوريّ لا زال قدوة ... وتاجا على هام الزّمان منضّدا إمام لقد أضحت به النّاس تقتدي ... وتقبس من أنواره كلّما بدا فلا زال (¬794) عصر هو فيه إمامه ... ولا زال (¬795) فيه ما يعيش مؤيّدا أضا فاستضاءوا من سنا برق هديه (¬796) ... وكانوا بليل حالك اللّون أسودا (¬797) لقد راض ذا جهل بحسن سياسة (¬798) ... وقاد إلى التّوفيق قلبا تشرّدا وأسدى (¬799) إلينا من مواهب علمه ... أيادي لا تحصى، فأعظم بها يدا وناهيك ما أسداه من نشر (¬800) كتبه ... وأودعه فيها من الرّشد والهدى فكم من علوم قد حوتها وحكمة ... وسرّ بديع فاق درّا وعسجدا جزاه إلاه العرش عنّا بفضله ... جزاء جميلا دائم الذّكر سرمدا وأسكنه في جنّة الخلد مسكنا (¬801) ... وبوّأه منها محلاّ ومقعدا وللشّيخ النّوري كرامات كثيرة، منها ما أخبرني به الشّيخ المسنّ الصّالح الثّقة العمدة ذو الصّدقات والخيرات (¬802) والإحسان لفقراء / المسلمين أبو الفوز سيدي الحاج الأبر سعيد ذويب - أدام الله بقاءه في نعمة وعافية - انه سمع من شيخه الشّيخ أبي عبد الله سيدي الحاج محمّد الغراب أحد تلاميذ الشّيخ حال قراءته عليه مقدّمة القطر (¬803) ¬

(¬793) في ط وب: «للحقّ». (¬794) في الديوان: «فلله عصر». (¬795) في الدّيوان: «وما»، وهذا البيت في الدّيوان بعد البيت الموالي. (¬796) في ب: «سياسة». (¬797) العجز ساقط من ب. (¬798) صدر البيت ساقط من ب. (¬799) في ش: «أسرى». (¬800) في ط: «شرح». (¬801) في الديوان: «منزلا». (¬802) في بقية الأصول: «الخير». (¬803) كتاب لابن هشام في النحو.

أنّه قال له: لمّا عزمت على السّفر إلى الحجّ ودّعت الشّيخ فناولني كتابا وقال: أحمله معك إلى مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلمّا خرجت من عنده نظرت في الكتاب فإذا هو مختوم ولا عنوان عليه، فقلت: لعلّه نسي فعرّفته، فقال: إنّ صاحبه يأتيك طالبه منك، قال: فلمّا وصلنا لمدينة الرّسول صلّى الله عليه وسلم فإذا برجل يسلّم عليّ ويقول: كيف حال الشّيخ علي؟ وسألني عن الشّيخ، فأخبرته بأنّه على أحسن الأحوال، فطلب منّي المكتوب فأعطيته إيّاه، ثمّ سألته: بالله من أين عرفته، أمن الحجّ أو من الجامع الأزهر حين كان يقرأ به؟ فقال: لا والله لا (¬804) كان ذا ولا ذاك، إنما أرواحنا تجتمع. وأخبرني أيضا والشّيخ العدل العابد ملازم الصّوم والذّكر والتّلاوة ودروس (¬805) العلم النّافع الحاج الأبر سيدي الحاج عبد السّلام الغراب أنّهما قالا: لمّا كان الشّيخ النّوري يفتي بتحريم الدّخان مشيا على قول الشّيخ اللقاني (¬806) وغيره بذلك وحكم السّلطان محمّد العثماني - رحمه الله بذلك - وكان جميع أتباعه على رأيه حتى صار عنده كالمتحقّق (¬807) على تحريمه ومنع من إظهار شربه، وكلّ من ظهر عليه وبّخه على فعله وأغلظ عليه، فاتّفق أن قدم السّلطان رمضان باي حاكم تونس في التّاريخ / ونزل بدار القفّال في رأس (¬808) زقاق الذهب (¬809) ممّا يلي سور البلد، وعرضت للشّيخ حاجة فوجّه في قضائها بعض تلاميذه فلمّا وصل الدّار وجد الحاجب واقفا بالباب وهو يشرب الدّخان، فوقف التّلميذ ساكتا، فلمّا فرغ من شرب الدّخان قال التّلميذ: السّلام عليكم الآن، فقال له الحاجب: ما هذا؟ قال: إنّ السّلام لا يجوز عليك إلاّ الآن لتلبّسك أوّلا بالمعصية، فعرّف الحاجب السّلطان بما وقع، فأدخل التّلميذ وقضيت حاجته، وسأله عمّا قاله للحاجب، فعرّفه بذلك وأنّ الدّخان حرام لأنّ الشّيخ متمسّك بتحريمه، فلمّا ¬

(¬804) ساقطة من ب وش. (¬805) في ط وت: «درس». (¬806) هناك إبراهيم بن محمّد اللقاني الفقيه المحدّث (ت. سنة 889/ 1484، وليس له مؤلّفات أنظر شجرة النّور 258) وهناك إبراهيم بن إبراهيم بن حسن اللقاني (ت. سنة 1041/ 1631 - 1632) له مؤلّفات من أشهرها: «جوهرة التّوحيد»، وهي منظومة في العقائد، واللقاني نسبة إلى لقانة من البحيرة بمصر، ولعلّه المقصود لأنّ الدّخان ظهر في القرن العاشر (أنظر الإعلام 1/ 28) ولأنّ معاصره علي الأجهوري (ت.1066/ 1655 - 1656) يقول بحلية شرب الدّخان. (¬807) في بقية الأصول: «المتفق». (¬808) في ط وت: «برأس». (¬809) يعرف اليوم بنهج الشّيخ التّجاني.

دخل القائد عبد اللطيف الغراب سأله عن قول الشّيخ في الدّخان، فقال: هو يقول بالتّحريم، قال: إذهب إليه واطلبه بالنّص، فعرّف القائد الشّيخ بذلك، فقال له: لمّا نحرر أقوال المسألة، فعرّف السّلطان، فقال: أرجع إليه غدا وائتني بالنّصّ وإلاّ عاقبتك، فلمّا رجع إلى الشّيخ وعرّفه بما قاله صفع الباب بعنف وقال: إذهب فما بقيت تراه بعدها (¬810) أبدا (¬811)، فلمّا رجع من الغد إلى السّلطان وجده رحل، فما وصل الجريد إلاّ وقد جاءه خبر مراد إبن أخيه وأنّه خرج من سوسة - كما مرّ - فرجع لتونس على طريق غير صفاقس مسرعا فقتله إبن أخيه، ولم يجتمع به (¬812) القائد بعد. ومع هذا كان (¬813) - رحمه الله تعالى - يفرّ من دعوى (¬814) الولاية ونسبتها له حتى جاءه رجل وقال: يا سيدي أصابتنا شدّة وهول في البحر، فنذرنا الله إن سلّمنا الله (¬815) لنعطينّه كذا من / الدّراهم، فرأيناك معنا في المركب ونجّانا الله تعالى من هول البحر بوجودك وحضورك معنا، فخذ هذه الدّراهم التي جمعناها، فقال: أنا نائم على فراشي وما غبت عن أهلي وإنّما نجّاكم الله ببركة اعتقادكم، إذهب بدراهمكم وتصدّقوا بها على فقراء المسلمين، فإني في غناء عنها. ولمّا قدم إبراهيم الشّريف متوجّها لطرابلس - حسبما مرّ - زار الشّيخ وقال له: لا بدّ أن تدخل هذه الدّور المجاورة في الزّاوية (¬816) لأنّها ضيّقة، فقال له: هذا القدر فيه بركة (¬817)، ولا نخرج النّاس من مساكنهم (¬818). وكان يأكل من كسبه فيتّجر ويشتغل القماش (¬819) ويتمعّش من ذلك طلبا للحلال وتوكّلا على الله في ضمان رزق خلقه، ولا يأخذ عن تعليمه شيئا طلبا لمرضاة ربّه. ¬

(¬810) في ت: «بعد هذا اليوم». (¬811) ساقطة من بقية الأصول. (¬812) في الأصول: «عليه». (¬813) في الأصول: «فكان». (¬814) في ش وب وت: «دعوا». (¬815) ساقطة من ط. (¬816) في ط وب: «لا بد أن ندخل هذه الزاوية في الدار المجاورة». (¬817) في ط: «البركة». (¬818) في ط: «مساكنها». (¬819) يقصد نسج القماش.

ترجمة الشيخ أحمد النوري

وتوفّي - رحمه الله - بمرض الشّق سنة سابع عشرة ومائة وألف (¬820)، وقبره مشهور (¬821) مزار متبرّك به، وأكثر تلاميذه مدفون معه لتوصيته (¬822) بذلك. ترجمة الشّيخ أحمد النّوري: فقام مقامه بالزّاوية ولده أبو العبّاس سيدي أحمد النّوري، فكان - رحمه الله تعالى - قائما بما قام به والده، وكان فائزا من العلوم الدّينية بالقدح المعلّى عربية وفقها وأصولا وحديثا وتفسيرا وقراءة وأدبا. وكان فصيحا، إذا أذّن حرّك القلوب الغافلة لحسن صوته وفصاحته. وقد رحل إلى المغرب، فلقي الرّجال بتونس والجزائر وتلمسان وفاس، وأراد المجاوزة إلى السوس فمنعه بعض الصّالحين، وزار الشّيخ أبا يعزى (¬823)، وممّا اشتهر أن من زار قبره ووضع شيئا على تابوته وطلب شيئا / من الدّنيا والآخرة أعطاه الله ما سأل، (فوضع الشّيخ سيدي أحمد شيئا بقصد العلم فأعطاه الله ما سأل) (¬824). وارتحل إلى المشرق بقصد حجّ بيت الله الحرام، فسافر من صفاقس إلى مكّة المشرفة، ولقي الأشياخ وأخذ عنهم، وصحب من الكتب شيئا كثيرا، فأكمل خزانة أبيه (¬825) وأكثر من كتب (¬826) الأدب لأنّه كان مطمح نظره، وأخذ عنه مشايخ لا يحصون كثرة، فمنهم بصفاقس الشّيخ أبو عبد الله محمّد كمّون، وشيخنا أبو عبد الله محمّد بن علي الفراتي، والشّيخ أبو عبد الله محمّد الخميري، والشّيخ أبو عبد الله محمّد البجّار، والشّيخ أبو عبد الله محمّد خروف في آخرين. ¬

(¬820) 1706 م، وهذا التاريخ منقوش على قبره خلافا لما ذكره السراج وحسن خوجة من أنّه توفّي في سنة 1118 هـ ‍. (¬821) هو على طريق العين يسارا على بعد 500 متر من سور المدينة شمالا. (¬822) يملك متحف صفاقس للتقاليد الشعبيّة نسخة من هذه الوصيّة، وجدت ضمن وثائق آل النوري التي حوّلت إلى هذا المتحف. (¬823) في ب: «أبا يعري»، وفي ط: «أبا يغري». (¬824) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬825) إنتقلت هذه المكتبة من أسرة النوري إلى متحف الفنون والتّقاليد الشّعبية ومنه إلى المكتبة الوطنيّة بتونس. (¬826) يمكن التمييز بين ما اشتراه الأب وابنه أحمد إذ أنّ الشيخ علي يكتب بخطّه في أوّل كتابه إسمه وما اشتمل عليه الكتاب من أجزاء، أمّا إبنه الشّيخ أحمد فلا يكتب شيئا.

ترجمة الشيخ أبي الحسن علي المؤخر

وسافر لتونس فأقام بها مدّة يقرئ بجامع الزّيتونة تفسير الكتاب العزيز فهرعت (¬827) إليه العامة والخاصة، فيجلس القريب ويقف البعيد، قال من شاهد مجلسه: رأيت القائم أكثر من القاعد لأنّه - رحمه الله تعالى - كان متمكّنا من علوم العربية والحديث والسّير والأحكام الشرعيّة والعلوم الأدبية والتاريخ وأيّام النّاس، فبقي كذلك إلى أن أدركته وفاته بتونس سنة نيف وخمسين ومائة وألف (¬828)، فنقل ودفن بجانب والده. ترجمة الشّيخ أبي الحسن علي المؤخّر: ولنرجع إلى بيان حال من أخذ على سيدي علي غير ولده أحمد، فأمّا الشّيخ أبو الحسن علي المؤخّر (¬829) التّميمي (¬830) فتولّى إمامة مقام الشّيخ سيدي أبي الحسن اللخمي فاشتغل فيه بالتّدريس والتّجويد وكان رجلا محقّقا، من أكبر تلاميذ الشّيخ النّوري، وأخذ أيضا عن الشّيخ سيدي عبد العزيز الفراتي، فشرح عقيدة الشّيخ / النوري (¬831) بشرح لطيف مناسب للمبتدئين، وشرح جوهرة التّوحيد (¬832)، وشرح ألفية الجلال السيوطي (¬833) في النّحو. وكان ملازما لمقام الشّيخ اللخمي، قال شيخنا سيدي عبد الله السوسي - رحمه الله تعالى - قدمت من تونس لصفاقس عند توجهي لسيدي إبراهيم الجمّني بجربة فسألت عن الشّيخ النوري للزيارة، فأخبرت بوفاته، فسألت عن أكبر تلاميذه فأرشدت للشّيخ المؤخّر بمقام الإمام اللخمي، فذهبت لزيارته فوجدته بالمسجد وقد فقد إحدى كريمتيه، ¬

(¬827) في الأصول: «فأهرعت». (¬828) سنة 1151/ 1738 م كما في شجرة النّور الزّكيّة ص: 344. (¬829) علي بن محمد بن محمد المقدم الملقّب بالمؤخر التميمي. (¬830) ساقطة من ط. (¬831) هذا الشّرح يسمّى: «مبلغ الطالب إلى معرفة المطالب» ألفه في حياة شيخه وذلك بعد شرح جوهرة التوحيد، إعتمد على الشّرحين السّابقين له وهما شرح أحمد الفيومي الغرقاوي، وشرح علي بن أحمد الحريشي (مصغر) الفاسي، توجد منه نسخة ضمن مجموع بالمكتبة الوطنية بتونس، وأصلها من المكتبة العبدلية كما يوجد بها قطع منه. (¬832) وهذا الشرح يسمّى «تقريب البعيد إلى جوهرة التوحيد»، توجد قطعة منه بخطه في المكتبة الوطنية. (¬833) توجد منه قطعة مسودة بخطه في المكتبة الوطنية، وله مؤلفات أخرى، أنظر تراجم المؤلفين التونسيين، 4/ 417 - 419.

الشيخان: الجمل والحرقاني

فسلّمت، فأحسن الرد، وسألته الفاتحة وصالح الدّعاء فأسعفني بذلك ودخلت (¬834) عليه بنيّة صغيرة قالت: أمي تدعوك، فقال لها: إذهبي وأتي بالفطور، فجاءت بشيء من دشيش الشعير (¬835) مطبوخا فسألني الأكل معه فأكلت، فما وجدت حلاوة طعام مثله، وودعته وسافرت. وتوفّي (رحمه الله) (¬836) ودفن مع الشّيخ النوري مع إخوانه التلاميذ، ولم نقف على تعيين سنة وفاته. الشّيخان: الجمل والحرقاني: وأما الشّيخ الجمل والشّيخ الحرقافي فذهبا إلى تونس ونشرا بها علوم القراءة والتجويد إلاّ أنّ الشّيخ الجمل (¬837) أسرعته منيته. وأما الشيخ الحرقافي (¬838) فطالت مدّته وكثرت تلامذته. ترجمة الشّيخ أبي عبد الله محمّد الغراب: وأما الشّيخ سيدي أبي عبد الله محمّد الغراب فإنه اشتغل أيضا بنشر العلم وصار إماما بمقام الشّيخ اللخمي بعد وفاة الشّيخ المؤخر، وكان أبوه من التّجّار، فجهّز له مالا وافرا لحجّ بيت الله الحرام، وأمره أن يتّجر ببقية (¬839) المال، فلمّا حجّ ونزل / إلى مصر ¬

(¬834) في الأصول: «ودخل». (¬835) ساقطة من ط. ويسمى هذا الطبيخ: «تشيش» عند أهل صفاقس ويحضر عادة بالخضر. (¬836) ساقطة من بقية الأصول. (¬837) إبراهيم بن أحمد وقيل إبن محمد (ت.1107/ 1696) وله مؤلفات. (¬838) أخذ عنه بتونس الشيخ حمودة بن محمد إدريس الحسني، وعنه إنتشر بالعاصمة سند الشيخ علي النوري في القراءات، وكانت وفاة الحرقافي سنة 1154/ 1741. أنظر شجرة النّور 344 وكتبه الحركافي، ومما يجب التّنبيه إليه أن القاف المعقودة والكاف الفارسية والجيم كثيرا ما تتعاقب إذ أن بعض الباحثين لا يعرف هذا فيستنتج استنتاجات خاطئة. (¬839) عن مثل هذه العادات أفادتنا وثائق متحف صفاقس. فالحج فرصة للتجارة، وأهم مراحله التجارة بمصر والرجوع ببضائع منها ومن الحجاز إلى صفاقس، وتطول مدة الحج بجميع مراحله حسب ظروف القائم به أو تقصر، وأقلها سنة.

ترجمة الشيخ أبي عبد الله محمد المكي

إشترى بما معه من الأموال كتبا (فلمّا قدم على والده حسب أنّه قدم ببضائع التجارة الفانية فنزل بخزنة كتب) (¬840) لا غير، فقال: يا بني أين تجارتك؟ قال له: هذه الكتب (هي تجارتي) (¬841)، فغضب عليه وقال: أفقرتني وأتلفت علي أموالي، فاشتكى لشيخه من والده، فاستحضر الوالد وقال: لم غضبت من التّجارة الرّابحة الباقية، طيّب قلبك وابشر بالغنى (842) فإن شراء الكتب يورث الغنى (¬842) فهذه تجارة الآخرة حصلت ويعوّضك الله بتجارة الدنيا، ودعا له ولذريته بالسّتر والبركة فاستجاب الله له، وعوّض الله عليه المال، وبقيت الكتب إلى الآن ينتفع بها الخلق، وستره الله وذرّيته إلى الآن - أدام الله ستره علينا وعليهم وعلى جميع المسلمين -. وكان الشّيخ الغراب - رحمه الله تعالى - عدلا فاضلا محبّبا (¬843) عند جميع النّاس لا يذكره الخلق إلاّ بحسن الثناء، وكانت ولادته سنة أربع وسبعين وألف (¬844)، ووفاته بربيع الآخر سنة خمس وثلاثين ومائة وألف (¬845) وكان ذا عفّة حتّى إنّه لم يشرب من ماء النّاصرية (¬846) ويقول: هو حبس على فقراء المسلمين. ترجمة الشّيخ أبي عبد الله محمّد المكّي: وأمّا الشّيخ أبو عبد الله محمّد المكّي فكان رجلا صالحا كثير الإعتقاد في أهل الخير، خاليا من أدواء (¬847) النّفس، فقيها محدّثا مقرئا، وكان أكثر اشتغاله بعلوم القاراءات وأكثر من انتفع به أهل قابس لكثرة تردّده وإقامته عندهم، ونشأ (¬848) فقيرا يتيما، حدّث عن نفسه قال: كنت أنسخ كلّ ما أقرأ، فحسدني أقراني المياسير وكانوا قادرين على اشتراء الكتب وقالوا لي: / الذي ينسخ يتعسر عليه العلم لاشتغال قلبه ¬

(¬840) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬841) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬842) في الأصول: «الغنا». (¬843) في ت وب: «محبا»، وفي ط: «محبوبا». (¬844) 1663 م. (¬845) 1722 - 1723 م. (¬846) جملة من المواجل خارج سور المدينة كما وقعت الإشارة. (¬847) ج داء، وفي ب: «أدراء»، ومعناها طبقا لتاج العروس 1/ 64 الإعوجاج. (¬848) ساقطة من ط.

ترجمة الشيخ رمضان أبو عصيدة

بالنّسخ، وحملهم على ذلك أن يسبقوني بكتبهم ويعلمون عدم قدرتي على اشتراء الكتب، فلم ألتفت إليهم وسبقتهم بتحصيل ما نحتاجه. وكان رحيم القلب شفوقا على المسلمين، ملازما للشّيخ مدّة حياته، فكثرت كتبه وغلب بذلك أقرانه، ولحظه الشّيخ فحصلت له منه عناية، ولمّا بلغ قال له (¬849) الشّيخ: يا بني زوّجتك إبنتي فلانة، وكان ذلك لا يخطر له ببال لقلّة ذات يده، فأخبر بذلك والدته، فأحالت (¬850) ذلك وقالت: لعلّ أصابك أضغاث أحلام، فأقسم لها بالله ما كان إلاّ يقظة، فقالت: اكتم فإن أراد الله شيئا كان. وكانت له دار مخلّفة عن أبيه منهرشة (¬851)، فأرسل لها الشّيخ من ماله ما تحتاجه من أخشاب وحجر ومدد وأرسل لها الفعلة، فأقامها على أصولها، (وأعطاه ما يحتاجه من آلة الدّار وأثاثها) (¬852) وأعطاه ما يتجهز به للعرس وقال لزوجته: زوّجت فلانة بفلان، فحسبت أن جميع ما قامت به الدّار وأصلح به شأنه من كسبه فرضيت به كفؤا لابنتها فتزوّج بها، واتّسع حاله، وأقبلت عليه الدّنيا وعلى ذرّيته ببركة الشّيخ وخدمة العلم وتقوى الله العظيم. وانتقل إلى رحمة الله تعالى ودفن بتربة شيخه سنة نيف وسبعين ومائة وألف (¬853). ترجمة الشّيخ رمضان أبو عصيدة: وأمّا الشّيخ سيدي رمضان ابو عصيدة فكان فقيها محدّثا مفسّرا أديبا متكلّما واعظا له اعتناء زائد بعلوم القراءات، فكان يقرأ للعشر، وهو أوّل من أخذنا عنه / العقيدة الصغرى للإمام السنوسي فصادفت قلبا خاليا فتمكّنت والحمد لله فوافقت الفطرة الاسلامية. ولقد رأيته بعد وفاته - رحمه الله - فسألته ما فعل الله به فقال لي: يا بني عليك بكلمة التّوحيد والإخلاص فقد امتلأ بها التوراة والإنجيل والقرآن، فعلمت أنّ الله قبله ببركة علوم التّوحيد، وكان في كلامه بشارة بإذن الله تعالى، يطلعني على الأدلّة النّقلية في ¬

(¬849) ساقطة من ط. (¬850) في ط: «أهالت». (¬851) كلمة عامية أي بحالة غير جيدة. (¬852) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬853) بعد 1757 م.

الكتب السّماوية الدّالة على صدق نبيّنا ومولانا محمّد صلّى الله عليه وسلم المقويّة للأدلّة العقلية المصحّح جميعها للإعتقاد المطابق للنّطق بالشهادة عن يقين. وكان لمجلس وعظه رونق زائد تذرف منه عيون الجفاة (¬854)، وكان مقرّه بزاوية الأستاذ الصّفّار، قلّ ما يفارقها (¬855)، يدخلها من (¬856) نصف الليل فيشتغل بما تيسّر من صلاة وتلاوة ونشر علم إلى صلاة الصّبح، فإذا فرغ من صلاة الصّبح شرع في أنواع الذكر إلى الزروق (¬857)، فان حضر من يتعلم علّمه (¬858) وإلاّ ذهب لبيته إلى أذان صلاة الظهر، فيأتي للمسجد الأعظم لتجويد القرآن العظيم إلى الصلاة، فيخرج للزّاوية فيصلّي بها الظهر ويقبل على نشر العلم إلى استيفاء بقيّة الصّلوات لأوقاتها، ويزيد بعد العشاء الأخيرة ما تيسّر من علم وتلاوة، ثمّ يرجع إلى بيته ويكون (¬859) عشاؤه بالزّاوية أو لمّا يرجع لبيته. وكان في أوان (¬860) قراءته على الشّيخ النوري وهو صغير السّنّ يحضر عقيدة الشّيخ، / فقال الشّيخ في بعض الأيام: هذه العقيدة أقعد من صغرى الشّيخ السنوسي (من حيث أنّي (¬861) كلّما ذكرت عقيدة) (¬862) أتبعتها بدليلها، وأمّا الصغرى فإنّ الشّيخ السنوسي ساق عقائدها مجرّدة، وبعد استيفائها أتبعها بالأدلّة على طريق اللّفّ والنشر المرتّب. وكان الشّيخ رمضان مكفوف البصر فقال خفية بصوت خفي ظنّ أن لا أحد يسمعه: أتتشبهين بالحرائر يا لكّاع؟ فسمعها منه الشّيخ فغضب عليه ومنعه من الحضور لدرسه، فاستعفى فلم يعفه، فلمّا أيس سافر إلى تونس فتعلّم منها ما تيسر من علوم المعقول وغيره، ولم يزل يستشفع عند الشّيخ بأخيار النّاس حتّى قبل الشّفاعة فيه فعفا (¬863) ¬

(¬854) في ط: «الجمادات». (¬855) في ش: «يفارقه». (¬856) ساقطة من ط. (¬857) كلمة دارجة معناها طلوع الشمس. (¬858) في ط: «العلم». (¬859) في ط: «وكان». (¬860) في ط: «أول». (¬861) في ت: «التي». (¬862) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬863) في ش: «فعفى».

ترجمة الشيخ أبي إسحاق إبراهيم المزغني

عنه ورجع وقد التزم الأدب، فأقبل الشّيخ عليه بهمّته فنفعه الله به ونفع الخلق. وكانت عليه مهابة وجلالة ووقار. وكان ذا حظ من الشّعر وعلوم الأدب، نظم منفرجة في الإستغاثة، ونظم (¬864) الضادات (¬865) الساقطة، وامتدح سيدي حسين باي - رحمه الله - بقصائد عديدة، وأجازه عليها، وأجرى له مرتّبات لكلّ سنة، وامتحن بتغريب الباشا (¬866) - رحمه الله - له ولاخوانه الفقهاء حتى عفا عنهم، فمنهم (¬867) من قضى نحبه، ومنهم من عاش ورجع لوطنه، فأقام على نشر العلم وبذله لسائله حتّى أدركته وفاته سنة نيف وسبعين ومائة وألف (¬868) ودفن بمقبرة شيخه النّوري - رحمهما الله تعالى آمين -. ترجمة الشّيخ أبي إسحاق إبراهيم المزغنّي: وأمّا / الشّيخ سيدي أبي إسحاق إبراهيم المزغنّي - رحمه الله تعالى - فإنّه بعد أخذه عن الشّيخ النّوري ما أخذه ذهب لتونس وتوغّل فيها في علوم المعقول، وهو أوّل من أكثر الإشتغال بالمنطق في صفاقس ولم يكن للنّاس به قوّة إعتناء ولا يأخذون منه إلاّ ما تقام به التّعاريف والأدلّة كإيسا غوجي والسلّم، وكان إشتغاله بمقام سيدي عبد الرّحمان الطّبّاع إلى أن توفّي ودفن بمقبرة شيخه ولم نقف على سنة وفاته. ترجمة الشّيخ أبي الحسن علي بن خليفة: وأمّا الشّيخ سيدي أبو الحسن علي بن خليفة (¬869) فقد تقدّم ما قال في تعلّمه على الشّيخ، وكان رجلا صالحا تقيّا عفيفا فقيها متكلّما محدّثا مفسّرا واعظا عارفا بعلوم ¬

(¬864) ساقطة من بقية الأصول. (¬865) في ب: «ايضادات»، وفي ت: «ايضافات». (¬866) هو علي باشا الأوّل، وكان يضايق من له صلة بعمّه حسين بن علي باي إمّا بالسجن أو بالقتل، وقلّ من ينجو من بطشه. (¬867) في ط: «فمن من». (¬868) 1757 م، أنظر شجرة النّور الزّكية 346 - 347. (¬869) بصيغة التّصغير.

العربية بأسرها، وبأصول الفقه وفروعه، تفقّه أوّلا بالشّيخ النّوري، ثمّ سافر لمصر ولقي الرّجال (¬870) ورجع لبلده مساكن فأنشأ بها زاوية (¬871)، فكانت بقعة مباركة لم تزل عامرة بطلبة الكتاب والسّنّة وبكلّ خير، وأحفاد الشّيخ قائمون عليها فخرج منها فقهاء وصالحون وأنشأ زيتونا كثيرا أوقفه عليها، قال بعضهم: قصدنا الشّيخ بالزّيارة فقالوا لنا: ذهب إلى الغروس بالمكان الفلاني، فذهبنا لنجتمع به (¬872) وكان ذلك عقب مطر، فوصلنا المكان فوجدنا الشّيخ في مكان جالسا يمنع من خروج الماء من الغروس، فلمناه على ذلك، فقال: حبّب إليّ من دنياكم ثلاث: الغروس، وملازمة الدّروس، ومحبّة الملك القدّوس (¬873). وقال - رحمه الله تعالى -: إنتقلت لبرّ المشرق / على رأس القرن الثّاني عشر، فاجتمعت بمشايخ أكابر أجلّة، وأخذت عنهم جملة من العلوم إجازة وحضورا، منهم سيدي محمّد بن عبد الله بن علي الخريشي البحيري (¬874) تلميذ سيدي علي الأجهوري، ومنهم سيدي إبراهيم الشبرخيتي شارح المختصر والأربعين النووية (¬875)، وألف منظومة في التّوحيد (¬876) شرحها (¬877) شيخنا أبو العباس سيدي أحمد الدمنهوري بمصر. وأخذ عنه - رحمه الله - عدّة أفاضل وجمّ غفير من سائر النّاس. فمن جملة الفضلاء نجله الشّيخ ابو العبّاس سيدي أحمد، وابن عمّه الشّيخ ابو العبّاس سيدي أحمد الصغير، والشّيخ المفتي أبو عبد الله سيدي محمّد الهدّة السّوسي، والشّيخ المفتي بتونس ¬

(¬870) وحجّ. (¬871) وقيل أنشأها والده والصّحيح أنّه الذي أسّسها سنة 1104/ 1692 - 1693 م، كما هو منقوش برخامة في الزاوية. (¬872) في الأصول: «عليه». (¬873) مقتبس من الحديث الشّريف المروي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «حبّب إليّ من دنياكم النّساء والطّيب وجعلت قرة عيني في الصّلاة»، حديث حسن أخرجه الإمام أحمد في الزهد، والنّسائي والحاكم في المستدرك، والبيهقي في السّنن، ومن زاد فيه لفظة ثلاث فقد وهم لأنّ زيادتها مخلّة بالمعنى لأنّ الصّلاة ليست من الدّنيا، ولم تقع هذه الزيادة في شيء من طرق الحديث، وإن جاء كذلك في كتب غير العارفين بالحديث كالغزالي في «الأحياء» (فيض القدير: 1/ 370 - 371). (¬874) في ب: «البحري»، وفي ط: «الجميري». (¬875) المؤلّف ناقل عن فهرسة المترجم المخطوطة. (¬876) تسمّى: «الرياض الخليفية»، توجد منها نسخة في المكتبة الأزهرية ضمن مجموع، وبدار الكتب المصرية. (¬877) يسمّى هذا الشرح: «المنح الوفية على الرياض الخليفية»، توجد منه نسختان بدار الكتب المصرية، ونسخة بالمكتبة الوطنية بتونس، واختصر هذا الشّرح محمد إبن الحاج حسين منصور الورداني بلدا.

ترجمة الشيخ أبي عبد الله محمد كمون

سيدي قاسم المحجوب، والشّيخ المؤقت أبو زيد عبد الرّحمان الغنّوشي السّوسي، وشيخ زاوية أبي إسحاق الجبنياني - رحمه الله - الشّيخ حسين الحلواني، والشّيخ القاضي أحمد بن لطيف، إلى غير ذلك (¬878). ولمّا كان الثاني عشر من ربيع أوّل سنة ثمان ومائتين (¬879) وألف إجتمعت بصفاقس بالشّيخ الحسيب النّسيب الشّريف سيدي عبد الكريم بن أحمد إبن الشّيخ سيدي علي بن خليفة، فوجدته رجلا حسن الصّورة والهيئة والخلق والخلق، آثار الصّلاح عليه لائحة، ليّن الجانب، محبا للعلم وأهله، وله اعتقاد زائد في أهل الخير، وهو ساعة التاريخ شيخ زاوية جدّه، وهي إلى الآن لم تزل عامرة بطلبة الكتاب والسّنّة - جعلها الله آهلة عامرة بأهل الخير والصّلاح، وأعانه / على ما أولاه من نفع العباد، وأجرى الصّالحات على يديه بفضله وكرمه -. ترجمة الشّيخ أبي عبد الله محمّد كمّون: وأما تلاميذ الشّيخ سيدي أحمد النّوري المقدّمي (¬880) الذّكر، فقد نشروا العلم في حياته وبعد وفاته. فأمّا الشّيخ أبو عبد الله محمّد كمّون، فكان عدلا ثقة عمدة، أخذ عن عدة مشايخ من بلده، وكان في ابتداء أمره من صيادي (¬881) السّمك، فمنّ الله عليه بالعلم في كبر سنّه، وليس له رحلة، فنال في بلده أفضل ما ناله غيره في رحلته، نقل عنه أنّه قال: كنت ملازما لمقام الشّيخ السّبتي وتعسّر علي طلب العلم، فقدم علينا رجل مغربي صالح فأسكناه بخلوة الشّيخ السّبتي، فقال يوما: هلى عندكم شيء من قدّيد التّين (¬882)؟ فقلت: نعم، فأتيته منه بما تيسّر، فجعل كلّ يوم يناولني منه ثلاثا، فعل بي ذلك عدّة أيام، ثمّ غاب عنّا فلم يتبيّن (¬883) لنا خبره بعد ذلك، فمن ذلك الوقت ¬

(¬878) لم يذكر المؤلف تاريخ وفاة المترجم وكانت وفاته سنة 1172/ 1758 - 1759 عن سنّ عالية، راجع تراجم المؤلّفين التّونسيين 2/ 223 - 235. (¬879) 1793 - 1794 م. (¬880) في ش وب: «المتقدّمين الذكر»، وفي ت: «المتقدمين»، وفي ط: «المقدموا». (¬881) في ش وب وت: «صيادين». (¬882) هو الشريح عند أهل صفاقس. (¬883) في ش وب وت: «يبين»،

يسّر الله عليّ ما تعسّر. فكان غاية فيما يتعاطاه من العلوم كالعربية، والفقه، والحديث، والفرائض، والحساب. وكان عارفا بالنّوازل (¬884) والأحكام، ماهرا في التّوثيق، ذا نباهة زائدة، وفطنة وقّادة، وهمّة علية لا يعتريه طيش ولا انزعاج. ثمّ (¬885) طلبه أهل بلده بتولّي القضاء بعد ما أيسوا من شيخنا أبي الحسن سيدي علي الأومي - رحمه الله تعالى - فألزموا الشّيخ كمّون وولوه مكرها، فلقيه شيخنا الأومي بعد تولّيه فبارك له (¬886) ودعا له الإعانة والتّسديد، فرد عليه متحسّرا بقوله: / مصائب قوم عند قوم فوائد (¬887)، فكان في أحكامه ذا رزانة وهيبة وشهامة ودهاء، إذا انتصب للقضاء هابه الخصوم، وانقاد النّاس للحقّ بأيسر الأمر. ومن كراهته للقضاء أنّه خرج يوما من مجلس حكمه، فخرج النّاس من أعوان وأصحاب دعاوي حتّى امتلأ الطّريق، فلقيتهم إمرأة فحسبتهم كانوا في جنازة، فقالت لهم: من مات؟ فأجابها الشّيخ القاضي بقوله: مات محمّد كمّون، يعني نفسه (¬888)، فكان فيه إشارة لطيفة لقوله عليه الصّلاة والسّلام: «من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكّين» (¬889)، أو كما قال: غريبة اتفاقية. ثمّ إنّه - رحمه الله - كان واقفا مع الشّرع لا تأخذه في الله لومة لائم، فاتّفق أن تولى حمّودة الغزالي قائدا على البلد، وكان رجلا ظلوما غشوما ذا شدّة وعسف (¬890)، فسعى بالقاضي إلى السّلطان، ولبّس عليه فأشخصه لتونس، وكان الكاتب أبو عبد الله الشّيخ محمّد أبو عتّور إبن خالة الشّيخ كمّون وقرينه من صغره، وتعلّم العلم معه، ونشأ على محبّة أكيدة بينهما، فدافع عنه عند السّلطان، وعرّفه مقامه فعفا (¬891) عنه وعافاه (¬892) من القضاء وولاّه الفتوى، ورجع لبلده وقد أثّر فيه الخوف وأصابه رعب باطني نشأ منه أمراض عسر علاجها، فمات سنة نيف وسبعين ومائة وألف (¬893). ¬

(¬884) النوازل في الإصطلاح التّونسي هي القضايا. (¬885) في بقية الأصول: «فمن ثم». (¬886) في ط: «الله». (¬887) إقتباس من عجز بيت للمتنبّي صدره: «بذا قضت الأيام ما بين أهلها». (¬888) في ش: «يعني عن نفسه». (¬889) رواه داود والترمذي عن أبي هريرة، ورمز لحسنه السيوطي في الجامع الصّغير، قال شارحه: المناوي هو أعلى رتبة من ذلك فقد قال الحافظ العراقي: سنده صحيح. فيض القدير 6/ 238. (¬890) في ط وت: «عبسة». (¬891) في ش وب وت: «فعفى». (¬892) في الأصول: «عفاه». (¬893) بعد قليل من سنة 1757 م.

ترجمة الشيخ أبي عبد الله محمد الفراتي

ترجمة الشّيخ أبي عبد الله محمّد الفراتي: وأمّا شيخنا أبو عبد الله محمّد بن علي الفراتي - رحمه الله تعالى - فكان رجلا صالحا عابدا ملازما لتلاوة الكتاب العزيز، ونشر علوم الشّريعة / ليلا ونهارا، وللغزو في البحر والرّباط. وكان فقيها محدّثا، مقرئا ميقاتيا، واعظا فرضيا، عمدة في التوثيق، له إشتغال زائد بالنحو، وكان من أصدقاء الشّيخ أبي عبد الله محمّد كمّون القاضي، فطلبه أن يكون نائبا عنه في القضاء، فأبى ذلك وأكّد عليه القاضي الطّلب (¬894) فجعل يبكي ويتضرّع وينتخب خوفا من صعوبة المنصب، وما زال يستعفي القاضي من ذلك حتّى عفا (¬895) عنه وعافاه منه. أخذ عن الشّيخ سيدي أحمد النّوري، والشّيخ سيدي محمّد إبن المؤدّب الشّرفي، والشّيخ سيدي أحمد الفراتي، والشّيخ سيدي عبد العزيز أخيه، وغيرهم ممّن أخذ عنهم (¬896) الشّيخ كمّون، فإنّه رفيقه من صغره لكبره. ترجمة الشّيخ أبي عبد الله محمّد البجّار: وأمّا الشّيخ أبو عبد الله محمّد البجّار فكان رجلا صالحا مكفوف البصر، قرأ على سيدي أحمد النّوري، ومن ذكرنا آنفا، وله قوّة زائدة على تعاطي المختصر، فلا تراه إلاّ ملازما لتعليمه ليلا ونهارا. ترجمة الشّيخ محمّد الخميري: وأمّا الشّيخ أبو عبد الله محمّد الخميري فإنّه تفقّه ببلده بسيدي أحمد النّوري، ومن تقدّم من فقهاء بلده، فكان فقيها مقرئا واعظا محدّثا مفسّرا نحويّا، تورّع أوّلا عن تحمّل الشّهادة وتولاّها في آخر عمره، وكان يقرئ بمقام الإمام اللخمي، ويعظ من الجمعة ¬

(¬894) في ط: «المطلب». (¬895) في ش: «عفى». (¬896) في ط: «عنه».

