ندوة علوم الحديث علوم وآفاق

مجموعة من المؤلفين

الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين

بَيَانُ الحَدّ الذي يَنْتهِي عِنْدَهُ أَهْلُ الاصطلاحِ والنَّقْد في علوم الحديث د. الشريف حاتم بن عارف بن ناصر العوني الأستاذ المساعد بقسم الكتاب والسنة بجامعة أم القرى بسم الله الرحمن الرحيم المقدّمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فلا شك أن علم الحديث (كغيره من العلوم) قد مَرّ بأطوار مختلفة، من حين نشأته إلى هذا العصر. وقد كان في أطواره هذه (كغيره من العلوم أيضاً) قد نشأ ونَمَا وترعرع حتى اكتمل، ثمّ أخذ يضعف شيئاً فشيئاً. إلا أنه من حينٍ لآخر تقوم جهودُ بَعْثٍ وتجديد في علوم الحديث، تُعيد إليه بعضاً من مظاهر حياته، وتَدْفَعُ عنه أخطارَ موته وفنائه، تحقيقاً لوعد الله تعالى بحفظ هذا الدين. وقد كان من فضل الله تعالى علينا في هذه الأيام، أننا نعيش فترة انتعاش لعلوم السنّة وعنايةٍ بتعلُّمها وتعليمها لم تكن موجودةً قبل زمنٍ يسير من الآن. وفي هذه الفترة التي نعيشها: نشهدُ جهوداً كثيرةً لخدمة السنة، وهي جهودٌ وإن لم تصل إلى درجة الكفاية أو قريبٍ منها، إلا أنها قد تكون أكثر نفعاً وأعظمَ بركةً لو كانت جميعُها تنطلق من قواعد راسخة، وتبنى على أصول صحيحة. وهذا الخللُ المعاصرُ في تعلّم علوم السنة أو في خدمتها هو أمرٌ طبيعي، نتيجةً لفترة الركود الطويلة التي مَرّت عليها. لكنَّ الأمر غير الطبيعي أن نأبى إصلاحَ ذلك الخلل بعد أن تبيّنّاهُ، أو أن نَرْفُضَ الاعترافَ بوجوده أصلاً بعد أن قام المصلحون ببيانه والسَّعْي في إصلاحه.

وحيث إن حركة الإصلاح هذه قائمةٌ عَلى محاولة الرجوع بعلوم السنة إلى نبعها الصافي، وإلى زمن ازدهارها، ((يومَ كان شأنُ الحديث فيما مضى عظيماً، عظيمةٌ جموعُ طلبته، رفيعةٌ مقاديرُ حُفّاظِه وحملته. وكانت علومه بحياتهم حيّة، وأفنان فنونه ببقائهم غضّة، ومغانيه بأهله آهِلةٌ)) (1) فقد فُوجئ الداعون إلى هذا الإصلاح، والمنادون إلى تلك العودة الحميدة، باعتراضٍ عليهم، رافضاً ذلك الإصلاح، معرضاً عن ذلك النداء، مُشَغّباً عليه. ويقوم ذلك الاعتراضُ على أساس، يتبعُه اعتراضاتٌ تنبني عليه. فكان على من أراد أن يدعمَ حركة الإصلاح تلك، أن يُجيب على ذلك الاعتراض، عسى أن يكون الجوابُ داعياً لرجوع المعترِض عن وقوفه في سبيل الإصلاح، بل لعله أن يكون أحدَ الساعين فيه، إن تبيّنَ له الحق. وذلك هو الظنّ بالجميع، إذ الجميعُ لا يقصدون إلا خدمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم. إن ذلك الاعتراض قائمٌ على نَسْفِ مبدأ الإصلاح السابق ذكره، بنفي أحقّية عصرٍ ما في أن يكون علماؤه هُمْ المرجع في معرفة قواعد العلم وفي تقرير معاني مصطلحاته، وأن مَنْ بعدهم يحتكمون إليهم. فأصحاب هذا الاعتراض يرون أنّ علم الحديث لم يزل في تطوُّرٍ، وأنه قابلٌ للتطوير، وأنّ إلزامَ الناس بقواعد أو معاني مصطلحات عصرٍ ما تحكُّمٌ لا وَجْهَ له. ثمّ منهم من يتناقض ليقف بهذا التطوّر عند الحافظ ابن حجر مثلاً، ومنهم من يطّردُ في مقالته إلى اليوم، ويرى أن التطوير حقٌّ مُشَاعٌ إلى قيام الساعة.

_ (1) اقتباسٌ من مقدّمة كتاب ابن الصلاح: علوم الحديث (5 - 6) .

إن هذا الرأي رأيٌ خطيرٌ، من شأنه أن يُدَمّر علوم السنة لو توسَّعَ نطاقُ تطبيقه فوق ما هو عليه، ويكفي من أثره السلبي ما قد وقع منه دلالةً على خطورته. إن هذا الرأي هو ما كنتُ أسميتُه في كتابي (المنهج المقترح) بفكرة تطوير المصطلحات، وبيّنتُ هناك خطرها وخطلها (1) . ولا أُريد هنا أن أتحدّث عن آثارها السلبيّة، فقد تحدثتُ عن ذلك في غير هذا الموطن، وتحدّث غيري أيضاً عن ذلك. لكن الذي أريده هنا: أن أُبيّنَ ما إذا كان هناك عَصْرٌ ما هو الذي يُحْتكم إلى علمائه ويُرجعُ إليهم في معرفة علم الحديث: قواعدَ ومصطلحات. وما هي أسباب اختيار أولئك العلماء دون غيرهم؟ ولمَ لا يكونون في عصورٍ مختلفة غير محدودةٍ بحدّ؟ إن الجواب عن هذه الأسئلة في غاية الأهميّة لخُطّة الإصلاح تلك، وبغير الجواب عليها، أو بالجواب غير السديد فيها لن يُمكن لهذه الخطة أن تستمرّ وأن تصمد أمام المعترضين. ولهذا فقد جاء هذا المقال ليحاول الإجابةَ عن تلك الأسئلة، لكي تتضح سبيلُ المصلحين!! وأسأل الله تعالى العون والتوفيق، وإخلاص النيّة والقصد، وقبول صالح الأعمال. المقالة الأولى: التاريخ النظري لأطوار علوم الحديث لا يختلف اثنان من أهل العلم، في أن نَقْل السنة خلال القرن الأول والثاني والثالث كان كافياً للحفاظ على السنة الحفاظ الكامل، بعدم تَفَلُّتِ شيءٍ منها عن الأُمّة، وعدم تَسَلُّلِ ما ليس منها إليها. وهذا أمرٌ بدهي عند من يعتقد أن السنّة قد بلغتنا كاملة؛ لأن اعتقاد وقوع خلل في منهج نَقْل السنة خلال القرن الأوّل مثلاً، سيؤدِّي إلى أن لا يجد القرنُ الثاني إلا ذلك الإرث المُخْتَلّ، إذ لا سبيل له في النقل إلا ما يؤدّيه إليه الناقلون.

_ (1) المنهج المقترح (176 - 178) .

وكذلك لا يختلف اثنان من أهل العلم أن منهج نقد السنة خلال القرن الأول والثاني والثالث كان كافياً لمعرفة صحيح السنة وثابتها وتمييزه عن سقيمها وغير الثابت منها؛ لأن اعتقاد وقوع خلل في منهج النقد في القرن الأول مثلاً، يعني أن الأمّة في ذلك القرن قد ضَلّت دينَ ربِّها، فنسبت إلى وَحْي السنة ما ليس منه، أو ردّت هدايةً من هداية ربِّها. ولا يعني ذلك أن علوم الحديث (نقلاً ونقداً) لم تمرَّ بمراحل تطوّر خلال قرونها الثلاثة الأولى، ولا أن علوم الحديث في القرن الثالث هي تلك التي وُلدت في القرن الأول. وعلى هذا: فكيف يَلْتَئمُ أن تكون علوم السنة قد مَرّت بمراحل تطوّر، ومع ذلك فهي في كل مرحلةٍ كانت كفيلةً بالحفاظ على السنة وبتمييز صحيحها من سقيمها؟ الجواب عن ذلك: أن انتقال علوم السنة من مرحلة إلى مرحلة لم يكن بسبب قصور فيها في المرحلة الأولى عن القيام بواجب الحفاظ على السنة، ولكن لأن عواملَ جديدةً طرأت في المرحلة الثانية تستلزم تطوّراً في العلم. فالتطور لم يكن لنقص العلم قبل تطوّره، وإنما لحدوث أمرٍ لم يكن موجوداً يقتضي ذلك التطوّر. فتجدُّدُ ضروريات، وحدوث حاجيّات، وبروز أخطار لم تكن موجودة كل ذلك هو الذي كان يجعل السنة تنتقل من مرحلة إلى مرحلةٍ، حيث إن علماء السنة كانوا يبادرون إلى استحداث وسائل في التعلُّمِ والتعليم وفي التعامُل مع العلم تحقّقُ لهم تحصيلَ تلك الضروريات، وتلبية الحاجيات، ودَفْع هاتيك الأخطار.

ولمّا كانت الغاية الكبرى من علوم السنة هي الحفاظ عليها كاملة صافيةً من الشوائب، ولمّا كان التلقّي الشفهي عن محفوظات الصدور لم يكن ليكفي للاطمئنان إلى صحّة المنقول (1) ، لأسباب منها أن الحفظ خوّان وأن النسيان من جبلّة الإنسان كان لابُدّ من أن يرافق ذلك التلقّي الشفهي ميزانٌ نقدي، يتميّزُ به الصواب من الخطأ والصدق من الكذب، إذ الخطأ والكذب هما آفتا الأخبار، فلا يُردّ الخبر إلا لواحدٍ منهما؛ لأنه قد جمع بينهما أنهما السببان الوحيدان للإخبار بخلاف الواقع، وإن كان الخطأ إخباراً بخلاف الواقع بغير عمد، والكذب إخباراً به لكن بعمد (2) .

_ (1) ألا ترى كيف بادر الصديقُ والفاروق رضي الله عنهما إلى كتابة المصحف من ذلك الوقت المبكر، خوفاً من ضياعه، مع أن كتاب الله العزيز الذي قد يسّره ربُّنا أجلّ وآثرُ وأعظمُ محفوظ في صدور الأمّة علماءَ وعامّةً!!! (2) ولذلك فإن شروط قبول الأخبار، المذكورة في تعريف الحديث الصحيح، كلّها إنما اشتُرطت لضمان سلامة الخبر من هاتين الآفتين: الكذب، والخطأ. 1 - فالعدالة: لضمان عدم الوقوع في الكذب المتعمّد. 2 - والضبط: لضمان عدم الوقوع في الخطأ. 3 - والاتصال: لضمان عدم وقوع الآفتين كلتيهما؛ لاحتمال أن يكون الساقط من السند ليس أهلاً لضمان وقوعه في إحدى الآفتين. 4 - وعدم الشذود. 5 - وعدم العلّة: لضمان عدم وقوع الخطأ ممّن الأصل فيه عدم وقوعه فيه، إذ إن الضابط غير معصوم من وقوعه في الخطأ.

ولك أن تتصوّر: لو قَدّر الله تعالى أن تُدَوّنَ السنةُ كُلُّها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، كما دُوِّن القرآن الكريم، هل كُنّا سنحتاج إلى ذلك الميزان النقدي؟ لاشك أننا لم نكن سنحتاج إليه، كما لم نَحْتَجْ إليه مع القرآن الكريم؛ لأن الكتابة حينها ستكون وعاءً شاملاً وصافياً، فلا يضمّ فيه إلا الصدق والصواب. لكن شاء الله تعالى بحكمته أن لا يحصل ذلك؛ لأسباب قدريّة كونيّة، ولأسباب شرعيّة، ليس هذا أوان تفصيلها. ومن هُنَا يتبيّن لك: أن علاقة الميزان النقدي بتدوين السنّة علاقةُ تلازم كامل، إلى درجة أن تصل هذه العلاقة إلى أن تكون سبباً للوجود وسبباً للعدم، كما سبق. حيث بيّنّا أن سبب نشوء الميزان النقدي هو التلقّي الشفهي وعدم شمول التدوين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبيّنّا أن التدوين لو كان شاملاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لما احتجنا إلى ذلك الميزان النقدي أصلاً، ولما كان له وجود، كما لم يكن له وجود مع القرآن الكريم. وما دامت علاقة الميزان النقدي بتدوين السنة على هذه الدرجة الكاملة من الترابط والتلازم، فهذا سيعني أن تطوّر الميزان النقدي مرتبطٌ أيضاً بتطوّر التدوين. وهذا هو ما وقع بالفعل؛ لأنه لا يُمكن إلا أن يكون كما وقع!! ومع أني لا أرى أن هناك حاجةً للاستدلال على وقوع ذلك الترابط بين تطوّر النقد وتطوّر التدوين، بعد أن بيّنتُ أنهما غير منفكّين وجوداً وعدماً - إلا أني لن أُغْفِل الحرصَ على كَمال وضوح هذا الترابط، وأنه كان لابُدّ أن يكون.

فقد قرّرنا آنفاً أن عدم شمول التدوين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن استمرارَ الرواية الشفهيّة المعتمدةِ على حفظ الصدور هو الذي طَرَّق إلى الأخبار احتمالَ أن تكون مخالفةً للواقع، خطأً أو عمداً، وأن هذا الإخبار بخلاف الواقع قد وقع فعلاً، فلم يكن مجرّدَ احتمال. وقرّرنا أيضاً أن الميزان النقدي نشأ مع الرواية في وقت واحد؛ لأن غرضَ الراوي هو الاستفادة من الخبر، ولن تتحقق الإفادة من خبرٍ مخالفٍ للواقع، وما دام يتطرّق إلى الخبر هذا الاحتمال فلابُدّ من وَضْع معايير لتمييز الخبر الموافق للواقع والخبر المخالف للواقع، وهذا هو الميزان النقدي.

ولاشك أن احتمال أن يكون الخبرُ مخالفاً للواقع خطأً (بغير عمد) سيزداد قوّةً كُلَّما ابتعد الخبر عن أصله وناقله الأول؛ ((لأنّه ما من راوٍ من رجال الإسناد إلا والخطأ جائزٌ عليه، فكلما كثرت الوسائط وطال السند كَثُرت مظانُّ التجويز، وكلّما قَلّتْ قَلّتْ)) (1) . وكذلك حال الإخبار بخلاف الواقع عمداً (كذباً) ، سيزداد احتمال وقوعه بزيادة عدد الناقلين، الذين يُحتمل في كل واحدٍ منهم (قبل العلم بعدالته) أن يكون كذّاباً. كما أنّ العدالة في الرواة والناس عموماً لم تزل في نقصانٍ ببُعْدِ الناس عن زمن النبوّة، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قومٌ تسبق شهادةُ أحدهم يمينَه ويمينُه شهادتَه)) (2) ، وفي حديث آخر قال في الرابع: ((ثم يفشو الكذب)) (3) . وهذه الزيادة في احتمالاتِ حُصُولِ الإخبار بخلاف الواقع (عمداً أو خطأً) بسبب امتداد الزمن، لم تكن زيادةً في عدد تلك الاحتمالات فقط، بل هي زيادةٌ في العدد وفي صُوَر تلك الاحتمالات أيضاً.

_ (1) اقتباسٌ من كلامٍ للحافظ ابن حجر في نزهة النظر (116) . (2) أخرجه البخاري (رقم 2652، 3651، 6429، 6658) ، ومسلم (رقم 2533) ، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (3) أخرجه الترمذي وصحّحه (رقم 2165) ، وابن ماجه (رقم 2363) ، وابن حبان (رقم 4576، 5586، 6728، 7254) ، والحاكم وصحّحه (1/114، 114 - 115) ، والضياء في المختارة (1/191 - 193 رقم 96 - 98) (1/267 رقم 157) (1/294 - 295 رقم 185) ، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والحديث وقع فيه اضطرابٌ على أحد رواته، لكن له طريقُ من غير طريق الراوي الذي اضطُرب عليه فيه، ثم إن الاضطراب الذي وقع فيه مما لا يُعَلّ به الخبر. فانظر: العلل الكبير للترمذي (2/816 - 817) ، والعلل للدارقطني (2/122 - 125 رقم 155) .

فمثلاً: (التدليس) المذموم و (الإرسالُ) المردود لم يكن ليظهر في جيل الصحابة؛ لأن الصحابة كلّهم عدول، وإنّما ظهر بعدهم، و (الإعضال) لم يكن ليظهر عند من لا يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بواسطةٍ واحدة، لكنه يُمكن أن يظهر عند من يحدث عنه بواسطتين فأكثر. وما دام احتمالُ إصابة الأخبار بآفتيها (الكذب والخطأ) سيزدادُ بامتداد الزمن، فلابُدّ أن علماء الأمّة ستزداد عنايتهم في إيجاد الوسائل التي تُخَلِّصُ الأخبار من هاتين الآفتين، وهذا هو تطوّر الميزان النقدي. ولمّا كان سبب حصول هاتين الآفتين هو الرواية الشفهيّة غير المدوّنة، فقد سارع العلماء إلى التدوين، الذي لم يزل يتطوّر، مواكباً حاجة السنة للحفظ (1) وللحماية من الكذب (2) أو الخطأ (3) .

_ (1) قال عبد الله بن المبارك:» لولا الكتاب ما حفظنا «، وقال إسحاق بن منصور:» قلتُ لأحمد: مَنْ كَرِهَ كتابة العلم؟ قال: كرهه قومٌ كثير، ورخّصَ فيه قوم. قلتُ: لو لم يُكتب ذهبَ العلم، قال أحمد: ولولا كتابتُهُ أيّ شيءٍ كُنَّا نحن؟! «. انظر: المحدث الفاصل للرامهرمزي (377 رقم 360) ، وتقييد العلم للخطيب (114، 115) . (2) حيث إن التدوين الذي به يتمُّ ضبط المنقول ومعرفته، به يتمّ معرفةُ الكذّابين وفَضْحُهُم، وبحصوله يهابون التجرؤَ عليه، وتُعْرفُ نُسَخُهم فلا يتهافت عليها أشباههم. يقول ابن معين: ((كتبنا عن الكذّابين، وسجرنا به التنّور، فأخرجنا به خُبزاً نضيجاً)) ، ويقول: ((وأيُّ صاحب حديث لا يكتب عن كذّابٍ ألفَ حديث؟!)) .انظر: المجروحين لابن حبان (1/56) ، والكامل لابن عدي (1/124) . (3) إن علاقة الضبط بالكتابة أمرٌ لا خفاء به. يقول الإمام أحمد:» حدثنا قومٌ من حفظهم، وقومٌ من كتبهم، فكان الذين حدثونا من كتبهم أتقن «. تقييد العلم للخطيب (115) .

وبذلك نعود إلى تأكيد تلك العلاقة بين تطوّر التدوين وتطوّر الميزان النقدي، فلئن بيّنّا سابقاً ما بينهما من علاقة في المنشأ، تقتضي استمرار تلك العلاقة بينهما بعد النشأة فقد بيّنا هنا أيضاً حقيقةَ تلك العلاقة خلال مراحل التطوّر لكليهما، ممّا لا يدع مجالاً للشك في حصول تلك العلاقة بين التدوين والنقد في كل مراحل تطوّرهما. فإذا انتهينا إلى اليقين من هذه النتيجة، وهي أن التدوين والميزان النقدي متلازمان نشأةً وتطوّراً، تلازُمَ الروح بالجسد الحيّ، فهذا سيعني أن الزَّمنَ الذي يبلغُ التدوينُ فيه نهايتَه، بشموله لجميع المنقولات، وبعدم بقاء روايةٍ غير مدوّنةٍ ممّا كان يذكره الناقلون منذ نشأة الرواية إلى ذلك الزمن سيعني أيضاً أن النقد قد بلغ في ذلك الزمن نهايته، وأنه بعد بلوغه هذه النهاية سيكون قادراً على تصفية المنقولات كُلِّها بلا استثناء، وأنه لم يعد فيه مجالٌ للتطوّر بعد ذلك. إن هذه النتيجة، وهي أن اكتمال التدوين يعني اكتمال المنهج النقدي، لم يَعُدْ بحاجةٍ إلى استدلال بعدما سبق. لكني أعود فأقول: إن المنهج النقدي إنما نشأ بسبب وجودِ رواياتٍ أصابتها آفةُ الأخبار (الخطأ والكذب) ، وحصولُ هذا للأخبار إنما وقع بسبب عدم التدوين (كما سبق) ، فكان ذلك المنهجُ النقديُّ قادراً على تمييز الصواب من غيره خلال أزمنة الرواية الشفهيّة غير المدوّنة أفلا يكون هذا المنهجُ النقدي أقدَر على القيام بمَهمّته، بعد حصول ما كان من شأنه أن يُغنينا عنه لو أنه تمّ من حين نشوء النقل (ألا وهو التدوين) ، وبعد أن سَهَّلَ له التدوينُ القيامَ بتلك المهمّة؟! وبعبارة أخرى: إن منهجاً لنقد المنقولات كان قادراً وكافياً لنقدها يوم أن كانت بين رواية شفهيّة ورواية مدوّنة، ألن يكون قادراً وكافياً لنقد المنقولات بعد أن أصبحت مكتوبة فقط؟!!

وبعبارة ثالثة: إن منهجاً كان قادراً على تصفية المنقولات حينما كانت تتزايد بالخطأ والكذب كل يوم، ألن يكون قادراً على تصفيتها بعد أن انحصرت بالتدوين الشامل (صوابَها وخطأها وكذبها) في عدد معيَّن؟!! (1) . وأخيراً: هل يُمكن أن يوجد منهجٌ للنقد أفضل من ذلك المنهج الذي استطاع تصفية السنة في أخطر مراحل وُجودها؟! هل يُمكن لأحدٍ أن يدّعي منهجاً مخالفاً لذلك المنهج يكفل لنا به ما كفله لنا ذلك المنهج؟!! لاشك أن المنهج الذي استطاع أن يواجه تلك الأخطار، وأن يدفعها كلها، هو أفضل المناهج على الإطلاق. وأنّ من أراد أن يستبدل به منهجاً آخر، أقلّ ما يُقال له: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير (البقرة: 61) . وهنا يأتي السؤال الأهم: فمن أراد أن يتعرّف على منهج نقد السنّة عمّن يأخذه؟ من هُمْ أهل ذلك المنهج (المكوّنِ من قواعد ومصطلحات) الذين إن أردنا أن ندرس منهج نقد السنة لزمنا أن لا نتجاوزهم وأن لا نخالفهم؟ ومن هم الذين يُحتكم إليهم في تصويب المنهج أو تخطئته؟ ويُمدح من سار على منهجهم ويُذمّ من خالفه؟ لا يخفى على أحدٍ منكم الجواب عن هذا السؤال (أو الأسئلة) .

_ (1) ولا يعني ذلك أن الخطأ والكذب قد انتهى بعد اكتمال تدوين السنة، ولكن يعني أنه لن يشتبه بالصواب، وسيكون نَقْدُهُ أسهل بعد التدوين؛ لأنه خرجَ عن احتمال أن يكون صواباً، بعدم وجوده مدوَّناً بعد اكتمال التدوين. وهذا ما ذكره البيهقي عندما قال: ((وهو أنّ الأحاديث التي قد صحّت، أو وقفت بين الصحّة والسُّقْم قد دُوّنت وكُتبت في الجوامع التي جمعها أئمةُ أهل العلم بالحديث، ولا يجوز أن يذهب منها شيءٌ على جميعِهم، وإن جاز أن تذهب على بعضهم؛ لضمان صاحب الشريعة حفظها. فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم، لم يُقبل منه..)) . مناقب الشافعي للبيهقي (2/321) .

إذ إن الجوابَ قد تقدّم، وهو أن منهج نقد السنة يجب أن يؤخذ عمّن أسّسه وبناه حتى اكتمل، وهؤلاء هم أهل ذلك المنهج، الذين يُحتكم إليهم، ويُمدح من سار على منهجهم، ويُذمّ من خالفهم (1) . وهنا قد ينقدح سؤال، كنت قد أجبت عنه سابقاً، لكنه يحتاج إلى زيادة بيان؛ وهو: لمَ لمْ تقتصر على العلماء الذين عاصروا اكتمال المنهج؟ لمَ أدخلتَ معهم من سبقهم؟ مع أن من سبقهم لم يكن المنهج في زمنهم مكتملاً!! ألا يُطرِّق ذلك احتمالَ تَعَدُّدِ المناهج بسبب اختلاف أزمنة أهل المنهج الذين تُحيل إليهم، وبسبب اختلاف أطوار العلم الذي تُرجعنا إليه؟! والجواب: أوّلاً: إنه ليس من حقّي أن أقتصر من عند نفسي على عصرٍ دون عصر، لقد بَنَيْتُ ما قلتُه على الدرس العميق لمراحل تطوّر العلم، كما مَرّ بكم آنفاً. فلست بالذي يختار، وإنما سنةُ التطوّر والارتقاء هي التي تختار. ثانياً: إن هذا السائل لم ينتبه إلى ما كنتُ قررتُه سابقاً، من أن انتقال منهج النقد من طور إلى طور لم يكن لنقص في الطور الأول، وإنما لتجدّد أمور اقتضت الإضافة إليه فقط. فكل الذي كان يحصل خلال انتقال المنهج من طور إلى طور، هو أن الطور الثاني يضيفُ إلى الطور الأول ما يُمَكّنُهُ من مُوَاجهةِ الأخطار المستحدثة فيه. فقواعد المنهج خلال الطور الأول لم تزل معمولاً بها خلال المنهج الثاني، وانضافت إليها قواعدُ جديدةٌ.

_ (1) وأهل النقد هم في ذلك كأهل اللغة الذين يُحْتَجُّ بلغتهم، فكما أن دأب اللغويين تقييد لغة هؤلاء، فكان ينبغي أن يكون دأب المصنفين في علوم الحديث من المتأخرين أن يكون دأبهم تقييد لغة أولئك وقواعدهم في علمهم، الذي كان حيًّا بينهم، لا يحْتاجون فيه إلى من يترجم لهم ألفاظه ومصطلحاته. فوجه الشبه بين الفريقين: حياة العلم عند أهل الحديث، وحياة اللغة عند من يحتج بلغتهم.

وكل دعوى عن اختلافِ المنهج، خلال أزمنة أهل المنهج، وبين أهله دعوى باطلة، بعيدةٌ كل البُعْد عن فقه المسألة، وعن التدبّر في نشأة المنهج ودواعيه وأطواره. وكيف يُتصوّرُ حصول اختلافٍ في المنهج، والمنهج إنما نشأ لحماية المنقولات من آفتي الخطأ والكذب؟! هل هناك من يقبل الخطأ؟! هل هناك من يقبل الكذب؟! هل هناك من يقبل ما يغلب على الظن أنه خطأ؟! هل هناك من يقبل ما يغلب على الظنّ أنه كذب؟! أمّا إن ضربتَ أمثلةً للمسائل التي ادُّعي فيها الخلاف في المنهج: كالمرسل، والرواية عن أهل البدع، وزيادة الثقة، واشتراط عدم الشذوذ، واشتراط عدم العلّة ... ونحوها من المسائل التي حُكي فيها الخلاف. فإني أقول لك: لقد درسنا هذه المسائل وغيرها مسألةً مسألةً، فتبيّن لنا عدمُ صحّة وجود ذلك الخلاف المدَّعى، والذي نُقِل في أكثره أيضاً الإجماعُ، وإن اشتهر عند المتأخرين القول بالخلاف!! ثم إن الخلاف المنهجيَّ لا يخفى، وهو أولى بالظهور والوضوح من الاختلاف في آحاد المسائل الجزئيّة، وأولى بالنقل، وأحرى بأن تقوم له المعارك العلميّة، وبأن تُصنَّفَ فيه الردودُ والردودُ على الردود ... هذا هو المعتاد من سُنّه العلوم جميعاً؛ لأنه اختلافٌ منهجيٌّ ينبني عليه اختلافٌ عظيم في كثيرٍ من المسائل الجزئيّة. وبَعْدُ ... فأين هو هذا الاختلاف المنهجيّ في الصُّور التالية: - أين هو في التوافق العجيب بين نقاد الحديث، من زمن شعبة والقطان وابن مهدي، إلى زمن البخاري ومسلم وأبي حاتم ومن بعدهم: في التصحيح والتضعيف والتعليل والجرح والتعديل؟ هل وجدتم أحداً منهم ردّ حكماً من آخر بدعوى اختلاف المنهج؟

- أين هو في ثناء المتأخر منهم على المتقدّم في علمه واطلاعه ودقّة أحكامه؟ كما فعل ابن أبي حاتم في (تقدمة الجرح والتعديل) ، التي عقد فيها أبواباً لبيان عظيم مواقع الأئمة في النقد، ينقل فيها نماذج من أحكامهم على الأحاديث والرواة على وَجْه الإجلال والتعظيم لهم. وهم أئمةٌ مختلفةٌ أعصارهم، متباينةٌ طبقاتهم. ولم يقل مَرّةً واحدة: إن منهج فلان غير مقبول، أو يجب علينا أن ننتبه إلى منهجه الخاص في هذه المسائل أو تلك. وفعل مثلَ ابن أبي حاتم جماعةٌ: كابن حبان في مقدّمة المجروحين، وابن عدي في مقدّمة الكامل. - وكيف يقبل بعضُهم من بعضٍ الجرحَ والتعديلَ في الأعمّ الأغلب، ولا يختلفون إلا في جزئيات المسائل؟ أولو كان منهج النقد بينهم مختلفاً كانوا سيقبلون من بعضهم أحكامَهم في الرواة؟! أوليس الحكم على الراوي مرتبطاً كل الارتباط بالحكم على حديثه؟! والحكم على حديثه مرتبطاً بالحكم عليه؟! أين اختلاف المناهج في هذه المسألة؟!!! - أولم يكونوا يتذاكرون العلم فيما بينهم، ويتناظرون في الأحاديث والرواة، ويفهم بعضهم كلام بعض، ولم يُنقل لنا قطّ أنه قال أحدهم للآخر: منهجك ليس هو منهجي، أو أنهم كانوا يختلفون في غير المسائل الجزئية. - أولم يعرض البخاري صحيحه على بعض حفاظ زمنه؟ أولم يفعل ذلك مسلم؟ أولم يجمع الترمذي أقوال البخاري وأبي زرعة والدارمي في التعليل والجرح والتعديل في كتاب واحد؟ أولم يفعل نحو ذلك وأكثر منه ابن أبي حاتم في كتابه (العلل) و (الجرح والتعديل) و (المراسيل) ؟ هل كان أولئك القوم مختلفي المنهج أم متفقين؟ إن كانوا مختلفين، كيف تسنَّى أن يؤخذ بأقوالهم جميعاً، وأن تُساق مساقاً واحداً؟ وإن كان هؤلاء هم الذين اتفقوا، وأن المخالفين لهم سواهم، قلنا: فمن القوم بعد هؤلاء، يا رجل؟!!! هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.

- لقد نُقِل عن المحدثين اختلافٌ كثيرٌ في آحاد الرواة والأحاديث، وناقش بعضهم بعضاً في كثير من ذلك. فما بال الاختلاف في المنهج لا يُنقل عنهم فيه نقاشٌ ولا اعتراض؟! والحاصل أن نقل اختلاف المنهج أولى وأحْرى (كما سبق) . كل هذا وغيره يقطع باتّحاد المنهج، وإنّما يَدّعي الاختلاف من لم يُراع تلك الكليّات، ووقف عند بعض العبارات المشتبهة، ليبني عليها مذاهبَ ومناهج!! ومن هُنا أُتي من أُتي في هذا الباب. ولو ردّوا تلك المشتبهات إلى هاتيك المحكمات وأمثالها، لتبيّن لهم الحق بلا ارتياب. ونعود بعد هذا الاستطراد إلى ما كنّا فيه: من التأريخ النظري لعلوم الحديث، والذي خلصنا منه إلى أن الزمن الذي اكتمل فيه تدوين السنة هو نفسه الذي اكتمل فيه نقد الحديث، وأنه لذلك كان منهجُ النقد الذي ينبغي أن يُرجع إليه هو ذلك المنهجَ الذي نشأ وتطوّر حتى اكتمل. هذا ما كنّا وصلنا إليه أخيراً. ولكن هناك بقيّةٌ لذلك العرض التاريخي النظري، لابُدّ أن نعرض له. ذلك أن بلوغ منهج النقد درجة الاكتمال في زمنٍ ما، لاشك أنه سيعني أن بداية النقص ستبدأ من حيث اكتمل، اتّباعاً للسنة الكونية في ذلك:» لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ «. فما بعد بلوغ الغاية إلا النكوص، وما بعد صعود القمة إلا الهبوط. ولكن هذا النقص لا يصح أن يُتصَوّر أن يبلغ حدَّ الهُوِيّ في القاع، ولا القفزة الواحدة التي تعود بصاحبها إلى حيث بدأ، بل لابُدّ أن يكون نقصاً تدريجيًّا. كما أنّه قد لا يشمل كل علماء ذلك العصر، فقد يبقى بعضهم على إرثه القديم محافظاً عليه. ولذلك فقد يصح لنا نظريًّا أن نعتبر الزمن الأوّل بعد اكتمال نضج العلم، من أزمان أهل ذلك المنهج الذي يُرجع إليهم ويُحتكم إلى علمهم؛ لأنهم استطاعوا أن يكونوا امتداداً حقيقيًّا للزمن الذي اكتمل فيه المنهج، وأن لا يكونوا مجرّد وعاءٍ لذلك المنهج، بل أن يشاركوا أصحابه في تمام العلم به وكمال الأهليّة فيه.

وقد يشهد لذلك، ولمعرفة حدِّ ذلك الزمن الذي تعتبر علماءَهُ من أهل المنهج: ما لو وجدنا أولئك العلماء قد صنفوا في أصول العلم، وطبّقوا ذلك المنهج الذي ورثوه عمن سبقهم تطبيقاً يشهد لبلوغهم رتبة الاجتهاد المطلق فيه. وسنستمر على اعتبار الزمن التالي لزمن اكتمال المنهج من عصور من يُحتجّ بمنهجه، إلى أن يبدو لنا أن ذلك النقص التدريجي قد ظهرت آثاره، وقويت ملامحُه واتّضحت؛ إلى حدِّ ظهور النقص في أهليّة علماء ذلك العصر عن رتبة الاجتهاد المطلق فيه، وإلى حدِّ إعلان علمائه أنّهم ليسوا سوى مترجمين لعلوم من سبقهم، وأنهم يتلمّسون آثار خطاهم تلمُّسَ من تخفى عليه بعض مدارجهم.

إن هذا التدرّج في مراحل تطوّر العلوم أمرٌ طبيعي، إذ إن انتقال العلم من مرحلةٍ إلى مرحلة لا يتمُّ فجْأة، ولكن يتم بالتدريج. بأن يكون العلم في المرحلة الأولى له خصائصه التي تميّزه، ثم يبتدئ بفقدان شيءٍ من خصائصه لصالح خصائص المرحلة التالية، التي تحلُّ شيئاً فشيئاً محل الخصائص الأولى. حتى يصل هذا التناقصُ التدريجي إلى درجة الانتصاف، فيكون العلم قد بلغ مرحلةً تحمل في طيّاتها نصف خصائص المرحلة الأولى ونصف خصائص المرحلة الثانية. وهذه المرحلة هي المرحلة الانتقالية، التي لا يُمكن معها أن تَفْصِل مرحلةً عن مرحلة (1) . ثم بعد ذلك تبتدئ كفة المرحلة الجديدة بالرجحان، وتتضح خصائصها بصورة أكبر، حتى تصلَ درجةَ الاتّضاح الكامل. والتي بوضوحها هذا تيقّنّا من مرور ذلك العلم بمراحل، وبوضوحها هذا استطعنا أن نعرف خصائص كل مرحلة التي تميّزها عن غيرها، وبوضوحها هذا (أخيراً) استطعنا أن نؤرّخ لذلك العلم (2)

_ (1) لقد ابتدع الأدباء لأصحاب هذه المرحلة الانتقالية اسمَ المخضرمين، الذين جمعوا في خصائص شعرهم بين خصائص زمنين، كالشعراء الذين عاصروا الدولتين الأمويّة والعباسيّة. (2) وهنا أنبّهُ إلى أنه من الخطأ البيِّن أن نجعل من عدم وضوح ملامح المرحلة الانتقاليّة، أو من تَأَرْجُح علمائها بين مرحلتين دليلاً على عدم مرور ذلك العلم بمراحل مختلفة؛ لأن هذا لا يختص بعلم دون علم، فالمرور بهذه المرحلة لا يخلو منه علم. فلم يكن ذلك بقاضٍ على حقيقة مرور تلك العلوم بمراحل، ولا منع ذلك من وضع حدود زمانيّة لتلك المراحل، ولم يفهم أحدٌ منها أنها حدودٌ فاصلة، وإنما هي حدود تقريبيّة. فلئن اشتبهَ عندي إلحاقُ بعض أصحاب المرحلة الانتقاليّة بإحدى المرحلتين، وكان لإلحاق هذا البعض أثرٌ وأهميّة (افتراضاً) فلن يشتبه عندي إلحاقُ أقوامٍ آخرين بإحدى المرحلتين، ولا أشك فيهم أدنى شك. فلمَ الشَّغبُ بالقليل النادر قليلِ الثمرة أو عديمِها، على الأصل الغالِب عظيمِ الثمرةِ واضحِها؟!!!

وبعد هذا البيان الطويل، الذي أعتذر من جفافه، أدخل في بيان التحديد الزمني لتلك المراحل، ليكون لذلك العرض الثمرة المنشودة (1) . المقالة الثانية: التاريخ الواقعي لأطوار علوم الحديث المرحلة الأولى: بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مقتل عثمان رضي الله عنه سنة (35هـ) . وتتميّز هذه المرحلة بصفائها وبُعدها عن أسباب الخطأ والكذب، لعدم الإسناد، وقوّة الحافظة، وعدم ظهور الفتن، وشدّة الاحتياط في التبليغ للسنة. وكان التدوين في هذه المرحلة قليلاً، ولم يكن بغرض التخليد، وإنما كان بغرض الإعانة على الحفظ في الصدور. المرحلة الثانية: من مقتل عثمان رضي الله عنه، إلى انتهاء جيل الصحابة، بموت غالبهم، وكان ذلك نحو سنة (80هـ) . وتميّزت هذه المرحلة بحصول الفتنة التي فرّقت المسلمين أحزاباً وشيعاً، وبظهور بعض البدع، وبانتشار الصحابة في البلدان شرقاً وغرباً.

_ (1) أرّخ للسنة كثيرٌ من العلماء والباحثين قديماً وحديثاً، ولذلك فسأكتفي هنا بعرض مختصر، محيلاً إلى الدراسات في ذلك الإحالة الإجمالية التالية، إلا ما رأيت ضرورة الاستشهاد له. فانظر: ذمّ الكلام وأهله للهروي (3/148 - 150) ، وجامع الأصول لابن الأثير (1/39 - 43) ، وشرح علل الترمذي لابن رجب (1/35 - 43) ، وهدي الساري لابن حجر (8 - 9) ، والسنة قبل التدوين للدكتور محمد عجاج الخطيب، ودراسات في الحديث النبوي للأعظمي، وغيرها، ومنها كتابي المنهج المقترح (13 - 65) .

وفي هذه الفترة ظهرت المطالبة بالإسناد (1) ، وفي المطالبة به دليلٌ على نشوء علم الجرح والتعديل (2) ، وفي أن الجهل بحال المحذوف من الإسناد علةٌ يُردّ به الخبر (3) . ولم يزل التدوين في هذا الجيل قليلاً، لإمكان حفظ الصدورِ القيامُ بواجب النقل الكامل. المرحلة الثالثة: وهي عصر التابعين، والذي يبتدئ من نحو سنة (80هـ) إلى نحو سنة (140هـ) ، بموت غالب التابعين. وقد كان لبداية طول الإسناد في هذه المرحلة، ولتشعّب الأسانيد، واختلاف رواتها، مع زيادة انتشار السنة، وزيادةِ الغلو في البدع ونشوء بدع أخرى، مما أدّى إلى أن يروي من ليس بأهلٍ للاطمئنان إلى روايته أن كان الهاجسُ الأكبر لدى علماء التابعين حينها هو: خوفُ تفلُّتِ شيءٍ من السنّة، وتحديثُ من لا يؤمن على النقل، ووقوعُ الاختلال في ضبط المنقول. فواجهوا كل خطرٍ من هذه الأخطار بما يدفعه: - فخوف تفلُّتِ شيءٍ من السنة واجهوه بأمور، منها: 1 - استنفار الأمّة لجمع السنة، وذلك يظهر من كثرة عدد التابعين الذين نقلوا السنة؛ إذ إن كثرةَ الحَمَلَةِ يجعل فوات شيءٍ من السنة على جميعهم مستبعداً.

_ (1) مقدّمة صحيح مسلم (1/15) . ومن أغرب المواقف في ذلك استحلافُ أحد التابعين، وهو عَبيدة السلماني، لعلي رضي الله عنه، في روايته لحديث، هل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم!، انظر: صحيح مسلم (2/747) ، موازنة بمسند البزار (رقم 581) . (2) فقد نهى عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود عن الأخذ عن الأصاغر، ففسّر عبد الله بن المبارك ذلك بأنه الرواية عن أهل البدع، فانظر: الزهد لابن المبارك (رقم 815) ، والمدخل إلى السنن للبيهقي (رقم 275) ، وشرح أصول أهل السنة للالكائي (رقم 101، 102) . (3) كما دل عليه موقف ابن عباس من المراسيل، فانظر: مقدّمة صحيح مسلم (1/12 - 13) .

2 - الأمرُ بكتابة السنة أمراً رسميًّا من قبل عمر بن عبد العزيز، وذلك في آخر القرن الهجري الأول أو أوّل الثاني، وائْتِمارُ التابعين لذلك، حتى كثر عدد التابعين الذين كتبوا السنة (1) . لكن مدوّنات هذا العصر كانت غالباً بغرض أن تُعين على الحفظ في الصدور، ولذلك كان بعض التابعين يمحو ما يكتب أو يغسله بعد حفظه (2) . ولم يكتب للتخليد إلا القليل منهم مصنفاتٍ مختصرة: في التفسير، والسيرة، وبعض أبواب الأحكام (كالطلاق، والمناسك، والصلاة) (3) . ويظهر من تلك المدوّنات استيلاءُ هاجس التفلّت على أصحابها، حتى كانت أبعد ما تكون عن العناية بحُسْن الترتيب والتبويب، ويختلط فيها المرفوع بالموقوف والمقطوع. 3 - زيادة ظاهرة الرحلة في طلب الحديث، لمواجهة واقعِ انتشارِ السنة في الآفاق (4) . وفي ذلك يقول الشعبي عن مسروق:)) ما علمت أحداً من الناس كان أطلب لعلم في أفق من الآفاق من مسروق ((. وقال مكحول الشامي:)) طُفْتُ الأرضَ في طلب العلم)) . - وخطورةُ تحديث من لا يُؤْتَمَنُ على النقل، واجهوه بأمور، منها: 1 - التشديد في المطالبة بالإسناد. وهنا تأتي عبارة ابن سيرين علماً لهذا العصر، عندما قال: ((إن هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم)) (5) .

_ (1) أحصى الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه (دراسات في الحديث النبوي) أكثر من (150) تابعيًّا ممّن دوّن، ومع كثرة هذا العدد، لكنه إنما هو شيءٌ يسيرٌ ممّا يمثِّلُ الواقع؛ فهو أوّلاً إحصاءٌ غير مستقصي، لأخبار لم يعتن العلماءُ بنقلها، فوصول هذا العدد إلينا يدلّ على ما وراءه. (2) انظر: الجامع للخطيب (1/353) . (3) انظر: دراسات في الحديث النبوي للأعظمي (1/148، 149، 151، 159 - 160، 196، 208، 213، 218) . (4) انظر الرحلة في طلب الحديث للخطيب (رقم 45، 47 - 48، 49، 52، 53، 54، 57، 93، 94، 95، 97) . (5) مقدّمة صحيح مسلم (1/14) .

2 - والمطالبة بالإسناد تعني ردَّ المراسيل، للجهل بحال المحذوف (1) . فقد ردّ المرسل جماعةٌ من التابعين: كابن سيرين، والشعبي، وعروة بن الزبير، والزهري. 3 - وإنما يُستفاد من المطالبة بالإسناد إذا ما مُيِّزَ بين الرواة العدول والرواة المجروحين، وهذا يستلزم الكلام في الرواة جرحاً وتعديلاً. وفي ذلك يقول ابن سيرين: ((لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلمّا وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السنة، فيؤخذُ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم)) (2) . ويقول إبراهيم النخعي:)) كانوا إذا أرادوا أن يأخذوا عن رجل، نظروا إلى صلاته وإلى سَمْته وإلى هيئته (3) ((. ولذلك فقد تكلّم في الرواة جماعةٌ من التابعين: كابن سيرين، وسعيد بن المسيب، وطاوس اليماني، وعروة بن الزبير، والزهري، وأيوب السختياني، والأعمش، وغيرهم. 4 - تَرْكُ الرواية عن الفُسّاق وغير العدول من الرواة. وهذا أمرٌ مُجْمَعٌ عليه من سلف الأمّة وخلفها (4) . - ووقوعُ الاختلال في ضبط المنقولات، واجهه التابعون بأمور، منها: 1 - بكتابة السنة، فكما سبق، فإن كتابة التابعين للسنة كان غالباً بغرض تجويد الحفظ، ولم يكن بقصد التأليف إلا نادراً. 2 - تجويد الكتابة: بابتداع الإعجام (5) ، وبتصحيح الكتاب (6) ، وبمعارضة المكتوب على أصله (7) ، وبالقراءة على الشيخ ما كُتبَ عنه (8) .

_ (1) انظر: الكفاية للخطيب (442 - 443) . (2) مقدمة صحيح مسلم (1/15) . (3) الكفاية للخطيب (188) . (4) نقل الإجماع جماعةٌ، منهم: ابن حبان (المجروحين 1/305) ، والخطيب (الكفاية 51، والجامع رقم 144) . (5) الجامع للخطيب (رقم 581) . (6) الجامع للخطيب (رقم 586) . (7) المدخل إلى السنن للبيهقي (رقم 778) ، والجامع للخطيب (رقم 577، 578) . (8) تاريخ أبي زرعة الدمشقي (رقم 796) .

3 - طلب المتابعات، والتحرّي بسماع الحديث الواحد من جماعة، وكراهية رواية غريب الحديث، خشيةً من الغلط والإخلال بالضبط. يقول إبراهيم النخعي: ((كانوا يكرهون غريب الكلام وغريب الحديث)) (1) . وقال يزيد بن أبي حبيب: ((إذا سمعت الحديث، فانْشُدْهُ كما تنشدُ الضالّة، فإن عُرِفَ، وإلا فَدَعْه)) (2) . وعندما أثنى أحدُهم عند أيوب السختياني على راوٍ لما له من الغرائب، قال له أيوب: ((إنما نفرُّ أو نَفْرَقُ من تلك الغرائب)) (3) . ولذلك فإن قاعدة الترجيح بالأكثر عددًا من الرواة قاعدةٌ مجمعٌ عليها (4) ، ودلّت عليها السنّة (5) . 4 - نَقْدُ المتن، وعدم الاكتفاء بنقد السند. قال الأعمش: ((كان إبراهيم - يعني النخعي - صيرفيًّا في الحديث، وكنتُ أسمع من الرجال، فأجعل طريقي عليه، فأعرض عليه)) (6) . 5 - الرحلة لطلب الحديث (وقد سبق الحديث عنها) ، فهي من أسباب تقليل الوسائط، وتقليل الوسائط من أسباب تقليل احتمال الوهم، وهذا سبب الحرص على العلوّ في الأسانيد (7) . المرحلة الرابعة: وهي مرحلة أتباع التابعين، وتبدأ من سنة (140هـ) ، وتنتهي سنة (200هـ) .

_ (1) الكفاية للخطيب (171) . (2) رسالة أبي داود إلى أهل مكة (48) ، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/19) . (3) مقدّمة صحيح مسلم (1/23) . (4) نقل الإجماع البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (رقم 23) . (5) فهذا أحد الفوائد التي استنبطها العلماء من حديث ذي اليدين، انظر المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (رقم 9) ، وإن كان العلائي يخالف في صحّة هذا الاستنباط، كما في نظم الفرائد (223 - 225) . (6) الجرح والتعديل (2/17) . (7) نزهة النظر لابن حجر (116) .

وتميزت هذه المرحلة بخصائص: منها أن طال الإسناد أكثر ممّا كان عليه، وما يتبع ذلك من زيادة تشعُّب الأسانيد واختلاف الرواة، مع ما يصحب ذلك من تعسُّر الحفظ. كما أنه قد زادت أيضاً بعض خصائص المرحلة السابقة وضوحاً: كانتشار السنّة في الآفاق، وظهور البدع وغُلُوّ أصحابها فيها. كما أنّ هذه المرحلة قد ورثت جهوداً مباركة من الجيل السابق في جمع السنّة حفظاً وتدويناً، كما سبق، ممّا كان له أكبر الأثر في إعانة علماء هذه المرحلة على إتمام المسيرة. وقد واجه العلماء أخطار هذه المرحلة بنفس الأمور التي واجه بها علماء المرحلة السابقةَ أخطارهم، وزادوا عليها أموراً: - ففي مجال تدوين السنة: صار الحرص على التدوين كاملاً (1) ، إلى درجة أن يهمّ شعبة بن الحجاج بأن يترك حديثَ أحد جِلّة التابعين ثقةً وإتقاناً، لأجل أنه لم يكن يكتب (2) . وحتى قال يحيى بن سعيد القطان: ((لئن أكون كتبتُ كل ما أسمع أحب إليّ من أن يكون لي مثل مالي)) (3) . وحتى إن ترجيح رواية من يرجع إلى كتاب عند التحديث على من لا يرجع عند تحديثه إلى كتاب أصبح أمراً ظاهراً، حتى في الترجيح بين كبار النقّاد، كما قال القطان عن الثوري وشعبة:» سفيان أقل خطأً، لأنه يرجع إلى كتاب)) (4) . ووصل الأمر ببعضهم إلى أنه لم يعد يأخذ الحديث إلا إملاءً، وانتشرت (5) لذلك مجالس الإملاء (6) .

_ (1) انظر تاريخ الإسلام للذهبي - حوادث سنة 143هـ - (13) . (2) شرح علل الترمذي (1/170) . (3) المدخل إلى السنن الكبرى (رقم 781) . (4) شرح علل الترمذي (1/178) . (5) أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني (رقم 29، 30) . (6) انظر: تاريخ ابن معين (رقم 2481، 2482، 4901، 4905) ، والجامع للخطيب (رقم 1169، 1170، 1171) .

ومظاهر هذه العناية كثيرةٌ جدًّا، لكن اللافت للنظر في ذلك هو نشوء التصنيف المبوّب في هذا الجيل. ففي حين ازدادت كتابة النسخ غير المبوّبة على ما كانت عليه في المرحلة السابقة، وانتشرت الكتابة في بابٍ واحد من أبواب العلم (كالطهارة، والصلاة، والمناسك (1) ، والفرائض (2) ، والتفسير (3) ، والزهد (4) ، والجهاد (5) ، والقدر (6) ... ونحوها) (7) فقد انضاف إلى ذلك نشوء أسلوب جديد، هو التصنيف المبوّب، ومن أوّل من قام بذلك الإمام مالك في كتابه الموطأ (8) ، ثم صنّف غيره، كجامع ابن وهب، وجامع معمر (وهما مطبوعان) ، وكجامع الثوري. إن مثل هذا الترتيب يدل على ظهور الحاجةِ إليه، وإلى أن هاجس التفلّت الذي كان يشغل التابعين في تدوينهم ويُلْهِيهم عن الترتيب ابتدأ يخفت ويضعف، وأن بداية الشعور بأن التدوين أصبح أكثر استيعاباً للسنة من الرواية الشفهيّة أخذَ في النشوء في قلوب العلماء؛ ولذلك الْتَفَتُوا إلى التبويب، الذي الغرضُ منه التسهيل (9) ، وهي حاجةٌ ليست في ضرورة الحفظ من الضياع، ولذلك لم تكن لتبرز لولا ما سبق.

_ (1) وصلنا كتاب المناسك لابن أبي عروبة - قطعة منه - وطبعت. (2) وصلتنا قطعةٌ من كتاب الفرائض للثوري. (3) وصلنا كتاب التفسير للثوري، ولعبد الرزاق، وليحيى بن سلام. (4) وصلنا كتاب الزهد لابن المبارك ووكيع وأسد بن موسى. (5) وصلنا كتاب الجهاد لابن المبارك. (6) وصلنا كتاب القدر لعبد الله بن وهب. (7) 10) انظر صحائف الصحابة لأحمد الصويّان (239 - 252) . (8) 11) قيل إن مالكاً أول من بوّب (ذم الكلام للهروي 3/149 رقم 610) ، ولكن هناك من قيل إنه سبق مالكاً إلى ذلك. فانظر دراسات في الحديث للأعظمي (1/280، 306) . (9) 12) وهذا واضح، وهو ظاهر من تسمية كتاب مالك بـ (الموطأ) ، أي: المسهّل!

ويُلاحَظُ على هذه المصنّفات: عدمُ دقّة الترتيب الموضوعي، وعدم تمييزهم فيها بين الصحيح والضعيف، وجمعُهم فيها بين المرفوع والموقوف والمقطوع؛ إذ كُلّها تحتاج في عصرهم إلى الجمع. كما أنه يُلاحَظُ عليها: أنها ليست في ضخامة الكتب اللاحقة لها، وهذا كلّه أمرٌ طبيعي، فهي سمةٌ معروفة للمصنِّفين الأوائل والمصنّفات الأولى في كل فن. لكن في آخر هذا الجيل ابتدأت تظهر بعض الموسوعات الحديثيّة، ممّا يشهد لسرعة البناء خلال هذا الجيل، وإلى المبادرة إلى إتمام الجهود لدى علماء السنة فيه. ولا أدلّ على ذلك من كتاب (المصنّف) لعبد الرزاق الصنعاني. وفي آخر هذا الجيل ابتكر المحدّثون أسلوباً جديداً في التصنيف، لم يكن موجوداً في السابق. لقد نظر المحدّثون إلى تلك المدوّنات والمجاميع والمصنفات، فوجدوا أنها شملت جميع أنواع المنقولات، من المرفوعات والموقوفات والمقطوعات. ولاشك أن قسم الأخبار المرفوعة هو أهمّ الأقسام، وأولاها بالجمع، وأحراها بالخوف عليه من التفلُّت. فبادروا إلى أسلوب في التصنيف لا يضمّ إلا المرفوعات، وهو التصنيف على طريقة المسانيد. وهو أسلوب في التصنيف يدل على أن ابتكاره لم يكن إلا لغرض الجمع خشيةَ الضياع، لأن أسلوب ترتيبه ليس فيه تيسيرُ التصنيف على الأبواب، وإن كان فيه وَجْهٌ ضعيف من التيسير، وهو الترتيب على أسماء الرواة من الصحابة. قال بكر بن خلف: ((قال عبد الرحمن بن مهدي حين طلبوا المسند: ما أحسن هذا، إلا أني أخاف أن يحملهم هذا أن يكتبوا عن غير الثقات)) (1) . ألا ترى إلى قوله (طلبوا) التي تدلّ على استنفارٍ عامّ نحو هذا المنحى من التصنيف، والذي كان من قوّة الرغبة فيه إلى درجة أن خشي ابنُ مهدي أن يقود إلى شيءٍ من الشَّرَه في الرواية عن غير الثقات.

_ (1) المعرفة والتاريخ للفسوي (3/60) .

وقال الإمام أحمد في سياق انتقاده ليحيى بن عبد الحميد الحماني، الذي ادّعى أنه سمع من الإمام أحمد حديثاً مسنداً على باب ابن عُليّة: ((أي وقت التقينا على باب ابن علية؟ إنما كنا نتذاكر الفقه والأبواب، لم نكن تلك الأيام نتذاكر المسند)) (1) وابن علية توفي سنة (193هـ) ، فهذا يُبيّنُ أن العناية بالمسند إلى هذا العام أو قبله بقليل لم يكن ابتُدِئَ بالعناية به. ويقول الحافظ ابن حجر في تأريخه للتدوين:» إلى أن رأى بعضُ الأئمة أن يفرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصّة، وذلك على رأس المائتين. فصنّف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسنداً، وصنف مسدّد بن مسرهد البصري مسنداً، وصنف أسد بن موسى مسنداً، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسنداً. ثمّ اقتفى الأئمةُ بعد ذلك أثرهم، فقلَّ إمامٌ من الحفاظِ إلا وصنّف حديثه على المسانيد، كالإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة، وغيرهم من النبلاء، ومنهم من صنّف على الأبواب والمسانيد معاً كأبي بكر بن أبي شيبة)) (2) . وبهذا النشاط الهائل في الجمع والتدوين، تيسَّر للعلماء أن يواجهوا ذلك التشعّب الهائل للأسانيد، وأن يضبطوا اختلافَ الرواة في المتون والأسانيد، وهذا ما أعانهم على كمال النقد في هذه المرحلة.

_ (1) العلل (رقم 4077، 4078) والجرح والتعديل (9/169) . (2) هدي الساري (8) .

- لقد اكتملت ملامح النقد في هذه المرحلة، حيث تحقّقت أسبابه. حيث إن الميزان النقدي الحديثي يعتمد كل الاعتماد على الإحاطة البالغة بالمنقولات، وعلى استحضارها جُملةً عند نَقْدِ كل حديث. وهذا يستلزم أن تكون محفوظةً في الصدور، ولم يكن لذلك الحفظ أن يتمّ لولا جهود العلماء في الجمع والتدوين (1) . إن علاقةَ نقد السنة بالحفظ لها في الصدور، ذلك الحفظ المتقن المحيط الواسع، لا يخفى على من عرف حقيقة ذلك النقد وعُمْقَه، وشموليّةَ معياره النقدي، ودِقّةَ ذلك المعيار، الذي يصل إلى حدٍّ يُشبه فيه الكهانة عند غير أصحاب العلم به (2) . وقد أُتيح هذا الحفظُ الواسع لأئمة هذه المرحلة، فجاء نَقْدُهم بملامحَ واضحةٍ لصورته النهائيّة التامّة.

_ (1) وهذا الجمع والاستقصاء في حفظ السنّة. هو الذي جعل العلماء يَرَوْنَ أنَّ احتمال التفرُّدِ من الراوي بالسنّة يزدادُ ضَعْفُه كلّ ما امتدّ الزمن وبَعُدَ الجيل، حتى وصل الأمر إلى درجة ردّ المفاريد لمجرّد أنّها مفاريد من بعض حُفّاظِ صغارِ أتباع التابعين، وإلى ردِّها مطلقاً ممّن بعدهم. انظر: الموقظة للذهبي (77 - 78) . (2) وأقوال العلماء المتقدمين والمتأخرين أكثر من أن تُحصى في ذلك، ولمثل ذلك قال علي بن المديني:» الباب إذا لم تُجمع طرقه لم يتبيّن خطؤه « (الجامع للخطيب رقم 1701) ، وقال يحيى بن معين: ((لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه)) . وانظر الفصل الذي عقده الخطيب البغدادي بعنوان: ((أن المعرفة بالحديث ليست تلقيناً، وإنما هو علمٌ يُحدثه الله في القلب)) ، (الجامع لأخلاق الراوي: 2/382 - 385) . ولهذا قال الحافظ ابن حجر عن علم العلل في النزهة (92) : ((ولا يقوم به إلا من رزقه الله تعالى فهماً ثاقباً وحفظاً واسعاً ومعرفة تامّة بمراتب الرواة وملكةً قويّة بالأسانيد والمتون، ولهذا لم يتكلّم فيه إلا القليل من أهل هذا الشأن)) .

ويكفي في هذه العجالة أن أُذَكِّر بثلاثةٍ أئمةٍ من هذه المرحلة، بلغوا درجةً سامية في النقد، بل كانوا في الحقيقة أساتذة النقد في هذه المرحلة، وبعلمهم وجهودهم اكتمل النقد بعد ذلك الاكتمال النهائي. إنهم: شعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي. إنها مدرسة النقد البصريّة، ذات الفضل الكبير على النقد الحديثي كُلّه. قال يعقوب بن شيبة: ((قلت ليحيى بن معين: تعرف أحداً من التابعين كان ينتقي الرجال كما كان ابن سيرين ينتقيهم؟ فقال برأسه، أي: لا. (قال يعقوب:) وسمعتُ علي بن المديني يقول: كان ممّن ينظر في الحديث ويُفتّشُ عن الإسناد، لا نَعْلَمُ أحداً أوّلَ منه: محمد بن سيرين، ثم كان أيوب، وابن عون، ثم كان شعبة، ثم كان يحيى بن سعيد وعبد الرحمن. (قال يعقوب:) قلت لعليّ: فمالك بن أنس؟ فقال: أخبرني سفيان بن عيينة، قال: ما كان أشدَّ انتقاءَ مالكٍ للرجال)) (1) . لقد بلغت العناية بالنقد في هذه المرحلة، والاطمئنان إلى كمال النّقْل والرواية، إلى حدِّ تقديم النقد وتعلُّمه على الرواية!! يقول خلف بن سالم المخرِّمي: ((سمعتُ ابن عُليّة يقول: كُنّا نرى عند حميد (يعني الطويل) وسليمان (يعني التيمي) وابن عون الرجلَ والرجلين، فنأتي شعبة، فنرى الناسَ عليه. (قال خلف:) كان أصحابُ الحديث يريدون حُسْنَ المعرفةِ بالرجال وبمعرفة الحديث ... وهكذا، كان هذا المعنى بيِّناً في شعبة إن شاء الله)) (2) . ويصرِّح بذلك عبد الرحمن بن مهدي، فيقول: ((لأن أعرف عِلّة حديث واحد، أحبُّ إليّ من أن أستفيدَ عشرة أحاديث)) (3) .

_ (1) شرح علل الترمذي لابن رجب (1/52) . (2) تقدمة الجرح والتعديل (176) . (3) شرح علل الترمذي لابن رجب (1/199) .

ولهذه الجهود العظيمة في النقد، بات الاطمئنان على سلامة السنّة من تطرُّقِ الكذب إليها ثابتاً مستقرًّا في قلوب العلماء. حتى يأتي أحدُ الغيورين على السنة، فزعاً عليها من الأحاديث الموضوعة، إلى عبد الله بن المبارك، ليقول له في حيرةٍ ووجل: ((هذه الأحاديث المصنوعة؟!!!)) ، فيجيبه ابن المبارك ذلك الجواب المطمئن المسترخي، الذي يدل على عدم اكتراثٍ لذلك، قائلاً: ((يعيش لها الجهابذة)) (1) . ولم يَنْجُ من التشدّد في النقد والجُرْأةِ على إنكار مواضع الشك كبارُ الحفّاظ، فضلاً عمّن دونهم. حتى كانوا يصيحون بالحافظ إذا تفرّد بحديث حتى يتركه، وهو صادق في روايته ضابطٌ!! (2) . إنّه الاحتياط الذي لا يُغفل كُلَّ احتمالٍ للوهم والخطأ، وإن كان مستبعداً. يقول عبد الرحمن بن مهدي: ((خصلتان لا يستقيم فيهما حُسْنُ الظنّ: الحُكْمُ والحديث)) (3) . لقد انتهت هذه المرحلة، مؤذنةً ببداية أعظم عصور السنة، عصرِ الاكتمال والنضج النهائي. المرحلة الخامسة: وهي القرن الهجري الثالث.

_ (1) تقدمة الجرح والتعديل (3) . (2) انظر من قصص ذلك في الجامع للخطيب (رقم 1142 - 1146) . (3) الجرح والتعديل (2/35) ، والكفاية للخطيب (269) .

لقد دخل القرن الهجري الثالث بعد جهودٍ عظيمةٍ متتابعة من علماء الأُمّة في تدوين السنة وجمعها، وفي نَقْدها (تعليلاً وجرحاً وتعديلاً) ، وتلقّى تلك العلوم الجليلة بقوّة وإقبال منقطعي النظير. ولذلك فإن الحديث عن هذا القرن وعن جهوده في خدمة السنة لا تقوم بها مقالة، ولا أيّ بحث أو كتاب، بل هو حقيقٌ ببحوث وكُتُب!! إن كل إمامٍ من أئمة هذا القرن لهو بحدّ ذاته مدرسةٌ عظمى (وما أكثر الأئمة في هذا القرن!!!) يجب على الدارسين لعلوم السنة أن يقيموا البحوث والدراسات حول منهجه وأثره على علوم السنة. غير أني في هذا المقال سألمس بعض الجوانب التي تبرزُ في هذا القرن جهودَ علمائه في تكميل جهود علماء القرنين السابقين له، حتى بلغ علماء هذا القرن بعلم الحديث القمّة السامقة، التي لا يُمكن أن يزاد على منهجها في النقل والنقد. أمّا في مجال تدوين السنة، فهذا عصر أصول السنة العظام وأمهات المصنفات فيها، ففيه أُلّفت الكتب الستة وما يلتحق بها من مصادر السنة الأساسيّة. ولئن بدأ هذا القرن بالتصنيف على الطريقة السابقة، طريقة المسانيد والكتب الجامعة للأحاديث والآثار، كـ (المسند) لأحمد، وإسحاق، وابن أبي شيبة وابن أبي عمر العدني وغيرها (كما سبق عن الحافظ ابن حجر) ، وكمصنف ابن أبي شيبة، وسنن سعيد بن منصور. إلا أن منحى التكميل في هذه المصنفات يظهر من كونها أعظم شمولاً واتساعاً من الكتب السابقة على طريقتها في التصنيف؛ لأنه قُدِّر لمؤلّفيها أن يستفيدوا من الجهود السابقة، ليقوموا بتحقيق هدف الذين سبقوهم، وهو تقييد تلك الأحاديث والآثار خوفاً عليها من التفلّت وتيسيراً للباحثين عن السنّة عناءَ تجميع السنة من رواتها في أقطار الأرض، تلك المهمة الشاقّة التي استطاع غيرهم أن يسبقهم إلى أدائها والقيام بها.

وقد أدّت تلك الجوامع الكبار دَوْرها، وأثمرت ثمارها، وأينعت في منتصف هذا القرن، بأن ابتدأت أنظار العلماء تَلْتَفِتُ إلى شيءٍ آخر سوى الجمع، مما يشهد إلى أن الشعور بخوف ضياع شيءٍ من السنّة قد زال أو كاد، وهذا ما جعل العلماء يتّجهون إلى وجوهٍ جديدةٍ في خدمة تدوين السنّة، لا يقتصر في خدمته على مجرّد الجمع، بل يستثمر الجمع السابق للوصول إلى هدف آخر وغايةٍ أبعد. والخدمة المتوقّعة بعد ذلك الجمع الذي لم يَعْتَنِ بتمييز الصحيح من السقيم؛ لأن الذين قاموا به كانوا يعتبرون الجمع الموسَّع في تلك المرحلة هو الأولى بالتحقيق هو أن يُعتنى بتمييز الصحيح من السقيم، بل هذا هو الذي كان يجب أن يقوم به العلماء فعلاً بعد اكتمال الجمع؛ حيث إن هذا الجمع لن يؤدِّي هدفه الأخير بغير بيان ما يصلح منه للعمل والاحتجاج مما لا يصلح لذلك. وهذا ما سبق إليه الإمام البخاري، في كتابه (الصحيح) ، بإشارة من أحد شيوخه (أحد أصحاب الجوامع الكبار) وهو إسحاق بن راهويه (1) . إن مجرّدَ إقبال البخاري على مثل ذلك الإبداع، وفي كتابٍ يسمه بالمختصر ليدلّ على اتّضاح ملامح المرحلة التي تمرّ بها السنة عنده، وأنها قد أصبحت محتاجةً إلى مبادرة تقوم بتكميل جهود الجمع السابقة، بإخراج كتاب مختصر خاصٍّ بالأحاديث الصحيحة. ولاشك أن البخاري لم يكن ليفكّر بهذا العمل لو كان هاجس ضياع السنة مُسْتَولياً على تفكيره، بل لم يكن ليقدر عليه (حتى لو فكّر فيه) لو لم تقم الجهود السابقة بضرورة جمع السنة. ثم إن مسلماً تبع البخاريَّ في جمع كتاب مختصر في الصحيح، سائراً على خُطى شيخه في تحقيق الهدف نفسه. فإذا أردنا الانتقال إلى وجه آخر من وجوه التصنيف المستحدثة في منتصف هذا القرن، أقدِّمُ ذلك ببيان الوجه الجديد من الخدمة الذي كانت السنة محتاجةً إليه في هذه المرحلة، بعد جهود الجمع السابقة الكبيرة التي قامت بواجب حفظ السنة من الضياع.

_ (1) هدي الساري (8 - 9) .

لقد ذكرنا سابقاً أن أسلوب التصنيف على (المسانيد) راعَى حاجة المرفوعات خاصّة للحفظ من الضياع، لأن الأحاديث المرفوعة هي أولى الأخبار بالنقل والحفاظ عليها، بل هي أساس علوم السنّة وأصلها. فلمّا قام العلماء بجمعها، نظر بعضُ أهل العلم في هذه الأحاديث المرفوعة، هل فيها ما هو أولى من بعضها بمزيد عناية؟ ولاشك أن ما ارتبط به عمل منها أولى بالجمع ومحاولة تيسير الاطلاع عليه، ألا وهو أحاديث الأحكام التي تُسْتَنْبَطُ منها مسائل الفقه والحلال والحرام. وهذا ما جعل أسلوب التصنيف على منهج كتب (السنن) يبرز أيضاً في منتصف هذا القرن، متميّزاً بسعة مؤلفاته، وباقتصارها على الأحاديث المرفوعة، مرتّبةً على أبواب الفقه. وأوّل من بادر إلى هذا النوع الجديد من التصنيف هو أبو داود السجستاني في كتابه السنن، الذي قال عنه في (رسالته إلى أهل مكة) : ((ولا أعرف أحداً جمع على الاستقصاء غيري)) (1) . وقال أبو داود متحدّثاً عن موضوع كتابه:)) ولم أصنّف في كتاب السنن إلا الأحكامَ، ولم أصنف [فيه] كتب الزهد وفضائل الأعمال وغيرها، فهذه الأربعة آلاف والثمانمائة كُلّها في الأحكام. فأمّا أحاديث كثيرةٌ صحاحٌ في الزهد والفضائل وغيرها من غير هذا فلم أخرّجها (2) ((. ولم يقف مظهر إبداع كتاب السنن لأبي داود عند هذا الحدّ، ولم يكن جانبُ خدمته للمرحلة التي تمرّ بها السنة في زمنه منتهياً عند العناية بأحاديث الأحكام فقط، بل تجاوزَ ذلك إلى تحقيق حاجتين اثنتين: الأولى: العناية بإبراز ما كان حجّةً أو صالحاً للاحتجاج أو للاعتبار، والتنبيه على بعض ما احتجّ به بعضُ الفقهاء من الشديد الضعف (3) .

_ (1) رسالة أبي داود إلى أهل مكة (35) . (2) رسالة أبي داود إلى أهل مكة (54) . (3) رسالة أبي داود إلى أهل مكّة (37) .

إن هذا التمييز والانتقاء الراجعَ إلى درجة القبول أو الردّ، له من الدلالة على واقع المرحلة التي مَرّت بها السنة في هذه الفترة، كالدلالة التي استنبطناها من تصنيف البخاري لصحيحه. الثانية: لمّا كان غرضُ أبي داود الأكبر هو بيان أصلح الأحاديث للاحتجاج بها في مسائل الأحكام، وحيث إنه لم يسبقه أحدٌ إلى مثل استقصائه في جمع هذا النوع من الأحاديث، وحيث إن الأحاديث منها ما هو مشهورٌ تتابع الرواة على نقله وما هو غريبٌ تفرّد بروايته آحَادٌ منهم، وحيث إن المشهور هو الأقرب إلى الصحّة والأقوم بالحُجّة على الخصوم لذلك كُلّه خَصَّ أبو داود المشاهير من أحاديث الأحكام بالجمع دون الغرائب؛ لأنها هي الأولى بالجمع، لكونها الأقرب إلى صحّة الاحتجاج بها. يقول أبو داود في (رسالته إلى أهل مكة) : ((والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئاً من الحديث، إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس. والفخر أنها مشاهير ... )) (1) . فهنا يذكر أبو داود أنه تَعمَّدَ أن لا يعتني بالغرائب، مع أن الغرائب أشهى عند المحدّثين من المشاهير التي (هي عند كل من كتب شيئاً من الحديث) ؛ لأنّ جمعاً القَصْدُ منه إفادةُ الفقهاء ما يصلح للاحتجاج، وهو أوّلُ جمعٍ مُسْتَقْصٍ لا يليق به أن ينساق وراء شهوة الإغراب، بل يحق لمن عَمَدَ إلى مثل هذا الجمع لذلك الغرض أن يقول: ((والفخر أنها مشاهير)) . وفي عصر أبي داود صنّف الترمذي جامعه، وابن ماجه سننه، وبعدهما النسائي سننه الكبرى والصغرى، وغيرهم كثير.

_ (1) رسالة أبي داود إلى أهل مكّة (47) .

لقد استمرَّ التدوين في هذا القرن، حتى إنك لترى في أواخر هذا القرن بوادرَ تَرَفٍ علميّ في تدوين السنة، بِمِثْلِ التصنيف على منهج المشيخات (1) ، وهذا الترف العلمي يدل على أن التدوين لم يَعُدْ يلحظ خطراً على السنة من تَفَلُّتِ شيءٍ منها. ولن يصلَ علماءُ السنة إلى هذا الشعور، إلا إذا اكتمل تدوين السنة تماماً، وأصبحت كُتُبُ السنة أوعيةً شاملة لجميع الروايات المدوّنة والشفهيّة التي تناقلها الرواة خلال قرونِ السنة الثلاثة هذه، وأنه لم تعد هناك رواية شفهيّة غير مدوّنة. وهذا ما أرّخه الإمام الذهبي، حيث جعل رأس سنة ثلاثمائة الحدّ الفاصل بين أصحاب الروايات الشفهيّة ومَنْ بعدها مِمّن لا يروون إلا المدوّنات (2) . إننا في هذا القرن نصل مرحلة النهاية في باب التدوين، وهي نهايةٌ تناولت حفظَ السنة من الضياع، فلم يَعُدْ يُسمح لأحد أن يَدّعي وجود رواية شفهيّة لديه غير مزبورة في أحد الدواوين. - أما في باب النقد: فبعد أن قرّرنا نظريًّا أن اكتمال التدوين يعني بلوغ منهج النقد مرحلة الاكتمال أيضاً، فيبقى بيانُ ذلك واقعيًّا:

_ (1) تحدثتُ عن دلالة المشيخات على هذا المعنى في دراستي عن علم المشيخات في مقدّمة تحقيق أحاديث الشيوخ الثقات لأبي بكر الأنصاري (1/223 - 225) . (2) ميزان الاعتدال (1/4) . وقد تكلمتُ عن هذا التحديد في كتابي المنهج المقترح (52 - 55) ، واستدللتُ لصحّته بكلامٍ للحاكم والبيهقي، وأضف على ما هناك كلاماً آخر للحاكم في معرفة علوم للحديث (16 - 17) ، وفي المدخل إلى الإكليل (48) .

ولا أدل على حصول ذلك واقعاً لمنهج النقد خلال القرن الثالث، من أنّ النصف الأول من هذا القرن قد شهد فيه علم العلل (الذي هو معيار النقد) ثراءً بالغاً وتطوّراً عظيماً، على يد أمثال علي بن المديني، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل وغيرهم، وهذا ظاهرٌ من خلال ما جُمع عنهم وما ألّفوه في التعليل والجرح والتعديل. ثم على يد الطبقة التالية لهم، من أمثال: البخاري، ومسلم، والدارمي، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وغيرهم من أهل طبقتهم. يقول حاتم الرازي: ((كان يُحسن صحيحَ الحديث من سقيمه، وعنده تمييز ذلك، ويُحسنُ علل الحديث أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وبعدهم أبو زرعة، كان يحسن ذلك. (فقيل لأبي حاتم: فغير هؤلاء، تعرفُ اليوم أحداً؟) قال: لا)) (1) . ويقول أبو عبد الله بن منده في كتابه (شروط الأئمة) ، وهو يذكر حفّاظ السنة على مَرّ العصور من مختلف البلدان: ((ثم انتهى علمُ جميع من ذكرناهم من المتقدّمين إلى هؤلاء الأئمة، وهم: أحمد بن محمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبو بكر، وعثمان: ابنا أبي شيبة، وأبو خيثمة زهير بن حرب، ومحمد بن عبد الله بن نمير. ومن بعدهم: انتهى علم جميع من ذكرناهم من أهل الأمصار وأئمة البلدان إلى هؤلاء النفر، وهم أهل المعرفة والصحيح، وهم هؤلاء: محمد بن إسماعيل البخاري، والحسن بن علي الحُلْواني، ومحمد بن يحيى الذهلي، وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومسلم بن الحجاج، وأبو داود سليمان بن الأشعث وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي. فهؤلاء الطبقة المقبولة بالاتفاق، وبعلمهم يُحتجُّ على سائر الناس)) (2) .

_ (1) الجرح والتعديل (2/23) . وانظر كلاماً آخر لأبي حاتم يدل على نُدرة النقّاد من بين حفّاظ الحديث في تقدمة الجرح والتعديل (356) . (2) شروط الأئمة لابن منده (67 - 68) .

وهذا البيهقي، بعد أن ذكر أن السنة قد دُوّنت جميعُها قبل عصره، وأنه لا يُقبل من أحدٍ في زمنه ادّعاءُ رواية شفهيّة غير مدوّنة، وأن الأسانيد في زمنه لا يُقصد بها إثباتُ الخبر، وإنما يُقصد منها إبقاءُ خصيصة الإسناد لهذه الأمّة بعد هذا يقول: ((والذي ينبغي ذكره هاهنا: أن الحديث في الابتداء كانوا يأخذونه من لفظ المحدِّث حفظاً، ثم كتبه بعضهم احتياطاً، ثم قام بجمعه، ومعرفةِ رواته، والتمييز بين صحيحه وسقيمه جماعةٌ لم يَخْفَ عليهم إتقانُ المتقنين من رواته ولا خطأَ من أخطأ منهم في روايته، حتى لو زِيْدَ في حديثٍ حرفٌ، أو نُقِصَ منه شيءٌ، أو غُيِّرَ منه لفظٌ يُغَيِّرُ المعنى وقفوا عليه، وتَبَيَّنُوهُ، ودوّنوه في تواريخهم، حتى ترك أوائلُ هذه الأمةِ أوَاخرَها - بحمد الله - على الواضحة. فمن سلك في كل نوع من أنواع العلوم سبيلَهم، واقتدى بهم صار على بيّنةٍ من دينه)) (1) . والنُّقول في هذا الباب كثيرة (2) ، ونحن في الحقيقة مستغنون عنها بشاهد الوجود، وبعلم أولئك العلماء الحاضرِ بَيْنَ أيدينا، عن الاستدلال له بكلام شاهدٍ معاصرٍ أو قريبٍ من المعاصر (كالذين سبقوا) .

_ (1) مناقب الشافعي للبيهقي (2/321 - 322) . (2) لي بحث جمعتُ فيه عامّة هذه النقول، أرجو أن يخرج قريباً.

فإضافةً إلى ما سبق، فإنه لا أدلّ على بلوغ منهج نقد السنة درجةَ النضج الكامل خلال هذا القرن، من أنه القرن الذي شهد تأليفاً يُمثِّلُ خلاصةَ ذلك المنهج النقدي، ويجعلها حقيقةً مشاهدةً، وذلك بالتأليف في الحديث الصحيح المجرّد، على يدي الشيخين: البخاري ومسلم، حيث بلغ وضوحُ المنهج النقدي لديهما إلى الحدّ الذي اعتُبر معه كتاباهما قمةَ التصنيف الحديثي وقمةَ المنهج النقدي في معرفة الحديث الصحيح، الذي هو خلاصة وثمرة المنهج النقدي كُلِّه. أيستطيع أحدٌ أن ينسى أن الصحيحين أصحّ الكتب بعد كتاب الله تعالى؟!! هذا ما اتّفقت عليه الأُمّة، وأجمع عليه العلماء قديماً وحديثاً. وفي هذا الإجماع إجماعٌ من الأمّة على صحّة ذلك المنهج الذي سارَا عليه، بل في ذلك الاتفاق على كونهما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى اتّفاقٌ على أن منهجهما أصحّ المناهج على الإطلاق. نعم.. لقد خرجنا إذن بنقل الإجماع على أن منهج النقد في هذا القرن قد بلغ قمةَ التطوّر!!! وهذا غاية ما نريد!!! المرحلة السادسة: وهي القرن الرابع الهجري. لقد دخل القرن الرابع وهو يحمل إرثاً عظيماً وثقيلاً، لقد كان مِنْ قَدَرِ الله تعالى له أن يكون مرحلةَ ما بَعْدَ الاكتمال، وليس بعد الاكتمال إلا النقص. وهذه سنةٌ سبق الكلام عنها في تاريخنا النظري، فلا غرابة في حصولها. وقد أرّخَ لها بعضُ شهود العصر وغيرهم: فهذا ابن حبان (ت 354هـ) يقول في مقدّمة (المجروحين) : ((ولم يكن هذا العلم في زمانٍ قطُّ تعلُّمُه أوجب منه في زماننا هذا، لذهاب من كان يُحسن هذا الشأن، وقلَّةِ اشتغال طلبة العلم به؛ لأنّهم اشتغلوا في العلم في زماننا هذا، وصاروا حزبين: فمنهم طلبةُ الأخبار الذين يرحلون فيها إلى الأمصار، وأكثرُ هِمّتِهِم الكتابةُ والجَمْعُ، دون الحفظ والعلم به وتمييز الصحيح من السقيم، حتى سمّاهم العوامُّ حشويّة. والحزبُ الآخر: المتفقّهة ... )) (1) .

_ (1) المجروحين (1/11) .

وأرّخ لهذا النقص الإمام الخطابي (ت 388هـ) ، مشيراً إلى دخول علم الكلام على بعض المحدثين، كسبب من أسباب الخلل في عصره (1) . وعبّرَ عن ذلك كُلِّه شَاهِدُ عَصْرٍ ثالثٍ، وهو أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن ابن خَلاّد الرامهرمزي (ت 360هـ) ، فقال منشداً، مشيراً إلى نفسه: قُلْ لابن خَلاّدٍ إذا جئتَه …مُسْتَنِداً في المسجد الجامعِ هذا زمانٌ ليس يحظى به…حدثنا الأعمشُ عن نافعِ (2) ولشاهد عصر رابعٍ موقفٌ مؤثِّرٌ ومعبِّرٌ عن ذلك النقص، وهو أبو عبد الله ابن منده (ت 395هـ) ، فقد رُئيَ في سَفْرةٍ ومعه أربعون وِقْراً من الأحمال، فسُئل عنها، فقال: ((هذا متاعٌ قلَّ من يرغبُ فيه في هذا الزمان، هذا حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (3) .

_ (1) معالم السنن للخطابي (1/5 - 10) . (2) يتيمة الدهر للثعلبي (3/422) . (3) سير أعلام النبلاء (17/37) .

ومن الشهادات المهمّة لإمامٍ متأخّر، شهادةُ مجد الدين ابن الأثير (ت606هـ) ، حيث ذكر مراحل علوم السنة، إلى أن ذكر عَصْرَ البخاريِّ ومسلمٍ وكتابيهما في الصحيح، ثم قال: ((إلى أن انقرضَ ذلك العصرُ الذي كانا فيه حميداً عن جماعةٍ من الأئمة والعلماء، قد جمعوا وألّفوا: مِثْلِ أبي عيسى الترمذي، وأبي داود السجستاني، وأبي عبد الرحمن النسائي، رحمةُ الله عليهم، وغيرهم من العلماء الذين لا يُحصَوْن كثرة. وكأنّ ذلك العصر كان خُلاصةَ العصور في تحصيل هذا العلم، وإليه المنتهى. ثم من بعده نَقَصَ ذلك الطلبُ بَعْدُ، وقلَّ الحرصُ، وفَتَرَتْ الهِمَم. وكذلك كل نوع من أنواع العلوم والصنائع والدول وغيرها، فإنه يبتدئ قليلاً قليلاً، ولا يزال يَنْمِي ويزيد، ويعظم إلى أن يصل إلى غايةٍ هي مُنْتَهَاهُ، ويَبْلُغَ إلى أمدٍ هو أقصاه، ثم يعود. فكأنّ غايةَ هذا العلم انتهت إلى البخاري ومسلم ومن كان في عصرهما من علماء الحديث، ثم نزل وتقاصر إلى زماننا هذا، وسيزدادُ تقاصُراً والهممُ قصوراً، سُنّةَ الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا)) (1) . وأرّخَ لهذا النقص الإمام الذهبي في غير ما كتابٍ من كتبه (2) ، وقد كنتُ تحدّثت عن هذا النقص وأسبابه في كتابي (المنهج المقترح) . لكن سبق أن قلنا في التاريخ النظري لهذه المراحل: إن هذا النقص لم يكن هُوِيًّا سريعاً إلى القاع، بل كان نقصاً تدريجيًّا. ولذلك فإن المُتَصَوَّرَ هو أن يبقى في هذا القرن شيءٌ كثيرٌ من خصائص القرن السابق، وستثبت كثيرٌ من ملامح ازدهاره. وإن كان أوّلُه في ذلك أسعدَ حظًّا من آخره، وآخرُهُ لرُبّما كان آخرَ من نال حظًّا غالباً من هاتيك الخصائص والملامح!

_ (1) جامع الأصول (40 - 41) . (2) انظر تذكرة الحفاظ (2/627) ، وزغل العلم (32) .

ومن مظاهر هذا التدرّجِ في النقص، أنه لم يكن شاملاً لكل علماء السنّة خلال القرن الرابع. بل لم يزل في علماء السنة خلال القرن الرابع من هم امتدادٌ لعلماء القرن الثالث، دلّت على ذلك شواهدُ الوجود، من المؤلفات والمصنفات التي خلّفوها، في أصول العلم ومختلف فنونه (1) . ولا أدلّ على ذلك أيضاً من أنّ بعض من أرّخوا لذلك التناقص هم من أهل ذلك القرن، ومن أنّهم عرفوا مظاهر ذلك النقص، فلم يكتفوا بالتنزّه عنها، بل سعى بعضهم إلى مقاومتها. فهذا ابن حبان يعيب على طلبة السنة في زمنه عدمَ العناية بحفظ السنة، والاكتفاء بالجمع كتابة، ويعيب عليهم أيضاً عدم تمييز الصحيح من السقيم. ثم هاهو يؤلف كتابه (التقاسيم والأنواع) على ترتيبٍ لا ينتفع به إلا من حفظه، ويصرّح ابن حبان بهذا المقصد في مقدّمة كتابه (2) . وكتابه هذا خصّه بالصحيح المجرّد عنده، دالاًّ بذلك على أنه لم يخالف إلى ما نهى عنه من عدم تمييز الصحيح من السقيم. وهذا الإمام الدارقطني (ت 385هـ) ، الذي به خُتِمَ معرفة العلل (كما يقول الإمام الذهبي) (3) ، يتنزّه عن أحد أسباب تناقص علوم السنة في القرن الرابع، وهو العناية بعلم الكلام (4) ، فيقول: ((ما في الدنيا شيءٌ أبغضُ إليّ من الكلام)) (5) .

_ (1) تنبَّهَ إلى ذلك من قَبْلُ الدكتور أحمد محمد نور سيف في كتابه عنايةُ المحدثين بتوثيق المروّيات (9) ، حيث اعتبر القرن الرابع هو آخر قرنٍ شهد التصنيف في أصول السنة المهمّة، وأن مصنفاته ومصنفات القرون السابقة له هي عمدة من جاء بعدهم. (2) الإحسان (1/150 - 151) . (3) ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل للذهبي (209 رقم 501) . (4) تحدثت عن ذلك في المنهج المقترح (69 - 84) . (5) سؤالات السلمي للدارقطني (رقم 432) ، وأسنده من طريقه ابن طاهر المقدسي في أطراف الغرائب والأفراد (1/52) .

وهذا الإمام الرامهرمزي (ت 360هـ) يؤلف كتابه الأصيل (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) ، لغرض مقاومة مظاهر النقص في زمنه، التي كانت سبباً لتشنيع خصوم المحدثين عليهم (1) . وهذا الحاكم أبو عبد الله (ت 405هـ) ، الذي يكاد يمثِّلُ آخر ذلك الجيل، يؤلف كتابه الجليل (معرفة علوم الحديث) لهذا الغرض أيضاً، حيث يقول في مقدّمته: ((أما بعد: فإني لما رأيت البدع في زماننا كثرت، ومعرفة الناس بأصول السنن قَلّت، مع إمعانهم في كتابة الأخبار وكثرة طلبها على الإهمال والإغفال، دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف، يشتمل على ذكر أنواع علوم الحديث)) (2) .

_ (1) المحدث الفاصل (159 - 162) . (2) معرفة علوم الحديث للحاكم (1 - 2) .

إذن فذلك النقص في علوم السنّة خلال القرن الرابع لم يصل إلى درجة اندراس آثار ازدهاره في القرن الثالث، هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى: فهو لم يُفقد جميعَ علماء السنة في ذلك العصر شيئاً من أدوات الاجتهاد فيه، فلم يزل فيهم أئمةٌ مجتهدون في العلم به، ومن أهل النقد فيه: بتمييز صحيحه من سقيمه، وتعليل رواياته، وجرح وتعديل رواته (1) .

_ (1) ومع استمرار الجرح والتعديل بعد القرن الرابع، كما هو معروف، وكما قرّره السخاوي في كتابه الذي أقامه لهذا الغرض (الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ) ؛ إلا أن القاعدة التي ينطلق منها الجرحُ والتعديل في القرن الرابع وما قبله تختلف عنها في القرن الخامس فما بعده. ذلك أن الجرح والتعديل الصادر من علماء القرون الأربعة الأولى، وخاصة القرن الثالث فما قبله غالباً ما يعتمد على سبر المرويات لكل راوٍ، لكون الروايات كانت لم تزل تتلقى شفاهةً. أمّا القرن الخامس فما بعده، فعلى العكس من ذلك. ولذلك فإنك لو استعرضت تعديل علماء القرن الخامس لأهل عصرهم فإنه يعتمد على إثبات العدالة أو الستر فيها مع ثبوت أحقّية رواياته لما يروي من الدواوين، وصحّة نُسَخِهِ منها. وأمّا الجرح فيعتمد إما على انعدام العدالة وظهور الفسق، أو على خطأ أو كذب دعوى روايته لتلك الدواوين، أو على سوء نُسَخِه منها. ومن هذا يظهر لك الفرق جليًّا بين ما يتطلّبه الجرح والتعديل في القرون الأربعة الأولى من اكتمال آلات الاجتهاد، وما يكفي فيه خلال القرون التالية، من العلم بظواهر لا تحتاج إلى حفظٍ، بل لا تحتاج أكثر من مُشاهدة دواعي القبول أو الردّ بأمّ العين، أو نقلها عمن شاهدها. وانظر الدراسة الماتعة المفيدة في بيان منهج توثيق المرويّات بعد اكتمال التدوين، في كتاب: عناية المحدّثين بتوثيق المرويات للدكتور أحمد محمد نور سيف، وانظر خاصّةً (ص8 - 10) .

ومع ما ذكرناه آنفاً من أن تدرّج النقص، الذي هو سنةٌ لا تتخلّف في مثل هذه الأمور عادةً، يُلْزِمُ بأن لا نتصوَّرَهُ نقصاً يقضي على ملامح ازدهاره السابقة فجْأةً، وأنه لابُدّ من حفاظِه على كثيرٍ من خصائص العصر الذهبيّ للسنّة فإننا سَنُعَزِّزُ هذا المعنى من وَجْهٍ آخر. فقد سبق أن قرّرنا بأن علماء الأمّة كانوا ينتقلون بالسنة من مرحلةٍ إلى مرحلة حَسَبَ ما كانت تبدو لهم حاجاتُ السنّة في عصرهم، وما هي مجالات خدمتها الضروريّة التي يجب أن يُبَادَرَ إلى القيام بها، وما هي الأخطار التي يُخشى على السنة منها في زمنهم ليُسارعوا إلى دَفْعِها. وفي القرن الرابع: لاشك أن دواعي نقص حفظ الصدور قد ازدادت، بتدوين السنة كُلّها، مما يجعل الاعتماد على المكتوب أيسر وأقرب. كما أن زيادة طول الأسانيد وتشعُّبِها واختلافِ رواتها قد أدّى إلى تعسُّرِ الحفظ أيضاً. فاجتمع لنقص حفظ الصدور سببان: الاطمئنانُ على السنة بعدم ضياع شيءٍ منها، وصعوبةُ حفظها مع امتداد زمن الرواية. ولذلك فقد كان عدمُ الحفظ في الصدور هو الخَلَلَ الذي نصّ عليه ابن حبان، مما أرّخ لظهوره في طلبة العلم في زمنه. ومع وجود هذا الخلل (نقصُ حفظ الصدور) إلاّ أنه لم يشمل أئمةَ النقد في هذا العصر، مع أنهم هُمْ أنفسهم واقعون تحت ضغط سَبَبَيْ نقص الحفظ الآنفَيْنِ. ذلك أن أئمة النقد هؤلاء قد عرفوا أن السنّة لم تزل في حاجةٍ إلى خدمة ضروريّة، تتمِّمُ خدمةَ علماء القرون السابقة، وهذه الخدمة لا يقوم بها إلا من اكتملت فيه آلات الاجتهاد في علوم الحديث، والتي من أهمِّها إحاطةُ حفظ الصدور بالمرويّات. ولذلك فقد استطاعوا أن يُقَاوموا سببَ نقصِ الحفظ، وأن يستمرّوا على نهج أسلافهم من أهل القرن الثالث فيه، بل أن يحاولوا مقاومةَ تلك الظاهرة في أهل جيلهم، كما سبق عن ابن حبان.

والاستدلالُ لصحّة هذا التقرير يحتاج إلى بيان ما هي تلك الضروريّات من وجوه الخدمة التي تستلزم الحفظَ الكاملَ في الصدور، وكانت هي سبب اكتمالِ آلاتِ الاجتهاد في أئمة النقد خلال القرن الرابع. - ففي مجال تدوين السنة، الذي قرّرنا أنه قد اكتمل في القرن الثالث، لم يزل هناك مجالٌ لخدمته خدمةً مهمّة، وهي خدمةٌ لا يستطيع أن يقوم بها إلا الحفّاظ الكبار أصحاب الاطلاع الكامل على السنة وأسانيدها. ذلك أن اكتمال تدوين السنة في مصنّفات متفرّقة ومدوّنات متعدّدةٍ كثيرة غير كافٍ وحده لتيسير الاطّلاع على تلك البحار المتلاطمة من الأسانيد والروايات، خاصةً تلك الأسانيد الغرائب والأحاديث الأفراد، التي هي ليست من الشهرة بحيث تتكرّر في كثير من المصنّفات، ليضمن الباحثُ بسبب شهرتها أنه سيطّلع عليها حتى لو فاته الوقوفُ على بعض مصنفات السنة، إذ إن بعضَ المصنفات سيكفي في تلك المشاهير عن بعضها الآخر. أمّا تلك الغرائب والأفراد، فيُخشى عليها (لقلّة انتشارها في المصنّفات) أن لا يَطّلعَ عليها المحتاجُ إليها، وأن يفوته الوقوفُ عليها في بعض ما لم ينظر فيه من مصنفات السنة الكثيرة. ولهذا.. فإن اعتبارَ أبي داود أن الفخر في أحاديث كتابه أنها مشاهير، لأنّها كانت أولى ما يجب أن يُدوّنَ ويُجْمع في زمنه، لم يَعُدْ هو الفخر بعد أن دُوّنت تلك المشاهير. بل الفخر هو أن تُدَوّن الغرائب، لتتمَّ خدمة السنة، بضمّ الغرائب إلى المشاهير! وهذا هو ما يُفسِّرُ ذلك الاهتمام البالغ لدى عموم حفّاظ القرن الرابع بهذا الصنّف من الروايات: الروايات الغرائب، التي هي مع العوالي (1) مادّةُ كتب الفوائد والأمالي التي انتشرت انتشاراً واسعاً في هذا القرن.

