نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان

سيد حسين العفاني

مقدمة

ـ[نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان]ـ المؤلف: أبو التراب سيد بن حسين بن عبد الله العفاني قدم له: أبو بكر الجزائري - محمد صفوت نور الدين - محمد عبد المقصود توزيع: دار ماجد عسيري - جدة [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

إهداء إلى الرجال حين يعزّ الرجال.. إلى الضخام بذلا وعطاء.. * إلى الوالد المفضال.. الذي إذا رُؤي ذكر الله تعالى برؤيته الشيخ الربّاني مقدم أهل السنة بمصر الشيخ/ محمد صفوت نور الدين. * إلى تيار الفرات.. الذي غمرني بإحسانه ونواله وكرمه.. الكريم المفضال الذي جعل الله له في قلوب المؤمنين ودا.. إلى من كانت له اليد الطُولى في نشر كتب ابن تيمية في مكتبته "مكتبة ابن تيمية" الشيخ/ عبد الفتاح الزيني. انشر علوم السابقين وداونا ... لله درك من فتى رباني * وإلى سمي البخاري.. الرباني.. الشيخ محمد إسماعيل. يا زهر آمال البلاد وحبها ... يا حادي الغرباء للأوطان وسمي حبر وطب هدى نبينا ... أعني البخاري العظيم الشان يا ابن إسماعيل ويا بقية سلفنا ... إرو الغليل بشيخنا الألباني ياحسن عود للحجاب كتبته ... من نبض قلبك في حلى التبيان لا تنسنا من طيب صالح دعوة ... بظهر الغيوب لحبك العفاني ***

بقلم فضيلة الشيخ أبو بكر جابر الجزائري

مقدمة الطبعة الثانية بقلم فضيلة الشيخ أبو بكر جابر الجزائري شيخ المسجد النبوي بالمدينة النورة بسم الله الرحمن الرحيم كلمة تقريظ لأبي بكر جابر الجزائري قال عفا الله عنه: بعد حمد الله تعالى، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين أقول: لقد أهداني العلّامة ذو الفقه والبصيرة الدكتور سيد بن حسين العفاني حفظه الله وأطال عمره، وأفاض الخير عليه وعلى محبيه. أهداني كتابه "نداء الريّان في فقه الصوم وفضل رمضان" وتصفّحت الكتاب فوجدته قد جمع فأوعى، ورفع مؤلفه فأعلى. إنه كتاب من مجلدين بلغت صفحاته سبعاً وعشرين ومائة وألف صفحة، ما ترك شاردة ولا واردة، ولا نافلة، ولا فريضة، ولا كبيرة، ولا صغيرة، في باب الصيام وأحكامه وفضائله، وكمال أهله إلا ذكرها بأسلوب الأدب الرفيع والحكمة البالغة. وقبل أن أدعوَ له بخير الدارين أنصح لكل طالب علم أن يقتني هذا الكتاب ويكبّ عليه ويقرأه، وينشر طِيبه بين المسلمين. فاللهم زد عبدك سيد باسمه علماً وفقهاً ونوراً، ولا تحرمنا مما آتيته إنك ولينا ووليّه آمين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. أبو بكر جابر الجزائري في 4/9/1417هـ

بقلم فضيلة الشيخ: محمد صفوت نور الدين

بسم الله الرحمن الرحيم الطبعة الثانية بقلم فضيلة الشيخ: محمد صفوت نور الدين رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر لنداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان تقديم الحمد لله رب العالمين، اختص سبحانه بعض خلقه بالتكريم والتعظيم، وأصلي وأسلم على من اختصه الله سبحانه وتعالى بالرسالة الخاتمة، فبلغها فكان إمام المتقين وإمام العابدين وإمام الأنبياء وخاتم المرسلين، وأصلي وأسلم على آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين وأصلي وأسلم على سائر الأنبياء وجميع المرسلين. وبعد،،، فإن شريعة الله في الصوم عمت كل الأمم السابقة وصارت عونا للمؤمنين لسلوك طريق المتقين لذا قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وكان الصوم من أجل الأعمال التي يعملها السالكون لذا جاء في الحديث القدسي عن رب العزة سبحانه أنه قال: "كل عمل ابق آدم له. الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" فكان قوله: "فإنه لي" أعظم شرف للعمل وهو الصيام وخير شرف للعامل وهو الصائم.

وقد فضل الله سبحانه شهر رمضان بفضائل عظيمة جليلة فهو القائل: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ، وهو الذي جعل فيه ليلة القدر، وقال عنها سبحانه: (ليلة القدر خير من ألف شهر) . والله جعل رمضان شهر الصبر وشهر النصر، تغل فيه الشياطين، وشهر يغفر فيه لمن تتبع أسباب المغفرة بالصيام والقيام وتلمس ليلة القدر، والله جعل البركة في كل رمضان والصيام حتى جعل أبسط ما فيه وهو السحور بركة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تسحروا فإن في السحور بركة". والله تبارك وتعالى جعل رمضان شهر الجنة، فللجنة باب اسمه الريان يدخل منه الصائمون فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد وجعل رمضان شهر القرب، ففي الحديث: "بعد من أدرك رمضان ولم يغفر له" فالبركة والخير والإلف والمحبة والصالحات من الأعمال والقرآن والصدقة والجود وحسن الخلق وغير ذلك إنما يكون من ثمرات من عمل في رمضان ومن تعبد الله بالصيام في رمضان وبعده. كل هذا شحذ قريحة أخينا الحبيب الدكتور سيد حسين العفاني جزاه الله خير الجزاء وصنف موسوعة تاريخية فقهية حديثية طبية وعظية قصصية واقعية يحتاجها المدرس والكاتب والمؤرخ والصائم، ويحتاجها قاسي القلب ليلين قلبه، ويحتاجها الشارد ليقرب والقريب ليزداد قربا، ويحتاجها الباحث والطبيب الذي يعالج أمراض الأبدان، والواعظ الذي يغذي القلوب والأرواح وهذه الكلمات القليلة أسوقها على استحياء لتقديم هذه الموسوعة الطيبة (نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان) والله أسأل أن ينفع بها وأن يجعلها ذخرا لكل من صنف وقدم وقرأ وعمل، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل. وكتبه محمد صفوت نور الدين

بقلم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد بن عبد المقصود العفيفي

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة بقلم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد بن عبد المقصود العفيفي. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) ، (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) ، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: فإنه ليشرفني أن أقدم إلى المكتبة الإسلامية هذا المؤلَّف الجليل، والذي يُعد بحق موسوعةً ضخمة جدّاً في الصيام وكل ما يتعلق به، ومؤلفه الأخ الأستاذ الدكتور سيد حسين، ذكر فيها فضائلَ الصيام وآثاره، وصيام الصالحين، وصيام أهل البدع، وفوائد الصيام، وفضائل شهر رمضان، والغزوات التي وقعت في شهر رمضان، حتى الفتاوى الطبية المتعلقة بشهر رمضان، وكتب الطب التي ألفتْ فيما يتعلق بموضوع

هذا الكتاب -وهو الصوم- وفتاوى العلماء قديماً وحديثاً، وكذلك الأشعار التي وردت في شهر رمضان وكتبها. فهذا في الحقيقة جهد كبير جدّاً بذله حضرة المؤلف الاستاذ الدكتور سيد حسين -أصلح الله حاله، وجعله في ميزان حسناته- وذلك ليقدم إلى الناس هذه الموسوعة القيمة. والحقيقة قد طلب مني حضرة المؤلف الدكتور سيد حسين أن أقدم للكتاب. وأنا أقولها لله عز وجل: الفروض أن يقدِّمَ هو لي لا أن أقدم أنا له، وقد زدنا بالكتاب شرفاً، ولم يزد المؤلف ولا كتابه منا شيئا. وسيتضح لك هذا أيها القارئ الكريم حين تعيش مع صفحات هذا الكتاب ستقف على كمّ المراجع التي رجع إليها واستخدمها، ليقدم لك هذه المادة، وهي متنوعة، فمنها مراجع في الفقه ومراجع في التاريخ ومراجع في الحديث، بل وكتب الأشعار وكتب الطب ... كتب كثيرة جدّاً حتى يجمع لك مادة هذا الكتاب نفعنا الله به. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لقراءة هذا الكتاب، والعمل بما فيه، وأن ندعو الناس لاتباع الخير الكثير الذي فيه، وأن يجعل الله ذلك في ميزان حسناتنا (يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم) . وكتبها د. محمد بن عبد المقصود العفيفي

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران: 102] . (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) [النساء: 1] . (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيمًا) (1) [الأحزاب: 70-71] . أما بعد: فإن الله تعالى أعظم على عباده المنِّة، بما دفع عنهم كيد الشيطان وفنه، ورد أمله وخيب ظنه، إذ جعل الصوم حصناً لأوليائه وجُنَّة، وفتح لهم به أبواب الجنَّة، وعرفهم أنَّ وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنَّة، وأنَّ بقمعها

_ (1) خطبة الحاجة وهي التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبدأ بها خطبه، وقد جمع طرق أحاديثها محدث الديار الشامية الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في رسالة قصيرة.

تصبح النفس المطمئنة ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المنَّة (1) . وأعظم بعبادة متميزة بخاصية النسبة إلى الله تعالى من بين سائر الأركان، وجاوز ثوابها قانون التقدير والحسبان، فيفرغ للصائم جزاؤه إفراغاً، ويجازف جزافاً فلا يدخل تحت وهم وتقدير. وناهيك بعبادة يباهي الله بها ملائكته، والله غني وهو الكريم يا أخي عن تجويع القوم.. فافهم من الخلوف معنى الصوم فأنت المراد من هذا الكون. فكم من ملائكة كرام ما ذاقوا طعاما ولا شربوا شراباً ليس لهم مرتبة "ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك". فيا إخوتاه البدار البدار، كلوا من طعام الجد، واشربوا دموع الأسف، تناولوا من طعام الاستغفار ولو جرعة، صاح مُمسك قنديل الأمل، لرؤية فجر الأجل. رحم الله أقواماً رمضانهم دائم وشوالهم صائم. في رضاكم رمضان عمره ... ينقضي ما بين إدبار وطيّ وعلى الطرف الآخر آخر أحواله تشبه شهور السنة "ماله في باب الإيثار المحرم، وقلبه من الذكر صفر، وهواه وشهواته ربيعان وكفاه في البذل جُمادَيَان، وسمعه عن المواعظ رجب، وهمه في شبابه شعبان" (2) ، فكن كما شئت فإنما تجني ما تغرس. ولا يدرك ألطاف وعطايا الربَّانية إلا من ربَّى للصوم نيَّة. غرس القوم نخل العزائم من نهر باب الريان ونبات عزمك نبات الكشوت (3) يروى من ماء صديد.

_ (1) المنة بالضم: القوة، وخمق بعضهم به قوة القلب، يقال: هو ضعيف المنة، ويقال: هو طويل المنة، حسن السنة قوي المنة، الأمة: القامة، والسنة: الوجه، والمنة: القوة. (2) "مقامات ابن الجوزي". (3) نبات معروف.

أخي: ليس الصوم صوم جماعة الطّغام عن الجماع والطعام إنما الصوم صوم الجوارح عن الآثام، وصمت اللسان عن فضول الكلام، وغض العين عن النظر إلى الحرام، وكفّ الكفّ عن أخذ الحطام، ومنع الأقدام عن قبيح الإقدام. إن المطلوب من الصوم التقلل ليسبق المضمّر، وهم يستوفون وقت الإفطار الحِمْل، ويجعلون السحور علاوة، فيقف جمل التعبد. المراد من التجويع خلوف الفم، والذين عندهم جُشَاء التَّخم يصبحون وبهم من الطعام بَشَم (1) ، ومن الماء بغر (2) ، "جاعوا بالنهار وما يفهمون كيف صاموا، وشبعوا بالليل فناموا وما قاموا" (3) . قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته" (4) . فاتق الله في أمانته عندك. ولكل عبادة ظاهراً وباطناً، وقشراً ولبّاً، ولقشرها درجات، ولكل درجة طبقات، فإليك الخيرة الآن في أن تقنع بالقشر عن اللباب أو تتحيز إلى غمار أرباب الألباب. فطوبى لمن أظمأ نفسه ليوم الري الكامل طوبى لمن جوع نفسه ليوم الشبع الأكبر طوبى لمن ترك شهوات حياة عاجلة لموعد غيب لم يره متى اشتد عطشك إلى ما تهوى فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الري الكامل وقل: قد عيل صبر الطبع في سنيِّه العجاف، فعجِّل لي العام الذي فيه أغاثُ وأعصر. أخي: -وبعد أن أطلنا- هذه أوراق جمعناها في الصوم وفضله وثماره

_ (1) مرض يجعل الرجل لا يشبع من الطعام. (2) البغر: داء يشتد معه العطش، فلا يخفضه الماء. (3) "مقامات ابن الجوزي" (ص 261) . (4) رواه الخرائطي في "مكارم الأخلاق" من حديث ابن مسعود في حديث الأمانة في الصوم وإسناده حسن قاله العراقي، وقال ابن السبكي لم أجد له إسنادا.

وسادات الصائمين، ورمضان وجزيل نعمه وحُسنه، وضممنا إلى ذلك آداباً في الصوم وفصلاً في الأحاديث الضعيفة والموضوعة في الصوم ثم فقه الصوم والاعتكاف وزكاة الفطر وسنن العيد، وعقدنا فصلا للصوم عند الشعراء فاللَّهم تقبل عملي هذا، واسقني يا جواد من كأس كان مزاجها كافوراً واجعل الريَّان ري قلبي الظمآن (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) . وكتبه سيد بن حسين العفاني بني عفان - غرة جمادى الآخرة 1415هـ ***

الباب الأول من معاني الصوم

الباب الأول من معاني الصوم "الصوم لا رياء فيه" (الإمام أحمد بن حنبل)

أ- الإخلاص عنوان الصوم

الصوم عبادة السادات، وعبادة السادات سادات العبادات، وشيم الأحرار أحرار الشيم. نصوم فإن الصوم من علم التقى ... وإن طويل الجوع يوماً سيشبع فما الغاية العظمى؟.. وما أهم معاني الصوم؟ أ- الإخلاص عنوان الصوم أحلى أعطيات الصوم وأغلى معانيه الإخلاص، والإخلاص لله خلاص وتجرد بعيداً بعيداً عن أوحال الأرض. والصوم هو العبادة الوحيدة التي خُصَّت بالنسبة إلى الله "إلا الصيام فإنه لي" (1) . وكما قال الإمام أحمد: لا رياء في الصوم، فلا يدخله الرياء في فعله، من صفى صفى له، ومن كَدَّر كدر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، وإنما يُكال للعبد كما كال. والجنة لا تطلب إلا قلباً خالصاً لله (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) [يوسف:79] . والصوم يعلم الناس الإخلاص، فما صام منافق مرائي. والغاية الواحدة في مصطلح القرآن هي الإخلاص وهي محور دعوات الرسل، يقول تبارك وتعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين..) [الزمر: 2] الآية، (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين ... ) [الزمر: 11] الآية، (قل الله أعبد مخلصاً له ديني..) [الزمر: 14] الآية، (وادعوه مخلصين له الدين ... ) [الأعراف: 29] الآية، (فادعوا الله مخلصين له الدين) [غافر: 14] الآية. والإخلاص: التعري عما دون الله ونسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.. أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة وإخراج الخلق عن معاملة الرب.

_ (1) جزء من حديث صحيح يأتي بعد ذلك.

والإخلاص أشد شيء على النفس لأنه ليس لها فيه نصيب كما قال سهل. والصدق في الإخلاص من أشد الأمور على النفوس، يقول سفيان الثوريّ: "ما عالجت شيئاً عليّ أشد من نيّتي، إنها تتقلب عليّ". والإخلاص هو الحرية في أرقى صورها وأكمل مراتبها، لا لا يا قيود الأرض. تفيض نفوس بأوصابها ... وتكتم عوادها ما بها وما أنصفت مهجة تشتكي ... جواها إلى غير أحبابها "شجرة الإخلاص أصلها ثابت، لا يضرها زعزع (أين شركائي) ، وأما شجرة الرياء فاجتثت عند نسمة (وقفوهم) ، لريح المخلصين عطرية القبول، وللمرائي سموم النسيم، نفاق المنافقين صيّر المسجد مزبلة (لا تقم فيه أبداً) وإخلاص المخلصين رفع قدر الوسخ "رُبَّ أشعث أغبر"، فيا أسفا ذهب أهل الإخلاص والتحقيق وبقيت بنيَّات الطريق، رحل والله السادة وبقي قرناء الرياء والوسادة. ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأقوام يا إخوتاه: الإخلاص مسك مصون في مسك القلب، تنبه ريحه.. العمل صورة والإخلاص روح. الإخلاص اليسير كثير، وخليج صاف أنفع من بحر كدر، أتحدو ومالك بعير؟!، أتمد القوس وما لها وتر؟!، أتتجشأ من غير شبع؟!. كم بذل نفسه مراء لتمدحه الخلائق فذهبت والمدح، ولو بذلها للحق لبقيت والذكر، المرائي يحشو جراب العمل رملاً فيثقله ولا ينفعه، ريح الرياء جيفة تتحاماها مسام القلوب. لما أخذ دود القز ينسج أقبلت العنكبوت تتشبه وقالت: لك نسج ولي نسج، فقالت دودة القز: ولكن نسجي أردية بنات الملوك ونسجك شبكة الذباب وعند مس النسيجين يبين الفرق.

"إذا اشتبكت دموع في خدود تبينَّ من بكى ممن تباكا" (1) . والأمة أحوج ما تكون إلى إخلاص أبنائها، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما ينصر الله هذه الأمه بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم" (2) ، وفيه خلاص الأمة ورفعتها، فعن أبي بن كعب (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بشِّر هذه الأمة بالسناء والدين، والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب" (3) ، وفي رواية للبيهقيّ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بشر هذه الأمة بالتيسير والسناء، والرفعة بالدين والتمكين في البلاد والنصر، فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا، فليس له في الآخرة من نصيب". ما أحوجنا إلى الصيام والإخلاص: عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما يبعث الناس على نياتهم" (4) ، وعن جابر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما يحشر الناس على نياتهم" (5) . ما أحوجنا إلى الفرار من الرياء والصيام خير عون، عن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من سمَّع الناس بعمله سمَّع الله به مسامع خلقه وصغره وحقَّره" (6) ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ثلاث لا يُغَل عليهن قلب امرئ مؤمن: إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعاءهم يحيط من ورائهم" (7) . ولو لم يكن في الإخلاص إلَّا طرد الخيانة والحقد من القلب لكفاه شرفاً، فكيف والأعمال ميتة بدونه، وقشر خالٍ من اللباب سواه. ومن هنا تأتي أهمية الصوم ومعناه الكبير! إذ كل عبادة سواه قد يدخلها الرياء وإرادة

_ (1) "المدهش" (ص 414) . (2) صحيح: رواه النسائي عن سعد بن أبي وقاص وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/6) . (3) صحيح: رواه أحمد، وابن حبان، والبيهقي، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد "صحيح الترغيب" (1/16) . (4) حسن: رواه ابن ماجة وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/8) . (5) صحيح: رواه ابن ماجة وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/8) . (6) رواه الطبراني في "الكبير" بأسانيد أحدها صحيح والبيهقي "صحيح الترغيب" (1/16) . (7) قال المنذري: رواه البزار بإسناد حسن وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/5) .

وجه المخلوقين حتى الصلاة خير الأعمال قد يدخلها الرياء. عَن أبي سعيد الخدريّ (رضي الله عنه) قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال" فقلنا: بلى يا رسول الله! فقال: "الشرك الخفي: أن يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" (1) . وعن محمود بن لبيد (رضي الله عنه) خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا أيها الناس! إياكم وشرك السرائر" قالوا: يا رسول الله! وما شرك السرائر! قال: "يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر" (2) . والجهاد والصدقة وقراءة القرآن قد يدخلها الرياء، فدل ذلك على خطره وفظاعته وشناعته، وإليك هذا الحديث لترى خوف الصحابة من الرياء وعلى ضوء ذلك ترى المعنى الجليل الذي يورثه الصيام لأصحابه وهو الإخلاص. عن عقبة بن مسلم أن شُفَيّاً الأصبحيّ حدثه أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال مَن هذا؟ قالوا: أبو هريرة، قال: فدنوت منه، حتى قعدت بين يديه؛ وهو يحدث الناس، فلمَّا سكت وخلا، قلت له: أسألك بحقِّ وبحقِّ، لماَّ حدَّثتني حديثاً سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعَقِلْتَه وعَلِمْتَه، فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدَّثنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقلته وعلمته، ثم نشغ (3) أبو هريرة نشغة فمكثنا قليلاً ثم أفاق، فقال: لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ثم أفاق، ومَسح عن وجهه فقال: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة ثم مال خارّاً على وجهه فأسندته طويلاً ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل على العباد ليقضي

_ (1) حسن: رواه ابن ماجة، والبيهقي، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/17) . (2) صحيح: رواه ابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/17) . (3) أي شهق حتى كاد يغشى عليه أسفاً أو خوفاً.

بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يُدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله عز وجل للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فما عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله عز وجل: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردت أن يقال فلان قاريء وقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله عز وجل: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد، قال: بلى يا رب قال: فماذا عملت فيما أتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: فيم قتلت؟ فيقول: أي رب أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريئ فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ركبتيّ، فقال: "يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة", قال الوليد أبو عثمان المديني: وأخبرني عقبة أن شُفَيّاً هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا، قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حاتم أنه كان سيّافاً لمعاوية، قال: فدخل عليه رجل فأخبره بهذا عن أبي هريرة، فقال معاوية: قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس ثم بكى معاوية بكاءً شديداَّ حَتى ظننا أنه هالك، وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلَّا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) [هود: 15 - 16] (1) . فكيف بمن بقي من الناس ... لا نجاة إلا بالإخلاص. فياللصوم من عبادة أسها ولحمتها وسداها الإخلاص وفيه من النيران الخلاص. ***

_ (1) رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في "صحيحه" كلاهما بلفظ واحد عن أبي عثمان المديني، ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" نحو هذا لم يختلف إلا في حرف أو حرفين.

(ب) التقوى حكمة الصوم العليا

(ب) التقوى حكمة الصوم العليا قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة: 183] . إن الغاية الأولى هي إعداد القلوب للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله تعالى، "هكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم.. إنها التقوى.. فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله، وإيثاراً لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفاً وضيئاً يتجهون إليه عن طريق الصيام (لعلكم تتقون) ثم يثني بتقرير أن الصوم أيام معدودات، فليس فريضة العمر وتكليف الدهر، ومع هذا فقد أعفى من أدائه المرضى حتى يصحِّوا، والمسافرون حتى يقيموا تخفيفاً وتيسيراً. وظاهر النص في المرض والسفر يطلق ولا يحدد، فأي مرض وأي سفر يسوغ الفطر، وهذا هو الأولى في فهم النص القرآني، والأقرب إلى المفهوم الإسلامي في رفع الحرج ومع الضرر لإرادة اليسر بالناس لا العسر. فالدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات، إنما يقودهم بالتقوى وغاية هذه العبادة خاصة هي التقوى. والذي يفلت من أداء الفريضة تحت ستار الرخصة لا خير فيه منذ البدء، لأن الغاية الأولى من أداء الفريضة لا تتحقق. وهذا الدين دين الله لا دين الناس، والله أعلم بتكامل هذا الدين، بين مواضع الترخص ومواضع التشدد، وقد يكون وراء الرخصة في موضع من المصلحة ما لا يتحقق بدونها، بل لابد أن يكون الأمر كذلك، ومن ثم أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأخذ المسلمون برخص الله التي رخص لهم.

(جـ) ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون

وإذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال، فإن صلاحهم لا يتأتى من طريق التشدد في الأحكام، ولكن يتأتى من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم واستحياء شعور التقوى في أرواحهم وإذا صح التشدد في أحكام المعاملات عند فساد الناس كعلاج رادع، وسد للذرائع، فإن الأمر في الشعائر التعبدية يختلف، إذ هي حساب بين العبد والرب، والظاهر في العبادات لا يجدي ما لم يقم على تقوى القلوب، وإذا وجدت التقوى لم يتفلت متفلت، ولم يستخدم الرخصة إلى حيث يرتضيها قلبه، ويراها وهى الأولى (1) . (جـ) ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون "هذه غاية من غايات الفريضة.. أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم، وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة، وهم مكفوفو القلب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها.. وهم شاعرون بالهدى ملموساً محسوساً، ليكبروا الله على هذه الهداية، وليشكروه على هذه النعمة، ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة، كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام "لعلكم تتقون" وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقّاً على الأبدان والنفوس، وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير" (2) . "وفي لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأكل والتلطيخ بالدماء، فكان لقول المسلم: الله أكبر إشارة إلى أن الله يعبد بالصوم، وأنه منزَّه عن ضراوة الأصنام" (3) . "ولعلكم تشكرون" تعليل آخر وهو أعم من مضمون جملة "ولتكبروا الله ... " فإن التكبير تعظيم يتضمن شكراً والشكر أعم لأنه يكون بالأقوال التي فيها تعظيم لله ويكون

_ (1) "الظلال". (2) "الظلال" (1/172) . (3) "التحرير والتنوير" (2/177) .

(د) الصوم وإعداد الأمة

بفعل القرب من الصدقات في أيام الصيام وأيام الفطر، ومن مظاهر الشكر لبس أحسن الثياب يوم الفطر" (1) . (د) الصوم وإعداد الأمة لقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليها الجهاد في سبيل الله لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة به على البشرية، وللشهادة على الناس، فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة، ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد، كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها واحتمال ضعفها وثقلها، إيثاراً لما عند الله من الرضى والمتاع، وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك؛ والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات؛ والذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات" (2) . (هـ) الصوم رياضة للنفس على ترك الشهوات إذا كان من المتعذر على الإنسان بما هو مستودع فيه أن يتجرد عن شهوة الجسد، إذ من المتعذر عليه الانقطاع البات عن إمداد جسده بما فطره الله فيه، فكان من اللازم لتطلب ارتقاء نفسه أن يتدرج به في الدرجات الممكنة من تهذيب شهوته وتخليصه من التوغل فيها بقدر الإمكان، لذلك كان الصوم من أهم مقومات هذا الغرض، لأن فيه خصلتين عظيمتين؛ هما: الاقتصاد في إمداد القوى الحيوانية وتعود الصبر بردها عن دواعيها "وبذلك يحصل للإنسان دُربة على ترك شهواته، فيتأهل للتخلق بالكمال، فإن الحائل بينه وبين الكمالات والفضائل هو ضعف التحمل للانصراف عن هواه وشهواته. إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ... ولم يَنْه قلباً غاوياً حيث يَمَّما فيوشك أن تلقى له الدهر سبة ... إذا ذكرت أمثالُها تملأُ الفما (3)

_ (1) "التحرير والتنوير" (2/177) . (2) "الظلال" (1/167) . (3) "التحرير والتنوير" (2/160) .

"الصوم يعد نفس الصائم لتقوى الله بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة امتثالاً لأمره واحتساباً للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والاصطبار عليها فيكون الثبات عليها أهون عليه، ولذلك قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام نصف الصبر". وهذا معنى دلالة "لعل" على الترجي، فالرجاء إنما يكون فيه، وقعت أسبابه وموضحه هنا الخاطبون لا المتكلم، ومَن لم يصم النية وقصد القربى لا ترجى له هذه الملكة في التقوى، فليس الصيام في الإسلام لتعذيب النفس لذاته بل لتربيتها وتزكيتها. قال شيخنا: إن الوثنيين كانوا يصومون لتسكين غضب آلهتهم إذا عملوا ما يغضبهم، أو لإرضائها واستمالتها في بعض، الشئون والأغراض، وكانوا يعتقدون أن إرضاء الآلهة أو التزلف إليها يكون بتعذيب النفس وإماتة حظوظ الجسد، وانتشر هذا الاعتقاد في أهل الكتاب حتى جاء الإسلام ويعلمنا أن الصوم إنما فرض لأنه يعدنا للسعادة بالتقوى، وإن الله غني عنا وعن عملنا وما كتب علينا الصيام إلا لمنفعتنا" (1) . أشواق الروح بطبيعتها لا تنتهي، فيعارضها الجسم بجعل حاجاته غير منتهية، يحاول أن يطمس بهذه على تلك، وأن يغلِّب الحيوانية على الروحانية، فإذا أتى الصوم كفَّه وأمات أكثر نزعاته، ووضع لكل حاجة حدّاً ونهاية. الصوم يصنع الإنسان صناعة جديدة، تخرجه من ذات نفسه وتكسر القالب الأرضي الذي صُبّ فيه، فإذا هو غير هذا الإنسان الضيق المنحصر في جسمه ودواعي جسمه، فلا تغره الدنيا ولا يمسكه الزمان ولا تخضعه المادة، إذا كانت هذه هي صفات المستعبد بأهوائه لا الحرّ فيها، والخاضع بنفسه لا المستقل بها، والمقبور في إنسانيته لا الحيّ فوق إنسانيته؛ ومثل هذا المستعبد الخاضع المقبور لا وجود له إلا في حكم حواسه، فعمله ما يعيش به لا ما يعيش من أجله، ويتصل بكل شيء اتصالاً مبتوراً ينتهي في هوى من أهواء الحيوان الذي فيه، والصوم يطلق من سلطان نفسه، وينقح الآدمية فيه يجعله يجد نفسه، وموضع نفسه" (2) .

_ (1) "تفسير المنار" (ج 2) . (2) "من وحي القلم" للرافعي.

(و) الصوم والمراقبة

(و) الصوم والمراقبة ومعنى "لعل" الإعداد والتهيئة، وإعداد الصيام نفوس الصائمين لتقوى الله تعالى يظهر من وجوه كثيرة أعظمها شأناً، وأنصعها برهاناً، وأظهرها أثراً، وأعلاها خطراً وشرفاً أنه أمر موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه إلا الله تعالى، وسر بين العبد وربه لا يشرف عليه أحد غيره سبحانه، فإذا ترك الإنسان شهواته ولذاته التي تعرف له في عامة الأوقات لمجرد الامتثال لأمر ربه والخضوع له لإرشاد دينه مدة شهر كامل في السنة ملاحظاً عند عروض كل رغيبة له -من أكل نفيس، وشراب عذب، وفاكهة يانعة، وغير ذلك كزينة زوجة أو جمالها الداعي إلى ملابستها- أنه لولا اطلاع الله تعالى عليه ومراقبته له لما صبر عن تناولها وهو في أشد التوق لها فلا جرم أنه يحصل له من تكرار هذه الملاحظة المصاحبة للعمل ملكة المراقبة لله تعالى والحياء منه سبحانه أن يراه حيث نهاه، وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان بالله تعالى، والاستغراق في تعظيمه وتقديسه أكبر معد للنفوس مؤهل لها لضبط النفس ونزاهتها في الدنيا ولسعادتها في الآخرة. كما تؤهل هذه المراقبة النفوس المتحلية بها لسعادة الآخرة تؤهلها لسعادة الدنيا أيضاً، انظر هل يقدم من تلابس هذه المراقبة قلبه على غش الناس ومخادعتهم؟ هل يسهل عليه أن يراه الله آكلاً لأموالهم بالباطل؟ هل يحتال على الله في منع الزكاة؟ هل يحتال على أكل الربا؟ هل يقترف المنكرات جهاراً؟ هل يجترح السيئات ويسدل بينه وبين الله ستاراً؟ كلا! إن صاحب هذه المراقبة لا يسترسل في المعاصي إذ لا يطول أمد غفلته عن الله تعالى وإذا نسي وألمّ بشيء منها يكون سريع التذكر قريب الفيء والرجوع بالتوبة الصحيحة (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) [الأعراف: 201] . فالصيام أعظم مرب للإرادة، وكابح لجماح الأهواء؛ فأجدر بالصائم أن يكون حرّاً يعمل ما يعتقد أنه خير، لا عبداً للشهوات، إنما روح الصيام وسره في هذا القصد والملاحظة التي تحدث هذه المراقبة".

رقيب حيّ في قلبه لا يرائيه ولا يجامله، ولا يخدع من تأويل ولا يُغرّ بفلسفة ولا تزين ولا يسكته ما تسول النفس، ولا يزال دائماً يقول للنفس: إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك. أين هذا من حال أولئك الغافلين عن الله وعن أنفسهم الذين يفطرون في رمضان عمداً, أو الأدنياء الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، الذين يأكلون ولو في بيوت الأخلية حيث تأكل الجرذ، وما قذف بهؤلاء وأمثالهم ومن هم شر منهم كالمجاهرين بالفطر إلا تلقينهم العبادة جافة خالية من الروح الذي ذكرناه، والسر الذي أفشيناه، فحسبوها عقوبة كما كان يحسبها الوثنيون من قبل، وما كل إنسان يتحمل العقوبة راضياً مختاراً" (1) . ***

_ (1) "تفسير المنار" (2/145-147) .

الباب الثاني فضائل الصوم

الباب الثاني فضائل الصوم

الفضيلة الأولى: الصائمون هم السائحون

فضائل الصوم أَنْعِم بالصوم عبادة بها رفع الدرجات، وتكفير الخطيئات، وكسر الشهوات وتكثير الصدقات، وتوفير الطاعات، وشكر عالم الخفيات، والانزجار عن خواطر المعاصي والمخالفات، والبعد عن النار سمومها واللفحات، وقرع أبواب الجنات، وكم للصوم من فضائل وفضائل.. وإليك طرف منها: الفضيلة الأولى: الصائمون هم السائحون قال تعالى: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) [التوبة: 112] . قال ابن جرير: أمَّا قوله "السائحون" فإنهم الصائمون. وهو قول أبي هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وعبد الرحمن، ومجاهد، والحسن، والضحاك، وعطاء. قالت عائشة: سياحة هذه الأمة: الصيام. وقال ابن عباس: كل ما ذكر الله في القرآن السياحة: هم الصائمون. وقال أبو عمرو العبدي: الذين يديمون الصيام من المؤمنين. وقال الضحاك: كل شيء في القرآن (السائحون) فإنه الصائمون. وقال ابن عيينة: "إذا ترك الطعام والشراب والنساء فهو السائح" (1) . * قال تعالى: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً) [التحريم: 5] . "قال ابن عباس: سائحات: صائمات. وهو قول قتادة والضحاك.

_ (1) "تفسير الطبري" (6/36-38) .

الفضيلة الثانية: الصوم لا مثل له

وكان بعض أهل العربية يقول: نرى أن الصائم إنما سمي سائحاً، لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل حيث يجد الطعام فكأنه أخذ من ذلك" (1) . الفضيلة الثانية: الصوم لا مثل له * عن أبي أمامة، قال: أنشأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيشاً، فأتيته، فقلت: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة، قال: "اللَهمَّ سَلمهم وغَنِّمهم" فغزونا، فسلمنا وغنمنا، حتى ذكر ذلك ثلاث مرات، قال: ثم أتيته، فقلت: يا رسول الله، إني أتيتك تترى ثلاث مرات، أسألك أن تدعو لي بالشهادة، فقلت: "اللَّهمَّ سلمهم وغنمهم"، فسلمنا وغنمنا يا رسول الله، فمرني بعمل أدخل به الجنة، فقال: "عليك بالصوم، فإنه لا مثل له". قال: فكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف، فإذا رأوا الدخان، عرفوا أنه قد اعتراهم ضيف" (2) . * وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله مرني بعمل، قال: "عليك بالصوم، فإنه لا عدل له". قلت: يا رسول الله مرني بعمل، قال: "عليك بالصوم؛ فإنه لا عدل له" (3) . وللحاكم وصححه، وفي رواية للنسائي قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله، مرني بأمر ينفعني الله به، قال: "عليك بالصيام؛ فإنه لا مثل له" الفضيلة الثالثة إضافته لله تعالى تشريفاً لقدره وتعريفاً بعظيم فخره * عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قال الله عز وجل: كل

_ (1) "تفسير الطبري" (11/164-165) . (2) إسناده صحيح على شرط مسلم: رجاله ثقات رجال الشيخين غير رجاء بن حيوة فمن رجال مسلم. رواه ابن حبان في "صحيحه" واللفظ له، وأحمد، والنسائي، والطبراني، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق. (3) صحيح: رواه النسائي، وابن خزيمة في "صحيحه" (هكذا بالتكرار وبدونه، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (11/413) .

عمل ابن آدم له، إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، الصيام جُنَّة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يصخب، فإنْ سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما؛ إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" (1) . وفي رواية للبخاري: "يترك طعامه وشرابه من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها". * الرواية الثانية: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك" (2) . * وفي أخرى له أيضاً ولابن خزيمة: "وإذا لقي الله عز وجل فجزاه فرح...." (3) الحديث. * وعند الترمذي. قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن ربكم يقول: كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والصوم لي، وأنا أجزي به، والصوم جنة من النار، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وإنْ جَهِل على أحدكم جاهل وهو صائم فليقل: إني صائم، إني صائم (4) . * وعند ابن خزيمة قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فهو لي، وأنا أجزي به، الصيام جُنة، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، للصائم فرحتان: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" (5) .

_ (1) رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم، وعند أحمد "وإذا لقي الله فجزاه فرح" وسنده صحيح على شرط مسلم. (2) رواه مسلم. (3) رواه مالك وأبو داود والنسائي بمعناه مع اختلاف بينهم في الألفاظ وهو صحيح. (4) حسن: حسنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/408) . (5) وهي عند أحمد، وكذا البخاري وهي هنا الرواية الأولى، لكن ليس فيها قوله "يوم القيامة" وهو عند النسائي في "الكبرى".

قال: " كل عمل ابن آدم له حسنة بعشر أمثالها, إلى سبعمائة ضعف, قال الله: إلا الصيام، فهو لي وأنا أجزي به, يدع الطعام من أجلي يدع الشراب من أجلي ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلى، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك, وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه". الصيام لي: قال ابن عبد البر: كفى بقوله: "الصوم لي" فضلاً للصيام على سائر العبادات وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: "الصيام لي وأنا أجزي به" مع أن الأعمال كلها له وهو الذي يجزي بها على أقوال:- أحدها: أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره. قال أبو عبيد في غريبه: قد علمنا أن أعمال البر كلها لله وهو الذي يجزي بها، فنرى والله أعلم أنه إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيء في القلب وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفى على الناس، وهذا وجه الحديث عندي". قال القرطبي: "لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يَطّلع عليه بمجرد فعله إلا الله، فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث: "يدع شهوته من أجلي". وعند مالك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، فالصيام لي بزيادة الفاء وهي للسببية، أي سبب كونه لي أنه يترك شهوته لأجلي. وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها، وقلَّ أن يسلم ما يظهر من شوب، بخلاف الصوم. وارتضى هذا الجواب المازري وقرره القرطبي بأن أعمال بني آدم لمَّا كانت يمكن دخول الرياء فيها أضيفت إليهم بخلاف الصوم، فإن حال الممسك شبعاً مثل حال الممسك تقرباً، يعني في الصورة الظاهرة. ومعنى: "لا رياء في الصوم" أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء

الفضيلة الرابعة: رفعة الدرجات

بالقول كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم، فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار، بخلاف بقية الأعمال، فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها. وقد حاول بعض الأئمة إلحاق شيء من العبادات البدنية بالصوم فقال: إن الذكر بلا إله إلا الله يمكن أن لا يدخله الرياء، لأنه بحركة اللسان خاصة دون غيره من أعضاء الفم، فيمكن للذاكر أن يقولها بحضرة الناس ولا يشعرون بذلك" (1) . الفضيلة الرابعة: رفعة الدرجات (2) قال الحافظ ابن حجر: "المراد بقوله: "وأنا أجزي به" أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس. قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا السياق رواية الموطأ، وكذا رواية الأعمش عن أبى صالح حيث قال: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله" قال الله: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" أي أجازي عليه جزاءً كثيراً من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) انتهى, والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال قلت: وسبق إلى هذا أبو عبيد في غريبه فقال: بلغني عن ابن عيينة أنه قال ذلك، واستدل له بأن الصوم هو الصبر لأن الصائم يصبر نفسه عن الشهوات، وقد قال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) (3) . قال المناوي: "وأنا أجزي به" إشارة إلى عظم الجزاء عليه وكثرة الثواب لأن الكريم إذا أخبر بأنه يعطي العطاء بلا واسطة اقتضى سرعة العطاء وشرفه" (4) .

_ (1) "فتح الباري" (ج4 /129-130) . (2) وهي الوجه الثاني في معنى الحديث عند ابن حجر في "الفتح" (4/130) . (3) "فتح الباري" (ج 4 /130) . (4) "فيض القدير" للمناوي (4/251) .

الفضيلة الخامسة: الصيام مناسب لصفة من صفات الحق

* قال ابن رجب الحنبلي: "يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشر امثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد بل يضاعفه الله عز وجل أضعافاً كثيرة بغير حصر عدد. فإن الصيام من الصبر وقد قال الله تعالى: (إنما يوفى الصابرون) الآية، ولهذا ورد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سمى رمضان شهر الصبر، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم نصف الصبر" والصبر على ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على الأقدار المؤلمة. وتجتمع الثلاثة في الصوم فإن فيه صبراً على طاعة الله، وصبراً عما حرّم الله على الصائم من الشهوات، وصبراً على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن، وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه كما قال الله تعالى في المجاهدين: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطأً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين) (1) . قال ابن حجر: "يأتي في غير ما حديث أن صوم اليوم بعشرة أيام المراد أن صيام اليوم الواحد يكتب بعشرة أيام، وأما مقدار ثواب ذلك فلا يعلمه إلا الله تعالى". ويؤيده أيضاً العرف المستفاد من قوله: "أنا أجزي به" لأن الكريم إذا قال: أنا أتولى الإعطاء بنفسي كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه". قال عز الدين بن عبد السلام: "أنا أجزي به" معناه تعظيم جزائه بأنه هو المتولي لإسدائه، وإن كان هو المجازي على الطاعات" (2) . الفضيلة الخامسة: الصيام مناسب لصفة من صفات الحق الله هو الغني، وهو القيوم، وهو الصمد.

_ (1) "لطائف المعارف" لابن رجب (ص 168) . (2) "فوائد الصوم" لعز الدين بن عبد السلام (ص 23) تحقيق عبد الله نذير - دار ابن حزم.

الفضيلة السادسة جميع العبادات توفى منها مظالم العباد إلا الصيام

والصمد هو الذي لا يحتاج إلى الطعام والشراب. قال الحافظ: "والاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب جل جلاله، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه. وقال القرطبي: إن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفات الحق، كأنه يقول: إن الصائم يتقرب إلي بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي" (1) . وكذلك المعنى بالنسبة إلى الملائكة لأن ذلك من صفاتهم. الفضيلة السادسة جميع العبادات توفى منها مظالم العباد إلا الصيام في رواية للبخاري: "عن ربكم قال: لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا أجزي به" (2) ومعناها أن لكل عمل من المعاصي كفارة من الطاعات. ورواه أحمد عن أبي هريرة رفعه "كل العمل كفارة إلا الصوم، الصوم لي وأنا أجزي به" ورواه أبو داود الطيالسي: "قال ربكم تبارك وتعالى: كل العمل كفارة إلا الصوم" قال ابن رجب: "الاستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال، ومن أحسن ما قيل في ذلك ما قاله سفيان بن عيينة قال: هذا من أجود الأحاديث وأحكمها: "إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة" خرَّجه البيهقي في "شعب الإيمان" وغيره وعلى هذا فيكون المعنى: أن الصيام لله عز وجل فلا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصيام لله عز وجل بل أجره مدخر لصاحبه عند الله عز وجل، وحينئذ فقد يقال: إن سائر الأعمال قد يكفر بها ذنوب صاحبها فلا يبقى لها أجر فإنه روى "أنه يوازن يوم القيامة بين الحسنات والسيئات ويقص بعضها من بعض، فإن بقي من الحسنات حسنة دخل بها صاحبها إلى الجنة" قال سعيد بن جبير وغيره، وفيه حديث مرفوع خرّجه

_ (1) "فتح الباري" (4/130) . (2) أخرجها البخاري في التوحيد عن آدم عن شعبة.

الفضيلة السابعة الصوم كفارة للخطيئات

الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعاً فيحتمل أن يقال في الصوم: إنه لا يسقط ثوابه بمقاصة ولا غيرها بل يوفر أجره لصاحبه حتى يدخل الجنة فيوفى أجره فيها" (1) . يقول ابن حجر بعد ذكره لقول ابن عيينة: "قال القرطبي: قد كنت استحسنت هذا الجواب إلى أن فكرت في حديث المقاصة فوجدت فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال حيث قال: "المفُلس الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا" الحديث وفيه "فيؤخذ لهذا من حسناته ولهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئاته فطرحت عليه، ثم طرح في النار" فظاهره أن الصيام مشترك مع بقية الأعمال في ذلك، قلت: إن ثبت قول ابن عيينة أمكن تخصيص الصيام من ذلك". ثم قال: "والاستثناء المذكور يشهد لما ذهب إليه ابن عيينة، لكنه وإن كان صحيح السند فإنه يعارضه حديث حذيفة "فتنة الرجل في أهله وماله وولده يكفرها الصلاة والصيام والصدقة". وقال بعدها ابن حجر: "فقد لا يعارض الحديث وهو كون الأعمال كفارة إلا الصوم لأنه يحمل في الإثبات على كفارة شيء مخصوص، وفي النفي على كفارة شيء آخر. وعلى هذا فقوله: "كل العمل كفارة إلا الصيام" يحتمل أن يكون المراد إلا الصيام فإنه كفارة وزيادة على ثواب الكفارة، ويكون المراد بالصيام الذي هذا شأنه ما وقع خالصاً سالماً من الرياء والشوائب والله أعلم" (2) . الفضيلة السابعة الصوم كفارة للخطيئات قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام، والصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (3) .

_ (1) "لطائف المعارف" لابن رجب (ص 168، 170) . (2) "فتح الباري" (4/131، 133) . (3) رواه البخاري ومسلم، والترمذي، وابن ماجة عن حذيفة.

قال المناوي: "فتنة الرجل: أي ضلاله ومعصيته أو ما يعرض له من الشر ويدخل عليه من المكروه في أهله مما يعرض له معهم من نحو هّم وحزن، أو شغل بهم عن كثير من الخير وتفريطه فيما يلزمه من القيام بحقهم وتأديبهم وتعليمه و (ماله) بأن يأخذه من غير حله ويصرفه في غير حله ووجهه أو بأن يشغله لفرط محبته له عن كثير من الخيرات. وفتنته في (نفسه) بالركون إلى شهواتها ونحو ذلك، وفتنته في (ولده) بفرط محبته والشغل به عن المطلوبات الشرعية، وفي (جاره) بنحو حسد وفخر ومزاحمة في حق وإهمال في تعهد. ونبه بالأربع على ما سواها. (يكفرها) أي الفتنة المتصلة بما ذكر (الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) لأن الحسنات يذهبن السيئات، ونبه به على ما عداها، فنبه بالصلاة والصوم على العبادة الفعلية، وبالصدقة على المالية، وبالأمر والنهي على القولية، فهي أصول المكفرات والمراد الصغائر فقط. ويحتمل أن يكون كل واحد من الصلاة وما بعدها يكفر المذكورات كلها لا كل واحد منها! وخص الرجل لأنه غالباً صاحب الحكم في داره وأهله، وإلا فالنساء شقائق الرجال في الحكم" (1) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (2) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوم يوم عرفة كفارة السنة الماضية والسنة المستقبلة" (3) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام يوم عرفة، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده، وصيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" (4) .

_ (1) "فيض القدر" (4/423) . (2) رواه البخاري ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة، وأحمد. (3) صحيح: رواه الطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3805) . (4) رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة عن أبي قتادة.

الفضيلة الثامنة تشريف الله والملائكة له بالصلاة عليه

قال المناوي: "أي أرجو منه. قال ابن الأثير: الاحتساب على الله البدار إلى طلب الأجر وتحصيله باستعمال أنواع البر. قال الطيبي: وكان القياس: أرجو من الله فوضع محله أحتسب وعدّاه بعلى التي للوجوب على سبيل الوعد مبالغة في تحقق حصوله. (يكفر السنة التي قبله) : يعني الصغائر المكتسبة فيها. (والسنة التي بعده) بمعنى أنه تعالى يحفظه أن يذنب فيها، أو يعطى من الثواب ما يكون كفارة لذنوبها، أو يكفرها حقيقة ولو وقع فيها ويكون المكفِّر مقدماً على المكفَّر. قال صاحب العدة: وذا لا يوجد مثله في شيء من العبادات" (1) . الفضيلة الثامنة تشريف الله والملائكة له بالصلاة عليه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" (2) . وعن عبد الله بن عمرو موقوفاً: "الصائم إذا أكل عنده صلت عليه الملائكة" (3) . فإنْ كان الله وملائكته يصلون على المتسحرين، والسحور عون على الصيام فما ظنك بالصيام؟ فأكرم بها من عبادة يصلي الله عليك بها والملأ الأعلى. يا هذا: تبيع صلاة الله والملائكة بشبع وتخمة، ولا تصوم عن لقمة!! "إنما يريد العاقل أن يأكل ليحيا لا أن يحيا ليأكل". وإن خير المطاعم ما استُخدِمت، وإن شرها ما خُدمت، وهل عالج الحجامة وفصد الفصاد إلا خارج عن حد الاقتصاد" (4) .

_ (1) "فيض القدير" (4/23) . (2) حسن: رواه ابن حبان في "صحيحه"، والطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم في "الحلية" عن ابن عمر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1844) ، والصحيحة رقم (1654) . (3) إسناده صحيح على شرط الشيخين، وهو موقوف له حكم الرفع، قاله الألباني في "الضعيفة" (3/502-503) ، وأخرجه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وابن المبارك. (4) "مقامات ابن الجوزي" (ص 91) .

الفضيلة التاسعة الصيام جنة من النار

الفضيلة التاسعة الصيام جنة من النار * قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم جُنَّة من عذاب الله" (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الصوم جُنَّة يستجن بها العبد من النار" (2) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام جُنَّة من النار، كجنة أحدكم من القتال" (3) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام جُنَّة وحصن حصين من النار" (4) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قال الله تعالى: الصيام جنة يستجن بها العبد من النار، وهو لي وأنا أجزي به" (5) . قال المناوي: "وقاية في الدنيا من المعاصي بكسر الشهوة وحفظ الجوارح وفي الآخرة من النار". وقال: "الصوم جنة من عذاب الله فليس للنار عليه سبيل كما لا سبيل لها على مواضع الوضوء لأن الصوم يغمر البدن كله فهو جنة لجميعه برحمة الله من النار" (6) . قال ابن عبد البر: حسبك بهذا فضلاً للصائم.

_ (1) صحيح: رواه البيهقي في شعب الإيمان عن عثمان بن أبي العاص، ورواه أحمد والنسائي، وابن ماجة وابن خزيمة، وابن حبان، وصححه السيوطي والألباني في "صحيح الجامع" برقم (3867) . (2) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" عن عثمان بن أبي العاص، ورواه أحمد، النسائي, وابن ماجة، وابن خزيمة، وابن حبان، وقال الهيثمي سنده حسن، وصححه السيوطي والألباني في "صحيح الجامع" رقم (3868) . (3) صحيح: رواه أحمد في "مسنده"، والنسائي، وابن ماجة عن عثمان بن أبي العاص، ورواه ابن عبد البر، وابن حبان، وابن خزيمة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (3879) . (4) حسن: رواه أحمد، والبيهقي في "شعب الإيمان"، عن أبي هريرة وصححه السيوطى، وقال المناوي في "فيض القدير" (4/250) "قال الهيثمي: هو في الصحيح خلا قوله وحصن إلخ وسنده حسن" وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3880) . (5) حسن: رواه أحمد، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن جابر وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4308) . (6) "فيض القدير" (4/242، 250) .

* وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام جنة، وهو حصن من حصون المؤمن، وكل عمل لصاحبه إلا الصيام، يقول الله: الصيام لي، وأنا أجزي به" (1) . قال المناوي: "أجزي به صاحبه جزاء كثيراً، وأتولى الجزاء عليه بنفسي فلا أكله إلى ملك مقرب ولا غيره لأنه سرّ بيني وبين عبدي، لأنه لما كف نفسه عن شهواتها جوزي بتولي الله سبحانه إحسانه" (2) . الصوم في سبيل الله يباعد من النار: قال ابن الجوزي: "إذا أطلق ذكر سبيل الله، فالمراد به الجهاد". وقال القرطبي: سبيل الله: طاعة الله، فالمراد من صام قاصداً وجه الله. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون ما هو أعم من ذلك. وقال ابن دقيق العيد: العرف الأكثر استعماله في الجهاد، فإنْ حُمل عليه كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين، ويحتمل أن يراد بسبيل الله طاعته كيف كانت والأول أقرب ومن لم يضعفه الصوم عن الجهاد فالصوم في حقه أفضل ليجمع بين الفضيلتين. * وقال ملا عليّ القاريء في "مرقات المفاتيح" (4/302) : في سبيل الله: أي في الجهاد أو في طريق الحج أو العمرة أو طلب العلم أو ابتغاء مرضاة الله". * وقال المناوي في "فيض القدير" (6/161) في سبيل الله أي لله ولوجهه أو في الغزو أو الحج. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام المرء في سبيل الله يبعده من جهنم مسيرة سبعين عاماً" (3) .

_ (1) حسن: رواه الطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة، وكذا رواه عنه الديلمي، وقال المناوي (4/250) : قال الهيثمي: سنده حسن، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3881) . (2) "فيض القدير" (4/250) . (3) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3847) .

* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله منه جهنم مسيرة مائة عام" (1) . * وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام يوماً في سبيل الله بعدت منه النار مسيرة مائة عام" (2) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله منه جهنم سبعين عاماً" (3) . * وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يصوم يوماً عبد في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً" (4) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفاً" (5) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً" (6) . * قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام يوماً في سبيل الله بَعَد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" (7) . قال المناوي (6/161) : "أي نجاه منها أو عجل إخراجه منها قبل أوان الاستحقاق، عبر عنه بطريق التمثيل ليكون أبلغ لأن من كان مبعداً عن عدوه بهذا القدر لا يصل إليه ألبتة". (سبعين خريفاً) : سنة أي نحّاه وباعده منها مسافة تقطع في سبعين سنة إذ كل ما مرّ خريف انقضت سنة، فهو من إطلاق اسم البعض على الكل، وذكر الخريف من ذكر الجزء وإرادة الكل، وخصه دون غيره من الفصول لأنه وقت بلوغ الثمار وحصول سعة

_ (1) حسن: رواه النسائي عن عقبة بن عامر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6330) . (2) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" عن عمرو بن عبسة بإسناد لا بأس به قاله المنذري، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/414) . (3) صحيح: رواه النسائي عن أبي سعيد، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (6331) . (4) صحيح: رواه ابن خزيمة في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري. (5) صحيح: رواه النسائي وابن ماجة، عن أبي سعيد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6329) . (6) رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي عن أبي سعيد. (7) رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي والنسائي عن أبي سعيد.

الفضيلة العاشرة الصوم في الصيف يورث السقيا يوم العطش

العيش، وذلك لأنه تحمّل مشقة الصوم ومشقة الغزو فاستحق هذا التشريف". * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام يوماً في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفاً" (1) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض" (2) . أخي: إذا كانت أعزّ أمنية لآخر أهل النار خروجاً منها -وهو من يخرج منها حبواً- صرف وجهه عن النار قبل الجنة لا يسأل مولاه غير ذلك، فكيف إذا باعد الله وجهه وجعل بينه وبين النار خندقاً مسافة خمسمائة عام هذا بصيام يوم واحد نفلاً، فما ظنك بصيام شهر رمضان وهو الفريضة؟! الفضيلة العاشرة الصوم في الصيف يورث السقيا يوم العطش عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا موسى على سرية في البحر، فبينما هم كذلك، قد رفعوا الشراع (3) في ليلة مظلمة، إذا هاتف (4) فوقهم يهتف: يا أهل السفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه، فقال أبو موسى: أخبرنا إن كنت مخبراً، قال: إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف، سقاه الله يوم العطش (5) . * وعن أبي موسى بنحوه إلَّا أنه قال فيه. قال: "إن الله قضى على نفسه أنّ من عطّش

_ (1) صحيح: رواه أحمد، والترمذي والنسائي، وابن ماجة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6334) . (2) صحيح: رواه الترمذي عن أبي أمامة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6333) ، و"السلسلة الصحيحة" رقم (563) ، و"صحيح الترغيب" (891) . (3) الشراع هو قلع السفينة التي بصفقه الريح فتمشي. (4) في المصباح "وهتف به هاتف سمع صوته ولم ير شخصه". (5) حسن: قال المنذري: رواه البزار بإسناد حسن إن شاء الله، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/412) .

الفضيلة الحادية عشر الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة

نفسه لله في يوم حار كان حقّا على الله أن يُرويه يوم القيامة". قال: فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر الذي يكاد الإنسان ينسلخ فيه حرّاً فيصومه (1) . صيام نهار الصيف من خصال الإيمان لطول نهار الصيف وشدة حره. قال ابن رجب: "عن بعض السلف قال: بلغنا أنه يوضع للصوّام مائدة يأكلون عليها والناس في الحساب فيقولون: يا رب نحن نحاسب وهم يأكلون، فيقال: إنهم طالما صاموا وأفطرتم وقاموا ونمتم". وما بكى العباد على شيء عند موتهم إلا على ما يفوتهم من ظمأ الهواجر. قال معاذ بن جبل عند موته: "مرحباً بالموت، زائر مغب، حبيب جاء على فاقة، اللَّهم كنت أخافك فأنا اليوم أرجوك، اللَّهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لطول البقاء فيها لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر" (2) . الفضيلة الحادية عشر الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة * قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة" (3) . يا أخي: قال عمر بن الخطاب: "الشتاء غنيمة العابدين" (4) .

_ (1) حسن: حسّنه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/412) . (2) "الثبات عند الممات" لابن الجوزي (ص 119) ، "الزهد" للإمام أحمد (ص 180) ، "حلية الأولياء" (1/239) . (3) حسن: رواه أحمد في مسنده، وأبو يعلى في مسنده، والبيهقي في "السنن الكبرى" عن عامر بن مسعود، ورواه الطبراني في الأوسط، وابن عدي في "الكامل"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس، وابن عدي والبيهقي فى "شعب الإيمان" عن جابر، ورواه ابن أبي شيبة، والضياء عن عامر، وأشار السيوطي إلى حسنه، وحسّنه الألباني في "صحيح الجامع رقم (3868) . وصح وقفه على أبي هريرة كما في "زوائد الزهد" لعبد الله بن أحمد وعنه أبو نعيم وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وقال البيهقي: هذا موقوف، وقال السخاوي: "وهو أصح". (4) موقوف على عمر بن الخطاب وهو صحيح: رواه أحمد في "الزهد"، وابن أبي شيبة، وأبو نعيم في "الحلية" عن أبي عثمان النهدي، عن عمر: وإسناده صحيح على شرطهما.

قال الحسن: نعم زمان المؤمن الشتاء: ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه. وقال قتادة: إن الملائكة تفرح بالشتاء للمؤمن يقصر النهار فيصومه ويطول الليل فيقومه. وكان عبيد بن عمير الليثي إذا جاء الشتاء يقول: "يا أهل القرآن، قد طال الليل لصلاتكم، وقصر النهار لصومكم". يا أخي: الشتاء ربيع المؤمن. قال ابن رجب: "لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه كما ترتع البهائم في مرعى الربيع فتسمن وتصلح أجسادها، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسّر الله فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة تحصل له من جوع ولا عطش فإن نهاره قصير بارد فلا يحس فيه بمشقة الصيام" (1) . قال المناوي: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة" أي الغنيمة التي تحصل بغير مشقة والعرب تستعمل البارد في شيء ذي راحة، والبرد ضد الحرارة لأن الحرارة غالبة في بلادهم فإذا وجدوا برداً عدّوه راحة، وقيل الباردة: الثابتة من برد لي على فلان كذا أي ثبت، أو الطيبة من برد الهواء إذا طاب، والأصل في وقوع البرد عبارة عن الطيب وأيضاً فإن الهواء والماء لما كان طيبها ببردهما سيما في بلاد تهامة والحجاز قيل هواء بارد وماء بارد على سبيل الاستطابة ثم كثر حتى قيل: عيش بارد وغنيمة باردة ذكره الزمخشري. قال الطيبي: والتركيب من قلب التشبيه لأن الأصل الصوم في الشتاء كالغنيمة الباردة وفيه من المبالغة أن الأصل في التشبيه أن يلحق الناقص بالكامل كما يقال زيد كالأسد فإذا عكس وقيل الأسد يجعل الأصل كالفرع والفرع كالأصل يبلغ التشبيه إلى الدرجة القصوى في المبالغة ومعناه الصائم في الشتاء يحوز الأجر من غير أن تمسه مشقة الجوع" (2) . فبادر أخي إلى صيام الشتاء تحصّل الغنائم وتكن من السعداء.

_ (1) "لطائف المعارف" (ص 341) . (2) "فيض القدير" (4/243) .

الفضيلة الثانية عشر نداء الريان لعاشر الصوام

الفضيلة الثانية عشر نداء الريان لعاشر الصوام * "في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون" (1) . * عن سهل بن سعد (رضي الله عنه) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن في الجنة باباً يقال له (الريَّان) ، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق، فلم يدخل منه أحد" (2) . وزاد الترمذي: "ومن دخله لم يظمأ أبداً" * وعند ابن خزيمة قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "للصائمين باب في الجنة يقال له الريَّان، لا يدخل (فيه) منه أحد غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق، ومن دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً" * عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من أبواب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريّان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة"، فقال أبو بكر (رضي الله عنه) : بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: "نعم وأرجو أن تكون منهم" (3) . * ذكر ابن حبان: أن كل طاعة لها من الجنة أبواب يدعى أهلها منها إلا الصيام، فإن له باباً واحداً. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة، وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من أبواب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من أبواب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من أبواب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان". فقال أبو بكر: يا رسول الله ما على أحد من ضرورة من

_ (1) رواه البخاري عن سهل بن سعد. (2) رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي. (3) رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.

أيها دُعي، فهل يدعى أحد منها كلها يا رسول الله؟ قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم" (1) . قال أبو حاتم: "عسى" من الله واجب، و"أرجو" من النبي حق. * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "في الجنة باب يقال له الريان أعد للصائمين، فإذا دخل آخراهم أغلق" "إن في الجنة باباً". قال الزين بن المنير: إنما قال في الجنة ولم يقل للجنة ليشعر بأن في الباب المذكور من النعيم والراحة ما في الجنة فيكون أبلغ في التشوق إليه. "فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد" كرر نفي دخول غيرهم منه تأكيداً. قال عز الدين بن عبد السلام: "أما تخصيص دخولهم الجنة بباب الريّان فإنهم ميزوا بذلك الباب لتميز عبادتهم وشرفها" (2) . قال ابن حجر عن الريان: "وقعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه، لأنه مشتق من الري وهو مناسب لحال الصائمين". قال القرطبي: "اكتفى بذكر الري عن الشبع لأنه يدل عليه من حيث أنه يستلزمه، قلت: أو لكونه أشق على الصائم من الجوع" (3) . قال القاري: "الريان" إما لأنه بنفسه ريَّان لكثرة الأنهار الجارية إليه، والأزهار والثمار الطريدة لديه، أو لأن من وصل إليه يزول عنه عطش يوم القيامة، ويدوم له الطراوة والنظافة في دار المقامة. قال الزركشي: الريان فعلان كثير الري نقيض العطش سمي به لأنه جزاء للصائمين على عطشهم وجوعهم. ليس المراد به المقتصر على شهر رمضان بل ملازمة النوافل من ذلك وكثرتها" (4) .

_ (1) إسناده صحيح: أخرجه ابن حبان في "صحيحه" وابن أبي شيبة. (2) "فوائد الصوم" لعز الدين بن عبد السلام. (3) "فتح الباري" (4/134) . (4) "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (4/230) .

الفضيلة الثالثة عشر الصوم سبيل إلى الجنات

قال المناوي في "فيض القدير" (2/464) : "ولا يناقضه أن المتشهد عقب الوضوء تفتح له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء لجواز أن يصرف الله مشيئة ذلك المتشهد عن دخول باب الريان إن لم يكن من مكثري الصوم". الريَّان: مسمى الباب يبعث على الراحة. انظر يا أخي كيف قابل الله ظمأهم وعطشهم بباب مسماه يبعث على الراحة فما ظنك بالداخل وريّه. الفضيلة الثالثة عشر الصوم سبيل إلى الجنات قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ... ... ... ... (1) . قال المناوي: "أي من ختم عمره بصيام يوم بأن مات وهو صائم أو بعد فطره من صومه دخل الجنة مع السابقين الأولين، أو من غير سبق عذاب" (2) . وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أسندت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى صدري فقال: "من قال لا إله إلا الله خُتم له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله خُتم له بها دخل الجنة، ومن تصدّق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة" (3) . ورواه الأصبهاني ولفظه: "يا حذيفة من ختم له بصيام يوم يريد به وجه الله عز وجل أدخله الله الجنة" * قال ابن خزيمة: "إيجاب الله عز وجل الجنة للصائم يوماً واحداً إذا جمع مع صومه صدقة، وشهود جنازة وعيادة مريض". عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟ " فقال أبو بكر: أنا، فقال: "من أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ " قال أبو بكر: أنا،

_ (1) صحيح: رواه البزار عن حذيفة ورواه أحمد، وابن شاهين، وابن بشران، وأبو نعيم، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6224) . (2) "فيض القدير" (6/123) . (3) صحيح: قال المنذري: رواه أحمد بإسناد لا بأس به، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/412) .

فقال: "من تبع منكم اليوم جنازة؟ " فقال أبو بكر: أنا، قال: "من عاد منكم اليوم مريضاً؟ " قال أبو بكر: أنا". فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما اجتمعت هذه الخصال قط في رجل إلا دخل الجنة" (1) قال ابن خزيمة: " هذه فضائل لهذه الأعمال لا كما يدعي من لا يفهم العلم ولا يحسنه" (2) . * وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها أعد الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام" (3) . وعند ابن خزيمة عن أبي معانق، أو أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن في الجنة لغرفة قد يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وألين الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام" (4) . الغرفات معدة للصائمين يا أخي، وما أدراك ما الغرفات؟ عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف في الجنة كما تراءون الكواكب في السماء" (5) . أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم" (6) .