ترجمة الشيخ محمد النوري

لمثلها إلى أن توفّي سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف (¬897)، ودفن مع شيخه النّوري كإخوانه - رحمة الله عليهم وعلى جميع المسلمين -. ترجمة الشّيخ محمّد النّوري: ومن أنجال الشّيخ سيدي أحمد النّوري الشّيخ الصّالح (¬898) ذو الدّين والعفّة والصّيانة / والعقل الرّاجح سيدي أبو عبد الله محمّد النّوري. كان - رحمه الله - عمدة ثقة فقيها محدّثا واعظا عارفا بالعربية والتّوحيد والمنطق، تفقّه بعد أبيه بتونس على شيخنا أبي محمد عبد الله السّوسي، وشيخنا أبي عبد الله محمّد الشّحمي، والشّيخ أبي عبد الله محمّد الغرياني، والشّيخ المفتي سيدي قاسم المحجوب في آخرين من فقهاء تونس، ورجع لصفاقس فعمّر زاوية أبيه وجدّه، وكان رجلا مسلما سلم المسلمون من يده ولسانه (¬899)، ظاهرا وباطنا، ذا عفّة وديانة، وحفظ جانب، وحفظ عهد، لا يعرف التّلبيس والخداع والمراوغة، ظاهره كباطنه، حسن السّيرة والخلق، كان معتزلا عن الخلق إلا بقدر الحاجة إليهم، ولا يعرف للأمراء بابا ولا يوجّه لهم خطابا، تاركا للمناصب على سيرة أبائه، ولا أخذ مرتبا على تعليمه، بل حسبة لوجه الله تعالى، توفّي - رحمه الله تعالى - سنة خمس وتسعين ومائة وألف (¬900). ترجمة الشّيخ محمّد حامد النّوري: ومن أنجاله الشّيخ أبو عبد الله سيدي محمّد حامد، واحد زمانه عقلا وعفّة وفهما وفضلا، تفقّه بصفاقس بتلاميذ أبيه وجدّه كالشّيخ المكّي، والشّيخ أبي عصيدة والشّيخ البجّار، وأخيه الشّيخ سيدي محمّد، والشّيخ أبي العبّاس أحمد لولو وغيرهم، ¬

(¬897) 1779. (¬898) في ط: «العالم». (¬899) إشارة إلى الحديث الشّريف: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، أخرجه الشيخان من حديث إبن عمر، وانفرد مسلم بروايته عن جابر بن عبد الله، قال الحافظ السيوطي: الحديث متواتر، ومن جوامع الكلم: أنظر فيض القدير 6/ 270. (¬900) 1781 ترجم له في شجرة النّور الزّكيّة 349 ترجمة قصيرة.

ترجمة الشيخ عبد العزيز الفراتي

فتمكّن من علوم القراءات والتّجويد، والنّحو والفقه، وغير ذلك. ثمّ انتقل لجربة لطلب (مختصر الشّيخ خليل والفرائض والحساب، فأخذ عن الشيخ) (¬1) أبي إسحاق سيدي إبراهيم ابن الشيخ سيدي عمر (¬2) الجمني، ثمّ توجّه / لتونس فأخذ عن أبي عبد الله شيخنا سيدي محمد الشّحمي وغيره من أشياخ العصر بتونس، فكان فقيها مقرئا فرضيا حيسوبيا منطقيا متكلّما واعظا أصوليا متمكّنا من علوم العربية وفنون البلاغة، حسن الخلق والخلق والسّيرة، ذا عفّة وهمّة عالية، لا يرى إلاّ منبسطا مستبشرا متبسّما، ليس بالفظّ ولا بالغليظ الجافي. وهو القائم بعمارة الزّاوية بعد وفاة أخيه أعانه الله على ما أولاه. وكان معرضا عن الأمراء وأبوابهم وعن المناصب وعلائقها، يأكل من كسبه بالفلاحة فأغناه (¬3) الله بذلك. ترجمة الشّيخ عبد العزيز الفراتي: ومن أجلّ (¬4) أعيان فقهاء صفاقس المتأخّرين الشّيخ أبو فارس سيدي عبد العزيز الفراتي (¬5) - رحمه الله تعالى -. تفقّه في صغره بتونس على فقهاء العصر، ثمّ ارتحل (¬6) إلى مصر فأقام بها خمسة أعوام يطلب العلم، فلقي الرّجال وأخذ عنهم كالشّيخ أبي العبّاس أحمد البشبيشي الشافعي، والشّيخ القاضي عمر فكرون الشّافعي، والشّيخ أبي عبد الله محمد البنوفري، والشيخ أبي البركات سيدي يحيى الشّاوي (¬7)، وذهب معهم إلى القسطنطينية لصدور أمر مطاع من الحضرة العثمانية لفقهاء الأزهر، بإشخاص شيخ فاضل، ولم يعيّن سبب ¬

(¬1) في ط: «لطلب المختصر عن أبي إسحاق». (¬2) في ط: «ابراهيم». (¬3) في ط: «فأعانه». (¬4) ساقطة من ط. (¬5) هو إبن محمد بن محمد بن أحمد كما في الحلل السّندسيّة 3/ 304. (¬6) في ط: «رحل». (¬7) يحيى بن محمّد بن محمّد بن عبد الله بن عيسى النّائلي نسبة إلى قبيلة أولاد نائل بالقطر الجزائري وهي قبيلة عربية موجودة بليبيا أيضا، الملياني الشاوي تسمية لا نسبا. أنظر عنه فهرس الفهارس والأثبات 2/ 1132 - 1134، باعتناء د. إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت.

ذلك، فاجتمع أهل الحلّ والعقد من فقهاء الأزهر من جميع المذاهب وأرادوا تعيين رجل يوجّهونه إلى الحضرة، فكلّما طلبوا واحدا امتنع، وهابوا الأمر إذ لم يعرف / أحد (¬8) على ماذا يقدم، فاتّفق رأيهم على تعيين الشيخ الشّاوي، وقالوا فيما بينهم: إن أجاب السّلطان عمّا سأله فرجل من فقهاء الأزهر، وإن عجر فهو مغربي ولا نقص فينا، فإذا عرفنا السّبب أعددنا له من يمشي على بصيرة. وكان الشّيخ الشّاوي - رحمه الله - رجلا بارعا في الأصول والفروع وآداب البحث والصّناعات الخمس، من علم النّظر وعلوم العربية والحديث والتّفسير وغير ذلك ممّا يحتاج إليه النظّار. وكان سريع الجواب، حاد الذّهن والفطنة، يسلك من كلّ باب أراده، فانعقد عليه إجماعهم، فقبل وامتثل، فسار بتلاميذه ولم يفارق دروسه إلى أن بلغ الحضرة الخاقانية، فتلقّاه أهلها بالإجلال والإكرام، وتقدّم للسّلطان - رحمه الله تعالى - وصافحه على مقتضى السّنّة، وكانت العادة تقبيل اليد من السّلطان، فتكلّم بعض من حضر في ذلك وقال: هذا سوء أدب مع السّلطان، ففهم مرادهم وقال: يا سيدي السّلطان عاملتك بآداب الشّريعة المطهّرة، سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم والأدب مع السّلاطين هو المحافظة على السّنّة إذ هذا المقام هو الأحقّ بإظهار السّنّة وشعائر الإسلام، ولمّا حصلت السّنّة فشرّفني بمناولة يدك السّعيدة أقبّلها فإني لا أستنكف عن تعظيم من أقامه الله تعالى لحفظ ملّة الإسلام وإذلال أهل الكفر والطّغيان، فعلم السّلطان صدق قوله فعافاه / من تقبيل اليد، وأمره بالوقوف على (ما رسم الشّرع (¬9)، وقال: إنّي أحقّ منك بإعزاز هذا الدّين والمحافظة على) (¬10) رسوم الشّريعة (¬11) فلا تزيدك المحافظة على السّنّة إلاّ محبّة منّي إليك، ورغبة في لقائك، فأظهر الشّيخ يحيى الفرح والسّرور بمحبّة السّلطان لحماية الدّين وإظهار شعائره وأكثر من دعاء الخير للسّلطان وعساكر الإسلام، فحصل له في ذلك المقام رفعة مقامه، وظهرت (¬12) نباهة شأنه. ثمّ إنّه حصلت له مناظرة مع بعض فقهاء الحنفيّة في عدّة مسائل، ومن جملتها طهارة الكلب التي يقول بها إمامنا مالك - رحمه الله ورضي عنه - فقال: كيف تقولون ¬

(¬8) ساقطة من ط. (¬9) في ط وت: «رسوم الشريعة». (¬10) ما بين القوسين ساقط من ت وب وط. (¬11) بعدها في ط: «وقال له». (¬12) في الأصول: «وظهر».

بطهارته مع أنّه صلّى الله عليه وسلم أمر بغسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب فيه (¬13) وما ذلك إلاّ لنجاسته، فأجاب الشّيخ يحيى على مقتضى أصول المذهب من أنّ علّة الطّهارة الحياة وهي حاصلة، والغسل سبعا إنّما هو تعبّد (¬14) إذ ريقه لا يكون أقذر وأنجس من البول والغائط مع أنّه يكفي في طهارة مصابهما زوال اللّون والطّعم والرّيح (غير ما تعسّر من اللون والرّيح) (¬15) ولو زال ما يطلب زواله بغسلة (¬16) واحدة، وطال الكلام في ذلك على (¬17) قواعد الجدل فقطعهم بالحجّة، ووقف (¬18) كلّ مع (¬19) مقتضى قواعد مذهبه. ثمّ إنّ السّلطان - رحمه الله - عرّفه أن السّبب الذي أشخصه له هو أنّ والدته أخرجت صدقة من مالها على فقهاء الجامع الأزهر، [فقال له] فخذها / واصحبها معك للفقهاء ليفرّقوها بينهم، فقال: السّمع والطّاعة، ثمّ قال للشّيخ يحيى: تمنّ (¬20) ما شئت من الدّنيا لتستعن به على طلب العلم، فقال: لا حاجة لي بشيء إذ يكفيني ما أنا عليه، وكان رجلا زاهدا متقلّلا من الدّنيا غاية، وكانت عليه أثواب المغاربة، وقال: لا أقدر على تغيير ما أنا عليه من أثواب وقوت، وقد ترى في أثوابي بقية فلا أدري أبليها أم أموت قبل ذلك، وعندي (¬21) من القوت ما يسدّ رمقي وما زاد على ذلك فهو فضول يقطعني عن العلم بالله تعالى، فألزم بطلب شيء ولو قلّ إذ في عدم الطّلب من السّلطان مع (إنعامه بالإقبال) (¬22) الأمر بالتّمنّي إظهار تعاظم وسوء أدب معه بحسب جاري العادة، فقال: إن كان ولا بدّ فاجعلني شيخ (¬23) الجامع الأزهر، فكتب له بذلك ظهيرا، ورجع لمصر ¬

(¬13) إشارة لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرفه ثمّ ليغسله سبع مرات»: أخرجه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ والترمذي وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - وله روايات أخرى فيها تغيير بعض الألفاظ مع اتحاد المعنى، والرواية التي فيها زيادة هي: «طهور اناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب». (¬14) في ت: «تعبر». (¬15) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬16) في ت: «يغسله». (¬17) في ط: «مع». (¬18) ساقطة من ب. (¬19) في بقية الأصول: «على». (¬20) في بقية الأصول: «تمنى». (¬21) في بقية الأصول: «وكان عندي». (¬22) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬23) هذا ممّا انفرد به المؤلف ولا يعرف أنّه تولى مشيخة الأزهر، قال الشّيخ عبد الحي الكتاني، وللمترجم ترجمة نفيسة في «نزهة الأنظار في عجايب التواريخ والأخبار» للشيخ محمود بن سعيد مقديش الصفاقسي، أغرب ما فيها أنه تولى مشيخة الأزهر، فهرس الفهارس والأثبات 2/ 1134.

بما معه، فأوصله للفقهاء ورضوا بما والاه (¬24) السلطان عليه من مشيخة الجامع الأزهر، فكان كذلك إلى وفاته - رحمه الله تعالى -. ثمّ إنّ الشّيخ الفراتي بعد انقضاء خمس سنين أخذ الإجازات من مشايخه وحجّ حجّة الفريضة وجاور بالحرم الشّريف يقرأ الحديث بالمسجد النّبوي مدّة، ثمّ رجع إلى صفاقس فوجد الشّيخ النّوري سبقه فيها بأربعة عشر عاما، فوجده مجتهدا في طلب العلم، فأعانه على ذلك، وكثرت دروسه حتّى بلغت ثمانية عشر دولة، واشتغل بالعلم في ابن صيّود المقام المشهور. / ولمّا قدم إبراهيم الشّريف لصفاقس عند توجّهه (¬25) لقتال طرابلس - حسبما مرّ - قصد إلى زيارة (¬26) الشّيخ النّوري بزاويته، فزار الشّيخ والتمس صالح دعائه فدعا له بالتّوفيق والهداية، ولمّا سمع الشّيخ الفراتي جاء إلى زاوية الشّيخ النّوري، فقام له الشّيخ (¬27) إجلالا وقام السّلطان لقيامه وسلّم عليه، فقال الشّيخ النّوري للسّلطان: هذا رجل صالح من طلبة العلم، إغتنم بركة دعائه فدعا له الشّيخ الفراتي، ثمّ قال إبراهيم الشّريف للشّيخ النوري: تمنّ ما شئت، فامتنع، فألحّ عليه، فقال: إن كان ولا بدّ فتولية (¬28) هذا الشّيخ إمامة المسجد الأعظم لأنّ إمامه عجز لكبر سنّه، وكان أئمته قبل ذلك المشايخ الشّرفيين، فقال له السّلطان: إن كان ولا بدّ فلتكن (¬29) أنت إماما، فاعتذر بعدم القدرة على ذلك، فكتب للشّيخ الفراتي ظهيرا بذلك مشتملا على القيام بمصالح المسجد وولاّه الفتوى، فصار خطيبا إماما مدرّسا بالمسجد الأعظم مفتيا. وتفقّه عليه جماعة فأخذوا عنه كما أخذوا عن الشّيخ النّوري، فمن أعظمهم الشّيخ سيدي محمد إبن المؤدّب [الشرفي] وكان محبّا له غاية فجعله خليفة عنه في الإمامة والخطبة وامتدحه بقصيدة وهي هذه: ¬

(¬24) في ط: «أولاه». (¬25) في بقية الأصول: «لتوجهه». (¬26) في بقية الأصول: «قصد زيارة». (¬27) في بقية الأصول: «الشيخ النوري». (¬28) في ط: «فتولى»، وفي ب: «فولى». (¬29) في بقية الأصول: «فكن».

[الطويل] أيا لائمي فيم (¬30) الملامة والعذل ... وقلبي (¬31) من لوع الصّبابة لا يخل‍ [و] دع اللوم واذكر لي حديث (¬32) أحبتي ... فذكرهم عندي - وحق الهوى يحل‍ [و]- إذا ذكروا يوما طربت لذكرهم ... واهتزّ مثل الغصن يعتاده (¬33) ميل / أهيم بهم شوقا إذا الصّبح قد بدا ... ويزداد بي شوق إذا جنّني الليل سقوني حميّا حبهم غير مرّة ... ثملت بها سكرا، وما عاد لي عقل حرام على قلبي السّلوّ وإن أبى ... عذول يرى أن السلوّ له حلّ لئن كان يسلو الحبّ من يدّعي الهوى ... فعن حبّ من أهوى - وحقك لا أسل‍ [و] (¬34) - فلي فيك - يا عين عين الزّمان - محبة ... لها في فمي فرع، وفي مهجتي أصل سميري سامرني (¬35)، وكرّر حديث من ... بذكرهم يحيا (¬36) الفؤاد ويبتل أبي فارس عبد العزيز الذي غدا (¬37) ... له بالفراتي نسبة ذكرها يحل‍ [و] إمام له بين الأئمة منصب وقدر رفيع ... فوق نسر السما يعل‍ [و] (¬38) حليم، سليم الصدر، لا يستفزه ... سفيه، ولا يغريه من جاهل جهل علا قدره، والعلم يرفع أهله ... ولم لا، وذا يقضي به العقل والنقل (¬39) فلو أن أهل المجد (¬40) كانوا فريضة ... لكان لها من أجل عليائه عول ¬

(¬30) في ط: «كف». أنظر ديوان الشرفي ص: 62. (¬31) في بقية الأصول: «فقلبي». (¬32) في ت: «من حديث». (¬33) في ب وط: «يقتاده»، وفي ت: «بقتادة». (¬34) بعد هذا بيت في الديوان أسقطه المؤلف وهو: أو إن كان قوم بالأماكن قد سلوا وكان لهم في ذاك عن حبهم شغل (¬35) في ديوان الشرفي: «يسامرني». (¬36) في الأصول: «يحيى». (¬37) في الديوان: «ومن غدا». (¬38) بعد هذا بيت في الديوان أسقطه المؤلف وهو: أمين، كريم، منصف، ذو أناءة له بين أرباب العلا بالعلا كفل (¬39) بعد هذا بيت في الديوان أسقطه المؤلف وهو: له بين أرباب النهى المجد والعلا وبين ذوي الآراء له الرأي والعقل (¬40) في الديوان: «العلم».

ترجمة الشيخ الولي عبد الله الجموسي

ولو حارت الأفكار في حلّ مشكل ... لكان عليه العقد في ذاك والحلّ هو البحر، بل لا، إنما البحر ماؤه ... أجاج، وذاك السائغ المشرب السّهل إذا ما اشتكت أرض القلوب جهالة (¬41) ... ترى سحبه بالعلم تهمي وتنهلّ خبير بتقرير المسائل عالم ... فصيح له في نطقه المنطق الفصل (¬42) ولولا إمام النحو نوّه باسمه ... لقال له: أهلا، وأنت لذا أهل أبا فارس من ذا يجاريك في النّهى (¬43) ... ولو كان في الدنيا له الجاه والطّول بقيت على الأيّام كنزا لأهلها ... وساعدك التّوفيق والعزّ والفضل فدونكها (¬44) بكرا يشير بنانها ... وترنو (¬45) إلى علياك أعينها النّجل فلا زلت ينبوع الفضائل كلّما ... تقادم فضل منك يخلفه فضل (¬46) وله تآليف منها عقيدة على مذهب أهل السّنّة، ومقدّمة في الفقه، وشرح مقدمة (¬47) السيوطي (¬48) في النّحو، واختصر سيرة الحلبي، وله ديوان خطب، وتوفّي - رحمه الله - سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف (¬49). ترجمة الشّيخ الولي عبد الله الجمّوسي: ومن أجلّ من أخذ عن الشّيخ الفراتي الولي الصّالح سيدي عبد الله الجمّوسي. كان أوّلا من عامة النّاس يبيع الفحم، فحصل له جذب إلاهي فتعلّم القرآن في ¬

(¬41) في ط: «جماله». (¬42) في الديوان: «الجزل»، وبعد هذا بيت في الديوان أسقطه المؤلف وهو: فقيد لدى التدريس - لو كنت قائلا - لقلت: لباب الشهد يقذفه النحل. (¬43) في ش: «النها». (¬44) في الدّيوان: «ودونكها». (¬45) في ت: «ويدنو». (¬46) القصيدة في ديوان محمد الشّرفي (م. سبق ذكره) ص: 62 - 63، وأسقط المؤلف ثلاثة أبيات من آخر القصيدة. (¬47) في ط: «ألفية». (¬48) في الحلل السّندسيّة 3/ 305 وشرح الشّمعة المضيئة في النّحو، وهي نفسها التي عبّر عنها المؤلف بمقدمة السيوطي في النحو، وفي كشف الظنون 4/ 1065 الشمعة المضيئة في علم العربية لجلال الدين عبد الرحمان السيوطي، ألفها في ابتداء حاله مختصر ورقتان. (¬49) 1718 - 1719 م، وفي الحلل السّندسيّة 3/ 333 توفي صبيحة يوم الخميس الواحد والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين ومائة وألف / 2 أكتوبر 1722.

كبر سنّه، وتفقّه على الشّيخ الفراتي وأضرابه من فقهاء بلده، فلازم على الشّيخ الفراتي قراءة مختصر الشّيخ خليل سبع عشرة ختمة فتمكّن من الفقه، وغلب عليه الجذب، فأقبل على تعليم القرآن العظيم، وسنّة النبيء الكريم، وكانت تأتيه البوادي، يتعلّمون منه ويتوبون على يديه. ونظم المختصر وألفية في النّحو قال فيها: فائقة ألفية السيوطي لكونها وافرة الشروط، إلاّ أنّ وزن نظمها غير محرّر، فلذا تركت تأليفه. وكان يفرّ من تولية المناصب والأحكام جهده، فأنزل فيه أهل البلد أمرا من السّلطنة على أن يحضر مع الفقهاء مجلس يوم الخميس لفصل ما يصعب من نوادر الوقائع على عادة فقهاء البلد، فكان يحضر ويشدّد في الأحكام ويعارض القضاة والفقهاء بحسب إجتهاده نصرة للحقّ، فتأذّوا منه فأتوا بأمر من الحضرة بتونس على منعه من الحضور، فكان بعدها يقول: نعم البلد، ونعم السّور، ونعم النّاس لولا ما فيها من المداهنة، ويقول لشيخه الفراتي: يا سيدي كنت مجاب الدعوة ونستقي بك الغمام، فمنذ تولّيت الأحكام (¬50) / زال ذلك السّرّ منك. وترك الجمعة فترك الفقهاء وما هم فيه، وأقبل على التّعليم رافضا للدّنيا (¬51) وأبنائها وأمرائها. وكان صلبا في الدّين لا تأخذه في الله لومة لائم، وكانت يده مباركة في شفاء المرضى كتابة ورقيا، مستجاب الدّعوة حتّى نزول المطر وقت القحط والشدّة، جاءه بعض البوادي بثلاثة أحمال زكاة حبوبه (¬52)، فردّه وقال: لا آكل أوساخ الخلق هو يرزقني من حيث لا أحتسب، فمن ثمّ تقلّل من الدّنيا واقتصر على أدنى القوت. وخرج ذات يوم لخدمة جنانه الذي يقتات منه فلقيه بعض تلاميذه من الأعراب وهو يبيع جلبا من الغنم فقال: إلى أين يا سيدي؟ قال: إلى الجنان، فقال: أتعبت (¬53) نفسك في شيء قليل الجدوى، فقال الشّيخ: وأنت ما تصنع هنا؟ قال: أبيع جلبا أنتفع بمكسبه، قال له: تخسر فيه مائة ريال من رأس مالك، فكان كذلك. قيل كان يقري الأنس والجن، توفي - رحمه الله - سنة نيف وأربعين ومائة ¬

(¬50) الشّيخ عبد العزيز الفراتي تولّى الفتوى ولم يتولّ القضاء كما مرّ قريبا. (¬51) في ط: «رافض الدنيا». (¬52) في ط: «حبوب». (¬53) في ط: «الفت».

ترجمة الشيخ أحمد الفراتي

وألف (¬54) بعد ما تفقّه به خلق كثير، وقبره مزار متبرّك به - رحمه الله تعالى -. ومن جملة من أخذ عن الشّيخ الفراتي ثلاثة من أولاده: أبو العبّاس أحمد، وأبو فارس عبد العزيز، وأبو زيد عبد الرّحمان، فأخذوا عنه في حياته، وقام مقامه في الخطبة والإمامة والتّدريس الأوّلان شركة بينهما. ترجمة الشّيخ أحمد الفراتي: فأمّا الشّيخ أبو العبّاس سيدي أحمد الفراتي كان رجلا صالحا تقيّا عفيفا فقيها محدّثا خطيبا واعظا مفتيا، / وكان حسن الخطبة والوعظ. قال الشّيخ أبو عبد الله سيدي محمد السعداوي - وكان من الصّالحين المتصوّفين -: والله ما أحبّ الإقامة بصفاقس إلاّ لخطبة سيدي أحمد الفراتي، ووعظ أبي عبد الله محمّد المراكشي. توفي - رحمه الله تعالى - سنة سبع وأربعين ومائة وألف (¬55). ترجمة الشّيخ عبد العزيز الفراتي: فاستقلّ أخوه الشّيخ أبو فارس عبد العزيز الفراتي بالإمامة والخطبة والتّدريس وتولّى الفتوى، وكان محدّثا مقرئا مؤقّتا ذا حظّ من علوم الدّين فصيحا في خطبته، ذا قدرة على إنشاء الخطب، متقلّلا من الدّنيا لا يأخذ شيئا على فتواه، ليّن الجانب محبّبا معظّما عند النّاس، وكان ملازما لمقصورة المسجد الأعظم، فدخل عليه يوما الشّيخ سيدي إبراهيم ابن حمامة القروي، وكان جزّارا له مكاشفات وإشارات فقال له: السّلام عليك يا منديل، فتغيّر الشّيخ من ذلك وانقبض، فقال له: يمسح الناس فيك أوساخهم وينسبون إليك أشياء كثيرة يوسّخونك بها. فلمّا كانت سنة خمس وستين ومائة وألف (¬56) قدم الحاج محمّد السيالة (57) من طرابلس، وكان القائد بصفاقس إبن أخيه محمد السيالة (¬57)، فلم يقم بحقّ عمّه، ¬

(¬54) بعد قليل من سنة 1728 م. (¬55) 1734 - 1735 م. (¬56) 1752 م. (¬57) في ش: «السيالا».

فاغتاظ عليه، فلمّا وصل لتونس دخل على الباشا (¬58) - رحمه الله - فذكر له أشياء من قبائح إبن أخيه إخترقها خارجة عن مجاري السّنّة والسّياسة، وأنّ النّاس منه في مقاساة (¬59) شدائد (¬60) ولا يقدرون على رفع الشكوى فاستشاط غضبا، فكتب لقاضي / البلد أبي العبّاس الشيخ أحمد لولو - رحمه الله - وللشّيخ الخطيب، وأمرهم بإحضار الخاص والعام وسؤالهم عن محمّد السيالة وإرسال ما انفصل عنه أمر النّاس، فاجتمع النّاس، فأمّا أصحاب النّعمة فسكتوا وخافوا من العواقب، وأمّا الفقراء فأظهروا الشّكوى بالقائد وعدم لياقته وطلبوا عزله، وأمّا جماعة القائد ومن ينتمي إليه فقالوا: لا بأس به وإنّه مصلح، وانفصل المجلس على اختلاف الكلمة وعدم اتّفاق، فتحيّر الخطيب والقاضي وعلموا أن الحقّ مع الفقراء وعامّة النّاس، فطلب القائد منهما جوابا على مقتضى ما قاله جماعته من حسن سيرته، فازداد الشيخان تحيّرا وقالا له: نذهب بأنفسنا ونعرّف الباشا مشافهة بما وقع ونظره أوسع، فأيس منهما، وكتب وسيّر بريدا للكاتب أبي زيد الشّيخ عبد الرّحمان البقلوطي، وكان نافذ القول عند الباشا، فوقف على الكتاب وعلم ما فيه، وعيّن رجلا من رجاله يقف بباب تونس ليأتيه بالشّيخين إذا قدما قبل وصولهما للباشا، ففعل، فلمّا اجتمعا بالكاتب أمرهما الكاتب بالرّجوع لبلدهما، فاعتذرا إليه بالخوف من الباشا، فقال: أنا أكفيكما، فرجعا فنهض من له عداوة عليهما وقال: قد أصبت مقتلهما، فتجهّز لتونس وعرّف الباشا ولم يذكر الكاتب خوفا منه، فطار الباشا غضبا وذكر أمورا لا ينبغي نسبة مثلها (لأقلّ حال منهما فضلا عن مثلهما) (¬61) ولكن جفّ القلم ومضى الحكم / لأمور قدرها (¬62) بديع السّماوات والأرض، فأحضر الشّيخان وعنّفهما فلم يقدرا على ردّ الجواب خوفا من ضرب الرقاب فلمّا سكن بعض غضبه أمر بهما لبيت الحانية سجن خفيف رفعا لمقامهما عن مقام غيرهما لنسبتهما للعلم الشريف، ولقد ذهبت إليهما أسلّيهما فرأيت الشيخ الخطيب صابرا معتمدا على الله، ورأيت على الشيخ القاضي آثار الخوف فصبّرتهما، ودعوت لهما بحسن العاقبة والصّبر الجميل والإستغاثة بالله، ثمّ عزل الشيخ (¬63) القاضي من جميع مرتّباته ومن العدالة حتى من مرتّب التّجويد بالمدرسة، كما عزل الخطيب (¬64) عن الجامع وجميع وظائفه، فبقيا بتونس معزولين، فلم تمض أشهر ¬

(¬58) علي باشا الأول. (¬59) في الأصول: «مقاسات». (¬60) في ط: «الشدائد». (¬61) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬62) في ط: «قدرها الله». (¬63) ساقطة من بقية الأصول. (¬64) في ط: «الشيخ الخطيب».

ترجمة الشيخ عبد الرحمان الفراتي

قلائل إلاّ (وقد ثارت فتنة يونس مع أخيه والباشا أبيه) (¬65) فأمر الباشا (¬66) بإطلاقهما فنزلا على القائد أبي عبيد، فأكرم نزلهما وأحسن مثواهما لما يعرف من فضلهما حين كان قائدا قبل محمّد السّيالة بصفاقس، فكان بعض النّاس (¬67) يرى أنّ محنة الباشا جرت عليه من إمتحانهما {كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً} (¬68). ثمّ لم تنفصل الفتنة إلاّ وقد حضرت منيّة الشّيخ الخطيب - رحمه الله - فنقل لبلده سنة نيف وستين (¬69). وأطلق سراح القاضي ورجع إلى بلده. وألّف الشّيخ الخطيب عدّة تآليف لم تشتهر، وأخذ عنه عدّة تلاميذ ممّن تقدّم نسبتهم لسيدي أحمد النّوري وغيرهم كأولاده الثلاثة: الشّيخ أبي عبد الله محمّد / وتولّى القضاء ثمّ الفتوى وتوفّي على ذلك، والشّيخ أبي زيد عبد الرّحمان وتولّى الخطابة والقضاء ثمّ الفتوى، وتوفّي على ذلك، والشّيخ أبي محمد سيدي عبد السّلام. ترجمة الشّيخ عبد الرّحمان الفراتي: ولمّا كانت سنة تسع وستين ومائة وألف (¬70)، ولّى الباشا - رحمه الله تعالى - الخطبة الشّيخ أبا زيد سيدي عبد الرّحمان أخا الشّيخ الخطيب الذي عزله الباشا وردّ عليه جميع مرتبات أخيه، وكان رجلا غلب (¬71) عليه الإعراض عمّا فيه النّاس، فينسج القماش بيده فيقتات من كدّ يمينه، وكان فقيها واعظا محدّثا خطيبا مفتيا رقيق القلب، قلّما (¬72) خطب إلاّ وبكى (¬73). له معرفة بالسّير والأخبار وأحوال النّاس، وأكثر انكبابه (¬74) على علوم الحديث، فشرح مسلم بشرح مات وهو في مسودّته، وبيض منه نسخة لسيدي علي باي إبن سيدي حسين - رحمه الله - وشرح عقيدة والده، وجعل حاشية على موطّا إمامنا مالك - رحمه الله - (¬75). وتوفّي أواخر شعبان سنة إحدى وثمانين ومائة وألف (¬76). ¬

(¬65) في ط: «وقد ثارت فتنة بتونس مع الباشا وابن أخيه». (¬66) ساقطة من بقية الأصول. (¬67) ساقطة من بقية الأصول. (¬68) مستوحاة من سورة الإسراء: 58. (¬69) بعد قليل من سنة 1747 م. (¬70) 1755 - 1756 م. (¬71) ساقطة من بقية الأصول. (¬72) في بقية الأصول: «كلما». (¬73) في ش: «بكا». (¬74) في ش وب: «اكبابه». (¬75) ساقطة من ش. (¬76) جانفي 1768 م.

ترجمة الشيخ عبد السلام الفراتي

ترجمة الشّيخ عبد السّلام الفراتي: فتولّى بعده ولده الشّيخ الحاج حمّودة، فقام مقام والده في جميع مرتّباته شركة أبناء عمّه إلى أن انتقل بالطّاعون إلى رحمة الله تعالى سنة تسع وتسعين ومائة وألف (¬77)، فاستقلّ بالخطبة والإمامة والتّدريس الشيخ سيدي عبد السّلام إبن الشّيخ الخطيب عبد العزيز وولي القضاء من قبل ذلك، فكان إماما خطيبا مدرّسا قاضيا، وله رياضة ولين جانب وسياسة وتحمّل لجفاء الجفاة، وإعراض عن اللغو وسقط (¬78) / الخصوم، فلذا طالت مدّته في القضاء، - وفّقنا الله وإياه (¬79) لما يحبّه ويرضاه، وأجرى الصّالحات على يديه -. وممّا جرى من الصّالحات على يديه مصلّى (80) الرّبط فإنه (80) مضى عليه (¬80) سنون متطاولة معطّل عن إقامة الصّلاة بها إلى سنة سبع ومائتين وألف (¬81) وكان أوقف عليه المعلّم علي عباس صاحب إنشاء السّفن بعض رباع، وجعل النّظر في ذلك لأعقابه (¬82)، فاجتمع من غلال الوقف مال تخاصموا عليه وعطّلوا الصلاة بالمصلّى، فانتبه له الشّيخ القاضي فرتّب له من يصلّي به وأحياه بعد دثوره أثابه الله على ذلك. ترجمة الشّيخ محمّد بن المؤدّب الشّرفي: ومن أجلّ أعيان فضلاء صفاقس وفقهائها الشّيخ الفاضل والهمام الكامل معدن العلوم وإكسيرها وكاشف أسرار الحقائق وتحريرها شيخ الطّريقة والحقيقة سيدي محمّد الشّرفي إبن المؤدّب - رحمه الله تعالى - وأعاد عليّ وعلى المسلمين من بركاته وصالح دعواته. كان - رحمه الله تعالى - رئيسا في علوم الدّين من فقه، وحديث، وتفسير، وقراءة، وتوحيد، وعربية بأنواعها، وأصول فقه، وسير ومغاز، وغير ذلك. تفقّه بصفاقس على الشّيخ النّوري والشّيخ الفراتي (¬83)، ثمّ انتقل لبرّ المشرق فأخذ ¬

(¬77) 1785 م. (¬78) في ط: «شقص». (¬79) ساقطة من ط. (¬80) أنّث المؤلف الضّمائر العائدة عليه فصوّبناها. (¬81) 1792 - 1793 م. (¬82) في ط: «لبعض أعقابه». (¬83) هو عبد العزيز.

عمّن لقي من مشايخ الجامع الأزهر كالشّيخ العمدة الثقة المتقن المتفنّن الفهّامة الحيسوبي الفلكي صاحب الزيج المعروف، نادرة وقته أبي العبّاس سيدي أحمد الشّرفي (¬84) الصّفاقسي نزيل مصر / فأخذ عنه ما معه من علوم الرياضي، وأتقن معرفة أعمال الأرباع الجيبية والمقنطرة، وانفرد في صفاقس بتلك الصناعة، فأخذها عنه (¬85) كثير من النّاس. ولمّا ظهر فضله وصلاحه إبتنى له السّلطان المرحوم برحمة الحيّ القيّوم سيدي حسين باي مدرسة بصفاقس قرب المسجد (¬86) الأعظم فكانت على قلبه - رحمه الله - ظاهرة النور، يجد داخلها سرورا وبهجة، فرتّبه (¬87) بها وعمرت بطلبة العلم من أهل الوطن (¬88) وغيرهم ولمّا كما بناؤها أنشأ أبياتا تشتمل على تاريخ بنائها فقال: [الكامل] سعد الزّمان وأشرقت أنواره ... وبدا (¬89) السّرور وهذه آثاره بحسين بن عليّ الباي (¬90) الّذي ... طابت بطيب فعاله أخباره يا حبّذا للعلم مدرسة بنى ... بصفاقس فعلا (¬91) بذاك مناره فاقت (¬92) برونقها البديع وحسنها ... روضا تضوع نوره وبهاره في عام شوقك للبنا تاريخها (¬93) ... يا من سما بين الملوك فخاره لا زلت أهلا للفضائل والعلا ... ما دام دهر ليله ونهاره ¬

(¬84) أحمد بن محمد بن عبد السلام الشرفي الصفاقسي الأصل، المصري المولد والقرار، كان والده شيخا على رواق المغاربة بالأزهر، (ت. في 17 ربيع الأول سنة 1188/ 1774) أنظر شجرة النور 341، تاريخ الجبرتي: عجائب الآثار 1/ 470، دار الجيل، بيروت 1978، ط.2، معجم المؤلفين 2/ 119. (¬85) ساقطة من ط. (¬86) ما زالت قائمة وتحولت إلى مدرسة ابتدائية في السنوات الأولى من الاستعمار الفرنسي حوالي 1303/ 1886، وهي تمتد من وسط نهج العدول قرب رحبة الرماد إلى طرف نهج العدول قرب البطحاء القريبة من الجامع الكبير، وبابها في هذه الجهة مزين بالمسامير الغليظة حسب تقاليد العصر التركي. (¬87) في ط: «فرتب». (¬88) يقصد صفاقس وعملها. (¬89) في ش وب: «وبدى». (¬90) في ط: «باي». (¬91) في ش وب وت: «فعلى». (¬92) في ط: «فافتر». (¬93) في عام شوقك للبنا تاريخا 1000 - 6 - 100 - 20 - 1126. والراجح أن هذا تاريخ الفراغ من بنائها والمستفاد من كلام الوزير السراج أن ابتداء تأسيسها كان في سنة 1124/ 1712 إذن فقد استغرق البناء نحو عامين. راجع الحلل السّندسيّة 3/ 230.

وقال أيضا: [البسيط] لله درّك يا فخر الملوك ومن ... غدا بمهجته للخير ملتمسا أنشأت للعلم في ذا العصر مدرسة ... تحيي بها من علوم الدّين ما اندرسا حسين بن عليّ الباي أسّسها ... من لم يزل لضياء المجد ملتمسا في عام (¬94) خير ونصر أصل نشأتها ... أكرم بأصل بذاك (¬95) العام قد غرسا (¬96) وكان - رحمه الله تعالى - جيّد النّظم والنّثر إلاّ أنّ غالب نظمه في الجدّ / من مدح أهل الفضل من مشايخه ومشايخ عصره، واستغاثات وقواعد فلكية وأدبية وغير ذلك. وجرت بينه وبين شيخه الفراتي محاجّة وأجوبة، وامتدح الشّعراء ومدحوه فمن ذلك ما مدح به أبا دينار (¬97) شاعر تونس ذلك الوقت فقال: [الوافر] وقائلة أرى الأيّام ولّت (¬98) ... وأعقب حسن (¬99) بهجتها الذّبول وأودى كلّ ذي أدب ولبّ ... وساد (¬100) الغمر فينا والجهول فناداها الزّمان وقال: كلاّ ... ضللت إذا (¬101)، وقد وضح السّبيل ثكلتك ها أبو دينار أضحى ... له بين الورى ذكر جميل له أدب يحيّر كلّ لبّ (¬102) ... ويدهشه (¬103) إذا أنشأ يقول له في مضمر (¬104) البلغاء شأو ... بعيد ليس تدركه (¬105) الفحول إذا ابتدروا لنيل المجد فيه ... أبا دينار أنت له كفيل ¬

(¬94) ساقطة من ط. (¬95) في ط: «ذاك». (¬96) الأبيات في المدرسة غير موجودة في الديوان. (¬97) هو المعروف بابن أبي دينار الرعيني القيرواني صاحب المؤنس. (¬98) كامل الصدر ساقط من ب. (¬99) ساقطة من ط. (¬100) في ط: «وسار». (¬101) الأحسن أن تكتب: «إذن» تفريقا بينها وبين: «إذا» كما هو رأي بعضهم. (¬102) في بقية الأصول: «لب». (¬103) في ط: «ويدهش». (¬104) في ط: «ضمير». (¬105) في ط: «يدركه».

فإن طلعت لهم فيه نجوم ... فشمسك فيه ليس لها أفول لقد أصبحت في ذا العصر شمسا ... تضيء بك البصائر والعقول عليك تحيّة ما فاح روض ... وما مالت غصون أو تميل (¬106) فلمّا بلغ أبا دينار ذلك أجابه بقوله: [الوافر] لمثلك ما يقال ولا مثيل ... أهذا (¬107) الفخر والعقل (¬108) الجميل أيا قمرا تبدّى في علاه (¬109) ... لرائيه، وليس له وصول (¬110) ومن أحيى وحيّر في نظام ... علاه الفخر والفضل الجليل بعقل تحسد العقلاء عنه ... ونقل قد تحيّر له العقول إذا الفصحا [قد] (¬111) اشتهروا بقول ... فأنت القصد تعلم ما تقول إليك تشد أزمّات المطايا ... ونحو (¬112) حماك قد نزل الرّعيل / وفي شرف المعالي أنت شمس ... لناظرنا تلوح، ولا أفول! بنو الشرفيّ إن فرضوا لمجد ... فريضتهم بمجدك قد تعول سقا قبر الذي أبقاك (¬113) فينا ... من الرحمات وابلها هطول وأسقى فرعه بالجود حتى ... يميل لنا وعنّا لا يميل متى نحظى بوصل واجتماع ... ونهنا (¬114) فلا كتاب ولا رسول وإن أمّت بنا حال وحالت ... علمنا الودّ منك (¬115) لا يزول تعيش على الدّوام بكلّ خير ... لك التّوفيق والعمر الطّويل مودّة من مضى في النّاس ماتت ... وأحياها لنا الحبر النّبيل (¬116) وقد فسح الله في مدّته حتّى ألحق الأبناء بالآباء، وأخذ عنه خلائق لا يحصون، فمن ذلك الشّيخ المفتي أبو العبّاس سيدي أحمد الشرفي، ونجله سيدي حسن، وأخذ عنه ¬

(¬106) أنظر ديوان محمد الشرفي الصفاقسي ص: 55، تونس 1979. (¬107) في ط: «لهذا». (¬108) في الديوان: «الفعل». (¬109) في الديوان: «علاء». (¬110) في ط: «أفول». (¬111) إضافة من الديوان. (¬112) في ط: «ونحوك». (¬113) في الديوان: «خلاك». (¬114) في بقية الأصول: «ونهنى». (¬115) في الديوان: «منكم». (¬116) أنظر ديوان محمد الشرفي ص: 56.