_ (1) تحدثتُ عن سبب العناية بالعوالي في هذه المرحلة، في دراستي لكتاب أحاديث الشيوخ الثقات لأبي بكر الأنصاري، في مقدّمة تحقيقه (1/227 - 229) .

بل لقد قامت مؤلّفاتٌ ضخام لجمع تلك الغرائب، مثل: المعجم الأوسط للطبراني (ت 360هـ) ، والغرائب والأفراد للدارقطني (ت 385هـ) ، وهما أكبر كتب الغرائب وأجلّها مطلقاً. بل حتى من عَمَدَ إلى التأليف على منهج كتب السنن، أي في جمع أحاديث الأحكام، لم يَعْمَد إلى جمع المشاهير كما فعل أبو داود، وإنّما عمد إلى جمع غرائب أحاديث الأحكام، كما فعل الإمام الدارقطني، في كتابه الجليل (السنن) (1) . وكأنه بذلك يُتمّمُ عمل أبي داود، ويؤلف كتاباً في الزوائد عليه (2) . إن حاجة السنة إلى إبراز الأسانيد الغرائب؛ لما لها من علاقة كبيرة في التعليل والجرح والتعديل، ولأنّ منها ما هو صحيح مقبول أيضاً (وإن كان أكثرها ليس كذلك) هذا هو الذي جعل علماء هذه المرحلة يسعون إلى القيام بهذه المهمة الشاقّة. لكن الحكم بالغرابةِ والتفرُّدِ ليس أمراً مقدوراً عليه لعموم المحدّثين، فضلاً عمّن سواهم، بل هو من خصائص كبار حُفّاظ السنّة؛ لأنّ الحكم بالغرابة يتضمّن دعوى الاطلاع على السنة جميعها، فلا يقوم به إلا من كان أهلاً لمثل هذه الدعوى. ولذلك قال محمد بن طاهر المقدسي (ت 507هـ) في مقدّمة كتابه: أطراف الغرائب والأفراد للدارقطني: ((وأمّا الغريب والأفراد فلا يُمكن الكلام عليها لكل أحد من الناس، إلا من برع في صنعة الحديث)) (3)

_ (1) انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (27/166) ، والسنة النبويّة وبيانُ مدلولها الشرعي والتعريف بحال سنن الدارقطني: لعبد الفتاح أبي غُدّة (25 - 40) . (2) ولذلك فقد عرف البيهقي عندما أراد أن يُصنّفَ في السنن: ماذا عليه أن يعمل؟ فقد أفرغ هذين الكتابين (سنن أبي داود وسنن الدارقطني) في كتابه، نقلاً مباشراً غالباً، وغير مباشر. وانظر الصناعة الحديثيّة في السنن الكبرى للدكتور نجم عبد الرحمن خلف (149، 150، 166 - 167) . (3) أطراف الغرائب والأفراد لابن طاهر (1/44) . وقد أشار ابن طاهر في هذا الموطن إلى ما ذكرناه آنفاً في الأصل، من أن التأليف في الغرائب جاء متمّماً لجهود السابقين، حيث قال عن كتابه وكتاب أبي مسعود الدمشقي في أطراف الصحيحين: ((فمن جمع هذين الكتابين أمكنه الكلامُ عن أكثر الصحيح والغريب والأفراد)) .

وهذه الحاجة المُلْجِئةُ إلى استمرار حفظ الصدور، للقيام بهذه الخدمة للسنة، كانت إحدى دواعي استمرار ذلك الحفظ، الذي هو آلة الاجتهاد المطلق في نَقْدِ الحديث. ولنَقْصِ هذه الآلة عند المتأخّرين منع ابنُ الصلاح المتأخرين من الاستقلال بالحكم على الحديث بالضعف، لمجرّد ضعف السند، لاحتمال وجود متابعةٍ لم يقفوا عليها؛ إلا إنْ حَكَمَ أحدُ أئمة الحديث بغرابة ذلك السند (1) . بل يُصرّح السيوطي بالمسألة نصًّا عليها، فيقول متحدّثاً عن المتأخرين: ((وينبغي التوقُّفُ عن الحكم بالفرديّة والغرابة؛ لاحتمالِ طريقٍ آخر لم يقف عليه، وعن العِزّة أكثر؛ لضيق شرطها)) (2) . إذن فحاجة تمييز الغرائب، التي لا يقوم بها إلا حُفّاظ الصدور الحفظَ الواسع كانت هي إحدى أسباب استمرار علماء القرن الرابع على أن تبقى آلةُ الاجتهادِ في الحديث مكتملةً فيهم. - وفي مجال نقد الحديث: لئن ورث هذا القرنُ منهجاً مكتملاً في النقد، إلا أن هذا المنهج المكتمل في القرن الثالث، لم توجد مصنّفاتٌ تستوعبُ كُلّ أحكامه على الأحاديث والرواة. فمثلاً: قمةُ المنهج النقدي، التي هي تمييز الصحيح من السقيم، هل استوعبت جميعَ الأحاديث الصحيحة في مدوّنات القرن الثالث؟ لاشكَّ أنها ليست كذلك. وليس أدلّ على ذلك ممّا جاء في اسم كتابي البخاري ومسلم، وهما أجلّ ما أُلف في الصحيح خلال القرن الثالث، من تسميتهما بـ (المختصر) (3)

_ (1) علوم الحديث لابن الصلاح (102 - 103) ، ووازنه بما في النكت لابن حجر (2/887) . (2) البحر الذي زخر للسيوطي (2/876) ، ونحوه في تدريب الراوي (1/163) . (3) وهذه مسألة مشهورة في كتب علوم الحديث، في مباحث الحديث الصحيح. فانظر: علوم الحديث لابن الصلاح (19 - 22) . ومن اللطيف في هذا السياق، أن ابن خزيمة يُسمِّي كتابه الصحيح (مختصر المختصر) !!! انظر: العنوان الصحيح للكتاب (66) ، مضيفاً إليه ما جاء في الإرشاد للخليلي (3/832) ، وثبت الضياء (71) ، وسير أعلام النبلاء (14/382) .

إذن فهناك أمرٌ ضروريٌّ يجبُ أن يقومَ به علماءُ القرن الرابع، وهو تكميلُ جهود السابقين في تجريد الحديث الصحيح، بعد كتابي البخاري ومسلم. وكما سبق، فإن الحكم على الحديث بالصحّة (1) هو في الحقيقة قمّةُ الميزان النقدي، وخلاصةُ العلمِ به وبجميع فنونه. ولذلك فهو حقٌّ موقوفٌ على أهل الاجتهاد المطلق في الحديث، لا يُمكن لغيرهم أن يقتربوا من هذه الغاية. وقد عرفنا أن حفظَ الصدور الحفظَ المحيطَ هو أوّل آلات الاجتهاد المطلق في السنّة، وما دام الاجتهادُ المطلق هو الذي سيتيحُ لعلماء القرن الرابع أن يقوموا بذلك الواجب الضروري، وهو تجريد الصحيح فلن يعجزوا عن بلوغ هذه الرتبة، ولن يتأخروا عن طلب تحصيلها، ليؤدُّوا الأمانةَ التي في أعناقهم للأمة من بعدهم. وقد صرَّح ابنُ حبان بهذه الخدمة الضروريّة في زمنه، وبالداء الذي ظهر في بعض طلبة الحديث في زمنه ممّا لا يُمكنّهم من القيام بتلك الخدمة، ألا وهو عدمُ الحفظ والعلم (2) ، عندما قال عن طلبة الحديث: ((فمنهم طلبةُ الأخبار الذين يرحلون فيها إلى الأمصار، وأكثر هِمّتهم الكتابةُ والجمع، دون الحفظِ والعلمِ به وتمييزِ الصحيح من السقيم)) (3) .

_ (1) أي الحكم على الحديث بإسناده ومتنه، الذي يتضمّن دعوى نفي الشذوذ والعِلّة. (2) كأنه يقصد بالعلم به: فِقْهُ علله والفهم الثاقب في عموم فنون علم الحديث. (3) المجروحين (1/9) .

وها هو ابن حبان يكون أحد من يؤلف في الصحيح، واضعاً نُصْبَ عينيه الحرصَ على زيادة عدد الصحيح (1) ، ومرتّباً لكتابه على طريقةٍ لا ينتفع بها إلا من حفظه (كما سبق) ، ليقاومَ (من جهة أخرى) ذلك الخلل في منهج التعلُّمِ في زمنه (2) . بل هذا الحاكم، يَقْصدُ إلى هذا الغرض صراحةً، عندما يؤلف كتابه (المستدرك على الصحيحين) . إذن فحاجة السنة إلى تمييز الصحيح، كانت سبباً آخر في استمرار اكتمالِ آلة الاجتهاد عند علماء القرن الرابع. ومن هذه الحاجة إلى حاجة أخرى، لا تَقِلُّ في ضروريّتها عن تمييز الصحيح، ولا في كونها حقًّا موقوفاً على أهل الاجتهاد المطلق، وهي: بيان علل الأحاديث. ولا أظنني في حاجةٍ إلى التأكيد على أن علم العلل هو كهانةُ علم الحديث عند الجُهّال أمثالنا، وأنَّى لي أن أحتاج إلى ذلك مع تقرير عامّة المتأخرين لذلك. وإن علماً هذه مكانته، لاشك أن أوّل آلات الاجتهاد فيه هي الحفظ الواسع. وبَعْدُ.. فهل هناك من شك أن أجلّ ما بلغنا من كتب العلل هو كتاب العلل للدارقطني (ت 385هـ) . يقول الحُميدي (ت 488هـ) : ((ثلاثةُ كتبٍ من علوم الحديث يجب التّهمُّمُ بها: كتاب العلل، وأحسن كتابٍ وُضع فيه كتاب الدارقطني)) (3) .

_ (1) يتّضح ذلك من كثرة زوائده على الصحيحين، حيث بلغت أكثر (2600) حديث. كما يتضح من نَقْده المبطَّن للبخاري بتركه حديث جماعةٍ من الثقات في صحيحه (الإحسان 1/152-154) ، فكأنه يقول: إن ترك البخاري لحديث هؤلاء احتياطاً، لم يعد مقصداً مقبولاً عند من أراد أن يعرف الحديث الصحيح على التحقيق.. لا على الاحتياط! (2) فجاء المتأخّرون، بعد انتهاء ضرورة الحفظ التي كانت في زمن ابن حبان، فرتّبوا كتابه، ليسهل تناوله!! كما فعل ابنُ بَلَبَان الفارسي في (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) . (3) الإعلان بالتوبيخ للسخاوي (161) .

وقال ابن كثير، بعد أن ذكر عدداً من كتب العلل:» وقد جمع أزمّة ما ذكرناه كُلَّه الحافظ الكبير أبو الحسن الدارقطني في كتابه في ذلك، وهو من أجلّ كتاب، بل أجلّ ما رأيناه وُضع في هذا الفنّ، لم يُسبق إلى مثله، وقد أعجز من يُريد أن يأتي بشكله، فرحمه الله وأكرمَ مثواه)) (1) . والعجبُ الذي لا ينتهي أن الدارقطني أملى هذا الكتابَ حفظاً (2) !!! ولذلك حُقّ للذهبي أن يقول، بعد ذكره إملاءَ الدارقطني لكتاب العلل:» فمن أراد أن يعرف قَدْرَ ذلك، فَلْيُطالعْ كتاب العلل للدارقطني، ليعرفَ كيف كان الحُفّاظ؟!)) (3) . وقال في موطن آخر: ((إن كان كتاب العلل الموجود قد أملاه الدارقطني من حفظه، كما دلّت عليه هذه الحكاية، فهذا أمرٌ عظيم، يُقضى به للدارقطني أنه أحفظ أهل الدنيا ... )) (4) . فمن يستطيع بعد ذلك أن يدّعي أنّ الدارقطني ليس من أهل الاجتهاد المطلق في علوم الحديث؟!! ومن يستطيع بعده أن يظن بأن القرن الرابع لم يكن من عصور أهل النقد والاصطلاح الحديثي، الذين هم أهل الفنّ مِمّن يُحْتكمُ إليهم؟!! ولا أنسى في غمرة هذه الحُجَج الباهرة، أن أُذَكِّرَ بعالمٍ آخر، يكفي أن أُسمِّيَهُ وكتابَهُ، لِنَضُمَّهُ إلى أهل الاجتهاد المطلق في علم الحديث خلال القرن الرابع. ألا وهو أبو أحمد ابن عدي (ت 365) ، وكتابه (الكامل في ضعفاء المحدثين وعلل الحديث) .

_ (1) اختصار علوم الحديث - مع الباعث الحثيث - (1/198) . (2) هذا أمرٌ ثابت لاشك فيه، فقد ذكره الخطيب في تاريخ بغداد (12/37 - 38) ، عن شيخه البرقاني، الذي كتب إملاءَ الدارقطني عليه بكتاب العلل، ضمن قصّةٍ لا تحتمل التأويل أو الخطأ. (3) تاريخ الإسلام للذهبي - حوادث: 381هـ - 400هـ - (103) . (4) سير أعلام النبلاء (16/455) . وقد كاد الذهبي أن يشك في القصّة، من هَوْل ما دلّت عليه.

ولقد كان يكفي لبيان أن القرن الرابع من عصور أهل الاصطلاح والنقد الحديثي أن أُسمّيَ أولئك النقادَ فقط! (1) وبذلك نخلص إلى أنّ اكتمال تدوين السنة واكتمال منهجها النقدي في القرن الثالث، لا يعني انقضاءَ زمنِ أئمةِ الاجتهاد المطلق فيه، بل لقد استمرَّ ذلك خلال القرن الرابع. فقد بيّنّا ذلك واقعاً، واستدلالاً لسبب وقوعه. المرحلة السابعة: وهي القرن الخامس فما بعده. لقد انتهينا آنفاً إلى أن علوم السنة ابتدأت في التناقص مع نهاية القرن الثالث وبداية الرابع، وحيث إن هذا التناقص كان تدريجيًّا، وحيث إنه لم تزل هناك مَنَاحٍ لخدمة السنة لا يقوم بها إلا من اكتملت فيه آلات الاجتهاد المطلق فقد استمرّ هذا القرن مستمسكاً بخصائص القرن السابق له، ولذلك فقد كان من علماء القرن الرابع من كانوا أهلَ اجتهاد مطلق، وألّفوا في أصول العلم وفروعه مصنفاتٍ هي عمدةٌ في بابها لمن أراد أن يتعلّم علومَ السنة. لكن ذلك التناقص في علم السنّة الذي ابتدأ من أول القرن الرابع متدرّجاً، لم يصل إلى بداية القرن الخامس حتى اتّضحت ملامحه، وقويت أسبابه، وانتشرت دائرةُ أثره، فلم يكد ينجو منه أحد. وهذه هي سُنّة العلوم، كما هو معلوم.

_ (1) وهذا ما كنت فعلته في المنهج المقترح (61 - 62) .

فلقد بدأ القرن الخامس وقد بَلَغَ طولُ الأسانيد وتشعُّبُها واختلافُ رواتها مبلغاً هائلاً، ووافق ذلك أن السنّة كُلّها قد دُوِّنت قبل القرن الخامس بقرنٍ من الزمان، ثمّ جاءت مصنّفات القرن الرابع لتقرّبَ قَصِيّ السنّة وتُيَسِّرَ عسيرها، وانضاف إلى ذلك أن أحكام أئمة النقد خلال القرن الرابع فما قبله كانت من الثراء والضخامة إلى درجة الإشعار بالكفاية والغَنَاء (1) فكيف لا يتناقص الحفظ للسنّة في هذا القرن ذلك النقصَ الكبير؟!! بعد وجود أسبابه على أكمل صورة!! وقد علمنا أن حفظَ الصدور لأسانيد السنّة واختلافِ طرقها هو أوّل أدوات الاجتهاد المطلق في السنّة، فإذا لم يتحقق ذلك الحفظ الواسع عند أحدٍ من أهل العلم أو في أهل جيل منهم، لم يكن أولئك العلماء من أهل الاجتهاد المطلق فيه. وبناءً على هذا التقرير فإن القرن الخامس ليس من عصور أهل الاجتهاد المطلق في السنة، هذا ما يُمليه علينا التاريخ العلمي للسنّة وعلومها، دون مزايدةٍ على مسألة إجلال أهل العلم ومعرفة أقدارهم.

_ (1) صَرّح عالمان متأخران أنه لا داعي لحفظ الأسانيد؛ لأن الغرض من حفظها تمييز الصحيح من السقيم، وقد كفانا العلماء السابقون مؤونة ذلك. وهذان العالمان هما: مجد الدين ابن الأثير (ت 606هـ) في مقدّمة جامع الأصول (1/53 - 54) ، وأبو شامة المقدسي (ت 665هـ) في كتابه شرح الحديث المقتفى (46) .

ونحن نسأل من يأبى إلا المزايدة على تلك المسألة: هل استمرّ الاجتهاد المطلق في علوم السنّة إلى اليوم؟ أم انتهى عند عصر من العصور. فإن قال إنه مُستمرٌّ إلى اليوم، سألناه عن آلات الاجتهاد المطلق، وهل تحقّقت في أحدٍ من أهل هذا العصر، بل فيمن قبلهم بقرون؟!!! وإن قال إنه ينتهي في العصر الفلاني أو الفلاني، قلنا له: ولمَ لا يكون قبله أو بعده؟ أرّخْ لنا علوم السنة مبيّناً لنا كيف قُلتَ بهذا القول، ثمّ يُمكن لغيرك أن يرفع عليك عصاً كنتَ قد رفعتها على من سواك، هي المزايدة على إجلال العلماء وتقديرهم ممّن جاؤوا بعد العصر الذي اخترته. إن اعتبار علماء القرن الخامس ممن نقصت فيهم أهليّة الاجتهاد في علوم السنة عن درجة الاجتهاد المطلق ليس رأياً مبتدعاً، ولا هو بالقول العريّ عن الدليل، فقد سبق الاستدلال له، وسيأتي مزيد تقرير له. وأمّا كونه ليس رأياً مبتدعاً، فقد سبق إليه عالمٌ كبير، حيث ذكر رأيه في هذه المسألة، واختلفت فُهُوم العلماء لها. أعني ابن الصلاح (رحمه الله) ورأيه في مسألة التصحيح والتضعيف لأهل الأعصار المتأخّرة. ولن أدخل غمار هذه المسألة هنا، ولكني أريد أن أقرّر تقسيم ابن الصلاح كما يراه هو. فلقد قسّم ابن الصلاح العلماء إلى قسمين مختلفي الأعصار: فعلماء الأعصار الأولى هم الذين يحق لهم الاستقلال بالحكم على الأحاديث (أسانيد ومتوناً) ؛ لاكتمال آلة الاجتهاد فيهم. وعلماء الأمصار المتأخّرة هم الذين لا يحق لهم ذلك الاستقلال بالحكم؛ لنقص أهليتهم عن هذه الرتبة (1) . ولا أُريد هنا مناقشة هذا الرأي، تأييداً أو ردًّا، ولكني أريد أن أستثمره في معرفة الحدّ الذي اعتبره ابن الصلاح بداية الأعصار المتأخّرة التي لا يحق لعلمائها الاستقلال بالحكم على الحديث لنقص أهليّتهم.

_ (1) علوم الحديث لابن الصلاح (16 - 17، 102 - 103) .

وقد كتبتُ بحثاً في ذلك، وهو في طوره للنشر. لكني أختصره هنا ذاكراً نتيجة ذلك البحث ودليلَه بإيجاز. لقد ذهب ابن الصلاح إلى أن القرن الرابع فما قبله هو من عصور أهل الاجتهاد المطلق، وأمّا القرن الخامس فهو من العصور المتأخّرة التي نقصت أهليّة علمائه عن بلوغ تلك الرتبة. والدليل على أن ابن الصلاح قد حدّد هذا التحديد أمران: الأول: أن ابن الصلاح لمّا ذكر العلماءَ الذين يُعتمد على أحكامهم في التصحيح، ذكر علماء من القرن الثالث والرابع، فكان ممن ذكرهم من القرن الرابع: ابن حبان (ت 354هـ) ، والدارقطني (ت 385هـ) ، وجاء آخرهم الحاكم (ت 405هـ) (1) . ولم يذكر ابنُ الصلاح أحداً بعد الحاكم، بل كان ذِكْرُهُ للحاكم وانتقاده له بالتساهل في التصحيح يدل على أنه عنده يمثِّلُ آخر المرحلة التي هو منها، وكأنّه آخر الموجة التي تكسّرت على أسوار القرن الخامس الهجري! الدليل الثاني: أنّ ابن الصلاح ربط هذا التقسيم وعَلّله بتحقُّقِ صفات، هي تدوين السنّة الذي أدّى إلى نقص الحفظ، ذلك التدوين الذي لم يُبْقِ لأسانيد المتأخرين إلى دواوين السنّة دوراً في إثبات النقل، وإنما هي رمزٌ وخصيصةٌ للأمّة المحمّديّة، يُحرص على أن لا تزول. ولذلك فإنه يُتساهَل مع رواة الأعصار المتأخّرة، اكتفاءً منهم بحفظ تلك الخصيصة الإسناديّة (2) . وبذلك يعتبر ابنُ الصلاح أن العصر الذي تتحقق فيه تلك الصفات هو عصر عدم الاستقلال بالحكم على الحديث؛ لنقص أهليّة علمائه عن ذلك. وبعد أن قرّر ابنُ الصلاح هذا الأمر، أورد كلاماً للبيهقي (ت458هـ) ، يذكر فيه البيهقي أن عصره قد تحقّقت فيه تلك الصفات (3) .

_ (1) علوم الحديث لابن الصلاح (21 - 22) . (2) علوم الحديث لابن الصلاح (16 - 17، 120 - 121) . (3) علوم الحديث لابن الصلاح (121) ، وكلام البيهقي الذي نقله ابن الصلاح موجود في مناقب الشافعي للبيهقي (2/321 - 322) .

إذن فعصر البيهقي، والبيهقي نفسه، ليس من أهل الاستقلال بالحكم على الحديث عند ابن الصلاح، لعدم كمال الأهليّة. ولا يُمكن أن يكون ابن الصلاح قد أخرج القرن الرابع إلى هذا الحدّ الممنوع أصحابُهُ عن الاستقلال بالحكم على الحديث؛ لأنّه صرّح بقبول ذلك الاستقلال من بعض أعيانه، كما سبق. والبيهقي عَلَمٌ من أعلام النصف الأول من القرن الخامس. والنتيجة: هي ما سبق أن ذكرناه، من أن القرن الخامس عند ابن الصلاح ليس من عصور علماء الاجتهاد المطلق في السنة!! وبذلك يتّضح أن ذلك الحدّ الذي تبنّيتُه ليس حدًّا مبتدعاً، فهو قولٌ لإمام معتبر، والدليل يؤيّده، ولا أعرف لغيره دليلاً!! وتالله إن الأمر ليس في حاجةٍ إلى استدلالٍ له بالسبق إليه من عالم، بعد ذلك التوضيح التاريخي! ثم ألا يكفي اعتراف أهل القرن الخامس أنّهم ليسوا سوى متّبعين لعلماء السنّة الأول، مترجمين لمعاني مصطلحاتهم في علمهم، ومقرّرين لقواعده عندهم!! وقد سبق كلامُ البيهقي في ذلك، الذي يقول في آخره: ((حتى ترك أوائلُ هذه الأمّة أواخرها - بحمد الله - على الواضحة، فمن سلك في كل نوع من أنواع العلوم سبيلهم، واقتدى بهم صار على بيّنةٍ من دينه)) (1) . ويصرّح الخطيب بذلك في مقدّمة كتابه (الكفاية) (2) ، ويرثي علم الحديث في عصره في كتابه (الجامع) ، ويقول خلال ذلك عن علماء الحديث: وقد كنّا نعدهم قليلا……فقد صاروا أقل من القليل (3) أمّا بعد القرن الخامس: فالأمر فيه واضحٌ، والاستدلال له أكثر من أن يستوعبه هذا المقال المختصر. لكني أكتفي بنقل كلامٍ لعالمين كبيرين، أحدهما من القرن السادس، والثاني من القرن الثامن.

_ (1) مناقب الشافعي للبيهقي (2/322) . (2) الكفاية للخطيب (18، 22) . (3) الجامع للخطيب (1/168 رقم 91) .

أمّا الأول فهو ابن الجوزي (ت 597هـ) ، حيث ذكر في كتابه (الموضوعات) تعليلاتٍ خفيّةً من كلام أبي عبد الله الحاكم، ثم قال: ((فإن قويَ نظرُك ورسخت في هذا العلم فَهِمْتَ مثل هذا، وإن ضَعُفْتَ، فَسَلْ عنه. وإن كان قد قَلَّ من يَفْهمُ هذا، بل عُدِم)) (1) . وأمّا الثاني فهو الذهبي (ت 748هـ) ، فقد قال وهو يؤرّخ للقرن الثالث الهجري ولمن فيه من علماء الحديث: ((وخلقٌ كثيرٌ لا يحضرني ذكرهم، ربما كان يجتمعُ في الرحلة منهم المئتان والثلاثمائة بالبلد الواحد، فأقلّهم معرفةً كأحفظ من في عصرنا)) (2) . ويقول الذهبي أيضاً في موطن آخر: ((ثم تناقص هذا الشأن في المائة الرابعة بالنسبة إلى المائة الثالثة، ولم يزل يتناقص إلى اليوم. فأفضل من في وقتنا اليوم من المحدّثين على قِلّتهم نظيرُ صغار من كان في ذلك الزمان على كثرتهم. وكم من رجل مشهورٍ بالفقه والرأي في الزمن القديم أفضل في الحديث من المتأخرين، وكم من رجل من متكلّمي القدماء أعرف بالأثر من سُنّيّة زماننا)) (3) . ويقول في موطن ثالث: ((وليس في كبار محدّثي زماننا أحدٌ يبلغ رُتبة أولئك في المعرفة ... (إلى أن قال في الردّ على من لمزَ متقدّمي المحدثين بنقص الفقه) : فاسكت بحلم أو انطق بعلم، فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤلاء. ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدّثي عصرنا إلى أئمة الحديث، فلا نحن ولا أنت، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل ... )) (4) . وأقف هنا، ولولا ضيق الوقت لاتّسع المقال. ولكن فيما تقدّم كفاية. الخاتمة:

_ (1) الموضوعات لابن الجوزي (1/145) . (2) ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل (197 بعد رقم 357) . (3) زغل العلم للذهبي (32) . (4) تذكرة الحفاظ للذهبي (2/628) .

إن من أعظم أسباب صعوبة علوم الحديث، ومن أشدّ أسباب غموض فنونه هو ذلك الاختلاف الكبير في مصطلحاته وفي بعض قواعده. ولذلك كان من المهمّ أن يَتقلّصَ هذا الاختلافُ قَدْر المستطاع؛ لأن الاختلاف في القاعدة يؤدّي إلى اختلاف في عددٍ كبير من المسائل الجزئيّة التي تنبني عليها؛ ولأن الاختلاف في تفسير المصطلحات سيُغيّرُ فَهْمَنا لكلام العلماء وأحكامهم، وبالتالي سيؤول إلى الاختلاف في التقعيد أيضاً. وكان تقليصُ هذا الاختلاف سهلاً لو كان الاختلافُ غيرَ منهجي كُلَّه، أي لو كان الاختلاف نشأ مع اتّحادِ منهج البحث والدراسة، وأنه إنما نشأ بسبب عدم الاطلاع على بعض أدلّة البحث وعدم ملاحظة جميع معطياته. حيث إن الاجتهاد المتّفِقَ في المنهج المختلِفَ في النتائج، زوالُ الاختلاف فيه يكون باستكمال البحث في أدلّة المسألة المختلف فيها. أمّا الاختلاف المنهجي، فلا علاقة له بالاطلاع على الأدلّة أو عدم الاطلاع عليها، وإنما هو متعلّقٌ بأصول الدراسة ومَنْحَى التأمُّل والنظر. والواقع: أن الاختلاف في علوم الحديث منه ما هو اختلافٌ جزئي، ومنه ما هو اختلافٌ منهجيّ. والذي يعنينا هو الاختلاف المنهجي؛ لأهميته، ولخطورته. لقد جاءت هذه المقالة لبيان مسألةٍ مهمّة في سبيل تصحيح ذلك الخطأ المنهجي، وقبل بيان الأمر الذي عالجه هذا المقال، أودّ توضيح ذلك الخطأ المنهجي الذي نتحدّث عنه:

لقد تحدّثت عن طرف مهمّ من هذا الخطأ المنهجي في كتابي المنهج المقترح، وذلك بما أسميته بـ (فكرة تطوير المصطلحات) ، وهي تقرير معانٍ لمصطلحات الحديث غيرِ معانيها عند أهل الاصطلاح، مع العلم بهذا التغاير، ثم التعامل مع كلام أهل الاصطلاح وفق هذا المعنى الجديد ومحاكمتهم إليه (1) . لقد أباح بعضُ أهل العلم لنفسه أن يقع في هذا الخطأ الكبير، الذي هو في واضحِ حقيقته مشاحّةٌ في الاصطلاح، لا وَجْه لها. وهو في خافي حقيقته منازعةٌ لأهل الاصطلاح ممن ليس من أهله فيما ينازعهم فيه. ذلك أن الذي يأتي إلى علم مكتملِ القواعد والأصول، مُقرَّرٍ بألفاظٍ وتعابير اصطلاحيّةٍ سابقةٍ له، كان ينبغي عليه أن يأخذ هذا العلمَ كما هو عن أهله، ولا داعي إلى تغيير مصطلحاته (2)

_ (1) لذلك أمثلة متعدّدة ذكرت بعضها في المنهج المقترح، لكني أحيل هنا إلى مثال آخر، فانظر موقف الحافظ من وصف أبي داود لحديث بأنه منكر في النكت (2/677 - 678) ، ومن وصف أبي حاتم لحديث آخر بأنه منكر أيضاً، كما في اليواقيت والدرر للمناوي (1/426 - 427) . (2) وهذا يذكّرني بما أخذه ابن الصلاح على البغوي في كتابه المصابيح من إطلاقه (الحسن) على ما أخرجه أصحاب السنن، حيث قال (37) : ((فهذا اصطلاحٌ لا يُعرف، وليس الحسن عند أهل الحديث عبارةً عن ذلك، وهذه الكتب تشتمل على حسن وغير حسن)) . ووافقه على هذا الانتقاد النووي (انظر: تدريب الراوي 1/179) . وأيّدهما الزركشي في النكت (1/343) ، قائلاً: ((نعم، في السنن أحاديث صحيحة ليست في الصحيحين، ففي إدراجه لها في قسم الحسن نوع مشاحّة)) . ولذلك أبى البُلْقِيني الجوابَ عمّا وقع من البغوي بأنه اصطلاح له ولا مشاحة في الاصطلاح، بقوله في مقدّمة ردّه على هذا الجواب: ((ولا يُقال: الاصطلاحات لا مشاحةَ فيها)) . (محاسن الاصطلاح 183) . وهذه المسألة من مشاهير مسائل الحديث الحسن في كتب المصطلح، فانظر النكت لابن حجر (1/445 - 446) ، وفتح المغيث للسخاوي (1/99 - 100) ، والبحر الذي زخر للسيوطي (3/1142 - 1147) .

؛ لأن ذلك لا فائدة فيه، ما دامت مصطلحاته القديمة قد قامت بخدمة ذلك العلم، وقد دُوّنت أصول العلم وأمهات كتبه عليها. بل ذلك التغيير سيؤدّي إلى تعسُّرِ ذلك العلم بتعدُّد معاني ألفاظه، وربّما أدّى إلى فَهْمِ كلام السابقين وَفْق اصطلاح اللاحقين (كما وقع بالفعل) ، بل ربما أدّى ذلك إلى محاكمة السابقين وتخطيئهم وفق ذلك الاصطلاح الحادث (وهذا قد وقع أيضاً) ، ثم يؤدّي ذلك إلى تقرير قواعد العلم بناءً على ذلك الفهم الخطأ لكلام الأئمة النقاد. وإذا افترضنا أن شيئاً من هذه المحاذير لم يقع، سوى أنّ أحدهم اقترح معاني جديدةً لمصطلحات قديمة، مبيّناً صراحةً أنّها اصطلاحاتٌ خاصّةٌ به، لا علاقةَ لها بغيره؛ فإنني أعود لأسأل: إذا أبحنا لأحدٍ فِعْلَ ذلك، فبأي حق أمنع غيره منه؟! وإذا لم أمنع غيره، فتعدّدت معاني المصطلحات الخاصّة في ذلك العلم بتعدُّد الكاتبين فيه، فلك أن تتصوّر التعسُّر بل التعذُّرَ في تعلُّم ذلك العلم الذي سيحدث جرّاءَ تلك المعاني المختلفةِ المتباينةِ في علمٍ واحد. أعود لأقول: إن العلم المكتمل القواعد والأصول، المقرَّرَ بألفاظٍ وتعابير اصطلاحيّة: لا يحق لأحدٍ أن يحاول تأصيلَ غير ما اكتمل من قواعده، ولا أن يُقَرِّرَهُ بغير اصطلاحاته التي تقرَّرَ عليها من قَبْل؛ لأنّ في فعل شيءٍ من هاذين الأمرين إضاعةً لذلك العلم وتدميراً له!!! إذن فالعلم الذي اكتملت قواعده وأصوله من قبل، ينبغي أن يكون سبيل تعلُّمِه بالرجوع إلى ما سُبقنا إليه من تقرير تلك القواعد والأصول؛ لأن في الخروج عنها خروجاً عن الكمال، والخروج عن الكمال نقص.

ثم إن العلم الذي قُرّرت قواعدُهُ المكتملةُ باصطلاحات معيّنة، ينبغي أن نحرص على فَهْمِ مصطلحاته (التي سُبقنا إلى تقرير قواعده بها) على ما كانت عليه، حتى يتسنّى لي فَهْمُ تلك القواعد وفهم ذلك العلم؛ وإلا فلن أفهم تلك القواعد فهماً صحيحاً إن فهمت كلام من أكملوا ذلك العلم بتلك الألفاظ والتعابير على غير مقاصدهم منها، وإن شرحت مصطلحاتهم بخلاف مرادهم منها. وهذا التقرير يعني: أن هناك مَنْ ينبغي أن يُلْتَزَمَ بتأصيلهم لقواعد العلم، وينبغي أن لا نخرج عن مقاصدهم من مصطلحاتهم ليُفهم عنهم ذلك العلم. وهذا يعني أن هناك من يُحتكمُ إليهم في تصويب تنظير على تنظير ممن جاؤوا بعدهم، وأنّ هؤلاء المتأخّرين إذا خالف أحدُهم في معنى مصطلح من مصطلحاتهم قُضيَ عليه بالخطأ لمجرّد أنه خالفهم. ومن هنا تتبيّن الأهميّة القصوى لمعرفة من هُمْ أولئك العلماء الذين هم الحَكَمُ في معرفة الصواب والخطأ؛ ولمَ كانوا هُمْ - دون مَنْ سواهم - أصحابَ هذه المنزلة؟. لقد جاء هذا البحث جواباً عن هذا السؤال الجوهري، واستدلالاً لصحّة هذا الجواب. وبعد هذا العرض أسأل، وأترك الجواب للمنصفين: 1 - من هم الذين أسسوا علوم السنّة، وبنوا صَرْحها، حتى بلغت حدَّ الاكتمال؟ 2 - من هم الذين لم يتركوا لمن جاء بعدهم مجالاً للزيادة في تقعيد علمهم، فلم يَعُدْ بإمكان الذين تأخروا عنهم أن يضيفوا إلى تقعيدهم المكتملِ شيئاً، ولم يَبْقَ عليهم إلا واجب الحفاظ على ذلك العلم العظيم؟ 3 - من هم أصحاب الاجتهاد المطلق في ذلك العلم، وعندهم الأهليّة العلميّة الكاملة للكلام في أصول مسائله كلِّها وفي فروعها؟ بخلاف من سواهم، ممن يلزمهم تقليدُ أولئك في بعض أهمّ مسائل العلم، وقد صَرّحوا كثيراً بهذا الالتزام؛ لنقصان أهليتهم العلميّة عن رتبة الاجتهاد المطلق في هذا العلم.

4 - من هُمْ الذين صنّفوا في أصول العلم وفروعه، فكانت مصنفاتهم هي عمدة من جاء بعدهم؟ حتى إنّه لا يَتَمايزُ الذين جاؤوا من بعدهم إلا بَقَدْر اغترافهم من تلك المصادر الأولى، فهي المورد الذي يصدر عنه كل المتأخرين، وعلى قدر عَبِّهم منه يتفاضلون. 5 - من هم الذين لا سبيل لنا إلى العلم بعلوم السنة إلا إن عرفنا منهجهم، وتفقّهنا في كلامهم، وفهمنا مآخذَ أحكامهم، وأدركنا مقاصدهم في اصطلاحاتهم؟ ومن هُمْ الذين إذا لم نعرف منهجهم ولم نفقه كلامهم، ولم نفهم مآخذ أحكامهم، ولم ندرك معاني مصطلحاتهم كانت علوم السنة علينا أبعد لها من طالب لها بعلم الفلك أو الطب؟!! 6 - من هم الذين إذا اختلف المُصَنّفُون في علوم الحديث ومصطلحه، في تقرير قاعدةٍ من قواعده، أو في تفسير مصطلح من مصطلحاته، كانت أقوالُهم وتصرّفاتُهم هي المُحْتَكَمَ إليها والمُسْتَدَلَّ بها في تصويب تقرير على تقرير وفي ترجيح تفسير على تفسير؟ (1)

_ (1) قِفْ على هذه المواقف الموفّقة منهجيًّا لبعض أهل العلم: 1 - يقول ابن الصلاح في مبحث الحديث الحسن، مبيّناً المنهج الذي سار عليه للتعريف به (31) : ((وقد أمعنتُ النظر في ذلك والبحث، جامعاً بين أطراف كلامهم، ملاحظاً مواقع استعمالهم، فتنقّح لي واتّضح أن الحديث الحسن قسمان..)) . 2 - ويقول رشيد الدين العطار (ت662هـ) في غرر الفوائد المجموعة (291) ، وهو يقرّر معنى المرسل: ((على أن جمهور المتقدّمين من علماء الرواية يُسمّون ما لم يَتّصل إسناده مرسلاً..)) . 3 - وبيّن ابن دقيق العيد (ت702) مَنْهَجَ فهم المصطلحات قائلاً في مبحث الحديث الحسن، في كتابه الاقتراح (193) : ((لكن من أراد هذه الطريقة فعليه أن يعتبر ما سمّاه أهل الحديث حسناً، ويحقق وجودَ الصفات التي يجب معها قبول الرواية في تلك الأحاديث)) . 4 - ولمّا بلغ التشدُّدُ للمتقدّمين إلى حدّ إنكار تعريف المصطلحات التي لم يُعَرّفوها، قال الزركشي في نكته (1/101) : ((وأيًّا ما كان، فالتحديد مُقْتَنَصٌ من استقراء كلامهم في ذلك، فلا معنى لإنكاره)) . 5 - وانظر كيف انتقد الحافظ ابن حجر من سَوَّى بين المرسل والمنقطع بقوله (57) : ((ومنْ ثَمّ أطلق غير واحدٍ ممّن لم يُلاحظ مواقع استعمالهم على كثير من المحدثين أنّهم لا يُغايرون بين المرسل والمنقطع)) . 6 - وانظره أيضاً كيف انتقد ابن عبد البر في تعريفه بالمسند، ولم يَقُلْ إنه اصطلاحٌ خاصٌّ به، عندما قال في النزهة (115) : ((وأَبْعَدَ ابنُ عبد البر حيث قال: المسند المرفوع، ولم يتعرّض للإسناد، فإنه يصدق على المرسل والمعضل والمنقطع إذا كان المتنُ مرفوعاً، ولا قائل به)) . 7 - وانظره أيضاً كيف وَسَّع دلالة مصطلح المعضل بناءً على أحكام الأئمة النقاد، كما في النكت (2/579) ، منتقداً إغفال ذلك المعنى الجديد في كتب المصطلح بقوله:» وفي الجملة: فالتنبيه على ذلك كان متعيّناً «. 8 - وأنظره أيضاً في بيان دلالة للعنعنة لم يذكرها أحدٌ قبله، فيقول في النكت (2/586) :» وإذا تقرّر هذا فقد فاتَ المصنِّفَ حالةٌ أخرى لهذه اللفظة، وهي خفيّةٌ جدًّا، قلَّ من نبَّهَ عليها، بل لم يُنَبّه عليها أحدٌ من المصنّفين في علوم الحديث، مع شدّة الحاجة إليها «. 9 - وانظره كيف يحيل في تقرير قواعد العلم إلى أئمة النقد، كما فعل في زيادة الثقة (النزهة 69 - 70) ، وفي الترجيح بين الروايات المختلفة (النكت 2/712) . وغير ذلك كثيرٌ، ويعارضه مواقفُ أخرى ليست قليلةً أيضاً!!!.

7 - وأخيراً: من هم الذين يُمْتَدَحُ مَنْ سار على طريقتهم في علوم السنة، ويُذَمُّ ويُنْتَقَدُ من خالف طريقتهم؟ الجواب عن ذلك كلّه معلوم. وهؤلاء هم أهل الاصطلاح والنقد، الذين ندعو إلى الرجوع إليهم. هذا.. والله أعلم. والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. فهرسة المصادر ـ أدب الإملاء والاستملاء: للسمعاني. ت: أحمد محمد عبد الرحمن. الطبعة الأولى. المطبعة المحموديّة. ـ أطراف الغرائب والأفراد للدارقطني: لابن طاهر المقدسي. ت: محمود محمد نصار، والسيد يوسف. الطبعة الأولى (1419هـ) . دار الكتب العلمية: بيروت. ـ الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: لابن بَلَبان الفارسي. ت: شعيب الأرناؤوط. الطبعة الأولى (1412هـ) . مؤسسة الرسالة: بيروت. ـ الإرشاد (منتخبه) : للخليلي. ت: د. محمد سعيد بن عمر إدريس. الطبعة الأولى (1409هـ) . مكتبة الرشد: الرياض. ـ اختصار علوم الحديث: لابن كثير. (مع شرحه: الباعث الحثيث: لأحمد محمد شاكر) . ت: علي حسن عبد الحميد. الطبعة الأولى (1415هـ) . دار العاصمة: الرياض. ـ البحر الذي زخر: للسيوطي. ت: د. أنيس بن أحمد. الطبعة الأولى (1420هـ) . مكتبة الغرباء الأثريّة، المدينة المنورة. ـ تاريخ الإسلام: للذهبي. ت: عمر عبد السلام تدمري. دار الكتاب العربي: بيروت. ـ التاريخ عن يحيى بن معين: للدوري. ت: د. أحمد محمد نور سيف. الطبعة الأولى (1399هـ) . جامعة الملك عبد العزيز، كلية الشريعة: مكة المكرمة. ـ تدريب الراوي: للسيوطي. ت: نظر محمد الفريابي. الطبعة الثالثة (1417هـ) . مكتبة الكوثر: الرياض. ـ تذكرة الحفاظ: للذهبي. تصوير دار إحياء التراث العربي: بيروت. ـ تقييد العلم: للخطيب. ت: يوسف العش. الطبعة الثانية (1974م) . تصوير: دار إحياء السنة النبوية. ـ ثبت الضياء المقدسي. ت: د. محمد مطيع الحافظ. الطبعة الأولى (1420هـ) . دار البشائر الإسلامية: بيروت.

ـ جامع الأصول: لابن الأثير. ت: عبد القادر الأرناؤوط. الطبعة الأولى (1389هـ) . مكتبة الحلواني، والملاح، ودار البيان: بيروت. ـ الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: للخطيب. ت: د. محمد عجاج الخطيب. الطبعة الأولى (1412هـ) . مؤسسة الرسالة: بيروت. ـ الجرح والتعديل: لابن أبي حاتم. الطبعة الأولى (ت 1371هـ) . مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية. ـ دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه: د. محمد مصطفى الأعظمي. الطبعة الأولى (1405هـ) . المكتب الإسلامي: بيروت. ـ ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل: للذهبي. ت: عبد الفتاح أبو غدّة. الطبعة الخامسة (1410هـ) . مكتب المطبوعات الإسلامية: حلب. ـ ذمّ الكلام وأهله: لأبي إسماعيل الهروي. ت: عبد الله بن محمد الأنصاري. الطبعة الأولى (1419هـ) . مكتبة الغرباء: المدينة المنورة. ـ الرحلة في طلب الحديث: للخطيب. ت: د. نور الدين عتر. الطبعة الأولى (1395هـ) . ـ رسالة أبي داود إلى أهل مكة. ت: عبد الفتاح أبو غُدّة. الطبعة الأولى (1417هـ) . مكتبة المطبوعات الإسلامية: حلب. ـ زغل العلم: للذهبي. ت: محمد بن ناصر العجمي. الطبعة الأولى. مكتبة الصحوة الإسلامية. ـ الزهد: لعبد الله بن المبارك. ت: حبيب الرحمن الأعظمي. دار الكتب العلميّة: بيروت. ـ السنة النبويّة وبيان مدلولها الشرعي والتعريف بحال سنن الدارقطني: لعبد الفتاح أبو غدة. الطبعة الأولى (1412هـ) . مكتب المطبوعات الإسلامية: حلب. ـ سير أعلام النبلاء: للذهبي. ت: شعيب الأرناؤوط، وجماعة. الطبعة الثانية (1404هـ) . ـ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: للالكائي. ت: د. أحمد بن سعد بن حمدان. الطبعة الثالثة (1415هـ) . دار طيبة: الرياض. ـ شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى: لأبي شامة المقدسي. ت: جمال عزون. الطبعة الأولى (1420هـ) . مكتبة العمرين العلمية: الشارقة.

ـ شرح علل الترمذي: لابن رجب. ت: نور الدين عتر. الطبعة الرابعة (1421هـ) . دار العطاء: الرياض. ـ شروط الأئمة: لابن منده. ت: د. عبد الرحمن الفريوائي. الطبعة الأولى (1416هـ) . دار المسلم: الرياض. ـ صحائف الصحابة: لأحمد عبد الرحمن الصويان. الطبعة الأولى (1410هـ) . ـ صحيح البخاري. الطبعة الأولى (1417هـ) . دار السلام: الرياض. ـ صحيح مسلم. ت: محمد فؤاد عبد الباقي. الطبعة الأولى. ـ الصناعة الحديثيّة في السنن الكبرى للبيهقي: د. نجم عبد الرحمن خلف. الطبعة الأولى (1412هـ) . دار الوفاء: المنصورة. ـ العلل: للدارقطني. ت: د. محفوظ الرحمن زين الله. الطبعة الأولى. دار طيبة: الرياض. ـ العلل الكبير: للترمذي. ت: حمزة ديب مصطفى. الطبعة الأولى (1406هـ) . مكتبة الأقصى: عمّان. ـ علوم الحديث: لابن الصلاح. ت: نور الدين عتر. الطبعة الثالثة (1404هـ) . دار الفكر: دمشق. ـ عناية المحدثين بتوثيق المرويات وأثر ذلك في تحقيق المرويات: د. أحمد محمد نور سيف. الطبعة الأولى (1407هـ) . دار المأمون: دمشق. ـ الكفاية: للخطيب. ت: أحمد عمر هاشم. الطبعة الأولى (1405هـ) . دار الكتاب العربي: بيروت. ـ المجروحين: لابن حبان. ت: محمود إبراهيم زايد. ـ المحدث الفاصل: للرامهرمزي. ت: د. محمد عجاج الخطيب. الطبعة الثالثة (1404هـ) . دار الفكر: بيروت. ـ المدخل إلى السنن الكبرى: للبيهقي. ت: محمد ضياء الرحمن الأعظمي. دار الخلفاء للكتاب الإسلامي: الكويت. ـ المدخل إلى كتاب الإكليل: للحاكم. ت: د. فؤاد عبد المنعم أحمد. دار الدعوة: الإسكندريّة. ـ معالم السنن: للخطابي. ت: أحمد محمد شاكر، ومحمد حامد فقي. الطبعة الأولى (1400هـ) . دار المعرفة: بيروت. ـ معرفة علوم الحديث: للحاكم. ت: السيد معظّم حسين. ـ المعرفة والتاريخ: للفسوي. ت: د. أكرم العمري. الطبعة الأولى (1410هـ) . مكتبة الدار: المدينة المنورة.

ـ الموضوعات: لابن الجوزي. ت: د. نور الدين بن شكري. الطبعة الأولى (1418هـ) . أضواء السلف: الرياض. ـ الموقظة: للذهبي. ت: عبد الفتاح أبو غدّة. الطبعة الثانية (1412هـ) . مكتب المطبوعات الإسلامية: حلب. ـ نظم الفرائد لما تضمّنه حديث ذي اليدين من الفوائد: للعلائي. ت: بدر البدر. الطبعة الأولى (1416هـ) . دار ابن الجوزي: الدمام. ـ النكت على كتاب ابن الصلاح: لابن حجر. ت: ربيع المدخلي. الطبعة الأولى (1404هـ) . الجامعة الإسلامية: المدينة المنورة. ـ هدي الساري: لابن حجر. دار الريّان: القاهرة. ـ يتيمة الدهر: للثعالبي. ت: محمد محيي الدين عبد الحميد. الطبعة الأولى (1366هـ) . تصوير دار الكتب العلمية: بيروت.

الرياض البديعة

الرياض البديعة في أصول الدين وبعض فروع الشريعة على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه للشيخ الفاضل محمد حسب الله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. (أما بعد) فهذا مختصر في أصول الدين وجملة من فروعه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه سميته: (الرياض البديعة) في أصول الدين وبعض فروع الشريعة، راجياً من الله أن ينفع به طلبة العلم لا سيما المبتدئين وأن يوجه إليه رغبة الراغبين. اعلم أنه يجب على كل شخص من المكلفين ولو كان رقيقاً أن يعرف أركان الإسلام والإيمان. فأركان الإسلام خمسة: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت الحرام إن استطعت إليه سبيلاً. وأركان الإيمان ستة: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، ويجب عليه أيضاً أن يعرف عقائد الإيمان وهي الصفات الواجبة لله تعالى والمستحيلة عليه والجائزة في حقه والصفات الواجبة للرسل عليهم الصلاة والسلام. والمستحيلة عليهم والجائزة في حقهم. (فيجب) لله تعالى الوجود والقدم والبقاء ومخالفته تعالى لجميع خلقه وقيامه تعالى بنفسه، ومعناه أنه تعالى لا يفتقر إلى ذات يقوم بها ولا إلى موجد يوجده، بل هو تعالى الموجد للأشياء كلها، يجب له تعالى الوحدانية ومعناها أنه تعالى لا ثاني له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهذه ست صفات، الأولى منها تسمى صفة نفسية وهي الوجود والخمسة التي بعدها يقال لها صفات سلبية، ويجب له تعالى أيضاً سبع صفات يقال لها صفات المعاني وهي: القدرة والإرادة والعلم المحيط بجميع المعلومات والحياة والسمع والبصر والكلام الخالي عن الحروف والأصوات وغيرها مما يوجد في كلام الحوادث.

(ويستحيل) عليه تعالى العدم والحدوث والفناء ومماثلته تعالى لشيء من خلقه وافتقاره إلى ذات أو موجود، وأن لا يكون واحداً في ذاته أو صفاته أو أفعاله، ويستحيل عليه تعالى العجز ووجود شيء من العالم بغير إرداته تعالى والجهل بشيء من المعلومات والموت والصمم والعمى والبكم، أو وجود حرف أو صوت في كلامه القديم. (ويجوز) في حقه عز وجل فعل كل ممكن وتركه. (ويجب) له تعالى إجمالاً كل كمال يليق بذاته العلية ويستحيل عليه جميع النقائص، والدليل على ذلك كله وجود هذا العالم على هذا الشكل البديع. (ويجب) للرسل عليهم الصلاة والسلام الصدق في جميع ما أخبروا به ولو بالمزح والأمانة والفطانة وتبليغ ما أمروا بتبليغه للخلق. (ويستحيل) عليهم الكذب والخيانة والبلادة وكتمان شيء مما أمروا بتبليغه. (ويجوز) في حقهم صفات البشر التي لا تنقص بسببها مراتبهم العلية كالأكل والشرب والمرض والوقاع الحلال. (ويجمع) معنى هذه الصفات كلها قول لا إله إلا الله محمد رسول الله.

(ويجب) على المكلف أيضاً أن يعتقد أن الملائكة عليهم الصلاة والسلام من جملة عباد الله المكرمين وأنهم معصومون من جميع المعاصي منزهون عن صفات البشر، وأنه لا يعلم كثرتهم إلا الله تعالى ومنهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وهؤلاء الأربعة هم الرؤساء وهم أفضلهم، ومنهم حملة العرش وهم الآن أربعة ويزاد عليهم يوم القيامة أربعة ومنهم: منكر ونكير ورضوان خازن الجنة ومالك خازن النار، وأن يعتقد أن أفضل الخلق كلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم الرسل ثم الأنبياء ثم الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم، ثم الصحابة رضي الله عنهم، وأن يعتقد أن الخلق كلهم يموتون عند انقضاء أعمارهم، وأن القابض لأرواحهم ملك الموت وهو عزرائيل، وأنهم يسألون بعد دفنهم في قبورهم إلا جماعة مخصوصين، وأنهم يبعثون يوم القيامة ويحاسبون في الموقف على أعمالهم إلا من يدخل الجنة بغير حساب، وأن أعمالهم كلها توزن في الميزان، وأنهم يمرون جميعاً على الصراط، وأن المؤمنين يشربون من حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وينالون شفاعته يوم القيامة وأكبر شفاعاته صلى الله عليه وسلم الشفعة العظمى في فصل القضاء، وأن يعتقد أن نبينا صلى الله عليه وسلم عربي قرشي وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. (وأمه) آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وأنه أبيض مشرب بحمرة، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنه ولد بمكة وبعث بها وهاجر إلى المدينة المنورة بعد الإسراء ومات بها، ودفن بها في بيت عائشة رضي الله عنها، وأن شريعته نسخت جميع الشرائع السابقة عليها وتبقى مستمرة إلى يوم القيامة.

ويجب على المكلف أيضاً أن يعرف شرائع الدين وهي فروعه وأهمها: الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، ونطلب من الله تعالى الإعانة على ذكر الأهم منها والبركة فيه فنقول: كتاب الطهارة لا يصح الوضوء والغسل وإزالة النجاسة إلا بالماء الطهور وهو الذي لم تقع فيه نجاسة ولا شيء طاهر يذوب ولم يكن قليلاً مستعملاً وينحصر في النازل من السماء والنابع من الأرض، فإذا وقع فيه شيء من الطاهرات التي تذوب كالعسل أو ينفصل منها شيء كالزعفران وغيره تغييراً فاحشاً فهو طاهر في نفسه لكنه لا يرفع الحدث ولا يطهر النجس ولو كان ألف قربة، ومثله الماء المستعمل إن كان أقل من قلتين ولم يتغير بالنجاسة والمستعمل هو الذي رفع به الحدث أو أزيلت به نجاسة، وإذا وقع فيه نجاسة وتغير بها طعمه أو لونه أو رائحته ولو تغيراً يسيراً تنجس ولو كان قدر البحر، فإن لم يتغير بها منه شيء لم يتنجس إلا إذا كان أقل من قلتين، وإذا زال تغيره بنفسه أو بماء وضع عليه عاد طهوراً، وكذا لو زال التغيير بماء أخذ منه وكان الباقي قلتين. والقلتان خمسمائة رطل برطل بغداد وقدروها بخمس قرب من قرب الحجاز، ولو وقع في السمن مثلاً أو في الماء القليل نجاسة لا يراها البصر المعتدل أو ميتة ليس لها دم سائل كعقرب ووزغ ولم تغيره لم يتنجس. (فصل) : ويحل استعمال جميع المواعين الطاهرة من كل نجس إلا مواعين الذهب والفضة فيحرم استعمالها لغير ضرورة، ويحرم استعمال المطلي بذهب أو فضة إن كثر طلاؤه وتحصل منه شيء بعرضه على النار. (فصل) : الحيوانات كلها تنجس بموتها إلا الآدمي والسمك والجراد والمأكول المذبوح إن ذبح ذبحاً شرعياً، وجلودها تطهر بالدباغ ظاهراً وباطناً إلا جلد الكلب والخنزير والمتولد منهما أو من أحدهما ولو مع حيوان طاهر، وإذا دبغ الجلد ولم يغسل بعد دبغه صار متنجساً فلا يحل استعماله مع الرطوبة ولا تصح الصلاة معه إلا بغد غسله. باب نواقض الوضوء نواقضه أربعة:

(الأول) خروج شي من القبل أو الدبر وإن خرج قهراً وكان ظاهراً إلا مني الشخص الخارج منه أول مرة. (والثاني) زوال التمييز بجنون أو سكر أو مرض أو نوم إلا من نام ممكناً مقعده من مقره. (والثالث) ملامسة الرجل للمرأة الأجنبية من غير حائل بين جلديهما ولو كان كل منهما هرماً أو حصلت الملامسة بغير الاختيار وينتقض بها وضوء كل منهما. (والرابع) مس قبل الآدمي أو حلقة دبره بباطن الكف بلا حائل ولو مع السهو أو الإكراه، وينتقض به وضوء الماس فقط إلا إن كان المس بين رجل وأنثى أجنبية فينتقض به وضوؤهما كما سبق. ويحرم بالحدث الأصغر الصلاة والطواف ومس المصحف حتى كيسه وصندوقه ما دام فيهما، ويحل قلب ورق المصحف بعود إلا إن انفصلت الورقة وحملت عليه، ويحل حمله في متاع إلا إن قصد المصحف وحده بالحمل، ويحل حمل التفسير إن كان أكثر من القرآن يقيناً، ولا يمنع الصبي المميز من مس المصحف وحمله لحاجة التعليم. (فصل) : يجب الاستنجاء من كل خارج من القبل أو الدبر إن كان نجساً ولوث محل خروجه، ويجوز أن يستنجي الشخص بالأحجاء فقط ولو بلا عذر وإن كان على طرف البحر، والاقتصار على الماء أفضل من الاقتصار على الحجر والجمع بينهما أفضل، ويجب تنظيف المحل من عين النجاسة وأثرها إن استنجى بالماء، فإن استنجى بالحجر عفي عن الأثر القليل الذي لا يزيله إلا الماء أو الخزف الصغار، وإذا اقتصر على الحجر وجب ثلاث مسحات وإن نظفت المحل أقل منها وإن لم تنظفه الثلاث وجب أن يزيد عليها حتى ينظفه، فإن نظفه بوتر لم يزد عليه شيئاً، وإن نظفه بشفع فالسنة له أن يزيد واحدة، ويقوم مقام الحجر في الاستنجاء كل جامد طاهر خشن يقلع عين النجاسة كخرقة. وشرط الاستنجاء بالحجر أن لا ينشف الخارج النجس، وأن لا ينتقل عن المحل الذي استقر فيه، وأن لا يجاوز البول حشفة الذكر ولا الغائط صفحة الأليتين، وأن لا يصل بول الأنثى إلى محل جماعها. باب الوضوء

الفروض التي لا يصح الوضوء إلا بها ستة: (الأول) النية ويجب أن تكون مقرونة بأول جزء يغسله من الوجه وينوي المتوضىء رفع الحدث أو فرض الوضوء أو الوضوء فقط أو نحو ذلك. (والثاني) غسل الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن، ومن وتد إحدى الأذنين إلى وتد الأخرى، ويجب غسل الشعر النابت في الوجه ظاهراً وباطناً إلا اللحية الغزيرة فيكفي غسل ظاهرها فقط والسنة تخليل باطنها، ويجب أيضاً غسل السلعة النابتة في الوجه وإن طالت جداً. (والثالث) غسل اليدين مع المرفقين، ويجب غسل الشعر النابت عليهما ظاهراً وباطناً وإن كثر وطال وغسل سلعتهما وإن طالت. (والرابع) مسح جزء من جلد الرأس أو من الشعر النابت فيه ولو رأس شعرة واحدة بشرط أن لا يمسح على الطويل الخارج عن حد الرأس (والخامس) غسل الرجلين مع الكعبين من كل رجل وشعر الرجلين وسلعتهما كشعر اليدين، ويجب تحريك الخاتم الضيق وتخليل أصابع اليدين والرجلين إن كان الماء لا يصل إليه إلا بذلك. (والسادس) ترتيب الأعضاء بأن يقدم الوجه على اليدين واليدين على الرأس والرأس على الرجلين، ويجب في الوضوء إزالة الأوساخ التي تمنع وصول الماء إلى الأعضاء إلا إن كان في إزالتها شدة مشقة، ومثلها الأوساخ التي تحت الأظفار، ولا يكفي مسح الأعضاء المغسولة بل لا بد من سيلان الماء عليها، وإذا ترك لمعة صغيرة من عضو ولو سهواً لم يصح الوضوء حتى يغسلها ويعيد غسل الأعضاء التي بعدها. وسنن الوضوء كثيرة: منها استقبال القبلة فيه والتسمية مقرونة بأوله وغسل الكفين معاً إلى الكوعين ثم المضمضة ثم الاستنشاق ومسح الرأس كله ثم مسح الأذنين معاً ظاهراً وباطناً بماء جديد وتقديم اليمين على الشمال من اليدين والرجلين، وتطهير كل عضو ثلاث مرات متوالية، والموالاة لغير دائم الحدث.

(وأما السواك) فليس من السنن الخاصة بالوضوء بل هو سنة في كل حال إلا في الصوم فيكره من الزوال إلى الغروب ويتأكد استحبابه عند الوضوء ومحله فيه قبل المضمة، ويتأكد أيضاً عند تغير الفم والانتباه من النوم وإرادة الصلاة وقراءة القرآن والعلم وتحصل السنة فيه بكل طاهر خشن يزيل صفرة الأسنان ولو خرقة وأفضله الأراك اليابس المبلول بالماء. باب الغسل لا يجب الغسل على الحي إلا بالجنابة أو الولادة ولو من غير بلل أو انقطاع الحيض أو النفاس، وتحصل الجنابة إما بدخول الحشفة أو مقدارها في قبل أو دبر ولو لبهيمة وإن لم يحصل إنزال، وإما بنزول المني ولو بغير إيلاج كالحاصل في النوم. وله فرضان لا يصح إلا بهما، (الأول) : النية مقرونة بأول جزء يغسله من جسده وينوي المغتسل رفع الحدث أو فرض الغسل أو نحو ذلك. (والثاني) تعميم جسده ظاهراً فقط وشعره ظاهراً وباطناً بالماء مرة واحدة، ويجب على المغتسل أن يتعصر حتى تنفتح حلقة دبره ويغسلها عن الحدث، وعلى الأنثى أن تغسل ما يظهر منها عند قعودها على قدميها أيضاً فإن ذلك كله من ظاهر الجسد، فلو ترك في الغسل ولو نسياناً لم يصح الغسل وإلا فضل أن يغسل هذين المحلين قبل جسده بنية تخصهما غير النية على بقية الجسد. (وسنن الغسل) كثيرة منها الوضوء كاملاً قبله ودلك أعضائه والابتداء بالشق الأيمن من جسده وتعميم جسده بالماء ثلاث مرات واستقبال القبلة حال غسله. (ويحرم) بالجنابة قراءة القرآن والمكث في المسجد والمحرمات بالحدث الأصغر. باب التيمم لا يصح التيمم بشيء من أجزاء الأرض إلا بالتراب الخالص الطاهر الذي له غبار بشرط أن ينقله ولو من الهواء وأن يكون بعد دخول وقت العبادة التي يتيمم لها. (وأسبابه) ثلاثة: (الأول) : عدم الماء. (والثاني) : خوف الضرر من استعماله بسبب مرض أو نحوه. (والثالث) : احتياجه لشربه أو شرب حيوانه المحترم. فروضه أربعة:

(الأول) النية مقرونة بنقل التراب وبأول جزء يمسحه من الوجه وينوي المتيمم استباحة الصلاة مثلاً. (الثاني) مسح الوجه طولاً وعرضاً حتى المقبل من أنفه وشفتيه. (الثالث) مسح اليدين مع المرفقين ولا تكفي ضربة واحدة للوجه واليدين بل لا بد لكل منهما من ضربة مستقلة. (الرابع) الترتيب بأن يقدم مسح الوجه على مسح اليدين. (ويبطله) ما يبطل الوضوء والردة وزوال المانع قبل الشروع في الصلاة التي يتيمم لها. (ولا يفعل) بالتيمم الواحد فرضين بل فرضاً فقط وما شاء من النوافل التي دخل وقتها قبل التيمم. (ويعيد) المتيمم صلاته إن تيمم للبرد أو صلى في محل يغلب فيه وجود الماء. باب النجاسة وإزالتها الحيوانات كلها طاهرة إلا الكلب والخنزير والمتولد منهما أو من أحدهما، والميتة كلها نجسة إلا الآدمي والسمك والجراد وكل ما خرج من السبيلين نجس إلا المني والريح والحصى إن لم ينعقد من البول. والنجاسة ثلاثة أقسام: مخففة ومغلظة ومتوسطة، (فالمخففة) بول الذكر الذي لم يبلغ حولين ولم يتناول غذاء غير اللبن ويطهر محلها برش الماء عليه مرة واحدة حتى يعمه بشرط أن تزول عين البول قبل الرش. (والمغلظة) نجاسة الكلب والخنزير والمتولد منهما أو من أحدهما ولا يطهر محلها حتى يغسل سبع مرات إحداهن مخلوطة بالتراب الطهور ولا يكتفي بالسبعة إلا إن زالت عين النجاسة بالمرة الأولى فإن زالت بغير الأولى فجميع الغسلات السابقة على زوالها يحسب مرة واحدة ويجب بعدها تمام السبعة.

(والمتوسطة) بقية النجاسات ويطهر محلها بجريان الماء عليه مرة واحدة إن لم يكن للنجاسة جرم ولا طعم ولا لون ولا رائحة، فإن كان لها شيء من هذه الأوصاف فلا يطهر محلها حتى يزول ذلك الوصف ويعفى عن اللون وحده وعن الريح وحده إذا عسر زواله، ولو توقف زوال النجاسة على صابون أو غيره وجب استعماله، ويعفى عن النجاسة التي لا يراها البصر المعتدل وعن القليل من الدم والقيح إن كان من غير كلب وخنزير، وعن الكثير أيضاً إن كان من الشخص نفسه وخرج بغير فعله، ولا يتنجس الطاهر الناشف إذا أصابته نجاسة ناشفة، ولا يطهر شيء من نجس العين إلا جلود الميتة إذا اندبغت والخمر إذا انقلبت خلاً بنفسها، ولا يضر فورانها ولا نقلها من الشمس إلى الظل ولا العكس، فإن طرح فيها شيء قبل تخللها ولو طاهراً وبقي فيها حتى تخللت لم تطهر. باب الحيض والنفاس الحيض هو الدم الخارج من قبل المرأة في صحتها بلا سبب. والنفاس هو الدم الخارج منها بعد تمام ولادتها. وأقل سن الحيض تسع سنين تقريباً، وأقل مدته يوم وليلة وأكثرها خمسة عشر يوماً وغالبها ستة أو سبعة، فإن نقص الدم عن أقل المدة أو زاد عن أكثرها فهو دم فساد، وأقل مدة النفاس لحظة وغالبها أربعون يوماً وأكثرها ستون وما زاد عليها فدم فساد أيضاً. (ويحرم) بالحيض والنفاس المباشرة فيما بين السرة والركبة من غير حائل، والمرور في المسجد إن خافت تنجيسه والصوم ومحرمات الجنابة السابقة، ويجب على الحائض والنفساء قضاء الصوم الفائت في الحيض والنفاس دون قضاء الصلاة الفائتة فيهما. كتاب الصلاة فرض الله على هذه الأمة في كل يوم وليلة خمسة صلوات فقط، وهي: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ولا تجب إلا على المسلم البالغ العاقل والطاهر من الحيض والنفاس بعد دخول وقتها، ولكل صلاة منها وقت محدود. فوقت الظهر من زوال الشمس عن وسط السماء إلى أن يزيد ظل الشيء على مثله بعد ظل الاستواء.

ووقت العصر من الزيادة على ظل المثل إلى غروب الشمس كلها ووقت المغرب من تمام غروب الشمس حتى يغيب الشفق الأحمر. ووقت العشاء من مغيب الشفق الأحمر حتى يطلع أول الفجر الصادق. ووقت الصبح من طلوع أول الفجر الصادق حتى يطلع أول الشمس. ولا قضاء على الكافرر إذا أسلم، إلا المرتد، ولا على المجنون والمغمى عليه والسكران بعد صحوهم إلا إذا تعدوا بذلك، ولا على الصغير إذا بلغ ويجب على الآباء والأمهات أن يأمروا أولادهم بالصلاة عند سبع سنين ويضربوهم على تركها عند عشر، والأفضل تعجيل الصلاة في أول وقتها، ويجوز تأخيرها عن أول الوقت ولو بلا عذر بشرط أن يعزم على فعلها قبل خروج الوقت، ومثل الصلاة في ذلك بقية الفروض الموسعة كالحج، ويجب على الشخص عند أول بلوغه أن يعزم على فعل جميع الواجبات والامتناع عن جميع المحرمات، ومن جحد وجوب الصلاة عليه من المتكلفين فهو كافر مرتد، ويقتل كفراً إن لم يرجع إلى الإسلام ولا يصلى عليه ولا يدفن في قبور المسلمين فإن لم يجحد وجوبها وأخرها عن وقتها بلا عذر فهو مؤمن فاسق لكنه يقتل بشروط مذكورة في المطولات، ولا تسقط الصلاة عن أحد ولو اشتد عليه المرض إلا إذا غاب عقله بغير تعمد منه ولا عذر له في تأخيرها في الحضر عن وقتها ولو تكاثرت عليه الاشغال إلا إذا نسي بغير لعب أو نام قبل دخول وقتها ولم يتنبه إلا بعد فواتها، وإذا فاتت شخصاً فريضة بغير عذر وجب عليه قضاؤها على الفور، فإن فاتته بعذر وجب عليه قضاؤها على التراخي والأفضل له المبادرة بقضائها. باب شروط الصلاة الشروط لصحة الصلاة أربعة: (الأول) الطهارة عن الحدثين وعن النجاسة التي لا يعفى عنها في الجسد والملبوس والمكان

(والثاني) ستر العورة من أعلى البدن وجوانبه للقادر عليه ولو صلى في الظلمة منفرداً عن الناس وعورة الذكر والأمة في الصلاة ما بين السرة والركبة لكن يجب عليهما ستر السرة والركبة أيضاً، وعورة الحرة الكاملة جميع بدنها إلا الوجه والكفين، ومن عجز عن ستر عورته في الصلاة صلى عارياً ولا إعادة عليه. (والثالث) دخول الوقت ولو بغلبة الظن في الصلاة المؤقتة كالفرض الأصلي وتوابعه ووجود السبب يقيناً في التي لها سبب كصلاة الخسوف فلا تصح صلاة مؤقتة حتى يدخل وقتها، ولا صلاة لها سبب حتى يوجد سببها يقيناً. (والرابع) استقبال عين الكعبة يقيناً في القرب وظناً في البعد إلا في نافلة السفر وصلاة شدة الخوف. باب أركان الصلاة أركانها ثلاثة عشر: (الأول) النية مقرونة بجزء من تكبيرة الإحرام، (والثاني) القيام في الفرض للقادر عليه ومن عجز عن القيام صلى جالساً فإن عجز عن الجلوس اضطجع على جنبه واستقبل القبلة بوجهه ومقدم بدنه، ويكره أن يضطجع على الجنب الأيسر من غير عذر، فإن عجز عن الاضطجاع استلقى على ظهره، ويجب عليه أن يرفع رأسه بشيء ليستقبل القبلة بوجهه، وأن يجلس للركوع والسجود إن أمكنه ذلك، فإن عجز أشار برأسه، فإن عجز أشار بأجفانه، فإن عجز أجرى أركان الصلاة على قلبه وفي جميع ذلك لا ينقص من أجره شيء، ويجوز للقادر أن يصلي النفل قاعداً ومضطجعاً، لكن ثواب القاعد نصف ثواب القائم، وثواب المضطجع نصف ثواب القاعد. (والثالث) تكبيرة الإحرام ويتعين فيها الله أكبر فلا تصح بغير ذلك للقادر عليه والعاجز عنه يأتي بما قدر عليه ولو بغير العربية، والسنة عقب هذه التكبيرة أن يقرأ دعاء الافتتاح ثم يتعوّذ من الشيطان الرجيم.

(والرابع) قراءة الفاتحة بالبمسلة في قيام كل ركعة والمسبوق يتحملها عنه الإمام إن كان أهلاً للتحمل، ويجب ترتيب الفاتحة وموالاتها وتجويد حروفها ومراعاة تشديداتها الأربع عشرة، ومن عجز عن الفاتحة قرأ بدلها سبع آيات من القرآن، فإن عجز عن القرآن أتى بسبعة أنواع من الذكر، فإن عجز عن الذكر وقف ساكتاً بقدرها ولا يترجم عنها، والسنة أن يقرأ سورة أو شيئاً من القرآن بعد الفاتحة في كل ركعة من الصلاة الثنائية وفي الركعتين الأولتين فقط من الثلاثية والرباعية. (والخامس) الركوع مقروناً بالطمأنينة حتى تستقر الأعضاء، والواجب فيه أن ينحني بعد الفاتحة حتى تصل كفاه إلى ركبتيه إن كان معتدل الخلقة، والسنة أن يسوي فيه ظهره وعنقه كصفيحة وينصب ساقيه ويأخذ ركبتيه بيديه مع تفريق أصابعهما ويقول فيه: سبحان ربي العظيم، وأدنى الكمال ثلاث مرات. (والسادس) الاعتدال مقروناً بالطمأنينة حتى تستقر الأعضاء، والواجب فيه أن يعود الرافع لما كان عليه قبله، والسنة أن يقول في حال رفعه من الركوع: سمع الله لمن حمده فإذا اعتدل قال؛ ربنا لك الحمد، وإن يقنت في اعتدال الركعة الأخيرة من الصبح كل يوم ومن الوتر في النصف الثاني من رمضان. (والسابع) السجود مرتين مقروناً بالطمأنينة، ويشترط فيه أن يسجد على جبهته مكشوفة وعلى ركبتيه وعلى جزء من بطون يديه وجزء من بطون أصابع قدميه، وأن يرفع أسافله على أعاليه، وأن يتثاقل برأسه حتى يحس بالثقل، والسنة أن يسجد على أنفه ويقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى وبحمده، وأدنى الكمال ثلاث وأن يكثر فيه من الدعاء. (والثامن) الجلوس بين السجدتين مقروناً بالطمأنينة، والسنة أن يقول فيه: رب اغفر لي وارحمني وارفعني واجبرني وارزقني واهدني وعافني واعف عني. (والتاسع) الجلوس الأخير الذي يسلم عقبه غالباً. (والعاشر) قراءة التشهد في هذا الجلوس وهو التحيات إلي وأشهد أن محمداً رسول الله.

(والحادي عشر) الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجلوس أيضاً بعد قراءة التشهد وأقلها اللهم صلِّ على محمد وأكملها مذكور في المطولات. (والثاني عشر) التسليمة الأولى والواجب فيه السلام عليكم، والسنة أن يزيد: ورحمة الله وأن يسلمها على اليمين وأن يسلم بعدها تسليمة ثانية على الشمال، وأن يلتفت مع كل تسليمة إلى جهتها. (والثالث عشر) ترتيب الأركان على هذا الوجه المذكور. (فصل) : وسنن الفرائض ثنتان وعشرون ركعة: عشر، منها مؤكدات وهي ركعتان قبل الصبح وركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء. وثنتا عشر غير مؤكدة وهي ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها زيادة على المؤكدات وأربع قبل العصر وركعتان قبل المغرب وركعتان قبل العشاء. (وأما الوتر) فهو سنة مستقلة وهو أفضل جميع السنن وأقله ركعة وأكثره إحدى عشرة وأدنى الكمال ثلاث ركعات، ولا يصح فعله إلا بعد صلاة العشاء، ويمتد وقته إلى طلوع الفجر الصادق، وإخراجه عن وقته بلا عذر مكروه وتركه بالكلية أشد كراهة. (فصل) : والسنن المطلوبة في الصلاة نوعان: أبعاض وهيئات، فالأبعاض عشرون منها: القنوت والتشهد الأول في الفرض. والهيئآت كثيرة منها تسبيحات الركوع والسجود وتكبيرات الانتقالات ودعاء الافتتاح والتعوذ قبل الفاتحة والتأمين بعدها والسورة بعد التأمين والجهر والإسرار في محلهما، ومن ترك شيئاً من الأبعاض عمداً أو سهواً فالسنة له أن يسجد للسهو والهيئات لا يسجد لها وإن تركها عمداً، فلو سجد لتركها متعمداً للسجود بطلت صلاته، ومن شك قبل فراغ الصلاة في عدد ما صلاه من الركعات أو في شيء من أركان الصلاة وجب عليه أن يبني على اليقين ويأتي بما شك فيه، ويسن له أن يسجد للسهو أيضاً، وسجود السهو لا يزيد عن سجدتين ومحله قبل السلام، ولا يضر الشك بعد فراغ الصلاة في شيء من ذلك إلا في النية. باب مفسدات الصلاة

المفسدات إن قارنت تكبيرة الإحرام فلا تنعقد الصلاة معها وإن طرأت بعد الدخول في الصلاة أبطلتها وهي كثيرة، فمنها الكلام العمد ولو قليلاً، والفعل الكثير ولو سهواً، والحدث الأكبر أو الأصغر، وحدوث النجاسة التي لا يعفى عنها، والسلام عمداً في غير محله، وفعل شيء من الأركان الفعلية عمداً في غير محله، والردة والعياذ بالله تعالى، وانكشاف العورة للقادر على الستر وتغيير النية والتحول عن القبلة بالصدر عمداً إلا في صلاة شدة الخوف ونافلة السفر. باب صلاة الجماعة هي فرض كفاية على أهل البلد، ويجب عليهم إقامتها في محل ظاهر للناس لا يستحي أحد من دخوله، والسنة أن يصلي الشخص جماعة ولو مع أهل بيته، ويجب على المقتدي أن ينوي الجماعة أو الاقتداء، وأن يعلم أفعال الإمام وأن يتابعه فيها، وأن يجتمع معه في مكان واحد وأن لا يتقدم عليه فيه، وأن لا يتقدم عليه في الأفعال تقدماً فاحشاً ولا يتأخر عنه فيها كذلك، ولا تصح إمامة الأنثى إلا للنساء ولا إمامة الكافر ولا من لا يميز، ولا من يبدل حرفاً من الفاتحة بحرف آخر، والأفضل أن يكون الإمام فقيهاً عالماً بأحكام الصلاة والجماعة، وأن يكون من خيار الناس في الذات والنسب والصفات. باب صلاة السفر

يجوز قصر الصلاة الرباعية في السفر الطويل الجائز بشرط أن يقصد المسافر محلاً معلوماً، وأن ينوي القصر يقيناً مع تكبيرة الإحرام، وأن لا يقتدي بمن يتم صلاته، وأن لا ينتهي سفره قبل تمام الصلاة، ويجوز في السفر المذكور جمع التقديم والتأخير بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فقط. ولكل من الجمعين شروط. فشروط جمع التقديم أن ينوي الجمع في الصلاة الأولى ولو مع السلام منها، وأن يقدم صاحبة الوقت وهي الظهر أو المغرب، وأن تكون المتقدمة صحيحة يقيناً، وأن لا يفصل بينها وبين الثانية زمن يسع ركعتين، وأن يدوم السفر حتى يحرم بالثانية. ولجمع التأخير شرطان فقط: أن ينوي الجمع قبل خروج وقت الظهر أو المغرب، وأن يدوم السفر حتى يصلي الثانية كلها. باب صلاة الجمعة لا تجب الجمعة إلا على أهل البلد المبنية ولو بالجريد أو القصب إذا كان فيهم أربعون من المسلمين الذكور البالغين العقلاء المستوطنين وسلموا من الأمراض وأعذار الجماعة، وتصح من المماليك والصبيان والنساء تبعاً لهؤلاء، وتجب أيضاً على كل مقيم في بلدتهم تبعاً لهم وإن لم يستوطن بها إذا كانت إقامته قاطعة للسفر. وشروط صحتها أن يتقدم عليها خطبتان بشروطهما، وأن تقع جماعة ولو في الركعة الأولى، ولا بد من نية الجماعة مع التحرم حتى في حق الإمام، وأن تفعل مع خطبتيها في وقت الظهر فلا يصح فعلهما قبله ولو خرج الوقت قبل تمامها تمموها ظهراً، وأن تكون واحدة في البلد إلا لعذر، والسنة أن يغتسل قبل الزوال من يريد حضورها، وأن يتنظف ويتطيب ويلبس الثياب البيض، وأن يقرأ الناس في يومها وليلتها سورة الكهف، وأن يكثروا فيها من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. باب صلاة العيدين والخسوف والاستسقاء

كل واحدة من هذه الثلاث سنة مؤكدة لكل إنسان، والأفضل للنساء فعلها في البيوت وللرجال فعلها في المسجد إن وسع الناس وإلا في الصحراء ويصلي كل عيد ركعتين يكبِّر قبل القراءة في الأولى سبع تكبيرات غير تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً غير تكبيرة القيام، ويجب تعيين عيد الفطر من عيد الأضحى في نية الصلاة، ويسن بعدها للجماعة خطبتان كخطبة الجمعة لكنه يكبر في أول الأولى تسع تكبيرات متوالية، وفي أول الثانية سبعاً كذلك، وأن يكبر الناس في عيد الفطر من غروب الشمس آخر يوم من رمضان إلى دخول الإمام في صلاة العيد، وفي عيد الأضحى من صباح يوم عرفة إلى الغروب آخر أيام التشريق، وأما الحجاج فيكبرون في الأضحى إذا تحللوا من إحرامهم، وأقل صلاة الكسوف أن تصلي ركعتين كسنة الظهر، وأكملها أن يجعل في كل ركعة قيامين يطيل القراءة فيهما وركوعين يطيل التسبيح فيهما ولا زيادة في السجود لكنه يطيل التسبيح فيه أيضاً، ويسن بعدها للجماعة خطبتان كخطبتي العيد لكنه يستغفر الله تعالى في أول الأولى منهما تسع مرات وفي أول الثانية سبعاً. وصلاة الاستسقاء تفعل عند حاجة الناس إلى السقيا من الله تعالى وهي كصلاة العيد، ويسن بعدها للجماعة خطبتان كخطبتيه إلا أن الخطيب يبدل التكبيرات بالاستغفار، ويتوجه للقبلة في أثناء الخطبة الثانية ويقلب رداءه ويجعل أعلاه أسفله ويمينه يساره، ويفعل الناس مثله وهم جالسون، ويدعو الله تعالى سراً وجهراً، ويؤمن الناس على دعائه إذا جهر، ويدعون لأنفسهم سراً عند إسراره، ويسن الغسل لكل من العيدين والكسوفين والاستسقاء. كتاب الجنائز كل ميت من المسلمين يجب غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه إلا الشهيد في قتال الكفار، والسقط إذا نزل ميتاً قبل تمام أشهره فإنهما لا يغسلان ولا يصلى عليهما. وأقل غسل الميت تعميم جسده بالماء مرة واحدة بشرط أن تزول عنه الأوساخ التي تمنع وصول الماء إلى جسده بتلك المرة.

(وأكمله) أن يجلسه الغاسل مائلاً إلى قفاه ويسند ظهره ويمر يده على بطنه ليخرج ما فيه من الأذى ثم يغسل سوأتيه بخرقة ملفوفة على يده اليسرى، ثم ينظف أسنانه ومنخريه وأذنيه بسبابته اليسرى ويلف عليها لكل مرة خرقة نظيفة أو نحوها، ثم يوضئه كالحي ثم يعمه بالماء ثلاث مرات، ويكون في المرة الأولى سدر أو نحوه، وفي الأخيرة قليل من كافور، ويبدأ في كل مرة من الثلاث بغسل رأسه والسنة تنشيفه بعد تمام غسله. ويكفن الميت فيما يجوز له في حياته لبسه من الثياب والأبيض أفضل من غيره والقديم المغسول أولى من الجديد. وأقل الكفن لفافة واحدة تستر جميع البدن إلا رأس المحرم ووجه المحرمة فيحرم سترهما. وأقله للذكر ثلاث لفائف ليس فيها قميص ولا عمامة، وللأنثى لفافتان وإزار وخمار وقميص، والسنة أن يوضع على منافذ الميت وأعضاء سجوده قطن، وأن يرش على جسده وعلى كل طبقة من طبقات الكفن وعلى القطن حنوط ويوضع مع الحنوط كافور، وأن تشد ألياه بخرقة وأن يشد الكفن بشداد وتحل الشداد عنه في القبر.

والصلاة عليه ليس فيها ركوع ولا سجود. وأركانها أربع تكبيرات والنية مقرونة بالتكبيرة الأولى والقيام للقادر عليه، وقراءة الفاتحة في أي محل والأفضل أن تكون بعد التكبيرة الأولى، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التكبيرة الثانية، والدعاء للميت بأخروي بعد التكبيرة الثالثة. وأقله: اللهم اغفر له وارحمه. والتسليمة الأولى بعد التكبيرة الرابعة. والسنة أن يتعوّذ قبل الفاتحة وأن يطول الدعاء بعد الثالثة وأن يكون بالوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأن يقول بعد الرابعة وقبل السلام: اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله وللمسلمين. وأقل الدفن أن يكون في حفرة تمنع ظهور رائحة الميت وتصون جسمه من أكل السباع. وأكمله أن يكون في لحد إن كانت الأرض قوية، وفي شق إن كانت رخوة، وأن يوسع ويعمق قدر قامة وبسطة، ويجب أن يضجع الميت في القبر على جنبه وأن يوجه للقبلة، والسنة أن يكون على الجنب الأيمن، وأن يرش قبره بماء بارد، وأن يلقن بعد دفنه إن كان مكلفاً، وأن يعزى أهله بعد موته إلى ثلاثة أيام، ولا يجوز دفن ميتين في قبر ولا نبش القبر قبل بلي الميت لدفن ميت آخر أو غيره إلا لضرورة. كتاب الزكاة وأنواعها كثيرة. فمنها: زكاة الذهب والفضة وهي واجبة على من ملك عشرين مثقالاً من الذهب الخالص أو مائتي درهم من الفضة الخالصة وحال الحول وهي في ملكه ويخرج من ذلك ربع العشر وما زاد على ذلك فبحسابه. ومنها: زكاة التجارة وهي واجبة على من اتجر ولو في شيء حقير فيقوم بضاعته عند آخر الحول بما اشتريت به فإن بلغت به نصاباً زكاها بربع العشر من قيمتها وإلا فلا زكاة فيها، ثم إن ملك مال التجارة بعين نصاب من ذهب أو فضة أو بأقل من نصاب وفي ملكه تمامه فأول الحول من حين ملك النقد وإن ملك مالها بعروض قنية أو بذهب أو فضة أقل من نصاب وليس في ملكه تمامه فأول الحول يوم بدء التجارة.

ومنها: زكاة الزروع والثمار فزكاة الزروع واجبة في القوت فقط كالحنطة والأرز والعدس. وزكاة الثمار واجبة في التمر والزبيب فقط. وتتعلق الزكاة بالحب إذا سنبل واشتد، وبالثمار إذا بدا صلاحها، لكن لا تخرج من كل منها إلا إذا بلغ نصاباً بعد القطع والتجفيف والتصفية. نصاب كل منها خمسة أوسق صافية، ثم إن سقيت بلا تعب زكيت بالعشر كاملاً وإن سقيت بتعب زكيت بنصف العشر. ومنها: زكاة الفطر وهي واجبة على من ملك شيئاً زائداً على مؤنته ومؤنة عياله ومماليكه ليلة العيد ويومه، ويخرج الشخص صاعاً عن نفسه وصاعاً عن كل من تلزمه مؤنته من المسلمين ولو كان رضيعاً، ويكون الصاع من غالب قوت أهل البلد في غالب السنة وقدره أربع حفنات. بكفي معتدل الخلقة ووزنه خمسة أرطال وثلث برطل بغداد. كتاب الصيام لا يجب صوم رمضان إلا على المسلم البالغ العاقل القادر على الصوم الطاهر من الحيض والنفاس، وإذا تم شعبان ثلاثين يوماً أو رأى الهلال عدل وثبت عند القاضي وجب الصوم على عموم الناس فإن لم يثبت عنده وجب على الرائي وعلى من صدقه فقط. (فصل) : وشروط صحة الصوم ستة: (الأول) الإسلام. (والثاني) التمييز. (والثالث) النقاء من الحيض والنفاس جميع النهار (والرابع) النية وتصح نية صيام التطوع قبل الزوال بشرط أن لا يتعاطى مفطراً قبلها وقوعهما في الليل أفضل، ويجب في صيام الفريضة تعيينه ووقوع نيته في جزء من الليل والأفضل وقوعها في الثلث الأخير. (والخامس) الإمساك عن المفطرات كلها من الفجر إلى الغروب. (والسادس) دخول الوقت أو وجود السبب في صوم الفريضة.

(فصل) : والمبطلات للصوم عشرة: (الأول) دخول شيء من أعيان الدنيا ولو قليلاً إلى الجوف عمداً إن دخل من أحد المنافذ المفتوحة. (الثاني) القيء عمداً وإن لم يرجع منه شيء إلى الجوف. (الثالث) الجماع عمداً ولو بغير إنزال (الرابع) خروج المني بتعمد الاستمناء أو المباشرة ولو بغير جماع كخروجه باللمس والمعانقة والقبلة بلا حائل. (الخامس) الجنون ولو لحظة يسيرة. (السادس) الإغماء من الفجر إلى الغروب. (السابع) الإفطار قبل أن يتحقق غروب الشمس أو يغلب على ظنه غروبها إذا لم يتبين له الحال. (الثامن) طرو الردة والعياذ بالله تعالى. (والتاسع) طرو الحيض أو النفاس. (العاشر) الولادة المصحوبة بالبلل، ومن أفطر عامداً في رمضان أو نسي فيه النية ليلاً وجب عليه الإمساك بقية النهار، وكذا من تبين له ثبوت رمضان أثناء يوم الشك.

(فصل) : لا يفطر الصائم بوصول شيء إلى جوفه من أعيان الجنة مطلقاً، ولا من أعيان الدنيا إن وصل إليه بغير الاختيار أو مع النسيان ولا بالجماع ولا بخروج المني كذلك ولا بالقيء قهراً إذا لم يرجع منه شيء إلى الجوف، ولا بالنخامة إذا جرت إلى جوفه قهراً عنه، ولا بالاكتحال والأدهان وإن وجد طعم الكحل والدهن في حلقه، ولا بدخول الذباب والبعوض وغبار الكنس والغربلة في جوفه وإن أمكنه أن يتجنب ذلك، ولا يبلع الريق الخالص من معدنه، ولا يسبق ماء المضمضة والاستنشاق إلى جوفه إذا لم يبالغ فيهما وكان السبق في واحدة من المرات الثلاث، ولا بالنوم وإن استغرق النهار كله، ولا بالإغماء إذا أفاق لحظة في النهار بشرط أن توجد منه النية في وقتها، ولا بالفصد والحجامة، ولا يصح صيام العيدين ولا يوم من أيام التشريق الثلاثة مطلقاً ولا صيام يوم الشك، ولا يوم من النصف الثاني من شعبان إلا إذا صام ذلك عن فريضة أو وافق عادة له أو وصل صومه بصوم شيء من النصف الأول ولو باليوم الخامس عشر. ويحرم على الصائم القبلة والمعانقة ونحوهما إن تحركت بذلك شهوته، ويسن له تعجيل الفطر وتأخير السحور والاغتسال عن الحدث الأكبر قبل الفجر والإفطار على التمر إن تيسر وإلا فعلى شيء حلو كذلك وإكثار الدعاء خصوصاً عند الإفطار، وإكثار القرآن والصدقة في رمضان. ويكره له الفصد والحجامة ومضغ العلك وذوق الطعام والمبالغة في المضمضة والاستنشاق والقبلة ونحوها إذا لم تتحرك بهما شهوته. وليصن نفسه عن الشهوات والغيبة والنميمة وكل قول أو فعل قبيح.

(فصل) : الطاعن في السن والمريض الذي لا يرجى له الشفاء إذا أفطرا في رمضان يلزم كلّاً منهما مد طعام لكل يوم ولا قضاء عليهما، ويجب على الحائض والنفساء الإفطار في رمضان وغيره، ويجوز في رمضان للمسافر إذا كان سفره طويلاً جائزاً ولو قدر على الصوم، والأفضل له أن يصوم إذا لم يحصل له مشقة، ولا يجوز للمريض إلا إذا حصلت له مشقة شديدة بالصوم، ويجوز للحامل والمرضع إذا خافتا في الصوم على أنفسهما أو على أولادهما، ويجب القضاء على هؤلاء كلهم، وإذا فات الصوم بغير عذر وجب قضاؤه على الفور، فإن فات بعذر وجب قضاؤه على التراخي وإلا فضل التعجيل. (فصل) : من فاته صيام من رمضان بعذر ومات قبل أن يتمكن من قضائه فليس له تدارك، فإن مات بعد التمكن من القضاء فإما أن يصوم عنه وليه وإما أن يطعم عنه مداً لكل يوم، ومن لزمه قضاء شيء من رمضان وأخره بغير عذر حتى جاء رمضان الآخر وجب عليه مع القضاء لكل يوم مد من طعام، ويتكرر المد بتكرر السنين، وكذا يجب المد مع القضاء على الحامل والمرضع إذا أفطرتا للخوف على أولادهما فقط، ومن أفطر بالجماع في نهار رمضان يعزر وتجب عليه الكفارة العظمى وهي عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً لكل منهم مد من طعام. باب الاعتكاف سنة مؤكدة ولا يصح إلا في المسجد بالنية وأقله لحظة تزيد على طمأنينة الصلاة وتطلب المواظبة عليه كلما دخل المسجد خصوصاً في رمضان وفي العشر الأواخر منه أفضل لطلب ليلة القدر. ويبطله الجماع والسكر عمداً والكفر والجنون والحيض والنفاس والخروج من المسجد بلا عذر إلا إذا أطلقه في النية وخرج من المسجد عازماً على الرجوع له. كتاب الحج والعمرة

لا يجب كل منهما بأصل الشرع إلا مرة في العمر، حتى لو ارتد بعد فعلهما ثم عاد إلى الإسلام لم تجب إعادتهما. وشروط وجوبهما: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة. وشروطهما أن يكون الشخص قادراً على جميع المؤن التي يحتاجها لنفسه والتي يتركها لعياله وأتباعه من خروجه من بلده حتى يرجع إليه، وعلى ركوب الدابة في ذهابه ورجوعه من غير مشقة شديدة، فإن شق عليه ركوبها فيشترط أن يقدر على الركوب في شق محمل مظلل إن تأذى بالحر أو البرد، فإن شق عليه ركوبه فيه فعلى سرير يحمله رجال، فإن شق عليه ركوبه أيضاً فلا يجب عليه الحج بنفسه بل يجب عليه أن يستأجر من يحج عنه إن قدر على ذلك، فإن وجد من يحج عنه بلا أجرة وجب عليه وأن يأذن له، ومن مات وقد لزمه حجة فرض جاز لكل أحد ولو كان أجنبياً وإن لم يأذن له الوارث أن يحجها عنه وإن لم يوص بها في حياته، ومثله من مات ولم يستطع حجة الإسلام في حياته، فإن مات بعد حجة الإسلام وليس عليه فرض توقف الحج عنه على إذنه فيه قبل موته، ولا يصح الحج عن الحي إلا إذا كان معضوباً وأذن فيه لمن يفعله عنه، ولا يصح إحرام الصغير المميز إلا بإذن وليه وغير المميز يحرم عنه وليه، ويحضره مواضع النسك كلها حتى عند رمي الجمار ويطهره ويتطهر معه للطواف ويطوف ويسعى به بعد أن يطوف ويسعى عن نفسه أو يأذن لمن يفعل به جميع ذلك، ويصح إحرام الرقيق البالغ ولو بغير إذن سيده، لكن له أن يحلله منه إذا أحرم به بغير إذنه، والأولى له حينئذٍ أن يأذن له في إتمام نسكه، ومثله في ذلك الزوجة ولو كان نسكها فرضاً إلا إذا تضيق عليها، ويسقط فرض الإسلام عن الحر البالغ العاقل ولو غير مستطيع. باب

أركان الحج ستة: نية الإحرام به والوقوف بعرفة وطواف الإفاضة والسعي والحلق أو التقصير وترتيب معظم الأركان. وهذه الأركان الستة أركان للعمرة إلا الوقوف بعرفة، ويجب فيها ترتيب جميع أركانها. وواجباته خمسة: الإحرام من الميقات والمبيت بمزدلفة والمبيت بمنى ليالي التشريق ورمي الجمرات وترك محرمات الإحرام. (وللعمرة) واجبان فقط: الإحرام من الميقات وترك محرمات الإحرام وما عدا هذه الأركان والواجبات فهو سنن، ولا يخرج الشخص من إحرامه حتى يتمم الأركان كلها، فلو مات وقد بقي عليه شعرة من الحلق لم يسقط الفرض إن كان ذلك النسك فرضاً، ومن ترك شيئاً من الواجبات ولو عمداً فنسكه صحيح ويلزمه بتركه دم ولا يلزمه شيء بترك السنن. (فصل) : يسن لمريد الإحرام أن يتنظف قبل الإحرام بإزالة الأوساخ والأظفار وشعر الإبط والعانة ويغتسل للإحرام ويتطيب في بدنه فقط ويلبس إزاراً ورداء أبيضين إن كان ذكراً ويصلي ركعتي الإحرام ثم ينوي ويلبي، ويسن الإكثار من التلبية في دوام الإحرام. (فصل) : ووقت الوقوف الزوال من يوم تاسع الحجة إلى طلوع الفجر يوم العاشر. والواجب فيه حضور المحرم بأرض عرفة لحظة من هذا الوقت ليلاً أو نهاراً، والأفضل الحضور بها نهاراً والبقاء فيها إلى الغروب. والسنة للمحرم أن لا يشتغل في دوام إحرامه إلا بما يقربه لمولاه عز وجل، وأن يصون نفسه حتى عن الكلام المباح الذي ليس فيه منفعة والمحافظة على ذلك يوم عرفة آكد.