_ (1) رواه ابن خزيمة ومسلم. (2) قاله ابن خزيمة في: "صحيحه" (3/304) . (3) حسن: رواه أحمد في "مسنده"، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، والترمذي عن عليّ، وقال الترمذي: غريب. قال المناوي: هو وإن ضعفه ابن عدي لكن أقام له شواهد يعتضد بها، وقال الألباني: حديث حسن، "صحيح الجامع" رقم (2119) ، و"تخريج المشكاة" (رقم 1235) . (4) إسناده حسن لغيره: رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وقال الألباني في التعليق على صحيح ابن خزيمة: إسناده حسن لغيره (3/306-307) . (5) رواه البخاري ومسلم وأحمد، عن سهل بن سعد. (6) رواه البخاري، ومسلم عن أبي سعيد، ورواه الترمذي عن أبي هريرة.

لبعدهم ورفعتهم وصفاء لونهم وخلوص نورهم. قال تعالى: (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية) قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين. من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله يرجو عنده عوض ذلك في الجنة ... من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً مما تركه. فكيف بمن قلصت شفاهه عطشاً؟! قال يعقوب بن يوسف الحنفي: بلغنا أن الله تعالى يقول لأوليائه يوم القيامة: يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينكم، وجفت بطونكم، كونوا اليوم في نعيمكم، وتعاطوا الكأس فيما بينكم. وقال الحسن: تقول الحوراء لوليّ الله وهو متكئ معها على نهر العسل تعاطيه الكأس: إن الله نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين وأنت في ظمأ هاجرة من جهد العطش فباهى بك الملائكة وقال: انظروا إلى عبدي ترك زوجته وشهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي رغبة فيما عندي اشهدوا أني قد غفرت له فغفر لك يومئذ وزوجنيك. * كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى وانقطع صوته فمات، فرآه بعض أصحابه الصالحين في المنام فسأله عن حاله فضحك وأنشد: قد كسى حلة البهاء وطافت ... بالأباريق حوله الخدام ثم حلى وقيل يا قاريء أرقه ... فلعمرك لقد براك الصيام ياما خبأنا للصائمين: أخي: من ترك لله في الدنيا طعاماً وشراباً وشهوة مدة يسيرة عوّضه الله عنده طعاماً وشراباً لا ينفد وأزواجاً لا يمتن أبداً" (1) . مهور الحور العين طول التهجد وكثرة الصيام.

_ (1) "لطائف المعارف" (177-178) .

"كان بعض الصالحين كثير التهجد والصيام فصلى ليلة في المسجد ودعا فغلبته عيناه فرأى في منامه جماعة علم أنهم ليسوا من الآدميين بأيديهم أطباق عليها أرغفة بياض الثلج فوق كل رغيف در كأمثال الرمَّان فقالوا: كل، فقال: إني أريد الصوم، قالوا له: يأمرك صاحب هذا البيت أن تأكل، قال: فأكلت وجعلت آخذ ذلك الدر لاحتمله فقالوا له: دعه نغرسه لك شجراً ينبت لك خيراً من هذا، قال: أين؟ قالوا: في دار لا تخرب، وثمر لا يتغير، وملك لا ينقطع، وثياب لا تبلى، فيها رضوى، وعيناً، وقرة أعين، أزواج رضيات، مرضيات راضيات لا يغرن ولا يغرن فعليك بالانكماش فيما أنت، فإنما هي غفوة حتى ترتحل فتنزل الدار فما مكث بعد هذه الرؤيا إلا جمعتين حتى توفي، فرآه ليلة وفاته في المنام بعض أصحابه الذين حدّثهم برؤياه وهو يقول: لا تعجب من شجر غرس لي في يوم حدثتك، وقد حمل، فقال له: ما حمل؟ قال: لا تسأل لا يقدر أحد على صفته لم ير مثل الكريم إذا حلَّ به مطيع" (1) . يا قوم ألا خاطب في الصوم إلى الرحمن، ألا راغب فيما أعده الله للطائعين في الجنان، ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم مع أنه ليس الخبر كالعيان. من يرد ملك الجنان ... فيلدع عنه التواني وليقم في ظلمة الليـ ... ـل إلى نور القرآن وليصل صوماً بصوم ... إن هذا العيش فاني إنما العيش جوار الله في دار الأمان * أخي أتطلب الحور العين ولا تصوم، وتنام! أتطلب مثلي وعني تنام ... ونور المحبين عنا حرام لأنا خلقنا لكل امرئ ... كثير الصلاة براه الصيام

_ (1) "لطائف المعارف" (ص 178) .

الفضيلة الرابعة عشر شفاعة الصيام يوم القيامة لصاحبه

الفضيلة الرابعة عشر شفاعة الصيام يوم القيامة لصاحبه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي إني منعته الطعام والشهوة، فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل، فشفعني فيه، قال: فُيشَفَّعَان" (1) . قال الألباني: "أي يشفعهما الله فيه ويدخله الجنة". قال المناوي: "وهذا القول يحتمل أنه حقيقة بأن يجسد ثوابهما ويخلق الله فيه النطق (والله على كل شيء قدير) ويحتمل أنه على ضرب من المجاز والتمثيل". قلت: "والأول هو الصواب الذي ينبغي الجزم به هنا وفي أمثاله من الأحاديث التي فيها تجسيد الأعمال ونحوها كمثل تجسيد الكنز شجاعاً أقرع، ونحوه كثير. وتأويل مثل هذه النصوص ليس من طريقة السَلف رضي الله عنهم، بل هو طريقة المعتزلة ومن سلك سبيلهم من الخلف، وذلك مما ينافي أول شروط الإيمان (الذين يؤمنون بالغيب) فحذار أن تحذو حذوهم، فتضل وتشقى، والعياذ بالله تعالى (2) . الفضيلة الخامسة عشر دعوة الصائم لا ترد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر" (3) .

_ (1) صحيح: رواه أحمد في "مسنده"، والطبراني في "الكبير"، ورجاله محتج بهم في الصحيح، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الجوع" وغيره بإسناد حسن، ورواه الحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/411) . (2) تعليق الألباني على "صحيح الترغيب والترهيب" (1/411) . (3) صحيح: رواه العقيلي في "الضعفاء"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي هريرة، ورواه ابن ماسي وابن عساكر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3030) .

الفضيلة السادسة عشر الصيام شعار الأبرار

* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر" (1) . وعند البيهقي: "دعوة الوالد، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر" * وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم" (2) . فأعظم به من دعاء تنطق به شفاة ذابلة من الصيام يصعد إلى السموات فما يرده -بكرمه- الرحمن. الفضيلة السادسة عشر الصيام شعار الأبرار قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "جعل الله عليكم صلاة قوم أبرار، يقومون الليل ويصومون النهار، ليسوا بأئمة ولا فجار" (3) . قال المناوي (3/348) : "والظاهر أن المراد بالصلاة هنا الدعاء من قبيل دعائه لقوم أفطر عندهم قوله "صلت عليكم الملائكة". فانظر إلى شعار الأبرار كما وصفهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قيامهم بالليل وصيامهم بالنهار، والأبرار سادات المتقين. الفضيلة السابعة عشر للصائم فرحتان قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "للصائم فرحتان، فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه" (4) .

_ (1) حسن: رواه أبو الحسن بن مهرويه في "الثلاثيات"، والضياء عن أنس، والألباني في "صحيح الجامع" رقم (3032) . (2) حسن: أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده"، والطيالسي، والبيهقي، وابن أبي شيبة، والترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن، وقال ابن حجر في "أمالي الأذكار" هذا حديث حسن، وأخرجه البزار في "مسنده" قال محقق "الإحسان في تقريب ابن حبان" (8/215) . (3) صحيح: رواه عبد بن حميد، والضياء عن أنس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3097) . و"الصحيحة" (1810) . (4) صحيح: رواه الترمذي عن أبي هريرة، ورواه أحمد في "مسنده"، مسلم وابن حبان.

وفي الحديث: "وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه". وفي الحديث: ".. إن للصائم فرحتين: إذا أفطر فرح، وإذا لقي الله تعالى فجزاه فرج". قال العلامة ابن رجب: "أما فرحة الصائم عند فطره فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر فرحا بإباحة ما مُنعت منه خصوصاً عند اشتداد الحاجة إليه، فإن النفوس تفرح بذلك طبعاً فإن كان ذلك محبوباً لله كان محبوباً شرعاً، والصائم عند فطره كذلك، فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام تناول هذه الشهوات فقد أذن له فيها في ليل الصيام بل أحب منه المبادرة إلى تناولها في أول الليل وآخره فأحب عباده إليه أعجلهم فطراً، والله وملائكته يصلون على المتسحرين، فالصائم ترك شهواته لله بالنهار تقرباً إلى الله وطاعة له ويبادر إليها في الليل تقرباً إلى مولاه، وأكل وشرب وحمد الله فإنه يرجى له المغفرة أو بلوغ الرضوان بذلك، وفي الحديث: "إن الله ليرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها"، وربما استجيب دعاؤه عند ذلك، وإن نوى جمله وشربه تقوية بدنه على القيام والصيام كان مثاباً على ذلك. قال أبو العالية: الصائم في عبادة وإن كان نائماً على فراشه فكانت حفصة تقول: يا حبذا عبادة وأنا نائمة على فراشي فالصائم في ليله ونهاره في عبادة ويستجاب دعاؤه في صيامه وعند فطره فهو في نهاره صائم صابر وفي ليله طاعم شاكر. وفي الحديث الذي خرجه الترمذي وغيره: "الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر"، ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه لم يتوقف في معنى فرح الصائم عند فطره، فإنّ فطره على الوجه المشار إليه من فضله ورحمته فيدخل في قول الله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) . وأما فرحه عند لقاء ربه: فبما يجده عند الله من ثواب الصيام مدّخراً فيجده أحوج ما كان إليه كما قال تعالى: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجرا)

وقال تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً) وقال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) ، وقد تقدم قول ابن عيينة "إن ثواب الصيام لا يأخذه الغرماء في المظالم، بل يدخره الله عنده للصائم حتى يدخله به الجنة". وعن عيسى ابن مريم عليه السلام قال: "إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تضعون فيهما، فالأيام خزائن للناس ممتلئة بما خزنوه فيها من خير وشر، وفي يوم القيامة تفتح هذه الخزائن لأهلها، فالمتقون يجدون في خزائنهم العز والكرامة، والمذنبون يجدون في خزائنهم الحسرة والندامة. والصائمون على طبقتين: إحداهما: من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله يرجو عنده عوض ذلك فهذا قد تاجر الله وعامله والله تعالى يقول: "لا نضيع أجر من أحسن عملاً" ولا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح. والطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عمّا سوى الله فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته. أهل الخصوص من الصوام صومهم ... صون اللسان عن البهتان والكذب والعارفون وأهل الأنس صومهم ... صون القلوب عن الأغيار والحجب * العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر، هممهم أجل من ذلك. كبرت همة عبد ... طمعت في أن تراك من يصم عن المفطرات ... فصيامي عن سواك يا معشر التائبين: صوموا اليوم عن شهوات الهوى، لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل فإن معظم نهار الصيام قد ذهب وعيد اللقاء قد اقترب.

الفضيلة الثامنة عشر خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك

إن يوماً جامعاً شملى بهم ... ذاك عيدي ليس لي عيد سواه (1) الفضيلة الثامنة عشر خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، والصيام لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (2) . فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة. عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فهو لي وأنا أجزي به، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، للصائم فرحتان إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقى الله فرح بصومه" (3) . قال أبو حاتم: شعار المؤمنين في القيامة التحجيل بوضوئهم في الدنيا فرقاً بينهم وبين سائر الأمم، وشعارهم في القيامة بصومهم طِيبُ خلوفهم أطيب من ريح المسك ليعرفوا بين ذلك الجمع بذلك العمل، نسأل الله بركة ذلك اليوم. خلوف الصائم قد يكون أطيب من ريح المسك في الدنيا: عن أبي هريرة (رضى الله عنه) عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كل حسنة يعملها ابن آدم بعشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، يقول الله إلا الصوم، فهو لي وأنا أجزي به، يدع الطعام من أجلي، والشراب من أجلي، وشهوته من أجلي، وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم حين يخلف من الطعام أطيب عند الله من ريح المسك" (4) .

_ (1) "لطائف المعارف" (176-179) . (2) رواه ابن حبان واللفظ له وإسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه مسلم والنسائي. (3) إسناده صحيح: رواه ابن حبان واللفظ له، وابن خزيمة، وأحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي. (4) إسناده صحيح على شرط الشيخين: رواه ابن حبان في "صحيحه" واللفظ له، وابن أبي شيبة وأحمد ومسلم، وابن ماجة.

وفي الحديث في فضل هذه الأمة في رمضان: "وأما الثانية فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك" (1) . إن للطاعات يوم القيامة ريحاً تفوح، فرائحة الصيام فيها بين العبادات كالمسك. وهل هو في الدنيا أم في يوم القيامة؟ قال ابن حجر: "هذه المسألة إحدى المسائر التي تنازع فيها ابن عبد السلام، وابن الصلاح، فذهب ابن عبد السلام إلى أن ذلك في الآخرة كما في دم الشهيد واستدل بالرواية التي فيها "يوم القيامة"، وذهب ابن الصلاح إلى أن ذلك في الدنيا واستدل بما تقدم وأن جمهور العلماء ذهبوا إلى ذلك. ويؤخذ من قوله "أطيب من ريح المسك" أن الخلوف أعظم من دم الشهيد لأن دم الشهيد شبه ريحه بريح المسك، والخلوف وصف بأنه أطيب، ولا يلزم من ذلك أن يكون الصوم أفضل من الشهادة لما لا يخفى، ولعل سبب ذلك النظر إلى أصل كل منهما فإن أصل الخلوف طاهر وأصل الدم بخلافه، فكان ما أصله طاهر أطيب ريحاً (2) . يا هذا تأمل العبارة.. "فَضّل ما ينكره الناس من الصيام على أطيب ما يستلذ من جنسه" (3) . ليقاس عليه ما فوقه من آثار الصوم ونتائجه إن كان هذا حال الخلوف فكيف بأثر الإخلاص في الصوم. قال الحافظ ابن رجب "خلوف الفم: رائحة ما يتصاعد منه من الأبخرة لخلو المعدة من الطعام بالصيام، وهي رائحة مستكرهة في مشام الناس في الدنيا لكنها طيبة عند الله حيث كانت ناشئة عن طاعته وابتغاء مرضاته، كما أن دم الشهيد يجيء يوم القيامة يثغب دماً لونه لون الدم وريحه ريح المسك، وبهذا استدل من كره السواك للصائم أوْ لمْ يستحبه

_ (1) إسناده مقارب رواه البيهقي في "شعب الإيمان" من حديث جابر وقال المنذري إسناده مقارب، انظر "الفتح" (4/128) . (2) "فتح الباري" (4/128) . (3) "مرقاة المفاتيح" (4/222-223) .

من العلماء وأول من علمناه استدل بذلك عطاء بن أبي رباح، وروي عن أبي هريرة أنه استدل به لكن من وجه لا يثبت وفي المسألة خلاف مشهور بين العلماء وإنما كرهه من كرهه في آخر نهار الصوم لأنه وقت خلو المعدة وتصاعد الأبخرة. وهل يدخل وقت الكراهة بصلاة العصر؟ أو بزوال الشمس؟ أو بفعل صلاة الظهر في أول وقتها؟ على ثلاثة أقوال: والثالث هو المنصوص عند أحمد. وفي طيب ريح خلوف الصائم عند الله عز وجل معنيان: أحدهما: أن الصيام لماّ كان سراً بين العبد وبين ربه في الدنيا أظهره الله في الآخرة علانية للخلق ليشتهر بذلك أهل الصيام ويُعرفون بصيامهم بين الناس جزاءً لإخفائهم صيامهم في الدنيا. قال مكحول: يُروّح على أهل الجنة برائحة فيقولون: ربنا ما وجدنا ريحاً منذ دخلنا الجنة أطيب من هذا الريح فيقال: هذه رائحة أفواه الصوام. وقد تفح رائحة الصيام في الدنيا وتستنشق قبل الآخرة. وهو نوعان: أحدهما: ما يُدرك بالحواس الظاهرة، كان عبد الله بن غالب -الحداني- من العباد المجتهدين في الصلاة والصيام فلما دُفِن كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك فرؤي في المنام فسُئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره فقال: تلك رائحة التلاوة والظمأ. والنوع الثانيْ: ما تستنشقه الأرواح والقلوب فيوجب ذلك للصائمين المخلصين المودة والمحبة في قلوب المؤمنين. لماّ كان أمر المخلصين بصيامهم لمولاهم سرّاً بينه وبينهم أظهر الله سرّهم لعباده فصار علانية فصار هذا التجلي والإظهار جزاء لذلك الصون والإسرار، في الحديث "ما أسرّ أحد سريرة إلَّا ألبسه الله رداءها علانية". قال يوسف بن أسباط: أوحى الله إلى نبي من الأنبياء قل لقومك يخفون لي أعمالهم وعلي إظهارها لهم.

تذلل أرباب الهوى في الهوى عزّ ... وفقرهُم نحو الحبيب هو الكنزُ وسترهُم فيه السرائر شهرة ... وغير تلاف النفس فيه هو العجز والمعنى الثاني: أن من عبد الله وأطاعه وطلب رضاه في الدنيا بعمل فنشأ من عمله آثار مكروهة للنفوس في الدنيا فإن تلك الآثار غير مكروهة عند الله بل هي محبوبة له وطيبة عنده لكونها نشأت عن طاعته واتباع مرضاته فإخباره بذلك للعاملين في الدنيا فيه تطيب لقلوبهم لئلا يكره منهم ما وجد في الدنيا. كل شيء ناقص في عرف الناس في الدنيا حتى إذا انتسب إلى طاعة الله ورضاه فهو الكامل في الحقيقة، خلوف أفواه الصائمين له أطيب من ريح المسك، عُري المحرمين لزيارة ييته أجمل من لباس الحلل.... نوح المذنبين على أنفسهم من خشيته أفضل من التسبيح.... انكسار المخبتين لعظمته هو الجبر.... ذل الخائفين من سطوته هو العز.... تهتك المحبين في محبته أحسن من الستر.... بذل النفوس للقتل في سبيله هو الحياة.... جوع الصائمين لأجله هو الشبع.... عطشهم في طلب مرضاته هو الري.... نصب المجتهدين في خدمته هو الراحة. ذل الفتى في الحب مكرمةٌ ... وخضوعه لحبيبه شرف (1) قال المناوي (4/250) : "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" فإذا كان هذا بتغير ريح فمه فما ظنك بصلاته وقراءته وسائر عباداته. قال ابن جماعة: "وفيه أن خلوف فم الصائم أفضل من دم الجريح في سبيل الله لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الشهيد إن ريحه ريح المسك، وقال في خلوف الصائم أنه أطيب منه، ووجهه أن الجريح يظهر أمره للناس فربما دخله رياء، والصائم لا يعلم بصومه إلا الله، فلعدم دخول الرياء فيه صار أرفع". * قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهنّ، فكأنه أبطأ بهنّ، فأوحى الله إلى عيسى: إما أن يبلغهن، أو تبلغهن فأتاه

_ (1) "لطائف المعارف" (ص 179-182) .

عيسى فقال له: إنك أُمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن، فقال له: يا روُح الله إني أخشى أن سبقتني أن أُعذب أو يُخسف بي، فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: وأولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، فإنّ مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق، ثم أسكنه داراً، فقال له: اعمل وارفع إليِّ، فجعل العبد يعمل ويرفع إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. وأمركم بالصلاة، وإذا قمتم إلى الصلاة فلا تلتفتوا فإن الله عز وجل يقبل بوجهه على عبده ما لم يلتفت. وأمركم بالصيام، ومثل ذلك كمثل رجل معه صُرّة مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأمركم بالصدقة، ومثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فكّ نفسه. وأمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سِراعاً في أثره فأتى حصناً حصيناً فأحرز نفسه فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله. وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهنّ: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجعِ، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثاء جهنم، وإن صام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله" (1) .

_ (1) صحيح: رواه أحمد في مسنده، والبخاري في "التاريخ"، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم في "المستدرك" عن الحارث بن الحارث الأشعري، وصححه الحاكم والترمذي وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1724) ، ورواه أيضاً الآجري، والطيالسي.

الفضيلة التاسعة عشر الصوم جنة

الفضيلة التاسعة عشر الصوم جُنَّة قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم جُنَّة" (1) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم جنة" * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام جنة، وإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث (2) ، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، [يقول الله: يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها] " * وفي حديث جابر: "يا كعب بن عجرة، الصوم جنة، والصدقة تطفيء الخطيئة، والصلاة برهان -أو قال: قربان- يا كعب بن عُجْرة، الناس غاديان: فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها" (3) * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خصاء أمتي الصيام" رواه أحمد، والطبراني في "الكبير" عن ابن عمرو وصححه الألباني. * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" (4) . قال ابن حجر: "الجنة الوقاية والستر، وتبين بالروايات متعلق هذا الستر وأنه من النار، وبهذا جزم ابن عبد البر، وأما صاحب "النهاية" فقال: معنى كونه جنة أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات".

_ (1) صحيح: رواه النسائي عن معاذ وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3866) ، وقال العامري: صحيح. الجنة: بضم الجيم: كل ما ستر، ومنه (المجن) وهو الترس، وإنما كان الصوم جنة لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، قال ابن الأثير في "النهاية": معنى كونه جُنّة: أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات. (2) الرفث: الكلام القبيح، أو الجماع. (3) إسناده صحيح على شرط مسلم، رواه ابن حبان، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد، والحاكم في "المستدرك" وصحح إسناده ووافقه الذهبي. (4) الوجاء: رضّ أنثيي الفحل رضَاً شديداً يذهب شهوة الجماع ويتنزل في قمة منزلة الخصي، قال ابن الأثير: نزل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كسر الصوم للشهوة منزلة رض الأنثيين في حسم الشهوة.

وقال القرطبي: جنة أي سترة، يعني بحسب مشروعيته، فينبغي للصائم أن يصونه عن ما يفسده وينقص ثوابه، وإليه الإشارة بقوله: "فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث"، ويصح أن يراد أن ستره بحسب فائدة وهو إضعاف شهوات النفس، وإليه الإشارة بقوله "يدع شهوته"، ويصح أن يراد أنه سترة بحسب ما يحصل من الثواب وتضعيف الحسنات. وقال عياض في "الإكمال": معناه سترة من الآثام أو من النار أو من جميع ذلك، وبالأخير جزم النووي. وقال ابن العربي: إنما كان الصوم جنة من النار لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة باالشهوات. ولأحمد من حديث أبي عبيدة "الصيام جنة ما لم يخرقها". وفي زيادة أبي عبيدة بن الجراح إشارة إلى أن الغيبة تضر بالصيام، وقال الأوزاعي: إن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم، وأفرط ابن حزم فقال. يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه سواء كان فعلاً أو قولاً لعموم قوله فلا يرفث ولا يجهل، والجمهور خصوا الفطر بالأكل والشرب والجماع. وأشار ابن عبد البر إلى ترجيح الصيام على غيره من العبادات فقال: حسبك أن يكون الصيام جنة من النار. قال الشيخ عمر الأشقر: "الصيام جنة ووقاية يقي العبد الذنوب والمعاصي، والبغيض من الكلام والسيء من الفعال، وبذلك يتقي العبد النار". "والصيام حصن منيع، يحصن الإنسان من الشيطان وخطواته ويمنع صاحبه من أن ينزلق في الأقذار والأرجاس" (1) . قال القسطلاني في كلامه عن فضائل الصوم: "تهذيب النفس برياضتها وكسر شهواتها".

_ (1) "الصوم في ضوء الكتاب والسنة" (ص 10) .

الفضيلة العشرون قطع أسباب التعبد لغير الله

وقال: "تقليله لما يعرض من سلطان النزعات وشيطان التبعات". وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مسالكه بالجوع" (1) . قال المناوي في "فيض القدير" (4/242) : "الصوم وقاية في الدنيا من المعاصي بكسر الشهوة لأنه يقمع الهوى ويردع الشهوات التي هي من أسلحة الشيطان فإن الشبع مجلبة للآثام منقصة للإيمان ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "ما ملأ آدمي وعاء شرّاً من بطنه" فإذا ملأ بطنه انتكست بصيرته وتشوشت فكرته، وقد يقع في مداحض فيروغ عن الحق، وغلب عليه الكسل والنعاس فيمنعه عن وظائف العبادات، وقويت قوى بدنه، وكثرت المواد والفضول فينبعث غضبه وشهوته وتشتد مشقته لدفع ما زاد على ما يحتاجه بدنه فيوقعه ذلك في المحارم. قال بعض الأعلام: صوم العوام عن المفطرات، وصوم الخواص عن الغفلات، وصوم العوام جنة عن الإحراق، وصوم الخواص جنة لقلوبهم عن الحجب والافتراق". * قال القارئ في "مرقاة المفاتيح" (4/229) : "ثالث أركان الإسلام شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجباً لشيئين أحدهما ناشئ عن الآخر: سكون النفس الأمارة وكسر شهوتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج فإن به تضعف حركتها في محسوساتها، ولذا قيل إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلها، والناشيء عن هذا صفاء القلب عن الكدر، فإن الموجب لكدوراته فضول اللسان والعين وباقيهما، وبصفائه تناط المصالح والدرجات". الفضيلة العشرون قطع أسباب التعبد لغير الله اعلم يا أخي أن إلف الإنسان لطعامه وشرابه ونكاحه "متى طال أمده فإنه يعبد الإنسان لهواه وشهوته وينسيه الغاية التي خلقه الله من أجلها، والتي من أجلها أوجد الله له الطعام والشراب كي يستعين به على طاعة الله، فإذا أصبحت الأمور من طعام وشراب

_ (1) "مدارك المرام في مسالك الصيام" للقسطلاني (ص 75) . "فضيقوا مجاريه بالجوع: قال الألباني في التعليق على صحيح الجامع لا أصل لها خلافاً لمن وهم" كما ذكره في "صحيح الجامع" (1/341) .

الفضيلة الواحد والعشرون الصوم شكر للمنعم عالم الخفيات

ونكاح همّ العبد وشاغله، أسرته وأذلته وصار عبداً لها، وبذلك يتحقق فيه قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس، وإذا شِيكَ فلا انتقش" وما أحسن ما قاله العلامة المناوي في كتابه "فيض القدير" موضحاً لهذه الحكمة: "إنما شرع الصوم كسراً لشهوات النفوس، وقطعاً لأسباب الاسترقاق والتعبد للأشياء، فإنهم لو داوموا على أغراضهم لاستعبدتهم الأشياء، وقطعتهم عن الله، والصوم يقطع أسباب التعبد لغيره، ويورث الحرية من الرق للمشتهيات، لأن المراد من الحرية أن يملك الأشياء لا تملكه، فإذا ملكته فقد قلب الحكمة، وصير الفاضل مفضولاً والأعلى أسفلاً، (أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين) [الأعراف: 14] ، والهوى إله معبود، والصوم يورث قطع أسباب التعبد لعبده" انتهى (1) . الفضيلة الواحد والعشرون الصوم شكر للمنعم عالم الخفيات قال عز الدين بن عبد السلام: "وأما شكر عالم الخفيات: إذا صام عرف نعمة الله عليه في الشبع والريّ، فشكرها لذلك، فإن النعم لا تعرف مقدارها إلا بفقدها" (2) . وقال القسطلاني وهو يتحدث عن مقاصد الصوم وفضائله: "تكثيره لشكر النعم، واعترافه بما سبق له من نعمة الشبع عند جوعه وعطشه فيجتهد في الشكر فإن الشيء إنما يعرف ما كان عليه بضده" (3) كما قيل: ضدان لما استجمعا حَسُنا ... والضد يُظهر حسنه الضِّدُّ الفضيلة الثانية والعشرون توفير الطاعات وتحريض على المثوبات قال عز الدين بن عبد السلام: "وأما توفير الطاعات: فلأنه تذكر جوع أهل النار وظمأهم، فيحثه ذلك على تكثير الطاعات، لينجو بها من النار.

_ (1) "الصوم في ضوء الكتاب والسنة" للأشقر (ص 11-12) . (2) "فوائد الصوم" (ص 25) . (3) "مدارك المرام في مسالك الصيام" (ص 76) .

وأما الانزجار عن خواطر المعاصي والمخالفات: فلأن النفس إذا شبعت طمحت إلى المعاصي وتشوّفت إلى المخالفات، وإذا جاعت وظمئت تشوفت إلى المطعومات والمشروبات. وطموح النفس إلى المناجات واشتغالها بها خير من تشوفها إلى المعاصي والزلات، ولذلك قدّم بعض السلف الصوم على سائر العبادات، فسُئل عن ذلك؟ فقال: "لأن يطلع الله على نفسي وهي تنازعني إلى الطعام والشراب أحب إلي من أن يطلع عليها وهي تنازعني إلى معصيته إذا شبعت" (1) . قال القسطلاني في "فضائل الصوم": "زجره عن الخواطر الذميمة: الموقعة في المآثم المقيمة، إذا الجوع يكبح النفس بلجام الجفوة للهفوة الموجبة للغلظة والقسوة، والشبع مما يقودها إلى الطماح والجماح، ويذودها عن السعي في قص ما زاد من جناح الجناح، ويوقعها في الجرأة والفظاظة والانكباب على ارتكاب المناهي. والجوع يجسم مواد الفساد من هذه العلل ويقللها حتى يقتصر فكر الجائع على مأكول ومشروب يدفع به ما هو فيه؛ فتنصرف فكرته إلى المباح السالم من تعاطاه عن الأذى والإثم، فظهر أنه أولى من الشبع الذي يؤدي إلى المحرم أو المكروه، والله أعلم. ثم قال: "حثه على فعل الطاعات وتحريضه على تحصيل المثوبات: لأن المعدة إذا خلت من الأغذية ضعف من الجسد ما هو فيه من القوى النفسانية وقويت منه الروحانية، فأشرق في القلب نور القدس، ولاح في الروح ضياء القدس، وخشعت الجوارح لفعل القربات، ولانت الجلود لإتيانها بالطاعات؛ فأقبلت على خدمة الله تعالى بقلب منيب، وأعرضت عن عصيانه ومخالفته. التذكر لتعداد نعم الله في الدارين: إذ نعمته بلذاذة هذه العبادة عاجلاً بتذكر حال أهل النار آجلاً، ومآل أمرهم من الجوع والعطش كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله:

_ (1) "فوائد الصوم" (ص 25) .

الفضيلة الثالثة والعشرون تكثير الصدقات، والإحسان إلى ذوي الحاجات

(أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) فيحدوه ذلك على كثرة الشكر، والاجتهاد في الطاعة بالعمل والذكر والفكر" (1) . الفضيلة الثالثة والعشرون تكثير الصدقات، والإحسان إلى ذوي الحاجات قال عز الدين بن عبد السلام: "وأما تكثير الصدقات، فلأن الصائم إذا جاع تذكر ما عنده من الجوع، فيحثه ذلك على إطعام الجائع "فإنما يرحم العشّاق من عشقا"، وقد بلغنا أن سليمان أو يوسف عليهما السلام لا يأكل حتى يأكل جميع المتعلقين به، فسُئل عن ذلك؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع" (2) . قال القسطلاني: "إعانته على بذل الصدقات فإن الصائم يجوع؛ فيعرف قدر ألم الجوع، فيحرضه ذلك على حرصه في الإحسان إلى الجياع، ويحمله على تدبر ما هم فيه من ضرر العجز والانقطاع، وإنما يجد ذوق التعب مَنْ نازله، ويعرف قدر الضرر مَنْ واصله، وفي مثل ذلك قيل: لا يعرف الشوق إلا مَنْ يُكابِدُه ... ولا الصبابة إلَّا من يُعانيها (3) قال القاري في "مرقاة المفاتيح": "ومنها كونه موجباً للرحمة والعطف على المساكين فإنه لمّا ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا حاله في عموم الساعات فتسارع إلى الرقة عليه، والرحمة حقيقتها في حق الإنسان نوع ألم باطن فيسارع لدفعه عنه بالإحسان إليه فينال بذلك ما عند الله من حسن الجزاء ومنها موافقة الفقراء بتحمل ما يتحملون أحياناً وفي ذلك رفع حاله عند الله كما حكي عن بشر الحافي أنه دخل عليه رجل في الشتاء فوجده جالساً يرعد وثوبه معلق على المشجب، فقال له: في مثل هذا الوقت تنزع الثوب أو معناه، فقال: يا أخي الفقراء كثير، وليس لي طاقة مواساتهم بالثياب فأواسيهم بتحمل البرد كما يتحملون. انتهى.

_ (1) "مدارك المرام في مسالك الصيام" (ص 77-78) . (2) "فوائد الصيام" (ص 25) . (3) "مدارك المرام" (ص 76) .

ولهذا كان يقول بعض الأولياء العارفين عند كل أكلة: "اللهمَّ لا تؤاخذني بحق الجائعين"، وقد ثبت أن سيدنا يوسف عليه السلام ما كان يشبع من الطعام في سنة القحط مع كثرة المأكول عنده في ذلك العام لئلا ينسى أهل الجوع والفاقة وليتشبه بهم في الخاصة والحاجة" (1) . قال أحمد شوقي أمير الشعراء: "الصوم حرمان مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع، لكل فريضة حكمة، وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة، يستثير الشفقة، ويحض على الصدقة، ويسن خلال البر، حتى إذا جاع من ألف الشبع، وعرف المترف أسباب المتع، عرف الحرمان كيف يقع، وألم الجوع إذا لذع". يقول المنفلوطي: "فتّشت عن الفضيلة في قصور الأغنياء فرأيت الغني إما شحيحاً أو متلافا، أما الأول فلو كان جار البيت فاطمة رضي الله عنها وسمع في جوف الليل أنينها وأنين ولديْها من الجوع ما مدّ أصبعيه إلى أذنيه ثقة منه أن قلبه المتحجر لا تنفذه أشعة الرحمة، ولا تمر بين طياته نسمات الإحسان، وأما الثاني: فمالُه بين ثغر الحسناء، وثغر الصهباء، فعلى يد أي رجل من هذين الرجلين تدخل الفضيلة قصور الأغنياء" (2) . ويقول رحمه الله: "لو أعطى الغني الفقير ما فضل عن حاجته من الطعام ما شكا واحد منهما سُقماً ولا ألماً، لقد كان جديراً به أن يتناول من الطعام ما يشبع جوعته، ويُطفي غلته، ولكنه كان محباً لنفسه مغالياً بها فضمّ إلى مائدته ما اختلسه من صحفة الفقير فعاقبه الله على قسوته بالبِطنة حتى لا يَهنيءَ للظالم ظلمه ولا يطب له عيشه، وهكذا يصدق المثل القائل: بطنة الغني انتقام لجوع الفقير. ما ضنّت السماء بمائها، ولا شحّت الأرض بنباتها، ولكن حسد القوي الضعيف عليهما فزواهما عنه واحتجنهما (3) دونه فأصبح فقيراً معدماً، شاكياً متظلماً، غرماؤه المياسير الأغنياء لا الأرض والسماء".

_ (1) "مرقاة المفاتيح" (4/229) . (2) "أين الفضيلة" من كتاب النظرات (1/72) لمصطفى لطفي المنفلوطي نشر دار الآفاق الجديدة. (3) احتجن الشيء إذا جذبه بالمحجن إلى نفسه، والمحجن الصولجان والمراد أنه استأثر به.

ثم يقول يرحمه الله: "لا أستطيع أن أتصور أن الإنسان إنسان حتى أراه محسناً، لأني لا أعتمد فصلاً صحيحاً بين الإنسان والحيوان إلا الإحسان، وإني أرى الناس ثلاثة، رجل يحسن إلى غيره ليتخذ إحسانه إليه سبيلاً إلى الإحسان إلى نفسه، وهو المستبد الجبار الذي لا يفهم من الإحسان إلا أنه يستعبد الإنسان، ورجل يحسن إلى نفسه ولا يُحسن إلى غيره، وهو الشره المتكالب الذي لو علم أن الدم السائل يستحيل إلى ذهب جامد لذَبح في سبيله الناس جميعاً. ورجل لا يُحسن إلى نفسه ولا إلى غيره، وهو البخيل الأحمق الذي يجيع بطنه ليشبع صندوقه، أما الرابع الذي يحسن إلى غيره ويحسن إلى نفسه، فلا أعلم له مكاناً ولا أجد إليه سبيلاً، وأحسب أنه هو ذلك الذي كان يفتّش عنه الفيلسوف اليوناني ديوجين الكلبي حينما سئل ما يصنع بمصباحه وكان يدور به في بياض النهار، فقال: أفتش عن إنسان" (1) . يقول المنفلوطي رحمه الله في مقالة "الرحمة": "سأكون في هذه المرة شاعراً بلا قافية ولا بحر لأني أريد أن أخاطب القلب وجهاً لوجه ولا سبيل إلى ذلك إلا سبيل الشعر. إن البذور تلقى في الأرض فلا تنبت إلا إذا حرث الحارث تربتها وجعل عاليها سافلها، وكذلك القلب لا تبلغ منه العظة إلا إذا داخلته وتخللت أجزائه، وبلغت سويدائه، ولا محراث للقلب غير الشِعر، أيها الرجل السعيد كن رحيماً أَشعِر قلبك الرحمة، ليكن قلبُك الرحمةَ بعينها. ستقول إني غير سعيد لأن بين جنبيّ قلباً يُلم به من الهمّ ما يلم بغيره من القلوب، أجل فليكن ذلك كذلك، ولكن أطعم الجائع واكس العاري وعزّ المحزون، وفرّج كربة المكروب يكن لك من هذا المجتمع البائس خير عزاء يعزيك عن همومك وأحزانك، ولا تعجب أن يأتيك النور من سواد الحلك فالبدر لا يطلع إلا إذا شقّ رداء الليل، والفجر لا يَدْرُج إلا من مهد الظلام.

_ (1) "الغني والفقير" مقالة للمنفلوطي من كتاب النظرات (1/76-79) .

لقد بَليت اللذات كلها ورثت حبالها وأصبحت أثقل على النفس من الحديث المعاد ولم يبق ما يعزى الإنسان عنها إلا لذة واحدة هي لذة الإحسان. إن منظَر الشاكر منظر جميل جذاب ونغمة ثنائه وحمده أوقع في السمع وأعذب. أحسن إلى الفقراء والبائسين وأعدك وعداً صادقاً أنك ستمر في بعض لياليك على بعض الأحياء الخاملة فتسمع من يحدث جاره من حيث لا يعلم بمكانك منه أنك أكرم مخلوق وأشرف إنسان ثم يعقب الثناء عليك بالدعاء لك أن يجزيك الله خير بما فعلت فيدعو صاحبه بدعائه، ويرجو برجائه، وهنالك تجد من سرور النفس وحبورها بهذا الذكر الجميل في هذه الهيئة الخاملة ما يجده الصالحون إذا ذكروا في الملأ الأعلى. ليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزون أو مفؤود فنبتسم سروراً ببكائك، واغتباطً بدموعك، لأن الدموع التي تتحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطور من نور تسجل لك في تلك الصحيفة البيضاء أنك إنسان. إن السماء تبكي بدموع الغمام ويخفُق قلبها بلمعان البرق وتصرخ بهدير الرعد، وإن الأرض تئن بحفيف الريح وتضج بأمواج البحر، وما بكاءُ السماء ولا أنين الأرض إلا رحمة بالإنسان، ونحن أبناء الطيعة فلنجارها في بكائها وحنينها. إن اليد التي تصون الدموع أفضل من اليد التي تُريق الدماء، والتي تشرح الصدور أشرف من التي تبقَر البطون، فالمحسن أفضل من القائد، وأشرف من المجاهد، وكم بين من يحيي الميت ومن يميت الحي. إن الرحمة كلمة صغيرة ولكن بين لفظها ومعناها من الفرق مثل ما بين الشمس في منظَرها والشمس في حقيقتها. إذا وَجد الحكيم بين جوانح الإنسان ضالته من القلب الرحيم وجد المجتمع ضالته من السعادة والهناء. لو تراحم الناس لما كان بينهم جائع ولا عار ولا مغبون ولا مهضوم، ولأقفرت الجفون من المدامع، واطمأنت الجنوب في المضاجع، ولمحت الرحمةُ الشقاء من المجتمع كما يمحو لسان الصبح مداد الظلام.

لم يخلق الإنسان ليقتّر عليه رزقه ولم يقذف به في هذا المجتمع ليموت فيه جوعاً، بل أرادت حكمته أن يخلقه ويخلق له فوق بساط الأرض وتحت ظلال السماء ما يكفيه مؤونته، ويسد حاجته، ولكن سلبه الرحمة فبغى بعضه على بعض وغدر القوي بالضعيف واحتجن دونه رزقَه فتغير نظام القسمة العادلة وتشوه وجهها الجميل، ولو كان للرحمة سبيل إلى القلوب لما كان للشقاء إليها سبيل. الفرد هو المجتمع وإنما يتعدد بتعدد الصور، أتدري متى يكون الإنسان إنساناً؟ متى عرف هذه الحقيقة حق المعرفة وأشعرها نفسَ فخفق قلبه لخفقان القلوب وسكن لسكونها، فإذا انقطع ذلك السلك الكهربائي بينه وبينها انفرد عنها واستوحش من نفسه، وإذا كان الأنس مأخذَ الإنسان المجتمع، فالوحشة مأخذ الوحش المنقطع. وجِماع القول أنه لا يمكن أن تجتمع رحمة الرحماء وشقوة الأشقياء في مكان واحد إلا إذا أمكن أن يجتمع في بقعة واحدة الملَك الرحيم، والشيطان الرجيم. إن من الناس من تكون عنده المعونة الصالحة للبر والإحسان فلا يفعل، فإذا مشى مشى متدفعاً مندلثاً (1) لا يلوي على شيء مما حوله من المناظر المؤثرة المحزنة، وإذا وقع نظره على بائس لا يكون نصيبه منه إلا الإغراق في الضحك سخرية به وببذاذة ثوبه ودمامة خلقه، وإن من الناس من إذا عاشر الناس عاشرهم ليعرف كيف يحتلب دِرتهم (2) ويمتص دماءهم، ولا يعاملهم إلا كما يعامل شويهاته وبقراته، لا يقربها ولا يُطعمها ولا يَسقيها إلا لما يترقب من الربح في الاتجار بألبانها وأصوافها، ولو استطاع أن يهدم بيتاً ليربح حجراً لفعل، وإن من الناس من لا حديث له إلا الدينار وأين مستقره وكيف الطريق إليه وما السبيل إلى حبسه والوقوفِ في وجهه والحيطة لفراره، ويبيت ليله حزيناً كئيباً لأن خزانته ينقصها درهم كان يتخيل في يقظته أو يرى في منامه أنه سيأتيه فلم يُقيض له، وإن من الناس من يؤذي الناس لا يجلب بذلك لنفسه منفعة أو يدفع عنها مضرة بل لأنه شرير يدفعه طبعه إلى ما لا يعرف وجهه أو ليضرّي (3) نفسه بالأذى مخافة أن ينساه عند الحاجة

_ (1) اندلث في الأمر: اندفع فيه. (2) الدرة: اللبن إذا كثر وسال. (3) يقال: أضرى فلان كلبه بالصيد وضرّاه إذا أغراه به وعوّده متابعته.

الفضيلة الرابعة والعشرون رقة القلب وصيانة الجوارح

إليه، حتى لو لم يبق في العالَم شخص غيره لكانت نفسُه مدبَّ عقاربه وغرض سهامه، وإن من الناس من إذا كشف لك عن أنيابه رأيت الدم الأحمر يترقرق فيها أو عن أظافره رأيت تحتها مخالب حادة لا تسترها إلا الصورة البشرية أو عن قلبه رأيت حجراً صلداً من أحجار الغرانيت لا يبض (1) بقطرة من الرحمة، ولا تَخْلُص إليه نسمة من العظة. فيا أيها الإنسان احذر الحذر كله من أن تكون واحداً من هؤلاء فإنهم سباع مفترسة وذئاب ضارية، بل أعظك ألا تدنو من أحدهم أو تعترض طريقَه فربما بدا له أن يأكلك فأكلك غير حافل بك ولا آسف عليك. أيها الإنسان: ارحم الأرملة التي مات عنها زوجها ولم يترك لها غير صبية صغار، ودموع غزار، ارحمها قبل أن ينال منها ويعبث الهم بقلبها فتفضل الموت على الحياة. أيها السعداء، أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض ورحمكم من في السماء. الفضيلة الرابعة والعشرون رقة القلب وصيانة الجوارح مراد الله من الناس رقة قلوبهم وأكرم بها من نعمة. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير" (2) . يقول القسطلاني معدداً لثمرات الصوم: "رقة القلب وغزارة الدمع وذلك من أسباب السعادة فإن الشبع مما يذهب نور العرفان ويقضي بالقسوة والحرمان". ثم يقول في ثمرات الصوم أيضاً: "صيانة جوارحه عن استرسالها في المخالفات وهذا هو أعظم ثمرات الصوم، بل هو الأصل في تحقيق المعنى، فإن النفس إذا مسّها ألم الجوع ذلت وانقادت، وأذعنت، واشتغلت بما هي فيه عن امتداد أملها إلى الفِكَر الدنية، فتسكن جوارحها عن الحركات

_ (1) بضّ الدم: سال. (2) رواه مسلم، وأحمد، عن أبي هريرة.

الفضيلة الخامسة والعشرون الصيام فدية لبعض الأعمال

الردية، وتمتنع عن انتهاك المحارم المردية، والجوارح سبع: العين، والأذن، واللسان، والبطن، والفرج، واليد، والرجل، والنفس هي الممدِّة لهذه الجوارح، وهي الأصل عند الاعتبار، فإذا ضعف الأصل ضعف الفرع، وهذا هو سر الصوم، ولأجل ذلك قيل: إذا ما المرء صام عن الخطايا ... فكل شهوره شهر الصيام فإن قصّر في حفظها، أو حفظ شيء منها ربما أداه إلى الدخول إلى جهنم من سعة أبوابها، فإنه ما يستحق أحد جهنم إلا بعصيانه بأحد هذه الجوارح فمن رعاها في صيامه، أمّنه الله في الآخرة من انتقامه" (1) . الفضيلة الخامسة والعشرون الصيام فدية لبعض الأعمال، أو بدلا منها، أو كفارة لها من فضائل الصوم أن الله عز وجلَّ "جعله في شريعة الإسلام فدية لبعض الأعمال، أو بدلا عنها، أو كفارة لها" (2) ، وهذا ليس لأي عبادة إلا الصوم:- أولا: فقد جعل الله الصيام فدية لحلق شعر الرأس الذي هو من محظورات الإحرام في الحج والعمرة وبدلاً عن هدي واجب لمن عجز عن الهدي، فقد قال الله عز وجل (وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤءسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب) [البقرة: 196] . ثانيا: جعل الله الصيام معادلاً للهدي وإطعام المساكين في كفارة قتل الصيد بالنسبة للمحرم، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما كل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو

_ (1) "مدارك المرام" ص (79، 80) . (2) "الصيام ورمضان" لعبد الرحمن الميدان (ص 120 - دار القلم) .

ثمرات الصيام

عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام) [المائدة: 95] . ثالثا: جعل الله صيام ثلاثة أيام بدل كفارة اليمين عند العجز عنها وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، على التخيير بين هذه الثلاثة. قال تعالى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) رابعا: جعل الله كفارة القتل الخطأ وكفارة الظهار عتق رقبة مؤمنة، هذه هي الكفارة الأساسية، فمن لم يجد رقبة مؤمنة يعتقها فعليه أن يصوم بدلا عنها شهرين متتابعين ... فسبحان من جعل الصوم ينوب عن عتق الرقاب عند العجز ويجعله كفارة القتل الخطأ. قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء: 92] . وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المجادلة: 3-4] . فجعل الله الصيام ولم يجعل الصلاة أو الحج ... وهذه خاصية للصوم فأنعم به من عبادة. ثمرات الصيام أما ثمراته فأنواع: أحدها: "صحة الأبدان" (1)

_ (1) سنفرد لها أصلاً.

النوع الثاني: سلامة الأذهان وتصحيح أفكارها فإن الحرارة الغرورية يثيرها الجوع والعطش فيقوى إدراكها لفهم المعاني ويكثر تدبرها لما من الأعمال الصالحة تعاني. النوع الثالث: نهضة القوة الحافظة وتقليل نسيانها فإن كثرة الأكل تكثر الرطوبة في الجسد وتوجب البلادة في الطبع. النوع الرابع: خفة حركة الأعضاء للطاعات فإن الشبع يرخي الجسد ويقتضي التثاقل عن العبادة والإبطاء عن الإجابة إليها. النوع الخامس: خذلان أعوان الشيطان ونصر أجناد الرحمن. النوع السادس: رقة القلب وغزارة الدمع. النوع السابع: إجابة الدعاء وذلك من علامة اللطف والاعتناء. النوع الثامن: فرحه عند لقاء ربه بصومه. النوع التاسع: فرحه عند فطره، وليس المراد بأكله وشربه، وإنما المراد فرحه بتوفير أجره عند تمام صومه وسلامته عند قاطع يقطعه عليه. النوع العاشر: صيانة جوارحه عن استرسالها في المخالفات. النوع الحادي عشر: المباهاة به يوم القيامة. النوع الثاني عشر: اختصاصه بالدخول إلى الجنة من باب الريان" (1) . فهذا ما يتعلق بفضائله وثمراته وهي أكثر من أن تُحصى ولله الحمد والمنة. ***

_ (1) "مدارك المرام" (ص 78-81) .

الباب الثالث صوم الجاهلية موضوع تحت قدمي

الباب الثالث صوم الجاهلية موضوع تحت قدمي "أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي" من حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

إياكم وبنيات الطريق

إياكم وبنيات الطريق قُطّاع الطريق إلى الله وإلى الدار الآخرة من حاد عن طريق الله. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أسرق الناس الذي يسرق صلاته: لا يتم ركوعها ولا سجودها وأبخل الناس من بخل بالسلام" (1) . من يسرق من صلاته، ومن يسرق من صيامه على دربه ... من يفطر من غير عذر ومن يفطر قبل تحلة صومه. عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بينما أنا نائم أتاني رجلان، فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلاً وعراً، فقالا: اصعد، فقلت: إني لا أطيقه، فقال: إنا سنسهله لك، فصعدت، حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم" (2) . قال المنذري: قبل تحلة صومهم: يفطرون قبل وقت الإفطار ذكر الإمام ابن خزيمة "باب ذكر تعليق المفطرين قبل وقت الإفطار بعراقيبهم وتعذيبهم في الآخرة بفطرهم قبل تحلة صومهم". عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان، فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلاً وعراً، فقالا: اصعد، فقلت: إني لا أطيقه، فقالا: إنا سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، قال، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة

_ (1) صحيح: رواه الطبراني في "الصغير" و"الأوسط" و"الكبير" عن عبد الله بن مغفل، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (966) ، و"صحيح الترغيب" رقم (526) . (2) صحيح: رواه ابن خزيمة وابن حبان، والنسائي في "الكبرى"، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب".

صومهم، فقال: خابت اليهود والنصارى فقال سليمان (1) : ما أدري أسمعه أبو أمامة من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم شيء من رأيه، ثم انطلق فإذا بقوم أشد شيء انتفاخاً، وأنتنه ريحاً، وأسوأه منظراً، فقلت: من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء قتلى الكفار، ثم انطلق بي فإذا بقوم أشد شيء انتفاخاً وأنتنه ريحاً كأن ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزانون والزواني، ثم انطلق بي، فإذا أنا بنساء تنهش ثديهن الحيّات، قلت: ما بال هؤلاء؟ قال: هؤلاء يمنعن أولادهن ألبانهن، ثم انطلق بي فإذا أنا بالغلمان يلعبون بين نهرين، قلت: مَنْ هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذراري المؤمنين، ثم شرف شرفاً فإذا أنا بنفر ثلاثة يشربون من خمر لهم، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء جعفر وزيد وابن رواحة، ثم شرفني شرفاً آخر، فإذا أنا بنفر ثلاثة، قلت: من هؤلاء؟ قال: هذا إبراهيم وموسى وعيسى وهم ينظروني" (2) . هذا فعل الله بمن تهاونوا في أداء الفرائض، فكيف بمن حرّفوها. وأوّلوا معانيها تأويلاً ما أنزل الله به من سلطان. كيف بمن قالوا بإسقاط التكاليف من الصوفية ودجاجلة الشيعة، والاتحادية وأصحاب وحدة الوجود ودجالهم ابن عربي النكرة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليريق دمه" (3) . قال ابن تيمية: فقوله في هذا الحديث: "ومبتع في الإسلام سنة جاهلية"، يندرج فيه كل جاهلية، مطلقة، أو مقيدة يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو صابئية أو وثنية أو مركبة من ذلك، أو بعضه، أو منتزعة من بعض هذه الملل الجاهلية، فإنها جميعها مبتدعها ومنسوخها صارت جاهلية بمبعث محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كان لفظ الجاهلية لا يقع غالباً إلَّا على حال العرب التي كانوا عليها، فإن المعنى واحداً" (4) .

_ (1) الراوي عن أبي أمامة. (2) رواه ابن خزيمة واللفظ له وإسناده صحيح، ورواه الحاكم مختصراً (3/237) . (3) رواه مسلم. (4) "مهذب اقتضاء الصراط المستقيم" (ص 93، 97) .

الرافضة وغلاة الشيعة: 1- صوم الجناحية. 2- الخطابية. * المعمرية من الخطابية. 3- الكيسانية. 4- الإسماعملية: الباطنية. 5- القرامطة. 6- الإسماعيلية الطيبية باليمن "الصليحيون". 7- البهرة "الإسماعيلية الطيبية بالهند". 8- الإسماعيلية النزارية. أ- الحشاشون. 9- الإسماعيية الأغاخانية 10- النصيريون. 11- الدروز. فلاسفة الصودية وغلاتها: 12- ابن عربي. 13- صوم الحلاج. 14- الرفاعية. 15- البدوي - ابن الفارض. صوم زهاد المبتدعة: 16- "أبو العلاء المعري".

1- الجناحية من الرافضة وصومها

صوم المارقين المرتدين: 17- صوم البهائية. 18- صوم القاديانية. صوم مشركي أهل الكتاب: 19- صوم النصارى. 20- صوم اليهود. بدع الرافضة: قال عبد القاهر البغدادي عن أصول أهل السنة: "وقالوا بوجوب صوم رمضان، وحزموا الفطر فيه إلا بعذر: صغر، أو جنون، أو مرض، أو سفر، أو نحو ذلك من الأعذار. وقالوا باعتبار شهر الصيام من رؤية هلال رمضان، أو بكمال شعبان ثلاثين يوماً، ولم يفطروا في آخره إلا برؤية هلال شوال، أو بكمال أيام رمضان ثلاثين يوماً، وضللوا من صام من الروافض قبل الهلال بيوم وأفطر قبل الفطر بيوم" (1) . 1- الجناحية من الرافضة وصومها: من غلاتهم "الجناحية" وهي فرقة خارجة ومرتدة عن الإسلام "استحلوا الخمر والميتة والزنى واللواط وسائر المحرمات، وأسقطوا وجوب العبادات، وتأولوا العبادات على أنها كنايات عمن تجب موالاتهم من أهل بيت عليّ، وقالوا في المحرمات المذكورة في القرآن إنها كنايات عن قوم يجب بغضهم كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير وعائشة" (2) .

_ (1) "الفرق دون الفرق" (245-246) . (2) "الفرق بين الفرق".

2- الخطابية

2- الخطابية: هناك طوائف من الشيعة مرتدون غلاة، أنكر الشيعة أنفسهم نسبة تلك الفرق الغالية إليهم وإلى الإسلام ولكن كتاب الفرق الإسلامية جميعاً يثبتون علاقة وطيدة بين هذه الفرق الغالية وبين التيار الشيعي العام" (1) منهم الخطابية: "أصحاب أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي". "كان أصحابه كلما ثقل عليهم أداء فريضة أتوه وقالوا: يا أبا الخطاب خفف علينا فيأمرهم بتركها حتى تركوا جميع الفرائض واستحلوا جميع المحارم" (2) . والتحلل من الشريعة وعدم الالتزام بأوامرها ونواهيها تكاد كل الفرق الغالية -كالسيئة والغرابية، والبيانية، والمغيرية، والهاشمية، والكيسانية، والنعمانية، واليونسية، والنصيرية، والخطابية- تقول به وتنتهي إليه. وجعلوا الفرائض التي فرض الله تعالى رجالاً سموهم وأنهم أمروا بمعرفتهم وولايتهم، وجعلوا المعاصي رجالاً، أمروا بالبراءة منهم ولعنهم واجتنابهم وتأولوا على ما استحلوا من ذلك قول الله عز وجل: (يريد الله أن يخفف عنكم) وقالوا: خفف عنا بأبي الخطاب ووضع عنّا به الأغلال والآصار يعنون الصلاة والزكاة والصيام والحج, فمن عرف الرسول النبي الإمام فذلك عنه موضوع فليصنع ما أحب. * والمعمرية من الخطابية: دانوا بترك الفرائض ومنها الصوم فخرجوا من ملة الإسلام. برئت إلى الرحمن من كل رافض ... بصير بباب الكفر في الدين أعورا إذا كف أهل الحق عن بدعة مضى ... عليها، وإن يمضوا إلى الحق قصّرا ولو قيل إن الفيل ضب لصدقوا ... ولو قيل زنجي تحول أحمرا واخلف من بول العبير فإنه ... إذا هو للإقبال وجه أدبرا

_ (1) "دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين" (ص 102) . (2) "دراسة عن الفرق" (ص 104) .

3- الكيسانية

فيا قبح أقوام أتونا بفرية ... كما قال في عيسى الفري من تنصر (1) 3- الكيسانية: "ينسب الشهرستاني إلى الكيسانية القول بأن الدين طاعة رجل وهو الإمام، وزعموا أن الوصول إلى طاعة الإمام، يسقط التكاليف الشرعية" (2) . وعلى ذلك أيضاً: 4- العجلية: أتباع أبي منصور العجلي، وطائفة من 5- الحزمية: قال عنهم الشهرستاني: "إنهم دانوا بترك الفرائض، وقالوا: إن الدين معرفة الإمام فقط، ومنهم من قال. الدين أمران: معرفة الإمام وأداء الأمانة، ومن حصل له الأمران فقد وصل إلى الكمال وارتفع عن التكليف" (3) . 6- الإسماعيلية (الباطنية) : منسلخون من دين الله بالكلية يُدعون في مصر بالعبيدية "الفاطمية" وفي الشام بالنصيرية والدروز، وفي الهند بالبهرة وبالإسماعيلية والكفِر ملة واحدة. وهؤلاء عمقوا مفهوم "الظاهر والباطن وتوسعوا في استخدامه، وذهبوا كما ذهب معظم الشيعة إلى أن التأويل الباطني من الأمور التي اختص الله لها علياً بن أبي طالب، فكما أن النبي خص بالتنزيل، فعليّ قد خصّ التأويل وأن علياً ورّث هذا العلم الأئمة من بعده.

_ (1) "الفرق بين الفرق". (2) "الملل والنحل" (1/147) . (3) "الملل والنحل" (1/154) .

7- صوم القرامطة

وهم الذين يدلون الناس على المعاني الباطنة وأسرار الدين، وقد تطرف الإسماعيلية في تأويلاتهم، فذهبت طوائف منهم إلى تأليه الأئمة وإلى طرح فرائض الشرع، وفسروا الصلاة بأنها الاتجاه القلبي للإمام، وأن الصوم عبارة عن عدم إفشاء أسرار الدعوة، والحج زيارة الإمام، وأن الفجر هو المهدي المنتظر، وأن الأهلة هم الأئمة، والسماء هي الدعوة، والملائكة هم الدعاة، وزعمت طوائف من هؤلاء الباطنية أن جميع الأشياء التي فرضها الله على عبادة وسنها نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها ظاهر وباطن، وأن جميع ما استعبد الله به العباد في الظاهر من الكتاب والسنة فأمثال مضروبة وتحتها معان هي بطونها، وعليها العمل وفيها النجاة، وأن ما ظهر منها فهي التي نهي عنها، وفي استعمالها الهلاك، وهي جزء من العذاب الأدنى، عذّب الله به قوماً وأخذهم به ليشقوا بذلك إذ لم يعرفوا الحق، ولم يقولوا به ولم يؤمنوا" (1) . * وهذا علي بن الفضل الإسماعيلي أعفى أتباعه من أداء الشعائر الإسلامية من صلاة وصوم وحج، ودخل مدينة الجند في أول خميس من رجب سنة 292هـ فصعد المنبر وقال: تولى نبي بني هاشم ... وهذا نبي بني يعرب لكل نبي مضى شرعة ... وهذي شريعة هذا النبي فقد حط عنا فروض الصلاة ... وحطّ الصيام ولم يتعب إذا الناس صلوا فلا تنهضي ... وإن صوّموا فكلي واشربي (2) 7- صوم القرامطة: القرامطة من الإسماعيلية، وعلى رأسهم فاجرهم أبو طاهر القرمطي قتل الحجيج في يوم التروية وهو يقول: أنا الله وبالله أنا ... يخلق الحلق وأفنيهم أنا

_ (1) "دراسة عن الفرق" (ص 213-214) . (2) "كشف أسرار الباطنية" (ص 82-83) .

8- الصليحيون "الإسماعيلية الطيبية باليمن"

وقال: ألست أنا المذكور في الكتب كلها ... ألست أنا المبعوث في سورة الزمر قالوا ما قالت بقية طوائف الإسماعيلية من أن الحج والصوم والصلاة ما هي إلا رموز لمعان باطنية. قتل أبو طاهر بهيت، رمته امرأة من سطحها بلبنة على رأسه فدمغته، وقتيل النساء أخس قتيل وأهون فقيد (1) . 8- الصليحيون "الإسماعيلية الطيبية باليمن": وهم أتباع الطيب بن الآمر. وهم من الشيعة المستعلية باليمن سقطت دولتهم سنة 563هـ. يفسرون الصوم بأنه "كتمان أسرار الدعوة، ويفسرون بناء على هذا الآية (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) بأنها تعني كتمان الأئمة في وقت الاستتار خوفاً من الظلمة، ويجدون مصداقاً لقولهم قول مريم الوارد في قوله تعالى: (إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً) [مريم: 26] . فلو كان الله عنى بالصيام ترك الطعام لقال فلن أطعم اليوم شيئاً، فالصيام إذن هو الصموت عن الكلام" (2) . 9- صوم البهرة: وهم من الإسماعيلية الطبية وعرفوا باسم البهرة "التجار" فبعد نهاية الدولة الصليحية في اليمن انصرفوا إلى التجارة التي أعطتهم الفرصة لنشر دعوتهم الإسماعيلية في الهند. ويعتبر البهرة أكثر الشيعة تعصباً لمذهبهم ومحافظة على عقائدهم.

_ (1) "الفرق بين الفرق" (ص 287) . (2) "كشف أسرار الباطنية" (ص 12، 13) .

10- الإسماعيلية النزارية

10- الإسماعيلية النزارية: أ- الحشاشون: أوهم زعيمهم الحسن الثاني بطرح جميع التكاليف الدينية والامتناع عن إقامة الفرائض الإسلامية لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، فالإمام هو المسئول الأول عن أتباعه وهو الذي يتحمل بدلهم الحساب يوم القيامة، إن أطاعوه طاعة تامة واعتقدوا إمامته على هذا النحو، وبذلك دخلت الإسماعيلية دوراً جديداً وهو دور "القيامة أو عدم القيام بالفرائض الدينية من صلاة وصوم وحج "ونسخ حكم الشريعة" (1) . وقد كان الحسن الثاني وابنه محمد متشددين في فرض التعاليم الجديدة وكانا يريان أن الاستمساك بالأحكام الشرعية الظاهرة إثم لا يعدله إلا إغفالها أيام أن كان العمل مفروضاً بموجب الثقة، لذلك أوحيا النكال والقتل والرجم والتعذيب على كل من استمسك بحكم الشريعة في دورة القيامة (2) أو اشتغل بالعبادة الظاهرة وواظب على الرسوم الجسمانية. "وقد حل محل الشريعة عندهم ما يعرف بأركان الحقيقة، فالشهادة هي أن تعرف الله بالله (أي تعرف الله بالقائم) ، والصلاة هي أن تجتنب الآداب والسنن الماضية (أي الأحكام الشرعية) والصوم هو أن تلتزم التقية في حديثك مع المبطلين حتى تظل صائماً" (3) .

_ (1) "دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين" (ص 235) دكتور أحمد محمد أحمد. (2) القيامة عندهم "الوقت - الذي يصل فيه الخلق إلى الحق تعالى وتظهر دقائق الحقائق، وتتجلى بواطن الخلائق، وفيه تتجه القلوب إلى الله، وتترك الرسوم الشرعية والعادات والعبادات التي التزموها مؤقتاً، وتتوجه وجوه النفوس والأرواح إلى الحضرة الإلهية" فرقة النزارية تعاليمها ورجالها السيد محمد العزاوي (ص 175) . (3) "دراسة عن الفرق" (ص 235، 236) .