ترجمة الشيخ أحمد الشرفي

أنجاله أيضا وجميع من ذكر من تلاميذ سيدي أحمد النّوري، وأمّا أهل الأوطان فلا يحصون كثرة، ولقد أدركته - رحمه الله - وهو شيخ مسنّ أزهر اللّون، حسن الوجه، عليه جبّة خضراء، وعمامة الفقهاء إلاّ أنّها لطيفة، وهو عاجز عن المشي إستقلالا فيعتمد على العصا، وقد يركب على حمار عند خروجه من داره للمدرسة، فلا أدري أكان ذلك لكبر سنّه أو ليبس عرض في أعصاب رجليه. توفّي - رحمه الله تعالى - سنة سبع وخمسين ومائة وألف لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة (¬117). وبعد الفراغ من دفنه دخل النّاس للمدرسة وقرأوا عليه ختما ثمّ تكلّموا على من يتولّى المدرسة فاتّفقوا على إبنه أبي العبّاس الشّيخ سيدي أحمد / فجعلوا فيه وثيقة، وشهد فيه أناس كثيرون بصلوحيته لذلك، وكتبت الوثيقة ورفعت لقاضي الوقت ليطبع فيها فأبى، قيل لرغبته في تولّيها، فذهب الشّيخ سيدي أحمد بها لتونس من غير طبع (¬118) ودخل هو وشقيقه الشيخ سيدي طيّب على الباشا (¬119) وأخبراه بموت الشيخ والدهما وطلباه في توليتهما المدرسة (فولّى الشيخ) (¬120) سيدي طيب (¬121) لشهادة شيخه شيخنا أبي محمّد عبد الله السّوسي فيه، فرجع سيدي أحمد وأقام بالمدرسة مقام أخيه، وبقي الشيخ سيدي طيّب بتونس إلى أن قضى مآربه بها وختم كتبه التي ابتدأ قراءتها على مشايخه، ثم قدم إلى صفاقس - حسبما يأتي إن شاء الله تعالى -. ترجمة الشّيخ أحمد الشّرفي: ومن أجلّ أعيان فضلاء صفاقس الشّيخ أبو العباس سيدي أحمد الشّرفي إبن الشيخ الخطيب المفتي أبي عبد الله محمد إبن الشيخ الخطيب المفتي حسن الشرفي. كان - رحمه الله - من نوادر الزّمان، أخذ عن الشّيخ سيدي محمّد إبن المؤدّب وتمكّن من علوم الدّين، فكان إماما هماما عمدة ثقة، فاق أهل العصر في الفتاوي والأحكام والتّوثيق والفرائض والحساب واستحضار جزئيات الفقه، فهو غصن تأصّل عن أصل أصيل (في ذلك) (¬122) فهو من بيت علم تمكن أصلا وبسق غصنا، عاش بعد أقرانه (من ¬

(¬117) 21 ديسمبر 1744 م. (¬118) في ط: «طابع». (¬119) علي باشا الأول. (¬120) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬121) في ت: «الطيب». (¬122) ما بين القوسين ساقط من بقية الأصول.

فقهاء إفريقية) (¬123) فحاز الرئاسة فيما ذكر من أوصافه، وسارت فتاويه وتوثيقاته في بلاد إفريقية، ولا يفتي إلاّ بمشهور المذهب، فاعتمده النّاس / وقبلوا كلامه حتى في العاديات (¬124) لصحّة نظرة ودقّة فكره، فاعتمدوه في أمر دينهم ومعاشهم. وكان حسن الخلق والسّياسة والسّيرة، يعود المرضى ويشيّع الجنائز ويهني (¬125) بالخير ويودّع المسافرين ويدعو لهم بالسّلامة، ويقبل الشّكوى، ويسعى كثيرا في إصلاح ذات البين لجميع الخلق، وقلّ من أدخله في حكومة وخالفه أو خرج عن إشارته لما يعلمون من نصحه للفريقين، بعيد عن الميل والجور في الحكم، يعفو عن المسيء ولا (¬126) يؤاخذ الجاهل ويعظه، فأقبلت القلوب عليه، وتوجّهت الرّغبات إليه، وكان حسن الإعتقاد، ملازما لدراسة دلائل الخيرات والنّظر في كتب الحديث ومناقب الصّالحين. وقد حضر بين يديه ذات يوم خصمان فوقع بينهما لجاج (¬127) وخصام، وكان بين يدي الشيخ الجامع الصغير للحافظ السيوطي، فرفع أحد الخصمين يديه وضرب بهما على نسخة الجامع الصّغير وقال: إن وقع منّي كذا وكذا فلا أقوم من هنا إلاّ على أشرّ الحالات، أو ما (¬128) هذا معناه، فما استتمّ كلامه حتّى صرع وغاب عقله واعوجّ فمه، ورفع إلى داره فبقي كذلك أشهرا (¬129)، واستمرّ به كذلك (¬130) إلى الممات - عافانا الله من ذلك - فمن ذلك الوقت كثر خوف النّاس منه وصاروا يقولون للشّيخ: أعطنا الكتاب الذي حلف به فلان نحلف به فلم يجبهم لذلك. وقد نقل أنّه لمّا كان صغيرا أوان تعلّمه العلم دخل على الشّيخ الصّالح المجذوب سيدي محمّد عبّاس (¬131) - نفعنا الله به - وهو بجنانه المجاور له، فوجد / الشّيخ عبّاس يشرب الدّخان، فلمّا وصل إليه ناوله الدّخان وأمره بشربه فأبى ذلك لما يرى في الظّاهر ¬

(¬123) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬124) في ط: «القيادات»، وفي ب: «الغاديات». (¬125) في ط: «يمني». (¬126) ساقطة من ط. (¬127) في ط وب وت: «الجاج». (¬128) في بقية الأصول: «وما». (¬129) في ط: «شهرا». (¬130) في بقية الأصول: «كذلك». (¬131) في بقية الأصول: «محمد بن عباس».

من أنّه دخان فاجتنبه تورّعا لما وقع فيه من اختلاف الأيمة، فلمّا رجع إلى والده عرّفه بما وقع له مع الشّيخ، وكان والده حسن الإعتقاد في أهل الخير سيما والشّيخ مجاور له مطّلع على أحواله، فقال له: يا بنيّ إذا ناولك مرّة أخرى فاقبل منه وافعل ما يأمرك به فلعلّ الله يفتح عليك، (فإنّ الشّيخ يشربه دخانا ظاهرا) (¬132) والله أعلم بما يكون عليه في باطن الأمر لأنّ أحوال الأولياء تخفى على أهل الظّاهر، فأثّر كلامه في قلبه تأثيرا عظيما ميلا للخير وطمعا في العلوم الموهوبة من الله كما قال القائل: [الهزج] رأيت العلم علمين ... موهوب ومكسوب (¬133) ولا ينفع مكسوب ... إذا لم يك موهوب كما لا تنفع الشّمس (¬134) ... وضوء العين مسلوب فلمّا اجتمع بالشّيخ عبّاس مرّة أخرى وناوله الدّخان إنتهز (¬135) الفرصة لما رأى على آلة الشرب أثر ريق الشّيخ فالتقمه بهمّة ونيّة صالحة عملا بوصيّة والده، فلمّا شرب قال له الشّيخ: زد، فزاد، ثمّ قال له: زد، فزاد، وكرّرها (¬136) ثلاثا، ثمّ قال: فيه بركة، فقال الشّيخ: وفيه البركة وكرّرها ثلاثا، فمن ثمّ ظهرت منه ينابيع العلم بأمور خارقة للعادة فيما قصده ممّا هو بسبيله من علوم الفقه والأحكام والتّوثيق والفرائض وما يتبع ذلك من علوم الدّين حتّى فاق أهل العصر ممّن كدّ وتعب وكدح (¬137) أكثر منه أضعافا مضاعفة ببركة الإعتقاد في الشّيخ. وكان - رحمه الله تعالى - امتحن بما امتحن به إخوانه الفقهاء - رحمة الله عليهم أجمعين -، أشخصهم الباشا (¬138) - عفا (¬139) الله عنه - من أوطانهم، وذلك أنّه ¬

(¬132) في ط: «يشربه دخانا ظاهما». (¬133) في بقية الأصول: «مكسوب وموهوب». (¬134) في ب: «كما لا تنع عن الشمس»، وفي ت: «كما لا تنفع عين الشمس»، وفي ط: «كما لا تنفع عين الا». (¬135) ساقطة من ط. (¬136) في ط: «كررها الشيخ ثلاثا». (¬137) في ط: «كرع». (¬138) علي باشا الأول. (¬139) في ش: «عفى».

لمّا وقعت الفتنة بينه وبين سيدي حسين (¬140) - رحمه الله تعالى - واختلفت النّاس، فسعى بعض أهل الشّرّ من كلّ بلاد بفقهائهم (¬141)، فأقاموا بتونس حتّى أطلق الله سراح من طال عمره، ومن عجلت منيّته إنتقل لرحمة الله (¬142)، ولمّا أشخص الشّيخ سيدي أحمد صاحب التّرجمة ظهرت فتاويه بتونس واشتهر فضله وتبيّنت نزاهته من كلّ سوء، وبلغ ذلك للباشا فعفا (139) عنه وأذن له في الرّجوع لوطنه على ما كان عليه (¬143) من فتواه وسراحاته. وكانت ولادته - رحمه الله - آخر المائة الحادية عشرة وأوّل الثّانية عشر (¬144)، وتوفّي برمضان سنة خمس وتسعين ومائة وألف (¬145) وأنشد في تاريخه نجله الشّيخ أبو العبّاس سيدي أحمد قوله: [مجزوء الرّجز] هذا الضّريح قد حوى ... جسما لعالم عظيم مفتي الأنام المرتضى ... أحمد ذو القلب السّليم الشّرفي كان في ... حياته غوث اليتيم وقائما مجتهدا ... في طاعة الله الرّحيم وبات (¬146) لمّا أن قضى ... مجاور الرّب الكريم فقلت في تاريخه ... سيرا لجنّة (¬147) النعيم ¬

(¬140) أي رئيس الدولة عم علي باشا. (¬141) في ط: «بفتهائها». (¬142) في ط: «إلى رحمة الله تعالى». (¬143) ساقطة من بقية الأصول. (¬144) 1689 م. (¬145) أوت سبتمبر 1781 م، وفي ط: «سنة خمس وسبعين». (¬146) في بقية الأصول: «ومات». (¬147) في بقية الأصول: «سير».

ترجمة الشيخ أبي محمد حسن الشرفي

ترجمة الشّيخ أبي محمّد حسن الشّرفي: وأمّا ولده الشيخ أبو محمّد سيدي حسن الشرفي فكان (¬148) - رحمه الله تعالى - عمدة ثقة متفنّنا متقنا متمكّنا من علوم العربية بأنواعها، وعلوم الفقه وأحكامه، والحساب والفرائض والقراءات والأصلين، والحديث والتفسير، والمغازي والسير، وتخطيط البسايط والمنحرفات، وغير ذلك من علوم الفلك والميقات، / وبالجملة فهو (¬149) أقوى تركيبا من والده إلاّ أنّ الفضل للمتقدّم. وبعد ما تفقّه بصفاقس إرتحل إلى تونس في طلب العلم، فأخذ عن شيخنا سيدي عبد الله السوسي، والشيخ سيدي محمد الغرياني، وشيخنا سيدي قاسم المحجوب، والشيخ المكودي (¬150) وأخذ القراءات عن الشيخ السبعي المقري، وأخذ إجازات المشايخ، ورجع إلى صفاقس بما معه من العلوم، فولّي خطبة الجامع الأعظم، سنة خمس وستين ومائة وألف (¬151)، فقام بوظيفة الجامع حقّ القيام من خطبة وصلاة وتدريس وتوقيت وغير ذلك، ورتّب به عدّة مدرّسين وحلقات لقراءة القرآن العظيم سيما برمضان بعد صلاة التراويح إلى صلاة الصبح، وبقي كذلك إلى سنة تسع وستين (¬152) - حسبما مرّت الإشارة إليه - ثمّ ولّي القضاء كرها عليه، ولمّا أراد الأمير توليته إمتنع إمتناعا كليا وقال له: يا سيدي لا أتولّى القضاء لأنه ليست وظيفة آبائي وأجدادي وإنّما وظيفتنا الفتوى والخطابة، وكيف يكون أبي مفتيا وأنا قاضيا، فقال له: إنّا نريد أن نجمع في داركم بين الفتوى والقضاء، فامتنع، فقال له: إن لم تقبل طوعا تقبل كرها فقبل ثم طلب الخروج منه لصعوبة المقام وهوله (¬153) لكثرة لجاج الخصوم وتلبيسهم. ومن غريب ما اتّفق له في أيّام قضائه أنّه أجّل رجلا في حقّ عليه لمّا ادّعى ¬

(¬148) في بقية الأصول: «فقد كان». (¬149) في ط: «فقد كان أقوى»، وفي ب وت: «فقد أقوى». (¬150) أحمد بن الحسن بن محمد المعروف بالورشان الملقّب بالمكودي من بيت المكودي بقابس، الشريف الحسني المحدث المسند الراوية الفقيه نزيل تونس، واعتمده أهلها وإليه مرجع أسانيدهم وولي بها الفتوى (ت.1169/ 1755. أنظر تراجم المؤلفين التونسيين 4/ 368 - 369، فهرس الفهارس، دار الغرب الإسلامي، بيروت 2/ 558 - 559. (¬151) 1752 م. (¬152) 1755 - 1756 م. (¬153) في ط: «ووعورته».

العسر، فلمّا حلّ الأجل وطلب صاحب الحقّ حقّه وأحضر خصمه، قال له الشيخ القاضي: قد انقضى أجلك فاقض الحقّ الذي عليك، فإذا بالرجل الذي / عليه الحقّ إستلقى على الأرض كالميت، وقال: أشهد أن لا إلاه إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: لمّا انقضى أجلي فما بقي لي غير النطق بالشّهادة مغالطا للشّيخ في قوله بحمله على أبعد محامله، وكان الرّجل صاحب قواعد في الكلام، وكان البلاء موكلا بالمنطق، فلم تمض أيام يسيرة إلاّ وقد انقضى أجل حياته فمات، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. ولمّا قدم الأمير للقيروان وجاءه النّاس من الأوطان على ما كان الأمراء عليه في سالف الزّمان جاء الشيخ القاضي مع جماعة أهل البلد متطلّبا الخروج من القضاء، فجعل لقدومه تاريخا في بيتين مقتبسا آية من القرآن وهما: [الرمل] الهناء يا أمير المؤمنين (¬154) ... بقدوم لديار الصّالحين (¬155) فابشروا قد جاء في تاريخكم ... {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (¬156) وذلك سنة إثنتين وسبعين ومائة وألف (¬157)، فسرّ الأمير بذلك وعجب به وأبى أن يقيله من القضاء فلم يزل بعد ذلك يردّد الطلب برفع اليد حتى آن الأوان وفرغ ما كتب له فطلب فأسعف بمطلوبه، وولّي منصب الفتوى مع أبيه، فقام به حق القيام كقيام أبيه من قبل، ولمّا مات والده انفرد بالفتوى، ولم يزل كذلك إلى أن حضرته منيّته شهيدا بالطّاعون سنة تسع وتسعين ومائة وألف (¬158). وكان - رحمه الله - وجد ثلاثة أبيات لبعض الأدباء في استخراج المجهول وهي هذه: [الطويل] وهبت له ثلثا من العمر كاملا ... وربعا وسدسا ثمّ قام (¬159) فأعرضا / فقال: قليل، قلت عندي زيادة ... فزدت إليه نصف سدس الذي مضى فخلّف لي عشرين عاما أعيشها ... فكم كان أصل العمر إن كنت مفرضا؟ ¬

(¬154) علي باشا الأول. (¬155) في الأصول: «بقدومكم إلى ديار». (¬156) سورة الحجر: 46. (¬157) 1758 - 1759 م. (¬158) 1785 م. (¬159) في ب: «قال».

ترجمة الشيخ أحمد بن محمد الشرفي

هذا العمر مائة سنة وست سنين وثمانية أشهر، فلذا أجابه الشيخ القاضي ببيتين من البحر والقافية والضرب والعروض فقال: [الطويل] وهبت له ستّين عاما وثلثها ... وستة أعوام وثلثين فارتضى (¬160) ولو كنت ذا حبّ سليم وصادق ... لكنت إليه في الجميع مفوّضا ترجمة الشّيخ أحمد بن محمّد الشّرفي: وأمّا أنجال الشّيخ سيدي محمد إبن المؤدب فأكبرهم الشّيخ أبو العباس سيدي أحمد الشرفي إبن المؤدّب كان - رحمه الله تعالى - عمدة ثقة، تفقّه بأبيه وأخذ عنه صناعة عمل الأرباع فكان فيه غاية، فهو ميقاتي، حيسوبي، فرضي، فقيه، متمكّن (¬161) من علوم العربية وعلوم الدّين. ولّي القضاء سنة خمس وستين ومائة وألف (¬162)، فكان صادعا بالحقّ لا تأخذه في الله لومة لائم (¬163)، ولصعوبة المقام والقيام بالحقّ وشدّة لجاج الخصوم (¬164) وكثرة أهل (¬165) الباطل طلب المعافاة من القضاء فلم يعف منه، فضاق بذلك ذرعا، ودعا الله أن ييسّر خروجه من القضاء ولو بالموت، فاستجاب الله له فسافر لتونس سنة ثمان وستين ومائة وألف (¬166)، فأدركته منيّته عند شقيقه الشيخ عبد السّلام بالمدرسة المرادية، فأتي به في تابوته لبلده، فدفن بإزاء أبيه. وكان - رحمه الله تعالى - حسن الخلق والخلق، محبّا للفقراء والقرّاء والأولياء والصالحين، ليّن الجانب في غاية، فلم تلقه إلاّ ضاحكا وكذا أخوته / كلّهم بهذا الخلق، طبيعة طبعهم الله عليها، وكلّهم عدول موثّقون يعتقدهم الناس ويحبّونهم. وكانت وفاة أبي عبد الله سيدي محمد وسيدي عبد السلام سنة تسع وتسعين ومائة وألف (¬167)، شهيدين بالطاعون. ¬

(¬160) في الأصول: «فارتضا». (¬161) في ط: «فتمكن». (¬162) 1751 - 1752 م. (¬163) ساقطة من ط. (¬164) في بقية الأصول: «لجاج أهل الخصوم». (¬165) ساقطة من بقية الأصول. (¬166) 1754 - 1755 م. (¬167) 1785 م.

ترجمة الشيخ طيب الشرفي

ترجمة الشّيخ طيّب الشّرفي: وأمّا الشّيخ (¬168) أبو الشذى (¬169) سيدي طيّب الشّرفي فقد كان - رحمه الله - إماما في علوم الدين، عمدة، ثبتا، حجة، متقنا، متفننا، أحد نوادر الزمان زهدا وصلاحا، فاز من العلوم الأدبية بالقدح المعلّى من جميع أنواعها، وأما الفقه والحديث والتفسير والقراءات والتجويد والأصول والتوحيد والفرائض والحساب فحدث عن البحر ولا حرج، وأخذ من المنطق الحظ الأوفر، والحاصل أنّه - رحمه الله - كان كاملا في مشيخة السنة. وكان في ذاته حسن الخلق والخلق، والهيئة والسيرة، حليما كريما محبّبا عند النّاس، نفّاعا لخلق الله ببذل العلم لسائله، موفقا مدقّقا في تقريره، وهو القائم بالمدرسة بعد أبيه. وكانت رحلته لتونس فأخذ عن شيخنا سيدي عبد الله السّوسي، وشيخنا سيدي قاسم المحجوب، (والشيخ الغرياني، وأخذ التّجويد عن الشيخ) (¬170) السّبعي المقري في آخرين من مشايخ العصر بتونس. وكان - رحمه الله - راغبا عن المناصب كلّها، فطلب أوّلا هو والشّيخ سيدي حسن المفتي - المقدّم الذّكر - أن يكونا كاتبين عند الباشا - رحمه الله - وأرسل إليهما فذهبا إليه / فطلبهما في ذلك فامتنعا، وطلب هو أيضا أن يكون قاضيا فامتنع، فجعل أهل البلد فيه وثيقة أنّه يصلح بنا للقضاء وشهدوا فيها (¬171) أنّه لا يصلح إلاّ هو، وأرادوا توليته كرها عليه، فقال لهم: إن أردتم خروجي من بينكم خرجت وولّوا (¬172) من يصلح غيري بكم فكفوا عنه. وكان في ابتداء أمره قد يتحمّل بعض الشهادات ثمّ ترك ذلك واقتصر على بثّ العلم ونشره، ونصح الخلق وتعليمهم، فاعتقده كافّة النّاس، وأخذ عنه خلائق لا يحصون كثرة كالشيخ أبي العباس سيدي أحمد إبن الشيخ سيدي أحمد الشّرفي المفتي، والشيخ أبي عبد الله محمد المغربي، والشيخ أبي الحسن علي ذويب الشاعر، والشيخ أبي عبد الله سيدي محمد الزّواري أحد شيوخنا، والشيخ أبي عبد الله محمد المصمودي ¬

(¬168) في ط: «أما أخوه». (¬169) في الأصول: «الشذا». (¬170) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬171) ساقطة من ط. (¬172) في ط: «وأولو».

القاضي، والشيخ الأديب الشاعر أبي إسحاق إبراهيم الخرّاط، والشيخ أبي زيد سيدي عبد الرّحمان بكّار، والشيخ أبي العباس أحمد المصّمودي إبن الشيخ عبد الرّحمان، والشّيخ سيدي الحاج طاهر المحجوب، والشيخ علي البقلوطي، وكان عدلا، والشيخ سيدي قاسم بن عاشور الجمّالي، والشيخ أبي عبد الله محمّد بن عاشور، والشّيخ فرج ابن عاشور، مع خلائق من قصور السّاف والوطن لا يحصون، وكذا شيخنا أبو عبد الله محمد الدّرناوي والشيخ أبي عبد الله محمد حمزة، وأخذ عنه أيضا نجلاه / وأبو زيد سيدي عبد الرحمان، وأبو عبد الله سيدي محمد الشرفي إبن الشيخ سيدي حسن المفتي - المقدّم الذّكر - فهؤلاء مشاهير أصحابه وأكثرهم لنشر العلم في حياته وبعد وفاته. وممّا أنشده تلميذه أبو إسحاق سيدي إبراهيم الخرّاط - أبقى الله مهجته (¬173) - عند ختمه للشفاء للقاضي عياض بقصيدة وهي هذه: [الطويل] عليّ بمن أهوى حديث الشّفا قصّوا ... وعن شرح تهيامي (¬174) ووجدي به نصّوا حديث غرامي في هواه مسلسل ... ومرسل دمعي لا يقيّده ربص يصحّح يأسي منه فتكة لحظه ... كأن له في كلّ جارحة شقص كأنّ له ثان (¬175) على كلّ مهجة ... كأنّ له حقّ، كأنّ له نصّ وتطمعني فيه زخارف لفظه ... كأنّ [له] على جلب القلوب له حرص علقت به ريّان من ما شبا به ... وفي مهجتي من نار وجنته لقص أسيل المحيّا يخجل البدر طالعا ... وللشّمس منه وهي مشرقة رهص (¬176) فلا عيب فيه غير لدن (¬177) نوابه ... وفي ردفه ثقل تباهي به الدّعص وفي ريقه شهد وفي ثغره لمى (¬178) ... وفي لحظه سحر وفي فرعه عقص نسيت وما أنسى عتابا على النّوا ... ورتجه (¬179) مصغ ما (¬180) له بعدها ربص وحلو حديث بالعتاب مردّد (¬181) ... عفيف فلا لثم يريب ولا مصّ سقى ورعى ربعا ونيلا (¬182) تشفّيا ... من الوصل حتّى كان يفضحنا (¬183) القرص ¬

(¬173) في ت وب: «بهجته». (¬174) في ش: «تيهافي». (¬175) في ط وب: «ثأر». (¬176) كذا في ط وفي ش: «رعص». (¬177) في ط: «لون». (¬178) في ش: «سنى». (¬179) في ط: «ورنحه». (¬180) ساقطة من ط. (¬181) في ش: «فردده». (¬182) في ط: «وليلا». (¬183) في ط: «يفصحنا».

طرقت خلال الحيّ خطوي مقصّر ... ولفظي ومن أهوى على سرّنا مقص أصاحب (¬184) قلبا لا يذلّ وصارما ... له كلّما قد سلّ من غمده وبص (¬185) أجوب به ديمومة تذعر (¬186) القطا (¬187) ... فليس بها إلاّ اليعافير والدّرص (¬188) أمانا أمانا أيّها الفاتك الّذي ... على كلّ قتلى لحظه ما له نكص بنا قد (¬189) سعت ناس فصدّق ظنونهم ... كما زعموا أنّي بوصلك مختصّ فثغرك أنّي لم أكن من جناته ... فما لك بالهجران مني تقتصّ قطعت يدي منه (¬190) ولست بسارق ... لدرّه فاعلم إنما يقطع اللّصّ سأوجد عن حتفي بحبك محفة ... وها عند شيخي طيّب الشّرفي النصّ (¬191) هو الطيّب ابن الطّيب الطاهر الذي ... غدا فوق فرق (¬192) الفرقدين له قنص هو السيّد المهتزّ صارم فكره ... لقرع العويصات التي ما لها نصّ تجاذب أيدي فكره كلّ شارد ... عن الذهن حتى يستبين (¬193) له لحص (¬194) وجيز فصيح ماهر شمس (¬195) محضر ... على درسه كلّ البرية تنتصّ تراهم لديه من إفادته لهم ... حروف سطور في الطّروس قد التصّ‍ [وا] كما الهيم (¬196) حول الورد ذات ازدحام أو ... لواحظ عشّاق على الحسن تكتصّ أسيّدنا يا منبع العلم والتّقى ... أثرت منار العلم فهو بكم يخصّ فدم أيّها الحبر السّنيّ السّور (¬197) ذا (¬198) ... فخار وبالعلياء والفضل تختصّ فمهما بدت من (¬199) حاسد لك (¬200) لفتة ... تبدّى (¬201) لنا في جيده عند ذا (¬202) وقص ولو في بنان (¬203) الدّهر كلّ كريمة ... بدت خاتما (¬204) ضاءت فأنت لها فصّ ¬

(¬184) في ط: «أصاب». (¬185) في ط: «رقص». (¬186) في ش: «تذعن». (¬187) في ط: «القضا». (¬188) في ط: «الروص». (¬189) في ت: «بنادق». (¬190) في ط: «مني». (¬191) في ط: «نص». (¬192) ساقطة من ط وت. (¬193) في ط وت: «يتبين». (¬194) في ت: «الحص». (¬195) ساقطة من ط، وفي ت: «شر». (¬196) في ط: «البهم»، وفي ت: «اليهم». (¬197) في ط: «البري»، وفي ت: «البر». (¬198) في ت: «أخا». (¬199) ساقطة من ت. (¬200) في ت: «إلى». (¬201) في ط: «تبدو». (¬202) في ت: «عندنا». (¬203) في ط: «نفاق». (¬204) في ط: «ختما».

ولو أن شمس الأفق باهت بنورها ... دراري السّما ودّت لوانت لها قرص أمولاي دم فخرا وعزا (¬205) وسؤددا ... فأنت الذي عن كلّ مجد له (¬206) حرص بختم الشفا هنيت فلتبد ساحبا (¬207) ... ذيول علا منها عليك غدت قمص فيا لك من حبر كشفت نكاته ... لنا فغدا في كلّ علم لنا شنص (¬208) جزاك جزاء الله عنا بفضله ... نعيما بفردوس لولدانه قفص خدمت بمدحي روض مجدك مذ (¬209) رأيت ... عن خدمة العلم الشريف لك الفحص فإنّك يا فخر الورى بحر سؤدد ... لفكري فيه عن لآلي الثنا غوص فدرّ مديحي فيك منه التقطته (¬210) ... وما كان إلاّ النضد (¬211) لي فيه والوص ولو كان في وسعي جذبت النّجوم كي ... أحلّي بها مدحي لكم ولها رقص فها بنت (¬212) فكري غادة قد توشّحت ... بدرّ ثناء لم يحصه العدّ والخرص فخذها عروسا مهرها صالح الدعاء منك ... وشرطي لا يلاحظها خصّ عليك سلام الله ما هبّت الصّبا ... بروض وغنّى (¬213) فيه ورق له كصّ وصلّ وسلّم يا إلاهي على النبيء والآل (¬214) ... والأصحاب بالفضل قد خصّ‍ [ـوا] ولم يزل مرضي السّيرة طيّب السّريرة إلى أن حضرته الوفاة شهيدا مبطونا يوم ثلاثة عشر خلت من رجب الحرام سنة ثمان وتسعين ومائة وألف (¬215) فقرأ {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَاُدْخُلِي جَنَّتِي} (¬216) وأوصى أن يصلّي عليه تلميذه الشيخ سيدي أحمد بن سيدي أحمد بن حسن لما اعتقد فيه من الصلاح والفضل، وكان ذلك إشارة والله أعلم إلى توليته مشيخة المدرسة فكان ذلك، ثمّ تشهد شهادة الحقّ، وفارق الدّنيا - رحمه الله تعالى - وخرج خلف جنازته خلق ملأ الفضاء، ورثاه تلميذه الشّيخ علي ذويب بمرثية طويلة قرأها عند سرير نعشه قبل الصلاة عليه وهي هذه: ¬

(¬205) في ط وت: «عزا وفخرا». (¬206) في ت: «لها». (¬207) في ط: «أساحب»، وفي ت: «ساحب». (¬208) في ط وت: «سنص». (¬209) في ط وت: «قد». (¬210) في ط وت: «التعضمه». (¬211) في ت: «النظر». (¬212) في ط: «نبت». (¬213) في ط: «وعنا». (¬214) في ت: «وآله». (¬215) 5 ماي 1783 م. (¬216) سورة الفجر: 27 - 28 - 29 - 30.

[الكامل] ريب (¬217) المنون من البريّة دان (¬218) ... ورداه لم يظهره (¬219) منه يدان عجبا (¬220) له أردى ولم يك (¬221) ذا يد ... ومهنّد صمصامة وسنان لم يثنه عن حكمه الجاري على ... غير المراد من الخليفة (¬222) ثان بالله عاتبه على وثباته ... وثباته (¬223) فيها الفظيع الجان أرأيت كيف دهى فهال فهاج (¬224) في ... كلّ القلوب فوادح الأحزان ولمحت بدرا (¬225) كيف سار مشيعا ... في الجوّ بالأملاك للرّحمان والنّاس طرّا حوله ودموعهم ... فاضت على الوجنات والأذقان ما لي أرى الأجفان غير قريحة ... والدّمع منها غير أحمر قان وعلام فارق لعننا (¬226) دارا (¬227) غدت ... مثوى النكاد وطارق (¬228) الحدثان ليست بدار للقرار ولا لما ... ترجوه من أمن ونيل أمان كم نغّصت (¬229) عيشا وكم قد فرّقت ... بين امرئ وأليفه المتدان وكم اغتدت (¬230) وبدت مخادعة لمن ... قد أعجبته ولا خداع روان (¬231) تنمو فجائعها وتأتي بغتة ... كالصّلّ (¬232) يكمن في الزهور لجان (¬233) أبناؤها (¬234) أحنت (¬235) عليهم فاغتدوا ... صرعى بخالية من السّكّان ويل امرئ تلفيه مغرورا بها ... متلهّفا (¬236) بوبالها الفتّان وتراه مسرورا بمن هو شائد ... لقصوره فيها ومن هو بان ¬

(¬217) هذه المرثية موجودة في تقريرات الشيخ علي ذويب على حاشية الشيخ يوسف الحفناوي على الأشموني. مخطوط تابع لمكتبة الشيخ علي النوري، انتقل إلى متحف العادات والتقاليد الشعبية بصفاقس ومنه إلى المكتبة الوطنية بتونس وهو مسجل تحت رقم 20175 (مكتبة الشيخ علي النوري) والقصيدة هنا وهناك تختلف بعض الشيء في تقديم الأبيات وتأخيرها، وزيادة ونقصان. (¬218) في ط: «دن»، وفي ت: «دنى». (¬219) في ت: «يظهر». (¬220) في ت: «عجب». (¬221) في ط وت: «يكن». (¬222) في التقريرات: «الخليقة». (¬223) في ط: «وثبانه». (¬224) كذا في ط، ساقطة من ت، وفي ش: «ففاج». (¬225) في الأصول: «يدبل» وفي التقريرات: «يذبل». (¬226) في ت وط: «لعشا». (¬227) في ت وط: «دار». (¬228) في ت وط: «وطاق». (¬229) في ت وط: «نقصت». (¬230) في التقريرات: «اعتدت». (¬231) في التقريرات: «زوان». (¬232) في ت: «كالضل». (¬233) في ط: «يجان». (¬234) في ط: «انباؤها». (¬235) في التقريرات: «أخنت». (¬236) في التقريرات: «متلهيا».

أبغض بها من مستقرّ نوائب ... ومحلّ أكدار ودار هوان أين الوصيّ مدينة العلم الرّضى ... والشّيخ ذو النّورين والشّيخان والأصبحيّ الفرد مفتي طيبة ... وعليهما (¬237) المثني على النّعمان وأخو المكارم نجل إدريس الّذي ... قد سار للفسطاط من بغدان والمهتدي الصوفي مفخر (¬238) حنبل ... والسيّد الحنفي والأخوان (¬239) وبنو (¬240) الحسين الأتقياء أولو الهدى ... والشيخ عبد القاهر الجرجان (¬241) والأشعريّ الشيخ والقاضي أبو ... بكر وسعد الدّين والعمران والسيّد السّند الفصيح لسانه ... والمرتضى عمرو أبو عثمان وأبو المعالي والإمام وجعفر ... والزاهد القرنيّ (¬242) والحسنان (¬243) / والسادة الأشراف من ملكوا الدّنا ... وحووا مناهم من بني (¬244) مروان (¬245) أيرى (¬246) التّسلّي بالّذين ذكرتهم ... عن شيخنا في حيّز (¬247) الإمكان لا والّذي أهدى لمن حملوا له ... ذاك السرير موفّر الغفران (¬248) وأفاض - جلّ - على الألى معه مشوا (¬249) ... ما راق من عفو ومن رضوان (¬250) ¬

(¬237) في التقريرات: «وعليها». (¬238) في ط: «معجز». (¬239) كامل هذا البيت غير موجود في التقريرات. (¬240) في ت: «وبني». (¬241) في ط: «الجرجاني». (¬242) في ط: «القرن». (¬243) في ت: «وحسان». (¬244) ساقطة من التقريرات. (¬245) بعدها في التقريرات هذا البيت: «كل مضى فكأنه لم يبد في ذي الدار حينا مأمن الأحيان» (¬246) كذا في التقريرات وفي الأصول: «أبدى». (¬247) في ت وط: «خير». (¬248) في التقريرات: لا والذي أهدى لحامل نعشه ومشيعيه موفر الغفران. (¬249) في ت وط: «معشو». (¬250) في التقريرات: «وأراه في دار الخلود قصوره وحباه ما قد رام من رضوان وحلائلا من حورها قالت له أهلا بهذا العلم الربان»

إن حلّ ذا الشيخ الجنان فكلّنا (¬251) ... يمسي لأشقى (¬252) الحرق في (¬253) نيران (¬254) نحن الذين ننوح (¬255) من فقدانه ... نوح الحمام على قضيب البان ونبين شجوا (¬256) مجريا فوق الثرا ... دمعا يرى متواصل الفيضان (¬257) بلدي صفاقس قد بدت لبّاسة ... ثوب الحداد (¬258) بذلك الفقدان مرّت مفاخر مجدها ولطالما ... زهيت به وجلت على بلدان (¬259) ما لي أرى سكّانها لم يسلبوا (¬260) ... ألبابهم ويروا ذوي هذيان (¬261) يا أيّها الموت الذي بهجومه ... تبدي النّفوس نوى عن (¬262) الأبدان هلاّ تركت أبا الشّذا أستاذنا ... الفهّامة العلاّمة الصّمدان شيخ المشايخ طيّب من فضله ... ذكراه طيّبة بكلّ مكان الخيّر الشرفيّ والهادي الذي ... ما إن له بين البرية (¬263) ثان (¬264) المهتدى لعقائد أثنى على ... تحريرهنّ تقدّس الديان (¬265) خلت الديار من المعارف مذ خلت (¬266) ... من ربّها النقّالة المعوان (¬267) ¬

(¬251) في ت وط: «فكأنما». (¬252) في ت وط: «الأسقى». (¬253) في ت: «من». (¬254) في التقريرات: أضحى لديها في الجنان وكلنا أمسى لأشقى الحزن في نيران (¬255) في ط: «نتحوح». (¬256) في ت وط: «شبرا». (¬257) في التقريرات: «نبين عليه فضيعة وبكى يرى متواصل الفيضان» (¬258) في ت وط: «المراد». (¬259) في التقريرات: «حلوان» وبعده بيت ساقط: «كم من بكى في القطر فاض عليه من انسانة ناحت ومن انسان». (¬260) في ط: «يلبسوا». (¬261) ساقطة من التقريرات. (¬262) في ت وط: «على». (¬263) في التقريرات: «الخلائق». (¬264) في التقريرات: «شاني». (¬265) كذا في التقريرات وفي الأصول: «الدفمان». (¬266) في ط: «قد حلت». (¬267) في ط: «المعدان».

الطّاهر الآباء والآراب والأحلام ... والإخوان والخلاّن والأثوب البيض الّتي هبّ الشّذا ... منها على الأذيال والأردان ببيان منطقه البديع ونحوه ... ذكر الفتى البصريّ والشيخان وبفقهه الكرديّ أصبح صيته ... مستخرجا من ربقة النّسيان قد شاذ مذهب مالك وأبانه ... بعد اندراس رائق البنيان ودرى معارف بعد (¬268) عشر قد مضت ... من سنّه لم يدرها الشّيخان أبدى وجوها للحديث بديعة ... خفيت عن العينيّ والكرمان وأبان (¬269) حفظا فائقا (¬270) ذا فطنة ... هزأت بفطنة أحمد الهمدان حبر ترحّل غير معتوب (¬271) ولا ... متصنّع أشر ولا منّان ومضى أبرّ مهذّب فهم أخا ... غلب (¬272) إلى أسنى التّقى حنّان ومضى لطيفا طبعه ذا همّة ... شادت له للفخر خير منان (¬273) أحيى بمبدع نحوه وببثّه ... فيمن تطلّبه أبا حيّان وأتى بمختار الخلاصة منه في ... درس أنار مفاخر الحيّان (¬274) وألاح منطقه البديع بيانه ... نقدا لما انتخبوه في (¬275) الميزان (¬276) لهفي عليه أغرّ أفضل سيّد (¬277) ... ذي سؤدد من دونه النّسران ندب بديع (¬278) رثائه فرض على ... كلّ امرئ للشّعر (¬279) غير معان حسّان أشعار تسرّ وطالما ... سرت فنون الشعر من حسّان لهفي على ذا الشّيخ طيّب الرضا ال‍ ... ـشّرفي فخر أفاضل الأزمان طاب الثّناء عليه ذا (¬280) حسن به ... في خجلة كم قد بدى الغمران كم مستفيد ذاد عنه ضلالة ... بهدى حجاه السّاطع البرهان (¬281) ¬

(¬268) في التقريرات: «وقائق عند». (¬269) في الأصول: «وبان». (¬270) في التقريرات: «رائقا». (¬271) كذا في التقريرات وفي ط: «معتو»، وفي ش وت: «معتوى». (¬272) في التقريرات: «قلب». (¬273) في التقريرات: «ميان». (¬274) في التقريرات: «الجياني». (¬275) في الأصول: «من». (¬276) في التقريرات: «نقدا لما انتخبوا من الميزان». (¬277) في ت وط: «سيدي». (¬278) في التقريرات: «أبر». (¬279) في التقريرات: «للنظم». (¬280) في ط: «عدا». (¬281) هذا البيت ساقط من التقريرات.