(فصل) : وشروط الطواف الطهارة وستر العورة وابتداؤه بالحجر الأسود ومحاذاة الحجر بالشق الأيسر أول الطواف وآخره، ويجعل الطائف الكعبة على يساره مع المشي تلقاء وجهه، ويكون خارجاً بجميع بدنه عن جميع البيت والشاذروان وحجر إسماعيل ويطوف سبعاً يقيناً ولا يقصد غير الطواف بمشيه، ويكون الطواف داخل المسجد الحرام، ولا تجب في الطواف نية إلا إذا كان لغير مناسك. وسننه كثيرة منها استلام الحجر الأسود وتقبيله، واستلام الركن اليماني والمشي والحفاء فيه والرمل والاضطباع للذكر إذا أراد السعي بعده والدعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه وصلاة ركعتين بعد تمامه وتجزىء ركعتان بعد أسابيع كثيرة والأفضل أن يصلي لكل أسبوع ركعتين. (فصل) : وشروط السعي الابتداء بالصفا والختم بالمروة، وأن يقع سعي العمرة بعد طوافها وسعي الحج بعد طواف القدوم أو الإفاضة والأفضل فعله بعد طواف القدوم، وأن يكون الطواف صحيحاً وأن يسعى سبعاً يقيناً. وسننه كثيرة: منها الطهارة وستر العورة والصعود على درج الصفا والمروة والهرولة بين الميلين الأخضرين للذكور والدعاء وللذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه والموالاة بين مراته وبينه وبين الطواف. (فصل) : والواجب في الحلق إزالة ثلاث شعرات من الرأس بأي كيفية، والأفضل للذكر أن يحلق رأسه كله بالموسى وللأنثى أن تقصر من جميع شعر رأسها بأن تجمعه كله وتأخذ من طرفه قدر أنملة إلا الذوائب، والسنة أن يستقبل الشخص القبلة حال الحلق أو التقصير، ويأتي بالتكبير والدعاء وذكر الله تعالى. (وأما الترتيب) فهو أن يتقدم الإحرام على الكل والوقوف على الحلق والطواف، وأما السعي فيجوز تقديمه على الوقوف إن فعله بعد طواف القدوم وليس بين الحلق والطواف ترتيب.

(فصل) : يصح الإحرام بالعمرة في أي وقت كان حتى في أشهر الحج، ولا يصح الإحرام بالحج وحده ولا بالحج والعمرة معاً إلا في أشهر الحج وهو شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، فمن أحرم به قبل دخولها أو بعد خروجها انعقد إحرامه عمرة، ومن كان بمكة وأراد الحج وجب عليه أن يحرم به منهاقبل أن يفارق بنيانها، والأفضل أن يحرم من باب بيته أو من حجر إسماعيل، فإن أراد العمرة وجب عليه أن يخرج إلى أطراف الحل من أي جهة ويحرم منه وأفضل بقاعه الجعرانة ثم التنعيم ثم الحديبية، ومن جاء من الآفاق وجب عليه الإحرام من الميقات أو الذي يحاذيه. والمواقيت الشرعية خمسة: ذو الحليفة والجحفة ويلملم وقرن المنازل وذات عرق. (فصل) : والواجب في مبيت مزدلفة الحضور فيها لحظة من النصف الثاني من ليلة النحر بعد الوقوف والسنة تقديم النساء والضعفاء إلى منى بعد نصف الليل قبل الزحمة، وأن يبيت الرجال الأقوياء إلى الفجر ثم يصلوا الصبح بها في أول الوقت، والأفضل أن تكون جماعة ومع الإمام ثم يقفوا على المشعر الحرام أو بقربه بعد صلاة الصبح مشتغلين بالاستغفار والدعاء إلى زيادة الاسفار، ثم يتوجهوا قبل طلوع الشمس إلى منى فيصلون إليها بعد طلوعها، والسنة أن يأخذ الحجاج من مزدلفة سبع حصيات لرمي جمرة العقبة يوم النحر فقط ويأخذوا من منى لرمي أيام التشريق، ويكره أخذ الجمار من الحل أو من محل نجس، فإذا وصلوا منى بعد ارتفاع الشمس يبدؤون برمي جمرة العقبة قبل كل شيء ثم يذبحون ضحاياهم أو هداياهم ثم يحلقون أو يقصرون، وبعد حط أمتعتهم واستقرارهم بمنى يتوجهون إلى مكة فيطوفون طواف الإفاضة ثم يرجعون إلى منى فيصلون الظهر بها في أول الوقت ويبيتون فيها ليالي أيام التشريق، وهذا المبيت واجب كما سبق، وأقله الحضور بمنى معظم كل ليلة من هذه الليالي، والأفضل مبيت كل ليلة بتمامها، ويسقط هذا المبيت ومبيت مزدلفة عن المعذورين كالرعاة وأهل السقاية.

(فصل) : شروط الرمي أن يكون باليد إن قدر على الرمي بها وأن يكون بالحجر ولو ياقوتاً وحجر حديد وأن يسمى رمياً وأن يقصد به المرمى وإن لم يقع فيه لقوة الرمي يقيناً، وأن يكون سبع رميات يقيناً إلى كل جمرة ولو بحصاة واحدة، وأن يبدأ في أيام التشريق بالجمرة التي من جهة عرفة ثم بالوسطى ويختم بجمرة العقبة، وأن يكون بعد دخول وقت الرمي، ويدخل وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر بانتصاف ليلته وأيام التشريق لا يدخل وقت رميها إلا بدخول وقت الظهر، ويبقى وقت الرمي كله أداء إلى غروب الشمس آخر أيام التشريق، فمن فاته رمي يوم من الأيام أتى به في بقيتها ليلاً أو نهاراً، لكنه يقدم رمي اليوم الفائت على رمي الحاضر، ويدخل وقت الحلق وطواف الإفاضة بنصف ليلة النحر ويستمر إلى آخر العمر، ويدخل وقت ذبح الضحية والهدي الذي ساقه المحرم بالحج إلى الحرم إذا طلعت الشمس يوم النحر ومضى قدر صلاة العيد وخطبتيه ويستمر إلى آخر أيام التشريق. ومن سنن الرمي أن يكون باليد اليمنى، وأن يكون الحصى قدر الباقلا وأن يغسله، وأن يكبر مع كل حصاة، وأن يستقبل القبلة حال الرمي في أيام التشريق، وأن يدعو الله تعالى مستقبل القبلة بعد رمي الجمرة الأولى والثانية.

(فصل) : طواف الوداع واجب على كل من سافر من مكة إلى وطنه أو إلى مسافة القصر أو إلى محل يريد أن يقيم فيه أربعة أيام صحاح، ويجب بتركه دم على غير المعذور، ويجب السفر عقبه فوراً، فإن تأخر بعده زمناً يسع ركعتين بطل وداعه إلا إن تأخر لدعاء بعد ركعتيه وعند شرب زمزم وفي الملتزم أو تأخر لشغل السفر كشراء الزاد وشد الرحال فلا يبطل وإن طال تأخره لذلك، ومثل ذلك ما لو قامت صلاة الجماعة بالفعل بعد فراغه فصلى معهم وانصرف فوراً، والسنة بعد ركعتيه أن يأتي الملتزم ويلصق به بطنه وصدره ويبسط يديه عليه ويضع خده الأيمن أو جبهته عليه ويدعو بما أحب، والأفضل أن يكون بالوارد عنه صلى الله عليه وسلم ثم يشرب من ماء زمزم ويتضلع منه ثم يعود إلى الحجر فيستلمه ويقبله ويسجد عليه ثلاثاً ثلاثاً ثم ينصرف تلقاء وجهه مستدبراً البيت إذا خرج من المسجد لا على ظهره ويخرج من باب الوداع، ويكره أن يقف على باب المسجد عند خروجه. (فصل) : والمحرمات بالإحرام سبعة: (الأول) اللبس عمداً فيحرم على الذكر ستر رأسه ولبس المخيط في أي عضو من أعضائه، ويحرم على الأنثى ستر وجهها ولبس القفاز في يدها وتجب به الفدية. (الثاني) الدهن لشيء من شعر الرأس أو من شعور. الوجه عمداً ولو رأس شعرة واحدة بأي دهن وتجب به الفدية أيضاً. (الثالث) التطيب عمداً في أي جزء من ظاهر البدن أو باطنه أو في شيء من الملبوس بأي نوع من الأنواع التي يقصد منها غالباً رائحتها الطيبة كالمسك والزعفران والورد وتجب به الفدية أيضاً.

(الرابع) الجماع ومقدماته كاللمس والتقبيل والمعانقة، ويحرم الجماع ولو بغير إنزال، ويفسد الحج به قبل التحلل الأول والعمرة قبل فراغ أعمالها وتجب بالجماع المفسد بدنة، فإن عجز عنها فبقرة، فإن عجز عنها فسبع من الغنم، فإن عجز قوم البدنة بسعر مكة وأخرج طعاماً بقيمتها، فإن عجز صام عن كل مد يوماً، ولا تجب فدية بالمقدمات إلا المباشرة بشهوة من غير حائل وفديتها وفدية الجماع غير المفسد شاة مخيرة كما سيأتي. (الخامس) عقد النكاح فيحرم نكاح المحرم ولا ينعقد لنفسه ولا لغيره لا بالوكالة ولا بالولاية ولو كانت عامة. (السادس) إزالة شيء من الشعر أو من الأظفار بأي طريق من طرق الإزالة، وتجب بكل منهما فدية مستقلة ولو مع النسيان، ولا تجب الفدية الكاملة إلا في ثلاث شعرات أو ثلاثة أظفار في زمان ومكان واحد، فإن تعدد الزمان أو المكان وجب في كل شعرة وكل ظفر مد طعام ولو كثرت الشعور والأظفار. (السابع) التعرض لشيء من صيود البر الوحشية المأكولة ولو خارج أرض الحرم ولا يجب الجزاء فيها إلا بالإتلاف ولو مع النسيان وتجب المماثلة في ضمانها فلا تجزىء البدنة عن الذي وجبت فيه شاة. (ويحرم) على الحلال صيد حرم مكة والمدينة ووج الطائف وكذا شجرها مطلقاً ونباتها الذي من شأنه أن ينبت بنفسه ولا جزاء لشيء من ذلك إلا في حرم مكة خاصة، ولا يدخل جزاء الشعور في جزاء الأظافير، ولا جزاء الصيد في جزاء الشجر والنبات ولا العكس. (ويحرم) نقل شيء من تراب الحرم وأحجاره ولو للتبرك وإن نقله لحرم آخر ويجب رده لمحله، ويكره نقل ذلك من الحل إلى الحرم. (ولا يحل) لأحد أن يتملك لقطة حرم مكة أبداً ولو كانت حقيرة بل يحفظها إلى وجود صاحبها ولقطة عرفة وحرم المدينة كلقطة غيرهما من بقية البقاع.

(وإذا كان) للصيد مثل من الأنعام كالنعام وبقر الوحش والحمام فالواجب فيه إما ذبح مثله وتفرقته وإما إخراج طعام بقدر قيمته، وإما صيام يوم عن كل مد وإن لم يكن له مثل كالعصافير فالواجب فيه إما إخراج طعام بقيمته وإما صيام يوم عن كل مد، وهذه المحرمات كلها تحل للمحرم بعد التحلل الأول إلا الجماع ومقدماته وعقد النكاح فلا تحل إلا بعد التحلل الثاني. (فصل) : وإذا منع المحرم من إتمام أركان النسك الذي أحرم به جاز له أن يتحلل فيذبح شاة وينوي التحلل عند ذبحها ثم يزيل ثلاث شعرات من رأسه وينوي التحلل عند إزالتها، فإن عجز عن الذبح أخرج طعاماً بقيمة الشاة ونوى التحلل عند إخراجه، ويقدم إخراج الطعام على إزالة الشعر، فإن عجز عن الطعام صام عن كل مد يوماً وتحلل بإزالة الشعر مع النية، ولا يتوقف التحلل على الصيام ولا يلزمه قضاء ما تحلل منه بل يبقى في ذمته كما كان قبل الإحرام به، ومن طلع عليه الفجر يوم النحر وهو محرم بالحج ولم يدرك عرفة فقد فاته الحج ووجب عليه أن يتحلل بعمل عمرة ويلزه قضاء الفائت في السنة القابلة ويلزمه ذبح شاة في سنة القضاء. (فصل) : ومن ترك شيئاً من الواجبات أو فعل شيئاً من المحرمات لزمه دم (والدماء) في الحج والعمرة أربعة أقسام: مرتب مقدر، ومرتب معدل، ومخير مقدر، ومخير معدل. (فالمرتب) هو الذي لا يصح الانتقال عنه إلى بدله إلا عند العجز عنه. (والمخير) بعكسه (والمعدل) هو الذي ينتقل عنه إلى شيء آخر بقيمته. (والمقدر) هو الذي ينتقل عنه إلى شيء لا يزيد ولا ينقص.

(وأسباب المرتب المقدر) تسعة: التمتع والقران وفوات الحج وترك الإحرام من الميقات وترك مبيت مزدلفة ومبيت منى وترك رمي الجمار وترك طواف الوداع، وكل سنة في النسك نذرها الشخص على نفسه وخالف نذره كأن نذر الحلق فقصر أو المشي فركب. (وفي) كل واحدة من هذه التسعة شاة فإن عجز عنها فصوم عشرة أيام ثلاثة في الحج إن أمكن صومها فيه وسبعة إذا رجع لوطنه. (وللمرتب) المعدل سببان: الجماع المفسد والإحصار وهو المنع من إتمام أركان النسك، وقد تقدم ما يجب عند العجز عن البدنة في الجماع وعند العجز عن الشاة في الإحصار. (وأسباب المخير المقدر ثمانية) إزالة الشعر والأظفار واللبس والدهن والتطيب ومقدمات الجماع والوطء بين التحللين وبعد الجماع المفسد وقبل تمام المفسد. (وفي كل واحد) من هذه الثمانية يتخير الشخص بين ذبح شاة أو التصدق بثلاثة صيعان على ستة مساكين لكل مسكين منهم نصف صاع أو صوم ثلاثة أيام. (وللمخير المعدل) سببان فقط: إتلاف الصيد والشجر وقد تقدم الواجب في الصيد ومثله الواجب في الشجر، ولا يصح ذبح هذه الدماء كلها ولا تفرقتها ولا تفرقة الطعام بدلها إلا في الحرم، ويستثنى منها دم الإحصار فيذبح في مكان الإحصار ويفرق هو أو بدله فيه، ولا يصح نقله عنه إلا إلى الحرم. باب الضحية والعقيقة الضحية سنة مؤكدة في جميع الجهات، ويزيد تأكدها في حق الحجاج بمنى، ويدخل وقتها إذا طلعت الشمس ومضى زمن يسع صلاة العيد وخطبتيه ويستمر أداء إلى غروب الشمس آخر أيام التشريق الثلاثة، فمن ذبح ضحيته قبل دخول وقتها لم تقع له ضحية، وكذا من ذبحها بعد خروج وقتها إلا إذا نذر ضحية معينة أو ضحية في ذمته ثم عين المنذور وأخر الذبح حتى خرج الوقت فإنه يلزمه بعده ويكون قضاء، ويحرم تأخير ذبح الواجبة عن وقتها بلا عذر.

(ولا تصح التضحية) إلا بالأنعام وأفضلها بعير ثم بقرة ثم شاة وسبع شياه أفضل من بعير والضأن أفضل من المعز، وتصح بالذكر والأنثى إلا إن كانت حبلى والذكر أفضل، فإن كثر نزوانه فالأنثى التي لم تلد أفضل منه، والمجزىء من الإبل ما تم له خمس سنين ودخل في السادسة، ومن البقر والمعز ما تم له سنتان ودخل في الثالثة، ومن الضأن ما تم له سنة أو أسقط ثناياه بعد ستة أشهر، ولا يجزىء ما فيه جرب ولو يسيراً، ولا ما فيه هزال أو عرج أو عور أو مرض بيِّن وما انفصل منه جزء مأكول ولو يسيراً إلا الخصي (ويحرم) الأكل من الضحية الواجبة ويجب التصدق بها كلها، والسنة أن يأكل من الضحية المسنونة والأفضل الأكل من كبدها، ويجب التصدق بجزء من لحمها نيأ، والأفضل التصدق بها كلها إلا لقماً يتبرك بأكلها، ومن لم يفعل تصدق بثلثها وأهدى ثلثها وأكل ثلثها، والسنة أن يذبحها الرجل بنفسه وأن يحضر الذبح من لم يذبح بنفسه ويسمي ويكبر الله تعالى عند الذبح ويصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم.

(فصل) : والعقيقة سنة مؤكدة ويدخل وقتها بانفصال الولد والأفضل ذبحها يوم سابعه ولا يجزىء فيها ما لا يجزىء في الضحية وأقلها شاة عن كل مولود، والأفضل ذبح شاتين عن الذكر وشاة عن الأنثى ويطبخها بحلو ولا يكسر عظمها بقدر الإمكان وبعثها للفقراء في أماكنهم أحب من ندائهم إليها، والمخاطب بها من تلزمه نفقة المولود إن أيسر بها قبل مضي ستين يوماً من الولادة، ويستمر طلبها منه حينئذٍ إلى بلوغ المولود فإن لم يوسر بها إلا بعد مضى الستين لم تطلب منه بل لو فعلها حينئذٍ وقعت شاة لحم لا عقيقة وحيث طلبت منه لا يفعلها إلا من مال نفسه ولو كان المولود غنياً، ومن بلغ ولم يعق عنه له أن يعق عن نفسه، والسنة أن يؤذن حين الولادة في أذن المولود اليمنى، وتقام الصلاة في أذنه اليسرى، وأن يحنكه حينئذٍ شخص من أهل الخير بشيء حلو كتمر، وأن يحلق رأسه ولو أنثى، ويتصدق بوزن شعره ذهباً أو فضة، ويسمى باسم من الأسماء الحسنة، والأفضل أن يكون الحلق والتصدق والتسمية يوم السابع، وأفضل الأسماء محمد فعبد الله فعبد الرحمن، والتسمية بملك الملوك وقاضي القضاة وعبد النبي حرام، وبالأسماء القبيحة كشهاب ومرة مكروهة. كتاب اليمين والنذر

لا ينعقد كل منهما إلا من البالغ العاقل المختار وبشرط أن يتلفظ به ويسمع نفسه، ولا ينعقد اليمين إلا باسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته الخاصة به كقوله: والله أو وقدرة الله أو ورب الكعبة، والحالف بالمخلوق كالنبي والكعبة حرام، ويكفر به الحالف إن قصد تعظيمه كتعظيم الله، فإن لم يقصد ذلك فهو مكروه فقط، وينبغي للشخص أن يصون نفسه عن اليمين ولو كان صادقاً، ومن حلف على ترك شيء من الفروض كالصلوات الخمس أو على فعل حرام كقطع الرحم عصى ولزمه أن يحنث في يمينه ويكفر، أو على ترك سنة كقضاء الحوائج أو فعل مكروه كشرب التنباك فالسنة أن يحنث ويكفر، أو على فعل مباح أو تركه كأكل الطعام واللبس ودخول الدار فالأفضل له أن لا يحنث في يمينه. (وكفارة اليمين) عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المخلة بالعمل أو إطعام عشرة مساكين لكل واحد منهم مد من غالب قوت البلد أو كسوتهم ولو بمنديل يعطى لكل واحد منهم، ويتخير الشخص بين هذه الثلاثة ولو كان غنياً، فإن عجز عنها لزم صيام ثلاثة أيام. (فصل) : والنذر قسمان: منجز ومعلق فالمنجز كقول الناذر: لله علي كذا أو نذرت لله كذا، ويلزمه الوفاء، بما نذره حالاً. والمعلق قسمان: قسم معلق على حصول نعمة أو اندفاع نقمة كقوله: إن شفاني الله أو إن سلمني من كذا فلله علي كذا فإذا وجد المعلق عليه لزمه الوفاء بالمنذور حالاً. وقسم معلق على فعل شيء أو تركه كقوله: إن دخلت الدار أو إن لم أكلم زيداً علي كذا فإذا وجد المعلق عليه وجب على الناذر الوفاء بالمنذور أو كفارة يمين وهو مخير بينهما، ولا ينعقد نذر الحرام كقتل النفس بغير حق وصيام العيدين، ولا نذر المكروه كالصلاة في المقبرة والحمام والنذر لأحد أبويه أو أحد أولاده، وكذا نذر المباح كالأكل واللبس والنوم ولا كفارة فيه.

(تتمة) : زيارة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سنة مؤكدة لكل أحد، وتتأكد للحجاج أكثر، وتركها مع التمكن منها حسرة عظيمة وحرمان من خير كثير، وإنكارها ضلال كبير وخسران مبين، والأفضل للحجاج تقديمها على الحج إن كان الوقت واسعاً يمكن فيه تحصيل الحج بعدها. (ويستحب) لقاصد الزيارة أن يكثر في طريقه من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم. وأن يزيد من ذلك إذا رأى حرم المدينة وأشجارها، وأن يغتسل عند وصول المدينة قبل دخولها، فإن لم يتمكن فبعد دخولها وقبل دخول المسجد، وأن يلبس أنظف ثيابه ويتطيب والثياب البيض أفضل من غيرها، وأن يدخل المسجد من باب جبريل، فإذا دخله قصد الروضة الشريفة وهي ما بين القبر والمنبر وصلى تحية المسجد فيها، والأفضل أن يصلي في مصلاه صلى الله عليه وسلم فإن لم يتيسر فيقربه من جهة المنبر الشريف، فإذا فرغ من الصلاة حمد الله تعالى وسأله أن ينفعه بهذه الزيارة ويتقبلها منه ودعا بما أحب لنفسه ولمن يحب وللمسلمين، ثم يتوجه إلى المواجهة للزيارة فيقف قبالة الوجه الشريف، ولذلك علامة معروفة هناك فيستدبر القبلة ويستقبل الوجه الشريف بخشوع وخضوع وأدب فارغ القلب من علائق الدنيا ناظراً إلى أسفل ما يستقبله، ويسلم على أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم بصوت يسمعه الملاصق له من غير تشويش، وأقله السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن شاء فليطول ثم يتأخر جهة يمينه قدر ذراع فيسلم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم يتأخر جهة يمينه قدر ذراع أيضاً فيسلم على عمر الفاروق ابن الخطاب رضي الله عنه، ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة الوجه الشريف ويتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى، ثم ينتقل إلى جهة رأس القبر الشريف ويستقبل القبلة فيكون القبر الشريف عن شماله ويدعو بما أحب لنفسه ولأحبابه وللمسلمين، وهكذا يفعل كلما أراد الزيارة، وينبغي له لزوم الأدب مدة إقامته بالمدينة، وأن يحافظ على

الاعتكاف في مسجده صلى الله عليه وسلم كلما دخله، وعلى الصلاة فيه خصوصاً مع الجماعة، وأن يكثر من الصوم والصدقة وتلاوة القرآن وأنواع العبادة، وأن يزور أهل البقيع خصوصاً يوم الجمعة والشهداء بأحد وأفضله يوم الخميس، ومسجد قباء وأفضله يوم السبت، وبقية المشاهد بالمدينة وهي مشهورة هناك، فإذا أراد السفر ودع المسجد الشريف وفعل مثل ما فعل أول الدخول، وسأل الله تعالى أن لا يجعل هذا آخر العهد بزيارة هذا النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم.

(خاتمة) : ينبغي لكل شخص أن يقصد بجميع أعماله وجه الله تعالى فقط حتى يكون من المخلصين وإلا فهو من أهل الرياء الذين يلعب بهم الشيطان ولا يجدون لأعمالهم ثواباً يوم القيامة، وأن يحسن المعاملة مع جميع الخلق في جميع أمور الدنيا والدين ليكون سليم العاقبة إذا لقي الله تعالى، وأن يدوم على الوضوء ما استطاع، ويكثر من ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن في جميع الأوقات خصوصاً أول النهار وآخره، وأول الليل وآخره، وأن يكثر من صلاة النافلة والاستغفار خصوصاً آخر الليل، ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً يوم الجمعة وليلتها، ومن الدعاء خصوصاً في الأسفار ومجامع الخير وعند شدة الكرب، ومن الصيام خصوصاً في الأيام الفاضلة كالأشهر الحرم ويوم عاشوراء وعشر ذي الحجة والاثنين والخميس، وأن يجعل الخوف من الله تعالى نصب عينيه على الدوام فإنه سبب لتحصيل كل خير والبعد عن كل سوء، ولا ييأس من رحمة الله فإن اليأس من الكبائر، وأن يتوب توبة صحيحة كلما وقع منه ذنب فإنه تعالى يحب التوابين، وأن يلازم تقوى الله تعالى في جميع أحواله الظاهرة والباطنة فإن الله يحب المتقين، وأن يبعد عن أذية الخلق وعن التسبب فيها بغير حق، وأن يخلص نفسه ما استطاع من حقوق الله تعالى وحقوق الخلق قبل خروجه من الدنيا ولو بالمسامحة من أهلها، وليوص بذلك إذا لم يتمكن منه في حياته، وليكن حريصاً على البعد من معاصي الله تعالى كالكذب وشهادة الزور والأيمان الفاجرة والخوض في أعراض الناس والإفساد فيما بينهم الحسد وغير ذلك، وليواظب على طاعة مولاه ويشغل بها أوقاته مدة حياته فعسى أن يأتيه الموت وهو على حالة مرضية فيلقى الله تعالى وهو راض عنه.

(نسأله) سبحانه وتعالى ونتوسل إليه بجاه أكرم خلقه عليه أن يعاملنا برضاه عنا في الدنيا والآخرة خصوصاً عند قبض أرواحنا، وفي قبورنا يوم الفزع الأكبر، ومع أصولنا وفروعنا وحواشينا وأشياخنا وأحبتنا، والمسلمين الأحياء منهم والميتين، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، والحمد لله رب العالمين حمداً يوافي نعمه ويكافي مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل سيدنا محمد وأصحابه وأزواجه وذريته وأهل بيته، كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

السبر عند المحدثين وإمكانية تطبيقه عند المعاصرين

السبر عند المحدثين وإمكانية تطبيقه عند المعاصرين د. أحمد عزي جامعة الإمارات ـ قسم الدراسات الإسلامية ـ العين بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسئيات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومَنْ يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (سورة آل عمران /102) {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنَّ الله كان عليكم رقيبا} (سورة النساء/1) {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} (سورة الأحزاب/71، 72) وبعد: فهذا بحث موجز بعنوان:» السبر عند المحدثين وإمكانية تطبيقه عند المعاصرين «مقدم إلى ندوة» علوم الحديث: واقع وآفاق «المنعقدة بتاريخ 8 ـ10 أبريل 2003م في كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي، ويدور الحديث فيه حول محاور أساسية هي: * تمهيد يتناول الحاجة إلى السبر، والأنموذج المنتقى للتطبيق عليه من المتقدمين. * بيان السبر في اللغة، والاصطلاح، وبيان قوامه. * منهج ابن عدي في سبر الحديث، ومدى قوته في ذلك. * مدى إمكانية تطبيق المعاصرين لسبر المتقدمين، والحاجة إليه، وبيان الوسائل المطلوبة لذلك. وهذا أوان تفصيل ما أجمل في المحاور المذكورة. التمهيد: الحاجة إلى السبر:

لكل علم من العلوم الشرعية أصولٌ يبنى عليها، وقواعدُ يحتكم إليها، لتثبيت دعائمه، وضبط مسائله، وتحديد استثناءاته، وشواذه. ولم يكن علم الحديث النبوي خلوا من ذلك، أو شافعا، بل حاز قصب السبق، وبلغ الغاية في إحكام الأسس والبنيان، وإرساء القواعد والأركان. ومما عني به المحدثون ضمن ذلك وضع ميزان دقيق للنظر في أحاديث الرواة، وفرز صحيحها، وسقيمها، والكشف عن غريبها، ومنكرها، ثم إعطاء كل راو الرتبة التي يستحقها في سلم الجرح، أو التعديل. وقد تولد هذا عن مسيس حاجة، وإلحاح طلب لاستكمال أهم جزء في ذلك البنيان. ويجد الناظر في هذا أن وسائل النقاد قد تعددت في الفحص عن حال الرواة، فمنهم من عاصرهم وصحبهم، فخبر حالهم، وحكم عليهم بمقتضى ما عرفه عنهم من صدق وتيقظ، أو خرم ما في عدالة، أو ضبط. ومنهم من جمع أقوال الأئمة المتكلمين في الرجال، وفلاها فليا، ورجح بين المختلف فيها، وأعطى للراوي مرتبة استنادا لتلك الأقوال. وهاتان الوسيلتان في الحكم على الراوي خاضعتان لتصور ذلك الناقد، وعلمه، وميوله، ونوازع نفسه، ولذلك قد يعتورها بعض ما يعلق بالإنسان من ميل وحيف، أوتشدد وتساهل، ونحو ذلك من العوارض. كما أن كثيرا من الرواة-المتقدمين منهم بوجه أخص- لا يعرف فيهم ما يرفع جهالة حالهم، ولا وصل عنهم جرح، أو تعديل فكيف العمل مع هؤلاء؟ والكثير من الأحاديث إنما تروى من طريقهم؟ من هنا جاءت الحاجة إلى سبر مرويات الراوي للحكم له أو عليه، فما هو السبر يا ترى؟ وما هي ألفاظه عندهم؟ وما طريقتهم فيه؟ وما مدى قوته أو ضعفه؟ بيان الأنموذج المنتقى وسبب الاختيار:

ونظرا لأن استقراء أعمال جميع النقاد التي استُعمل فيها السبر أمر عزيز المنال، صعب المرام، فقد اخترت كتاب» الكامل في ضعفاء الرجال «لأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني (365) هـ كأنموذج لذلك لأنه ـ في تقديري ـ أكثر من استخدم السبر في كتابه، وعالج عددا جما من الرواة، في أحاديث متنوعة العلل، ثم حاولت قدر الوسع أن أبين إمكان تطبيق ذلك عند المعاصرين. وقبل أن ألج في تفاصيل الموضوع يحسن أن أورد بعض ماقيل في ابن عدي نفسه، وفي كتابه» الكامل في ضعفاء الرجال «إشارة لسبب الاختيار، وإلماعة مضيئة للقارئ. والحق أن ماقيل في كامل ابن عدي، وفي شخصه من الثناء كثير، وفير، أجتزئ منه ماقل ودل. فمما قيل فيه ما ذكره تلميذه السهمي حيث نص قائلا:» كان أبو أحمد ابن عدي حافظا متقنا لم يكن في زمانه مثله « (1) . وقال الخليلي:» عديم النظير حفظا، وجلالة « (2) . وقال الذهبي:» هو الإمام الحافظ الناقد الجوال ... طال عمره، وعلا إسناده، وجرح وعدل، وصحح وعلل، وتقدم في هذه الصناعة « (3) . وقال أيضا:» وأما في العلل، والرجال فحافظ لايجارى « (4) .

_ (1) تاريخ جرجان (367) . (2) الإرشاد (2/794) . (3) السير (14/154) . (4) تاريخ الإسلام حوادث سنة (365) هـ.

وأما كتابه فأول من شهد بأهميته هو الإمام الهمام أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني (385) هـ سأله السهمي أن يصنف كتابا في ضعفاء المحدثين؟ فقال له:» أليس عندك كتاب ابن عدي؟ «فقلت: نعم. قال:» فيه كفاية لا يزاد عليه « (1) . وقال الذهبي:» له كتاب الكامل في معرفة الضعفاء في غاية الحسن « (2) . وقال أيضا:» ولأبي أحمد بن عدي كتاب الكامل، هو أكمل الكتب وأجلها في ذلك « (3) . وقال السبكي:» وكتاب الكامل طابق اسمه معناه، ووافق لفظه فحواه، من عينه انتجع المنتجعون، وبشهادته حكم المحكمون، وإلى ما يقول رجع المتقدمون، والمتأخرون « (4) . ومن خلال استعراض هذه الأقوال، والتمعن فيها نجد أن ابن عدي وصف بالحفظ، والإتقان، بل كان في عصره نسيج وحده في ذلك. كما أنه نعت بالناقد المقتدر الذي برع في الصناعة الحديثية من حيث التعديل، والتجريح للرواة، والتصحيح، والتعليل للأحاديث. وهذا يؤهله ابتداء إلى مصاف النقاد الكبار الذين ينبغي العناية بأحكامهم. وأما كتابه» الكامل في ضعفاء الرجال «فلا ريب أنه من أفضل ماصنف في بابه، فقد اعتبره الدارقطني على جلالته، وبراعته المشهودة في العلل، ومعرفة الرجال كافيا، وافيا. وجاء كلام الذهبي مؤكدا فحوى ماقاله سابقوه، وكذا كل من اطلع عليه بعلم، وتكلم عنه بعدل. منهج ابن عدي في الكامل إجمالا ومميزاته:

_ (1) تاريخ جرجان (367) . (2) تاريخ الإسلام، حوادث سنة (365) هـ. (3) الميزان (1/2) . (4) طبقات الشافعية الكبرى (3/315) .

كانت خطة ابن عدي في الكامل هي أن يعرف بالراوي، ثم يورد أقوال علماء الجرح والتعديل للأئمة السابقين عليه كابن معين، وأحمد، والبخاري، والفلاس، وغيرهم. ثم يسوق ما أنكر على الراوي من أحاديث، ثم يحكم عليه بعد أن يسبر حديثه حكما لاوكس فيه، ولاشطط، إذ يعد ابن عدي من المعتدلين. وهذا الذي ذكرت من ترتيب عناصر الترجمة إنما هو على سبيل الغالب (1) . والمميزات في كتاب الكامل كثيرة، ومتعددة أهمها مايلي: أولا: حفظه لعدد كبير من نصوص الجرح والتعديل لأئمة ضاعت مصنفاتهم، أو لامصنفات لهم مثل شعبة، والفلاس، ويحي بن سعيد القطان، وابن أبي عروبة الحراني، وغيرهم (2) . ثانيا: استعماله الأسانيد لكل ما يورده سواء أكان ذلك في عناصر التعريف بالراوي، أم أقوال الجرح والتعديل فيه، أم الأحاديث، أم الآثار المسوقة في ترجمته (3) .

_ (1) وهذا واضح بين في كل ترجمة وردت في الكتاب تقريبا إلا من لم يبلغه عنه نص، وهم قليل قياسا إلى عدد المترجم لهم في الكتاب. وانظر مثلا: الكامل (1/189) ، (2/624) ، (3/1082) ، (4/1456) ، (5/1816) ، (6/2178) . (2) انظر مثلا: الكامل (1/81) ، (1/109) ، (1/118) ، (1/138) ، (3/1229) ، (4/1451) ، (5/1840) . (3) انظر أي ترجمة مما ذكر قريبا، أو غيرها فستجد الرواية بالإسناد لكل النصوص المسوقة.

ثالثا: استيعابه في الجملة لأحاديث المترجم لهم حيث أطال النفس جدا فيما ينكر على الراوي في صبر، ودأب ظاهرين من أول الكتاب إلى آخره بحيث لايدانيه- فيما أعلم- أي كتاب آخر لاسيما في كثرة ما يورده من الغرائب، والمنكرات (1) . رابعا: قيامه بسبرالمرويات، وإخضاعها لفحص دقيق، وموازنتها بروايات الأثبات المتقنين، ثم إرسال الحكم على الراوي مدللا، ومعللا. وهذا ما سيأتي الحديث عنه بالتفصيل قريبا.

_ (1) يظهر ذلك بالموازنة بينه وبين العقيلي (322) هـ في» الضعفاء «، وابن حبان (365) هـ في» المجروحين «وهما من نظرائه في باب الضعفاء حيث يقتصران غالبا على إيراد الحديث الواحد، والاثنين، وربما الثلاثة، وأحيانا لايوردون شيئا، في حين أن ابن عدي قد يذكر العشرة، والعشرين، بل الخمسين، والستين للراوي الواحد!! فالبون شاسع بينهما، والمحلة نازحة. ولايعد هذا تقصيرا منهما، بل لكل واحد وجهة تولاها. كما أن ذلك التميز المشار إليه ليس من باب الكمال المطلق لكتاب دون آخر، فلكل مميزات، وجوانب قوة، أو ضعف، وكان ابن عدي في هذا فذا، منقطع القرين، والله أعلم. وانظر: ترجمة شريك في ضعفاء العقيلي فلم يورد له أي حديث، واكتفى بسوق أقوال العلماء فيه، بينما ساق ابن عدي له (64) حديثا معلولة، وفي ترجمة عبد الله بن لهيعة ساق العقيلي (3) أحاديث، وابن عدي (53) حديثا. وفي ترجمة أبان بن أبي عياش روى له ابن حبان في المجروحين (2) حديثين، وابن عدي (25) حديثا، وفي ترجمة جابر بن يزيد الجعفي لم يرو ابن حبان له شيئا سوى أقوال الرجال فيه، وأما ابن عدي فساق له مما ينكر عليه (13) حديثا عدا نصوص الجرح والتعديل، وفي ترجمة سعيد بن بشير أسند له ابن حبان (3) أحاديث، وابن عدي (23) حديثا مما تكلم فيه. وانظر التراجم المذكورة.

فكتاب من هذا الطراز حقيق أن يجعل أنموذجا في بابه، ومثلا سائرا في تخصصه، والله أعلم، ولهذا تم اختياره للنظر في صنيعه، ثم محاولة الاستفادة من ذلك لدى المعاصرين. وهذا أوان الشروع في المقصود، ولنبدأ بتعريف السبر من حيث اللغة، والاصطلاح، ثم بيان قوامه، وإطلاقاته عند المحدثين، وألفاظ السبر، ومنهج ابن عدي فيه. السبر لغة: هو» روز الأمر وتعرف قدره، يقال: خبرت ما عند فلان وسبرته. ويقال للحديدة التي يعرف بها قدر الجراحة: المسبار « (1) . وقال صاحب القاموس المحيط:» امتحان غور الجرح، وغيره « (2) . فمادة سبر إذن من معانيها: الاختبار، والامتحان، ومعرفة القدر، والتجريب. ولعل هذه الكلمة - أعني السبر- أكثر شيوعا عند الأصوليين (3) ، ولكنها مع ذلك مستعملة عند المحدثين بإطلاقات متعددة، أو باللفظ نفسه أحيانا. السبر اصطلاحا: هو» استقصاء روايات الحديث الواحد، وتتبع طرقه، ثم اختبارها، وموازنتها بروايات الثقات «. فقوامه استنادا لهذا التعريف أمران هما:

_ (1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3/127) . (2) القاموس المحيط بترتيب الطاهر أحمد الزاوي (2/509) ، وانظر أيضا مختار الصحاح للرازي (121،199) . (3) ترد في باب القياس عندهم، ويعنون بها:» اختبار صلاحية الأوصاف المقارنة للحكم لتكون علة بعد تقسيمها «. كذا عرفها مصطفى جمال الدين في القياس (298) . أي أن الأصولي يقوم بحصر الصفات التي تصلح للعلية في بادي الرأي، ثم يقوم باختبار كل واحدة منها هل تصلح لذلك أو لا؟ فيبطل مالا يصلح منها، فيتعين الباقي للعلية. وانظر أيضا: إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 892) .

الأول: استقصاء روايات الحديث: وهذا يعني أن يجمع الناقد روايات الحديث الواحد جمع استقصاء، وإحاطة، مستعملا شتى الوسائل لذلك من سماع، ومكاتبة، ومساءلة، وجمع للنسخ، مستعينا بالبحث في دواوين السنة المبوبة، والمسندة، منقبا في المصنفات، والمعاجم، والمشيخات، والأمالي، والفوائد، والأجزاء، وغيرها، حتى ينبعث اليقين فيه بأن كل طرق الحديث، أو معظمها بين يديه. الأمر الثاني: الاختبار، أي اعتبار تلك الروايات، والنظر فيمن شورك من رواتها، وتوبع ممن تفرد، أو خالف؛ وهذا يقتضي معرفة متابعات تلك الرواية، وشواهدها، ثم موازنتها مع مرويات الراوي، والحكم عليه. إطلاقات المحدثين لاصطلاح السبر: قبل أن أغادر هذه المقدمة الوجيزة أرى لزاما أن أعدد إطلاقات السبر عند أهل العلم.

والملاحظ أن أهل الحديث لم يتفقوا على كلمة واحدة له، فبعضهم سمَّاهُ السبر مثل ابن حبان (1) ، وهو الذي اصطلح عليه في هذا البحث. ومنهم من سمَّاهُ المعارضة كما هو اللفظ عند ابن معين (2) ، أو المقابلة كما جاء عند مسلم (3) ، وآخرون أطلقوا عليه الاعتبار (4) ، وبعض المعاصرين سماه المقارنة (5) ، أو الموازنة (6) . وهذه إطلاقات متقاربة المعاني، والأمر فيه سعة، والله أعلم. فهل استعمل ابن عدي السبر؟ وما هي ألفاظه عنده؟

_ (1) في المجروحين (1/314) قال:» وإذا روى ضعيفان خبرا موضوعا، لا يتهيأ إلزاقه بأحدهما دون الآخر إلا بعد السبر «. (2) في التاريخ برواية الدوري عنه (2/667) :قال:» ربما عارضت بأحاديث يحيى بن يمان أحاديث الناس، فما خالف فيها الناس ضربت عليه «. (3) في التمييز (209) حيث قال:» فبجمع هذه الروايات، ومقابلة بعضها ببعض، يتميز صحيحها من سقيمها، وتتبين رواة ضعاف الأخبار من أضدادهم من الحفاظ «. وفي هذا النص بين- رحمه الله- عنصري السبر، وهما: الجمع، والاعتبار. (4) وبهذا الإطلاق بحثته عامة كتب المصطلح. انظر: مقدمة ابن الصلاح (182) ، وإرشاد طلاب الحقائق للنووي (1/221) ، والنكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي (2/169) ، وتدريب الراوي للسيوطي (1/ 281) ، وفتح المغيث (1/241) ، وغيرها. (5) كذا أطلقه الشيخ الأستاذ أحمد نور سيف في بحثه النفيس:» دلالة النظر والاعتبار عند المحدثين في مراتب الجرح والتعديل «، المنشور بمجلة البحث العلمي لجامعة أم القرى (54) العدد الثاني (1399) هـ. (6) انظر حاشية النقد عند المحدثين (67) .

أشار ابن عدي في مقدمة الكتاب (1) إلى أنه سيذكر لكل راوٍ ما يضعف من أجله، أو يلحقه بروايته له اسم الضعف، وهو لمحة إلى السبر. أما في ثنايا الكتاب فقد استعمله استعمالا واسعا، بل هو الأصل الذي بنى عليه كتابه، كما أنه رجح به في حال الكثير من الرواة المختلف فيهم كما سيتضح من مسلكه قريبا. وقد استللت ما تيسر من ألفاظه الدالة على السبر نصا، أو مفهوما، فوجدت الآتي: 1) » ولم أجد بعد استقصائي لحديثه شيئا مما ينكر عليه.... « (2) . 2) » ولم أر في حديثه شيئا منكرا « (3) . 3) » وسائر ماذكرت من حديثه، ومالم أذكره كلها محتملة، وأحاديثه عامتها مستقيمة « (4) . 4) » لم نر في حديثه حديثا قد جاوز الحد في الإنكار « (5) . 5) » وكل ذلك لا يرويها غيره، وهو ضعيف جدا « (6) . 6) » والذي ذكرت، والذي لم أذكره - يعني الأحاديث - كلها غير محفوظة، مناكير، ولعل الذي لم أذكره أنكر من الذي ذكرته. ولم أر للمتقدمين فيه كلاما « (7) . 7) » حدث بأحاديث لم نكتبها عن غيره، وأوصل أحاديث، وسرق أحاديث، وزاد في المتون ... وللأحدب غير ماذكرت أحاديث لايتابعه الثقات عليها « (8) . 8) » وعامة ما يرويه غير محفوظ، والضعف بَيِّن على رواياته « (9) .

_ (1) انظر: الكامل (1/15، 16) . (2) انظر: المصدر السابق (3/1247) ، ترجمة سعيد بن كثير بن عفير. (3) انظر: المصدر السابق (1/175) ، ترجمة أحمد بن أوفى البصري. (4) انظر: المصدر السابق (1/416) ، ترجمة إسرائيل بن يونس. (5) انظر: مختصر الكامل للمقربزي (378) ، ترجمة سلمة بن الفضل الأبرش. (6) 10) انظر: الكامل (3/1188) ، ترجمة سعد بن طريف الإسكاف. (7) 11) انظر: المصدر السابق (6/2369) ، ترجمة معلى بن ميمون المجاشعي. (8) انظر: المصدر السابق (6/2043) ، ترجمة الفضل بن محمد الأحدب. (9) انظر: المصدر السابق (1/367) ، ترجمة أشعث بن براز.

9) » ولم أجد لأسامة حديثا منكرا جدا لا إسنادا، ولا متنا « (1) . هذا ما وقفت عليه في بعض التراجم نصا، وأكثر أحكام ابن عدي تدور حول هذا المعنى، أو قريبا منه. وهي دالة بفحوى الخطاب، أو لحنه أنه سبر حديث هؤلاء الرواة، وميز ما توبعوا عليه مما لم يتابعوا عليه، والله أعلم. منهج ابن عدي في سبر الحديث: لم يختلف منهج ابن عدي في سبر حديث الراوي عن غيره من المحدثين، وقد جاء على النحو التالي: أـ معارضة مرويات الشيخ بعضها ببعض: وصورة هذا المسلك أن يكتب الناقد الحديث عن راويه سماعا، ثم يعود إليه بعد برهة لسؤاله عن الحديث نفسه، فإن وجده لم يغادر حرفا واحدا علم أنه متقن ثبت، وإن وجده قد خلط بين الروايات، أووهم على أي صورة كان الوهم، حكم عليه بما يليق من حاله. روى ابن عدي بسنده إلى شعبة قال:» ما رويت عن رجل حديثا واحدا إلا أتيته أكثر من مرة. والذي رويت عنه عشرة أحاديث أتيته أكثر من عشر مرار. والذي رويت عنه خمسين حديثا أتيته أكثر من خمسين مرة. والذي رويت عنه مئة حديث أتيته أكثر من مئة مرة، إلا حيان البارقي فإني سمعت منه هذه الأحاديث ثم عدت إليه فوجدته قد مات « (2) . وقال يعقوب بن شيبة:» إن شعبة كان إذا لم يسمع الحديث مرتين لم يعتد به « (3) . هذا إنما يكون في حال كون الراوي حيا، أما إذا كان بينهما دهر فالحال يختلف حينئذ عن السماع، حيث تعارض رواية الراوي برواياته الأخرى في الحديث نفسه، ثم تعتبر، فيظهر مدى الضبط حينئذ من قوة، أوخفة، أو ضعف واضطراب.

_ (1) انظر: المصدر السابق (1/388) ، ترجمة أسامة بن زيد بن أسلم. (2) انظر: مختصرالكامل للمقريزي (69) . والنص في الكامل (1/88) إلا أنَّ فيه تحريفا، وتصحيفا. (3) انظر: شرح علل الترمذي لابن رجب (1/176) تحقيق الشيخ نور الدين عتر.

خذ ابن حبان (354) هـ مثلا، فبينه وبين ابن لهيعة (174) هـ قرابة قرنين من الزمان، فالسبيل في سبر حديثه حينئذ هو معارضة مروياته بعضها ببعض، قال في ترجمته:» قد سبرت أخبار ابن لهيعة من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه، فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجودا، وما لا أصل له من رواية المتقدمين كثيرا....... « (1) . وابن عدي - رحمه الله - سار على المنوال نفسه مع الرواة الذين سبقوه، ففي ترجمة سعيد بن بشير (2) مثلا ذكر حديث عائشة في قصة دخول أسماء في ثياب شامية على رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خالد بن دريك، عن عائشة قالت: دخلت أسماء بنت أبي بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب شامية رقاق، فأعرض عنها ... الحديث. ثم قال ابن عدي:» ولا أعلم رواه عن قتادة غير سعيد بن بشير. وقال مرة فيه: عن خالد بن دريك، عن أم سلمة، بدل عائشة « (3) . ويعني هذا أن ابن عدي عارض رواية سعيد الأولى مع الثانية، وتبين له أنه يضطرب في إسناده، فتارة يرويه هكذا، وفي أخرى هكذا.... وذكر في ترجمة سعيد بن أبي سعيد الزبيدي (4) حديثا من طريقه قال:» حدثني أيوب بن سعيد السكوني، حدثني عمرو بن قيس السكوني، يقول: سمعت المشمعل بن عبد الله السكوني يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسو الله صلى الله عليه وسلم يقول:» إنها ستفتح عليكم الشام ... «الحديث. ثم أعاد السند ثانيا من طريقه وقال فيه:» أيوب بن سليمان بن أيوب السكوني «إشارة إلى اضطرابه حيث يقول مرة هكذا، ومرة هكذا. ب ـ معارضة مرويات الراوي بروايات الثقات:

_ (1) انظر: كتاب المجروحين (2/12) . (2) انظر: الكامل (3/ 1209) . (3) انظر: المصدر السابق. (4) انظر: المصدر السابق (3/ 1241) .

استدعى صنيع المحدثين لمعرفة الراوي المحتج به، ثم المعتبر به، ثم الساقط وضع ميزان دقيق ينخل فيه الرواة نخلا، وينقر عنهم تنقيرا للوصول إلى القول الفصل فيهم. وكان هذا الميزان هو المعارضة لحديث الراوي. قال ابن الصلاح:» يعرف كون الراوي ضابطا بأن تعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان، فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لرواياتهم، أو موافقة لها في الأغلب، والمخالفة نادرة، عرفنا حينئذ كونه ضابطا ثبتا. وإن وجدناه كثير المخالفة لهم، عرفنا اختلال ضبطه، ولم نحتج بحديثه، والله أعلم « (1) . وهذا المنهج الدقيق الذي كشف عنه ابن الصلاح هو الأكثر ممارسة في صنيع النقاد من الأولين، والآخرين، وهو الوسيلة المثلى لمعرفة ضبط الراوي لحديثه، وهي الأكثر شهرة، وانتشارا. وقد تتبعت جملة من التراجم في كامل ابن عدي، وفحصت مسلكه في باب المعارضة فظهر لي أن تطبيق المؤلف لهذه القاعدة له صور متعددة تتلخص في جملتها في الكشف عن العلة، ومخالفة الثقات. قال الذهبي:» ثم اعلم أن أكثر المتكلم فيهم ما ضعفهم الحفاظ إلا لمخالفتهم الأثبات « (2) . والحق أن التعليل بالعلل الظاهرة تناثر في كتاب الكامل، وتكاثر بحيث يسهل على المطلع الاهتداء إليه خصوصا ما صاحبه تعليق من المؤلف. ونظرا لطولها فقد قسمت الكلام عن تعليله إلى قسمين: واحد متعلق بالسند، وآخر بالمتن. وفيما يلي ذكر نماذج من سبره، وكشفه عن العلة في السند، ثم المتن: أـ القسم المتعلق بالسند: وهو أنواع منوعة، وقفت على ما يلي:

_ (1) انظر: المقدمة (220) . (2) الموقظة (52) .

1 ـ رفع الموقوف: حيث يقول تارة:» ولاأعلم رواه عن ابن عون فصيره شبه المسند إلا سالم بن نوح، وعثمان بن الهيثم المؤذن ... وغيرهما رووه عن ابن عون فأوقفوه على عبد الله « (1) . وقد يقول:» ولاأعلم أحدا رواه عن عبيد الله غير سعيد بن عبد الرحمن « (2) . 2 ـ وصل المرسل: كأن يقول مثلا:» وهذا وصله جعفر بن عون عن ابن أبي عروبة، وغيره أرسله « (3) . وأحيانا يسوق الحديث موصولا ثم يعله بالإرسال كقوله مثلا:» وهذا رواه غير سفيان بن وكيع فأرسله « (4) . 3 ـ الاختلاف على رجل في السند: كقوله مثلا:» وهذا الحديث اختلف فيه على نافع على عشرة ألوان أو قريب منه ... « (5) . أو كقوله:» وهذا اختلف على يحيى بن سعيد، وكل الاختلاف فيه عليه ليست بمحفوظة « (6) . 4 ـ إبدال صحابي بآخر، والحديث معروف عن الأول: فقد قال في حديث ابن أم مكتوم في طلب رخصة الصلاة في البيت:» هكذا يرويه أبو سنان، عن عمرو بن مرة عن أبي رزين، عن أبي هريرة، ورواه عاصم بن أبي النجود، عن أبي رزين، عن ابن أم مكتوم أنه قال: يارسول الله ... « (7) . 5 ـ إبدال راو بآخر: فقد عقب على حديث أبي هريرة في زنا الأمة قال:» وذكر الأعمش غير محفوظ، إنما هو الثوري عن حبيب نفسه « (8) . 6 ـ جمع الشيوخ في سند واحد، وجعل المتن واحدا مع الاختلاف في رواياتهم: كقوله مثلا:» ولم يذكر الليث الصدمة الأولى، وذكر الليث في هذا الإسناد إنما هو من عمل ابن وهب جمع بين الليث وعمرو بن الحارث فحمل حديث أحدهما على صاحبه، فقال: عنهما جميعا، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سنان بن سعد، عن أنس « (9) .

_ (1) انظر: الكامل (3/1185) . (2) المصدر السابق (3/1236) . (3) المصدر السابق (3/1233) . (4) المصدر السابق (3/1254) . (5) الكامل نسخة الظاهرية (ق 172 ب) . (6) الكامل (3./1239) . (7) المصدر السابق (3/1200) . (8) المصدر السابق (3/1194) . (9) المصدر السابق (3/1193) .

7 ـ رواية حديث بسند يروى به في الأصل حديث آخر: فقد قال في حديث النهي عن استقبال القبلة بالبول، أو الغائط الذي روي من طريق ورقاء، عن سعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب، عن النبي صلى الله عليه وسلم ... قال ابن عدي:» فهو غريب، غريب هذا المتن بهذا الإسناد لأن بهذا الإسناد لا يعرف إلا من صام رمضان، وفي حديث ورقاء جمع بين المتنين « (1) . وقال أيضا عقب حديث صنع الطعام لآل جعفر:» وهذا الحديث غريب جدا بهذا الإسناد، وإنما يروى هذا عن ابن عيينة، عن جعفر بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر « (2) . 8 ـ إبدال بعض السند جريا على الجادة: وقد وقع هذا في ترجمة سفيان بن وكيع بن الجراح فقال ابن عدي:» وهنا قد زل فيه سفيان بن وكيع، أو لقن، أو تعمد حيث قال: حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، وكان هذا الطريق أسهل عليه، وإنما يرويه ابن وهب ... « (3) . 9 ـ الإعلال بالتسوية: كقوله في ترجمة سفيان الفزاري:» فسواه سفيان الفزاري فقال: عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر.... وإنما يروي هذا عن جعفر بن محمد، عن جماعة من أهل بدر، عن النبي صلى الله عليه وسلم ... « (4) 10 ـ الإعلال بالتفرد: وهو أكثر أنواع التعليل عنده، وله في ذلك استعمالات شتى: - كأن يقول مثلا:» ولم يقل أحد في هذا الحديث ابن المنكدر، عن أنس غير سلمة الأحمر « (5) . - أو يقول:» ولا أعلم رواه عن فرات القزاز غير ابنه الحسن، وعن الحسن سلمة بن رجاء، وعن سلمة بن كاسب « (6) . - أو يقول:» يرويه عن يونس بهذا الإسناد سالم بن نوح، ولا أعلم رواه عن سالم غير محمد بن عبد الله بن حفص « (7) .

_ (1) المصدر السابق (3/1189) . (2) المصدر السابق (3/1246) . (3) المصدر السابق (3/1254) . (4) المصدر السابق (3/1255) . (5) المصدر السابق (3/1177) . (6) المصدر السابق (3/1179) . (7) المصدر السابق (3/1183) .

- أو يقول» وهذا عن قتادة عن أنس، لا يرويه عن قتادة غير سعيد بن بشير « (1) . - أو يقول:» لا يعرف عن أبي الزبير إلا من حديث سعيد بن بشير عنه « (2) . - وقد يقابل التفرد بذكر الشهرة كأن يقول:» وهذا مشهور عن حميد بن هلال، رواه عنه جماعة، ومن حديث قتادة عن حميد بن هلال غريب، لا أعلمه يرويه عن قتادة غير سعيد بن بشير « (3) . - أو يقول:» وهذا معروف عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، فأما عن يونس بن عبيد، فما أعلم عنه غير سالم « (4) . 11- وقد يعل الحديث بأنه ليس له أصل من حديث فلان: كقوله في ترجمة سفيان الفزاري بعد أن ذكر أسانيد حديث» ما أسكر كثيره ... «قال:» وأما من حديث محمد بن المنكدر، عن عروة فليس له أصل « (5) . وقد ردّ في موضع آخر على شيخه عبدان في تعليقه على حديث روي من وجه احتمل أن يكون هشام بن عمار تلقن فيه، قال مصوبا ذلك الوجه:» والحديث عن سعيد بن بشير، عن الزهري، أصوب من سعيد بن بشير عن قتادة، لأن هذا الحديث في حديث قتادة ليس له أصل، ومن حديث الزهري له أصل قد رواه عن الزهري سفيان بن حبيب أيضا « (6) . 12- وقد يعله بالخطأ في سنده (7) ، أو أنه سرقه جماعة من فلان مثلا (8) ، أو أنه لا يرويه مصري عن فلان مثلا، وإنما يرويه قوم غرباء ... (9) ، وأحيانا يومىء إلى العلة إيماء ولا يصرح، وبعد البحث ينكشف أن هناك علة قوية في سنده، فقد قال - مثلا - في حديث ابن عباس: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس خمسا. قال:» لا أعلم يروي عن منصور هذا الحديث غير سعيد بن بشير « (10) . ثم ظهر أن هناك قلبا في سنده.

_ (1) المصدر السابق (3/1210) . (2) المصدر السابق (3/1212) . (3) المصدر السابق (3/1210) . (4) المصدر السابق (3/1183) . (5) المصدر السابق (3/1255) . (6) المصدر السابق (3/1209) . (7) المصدر السابق (3/1199) . (8) المصدر السابق (3/1248) . (9) المصدر السابق (3/1256) . (10) 10) المصدر السابق (3/1212) .

وقال في حديث حذيفة:» كنا نؤمر بالسواك «:» وهذا يرويه عن أبي حصين أبو سفيان هذا « (1) ، وبعد البحث ظهرت المخالفة في موضعين منه. ب ـ القسم المتعلق بالمتن: وهذا النوع أقل من الأول نسبيا، فتارة يعله بعد سوقه بأنه متن منكر (2) ، أو باطل منكر (3) ، أو منكر الإسناد والمتن (4) ، أو غريب (5) ، أوليس بمحفوظ (6) ، أو أن في متنه زيادة (7) ، أو ينقل عن شيخ له بأنه ليس عندهم هذا الحديث بالبصرة (8) .

_ (1) 11) المصدر السابق (3/1200) . (2) المصدر السابق (3/1210) ، (3/1254) . (3) المصدر السابق (3/1255) . (4) المصدر السابق (1248) . (5) المصدر السابق (3/1210) ، (3/1211) . (6) المصدر السابق (1224) ، (3/1242) . (7) المصدر السابق (3/1225) . (8) المصدر السابق (3/1185) .

وكثيرا ما يكشف المخالفة بعرض رواية المترجم له على رواية الثقات سواء أكانت روايتهم في الصحيحين أم لا دون إشارة إلى أي علة، بل يسوق الرواية المنكرة، ثم يسكت تاركا ذلك لتمييز المختص. خذ مثلا حديث» من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة « (1) حيث أخرجه ابن عدي من طريق سلمة بن وردان، حدثنا أنس بن مالك قال: أتاني معاذ بن جبل، فقلت: من أين؟ قال: من عند رسول الله. قلت: فما حدثكم؟ قال قال صلى الله عليه وسلم:» من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة «. قال: قلت: أفلا آتيه فأسمعه؟ قال: بلى. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن معاذ بن جبل حدثني أنك قلت:» من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة «. قال:» صدق معاذ، صدق معاذ، صدق معاذ «. فقد رواه الشيخان (2) ، بل هو متواتر، فأين العلة فيه؟ ظاهره السلامة من العلل تماما، وموضع العلة فيه هو تصريح أنس بأن معاذا حدثه، أما الرواية الصحيحة التي خرجها الشيخان فهي:» عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم - ومعاذ رديفه على الرحل - قال يا معاذ بن جبل «. ورواية البخاري الأخرى (3) هي أن أنسا قال:» ذكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ ... «أي إن هناك واسطة بين معاذ وأنس، طويت في الرواية الصحيحة، وتبع سلمة بن وردان الجادة فساقها سماعا لأنس.

_ (1) المصدر السابق (3/1181) . (2) أخرجه البخاري في كتاب العلم (1/226/128) ، ومسلم في كتاب الإيمان (1/61/32) كلاهما من طريق هشام الدستوائي عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم - ومعاذ رديفه على الرحل - قال يا معاذ بن جبل قال لبيك يارسول الله وسعديك.... الحديث. (3) 10) في صحيحه في كتاب العلم (1/227/129) .

وفي حديث أنس بن مالك:» إذا أخذت كريمتي عبدي ... « (1) قابل ابن عدي بين رواية سعيد بن سليم الضبعي ورواية الثقات التي أخرجها البخاري وغيره (2) ، وكذا شواهده، فتبين أن هذا الراوي زاد زيادة منكرة، هي قوله:» وإن كانت واحدة «، ولكن المؤلف ساقها دون التنبيه على ذلك. وأحيانا يكشف ابن عدي تفرد من لا يحتمل تفرده من المترجم لهم في كامله بعرضها على رواية المتقنين من أقرانه، وغيرهم، فيظهر ذلك التفرد واضحا جليا. ومن أمثلة ذلك ماأخرجه ابن عدي (3) من طريق سالم بن نوح العطار، ثنا يونس بن عبيد، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ... «الحديث. ثم قال:» وهذا معروف عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، فأما عن يونس بن عبيد فما أعلم رواه عنه غير سالم «. وقد أبان تخريج هذا الحديث أن تسعة أئمة ثقات أثبات خالفوا سالما العطار فجعلوا الرواية عن قتادة، عن أنس، منهم خمسة أئمة روايتهم في الصحيح هم: مسعر، وهشام عند الشيخين (4) . والباقون وهم: أبو عوانة، وسعيد بن أبي عروبة، وشيبان.

_ (1) الكامل (3/ 1238) . (2) أخرجه أحمد (3/283) ، والبخاري في كتاب المرضى (10/116/5653) كلاهما من حديث أنس مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قال:» إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه عوضته منهما الجنة «.وهذه رواية البخاري. (3) الكامل (3/1183) . (4) أخرجه البخاري في كتاب العتق (5/160/2528) ، ومسلم في كتاب الإيمان (1/117) كلاهما من طريق مسعر. وأخرجه البخاري في كتاب النكاح (9/388/5269) ، ومسلم في كتاب الإيمان (1/117) كلاهما من طريق هشام.

عند مسلم وحده (1) ، والباقون: همام عند أحمد (2) ، وحماد بن سلمة، وعفان، وأبان عندالبيهقي (3) . ولو ذهبت أسوق الأمثلة من كامل ابن عدي في باب التفرد لطال الأمر جدا، وفيما ذكرت إن شاء الله تعالى غنية. مدى قوة سبر ابن عدي أو ضعفه: لابد من القول ابتداء أن السبر ليس عملية سهلة يمكن لأي محدث القيام به، بل هذا من عمل النقاد الجهابذة الذين أفنوا جزءا من أعمارهم في جمع الروايات، وكان همهم في رحلاتهم الطويلة تتبع الضعفاء، والتنقير عن أنبائهم، وكتابة نسخهم بالغة ما بلغت. وهب أن محدثا توفرت عنده هذه الأسباب فإن هذا وحده لا يكفي، بل ينبغي أن يكون للقائم على عملية السبر حاسة نقدية قوية تمكنه من تحديد موضع العلة بدقة. وضرب الأمثال في هذا يغني عن التوسع في الكلام. لنأخذ مثلا حديثا واحدا أخرجه ابن عدي من طريق يعقوب بن كاسب، ثنا سلمة بن رجاء، عن الحسن بن الفرات، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بعظم، أو روث. وقال:» إنهما لا يطهران « (4) فالجزء الأخير منه ضعيف. وقد علق ابن عدي -رحمه الله- مشيرا إلى تفرد بعض رواته فقال:» ولا أعلم رواه عن فرات القزاز غير ابنه الحسن، وعن الحسن سلمة بن رجاء، وعن سلمة ابن كاسب « (5) . ويجد الباحث في سند هذا الحديث أن فيه ثلاثة ضعفاءعلى نسق واحد هم: الحسن بن الفرات، وسلمة بن رجاء، ويعقوب بن كاسب، فيصعب جدا إلصاق الوهم بأحدهم لاسيما أنه لا يوجد متابع لأي منهم.

_ (1) أخرج روايتهم مسلم في كتاب الإيمان (1/ 116، 117) . (2) أخرجه أحمد (2/491) من طريق همام، عن قتادة. (3) أخرج روايتهم البيهقي في السنن الكبرى (7/ 298) . (4) الكامل (3/1179) . (5) المصدر السابق.

وحديث ابن عباس» شراركم معلموكم، أقلهم رحمة على اليتيم ... «الحديث (1) في سنده سعد بن طريف ساقط، واتهمه بعضهم بالوضع، والراوي عنه سيف بن عمر التميمي يضع الحديث واتهم بالزندقة، وعنه عبيد بن إسحاق العطار تركه غير واحد، فكيف وحديث هذا سنده يمكن الجزم بأن فلانا هوالمتهم به؟ لذلك تردد فيه ابن عدي، فقال:» فلا أدري البلاء منهما أومنه؟ « (2) يعني سعد بن طريف.

_ (1) المصدر السابق (3/1188) . (2) المصدر السابق.

ومما يزيد الأمر اعتياصا، وتوعرا أن الممارس للسبر يجد نفسه أحيانا أمام استبهام، وا ستغلاق شديدين، أو تناقض، واضطراب مشتتين، سيما وأن الأمر غير مطرد في كل حديث على نسق واحد، فتارة يسفر التفتيش عن ضعف جميع طرق الحديث (1) ، وأحيانا ينبلج عن سلامة ضبط الراوي لتجانس ما يرويه مع روايات الأئمة المتقنين (2) ، وفي أخرى يختلط هذا بهذا أي ما يعرف، وما ينكر. وإذا أضيف إلى هذا كثرة الطرق، والأوجه للحديث الواحد فاعلم أن الليل قد عسعس، والظلام قد حندس، وفي ذلك المضمار لن تجد سوى المتقدمين كأمثال ابن المديني، وأحمد، وابن معين، والبخاري، ومن استنهج سبيلهم، واستضاء بأقوالهم، وأحكامهم من المتقدمين، والمتأخرين.

_ (1) انظر: الكامل (3/1284) حديث ابن عباس مرفوعا:» أنا مدينة العلم، وعلي بابها. فمن أراد العلم فليأت الباب «. وقد تتبعت طرقه فتبين لي أن جميع طرق الحديث لاتخلومن ضعف شديد، أو اضطراب. ويكفي أن المتقدمين مجمعون على ضعفه على تفاوت بينهم مثل يحي بن سعيد القطان، وابن معين، وأحمد، والبخاري، وأبوزرعة، وأبوحاتم، ومطين، وابن حبان، وابن عدي، والدارقطني، وخلق بعدهم كالذهبي، وغيره. وانظر بعض هذه الأقوال في الأسرار المرفوعة لملا علي القارئ (138/71) ، والفوائد المجموعة للشوكاني (348) مع حاشيةالمعلمي. (2) انظر: الكامل (3/1235) حديث جابر مرفوعا:» حصى الجمار مثل حصى الخذف «. رواه ابن عدي من طريق سعيد بن سالم القداح، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر به. وقد توبع صاحب الترجمة سعيد بن سالم بمحمد بن بكر، عن ابن جريج به عند مسلم في كتاب الحج (2/944/1299) ، وبيحي القطان عند الترمذي في كتاب الحج أيضا (2/233 /897) . كما تابعه في مسند أحمد (3 / 337، 371) رباح المكي، وابن لهيعة.

والحاصل أن هناك صعوبة كبيرة في إجراء عملية السبر، والناقد إذا اجتهد في جمع طرق الحديث الواحد، وأوجهه لبيان المدار، ثم عكف على معارضة رواية الراوي المقصود بالحكم مع روايات الثقات، آخذا في الاعتبار قواعد النقد، دون إغفال أقوال المتكلمين في الراوي، واستنفد وسعه في ذلك، فإن ذمته تكون حينئذ قد برئت، وإذا تبين بعد ذلك أن هناك شيئا ما قد فاته فلا يضره ذلك، والله أعلم. ونأتي إلى ابن عدي لننظر في سبره هل توجد مواطن ضعف في سبره؟ من مكرر القول أن نورد مواطن قوة سبره، فكتابه ملآن بذلك، وقد شهد له النقاد الكبار كالدارقطني، وغيره ممن تأخر عنه على أن ابن عدي أظهر غناء، واضطلاعا في معالجة روايات الضعفاء، وكذا الرواة المحتج بهم. فنراه إذا جاء إلى راو تصدى لمنكراته، وتتبعها سندا ومتنا، ولا يترك وهيا إلا بينه، ولا وهنا إلا أوضحه، ثم يحكم بعد ذلك. هذا الذي ذكرت إنما هو الغالب، وقد وُجدت بعض المواطن ظهر فيها أن سبره اعتراه نوع من الضعف ... ومن صور ذلك الضعف ما يلي:

1- قد تفوته أحاديث منكرة، أو أجزاء منها فيها نكارة: ففي حديث أنس: لما نزلت آية الحجاب ... «الحديث (1) . نص على أن سلما العلوي ليس له متن منكر، وبين لي جمع طرق الحديث أن هناك نكارة في موضعين هما:» ورائك يا بني «وقوله:» فجئته بمرقة فيها قرع «. فالموضع الأول تفرد بتلك الزيادة سلم العلوي وحده مخالفا بذلك خمسة أئمة روايتهم جميعا في الصحيح (2) ، لو جاء مئة من أشكال سلم العلوي مقابل واحد منهم لقبل حديثه دونهم وهم: أبو مجلز، والزهري، وعبد العزيز بن صهيب، وحميد، وثابت. وأما الموضع الثاني: فقد اضطرب فيه، فمرة يقول:» فجئته بمرقة فيها قرع «وفي أخرى:» أتي بقصعة «بالبناء على ما لم يسم فاعله، وبمقارنة نص المؤلف مع رواية الصحيحين (3) عن أنس ظهر أنه منكر، إذ الذي جاء بالمرقة هو رجل آخر غير أنس. 2- قد يسوق حديثا في ترجمة ضعيف، وفي سنده من هو أضعف منه: فحديث ابن عباس مرفوعا:» أشراف أمتي حملة القرآن « (4) ساقه في ترجمة سعد بن سعيد الجرجاني، وفي سنده: نهشل القرشي كذبه الطيالسي، وابن راهويه (5) .

_ (1) انظر: الكامل (3 / 1176) . (2) رواية أبي مجلز، والزهري أخرجها الشيخان: البخاري في كتاب التفسير رقم (4791) ، وفي كتاب النكاح رقم (5166) ، ومسلم جميعا في كتاب النكاح (2/1050) . وأخرج البخاري وحده رواية عبد العزيز بن صهيب، وحميد في كتاب التفسير رقم (4793) ورقم (4794) . وأخرج مسلم وحده في كتاب النكاح رقم (1428) طريق حميد. (3) رواية البخاري في كتاب الأطعمة رقم (5439) ، ورواية مسلم في كتاب الأشربة (2041) . (4) انظر: الكامل (3/1194) . (5) انظر: تهذيب التهذيب (10/479) ، وخلاصة الخزرجي (404) .

وحديث ابن عمر:» لا تغالبوا أمر الله.. « (1) أورده في ترجمة سعيد بن سنان، وفيه محمد بن أحمد بن حمدان المروذي، نقل ابن عدي نفسه عن ابن أبي عروبة قوله فيه:» لم أر في الكذابين أصفق وجها منه « (2) . وقال ابن عدي في ترجمته:» يضع الحديث « (3) . 3- قد يورد حديثا في ترجمة متكلم فيه، الحمل فيه على غيره: كما في حديث عائشة:» ما كان رسول الله يبوح بهذا القول ... « (4) أورده ابن عدي في ترجمة سعيد بن عبد الجبار الحمصي جاعلا له من خطئه حيث رواه عن عمر بن المغيرة، أنه حدثهم عن أيوب، عن عبد الله بن مليكة، عن عائشة به. إلا أن سعيد بن عبد الجبار توبع بإسحاق بن راهويه، كما قال الذهبي (5) الذي جعل الحديث من مناكير عمر بن المغيرة شيخ سعيد المذكور. 4- قد يصرح بأن مدار الحديث على فلان مثلا، والأمر ليس كذلك: ففي حديث عائشة مرفوعا» كسر عظم الميت ككسره حيا « (6) نص على أن مداره على سعد بن سعيد، وقد تابعه أربعة رواة على سنده، ومتنه هم: حارثة، وسعيد بن عبد الرحمان (7) ،وعمارة بن محمد (8) ، ويحي بن سعيد (9) . 5- قد يورد الحديث الواحد في ترجمتين فأكثر: فقد ذكر حديث أبي هريرة مرفوعا:» كنت أول النبيين في الخلق « (10) في ترجمة سعيد بن بشير، وكان قد رواه في ترجمة خليد بن دعلج (11) ، فبأيهما يلتزق؟

_ (1) انظر: الكامل (3/1197) . (2) انظر: الكامل (6/2299) . (3) انظر: الكامل (6/2299) . (4) انظر: الكامل (3/1223) . (5) انظر: الميزان (3/ 224) . (6) انظر: الكامل (3/ 1189) . (7) أخرج روايتهما عبد الرزاق في المصنف (3/ 444) كلاهما عن عمرة به. (8) أخرج روايته الطحاوي في مشكل الآثار (3/ 308) عن عمرة به. (9) أخرج روايته اابن حبان كما في الإحسان (7/ 437) عن عمرة به. (10) 10) انظر: الكامل (3/ 1209) . (11) 11) انظر: الكامل (3/919) .

ومثل ذلك فعل في حديث أنس:» كان أحب الألوان على رسول الله الخضرة « (1) فقد أعاده في ترجمة سويد بن إبراهيم في الكامل (2) . هذه نماذج من ضعف سبره أحيانا، وهو يسير قياسا إلى عدد الرواة، وعدد الأحاديث التي عالجها في هذا الكتاب، وقد اختصرتها قدر الإمكان، ولا شك أنها لا تغض من قيمة الكتاب ولا من عمل ابن عدي رحمه الله تعالى، والله أعلم. إمكانية تطبيق المعاصرين لسبر المتقدمين: بعد هذه الجولة القصيرة مع واحد من الأفذاذ المتقدمين في مسألة علمية واحدة هي السبر، والتعليل يسوغ لنا أن نتساءل: هل يمكن تطبيق ذلك من المعاصرين؟ وهل لعلماء، وأساتذة هذا العصر طاقة للقيام بهذا الأمر؟ أم لا قبل لهم به؟ وهل لو توجهت عصبة من أهل العلم، والفضل لهذا الموضوع، هل يسعفها الحال للاضطلاع بما يفوض إليها؟ أو أن هذا العمل دونه خرط القتاد؟ أو هو ضرب من الخيال؟ لقد انتابني تردد كبير في الجواب عن هذه المسألة المهمة، ثم عزمت على طرح هذا الموضوع على مسامعكم بإيراد الأسئلة التالية، ثم الجواب عنها؟ وأول سؤال يطرح نفسه بعد الجواب عن إمكانية تطبيق ذلك، هو هل هناك حاجة للعناية بهذا الأمر؟ وإذا تأكد ذلك فما هي الوسائل الكفيلة بتحقيقه على أحسن وجه؟ وماهو المنهج العلمي الأمثل، والأولى بالاتباع للوصول إلى الأكمل؟ ولنحاول الجواب عن هذه الأسئلة قدر الوسع، والله ولي التوفيق. 1- مدى إمكانية تطبيق المعاصرين لسبر الأحاديث:

_ (1) 12) انظر: الكامل (3/1211) . (2) 13) انظر: الكامل (3/1258) .

من المعلوم أن السبر أساس التصحيح، والتضعيف، وفرع عنهما في آن، ولايصح القول أنه قصر على المتقدمين، فذلك رأي قد أفل، إذ بقيت الصناعة الحديثية قائمة في كل عصر تقريبا تضمر أحيانا، وتقوى أحيانا أخرى. ولو تأملنا قليلا لوجدنا أن القرن الثامن، والتاسع الهجريين أنجبا كوكبة من المحدثين النبهاء الذين صححوا وحسنوا، وضعفوا وزيفوا العشرات من الأحاديث. ومن من المتأخرين في عصرنا لايرجع بقلة، أو كثرة إلى أقوال الإمام النووي، أو الذهبي، أو العراقي، أو ابن حجر؟؟؟ أضف إلى ذلك أن الكثير من العلماء في هذا العصر، وطلبة العلم وردوا هذا المضمار، وتسابقوا فيه، فهو قائم أصلا وإن كانت تنقصه أحيانا الدربة الكافية، والأخلاق العالية. والخلاصة أن هذا ممكن من الناحية النظرية على الأقل، وليس القول به بدعا، ولا حدثا. 2- الحاجة إلى العناية بهذا الأمر: هناك حاجة ماسة للعناية بعلوم الحدبث إجمالا كتعليم الطلاب القراءة الحديثية، وحفظ عدد مناسب من الأحاديث العقدية، والفقهية، والآداب، وغيرها للتعبد أولا، ثم للاستدلال، والاحتجاج ثانيا. كما أن الحاجة قائمة سواء بسواء إلى تدريب الطلاب على القيام بسبر الأحاديث، وتعلم الصناعة الحديثية للأسباب التالية: * وجود عدد لابأس به من الأحاديث التي مازالت بين الأخذ، والرد بين المحدثين أنفسهم، وكذا بين المحدثين، والفقهاء، وغيرهم. * محاولة تضييق شقة الخلاف بين المذاهب الفقهية في الاستدلال، والاحتجاج. * تجدد حاجة الأمة في كل عصر بحسبه، وفي هذاالعصر ظهرت قضايا، ومشكلات جديدة فيحتاج إلى سد هذه الثغرة من جهة الحديث النبوي. * حسم الفوضى القائمة في الساحة الإسلامية بتعلم القواعد، والضوابط الخاصة بهذا العلم. * تخريج أجيال لها دراية علمية بعلم الحديث، لتسهم في النهوض بهذا الفن. 3- الوسائل المطلوبة للقيام بنهضة علمية في الحديث النبوي: يمكن تقسيمها إلى مستويين أساسيين هما: مستوى أدنى، وأعلى.

أ - المستوى الأدنى: لاريب أن مقرر الحديث النبوي مازال يدرس دراسة باهتة في كثير من المؤسسات التربوية حيث تنعدم فيه الروح، ويقدم بصورة باردة هي أقرب إلى الحشو، والتلقين منها إلى تربية الوجدان، وتقويم السلوك، بله العلم. وهذا أدى إلى تفريغه من مضمونه، وغدا يقترن أحيانا عند تدريسه للطلاب بمنكرات ظاهرة سواء من المدرس، أو من الطالب. ودفعا لهذه السلبيات المؤثرة على الأداء، العطاء، وإحياء للسنة الغراء ينبغي مراعاة مايلي: * تخصيص ساعات أكثر للحديث النبوي في جميع المؤسسات التربوية، وعلى مختلف المستويات، ولاسيما الجامعية منها إذ من المعلوم أن تضييق الزمن المقرر للحديث أدى في كثير من الأحيان إلى اختزال المادة العلمية في نقاط لاتسمن، ولاتغني من جوع. * وضع مقررات علمية في الحديث النبوي تجمع بين العمق في المادة، والسهولة في العبارة، وتناسب العقول، والأفهام حسب كل مرحلة دراسية. * توفير المصادر الحديثية، والمراجع العلمية الخاصة بأنواع علوم الحديث في المكتبات المدرسية، والجامعية على وجه الخصوص، وتجديد ما قدم منها بنسخ حديثة مناسبة لطبيعة العصر. * توفير الأجهزة الحديثة المساندة مثل الحاسوب، وأشرطة الليزر التي تعنى بتخريج الحديث النبوي، وتدريب الطلاب عليها، مع التحفظ من أخطائها الكثيرة أحيانا. * العناية بالتأصيل عند تدريس هذه المادة في المراحل الجامعية، والعليا. * تدريب الطلاب على عملية التصحيح، والتضعيف، واطلاعهم على كيفية سبر الأحاديث عند أئمة النقد المتقدمين، وذلك إن استوفوا المرحلة التي تؤهلهم لذلك من حيث استيعاب القواعد، والضوابط، والمناهج. * تكثيف القراءة في كتب المحدثين لاسيما المتقدمين منهم لمعرفة المعاني، واستيعاب المصطلحات، وفك المستغلق، وتذوق العبارات. * ربط كل ذلك بتقوى الله تعالى، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وخدمة الدين، مع التذكير دوما بتصحيح النيات.

ب- المستوى الأعلى: إذا كانت هناك رغبة جادة في إحياء السنة النبوية علما، وسلوكا فلابد من تكاتف الجهود، وتظافرها من جميع من له يد عليا من علماء، وأساتذة، ومتخصصين، ورجال دعوة، وغيرهم بالقيام على الآتي: * إنشاء مراكز خاصة بخدمة السنة النبوية: وتوفير ماتحتاجه من هيئة إدارية، وخدمات، ودعم مالي، ومعنوي. والأهم من ذلك كله هو تفريغ علماء، ومتخصصين، في مختلف علوم الحديث، وكذا العلوم الأخرى المساندة له لطبع كنوز السنة النبوية التي مازالت حبيسة المكتبات، والتكايا، والزوايا، وأقسام المخطوطات شرقا، وغربا، ولإعادة طبع كتب السنة المطبوعة على نحو يليق بها. ومن أعجب العجب أن أمة كهذه الأمة العظيمة لم تجد من يقوم على طبع ما هو تال للقرآن الكريم في الأهمية طباعة موثقة على نسخ خطية معروفة، ومسموعة لعلماء متخصصين ألا وهي الكتب الستة التي هي مورد الأنام، وعليها مدار الأحكام. ومازال الناس يصححون، ويضعفون على نسخ لايعرف ناسخها، ولاقارئها، ولا مالكها، ولا موطنها، دعك من تاريخ نسخها، وحبرها، ونوع خطها. وما طبع منها موثقا قليل جدا، وهي مع الجهد المبذول فيها تبقى عملا فرديا عرضة للخطأ، والزلل. ومما جعل الأمر ضغثا على إبالة أن بعض مايطبع الآن يصعب الوثوق به ثقة تامة لأن القائمين عليه ليسوا متخصصين في الحديث النبوي، ولا حتى في العلوم الشرعية، بل بعضهم تجار كتب ليس لهم من العلم ما يؤهلهم للتحقيق، أو التعليق، والله المستعان. وما لنا نبعد كثيرا فهذا كتاب» الكامل في ضعفاء الرجال «لابن عدي لم يحقق إلى الآن تحقيقا سليما مع كونه طبع طبعته السادسة فيما أعلم. أقول هذا وأنا جازم أنه لاتخلو صفحة فيه من وقوع تصحيف، أوتحريف، بل في كل سطر أحيانا، هذا علاوة على السقط الحاصل في تراجم متوالية تصل إلى العشرة في بعض المواطن.

* إقامة كليات متخصصة في الحديث النبوي: تشمل أقساما متخصصة في أهم أنواع علوم الحديث، ويتبع ذلك إنشاء أقسام علمية للدراسات العليا، وتطويرها باستمرار، وتشجيع الطلبة على الالتحاق بها للقيام بدراسات جادة، وتحقيقات دقيقة. * تكوين أساتذة أكفاء في علم الحديث النبوي: يجمعون بين العلم الكافي في تخصصهم، وفهم ضرورات العصر، وحاجياته، واكتشافاته العلمية، والتطبيقية. * إنشاء جهة علمية مدربة: تقوم على استحداث برامج، وقواعد بيانات لعلم الحديث النبوي، وإدخال المصادر المرجوع إليها كثيرا في المراحل الأولى، ثم كل ماتعلق بالحديث في المراحل الأخيرة، وتقسيمها إلى أنواع بحسب حاجة الباحث، والمراجع. وينبغي الاستفادة قدر الإمكان من التقنيات المعاصرة في الكتابة، والطباعة، والتخزين، وغير ذلك. الخاتمة: هذا ماتيسر إيراده في هذه العجالة حيث طوفنا في منهج ابن عدي في كتابه من حيث سبره، وتعليله، ثم رمت محاولة تطبيق طريقته عند المعاصرين , وتبين لكل ذي عينين أن المسلك داني الملتمس، سلس المطلب إذا توفرت الشروط، وصحت النيات. نعم العبء كبير لاينوء به سوى الأكفاء، الراغبون في خدمة الدين، ومرضاة رب العالمين، وهل يأخذ القوس إلا باريها؟؟؟ والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين. فهرس المصادر والمراجع (1) إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق، أبو زكريا يحي بن شرف النووي، تحقيق عبد الباري السلفي، ط1، بيروت: دار البشائر الإسلامية 1408هـ (2) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد بن علي الشوكاني، بيروت: دار المعرفة للطباعة 1399هـ (3) الإرشاد في معرفة علماء الحديث، أبو يعلي الخليل بن عبد الله بن أحمد الخليلي، تحقيق محمد سعيد بن عمر إدريس، ط1، الرياض: مكتبة الرشد للنشر والتوزيع سنة 1409هـ

(4) الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، علي بن محمد بن سلطان المشهور بملا علي القاري، تحقيق محمد بن لطفي الصباغ، ط2، بيروت: المكتب الإسلامي 1406هـ (5) التاريخ، رواية الدوري، أبو زكريا يحي بن معين الغطفاني، تحقيق أحمد محمد نور سيف، الطبعة الأولى - مكة المكرمة - جامعة الملك عبد العزيز (أم القرى) 1399هـ-1979م (6) تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، ط1، بيروت: دار الكتاب العربي 1412هـ (7) تاريخ جرجان، أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي، الطبعة الرابعة - بيروت: عالم الكتب 1407هـ - 1978م (8) تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، عبد الرحمن السيوطي، تحقيق نظر محمد الفاريابي، الرياض: مكتبة الكوثر 1415هـ (9) تهذيب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ط1، بيروت: دار صادر، دون تاريخ. (10) التمييز، مسلم بن الحجاج النيسابوري، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي. ط2. الرياض: شركة الطباعة العربية 1402هـ (11) خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال، أحمد بن عبد الله الخزرجي، ط2، بيروت: مكتب المطبوعات الإسلامية 1391هـ (12) دلالة النظر والاعتبار، عند المحدثين في مراتب الجرح والتعديل لأحمد نور سيف المنشور بمجلة البحث العلمي لجامعة أم القرى (54) العدد الثاني (1399) هـ. (13) سنن الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط2، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده 1398هـ (14) السنن الكبرى، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، بيروت، دار المعرفة، بلا تاريخ. (15) سير أعلام النبلاء، شمس الدين عثمان بن أحمد الذهبي، أشرف على تحقيقه شعيب الأرناؤوط، ط4، بيروت: مؤسسة الرسالة 1406هـ (16) شرح علل الترمذي، عبد الرحمن بن أحمد ابن رجب، تحقيق نور الدين عتر، طبعة رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء 1398هـ

(17) صحيح البخاري المطبوع مع شرحه فتح الباري، محمد بن إسماعيل البخاري، الرياض: مكتبة الرياض الحديثة، بلا تاريخ. (18) صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، بلا تاريخ. (19) الضعفاء الكبير، محمد بن عمرو أبو جعفر العقيلي، تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي، ط1، بيروت: دار الكتب العلمية 1404هـ (20) طبقات الشافعية الكبرى، عبد الوهاب بن علي السبكي، تحقيق محمد الطناحي وعبد الفتاح الحلو، ط1، القاهرة: عيسى البابي الحلبي 1384هـ (21) فتح المغيث شرح ألفية الحديث، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، ط1، بيروت: دار الكتب العلمية 1403هـ. (22) الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، محمد بن علي الشوكاني، تحقيق عبد الرحمن بن يحي المعلمي، ط2، بيروت: المكتب الإسلامي 1392هـ (23) القاموس المحيط، محمد يعقوب الفيروز آبادي، ط2، بيروت: مؤسسة الرسالة 1407هـ (24) القياس لمصطفى جمال الدين. (25) الكامل في ضعفاء الرجال، عبد الله بن عدي، ط2، بيروت: دار الفكر 1405هـ (26) الكامل النسخة الظاهرية (ق 172 ب) لابن عدي. (27) كتاب المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، محمد بن حبان البستي، ط2، تحقيق محمود إبراهيم زايد، حلب: دار الوعي 1402هـ (28) مختار الصحاح، أبو بكر االرازي، ط2 بيروت: دار الفكر العربي 1997م (29) مختصر الكامل في الضعفاء، أحمد بن علي المقريزي، الطبعة الأولى، تحقيق أيمن بن عارف الدمشقي، القاهرة: مكتبة السنة 1415هـ (30) المسند، أحمد بن حنبل، ط2، بيروت: المكتب الإسلامي 1405هـ (31) المصنف، عبد الرزاق بن الهمام الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، ط2، بيروت: المكتب الإسلامي 1403هـ (32) معجم مقاييس اللغة، أبوالحسن بن فارس بن زكريا، تحقيق عبد السلام محمد هارون، قم: دار الكتب العلمية، دون تاريخ.

(33) مقدمة ابن الصلاح مع محاسن الاصطلاح، تحقيق عائشة عبد الرحمن، مطبعة دار الكتب 1974م (34) ميزان الاعتدال في نقد الرجال، ابو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي، بيروت: دار المعرفة، بدون تاريخ. (35) النكت على مقدمة ابن الصلاح , عبد الله بن بهادر الزركشي. تحقيق زين العابدين بن محمد, ط1,الرياض: مكتبة أضواء السلف 1419هـ.

الصعوبات التي يواجهها الطلبة في فهم مقررات الحديث وعلومه

الصعوبات التي يواجهها الطلبة في فهم مقررات الحديث وعلومه (1) د. علي نايف بقاعي الأستاذ المساعد في كلية الدعوة الإسلامية ومعهد طرابلس الجامعي وكلية الشريعة في بيروت. بسم الله الرحمن الرحيم {والعصر * إنَّ الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. سبحانك لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً. ربِ اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي. اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل عليّ. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ... في العالمين إنك حميد مجيد. وبعد: فإني أشكر إخواني رئيس وأعضاء لجنة إعداد ندوة علوم الحديث واقع وآفاق على ما بذلوه من جهد طيب لجمع شمل باحثين متخصصين في علوم الحديث، ليتدارسوا واقع هذه العلوم، ويفكروا في الوصول إلى ما يطمحون إليه من تفعيل دور هذه العلوم في مجتمعاتنا. كما أشكر القيمين على هذا الصرح العلمي كلية الدراسات الإسلامية والعربية في دبي. وعلى رأسهم سعادة السيد جمعة الماجد حفظه الله تعالى وأمتع به. إخواني الكرام، إن المحور الذي أنوي المشاركة فيه: هو المحور الأول: واقع علوم الحديث، وإن عنوان الموضوع الذي كتبت فيه هو: الصعوبات التي يواجهها الطلبة في فهم مقررات الحديث وعلومه. إن الصعوبات - وإن شئت قلت المشكلات - التي يواجهها الطلبة في فهم أو بالأحرى في دراسة علوم الحديث يعود بعضها إلى طبيعة مواد علوم الحديث، وبعضها إلى الكتب المقررة على الطلبة وطريقة طرح أسئلة الامتحانات، وبعضها إلى الطالب، وبعضها الأخير يرجع إلى المدرس والمعهد والمجتمع.

_ (1) وهو بحث واقعي لم يرجع فيه الباحث إلى مراجع مكتوبة وإنما جمعه من أقوال الطلاب وملاحظاته هو خلال اثنتي عشرة سنة من تدريس الحديث الشريف وعلومه.

(أ) المشكلات التي ترجع إلى طبيعة مواد علوم الحديث: 1 ـ جفاف مادة مصطلح الحديث: يشبه جفاف هذه المادة جفاف مواد القانون، بل هي كما عرفها ابن جماعة قوانين يعرف بها أحوال السند والمتن. وهذه القوانين مصوغة بتعاريف جامعة مانعة، يصعب حفظها بدون فهمها بدقة، ويحتاج فهمها إلى شرح طويل، وتفكيك لعناصرها، وضرب للأمثلة الموضحة. ومما يزيد جفافها كثرة المصطلحات فيها، وتشابه بعضها في الاسم فقط، مع اختلافها في التعريف، كغريب الحديث والحديث الغريب، والمقطوع والمنقطع، والأسماء المفردة والوحدان، والمرسل والمرسل الخفي، والضعيف والمضعف، وغير ذلك. ومن أسباب جفافها أنها مادة لا يطالعها الإنسان في حياته اليومية، ولا يواجهها في حياته العملية، اللهم إلا إذا كان شديد الانتباه ويمكنه أن يعقد مقارنة دقيقة بين بعض مصطلحاتها وبين ما يعرض له من الأشخاص ويريد الحكم عليه جرحاً أو تعديلاً أو جهالة أو غير ذلك. 2 ـ سعة مادة المصطلح وكثرة الاختلافات فيها: إن سعة أية مادة من المواد تمنع الطالب من الإحاطة بها حتى لو كانت سهلة، فكيف إذا كانت قوانين، وفيها اختلافات كثيرة! كاختلاف تعريف الشاذ بين الشافعي والحاكم والخليلي، واختلاف العلماء في معنى قول الترمذي: حديث حسن صحيح، واختلاف معنى المنكر بين المتقدمين والمتأخرين واختلاف الخطابي والترمذي في تعريف الحديث الحسن، وغير ذلك من الاختلافات. إن سعة المادة وكثرة الاختلافات فيها قد يؤديان إلى إحباط الطالب واليأس من النجاح فيها وبالتالي الابتعاد عن التخصص فيها. 3 ـ تشعب مادة أحاديث الأحكام: عدا كثرة روايات الحديث الواحد واختلافها في كتب الأئمة، أو في كتاب الإمام الواحد أحياناً كمسلم والنسائي، فإن أحاديث الأحكام وشرحها يحتاج إلى ولوج في مواد أخرى كاللغة وأصول الفقه والفقه المقارن والتفسير وغيرها، مما يحتاج الطالب فيه إلى خلفية واسعة في العلوم الأخرى.