11- صوم الإسماعيلية الأغاخانية

11- صوم الإسماعيلية الأغاخانية: أطلق الإنجليز هذا اللقب على إمامهم ودجّالهم وهم الإسماعيلية النزارية بالهند. ومنهم الأغاخان الثالث: وهو ممن يدينون بآراء وعقائد الإسماعيلية التي بشر بها الحسن الثاني وانتهت إلى إبطال التكاليف، يبالغ أتباعه في تقديسه إلى درجة الألوهية، حينما سأل مؤرخ الإسماعيلية محمد كامل حسين الأغاخان الثالث قائلاً: "لقد أدهشتني بثقافتك وعقليتك فكيف تسمح لأتباعك أن يدعوك إلهاً؟ ضحك الأغاخان طويلاً، كما يقول محمد حسين: وعلت قهقهاته ودمعت عيناه من كثرة الضحك ثم قال: هل تريد الإجابة على هذا السؤال؟ إن القوم في الهند يعبدون البقرة ألست خيراً من البقرة (1) . هذا الفاجر الذي عرفته موائد القمار وأماكن اللهو، والذي عرف عنه أنه كان في شبابه زير نساء، ومن زوجاته الأربع عارضة الأزياء، وفتاة من بائعات الحلوى والسجائر، ووصفه سومرست موم "بأنه من عظماء رواد المسرح فقد أحب الأوبرا ورقص الأوبرا، وكانت له صداقات مع ممثلين وممثلات" (2) . 12- النصيريون وصومهم: هم من غلاة الباطنية وهم أكفر من اليهود والنصارى يذهبون إلى إسقاط التكاليف، ويقولون في كتابهم "الهفت الشريف" (ص 221) : "لا يحتجن أحدكم بصومه وصلاته وحجه وجهاده، فإن الله غني عن ذلك كله، وهو أعلم بعباده، البار منهم والفاجر، ولا يفوز أحدكم في كثرة صلاته وصومه إذا لم يعرف الله وأوليائه وأعداءه، وإمامه، وحجته فيما بينه وبين ربه". "الصوم عندهم مختلفون فيه، فيفسره بعضهم بأنه كتمان أسرارهم وأنه عبارة

_ (1) "طائفة الإسماعيلية" (ص 126) . (2) "مذكرات أغاخان" (ص 15، 16) دار العلم للملايين.

13- صوم الدروز

عن ذكر اسم ثلاثين رجلاً واسم ثلاثين امرأة معروفة لديهم (1) ، ومن يصم من النصيرية فإنه يخالف المسلمين في أداء هذه الفريضة، إذ يصوم بعضهم قبل صلاة الفجر ويفطر قبل غروب الشمس. ويضيف إليه بعضهم البعد عن معاشرة النساء طوال الشهر، ويقولون: "إن كل ساعة صوم لملك من الملائكة المقريين المذكور في القرآن، وهناك فريق منهم يفسر الصوم على أنه صون أي امتناع عن النساء طوال شهر رمضان، وليس امتناعاً عن الطعام والشراب وما شاكلهما" (2) . 13- صوم الدروز: من الفرق الباطنية يذهبون إلى ألوهية الخليفة الفاطمي الحاكم الذي نقض سائر أركان الإسلام من صلاة وصوم وزكاة وحج وجهاد. والصوم عند الدروز عبارة عن صيانة القلب بتوحيد الحاكم، وهو أيضاً من الشعائر التي أسقطها الحاكم إذ لم يراع أوقاتها المحدودة. بل تؤكد تعاليمهم أن دعوة الحاكم هدفها الرئيسي ليس الشريعة الإسلامية الظاهرة فحسب، بل تهدف أيضاً إلى إلغاء التأويل الباطني للشريعة والذي تبناه غلاة الشيعة كالإسماعيلية. ورسائل الدروز المقدسة تفيض بالنصوص التي تشير إلى هذا. وهذا دجّالهم حمزة بن علي يخاطب الدروز في إحدى رسائله (التي تعتبر شرعاً لهم) فيقول: (قد بينت لكم في الكتاب المعروف بـ"النقض الخفي" نسخ السبع دعائم ظاهرها وباطنها، وذلك بقوة مولانا جل ذكره وتأييده ولا حول ولا قوة إلا به" [مولاه الحاكم أخزاه الله] . ويُقصد بالسبع دعائم التي نسخها الشهادتان، والصلاة والصوم والحج والزكاة

_ (1) "الفتاوى" (35/145) . (2) "إسلام بلا مذاهب" للشكعة (ص 234) طبعة أولى.

والجهاد والولاية. ويقول حمزة بن عليّ أيضاً: "والآن فقد دارت الأدوار وبطل ما كان في جميع الأعصار، ولم يبق من نار الشريعة الشركية غير لهيبها والشرار، وسوف يخمد حسرها ويضمحلّ العوار" (1) . وحمزة بن علي يصف نفسه بأنه هادم القبلتين ومبيد الشريعتين "الظاهرة والباطنة الإسماعيلية". وأقام الدروز بدلاً من الدعائم الإسلامية خصال التوحيد السبع وهي عندهم: 1- صدق اللسان في دائرة الدروز فقط وهو عوض عن الصلاة. 2- حفظ الإخوان -أي الدروز- عوض عن الزكاة. 3- ترك ما كان عليه الموحدون وما اعتقدوه من عبادة العدم والبهتان وهو عوض عن الصوم. 4- البراءة من الأبالسة والطغيان.. أي من الأنبياء السابقين ومن الأديان وهو عوض عن الحج. 5- التوحيد للمولى "الحاكم إلههم" في كل عصر وزمان ودهر وأوان وهذا عوض عن الشهادتين. 6- الرضا بفعله "أي الحاكم" كيف كان وهو عوض عن الجهاد. 7- التسليم لأمره في السر والحدثان وهو عوض عن الولاية (2) . يقول دجّالهم الدرزي كمال جنبلاط المقتول فيما نقله عنه مصطفى الشكعة: "الدين الدرزي دين صوفي يعتمد على الداخليات والجواهر ولا يهتم بالشكليات، والطهارة الداخلية أي النفسية الروحية هي الأساس وأما الطهارة الخارجية فلا قيمة لها".

_ (1) "السيرة المستقيمة" حمزة بن علي. (2) "مذاهب الإسلاميين" لعبد الرحمن بدوي (ص 729) .

فلاسفة الصومية وغلاتها

وقد كان الشيوخ يصلون في المساجد إلى عهد قريب ويصومون رمضان ويحجون البيت، ولكن هذه الفرائض جميعاً قد رفعت عنهم واستبدلت بها تكاليف أخرى. ويقول الشيخ محمد أبي شقرا شيخ عقل الدروز: "الصوم معناه الامتناع عن الرفث، ومعنى ذلك أنه يجوز الأكل والشرب في الصوم وهو عشرة أيام في ذي الحجة تنتهي بالعيد" (1) . فلاسفة الصومية وغلاتها: 14- صوم ابن عربي: قال ابن عربي بإسقاط التكاليف. قال ابن المقري في ذم ابن عربي: ألا يا (رجال الله) غارة ثائر ... غيور على حرماته والشعائر يحاط بها الإسلام ممن يكيده ... ويرميه من تلبيسه بالفواقر فقد حدثت بالمسلمين حوادث ... كبار المعاصي عندها كالصغائر حوتهن كَتْب حارب الله ربهَا ... وغَرَّ بها مَنْ غَرَّ بين الحواضر تجاسر فيها ابنُ العُرَيْبي واجترى ... على الله فيما قال كل التجاسر فقال بأن الرب والعبدَ واحد ... فربي مربوبي بغير تَغاير وأنكر تكليفا إذ العبد عنده ... إله وعبد فهو إنكار حائر (2) 15- صوم الحلاج: وانظر إلى صوم شيخ الحلولية "الحلاج" فيما ينقله ابن كثير يقول الحلاج: "إنِ

_ (1) "إسلام بلا مذاهب" (306-307) الطبعة الرابعة. (2) "العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين" (2/192-193) .

16- صوم ابن الفارض: وسنن النصارى

من صام ثلاثة أيام لا يفطر إلا في اليوم الرابع على ورقات هندباً أجزأه ذلك عن صيام رمضان، ومن صلى في ليلة ركعتين من أول الليل إلى آخره أجزأه ذلك عن الصلاة بعد ذلك، وأن من جاور بمقابر الشهداء وبمقابر قريش عشرة أيام يصلي ويدعو ويصوم ثم لا يفطر إلا على شيء من خبز الشعير والملح والجريش أغناه ذلك عن العبادة في بقية عمره" (1) . 16- صوم ابن الفارض: وسَنن النصارى: "كانت لابن الفارض أربعينيات متواصلة لا جمل ولا يشرب ولا ينام فيها، وهو في هذه الأربعينيات إنما كان يأخذ نفسه بالشدة التي لا تعرف ليناً أو هوادة، وبالزهد في كل شيء، والانصراف عن كل شيء، وما زال بها على هذه الحال حتى تهيأ له ما كان يطمح إليه من كمال -كما يزعمون- ويدل على هذا ما يحكى من أنه بينما كان في آخر أيام أربعينياته اشتهت نفسه لوناً من الطعام، فأخذ يطالبها بالصبر، ولكنها أخذت تلح عليه، فإذا هو يشتري هذا اللون، ويدخل به إلى قبة الشرابي، ولم يكد يرفع أول قطعة منه إلى فمه حتى انشق جدار القبة وخرج شاب جميل الوجه، حسن الهيئة، أبيض الثياب، عطر الرائحة، ولامه أن أكلها، فما كان من ابن الفارض إلا أن ألقى بهذه القطعة قبل أن تصل إلى فمه وتركها، وخرج إلى السياحة وأدّب نفسه بزيادة عشرة أيام في المواصلة على الأربعين لتتمة خمسين يوماً" (2) . هكذا صومهم ... خالفوا هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتشبهوا بالنصارى في الوصال، ويرحم الله ابن عيينة إذ يقول: "من فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى" (3) . * عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية رضي الله عنه وعنها قالت:

_ (1) "البداية والنهاية" (11/151) . (2) "ابن الفارض والحب الإلهي" للدكتور محمد مصطفى حلمي (ص 59) نقلاً عن ديباجة الديوان (ص 10) . (3) "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص 97) .

17- صوم الرفاعية

"أردت أن أصوم يومين مواصلة، فنهاني عنه بشير، وقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهاني عن ذلك، وقال: إنما يفعل ذلك النصارى، صوموا كما أمركم الله، وأتموا الصوم كما أمركم الله، و (أتموا الصيام إلى الليل) فإذا كان الليل فأفطروا (1) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فعلل النهي عن الوصال بأنه صوم النصارى، وهو كما قال رسول الله حق ويشبه أن يكون من رهبانيتهم التي ابتدعوها (2) . وروي الغزالي في "الإحياء": عن عيسى عليه السلام أنه مكث يناجي ربه ستين يوماً فخطر بباله الخبز فانقطع عن المناجاة، فإذا رغيف موضوع بين يديه فجلس يبكي على فقد المناجاة (3) . كيف تصبح جائعاً: يرشدك الغزالي إلى أنه يمكن ذلك بتقليل الطعام بالعادة شيئاً فشيئاً حتى تتعود الصبر عنه عشرة أيام (بل عشرين يوماً) !!. وهو يحكي لك بأن الأمر قد انتهى ببعض الزهاد الاقتصار على حبة واحدة من الحمص كل يوم، وبعضهم في الوقت إلى عشرين يوماً، وقيل أربعين. وهذه رتبة عظيمة يقل من يستقل بها (4) . 17- صوم الرفاعية: ومما ينسبه الرفاعية زوراً وبهتانا إلى أحمد الرفاعي وهو منه برئ فقد أثنى عليه الذهبي وابن تيمية وهو من سادات العباد ومن علماء الشافعية من أهل السُنة والجماعة ينسبون إليه امتناعه عن الطعام والشراب لأيام وأسابيع وشهور، بل وربما سنوات.

_ (1) رواه أحمد، وسعيد بن منصور، وعزاه ابن حجر في "الفتح"، للطبراني، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم في "تفسيرهما"، وصححه ابن حجر، وقال الألباني: إسناده صحيح. (2) "الاقتضاء" (ص 29) . (3) "إحياء علوم الدين" (3/89) . (4) "ميزان العمل" (117-118) .

فقد ذكر الصيادي -البغل المزركش كما كانوا يسمونه- أن الشيخ الرفاعي خرج إلى الحج ثم إلى المدينة، ومنذ خروجه من العراق إلى أن عاد إليها من الحج لم يأكل طعاماً قط، ولم يتناول جرعة ماء واحدة (1) . وذكر أيضاً أنه بقي مرة نصف نهار لم يشرب ماء فوجد قدحاً على التنور وفيه ماء وسخ من غسل الأيدي، فقالت له نفسه: قد عذبتني نصف النهار بالعطش وتسقيني من هذا الماء الوسخ؟ فلما رأى منها هذا العتاب ألقى القدح من يده وأقسم أن لا يذيقها الماء سنة كاملة، وفعل ذلك (2) . ومع عدم الاقتناع بأن يبقى إنسان شيئاً يسيراً بلا ماء، فإن الظاهر أن سياق القصة مأخوذ من قصة أبي يزيد البسطامي مع الماء فإنه لا اختلاف بين القصتين بتاتاً (3) . وذكروا مثل هذه الكرامات لغير الرفاعي. فالشيخ أبو رفاعة المهدي الرفاعي بقي أربعين يوماً متتالية لا يأكل ولا يشرب بل ولا ينام، ومع ذلك كله لم يغب عن أداء ما افترضه الله عليه (4) . وكذلك السيد ولي الله "السكران" أبو محمد اليعقوبي الرفاعي كان كثيراً ما يمكث الستة أشهر لا يأكل طعاماً ولا يشرب ماء (5) . ولقد ضرب الشيخ عثمان بن مروزة البطائحي الرفاعي الرقم القياسي في الامتناع عن الطعام والشراب، حيث بقي بلا طعام ولا شراب سبع سنين (6) .

_ (1) "الكنز المطاسم في مدّ يد النبي لولده الغوث الرفاعي الأعظم" (ص 14، 18) . (2) "المعارف المحمدي في الوظائف الأحمدية، لعز الدين الصيادي الرفاعي (ص 84) - مطبعة محمد أفندي. (3) "الرسالة القشيرية" (14) دار الكتاب العربي. (4) "ذخيرة المعاد في ذكر السادة بن الصياد" (ص 22) ، و"جامع كرامات الأولياء" (2/142) . (5) "إرشاد المسلمين" (ص 117) . (6) "ذخيرة المعاد في ذكر السادة بني الصياد" (ص 22) ، و"جامع كرامات الأولياء" (2/142) .

18- صوم البدوي

فهل حصل مثل هذه الكرامة لنبي من الأنبياء فضلاً عن أن تحصل لغيرهم (1) . 18- والبدوي أيضاً: يحكي الصوفية عنه صبره وصومه عن الطعام والشراب ووصاله أربعين يوماً (2) . 19- أبو العلاء المعري والصوم عن الحيوان "زهاد المبتدعة": أخذ أبو العلاء عن أهل الهند تحريم الحيوان وما يخرج من الثمرات وشعره يدل على تحريمه أكل الحيوان، وإنما زعم أنه ترك الحيوان وهو يعتقد أنه مباح. يقول المعري: غدوت مريض العقل والدين فأَلْقِنى ... لتسمع أنباء الأمور الصحائح فلا تأكلن ما أخرج البحرُ ظالماً ... ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائح ولا بَيْض أمات أرادتْ صريحه ... لأطفالها دون الغواني الصرائح ولا تفجعن الطير وهي غوافل ... بما وضعت فالظلم شر القبائح ودع ضربَ النحل الذي بكرت له ... كواسبَ من أزهار نبت فوائح فما أحرزته كي يكون لغيرها ... ولا جمعته للندى والمنائح مسحت يدي من كلّ هذا فليتني ... أبَهْتُ لشاني قبل شيب المسائح (3) وإن لم يكن يحرمها فقد وافق سنن النصارى. فعن عدي بن حاتم قال: "قلت: يا رسول الله! إني أسألك عن طعام لا أدعه إلا تحرجاً، قال: لا تدع شيئاً ضارعت فيه نصرانية" (4) .

_ (1) "الرفاعية" لعبد الرحمن دمشقية (ص 27-28) . (2) "السيد البدوي" د. سعيد عاشور (ص 38) . (3) "تجديد ذكرى أبي العلاء" لطه حسين طبع دار المعارف. (4) حسن لغيره: أخرجه أحمد والبيهقي، وابن حبان، وحسنه الترمذي والألباني في "جلباب المرأة المسلمة" (ص 182) .

صوم المارقين المرتدين:- البهائية -القاديانية-

قال الألباني: "أي شابهت لأجله أهل المِلَّة النية من حيث امتناعهم إذا وقع في قلب أحدهم أنه حرام أو مكروه"، وهذا في المعنى تعليل النهي، والمعنى: لا تتحرج فإنك إن فعلت ذلك؛ ضارعت فيه النصرانية، فإنه من دأب النصارى وترهبهم. كذا في "تحفة الأحوذي" (1) . صوم المارقين المرتدين:- البهائية -القاديانية-: 20- صوم البهائية: انظر إلى صوم البهائية كما جاء عن رجال البهائية البهاء المازندراني في كتابه "الأقدس" أو الخبث والأنجس على الصحيح. يقول البهاء حسين علي في الصوم: "يا قلمي الأعلى قل يا ملا الإنشاء قد كتبنا عليكم الصيام أياماً معدودات وجعلنا النيروز عيداً لكم بعد إكمالها، كذلك أضاء شمس البيان من أفق الكتاب من لدن مالكَ المبدأ والمآب" (2) . * يؤكدَ وجوبه وفرضيته بقوله: هذه حدود الله التي رقمت من القلم الأعلى في الزبر والألوِاح" (3) . ومتى يصوم؟ "قد كتب لكم، الصيام في شهر العلاء، صوموا لوجه ربكم العزيز المتعال" (4) . وشهر العلاء هو آخر الشهور البهائية التسعة عشر ويشتمل على الأيام التسعة عشر. (1) وما معنى الصوم عند البهائية؟

_ (1) "جلباب المرأة المسلمة" للألباني (ص 182) طبع المكتبة الإسلامية بالأردن. (2) "الأقدس" للمازندراني الفقرة (4) . (3) "الأقدس" للمازندراني الفقرة (45) . (4) "لوح كاظم" للمازندراني، و"خزينة حدود وأحكام" (ص 36) .

يخبر عنه حسين علي حيث يقول: "كفوا أنفسكم عن الأكل والشرب من الطلوع إلى الأفول، إياكم أن يمنعكم الهوى عن هذا الفضل الذي قد قدر في الكتاب" (1) . و"كفوا أنفسكم عن الطلوع إلى الغروب كذلك حكم المحبوب من لدى الله المقتدر المختار" (2) . والمعنى أن الصائم يفعل ما يشاء من الطلوع إلى الغروب وحتى المباشرة للزوج (3) وليس عليه إلا الكف عن الأكل والشرب من طلوع الشمس إلى غروبها. ولم ترد الكتب البهائية عن ذلك شيئاً، وحتى المازندراني بين الصيام في عدّة مواضع ولم يبين أكثر من ذلك، لا عن السحور ولا عن الإفطار، ولا عن المجامعة والمباشرة، ولا غير ذلك من الأحكام، كما لم ينبه عليها بعده ابنه عباس وحفيد ابنه شوقي أفندي، فما هو الصيام وما فائدته؟ إنهم ما ذكروا الصوم إلا لأنه ذكر في الإسلام للمضاهات والمحاكاة ولم يستطيعوا أن يذكروا حدوده وقيوده، أو تركوا فراغاً قصداً لجلب أهل الهوس والشهوات إليهم حيث لم يمنعوا عن أي فسق وفجور ومتعة ولذة فيه. * وأمَّا فرضيته فمثل فرضية الصلاة أيضاً: فقد عفى عنى المسافر والمريض والحامل والمرضع والهرم والكسول. فعَلى مَنْ بقي الصوم؟ والناس إمّا مسافر ومريض وإما كسل وهرم. قال: "ليس على المسافر والمريض والحامل وضع حرج عفا الله عنهم فضلاً من عنده إنه لهو العزيز الوهّاب". "وعند التكسر والتكاسل لا يجوز الصلاة والصيام وهذا حكم الله من قبل ومن بعد" (4) .

_ (1) "الأقدس" الفقرة (47) . (2) "خزينة حدود وأحكام" (ص 49) . (3) "الأقدس" الفترة (44) . (4) "خزينة حدود وأحكام" (ص 37) .

21- صوم القاديانية

وقال المازندراني في "الأقدس": "من كان في نفسه ضعف من المرض والهرم عفا الله عنه فضلاً من عنده إنه لهو الغفور الكريم" (1) . و"قد عفا الله عن النساء حينما يجدن الدم الصوم والصلاة" (2) . * وأكثر من ذلك الذي يكون مشتغلاً بالأعمال الشديدة والكبيرة عفى عنه الصوم أيضاً، كما قال في جواب سائل "الذين يشتغلون بالأمور المهمة والأعمال الشديدة هل عليهم الصوم؟ قال: الصوم عن النفوس المذكورة رفع" (3) . * وهكذا رفع الصوم إنْ وقع يوم عيد المولود -للشيرازي والمازندراني- ويوم المبعث -إعلان دعوة محمد الشيرازي ببابيته- كما قال في رسالة "سؤال وجواب": "إن وقع عيد المولود أو المبعث في أيام الصيام فلا صوم يومئذ" (4) . فهذه حقيقة الصوم عند القوم وهذه شريعتهم التي يتباهون بها على الشيعة الإسلامية البيضاء الغرّاء التي ليلها كنهارها (هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار (5) [الرعد: 16] . 21- صوم القاديانية: أمَّا رجال القاديانية غلام أحمد المتبني القادياني فيقول: "قال لي الله إني أصلي وأصوم، وأصحو وأنام" (6) , فما ظنك بصوم البشر!!

_ (1) الفقرة (34) . (2) الفقرة (31) . (3) "خزينة حدود وأحكام" فصل الذين لا صوم عليهم (ص 46) . (4) "رسالة سؤال وجواب لعباس أفندي" نقلاً عن الخزينة (ص 49) . (5) "البهائية" لإحسان إلهي ظهير (ص 165-167) . (6) "البشرى" (ج2) .

22، 23- صوم النصارى واليهود

صوم مشركي أهل الكتاب: 22، 23- صوم النصارى واليهود: اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون: يقول ابن تيمية مخاطباً للنصارى في "الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح" "بل عامة ما أنتم عليه من السنن أمور محدثة مبتدعة بعد الحواريين، كصومكم خمسين يوماً زمن الربيع، واتخاذكم عيداً يوم الخميس والجمعة والسبت، فإن هذا لم يسنه المسييح ولا أحد من الحواريين، وكذلك عيد الحواريين: الميلاد والغطاس وغير ذلك من أعيادكم" (1) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد أخبر عن المسيح أنه لماّ صام أربعين يوماً عقب المعمورية وكان يُعيِّد مع اليهود في عيدهم لا يُعيِّد عقب صومه، شاركه النصارى في ذلك مدة، فصاروا يصومون أربعين عقب الغطاس الذي هو نظير المعمورية أو يعيدون مع اليهود العيد، ثم إنهم بعد هذا، ابتدعوا تغيير الصوم، فلم يصوموا عقب الغطاس، بل نقلوا الصوم إلى وقت يكون عيدهم مع عيد اليهود" (2) . يقول ابن القيم في "المثلثة" عبّاد الصلبان: "المسيح ما شرع لهم هذا الصوم الذي يصومون قط ولا صامه في عمره مرة واحدة ولا أحد من أصحابه، لا صام صوم المحذارى في عمره، ولا أكل في الصوم ما يأكلونه ولا حرّم فيه ما يحرمونه" (3) . يقول الشيخ محمد رشيد رضا: "المعروف أن الصوم مشروع في جميع الملل حتى الوثنية فهو معروف عن

_ (1) "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (2/230) . (2) "الجواب الصحيح" (1/11) . (3) "هداية الحيارى" (ص 274) لابن القيم، دار الريان للتراث.

قدماء المصريين في أيام وثنيتهم، وانتقل منهم إلى اليونان فكانوا يفرضونه لا سيما على النساء، وكذلك الرومانيون كانوا يعنون بالصيام ولا يزال وثنيو الهند وغيرهم يصومونه إلى الآن. وليس في أسفار التوراة التي بين أيدينا -المحرّفة- ما يدل على فرضية الصيام، وإنما فيها مدحه ومدح الصائمين وثبت أن موسى عليه السلام صام أربعين يوماً وهو يدل على أن الصوم كان معروفاً مشروعاً ومعدوداً من العبادات. واليهود في هذه الأزمنة يصومون أسبوعاً تذكاراً لخراب أورشليم وأخذها، ويصومون يوماً من شهر آب. أقول وينقل أن التوراة فرضت عليهم صوم يوم العاشر من الشهر السابع وأنهم يصومونه بليلته ولعلّهم كانوا يسمونه عاشوراء ولهم أيام أخرى يصومونها نهار. وأما النصارى: فليس في أناجيلهم المعروفة -المحرّفة- نص في فرضية الصوم وإنما فيها ذكره ومدحه واعتباره عبادة كالنهي عن الرياس وإظهار الكآبة، بل تأمر الصائم بدهن الرأس وغسل الوجه حتى لا تظهر عليه أمارة الصيام فيكون مرائياً كالفريسيين، وأشهر صومهم وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وكان يصومه عيسى عليهما السلام، والحواريون رضي الله عنهم، ثم وضع رؤساء الكنيسة ضروباً أخرى من الصيام، وفيها خلاف بين المذاهب والطوائف، ومنها صوم عن اللحم، وصوم عن السمك، وصوم عن البيض واللبن. وكان الصوم المشروع عند الأولين منهم كصوم اليهود يأكلون في اليوم والليلة مرة واحدة، فغيّروه، وصاروا يصومون من نصف الليل إلى نصف النهار" (1) . يقول الشيخ محمد طاهر عاشور: "كان لليهود صوم فرضه الله عليهم وهو صوم اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم وهو الشهر المسمى عندي "تِسْرِي" يبتديء الصوم من غروب اليوم التاسع إلى غروب اليوم العاشر وهو يوم كفارة الخطايا "كَبُّور" ثم إن أحبارهم

_ (1) "تفسير المنار" (2/143-144) .

شرعوا صوم أربعة أيام أخرى وهي الأيام الأولى من الأشهر الرابع والخامس والسابع والعاشر من سنتهم تذكاراً لوقائع بيت المقدس وصوم يوم "بُورِيم" تذكاراً لنجاتهم من غضب ملك الأعاجم "أحشويروش" في واقعة (استير) وعندهم صوم التطوع، وفي الحديث: "أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً". أما النصارى فليس في شريعتهم نص على تشريع صوم زائد على ما في التوراة فكانوا يتبعون صوم اليهود. وفي "صحيح مسلم" عن ابن عباس "قالوا: يا رسول الله إن يوم عاشوراء تعظمه اليهود والنصارى"، ثم إن رهبانهم شرعوا صوم أربعين اقتداء بالمسيح إذ صام أربعين يوماً قبل بعثته ويشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة إلا أنهم يتوسعون في صفة الصوم، فهو عندهم ترك الأقوات المقوية والمشروبات أو هو تناول طعام واحد في اليوم ويجوز أن تلحقه أكلة خفيفة". ***

الباب الرابع فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب

الباب الرابع فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب

النهي عن التشبه بالمشركين

قد تقرر في الشرع أنه لا يجوز للمسلمين رجالاً ونساء التشبه بالكفار سواءً في عباداتهم أو أعيادهم أو أزيائهم الخاص بهم، قال تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) [الجاثية: 18] . وقال تعالى: (وكذلك أنزلناه حكماً عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق) [الرعد: 37] وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16] . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ولا يكونوا] نهي مطلق عن مشابهتهم، وهو خاص أيضاً في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي. * وقال ابن كثير عن تفسير هذه الآية (4/311) : "ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية". وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) . قال قتادة: كانت اليهود تقوله استهزاءً، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم، وقال أيضاً: كانت اليهود تقول للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: راعنا سمعك يستهزءون بذلك، وكانت في اليهود قبيحة، فهذا يبين أن هذه الكلمة نهي المسلمون عن قولها، لأن اليهود كانوا يقولونها وإن كانت من اليهود قبيحة، ومن المسلمين لم تكن قبيحة، لما كان في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار وتطريقهم إلى بلوغ غرضهم. عن أنس بن مالك: "إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله تعالى:

(ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) إلى آخر الآية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح".. فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه ... " (1) الحديث. قال ابن تيمية في "الاقتضاء": "فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا: ما يريد أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه. قال الألباني ناقلاً لكلام ابن تيمية: "ثم إن المخالفة تارة تكون في أصل الحكم، وتارة في وضعه، وقد ذكرنا حديث ليلى امرأة بشير بن الخصاصية". وعن ابن عباس قال: "حين صام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهذا يوم عاشوراء يوم فاضل يكفر سنة ماضية، صامه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمر بصيامه، ورغب فيه، ثم لماّ قيل له (قبيل وفاته) : إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، أمر بمخالفتهم، بضم يوم آخر إليه، وعزم على ذلك، ولهذا استحب العلماء أن يصوم تاسوعاء وعاشوراء وبذلك علّلت الصحابة رضي الله عنهم" (3) .

_ (1) رواه مسلم، وأبو عوانة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (2) رواه مسلم والبيهقي وغيرهما. (3) "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص 41) .

الفرق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب تعجيل الفطر

قال سعيد بن منصور حدثنا ... عن ابن عباس: "صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود" (1) . * وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر مما يصوم من الأيام، ويقول: "إنهما يوماً عيد المشركين فأنا أحب أن أخالفهم" (2) . قال الحافظ في "الفتح" (10/375) : "وأشار بقوله (يوماً عيد) إلى أن يوم السبت عيد عند اليهود، والأحد عيد عند النصارى، وأيام العيد لا تصام فخالفهم بصيامها، ويستفاد من هذا أن الذي قاله بعض الشافعية من كراهة إفراد السبت وكذا الأحد ليس جيداً، بل الأولى في المحافظة على ذلك يوم الجمعة كما ورد الحديث الصحيح فيه، وأما السبت والأحد فالأولى أن يصاما معاً وفرادى امتثالاً لعموم الأمر بمخالفة أهل الكتاب، ثم قال: وقد جمعت المسائل التي وردت الأحاديث فيها بمخالفة أهل الكتاب فزادت على الثلاثين حكماً وقد أودعتها كتابي الذي أسمتيه "القول الثبت في صيام يوم السبت" ا. هـ. لا نسب لهذه الأمة إلا المحمدية ليست بإمعة: غريبة تبتغي الفرقان رائدة ... بدرية جلّ في أعماقها النسب * عن عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" (3) . قال المناوي "قال النووي: المشهور وضبط الجمهور أنه بفتح الهمزة مصدر للمرة من الأكل، وضبطه المغاربة بالضم، وقال عياض: روي بالفتح والضم

_ (1) قال الألباني: إسناده صحيح على شرطهما. (2) رواه أحمد والحاكم، والبيهقي، والنسائي في "السنن الكبرى"، والطبراني في "الكبير" وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وقال الألباني: إسناده حسن، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. (3) مسلم، وأصحاب السنن، وأحمد.

فبالضم معنى اللقمة، وبالفتح الأكل مرة واحدة، قال: وهو الأشبه لأن الثواب في الفعل لا في الطعام. قال الحافظ العراقي: ولو قيل: الأشبه هنا الضم لم يبعد لأن الفضل يحصل بلقمة ولا يتوقف على زيادة. انتهى، والقصد بهذا الحديث الحث على السحور والإعلام بأن هذا من الدين، وذلك لأن الله أباح لنا إلى الفجر ما حرّم عليهم من نحو أكل وجِماع بعد النوم، فمخالفتنا إياهم تقع موقع الشكر لتلك النعمة التي خصصنا بها. قال ابن تيمية: "وفيه دليل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع. قال مالك: ولذلك كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكرهون ترك العمل يوم الجمعة لئلا يصنعوا فيه كما فعل اليهود والنصارى في يوم السبت والأحد" (1) . * وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون" (2) . قال شيخ الإسلام: "وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى، وإذا كانت مخالفتهم سبباً لظهور الدين، فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله، فتكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة". * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار" (3) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" (4) خ، م، ت.

_ (1) "فيض القدير" (4/430) . (2) رواه الترمذي وأحمد بإسناد حسن قاله الألباني وقال: قد خرجناه في "التعليقات الجياد على زاد المعاد". (3) رواه أحمد عن إلى ذر وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7284) . (4) رواه البخاري ومسلم.

أكلة السحر فرق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب

* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر، فإن اليهود يؤخرون" (1) . * قال المناوي (6/395) : "امتثالاً للسنة ومخالفة لأهل الكتاب حيث يؤخرون الفطر إلى ظهور النجوم، وفيه إيماء إلى أن فساد الأمور تتعلق بتغير هذه السنة، وأن تأخير الفطر علم على فساد الأمور". قال القسطلاني: "وأمَّا ما يفعله الفلكيون من التمكين بعد الغروب بدرجة فمخالف للسنة فلذا قلّ الخير". وقال أيضاً: "تعجيل الفطر وتأخير السحور من خصائص هذه الأمة". قال ابن عبد البر: "أخبار تعجيل الفطر وتأخير السحور متواترة". وقال أيضاً (6/450) : "تعجيله بعد تيقن الغروب من سنن المرسلين، فمن حافظ عليه تخلّق بأخلاقهم، ولأن فيه مخالفة أهل الكتاب في تأخيرهم إلى اشتباك النجوم، وفي ملتنا شعار أهل البدع، فمن خالفهم واتبع السنة لم يزل بخير، فإن أخّر غير معتقد وجوب التأخير ولا ندبه فلا خير فيه كما قال الطيبي: أن متابعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الطريق المستقيم، ومَنْ تعوّج عنها فقد ارتكب المعوّج من الضلال ولو في العبادة". * وعن سهل بن سعد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تزال أمتي على سنتي، ما لم تنتظر بفطرها النجوم" (2) . وهذه الخيرية تصيب الأمة بأسرها لبركة اتباع السنة، وينال محي هذه السنة مخالفة لأهل الكتاب من هذه الخيرية النصيب الوافر. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" (3) .

_ (1) حسن رواه ابن ماجة عن أبي هريرة، وابن خزيمة، وابن حبان، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (695) . (2) صحيح: رواه ابن حبان في "صحيحه"، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/449) . (3) حسن: رواه ابن حبان والطبراني في "الأوسط" وأبو نعيم في "الحلية" عن ابن عمر وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1844) .

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليكم بهذا السحور فإنه هو الغداء المبارك" (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هلم إلى الغداء المبارك -يعني السحور-" (2) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تسحروا ولو بجرعة ماء" (3) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاث من أخلاق النبوة: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة (4) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنا معشر الأنبياء أُمرنا أن نعجل إفطارنا ونؤخر سحورنا، ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة" (5) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بكروا بالإفطار وأخروا السحور" (6) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "السحور أكلة بركة، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" (7) . وكان صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمون السحور الفلاح. "وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر خشيهّ أن يفوتنا الفلاح -السحور- الغداء المبارك، وصلاة الله، ومن أخلاق النبوة لأنه فيه مخالفة لأهل الكتاب فكيف لا تكون فيه الخيرية وظهور هذا الدين". قلّب فؤادك في محاسن شرعنا ... تلقى جميع الحسن فيه مصورا

_ (1) رواه أحمد، والنسائي، عن المقدام وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4081) . (2) صحيح: رواه أحمد وأبو داود، والنسائي، وابن حبان عن العرباض وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7043) . (3) صحيح: رواه أبو يعلى عن أنس، ورواه الضياء في "المختارة"، وأحمد عن أبي سعيد ورواه ابن حبان عن ابن عمرو وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2945) . (4) رواه الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3038) . (5) صحيح: رواه الطيالسي، والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2286) . (6) رواة ابن عدي عن أنس وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2835) . (7) حسن: رواه أحمد عن أبي سعيد وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3683) .

كم من معاني في صيام نبينا ... نفح أرق من النسيم إذا سرى وانظر لفرق صيامهم وصيامنا ... نهراً تفجر أحمديا كوثرا فدهشت بين جماله وجلاله ... وغدا لسان الحال عني مخبرا لو أن كل الحسن أكمل صورة ... ورآه كان مهللاً ومكبرا ***

الباب الخامس سادات الصائمين

الباب الخامس سادات الصائمين

صوم الصالحين وردت آثار كثيرة عن السابقين في علو هممهم وأخذهم بالعزائم في العبادات، وهم جبال في الاقتداء والتأسي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. يقول الشاطبيّ في "الاعتصام" (1/404) : "نحن نحمل ما داوم عليه الأولون من الأعمال على أنه لم يكن شاقاً عليهم، وإن كان ما هو أقل منه شاقاً علينا، فليس عمل مثلهم بما عملوا به حجة لنا أن ندخل فيما دخلوا فيه، إلَّا بشرط أن يمتد مناط المسألة فيما بيننا وبينهم، وهو أن يكون ذلك العمل لا يشق الدوام على مثله. وليس كلامنا هذا لمشاهدة الجميع، فإن التوسط والأخذ بالرفق هو الأولى والأحرى للجميع، وهو الذي دلت عليه الأدلة دون الإيغال الذي لا يسهل مثله على جميع الخلق ولا أكثرهم؛ إلا على القليل النادر منهم, والشاهد لصحة هذا المعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" (1) ، يريد عليه السلام: أنه لا يشق عليه الوصال، ولا يمنعه عن قضاء حق الله وحقوق الخلق. فعلى هذا؛ من رزق أنموذجاً مما أعطه عليه السلام، فصار يوغل في العمل مع قوته ونشاطه وخفة العمل عليه؛ فلا حرج" (2) . يقول الشاطبي: "كم من رجل صلى الصبح بوضوء العشاء كذا كذا سنة, وسرد الصيام كذا وكذا سنة، وكانوا هم العارفين بالسنة، لا يميلون عنها لحظة، وروي عن ابن عمر وابن الزبير: أنهما كانا يواصلان الصيام (3) وأجاز مالك -وهو

_ (1) جزء من حديث صحيح. (2) "الاعتصام" (1/404) . (3) قال في "الاعتصام" (1/405) : "ويكون عمل ابن الزبير وابن عمر وغيرهما في الوصال جارياً على أنهم مما أعطيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا بناء على أصل مذكور في كتاب "الموافقات" والحمد لله.

إمام في الاقتداء (1) - صيام الدهر؛ يعني إذا أفطر أيام العيد، والآثار في هذا المعنى كثيرة عن الأولين، وهي تدل على الأخذ بما هو شاق على الدوام ولم يعدهم أحد بذلك مخالفين للسُنة، بل عدوهم من السابقين -جعلنا الله منهم- وأيضاً فإن النهي ليس عن العبادة المطلوبة بل هو عن الغلوّ فيها غلواً يدخل المشقة على العامل، فإذا فرضنا من فُقدت في حقه تلك العِلة فلا ينهض النهي في حقه؛ كما إذا قال الشارع: لا يقضي القاضي وهو غضبان، وكانت علة النهي تشويش الفكر عن استيفاء الحجج؛ اطّرد النهي مع كل مشوش، وانتهى عند انتفائه حتى أنه مع وجود الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الحجج، وهذا صحيح جار على الأصول. وحال من فقدت في حقه العِلة حال من يعمل بحكم منْ غلبه الشوق أو غلبه الرجاء أو المحبة, فإن الخوف سوط سائق، والرجاء حادٍ قائد، والمحبة سبيل حامل، فالخائف إن وجد المشقة، فالخوف مما هو أشق يحمله على الصبر على ما هو أهون وإن كان العمل شاقّاً، والراجي يعمل وإن وجد المشقة, لأن رجاء الراحة التامة يحمله على الصبر على بعض التعب، والمحب يعمل ببذل المجهود؛ شوقاً إلى المحبوب، فيسهل عليه الصعب، ويقرب عليه البعيد، فيوهن القوى ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة، ويعصر الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته. وإذا كان كذلك صحَّ بين الأدلة، وجاز الدخول في العمل التزاماً مع الإيغال فيه! إما مطلقاً وإمَّا مع ظن انتفاء العِلة، وإن دخلت المشقة فيما بعد؛ إذا صحّ من العامل الدوام على العمل ويكون ذلك جارياً على مقتضى الأدلة وعمل السلف الصالح" (2) . فالحاصل: جواز الاجتهاد في العبادة بشروط: الأول: أن لا يحصل له ملل يفقده لذة العبادة بدليل "ليصل أحدكم نشاطه" الثاني: أن يكثر حسب طاقته، ودليله: "عليكم من الأعمال ما تطيقون"

_ (1) قال الشافعي: إذا جاء الأثر فمالك النجم. (2) "الاعتصام" (1/400-401) .

(1) صوم الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)

الثالث: لا يفوت من الأعمال ما هو أهم، ويدل عليه قول عمر "لأن أشهد الصبح في جماعة أحبَّ إلي من أن أقوم ليلة". الرابع: أن لا يضيع حقّاً شرعيّاً، كما حصل لابن عمرو وأبي الدرداء. الخامس: أن لا يبطل رخصة شرعية، كما ظنَّ الرهط الذين تقالوا عمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته. السادس: أن لا يوجب ما ليس بواجب شرعي، كما أوجب ابن مظعون على نفسه. السابع: أن يأتي بالعبادة المجتهد فيها بتمامها، بدليل: "لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث". الثامن: أن يداوم على ما يختاره من العبادة، بدليل "أحب الأعمال إلا الله أدومها". التاسع: أن لا يجتهد بحيث يورث الملل لغيره، أخذاً بحديث "إذا صلى أحدكم فليخفف". العاشر: أن لا يعتقد أنه أفضل عملاً مما كان عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تقليل العمل (1) . (1) صوم الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) المفارق للتنعم والترفيه، المعانق لما كُلِّف من التشمر والتوجه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لم أر عبقرياً يفري فَرِية" (2) . عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: ما مات عمر حتى سرد الصوم (3) .

_ (1) بتصرف من "إقامة الحجة على أن الإكثار من التعبد ليس ببدعة" للكنوي (من 147-153) ط مكتب المطبوعات الإسلامية. (2) متفق على صحته. (3) "صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/286) ، والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/121) ، والبيهقي في "سننه" (4/301) ، وابن حزم في "المحلى" (7/14) .

(2) صوم ذي النورين عثمان بن عفان (رضي الله عنه)

فمنْ يسعَ أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدّمت بالأمس يُسبق (1) (2) صوم ذي النورين عثمان بن عفان (رضي الله عنه) أمير البررة وقتيل الفجرة. حبيب محمد ووزير صدق ... ورابع خير من وطيء الترابا قال أبو نعيم عنه: "حظه من النهار الجود والصيام، ومن الليل السجود والقيام، مبشر بالبلوى، ومنعم بالنجوى" (2) . وعن الزبير بن عبد الله، عن جدة له يقال لها هيمة قالت: "كان عثمان يصوم الدهر، ويقوم الليل إلا هجعة من أوله" رضي الله عنه قتلوه وقد كان صائماً (3) . وروى ابن كثير في "البداية والنهاية" (7/207) : "صلى صلاة الصبح ذات يوم فلما فرغ أقبل على الناس فقال: إني رأيت أبا بكر وعمر أتياني الليلة فقالا لي: صم يا عثمان إنك تفطر عندنا، وإني أشهدكم أني وقد أصبحت صائماً وإني أعزم على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخرج من الدار سالماً مسلوماً منه ثم دعا بالمصحف فأكب عليه" رضي الله عنه "ما طوى المصحف ... وقتلوه وهو يقرؤه". (3) صوم أبي طلحة الأنصاري زيد بن سهل، أحد أعيان البدريين وأحد النقباء الاثنى عشر ليلة العقبة، قال عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل" (4) . عن أنس (رضي الله عنه) قال: كان أبو طلحة لا يصوم على عهد رسول

_ (1) "صفة الصفوة" (1/292) . (2) "الحلية" (1/55) . (3) "الحلية" (1/56) ، و"صفة الصفوة" (1/302) . (4) صحيح: رواه الحاكم في "المستدرك" عن جابر، ورواه ابن عساكر وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5081) .

(4) صوم عائشة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أجل الغزو، فلما قبض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم أره يفطر إلَّا يوم أضحى أو يوم فطر (1) . وقال الذهبيّ: "كان قد سرد الصوم بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (2) . قال أبو زرعة الدمشقي: إن أبا طلحة عاش بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين سنة يسرد الصوم (3) . قال الذهبى: قلت بل عاش بعده نيفاً وعشرين سنة (4) . وعن أنس: "أن أبا طلحة صام بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين سنة لا يفطر إلا يوم فطر أو أضحى" (5) . (4) صوم عائشة زوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "الصديقة بنت الصديق، العتيقة بنت العتيق، حبيبة الحبيب، وأليفة القريب، سيد المرسلين محمد الخطيب، المبرأة من العيوب، المعراة من ارتياب القلوب لرؤيتها جبريل رسول علام الغيوب" (6) . عن عبد الرحمن بن القاسم: أن عائشة كانت تصوم الدهر (7) وأخرجه ابن سعد عن القاسم بلفظ: أن عائشة كانت تسرد الصوم (8) . عن عروة: أن عائشة (رضي الله عنها) كانت تسرد الصوم، وعن القاسم أنها كانت تصوم الدهر، لا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر) (9) ، قال عروة: بعث

_ (1) "المعجم الكبير" للطبراني (5/91) ، وأشار الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي إلى صحته. (2) "سير أعلام النبلاء" (1/27) . (3) "تاريخ دمشق" لأبي زرعة (562) . (4) "سير أعلام النبلاء" (1/29) . (5) "المستدرك" (3/353) ، وقال على شرط مسلم. (6) "حلية الأولياء" (3/43) . (7) "سير أعلام النبلاء" (1/187) ، ورجاله ثقات أخرجه ابن سعد (8/68) . (8) أخرجه ابن سعد (8/75) . (9) "السمط الثمين" (ص 9) ، و"صفة الصفوة" (2/31) . والمعنى: أنها كانت تصوم غير الأيام المنهي عنها: كالعيدين، وأيام التشريق والحيض.

(5) صوم أم المؤمنين حفصة بنت عمر

معاوية مرة إلى عائشة بمائة ألف درهم، فقسمتها؛ لم تترك منها شيئاً، فقالت بريرة: "أنت صائمة، فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحماً؟ " قالت: "لو ذكرتني لفعلت" (1) . وعن محمد بن المنكدر عن أم ذَرَّة وكانت تغشى عائشة (رضي الله عنه) قالت. بعث إليها الزبير بمال في غرارتين، قالت: أراه ثمانين ومائة ألف فدعت بطبق وهي صائمة يومئذ، فلما أمست قالت: "يا جارية هلمي فطوري فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرّة: "أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه" فقالت: "لا تعنفيني، لو كنت أذكرتني لفعلت" (2) . (5) صوم أم المؤمنين حفصة بنت عمر القوامة الصوامة، حفصة بنت عمر بن الخطاب، وارثة الصحيفة، الجامعة للكتاب (3) . عن قيس بن زيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلق حفصة بنت عمر فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون، فبكت وقالت: والله ما طلقني عن شِبَع، وجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتجلببت، قال: فقال لي جبريل عليه السلام: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة (4) ، أي شهادة أعظم من شهادة الله وجبريل لحفصة رضي الله عنها، وأنعم بها من عبادة كانت سبباً لرجوع أم المؤمنين حفصة إلى رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتبقى له زوجة في الجنة. وعن نافع قال: "ماتت حفصة حتى ما تفطر".

_ (1) أبو نعيم في "الحلية" (2/47) ، والحاكم (4/13) . (2) ابن سعد (8/46) ، و"الحلية"، (2/47) ، ورجاله ثقات. (3) "الحلية" (2/50) . (4) حسن: أخرجه الحاكم في "المستدرك" عن أنس وقيس بن زيد.

(6) صوم أبي الدرداء حكيم الأمة وسيد القراء

(6) صوم أبي الدرداء حكيم الأمة وسيد القراء وامق العبادة، فارق التجارة، داوم على العمل استباقاً، وأحب اللقاء اشتياقاً، تفرّغ من الهموم ففتحت له الفهوم، صاحب الحكم والعلوم (1) . قال أبو الدرداء: "كنت تاجراً قبل أن يبعث محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما بعث محمد زاولت العبادة والتجارة فلم يجتمعا، فأخذت في العبادة وتركت التجارة" (2) . وفي رواية: "كنت تاجراً قبل المبعث، فلما جاء الإسلام جمعت التجارة والعبادة فلم يجتمعا، فتركت التجارة ولزمت العبادة" (3) . قال ابن إسحاق: كان الصحابة يقولون: أتبعنا للعلم والعمل أبو الدرداء (4) . وعن يزيد بن معاوية: أن أبا الدرداء كان من العلماء الفقهاء الذين يشفون من الداء (5) . عن أبي جحيفهّ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخى بين سلمان وأبي الدرداء فجاءه سلمان يزوره، فإذا أم الدرداء متبذلة (6) ، فقال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك لا حاجة له في الدنيا، يقوم الليل ويصوم النهار، فجاء أبو الدرداء فرحب به وقرب إليه طعاماً، فقال له سلمان: كل، قال: إني صائم، قال: أقسمت عليك لتفطرن، فأكل معه، ثم بات عنده، فلما كان من الليل، أراد أبو الدرداء أن يقوم، فمنعه سلمان وقال: إن لجسدك عليك حقّاً، ولربك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً، صم، وأفطر، وصل، وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه، فلما كان وجه الصبح، قال: قم الآن إن شئت؛ فقاما، فتوضأ، ثم ركعا، ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا

_ (1) "الحلية" (1/28) . (2) "الحلية" (1/29) . (3) ابن سعد (7/391) ، قال الهيثمي (9/367) : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (4) ابن عساكر (2/13/371) . (5) "سير أعلام النبلاء" (2/346) . (6) أي لابسة ثياب البذلة وهي المهنة.

(7) صوم عبد الله بن عمرو بن العاص

أبو الدرداء ليخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالذي أمره سلمان، فقال له: يا أبا الدرداء، إن لجسدك عليك حقّاً، مثل ما قال لك سلمان" (1) . (7) صوم عبد الله بن عمرو بن العاص صاحب الصيام والقيام، "الإمام الحبر العادل" "له مناقب وفضائل ومقام راسخ في العلم والعمل" (2) . عن عبد الله بن عمرو قال: "أنكحنى أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته (3) فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً منذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ألقنى به فلقيته بعد، فقال: كيف تصوم؟ قلت أصوم كل يوم، قال: وكيف تختم؟ قلت: كل ليلة، قال: صم في كل شهر ثلاثة واقرأ القرآن في كل شهر، قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: صم ثلاثة أيام في الجمعة، قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: أفطر يومين وصم يوماً، قال قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: صمْ أفضل الصوم صيام داود، صيام يوم وإفطار يوم واقرأ في كل سبعة ليالي مرة"، فليتني قبلت رخصة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذاك أني كبرت وضعفت فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار والذي يقرؤه يعرضه من النهار ليكون أخف عليه بالليل، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياماً وأحصى وصام مثلهن، كراهية أن يترك شيئاً فارق النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4) . وعند النسائي قلت: دعني أستمتع من قوتي وشبابى قال: "اقرأه في عشرين قلت: دعني أستمتع؛ قال: اقرأْه فى سبع ليال، قلتْ: دعني يا رسول الله أستمتع قال: فأبى" (5) .

_ (1) البخاري، والترمذي. (2) "سير أعلام النبلاء" (3/80) . (3) كنته: بفتح الكاف وتشديد النون هي زوج الولد. (4) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب "في كم يقرأ القرآن" (8/712، 713) . (5) رواه النسائى.

وصح أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نازله إلى ثلاث ليال ونهاه أن يقرأ في أقل من ثلاث (1) . وعند أحمد عن عبد الله بن عمرو "زوجني أبي امرأة من قريش، فلما دخلت على جعلت لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة، فجاء أبي إلى كنفه، فقال: كيف وجدت بعلك؟ قالت: خير رجل من رجل لم يفتش لنا كنفاً، ولم يقرب لنا فراشاً، قال: فأقبل على، وعضني بلسانه، ثم قال: أنكحتك امرأة ذات حسب، فعضلتها وفعلت، ثم انطلق، فشكاني إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فطلبني فأتيته، فقال لي: "أتصوم النهار وتقوم الليل"؟ قلت: نعم، قال. "لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (2) . عن عبد الله بن عمرو قال: دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيتى هذا، فقال: "يا عبد الله ألم أخبر أنك تكلفت قيام الليل وصيام النهار؟ " قلت: إني لأفعل، فقال: "إن من حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فالحسنة بعشر أمثالها، فكأنك قد صمت الدهر كله" قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة، وإني أحب أن تزيدني، فقال: "فخمسة أيام"، قلت: إني أجد قوة، قال: "سبعة أيام" فجعل يستزيده، ويزيده حتى بلغ النصف، وأن يصوم نصف الدهر. "إن لأهلك عليك حقاً، وإن لعبدك عليك حقَاً، وإن لضيفك عليك حقّا"، وكان بعدما كبر وسنّ يقول: ألا كنت قبلت رخصة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحب إلي من أهلي ومالي (3) . قال الذهبي: هذا السيد العابد الصاحب كان يقول -لماّ شاخ-: ليتني قبلت رخصة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرضي الله عن صاحب الصيام والقيام الذي زمّ نفسه في تعبده وورده بالسنة النبوية.

_ (1) أبو داود والترمذي وابن ماجة. (2) رجاله ثقات. (3) إسناده حسن، رواه أحمد في "مسنده" (2/200) .

(8) صوم عبد الله بن عمر

(8) صوم عبد الله بن عمر "الإمام القدوة شيخ الإسلام" (1) المتعبد المتهجد، يكفيه قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل" (2) ، وقوله: "إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل" (3) . قال عنه نافع: "كان ابن عمر لا يصوم في السفر، ولا يكاد يفطر في الحضر" (4) . عن سعيد بن جبير قال: لما احتضر ابن عمر، قال: ما آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا، يعني الحجاج (5) . (9) صوم أبي أمامة الباهلي صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. عن رجاء بن حيوة، عن أبي أمامة: أنشأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيشا فأتيته، فقلت: يا رسول الله ادع الله لي بالشهادة، قال: "اللهم سلمهم وغنمهم"، فغزونا، فسلمنا وغنمنا، حتى ذكر ذلك ثلاث مرات، قال: ثم أتيته، فقلت: يا رسول الله، إني أتيتك تترى ثلاث مرات، أسألك أن تدعو لي بالشهادة، فقلت: "اللهم سلمهم وغنمهم"، فسلمنا وغنمنا يا رسول الله، فمرني بعمل أدخل به الجنة، فقال: "عليك بالصوم فإنه لا مثل له" قال: فكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف، فإذا رأوا الدخان نهاراً عرفوا أنه قد اعتراهم ضيف" (6) .

_ (1) "سير أعلام النبلاء" (3/204) . (2) صحيح: رواه البخاري، ومسلم، وأحمد. (3) صحيح: رواه البخاري، ومسلم وابن ماجة. (4) "سير أعلام النبلاء" (3/215) . (5) إسناده صحيح: أخرجه ابن سعد (4/185) ، والذهبي في "السير" (3/232) . (6) إسناده صحيح على شرط مسلم، أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، وابن أبي شيبة، والنسائي، والطبراني، وعبد الرزاق.

(10) صوم عبد الله بن الزبير

وعند أمامة: فكان أبو أمامة، وامرأته، وخادمه لا يُلْفَون إلا صياماً (1) . قال الذهبي: "ولأبي أمامة كرامة باهرة جزع هو منها، وهي في كرامات الداكالي وأنه تصدق بثلاثة دنانير، فلقي تحت كراجته ثلاث مئة دينار (2) . وفي "تاريخ الذهبى" (3/315) عن مولاة لأبي أمامة قالت: "كان أبو أمامة يحب الصدقة ولا يقف به سائل إلا أعطاه، فأصبحنا يوماً وليس عنده إلا ثلاثة دنانير، فوقف به سائل، فأعطاه ديناراً، ثم آخر، فكذلك، ثم آخر، فكذلك، قلت: لم يبق لنا شيء، ثم راح إلى مسجده صائماً، فرققت له واقترضت له ثمن عشاء، وأصلحت فراشه، فإذا تحت المرفقة ثلاث مئة دينار، فلما دخل ورأى ما هيأت له، حمد الله وابتسم، وقال: هذا خير من غيره، ثم تعش، فقلت: يغفر الله لك جئت بما جئت به، ثم تركته بموضع وضيعه! قال: وما ذاك؟ قلت: الذهب ورفعت المرفقة، ففزع لما رأى، وقال: ما هذا ويحك؟ قلت: لا علم لي، فكثر فزعه". (10) صوم عبد الله بن الزبير أمير المؤمنين ابن الحواريّ عائذ ببيت الله، المشاهد في القيام، المواصل للصيام. قال الذهبى: عدّوه في صغار الصحابة، وإن كان كبيراً في العلم والشرف والجهاد والعبادة. قالت عنه أسماء بنت أبي بكر أنه: قوّام الليل، صوام النهار، وكان يسمى حمام المسجد (3) . عن ابن أبي مليكة قال: "كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام، ويصبح في اليوم السابع وهو أليثنا" (4) .

_ (1) "سير أعلام النبلاء" (3/360) . (2) "سير أعلام النبلاء" (3/362) . (3) "حلية الأولياء" (1/335) ، و"سير أعلام النبلاء" (3/367) . (4) رواه الحاكم (3/549) ، أليثنا: أي كأنه ليث.

(11) صوم عبد الله بن رواحة

لقد كان ابن الزبير مع ملكه صنفاً في العبادة (1) . وقال ابن عمر وقد رآه مصلوباً: "السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صوّاماً قوّاماً وصولاً للرحم، أما والله لأمة أنت أشرها لأمة خير" (2) . (11) صوم عبد الله بن رواحة الأمير السعيد الشهيد البدري النقيب، أبو عمرو الأنصاريّ الخزرجي شاعر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وابن رواحة" (3) . وعند الذهبي في "السير": "إن كنا لنكون مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى السفر في اليوم الحار ما في القوم أحد صائم إلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعبد الله بن رواحة" (4) . عن ابن أبي ليلى: تزوج رجل امرأة ابن رواحة، فقال لها: تدرين لِمَ تزوجتك؟ لتخبريني عن صنيع عبد الله في بيته، فذكرت له شيئاً لا أحفظه غير أنها قالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته، صلى ركعتين، وإذا دخل صلى ركعتين لا يدع ذلك أبداً" (5) .

_ (1) "سير أعلام النبلاء" (3/368) . (2) رواه مسلم في "صحيحه". (2) خ، م، د، هـ، رواه البخاري ومسلم وأبو داود، وابن ماجه. (4) "سير أعلام النبلاء" (1/232-233) . (5) إسناده صحيح: نسبه الحافظ في "الإصابة" (6/78-179) ، ابن المبارك في "الزهد" وصحح سنده، ورواه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (1/33) ورجاله ثقات.

(12) صوم الصحابي الجليل حمزة بن عمرو الأسلمي

(12) صوم الصحابي الجليل حمزة بن عمرو الأسلمي كان (رضي الله عنه) يسرد الصوم. روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إني رجل أسرد الصوم فأصوم في السفر قال: "صم إن شئت وأفطر إن شئت". قال النووي: "فيه دلالة لمذهب الشافعي وموافقته أن صوم الدهر وسرده غير مكروه لمن لا يخاف منه ضرراً، ولا يفوت به حقّاً بشرط فطر يومي العيدين والتشريق، لأنه أخبر بسرده ولم ينكر عليه، بل أقره عليه، وأذن له فيه في السفر، ففي الحضر أولى. وهذا محمول على أن حمزة بن عمرو كان يطيق السرد بلا ضرر ولا تفويت حق، كما في الرواية التي بعدها (أجد بي قوة على الصيام في السفر) ، وأما إنكاره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ابن عمرو بن العاص صوم الدهر، فلأنه علم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سيضعف عنه، وهكذا جرى بأنه ضعف في آخر عمره، وكان يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب العمل الدائم وإن قلَّ ويحثهم عليه" (1) . (13) صوم أبي مسلم الخولاني "المتسلي بالأوراد والنوب، الخولانى عبد الله بن ثوب، حكيم الأمة وممثلها، ومديم الخدمة ومحررها" (2) . عن عطية بن قيس، قال: دخل ناس من أهل دمشق على أبي مسلم وهو غاز في أرض الروم، وقد احتفر جُورةً في فسطاطه (3) ، وجعل فيها نِطعاً وأفرغ فيه الماء

_ (1) صحيح: مسلم بشرح النووي. (2) "حلية الأولياء" (2/122) . (3) البيت من الشعر.

(14) صوم عامر بن عبد قيس

وهو يتصلق (1) فيه، فقالوا: ما حملك على الصيام وأنت مسافر؟ قال: لو حضر قتال لأفطرت ولتهيأت له وتقويت، إن الخيل لا تجري الغايات وهُنّ بُدن، إنما تجري وهن ضُمَّر؛ ألا وإن أيامنا باقية جائية" (2) ، وفي الحلية: "بين أيدينا أياماً لها نعمل" (3) . (14) صوم عامر بن عبد قيس القدوة الولي الزاهد راهب هذه الأمة. كان يقول: "لذات الدنيا أربعة: المال، والنساء، والنوم، والطعام، فأما المال والنساء فلا حاجة لي فيهما، وأما النوم والطعام فلابد لي منهما، فوالله لأضرن بهما جهدي، ولقد كان يبيت قائماً، ويظل صائماً" (4) . "وعن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية، عامر بن عبد الله بن عبد قيس، وأويس القرني، وهرم بن حيان، والربيع بن خيثم، ومسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، وأبو مسلم الخولاني، والحسن بن أبي الحسن" (5) . وكان يقول: "ما أبكي على دنياكم رغبة فيها، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء" (6) . وعن قتادة: "لما احتضر عامر بكى، فقيل ما يبكيك؟ قال: ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل" (7) .

_ (1) يتصلق: يتقلب ويتلوى على جنبه. (2) "سير أعلام النبلاء" (4/10) . (3) "الحلية" (2/127) . (4) "الحلية" (2/88) . (5) "الحلية" (2/87) . (6) "الحلية" (2/88) . (7) "سير أعلام النبلاء" (4/19) .

(15) صوم الأسود بن يزيد النخعي

(15) صوم الأسود بن يزيد النخعي الإمام القدوة، القارئ القوَّام، الساري الصوَّام، الفقيه الأثير، الفقير الأسير "هو نظير مسروق في الجلالة والعلم والثقة والسن يضرب بعبادتهما المثل" (1) . سئل الشعبى عن الأسود فقال: "كان صوّاماً قوّاماً حجّاجاً" (2) . وعن علقمة بن مرثد، قال: "انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين منهم الأسود ابن يزيد كان مجتهداً في العبادة يصوم حتى يخضر جسده ويصفر، وكان علقمة ابن قيس يقول له: ويحك لِمَ تعذب هذا الجسد؟ قال: راحة هذا الجسد أريد، [إن الأمر جد، إن الأمر جد] (3) ، فلما احتضر بكى فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: ما لي لا أجزع ومن أحق بذلك مني، والله لو أتيت بالمغفرة من الله عز وجل لهمّني الحياء منه مما قد صنعته، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه، فلا يزال مستحياً منه" (4) . وروى شعبة عن الحكم أن الأسود كان يصوم الدهر (5) . وروى حماد عن إبراهيم، كان الأسود يصوم حتى يَسود لسانه من الحر (6) . وعن عبد الله بن بشران علقمة والأسود بن يزيد حجا، وكان الأسود صاحب عبادة، وصام يوماً فكان الناس بالهجير وقد تربد وجهه، فأتاه علقمة فضرب على فخذه فقال: ألا تتق الله يا أبا عمرو في هذا الجسد؟ علام تعذب هذا الجسد؟ فقال الأسود: يا أبا شبل الجد الجد (7) .

_ (1) "سير أعلام النبلاء" (4/50) . (2) "حلية الأولياء" (2/103) ، و"سير أعلام النبلاء" (4/51) . (3) "الاعتصام" للشاطبى (1/399) . (4) "حلية الأولياء" (2/103، 104) ، و"سير أعلام النبلاء" (4/52) . (5) "سير أعلام النبلاء" (4/52) . (6) "سير أعلام النبلاء" (4/53) . (7) "حلية الأولياء" (2/104) .

(16) صوم مسروق بن عبد الرحمن

قال حنس بن حارث: رأيت الأسود وقد ذهبت إحدى عينيه من الصوم (1) لا ضير إن كانت الجنة فسيبدل الله بعين أصح منها. ما ضرَّهم ما أصابهم جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة. (16) صوم مسروق بن عبد الرحمن "في العلم معروق، وبالضمان موثوق، ولعباد الله معشوق، أبو عائشة مسروق" (2) . عن الشعبي قال: "غشي على مسروق في يوم صائف، وكانت عائشة قد تبنته فسمى بنته عائشة، وكان لا يعصي ابنته شيئاً، قال: فنزلت إليه فقالت: يا أبتاه أفطر واشرب، قال: ما أردت لي يا بُنية؟ قالت: الرفق، قال. يا بنية، إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين إلى سنة" (3) ، وفي رواية: "إنما طلبت الرفق لتعبي" (4) . قالت له عائشة الصديقة: "يا مسروق إنك من ولدي، وإنك لمن أحبهم إلي" (5) . وكان لا يأخذ على القضاء أجراً، وكان يقول: "لأن أفتي يوماً بعدل وحقّ أحب إلي من أن أغزو سنة" (6) . قال الأصمعى: كان مسروق يتمثل: ويكفيك مما أغلق الباب دونه ... وأرخى عليه الستر ملح وجردق وماء فرات بارد ثم تغتدي ... تعارض أصحاب الثريد الملبق

_ (1) "حلية الأولياء" (2/104) . (2) "حليهْ الأولياء" (2/95) . (3) "سير أعلام النبلاء" (4/67-68) . (4) "الاعتصام" (1/400) . (5) "سير أعلام النبلاء" (4/66) . (6) "سير أعلام النبلاء" (4/68،66) .

(17) صوم العلاء بن زياد

تجشأ إذا ما هم تجشأوا كأنما ... غذيت بألوان الطعام المفتق (17) صوم العلاء بن زياد "المبشر المحزون، المستتر المخزون، تجرد من الثلاد، وتشمر للمهاد، وقدّم العتاد للمعاد، العلاء بن زياد" (1) . كان ربانيّاً تقياً قانتاً لله، بكّاء من خشية الله. قال قتادة: كان العلاء بن زياد قد بكى حتى غشي بصره، وكان إذا أراد أن يقرأ أو يتكلم، جهشه البكاء، وكان أبوه قد بكى حتى عمي. قال الحسن لعلاء بن زياد وقد سله الحزن كيف أنت يا علاء؟ فقال: واحزناه على الحزن. قال الحسن: قوموا فإلى هذا والله انتهى استقلال الحزن" (2) . وعن هشام بن حسان أن العلاء بن زياد كان قوت نفسه رغيفاً كل يوم وكان يصوم حتى يخضرّ أو يصلي حتى يسقط فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا: إن الله تعالى لم يأمرك بهذا كله، فقال: إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئاً إلا جئته به" (3) . قال له رجل: رأيت كأنك في الجنة فقال له. ويحك أما وجد الشيطان أحداً يسخر به غيري وغيرك (4) . وكان يقول: "لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه تعالى نفسه فأقاله فليعمل بطاعة الله عز وجل" (5) .