ومقرّه (¬282) في ختمه (¬283) أبدى (¬284) له ... مدحا على رغم الحسود العان (¬285) كتب البيان قد اعترتها كربة ... بمضيّه المهمي (¬286) بكا الأجفان وبكت بكا الثّكلى عليه وقد بدت ... في بردة المتغرّب الحيران النّصح والإنصاف قد ذهبا معا ... بذهابه المذكي لظى الأشجان والفقه والتّحرير معه ترحّلا ... للرمس في طيّ من (¬287) الأكفان واها لأكفان قد اشتملت على ... بحر تلاطم أو على لبنان لهفي على من كان أعلم عالم ... بدلائل الإعجاز للقرآن هاد لأسرار البلاغة مغرم ... بنهاية الإعجاز (¬288) والإتقان صبّ بتلخيص المعاني مولع ... بمقاصد الإيضاح والتّبيان لهفي على (¬289) من (¬290) علمه انتفعت به ... أهل الذّكاء الكاملو (¬291) الإيمان لهفي على معشوق محراب به ... فضع الأسى لحسوده الشّيطان لهفي على عفّ الضّمير (¬292) المرتدى ... بالفضل والعاري من النّقصان لهفي على فهم مدائح علمه ... أزرت بنظم قلائد العقيان لهفي على فطن أغرّ موفّق ... ذي مسطر مستحسن ولسان لهفي على نقاد ألفاظ حوت ... غرر البدائع صيرفيّ معان لهفي على حبر له لم يبد في ... أسنى الفضائل والفواضل ثان علم البلاغة والعقائد طالما ... أبداه عذب (¬293) موارد ومجان هو ثالث الشّيخين في الفنّين بل ... هو خير أعلام الورى الأعيان حسد السما والأرض (¬294) منذ مشت بها ... منه وأبدى طيبها القدمان فكأنه من عالم (¬295) الأملاك لا ... من عالم يعزى إلى الإنسان بدروسه المثنى على تدقيقها ... وبورده كم أشرق الملوان ¬

(¬282) في ط: «ومغرض». (¬283) في ط: «ختمها». (¬284) في ط: «بدى». (¬285) كامل البيت ساقط من التقريرات. (¬286) في ط: «المهير». (¬287) ساقطة من ت. (¬288) في ت وط والتقريرات: «الإيجاز». (¬289) في ش: «عن». (¬290) ساقطة من ت. (¬291) في التقريرات: «الكاملي». (¬292) في ت وط: «الضهير». (¬293) في ت: «عذبا». (¬294) في التقريرات: «السماء الأرض». (¬295) كذا في التقريرات وفي الأصول: «علم».

قد ناح من فقدانه الإسلام مع ... أبنائه بالمدمع الهتّان وبكت (¬296) زهور (¬297) علومه وعفافه ... ووفاؤه المقصى عن (¬298) التّبيان (¬299) ورثته (¬300) تحقيقاته الغرّ الّتي ... كانت به تعطى بديع بيان وتتيه بالقلم الذي أجراه (¬301) في ... أدراجه منه جليل (¬302) بيان (¬303) صادت صقور فهومه ما عنه قد ... عجزت مخالب فطنة العقبان (¬304) قد كان حصنا للشريعة (¬305) شامخا ... صعب الذّرى (¬306) متمنّع (¬307) الأركان قد (¬308) كان سلوة كلّ ثكلان أخا (¬309) ... لفظ تبيّن عقلة العجلان كم سرّت العلياء منه بفاضل ... من بكا كلّ نزاهة ريّان (¬310) سحبت فصاحته ذهول فهامة ... ومديد نسيان على سحبان قد كان مفتاح العلوم براحتي ... لبّ له متكامل الرجحان (¬311) ومطالع الأنوار كم قد أشرقت ... في درسه النّفّاع ذي (¬312) الإحسان ما الأرمويّ حكاه قدما في الحجا ... وذكائه المستحسن الحسّان (¬313) قد كان (¬314) نور ذكائه يبدو إلى ... أهل النّهى في الدّرس ذا لمعان قد كان هذا الشيخ طيّبا أخا (¬315) ... تقوى منزّهة عن الخذلان حبرا (¬316) أفاد العالمين معارفا ... حسّانة بتلطّف وبيان (¬317) وأجاب لمّا أن دعاه إلاهه ... لجنان دار الخلد والحيوان ومضى حميدا للنّعيم مخلّدا ... جمّ العفاف كما مضى العمران (¬318) ¬

(¬296) في التقريرات: «وبكاه». (¬297) في التقريرات والأصول: «زهر». (¬298) في ت وط: «على». (¬299) في التقريرات: «ووفاؤه النائي عن الكيسان». (¬300) في ط: «ورثه». (¬301) في ت وط: «أجره». (¬302) في ت وط: «خليل». (¬303) في التقريرات: «بنان». (¬304) في التقريرات: «عقباني». (¬305) في التقريرات: «للديانة». (¬306) في ت وط: «الدوي». (¬307) في ت: «ممتنع». (¬308) في ش: «وقد». (¬309) في التقريرات: «وذا». (¬310) كامل البيت ساقط من التقريرات. (¬311) في ش: «الرحجان». (¬312) في ط وت: «البقاع ذو». (¬313) في ط: «والحسان». (¬314) في التقريرات: «كاد». (¬315) في ت: «مع». (¬316) في التقريرات: «حبر». (¬317) في التقريرات: «ليان». (¬318) بعده في التقريرات: «لو زاره الموتى كساهم في ألبان اكفاه مكرم الضيفان».

نوح الأنام على الموفّق طيّب ... مستحسن كبديع شدو قنان ما الصّبر محمود عليه وربّما ... يهجى امرؤ يشقى به ويعان كلّ امرئ من أهل خلّته له ... طرفان في بحر البكا غرقان غسلا بدمعهما الرّقاد وغادرا ... في الأرض سيّالا من الغدران كم من بكى (¬319) في القطر فاض عليه من ... إنسانه (¬320) ناحت ومن إنسان يا ذا الّذي هو بالمضيّ لربّه ... وبذكره منّا بعيد دان أنرى نياما بعد فقدك في دجى ... ليل بمتّقد الأسى (¬321) يقظان فقدت علوم القطر منذ فقدت في ... هذا الزمان الغادر الخوّان القطر أظلم إذ محى عنه سنا ... علم رحيلك عنه للحنّان وتشرّدت عنه المفاخر كلّها ... وبدت عليه كآبة الثّكلان من للدّروس (¬322) الغرّ (¬323) بعدك في حمى ... قد كان ذا فخر على جرجان وعلى الدّيار لمصر طرّا تائها (¬324) ... متهكّما بفخار تفتازان لم يبق للتّحقيق (¬325) بعدك معتن ... في سائر الأقطار والبلدان من خير أعلام البريّة أنت في ... ذي الدّار دار الغم آخر فان ريّا مدائح دينك الموفور (¬326) قد ... هبّت نسائمها (¬327) على الأكوان كم طالب لمعارف أبدى بكا ... جمّا عليك وسيّء الأحزان (¬328) ويتيمة شقّت عليك جيوبها ... جزعا كأرملة من الجيزان (¬329) ¬

(¬319) في ت: «بكاء». (¬320) في ط وت: «أسنانه»، وفي التقريرات: «ألف بساءة»، وبسأ بالشيء: أنس به. (¬321) في ت: «الأسمى». (¬322) في ت: «من الدروس». (¬323) في التقريرات: «الزهر». (¬324) في ط وت: «طرتائها». (¬325) في ط: «للحقيق»، وفي التقريرات: «بالتحقيق». (¬326) في ط: «أطوفور». (¬327) في ط وت: «سنائمها». (¬328) كامل البيت ساقط من التقريرات. (¬329) كامل البيت ساقط من التقريرات.

يهنيك أنّك غير مسؤول (¬330) بذا ... ك (¬331) المشي من اسهالك الزّيّان (¬332) فيه تيقّنّا سعادتك الّتي ... حيّت تشهّدك العظيم الشان كمد (¬333) الحسود به وكلّ مذبذب ... غمر ردي أصله قرنان (¬334) أنت السّعيد على الحقيقة والّذي ... أرضعت للتقوى أجلّ لبان أنت الشّهيد وأنت خير مبرا ... من كلّ ما يدعو إلى الشّنآن قد كنت للعلماء سلطانا له ... فضل دراه كلّ ذي سلطان أجرى عليك الطرف دمعا (¬335) كاد أن ... يبدو بهدى (¬336) الدّار ذا طوفان (¬337) سأقول للقوم الألي (¬338) باحثتهم ... بمباحث زهر الوجوه حسان أجروا الدّماء على المحاجر واتركوا ... ماء الشؤون (¬339) لغير هذا الشان نبذت (¬340) مفاتح جنّة الخلد الّتي ... تاقت لزورتكم إلى رضوان يبدو أمامك فاتحا أبوابها ... ويريك أسنى الحور والولدان فتكون بينهم أجلّ منعّم ... طرب وخير مخلّد جذلان تسعى عليك من الرحيق المشتهى ... ومعينها الولدان بالكيسان نلت الرّضى المهدى إليك كماله ... مننا موفّرة من المنّان يهنيك في تلك القصور تنعّم ... قد حزته في رحمة الرّحمان / فارقت دهرك شاكيا أفعاله ... وبنيه (¬341) أهل الزّيغ والكفران وقدمت مسرورا على مولاك ذا ... دين كدين حبيبه العدنان دام البكاء عليك من أهل الهدى ... في كلّ منزلة وكلّ مكان لو أنصفوك بدوا أسيل (¬342) مآتم ... كمآتم ريت (¬343) من السنوان من كلّ لاطمة لورد ناظر ... شمّاء غير مهانة وعوان ومبينة جزعا شديدا مبعدا ... عنها (¬344) نفيس للحلي حصان ¬

(¬330) في ت: «مسؤل». (¬331) في ت: «بذا». (¬332) في التقريرات: «الربان». (¬333) في ت: «كمدا». (¬334) في التقريرات: «باد الحسادة والعداوة عان». (¬335) ساقطة من ش. (¬336) في ت: «بهذا». (¬337) في الأصول: «طرفان». (¬338) في ت: «الملي». (¬339) في ت: «ما الشوق»، وفي ش: «ما الشؤن». (¬340) في ط وت: «تبدت». (¬341) في ط: «نبيه». (¬342) في التقريرات: «أهيلا». (¬343) في ط: «ريث». (¬344) في التقريرات: «عنه».

أبا الشّذا المسرور في دار البقا ... بأوانس حور العيون (¬345) غوان أبقيت فينا خيّرين حجاهما ... وذكاهما الوقّاد نقّادان (¬346) كلّ يرى بعفافه ورشاده (¬347) ... فخر الأحبة زينة الأقران سيحلّ في تلك المجالس عالما ... بمقاصد التفكير والإمعان (¬348) ألفاظه المسرور سامعها ترى ... كالزهر منثورا (¬349) بروض جنان (¬350) يدعى الكبير وضدّه بين الورى ... بمحمّد وبعابد الرّحمان بهما عن الذكرى لفضل أبيهما ... قد تغتدي يوما أولي سلوان غمّي عليك أبا الشّذا (¬351) أظهرت ما (¬352) ... ظهر الصّباح لمن له عينان إني لأضعفها وإن أصبحت ذا ... كمد عليك به الرّقاد جفان وأبين من دمعي سوابق تغتدي ... تجري لبعض الأرض في ميدان (¬353) يبكي عليك محمّد في تونس (¬354) ... ويرى رعاه الله ذا هيمان أيّ امرئ من بعد فقدك لا يرى ... في بردة المتحيّر الولهان إن التّلامذة الألي علّمتهم ... سلبوا النّهى فبدوا ذوى هذيان يجب البكاء عليك يا شمس الهدى ... أبدا على النسوان والذّكران رحم الإله لكم كريم حشاشة ... ما جال فيها الهم (¬355) بالعصيان / ¬

(¬345) في الأصول: «حور العين»، وفي التقريرات: «زهر العيون». (¬346) في التقريرات: «أبقيت فينا صينا سيحل في مثوى الدروس لكم بغير توان». (¬347) في التقريرات: «أعني أبا عبد الله محمدا». (¬348) في التقريرات: «مستحسن الإدراك محمود الحجا في رائق التحقيق ذا الامعان». (¬349) في ط: «منشور». (¬350) بعدها في التقريرات: «وحياؤه كم سر أرباب الهدى ورأوه خير طبيعة الإنسان». (¬351) في ط: «أبا الشد». (¬352) في الأصول: «ظهرت كما». (¬353) في التقريرات: «وأنبت من دمع سوابق قد جرت من بعض ظهر الأرض في ميدان». (¬354) في التقريرات: «يبكي عليك وقد حوته تونس». (¬355) ساقطة من الأصول والمثبت من التقريرات.

ترجمة الشيخ أحمد بن أحمد الشرفي

وسقى الغمام ثرى يحلّ ببطنه ... فيه لكم متقدّس الجثمان ما ناحت الثّكلى وحولق موجع ... وتناوحت ريح على الأفنان (¬356) ورآى الورى شأن امرئ برثائكم ... يعلو وأبكى نائح الورشان. وتولّى مشيخة المدرسة بعده نجلاه المتقدّما الذكر، ثم انتقلا لرحمة الله تعالى شهيدين بالطاعون سنة تسع وتسعين ومائة وألف (¬357). ترجمة الشّيخ أحمد بن أحمد الشّرفي: فتولّى مشيختها بعدهما الشيخ الإمام الهمام العمدة الثقة الثبت الحجّة أبو العباس سيدي أحمد ابن سيدي أحمد الشرفي المفتي المقدّم الذكر، نال من العلوم الدينية الحظ الأوفر عربية بأنواعها وفقها وحديثا وتفسيرا وأصولا وتوحيدا وقراءة وتجويدا وحسابا وفرائض وميقاتا، وحاز سياسة أبيه وسيرته الحسنة بل فوق ذلك، وفاق أهل العصر في الفتاوى والأحكام والتّوثيق، ومع ذلك فهو متحمّل للأذى، صفوح عن الزّلاّت، حاز رياسة بلده لقيامه بنوازلهم ومعضلات وقائعهم، وله زيادة اشتغال بالعلم، فيعلم بالمدرسة والجامع الأعظم. تفقّه وأخذ العلم عن شيخه الشيخ سيدي طيب وشقيقه الشيخ سيدي حسن المذكورين أولا وغيرهما ببلده، ثم ارتحل لتونس سنة سبع وستين ومائة وألف (¬358)، وأقام بها سبع سنين، فأخذ عن الشيخ أبي عبد الله سيدي محمد الغرياني، وشيخنا سيدي عبد الله السوسي، وشيخنا سيدي محمد الشحمي، وشيخنا سيدي قاسم المحجوب، ومن في تلك الطبقة من علماء تونس / وعن الشيخ أبي عبد الله سيدي محمد الهدة السوسي حين إقامته بتونس، وأخذ القراءات والتجويد عن الشيخ سيدي حمودة إدريس التونسي، وله شرح على أبيات نظمها شيخه المذكور في توجيه أوجه الآن (بسورة يونس إذ ركبت مع «آمنت به» على قراءة الإمام نافع من رواية ورش من طريق الأزرق (¬359) ¬

(¬356) كذا في التقريرات وفي الأصول: «الأفقان». (¬357) 1785 م. (¬358) 1754 م. (¬359) وجعل لذلك جدولا.

ترجمة الشيخ أبي عبد الله محمد بن حسن الشرفي

سمّاه تحفة الاخوان (¬360) في توجيه أوجه الآن) (¬361) فأفاد فيه وأجاد، وبيّن توجيهها على غاية المراد مستشهدا على ذلك بكلام حرز الأماني للشاطبي، وبيّن من أين تؤخذ تلك الأوجه منه، وبحث فيه مع صاحب غيث النفع للشيخ النّوري - رحمه الله تعالى - وأرسله إلى شيخه المذكور فأجازه فيه بكلام نثر ونظم، وأطلع عليه غيره من علماء (¬362) الفن فأجازوه كذلك، وله بعض كتابة وتقريرات على شرحي الشيخ عبد الباقي والشيخ الخرشي على مختصر العلامة سيدي خليل وعلى كفاية الطالب على الرّسالة وغير ذلك. وجرت بينه وبين الشيخ عبد السلام المسدي الشهير بالأزهري سؤالات وأجوبة نحوية نظما ونثرا. وقد ينظم الشعر قليلا فمن نظمه قوله: [المتقارب] إلاهي سألتك بالمصطفى ... شفيع الخلائق يوم المعاد لتغفر ذنبي وتسترني ... ولا تفضحنّي يوم التّناد فأنت الحليم وأنت الرّحيم ... وأنت الغفور لذنب العباد وله غير ذلك في هذه المعنى (¬363)، ولم يزل قائما بالعلم حق القيام أعانه الله على ما أولاه وأمد في عمره وأجرى الصّالحات على يديه / وسدّد نظره ووفّقه للحق وأعانه عليه (¬364). ترجمة الشّيخ أبي عبد الله محمّد بن حسن الشّرفي: ولم يعقب أخوه الشيخ سيدي حسن من الذكور إلاّ نجله الأسعد أبا عبد الله الشيخ سيدي محمد، فبعد ما أخذ عن الشيخ سيدي طيّب وعمّه الشيخ سيدي أحمد وغيرهما من فقهاء بلده انتقل إلى تونس فأخذ عن فقهائها، وأخذ عنا شرح رسالة إستعارات ¬

(¬360) توجد منها نسخة بالمكتبة الوطنية بتونس، وأصلها من مكتبة العدل محمد شيخ روحه، وهي رسالة صغيرة في تسع ورقات من القطع الكبير والتقاريظ في خمس ورقات. (¬361) ما بين القوسين ساقط من بقية الأصول. (¬362) هم رفقاؤه في الدراسة كأحمد بن أحمد الشقانصي القيرواني، ومحمد السنان، وأحمد بن منصور. (¬363) وفي أغراض أخرى. (¬364) وكانت وفاته في سنة 1229/ 1814، أنظر تراجم المؤلفين التونسيين 3/ 167.

ترجمة الشيخ محمد المغربي

السّمرقندي لشيخنا أبي العباس سيدي أحمد الدمنهوري - رحمه الله تعالى - فسأل وأجاد واستفاد، وله إجازة من شيخه أبي عبد الله سيدي محمد الغرياني بن علي بعد ملازمته له مدة وأراد الرجوع إلى بلده، كما أجازه غيره نظما ونثرا كما سأل هو نظما، ثمّ رجع إلى وطنه بما ناله من علوم الدين، فحاز منصب أبيه علما وفهما وفتوى، فهو نسخة من أبيه وما كان من فضائله فهو فيه، وفّقه الله للصّواب والصّالحات، وأعانه على ما هو قائم به من الطاعات. وله عدّة دروس بمقام الشّيخ أبي يحيى الضابط والمدرسة (¬365) وغير ذلك، نفع الله به المسترشدين. ترجمة الشّيخ محمّد المغربي: وقد أسلفنا من تفقّه على الشيخ سيدي طيّب وأن منهم الشيخ أبا عبد الله الحاج الأبر سيدي محمد المغربي، أصله من خنقة سيدي ناجي (¬366) ذهب أولا لمصر وتفقّه بها، ثمّ رجع إلى صفاقس فلازم الشيخ في مدرسته سنين كثيرة، وأخذ (¬367) عنه الشيخ عبد الباقي (¬368) على العزية في صغر السن بعد الفراغ من تعلّم القرآن، فحصل لنا به النفع، ثمّ إنّه إنتقل لمدينة القيروان فأقام بها ونشر العلم ونفع / المسترشدين بها وقبلوه وأكرموا نزله، وتفقّه به خلق كثير، وتوفي بها - رحمه الله تعالى -. ترجمة الشّيخ علي ذويب: ومن أجلّ من أخذ عنه ممّن تقدّم الأديب الأريب الشيخ أبو الحسن علي ذويب أحد شعراء صفاقس المتأخرين، وله قصائد ومقطعات لا تحصى ولا تعدّ كثرة إلاّ أنّه غلب عليه الهجاء، فاستهجنه النّاس لذلك حتّى رموه عن قوس واحدة، وكان مغرما بعلوم الأدب، حتّى كأنّه لا يعرف إلاّ هو مع أنّ له حظّا وافرا من المنطق والكلام وعلوم ¬

(¬365) الحسينية. (¬366) بالجزائر. (¬367) في بقية الأصول: «أخذ». (¬368) هو الزرقاني.

البلاغة. وكانت له قوّة تعلّق بعلوم الأوائل كالطبّ والأغاني وغير ذلك، ومن شعره ما أرسل به إليّ مستعيرا لكتاب «شرح الصحائف» (¬369)، لمؤلّفها ملك الحكماء ورئيس العلماء أفضل (¬370) المتأخّرين شمس الملّة والدّين محمّد الحسيني السمرقندي (¬371) - رحمه الله تعالى - في علوم الكمال فقال: [الطويل] أيا ذا الّذي أضحى طراز المعارف ... وأعطى إلى التّدقيق أوفى العوارف وشوهد مغرى بالرّشاد ومغرما ... يبثّ دروسا تحت ذيل السّدائف (¬372) ويا من غدا ذا سؤدد حسنت به ... مدائح قد وافته من كلّ واصف ومن ذكره للقلب مني مطرب (¬373) ... كما يطرب النّشوان عزف المعارف ومن رمت صفو الودّ منه منزّها ... عن الدّخل الخافي وبعض الزخارف ومن لم يزل يبدي غريب مباحث ... لتحقيق علم من تليد وطارف ومن دام ممدوح البديهة لابسا ... من الكرم الموفور أبهى المطارف ومن صار أستاذا يقرّ لفضله ... أولو أدب أمسوا أجلّ الغطارف (¬374) أعرني ما اشتاق الفؤاد لقربه ... وذاك - رعاك الله - شرح الصّحائف كتاب به أمحو حنينا موفّرا ... بنفسي إلى إحراز شرح المواقف بهمّتك العلياء أصبحت جامعا ... لكلّ كتاب منتهى كلّ عارف لقد حزت كتبا لم يحزها سواك من ... أفاضل كانت من سراة (¬375) الخلائف فلا زلت محمودا لدى النّاس ملجأ ... لكلّ امرئ من طارق الجهل خائف ولا برحت آيات فهمك للنّهى ... تسرّ بما تهدي لها من لطائف عليك سلام الله ما ذرّ شارق ... وأطرب في الرّوحاء (¬376) شذو الهواتف ¬

(¬369) الصحائف اللامية. (¬370) كذا في كل النسخ ولعلها: «الأفاضل». (¬371) محمد بن أشرف الحسيني السمرقندي، شمس الدين، عالم بالمنطق والفلك والهندسة وغير ذلك (ت. في حدود سنة 600/ 1203) معجم المؤلفين 9/ 63، المستدرك على معجم المؤلفين ص: 603. (¬372) في بقية الأصول: «السرائف». (¬373) في ش: «يطرب». (¬374) في ط: «الغطارب»، وفي ب: «العطارف». (¬375) في ط: «من حسرات». (¬376) في ش: «الدوحاء».

ترجمة الشيخ محمد الزواري

وتفقّه أيضا (¬377) بصفاقس على شيخنا أبي الحسن سيدي علي الأومي وعنه تمكّن في علوم العروض أوّلا ثمّ رحل لتونس فأخذ عمّن لقيه وامتدح الأمراء بها وبغيرها وأجازوه على ذلك، وكان قليل الحظ لم يستقم له حال، وصرف من بلده لمصر بسبب امتداحه لبعض الناس وذمّ من لا يستحقّ الذّمّ، ثمّ تلطّف والده وسعى في رجوعه ولم يزل على ذلك حتّى أدركته منيّته بالطاعون سنة تسع وتسعين ومائة وألف (¬378) بصفاقس. ترجمة الشّيخ محمّد الزّواري: وأمّا شيخنا أبو عبد الله سيدي محمد الزواري فكان - رحمه الله تعالى - مكفوف البصر، ومع ذلك فهو ملازم لتعليم العلم وتعلّمه إلى وفاته، وأخذ أيضا عن شيخنا الأومي وشيخنا أبي عصيدة وغيرهم. وكان فقيها عابدا ملازما لتلاوة الكتاب العزيز ليلا ونهارا، فلا تراه إلاّ متعلّما أو معلّما أو تاليا للقرآن العظيم، وما زال كذلك إلى أن توفّي - رحمه الله - بمرض الإستسقاء سنة نيف وسبعين ومائة وألف (¬379). ترجمة الشّيخ أبي عبد الله محمّد المصمودي: وأمّا الشّيخ أبو عبد الله محمد المصمودي القاضي، فإنّه كان أوّلا معلّما للأطفال / ثمّ اشتغل بالعلم. وكان فقيها نحويا متكلّما عروضيا نظم قليلا، ذا عفّة وصلابة في الحقّ. تولّى القضاء أوّلا وصرف عنه عن غير موجب ثم أعيد للقضاء وصرف لضعف بصره. وتفقّه أيضا بشيخنا الأومي وغيره، ولم يخرج من بلده واستشهد بالطّاعون سنة تسع وتسعين ومائة وألف (¬380). ¬

(¬377) ساقطة من بقية الأصول. (¬378) 1785 م. أنظر تراجم المؤلفين التونسيين 2/ 323 - 326. (¬379) بعد سنة 1757 بقليل. (¬380) 1785 م.

ترجمة الشيخ عبد الرحمان بكار

وأمّا شيخنا أبو عبد الله سيدي محمد الدّرناوي، فكان - رحمه الله - انتقل أوّلا لمصر، فأخذ عن الشّيخ إبراهيم شعيب التّونسي وغيره، ثمّ قدم لصفاقس فأقام بالمدرسة ملازما لصحبة الشّيخ سيدي طيّب الشّرفي، ثمّ انتقل لتونس وصحب الشيخ أبا عبد الله محمد الشّحمي، وتزوّج بها، وتولّى مدرّسا بجامع الزيتونة، وانتقل لمذهب أبي حنيفة بعد أن كان مالكيا، وتولّى مشيخة المدرسة المرادية، وكان مكفوف البصر، ثمّ رجع لدرنة (¬381) وطنه وبها كانت وفاته. ترجمة الشّيخ عبد الرّحمان بكّار: وأمّا الشيخ أبو زيد السيد الحسيب النسيب الشّريف سيدي عبد الرّحمان بكّار فقد أخذ عن الشيخ سيدي طيّب (¬382) وشيخنا الأومي، ثمّ انتقل بعد ما تمكّن من مذهب مالك وغيره من علوم الدين معقولا ومنقولا إلى القسطنطينية (¬383) فتفقّه على فقهائها بمذهب أبي حنيفة ثمّ انتقل إلى مصر فاجتمع بعلماء المغرب والمشرق وأخذ علوم الفريقين وخلاصة المذهبين، فصار عمدة محقّقا ثبتا مدقّقا متفنّنا، أديبا شاعرا مجيدا فصيحا بليغا، ذو حظ وافر من المنطق والأصلين، فقيه، محدّث، مفسّر، أما العربية بأنواعها فهو إمامها، عارف بأيّام النّاس والسّير / والمغازي، حسن السّياسة والأدب، وساعة التاريخ هو شيخ رواق المغاربة بالجامع الأزهر (¬384). وله عدّة تآليف وشعره شائع ذائع معروف في غاية الجودة والبلاغة، إمتدح النّاس مغربا ومشرقا، وأجيز على ذلك الجوائز الوافرة، وهو ممّن جاور الجامع الأزهر لأخذ العلم وتعليمه للمسلمين لا شغل له سوى ذلك، أعانه الله على ما أولاه وبلّغه من الدارين ما يتمنّاه (¬385). ¬

(¬381) بطبرق في ليبيا. (¬382) الشرفي. (¬383) ودخل كرسي مملكة الروم فأكرم وانسلخ عن هيئة المغاربة، ولبس ملابس المشارقة مثل التاج والفراجة وغيرهما وأثرى: تاريخ الجبرتي 2/ 169 - 170. (¬384) بعد وفاة الشيخ عبد الرحمان البناني (نسبة إلى بنان من قرى المنستير) نفس المرجع. (¬385) مات بالقاهرة سنة 1209/ 1794 - 1795: أنظر تاريخ الجبرتي 2/ 169 - 170، دار الجيل بيروت 1978، (ط.2).

ترجمة الشيخ إبراهيم الخراط

ترجمة الشّيخ إبراهيم الخرّاط: وأمّا الشّيخ أبو إسحاق سيدي إبراهيم الخرّاط، فهو من أجلّ فقهاء صفاقس وشعرائها المجيدين، أخذ العلوم عن الشيخ سيدي طيّب الشّرفي، وشيخنا أبي الحسن سيدي علي الأومي، وشيخنا أبي عبد الله محمد الفراتي، إبن علي، وغيرهم من فقهاء بلده، فغرى من صغره بعلوم الأدب، وبرع في علوم البلاغة، والعروض، فبلغ أقصى الرّتب، وارتفع بذلك صيته على شعراء زمانه خصوصا وقد انقرض الشّعراء بالطّاعون، وبقي بعدهم على أنّهم لو بقوا ما نقص مقامه عمّا هو فيه من علوّ المقام، غير أنّه لا يخلو من نكبات الزّمان على جاري عادة الله تعالى في الأدباء ليكون مكفّرا لسيّئاتهم فضلا من الله ونعمة، إمتدح الأمراء غربا وشرقا، ونال منهم على ذلك العطايا الجزيلة، وله لطافة وسياسة زائدة تروّض (¬386) كلّ صعب من الأمراء فضلا عمّن دونهم. وكان والده - رحمه الله - الشيخ أبو العباس أحمد الخرّاط من مقدّمي البلد (¬387) وأستاذيها، وكانت له سياسة حسنة ولطافة ومروءة، حمّالا لأذى الجفاة، صفوحا عن عوارض الزّلاّت، ومع ذلك فلم يسلم من أذى الحسدة والأعداء / فسعوا به إلى الأمير بتونس سيدي علي باي إبن سيدي حسين باي - رحم الله جميعهم - فأمر بسجنه فاشتدّ به الحال وضاقت به الحيل، فاتّفق أن مولاي علي ابن مولاي محمّد إبن مولاي إسماعيل قدم من الغرب لقابس متوجّها لحجّ بيت الله الحرام، فتلقّاه الشيخ أبو إسحاق سيدي إبراهيم الخرّاط بقابس وامتدحه بقصيدة بليغة مستشفعا به إلى السّلطان بتونس، فقبله مولاي علي المذكور، وفرح به وأكرم نزله وكتب له كتابا إلى السّلطان بتونس مستشفعا في الشيخ أبي العبّاس المقدّم، فأخذ الشيخ أبو إسحاق الكتاب وذهب به إلى تونس فقبله السلطان وقبل الشفاعة، وحسن خلاص الشيخ أبي العباس من محنته ببركة ولده. وله قصائد ومقطعات كثيرة جمعها بنفسه في ديوان، فمن غرر قصائده القصيدة المشار إليها قوله (¬388): ¬

(¬386) في الأصول: «تريض». (¬387) في الأصول: «بلاد». (¬388) في بقية الأصول: «وهذا نصّها».

[الطويل] إذا رمت إدراك العلا فاسلك الصّعبا ... وبالنّفس خاطر للخطير ودع رهبا وزر ربع من تهوى ولو كان نائيا ... على أيّ حال فيه كن هائما صبّا ألم ترني ملّكت للحبّ مهجتي ... ولم يعطني مثقال ودّ ولا حبّا لي الله كم خاطرت في سبل الهوى ... بنفس تعاف الورد إن لم يكن صعبا ففي درك الآمال أستقصر الخطى ... وفي موقف الأهوال أستصغر الخطبا يلين بما في مهجتي الصخر (¬389) من جوى ... ويذبل ممّا حلّ بي يذبل رهبا وما لان قاسي القلب يوما ولا صفا ... كنقش الصفا إسماعه مني العتبا له (¬390) نقرات (¬391) حين (¬392) أشكو ولفتة ... تحيّر لبّي فانظروا الظّبي والضّبّا ترجّج أطماعي بباسم ثغره ... فصحّح يأسي كسر مقلته الغضبا فيا مانعي وردا بلحظي غرسته ... ووردا شهيّا (¬393) من لماه احتمى عذبا إذا كان عذب الثّغر بالدّرّ يشترى ... فخذ فيه من أجفاني الؤلؤ الرّطبا بعدنا وما ينسي البعاد لأنّني ... أحمّل أشواقي النسيم إذا هبّا تعلّلني الذكرى فأغدو معاتبا ... عليل نسيم الرّوض يسعى لكم خبّا ومن عجبي أني بخدّك قد أرى ... على الجمر نملا (¬394) من عذارك قد دبّا حرام بأن ألقاك مؤتمن الحشا ... وألحاظك المرضى ترى الفتك بي ندبا فكم لي إذ (¬395) تسطو بها من وسائل ... وسائل دمعي ما رحمت له سكبا وحقّك لولا الحبّ (¬396) لم يند مدمعي ... ولو سامني دهري النّوائب والخطبا ولو فاض لي غرب الدّموع بأسره ... تخلّصت بالمولى الّذي ملك الغربا أبي الحسن المولى علي بن مالك ال‍ ... ـمغارب مولانا محمد قد شبّا هو الأسد الحامي هو الغيث (¬397) إذ همى ... هو المعقل السامي هو المرتقى الرّتبا مليك إذا ما شنّ (¬398) في الحيّ غارة ... سباهم ولا شدّوا حزاما ولا حقبا ¬

(¬389) في ت وط: «للضجر». (¬390) في ط: «به». (¬391) في ش: «نقرات». (¬392) في ش: «حتى». (¬393) في ط: «شميما». (¬394) في ت وط: «نحلا». (¬395) في ت وط: «إذا». (¬396) في زهر الربيع: «لولا أنت». (¬397) في ت وط: «إذا». (¬398) في ش: «إذا شن».

وأنزلهم بالسّبي عن خيلهم وعن ... نجائب (¬399) صاروا يؤمرون لها حلبا مليك إذا ما سار فوق بسيطة ... رأيت لديه البسط والأمن والخصبا يعطر أنداء إذا ماس عطفه ... ويرهب أعداء إذا اقتحم الحربا له رتبة (¬400) فوق السّماكين قد سمت ... وسلطنة داست بوطأتها الشّهبا تقاصر عنها للذّراع ذراعه ... وجاوزت الجوزا وروّعت القلبا إذا ما جرى في مجلس ذكره (¬401) همت ... سحائب واستسقت (¬402) به البقعة الجدبا أمولاي يا من في العلا حاز رتبة ... أبت منه إلاّ أن يدوس بها القطبا لعمري أصبت الرّأي حيث توجّهت ... ركابك للبيت الحرام الذي تحبى وقد سرت من فاس إليه بعسكر ... أراك إذا ما سرت فيه زها عجبا ذعرت قلوب الطّير والوحش والمها ... بسيرك في أرض بكم ملّئت ركبا كان الذي في مثلها قال واصفا ... رآك بها لمّا قطعت لها حدبا (¬403) تصدّ الرّياح الهوج (¬404) عنها مخافة ... ويفزع فيها الطّير أن يلقط الحبّا طلابك للأمواه في القفر والفلا ... يودّ (¬405) بعزم الحزم لو فتّش السّحبا ودوسك بالخيل الصّوافن (¬406) بنتها ... يلين حمى مرعى كليب له جنبا (فسر حيثما قد (¬407) شئت ملكا معظّما ... فإنك حزب الله أكرم به حزبا ودم كعبة الآمال والأمن للورى ... فأنت الّذي اخضرّت به السّنة الشّهبا) (¬408) وأنت الذي فيه يردّد منشد ... غدا سائرا شوقا وداعي الندا لبّى إذا لم تبلّغني إليكم ركائبي ... فلا وردت ماء ولا رعت العشبا ¬

(¬399) في ط: «بجاية». (¬400) في ت: «رتب». (¬401) في ت: «ذكر». (¬402) في ت: «واستقت». (¬403) هذا البيت ساقط من ت وط. (¬404) في ت وط: «الهودج». (¬405) في ت: «يعود». (¬406) في ت: «الصوفن». (¬407) ساقطة من ش. (¬408) ما بين القوسين في زهر الربيع: «فسر حيثما قد شئت ملكا معظما فأنت الذي أخضرت به القعة الجدبا».

ترجمة الشيخ أبي الحسن علي الأومي

بجاهك إنّي مستجير ولائذ ... على أنّني مولاي (¬409) لم أقترف ذنبا ولكن أرى قوما عليّ تغلّبوا ... وفيّ إلى الباشا عليّ وشوا كذبا غياثك لي إذ عنك دلّتني الورى ... وقالوا بملك الغرب لذ تأمن العطبا فجئت ولا والله غيرك قاصدا ... تشفّع لي فالنّصر من نحوكم هبّا ومن نبّهت أصواته عمر نيّم ... ومن تحمه يوما كليب وقى الرّهبا فصدّق ظنون الناس فيك فإنهم ... رأوني فقالوا حصّل الحرم الرّحبا وفز بثواب الحجّ والمدح والثنا ... فيا لك من ملك قضى الفرض والندبا فلا زلت محروس الجناب (¬410) مملّكا ... ولا زلت فرّاجا عن الوجل الكربا وصلّ على طه الشفيع محمد ... وسلّم وزد مولاي آله والصّحبا وصورة الكتاب الذي استشفع فيه هذا لفظه: المحبّ الأسمى (¬411) والأعز الأحمى (¬412) الأمير على تونس السيد علي باي أرشدك الله ورعاك، وسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وبعد فإنّ الأجل الفقيه السّيّد إبراهيم الخرّاط الصفاقسي ورد على مقامنا الكريم قاصدا الإستيجار بجنابنا العليّ بالله تعالى في أن نستشفع لك في ذنب والده وأن لا تؤاخذه عن خطيئة صدرت منه هفوة فأريد منك أن تكون قابلا شفاعتي فيه ولا بدّ، والله تعالى يكون لك بذلك وليّا ونصيرا، وهذا ما نؤكّد عليك به فاجتهد في كمال غرضنا من أجله، والله تعالى يحفظك ويرعاك والسلام (¬413). ترجمة الشّيخ أبي الحسن علي الأومي: ومن أجلّ فضلاء صفاقس وأعيانها شيخنا وأستاذنا وقدوتنا وملاذنا الشيخ الإمام الحاج الأبر العالم العلم العلاّمة الهمام القدوة العمدة المتقن المتفنّن المحقّق المدقّق أبو الحسن سيدي علي (¬414) الأومي - رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه، وجعل في مقعد صدق مستقرّه ومثواه -. ¬

(¬409) في ط: «ولم». (¬410) في ت: «الجنان». (¬411) في الأصول: «الأسما». (¬412) في الأصول: «الأحما». (¬413) وتوفي الشّاعر الشيخ إبراهيم الخرّاط سنة 1251/ 1836 لا سنة 1237 كما في المراجع الشرقية، راجع تراجم المؤلفين التونسيين 2/ 189 - 191. (¬414) علي بن علي بن محمد.