ثم إن اختلاف الأئمة في تصحيح الحديث أو تعليله، واختلافهم في إطلاقه أو تقييده، وتخصيصه أو العمل بعمومه، أو فهم الأمر فيه على إفادة الوجوب أو السنية أو غير ذلك، كل ذلك يزيد من تشعب المادة وتطويل الكتب المقررة فيها وإياس الطلبة من الإحاطة بها. وأشير إلى مثال واحد مما اختلف فيه تصحيحاً أو تعليلاً هو حديث القلتين صححه الشافعية والحنابلة وعملوا به، وأعلّه الحنفية والمالكية بالاضطراب سندا ومتنا، ولم يعملوا به. كما أشير إلى مثال واحد مما اختلف في تخصيصه أو بقاء النهي فيه على عمومه هو حديث النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب، فاختلف الأئمة في حكم النوافل في هذه الأوقات اختلافاً كبيراً يصعب على الطالب إحصاؤه. (ب) المشكلات التي ترجع إلى الكتب المقررة والامتحانات: 1 ـ فصل المصطلح عن الحديث: لا يمكن فهم معاني أحاديث الأحكام وما يؤخذ منها والحكم عليها بدون معرفة مصطلح الحديث، كما لا يمكن فهم مصطلح الحديث بدون معرفة كيفية تطبيقه على الأحاديث، ومعظم كتب المصطلح لا تربط أصول الحديث النظرية بالتطبيق العملي، فتجدها خالية من الأمثلة الموضحة والتطبيقات العملية، حتى لو وجدت فيها مثالاً فكثيراً ما يكون بعيداً عن أحاديث الأحكام، كما أن معظم كتب شروح أحاديث الأحكام تهمل كيفية دلالة الحديث على الأحكام، فتحرم الطالب من تنمية ملكة التفقه. بل إن بعض الكليات تختار لتدريس الأحكام أحاديث مجموعة من الصحيحين، فتحرم الطالب من التطبيقات العملية في دراسة أسانيد هذه الأحاديث، لأن أسانيدها صحيحة غالباً. يقال في هذا المقام: إننا إذا أردنا ترسيخ مصطلح الحديث في أذهان الطلبة، لا بد أن نجعل كتب المصطلح تطبيقية، تعج بالأمثلة التوضيحية والتطبيقات، وكذلك ينبغي أن نجعل كتب شروح الحديث توضح ربط قواعد المصطلح بالأحاديث التي تدرسها هذه الكتب.

فلا ينبغي الاكتفاء باختيار أحاديث من الصحيحين بل لا بد من اختيار أحاديث صحيحة لغيرها وحسنة لغيرها أيضاً، واختيار أحاديث اختلف الأئمة في تصحيحها ليتدرب الطالب على كيفية اجتهاد الأئمة المحدثين الفقهاء في هذه الأحاديث. لكن ذلك لا بد من التدرج فيه بحيث يراعى حال الطالب المبتدئ في الثانويات الشرعية، والمتوسط في الكليات الجامعية، والمنتهي في الدراسات العليا. 2 ـ غياب المناهج التي تتدرج بالطالب: عندنا في لبنان بالذات لا يؤخذ في الاعتبار غالباً مستوى الطالب الذي توجه إليه الكتب الدراسية في علوم الحديث، وليس هناك تنسيق بين المعاهد الثانوية والكليات الجامعية والمعاهد العليا، بحيث ترى طالباً يدرس في المرحلة الثانوية كتاب منهج النقد في علوم الحديث، ثم ينتقل إلى كلية جامعية فيدرس منهج النقد أيضاً، ثم إذا انتقل إلى معهد عال لدراسة الماجستير فيدرس منهج النقد كذلك، وكذلك يقال في كتاب سبل السلام أو كتاب إعلام الأنام وللتغلب على هذه المشكلة لا بد من الأخذ بعين الاعتبار بمستوى الطالب الذي يوجه إليه الكتاب فما يصلح تذكرة للمنتهي لا يصلح لطالب مبتدئ. ينبغي تأليف كتب في المصطلح الوظيفي، والتخريج التطبيقي المبسط، والمنهج العملي لدراسة الأحاديث للمبتدئين بحيث لا يكون فيها اختلافات، ثم يؤلف كتب غيرها للمتوسطين بحيث تعرج على بعض الاختلافات، ثم يؤلف غيرها للمنتهين بحيث تعج بالاختلافات ويستفيد منها الطالب المتخصص الذي نضج فكره في تنمية ملكة الاجتهاد. 3 ـ معظم الكتب القديمة يصعب على الطالب فهمها:

وذلك لأنها كتبت في عصور كانوا يشتغلون فيها بالحديث كثيراً تحملاً وأداءً ورحلة ومذاكرة وغير ذلك، فكثيراً ما يكتفون بالإشارة إلى الحديث دون ذكره، أو بالتلميح إلى علته دون التصريح بها، وهكذا بحيث يصعب على الطالب أو يكاد يستحيل أن يفهم المقصود من الإشارة، بل ربما يصعب على المتخصص فهم ذلك إذا لم يبحث ويفتش ويستعن بالمؤلفات الكثيرة ويراجع شيوخه في أحيان كثيرة. قد يقول المؤلف:» دليل عدم بطلان صلاة المتكلم في صلاته ناسياً حديث ذي اليدين «دون أن يذكر متن هذه الحديث، أو يقول:» كل ما ذكر في حديث المسيء صلاته فهو واجب «أو يقول:» جاء في قنوت الصبح حديث عيسى بن ماهان «. كل ذلك دون أن يذكر متون هذه الأحاديث. لا بد من تأليف كتب توضح هذه الإشارات، وتفك رموز الكتب القديمة، خاصة إذا علمنا أن حديث ذي اليدين قد ألف فيه الحافظ العلائي كتاباً سماه نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد، وهذا الكتاب قد طبع في أكثر من 900 صفحة. أما عن كتب المصطلح القديمة فحدث ولا حرج! بالله عليك أخي الكريم كيف يفهم كلام الإمام النووي رحمه الله تعالى في إرشاد طلاب الحقائق عند بحثه المدرج في الحديث قائلاً: القسم الثاني: أن يكون جملة الحديث عند الراوي بإسناد إلا طرفاً منه فإنه عنده بإسناد آخر، فيدرجه من رواه عنه على الإسناد الأول، فيروي الحديثين بالإسناد الأول، كيف يفهم الطالب هذا النوع من الإدراج إذا لم يذكر له مثال يوضحه. لا بد من القضاء على مشكلات الكتب القديمة وصعوبتها، وعلينا أن نستخدم في ذلك الطرق التوضيحية من أمثلة كافية ومشجرات ورسوم الدوائر والحلقات في إيضاح أنواع الحديث، فلنوضح الحديث الموصول والمنقطع والمقطوع والموقوف والمرسل والمعضل باستخدام حلقات متصلة ومنقطعة هكذا كما يأتي. ولنوضح الشاهد والمتابع والعزيز والغريب بمشجرات.

من صعوبات ومشاكل الكتب القديمة غياب المنهجية والتسلسل، وانعدام شكل الكلمات، ووجود تفريعات كثيرة بدون عناوين لها، وإغفال تحرير نصوص الأحاديث من مصادرها، وكثيراً ما تقصر في بيان استدلال أئمة المذاهب الكبرى، أو الرجوع إلى مصادرهم وأحياناً تنقل عبارات بالمعنى فتغير المعنى كما حصل في حديث: فليخط خطاً. قال الخطابي: ضعفه أحمد، وقال الشوكاني: صححه أحمد. وقال الشوكاني أيضاً: صححه البيهقي، بينما قال السيوطي ضعفه البيهقي. والحقيقة أن نص البيهقي ليس صريحاً في تصحيحه ولا في تضعيفه، فإنه قال: لا بأس به في مثل هذا الحكم إن شاء الله تعالى. 4 ـ مشكلات الامتحانات: لا يوجد بين أيدي الطلاب ولافي كتب الحديث أسئلة نموذجية محلولة بشكل مدروس ومنظم، وهذا يزيد الامتحانات صعوبة، وخاصة عندما لا يحضر مدرس المادة مراقبة الطلاب في امتحانهم، فإن بعض الطلاب قد لا يفهم المطلوب من الأسئلة تماماً. وقد تقتصر الأسئلة على سرد معلومات من الذاكرة فقط، دون أن يكون من بينها ما يساعد على معرفة مقدرة الطالب على التفكير والتحليل والاستنتاج. لذا ينبغي أن يحضر مدرس المادة إلى قاعة الامتحان يوم الامتحان، وأن يحل للطلاب أسئلة نموذجية في أثناء العام الدراسي، وأن ينوع الأسئلة إلى أسئلة حفظ وفهم وتطبيق، واختبار للقدرات العقلية العليا أيضاً تحليلاً وتركيباً وتقويماً، فليكن استفتاح أسئلته متنوعاً: اذكر، عدد، ما شروط؟ قارن، علل، صف، حلل، لماذا؟ كيف توفق وتحل؟ ما رأيك في؟ هل توافق على؟. وليجعل لأسئلة الحفظ والتذكر 25% مثلاً، وللفهم 29% وللتطبيق 25% ولاختبار القدرات العقلية العليا بالتحليل 7% وبالتقويم 7% وبالتركيب 7% مثلاً. (ج) المشكلات التي ترجع إلى الطالب: 1 ـ ضعف مستوى المتوجهين إلى الكليات الشرعية:

يلحظ في لبنان أن المتفوقين في دراستهم الثانوية يتوجهون غالباً إلى دراسة الطب والهندسة والصيدلة وعلوم الحاسوب، وأن الذين يتوجهون إلى الكليات الشرعية لديهم ضعف عام في المستوى الثقافي، وفي علوم اللغة العربية والتعبير، وبعضهم لديه ضعف في المستوى الذهني. ويلحظ عند تصحيح الامتحانات أن بعض الطلاب لا يميزون بين الأصل والفرع فينساقون وراء بعض الفروع ويركزون عليها في دراستهم للامتحان، أو تلفت نظرهم معلومة غريبة قد لا تكون أساسية فيجعلونها محور دراستهم، ويحولون ورقة الإمتحان منبراً للخطابة والإنشاء، كأنهم لا يعرفون أنهم يكتبون في علوم الحديث. ويزيد مستوى الضعف أحياناً وجود بعض الطلبة من غير العرب الذين لا يحسنون اللغة العربية فيكثرون مقاطعة المدرس ليستفسروا عن معاني ألفاظ عربية لم يفهموها. وقد يكون بعض هؤلاء الطلاب قد تسجلوا في الكليات الشرعية للحصول على إقامة البلد فقط والتفرغ للعمل لا لدراسة الشريعة. لذا كان لا بد - للتغلب على هذه المشكلة - من اختيار النجباء المتفوقين في دراستهم الثانوية واستقطابهم - بتأمين ما يلزمهم - وتفريغهم لدراسة الشريعة. 2 ـ مشكلة الانتساب وعدم التفرغ: إن نظام الانتساب واقع بالرغم من الضعف العام في مستوى المتوجهين إلى الكليات الشرعية، وتضطر معظم الكليات الشرعية إلى قبول المنتسبين بدون أن يتفرغوا، وتجعل دوام الدراسة مسائياً، بعد أن يكون الطلاب قد أنهوا أعمالهم ووظائفهم فيأتي الطالب مرهقاً، وقد يصل إلى صفه متأخراً عن بداية الدرس، وغالباً ما يتغيب عن حضور الدروس لمشاغله العائلية. وهكذا يدرس معظم الطلاب على أنفسهم، بدون الحضور على الشيوخ المختصين. فلا يتشبع الطالب بروح المادة، ولا يعرف الأولويات في المادة، ويقع فيما وقع فيه من درسوا على أنفسهم من غير شيوخ من كثرة التناقضات والعجائب.

ويؤدي الانشغال بالوظائف والأعمال وعدم التفرغ للدرس إلى نقص في المذاكرة وإلى نقص في زيادة العلماء ومخالطتهم، وإلى ضعف في المشاركة الصفية، وكل ذلك يؤدي إلى تشييخ الكتاب بدلاً من الشيخ العالم، وفشو الجهل بين طلبة الكليات الشرعية، وقديماً قالوا: من أعظم البلية تشييخ الصحيفة. إن الكتب عون للمذاكرة، ولا يستغنى بها عن مجالس العلماء والأخذ عنهم، ولقد قال الشافعي رضي الله عنه: من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام. وقال في ديوانه: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان إن مشكلة عدم التفرغ لطلب العلم هي أعظم مشكلة لمن أراد أن يدرس علوم الحديث، ويزيد هذه المشكلة تعقيداً أن الطالب قد ينجح ويتخرج من الكلية لسبب أو لآخر ثم بدلاً من الالتفات إلى تمكين نفسه في علوم الحديث وتحصيل ما فاته أيام الانتساب إلى الكلية، تراه بعد تخرجه مباشرة، يضاعف من عمله الدنيوي لشراء منزل وأثاث وسيارة، وينصرف للبحث عن زوجة وبناء أسرة، وتمر الأيام والليالي دون مذاكرة لما درسه، ودون تحصيل لما فاته، فيمسح من ذاكرته ما كان فيها وكأنه ما رأى علم الحديث في حياته ولا شاهد شيئاً أو سمع شيئاً من مصطلحاته. إن علم الحديث لا يمكن التمكن فيه بدون التفرغ لتحصيله، إنه علم ينبغي أن لا يترك ساعة. إنه العلم الذي قيل فيه: من أراد أن يتركه ساعة فليتركه الساعة. وأحيل في هذا المقام طلبة الحديث إلى قراءة ما جمعه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى في كتابه صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل. (د) المشكلات التي ترجع إلى المدرس والكلية والمجتمع: 1 ـ تدريس مواد الحديث غير المتخصصين بها:

كثيراً ما يسند في لبنان تدريس مواد الحديث كالمصطلح والتخريج وأحاديث الأحكام إلى متخصص في الفقه أو التفسير أو غير ذلك، بسبب قلة المتخصصين في علوم الحديث لتغطية التدريس في جميع الكليات والمعاهد في البلد، ومعلوم أن غير المتخصص لا يمكنه اكتشاف الأخطاء الطباعية، والسقط، والتصحيف في الأسماء والمصطلحات، ولا يخلو كتاب مطبوع من هذه الأمور، فيزداد الطين بلة. وغير المتخصص لا يمكنه زيادة الكتاب إيضاحاً، بل قد يصرف الطلاب عن المقصود الأعظم منه، فإن كان المدرس متخصصاً في الفقه حول حصة الحديث إلى حصة في الفقه، وإن كان متخصصاً في التفسير حولها إلى حصة تفسير، وهكذا حتى لا يشعر الطالب بخصوصية وتميز لعلوم الحديث، فتصير مهمشة في حسابه. 2 ــ تهميش دور علوم الحديث في الكلية والمجتمع: إن معظم الكليات في لبنان تهمش دور علوم الحديث، وتعتبر هذه المادة ثانوية فتعطى وقتاً قصيراً مثلما تعطى مواد علم النفس والاجتماع والفلسفة. وبسبب عدم كفاية ساعات التدريس المقررة لعلوم الحديث، فإن الطالب لا يكمل دراسة مادة المصطلح كلها، فيترفع إلى صف أعلى يحتاج فيه في هذه المادة ليفهم أحاديث الأحكام، فلا يفهمها كما ينبغي، لعدم استكماله دراسة أصول الحديث. ومن جهة ثانية فإن مدرسي المساجد يهملون تدريس الحديث فيها، وقد يدرسون كل شيء إلا الحديث، وهذا يجعل مادة الحديث الشريف غير شعبية بعكس المواد الفكرية الأخرى التي يكثر الاهتمام فيها في الكليات والمساجد ويكثر عقد الندوات والمؤتمرات لأجلها. ومن تهميش دور علوم الحديث عدم التنسيق بين مدرسي مواد الفقه وتفسير آيات الأحكام وعلوم الحديث، فالموضوعات التي يدرسها الطالب في الحديث يدرسها الطالب في الفقه ويدرسها في تفسير آيات الأحكام. وهكذا تتكرر المادة الواحدة بأسماء مختلفة، مما يؤدي إلى ملل الطالب وعدم قدرته على التمييز بين المواد.

وربما يعود تهميش دور علوم الحديث إلى فئة في المجتمع تقول: إن الفقه هو ثمرة علم الحديث، وطالما أننا حصلنا على الثمرة في كل المذاهب الفقهية فلا داعي للتوسع في علوم الحديث. وهذا كلام ضرره أكثر من نفعه، ويؤدي إلى تنافر بين أهل الحديث وبين أهل الفقه، لا بد من توسيع آفاق الطالب بمعرفة أدلة الشريعة، والأنس بغير مذهبه، لأن الدليل الواحد قد يكون له توجيهات متعددة، كإفادة الأمر الوجوب أو السنية، وإفادة النهي التحريم أو الكراهة، وهل العام خصص أو بقي على عمومه؟ وهل المطلق قيد أو بقي على إطلاقه؟ لذا كان من الأهمية بمكان تقديم دور علوم الحديث لتحتل موقعها المناسب، لارتباطها الشديد بالعلوم الأخرى. وإذا لم تأخذ علوم الحديث مكان الصدارة بين بقية العلوم فلن تتقدم العلوم كلها. وكيف يهمش دور الحديث الشريف وعلومه! وهو المبين لكتاب الله تبارك وتعالى!. توصيات: أولاً: أقترح لترطيب جفاف مادة المصطلح إدخال التطبيقات على الكتب المؤلفة فيها، وتسهيل هذه الكتب باستخدام الوسائل التوضيحية كالمشجرات والدوائر والحلقات. ثانياً: تأليف ثلاثة كتب مختلفة في مصطلح الحديث لمراعاة المرحلة التي يدرسها الطالب. (1) الكتاب الأول للمرحلة الثانوية بحيث لا يحوي كل قوانين المصطلح بل أهمها فقط، مع أمثلة وتطبيقات مبسطة، ولا يكون في الكتاب مسائل خلافية. (2) الكتاب الثاني للمرحلة الجامعية بحيث يحوي قوانين المصطلح مع أمثلة وتطبيقات أوسع، وبعض المسائل الخلافية، ليعرف الطالب أن هذا العلم مبني على الاجتهاد. (3) الكتاب الثالث لمرحلة الدراسات العليا بحيث يتوسع الطالب ويتعمق في بحث بعض مسائل المصطلح الخلافية والشائكة ويتعرف إلى مناهج المتقدمين والمتأخرين. ثالثاً: أوصي القيمين على الكليات الشرعية بعدم إسناد مواد الحديث لغير المتخصصين في علوم الحديث.

ـ وتشجيع الطلاب النابهين بشتى الوسائل على التخصص بالمواد الشرعية وخاصة علم الحديث منها، فإن حاجة مجتمعاتنا إلى علماء الحديث أكثر منها إلى الأطباء والمهندسين. ـ وتفريغ الطلاب طوال النهار للدرس من الصباح حتى المساء، وحذف المواد الثانوية من البرامج. ـ أما المنتسبون فلا تقفل الأبواب دونهم، ولكن يدرسون عدداً أكبر من السنوات ويمتحنون حتى يتأهلوا للتخرج مُتَمَكِّنِين. رابعاً: أوصي إخواني الطلبة بأن ينموا في أنفسهم الشعور بالمسؤوليات الكبيرة الملقاة على عاتقهم، وأن يعملوا بجد ومثابرة دون ملل، فإن العلوم لا تدرك دفعة واحدة، ولكنها تدرك مسألة مسألة. كما أوصيهم ونفسي بالإخلاص، والتوجه إلى الله تعالى بالدعاء الدائم أن يفتح لهم بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

الصعوبات التي يواجهها الطلبة في مساق علوم الحديث

الصعوبات التي يواجهها الطلبة في مساق علوم الحديث أسبابها وعلاجها د. عبد العزيز شاكر حمدان الكبيسي أستاذ الحديث المساعد بقسم الدراسات الاسلامية جامعة الإمارات العربية المتحدة مقدمة البحث: الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن علوم الحديث من أهم العلوم الإسلامية وأجلها، وأحقها بالتعليم والتعلم، وأولاها بكل اهتمام وعناية، فبها يعرف الحديث الصحيح من السقيم، ومن خلالها نقف على البيان لكتاب الله تعالى وتفصيل آياته، وتوضيح أحكامه. وهي العلوم التي أدت لنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأسمعتنا منير حروفها، وأرتنا مواقع العبر، وبصرتنا معالم الاقتداء، ومثلت لنا الأسوة الحية في شخصه صلى الله عليه وسلم. وهي العلوم التي حرست الدين، وحمت الشريعة من كذب الكاذبين، وافتراء المبطلين، وجهل المسلمين، ولهذا لقيت هذه العلوم عناية فائقة من العلماء في كل عصر من العصور وعلى مدار الاجيال والأزمان، فصنفت فيها المصنفات الكثيرة، وكتبت فيها الدراسات والتحقيقات، وخدمت قواعدها ومبادئها وتواتر الناس على دراستها، ولكن مما يلاحظ أن كثيراً من طلبتنا يعانون صعوبة في فهم تلك القواعد والمبادئ والمصطلحات، ونلمس ضعفا واضحا في استيعابها. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما هي تلك الصعوبات التي يواجهها طلبتنا في فهم مقررات علوم الحديث؟ وما هي أسباب ضعفهم؟ وما هو السبيل لعلاج تلك الصعوبات؟ وما هي العوامل التي يمكن أن تساعدهم في تجاوزها؟ في هذه الورقة نحاول الإجابة على هذا التساؤل المطروح، داعيا المولى سبحانه وتعالى، أن يوفقنا في تلمس سبيل العلاج، إنه سميع مجيب. وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين. تمهيد في التعريف بعلوم الحديث وثمرتها تعريف علم الحديث دراية: قال عز الدين ابن جماعة: علم الحديث» علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن «.

وبتعبير آخر هو مجموع القواعد والمباحث الحديثية المتعلقة بالإسناد والمتن، أو بالرواي والمروي حيث تقبل أو ترد. وهذا العلم له تسميات عديدة هي:» علم مصطلح الحديث «و» علم الحديث «و» علوم الحديث «و» أصول الحديث «. موضوعه: موضوع علم الحديث دراية يشتمل على الراوي والمروي أو السند والمتن من حيث القبول أو الرد أو التوقف، فهو يبحث في حقيقة الرواية وشروطها وأنواعها وما يتصل بها من أحكام، كما يبحث في حال الرواة وشروطهم، وأنواع المرويات وما يتعلق بها من مسائل وأحكام. ثمرته: تتمثل ثمرة هذا العلم في معرفة المقبول من المردود، وبمعرفة المقبول يعرف الحديث المعمول به الذي يثبت به الحكم الشرعي، أو يفصل به حكم ورد مجملا في القرآن الكريم، أو يفسر به أمر مبهم، وهكذا. وبمعرفة المردود يعرف الحديث الموضوع أو الضعيف الذي لا يعمل به فيترك وينتبه إليه المسلمون فلا يغترون به ولا يحتجون بما جاء فيه، ولا يعملون به، وتتركز ثمرة هذا العلم في الحفاظ على الشريعة الإسلامية، وأحكامها، وأدلتها. المبحث الأول أسباب الصعوبات التي يواجهها الطلبة في مساق علوم الحديث من خلال التتبع والاستقراء لواقع مساق علوم الحديث في جامعاتنا واستطلاع آراء الطلبة يمكننا أن نقسم أسباب الصعوبات التي يواجهها طلبتنا في فهم مقررات مساق علوم الحديث إلى ما يأتي: أولا: أسباب تتعلق بالمنهج. ثانيا: أسباب تتعلق بالمدرس. ثالثا: أسباب تتعلق بالطالب وهو محور العملية التعليمية. رابعا: أسباب أخرى متفرقة. أولا: الأسباب المتعلقة بالمنهج: وتعد هذه الأسباب من العناصر الرئيسة التي يهم في عدم استيعاب طلبتنا الاستيعاب الكامل لمبادئ مصطلح الحديث وقواعده، وهذه الأسباب هي: أـ كثافة المنهج:

حيث وجدت من خلال التجربة العملية في تدريس المساق، كثافة المقررات التي لا يمكن تغطيتها في فصل دراسي واحد، فمن المعلوم أن الفصل الدراسي الواحد في الغالب يشتمل على ستة عشر أسبوعا، وبما يعادل ثمانية وأربعين ساعة. وهي في حقيقتها تعادل أربعين ساعة فقط بعد طرح أوقات الاستراحة منها وإذا ما طرحنا من تلك الأسابيع الستة عشر: أسبوع الامتحانات (امتحان السعي والمنتصف) وأسبوع المراجعة في نهاية الفصل، والذي يتغيب عنه الطلبة في أغلب الأحيان سيتبقى لدينا أربعة عشر أسبوعا متمثلة في (35) ساعة فقط. فيا ترى هل يمكن لتلك الساعات أن تؤدي إلى استيعاب مقررات علوم الحديث؟ وهل باستطاعة تلك الساعات العجاف أن تسهم في تخريج جيل من الطلبة قادر على فهم مصطلح الحديث وقواعده؟ ب -الكتاب الدراسي المقرر: ومما يتعلق بهذا الجانب: عدم ارتباط جزئيات منهج الكتاب وموضوعاته بعضها ببعض من جانب، والإيجاز المخل من جانب آخر. ولو أخذنا على سبيل المثال: الكتاب المقرر في قسمنا بجامعة الإمارات، وهو كتاب (الباعث الحثيث إلى اختصار علوم الحديث) للشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله تعالى ـ وأصل الكتاب للحافظ ابن كثير. ومن المعروف أن الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ قد اختصر بكتابه هذا» علوم الحديث «لابن الصلاح المشهور بمقدمة ابن الصلاح، وقد جاء اختصاره مخلا في كثير من الأحايين، كما لا يخفى على أهل الاختصاص، وعذره في ذلك أنه قد وضع ذلك لأهل عصره فأراد العلامة أحمد شاكر ـ رحمه الله ان يعالج هذا الاختصار، فكتب تعليقاته عليه، وسماها» الباعث الحثيث إلى اختصار علوم الحديث «ولا شك أن الأسلوب الذي كتب به تعليقاته تلك يختلف عن أسلوب الحافظ ابن كثير. إن كتاب الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - على جلالة قدره، ومكانة صاحبه العلمية التي لا تخفى على كل مختص، لكننا نجد عند الطلبة صعوبات كثيرة في دراسته دراسة منهجية نظامية وذلك بسبب ما يأتي:

1- افتقار الكتاب إلى الترتيب المنهجي، وذلك لكونه مختصرا لكتاب ابن الصلاح - رحمه الله تعالى - الذي أملى كتابه شيئا فشيئا عندما تولى تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية بدمشق، ولهذا لم يحصل ترتيبه على الوجه المناسب، فجاء كتاب الحافظ ابن كثير كأصله. 2- عدم ذكر الأمثلة التوضيحية لكثير من المصطلحات التي أوردها في كتابه كما هو الحال في الحديث الصحيح، والحسن، والمرفوع والموقوف والمقطوع، والمرسل، والشاذ، والمنكر، والمضطرب، والمدرج. 3- عدم ذكر الحكم المتعلق بمصطلح ما، وإغفال ذكر مظانه أحيانا كما فعل في الحديث المضطرب. 4- عدم ذكر التعريف عند الحديث عن نوع ما من أنواع الحديث، مكتفيا بذكر أقسامه أو بعضها، كما فعل في الحديث المقلوب والمسلسل. 5- صعوبة عبارته. ثانيا: الأسباب المتعلقة بالمدرس: وهذه الأسباب التي تتعلق بالمدرس الذي ينهض بتدريس المساق يمكن إجمالها في عدة نقاط، هي: أـ عدم التخصص: حيث نجد أن بعض المدرسين الذين ينهضون بتدريس علوم الحديث في جامعاتنا ليسوا من المتخصين في هذا المجال، كما هو الحال في بعض الجامعات الإسلامية ولا يخفى أن غير المختص وإن تمكن من إدارة الفصل، لكنه لا يمكن له أن يوصل المادة العلمية إلى أذهان الطلبة كما ينبغي. ب ـ عدم عناية بعض المدرسين بالطلبة الضعفاء، وعدم الحرص على رفع مستواهم للحاق بزملائهم الآخرين. ج ـ تعويد بعض المدرسين الطلبة على الحفظ فقط. د ـ فقدان معاني التشويق والإثارة العلمية في طرح موضوعات المساق من قبل بعض المدرسين. هـ ـ الاقتصار على الجانب النظري في التدريس وإهمال الجانب التطبيقي وعدم الربط بين مناهج المحدثين في تصحيح الأحاديث وتضعيفها وتوثيق الرواة وتجريحهم بمبادىء مصطلح الحديث وقواعده، مما يفقد الطالب القدرة على أن تكون له الملكة الحديثية التي تمكنه من استيعاب موضوعات المساق وتذوقها. ثالثا: الأسباب المتعلقة بالطالب: وهذه الأسباب هي:

أ - طريقة الاستذكار الخاطئة من قبل بعض الطلبة. ب- كثرة غياب بعض الطلبة عن حضور المحاضرا ت الدراسية للمساق. ج -كثافة المواد الدراسية التي يقوم الطالب او الطالبة في التسجيل فيها، مما ينعكس ذلك سلبا على القدرة في الاستيعاب بسبب الإرهاق. وزحمة الجدول الدراسي وكثافته في اليوم الواحد. د -عدم متابعة الطالب أو الطالبة لشرح المدرس في الفصل الدراسي، والتشاغل عن المحاضرة، ولا سيما في الفصول ذات الكثافة الطلابية الكبيرة. رابعا: أسباب أخرى متفرقة: ومن أهمها: كثافة الفصول الدراسية: حيث نلاحظ كثرة أعداد الطلبة المسجلين في الشعبة الواحدة، حيث يصل عددهم ما بين أربعين إلى خمسين طالبا أو طالبة. ولا شك أن هذه الكثافة في الفصل الواحد تؤدي إلى عدم تمكن بعض الطلبة من استيعاب الموضوعات من جهة، وعدم تمكن مدرس المساق من إيصال المادة العلمية إلى جميع الطلبة من جهة أخرى وبخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار تفاوت الطلبة في قدراتهم الاستيعابية، وطاقاتهم العلمية. المبحث الثاني مقترحات وتوصيات لعلاج تلك الصعوبات وبعد أن وضعنا النقاط على الحروف، والحروف على السطور، ووقفنا معا على أسباب الصعوبات التي يواجهها الطلبة في فهم مقررات مساق علوم الحديث، أضع بين يديكم مجموعة من التوصيات والمقترحات التي يمكن أن تسهم في علاجها، وهي: أولا: الدعوة إلى الاستفادة من تقنيات التعليم المعاصر، وأدوات الثورة المعلوماتية الهائلة التي نشهدها اليوم، وتفعيل عملية التعلم من خلالها، وتسخير ذلك في تدريس مساق علوم الحديث، وتطوير طرق التدريس في ضوء هذه المتغيرات التقنية، والانتفاع من وسائل الإيضاح الحديثة. ثانيا: طرح مساق علوم الحديث على شبكة المعلومات الدولية (الانترنت) وتضمين موقع المساق الوصلات التي تمكن الطالب من الوصول الى المواقع الحديثية الموجودة على الشبكة.

ثالثا: استخدام البرمجيات المختصة في علوم الحديث، والاستعانة بها في التدريس، فضلا عن البحث، وتوجيه الطلبة الى الاستفادة منها، وتزويدهم بمهارات التعامل مع المعلومات والمعرفة المتطورة. رابعا: التركيز على غرس حب القواعد الحديثية في نفوس الطلبة، وذلك من خلال بيان الفضل الكبير، والأجر العميم في تعلم هذه القواعد، وكونها تسهم في الحصول على الميراث النبوي الكريم والتشرف بحمل لقب الوراثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. خامسا: ضرورة العمل على ربط منهج المحدثين النقاد في تصحيح الأحاديث وتضعيفها وتوثيق الرواة وتجريحهم بمبادئ مصطلح الحديث وقواعده وعدم الاقتصار على الجانب النظري في هذا الميدان. سادسا: طرح مساق علوم الحديث في فصلين دراسيين متتاليين تحت مسمى: علوم الحديث (1) وعلوم الحديث (2) ، وذلك لتمكين الطلبة من استيعاب المقررات الكثيرة المطلوبة في هذا المساق. سابعا: خفض كثافة الفصول الدراسية ليتمكن الطلبة من المشاركة في الحصة الدراسية، والتفاعل معها، وأخذ حظهم من الأسئلة والمناقشة. ثامنا: دعوة الأساتذة الذين ينهضون بتدريس مساق علوم الحديث إلى اتباع الأساليب المشوقة، واصطحاب الإثارة العلمية في طرق تدريسهم، وغرس معاني التذوق الحديثي في نفوس الطلبة. تاسعا: وضع كتاب دراسي يقوم على استيعاب جميع أبحاث المصطلح بشكل يناسب مستوى الطلبة الدراسي، ويمكنهم من فهم المصطلحات الحديثية واستيعابها وذلك من خلال منهجية تقوم على البدء بتعريف المصطلح أولا، ثم ذكر أمثلة توضحه، ثم بيان أقسامه إن كان له أقسام، ثم العروج على بيان حكمه، ثم بيان المصنفات التي صنفت فيه، وهكذا.

وهذا ما فعله - على سبيل المثال لا الحصر - الدكتور محمود الطحان في كتابه (تيسير مصطلح الحديث) حيث قام بتقسيم كل بحث الى فقرات مرقمة متسلسلة مبتدئا بتعريفه، ثم بمثاله، ثم بأقسامه، وهكذا حتى يختتمه بذكر أشهر المصنفات فيه. متبعا أسلوبا علميا واضحا لا تعقيد فيه ولا غموض، وعبارة سهلة قريبة إلى الأفهام. ولكن مما يؤخذ على هذا الكتاب أن مؤلفه - على الرغم من إعادة طبعه للكتاب مرات كثيرة - لم يعد النظر فيه منذ عام 1985م، ولم يفكر ببيان المصنفات التي طبعت منذ تلك الفترة وحتى يومنا هذا. عاشرا: الحرص على ربط جزيئات المنهج بعضها بالبعض الأخر. حادي عشر: دعوة المدرسين المختصين في تدريس المساق إلى توعية الطلبة بالطريقة المثلى لدراسة مبادئ مصطلح الحديث وقواعده. ثاني عشر: الدعوة إلى الاهتمام بالطلبة الضعفاء، وتوجيه الأسئلة المناسبة لمستواهم، وتشجيعهم على المشاركة في الحصة الدراسية. ثالث عشر: توجيه الطلبة إلى الرجوع إلى المكتبة الحديثية والاستفادة منها وعدم الاقتصار على الكتاب الدراسي المقرر فقط. وفي نهاية المطاف أقول: إن مما لا شك أن دعم العملية التعليمية والبناء العلمي السليم يكون دائما على أسس العقيدة والأخلاق، وأن العمل ما لم يكن رائده الإخلاص، ومستودعه الغزارة العلمية، ومحبة نفع الآخرين، لم يثمر نفعا وقبولا بين رواده ومستقبليه، نسأل الله تعالى أن يعين الجميع على تحقيق هذه المعاني، وتطبيقها، إنه نعم المولى ونعم النصير. وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين

صعوبة فهم علوم الحديث الأسباب والعلاج

صعوبة فهم علوم الحديث الأسباب والعلاج د. صالح يوسف معتوق الأستاذ المشارك في الحديث وعلومه في كلية الدراسات الإسلامية والعربية في دبي. مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد. فإن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع في الإسلام، ولولاها لأشكل علينا فهم كثير من النصوص القرآنية، وبها تمت النعمة، وكملت الشريعة الإلهية. وإذا كان القرآن الكريم قد تكفل الله تعالى بحفظه؛ فوصل إلينا بطرق لا يتطرق إليها أدنى شك أو شبهة، فإن حفظ السنة النبوية من الدخيل قد وُكل إلى الأمة التي وفقها الله تعالى إلى ذلك، ففتح على علمائها-بعد أن رأى إخلاصهم وجهودهم- أبواباً من علوم توثيق الأخبار والمرويات ودراسة الأسانيد والمتون، فتم جمع السنة وتدوينها، ودونت الضوابط والقواعد التي اتبعت في قبول الأخبار وردها مما لم يكن معروفاً عند أرقى الحضارات آنذاك، وأُطلق على هذا العلم اسم علوم الحديث أو مصطلحه، وبات هذا العلم مفخرة يباهي بها علماء المسلمين جميع الأمم. وبعد تدوين السنة وعلومها في مصنفات، باتت جهود العلماء منصبة على إيصال هذه الكتب إلى الأجيال التالية، وعلى التنقيح والضبط والتقعيد والتمحيص، وأضحى كل جيل يحمل مشاعل هذا العلم إلى من يليه، وقد يضيف لبنة جديدة، أو يدعم رأياً ويصوبه، أو يضعفه ويرده.

وكان كلما تقدم الزمن قل عدد العلماء الذين نذروا أنفسهم لهذا العلم، إلى أن أصبح في القرن الرابع عشر الهجري (1) يعتبر من نوافل العلوم، ولا يدرس إلا دراسة سطحية تقتصر على حفظ التعريفات، وانصرف الطلبة بل العلماء أيضاً إلى الاشتغال بعلم الفقه، لحاجة الناس إليه في النوازل المستجدة، وطمعاً في منصب القضاء، وشاع عند هؤلاء المتأخرين مقولة: (إن علم الحديث نضج واحترق) . وأدت هذه المقولة إلى عزوف الطلبة عن دراسة علم لا مجال للنبوغ فيه، أو الزيادة عليه. وفي النصف الثاني من القرن السابق عادت مظاهر الاهتمام بتدريس هذا العلم، فأنشئت كليات تدرس علوم السنة وعلوم القرآن وعلوم العقيدة، وعُرفت باسم كليات أصول الدين، وافتتحت في مرحلة الدراسات العليا تخصصات في كل علمٍ من العلوم المذكورة، وتخرج منها أناسٌ حملوا شهادات عالية (ماجستير ودكتوراة) في السنة وعلومها، وقاموا بتدريسها للطلبة في الكليات الشرعية بعد أن كان يقوم بذلك أي متخصص في علوم الشريعة عموماً، واعتبر هذا العلم علماً ضرورياً، ومتطلباً رئيساً لكل طالب جامعي في الدراسات الإسلامية، ينبغي أن يكون فيه متخصصون يتابعون مسيرة السابقين ويبنون عليها، وكان من نتائج هذا الاهتمام بروز أعلام ارتبطت أسماؤهم بجهودهم في خدمة علوم السنة تدريساً وتصنيفاً.

_ (1) يستثنى من ذلك بلاد الهند فقد ظهر في القرون الثلاثة الأخيرة فيها نهضة نشطة في مجال علوم السنة وشروحها، وظهر فيها أعلام كبار صنفوا كتباً جليلة تدل على علو كعبهم ورسوخ قدمهم فيها.

وبالرغم من هذه الجهود المشكورة في إعادة إحياء هذا العلم، إلا أنه ظهرت مشكلات في تدريسه، فإن كثيراً من الطلبة لم يفهموه، ولم يدركوا أهميته بالنسبة للعلوم الأخرى فدرسوه للنجاح فقط، وأُهمل ونُسي بعد ذلك، وشكا الطلبة من صعوبة هذا العلم، وعدم تمكنهم من استيعابه، واختلطت عليهم مفاهيمه وموضوعاته، وتناقل الطلبة هذه المشكلات، وورثوا لأخلافهم أن النجاح في هذا العلم يعتمد على حفظ المصطلحات لا على الفهم والاستنباط. ومن المشكلات التي رافقت إحياء هذا العلم أيضاً ظهور فوضى في تصحيح الأحاديث وردها، واقتحامُ باب الاجتهاد في الحكم على الأحاديث من قِبل من لا أهلية له من المصنفين والمؤلفين الذين أعادوا دراسة ما اتفق السابقون على قبوله أو رده، فصححوا بعض ما رده الأئمة الأولون، وردوا بعض ما قبلوه، وولج هذا الميدان من لم يقرأ سوى كتاب واحد، أو بضعة كتب؛ ولم يفهم مرادها، ولم يدرك مراميها، وغابت عنه دقائق هذا العلم وتحقيقات العلماء وتمحيصاتهم، فأصبح قراء هذه المصنفات في ضياع وحيرة بسبب هذه الفوضى. ولا يجوز أن نرى هذه الصعوبات تواجه الطلبة ونقف مكتوفي الأيدي من غير أن نبذل جهوداً في إزالتها، ونبحث عن وسائل تساعدهم على استيعاب علوم الحديث، ونخلص الناس من تجرؤ من هب ودب على إصدار حكمه على الأحاديث، وعلى استباحة حِمى السنة بحجة مخالفتها للعقل من قِبل كل ناعق. لذا كان من الأهمية بمكان عقد لقاءات وندوات ومؤتمرات، وإجراء حوارات ومناقشات، للدفاع عن السنة وعلومها، والذود عن حياضها، ولابد من إعداد بحوث ومقالات من قِبل أهل الاختصاص تضع حلولاً للمشكلات التي يعانى منها. وآمل أن تكون هذه الندوة نواة لندوات ومؤتمرات تالية، وأن تكون النتائج والتوصيات التي ستصدر عنها محققة للأهداف المتوخاة إن شاء الله تعالى. وبادئ ذي بدء أود أن أطرح بعض الأسئلة: 1- هل مقرر علوم الحديث ومصطلحه صعب أم لا؟ 2- وهل هو أصعب من سائر العلوم؟

3- وهل صعوبة علم ما أمر مريب؟ 4- وهل يفترض في كل علم أن يكون سهلاً للجميع؟ 5- وهل هذه الشكوى حديثة أم قديمة؟ 6- وما أسباب هذه الصعوبة؟ 7- وما الحلول المناسبة لهذه المشكلات؟ هذا ما سأحاول الإجابة عنه في الصفحات التالية بإذن الله تعالى. هل مقرر علوم الحديث صعب؟ إن مقرر علوم الحديث يضم في طياته موضوعات متعددة، وهذه الموضوعات ليست على درجة واحدة من السهولة أو الصعوبة، وتكمن الصعوبة في استيعاب هذه الموضوعات-كلها أو جلها- كونها في فصل دراسي واحد أو في فصلين. وطبيعة هذا العلم تتطلب من دارسه حضور الذهن دائماً مع الذكاء والانتباه، إنه يتطلب مستوى عالياً-نوعاً ما- من الطلبة، كما في علوم الطب والصيدلة ونحوهما من العلوم التي يشترط في قبول طلبتها نسبة عالية من النجاح في الثانوية العامة. وبما أن صعوبة هذا العلم أو عدمها أمر يقرره الطالب المتحمل لهذا العلم فقد رأيت أن أشرك طلبتي (1) (112 طالباً) بالإجابة عن هذه الأسئلة: 1- هل تجد صعوبة في فهم هذا العلم؟ 2- ما أسباب الصعوبة في رأيك؟ 3- ما اقتراحاتك لتذليل هذه الصعوبة؟ فكانت نتيجة الجواب عن السؤال الأول على النحو الآتي: أ- 80 ثمانون طالباً أجابوا بـ (نعم) ،أي بنسبة 71.5%،ونصف هؤلاء ذكروا أنهم وجدوا صعوبة كبيرة في فهمه. ب- 32 اثنان وثلاثون طالباً أجابوا بـ (لا) ،أي بنسبة 28.5%،ومنهم (عشرة طلاب) قالوا (إنهم يجدون متعة في دراسة هذا العلم) ومنهم (عشرة آخرون) وجدوا صعوبة في البداية وبعد فترة سهل الأمر عليهم (2) .

_ (1) وهم من المستجدين في السنة الأولى 35 طالباً و77 طالبة، وطلبت منهم عدم ذكر أسمائهم خشية إحراجهم. (2) سأورد نتيجة الإجابة عن السؤالين الأخيرين في موضعهما.

ومن واقع تدريسي لهذا العلم لاحظت أن جل الطلبة الذين وصلوا إلى مرحلة التخرج نسوا مبادئ هذا العلم، فلا يميزون المرفوع من الموقوف والمقطوع، ولا يفرقون بين المنقطع والمقطوع والمرسل، ولا بين الحديث الغريب وغريب الحديث وغير ذلك، وحالُ الدارسين والخريجين وقالُهم يشهد بأن هذا العلم صعب الفهم والاستيعاب. ولكن هل هذا العلم أصعب من سائر العلوم؟ رأيي المتواضع في هذا الموضوع أن مقرر علوم الحديث وإن كان صعباً يتطلب مستوى معيناً من الطلبة إلا أنه ليس بأصعب العلوم، فهو ليس أصعب من مقرر أصول الفقه، ولا من مقرر النحو، وإن الشكوى من تدني مستوى الطلبة في علم النحو وعدم استيعابهم له مريرة، بالرغم من أن الطالب يدرس هذا العلم في جميع المراحل الدراسية. هل صعوبة العلم أمر معيب؟ إن صعوبة علم ما لا تعيبه ولا تنقص من قدره وأهميته، وإن لكل علم طبيعته التي تناسب بعض المستويات العقلية دون بعض، وكما أن البشر ليسوا على درجة واحدة من الذكاء أو الغباء؛ فكذلك العلوم فيها السهل، وفيها المتوسط، وفيها الصعب. وبما أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يتفاوت أفراد المجتمع في نسبة الذكاء والإدراك والوعي اقتضت أيضاً أن تتفاوت مستويات العلوم، ليجد كل فرد ما يناسب مستواه العقلي، فلا يبغي أحدٌ على أحد، فليس من الحكمة أن تكون جميع العلوم سهلة، كما لا تستقيم الحياة البشرية إذا كان جميع البشر متساوين في الفهم والإدراك. إن العيب ليس في صعوبة هذا العلم، بل العيب كل العيب في أن يُفتح باب التسجيل فيه لجميع المستويات العقلية. وتخيل فيما لو سمح بدراسة الطب مثلاً لكل من نال درجة النجاح في الثانوية العامة، ألن يؤثر ذلك سلباً على مستوى التدريس عموماً؟ وألن تكون هناك شكوى من تعسر هذا العلم على أفهام الطلبة؟ وألا يؤدي وجود هؤلاء إلى تأثير سلبي على الطلبة المتفوقين؟ وهل يعاب علم الطب إذا شكى الطلبة من صعوبته؟. هل الشكوى من صعوبة هذا العلم حديثة أم قديمة؟

ينبغي أن نعلم أن الشكوى من جدية هذا العلم وصعوبته، وقلة من يتأهل له، وانشغال الطلبة بقشوره وظواهره دون الغوص في أعماقه ليست جديدة وليدة هذا العصر، بل قديمة جداً، فإننا نقرأ في مقدمة كتاب علوم الحديث لابن الصلاح (1) المتوفى 643هـ كلاماً يشهد لذلك قال: ((إن علم الحديث من أفضل العلوم الفاضلة، وأنفع الفنون النافعة، يحبه ذكور الرجال وفحولتهم، ويُعنى به محققو العلماء وكَمَلَتُهُم ولا يكرهه من الناس إلا رُذالتهم وسَفِلَتُهم. وهو من أكثر العلوم تولجاً في فنونها، لا سيما الفقه الذي هو إنسان عيونها، ولذلك كثر غلط العاطلين منه من مصنفي الفقهاء، وظهر الخلل في كلام المخلين به من العلماء. ولقد كان شأن الحديث فيما مضى عظيماً، عظيمةً جموع طلبته، رفيعةً مقادير حفاظه وحملته، وكان علومه بحياتهم حية، وأفنان فنونه ببقائهم غضة، ومغانيه بأهله آهلة، فلم يزالوا في انقراض ولم يزل في اندراس، حتى آضت به الحال إلى أن صار أهله إنما هم شرذمة قليلة العدد، ضعيفةُ العُدَد، لا تُعنى على الأغلب في تحمله بأكثر من سماعه غُفْلاً، ولا تتعنى في تقييده بأكثر من كتابته عُطْلاً، مطَّرِحين علومه التي بها جل قدره، مباعدين معارفه التي بها فُخِّم أمره)) . وفي القرن الذي يليه شكا الإمام الذهبي رحمه الله المتوفى سنة 748هـ من كسل طلبة الحديث، وعدم بذلهم الجهد اللازم للتأهل في هذا العلم، كما شكا من تجرئ غير المتأهلين له على ولوج ميادينه وأبوابه، فقال في كتابه القيم تذكرة الحفاظ (2) ينصح طلبة الحديث: ((.... ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نَقَلة الأخبار ويجرحهم جهبذاً إلا بإدمان الطلب، والفحص عن هذا الشأن، وكثرة المذاكرة والسهر، والتيقظ، والفهم مع التقوى، والدين المتين، والإنصاف، والتردد إلى مجالس العلماء، والتحري والإتقان، وإلا تفعل:

_ (1) علوم الحديث ص 5-6،تحقيق د. نور الدين عتر. (2) 1/4

فدعْ عنك الكتابة لست منها ولو سوَّدت وجهك بالمدادِ قال الله عز وجل: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} . فإن آنست يا هذا من نفسك فهماً، وصدقاً، وديناً، وورعاً، وإلا فلا تتعنَّ (1) ، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب فبالله لا تتعب، وإن عرفت أنك مُخلِّطٌ مُخبِّطٌ مُهْمِلٌ لحدود الله فأرحنا منك، فبعد قليل ينكشف البَهْرج، ويَنْكُبُ (2) الزَغَل، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، فقد نصحتك. فعلم الحديث صَلِفٌ (3) ، فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدت أن لا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب ((. وقال في موضع آخر يتأسف على ما آل إليه أمر هذا العلم (4) : ((فلقد تفانى أصحاب الحديث وتلاشوا، وتبدل الناس بطلبة يهزأ بها أعداء الحديث والسنة، ويسخرون منهم)) .

_ (1) تعنّى الرجل: أي نصَب وتعب. المعجم الوسيط 2/633 مادة (عنن) . (2) ينكب: يميل. الزغل: الغش. المعجم الوسيط 1/395 مادة (زغل) و2/950مادة (نكب) . (3) صَلِفَ: ثقلت روحه، والمراد أنه علم صعب. المعجم الوسيط 1/521 مادة (صلف) (4) تذكرة الحفاظ 2/529-530.

وشكا أيضاً-مما نشكو منه نحن اليوم- من تطاول البعض على أئمة المحدثين وجهابذتهم، وتنقصه منهم فقال (1) : (( ... فبالله عليك يا شيخ، ارفق بنفسك، والزم الإنصاف، ولا تنظر إلى هؤلاء الحفاظ النظر الشَّزْر، ولا تَرْمُقنَّهم بعين النقص، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا، حاشا وكلا!! فما فيمن سَمَّيتُ أحد ولله الحمد إلا وهو بصير بالدين، عالم بسبيل النجاة، وليس في كبار محدثي زماننا أحد يبلغ رتبة أولئك في المعرفة، فإني أحسِبك لفرط هواك تقول بلسان الحال إن أعوزك المقال: من أحمد؟ وما ابن المديني؟ وأي شيء أبو زرعة وأبو داود؟ هؤلاء محدثون ولا يدرون ما الفقه وما أصوله؟ ولا يفقهون الرأي، ولا علم لهم بالبيان والمعاني والدقائق، ولا خبرة لهم بالبرهان والمنطق، ولا يعرفون الله بالدليل، ولا هم من فقهاء الملة. اسكت بحلم، أو انطق بعلم، فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤلاء، ولكنَّ نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث. فلا نحن ولا أنت. وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل، فمن اتقى الله راقب الله واعترف بنقصه. ومن تكلم بالجاه وبالجهل أو بالشر والبأو فأعرضْ عنه، وذره في غَيِّه، فعقباه إلى وبال. نسأل الله العفو والسلامة)) . وقال في سير أعلام النبلاء (2) : ((فقد عم البلاء، وشمِلت الغفلة، ودخل الدَّخَل على المحدثين الذين يركن إليهم المسلمون، فلا عتب على الفقهاء وأهل الكلام)) . أ. هـ. وإذا قلنا إن علم الحديث صعب بطبيعته، يتطلب مستوى معيناً من الفهم؛ فإننا لا ندعو بذلك إلى الاستكانة لهذه الصعوبة، وعدم البحث والتنقيب عن طرق ووسائل تُيَسِّر فهمه، وتوضح غوامضه لطلبته، وتذلل لهم الصعوبات التي يواجهونها. بل إننا نطالب بالاستفادة من وسائل التعليم الحديثة وأساليبه بما يتلاءم مع علومنا.

_ (1) تذكرة الحفاظ2/627-628. (2) 2/601.

وقبل البحث عن وسائل تذليل الصعوبات يجدر بنا أن نقف وقفة نحدد فيها الأسباب والعوائق التي تحول بين الطلبة وبين فهمهم واستيعابهم هذا العلم. الأسباب والعوائق: إن أسباب ارتياح الطالب لعلم ما وحبه له، أو نفوره منه وبغضه له، ترجع إلى واحد من أربعة عناصر تتكون منها العملية التعليمية، وهي: 1- أسباب تتعلق بالطالب. 2- أسباب تتعلق بالمدرس. 3- أسباب تتعلق بطبيعة العلم. 4- أسباب تتعلق بالكتاب المقرر. ومن خلال الإجابات التي تلقيتها من الطلبة وجدت إجاباتهم تدور حول ما يلي (1) : أ- ما يتعلق بالطالب: 1- جدة هذا العلم وجهلهم السابق به (ذكره أكثر الطلبة) . 2- الإهمال، وعدم التحضير والمذاكرة إلا ليلة الامتحان. 3- عدم الاستفسار من الأستاذ عما هو غامض بسبب الخجل. 4- وَهْمٌ وخوفٌ حصل للطالب بسبب ما سمعه عن صعوبة هذا المقرر من زملائه السابقين. 5- كثرة الغياب، أو التأخير عن حضور المحاضرات. ب- ما يتعلق بالأستاذ: 1- عدم القدرة على توصيل المعلومة بشكل يتناسب مع مستوى الطلبة. 2- عدم ربط الجديد بالقديم. 3- جدية المدرس الزائدة. ج- ما يتعلق بالمقرر: 1- طول المنهاج، وكثرة الموضوعات وتداخلها (ذكره أكثر الطلبة) . 2- تشابه التعاريف ودقتها، بحيث لو نقصت كلمة منها لاختل المعنى المراد. 3- كثرة أسماء الرواة، وغرابتها، وصعوبة ضبطها. د-ما يتعلق بالكتاب: 1- صعوبة عباراته، ودقة صياغته. 2- عدم ترتيب موضوعاته وفق المنهاج المقرر. تلك مجمل الأسباب التي ذكرها الطلبة، وهي أسباب ينبغي أن تحمل على محمل الجد، لأنهم أول المعنيين بهذا الأمر، وهم أعرف من غيرهم بما يواجهونه من عوائق. أسباب أخرى: أريد أن أضيف أسباباً وعوائق أخرى، توصلت إليها من خلال تجربتي في تدريس هذا العلم، ومما سمعته من زملائي، أو من طلبة آخرين، وهي:

_ (1) بعض الطلاب ذكر سبباً واحداً، وبعضهم ذكر أكثر من سبب.

1- لا يزال بعض الأساتذة الأفاضل يدرس على الطريقة القديمة في الجلوس على الكرسي طول الوقت، يقرأ من الكتاب-أو يقرأ عليه- ويشرح عباراته، ولا يستخدم أي وسيلة إيضاحية كضرب الأمثلة، أو استخدام السبورة. 2- إن بعض من يدرس هذا المقرر ليس من أهل الاختصاص الدقيق، وإنما كلف به تكملة لنصابه. 3- عدم ضرب الأمثلة الواقعية المعاصرة للتمثيل لبعض أنواع علوم الحديث، كالمتواتر أو المنقطع أو الغريب، وصيغ التحمل والأداء وغيرها، فإن الأمثلة إذا كانت كلها قديمة جداً لا ترتبط بواقع الطالب وعصره فسيصعب عليه تصورها وإدراكها إلا عن طريق الحفظ بلا فهم، وإذا ما ربطت بأمثلة واقعية انطبعت في ذهنه ومخيلته، وسهل عليه فهمها وإدراكها. 4- عدم تأقلم الطالب مع المرحلة العلمية الجديدة (الجامعية) فما زال مرتبطاً ذهنياّ بالمرحلة الثانوية ونظامها. 5- عدم تطبيق مفردات هذا العلم عند دراسة مقرر شرح الحديث الشريف، فلا يُهتم ببيان اتصال الأسانيد وانقطاعها، ولا بصيغ الرواية والتفرقة بينها ونحو ذلك، مما يُشعر الطالب بأن هذا العالم لا صلة له ولا نسب بدراسة الحديث، فكيف بالعلوم الشرعية الأخرى؟!. 6- اتباعنا لنظم التعليم الغربية في تدريس علوم الدين الإسلامي عموماً، وعلوم الحديث خصوصاً، بتحديد عدد من الساعات تدرس فيها جميع موضوعات هذا العلم، ويعتبر الطالب بعدها مؤهلاً لأداء ما تعلمه، من غير النظر إلى ملائمة تلك النظم إلى طبيعة هذه العلوم. وأعتقد أن هذا السبب من أكبر العوامل التي حالت بين هذا العلم وبين فهم الطلبة له. وبعد أن ذكرنا أسباب صعوبة فهم هذا العلم عند الطلبة، آن الأوان للشروع في بيان الحلول المقترحة لتذليل هذه الصعوبات، وجعل هذا العلم ميسراً لهم. الحلول المقترحة:

سأبدأ -بعون الله تعالى- بإيراد الحلول التي اقترحها الطلبة (1) ، ثم أردف ذلك ببيان حلول إضافية من خلال تجربتي التدريسية، وسأوزع هذه الحلول على عناصر العملية التعليمية الأربعة: أ- ما يتعلق بالطالب: 1- التحضير قبل الدرس، والمذاكرة بعده. 2- الإكثار من الأسئلة الاستيضاحية، وعدم الخجل من ذلك. 3- الحرص على الحضور في أول الوقت. ب- ما يتعلق بالأستاذ: 1- ترغيب الطلبة بهذا العلم ببيان أهميته وثوابه وفضله، وإيراد قصص من جهود السابقين في طلبه، إزالة للملل والجمود. 2- ألا ينتقل إلى شرح الموضوع الجديد قبل التأكد من فهم الطلبة للموضوع السابق. 3- الإكثار من توجيه الأسئلة للطلبة للتأكد من فهمهم، وتدريبُهم على الإجابات السليمة. 4- الاهتمام بالطلبة الضعفاء وإشراكهم في المناقشات والحوارات، وعدم التركيز على المجتهدين. 5- إعطاء دروس تقوية. ج- ما يتعلق بالمقرر: 1- تقليل كمية الموضوعات المقررة (هذا رأي أكثر الطلبة) . 2- إعادة صياغة التعريفات بألفاظ مألوفة. 3- تقسيم موضوعات هذا العلم على عدة فصول دراسية. د- ما يتعلق بالكتاب: 1- أن يكون ملخصاً ومختصراً. 2- أن يكون مرتباً وفق الموضوعات المقررة. 3- أن يؤلف كتاب يتضمن شرح الأستاذ وإيضاحاته بحيث يتمكن الطالب من الاستغناء عن الأستاذ. تلكم مجمل اقتراحات الطلبة لتذليل صعوبة فهمهم علوم الحديث، وهي اقتراحات وجيهة، وإن كان بعضها يتعذر تطبيقه في ظل مناهج التدريس الحالية. وأرى أن تلك الأسئلة التي أجاب عنها الطلبة لو وُجهت إلى طلبة في جامعة أخرى لما اختلفت الإجابات عنها كثيراً، لأن الهم واحد، والشكوى واحدة، ومستوى الطلبة متقارب، فعلى القائمين بتدريس هذا العلم أن يتجاوبوا مع هذه المقترحات ما أمكن نفعاً للطلبة. مقترحات أخرى:

_ (1) أغفلت بعض الحلول لعدم كونها حلاً مثل: إلغاء المقرر أو استبداله بمقرر آخر سهل. كما أن بعض الطلبة لم يقترحوا أي حل لإزالة الصعوبات.

إني إذ أتفق مع الطلبة في كثير مما أوردوه إلا أن لي رأياً في هذه القضية ليس مخالفاً لهم بل مكمل، ويمثل عدة اقتراحات: أولاً: ينبغي لأستاذ المقرر أن يبين للطلبة -مراراً وتكراراً-أن القواعد والضوابط التي وضعها علماء الحديث لقبول الحديث أو ردِّه يمكن الإفادة منها في الواقع العملي، ويمكن أن تتخذ منهجاً لقبول أو رد أي خبر يقرأ أو يسمع من وسيلة إعلامية، وأن من يتقن هذا العلم تصبح لديه ملكة في تمحيص الأخبار، فلا تنطلي عليه الشائعات ولا الأكاذيب ولا المبالغات، ويستطيع أن يميز قيمة الخبر الذي اتفقت عليه وسائل الإعلام من الخبر المختلف فيه، ونوعية هذا الاختلاف، ومن الخبر الذي انفردت به إحداها. أمثلة: وصل إلينا خبر دخول القوات الأمريكية إلى أفغانستان بطريق التواتر، فقد نقله جمع من الإعلاميين تحيل العادة اتفاقهم على الكذب، لأنهم يعملون لدى وكالات أنباء أو وسائل إعلامية متعددة، مختلفة المشارب، ومتضاربة المصالح، وهذا الخبر اعتمد على الحس وهو المشاهدة، لا على الاستنباط والاجتهاد، فلا يرفض قبول هذا الخبر أحد. وفي بعض الأحيان تنفرد وسيلة إعلامية بنشر خبر دون غيرها، فإذا كان السامع يثق في هذه الوسيلة ولم يجرب عليها الكذب، ويعتقد صدق مراسلها وثقته وأمانته فإنه سيتقبل هذا الخبر. فيكون مثالاً للحديث الغريب الصحيح. وإذا كان السامع لا يثق بهذه الوسيلة واعتاد منها كثرة الخطأ، أو لا يثق بمراسلها فلن يصدق هذا الخبر. ويكون هذا مثالاً للغريب الضعيف، وقس على ذلك. ونستفيد من باب الاتصال والانقطاع فيما إذا نقل المراسل خبراً شاهده أو سمعه بنفسه، أو عبر مصدر آخر، فإذا أغفل مصدره فالإسناد منقطع ويزعزع ثقة المتلقي بالوسيلة، وإذا ذكر مصدره فالإسناد متصل، وتتوقف صحته على مصداقية المصدر.

ويمكن أن يمثل للحديث الذي ظاهره الصحة وفيه علة قادحة بالإنسان الذي لا يظهر عليه أي أثر للمرض ولا يشعر بذلك، لكنه مصاب بمرض لا يتم اكتشافه إلا بعد مراجعة طبيب حاذق، وهذا الطبيب لا يكتشف العلة إلا بعد إجراء فحوصات مخبرية، وصور إشعاعية، أو صوتية ونحو ذلك. ومن العلامات التي تشكك في صحة الخبر أن تنفرد به وسيلة إعلامية ويكون لها مصلحة في بثه، أو يكون لمصلحة الحزب أو الجهة التي تنتمي إليها، أو لإيقاع فتنة في بلد يخالفها سياسياً أو قومياً أو عقائدياً ونحو ذلك مما يدخل في باب الجرح والتعديل. وقس على ذلك أمثلة كثيرة يمكن أن تتنزل عليها مصطلحات المحدثين. فمن يتقن قواعد علوم الحديث في قبول الأخبار النبوية وردها يستفيد منها في قبول سائر الأخبار. ثانياً: أ- تبين لي بالتجربة أن إعادة شرح الدرس مرة أخرى في المحاضرة التالية، أو تخصيص محاضرة في كل أسبوعين لإعادة ما سبق أفاد الطلبة كثيراً، ورسخ المعلومات في أذهانهم، وتأكد لي فائدة هذا التكرار حين وجدت أحد طلابي يفهم جيداً، ويسأل أسئلة تنم عن فهمٍ وإدراك، فسألته عن سبب ذلك، فأخبرني بأنه سبق له دراسة هذا العلم في جامعة أخرى. إلا أنني لم أواصل التجربة مع طلابي؛ خشية عدم إنهاء الموضوعات المقررة، وهو أمر يحاسب عليه المدرس. ب- إن رسم شجرة الأسانيد على السبورة، وبيان مواضع الانقطاع بأنواعه، أو التفرد، والعزة، والتواتر، والمتابعات والشواهد، والنكارة، والشذوذ، والعلل ساعد كثيراً في تصور الطالب لمعاني المصطلحات، وهو أمر لا يحتاج إلى وقت إضافي كسابقه. وإن تعذر تطبيق ذلك في بعض الأوقات لا ينبغي أن يدعونا ذلك إلى تركه بالكلية، فإن ما لا يدرك كله لا يترك جله.

ج-تدريب الطلبة على كتابة الأحاديث بأسانيدها المتصلة بأنفسهم، وماذا يحذفون ليكون السند منقطعاً أو معضلاً أو مرسلاً أو معلقاً أو موقوفاً أو مقطوعاً، ويعطون أحاديث بأسانيدها يبينون فيها المتابعة التامة والقاصرة والشواهد، ويبينون صيغ الأداء ودلالاتها، ونحو ذلك. ثالثاً: ينبغي التكرار أمام الطلبة-ليرسخ في أذهانهم-أن عملية الحكم على الأسانيد ليست بالأمر السهل، وأن دراستهم هذه لا تؤهلهم له، فبيان درجة الحديث ليست بمعرفة اتصال السند وعدالة الراوي وضبطه فقط (وهو أمر ظاهر قد يتمكن البعض من إثبات وجوده) بل لابد من فقد الشذوذ والعلة، وهذا أمر متعذر لا على الطلبة بل علينا نحن الأساتذة، ولا يعرف ذلك إلا من أحاط بمجمل السنة وأسانيدها، ومواقع رجالها من الأسانيد، وعدالتهم، وضبطهم، ومعرفة شيوخهم الذين هم أوثق من غيرهم فيهم، وعكسه، وغيرها من أسباب الترجيح بين الرواة والمرويات. فبتكرار هذه المفاهيم نأمن عدم تجرؤ الطلبة على اقتحام باب ليسوا أهلاً له، من غير أن يروا في أنفسهم نقصاً أو عيباً، فإن أساتذتهم يعترفون بذلك أيضاً. رابعاً: تأليف كتاب في علوم الحديث حسب الوحدات الموضوعية المتقاربة، ثم ترتب موضوعات المنهاج المقرر تبعاً له، تكثر فيه الأمثلة، وترسم فيه شجرة الأسانيد التي توضح كل نوعٍ من المصطلحات وتميزه. ولست مع بعض الطلبة الذين اقترحوا تأليف كتاب مختصر، إذ الاختصار يؤدي إلى الغموض، ولكني مع البسط الذي يجلّي الغموض، ويحل المشكلات. خامساً: إنشاء كليات خاصة بعلوم السنة (وهو موجود في بعض الجامعات) يدرس الطالب فيها هذا العلم فصولاً عديدة، وألا يقل معدل الطالب في الثانوية العامة على 80%.

سادساً: إن كثيراً من الآراء ترى أن الحل يكمن بزيادة عدد الساعات، وإني إذ أتفق معها، إلا أني أرى عدم إمكانية التنفيذ كما نرجو، لاصطدامه بمقررات العلوم الأخرى فأصحابها يشكون -أيضاً- من قلة ساعاتها، وكثرة موضوعاتها فلن يمدونا بشيء، وأهل كل علمٍ يتشبثون بما لديهم من ساعات ويطالبون بالمزيد. كما لا يجوز أن نحل مشكلتنا على حساب المقررات الأخرى، فتنتقل المشكلة من علم إلى آخر فنقع في حلقة مفرغة. تلك مجمل الحلول لإزالة صعوبة فهم علوم الحديث عند الطلبة، وهي حلول موجهة إلى عناصر العملية التعليمية الأربعة المؤلفة من الطالب، والأستاذ، والمنهاج المقرر، والكتاب المقرر، وإذا تمت الإصلاحات فيها فلن نسمع-بإذن الله تعالى- بعد ذلك بشكوى الطلبة من صعوبة هذا العلم، ولا بتبرمهم وضجرهم منه. ولكن هل الظروف الحالية لنظام التدريس الجامعي تساعد على تطبيق جميع هذه الحلول؟ إني أشك في إمكانية تحقيق ذلك. وسبب هذا الشك أننا - نحن الأساتذة المتخصصين - محكومون في تدريسنا لعلوم الدين الإسلامي عموماً بنظام التعليم الغربي الذي يطبق في جامعاتنا، وهذا النظام مقيد بسنوات محدودة، وساعات معدودة، يمنح الطالب بعد إنجازها شهادة تفيد أنه صار أهلاً لتدريس هذه العلوم، أو للتصدي للإفتاء، أو الدعوة إلى الله تعالى، مع يقيننا أن جملة هؤلاء ليسوا أهلاً لما رُشحوا له، لقلة حصيلتهم العلمية، وتدني مستواهم العام. إن هذا النظام لم يؤد إلى تدني مستوى الطلبة في علوم الحديث فقط، بل أدى إلى ضعف عام في جل علوم الشريعة كالفقه وأصوله، والتفسير والتوحيد وعلوم العربية كالنحو والصرف والبلاغة واللغة، كما أدى هذا النظام إلى أن تبوأ سدة الفتوى والإرشاد والتعليم أناس يحتاجون إلى توجيه وإرشاد، وإلى أن تجرأ للاجتهاد في النوازل، والترجيح بين أقوال الفقهاء والمفسرين وعلماء العقيدة من لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد والترجيح.

وفي ذلك يقول أبو بكر الشنتريني - من علماء القرن السادس الهجري-: (ولقد رأيت جماعة من الفقهاء المتقدمين الذين لم يبلغوا درجة المجتهدين قد تكلموا في مسائل من الفقه فأخطأوا فيها، وليس ذلك لقصور أفهامهم، ولا لقلة محفوظاتهم، ولكن لضعفهم في هذا العلم - يعني النحو - وعدم استقلالهم به) (1) . ويقول الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله تعالى - (2) : (يجب ألا يتقاصر علم المجتهد عن معرفة أسرارها (اللغة) في الجملة، وذلك لأن الأحكام التي يتصدى المجتهد لاستنباطها وعاؤها أدق الكتب وأبلغها، ولابد لمن يستخرج الأحكام من أن يكون عليماً بأسرار البلاغة، ليتسامى إلى إدراك ما اشتمل عليه من أحكام، وإنه على قدر فهم الباحث في الشريعة لأسرار البيان العربي ودقائقه تكون قدرته على استنباط الأحكام من النصوص)

_ (1) مقالات العلامة محمود الطناحي2/438 نقلاً عن كتاب تنبيه الألباب على فضائل الإعراب. (2) أصول الفقه ص 380.

وتولى تدريس اللغة العربية من لا يتقن قراءة نصف صفحة قراءة سليمة خالية من الأخطاء، فالمرض استشرى، والبلاء عم، بسبب هذه المناهج، وفي ذلك يقول الدكتور محمود الطناحي -رحمه الله تعالى- (1) : (وهاهي نُذُر الفتنة قد أطلت برأسها، فلن يستطيع أحد مهما غلا في تقدير كليته أو معهده أن يزعم أن طالباً متخرجاً في هذا المعهد، أو تلك الكلية يستطيع الآن أن يقرأ سطراً من كتاب سيبويه، فضلاً عن أن يفهمه، أو يحل رموزه، وإذا لم يستطع خريج كلية تعنى باللغة العربية وآدابها أن يقرأ سيبويه، فمن ذا الذي يقرؤه؟ وإذا لم يقرأه في سني دراسته فمتى يقرؤه) . فالعلاج الناجع ينبغي أن يكون شاملاً ليس فقط لعناصر العملية التعليمية، بل لأنظمة التعليم أيضاً، وألا يقتصر العلاج على حل مشكلة علم واحد وإهمال بقية العلوم المرتبطة به، فإن العلوم الشرعية والعربية كالجسد الواحد لايجوز علاج عضوٍ من أعضائه على حساب سائر الأعضاء. إن الحلول التي ذُكرت أولاً حلول جزئية، لا تعالج المشكلة جذرياً، وينبغي أن نطمح وننشد إصلاحاً عاماً. لقد آن الأوان-أيها الإخوة-لإعادة رسم خطط ومناهج التعليم الجامعية في التخصصات الشرعية والعربية بما يتلاءم مع طبيعتها، وعدم إخضاعها لأنظمة التعليم الغربية الغريبة عنها، فيخصص لكل علم الساعات التي تؤهل الطالب لحمله وتدريسه حقيقة، ولو أدى هذا التخطيط إلى زيادة عدد السنوات في المرحلة الجامعية، فهذا ليس بدعاً فهناك تخصصات علمية تزيد عدد سنواتها على أربع، فلماذا لم يلزم أهل هذه التخصصات بسنوات أربع؟ والجواب أن طبيعة هذه العلوم ودقتها لا تكفيها تلك المدة لتأهيل الطالب، وكذلك العلوم الشرعية ينبغي للمختصين وحدهم أن يحددوا عدد السنوات التي تؤهل الطالب من غير ممارسة أي ضغط عليهم.

_ (1) مقالات محمود الطناحي 1/136.

كما ينبغي للمختصين في هذه العلوم -دون سواهم- أن يحددوا فيما إذا كان الأنفع والأجدى أن تتم الدراسة وفق نظام سنوي، أو فصلي، أو نظام ساعات معتمدة، وإذا كان النظام الأخير قد أثبت نجاحه في بعض العلوم فلا يلزم منه صلاحية تطبيقه على سائر العلوم ونجاحه فيها. ولن يتم إصلاحٌ في ظل النظام التعليمي الحالي، البعيد عن طبيعة علومنا، الذي يدرس فيه علم عظيم ساعات معدودة، لأنه لا يمكننا تأهيل إنسان عالم مستوعب لعلوم الحديث في ساعتين أو ثلاث، بل سيبقى هذا العلم غامضاً، وغير مفهوم له، وعلى من يروم التفوق الاعتماد على نفسه في دراسته على علماء متخصصين خارج أسوار الجامعة. إن مطالبتنا بفهم الطالب واستيعابه هذا العلم في الوضع الحالي كمطالبتنا لإنسان درس علم النحو في بضع ساعات أن يكون نحوياً، مدركاً لموضوعات هذا العلم ومباحثه ودقائقه، مطبقاً له في نطقه وكتاباته!! إن تحقيق هذا المطلب متعذر إن لم يكن مستحيلاً، ويكون مثلنا كمثل القائل: تسألني أم الوليد جملاً …… يمشي رويداً ويكون أولاً هذه رؤيتي للحل الشامل، وهو إن كان بعيد المنال حالياًَ، إلا أنه يجب علينا ألا نغفله، وأن نسعى إليه ونطمح له، وننادي به، حتى يتم تحقيقه ولو بعد حين. وهي رؤية للعبد الضعيف فإن أصبت فمن الله تعالى، وله الحمد والشكر والمنة على ما وفق وألهم. وإن أخطأت فمني ومن الشيطان - أعاذنا الله منه - وحسبي أن موقفي لم يكن سلبياً إزاء هذه المشاكل، بل أدليت بدلوي، وبذلت جهدي - وهو جهد المقل - وفي ذلك أجر - إن شاء الله تعالى -. ولن يكون العلاج والحلول عند شخص واحد مهما علا قدره، فلا بد من تضافر الجهود، ومناقشة الآراء ودراستها وتمحيصها؛ لنخرج بحلول ناجعة تنسب إلى مجموعة -لا إلى فرد واحد- من أهل الاختصاص والخبرة، فإن رأي الجماعة أقرب إلى الصواب، ويد الله على الجماعة.

أسأل الله العلي القدير أن يوفقنا جميعاً ويلهمنا الصواب، ويجنبنا الزلل في أقوالنا وأعمالنا وكتاباتنا ومناقشاتنا، وأن يبارك في هذه الندوة وكل من شارك فيها أو ساهم في دعمها، وأن يجعلها الفاتحة لندوات ومؤتمرات أخرى، تعمل في هذا الاتجاه وتيسر للطلبة علوم الحديث وعلوم الشريعة عموماً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

أين تكمن الصعوبة في فهم المصطلح

أين تكمن الصعوبة في فهم المصطلح؟ د. محمد أحمد القرشي وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف الإمارات العربية المتحدة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين البشير النذير والسراج المنير سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد، فإن أكثر ما يتألم به الإنسان عندما يضع المعروف عند غير أهله؛ كما في المثل (زرع أترجة وعند الحصاد وجد حنظلا) وهو حال كثير ممن يحسب على العلم من الأساتذة فيجد بعد برهة من الزمن أن ما بذله من جهد فى سبيل إيصال العلم قد ذهب سدى سيما فى عصرنا الحاضر الذى كثرت فيه الملاهى والمشاغل والأهم من ذلك عدم وجود النية الخالصة والرغبة الصادقة عند الطالب فى تلقى العلم الشرعى ومنه الحديث الشريف وعلومه. فينتهى الأمر فى كثير من الأحيان فى آخر المطاف كما ذلك التائه الذى ضل السبيل فسأل سائلا؛ فقال له: أترى ذلك الجمل الذى بقرب الجبل؟ قال وأين الجبل؟ هذا ما يجده كثير ممن قام بتدريس (مصطلح الحديث) يسأل الأستاذ الطالب عن إسناد الحديث فيقول: أى حديث؟ وعلى هذا فقس. السؤال المطروح هنا، أين تكمن الصعوبة فى فهم المادة؟ وهل المادة صعبة جدا حتى يستصعبها كثير من طلاب العلم خاصة طلاب الجامعات والكليات؟ من السبب فى ذلك؟ هل هو الأستاذ؟ أو الطالب؟ أو المادة العلمية؟ أو الجميع، الأستاذ والطالب بالإضافة إلى المادة العلمية؟ أم أن هناك سببا آخر؟ أقول وبالله التوفيق إضافة إلى العناصر الثلاثة هناك عنصر آخر لم يكن فى أسلافنا ولعله السبب الأهم فيما يجده كثيرمن طلاب العلم من الصعوبة فى فهم المادة ألا وهو أنظمة وقوانين ولوائح بعض الجامعات والكليات وقبل ذلك مناهج التعليم الدراسية وأقصد بذلك المناهج المدرسية وأيضا مقررات بعض الجامعات والكليات.

كما هو معلوم أن العلماء المصنفين وضعوا شروطا (آداب) للأستاذ وأُخر للتلميذ وهذه الشروط (الآداب) لابد أن تتوافر فى الأستاذ والتلميذ فإن اختل شرط واحد اختلت الشروط الأخرى وعندئذ تنزع البركة من العلم ودخل الجميع فى متاهات ومشكلات علمية ثم يبدأ القيل والقال وكثرة السؤال عن السبب فى ذلك. وندوتنا هذه ما كانت لتُنظم ولا لتُعقد إلا بسبب مخالفة هذه الشروط، خاصة من قبل الطالب فكانت النتيجة التى نراها بحسرة وندامة. وإنى إذ أقدم هذاالبحث المتواضع لأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعله فى ميزان من جلست فى حلقاتهم على الركب من المشايخ الكرام، الأحياء منهم والأموات، إنه سميع مجيب. وقد اشتمل هذا البحث المتواضع بعد هذه المقدمة على أربعة مباحث وخاتمة. المبحث الأول:- الشيخ الأستاذ: وضع العلماء المصنفون شروطا وقواعد (الآداب) للأستاذ لتكون نبراسا لهم ولطالب العلم ومن هذه الشروط والقواعد (الآداب) :- 1- تصحيح النيه كما قال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئ ما نوى..) فيجب أن تكون نية الأستاذ خالصة لله تعالى لا تشوبها أى شائبة وذلك بأن ينوى نشر العلم وبث الفوائد الشرعية. 2- قبل الجلوس فى حلقة العلم يصلى ركعتي الإستخارة. 3- أن يستقبل القبلة عند جلوسه فى حلقة العلم إن إمكن. 4- تطهير القلب من أعراض الدنيا وحطامها كحب المنصب والسيادة والسمعة والرياء والجدال والحسد والغيبة والنميمة وقول الزور، والكذب والتنافس على المال والجاه. 5- الإبتعاد عن مواضع الشبهات. 6- التحلي بالأخلاق الفاضلة وحسن السمت وما كان عليه السلف الصالح، والظهور بالمظهر الحسن من اللبس والتطيب وتسريح اللحية، والإستياك والجلوس بوقار وهيبة والتلطف مع الجلساء وتوقير الأفاضل بالسن والشرف والصلاح ويتقى المزاح وكثرة الضحك.

7- أن يفتح الأستاذ مجلسه بتحميد الله وبالصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه ويترضى عن أئمة المسلمين ويختمه أيضا بالتحميد والصلاة مع الدعاء للمسلمين. لذلك فإن الإخلال بهذه القواعد سيؤثر بلاريب تأثيرا كبيرا على طالب العلم فتنزع البركة من العلم أولا؛ ثم يجد الطالب صعوبة فى فهم المادة فيجب على الأستاذ أن يعض على هذه القواعد بالنواجذ ويطبقها بحذافيرها وهذا ما رأيته فى كثير من مشايخي وغيرهم من المشايخ ولله الحمد. المبحث الثانى:- الطالب: فكما وضع أصحاب الشأن قواعد وشروطا (آداب) للأستاذ وضعوا قواعد وشروطا (آداب) للطالب ليتمكن من فهم العلم وحفظه؛ منها:- 1- إخلاص النيه لله تعالى فى طلب العلم بأن يقصد به وجه الله تعالى والعمل به ونشره. 2- الإبتعاد عن أى مطلب دنيوى من خلال العلم من جاه ومنصب ومال وغير ذلك. 3- أن يطهر قلبه من غش ودنس وغل وحسد وسوء نية وخلق. 4- أن يتخلق بالخلق الفاضلة كالتواضع والظهور بالمظهر الحسن من لبس وطيب وغيرهما. 5- أن يعمل بما سمعه من أستاذه. 6- أن يوقر أستاذه ولا يضجره. 7- ألا يستحي من السؤال. 8- ألا يتكبر ولا يحتقر غيره من أقرانه أو من هم دونه في العلم أو السن. 9- أن يترك العشرة السئية كأصحاب سوء وجهل. 10- أن يحفظ بصره من النظر إلى المحرمات ويبتعد عن سائر المعاصى. 11- أن يكون مطعمه ومشربه حلالا. ويبدو للعبد الفقير كاتب هذه الأسطر أن المشكلة تكمن فى الغالب في طلاب العلم الذين يلتحقون ببعض الجامعات والكليات لا لنيل العلم الشرعى على وجه الخصوص بل لنيل الشهادة الجامعية والتى تسمى بالإجازة وذلك لأسباب عديدة:- 1- يلاحظ أن أكثر الجامعات والكليات الشرعية تقبل الطالب المتقدم للإلتحاق بها دون أن تحدد النسبة المئوية للنجاح (المعدل) للقبول كما هو الحال فى الكليات الأخرى وإن حددت فبنسبة ضئيلة لا تتعدى الستين في المئة.

2- السعى لنيل ترقية أو درجة فى مكان عمله من خلال الحصول على مثل هذه الشهادة. فإن كانت نية الطالب هى الحصول على الشهادة فلا يختلف اثنان أنها ليست خالصة لوجه الله تعالى ومن ثم يقع الطالب فى براثن الدنيا وزينتها الزائفة من حب المال والجاه. فتشب النفس على السعى للحصول على حطام الدنيا بأى طريقة شاء. المبحث الثالث: المادة العلمية: يلاحظ أن لوائح وقوانين وأنظمة بعض الجامعات والكليات لا تساعد على إيصال العلم الشرعى إلى طلابه على الوجه المطلوب وذلك لأسباب كثيرة. منها: أن بعض الكليات الشرعية تقرر كتابا مختصرا في علوم الحديث وقد رأيت ذلك عند تدريسي مادة علوم الحديث في أكثر من كلية وكان اختصارالكتاب مخلا ومهملا لكثير من مصطلحات علوم الحديث ولتعريفاتها؛ ولعل السبب في ذلك الوقت المقرر لتدريس المادة في الجامعات والكليات ومنها عدم تطبيق كثير من المصطلحات تطبيقا عمليا كالمصافحة والمساواة والموافقة والبدل والشاهد والمتابع والادراج وغيرها فيجد الطالب صعوبة بالغة فى فهمها واستيعاب مضامينها، وقد رأى العبد الضعيف كاتب هذه الأسطر مثالا حيا لذلك فقد ناقشني أحد طلبة العلم من الذين يحكمون على الأحاديث صحة وضعفا؛ فاتضح لي فى نهاية الأمر أن هذا الطالب لم يفهم تلك المصطلحات أثناء الدراسة كالمصافحة والمساواة فلفهم المادة يجب أن تطبق المصطلحات تطبيقا عمليا كل مصطلح على حدة ولا مانع من ذكر مثال واحد فقط للتطبيق العملى:- المصافحة: هي استواء عدد الإسناد من الراوي إلى آخره مع إسناد تلميذ أحد المصنفين؛ وسميت المصافحة لأن العادة جرت في الغالب بالمصافحة بين من تلاقيا. ولتطبيق هذا المصطلح تطبيقا عمليا نرجع إلى كتب المتأخرين كالمشيخات والبرامج والأثبات فعلى سبيل المثال يقول النجيب الحرانى: بعد أن روى حديثا بإسناده: (ومن حيث العدد كأننى سمعته من النسائى وصافحته به) . ……………عبد اللطيف الحرانى

النسائى…………أبو شجاع الحرانى محمد بن عبد الله بن يزيد……أبوالحسن بن عبد السلام عبد الله بن يزيد………أبو محمد بن هزار مرد عثمان بن عمرو………أبو القاسم بن حبابه سعيد…………البغوى إبراهيم………… على بن الجعد ابن الهاد………… شعبة أبو إسحاق………… أبو إسحاق البراء…………البراء فإسناد عبد اللطيف الحراني المتكون من أبي شجاع إلى البراء يستوي مع الإسناد المتكون من النسائي إلى البراء في العدد فكأن عبد اللطيف سمع من النسائي وصافحه من حيث العدد فإن طبق مثل هذه الأسانيد تطبيقا عمليا فإنني أرى أن الطالب لا يجد صعوبة فى فهم هذا المصطلح وكثير من كتب المختصرات تكتفي بتعريفات هذه المصطلحات دون ذكر أمثلة تطبيقية ولو أجلت هذه المصطلحات إلى المستويات العليا لكان أفضل المبحث الرابع: أنظمة ولوائح وقوانين بعض الجامعات والكليات: إن أنظمة ولوائح وقوانين الجامعات والكليات لا تناسب بأى حال من الأحوال العلوم الشرعية بدءا من الجلوس فى القاعات الدراسة لسويعات معدودة فى الفصل الدراسى الواحد حيث لا تتعدى الساعات المعتمدة لأى مادة 30 ساعة دراسية ومنها المصطلح فأنى للطالب من فهم المادة فهما جيدا وكيف يتمكن من استيعابها خلال هذه المدة الوجيزة مقارنة بمن يقرأ على شيخ فى حلقته التقليدية؛ فإن قارنا بين الطالب الذي يدرس في الكلية والطالب الذي يدرس في الحلقة التقليدية للشيخ وجدنا أن الطالب الذي يدرس في الكلية يخرج بحصيلة مقدارها 30 ساعة دراسية في مادة علوم الحديث في 4 سنوات بينما الطالب الذي يدرس على الشيخ في حلقته التقليدية يخرج بحصيلة مقدارها 1000 ساعة دراسية في مادة علوم الحديث بمعدل 5 ساعات في الأسبوع في 4 سنوات. فهل هناك وجه للمقارنة بين الحلقات التقليدية وبين قاعات الجامعات والكليات؟ الخاتمة: ـ أسأل الله حسنها ـ أسجل فيها بعض المقترحات: 1- زيادة عدد الساعات المعتمدة لمادة الحديث. 2- تخصيص كتاب من كتب العلماء القدامى للتدريس.

3- تطبيق المصطلحات الحديثية تطبيقا عمليا وعلى وجه الخصوص دراسة الأسانيد والتخريج. 4- حث الطلاب على إخلاص النية لله تعالى. 5- رفع معدل القبول بحيث لا يقبل من كان معدله أقل من 80%. 6- إقامة الندوات والمؤتمرات بصفة دورية لمعرفة مكامن الخطأ أولا بأول. 7- حث الطلاب على التمسك بالسنة الشريفة وعلى العمل بما سمعوا. 8 ـ اجراء مقابلة شخصية لكل طالب يتقدم لأي كلية شرعية لمعرفة خلفيته الشرعية ومدى رغبته في طلب العلم كما هو الحال في بعض الجامعات كجامعة أم القرى بمكة المعظمة.

ضرورة استقرار الضبط الاصطلاحي للإرسال الجلي والخفي

ضرورة استقرار الضبط الاصطلاحي للإرسال الجلي والخفي من خلال الاستفادة من جهود المتقدمين والمتأخرين من المحدثين د. نجم عبد الرحمن خلف الأستاذ المشارك بكلية التربية والعلوم الأساسية جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا. أولاً: مقدمة البحث: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد: فإن جميع العلوم تطرد وتنمو وتتطور مادام هناك من يتفاعل معها، ويشتغل فيها بحماسة وصدق. وعلوم الحديث وفنونه تسري عليها هذه القاعدة دون شك، فالمتتبع لسير حركة التصنيف والاصطلاح والتعريف لأنواع ومفردات هذا العلم يجد الأمر مطابقا تماما لما قدمناه.

والمتصفح لكتاب» المحدث الفاصل بين الراوي والواعي «للإمام الرامهرمزي (ت 360 هـ) وكتاب» معرفة علوم الحديث «للإمام الحاكم النيسابوري (ت 405 هـ) ومداخل الإمام أبي بكر البيهقي (ت 458 هـ) كمدخل» السنن الكبرى «و» مدخل معرفة السنن والآثار «و» مدخل دلائل النبوة «وكذا مصنفات الإمام الخطيب البغدادي (463 هـ) ، في هذا الفن وهي كثيرة مباركة. وكذا المتصفح لكتاب» مقدمة علوم الحديث «للإمام ابن الصلاح (ت 643 هـ) وألفية الإمام العراقي (ت 806 هـ) والإمام السيوطي (ت 911 هـ) ، والشروح التي قامت عليها، وعلى رأسها» فتح المغيث «للإمام السخاوي (ت 902 هـ) ، وما تبلور عند الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) في» نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر «وهكذا تتوالى الجهود مرورا بما كتبه الإمام عبد الحي اللكنوي (ت 1304 هـ) والإمام جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) وانتهاء بما أثمرته الدراسات العلمية الحديثة المعمقة على شكل أطاريح لنيل شهادة الدكتوراه من الجامعات المتعددة في البلاد العربية والإسلامية. إن المتصفح لهذه المصنفات وما حوته من برنامج ومناهج، وأساليب وطرائق في الشكل والمضمون يجد بوضوح أن هذا العلم بجميع أنواعه آخذ في التطور والتبلور مع توالي الأجيال المجتهدة في خدمته كل حسب اجتهاده ومقدرته.

والجهد المبارك الذي ابتدأه الإمام الرامهرمزي في الجمع والتهذيب، إنما أقامه على جهد هائل ضخم قد سبقه النبلاء من العلماء في التأسيس له والعمل على إشاعته وإثرائه، كالإمام شعبة (ت 170 هـ) ، وابن المديني (ت 234 هـ) ، وابن معين (ت 233 هـ) ، وأحمد بن حنبل (ت241هـ) ، وأبوزرعة (ت 264 هـ) ، وأبو حاتم (ت 275 هـ) ، والبخاري (ت256هـ) ، والترمذي (ت 279 هـ) ، والنسائي (ت 303 هـ) ، وابن خزيمة (ت 311 هـ) وابن حبان (ت 354 هـ) ، وابن عدي (ت365 هـ) ، وقبل هؤلاء ومع هؤلاء وبعد هؤلاء جمهرة جليلة القدر، غزيرة العلم، عظيمة الحماسة بذلت جهدا هائلاً في خدمة الحديث النبوي الشريف وعلوم السنة المباركة بكل صدق وعزيمة وإخلاص. وفي جهود هؤلاء المتقدمين غنيمة باردة حاضرة، ولنا فيها سهم كبير، وتعويل كثير، والحصيف العاقل هو الذي يبدأ من حيث انتهى الناس، فيعمل على التأمل فيما خلفه لنا هؤلاء الأسلاف الكرام، ويحيط به علما وفهما وجمعا، ثم يحاول أن يمضي بهذا العلم بما يفتح الله عليه من زيادة في ضبط أو إضافة لجديد، أو تنبيه على خطأ، أو تطوير في المنهج التنظيمي الشكلي لهذه العلوم فكم ترك المتقدم للمتأخر ثم لابد لها من التطوير في البناء والمضمون بما يتناسب مع تطور العصر، ويتواكب مع أحوال طلبة العلم وغيرهم من المسلمين، حيث إن هذه الواقعية تحتاج إلى برامج تشويقية وتسويقية ودعوية تشد الناس من جديد إلى هذا العلم، وتجمعهم أسوة بمن سلف من كرام أسلافهم، وبهذا تبقى رايته خفاقة مرفوعة، وعلماء السنة اليوم هم المسؤلون مسؤولية مباشرة عن هذا الأمر، وهم المكلفون بتحقيقه، والله المستعان. وهذه الحركة التي ندعو إليها إنما تتلخص في الاستفادة من جهود المتقدمين والمتأخرين، وهي الصورة المثلى لتحقيق هذه الأمنية.

نحن في الغالب الأعم نرقب ونرصد أثر السابق في اللاحق، ونتنبه إلى فضل الأسلاف على من خلفهم، وهذا مهم ومطلوب، ولكنه جانب من الصورة المرادة، والصورة الشاملة الكاملة أن يضم إلى هذا ما أضافه الخلف في كل جيل إلى ما قدمه السلف من جهود. وهو كثير يقتضي الوقفة والتأمل والرصد والمتابعة، وعلى أساس هذه النظرة يكون التطوير والإبداع، ويذهب الهدر والإغفال في هذا البناء العلمي المتواصل. فالأصل ألا ينكرللسلف فضلهم، ولا للخلف جهدهم، وهذا هو الإنصاف المطلوب. وهذه النظرة تحتاج منا إلى بذل الجهود الواسعة في الإحاطة بما كتبه السلف على توالي العصور، مع إحاطة أخرى بما دونه علماء السنة في هذين القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وهو جهد عظيم حري بالجمع والتتبع كما أنه حري بالنظر والتأمل، وبالاستفادة والتوظيف في تطوير هذه المسيرة العلمية المباركة لعلوم الحديث الشريف. وقد قامت في نهاية القرن الرابع عشر الهجري المنصرم ومطالع هذا القرن نهضة علمية واسعة في خدمة علوم السنة النبوية من طبع للكثير من مؤلفاتها، وتحقيق وتوثيق جملة من أهم مصادرها ومراجعها، كما زامنت هذه الحركة جهود علمية لنقد المرويات وفحصها لتمييز الصحيح من الضعيف والمقبول من المردود. ولا شك أن المتصدين لرصد هذه الحركة العلمية السابقة والمعاصرة في خدمة السنة النبوية من المحدثين النقاد ينبغي أن يضعوا في اعتبارهم ضرورة استصحاب مناهج هؤلاء المنظرين من السلف والخلف من علماء الحديث لئلا يقعوا في الخلط بين مناهجهم المختلفة والتي أدت أحيانا إلى هذا التفاوت الواقع في الصور والنتائج.