_ (1) "حلية الأولياء" (2/242) . (2) "الحلية" (2/242) . (3) "الحلية" (2/243) . (4) "الحلية" (2/245) . (5) "الحلية" (2/244) .

قال سلمة بن سعيد رئي العلاء بن زياد أنه من أهل الجنة فمكث ثلاثاً لا ترقأ له دمعة ولا يكتحل بنوم ولا يتذوق طعاماً فأتاه الحسن فقال: أي أخي أتقتل نفسك أن بُشرت بالجنة فازداد بكاء" فلم يفارقه حتى أمسى وكان صائماً فطعم شيئاً" (1) . عن هشام بن زياد العدوي قال: تجهز رجل من أهل الشام وهو يريد الحج فأتاه آت في منامه فقال: ائت العراق ثم ائت البصرة ثم ائت بني عدي فائت بها العلاء ابن زياد فإنه رجل أقصم الثنية بسام فبشره بالجنة، قال: فقال: رؤيا ليست بشيء حتى إذا كانت الليلة الثانية رقد فأتاه آت فقال: ألا تأتي العراق فذكر مثل ذلك حتى إذا كانت الليلة الثالثة جاءه بوعيد فقال: ألا تأتي العراق ثم تأتي البصرة ثم تأتي بني عدي فتلقى العلاء بن زياد رجل ربعة أقصم الثنية بسام فبشره بالجنة قال فأصبح وأخذ جهازه إلى العراق فلما خرج من البيوت إذا الذي أتاه في منامه يسير بين يديه ما سار، فإذا نزل فقده فلم يزل يراه حتى دخل الكوفة ففقده قال: فتجهز من الكوفة فرآه يسير بين يديه ما سار حتى قدم البصرة فأتى بني عدي فدخل دار العلاء ابن زياد فوقف الرجل على باب العلاء فسلم. قال هشام: فخرجت إليه فقال لي: أنت العلاء بن زياد؟ قلت: لا، وقلت: أنزل رحمك الله فضع رحلك وضع متاعك فقال: لا أين العلاء بن زياد؟ قلت: هو في المسجد، قال: وكان العلاء يجلس في المسجد ويدعو بدعوات ويحدث قال هشام: فأتيت العلاء فخفف من حديثه وصلى ركعتين ثم جاء فلما رآه العلاء تبسم فبدت ثنيته فقال: هذا والله صاحبي قال: فقال العلاء: هلا حططت رحل الرجل هَلَّا أنزلته؟ قال: قد قلت له فأبى، قال: فقال العلاء: انزل رحمك الله، قال: فقال الرجل: أدخلني قال، فدخل العلاء منزله وقال: يا أسماء تحولي إلى البيت الآخر قال فتحولت ودخل الرجل وبشره برؤياه ثم خرج فركب قال: وقام العلاء فأغلق بابه وبكى ثلاثة أيام وقال سبعة أيام لا يذوق فيهما طعاماً ولا شراباً ولا يفتح بابه، قال هشام فسمعته يقول في خلال بكائه أنا أنا قال: فكنا نهابه أن نفتح بابه وخشيت أن يموت فأتيت الحسن فذكرت له ذلك وقلت لا أراه إلا ميتاً لا جمل ولا يشرب باكياً قال: فجاء

_ (1) "السير" (4/203) .

(18) صوم سعيد بن المسيب سيد التابعين

الحسن حتى ضرب عليه بابه وقال: افتح يا أخي فلما سمع كلام الحسن قام ففتح بابه وبه من الضرّ شيء الله به عليم فكلمه الحسن ثم قال: رحمك الله ومن أهل الجنة إن شاء الله أفقاتل نفسك أنت، قال هشام: حدثنا العلاء لي وللحسن بالرؤيا وقال: لا تحدثوا بها ما كنت حيّا" (1) . لك الله يا علاء أئن بشرت بالجنة صمت وبكيت حتى أشرفت على الموت، لك الله يا إمام ولك من اسمك أوفر نصيب. (18) صوم سعيد بن المسيب سيد التابعين عالم العلماء كما قال مكحول فقيه الفقهاء - حدث يزيد بن أبي حازم أن سعيد بن المسيب كان يسرد الصوم وقال ابن المسيب: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد (2) . (19) صوم أبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش الإمام أحد فقهاء المدينة السبعة وكان من سادات قريش، قال ابن سعد، كان يقال له راهب قريش لكثرة صلاته (3) . روى الشعبي عن عمر بن عبد الرحمن أن أخاه أبا بكر كان يصوم ولا يفطر. قال الذهبي: "قلت كان أبو بكر بن عبد الرحمن ممن جمع العلم والعمل والشرف وكان ممن خلف أباه في الجلالة" (4) . (20) صوم عروة بن الزبير عالم المدينة أحد الفقهاء السبعة وابن حواري رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُكن من الطاعة

_ (1) "الحلية" (2/245-246) ، و"سير أعلام النبلاء" (203-204) . (2) "سير أعلام النبلاء" (4/221) ، وقال الذهبي إسناده ثابت. (3) "طبقات ابن سعد" (5/207-208) . (4) "السير" (4/417-418) .

فاكتسب وامتحن بالمحنة فاحتسب عروة بن الزبير بن العوام المجتهد المتعبد الصوام (1) . قال الزهري: "جالست ابن المسيب سبع سنين لا أرى أن عالماً غيره ثم تحولت إلى عروة ففجرّت به ثبج بحر. وقال أيضاً: رأيت عروة بحراً لا تكدره الدلاء" (2) . عن هشام بن عروة أن أباه كان يصوم الدهر إلا يوم الفطر ويوم النحر ومات وهو صائم ويعفوا يقولون له أفطر فلم يفطر (3) . وعن هشام بن عروة أن أباه كان يسرد الصوم (4) . وعن هشام أن أباه وقعت في رجله الآكلة فقال ألا ندعو لك طبيباً قال إن شئتم فقالوا نسقيك شراباً يزول فيه عقلك؟ فقال: امضِ لشأنك إن ربي ابتلاني ليرى صبري ما كنت أظن أن خلقاً يشرب ما يزيل عقله حتى لا يعرف به فوضع المنشار على ركبته اليسرى فما سمعنا له حسّا فلما قطعها جعل يقول لئن أخذت، لقد أبقيت ولئن ابتليت لقد عافيت وما ترك جزءه بالقرآن تلك الليلة (5) . وكان ورده ربع القرآن كل يوم في المصحف نظراً يقوم به الليل. وعن عبد الواحد مولى عروة قال: شهدت عروة بن الزبير قطع رجله من المعضل وهو صائم (6) . والله لكأنها الأعاجيب ولا تعجب فإنّ أمه أسماء وأبوه الحواري وجدته صفية وخالته عائشة وجده الصديق. فما استخبأت في رجل خبيئاً ... كمثل الدين أو حسب عتيق ذووا الأحساب أكرم من تراث ... وأصبر عند نائبة الحقوق

_ (1) "الحلية" (2/176) . (2) "السير" (4/425) . (3) "طبقات ابن سعد" (5/180) ، و"الزهد" لأحمد (371) ، "صفة الصفوة" (2/88) . (4) "صفة الصفوة" (2/88) . (5) "سير أعلام النبلاء" (4/430) . (6) "الحلية" (2/178) .

(21) صوم سليمان بن يسار

(21) صوم سليمان بن يسار الفقيه الإمام عالم المدينة وفقيهها عن أبي الزناد قال كان سليمان بن يسار يصوم الدهر. وكان أخوه عطاء يصوم يوماً ويفطر يوماً (1) (صفة الصفوة 2/84) . (22) صوم عطاء بن يسار الإمام الفقيه الواعظ المذكر كبير القدر كان يصوم يوماً ويفطر يوماً. (23) صوم إبراهيم النخعي التقي الخفي الفقيه الرضي الإمام الحافظ فقيه العراق ومفتي أهل الكوفة إلى عمران. حدثت هُنيدة امرأة إبراهيم، أن إبراهيم كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، قال سعيد بن جبير: تستفتوني وفيكم إبراهيم النخعي؟ (2) . وكان يقول رحمه الله: وددت أني لم أكن تكلمت ولو وجدت بداً من الكلام ما تكلمت وأن زماناً صرت فيه فقيهاً لزمان سوء (3) . (24) صوم الحسن البصري إمام الدنيا بأسرها. قال عنه أبو جعفر الباقر ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء (4) .

_ (1) "السير" (4/448) ، ابن سعد (5/173) . (2) "الحلية" (4/221) . (3) "الحلية" (4/223) . (4) "الحلية" (2/147) ، "السير" (4/585) .

قال أيوب السختياني: لو رأيت الحسن لقلت أنك لم تجالس فقيهاً قط (1) ، وقال عنه عطاء: ذاك إمام ضخم يقتدى به (2) ، وكان من رؤوس العلماء في الفتن والدماء والفروج (3) . وقال علي بن زيد: سمعت من ابن المسيب أو عروة والقاسم وغيرهم: ما رأيت مثل الحسن ولو أدرك الصحابة وله مثل أسنانهم ما تقدموه (4) . قال عوف: ما رأيت رجلاً أعلم بطريق الجنة من الحسن (5) . رحم الله الحسن نبت في العلم وتحقبه وتشربه، به يسقون وبه يُدفع عنهم، قال السري بن يحيى "كان الحسن يصوم البيض وأشهر الحرم والاثنين والخميس" (6) . دعوه لا تلوموه دعوه: قيل له يوماً: يا أبا سعيد أي شيء يدخل الحزن فى القلب فقال: الجوع، قال: فأي شيء يخرجه، قال: الشبع، وكان يقول: توبوا إلى الله من كثرة النوم والطعام (7) . وكان يقول: إذا لم تقدر على قيام الليل ولا صيام النهار فاعلم أنك محروم قد كبلتك الخطايا والذنوب (8) . دعوه لا تلوموه دعوه ... فقد علم الذي لم تعلموه رأى علم الهدى فسمى إليه ... وطالب مطلباً لم تطلبوه أجاب دعاءه لما دعاه ... وقام بأمره وأضعتموه

_ (1) "السير" (4/585) . (2) "السير" (4/574) . (3) "السير" (4/575) ، ابن سعد (7/163) . (4) ابن سعد (7/261) . (5) "السير" (4/575) . (6) "السير" (4/578) ، و"الزهد" لأحمد (269) . (7) "الحسن البصري" لابن الجوزي (ص 13، 14) . (8) "الحسن البصري" لابن الجوزى (ص 19) .

(25) صوم ابن سيرين

بنفسي ذاك من فطن لبيب ... تذوّق مطعماً لم تطعموه هذا قول الحسن وبكاء الحسن وهذا صدق رضيع أم سلمة كان يقول وهو يبكي: أي رب ما أخسر صفقة من صرف عن بابك وضرب دونه حجابك ثم أنشد: إذا أنا لم أشكرك جهدي وطاقتي ... ولم أصف من قلبي لك الود أجمعا فلا سلمت نفسي من السقم ساعة ... ولا أبصرت عيني من الشمس مطلعا ثم استغفر وبكى وقال: القلب الذي يحب الله يحب التعب ويؤثر النصب هيهات لا ينال الجنة من يؤثر الراحة من أحب ما عند الله سخا بنفسه إن صدق وترك الأماني فإنها سلاح النّوكى (1) . (25) صوم ابن سيرين ابن سيرين الإمام شيخ الإسلام. عن حبيب بن الشهيد كنت عند عمرو بن دينار فقال: والله ما رأيت مثل طاووس، فقال أيوب السختياني وكان جالساً والله لو رأى محمد بن سيرين لم يقله (2) . وعن ابن عون قال ثلاثة لم تر عيناي مثلهم ابن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حَيوة بالشام كأنهم التقوا فتواصوا (3) . ذكر محمد عند أبي قلابة فقال: اصرفوه كيف شئتم فلتجدنه أشدكم ورعاً وأملككم لنفسه ومن يستطع ما يطيق محمد يركب مثل حد السنان (4) .

_ (1) الفعل منه نوك بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع، والمصدر نوكاً نواكاً، حَمقُ، والأنوك: الأحمق والجمع: نوكي نُوك، "الحسن" لابن الجوزي (ص 20، 21) . (2) "السير" (4/608) . (3) "السير" (4/609) . (4) ابن سعد (7/196) ، و"السير" (4/609) .

(26) صوم عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي

عن أيوب قال: كان محمد يصوم يوماً ويفطر يوماً قال ابن عون: كان محمد من أشد الناس إزاراً على نفسه (1) . (26) صوم عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي الإمام بن الإمام قال هلال بن خباب كان عبد الرحمن بن الأسود وعقبة مولى أديم وسعد أبو هشام يحرمون من الكوفة ويصومون يوماً ويفطرون يوماً حتى يرجعوا. وعن الحكم أن عبد الرحمن بن الأسود لما احتُضر بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أسفاً على الصلاة والصوم ولم يزل يتلو حتى مات. قال الشعبي: أهل بيت خلقوا للجنة: علقمة والأسود وعبد الرحمن. وروي أن عبد الرحمن صام حتى أحرق الصوم لسانه (2) . (27) صوم عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي الكومي الإمام الحجة القدوة الرباني أبي الحكم - قال بكير بن عامر: كان لو قيل له: قد توجه إليك ملك الموت ما كان عنده زيارة عمل. قال عبد الملك بن أبي سليمان. كان يفطر في الشهر مرتين أذى أنه أنكر على الحجاج كثرة القتل فهم به فقال له من في بطنها أكثر ممن على ظهرها (3) . (28) صوم عراك بن مالك الغفاري أحد العلماء العاملين كان يسرد الصوم وقال عمر بن عبد العزيز: ما أعلم أحداً أكثر صلاة من عِرَاك بن مالك (4) .

_ (1) "الزهد" (307) ، و"السير" (615) . (2) "السير" (5/12) . (3) "سير أعلام النبلاء" (5/62-63) . (4) "السير" (5/63-64) .

(29) صوم منصور بن المعتمر

(29) صوم منصور بن المعتمر حليف الصيام والقيام، خفيف التطعم والمنام الحافظ القدوة أبو عتاب السلمي. قال أبو بكر بن عباس: رحم الله منصوراً كان صواماً قواماً قال الثوري: لو رأيت منصور بن المعتمر لقلت: يوم الساعة. حدّث زائدة أن منصوراً صام أربعين سنة وقام ليلها وكان يبكي فتقول له أمه يا بني قتلت قتيلاً فيقول أنا أعلم بما صنعت بنفسي فإذا كان الصبح أكحل عينيه ودهن رأسه وبرق شفته وخرج إلى الناس. وذكر سفيان بن عيينة منصوراً فقال: قد كان عمش من البكاء، وقال سفيان أن منصور بن المعتمر صام ستين سنة يقوم ليلها ويصوم نهارها (1) . عن مفضل قال: حبس ابن هبيرة منصوراً شهراً على القضاء يريده عليه فأبى، وقيل إنه أحضر قيداً ليقيده به ثم خلاه (2) ، وكانت أمه فظة عليه تصيح به وتقول: يا منصور يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى وهو واضع لحيته على صدره ما يرفع طرفه إليها (3) . (30) صيام سليمان بن طرخان الإمام شيخ الإسلام، أبو المعتمر التيمي كان مقدماً في العلم والعمل (4) . عن محمد بن عبد الأعلى قال لي معتمر بن سليمان: لولا أنك من أهلي ما حدثتك بذا عن أبي، مكث أبي أربعين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً ويصلي صلاة الفجر بوضوء عشاء الآخرة (5) .

_ (1) "سير أعلام النبلاء" (5/404-406) ، "حلية الأولياء" (5/124) ، "مختصر قيام الليل" (28) . (2) "السير" (5/406) . (3) "السير" (5/405) . (4) "سير أعلام النبلاء" (6/195) . (5) "حلية الأولياء" (3/228) ، "السير" (6/197) .

(31) صوم الزهري

عن معاذ بن معاذ ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله فيها إلا وجدناه مطيعاً (1) . قال حماد بن سلمة عن سليمان التيمي كنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله (2) . عن عبد الله بن المبارك قال: أقام سليمان التيمي أربعين سنة إمام الجامع بالبصرة يصلي العشاء والصبح بوضوء واحد (3) . وعن حماد بن سلمة قال: لم يضع سليمان التيمي جنبه بالأرض - أي ليلاً عشرين سنة. عن شعبة قال: ما رأيت أحداً أصدق من سليمان التيمي رحمه الله كان إذا حدث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تغير لونه (4) . (31) صوم الزهري الإمام العلم حافظ زمانه محمد بَن شهاب الزهري. عن معاذ بن صالح أن أبا جيلة حدثه قال: كنت مع ابن شهاب في سفر وصام يوم عاشوراء، فقيل له لِمَ تصوم وأنت تفطر في رمضان في السفر؟ قال: إن رمضان له عدة من أيام أُخر وأن عاشوراء يفوت (5) . (32) صوم ابن جريج الإمام الحافظ شيخ الحرم أبي الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج القرشي. قال عطاء بن أبي رباح: سيد شباب أهل الحجاز ابن جريج (6) .

_ (1) "الحلية" (3/28) . (2) "السير" (6/198) . (3) "السير" (6/200) . (4) "الحلية" (3/231) ، و"السير" (6/196) . (5) "سير أعلام النبلاء" (5/342) . (6) "السير" (6/328) .

(33) صوم عبد الله بن عون

قال عبد الرزاق: ما رأيت أحسن صلاة من ابن جريج (1) . وقال: كنت إذا رأيت ابن جريج أعلمت أنه يخشى الله (2) . قال أبو عاصم النبيل: كان ابن جريج من العباد كان يصوم الدهر سوى ثلاثة أيام من الشهر (3) . (33) صوم عبد الله بن عون ابن أرطبان سيد القرآن في زمانه الإمام القدوة الحافظ عالِم البصرة، الحافظ للسانه، الضابط لأركانه. عن خارجة بن مصعب قال: صحبت عبد الله -يعني ابن عون- أربعاً وعشرين سنة فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة (4) . قال الذهبي كان ابن عون عديم النظر في وقته زهداً وصلاحاً. قال ابن المبارك: ما رأيت مصلياً مثل ابن عون، وما رأيت (5) أحداً ممن ذكر لي إلا كان إذا رأيته دون ما ذكر لي إلا ابن عون وحيوة بن شريح (6) . قال بكار بن محمد: كان ابن عون يصوم يوماً ويفطر يوماً (7) . قال الأوزاعي: إذا مات ابن عون والثوري استوى الناس وقال: لو خيرت لهذه الأمة من ينظر لها ما اخترت إلا الثوري وابن عون. (34) صوم داود بن أبي هند أبي بكر الإمام الحافظ الثقة مفتي أهل البصرة (8) .

_ (1) "السير" (6/330) . (2) "السير" (6/332) . (3) "السير" (6/333) . (4) "الحلية" (3/37) . (5) "الحلية" (3/38) . (6) "سير أعلام النبلاء" (6/367-368) . (7) "السير" (366) ، و"الحلية" (3/40) . (8) "سير أعلام النبلاء" (6/376-377) واسم أبي هند دينار بن عُذافر.

(35) صوم ابن أبي ذئب

قال حماد بن زيد: ما رأيت أحداً أفقه من داود. قال ابن جريج: ما رأيت مثل داود بن أبي هند إن كان ليفرع العلم فرعاً. قال الفلاس: سمعت ابن أبي عون يقول: صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله -وكان خزازاً- يحمل معه غذاءه فيتصدق به في الطريق (1) . قال ابن الجوزي: يظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت ويظن أهله أنه قد أكل في السوق (2) . ومستفسر عن سر يومي رددته ... فأصبح في يومي بغير يقين يقولون خبرنا فأنت أمينها ... وما أنا إن خبرتهم بأمين قال محمد بن أبي عدي أقبل علينا داود فقال: يا فتيان أخبركم لعل بعضكم أن ينتفع به كنت وأنا غلام أختلف إلى السوق فإذا انقلبت إلى البيت جعلت على نفسي أن أذكر الله إلى مكان كذا وكذا فإذا بلغت إلى ذلك المكان جعلت على نفسي أن أذكر الله كذا وكذا حتى آتي المنزل (3) - رحمك الله يا إمام، صيام مع صدقة مع ذكر مع علم وفقه وحديث حزت الخير أجمعه. (35) صوم ابن أبي ذئب الإمام شيخ الإسلام أبو الحارث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب القرشي. قال أحمد: كان يشبه بسعيد بن المسيب فقيل لأحمد خلّف مثله قال: لا ثم قال: كان أفضل من مالك إلا أن مالكاً رحمه الله أشد تنقية للرجال منه - كان يصلي الليل أجمع ويجتهد في العبادة ولو قيل له: إن القيامة تقوم غداً ما كان فيه مزيد من الاجتهاد. قال أخوه: كان أخي يصوم يوماً ويفطر يوماً ثم سرد الصوم وكان شديد الحال

_ (1) "السير" (6/378) . (2) "المدهش" (435) . (3) "السير" (6/377-378) .

(36) صوم شعبة الخير أبي بسطام

يتعشى الخبز والزيت (1) . قال أحمد بن حنبل إن ابن أبي ذئب ثقة قد دخل على أبي جعفر المنصور فلم يهبه أن قال له الحق وقال: الظلم ببابك فاش وأبو جعفر أبو جعفر. (36) صوم شعبة الخير أبي بسطام سيد المحدثين كما قال سليمان بن المغيرة (2) -الضخم الذي يحدث عن الضخام- الإمام المشهور والعلم المنثور، شعبة بن الحجاج الإمام أمير المؤمنين في الحديث، كان الثوري يقول: أستاذنا شعبة. وقال حمزة بن زياد عن شعبة: كان قد يبس جلده على عظمه من العبادة (3) . وقال أبو بكر البكراوي: ما رأيت أعبد لله من شعبة لقد عبد الله حتى جف جلده على عظمه من العبادة (4) . وقال عمر بن هارون: كان شعبة يصوم الدهر كله لا يرى عليه. قال أبو قطن: كانت ثياب شعبة لونها لون التراب وكان كثير الصلاة كثير الصيام سخي النفس. قال شعبة: كل من سمعت منه حدثنا فأنا له عبد. قال يحيى بن معين: شعبة إمام المتقين. وقال ابن مهدي: ما رأيت أحداً أكثر تقشفاً من شعبة. قال عبد السلام بن مطهر: ما رأيت أمعن في العبادة من شعبة (5) .

_ (1) "السير" (7/141) . (2) "الحلية" (7/153) . (3) "الحلية" (7/144) . (4) "الحلية" (7/144) . (5) "السير" (7/226) .

(37) صوم غندر

(37) صوم غندر الحافظ المجود الثبت أبو عبد الله محمد بن جعفر الهندلي، لزم شعبة عشرين سنة. قال يحيى بن معين: أخرج غندر إلينا ذات يوماً جراباً فيه كتب، فقال: اجتهدوا أن تخرجوا فيه خطأ قال: فما وجدنا فيه شيئاً وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً منذ خمسين سنة (1) . قال ابن مهدي: كنا نستفيد من كتب غندر في حياة شعبة. وقال غندر: أثبت في شعبة مني. (38) صوم معروف الكرخي الملهوف إلى المعروف عن الفاني مصروف وبالباقي مشغوف وبالتحف محفوف وللطف مألوف، الكرخي أبو محفوظ معروف (2) علم الزهاد، بركة العصر أبو محفوظ البغدادي (3) . قال ابن حنبل: وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟ قال ابن عبيد لإسماعيل بن شداد ما فعل ذلك الحبر الذي منكم ببغداد؟ قلنا: من هو؟ قال: أبو محفوظ معروف قلنا: بخير، قال: لا يزال أهل تلك المدينة بخير ما بقي فيهم (4) . سُئل: كيف تصوم؟ فغالط السائل وقال: صوم نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان كذا وكذا وصوم داود كذا وكذا فألح عليه فقال: أصبح دهري صائماً فمن دعاني أكلت ولم أقل إني صائم (5) .

_ (1) "السير" (9/99-100) . (2) "سير أعلام النبلاء" (9/39) . (3) "تاريخ بغداد" (13/200) ، و"طبقات الحنابلة" (1/382) . (4) "الحلية" (8/366) ، و"تاريخ بغداد" (13/201) ، و"سير أعلام النبلاء" (9/340) . (5) "السير" (9/341) ، "تاريخ بغداد" (13/252) .

(39) صوم أحمد بن حرب

قال عبيد بن محمد الوراق: مرّ معروف وهو صائم بسقّاء يقول رحمه الله: من شرب فشرب رجاء الرحمة (1) . وكان رحمه الله يقول: إن صليت بكم هذه الصلاة لا أصلي بكم ثانية نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل (2) . وكان يقول إذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح عليه باب الجدل (3) -. وعنه قال: ما أكثر الصالحين وما أقل الصادقين. (39) صوم أحمد بن حرب الإمام القدوة شيخ نيسابور أبو عبد الله النيسابوري، كان من كبار الفقهاء والعباد (4) . من صحت بدايته صحت نهايته أجسام ذللت منذ الصغر لخدمة سيدها ومولاها. قال زكريا بن حرب: ابتدأ أخي بالصوم وهو في الكتاب فلما راهق حج مع أخي الحسين بن حرب أقاما بالكوفة للطلب وبالبصرة وبغداد ثم أقبل على العبادة لا يفتر وأخذ من المواعظ والتذكير وحث على العبادة وأقبلوا على مجلسه (5) . هكذا صوم منذ الصغر مثلما كان ابن حنبل يحصي الليل وهو غلام. قال محمد بن يحيى مرّ أحمد بن حرب بصبيان يلعبون فقال أحدهم: أفسحوا فإن هذا أحمد بن حرب الذي لا ينام الليل فقبض على لحيته، وقال الصبيان: يهابونك وأنت تنام فأحيا الليل بعد ذلك حتى مات (6) .

_ (1) "الحلية" (8/365) ، و"السير" (9/342) . (2) "الحلية" (8/361) . (3) "الحلية" (8/3061) ، و"السير" (6/340) . (4) "السير" (11/32-33) . (5) "السير" (11/33) . (6) "السير" (11/33) .

(40) صوم أحمد بن حنبل إمام أهل السنة

(40) صوم أحمد بن حنبل إمام أهل السنة معلم الخير كما قال يحيى بن معين وقال: والله ما تقوى على ما يقوى عليه أحمد وعلى طريقة أحمد. قال ابن المديني: أحمد بن حنبل سيدنا. وقال: اتخذت أحمد بن حنبل إماماً فيما بيني وبين الله. وقال: إن الله عز وجل أعز هذا الدين برجلين لا ثالث لهما أبو بكر الصديق يوم الرَّدَّة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: أحمد بن حنبل إمامنا إني لأتزين بذكره. وقال إسحاق بن راهويه: لولا أحمد بن حنبل وبذل نفسه لما بذلها له لذهب الإسلام. وقال بشر بن الحارث: إن هذا الرجل قام اليوم بأمر عجز عنه الخلق أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء؟ إن أحمد بن حنبل قام مقام الأنبياء حفظ الله أحمد من بين يديه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله، إن أحمد بن حنبل طار بحظها وغنائها في الإسلام. وقال أبو ثور: كنت إذا رأيت أحمد بن حنبل خيِل إليك أن الشريعة لوح بين عينيه. "قال إبراهيم بن هانئ -وكان أبو عبد الله حيث توارى من السلطان توارى عنده- فحكى أنه لم يرد أحد أقوى على الزهد والعبادة وجهد النفس من أبي عبد الله أحمد بن حنبل، قال: كان يصوم النهار ويعجّل الإفطار، ثم يصلي بعد العشاء الآخرة ركعات، ثم ينام نومة خفيفة، ثم يقوم فيتطهر ولا يزال يصلي حتى يطلع الفجر، ثم يوتر بركعة، وكان هذا دأبه طول مقامه عندي، ما رأيته فتر ليلة واحدة، وكنت لا أقوى معه على العبادة، وما رأيته مفطراً إلا يوماً واحداً أفطر واحتجم" (1) .

_ (1) "مناقب الإمام أحمد" (359) .

* وبعد خروج الإمام أحمد إلى العسكر بعد انقضاء ما اتهم به "قال أبو بكر المروزيّ قال: قال لي أحمد بن حنبل ونحن بالعسكر: لي اليوم ثمان منذ لم آكل شيئاً ولم أشرب إلا أقل من ربع سويق، وكان يمكث ثلاثاً لا يطعم، فإذا كانت ليلة الرابعة أضع بين يديه قدر نصف ربع سويق، فربما شربه وربما ترك بعضه، وكان إذا ورد عليه أمر يهمه لم يطعم ولم يفطر إلى على شربة ماء. قال صالح بن أحمد: جعل أبي يواصل الصوم يفطر في كل ثلاث على تمر شهرين فمكث بذلك خمسة عشر يوماً، يفطر في كل ثلاث، ثم جعل بعد ذلك يفطر ليلة وليلة لا يفطر إلا على رغيف. وكان إذا جيء بالمائدة توضع في الدهليز لكي لا يراها فيأكل من حضر، وكان إذا أجهده الحر تلقى له خرقة فيضعها على صدره (1) . قال أبو بكر المروزي: أنبهني أبو عبد الله ذات ليلة، وكان قد واصل، فإذا هو قاعد فقال: هو ذا يدار بي من الجوع فأطعمني شيئاً فجئته بأقل من رغيف، فأكل ثم قال: لولا أني أخاف العون على نفسي ما أكلت، وكان يقوم من فراشه إلى المخرج، فيقعد يستريح من الضعف من الجوع، حتى إن كنت لأبل له الخرقة فيلقيها على وجهه لترجع إليه نفسه. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: مكث أبي بالعسكر عند الخليفة ستة عشر يوماً، ما ذاق شيئاً إلا مقدار ربع سويق، في كل ليلة كان يشرب شربة ماء، وفي كل ثلاث يستف حفنة من السويق، فرجع إلى البيت ولم ترجع إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر، ولرأيت مآقية قد دخلا في حدقتيه. وقال أبو بكر المروزي: كان أبو عبد الله بالعسكر يقول: انظر هل تجد لي ماء الباقلاء؟ فكنت ربما بللت خبزه بالماء فيأكله بالملح، ومنذ دخلنا العسكر إلى أن خرجنا ما ذاق طبيخاً ولا دسماً (2) .

_ (1) "مناقب الإمام أحمد" (449، 450) . (2) "مناقب الإمام أحمد" (454، 455) .

(41) صوم إبراهيم بن هانئ النيسابوري

قال أبو بكر المروزي: قال لي أبو عبد الله ونحن بالعسكر: ألا تعجب! كان قوتي فيما مضى أرغفة؛ وقد ذهبت عني شهوة الطعام فما أشتهيه، قد كنت في السجن آكل وذلك عندي زيادة في إيماني وهذه نقصان، وقال لنا يوماً ونحن بالعسكر: لي اليوم ثمان لم آكل شيئاً ولم أشرب إلا أقل من ربع سويق، وكان يمكث ثلاثاً لا يطعم وأنا معه، فإذا كان الليلة الرابعة أضع بين يديه قدر نصف ربع سويق، فربما شربه وربما ترك بعضه. وكلم في أمره في الحمل على نفسه فقيل له: لو أمرت بقدر تطبخ لك ليرجع إليك نفسك فقال: الطبيخ طعام المطمئنين، مكث أبو ذر ثلاثين يوماً ما له طعام إلا ماء زمزم، وهذا إبراهيم التيمي كان يمكث في السجن كذا وكذا لا يأكل، وهذا ابن الزبير كان يمكث سبعاً (1) . كتب المتوكل إلى خلفيته أن يحمل أحمد إليه، فحمل إليه، فلما قدم أحمد أمر أن يفرغ له قصر ويبسط له فيه ويجري على مائدته كل يوم كذا وكذا، وأراد أن يسمع ولده الحديث فأبى أحمد ولم يجلس على بساطه، ولم ينظر إلى مائدته وكان صائماً، فإذا كان عند الإفطار أمر رفيقه الذي معه أن يشتري له ماء الباقلاء فيفطر عليه، فبقي أياماً على هذه الحال، وكان علي بن الجهم من أهل السنة حسن الرأي في أحمد، فكلم أمير المؤمنين فيه، وقال: هنا رجل زاهد لا ينتفع به، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن له؟ ففعل ورجع أحمد إلى منزله" (2) . (41) صوم إبراهيم بن هانئ النيسابوري الإمام العلم أبو إسحاق النيسابوريّ. قال الخطيب: "كان أحد الأبدال" (3) . قال الإمام أحمد: "إن يكن أحد ممن يعرف من الأبدال فإبراهيم بن هانئ".

_ (1) "المناقب" (456) . (2) "المناقب" (457، 458) . (3) "تاريخ بغداد" (6/204) .

(42) صوم أحمد بن سليمان أبو بكر النجاد

وقال. إن كان ببغداد رجل من الأبدال فأبو إسحاق النيسابوريّ (1) . قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ: كان أحمد بن حنبل مختفياً هاهنا عندنا في الدار فقال لي أحمد بن حنبل: لست أطيق ما يطيق أبوك -يعني من العبادة-. ولو لم يكن هذا الإمام الجبل من الفضل إلا ما قاله إمام أهل السنة فيه لكفاه فخراً إلى يوم أن يرث الأرض ومن عليها. هذا الإمام الصوّام الذي مات وهو صائم. قال أبو بكر النيسابوري: حضرت إبراهيم بن هانئ عند وفاته فجعل يقول لابن إسحاق: يا أبا إسحاق ارفع الستر قال: يا أبت الستر مرفوع، قال: أنا عطشان فجاءه بماء قال: غابت الشمس؟ قال: لا، قال: فردّه، ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون ثم خرجت روحه. وفي "صفة الصفوة": فدعا ابنه إسحاق فقال: هل غربت الشمس؟ قال: لا، ثم قال: يا أبت رُخص لك في الإفطار في الفرض وأنت متطوع، قال: أمهل ثم قال: (لمثل هذا فليعمل العاملون) ثم خرجت نفسه" (2) . رحمك الله يا أبا إسحاق فقد كنت نسيجاً وحدك في صومك وعبادتك. (42) صوم أحمد بن سليمان أبو بكر النجاد من كبار علماء الحنابلة في جمع العلم والزهد، وكانت له حلقة بجامع المنصور، يفتي قبل الصلاة، ويملي الحديث بعدها. وصنف كتاب "الخلاف" نحو مائتي جزء، وقد سمع من أبي داود السجستاني وغيره. وكان يصوم الدهر ويفطر كل ليلة على رغيف (3) .

_ (1) "تاريخ بغداد" (6/205) . (2) "تاريخ بغداد" (6/206) ، و"صفة الصفوة" (2/401) . (3) "مناقب الإمام أحمد" (167، 618) .

(43) صوم بقي بن مخلد

(43) صوم بقي بن مخلد الإمام القدوة، شيخ الإسلام الحافظ، صاحب "التفسير" و"المسند" الذين لا نظير لهما، تلميذ الإمام أحمد. قال عنه الذهبي: كان إماماً مجتهداً صالحاً، ربانيّاً صادقاً مخلصاً، رأساً في العلم والعمل، عديم المثل، منقطع القرين، يُفتي بالأثر، ولا يقلد أحداً. قد ظهرت له إجابات الدعوة في غير ماشيء (1) . قال عنه أبو عبد الملك أحمد بن محمد بن عبد البر: "كان فاضلاً تقياً صواماً قواماً متبتلاً، منقطع القرين في عصره، منفرداً عن النظير في عصره" (2) . ذكر أبو عبيدة صاحب القبلة قال: "كان بقيّ يختم القرآن كل ليلة ثلاث عشرة ركعة، وكان يصلي بالنهار مئة ركعة، ويصوم الدهر، وكان كثير الجهاد، فاضلاً، يُذكر عنه أنه رابط اثنتين وسبعين غزوة" (3) . قال عند حفيده عبد الرحمن: "كان جدي قد قسّم أيامه على أعمال البر، فكان إذا صلى الصبح قرأ حزبه من القرآن في المصحف، سدس القرآن، وكان أيضاً يختم القرآن في الصلاة في كل يوم وليلة، ويخرج كل ليلة في الثلث الأخير إلى مسجده، فيختم قرب انصداع الفجر، وكان يصلي بعد حزبه من المصحف صلاة طويلة جداً، ثم ينقلب إلى داره -وقد اجتمع في مسجده الطلبة- ليجدد الوضوء ويخرج إليهم، فإذا انقضت الدول، صار إلى صومعة المسجد، فيصلي إلى الظهر، ثم يكون هو المتبدئ بالأذان، ثم يهبط، ثم يسمع إلى العصر، ويصلي ويُسمع، روبما خرج في بقية النهار، فيقعد بين القبور يبكي ويعتبر، فإذا غربت الشمس أتى مسجده ثم يصلي، ويرجع إلى بيته فيفطر، وكان يسرد الصوم إلا يوم الجمعة،

_ (1) "سير أعلام النبلاء" (13/286، 287) . (2) "سير أعلام النبلاء" (13/289) . (3) "سير أعلام النبلاء" (13/292) .

(44) صوم المنبجي

ويخرج إلى المسجد، فيخرج إليه جيرانه، فيتكلم معهم في دينهم ودنياهم، ثم يصلي العشاء، ويدخل بيته فيحدث أهله، ثم ينام نومة قد أخذتها نفسه، ثم يقوم، هذا إلى أن توفي" (1) . (44) صوم المنبجي الإمام المحدث، القدوة العابد، أبو بكر عمر بن سعيد الطائي المنبجي، قال عنه ابن حبان: "كان قد صام النهار وقام الليل ثمانين سنة، غازياً مرابطاً رحمه الله" (2) . كذاك الفخر يا همم الرجال ... تعافي فانظري كيف التعالي (45) صوم ابن زياد النيسابوري الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبي بكر عبد الله بن محمد بن زياد إمام الشافعيين في عصره بالعراق. قال الدارقطني تلميذه: ما رأيت أحفظ من أبي بكر النيسابوري. قال أبو الفتح يوسف القواس: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: تعرف من أقام أربعين سنة لم ينم الليل، ويتقوت كل يوم بخمس حبات ويصلي صلاة الغداة على طهارة عشاء الآخرة؟ ثم قال: أنا هو، وهذا كله قبل أن أعرف أم عبد الرحمن، أيش أقول لمن زوّجني؟ ثم قال: ما أراد إلا الخير" (3) ، ومعنى يتقوت كل يوم بخمس حبات أي بعد صيامه. (46) صوم القطان الإمام الحافظ القدوة، شيخ الإسلام أبي الحسن القطان عالم قزوين قال عنه جماعة من شيوخ قزوين:

_ (1) "سير أعلام النبلاء" (13/295) . (2) "سير أعلام النبلاء" (14/290) . (3) "تاريخ بغداد" (10/122) ، "سير أعلام النبلاء" (15/66) .

(47) صوم ابن بطة

لم ير أبو الحسن رحمه الله مثل نفسه في الفضل والزهد أدام الصيام ثلاثين سنة، وكان يفطر على الخبز والملح، وفضائله أكثر من أن تعد (1) . (47) صوم ابن بطة الإمام القدوة العابد الفقيه المحدث شيخ العراق العكبري الحنبلي صاحب "الإبانة الكبرى". قال الخطيب: "لما رجع ابن بطة من الرحلة لازم بيته أربعين سنة، لم يُر في سوق ولا رؤي مفطر إلا في عيد، وكان أمَّاراً بالمعروف، لم يبلغه خبر منكر إلا غيره" (2) . قال العتيقي: كان ابن بطة مستجاب الدعوة. قال أبو محمد الجوهري: سمعت أخي الحسين، يقول: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام، فقلت: يا رسول الله قد اختلفت عليّ المذاهب، فقال: عليك بابن بطة، فأصبحت ولبست ثيابي، ثم أصعدت إلى عُكبرا، فدخلت وابن بطة في المسجد، فلما رآني قال لي: صدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3) . (48) صوم ابن جميع المسند الرّحال العالم الصالح محمد بن أحمد بن جُمَيع الغسّاني الصيداوي صاحب "المعجم". قال ابنه: "صام أبي أبو الحسين وله ثمان عشرة سنة إلى أن توفي، وقد عاش ستاً وتسعين سنة" (4) . وكذا كان والده أبو بكر عابداً صوّاماً.

_ (1) "سير أعلام النبلاء" (15/464) . (2) "تاريخ بغداد" (10/372) ، و"سير أعلام النبلاء" (16/529، 530) . (3) "سير أعلام النبلاء" (16/530) . (4) "سير أعلام النبلاء" (17/155، 156) .

(49) صوم السكن ابن جميع

سبحان الله يسرد الصوم ثمانية وسبعين سنة لا يفطر إلا في العيدين وأيام التشريق. (49) صوم السكن ابن جميع أبي محمد. قال: سردت الصوم ولي ثمان وعشرون سنة ولي الآن سبع وثمانون سنة، وكذا سرد الصوم أبي وجدي (1) . وهل ينبت الخطيّ إلا وشيجه ... ويزرع إلا في منابته النخل (50) صوم الصوري الإمام الحافظ البارع الحجة أبي عبد الله محمد بن علي بن رحيم الشامي الصوري تلميذ الحافظ عبد الغني. كان رحمه الله يسرد الصوم إلا الأعياد (2) . (51) صوم الدوني الشيخ العالم الزاهد أبي محمد عبد الرحمن بن حمد الدوني. وهو آخر من روى كتاب "المجتبى" من سنن النسائي. قرأ عليه السلفي كتاب النسائي. قال السلفي: قال ابنه أبو سعد لي: لوالدي خمسون سنة ما أفطر النهار (3) (52) صوم العماد المقدسي العالم، الإمام، الزاهد، القدوة، بركة الوقت، عماد الدين أبو إسحاق إبراهيم المقدسي أخو الحافظ عبد الغني.

_ (1) "سير أعلام النبلاء" (17/157) . (2) "سير أعلام النبلاء" (17/628) . (3) "سير أعلام النبلاء" (19/240) .

(53) صوم ثابت البناني

كان الشيخ الموفق يقول: ما نقدر نعمل مثل العماد. قال الضياء: لم أر أحداً أحسن صلاة منه ولا أتم خشوع وخضوع، قيل: كان يسبح عشراً يتأنى فيها، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان إذا دعا كان القلب يشهد بإجابة دعائه من كثرة ابتهاله وإخلاصه، ومن دعائه المشهور: "اللهم اغفر لأقسانا قلباً، وأكبرنا ذنباً، وأثقلنا ظهراً، وأعظمنا جرماً". "يا دليل الحيارى دلنا على طريق الصادقين واجعلنا من عبادك الصالحين". قال عنه الموفق: ما أعلم أنني رأيت أشد خوفاً منه (1) . (53) صوم ثابت البناني المتعبد الناحل، والمتهجد الذابل أبي محمد. قال عنه أنس: إن للخير مفاتيح, وإن ثابتاً مفتاح من مفاتيح الخير. قال شعبة: كان ثابت يقرأ القرآن في يوم وليلة، ويصوم الدهر. قال بكر بن عبد الله: من أراد أن ينظر إلى أعبد أهل زمانه فلينظر إلى ثابت البناني فما أدركت الذي هو أعبد منه، إنه ليظل في اليوم المعمعاني (2) الطويل ما بين طرفيه صائماً يروح ما بين جبهته وقدمه (3) . وكان رحمه الله يقول: لا يسمى عابد أبداً عابداً، وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان، الصوم والصلاة، لأنهما من لحمه ودمه (4) . قال المبارك بن فضالة: دخلت على ثابت البناني في مرضه وهو في علوله، وكان لا يزال يذكر أصحابه فلما دخلنا عليه، قال: يا إخوتاه لم أقدر أن أصلي البارحة كما كنت أصلي، ولم أقدر أن أصوم كما كنت أصوم، ولم أقدر أن أنزل

_ (1) "سير أعلام النبلاء" (22/48, 49) . (2) في "النهاية": كان ابن عمر يتتبع اليوم المعمعاني فيصومه، أي الشديد الحر. (3) "حلية الأولياء" (2/318) . (4) "حلية الأولياء" (2/318) .

(54) صوم سعد بن إبراهيم الزهري

إلى أصحابي فأذكر الله عز وجل كما كنت أذكره معهم، ثم قال: اللهم إذ حبستني عن ثلاث فلا تدعني في الدنيا ساعة، [أو قال] إذ حبستني أن أصلي كما أريد وأصوم كما أريد وأذكرك كما أريد فلا تدعني في الدنيا ساعة، فمات من وقته رحمه الله (1) . يرحم الله ثابتا.. وأقر عينه في جناته. (54) صوم سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري فقيه العصر، صائم الدهر، المتعبد القارئ، الكاسي العاري سعد بن إبراهيم الزهري. قال شعبة: كان سعد بن إبراهيم يصوم الدهر (2) . كان رحمه الله يحتبي فما يحل حبوته حتى يقرأ القرآن. قال إبراهيم بن سعد: كان أبي سعد بن إبراهيم إذا كانت ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين لم يفطر، حتى يختم القرآن، وكان يفطر فيما بين المغرب والعشاء الآخرة، وكان يفطر فيما بين المغرب والعشاء الآخرة، وكان كثيراً إذا أفطر يرسلني إلى مساكين يأكلون معه (3) . (55) صوم وكيع بن الجراح النصّاح والمفهم المفصاح أبو سفيان وكيع بن الجراح!، الإمام الحافظ الرؤاسي محدث العراق، كان من بحور العلم وأئمة الحفظ. قال يحيى بن معين: وكيع في زمانه كالأوزاعي في زمانه.

_ (1) "حلية الأولياء" (2/320) . (2) "حلية الأولياء" (3/169) . (3) "حلية الأولياء" (3/170) .

(56) صوم أبي بكر بن عياش

قال الإمام أحمد: ما رأيت قط مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب مع خشوع وورع. وقال عنه وكيع: إمام المسلمين في زمانه. قال له الفضيل بن عياض: ما هذا السمن، وأنت راهب العراق؟ قال: هذا من فرحي بالإسلام فأفحمه (1) . قال يحيى بن أكثم: صحبت وكيعاً في الحضر والسفر، وكان يصوم الدهر، ويختم القرآن كل ليلة (2) . قال الذهبي: "رضي الله عن وكيع وأين مثل وكيع" (3) . قال ابن عمار: كان وكيع يصوم الدهر، ويفطر يوم الشك والعيد (4) . * كان وكيع لا ينام حتى يقرأ جزءه من كل ليلة ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل، فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر. قال أبو جعفر الجمّال: أتينا وكيعاً فخرج بعد ساعة، وعليه ثياب مغسولة، فلما بصرنا به، فزعنا من النور الذي يتلألأ من وجهه، فقال رجل بجنبي: أهذا ملك؟ فتعجبنا من ذلك النور (5) . (56) صوم أبي بكر بن عيّاش القارئ الهشاش، العابد البشاش أبو بكر بن عياش كان في العداد واحداً، وفى العبادة شاهداً (6) . كان رحمه الله يقول: يا ملكيّ ادعوا الله لي فإنكما أطوع لله مني وكان

_ (1) "سير أعلام النبلاء" (9/156) . (2) "سير أعلام النبلاء" (9/142) . (3) "سير أعلام النبلاء" (9/143) . (4) "سير أعلام النبلاء" (9/149) . (5) "سير أعلام النبلاء" (9/157) . (6) "حلية الأولياء" (8/303) .

(57) صوم جعفر بن الحسن الدرزيجاني

رحمه الله يقول: إن أحدهم لو سقط منه درهم لظل يوم يقول: إنا لله، ذهب درهمي، ولا يقول ذهب يومي ما عملت فيه (1) . قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (1/79) : "هو الإمام المجمع على فضله". روينا عن ابنه إبراهيم قال: قال لي أبي: إن أباك لم يأت بفاحشة قط، وإنه يختم القرآن منذ ثلاثين سنة كل يوم مرة. وروينا عنه أنه قال لابنه: يا بنيّ إياك أن تعصي الله في هذه الغرفة، فإني ختمت فيها اثني عشر ألف ختمة. وروينا عنه أنه قال لبنته عند موته وقد بكت: يا بنية لا بتكي، أتخافين أن يعذبني الله تعالى وقد ختمت في هذه الغرفة أربع وعشرين ألف ختمة. قال الحافظ ابن حجر في ترجمته: "ولد سنة 95 أو 96، ومات سنة 193، وكان قد صام سبعين سنة وقامها، وكان لا يعلم له بالليل نوم" (2) . (57) صوم جعفر بن الحسن الدرزيجاني المقرئ الزاهد الفقيه الحنبلي. قال عنه الحافظ ابن رجب: "كان من عباد الله الصالحين، أمّاراً بالمعروف، نهّاء عن المنكر، وله المقامات المشهورة في ذلك. كان مداوماً على الصيام والتهجد والقيام، وله ختمات كثيرة جداً، كل ختمة منها في ركعة، توفي في الصلاة ساجداً سنة 506 رحمه الله تعالى (3) .

_ (1) "حليهّ الأولياء" (8/303) . (2) "تهذيب التهذيب" (12/36) ، وانظر أيضاً "الثبات عند الممات" (109) . (3) "ذيل طبقات الحنابلة" (1/110) .

(58) صوم رحلة العابدة

(58) صوم رحلة العابدة مولاة معاوية عن سعيد بن عبد العزيز قال: ما بالشام ولا بالعراق أفضل من رحلة ودخل عليها نفر من القرّاء، فكلموها في الرفق بنفسها فقالت: "ما لي وللرفق بها؟ فإنما هي أيام مبادرة، فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غداً، والله يا إخوتاه لأصلين ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي" ثم قالت: أيكم يأمر عبده بأمر فيحب أن يقصر فيه، ولقد قامت رحمها الله حتى أقعدت، وصامت حتى اسودت، وبكت حتى عمشت، وكانت تقول "علمي بنفسي قرّح فؤادي، وكلم قلبي، والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئاً مذكوراً". وكانت رحمها الله تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين فى سبيل الله (1) . (59) صوم ميمونة بنت الأقرع عابدة زاهدة كتبت عن الإمام أحمد بن حنبل أشياء، وأخبر المروزي فقال: ذكرت لأحمد بن حنبل ميمونة بنت الأقرع فقلت له: "إنها أرادت أن تبيع غزلها فقالت للغزال: إذا بعت هذا الغزل فقل إني ربما كنت صائمة فأرخي يدي فيه، ثم ذهبت ورجعت فقالت: رد عليّ الغزل أخاف ألا تبين للغزال هذا" (2) . (60) صوم أبي حنيفة عن الحسن بن عمارة أنَّه غسل حين توفي وقال: غفر الله له، لم تفطر منذ ثلاثين سنة، ولم تتوسد يمينك في الليل منذ أربعين سنة (3) .

_ (1) "صفة الصفوة" (4/40، 41) . (2) "أعلام النساء" لعمر رضا كحالة (5/138) نقلاً عن طبقات الفقهاء الحنابلة للفرّاء (مخطوط) . (3) "إقامة الحجة على أن الإكثار من التعبد ليس ببدعة" (ص 77) .

(61) صوم محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة

(61) صوم محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي وهب قال الواقدي: كان يصلي الليل أجمع ويجتهد في العبادة، فلو قيل له أن القيامة تقوم غداً ما كان فيه يزيد الاجتهاد، وقال أخوه: أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ثم سرده (1) . (62) صوم الملك العادل نور الدين محمود زنكي الشهيد بن الشهيد والقسيم بن القسيم. قال ابن كثير: "صاحب بلاد الشام وغيرها من البلدان الكثيرة الواسعة، كان مجاهداً في الفرنج، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، محباً للعلماء والفقراء والصالحين، مبغضاً للظلم، صحيح الاعتقاد، مؤثراً لأفعال الخير، لا يجسر أحد أن يظلم أحداً في زمانه، وكان قد قمع المناكر وأهلها، ورفع العلم والشرع، وكان مدمناً لقيام الليل، يصوم كثيراً ويمنع نفسه من الشهوات، وكان يحب التيسير على المسلمين، ويرسل البر إلى العلماء الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل، وليست الدنيا عنده بشيء رحمه الله وبلّ ثراه بالرحمة والرضوان". قال ابن الجوزي: استرجع نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى من أيدي الكفار نيفاً وخمسين مدينة. "وكان قد عزم على فتح بيت المقدس شرفه الله فوافته المنية في شوال من هذه السنة (569 هـ) والأعمال بالنيات فحصل له أجر ما نوى" (2) . "وكان نور الدين يأمر الولاة والأمراء في الموصل ألا يفعلوا أمراً حتى يعلموا به الشيخ عمر الملا من الموصل وكان من الصالحين الزهاد، وكان نور الدين يستقرض

_ (1) "العبر" (1/231) ، واليافعي في "مرآة الجنان" (1/340) . (2) "البداية والنهاية" (12/306-307) .

منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه جميع رمضان" (1) . يرحم الله نور الدين لا يطعم ولا يفطر في رمضان على طعام المملكة بل يفطر على طعام شيخه. وهو الذي قال عنه ابن الأثير: "لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين، ولا أكثر تحريّاً للعدل والإنصاف منه، وكان مقتصداً في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، وكانت له دكاكين بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم، فكان يقتات منها". كتب إليه الشيخ عمر بن الملا هذا: "إن المفسدين قد كثروا، ويحتاج إلى سياسة، ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ إنسان في البرية من يجيء ويشهد له؟ فكتب إليه الملك نور الدين على ظهر كتابه: إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم، ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا، فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة فهو يكملها بزيادته، وهذا من الجرأة على الله وعلى ما شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم، فلما وصل الكتاب إلى الشيخ عمر الملا جمع الناس بالموصل وقرأ عليهم الكتاب وجعل يقول انظروا إلى كتاب الزاهد إلى الملك، وكتاب الملك إلى الزاهد". فألبس الله هاتيك العظام وإن ... بلين تحت الثرى عفوا وغفرانا سقى ثرى أودعوه رحمة ملأت ... مثوى قبورهم روحاً وريحاناً ويرحم الله من يقول: ومدرسة ستدرس كل شيء ... وتبقى في حمى علم ونسك تضوع ذكرها شرقاً وغرباً ... بنور الدين محمود بن زنكي (2)

_ (1) "البداية والنهاية" (12/302) . (2) "البداية والنهاية" (12/299-307) .

(63) صوم الشيخ الورع علي العياش

(63) صوم الشيخ الورع علي العياش: يصوم يوماً ويفطر يوما "الشيخ الصالح الورع المجدّ على العبادة ليلا ونهارا. كان من أجل أصحاب سيدي أبي العباس الغمري وسيدي إبراهيم المتبولي كان يصوم يوماً ويفطر يوماً" (1) . ونختم بختام المسك من آل هاشم. (64) صوم السيدة المكرمة الصالحة نفيسة ابنة الحسن بن زيد ابن السيد سبط النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي (رضي الله عنهما) العلوية الحسنية "كانت رحمها الله وأكرمها بين الصالحات العوابد، زاهدة، تقية نقية، تقوم الليل، وتصوم النهار حتى قيل لها: "ترفقي بنفسك" لكثرة ما رأوا منها فقالت: "كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون؟ " حجت ثلاثين حجة وكانت تحفظ القرآن وتفسيره (2) . قال عنها ابن كثير: "كانت عابدة زاهدة كثيرة الخير". "توفيت رحمها الله تعالى وهي صائمة، فألزموها الفطر، فقالت: "واعجباه! أنا منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه صائمة، أأفطر الآن هذا لا يكون" وخرجت من الدنيا، وقد انتهت قراءتها إلى قوله: (قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة) (3) . ويرحم الله من قال: لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا قوم أبوهم [علي] حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا

_ (1) "الكواكب السائرة" (2/222) . (2) "عودة الحجاب" (2/607-608) . (3) "مرآة الزمان" (82) .

(65) صوم زيد بن بندار

إنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا ... مُرزَّءون بهاليل إذا حشدوا محسدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله منهم ما له حسدوا قال عمر: "أحسن، وما أعلم أحداً أولى بهذا الشعر من هذا الحي من بني هاشم لفضل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقرابتهم منه" (1) . ونختم سادات الصائمين بالعجب العجاب: (65) زيد بن بندار بن زيد أبو النخاني يصوم هو وابنه وامرأته نحو أربعين سنة رحم الله أبا جعفر زيد بن بندار بن زيد أبو النخاني.. "كان من العابدين" (2) ، قال عنه أبو نعيم الأصبهاني: "من الفقهاء، صام نحو أربعين سنة هو وابنه وامرأته توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين" (3) . أخي: هل سمعت بأعجب من هذا ... رحمهم الله أهل بيت عابدين ... ما سمعنا بمثل قصتهم هذه أبدا. ***

_ (1) "تاريخ الطبري" (2/577-578) ، والبيت الثاني في الأصل قوم أبوهم سنان بدلا من عليّ. (2) "طبقات المحدثين بأصبهان" لأبي الشيخ الأصبهاني (ج 3/229) مؤسسة الرسالة. (3) كتاب "تاريخ أصبهان" لأبي نعيم الأصبهاني (1/377) - دار الكتب العلمية.

الباب السادس بين يدي رمضان

الباب السادس بين يدي رمضان

إذا العشرون من شعبان ولت

إذا العشرون من شعبان ولت يا إخوتاه ليس من رغب إلى الله كمن رغب عن الله -ليس من بقي مع الله كمن بقي عن الله- ليس من عمره كله رمضان كمن عمره كله للجشاء والطعام فمن الناس قوم قبل رمضان يأخذون بحظ أنفسهم من الشهوات والأكل ويقولون هي أيام توديع للأكل والطعام. وربما لم يقتصر كثير منهم على اغتنام الشهوات المباحة بل يتعدى إلى المحرمات وهذا هو الخسران المبين، وأنشد لبعضهم: إذا العشرون من شعبان ولت ... فواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداح صغار ... فإن الوقت ضاق على الصغار ونرد عليه: إذا العشرون من شعبان ولت ... فواصل ذكر ليلك بالنهار وقال آخر: جاء شعبان منذراً بالصيام ... فاسقياني راحا بماء الغمام ومن كانت هذه حاله فالبهائم أعقل منه وله نصيب من قوله: (وقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها) الآية وربما تكره كثير منهم بصيام رمضان حتى أن بعض السفهاء من الشعراء كان يسبه وكان للرشيد ابن سفيه فقال مرة شعراً: دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر فلو كان يعديني الأنام بقدرة ... على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر فأخذه داء الصرع فكان يصرع في كل يوم مرات متعددة ومات قبل أن يدركه رمضان آخر.

وهؤلاء السفهاء يستثقلون رمضان لاستثقالهم العبادات فيه من الصلاة والصيام فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام. وكثير منهم لا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان فيطول عليه ويشق على نفسه مفارقتها لمألوفها فهو يعد الليالي ليعود إلى المعصية وهؤلاء مصرون على ما فعلوا وهم يعلمون. كما يقول قائلهم أحمد شوقي: رمضان ولى هاتها يا ساقي ... مشتاقة تسعى إلى مشتاق وحكاية محمد بن هارون البلخي مشهورة وقد رويت من وجوه وهو أنه كان مصرّاً على شرب الخمر فجاء في آخر يوم من شعبان وهو سكران فعاتبته أمه وهي تسجر تنوراً فحملها فألقاها في التنور فاحترقت وكان بعد ذلك قد تاب وتعبد فرؤي له في النوم أن الله قد غفر للحاج كلهم سواه، فمن أراد الله به خيراً حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان فصار من الراشدين، ومن أراد به شرّاً خلى بينه وبين نفسه فأتبعه الشيطان فحبب إليه الكفر والفسوق والعصيان فكان من الغاوين - فالحذر الحذر من المعاصي فكم سلبت من نعم وكم جلبت من نقم وكم خربت من ديار وكم أخلت ديارا من أهلها فما بقي منهم ديّار، كم أخذت من العصاة بالثمار، كم محت لهم من آثار. يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه ... عواقب الذنب تخشى وهي تنتظر فكل نفس ستجزى بالذي كسبت ... وليس للخلق من ديانهم وزر (1) فيا من ذنوبه كثيرة لا تُعدّ، ووجه صحيفته بمخالفته قد اسودّ، كم ندعوك إلى الصيام وتأتي إلى الصدّ، أما الموت قد سعى نحوك وجدّ، أما عزم أن يلحق بالأب والجد، أما ترى منعما أترب الثرى منه الخد، فاحذر أن يأتي على العاصي فإنه إذا أتى أبى الرد.

_ (1) "لطائف المعارف" بتصرف (ص 153-154) .

ألم يأن تركي ما عليّ ولا ليَا ... وعَزْمي على ما فيه إصلاح حاليا وقد نال مني الدهر وابيض مفرقي ... بكرّ الليالي والليالي كما هيا أصوّتُ بالدنيا وليست تجيبني ... أحاول أن أبقى وكيف بقائيا وما تبرح الأيام تحذف مدتي ... بعد حساب لا كعدّ حسابيا أليس الليالي غاصباتي مهجتي ... كما غصبت قبلي القرون الخواليا وتسكنني لحداً لدى حفرة بها ... يطول إلى أخرى الليالي ثُوائيا فيا ليتني من بعد موتي ومبعثي ... أكون ترابًا لا عليّ ولا ليَا فاغتنموا إخواني زمنكم، وبادروا بالصحة سقمكم، واحفظوا أمانة التكليف لمن أمنكم، وكأنكم بالحميم وقد دفنكم، وبالعمل في القبر قد ارتهنكم (1) ؟ أين حال هؤلاء الحمقى من قوم كان دهرهم كله رمضان ليلهم قيام ونهارهم صيام؟! باع قوم من السلف جارية فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها، فسألتها فقالوا نتهيأ لصيام رمضان فقالت وأنتم لا تصومون إلا رمضان! لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني عليهم. باع الحسن بن صالح جارية له فلما انتصف الليل قامت فنادتهم يا أهل الدار الصلاة الصلاة، قالوا طلع الفجر؟ قالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة!! ثم جاءت الحسن فقالت: بعتني إلى قوم لا يصلون إلا المكتوبة ردني ردني. قيل لبشر إن قوماً يتعبدون ويجتهدون في رمضان فقط فقال: بئس القوم لا يعرفون لله حقّاً إلا في رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها. وقيل لأحد الصالحين أيهما أفضل رجب أو شعبان فقال: كن ربانيّاً ولا تكن شعبانيّاً. قال بعض السلف: صم الدنيا، واجعل فطرك الموت، الدنيا كلها شهر

_ (1) "التبصرة" (2/266-267) .

التهنئة بقدوم رمضان

رمضان، المتقون يصومون فيه عن الشهوات المحرمات فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم واستهلوا عيد فطرهم. وقد صمت عن لذّاتِ دهري كلها ... ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته، ومن تعجّل ما حرم عليه قبل وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته. شاهد ذلك قوله: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) [الأحقاف: 20] (1) . التهنئة بقدوم رمضان "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبشر أصحابه بقدوم رمضان كما أخرجه الإمام أحمد، والنسائي فعن أبي قلابة عن أبي هريرة قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبشر أصحابه "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة ويغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم" (2) . قال ابن رجب: "هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان، كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران، كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان. من أين يشبه هذا الزمان زمان؟! قال معلى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم. وقال يحيى بن أبي كثير: "كان من دعائهم اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلا".

_ (1) "لطائف المعارف" (ص 154-155) . (2) إسناده صحيح: "رواه النسائي والبيهقي، كلاهما عن أبي قلابة، انظر "مسند أحمد" (7148، 9493، 8979) تحقيق شاكر، عن أبي هريرة، قال الشيخ أحمد شاكر في التعليق على مسند أحمد (7148) ، إسناده صحيح، وفى "التهذيب" يقال أنه لم يسمع من أبي هريرة ولم أجد ما يؤيد هذا، وأبو قلابة -عبد الله بن زيد- لم يعرف بتدليس والمعاصرة كافية في الحكم بوصل الإسناد.

بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه. عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "كان رجلان من بلى من قضاعة أسلما مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستشهد أحدهما وأُخِّر الآخر سنة قال طلحة بن عبيد الله: فأريت الجنة فرأيت فيها المؤخر منهما أدخل قبل الشهيد فعجبت لذلك فأصبحت فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو ذُكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعة أو كذا وكذا ركعة صلاة السنة" (1) . عن أبي سلمة، عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين من بَليِّ قدما على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان إسلامهما جميعا: فكان أحدهما أشد اجتهاداً من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي. قال طلحة: فرأيت في المنام: بينا أنا عند باب الجنة، إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخر منهما ثم خرج فأذن للذي استشهد ثم رجع إلي فقال: أرجع فإنك لم يأن لك بعد. فأصبح طلحة يحدث الناس فعجبوا لذلك فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحدثوه الحديث: فقال: من أيِّ ذلك تعجبون؟ فقالوا: يا رسول الله هذا كان أشد الرجلين اجتهاداً ثم استشهد ودخل هذا الآخر الجنة قبله فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى: قال: وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا: بلى، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض" (2) . من رحم في رمضان فهو المرحوم، ومن حرم خيره فهو المحروم، ومن لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم. أتى رمضان مزرعة العباد ... لتطهير القلوب من الفساد

_ (1) إسناده صحيح انظر مسند أحمد بتحقيق شاكر حديث رقم (8380، 8381) (16/170-171) . (2) صحيح رواه ابن ماجة في "سننه" كتاب الرؤيا باب تعبير الرؤيا" وصححه الألباني، انظر "صحيح سنن ابن ماجة حديث رقم (3171 ج 2/345-346) .

فأد حقوقه قولاً وفعلاً ... وزادك فاتخذه للمعاد فمن زرع الحبوب وما سقاها ... تأوّه نادماً يوم الحصاد وقال الشاعر: إذا رمضان أتى مقبلاً ... فأقبل بالخير يستقبل لعلك تخطئه قابلاً ... وتأتي بعذر فلا يقبل كم ممن أمّل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر، كم من مستقبل يوماً لا يستكمله، ومؤمل غداً لا يدركه، إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره. يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ... حتى عصى ربه في شهر شعبان فاحمل على جسد ترجوه النجاة له ... فسوف تضرم أجساد بنيران كم كنت تعرف ممن صام في سلف ... من بين أهل وجيران وإخوان أفناهم الموت واستبقاك بعدهم ... حيا فما أقرب القاصي من الداني ومعجب بثياب العيد يقطعها ... فأصبحت في غد أثواب أكفان حتى متى يعمر الإنسان مسكنه ... يصير مسكنه قبر لإنسان (1) اعلم يا أخي أن الناصح لنفسه لا تخرج عنه مواسم الطاعات وأيام القربات عطلاً لأن الأبرار ما نالوا البر إلا بالبر. يضع نصب عينيه قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده" (2) . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه

_ (1) "لطائف المعارف" (ص 155-157) . (2) حسن: رواه الطبراني في "الكبير" عن أنس وقال الهيثمي إسناده رجاله رجال الصحيح وحسنه الألباني في "الصحيحة" رقم (1890) .

منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً". فيتعرض لإحسان مولاه، سبحانه من كريم أضحت رحالنا بباب كرمه مطروحة ورمضان سيد الشهور وتاج على مفرق الأيام والدهور. رمضان ربيع التقي وقد فاح فواحه ... رمضان يوسف الزمان في عين يعقوب الإيمان. فمرحى بشهر طيب كريم مبارك. * شهر نزول القرآن والكتب السماوية، شهر الشفاعة بالصيام والقرآن. * شهر التراويح والتهجد. * شهر التوبة وتكفير الذنوب. * شهر تصفيد الشياطين. * شهر غلق أبواب الجحيم. * شهر فتح أبواب الجنان. * شهر الجود والإحسان. * شهر العتق من النيران. * شهر ليلة القدر. * شهر الدعاء. * شهر الجهاد. * شهر مضاعفة الحسنات. * شهر الصبر والشكر. فهلم يا باغيَ الخير إلى شهر يضاعف فيه الأجر للأعمال، فَنصَبَ المجتهدين في خدمة مولاهم في هذا الشهر هو الراحة.

بين الجوانح في الأعماق سكناه ... فكيف أنسى ومن في الناس ينساهُ وكيف أنسى حبيباً كنت من صغري ... أسير حسن له جلت مزاياه ولم أزل في هواه، ما نقضتُ له ... عهداً ولا مَحَتِ الأيام ذكراه قد شاخ جسمي ولكن في محبته ... ما زال قلبي فتىً في عشق معناه في كل عام لنا لقيا محببة ... يهتز كل كياني حين ألقاه بالعين والقلب بالآذان أرقبه ... وكيف لا وأنا بالروح أحياه والليل تحلو به اللقيا وإن قصرت ... ساعاتها ما أُحيلاها وأحلاه فنوره يجعل الليل البهيم ضحى ... فما أجل وما أجلى محياه ألقاه شهراً ولكن في نهايته ... يمضي كطيف خيال قد لمحناه في موسم الطهر في رمضان الخير، تجمعنا ... محبة الله لا مال ولا جاه من كل ذي خشية لله ذي ولع ... بالخير تعرفه دوماً بسيماه قد قدروا موسم الخيرات فاستبقوا ... والاستباق هنا المحمود عقباه صاموه قاموه إيماناً ومحتسبا ... أحيوه طوعاً وما في الخير إكراه وكلهم بات بالقرآن مندمجاً ... كأنه الدم يسري في خلاياه فالأذن سامعة والعين دامعة ... والروح خاشعة والقلب أوّاه * هبت اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب في رمضان وسعى سمسار الوعظ للمهجورين في الصلح ووصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو والمستوجبين النار بالعتق، لما سلسل الشيطان في شهر رمضان، وخمدت نيران الشهوات بالصيام، انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل، فكم يبق للعاصي عذر.

يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشّعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، يا عيون المجتهدين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس اقلعي، يا بروق العشاق للعشاق المعي، يا خواطر العارفين ارتعي، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي قد مدّت في هذه الأيام موائد الأنعام للصوّام فما منكم إلا مَنْ دعي (يا قومنا أجيبوا داعي الله) [الأحقاف: 31] . ويا همم المؤمنين أسرعي، فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طُرد عن الباب وما دعي. ليت شعري إن جئتهم قبلوني ... أم تراهم عن بابهم يصرفوني أم تراني إذا وقفت لديهم ... يأذنوا بالدخول أم يطردوني (1) يا من طالت غيبته عن مولاه، قد قربت أيام المصالحة، يا من دامت خسارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة، كم ينادي حي على الفلاح وأنت خاسر، وكم تدعى إلى الصلاح وأنت على الفساد مثابر. من لم يربح في رمضان ففي أي وقت يربح، ومن لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يبرح. يتلذذون بذكره في ليلهم ... ويكابدون لدى النهار صياما فسيغنمون عرائساً بعرائس ... ويُبَوءون من الجنان خياما وتقر أعينهم بما أخفى لهم ... وسيسمعون من الجليل سلاماً (2) ***

_ (1) "لطائف المعارف" (ص 142-143) . (2) "عقود اللؤلؤ والمرجان في وظائف شهر رمضان" للشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن.

رمضان قصيدة لمحمود حسن إسماعيل

رمضان أضيف أنتَ حَلَ على الأنَامِ ... وأقسَم أَنْ يُحيا بالصيام؟! قطعتَ الدهر جَواباً وفياً ... يَعودُ مَزارَهُ في كل عام تُخيم.. لا يَحدُّ حماكَ ركن ... فكل الأرض مهدٌ للخيام نسَخْتَ شعائرَ الضيفان، لما ... قنعتَ من الضيافة بالمقامِ ورُحت تَسُنُّ للأجوادِ شرعاً ... من الإحسان عُلوي النظام، بأن الجودَ حرمَان وزُهْد ... أعزُّ منَ الشراب أو الطعَام!! أشهر أنتَ أم رُؤْيا مَتاب ... تألق طيفُها مثل الشهاب؟ تَمرغَ في ظلالِكَ كل عاص ... وكلُّ مَرَجَّس دَنِس الإهابِ فأنتَ محير الآثام.. تَجْري ... فتَلْحقها بأحلام العذابِ تَراكَ شفيعَ تَوْبتَها، فتَخْزى؛ ... وتُوأَدُ تحت أجنحة الشباب! وأنتَ مَنارة الغُفْران، يأوِي ... إليك اليائسون من المتاب وعندَ الله سُؤْلُك مستَجابٌ ... ولو حُملتَ أوزارَ التُّراب!! وقفتَ خُطاكَ عندَ البائسينا ... فكنتَ للَيلهم فلقاً مُبينا تُساقُ إليكَ أمواجُ التحايا ... فتدفَعُهَا لباب المُعوزينا فكم آهات محْروم حَدَاها ... إليك البؤسُ! فانقَلَبتْ رَنيناً فأنتَ مفزع البُخالْ.. تَجْري ... خُطاكَ على حجارتِهِم مَعينا وأَنتَ مُلَقن الأيدي نَداها ... ومُكسبُها التراحُم والحْنينا يخَافكَ كلُّ قارون شحيح ... فيخْجلُ أنْ يُردَّ السائلينا

ومُنْذُ تَهِل ترهَبُكَ الذُّنوبُ ... وتَخَتشِعُ السرائرُ والقلوبُ وتفزعُ أن تُقابلك المعَاصي ... فتُهْرَعُ أو تُقَنعُ، أو تذُوبُ ويُجفل أنْ يراك أخو هَواها ... ولو قَتَلَتْ مشاعره العُيوبُ كأنَّكَ فارسُ الأيام، تَبدُو ... فيصعقها مُهنَّدُكَ الغَضُوبُ كأنَّ بكفِّك البيضاء سرّاً ... من النَّجْوى تَكتَّمُهُ الغيوبُ تُجابهُ كلهَ غَيَّان عَنيد ... فيَكتَتِمُ الغِوايةَ أو يَتُوِبُ جعلتَ النَّاس في وقت المغيبِ ... عبيدَ ندائكَ العاتي الرَّهيبِ كم ارتقَبُوا الأذانَ كأنَّ جُرحاً ... يُعذبُهمْ تَلَفتْ للطَّبيب وأتلَعَتِ الرِّقاب بهم، فلاحوا ... كَرُكْبان علَى بلَد غَريبِ عُتاةُ الإنسِ، أنتَ نسخْتَ منهم ... تَذَلُّلَ أَوْجُهِ وضنى جُنوبِ فيا.. من لقْمة، حفيف ماءِ ... يُقِّلب روحَه فوقَ اللهيب علامَ البغْيء والطغيان؟! إِنِّي ... كفَرتُ بمنطق الدُّنْيا العَجيبِ! تَلفتْ للمآذِنِ حاليات ... كَحُورِيَّات خلْد سافِراتِ تفوحُ مباخرُ النُّسَّاك منها ... فتحسبُها غُصوناً عاطراتِ تلألأ حولها أطواق نور كأنكَ حامل وحياً إليها ... وقَفْنَ لسِحرِه متلهفاتِ إِذا صاحَ الأذانُ بها أَرنَّتْ ... بإلهام كموْج البَحرِ عاتِ يذكَّرُ بالهِدايةِ كل ناس ... ويُوقِظُ كلِّ غاف في الحيَاةِ! وهذا المعُجِزُ العالي الرَّخيمُ ... أَذانُ الله، والذْكر الحكيم تَلَاهُ في سكون اللَّيل تال ... فكاد لِهَوله تَهْوِي النجومُ

نِداء تفزَغُ الأفلاك منه ... ويخشعَ في مساريه السَّديمُ على سمْع الهُداة يَضُوعُ عطراً ... وتُقذَفُ منه للغاوي رُجُومَ أصاخ الكونُ مسحوراً إليه ... وخَر لبأسِه الأزلُ القَديمُ تَنَزلَ فوق صدرِكَ منْ علاه ... يشيرُ الوَحْي، والدِّينُ القَويمُ سلاماً ناسَكَ الزمنِ القَوِيِّ ... منَ القلبِ الحزين الشاعري حملتُ إليك أشواقي وسري ... لتَحْمِلَها إلى الأُفُق العَلِي أمُر بها على زمنى غريباً ... كطَير تاهَ في ظُلَم العَشي وأعزِفُ للصبائحِ والأَماسي ... فينتَفضُ الغناءُ لِكُلِّ حَي كأني ما ذرفتُ أسىَ زماني ... ولا أَفضَى صَداي بأيِّ شَيء!! طَلعْتَ منوِّراً فوق العباد ... فأيقظْ من تشبثَ بالرقاد وقل للشرق: إن الكون يَمْشي ... على سُبُل مغيبة الرَّشاد فخُذ لزمانكَ الزَّاد المرَجّى ... من الخلقِ القويم والاتحاد ولا يوقفْكَ في التيار هولٌ ... فنارُ الهوْل، نورٌ للجهاد لقد ملَّتْ تقلبنا الليالي ... على وَضَرِ التنعمِ والفَسَاد شَدَا لكَ بالأذان خميلُ مصرِ ... فَقُمْ.. وانشُر صَداهُ على البَوادِي!! (1) ***

_ (1) محمود حسن إسماعيل الديوان الحادي عشر صوت من الله قصيدة: "الزمن" رمضان ص (1763-1770) .

مدرسة الثلاثين يوما "شهر للثورة" لمصطفى صادق الرافعي

مدرسة الثلاثين يوماً "شهر للثورة" (*) * يقول الأديب الفاضل مصطفى صادق الرافعي رحمه الله. "لم أقرأ لأحد قولاً شافياً في فلسفة الصوم وحكمتِه؛ أما منفعتُه للجسم، وأنه نوعٌ من الطب له، وبابٌ من السياسة في تدبيره؛ فقد فرغ الأطباءُ من تحقيق القول في ذلك؛ وكأن أيامَ هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبةً تؤخذُ في كل سنة مرةً لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم؛ ولكنا الآن لسنا بصدد من هذا، وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شَرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة، عاملة على استمرارِ الفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدَّل النفس على تغير الحوادث وتَبَدُّلِها، ولكيلا تجهل الدنيا معاني الترقيع إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمزيق. من معجزات القرآن الكريم أنه يدَّخرُ في الألفاظ المعروفة في كل زمن، حقائقَ غيرَ معروفة لكل زمن، فيُجلِّيها لوقتها حين يَضِج الزمانُ العلمي في مَتَاهَتِه وحَيرَته، فيَشغَبُ على التاريخ وأهله مستَخِفّاً بالأديان، ويذهبُ يتتبعُ الحقائق، ويستقصي في فنون المعرفة، ليستخلصَ من بيِن كُفرٍ وإيمان ديناً طبيعيّاً سائغاً، يتناولُ الحياة أول ما يتناولُ فيضبطها بأسرار العلم، ويوجِّهُها بالعلم إلى غايتها الصحية، ويضاعف قُواها بأساليبه الطبيعية، ليحقِّق في إنسانية العالم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمُها المذاهبُ الاجتماعية ولم يهتد إليها مذهبُ منها ولا قاربَها؛ فما برحت سعادةُ الاجتماع كالتجربة العلمية بين يَدي علمائها: لم يحققوها ولم ييأسوا منها، وبقيت تلك المذاهبُ كعقارب الساعة في دورَتها: تبدأ من حيثُ تبدأ ثم لا تنتهي إلا إلى حيثُ تبدأ.. يضطرب الاشتراكيون في أوربا وقد عجزوا عجز من يحاول تغيير الإنسان

_ (*) كتبها في شهر رمضان سنة 1353 هـ، وانظر "عود على بدء" من كتاب حياة الرافعي.

بزيادة ونقص في أعصابه؛ ولا يزال مذهبهُم في الدنيا كُتُب ورسائل؛ ولو أنهم تدَبروُا حكمة الصوم في الإسلام، لرأوا هذا الشهر نظاما عمليّا من أقوى وأبدع الأنظمة الصحيحة: فهذا الصومُ فَقر إجباريّ تَفرضه الشريعةُ على الناس فرضاً ليتساوَى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من مَلَك المليونَ من الدنانير، ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئاً؛ كما يتساوى الناسُ جميعا في ذهاب كبريائهم الإنساني بالصلاة التي يفرضُها الإسلام على كل مسلم؛ وفي ذهاب تَفاوُتِهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضُه على من استطاع. فقرُ إجباريٌ يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة. ولو حققت رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا؛ وإنما يختلفون ببطونهم وإحكام هذه البطون على العقل والعاطفة؛ فمن البطن نكبةُ الإنسانية، وهو العقلُ العملي على الأرض؛ وإذا اختلف البطنُ والدماغُ في ضرورةٍ، مد البطنُ مدَّهُ من قَوَى الهضم فلم يبقِ ولم يَذَر. ومن ههنا يتناولُه الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواء: ليس لجميعهم إلا شعورٌ واحد وحس واحد وطبيعة واحدة؛ ويُحكم الأمر فيحولُ بين هذا البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه فيمسك حواشيه العصبية في الجسم كله يمنعُها تغذيتها ولذتها. وبهذا يضَعُ الإنسانيةَ كلَّها في حالة نفسية واحدة تَتَلبسُ بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويُطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يُعلم الرحمة ويدعو إليها، فيُشبعُ فيها بهذا الجوعِ فكرة معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية (1) من الحق، وهي تلك الفكرةُ التي يكون عنها مساواة الغني للفقير من طبيعته، واطمئنان

_ (1) ليس فيها أي حق.

الفقير إلى الغني بطبيعته؛ ومن هذين: (الاطمئنان والمساواة) ، يكون هدوءُ الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلبُ والإيجابُ في هذا الاجتماع الإنساني؛ وإذا أنت نزعتَ هذه الفكرة من الاشتراكية بقى هذا المذهبُ كلُّه عَبثاً من العَبث في محاولة جعلِ التاريخ الإنساني تاريخاً لا طبيعة له. من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعضُ السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشدَ المبالغة، ويدقق كلَّ التدقيق، في منع الغذاء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدةً آخرها آخر الطاقة؛ فهذه طريقةٌ عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرُها إلا النكباتُ والكوارث؟ فهما طريقتان كما ترى مُبصرةٌ وعمياء، وخاصةٌ وعامة، وعلى نظام وعلى فجأة. ومتى تحققت رحمةُ الجائع الغني للجائع الفقير، أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانُها النافذ، وحكم الوازع النفسي على المادة؛ فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول: "أعطي" ثم لا يسمع منه طلباً من الرجاء، بل طلباً من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه، كما يُواسي المبتلى من كان في مثل بلائه. أية معجزة إصلاحية أعجبُ من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن يحذفَ من الإنسانية كلها تاريخُ البطن ثلاثين يوماً في كل سنة، ليحِل في محله تاريخُ النفس (1) ؟ وأنا مُستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا الصوم شهراً كاملاً من كل اثني عشر شهراً، وأن هذه النسبة متحقِّقةٌ في أعمال النفس للجسم، وأعمال الجسم للنفس؛ كأنه الشهرُ الصِّحي الذي يفرضه الطبُّ في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة، لإحداث الترميم العصبي في الجسم، ولعل ذلك آتٍ من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني وبين القمر منذ يكون هلالاً إلى أن يدخل في المحاق؛ إذ تنتفخُ العروقُ وتَربوا في النصف الأول من الشهر، كأنها في (مَدّ) من نور القمر ما دام هذا النورُ إلى زيادة، ثم يراجعُها (الجزرُ) في

_ (1) أفسد ضعفى النفوس هذا المعنى، فما يحقق الناس (تاريخ البطن) كما يحققونه في شهر رمضان، وهم يعوضون البطن في الليل ما منعوه في النهار، حتى جعلوا الصوم تغييراً لمواعيد الأكل.. ولكن الصوم على ذلك لم يحرمهم فوائده.

النصف الثاني حتى كأن للدم إضاءة وظلاماً. وإذا ثبت أن للقمر أثراً في الأمراض العصبية، وفي مدّ الدم وجَزرِه (1) ، فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهراً قمريّا دون غيره. وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر، وهو -مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها- إثباتُ الإرادة وإعلانُها، كأنما انبعث أولُ الشعاع السماوي في التنبيه الإنساني العامّ لفروض الرحمة والإنسانية والبرّ. وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهي عملُه في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي، الذي يُدرّبُ الصائم على أن يمتنع باختياره من شهوَاته ولذّةِ حيوانيته، مُصِرّاً على الامتناع، مُتهَيئاً له بعزيمته، صابراً عليه بأخلاق الصبر، مُزاولاً في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسَخُ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة. وإدراكُ هذه القوة من الإدراك العملية منزلةُ اجتماعية سامية، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم، ففي هذين تعرض الفكرةُ مارّة مُرورهَا، ولكنها في الإرادة تعرِض لتستقرّ وتتحقَّق، فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم، تجد ثلاثين يوماً من كل سنة قد فُرِضت فرضاً لتربية إرادة الشعب ومزاولتِه فكرة نفسيّةً واحدةً بخصائصها ومُلابساتها حتى تستقر وترسخ وتعودَ جزءاً من عمل الإنسان، لا خيالاً يمر برأسه مَراً. أليست هذه هي إتاحةَ الفرصة العملية التي جعلوها أساساً في تكوين الإرادة؟ وهل تبلغ الإرادةُ فيما تبلغ، أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مُذعنَة لفكرهِ، منقادة للوازع النفسي فيه، مُصَرفَة بالحس الديني المسيطِرِ على النفس ومشاعِرِها. أما والله لو عم هذا الصومُ الإسلامي أهلَ الأرض جميعاً، لآل معناه أن يكون إجماعاً من الإنسانية كلِّها على إعلان الثورة شهراً كاملاً في السنة، لتطهير العالم

_ (1) قال الجاحظ في (الحيوان) : "ولزيادة القمر حتى يصير بدراً، أثر بين في زيادة الدماء في الأدمغة وجميع الرطوبات".

من رذائله وفساده، ومَحق الأثَرَة والبخل فيه، طرح المسألة النفسية ليتَدراسَهَا أهلُ الأرض دراسةَ عمليةَ مدة هذا الشهر بطوله، فيَهبطُ كلُّ رجُل وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها، ليختبرَ في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر وليفهم في طبيعة جسمه -لا في الكتب- معاني الصبر والثبات والإرادة، وليبلغَ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان؛ فيُحقق بهذه وتلك معاني الإخاء والحرية والمساواة. شهرٌ هو أيام قلبيةٌ في الزمن؛ متى أشرفَت على الدنيا قال الزمنُ لأهله: هذه أيامُ من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي؛ فيُقبلُ العالم كلُّه على حالة نفسية بالغة السموّ، ويتعهدُ فيها النفس برياضتها على معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعَت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أُفرغَتْ من خَسائسِها وشهواتها كما فَرَغَ هو، وكأنما أُلزِمَت معانيَ التقوى كما أُلزِمَها هو وما أجملَ وأبدع أن تَظهَر الحياةُ في العالم كله -ولو يوماً واحداً- حاملةً في يده السبحة..! فكيف بها على ذلك شهراً من كل سنة؟ إنها والله طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس؛ وتطهير الاجتماع من خسائس العقل الماديّ؛ ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين، والمحررةِ من القوانين في باطنها - إلى قانون من باطنها نفسه يُطهرُ مَشاعرَها، ويسمو بإحساسها، ويصرفها إلى معاني إنسانيتها، ويُهذب من زياداتها، ويحذف كثيراً من فُضُولها، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة، فيجعلها صافية مُشرقة بما يجتذبُ إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق؛ إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعوَ إليها ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الفكر الأخرى والنفسُ في هذا الشهر مُحتَبَسَة في فكرة الخير وحدها، فهي تبني بناءَها من ذلك ما استطاعت. هذا على الحقيقة ليس شهراً من الأشهر، بل هو فصلٌ نَفساني كفصول الطبيعة في دَورَانها؛ ولَهو والله أشبهُ بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من

طبيعته السحُبُ والغيث، ومن عمله إمدادُ الحياة بوسائل لها ما بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته أن يكسبِهَا الصلابة والانكماش والخفة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه. وعجيب جدّاً أن هذا الشهر الذي يَدَّخر فيه الجسمُ من قواه المعنوية فيودِعُها مَصرِفَ روحانيته، ليجدَ منها عند الشدائد مَدَدَ الصبر والثبات والعزم والجلَد والخشونة. وسحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدَّخر هذه القوّة وتوفِّرها لتستمدّها عند الحاجة، وذلك هو سِر أسلافنا الأولين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجدُ الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتَاد والأسلحة والذخيرة. كلُّ ما ذكرتُه في هذا المقال من فلسفة الصوم، فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة: (كُتِبَ عليكم الصيامُ كما كُتِبَ على الذين من قَبلِكم لعلكم تتقون) [البقرة: 183] . وقد فهمها العلماء جميعاً على أنها معنى "التقوى"، أما أنا فأوّلتُها من "الاتّقَاء"؛ فبالصوم يَتقي المرءُ على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعتُه مَعِدَتُه، وألا يُعامِلَ الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة؛ ويتقي المجتمعُ على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسانٌ مع إنسان كحمار مع إنسان يبيعه القوة كلَّها بالقليل من العَلَف. وبالصوم يتقى هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فإن ما بين يديه هو الحاضرُ من طباعه وأخلاقه، وما خَلَفَه هو الجيلُ الذي سيرثُ من هذه الطّباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر، ويعمل بالحاضر في الآتي (1) .

_ (1) يفسر القرآن بعضه بعضاً، ومن معجزاته في هذا التأويل الذي استخرجناه أنه يؤيده بالآية الكريمة في سورة (يس) : (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون..) ويشير إلى هذا التأويل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما الصوم جنة (بضم الجيم) فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، وإني صائم". الجنة: الوقاية يتقي بها الإنسان، والمراد أن يعتقد الصائم أنه قد صام ليتقي شر حيوانيته وحواسه، فقوله: "إني صائم، إني صائم"؛ أي إنني غائب عن الفحش والجهل والشر؛ إني في نفسي وليست في حيوانيتي.

وكلُّ ما شرحناه فهو اتقاءُ ضرر لجلب منفعة، واتقاءُ رذيلة لجلب فضيلة؛ ولهذا التأويل تتوجه الآية الكريمةُ جهةً فلسفيةً عاليةً، لا يأتي البيانُ ولا العلمُ ولا الفلسفةُ بأوجزَ ولا أكمل من لفظها؛ ويتوج الصيامُ على أنه شريعة اجتماعية إنسانيةٌ عامة؛ يتقى بها الاجتماعُ شرورَ نفسِه؛ ولن يتهذّبَ العالَم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانونُ العام الذي اسمُهُ الصومُ، ومعناه "قانونُ البطن" ... ألا ما أعظمَكَ يا شهر رمضان! لو عَرَفَكَ العالَمُ حقّ معرفتِك لسَماكَ: "مدرسة الثلاثين يوماً". ***

الباب السابع فضائل رمضان

الباب السابع فضائل رمضان

رمضان شهر نزول القرآن والكتب السماوية

رمضان شهر نزول القرآن والكتب السماوية يا له من شهر طيب اختاره الله لنزول الكتب السماوية فيه. عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشر خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" (1) . قال تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) [البقرة: 185] ، وقال تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) [القدر:1] . وقال تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) [الدخان: 3] . قال ابن جرير الطبري: "نزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان ثم أنزل إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما أراد الله إنزاله إليه". عن ابن عباس قال: "أنزل القرآن جملة من الذكر (2) ، في ليلة أربع وعشرين من رمضان (3) فجعل في بيت العزة. وعن سعيد بن جبير: نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في شهر رمضان فجعل في سماء الدنيا. وعن ابن عباس: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا، جملة واحدة، ثم فرّق في السنين بعدُ. قال: وتلا ابن عباس هذه الآية. (فلا أقسم بمواقع النجوم) [الواقعة: 75] قال: نزل مفرقاً (4) .

_ (1) حسن: رواه الطبراني في "الكبير" عن واثلة، وأحمد في "مسنده"، وابن عساكر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1509) . (2) أي اللوح المحفوظ. (3) وهي عند ابن عباس ليلة القدر والوتر من العشر الأواخر كما يقول ابن تيمية قد يكون باعتبار ما مضى من الشهر أو باعتبار ما بقي. (4) "تفسير الطبري" (2/114-115) طبعة مصطفى الحلبي.

أنزل القرآن بفرض صيامه قاله مجاهد والضحاك. أنزل في فضله القرآن: قاله سفيان بن عيينة (1) . والقرآن: "كتاب هذه الأمة الخالد، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور فأنشأها النشأة وبدَّلها من خوفها أمناً، ومكَّن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي بها صارت أمة، ولم تكن من قبل شيئاً، وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض، ولا ذكر في السماء، فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل في القرآن" (2) . القرآن كتاب هذه الأمة، هو روحها وباعثها، وقوامها وكيانها، وهو حارسها وراعيها، هو بيانها وترجمانها، هو دستورها ومنهجها، وهو زاد الطريق. ولكن ستظل هناك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية ذات وجود حقيقي، ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة، وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك. سيظل هناك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن طالما نحن نتلوه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة، لا علاقة لها بواقع الحياة البشرية، بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوساً ووقائع وأحداثاً حية، لقد خاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كلها معها، ولكنه مع هذا يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة، وكأنما هو يتنزل اللحظة الأخيرة لمواجهة الجماعة المسلمة في شئونها الجارية وفي صراعها الراهن، وفي معركتها كذلك في داخل النفس وفي عالم الضمير" (3) . "آيات منزلة من حول العرش، فالأرض بها سماء هي منها كواكب، بل الجند

_ (1) "التبصرة" لابن الجوزي (2/73) . (2)) "الظلال" (1/171-172) . (3) من وحي القلم.

الإلهي قد نشر له من الفضيلة علم وانضوت إليه من الأرواح مواكب، أغلقت دونه القلوب فاقتحم أقفالها، وامتنعت عليه أعراف الضمائر فابتز أنفالها" (1) . كم صدوا عن سبيله صدّاً، ومن ذا يدافع السيل إذا أهدر؟ واعترضوه بالألسنة ردّاً، ولعمري من يرد على الله القدر؟ ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا لانت فأنفاس الحياة الآخرة متى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب، وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسن ترعد من حمى القلوب. معانٍ هي عذوبة ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الإيمان وجه الأمان، ترف بندى الحياة على زهرة الضمير، وتخلق في أرواجها من معاني العبرة معنى العبير. يجري في الخواطر كما تصعد في الشجر قطرات الماء، ويتصل بالروح فإنما يمد لها بسبب إلى السماء. ألفاظ لم تعهد كلم أحداقها، وثمرات لم تنبت في قلم أوراقها، ونور عليه رونق الماء فكأنما اشتعلت به الغيوم، وماء يتلألأ من النور فكأنما عصر من النجوم. وهل رأوا إلا كلاماً تضيء ألفاظه كالمصابيح، فعصفوا عليه بأفواههم كما تعصف الريح، يريدون أن يطفئوا نور الله وأين سراج النجم من نفخة ترتفع إليه كأنما تذهب تطفيه، ونور القمر من كف يحسب صاحبها أنها في حجمه فيرفعها كأنما يخفيه! وهيهات هيهات دون ذلك درج الشمس وهي أم الحياة في كفن وإنزالها بالأيدى وهي روح النار في قبر من كهوف الزمن. لا جرم أن القرآن سر السماء، فهو نور الله في أفق الدنيا حتى تزول، ومعنى الخلود في دولة الأرض إلى أن تدول، وكذلك تمادى العرب في طغيانهم يعمهون، وظلت

_ (1) المراد: "أن ضمائر العرب امتنعت عن القرآن بما أستوعر فيها من العادات والأخلاق فنفذ إليها وابتزها وغلبها على أمرها".

آياته تلقف ما يأفكون، (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون) (1) [الأعراف: 118] . نزول القرآن على قلب نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعظم النعم قال تعالى: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) الآية [العنكبوت:51] . أولم يكفهم أن يعيشوا مع السماء بهذا القرآن، يشعرهم أن عين الله عليهم، وأنه معني بهم يتنزل عليهم، يحدثهم بما في نفوسهم، وهم هذا الخلق الصغير الضئيل التائه في ملكوت الله الكبير. والله بعد ذلك يكرمهم حتى لينزل عليهم كلماته تتلى عليهم ثم هم لا يكتفون إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون. الذين يؤمنون هم الذين يجدون مس هذه الرحمة في نفوسهم، وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل، ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إلى حضرته وإلى مائدته وهو العلي الكبير. وهم الذين ينفعهم هذا القرآن، لأنه يحيا في قلوبهم، ويفتح لهم عن كنوزه، ويمنحهم ذخائره ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور. الإيمان بكلام الله والعيش معه طمأنينة في القلب واستقامة على الطريق، وثبات على الدرب، وثقة بالسند، واطمئنان للحمى، ويقين بالعاقبة. قال تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) [يونس: 58] . وقال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) [الزمر: 23] .

_ (1) "إعجاز القرآن" للرافعي من (29-31) .

الحياة في ظلال القرآن نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه وتذكيه. أي تكريم للإنسان يفوق هذا التكريم العلوي الجليل. (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) [الكهف:1] . أي نعمة أعظم من نعمة نزول القرآن.. نعمة لا يسعها حمد البشر فحمد الله نفسه على هذه النعمة. أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل، أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان القليل الصغير خالقه الكريم. قال تعالى: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً) الآية [النساء: 113] . هي منة الله على الإنسان في هذه الأرض.. المنة التي ولد الإنسان معها ميلاداً جديداً، ونشأ بها الإنسان نشأة جديدة. المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية لترقى بها في الطريق الصاعد إلى القمة السامقة على طريق المنهج الرباني الفريد العجيب. المنة التي لا يعرف قدرها إلا الذي عرف الإسلام والجاهلية جاهلية الماضي والحاضر. وإذا كانت منة يذكر الله بها رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلأنه أول من عرفها، وذاقها وأكبر من عرفها وذاقها، وأعرف من عرفها وذاقها، قال تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) الهدى حقيقته، والهدى طبيعته، والهدى كيانه، والهدى ماهيته، القلب المؤمن يدرك قيمة الاهتداء بعد الضلال قيمة الرؤية الواضحة بعد الغبش قيمة الاستقامة على الدرب بعد الحيرة، قيمة الطمأنينة للحق بعد الأرجحة، قيمة التحرر من العبودية للعبيد بالعبودية لله وحده، قيمة الدرب المستقيم بدلاً من التخبط في المنعرجات المظلمة، كما يشفق من ذاق نداوة الظلال أن يعود إلى الهجير القائظ والشواظ.

وفي بشاشة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق جفاف الإلحاد وشقاوته المريرة، وفي طمأنينة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق شقوة الشرود والضلال" (1) . لقد سمى الله كتابه روحاً لتوقف الحياة الحقيقية عليه "واعجبا للناس يبكون على من مات جسده ولا يبكون على من مات قلبه وهو أشد وموت القلوب بالبعد عن علام الغيوب". وسماه نوراً لأن القلوب لا تضيء ولا تشرق إلا بالقرآن. قال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) [الشورى: 52] . وقال تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) [المائدة: 15، 16] . ليس أدق ولا أصدق ولا أدل على القرآن من أنه نور، نور تشرق به كينونته فتشف وتخف وترف.. ويشرق به كل شيء أمام ثقلة الطين في كيانه، وظلمة التراب، وكثافة اللحم والدم، وعرامة الشهوة والنزوة، كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى، تخف الثقلة، وتشرق الظلمة، وترق الكثافة، وترف العرامة. واللبس والغبش في الرؤية، والتأرجح والتردد في الخطوة، والحيرة والشرود في الاتجاه والطريق البهيم الذي لا معالم فيه.. كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى.. يتضح الهدف ويستقيم الطريق إليه وتستقيم النفس على الطريق (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) [المائدة: 16] . هو ما يسكبه (القرآن) والدين في الحياة كلها.. سلام الفرد، وسلام الجماعة، وسلام العالم.. سلام الضمير ... وسلام العقل، وسلام الجوارح.. سلام

_ (1) "الظلال" (2/756) .

البيت والأسرة، وسلام المجتمع والأمة، وسلام البشر والإنسانية.. السلام مع الحياة، والسلام مع الكون، والسلام مع الله رب الكون والحياة.. السلام الذي لا تجده البشرية.. -ولم تجده يوماً- إلا في هذا الدين؛ وإلا في منهجه ونظامه وشريعته، (سبل السلام) سبل السلام كلها في هذه الجوانب جميعها.. ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق حرب القلق الناشيء من عقائد الجاهلية في أعماق الضمير.. وحرب القلق الناشيء من شرائع الجاهلية وتخبطها في أعماق الحياة. ما أحوجنا نحن الذين عشنا في هذا السلام فترة من تاريخنا، ثم خرجنا من السلام إلى الحرب التي تحطم أرواحنا وقلوبنا، وتحطم أخلاقنا وسلوكنا، وتحطم مجتمعنا وشعوبنا.. بينما نملك الدخول في السلم الذي منحه الله لنا؛ حين نتبع رضوانه؛ ونرضى لأنفسنا ما رضيه الله لنا! إننا نعاني من ويلات الجاهلية، والقرآن منا قريب.. نعاني من حرب الجاهلية وسلام القرآن في متناول أيدينا لو نشاء.. فأية صفقة خاسرة هذه التي نستبدل فيها الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ونشتري فيها الضلالة بالهدى؟ (ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه) [المائدة: 16] . والجاهلية كلها ظلمات، ظلمة الشبهات والخرافات والأساطير والتصورات، وظلمة الشهوات والنزعات والاندفاعات في التيه، وظلمة الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى والوحشة من الجناب الآمن المأنوس. وظلمة اضطراب القيم وتخلخل الأحكام والقيم والموازين (ويهديهم إلى صراط مستقيم) [المائدة: 16] . مستقيم مع فطرة النفس ونواميسها.. مستقيم مع فطرة الكون ونواميسه، مستقيم إلى الله لا يلتوي ولا تلتبس فيه الحقائق والاتجاهات والغايات (1) . (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) [الرعد: 28] . "ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين

_ (1) "في ظلال القرآن" (2/862، 863) .

خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم.. يعرفونها ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها، لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام. وليس أشقى على وجه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله، ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتور الصلة بما حوله في الكون، لأنه انفصم من العروة التي تربطه بالله، ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه وحيداً شارداً في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين. (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً) [الرعد: 31] . هذا القرآن العجيب، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض أو يكلم به الموتى، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات، ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء. ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى، لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثاراً في أقدار الحياة، بل أبعد أثراً في شكل الأرض ذاته، فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ. الذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال وهو تاريخ الأمم والأجيال وقطعوا ما هو أصلب من الأرض، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد، وأحيوا ما هو أخمد من الموتى، وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام (1) . (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) [الإسراء: 9] . يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بين ظاهر الإنسان وباطنه، في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، في علاقات الناس بعضهم ببعض.

_ (1) "الظلال" (2060-2061) .

(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) [الإسراء: 82] . في القرآن شفاء، وفي القرآن رحمة، لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان فأشرقت، وتفتحت لتلقي ما في القرآن من روح وطمأنينة وأمان. في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة، فهو يصل القلب بالله، فيرضى ويستروح الرضا من الله والرضى عن الحياة، والقلق مرض، والحيرة نصب، والوسوسة داء، ومن ثم هو رحمة للمؤمنين. وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان. وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير فهو يعصم العقل من الشطط. وفي القرآن شفاء من العلل الاجتماعية التي تخلخل بناء المجتمعات (1) . (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين) [الزخرف: 36] . "وأسوأ ما يصنعه قرين بقرين أن يصده عن السبيل الواحدة القاصدة ثم لا يدعه يفيق، أو يتبين الضلال فيتوب؛ إنما يوهمه أنه سائر في الطريق القاصد القويم، حتى تفاجئهم النهاية وهم سادرون، هنا يفيقون كما يفيق المخمور، ويفتحون أعينهم بعد العشى والكلال. والعذاب كامل لا تخففهُ الشركة، ولا يتقاسمه الشركاء فيهون" (2) . (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) [طه: 124] . الحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة؛ ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع.

_ (1) "الظلال" (4/2248) . (2) "الظلال" (3189-3190) .

إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه.... ضنك الحيرة والقلق والشك.... ضنك الحرص والحذر: الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت.... ضنك الجري وراء بارق المطالع والحسرة على كل ما يفوت. لقد أسرف من أعرض عن ذكر ربه فألقى بالهدى من بين يديه، وهو أنفس ثراء وذخر (1) . قال تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة: 44] . إنه ليس أشنع من خيانة المستأمن؛ وليس أبشع من تفريط المستحفظ؛ وليس أخس من تدليس المستشهد.. يخونون ويفرطون ويدلسون، فيسكتون على العمل لتحكيم ما أنزل الله ويحرفون الكلم عن مواضعه، لموافاة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله. (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) [المائدة: 48] . (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) [المائدة: 5] . أجل؛ فمن أحسن من الله حكماً؟!!. "من ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس ويحكم فيهم، خيراً مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم، وأي حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض؟! أيستطيع أن يقول: إنه أعلم بالناس من خالق الناس؟! أيستطيع أن يقول: إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس؟! أيستطيع أن يقول: إن الله سبحانه - وهو يشرع شريعته الأخيرة، ويرسل رسوله الأخير، ويجعل رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتم النبيين،

_ (1) "الظلال" (2355) .

ويجعل رسالته خاتمة الرسالات، ويجعل شريعته شريعة الأبد كان -سبحانه وحاشاه- يجهل أن أحوالاً ستطرأ، وأن حاجات ستستجد، وأن ملابسات ستقع، فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان؟! ما الذي يستطيع أن يقوله من ينحي شريعة الله عن حكم الحياة، ويستبدل بها شريعة الجاهلية، وحكم الجاهلية، ويجعل هواه هو أو هوى شعب من الشعوب، أو هوى جيل من أجيال البشر، فوق حكم الله، وفوق شريعة الله؟! ما الذي يستطع أن يقوله.. وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين؟! الظروف؟! الملابسات؟! عدم رغبة الناس؟! الخوف من الأعداء؟! ألم يكن كل هذا في علم الله، قصور شريعة الله عن استيعاب الحاجات الطارئة؛ والأوضاع المتجددة، والأحوال المتغلبة؟ ألم يكن ذلك في علم الله. يستطيع غير المسلم أن يقول ما يشاء.. ولكن المسلم.. أو من يدعون الإسلام.. ما الذي يقولون عن هذا كله؛ ثم يبقون على شيء من الإسلام؟ أو يبقى لهم شيء من الإسلام؟ إنه مفرق الطريق الذي لا معدى عنده من الاختيار، ولا فائدة في المماحكة عنده ولا الجدال إما إسلام وإما جاهلية إما حكم الله وإما حكم الجاهلية (1) . (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) [الحديد: 16] . لا يأس من قلب خمد وجمد وقسا وتبلد، فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة، وأن يشرق فيه النور وأن يخشع لذكر الله، فالله يحيي الأرض بعد موتها، فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر، وتمنح الأكل والثمار، وكذلك القلوب حين يشاء الله. وفي هذا القرآن ما يُحيي القلوب كما تحيا الأرض وما يمدها بالغذاء والري والدفء" (2) .

_ (1) "الظلال" (2/905) . (2) "الظلال" (3489) .

يا أصحاب السورة ويا أصحاب السورتين ماذا غرس القرآن في قلوبكم إن القرآن ربيع قلب المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض، إن الغيث قد ينزل على الحبة في الحش، ما يمنعه نتن موضعها من أن تزهر وتثمر وتربو فماذا غرس القرآن في قلوبكم؟! قال تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله) (1) الآية [الحشر: 21] . إن لهذا القرآن لثقلاً وسلطاناً وأثراً مزلزلاً لا يثبت له شيء يتلقاه بحقيقته، والذين أحسّوا شيئاً من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقاً لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع الموحي". (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) [الإسراء: 105] . لقد أنزل الله هذا القرآن قائماً على الحق منزل ليقر الحق في الأرض ويثبته.. (وبالحق نزل) فالحق مادته والحق غايته، ومن الحق قوامه، وبالحق اهتمامه.. الحق الأصيل الثابت في ناموس الوجود (2) . (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً) [الإسراء: 107، 108] . "هم لا يسجدون ولكن (يخرون للأذقان سجداً) لا تكفي الألفاظ في تصوير ما يجيش في صدورهم منه، فإذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر الغامر الذي لا تصوره الألفاظ. "هذا أثر القرآن في القلوب المتفتحة لاستقبال فيضه، العارفة بطبيعته وقيمته". "إني لأعجب لقرّاء القرآن كيف يهنيهم النوم ومعهم القرآن، أما والله لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رُزقوا".

_ (1) "الظلال" (3532) . (2) "الظلال" (2253) .

في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة". قال ابن رجب: "دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على من هو أحفظ له، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان". وفى حديث فاطمةَ عليها السلام عن أبيها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه أخبرها أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرة، وأنه عارضه في عام وفاته مرتين. وفي حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً فإن الليل تنقطع فيه الشواغل ويجتمع فيه الهم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعالى: (إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً) [المزمل: 6] . (1) فكتاب الله أفضل مؤانس وسميرك إذا احلولكت ظلمة الحنادس. نعم السمير كتاب الله إن له ... حلاوة هي أحلى من جني الضرب به فنون المعاني قد جمعن فما ... تفتّر من عجب إلَّا إلى عجب أمر ونهي وأمثال وموعظة ... وحكمة أودعت في أفصح الكتب لطائف يجتليها كل ذي بصر ... وروضة يجتنيها كل ذي أدب قال تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرّاً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور) [فاطر: 29-30] . قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوصيك بتقوى الله تعالى؛ فإنه رأس كل شيء وعليك بالجهاد فإنه

_ (1) "لطائف" (189) .

رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن، فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض" (1) . قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خياركم من تعلم القرآن وعلمه" (2) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سرَّه أن يحب الله ورسوله فلينظر في المصحف" (3) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" (4) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه ويتعتع فيه وهو عليك شاق له أجران" (5) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة، اقرأ واصعد فيقرأ ويصعد لكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه" (6) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حَله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيُلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق، ويزاد بكل آية حسنة" (7) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان ينفر من البيت الذي يُقرأ فيه سورة البقرة" (8) .

_ (1) حسن: رواه أحمد عن أبي سعيد وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2543) . (2) صحيح: رواه الدارمي عن سعد، وأحمد وابن أبي شيبة عن علي، وابن أبي شيبة عن عثمان وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3268) . (3) حسن: رواه أبو نعيم في "الحلية" والبيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن مسعود وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6289) . (4) رواه البخاري في "التاريخ"، والترمذي، والحاكم عن ابن مسعود وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6469) . (5) رواه البخاري ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة عن عائشة. (6) رواه أحمد والنسائي، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، عن ابن عمرو وصححه الألباني رقم (8122) في "صحيح الجامع". (7) حسن: رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (8030) . (8) رواه أحمد ومسلم، والترمذي عن أبي هريرة.

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو كانت سورة واحدة لكفت الناس" (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض" (2) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله تعالى يرفع بهذا الكلام أقواماً ويضع به آخرين" (3) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لله تعالى أهلين من الناس: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" (4) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أحسن الناس قراءة الذي إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله" (5) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله" (6) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "زينوا القرآن بأصواتكم" (7) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة" (8) . قال ابن رجب: "كان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها". "كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان يختم في غير رمضان في كل ست ليال" (9) .

_ (1) صحيح: رواه أحمد، وأبو داود عن أبي سعيد، والطحاوي، وابن حبان، والحاكم، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5293) . (2) صحيح: رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، وابن جرير عن أبي سعيد وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4473) . (3) رواه مسلم، وابن ماجة عن عمر. (4) رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم عن أنس وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2165) . (5) صحيح: رواه محمد بن نصر في كتاب الصلاة والبيهقي في "شعب الإيمان" والخطيب عن ابن عباس، والسجزي في "الإنابة"، والخطيب عن ابن عمر، والديلمي في "مسند الفردوس" عن عائشة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (194) . (6) صحيح: رواه ابن ماجة عن جابر وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2202) . (7) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم عن البراء، والطبراني عن ابن عباس، وأبو نعيم عن عائشة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3580) . (8) رواه أحمد والنسائي، عن تميم وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6465) . (9) "الحلية" (2/163) .

"كان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة" (1) . "وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث" (2) . والشافعي قال عنه ربيع بن سليمان: "كان محمد بن إدريس الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة، ما منها شيء إلا في صلاة". وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: كنت أختم القرآن في رمضان ستين مرة. وقال الحميدي: كان الشافعي يختم القرآن كل يوم ختمة، وعن أبي حنيفة نحوه" (3) . "وكان سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الرجوي يختم كل يوم". وأبو العباس بن عطاء: قال عنه أبو الحسين محمد بن علي صاحب الجنيد: "صحبت أبا العباس بن عطاء عدة سنين متأدباً بآدابه، وكان له في كل يوم ختمة، وفي كل شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث ختمات". قال النووي: "روى ابن أبي داود بإسناده الصحيح أن مجاهداً رحمه الله كان يختم القرآن في رمضان فيما بين المغرب والعشاء" وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل" (4) . وعن منصور: "كان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب والعشاء في كل ليلة من رمضان" (5) .

_ (1) "الحلية" (2/338) ، "لطائف" (191) . (2) "لطائف" (191) . (3) "لطائف المعارف" (191) . (4) "التبيان" (11، 12) ، و"الأذكار" (95، 96) . (5) "التبيان" (11، 12) ، و"الأذكار" (95، 96) .

قال ابن رجب: وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان. وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام. قال ابن الحكم. كان مالك إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم. قال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن. وكانت عائشة (رضي الله عنها) تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت. وقال سفيان: كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه. "وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان، خصوصاً في الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً للزمان والمكان، وهو قول أحمد، وإسحاق وغيرهما من الأئمة وعليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره" (1) . قال ابن مسعود: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، ونهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون. قال محمد بن كعب: كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه يشير إلى سهره وطول تهجده. قال وهيب بن الورد: قيل لرجل ألا تنام؟ قال: إن عجائب القرآن أطرن نومي. قال أحمد بن الحواري: إني لأقرأ القرآن وانظر في آية فيحير عقلي بها،

_ (1) "لطائف" (191، 192) .

وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الله، أما إنهم لو فهموا ما يتلون، وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحاً بما رزقوا. وأنشد ذو النون المصريّ: منع القرآن بوعده ووعيده ... مقل العيون بليلها لا تهجع فهموا عن الملك الكريم كلامه ... فهماً تذل له الرقاب وتخضع (1) رمضان والشفاعة: لأنه شهر الصيام والقرآن وهما يشفعان للعبد يوم القيامة قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. "القرآن شافع مشفع، ماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار" (2) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه" (3) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، يقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان" (4) . عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب فيقول: أنا الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك" (5) .

_ (1) "لطائف المعارف" (193) . (2) رواه ابن حبان، وابن ماجة عن جابر، والطبراني في "الكبير" والبيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن مسعود وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4443) . (3) رواه أحمد، ومسلم عن أبي أمامة. (4) صحيح: رواه أحمد والطبراني في "الكبير" عن ابن عمرو، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3882) . (5) قال الألباني في "صحيح ابن ماجة" (2/314) : ضعيف يحتمل التحسين. قال ابن كثير: هذا إسناد حسن على شرط مسلم فإن بشيراً هذا خرج له مسلم ووثقه ابن معين وقال النسائي ما به بأس انظر "الفتح الرباني" (18/72) .

قال ابن رجب (1) : "فالصيام يشفع لمن منعه الطعام والشهوات المحرمة كلها سواء كان تحريمها يختص بالصيام كشهوة الطعام والشراب والنكاح ومقدماتها أولا يختص كشهوة فضول الكلام المحرمة، والنظر المحرم والسماع المحرم، والكسب المحرم، فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات كلها فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة، ويقول: يا رب منعته شهواته فشفعني فيه، فهذا لمن حفظ صيامه ومنعه من شهواته، فأما من ضيّع صيامه ولم يمنعه مما حرمه الله عليه فإنه جدير أن يضرب به وجه صاحبه ويقول له: ضيعك الله كما ضيعتني. قال بعض السلف: إذا احتضر المؤمن يقال للملك: شم رأسه قال: أجد في رأسه القرآن، فيقال: شم قلبه، فيقول: أجد في قلبه الصيام، فيقال: شم قدميه، فيقول: أجد في قدميه القيام، فيقال: حفظ نفسه حفظه الله عز وجل. وكذلك القرآن إنما يشفع لمن منعه من النوم بالليل، من قرأ القرآن وقام به فقد قام بحقه فيشفع له، أما من كان معه القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به بالنهار، فإنه ينتصب القرآن خصماً له يطالبه بحقوقه التي ضيعها كما جاء في حديث سمرة ابن جندب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وقالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر هاهنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا ورجع إليه حتى يصحّ رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى" ... الحديث وفيه: "أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ بالقرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة" (2) . يا من ضيّع عمره في غير الطاعة، يا من فرط في شهره بل في دهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف والتفريط، وبئست البضاعة، يا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة (3) .

_ (1) "اللطائف" (192) . (2) رواه البخاري تاماً في كتاب التعبير باب تعبير الرؤيا، ومسلم، وأحمد، والترمذي، والنسائي. (3) "اللطائف" (194) .

ويل لمن شفعاؤه خصماؤه ... والصور في يوم القيامة ينفخ يا إخوتاه: "هذا عباد الله شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وفي بقيته للعابدين مستمتع وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويُسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً يتصدع، ومع هذا فلا قلب يخشع، ولا عين تدمع، ولا صيام يصان عن الحرام فينفع، ولا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع، وتراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، لا الشاب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة وإذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار، أفمالنا فيهم أسوة؟ ما بيننا وبين حال الصفا أبعد مما بين الصفا والمروة، كلما حسنت منا الأقوال ساءت الأعمال. يا نفس فاز الصالحون بالتقى ... وأبصروا الحق وقلبي قد عمي يا حسنهم والليل قد جنهم ... ونورهم يفوق نورالأنجم ترنموا بالذكر في ليلهم ... فعيشهم قد طاب بالترنم قلوبهم للذكر قد تفرغت ... دموعهم كلؤلؤ منتظم أسحارهم بهم لهم قد أشرقت ... وخلع الغفران خير القسم ويحك يا نفس ألا تيقظ ... ينفع قبل أن تزل قدمي مضى الزمان في ثوان وهوى ... فاستدركي ما قد بقى واغتنمي (1)

_ (1) "لطائف المعارف" (194، 195) .

"سجع"

"سجع" إخواني: "هذه الأيام تصان، هي كالتاج على رأس الزمان، وصل توقيع القِدم من الرحيم الرحمن (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) [البقرة: 185] . * قد ذهب نصف البضاعة في التفريط والإضاعة، والتسويف يمحق ساعة بعد ساعة والشمس والقمر بحسبان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) . * يا واقفاً في مقام التحيّر هل أنت على عزم التغيّر؟ إلى متى ترمني بالنزول في منزل الهوان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) . * هل مضى من يومك يوم صالح، سلمت فيه من جرائم القبائح، تالله لقد سبق المتقي الرابح وأنت راض بالخسران (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) . * عينك مطلقة في الحرام، ولسانك منبسط في الآثام، ولأقدامك على الذنوب إقدام والكل مثبت في الديوان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) . * تالله لو غفلت حالك أو ذكرت ارتحالك، أو تصورت أعمالك لبنيت بيت الأحزان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) . * سيشهد رمضان عليك، بنطق لسانك ونظر عينيك، وسيشار يوم الجمع إليك، شقى فلان وسعد فلان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) . * في كل لحظة تُقرَّب من قبرك، فانظل لنفسك في تدبير أمرك، وما أراك إلا كأول شهرك، الأول والآخر سيان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) . * زنوا أفعالكم في هذا الشهر بميزان، واشتروا خلاصكم بما عزَّ وهان، فإن عجزتم فسلوا المعين وقد أعان، إن كان في الماضي قد قبح الوصف فقم الآن (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .

رمضان شهر التراويح والتهجد

"سجع" صاموا النهار بلا فتور نصبوا الأقدام في الدَّيجور، ببكاء مطرود مهجور، فامتلأت بالخيرات الجحور (يرجون تجارة لن تبور) . رفضوا الدنيا شغلاً عن الزينة، وأذلوا أنفسهم فعادت مسكينة، وعلموا الدنيا سفينة فتهيأوا للعبور (يرجون تجارة لن تبور) . يؤثرون بالطعام ويؤثرون الصيام، يأملون فضل الإنعام، فما كانت إلا أيام حتى اخضرت البذور (يرجون تجارة لن تبور) . العليل عليل، والأنين طويل، والعيون تسيل، وما مضى إلا القليل حتى فرح الصبور (يرجون تجارة لن تبور) (1) . بخلوف عبد مسكين نالوا المقام الأمين، وانشعب قلب الحزين بأكمل الحبور (يرجون تجارة لن تبور) . سبحان من قضى لقوم سروراً، وعلى آخرين ثبوراً فما لهم من نور (يرجون تجارة لن تبور) (2) . رمضان شهر التراويح والتهجد شهر رمضان شهر المصالح، شهر التهجد والتراويح، واهاً لأوقاته من زواهر ما أشرفها، ولساعاته التي كالجواهر ما أظرفها، أشرقت لياليها بصلاة التراويح، وأنارت أيامها بالصيام والتسبيح، حليتها الإخلاص والصدق، وثمرتها الخلاص والعتق. فطوبى لعبد صام نهاره، وقام أسحاره ... يا حسنه ومصابيح النجوم تزهر، والناس قد ناموا وهو في الخير يسهر، غسل وجهه من ماء عينه وعَين العين أطهر.

_ (1) "التبصرة" (2/96، 97) . (2) "التبصرة" بتصرف (2/291) .

وكم من فوائد ومعان في التراويح: (1) قيام رمضان من الإيمان، ومغفرة لسالف الذنوب: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (1) . وزاد مسلم في أوله: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرغِّبُ في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمته ثم يقول: "من قام رمضان ... " (2) . قال الألباني: "هذا الترغيب وأمثاله بيان لفضل هذه العبادات بأنه لو كان على الإنسان ذنوب تغفر له بسبب هذه العبادات، فإن لم يكن للإنسان ذنب، يظهر هذا الفضل في رفع الدرجات كما في حق الأنبياء المعصومين من الذنوب" (3) . (2) استحقاق قائمة اسم الصديقين والشهداء: وهذا فيض الكريم وجوده يسوقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه الغنم كل الغنم: "جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، أرأيت إذ شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته فَمِمن أنا؟ قال: "من الصديقين والشهداء" (4) . ولفظ ابن خزيمة: "جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل من قضاعة، فقال له: إن شهدت ألا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات وصمت الشهر وقمت رمضان، وآتيت الزكاة؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء".

_ (1) أخرجه أصحاب الكتب الستة، ومالك، وأحمد، والدارمي، والفريابي في "كتاب الصوم" وعبد الغني المقدسي في "فضائل رمضان". (2) زيادة عند مسلم وأبي داود، والترمذى. (3) "التعليق على صحيح الترغيب والترهيب" (1/415) . (4) صحيح: رواه البزار، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما" واللفظ لابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" رقم (993) ، و"التعليق على ابن خزيمة" (2212) .

وما زاد الصحابي الجليل على أركان الإسلام الخمسة إلا قيام رمضان واستحق بهذه الزيادة اسم الصديقين والشهداء. كان عمر بن الخطاب إذا دخل أول ليلة من رمضان يصلي المغرب ثم يقول: "أما بعد، فإن هذا الشهر كُتب عليكم صيامه، ولم يُكتب عليكم قيامه، فمن استطاع منكم أن يقوم فليقم، فإنها نوافل الخير التي قال الله" (1) . * وقال أحدهم: ما على أحدكم أن يقول: الليلة ليلة القدر، فإذا جاءت أخرى قال: الليلة ليلة القدر". وكان ابن عون إذا جاء شهر رمضان جاء برمل فألقاه في المسجد، ثم يقول لبنيه: "ما تبتغون بعد شهر رمضان وكان لا ينام" (2) . (3) من قام مع إمامه كتب له قنوت ليلة: جاء في حديث أبي ذر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام الليلة" (3) . قال الألباني: [والشاهد من هذا الحديث قوله: "من قام مع الإمام ... " فإنه ظاهر الدلالة على فضيلة قيام رمضان مع الإمام] . قال صاحب عون المعبود: "حصل له ثواب قيام ليلة تامة". وعن أبي إسحاق الهمداني: خرج علي بن أبي طالب في أول ليلة من رمضان، والقناديل تزهر في المسجد، وكتاب الله يتلى فجعل ينادي: نوّر الله لك يا ابن الخطاب في قبرك كما نوّرت مساجد الله بالقرآن" (4) .

_ (1) "المصنف" لعبد الرزاق. (2) "مختصر قيام الليل" (ص 92) . (3) سنده صحيح: رواه أبو داود، واللفظ له، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجة، وابن أبي شيبة، وقال الألباني: سنده صحيح "صلاة التراويح" (ص 15) . (4) "مختصر قيام الليل" (ص 94) .

صلاة التراويح وأثرها علي العمود الفقري والقلب

فاتق الله في عمرك، وأقبل على صلاة التراويح يقبل الله عليك وانظر إلى سلفك من الصحابة. عن السائب بن يزيد أنه قال: "أمر عمر بن الخطاب أبيّ بن كعب وتميماً الداري أن يقوما بالناس بإحدى عشرة ركعة. قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنّا نعتمد على العصيّ من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر" (1) خشية أن يفوتنا الفلاح: السحور (2) . والله ما صلاح الأجساد إلا بانتصابها في القيام والتراويح وهو شفاء من أمراض الأجساد والقلوب ورفعة للدرجات عند علاَّم الغيوب وهذا طريق الصالحين من قبلنا. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد" (3) . في بحث أعدته الدكتورة "سلوى محمد رشدي" جامعة حلوان كلية التربية الرياضية وموضوعه "صلاة التراويح وأثرها على مرونة العمود الفقري والكفاءة الوظيفية للقلب بعد الستين". تقول الدكتورة سلوى: "إن هذه الدراسة تهدف إلى التعرف على أهمية صلاة التراويح للمسلم، وأثر ذلك على الكفاءة الوظيفية للقلب، ودرجة المرونة في العمود الفقري ... وقد أجريت هذه الدراسة على عينة مكونة من ستين رجلاً وامرأة مقسمين إلى ثلاثين ممن قاموا بتأدية التراويح في شهر رمضان عام 1405هـ،

_ (1) سنده صحيح: أخرجه مالك في باب "ما جاء في قيام رمضان" وعنه البيهقي في "سننه الكبرى" وقال السيوطي في المصابيح "سنده في غاية الصحة" وصححه الألباني. (2) صلاة التراويح وما يتعلق بها من أحكام، وأحكام قيام الليل عامة مبسوط في جمعي "رهبان الليل". (3) صحيح: رواه الترمذي والبيهقي والحاكم في "المستدرك" عن بلال، والترمذي، والحاكم، والبيهقي في "السنن" عن أبي أمامة، وابن عساكر في "التاريخ" عن أبي الدرداء، والطبراني في "الكبير" عن سلمان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3958 ج3/50) .

وثلاثين من المصلين الذين لم يقوموا بتأديتها، وقد طبعت عليهم اختبارات لمعرفة مرونة العمود الفقري من الأوضاع المختلفة، وكذلك اختبار الكفاءة الوظيفية باستخدام العملية الأرجومترية.. وقد أظهرت هذه الدراسة أن هناك فروقاً كبيرة بين المصلين التراويح وغير المصلين، في درجة مرونة العمود الفقري، وكذلك في الكفاءة الوظيفية للقلب، وقالت الدكتورة سلوى رشدي: لقد أوصيت في هذه الدراسة بتشجيع المسلم على تأدية الصلاة عموماً، وعلى صلاة التراويح على وجه الخصوص لما لها من فائدة على الجهاز الدوري والتنفسي، ومرونة مفاصل الجسم وخاصة العمود الفقري، حيث أن كبار السن في حاجة إلى القيام بتأدية التمرينات التي تحافظ على اللياقة البدنية، واللياقة الوظيفية للقلب" (1) . وقد كان صحابة رسول الله يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها من طول القيام في التراويح. قال ابن رجب: "إن جمع ثلاثة قرآء فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ بالناس ثلاثين، وأوسطهم بخمس وعشرين، وأبطأهم بعشرين ثم كان في زمن التابعين يقرؤون بالبقرة في قيام رمضان في ثمان ركعات، فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة رأوا أنه خفف". قال ابن منصور: سئل إسحاق بن راهويه: كم يقرأ في شهر رمضان؟ فلم يرخص في دون عشر آيات، فقيل له: إنهم لا يرضون، فقال: لا رضوا، فلا تؤمنَّهم إذا لم يرضوا بعشر آيات من (البقرة) ، يعني في كل ركعة، وكذلك كره مالك أن يقرأ دون عشر آيات. وقال الإمام أحمد: إنما الأمر على ما يحتمله الناس. وقال أحمد لبعض أصحابه وكان يصلي بهم في رمضان: هؤلاء قوم ضعفاء، اقرأ خمساً، ستاً، سبعاً: فقرأت فختمت ليلة سبع وعشرين.

_ (1) انظر مجلة الاعتصام العددان الرابع والخامس محرم وصفر سنة 1406هـ نوفمبر وديسمبر سنة 1985م ص (20، 21) .

وكلام الإمام أحمد يدل على أنه يراعي في القراءة حال المأمومين، فلا يشق عليهم، وقاله أيضاً غيره من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم (1) . قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" (2) . قوله: "من المقنطرين" أي: ممن كتب له قنطار من الأجر. وقال الحافظ ابن حجر: "من سورة (تبارك الذي بيده الملك) إلى آخر القرآن ألف آية والله أعلم". قال ابن رجب: "وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث، وبعضهم في كل سبع، منهم قتادة، وبعضهم في كل عشرة، منهم أبو رجاء العطاردي" فرحم الله رجلاً قدم لآخرته، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، وقدم مهره فإنما مهر الحور الحسان طول التهجد بالقرآن، ولا تكن مِمّن يعظم الخطة ويسيء المهر". بادر يا أخي فإنه مبادر بك. كان أبو الدرداء يقول: صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوماً شديداً حره لحر يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير" (3) . وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة ... فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلاً فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويصبح ذا الأحزان فرحان جاذلا * * *

_ (1) "بغية الإنسان في وظائف رمضان" لابن رجب الحنبلي (ص 35) دار القادسية. (2) صحيح: رواه أبو داود، وابن خزيمة، وحسنه الألباني فى "صحيح الترغيب"رقم (635) ، وصححه في "صحيح الجامع" رقم (6315) . (3) "بغية الإنسان في وظائف رمضان" (ص 29) .