كان - رحمه الله - إماما في المعقول والمنقول، حاز من علوم الشّريعة الأصول وفروعها، والأحاديث وعلومها، والتفاسير وفنونها، وطرق القراءات والتجويد ووجوهها، والعلوم الأدبية العربية ظاهرها ومكنونها، ومن العلوم الرياضية منطقا وحسابا وهندسة ومساحة وهيئة وميقاتا كنوزها، ومن دقائق الحكمة مفتاح رموزها. كان - رحمه الله تعالى - تعلّم في صغره القرآن العظيم على شيخ البركة سيدي عبد الله الجمّوسي، فكان يحبّه ويجله كثيرا، ويدني مجلسه منه في صغر سنّه لما تفرّس أو كوشف له من الخير فيه، ثمّ علّمه ما تيسّر تعليمه من النحو والفقه والتوحيد، ثم ارتحل للقيروان فأخذ عن شيخنا أبي محمد سيدي عبد الله السوسي (¬415) ما تيسّر له / من فقه وحساب وفرائض ومنطق وتوحيد وغير ذلك، ثمّ ارتحل لتونس، ثمّ ارتحل لمصر فلقي الرجال كالشيخ الحفناوي والشيخ البليدي، والشيخ الملوي (¬416) والشيخ العمروسي (¬417) شارح مختصر خليل، وشيخنا أبي العباس أحمد الدمنهوري، وشيخنا أبي الحسن علي الصّعيدي (¬418)، وشيخنا سيدي حسن الجبرتي (¬419) في آخرين من فضلاء مصر، ثمّ (¬420) حجّ الفرض، وقدم لصفاقس بعد مقامه بمصر خمس سنين فأتى بعلوم جمّة فبثّها ونفع الله به خلقا كثيرا. وكان - رحمه الله - نصوحا، لا يقرئ إلاّ بتحقيق ولا يقرئ مختصر خليل إلاّ بحضور مادّة واسعة كالشّرح الكبير والصّغير للشيخ الخرشي وبالشيخ الأجهوري والشيخ العمروسي (417) والشيخ التتائي وغير ذلك من الشروح، وبحدود إبن عرفة وشرحها للشيخ الرصاع، وهكذا في جميع العلوم لا يقرئها إلاّ بحضور ما يمكن حضوره من المواد. وكان أتى من مصر بخزانة كتب واسعة استعان بها على بثّ العلوم وتحقيقها، وأخذ عنه خلائق ¬

(¬415) في ش: «السوسي». (¬416) في بقية الأصول: «الملولي». (¬417) في الأصول: «العمروصي»، وهو علي بن خضر المالكي (ت. سنة 1173/ 1760) وله مؤلفات أخرى عدا شرحه لمختصر خليل (الأعلام 4/ 284 - 285). (¬418) علي بن أحمد بن مكتوم الصعيدي العدوى، فقيه مالكي مصري، كان شيخ الشيوخ في عصره (ت. بالقاهرة سنة 1189/ 1775) وله عدة مؤلفات غالبها حواش على شروح كتب فقه مشهورة: الإعلام 4/ 260. (¬419) حسن بن إبراهيم بن حسن الزّيلعي الجبرتي العقيلي الفقيه الحنفي، له علم بالهندسة والفلك، والد المؤرخ عبد الرحمان (ت. بالقاهرة سنة 1188/ 1774) له نحو عشرين رسالة في الفلك والفقه: أنظر الإعلام 2/ 178. (¬420) ودرّس بالأزهر ومدحه بعض تلامذته المصريين وهذا لا نجده في غيره، أنظر تراجم المؤلفين 1/ 78 - 79.

كالشيخ سيدي طيّب الشّرفي، ومن نسب للفضل غيره كشيخنا سيدي محمد الزواري، والشيخ القاضي أبي عبد الله محمد المصمودي، والشيخ أبي الحسن علي ذويب، والشيخ أبي زيد سيدي عبد الرّحمان بكّار، والشيخ أبي إسحاق إبراهيم الخرّاط، والشيخ أبي الحسن علي الغراب. وكان - رحمه الله - ذا همّة وعفّة وصيانة، قد سدّ باب الطّمع من جميع الخلق في متاع الدّنيا، وارتفع عن المناصب كلّها، طلبه أهل بلده في تولّي القضاء، فأبى، فكتبوا فيه وثيقة بأنّه هو الأليق بنا، فأبطل جميع ما عملوه / فولّوا الشيخ كمّون - حسبما مرّت الإشارة إليه -. ولمّا احتمى من القضاء ألزموه بالتّدريس في الجامع الأعظم فأسعفهم وجعلوا له مرتّبا يستعين به من المجابي المخزنية (¬421) فأبى أن يقبله، فلقيه شيخنا أبو عصيدة (¬422) وقال: ما لك امتنعت من المرتّب وهو إعانة؟ فقال: هو من المجابي المخزنية وأكثرها ظلم، وكلّ لحم نبت من حرام فالنار أولى به (¬423)، فباسطه وقال: خذ به فحما واحرقه تحت القدر فقال: هو إستعانة، والإستعانة لا تكون إلاّ بالله وما أذن الله فيه، فجعلوه له من الجزية فرضيه، وكذا جعل له شيء من زكاة الحبوب يقتاته هو وعياله، وكان صابرا على الشّدّة حتّى وسّع الله عليه بالكفاف، وكان مائلا للخمول جدّا ولا يصلّي إماما إلاّ في مسجد مهجور إحتسابا، فسألناه عن ذلك فقال: لإحياء بيت من بيوت الله هجره النّاس لقلّة ما يعود عليهم فيه من الدّنيا، ولا يعرف للأمراء بابا ولو للشّفاعة، لأنّ الزّمان قد فسد، وبطلت عند أهله شفاعة الشّافعين، فوقوف العالم على أبوابهم لا فائدة فيه، فلذا نبذهم ظهريا، وجعلهم نسيا منسيا، والتّحدّث بهم شيئا فريا. ¬

(¬421) نسبة إلى المخزن وهو في أقطار المغرب معناه الحكومة. (¬422) هو رمضان بو عصيدة وقد مرت ترجمته. (¬423) يشير إلى الحديث الشريف «كل لحم، وفي رواية «كل جسد»، نبت من سحت فالنار أولى به»، رواه أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء 1/ 31 عن أبي بكر الصّديق، والطبراني في الكبير، وفي سند الحديق عبد الله بن واصل، أورده الذهبي في «الضعفاء» وقال: ضعّفه الازدي، وقال البخاري والنسائي متروك، أنظر فيض القدير للمناوي 5/ 17 - 18، ورواه أبو يعلى والبزار والطبراني - في الأوسط: «لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام». ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم خلاف وفي الباب عن خديجة وعن إبن عباس، بعض رجال الإسناد لا يخلو من مقال، أنظر: «مجمع الزوائد ومنبع الفوائد»، للحافظ نور الدين الهيثمي 10/ 293.

وكان أوّلا قد يتحمّل بعض الشهادات، فلمّا كثر طغيان (¬424) العامّة في بعض المنتصبين لتحمّل الشهادة أعرض عن ذلك تعفّفا وتكرّما كما فعل ذلك سيدي طيّب الشّرفي - رحمه الله -. وكان ممّن سلم المسلمون من لسانه ويده، كثير الإنجماع في بيته، لا يخرج إلاّ لدرس يقرئه أو زيارة الصالحين والأقربين، وطالت مدّته وضعفت بنيته، وقلّ تناوله للغذاء فصار جلدا ملائما لعظم، فما خرج من الدنيا حتى ترك جميع لذّاتها وزهرتها، وتوجّه لله بقلب سليم، معرضا عن الدنيا وأهلها. (قال فيه تلميذه البارع والأسد الضارع أبي الحسن علي الغراب) - رحمه الله - حيث قال: [الكامل] [خذ من فنون العلم (¬425) كلّ عويص (¬426) ... فالعلم يعلي قدر كل رخيص سيّما البيان فإنه لأجلّها ... قدرا، وأشرفها على التّخصيص (¬427) إذ كان (¬428) إيضاحا لها وملخّصا ... مفتاح باب السعد في التّلخيص ولمشكل التنزيل تبيانا وعن ... معناه كشّافا لدى التّنقيص فاشحذ سهام الفكر في تحصيله ... تكسى من العليا كلّ قميص وعليه فاحرص (¬429) لا تملّ فإنّه ... لم يحوه في الناس غير حريص (¬430) واعكف على الكتب (¬431) التي منه حوت ... عزّ (¬432) القواعد سيما (¬433) التّلخيص إذ قد حوى لشواهد (¬434) الفنّ التي ... عنهنّ يغيب فكر كلّ قنيص، ¬

(¬424) في الأصول: «طغى». (¬425) في الأصول: «فن»، والتصويب من ديوان علي الغراب، الدار التونسية للنشر 1973 ص: 153 اعتمادا على مجمع الدواوين التونسية لمحمد السنوسي. (¬426) في ط وت: «غويض»، وفي ت: «غوص». (¬427) في ب: «التحقيص»، وفي ط: «التمقيص»، والتصويب من الديوان. (¬428) في الأصول: «يزيدان». (¬429) في الأصول: «وعليها فافرح». (¬430) في الأصول: «مريص» والتصويب دائما من نفس المرجع. (¬431) في الأصول: «كتب». (¬432) في الأصول: «على». (¬433) في الأصول: «لا سيما». (¬434) في الأصول: «شواهد» والتّصويب من الدّيوان ص: 54.

إيجازه عن كلّ مختصر غني، (¬435) ... وعن المطول عند ذي التّمحيص، لكن إذا ما كنت آخذه على ... تاج الأيمة كامل التّخويص (¬436) أعني (¬437) أبا الحسن علي من غدا ... يعزي إلى الأومي لدى التّخصيص هو من بمضمار (¬438) البلاغة قد حوى ... حلب (¬439) السباق لدى (¬440) ذوي التّفريص أما العلوم فإنه لرميمها (¬441) ... أحيا ومنها حلّ كلّ عويص (¬442) (وملخص المعنى إذا أبدى الخفا ... منها يلخّص أيّما تلخيص) (¬443) ومتى أراد وصل معنى معرض ... أفكاره وصلت (¬444) بلا تربيص جمع الفضائل كلّها فأكرم (¬445) به ... من طود علم نال كلّ قنيص (¬446) ما عيب شيء منه إلاّ أنّه، ... عند السؤال، مشتّت التّنقيص فذوو الفضائل حين يذكر فضله ... تكسى من الأرداء (¬447) كلّ قميص لا خير فيمن راح ينكر فضله ... لكنّه من معشر التّنقيص بيت العفاف منزّه ذو همّة، ... عليا، وصلب الدّين غير شكيص لا زال من بحر الجزالة، والهدى ... خلا لزائره، وعذب قريص (¬448) ¬

(¬435) في ب: «معنا»، وفي ط: «معا». (¬436) التّخويص: تزيين التاج بصفائح الذّهب. (¬437) في الأصول: «يعني». (¬438) في الأصول: «من مضمار». (¬439) في الأصول: «حقب». (¬440) في الأصول: «من». (¬441) في الأصول: «لواء ميمها». (¬442) في الأصول: «حيا ومنها يحل كل غويص». (¬443) في الأصول: «وملحظ المعنى إذا بدا الخفا فيكون منها أيما تخليص» (¬444) في الأصول: «واصلت». (¬445) في الأصول: «فكن». (¬446) في الأصول: «من كود علمه تنال كل قنيص». (¬447) في الأصول: «الأوراء» والإصلاح من الدّيوان ص: 155. (¬448) في الأصول: «لا زال يرشح من بحر الجمالة والهدى خلاص لذائذه وعذب قريص»

وفي علوم الدّين والدّنيا اقتدى (¬449) ... نورا منيرا ساطع التّمحيص (¬450) وكفاه (¬451) في الدّارين ما من شأنه ... أن يهدى بالعلم كلّ حريص (¬452) واختم إلاهي لجمعنا بسعادة ... من بعد عيش طاب غير نكيص (¬453) واجعل شريف العلم نور خدودنا ... وشفيعنا في غد يوم خصيص (¬454) ثمّ الصّلاة على النّبيء محمّد ... ما غرّدت ورقاء فوق العيص (¬455) وممّا أنشده أيضا الشّاعر الأديب البارع الأريب الشّيخ أبو العبّاس أحمد أبو علي الصّفاقسي لمّا ازداد للشّيخ مولود لولده الشّيخ أحمد - رحمهم الله - هذه القصيدة حيث قال: [الكامل] بشراك (¬456) بالنّجل السّعيد الفاضل ... ولك الهناء بذي الغلام الكامل نجم تزايد والسّعود طوالع ... غرّاء حلّت في أجلّ منازل سرّ الأحبّة والعدا قد ساءهم ... بمفاخر كثرت وقدّ عادل حصّنته بالواحد الحي الذي ... ما أن يرى عنّا دعاه بغافل يا أحمد الأومي الّذي قد سرّني ... خلف له وسما بخير أوائل إنّي سررت بنجلكم فكأنني ... خلت الحبيب من السّرور بواصل فالله يجعله سعيدا مسعدا ... ويفوز كالجدّ الأصيل الواصل لله من سلف ومن خلف حوى ... كلّ المكارم فوق قول القائل أكرم بمولود الفخار محمّد ... قد جاء في الشهر المنير الحافل بالسّعد والأفراح أقبل والرّضى ... زاد المؤرخ والهناء الشامل] (¬457) ومن كراماته - رحمه الله - ما أخبرني به نجله الشّيخ المدرّس الفقيه النّبيه العدل العمدة أبو الثناء سيدي محمود - أبقاه الله وأعانه على طاعته وتقواه - فقال: إنّ الشّيخ ¬

(¬449) في الأصول: «وفي علوم الدين والدرس له». (¬450) في الأصول: «التحميص». (¬451) في الأصول: «ويكفيه». (¬452) في الأصول: «يهتم بالذي على العلم حريص». (¬453) في الأصول: «طارب غير بخيص». (¬454) في الديوان: «وشفيعنا في يوم حيص بيص». (¬455) العيص: الشجر الكثير الملتف. (¬456) في الأصول: «بشر لك». (¬457) ما بين الحاصرتين ساقط من ش، ووقعت إضافته من بقيّة الأصول.

لمّا قلّ تعاطيه الغذاء نادى في حصّة من الليل فلبّيناه فقال: إئتوني الآن باللبن الحليب، ولم يكن الوقت أوان حليب، فاعتذرنا له بأنّ الحصّة قد تمكّنت من جوف الليل، والوقت ليس أوان حليب، فاصبر للصّبح نبحث لك عمّا طلبت، وأمّا الآن فلا ندري أين نذهب، فقال: لا بدّ من حضوره في هذه السّاعة، وألحّ في الطّلب حتى أزعجنا وأقلقنا، ففوّضنا الأمر لله وصبرنا لعدم الحيلة، والصّبر حيلة من لا حيلة له، فإذا بقارع يقرع الباب في جوف الليل فخرجنا فوجدنا بعض الأقارب وقد أهدى لنا شيئا من الحليب وقال: ناولوه للشّيخ، فناولناه إيّاه وشكرنا الله تعالى على هذه النّعمة أن أعطاه الله سؤله. وذكر من حضر وفاته قال: إنّه عند خروج روحه - رحمه الله - غشيهم رائحة طيّبة لم يشكّوا فيها ولا طيب مع أحد من الحاضرين، وشاهدته بعد خروج روحه فوجدت جسده جلدا ملائما لعظم ليس فيه من اللحم شيء، وهو علامة على أنّ جسده لا يبلى. لأنّه من العلماء العاملين الذين ورد فيهم أنّ الأرض لا تأكل أجسادهم، وقد قالوا: إنّ الرّجل الصّالح يذهب دمه ولحمه في حياته فيبقى جسده على حاله بعد موته ولا يبلى وإن كان ذا لحم ودم كمن قتل ظلما بقوته ودمه ولحمه فتح الله / في جسده خرقا لطيفا تنصب منه المواد الموجبة للتّعفن حتّى تجفّ موادّه ويبقى جسده على حالة لا تغيّره الأرض. وخرج من الدّنيا ولم يتبعه من جميع النّاس إلاّ حسن الثّناء، ولم يسمع من أحد تعرّض لجنابه بسوء ولو قلامة ظفر لأنّ الإنسان لا يخلو من ضدّ وحسود، ولكن الله سلّمه من طعن الطّاعنين وذلك مصداق قوله - عليه الصّلاة والسّلام -: «ازهد ما في أيدي النّاس يحبّك النّاس، وازهد في الدنيا يحبّك الله» (¬458) أو كما قال - عليه الصّلاة والسّلام -. توفّي - رحمه الله - بجمادى الأولى من سنة أربع ومائتين وألف (¬459). ¬

(¬458) الحديث الوارد فيه تقديم «أزهد في الدنيا يحبك الله، الخ. . .»، رواه إبن ماجة في سننه والطبراني في المعجم الكبير والحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان عن سهل بن سعد الساعدي، وحسّنه الترمذي وتبعه النووي، وصحّحه الحاكم في المستدرك ورواه خالد بن عمر. قال فيه إبن حبان: خالد يروي عن الثّقات بالموضوعات، وقال إبن عدي: خالد وضع هذا الحديث، وقال العقيلي: لا أصل له، وقال البيهقي عقب إخراجه للحديث: خالد بن عمر ضعيف، أنظر فيض القدير 1/ 481. (¬459) 1790 م. لعلي الأومي ترجمة في تراجم المؤلفين التونسيين 1/ 77 / 87 إعتمادا على ثبته المخطوط، والثّبت الذي أجازه به الشيخ عبد الله السوسي.

ترجمة الشيخ الأديب أبي الحسن علي الغراب

ترجمة الشّيخ الأديب أبي الحسن علي الغراب: ومن أجلّ أعيان أدباء صفاقس المتأخّرين المشهورين في عصرنا من شاع صيته مشرقا ومغربا، واتّفق على فضله وعلو مقامه بلاغة وأدبا، الشّيخ الأجلّ أبو الحسن علي البارع، شهر الغراب. كان - رحمه الله - آية من آيات الله مؤيدا في نظمه ونثره واشتهر بذلك، وهو فقيه عدل ذو (¬460) حظّ من علوم الحساب، والميقات، والمنطق، وأمّا علوم التّاريخ وأيّام النّاس وعلوم البلاغة فحدّث عن البحر ولا حرج، وأمّا تورياته وتشبيهاته واستعاراته وكناياته فأمر مشهور، ومن وقف على كلامه إعترف بفضله ونباهة شأنه، وألحقه بالشّعراء المجيدين المتقدمين. وله ديوان كبير (¬461) وما في أيدي النّاس من كلامه يغني عنه لأنّ النّاس كان لهم إعتناء زائد بكلامه، فكلّما قال شيئا تلقّوه سرعة بالقبول، وشهد بفضله أولو الفضل / شرقا وغربا. قال الشّيخ أبو القاسم الأديب المصري: لا أعلم أحدا في هذه الأعصار المتأخّرة أدرك شأو الغراب لا من المشارقة ولا من المغاربة، والحقّ ما قاله، فإنّ جميع الأدباء ذوي الفضل والإنصاف مقرّون بفضله وعلو طبقته. ولمّا رحل أستاذنا أبو الحسن سيدي علي الأومي لمصر للقاء الأفاضل والأخذ عنهم وكان أبو الحسن الغراب من تلاميذه كتب أبو الحسن الغراب قصيدة إمتدح بها الجامع الأزهر وعلماءه (¬462) ونوّه بشأن الشّيخ الحفناوي محشي الأشموني (¬463)، فلمّا وقف الشّيخ الحفناوي على القصيدة وظهرت له بلاغتها وفضل قائلها وبراعته وقوّة عارضته في الفنون الأدبية قال - رحمه الله -: «كم في الزّوايا من المزايا»، عنى بالزوايا أركان البيوت من ¬

(¬460) في الأصول: «ذا». (¬461) طبع بالدّار التّونسيّة للنّشر، تونس سنة 1973 تحقيق محمّد الهادي المطوي وعمر بن سالم وفيه مقاماته ورسائله في 400 ص: من القطع المتوسّط. (¬462) في الأصول: «علماؤه». (¬463) هو يوسف بن سالم الحفناوي أو الحفيني نسبة إلى حفنة إحدى قرى بلبيس، أصله منها، وهو من أهل القاهرة من فقهاء الشافعية، شاعر (ت. بالقاهرة سنة 1176/ 1763) وله حواش وشروح، وديوان شعر، وأشهر مؤلفاته: حاشية على شرح الأشموني لألفية ابن مالك في النحو قال: بها صيتا وقيمة، ولعل هذه الحاشية وصلت إلى صفاقس قبل رحيل الشيخ الأومي إلى مصر. أنظر ترجمته في الإعلام 8/ 232.

الإنزواء والإنضمام (¬464)، ولا شكّ أنّ صفاقس بالنّسبة لمشاهير الأمصار كالزّاوية من البيت، والأمصار المشهورة كالصّدر من البيت، فكان الشّيخ أبا الحسن الغراب - رحمه الله - بآدابه مزيّة من مزايا الدّهر، وفريدة من فرائد العصر، ملقاة بزاوية من زوايا الأرض. ومن غرر قصائده ما أنشده في مدح السّفن التي أنشأها المرحوم الباشا سيدي علي باي إبن المرحوم سيدي حسين باي للجهاد بقوله - رحمه الله تعالى وعفا (¬465) عنّا وعنه بفضله وكرمه آمين -: [الطويل] بشائر في الإسلام زاد بها عزا، ... [وآيات نصر نورها يذهب الرّجزا بها قوي الدّين القويم وإنّما] (¬466) ... بها الكفر ولّى مدبرا وانثنى عجزا وبال على أهل الصليب وحزبهم ... ومن جحدوا من عابدي اللات والعزّى (¬467) بفلك لغزو الكفر بالبحر أجريت (¬468) ... يسابق أفلاك السماء جريها وخزا (¬469) / يفوز بأجر من علاها، ومغنم، ... إذا ضربوا في البحر، أو ركبوا غزّى (¬470) عليها لواء العزّ والنصر خافق (¬471) ... ولكن جموع (¬472) الكافرين بها تخزى إذا لقي الإسلام كفرا بها ترى ... جميع العدى أسرى وأعناقهم حزّى (¬473) عليها من الرّحمان حرز من العدى (¬474) ... على أنّها للمسلمين غدت حرزا ¬

(¬464) في ش وب وت: «الأنظام». (¬465) في ش: «عفى». (¬466) ما بين حاصرتين إضافة من ديوان على الغراب ص: 84. ووقع التّصويب على مقتضاه. (¬467) في الأصول: «العزا». (¬468) بالديوان: «سوابح فلك للمغانم أنشئت». (¬469) في الأصول: «وفزا». (¬470) في الأصول وفي المجمع 662: «إذا ركبوا في البحر أو ضربوا غزا» والتّصويب من الدّيوان ص: 85، قال المحققان: «إضطربت الروايات في هذا العجز وأثبتنا رواية المجموع 13045»، وفي العجز اقتباس من سورة آل عمران 107. (¬471) في الأصول: «عليها لواء النصر والحفظ خافق». (¬472) في الأصول: «جميع». (¬473) في الأصول: «جزا»، وحزى: «مقطوعة». (¬474) في الأصول: «العدا».

فمن لجهاد (¬475) الكافرين بها استوى ... بأجر جزيل راح أو مغنم يجزى (¬476) لقد كان جيد البحر في الغزو عاطلا ... إلى أن أتت هذي الشّواني (¬477) له طرزا كأنّ الجواري المنشآت بيادق ... وكلّ غدا من هذه بينها فرزا (¬478) تردّى بها الكفار ثوب مذلّة ... وقهر، وثوب العزّ منهم قد ابتزّا إذا سمع المستأمنون بغزوها ... نعى بعضهم بعضا لهم وله وعزى (¬479) ألست تراهم حين جرّت وأدهشوا ... ثلاثة أيّام تكلّمهم رمزا (¬480) صموتا فلم تحتسّ من أحد لهم ... إذا لاح أو تسمع له في الملا ركزا (¬481) إذا نشرت للطّرد أشرعة لها ... شهدت بها العقبان تختطف الوزا كأنّ صارخ البارود منها وبيضه (¬482) ... رجوم هوت إثر الصّواعق بالأزرا طرايد (¬483) كل كالطواويس خفقت ... وأعلامه مثل البروق إذا فزا جرى (¬484) للأعادي بالجناحين طائرا ... ولا عجب فهو الغراب (¬485) له المغزى لئن سودوا بالقار منه جوانبا ... فإنّ بياض الغنم في وجهه أجزا يصول بأبطال الجهاد كأنّهم ... عفاريت جنّ في الوغى (¬486) حربهم وخزا إذا قارب الكفّار في الحرب (¬487) إنّما ... ثعالب (¬488) لاقتها أسود الشرى (¬489) وكزا تشاهد بيض الهند حلّت رقابهم ... وتبصر للسمرا بأعينهم غمزا (¬490) ¬

(¬475) في الأصول: «بجهاد» والتّصويب من الدّيوان. (¬476) في الأصول: «يجزا». (¬477) في الأصول: «هاتي الجوار»، والشواني ج شونة وهي المركب المعد للجهاد في البحر. (¬478) في الأصول: «وكل غدا منهن ما بينهما فرزا». (¬479) في الأصول: «عزا». (¬480) إقتباس من سورة آل عمران: 41. (¬481) إقتباس من الآية: 98 من سورة مريم. (¬482) البيض: الكور. (¬483) في الأصول: «طراريد»، الطرايد ج طراد: السفينة الحربية. (¬484) في الأصول: «يرى». (¬485) الغراب: السفينة. (¬486) في ش: «الوغا». (¬487) في الأصول: «في البحر». (¬488) في الأصول: «ثعاليب». (¬489) في ط: «الشدا»، وفي ب وت وش: «الشرا». (¬490) بعدها أسقط المؤلف بيتا وهو: ترى ألفا للقطع في وصلها بهم ولكن ترى في كل رأس بها همزا

جوار بيض الهند والسمر حملها (¬491) ... تناجز شرك الرّوم في وضعها نجزا بحملة من منشآت مملك ... جميل المزايا سيفه يذهب الرجزا (¬492) / أبي الحسن الباشا علي ابن مالك ... حسين الذي إحسانه يملك المرزا (¬493) ألا أيّها المولى الذي عز رتبة ... ويطلب من رضوان ربّ العلى فوزا (¬494) لتهنك سفن للجهاد صنعتها ... وفي مولد المختار أجريتها حفزا (¬495) تيمّن بها واسعد (¬496) فإن لها بكم (¬497) ... نجاة لبرّ البرّ تبلغه وفزا فبالله مجراها (¬498)، إذا ركبوا بها ... وبالله مرساها إذا وقفت (¬499) ركزا (¬500) لكم منشآت الغزو في البحر أجريت (¬501) ... ولي منشآت المدح في مجدكم (¬502) تعزى حكى كلّ فلك منشأ في ابتهاجه ... ربى، وصواريه به السرو والأرزا عجبت! وقد جرّوه للبحر إنّما ... من البحر قد جروا إلى البحر مفتزا ولو أن نوحا يركب الفلك ثانيا ... لما اختار في الدنيا سواه ولا اعتزا لكم مولد المختار جاء مهنّئا ... بفلك نجاة مثله في الورى عزا وقال: بعزّ الدّين والغنم ثق به ... وأرّخ: «به يحوى الغنائم والعزا» (¬503). وذلك سنة ألف ومائة وست وسبعين (¬504). ¬

(¬491) في الدّيوان: «جوار بأسد الغاب والقضب دونها». (¬492) في الدّيوان: جميلة صنع من صنيع مملك جميل المزايا قدره جاوز (¬493) في الأصول: «حسين الذي هامت مراتبه الجوزا». (¬494) قبل هذا البيت 15 بيتا أسقطها المؤلّف، أنظر الدّيوان ص: 87. (¬495) في الأصول: «هزا». (¬496) في الأصول: «أبشر». (¬497) في الدّيوان: «فان لكم بها». (¬498) في الدّيوان: «مجرها». (¬499) في الأصول: «وقفوا». (¬500) إقتباس من سورة هود: 41. (¬501) في الأصول: «أجرت» والتّصويب دائما من الدّيوان ص: 89. (¬502) في الأصول: «بحركم». (¬503) يقابل هذا التّاريخ بحساب الجمل سنة 1178/ 1764 - 1765 وهذه القصيدة في الدّيوان 84 - 89. (¬504) 1762 - 1763 م.

وكان أبوه أوصى لذكوره وذكور أخويه بثلث مخلفه، وله هو ذكر واحد، ولكلّ واحد من أخويه عدّة ذكور، فبعد وفاة والده طلب الشّيخ أبو الحسن أن يكون قسمة الوصيّة على عدّة جهات: أولاد الموصي لينوب والده ثلث الوصيّة، وطلب إخوته قسمتها على عدّة رؤوس الجهات الثلاث ليضعف حصّة ولده فتنازعوا في ذلك، وادّعى (¬505) الشّيخ أبو الحسن المذكور أنّ العرف إنّما جرى بالقسمة على الجهات، واستفتى المفتيين في ذلك، فأجابه شيخنا أبو الحسن علي بن الشاهد المينيي مفتي جربة - رحمه الله - بالعمل بمقتضى العرف، حسبما هو مطلوب الشّيخ أبي الحسن، وبذلك / أجاب الشّيخ الشّرفي - رحمه الله تعالى - وقرّر أن عرف البلد جرى بذلك، وعليه العمل عندنا ببلد صفاقس، وحكم الشّيخ أحمد لولو قاضي صفاقس بما أجاب به المفتيان، ورفع الخلاف في النّازلة. ثمّ توجّه الشّيخ أبو الحسن لتونس ليحكم له قاضي الحضرة، وكان العمدة الهمام الشّيخ سعادة (¬506) مفتي تونس من مشايخ الشّيخ أبي الحسن، وعلم أنّ الدّعوى لا تتمّ إلاّ بعد وقوف الشّيخ سعادة عليها، وأنّه لا بدّ من أخذ فتواه، فاستفتاه معتذرا عن تقديم غيره في الإستفتاء وتأخيره هو، ناظما لسؤاله في أعذب نورية، وأحسن توفية، وأوجز عبارة، وألطف إشارة بقوله: [الكامل] يا سيّدا (¬507) ساد الأنام بفضله، ... فسما على زهر السّما وزياده ألقت إليه المشكلات سلاحها ... من طوعها قهرا بغير (¬508) إراده ما جاء بابك للإفادة (¬509) سائل ... إلاّ سمحت له بخير (¬510) إفاده ومن (¬511) أتى مستنجد من دهره ... ما عوده إلاّ بخير إعاده (¬512) ¬

(¬505) في ش: «ادعا». (¬506) محمّد بن عمر سعادة العالم الأديب الشّاعر (ت.1171/ 1758) قرأ بجامع الزيتونة وبالجامع الأزهر ولبث طالب علم به مدّة سبع سنوات: أنظر تراجم المؤلفين التونسيين 3/ 29 - 34. (¬507) في الأصول: «يا كاملا». والتّصويب من الدّيوان ص: 139. (¬508) في الدّيوان: «وغير». (¬509) في ش: «يستفيدك»، وفي ب: «يستعيدك»، وفي ط: «بسعدك»، وفي ت: «يستعدك». (¬510) كذا في ب والدّيوان وفي بقية الأصول: «بكل». (¬511) في الدّيوان: «ومتى». (¬512) في الأصول: «ما لم يعد إلاّ بخير إعادة».

نظم الأفاضل درهم في عقدنا ... ولقد رجوت بكم تمام قلاده فلذا (¬513) جعلتك للختام لأنّه ... ذو الفوز من يختم له بسعاده (¬514) فأجاب الشيخ سعادة - رحمه الله - بقوله: [الكامل] حمدا لمن زان الوجود بعصبه (¬515) ... فضلاء في حل العويص وقاده فهم الكهوف لمن أتى مستنجدا ... ولهم بأسرار العلوم إفاده وصلاته وسلامه تترى (¬516) على ... من أوضح الدّين القويم وشاده (وجواب ناظمه كما قد نمّق ال‍ ... ـمفتون أعلاه بغوا إرشاده (¬517) / فهو الصّحيح وما حكوا من أنّه ... عرف لديهم في البلاد وعاده يقضي به أيضا ويكفيك الذي ... قد أسندوا عزوا بغير (¬518) زياده ولربّما (¬519) نصّ الوصيّة يقتضي ... هذا تأمله تجده (¬520) مفاده إذ الإشتراك والإنفراد لواحد ... قد عيّن الموصي بذاك مراده فاقبله يا من قد أتى بقريضة ... سحرا وحلانا بخير قلاده واعذر فنسجي هلهل لكنّه ... بقبولكم يكسى (¬521) حلي سياده فالله يمنحنا مواهب فضله ... وننال في الدّارين خير سعاده. وحكم بصحّة ما أجاب به الأشياخ قاضي الحضرة العمدة الهمام الشّيخ أبو العبّاس أحمد الطرودي الحنفي، وأشهد على ذلك بتاريخ أوائل رمضان المعظّم قدره بالإنزال من شهور عام ستّة وخمسين ومائة وألف (¬522). وكانت وفاته - رحمه الله - سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف (¬523). ¬

(¬513) في الأصول: «فأنا». (¬514) هذه القصيدة في الدّيوان ص: 139. (¬515) في ش: «بصعبة». (¬516) في ت: «تزري». (¬517) هذا البيت ساقط من بقية الأصول. (¬518) في ط وت: «بغى». (¬519) في ط وت: «ولى». (¬520) في ط وت: «فخذه». (¬521) في ط وت: «يكسو». (¬522) 18 أكتوبر 1743 م. (¬523) 1769 - 1770 م.

ترجمة الشيخ أبي الحسن علي المصمودي

ترجمة الشّيخ أبي الحسن علي المصمودي: ومن فقهاء العصر شيخنا أبو الحسن سيدي علي المصمودي. كان - رحمه الله - فقيها، نحويا، عارفا بالنّوازل والأحكام، فرضيا منتصبا لتحمّل الشّهادة، فكان عمدة في التّوثيق والأحكام، ولا يقبل من الشّهادات إلاّ الخالصة من التّمويهات والتّوجيهات والإحتمالات والتّلبيسات، وطلب للقضاء وشهد فيه أهل البلد بأنّه أهل له وأنزلوا بذلك أمرا من السّلطان بتونس، فذهب للسّلطان واعتذر واستعفى فعوفي. وتفقّه بأبي عبد الله الشّيخ سيدي محمّد كمّون وغيره إلاّ أنّ اعتماده عليه. وأخذ عنه أبو عبد الله الشّيخ محمّد المصمودي القاضي، ولمّا أراد أخذ النّحو عنه شرط عليه أنّ كل قاعدة / تعلّمها ولحن في جزء من جزئيّاتها ضربه عشرة أسواط كالمعلّم مع أطفال المكتب، فقبل ذلك منه، وانتفع به في أقرب مدّة، وكان حسن التّعليم لقوّة نصحه وشدّة حرصه. وكان عالي الهمّة لا يبالي بأولي الأحكام والأمراء، منقبضا عن النّاس إلاّ بقدر الحاجة، ذا عفّة وصيانة. توفّي - رحمه الله تعالى - شهيدا بالطّاعون سنة تسع وتسعين ومائة وألف (¬524). ترجمة الشّيخ أبي إسحاق إبراهيم الجمّني: ومن أجلّ أعيان المتأخّرين الشّيخ شيخ شيوخنا أبو إسحاق سيدي إبراهيم الجمّني - رحمه الله تعالى -. وهو إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم (¬525) بن أبي بكر بن عمر بن محمّد بن عبد الله ابن منصور بن عبد العزيز بن معين نزيل الجديدة، قرية من قرى المدينة المشرفّة على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام، وانتقل معين المذكور ونزل جمّنة، قرية من قرى نفزاوة، واستوطنها وتناسل منه أجداد الشّيخ سيدي إبراهيم، وهم أجلّة أعيان، وكان والده عبد الله فقيها صالحا، وكذا جدّه للأب إبراهيم كان على قدم الأفاضل، وكذا جدّه للأمّ سيدي علي بن حامد، وهو الّذي كان أخذ على الشّيخ الخرّوبي ¬

(¬524) 1784 - 1785 م. (¬525) النّقل من الحلل السّندسيّة 3/ 287 وما بعدها.

الطرابلسي (¬526)، لقيه (¬527) وتتلمذ له (¬528) فناوله السّبحة وألبسه الخرقة، وأضافه التّمر والماء، وأعطاه الورد وألزمه قراءته. ونسبة الشّيخ إلى جمّنة بكسر الجيم وفتح الميم المشدّدة بعدها نون فهاء تأنيث، ونسبه ينتهي إلى المقداد بن الأسود الكندي - رضي الله تعالى عنه - ووصل إلى الدّيار المصرية بإشارة من الأستاذ شيخ البركة سيدي علي الوحيشي - نفعنا الله / بهما - وكان دخوله مصر إثر وفاة سيدي علي الأجهوري سنة ستّ وستّين وألف (¬529)، فقرأ على الشّيخ سيدي عبد الباقي الزّرقاني وحصل عنه فأجازه في النّحو (¬530) والمنطق والبيان والأصول والتّوحيد، وأخذ عن الشّيخ أبي عبد الله سيدي محمّد الخرشي وأجازه في الحديث الشّريف وحجّ، وكان قبل ذلك أخذ عن الشّيخ العارف بالله سيدي عبد الله بن أبي القاسم الجلالي بضم الجيم نسبة إلى قرية بالمغرب (¬531)، واجتمع به في زاوية خنقة سيدي ناجي، ورحل إلى بلد زواوة ومكث بها ستّ سنين، وأخذ عن أكابر أجلّة منهم الشّيخ العالم الفاضل سيدي محمد السعدي، والشّيخ الفاضل العامل الزّاهد سيدي محمّد الغربي (¬532) والشّيخ العالم النّحرير، والجهبذ الشهير الرّاضي (¬533) سيدي أبو القاسم القاضي، وكانت له الكلمة العليا والأمر المطاع بجميع جبال زواوة، ثمّ سافر الشّيخ صاحب التّرجمة من بلاد زواوة إلى مصر فأقام بها تسع سنين، فأخذ عن أعيان الجامع الأزهر كالشّيخ ياسين، والشّيخ أبي الحسن علي الشبراملّسي (¬534) وأخذ القراءات عن الشّيخ سيدي سلطان (¬535) وعن الشّيخ أبي الحسن اللّقّاني، وعن الشّيخ إبراهيم ¬

(¬526) محمّد بن علي الخرّوبي اللّيبي نزيل الجزائر من أهل الحديث والفقه والتّصوف أخذ عن الشّيخ زروق وغيره، وأخذ عنه جماعة من أهل الجزائر وفاس، وقام بمساعي الصّلح بين الأتراك وسلطان فاس وكانت وفاته بالجزائر سنة 963/ 1555: شجرة النّور، 284. (¬527) بالجزائر، الحلل السّندسيّة 3/ 298. (¬528) في ط وت: «تلمذة». (¬529) 1656 م. (¬530) في الفقه والنّحو: الحلل السّندسيّة. (¬531) بالمغرب الاوسط (الجزائر). (¬532) في الأصول: «المغربي» والتّصويب من الحلل 3/ 298. (¬533) في الحلل: «الرضى الأرضى». (¬534) في الأصول وفي الحلل: «الشّمرلسي». (¬535) المزّاحي.

الشبرخيتي، وعن الشّيخ أبي العبّاس أحمد البشبيشي (¬536) وكان الشّيخ الخرشي يدعو له، ولازمه لزوما طويلا. ثمّ إستأذن مشايخه في النّقلة إلى بلاده بالمغرب، فأذنوا له، ويوم خروجه خرج معه الجمّ الغفير جبرا لخاطره وتعظيما لقدره. وكان انتقاله من مصر سنة خمس وسبعين / وألف (¬537) ثمّ (¬538) ركب البحر فهاج البحر، وغرقت السّفينة وطلع من كان بها سوى الشّيخ، فلم يطلع فغاص الغوّاصون فوجدوه في قعر البحر فأخرجوه مغمى عليه، فلمّا أفاق سأل عن كتبه وكانت كثيرة، فسلّي بسلامة نفسه، فرجع إلى مصر وجمع غيرها في مدّة إقامته بها وهو يعلّم النّاس وظهرت بركات الفتح على يديه ومال إليه أهل الخير والصّلاح. ثمّ رجع لبلده جمّنة ثمّ انتقل لجزيرة جربة فقصد جامع الغرباء بها يعلّم به النّاس. قيل (¬539) إن إمام الجامع أخذه ما يأخذ الفقهاء من الغيرة فمنعه من الإقراء به فعزم على الإنتقال، فرآى في النّوم قائلا يقول له: «يا إبراهيم أعرض عن هذا» (¬540) وقيل رآى قارئا يقرأ: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً} (¬541) ورآى الشّيخ خليلا فقال له: أنت ولدي ومنّي فاجتهد، فأقام ما شاء الله ساكنا هو ومن يقرأ عليه في أخواص من جريد (¬542). فقدم وكيل المرحوم السّلطان مراد بن حمّودة باشا - رحمه الله تعالى - وكان من أهل قابس، فسأل عن الشّيخ وكان يعرفه فدلّ عليه، فوجده على تلك الحالة، فلمّا رجع لتونس أمره السّلطان بالحجّ نيابة عنه لشغله بأحوال رعيّته، وهو كاف في مذهب أبي حنيفة الذي هو مذهب مراد باي، فقال له: يا سيّدي إن أردت أجرا خيرا من ¬

(¬536) في ش: «البشيشي»، وفي ط وب وت: «الشبيبي» والتّصويب من الحلل. (¬537) 1664 م. (¬538) بعده في الحلل السّندسيّة 3/ 299: «ووصل بلده جمّنة فأقام بها ثمّ ركب البحر ومعه أبو الحسن علي الأوراسي. فهاج البحر. . .» وهذا محلّ نظر لأنّ نفزاوة ليست على شاطئ البحر، فالمعقول أن يكون هياج البحر وغرق السّفينة بمصر، ولو وصل لبلده جمّنة لم يسأل عن كتبه، وإنّما تصرّف المؤلّف في النّقل عن الحلل السّندسيّة وأصاب. (¬539) يتصرّف في النّقل من الحلل السّندسيّة بالحذف والزّيادة. (¬540) إقتباس من سورة هود: 76. (¬541) سورة الرعد: 17. (¬542) زيادة عمّا في الحلل السّندسيّة.