وإن من أهم ثمار هذه العملية العلمية إثر الجمع والدرس والفحص الناقد أن نصل إلى توحيد المصطلحات الحديثية ما أمكن لتعين الدارس المعاصر على سرعة الفهم وعدم التشتت وسط سيل من التعريفات والعبارات المختلفة والتي تنتهي بالطالب إلى السآمة والنفور، وتهدر الجهد والطاقة فيما لا جدوى ولا طائل من ورائه. ثانيا: موضوع البحث: وسوف أعالج في هذا البحث المتواضع غياب الاستقرار الاصطلاحي أحيانا لدى المتصدين للكتابة في علوم الحديث من خلال دراسة بعض أنواع علوم الحديث مثل الإرسال والإرسال الخفي وسأحاول تسليط الضوء على ما بينهما من التداخل والتشابك في تعريفات المحدثين حيث تلمس ضياع الفيصل الذي يضع الحدود والضوابط لكل مصطلح بما يميزه عن سواه من المصطلحات، ونقطع هذا السرد المتدفق من التعريفات المتضاربة التي تشتت ذهن الطالب، وتربكه وتساهم في تنفيره. وقد اعتمدت في تسجيل الملاحظات ووضع الحلول على كتب المصطلح والأثر القديمة والمحدثة، وركزت في اختيار الأمثلة وسرد النماذج على كتاب» السنن الكبرى «للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ) حيث إني قد خبرته فوجدته قد أكثر من استعمال الحديث المرسل فقد استوعب مراسيل أبي داود وضم إليه ضعفه من المراسيل الأخرى مع التنبيه عليها ونقدها، ثم إن الإمام البيهقي محدث جليل بارع في هذه الصناعة، كما أنه فقيه كبير الشأن جليل القدر لأجل ذلك كان الوصول إلى الحكم الشرعي من النصوص الحديثية هو شغله الشاغل وفق المنهج الحديثي وما يتطلبه من تفنن وبراعة وإتقان، فكان يوازن وينقد ثم يرجح ليبني حكمه الفقهي على أساس ذلك.

ورغم أن الحديث المرسل ((من أجل الأبواب، فإنه أحكام محضة، ويكثر استعماله، بخلاف غيره)) (1) إلا أنه واحد من المصطلحات التي تداخلت تعريفاته، واتسعت إلى حد دخل فيه واختلط به الحديث المعضل، والمعلق، والمنقطع، والمنقطع الخفي، والإرسال الخفي، بحجة أن هذا سائغ في اللغة، وأن جميع هذه الأحاديث يجمعها وقوع الانقطاع فيها وكذا الحال بالنسبة للمنقطع فقد أصابه من الترهل والاتساع ما أضاع ضبط اصطلاحه، وحبك تعريفه، ورسم حدوده عند البعض من المحدثين. وإذا ساغ في الماضي أن تكون الصورة على ما وجدنا للتطور الحاصل في الاصطلاح، فإنه لا يصح أن يبقى الحال على ما هو عليه في وقتنا الحاضر، وقد استقرت العلوم، ووضعت القواعد والضوابط والحدود لكل منها بما يرسم معالمها الدقيقة الحاسمة حيث لا تختلط بغيرها. ثالثاً: تعريف الحديث المرسل (2) :

_ (1) السخاوي - فتح المغيث: 1/155. (2) وجمعه مراسيل بإثبات الياء، وحذفها أيضا، وأصله مأخوذ من الإطلاق، وعدم المنع كقوله تعالى: ((إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين)) (سورة مريم /83) . فكأن المرسل أطلق الإسناد ولم يقيده براو معروف. أو من قولهم: ناقة مرسال، أي سريعة السير كأن المرسل أسرع فيه عجلا، فحذف بعض إسناده، أو من قولهم: جاء القوم أرسالا. أي متفرقين، لأن بعض الإسناد منقطع من بقيته. (السخاوي - فتح المغيث: 1/ 134 - 135) .

استغرق الحافظ ابن حجر سبع صفحات من الكلام المتواصل في نكته على كتاب ابن الصلاح (1) في إطار الحديث عن تعريف المرسل وانتهى من اختلاف تعاريف الأئمة له أنه على أربعة أوجه، ثم ساقها، ثم ساق أقوالا أخرى مما حكاه الفقهاء والأصوليون في تعريفه. ثم انتهى من كل ذلك بقوله في تعريفه تعريفا جامعا مانعا: ((ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما سمعه من غيره)) (2) وهذا يكفي في حسم الأمر، واستقرار الاصطلاح. كما أن الخوض في حكم الحديث المرسل من حيث القبول والرد قضية ذات شجون، وظلت كذلك لوقوع الاختلاف في المناهج والطرائق إلى يومنا هذا. والأمر قد حسم عند المحققين من مئات السنين إلا أنه يحلو لكثير ممن صنف في علوم الحديث أن يعود إلى جميع هذه الآراء المتشابكة والمتعارضة فيسردها على الطلبة الناشئين بطريقة مملة مربكة منفرة. بيد أن حكم الحديث المرسل ليس هو محور حديثنا هنا. وقد عَرَّفَ البيهقي الحديثَ المرسل من حيث الاصطلاح بأنه: ((كل حديث أرسله واحد من التابعين أو الأتباع، فرواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر مَن حمله عنه)) (3) . ومن هذا التعريف الصريح يتبين لنا أن البيهقي يتوسع في نظرته إلى ((المرسل)) ، ويُعطيه مدى أبعد، شأنه في ذلك شأن جمهور المتقدمين من الفقهاء والأصوليين، وبعض أهل الحديث، إذ يعممون التابعين وغيرهم (4) . 2- أنواع الحديث التي تدخل في مسمى المرسل: ومن خلال الاستقراء والتتبع وجدتُ الإمام البيهقي ومن سبقه من الأئمة المتقدمين وبعض من عاصره أو جاء بعده يطلقون المرسل على: حديث التابعي، كبيراً كان أم صغيراً. حديث تُبَّعِ الأتباع. الحديث المنقطع. الحديث غير المرفوع، كالموقوفات.

_ (1) انظر ابن حجر -النكت على كتاب ابن الصلاح: ص 540-546. (2) المصدر السابق: ص 546. (3) البيهقي - دلائل النبوة: 1/39 (4) ابن كثير - الباعث الحثيث: 45.

الحديث المعضل وهو مذهب الزيدية كما قال الشوكاني كما سيأتي تفصيله قريبا. وبيان ذلك فيما يلي: 1- مرسل التابعي سواء أكان كبيراً أم صغيراً: وهو المشهور عند المحدثين في استعمال المرسل، كما قَدَّمنا آنفا. مِنْ ذلك قوله - بعد أنْ ساق حديث حِبان بن أبي جَبَلَة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل أحد أحق بماله من والده، وولده، والناس أجمعين)) . قال البيهقي: ((هذا مرسل، حِبان بن أبي جَبَلَة القرشي من التابعين)) (1) . وهذا النوع كثير عند البيهقي، وذلك كمرسلات سعيد بن المسيب، وأبي العالية، والحسن البصري، وابن شهاب الزهري، وعطاء بن أبي رباح، وغير ذلك. وعلى هذا المعنى في تعريف الإرسال هو الذي استقر عليه المتأخرون (2) . 2- مرسل أتباع التابعين (3) : وهذا النوع داخل في تعريف البيهقي للحديث المرسل تصريحاً، فإنه قال: ((كل حديث أرسله واحد من التابعين، أو الأتباع)) (4) . وشواهده كثيرة في ((السنن الكبرى)) . من ذلك قوله - بعد أنْ ساق حديث» وجوب العشر «من طريق سليمان بن موسى، عن أبي سيارة المتقي مرفوعاً -: ((قال البخاري: هذا حديث مرسل، وسليمان بن موسى لم يدرك أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وليس في زكاة العسل شئ يصح)) . وكذلك قوله: ((وهذا مرسل، إسحاق بن عمر لم يدرك عائشة)) (5) .

_ (1) البيهقي - السنن الكبرى: 10/319. (2) انظر: د. نور الدين عتر - منهج النقد: 370. (3) أي الذين لم يدركوا أحداً من الصحابة. (4) البيهقي - دلائل النبوة: 1/39، وممن صرح بنحوه من المحدثين، الإمام الحاكم، فإنه قال في (المدخل) : ((هو قول التابعي، أو تابع التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وتابعه البغوي في (شرح السنة) . قال المناوي: ((ولكن الذي مشى عليه - أي الحاكم - في علومه خلاف ذلك)) . (فتح المغيث: 1/137) . (5) المصدر السابق: 1/435

وقوله: ((هذا مرسل، لم يسمعه يحيى - أي ابن أبي كثير- عن أنس، إنما سمعه عن رجل من أهل البصرة، يقال له: عمرو بن زينب، ويقال: ابن زينب عن أنس)) (1) . 3- اطلاق الإرسال على الحديث المنقطع: إنَّ النوع الثاني ((مرسل أتباع التابعين)) هو من المنقطع، ولكننا أفردنا هذا النوع الثالث بالذكر، وإن كان في حقيقته كالثاني لتنصيص البيهقي على استعمال لفظ الإرسال في المنقطع. وقد وقع هذا للإمام البيهقي، كما وقع للمتأخرين عموماً. فإنهم عَرَّفوا المرسل بأنه: ((كل ما لا يتصل، سواء أكان يُعْزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره)) (2) . وقال النووي: ((والصحيح الذي ذهب إليه الفقهاء، الخطيب، وابن عبد البر، وغيرهما من المحدثين: أنَّ المنقطع ما لم يتصل إسناده على أيَّ وجه كان انقطاعه)) (3) . وبهذا يزول الاستغراب الذي يرتسم في ذهن الباحث وهو يرى صنيع البيهقي في استعمال اصطلاح (المرسل) في موضع (المنقطع) ، و (المنقطع) في موضع (المرسل) مِمَّا يجعل القارئ - غير المحيط بهذه الدقيقة - يلاحظ أنَّ هناك اضطراباً كبيرا لدى البيهقي في كتابه ((السنن الكبرى)) (4) . ومثال ذلك، قوله: ((وفيه إرسال بينه - أي ابن جريج -وبين عبد الكريم)) (5) . - وقوله: ((هذا مرسل ابن أبي زكريا لم يسمع من أبي الدرداء)) (6) . - ومن ذلك قوله: ((وهذا مرسل، شعيب بن يسار لم يدرك عمر)) (7) ثم ساق الدليل على ذلك. -وقوله أيضاً: ((إلاّ أنه مرسل، ربيعة لم يدرك أبا سعيد - أي الخُدْري-)) (8) - وقوله: ((إسحاق بن يحيى لم يدرك عُبَادة بن الصَّامت، فهو مرسل)) (9) .

_ (1) المصدر السابق:4/240. (2) ابن عبد البر - التمهيد لما في الموطأ من السنن والمسانيد: 1/21. (3) النووي - التقريب: 7. (4) البيهقي - السنن الكبرى: 4/126. (5) المصدر السابق:8/38. (6) المصدر السابق: 9/306. (7) المصدر السابق:4/139. (8) المصدر السابق: 4/77. (9) المصدر السابق: 6/1548،/74.

والأمثلة والشواهد في ذلك كثيرة (1) . 4- إطلاق (المرسل) على غير المرفوع من الآثار: وهذا يؤكد منهج البيهقي في نظرته إلى» المرسل «و» المنقطع «وما بينهما من عموم وخصوص، ويجلى رأيه في ذلك، فإنه قد استعمل مصطلح الإرسال في غير المرفوع، كما استعمل المنقطع في موضع المرسل أحياناً، والمرسل في موضع المنقطع أحياناً أخرى، فهذه الأوصاف جميعاً تصدق على كل ما لا يتصل إسناده. قال ابن الصلاح: ((وهذا المذهب أقرب صار إليه طوائف من الفقهاء وغيرهم، وهو الذي ذكره الحافظ أبوبكر الخطيب في» كفايته)) (2) . ومثال إطلاق الإرسال على غير المرفوع عند البيهقي، قوله: (هذا مرسل موقوف) (3) ، وقد قال ذلك عقب قول ابن عباس، وذلك لأن في السند انقطاعاً. وساق قولاً لابن مسعود من طريق المَسْعُودي عن القاسم بن عبد الرحمن عنه، ثم قال: ((مرسل، وهو موقوف على عبد الله بن مسعود)) (4) . وفي باب (النهي عن التغالي في المهور) ساق قول عمر من طريق بكر، ثم ساق له شاهداً من طريق الشَّعْبي عن عمر من قوله، ثم قال: ((هذا مرسل جيد)) (5) . وليس ثَمَّةَ اعتراض يَرِدُ على البيهقي في إطلاق المرسل على غير المرفوع، باعتبار أنه عَامَل المرسلَ معاملة المنقطع، وجعل كليهما شاملين لكل ما لا يتصل إسناده، وذلك لأنَّ المنقطع شامل لكل ما لا يتصل إسناده، سواء أكان يُعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم إلى غيره. قال ابن عبد البَر الأندلسي: ((المنقطع عندي: كل ما لا يتصل، سواء كان يُعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره)) (6) . 5- اطلاق المرسل على الحديث المعضل:

_ (1) المصدر السابق: 1/125، 4/200، 5/333، 6/247، 7/118، 304 وغير ذلك من المواضع. (2) ابن الصلاح- المقدمة: 58. (3) البيهقي - السنن الكبرى:7/199. (4) المصدر السابق: 5/165. (5) المصدر السابق: 7/233. (6) ابن عبد البر- التمهيد: 1/21.

قال الشوكاني في حقيقة المرسل: ((أنه ما سقط من إسناده راوٍ أو أكثر من أي موضع، فعلى هذا المرسل، والمنقطع، والمعضل واحد، وهو مذهب الزَّيدْية)) (1) . رابعاً: حقيقة المرسل، وموقف المحدثين من إطلاقه على المنقطع وغيره: سبق أن قدَّمنا أن جمهور المحدثين يطلقون المرسل على ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم أما صنيع البقية الباقية من المحدثين فإنهم يطلقونه على هذا النحو، ويطلقونه على المنقطع أيضاً. وقد وجدت البيهقي ينتهج هذا المنهج، وينحو منحاه، فهو أحياناً يستعمل الاصطلاح الشائع لدى المحدثين، وأحياناً أخرى كثيرة يتوسع فيه، فيطلق المرسل على المنقطع وغيره. قال النووي - بعد أنْ ساق أقوال المحدثين في تعريف المرسل -: ((والمشهور في الفقه والأصول أنَّ الكل مرسل، وبه قطع الخطيب، وهذا اختلاف في الاصطلاح والعبارة)) (2) .

_ (1) الصنعاني - توضيح الأفكار: 1/286. (2) النووي - التقريب: 6-7.

قال السخاوي:)) وممن أطلق المرسل على المنقطع من أئمتنا أبوزرعة (1) ، وأبو حاتم (2) ، ثم الدارقطني، ثم البيهقي، بل صَرَّحَ البخاري في حديث إبراهيم بن يزيد النخعي، عن أبي سعيد الخدري بأنه مرسل، لكون إبراهيم لم يسمع من أبي سعيد، وكذا صَرَّحَ هو وأبو داود في حديث لعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود، بأنه مرسل، لكونه لم يدرك ابن مسعود، والترمذي (3) في حديث لابن سيرين، عن حكيم بن حزام، بأنه مرسل، وإنما رواه ابن سيرين عن يوسف بن ماهك، عن حكيم، وهو الذي مشى عليه أبوداود في) مراسيله (4) (، في آخرين (5) ((. انتهى كلام السخاوي. وممن ألفيته يصنع ذلك من الأئمة، زيادة على من ذكر السخاوي: الإمام ابن خزيمة، فقد صَرَّحَ بذلك في حديث عطاء، عن أبي الخليل، عن أبي قتادة مرفوعاً. قال البيهقي: ((قال أبوبكر بن خُزَيْمَة: هذا حديث مرسل، بين أبي الخليل وبين أبي قتادة رجل)) (6) . ومن الشواهد الأخرى التي وجدتها في (السنن الكبرى) خلال استقرائي للحديث المرسل فيها، زيادة على ما ذكره السخاوي: ما صَرَّحَ به البخاري في ((حديث وجوب العشر)) ، إذ قال: ((هذا حديث مرسل، وسليمان بن موسى لم يدرك أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في زكاة العسل شئ يصح)) (7) . كما أنه أطلق الإرسال على رواية شعيب بن يسار عن عمر بن الخطاب، لأن شعيباً لم يدرك عمر (8) .

_ (1) انظر: (المراسيل) ابن أبي حاتم: 127. (2) أي في كتابه (المراسيل) إذ أدخل فيه مالم يتصل من الأسانيد، وهذا في إطلاق اسم الإرسال على المنقطع وكذلك صرح في العكس، فإنه أطلق اسم الانقطاع على المرسل. انظر: ابن أبي حاتم - المراسيل: 7. (3) د. نور الدين عتر - الإمام الترمذي وجامعه:200-201. (4) البيهقي - السنن الكبرى:6/120. (5) السخاوي - فتح المغيث: 1/137-138. (6) البيهقي - السنن الكبرى: 5/224. (7) المصدر السابق: 4/126. (8) المصدر السابق: 4/139.

وبهذا أيضاً صَرَّحَ أبوداود السَّجستاني، فإنه قال في حديث إبراهيم التيمي، عن عائشة: ((هذا مرسل، إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة)) (1) . بل توسع أبوداود في ذلك، فأطلق المرسل على المبهمات، وتابعه عليه الإمام النووي، وهو خلاف ما عليه أكثر الأئمة. قال السخاوي: ((وممن أخرج المبهمات في المراسيل، أبو داود، وكذا أطلق النووي في غير موضع على رواية المبهم مرسلاً، وكل من هذين القولين خلاف ما عليه الأكثرون من علماء الرواية)) (2) . وممن أطلق المرسل على المنقطع الإمام الدارقطني، فقد صَرَّحَ في حديث عامر الشّعبي، عن عمر بن الخطاب، فقال: ((هذا مرسل، عامر لم يدرك عمر)) (3) . وممن تابعهم في ذلك من الأئمة المتأخرين الحافظ العلائي الكيكلدي في كتابه الحافل» جامع التحصيل بأحكام المراسيل «، فقد تكلم فيه على أنواع الحديث المنقطع، ثم أورد أسماء المدلسين، ثم الأسانيد المنقطعة. قال ابن تيمية:)) وكذلك ما يسقط من إسناده رجل، فمنهم من يخصه باسم المنقطع، ومنهم من يدرجه في اسم المرسل، كما أن فيهم من يسمي كل مرسل منقطعاً، وهذا كله سائغ في اللغة (4) ((. قلت: وهل كُل ما هو سائغ في اللغة يسوغ استعماله في المصطلح؟! فما فائدة علم المصطلح؟

_ (1) المصدر السابق: 1/127. (2) السخاوي - فتح المغيث: 1/151. (3) البيهقي - السنن الكبرى: 5/322. (4) ابن تيمية - مجموع الفتاوى: 18/38.

إنما وضع هذا العلم لتضبط مفرداته ضبطا دقيقا، وتحصر وتقصر وفق حدود تمنع الاشتراك وتدفع التداخل وإذا ساغ سرد جميع هذه التعريفات وتسجيلها بتفاصيلها في مرحلة الدراسات العليا لمعرفة التدرج العلمي لقواعد المصطلح ودراسة مناهج أصحابه فإنه لا يجوز ولا يقبل بحال في المرحلة الجامعية، ولا في المصنفات التي تكتب لعموم المثقفين والمختصين بغير علم الحديث، بل الأصل أن تعرف المصطلحات الحديثية تعريفا نهائيا قطعيا يحسم الخلاف والتردد وفق ما استقر عليه الاصطلاح ومشى عليه جمهور المحدثين. خامساً: ضبط تعريف المرسل الخفي: وهو نوع مهم، عميق المسالك، لم يتكلم فيه قديماً وحديثاً إلّا نقاد الحديث وجهابذته (1) . تعريف المرسل الخفي: وقد اختلفت آراء العلماء في تعريف (المرسل الخفي) اختلافا كثيرا (2) ورجح الإمام السخاوي تعريف ابن حجر له، فقال: ((بل هو على المعتمد في تعريفه، حسبما أشار إليه شيخنا - ويعني ابن حجر العسقلاني -: الانقطاع في أي موضع كان من السند بين راويين متعاصرين لم يلتقيا، وكذا لو التقيا ولم يقع بينهما سماع، فهو انقطاع مخصوص، يندرج في تعريف من لم يتقيد في المرسل بسقط خاص ... )) (3) . وقد رأيت أن أنتهج لنفسي منهجا اصطلاحيا جديدا يلتقي مع مناهج المتقدمين في الفحوى، قصدت فيه الدقة الزائدة في الاصطلاح والعبارة، وغرضي من ذلك أن أضبط الاصطلاح ضبطا موافقا لمسماه، ومطابقا لفحواه فجعلت (المرسل الخفي) مقصورا على رواية التابعي عن الصحابي الذي عاصره، ولم يسمع منه، أو لم يعاصره، وروى عنه. فإن الذي استقر عليه الحفاظ - سيما في أزمنتنا المتأخرة - استعمال صيغة (الإرسال) في الحديث الذي سقط منه الصحابي. قال الإمام طه بن محمد البيقوني:

_ (1) السخاوي - فتح المغيث: 3/85. (2) د. نور الدين عتر- منهج النقد: 286. (3) السخاوي - فتح المغيث: 3/85-86.

وَمُرْسَلٌ منْهُ الصَّحابيُّ سَقَط ……وَقُلْ غَرِيبٌ ما رَوى رَاوٍ فَقَطْ (1) ولهذا أحببت أن أقصر لفظ (الإرسال) الظاهر في الحديث الذي سقط منه الصحابي فحسب، وهذا أمر ثابت ومسلم عند الحفاظ في (المرسل) العادي. أما في (المرسل الخفي) فقد اختلفوا فيه اختلافا واسعا، وصرفوه على أوجه بعيدة عن أصل لفظه الاصطلاحي، ولا يمنع توسع المتقدمين في استعمال (الإرسال) بمعنى الانقطاع عموما -في أي موضع في السند- أن نضبط تعريف (المرسل الخفي) أسوة (بالمرسل) الظاهر الذي استقر الاصطلاح في إطلاقه على الحديث الذي سقط منه الصحابي، فما دام هناك إرسال فثم صحابي ساقط. وعلى هذا يكون الإرسال -عندي- قسمين: أولهما: الإرسال الظاهر المعروف بسقوط الصحابي من سند الحديث سقوطا حقيقيا عينيا، ويقوم التابعي برفع الحديث إلى النيي صلى الله عليه وسلم. ثانيهما: (المرسل الخفي) وهو الحديث الذي يكون الصحابي مصرحا به في الإسناد، ويرويه عنه التابعي بصيغة» العنعنة «ولم يسمع منه هذه الرواية سواء أسمع منه أم لم يسمع، فيكون الصحابي هنا في حكم الساقط، ويكون الحديث مشتملا على (الإرسال الخفي) ، وذلك لعدم توفر السماع عند من روى عنه، فالصحابي هنا ثابت لفظا، وساقط حكما، ولما كان مدار الانقطاع على الصحابي، استحسنا تسميته بالمرسل لاختصاصه به، ولما كان ظاهره الاتصال -وهو في حقيقته منقطع- ناسب أن أسميه (بالخفي) ، وعليه يكون اصطلاحنا الذي أطلقناه بخصوص هذه الحالة من الإرسال الباطن لا غبار عليه (2) إن شاء الله تعالى، والحمد لله.

_ (1) البيقوني - المنظومة البيقونية (التعليقات الأثرية) : 23. وانظر: السيوطي- تدريب الراوي: 1/195، الصنعاني - توضيح الأفكار: 1/283- 287، ود. عجاج الخطيب- المختصر الوجيز: 149. (2) هذا فهم انفرد به الباحث، وما وقفنا عليه عند أحد من السابقين!!! (لجنة إعداد الندوة) .

وأما الانقطاع في غير هذا الموضع من السند فله اصطلاحه وتعريفه الذي يميزه عن غيره من الأنواع ويمكن أن يكون -وفق ما قدمنا- منقطع ظاهر ومنقطع خفي، ومعضل ظاهر ومعضل خفي، والله أعلم وصلى الله على نبينا ورسولنا محمد، وعلى آله، وصحبه والحمد لله رب العالمين. فهرس المصادر والمراجع * البيقوني: محمد طه: * المنظومة البيقونية، (انظر: التعليقات الأثرية لعلي حسن) . * البيهقي: أحمد بن الحسين (ت 458 هـ) : -دلائل النبوة، تحقيق د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى 1405 هـ / 1985م. وهناك طبعة أخرى بتحقيق السيد أحمد صقر طبع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، الجمهورية العربية المتحدة 1389 هـ / 1970م. وقد ميزت بين الطبعتين بأن ذكرت طبعة المجلس الأعلى كلما اقتبست منها، وتركت الأخرى غفلا. - السنن الكبرى، دار المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الهند، الطبعة الأولى سنة 1343 هـ. * ابن تيمية: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم (ت 728 هـ) : - مجموع الفتاوى، جمعها ورتبها الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم ومساعده ابنه محمد بن محمد بن عبد الرحمن مكتبة المعارف، الرباط، الطبعة الثانية، سنة 1981م. * ابن أبي حاتم: عبد الرحمن بن أبي حاتم (ت 327 هـ) : - المراسيل، مكتبة المثنى ببغداد، تحقيق شكر الله نعمة الله قوجاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1402 هـ / 1982م. * ابن حجر العسقلاني: أحمد بن علي (ت 852 هـ) - تحقيق د. ربيع بن هادي المدخلي، المجلس العلمي لاحياء التراث، المدينة المنورة الطبعة الأولى سنة 1984م. * السخاوي: محمد بن عبد الرحمن بن محمد (ت 902 هـ) :

- فتح المغيث شرح ألفية الحديث، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1403 هـ /1983م في ثلاث مجلدات، وطبعة أخرى بتحقيق الشيخ سليمان ربيع في مجلد واحد، طبعت بمصر، وقد اعتمدت أصلا على الطبعة الأولى، وميزت بينهما بذكر طبعة مصر كلما أحلت عليها أو اقتبست منها. * السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) : - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1399 هـ / 1979م، طبعة أخرى، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطبف، مكتبة القاهرة بمصر سنة 1379 هـ / 1959م وقد فرقت بينهما بالتنبيه على طبعة القاهرة. * ابن الصلاح: أبو عمر وعثمان بن عبد الرحمن (ت 643 هـ) : - علوم الحديث، تحقيق د. نور الدين عتر. دار الفكر، دمشق، الطبعة الثالثة سنة 1404 هـ / 1984م. * الصنعاني: محمد بن إسماعيل الأمير (ت 1182 هـ) : - توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار ضياء التراث، الطبعة الأولى سنة 1366 هـ. * ابن عبد البر: يوسف بن عبد الله (ت 463 هـ) : - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والمسانيد، وزارة الأوقاف بالمغرب. * د. عتر: نور الدين: - الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، الطبعة الأولى 1390 هـ / 1970م. - منهج النقد في علوم الحديث، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثالثة 1401 هـ / 1981م. * د. عجاج الخطيب: محمد عجاج الخطيب: - أصول الحديث علومه ومصطلحه، دار الفكر، الطبعة الثانية سنة 1971م. * علي حسن علي عبد الحميد: - التعليقات الأثرية على المنظومة البيقونية، المكتبة الإسلامية، عمان، الطبعة الأولى سنة 1403 هـ /1982م. * ابن كثير: عماد الدين إسماعيل بن عمر (ت 774 هـ) : - الباعث الحثيث شرح مختصر علوم الحديث، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت 1403 هـ. * النووي: أبو زكريا يحيى بن شرف (ت 676 هـ) :

- تقريب الإرشاد مختصر علوم الحديث لابن الصلاح، مكتبة الحلبوني، دمشق.

ضرورة الإستفادة من جهود المتقدمين والمتأخرين

ضرورة الاستفادة من جهود المتقدمين والمتأخرين في مجال علوم الحديث د. حمزة عبد الله المليباري كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وتركهم على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. اللهم صل وسلم وبارك على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم اجعلنا ممن يتبعهم بإحسان. أما بعد: فموضوع مداخلتي في هذه الندوة: ((ضرورة الاستفادة من جهود المتقدمين والمتأخرين في علوم الحديث دون خلط بين مناهجهم المختلفة)) . تعد علوم الحديث من أهم مقررات كلية الشريعة، وكانت تدرس في بعض الكليات في أكثر من مستوى، إلى جانب دورات علمية خاصة تعقد لتدريسها في مناسبات شتى، وكان إقبال الطلبة على دراسة هذا العلم بتزايد مستمر، ومع هذا الاهتمام البالغ بتدريس علوم الحديث من جهات مختلفة منذ سنوات عديدة فإننا نلمس في الساحة العلمية شيئا يدعونا إلى أهمية المراجعة في أسلوب تدريس علوم الحديث، والتباحث في مدى فاعلية هذا الأسلوب، وتحديد الخلل في ذلك. ماذا يجري في الساحة العلمية؟

من تتبع الأبحاث والدراسات التي تغص بها الأسواق اليوم في مجال السنة وعلومها، وتأمل فيها بإمعان وإنصاف، بعيدا عن التعصب والتقديس، وجد كثيرا منها غير منضبطة بقواعد علوم الحديث؛ إذ يتعامل فيها أصحابها مع نصوص المحدثين النقاد ومصطلحاتهم العلمية بصورة غير منهجية، ويحملونها على غير محملها، فيطلقون ما هو مقيد، أو يقيدون ما كان مطلقا، ومن هنا وقع في تلك الأبحاث خلط وازدواجية بين مناهج مختلفة، سواء أكان ذلك في تنظير القواعد أو ترجيح المسائل، حتى أصبحت ظاهرة التعقيب على نقاد الحديث أمرا مألوفا لدى المعاصرين لا لخطأ اكتشفوه، ولا لوهم وجدوه، بل غرورا بما لديهم من تصورات سطحية حول مبادئ علوم الحديث فيطلقون القاعدة التي تكون لها استثناءات يجب أخذها بعين الاعتبار، كقولهم تعقيبا على الحديث الذي أعله النقاد بتفرد راويه: ((لا يضر تفرده لأنه ثقة)) أو ((زيادة الثقة مقبولة كما هو مقرر في كتب المصطلح)) . وقولهم فيما صححه النقاد: ((هذا إسناد منقطع لعنعنة المدلس، وهو في الطبقة الثالثة من التدليس)) . وقولهم في الحديث الذي ثبت انقطاعه: ((الإسناد متصل لوجود معاصرة بين الرواة)) أو ((هذا الراوي من الطبقة الثانية من التدليس فعنعنته مقبولة ومحمولة على الاتصال)) . وقال أحد الباحثين - وهو في معرض رده على الإمام أبي حاتم -: ((لو درس أبو حاتم أو غيره من الأئمة حتى البخاري دراسة وافية لما تجاوزوا النتائج التي توصلت إليها، والحمد لله إني طبقت قواعد المحدثين)) . وقال باحث آخر، وهو يعقب على حديث أعله الإمام ابن المديني: ((هكذا تعل الحديث يا ابن المديني!)) . وغير ذلك من التعقيب بما لا يخفى على الطلبة المبتدئين، فضلا عن المحدثين النقاد.

أما تصحيح الأحاديث وتضعيفها وتحسينها فعندهم على طريقة سهلة لم تكن مألوفة لدى النقاد من قبل، وهي النظر في ترجمة رواة الحديث من خلال كتب التراجم، لا سيما كتاب التقريب للحافظ ابن حجر؛ فإذا وجدوا الرواة كلهم ثقات صححوا الحديث، حتى وإن أعله النقاد، وإن كان فيهم صدوق أصبح الحديث حسنا لذاته، وإن كان فيهم ضعيف فالحديث ضعيف، وإذا جاء من طريق آخر فحسن لغيره، وهكذا يطلقون الحكم فيما هو مقيد، ويقيدون فيما من شأنه الإطلاق. وبهذا النوع الجديد من الدراسات يكون الباحث المعاصر قد ألغى - من غير أن يشعر - كثيرا من مصطلحات الحديث، لا سيما الشاذ والمعلول والمنكر. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أننا نشاهد بعض الكتاب والأساتذة الجامعيين يسيئون فهمهم لمنهج المحدثين النقاد في تصحيح الحديث وتعليله، ويتهمونهم بقلة الفقه، وكثرة النظر في الشكليات وظواهر السند، وأنهم لا يجدون حرجا أمام طلبتهم في إنكار بعض الأحاديث التي اتفق العلماء على صحتها طوال القرون الماضية، وحجتهم في ذلك أن تلك الأحاديث تتعارض مع ما فهموا من القرآن أو أنها لم تخضع لعقولهم. والجدير بالذكر أن هؤلاء الباحثين والكتاب والأساتذة جميعا قد درسوا في الماضي كتب المصطلح ضمن مقررات الجامعة أو مقررات المعهد أو غيرها. هذه الظاهرة لا يشك عالم منصف غيور على السنة النبوية في خطورة نتائجها على المدى البعيد. إلى متى يقف الغيورون على السنة مكتوفي الأيدي - وهم يشاهدون هذه الظاهرة الخطيرة تنتشر في أوساط الباحثين المبتدئين-؟ وكيف يحلو لهم التساهل في مواجهتها، والبحث عن سبل علاجها؟. هنا يجب علينا أن نتساءل: ما قيمة تدريسنا لمقررات الحديث وعلومه في الجامعات والمعاهد إذا لم يعالج ذلك الخلل، ويصلح الفساد، ويصحح المفاهيم؟ كم يبذل في تدريس هذه المقررات من جهد ووقت ومال؟ كيف انتشرت اليوم هذه الظاهرة الخطيرة بين الباحثين؟ ماذا يستفيد الطلبة من هذه المقررات؟

هل الهدف من تدريس كتب المصطلح مجرد التعرف على المصطلحات دون فقه لما تتضمنه من القضايا الجوهرية؟ أم الهدف من ذلك هو التعرف على منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتضعيف، وفقه مصطلحاتهم النقدية؟. في الواقع إن كتب المصطلح إذ تجمع نصوص النقاد ومصطلحاتهم العلمية وتشرح مضامينها فإنها تقدم من خلال ذلك منهج المحدثين النقاد في نقد الأحاديث، ومنهج المتأخرين في حفظ دواوينها من التحريف والتصحيف والانتحال، لذلك فإن مرجع الخلل في تعامل كثير من الباحثين مع السنة النبوية هو عدم استيعابهم لقواعد علوم الحديث، وله أسباب عدة، لعل الأساتذة المشاركين في هذه الندوة قد أشاروا إليها في ضوء تجاربهم، كل حسب رأيه واجتهاده. غير أني أود أن أركز هنا على بعض أهم الأسباب التي تقف وراء صعوبة هذا المقرر، وهو: 1 - عدم ترتيب المصطلحات وموضوعاتها ترتيبا موضوعيا. 2 - عدم استخدام الأمثلة الواقعية التي يعيشها الطالب. 3 - الخلط بين جهود المحدثين المتقدمين والمتأخرين في علوم الحديث ومناهجهم المختلفة في تطبيقها، وتفسير مصطلحات النقاد بما تعارف عليه المتأخرون، أو تفسير نصوص المتأخرين بما اصطلح عليه المتقدمون، لذا آثرت أن يكون بحثي تحت عنوان» ضرورة الاستفادة من جهود المحدثين النقاد المتقدمين والمتأخرين في مجال علم الحديث «. مصدر الخلل: إن الكتب والمصطلحات تعد أوعية العلوم في كل زمان ومكان، وعن طريقها تنتقل العلوم من جيل إلى جيل، وبقدر الاحتفاظ بأصالتها، وبقدر الدقة في عزوها إلى أصحابها المبدعين، وحفظها بعيدا عن التغيير والتبديل، تبقى العلوم حية وجلية تعطي أكلها كل حين بإذن ربها.

كما تشكل هذه الكتب والمصطلحات مرآة ناصعة تعكس جهود أصحابها في مجال العلم والثقافة والإبداع، ومدى تخصصهم في الموضوع الذي تناولوه، وطبيعة تكوينهم وتفكيرهم واهتمامهم وما يتصل بمحيطهم العلمي عموما. لذلك يكون ما تركوه للأجيال من الانتاج العلمي مصدرا رئيسا لتدوين تاريخهم في جميع مجالات العلم والإبداع. وبقدر إدراك الباحث أو الدارس لهذه الحقيقة، تتحقق الفائدة العلمية المرجوة من دراسة تلك الكتب والمصطلحات، وإلا سيكون تحصيله العلمي عقيما لا يساعده على الاستنتاج والنهوض بما يقتضيه محيطه العلمي من الإصلاح والإبداع والتجديد في العلوم وطرق تدريسها. التفاوت المعرفي بين الأئمة وبعض نماذجه: أذكر هنا على سبيل المثال لمزيد من التوضيح مجالين واسعين يبرز فيهما تفاوت معرفي ومنهجي بين المتقدمين والمتأخرين في خدمة الحديث وعلومه، وآثار هذا التفاوت في كتب المصطلح عموما، وهما: 1 - طريقة نقل الحديث. 2 - الحكم على الحديث. أما المجال الأول فإذا كان المتقدمون يعتمدون الأسانيد والرواية المباشرة في نقل الأحاديث حديثا حديثا، فإن المتأخرين اعتمدوا الكتب والدواوين، بعد أن أخذت الأحاديث تستقر في بطونها، وأصبح الإسناد الذي تداوله المتقدمون في عصور الرواية غير مألوف في عمل المتأخرين، بل اكتفوا من الإسناد بقدر ما يكفل لهم حفظ تلك الكتب وحمايتها من وقوع تحريف وتصحيف وانتحال، حتى إذا استخدم أحدهم إسنادا في رواية حديث بخلاف العرف العلمي السائد في عصره، وحتى في أواخر عصر الرواية، فإن هذه الرواية لم تعد مما يعول عليه، وإنما يكون إسناد المتقدمين المثبت في كتبهم هو المعتمد في ذلك أولا وأخيرا، وهذا ليس عيبا في عمل المتأخرين ولا طعنا فيهم ولا تقليلا من شأنهم، بل ذلك الذي نهضوا به في سبيل حماية السنة هو الواجب عليهم.

هذه بعض النصوص تدل على ذلك بجلاء؛ يقول الإمام البيهقي - وهو في أواخر عصر الرواية الذي تعود فيه العلماء على الأسانيد والروايات المباشرة -: ((توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه الذين لا يحفظون حديثهم ولا يحسنون قراءته من كتبهم ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن تكون القراءة عليهم من أصل سماعهم، ووُجِّه ذلك بأن الأحاديث التي قد صحت أو وقفت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها. قال البيهقي: فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه ومن جاء بحديث معروف عندهم فالذي يرويه لا ينفرد بروايته والحجة قائمة بحديثه برواية غيره والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلا بحدثنا وأخبرنا وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة شرفا لنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم. والله أعلم)) (1) . ولما جاء عصر ابن الصلاح تجلى فيه ما ذكره البيهقي بصورة أوضح وأوسع، وقال في مقدمته: ((أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه فلم يتقيدوا بها في رواياتهم لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم، وكان عليه من تقدم)) . ((ووجه ذلك ما قدمناه في أول كتابنا هذا من كون المقصود آل آخرا إلى المحافظة على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد والمحاذرة من انقطاع سلسلتها، فليعتبر من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض على تجرده، وليكتف في أهلية الشيخ بكونه مسلما بالغا عاقلا غير متظاهر بالفسق والسخف، وفي ضبطه بوجود سماعه مثبتا بخط غير متهم، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه)) (2) .

_ (1) نقله ابن الصلاح في مقدمته ص:120. (2) المصدر السابق.

لذلك فكتاب رياض الصالحين للإمام النووي - مثلا - لا يعد مصدرا أصيلا في الحديث، لأنه مجرد أحاديث مختارة من كتب المتقدمين، ولا يعد ذلك طعنا في الإمام النووي، أما كتاب المسند للإمام أحمد - مثلا - فإنه يعد أصيلا في الحديث ويعتمد في التخريج، وهذا التفاوت يكون طبيعيا إذا تأملنا ما ورد في سياق كلام البيهقي، وتكمن فائدة الفصل بينهما في ضرورة توثيق المعلومات وتحقيقها، وذلك بإعادة النظر فيما يشكل مصدرا مساعدا، ومقارنته مع مصدره الأصيل؛ ومن لا يفرق بينهما يجهل أهمية عرض الفرع على الأصل، بل يجعلهما أصلا، وبالتالي لا ينتبه إلى آثار ذلك في تكوينه وتفكيره. الآثار المترتبة على هذا التفاوت المنهجي بين الأئمة: هذا التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين في طريقة نقل الحديث وروايته أدى إلى استخدام المتأخرين مصطلحات جديدة، أو توسيع معانيها بحيث يتناسب مع أعرافهم العلمية في طريقة التلقي والتحمل؛ فمصطلح المسند (بكسر النون) و (الحاكم) و (طباق السماعات) ، و (الحافظ) ، و (المحدث) ، و (الحجة) تعد أمثلة لذلك. أما المسنِد - بكسر النون - فمصطلح جديد لم يطلق في عصر الرواية، والمصطلح المشهور سابقا في عصر الرواية هو ((الراوي)) ، ولم يطلق مصطلح ((المسنِد)) إلا في عصر ما بعد الرواية، ليكون معناه من يروي الحديث بإسناده في الوقت الذي انقطع فيه الإسناد والرواية المباشرة، يقال: ((فلان مسنِد)) إذا كان متميزا برواية الأحاديث في عصر ما بعد الرواية، دون أن يطلق عليه (راوي الحديث) ، وذلك للفصل بين عصرين مختلفين: ((عصر الرواية)) و ((عصر ما بعد الرواية)) . وكذلك مصطلح (الحاكم) جعله المحدثون في عصر ما بعد الرواية لقبا للمحدث الذي أحاط علما بجميع الأحاديث حتى لا يفوته منها إلا اليسير. وهذا المصطلح ليس له وجود في لغة المحدثين النقاد، لا سيما صيغ الجرح والتعديل.

أما (المحدث) فمصطلح قديم، لكن تغير معناه في عصر ما بعد الرواية، وصار المحدث لقبا خاصا بمن اشتغل بالحديث رواية ودراية، واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره، وتميز في ذلك حتى عرف فيه خطه، واشتهر فيه ضبطه، وقيل: ((المحدث من تحمل الحديث رواية واعتنى به دراية)) ، وقيل غير ذلك من المعاني، غير أن ذلك كله يفيد معنى واحدا مختلفا تماما عن معنى مصطلح (المحدث) في عصر الرواية، وهو كل من يهتم بالأحاديث سماعا ورواية وكتابة - سواء أكانت له دراية أم لا، سواء كان متقنا ضابطا لما يرويه أم لا - ويتجلى ذلك من خلال تتبع ألفاظ الجرح والتعديل. كذلك كل من مصطلحي (الحافظ) و (الحجة) ، فقد استحدث معناهما حسب العرف الجديد في عصر ما بعد الرواية؛ فصار معنى (الحافظ) من توسع في الحديث وفنونه، بحيث يكون ما يعرفه من الأحاديث وعللها أكثر مما لا يعرفه. وقيل غير ذلك من المعاني، لكن لم يكن مصطلح (الحافظ) في عصر الرواية معهودا بشيء مما ذكر من المعاني، بل يطلق على الثقة والضعيف، والمحدث والناقد، ودون تحديد عدد الأحاديث التي ينبغي حفظها لِيُعَدَّ الراوي حافظا. كما أن كلمة (الحجة) أصبحت في عصر ما بعد الرواية لقبا خاصا بالحافظ الذي وعى أكثر من مائة ألف، وأصبح ما يحيط به ثلاث مائة ألف حديث مسندة، وأما في عصر الرواية فلم يشترط فيه ذلك، فكل من كان متميزا بالإتقان والضبط وندرة الخطأ فيما يرويه يعد حجة، سواء أحفظ ذلك العدد من الأحاديث أم لا، وسواء أكان فقيها أم لا، وسواء اعتمد على الحفظ أم على الكتاب. وتعد كلمة (الثقة) مرادفة لكلمة (الحجة) .

كذلك المصطلحات التي تشكل نقاطا جوهرية في مسائل علوم الحديث تغيرت في استعمال المتأخرين؛ كالصحيح، والحسن، والمعلول، والشاذ، والمنكر، والمحفوظ، والمعروف، وغيرها، فإنهم ربطوا معانيها بأحوال الرواة؛ فالصحيح عندهم لا يطلق إلا على مرويات الثقات أو الصدوق، والمعلول والشاذ مقيدان أيضا بها، والمنكر لا يطلق إلا فيما رواه الضعيف مخالفا للثقة، بينما المحدثون النقاد في عصر الرواية لم يتقيدوا بذلك؛ بل كانوا يطلقونها على مرويات الثقات والضعفاء في حالة ما إذا أصابوا فيها. وهذه الأمور من أهم فوائد ربط منهج المحدثين بمبادئ مصطلحات الحديث وتعريفاتها. وأما القواعد التي تتصل بضبط الكتب وكتابتها وروايتها، ومقابلة النسخة الفرعية بالأصل، وحلقات السماع والطباق، وما استخدِم فيها من المصطلحات فلم تظهر بصورتها الكاملة إلا في عصر ما بعد الرواية. أما المجال الثاني للتفاوت المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين - وهو الحكم على الحديث- فإذا كان المتأخرون عموما يعتمدون الأسانيد وأحوال رواتها في الحكم على الحديث، ويفصلون بينهما، ويجعلون الأحكام تابعة لأحوال الرواة، فإن المتقدمين النقاد يعتمدون فيه على مدى خلو الحديث من شذوذ وعلة، وإذا حال الأمر دون معرفة ذلك يكون ظاهر السند وأحوال الرواة هو المعول عليه في التصحيح والتضعيف. يقول ابن دقيق العيد واصفا منهج الفقهاء والأصوليين المتأخرين: ((ومداره (يعني الصحيح) بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين على صفة عدالة الراوي في الأفعال مع التيقظ، العدالة المشترطة في قبول الشهادة، على ما قرر في الفقه، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسندا)) (1) .

_ (1) الاقتراح في بيان الاصطلاح ص: 186 (تحقيق د. عامر صبري، ط: 1، سنة 1417، دار البشائر الإسلامية، بيروت) .

كما بينه أيضا في شرح الإلمام: ((إن لكل من أئمة الفقه والحديث طريقا غير طريق الآخر، فإن الذي تقتضيه قواعد الأصول والفقه أن العمدة في تصحيح الحديث عدالة الراوي وجزمه بالرواية، ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز الذي يمكن معه صدق الراوي وعدم غلطه، فمتى حصل ذلك، وجاز ألا يكون غلطا، وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة، لم يترك حديثه)) . وقال الصنعاني معقبا عليه: ((وهو صريح في اختلاف الاصطلاحين في مسمى الصحيح من الحديث كما قررناه)) (1) . وهذا التباين المنهجي في التصحيح والتضعيف متفق عليه بين الأئمة. لذلك فإن معظم المتأخرين ممن تكلم في الحديث كان يقول: ((إسناده صحيح)) ،وقلما يقول: ((حديث صحيح)) ، بخلاف النقاد القدامى، فإنهم يقولون: ((حديث صحيح)) وبين القولين فرق واضح، إذ معنى الأول: رواته ثقات، وظاهر السند متصل، ومعنى الثاني أن الراوي لم يخطئ في نقل الحديث عمن فوقه. وأنت إذا تتبعت كتاب (الأحاديث المختارة) للحافظ المقدسي - على سبيل المثال - وجدته لا يكاد يصحح الحديث إلا بقوله: (إسناد صحيح) ، ولا يقول (حديث صحيح) . والباحث المعاصر لا يفرق بينهما، ويجعل تصحيح المتأخرين مثل تصحيح المتقدمين النقاد، بل يرد به على النقاد لغروره بظاهر السند.

_ (1) توضيح الأفكار 1/23.

من هنا جاء في كتب المصطلح بيان هذه النقطة المهمة للغاية لكيلا يقع لدينا خلط بين أسلوب المتقدمين النقاد وبين أسلوب المتأخرين عموما في التصحيح والتضعيف والمصطلحات التي يستخدمونها في ذلك؛ يقول ابن الصلاح: قولهم حديث صحيح الإسناد أو حسن، دون قولهم: هذا حديث صحيح أو حديث حسن، لأنه قد يقال هذا حديث صحيح الإسناد ولا يصح لكونه شاذا أو معللا، غير أن المصنف المعتمد منهم إذا اقتصر على قوله إنه صحيح الإسناد ولم يذكر له علة ولم يقدح فيه فالظاهر منه الحكم له بأنه صحيح في نفسه لأن عدم العلة والقادح هو الأصل والظاهر (1) . يفيد هذا النص وجود خلاف بين القولين: (حديث صحيح) ، و (إسناده صحيح) ، وإذا تتبعنا كتب السابقين وجدنا النقاد المتقدمين يتعودون على اللفظ الأول، والمتأخرين على الثاني. وبالتالي فإن التمييز بين القولين في المعنى، وحمل كل منهما على محمله الحقيقي هو عين الإنصاف، وأما غير ذلك فيعد انحرافا خطيرا يجب على العلماء إصلاحه.

_ (1) التقييد والإيضاح ص: 58، انظر تعليق الحافظ السخاوي على هذا النص، إذ قال: ((وأما من لم يتوقف من المحدثين (يعني المتأخرين) والفقهاء في تسمية ما يجمع الشروط الثلاثة (وهي العدالة والضبط والاتصال) صحيحا، ثم إن ظهر شذوذ أو علة رده، فشاذ، وهو استرواح، حيث يحكم على الحديث بالصحة قبل الإمعان في الفحص وتتبع طرقه التي يعلم بها الشذوذ والعلة نفيا وإثباتا فضلا عن أحاديث الباب كله التي ربما احتيج إليها في ذلك، وربما تطرق إلى التصحيح متمسكا بذلك من لا يحسن، فالأحسن سد هذا الباب وإن أشعر تعليل ابن الصلاح ظهور الحكم بصحة المتن من إطلاق الإمام المعتمد صحة الإسناد بجواز الحكم قبل التفتيش؛ حيث قال: لأن عدم العلة والقادح هو الأصل الظاهر فتصريحه بالاشتراط يدفعه، مع أن قصر الحكم على الإسناد - وإن كان أحق - لا يسلم من الفقهاء)) انتهى. يعني بهم الفقهاء المتأخرين بدون شك.

من بين أنواع علوم الحديث ما هو أكثر تأثرا بمستجدات عصر ما بعد الرواية، وهو الجرح والتعديل وطرق التحمل والأداء، لذا تجد هذين النوعين في كتب المصطلح مدخلا واسعا لدخول علماء الفقه والأصول، بل تلحظ المتأخرين يميلون إلى ترجيح بعض أقوالهم، وذلك نظرا لكون هذين الموضوعين مما تناولوه وانشغلوا به نظريا وعمليا. أما الجرح والتعديل فمن باب مسألة الشهادة التي انشغل المتأخرون من الفقهاء وأئمة الأصول بتحرير ما يتصل بعدالة الشاهد وما يضرها من خلل سلوكي وعقدي، وأما طرق التحمل والأداء فمن خلال تطبيقهم لها في نظمهم التعليمية التي تطورت في عصرهم، حتى وقع لهم فيها تساهل في تطبيق شروط النقاد في أسانيد الكتب كما سبق ذلك عن الإمام البيهقي وغيره. وفي ضوء هذا الواقع فإن كتب الحديث والمصطلح، تحمل في طياتها جهود المحدثين في مجال علوم الحديث، مع تحديد دقيق لأطوار هذه الجهود المرحلية، وعوامل تطورها وتجددها، وآثارها في تكوينهم وتفكيرهم وانشغالاتهم العلمية، لكن يتوقف معرفة ذلك كله على دراسة تحليلية ومنهجية لتلك الكتب والمصطلحات، بعيدا عن العواطف وظواهر التقديس التي يتقيد بها كثير من الباحثين في هذا العصر؛ إما لضيق وقتهم بسبب الانشغال بأمور أخرى، أو لاقتناعهم بأن هذا العلم قد نضج واحترق ولم يترك السابق للاحقه شيئا، أو لأنهم لم يستوعبوا علوم الحديث كما ينبغي، بحيث يتخيل إليهم أن كل ما تضمه كتب المصطلح من القضايا مسلمة لدى المحدثين النقاد. من خلال قراءة منهجية لكتب المتقدمين والمتأخرين في مجال الحديث وعلومه تتبين الأمور الآتية: 1 - أن المتأخرين أبدعوا في حفظ كتب المتقدمين ودواوينهم، وحمايتها من جميع أنواع التحريف والتصحيف والانتحال، وأما المتقدمون فانصبت عنايتهم على رواية الحديث، وأبدع نقادهم في جانب النقد وكشف أخطاء الرواة وأوهامهم. وأن الجميع قاموا بحفظ السنة والذب عنها، كل حسب مستجدات عصره.

2 - ظهرت بعض المصطلحات في عصر المتأخرين، وتغيرت معاني بعضها. وعليه فلا ينبغي الخلط بين المناهج، بل لا بد من حمل كل مصطلح على منهج قائله. 3 - أسفرت جهود المتأخرين عن ظهور منهج علمي رائع في تحقيق المخطوطات وضبطها وتصحيحها، كما أسفرت جهود المتقدمين عن منهج علمي عظيم في نقد المرويات. ونحن في هذه المرحلة الزمنية بحاجة ملحة إلى معرفة هذين المنهجين. أما ما تعاني منه الساحة العلمية اليوم من عدم الانضباط بقواعد المحدثين النقاد في النقد، وقواعد المتأخرين في تحقيق التراث فسببه الرئيس الخلط بين جهود هؤلاء الأئمة، واعتبار المتأخرين مصادر أصيلة فيما أبدع فيه المتقدمون، وحمل نصوص بعضهم ومصطلحاته على ما قصده غيره، وإذا أردنا خدمة السنة النبوية وعلومها فإنه لا ينبغي أن نضيع الأوقات في الاهتمام بالسطحيات والشكليات التي لا تزيدنا إلا بعدا عن الحقيقة وتعقيدا في المنهج وغموضا في الفهم، بل يجب علينا التباحث حول حقيقة أسباب الخلل والتقصير، ولذا أقترح ما يأتي (والله تعالى الموفق) : الحل المقترح: إن كان بحثي مرتكزا على بيان الخلط بين مناهج مختلفة ومصادر أصيلة ومساعدة في فهم مصطلحات الحديث وقواعد علوم الحديث لكونه من أهم أسباب وقوع الخلل في التصحيح والتعليل والجرح والتعديل، فإني لا أقتصر هنا على ذكر ما يتصل بذلك فحسب بل أقترح ما يكون حلا شاملا. وإذ أشكر السابقين والمعاصرين، وأقدر جهودهم في سبل تسهيل علوم الحديث على الطلبة المبتدئين، دون استثناء أحد منهم، فإني لا أعتقد أن هذه المجهودات كانت متكاملة وصالحة في كل الأعراف العلمية التي تتغير وتتطور بتغير الزمن، لذلك أقترح ما يأتي، دون أن أقصد بذلك طعنا ولا تقليلا من شأنهم. وفيما يأتي ذكر المواصفات التي ينبغي أن يتضمنها الكتاب المقرر في علوم الحديث.

أولا: وضع تمهيد أو مدخل لتوعية الطلاب بأهمية التعرف على مصادر علوم الحديث الأصيلة وتمييزها عن المصادر المساعدة لها، وضرورة اعتماد الأصيل عند الاختلاف. بهذا نتجنب منهج التبرير الذي كثيرا ما يأتي استجابة للأهواء، وهو بالتأكيد منهج لا يتناسب مع البحث العلمي في العلوم الإسلامية. ثانيا: ترتيب المصطلحات حسب وحداتها الموضوعية. ثالثا: استخدام الأمثلة الواقعية لشرح مواضيع علوم الحديث ومصطلحاتها. رابعا: ضرورة العمل على ربط منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتضعيف والجرح والتعديل بمبادئ مصطلح الحديث. خامسا: التركيز على بلورة منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتعليل والجرح والتعديل كما ينبغي التركيز على عنايتهم بالجوانب الفقهية. بهذا نستطيع الاستفادة مما تركه لنا الأئمة المتقدمون والمتأخرون؛ نستفيد من المتقدمين منهجهم في نقد المنقولات، ومن المتأخرين منهجهم في تحقيق التراث. وتفاصيل هذه النقاط كالآتي: أما النقطة الأولى فينبغي التركيز على توعية الطلاب بأهمية التعرف على المصادر الأصيلة التي انبثقت منها قواعد علوم الحديث، والمصادر المساعدة الفرعية التي يتمثل دورها في جمع ما تناثر في المصادر الأصيلة، إلى جانب نصوص الفقهاء وعلماء الأصول, لا سيما في مباحث الجرح والتعديل وطرق التحمل والأداء، وذلك ليتم الترجيح بالرجوع إلى المصدر الأصيل حين وقوع خلاف أو غموض أو شبهة حول مصطلح من المصطلحات. إن كانت هذه النقطة قد تفهم من بعض كتب المصطلح بعد دراسة مقارنة وقراءة تحليلية، بعيدا عن القراءة العاطفية والتقديسية، فإن المؤلفين المعاصرين لم يولوها اهتماما ولم يتطرقوا إلى إبرازها من خلال وضع عنوان مستقل لها، بل كان أسلوبهم في كتب المصطلح يخلط بين مصادرها الأصيلة والمساعدة، لذا نرى بعض الباحثين في معرض الرد على النقاد الذين يعدون مصادر أصيلة في علوم الحديث يقول:

((زيادة الثقة مقبولة كما هو مقرر في كتب المصطلح)) . يقول باحث آخر: ((لو درس أبو حاتم وغيره من الأئمة وحتى الإمام البخاري دراسة وافية لما تجاوزوا النتائج التي توصلت إليها، وإني بحمد الله طبقت منهج المحدثين)) يقصد بالمنهج الذي طبقه هو ما تقرر في كتب المصطلح. أما النقطة الثانية - وهي ترتيب المصطلحات حسب وحداتها الموضوعية - فيمكن توزيع أنواع علوم الحديث جميعها تحت أربع وحدات موضوعية رئيسة، وهي كما يلي: 1- علم الرواية. 2- قواعد التصحيح والتعليل. 3- علم الجرح والتعديل. 4- فقه الحديث. فبتنسيق أنواع علوم الحديث على هذا النمط، من غير تفريق بين المصطلحات التي تشترك في المعنى والحكم، أو ذكر بعضها في موضع، وآخر في موضع قد يكونان متباعدين، كما هو الحال في كتب المصطلح عموما، فإن كثيرا من العقد والشبه التي تكتنف هذا العلم تتبدد تلقائيا، ويصبح منهج المحدثين في نقد الأحاديث واضح المعالم لدى الجميع. الوحدة الأولى: تحوي هذه الوحدة ـ وهي علم الرواية ـ المسائل التالية: معرفة آداب المحدث، ومعرفة آداب طالب الحديث، وطرق تحمل الحديث، وكتابة الحديث، وضبط الكتاب، ورواية الحديث وشروطها، ومعرفة علو الإسناد ونزوله. مع لفت الانتباه إلى ما استحدث فيها في عصر ما بعد الرواية من مصطلح وحكم. وتحتل هذه الوحدة مكانة رفيعة عند المحدثين وغيرهم من أهل العلم، وذلك لأن نظمهم في التعليم قائمة على مراعاة أنواعها، وظهور التأليف مبكرا ومستقلا في هذه الوحدة من وحدات علوم الحديث - مثل كتاب الرامهرمزي (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) - دليل واضح على مدى اهتمامهم بهذا الجانب التربوي.

وإن كان كثير من مواضيع هذه الوحدة ـ مثل طرق التحمل والأداء وكتابة الحديث وضبط الكتاب ومعرفة علو الإسناد ونزوله ـ يغلب عليها الجانب التاريخي، ولا يوجد في دراستها اليوم كبير فائدة إذا نظرنا في مدى إمكانية تطبيقها في نظمنا في التعليم، لكنها تلقي أضواء كاشفة على كثير من الحيثيات التي يعتمد عليها نقاد الحديث في التصحيح والتعليل والجرح والتعديل، ومن هذه الجهة تظهر الأهمية الكبيرة في دراستها االيوم ضمن مادة علوم الحديث. الوحدة الثانية: تحوي هذه الوحدة ـ وهي قواعد التصحيح والتضعيف ـ الأنواع الآتية: الصحيح، والحسن، والضعيف، والمدلَّس، والمرسل، والمنقطع، والمعلق، والمعضل، وزيادة الثقة، والعلة، والشاذ، والمنكر، والمقلوب، والمدرج، والمصحف، والمضطرب، والموضوع. إذا نظرنا في منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتعليل، القائم أساسا على مدى موافقة الراوي للواقع ومخالفته له وتفرده بما له أصل أو بما ليس له أصل، بعبارة أخرى: على مدى خلو الحديث من شذوذ وعلة (1) وجدنا هذه الأنواع تنقسم إلى ثلاثة موضوعات على الشكل الآتي: 1 ـ الحديث الذي ثبتت صحته. 2 ـ الحديث الذي ثبت خطؤه. 3 ـ الحديث الذي لم يثبت فيه هذا ولا ذاك. وفيما يلي بيان ذلك: أما الموضوع الأول فيطلق عليه عادة مصطلح ((صحيح)) ، وقد يطلق عليه مصطلح ((حسن)) (2) ، بينما يصطلح عليه بعضهم كلمة ((حسن صحيح)) .

_ (1) من الجدير بالذكر أن كتب المصطلح عموما تعتمد في تقسيم الحديث ثلاثيا على أحوال الرواة، وإن كان هذا الأمر واقعيا في بعض الأحوال فإنه لا يمكن اعتباره أمرا مطردا، لذا يتعين لفت انتباه الطلبة إلى ذلك. (2) يقول الحافظ الذهبي: إنهم قد يقولون فيما صح: هذا حديث حسن. وانظر كتاب (نظرات جديدة) ص: (23 - 26) للباحث، ففيه أمثلة تطبيقية من نصوص النقاد.

وأما الموضوع الثاني فيطلق عليه: (ضعيف) ، (معلول) ، (شاذ) ، (منكر) ، (مقلوب) ، (مدرج) ، (مصحف) ، (مضطرب) ، (موضوع) . وإلى جانبها ألفاظ صريحة يستعملها النقاد كثيرا؛ وهي: (حديث غريب) ، (غير محفوظ) ، (باطل) ، (وهم) ، (خطأ) (تفرد به فلان) ، (لا يشبه حديث فلان) (لا يجيء) وغيرها من العبارات الصريحة التي تزخر بها كتب العلل وكتب الضعفاء وغيرها. والموضوع الثالث يقال فيه: (ضعيف (1) ، (مرسل) ، (مدلس) ، (منقطع) ، (معضل) ، (معلق) وإذا تقوى نوع من هذه الأنواع بعواضد بالشروط التي سيأتي ذكرها، ولم يصل إلى حد شعور الناقد بأنه ثابت، يقال: (حسن) ، (جيد) ، (لا بأس به) ، وقد يطلق عليه أيضا (صحيح) تجوُّزا، ولا يريد به الموضوع الأول (2) . وجه تقسيم هذه الأنواع تقسيما ثلاثيا: لقد قسمنا هذه المصطلحات على ثلاثة أقسام - كما رأيت آنفا -، وذلك حسب شعور النقاد تجاه الحديث. وإلا ففي الواقع لا ينقسم الحديث سوى قسمين: صحيح وخطأ. لكن لن يكون بمقدور الناقد أن يعرف دوما ماذا في الواقع، خطأ أو صواب، لأنه قد لا يتوافر لديه من المعلومات ما يساعده على معرفة ذلك؛ فإذا علم الناقد صحة الحديث يعبر عن ذلك بما يدل عليه من الألفاظ، وإذا علم خطأه يعبر عنه بما يدل عليه من العبارات، وإذا لم يعلم هذا ولا ذاك فتعبيره عن ذلك يكون بقدر شعوره تجاه الحديث. وعليه فإن الحديث ينقسم إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى شعور الناقد، وأما في واقع الأمر فلا يكون له إلا قسمان: خطأ، وصواب.

_ (1) مصطلح (ضعيف) يطلق على كل أنواع الضعيف. (2) سبق شرح هذا الموضوع بالأمثلة في كتاب (نظرات جديدة في علوم الحديث) للباحث، ومما ينبغي لفت النظر إليه أن فهم ذلك التفاوت بين المصطلحات، ومقصود الناقد بها يتوقف بقدر كبير على خبرة واسعة، ودراية بمنهجهم، وفقه مناسبة استعمالهم لها، ولا يصلح في ذلك اعتماد كتب المصطلح اعتمادا كليا، فإنها تذكر لك من المعاني ما هو الأغلب استعمالا.

وإذا رجعنا إلى أنفسنا نجد هذا التقسيم واقعيا، إذ الخبر الذي نسمعه لا يكون في الواقع إلا صوابا، أو خطأ، لكن ليس بمقدورنا أن نعرف هذا الواقع دائما، وبالتالي ينقسم هذا الخبر بالنسبة إلى شعور المخاطب إلى تلك الأقسام الثلاثة؛ لأنه قد يعرف أن الخبر صواب، أو أنه خطأ، أو لا يعرف شيئا، وإن كان يتنوع ما يعبر به المخاطب عما يجول في خلده تجاه الخبر الذي سمعه، بيد أنه لا يخرج عن قسم من هذه الأقسام. وإذا كان الموضوع الأول يضم جميع المسائل المتعلقة بمعرفة صحة الحديث وثبوته، فإن الموضوع الثاني باعتباره مقابل الأول يشمل جميع الأنواع التي تكون لها صلة بمعرفة الخطأ في الحديث ـ سواء أكان الراوي متعمدا في خطئه أم غير متعمد ـ والأنواع هي: العلة، والشاذ، والمنكر، والمقلوب، والمدرج، والمصحف، والمضطرب، والموضوع. غير أن نوع (الموضوع) يجب أن يذكر في باب خاص، لكون راويه كذابا ووضاعا. ويلحق به ما رواه المتروك بسبب فسقه، لأنه مثل الوضاع في عدم جواز الرواية عنه. ومن الجدير بالذكر أن مصطلح (العلة) أو (المعلول) يشكل موضوعا عاما يندرج تحته بقية الأنواع المذكورة، وليس نوعا قسيما، وهي: الشاذ، والمنكر، والمقلوب، والمدرج، والمصحف، والمضطرب. وأما الموضوع الثالث فيمثل درجة متوسطة بين هذين الموضوعين، وعريضة، إذ يجذبها أحيانا أحد الطرفين: الصحيح أو المعلول، بقدر ما تتوافر في الحديث من العواضد الخارجية، غير أنه لا يرتقي إلى الصحيح، كما لا ينزل إلى الضعيف الذي تبين خطؤه. ومن هنا قد يكون موقف النقاد تجاه الحديث الذي يندرج تحت هذا النوع مضطربا، كما اضطرب المتأخرون في تحديد معنى مصطلح (الحسن) الذي يكون أساسه هذه الدرجة المتوسطة. والعنوان الذي يطابق هذا الموضوع هو» الضعيف المنجبر «، ويشمل الأنواع التالية:

المرسل، والمعلق، والمدلس، والمنقطع، والمعضل، وما رواه الضعيف غير المتروك بشرط أن لا يظهر للناقد ما يدل على صحته ولا خطئه، وأما إذا تقوى نوع من هذه الأنواع بالوجوه التي سيأتي تفصيلها فيقال عنه (حسن) وتستعمل فيه ألفاظ أخرى، مثل (جيد) و (لا بأس به) و (صالح) و (مقبول) . وبقي لنا تصنيف مسألة زيادة الثقة، فإن زيادة الثقة من حيث كونها مسألة لا تشكل نوعا خاصا مستقلا عن مسائل الصحيح والحسن والمعلول، ولا خارجة من حدودها؛ إما أن تكون صحيحة، أو حسنة، أو معلولة، ويكون كل ذلك تبعا لدلالة القرائن المحتفة بها. وأما من حيث كونها كلمة اصطلاحية فتظل نوعا يحتاج إلى تعريف، ولتوضيح ذلك سنخصص لها فصلا خاصا. الوحدة الثالثة: تضم الوحدة الثالثة ـ وهي علم الجرح والتعديل ـ ما يلي: رواة الحديث، وطبقاتهم، والصحابة، والتابعون، وأتباع التابعين، وشروط قبول الرواية: العدالة، والضبط، وما يختل به كل من العدالة والضبط، والبدعة وأثرها في العدالة، والجهالة، وأثرها في رد الحديث، والكذب، وأثره في العدالة، وصيغ الجرح والتعديل، وتعارض الجرح والتعديل، وأسباب ذلك، وعلماء الجرح والتعديل، ومصادر هذا العلم. وتجدر الإشارة إلى أن علم الجرح والتعديل من أهم النتائج التي تمخض عنها جهد المحدثين في نقد الأحاديث، تصحيحا وتعليلا. الوحدة الرابعة: تضم الوحدة الرابعة ما يلي: معرفة الناسخ والمنسوخ في الحديث، ومشكل الحديث ومحكمه، وغريب الحديث، ومعرفة مناسبة الحديث وأسباب وروده. وهذه المسائل التي طبقها المحدثون لمعرفة فقه الحديث ينبغي أن ندمجها في مفردات علوم الحديث، حتى يترسخ في ذهن الطالب مدى اهتمام المحدثين النقاد بالجوانب الفقهية للأحاديث، وهي التي تطورت فيما بعد حتى استقلت بعلم أصول الفقه.

وأما النقطة الثالثة - وهي استخدام الأمثلة الواقعية لشرح مواضيع علوم الحديث ومصطلحاتها - فأنقل هنا من كتاب (علوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين النقاد) نموذجا لذلك، وهو ((الحديث الصحيح)) . قبل شرح هذا الموضوع يكون من الأفضل أن يتأمل القارئ في أسلوبه الشخصي في معالجة الخبر الذي يسمعه، سواء أكان ذلك عبر وسائل الإعلام، أم عن طريق فردي، وذلك ليتضح ما يلي: * معنى الصحيح عموما. * طريقته في معرفة صحة الخبر الذي يعالجه، أو خطئه. * حاجة ذلك إلى خلفية علمية، أو تخصص علمي في موضوع ذلك الخبر، أو في ملابساته. وأما الشخص الجاهل فلا يكون من عادته إلا تقليد من ينقل إليه الخبر، وبالتالي يكون بعيدا عن معرفة صوابه وخطئه، واعتداله في ذلك. كما لا ينسى القارئ أن يطرح أسئلة على نفسه: * هل يصدق أحدنا الأخبار كلها دائما؟ * هل يكذبها دائما؟ * ألا يُكذب حينا، ويُصدق حينا آخر، أو لا يعلم هذا ولا ذاك حينا ثالثا؟ * وما معيار ذلك إذن؟ * ألا يكون معيار ذلك هو: اعتماده على مدى: أ - موافقة الخبر للواقع الذي يعرفه أو يعرف ملابساته. ب - أو مخالفته له. ج - أو التفرد بما له أصل، أو بما ليس له أصل. د - أو اعتماد الحالة العامة لذلك الرجل الناقل، إذا لم يتبين له شيء من ملابسات ذلك الخبر؟ * ألا تعتقد جازما أن الذي يكون بمقدوره معرفة صحة الخبر وخطئه هو من لديه خلفية علمية حول موضوع الخبر أو ملابساته؟ أما غيره فليس له ناقة في ذلك ولا جمل؟. * ألا يمكن أن نقتنع بعد هذا التأمل بأن التصحيح لم يكن تابعا لأحوال الناقلين فقط؟. وفي ضوء ذلك نشرح معنى قولهم (حديث صحيح) فنقول: إذا تبين للناقد أنه تم نقل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، من غير خطأ ولا وهم، فإنه يعبر عنه غالبا بأنه (صحيح) ، وقد يعبر عنه بأنه (حسن) ، بينما يستعمل الإمام الترمذي في ذلك لفظة (حسن صحيح) .

وبقدر ما يتوافر لدى الناقد من القرائن يتقوى شعوره، حتى يصل إلى العلم بأن الحديث ثابت عن مصدره، وأنه تم نقله عنه عبر رواته من غير وهم ولا خطأ، مع كونه من خبر الآحاد، ولا يتوقف الجزم بذلك أبدا على تواتره، كما هو الشائع لدى كثير من المثقفين الذين ينظرون في الحديث من زاوية ثقافتهم، دون احترام أهله من النقاد القدامى، ودون اعتبار شعورهم تجاه الحديث. وبما أن هذا الأمر من علم الخاصة؛ فإنه لا يمكن أن يكون للجميع شعور النقاد وإحساسهم تجاه الحديث ومدى إفادته اليقين والعلم، ولذا يتعين على غيرهم التسليم بذلك، سواء أفاد ذلك عنده الظن أم لا. وأما النقطة الرابعة - وهي ضرورة العمل على ربط منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتضعيف، والجرح والتعديل، بتعريف مصطلح الحديث ومبادئه - ففي غاية الأهمية، لأنها تساعد الطلبة على استيعاب علوم الحديث واستقامة التعامل مع مصطلحات القوم؛ إذ الهدف من دراسة علوم الحديث هو معرفة منهج المحدثين في التصحيح والتعليل من خلال فهم مصطلحاتهم ومعانيها التي اطلقوها عليها، حتى لا تحمل على غير محملها. وهناك أمثلة كثيرة من المصطلحات، قد يتخيل إلى دارسها أن معانيها عند النقاد مقيدة بما ورد في التعريفات، ومن خلال دراسات مستقلة قام بها بعض طلاب الدراسات العليا حول أهم المصطلحات، كالمنكر، والشاذ، والحسن، والصحيح، والمضطرب، والمجهول، والثقة، والصدوق تبين خلاف ذلك. ونذكر هنا مثالا واحدا؛ إذا كان مصطلح (المنكر) استقر معناه في كتب المصطلح، واشتهر تعريفه بمخالفة الضعيف لمن هو أوثق منه، أو بتفرد الضعيف، لكن النقاد أطلقوه على ما رواه الثقة والصدوق والضعيف والواهي إذا خالف الراجح، أو تفرد بما ليس له أصل، دون أن يتقيدوا بمرويات الضعفاء، وعلى الرغم من وضوح ذلك فكثير من الباحثين اليوم لا يزالون متقيدين بما استقر في كتب المصطلح، ويحملون عليه كلام النقاد.

لذلك فإن العمل على ربط المصطلحات وتعريفاتها بمنهج النقاد في استخدامها أمر في غاية الأهمية، وإلا بقى الطالب على تخبطه وخلطه وخروجه عن المنهج السليم. وأما النقطة الخامسة - وهي التركيز على بلورة منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتعليل والجرح والتعديل كما ينبغي التركيز على عنايتهم بالجوانب الفقهية - فإنها تساعد الطلبة على تصحيح المواقف تجاه المحدثين النقاد، واحترام آرائهم في الحديث وفقهه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

علوم الحديث بين المتقدمين والمتأخرين

علوم الحديث بين المتقدّمين والمتأخرين د. عبد العزيز صغير دخان جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: لا يسعني في هذه العجالة من الوقت أن أفيَ الموضوع حقّه، ولكن عزائي أن أنال شرف المشاركة في استجلاء بعض جوانبه واستيضاح بعض مراتبه، مقدّما شكري الجزيل لمن كان سبباً في إقامة هذه الندوة العلمية المباركة، التي أرجو ـ كما يرجو الجميع ـ أن ترسي قواعد من العلم راسخة وتبني قلاعا من المعرفة شامخة وأن تكون فاتحة خير وسنّة حسنة يكتب الله لصاحبها أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. لا يخفى على كلّ ذي لبّ وبصر وكلّ ملاحِظ ذي نظر أنّ الساحة العلمية اليوم تعيش حركةً كبيرةً في مجال التأليف والنشر، حيث نشهد يومياً ظهورَ الكتب المؤلّفة في شتى العلوم والفنون، ونشطت كثيرٌ من مراكز البحث في تحقيق المخطوطات، وخدمةِ تراث هذه الأمّة في جميع جوانبه، وتوفّرت لطالب العلم جميعُ مصادر البحث ومراجعه بسرعة كبيرة وبمشقّة أقلّ، وأحيانا بدون مشقّة أصلا، وهو الأمرُ الذي لم يكن علماؤنا السابقون يحلمون بجزء قليل منه. ولكنّ هذا كلَّه لم يمنع ـ للأسف الشديد ـ من ظهور كثير من الأمراض والأعراض في طبيعة الإنتاج العلمي الحالي وفي طريقة التعامل مع نصوص الكتاب والسنة وتراث السلف الصالح. وقد كان لعلوم الحديث من هذا الأمر النصيبُ الأوفر والقدرُ الأكبر. فبقدر ما نرى من الجهود المبذولة في خدمة السنة وعلومها، نرى فوضى فكريةً في كيفية التعامل معها، وقصوراً واضحاً في فهم بعض جوانبها، وخلطاً في المناهج التي يجب أن تفهم من خلالها وفي إطارها.

وقد نتج عن ذلك كلِّه اضطرابٌ في مناهج المشتغلين بهذه العلوم، وتعدّى هذا الاضطراب حدودَه، وتجاوز قيوده، حتى شكّل في بعض الأحيان حلَبةً يحتدم فيها صراعٌ يكاد يذهب بأخلاق أهل العلم وما يجب أن يكونوا عليه من أدب وما تفرضه عليهم هذه الرحم ـ رحمُ العلم ـ من مودّة وتواضع ولينِ جانب وخفضِ جناح، بل إنّ بعضهم قد حمله ما نحسبه صدقاً وحرصاً على السنّة إلى سلّ سيف لسانه ـ بقسوة وشدّة ـ على من يقفون معه في خندق الدفاع عنها متهِماً إياهم بالابتداع والخروج على منهج السلف، وغيرِ ذلك من الاتهامات التي لا تخفى على من يعيش طرفاً من واقع هذه المناقشات والمساجلات التي نقرأها في الكتب أو نتصفّحها عبر مواقع الانترنت. وإنّ مِنْ أهمّ الأسباب التي أوجبت هذا الأمرَ وأنتجت هذه المشكلةَ سببين اثنين: الأوّل: وجود كثير من القضايا الخلافية داخل قواعد علوم الحديث، والتي لم يتمّ الحسم فيها إلى الآن، على غرار ما يقع في علوم الشريعة الأخرى، حيث ما تزال كثير من القضايا ترحّل من زمن إلى زمن، دون أن يُقضى فيها برأي فاصل أو إجماع قاطع، مما يترتب عليه حيرةُ والتباس عند طلاب العلم، الأمرُ الذي يزيد من صعوبة استيعابهم لهذه القواعد، من مثل الاختلاف في مباحث شروط قبول الرواية، ومباحث الجرح والتعديل وألفاظهما ومراتبهما، وغير ذلك من القضايا والمسائل، التي نراها ظاهرة في أغلب مباحث علوم الحديث. الثاني: اختلاف المنهج بين المتقدّمين والمتأخرين في مجموعة غير قليلة من قواعد علوم الحديث، الأمرُ الذي يترتّب على عدم مراعاته الخلطُ بين المنهجين، ومن ثمّ اختلافُ الآثار والأحكام المترتّبة على تطبيق أحد المنهجين أو محاكمة أحدهما إلى الآخر. ولا أظنني أبعدتُ النَّجعةَ إذا قلت إنّ السبب الأولَ الذي ذكرته يعتبر نتيجةً لهذا السبب الثاني، فكثير من قضايا علوم الحديث كان يمكن الحسم فيها، لو تمّ مراعاة الفرق بين المنهجين.

إنّ كلّ من يتعمّق في دراسة كتب الحديث اليوم تنشأ في نفسه أسئلةٌ كثيرة قد يملك الشجاعةَ أحيانا فيحدّثُ بها بعض أقرانه، وقد يطوي في كثير من الأحيان عليها قلبَه وعقلَه ويسكتُ رضا بالواقع، وخوفاً مما قد يجرّه عليه ذلك من ألسنة حادة، أو لا يجدُ في نفسه القدرةَ للاستمرار في ذلك البحث والتنقيب. وبالرّغم من أنّ هذه الأسئلةَ والإشاراتِ ليست جديدةً، حيث ورد بعضُها أو كثيرٌ منها في كتب علماء الحديث المحققين كابن حجر والصنعاني والمُعَلِّمي وغيرِهم، إلاّ أنّ استمرار التدريس بمنهجية محددة من خلال كتب محددة، لم يسمح لهذه الأسئلة أن تبرز وتتبلور في أذهان الكثير من العلماء وطلاب العلم. ولعلّ ما يحاوله بعضُ إخواننا اليوم من التفكير بصوت مرتفع في هذه المسألة ـ من خلال التأليف أو الكتابة في المجلات المتخصصة ـ هو البداية الصحيحة على هذا الطريق الطويل. وإذا حَسُن الظنُّ بين أهل هذا العلم وأصغى كلّ واحد منا للآخر دون استباقٍ إلى استصدار الأحكام، فسيكون لهذا النقاش أثرٌ كبيرٌ في تجديد وتطوير هذا العلم وإجابةٌ على كثير من الأسئلة التي تدور في رؤوس العلماء وطلاب العلم على حدّ سواء. ولتجلية هذا الأمر وتوضيحه يحسن بنا أن نوضح أمرين اثنين يشكلّ مجموعهما صلبَ هذا الموضوع، وهما: 1 ـ ما المراد بالمتقدّمين والمتأخرين؟ 2 ـ ما هي الملامح العامة التي يمكن ملاحظتُها للتمييز بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين، وذكر بعض الأمثلة التي يظهر فيها هذا الاختلاف بين المنهجين؟ المتقدّمون والمتأخرون:

المتقدّمون في اصطلاح علماء الحديث هم الذين عاشوا القرنَ الثالث وجزءاً من القرن الرابع الهجري، وبالرّغم من أنّ الإمام الذهبي حدَّ عصرَهم برأس القرن الثالث (1) ، إلاّ أنّه يمكن أن يكون الحدّ بعدَ ذلك، على اعتبار أنّه لا يمكن وضعُ حدٍّ حقيقي لذلك، ولكن يمكن أن يقال إنّ القرن الرابع جمع في سنواته الأولى بين المتقدّمين والمتأخرين، وكلّما اقتربنا من نهاية القرن الرابع بدأ هؤلاء الأعلام من المتقدّمين في الانقراض. وممّا يدلّ على ذلك أنّ الإمام الذهبي نفسَه أدرج الإسماعيليَ صاحبَ المستخرج على صحيح البخاري، المتوفى سنة 371هـ ضمن المتقدّمين، فقال: ((صنف (يعني الإسماعيلي) مسندَ عمر رضي الله عنه، طالعته وعلقت منه وانبهرت بحفظ هذا الإمام، وجزمت بأن المتأخرين على إياسٍ من أن يلحقوا المتقدمين)) (2) . ويكفي أن نحدّد بعضَ أسماء هؤلاء المتقدّمين لنعرف جميعا عن أيّ فحول وجهابذة نتكلّم، وعن أي جبال وعمالقة نتحدّث، إنّهم أمثال شعبةَ ويحيى بنِ سعيد القطان وابنِ مهدي وأحمدَ وابنِ المديني وابنِ معين وابنِ راهويَة والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي، وهكذا إلى زمن الدارقطني والخليلي والبيهقي وغيرهم من الجبال الذين حفظ الله بهم السنّة وأعزّ بهم الدين وقمع بهم المنتحلين والمبطلين والغالين. وأمّا المتأخرون فهم الذين جاؤوا بعد ذلك، أي عندما استقرّت كثير من العلوم في الكتب، وآل الأمرُ إلى الاعتماد عليها، وانتهى عصرُ الرواية، ويمكن أن نذكر منهم: القاضي عياضا، وابنَ تيمية، وابنَ كثير، وعبد الغني، والذهبيَّ، وابنَ الصلاح، وابنَ الحاجب، والنوويَ، وابنَ عبد الهادي، وابنَ القطان الفاسي، وضياءَ الدين المقدسي، وزكيَ الدين المنذري، وشرفَ الدين الدمياطي، وتقيَ الدين السبكي، وابنَ دقيق العيد، والمزي، ثم من جاء بعدهم. الملامح العامة للمنهجين:

_ (1) ميزان الاعتدال، الذهبي، 1/4. (2) تذكرة الحفاظ، الذهبي، 849.

قبل أن أتكلّم عن الملامح العامّة للاختلاف بين المنهجين أوّد أن أشير إلى نقطة في غاية الأهمية وهي أنّ اختلاف المناهج بين المتقدّمين والمتأخرين ليس أمراً خاصا بعلوم الحديث، بل يوجد نظيره في أغلب علوم الشريعة واللغة. أعني ما كان عليه المتقدمون في جميع فنون العلم والمعرفة مقارنة بما استقرّ عليه الأمر عند المتأخرين. فإنّ البلاغة مثلا عند المتقدمين اختلفت قواعدها عما استقر عليه منهج المتأخرين. هذا ما قال به أهل الاختصاص في هذا الشأن. إنّ الذي يكاد يجمع عليه الدارسون لعلوم اللغة العربية وفروعها أنّ الدراسات اللغوية الحديثة تختلف اختلافاً بيّناً عن الدراسات اللغوية القديمة في طرائقها ومناهجها وأساليبها في تناول الظواهر اللغوية بالدرس والتحليل. فبينما كان الأوّلون يجمعون في دراساتهم التأصيلية للغة، وكتاباتهم اللغوية بين الأصول النظرية وتطبيقاتها العملية، نجد أنّ المتأخرين منهم اكتفوا بالجانب التنظيري التقنيني ـ إذا صحّ هذا التعبير ـ وبذلك جاءت كتاباتهم ورسائلهم جافّة، تقنّن للعلم ولاتعلّمه، تنظّر له ولا تغرس حبّه في النفوس. ولمزيد من الإيضاح نمثّل لذلك بالدرس البلاغي. فلا يختلف اثنان على أنّ كتب وكتابات البلاغيين المتقدّمين أمثال الجاحظ وقدامة بن جعفر وأبي هلال العسكري وابن رشيق القيرواني وابن سنان الخفاجي وعبد القاهر الجرجاني والزمخشري في التأصيل للبلاغة العربية وفنونها تسمو إلى العلياء وتناطح الجوزاء شكلا ومضمونا، وهي تختلف اختلافا كبيرا عن كتابات المتأخرين أمثال فخر الدين الرازي وأبي يعقوب السكاكي والخطيب القزويني ومن جاء بعدهم.

ومظهر الاختلاف بين المنهجين أنّ كتابات المتقدمين عموما تتسم بالأصالة وجدّة الابتكار وجزالة الألفاظ وقوة العبارات ومتانة السبك وروعة التحليل البياني للظواهر البلاغية. وبعبارة أخرى: كتاباتهم اللغوية الأدبية تعكس المعاني البلاغية التي يسعون إلى التأصيل لها وتعليمها. بينما غلب على كتابات المتأخرين جانب التقنين والتنظير والتفريع والتفريق بين الأشباه والنظائر، وطغت عليها المصطلحات المستخلصة من كلام السابقين، دونما اهتمام كبير بأصول البلاغة العربية وفنونها في كتاباتهم، فاكتنفها الجمود وأحاط بها الإلغاز، وصارت أشبه ببعض متون الفقه المختصرة يحتاج قارئها إلى مزيد من الشروح والحواشي لفكّ رموزها وإزالة غموضها. ولا أدلَّ على ذلك من كتابَيْ: نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز لفخر الدين الرازي، ومفتاح العلوم لأبي يعقوب السكاكي. وفي هذا المعنى يقول الدكتور عبد العزيز عتيق الذي أرّخ للبلاغة العربية عبر أطوار نشأتها: ((والسكاكي يجيء وسطاً بين عبد القاهر الذي جمع في البلاغة بين العلم والعمل وأمثاله من البلغاء العاملين، وبين المتكلفين من المتأخرين الذين سلكوا بالبلاغة مسلك العلوم النظرية، وفسّروا اصطلاحاتها كما يفسّرون المفردات اللغوية، ثمّ تنافسوا في الاختصار والإيجاز، حتى صارت كتب البلاغة أشبه بالمعميات والألغاز)) (1) . ويقول في موضع آخر، متحدّثا عن جفاف الفنّ البلاغي وعكوفه على المصطلحات المستحدثة لدى السكاكي: ((وهو في سبيل استنباط القواعد والقوانين قد استخدم المنطق بأصوله وألفاظه وأسلوبه الجاف الذي لا يحوي أيَّ جمال. ولا عجب في ذلك، فقد كان همّه أن يقنّن البلاغة ويقعّدها كسائر العلوم الأخرى، وهذا أمر يستعان عليه بالمنطق)) (2) .

_ (1) تاريخ البلاغة العربية، عبد العزيز عتيق، ص 272. (2) المصدر السابق.

هذه صورة من قضية اختلاف المناهج بين المتقدّمين والمتأخرين في جانب آخر من جوانب الدراسات الشرعية واللغوية ذكرته للتأكيد على أنّ هذه المسألة عامّة، وهي واضحة جلية، ولم أرد الاستيعاب أو التفصيل. ونعود إلى النقطة الأساسية وهي بيان الملامح العامة التي تميّز كلاّ من منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين. بالنسبة للمتقدّمين نستطيع أن نحدّد الملامح العامة لمنهجهم فيما يأتي: 1 ـ النظر الدقيق والتفتيش العميق في أحوال الرواة، وقد ساعدهم على ذلك أمران اثنان: الأمر الأول: قربهم الزمني من الرواة، حيث لم تكن الأسانيد قد طالت كثيرا كما حدث فيما بعد، مما جعلهم يشهدون شهادة حاضر يرى ويسمع. وأسوق هذه القصة لبيان قيمة كلام المتقدمين في الرجال: ذكر الإمام المشهور بقي بن مخلد الأندلسي (201هـ ـ 276هـ) أنّه قدم بغداد من الأندلس في طلب العلم وملاقاة الرجال، فلما دخل بغداد مال إلى المسجد الجامع بها، فإذا هو بيحيى بن معين، جالسا في حلقة من العلم يتكلم في الرجال جرحا وتعديلا، قال: ((فسألته عن بعض من لقيت من أهل الحديث، فبعضا زكى، وبعضا جرّح. فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار ـ شيخ البخاري ـ، وكنت قد أكثرت من الأخذ منه، فقال: أبو الوليد هشام بن عمار: صاحب صلاة، دمشقي، ثقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر أو تقلّد كبرا ما ضرّه شيئا لخيره وفضله)) (1) . فانظر إلى قيمة هذه الشهادة وهذه التزكية، التي تصدر من رجل يعيش مع الرواة ويلاحظ أحوالهم ويعرف كثيرا من أمورهم التي لا يطلع عليها إلا المعاصر، أين هذا ممن يأتي بعد ذلك، فيجتهد في الحكم على الرواة من خلال الأقوال والنقول التي ينقلها من كتب العلماء أو يجتهد في تفسيرها وتأويلها. الأمر الثاني: الحفظ الوافر والفهم العميق والإحاطة الشاملة التي فاقت كلّ وصف، وكانت مضرب الأمثال.

_ (1) سير أعلام النبلاء، 13/292.

لقد قالوا عن شعبة: إنّه لو جمع له الرواة كلّهم على صعيد واحد لسمّى كلَّ راو باسمه واسم أبيه ونسبته وما فيه من جرح أو تعديل على وجه الاستيعاب والتفصيل. فكيف يتأتّى ويتسنّى لمن يأتي بعدهم بسنين أو قرون أن يستدرك عليهم في أمر يحتاج إليهم في نقل تفاصيله؟ 2 ـ المقارنة وإمعان النظر ودقّة ملاحظة الأسانيد لتحديد موضع العلّة القادحة وتمييز صحيح الروايات من سقيمها، وتبيّن صدق الراوي من كذبه. انظر إلى هذه القصة العجيبة لتتبيّن عظمة هؤلاء القوم ومبلغ حرصهم وشدّة ملاحظاتهم ودقّة أنظارهم وكيف أنّهم لم يكونوا يكتفون من الراوي بأحواله الظاهرة: قال أبو العباس عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقي: كنا نختلف إلى إبراهيم بن نصر: ابن أبي الليث سنة ست عشرة ومئتين، أنا وأبي: أحمد ويحيى بن معين ومحمد بن نوح وأحمد بن حنبل، في غير مجلس، نسمع منه تفسير الأشجعي ـ عبيد الله بن عبيد الرحمن الكوفي، المتوفى سنة: 234هـ ـ، فكان يقرأه علينا من صحيفة كبيرة. فأوّل من فطن له ـ أي أنّه كذاب ـ أبي، فقال: يا أبا إسحاق، هذه الصحيفة كأنّها أصل الأشجعي؟ قال: نعم، كانت له نسختان فوهب لي نسخة، فسكت أبي. فلما خرجنا من عنده قال لي أبي: أي بنيّ، ذهب عناؤنا إلى هذا الشيخ باطلا، الأشجعي كان رجلا فقيرا وكان يُوصَل، وقد رأيناه وسمعنا منه، من أين كان يمكنه أن يكون له نسختان؟! فلا تقل شيئا واسكت. فلم يزل أمره مستورا حتى حدّث بحديث أبي الزبير عن جابر في الرؤية، فكذّبه يحيى بن معين، فقال:» كذاب خبيث يسرق حديث الناس، لا حفظه الله)) (1) . هذه خلاصة القصّة. والمقصود الذي ظهر بعد ذلك أنّ إبراهيم بن أبي الليث لم يسمع من الأشجعي وإنّما عمد إلى نسخته فاشتراها من ورثته، ثمّ صار يحدّث منها، فافتضح. وأخبارهم في هذا مشهورة وحكاياتهم منشورة.

_ (1) تاريخ بغداد، 6/193.

3 ـ من أهمّ ما كان يميز منهج المتقدمين أنّهم لم يكونوا يلتزمون قاعدة مطّردة في الحكم على الراوي أو الرواية. بل لهم في ذلك نظرات وأحكام مختلفة لا تنسجم في معظمها مع قواعد المتأخرين، بل تقوم على اعتبار القرائن والأحوال، فلا يحكمون على راو بالتوثيق دائما، ولا على آخر بالضعف في كل الأحوال، وليس لهم قاعدة واحدة عند تعارض الوصل والإرسال، ولا عند تعارض الرفع والوقف، ولا عند حصول الزيادة في الحديث أو النقصان، سواء من الراوي الواحد أو منه ومن غيره، بل كلّ ذلك خاضع للقرائن، فقد يحكمون على زيادة ثقة بالردّ رغم أنّه ليس فيها مخالفة لما رواه غيره. وقد يحكمون عند تعارض الوصل والإرسال لمن وصل، أو لمن أرسل ولو كان ضعيفا إذا دلّت القرائن على صواب فعله. ومن أجل ذلك كثر في منهجهم الانتقاء، يعمدون إلى حديث الراوي، فيأخذون منه ما غلب على ظنّهم أو ترجّح لديهم أنّه أصاب فيه ولم يخطئ، ويتركون من حديثه ما يرونه لم يضبطه، وهذا كثير في تصرفاتهم. قال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي في تقرير هذه المسألة: ((وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه إنه لا يُتابَع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه)) (1) .

_ (1) شرح علل الترمذي، 2/582.

ولذلك فإنّ الملاحظ أنّ أحكام المتقدمين على الرواة هي أحكام نسبية وليست مطلقة، يعني أنّه إذا قال شعبة بن الحجاج أو غيره في راو إنّه ثقة أو ضعيف فهو ليس حكما مطلقا يُوجِب قبولَ جميع مروياته أو ردَّها، بل يكون هذا الحكم خاصا بحالة معينة أو بشيخ معين أو ظرف خاص أو حديث بعينه، فيضعفون من حديثه ما يرونه أخطأ فيه ولو كان ثقة، ويصححون من حديث الضعيف ما يرونه قد ضبطه. ويبقى سائر حديثه خاضعا للنظر والتدقيق. ولعلّ هذا يفسّر لنا بجلاء تعارضَ ألفاظ الجرح والتعديل عن الإمام الواحد، كيحيى بن معين مثلا، وكتابه (التاريخ) حافل بهذه الأمثلة. ولذلك سلك المتأخرون في سبيل إزالة هذا التعارض مسالك عدّة، كان منها أنّ الإمام يقول ذلك بحسب طبيعة السؤال الذي وجّه إليه. فقد يكون السؤال عن الراوي مجردا، فيكون الجواب أنّه ثقة، أو أنّه ضعيف، ولكن إذا كان السؤال عن الراوي بالنسبة لمن هو أعلى منه درجة وأرفع منه منزلة وأوثق منه مرتبة فيكون الجواب أنّه ضعيف. أو يكون السؤال عنه بالنسبة لمن هو دونه في الدرجة فيكون الجواب أنّه ثقة، مع أنّه في حقيقة الأمر دون تلك المرتبة بكثير. ومن الأمثلة على ذلك ما أورده عثمان بن سعيد الدارمي، فقد سأل يحيى بن معين عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، فقال يحيى: ليس به بأس. فقال له عثمان: هو أحب إليك أو سعيد المقبري؟ فقال يحيى: ((سعيد أوثق والعلاء ضعيف)) (1) . ولفظ (ليس به بأس) من ألفاظ التوثيق عند ابن معين، كما هو معروف. قال الإمام اللكنوي بمناسبة كلامه على قول ابن معين في العلاء بن عبد الرحمن: ((وعليه يحمل ـ أي على هذا التأويل الذي ذكرناه سابقاـ أكثر ما ورد من اختلاف أئمة الجرح والتعديل، ممّن وثّق رجلا في وقت، وجرحه في وقت آخر)) (2) .