رمضان شهر تكفير الذنوب

رمضان شهر تكفير الذنوب أنعم الكريم على الأمة بتمام إحسانه، وعاد عليها بفضله وامتنانه، وجعل شهرها هذا مخصوصاً بعميم غفرانه. يا إخوتاه: أيام رمضان أيام محو ذنوبكم فاستغيثوا إلى مولاكم من عيوبكم. هي أيام الإنابة فيها تفتح أبواب الإجابة، فأين اللائذ بالجناب، أين المتعرّض بالباب، أين الباكي على ما جنى، أين المستغفر لأمر قد دنا. كم منقول في هذه الليلة من ديوان الأحياء عن قريب يفاجأ بالممات وهو مقيم على السيئات، ألا رب فَرِح بما يؤتى قد خرج اسمه مع الموتى ألا رب غافل عن تدبير أمره قد انفصمت عُرَى عمره، ألا رب مُعْرض عن سبيل رشده قد آن أوان شق لحده، ألا رُبّ رافل في ثوب شبابه قد أزف فراقه لأحبابه، ألا رب مقيم على جهله قد ترب رحيله عن أهله، ألا رب مشغول بجمع ماله قد حانت خيبة آماله، ألا ربّ ساع في جمع حطامه قد دنا تشتت عظامه، ألا ربّ مُجدّ في تحصيل لذاته قد آن خراب ذاته. أين المعتذر مما جناه فقد اطلع عليه مولاه، أين الباكي على تقصيره قبل تحسره في مصيره. يا مطروداً ما درى، تعاتب ولا تفهم ما جرى، متى تُرَى على الباب تُرَى. تعالوْ كلّ من حضرا ... لنطرق بابه سحرا ونبكي كلنا أسفا ... على من بات قد هجرا عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتاني جبريل، فقال: يا محمد، من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، قال: يا محمد، من أدرك شهر رمضان فمات ولم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله، قل آمين، فقلت: آمين، قال: ومن ذُكرت عنده فلم يُصل عليك فمات فدخل النار فأبعده

الله، قل: آمين، فقلت: آمين" (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رغم أنف (2) رجل ذُكرت عنده فلم يصل على، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة" (3) . قال المناوي. "رغم أنف من علم أنه لو كفّ نفسه عن الشهوات شهراً في كل سنة، وأتى بما وُظفَ له فيه من صيام وقيام غفر له ما سلف من الذنوب فقصّر ولم يفعل حتى انسلخ الشهر ومضى، فمن وجد فرصة عظيمة بأن قام فيه إيماناً واحتساباً عظّمه الله، ومنْ لم يعظِّمه الله حقَّره وأهانه" (4) . "والغفران مشروط بشرطين: الإيمان والاحتساب، وهما مدار الفرق بين العادة والعبادة فبدونهما يكون الصوم إرثاً وتقليداً قلّما يدفع صاحبه إلى الخير وينهاه عن الشر" (5) . * وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (6) ، "وما تأخر". قال الحافظ ابن حجر: زاد أحمد "وما تأخر"، ووقعت هذه الزيادة في رواية الزهري عن أبي سلمة، وقد وقعت هذه الزيادة أيضاً في حديث عبادة بن الصامت عند الإمام أحمد من وجهين وإسناده حسن، وقد استوعبت الكلام على طرقه في

_ (1) صحيح: رواه الطبراني في (الكبير عن جابر بن سمرة، ورواه ابن حبان في "صحيحه"، وصححه الألباني فى "صحيح الجامع" رقم (75) . (2) رغِم: بالكسر أي لصق بالرغام أي: التراب هذا أصله، ثم استعمل في الذل والعجز عن الانتصاف. (3) صحيح: رواه الترمذي في الدعوات، وقال: حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح، وقال بن حجر: له شواهد، وقال الألباني: وإسناده حسن، وأخرج منه الحاكم (1/549) الفقرة الأولى من هذا الوجه، وأخرج مسلم الفقرة الأخيرة منه عن أبي هريرة، وصححه الألباني في تحقيق المشكاة (رقم 927) ، و"صحيح الجامع" رقم (3510) . (4) "فيض القدير" (4/34) . (5) "الصوم في ضوء الكتاب والسنة" للأشقر ص (14) . (6) رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة مختصراً.

"كتاب الخصال المكفرة للذنوب المقدمة والمؤخرة" (1) . وقال الساعاتي في "الفتح الرباني" (9/25) : "رواه أحمد بالزيادة بعد ذكر الصوم إسناد حسن، وقال المنذري: انفرد بهذه الزيادة قتيبة بن سعيد عن سفيان وهو ثقة ثبت وإسناده على شرط الصحيح" ا. هـ. وفي رواية النسائي: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". قال الخطابي: " (إيماناً واحتساباً) أي نية وعزيمة، وهو أن يصومه على التصديق والرغبة في ثوابه، طيبة به نفسه غير كاره له، ولا مستثقل لأيامه لكن يغتنم طول أيامه لعظم الثواب". وقال البغوي: "احتساباً" أي طلباً لوجه الله وثوابه: يقال فلان يحتسب الأخبار ويتحسبّها: أي يتطلبها. قال المناوي: "أي صام أيامه كلها إيماناً بفرضيته ومصدقاً طلباً للثواب". قال الحافظ ابن حجر: ظاهره يتناول الصغائر والكبائر وبه جزم ابن المنذر. وقال النووي: "المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه جزم إمام الحرمين، وعزاه عياض لأهل السنة، وقال بعضهم. ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة". وقال المناوي: "غفر له ما تقدم من ذنبه" لكنْ خصه الجمهور بالصغائر والتصديق والاحتساب وهو الطواعية شرط لنيل الثواب والمغفرة في صوم رمضان، فينبغي الإتيان به بنية خالصة وطويّة صافية امتثالاً لأمره تعالى واتكالاً على وعده من غير كراهية وملالة لما يصيبه من أذى الجوع والعطش وكلفة الكفّ عن قضاء الوطر، بل يحتسب النصب والتعب في طول أيامه، ولا يتمنى ساعة انصرافه ويستلذ مضاضيته".

_ (1) "فتح الباري" (4/138-139) .

وقال: "علم من الأدلة الخارجية أن حقوق الخلق لابدّ فيها من رضا الخصم فهو عام خصّ بحق الله إجماعاً، بل وبالصغائر عند قوم، وظاهره أن ذلك لا يحصل إلا بصومه كله، فإن صام بعضه وأفطر بعضه لعذر كمرض -وكان لولاه لصام- جاز الثواب ذكره ابن جماعة" (1) . * وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" (2) . * عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "احضروا المنبر" فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: "آمين"، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: "آمين"، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: "آمين" فلما نزل قلنا: يا رسول الله! لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه، قال: (إن جبريل عرض لي فقال: بَعُد من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت: (آمين) ، فلما ترقيت الثانية قال: بَعُد من ذُكرت عنده فلم يصل عليك فقلت: (آمين) ، فلما رقيت الثالثة قال: بَعُد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قلت: (آمين) (3) . "وعن الحسن بن مالك بن الحويرث عن أبيه، عن جده قال: صعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر فلما رقى عتبة قال: "آمين" ثم رقى أخرى فقال: "آمين"، ثم رقى عتبة ثالثة فقال: "آمين"، ثم قال: "أتاني جبريل فقال: يا محمد! من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله، فقلت: (آمين) ، قال: ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار فأبعده الله، فقلت: (آمين) ، قال: ومن ذُكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده الله، فقلت: (آمين) " (4) .

_ (1) "فيض القدير"، للمناوي (4/34) . (2) رواه مسلم. (3) صحيح: رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"رقم (985) . (4) صحيح: رواه ابن حبان في"صحيحه"، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"، رقم (986) .

"وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صعد المنبر فقال: "آمين، آمين، آمين"، قيل: يا رسول الله! إنك صعدت المنبر فقلت: "آمين، آمين، آمين" فقال: "إن جبرائيل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: (آمين) ، فقلت: (آمين) ... الحديث (1) . يا إخوتاه.. قال ابن مسعود: وددت لو أن الله غفر لي ذنباً واحداً وأن لا يعرف لي نسب، وقال: وددت أني عبد الله بن روثة وأن الله غفر لي ذنباً واحد. فما ظنك بغفران الذنوب في رمضان. أخي * يا مضيعاً اليوم تضييعه أمس، تيقظ.... ويحك ... فقد قتلت النفس، وتنبه للسحور فإلى كم نحس، واحفظ بقية العمر فقد بعت الماضي بالبخس. * يا من يجول في المعاصي قلبه وهمه، يا مؤثراً الهوى على التقى لقد ضاع حزمه، يا معتقداً صحته فيما هو سقمه، يا من كلما زاد عمره زاد إثمه، يا طويل الأمل وقد رق عظمه (2) . يا لديغ الأمل قد بالغ فيه سمه.... حبال الأمل رثاث، وساحر الهوى نفّاث، رحل العصاة إلى ظلام الأجداث، باتوا شباعاً من المعاصي فإذا هم غِراث (3) . يا قليل العبر وقد رحل أبوه وأمه، يا من سيجمعه اللحد عن قليل ويضمّه، كيف يوعظ من لا يعظه عقله ولا فهمه. كيف يُوقظ من نام قلبه لا عينه ولا جسمه؟! (4) .

_ (1) صحيح: رواه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحه" واللفظ له. (2) "التبصرة" (2/68) . (3) الغراث: الجوعى. (4) "التبصرة" (2/68-69) .

أخى من ناله داءٌ دو بذنوبه ... فليأت في رمضان باب طبيبة فخُلُوف هذا الصوم يا قوم اعملوا ... أشهى من المسك السحيق وطيبه أو ليس هذا القول قول مليككم ... الصوم لي وأنا الذي أجزي به أين من كان معكم في رمضان الماضي؟، أما أفنته المنون القواضي، أين من كان يصلي التراويح في الظلم؟ سافر عن داره منذ زمان ولِمَ؟ أين من صبر على الجوع والظّمَا، غاب فما آب ومضى فما، أين الذين ارتفعت أصواتهم بالأدعية خرجت تلك الجواهر من تلك الأدعية. * أيُّها الغافل اعرف زمانك، يا كثير الحديث فيما يؤذي احفظ لسانك، يا مسئولاً عن أعماله اعقل شأنك، يا متلوناً بالزلل اغسل بالتوبة أدرانك، يا مكتوباً عليه كل قبيح تصفح ديوانك. * أخي؟ يا من أكثر عمره مع الذنوب قد مضى....، إن كان ما فرط يوجب السخط فاطلب في هذا الشهر الرضا، يا كثير القبائح غداً تنطق الجوارح، فأين الدموع السوافح، يا ذا الداء الشديد الفاضح سُدَّ أبواب اللهو والممازح (1) .... أيها الرائح، كيف حالك في الضرائح، من لك إذا أوثقك الذابح؟!. * يا من قد سارت بالمعاصي أخباره، يا من قد قَبُح إعلانه وإسراره، أتؤثر الخسران -قل لي- وتختاره؟ يا كثير الذنوب وقد دنا إحضاره، نقدك بهرج إذا حُك معياره. قد ضاعت في الذنوب الأعمار، فأين يكون لهذا الغرس إثمار؟!. إخواني: اعرفوا قَدْر مَنْ قدر، تذكروا كيف عصيتم وستر، وايم الله لو قمتم على البصر، وسجدتم شكراً على الإبر، ما وفيتم بشكر نعيم محتقر، أما طوى

_ (1) جمع ممزح.

القبيح وكل الجميل نشر، أما بعض نعمه السمع والبصر. بك أستجير ومن يجير سواكا ... فأجر ضعيفْاً يحتمي بحماكا يا غافر الذنب العظيم وقابلا ... للتوب قلب تائب ناجاكا أترده وترد صادق توبتي ... حاشاك تطرد لائذا حاشاكا أنا كنت يا ربي أسير غشاوة ... رانت على قلبي فضل سناكا واليوم يا رب محوت غشاوتي ... وبدأت بالقلب البصير أراكا ذقت الهوى مرّاً ولم أذق الهوى ... يا رب حلواً قبل أن أهواكا * أيها المجتهد هذا ربيع جِدِّك، أيها الطالب هذه أوقات رِفدك، تيقظ أيها الغافل من سنة البطالة، تحفظ أيها الجاهل من شبه الضلالة، اغتنم سلامتك في قبرك قبل انقراض مدتك وعزم عدتك، وإزماع فوتك وانقطاع صوتك، وعثور قدمك وظهور ندمك؟ فإن العمر ساعات تذهب وأوقات تنهب، وكلها معدودة عليك، والموت يدنو كل لحظة إليك. قال السري السقطي: "السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، وأنفاس العباد ثمرتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قطّافها". هذه الأشهر الثلاث المعظمة كالجمرات الثلاث، فرجب كأول جمرة تحمي بها العزائم، وشعبان كالثانية تذوب فيها مياه العيون، ورمضان كالثالثة تورق فيها أشجار المجاهدات، وأي شجرة لم تورق في الربيع قطعت للحطب. فيا منْ قد ذهبت عنه هذه الأشهر وما تغير أحسن الله عزاءك! ياهذا: لو قيل لأهل القبور تَمنَّواْ لتمنوا يوماً من رمضان، وأنت كلما خرجت من ذنوب دخلت في أخر، يا قليل الصفا إلى كم هذا الكدر، أنت في رمضان كما

قصيدة أنا العبد الذي كسب الذنوبا

كنت في سفر، أما تنفعك العبر، أَصُمّ السمعُ أمْ غُشِي البصر، آن الرحيل وأنت على خطر، ودنا السفر وتأمن الغِيَر؟!، وعند الممات يأتيك الخبر. أنا العبد الذي كسب الذنوبا ... وصدته الأماني أن يتوبا أنا العبد الذي أضحى حزينا ... على زلاته قلقاً كئيباً أنا العبد الذي سطرت عليه ... صحائف لم يخف فيها الرقيبا أنا العبد المسيء عصيت سرّاً ... فمالي الآن لا أبدي النحيبا أنا العبد المفرط ضاع عمري ... فلم أرع الشبيبة والمشيبا أنا العبد الغريب بلج بحر ... أصيح لربما ألقى مجيبا أنا العبد السقيم من الخطايا ... وقد أقبلت ألتمس الطبيبا أنا العبد المخلف عن أناس ... حووا من كل معروف نصيبا أنا العبد الفقير مددت كفي ... إليكم فارفعوا عني الخطوبا أنا الغدار كم عاهدت عهداً ... وكنت على الوفاء به كذوبا أنا المقطوع فارحمني وصلني ... ويسر منك لي فرجاً قريباً أنا المضطر أرجوا منك عفواً ... ومن يرجو رضاك فلن يخيبا فيا أسفي على عمر تقضى ... ولم أكسب به إلا الذنوبا وأحذر أن يعاجلني ممات ... يحير هول مصرعه اللبيبا ويا حزناه من حشري ونشري ... بيوم يجعل الولدان شيبا تفطرت السماء به ومارت ... وأصبحت الجبال به كثيباً إذا ما قمت حيراناً ظميئا ... حسير الطرف عرياناً سليبا ويا خجلاه من قبح اكتسابي ... إذا ما أبدت الصحف العيوبا

وذلة موقف وحساب عدل ... أكون به على نفسي حسيبا ويا حذراه من نار تلظى ... إذا زفرت وأقلقت القلوبا تكاد إذا بدت تنشق غيظاً ... على مَنْ كان ظلاماً مريبا فيا من مَدّ في كسب الخطايا ... خطاه أما آن الأوان لأن تتوبا (1) أخي: يا صاحب الخطايا أين الدموع الجارية؟!. يا كثير المعاصي ابك على الذنوب الماضية، يا مبارزاً بالقبائح أتصبر على الهاوية، أسفاً لك إذا جاءك رمضان وما أنبت، واحسرةً لك إذا دعيت إلى التوبة فما أجبت، كيف تصنع إذا نودي بالرحيل وما تأهبت، ألست الذي بارزت بالكبائر وما راقبت. قد مضى في اللهو عمري ... وتناهى فيه أمري شمر الأكياس وأنا ... واقف قد شيب أمري بان ربح الناس دوني ... ولحيني بان خسري ليتني أقبل وعظي ... ليتني أسمع زجرى كل يوم أنا رهن ... بين آثامي ووزري ليت شعري هل أرى لي ... هِمة في فك أسري أو أُرى في توبة صدق ... قبل أن أنزل قبري ويح قلبي من تناسيه ... مقامي يوم حشري واشتغالي عن خطايا ... أثقلت والله ظهري

_ (1) الإمام الصرصري.

التائبون العابدون "سجع"

يا إخوتاه: مآثم المذنبين ما تنقضى ... آخر الدهر أو يحلوا اللحودا وحقيق أن ينوحوا ويبكوا ... قد عصوا ماجداً رءوفا ودودا كل ثكلى أحزانها لنفاد.. ولنا الحزن قد نراه جديدا كيف تفنى أحزان من ... عاهد الله مراراً وخان منه العهودا ويح نفسي ما أقول إذا ما ... أحضر الله رُسله لي شهودا ثم قال اقرأ ماذا عملت وجاوز ... ت بما كان منك الحدودا ثم تخفي لما استترت من الخلـ ... ـق وبارزتني وكنت شهيدا * "أيها التائب لا تستصحب إلا حزيناً يبكيك، ما يصلح لمرافقة الثكلى إلا مثلها، لما خرجت أزهار الربيع طلب الورد رفيقاً من النبات يأنس به، لما نبت، فأبت كلها عن صحبته، وقالت: أنت ملول لا تقيم على مودة، فصاح به الياسمين أنت صاحبي قد اشتركت في قصر العمر، فأشر أنت إلى التائب باحمرار الخجل، حتى أشير أنا إلى الخائف باصفرار الوجل، لو علم الورد قصر عمره ما تبسم وكذا الوغد، أيها المذنب قف بالباب إذا نام الناس، وابسط لسان الاعتذار، ونكس الرأس وقل ليس عندي سوى الفقر والإفلاس. يا سندي وسيدي ومددي ... قد أوهن طردكم وبعدي جلدي (1) التائبون العابدون "سجع" * سبحان من وفّق للتوبة أقواماً، ثبت لهم على صراطها أقداماً، كفوا الأكف عن المحارم احتراماً، فكفر عنهم ذنوباً وآثاماً ونشر لهم بالثناء على ما عملوا أعلاماً، فهم على رياض المدائح بترك القبائح يتقلبون "التائبون العابدون".

_ (1) "رؤوس القوارير" (ص 151) .

* ندموا على الذنوب فَنُدبوا، وسافروا إلى المطلوب فاغتبروا، وسَقَوا غرس الخوف دمع الأسف وشربوا، فإذا أقلقهم الحذر طاشوا وهربوا، وإذا هبّ عليهم نسيم الرجاء عاشوا وطربوا، فتأمل أرباحهم وتلمّح ما كسبوا، واعلم أن نيل النصيب بالنصيب يكون "التائبون العابدون". * نظروا إلى الدنيا بعين الاعتبار، فعلموا أنها لا تصلح للقرار، فنغصوا بالصيام لذة الهوى بالنهار، وبالأسحار هم يستغفرون "التائبون العابدون". * أبدانهم قلقى من الجوع والضرر، وأجفانهم قد حالفت في الليل السهر، ودموعهم تجري كدائمة المطر، تأهب القوم فهم على أقدام السهر، عبروا عليكم ومروا لديكم وما عندكم خبر، وترنمت حداتهم لو تسمعون "التائبون العابدون". يا رب سِر بنا في سَرب النجابة، ووفقنا للتوبة والإنابة، وافتح لأدعيتنا أبواب الإجابة، يا من إذا سأله المضطر أجابه، يا من يقول للشيء كن فيكون. "التائبون العابدون". * * *

رمضان شهر الجود والإحسان

رمضان شهر الجود والإحسان يا إخوتاه: هذا شهر الجود والمواسات، والجود من معالي الأخلاق. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله كريم يحب الكرماء، جواد يحب الجودة، يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها" (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله تعالى جواد يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها" (2) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الله كريم يحب الكرم ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها" (3) . وفي حديث أبي ذر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ربه قال: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر" والله سبحانه وتعالى أجود الأجودين، وجُوده يتضاعف في أوقات خاصة: كشهر رمضان، وفيه أنزل: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) الآية. رمضان شهر العتق من النيران: ومن سابغ جود الله وعظيم كرمه تفضله في هذا الشهر بعتق عباده من النيران.

_ (1) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الحلية"، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن سهل بن سعد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1800) . (2) صحيح: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن طلحة بن عبيد الله، وأبو نعيم في "الحلية" عن ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1744) . (3) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم والحاكم، والبيهقى في "الشعب" عن سهل بن سعد وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1801) .

وفي حديث أبي هريرة: " ... وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة". وعن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لله عند كل فطر عتقاء" (1) . رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجود الناس: وقد جبل الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أكمل الأخلاق وأشرفها، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيّ أجود بني آدم. في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وزاد أحمد في آخره "لا يسأل عن شيء إلى أعطاه". قال ابن حجر في "الفتح" (4/139) : "قال الزين بن المنير: وجه التشبيه بين أجوديته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالخير وبين أجودية الريح المرسلة أن المراد بالريح ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى لإنزال الغيث العام الذي يكون سبباً لإصابة الأرض الميتة وغير الميتة، أيْ فيعم خيره وبره مَنْ هو بصفة الفقر والحاجة، ومَنْ هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعمّ الغيث الناشئة عن الريح المرسلة". * وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحسن الناس وأشجع الناس، وأجود الناس. "وكان جوده بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه، وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام

_ (1) صحيح: قال المنذري: رواه أحمد بإسناد لا بأس به، والطبراني والبيهقي، وقال: هذا حديث غريب من رواية الأكابر عن الأصاغر، وهو رواية الأعمش عن الحسين بن واقد وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" رقم (991) .

جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم، ولم يزل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ، ولهذا قالت له خديجة في أول مبعثه: والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، ثم تزايدت هذه الخصال فيه بعد البعثة وتضاعفت أضعافاً كثيرة. * وفي "صحيح مسلم" عن أنس قال: "ما سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، فجاء رجل فأعطاه، فجاء رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة". وفي رواية: "يعطي عطاء ما يخاف الفقر". قال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها. وفيه أيضاً عن صفوان بن أمية قال: "لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لمن أبغض الناس إليّ فما برح يعطني حتى إنه لأحب الناس إليّ". قال ابن شهاب أعطاه يوم حنين مائة من الغنم ثم مائة ثم مائة. * وفي مغازي الواقدي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى صفوان يومئذ وادياً مملوءً إبلاً ونعماً فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي. * وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم أن الأعراب علقوا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرجعه من حنين يسألونه أن يقسم بينهم فقال: "لو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً". وفيهما عن جابر قال: ما سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً فقال لا، وأنه قال لجابر: "لو جاءنا مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا وقال بيديه جميعاً". * وخرج البخاري من حديث سهل بن سعد أن شملة أهديت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلبسها وهو يحتاج إليها فسأله إياها رجل فأعطاه فلامه الناس وقالوا كان محتاجاً

إليها وقد علمت أنه لا يرد سائلاً فقال: إنما سألتها لتكون كفني فكانت كفنه (1) . * وعن ابن مسعود قال: دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بلال وعنده صُبرة من تمر فقال: "ما هذا يا بلال؟ " قال: أعد ذلك لأضيافك، قال: "أما تخشى أن يكون لك دخان في نار جهنم؟! أنفق بلال! ولا تخشى من ذي العرش إقالاً" (2) . وعند الطبراني قال: "أما تخشى أن يفور له بخار في نار جهنم؟! ". وعن أنس أيضاً قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يدخر شيئاً لغد (3) . وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "إني لألج هذه الغرفة ما ألجها إلا خشية أن يكون فيها مال فأتوفى ولم أنفقه" (4) . قال ابن رجب: "كان جوده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كله لله وفي ابتغاء مرضاته فإنه كان يبذل المال إما لفقير أو محتاج أو ينفقه في سبيل الله أو يتألف به على الإسلام من يقوي الإسلام بإسلامه، وكان يؤثر على نفسه وأهله وأولاده فيعطي عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى وقيصر ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يوقدْ في بيته نار وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع، وكان قد أتاه سبي فشكت إليه فاطمة ما تلقى من خدمة البيت وطلبت منه خادماً يكفيها مؤنة بيتها فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها وقال: لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع" (5) .

_ (1) "الطائف المعارف" (ص 173-174) . (2) صحيح: رواه البزار بإسناد حسن والطبراني في "الكبير"، قاله المنذري وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" رقم (912) . (3) صحيح: قال المنذري: رواه ابن حبان في "صحيحه"، والبيهقي، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" رقم (930) . (4) حسن: رواه الطبراني في "الكبير" بإسناد حسنه المنذري والألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" رقم (921) . (5) "لطائف المعارف" (175) .

وقال أيضاً: "كان - صلى الله عليه وسلم - بعد الرسالة جوده في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك، فإنه كان يلتقي هو وجبريل عليه السلام وهو أفضل الملائكة وأكرمهم ويدارسه الكتاب الذي جاء به وهو أشرف الكتب وأفضلها وهو يحث على الإحسان ومكارم الأخلاق، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الكتاب له خلقاً بحيث يرضى لرضاه ويسخط لسخطه ويسارع إلى ما حث عليه، ويمتنع مما زجر عنه فلهذا كان يتضاعف جوده وأفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام وكرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم والجود، ولا شك أن المخالطة تؤثر وتورث أخلاقاً من المخالطة. كان بعض الشعراء قد امتدح ملكاً جواداً فأعطاه جائزة سنية فخرج بها من عنده وفرّقها كلها على الناس وأنشد: لمستُ بكفي كفه أبتغي الغنا ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي فبلعْ ذلك الملك فأضعف له الجائزة. وقد قال بعض الشعراء يمتدح بعض الأجواد ولا يصلح أن يكون ذلك إلا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تعوّد بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تجبه أنامله تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله سمع الشبلي قائلاً يقول: يا الله ... يا جواد، فتأوه وصاح وقال: "كيف يمكنني أن أصف الحق بالجود ومخلوق يقول في شكله فذكر هذه الأبيات ثم بكى، وقال: بلى يا جواد فإنك أوجدت تلك الجوارح وبسطت تلك الهمم فأنت الجواد كل الجود. فإنهم يعطون عن محدود وعطاؤك لا حد له ولا صفة، فيا جوادا يعلوا

كل جواد وبه جاد كل من جاد" (1) . * وفي تضاعف جوده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة: * منها شرف الزمان ومضاعفة أجر العامل فيه. * ومنها إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعاتهم فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم. وفي حديث زيد بن خالد رضي الله عنه، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً" (2) . وفي حديث آخر: عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من فطر صائماً، أو جهز غازياً، فله مثل أجره" (3) . * ومنها أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار لا سيما في ليلة القدر. والله تعالى يرحم من عباده الرحماء كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء" فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل والجزاء من جنس العمل. * ومنها أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة كما جاء في حديث علي رضي الله عنه، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن في الجنة غرفاً يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها قالوا: لمن هي يا رسول الله قال: لمن طيّب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام"، وهذه الخصال كلها كون في رمضان فيجتمع فيه للمؤمن الصيام والقيام والصدقة وطيب الكلام.

_ (1) "لطائف المعارف" (ص 175-176) . (2) رواه أحمد في "مسنده"، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6415) . (3) رواه البيهقي في "سننه" وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6414) .

قال بعض السلف: الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق والصيام يوصله إلى باب الملك والصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك. وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أصبح منكم اليوم صائماً" قال أبو بكر: أنا، قال: "من تبع منكم اليوم جنازة" قال أبو بكر: أنا، قال: "من تصدق بصدقة"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم مريضاً" قال أبو بكر: أنا، قال: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة". * ومنها أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم: والمباعدة عنها وخصوصاً إذا ضم إلى ذلك قيام الليل. فالصيام جنة، وفي حديث معاذ: "الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وقيام الرجل من جوف الليل" يعني أن يطفئ الخطيئة أيضاً وقد صرّح بذلك في رواية الإمام أحمد. وفي الحديث الصحيح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اتقوا النار ولو بشق تمرة". * ومنها: الصدقة تجبر ما في الصوم من خلل: إن الصيام لابد أن يقع فيه خلل أو نقص، وتكفير الصيام للذنوب مشروط بالتحفظ مما ينبغي التحفظ منه. وعامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي ولهذا نهى أن يقول الرجل: صمت رمضان كله أو قمته كله. فالصدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب فى آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث. والصيام والصدقة لهما مدخر في كفارات الإيمان ومحظورات الإحرام وكفارة الوطء في رمضان ولهذا كان الله تعالى قد خيّر المسلمين في ابتداء الأمر بين الصيام وإطعام المسكين ثم نسخ ذلك وبقي الإطعام لمن يعجز عن الصيام لكبره. ومن أخّر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر فإنه يقضيه ويضم إليه إطعام مسكين لكل يوم تقوية له عند أكثر العلماء، كما أفتى به الصحابة.

وكذلك من أفطر لأجل غيره كالحامل والمرضع على قول طائفة من العلماء. * ومنها "أن الصائم يدع طعامه وشرابه لله، فإذا أعان الصائمين على التقوِّي على طعامهم وشرابهم كان بمنزلة من ترك شهوة لله وآثر بها أو واسى منها ولهذا يشرع له تفطير الصوام معه إذا أفطر لأن الطعام يكون محبوباً له حينئذ فيواسي منه حتى يكون ممن أطعم الطعام على حبه، ويكون في ذلك شكر لله على نعمة إباحة الطعام والشراب له ورده عليه بعد منعه إياه فإن هذه النعمة إنما عرف قدرها عند المنع منها" (1) . مواساة السلف: كان كثير من السلف يواسون من إفطارهم أو يؤثرون به ويطوون: * كان ابن عمر يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم لم يتعش تلك الليلة، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه للسائل فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة فيصبح صائماً ولم يأكل شيئاً، وكان يتصدق بالسكر ويقول: "سمعت الله يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) والله يعلم أني أحب السكر". واشتهى بعض الصالحين من السلف طعاماً وكان صائماً فوضع بين يديه عند فطوره فسمع سائلاً يقول: من يقوض الملي الوفي الغني؟ فقال: عبده المعدم من الحسنات. فقام وأخذ الصحفة فخرج بها إليه وبات طاوياً. * وجاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره ثم طوى وأصبح صائماً. * وكان الحسن يُطعم إخوانه وهو صائم تطوعاً ويجلس يروّحهم وهم يأكلون. * وكان ابن المبارك يطعم إخوانه في السفر الألوان من الحلواء وغيرها وهو صائم.

_ (1) "لطائف المعارف" (ص 177-178) .

سلام الله على تلك الأرواح، رحمة الله على تلك الأشباح، لم يبق منهم إلا أخبار وآثار، كم بينْ من يمنع الحق الواجب عليه وبين أهل الإيثار. لا تقعدن لذكرنا في ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد * وله فوائد أخر: قال الشافعي رضي الله عنه: أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم وكذا قال القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابنا أيضاً" (1) . يا إخوتاه: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن السرور، أو تقضي عنه ديناً أو تطعمه خبزا" (2) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في المسجد شهراً.... الحديث" (3) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير الناس أنفعهم للناس" (4) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار" (5) .

_ (1) "لطائف المعارف" (ص 178-179) . (2) حسن: رواه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي هريرة، وابن عدي عن ابن عمر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (رقم 1096) . (3) حسن: رواه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" والطبراني في "الكبير" عن ابن عمر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (176) . (4) حسن: رواه الطبراني في "الكبير"، والدارقطني، والبيهقى في "شعب الإيمان" وابن عسكر والقضاعي عن جابر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3289) . (5) رواه أحمد، والبخاري ومسلم، والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة.

* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفياً تطفيء غضب الرب، وصلة الرحم زيادة في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة" (1) . أخي: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رجلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" (2) . * وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اعبدوا الرحمن، وأطعموا الطعام، وأفشوا السلام، تدخلوا الجنة بسلام" (3) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس صدقة أعظم أجراً من ماء" (4) . يا هذا اسمع إلى حديث أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه الحر، فوجد بئرا، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث؛ يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر، فملأ منه، ثم أمسكه بفيه حتى رَقِيَ، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له" قالوا: يا رسول الله! إن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: "في كل كبد رطبة أجر" (5) . أو هذا الحديث.. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بينما كلب يطيف (6) بركيه (7) ، كاد يقتله العطش، إذا رأته بغيّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقها (8) فاستقت له، فغفر لها".

_ (1) صحيح: رواه الطبراني في "الأوسط" عن أم سلمة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3796) . (2) رواه البخاري، ومسلم، والنسائي. (3) حسن: رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" رقم (937) . (4) رواه البيهقي وحسنه الألباني من حديث أبي هريرة في "صحيح الترغيب والترهيب" رقم (949) . (5) رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم، والنسائي. (6) يدور. (7) ببئر. (8) خفها الذي تلبسه في قدمها.

أو "غُفر لامرأة مومسة، مرت بكلب على رأس ركي يلهث، كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، وأوثقته بخمارها، فنزعت (1) له من الماء، فغفر لها بذلك". هذا في كلب، فما ظنك الصائم الطائع لربه، وما ظنك بعظيم المغفرة حتى المومسة. يا أخي ... قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لله تعالى أقواماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها، نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم" (2) . * يا أخي: الصدقة والإطعام باب لرفعة الدرجات. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام" وكلها في رمضان. * أختي الصائمة: تصدقي بطعام بيتك ولا تجاوزي المعتاد إن كان ذلك يغضب زوجك. عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما اكتسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً" (3) . * أخي: ... قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "داووا مرضاكم بالصدقة" (4) . عن عليّ بن الحسين بن شقيق قال: سمعت ابن المبارك وسأله رجل: يا أبا عبد الرحمن! قرحة خرجت من ركبتي منذ سبع سنين، وقد عالجت بأنواع العلاج، وسألت الأطباء، فلم أنتفع به؟ قال: اذهب فانظر موضعا يحتاج الناس للماء فاحفر هناك بئراً فإنني أرجو أن ينبع هناك عين، ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرئ" (5) .

_ (1) أخرجت. (2) حسن: رواه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" والطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الحلية" عن ابن عمر، ورواه تمام، والخطيب وابن عساكر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2164) . (3) رواه البخاري، ومسلم، واللفظ له، وأبو داود، وابن ماجة، والترمذي، والنسائي، وابن حبان. (4) حسن: رواه أبو الشيخ في "الثواب" عن أبي أمامة، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3358) . (5) رواه البيهقي وذكره الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/401) .

* أخي: في صومك تذكر قول عبيد بن عمير: "يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط، وأعطش ما كانوا قط، وأعرى ما كانوا قط، فمن أطعم لله عز وجل أشبعه الله، ومن سقى لله عز وجل سقاه الله، ومن كسا لله عز وجل كساه الله". * وقال الشعبي: "من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه". أخي: ما قدر كسرة تعطيها، أو ما سمعت أن الرب يربيها؟ فيراها صاحبها كجبل أحد، أفيرغب عن مثل هذا أحد؟!. ما قدر لقمة لا ييالي بها أحد حتى يصير كجبل أُحد؟! ... واعجباً للقمة كانت قليلة فكثرت، وفانية فبقيت. إن اللقمة إذا أُكلت صارت أذى وقبائح في الحش، وإذا تصدق بها صارت إذاً مدائح عند العرش. * إن تطوعات البدن لا تتعدى المتطوع، وإن نفع الصدقة متعدد متنوع. من فطر صائما قد صبر من عشائه إلى فجره فله مثل أجره. * أما تعلم أن الصدقة تزيد في العمر، ثم إنها والله سريعة الخلف، وحافظة بعد الموت للخلف، واعلم أن إنفاق كل حبة يثمر لك الوفاق والمحبة. "في كل سنبلة مائة حبة..". وفي شهر الجود والمواساة نهدي هذه القصيدة لمن أداموا الشبع والجشاء: الجوع ... الجوع!! يموتُ المسلمون ولا نُبَالي ... ونهرِفُ (1) بالمكارم والخصالِ ونحيَا العُمرَ أوتارا وقَصفا ... ونحيا العمرَ في قِيل وقالِ

_ (1) نهرف: نهذي (من الهذيان) يقال: يهرف بما لا يعرف [المعجم الوجيز] مادة هرف.

وننسى إخوةً في الله ذَرَّتْ ... بهم كف الزمان على الرمالِ تُمَزقُهم نُيُوبُ الجوعِ حتى ... يكاد الشيخُ يَعْثُرُ بِالعِيالِ يَشُدون البُطونَ عَلَى خَوَاء ... وَيقْتَسِمُون أرْغِفَةَ الخيالِ وتَضْرِبهم ريَاحُ الموتِ هُوجا ... وفي أحْداقِهم نَزْفُ الليالي ونَاموا في العراءِ بِلا غِطاء ... وساروا في العراءِ بِلا نِعَالَ كأن البيدَ تَلفِظُهُم فَتَجْري ... بهم بيد إلى بيد خَوَالِ يَسيلُ لُعَابُهم لَهَفا وتَذوِي ... عيونُهُم على جَمر السؤالِ وَلَيتَ جراحَهم في الجسم لكِنْ ... جراحُ النفس أقَتلُ للرجالِ يَمُدون الحبالَ وَليستَ شِعري ... انَقْطعُ أمْ سَنُمْسِك بالحبال؟ وقبل الجوع تَنْهَشُهم كِلاب ... من الإفرِنْج داميَةُ النِّصَالِ يَؤَدونَ الضريبة كل يوْم ... بِمَا مَلَكُوا ودينُ الله غال صِلابٌ إنما الأَيامُ رُقْط ... (وَيَثْنِي الجوعُ أعْناقَ الرجالِ) أتَوْا للشَرق عَل الشرق دَرء ... إذا بالشرق يَنفُر كالثَّعَالي لماذا كل طائِفَة أغاثَت ... بَنيهَا غَيرُكم أهْلَ الهِلال!؟ تَرَى الصُّلْبان قد نَفَرَتْ وهَبتْ ... يهودٌ بالدواءِ وبالغِلالِ هَبُوهُم بعضَ سَائمةِ البَرَارِي ... هَبُوهُم بعضَ سابِلةِ النمالِ نَسيتُم "واتقوا يوماً ثقيلاً" ... به النيرانُ تَقْذِف كالجبالِ؟! تَفُورُ وتَزْفَرُ الأحشاءُ زَفْراً ... كأن شرارَها حُمرُ الجمالِ ونحن المسلمينَ ننامُ حتى ... يَضِيقَ الدهرُ بالنوْمِ الخَبالِ

جَلَستُم والآرائك فَاخِرات ... وأوْجفْتُم (1) على الفُرُش الغَولي وَرَصعْتُم قُصُورَكُم مَرايَا ... لِتنْطِقَ بِالْبَهَاءِ وبالجمَالِ ومَاجَ العطرُ وائتلقت جِنانُ ... كأن العُمْرَ ليس إلى زَوالِ!! نَنَامُ على "الرِّيالِ" وإن صَحَوْنا ... فإن الفجرَ فاتحةُ الرِّيَال (2) ***

_ (1) أوجَفَ: أسرع في السير، استوجفه: ذهب به، يقال: استَوجَفَ الحُب فُوَاده. (2) الريال نوع من المسكوكات الفضية، من ديوان "إنها الصحوة إنها الصحوة" لمحمود مفلح دار الوفاء.

رمضان شهر فتح أبواب الجنان

رمضان شهر فتح أبواب الجنان * عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا جاء رمضان، فُتحتْ أبواب الجنة، وغُلقت أبواب النار وصُفدت الشياطين" (1) . وفي رواية لمسلم: "فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين". * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفّدت (2) الشياطين، ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ويناد مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة" (3) . وفي رواية ابن خزيمة: الشياطين مردة الجن أي بغير واو. * وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغَل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم" (4) . اعلم يا أخي أن فتح أبواب الجنة في رمضان حقيقة لا تحتاج إلى تأويل وهذه نعمة عظيمة ومنة كريمة من الله يتفضل بها على عباده في هذا الشهر فأبواب الجنان مغلقة لا تفتح إلا في تمام النعمة. يقول ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) الآية [الزمر: 73] .

_ (1) رواه البخاري ومسلم. (2) صفدت: بضم الصاد وتشديد الفاء أي شدت بالأغلال. (3) صحيح: رواه الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في "صحيحه"، والبيهقي عن أبي هريرة. (4) حسن: رواه النسائي والبيهقي عن أبي هريرة، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" رقم (989 ج4181) .

"أما الجنة فإنها دار الله ودار كرامته ومحل خواصه وأوليائه، فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله وكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول: "أنا لها فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجداً لربه فيدعه ما شاء أن يدعه ثم يأذن له في رفع رأسه وأن يسأل حاجته فيشفع إليه سبحانه في فتح أبوابها فيشفعه ويفتحها تعظيماً لخطرها وإظهاراً لمنزلة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكرامته عليه" وإن مثل هذه الدار التي هي دار ملك الملوك رب العالمين إنما يدخل إليها بعد تلك الأهوال العظيمة التي أولها من حين عقل العبد في هذه الدار إلى أن انتهى إليها، وما ركبه من الأطباق طبقا بعد طبق وقاساه من الشدائد شدة بعد شدة حتى أذن الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسله وأحب خلقه إليه أن يشفع إليه في فتحها لهم، وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور مما يقدر بخلاف ذلك لئلا يتوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء فجنة الله عالية غالية بين الناس وبينها من العقبات والمفاوز والأخطار ما لا تنال إلا به فما لمن اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ولهذه الدار فليعد عنها إلى ما هو أولى به وقد خلق له وهيئ له. وهنا يدرك الإنسان قيمة فتح أبواب الجنة في رمضان. عجباً لمن يعلم أن الجنة فوقه موجودة تزخرف وتفتح أبوابها في رمضان ثم لا يشتاق إليها ويسعى لها على الأجفان. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة". فاحذر أن تقدم على جنة عرضها السماوات والأرض وليس لك فيها موضع قدم. إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهوام، والوحوش والأنعام، فأما الجنة فهي الحياة اللائقة بذلك الإنسان الكريم على الله وأودع روحه الإيمان الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه.

إن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف، ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود، فأين غاية من غاية؟!. إنها الجنة التي غرس غراسها الرحمن بيده.... إنها الجنة الجزاء الرفيع الخالص الفريد، الجزاء الذي يتجلى فيه ظلال الرعاية الخاصة، والإعزاز الذاتي، والإكرام الإلهي والحفاوة الربانية بهذه النفوس (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون) [السجدة: 17] . حفاوة من الله سبحانه وتوليه بذاته العلية إعداد المذخور لهم عنده من الحفاوة والكرامة هذا المذخور لا يطلع عليه أحد سواه، والذي يظل عنده خاصة مستوراً حتى يكشف لأصحابه عند لقياه. يا الله! كم ذا يفيض الله على عباده من كرمه (1) . إنها الجنة التي لا يسأل بوجه الله العظيم غيرها لكرامتها على الله. إنها الجنة التي اشتاق إليها الصالحون من هذه الأمة فسلوا عنها جعفر الطيار وعمير بن الحمام وحرام بن ملحان وأنس بن النضر وعامر بن أبي فهيرة وعمرو بن الجموح وعبد الله بن رواحة. إنها الجنة دار كرامة الرحمن فهل من مشمر لها.... إنها الجنة فاعمل لها بقدر مقامك فيها.... إنها الجنة فاعمل لها بقدر شوقك إليها. فواعجبا لها كيف نام طالبها، وكم لم يسمح بمهرها في رمضان خاطبها، كيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها، وكيف قر للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها. إنها الجنة دار الموقنين بوعد الله المتهجدين في ليل رمضان، الصائمين نهاره، المطعمين عباد الله وهذا من موجبات الجنة.

_ (1) قول لابن السماك.

قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها قالوا لمن هي يا رسول الله. قال: لمن أطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام" تسعى بهم أعمالهم سوقا إلى ... الجنات سوق الخيل بالركبان صبروا قليلا فاستراحوا دائما ... يا عزة التوفيق للإنسان حمدوا التقى عند الممات كذا السرى ... عند الصباح فحبذا الحمدان وحدت بهم عزماتهم نحو العلى ... وسروا فما نزلوا إلى نعمان باعوا الذي يفنى من الخزف الخسيس ... بدائم من خالص العقيان رفعت لهم في السير أعلام السعا ... دة والهدى يا ذلة الحيران فتسابق الأقوام وابتدروا لها ... كتسابق الفرسان يوم رهان إنها الجنة ... "ما حليت لأمة من الأم مثلما حُلِّيتْ لأمتنا هذه ومع هذا لا نرى لها عاشقا". وأخو البصيرة حاضر متيقظ ... متفرد عن زمرة العميان يسمو إلى ذاك الرفيق الأرفع ... الأعلى وخلّى اللعب للصبيان إنها الجنة ... لو كنت تعلم من خطبت ... ومن طلبت جعلت السعي منك لها على الأجفان حور تزف إلى ضرير مقعد ... يا محنة الحسناء بالعميان (1) إنها الجنة ... وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده، وجعلها مقراً لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص. فإن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران، وإن سألت عن سقفها

_ (1) انظر جمعي "شذا الريحان ذكر جنة الرحمن".

فهو عرش الرحمن، وإن سألت عن ملاطها فهو المسك الأذفر، وإن سألت عن حصبائها فهو اللؤلؤ والجوهر. وإن سألت عن بنائها فلبنة من فضة ولبنة من ذهب، وإن سألت عن أشجارها فما فيها شجرة إلا وساقها من ذهب وفضة، لا من الحطب والخشب، وإن سألت عن تصفيق الرياح لأشجارها فإنها تستفز بالطرب لمن يسمعها، وإن سألت عن ظلها ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها. * وإن سألت عن علاليها وجواسقها فهي غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار، وإن سألت عن ارتفاعها فانظر إلى الكوكب الطالع أو الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار، وإن سألت عن لباس أهلها فهو الحرير والذهب، وإن سألت عن سماعهم فغناء أزواجهم من الحور العين، وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنبيين، وأعلى منهما سماع خطاب رب العالمين. وإن سألت عن أزواجهم فهن الخيرات الحسان اللاتي كالياقوت والمرجان. فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الجنة من ضحكها، وإذا انتقلت من قصر إلى قصر قلت هذه الشمس متنقلة في بروج فلكها أفما تعدُّ مهرها من الآن.. وهو طول التهجد بالقرآن في ليل رمضان، وخلوف الفم بالنهار من آثار الصيام. عجبا لك إن نبي الله موسى خدم العبد الصالح عشر سنوات مهرا لزواجه من ابنته، فكم تخدم مولاك لأجل بنات الجنان الحور الحسان، فوالله ما انتقلن من الجنة ولا أكلن منها ولا خلقن إلا فيها من ترك دفء الفوالق في ليل رمضان كان جزاؤه من جنس عمله وزوّج من الحور الحسان، أما علمت يا أخي أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل هم خزانها وحراسها، وإن سألت عن يوم المزيد وزيارة العزيز الحميد فذلك موجود في الصحاح والسنن والمسانيد من رواية جرير وصهيب وأبي هريرة وأبي موسى وأبي سعيد. فيا لذة الأسماع بأطيب محاضرة، ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجه الكريم

في الدار الآخرة، ويا ذلة الراجعين بالصفقة الآخرة (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة) [القيامة: 22-25] . فحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم فلله أبصار ترى الله جهرة ... فلا الحزن يغشاها ولا هي تسأم فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة ... أمن بعدها يسلو المحب المتيم أحبتنا عطفا علينا فإننا ... بنا ظمأ والمورد العذب أنتم ***

رمضان شهر غلق أبواب النيران

رمضان شهر غلق أبواب النيران مَر بك في الحديث أنه في شهر رمضان تغلق أبواب النار فما يفتح منها باب فما أطيبها من نعمة يمن الله بها على العباد. حين يغلق الشر بحذافيره.. أخي: عجباً لمن علم أن النار تسجر ويضحك ملء فيه، أما سمع أن النار "أعدت للكافرين" (إن جهنم كانت مرصاداً * للطاغين مآبا) [النبأ: 21-22] . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأيم الذي نفسي بيده، لو رأيتم ما رأيت، لضحكتم قليلاً وبكيتم كثيراً". قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: "رأيت الجنة والنار" (1) . النار التي رآها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحطم بعضها بعضاً والتي قال عنها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رآها "لم أر منظراً كاليوم قط أفظع" فالنار مخلوقة ومعدة فإياك أن تكون من وقودها. "فيا أيها الغافل عن نفسه، دع التفكر فيما أنت مرتحل عنه، واصرف الفكر إلى موردك، فإنك أخبرت بأن النار مورد الجميع إذ قال: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) [مريم: 71-72] . فأنت من الورود على يقين ومن النجاة في شك. فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد فعساك تستعد للنجاة منه، وتأمل في حال الخلائق، وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا، فبينما هم في كربها وأهوالها وقوفاً ينتظرون حقيقة أنبائها وتشفيع شفعائها، إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات شعب، وأظلت عليهم نار ذات لهب، وسمعوا لها زفيرا وجرجرة تفصح عن شدة الغيظ والغضب، فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأم على الركب، حتى أشفق البرآء من سوء المنقلب. وخرج المنادي من الزبانية قائلا: أين فلان بن فلان المسوّف نفسه في الدنيا بطول الأمل، المضيع عمره في سوء العمل؟ فيبادرونه بمقامع حديد، ويستقبلونه بعظائم التهديد، ويسوقونه إلى العذاب الشديد، وينكسونه في قعر الجحيم، ويقولون له (ذق إنك أنت العزيز الكريم) فأسكنوا داراً ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك،

_ (1) رواه مسلم عن أنس.

مبهمة المهالك، يخلد فيها الأسير ويوقد فيها السعير، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم فيها الحميم، ومستقرهم الجحيم، الزبانية تقمعهم والهاوية تجمعهم، أمانيهم فيها الهلاك وما لهم منها فكاك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوهم من ظلمة المعاصي، ينادون من أكنافها، ويصيحون في نواحيها وأطرافها: يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود، فتقول الزبانية: هيهات لات حين أمان ولا خروج لكم من دار الهوان". يا هذا: أحدثك عن نار غم قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها، عقابها عميم، عذابها أليم، بلاؤها شديد، وقعرها بعيد، سلاسل وأغلال، ومقامع وأنكال، زمانهم ليل حالك، ضجيجهم ضجيج هالك، يصطرخون فيها فلا يجيبهم مالك". يدعون بالويل والثبور، ومقامع الحديد تهشم بها جباهم، ويتفجر الصديد من أفواههم، تنقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود أحداقهم، لهيب النار سار في بواطن أعضائهم وحيات الهاوية وعقاربها تأخذ بأشفارهم. يا هذا: جهنم سوداء ماؤها أسود شجرها أسود، أهلها سود مقبوحون، كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً. أخي: عياذا بالله: أن تكون من قوم لباسهم نار ومهادهم نار لحُف من نار وسرابيلهم القطران ومساكن من نار في شر دار وأسوء عذاب أكلاً أكلاً وحطماً حطماً قد أكلوا من النار، ومشوا على النار ثم عاشوا بعد ذلك. لا يهدأون ولا ينامون ولا يموتون. فيها غلاظ شداد من ملائكة ... قلوبهم شدة أقسى من الحجر لهم مقاميع للتعذيب مرصدة ... وكل كسر لديهم غير منجبر

سوداء مظلمة شعثاء موحشة ... دهماء محرقة لواحة البشر يا ويلهم تحرق النيران أعظمهم ... فالموت شهوتهم من شدة الضجر ضجوا وصاحوا زماناً ليس ينفعهم ... دعاء داع ولا تسليم مصطبر وكل يوم لهم في طول مدتهم ... نزع شديد من التعذيب والسعر يا هذا يا صبيح الوجه: كم من وجه صبيح ولسان فصيح غدا بين أطباق النار يصيح. وسيق المجرمون وهم عراة ... إلى ذات السلاسل والنكال فنادوا ويلنا ويلا طويلا ... وعجوا في سلاسلها الطوال فليسوا ميتين فيستريحوا ... وكلهم بحر النار صال أخي: إنك قد جربت جلدك في الشوكة تدميه، في العثرة تؤذيه، في ضربة الشمس تؤثر فيه.... أحدنا يؤثر الظل على الشمس فما بالنا لا نؤثر الجنة على النار. فيا عجبا ندري بنار وجنة ... وليس لذي نشتاق أو تلك نحذر إذا لم يكن خوف وشوق ولا حيا ... فماذا بقي فينا من الخير يذكر وليس لحر صابرين ولا بلى ... فكيف على النيران يا قوم نصبر وفوت جنان الخلد أعظم حسرة على تلك فليستحسر المتحسر يا من يؤذيك حر الهجير ويأخذ بأنفاسك.... أما سمعت قول رسولك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون، وفيه رجل من أهل النار فتنفس فأصاب نفسه لاحترق المسجد بمن فيه" (1) . يا جميل المحيا.. أما سمعت قول نبيك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ضرس الكافر، أو ناب الكافر، مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث" (2) .

_ (1) "المطالب العالية" رقم (4667) . (2) رواه مسلم والترمذي والحاكم وابن حبان وأحمد عن أبي هريرة.

وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد، وعرض جلده سبعون ذراعا، وعضده مثل البيضاء، وفخذه مثل وَرقان، ومقعده من النار ما بيني وبن الربذة" (1) . "ليكون ذلك أنكى في تعذيبهم، وأعظم في تعبهم ولهيبهم يا حَسَنَ المطعم والمشرب: تذكر قول الله عز وجل: هذا فليذوقوه حميم وغساق". وتذكر قول نبيك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا، لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه" (2) . فهل تصبر على الزقوم والغسلين والضريع وطعام ذي غصة؟!. ويا من غذي بلذيذ الشراب أين أنت من الحميم والغساق وطينة الخبال والصديد؟!. "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر على صور الناس تعلوهم نار الأنيار يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال". ألبسوا النضيح من النحاس، وضعوا خروج الأنفاس، فالأنفاس في أجوافهم تتردد، والنيران على أبدانهم توقد، قد أطبقت عليهم الأبواب، وغضب عليهم رب الأرباب، وقيل للخزان أن أطبقوا وقيل للنيران أن أحرقي ... يا نار كلي، يا نار أنضجي، كلي ولا تقتلي" (3) . "توهم نفسك يا أخي وأنت تطلب الروح فلا روح بين الحميم وبين النار أبداً، فلما اشتد بك الكرب وبلغ منك المجهود ذكرت الجنان، فهاجت غصة من فؤادك إلى حلقك أسفاً على جوار الله عز وجل وحزناً على نعيم الجنة وبرد مائها وطيب عيشها، تسأل أهل الجنة شراباً فأجابوك بالخيبة فتقطع قلبك حسرة بما خيبوا من أملك، ففزعت إلى الله بالنداء بالمرجع والعتبى أن يردك إلى الدنيا فمكث عنك دهراً طويلاً فلا يجيبك هواناً بك، وأن صوتك عنده ممقوت، وجاهك عنده ساقط، ثم ناداك بالخيبة منه أن (اخسئوا فيها ولا تكلمون) .

_ (1) رواه أحمد في "مسنده" والحاكم وصححه الحاكم والذهبي والألباني في "الصحيحة" (3/94) . (2) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن ابن عباس. (3) من رسالة "نار الخلود بئس الورد المورود" من جمعي وهي تحت الطبع.

فيا إياسك ويا إياس أهل النار وقد سمعوا رجوف أبوابها قد أغلق، وانقطع الرجاء ألا فرج أبداً، ولا مخرج منها، عذاب لا زوال له عن بدنك، ودوام حرق قلبك ومضضك، أحزان لا تنقضى وهموم لا تنفد، وسقم لا يبرأ، وقيود لا تحل، وأغلال لا تفك أبداً، وعطش لا يروون بعده أبدا، كرب لا يهدأ أبداً، لا يرحم بكاؤهم، ولا يجاب دعاؤهم. "إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم جرت، وإنهم ليبكون الدم" (1) لا يغاثون عند تضرعهم، ولا تقبل توبتهم، ولا تقال عثرتهم، فتوهم ذلك بعقل فارغ، رحمة لضعفك، وارجع عما يكره مولاك، وترضي ربك عسى أن يرضى عنك، وأعِذْ به بعقلك، واستقله يقلل عثرتك، وابك من خشيته عسى أن يرحمك، فإن الخطر عظيم، وإن البدن ضعيف، والموت منك قريب، فاحذر الله وخفه واستح منه وأجله، ولا تستخف بنظره، ولا تتهاون باطلاعه، وأجلّ مقامه عليك، وعلمه بك، فلا طاقة لك بغضبه، ولا قوة لعذابه، ولا صبر لك على عقابه، ولا صبر عندك عن جواره، فتدارك نفسك قبل لقائه، فكأنك بالموت قد نزل بك بغتة فتوهم ما وصفت لك فإنما وصفت بعض الجمل، فتوهم ذلك بعقل فارغ موقن عارف بما قد جنيت على نفسك، وما استوجبت بجنايتك، وفكر في مصيبتك في دينك، ولير الله عز وجل عليك أثر المصيبة لعله أن يرحمك فيتجاوز عنك بمغفرته وعفوه.... جعلنا الله وإياك من زمرة العابدين الخائفين، وأقطعنا عمالات المتقين" (2) . ***

_ (1) حسن: رواه الحاكم في "المستدرك" عن أبي موسى، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2032) . (2) "التوهم" للمحاسبي بتصرف.

رمضان شهر الصبر والتربية

رمضان شهر الصبر والتربية والصبر جواد لا يكبو، وصارم لا ينبو، وجند لا يهزم، وحصن حصين لا يهدم، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد، ومحله من الظفر محل الرأس من الجسد. * وقد ضمن الوفي الصادق لأهله في محكم الكتاب، أنه يوفيهم أجرهم بغير حساب. * وأخبرهم أنه معهم بهدايته ونصره العزيز وفتحه المبين، فقال تعالى: (واصبروا إن الله مع الصابرين) [الأنفال: 46] ، فظفر الصابرون بهذه المعية بخير الدنيا والآخرة، وفازوا بها بنعمه الباطنة والظاهرة. * وجعل سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين، فقال تعالى وبقوله اهتدى المهتدون: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) [السجدة: 24] . * وأخبر أن الصبر خير لأهله مؤكداً باليمين، فقال تعالى: (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) [النحل: 126] . * وأخبر أن مع الصبر والتقوى لا يضر كيد العدو ولو كان ذا تسليط فقال تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط) [آل عمران: 120] . * وأخبر عن نبيه يوسف الصديق أن صبره وتقواه وصّلاه إلى محل العز والتمكين فقال: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) [يوسف: 90] . * وعلّق الفلاح بالصبر والتقوى، فعقل ذلك منه المؤمنون، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) [آل عمران: 200] . * وأخبر عن محبته لأهله وفي ذلك أعظم ترغيب للراغبين فقال تعالى: (والله يحب الصابرين) [آل عمران: 146] .

* ولقد بشر الصابرين بثلاث كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون فقال تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) [البقرة: 155، 156] . * وأوصى عباده بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين فقال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) [البقرة: 45] . * وجعل الفوز بالجنة لا يحظى به إلا الصابرون فقال تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون) [المؤمنون: 111] . * وأخبر أن الرغبة في ثوابه والإعراض عن الدنيا وزينتها لا ينالها إلا أولو الصبر المؤمنون فقال تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون) [القصص: 80] . * وأخبر أن دفع السيئة بالتي هي أحسن تجعل المسيء كأنه ولي حميم، وأن هذه الخصلة لا يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. * وأخبر سبحانه خبراً مؤكداً بالقسم: (إن الإنسان في خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) [العصر: 2، 3] . * وقسّم خلقه قسمين أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة، وخص أهل الميمنة أهل التواصي بالصبر والمرحمة. * وخص بالانتفاع بآياته أهل الصبر وأهل الشكر تمييزا لهم بهذا الحظ الموفور. فقال في أربع من آياته: (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) . * وعلق المغفرة والأجر بالعمل الصالح والصبر، وذلك على من يسّره يسير فقال: (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) . * وأخبر أن الصبر والمغفرة من العزائم التي تجارة أربابها لا تبور، فقال: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) [الشورى: 43] . * وأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصبر والحكمة، وأخبر أن صبره إنما هو لربه وبذلك جميع المصائب تهون.

فقال: (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) [الطور: 48] . وقال: (واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) [النحل: 127] . والصبر آخية (1) المؤمن التي يجول ثم يرجع إليها، وساق إيمانه الذي لا اعتماد له إلا عليها. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" (2) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما رزق عبد خيراً له ولا أوسع من الصبر" (3) . * قال عمر بن الخطاب: "أفضل عيش أدركناه بالصبر". وقال عليّ بن أبي طالب: الصبر مطية لا تكبو، وقال الحسن: الصبر كنز من كنوز الجنة لا يعطه الله إلا لعبد كريم عنده، وقال عمر بن عبد العزيز: ما أنعم الله على عبده نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عَوّضه خيرا مما انتزعه" (4) . واعلم يا أخي وأنت في شهر الصبر "أنّ من تعلق بصفة من صفات الرب تعالى أدخلته تلك الصفة عليه، وأوصلته إليه، والرب تعالى هو الصبور، بل لا أحد أصبر على أذى سمعه منه، وهو صبر من أعظم مصبور عليه، فإن مقابلة أعظم العظماء وملك الملوك وأكرم الأكرمين بغاية القبح وأعظم الفجور، ونسبته إلى كل ما لا يليق به، والقدح في كماله وأسمائه والإلحاد في آياته، وتكذيب رسله عليهم السلام، ومقابلتهم بالشتم والأذى، وتحريق أوليائه وقتلهم وإهانتهم لا يصبر عليه إلا الصبور

_ (1) العروة التي تشد إليها الدابة. (2) رواه أحمد في "مسنده"، ومسلم، والترمذي عن أبي مالك الأشعري. (3) صحيح: رواه الحاكم في "المستدرك" وصححه عن أبي هريرة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5626) . (4) "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" لابن قيم الجوزية (ص 90-91) .

الذي لا أحد أصبر منه، ولا نسبة لصبر جميع الخلق من أولهم إلى آخرهم إلى صبره سبحانه. والله يحب أسماءه وصفاته، ويحب مقتضى صفاته، وظهور آثارها في العبد، فهو صبور يحب الصابرين. وإذا كان سبحانه يحب المتصفين بآثار صفاته، فهو معهم بحسب نصيبهم من هذا الاتصاف، ورمضان شهر الصوم، والصوم تجتمع فيه معاني الصبر الثلاثة: الصبر على ألم الجوع والعطش، والصبر على المعاصي، والصبر على الطاعات. أما الصبر عن المعاصي: فما أحوجنا في رمضان إلى كظم الغيظ عمن أساء إلينا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين ويزوجه منها ما شاء" (1) وفي الصحيح: "ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة". ورحم الله من قال: والصبر بالأرواح يعرف فضله ... صبر الملوك وليس بالأجسام (2) فاصبر صبر الكرام، فالكريم يصبر عن معصية الرحمن، واللئيم يصبر في طاعة الشيطان، فاللئام أصبر الناس في طاعة أهوائهم وشهواتهم، وأقل الناس صبراً عن معصية ربهم، فيصبر على البذل في طاعة الشيطان أتم صبر، ولا يصبر على البذل في طاعة الله في أيسر شيء. ويصبر على تحمل المشاق لهوى نفسه في مرضاة عدوه، ولا يصبر على أدنى المشاق في مرضاة ربه. ويصبر على ما يقال في عرضه في المعصية، ولا يصبر على ما يقال في عرضه إذا أوذي في الله.

_ (1) حسن: رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن معاذ بن أنس، ورواه أحمد في "مسنده"، والطبراني في "الصغير"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6522) . (2) "الذريعة إلى مكارم الشريعة" للراغب الأصفهاني.

ويبذل عرضه في هوى نفسه ومراده، ولا يصبر على التبذل لله في مرضاته وطاعته. فهو أصبر شيء على التبذل في طاعة الشيطان ومراد النفس، واعجز شيء عن الصبر على ذلك في الله، وهذا أعظم اللؤم، ولا يكون صاحبه كريما عند الله، ولا يقوم مع أهل الكرم إذا نودي بهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ليعلم أهل الجمع من أولى بالكرم اليوم أين المتقون. فليصبر الإنسان عن معصية الله في هذا الشهر، ولا يبيع حظه مع الله بشهوة تذهب لذاتها وتبقى تبعتها، تذهب الشهوة وتبقى الشقوة. ويعينه على صبره عن شهواته مشهد قهره لشيطانه والظفر به، ومشهد العوض وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك الحرام، ومشهد البلاء والعافية، فإن البلاء ليس إلا الذنوب، والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها. يصبر العبد عن المعصية في رمضان حذرا من الوقوع في الحرام، وإبقاء لنور وبهجة الإيمان. يصبر عن معصيته إيمانا بالوعيد وحبا لله وحياءً من مولاه. يصبر على فتنة النفس، والشهوة وجاذبيته للأرض، وثقلة اللحم والدم، والرغبة في المتاع والسلطان، أو في الدعة والاطمئنان، وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه، مع المعوقات والمثبطات في أعمال النفس وفي ملابسات الحياة، وفي منطق البيئة وفي تصورات أهل الزمان. لابد من الصبر: الصبر على فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه وهو لا يملك عنهم دفعا. والصبر على فتنة إقبال الدنيا على المبطلين تصاغ لهم الأمجاد الكاذبة، والصبر على الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقاً في تيار الضلالة وهو وحده موحش غريب طريد.

* ويصبر في رمضان على طاعة الله والدعوة إليه وهو أعلى أنواع الصبر والصبر على الطاعة والدعوة أمانة الله في الأرض لا يحملها إلا من هم لها أهل، وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص، وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة، وعلى الأمن والسلامة، وعلى المتاع والإغراء، فهي أمانة كريمة، ومن ثَمَّ تحتاج إلى طراز خاص يصبر ويصبر. والنفس بالصبر تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع ويشتد غورها ويصلب، فإذا طال الأمد، وأبطأ نصر الله، لا يثبت إلا من يؤتمن على تلك الأمانة الكبرى، أمانة السماء في الأرض، وأمانة الله في ضمير المؤمن. إن الصابرين ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن، وبما صبروا لها من الصبر على المحن. والذي يصبر على الأذى والحرمان يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (1) . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها (2) ، فيلبسها، ويبتلى بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أشد فرحاً بالبلاء من أحدكم بالعطاء" (3) . * لا بد من صبر على طاعة الله والاستقامة على دربه وبذل النفس في مرضاة الله. وهنا لابد من نصح للحركة الإسلامية بعدم العجلة، والحماس الفائر، ولنا في قصة بني إسرائيل العبر: (ألم تر إلى الملاء من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي

_ (1) صحيح: رواه أحمد والطبراني في "الكبير" عن فاطمة بنت اليمان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (996) . (2) يقطعها. (3) صحيح: رواه ابن ماجه، وأبو يعلي في "مسنده"، والحاكم في "المستدرك" وصححه عن أبي سعيد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (995) .

لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين) [البقرة: 246] إلى نهاية الآيات. (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده..) الآية [البقرة: 249] . "فالتفلت من الطاعة والنكوص عن التكليف سمة كل حركة لا تنضج تربيتها الإيمانية، فهي سمة بشرية عامة لا تغير منها إلا التربية العالية الطويلة الأمد العميقة التأثير. ومِنْ ثَمَّ ينبغي للقادة أن يكونوا منها على حذر، وأن تحسب حسابها في الطريق الوعر كي لا تفاجأ بها، فيتعاظمها الأمر، فهي متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تخلص من الأوشاب، ولم تصهر ولم تطهر من هذه العقابيل" (1) . لابد للقادة أن يربو الجيل على الصمود للرغبات والشهوات، والصمود على الحرمان والمتاعب، والصبر على قيام الليل في رمضان باب هذا، وصيام النهار والذكر أعلى درجات الطاعة. إنه لابد من الصبر: الصبر على طول الطريق الشائك، الصبر على قلة الناصر، الصبر على عناد القلب ومضاضة الإعراض عن طريق الله، والتواء النفوس الصبر على انتفاش الباطل، أن ترى الشر نافشاً والخير ضاوياً، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق. يا إخوتاه: الصبر نبل غاية، وطهارة قصد، ونظافة طريق. لابد من صبر على الطاعة والتربية ينفض عنا الكسل والخمول، ويستجيش ما في شباب الأمة من مكنونات مذخورة للدور النبيل الذي يمليه رمضان شهر الصبر وشهر الفتوحات.