الحجّ فابن مدرسة للشّيخ الجمّني، وحكى له أمره، ونشر له ذكره فأمره بالتّوجّه لبناء المدرسة المرادية بجزيرة جربة ونصب له محرابها الشّيخ الميقاتي سيدي أبي راوي من ذرّية سيدي عبد السلام / الأسمر وقبره بجربة مزار مشهور، فبنى لها دورا وبيت صلاة، وكمل بناؤها سنة خمس وثمانين وألف (¬543)، وجعل له النّظر في الحبس وفوّض أمره إليه، فمكث الشّيخ يعلّم بها، وقدم عليه النّاس من كلّ فجّ عميق فبذل جهده في نشر مذهب إمام دار الهجرة (¬544) فكان يختم المختصر في كلّ سنة مرّتين في تسعة أشهر بكدّ وجدّ، ويقرأ الحديث النّبوي في بقيّة السّنة. وكان ملازما للصّيام والقيام من قبل (¬545) الفجر لإيقاظ أصحاب الخلوات من تلاميذه للقراءة والمطالعة والصّلاة. وكان قوته ممّا يأتيه من تمر بلاده ممّا ورثه من آبائه محترزا عن الأكل من حبس الزّاوية حتّى إنّه كان له وكيل (¬546) على التّصرف فإذا أتى بشيء من غلاّت الحبس وأحضره للشّيخ رفع الشّيخ جلدا كان يجلس عليه ويلتفت لجهة أخرى ويأمره بوضع ما عنده وبعد ذلك يردّ طرف الجلد، وإذا أراد الوكيل أخذ شيء يصرفه رفع طرف الجلد والتفت كما فعل في القبض حتّى يأخذ الوكيل ما يحتاجه فيضعه فلا يرى الدّراهم في دخولها ولا في خروجها تحرّزا عن الحبس وبعدا عن الفتنة. وكان متجنّبا للمناصب بأسرها حتّى الإمامة ولم يسمع منه أنّه حلف بالله قطّ. وكان أوّلا مؤثرا للعزبة ثمّ تزوّج إمرأة نصفا، فقال لتلاميذه: من استطاع منكم التزوّج فليتزوّج، فكانت زوجته عونا له على طاعة الله، وكان لها ولد أحسن عشرة الشّيخ وأحبّه محبّة الولد لأبيه (¬547). وعطف عليه الشّيخ فنالته بركته. وكان الشّيخ في غاية من التّعفّف (¬548) أهدى إليه رجل شيئا من الحليب طلبا للبركة / فقال: ومن أين جاءك هذا؟ قال: عندي شويهات فقال: ومن أين أكلها؟ ¬

(¬543) 1674 - 1675 وما يتعلّق ببناء الزّاوية إضافة عمّا في الحلل. فالوزير السرّاج إختصر على خبر بنائها دون تفاصيل. (¬544) «إمام دار الهجرة النبويّة»: الحلل 2/ 300. (¬545) «وقبل الفجر يسير ينبّه أرباب البيوت في المدرسة ليكونوا على أهبة للصّلاة جماعة، فعل ذلك بيده كلّ يوم الدّهر كلّه»: الحلل السّندسيّة 3/ 300. (¬546) الكلام عن الوكيل لم يرد في الحلل السّندسّة. (¬547) ما يتعلّق بالزّوجة لم يرد في الحلل. (¬548) الكلام عن إهداء رجل الحليب له والمحاورة التي دارت بينهما غير مذكور في الحلل.

قال: ترعى هنا في البلاد، فقال: كم هي؟ قال: إثنتي عشرة، فقال: إرفع لبنك فلا خير فيه فإنّ عندك إثني عشر لصّا (¬549) يسرقون سواني (¬550) النّاس إذ البلاد كلّها أملاك وأحباس وأهاليها محتاجون لعلف دوابهم. وله كرامات كثيرة منها أنّ إبراهيم (¬551) الشّريف لمّا توجّه لحرب طرابلس دخل جربة فشكى بعض النّاس بالشّيخ عمر ابن أخي الشّيخ سيدي إبراهيم فسجنه، فاغتمّ الشّيخ لظلم إبن أخيه فأتى لإبراهيم الشّريف شفيعا في إبن أخيه، فلم يعظم الشّيخ في عينه، ولم يقبل له شفاعة لعدم معرفته بقدره، فلمّا جنّ عليه الليل إضطربت أحواله ولم يهنأ (¬552) نومه وتحيّر، وضاقت عليه الأرض بما رحبت من غير موجب، فتنّبه وعلم أنّ سبب ما نزل به ردّ الشّيخ غير مجبور الخاطر، فأمر السّجّان بسراح الشّيخ عمر من حينه، وأرسل للشّيخ فأحضره واسترضاه، وطلب منه العفو فعفا (¬553) عنه. ولمّا تولّى سيدي حسين باي - رحمه الله - وكان حاضرا في هذه القضيّة وعرف فضل الشيخ أظهر تعظيم الشّيخ وإكرامه، فبنى للزّاوية وكالتين وأجرى للزاوية إنعامات من قوت الطّلبة وتحبيسات وغير ذلك. وتفقّه بالشّيخ علماء أجلّة يخرج عددهم عن الحصر، ومن جملتهم الشّيخ الصّالح المكاشف سيدي علي الفرجاني (¬554) نقل عنه أنّ الشّيخ كان يقرئ الإنس والجنّ معا، وشرح مختصر الشّيخ خليل بشرح لم يكمل. ولمّا عمّت بركاته وتزايدت خيراته امتدحه أهل / الفضل من شعراء زمانه كالشّيخ أبي عبد الله سيدي محمّد إبن المؤدّب الشّرفي - رحمه الله تعالى - فإنّه إمتدحه بقوله: ¬

(¬549) في ب: «أجا»، وفي ط: «أما»، وفي ت: «ما». (¬550) أي بساتين. (¬551) قصّته مع إبراهيم الشّريف ذكرها في الحلل السّندسيّة / 301 والمؤلّف نقلها بتصرّف وزيادة مع المحافظة على المعنى. (¬552) في ش: «يهنى». (¬553) في الأصول: «فعفى». (¬554) كذا في ط وب، وفي ش: «الفرياني»، وفي ت: «الفراجاني» والفرجاني هو قابسي مدفون بشنني من ضواحي قابس، وهو من كبار أتباع الطّريقة السّلامية والدعاة لها، وغالب إقامته بليبيا، وفي التّذكار لابن غلبون المصراتي ص: 157 عند الكلام عن ولاية خليل باشا: «ويتحامل على أهل البدع حتّى قلّت البدع في أيّامه وأذلّ رئيسها علي الفرجاني وسامه خسفا ولم يدخل أرض طرابلس إلاّ بعد موته». وكانت وفاته 1144/ 1731 - 1732، أمثل هذا يكون مكاشفا؟ لكنّ المؤلّف يحسن الظّنّ بمن ينتسب للتّصوّف.

[الطويل] تذكّرت عهدا من ليال تقضّت ... علينا بوصل ثمّ ألوت (¬555) وولّت وعادت كأحلام تراءت لنائم ... فلمّا تولّى النّوم عنه تولّت أحنّ لذكراها وأصبو تشوّقا ... إليها وأرجو أن تمنّ بعودة ومن لي بها يوما تعود وتلتقي ... ونظفر يوما باجتماع الأحبّة ألا ليت شعري هل أفوز بوصل من ... له القلب يصبو كلّ يوم وليلة وأشتاق لقياه إذا ما ذكرته ... لعلّي أحظى من شذاه بنفحة بنفسي من بالعلم حاز مزيّة ... ورتبته فيها علت كلّ رتبة سما قدره بالعلم فخرا ورفعة ... ورفعته بالعلم أعظم رفعة أيا طالبا للعلم إن رمت تجتني ... ثمار علوم من رياض أنيقة فلا تعد إبراهيم ذا الفخر والعلا ... وذاك إبن عبد الله يا خير نسبة فشمّر وجدّ السّير واقطع مفاوزا ... إليه وخض بحرا وحطّ بجربة لتنظر نجما يهتدى بضيائه ... وشمسا إذا ما الليل أظلم ذرّت له منطق في الدّرس يعذب لفظه ... ويسحر ألبابا بأعظم (¬556) رقّة يفوق لئالي (¬557) الدّر درّا بنظمه ... ويخجل من حسناه كلّ يتيمة إذا مشكل يوما تعسّر فهمه ... جلاه وأبداه بأوضح حجّة وإن أمّه صاد من العلم يشتكي ... ظلما (¬558) يلق بحرا يحوي كل ذخيرة (¬559) فيا لك من بحر زلال إذا جرت ... جداوله بالعلم أروت وروّت فبادره واشرب من رحيق زلاله ... وغص بحره تظفر بكلّ فريدة وقبّل يديه والتمس من نواله ... وحيّي محيّاه بأزكى تحيّة سلام عليه كلّما لمع الضيا ... وغابت نجوم في السّماء وعنّت (¬560) وما غرّدت (¬561) عند الصباح ترنّما ... حمائم في أعلى الغصون وغنّت (¬562) ¬

(¬555) في بقية الأصول: «أولت». (¬556) كذا في ديوان الشرفي ص: 45 وب وت وط، وفي ش: «أعذب». (¬557) في ش: «لالي». (¬558) في الأصول: «ضمى». (¬559) في الدّيوان: «خريدة» وبعدها أسقط المؤلّف بيتا وهو: هو البحر إلاّ أنّه العذب ماؤه سوى أنه الحاوي لكلّ ذخيرة. (¬560) في بقية الأصول: «وغنت». (¬561) في الديوان: «وما صدحت». (¬562) هذا البيت ساقط من ط وت. القصيد في ديوان الشّرفي 45 - 46.

ترجمة الشيخ عمر بن محمد الجمني

وكانت ولادته ببلدة جمّنة سنة سبع وثلاثين وألف (¬563)، وتوفّي ليلة الجمعة خامس أشرف الرّبيعين بمولده - عليه الصّلاة والسّلام - سنة أربع وثلاثين ومائة وألف (¬564)، فكانت مدّة إقامته بالمدرسة خمسين سنة، ولم يخلّف رحمه الله عقبا ودفن بالمدرسة (¬565). فلمّا سمع سيدي حسين باي - رحمه الله - أمر ببناء قبّة على الشّيخ فبنيت وجاءت على أحسن ما ترى العين، وأبهج شيء عند النّفس مع أنّها بالحجر والجير، ولكن نور من الله قلّ أن يرى مثلها. قيل إنّ بعض الأمراء أمر بعض المهندسين ببناء قبّة على بعض الصّالحين فجاءت في غاية الحسن والبهجة فأمره السّلطان أن يبني له مثلها، فبنى قبّة لم ير عليها ما على قبّة الصّالح من النّور فغضب السّلطان وقال: إنّما أمرتك ببناء مثل الأخرى فما هذه؟ فقال: والله بذلت جهدي في إستقصاء الصّنعة في هذه أكثر من الأخرى، فهذه القبّة وأين الصّالح؟ لو نقلته لكانت كالأخرى، فتلك جسد بروحه وهذه جسد بلا روح، وشرف البقاع وحسنها إنّما هو بساكنها. ترجمة الشّيخ عمر بن محمّد الجمّني: وقام بالزّاوية بعد الشّيخ - رحمه الله - الشّيخ الهمام الفاضل والعمدة الكامل إبن أخيه، وهو الشّيخ سيدي عمر بن محمّد - المقدّم الذّكر - فكان قيامه أحسن قيام، وله مشاركة تامّة في المعقول والمنقول. ترجمة الشّيخ أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد الجمّني: وبعد وفاته / خلفه أخوه شيخنا الشّيخ أبو إسحاق سيدي إبراهيم بن محمّد، فقام بالزّاوية قيام أخيه ولحظه الباشا - رحمه الله - لحظا قويّا وأحبّه لحب الشّيخ الأكبر، ¬

(¬563) 1627 - 1628 م. (¬564) 24 ديسمبر 1721 م. (¬565) أنظر عن إبراهيم الجمّني: «مؤنس الأحبّة في أخبار جربة»، ص: 95 - 96، شجرة النّور الزّكيّة 324، إتحاف أهل الزّمان 3/ 103، الحلل السّندسيّة 3/ 296 - 302. ويبدو أن المؤلّف إعتمده ونقل عباراته بنصّها، عدا التّحلية الطّويلة وبداية من الكلام عن غرق السّفينة. تصرّف في النّقل بالحذف أحيانا وبزيادات أحيانا أخرى.

وأمر ببناء دور في الزّاوية فوق الدّور الذي بناه مراد باي - رحمه الله تعالى -. وفي أيّامه أرسل الشّيخ الصّالح سيدي عبد الرّحمان أبو سيف (¬566) مكتوبا للشّيخ يأمره ببناء الفسقيه الكبيرة خارج الزّاوية تحت الوكالة الصّغرى، وأرسل من المال مائة دينار وقال: كلّما تزيده عرّفني به أرسل لك به، فبنيت وكانت من الأعمال النافعة المتقبّلة إن شاء الله تعالى. وفي أيّامه عظم النّفع وكثر الوارد على المدرسة حتّى بلغ عدّة الطّلبة سنة قراءتنا بها مائتين وسبعين طالبا، ما بين متعلّم للسّنّة ومتعلّم للقرآن الكريم، وعظم الإجتهاد مبلغا لم نره في غيرها شرقا ومغربا لأنّ عادتهم في قراءة المختصر أنّ يوم الإبتداء ينظر الطّلبة درسا من أوّله ودرسا من النّصف الثّاني وهو باب البيوع، فإذا جاء الليل دخل (¬567) نجباء الطّلبة وتبع كلّ واحد منهم طائفة من المبتدئين فيقدّمون الدرس الأوّل إلى جوف اللّيل ثمّ يذهبون إلى خلواتهم لاستراحة النّوم، فإذا قرب الفجر جاء رجل عيّنه الشّيخ بيده عمود يضرب به أبواب الخلوات فيوقظهم ولا ينتقل عن باب خلوة حتّى يفتح صاحبها بابها، فإذا فتح باب خلوته إنتقل لغيرها، فتوقد المصابيح ويقدّمون لهم درس البيوع فيوافق / فراغهم طلوع الشمس، فيدخل سيدي أحمد بن عبد الصّادق (¬568) بشرح الخرشي فيقرئ الدّرس الأوّل ثمّ يخرجون، ويرجع بعد الزّوال فيكمل الدّرس الثّاني، وإذا جاء الليل فعل المتقدّمون فعلهم الأوّل، فإذا أصبح الصّبح دخل سيدي إبراهيم بن محمد بالشّيخ عبد الباقي فيقرئ الدّرس الأوّل من المختصر ويخرج فيدخل سيدي أحمد بن عبد الصّادق فيقرئ ما قدّمه الطّلبة أوّل الليل، ويخرج قرب الزّوال فيأكلون نصيبا من تمر حبس الزّاوية ويسبغون وضوءهم، ويرجع سيدي أحمد بن عبد الصادق فيقرئ ما قدّمه الطلبة آخر الليل ثمّ يخرج فيدخل سيدي إبراهيم بن محمّد فيقرئ باب البيوع وهكذا يستمرّ الحال، فيقدّم المقدّمون ويقرئ سيدي أحمد ما قدّموه ويقرئ سيدي إبراهيم ما أقراه سيدي أحمد فتكون الختمة (¬569) الواحدة بثلاث ختمات في تسعة أشهر، والذي يظهر فيه التأهّل من المقدّمين يجيزه الشّيخ ويرجع إلى بلاده، فيذهب كلّ سنة منهم ¬

(¬566) في ط وت: «ابن يوسف»، وفي ب: «أبو يوسف». وأسرة أبو سيف من بوادي ليبيا وهم أناس أماثل أفاضل متديّنون. (¬567) ساقطة من ط وت. (¬568) سيترجم له المؤلّف فيما بعد. (¬569) في ط وت: «التمة».

طائفة قد تفقّهوا في الدّين إلى قومهم يفقّهونهم وينشرون الفقه في الآفاق ويأتي في السّنة التي بعدها طائفة غيرهم وهكذا. وأقلّ ما أقرأ الشيخ سيدي إبراهيم بن محمّد ستّين ختمة، وتفقّه به خلائق لا يحصون كثرة من جميع الآفاق، ولم يبق هذه الأيام من ذلك الذي كان إلاّ بقايا، فإنّ الطاعون جرف أكثر الفقهاء من بلاد إفريقية سنة تسع وتسعين ومائة وألف (¬570)، وسبحان من لا تغيّره / الدّهور. ثمّ إنّ سيدي إبراهيم بن محمّد إمتحن بني جلود كبار الوهبية (¬571)، وذلك إنه - رحمه الله - كان لحظه الباشا فاستنقذ أكثر النّاس من البدعة (¬572) وأدخلهم في السّنّة، ورجع جملة من الخطب للسّنّة. فلمّا فرغت أيّامه - رحمه الله - طلب بنو جلود أن يكونوا قيّادا على البلاد فأسعفوا بذلك لخفاء دسائسهم على الأمير، فلمّا تولّوا سعوا في الأرض ليفسدوا فيها (¬573) فسعوا بسيدي إبراهيم وأظهروا باطلا في صورة حقّ وحلفوا بأيمانهم فانخدع الأمير لهم، وجعلوا على الشّيخ أموالا ثقيلة غرامة وضايقوه في استخلاصها منه، فالتجأ إلى النّاس واستلف منهم الأموال، فلمّا عجز خاف من السّجن بغضا منهم لرجال السّنّة، فكمن الشّيخ وأرسل خلف الرئيس أحمد غربال الصّفاقسي، وكان رجلا شجاعا مقداما مجاهدا لا يبالي بالرّجال بحرا ولا برّا، قلّوا أو كثروا، فلمّا حضر بين يديه كشف له الشّيخ عن حاله وما هو فيه فأخذت الرئيس أحمد حميّة السّنّة وغيرة الإسلام، فقال له: ما الذي تريد نفعله لك؟ قال: تخرج بي من هنا لصفاقس نذهب للأمير ونعتذر له ونكشف له عن تلبيسات هؤلاء الظّلمة المفترين (¬574)، ونستشفع بأهل الفضل والخير، فقال له: على بركة الله، فلمّا جنّ عليه الليل التحف الشّيخ في صورة رجل من رجال البادية كي لا يعرف في الطّريق، ولمّا وصل البحر إلتحف بصورة إمرأة وحمله على ظهره ودخل به البحر لمّا جزر ماؤه، وكان دخوله من غير الإسقالة لئلاّ / يفطن به أحد، فلمّا وصل السّفينة أدخله فيها، واجتنبه النّاس لظنّهم أنّه حرمة مسافرة معهم، فأدخله في بيت في مؤخّر السّفينة وغلق عليه الباب وسافر به ولا شعور لبني جلود بذلك، فلمّا وصل ¬

(¬570) 1785 م. (¬571) الوهبية الاباضية. (¬572) يقصد مذهب الاباضية. (¬573) مستوحاة من الآية 205 سورة البقرة. (¬574) في الأصول: «المفترون».

ترجمة الشيخ أحمد بن علي ابن عبد الصادق الطرابلسي الحامدي

لصفاقس ذهب لتونس واستشفع بإخوانه الفقهاء كالشّيخ أبي عبد الله سيدي محمّد الغرياني وأضرابه، فعرّفوا الأمير بحقيقة الشّيخ وسعيه في إحياء السّنّة وإماتة البدعة وما هو عليه من نشر العلم ونفع العباد به، وإنّ ما فعله به بنو جلود إنّما هو لبغضهم في السّنّة وأهلها، فقبل شفاعتهم في الشّيخ وفرح به وأكرم نزله وأزال ما كان عليه من الغرامة وردّ عليه ما بذله (¬575) ظلما وأرجعه إلى وطنه مسرورا مجبورا، فأقام بزاويته حتّى حضرت منيّته سنة نيف وسبعين ومائة وألف (¬576). ترجمة الشّيخ أحمد بن علي ابن عبد الصّادق الطرابلسي الحامدي: وأمّا الشّيخ (¬577) أبو العبّاس سيدي أحمد إبن الشّيخ الصّالح سيدي علي بن عبد الصّادق الطرابلسي (¬578) فإنّه - رحمه الله - كان رجلا فاضلا فقيها محدّثا نحويا عارفا بالسّير والمغازي وأيّام النّاس ووقائعهم، له بمختصر الشّيخ خليل خبرة زائدة واعتناء كبير، وكان في غاية ما يكون من الفصاحة، كامل القامة، حسن الصّورة والسّيرة، ذا مروءة وشهامة وهمّة. كان والده من تلاميذ سيدي إبراهيم بن عبد الله الجمّني، وشرح صغرى الشّيخ السنوسي، والمرشد المعين وغير ذلك، فتفقّه سيدي أحمد صاحب التّرجمة بوالده المذكور، ثمّ رحل إلى مصر فتفقّه / بالشّيخ البليدي وغيره، وكان سريع الحفظ، وكثير النّقل، ولمّا رجع إلى طرابلس سعى به بعض الحسدة عند سلطانها فخاف البطش به ففرّ لفزّان فأقام عند أميرها عزيزا مكرّما حسن المثوى (¬579) وجعله مستشارا في أحكامه، ما وافق منها الشرع أمضاه وما خالفه ردّه، فأقام عنده مدّة، فلمّا أحسّ بعدم الطّلب له وأمن من الشّر رجع إلى طرابلس وتزوّج بها واشتغل بالعلم، وصاحبه الشّيخ أبو عبد الله محمّد أبو عتور الصّفاقسي، فسعى به الحسدة، ففرّ لجزيرة جربة بنفسه، فنزل على الشّيخ سيدي إبراهيم الجمّني بن محمّد، فقبله وأكرم نزله، وعرّفه ¬

(¬575) في ش: «ما بذل له»، وفي ب: «ما قدمه»، وفي ط وت: «ما غرمه». (¬576) بعد سنة 1757 بقليل. (¬577) في بقية الأصول: «شيخنا». (¬578) الحامدي نسبة إلى ساحل حامد. (¬579) في ش: «المثوا».

ترجمة الشيخ علي بن الشاهد المنيي

بحاله، فقال: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} (¬580)، فاستشفع به لسلطان طرابلس في إرساله زوجه له، فقبل شفاعته وأرسلها له مع جدّها فاستقرّت به الدّار، وجعل له سيدي إبراهيم مرتّبا من الباشا - رحمه الله - ليقرئ دروسا (¬581) بجامع الغرباء من جربة، ويقدّم للطّلبة حسبما مرّ آنفا، فانتظم حاله واستقامت أيّامه وبذل مهجته في العلم غاية البذل، وترك الدّنيا وما عليه أهلها، وكانت سنين مخصبة في أمن وعافية. وفي سنة سبع وستّين ومائة وألف (¬582) كانت قراءتنا المختصر على شيخنا سيدي إبراهيم وشيخنا سيدي أحمد بن عبد الصّادق، وكان للشّيخ سيدي أحمد قوّة غوص على غوامض الفقه وحلّ عقد مشكله لقوّة حفظه ونقله وتفريغ سرّه، فاستفدنا منه خيرا كثيرا، وامتحنه أبناء جلود / كما امتحنوا سيدي إبراهيم إلاّ أنه لم يقدر على الفرار بنفسه فأشخصوه مقيّدا فحصل لنا من الغمّ ما لا يعلمه إلاّ الله. ولمّا وصل لتونس تلقّاه أبو عبد الله الشّيخ أبو عتّور فشفع له عند السّلطان فشفّعه فيه وأعطاه مدرسة ببير الحجار من تونس الذي استجدّها الباشا - رحمه الله - وجعل له بها مرتبا يكفيه مؤنة عياله فرجع إلينا مسرورا مجبورا، ودخل جربة فاستخرج أهله وقدم علينا بهم في أمن وسلامة، فأنزلناهم بسيدي علي عبد النّاظر واكترينا لهم إبلا وبغالا وركبنا معهم لتونس، فحصل لنا بسفرنا معهم أنس وسرور حتّى أوصلناه تونس، فنزل بدار قرب المدرسة وودّعناه وسافرنا، فأقام بها إلى أن حضرت منيّته سنة نيف وتسعين ومائة وألف (¬583) - رحمه الله تعالى -. ترجمة الشّيخ علي بن الشّاهد المنيي: ومن أجلّ من أخذ عن الشّيخ سيدي إبراهيم بن عبد الله الجمّني شيخنا سيدي علي ابن الشّاهد المنيي - رحمه الله تعالى - كان بإفريقية أشهر من نار (¬584) على علم لأنّه طالت مدّته، وطارت فتاويه بها شرقا وغربا، وكان مسدّدا في فتاويه لا يتوقّف في ¬

(¬580) إقتباس من الآية 25 سورة القصص. (¬581) كذا في ت، وفي ش وب: «دارسا»، وفي ط: «درسا». (¬582) 1753 - 1754 م. (¬583) بعد سنة 1776 بقليل. أنظر شجرة النّور الزّكيّة 351. (¬584) في الأصول: «منار».

الفتوى لأنّه أحضر موادها، وجعل على النّوازل قطع ورق علامة عليها، فإذا أتى السّائل يضع يده على الكتاب الذي يعلم فيه نازلته، ويفتح مظنتها (¬585) فيجد كأنّه وضع العلامة بعد السّؤال، ولا يكتب جواب السّائل حتّى يقرأه عليه، فإذا فرغ من كتب الجواب ناوله السّائل ما تيسّر فيأخذه ويضعه تحت / جلد هو جالس عليه، وهكذا يفعل مع كلّ سائل، فإذا فرغ النّاس من أسئلتهم أتاه قريبه فيعطيه ما حضر فيأخذ ما يحتاجه من حطب وخضرة وزيت وفاكهة، ولحم إن فضل شيء للحم، فيضع ذلك على حمارة ويرجع لأهله. هذا شأنه - رحمه الله - فكان متقلّلا من الدّنيا لا يأخذ منها إلاّ قدر الحاجة، ولمّا مات أعان أهل الفضل على كفنه. وكان تفقّه على الشّيخ الصّالح سيدي إبراهيم بن عبد الله الجمّني فتقدّم على أقرانه، واتّفق أنّ الشّيخ كان يوما في درسه فدخل إباضي (¬586) يسأل ويقول: إنّكم معشر الأشعرية لا تكفّرون بالذّنب وتقولون بالشّفاعة للمذنبين مع أنّ إبليس أبلسه الله من رحمته، وختم عليه الشقاوة والخلود في النّار، ولم تقع منه إلاّ معصية واحدة هي عدم السّجود لآدم، فكيف بمن وقع في محرمات لا تحصى وفظائع لا تستقصى؟ وكان الشّيخ - رحمه الله - مشغولا بتقرير مسألة فالتفت وقال: ما لهذا الرّجل؟ قالوا: هو يسأل عن كذا وكذا، فقال: من يجيبه منكم؟ فقال الشّيخ صاحب التّرجمة: أنا أجيبه بما نصّ عليه إبن عرفة - رحمه الله تعالى -: إنّ كفره وإبلاسه ليس من عدم السّجود بل من نسبة الباري - جلّ ثناؤه - لعدم الحكمة وتجويره وتخطئته في حكمه لأنّه قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (¬587) {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (¬588)، ثمّ توعد بوقاحة ومعارضته لأحكام الحكيم العليم / فقال {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاّ قَلِيلاً} (¬589) إلى غير ذلك ممّا يدلّ على سوء أدبه مع الله، فقال: أجبه بذلك وأنت مفتي إفريقية، فكان غاية في فتواه. وأخذ عنه خلائق لا تحصى، وأخذنا عنه «كشف الأستار عن علم حروف الغبار» تأليف الشّيخ أبي الحسن علي القلصادي - رحمه الله تعالى - فلمّا أكملنا الجزءين ¬

(¬585) في ط وت: «فطنتها». (¬586) في الأصول: «وهبي». (¬587) سورة ص: 76. (¬588) سورة الحجر: 33. (¬589) سورة الإسراء: 62.

ترجمة الشيخ الولي محمد عباس

الأوّلين وقف على جزء الجزور وقال: لا أزيد على هذا، فقلت: مرادنا ختم الكتاب، فقال: ها هنا وقف بنا شيخنا سيدي إبراهيم، فوقف ولم يزد. ولمّا امتحن مع إخوانه من فقهاء الأوطان في أيّام الباشا - رحمه الله - بتغريبهم لتونس وطالت مدّة غربته - رحمه الله - وتعسّر وجه الخلاص، وكان الباشا - سامحه الله - رجلا شهما صلبا تتنازعه نفسه للإنتقام فقال بحضرة الشّيخ أبي الحسن المترجم: مذهب أبي حنيفة عدم المؤاخذة بالتّهمة، والنّاس كثر شرّهم وكثرت فيه التّهم، وددت أنّي نجد في مذهب من المذاهب جواز المؤاخذة بالتّهمة لنقمع هؤلاء الفجرة أولي التّهم، فأجابه الشّيخ المترجم، بأنّ مذهب مالك على جواز المؤاخذة بالتّهمة، قال ابن عاصم في رجزه: [الرّجز] وإن يكن مطالبا من يتّهم ... فما لك بالسّجن والضّرب حكم. فأظهر الباشا الفرح والسرور وقال: أنا آخذ في هذه المسألة بمذهب مالك وأقلّده فيها والحمد لله أن حقّق الله / رجائي وذلك لأنّه كان يقول: نرجو من الله أن يكون كلّ من قتلته أو ضربته أو سجنته ما فعلت به ما فعلت إلاّ بوجه شرعي لا بتشفّ وغرض نفسي (¬590) ثمّ قال: يا فقيه، قد عفوت عنك، إرجع لوطنك على ما كنت عليه من الفتوى، فرجع وأقام على حاله إلى أن أدركته منيّته بجربة سنة نيف وسبعين ومائة وألف (¬591). ترجمة الشّيخ الولي محمّد عبّاس: ومن مجاذيب صفاقس الشّيخ الصّالح العارف بالله أبو عبد الله سيدي محمّد عبّاس. كان - رحمه الله - على قدم عظيم وأمر مشتبه على من لا يحسن الإعتقاد، قيل إنّ بعض النّاس [قال]: كيف يكون هذا من الأولياء ولم يظهر له كرامة ولا ما يوجب ¬

(¬590) هذا غير صحيح، وعلي باشا الأوّل نشر الرّعب والخوف لجسارته على سفك الدّماء والعقاب لأقلّ تهمة لا سيما مع من كانوا متّصلين بعمّه حسين بن علي باي، ممّا يدلّ على حبّ التّشفي والإنتقام ومتابعة هوى النّفس، ولذلك وصف بأنّه ظلوم. (¬591) بعد سنة 1757 بقليل.

ترجمة الولي عمر كمون

إعتقادا؟ وأنا أريد اليوم إختباره، وكان يوم جمعة وكان الشّيخ له دكّان قرب باب البحر يخلو فيه (فقال: أرقبه هل يصلّي الجمعة اليوم، فجاء الشّيخ وأطبق باب الحانوت) (¬592) وبقي الرّجل ينتظر وقت الصّلاة، فلمّا أذن بالصّلاة وذهب النّاس بقي الحانوت على حاله، فأدخل الرّجل بصره خلال الباب ليبصر الشّيخ وما يصنع فما وجد في الحانوت أحدا فبقي متعجّبا، فلمّا إنصرف النّاس من صلاة الجمعة فتح الشّيخ باب حانوته وخرج وهو يقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، رجل أضاع ما فرض الله عليه من صلاة الجمعة لينظر ما يصنع محمّد عبّاس! هذا محمّد عبّاس صلّى الجمعة بالمسجد الحرام وهو أضاع ما فرض الله عليه وقد تقدّمت قصّته مع الشّيخ الشّرفي. وذكر / الشّيخ أبو عبد الله محمّد الغراب تلميذ الشّيخ النّوري إنّه قال: لمّا دخلت مصر وجدت رجلا صالحا يرميه الأصاغر بالحجارة ويشتمونه وهو يقاسي منهم أشدّ الأذية، قال: فوقفت أنظر متعجبا وقلت: كما يفعل أطفال المغرب بأهل الله يفعل أطفال المشرق بأولياء الله، فما استهمت الكلام إلاّ وقد قال لي: يا سيدي الحاج: من أي البلاد أنت؟ قلت: من تونس، فقال: من أي تونس؟ قلت: من صفاقس، فقال: الآن صلّينا على الشّيخ محمّد عبّاس بصفاقس، حياتكم الباقية، قال: فقيّدنا ذلك فكان كذلك. ولمّا انتقل (لرحمة الله) (¬593) دفن بداره بحارة الصناع أمام القصبة (¬594) وهو مشهور مزار، ولم نقف على تعيين سنة وفاته، فهو من أوّل القرن الثّاني عشر. ترجمة الولي عمر كمّون: ومن مجاذيب صفاقس سيدي عمر كمّون، بفتح عين عمر على جاري لهجة صفاقس (¬595) فتح عين عمر وهي موجودة في بعض أهل الحضر حسبما نصّ عليه السعد ¬

(¬592) ما بين القوسين ساقط من بقية الأصول. (¬593) ما بين القوسين ساقط من ط. (¬594) هذه الدّار جعلوها مرستانا أطلق عليه «المرستان الجديد» ثمّ حوّل إلى مدرسة إبتدائية ما زالت قائمة إلى الآن تعرف بالعبّاسية. (¬595) إسم عمر وعمر موجودان إلى الآن، ولعلّ الرّاجح أنّ عمر أصله عمرو بفتح العين وسكون الميم ففتحوا الميم إتباعا للعين.

في شرح التّلخيص عن بعض أهل العراق إنّهم يفتحون العين من عمر، وساق حكاية أنّه دخل عليه رجل ممّن غلب على لهجته فتح عين عمر، فلمّا نطق بذلك ضحك منه الحاضرون، قال: فلم يدر سبب ضحكهم، قال: فضممت عيني ففطن لذلك، فعجب الحاضرون من سرعة فهمه. كان - رحمه الله تعالى - في ابتداء أمره رجلا جزّارا ضاقت عليه الحيل في معيشته، فلمّا جاء أوان الرّبيع خرج النّاس لزيارة أهل الخير بالسّاحل (¬596)، فخرج معهم من ضيق الحال ولمّا / وصل لبلاد جمّال وجد اللّيم الحلو (¬597) فأخذ مقدار خمسين واحدة، وكان للشّيخ سيدي عامر المزوغي بنت مريضة إشتهت اللّيم الحلو فلم يجدوه مع شدّة الطّلب، فلمّا وصل لزاوية سيدي عامر (¬598) بلغه الخبر فأهدى ما معه من اللّيم للشّيخ، فقال له الشّيخ: نلت جميع البركة فأدخله خلوته وألقمه ثديه فما رفع رأسه إلاّ وقد انجذب بهمّة الشّيخ فصار كالولهان، وساح في الأوطان لزيارة الصّالحين قدر سنتين، فلمّا كمل أوانه أشار عليه الشّيخ بالرّجوع إلى صفاقس، ولمّا رجع له صحوه قال: كانت لغير الله فصارت لله، ما كنت خرجت إلاّ لضيق حالي حتّى وسّع الله من فضله. ولمّا قدم الباشا لصفاقس أصابته حمّى يوم قوية، فخاف منها فسأل هل في البلد من الأولياء فدلّ هلى هذا الشّيخ، فأحضر بين يديه وشكا إليه مرضه، فوضع يده عليه وقال: لا بأس عليك، غدا - إن شاء الله - يحصل اللّطف والشّفاء، ففرح الباشا بذلك وخرج الشّيخ واشترى شيئا من السمك وطبخه بالسكنجبير المتّخذ من ماء الزبيب والخلّ الطّيب، وجعل فيه شيئا من حوار الأبزار، وبعد إستوائه ونضجه فتّت فيه شيئا يسيرا من خبز الشّعير، ولمّا ساغ شربه أمره بالأكل من فتت الخبز وشرب المرق، فتوقّف في أكل الشّعير فقال: كل وتوكّل على الله فإنّ أصل كلّ خير التّوكّل على الله، فتوكّل على الله وأكل ما تيسّر للبركة، وشرب من المرق بقدر الإستطاعة، ثمّ أمره بالرّقاد / وغطّاه بغطاء ثقيل، وقعد عند رأسه، ومنع خدّامه أن يتولّوا أمره، واشتعلت فيه حرارة الأبزار، وغاصت في أعماق بدنه بالسكنجبير، فلمّا اشتعلت الحرارة طلب كشف الغطاء ¬

(¬596) في خرجات أهل صفاقس في فصل الرّبيع إلى السّاحل، توجّههم للزّيارة في مسيرة تسمّى «حزب» إلى سيدي عامر المزوغي بقرية سيدي عامر وأمّ الزّين بجمّال، ويقيمون بجواره مدّة. (¬597) نوع من اللّيمون الحلو ويعرف في صفاقس إلى الآن بليم سيدي عامر (أي المزوغي) وليم سيدي عامر من الهدايا التي يرجع بها الصّفاقسيّون إلى أسرهم. (¬598) الكائنة جنوبي مدينة سوسة.

فمنعه، فاشتدّ به الحال حتّى كادت نفسه تزهق وهو يصبّره، ويعلّله، ويعده بالفرج، وأنّ الفرج مع الصبر، فقويت الحرارة الغريزية بحرارة الأبزار وتلطفت بالسكنجبير فانهزم عارض البرد الذي كان أصابه وأمرضه، فخرج العرق البارد بعد استكمال نضج الخلط، وخمد (¬599) البحران، وانتشرت الحرارة، وانتعشت القوى، فانبسط الباشا، ولمّا ابتل دثاره غيّره الشّيخ، وجعل كلّما ابتل شيء من العرق غيره بثياب نظيفة طيبة برفق بحيث لا يدخل البرد إلى الجسد، فلم يزل به حتّى إنقطع العرق وانتشرت الحرارة الغريزية الطّبيعية على سطح الجسد، فجعل يخفّف عليه الغطاء شيئا فشيئا حتّى تأنّس بالهواء وصحّ الجسم وزالت العلّة، ففرح الباشا بذلك وقوي اعتقاده في الشّيخ من حيث أنّه وعده بالعافية وقد يسّر الله بها بلطف على يد الشّيخ ورفقه، فلمّا سافر لتونس صار يقول: رأيت وليّا بصفاقس، وعظم أمر الشّيخ عند أهل حضرته، ثمّ أرسل له رسولا بفرس وأمره بالقدوم عليه ويستصحب ولديه معه فأبى الشّيخ من ركوب الفرس وقال: نفسي لا تساعدني على الرّكوب إلاّ على البعير، فأخذ بعيرا وجعل عليه محملا (¬600) وجعل كلّ واحد من ولديه (¬601) في شقّ، وركب هو في الوسط / وسار فسبق الرّسول وأعلم الباشا بذلك فزاد اعتقاده، ثمّ قال للرّسول: أعرض (¬602) له هذه الثّياب يتجمّل بها للقاء النّاس وعرّفه أنّي متلقّيه بأصحابي فأبى من لبسها وقال: يكفيني ما أنا عليه، فتلقّاه الباشا وفرح به، وأكرم نزله وأحسن مثواه، ولمّا جاء الليل فرشوا له من فروش الباشا شيئا نام عليه هو وإبنيه (¬603)، وكانا صغيرين فاستيقظ الشّيخ فوجد أحدهما شخّ (¬604) على الفراش، فارتاع الشّيخ وانتهر الولد وضربه فبكى، فسمع الباشا ببكائه فاستفهم عن بكائه، فاحتار الشّيخ في الجواب، فألحّوا عليه حتّى عرّفهم بالقضيّة، فإذا بقارع يقرع الباب فقال: يا سيدي هذا كنز وجدناه في مكان كذا، فما تأمر به؟ فضحك الباشا وقال: ما شاء الله ما ضرّنا هذا الشّخّاخ بل حصلت لنا به بركة، ¬

(¬599) في ط وت: «حمو». (¬600) ما يعرف بالعامية بالشّواري. (¬601) في بقية الأصول: «أولاده». (¬602) في ش وب: «عرض». (¬603) في الأصول: «أبناؤه». (¬604) كذا في ش وب وط، وفي ت: «بال» وللكلمتين نفس المعنى وقد انقرضت لفظة «شخّ» من الإستعمال الدارج في صفاقس وبقيت مستعملة في بواديها.