_ (1) تاريخ عثمان بن سعيد الدارمي عن أبي زكريا يحيى بن معين، ص173 ـ 174. (2) ظفر الأماني بشرح مختصر السيد الشريف الجرجاني في مصطلح الحديث، ص 85.

أو يكون السؤال عما حدَّث به الراوي في بلد دون آخر، أو ما حدث به عن أهل بلد دون آخر، أو ما حدّث به عن بعض أشياخه دون غيرهم، أو ما حدّث به في وقت دون آخر، أو ما حدّث به من حفظه أو من كتابه، أو فَعَلَ خلال روايته وإسناده ما يبعث الشك في روايته كما لو جمع في الإسناد بين عدد من شيوخه، ففي كلّ هذه الحالات ونحوها يكون الجواب متعلّقا بحدود السؤال، ولذلك يختلف الجواب تبعا لذلك، ولا يكون الحكم عاما بالنسبة للراوي أو بالنسبة لجميع أحاديثه. وهذه بعض الأمثلة على الحالات التي ذكرناها: فمن الأولى: ما حدث به الراوي في بلد دون آخر: عبد الرحمن بن أبي الزناد. قال يعقوب بن شيبة: سمعت علي بن المديني يضعّف ما حدّث به عبد الرحمن بن أبي الزناد بالعراق، ويصحّح ما حدّث به بالمدينة. ومن الثانية: ما حدث به عن أهل بلد دون آخر: إسماعيل بن عياش الحمصي. قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: ((ثقة فيما روى عن الشاميين، وأما روايته عن أهل الحجاز فإن كتابه ضاع فخلط في حفظه عنهم)) . وقال مضر بن محمد الأسدي: ((إذا حدث عن الشاميين وذكر الخبر فحديثه مستقيم وإذا حدث عن الحجازيين والعراقيين خَلَطَ ما شئت)) (1) . ومن الثالثة: ما حدّث به عن بعض أشياخه دون غيرهم: جعفر بن بُرقان الكلابي مولاهم، أبو عبد الله، الجزري. قال الإمام أحمد:)) يؤخذ من حديثه ما كان عن غير الزهري، فأما عن الزهري فلا)) (2) . ومن الرابعة: ما حدّث به في وقت دون آخر: ويتعلّق الأمر هنا بالرواة الذين خَلَّطوا في حديثهم، فكلّ راو له أحاديث سمعها قبل الاختلاط وأخرى بعد اختلاطه، وقد يعرف زمن الاختلاط وقد لا يعرف، فيميّز العلماء المحدّثون بين ما سمعه قبل الاختلاط وما سمعه بعد الاختلاط، فلا يروون عنه إلا ما ثبت عندهم أنّه سمعه قبل اختلاطه.

_ (1) تهذيب التهذيب، 1/282. ترجمة إسماعيل بن عياش. (2) تهذيب الكمال، 5/17. ترجمة جعفر بن برقان.

ومن هذا ما قاله الإمام أحمد في شيخه الإمام عبد الرزاق الصنعاني الذي قطع المفاوز وفارق الديار وتحمّل المشاق من أجل السماع عنه في صنعاء اليمن، ولكنه مع ذلك لم يكن حاطبَ ليل في حديثه عنه، بل كان يميّز بين أحاديثه، ويغربلها، ويصدر فيها أحكامه الدقيقة. قال عنه بصدد الحديث عن قيمة أحاديثه في آخر عمره:)) عبد الرزاق لا يُعبأ بحديث من سمع منه وقد ذهب بصره، كان يُلقّن أحاديث باطلة، وقد حدّث عن الزهري أحاديث كتبناها من أصل كتابه وهو ينظر جاءوا بخلافها ((. بل لقد حدّد الإمام أحمد سنة المائتين حدا للتمييز بين أحاديثه التي تقبل والتي لا تقبل، فمن سمع منه بعد المائتين فحديثه ضعيف. ومن الخامسة: ما حدّث به من حفظه أو من كتابه: سويد بن سعيد الحَدَثاني. قال أبو زرعة:)) أما كتبه فصحاح، كنت أتتبع أصوله وأكتب منها، فأما إذا حدّث من حفظه فلا ((. فانظر إلى هذه الدقة العجيبة من هؤلاء الأعلام. وهذه المسألة لا يمكن إدراكها إلا ممن يعيش مع الراوي ويتلقى عنه ويحدد الطريقة التي حدّث بها، هل كان ذلك من حفظه أو من كتابه، وهذا أمر لا يتيسّر أبدا للمتأخرين، فضلا عن أن ينال منه شيئا من جاء بعدهم بقرون وقرون. ومن السادسة: أن يفعل خلال روايته وإسناده ما يبعث الشك في روايته: ومن ذلك ما ذكره أبو يعلى الخليلي، قال: ((ذاكرت يوما بعض الحفاظ فقلت: البخاري لم يُخَرِّج عن حماد بن سلمة في الصحيح وهو زاهد ثقة. فقال: لأنه جمع بين جماعة من أصحاب أنس، فيقول: حدثنا قتادة وثابت وعبد العزيز بن صهيب، وربما يخالف في بعض ذلك. فقلت: أليس ابنُ وهب اتفقوا عليه وهو يجمع بين أسانيد، فيقول حدثنا مالك وعمرو بن الحارث والليث بن سعد والأوزاعي بأحاديث ويجمع بين جماعة غيرهم؟. فقال: ابن وهب أتقن لما يرويه وأحفظ له (1) ((.

_ (1) الإرشاد، أبو يعلى الخليلي، 1/417.

قال ابن رجب بعد أن أورد هذه الرواية: ((ومعنى هذا أن الرجل إذا جمع بين حديث جماعة وساق الحديث سياقة واحدة فالظاهر أن لفظهم لم يتفق، فلم يقبل هذا الجمع إلا من حافظ متقن لحديثه يعرف اتفاق شيوخه واختلافهم، كما كان الزهري يجمع بين شيوخ له في حديث الإفك وغيره)) (1) . فالاعتبار في الحكم على الراوي عند المتقدمين من خلال هذه الأمثلة وغيرها تابع للقرائن والأحوال. قال الإمام ابن كثير ـ وهو من المتأخرين ـ يتكلّم عن منهج المتكلمين في باب الجرح والتعديل: ((والواقف على عبارات القوم يفهم مقاصدهم بما عرف من عباراتهم في غالب الأحوال، وبقرائن ترشد إلى ذلك)) (2) . وهذا في الحقيقة تأكيد واضح على الفرق بين المتقدمين والمتأخرين، ليس فقط من الناحية النظرية، وإنّما أيضا من الناحية التطبيقية، حيث لم يعد في مقدور المتأخرين أن يحيطوا بأحوال الرواة، بعد أن آل الأمر إلى النظر في الكتب وتعذّر الاطلاع على العلل الخفية التي لا تدرك غالبا إلاّ بالملاحظة الميدانية والفحص الدقيق والنظر الثاقب والتجربة الطويلة. هذه باختصار أهمّ مرتكزات منهجهم وملامحه العامة، وأما ما ورد عنهم من اختلاف أو تباين فقد كان ضمن هذا المنهج وفي إطار تطبيق مفرداته. ثناء المتأخرين على منهج المتقدمين: وهذا الذي نقوله عن منهج المتقدمين هو الذي سطره المتأخرون واعترفوا به وأبانوا عن عجزهم في اللحاق بهؤلاء، وأوضحوا أنّ منهجهم لم يعد يشبه منهج المتقدمين. ورحم الله الإمام عبد الله بن المبارك، فقد كان إذا ذكر أخلاق من سلف أنشد: لا تعرضن لذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمُقْعَد

_ (1) المصدر السابق، ص 463. (2) السعي الحثيث إلى شرح اختصار علوم الحديث، لصاحب هذا البحث، 310.

ومن هذا الاعتراف ما قاله الإمام ابن رجب الحنبلي وهو يشير إلى فضل هؤلاء المتقدّمين: ((وكذا الكلام في العلل والتواريخ قد دونه أئمة الحفاظ وقد هُجِر في هذا الزمان ودَرَس حفظُه وفهمه. فلولا التصانيف المتقدمة فيه لما عُرف هذا العلم اليوم بالكلية، ففي التصنيف فيه ونقل كلام الأئمة المتقدمين مصلحةٌ عظيمة جدا، وقد كان السلف الصالح مع سعة حفظهم وكثرة الحفظ في زمانهم يأمرون بالكتابة للحفظ، فكيف بزماننا هذا الذي هجرت فيه علوم سلف الأمة وأئمتها ولم يبق منها إلا ما كان مُدَوَّناً في الكتب لتشاغل أهل الزمان بمدارسة الآراء وحفظها)) (1) . ومن ذلك ما قاله الإمام الذهبي (ت 748هـ) : ((وهذا في زماننا ـ لاحظ: زمان الذهبي الذي هو القرن السابع ـ يعْسُر نقدُه على المحدث، فإن أولئك الأئمة، كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول وعرفوا عللها، وأما نحن فطالت علينا الأسانيد وفُقدت العبارات المتيقَّنة، وبمثل هذا ونحوه دخل الدَّخَلُ على الحاكم في تصرفه في المستدرك)) (2) . ومنه ما قاله الإمام ابن كثير: ((أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن (أي في جرح الرواة) فينبغي أن يؤخذ مسلما من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفتهم، واطلاعهم، واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصافهم بالإنصاف والديانة، والخبرة والنصح، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكاً أو كذاباً أو نحو ذلك فالمحدث الماهر لايتخالجه في مثل هذا وقفةٌ في مواقفهم، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم)) (3) .

_ (1) شرح علل الترمذي، 1/346. (2) الموقظة، الذهبي، 201، المطبوعة مع شرحها: كفاية الحفظة شرح المقدّمة الموقظة. (3) السعي الحثيث إلى شرح اختصار علوم الحديث، لصاحب هذا البحث، 304 ـ 305.

ومنه ما قاله الحافظ ابن حجر: ((وبهذا التقرير يتبين عِظَمُ موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشدةُ فحصهم، وقوةُ بحثهم، وصحةُ نظرهم، وتقدمُهم بما يوجب المصيرَ إلى تقليدهم في ذلك، والتسليمَ لهم فيه)) (1) . ومن ذلك ما قاله السخاوي: ((ولذا كان الحكم من المتأخرين عسراً جداً، وللنظر فيه مجال، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي ونحوهم وأصحابِهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة، ثم أصحابِهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، وهكذا إلى زمن الدارقطني والبيهقي ولم يجئ بعدهم مساوٍ لهم ولا مقاربٌ. أفاده العلائي، وقال: فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمداً لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلَف النقل عنهم عُدِل إلى الترجيح)) (2) اهـ.

_ (1) النكت على ابن الصلاح، 2/726. (2) الحافظ السخاوي، فتح المغيث 1/237.

وقال العلامة محمد أنور شاه الكشميري في كتابه فيض الباري: ((لِيُعلَم أن تحسين المتأخرين، وتصحيحَهم، لا يوازي تحسينَ المتقدمين فإنهم كانوا أعرفَ بحال الرواة لقرب عهدهم بهم، فكانوا يحكمون ما يحكمون به، بعد تثبت تام، ومعرفة جزئية. أما المتأخرون فليس عندهم من أمرهم غيرُ الأثر بعد العين، فلا يحكمون إلا بعد مطالعة أحوالهم في الأوراق، وأنت تعلم أنه كم مِن فرقٍ بين المجرِّب والحكيم، وما يغني السواد الذي في البياض عند المتأخرين، عما عند المتقدمين من العلم على أحوالهم كالعيان، فإنهم أدركوا الرواة بأنفسهم، فاستغنوا عن التساؤل، والأخذ عن أفواه الناس، فهؤلاء أعرف الناس، فبهم العِبرة، وحينئذ إن وجدتَ النوويَّ مثلا يتكلم في حديث، والترمذيَّ يحسِّنُه، فعليك بما ذهب إليه الترمذي، ولم يُحسن الحافظ في عدم قبول تحسين الترمذي، فإن مبناه على القواعد لا غير، وحكم الترمذي يبنى على الذوق والوُجدان الصحيح، وإنَّ هذا هو العلم، وإنما الضوابط عصا الأعمى)) (1) .

_ (1) فيض الباري، 4/414، 415.

ويحسن بنا أن نطرّز هذه المعاني التي ذكرناها بهذه المقولة الجامعة للإمام أبي الوليد الباجي الأندلسي المشهور، يقول رحمه الله في تأكيد هذه الحقائق السابقة وبيان ما كان عليه المتقدّمون من النظر الدقيق والفحص الخاص واختلاف العبارات في الحكم على الرواة: ((واعلم أنّه قد يقول المعدِّل: فلان ثقة، ولا يريد به أنّه ممّن يحتجّ بحديثه. ويقول: فلان لا بأس به، ويريد أنّه يحتجّ بحديثه، وإنّما ذلك على حسب ما هو فيه، ووجه السؤال له. فقد يسأل عن الرجل الفاضل في دينه، المتوسّط في حديثه، فيقرن بالضعفاء، فيقال: ما تقول في فلان وفلان؟ فيقول: فلان ثقة، يريد أنّه ليس من نمط من قُرِن به، وأنّه ثقة بالإضافة إلى غيره. وقد يسأل عنه على غير هذا الوجه فيقول: لا بأس به، فإذا قيل: أهو ثقة؟ قال: الثقة غير هذا ... فهذا كلّه يدلّ على أنّ ألفاظهم في ذلك تصدر على حسب السؤال، وتختلف بحسب ذلك، وتكون بحسب إضافة المسؤول عنهم بعضهم إلى بعض. وقد يحكم بالجَرْحَة على الرجل بمعنى لو وجد في غيره لم يجرّح به لما شُهِر من فضله وعلمه وأنّ حاله يحتمل مِثلَ ذلك ... فعلى هذا يَحمِل ألفاظَ الجرح والتعديل مَنْ فَهِم أقوالَهم وأغراضَهم، ولا يكون ذلك إلا لمَن كان مِنْ أهل الصناعة والعلم بهذا الشأن. وأما من لم يعلم ذلك، وليس عنده من أحوال المحدّثين إلا ما يأخذه من ألفاظ أهل الجرح والتعديل ـ للتذكير فإنّ الباجي ولد سنة 403هـ، وتوفي سنة 474هـ، فما عسانا نحن أن نقول!!؟ ـ فإنّه لا يمكنه تنزيلُ الألفاظ هذا التنزيلَ، ولا اعتبارُها بشيء مما ذكرنا، وإنّما يتَّبِع في ذلك ظاهرَ ألفاظهم فيما وقع الاتفاق عليه، ويقف عند اختلافهم، واختلاف عباراتهم)) (1) .

_ (1) التعديل والتجريح، الباجي، 1/283 وما بعدها باختصار.

فها أنت ترى إلى كلام هؤلاء الأعلام كيف يؤكدون ضرورة الوقوف عند كلام المتقدمين وفهمه وعدم تجاوزه أو محاكمته إلى قواعد من جاؤوا بعدهم، وأنّ المتأخرين مهما بلغوا من العلم فلن ينهض علمهم لرد ما قرّره المتقدمون، خاصة فيما يتعلق بأحوال الرواة وما يطرأ على أحاديثهم من العلل الخفية. وهؤلاء الأئمة المتقدمون هم الذين كانوا في زمن لم تكن قد دوّنت فيه القواعد والمصطلحات بالصورة التي هي عليها اليوم، ولكنَّ هؤلاء الأعلامَ كانت لهم قواعدهم ومصطلحاتهم التي يعرفونها ويطبقونها على الروايات والرواة. الملامح العامة لمنهج المتأخرين: نأتي الآن إلى المتأخرين وبيان بعض ما يميّز منهجهم: جاء المتأخرون فورثوا عن المتقدّمين علما غزيرا وأقوالا كثيرة في الرواة والروايات، وكان لابدّ من وضع قواعد تحكم هذه الأقوال الكثيرة، وكان عملهم اجتهاديا محضا، لذلك كان من الطبيعي أن يقع بينهم الخلاف في تفسير كلام المتقدّمين أو فهمه، ثمّ في القواعد التي وضعوها لضبطه، ومن هنا بدأ التحوّل الكبير. فإذا تذكرنا ما سطّرناه سابقا ونقلناه عن علماء هذا الشأن من أنّ أقوال المتقدّمين كان أكثرها نسبيا يدور مع القرائن والأحوال، فإنّه يصبح من الصعوبة وضع تعاريف جامعة مانعة وضوابط محددة لذلك، وقد أدى هذا كلّه إلى محاكمة أقوال المتقدّمين إلى قواعد المتأخرين، وبالتالي تصويبها أو تخطئتها، بناء على انسجامها مع هذه القواعد أو مخالفتها لها. 1 ـ فمن الأمثلة القريبة التي يمكن ذكرها في ذلك: القاعدة التي اشتهرت عند المتأخرين وهي أنّ زيادة الثقة مقبولة بشرط عدم الشذوذ، وهذه القاعدة طردها المتأخرون ـ والمعاصرون أيضا ـ في جميع الرواة. فإذا عثروا على تضعيف من المتقدّمين لراو بسبب تفرّده ـ والحال أنّه لم يخالف ـ لم يجدوا بدّا من توهين هذا القول، وردِّ الأمر إلى القاعدة التي وضعوها، وهي أنّ زيادة الراوي الثقة مقبولة، ولا يضرّه تفرّده.

وبسبب هذا نشأ عند المتأخرين جملة من الآراء المخالفة بسبب محاكمة أقوال المتقدّمين إلى قواعد المتأخرين، فصرنا نجد البعض يصحّح ما تكلّم فيه المتقدّمون، بل فيها ما صرّحوا ببطلانه أصلا. وإذا تمعنّا في هذا الأمر جيدا، فإنّ المسألة عند ذلك لاتصبح مجرّد قضية اختلاف في الاجتهاد في تطبيق قواعد معلومة عند الجميع، وإنّما يصبح الأمر في الحقيقة اختلافا في المنهج، فعندما يعرض المتأخر لحديث تكلّم فيه المتقدّمون بسبب أنّ راويه الثقة تفرّد به ولم يروه غيره، مع أنّه لا مخالفة فيه لما روى غيره من الثقات، فهنا يبادر المتأخر إلى تطبيق قاعدته: هذا ثقة لا يضرّ تفرّده، وتكون النتيجة أن يردّ قول المتقدّمين ويقرّر صحّة الحديث، فإنّ في هذا إغفالا لمنهج المتقدمين الذين تقرّر أنّهم لا يحكمون على راو بحكم واحد في جميع أحاديثه، فقد يقبلون تفرّده ـ ولو خالف ـ وقد يعتبرون تفرّده علّة يردّون بها حديثه هذا دون غيره من الأحاديث. إنّ تفرّد الراوي عند المتقدمين يعتبر شبهة: أن يكون الراوي قد أخطأ في حديثه رغم كونه ثقة، وهنا يتجلى الخلاف المنهجي بين المتقدّمين والمتأخرين. فالمتقدّمون ينظرون عند الحكم على حديث إلى نفس الحديث لا إلى راويه. فإذا ظهر لهم من خلال قرائن معيّنة أنّ الراوي أخطأ في هذا الحديث أو قامت عندهم شبهة قوية في ذلك ردّوا حديثه هذا، بغض النظر عن كون الراوي ثقة أو غير ثقة. أمّا المتأخرون فإنّهم تبعا لقواعدهم التي وضعوها وألفاظ الجرح والتعديل التي قعّدوها لا ينظرون إلى الحديث، بل إلى راويه، فإذا ثبت عندهم أنّه ثقة، لم يضرّه بعد ذلك ما يتفرّد به من الأحاديث، إذا سلمت من المخالفة.

وقد نبّه الإمام ابن تيمية رحمه الله إلى هذا الأمر، وبيّن خطره على السنة. فقد ذكر أن بعض المتأخرين عمدوا إلى أحاديث هي خطأ عند بعض الأئمّة المتقدمين فصححها هؤلاء المتأخرون ثم عارضوا بها النصوص الثابتة فاحتاجوا إلى الجمع بينها فجاؤوا بأوجهٍ مستنكرة في الجمع بين هذه النصوص. 2 ـ ومن الأمثلة على هذا أيضا ما عقده المتأخرون في أبواب المتابعات والشواهد. فإنّ القاعدة عندهم أنّ تعدّد الطرق ينفع في تقوية الحديث الضعيف، ولم يشترطوا في ذلك إلاّ التفريق بين الضعف الشديد والخفيف، والشديد عندهم ما كان سببه فسق الراوي أو كذبه أو اتهامه بالكذب، فهذا لا ينفع معه تعدّد الطرق. أما الضعف الخفيف الذي يكون ناشئا من سوء حفظ الراوي أو وَهَمِه أو غفلته أو اختلاطه أو انقطاع إسناد الحديث، فهذا النوع من الضعف ونحوه يزول بتعدّد الطرق، ويرتفع الحديث إلى درجة الاحتجاج. وقد كنت أثناء تدريسي مادة مصطلح الحديث للطلاب أقف عند هذه النقطة طويلا، وتنتابني حيرة لا أستطيع إخفاءها عنهم، ثمّ أخلص معهم إلى أنّ الذي يحصل به الاطمئنان في هذه المسألة ـ احتراما لقواعد المتأخرين ـ هو ألا نكتفي في تقوية الحديث بطريقين أو ثلاث، وإنّما لا بدّ أن تكثر طرق الحديث كثرة بالغة تورث الظنّ الغالب بقوّة الحديث، إذ ليس من المقبول والمعقول أن يستدلّ في تقرير مسألة من مسائل العقيدة أو حكم من أحكام الشريعة بحديث له طريقان أو ثلاث لا تسلم جميعا من الضعف الخفيف، لا سيما إذا كان لم يرد عن المتقدّمين ما يفيد تصحيحه، وأولى من ذلك إذا ورد عنهم ما يقتضي الطعن فيه. ثم اقتنعت بعد ذلك أنّ كثرة الطرق أو قلّتها ليست هي المدار في ذلك، وإنّما المدار هو القرائن والأحوال التي تحتفّ بهذا الحديث فتقتضي تقويته بهذه الطرق، أو تقتضي أن تكون هذه الطرق سببا في توهين الحديث أكثر إذا كشفت عن علل أخرى في الحديث، أو كانت في النهاية ترجع إلى طريق واحد.

ومن هنا يتبيّن خطأ من يعمد إلى الحكم على ضعف حديث بناء على كونه جاء من طريق واحد، فإنّ للعلماء في ذلك مناهج، ولهم نظرات تقتضي تحسين الحديث ـ ولو جاء من طريق واحد ـ إذا دلّت جملة من القرائن على ضبط راويه، أو عضّده من النصوص العامّة ما يوجب قبوله والاحتجاج به. 3 ـ ومن الأمثلة على ذلك أيضا أنّ بعض المصطلحات التي تواضع عليها المتأخرون وجعلوها تدلّ على معنى معيّن محدّد لم تكن كذلك عند المتقدّمين، بل كانت أوسع وأشمل. فمن ذلك مثلا مصطلح الثقة الذي استقرّ عند المتأخرين على توثيق الراوي، كان يرد عند المتقدّمين مقرونا بما يدلّ على الضعف أو الضعف الشديد. فمن ذلك ما قاله يعقوب بن شيبة في جملة من الرواة، منهم مثلا: عبد الرحمن بن زياد بن أنعُم، فقد قال فيه: ((ضعيف الحديث وهو ثقة صدوق رجل صالح)) (1) . ومنهم أيضا: الربيع بن صبيح، قال فيه: ((صالح صدوق ثقة ضعيف جدا)) (2) . وأمثلة أخرى مذكورة في مظانها. وهذا يدلّ على أنّ لفظ الثقة لم يكن اصطلاحا يراد به دائما ما استقرّ عليه معنى الثقة عند المتأخرين، بل هو يستعمل عندهم استعمالا واسعا، وقد يراد به جانب الصلاح في الراوي دون المعنى المستقر في اصطلاح المتأخرين. وقد ذكر الإمام المحقق المعلّمي اليماني جملة من الرواة الذين جمع أهل الجرح والتعديل من المتقدّمين في حقّهم بين لفظ الثقة ولفظ من ألفاظ الجرح على نسق واحد وفي جملة واحدة (3) . ومن هنا يظهر ما يمكن أن يقع من الخطأ في تحميل ألفاظ المتقدّمين ما لا تحتمل عندما نحاكمها إلى قواعد المصطلح عند المتأخرين، فيجب عند ذلك النظر في القرائن والأحوال، وعدم الاكتفاء بنقل آراء المتقدّمين بعيدا عن الجوّ الذي قيلت فيه والمعاني التي أريدت بها.

_ (1) تهذيب الكمال، 11/188. (2) تهذيب الكمال، 6/144، تهذيب التهذيب، 3/215. (3) انظر: التنكيل لما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، 1/69 ـ 70.

4 ـ ومن أمثلة ذلك أيضا القاعدة التي ذكرها المتأخرون في الراوي المجهول، وهي أنّه لا يخرجه عن حدّ الجهالة إلاّ أن يروي عنه اثنان فصاعدا. فقد وجد في تصرفات المتقدمين وكلامهم ما لا ينضبط بهذه القاعدة. فقد أورد ابن أبي حاتم، قال: سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة: مما يقوّيه؟ ـ يعني: هل هذا يقوّيه ـ. قال: ((إذا كان معروفا بالضعف لم تقوّه روايته عنه، وإذا كان مجهولا نفعه رواية الثقة عنه)) . وقريب من هذا المعنى ما نقله ابن رجب عن يعقوب بن شيبة، قال: قلت ليحيى بن معين: متى يكون الرجل معروفا، إذا روى عنه كم؟. قال: إذا روى عن الرجل مثل ابن سيرين والشعبي. وهؤلاء أهل العلم، فهو غير مجهول. قلت: فإذا روى عن الرجل مثل سماك بن حرب وأبي إسحاق؟. قال: هؤلاء يروون عن مجهولين. ثمّ علّق ابن رجب على هذا بقوله: ((وهذا تفصيل حسن، وهو يخالف إطلاق محمد بن يحيى الذهلي الذي تبعه عليه المتأخرون: أنّه لا يخرج الرجل من الجهالة إلاّ برواية رجلين فصاعدا عنه)) (1) . 5 ـ ومن ذلك ما قاله الخطيب البغدادي عن منهج المتقدمين في اعتبار الضابط الذي يقدح في مروءة الراوي ويصير بذلك مجروحا مردود الرواية. قال: ((والذي عندنا في هذا الباب ردُّ خبرِ فاعلي المباحات إلى العالم والعمل في ذلك بما يقوى في نفسه. فإن غلب على ظنه من أفعال مرتكب المباح المسقط للمروءة أنه مطبوع على فعل ذلك والتساهل به، مع كونه ممن لا يحمل نفسه على الكذب في خبره وشهادته بل يرى إعظام ذلك وتحريمه والتنزه عنه قَبِل خبرَه. وإن ضعفت هذه الحال في نفس العالِم واتهمه عندها وجب عليه تركُ العمل بخبره وردُّ شهادته)) (2) .

_ (1) شرح علل الترمذي، ابن رجب، 1/377 ـ 378. (2) الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي، 182.

فهذا يدلّ على اعتبار قوة الفعل الموجب لسقوط المروءة، فمتى نشأ في نفس العالم أنّ هذا الفعل عارض وليس أصيلا في الراوي قَبِل حديثَه. وإن قوي في نفسه عكسُ ذلك حكم بترك حديثه وردّ روايتَه، تبعا للقرائن والأحوال في ذلك. 6 ـ ومن ذلك أيضا مسألةُ أخذ الأجرة على العلم، فقد وقع فيها الخلافُ بين المتقدمين، وطريقُ الجمع بين أقوالهم هو ما ذكرناه سابقا، والله أعلم. ولذلك قال الخطيب في هذه المسألة: ((إنما منعوا من ذلك تنزيها للراوي عن سوء الظن به؛ لأن بعض من كان يأخذ الأجر على الرواية عثر على تزيده وادعائه ما لم يسمع لأجل ما كان يُعطى)) (1) . 7 ـ ومن ذلك أيضا الروايةُ عن أهل البدع، فقد اختلفت عبارات المتقدمين في ذلك، وقد تجلّى ذلك في أمرين اثنين: أـ في تحديد المبتدع وطبيعة البدعة. ب ـ في طريقة التعامل مع روايات المبتدعة. فإذا استصحبنا قول الحافظ ابن حجر عن التشيع مثلا عند المتقدمين: ((التشيع في عرف المتقدمين هو اعتقاد تفضيل علي على عثمان وأن عليا كان مصيبا في حروبه وأن مخالفه مخطئ مع تقديم الشيخين وتفضيلهما، وربما اعتقد بعضهم أن عليا أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان معتقد ذلك ورعا دينا صادقا مجتهدا فلا ترد روايته بهذا، لا سيما إن كان غير داعية، وأما التشيع في عرف المتأخرين فهو الرفض المحض، فلا تقبل رواية الرافضي الغالي ولا كرامة)) (2) . فالتشيع على هذا فيه مجال للاجتهاد وإعمال الرأي، سواء في طبيعة البدعة وحقيقتها، أو في صحّتها وثبوتها في راو من الرواة، فإذا كان الأمر كذلك، وكان الراوي مع ذلك ورعا ديّنا، صادقا، مجتهدا، فما المانع من قبول روايته والاحتجاج بحديثه؟

_ (1) الكفاية في علم الرواية، 241. (2) تهذيب التهذيب، ابن حجر، 1/94.

وأمّا من زاد على ذلك، كمن يتكلّم في عثمان وطلحة والزبير وعائشة وغيرهم من أفاضل الصحابة، ويطعن فيهم ويسبّهم، فهذا هو الذي لا يقبل المتقدّمون حديثه غالباً، وهؤلاء هم الرافضة الذين ورد عن الإمام الشافعي أنّه لا تقبل شهادتهم. وعلى هذا، فالعبرة عند المتقدمين في باب الرواية عن أهل البدع هو اعتبارُ أحوالهم في قوة الدين وظهور الصدق، ولذلك لم يترددوا في قبول رواية الدعاة من الخوارج، وهذا البخاري قد أخرج لعمران بن حطان ثلاثة أحاديث في صحيحه، بعضها في الأصول، رغم أنّه كان داعية إلى بدعته، بل كان رأساً من رؤوس الخوارج. قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: ((العبرة في الرواية بصدق الراوي وأمانته والثقة بدينه وخلقه، كما أنّ المتتبع لأحوال الرواة يرى كثيرا من أهل البدع موضعا للثقة والاطمئنان، وإن رووا ما يوافق رأيهم، ويرى كثيرا منهم لا يُوثَق بأيّ شيء يرويه)) (1) . وحتى هذا الصدق وهذه الأمانة لا يكونان مبرِّراً لقبول روايته مطلقا، وإنّما يضاف إلى ذلك عند بعضهم إذا كان ما عنده من الحديث ممّا تشتدّ الحاجة إلى أخذه ومعرفته. ولذلك نقل الذهبي عن بعض العلماء أنّ المبتدع الداعية إذا كان صادقا، وعنده سنّة تفرّد بها، فإنّه لا يسوغ ترك تلك السنّة (2) . فأنت ترى في النهاية أنّ الاعتبار يعود إلى ملاحظة جملة القرائن والأحوال في الراوي والرواية، ومن هنا فإنّنا قد لا نعدّ ما ورد عن المتقدّمين من الأقوال المتباينة اختلافا في القواعد، وإنّما هو في غالبه اختلاف في التطبيق بحسب ما يترجّح من خلال القرائن والملاحظات، ومبلغ علم كلّ واحد منهم بأحوال الرواية والرواة.

_ (1) الباعث الحثيث، أحمد شاكر، 84. (2) انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، 7/153 ـ 154.

قال الشيخ محمد بن محمد أبو شهبة رحمه الله: ((إذا وجدنا بعض الأئمّة الكبار من أمثال البخاري ومسلم لم يتقيّد فيمن أخرج لهم في كتابه ببعض القواعد، فذلك لاعتبارات ظهرت لهم رجّحت جانبَ الصدق على الكذب والبراءةَ على التهمة. وإذا تعارض كلامُ الناقد وكلامُ صاحبي الصحيحين فيمن أخرج لهم الشيخان من أهل البدع، قُدّم كلامُهما واعتبارُهما للراوي على كلام غيرهما، لأنّهما أعرفُ بالرجال من غيرهما)) (1) . 8 ـ وبقيت أمور كثيرة، نختم بأمرين اثنين يتعلّقان بالحديث المدلّس: الأوّل: في تعريف المدلّس. والثاني: في القاعدة التي وضعها المتأخرون لقبول حديث المدلّس أو عدم قبوله. فأمّا عن الأمر الأول: فقد ورد في عبارة الإمام الشافعي تعريف المدلّس بأنّه أن: ((يحدّث عمّن لقي ما لم يسمع منه)) (2) . هذه هي عبارة الشافعي التي نقلت عنه في تعريف التدليس، وهي تحتمل ألاّ تكون تعريفاً شاملاً للتدليس، وإنّما غاية ما فيها أنّها نصّ منه على أخفى نوعي التدليس الذي هو رواية الراوي عمن لقيه وسمع منه ما لم يسمع منه، على ما هو أقلّ خفاء وأكثر ظهورا وهو رواية الراوي عمن ثبت أنّه عاصره ولم يلتق به. وهذه العبارة هي التي فهم منها الحافظ ابن حجر أنّ الشافعي يشترط اللقاء في التدليس، وأخذ من ذلك ما ذهب إليه من التفريق بين التدليس والمرسل الخفي، فجعل التدليس مخصوصا باللقاء، وجعل رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه من المرسل الخفي، بينما المنقول عن جميع المتقدمين وكلّ من سبق الحافظ ابن حجر يجعل ذلك كلّه ضمن مسمّى التدليس. فابتداءً من الخطيب ومروراً بابن الصلاح والعراقي وغيرهما لا نكاد نجد خلافاً في أنّ التدليس هو رواية الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه، ورواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه.

_ (1) الوسيط في علوم ومصطلح الحديث، 396. (2) الرسالة، الشافعي، 371، فقرة رقم (1001) .

أمّا ما سمّاه ابن حجر بالمرسل الخفي، فقد ورد ذكره عند هؤلاء الأئمّة ولكنهم لا يعنون به أبدا هذا المعنى، وإنّما يريدون به كلّ انقطاع حصل في الإسناد وخَفِيَ بحيث لا يعرفه ولا يدركه إلاّ الحذاق الجهابذة المتمرسون في هذا الشأن، وهو الأمر الذي دعا ابنَ الصلاح وغيرَه إلى إفراده لبيان أهميته ولزوم الاهتمام به، لا على أنّه قسيم للتدليس أو نوع مستقلّ من أنواع علوم الحديث. قال الحافظ العراقي في توضيح المراد بالمرسل الخفي: ((ليس المراد هنا بالإرسال ما سقط منه الصحابي، كما هو المشهور في حدّ المرسل، وإنّما المراد هنا مطلق الانقطاع، ثمّ الإرسال على نوعين: ظاهر وخفي. فالظاهر: هو أن يروي عمن لم يعاصره، بحيث لا يشتبه إرساله باتصاله على أهل الحديث.... والخفي هو أن يروي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه، أو عمن لقيه ولم يسمع منه، أو عمن عاصره ولم يلقه، فهذا قد يخفى على كثير من أهل الحديث، لكونهما قد جمعهما عصر واحد، وهذا النوع أشبه بروايات المدلسين، وقد أفرده ابن الصلاح بالذكر عن نوع المرسل، فتبعته على ذلك)) (1) . وما نقله ابن حجر عن البزار في تعريفه للتدليس يعانق المعنى المفهوم من تعريف الشافعي، حيث قال: ((أن يروي عمن قد سمع منه ما لم يسمع منه، من غير أن يذكر أنّه سمعه منه)) (2) . حيث فهم منه ابن حجر أن البزار يحصر معنى التدليس في هذه الصورة التي حصل فيها اللقاء بين الراوي المدلّس وشيخه الذي دلّس عنه. وهذا يجرّنا إلى ملاحظة أخرى في هذا المقام، وهي أنّ بعض تعاريف العلماء أصبحت مثل النصوص الشرعية بحيث يمكن أن يكون لها منطوق ومفهوم، ومنها هذا التعريف، فمنطوقه هو المذكور، ومفهومه أن غير هذه الصورة المذكورة لا يسمّى تدليسا.

_ (1) التبصرة والتذكرة، العراقي، 2/306 ـ 307. (2) التقييد والإيضاح، العراقي، 97.

ولو سلّمنا بهذا فإنّ تعريفا آخر للبزار يمكن أن يكون له مفهوم يخالف ما ذهب إليه ابن حجر من التفريق بين التدليس والإرسال الخفي، فقد قال البزار أيضا:» إنّ الشخص إذا روى عمن لم يدركه بلفظ موهم، فإنّ ذلك ليس بتدليس، على الصحيح المشهور)) (1) . فإنّ هذا الكلام ـ بمفهومه ـ إن صحّ أن يكون له مفهوم ـ أنّ الشخص إذا روى عمن أدركه فإنّ ذلك يعتبر تدليسا، فيدخل فيه عندئذ صورتا التدليس الأولى والثانية. وهذا المفهوم هو الصحيح لا لأنّه مفهوم، بل لأنّ منهج المتقدّمين وكثير من المتأخرين ـ قبل وبعد الحافظ ابن حجر ـ وألفاظهم كلّها تدلّ عليه. ولذلك انتقد الحافظ العراقي تعريف البزار المذكور بأنّه تقييد للتدليس، وتضييق للصور التي يشملها بما يخالف المتعارف عليه عند المحدّثين. وقال ـ بعد أن بيّن خطأ هذا الفهم ـ: ((وما ذكره المصنّف ـ يعني ابن الصلاح ـ في حدّ التدليس هو المشهور بين أهل الحديث، وإنّما ذكرت قول البزار وابن القطان كيلا يغترّ بهما من وقف عليهما، فيظنّ موافقة أهل الشأن لذلك)) (2) . وليس المقامُ هنا مقامَ تفصيل لهذه المسألة، ولكن المقصود الإشارة العابرة التي تستدعي بعد ذلك الرجوع إلى كلام العلماء في كتبهم ودراسته (3) .

_ (1) التبيين لأسماء المدلّسين لسبط ابن العجمي، 344. (2) التقييد والإيضاح، 98. (3) يمكن الرجوع بنوع من التفصيل إلى دراسة جيدة كتبها حول هذا الموضوع الدكتور الشريف حاتم بن عارف العوني في كتابه: المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس، وهي في الحقيقة أنموذج لما يجب أن تكون عليه الدراسات العلمية في هذا الباب، فجزاه الله خيرا.

الأمر الثاني المتعلّق بمبحث التدليس: فإنّ القاعدة التي اشتهرت عند المتأخرين وتواضعوا عليها هي أنّ حديث المدلّس يقبل إذا صرّح بالسماع. أمّا إذا روى بالصيغة الموهمة فإنّ حديثه يكون ضعيفا، ولكنّ الباحث في هذا الأمر يلحظ في كلام المتقدّمين أمثلة تخرم هذه القاعدة وتعود بالأمر من جديد إلى ملاحظة القرائن والأحوال. وأسوق لذلك مثالين: 1 ـ لقد ذكر الإمام أبو حاتم الرازي أنّ بقيةَ بنَ الوليد كان يروي عن شيوخ ما لم يسمعه منهم، فيظنّ أصحابه أنّه سمعه منهم، فيروون عنه تلك الأحاديث ويصرّحون بسماعه لها منهم، ولا يضبطون ذلك (1) . وهذا في الحقيقة لو حاكمناه إلى قواعد المتأخرين لاعتبرناه كذباً، بناءً على أنّ المدلّس إذا صرّح بالتحديث فيما لم يسمعه فإنّه يكون كذاباً، يردّ حديثه جملة وتفصيلا، ولكن الكذب هنا لا ينسب لبقية، فليس هو الذي فعل ذلك، ولا ينسب أيضا إلى أصحابه لأنّهم كذلك لم يفعلوا ذلك عمدا، وإنّما كان ذلك على سبيل الخطأ وعدم الضبط، والله أعلم. 2 ـ مثال آخر يؤكّد هذه المسألة ويزيدها وضوحا: لقد ذكروا للإمام أحمد قولَ من قال: عن عراك بن مالك، سمعت عائشة. فقال: هذا خطأ، وأنكره، وقال: عراك من أين سمع من عائشة؟ إنّما يروي عن عروة عن عائشة (2) . فهذا الإسناد فيه تصريح بالسماع وهو محض خطأ. ولذلك قال الإمام ابن رجب تعليقا على هذه الأمثلة التي ذكرناها: ((فحينئذ ينبغي التفطّن لهذه الأمور، ولا يغترّ بمجرّد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد)) (3) .

_ (1) شرح العلل، ابن رجب، 2/594. (2) المصدر السابق. وفي الكتاب أمثلة أخرى على هذا. (3) المصدر السابق.

إذا وضح هذا عرفنا طَرَفاً من منهج الإمام البخاري وغيره من المتقدّمين في الرواية عن المدلّسين، وعندئذ لا حاجةَ إلى الاعتذار عن صنيع البخاري وغيره في إيراد أحاديثَ للمدلّسين لاتوجد إلا معنعنةً بأنَّ قبولَ صنيعهم هذا ليس إلاّ إحساناً للظنّ بهم، وإنّما المسألة أعمقُ من ذلك. إنّها مسألةُ منهج تتضح معالمُه وتفاصيله لكلّ من تعمّق في ملاحظة تصرّفات هؤلاء الأئمة النقاد الكبار، والله أعلم. بعد هذه الأمثلة التي تبيّن بوضوح وجوبَ ملاحظة الاختلاف بين مصطلحات المتقدّمين والمتأخرين، وتبيّن كذلك أنّ جزءاً من الخلل الذي نعيشه اليوم ناتج عن الغفلة عن هذا الأمر، نرى لزاماً أن نساهم مع إخواننا في تقديم بعض ما نراه علاجا لذلك. أوّلا: وجوب الحسم في مسألة المنهج: وهذا هو الجانب النظري: والمقصود به: تشجيع الدراسات الجادّة التي تهدف إلى إبراز قواعد هذا العلم بصورة جيدة ومنهجية واضحة في تحديد معالم هذا العلم وقواعده التي مضى عليها المتقدمون، وبيان ما حصل بعد ذلك من اجتهاد فيها أو إخلال بها أو تطوير لها. إنّه من الضروري والمهم جدا اجتماعُ أهل الاختصاص بهذا العلم للتداول في منهجية تدريس هذه العلوم، والنقاشِ حول كثير من التساؤلات التي تسكن عقولَ الكثير من الباحثين في قواعد علوم الحديث وتلاحقهم، حيث إنّ الباحث في هذا المضمار يلحظ أموراً كثيرة تحتاج إلى نظر ودراسة متأنية عميقة، بعيدا عن سوء الظنّ وكيل التهم وغير ذلك. ثانيا: مراعاة الطريقة المنهجية الصحيحة في تدريس هذا العلم: فالمُلاَحظ أنّ كثيراً من الجامعات عندما تقرّر على الطلاب هذه المادّة، تقرّر معها كتاباً من كتب المصطلح وتحدّد للأستاذ قدراً من الساعات الزمنية يجب أن ينهيَه فيها، غيرَ ملاحظين صعوبةَ هذه المادّة وضرورةَ أن يكون تلقينها للطلاب على تؤدة وأناة وحذر، وإلاّ عاد هذا العلم شؤماً على صاحبه وأهله.

وأنا أتصور أنّ قواعد علوم الحديث مثلُ قواعد الرياضيات، ينطلق فيها الطالب من أبسط المعارف ويأخذ في ذلك القسطَ الوافرَ من الوقت ويتمّ مراجعتها وتدريبُ الطالب عليها والتذكير بها في كلّ مرحلة لاحقة، ومن هنا تترتب المعارف والقواعد وينطلق الطالب إلى الأصعب وقد هضم بصفة سليمة وصحيحة كلَّ المبادئ الأولى، وأُمِن عليه من الوقوع في الانحراف في فهم القواعد التالية أو إساءة استعمالها. والذي يعين على هذا أن نتعرّف على الطريقة التي كانت تُغرس بها قواعدُ هذا العلم في نفوس الأبناء منذ نعومة أظافرهم، وهذا يحتاج إلى تلمّس أساليب المتقدّمين في تلقين هذا العلم وغرسه في نفوس طلاب العلم، وهذا الأمر يحتاج إلى حديث آخر طويل لعلّ أحدَ المختصين يتصدّى لوضع مفرداته وبيان منهج العلماء فيه. وبناء على هذا، فإنّه ينبغي الاهتمامُ بما يأتي: 1 ـ وضعُ كتابٍ جديد يتضمّن ترتيباً جديداً لمباحث علوم الحديث وأنواعها ومراتبها، بطريقة منهجية، يُجمع فيها كلُّ نوع أو قاعدة مع ما يشاركها أو يوافقها أو يتداخل معها وغير ذلك. 2 ـ تبسيطُ هذه المادّة في مراحلها الأولى، من أجل أن يسهل على الطالب المبتدئ فهمُها وحفظُ قواعدها والإكثارُ من الأمثلة النظرية والعملية، حتى يتمكّن الطالبُ منها، ثمّ ينطلقَ ليبنيَ عليها القواعدَ الأخرى. 3 ـ الاهتمامُ بالحفظ وإعطاؤه حقّه في هذه العلوم، فإنّ كثيراً من تفاصيلها لا تدرك إلاّ بالحفظ، ويُراعى في الحفظ أن يكون مرتباً وموزّعاً بين عدّة أمور، حيث يُصرف جزءٌ من ذلك لحفظ الأحاديث بأسانيدها، تماما كما يُؤمر الولدُ بحفظ القرآن وهو لا يعقل حروفَه ولا معانيَه، فإنّ حفظَ الأسانيد يعوّد الطالبَ على أمرين:

الأول: حفظُ أكبر عدد ممكن من رجال الأسانيد، مما يعينه لاحقاً على استحضار ذلك أثناء دراسة الأسانيد وتخريج الأحاديث، واستحضار الأمثلة لكلّ نوع من أنواع علوم الحديث، وفي هذا عودة جزئية إلى منهج المتقدّمين في تلقّي هذا العلم وتحصيله. الثاني: التعوّدُ على مراقبة مواقع الرواة في الأسانيد، مما يربّي في الطالب ملكةَ الانتباه لأيّ انقطاع يحصل في السند أو خللٍ يقع في سلسلة الإسناد، وهذا جزءٌ من المعرفة الذهنية التي تعينه في المستقبل على تحديد العلل الواقعة في الأسانيد وتدلّه على إدراك الخفيّ منها. 4 ـ التدرّج في إعطاء هذه المادّة للطلاب، فإنّ من الأخطاء الجسيمة التي يقع فيها بعضُ من يدرّس هذا العلم أن يبذله للعامّة من الناس في المساجد، ممّن لا يحسنون أحكام الوضوء والصلاة، أو يُفرغه على الطلاب مرّة واحدة، مما يشعرهم بالغرور ويدفعُهم إلى الجرأة في تطبيق بعض ما عرفوه من القواعد على الأحاديث. ولم يزل علماؤنا السابقون يراعون هذا التدرّجَ ويسلكون بطلابهم مسالكَ الاعتدال في طلب العلم وينتهرون كلَّ مَن يريد أن يَحرِق المراحل أو يقفز على درجات السلّم يبغي الوصولَ بقفزة واحدة. قال ابن حجر: ((وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج، لأنّ الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حُبِّب إلى مَن يدخلُ فيه وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبتُه غالباً الازديادَ، بخلاف ضدّه)) (1) . 5 ـ الاهتمام بهذا العلم وتلقينه للصغار عن طريق تحفيظهم المنظومات التي وضعها العلماء قديما وحديثا في هذا العلم وقواعده، من مثل البيقونية والقصيدة الغزلية وألفية الحديث للعراقي والسيوطي، مبتدئين في ذلك بالأسهل منها والأخصر والأوجز، ثمّ الانطلاق إلى الألفيات منها.

_ (1) فتح الباري، ابن حجر، 1/197.

إلا أنّه يجب التنبيهُ إلى وجوب استكمال تدريس هذا العلم، فإنّ من الخطأ المنهجي الاقتصارَ في تدريس علوم الحديث على تدريس المصطلحات الأولى، دون الاهتمام بالمراحل الأخرى المهمّة التي تشكل صلبَ هذه العلوم وثمرتَها الحقيقية، وهي علم الجرح والتعديل والتخريج ودراسة الأسانيد. 6 ـ إنّه من الضروري اللجوء ـ وخاصة في المراحل الأولى من هذا العلم ـ إلى الوسائل التي تضمن فهم الطالب واستيعابه. إنّ من أنجع الوسائل في التعليم تصويرَ المعاني لترسخ في الذهن، ويتم ذلك بضرب الأمثال ومقارنةِ الشبيه بالشبيه والمَثل بالمَثل، ولتحديد الفكر في النظر في المتماثلات من المعاني والأشباه. إنّه من الضروري تقديمُ هذه المادة بأسلوب شيّق، مطعّمٍ بالأمثلة من واقع الناس، أو ما له صلةٌ بحياتهم، ليعين ذلك الطلابَ على الحفظ والاستيعاب. وقد سجّل علماؤنا السابقون نماذجَ في ذلك، فكانوا يَنْظِمون هذه القواعدَ بأسلوب الغزل، أو يسوقون معانيَها بأسلوب لا يخلو من الدعابة والمرح والنكتة، من أجل أن تستقر هذه المعاني في النفوس بسهولة ويسر. انظر مثلا كلام العلماء في تقريب هذا المعنى من مثل قول ابن معين:» الرجل الذي له في الحديث طريق واحد كالرجل له امرأة واحدة، إذا حاضت بقي «. أي: لم يجد غيرها. وقول حماد بن سلمة:» مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف اللغة مثل الحمار يحمل مخلاة لا شعير فيها «. وقول الأوزاعي وغيره:» مثل الذي يكتب ولا يقابل مثل الذي دخل الخلاء ولم يستنج «، وغير ذلك من الأمثلة التي يراد بها ومنها غرس هذا العلم في نفوس الطلاب بصورة متينة وقوية.

لقد كنت أثناء تدريسي لهذه المادة للطلاب ألجأ من أجل توضيح الأسانيد وارتباطها واتصالها أو انقطاعها، أو في توضيح شروط أنواع الحديث وغير ذلك، كنت ألجأ إلى تطبيق ذلك للطلاب أثناء التدريس، فأقول مثلا: هذا الصف من القسم يمثّل سندا من الأسانيد وأحدّد أسماءهم، ثمّ أقوم بتوضيح كيف يمكن أن يكون هذا الصف متصلا أو منقطعا، وما هي أشكال الانقطاع وأنواعه التي يمكن أن تحدث، وماذا يحصل لهذا الصف عندما يكون أحدُ أفراده مجهولَ الاسم أو ضعيفاً بنوع من أنواع الضعف، أو لم يسمع ممّن فوقه، وهكذا أستمرّ في التطبيق العملي لمباحث هذا العلم، وقد رأيت أنّ هناك فائدتين تحققتا من وراء ذلك: أـ أنّ الطلاب كانوا يفهمون وبشكل جيّد ما نذكره بعد ذلك من قواعد علوم الحديث ومباحثها. ب ـ أنّ هذا كان سبباً في طرد الملل والسآمة التي تحصل غالباً في مثل هذه العلوم المجرّدة والمعارف الدقيقة، فيحصل نوع من الحيوية داخلَ الفصل يكون عاملاً آخر في حسن الاستماع وجودة الاستيعاب وسلامة التلقّي. 7 ـ أمر آخر لا نرى أن نختم حديثنا قبل الإشارة إليه، وهو لا يقلّ أهمية عما سبق، وهو الاهتمام بتدريس فقه الحديث ومناهج العلماء في استنباط الأحكام الشرعية منه. ذلك أنّ كثيراً من طلاب العلم كان حظُّهم من دراسة هذا العلم معرفة الأسانيد، وقلّت بضاعتهم ـ أو انعدمت ـ في باب فقه الحديث ومنهج الاستدلال به عند المتقدّمين، فكان أن وقعوا في الانحراف في هذا الباب، حيث يعمد أحدهم إلى تخطئة ما ذهب إليه أحد المتقدّمين من ردّ حديث صحيح أو الاستدلال بحديث ضعيف في جملة قرائن وأحوال ظهرت له، ومرجّحات وقواعد من الشريعة أيّدت فعله وتصرّفه، وهذا في الحقيقة هو الفقه، وأمّا غيره فليس يعجز عنه الكثير.

8 ـ ولا أغادر هذا المكان دون أن أهمس في أذان إخواننا وزملائنا ألاّ يعطوا هذا العلم مجرّدا عن حيثياته ومنهجه المتكامل، فينشأ في نفوس أبنائنا سوء الأدب مع العلماء، وليس السبب كامنا في هذا العلم، وإنّما الخلل ناتج من الإهمال أو عدم التركيز من العلماء المتصدين لهذا العلم على جوانب التربية، بل إنّه أحيانا يصدر عن هذا العالم أو المحدث من العبارات والإشارات والكلمات ما يكون سببا في تشكيل هذه العقلية المنحرفة الخالية من الأدب مع سلف هذه الأمة من العلماء والمحدثين والفقهاء، بل والمشحونة بما يطعن في أخلاقهم أو دينهم أو إيمانهم. ويجب في هذا المقام أن يحرص الأستاذ على تنبيه أبنائه إلى وجوب التفريق بين الشجاعة في مناقشة ما أورده السابقون من الآراء والأقوال وبين سوء الأدب معهم والوقيعة فيهم والطعن عليهم فإنّ هذه تجارةُ المفلسين. وقبل هذا طبعاً وتأسيساً عليه لا بد من وجود القدوة الحسنة في القائمين على تدريس هذا العلم، فإنّه علم يُطلب به ما عند الله تعالى، فلا ينبغي أن يكون أهله إلاّ مثالاً للالتزام والاهتداء. وقد كان طلاب العلم سابقاً لا يأخذون من العالم حتى ينظروا إلى هديه وسمته ودينه. قال الحسن بن صالح بن حي:)) كنا إذا أردنا أن نكتب عن الرجل سألنا عنه حتى يقال: أتريدون أن تزوّجوه)) (1) . وبعد: فهذه مساهمة متواضعة في هذا الموضوع، أسعد بتقديمها والمشاركة بها في هذه الندوة المباركة، آملا أن تساهم ـ مع أخواتها ـ في إنشاء رأي عام يهتم بهذه العلوم ويعطيها حقّها الذي أوجبه الله لها، إذ جعلها سببا لحفظ كتابه وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

_ (1) علم الرجال وأهميته، المعلّمي، 26.

علوم الحديث بين فضفضة المصطلح وندرة التمثيل

علوم الحديث بين فضفضة المصطلح وندرة التمثيل وعسر التطبيق أ. د. أبولبابة الطاهر صالح حسين رئيس قسم الدراسات الإسلاميّة بجامعة الإمارات لم تعن أمّة من الأمم بميراث نبيّها وتعاليمه عناية الأمّة الإسلاميّة بميراث رسولها محمّد صلى الله عليه وسلم، فلم تدع قولا ولا فعلا ولا إقرارا ولا صفة ولا حركة ولا سكنة صدرت عنه في اليقظة أو في المنام في حال الإقامة أو الظعن في حال الأمن أو الخوف، إلا حفظت في الصدور وقيّدت في السطور، ثم ما لبثت أن دوّنت في دواوين كبيرة، فتهيّأت للتصنيف والتبويب والترتيب والدراسة والنقد والتمحيص، ونشأ عن هذه الحركة العلميّة المباركة علم فريد لم يعرف له مثيل عند الأمم الأخرى، وهو علم الحديث أو علم أصول الحديث أو علم المصطلح، ولعلّ في هذه التسمية الأخيرة دلالة واضحة على عناية أهل الحديث بعلمهم وتعاريفهم ومصطلحاتهم حتى سمّوا علمهم أو علومهم بالمصطلح. ولئن كانت بذور هذا العلم وأصوله الكبرى مبثوثة في كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه إلا أنّ جحافل العلماء بداية من القرن الأوّل انكبّوا على دراسة السنّة وحفظها وتمحيصها، وقد رأوا في ذلك فريضة مقدّسة لا مناص من أدائها على الوجه الذي يرضي الله، فظهرت شذرات من المصطلحات والتعريفات، ونبذ من نفائس هذا العلم مبثوثة في مصنّفات القرون الأولى كمؤلّفات الإمام الشافعيّ والإمام أحمد وما تداوله تلاميذهم ومريدوهم من أسئلة وأجوبة ومحاورات، وكمقدّمة الإمام مسلم التي صدّر بها صحيحه، وكرسالة أبي داود السجستاني إلى أهل مكّة، وكجامع الإمام الترمذيّ وعلله وغيرها.. حتى إذا ما قطع القرن الرابع شوطا من الزمن شهد ميلاد أوّل كتاب ممحّض لهذا العلم الشريف جمع فيه ما تفرّق من تعاريف ومصطلحات، وقواعد، فكان القطر الذي يسبق انهمار الغيث النافع.

وتوالت التآليف في علوم الحديث عبر القرون، فتجلّت في تلك التآليف مواهب علماء الأمّة بما أبدعوه من فنون النقد والشرح والتوضيح لمقالات أسلافهم والاستدراك على ما فاتهم والاستخراج عليهم، في مسيرة تطويريّة دؤوبة انتهت بهذا العلم إلى أن يصفه مؤرّخو العلوم بأنّه علم نضج واحترق إشارة إلى ما بلغه من كمال. وقد تأثّر بمنهج المحدّثين في تحرير قواعد قبول الروايات وضبط أصول الإثبات التاريخيّ، علماء أكثر الفنون النقليّة كعلماء التاريخ واللغة والأدب..فقلّدوهم في الاجتهاد والتثبّت وتطبيق قواعدهم للتوثّق من صحّة منقولاتهم، حتى أصبح علم الحديث على ملحظ الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ» أساسا لكلّ العلوم النقليّة «، بل هو على حدّ تعبير الشيخ محمد عبد الرازق حمزة» منطق المنقول وميزان تصحيح الأخبار «. وأضحى لا يختلف حول أهمّيّته وجليل نفعه إثنان من أهل هذا الشأن. وإذا كان هذا شأن هذا العلم الشريف من الرفعة والدقّة والشمول فماذا عسانا أن نضيف في ندوتنا هذه؟ إنّ علوم الحديث قامت على عنصرين كبيرين وهامّين: الأوّل منهما: هو التعاريف والحدود لأنواع هذه العلوم التي رصد منها أبو عبد الله الحاكم النيسابوري في القرن الرابع إثنين وخمسين نوعا، لتصل على يدي الإمام السيوطي في القرن العاشر إلى ثلاثة وتسعين نوعا، وقد استخدمت في بنائها وضبطها مصطلحات ذات دلالات معيّنة واختيرت لها أمثلة تطبيقيّة تدعم تلك الحدود والتصوّرات. والثاني: هو قواعد النقد والتمحيص للتحقّق من ثقة الراوي وصحّة الرواية وصلوحيّتها للاحتجاج بها، ومن ثبوت النصوص التاريخيّة وصولا إلى معرفة الحقيقة وحلّ الغوامض.

وإنّ ما سنسلّط عليه الضوء في هذه الورقة المتواضعة هو القسم الأوّل أي التعريفات والمصطلحات وما حشد لها من أمثلة فنلامس ما في بعضها من فضفضة أو قصور أو إطلاق ممّا جعلها لا تنضبط مع الشرط الذهبيّ الذي وضعه الأصوليّون لسلامة الحدّ وصحّته وهو» أن يكون جامعا مانعا «، كما نقف على بعض الأمثلة غير المتطابقة مع النظرية، أو ما تعاني منه بعض أنواع علوم الحديث من شحّ التمثيل وعسر تطبيق المثال على الحدّ أو القاعدة. أمّا القسم الثاني وهو أصول نقد الروايات وتمحيص النصوص وقواعد جرح الرجال وتعديلهم فهذا قد بلغ من الدّقّة والفاعلية شأوا يتعذّر معه على الناقد المنصف الموضوعيّ أن يعثر فيه على ثغرة يتسلّل منها للنقد أو الغضّ من جدواه وأهمّيّته. وقبل خوض غمار الموضوع لا بدّ لنا من تجلية صلة التعريف أو الحدّ بالاصطلاح؟. فقد عرّف العلماء الحدّ بقولهم:» هو اللفظ الجامع المانع «أي» هو ما يتميّز به المحدود ويشتمل على جميعه، فيمنع دخول ما ليس منه إليه كما يمنع خروج أيّ شيء منه عنه «.وإذا كانت غاية الحدّ عند مناطقة اليونان وفلاسفتهم هي الوصول إلى معرفة ماهية الشيء المعرّف، حتى أنّ» أرسطو «أو أرسطاطاليس أحد أشهر فلاسفة اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد اعتبر الحدّ هو قمّة العلم، والتوصّل إلى الماهية بالحدّ هو غاية الفكر، فإنّ الأصوليين وسائر النظّار من جميع الطوائف الأشعريّة والمعتزلة وغيرهم.. ـ كما يقول ابن تيمية ـ يرون أنّ الحدّ يفيد التمييز بين المحدود وغيره. أمّا المصطلح: فهو العبارة اللغويّة التي حمّلها فريق من العلماء في فنّ معيّن من فنون العلم دلالة خاصّة، فهي وعاء يوضع فيه مضمون من المضامين.. وأداة تحمل رسالة المعنى ـ على حدّ تعبير د. محمد عمارة حفظه الله.

ونظرا لاختلاف مدارك العلماء وتباين رؤاهم واجتهاداتهم وتصوّراتهم للموضوعات المطروقة فقد يقع بينهم شيء من التفاوت والاختلاف في تحديد معالم تلك المصطلحات، وإذا كان العلماء قد حسموا موضوع الاختلاف في التعريف والاصطلاح بقاعدتهم الشهيرة:» لا مشاحّة في الاصطلاح «، فإنّ مشكلة التوسّع في المعنى والترهّل في الدلالة بحيث يصبح المصطلح أو التعريف فضفاضا يضمّ أشتاتا من المعاني والدلالات بما فيها المتنافرة أحيانا، وكذلك التعريف أو المصطلح الذي لا نجد له مثالا أو نجد له مثالا يعسر تطبيقه على القاعدة، تبقى مشكلة تحتاج إلى الإشارة إليها والتنويه بها وبيان ما فيها من قصور حتى تتّضح معالم الطريق وحتى يصبح هذا العلم تطبيقيّا يتساوق مع واقع الأشياء وحقائقها، لا نظريّا يخدم قضايا بعيدة عن واقع المادة العلمية التي ينبغي أن تكرّس كل الجهود لخدمتها وتيسيرها للناس حتّى ينتفعوا بعطائها وخيرها، وحتّى تتعلّق به نفوس الطلبة الشابّة التوّاقة للإحاطة به والإفادة من جهود علمائه عبر تاريخه الطويل. وهذه المشكلات العويصة إنّما يلمسها من يكابد تدريس هذه المادّة، ويسعى لتقريب مفاهيمها لطلابه وتيسيرها لهم حتى يتعلّقوا بها، فيخدموها ويستخدموها ويطبقوها في بحوثهم العلميّة. فضفضة المصطلح وندرة التمثيل: المراد بالفضفضة الاتّساع في تعريف المصطلح بحيث يدخل فيه ما ليس منه، أي أنّ التعريف لم يصغ بعبارات محرّرة تجمع ما هو داخل فيه وتمنع ما هو خارج عنه من الدخول فيه. وممّا يلاحظه الدارس لعلم الحديث في هذا المجال وجود جملة من المصطلحات الفضفاضة غير المحرّرة التي تحدث إرباكا في فهم المصطلح وتصوّره على وجه دقيق، ومن هذه المصطلحات مثلا:

الحسن: لقد اختلفت أنظار العلماء في تعريف الحسن باعتباره» وسطا بين الصحيح والضعيف في نظر الناظر لا في نفس الأمر، فعسر التعبير عنه وضبطه على كثير من أهل هذه الصناعة، وذلك لأنّه أمر نسبيّ، شيء ينقدح عند الحافظ ربّما تقصر عبارته عنه «، هكذا علّل ابن كثير هذا الاضطراب في التعريف في كتابه اختصار علوم الحديث (1) . وقد أورد ابن الصلاح تعاريف كلّ من الترمذيّ [ت279هـ] وأبي سليمان الخطابيّ [ت380هـ] وأبي الفرج ابن الجوزيّ [ت597هـ] وكرّ عليها كلّها بالنقد فقال:» كلّ ذلك مستبهم لا يشفي الغليل، وليس فيما ذكره الترمذيّ والخطابيّ ما يفصل الحسن من الصحيح « (2) . كما أنّ معاصره الحافظ أبا عبد الله ابن الموّاق [ت642هـ] شعر بما في تعريف الترمذيّ من فضفضة جعلت الصحيح يدخل في الحسن فقال:» لم يخصّ الترمذيّ الحسن بصفة تميّزه عن الصحيح « (3) ، لأنّ ما اشترطه في رواية الحسن من الثقة وعدم الشذوذ وعدم الاتّهام مشترط كذلك في الصحيح. واعترض كذلك

_ (1) الباعث الحثيث، شرح اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير ـ تأليف أحمد محمد شاكر ـ دار الكتب العلميّة ـ بيروت. (بدون تاريخ ولا رقم طبعة) . (2) مقدّمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح للبلقيني ـ ص 35 تحقيق عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، دار المعارف مصر (دون بيان عدد الطبعة ولا تاريخها) ـ تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطيّ ـ 1/155 حقّقه عبد الوهاب عبد اللطيف ـ دار الفكر ـ (مطبعة السعادة بمصر) ، (بدون ذكر عدد الطبعة ولا تاريخها) . [عرّف الترمذي الحسن بقوله: هو كلّ حديث يروى، لا يكون في إسناده من يتّهم بالكذب، ولا يكون شاذّا ويروى نحو ذلك من وجه آخر. وعرّفه الخطابي بقوله: هو ما عرف مخرجه، واشتهر رجاله وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامّة الفقهاء. وعرّفه ابن الجوزي بقوله: هو الذي فيه ضعف قريب محتمل] . (3) تدريب الراوي 1/155.

ابن دقيق العيد [ت702هـ] ،وابن جماعة المصريّ [ت 733هـ] على تعريف الخطّابيّ بأنّه يصدق على الصحيح أيضا لأنّ الصحيح عرف مخرجه واشتهر رجاله بالثقة. بل إنّ ابن جماعة يذكر أنّ تعريف الخطّابيّ لا يمنع الضعيف من الدخول فيه لأنّ الضعيف عرف مخرجه كذلك واشتهر رجاله بالضعف. وحاول ابن الصلاح تعريف الحسن، فقسّمه قسمين: حسنا لذاته، وحسنا لغيره. ثمّ عرّف كلا منهما تعريفا جامعا مانعا ـ في ظنّه ـ إلا أنّ تعريفيه هذين لم يسلما من المؤاخذة، فقد اعترض على تعريف الحسن لذاته بأنه يرد عليه المرسل الذي اشتهر رجاله بما ذكره من الصدق والأمانة، كما اعترض على الحسن لغيره بأنه يرد عليه المرسل والمنقطع الذي في رجاله مستور، ويروى مثله أو نحوه من وجه آخر (1) . وبالإضافة إلى هذه الفضفضة وعدم تحرير عبارة تعريف الحسن فإنّ مثالا واحدا للحسن لذاته أو للحسن لغيره لا نعثر عليه عندهم، الأمر الذي يجعل تصوّره على عين الواقع مطلبا عزيز المنال. وهناك من العلماء من استخدم مصطلح الحسن في غير محلّه، فهذا الحسين بن مسعود البغويّ [ت516هـ] أطلق في كتابه» مصابيح السنة «» الحسن «على ما ضمّنه كتابه من أحاديث سنن أبي داود، والنسائي، والترمذيّ، والحال أنّ أصحاب هذا الشأن مجمعون على أنّ فيها الصحيح والحسن بل والضعيف، الأمر الذي جعل ابن الصلاح يصف اصطلاح البغويّ بقوله» لا يعرف، وليس الحسن عند أهل الحديث عبارة عن ذلك «.

_ (1) التقييد والإيضاح لزين الدين العراقي 47.

وللخروج من هذه الإطلاقات وهذه الفضفضة والاختلافات، لا بدّ لنا من صياغة تعريف جامع مانع للحسن بقسميه مع استعراض أمثلة واضحة بيّنة لهما تطمئنّ لها نفوس الدارسين، لاسيّما الطلاب المبتدئين، وقد رأيت لأستاذنا الشيخ مصطفى أمين التازي ـ طيّب الله ثراه ـ تعريفا دقيقا محرّرا للصحيح بقسميه وللحسن بقسميه مع بيان الفروق بين هذه الأقسام، إلا أنّ عدم إيراده لأمثلة موضّحة كافية جعل العمليّة لا ترقى إلى درجة ما نصبو إليه من الكمال (1) . المسند: من المصطلحات الحديثيّة التي تعدّدت تعريفاته واختلفت حول تحديد ماهيته الآراء:» المسند «: ـ فهذا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري المشهور بابن البيّع [ت405هـ] يرى أنّ المسند هو الحديث المتّصل السند إلى رسول الله ـ أي أنّه يحصر المسند في المتّصل المرفوع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. ـ ويذهب أبوبكر أحمد الخطيب البغدادي [ت463هـ] إلى أنّ المسند عند أهل الحديث هو ما اتّصل إسناده من راويه إلى منتهاه. وبذلك يدخل في التعريف المرفوع والموقوف والمقطوع، إلا أنّه يشير إلى أنّ أكثر ما يستخدم مصطلح المسند في المتّصل المرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. ـ أمّا أبوعمر يوسف ابن عبد البرّ [ت463هـ] فيذهب إلى أنّ المسند هو ما رفع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم سواء كان السند متّصلا أو منقطعا. إلا أنّه حكى عن قوم أنّ المسند لا يقع إلا على ما اتصل مرفوعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فحسب ما تبنّاه هؤلاء العلماء الثلاثة وحسب ما حكوه عن غيرهم يكون للمسند الدلالات التالية: 1 ـ المتّصل المرفوع. 2 ـ المنقطع المرفوع. 3 ـ المتّصل الموقوف

_ (1) انظر محاضرات في علوم الحديث 2/76،102 (ط3 ـ مطبعة دار التأليف 1971 مصر) ـ مقاصد الحديث في القديم وفي الحديث2/74، 99 (ط5 ـ مطبعة دار التأليف بالمالية ـ مصر)

4 ـ المتّصل المقطوع (1) . ورجّح ابن حجر العسقلانيّ ما ذهب إليه الحاكم، من أنّ المسند هو ما اتّصل سنده مرفوعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو اختيار لصالح الوضوح وغلق باب الاختلافات غير المجدية. المرفوع: رغم وضوح هذا المصطلح الدّالّ على ما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان السند متّصلا أو منقطعا بما في ذلك المرسل، فإنّ الخطيب البغداديّ رحمه الله يحصر المرفوع فيما رفعه الصحابيّ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخرج مرسل التابعيّ (2) ، ولعلّه فعل ذلك اكتفاء بما يدلّ عليه المرسل في اصطلاح المحدّثين من رفع التابعيّ كبيرا كان أو صغيرا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. المقطوع: يعرّف المقطوع بأنّه ما جاء عن التابعين موقوفا عليهم من أقوالهم وأفعالهم. إلا أنّ ابن الصلاح رصد تداخل هذا المصطلح مع المنقطع عند بعض العلماء فهو يقول:» وقد وجدت التعبير بالمقطوع عن المنقطع غير الموصول في كلام الإمام الشافعيّ، وأبي القاسم الطبرانيّ، وغيرهما « (3) كأبي بكر الحميديّ والدارقطنيّ. ومعلوم أنّ بين المنقطع الذي هو ما سقط منه رجل أو أكثر بدون توال أو أبهم قبل الصحابيّ وبين المقطوع بون شاسع، فالتعبير عن المنقطع بالمقطوع يحدث إرباكا في المفاهيم يحسن تفاديه لأنّه يتعارض مع شرط الحدّ أو التعريف. المنقطع: وهذا المصطلح نجد له عدّة تعريفات، تتداخل معها المفاهيم: 1 ـ فممّا عرّف به: أنّه» ما لم يتّصل إسناده على أيّ وجه كان انقطاعه، وأكثر ما يستعمل في رواية من دون التابعيّ عن الصحابيّ «.

_ (1) معرفة علوم الحديث للحاكم 17. ـ مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح للبلقيني 190 ـ الكفاية لأبي بكر أحمد الخطيب البغدادي 58 ـ ط2 دار الكتب الحديثة (القاهرة) ومكتبة المثنى (بغداد) 1972. تدريب الراوي 1/182. (2) انظر مقدّمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح 193. (3) المصدر السابق 196.

وعبارة» على أيّ وجه كان انقطاعه «تفتح الباب أمام المرسل والمعضل والمعلّق، كي تدخل ضمن التعريف لأنّ في جميعها انقطاعا على وجه معيّن. 2 ـ وقيل» هو ما اختلّ منه رجل قبل التابعيّ محذوفا كان أو مبهما كرجل «، وهو تعريف لا يخلو من قصور، فما المانع من إطلاق صفة» المنقطع «على سند سقط منه راو واحد هو التابعي!؟ وإذا وقعت هذه الصورة فعلا، فما المصطلح الذي نطلقه عليها؟ 3 ـ وقيل:» هو ما روي عن تابعيّ أو من دونه موقوفا عليه من قوله أو فعله «وهذا التعريف شعر ابن الصلاح ببعده عن الصواب فقال عنه:» وهذا غريب بعيد «، كما شعر النوويّ بغرابته وضعفه فقال:» وهذا غريب، ضعيف « (1) لأنّ الموقوف على التابعيّ إنّما هو المقطوع، أمّا ما وقف على من دونه فهو موقوف على هذا الراوي الموقوف عليه، دون أن يوصف بلقب معيّن. المعضل: وهذا المصطلح نالت منه الفضفضة نيلا شديدا حتى كاد يصبح مفهوماً عائماً لا تبين ملامحه الخاصّة به. فقد عرّفه ابن الصلاح بقوله:» هو عبارة عمّا سقط من إسناده اثنان فصاعدا « (2) . وهو وصف يدخل معه فيه المنقطع لأنّ من صوره أن يسقط من وسط إسناده اثنان بدون توالٍ، كما يدخل فيه المعلّق الذي هو ما سقط من أوّل إسناده راوٍ أو اثنان أو أكثر على التوالي وقد عبّر النووي في» التقريب «عقب تعريف المعضل بما يفيد هذه الفضفضة فقال:» ويسمّى منقطعاً، ويسمّى مرسلاً عند الفقهاء «. بل ابن الصلاح جعل المعضل يتقاطع مع المنقطع والمرسل فقال:» فكلّ معضل منقطع، وليس كلّ منقطع معضلا، وقوم يسمّونه مرسلا ً « (3) على مذهب من يسمّي كلّ ما لا يتّصل مرسلاً. والبلاغ وهو قول الراوي بلغني يُعِدُّه أصحاب الحديث ـ على ملحظ أبي نصر السجزيّ ـ معضلاً.

_ (1) تدريب الراوي 1/208. (2) مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح 216. (3) المقدمة ومحاسن الاصطلاح 219.

وروى ابن الصلاح أنّ قول المصنّفين من الفقهاء وغيرهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ونحو ذلك، كلّه من قبيل المعضل. بل إنّ الحاكم ذهب إلى أغرب من ذلك حيث سمّى رواية تابع عن تابع حديثاً موقوفاً عليه معضلا، باعتبار عدم ذكر الصحابيّ والرسول صلى الله عليه وسلم معاً، وقد مثّل له بحديث يرويه بسنده المتّصل إلى الحسن البصريّ:» أخذ المؤمن عن الله أدباً حسناً إذا وُسِّع عليه وَسَّع وإذا قُتِّرَ عليه قَتَّر « ... وهو عند جمهور علماء الحديث» مقطوع «كما سبق بيانه. ولتجنّب هذا الخلط لابدّ في تعريف المعضل من التأكيد على: التوالي في سقوط الراويين أو أكثر احترازاً من المنقطع. وتحديد موقع السقوط احترازاً من المعلّق الذي هو ما سقط من أوّل إسناده راوٍ فأكثر، ومن البلاغ الذي هو إسقاط الراوي في أوّل السند لشيخه فمن فوقه. فإذا وضعنا هذه الاحترازات مع إيراد مثال فأكثر للمعضل بمعناه الجامع المانع أصبح» المعضل «من المصطلحات الواضحة الميسورة الفهم والتطبيق. الشاذّ:

من أوضح التعريفات للشاذ في اصطلاح المحدّثين ما عرّفه به الإمام الشافعيّ رحمه الله [ت 204هـ] فقد قال:» ليس الشاذّ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره، إنّما الشاذّ أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس «. إلا أنّه بعد قرنين من الزمن تقريبا يحدث الحاكم النيسابوريّ [ت405هـ] تعريفا جديدا للشاذّ يبعد به عن معناه المتعارف عليه وهو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، ويجعله الحديث الذي ينفرد بروايته ثقة، وهذه عبارته رحمه الله:» هو الحديث الذي ينفرد به ثقة من الثقات، وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة «، وبذلك يصبح الشاذّ عنده يعني التفرّد. ثمّ يأتي بعده أبو يعلى الخليل بن عبد الله الخليليّ القزوينيّ [ت446هـ] ليزيد تعريف الشاذّ غموضا فيقول:» الذي عليه حفّاظ الحديث أنّ الشاذّ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذّ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة، فما كان عن غير ثقة فمتروك وما كان عن ثقة يتوقّف فيه ولا يحتجّ به «، وقد شعر الشيخ ابن الصلاح بهذا التداخل في المصطلحات فأراد حسم الموقف ببيان ما هو واضح وما هو مشوب بالغموض فقال:» أمّا ما حكم الشافعيّ عليه بالشذوذ فلا إشكال في أنّه شاذّ غير مقبول، وأمّا ما حكيناه عن غيره [أي الحاكم والخليليّ] فيشكل بما ينفرد به العدل الحافظ الضابط، وهو الصحيح عند أهل الحديث « (1) . إلا أنّ هذا الوضوح الذي اختاره ابن الصلاح في تعريف الشاذّ لم يلبث أن نقضه في خلاصة مبحثه لنوع» الشاذّ «حيث قال:» فخرج من ذلك أنّ الشاذّ المردود قسمان: ـ أحدهما: الحديث الفرد المخالف. ـ والثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما يوجبه التفرّد والشذوذ من النكارة والضعف « (2) . وهذه الخلاصة نلاحظ فيها من الإيهام ما يدعو إلى التوقّف: 1 ـ فعبارة» الحديث الفرد «لا توجب المخالفة، طالما أنّه حديث فرد غريب.

_ (1) المقدّمة والمحاسن 238. (2) المصدر السابق 234.

2 ـ وإذا سلّمنا بالمخالفة فليس كلّ متفرّد بالرواية شاذّا، فالشذوذ فقط مخالفة الثقة للأوثق، وحديث الثقة ليس ضعيفا ولكن من باب صحيح وأصحّ، كما يقول الإمام السيوطيّ (1) . 3 ـ ثمّ إنّ التفرّد إذا كان من ثقة لم يخالف أحدا فهو صحيح مقبول، وإذا كان من ضعيف يكون حديثه ضعيفا، ولا علاقة له في كلا الحالين بالشذوذ. المنكر: إنّ من أقدم من عرّف المنكر الحافظ أبا بكر أحمد بن هارون البرديجيّ [ت 301هـ] ، فقد عرّفه بقوله:» هو الحديث الذي ينفرد به الرجل، ولا يعرف متنه من غير روايته، لا من الوجه الذي رواه منه ولا من وجه آخر « (2) . ونلاحظ في هذا التعريف إطلاقا لا يستقيم مع الدقّة المطلوبة في التعاريف: فإطلاق عبارة» الرجل «وعدم تحديد درجته من الثقة يجعل التعريف هلاميّا، ذلك أنّ: ـ تفرّد الثقة برواية الحديث لا يقلّل من قيمته، فهو حديث صحيح. ـ وتفرّد الضعيف به يحكم عليه بالضعف. ـ فالعبرة في النكارة شأنها شأن الشذوذ إنّما هي في المخالفة، مع اعتبار درجة المخالف من الثقة فإذا خالف الثقة الأوثق كان شاذّا وإذا خالف الضعيف الثقة كان منكرا، وتعريف البرديجي خلا من هذا المعنى فأصبح لا يعبّر عن المراد. وهذه الهلاميّة وقع فيها الكثير من أهل الحديث حتى قال النوويّ:» وكذا أطلقه كثيرون «، وقال قبله ابن الصلاح:» وإطلاق الحكم على التفرّد بالردّ والنكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث «، ورأى في هذا رحمه الله بعدا عن الصواب فقال:» والصواب فيه التفصيل الذي تقدّم في الشاذّ «. إلا أنّه في تفصيله خلط بين المنكر والشاذّ إذ يبدو أنّهما عنده» اسمان لمسمّى واحد «، وقد شاركه في هذا الخلط النوويّ لأنهما» سيّان « (3) عنده كذلك. فقد جعل ابن الصلاح المنكر قسمين، ومثّل للأوّل بقوله:

_ (1) تدريب الراوي 1/65. (2) مقدمة ابن الصلاح والمحاسن 244 ـ ونحوه في التدريب 1/238. (3) التدريب 1/65.

» ومثال الأوّل: هو المنفرد المخالف لما رواه الثقات «.وقد مثّل له بحديث ينطبق على الشاذّ لا على المنكر وهو حديث أسامة بن زيد مرفوعا:» لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم «رواه مالك عن الزهري عن عليّ بن حسين عن عمر بن عثمان عن أسامة بن زيد، وذكر أنّ كلّ من رواه من أصحاب الزهري إنّما رووه عن عمرو [بفتح العين] بن عثمان فشذّ مالك وهو ثقة مخالفا الثقات. أمّا القسم الثاني فعرّفه بقوله:» هو الفرد الذي ليس في روايته من الثقة والإتقان ما يحتمل معه تفرّده «ومثّل له بحديث عائشة مرفوعا:» كلوا البلح بالتمر.. « (1) الذي تفرّد بروايته أبو زكيّر يحيى بن محمد بن قيس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. فهذا الحديث ضعيف لضعف أبي زكيّر الذي تفرّد بروايته وليس منكرا. وهكذا نخرج من دراسة هذا النوع من أنواع علوم الحديث وهو المنكر، دون أن نظفر بتعريف جامع مانع للمنكر ولا لمثال تطبيقيّ يصدق عليه، وهو أمر لا تخفى آثاره على أذهان طلابنا. التابع والشاهد:

_ (1) انظر مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح 244 ـ 245.

كان هذان المصطلحان قبل استقرار المصطلحات الحديثيّة في العصور المتأخّرة متداخلين لدرجة أن أطلق أحدهما على الثاني. فهذا ابن الصلاح رحمه الله بعد أن يورد مثالا على التابع يقول:» ويجوز أن يسمّى ذلك بالشاهد أيضا « (1) ويبدو أنّ الحاكم النيسابوريّ قد سبقه إلى هذا الخلط بينهما، فقد سمّى رحمه الله في المدخل إلى الصحيح» المتابعات شواهد «وسار النوويّ على خطاهما فقال في التقريب:» وتسمّى المتابعة شاهدا « (2) ، كما أنّ أبا حفص سراج الدين البلقينيّ [ت805هـ] في محاسن الاصطلاح يعلّق على قول ابن الصلاح:» قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد «، بقوله:» فائدة: لا يقال عطف الاستشهاد على المتابعة يقتضي تغايرهما «. فهو مثل سابقيه يرى أنّهما شيء واحد. وعلى نفس المنوال سار شيخ الإسلام ابن حجر العسقلانيّ فقال فيما يرويه عنه السيوطيّ في التدريب:» وقد يسمّى الشاهد متابعة أيضا «. وهذا أمر كما نرى قد يستقيم إذا نظرنا للمسألة من الناحية اللغوية، فالشاهد والتابع كلّ منهما بمعنى الموافق، أمّا إذا اعتمدنا التعريف الاصطلاحيّ ونظرنا إلى وظيفة كلّ من الشاهد والتابع فإنّ خلط القدامى بين التابع والشاهد يصبح مربكا وغير مستقيم مع المنهج العلميّ. وقد حاول الإمام السيوطيّ التمييز بين المصطلحين إلا أنّه أوقعنا في خلط آخر لا يقلّ جسامة عن سابقه، فهو يقول:» فقد حصل اختصاص المتابعة بما كان باللفظ سواء كان من رواية ذلك الصحابيّ أم لا، والشاهد أعمّ، وقيل هو مخصوص بما كان بالمعنى كذلك « (3) .

_ (1) المقدمة 247. (2) التقريب متن التدريب 1/243. (3) نفس المصدر السابق.

ولا يخفى ما لهذه الفضفضة وهذا الخلط وعدم الوضوح في مسألة المتابعات والشواهد من آثار سلبيّة على عمليّة التخريج القائمة على معرفة المتابعات والشواهد للوصول إلى الحكم السديد على الحديث المراد دراسته والحكم عليه بما هو أهله، والتخريج هو إكسير العلم على حدّ تعبير شيخنا سيّد أحمد صقر طيّب الله ثراه. وإذا علمنا أنّ وظيفة المتابعة هي جبر الضعف الخفيف المحتمل كثبوت السماع في المتابع [اسم فاعل] بدل عنعنة الراوي المدلّس في المتابع [اسم مفعول] ،وكرواية الثقة بدل المختلط أو كثير السهو والخطأ والنسيان، وكتبيّن الوصل بدل الانقطاع أو كمعرفة الراوي بعد أن كان مبهما في المتابع [اسم مفعول] ، وغير ذلك من أنواع الجبر التي تحدثها المتابعة فترتقي بالحديث المتابع [اسم مفعول] الضعيف إلى درجة الصحيح لغيره أو الحسن لغيره بحسب درجة التابع من القوّة. وإذا علمنا كذلك أن وظيفة الشاهد هي دعم متن الحديث المتابع [اسم مفعول] فحسب، بأن تخرجه من دائرة الغرابة إلى مجال الشهرة أو تخرجه من دائرة الضعف إلى دائرة الصحة أو الحسن بحسب السند الذي رويت به. إذا علمنا هذا فلا بدّ من التفريق بين المتابعة والشاهد ولا بدّ من وضع اصطلاح جامع مانع لكلّ واحد منهما على حدة يميّز أحدهما عن الثاني. ولعلّ من أجمع التعريفات وأمنعها تعريف شيخنا الشيخ مصطفى أمين التازي في كتابه» مقاصد الحديث في القديم وفي الحديث «. فقد عرّف التابع بقوله:» أن يوافق راوي الحديث الذي كان يظنّ تفرّده به، راو آخر يصلح حديثه للاعتبار في رواية ذلك الحديث معه بلفظه أو بمعناه عن شيخه أو عمّن فوقه بحيث ينتهي إلى صحابيّ واحد «. وعرّف الشاهد بقوله:» أن يوافق راوي الحديث الذي كان يظنّ تفرّده به راو آخر يصلح حديثه للاعتبار في رواية ذلك الحديث بلفظه أو بمعناه عن صحابيّ آخر « (1) . عبارات موهمة في الجرح والتعديل:

_ (1) مقاصد الحديث (بتصرّف قليل) 115 ـ 117.

وممّا يجدر التنبيه إليه وجود بعض العبارات الموهمة التي أطلقها بعض العلماء للدلالة على معانٍ خاصّة بهم كعبارة» المنكر «مثلاً الذي هو ما رواه الضعيف مخالفاً ما رواه الثقة «، فإنّ الإمام أحمد يطلقها على من يُغرب على أقرانه في الحديث بأن يأتيهم بالغرائب فيقول عنه» منكر الحديث « (1) أو» له أحاديث مناكير «فهو لا يعني بذلك تضعيفه وإنّما يطلق المناكير على الأفراد التي لا متابع لها، أي الأحاديث الغريبة غير المعروفة، وكأنّه رحمه الله اعتمد المعنى اللغوي للمنكر وهو النكرة غير المعروف. بينما الإمام البخاري حين يطلق» منكر الحديث «فإنّما يريد بذلك الراوي الذي لا تحلّ الرواية عنه (2) ، فالعبارة واحدة إلا أنّ كلا منهما يستخدمها للتعبير عن معنى مختلف. ويستخدم بعض المحدّثين نفس العبارة» منكر الحديث «أو» يروي المناكير «للتدليل على كثرة تفرّد الراوي، في حين إذا قالوا» حديث منكر «فإنّهم يقصدون أنّه حديث واهٍ، رواه ضعيف مخالفاً الثقة. وكعبارة» ليس بشيء «فإنّ يحيى بن معين [ت 234هـ] يستخدمها للتدليل على قلّة حديث الراوي لا لتضعيفه. أمّا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي [ت277هـ] فإنّه إذا أطلق على راوٍ عبارة» ليس بشيء «فيريد أنه ضعيف ضعفاً شديداً وأنه متروك متّهم، حتّى أنّه أحياناً يضيف إلى عبارة» ليس بشيء «قوله:» متروك الحديث «مثلما فعل ذلك مع سليمان بن داود الشاذكوني فقد قال عنه:» ليس بشيء، متروك الحديث « (3) . أمّا عبارة» ليس به بأس «فإن يحيى بن معين [ت 234هـ] يطلقها على الثقة فقد قال رحمه الله: إذا قلت:» ليس به بأس، فثقة «. بل فإن الإمام أبا حاتم محمد بن إدريس الرازي [ت 277هـ] يعبّر بقوله:» صدوق «أو» لابأس به «عن أعلى درجات التوثيق.

_ (1) تدريب الراوي 1/347. (2) تدريب الراوي 1/349 (3) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 4/115.

فالوقوف على دلالات هذه المصطلحات الخاصّة ببعض العلماء متأكّد حتّى نتجنّب الخطأ في فهم مرادهم في تعديل الرواة أو تجريحهم. الفضفضة طالت عناوين الكتب: وإنّ هذه الفضفضة في بعض المصطلحات طالت عناوين الكتب حيث أصبح عنوان الكتاب لا يترجم مضمونه، ومن أمثلة ذلك: مسند الدارمي: لقد اصطلح علماء الحديث على تسمية كتاب الرواية الذي يجمع حديث كلّ صحابيّ على حدة مسنداً. إلا أنّ كتاب» السنن «لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارميّ [ت 255هـ] رغم أنّه مؤلّف على الأبواب فقد اشتهر بالمسند على غير اصطلاح المحدّثين، حتى أنّ أبا عمرو ابن الصلاح عدّه بين كتب المسانيد، أوقعه في هذا اشتهاره عند العلماء باسم مسند الدارميّ. ولعلّه سمّي مسنداً لأنّ أحاديثه مسندة متّصلة على غرار تسمية البخاريّ كتابه بالجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه (1) . مسند الحارث بن أبي أسامة التيميّ مولاهم [ت 282هـ] : كما أنّ هذا المسند وإن سمّي مسنداً إلا أنّه في الحقيقة معجم ذلك أنّ مؤلّفه رحمه الله رتّبه على شيوخه شأن منهج التأليف على المعاجم. وأوّل هذا المسند مسند شيخه يزيد بن هارون (2) ، فالعنوان مسند والمضمون معجم. المعجم الكبير لأبي القاسم سليمان بن أحمد اللخميّ الطبرانيّ [ت 360هـ] :

_ (1) الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدّثين. للدكتور أحمد محرّم الشيخ ناجي 2/317 ـ ط1 1407هـ/1987 مطبعة الأمانة ـ مصر. (2) بستان المحدّثين في بيان كتب الحديث وأصحابها الغرّ الميامين 144، للإمام عبد العزيز بن الإمام وليّ الله الدهلويّ [ت1239هـ] ، نقله عن الفارسيّة محمد أكرم الندويّ ـ ط1 ـ 2002 ـ دار الغرب الإسلاميّ ـ بيروت.

رتّب الإمام الطبرانيّ معجمه الكبير على الصحابة فقد جمع حديث كلّ صحابيّ على حدة سوى مسند أبي هريرة فكأنّه نوى إفراده فلم يدخله فيه، فهو بالمسانيد أولى إلا أنّه اشتهر عند العلماء بالمعجم. شُحُّ التمثيل وعسر التطبيق: إنّ كتب المصطلح المتداولة بين أيدي طلاب العلم تتّسم بندرة التمثيل على أنواع من علوم الحديث المدروسة في تلك الكتب فغلب عليها الطابع النظريّ، والحال أنّه ينبغي أن يقوم هذا العلم على أساس التطبيق لواقع ما يدرس من موضوعاته حتى تكون واضحة المعالم. فهذا ابن الصلاح يعرّف الصحيح ويذكر ما يحترز بكل شرط من شروطه، وسبب اختلاف العلماء في صحّة بعض الأحاديث، وينتقل إلى ذكر جملة من الفوائد المهمة، دون أن يذكر مثالاً واحداً (1) ليطبق عليه التعريف وملحقاته من الفوائد. ونفس الصنيع سلكه الإمام النوويّ في التقريب، وحتّى الإمام السيوطيّ رغم توسّعه في شرح التعريف وبيان محترزاته وذكره جملة من التنبيهات المفيدة إلا أنه لم يورد مثالاً واحداً على الصحيح. وفي موضوع الحسن رغم تنوّع قضاياه ومسائله فإنّ مثالاً تطبيقياً واحداً لم يطرحه أحد ممّن درسوه رغم كثرتهم بداية من الترمذيّ فالخطابيّ فابن الصلاح، وحتى الإمام السيوطيّ رحمهم الله، وإذا قيل إنّ الصحيح لذاته والحسن لذاته يمكن تعرّفهما بنظرة سريعة في كتب الصحاح والسنن، فإنّ الصحيح لغيره والحسن لغيره يحتاجان لدراسة وتدبّر لمعرفة موطن الضعف ثم الوقوف على المتابعات التي تجبر هذا الضعف حتى يرتقي الحديث الحسن إلى الصحيح لغيره والضعيف إلى الصحيح لغيره أو إلى الحسن لغيره.

_ (1) مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح 151 - 152.

وفي دراسة الضعيف غلب على ابن الصلاح الطابع النظري فلم يورد مثالاً واحداً على أقسامه الكثيرة التي ولّدها بتصوّر اختلال شرط واحد من شروط الصحيح أو الحسن، ثم شرطين، ثم شرط ثالث مركّب من الأول والثاني وهكذا.. فهو يقول:» وسبيل من أراد البسط أن يعمد إلى صفة معيّنة منها فيجعل ما عدمت فيه من غير أن يخلفها جابر، على حسب ما تقرّر في نوع الحسن، قسماً واحداً، ثم ما عدمت فيه تلك الصفة مع صفة أخرى معيّنة قسماً ثانياً ثم ما عدمت فيه مع صفتين معيّنتين قسماً ثالثاً، وهكذا ... «. وهذه التصوّرات ممّا يعسر إيجاد أمثلة تطبيقيّة لها. ومن الأمثلة على عسر التطبيق موضوع الإسناد العالي والنازل، ولنذكر هنا محاولة الشيخ محمد محمّد أبي شهبة (1) رحمه الله إيراد مثال تطبيقي لبعض أقسام العلو، فبعد أن يعرّف العلوّ، يذكر أقسامه (2) وحتّى إذا ما وصل إلى القسم الثالث وهو العلو بالنسبة إلى رواية أحد الكتب الستة أو غيرها من الكتب المعتمدة، يذكر أقسامه الأربعة، وهي: أ. الموافقة ب. والإبدال ج. والمساواة د. والمصافحة.