_ (1) "الظلال" لسيد قطب.

(وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) [الأعراف: 128-129] . إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد، وهو الملاذ الحصين الأمين والأولى، واحد وهو الولي القوي المتين، وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه، وألا يعجلوا، فهم لا يطلعون الغيب، ولا يعلمون الخير. على الناس ألا يتبرموا من طول الطريق فالعاقبة للصابرين طال الزمن أم قصر، فلا يخالج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير، ولا يخايل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد، فيحسبونهم باقين. لابد للدعاة أن يصبروا على الالتواءات والانحرافات، وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات بالصبر على الطاعة. وانظر إلى مناجاة موسى لربه وإعداده لنفسه بالصوم كي تصفو الروح وتشف وتستضيء وتتقوى العزيمة على مواجهة حمل الأمانة والدعوة. قال تعالى: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة ... ) الآية [الأعراف: 142] . قال ابن كثير "فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة، قال المفسرون فصامها موسى عليه السلام وطواها، فلمّا تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله أن تكمل العشرة أربعين". صيام ومناجاة ... ختمها بعشر ذي الحجة.. وهكذا.. فالتمرن بالصبر على الطاعة يؤهل النفوس للأدوار العظيمة. يا إخوتاه ويا حملة الدعوة ... هذه أيامكم.. أيام الصبر في رمضان ومنها العظة ولابد من الصبر.

لقد كان أول توجيه للأمة الوسط الشهيدة على الناس ذات الشخصية الخاصة والكيان الخاص هو الاستعانة بالصبر والصلاة على تكاليف هذا الدور العظيم. قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) [البقرة: 45] . قال ابن جرير في "تفسيره" (1/259) : "وقد قيل: إن معنى الصبر في هذا الموضع: الصوم، والصوم بعض معاني الصبر عندنا". يتكرر ذكر الصبر -منه الصوم- في القرآن كثيراً، ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع، والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات، والذي يتطلب أن تبقي النفس مشدودة الأعصاب، مجندة القوى، يقظة للمداخل والمخارج.. ولابد من الصبر في هذا كله. لابد من الصبر على الطاعات، والصبر على عناد المشاقين لله، وفضح أساليبهم وأهدافهم، الصبر على الكيد بشتى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بُعد الشُقَّة. عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: "شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" (1) . لابد من تربية للنفوس بالبلاء وبالجوع، لابد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدّوا في سبيلها من تكاليف، فالتكاليف هنا هي الثمن النفيس الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الأخرين.

_ (1) رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي.

لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها، وصبرهم على بلائها، عندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها، مقدرين لها، مندفعين إليها. ولابد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى، فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة، وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد، والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش من العيون، والران عن القلوب. وأهم من هذا كله، أو القاعدة لهذا كله.. الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها، وتتوارى الأوهام وهي شتى، ويخلو القلب إلى الله وحده لا يجد سنداً إلا سنده، وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات وتتفتح البصيرة، وينجلي الأفق على مدّ البصر ... لا حول إلا حول الله، ولا ملجأ إلّا إليه. قال تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيية قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) [البقرة: 155-157] . إنا لله.. كلنا.. كل ما فينا.. كل كياننا وذاتيتنا.. لله. وإليه المرجع والمآب في كل أمر، وفي كل مصير.. التسليم.. التسليم المطلق.. هؤلاء هم الصابرون.. الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل.. وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) . "صلوات من ربهم ورفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه وهو مقام كريم.. ورحمة.. وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون.. وكل أمر من هذه هائل عظيم". إن الله يضع الصبر في كفة.. ويضع في الكفة الأخرى أمراً واحداً.. صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون.. إنه لا يعدهم هنا نصراً.. ولا يعدهم هنا تمكيناً، ولا يعدهم هنا مغانم، ولا يعدهم هنا شيئاً إلا صلوات الله ورحمته وشهادته

لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها، وأكبر من حياتها، فكان من ثَم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف، ومن كل رغبة من الرغبات البشرية، حتى الرغبة في انتصار العقيدة - كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته.. كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون.. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية.. وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها.. فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فهو لدعوة الله التي يحملونها. إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء.. أرجح من النصر وأرجح من التمكين وأرجح من شفاء غيظ الصدور. "هذه هي التربيه التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين" (1) . * * *

_ (1) نقل بتصرف من "الظلال".

رمضان شهر الشكر

رمضان شهر الشكر رمضان شهر الشكر والحياء.. ولو سجدنا لله على إبر الشوك إلى يوم لقياه ما قدرنا حق عطاياه.. فكيف بنعم الله وفضله في رمضان شكر على الإسلام وكفى بها نعمة! أم شكر على نعمة البقاء وإدراك رمضان ونحن أحياء؟ أم شكر على غفران الذنوب؟ أم شكر على فتح أبواب الجنان؟ أم شكر على غلق أبواب النيران؟ أم شكر على تصفيد الشياطين؟ أم شكر على إجابة الدعاء؟ أم شكر على العتق من النيران؟ أم شكر على رفرفة الأرواح نحو الملأ؟ أم شكر على التحرير من ثقلة الأرض وحمأة الطين؟ أم شكر على التهجد والتراويح؟ أم شكر على الصدقات والتسبيح؟ أم شكر على مواساة الفقير؟ قال تعالى: (ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) . ولله در محمود الورّاق إذ يقول: إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... عليّ له في مثلها يجب الشكرُ فكيف وقوع الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام واتصل العمرُ إذا مسّ بالسرّاء عمّ سرورها ... وإنْ مسّ بالضراء أعقبها الأجر وما منهما إلا له فيه منّة ... تضيق بها الأوهام والبر والبحر الشكر لله درجات، تبدأ بالاعتراف بفضله والحياء من معصيته، وتنتهي بالتجرد لشكره، والقصد إلى هذا الشكر في كل حركة بدن، وفي كل لفظة لسان وفي كل قطرة جنان.. مع كل خفقة ووجيب قلب. ومن كلام شيخ الإسلام ابن القيم مفرقاً: "جعل الله الشكر مفتاح كلام أهل الجنة فقال تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده) ، وقال: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) . ومنزلة الشكر من أعلى المنازل، وهي فوق "الرضى" وزيادة، فالرضى مندرج

في الشكر بل يندرج فيه جميع مقامات الإيمان حتى المحبة والرضى والتوكل، وتالله ليس لخواص أولياء الله وأهل القرب منه سبيل أرفع من الشكر ولا أعلى وهو نصف الإيمان. * وقد قرن الله تعالى ذكره بذكره مع أنه قال: (ولذكر الله أكبر) ، وكلاهما هو المراد بالخلق والأمر قال تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) [البقرة: 152] . * وقرن سبحانه الشكر بالإيمان فقال تعالى: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) الآية. * وأخبر سبحانه أن أهل الشكر هم المخصوصون بمنّته عليهم من بين عباده فقال تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين) [الأنعام: 53] . * وقسّم العباد إلى شكور وكفور قال تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) [الإنسان: 3] . * وقد أمر الله به، ونهى عن ضده وذمه، فقال تعالى: (إن الإنسان لربه لكنود) [العاديات: 6] . يعد المصائب وينسى النعم. يا أيها الظالم في فعلهِ ... والظلم مردود على من ظَلَمْ إلى متى أنت وحتى متى ... تشكو المصيبات وتنسى النَّعَمْ * وهو غاية الرب من عبده، وهو الغاية من خلقه وأمره، قال تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) [النحل: 78] . * وقد أخبر سبحانه إنما يعبده من يشكره، فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته فقال: (واشكروا لله إن كنتم إيّاه تعبدون) .

* وأول وصية وصى بها الإنسان بعد ما عقل عنه الشكر له وللوالدين: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصالُه في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير) [لقمان: 14] . * وأخبر أن رضاه في شكره فقال تعالى: (وإن تشكروا يرضه لكم) . * وأثنى على أهله ووصف به خواصّ عباده، وأثنى عليه خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بشكر نعمه فقال: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم) [النحل: 121] ، فختم صفات خليله بأنه شاكر، فجعل الشكر غاية خليله. * وأمر عبده موسى أن يتلقى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليم بالشكر فقال تعالى: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) [الأعراف: 144] . * وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على أول رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشكر فقال تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً) [الإسراء: 3] ، وفي تخصيص نوح ها هنا بالذكر، وخطاب العباد بأنهم ذريته إشارة إلى الاقتداء به فإنه أبوهم الثاني، فإن الله لم يجعل للخلق بعد الغرق نسلاً إلا من ذريته كما قال تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين) [الصافات: 77] . * وقلة أهله في العالمين تدل على أنهم هم خواصه كقوله: (وقليل من عبادي الشكور) . * وقابل الله سبحانه بين الشكر والكفر فقال عن نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني كريم) [النمل: 40] . * ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سبباً للمزيد من فضله (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) [إبراهيم: 7] . * وقد وقف سبحانه كثيراً من الجزاء على المشيئة كقوله: (فيكشف ما تدعون

إليه إن شاء) ، وقوله في الرزق: (يرزق من يشاء) ، وفي المغفرة (يغفر لمن يشاء) ، والتوبة (ويتوب الله على من يشاء) ، وأطلق جزاء الشكر إطلاقاً حيث قال: (وسنجزي الشاكرين) ، (وسيجزي الله الشاكرين) . * ولماّ عرف إبليس قدر مقام الشكر وأنه من أجل المقامات وأعلاها، جعل غايته أن يسعى في قطع الناس عنه فقال: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) . * واشتق الله للشاكرين اسماً من أسمائه، فإنه سبحانه هو الشكور، فأعطاهم من وصفه، وسمّاهم باسمه، وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلاً، وهو يوصّل الشاكر إلى مشكوره، بل يعيد الشاكر مشكوراً، قال تعالى: (إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً) [الإنسان: 22] . * وفي الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنه قام حتى تورّمت قدماه، فقيل له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً". وقال لمعاذ: "والله يا معاذ، إني لأحبك، فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (1) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الدنيا" (2) . * والشكر مبني على خمسة قواعد: (1) خضوع الشاكر للمشكور وإضافة النعم إلى موليها بنعت الاستكانة له. (2) حبه له، قال سلمان: ذكر النعم يورث الحب.

_ (1) صحيح: رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن حبان والحاكم في "المستدرك" وصححه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7969) . (2) صحيح: رواه أبو نعيم في "الحلية" والحاكم في "المستدرك"، عن ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5355) ، و"السلسلة الصحيحة" رقم (2176) .

(3) اعترافه بنعمته ومعرفته بها وقبولها. (4) ثناؤه عليه بها. (5) أن لا يستعملها فيما يكره. ومن عدم واحدة منها: اختل من قواعد الشكر قاعدة. أما معرفتها: فهو إحضارها في الذهن ومشاهدتها وتمييزها. وقبولها: هو تلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة إليها، وأن وصولها إليه بغير استحقاق منه، قال الجنيد: "الشكر أن لا ترى نفسك أهلاً للنعمة". وهذا معنى قول حمدون -وما ألطفه-: "شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا". * والثناء بها على المنعم: وصفه بالجود والكرم والبر والإحسان وسعة العطاء. * والتحدث بنعمته: ذكر النعمة والإخبار بها، والدعوة إلى الله وتبليغ رسالته وتعليم الأمة قال تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث) [الضحى: 11] . قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير" (1) . ومن الرزية أن شكري صامت ... عما فعلت وأن برّك ناطقُ وأرى الصنيعة منك ثم أسرّها ... إني إذاً لدى الكريم لسارقُ نعم يا أخي: الشكر: عكوف القلوب على محبة المنعم، والجوارح على طاعته، وجريان اللسان بذكره، والثناء عليه. والشكر: قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة. قال عمر بن عبد العزيز: قيّدوا نعم الله بشكر الله.

_ (1) حسن: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن النعمان بن بشير، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3014) ، و"السلسلة الصحيحة" رقم (667) .

* وشكر العامة على المطعم والمشرب والملبس وقوت الأبدان، وشكر الخاصة على قوت القلوب والتوحيد والإيمان. نعم: الشكر: التلذذ بثنائه على ما لم تستوجب من عطائه، وقيل: من قصرت يداه عن المكافآت فليطل لسانه بالشكر. والشكر معه المزيد فمتى لم ترَ حالك في مزيد فاستقبل الشكر. * والشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح: فالقلب للمعرفة والمحبة، واللسان للثناء والحمد، والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور وكفها عن معاصيه. قال الشاعر: أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجّبا * والشكر أخص بالأفعال، والحمد أخص بالأقوال، فإنه يحمد على أسمائه وصفاته وأفعاله أو يشكر على نعمه. وسبب الحمد أعمّ من سبب الشكر. ومتعلق الشكر وما به الشكر أعمّ مما به الحمد، فإنه يشكر بالقلب واللسان والجوارح، ويحمد بالقلب واللسان. وأي نعم الله تحصي في الدنيا أو في الآخرة. عن عبد الله بن محصن قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" (1) . فما ظنك بنعمة ترك المعصية في هذا الشهر. أصبحت بين نعمتين لا تدري أيتهما أفضل: ذنوب سترها الله فلا يستطيع أن يعيرك بها أحد، ومودة قذفها في قلوب العباد لا يبلغها العمل.

_ (1) حسن: رواه البخاري في "الأدب المفرد"، والترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6024) .

أخي: كم عدو حط ّمنك بالذم فرقاك، كم أعطش من شراب الأمانيّّ خلقاً وسقاك، كم أمات بعض من لم يبلغ رمضان وأبقاك. لقد أعطاك أيتها النفس ما لم تأملي، وبلّغك ما لم تطلبي، وستر عليك من القبيح ما لو فاح لضجّت المشام. كيف لا تحب من أنت به، وبقاؤك منه، ورجوعك إليه. قال سليمان التيمي: إن الله سبحانه أنعم على عبده على قدره، وكلّفهم بالشكر على قدرهم. قالت امرأة لابن أبي الحواري: أنا في بيتي قد شُغل قلبي، قلت: وما هو؟ قالت: أريد أن أعرف نعم الله عليّ في طرفة عين، أو أعرف تقصيري عن شكر النعمة عليّ في طرفة عين. قلت: تريدين ما لا تهتدي إليه عقولنا. وتنسّك رجل فقال: لا آكل الخبيص لا أقوم بشكره، فقال الحسن: هذا أحمق؟! وهل يقوم بشكر الماء البارد!! * ومن دقيق نعم الله على العبد التي لا يكاد يفطن لها: أن يغلق عليه بابه فيرسل الله إليه من يطرق عليه الباب فيسأله شيئاً من القوت ليعرف نعمته عليه. * وقال الثوري: ما أنعم الله على عبد في حاجة أكثر من تضرعه إليه فيها. وقال أبو حازم: نعم الله فيما زوي عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما أعطانى منها. قال بكر بن عبد الله: ما قال عبد قط الحمد لله إلا وجبت عليه نعمة بقوله الحمد لله، فجزاء تلك النعمة أن يقول الحمد لله، فجاءت نعمة أخرى فلا تنفد". فسبحان "المنعم فما قام مخلوق بحقه، الموالي بفضله على جميع خلقه بشرائف المنائح على طول الزمان، أنشأ المخلوقات بحكمته وصنعها، وفرّق الأشياء بقدرته وجمعها، ودحا الأرض على الماء وأوسعها (والسماء رفعها ووضع الميزان) . * سالت الجوامد لهيبته ولانت، وذلت الصعاب لسطوته وهانت، وإذا بطش

(انشقت السماء فكانت وردة كالدهان) . يعز ويذل، ويفقر ويغني، ويسعد ويُشقي، ويبقي ويُفني، ويشين ويزين، وينقض ويبني (كل يوم هو في شأن) . قدّر التقدير فلا رادّ لحكمه، وعلم سر العبد وباطن عزمه (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) . مدّ الأرض فأوسعها بقدرته، وأجرى فيها أنهارها بصنعته، وصبغ ألوان نباتها بحكمته فمن يقدر على صبغ تلك الألوان، ثبتها بالجبال الرواسي في نواحيها، وأرسل السحاب بمياه تحييها، وقضى بالفناء على ساكنيها (كل من عليها فان) . من خدمه طامعاً في فضله نال، ومن لجأ إليه في رفع كربه زال، ومن عامله أربحه وقد قال: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) (1) . * فاتق الله أفلا تنافس الجن في حسن المقال. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصحابة: "لما قرأتها (يعني سورة الرحمن) على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد" (2) . "فاللهم إنا نعوذ بك أن نبدل نعمتك كفراً، وأن نكفرها بعد أن عرفناها، وأن ننساها ولا نثني بها" كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله. "إلهي من كرمك أنك تطاع ولا تعصى، ومن حلمك أنك تعصى وكأنك لا ترى، وأي زمن لم يعصك فيه سكان أرضك وأنت بالخير عوّاد". ولله در الحسن: كان إن ابتدأ حديثه قال: "الحمد لله ربنا لك الحمد بالإسلام والقرآن، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، كبّت عدونا، وبسطت رزقنا، وأظهرت أمتنا، وجمعت فرقتنا،

_ (1) "التبصرة" (2/70) . (2) صحيح: رواه ابن ماجه عن أنس، ورواه ابن السني والخرائطي والضياء وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5563) .

وأحسنت معافاتنا، ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا، فلك الحمد على ذلك حمداً كثيراً، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، سراً أو علانية، أو خاصة أو عامة، أو حي أو ميت، أو شاهد أو غائب، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت". قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى، أفضل مما أخذ" (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها، إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة" (2) . * * *

_ (1) صحيح: رواه ابن ماجه عن أنس، ورواه ابن السني والخرائطي والضياء وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5563) . (2) حسن: رواه ابن السني، والخرائطي، والضياء عن أنس، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5562) .

رمضان شهر الدعاء المستجاب

رمضان شهر الدعاء المستجاب إن لم يكن رمضان وقت الدعاء المستجاب ففي أي شهر يكون الدعاء؟ وهو وقت الشفاة الذابلة والطاعة الكاملة، والبطون الضامرة، وقت نزول الملائكة، وقت فتح أبواب الرحمة وأبواب السماء قال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) [البقرة: 186] . وعجيب وجميل أن يذكر الدعاء وسط الكلام عن الصيام وأحكامه. قال الشيخ محمد رشيد رضا: هذا التفات عن خطاب المؤمنين كافة بأحكام الصيام إلى خطاب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يذكرهم ويعلمهم ما يراعونه في هذه العبادة وغيرها من الطاعة والإخلاص والتوجه إليه وحده بالدعاء الذي يعدهم للهدي والرشاد. قال البيضاوي في "وجه الاتصال": "واعلم أنه تعالى أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم، مجيب لدعائهم، مجاز على أعمالهم، تأكيداً له وحثاً عليه" (1) . * وقال الرازي في "التفسير الكبير": "في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها الأول: أنه تعالى لماّ قال بعد إيجاب فرض الصوم وبين أحكامه (ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) فأمر العبد بالتكبير الذي هو الذكر وبالشكر، بينّ أنه سبحانه بلطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشكره فيسمع نداءه، ويجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه (2) . الثاني: أنه أمر بالتكبير أولاً، ثم رغّبه في الدعاء ثانياً، تنبيهاً على أن الدعاء لابد وأن يكون مسبوقاً بالثناء الجميل.

_ (1) "تفسير المنار" (1/167) . (2) "مفاتيح الغيب" (3/88) .

الثالث: أن الله تعالى لماّ فرض عليهم الصيام كما فرض على الذين من قبلهم، وكان ذلك على أنهم إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم، فشقّ ذلك على بعضهم حتى عصوا الله في ذلك التكليف، ثم ندموا وسألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن توبتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية مخبراً لهم بقبول توبتهم، ونسخ ذلك التشديد بسبب دعائهم وتضرعهم. قبل أن يمضي سياق الآيات التي تتحدث عن الصوم في سورة البقرة في "بيان أحكام تفصيلية عن مواعيد الصيام، وحدود المتاع فيه وحدود الإمساك.. نجد لفتة عجيبة إلى أعماق النفس وخفايا السريرة. نجد العوض الكامل الحبيب المرغوب عن مشقة الصوم، والجزاء المعجل على الاستجابة لله.. نجد ذلك العوض وهذا الجزاء في القرب من الله، وفي استجابته للدعاء.. تصوره ألفاظ رفافة شفافة تكاد تنير: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) [البقرة: 186] . فإني قريب.. أجيب دعوة الداع إذا دعان.. أية رقة؟ وأي انعطاف؟ وأية شفافية؟ وأي إيناس؟ وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود، وظل هذا القريب، وظل هذا الإيناس؟ وفي كل لفظ في التعبير في الآية كلها تلك النداوة الحبيبة: إضافة العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه.. لم يقل لهم، فقل لهم: إني قريب.. إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال.. قريب.. ولم يقل أسمع الدعاء.. إنما عجل بإجابة الدعاء.. (أجيب دعوة الداع إذا دعان) . إنها آية عجيبة.. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين.. ويعيش منها المؤمن في جناب رضى وقربى نديّة، وملاذ أمين وقرار مكين. وفي ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة الوحية يوجه الله عباده إلى الاستجابة له، والإيمان به، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح.

فالثمرة الأخيرة منه الاستجابة والإيمان هي لهم كذلك.. وهي الرشد والهدي والصلاح فالله غني عن العالمين. والرشد الذي ينشئه الإيمان وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد، واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له وهم يرشدون. وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه.. فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم" (1) فسبحان من أطمع المطيع والعاصي، والداني والقاصي في الانبساط إلى حضرة جلاله برفع الحاجات والأماني بقوله: (أجيب دعوة الداع إذا دعان) . يقول الرازي في "مفاتيح الغيب": "تدل على تعظيم حال الدعاء من وجوه: الأول: كأنه سبحانه وتعالى يقول: عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء، أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك. الثاني: أن قوله: (وإذا سألك عبادي) يدل على أن العبد له، وقوله تعالى: (فإني قريب) يدل على أن الرب للعبد. والثالث: لم يقل فالعبد مني قريب، بل قاله: أنا منه قريب" (2) . وانظر إلى كرم الجواد الذي إذا لم يُسأل يغضب فقال تعالى: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) [الأنعام: 43] ، وقال تعالى: (قل ما يعبأ بكم ربكم لولا دعاؤكم) . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه من لم يسأل الله يغضب عليه" (3) . وقال الشاعر: فالله يغضب إن تركت سؤاله ... وبُني آدم حين يسأل يغضب

_ (1) "الظلال" (1/172-173) . (2) "مفاتيح الغيب" (3/95) . (3) صحيح: رواه الترمذي عن أبى هريرة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2418) .

* وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل العبادة الدعاء" (1) . فالدعاء تذلل وخضوع، وإخبات وانطراح على سدة الكريم. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الدعاء هو العبادة" (2) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن أبخل الناس من بخل بالسلام، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء" (3) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء" (4) . قال المناوي (6/365- 366) : "قال الطيب: لدلالته على قدرة الله وعجز الداعي، ولا منافاة بين هذا الحديث وآية (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) لأن كل شيء يشرق في بابه فإنه يوصف بالكرم". * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء" (5) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله حيى كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين" (6) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر" (7) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه

_ (1) صحيح: رواه الحاكم في "المستدرك" عن ابن عباس، وابن عدي عن أبي هريرة، وابن سعد عن النعمان بن بشير وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وصححه السيوطي، والألباني في صحيح الجامع" رقم (1122) . (2) رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في "الأدب" وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن النعمان بن بشير، وأبو يعلي عن البراء، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3407) . (3) صحيح: رواه أبو يعلي في "مسنده" عن أبي هريرة، ورواه ابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1519) . (4) حسن: رواه أحمد والبخاري في "الأدب" والترمذي والحاكم عن أبي هريرة، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5392) . (5) حسن: رواه الحاكم عن ابن عمر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3409) . (6) صحيح: رواه أحمد، وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم عن سلمان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1757) . (7) حسن: رواه الترمذي والحاكم عن سلمان، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7687) .

من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، ما لم يعجل، يقول: قد دعوت ودعوت، فلم يستجب لي" (1) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعان" (2) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء" (3) . * وعليه بآداب الدعاء وهي عشرة: (الأول) أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع ووقت السحر من ساعات الليل. (الثاني) أن يغتنم الأحوال الشريفة. وهذه الأوقات والأحوال التي فيها يستجاب الدعاء: 1- وقت التنزل الإلهي: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك في كل ليلة" (4) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" (5) . 2- في السجود: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِن (6) أن يستجاب لكم" (7) .

_ (1) حسن: رواه الترمذي عن عبادة بن الصامت، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5637) . (2) رواه أحمد عن أنس، ومسلم والترمذي عن أبي هريرة. (3) حسن: رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6290) . (4) رواه مسلم وأحمد عن جابر. (5) صحيح: رواه الترمذي والنسائي والحاكم عن عمرو بن عبسة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1173) . (6) أي جدير. (7) جزء من حديث ابن عباس أخرجه مسلم.

3- أن يبيت على ذكر فيتعار من الليل فيدعو: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من مسلم يبيت على ذكر طاهراً فيتعار من الليل فيسأل الله تعالى خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه" (1) . 4- عند الأذان: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا نادى المنادي فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء" (2) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا نودي بالصلاة فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء" (3) . 5- بين الأذان والإقامة: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الدعاء بين الأذان والأقامة مستجاب فادعوا" (4) . 6، 7، 8- عند نزول المطر، وعند التقاء الجيوش، وعند إقامة الصلاة: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء وتحت المطر" (5) . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث" (6) . 9- آخر ساعة من نهار الجمعة: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة، منها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر" (7) . 10- دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب:

_ (1) صحيح: رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن معاذ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5754) . (2) صحيح: رواه الطيالسي وأبو يعلي والضياء عن أنس، وصححه الألباني في (صحيح الجامع) رقم (818) . (3) صحيح: رواه أبو يعلي والحاكم عن أبي أمامة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (803) . (4) صحيح: رواه أبو يعلي عن أنس، وصححه الألبانى في "صحيح الجامع" رقم (3405) ، و"المشكاة" رقم (671) . (5) حسن: "رواه الحاكم عن سهل بن سعد، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3078) . (6) صحيح: رواه الشافعي والبيهقي في "المعرفة" وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، رقم (1026) . (7) صحيح: رواه أبو داود والنسائي والحاكم عن جابر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (8190) .

قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب لايرد" (1) . 11- دعوة المسافر. 12- دعوة المظلوم. 13- دعوة الوالد لولده. 14- دعوة الصائم. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر"، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم ودعوة المسافر". 15- عدم العجلة: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يُستجب لي" (2) . 16- دعاء رمضان: فهو وقت صيام، وزمان شريف. وهناك علاقة وطيدة بين فتح أبواب السماء وأبواب الرحمة وإجابة الدعاء كما يظهر من الأحاديث، وهي حاصلة في رمضان. (الثالث) أن يدعو مستقبل القبلة ويرفع يديه قبل أن تغل بالأغلال. (الرابع) خفض الصوت بين المخافتة والجهر، قال تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) قالت عائشة: أي بدعائك. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أيها الناس إن الذي تدعون ليس بأصم ولا غائب" متفق عليه. (الخامس) أن لا يتكلف السجع في الدعاء. ادع بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والانطلاق.

_ (1) صحيح: رواه البزار عن عمران بن حصين، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3379) . (2) رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة.

(السادس) التضرع والخشوع والرغبة والرهبة: قال تعالى: (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية) . وقال تعالى: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً) الآية. (السابع) أن يجزم بالدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاءه فيه. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه" (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، وليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يعظم عليه شيء أعطاه" (2) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يقل أحدكم إذا دعا اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت فليعزم المسألة فإنه لا مكره له" (3) . قال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه فإن الله عز وجل أجاب دعاء شر الخلق إبليس لعنه الله (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين) [الحجر: 36-37] . (الثامن) أن يلح في الدعاء ويعظم المسألة ويكرر الدعاء ثلاثاً: قال ابن مسعود: "كان عليه السلام إذا دعا دعا ثلاثاً وإذا سأل سأل ثلاثاً" (4) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا تمنى أحدكم فليكثر، فإنما يسأل ربه" (5) .

_ (1) حسن: رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (245) . (2) رواه البخاري في "الأدب" عن أبي سعيد، ومسلم عن أبي هريرة. (3) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وعن أنس"إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقل: اللهم إن شئت فاعطني فإن الله لا مستكره له" رواه البخاري ومسلم وأحمد. (4) رواه مسلم وأصله متفق عليه. (5) رواه الطبراني في "الأوسط" عن عائشهّ، ورمز السيوطي لحسنه. قال المناوي (1/320) : "وهو تقصير أو قصور وحقه الرمز لصحته فقد قال الهيثمي وغيره: رجاله رجال الصحيح" وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (437) .

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا سأل أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه" (1) . قال المناوي: "إذا تمنى أحدكم خيراً من خير الدارين فليكثر الأماني فإنما يسأل ربه الذي رباه وأنعم عليه وأحسن إليه، فيعظم الرغبة ويوسع المسألة، ويسأله الكثير والقليل حتى شسع النعل فإنه إن لم ييسره لا يتيسر، فينبغي للسائل إكثار المسألة ولا يختصر ولا يقتصر فإن خزائن الجود سحاء الليل والنهار ولا يفنيها عطاء وإن جل وعظم فعطاؤه بين الكاف والنون، وليس ذا بمناقض لقوله سبحانه: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) فإن ذلك نهى عن تمنى ما لأخيه بغياً وحسداً، وهذا تمنى على الله سبحانه خيراً في دينه ودنياه وطلب من خزائنه فهو نظير (واسألوا الله من فضله) . (التاسع) أن يفتتح الدعاء بذكر الله والثناء عليه وأن يختمه بالصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل دعاء محجوب حتى يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (2) . قال أبو سلمان الداراني رحمه الله: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يسأله حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن الله عز وجل يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما. (العاشر) وهو الأدب الباطن وهو الأصل في الإجابة: "التوبة ورد المظالم والإقبال على الله عز وجل بكنه الهمة، فذلك هو السبب القريب في الإجابة". قال مالك بن دينار: "إنكم تستبطئون المطر وأنا استبطئ الحجارة" أي نزول الحجارة. قال عطاء السلمي: منعنا الغيث فخرجنا نستسقي فإذا نحن بسعدون المجنون في المقابر فنظر إليّ فقال: يا عطاء أهذا يوم النشور أو بعثر ما في القبور؟ فقلت: لا

_ (1) صحيح: رواه ابن حبان في "صحيحه" عن عائشة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (591) . (2) حسن: رواه الديلمي في "مسند الفردوس" عن أنس، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن علي موقوفاً، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (4523) ، ورواه ابن حبان عن معاذ، وابن مخلد عن علي مرفوعاً.

ولكنا منعنا الغيث فخرجنا نستسقي فقال: يا عطاء بقلوب أرضية أم بقلوب سماوية؟ فقلت: بل بقلوب سماوية. فقال: هيهات يا عطاء، قل للمتبهرجين لا تتبهرجوا فإن الناقد بصير. ثم رمق السماء بطرفه وقال: إلهي وسيدي ومولاي لا تهلك بلادك بذنوب عبادك ولكن بالسر المكنون من أسمائك وما وارت الحجب من آلائك إلا ما سقيتنا ماءً غدقاً فراتاً تحيي به العباد وتروي به البلاد يا من هو على كل شيء قدير، قال عطاء فما استتم الكلام حتى ارعدت السماء وأبرقت وجادت بمطر كأفواه القرب فولى وهو يقول: أفلح الزاهدون والعابدونا ... إذ لمولاهم أجاعوا البطونا أسهروا الأعين العليلة حبا ... فانقضى ليلهم وهم ساهرونا شغلتهم عبادة الله حتى ... حسب الناس أن فيهم جنونا قال ابن المبارك: "قدمت المدينة في عام شديد القحط فخرج الناس يستسقون فخرجت معهم إذ أقبل غلام أسود عليه قطعتا خيش قد أتزر بإحداهما وألقى الأخرى على عاتقه، فجلس إلى جنبي فسمعته يقول: إلهي أخلقت الوجوه عندك كثرة الذنوب ومساويء الأعمال وقد حبست عنا غيث السماء لتؤدب عبادك بذلك، فأسألك يا حليما ذا أناة يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل أن تسقيهم الساعة الساعة، فلم يزل يقول: الساعة الساعة حتى اكتست السماء بالغمام وأقبل المطر من كل جانب، قال ابن المبارك: فجئت إلى الفضيل، فقال لي: ما لي أراك كئيبا؟ فقال: أمر سبقنا إليه غيرنا فتولاه دوننا وقصصت عليه القصة فخر الفضيل مغشياً عليه" (1) فهذا شهر الدعاء فرطب لسانك بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. "اللهم اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سني، وانقطاع أمري" (2) . "اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، ومن

_ (1) "إحياء علوم الدين" (1/361-366) . (2) حسن: رواه الحاكم عن عائشة، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1255) .

أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، واجعل لي في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً" (1) . "اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تشمت لي عدواً حاسداً، اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك" (2) ، "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً وأحشرني في زمرة المساكين" (3) ، "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر" (4) . "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وهزلي وجدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير" (5) . "اللهم اغفر لي ذنوبي وخطاياي كلها، اللهم أنعشني واجبرني، واهدني لصالح الأعمال والأخلاق، فإنه لا يهدي لصالحها ولا يصرف سيئها إلا أنت" (6) . "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما يهون علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوراث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا" (7) .

_ (1) رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس. (2) حسن: رواه الحاكم عن ابن مسعود، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1260) . (3) صحيح: رواه عبد بن حميد وابن ماجه عن أبي سعيد، والطبراني في "الكبير"، والضياء عن عبادة بن الصامت، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1260) . (4) رواه مسلم عن أبي هريرة. (5) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي موسى. (6) حسن: رواه ابن السني، والطبراني في "الأوسط" و"الصغير"، والحاكم عن أبي أيوب وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1266) . (7) حسن: رواه الترمذي والحاكم عن ابن عمر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1268) .

"اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم إني أسألك من خير ما سألك به عبدك ونبيك، وأعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك، اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً" (1) . "اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإنه لا يملكها إلا أنت" (2) . "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، والقسوة والغفلة والغيلة، والذلة والمسكنة، وأعوذ بك من الفقر والكفر، والفسوق والشقاق والنفاق، والسمعة والرياء، وأعوذ بك من الصمم والبكم والجنون والجذام والبرص وسيء الأسقام" (3) . "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها" (4) . "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وعمل لا يرفع، ودعاء لا يسمع" (5) . "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع" (6) . "اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء" (7) .

_ (1) رواه ابن ماجه عن عائشة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1276) . (2) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" عن ابن مسعود، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1278) . (3) صحيح: رواه الحاكم والبيهقي في "الدعاء" عن أنس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1285) . (4) جزء من حديث صحيح: رواه أحمد وعبد بن حميد ومسلم والنسائي عن زيد بن أرقم. (5) صحيح: رواه أحمد، وابن حبان والحاكم عن أنس وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1295) . (6) صحيح: رواه الترمذي والنسائي عن ابن عمرو، وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة والنسائي عن أنس وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1297) . (7) صحيح: رواه الترمذي والطبراني في "الكبير" والحاكم عن عم زياد بن علاقة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1298) .

"اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، ومن ليلة السوء، ومن ساعة السوء، ومن صاحب السوء، ومن جار السوء في دار المقامة" (1) . "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعوذ بك من النار" (2) . "اللهم رب جبريل وميكائيل ورب إسرافيل أعوذ بك من حر النار ومن عذاب القبر" (3) . "اللهم حبب إلينا لقاءك، وسهل علينا قضاءك، وأقلل لنا من الدنيا". "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي. اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الإخلاص في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بالقضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضرّاء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين" (4) . "اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه" (5) . * * *

_ (1) حسن: رواه الطبراني في "الكبير" عن عقبة بن عامر، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1299) . (2) حسن: رواه الطبراني في "الكبير" والحاكم عن والد أبي المليح، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1304) . (3) حسن: رواة النسائي عن عائشة، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1305) . (4) صحيح: رواه النسائي والحاكم عن عمار بن ياسر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1301) . (5) صحيح.

رمضان شهر مضاعفة الأجر

رمضان شهر مضاعفة الأجر اعلم يا أخي أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب: * منها شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل كالحرم: ولذلك تضاعف الصلاة في مسجدي مكة والمدينة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". * ومنها شرف العامل عند الله وقربه منه وكثرة تقواه: كما يضاعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم وأعطوا كفلين من الأجر. * ومنها شرف الزمان كشهر رمضان وعشر ذي الحجة. وفي الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة" (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عمرة في رمضان كحجة معي" (2) ، وعند مسلم "عمرة في رمضان تقضي حجة أو حجة معي". قال المناوي (4/361) : "أي تقابلها وتماثلها في الثواب لأن الثواب يفضل بفضيلة الوقت، ولا تقوم مقامها في إسقاط الفرض بالإجماع". قال ابن العربي: هذا صحيح مليح وفضل من الله ونعمة نزلت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها. وفيه أنه يسن إكثار العمرة في رمضان وعليه الشافعية. قال ابن رجب: "ذكر أبو بكر بن أبي مريم عن أشياخه أنهم كانوا يقولون: إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة، فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره". قال النخعي: "صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه أفضل من

_ (1) رواه أحمد والبخاري وابن ماجه عن جابر، وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس، وابو داود والترمذي وابن ماجه عن أم معقل، وابن ماجه عن وهب بن خنيس والطبراني في الكبير عن ابن الزبير. (2) صحيح: رواه سموية عن أنس وصححه ابن العربي والسيوطي والألباني في صحيح الجامع.

ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة، فلما كان الصيام في نفسه مضاعفاً أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال كان صيام شهر رمضان مضاعفاً على سائر الصيام لشرف زمانه، وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها" (1) . فهلمّ إلى فعل الخير أما ترى دعاء الملك في رمضان إلى الخيرات والتقصير من السيئات "يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر". * * *

_ (1) "لطائف المعارف" (ص 169) .

رمضان شهر تصفيد الشياطين

رمضان شهر تصفيد الشياطين روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين". * وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا جاء رمضان، فتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين" (1) . وعند مسلم: "فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين". * وعند الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي عن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب". ولفظ ابن خزيمة "صفدت الشياطين مردة الجن" بغير واو. * وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتاكم شهر رمضان، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين" (2) . قال ابن خزيمة في صحيحه (3/187-188) : " لفظ عام مراده خاص في تصفيد الشياطين إنما أراد بقوله "صفدت الشياطين" مردة الجن منهم، لا جميع الشياطين، إذ اسم الشياطين قد يقع على بعضهم". وقال ابن حبان في "الإحسان" (8/221) : "إنما يصفد الشياطين في شهر رمضان مردتهم دون غيرهم". * والتصفيد على ظاهره ولا حاجة للتأويل وصرف اللفظ عن ظاهره، نؤمن بهذا. * قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/136-137) : "قال الحليمي: يحتمل أن يكون المراد من الشياطين مسترقوا السمع فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ، ويحتمل

_ (1) رواه البخاري ومسلم. (2) صحيح: رواه النسائي والبيهقي في سننه عن أبي هريرة وصححه الألباني.

أن يكون أن المراد لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع للشهوات، وبقراءة القرآن والذكر. وقال غيره: المراد بالشياطين بعضهم وهم المردة منهم، وترجم لذلك ابن خزيمة في صحيحه. قال عياض: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين. وقال الزين بن المنير: والأول أَوْجَه، ولا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره. وقال الطيبي: فائدة فتح أبواب السماء توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين وأنه من الله بمنزلة عظيمة، وفيه إذا علم المكلف ذلك بإخبار الصادق ما يزيد في نشاطه ويتلقاه بأريحية. وقال القرطبي بعد أن رجّح على ظاهره: فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيراً فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك؟ فالجواب أنها إنما تقل عن الصائمين بالصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه، أو المصفد بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم كما تقدم في بعض الروايات. أو المقصود تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذ يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع فيه شر ولا معصية لأن لذلك أسباباً غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية. وقال غيره في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف كأنه يقال له: قد كُفّت الشياطين عنك، فلا تعتل بهم في ترك الطاعة ولا فعل المعصية". "قال ابن عقيل: الشياطين عصاة الجن، وقال أبو يعلي الحنبلي: الشياطين مردة الجن وأشرارهم، ذكره السفاريني في "اللوامع" (220) . وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/57) : "وأما كافرو الجن فمنهم الشياطين ومقدمهم الأكبر: إبليس عدو آدم".

أساليب الشيطان في إضلال الإنسان: (1) تزيين الباطل: كما قال اللعين لرب العزة (رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) . يقول ابن القيم: "ومن مكايده أنه يسحر العقل دائماً حتى يكيده ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله، فيزين له الفعل الذي يضره حتى يخيل إليه أنه أنفع الأشياء، فلا إله إلا الله كم فتن بهذا السحر من إنسان، وكم حال بينه وبين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان، وكم جلا الباطل وأبرزه في صورة مستحسنة، وشنّع الحق وأخرجه في صورة مستهجنة، كم بهرج من الزيوف على الناقدين، وكم روّج من الزغل على العارفين". - وتسمية الأمور المحرمة بأسماء محببة كما سمى الشجرة المحرمة بشجرة الخلد كي يزين لآدم الأكل منها. وكما يسمون الرقص والغناء والتمثيل والتماثيل فناً. (2) الإفراط والتفريط: يقول ابن القيم "وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو. (3) تثبيطه العباد عن العمل ورميهم بالتسويف والكسل: سئل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل نام ليلة حتى أصبح فقال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنية". فمن قام بالليل وتوضأ وصلى انحلت عقد الشيطان كلها عن قافية رأسه فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان، كان أحد الصالحين يقول: "أنذرتكم سوف فإنها أكبر جنود إبليس". (4) الوعد والأمنية: يعد الناس بالمواعيد الكاذبة ويعللهم بالأماني المعسولة كي يوقعهم في وهدة الضلال (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) [النساء: 120] . (5) إظهار النصح للإنسان: قال تعالى: (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) .

(6) التدرج في الإضلال. (7) إنساؤه العبد ما فيه خيره وصلاحه. قال تعالى: (وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين) [يوسف: 42] . وإذا تمكن الشيطان من الإنسان تمكناً كلياً فإنه ينسيه الله بالكلية (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله) [المجادلة: 19] . (8) تخويف المؤمنين أولياءه: أي يخوفهم بأوليائه. ويعظمهم في صدورهم. (9) دخوله إلى النفس من الباب الذي تهواه: ومن هنا دخل الشيطان على آدم وحواء "فشام عدو الله الأبوين فأحس منهما إيناساً وركوناً إلى الخلد في تلك الدار في النعيم المقيم فعلم أنه لا يدخل عليهما من غير هذا الباب". (10) إلقاء الشبهات. (11-14) الخمر والميسر والأنصاب والأزلام: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) [المائدة: 90] . (15) السحر. (16) ضعف الإنسان ومرض قلبه. (17) النساء. (18) حب الدنيا. (19) الغناء والموسيقى. (20) تهاون المسلمين فيما أمروا به. حرز الإنسان من الشيطان في رمضان وغيره: ذكر ابن القيم في بدائع الفوائد قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره ويحترز منه.

وذلك عشرة أسباب نذكرها باختصار: الأول: الاستعاذه بالله من الشيطان قال تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) ، وقال تعالى: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون) . الحرز الثاني: المعوذتان: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل ما تعوذ به المتعوذون وكان يتعوذ بهما في كل ليلة عند نومه" رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة. وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة. الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي عند النوم. قال ابن تيمية: من أعظم ما ينتصر به عليهم آية الكرسي. الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" (1) . الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" الحرز السادس: آية الكرسي صباحاً فيحفظ حتى يمسي، ومساء فيحفظ حتى يصبح وقد صححه الألباني والأرناؤوط. الحرز السابع: قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك"

_ (1) رواه مسلم وأحمد والترمذي عن أبي هريرة.

قال ابن القيم: فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسّره الله عليه. وفي حديث يحيى بن زكريا: "وآمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى أتى على حصن حصين، فاحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله". الحرز الثامن: الوضوء والصلاة. الحرز التاسع: "إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس. فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة". الحرز العاشر: الأذان: فالشيطان يهرب من الأذان. وفي الصحيح: "إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال (1) له ضراط حتى لا يسمع صوته، فإذا سكت رجع فوسوس، فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته، فإذا سكت رجع فوسوس" رواه مسلم. الحرز الحادي عشر: أن يختم بذكر حتى ينام ويفتح به: عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أوى الإنسان إلى فراشه ابتدره ملك وشيطان فيقول الملك اختم بخير، ويقول الشيطان اختم بشر، فإذا ذكر الله تعالى حتى يغلبه -يعني النوم- طرد الملك الشيطان وبات يكلأه (2) ، فإذا استيقظ ابتدره ملك وشيطان، فيقول الملك: افتح بخير، ويقول الشيطان: افتح بشر، فإن قال: الحمد الذي أحيا نفسي بعد موتها، ولم يمتها في منامها، الحمد لله الذي يمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، الحمد لله الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده، الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، طرد الملك الشيطان وظل يكلأه" (3) . ولكن عند أبي يعلي هكذا "أن تقع على الأرض إلا بإذنه، فإن وقع من سريره فمات دخل الجنة".

_ (1) أي تحول من موضعه. (2) أي يحفظه. (3) صحيح: رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح، وأخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

شياطين الإنس ورمضان

الحرز الثاني عشر: ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وبرأ، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتنة الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقاً بخير يا رحمن" (1) . الحرز الثالث عشر: "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم من قالها ثلاثاً حين يصبح لم يضره شيء حتى يمسي، ومن قالها ثلاثاً حين يمسي لم يضره شيء حتى يصبح" (2) . الحرز الرابع عشر: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاثاً" (3) . الحرز الخامس عشر: إذا خرج من بيته "بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله" (4) . شياطين الإنس: وكذلك من يتمرد من الإنس ويتمخض للشر والغواية (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) . شرهم خالص وخسرانهم خالص. جبلات منكوسة موكوسة مطموسة تواصوا بالإفساد وأخذوا يحولون المجتمع إلى فتات غارق في وحل الجنس والفاحشة والخمور ديدنهم محاربة المساجد بالمراقص والزوجات بالمومسات.

_ (1) صحيح: رواه أحمد والطبراني وابن السني عن عبد الرحمن بن حنيش التيمي وصححه الألباني في "الصحيحة". (2) حسن: رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب، وحسنه الألباني والأرناؤوط. (3) رواه مسلم. (4) الجن في معتقد أهل السنة والجماعة للشيخ إبراهيم زكريا.

يصدق فيهم قول القائل: وكنت امرءً من جند إبليس فارتقى ... بي الدهر حتى صار إبليس من جندي فلو مات قبلي كنت أحسن بعده ... طرائق فسق ليس يحسنها بعدي يقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت! نعم أنت" (1) . فكيف بمن فرّق يين الأمة وكتابها وسنة نبيها بالشبهات المضللة للطعن في الكتاب والسنة، من شياطين حرية الفكر والإباحية، كيف بمن يمكر بالأمة ليلاً ونهاراً بالدعوة للإباحية وشهوات الجسد المسعورة لفتنة رجال الأمة شباباً وكهولاً (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) [مريم: 83] . كيف بمن يبث تلفازهم السموم من أفلامه حتى إفطار الناس خاصة وقبل تراويحهم، ومسلسلاتهم النكدة التي تطعن في الثوابت من دين الأمة، بكل خضراء الدمن ممثلة زنديقة شوهاء؟ حديثها كذب محض حقيقته ... مأخوذة من أباطيل الغرانيق تباع في كل سوق للضلال فلا ... تسألْ عن التاجرالكذاب والسوق وعن سماسرة باعوا ضمائرهم ... وذوبوا العقل في نار الأباريق تبدي خصالاً من الإيمان كاذبة ... وفي مشاعرها إحساس زنديق (2) وكل كذب إلى نهاية ولا يبقى إلا الحق يا شوهاء يا من تسَخَّر لإباحتيك الطائرات.. ويا من جسّدت العهر والزندقة في تمثيلك في رمضان: لا الليلة الحمراء باقية ... لا الكأس لا العشاق لا الخمر كم نجمة بالأمس قد سقطت ... واليوم لا حس ولا خبرُ

_ (1) رواه أحمد ومسلم عن جابر. (2) من قصيدة لعبد الرحمن العشماوي.

أنت الضحية أنت بينهم ... وعليك ثم عليهم الوزرُ لا تسخري بالتائبات ففي ... هذا الإيابِ العز والفخر مست شغاف قلوبهم سور ... فتفجر الإيمان والعطرُ ويح الذين قست قلوبهم ... وأمامهم يتشقق الصخر ويح الذين تَصُخُّ سمعهم ... آيات ربي ثم لم يدروا يا نجمة الأضواء إن غدا ... آت ويُسدل بعدها السرّ والمعجبون سيرحلون غدا ... وسيرحل التطبيل والزمر وستطفأ الأنوار في عجل ... فالزيت في قنديلكم نزر وستزفين العمر من ندم ... لو كان ينفع عندها الزّفر وستشربين الكأس مترعة ... مُر شراب كئوسكم مر وسيضرب النسيان بينكم ... سدا، فلا يبقى لكم ذكر الآن مطوي كتابكمُ ... ولكل مطوي غدا نشرُ (1) يا شباب المسلمين: إن كان من شياطين الإنس من يقول له إبليس: أنت أنت فهل منكم من أحد يقول له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنت! أنت! كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: "إن الشيطان ليفرق منك يا عمر" (2) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني لأنظر شياطين الجن والإنس فروا من عمر" (3) . فمن منكم يا إخوتاه تفر منه شياطين الإنس. من منكم يا إخوتاه من يقهر شيطانه وشياطين الإنس كما جاء في الحديث: (إن المؤمن لينصي شيطانه كما ينصي أحدكم بعيره في السفر" (4) .

_ (1) إلى ممثلة لمحمود مفلح. (2) صحيح: رواه أحمد والترمذي وابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2/74) . (3) صحيح: رواه الترمذي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2/329) . (4) رواه أحمد، ينصي شيطانه: أي يأخذ بناصيته، فيغلبه ويقهره.

فاكشفوا مخططات الشياطين وافضحوا زورهم وبهتانهم واستقيموا على درب الله تجدوا المدد والعون من الله (إِن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * * *

رمضان غنم للمؤمن ونقمة للفاجر

رمضان غنم للمؤمن ونقمة للفاجر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بمحلوف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم وغَنْم للمؤمن يغتنمه الفاجر" (1) . يقسم أبو هريرة رضي الله عنه بما أقسم به النبي أنه ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان.... والحديث يفسّر ذلك فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة" أي ما يقويهم عليها في رمضان كادخار القوت وما ينفقه على عياله فيه، وقد فسّره في طريق ثانية بقوله "وذلك أن المؤمن يعدّ فيه القوة للعبادة من النفقة أي لأن اشتغالهم بالعبادة فيه يمنعهم من تحصيل المعاش أو يقلل منه، فقيام الليل يستدعي النوم بالنهار، والاعتكاف يستدعي عدم الخروج من المسجد، وفي هذا تعطيل لأسباب المعاش، فهم يحصّلون القوت وما يلزم لأولادهم في رمضان قبل حلوله ليتفرغوا فيه للعبادة والإقبال على الله عز وجلّ واجتناء ثمرة هذا الموسم، فهو خير لهم لما اكتسبوا فيه من الأجر العظيم والغفران العميم". وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وما يعد فيه المنافقون من ضلات الناس وعوراتهم" يعني أن المنافقين يستعدون في شهر رمضان للإيذاء بالمسلمين في دنياهم وتتبع عوراتهم أثناء غفلتهم عن الدنيا وانقطاعهم إلى الله عز وجل، فكأن ذلك غنيمة اغتنموها في نظرهم، ولكنها في الحقيقة شر لهم لو كانوا يعلمون ما أعده الله لهم في الآخرة من العذاب المقيم وحرمانهم من فضله العميم نعوذ بالله من ذلك. وما أرق هذا الوصف في حق أهل الفن والإعلام الذين يغتنمون موسم الطاعة لصد الناس عن سبيل ربهم وفتنتهم عن طاعة الله عز وجل.

_ (1) رواه أحمد وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح رقم الحديث (8350) ، وضعفه الألباني، وفي رواية البيهقي "ونقمة للفاجر".

قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وغنم للمؤمن"، أي وفوز للمؤمنين بالأجر والثواب الجزيل من غير مشقة كبيرة وذلك لما ينزله الله سبحانه على عباده من الرحمات ويفيضه عليهم من النفحات ويوسّع عليهم من الأرزاق والخيرات ويجنبهم فيه من الزلات حيث يفتح لهم أبواب الجنان ويغلق عنهم أبواب النيران ويصفد فيه مردة الجان فهو للأمة ربيعها وللعبادة موسمها وللخيرات سوقها فلا شهر أفضل للمؤمن منه، ولا عمل يفضل عما فيه، فهو بحق غنيمة للمؤمن. "قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "يغتنمه الفاجر"، وفي رواية البيهقي "ونقمة للفاجر"، المعنى أن الله عز وجل ينتقم منه ويذيقه العذاب الأليم بسوء فعله وإيذائه المؤمنين وتتبع عوراتهم فيكون نقمة له، وأما المسلم فرمضان غنيمة له بما اكتسبه من صيام أيامه وقيام لياليه والانقطاع إلى الله عز وجل بالعبادة فيه" (1) . يا هذا أنت القتيل بكل من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي إما أن يدعو عليك جبريل ويؤمن على دعائه خليل الله المصدوق على دعائه "يا محمد، من أدرك شهر رمضان فمات، فلم يغفر له، فأُدخل النار؛ فأبعده الله، قل آمين. فقلت: آمين" الحديث. * من خاض البحر اللجاج ولم يطهر فماذا يطهره. إذا الروض أمسى مجدبا في ربيعه ... ففي أي حين ينير ويُخْصب وإما أن تكون ممن يصلى عليهم الله في هذا الشهر منْ السبَّاقين لقرع أبواب الجنان، والفوز بالحور الحسان، والنظر إلى وجه الرحمن، فنفسك نفسك.. ليس لك نفس غيرها. * * *

_ (1) "بين يدي رمضان" للشيخ محمد بن إسماعيل (ص 7-9) .

رمضان شهر تربية المجتمع

رمضان شهر تربية المجتمع "وذلك أن الصائم حين يرى الناس من حوله صياماً كلهم فإن الصوم يكون يسيراً عليه، ويحس بالتلاحم مع المجتمع الذي يربطه به جانب عبادي يلتقي عليه الجميع". إن الذي يقارن بين صوم النافلة وصوم رمضان يجد أن في صوم النافلة شيئاً من الكلفة بينما يجد أن صوم رمضان المفروض يسير سهل لا كلفة فيه ولا مشقة للسبب الذي سلف ذكره، حيث أن الصائم في رمضان لا يرى حوله إلا صائمين مثله، فإن خرج إلى السوق وجد الناس فيه صياماً، وإن دخل البيت وجد أهله صياماً، وإنْ ذهب إلى دراسته أو عمله وجد الناس صياماً.. وهكذا فيشعر بمشاركة الجميع له في إمساكه فيكون ذلك عوناً له ومُنْسياً له ما قد يجده من المشقة ولذلك نجد المسلمين الذين يدركهم رمضان في بلاد كافرة دفعتهم الضرورة للذهاب إليها؛ إما لمرض أو لغيره نجدهم يعانون مشقة ظاهرة في صيام رمضان لأن المجتمع من حولهم مفطرون يأكلون ويشربون وهم مضطرون لمخالطتهم. إذن فشعور الصائم بأن الناس من حوله يشاركونه عبادته يخفف عليه أمر الصوم ويعينه على تحمله بيسر وسهولة وهذا الأمر ملحوظ حتى في المجتمعات التي لم يبق فيها إلا بقايا قليلة للإسلام، فإنك تجد آثار رمضان ظاهرة على الجميع حتى الفساق في ذلك المجتمع الذي غلب عليه الفساد يظهر عليهم أثر هذا الشهر الكريم، وفي ذلك -بلا شك- تربية للمجتمع بجملته. ومن هنا كانت عناية الإسلام بإصلاح المجتمعات عناية كبيرة، فالفساد بصفته حوادث فردية لا مناص من وقوعه في المجتمع وقد وقع شيء من تلك الحوادث الفردية في مجتمع الصحابة الأطهار، فكان هناك من سرق ومن شرب الخمر ومن زنى فهذا الأمر لابد من وقوعه، لكن الذي لا يصح أن يقع في المجتمع المسلم هو أن تعلن المنكرات ويجاهر بها فيتلوث المجتمع العام ويصبح من العسير على الفرد الذي يريد طريق الخير أن يهتدي لأن المجتمع يضغط عليه ويثنيه عن غايته.

ومن هذا المنطلق حرص أعداء الإسلام على إفساد المجتمعات الإسلامية، ولعلّ من أحدث وسائلهم في ذلك ما يسمى (البث المباشر) وهذه الوسيلة -مع ما يعترض طريقها من صعوبات- متوقعة الحدوث، ولا ريب أن فيها من الشرور والأخطار على المجتمع الإسلامي فكرياً وعقدياً وأخلاقياً وتقليدياً ما لا يخفى. فالحاصل أن تربية المجتمع من مقاصد الإسلام، والصوم من وسائل ذلك، وأثره في ذلك المجال واضح ولعلّ من مظاهر ذلك -إضافة إلى ما سبق- أنك تجد صغار السن في المجتمع يصومون، وتجد أهل الفسق يستترون بالعصيان، وترى الكفار لا يستطيعون أن يعلنوا الأكل والشرب" (1) . * * *

_ (1) "دروس رمضان وقفات للصائمين للعودة" (ص 11-13) ، دار الصفا - الطبعة الثانية.

رمضان شهر ليلة القدر

رمضان شهر ليلة القدر وليلة القدر ليلة يفتح فيها الباب، ويقرب فيها الأحباب، ويسمع الخطاب ويرد الجواب ويُسنى للعاملين عظيم الأجر. هي ليلة عتق ومباهاة، وخدم ومفاجأة، وقربة ومصافاة. قال تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر) [القدر كاملة] . "الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال. ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى. ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته، وفي دلالته، وفي آثاره في حياة البشرية جميعاً، العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري. * آيات تكاد ترف وتنير. بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود نور الله المشرق في القرآن (إنا أنزلناه في ليلة القدر) . * ونور الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. * ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقاً مع نور الوحي ونور الملائكة، وروح السلام المرفرف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود (سلام هي حتى مطلع الفجر) ، قد يكون معناه التقدير والتدبير. وقد يكون معناه القيمة والمقام. وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث العظيم.. حدث القرآن والوحي والرسالة.. ليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد. وهي خير من ألف شهر. والعدد لا يفيد التحديد. في مثل هذه المواضع من القرآن إنما يفيد التكثير. والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر. فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات.

* والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري (وما أدراك ما ليلة القدر) . هي ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل هذا القرآن. وإفاضة هذا النور على الوجود كله. وإسباغ السلام من الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية. وحين ننظر اليوم من وراء الأجيال المتطاولة إلى تلك الليلة المجيدة السعيدة، ونتصور ذلك المهرجان العجيب الذي شهدته الأرض في هذه الليلة، ونتدبر حقيقة الأمر الذي تم فيها، ونتملى آثاره المتطاولة في مراحل الزمان وفي واقع الأرض، وفىِ تصورات القلوب والعقول.. فإننا نرى أمراً عظيماً حقاً، وندرك طرفاً من مغزى هذه الإشارة القرآنية إلى تلك الآية: (وما أدراك ما ليلة القدر) . لقد فرق فيها من كل أمر حكيم، وقد وضعت فيها قيم وأسس وموازين، وقد قررت فيها من أقدار أكبر من أقدار الأفراد أقدار أمم ودول وشعوب، بل أكثر وأعظم.. أقدار حقائق وأوضاع وقلوب! ولقد تغفل البشرية -لجهالتها ونكد طالعها- عن قدر ليلة القدر. وعن حقيقة ذلك الحدث، وخسرت السعادة والسلام الحقيقي -سلام الضمير، وسلام البيت وسلام المجتمع- الذي وهبها إياه الإسلام. ولم يعوضها عما فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من المادة والحضارة والعمارة، فهي شقية، شقية على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش! لقد انطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرة، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى، وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب، فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء وطلاقة الرفرفة إلى عليين" (1) . وليلة قَدْر أشرقت في تطلعي ... إلى الله، أدعو أستمد الرضا الأعلى

_ (1) "الظلال" (6/3944-3946) .

وأدنو بخفق القلب مِلْءَ ضراعتي ... بصمت، وبعض الصمت من كَلم أَجْلَى وأسأل رب الكونُ للكون رحمةً ... حناناً.. وإحساناً.. وعافية مُثلى أيا ليلة القدر السنية ليت لي ... شُعاعَ تَجَل منك يُسعفُ في الجلى ويسمو بهذا الحُبِّ حُرّاً لربِّه ... من الملأ الأدنى إلى الملأ الأعلى (1) قال الزهري: سميت ليلة القدر لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم لفلان قدر أي شرف ومنزلة. "ليلة القدر: قال مجاهد: ليلة الحكم. وقال سعيد بن جبير: يؤذن للحجاج في ليلة القدر فيكتبون بأسمائهم، وأسماء آبائهم، فلا يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم ولا ينقص منهم". قال رجل للحسن وأنا أسمع: رأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي كل رمضان، وإنها لليلة القدر "فيها يفرق كل أمر حكيم" فيها يقضي الله كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها. عن ابن عمر: ليلة القدر في كل رمضان. (وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر) . قال ابن جرير: قال بعضهم معنى ذلك العمل في ليلة القدر بما يرضي الله، خير من العمل في غيرها ألف شهر. عن مجاهد قال: "عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر".

_ (1) "قصيدة تطلع إلى شعاع" (ص 291) من ديوان قلب ورب لعمر بهاء الأميري.

وقال عمرو بن قيس الملائي: "عمل فيها خير من عمل ألف شهر". وقال آخرون: معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. عن قتادة: خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وسرد أقوال أخرى، ثم قال ابن جرس: وأشبه الأقوال في ذلك بظاهر التنزيل قول من قال: عمل في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر" (1) . قال أبو بكر الورّاق: سميت ليلة القدر لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر، على رسول ذي قدر، وعلى أمة ذات قدر. (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) . تنزل الملائكة وجبريل معهم في ليلة القدر من كل أمر قضاه الله في تلك السنة، من رزق وأجل. قال قتادة: يقضي فيها ما يكون في السنة إلى مثلها. (سلام هي حتى مطلع الفجر) . قال ابن جرير: سلام ليلة القدر من الشر كله من أولها إلى طلوع الفجر من ليلتها. قال قتادة: "هي خير كلها إلى مطلع الفجر" (2) . عن أنس رضي الله عنه قال: "دخل رمضان، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم" (3) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم" (4) .

_ (1) "تفسير الطبري" (12/259-260) . (2) "تفسير الطبري" (12/261) . (3) حسن: رواه ابن ماجه وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/418 حديث رقم 990) . (4) حسن: رواه النسائي والبيهقي، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب" (1/418 حديث 989) .

هذه ليلة يربح فيها من فهم ودرى، ويصل إلى مراده كل من جَدّ وسرى، ويُفك فيها العاني وتطلق الأسْرى. أخي: يهون العمر كله إلا هذه الليلة. لقد كان رسولكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجتهد في العشر الأواخر ويعتكف، إلتماساً لتلك الليلة، كان يواصل ابتغاء لتلك الليلة. فيا مَنْ ضاع عمره في لا شيء استدرك ما فات فى ليلة القدر فإنها تحسب بالعمر. شفيت بها قلباً أطيل غليله ... زمانا فكانت ليلة بليالي وإليك هدايا الملك تزف فى هذه الليلة. يقول الأميري في ليلة القدر: تألهَ قَلْبيَ لَماّ سجَدْتُ ... أهيمُ بِمحْراب خَيرِ الأنامْ وأرْسِلُ مِنْ شَفَتَيهِ الدعَاءَ ... وَجياً، وفي السَمْع سَجْعُ الحَمَامْ وفي أعْيني مِنْ سَنَا الله بَرقٌ ... يُحَس، ولكنهُ لا يُشَامْ لَهُ في خَلايايَ دَفْع وِرَفعٌ ... إلى شرفَاتِ حِمَىً لا يُرامْ أغيبُ، كَمَنْ نامَ في نشوَة ... ونَفسِي عُيُونُ هَوَىً لا تَنَامْ وأشعر أن كيانى تمدد ... حتى تخطى الدنى والحطام أقول سموت وفوق السمو ... أقول: ثملت وما من مدام أقول: آرْتَوَيْتُ أجَلْ، لاولا ... وكَيفَ آرْتَوَيْتُ وكُلّي أوامْ؟!! ألَا إنها نُعْمَيَاتُ التجَلي ... هُيَامُ سُجُود يَفُوقُ الهُيَامْ فَسُبحَانَكَ الله مِلءَ الوُجُودِ ... ومِلءَ السجُود ِومِلْءَ القِيَامْ ويرق شعر الأميري ويرق ويعذب في ليلة القدر: يا رُؤى الإشراق في الليلِ المنيرِ ... يا شذا الرضوانِ في الخلدِ النضيرِ هلْ لنَفْسي أَملٌ في نَفْحَة ... مِن فُيوضِ الله، إنْ لج مسيري هذه روحيَ حامَتْ وَلَهاً ... وتسامَتْ فِوقَ أجواءِ الأثيرِ واشرأبت والجوى يَحْفِزُها ... في التماس الأمَلِ الرحبِ الأثير تبتَغي مِن لَيلةِ القَدْرِ سَناً ... لَيتَها تنعَمُ مِنْهَا بعبِيرِ (1)

_ (1) "في ليلة القدر" (ص 90-100) من ديوان صفحات ونفحات لعمر بهاء الدين الأميري الطعبة الأولى مؤسسة الشرق للعلاقات العامة للنشر والترجمة.