شخاخه بكنز إن ذا الخير كثير، فلمّا أصبح أعطاه ثمانمائة ريال وقال: خذ هذه إستعن بها على زمانك، فنزل بها فما أتى الليل إلاّ وقد فرّق جميعها، ثمّ جهّزه الباشا واعتقده، وبنى له زاوية (¬605) بصفاقس داخل البلد تحت السّور في جنوبيها شرقا من باب البحر وهي معروفة. وبنى الشّيخ هناك قبرا كان أعدّه لدفنه، فمات الشّيخ سيدي محمّد المصري أحد مريديه فآثره به (¬606) ولمّا حضرته الوفاة دفن خارج البلد على شاطئ البحر وقد صار الآن بوسط الربض وبنى عليه أهل الخير قبّة (¬607) مشهورة به، وتصدّق عليه بعض أهل الخير / بداره فبيعت وبني بها تلك الآثار المحيطة بقبّته. وضاق به الحال مرّة من كثرة الزّائرين، فخرج يوما من باب البحر فلقيه رئيس (¬608) جربي فقال له: إعطني سلما (¬609) على خمسين قفيزا من الشّعير لدرس الأندر، فقال: وأين نادرك؟ فأشار إلى نادر كبير، فاطمأنّ الجربي ونقد ثمن الخمسين قفيزا، فلمّا درس النّاس أندرهم جاء الجربي إلى النّادر فوجد النّاس يدرسون فقال: أين الشّيخ كمّون صاحب النّادر؟ فقالوا له: ذاك فقير، ليس هذا له، فأشفق الجربي وأيس من ماله فذهب هائما، فلقي الشّيخ فقال: يا شيخ، النّادر لغيرك فأين الشّعير؟ فقال: كن هانئا وعن قريب يأتيك خلاصك، فاحتار الجربي وبقي بين الخوف والرّجاء، فبعد أيّام وإذا به أتاه وقال: أين تضع الشّعير؟ فقال له: في السّفينة وهي على شاطئ البحر، قال: فإذا بثلاثين جملا محمّلين شعيرا، فقال: ها هو شعيرك، فقال: وما تجيء هذه من الخمسين قفيزا؟ قال: تحصل البركة وتأخذ حقّك بالوفاء والتّمام، أرح قلبك وكن هانئا، وأحضر الكيلة (¬610) واكتال حتّى وصل ستّين قفيزا فقال الجربي: هذا ما تحمل سفينتي وليس عندي ما ندفعه في الزّائد، فقال له الشّيخ: لو سكتّ لكثر خيرك ولكن هذا نصيبك والعشرة زائدة على الخمسين خذها لوجه الله. ¬

(¬605) لم يبق منها إلاّ الصّومعة وزالت الزّاوية. (¬606) داخل السّور بجوار زاوية الشّيخ عمر كمّون، وهو مغلق اليوم يتطلّب التّرميم والإنقاذ. (¬607) زال الرّبض وزالت القبّة ونقل جثمانه إلى زاويته داخل السور، وبنيت له قبّة ما زالت قائمة. (¬608) ربّان سفينة وكانت بين جربة وصفاقس ملاحة وحركة تجارية دائبة. (¬609) قرض في قالب سلفة، ويتمثل عادة في إشتراء كميّة من المنتوج الفلاحي قبل أوانه ويسدّد ثمنها زيتا أو قمحا أو شعيرا على أن يسدّد البائع إلى المشتري هذه الكميّة في الموسم، عند عصر الزيتون أو حصاد الشعير إلى غير ذلك. (¬610) في ط: «الكيال»، وفي ت وب: «الكيل».

ترجمة الولي شعبان زين الدين

قال حفيده: واشتدّ به الحال مرّة أخرى فباع أبواب داره لرئيس جربي فتعطّل سفره إلى أن تيسّر حال الشّيخ فجاء إلى الرّئيس الجربي وقال له: ردّ عليّ الأبواب / وخذ ما أعطيتني فأبى، فقال: إن لم تأخذ حقّها وتردّها أخذناها مجانا، واشتهرت القضيّة فأبى، فلمّا نام الجربي أدركته منيّته ليلا فأصبح ميّتا فأنزل رفقاؤه الأبواب وقالوا: خذ أبوابك لا حاجة لنا بها. ولم نقف على تعيين سنة وفاته إلاّ أنّه من أهل القرن الحادي عشر. ترجمة الولي شعبان زين الدّين: ومن مجاذيب صفاقس المتأخّرين سيدي شعبان زين الدّين. كان مشهورا بين النّاس بالصّلاح، والجذب غالب عليه، قال أبو عبد الله محمّد الشّرفي، الشّهير بالصّوفي: كانت طريقة سيدي شعبان أنّه يملأ حيضان ميضاة زاوية الشّيخ النّوري، فاتّفق أن ذكرت (¬611) سيرته وذكروا أنّه من أولياء الله فأنكرت أن يكون من أولياء الله، ولم يطّلع علينا أحد إلاّ الله تعالى فيما قلنا، قال: فأتيت ليلة غرّني الليل وحسبت أنّه آخر الليل فإذا به نصف الليل، فدخلت الميضاة لنتوضّأ فإذا بسيدي شعبان يملأ الماء فناداني في تلك الظّلمة باسمي وقال لي: بماذا تتعلّق قدرة الله وكنت قاصرا في علم التّوحيد؟ فأكّد عليّ الطلب ولم نجد ما نجيبه به حتّى اقشعرّ جلدي وأخذتني هيبة ورعب، ففررت بنفسي وتبت إلى الله تعالى وسلّمت أمره وعلمت فضله. وهو من أهل القرن الثّاني عشر، مدفون بضريحه المشهور (¬612) به على شاطئ البحر تحت ركب البلد الجنوبي الشرقي. ترجمة الولي أبي عبد الله محمّد المسدّي: ومن مجاذيب صفاقس المشهورين الشّيخ أبو عبد الله / سيدي محمّد المسدّي. كان - رحمه الله - من دار أصحاب دنيا عريضة، فأعرض عنها ولم يتعلّق بشيء منها سوى قميص وجبّة وقلنسوة، فيمشي بلا نعل. وكان معقول اللّسان لا يتكلّم إلاّ بكلام قليل ¬

(¬611) في بقية الأصول: «ذكروا». (¬612) إندثر مع ابتعاد الشاطئ وتغيّر العمران بمكانه.

ترجمة الولي أبي الفوز سعيد حريز

غير واضح الدّلالة يفهمه من لازمه، وزوّجه أهله فأبى، فعقدوا وزفّوا وبيّتوا معه الزّوجة فلم يلتفت إليها مع كثرة المراودة منها له، ثمّ رجعت إلى أهلها. وكانت له إشارات، فمنها أنّ النّاس كانوا في أيام المرحوم سيدي حسين باي في غاية الأمن، ولا يغلق باب البلد (¬613) إلاّ قريب العشاء لانتظار أرباب الفلاحة والبساتين، فصار الشّيخ يأتي لصاحب الباب ويقول له: إلى العشاء يا كلاب (¬614) كالمتوعّد المنهر، فلم تمض أشهر قلائل إلاّ وقد وقعت فتنة مع الباشا - رحمهما الله - فصار البوّاب يغلق من المغرب. ومن إشاراته ما حكاه معلّم الأطفال الفقيه سعيد أبو ريشة أنّه قال: كان يأتينا من السّحر إلى السّحر ويقرع بابنا ويقول: مال الباي (مال الباي) (¬615) بكلام غير واضح، فلم ندر مراده، فاستحدثنا بدارنا داموسا، فلمّا توسّطنا العمل فإذا بأزيار فخّار ملآنة بالرّيالات فأحضرنا قائد البلد فأرسل المال إلى الباي. ومنها أنّه قال لأمّ محمّد السيالة: إن ابنك سيصير قائدا، فقالت: إن صدقت بنيت لك روضة، فكان ما قال، فبنت له روضة قرب الشّيخ الوحيشي / على قبره، وتوفّي سنة نيف وخمسين ومائة وألف (¬616). ترجمة الولي أبي الفوز سعيد حريز: ومن مجاذيب أهل صفاقس ممّن أدركناهم الشّيخ أبو الفوز سيدي سعيد بن سعيد حريز، ذوا الكرامات المشهورة والإشارات المأثورة، أصل آبائه من بلد المحرس فانتقلوا لسكنى صفاقس، وبها ولد الشّيخ - رحمه الله تعالى -. كان سيّدا نبيلا وحصورا جليلا، نشأ مجذوبا معقول اللّسان بعقدة طبيعة، من شاهده تحقّق أنّه من الله لا بتصنّع كما يفعله بعض الملبسين، وقد يتكلّم قليلا فينادي الرّجل: يا عم، والمرأة: يا حنّة، وقد ينادي: يا عيش (¬617) لأكثر النّساء (¬618) وإن لم يكن إسما لها، وقد ينطلق (¬619) لسانه بالأسحار وجوف الليل بالأسوار والخلوات فينطق ¬

(¬613) يقصد باب الجبلي. (¬614) في ت وط: «غلاب». (¬615) ما بين القوسين ساقط من ت وط. (¬616) بعد سنة 1738 بقليل. (¬617) لعلّه ترخيم عيشوشة (عائشة). (¬618) في ط وب: «النسوان». (¬619) في بقيّة الأصول: «ينطق».

بكلام العارفين بالله بلفظ فصيح لا عقدة فيه ولا لكنة. وكان عقد لسانه في الخطاب عناية من الله لأنّه - رحمه الله - كان ممّن أوقفه الله في باب المكاشفة. ويقصده النّاس من كلّ ناحية ويسألونه عن الأمور قبل ظهورها لهم، فإن أجاب بالواقع كلّ أحد فربّما كان الخبر بما يسوء النّاس فانعقد لسانه - رحمة (من الله) (¬620) للخلق -، وكان مبشّرا بالمسرّة إشارة، وقد يبشّر بقدوم المسافر فيقول: جاء جاء، كاتما للمصيبة، فيبشّر أهل المسافر وأهل المريض ممّن كتب الله سلامته وعافيته، ومن تعسّرت عليها الولادة ودخل عليها دلّ على / خلاصها على أحسن حال، ولا تخطئ بشارته قطّ إذا قالها من عند نفسه، أمّا بالتّلقين وكثرة الإلحاح (¬621) فلا يفيد خبره شيئا، لأنّ الولي إذا أطلعه الله على شيء أنطقه به وإن أراد الله البشارة به ولا يحتاج لسؤال ولحّ، وإن لا فلا، فلا تأخذ من الولي إلاّ ما لاقاك به من غير مواعدة. وكان - رحمه الله - حسن الخلق محبّبا عند جميع النّاس فيتحمّل منهم أذيّتهم ويقبلها بعفو وصفح، ويعامل الكبير والصغير، والحرّ والعبد، والذّكر والأنثى، والغني والفقير، والقريب والبعيد معاملة واحدة، وكلّ من أوقفه وقف له، ويضع - رحمه الله - يده على صدره كالإشارة بأنّي ضامنك، وقد يسأل فيقال: أضامن؟ فيشير بيده أن نعم. وكان لا يقبل من أحد دينارا ولا درهما، ولم يمسّه قطّ، نعم إن وعده أحد من أهل الخير بشيء سرّا جاء ومعه نقيبه فيقول النّقيب: هل وعدت الشّيخ بشيء؟ فيقول: نعم، فيذهب الشّيخ ويتسلّم النّقيب ما فتح الله به. وله بعض أحبّة مخصوصين يقصدهم ويدخل دورهم غائبين وحاضرين ويأكل من طعامهم وربّما أشار لأهل المحلّ باستدعاء طعام فيحضر له ما تيسّر فيأكل ما قسم له، ولا يظهر الغضب قطّ إلاّ لمن وقع منه منهى عنه سرّا، فيضربه ضربة أو ضربتين أو ثلاثا وجيعات، وقد يعضّه عضّا شديدا فيفهم صاحب المعصية فيتوب من وفّقه / الله تعالى، وكان محبا لزيارة الصّالحين أحياء وميتين، ويسافر مع الناس لزيارة أولياء الساحل (¬622)، وإذا عملوا السّماع أخذه الحال والتّواجد حتّى لا يملك نفسه ولا يضبط حسّه، ومهما ¬

(¬620) ما بين القوسين ساقط من بقية الأصول. (¬621) في الأصول: «اللح». (¬622) بقرية سيدي عامر المزوغي وبجمال وما حواليها كمصدور وبعوينة الساحلين.

حلّ (¬623) بالنّاس أمر مهمّ من غزو أو دفع عدوّ كان معهم في جهد جهيد، وربّما نشّط من رآى منه كسلا محبّا لجميع المؤمنين، ويظهر التّحنّن والشّفقة عليهم، ويعتقده حتى أهل الكفر لما يرون فيه من عدم التّصنّع والتّلبيس، ظاهره كباطنه، ورؤيته تذكر الله وتشرح القلب المحزون، وتزيد الإيمان بالله ورسوله، ومحبّة في الدّين وأهله عن تجربة، ويلعب مع أطفال المسلمين ولو آذوه، ويحثّهم على اللعب الذي يكون من مبادئ الحرب ويشليهم (¬624) على بعضهم ليدرّبهم على الجهاد ودفع العدوّ وصولته. وبالجملة فهو حبيب محبّب لجميع الخلق، وكلّ من لقيه أو دخل عليه محلّه حصل له من الفرح والسّرور ما لا يعلمه إلاّ الله. توفّي والده وهو صغير فكفلته أخته، ويسّر الله رزقه على أيدي أهل الخير ومن النّذور عند شدّة مرض أو تعسّر ولادة أو فقد مسافر، ويكون ذلك موافقا لما قضى الله وقدّر وقوعه من سلامة العاقبة، ومدّة حياته وأهله في سعة رزق ببركته، وكان في ظاهره ممنوعا (¬625) من التدبير والتّصرّف، لم ينتقل عن أخلاق الصبيان فلا يستطيع / تغيير ما تدنّس من أثوابه ولا على إزالة ما تعلّق به من الأوساخ، بل تباشره أخته في جميع ضرورياته كما تباشر الصّبيّ، وقد يباشر ذلك أهل الخير من النّساء والرّجال فيغسلون رجليه ويديه ويقلعون الشّوك من رجليه لأنّه لم ينتعل قطّ، ويرجّلون شعر رأسه لأنّه لم يلبس قلنسوة قطّ، وكلّ من سأله إزالة شيء من شوك رجليه فرح بذلك ولو كان من ذوي الأقدار بل ربّما طلب أهل الخير أن يلوا ذلك منه فيسعفهم بمطلوبهم وحاله في لباس الصّيف حاله في الشّتاء الجبّة الخضراء والقميص. وكان يعود المرضى ويدعو لهم بخير بالإشارة، ويبسط يديه للدّعاء ويمسح بهما وجهه، وإذا قدم النّاس من أسفارهم تلقّاهم وأظهر الفرح والسّرور والإستبشار بسلامة المسلمين، وإذا غنموا زاد فرحا، وإذا سافروا ودعهم ويأخذون خاطره ويطلبون رضاه فيسعفهم بمسؤولهم، وله محبّة خاصة أكيدة في معتقديه ومحبّيه، ويدخل عليهم من غير إستئذان، ولا يحتشم أحد منهم بل يدخل الرّجل فيجده في داره فلا يتغيّر لذلك بل يظهر السّرور به لأنّه ممّن سلم المسلمون من يده ولسانه، وزهد فيما في أيدي النّاس من مال وحريم (الدّار والمدر) (¬626) والنّساء ¬

(¬623) في الأصول: «أحل». (¬624) في بقية الأصول: «يسليهم». (¬625) في ط وت: «منهوعا». (¬626) في بقية الأصول: «الدر والمدر».

والحجر عنده سواء لأنّه حصور لا شهوة لفرجه ولا لعينه ولا ليده ولا لقلبه، ينظر الحسناء بعين / الشوهاء (¬627) لا يفرّق بينهما إلاّ بالطّاعة، فيحبّ أهل الخير ويظهر له المحبّة، ولا يعنف من استتر في معصية بل قد يشير بحيث لا يهتك السّتر إشارة يفهمها من وقع فيها كالضّرب كما تقدّم. وإذا نزل بالنّاس قحط واستسقوا كان في أوّلهم، وإذا كانت أفراح للمسلمين كان معهم. ولمّا وقع الطّاعون سنة تسع وتسعين ومائة وألف (¬628) بتونس قال بعضهم: قمت في جوف الليل وغرّني الوقت فخرجت فلم أجد أحدا في الطّرقات، فبينما أنا سائر وإذا بصوت رجل يتأسّف ويتحسّر ويقول: آه عليك يا بلدي، آه على إخواني المؤمنين وهو يتأسّف ويسترجع بصوت لا عقد فيه ولا لكنة فتقدّمت يسيرا فوجدته الشّيخ، فعن قريب وقع الطّاعون الجارف فذهب بأهل الخير والصّلاح، فعلى ذلك كان يتأسّف، فهو - رحمه الله - كان ممّن جبله الله على حبّ الخير للمسلمين، وكل (¬629) أحد يظنّ أنّه مختصّ منه بمحبّة زائدة على غيره أكثر ممّا يجده الأولاد من آبائهم لأنّ بعض الآباء قد يظهر ميلا ولا ميل عنده. وكان من أهل الخطوة قد شاهده بعضهم على عرفة، ورآه بعض المغاربة مقبلا في الطّريق بصفاقس وكان من الغرب الأقصى فقال: هذا الشّيخ من هذه البلاد؟ فقال له بعض الحاضرين: نعم، فقال: رأيناه على عرفة، فلمّا وصل الشّيخ أشار إليه أن أسكت مع أنّه / لم يفقد من بلده، ولم يسافر إلاّ لزيارة أولياء السّاحل مع إخوانه الزّائرين وهو صاحب درك (¬630) البلد، وقد يقوم بعض النّاس ليلا فيجدونه (¬631) فوق السّور دائرا أو واقفا بين شرّافتين منه وقد يشاهد خارج البلد ولا يصبح إلاّ في داره. وقد ذكرت بعض النّساء الصّادقات أنّه إذا تعذّرت الولادة وأيس أهل المرأة من خلاصها وأراد الله خلاصها دخل هذا الشّيخ، فتارة تخلص بمجرّد حضوره، وتارة يضع يده على المرأة فيحسن الله خلاصها، فدخوله علامة على السّلامة. والكلام عليه يستدعي مؤلّفا مختصّا بل لا يكفي فيه مؤلّف واحد لأنّ كل أحد قد ¬

(¬627) ساقطة من ط. (¬628) 1784 - 1785 م. (¬629) في ط وت: «أعلم». (¬630) أي المتاعب، في ت: «دور»، وفي ط: «دوك». (¬631) في الأصول: «يجدوه».

شاهد من بركاته شيئا كثيرا، وتتبّع ذلك يطول، والمقصود هو الإعلام بأنّه كان من أولياء الله المقرّبين، صاحب الوقت في هذا القرن الثّاني عشر في بلده، هذا المحقّق عندنا، وكونه من الأوتاد أو الأبدال أو النّقباء أو النّجباء لا نعلمه إلاّ أنّ علامات الأقطاب لائحة عليه، وهو أنّه قريب بعيد، صاح مجذوب إلى غير ذلك من العلامات، وله كرامات متواترة عند النّاس تواترا معنويّا لأنّ كل أحد شاهد منه أمورا خارقة للعادة. والذي شاهدته من بعض كراماته أنّي كنت أصابني الربو وضيق النّفس في بعض السنين فاشتدّ بي الحال واستمرّت العلّة زمنا طويلا ثمّ تدارك / الله باللطف بعد اليأس. فلمّا جاءت السّنة الثانية وأوان المرض أصابني ما أصابني في السّنّة الأولى ورجعت إلى ما كنت فيه، وكانت ليلة عيد الأضحى، فاستسلمت للقضاء، وأيست من حضور صلاة العيد، وغلب على ظنّي أنّه تطول المدّة كالسّنة التي قبلها (¬632)، فتعطّل النّفس وذهب النّوم، فلمّا ذهب من الليل ثلثاه وإذا بقارع يقرع الباب، فانتبهت الجارية وفتحت الباب فإذا بالشّيخ - رحمه الله - داخل، فلم يقصد من الدّار أحدا غيري ولا علم أحد بحالي إلاّ الله تعالى، فوضع يده في ظهري وكشفه وجعل يدعكه قويا وأنا أقول: إتّق الله في كيف تكشف ظهري وأنا أخاف من الهواء والبرد، وقد زدت في الغطاء مخافة البرد، فلم يلتفت وجعل يكرّر ذلك الدّعك والضّرب، فلمّا علم أنّ الله أزال العلّة رفع يده وسأل أهلي إحضار ثياب العيد، وأشار لي باللباس والخروج فقلت: لا أخرج أخاف أن تطول علّتي فضرب على صدره يشير بأنّه ضامن ولا خوف من شيء أصلا، فلا زال يستنهضني للقيام وأنا أتقاعس وأميل للفراش وقد وطّنت نفسي على عدم الخروج فغلبني، ولبست ثيابي كرها وتوضّأت وخرجت فما حصلت إلاّ العافية التّامّة، وذهب ما كنت أجده، وتمّت العافية سنين متطاولة مع أنّي كنت متخوّفا من ذلك أشدّ الخوف، ولكنّ الله سلّم / وتفضّل بالعافية على يد هذا الشّيخ الصّالح. وكان - رحمه الله - إندق فخذه، وهو عند الأطبّاء من أصعب الأمراض، فحضر الطّبيب وعصّبه بالجبائر كلّ ذلك ولم يسمع منه حرف ولا تأوّه، ولا أظهر وجعا ولا ضجرا، بل كان مستسلما لقضاء الله تعالى، فشفاه الله في أيسر زمان، وقام يمشي على قدميه كأن لم تصبه عثرة رجل فضلا عن دقّ الفخذ. ¬

(¬632) ساقطة من ط.

ودخلت عليه يوما برمضان وهو يأكل فتناولت لقمة وأظهرت إرادة الأكل فأشار أن لا فقلت له: سبحان الله حرام علينا وحلال لك؟ فأشار أن نعم، فعلمت أنّ [الله] (¬633) اصطفاه لحضرته واختصّه (¬634) بكرامته وأذهله عن ضبط جوارحه للعبادة وأقامه في حضرة الشّهود وكلّ ميسّر لما خلق له. ولمّا جاء الطّاعون الجارف سنة تسع وتسعين ومائة وألف (¬635) لم يسلم منه أحد، فأخبرني الشّيخ الفقيه المدرّس الواعظ أخونا في الله تعالى أبو عبد الله الحاج الأبر سيدي محمد المزيو - أمدّ الله في حياته وأجرى الصّالحات على يديه ووفّقنا وإيّاه لما يحبّه ويرضاه - قال: لمّا أصبت بالطّاعون أشفقت على نفسي وكنت من محيّي الشيخ ومعتقديه ونتبرّك بدخوله ورؤيته فقلت في نفسي: غاب عنّي الشّيخ في مرضي هذا ولم يزرني مع أنّه كان لا يغيب عنّي في أيّام العافية، قال: فلمّا طلع النّهار فإذا به دخل ورفع عنّي السّتر ورجع من حيث جاء، ثمّ رجع من الغد / وجلس عندي قليلا وتناول قليلا من الخبز واللّبن، وفي اليوم الثّالث دخل معى في الفراش وقرن رجلى وجعلها بين رجليه، وأدار يديه بعنقي وتمرّغ عليّ حتّى خشيت زهوق روحي، وأخذه حال، وظننت أنّ الأجل قد حضر، فإذا بالعرق إنسكب ولم يرسلني حتّى أخذني النّوم، فانصرف ولم نشعر بانصرافه، فلمّا استيقظت أحسست بمبادئ العافية، ورجع من الغد ففعل مثل ذلك، وفي اليوم الثالث دخل معي في الفراش وأشار لي بيده إلى الغسل والكفن فقلت: أحضرت منيّتي؟ فأشار أن لا، بل أنا، فقلت: عافاك الله، نسأل الله أن يديم علينا التّمتّع بصحتك، فأشار بأنّ الأجل قد فرغ، وأخذ منّي العهد على أنّي أتولّى غسله وكفنه، وبسط يديه للدّعاء ثمّ مسح وجهه، فما خرج إلاّ والعافية زادت، فلما خرجت من المرض بعد أيّام قليلة وتمشّيت (¬636) في الطّريق قيل لي: حياتك الباقية في الشّيخ، فذهبت للوفاء بالعهد، فوجدت بالدّار جمعا كثيرا من الفقهاء وغيرهم إبتدؤوا غسله فعرّفتهم بوصيّة الشّيخ فتنحّوا عنه، وغسلته وكفّنته، وحملنا سريره إلى الروضة التي إستجدّها له القائد علي الجلّولي - رحمه الله تعالى ورحم جميع المسلمين - وصلّى عليه كلّ من بقي من أهل البلد متعافيا، ودفن في وسط روضته (¬637) المشهورة في ¬

(¬633) ساقطة من ش. (¬634) في ط وت: «اختمه». (¬635) 1785 م. (¬636) في ط وت: «تماشيت». (¬637) زالت هذه الروضة بزوال الربض.

ترجمة الولي أبي الحسن علي الجراية

الرّبض وذلك بشهر جمادى الآخرة من سنة تسع / وتسعين ومائة وألف (¬638) وقد ناهز السّبعين سنة. ترجمة الولي أبي الحسن علي الجراية: ومن تلاميذ سيدي سعيد حريز الشّيخ العارف بالله تعالى أبي الحسن سيدي علي الجراية. كان في صغره من صيادي السّمك مع والده، قالت والدته: خرج مع والده على عادته لصيادة السّمك بجزيرة الكنائس بالبحر الغربي من البلد، (فلمّا نزلوا) (¬639) نزل الشّيخ معهم فشرعوا في نصب العمل لأخذ السّمك، فبينما هم في العمل إذ دخل الشّيخ ملججا في لجّة البحر أكثر من القدر الّذي يأخذون منه السّمك، فظهر لوالده على بعد أنّه تلقّاه رجل من البحر، فلمّا رجع جاء على حال غير الحالة التي ذهب عليها وهو كالولهان ويتكلّم بكلام لا يفهم وعلى فيه زبد كالجمل الهائج، فلمّا وصل إلى القارب التي يحمل فيها العمل (¬640) أراد والده إدخاله فيها فقال له شريكهم في العمل: ما لك تهدر وتحمق فعلى من تفعل هذا؟ وأظهر الكراهية والغضب على الشّيخ فانكسرت على رأسه قرية (¬641) القلاع فخاف ورجع عمّا صدر منه واستغفر الله وتاب، فلمّا رجعوا إلى البلد إستقبله الشّيخ سيدي سعيد حريز - رحمه الله تعالى - فأخذه معه وأدخله الخلوة فبقي عنده ما يقرب من خمسة أعوام ثمّ أخرجه وكساه جبّة خضراء، وهي في هذه الأعصار صارت شعار الصّالحين عوضا عن الخرقة شعار الصّوفية، فحمله لدار والدته فحجبه بها لمثل تلك (¬642) المدّة، فكانت خلوته في دار / أمّه. وكان ملازم الصّوم والصّلاة لا يفطر إلاّ على زبيبة وقلب لوز مدّة احتجابه في خلوته، ثمّ خرج مختوما على فيه فلا يتكلّم إلاّ رمزا، فقدم رجل من أهل طرابلس يقال له محمود بن للّونة فاعتقد الشّيخ وصار يتردّد عليه وقال له: إنّي أريد الذّهاب لتونس للأمير سيدي علي باي يسرّح لي زوج مراكب قمح لأنّ بلادنا أصابها قحط فاسأل الله أن ¬

(¬638) أفريل 1785 م. (¬639) ما بين القوسين ساقط من بقية الأصول. (¬640) يعني أدوات الصّيد البحري. (¬641) عصا طويلة غليظة تستعمل لأغراض الملاحة. (¬642) في الأصول: «ذلك».

يجعل لي قبولا عند الأمير ليقضي لي ما قصدته، ففتح الشّيخ يديه إلى السّماء على صورة الدّعاء إشارة إلى أنّ الله يقضي له مآربه، وقال: إن يسّر الله عليّ الأمر آتيتك بجبّة خضراء وكان جالسا على دكّة من ألواح وأخشاب، فقال: ونعطيك هذه الألواح والأخشاب يستعملونها لك تابوتا، وكان قد ابتنى له القائد أحمد أبو ديدح قبّة بالرّبض قرب تربة شيخه فذهب إبن للّونة لتونس، وحصل له ما أراد، فلمّا رجع إلى صفاقس، أعطى للشّيخ ما وعده من الجبّة واللّوح والأخشاب فصنع من ذلك تابوتا وحملوه إلى التربة، فخرج الشّيخ معهم وكذلك سيدي سعيد حريز فجاءه وجذبه من أثوابه فلم يقم، فضربه بيده خمس ضربات وهو يضحك، فكانت مدّة احتجابه الحجبة الثّالثة خمسة أعوام بعدّة الضّربات، واتّصلت حجبته بوفاته. وكان - رحمه الله - خفيف الرّوح على النّفس، خفيف المؤنة، حسن الصّورة، عليه نور زائد، كثير النّظافة، يمشي بلا نعل فلا يعلق به شيء من قذر الطّريق، / وإن علق به ما ندر بادر بغسله محافظة على نزاهة الظّاهر، كما هو محافظ على نزاهة الباطن ولمّا سار الشّيخ لزيارة الصّالحين من أهل السّاحل، واستمرّ لزيارة الصّالحين بتونس، خرج أبوه في صحبته ليتولّى خدمته والقيام بشأنه، وكان أبوه فقيرا عاجزا عن الكسب، فذهب به إلى الأمير سيدي علي باي - رحمه الله تعالى -، فلمّا قدم عليه أحبّه وأقبل عليه وقال: هذا رجل عليه سيماء (¬643) الصّالحين فأخذه وأجلسه في حجره تبرّكا به، ثمّ سأل والده عن مطلوبه فعرّفه بضنك عيشه وقلّة ذات يده، فقال له: سل (¬644) تعط، فقال: تجعل لي نصيبا من زكاة الحبوب نقتاته، ولتكن زكاة أبي عرادة فقال له: أعطيتك ذلك، فدعا بخير، ومدّ الشّيخ يده للدّعاء ونزل إلى تونس فصار أهل الخير يعطون والده ما تيسّر تبرّكا منهم بالشّيخ، فرآى الشّيخ ذلك فأشار إلى والده أن لا تأخذ شيئا وإلاّ قصمت ظهرك، فردّ على النّاس ما أعطوه، ولمّا أراد السّفر من تونس ذهب والده ليأخذ الظّهير من السّلطان فقال لهم السّلطان: اكتبوا له فإنّ الشّيخ علق حبّه بقلبي وما غاب عن بصري منذ رأيته حتّى في النّوم، فكتبوا له ورجع مجبور الخاطر بعد ما كساه هو ووالده وخديمه جبّة خضراء. وكان الشّيخ محبّا لتلاوة كتاب الله العزيز ومحبّا لأهل الله وخصوصا حملة القرآن، ¬

(¬643) في ط: «سمة». (¬644) في ط وت: «اسأل».

ترجمة الولي أبي عبد الله محمد أبو مغارة

فيستمع للتّلاوة ويبكي ويظهر الخشوع والبكاء / والتّضرّع، فإذا سمع آية رحمة فرح واستبشر وبسط يديه للسّؤال، وإذا سمع آية عذاب غلبه الفزع والرّعب وأشار بيده إلى الإستعاذة منها. وكان محبا لكثرة الصّلاة محافظا على الفرائض في أوقاتها، محبّا لسماع الصّلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان محبّا للشّيخ سيدي طيّب الشّرفي - رحمه الله - وللشّيخ فيه اعتقاد زائد، وكانا يتزاوران كثيرا، فإذا احتجب زاره الشّيخ في داره، وإذا خرج زار الشّيخ في مدرسته إن وجده وإلاّ ففي داره، وإذا كان يوم جمعة قرأ له الشّيخ دلائل الخيرات فيستمع له ويظهر السّرور عند سماع ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ولمّا توفّي صار الشّيخ يذهب يوم الجمعة إلى ضريحه فيقرأ بإزاء قبره. وبعد وفاة الشّيخ - رحمه الله - قام ولده الشّيخ سيدي عبد الرّحمان - رحمه الله - مقام والده فيذهب لضريح الشّيخ الجرّاية فيقرأ دلائل الخيرات كوالده - رحمة الله على الجميع - ولمّا حضرت وفاته توجّه إلى القبلة بنفسه وأطبق عينيه وفاه بنفسه بعد أن أوصى أن يتولّى غسله، وكفنه الشّيخ سيدي طيّب الشّرفي، وتشهّد كلمة الحقّ وفارق الدّنيا - رحمة الله عليه - سابع ربيع أوّل المشرّف بولادته صلّى الله عليه وسلم سنة خمس وتسعين ومائة وألف (¬645) وله من العمر أربعون سنة. وكتب بعضهم على تابوته قوله: [الطّويل] فهذا الّذي قد كان يعبد ربّه ... ويخشى إلى أن مات في خلواته / حليف التّقى والصّوم والصّمت دهره ... ففيها نجاة المرء من هفواته لقد مات في تسعين مع خمس خلت ... وألف ومائة قل ذاك عام وفاته ترجمة الولي أبي عبد الله محمّد أبو مغارة: وممّن رأيناه وعرفناه من مجاذيب الوقت الرّجل الصّالح العارف بالله تعالى أبو عبد الله سيدي محمّد أبو مغارة إبن الرّحّال السوسي. كان في ابتداء أمره قدم من بلد السّوس إلى صفاقس فأقام بها وحفر مغارة في وسط المقابر فينزل إليها ويبيت بها ليلا وحده منفردا فيدخل البلد نهارا يطلب قوته، فإذا جنّ اللّيل خرج وبات بها، فمن ثمّ سمّي أبا مغارة. ثمّ أخذ يتعلّم الحروف حتّى تمرّن عليها ¬

(¬645) 2 مارس 1781 م.

واستخرج الخطّ كما يتعلّم الأطفال من غير داع يدعوه بل سوق إلاهي، فلمّا استمرّ على الخطّ صار لا يسمع بآية من كتاب الله واعظة زاجرة إلاّ كتبها، وكتب سورة «يس» و «المفصل»، وأضاف إلى ذلك مواعظ بعض الصّالحين ممّا يناسب تلك الآيات الكريمة كقوله: [مجزوء الرمل] إنّما الدّنيا كبيت ... نسجتها (¬646) العنكبوت إنّما يكفيك منها ... أيّها الرّاحل قوت ثمّ بعد مدّة إنتقل لجربة، فحفر بها مغارة تحت الأرض كما فعل بصفاقس، ونزل بحفرها حتّى وصل الماء فوجده عذبا فصار يملأ منها ويسقي النّاس مجانا. وله إشارات كثيرة، فمنها أنّه إذا ملأ الماء وصبّه على وجه الأرض إستبشر النّاس بقرب نزول الغيث، فإن صبّ كثيرا نزل الغيث الكثير، وإن صبّ قليلا نزل القليل، وإذا صرخ في الأسواق دلّ على نزول بلاء بالمسلمين / جرّب مرارا فصحّ، وكان يكثر الغلث (¬647) في إشاراته ولا يفهمها إلاّ من مارسه، وربّما لا تفهم إشاراته إلاّ بعد وقوع ما أشار به، فمن إشاراته أنّه وقعت قرّة شديدة بالشّتاء بات النّاس منها في كرب فأصبح الشّيخ مصفرّ الوجه من شدّة البرد لأنّه كثيرا ما يدخل البحر لغسل ما يلحقه من الوسخ والقمل، فيأتي المحاويج (¬648) فيأخذون ثيابه ولا يتركون منها إلاّ ما يواري السّوءة فيلبسه ويدخل الأسواق فيكسوه أهل الخير، فلما نزلت القرّة أذاه البرد أذى شديدا، فجاء وجلس بجانبي واشتكى البرد وتمنّى ما يقي به مهجته من الثّياب، وكنت في شغل، فخطر في بالي أنّي إذا أفضيت (¬649) أذهب إلى محلّي أعطيه برنسا قديما كان عندي، فما استتممت الخاطر إلاّ وهو ينادي، وكان يسمّيني بسيدي عبد العزيز التّبّاع، وقال لي: هل تعرف مناسك الحج؟ فقلت: نعم! فقال: كم أركانه؟ فقلت: قل نسمع، وقلت: لعلّه يتكلّم بكلام غير ما يقوله (¬650) الفقهاء، فقال: هي أربعة، فقلت: نعم، وهي كذلك، فقال: أوّلها الإحرام، والإحرام يمنع المخيط بالعضو، فقلت: نعم، ثمّ دخل وخرج وزاد في ¬

(¬646) في الأصول: «أنسجتها». (¬647) أي التخليط. (¬648) ج محتاج. (¬649) أي صار لي من الوقت فراغ. (¬650) في الأصول: «يقله».

الكلام لغوا ثمّ رجع وقال: الجديد يحبّه الرّبّ، ويفرح به القلب، ثمّ دخل في كلامه وخرج وجعل يكرر الإحرام وممنوعاته فسرى ذهني للبشارة بحجّ جديد، ثمّ فكرت في مقتضى الحال الموجب لكلامه فإذا هو البرد / وأنّي خطر ببالي أنّي نكسوه برنسا قديما فهذه إشارة منه لترك هذا البرنس لأنّه مخيط قديم، وأنّه يطلب عباءة جديدة كما يلبسه المحرم، فلمّا استقر في ذهني هذا المعنى التفتّ إليه وقلت له: أركان الإحرام أربعة نشير إليه أنّي قد فهمت إشارته، فأعرض عنّي وكأنّه لم يصدر منه ما قال، ثمّ خاطب نفسه مكنيا عني بقوله: هذا ما بقي يفوته شيء، قاع، ولفظة قاع (¬651) يستعملها أهل السّوس (¬652) لمعنى الإحاطة والشّمول فكأنّه يقول: لا يفوته شيء من الأشياء كلّها، فلمّا فهمت مراده إشتريت عدّة عبائن (¬653) وخيّرته في جميعها فاختار واحدة تليق بحاله فأخذها ودعا بخير وانصرف. ومن إشاراته أنّي كنت خائفا فوات شيء يترتّب عليه ضرر كثير في الدّين والدّنيا، وتحيّرت من ذلك كثيرا مدّة، وارتقبته فأبطأ مجيئه ولحقني من ذلك حرج في الصّدر، وفكّرت في شأنه ليلا ونهارا حتّى أقلقني وطلبت من الله الخلاص وتطمين السّرّ، ولم يطلع على سرّي إلاّ علاّم الغيوب، فبينما أنا جالس ذات يوم وإذا به ينادي: من يكسوني قميصا يرى الآية الكبرى، فنادى بذلك فلم يجبه أحد ولا فهم له أحد مقصودا، فألهمني الله إلى مراده وقلت: هذا رجل من رجال الله ساقه الله وكانت ليلة عيد الفطر، وهذا عريان يطلب سترا، ولعلّ الله / يجعل على يديه الفرج وهذا بشارة من الله بحصول المقصود، فلا بدّ من جبره لعلّ الله يجبرنا، فناديته وقلت له: أحقّا ما تقول؟ فقال: نعم، نعم، نعم، فأكّدت عليه، فقال: جرّب ترى، فناولته قميصا جديدا يليق به وأكملت (¬654) بقيّة يومي ونمت وأنا بين اليأس والرجاء، فو الله ما أصبح الصّبح إلاّ وقد أتى البشير بحصول المقصود فكان يوم سرور بعيد الإسلام وبحصول ما كنت خائفا فواته. ومنها أنّه دخل عليّ خارجي (¬655) حال قراءتي مختصر الشّيخ خليل (¬656) وباحثني في ¬

(¬651) القاف المعقدة كالجيم المصرية والذي سمعناه من المغاربة «قع» بدون ألف. (¬652) يستعملها أهل المغرب الأقصى قاطبة لا خصوص أهل السّوس. (¬653) عباءة، وفي ط: «عبيان». (¬654) في ط: «كملت». (¬655) أي إباضي. (¬656) بالزّاوية المرادية بجربة.