_ (1) الوسيط في علوم ومصطلح الحديث ط1 - 1403هـ/1983م عالم المعرفة للنشر والتوزيع - جدة. (2) وهي خمسة أقسام:1 ـ وهو أجلّها: القرب من رسول الله بإسناد صحيح نظيف.2 ـ القرب من إمام من أئمة الحديث [مثل شعبة ومالك والثوري والشافعيّ..] وإن كثر بعده العدد من رسول الله. 3 ـ العلوّ بالنسبة إلى رواية أحد الكتب الستة أو غيرها من الكتب المعتمدة كمسند أحمد.وهذا القسم يتفرّع إلى: [أـ الموافقة. ب ـ الإبدال. ـ ج ـ المساواة. د ـ المصافحة] . 4 ـ العلوّ بتقدّم وفاة الراوي وإن تساويا في العدد. 5 ـ العلوّ بتقدّم السماع من الشيخ، فمن سمعه متقدّما كان أعلى ممّن سمع منه بعده.

ثم يعرّف الموافقة بقوله:» هي أن يروي الراوي حديثاً في أحد الكتب الستة مثلاً بإسناد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب بحيث يجتمع معه في شيخه مع علوّ هذا الطريق على ما لو رواه من طريق أحد أصحاب هذه الكتب «. ثم يحاول عرض مثال تطبيقي للموافقة نقلاً عن ابن حجر فيقول:» قال الحافظ ابن حجر: مثاله: روى البخاري عن قتيبة بن سعيد عن مالك حديثا: ـ فلو رويناه من طريقه [أي من طريق البخاري] كان بيننا وبين قتيبة ثمانية. ـ ولو روينا ذلك الحديث بعينه عن طريق أبي العبّاس السرّاج [218 - 313هـ تلميذ البخاري وتلقّى عنه البخاريّ ومسلم] لكان بيننا وبين قتيبة فيه سبعة. فقد حصلت لنا الموافقة مع البخاريّ في شيخه بعينه مع علوّ الإسناد بدرجة «. فهذا المثال ولئن كان مقبولاً نظرياً إلا أنّ تطبيقه على الواقع يبدو عسيراً إن لم يكن متعذراً: فما هو هذا الحديث الذي رواه البخاري عن قتيبة بن سعيد عن مالك؟ وما هو هذا السند الذي لو روينا الحديث به عن طريق البخاريّ لكان بيننا وبين قتيبة بن سعيد ثمانية؟ ومن هم هؤلاء الثمانية؟ وما هو السند الذي إذا روينا به الحديث بعينه عن أبي العبّاس السرّاج كان بيننا وبين قتيبة فيه سبعة؟ ومن هم هؤلاء السبعة؟ أسئلة لا يتأتّى فهم المثال التطبيقي للتعريف إلا بالإجابة عنها بوضوح. وما يقال في الموافقة يقال في الإبدال وفي المساواة، والمصافحة. وجلّ أنواع علوم الحديث وإن قتلت بحثاً نظرياً من حيث تعريفها وبيان أنواعها، واستعراض أقوال العلماء فيها، إلا أنّها تعاني من شحّ الأمثلة التطبيقية وإن وجدت فالكثير منها أمثلة تقديرية غير قابلة للتطبيق، فأضحت مشوبة بعدم الوضوح المطلوب. وبعد:

فإنّ علم المصطلح دراية شأنه شأن أغلب علوم الوسائل يقوم في ظنّي على المنطق والعقل، وإنّ أسلافنا الميامين من العلماء البررة بذلوا جهوداً مضنية في بناء هذا الصرح الشامخ وخدمته حتّى أصبح علماً فريداً في قوّته وأهمّيّته بين العلوم إلا أنّ اختلاف أنظار العلماء وتزاحم آرائهم حول تحرير مصطلحاته والتعبير عنها بطرق متعدّدة جعلت بعض تعريفاته تتعرّض لشيء من الإخلال التي تفقدها الشرط الجوهري للتّعريف وهو أن يكون جامعاً مانعاً. كما أنّ توسّعهم في التحليل والتصوّر عسّر عمليّة الوصول إلى أمثلة تطبيقية تعبّر عن واقع المصطلح. وإذا كان العلماء المتمرّسون لا يضنيهم البحث عنها والوصول إلى المراد، فإنّ طلبة العلم المبتدئين خاصّة يجدون من العسر في فهمها ما قد يجعلهم يشيحون عنها. ولتقريب جني ثمار هذا العلم الشريف لطلابنا ولتحبيبهم فيه لابدّ من تيسير وصول هذا العلم إليهم واضحاً، بيّناً، بمصطلحاته وأمثلته، ويحضرني هنا مثال على الكتب التعليميّة الواضحة والناجحة هو كتاب» البلاغة الواضحة «فقد سلك مؤلفاه عليّ الجارم، ومصطفى أمين رحمهما الله نهجاً تعليميّاً واضحاً فيبدآن عند دراسة كلّ نوع من أنواع علم البلاغة: بعرض جملة من الأمثلة. ثم يشرعان في بحث تلك الأمثلة ودراستها. ويخلصان من البحث إلى استخلاص القاعدة أو القواعد فيصوغانها بعبارات محرّرة جامعة مانعة. ثم يعرضان نماذج لتطبيق القاعدة عليها. ثم يوردان جملة من التمرينات التطبيقية. فييصبح الموضوع على درجة كبيرة من الوضوح والجلاء.

وإنّ وضعنا لكتاب في علوم الحديث على غرار هذا الكتاب سيحوّل أنواع المصطلح إلى مسائل واضحة تقوم على صيغ محرّرة للمصطلح، يدعمها مثال فأكثر يصدّق النظريّة، مع الإشارة دائما في الهامش إلى المصطلحات الخاصّة ببعض العلماء حتّى نفهم مرادهم ونفتّح مغاليق ما يواجهنا منها في مسيرة البحث والدراسة. وبذلك نسهم في خدمة هذا العلم الشريف، ونعمل على تقريبه إلى شريحة واسعة من أبناء المسلمين المتعطّشين لدراسة سنّة نبيّهم ومعرفة ما يصلح منها للاحتجاج وما لا يصلح. وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم. قائمة المصادر والمراجع 1 ـ الباعث الحثيث، شرح اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير [ت774هـ] ـ تأليف أحمد محمد شاكر. ـ دار الكتب العلميّة ـ بيروت (بدون بيان عدد الطبعة ولا تاريخها ولا مكانها) . 2 ـ بستان المحدّثين في بيان كتب الحديث وأصحابها الغرّ الميامين. ـ الإمام عبد العزيز بن الإمام وليّ الله الدهلويّ [ت1239هـ] ، نقله عن الفارسيّة، محمّد أكرم الندويّ ـ ط1 ـ 2002 ـ دار الغرب الإسلاميّ ـ بيروت. 3 ـ تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي [ت676هـ] . ـ الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطيّ [ت911هـ] . ـ حقّقه عبد الوهاب عبد اللطيف ـ دار الفكر ـ مطبعة السعادة بمصر. 4 ـ التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير للنوويّ انظر تدريب الراوي. 5 ـ التقييد والإيضاح شرح مقدّمة ابن الصلاح. ـ زين الدين عبد الرحيم العراقي [ت806هـ] . ـ حقّقه عبد الرحمن محمد عثمان ـ ط1 ـ 1389هـ/1969م ـ المكتبة السلفيّة بالمدينة المنوّرة. 6 ـ الجرح والتعديل. ـ أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي [ت327هـ] . ـ ط1 ـ حيدر آباد الدكن ـ الهند 1371هـ/1952م. 7 ـ الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدّثين. ـ الأستاذ الدكتور الشيخ /أحمد محرّم الشيخ ناجي. ـ ط1 ـ 1407هـ/1987م ـ مطبعة الأمانة ـ مصر. 8 ـ الكفاية في علوم الرواية.

ـ أبو بكر أحمد الخطيب البغدادي [ت463هـ]ـ تقديم محمد الحافظ التيجانيّ. ـ ط2 ـ 1972/ ـ الناشر دار الكتب الحديثة [القاهرة]ـ مكتبة المثنّى [بغداد] . 9 ـ محاضرات في علوم الحديث. ـ مصطفى أمين التازي. ط3 ـ مطبعة دار التأليف 1971 ـ مصر. 10 ـ معرفة علوم الحديث. ـ أبو عبد الله الحاكم النيسابوري [ت405هـ] . ـ تحقيق السيّد معظم حسين. ـ ط2 ـ 1977م. المكتب التجاريّ للطباعة والتوزيع والنشر ـ بيروت. 11 ـ مقاصد الحديث في القديم وفي الحديث. ـ مصطفى أمين التازي. ط5 ـ مطبعة دار التأليف بالمالية ـ مصر. 12 ـ مقدمة ابن الصلاح [ت643هـ] ومحاسن الاصطلاح لأبي حفص عمر بن رسلان السراج البلقينيّ [ت805هـ] ـ تحقيق عائشة عبد الرحمن [بنت الشاطئ] . ـ دار المعارف ـ القاهرة. 13 ـ الوسيط في علوم ومصطلح الحديث. ـ الأستاذ الدكتور الشيخ محمد بن محمد أبو شهبة. ـ ط1 ـ 1403هـ/1983م ـ عالم المعرفة للنشر والتوزيع ـ جدّة.

عناصر شرح الحديث في الجامعات بين الواقع والطموح

عناصر شرح الحديث النبوي في الجامعات بين الواقع والطموح د. صالح يوسف معتوق الأستاذ المشارك في الحديث الشريف وعلومه كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي مقدمة: الحمد لله رب العالمين، الذي أنزل كتابه نوراً وهدى للناس أجمعين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم الشارح والمبين لما أُوحي إليه من كتاب رب العالمين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: مما هو معلوم لدى المسلمين أن السنة النبوية جاءت شارحة ومبينة ومفسرة ومؤكدة لما في القرآن الكريم، وأتت - أيضاً - بتشريعات لم يرد ذكرها فيه. وإذا كان كتاب ربنا - عز وجل - قد لقي من العناية به - حفظاً وتلاوة وجمعاً وتدويناً ثم تفسيراً وشرحاً - ما لم يعتن بكتاب آخر فإن الحديث النبوي الشريف لقي - أيضاً - عناية كبيرة من علماء الأمة حفظاً وتدويناً ودراسة لأسانيده ومتونه. وكما تفاوتت مناهج المفسرين لكتاب الله تعالى تفاوتت مناهج شراح السنة على مر العصور، فهناك شروح مطولة، وشروح مختصرة، ومنها شروح خاصة بالمتون ومنها ما أضيف إلى ذلك دراسة الأسانيد، وهناك كتب لشرح غريبها، أو بيان مشكلها ومختلفها ومنسوخها وغير ذلك، ثم توجت شروحها بأعظم شرحين هما: فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني وعمدة القاري للحافظ بدر الدين العيني. ثم توالت الشروح بعدهما حتى يومنا، وأصبح شرح الحديث الشريف علماً قائماً بذاته، يدرس في المعاهد والجامعات، وخصصت له ساعات تدريسية في المناهج الجامعية، واختيرت له كتب تتفاوت مناهجها من جامعة إلى أخرى، فبعض الجامعات مثلاً تدرس شرح أحاديث الأحكام، وبعضها شرح أحاديث الرقائق، وبعضها شرح أحاديثَ متنوعةِ الأبواب وغير ذلك. وأغلب هذه الشروح - حسب علمي - تقتصر على شرح المتون.

وطريقة شرح المتن في الكتب المقررة متفاوتة أيضاً، فبعضها يقتصر على بيان الفوائد والأحكام الشرعية وشرح المفردات، وبعضها يهتم بالمعنى الإجمالي وبيان الإعراب والبلاغة وغير ذلك، وتتفق جميعها في إغفال كل ما يتعلق بالأسانيد. سبب اختيار الموضوع وأهميته: من أهم عوامل نجاح أي بحث علمي أن يعالج الباحث مشكلة يشكو منها المجتمع أو فئة من فئاته، فوجود الشكوى والمعاناة تدفع العلماء إلى البحث عن حلول وأجوبة تسهم في إزالة المشكلات، وعدم الشكوى والمعاناة ليست دليلاً قاطعاً على عدم وجود مشكلة. فالطبيب يعالج المريض الذي يأتي إليه بعد أن يشعر بالألم، ولكن عدم الإحساس بالألم لا يعني الخلوَّ من المرض، فهناك أمراض لا تظهر أعراضها إلا بعد سنوات من توطنها في جسم الإنسان، ولا يكتشفها قبل وقتها إلا الأطباء المتخصصون بعد إجراء تحاليل وأشعة وفحوص مخبرية ونحو ذلك. وبالنسبة لمقرر شرح الحديث النبوي هل المشكلة فيه ظاهرة والشكوى منه عامة؟ أم هي مشكلة كامنة لا يدركها إلا الأساتذة المتخصصون؟ لقد تتبعت آراء الطلبة الذين يدرسون هذا العلم في أكثر من جامعة وسألت بعض الأساتذة، فما وجدت أحداً من الطلبة يعاني من وجود خلل في هذا المقرر أو يشكو من صعوبته، وإنما الشكوى والمعاناة قائمة في مقرر علوم الحديث، بل إن أكثر الطلبة يرون أن هذا العلم سهل التحصيل لا يحتاج الطالب فيه إلى جهد ذهني كبير، ولا يتطلب من دارسه أدوات علمية مساعدة، لكن عدم وجود الشكوى لا يدل قطعاً على عدم وجود خلل في المناهج، فربما لا يكون الطلبة أهلاً لاكتشاف هذا الخلل لقصورهم عن إدراك ذلك، أما الأساتذة المتخصصون فقد سمعت من الكثير منهم الشكوى من قصور المناهج وعدم صلاحيتها لإعطاء فكرة واضحة عن موضوعات السنة النبوية وما ينبغي أن تتضمنه شروحها.

لذا اخترت الكتابة في هذا المحور من محاور الندوة. وتكمن أهمية هذا البحث في أنه يعالج مشكلة غير ظاهرة لدى البعض، ويضع الحلول المناسبة لها حسب اجتهاد كاتبه. حال مناهج شرح الحديث في الجامعات: يغلب على مناهج شرح الحديث في جامعاتنا تدريس شرح أحاديث الأحكام الفقهية، لتنمية ملكة الاستنباط الفقهي لدى الطالب. ولهذه الطريقة بعض العيوب منها: 1- جهل الطالب بباقي موضوعات السنة التي يحتاجها في حياته العملية والدعوية. 2- يقوم بتدريس هذا المقرر - في كثير من الأحيان - أساتذة غير متخصصين في السنة النبوية مما يجعل الدرس درس فقه لا حديث. 3- يكون تكراراً لما درسه الطالب في علم الفقه. وقد حدث مرة في إحدى الكليات الشرعية أن تشابهت أسئلة الفقه وأسئلة شرح أحاديث الأحكام في العبادات بنحو 50%. 4- تُرسِّخ في عقل الطالب فكرة أن علم شرح الحديث الشريف رديف ومساعد للمقررات الأخرى وليس علماً قائماً بذاته. إن واقع هذه المناهج لا تخرج عالماً بالسنة النبوية كتخصص مستقل، وطموحنا أن تبرز المناهج استقلالية هذا العلم، وعدم تبعيته لأي فن آخر، وهذا لا يتم إلا إذا أخرجناه من دائرته الضيقة المحصورة في شرح متون أحاديث ذات صبغة واحدة، وأن تحدد العناصر أو الفقرات التي ينبغي أن يشتمل عليها الشرح. وهذا ما سنتاوله بالتفصيل في المبحث التالي إن شاء الله تعالى. أهم العناصر التي ينبغي أن يشتمل عليها شرح الحديث:

1- تنويع الموضوعات التي تعالجها الأحاديث المقررة ليطلع الدارس على مجمل موضوعات السنة فيدرك شمولها لجميع مناحي الحياة، ويستحسن في اختيار الأحاديث ما يعالج مشكلة يعاني منها المجتمع الحالي، أو التي تثار حولها الشبهات، أو التي تفهم خطأ، وأمثل لذلك بأحاديث (ناقصات عقل ودين) و (الشؤم في ثلاث المرأة والدار والفرس) و (سحر النبي صلى الله عليه وسلم) و (وقوع الذبابة) و (مراحل خلق الإنسان في بطن أمه) و (حقوق الإنسان أو العمال) و (النظافة) و (التعامل مع أهل الذمة) وغير ذلك كثير. وتدريس هذا النوع من الأحاديث يعين الطالب في خدمة مجتمعه وأمته. 2- ألا يقتصر في الاختيار على الأحاديث الصحيحة، بل ينبغي أن تشمل المتواتر، والصحيح بقسميه (لذاته ولغيره) والحسن بقسميه، والضعيف، ويوضح للطلبة أسباب ارتقاء الحديث للقسم الأعلى أو أسباب تقاعده عن ذلك. 3- أن يورد النص سنداً ومتناً، ويضبط ضبطاً تاماً. وفائدة ذلك تعويد الطالب على القراءة الصحيحة المضبوطة لأسماء الرواة فيألف هذه الأسماء، وتشرح له الرموز (ثنا، نا، أنا، ح) وغيرها. 4- الترجمة للصحابي في المرة الأولى باختصار مع رد بعض الشبهات التي تثار حوله ككثرة مروياته مثلاً. 5- بيان لطائف الإسناد. كأن يكون فيه عنعنة، أو انقطاع، أو تدليس، أو إرسال، أو روى بسلسلة قيل فيها إنها أصح الأسانيد، أو أحسنها، أو فيها رواية الآباء عن الأبناء أو رجاله كلهم مكيون أو أئمة ونحو ذلك من اللطائف التي لا يخلو إسناد من واحد منها. 6- بيان درجة الحديث بنقل أقوال الأئمة المعتمدين، مع بيان أسباب تصحيحه أو تحسينه أو تضعيفه. 7- ذكر من أخرجه من أصحاب المصنفات، وبيان المتابعات والشواهد، وذكر مواطن الاتفاق والاختلاف في المتن. 8- سبب ورود الحديث - إن وجد -. 9- شرح الألفاظ اللغوية الغريبة وإعراب الكلمات المشكلة أو التي تحتمل أكثر من وجه في الإعراب.

10- بيان بلاغة الحديث من البيان والمعاني والمحسنات البديعية، والأمثال النبوية؛ ليدلل به على فصاحته صلى الله عليه وسلم، وأنه أوتي جوامع الكلم (وهذا فيما لم يرو بالمعنى) . 11- الأحكام والآداب المستفادة من الحديث (فقهية، عقائدية، سلوكية، صحية، دلائل النبوة، إخبار بالمغيبات وغيرها) تذكر أقوال العلماء مع بيان موضع دليلهم من الحديث أو شواهده. 12- الإجابة عن الإشكالات والشبهات الواردة على النص. 13- ربط الحديث بالواقع قدر الإمكان، وتنزيل بعض الأحداث المعاصرة عليه. 14- وأخيراً ذكر المصادر والمراجع التي يمكن أن يرجع إليها الطالب في شرح الحديث. إن هذه العناصر التي أوردتها آنفاً لا توجد كاملة في كل حديث يشرح، فبعض الأحاديث - مثلاً - لا سبب لوروده، أو لا يوجد فيه إشكال نحوي، أو إن الصحابي أو الإسناد قد سبق ذكره، فينقص عدد العناصر إلى عشرة أو أقل أو أكثر، حسب ما يقتضيه الحديث. أهمية وجود هذه العناصر في الشرح: تلك الطريقة الموسعة في دراسة الحديث تربط الطالب بالجانب النظري الذي درسه في مقرر علوم الحديث، ويرسخه في ذهنه، وتفتح أمام الطالب آفاقاً أرحب في مدلولات الأحاديث وشموليتها لجميع مناحي الحياة. كما يدرك الطالب فيها - عملياً - مدى ارتباط علوم الشريعة بعلوم اللغة العربية، وأنه لا يجوز الفصل أبداً بين هذه العلوم. وعلى من ينشد التميز والتفوق الاستفادة من العلوم المساعدة في فهم الحديث النبوي، فإن النص الشرعي (سواء أكان قرآناً أم حديثاً) لا يتم فهمه إلا باستخدام علوم الآلة. كما تغرس هذه الطريقة في ذهن الطالب فكرة حاجة كل علم إلى غيره وعدم استغنائه عما سواه، وإن حاجة العلوم الشرعية إلى العلوم العربية أشد من العكس. وقد كان أسلافنا يحثون الطلبة على تعلم النحو كي لا يلحنوا في الأحاديث، وما من عالم من علمائنا إلا وقد درس علوم العربية واستفاد منها في دراسته الشرعية.

نقل الإمام القرطبي المفسر عن الإمام أبي جعفر الطبري قال: سمعت الجَرْميَّ يقول:» أنا منذ ثلاثين سنة أُفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه «. قال محمد بن يزيد (أي المبرد) : وذلك أن أبا عمر الجَرْميَّ كان صاحب حديث؛ فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث، إذ كان كتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفسير، ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فبها يصل الطالب إلى مراد الله عز وجل في كتابه، وهي تفتح له أحكام القرآن فتحاً أ. هـ (1) . ولعل قائلاً يقول: إن هذه الطريقة تؤدي إلى تقليل كمية الأحاديث المقرر شرحها في الفصل الدراسي الواحد. ويُرَدُّ عليه بأن دراسة عشرة أحاديث في فصل واحد على هذا النحو الشمولي أكثرُ عوداً بالنفع والفائدة على الطالب من دراسة ثلاثين حديثاً لا تربطه بعلوم الحديث، وتقف به عند دراسة بعض فوائد المتن، وتجعله غير ملم بتنوع موضوعات السنة، ولا يعرف كيف يرد على الشبهات التي تثار حول بعض الأحاديث، وتصرفه عن الاهتمام بالعلوم المساعدة لفهم النصوص النبوية. إن شرح متونِ أحاديثَ ذاتِ صبغة واحدة (فقه أو عقيدة، أو سلوك) يمكن أن يقوم به أي أستاذ متخصص في تلك العلوم، ولا يتطلب متخصصاً في علوم السنة، أما الشرح وفق الطريقة التي ذكرتها لا يتمكن من الوفاء بها إلا أهل الحديث الشريف بلا مزاحمة. لذا ينبغي إعادة النظر في صياغة مناهج شروح الحديث الشريف في الجامعات فلا يكون همها كثرة عدد الأحاديث المشروحة بقدر نوعية الشرح ومدى استيعابه للعناصر اللازمة له، ومدى التصاقه بأهله المختصين به. هل توجد مؤلفات معاصرة تفي بهذا الغرض؟

_ (1) تفسير القرطبي 1/21-22 المقدمة، باب ما ينبغي لصاحب القرآن أن يأخذ نفسه به ولا يغفل عنه.

إن شروح السنة القديمة تتفاوت في وجود العناصر المذكورة - سابقاً - فيها، ولكن الشروح تطورت عبر العصور ووصلت إلى قمتها بشرحي صحيح البخاري للإمامين ابن حجر العسقلاني وبدر الدين العيني، وهذان الكتابان يدلان على إحاطة مؤلفيهما بعلوم الآلة وعلوم الغاية (الشريعة) ، وقد أودعا كتابيهما جميع ما ذكرت، وكتاب العيني أكثر تنظيماً وترتيباً، إلا أن أسلوبهما فوق مستوى الطالب الجامعي في عصرنا وتصلح للتدريس في مرحلة الدراسات العليا لا المرحلة الجامعية. أما الشروح المعاصرة المقررة في الجامعات فلا أعلم - حسب اطلاعي - كتاباً جامعياً حوى تلك العناصر. ولكنّ أَقْرَبَها إلى ذلك كتاب إعلام الأنام شرح بلوغ المرام لأستاذنا الفاضل الدكتور نور الدين عتر - حفظه الله تعالى - وإننا نعلم - حسب عنوان الكتاب - أنه خاص بأحاديث الأحكام، ولو لم يلتزم أستاذنا الفاضل شرح هذا الكتاب واختار أحاديث متنوعة الموضوعات - حسب البيان الذي ذكرته سابقاً - لكان هو الكتاب الذي ننشده ونطمح إليه. لذا أقترح - إن تم الاتفاق على ضرورة وجود هذه العناصر في الشرح - أن تشكل لجنة متخصصة من الحاضرين أو من غيرهم؛ ليقوموا بهذا المشروع ويعمم ذلك على الجامعات، فلا بد من تضافر الجهود والعمل المشارك لإنجاح هذا المقترح لأنه يصعب على فرد واحد أن يقوم به. وأتمنى أن تتبنى مؤسسة علمية أو خيرية هذا المشروع، وتطرحه على أهل العلم، وترصد جائزة قيمة لمن يتقدم بأحسن تصنيف في شرح الحديث يتناسب مع مستوى الطلبة في المرحلة الجامعية. وفقنا الله تعالى وإياكم إلى ما فيه خدمة القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحشرنا في زمرة أتباعه وأحبابه، واستخدمنا في سنة حبيبه ننفي عنها انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. والحمد لله رب العالمين في بدءٍ ومختتم

فوائد في مناهج القدماء في التعامل مع السنة تصحيحا وتضعيفا

فوائد في مناهج المتقدمين في التعامل مع السنة تصحيحاً وتضعيفاً د. عبد الرحمن عبد الكريم الزيد رئيس قسم الشريعة بكلية الشريعة واللغة العربية في رأس الخيمة أستاذ مساعد بقسم السنة بكلية أصول الدين جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية المقدمة: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره على آلائه ونعمه التي تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحمن الرحيم عالم السر والنجوى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخاتم رسله المبعوث بالحق والهدى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن علم الحديث من أشرف العلوم بعد كتاب الله عز وجل، ولقد هيأ الله تعالى لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أئمة أعلاماً وهداة كراماً، نضر الله وجوههم بالبلاغ عن نبيه والذب عن سنته والحفظ لدينه، فبذلوا أوقاتهم وأتعبوا أجسادهم وسهروا ليلهم وواصلوا نهارهم، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. في هذا البحث نقف مع فوائد من مناهجهم وفرائد من طرائقهم، لنقتفي أثرهم فالخير - والله - في سلوك طريق من سلف من أهل العلم والهدي المستقيم. سبب اختيار البحث: هذا البحث مشاركة في الندوة المقامة بكلية الدراسات الإسلامية بدبي حول» علوم الحديث واقع وآفاق «فإنه لما عرضت علي المشاركة في أحد موضوعاتها آثرت موضوع» مناهج القدماء في التعامل مع السنة تصحيحاً وتضعيفاً «، فهو موضوع قريب إلى نفسي موافق لتخصصي. ولقد كان لرسالتي في الماجستير» تحقيق القسم الأول من كتاب الكامل في ضعفاء الرجال «للحافظ ابن عدي، كان لها الأثر في ارتباطي بكتب المتقدمين الأوائل في السنة وتراجم الرواة وعلوم الحديث مما زاد تعلقي وحبي لهذا الجانب خاصة ما يتعلق بعلوم الحديث والإسناد.

ولا شك أن هذا الموضوع طويل ودقيق وشائك يحتاج إلى استقراء طويل وإدمان للقراءة في كتب القوم والبحث في زواياها واستخراج خباياها، وهذا قد لا يُتمكن منه في مثل هذا البحث. ورغم ما كتبته فهذا الموضوع يحتاج إلى توسع أكثر وإلى تأمل أطول، فلا أزعم أني استوفيت ولا أقول إني كفيت، ففي الموضوع وقفات للمتأمل وثغرات للناقد المبصر، ولذا فإني أرى أن يسمى البحث: ((فوائد في مناهج المتقدمين في التعامل مع السنة تصحيحاً وتضعيفاً)) . وقد كنت كتبت البحث من ستة مباحث وتحتها مسائل في (65) صفحة مع الفهارس تعرضت فيه لشروط الاحتجاج بالحديث ونقول عن المتقدمين في المسائل المتعلقة بها ولما قدمت البحث للجنة المنظمة طلب مني اختصار البحث إلى قرابة خمسة عشر صفحة فرأيت الاكتفاء بثلاثة مباحث أرى أنها مهمة وهي: تمهيد: المقصود بالمتقدمين المبحث الأول: المسائل المتعلقة بالشذوذ، وتحته فروع: 1 ـ بين الشاذ والمنكر. 2 ـ التفرد والشذوذ والنكارة. 3 ـ زيادة الثقة. المبحث الثاني: المسائل المتعلقة بالسلامة من العلة القادحة. المبحث الثالث: المسائل المتعلقة بتقوية الحديث. الخاتمة: هذا وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي خالصاً لوجهه وأن يجعله لي ذخراً وأن يحسن لنا العاقبة، ومن رأى فيما ذكرت خطأ فليدلني عليه فالمرء ضعيف بنفسه قوي بإخوانه. تمهيد: المقصود بالقدماء أو المتقدمين:

لم أجد من أهل العلم من نص على فارق زمني بين المتقدمين والمتأخرين إلا أنه اشتهر بين طلاب العلم أن المتقدمين من كان قبل الثلاثمائة للهجرة، وهذا القول للحافظ الذهبي رحمه الله تعالى (1) ، وكأن هذا القول اعتمد على أن ذلك عصر القرون المفضلة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ((خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) (2) . أو لأن آخر الأئمة الستة أصحاب الكتب المشهورة في السنة كانت وفاته قريباً من الثلاثمائة وهو الإمام أحمد بن شعيب النسائي حيث توفي سنة 303هـ. وهذا الرأي وجيه وله حظ من القوة، ففي تلك القرون عاش الجهابذة الذين كان لهم قصب السبق في حفظ السنة والذب عنها وبيان صحيحها من معلولها، وكان لهم المؤلفات الضخمة في الحديث والرجال والعلل وغيرها إلا أنه وجد بعد الثلاثمائة من الأئمة من سار على منهج المتقدمين وحذا على قواعدهم وطرائقهم فهو ملحق بهم كالإمام الدارقطني والخطيب البغدادي وابن رجب وغيرهم. وقد عدّ الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ابن حبان من المتقدمين فقال في كتابه (تعريف أهل التقديس) في كلامه عن مكحول قال: ((مكحول الشامي الفقيه المشهور تابعي يقال إنه لم يسمع من الصحابة إلا عن نفر قليل ووصفه بذلك ابن حبان، وأطلق الذهبي أنه كان يدلس ولم أره للمتقدمين إلا في قول ابن حبان)) (3) ا. هـ… وفي نزهة النظر لما تكلم عن زيادة الثقة قال: والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين ... وذكر منهم الدارقطني ... «وسيأتي قوله في مبحث زيادة الثقة.

_ (1) ميزان الاعتدال (1/4) . (2) متفق عليه من حديث عمران بن حصين. انظر: البخاري، ك: الشهادات، ب: لا يشهد على جور ح: (2651) ، ومسلم، ك: فضائل الصحابة، ب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، ح: (2535) . (3) انظر: تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس، ص156، رقم الترجمة (108) ط: المباركي.

فهذا يدل على أن ابن حجر رحمه الله يوسع دائرة المتقدمين، فابن حبان رحمه الله توفي سنة (354) هـ، والدارقطني مات سنة (385) هـ. وعلى كلٍّ فالمسألة ليس لها ضابط متفق عليه فيما يظهر لي. أما منهج المتقدمين في التصحيح والتضعيف فينبني على ضوابطهم وقواعدهم وطرائقهم في تحقق شروط القبول للحديث وعدمها وهذه الشروط التي ذكرها من ألف في مصطلح الحديث قديماً وحديثاً بناء على نص من المتقدمين من المحدثين أو استقراءاً من صنيعهم وتعاملهم مع السنة. والشروط التي ذكروها للحديث الصحيح خمسة: 1 ـ عدالة الرواة. 2 ـ الضبط. 3 ـ اتصال السند. 4 ـ السلامة من الشذوذ. 5 ـ السلامة من العلة القادحة ويزيد الحسن لغيره. 6 ـ أن يتقوى الضعيف المنجبر بطريق آخر مثله أو أقوى منه أوشاهد كذلك. وهذه الشروط التي ذكرها من ألف في مصطلح الحديث قديماً وحديثاً بناء على نص من المتقدمين من المحدثين أو استقراءاً من صنيعهم وتعاملهم مع السنة , وقدرأيت أن أتعرض خلال هذا البحث للثلاثة الأخيرة للحاجة لها ولكثرة الاضطراب فيها ولحاجة الطلاب لتجليتها. المبحث الأول: المسائل المتعلقة بشرط السلامة من الشذوذ:

من المعلوم أن العلماء اختلفوا في ضابط الشاذ على أقوال، فمنهم من عممه كالخليلي حيث سوى بين الشاذ والفرد المطلق حيث قال: إن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ ثقة كان أو غير ثقة، وأخص منه تعريف الحاكم لأنه يقول: إنه تفرد الثقة فيخرج تفرد غير الثقة فيلزم من قوله أن يكون في الصحيح الشاذ وغير الشاذ وأخص منه كلام الشافعي حيث يقول: إنه تفرد الثقة بمخالفة من هو أرجح منه (1) وتعريف الشافعي رجحه الكثير منهم ابن حجر رحمه الله وغيره، أما ابن الصلاح رحمه الله فمن كلامه أنه جعل الشاذ قسمين: أحدهما: الحديث الفرد المخالف، والثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابراً لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف (2) . وتبعه ابن دقيق العيد حيث قال في الشاذ: هو ما خالف رواية الثقات أو ما انفرد به من لا يحمل حاله أن يقبل ما تفرد به (3) . وقد أورد العراقي في التقييد والإيضاح وابن حجر في النكت الاعتراضات على تعريف الخليلي والحاكم وابن الصلاح وليس المجال عرض ذلك وإنما سأعرض لمسائل لها علاقة بمنهج المتقدمين: 1 ـ بين الشاذ والمنكر:

_ (1) النكت على ابن الصلاح (2/652) وما بعدها. (2) مقدمة ابن الصلاح مع التقييدوالإيضاح، ص 88. (3) الاقتراح، ص 211، ت: عامر صبري.

فرق بينهما بأن الشاذ ما خالف فيه الثقة من هو أولى منه، والمنكر: ما خالف فيه الضعيف من هو أولى منه، وهذا الاصطلاح الذي عليه كثير من المتأخرين التفريق بينهما كما ذكره ابن حجر حيث قال: إن بين الشاذ والمنكر عموماً وخصوصاً من وجه لأن بينهما اجتماعاً في اشتراط المخالفة وافتراقاً في أن الشاذ رواية ثقة أو صدوق، والمنكر رواية ضعيف، وقد غفل من سوى بينهما (1) يعني بذلك ابن الصلاح حيث يدخل المنكر في تعريفه الثاني ولأنه قال: وإن كان بعيداً عن ذلك - يعني الحفظ والضبط - لرددنا ما انفرد به وكان من قبيل الشاذ والمنكر. أقول: ورد إطلاق المنكر على ((ما خالف فيه الثقات)) في كلام المتقدمين، فأبو داود رحمه الله قال عن حديث همام بن يحيى عن ابن جريج عن الزهري عن أنس في وضع الخاتم عند دخول الخلاء، قال أبو داود: حديث منكر وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه، والوهم فيه من همام (2) . فهنا عدّ أبو داود مخالفة همام من المنكر مع أن همام بن يحيى ثقة روى له الشيخان (3) ، ولذلك لما مثل العراقي في التقييد والإيضاح بهذا المثال للمنكر تعقبه ابن حجر في النكت فقال: فإنه شاذ في الحقيقة إذ المنفرد به من شرط الصحيح (4) . فابن حجر هنا تمسك بقاعدته في التفريق بين الشاذ والمنكر بينماينبغي للطالب أن يتنبه الى أن كثيراً من المتقدمين لايفرقون بينهما.

_ (1) نزهة النظر، ص 36، وقد فصل في هذا في النكت (2/674، 675) . (2) سنن أبي داود وكتاب الطهارة، باب: الخاتم يكون فيه ذكر الله يدخل به الخلاء، ح: 19. (3) انظر ترجمته في التقريب، ص 574.ت: عوامة. (4) النكت، ص 677.

ومن هذا الباب أيضاً حديث أخرجه النسائي في الكبرى من طريق أبي الأحوص عن سماك عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن بردة بن نيار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشربوا في الظروف ولا تسكروا. قال أبو عبد الرحمن (النسائي) وهذا حديث منكر غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم، ثم نقل عن أحمد قال: كان أبو الأحوص يخطئ في هذا الحديث، خالفه شريك في إسناده ولفظه (1) . وسلام بن سليم أبو الأحوص الكوفي ثقة متقن صاحب حديث كما في التقريب (2) ، فانظر كيف حكم النسائي على مخالفة أبي الأحوص بالنكارة مع أن اصطلاح المتأخرين أنه شاذ، والمقصود: أن بعض المتقدمين يطلقون النكارة على الشذوذ كما جرى عليه ابن الصلاح رحمه الله، والأمثلة في هذا الباب كثيرة لمن تأمل. 2 ـ التفرد والشذوذ والنكارة ((هل كل ما تفرد به راوٍ يعد شاذا أو منكراً؟ ولو لم يخالف)) : هذا المبحث مهم لا يستغني عنه الباحثون والمتخصصون وهو مبحث دقيق اضطرب فيه كثيرون، وحقيق أن يخص مستقلاً ببحوث ومؤلفات وله علاقة بالعلة ولكني ذكرته هنا لأن علاقته بالشاذ أقوى، فالخليلي رحمه الله جعل مطلق التفرد شذوذاً والحاكم جعل تفرد الثقة شذوذاَ وقد تعقبوا عليهما كما أشرت سابقاً. لكن المتأمل لكلام المتقدمين يجد أنهم أطلقوا الشذوذ والنكارة على بعض ما انفرد به الثقات بدون مخالفة ولذلك قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى: وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أو النكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث (3) . أقول: واستعمالهم للنكارة في هذا الباب أكثر، وهذا والله أعلم لأن لفظ ((الإنكار)) عام في كل ما استنكر وأنكره عليه غيره ولو كان المنكر عليه ثقة.

_ (1) سنن النسائي الكبرى (3/231) ، ح: 5187. ت: كسروي وانظر مثالا آخر ح: (3231) . (2) التقريب، ص 261. (3) مقدمة ابن الصلاح مع التقييد والإيضاح، ص 88.

ومن هذا الباب ما يقولون عنه: إسناده صحيح وهو شاذ، يعني للتفرد كما في حديث أخرجه الحاكم والبيهقي من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنّ} (1) ، قال: في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ... إلخ، ورواه من طريق شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضّحي به، وصححه الحاكم قال السيوطي ولم أزل متعجبامن تصحيح الحاكم له حتى رأيت البيهقي يقول: إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ بمرّة لا أعلم لأبي الضّحى عليه متابعاً (2) . كذلك أخرج الحاكم حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة يهلكون عند الحساب: جواد وشجاع وعالم)) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد وعلى شرطهما وهو غريب شاذ (3) .

_ (1) الطلاق: من الآية 12) . (2) انظر: المستدرك (2/493) والسيوطي في التدريب (1/233) وتفسير ابن كثير (4/386) . (3) المستدرك (1/189) .

وسأنقل هنا كلاماً لابن رجب في إطلاق النكارة على ما انفرد به الثقة، فقد نقل ابن رجب رحمه الله عن الإمام أحمد قال: قال لي يحيى ابن سعيد: لا أعلم عبيد الله بن عمر أخطأ إلا في حديث واحد لنافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام....)) الحديث، قال أبو عبد الله: فأنكره يحيى بن سعيد عليه، قال أبو عبد الله: فقال لي يحيى بن سعيد: فوجدته قد حدّث به العمري الصغير عن نافع عن ابن عمر مثله، قال أبو عبد الله: لم يسمعه إلا من عبد الله فلما بلغه عن العمري صححه، وهذا الكلام يدل على أن النكارة عند يحيى القطان لا تزول إلا بمعرفة الحديث من وجه آخر وكلام أحمد قريب من ذلك. وقال عبد الله: سألت أبي عن حسين بن علي الذي يروي حديث المواقيت؟ فقال: هو أخو أبي جعفر محمد بن علي، وحديثه الذي روى في المواقيت ليس بمنكر؛ لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره، وقال أحمد في بريد ابن عبد الله بن أبي بردة يروي أحاديث مناكير، وقال أحمد في محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: هو المتفرد برواية حديث الأعمال بالنيات في حديثه شيء، يروي أحاديث مناكير أو قال: منكرة، وقال في زيد بن أبي أنيسة: إن حديثه لحسن مقارب وإن فيها بعض النكارة، وقال الأثرم: قلت لأحمد: إن له أحاديث إن لم تكن مناكير فهي غرائب؟ قال: نعم. وهؤلاء الثلاثة متفق على الاحتجاج بحديثهم في الصحيح، وقد استنكر أحمد ما انفردوا به، وكذلك قال في عمرو بن الحارث: له مناكير، وفي الحسين بن داود وخالد بن مخلد وجماعة خرج لهم في الصحيح بعض ما ينفردون به، وأما تصرف الشيخين والأكثرين فيدل على خلاف هذا وأن ما رواه الثقة عن الثقة إلى منتهاه وليس له علة فليس بمنكر، وقد خرجا في الصحيحين حديث بريد بن عبد الله بن أبي بردة وحديث محمد بن إبراهيم التيمي وحديث زيد بن أبي أنيسة. انتهى كلام ابن رجب (1)

_ (1) شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي، ص 254، 255.ت: السامرائي.

وهذا يدل على إن إطلاق النكارة على التفرد من الثقة فيما سبق استعمله يحيى بن سعيد والإمام أحمد (1) ، أما الإمام البخاري ومسلم والأكثرون من المحدثين بخلافهم يصححونه ولا يعدونه منكراً، وقد ذكر ابن رجب رحمه الله في آخر شرحه للعلل أمثلة كثيرة لأحاديث أنكرت على بعض الثقات (2) . وتفرد الثقات في الأصل ليس بعلة وإلا للزم القول بوجوب تعدد الرواة في شرط الصحة ولم يقل بهذا عامة أهل العلم، لكن طائفة من المتقدمين قد يعلّون الحديث بتفرد الثقة ويجعلونه شاذاً أو منكراً، فمتى يكون تفرد الثقة عندهم علّة؟ فيما يظهر لي من خلال التتبع أن ذلك يكون في حالات أذكر أبرزها:

_ (1) ذكر الحافظ بن حجر في هدي الساري في ترجمة يزيد بن عبد الله بن خصيفة بعد أن نقل توثيقه عن ابن معين وأبي حاتم والنسائي، قال: وروى الآجري عن أبي داود عن أحمد أنه قال: منكر الحديث. قلت (الحافظ) : هذه لفظة يطلقها أحمد على من يغرب على أقرانه بالحديث عرف ذلك بالاستقراء من حاله وقد احتج بابن خصيفة مالك والأئمة كلهم. هدي الساري، ص (453) . وذكر السخاري أنهم قد يطلقون)) منكر الحديث ((على الثقة إذا روى المناكير عن الضعفاء كما قال الحاكم للدار قطني: فسليمان ابن بنت شرحبيل قال: ثقة، قلت: أليس عنده مناكير؟ قال: يحدث بها عن قوم ضعفاء فأما هو فثقة. فتح المغيث (ا/375) . (2) انظر: شرح علل الترمذي لابن رجب، ص 308، تحت عنوان: في ذكر قوم من الثقات لا يذكر أكثرهم في كتب الجرح وقد ضعف حديثهم، إما في بعض الأوقات أو في بعض الأماكن أو عن بعض الشيوخ.

الأولى: أن يكون المتفرد الثقة تفرد عن راوٍ عالم حريص على نشر ما عنده من الحديث وتدوينه ولذلك العالم طلاب كثيرون مشهورون وقد يكون له كتب معروفة قيد حديثه فيها وكان تلامذته حفاظاً حريصين على ضبط حديثه حفظاً وكتابة، فإن شذ هذا الراوي عن هؤلاء فروى ما لا يروونه فإن هذا ريبة قد توجب زوال الظن بحفظه حسب القرائن (1) ،بينما لو انفرد راوٍ بحديث عمن ليس على هذه الشاكلة من مشايخه فليس هناك ريبة في الأمر وهذا ما أشار إليه الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه حيث قال: فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره أو كمثل هشام بن عروة وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، وقد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على اتفاق منهم في الكثرة، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث ممن لا يعرفه أحد من أصحابهما وليس ممن قد شاركهم في الصحيح الذي عندهم فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس (2) . وفي هذا أيضاً يقول الذهبي في الموقظة: وقد يعد مفرد الصدوق منكراً، وقال في موضع آخر وقد يسمى جماعة من الحفاظ الحديث الذي ينفرد به مثل هشيم وحفص بن غياث منكراً (3) فيحمل كلام الذهبي على ما سبق، ويحمل عليه أيضاً تعريف الحاكم للشاذ، وقد أحسن الدكتور حمزة المليباري حيث دافع عن الحاكم في هذا فقال: ولم يقصد الحاكم بذلك تفرد الثقة على إطلاقه، بل قصد نوعاً خاصاً منه وينقدح في نفس الناقد أنه غلط (4) .

_ (1) انظر: توضيح الأفكار للصنعاني (1/383-384) . (2) مقدمة صحيح مسلم (1/7) . (3) الموقظة، ص 42، 77. (4) الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها، ص 22.

ومن أمثلته ما تفرد به محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه)) رواه أهل السنن. فمحمد بن عبد الله بن الحسن ثقة لكن أعلّ البخاري الحديث بتفرده فقال: لا يتابع عليه قال: ولا أدري أسمع محمد بن عبد الله بن حسن من أبي الزناد أو لا (1) . وقد فصّل القول في هذا المثال وبينه ببيان واضح الشيخ الفاضل الدكتور حمزة بن عبد الله المليباري في كتابه الفائق ((الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها)) (2) ، وقد تطرق الشيخ الدكتور حمزة في كتابه لمسألة التفرد وتوسع في بيانها بالأمثلة بكلام جيد موثق قد استفدت منه. ومن أمثلته أيضاً وأمثلته كثيرة ما ذكره الشيخ المحدث عبد الله السعد وفقه الله في بعض أشرطته المسجلة من تفرد خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها بحديث: ((إذا بلغت المرأة المحيض لم يصح أن يرى منها إلا وجهها وكفيها)) قال: فأين الرواة عن عائشة كابن أختها عروة، والأسود بن يزيد وعمرة راويتهاعن هذا الحديث؟. ومن أمثلته أيضاً تفرد عبد المجيد بن أبي رواد عن مالك عن يزيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري بحديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) فأين أصحاب مالك وتلاميذه عن هذا الحديث لم يرووه؟ الحالة الثانية: أن يكون المتفرد من الثقات الحفاظ الكبار لكنه تبين وهمه أو خطؤه بتفرده فينبه على ذلك النقاد من حفاظ المحدثين لقرائن ظهرت لهم.

_ (1) التاريخ الكبير (1/139) . (2) انظر الكتاب المذكور، ص 40.

وإلى هذا يشير ابن رجب رحمه الله في قوله: وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد، وإن لم يرو الثقات خلافه إنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه (1) . أقول: إنما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار لقرائن ودلالات ظهرت لهم، وكلام ابن رجب رحمه الله كلام محقق مدقق مارس كلام المتقدمين وخبره. ولهذا أمثلة كثيرة، ومن تأمل كتب العلل وكامل ابن عدي وجد من ذلك كثيراً، فمن ذلك أحاديث أنكرها ابن عدي على إسماعيل بن أبي أويس رواها عن خاله مالك بن أنس وقال: لا يتابع عليها وإسماعيل ثقة مخرج له في الصحيحين وغيرهما (2) .ومن أمثلته أيضاً تفرد عمروبن أبي عمروعن عكرمة عن ابن عباس بحديث ((إن رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) رواه الأربعة وأحمد وقد أنكره عليه ابن معين والنسائي وغيرهم مع أنه ثقة احتج به الجماعة (3) . ومن ذلك أيضاً تفرد قتيبة بن سعيد عن الليث بحديث معاذ في الجمع بين الصلاتين في السفر، فقد أعلّه البخاري وأبو حاتم وأبو داود بذلك وتوسع في بيان ذلك الشيخ الدكتور حمزة المليباري في كتابه (4) فليراجع. وهناك في هذا الباب حالة ثالثة أشار إليها الذهبي وهي أن يكون المتفرد من الطبقات المتأخرة بعد انتشار الرواية (5) . زيادة الثقة:

_ (1) شرح علل الترمذي، ص 208. (2) الكامل لابن عدي (1/324) . ت: يحي مختار (3) انظر: التلخيص الحبير (4/61) الترغيب للمنذري (3/288) ت: عمارة. تهذيب التهذيب (3/294) ت: الزيبق ومرشد. نيل الأوطار (7/286) . (4) الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها (ص:48) . (5) الموقظة (ص:77) .

وهو مبحث مهم له علاقة بالشذوذ والتفرد والنكارة وقد كُتب وبُحث فيها كثيراً لكني سأنقل في هذا ملخصاً لطريقة المتقدمين حيال زيادات الثقات، وذلك لأنك ترى عند المتأخرين خللاً في هذا الباب فيطلقون القول بقبول زيادة الثقة مطلقاً وقد ينسبون ذلك للمحدثين (1) ، وإنما هو قول الفقهاء ومن تبعهم كالخطيب البغدادي في الكفاية وابن حبان والحاكم (2) . والصحيح من مذهب المتقدمين أنهم لا يطلقون قبول الزيادة بل الأمر عندهم حسب القرائن والمرجحات كأن يكون الزائد مبرزاً في الحفظ والضبط. قال ابن رجب: من تأمل كتاب تاريخ البخاري تبين له قطعاً أنه لم يكن يرى أن زيادة كل ثقة في الإسناد مقبولة، وهكذا الدارقطني يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة ثم يرد في أكثر المواضع زيادات كثيرة من الثقات ويرجح الإرسال على الإسناد، فدل على أن مرادهم زيادة الثقة في تلك المواضع الخاصة وهي إذا كان الثقة مبرزاً في الحفظ (3) . وقال الترمذي في العلل: وإنما تقبل الزيادة ممن يعتمد على حفظه، وقال ابن خزيمة: لسنا ندفع أن تكون الزيادة مقبولة من الحفاظ (4) . وقال ابن دقيق العيد: من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند ورافع وواقف أو ناقص وزائد أن الحكم للزائد فلم يصب في هذا الإطلاق فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول (5) .

_ (1) كما فعل ذلك النووي ورد عليه ابن حجر. النكت (2/688) . (2) النكت (2/687) . (3) شرح علل الترمذي، ص 244. (4) النكت (2/689) . (5) نقله الصنعاني في توضيح الأفكار (1/343) .

وقال ابن حجر في النزهة: المنقول عن الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري ويحيى بن معين وعلي بن المديني وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها، ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة (1) . وقال ابن حجر: والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه- يعني ما زاده الثقات - بحكم مستقل بل يرجحون بالقرائن، وقال في موضع آخر - بعد أن نقل كلاماً عن بعض الأئمة كالدارقطني وابن عبد البر- قال: فحاصل كلام هؤلاء أن الزيادة إنما تقبل ممن يكون حافظاً متقناً إلى أن قال: وإنما الزيادة التي يتوقف أهل الحديث في قبولها من غير الحافظ حيث يقع في الحديث الذي يتحد مخرجه كمالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما إذا روى الحديث جماعة من الحفاظ الأثبات العارفين بحديث ذلك الشيخ وانفرد دونهم بعض رواته بزيادة فإنها لو كانت محفوظة لما غفل الجمهور من رواته عنها، فتفرد واحد عنه بها دونهم مع توافر دواعيهم على الأخذ عنه وجمع حديثه يقتضي ريبة توجب التوقف عنها (2) . وهذا كلام جيد محقق في هذا الباب واشيرهنا الى أن بعض الأئمة كالامام أحمد قد يترددون في قبول الزيادة حتى من الثقات نقل ابن رجب عن أحمد: كنت أتهيب حديث مالك» من المسلمين «-يعني زيادته في حديث صدقة الفطر-يعني حتى وجده من حديث العمريين (3) وأكتفي بهذا، والله أعلم. المبحث الثاني: في المسائل المتعلقة بالعلة: وهذا باب واسع يطول الكلام فيه إنما أذكر فيه نقاطاً مهمة مختصرة حول منهج المتقدمين في إعلال الحديث:

_ (1) نزهة النظر، ص 34. (2) النكت على ابن الصلاح (2/687، 690، 692) . (3) شرح علل الترمذي ص:240.

1 ـ طريقة المتقدمين في الكشف عن العلة هي جمع طرق الحديث والنظر في اختلاف الرواة وهذا واضح من كلامهم قال علي بن المديني رحمه الله: الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه (1) . وقال الخطيب البغدادي: السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم في الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط (2) . وقال الحافظ العراقي: وتدرك العلة بتفرد الراوي بمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك يهتدي الجهبذ أي الناقد بذلك إلى اطلاعه على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع أو دخول حديث في حديث أو وهمه وغير ذلك (3) . 2 ـ أن النقاد من المحدثين قد لا يصرحون بالعلة وقد تقصر عباراتهم عنها: يقول ابن رجب رحمه الله: قاعدة مهمة، حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان ولايشبه حديث فلان فيعللون الأحاديث بذلك، وهذا مما لا يعبر عنه بعبارات تحضره وإنما يرجع فيه أهله إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم (4) . وذكر ابن رجب مثالاً لذلك ما قاله أحمد في سعيد بن سنان: يشبه حديثه حديث الحسن لا يشبه أحاديث أنس، ومراده أن الأحاديث التي يرويها عن أنس مرفوعة إنما تشبه كلام الحسن البصري أو مراسيله، وقال الجورجاني: أحاديثه واهية لا تشبه أحاديث الناس عن أنس (5) . 3 ـ من طرائق العلة عند أئمة الجرح والتعديل نقد المتون وإعلال الأسانيد بها.

_ (1) علوم الحديث، ص 82. (2) تدريب الراوي (1/283) . (3) شرح ألفية الحديث (1/260) . (4) شرح علل الترمذي، ص 290. (5) الموضع السابق.

وذلك لأنهم يعرفون الكلام الذي يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام الذي لا يشبه كلامه، قال ابن أبي حاتم عن أبيه: نعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون مثله كلام النبوة، ونعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته (1) . ولذلك تجدهم كثيراً ما يضعّفون الحديث الذي في متنه نكارة وغرابة ولو كان إسناده ظاهره الصحة، فمن ذلك حديث علي رضي الله عنه الطويل ((في الصلاة أربعاً والدعاء لحفظ القرآن)) فهذا الحديث أخرجه الترمذي من طريق الوليد بن مسلم حدثنا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس به قال الترمذي: حسن غريب (2) . وأخرجه أبو عبد الله الحاكم في المستدرك بسنده من طريق الوليد أيضاً، وقال: صحيح على شرط الشيخين (3) ، فهذا الحديث استغربه الترمذي كما أعله أبو أحمد الحاكم (4) فقال: إنه يشبه أحاديث القصاص (5) وأعله من المتأخرين الحافظ ابن كثير في كتاب فضائل القرآن قال - بعد نقل كلام الترمذي والحاكم - ولا شك أن سنده من الوليد على شرط الشيخين حيث صرح الوليد بالسماع من ابن جريج، فالله أعلم، فإنه من البين غرابته بل نكارته (6) .

_ (1) الجرح والتعديل (1/351) . (2) سنن الترمذي (5/564) . (3) المستدرك (1/461) . (4) هو الحافظ محمد بن أحمد النيسابوري الكرابيسي، قال الذهبي: أبو أحمد الحاكم محدث خراسان الإمام الحافظ الجهبذ صاحب التصانيف، وهذا هو الحاكم الكبير، وهو شيخ أبو عبد الله الحاكم صاحب المستدرك، قال عنه تلميذه أبوعبد الله: كان أبو أحمد من الصالحين الثابتين على سنن السلف ومن المنصفين. انظر: تذكرة الحفاظ (3/977، 978) . (5) شرح العلل لابن رجب، ص 395. (6) فضائل القرآن، مطبوع مع تفسير ابن كثير، ص 56، 57.

ومن هذا الباب أيضاً حديث: ((في كل أرض آدم كآدمكم)) وقد سبق الكلام عليه في المبحث السابق. ومن ذلك أيضاً أن يكون متن الحديث سمج المعنى أو مخالفاً للقرآن فيعلّونه بذلك مثل ما ورد: ((عليكم بالعدس فإنه مبارك يرقق القلب ويكثر الدمعة قُدس فيه سبعون نبياً)) فهذا أعله الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله فقال لما سئل عنه: أرفع شيء في العدس أنه شهوة اليهود ولو قدّس فيه نبي واحد لكان شفاء من الأدواء فكيف بسبعين نبياً؟ وقد سماه الله ((أدنى)) ونعى على من اختاره على المن والسلوى وجعله قرين الثوم البصل (1) . فانظر كيف أعلّ ابن المبارك هذا القول لسوء معناه ومخالفته لكتاب الله. ونقد المتون عند المتقدمين بابه واسع وأمثلته كثيرة، وقد اعتنى به وألف فيه شيخنا الدكتور مسفر غرم الله الدميني في كتابه الجيد: ((مقاييس نقد متون السنة)) فليراجع. وبعد هذا فإنك تعجب أن تجد من المتأخرين من يصحح الأحاديث أو يحسنها مغفلاً هذا الجانب كما تراه كثيراً عند السيوطي في كتابه اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، فمن ذلك أنه قال في حديث: ((إذا بعثتم بريداً فابعثوه حسن الوجه حسن الاسم)) قال: وهذا الحديث في معتقدي حسن صحيح وقد جمعت طرقه في جزء (2) ،وأيضاً قد حسنه المناوي (3) مع ما يظهر في متنه من نكارة بل إن الحافظ ابن القيم أورده في المنار المنيف وقال: وفيه عمرو بن راشد، قال ابن حبان: يضع الحديث، وذكره أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات (4) . وقال الهيثمي: رواه البزار والطبراني في الأوسط وفي إسناد الطبراني عمر بن راشد وثقه العجلي وضعفه جمهور الأئمة وبقيةرجاله ثقات، وطرق البزار ضعيفة (5) . فمثل هذا كيف يصحح.

_ (1) ذكره عنه ابن القيم في المنار المنيف، ص 64. (2) اللآلئ المصنوعة للسيوطي (2/81) . (3) فيض القدير (1/312) . (4) المنار المنيف (63) (5) مجمع الزوائد (8/47) .

ووقع التساهل أيضاً من بعض من المعاصرين في هذا الباب، ولعلي أذكر لذلك من تصحيحات الشيخ المحدث الألباني تغمده الله برحمته، فرغم جهوده الضخمة في خدمة السنة وسمعت شيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز يثني عليه كثيراً، إلا أنه رحمه الله يتساهل أحياناً في التصحيح فقد صحح حديث: ((ولد الزنى شر الثلاثة)) (1) وحمل معنى الحديث على الرواية: ((إذا عمل بعمل أبويه)) مع ضعف هذه الرواية حيث ضعفها الألباني نفسه وكان الأولى أن يحمل الحديث كما حمله الطحاوي وابن القيم على شخص بعينه وذلك لرواية الطحاوي والحاكم وهي:» بلغ عائشة رضي الله عنها أن أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولد الزنى شر الثلاثة، فقالت: يرحم الله أبا هريرة أساء سمعاً فأساء إجابة، لم يكن الحديث على هذا إنما كان رجل من المنافقين يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يعذرني من فلان؟ قيل يا رسول الله إنه مع ما به ولد زنى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو شر الثلاثة)) ، والله يقول: ولا تزر وازرة وزر أخرى. صححه الحاكم على شرط مسلم (2) وتعقبه الذهبي بأن فيه سلمة بن الفضل الأبرش لم يحتج به مسلم، وقد وثق وضعفه ابن راهويه، وقد ذكر هذا كله الألباني وضعف هذه الرواية ولم يحمل الحديث عليها بل قال بعمومه. أقول: وحمل الحديث على هذه الرواية وهي ضعيفة أولى من حمله على رواية: ((إذا عمل بعمل أبويه «لأنها أشد ضعفاً منها، ففي أحد طرقها راوٍ متروك كما ذكر الألباني نفسه، ومما يؤيد نكارة معناه أن ابن عباس رضي الله عنه لما بلغه هذا الحديث قال: ((لو كان شر الثلاثة لما استؤني بأمه حتى تضعه)) (3) يعني الأحاديث الواردة بإمهال الحامل من الزنى حتى تضع وهي

_ (1) انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/225) رقم 672، وعزاه لأبي داود وأحمد والطحاوي والحاكم. (2) المستدرك (4/100) . (3) انظر: الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة، ص 119.

صحيحة. ففهم عائشة رضي الله عنها معارضة عموم الحديث للقرآن مع ما يؤيده من قول ابن عباس أولى من القول بعموم هذا الحديث والتعسف في تأويله كما فعل الألباني حيث ذكر أنه لم يحرم الجنة بفعل والديه بل إن النقطة الخبيثة لا يتخلق منها طيب في الغالب ولا يدخل الجنة إلا نفس طيبة، فإن كانت في هذا الجنس طيبة دخلت الجنة، وكان الحديث من العام المخصوص (1) . ثم أراد الألباني رحمه الله أن يؤيد ما ذكره فقوى زيادة: ((ولا ولد زنية)) في حديث: ((لا يدخل الجنة عاق ... إلخ)) وليست بقوية لمن دقق وتأمل، ثم حاول أن يؤولها فتعسف أيضاً (2) مع أنه صحح ما رواه عبد الرزاق عن عائشة أنها قالت: ((ما عليه من وزر أبويه، قال تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى)) قالته رداً على من روى هذا الحديث. ومن هذا الباب أيضاً فيما يظهر لي تصحيحه لحديث: ((أكثر من يموت من أمتي بعد كتاب الله وقضائه وقدره بالأنفس)) (يعني بالعين) (3) فهو مع ما في متنه ففي سنده طالب بن حبيب بن عمرو بن سهل الأنصاري وهو صدوق لكنه يهم كما في التقريب (281) ، ونقل ابن عدي عن البخاري قال: فيه نظر، وقد تفرد به كما ذكر ابن عدي (4) فهو وإن كان قد وثق إلا أن التفرد مع الوهم يقضي التوقف فيما رواه. وأعجب من ذلك تصحيحه لحديث: ((إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه في الأرض، وعنقه منثن تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظمك ربنا، فيرد عليه ما يعلم ذلك من حلف بي كاذباً)) (5) .وليس المجال تتبع ذلك فأكتفي بما سبق خوف الإطالة، والأمثلة كثيرة.

_ (1) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/228) . (2) انظر المرجع السابق (2/230) . (3) السلسلة الصحيحة (2/309) ، رقم 747. (4) انظر ترجمته في: الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي (4/119) . (5) السلسلة الصحيحة (1/258) ، رقم 150، وعزاه للطبراني.

4 ـ ومن طرق الإعلال عند المتقدمين إعلال الحديث إذا دلّ على معنى يخالف المعنى الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة: وأذكر مثالاً لذلك حديث: ((أمتي أمة مرحومة جعل عذابها بأيديها في الدنيا)) فهذا الحديث ذكر طرقه الإمام البخاري رحمه الله في كتابه التاريخ الكبير ثم أعلّه بقوله: والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة وأن قوماً يعذبون ثم يخرجون أكثر وأبين وأشهر (1) ا. هـ فهذا تعليل إمام الحديث والعلل البخاري رحمه الله نظر فيه إلى مخالفة معنى هذا الحديث لما ثبت في الأحاديث الصحيحة الكثيرة الأخرى التي تثبت دخول طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم النار (2) . وعلى كل فللمتقدمين طرائق كثيرة في إعلال الحديث يطول استيعابها، إنما أشرت لإبرز ما غفل عنه المتأخرون. تنبيه حول الأحاديث المعلّة في الصحيحين: من المعلوم أن هناك أحاديث انتقدت على البخاري ومسلم رحمهما الله وذكر لها علل لكن ليس كل ما انتقد على البخاري ومسلم يكون فيه وجه الحق مع المنتقد بل يكون كثيراً معهما خاصة البخاري، وما كان فيها من منتقد فهو ليس من قبل ثقة الرواة بل من قبل خطئهم.

_ (1) التاريخ الكبير للإمام البخاري (1/39) . (2) الحديث أخرجه أبو داود (4/105) ، ج: 4278 والحاكم في المستدرك (4/491) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((ولهذا كان جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه بخلاف مسلم فإنه نوزع في أحاديث مما خرجها وكان الصواب فيها مع من نازعه، كما روى في حديث الكسوف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات، والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين وكذلك روى مسلم: خلق الله التربة يوم السبت ونازعه فيه من هو أعلم منه يحيى بن معين والبخاري وغيرهما فبينوا أن هذا غلط ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم والحجة مع هؤلاء (1) ثم فصل في ذلك إلخ كلامه رحمه الله. أقول: ومن هذا الباب ما يقع للباحث في الصحيح من ألفاظ يجزم أنها خطأ، فمن ذلك حديث في صحيح مسلم ذاكرني به بعض طلاب العلم من طلابنا وهو حديث القراءة في ركعتي الفجر: ((قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا «والتي في آل عمران:» تعالوا إلى كلمة سواء بيينا وبينكم)) هذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه من طريق أبي خالد الأحمر عن عثمان بن حكيم عن سعيد بن يسار عن ابن عباس، فهذا فيما يظهر خطأ والصواب الرواية الأخرى التي أخرجها مسلم من طريق مروان بن معاوية الفزاري عن عثمان بن حكيم به بلفظ:» كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما: ((قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا)) الآية التي في البقرة، وفي الآخرة منها: ((آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون)) وتابع مروان بن معاوية على هذا اللفظ عيسى ابن يونس عن عثمان بن حكيم، كما أخرج مسلم رحمه الله (2) وتابعهما ابن نمير عند أحمد في المسند (1934) .

_ (1) فتاوى ابن تيمية (1/226) ، وانظر نحوه أيضاً في (17/236) . (2) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافر، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليها، ج: 1196 ترقيم العالمية.

فهؤلاء ثلاثة خالفهم أبو خالد الأحمر (سليمان بن حيان) وقد ذكر في ترجمته أنه يخطئ فذكر الآية:» تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم «فأخطأ، والصواب رواية الجماعة وأن الآية هي: ((فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون)) . ولعل أبا خالد الأحمر اشتبه عليه الأمر لأن آية:» قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء.. آخرها: ((فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)) فأخطأ فذكر آية بدل الأخرى. والله أعلم فالمقصود أن هذا لا ينقص من قدر الصحيحين فهو قليل ونادر بالنسبة لأحاديثهما، كما أنه لا ينافي القول إن الأمة تلقتهما بالقبول فإن ذلك مستثنى منه كما ذكر ابن الصلاح، فليتنبه لذلك طالب العلم والله أعلم. المبحث الثالث: المسائل المتعلقة بتقوية الحديث بالطرق الأخرى والشواهد: وهذا مبحث مهم يضطرب فيه بعض المتأخرين والمعاصرين، وقد تكلم فيه أهل العلم في كتب المصطلح وفي كتب التخاريج والعلل، وقد كفانا في هذا الموضوع أحد الباحثين، فقد جمع في هذا الباب الشيخ الدكتور المرتضى الزين أحمد كتابه» مناهج المحدثين في تقوية الأحاديث الحسنة والضعيفة «ط: مكتبة الرشد، وهو في الأصل رسالة دكتوراه مقدمة للجامعة الإسلامية بالمدينة وهو كتاب جيد جمع فيه مؤلفه ما ورد عن المحدثين المتقدمين والمتأخرين في هذا الباب فأجاد وأفاد جزاه الله خيراً، وقد أثنى على الكتاب الشيخ المحدث حماد الأنصاري رحمه الله إلا أني هنا سأنبه على نقطتين:

1 ـ أن بعض المتأخرين تساهلوا في تقوية الأحاديث، فإذا اجتمعت عندهم طرق كثيرة للحديث ولو كانت غير معتبرة - يعني غير صالحة للانجبار - كأن يكون في أسانيدها من هو متروك أو متهم أو هي واهية شديدة الضعف فإنهم يقوون الحديث بذلك فيصححونه أو يحسنونه، ومن هذا القبيل ما أشرت إليه سابقاً من تصحيح السيوطي لحديث: ((إذا بعثتم بريداً فابعثوا حسن الوجه حسن الاسم)) ، ويقع له من هذا النوع في كتابه اللآلي المصنوعة. وابن حجر رحمه الله شدد في هذا في النزهة فقال: ((ومتى توبع السيء الحفظ بمعتبر كأن يكون فوقه أو مثله لا دونه..)) (1) فلاحظ أنه لم ير التقوية بالأدني ونقل الدكتور المرتضى عنه أن الحديث الذي ضعفه ناشئ عن تهمة أو جهالة إذا كثرت طرقه ارتقى عن مرتبة المردود والمنكر الذي لا يجوز العمل به بحال إلى رتبة الضعيف الذي يجوز العمل به في فضائل الأعمال. ونقل عن ابن كثير، قال: قال الشيخ أبو عمرو: لا يلزم من ورود الحديث من طرق متعددة أن لا يكون حسناً لأن الضعيف يتفاوت، فمنه ما لا يزول بالمتابعات كرواية الكذابين والمتروكين، ومنه ضعف يزول بالمتابعة كما إذا كان راويه سيء الحفظ أو روي الحديث مرسلاً فإن المتابعة تنفع حنيئذ ويرفع الحديث عن حضيض الضعف إلى أوج الحسن أو الصحة (2) . أقول: وبهذا يتبين خطأ طريقة بعض المتأخرين من التقوية بكثرة الطرق ولو كانت واهية. 2 ـ الحديث إذا تلقته الأمة بالقبول وهو ضعيف هل يقوى عن ضعفه؟ تعرض الدكتور المرتضى لهذه المسألة ورجح أنه لا يرتفع عن ضعفه (3) .

_ (1) نزهة النظر، ص 51، 52. (2) انظر: فصل التقوية بالأدنى من كتاب» مناهج المحدثين في تقوية الأحاديث الحسنة والضعيفة «، ص 92 وما بعدها، وانظر النص في: اختصار علوم الحديث مع الباعث الحثيث، ص 33. (3) مناهج المحدثين، ص 22.

أقول: والذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يفيد العلم - يعني القطع - وذكر أنه قول أهل الحديث قاطبة، وقال به الشافعي وابن عبد البر، وابن حجر والسيوطي والزركشي، ولعلي هنا أنقل كلام الشافعي وابن عبد البر وابن تيمية رحمه الله (ملخصاً) : أما الشافعي فقال في الرسالة: ((ووجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنه من أهل العلم بالمغازي لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: ((لا وصية لوارث ولا يقتل مؤمن بكافر)) ويأثرونه عمن حفظوا عنه العلم ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي، فكان هذا النقل عامة عن عامة وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد عن واحد، وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجمعين. ثم ذكر الشافعي أنه ورد بإسناد لا يثبته أهل الحديث ثم قال: وإنما قبلناه بما وصفت من نقل أهل المغازي وإجماع العامة عليه (1) . أما الإمام الحافظ ابن عبد البر فقال بعدحديث عمرو بن حزم في الديات وهو كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم له، وقد رواه مالك مرسلاً (2) ، قال ابن عبد البر رحمه الله: وهو كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول (3) .

_ (1) الرسالة، ص 139، 140، ت: أحمد شاكر. (2) موطأ مالك (4/201) بشرح الزرقاني وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/4) وابن خزيمة (4/19) مرسلاً، ورواه موصولاً النسائي في السنن (8/57) وغيره من طريق سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده. وسليمان بن داود المذكور هنا وهم إنما هو سليمان بن أرقم كما رجحه المحققون من أهل العلم، وسليمان بن أرقم ضعيف فلا يصح الحديث موصولاً كما قال أبو داود وغيره. انظر: التلخيص الحبير (4/18) ، وميزان الاعتدال (3/287) ، ونيل الأوطار (7/163) . (3) التمهيد (17/338) .

أما ابن تيمية فأطال في تقرير ذلك فألخص ما قاله قال: الخبر إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له وعملا بموجبه أفاد العلم عند جماهير العلماء من السلف والخلف، وهو الذي ذكره جمهور المنصفين في أصول الفقه كالسرخسي، وذكر طائفة من الأصوليين، ثم قال: وهو قول أكثر أهل الكلام وهو مذهب أهل الحديث قاطبة وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح في مدخله إلى علوم الحديث، فذكر ذلك استنباطاً وافق فيه هؤلاء الأئمة، ثم ذكر من خالف في هذا كالباقلاني والغزالي وابن عقيل قال: وعمدتهم أن خبر الواحد لا يفيد العلم بمجرده، وأجاب عليهم بقوله: إن إجماع الأئمة معصوم عن الخطأ في الباطن وإجماعهم على تصديق الخبر كإجماعهم على وجوب العمل به ... الخ كلامه رحمه الله (1) . ونقل الحافظ بن حجر رحمه الله كلام ابن تيمية وأيده بنقول نقلها عن طائفة من أهل العلم في كتابه النكت على كتاب ابن الصلاح (2) . هذا ما تيسر لي جمعه في هذا الموضوع، وأسأل الله التوفيق والسداد. الخاتمة: وأختم هذا البحث بعدة وصايا لطلاب العلم الذين يدرسون أويتخصصون في علوم الحديث أولأً: العناية بكتب أهل العلم المتقدمين قراءة واستنباطاً وتقعيداً، ككتب الإمام أحمد والبخاري وعلي بن المديني وابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة وغيرهم من أهل الحديث. ثانياً: العناية بقراءة كتب المتأخرين الذين ساروا على طريقة المتقدمين واستفادوا من أقوالهم وطرائقهم كالحافظ الذهبي في كتابه الموقظة وابن رجب في شرحه لعلل الترمذي وكتابه فتح الباري، وغيرهم.

_ (1) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (18/40) فما بعدها، ونقله عنه تلميذه ابن القيم في الصواعق المرسلة، ص 481) . (2) النكت على كتاب ابن الصلاح (1/374) .

ثالثاً: الربط بين كلام المتقدمين النظري وتطبيقهم العملي،- يعنى النظر في قواعدهم وألفاظهم في الرواة والأحاديث ومقارنة ذلك بأحكامهم على الأحاديث وبيان درجتها - فإذا وجد الباحث مثلاً حديثاً ضعفه الإمام أحمد فليراجع أقوال الإمام في رواة سند هذا الحديث، وكذا إذا صححه. فبهذا يستطيع التعرف على طريقتهم ويسلم من الإشكالات التي وقع فيها بعض المتأخرين كمن قرأ تصريح بعض المتقدمين بأن زيادة الثقة مقبولة فصحح كل زيادة وهذا خطأ. فإطلاقات بعض المتقدمين قد تحمل على وجوه أو وجه يتبين لمن مارس كلامهم وخبر طريقتهم وعرف أحكامهم. رابعاً: عدم التعجل في الحكم على الأحاديث تصحيحاً أو تضعيفاً، فهذا مزلق خطير، بل لا بد من التأني والنظر في كلام أهل العلم الكبار من المتقدمين وتعليلاتهم. فكم نجد الآن من بعض طلاب العلم من يصحح حديثاً قال فيه المتقدمون: لا يصح بوجه أو لا يصح في هذا الباب شيء. خامساً: الحذر من تصحيحات بعض المتأخرين المتساهلين، بل ينبغي الفحص والبحث والرجوع إلى المصادر وكلام أهل العلم للتوثق من ذلك، كذلك الحذر من تضعيف بعض المتشددين للأحاديث الصحيحة التي صححها الأئمة الكبار وقبلوها، ولا أزعم أنهم لا يخطئون، بل الخطأ إلى من بعدهم أقرب. سادساً: أقترح أن تكون لجان للاستفادة من الدراسات العلمية الحديثة كرسائل الماجستير والدكتوراه وغيرها من المؤلفات المحققة من كتب العلماء لوضع مناهج دقيقة وموثقة لمواد علوم الحديث والتخريج ودراسة الأسانيد ومناهج المحدثين لتدرس في الجامعات والأقسام الشرعية. سابعاً: كما أقترح أن تتوجه مراكز البحوث والدراسات الشرعية لخدمة كتب المتقدمين في السنة وعلوم الحديث وتشجيع البحوث في هذا الباب. هذا وأسأل الله العلي القدير أن ينفعني بما علمني وأن يجعله حجة لي، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل وأن يسدد أقوالنا وأفعالنا إنه سميع مجيب.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين

كيفية إفادة المتأخرين من المتقدمين

كيفية إفادة المتأخرين من المتقدمين في علوم الحديث د. عبد الرزاق الجاي أستاذ السنة وعلومها كلية آداب جامعة محمد الخامس الرباط ـ المغرب الأقصى الحمد لله رب العالمين، وبه سبحانه وتعالى نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والصلاة والسلام على نبي الرحمة، ومعلم الناس الخير، محمد بن عبد الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه. أما بعد، فقد لبيت الدعوة شاكرا لمعالي السيد جمعة الماجد راعي ندوة علوم الحديث:» واقع وآفاق «، ولمدير الكلية وعميدها ونائبه، راجيا أن أنهل من معارفكم وأرتوي من معين وحياض هذه الندوة المباركة التي جمعت من الأفاضل أئمتهم، ومن العلماء فرسانهم، كيف لا وهم فرسان الحديث الذين يدفعون عن السنة الدسائس ويذبون عنها الكذب. أيها الحضور الكريم، اسمحوا لي إذا جرؤت على التحدث بهذه الكلمة المتواضعة، وهي عبارة عن تساؤلات تروم من كل غيور على هذه السنة، أن يبحث عن جواب يشفي الغليل، ويضيء للطالب المبتدئ السبيل. هذه بعض الخواطر عنت لي، أملتها الظروف العملية، في زحمة المشاغل المتباينة، آملا من الله عز وجل أن يرزقنا فتحا من عنده -فتح العارفين به- مدليا بدلوي في ميدان من أخطر الميادين، وأدق الصناعات، ويتجلى ذلك في صناعة الحديث الشريف تلقينا وأخذا، وفهما ونشرا. أقول وبالله التوفيق ومنه العون والسداد. توطئة: تصل أعداد كبيرة من طلاب العلم إلى المستوى الجامعي، وبعد اختيار مسارهم العلمي، فقد يوفقون في هذا الاختيار وقد يفشلون. ونسبة التوفيق قمينة بوجود تكامل بين التعليم الأساسي والثانوي والتعليم العالي، كما أن نسبة الفشل تكون بسبب التباعد المنهجي بين التكوين قبل الجامعة، والتكوين الجامعي بصفة شمولية.

وسعيا وراء الوقوف على أسباب الفشل، وخاصة في علم من أهم العلوم الشرعية، وهو علم السنة ومتعلقاته، فإن هذا البحث المتواضع يحاول تعميق النظرة في هذا الأمر، واقتراح بعض الأفكار المناسبة للرقي بمستوى فهم هذا العلم الشريف، عند المنتهي والمبتدي. واقع تلقي الطالب لعلم السنة في الجامعة المغربية: إن سؤالنا عن كيفية إفادة المتأخرين من المتقدمين في علوم الحديث هو سؤال صحي يهدف إلى: 1 - رصد واقع تدريس علوم الحديث بالجامعة. 2 - ضبط الخلل الذي طرأ على فهم هذه العلوم. 3 - بيان وسائل علاج هذا الخلل والطرق المفيدة لدراسة هذه العلوم. ومن أجل تناول هذه القضايا بالدرس والتحليل، أقترح إلقاء نظرة موجزة على مقررات السنوات التي تؤخذ فيها مادة السنة وعلومها في الجامعة المغربية (خلال سنوات الإجازة - أو الباكالوريوس) جامعة محمد الخامس - كلية الآداب نموذجا. ففي السنة الأولى: يقف الطالب على بعض العلوم الأساسية في السنة مثل: مصطلحات: السنة، الحديث، الخبر، الأثر. علم الحديث رواية، علم الحديث دراية. الصحيح - الحسن - الضعيف. وفي السنة الثانية: يدرس الطالب علم الجرح والتعديل وعدالة الصحابة وطبقاتهم وأثر علم الجرح والتعديل في تقسيم الخبر إلى صحيح وحسن وضعيف. أما في السنة الثالثة: وهي آخر سنة يتلقى الطالب فيها علوم السنة، فيتعلم علل الحديث وتتبع طرقه وتخريجه، ومشكله وغريبه وناسخه ومنسوخه ومن ثم يكون قد استكمل دراسة الحديث بتوصله إلى استنباط الفوائد والأحكام الفقهية وهي الثمرة الكبرى، والغاية العظمى من هذه العلوم كلها. إلا أن بعض الطلبة يصطدمون في أول سنة بعلوم لا قبل لهم بها، مثل علم الرواية والدراية. خاصة إذا وكلوا إلى اختيار المصادر والمراجع، وقد تحصل الكفاية لبعضهم بكتاب واحد، حسب ظروف كل واحد. ومن هنا تعرض مسألة تعامل الطالب مع المصادر والمراجع.

إنني أكاد أجزم - من موقع التجربة - أن الطالب يأخذ معلوماته من المصدر أو المرجع أخذ المسلم المستسلم، حيث لا يكلف نفسه عرض أفكار الكتاب على ما ألف قبله أو بعده. وقد يكتفي الطالب بمحاضرات أستاذه، ويعتبرها من المسلمات التي لا تقبل المناقشة أو المذاكرة. وهذه آفة تذهب بنور العلم وضيائه. وهذا يسوقنا إلى محطة أخرى نتساءل فيها عن الوقت المناسب الذي يأخذ الطالب فيه الحديث. متى يأخذ الطالب الحديث وعلومه؟ لا شك أن علماءنا قد فطنوا لهذا المنهج، وتباينت وجهات نظرهم حسب بيئاتهم العلمية. قال موسى بن هارون:» أهل البصرة يكتبون لعشر سنين وأهل الكوفة لعشرين وأهل الشام لثلاثين « (1) . وقال نعيم بن يعقوب:» سمعت أبا الأحوص يقول: (كان الرجل يتعبد عشرين سنة ثم يكتب الحديث) « (2) . وقال أبو عبد الله الزبيري:» يستحب كتب الحديث من العشرين لأنها مجتمع العقل ... وأحب إلي أن يشتغل دونها بحفظ القرآن والفرائض « (3) . إلا أننا في عصرنا هذا، عصر الشواهد الإدارية، صار من المستحيل ضبط الصالح من طلاب العلم الشريف من غيرهم، وتمييز من يكون أهلا للطلب ممن ليس بأهل لذلك. واقع طلب الحديث: في غياب المنهج العلمي الذاتي، أفرز الواقع التعليمي المظاهر الآتية: أ - ضعف المحصول الحديثي لدى الطلاب؛ وهذا يستوجب العمل على إنماء هذا المحصول بالمناهج العلمية الذاتية (لا المستوردة) . ب- غياب طرق أخذ العلم:» أول العلم السماع ثم الإنصات ثم الفهم ثم الحفظ ثم النشر والتبليغ «. ج - كثرة مواد الوحدة أو الشعبة. د - اختلاف مناهج تقديم الدرس من قبل المحاضر أو الأستاذ، يؤدي إلى تباين مواقف الطلبة من محبة الحديث الشريف، ومما لا شك فيه أن محبة العلم هي أول خطوة ناجحة في درب فهم هذا العلم والارتواء من معينه. (ومن كره شيئا عاداه) .

_ (1) المحدث الفاصل ص187. (2) المحدث الفاصل ص187. (3) المحدث الفاصل ص 187 - 188.

يصل بنا هذا إلى البحث عن أسس تلقين مادة السنة وعلومها لهذه الفئة من الطلاب الذين سبق التعرف على واقعهم ومستواهم العلمي. أسس تلقين مادة السنة وعلومها: 1 - الحرية: فلا بد أن يشعر الطالب بالحرية في اختيار هذا العلم، والحرية في مناقشة قضاياه، والحرية في عرض ما يشوب فهمه من غبش يراه صوابا، وبلغة أخرى لا نفرض عليه عبارات معينة. 2 - أدب مذاكرة الحديث النبوي: فالحرية لا تتنافى مع الأدب في مذاكرة الحديث الشريف ومناقشة قضاياه وأحكامه والعلوم المرتبطة به، بل إن الأدب يعد من مستلزمات الحرية في مذاكرة العلم الشريف. 3 - ارتباط المذاكرة بتحضير الدرس: فالطالب لا يمكن أن يناقش هذه القضايا ويتذاكر في هذه الأحكام ما لم يكن ملما بها ومطلعا على عيونها ومصادرها. 4 - وجوب التكوين المستمر: لأن الواقع الفكري للأمة عامة وللمثقفين خاصة، يدعو إلى وضع خطة تعليمية تهتم بتجديد التكوين الفكري وتطويره، ومراجعة الأساليب التربوية باستمرار، والإفادة من تجارب المؤسسات العلمية سواء داخل العالم الإسلامي أو خارجه.» والحكمة ضالة المسلم أنى وجدها فهو أحق بها «. ولا ريب أن استدعاء الخبراء في ميدان من الميادين للإفادة من علمهم وخبراتهم، يعد من صميم التكوين المستمر. وهذا ليس بغريب عن الفكر التربوي الإسلامي، فالمسلم يتلقى المعارف من المهد إلى اللحد» اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد «» مع المحبرة حتى المقبرة «. روى الإمام مالك (1) في الموطأ أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال: (يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض الميتة بوابل من السماء) . والعلم بالسنة ليس حكراً على فئة دون أخرى، وعلى الصغار دون الكبار لأن الأمر بطلب العلم عام وشامل لكل الأعمار.

_ (1) تقديم ومراجعة وتنسيق فاروق سعد - ط دار الآفاق ودار الرشاد - الثالثة 1405هـ - 1985م ص 849 (الرقم 225) .

وقد أصبح اليوم من اللازم مراجعة مفهوم التكوين المستمر في العلوم كافة، وعلم السنة على وجه الخصوص. فالحاجة إلى منهج متكامل يأخذ بعين الاعتبار جميع الجوانب: الفكرية والاقتصادية والاجتماعية التي تفرض نفسها فرضاً، وأصبح لزاماً على المؤسسات العلمية أن تبذل جهوداً منظمة من أجل الارتفاع بالمسلم إلى المستوى الذي يؤهله للخلافة في الأرض. ووعينا بهدف التكوين المستمر يجب أن يكون معمقاً، خاصة إذا ربطناه بدوافع مختلفة تجعل المنتهي يعود إلى الدراسة: ـ تغيير المركز الاجتماعي. ـ الترقي في سلم الوظيفة. ـ أو الاستزادة من أسرار الصدمة الحديثية حتى يكون رأساً فيها. وصدق الشاعر عندما قال: رأيت العلم صاحبه كريم……ولو ولدته آباء لئام وليس يزال يرفعه إلى أن……يعظم أمره القوم الكرام ويتبعونه في كل حال……كراعي الضأن تتبعه السوام فلولا العلم ما سعدت رجال……ولا عرف الحلال ولا الحرام ولعل من حسنات التكوين المستمر، إلى جانب التحصيل العلمي، الاستمرار في الطلب حيث يورث طمعا متجددا للحياة، ويبث الشعور بالنشاط ويجدد الثقة بالنفس، لأن الطالب يفهم من خلال إقباله على هذه الحلقات العلمية أشياء جديدة، ويصقل معلوماته القديمة ويحاور غيره ممن يلتقي به أثناء التلقي، ويتعلم التعاون على البر، ويضطر لمقارعة الحجة بالحجة، كما أنه يرتب أفكاره ويجعل لها قالبا جديدا، بالإضافة إلى الأثر الذي يحدثه في محيطه. وبناء على ما تقدم نقرر: أن الذي يعود إلى هذه الحلقات بعد قطيعة يجد معالم جديدة، توفر له فرصة الانطلاق من جديد. ونقرر أيضا أن العقل يفسد عندما يعتريه الكسل والخمول إذا اقتصر على القليل، أو النظرة الوحيدة، وبعبارة أخرى أحادية المرجع، فصاحب هذا الإتجاه تتبلد أفكاره ويردد أفكار غيره مثل الببغاء، والتقليد كما قال شيخنا عبد الله بن الصديق -رحمه الله- لا يأتي بخير.

إن التكوين المستمر يحرر الفهم، ويطلق العنان للعقل ليبدع ويحلل وينتقد ويبني ويرجح. فإذا استطعنا أن نبث هذه الروح في طلبتنا، سهل علينا أن نسأل ونتساءل معهم: * ما معنى صححه فلان؟ * ما معنى ضعفه فلانه؟ * هل نسلم لتصحيح المتقدمين؟ * هل نسلم لتضعيف المتقدمين؟ * هل نسلم لتصحيح المتأخرين؟ * هل نسلم لتضعيف المتأخرين؟ * ما معنى التشدد والتساهل في التصحيح والتضعيف؟ * ما معنى متفق عليه في غياب الاطلاع على قصد وشرط كل مصنف؟ * هل تتحد رؤى المصنفين للرجال أو تتباين؟ * لماذا ينفرد أحد المصنفين بإخراج حديث دون الباقي؟ مثاله: حديث عمر بن إسماعيل بن مجالد الذي انفرد (1) الإمام الترمذي بتخريج حديثه في سننه. عمر هذا وصفه الحافظ ابن حجر في» تقريب التهذيب «أنه: متروك وإذا رجعنا إلى» تهذيب التهذيب « (2) لاستعراض أقوال العلماء فيه، نلحظ أن أقوالهم قد اتفقت على جرحه، فقد كذبه ابن معين وقال:» ليس بشيء كذاب خبيث، رجل سوء حدث عن أبي معاوية بحديث:» أنا مدينة العلم وعلي بابها «وهو حديث ليس له أصل «وقال الإمام النسائي ليس بثقة متروك الحديث، وضعفه أبو حاتم الرازي والدارقطني واتهمه ابن عدي بسرقة الحديث، فهذا الراوي تالف بيقين ولا يتقوى بالمتابعة. إذن لماذا انفرد الترمذي بتخريج حديثه؟ ما هو قصده، هل هو مقبول عنده أم مردود؟ وصفوة القول: إن من الإنصاف أن نضع كل حديث في موضعه، وننظر في مقصد وشرط مخرجه. والله أعلم. كيفية تيسير علوم الحديث على الطالب المبتدئ: قديما قال العلماء:

_ (1) أفدنا هذا مما أشار إليه الحافظ ابن حجر في التقريب برمز/ ت، انظره 2/ 52 (ع 388) . (2) انظر الجزء 7/ 360-361،ع 5043، طبعة دار الكتب العلمية الأولى 1415هـ -1994م بتحقيق مصطفى عبد القادر عطا.

» من حفظ المتون فقد جمع الفنون «فإذا أردنا أن نصحح ما أفسدته الأيام، وتوالي الأزمان، يجب أن نعيد للحفظ - حفظ المتون - مكانته، وأن نبدأ بأبسطها، فمثلا يبدأ الطالب بحفظ متن البيقونية ثم يعرضها على كتاب مقدمة ابن الصلاح ثم ألفية العراقي ويعرضها على تدريب الراوي للسيوطي، وهكذا يترقى الطالب في مدارج العلم والمعرفة. فمثلا: إذا حفظ الطالب أولها الصحيح هو ما اتصل……إسناده ولم يشذ أو يعل يرويه عدل ضابط عن مثله……معتمد في ضبطه ونقله (1) يقرأ هذه القاعدة عند ابن الصلاح ويقارن بما يحسن نقله عنه بنصه: » أما الحديث الصحيح: فهو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا « (2) . وتسهيلا على الطالب المبتدئ نقرب له صورة هذا التعريف بالطريقة الآتية: لا يكون الحديث صحيحا إلا إذا استوفى الشروط المبينة أدناه: 1 - أن يكون مسندا: بحيث ينسب القول أو الفعل أو التقرير أو الصفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسند. 2 - أن يكون متصل السند: أي أن كل راو من الرواة المذكورين في السند قد سمع هذا الحديث من شيخه أو أخذه بطريق من طرق التحمل المعروفة عند المحدثين. 3 - أن يكون رواته متمتعين بالعدالة والضبط، بحيث يكون كل راو من الرواة عدلا ضابطا، ومن جمع بين هذين الصفتين فهو الثقة. وهنا نفتح قوسين لنعرف بالعدالة والضبط تعريفا موجزا يقتضيه المقام فنقول: العدالة ملكة تحمل المرء على ملازمة التقوى والمروءة، والتقوى هي اجتناب الأعمال السيئة: من شرك أو فسق أو بدعة.

_ (1) أبو عبد الله محمد محمد الزرقاني - شرح الزرقاني على المنظومة البيقونية في المصطلح ط - مؤسسة الكتب الثقافية - الأولى 1405هـ ص 22-23. (2) ابن الصلاح - علوم الحديث - تحقيق نور الدين عتر - ط دار الفكر - دمشق - 1406هـ-1986م ص 11-12.

والضبط: هو أن يحفظ الراوي الحديث من شيخه ويعيه بحيث إذا حدث به عنه حدث به على الوجه الذي سمعه عليه. والضبط عند المحدثين قسمان: ضبط صدر وضبط كتاب (1) . 4 - أن لا يكون شاذا، والشذوذ لغة التفرد، وفي اصطلاح أهل الحديث: ما يخالف فيه الراوي من هو أوثق منه. 5 - أن لا يكون معللا: أي لا يكون فيه علة خفية تقدح في صحته. ثم نستعرض مع الطالب بعض الأمثلة الموضحة لما سبق، حتى تترسخ معالم هذه الصنعة وتتمكن من لبه: أخرج الإمام البخاري في صحيحه (كتاب الجهاد والسير/باب: ما يعوذ من الجبن) قال: حدثنا مسدد، حدثنا معتمر، قال: سمعت أبي، قال سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: » اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر «. فقد استوفى هذا الحديث شروط الصحة وهي: 1 - إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم. 2 - اتصال السند من أوله إلى آخره، فأنس بن مالك صحابي سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وسليمان بن طرخان -والد المعتمر- قد صرح بالسماع من أنس، ومثله المعتمر قد صرح بالسماع من أبيه، وكذلك شيخ البخاري قد صرح بالسماع من معتمر، والبخاري -رحمه الله- قد صرح بسماع هذا الحديث من شيخه. 3 - توفر العدالة والضبط في رواة السند من لدن الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه إلى مخرجه الإمام البخاري -رحمه الله-. * فأنس ابن مالك -رضي الله عنه-: صحابي، وكل الصحابة عدول بتعديل الله لهم -رضي الله عنهم أجمعين-. * وسليمان بن طرخان -والد المعتمر- ثقة عابد. * وابنه المعتمر ثقة. * ومسدد بن مسرهد: ثقة حافظ. * والإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث وأستاذ الأستاذين وطبيب المحدثين في العلل.

_ (1) راجع الإمام علي القاري شرح نخبة الفكر - تقديم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة - تحقيق وتعليق محمد نزار تميم وهيثم نزار تميم. ط. دار الأرقم ص 247-248-249.

4 - كذلك فهذا الحديث غير شاذ. 5 - ولا هو معلل. فاستوفى بذلك شروط الصحة، ولذلك أخرجه البخاري في صحيحه وفاقا لشرطه. فنحن -بعد هذا- لا نشك أن هذا العلم لا يتقنه الطالب إلا بكثرة النظر والقراءة والممارسة والدراسة، وإلا كان علما جامدا، يتحرك فيه الطالب بين مصطلحات جافة، فلا يرجح إلا من جهة النظر، وهذا مما يلحقه القصور، فليس الخبر كالمعاينة وإن لم يوافق الخُبر الخبر كان مجرد حكاية أو ظن غالب على الغاية. ولعل أهم أسباب عدم إفادة اللاحق من السابق تكمن في: عدم استيعاب الطالب لاختلاف مذاهب المحدثين في عدالة الراوي وضبطه، وهذه أهم قاعدة الاختلاف بين المحدثين ومسائلها تتفرع إلى: 1 - اختلاف المحدثين في كيفية ثبوت عدالة الراوي. 2 - اختلافهم في ثبوت الجرح والتعديل بقول واحد. 3 - اختلافهم في حكم التعديل على الابهام من غير تسمية المعدل. 4 - اختلافهم في رواية الثقة عن رجل سماه، وهل تدل على توثيقه. 5 - اختلافهم فيمن روى عن ثقة حديثا فسئل المروي عنه فنفاه. 6 - اختلافهم في أخذ الأجرة على التحديث. أما أهم قاعدة اختلافهم في ضبط الراوي فتنبني على أن الحكم على مبلغ ضبط الرواة هو اجتهادي (1) . (1) وبنظرة موجزة في كتب أصول الحديث، سيقف الباحث على اختلاف المحدثين في بيان علوم الحديث وقواعده واختلافهم في وجوه تحمل الحديث وأدائه، وأثره في القبول والرد. وهذا التباين لم تسلم منه أنظار المحدثين والفقهاء في الكشف عن العلة واختلافهم في أثرها في القدح بصحة الحديث وعدمه. قال الحافظ أبو الفتح ابن دقيق العيد: » اللفظ الأول، الصحيح: ومداره بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين على عدالة الراوي: العدالة المشترطة في قبول الشهادة على ما قرر في الفقه، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك: أن يكون مسندا.