مسألة الكلام، وقال: كيف تقولون بقدم كلام الله، والله يقول: ذكر محدث (¬657) فأجبته بأن الحدوث في تنزيله ولا يلزم منه حدوثه في نفسه فإنّ المعنى القائم بالذّات الأقدس باق على ما هو عليه من القدم، والحادث هو التّنزيل على أنّ النّازل اللّفظ الدّال عليه، ونزول اللّفظ الدّال نزول المعنى من حيث الدّلالة، فالحادث والنّازل هو اللفظ، ثمّ أكثر من تخليطاتهم، وأجبته عمّا سأل فخرج وانصرف وبقيت كالمتفكّر في هذا المذهب وفي حال أهله، وتعجّبت من قوم يرغبون بأنفسهم عن المنهج القويم ويرضون لأنفسهم بشنائع البدع، فما مضت ساعة أو ساعتان فإذا به قادم من السّوق كأنّه طالب لأمر أو كأنّ سائقا يسوقه وهو يتلو قوله تعالى {قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (¬658) {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (¬659) فحمدت الله وازددت يقينا وتحقّقت أنّ مذهب السّنّة لا يعلمه إلاّ خواص خلق الله، ورسخت مسائل السّنّة في قلبي رسوخا أغنى عن الدّليل من حيث أنّ الله أطلع هذا الشّيخ عن هذا الخاطر وألهمه للنّطق بهذه الآية الكريمة المناسبة لحال ما كنّا فيه، وتبيّن لي أنّه من الرّجال العارفين بالله، القائمين على الحقّ ومذهب السّنّة. ومنها أنّي كنت متوجّها لبرّ المشرق (¬660) فجاء بعض الإخوان وقال لي: قم لنأخذ خاطر الشّيخ وتحصل لنا بركة زيارته، ومن عادته أنّه لا يحب من يأتيه لمكانه مخافة كثرة النّاس عليه، ولأنّه إذا كشف الله له عن شيء من حال أحد وسخّره الله للإعلام به قصده وأشار إليه من غير أن يتعرّض له السائل وإن لم يطلعه أو لم يسخّره فلا فائدة في السّؤال، فلمّا رآنا قادمين عليه أظهر الإعراض عنّا وكأنّه ما رآنا ولا عرفنا قطّ، وكان كثيرا ما ينشد كلام العارفين بالله ويتواجد بذلك، وكان رفيقي يعرف من ذلك الكلام الّذي يقوله الشّيخ ويتواجد به، فلمّا رآى إعراض الشّيخ تكلّم صاحبي بذلك الكلام على الصّناعة الّتي يقول الشّيخ بها فإذا بالشّيخ تلقّف ذلك الكلام وصار يقول هو بنفسه واعتراه حال وتمادى في كلامه وحاله، فلمّا فرغ وسكن ما به إنبسط لنا بعض انبساط فعند ذلك قال له / زوّد أخانا هذا صالح دعائك، فإنه متوجّه للسّفر، فقال: أعطاه ¬

(¬657) مستوحاة من الآية 2، سورة الأنبياء، أو من الآية 5، سورة الشّعراء. (¬658) سورة لقمان: 25. (¬659) سورة يوسف: 21. (¬660) في ش: «إلى المشرق».

الصّالحون إثنتي عشرة خبزة، وبسط يديه للدّعاء والفاتحة، وبسطنا أيدينا لذلك، فدعا ما تيسّر وقرأنا فاتحة الكتاب وانصرفنا، فلم ندر هذه الإثنتي عشرة ما هي، بل ولم نلتفت إليها كبير التفات، فلمّا عملنا على السّفر إستعمل الأهل خبزا للسّفر فلمّا أحضروه عدّوه من غير وعد ولا سؤال وأنا أنظر فإذا هو إثنتا (661) عشرة خبزة. فلمّا شرعنا في السّفر جعلنا نأكل كلّ يوم واحدة فما فرغت الإثنا (¬661) عشرة خبزة إلاّ وإسكندريّة أمامنا في إثني عشر يوما، وكان ربح المال إثني عشرة مائة، ومدّة الغيبة عن الأهل إثني (¬662) عشر شهرا. ومن إشاراته أنّي تزوّجت بصفاقس، ودخلت جربة بعد ذلك فجلست بإزاء بعض الإخوان فإذا بالشّيخ وارد علينا، وسأل الأخ: أين كان هذا؟ فقال له: تزوّج بصفاقس، فقال له الشّيخ: أعطوه ناصريا وموزونتين فلم نلتفت لقوله ولم نفهم مراده، فقال ذلك الأخ: لا تلد لك هذه المرأة إلاّ ولدا ذكرا وبنتين، فو الله ما وقع إلاّ ما أشار إليه، وانتقلت لرحمة الله بالطّاعون. ولقيته يوما في مكان خال فوقف وقال: كانت شينة وتعود إن شاء الله زينة، وكرّر ذلك فعلمت أنّ الله ساقه لي وأنّ هذه بشارة بالهداية في ساعة إجابة، فسألته الدّعاء الصّالح زيادة على ما قال، فزادني / فمن تلك السّاعة والحمد لله أقبل الله بقلبي للخير ولم نزل (¬663) نجد بركة ذلك الدّعاء وإنّا نتوسّل إلى الله العظيم بنور وجهه الكريم، وبنبيّه الرّحيم، وبملائكته المقرّبين، والشّهداء والصّالحين أن نقبل (¬664) بقلوبنا لما يحبّه ويرضاه. وكان - رحمه الله تعالى - يطلب قوته من النّاس، وقد يسأل شيئا معيّنا فتارة يعين قليلا وتارة يعين كثيرا، وعادة النّفس أن تسمح بالقليل وتبخل بالكثير، فيقول: لا عليك، القليل بالمكسب القليل، والكثير بالكثير، فو الله ما يكون إلاّ ما يقول، فلمّا جربنا ذلك صرنا نتمنى أن يسأل الكثير لأنّ النفس تحبّ المال حبّا جمّا ولا يرغب أحد عن فضل الله. هذا بعض ما شاهدت من إشاراته ولو تتبّعنا جميعها لطال بنا الحال، وفي هذا القدر كفاية. ومن أغرب ما وقع أنّه قدم أبناء جلود قيادا على جربة، وسعوا في قطع أعيان أهل ¬

(¬661) في الأصول: «إثني». (¬662) في ش: «إثنتي». (¬663) ساقطة من بقية الأصول. (¬664) في الأصول: «يقبل».

ترجمة الولي أبي العباس أحمد التاجوري

السّنّة أخرجوا هذا الشّيخ من البلاد فأركبوه في سفينة وأمروا بإخراجه لصفاقس كرها عليه، فسمع بذلك شيخنا أبو إسحاق سيدي إبراهيم بن محمّد الجمّني فأرسل من ردّه من البحر فنزل ودخل السّوق وهو ينادي: أنا لا أخرج منها، بنو جلود هم الخارجون منها، فلم تمض أيّام قليلة إلاّ وقد جاء أمر من الأمير بعزلهم فأخرجوا كرها عليهم، ولم يرجعوا إليها بعد، وانقطع أثرهم بل وعقبهم، نعوذ بالله من التّعرّض لمساخط أولياء الله /. ولمّا ظهرت بركاته للخاص والعام من المالكية والوهبية (665) إعتقده الفريقان، وبنى له بعض رؤساء الوهبية (¬665) قبّة، فلمّا وقع الطّاعون بجربة سنة تسع وتسعين ومائة وألف (¬666) إنتقل لرحمة الله ودفن بها. وكان - رحمه الله - يقول: التي ما رأيناها حسبناها (¬667) ما كانت، وهذا هو معنى قول من قال: معذور من شاهد ومعذور من لم يشاهد. وكان يقول أيضا: كلمة من غير فيك تنفعك، وهذا أيضا حقّ، فإنّ من بسط لك عند غيرك عذرا أو أثنى عليك نفعك، وإذا أثنيت على نفسك أو بسطت عذر نفسك لم ينفعك. وكان يقول: الرّاحة في الشّهوة، والأمر كما قال، لأنّ الشّهوة ملائمة للطّبع ومن حصل له ملائم طبعه إستراح. وكان يقول: هذه الدّار الفم (¬668) فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، وفارقت الجنة بالمنقصات وسرعة الزّوال. ترجمة الولي أبي العبّاس أحمد التّاجوري: ومن مجاذيب الوقت ممّن رأيناه وعرفناه الشّيخ أبو العبّاس سيدي أحمد التاجوري. كان - رحمه الله تعالى - من تاجوراء، قرية من عمل طرابلس، قدم لصفاقس، وكان متجرّدا عليه عباءة صوف، فأخبرني أبو الحسن الحاج علي الشّرفي قال: لمّا قدم ¬

(¬665) وهم إباضية. (¬666) 1785 م. (¬667) في بقيّة الأصول: «حبسناها». (¬668) في بقيّة الأصول: «الدراهم».

الشّيخ من طرابلس كنت بالباب الجبلي نكتري أجراء (¬669) لحصاد الزّرع فاكتريت جماعة، فقال لي رجل حاضر: زد معهم هذا الطرابلسي، فقلت له: أتطلع (¬670) مع النّاس؟ فقال: نعم، فطلع وعمل مع النّاس، فلمّا حضر الأكل إمتنع من الأكل فسأله بعض النّاس فقال: هذا طعام / لجماعة ولم يخصني بشيء فلا آكل، فتورّع حيث لم يعيّن له طعاما يخصّه، قال: وبات الليل كلّه مع من لا يرى، فلمّا قدم بعض الأجراء قال: أنت اكتريت رجلا وليّا من أولياء الله شاهدنا من أحوال هذا الرّجل ما لم نشاهد من أحوال النّاس. وقال أيضا: كلّما أقام عندي لم يأكل شيئا من مشتهيات الأطعمة، وقد يقيم العشرة الأيّام وأكثر بلا أكل ولا شرب ولا ينتقل عن موضعه، وربما مشى كمشي المقيّد ولا يتكلّم بكلمة واحدة، وإذا طلب الأكل أكل ما حضر من ميسور الطّعام، وقد يأكل في بعض الأحيان أكلا ذريعا ويشرب كثيرا خارجا عن المعتاد. وكان على الضّدّ من الشّيخ سيدي سعيد حريز، فإذا قدم على محلّ دلّ على حدوث أمر مكروه: موت أو مرض أو غير ذلك، فهو واقف في باب النذارة، والشّيخ حريز في باب البشارة، وكان كثيرا ما يلازم سقائف الحمّامات ومستوقداتها، ودخل عليه سيدي سعيد حريز يوما فضرب الشّيخ التّاجوري ضربا وجيعا فأخذ الشّيخ التّاجوري حجرا عظيما فرماه به وقال: أنت في بسط ولبس الملف (¬671) وأنا في حالتي هذه وتزيد عليّ، وذلك لأنّ الغالب على الشّيخ التاجوري القبض والاسقام. وكان مكشوف الرّأس حافي الرّجل كثيرا ما يتّزر ويتردّى بفوط الحمّام، وقد يحلق جميع شعر رأسه وذقنه وشاربه حتّى لا يبقى فيها شعرة واحدة. وله إشارات / كثيرة، فمنها أنّه عرضت لنا مسئلة تعسّر على إخواننا فهمها لكثرة شبهها، فطلبوا منّي تحريرها على وجه يزيل الشّكوك والشّبه، فكتبت بقدر الإستطاعة، فلمّا فرغت من الكتابة وقف عليّ وقال: إسقني الماء فإنّي عطشان، فأتيته بشيء من الماء العذب الطيّب فأخذه بيده وردّه وقال: هذا غير سائغ أريد غيره وذهب عنّي، فلمّا ¬

(¬669) العادة القديمة أن إبّان موسم الحصاد يقف الرّاغبون في العمل أمام باب الجبلي، وهو مدخل من يأتي من الضّواحي، ويكتري كلّ واحد ما يشاء من العملة لحصاد زرعه بعد الإتفاق على الأجر اليومي، وهذه العادة انقرضت منذ عشرات السّنين. (¬670) كلمة تشير في لغة صفاقس إلى الذّهاب إلى الأرض الفلاحية للعمل بها. (¬671) الملف قماش صنعته صفاقس في حياتها الأولى ثمّ صارت تستورده.

عرضت التّقرير على إخواني الطّلبة قالوا: لا نفهم هذا ولا نقبله فرجعت وقررت المسألة بوجه غير الأوّل، فأتاني الشّيخ التّاجوري والذي فعله أوّلا فعله ثانيا، والذي فعله إخواننا الطلبة بالتّقرير الأوّل فعلوه بالتّقرير الثّاني، فعدت ثالثا في التّقرير، ولمّا فرغت فعل معي كما فعل أوّلا وثانيا، وردّ الطّلبة التّقرير، وجعلت أعود في التّقرير وهو يطلب الماء ويردّه، ويردّ الطّلبة التّقرير لوجود من يخالف لاستناده لبعض الشّبه، فكلّما قطعت شبهة عارض بأخرى، فاحتجت لقطعها إلى أن انقطعت الشّبه بأسرها، وانزاحت العلل بأجمعها، وتقرّرت المسألة سالمة من الشّوب والدّخل، وظهر الحقّ الذي لا لبس معه ولا خفاء، فلقي بعض الطّلبة فقال له: قل للشّيخ هكذا الأمر نعم ما صنع البارحة، لأنّ تقرير المسألة كان ليلا، فلمّا جلست بمحلي (¬672) الذي أجتمع فيه بالإخوان وإذا / بالشّيخ واقف على الباب وهو يقول: ناولني طعاما، فناولته شيئا من التّمر فجعل يأكل ويستزيد حتّى استكفى، فقال: يكفي، فلمّا حضر إخواننا عرضت عليهم التّقرير فأذعن من كان يخالف وقالوا بأجمعهم: لم يبق لبس ولا خفاء، فهذا تقرير في غاية الوضوح، {جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ} (¬673) فظهر لي أنّ الشّيخ التّاجوري أطلعه الله عمّا نحن فيه، وأنّ طلب الماء وردّه إنّما كان إشارة لعدم كفاية التّقارير الأولى، وقبول التمر وأكله إشارة لرضى السّامع بالتّقرير الأخير، فحمدت الله على الوصول لإظهار الحقّ بوجه مبين، وزاد اعتقادي في الشّيخ. وكنت متردّدا في أمر نفعله بنفسي أو ننوّب فيه غيري، ثمّ عزمت على إرسال غيري لأنّي كنت أعمل الميعاد في المسجد الأعظم بقراءة تفسير القرآن العظيم، وتقرير أحاديث النّبي الكريم عليه أفضل الصّلاة وأزكى التّسليم لنفع نفسي وإخواني المؤمنين، فخشيت أنّي إذا باشرته يعوقني عن المقصود فعزمت توجيه غيري، فأتيت يوما المسجد على عادتي فلمّا دخلت المسجد وجدته جالسا بالصّحن، وكان معي بعض الإخوان، فقال الشّيخ: إسقني ماء فقلت لذلك الأخ: إذهب وأنه بشيء من الماء يشربه فقال الشّيخ: بل إذهب أنت / برجلك حافيا من غير نعل، فاستعفيته فلم يعفني ولم يرضى منّي إلاّ بالذّهاب بنفسي، فذهبت لدكّان بعض الحلاّقين قرب المسجد وأتيته بماء فشربه، واستزادني فزدته مرّة وأخرى، فلمّا أكثر علي أرسلت ذلك الأخ فذهب وأتاه بما كفاه، ¬

(¬672) ساقطة من بقية الأصول. (¬673) إقتباس من الآية 81 من سورة الإسراء والتّلاوة «وقل جاء الحقّ».

فلمّا أردت بعد ذلك توجيه غيري لذلك الأمر الذي قصدت تعسّر الأمر حتّى ذهبت بنفسي وباشرت أوّله ثمّ أرسلت من أتمّه، فكان ذلك من الشّيخ إشارة لما وقع، وأحواله وأفعاله وأقواله كلّها إشارة. ووقع في سنة من السّنين جدري أفنى الأطفال، فتأسّف النّاس على فقد أطفالهم فقال لهم: هذا الكرباع (¬674) وما زال الدّلاّع، فما (¬675) كان إلاّ يسيرا وجاء الطّاعون الجارف. وأخبرني العمدة الثّقة سيدي عبد السّلام الغراب، وكان من مريدي الشّيخ ومحبّيه، أنّه سمع من الحاج محمود الشّرفي صاحب الحمام أنّه قال: غاب الشّيخ عنّي ذات يوم فقدم عليّ رجل لا أعرفه ولا رأيته قطّ فقال لي: أين الشّيخ التّاجوري؟ فقلت له: عن قريب يحضر إن شاء الله، ما شأنك؟ فقال: أخبرني عن أحواله، هل جار على جسده الحكّة؟ قلت: نعم، قال: هل جار عليه القمل؟ قلت: نعم، قال: هل جار عليه النمل؟ قلت: نعم (¬676)، فقال لي: إذا فرغ من هذه الثلاث دخل ديوان الصّالحين، ثمّ انصرف / فلم أره بعد، قال: وشأن النّمل معه غريب وذلك أنّه بقي يلتمّ (¬677) عليه من جميع جهات جسده حتّى صار جسده أسودا بالنّمل ولا بقي شيء من جسده ظاهر، فأقام على ذلك ثلاثة أيّام ثمّ ذهب عنه. وقال أيضا: جاءني الشّيخ وأعطاني نصف ريال وقال: إحفظه عندك، قال: فحفظته، ثمّ بعد نحو عشرة أيّام جاءني رجلان عليهما لباس أهل طرابلس فسألاني عن الشيخ فقلت لهما: عن قريب يحضر (إن شاء الله) (¬678) قال: فبعد ساعة دخل الشّيخ فنظر إليهما وسكت فلم يقدر منهما أحد على خطابه، ثمّ بعد ساعة قال أحدهما: يا أخي والدتنا تسلّم عليك، فأعرض عنه ولم يخاطبه، ثمّ قال: يا حاج محمود أين نصف الرّيال؟ قال (¬679): فأحضرته له، قال: فخذ به خبزا، قال: ففعلت [فقطعه أطرافا، قال: ففعلت] (¬680) ثمّ قال لهما: خذا هذا الخبز واعزما من حيث جئتما، فاشتكوا إليه ¬

(¬674) كلمة عامية للشّيء الصّغير المكوّر ويقصد به عادة الصّغير من البطّيخ الأخضر المعروف في صفاقس بالدّلاّع. (¬675) في ط: «فلما». (¬676) ساقطة من ب وفي ط وت: «لا». (¬677) في ش: «يلتئم». (¬678) ما بين القوسين ساقط من بقية الأصول. (¬679) في ت: «قال حاضر». (¬680) إضافة من بقية الأصول.

خاتمة الناسخ

بأنّ إبن عمّهما تغلّب عليهما وافتكّ لهما زاويتهما وسوانيها، فقال لهما: قوما وضرب بيده في الهواء ثمّ قال: من هنا للبحر، ولا تقيما لحظة واحدة، فخرجا قال: ثمّ (¬681) بعد مدّة وإذا بمكتوب جاءني منهما فيه: يا حاج محمود إنّا خرجنا من عندكم للبحر، فوجدنا سفينة مسافرة لجربة، فلمّا ركبنا غلبتنا الرّيح فألجأتنا (¬682) لرأس المخبز / فنزلنا لطرابلس، ووجدنا إبن عمّنا مقطوع الظّهر لأنّه ركب حمارا، فسقط عنه، فانقطع ظهره، فسألنا عن السّاعة الّتي وقع عليه فيها فإذا هي الوقت الذي ضرب الشّيخ بيده في الهواء (¬683) والسّلام. هذا ما حضرنا من إشاراته والأمر أوسع والإشارة تكفي، وتوفّي - رحمه الله تعالى - سنة خمس ومائتين وألف (¬684)، ودفن بجانب تربة القيّاد الجلاّلة (¬685) - رحمة الله عليهم وعلى أموات المسلمين أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين -. خاتمة النّاسخ: كمل «نزهة الأنظار في عجائب التّواريخ والأخبار»، تأليف الشّيخ الإمام، وقدوة الأنام، ومجلي الظّلام، علاّمة زمانه، وفريد دهره وأوانه، حامل قول التّحقيق، ومالك أزمة التّوفيق، قدوة الأفاضل، ومجلي المعاضل، بقيّة السّلف، وعمدة الخلف، شيخنا وأستاذنا، وشيخ شيوخنا، الحاج النّاسك الأبر أبو الثناء محمود مقديش، الصّفاقسي أصلا ووطنا وقرارا، أسبل الله علينا وعليه جلابيب ستره بجاه سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلم نبيّه وعبده، ونسأل الله المنّان بفضله أن ينفع به من تسبّب فيه ومن كتبه وقرأه، وأن يجعلنا من حزبه وأتباعه / وأن ينفعنا به وبأمثاله، ورحم الله عبدا قرأه ورأى فيه نقصا أو تحريفا أو زيادة أو غلطا أو تقديما أو تأخيرا فقلّ أن ينجو من ذلك لأنّ كاتبه قاصر عن ترتيب الكلام بمحالها فأصلحه ليحصل الثّواب للجميع، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النّصير، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم، وصلّى الله على سيّدنا محمّد النبيء ¬

(¬681) في بقية الأصول: «ثم قال بعد مدّة». (¬682) في الأصول: «غلبنا الريح فألجانا». (¬683) في الأصول: «الهوى». (¬684) 1790 - 1791 م. (¬685) تربة آل الجلّولي توجد شمال المدينة. وقع نقلها منذ مدّة غير بعيدة.

المصطفى الكريم، وعلى آله وأصحابه الطّاهرين الطّيّبين، وسلّم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدّين، ووافق الفراغ من نسخه من الأصل بخطّ المؤلّف - رضي الله عنه ونفعنا به - يوم الأربعاء ثاني عشر من شعبان سنة 1238 (¬686) ثمان وثلاثين ومائتين وألف من الهجرة النّبويّة على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام وأزكى التّحيّة. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، آمين، آمين، آمين. كمل النسخ وانقضا ... وفعلنا الذي وجب رحم الله من قرا ... ودعا للّذي كتب وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما دائما أبدا والحمد لله ربّ العالمين. ¬

(¬686) 1822 - 1823 م.

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع * المصادر والمراجع العربية - أ - إتحاف أهل الزّمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان: أحمد بن أبي الضياف، تحقيق لجنة من كتابة الدّولة للشّؤون الثّقافيّة والأخبار، نشر كتابة الدّولة للشّؤون الثّقافية والأخبار، تونس، 1963. الأتراك العثمانيون في شمال إفريقيا: عزيز سامح، ترجمة عبد السّلام أدهم، بيروت، 1969. إتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمّة الفاطميين الخلفاء: المقريزي، تحقيق د. جمال الدّين الشيال، القاهرة، 1967. أنباء الغمر في أنباء أبناء العمر: إبن حجر العسقلاني، النّسخة المطبوعة. آثار البلاد وأخبار العباد: زكرياء بن محمّد القزويني، بيروت، 1960. الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل: محي الدّين الحنبلي، دار الجيل، لبنان، 1973. إحياء التّذكرة في النّباتات الطّبّيّة والمفردات العطارية: رمزي مفتاح، القاهرة، 1953. أخبار القضاة: محمد بن خلف بن حيان المعروف بوكيع، تحقيق عبد العزيز مصطفى المراغي، القاهرة، 1947 - 1950. أخبار مكّة: الأزرقي، مكتبة خيّاط، بيروت - لبنان، 1964. الأدّلة البيّنة النورانية عن مفاخر الدّولة الحفصية: إبن الشماع، تعليق عثمان الكعّاك، مطبعة العرب، تونس، 1355/ 1936. الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى: أحمد بن خالد الناصري السلاوي، الدّار البيضاء، 1964. أطلس التاريخ الإسلامي: مازارد، ط.2، آذار 1956.

- ب -

الإعلام بأعلام بيت الله الحرام: قطب الدين النهروالي، ضمن الجزء الثالث من كتاب أخبار مكّة للأزرقي، مكتبة خيّاط، بيروت - لبنان، 1964. الإعلام: خير الدّين الزركلي، الطّبعة الخامسة، دار العلم للملايين، بيروت، 1980. إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء: محمّد راغب الطباخ، حلب، 1342 هـ ‍. أعمال الإعلام في من بويع قبل الإحتلام من ملوك الإسلام: لسان الدين إبن الخطيب، تحقيق وتعليق أ. ليفي بروفنسال، دار المكشوف، بيروت. - ب - البحرية في مصر الإسلامية: سعاد ماهر، دار الكتاب العربي للطّباعة والنّشر. البداية والنهاية: إبن كثير، مصر، 1351 - 1358 هـ ‍ / 1932 - 1939. برج غازي مصطفى بجربة: رشيد غريب، المجلّة التّاريخية المغربية، عدد 4، 1975. برنامج الوادي آشي: محمّد بن جابر، تحقيق محمّد محفوظ، دار الغرب الإسلامي، أثينا، بيروت، الطّبعة الأولى، 1400/ 1980. بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: جلال الدّين السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، 1964 - 1965. البلغة في تاريخ أئمة اللغة: الفيروز آبادي، تحقيق محمّد المصري، دمشق، 1972. البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب: إبن عذاري المراكشي، تحقيق ج. س. كولان وليفي بروفنسال، دار الثقافة، بيروت - لبنان، 4 أجزاء. - ت - التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول: الشيخ منصور علي ناصف، دار إحياء التّراث العربي، بيروت. تاج العروس من جواهر القاموس: محمد مرتضى الزّبيدي، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت - لبنان. تاريخ الأدب الجغرافي العربي: أ. ي. كراتشكوفسكي، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، الإدارة الثقافية في جامعة الدّول العربية، 1957.

تاريخ الإسلام: حسن إبراهيم حسن، القاهرة، 1953. تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير الأعلام: الذهبي، مكتبة القدسي، القاهرة (ب. د. ت.). تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين: يوسف الشباح، ترجمة محمد عبد الله عينان، القاهرة، 1941. تاريخ التراث العربي: فؤاد سزكين، ترجمة محمد فهمي أبو الفضل، القاهرة، 1970. تاريخ الجزائر العام: عبد الرحمان محمد الجيلالي، الجزائر، 1955. تاريخ حاضرة قسنطينة: الحاج أحمد المبارك، الجزائر. تاريخ الخلفاء: جلال الدين السيوطي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، 1952. تاريخ الخلفاء الفاطميين بالمغرب (القسم الخاص من كتاب عيون الأخبار): الداعي إدريس عماد الدّين، تحقيق محمد اليعلاوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان، ط.1، 1985. تاريخ الدولة العلية العثمانية: محمد فريد بك المحامي، تحقيق د. إحسان حقي، دار النفائس، الطّبعة الأولى، 1981. تاريخ الدولتين: محمد بن إبراهيم الزركشي، تحقيق محمد ماضور، نشر المكتبة العتيقة، تونس، 1966. تاريخ الشعوب الإسلامية: بروكلمان، دار العلم للملايين، بيروت، 1948. تاريخ صفاقس: أبو بكر عبد الكافي، منشورات التعاضدية العمالية للطباعة والنشر، صفاقس، 1966. تاريخ الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار سويدان، بيروت. تاريخ طرابلس: د. عمر عبد السّلام تدمري، مؤسّسة الرّسالة ودار الإيمان للطّباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، 1984. تاريخ عجائب الأخبار في التراجم والأخبار: الشّيخ عبد الرحمان الجبرتي، ط.2، دار الجيل بيروت، 1978، 3 أجزاء. تاريخ اليعقوبي: دار بيروت 1970، جزءان. تتمّة المختصر في أخبار البشر: زين الدّين عمر بن الوردي، تحقيق أحمد رفعت البدراوي، بيروت، 1970.

- ج -

تحفة الأريب في الرّدّ على أهل الصّليب: عبد الرّحمان التّرجمان، القاهرة. التّذكار لمن ملك طرابلس الغرب وما كان بها من الأخبار: إبن غلبون المصراتي، مصر، 1339 هـ ‍. تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب: داود بن عمر الأنطاكي، مصر، 1371/ 1959. تذكرة الحفاظ: الذهبي، حيدر آباد، 1333 - 1334 هـ ‍. تراجم المؤلفين التونسيين: محمد محفوظ، دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان، ج.1: 1982، ج.2: 1982، ج.3: 1984، ج.4: 1985، ج.5: 1986. ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك: القاضي عياض، تحقيق د. أحمد بكير محمود، بيروت، 1967. تقريب التهذيب: إبن حجر العسقلاني، دار المعرفة، ط.2، بيروت، 1975. تكميل الصّلحاء والأعيان لمعالم الإيمان: محمّد بن صالح عيسى الكناني، تحقيق محمد العنابي، المكتبة العتيقة، تونس، 1970. التنبيه والإيقاظ لما في ذيول تذكرة الحفاظ: أحمد رافع الطهطاوي، دمشق، 1348 هـ ‍. التّوفيقات الإلهامية في مقارنة التواريخ الهجرية بالسنين الإفرنكية والقبطية: محمد مختار باشا، تحقيق محمد عمارة، ج.1، 2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1400/ 1980. - ج - جامع كرامات الأولياء: يوسف النبهاني، مصر، 1329، القاهرة، 1381/ 1962. الجامع للأصول: إبن الأثير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، نسخة مصورة طبعة القاهرة. جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس: الحميدي، تحقيق محمد بن تاويت الطنجي، القاهرة، 1372/ 1952. - ح - حاشية محمد بن عليان المرزوقي المطبوعة مع الكشاف للزمخشري. الحروب الصليبية في المشرق والمغرب: محمد العروسي المطوي، دار الغرب الإسلامي. حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة: جلال الدّين السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1967 - 1968.

- خ -

الحقيقة التاريخية للتّصوف الإسلامي: محمد بهلي النيال. حلّ الرموز (خط.): لتونسي مجهول. الحلل السّندسيّة في الأخبار التونسية: الوزير السّراج، تقديم وتحقيق محمد الحبيب الهيلة، دار الغرب الإسلامي، 1984، 3 أجزاء. حلية الأولياء: أبي نعيم الأصبهاني. حوليات ليبية: ترجمة محمد عبد الكريم الوافي، دار الفرجاني، طرابلس - ليبيا. حياة الحيوان الكبرى: الدميري، مصر، 1356 هـ ‍ / 1937. - خ - خريدة العجائب وفريدة الغرائب: عمر بن الوردي، مصر، بلا تاريخ. الخطط المقريزية: أحمد بن علي المقريزي، دار صادر بيروت، ط. أوفسيت عن النسخة القديمة، جزءان. الخلاصة التقية: الباجي المسعودي، تونس. - د - دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة العربية: إبراهيم زكي خورشيد، أحمد الشنتناوي، عبد الحميد يونس، مؤسسة دار الشعب للنشر، القاهرة، 1969، الطبعة الثانية. درة الحجال في أسماء الرجال: أحمد بن القاضي، تحقيق محمد الأحمدي أبو النّور، مصر، 1390 - 1394/ 1970 - 1974. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: إبن حجر العسقلاني، تحقيق محمد سيد جاد الحق، القاهرة، 1385 - 1387/ 1966 - 1967. دول الإسلام في التاريخ: شمس الدين الذهبي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، 1985. الدّول الأغلبية: محمد الطالبي، ترجمة المنجي الصيادي، دار الغرب الإسلامي، 1985. الدّيباج المذهّب في معرفة أعيان المذهب: إبراهيم بن فرحون، مصر، 1351. ديوان علي الغراب الصفاقسي: تحقيق وتقديم محمد الهادي الطاهر المطوي وعمر بن سالم، الدّار التّونسية للنّشر، 1973.

- ذ -

ديوان المتنّبي (دار صادر بيروت). ديوان محمّد الشّرفي الصّفاقسي: تحقيق وتقديم محمّد محفوظ، الدّار التّونسية للنّشر، تونس، 1979. - ذ - ذيل بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان: حسين خوجة، تحقيق وتقديم الطاهر المعموري، الدّار العربية للكتاب، ليبيا - تونس، 1395 - 1975. - ر - رحلة التّجاني: أبي عبد الله بن محمد التجاني، تحقيق حسن حسني عبد الوهاب، المطبعة الرسمية، تونس، 1958. رحلة العبدري: محمد بن محمد العبدري الحيحي، تحقيق محمد الفاسي، الرباط، (ب. د. ت.). الرّحلة العياشية: أبي سالم عبد الله العياشي، ط.2 مصورة بالأوفسات، الرباط، 1977. الرّوض المعطار في خبر الأقطار: محمد بن عبد المؤمن الحميري، تحقيق د. إحسان عباس، مكتبة لبنان، 1975. رياض النفوس: المالكي، تحقيق البشير البكوش، دار الغرب الإسلامي، 1983. - ز - زهر الرّبيع: إبراهيم الخرّاط، مخطوط السّيّد أحمد الجلّولي. - س - سياسة حمّودة باشا: رشاد الإمام، منشورات الجامعة التّونسية، 1980. السيرة النبوية: إبن هشام، ط.1، دار الجيل، بيروت.

- ش -

- ش - شجرة النّور الزّكيّة في طبقات المالكية: محمّد مخلوف، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان. شذرات الذهب في أخبار من ذهب: عبد الحي بن العماد الحنبلي، القاهرة، 1350 - 1351 هـ ‍. الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية: طاش كبرى زادة، دار الكتاب العربي، بيروت، 1395/ 1975. - ص: - صحيح مسلم (شرح الأبي) ط. السعادة. صفاقس: علي الزواري، دار الجنوب للنشر، تونس، 1982. صفاقس في القرن السّادس عشر: علي الزواري، مقالة بمجلّة القلم عدد 2، صفاقس، 1974. الصّلة في تاريخ أئمة الأندلس ومحدثيهم وفقهائهم وأدبائهم: أبو القاسم بن بشكوال، نشر وتصحيح عزت العطار الحسيني، القاهرة، 1955. صورة الأرض: إبن حوقل، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت - لبنان، 1979. - ض - الضوء اللاّمع: السخاوي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1353 - 1355 هـ ‍. - ط - طبقات الحفاظ: جلال الدّين السيوطي، تحقيق علي محمد عمر، القاهرة، 1973. طبقات الشّافعية الكبرى: تاج الدّين السّبكي، مصر، 1324 هـ ‍. طبقات الشّافعية: جمال الدّين عبد الرّحيم الأسنوي، تحقيق عبد الله الجبوري، بغداد، 1970 - 1971. طبقات علماء إفريقية: الخشني، القاهرة، 1372 - 1952. الطّبقات الكبرى: الشعراني، مصر، 1343/ 1925. طبقات المفسرين: الداودي، تحقيق علي محمد عمر، القاهرة، 1972.

- ع -

طبقات النحاة واللغويين: إبن قاضي شبهة، تحقيق د. محسن غياض النجب، 1974. طرابلس الغرب: محمد ناجي ومحمد نوري. - ع - العبر في خبر من غبر: الذهبي، تحقيق د. صلاح الدين المنجد وفؤاد سيد، الكويت، 1960 - 1966. عجائب المخلوقات: القزويني، منشورات دار الآفاق الجديدة، تحقيق فاروق سعد، الطبعة الثانية، بيروت، 1967. عجائب المقدور في أخبار تيمور: إبن عرب شاه. العز والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بآلات الحروب والمدافع: آرباش، مخطوط. العقد المنظوم في ذكر أفاضل الرّوم: علي بن لالا بالي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1975. عنوان الأريب عمّا نشأ بالمملكة التونسية من عالم أديب: محمد النيفر، تونس، 1351 هـ ‍. عنوان الدّراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية: أحمد الغبريني، تحقيق رابح بونار، الجزائر، 1970. عون المعبود شرح سنن أبي داود: أبو الطيّب شمس الحق العظيم آبادي، القاهرة، ط.2، 1388/ 1969، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنوّرة. - غ - غاية النهاية في طبقات القراء أولي الدراية: إبن الجزري، القاهرة، 1932 - 1933. - ف - الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية: إبن قنفذ القسنطيني، تحقيق محمد الشاذلي النيفر وعبد المجيد التركي، تونس، 1968. فتح الباري: إبن حجر العسقلاني، المطبعة السلفية، مصر. الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: محمد الحجوي. فهرس الفهارس والإثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات: الشيخ عبد الحي الكتاني، بيروت. فيض القدير شرح الجامع الصغير: محمد عبد الرؤوف المناوي، القاهرة، 1938.

- ق -

- ق - القاموس المحيط: الفيروزآبادي، مط. السعادة بمصر. القرآن الكريم. قصص الأنبياء: إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي، ط. محمد أفندي مصطفى، مصر، 1884. - ك - الكامل في التاريخ: إبن الأثير، مصر، دار صادر، بيروت، 1385/ 1965. كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر: عبد الرحمان إبن خلدون، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1970، 7 أجزاء. كتاب المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب (جزء من المسالك والممالك): عبد الله البكري، تحقيق دي سلان، باريس، 1965. كشف الرّموز: عبد الرزاق بن أحمدوش، الجزائر، 1347 - 1928. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: حاجي خليفة، استانبول، 1941 - 1943. - ل - اللباب في تهذيب الأنساب: إبن الأثير، القاهرة، 1356 - 1369 هـ ‍. ليبيا منذ الفتح العربي: أتوري روسي، تعريب خليفة محمد التليسي، بيروت، 1974. - م - مؤنس الأحبّة في أخبار جربة: محمد أبو راس الجربي، تحقيق محمد المرزوقي، المطبعة الرسمية، 1960. المؤنس في أخبار إفريقيا وتونس: أبو عبد الله محمد الرعيني (ابن أبي دينار)، تحقيق محمد شمام، المكتبة العتيقة، تونس، 1967. المختصر في أخبار البشر: أبو الفداء، ط. أولى، مصر بدون تاريخ. المدونة: سحنون بن سعيد، طبع الخشاب، القاهرة.

مرآة الجنان وعبرة اليقظان: اليافعي، حيدر آباد الدكن، 1337 - 1339 هـ ‍. مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع: عبد المؤمن بن عبد الحق، تحقيق محمد علي البجاوي، القاهرة، 1954. مرثية للشيخ طيب الشرفي في تقريراته على حاشية الشيخ يوسف الحفناوي علي الأشموني: علي ذويب، مكتبة الشيخ النوري بالمكتبة الوطنية، تونس، عدد 20175. المرقية العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا: النباهي المالقي، تحقيق ا. ليفي بروفنسال، القاهرة، 1948. مروج الذهب: المسعودي، ط. مصر، 1367/ 1948، 4 أجزاء. المستدرك على معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406/ 1985. مستفاد الرّحلة والإغتراب: أبو القاسم بن يوسف التجيبي السبتي، تحقيق عبد الحفيظ منصور، تونس، 1395/ 1975. مسند سنن إبن ماجة: تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1352/ 1972. المشتبه في أسماء الرجال وأنسابهم: الذهبي، تحقيق محمد علي البجاوي، القاهرة، 1962. معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان: الدباغ، تحقيق محمد ماضور، المكتبة العتيقة بتونس، مكتبة الخانجي بمصر، 1978. معالم التنزيل: البغوي، مصر بدون تاريخ. المعجب في تلخيص أخبار المغرب: عبد الواحد المراكشي، تحقيق محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، القاهرة، 1949. معجم البلدان: ياقوت الحموي، دار صادر للطباعة والنشر، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1979. معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة، دمشق، 1957 - 1961. المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس، جزء من نزهة المشتاق: الشّريف الإدريسي، ليدن، مطبعة بريل، 1968. مناقب أبي إسحاق الجبنياني: اللبيدي، تحقيق هادي روجي إدريس، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الجزائر، 1959. المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب: أحمد النائب، مكتبة الفرجاني، ليبيا، ط.2. الموسوعة العربية الميسرة، دار القلم ومؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر بإشراف محمد شفيق غربال.

- ن -

- ن - النّجوم الزّاهرة: إبن تغري بردي، القاهرة. نزهة المشتاق في اختراق الآفاق: الشّريف الإدريسي، (ط. ليدن 1968)، أنظر المغرب وأرض السودان. نظام العزابة عند الأباضية الوهبية في جربة: فرحات الجعبيري، تونس، 1975. نظم العقيان: السيوطي، نيويورك، 1927. نفح الطيب: المقري، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968. نكت الهميان على نكت العميان: صلاح الدين الصفدي، تحقيق أحمد زكي باشا، مصر، 1911. النهاية في غريب الحديث والأثر: الإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري إبن الأثير، تحقيق محمود الطناجي. نيل الإبتهاج بتطريز الديباج: أحمد بابا التنبكتي، مصر، 1351 هـ ‍. - هـ ‍ - هدى الساري لفتح الباري، مقدمة شرح صحيح البخاري: إبن حجر العسقلاني، بولاق مصر، 1301 هـ ‍. هدية العارفين: إسماعيل باشا البغدادي، استانبول، 1951 - 1955. - و - وثائق متحف الفنون والتقاليد الشعبية بصفاقس. الوفيات: إبن قنفد القسنطيني، تحقيق هنري بيريس، ط. مصر. وفيات الأعيان: إبن خلكان، تحقيق إحسان عبّاس، دار صادر بيروت، مطبعة الغريب.

§1/1