_ (1) انظر خلدون الأحدب - أسباب اختلاف المحدثين ص 9.

وزاد أصحاب الحديث: أن لا يكون شاذا ولا معللا، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى الفقهاء، فإن كثيرا من العلل التي علل بها المحدثون الحديث لا تجري على أصول الفقهاء « (1) . ومن ثم فطلبة العلم اليوم يجب أن يضعوا في خلدهم أن العلم لا يوجد في مصنف واحد، وأن الحكم على الحديث لا يُسلم لشيخ واحد، وإنما هي أحكام خاضعة للاجتهاد، وتضارب الأنظار، ما لم يتفق العلماء على صحيح أو يجمعوا على ضعيف. وفوق كل ذي علم عليم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه

_ (1) انظر الاقتراح لابن دقيق العيد تحقيق قحطان الدوري - ص 152 وما بعدها.

مسألة الفهم والإفهام في مادة علوم الحديث

مسألة الفهم والإفهام في مادة علوم الحديث أ. د. المكي بن أحمد اقلاينة أستاذ بكلية الدراسات الإسلامية والعربية - دبي بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد: يعتبر الإفهام أهم هدف تبتغيه العملية التعليمية بغرض إيجاد الفهم لدى الطالب الذي به يستطيع التقدم في العلم والمعرفة، أما مجرد التلقين من دون أن يحصل استيعاب للمادة العلمية، فإنه لا يخلق في النفس أي تغيير أو إصلاح للفكر. وإذا علمنا أن الشريعة الإسلامية قائمة على التعليم وخلق المعرفة الصحيحة المبنية على الدليل لا على الهوى، علمنا السبب الذي من أجله كان الأمر بالقراءة في أول سورة نزلت على رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم هداية للناس، وهذه الآيات الدالة على أن الرسول بعث ليبين للناس ما نزل إليه، فهو مبلغ وشارح لذلك. ثم إن سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم يلمسه الباحث بشكل واضح، وهو بذلك يوضح لنا أسس إفهام الناس. والفهم شرط التكليف، لذا، فإن مكانة الفرد رهينة به. وقد جاء في تفسير الحكمة في قوله تعالى: وآتيناه الحكمة (1) عن ابن عباس: أعطي الفهم (2) ، وعن إبراهيم فيما رواه عنه الطبري في تفسير قوله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء (3) قال: الحكمة هي الفهم (4) . وفي رسالة عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري في القضاء: ( ... الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في القرآن والسنة، فتعرف الأمثال والأشباه ثم قس الأمور عند ذلك ... ) (5) ، وعنون البخاري في صحيحه في كتاب العلم: (باب الفهم في العلم) . 1- مدلول الفهم والإفهام وأهميتهما:

_ (1) سورة ص، الآية: 20. (2) تفسير ابن أبي حاتم 10 /3238. (3) سورة البقرة، الآية: 269. (4) الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 3 / 90. (5) سنن الدارقطني 4 / 206 ح 15 و4 / 207 ح 16، وسنن البيهقي الكبرى 10 / 115 ح 20134 و10 / 150 ح 30324

عرف بدر الدين العيني الفهم بأنه: (جودة الذهن، والذهن قوة تقتنص الصور والمعاني، وتشمل الإدراكات العقلية والحسية) (1) . وهو منزلة بين تلقي العلم والحفظ، وفي ذلك روى البيهقي عن سفيان بن عيينة قوله: (أول العلم: الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر) (2) . ومن كان ذا فهم كان ممدوحا عند العلماء لأنه يفقه ما يسمع، ويظهر أثره في العمل، فهذا أبو نصر الكلاباذي الكاتب، من الحفاظ، قال فيه أبو عبد الله الحاكم: (حسن الفهم والمعرفة ... ) (3) ، وقال الذهبي في الإمام محمد بن مخلد بن حفص الحافظ: (كتب ما لا يوصف كثرة، مع الفهم والمعرفة وحسن التصانيف) (4) . ومن نزلت رتبته عن الفهم السليم كان مقدوحا فيه، فهذا عفان بن مسلم أبو عثمان الصغار قال فيه سليمان بن حرب فيما رواه عنه ابن عدي: ( ... كان بطيئا رديء الحفظ، بطيء الفهم) (5) ، وقال ابن النجار في أحمد بن طارق الكركي: ( ... وقد سمعت منه كثيرا، وكان قليل المعرفة، بعيدا من الفهم، ولكنه صحيح السماع ... ) (6) .

_ (1) العيني: عمدة القاري شرح صحيح البخاري 2 / 52، ذكر ذلك في معرض رده على الكرماني عندما قال: (المراد من العلم المعلوم، كأنه قال: (باب إدراك المعلومات)) ، البخاري بشرح الكرماني 2 / 39. (2) البيهقي: شعب الإيمان 2 / 289 ح 1797. (3) الذهبي: تذكرة الحفاظ 3 / 1027 تر 956. (4) الذهبي: سير أعلام النبلاء 15 /256. (5) ابن عدي: الكامل في ضعفاء الرجال 5 / 384 تر 1550. (6) ابن حجر: لسان الميزان 1 / 188 تر 579.

ولا زال العلماء يهتمون بجودة الفهم والإفهام، وصنفوا في ذلك مصنفات عدة تهتم بالسلوك التربوي داخل مجلس العلم حتى يتمكن الطالب من حسن الفهم (1) . بهذا، ندرك أهمية الموضوع في العلوم الشرعية عامة، وفي علوم الحديث خاصة لأنها من أهمها لارتباطها بأمرين اثنين: 1 ـ المنهج النقلي وما ينبني عليه من الطرق المؤدية إلى فحص الروايات ونقدها بهدف التمييز بين الصحيح والسقيم. 2 ـ وفهم دلالة النص المنقول بغية العمل بمقتضاه وتنزيله على الواقع لكونه تشريعا للمسلمين. لأجل ما ذكر، بنى العلماء قاعدة جليلة: (إن كنت ناقلا فالصحة، وإن كنت مدعيا فالدليل) . بسبب هذه الأهمية التي تكتسيها علوم الحديث، وجبت العناية بها عناية كاملة دراسة وتدريسا وتطبيقا، الأمر الذي جعل علماء الحديث يولونها منذ العهود الأولى نصيبها من الاهتمام لحسن الاستيعاب والفهم والعمل. وإننا في هذه الندوة العلمية الدولية: (علوم الحديث: واقع وآفاق) ، نهدف أساسا إلى إبراز واقع هذه المادة في صفوف الطلاب، والوسائل القمينة بتجاوز العراقيل التي تعوق العملية التعليمية وتيسرها عليهم. وما من شك أن استصعاب الشيء يولد هجره إن لم نقل كراهيته. وهذا الموضوع شغل ذهني زمنا غير يسير وأنا أحاول تبليغ المادة لطلابي، أو عندما أقف على هفوات في بحوث الدراسات العليا، أو عندما أسمع خطيبا يلقي خطبته يوم الجمعة ممن ليس من أهل هذا الشأن فيحتج بحديث ويعقب عليه بأنه أخرجه ابن الجوزي في موضوعاته، غير متفطن إلى أن المقصود من الكتاب أنه خاص بالأحاديث المكذوبة.

_ (1) يراجع: ابن عبد البر: بهجة المجالس، وشحد الذهن والهاجس، والخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وابن جماعة الكناني: تذكرة السامع، وكتابنا: النظم التعليمية عند المحدثين في القرون الثلاثة الأولى ...

وهذا الذي حصل من هؤلاء يعود إلى طبيعة التكوين الذي حصلوا عليه، وسوء الفهم لبعض المواضيع ظهر أثرها للعيان. وكثيرا ما كنت أتمثل بما حصل للحافظ أبي عبد الله الحاكم في بعض تخاريجه لحديث إسماعيل ابن عياش عن مطعم بن المقدام الصنعاني كما نبه إليه ابن القيسراني في معرض بيانه سبب تأليفه كتاب» المؤتلف والمختلف «، إذ قال عقيبه:» تفرد به الشاميون عن اليمانيين «فاعتقد أن مطعما هذا من صنعاء اليمن، وإنما هو من صنعاء، قرية بباب دمشق، نزلها جماعة من الصحابة، وفيه قال أبو عمرو الأوزاعي: (ما أصيب أهل الشام بأعظم من مصيبتهم بالمطعم بن المقداد الصنعاني) (1) . وهذا الذي حصل للحاكم لا يرجع إلى قلة علمه، بل إلى مجرد الوهم، ومن يعرى عنه؟! ومعرفة أنساب الرجال من أنواع علوم الحديث التي لا غنى للمحدث عنها، وتكفيه غفلة عن هذا الأمر ليجرح ثقة أو يوثق مجروحا!

_ (1) ابن القيسراني: المؤتلف والمختلف، المعروف بالأنساب المتفقة في الخط، المتماثلة في النقط والضبط، ص: 23 - 24.

أفلا يعتبر هذا كافيا لإمعان النظر في كيفية تبليغ علوم الحديث التي تمثل المنهج الإسلامي في المحافظة على سلامة الحديث وحسن فهمه؟! وهو منهج تأثرت به باقي الميادين من تفسير وفقه وأصول وعقيدة وأدب ولغة ونحو وتاريخ ... وهذا المجتمع الغربي يعمل على تيسير المعرفة ونشرها في كتب مخصصة لذلك (1) ، والذي يعود إلى عمل علماء السلف رحمهم الله، يجدهم لم يقصروا في هذا الباب، وجهدوا في تيسير علوم الحديث على الطالبين، ونشره في مجالس العلم وإن كانت للمتفرغين لهذا الشأن مجالس خاصة، وألفوا في ذلك ما تزخر به المكتبة الإسلامية عامة، والحديثية خاصة. فلا غرابة عندما نجد المحدثين يولعون باختصار المبسوطات وجمع قواعد العلم من بطون المصنفات تيسيرا على طلاب العلم لتعذر وقوفهم على كل ذلك دفعة واحدة من خلال هذه الكتب التي صنفت في كل نوع من أنواع علوم الحديث. وفي كل زمان تظهر حاجة تستدعي عناية خاصة من لدن أهل العلم. وزماننا هذا، يدفعنا دفعا إلى إعادة النظر في كيفية نقل المعرفة عموما، وعلوم الحديث التي هي من أصعب العلوم بشكل خاص. نظرا لأهمية المسألة، نحن في حاجة إلى رصد جميع مكونات العملية التعليمية، والاستفادة من عمل السلف في الجانب التعليمي، واقتراح الحلول الممكنة للتخفيف من حدة مشكلة الفهم والإفهام. 2 - معوقات الفهم لدى الطالب: الطالب أحد مكونات العملية التعليمية، وفي غياب مشاركته الفعالة لا يمكن الحديث عن الفهم والإفهام، لأن ذلك لا يدرك إلا بعد ظهور أثر الفعل التعليمي. ولكي يتفاعل وينفعل مع هذه العملية، يفترض أن يكون على مستوى معين من الإدراك الذي به يفهم نسبة مما يقدم إليه ويستطيع أن يعبر عنه بأسلوب واضح وسلس يفهم منه المراد. فإلى أي حد يستطيع الطالب اليوم أن يفعل ذلك في ظل التكوين العام الذي خضع له؟ ثم إلى أي حد يظهر تجاوبه مع مادة علوم الحديث خاصة؟

_ (1) راجع سلسلة QUE SAIS - JE ?

للإجابة عن هذين السؤالين أستلهم أولا تجربتي في التعليم العالي بالمغرب والإمارات، وأستنير بما توصلت به من إجابة عن الاستمارة التي تضمنت جملة من الأسئلة خصصتها لهذا الشأن بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي استجاب لها مجموعة من الطلبة، وإن كانت غير معبرة بالمعنى العلمي الدقيق، لكنها توافق الملاحظات التي رصدها الأساتذة، وهي على الشكل الآتي: * ضعف التكوين العام في جميع المواد، بحيث لا يمكن حصره في مادة دون أخرى. لأجل هذا، فإن المشكل ليس خاصا بعلوم الحديث فقط، بل هو عام في جميع المواد ويتفاوت من جهة إلى أخرى. وهذا لا يمنع من وجود طلبة متميزين، إلا أن الحكم للأغلب، علما بأن كلية الدراسات الإسلامية والعربية تشترط معدلات توحي بأن حاملها على مستوى جيد. وكان من شروط قبول الطلبة في التسجيل لسنة 2002 - 2003: 1 - أن يكون حاصلا على شهادة الثانوية الشرعية أو الثانوية العامة (علمي أو أدبي) أو ما يعادلها، بمعدل لا يقل عن 60 % للطلاب المواطنين، و70 % للطالبات المواطنات شريطة ألا يكون قد مضى على الشهادة أكثر من خمس سنوات. 2 - يقبل من أبناء دول مجلس التعاون الخليجي من كان حاصلا على الثانوية العامة أو ما يعادله شريطة ألا يمضي على حصوله على الشهادة أكثر من سنتين وبمعدل 75 % للطلاب و80 % للطالبات، ويتم القبول على أساس تنافسي.

* ضعف شديد في المستوى اللغوي والنحوي والإملائي لاحظته منذ التحاقي بالإمارات، مرده إلى طبيعة التكوين الذي خضع له الطلاب. وقد جاء تفسير ذلك في إحدى الاستمارات أن مادة اللغة العربية من مائة درجة موزعة على الأدب والشعر والتعبير والخط والنحو، ودرجة مادة النحو من خمسة إلى عشرين، فكان الطلبة لا يهتمون بها نظرا لصعوبتها ويعتنون بغيرها من مكونات وحدة اللغة العربية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية استعمال جملة من الأساتذة اللهجات المحلية في التدريس، فيؤثر ذلك سلبا على العملية التعليمية، ومن جهة ثالثة أثر الدعوى أن اللغة الأجنبية (الإنجليزية) مفتاح المستقبل كان لها مفعولها في إهمال اللغة العربية. ولأجل هذا نفهم حرص إحدى الجمعيات بالإمارات - وهي جمعية حماية اللغة العربية - على جعل يوم 21 (شباط) فبراير اليوم الوطني للغة العربية. وأثر الضعف اللغوي في فهم الطالب جلي لا يمارى، إذ باللغة يفهم الخطاب. ولأجل ذلك قال جلال الدين السيوطي في معرض كلامه عن العلوم التي حباه الله بها: ( ... مع ما أمدني الله تعالى به من العلوم كالتفسير الذي يطلع على فهم الكتاب العزيز، وعلومه التي دونتها ولم أسبق إلى تحريرها الوجيز، والفقه الذي من جهله فأنى له الرفعة والتميز، واللغة التي عليها مدار فهم السنة والقرآن، والنحو الذي يفتضح فاقده بكثرة الزلل - ولا يصلح الحديث للحان - إلى غير ذلك من علوم المعاني والبيان التي لبلاغة الكتاب والحديث تبيان ... ) (1) .

_ (1) السيوطي: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي 1 / 39.

* اقتصار الطلبة في الغالب الأعم على الكتاب المقرر وعدم محاولتهم توسيع مداركهم بقراءة المصادر والتعرف عليها، وهذا يؤثر في مستواهم الذي لا يخرج عن إطاره. والأصل في ذلك تشجيعهم على هذا الأمر سيرا على نهج المحدثين وغيرهم في تعديد الشيوخ واعتبار ذلك منهجا تعليميا يعاب على من عري عنهم كما نبه إليه الإمام الشاطبي عند محاولته تفسير سبب سلاطة لسان ابن حزم رحمه الله (1) . والعودة إلى الكتب الآن، وإن كانت لا تعوض الشيوخ، تقلل من حدة هذا الضعف الذي يعاني منه الطلبة. * إلى جانب الاقتصار على الكتاب، يتم التعويل على اختصار له قد يقوم به أحد الطلبة مما يزيد الطين بلة. وليته إذ اختصر صحح ما كتب، ومن يتغيب يعول على ما كتب زميله من شرح الأستاذ ويطمئن إليه مع أنه قد يكتب فهما غير سديد، أو يصحف، أو يخطئ في ضبط الكلمة ... فتنتشر الأخطاء وتصبح حالة عامة، وهو في ضبط المصطلحات الحديثية أفظع وأكثر لأنه ليس لديه بها أنس. ورحم الله وكيع بن الجراح، فقد كان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت: (من الخفيف) (2) خلق الله للحديث رجالا … ورجالا لآفة التصحيف ومعلوم أن العلم بأسماء الرواة وضبطها من أنواع علوم الحديث مما يؤخذ مشافة عن الشيوخ، وقد صنف فيه جلة من العلماء مما لا يدرك بالاعتماد على المجهود الشخصي والقراءة الذاتية. 3 - معوقات الإفهام لدى الأستاذ:

_ (1) الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة 1 / 93 - 95، وانظر رسالتنا: ابن حزم الأندلسي وأثره في الدراسات الحديثية 1 / 69 - 82، وكتابنا: النظم التعليمية عند المحدثين في القرون الثلاثة الأولى، ص: 83 - 84. (2) الخطيب البغدادي: كتاب تلخيص المتشابه في الرسم وحماية ما أشكل منه عن بوادر التصحيف والوهم 1 / 2.

* يتحمل الأستاذ قسطا من المسؤولية حال التقصير في الإفهام وتبليغ المادة على وجهها لأسباب تعود إلى مدى خبرته بالتدريس، وتمكنه من المادة، وتجاوبه مع طلابه. ولا شك أن خبرة الأستاذ وحنكته تؤهلانه لتقديم المادة العلمية على أحسن وجه. لذا، فإن المستويات التي يعاني فيها الطلبة من تكوين ضعيف يحتاجون أكثر من غيرهم إلى أستاذ محنك، على أنه لا يملك خاتم سليمان، ولكنه سيعمل جهده للتخفيف من حدة المشكلة. * والالتزام باللغة العربية من آكد الواجبات التي يجب أن يلتزم بها، يضاف إلى ذلك أن يكون متخصصا في المادة التي يدرسها، والعيب الذي يؤثر في التعليم هو إسناد المواد لغير أصحاب التخصص خصوصا في علوم الحديث. وقد آليت على نفسي عند قيامي بمهام رئاسة قسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان / المملكة المغربية، أن لا أكلف أحدا بتدريسها إلا أن يكون من أهل الفن. ومن خلال تفريغي للاستمارات، وجدت مجموعة من الطلبة يرجعون سبب عدم فهمهم لها في سنة من السنوات إلى أنه كان يدرسهم أستاذ بعيد عن التخصص. * يضاف إلى ذلك، نجد الأستاذ مثقلا بعدد ساعات العمل، اعتقادا من الجهة المتعاقدة معه أنها بهذه الطريقة تستفيد من خبرته أكثر، والواقع أنه يصبح منهوك القوى وتضعف مردوديته وتكون النتيجة مخالفة لما كان ينتظر منه. والإنسان يبدع في عمله إذا وفرت له الفرصة السانحة لذلك والظروف الملائمة.

* ويكلف بتدريس كتاب مقرر لا يخرج عنه علما أنه قد لا يفي بالغرض من جهة، ومن جهة ثانية قد تكون فيه أخطاء علمية، أو معلومات قديمة لا تواكب مستجدات البحث العلمي. بهذه الكيفية، لا يستفيد أحد من خبرته وإنما يكون مجرد مردد لأقوال غيره، وبكلمة أخرى مجرد مدرس، بينما المطلوب في الأستاذ أن يكون باحثا. وعلماء الحديث عندما يدرسون كتابا لأحد العلماء لا يقفون عند حدود نقل ما قال، بل يشرحون أقواله ويوجهونها وينكتون عليه ببيان جملة من اللطائف مما يفتح آفاق الطالب ويتعود بذلك على القراءة النقدية الرصينة، ويتعود كتابة الطرر والحواشي على الكتاب الذي يدرسه تكون بدورها نواة لكتاب جديد، وقد يعتني بجمع أقوال شيخه ويجعلها في كتاب فيكون بذلك مشاركا وفعالا في العملية التعليمية التي يمثل المحور الأساس فيها. والمكتبة الحديثية زاخرة بمثل هذه الأعمال التي ألمعنا إليها أمثال سؤالات محمد بن عثمان لعلي، وسؤالات أبي عبيد لأبي داود، وسؤالات ابن أبي شيبة، والشروح التي وضعها العلماء على الكتب التي كانوا يدرسونها مع تعليقاتهم عليها نثرا أو شعرا، وما شروح مقدمة ابن الصلاح عنا ببعيدة والمنظومات التي وضعها العلماء في سبيل ذلك مما لا يجرؤ أحد على الطعن في جودتها، علما بأن لكل زمان رجاله.

* في ظل التقنيات الجديدة، نجد من الأساتذة من لا يرى جدوى من الاستفادة منها. ونحن وإن كنا نرى ضرورة الأخذ من أفواه الشيوخ، إلا أن ذلك لا يمنع من المزاوجة بين الأمرين لما يحققه من فوائد واختزال الوقت في الإفهام. واستعمال الحاسوب في السنة وعلوم الحديث يفيد الطالب بشكل كبير إذا أحسن استعماله دون إسفاف بحيث يلزمه التعامل المباشر مع المصادر الحديثية إلى جانب ذلك، وإلا كانت معرفته جزئية لا تتعدى ما كان يبحث عنه، بينما يحصل الطالب في بحثه المباشر في الكتب علما وفيرا مما لم يكن لديه في الحسبان. أضف إلى ذلك ما في الأقراص المدمجة من سقط وتصحيف كثير مما يعيب العمل ويحتاج إلى إعادة النظر في مثل هذه المشاريع التي يبتغى بها خدمة العلم من أجل إخراج عمل متقن. لأجل هذا، أنصح بضرورة عقد اتفاقيات عمل في هذا الباب مع المتخصصين، والتماس مستشارين في هذا المجال. 4- معوقات الفهم للكتاب المقرر: سبق الكلام عن كيفية النظر في دولة الإمارات على الأقل إلى الكتاب المقرر، وأنه يلزم به الأستاذ، وبينا نتائج ذلك وأنه لا يستفاد من خبرة الأساتذة بهذه الكيفية. وبالمناسبة، نذكر جملة من الأسباب التي تجعلنا نعتقد أن الحاجة ماسة إلى إضافة دماء جديدة في هذا الأمر بإدخال تعديلات على مستوى التأليف: * إن عامة المصنفات التي ألفت تعاملت مع علوم الحديث على نفس نهج المتقدمين في الأسلوب، وهو عمل قد يكون جيدا لباحثين متميزين، والحال أنه يعرض على طلبة غير متمرسين ويعانون من ضعف عام في الغالب. وهو أمر يعانون منه كما تم التصريح به في الاستمارات بشكل يكاد يكون محل إجماع مما يستدعي البحث في المسألة بجدية. * في كتاب التخريج المقرر نجد جملة لا بأس بها من الأوهام مما نحن في غنى عن ذكرها الآن. وكون الكتاب مقررا في جهات لا يرفع عنه ذلك.

* في مادة علوم الحديث يلمس الباحث انتقاء صاحب الكتاب للتعاريف دون محاولة التأكيد على إطلاقات العلماء وتوضيح الخلاف الموجود بينهم في ذلك، فيسلم الطالب للتعريف الذي قدم له للصحيح والحسن والشاذ والمعلل ... وكلما وجد هذه المصطلحات على لسان أحد العلماء حملها على ما في ذهنه من تعريف لها، وذلك لا يسلم. ولا ينفرد صاحب الكتاب بذلك، فإننا نجد هذا الأمر سائرا بين جملة من الأساتذة ممن يريحون أنفسهم من عناء البحث الجاد ويكتفون بمجرد النقل عن الآخرين. وإذا علمنا أن القدامى أنفسهم قد وقع جملة منهم في أوهام عند الاعتماد على مجرد النقل، أحسسنا بضرورة العودة إلى المصادر عند توفرها (1) . * وقوف عامة الكتب المؤلفة في هذا الباب عند حدود الجانب النظري، بينما المستهدف هو الطالب الذي يحتاج إلى فهم المادة بربطها بالجانب التطبيقي، إذ به يفهم المقال، والطلبة يعلقون على هذا الجانب في الاستمارة، ويحسون بأهمية الجمع بين الجانب النظري والتطبيقي. 5 - معوقات فهم المنهاج: إن المنهاج المفروض على الطلبة يجب أن يؤخذ فيه بعين الاعتبار حين وضعه مستواهم العلمي والمدة الزمنية المخصصة له. والملاحظ في هذا الجانب ما يأتي: * طول المنهاج، فيجد الأستاذ نفسه بين أن يكمله مبتور الأوصال، يمر عليه مر الكرام لأن الوقت لا يسعف، وبين أن يشرح المادة التي على عاتقه تقع مسؤولية تبليغها، فتكون النتيجة سلبية.

_ (1) يراجع في هذه المسألة مثلا الوهم الذي حصل لكل من السيوطي والسخاوي واللكنوي والمعاصرين الذين نسبوا لأبي بكر بن العربي العمل بالضعيف مطلقا معتمدين في ذلك على النقل عن ابن حجر العسقلاني، وقد بينا ذلك في بحثنا لنيل دكتوراه الدولة في موضوع: أبو بكر بن العربي وجهوده في الدراسات الحديثية 2 / 588 -592.

* غياب مادة علوم الحديث فيما عدا السنة الأولى حيث تدرس في فصلين يتيمين ينساها الطالب بعدها ليفاجأ بمادة التخريج في السنة الرابعة مع أنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بها، إذ هي بمثابة أصول الفقه بالنسبة للفقيه، فلما يتعامل الطالب معها يجد نفسه قد نسي كل ما يتعلق بعلوم الحديث، ويجد الأستاذ نفسه في حاجة إلى أن يذكره بذلك مما يؤدي إلى ضياع جزء من الوقت. * إن مادة علوم الحديث تطبيقية، وهذا يفترض التعامل المكثف مع المكتبة بهدف البحث المباشر في المصادر، ووقتا ليس باليسير لتحقيق الأهداف. * إن تقليص عدد ساعات المواد الشرعية عموما، والحديثية خصوصا سيؤدي لا محالة إلى مزيد من التراجع في المستوى الطلابي بسبب عدم استيعاب المادة وفهمها كما ينبغي. مقترحات فيما يأتي سنحاول تقديم مقترحات عساها تفيد بشكل ولو ضئيل في حل مشكلة الفهم التي تقض مضجع كل مشتغل بالتعليم: 1 ـ فيما يخص الطالب: * إن قبول الطلبة في الكلية يجب أن يتم بناء على اجتياز امتحان يستدل به على مستواهم، لأن المعدلات المشترطة للقبول، وإن كانت في ظاهرها مرتفعة، إلا أنها لا تدل في واقع الأمر على المستوى الفعلي لهم، وإلا لما لمسنا فيهم هذا القصور. * تنظيم دعم لغوي لفائدة الطلبة. * تشجيعهم على العودة إلى المصادر والجلوس إلى أهل العلم وإبراز مواهبهم. * تنظيم دورات تكوينية في الحديث وعلومه، ومسابقات في هذا المجال كما هو الشأن بالنسبة لحفظ وتجويد القرآن الكريم. 2 ـ فيما يخص الأستاذ: * تنظيم دورات تدريبية على التقنيات الحديثة لمسايرة معطيات العصر، واستعمالها في التدريس. * إسناد مادة علوم الحديث خاصة لصاحب التخصص. * التخفيف من عدد ساعات العمل حتى يتمكن الأستاذ من العطاء الجيد، وإلا فإنه سيصبح مجرد مدرس لا يقدم ولا يؤخر لعدم وجود الوقت الكافي له للبحث.

* فسح المجال له ليبدع وينشر أعماله، ولم لا تدريسها إلى جانب مصادر أخرى بهدف توسيع أفق الطالب من جهة، ومن جهة ثانية الاستفادة من خبرة الأستاذ. * استعمال وسائل الإيضاح. 3 ـ فيما يخص الكتاب المقرر: * العمل على تأليف كتب في علوم الحديث تعتمد التيسير، ولنا في ذلك سند من سلوك المحدثين وغيرهم في هذا الباب، إذ كانوا يؤلفون مبسوطات، ثم يختصرونها للسبب المذكور، فهذا العراقي في معرض بيانه سبب تأليفه (كتاب المستفاد من مبهمات المتن والإسناد) ذكر الصعوبة التي يجدها الباحث في مصنفات من ألف في ذلك مثل كتب أبي محمد عبد الغني بن سعيد والخطيب البغدادي وابن بشكوال إلى أن قال: ( ... فوفقني الله تعالى، وبه الاستعانة، إلى جمع هذه الكتب في مصنف واحد، وترتيبه على الأبواب الفقهية ليسهل الكشف منه على من أراد ذلك ... ) (1) . وهذا ابن بلبان لما أراد تبيين سبب تأليفه الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، قال بعد أن رفع من شأنه: ( ... لكنه لبديع صنعه، ومنيع وضعه، قد عز جانبه، فكثر مجانبه، تعسر اقتناص شوارده، فتعذر الاقتباس من فوائده وموارده، فرأيت أن أتسبب لتقريبه، وأتقرب إلى الله بتهذيبه وترتيبه، وأسهله على طلابه ... ) (2) ، وهذا النواوي سمى كتابه في علوم الحديث: (التقريب والتيسير) ... فظهرت بذلك عناية المحدثين بتيسير علوم الحديث كل حسب الحاجة التي رآها والكيفية التي ارتضاها. وإننا، بهذا المسلك، نشارك في خلق ثقافة حديثية لا تقتصر على طلاب العلوم الشرعية. * ضبط المصطلحات كما وردت على لسان أصحابها حتى لا يقع الخلط بين إطلاقات العلماء، ويتم تنبيه الطلبة إلى مغبة استعمال ذلك في غير وجهها، لأنه يؤدي إلى تشويه الفكرة. * التدرج من اليسير إلى الصعب بشكل مستساغ مقبول.

_ (1) العراقي: كتاب المستفاد من مبهمات المتن والإسناد 1 / 92- 93. (2) ابن بلبان: الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 1 / 95 - 96.

* الربط بين الجانبين النظري والتطبيقي. * دراسة علوم الحديث في إطار وحدات موضوعية حتى يتم استيعابها وفهمها. * استحداث جائزة لأحسن كتاب يؤلفه باحث أو يشارك فيه مجموعة من الباحثين يتوخى فيه الجدة والتيسير. 4 ـ فيما يخص المنهاج: * وجوب توزيع محاور علوم الحديث على جميع سنوات الدراسة، وبهذه الكيفية نضمن استمرار تواصل الطالب معها، واستيعابه وفهمه لها. * تناسب مفردات المقرر مع كل فصل بحيث لا يكون أكبر من الحجم الذي يجب أن يكون عليه ولا أصغر منه، وفي مستوى إدراك الطالب. * تخصيص قاعة للتخريج مزودة بكافة المصادر المحتاج إليها. * الزيادة في عدد الساعات المعتمدة في علوم الحديث والتخريج. في جميع الأحوال، إن العلوم الشرعية لها خصوصياتها التي تتميز بها، واتباع الطريقة الغربية في التدريس أخل بمستوى التعليم عندنا، لأننا أصبحنا نقدم الشهادات بناء على عدد سنوات الدراسة ونجاح الطالب فيها، لا على حسن التمكن من العلوم الشرعية. لأجل هذا، فإن تكوين علماء معتمدين يتطلب تغيير السياسة التعليمية، لأنها إن كانت صالحة في التعليم الغربي فلأن علومها يمكن حصرها في مدة زمنية خلافا للعلوم الشرعية. وأخيرا أقول: ميزة المحدثين أنهم يعتبرون أنفسهم دوما في مرحلة الطلب. لائحة المصادر والمراجع 1 - القرآن الكريم. 2 - الإحسان بترتيب صحيح ابن بلبان - ت. شعيب الأرنؤوط - مؤسسة الرسالة - بيروت - 1424 / 1993. 3 - البخاري بشرح الكرماني (الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري) - دار إحياء التراث العربي - بيروت - ط 2 - 1401 / 1981. 4 - أبو بكر بن العربي وجهوده في الدراسات الحديثية: أ. د. المكي بن أحمد اقلاينة - أطروحة دكتوراه الدولة - كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان / المغرب - 1993. 5 - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: السيوطي، جلال الدين - ت. عبد الوهاب عبد اللطيف - دار التراث - مصر - ط2 - 1392 / 1972.

6 - تذكرة الحفاظ: الذهبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان - دار إحياء التراث العربي - بيروت - مصورة دائرة المعارف الإسلامية - الهند - ط 3 - 1377 / 1958. 7 - تفسير ابن أبي حاتم الرازي، عبد الرحمن بن محمد - ت. أسعد محمد الطيب - المكتبة العصرية - صيدا - د. ت. 8 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن: الطبري، محمد بن جرير - دار الفكر - بيروت - 1405. 9 - ابن حزم الأندلسي وأثره في الدراسات الحديثية: أ. د. المكي بن أحمد اقلاينة - رسالة دبلوم الدراسات العليا (دكتوراه حلقة ثالثة) - كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط / المغرب - 1988. 10 - سنن الدارقطني، علي بن عمر - ت. السيد عبد الله هاشم يماني المدني - دار المعرفة - 1386 / 1966. 11 - سنن البيهقي الكبرى: البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي - مكتبة دار الباز - مكة المكرمة - 1414 / 1994. 12 - سير أعلام النبلاء: الذهبي - حقق الجزء 15: شعيب الأرنؤوط وإبراهيم الزيبق- مؤسسة الرسالة - بيروت - ط2 - 1404 / 1984. 13 - شعب الإيمان: البيهقي - ت. محمد السعيد بن بسيوني زغلول - دار الكتب العلمية - بيروت - ط 1 - 1410 / 1990. 14 - كتاب تلخيص المتشابه في الرسم وحماية ما أشكل منه عن بوادر التصحيف والوهم: الخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت - ت. سكينة الشهابي - دمشق - 1985. 15 - كتاب المستفاد من مبهمات المتن والإسناد: العراقي، أبو زرعة أحمد ابن عبد الرحيم - ت. عبد الرحمن عبد الحميد البر - دار الوفاء ودار الأندلس الخضراء - مصر - السعودية - ط 1 - 1414 / 1994. 16 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري: العيني، بدر الدين محمود بن أحمد - دار إحياء التراث - بيروت - د. ت. 17 - لسان الميزان: ابن حجر العسقلاني - منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - ط 2 - 1390 / 1971.

18 - المؤتلف والمختلف، المعروف بالأنساب المتفقة في الخط، المتماثلة في النقط والضبط: ابن القيسراني، أبو الفضل محمد بن طاهر - تقديم وفهرسة: كمال يوسف الحوت - دار الكتب العلمية - بيروت - ط 1 - 1411 / 1991. 19 - الموافقات في أصول الشريعة: الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي - ت. الشيخ عبد الله دراز - المكتبة التجارية - د. ت. 20 - النظم التعليمية عند المحدثين في القرون الثلاثة الأولى: أ. د. المكي ابن أحمد اقلاينة - مطبعة طوب بريس - الرباط - 2002. الوثائق 1 - استمارة وزعت على طلاب كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي. 2 - وثيقة شروط القبول، صادرة عن كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي سنة 2002 - 2003.

مشكل علم مصطلح الحديث في العصر الحديث

مشكل علم مصطلح الحديث في العصر الحديث د. أبشر عوض محمد إدريس أستاذ الحديث المساعد في كلية أصول الدين عميد كلية التنمية البشرية جامعة أم درمان الإسلامية المقدمة: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسوله الأمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد فإني قد كنت عقدت العزم على كتابة مباحث في علم مصطلح الحديث وذلك بمناسبة انقضاء مائة عام على تأليف الإمام جمال الدين القاسمي لكتابه القيم: قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، إذ ورد في خاتمته قوله (بحمد الله تم مقابلة على أصلي، وكتبه مؤلفه جمال الدين في 19 ذي الحجة 1324هـ) . وها نحن في العام 1424هـ من هجرة المصطفى.. فما عزمنا على كتابته من عند أنفسنا بحول الله وقوته - عضدته ندوة (علوم الحديث - واقع وآفاق) في كلية الدراسات الإسلامية والعربية في دبي، نسأل الله بدءً وختماً ... أن ينفع بها وبالقائمين على أمرها، إنه ولي التوفيق ... وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. لا شك عند كل دارس وباحث في أصول الرواية، ونقل الأخبار أن علماء الأمة الإسلامية وعلى وجه التحديد علماء الحديث الشريف قد أرسوا دعائم وقعّدوا قواعد في منهجية نقل ونقد الأخبار بما لم تسبقهم إليه أمة من الأمم، ونقلوا سنة الرسول (في كبير أمرها وصغيره، في شتى مناحي الحياة الإنسانية حتى إن بعض من كتب في المباحث التاريخية نصَّ على أن كل الديانات المعروفة للبشر أخضعت لمقاييس التاريخ ونقل الأخبار، فلم يجدوها - بسبب نقل الأتباع لأنبائها وأحداثها - حازت على شروط الرواية المرضية إلا الإسلام ولذا قالوا: لقد ظهر الإسلام في ضوء التاريخ الكامل. بل ذهب عالم نصراني متخصص في التاريخ - وهو أسد رستم - إلى أن ألف كتاباً في أصول الرواية التاريخية إعتمد فيه على قواعد مصطلح الحديث، واعترف بأنها أصح طريقة علمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات.

وقد قال في الباب السادس (العدالة والضبط) بعد أن ذكر وجوب التحقق من عدالة الراوي والأمانة في خبره، (ومما يذكر مع فريد الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في هذا الباب، وإليك بعض ما جاء في مصنفاتهم نورده بحروفه وحذافيره تنويهاً بتدقيقهم العلمي، واعترافاً بفضلهم على التاريخ، ثم آخذ في نقل نصوص عن الإمام مالك، والإمام مسلم صاحب الصحيح والغزالي والقاضي عياض وأبي عمرو بن الصلاح) (1) . ولكن هذه الجهود الضخمة الجبارة التي أذعنت لسطوتها أعناق وجباه العلماء ممن ذكرنا آنفاً لا تجد من يواكبها ويجاريها بذات النفس في عصرنا الحديث إلا القليل النادر. فحق لنا أن ننشد: ذهب الذين يقال عند فراقهم…ليت البلاد بأهلها تتصدع وقد شغلت بهذا الأمر حيناً من الدهر، وطرحناه مذاكرة مع أهل العلم ومناقشة مع طلابه وكما أسلفت كنا بصدد كتابة تعليقات في الذكرى المائة لكتاب الإمام القاسمي نتناول بعض ما نراه سبباً أو أسباباً لتراجع الدراسات الحديثية على كثرة الطارقين لبابها. ثم من بعد ذلك الحلول، فنقول والله الموفق إن من أسباب ذلك في ما نراه الآتي: الافتقار إلى حسن الترتيب والتقسيم: هناك ناحيتان يتأثر بهما نسق التأليف وتتميز بهما منهجية الكتابة والتدوين في أي فن من الفنون وهما: أـ المدة الزمنية بين نشوء قواعد العلم إلى حين نضجه واستوائه على سوقه، فإن أي علم يبدأ بقواعد صغيرة ومتباعدة ثم لا يزال العلماء يكتبون ويصححون وينقحون ويجمعون بين الأشباه والنظائر حتى تتكامل قواعد ذلك الفن في حدود اجتهاد العقل الإنساني. ب ـ وأما الناحية الثانية فهي المجتمع الفكري والعلمي الذي يستهدفه المصنف بتصنيفه، ومن ثم تتباين المصنفات إيجازاً وإسهاباً، تعقيداً وتبسيطاً.

_ (1) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ـ الدكتور / مصطفى السباعي ـ المكتب الإسلامي - دمشق ـ طبعة ثانية 1398هـ - 1978م.

وعلم مصطلح الحديث ليس بدعاً من العلوم ... وبمراجعة كلام الحافظ في النخبة نجده يؤرخ للتصنيف في علم المصطلح فيقول: (فمن أول من صنّف في ذلك: القاضي أبو محمد الرامهرمزي في كتابه) المحدث الفاصل (لكنه لم يستوعب والحاكم أبو عبد الله النيسابوري لكنه لم يهذب ولم يرتب وتلاه أبو نعيم الأصفهاني فعمل على كتابه مستخرجاً وأبقى أشياء على المتعقب ثم جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي فصنّف في قوانين الرواية كتاباً سماه (الكفاية) وفي آدابها كتاباً سماه (الجامع لآداب الراوي والسامع) وقلَّ فن من فنون الحديث إلا وقد صنّف فيه كتاباً مفرداً، فكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: (كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه) . ثم جاء بعض من تأخر عن الخطيب فأخذ من هذا العلم بنصيب فجمع القاضي عياض كتاباً لطيفاً سماه (الإلماع) وأبو حفص الميانجي جزءً سماه (ما لا يسع المحدث جهله) وأمثال ذلك من التصانيف التي اشتهرت وبسطت ليتوفر علمها واختصرت ليتيسر فهمها. إلى أن جاء الحافظ الفقيه تقي الدين أبو عمر عثمان بن الصلاح عبد الرحمن الشهرزوري نزيل دمشق فجمع لما ولي تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية كتابه المشهور فهذب فنونه وأملاه شيئاً بعد شئ فلهذا لم يحصل ترتيبه على الوضع المتناسب، ثم تكلم الحافظ عن كتابه هو قال: فلخصته في أوراق لطيفة سميتها (نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) على ترتيب ابتكرته، وسبيل انتهجته مع ما ضممت إليه من شوارد الفرائد وزوائد الفوائد، فرغب إلي ثانياً أن أضع عليها شرحاً يحل رموزها ويفتح كنوزها ... الخ) (1) .

_ (1) نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر ـ الإمام الحافظ بن حجر العسقلاني ـ تحقيق وتعليق الدكتور / نور الدين عتر ـ مطبعة الصباح - دمشق ـ طبعة ثالثة 1421هـ - 2000م.

بالنظر في هذا الموجز التاريخي لحركة التأليف في المصطلح كما ذكره الحافظ فقد تراوح وصف تلك المؤلفات وتقسيمها عند ابن حجر بالآتي: 1- عدم الاستيعاب مما ترك مجالاً للزيادة والتعقيب. 2- عدم التهذيب والترتيب. 3- البسط والإطالة. وقد احتفى الحافظ بكتاب ابن الصلاح أيما احتفاء ولكنه أيضاً أخذ عليه إنه لم يحصل له الترتيب على الوضع المناسب وعلل ذلك بأن تصنيفه كان إملاء شيئاً بعد شيء ... وعليه فقد كتب ابن حجر (النخبة) ليسدد بها ذاك الخلل الذي رآه. مقارنة بين منهج المقدمة ونخبة الفكر: حقاً لقد وضع الحافظ ابن حجر كتابه على ترتيب ابتكره كما وعد وبالمقارنة بين الكتاب وأصله نخلص للآتي: أولاً: بادر الإمام ابن الصلاح في أول مقدمته إلى شرح أنواع الحديث مباشرة، الصحيح، الحسن، الضعيف وهكذا، غير أن الحافظ ابن حجر شرع في تبيان مصطلحات تتعلق بهذا الفن. فشرح أولا معنى الخبر الأثر.. ولكنه رحمه الله وهو يشرح هذه المصطلحات اعترضته مصطلحات أخرى اضطر إلى شرحها مما ادخله في جمل إعتراضية طويلة تشتت ذهن القارئ والدارس فمثلاً يقول (الخبر عند علماء هذا الفن مرادف للحديث ... فهو باعتبار وصوله إلينا إما أن يكون له طرق أي أسانيده كثيرة لأن طرقاً جمع طريق وفعيل في الكثرة يجمع على فعل بضمتين وفي القلة على أفعل والمراد بالطرق الأسانيد والإسناد حكاية طريق المتن) . فانظر - رحمك الله - كيف يشرح الطريق بأنه الإسناد ثم وجد أن الإسناد نفسه يحتاج إلى شرح فشرحه أيضاً، وأيم الله إن شرحه أيضاً يحتاج إلى شرح لأن في أيامنا هذه هناك من لا يدري معنى (حكاية طريق المتن) (1) .

_ (1) المصدر نفسه ص 38.

ومثال آخر للجملة الاعتراضية الناتجة عن شرح المصطلحات فقد قال في ص77 متكلماً عن تعارض الأحاديث (وإن لم يمكن الجمع فلا يخلو إما أن يعرف التاريخ أو لا، فإن عرف وثبت المتأخر به أو بأصرح منه فهو الناسخ والآخر المنسوخ والنسخ رفع تعلق شرعي بدليل شرعي متأخر عنه والناسخ ما دل الرفع المذكور ... ثم أخذ يتكلم عن النسخ ... حتى قال ص 79 وإن لم يعرف التاريخ ... فتلاحظ امتداد الجملة الاعتراضية من ص 77 إلى ص 79 مما دفع بمحقق الكتاب الأستاذ الدكتور/ نور الدين عتر للتنبيه عن ذلك في الحاشية ليلم للدارس والقارئ شتات أفكاره. وهذا الذي ذكرناه عند الحافظ ابن حجر نجده في غالب كتب المصطلح التي صنّفها الأئمة رضوان الله عليهم ودونك مثال ثالث عند الإمام السيوطي في كتابه (تدريب الراوي) ، يقول ص117 متكلماً عن المعلقات في صحيح البخاري (فما كان منه بصيغة الجزم كقال وفعل وأمر وروى وذكر فلان فهو حكم بصحته عن المضاف إليه لأنه لا يستجيز أن يجزم بذلك ... ثم أخذ يشرح ويحلل ويفصّل حتى قال ص120) وما ليس فيه جزم كيروى ويذكر ويحكى ... الخ (فالمسافة بين) ما كان فيه جزم (وما ليس يكن فيه جزم) أربع صفحات تقريباً!!!

ثانياً: تلاحظ أن الحافظ ابن حجر في كتابه النخبة أخر الكلام عن أحكام الجرح والتعديل وأحوال الرواة إلى خاتمة كتابه قال (ومن المهم أيضاً معرفة أحوالهم تعديلاً وتجريحاً وجهالة لأن الراوي إما أن تعرف ... الخ) بينما وجدنا الإمام ابن الصلاح تكلم عن هذا الشأن في الثلث الأول من مقدمته ولعل صنيع الحافظ ابن حجر رحمه الله يشعر أن خلاصة علم المصطلح وزبدته، وثمرة شجرته المباركة هي الانتهاء إلى القول في تصحيح الأسانيد أو تضعيفها ولا يكون ذلك إلا بالإحاطة بعلم الجرح والتعديل فأخر الثمرة إلى أوان قطفها ... وأما الإمام ابن الصلاح فقد مضى علينا أنه كتب كتابه إملاءً ولهذا لم يقع له على الترتيب المتناسب، ثم إن هؤلاء الأئمة رضوان الله عليهم قد صنّفوا لزمانهم وحسب طرائق تدريسهم فما نراه وعراً قد يكون عندهم سهلاً وما يحتاج إلى بسطه وتوضيحه تكفيهم فيه الكلمة والكلمتان. منهج التأليف لعصرنا: على كثرة المؤلفات في علم المصطلح قديماً وحديثاً وعلى جهود العلماء المباركة جميعاً لا أظن - والله أعلم - أن هناك من يشير إلى كتاب بعينه ويقول هذا الكتاب قد أوفى وأغنى. نقول ذلك ونذكر بما نبهنا عليه أولاً من أن التأليف يخضع لزمان التصنيف ومجتمع المؤلف. ومن هنا ننظر في زماننا وفي همة الدارسين ومدى إلمامهم بالعلوم.. وما يحتاجونه. فعليه أقول - وبالله التوفيق - لا بد من تعاضد جماعة من علماء الحديث وتوافرهم على تصنيف للمصطلح جديد، تختزن فيه علوم السلف رضوان الله عليهم ثم تخرج في ثوب جديد بأسلوب عصري ومنهجية في التأليف متكاملة يمكن أن نجمعها في المحاور الآتية: المحور الأول: مسرد المصطلحات

إن المصطلح هو الوعاء التعبيري الذي تطرح من خلاله الفكرة ولتحديد المصطلح تحديداً دقيقاً أهمية كبري في الفهم وفي التطبيق ولذلك نجد أول آية في القرآن الكريم ورد فيها النداء بـ يا أيها الذين آمنوا إنما نادت بتحديد المصطلح وطرائق التعبير وهي قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم 104 البقرة. ويمكن النظر في تفسير الإمام ابن كثير لتوضيح انتقاص اليهود من قدر رسول الله (باستخدامهم كلمة) راعنا (فمنع المولى عز وجل من استعمال هذا) المصطلح، المشتبه بآخر لا لبس فيه وهو (انظرنا) وفي السنة من ذلك كثير مثل (لقد صبأنا) . وحديث أنس (مطرنا سبتاً) لا نطيل بإيراده ... كل الذي نقوله بأن تحديد المصطلح أمر غاية في الأهمية. وبالرجوع إلى كتب مصطلح الحديث نجد كثيراً من مصطلحات هذا العلم المبارك منتشرة ومبثوثة في ثنايا الكتب والفصول والمباحث، يرد المصطلح أينما ورد ... وقد تقدم شرحه أو تأخر، لا يلتفت إلى ذلك ولعل السبب - والله أعلم - أن هذه المصطلحات كانت واضحة عند الطلاب بالمشافهة والمذاكرة مع العلماء، وعندما أزف طور تدوين هذا العلم وكتابته لم يكن الإشكال الذي عندنا، عندهم ولا قصور الفهم عند دارسينا عند طلابهم. ولتوضيح ذلك نأخذ كلمة توجد في أول كتب المصطلح على إطلاقها فهم يعرفون الحديث الصحيح بأنه هو (ما اتصل سنده بنقل العدل، الضابط ضبطاً تاماً عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة) . فلننظر إلى هذا التعريف بعقلية الطالب الدارس وليس بعقلية العالم المؤلف أي نتقمص شخصية الطالب، فماذا أري؟ أجد عبارة مبهمة لكي أدريها يتوقف ذلك على معرفة سابقة وأطرح الأسئلة الآتية: 1- ما معنى السند؟ 2- وما معنى كونه متصلاً وكيف يكون؟ 3- ومن هو العدل وما هي صفاته؟ 4- ومن هو الضابط وكيف أعرفه؟ 5- ما معنى منتهاه؟ 6- ثم ما هو الشذوذ؟ 7- وما هي العلة؟

وعلى ذلك قس كثيراً من مباحث علم المصطلح فهم مثلاً يتكلمون عن (الإجازة) وأضربها السبعة، أن يجيز معيناً لمعين، أن يجيز معيناً غير معين، وإجازة المجاز إلى آخره يشرحون ذلك شرحاً طويلاً دقيقاً، ولكن قبل ذلك كله. الدارس يسأل سؤالاً حائراً: ما هي الإجازة نفسها؟ قبل أن نشرح أنواعها؟ إن الإمام جلال الدين السيوطي يتناول ما ذكرناه سابقاً من ص29 وحتى ص44 ثم يكتب لنا سطرين في آخر مقاله تحت عنوان فائدة: قال شيخنا الإمام الشمني: الإجازة في الاصطلاح، إذن في الرواية لفظاً أو خطاً، يفيد الإخبار الإجمالي عرفاً وأركانها أربعة: (المجيز، المجاز له، والمجاز به ولفظ الإجازة) . نقول: بمنهاج المؤلفين في العصر الحديث أما كان الأولى أن يتقدم هذا التعريف قبل خمس عشرة صفحة؟ تأسيساً على ذلك - وغيره كثير - نقول لابد من إثبات مسرد كامل للمصطلحات الواردة في هذا العلم كافة، قبل الدخول في شروح مباحثه. * فمثلاً مصطلحات مثل الحديث، الأثر، الدراية، الرواية، السند المتن، الطبقة ... الخ. * اختصارات المحدثين لصيغ الأداء، مثل ثنا، أنا، نا، ينميه، يرفعه، علامات تحويل الإسناد ... إلى غير ذلك من المصطلحات ... وأذكر ينبغي أن ننظر بعين الدارس وليس العالم الذي يرى ما ذكرناه سابقاً من الواضحات التي لا تحتاج إلى توضيح. * ثم لا بأس بأن نأتي بمسرد مصطلحات الفرق الإسلامية فإن هذا ملحظ مهم في رواية الحديث - وإن كان على دارس السنة وعلومها أن يلم بطرف من كتب العقائد - فإن أئمة هذا الشأن كثيراً ما يصفون راوياً من الرواة بـ: (رمي بالنصب، رمي بالارجاء، كان رافضياً، هو من المرجئة ... الخ) . المهم تذليل كل كلمة مشكلة على الدارس قبل البدء في سرد مسائل علم المصطلح المحور الثاني: مباحث علم المصطلح نفسه

أما إذا استطعنا تذليل صعوبات ووعورة المصطلحات ... فنحتاج بعد إلى صياغة علمية متقنة وفي الوقت نفسه ميسرة لدارسي هذا العلم وأيضا نرى - والله اعلم - ان يقوم بذلك فريق من العلماء أهل الاختصاص يكمل بعضهم بعضاً ولننظر في كلام الشيخ رشيد رضا في تقديمه لكتاب (قواعد التحديث) للإمام القاسمي قال: (ليتني كنت أملك من وقتي الحاشك بالضروريات، الحاشد بالواجبات، فرصة واسعة أو نهزاً متفرقة في شهر أو شهرين أقرأ فيها هذا السفر النفيس كله، فأتذكر به من هذا العلم ما لَعَلي نسيت، وأتعلم مما جمعه المؤلف فيه ما جهلت، فهو الحقيق بأن يقرأ ماكتب، ويحصي ماجمع، لتحريه النفع، وحسن اختياره في الجمع، وسلامة ذوقه في التعبير والتقسيم والترتيب والوضع، وبلغ في مصنفه هذا سدرة المنتهي من هذا العلم الاصطلاحي المحض، الذي يوعي بكد الحافظة، ويستنبط بقوة الذاكرة، فلا يستلذه الفكر الغواص على حقائق المعقولات، ولا الخيال الجوال في موارد الشعريات، ولا الروح المرفرف في رياض الأدب أو المحلق في سماء الإلهيات - إذ جعله كأنه مجموعة علوم وفنون وأدب وتاريخ وتهذيب وتصوف، مصطفاة كلها من علم حديث المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله، ومن كتب طبقات العلماء المهتدين به، كأنه قرص من اقرص إبكار النحل، جنته من طرائف الأزهار العطرية، ومجت فيه عسلها المشتار من طوائف الثمار الشهية، فلعل الظمآن لهذا العلم لا يجد فيه كتاباً تطيب له مطالعته كله، فينهله ويعله ولا يمله، كأنه أقصوصة حب أو ديوان شعر اللهم إلا هذا الكتاب) (1) .

_ (1) قواعد التحديث في فنون مصطلح الحديث (المقدمة) ـ محمد جمال الدين القاسمي ـ دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان ـ الطبعة الأولى 1399هـ - 1979م.

ويقول أيضاً الشيخ رشيد رضا: كذلك وقد ألف الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله بعده كتاب (توجيه النظر إلى أصول أهل النظر) وهو موضوع كتاب (قواعد التحديث) والعلامتان الجزائري والقاسمي كانا سِيَّيْنِ في سعة الاطلاع وحسن الاختيار، إلا أن الجزائري اكثر اطلاعاً على الكتب وولوعاً بالاستقصاء والبحث، والقاسمي اشد تحرياً للإصلاح وعناية بما ينفع جماهير الناس، فمن ثم كان كتاب الجزائري، وهو أطول قاصراً على المسائل الخاصة بمصطلح الحديث وكتب المحدثين التي قلما ينتفع بها إلا المشتغلون بهذا العلم،، فقد وفى بعض مسائلها حقه من الاستقصاء بما لم يفعله القاسمي، وكأنه أطال كل الإطالة بتلخيص (كتاب علوم الحديث) للحاكم النيسابوري وهي اثنان وخمسون نوعاً، ثم بما لخصه من كتاب (علل الحديث) لابن أبى حاتم الرازي..، ثم بما استطرد من الكلام في مبحث كتابة الحديث إلى الكلام في (الخط العربي وتدرجه بالترقي إلى وصوله للكمال الذي عليه الآن، وما يحتاج إليه بعد هذا الكلام من علائم الوقف والابتداء) وهو على إطالته في هذا الفن، لم يراعه في هذا الفن وكتابه كأكثر الكتب القديمة، وكتاب القاسمي كما علمت في قسيمة وتفصيل عناوينه والبياض بينها لتسهل المطالعة والمراجعة، فهو في هذا وفي طبعه على أحسن ما انتهت إليه الكتب الحديثة،، كما أنه أكثر جمعاً وأعم نفعاً) (1) . من هذا الاستعراض لإفادة الشيخ رشيد رضا والموازنة بين كتابي القاسمي والجزائري. يمكن أن نخلص إلى مؤشرات طيبة في ما ينبغي أن نيسر به على طلاب الحديث بدءاً من المحتوى العلمي وانتهاء بطباعة الكتاب والعناية بإخراجه وهذا مالا يخفى إن شاء الله على السادة العلماء الذين توافدوا لخدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. المحور الثالث: مباحث علم الجرح والتعديل

_ (1) المرجع نفسه ص 18 (المقدمة) .

وهذا المحور على خطورته، نجد فيه قصوراً كبيراً جداً عند الطلبة بل وأقول عند من يظن أنه بلغ في هذا العلم مبلغاً ورحم الله الإمام الذهبي فقد قال: والكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام، وبراءة من الهوى والميل، وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله ثم نحن نفتقر إلى تحرير عبارات التعديل والجرح وما بين ذلك من العبارات المتجاذبة. ثم أهم من ذلك أن نعلم بالاستقراء التام عرف ذلك الإمام الجهبذ واصطلاحه، ومقاصده بعباراته الكثيرة. أما قول البخاري: سكتوا عنه فظاهرها أنهم ما تعرضوا له بجرح وتعديل، وعلمنا مقصده بالاستقراء أنها معنى تركوه. وكذا عادته إذا قال (فيه نظر) بمعنى أنه متهم، أو (ليس بثقة) فهو عنده أسوء حالاً من الضعيف. وبالاستقراء إذا قال أبو حاتم (ليس بالقوي) يريد بها: أن هذا الشيخ لم يبلغ درجة القوي الثبت، والبخاري يطلق على الشيخ (ليس بالقوي) ويريد أنه ضعيف. ومن ثم قيل تجب حكاية الجرح والتعديل، فمنهم من نفسه حاد في الجرح ومنهم من هو معتدل ومنهم من هو متساهل. فالحاد فيهم: يحيى بن سعيد، وابن معين، وأبو حاتم، وابن خراش وغيرهم. والمعتدل فيهم: أحمد بن حنبل، والبخاري، وأبو زرعة. والمتساهل: كالترمذي، والحاكم، والدارقطني في بعض الأوقات (1) .

_ (1) الموقظة في علم مصطلح الحديث ـ للإمام شمس الدين الذهبي ـ تحقيق الشيخ / عبد الفتاح أبو غدة ـ دار البشائر الإسلامية - بيروت ـ طبعة أولى 1405هـ.

ثم إن العلم بالرجال وطبقاتهم ميزان علو كعب الرجل في مدارج علوم الحديث وبه ينال التوقير والتبجيل. لما دخل الإمام الذهبي على الإمام ابن دقيق العيد قال له: (من أين جئت؟ قال: من الشام، قال: بم تعرف؟ قال: بالذهبي، قال: من أبو طاهر الذهبي؟ قال له: المخلِّص، فقال: أحسنت، فقال: من أبو محمد الهلالي؟ قال سفيان بن عينيه، قال: أحسنت، أقرأ ومكنه من القراءة حينئذٍ إذ رآه عارفاً بالأسماء) (1) . أقول أليس من الغريب أن نجد عندنا اليوم من طلبة الحديث من لا يستطيع التمييز بين الحمادين والسفيانين، ولا يدري كيف تكون المتابعة، وغير ذلك من أوليات دراسة الإسناد؟ بل وجدنا في رسائل الدراسات العليا (الماجستير أو الدكتوراه) من العجائب ما لا يصدق: * فمثلاً في مسند الإمام أحمد وجدنا من لا يميز بين أحاديث المسند وزوائد عبد الله على أبيه. * وأكبر من ذلك هناك من يسوق الإسناد، حدثنا عبد الله حدثني أبي ... ثم يذهب يترجم لعبد الله ولأبيه ثم يذكر أقوال علماء الجرح والتعديل. * واعجب من ذلك من يسوق أسانيد كتاب الزهد للإمام عبد الله بن المبارك، ثم يضعف الإسناد بأحد الرواة بعد عصر ابن المبارك بسنوات، وإسناد ابن المبارك كالشمس. إلى ذلك من الطامات التي لا تحصى. كيف كان ذلك؟ ولم هذا القصور الكبير ... ؟ يرجع ذلك بحسب رأينا - والله أعلم - إلى جملة أسباب لعل من أهمها الآتي:

_ (1) 2) طبقات الشافعية الكبرى ـ للإمام تاج الدين السبكي ـ دار إحياء الكتاب العربي - القاهرة.

1 ـ التقليد المطلق والتسليم التام لكتابات بعض المعاصرين من الباحثين والمصنفين في الحديث وعلومه والاكتفاء بما كتبوه وقرروه، وحتى إذا ما اضطروا بحسب المناهج البحثية العلمية الأكاديمية بالرجوع إلى المصادر الأصلية، رجعوا إليها وأعينهم مع كتابات المعاصرين ليصلوا إلى ذات النتائج وما عليهم إلا أن يغيروا أرقام الصفحات وطبعات الكتب وتواريخها، هذا المسلك حجب عنهم حظاً عظيماً من العلم والتعلم ... فضلاً عن أغلاط وقع فيها بعض من قلدوهم ونهجوا نهجهم. ولا نريد استقصاء هذا الأمر ولكن نكتفي ببعض أمثلة من ذلك: أولاً: في مجال تخريج الأحاديث والحكم عليها، انتشرت انتشاراً عظيماً كتب الشيخ / ناصر الدين الألباني رحمه الله، واحتفى بها بعض الناس احتفاءً عظيماً لدرجة المبالغة والغلو، حتى إن مشرفاً على مكتبة إسلامية عامة استبعد من صفوف الكتب التي تضمها هذه المكتبة سنن الإمام ابن ماجة. فسألته لم استبعدت هذا الكتاب وهو الأصل السادس كما تعلم؟ فكانت الإجابة مذهلة وقال: لله الحمد والمنة اقتنينا للمكتبة (صحيح ابن ماجة) للشيخ الألباني.. فلا حاجة لنا بالكتاب إذ ما بقي فيه إلا الضعيف.. والضعيف قال فيه العلماء.. ثم اخذ يشرح مذاهب العلماء في الأخذ بالضعيف أو طرحه ومن ثم أيضاً تدور الدوائر بذات المنطق على سنن أبي داود والترمذي والنسائي. هذا دفعنا إلى أن ننبه هذا الرجل ومن تشرب مشربه إلى ما كتبه الإمام الحاكم في المدخل قال: (ولعل قائلاً يقول: وما الغرض في تخريج ما لا يصح سنده ولا يعدل رواته؟ والجواب عن ذلك من أوجه وهي: 1 ـ إن الجرح والتعديل مختلف فيهما، وربما عدل إمام وجرح غيره. 2 ـ وكذلك الإرسال مختلف فيه، فمن الأئمة من رأي الحجة به، ومنهم من أبطلها.

3 ـ والأصل فيه الإقتداء بالأئمة الماضين رضي الله عنهم أجمعين، كانوا يحدثون عن الثقات وغيرهم، فإذا سئلوا عنهم بينوا أحوالهم، وهذا مالك بن أنس إمام أهل الحجاز بلا مدافعة روى عن عبد الكريم أبي أمية البصري وغيره ممن تكلموا فيهم، ثم أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي وهو الإمام لأهل الحجاز بعد مالك، روي عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحي الأسلمي، وأبي داود سليمان بن عمرو النخعي وغيرهما من المجروحين، وهذا أبو حنيفة إمام أهل الكوفة روى عن جابر بن يزيد الجعفي وأبي العطوف الجراح بن المنهال الجزري وغيرهما من المجروحين. ثم بعده أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني حَدَّثَا جميعاً عن الحسن بن عمارة وعبد الله بن مُحَرَّر وغيرهما من المجروحين. وكذلك من بعدهما من أئمة المسلمين قرناً بعد قرن أو عصراً بعد عصر إلى عصرنا هذا، لم يخل حديث إمام من أئمة الفريقين من مطعون فيه من المحدثين. وللأئمة رضي الله عنهم في ذلك غرض ظاهر: وهو أن يعرفوا الحديث من أين مخرجه، والمنفرد به عدل أو مجروح؟ سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب يقول، سمعت العباس بن محمد الدوري يقول، سمعت يحي بن معين يقول: (لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه) . أخبرنا دعلج بن أحمد ببغداد، حدثنا أحمد بن على الأبار قال: قال يحي بن معين: (كتبنا عن الكذابين، وسجرنا به التنور، وأخرجنا به خبزاً نضيجاً) (1) . إذاً هذه التجزئة للكتب الأصول بهذه الصورة أوقعت لبساً عظيماً عند من قصر به العلم والبحث واكتفي بالتقليد. فإذا كان الأئمة رضوان الله عليهم لم يوافقوا الإمام ابن الصلاح في قوله بتعذر التصحيح فكيف نقلد المعاصرين؟

_ (1) المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل ـ الإمام أبي عبد الله الحاكم ـ تحقيق / معتز عبد اللطيف الخطيب ـ دار الفيحاء - دمشق ـ طبعة أولى 1422هـ - 2001م.

قال الشيخ شاكر رحمه الله في الباعث (ذهب ابن الصلاح إلى أنه قد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بادراك الصحيح بمجرد اعتبار الإسناد ومنع - بناءً على هذا - من الجزم بصحة حديث لم نجده في أحد الصحيحين ولا منصوصاً على صحته في شئ من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة، وبنى على قوله هذا: إن ما صححه الحاكم من الأحاديث ولم نجد فيه لغيره من المعتمدين تصحيحاً ولا تضعيفاً حكمنا بأنه حسن، إلا أن يظهر فيه علة توجب ضعفه، وقد ردّ العراقي وغيره قول ابن الصلاح هذا، وأجازوا لمن تمكن وقويت معرفته أن يحكم بالصحة أو بالضعف على الحديث بعد الفحص عن إسناده وعلله، وهو الصواب. قال الشيخ شاكر: (والذي أراه أن ابن الصلاح ذهب إلى ما ذهب إليه بناءً على القول بمنع الاجتهاد بعد الأئمة، فكما حظروا الاجتهاد في الفقه أراد ابن الصلاح أن يمنع الاجتهاد في الحديث، وهيهات، فالقول بمنع الاجتهاد قول باطل، لا برهان عليه من كتاب ولا سنة، ولا نجد له شبه دليل) (1) . وقد ذكر الإمام الكتاني في رسالته بعد سرده للكتب من بعد الصحيحين وما فيها من أنواع الحديث قوة وضعفاً قال: (وحينئذٍ لابد من النظر في أحاديث كل ليحكم على كل واحد منها بما يليق) (2) .

_ (1) الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ـ للشيخ / أحمد محمد شاكر ـ دار الكتب - بيروت ـ 1415هـ - 1994م. (2) الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة ـ للإمام / الشريف محمد بن جعفر الكتاني ـ مطبعة دار الفكر - دمشق ـ طبعة ثالثة 1383هـ - 1964م.

بل ليت الأمر وقف عند حدود طلبة العلم المبتدئين فقد تعداه إلى من ينتسب إلى العلم في أعلي مدارجه، فقد كنت أرسلت كتاباً إلى مؤسسة علمية أكاديمية رفيعة في بلد عربي، فرأت الجهات المسئولة أن تعرض كتابنا هذا على محكمين لإبداء الرأي فيه ... فمما قرأته بخط للمحكم اعتراضه على حديث أوردناه وهو حديث أبي خزامة عن أبيه قال: قلت: (يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: هي من قدر الله) قال المحكم: (أورد - أي المؤلف - حديثاً ضعيفاً ولم يشر إلى ضعفه والحديث كما قرر العلامة الألباني ضعيف، وذلك في كتابه ضعيف الترمذي) . ولم ندر ممن نعجب من عالم محكم في بحوث علمية، يرجع في أحكامه إلى التقليد أو نعجب من أن هذا الحديث نفسه الذي ضعّفه الألباني حسنّه الألباني في مكان آخر من كتبه وذلك في تخريجه لأحاديث كتاب (مشكلة الفقر) ص13 برقم،11 إذ قال عنه: (حسن) . أقول: فإذا كان هذا حال العلماء المحكمين، فما بال صنيع الطلبة الدارسين. 2 ـ الاعتماد على المختصرات: وأما في تراجم الرواة والحكم على الأسانيد ... فقد ذهبت طائفة عظيمة في أزماننا هذه على اعتماد قول الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب بصورة تكاد تكون نهائية، وإن كنا نوافق الدكتور الطحان في قوله عن التقريب (والكتاب جيد ومفيد، كاف لطلبة العلم المبتدئين في الفن، لاسيما في موضوع الحكم على الشخص من حيث الجرح والتعديل، فانه يعطي المراجع عصارة الأقوال فيه لكنه مضغوط جداً) (1) . ونعقب على ذلك فنقول:

_ (1) أصول التخريج ودراسة الأسانيد ـ الدكتور / محمود الطحان ـ دار الكتب السلفية - بدون تاريخ.

1 ـ إن الحافظ ابن حجر على جلالة قدره في هذا الفن، إلا أن هناك بعض هنات وهفوات وقعت في التقريب، كأن يتضارب حكم الحافظ على رجل في موضعين في كتابه، أو يوثقه حيناً ويجهله حيناً آخر، وقد تتبع بعض هذه الهفوات الأستاذ / محمد عوامة فليراجع (1) . ولا حرج في هذا التتبع ممن تمكن ودقق في علم الرجال، فهذا أبو حاتم جهل جماعة من الرواة ولم يسلم له العلماء بذاك، قال الإمام السيوطي في التدريب (جهل جماعة من الحفاظ قوماً من الرواة لعدم علمهم بهم، وهم معروفون بالعدالة عند غيرهم، وأنا أسرد ما في الصحيحين: من ذلك أحمد بن عاصم البلخي جهله أبو حاتم لأنه لم يخبر بحاله ووثقه ابن حبان وقد روى عنه غيره، وأسباط أبو اليسع جهله أبو حاتم ووثقه ابن المدينى، وابن حبان، وابن عدي وروى عنه البخاري وأبوزرعة والحسين بن الحسن بن يسار جهله أبو حاتم ووثقه الذهلي وروى عنه أربعة ثقات، وعباس بن حسين القنطري جهله أبو حاتم ووثقه أحمد وابنه وروى عنه البخاري) (2) . ولذلك قال العلامة اللكنوي: لا تغتر بقول أبي حاتم في كثير من الرواة على مايجده من يطالع (الميزان) وغيره أنه مجهول مالم يوافقه غيره من النقاد العدول، فإنَّ الأمان من جرحه بهذا مرتفع عندهم، فكثيراً ماردوا عليه بأنه جهل من هو معروف عندهم، فقد قال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري: الحاكم بن عبد الله البصري قال ابن أبى حاتم عن أبيه: مجهول، قلت: ليس بمجهول من روي عنه أربعة ثقات ووثقه الذهلي.

_ (1) تقريب التهذيب ـ للإمام / ابن حجر ـ تقديم ودراسة الأستاذ / محمد عوامة ـ دار الرشيد - سوريا ـ طبعة رابعة - 1412هـ - 1992م. (2) تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ـ للإمام / جلال الدين السيوطي ـ تحقيق / عبد الوهاب عبد اللطيف ـ دار الفكر - بدون تاريخ.

وقال أيضا: عباس القنطري قال ابن أبى حاتم عن أبيه مجهول. قلت: إن أراد العين فقد روى عنه البخاري، وموسى بن هلال، والحسن ابن علي المعمري، وإن أراد الحال فقد وثقه عبد الله بن أحمد قال: سألت أبى، فذكره بخير، وقال ابن دقيق العيد: لا يكون تجهيل أبى حاتم حجة، ما لم يوافقه غيره. 2 ـ ومما يؤخذ على من عكف على التقريب فحسب، ولم يراجع المطولات من كتب الجرح والتعديل، إن ملكة النقد عنده تكون ضعيفة وليست بذات بال، ويتبين ذلك جلياً عندما يكون الرجل المترجم له ليس من رواة الكتب الستة، عندها يحار الباحث في الحكم تجريحاً أو تعديلاً. أما عن تنزيل أحكام الجرح والتعديل بما في التقريب، كما قسمها الشيخ العلامة /أحمد محمد شاكر في كتابه الباعث الحثيث، حتى أصبحت هذه العبارات والتقسيمات عبارة عن قوالب جاهزة، توضع دون النظر واعمال الفكر فيها، أقول هذا التنزيل وهذه الأحكام يفيد فيها إن شاء الله ما كتبه الدكتور /وليد العاني في كتابه منهج دراسة الأسانيد) (1) . وبعد هذا كله نقول إن علوم الحديث والسنة المشرفة لا تنفصل بحال عن باقي علوم الإسلام من تفسير وفقه وعقائد وعلوم اللغة العربية، إذ بهذه العلوم تتقوى ملكة الطالب ويتدرب على فنون العلم. قال الذهبي: أول ما ينبغي تقديمه مقدمة في الاعتقاد تشتمل على الدليل على معرفة الله سبحانه وتعالى ويذكر فيها ما لابد منه، ثم يعرف الواجبات، ثم حفظ القرآن الكريم، ثم سماع الحديث.

_ (1) منهج دراسة الأسانيد والحكم عليها ـ د. وليد بن حسن العاني ـ دار النفائس - الأردن ـ طبعة أولى 1418 - 1997.

ولابد من حفظ مقدمة في النحو يقوم بها اللسان والفقه عمدة العلوم، وجمع العلوم ممدوح إلا أن أقواماً أذهبوا الأعمار في حفظ النحو واللغة، وأغابوا فيها غريب القرآن والحديث، وما يفضل عن ذلك ليس بمذموم، غير أن غيره أهم منه، فإن أقواماً أذهبوا أزمانهم في علوم القرآن فاشتغلوا بما غيره أصلح منه من الشواذ المهجورة، والعمر أنفس من تضييعه في هذا، وإن أقواماً أذهبوا أعمارهم في حفظ طرق الحديث ولعمري أن ذلك حسن إلا أن تقديم غير ذلك أهم، فنرى أكثر هؤلاء المذكورين لا يعرفون الفقه الذي هو ألزم من ذلك، ومتى أمعن طالب الحديث في السماع والكتابة ذهب زمان الحفظ، وإذا علت السن لم يقدر على الحفظ المهم، وإذا أردت أن تعرف شرف الفقه فانظر إلى مرتبة الأصمعي في اللغة، وسيبويه في النحو، وابن معين في معرفة الرجال، كم بين ذلك ومرتبة أحمد والشافعي في الفقه، ثم لو حضر شيخ مسن له إسناد لا يعرف شيئاً من الفقه بين يديه شاب متفقه فجاءت مسألة: سكت الشيخ وتكلم الشاب) (1) . ومن ذلك كله نقول إن تجزئة علوم الحديث عن بعضها، كالاهتمام بالجرح والتعديل دون الغريب، أو الاهتمام بتعريفات أنواع الحديث، دون الاجتهاد في تطبيق ذلك والتدريب عليه من متون الحديث، كما إن تجزئة علوم الحديث عن باقي علوم الشرع فقهاً وتفسيراً وأصولاً وغيرها. تساهم في تكريس الضعف عند طلبة هذا العلم الشريف. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم ...

_ (1) الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ ـ للإمام / شمس الدين الذهبي ـ دار الكتب العلمية - بيروت ـ طبعة أولى - 1405هـ - 1985م.

مناهج علوم الحديث- نظرات ووقفات

مناهج علوم الحديث نظرات ووقفات د. عواد الخلف الأستاذ المساعد بكلية التربية والعلوم الأساسية بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا - العين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حق حمده، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله رب العالمين الذي خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، معلم الناس الخير، ومنقذ البشرية وهادي الإنسانية، منة رب البرية المبعوث رحمة للعالمين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً صالحاً متقبلاً. أما بعد، فسبحان الذي جعل السنة من الوحي الذي أنزله على خير خلقه، فقد قال تعالى تبارك اسمه ((وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة)) والحكمة هي السنة على الصحيح، وقال سبحانه ((وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)) . ولايخفى على شريف مسامعكم أن علم الحديث لب العلوم وعين معارفها، وقد خدم هذا العلم خدمة جلى جهابذة نشأوا على طلبه حتى اكتهلوا وسروا في تحصيله سرى الأهلة حتى اكتملوا، وجمعوا ذلك في مؤلفات يسرح الناظر في رياضها ويسعد قريحته من حياضها، ويكمن شرف علم الحديث في رواية ودراية كلام خير البشر الذي هو بدائع حكم وجوامع كلم يستضاء بنورها ويهتدى ببدورها، قال السيوطي: علم الحديث ذو قوانين تحد…يدرى بها أحوال متن وسند فذانك الموضوع والمقصود…أن يعرف المقبول والمردود (1) والمؤلفات في علم المصطلح كثيرة طلعت في المشارق والمغارب طلوع النجم في الغياهب، إلا أن غالب ما يدرس في الجامعات والكليات مما كتبه المعاصرون، ولا ضير في ذلك فكم ترك المتقدم للمتأخر، ولكن الإشكال يكمن في هذا المنهج الذي يعتبر أحد محاور العملية التعليمية (الطالب - الأستاذ- المنهج) ، واسمحوا لي أن أبدي بعض ملاحظاتي حول غالب المناهج المعاصرة في تدريس علم مصطلح الحديث.

_ (1) انظر ألفية السيوطي ص 12.

وإني إذ أقوم بذلك إنما أذاكر علماء أفاضل ومتخصصين أكارم، لعلنا بعد هذا النقاش نتعرف على بعض عيوب ما يدرس في كثير من الجامعات باسم علوم الحديث، كي نعرف أين الخلل لاستدراكه وعلاجه لا للتشهير به، والحمد لله رب العالمين. أبرز الملاحظات على غالب المناهج المعاصرة: بعد اطلاعي المحدود على عدد منها رأيت أن هذه الملاحظات ترجع إلى خمسة أمور رئيسة: أولا: النظرية والتطبيق: نلحظ في كثير من المناهج التي تدرس في الكليات - ولا أحب أن أسمي فليس هذا مقصودي ولو شئت لسميت - بعدها عن الجانب العملي والتطبيقي، وتركيزها على الجانب النظري. بل إن القارئ أحيانا يستطرد في إنشاءٍ نظريّ دون أن يرى ربطا بينه وبين التصحيح والتضعيف كتطبيق عملي، فنرى أن الدارس يخرج بعد تلقيه لهذا المساق يحفظ تعريفات معينة دون أن يرى لها أثرا في واقع التطبيق، ونظير ذلك كمن يحفظ ألفية ابن مالك مثلاً ولايعرف إعراب» ضرب زيد عمراً «. ثانياً: الخلط بين اصطلاحات المتقدمين والمتأخرين:

وهذا يدل -غالبا- على أن كاتب هذا المنهج تلقى علم الحديث بهذه الصورة النظرية بعيداً عن التطبيق العملي، وحتى لا يكون كلامي دعوى عارية عن الدليل سأشرع في التدليل والتمثيل؛ فانظر حفظك الله إلى غالب مناهج علم المصطلح المعاصرة وتناولها لمصطلح التدليس مثلا، سترى خلطا بينا، وخطأ فادحا، وغبنا فاحشا لذلك الطالب المسكين، ففي هذه المناهج ترى أن المؤلف يشترط التصريح بالسماع لكل من وصف بتدليس الإسناد دونما تمييز، بل وترى أثر مثل هذا الخطأ في كثير من تحقيقات المعاصرين وتآليفهم، فمنهم مثلا من يضعف حديثا بسبب عنعنة أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي مع أنه في المرتبة الأولى ممن احتمل الأئمة عنعنتهم (1) ، ومنهم من يضعف حديث من وُصف بالتدليس عند المتقدمين، لكنه عند الحافظ ابن حجر وغيره مرسل إرسالا خفيا، وذلك لأن المؤلف المعاصر لم يدرك الفرق بين اصطلاح هؤلاء وهؤلاء، فالمتقدمون وصفوا كل من روى عمن سمع منه أو عاصره ما لم يسمعه منه موهما السماع بالتدليس (2) ، والحافظ ابن حجر جعل الأخيرة وهي الرواية عمن عاصره ولم يسمع منه موهما السماع إرسالا خفيا (3) ، وذلك تمييزا بين الأنواع كما قال في تعريف أهل التقديس، لذا من وصف بالتدليس بسبب المعاصرة وعدم اللقي تقبل عنعنته إن ثبت اللقاء ولو مرة واحدة في غير هذا الحديث، ولا يحتاج أن يصرح بالسماع في كل حديث، فليس كل من وصف بالتدليس بحاجة إلى تصريح بالسماع في كل حديث يعنعن فيه كما هو ظاهر من صنيع الأئمة رحمهم الله تعالى.

_ (1) انظر تعريف أهل التقديس ص 21. (2) انظر مثلا: الكفاية للخطيب ص 38. ومقدمة ابن الصلاح ص 165، والتبصرة والتذكرة (1/180) . (3) انظر نزهة النظر ص 39.

بل منهم من يضعف حديثا فيه تدليس مروان بن معاوية لأنه مدلس، ومع كونه كذلك إلا أنه لا يحتاج إلى تصريح بالسماع لأنه مدلس تدليس شيوخ (1) ، وغير ذلك من الأمثلة التي تدل على الخلط في مثل هذه المصطلحات. ثالثاً: الخلط بين اصطلاحات المحدثين والأصوليين: فترى عددا من المناهج عند تقسيمها الحديث باعتبار عدد طرقه تقسمه إلى متواتر وآحاد ومشهور، وهذا ليس بتقسيم المحدثين الذين جعلوا الحديث باعتبار عدد طرقه ينقسم إلى متواتر وآحاد، والآحاد ينقسم إلى عزيز ومشهور وغريب، فالمشهور قسم من أقسام الآحاد وليس قسيما له، وتقسيمه تقسيما ثلاثيا إلى متواتر ومشهور وآحاد ليس من اصطلاح المحدثين في شيء بل من اصطلاح بعض الأصوليين. رابعاً: التناقض: فأنت ترى أن الدارس يدرس في المنهج الذي بين يديه (المشهور) مثلا، فترى المؤلف في فصل من الفصول عند تقسيمه الحديث باعتبار عدد طرقه يجعل المشهور من جنس الصحيح مطلقا، ومما يجب العمل به، إلا أنه لا يكفر جاحده، وفي فصل آخر من الكتاب يجعل المشهور مشتركا بين الحسن والصحيح والضعيف، ولا شك أن هذا هو الصواب إلا أنه يناقض سابقه. خامسا: عدم فهم اصطلاحات المحدثين: ونتيجة لذلك ترى بين دفتي المناهج مصطلحا جديدا لا يصح نسبته إلى مصطلح الحديث لأنه ليس مما اتفق عليه أهل الفن فيما بينهم، من ذلك مثلا:

_ (1) انظر الكفاية ص 365، والتبصرة والتذكرة (1/190) .

1- ترى في تعريف المجهول في عدد من هذه المناهج من روى عنه أقل من اثنين أو لم يرو عنه أحد، دون الإشارة إلى أنه وثق أو لم يوثق، بل يرى أن الجهالة ترتفع بمجرد رواية اثنين عنه فأكثر، والصواب أن جهالة العين ارتفعت لكن جهالة الحال لا ترتفع وإن روى عنه اثنان فأكثر إذا لم يوثق، نعم إن مصطلح المجهول كان يطلق عند المتقدمين بشكل أوسع منه عند المتأخرين كالحافظ ابن حجر، ولا شك أن الخلط بين منهج المتقدمين والمتأخرين يؤدي إلى خطأ في الحكم على الحديث لذا لا بد أن يبين للطالب إطلاقات مصطلح المجهول عند المتقدمين والمتأخرين، وأن يبين له أن من المتقدمين من يطلق مصطلح المجهول على راو ويقبل روايته، ولذلك ضوابط بينتها في بحث محكم قيد النشر - إن شاء الله تعالى - فالطالب يدرس المجهول ولا يفرق بين رأي ابن حبان وشيخه ابن خزيمة من جهة وماذهب إليه ابن الصلاح وأبو الحسن ابن القطان واختاره الحافظ من جهة أخرى، ولم يعرف حكم رواية مجهول الحال عند المتقدمين والمتأخرين لذا نرى أن الطالب يسير في مثل هذا المصطلح وغيره على غير هدى لأنه يخلط بين مناهج العلماء لاتفاق كلمة الاصطلاح ولم يعلم أن لهذا الاصطلاح إطلاقات عند هؤلاء وأولئك ينبغي أن تراعى. 2- بل إن بعضهم في مبحث الوحدان جعل كل من روى عنه راو واحد عنه فقط مجهول عين إذا لم يكن صحابيا، ولم يفرق بين من وثق وبين من لم يوثق، الأمر الذي يؤدي إلى تجهيل الثقات ممن قبل الأئمة حديثهم وقد يكون من المتقدمين من أطلق مصطلح مجهول على من هذه حاله لكنه يقبل حديثه وإنما عنى بذلك عدم الشهرة في طلب العلم وإلا كيف نفسر إخراج البخاري ومسلم لمن هذه حاله، فلا بد من مراعاة الفروق بين مناهج الأئمة عند التطبيق والتمثيل بل عند التصحيح والتضعيف، وقد ألف الإمام مسلم في ذلك كتابا مستقلا سماه ((المنفردات والوحدان)) فلينظر.

3- الجرح بالتدليس، فغالب المعاصرين في مناهجهم المكتوبة التي كما سبق وأشرت أنها نظرية أكثر منها عملية، فتراهم يجرحون الراوي إذا عرف بالتدليس، مع أن هذا القول ينم عن عدم ممارسة لعلم الحديث فالتدليس نوع من أنواع المنقطع الخفي، وإنما ضعف حديث بعض المدلسين لاحتمال الانقطاع فإن صرح بالسماع - إذا كان ممن يحتاج إلى تصريح بالسماع - اندفع هذا الاحتمال وقبل حديثه، ولا يخفى على شريف مسامعكم أنه ليس كل من وصف بالتدليس بحاجة إلى تصريح بالسماع، فهذه المسألة لها ضوابط عدة تربو على الثلاثين جمعتها في كتابي روايات المدلسين في صحيح البخاري، وما أريد أن أشير إليه هنا أن التدليس طعن في المروي لا في الراوي إلا فيمن تعمد تدليس التسوية عند البعض، وأما التعميم بجعل كل مدلس مجروحا بتدليسه يجرنا إلى تجريح عدد كبير من الرواة لم يجرحهم غيرنا بل منهم من هو من رجال البخاري ومسلم، وهذا لم يقل به أحد لأن التدليس طعن في شرط الاتصال وبالتالي ليس طعنا في العدالة ولا الضبط فكيف نجرح الراوي أو نتهم عدالته أو ضبطه إذا فقد الحديث الشرط الأول من شروط الصحة وهو الاتصال. 4- المعلق: فترى في بعض المناهج من يجعله مشتركا بين الصحيح والحسن والضعيف مع كون المعلق نوعا من أنواع المنقطع، فبعضهم يخلط بين مصطلح المعلق وبين معلقات صحيح البخاري، التي هي مشتركة بين الأنواع الثلاثة بعد أن غلقها الحافظ في تغليق التعليق، بل منهم من يخلط حتى في معلقات صحيح البخاري عندما يتحدث عنها في مبحث المعلق فتراه يصحح كل حديث علقه البخاري بصيغة الجزم، والصواب أنه صحيح إلى من علقه عليه فقط وأما باقي السند فيحتمل الحسن والصحة والضعف. ختاما: هذه نماذج فقط للتمثيل والتدليل لا أكثر. وما كل ما فيه من الشر قلته وما كل مافيه يقول الذي بعدي

وإن عدم فهم هذا الفن كما فهمه علماؤنا وأسلافنا يؤدي إلى نتائج خاطئة، بل إلى اصطلاحات لم يقل بها المتقدمون ولا المتأخرون. وإني في هذا الجمع الكريم أقترح على إخواني المتخصصيين كتابة منهج يجمع بين الأصالة في المصدر والمعاصرة في الأسلوب والطريقة التي نوصل بها المعلومة، على أن تحرر فيه أنواع علوم الحديث تحريرا، ويراعى فيه الجانب العملي بالجانب النظري، وتراعى فيه المرحلة العمرية والدراسية ويركز فيه على فهم المصطلح وتطبيقه قبل حفظه وياحبذا لو صاحب هذا المنهج وسائل حديثة أعدت معه، فإن الأسلوب الخطابي والتقليدي قد لا يجدي في إيصال المعلومة عند تدريس مثل هذا المساق خاصة. فهذا أقل ما نقدمه لخدمة سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، التي هي الجُنة الحصينة لمن تدرعها، والشرعة المنيعة لمن تشرعها، ويكفيه فضلا دخوله في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها)) أخرجه الإمام الشافعي عن ابن مسعود. ملحق باستبانة قمت بها تتعلق برأي الطلاب في منهج علوم الحديث الذي يدرسونه: ولأتبين موقف الطلاب عملت استبانة لعينة عشوائية من طلاب إحدى الكليات عند عدد مختلف من الأساتذة، وزعت على 182 طالبا يبين الجدول التالي أهم نتائجها: النسبة للعدد الكلي العدد البند م 70,8% 129 يجد صعوبة في مساق علوم الحديث 1 1,6% 3 يجد سلاسة في أسلوب المنهج الذي يدرسه 2 67% 122 يعتقد أن الأستاذ يستخدم الطريقة التقليدية في شرحه ولا يستخدم الوسائل الحديثة 3 1,09% 2 الممارسة العملية لما تعلمه نظريا 4 93,4% 170 يؤيد وجود وسائل إيضاحية مرافقة لكل مبحث 5 96,1% 175 يؤيد تغيير المنهج 6 وكما يتضح من الجدول فإن النتائج تبين أن أكثر من (70%) يجدون صعوبة في المنهج، و (1.09%) فقط ربطوا بين ما درسوه نظريا وبين التطبيق العملي لمصطلحات علم الحديث، في حين 96.1% منهم يؤيد تغيير المنهج.

قائمة المصادر والمراجع 1 ـ الإحكام في أصول الأحكام - لعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم - ت سنة 456هـ، تحقيق الشيخ أحمد شاكر - دار الآفاق الجديدة - بيروت - لبنان - ط2- 1983م. 2 ـ إرشاد الفحول إلى إحقاق الحق من علم الأصول - لمحمد بن علي الشوكاني - ت 1250 هـ -دار المعرفة - بيروت 1399هـ. 3 ـ تاج العروس من جواهر القاموس - للسيد محمد مرتضى الزبيدي - طبعة وزارة الإعلام بدولة الكويت. 4 ـ التبصرة والتذكرة شرح ألفية العراقي - لعبد الرحيم بن الحسين العراقي - ت 608هـ - دار الكتب العلمية - بيروت بتعليق محمد العراقي. 5 ـ تقريب التهذيب - للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - تحقيق أبي الأشيال صغير أحمد الباكستاني - دار العاصمة - ط1 - 1416هـ. 6 ـ التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح - للحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي - ت 806هـ - تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان - دار الفكر للطباعة والنشر - 1981م. 7 ـ التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد للحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر الأندلسي - ت 463هـ -تحقيق: مصطفى العلوي ومحمد البكري - المغرب - 1387هـ. 8 ـ تنقيح الأنظار (مطبوع مع توضيح الأفكار) - للوزير الحسيني - ط1 - 1366هـ- دار إحياء التراث. 9 ـ تهذيب اللغة لأبي منصور محمد الأزهري -ت 370هـ- تحقيق أحمد البردوني - الدار المصرية للتأليف والترجمة. 10 ـ جامع التحصيل في أحكام المراسيل - للحافظ صلاح الدين العلائي - ت 761هـ - تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي - ط1 -1978- عالم الكتب - بيروت. 11 ـ الحدود في الأصول - لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي - ت 474 هـ - تحقيق د. نزيه حماد - ط1 - 1973م مؤسسة الزغبي - لبنان. 12 ـ روايات المدلسين في صحيح مسلم - تأليفي - وهي رسالة ماجستير - دار البشائر - بيروت 2000م. 13 ـ روضة الناضر وجنة المناظر - ط1 - 1401 - دار الكتب العلمية - بيروت.

14 ـ شذرات الذهب في أخبار من ذهب - لعبد الحي بن العماد - ط1 - 1399هـ - دار الفكر. 15 ـ صحيح البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي - مع شرحه فتح الباري للحافظ ابن حجر - ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي - طبعة دار الريان - 1988م. 16 ـ صحيح مسلم لمسلم بن الحجاج - تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان - 1992م. 17 ـ صحيح مسلم بشرح النووي يحيى بن شرف - ت 767هـ - المطبعة المصرية ومكتبتها. 18 ـ فتح الباري شرح صحيح البخاري - لأحمد بن علي بن حجر -ت 852هـ - طبعة دار الريان - القاهرة - 1988م. 19 ـ الفقيه والمتفقه - لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان. 20 ـ القاموس المحيط - لمجد الدين الفيروزأبادي - مطبعة السعادة بمصر. 21 ـ كشف الأسرار شرح المصنف - لأبي البركات أحمد النسفي ت 710هـ - دار الكتب العلمية - بيروت -1986م. 22 ـ الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي - ت 463 هـ - المكتبة العلمية - مطبعة الجمعية العلمية العليا - دائرة المعارف بحيدر آباد الدكن. 23 ـ لسان العرب - لأبي الفضل جمال الدين بن منظور - ت 711هـ - دار صادر -بيروت. 24 ـ المجموع شرح المهذب - لمحيي الدين بن شرف النووي - ت 676هـ - مطبعة العاصمة - القاهرة. 25 ـ المختصر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل - لعلي بن محمد البعلي المعروف بابن اللحام - تحقيق محمد مظهر - 1980م - دار الفكر -دمشق. 26 ـ المدخل في أصول الحديث - لابن البيع الحاكم النيسابوري - ت 405هـ - تحقيق محمد راغب الطباخ - المطبعة العلمية - حلب 1932م. 27 ـ المستصفى في علم الأصول - لأبي حامد الغزالي - ت 505هـ - المطبعة الأميرية - بولاق - مصر - ط1- 1322هـ. 28 ـ المراسيل لأبي داود السجستاني - تحقيق د. عبد الله الزهراني - دار الصميعي السعودية - 2001م.

29 ـ المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي - لأحمد بن محمد بن علي المقري - ت 770هـ - المكتبة العلمية - بيروت. 30 ـ معرفة علوم الحديث - لابن البيع الحاكم النيسابوري - تصحيح وتعليق السيد معظم حسين - دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد -1397هـ. 31 ـ مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث - لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري - ت 642هـ - دار الكتب العلمية -بيروت - لبنان -1978م. 32 ـ النبذ في أصول الفقه - لابن حزم ت 456هـ - تقديم وتحقيق د. أحمد حجازي -ط1 - 1981 م مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة. 33 ـ نزهة النظر شرح نخبة الفكر - للحافظ ابن حجر العسقلاني - مكتبة طيبة - المدينة المنورة - 1984م. 34 ـ النكت على كتاب ابن الصلاح للحافظ ابن حجر العسقلاني - تحقيق د. ربيع بن هادي - ط1 - 1984م - الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة. 35 ـ وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان - لابن خلكان - تحقيق إحسان عباس - دار صادر - بيروت - لبنان.

§1/1