وإليك هدايا الملك الكريم الجواد تزف في هذه الليلة: * عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (1) . قال كعب الأحبار: "نجد هذه الليلة حطوطاً تحط الذنوب" (2) . لاستحياء ذكرى نزول القرآن في أرواحنا لتظل موصولة بها أبداً حث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على قيام هذه الليلة. والإسلام ليس شكليات ظاهرية، ومن ثَمَّ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القيام في هذه الليلة أن يكونا "إيماناً واحتساباً".. وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة "إيماناً" وليكون تجرداً لله وخلوصاً "واحتساباً".. ومن ثَم تنبض في القلب حقيقة معينة بهذا القيام.. ترتبط بهذا المعنى الذي نزل به القرآن. والمنهج الإسلامي في التربية يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير، ويجعل العبادة وسيلة لاستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر ولا تقف عند حدود التفكير. وقد ثبت أن هذا المنهج وحده هو أصلح المناهج لإحياء هذه الحقائق ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم السلوك، وأن الإدراك النظري وحده لهذه الحقائق بدون مساندة العبادة، وعن غير طريقها، لا يقر هذه الحقائق، ولا يحركها حركة واقعة في حياة الفرد ولا في حياة الجماعة. وهذا الربط بين ذكرى ليلة القدر وبين القيام فيها إيماناً واحتساباً هو طرف من هذا المنهج الإسلامي الناجح القويم (3) .

_ (1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. (2) "مختصر قيام الليل" (ص 109) . (3) "الظلال" (6/3946) .

دعا رمضان الخير كل مرابط ... لديه.. فلبى المؤمنون على الإثرِ وطافت بهم ريحُ الجنان عليلةً ... تهب من الرحمن.. ذائعة النشر تنفس فيها الخلدُ حين تفتحت ... أزاهيره البيضاءُ في "ليلة القدر" فطوبى لمن يحظى بشم عبيرها ... فيسجد مغشياً عليه من البشْرِ ويضرع في حب ويبكي من الجوى ... ويكتم أشواقاً تأجَّجُ كالجمر ويُصغِى إلى صوت السماء كأنه ... صدى خفقات القلب ينبض في الصدر صيامُك مفتاح لكل فضيلة ... يزودك التقوى.. ويغريك بالطهر فقل مخلصاً.. آمنت بالله واستقم ... وأحسن له الأعمال في السر والجهر (1) ليلة مباركة تشرف فيها الأرض بالملائكة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليلة القدر ليلة السابعة أو التاسعة وعشرين وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى" (2) . ما يدعى به في ليلة القدر: عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها، قال: قولي "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" (3) . ليلة القدر: قال ابن حجر: "وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل. وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الجمهور ليلة سبع وعشرين" (4) .

_ (1) "تأملات في رمضان" (ص 145-146) من ديوان "نداء الحق" لأحمد محمد الصديق. (2) إسناده حسن: رواه أحمد، والطبراني في الأوسط وابن خزيمة، والطيالسى. وقال الهيثمي: رجاله ثقات، وحسن إسناده الألباني في "صحيح الجامع" (رقم 5349) ، و"صحيح ابن خزيمة" (3/332) . (3) إسناده صحيح: رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه الترمذي، وقال الألباني: إسناده صحيح "المشكاة" (رقم 2091) . (4) "فتح الباري" (جـ 4) .

ويقول ابن تيمية رحمه الله: "ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، وتكون في الوتر منها، لكن الوتر يكون باعتبار الماضي مْتطلب ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين. ويكون باعتبار ما بقي كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "التاسعة تبقى لخامسة تبقى لثالثة تبقى" فعلى هذا اذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليالي الإشفاع وتكون الاثنين وعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى وهكذا. فسرّه أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح، وهكذا أقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشهر، وإن كان الشهر تسعاً وعشرين، كان التاريخ بالباقي كالتاريخ الماضي، وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تحروها في العشر الأواخر"، وتكون في السبع الأواخر أكثر، وأكثر ما تكون ليلة سبع وعشرين، كما كان أبي بن كعب يحلف أنها ليلة سبع وعشرين" (1) . إلهي لو أنفقت عمري ساجداً ... أقدس، ما وفيت حمدك ياربي وفي ذروة الإحسان والفضل والجدا ... بذاك بأن أودعت حمدك في قلبي فظل وجيبي المستمر مقدساً ... عُلاك، ولو أني مقيم على ذنبي على أن ذنب المؤمن الحر ينتهي ... إلى التوب.. والرحمن يجزي على التوب (2) ويرحم الأميري حين يصور صراع الروح والجسم في ليلة القدر: تضِج برأسي طُيوف العُلى ... ويتقِدُ النورُ في نَاظِرَي وَتهتَاجُ حِسّي طُيوبُ البَها ... وتُغْري الخِلاباتُ جسِميِ عليّ فألبث حَيرانَ حَيرانَ منْ ... تَهاتُر هذا وذيّاك فِيّ ويَظْهرُ بؤْسي، ويُهْدَرُ أنسي ... وَتُصْهَرُ نَفْسي، مِنْ حَيرَتَي فيا رَحمة وَسِعَتْ كلّ شيء ... إِليَّ.. إليَّ.. إليَّ.. إليَّ (3)

_ (1) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (25/283-285) ، انظر كتاب "رهبان الليل" وفيه تفصيل عن ليلة القدر وآدابها. (2) لعمر بهاء الأميري من ديوان قلب ورب. (3) "في ليلة القدر" لعمر بهاء الأميري من ديوان "صفحات ونفحات".

كان شيخ الإسلام أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري كثير ما يقول في مجلسه وفي غير المجلس: "عفوك يا عفو عفوك، في المحيا عفوك، وفي الممات عفوك، وفي القبور عفوك، وعند النشور عفوك، وعند تطاير الصحف عفوك، وعند ممر الصراط عفوك، وعند الميزان عفوك، وفي جميع الأحوال عفوك يا عفو عفوك". قال أبو عمرو بن أبي جعفر: ورؤي أبو عثمان في المنام بعد وفاته بأيام فقيل له: ماذا انتفعت من أعمالك في الدنيا؟ فقال: بقولي: عفوك عفوك (1) . * * *

_ (1) "فضائل الأوقات للبيهقي" (ص 259) تحقيق عدنان القسي طبع مكتبة المنارة بمكة.

الباب الثامن رمضان شهر الجهاد والفتوحات

الباب الثامن رمضان شهر الجهاد والفتوحات

شهر الجهاد والفتوحات رمضان شهر الجهاد وشهر التجارة الرابحة ذروة سنام الإسلام قال تعالى: (يآ أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين) [الصف: 10- 13] . من ذا الذي لا يشتاق أن يدله الله على هذه التجارة ... ألا يشرق القلب عند سماع هذه الآيات في فضل الجهاد. (يغفر لكم ذنوبكم..) وهذه وحدها تكفي فمن ذا الذي يضمن أن يغفر له ذنبه ثم يتطلع بعدها إلى شيء؟ أو يدخر في سبيلها شيئاً. ولكن فضل الله ليس له حدود ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن.. وإنها لأربح تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة ثم يعوض عنها تلك الجنات وهذه الساكن في نعيم مقيم. إن المؤمن الذي يدرك هذا ويعيش بقلبه هذا التصور ويطلع على آفاقه وآماده ثم ينظر إلى الحياة بغيرة في حدودها الضيقة الصغيرة وفي مستوياتها الهابطة الواطية وفي اهتماماتها الهذيلة الزهيدة هذا القلب لا يطيق أن يعيش لحظة بغير أن يحدث نفسه به ويكفي ما سكن في القلب من رضى وارتياح. (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله) وهذا وضع كريم يرفعنا الله إليه وهل أرفع من مكان أن يكون العبد نصيراً للرب؟ إن هذه الصفة عمل من التكريم ما هو أكبر من الجنة والنعيم. وقال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) [آل عمران: 142] .

وقال تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) [التوبة: 24] . وقال تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) [التوبة: 41] . وقال تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) [الحج: 78] . انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة واختاركم لها من بين عباده إنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها بالشكر وحسن الأداء. وقال تعالى: (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً) . عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله وما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" (1) . إن الجهاد ليس ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة وإنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة وإلا لما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلك الكلمة الشاملة لكل مسلم إلى قيام الساعة "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق"، ومن ثَم لابد منه في كل صورة ولابد أن يبدأ في عالم الضمير ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والشهود لابد من بذل الأموال والأنفس. وتلك حياة رفيعة نظيفة كريمة حرة طليقة بدلا من الحياة الذليلة الضعيفة لذة التجرد لله وهذه لذة علوية لا تعدلها لذائذ في الأرض لذة الرجاء في رضوان الله ولذة الاستعلاء على

_ (1) رواه البخاري ومسلم.

الضعف والهبوط والخلاص من ثقلة اللحم والدم والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء. إن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال. (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله) . وقال تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) [التوبة: 111] . بيعة الله لا ييقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه ولا في ماله يحتجزه دون الله سبحانه، باع المؤمن نفسه وماله مقابل الجنة وهو ثمن لا تعدله السلعة ولكن فضل الله ومَنَّه لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا ... كلا ... إنها صفقة مشتراه لشاريها أن يتصرف بها وفق ما يفرض ووفق ما يحدد. ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. ما الذي فات المؤمن الذي يسلم نفسه وماله ويستعيض الجنة؟ فالجنة الكسب كل الكسب. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم" (1) (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثقالتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) [التوبة: 38] . إنها ثقلة الأرض ومطامع الأرض وتصورات الأرض ثقلة الخوف على الحياة والخوف على المال والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع، ثقلة الدعة والراحة. ثقلة اللحم والدم والتراب والجسم المترف الثقيل وهم مع هذا يقدمون على مذابح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء.

_ (1) صحيح: رواه الطبراني في "الأوسط" عن أبي أمامة، وأحمد والحاكم والضياء عن عبادة وصححه الألباني في "صحيح الجامع".

وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه لها جهاد الأعداء. وواقع الأمة المسلمة الآن وهتك أعراضها وسلب أغلى مقدساتها وذبح أطفالها وهدم الثوابت من دينها، جزاء من جنس عملها، جزاء ما تركت من ذروة سنام دينها. والعيش بعيداً عن الجهاد عيش تافه رخيص مفزع وهكذا تخاف الأمة من ظلها وتفرق من صداها تؤدي ضريبة الذل كاملة تؤديها من نفسها ومن قدرها ومن سمعتها ومن اطمئنانها ومن دينها بعد أن باعها عملاء اليهود في كل واد. ما العجب: قد كبت المآذن غيلة ... واغتيل تحت قبابنا الترتيلُ وإذا عيون الشمس تطبق جفنها ... حول الصباح أينفع القنديل؟ مالعجب؟ قد باع الرجال سيوفهم ... وتعثرت بالهاربين خيول واستبدلوا طبلاً بصوت مكبر ... فإذا الجهاد ربابة وطبول تحت الكراسي في البلاد جماجم ... وعل الكراسي في البلاد مغول وإذا الزنادقة استقام لأمرهم ... حكم فغانية الكهوف بتول للجاهلية في البلاد عقيدة ... وبني قريضة محفل وقبيل زمر إذا مرت على بستاننا ... شاصت عروق النخل وهي حمول يدرون أن الوحل فوق جباهم ... ينمو وأن أمامهم ضِلِّيلُ (1) وتحول الصقر الإسلامي إلى طائر الحجل في وداعته وكما قال إقبال: "عَلَّموا الليث حجلة الظبي وأمحوا عنه قصة الأسد". الإسلام يا إخوتاه دين لا يتعارض مع الواقع ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها وهذا الأمر يحتاج إلى جهاد أمة بأسرها فقد تذهب الأيام بداهية وتأتي بداهية أفظع منه والحماس وحده لا يكفي وهذا قول الإمام المجاهد ابن تيمية من حنكته الأيام والتجارب يقول: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من

_ (1) من قصيدة ثكلتك دجلة يا فرات بتصرف للشاعر يحيى السماوي المجلة العربية العدد (209) .

الذين أوتوا الكتاب والمشركين وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية (فقاتلوا أئمة الكفر) الذين يطعنون في الدين وبآية (فقاتلوا الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) " (1) . وأمام الواقع البائس النكد الذي يواجه أمة سقطت إلى الوحل وضاع منها كل شيء يقول الشيخ سيد قطب: "فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون بواقعهم تحقيق هذه الأحكام فهم اللحظة ومؤقت غير مكلفين بتحقيقها ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ولهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة عندما يكونون في الحال التي يستطعون معها تنفيذها". ويبقى دائماً وأبداً في كل وقت جهاد الحجة قال تعالى: (وجاهدهم به جهاداً كبيراً) . قال ابن القيم: "ولا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة فأما جهاد الحجة فأمر به في مكة بقوله: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به..) أي بالقرآن (جهاداً كبيراً) فهذه السورة مكية والجهاد فيها هو التبليغ وجهاد الحجة" (2) . وأمام الدعاة المجاهدين بالحجة ألوف من تلاميذ الاستشراق وصبيان العلمانية والدعاة إلى القومية والماسونية وأصحاب الدعوة إلى الإنسانية وإلى زمالة الأديان والدعوة إلى السلام العالمي البارد تلاميذ اليهود والصليبية العالمية الذين يدبجون الشبه ويجدون من علماء السوء من يطلق بضاعته المسمومة، فإن للقرآن من القوة والسلطان والتأثير العميق ما يهز القلوب ويزلزل الأرواح ولا يثبت لحجته مجادل أو ممحال. يصيبهم الزعر من صمود الدعاة أمامهم يقارعونه بحجج القرآن الناصعة وإن لم يكن هذا جهاد فأي شيء يكون؟! رمضان شهر الجهاد والفتوحات: امتنَّ الله عز وجل على الأمة في هذا الشهر بأحلى انتصارتها وعلى مدار التاريخ الإسلامي كان هذا الشهر رمز للعطاء والبذل.

_ (1) "الصارم المسول" لابن تيمية (ص 221) . (2) "زاد المعاد" (2/58) .

غزوة بدر الكبرى فى السنة الثانية من الهجرة

* ففي السنة الأولى من الهجرة وفي رمضان كوّن المسلمون أول سرية بقيادة حمزة بن عبد المطلب ثم سرية عبيدة بن الحارث وذلك لبث الرعب في قلوب الأعداء. غزوة بدر الكبرى (غزوة الفرقان) : * وفى السنة الثانية من الهجرة وفي السابع عشر من رمضان كانت غزوة بدر الكبرى: وبيئر بدر إذ يكفّ مطيهم ... جبريل تحت لوائنا ومحمد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة. قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل قصة انتصار الحق على أعدائه المدجّجين بالسلاح المزودين بكل زاد، قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله الثابتة المستعلية بيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها لقد انتصرت على نفسها فقلبت بيقينها ميزان الظاهر. تمضي غزوة بدر مثلاً في التاريخ تقرر دستور النصر والهزيمة إلا أنها كتاب مفتوح تقرؤه الأجيال فى كل زمان وفي كل مكان فهي آية من آيات الله ما دامت السماوات والأرض. (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) [آل عمران: 123] . خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً يريدون أبي سفيان والغنيمة فأرادها الله ملحمة فجمعهم الله بعدوهم على غير ميعاد وخرجت قريش بقدها وقديدها تسعمائة وخمسين مقاتلاً، ألف رجل بعدتهم وعتادهم بطراً ورئاء الناس يقول فاجرهم: لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، واستفتح اللعين أبو جهل "اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف". وفي رواية "اللهم أضل الفريقين وأقطعهما للرحم فأحنه الغداة". وفي يوم بدر يتجلى ثبات الرجال: يقول المقداد بن عمرو: "يا رسول الله امضي لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه". ويقول صديق الأنصار سعد بن معاذ: "امضي يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل

واحد وما نكره أن تلق بنا عدونا غداً إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء لعل الله أن يريك منا ما تقرّ به عينك فسر على بركة الله فَسُرّ رسول الله بقول سعد وقال: "سيروا وأبشروا فإن الله قد ودعني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم". إنها قصة الاسغاثة والتجرد لله. "استقبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً" فما زال يستغيث الله ويدعوه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) [الأنفال: 9] ، وقال تعالى: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) [الأنفال: 12] . إنه يوم قتال جبريل والملائكة مع الصادقين. عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه -وكان أبوه من أهل بدر- قال: جاء جبريل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: "من أفضل المسلمين -أو كلمة نحوها- قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة" (1) . وقتل صناديد قريش وقطع دابر الكافرين، وخضدت شوكتهم، وعلت راية الإسلام وكلمة الله بمقدار اتصال القلوب بالله لا تقف لها قوة وكان هذا عن تجربة واقعية لا مجرد تصور واعتقاد قلبي، لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله وخلاصة هذه الموقعة ما قالته قريش نفسها قبلها. "لما بعث خفاف بن أيماء بن رخضة الغفاري -أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري إلى قريش- حين مروا به، ابناً له بجزائر أهداها لهم، وقال لهم: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا، قال: فأرسلوا إليه مع ابنه أن وصلتك رحم! قد قضيت الذي عليك. فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم. ولئن كنا إنما نقاتل الله -كما يزعم محمد- فما لأحدٍ بالله من طاقة.

_ (1) رواه البخاري.

السنة الثالثة من الهجرة

* في السنة الثالثة من الهجرة: وفي رمضان عبّأ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيشاً في المدينة لصد عدوان المشركين الذين كانوا يستعدون للثأر لقتلاهم في غزوة بدر. * في السنة الخامسة من الهجرة: استعداد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغزوة الخندق إذ أن هذه الغزوة كانت في سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين وكان من الاستعدادات بل أهمها ما أشار به سلمان الفارسي من حفر الخندق حول المدينة، وقد استغرق حفر الخندق كما يقول ابن القيم شهراً كاملاً وقد بلغ طول الخندق حوالي خمسة آلاف ذراع، أما عمق الخندق فلم يكن أقل من سبعة أذرع والعرض كذلك فرضى الله عن الصحابة الجيل القرآني الفريد. * في السنة السادسة من الهجرة: في رمضان سرية غالب بن عبد الله المؤلفة من مائة وثلاثين مسلماً لقتال بني عبد الله ابن ثعلبة وكانوا قد أعلنوا عداوتهم للمسلمين، فانتصر غالب عليهم وغنم كثيراً من الخيرات وساقها إلى المدينة. * في السنة الثامنة من الهجرة: في العشرين من رمضان كان الفتح الأعظم: "الذي أعز الله به نبيه ورسوله وجنده وحزبه الأمين واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجاً" (1) ودخل فيه رسول الله مكة ومعه عشرة آلاف من كتائب الإسلام وجنود الرحمن، "وتهيأت مكة الحبيبة وكادت جبالها تزحف فرحاً لاستقبال الأمين البار الصابر المحتسب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليعيد إلى ربوعها أشعة أنوار دين إبراهيم عليه السلام وأخذ التاريخ طرسه

_ (1) "زاد المعاد" (2/160) .

ليسجل في زهو تلك المفارقة العجيبة الرائعة التي تتجسد فيها أعظم العظات والعبر. إن ما شهدته مكة في صباح ذلك اليوم التاريخي الأغر من مفارقات عجيبة رائعة إنما هو إحدى ثمار الثبات على العقيدة السليمة الدافعة كل شيء يعترض سبيلها حتى ولو كان الجبال الراسيات. أية مفارقة أروع وأعظم مما كتبه التاريخ في ذلك اليوم الأغر، فلقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولسبع سنوات فقط أهون على قومه في مكة من أي شيء لديهم. أجمعوا على قتله وهو بين ظهرانيهم بمكة وهم يعرفون كلهم أنه أبر وأشرف وأطهر وأنبل من عرفته بطحاؤهم. قبل سبع سنوات فقط خرجت مكة كلها تبحث عنه في مطاردة جنونية مسعورة وكل فرد يمني بقتل هذا الرجل. واليوم تذكر مكة ولا تنسى وهي تقف اليوم يرجف كبار مجرميها تحت رحمة عشرة آلاف محارب يقودهم هذا الرجل الذي أراد أهل مكة أن يجعلوا منه طريداً لا عودة له. تذكر مكة ولا تنسى أن هذا الرجل إياه خرج منها وحيداً خائفاً يترقب، يترصده الموت من كل مكان. وها هو اليوم يعود إلى مكة الحبيبة مرفوع الرأس وضاح الجبين، قد أحاطه الله بالعزة والمنعة وألبسه رداء السيادة ووضع في يده مقابض كل القيادة، قد أحاط به بحر يموج بآلاف الفرسان وآلاف المشاة من جنود الله كلهم يفديه وتحوطه ملائكة السماء. وجبريلٌ رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاءُ يستقبلهم اليوم أهل مكة في ذلة وانكسار وأيدي كبار مجرميها تتحسس رؤوسهم خوفاً من أن تفصلها عن كواهلهم سيوف الرجل الطريد بالأمس والفاتح العزيز المنتصر اليوم (1) . ولا شيء عنده إلا العفو الشامل لنبي من أولي العزم صفت نفسه وطهرت. ودخل

_ (1) "فتح مكة" لبشاميل (171-173) .

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة وهو يقرأ سورة الفتح وذقنه على راحلته متخشعاً. إن رسول الله ليضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل. دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلثمائة نصب جعل يطعنها بعود في يده ويقول: (جاء الحق وزهق الباطل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) (1) . وعند مسلم "أتى إلى صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه وفي يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوس وهو آخذ بسيتها فلما أتى على الصنم فجعل يطعن في عينه ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً". وفي الأصنام معتبر وعلم ... لمن يرجو الثواب أو العقابا ويقول الشاعر: لو قد رأيت محمداً وقبيلَهُ ... بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت دين الله أضحى بيناً ... والشرك يغشى وجهه الإظلام إن نصر الله يجيئ به الله في الوقت الذي يقدره، في الصورة التي يريدها، للغاية التي يرسمها، وليس لأحد من أمره شيء، وحسب الناس أن يقيمهم الله حراسا لدينه. (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) [الإسراء: 81] . يجييء الحق بقوته وصدقه وثباته، ويزهق الباطل ويندو فمن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق. "إن الباطل كان زهوقا" فالباطل ينتفخ وينتفج وينفش، لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة، ومن ثَمَّ يحاول أن يموه على العين، وأن يبدو للعين عظيماً كبيراً ضخماً راسخاً، ولكنه هش سريع العطب كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عالياً ثم تخبوا سريعاً وتستحيل إلى رماد بينما الجمرة الذاكية تدفئُ وتنفع وتبقى، وكالزيت يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء.

_ (1) البخاري عن عبد الله بن مسعود.

إن الباطل إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية وإسناد غير طبيعي، فإذا تخلخلت تلك العوامل، ووهت هذه الأسانيد تهاوي وانهار فأما الحق فمن عند الله الذي جعل الحق من أسمائه يجعل له العقبى ويكفل له البقاء وإن وقفت ضده الأهواء والسلطان. "إن الباطل كان زهوقا" ومن ورائه الشيطان، ومن ورائه السلطان، ولكن وعد الله أصدق وسلطان الله أقوى، وما من مؤمن ذاق طعم الإيمان، إلا وذاق معه حلاوة الوعد وصدق العهد، "ومن أوفى بعهده من الله؟ ومن أصدق من الله حديثاً" (1) ؟! لما سمع حماس بن قيس الديلي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلس يصلح سلاحه، فقالت له امراته: لمن تعد هذا؟ قال لمحمد وأصحابه، فإني أرجو أن أخدمَك منهم خادماً فإنك إليه محتاجه. قالت: ويحك لا تفعل ولا تقاتل محمداً، والله ليضلنّ هذا عنك لو رأيت محمداً وأصحابه. قال: سترين. وبعدها بقليل أقبل حماس منهزماً حتى أتى بيته فدقه ففتحت امرأته فدخل، وقد ذهبت روحه، فقالت: أين الخادم الذي وعدتني ما زلت منتظرتك منذ اليوم، تسخر به. قال: دعي عنك هذا أغلقي بابك فإنه من أغلق بابه فهو آمن ثم قال شعراً: وأنت لو شهدتنا بالخندمه ... إذ فر صفوان وفرّ وعكرمه وأبو يزيد كالعجوز المؤتمه ... إذ يلحقونا بالسيوف المسلمة يقطعن كلّ ساعد وجمجمة ... ضربا فلا يُسمع إلا غمغمه لهم زئير خلفنا وهمهمة ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة (2) قال تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ... ) [النصر: 1، 2] . قال ابنُ كثير: "والمراد بالفتح هنا فتح مكة قولاً واحد فإن أحياء العرب كانت

_ (1) "الظلال" (4/2247- 2248) . (2) "فتح مكة" محمد أحمد شاميل (ص 178- 179) ، نقلاً عن سيرة ابن هشام (ج 4/50) ، و"مغازي الواقدي" (2/287) ، "البداية والنهاية" (4/297) .

هدم الأصنام

تتلوم (1) بإسلامها فتح مكة يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبي، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجا، فلم تمض سنتان حتى استوثقت جزيرة العرب إيماناً، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ولله الحمد والمنة. وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون: دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي. * هدم الأصنام:- "هبل ... العزّى ... سواع.... مناة" رمضان سنة 8 هـ، هدم اللات رمضان سنة 9 هـ". * كان من فضل رمضان أن هدمت في أيامه الغرّ سائر الأصنام وقد كانت للأصنام في جزيرة العرب قصة مظلمة سوداء طمس ظلامها نور الإسلام، وأزال قتامها إشراق الإيمان، واسْتخزت الأوثان، واجتثت الأصنام. ففي العشرين من رمضان سنة ثمان للهجرة، دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة فاتحا، وكانت الأصنام منصوبة حول الكعبة، فأخذ طرف رمحه، وجعل يطعنها في عيونها ووجوهها فتهوي تحت قدميه وهو يردد: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) [الإسراء: 81] ثم أمر بها فكفئت على وجوهها وأخرجت من المسجد وأضرمت فيها النار وكان على رأسها "هبل". هبل كان أعظم أصنامها في جوف الكعبة، وكان من عقيق أحمر على صورة إنسان، وقد كان مكسور اليد اليمنى فجعلوا له يداً منْ ذهب فذهب هبل إلى مزبلة التاريخ ... وتلاشت من الوجود "اعل هبل". * وأرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمرو بن العاص في رمضان سنة 8 هـ فهدم سواع. * ومناة التي كانت الدماء تمنى عنده وتراق تقربا إليه وسموا أولادهم به؛ من ذلك "عبد مناة" و"زيد مناة" وعظمته الأوس والخزرج كأشد تعظيم.

_ (1) تتلوم: أي تنتظر.

* في الرابع والعشرين من رمضان سنة ثمان للهجرة، بعث الرسول عليه الصلاة والسلام سعد بن زيد الأشهلي إلى "مَنَاة" فهدمها، ولم يجد في خزانتها شيئاً. * وفي الخامس والعشرين من رمضان سنة 8 هـ أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خالد بن الوليد رضي الله عنه في ثلاثين فارسا من أصحابه، وأمرهم بهدم "العزّى" وكان سدنتها وحجابها من بني "شيبان" فلما سمع سادنها بمسير خالد إليه، علّق سيفا عليها وأنشدها قوله: أَيَاعُزُّ شُدِّي شَدَّةً لا شَوَى (1) لَهَا ... على خالدٍ أَلْقِي القِناعَ وشمِّرِي أَيَا عُز إِنْ لم تَقْتُلي المرءَ خَالداً ... فبُوئي بإثمٍ عاجلٍ، أَو تَنَصَّرِي فلما انتهى إليها خالد هدمها وهو يردد: يا عُزَ كُفرانَكِ لا سُبحانك ... إني رأيتُ الله قد أهانكِ نعم.. أهان الله أكبر صنم كان يعبد من دون الله في جزيرة العرب عزى التي حمت لها قريش حرما، وأقاموا عندها منحرا للهدي، وبكى على يومه هذا سعيد بن العاص.. إذْ لماّ جاءه الموت دخل عليه أبو لهب يعوده فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا أبا أُحَيحة؟ أمن الموت تبكي ولا بدّ منه!! قال: لا ولكني أخاف ألا تعبد "العزّى" من بعدي قال أبو لهب: والله ما عُبدت في حياتك من أجلك، حتى تترك عبادتها بعد موتك. * وفي رمضان سنة تسع للهجرة وفدت ثقيف صاحبة "اللات" على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعرض إسلامها عليه، ويسألونه أن يترك لهم "اللات" ثلاث سنين لا يهدمها.. فأبى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأدى عليهم ذلك، حتى سألوا شهرا واحدا، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمّى، وأصر على هدمها، فسألوه ألا يهدموها بأيديهم. فأرسل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة لهدم "اللات"، فلما بلغا "الطائف" خرجت نساء ثقيف حُسّرا يبكين آلهتهن، ويندبنها ويزرين على رجالهن الذين أسلموها. ولما همّ المغيرة بهدمها قال لأبي سفيان: ألا أضحكك من ثقيف؟ قال: بلى.... فأخذ الفأس وضرب به "اللات" ضربة واحدة، ثم صاح وخرّ على وجهه

_ (1) أي لا تبقي على شيء.

السنة التاسعة من الهجرة: عودة من غزوة تبوك

كأنه صُعق، فارتجّت الطائف بالصياح سروراً بأن اللات قد صرعت المغيرة، وأقبلوا عليه يقولون: ويحك، كيف رأيتها؟ إنها تُهلك من عاداها ... إنهاْ تهلك من عاداها، فقام المغيرة يضحك من القوم، ثم أقبل على اللات يضربها بمعوله وهو يقول: "الله أكبر، الله أكبر.. لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... أحدٌ فردٌ صمد. * وفي السنة التاسعة من الهجرة: في رمضان كانت عودة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غزوة تبوك المظفرة. * وفي السنة الثالثة عشرة من الهجرة: وفي رمضان كانت معركة "البويب". قال ابنُ كثير في "البداية والنهاية" (7/30) : "وكانت هذه الواقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام". "فقد بعث أمراء الفرس جيشاً لهم بقيادة مهران واكتمل صف المسلمين تحت إمرة المثنى بن حارثه، فتوافوهم وإياهم بمكان يقال له "البويب" قريب من مكان الكوفة اليوم وبينهما الفرات قالوا: إما أن تعبروا إلينا، أو نعبر إليكم، فقال المسلمون: بل اعبروا إلينا فعبرت الفرس إليهم فتوافقوا، وذلك في شهر رمضان. فعزم المثنى على المسلمين في الفطر فأفطروا عن آخرهم ليكون أقوى لهم، وعبأ الجيش وجعل يمر على كل راية من رايات الأمراء على القبائل ويعظهم ويحثهم على الجهاد والصبر والصمت وفي القوم جرير بن عبد الله البجلي في بجيلة وجماعة من سادات المسلمين. وقال المثنى لهم: إني مكبر ثلاث تكبيرات فتهيأوا، فإذا كبرت الرابعة فاحملوا. فقابلوا قوله بالسمع والطاعة والقبول، فلما كبر أول تكبيرة عاجلتهم الفرس فحملوا حتى غالقوهم. واقتتلوا قتالاً شديداً، ورأى المثنى في بعض صفوفه خللاً فبعث إليهم رجلاً يقول: الأمير يقرأ عليكم السلام، ويقول لكم: لا تفضحوا العرب اليوم فاعتدلوا. فلما رأى ذلك منهم -وهم بنو عجل- أعجبه وضحك وبعث إليهم يقول: يا معشر المسلمين عاداتكم، انصروا الله

فتح النوبة ومعاهدة القبط

ينصركم، وجعل المثنى والمسلمون يدعون الله بالظفر والنصر. فلما طالت مدة الحرب جمع المثنى جماعة من أصحابه الأبطال يحمون ظهره، وحمل على مَهران فأزاله عن موضعه حتى دخل الميمنة. قال محمد بن إسحاق: وحمل المنذر بن حسان بن ضرار الضبي على مهران قائد الفرس فطعنه واحتز رأسه جرير بن عبد الله البجلي، وهربت المجوس وركب المسلمون أكتافهم يفصلونهم فصلاً، وسبق المثنى بن حارثه إلى الجسر فوقف عليه ليمنع الفرس من الجواز عليه ليتمكن منهم المسلمون. فركبوا أكتافهم بقية ذلك اليوم وتلك الليلة، ومن بعد إلى الليل فيقال: أنه قتل منهم يومئذ وغرق قريب من مائة ألف ولله الحمد والمنة وغنم المسلمون مالاً جزيلاً وطعاماً كثيراً، وبعثوا بالبشارة والأخماس إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقد قتل من سادات المسلمين في هذا اليوم بشر كثير أيضاً، وذلت لهذه الموقعة رقاب الفرس، وتمكن الصحابة من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة فغنموا شيئاً عظيماً لا يمكن حصره. قال الأعور العبدي: هاجت لأعورَ دارُ الحي أحزانا ... واستبدلت بعد عبد القيس حسانا وقد أرانا بها والشمل مجتمع ... إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا إذا كان سار المثنى بالخيول لهم ... فقتل الزحف من فرس وجيلانا سما لمهران والجيش الذي معه ... حتى أبادهم مثنى ووحدانا (1) فتح النوبة ومعاهدة القبط سنة 31 هـ: "سينقلنا الحديث إلى منطقة من مناطق المسلمين لنتعرف على بداية دخول الإسلام لها بعد معركة من معارك المسلمين العظيمة تمخضت عن عهد كان له عظيم الأثر في انتشار الإسلام في تلك البقاع. أما المنطقة فهي بلاد النوبة الواقعة جنوب مصر، وأما قائد هذه المعركة فهو الصحابي الجليل عبد الله بن سعد بن أبي سرح.

_ (1) "البداية والنهاية" (7/29-30) .

بدأت علاقة المسلمين بهذه المنطقة بعد فتح مصر على يد عمرو بن العاص -رضى الله عنه-، فقد أرسل حملة إلى بلاد النوبة بقيادة عقبة بن نافع الفهري رحمه الله فدخل تلك البلاد، ولقي المسلمون قتالاً شديداً، حيث كان النوبيون يُجيدون الرمي بالسهام فرشقوهم بالنبل حتى جرح عامتهم، فانصرف المسلمون وقد فقئت حدق الكثير منهم من جراء النبل ولذا سموهم "رماة الحدق"، وتمخض عن هذه الحملة عقد صلح بينهم وبين المسلمين تقررت من جرائه الهدنة. وظلَّ الوضع على ذلك حتى تولى ولاية مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضى الله عنه-، فنقض النوبيون الصلح وهاجموا صعيد مصر وأفسدوا فيه، فخرج عبد الله بن أبي سرح بجيش تعداده عشرون ألفا وتوغل في بلادهم جنوبا ووصل عاصمتهم دنقلة فحاصرها حصارا شديدا ورماها بالمنجنيق وضيق على أهلها حتى اضطروا للتسليم، وطلب ملكهم "قليدور" الصلح، وخرج إلى عبد الله ابن أبي سرح، وأبدى ضعفا ومسكنة وتواضعاً فتلقاه عبد الله وقرر الصلح معه وعقدت بين الجانبين معاهدة فريدة من نوعها، كان لها عظيم الأثر على عملية انتشارالإسلام في شرق القارة الإفريقية، وكان ذلك في شهر رمضان من سنة احدى وثلاثين هجرية. وجاء في هذه المعاهدة: "عهدٌ من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي سرح لعظيم التوبة ولجميع أهل مملكته: عهد عقده على الكبير والصغير من النوبة، من أرض أسوان إلى حد أرض علوة أن عبد الله جعل لهم أماناً وهدنة: إنكم معاشر النوبة آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا نحاربكم، ولا نَنْصُبَ لكم حرباً، ولا نغزوكم ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم". ثم يعدد العهد الشرائط تلك ومنها: - عليكم حفظ من نزل بلادكم أو يطرقه من مسلم أو معاهد حتى يخرج عنكم. - وعليكم رد من لجأ إليكم من مسلم محارب للمسلمين وأن تخرجوه من بلادكم. - وعليكم حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم، ولا تمنعوا منه

مصليا، ولا تعرضوا لمسلم قصده وجاور فيه إلى أن ينصرف عنكم، وعليكم كنْسه وإسراجه وتكرمته. - وعليكم في كل سنة ثلاثمائة وستون رأساً تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم. علينا بذلك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به ... الله الشاهد بيننا وبينكم. وكتب عمر بن شرحبيل في رمضان سنة إحدى وثلاثين هجرية. هذا هو عقد الصلح الذي تم بين المسلمين وبين النوبة، وإذا نحن تمعنَّا في بنوده وجدناها عوامل مهمة لنشر الإسلام في تلك البلاد. ولربما كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد أدرك صعوبة فتح تلك المناطق لوعورة تضاريسها ولشدة أهلها في القتال، فأراد أن يوفر بهذه المعاهدة مناخاً مناسباً لانتشار الإسلام بصورة سلمية. ولقد حصل هذا فعلاً فظلت المعاهدة أساسا للعلاقات بين المسلمين وبين النوبة حتى انتشر الإسلام فيها، وأصبحت بذلك جزءاً من العالم الإسلامي. ولنعد إلى بنود المعاهدة لنرى أثرَها في ذلك. كان من أول الشروط التي اشترطها عبد الله -رضى الله عنه- حفظ من دخل النوبة من المسلمين وهو بهذا يضمن سلامة الدعاة المسلمين، وكذلك التجار، فيدخلون إلى تلك المناطق، ويقومون بدعوة أهلها إلى الإسلام دون عوائق. حيث إنهم تحت حماية الدولة الإسلامية، ولو كانوا خارج حدودها في بلاد النوبة. واستفاد الدعاة من هذا الشرط، وتوغّلوا في تلك البلاد حتى وصلوا الحبشة وأواسط السودان الحالية، واستطاعوا تحويل أهلها إلى الإسلام. ومن الشروط كذلك: حفظ المسجد الذي بني خارج عاصمة النوبة "دنقلة" بل واشترط عليهم كنسه وإسراجه وتكرمته وعدم منع المسلمين من الصلاة أو الإقامة فيه.

وهكذا ضمنت هذه المعاهدة بقاء مركزٍ للدعوة الإسلامية في تلك البلاد النصرانية، ذلك أن المسجد هو منطلق الدعوة ومركزها، وكان أول عمل يقوم به الدعاة هو بناء المساجد ومن ثم تبدأ الدعوة منها، ولا زال المسجد يقوم بدور كبير في القارة الأفريقية حتى الآن، بمعنى أنه يؤدي وظيفته الحقيقية. وقد ظلَّ مسجد "دنقلة" الذي بناه المسلمون منذ سنة إحدى وثلاثين هجرية فترة زمنية طويلة يؤدي رسالته في الدعوة الإسلامية، ويؤمه الدعاة من مختلف أقطار العالم الإسلامي فيستقرون فيه أو حوله ويدعون الناس إلى الإسلام مما كان له عظيم الأثر في تحطم الوجود النصراني والقضاء عليه. وفي الشرط الأخير من شروط المعاهدة تعهد النوبيون بدفع ثلاثمائة وستين رأساً من الرقيق إلى والي المسلمين، ولقد كانت النوبة منذ القدم تشتهر بتصدير هؤلاء الرقيق فرأى قائد المسلمين عبد الله بن سعد بن أبي سرح أن يستأثر بهؤلاء الرقيق للدولة الإسلامية، فإذا سُلِّموا للمسلمين أصبحوا مماليك دولة لا رقيق: أفراد، وينتج عن ذلك عدد من النتائج: فهؤلاء يتحولون إلى الإسلام وينقذون من الكفر والضْلال لأنهم في الأصل إما من النصارى أو الوثنيين، ولذلك فقد قال أحدهم لتاجر أوروبي لقيه في مصر: إننا في الحقيقة لا نأتي من الحرية للرق، بل إننا نأتي من الرق الحقيقي والعبودية للبشر لنصبح أحراراً بالإسلام، وقد كان لهؤلاء بعد إسلامهم شأن في الدولة الإسلامية فكان منهم الجند والوزراء بل والولاة أحيانا، وبعض هؤلاء يؤثر العودة إلى موطنه بعد إسلامه فيعود إليها داعياً للإسلام، وهكذا فلم يمض القرن الثامن الهجري حتى أصبحت بلاد النوبة كلها بلاداً إسلامية وأهلها قد اعتنقوا الإسلام، وذلك بطريقة سلمية جراء تأثير بنود هذه المعاهدة، وفي هذا ما يدحض تلك الفرية التي طالما ردَّدها الغربيون وتلامذتهم وهي أن الإسلام لا ينتشر إلا بالقوة والسيف. رضي الله عن عبد الله بن أبي سرح الذي مهد الطريق لنشر الإسلام في تلك البقاع" (1) .

_ (1) "من معارك المسلمين في رمضان" للدكتور عبد العزيز بن راشد العبيدي (ص 39-42) - مكتبة العبيكان وانظر "فتوح البلدان" للبلاذري (ص 331) ، و"الخطط" للمقريزي (1/200) ، و"فتوح مصر" لابن عبد الحكم (ص 188) .

سنة 53 هـ فتح جزيرة رودس

فتح جزيرة رودس سنة 53 هجرية: * فى رمضان سنة 53 هـ "افتتح المسلمون وعليهم جنادة بن أبي أمية جزيرة رودس وأقام بها طائفة من المسلمين كانوا أشد شيء على الكفار يعترضون لهم في البحر ويقطعون سبيلهم" (1) . سنة 67 هـ زالت دولة المختار الثقفي: قتل المختار في رابع عشر رمضان سنة سبع وستين هجرية. ركب مصعب بن الزبير والي البصرة على رأس جيش لملاقاة جيش المختار فقطعوا دجله إلى الكوفة واقتتلوا قتالاً شديداً إلى الليل وقتل أعيان المختار وتفرق أصحاب المختار عنه "وأشار عليه جماعة من أساورته أن يدخل القصر دار إمرته، فدخله وهو ملوم مذموم، وعن قريب ينفذ فيه القدر المحتوم، فحاصره مصعب فيه وجميع أصحابه حتى أصابهم من جهد العطش ما الله به عليم وضيق عليهم المسالك والمقاصد، وأفسد عليهم أبواب الحيل، وليس فيهم رجل رشيد ولا حليم، ثم جعل المختار يحيل فكرته، ويكرر رويته في الأمر الذي قد حلّ به واستشار من عنده في هذا السبب السييء الذي قد اتصل سببه بسببه من الموالي والعبيد، ولسان القدر والشرع يناديه (قل جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد) [سبأ: 49] ، ثم قوي عزمه قوة الشجاعة المركبة فيه على أن أخرجته من بين مَن كان يحالفه ويواليه، ورأى أن يموت على فرسه، حتى يكون عليها انقضاء آخر نفسه، فنزل حمية وغضباً، وشجاعة وكلباً، وهو مع ذلك لا يجد مناصاً ولا مفراً ولا مهرباً وليس معه من أصحابه سوى تسعة عشر، ولعله إن كان قد استمر على ما عاش عليه أن يفارقه التسعة عشر الموكلون بسقر، ولما خرج من القصر سأل أن يخلى سبيله فيذهب في أرض الله فقالوا له إلا على حكم الأمير، والمقصود أنه لما خرج من القصر تقدم إليه شقيقان أخوان وهما طرفة وطراف ابنا عبد الله بن دجاجه فقتلاه بمكان الزياتين من الكوفة واحتزا رأسه وأتيا به مصعب بن الزبير زالت دولة المختار، وكذلك سائر الدول، وفرح المسلمون بزوالها

_ (1) "البداية والنهاية" (8/63) .

وذلك لأن الرجل لم يكن في نفسه صادقاً، بل كان كاذباً يزعم أن الوحى يأتيه على يد جبريل ولما دخل زيد بن الأرقم عليه قال له: يا أبا عامر لو شفت رأي جبريل وميكائيل، فقال له زيد، خسرت وتعست، أنت أهون على الله من ذلك، كذاب مفتر على الله ورسوله (1) . وفي حديث أسماء عند أحمد أن أسماء قالت للحجاج "والله لقد أخبرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول". وعند مسلم عنها أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن في ثقيف كذاباً مبيرا". قال ابن كثير: "وقد ذكر العلماء أن الكذاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان يظهر التشيع ويبطن الكهانة، وأسر إلى أخصائه أنه يوحى إليه، ولكن ما أدري هل كان يدعي النبوة أم لا، وكان قد وضع له كرسي يعظم ويحف به الرجال، ويستر بالحرير ويحمل على البغال، وكان يضاهي به تابوت بني إسرائيل المذكور في القرآن، ولا شك أنه كان ضالاً مضلاً أراح الله المسلمين منه" (2) . "روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني عنده، وكان يتعاهد مبيتي بالليل قال: فقال لي: اخرج فحدّث الناس، قال: فخرجت فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي؟ فقلت: الوحي وحيان قال الله تعالى: (بما أوحينا إليك هذا القرآن) [يوسف: 3] ، وقال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) [الأنعام: 112] ، قال: فهموا أن يأخذوني فقلت: ما لكم وذاك! إني مفتيكم وضيفكم، فتركوني، وإنما أراد عكرمة أن يعرض بالمختار وكذبه في ادعائه أن الوحى ينزل عليه". وقد قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن الوحىَ يأتيه، فقال صدق قال تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) [الأنعام: 121] (3) .

_ (1) "البداية والنهاية" (8/290-295) . (2) "البداية والنهاية" (8/295) . (3) "البداية والنهاية" (8/294) .

سنة 91 هـ غزوة طريف

غزوة طريف سنة 91 هجرية: بعث موسى بن نصير رجلاً من البربر يسمى طريفاً (*) ويكنى بأبي زرعة، في مائة فارس وأربعمائة راجل فجاز في أربعة مراكب حتى نزل ساحل البحر بالأندلس فيما يحاذي (طنجه) وهو المعروف اليوم بـ (جزيرة طريف) سميت باسمه لنزوله هناك فأغار منها على ما يليها إلى جهة الجزيرة الخضراء وأصاب سبباً ومالاً كثيراً ورجع سالماً أو كانت أجازته في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين هجرية" (1) . فتح الأندلس في رمضان سنة 91 هـ: على يد طارق بن زياد مولى موسى بن نصير. يقول المقري في "نفح الطيب": "ذكر عن طارق أنه كان نائماً في المركب فرأى في منامه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الخلفاء الأربعة أصحابه -رضي الله عنهم- يمشون على الماء حتى مروا به، فبشره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفتح، وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد. وقيل: إنه لما ركب البحر غلبته عينه فكان يرى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحوله المهاجرون والأنصار قد تقلدوا السيوف وتنكبوا القسى فيقول له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا طارق تقدم لشأنك، ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس قدّامه، فهبّ من نومه مستبشراً، وبشر أصحابه وثابت إليه نفسه ثقة ببشراه، فقويت نفسه ولم يشك في الظفر" وعسكر لزريق ملك أسبانيا مائة ألف وجيش طارق اثنا عشر ألف وفي وادي (لكه) يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان ونصر الله المسلمين نصراً لا كفاء له، واتصلت الحرب بينهم إلى يوم الأحد لخمس خلون من شوال وهزم الله المشركين، فقتل منهم خلق كثير، أقامت عظامهم بعد ذلك بدهر طويل ملبّسه لتلك الأرض، قالوا: وحاز المسلمون من عسكرهم ما يجل قدره، فكانوا يعرفون كبار العجم وملوكهم بخواتيم الفضة ويميزون عبيدهم بخواتيم النحاس.

_ (*) طريف بن ملوك المعافري هكذا سماه الحميدي، ويسميه المقري: طريف البربري، ويسميه ابن خلدون: طريف ابن مالك النخعي. (1) "قادة فتح المغرب العربي" (ص 244-245) نقلاً عن "البيان المعزب" (2، 6) - "نفح الطيب" (1/214) .

وقفة على أبواب مدريد

ورمى "لُذرَيق" نفسه في وادي (لكه) وقد أثقله السلاح، فلم يعلم له خبر ولم يوجد، وقالوا إن المسلمين وجدوا فرسه الأشهب الذي فقدوه وراكبه وقد ساخ الفرس طين وحمأه، وغرق العلج ولم يوجد حياً ولا ميتاً. يقول طارق بن زياد في فتح الأندلس: ركبا سفينا بالمجاز مُقيّرا ... عسى أن يكون الله مناقد اشترى نفوساً وأموالاً وأهلاً بجنة ... إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيسّرا ولسنا نبالي كيف سالت نفوسنا ... إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا رحم الله طارقاً.. مولى موسى.. معذرة بل سيد من السادات وغيره العبيد وإن كان ملوكاً سيقوا إلى مدريد في يوم احتفالهم بخروج المسلمين ليكتبوا وثيقة الذل والعار مع اليهود والصليبيين. وقفة على أبواب مدريد عذراً رُبى المجد، إنَّ القومَ قد هانوا ... وإنهم في أيادي المعتدي لانوا عذراً فما ردَّهم عمَّا يُحاك لهم ... وعيٌ، ولا ردَهم دينٌ وقرآنُ عذراً فأروقة الأحزان حافلة ... وساحة الفرح المقتول قيعانُ عذراً فبحر المآسي لم يزلْ لجباً ... يموج في مائه قرش وحيتانُ عذراً فإنَّ بلاد العرب لاهيةٌ ... تضج في صدرها عبسٌ وذبيانُ أما ترين روابي الشعر هامدةٌ ... فمالها اليوم أوراقٌ وأغصانُ قصيدتي ذَبُلتْ ممّا يداهمها ... من الجفاف، وطرف الشعر سهرانُ تنكّبتْها غيومُ اللحن، ما ابتهجتْ ... خصباً، ولا استبشرت بالغيث أفنانُ ولوحة الصمت، فيها ألفُ دائرة ... مرسومة، ما لها في الفنِّ ميزانُ ما لامستها يدٌ بالرسم ماهرةٌ ... ولا سقاها شرابَ الحبر فنَّانُ رأيتُ فيها خطوطاً لا حدودَ لها ... وليس يفهمها إنْسٌ ولا جان

رأيت في بعضها رأساً أشبهه ... بحيَّة، شدَّها للخلف ثعبانُ رأيت غصناً من الزينون تأكله ... رصاصةٌ، ووراءَ الغصن "كاهانُ" من حوله أحرفٌ عِبريّةٌ نُقشتْ ... وليس فيها عن الألغاز تبيانُ كان الغبارُ يُواريها، وحين جلا ... بدا لعينى شاميرٌ و"ديَّان" ولاح لي في مداها وجهُ أندلسٍ ... جبينهُ لسباق الحزنِ ميدانُ يا وجهَ أندلسٍ، في أُفْقنا سحبٌ ... من الدخان، وفي الأدغال بركانُ طارت إليك وفود العرب، في فمها ... بوقٌ، وبين يديها الطبلُ رنَّانُ شاميرُ يسخر منهم، من تطلعهم ... إلى السراب، ألا فَلْيَروْ ظَمآنُ لو أبصرتهم عيون الداخل امتلأت ... قذىً، وأغضتْ على الأشواك أجفانُ ولو رأى طارقٌ تلك الوجوهَ، لَماَ ... عصاه سيفٌ، ولا عاقته أكفانُ كأنني بقلاع المجد قد وجمتْ ... لماَّ أتاها بروح الذل "عُربانُ" يا بؤسَها أمةً يسعى بحاجتها ... لصُّ، وبائع أفيون، وسجَّانُ تُدعى إلى الملتقى باسم السلام، ولم ... يُرفع لها بين أهل الملتقى شانُ يقام حفلٌ لها من حُرِّ ثروتها ... ولم يُقدم لها في الحفل فنجانُ يا بؤسها أمةً، في الحرب خاسرةٌ ... ولا يفارقها في السلم خُسرانُ إن حاربتْ شربتْ كأس الهزيمة في ... ذل، وإنْ فاوضت فالذل ألوانُ أنَّى تقوم لها في الكون قائمةٌ ... وقلبها غارق في الوهم حيرانُ يا من رحلتم إلى مدريدَ، قربتُكم ... مخروقة، وجِرَابُ الخصم ملاَنُ بشراكم اليومَ، إسرائيل راضيةٌ ... عنكم، وفي قلبها شكر وعرفانُ بشراكم اليوم، أمريكا تبجّلكم ... وفي يدَي روسيا "فلٌ وريحانُ" أما فلسطين، والأقصى وأمتكم ... فما لها عندكم قدرٌ ولا شانُ

فتوح المسلمين في فرنسا

يا من رحلتم إلى مدريد، أمتكم ... بريئة، وادّعاءُ السِّلم بُهتانُ القدس أكرم عند الله منزلةً ... من أنْ يطهرها لهوٌ وعصيانُ القدس أعظم عند الله منزلةً ... من أن يخلصِها ذلٌ وإذعانُ سلام أعدائكم حرب معلَّبةٌ ... في علبة الوهم، والبرهانُ لبنانُ لو كان شامير إنساناً لضلَّلكم ... فكيف، وهو على التحقيق شيطانُ إنا ننادي، وللتاريخ حَمْحَمَةٌ ... من حولنا، وفؤاد المجد غضبانُ يا مجلس الذل في مدريدَ لا نظرتْ ... عينٌ، ولا سمعت دعواكَ آذانُ لنا طريقٌ إلى العلياء نعرفه ... يشدو به حجر في القدس صَوَّانُ يشدو به الطفل لحناً لا يقاومه ... صوت الرصاص، ولا تُخفيه حيطانُ يامجلس الذل في مدريدَ منهجُنا ... قد صاغه في رُبى باميرَ أفغانُ طريقنا واضحٌ كالشّمس، تعرفه ... أجيالُنا، بابُه عزمٌ وإيمانُ آمالُنا لم تزل خضرَاءَ يانعةً ... في القلب منتجع منها وبُستانُ ولينا الله لا نرضى به بدلاً ... وكيف ييأس مَنْ مولاه رحمان (1) فتوح المسلمين في فرنسا سنة 102 هـ: بعد أن استقر المسلمون في الأندلس، بدأت غزواتُهم تتجه نحو الشمال فيما وراء جبال البرانس الفاصلة بين الأندلس وفرنسا، وتولى قيادة الجيوش الإسلامية آنذاك عدد من القادة المسلمين الذين تفرغوا للجهاد في سبيل الله فمات أكثرهم في ساحات القتال، رحمهم الله. بدأت الفتوح في تلك المناطق في عهد عبد العزيز بن موسى بن نصير، الذي تولى الأندلس بعد رحيل والده، ولم تحدد المصادر التاريخية مدناً أو نواحي معينة فتحها. وتوالى الولاة على الأندلس حتى إذا تولى السمح بن مالك الخولاني اتجه نحو الجهاد فى

_ (1) من ديوان "عندما تشرق الشمس" لعبد الرحمن العشماوي (ص 24-27) .

جنوب فرنسا، والحقيقة أن هذا الوالي كان من أفاضل عربِ أفريقية، ولّاه الخليفة عمر بن عبد العزيز ولاية الأندلس لما عرف عنه من الأمانة وحسن الخلق وذلك في شهر رمضان سنة مائة هجرية وطلب منه تنظيم البلاد وضبط أموالها، فسار في ذلك سيرة حسنة. وفي عهده نشطت حركة الفتوح فيما وراء جبال البرانس، الفاصلة بين الأندلس وفرنسا، لأنه كان رجلاً وثيق الإيمان جم النشاط، فانطلق بجيشه في عام اثنين ومائة وفتح إقليم "سبتمانيا"، وهي المنطقة الساحلية التي تمتد من البرانس غرباً إلى مصبِّ نهر الرون شرقا، وتتصل بما يعرف اليوم بالريفيرا الإيطالية، كما أنها تُطلُّ على البحر الأبيضِ جنوب فرنسا، وكانت تشمل سبعة أقسام إدارية وعاصمتها "أربونة"، وقد استولى السمح على هذه العاصمة بعد شهر من الحصار، واتخذها مركزاً وقاعدة لعملياته الحربية في فرنسا، ولا يزال يوجد بهذه المدينة شارع يُنسب إليه ويعرف "بشارع السمح". انطلق السمح بعد ذلك يفتح كل المدن التي بطريقه حتى وصل إلى "طُولوشة عاصمة أكويتانيا" فحاصرها، غير أنها قاومت الحصار، حتى وصلتها الإمدادات وعلى رأسها حاكم الإقليم الدوق أود الفرنجي، فتجمع للنصارى جيش كبير يفوق جيش المسلمين عدداً وتجهيزا، فوقف السمح في جنوده يُحمِّسهم ويشد من أزرهم ويقرأ قول الله تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالبَ لكم) [آل عمران: 160] وحدثت معركة عنيفة بين المسلمين والنصارى أواخر سنة اثنتين ومائة هجرية، واشتد القتال بين الجانبين وصبر المسلمون صبراً كريماً، وأصاب قائدهم سهم قاتل فاستشهد في يوم عرفة، وفتَّ ذلك في عضد الجند فتراجعوا عن طولوشة واستطاع واحد من قادته وهو عبد الرحمن الغافقي الارتداد بهم إلى أربونة بعد أن قُتل منهم عدد كبير. خلف السمح على ولاية الأندلس عنبسة بن سُحيم الكلبي، وواصل الغزو في فرنسا الجنوبية، فسار على الساحل حتى وصل إلى "قرقشونة" فحاصرها وشدد عليها الحصار حتى نزل أهلُها على شروطه، فتنازلوا له عن البلد ونصف الإقليم المحيط به، وتعهدوا بردِّ أسرى المسلمين الذين كانوا عندهم، وبأن يدفعوا الجزية، ويلتزموا بأحكام أهل الذمة من محاربة من حاربه المسلمون ومسالمة من سالموه، وأخذ منهم عنبسة بعض الرهائن وأرسلها إلى "برشلونة".

سنة 222 هـ فتح البذ مدينة "بابك الخرمي"

وواصل عنبسة -رحمه الله- سيره، ووجد الطريق أمامه خالية، فسار مسرعاً دون أن يلقى مقاومة، وصعد حتى أدرك نهر الساءون فاستولى على أوتون، واستمر في زحفه الظافر فقذف الله في قلوب الكفار الرعب فلم يتصد أحد منهم للمسلمين إلا لطلب الصلح، واجتاح المسلمون مدينة أوزه، وفيين، وفالنسي ووصلوا إلى مدينة ليون التي يسميها العرب "حصن لودون"، كذلك زحفوا على مدينة ماسون، وشالون، ووصلوا إلى مدينة "سانس" عاصمة إقليم "يوند" على بعد ثلاثين كيلوا متراً فقط جنوبي باريس، وقد تصدت هذه المدينة للزحف الإسلامى فكانت آخر ما وصل إليه المسلمون. ويبدو أن القائد المسلم عنبسة بن شحيم قد أدرك بعد هذا التقدم الظافر الذي جعله يقترب من باريس أنه توغل في قلب فرنسا أكثر مما ينبغي، فقد طالت خطوط العودة فخشى أن تقطع عليه بعد أن ابتعد مسافة ألف ميل شمالي قرطبة، كما أن أحوال الأندلس قد بدأت تتغير بظهور العصبيات المختلفة، مما دعاه إلى العودة بعد هذا النصر العظيم. وقد أثارت هذه الفتوح المخاوف في نواحي فرنسا، وارتاعت معظم الدوقيات وشعرت مملكة الفرنج أنها أمام خطر حقيقي، وبدا واضحا أن الحملة المقبلة ستكون حملة حاسمة. والحقيقة أن أحوال الأندلس في ذلك الوقت قد أثرت كثيراً على هذه الفتوح الإسلامية، ولولاها لما توقف عنبسة عن فتوحه الموفقة تلك. وفي طريق العودة داهمت جيشَ المسلمين جموع كبيرة من الفرنجة وجرح عنبسة بجروح بليغة توفى على إثرها في شهر شعبان سنة سبع ومائة هجرية، بعد أن نشر الرعب في نواحي فرنسا ووصل برايات الإسلام إلى قلب أوروبا الغربيّة، وكفاه ذلك فخراً حيث لم يدرك هذا الشأو بعد ذلك قائد مسلم آخر (1) . سنة 222 هـ فتح البذ مدينة "بابك الخرمي": جهّز المعتصم جيشاً كثيراً للأفشين على محاربة "بابك" وبعث إليه ثلاثين ألف ألف

_ (1) "من معارك المسلمين في رمضان" (ص 50-52) .

سنة 223 هـ فتح عمورية على يد المعتصم

درهم نفقة للجند، فاقتتلوا قتالاً عظيماً، وافتتح "الأفشين" "البذ" مدينة "بابك" واستباح ما فيها وذلك يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان وذلك بعد محاصرة وحروب شديدة وقتالٍ شديد وجهدٍ جهيد ثم بعد ذلك أمسكوا "ببابك" بعد فراره من دار ملكه. وقد كان المعتصم شديد العناية بأمر هذا اللعين الذي قتل من المسلمين في مدة ظهوره وهي عشرون سنة مائتي ألف وخمسة وخمسين ألف وخمسمائة إنسان. قاله ابن جرس وأسر خلقاً لا يحصون وكان من جملة من استنقذه "الأفشين" من أسره نحواً من سبعة آلاف وستمائة إنسان. أراح الله المسلمين من شره بعد ما افتتن به خلق كثير وجم خفير من العوام الطغام (1) . "ولقد توج المعتصم "الأفشين" (2) وقلده وشاحين من جوهر، وأطلق له عشرين ألف درهم، وكتب له بولاية "السند" وأمر الشعراء أن يدخلوا عليه ويمدحوه على ما فعل من الخير للمسلمين وعلى تخريبه بلاد بابك التي يقال لها "البذ" وتركه إياها قيعانا خراباً، فقالوا في ذلك فأحسنوا وكان من جملتهم أبو تمام الطائي قال: بذ الجلاد البذُ فهو دفينُ ... ما إن بها إلا الوحوش قطين لم يقر هذا السيف هذا الصبر ... في هيجاء إلا عزّ هذا الدينُ قد كان عذرة سؤددٍ فافتضها ... بالسيف فحل المشرق الأفشين فأعادها تعوي الثعالب وسطها ... ولقد ترى بالأمس وهي عرينُ هطلت عليه من جماجم أهلها ... ديم إمارتها طلىً وشؤون كانت من المهجات قبل مفازة ... عسراً فأضحت وهي منه معين سنة 223 هـ فتح عمورية على يد المعتصم: "في هذه السنة أوقع ملك توفيل بن ميخائيل بأهل سلطته من المسلمين وما والاها ملحمة عظيمة، قتل فيها خلقا كثيراً من المسلمين، وأسر ما لا يحصون كثرة، وكان من

_ (1) "البداية والنهاية" (ج 10/295) . (2) كان مجوسياً فكتم مجوسيته أشتهر أمره وافتضح بعد ذلك.

جملة من أسر ألف امرأة من المسلمات ومثل بمن وقع في أسره من المسلمين فقطع آذانهم وأنوفهم وسمل أعينهم -قبحه الله-. ولما بلغ ذلك المعتصم انزعج لذلك جداً وصرخ في قصره بالنفير، ثم نهض من فوره وأمر بتعبئة الجيوش واستدعى القاضي والشهود فأشهدهم أن ما يملكه من الضياع ثلثه صدقه، وثلثه لولده، وثلثه لمواليه وخرج بالجيش إعانة للمسلمين فوجدوا ملك الروم قد فعل ما فعل وشمر راجعا إلى بلاده وتفارط ولم يمكن الاستدراك فيه، فقال للأمراء أي بلاد الروم أمنع؟ فقالوا: عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام وهى عندهم أشرف من القسطنطنية" (1) فعزم على فتحها. رب وامعتصماه انطلقت ... ملء أفواه الصبايا اليتم صادفت أسماعنا لكنها ... لم تصادف نخوة المعتصم تجهّز المعتصم جهازاً لم يجهزه أحد كان قبله من الخلفاء، وأخذ معه آلات الحرب والأحمال والجمال والقرب والدواب والنفط والخيل والبغال شيئاً لم يسمع بمثله، وسار إلى عمورية في جحافل أمثال الجبال وقدم المعتصم إليها صبيحة يوم الجمعة لستٍ خلون من رمضان فدار حولها دورة ثم نزل قريباً منها، وقد تحصّن أهلها تحصيناً شديداً وملؤا أبراجها بالرجال والسلاح، وهي مدينة عظيمة كبيرة جداً ذات سور منيع وأبراج عالية كبار كثيرة، وقسم المعتصم الأبراج بالأمراء فنزل كل أمير تجاه الموضع الذي أقطعه وعينه له، ونزل المعتصم قبالة مكان هناك قد أرشده إليه بعض من كان فيها من المسلمين، وكان قد تنصّر عندهم وتزوج منهم، فلما رأى أمير المؤمنين والمسلمين رجع إلى الإسلام وخرج إلى الخليفة فأسلم وأعلمه بمكان في السور كان قد هدمه السيل وبنى بناءً ضعيفا بلا أساس، فنصب المعتصم المجانيق حول عمورية فكان أول موضع انهدم من سورها ذلك الموضع الذي دلهم عليه ذلك الأسير فبادر أهل البلد فسدوه بالخشب الكبار المتلاصقة فألحّ عليها المنجنيق لجعلوا فوقها البرادع ليردوا حرة الحجر فلم تعْن شيئاً وانهدم السور من ذلك الجانب وتفسّخ. فكتب نائب البلد إلى ملك الروم يعلمه بذلك، وبعث ذلك مع

_ (1) (البداية والنهاية) (10/289-299) .

غلامين من قومهم فلما اجتازوا الجيش في طريقهما أنكر المسلمون أمرهما فسألوهما من أنتما؟ فقالا: من أصحاب فلان لأمير سموْه من أمراء المسلمين، فحملا إلى المعتصم فقررهما فإذا معهما كتاب من "مناطس" نائب عمورية إلى ملك الروم يعلمه بما حصل لهم من الحصار، وأنه عَازم على الخروج من أبواب البلد بمن معه بغتة على المسلمين ومناجزهم القتال كائناً في ذلك ما كان. فلما وقف المعتصم على ذلك أمر بالغلامين فخلع عليهما، وأن يعطى كل غلام منهما بدرة، فأسلما من فورهما، فأمر الخليفة أن يطاف بهما حول البلد وعليهما الخلع، وأن يوقفا تحت حصن "مناطس" فينثر عليهما الدراهم والخلع، ومعهما الكتاب الذي كتب به مناطس إلى ملك الروم فجعلت الروم تلعنهما وتسبهما، ثم أمر المعتصم عند ذلك بتجديد الحرس والاحتياط والاحتفاظ من خروج الروم بغتة، فضاقت الروم ذرعاً بذلك، وألحّ عليهم المسلمون في الحصار، وقد زاد المعتصم في المجانيق والدبّابات وغير ذلك من آلات الحرب، ولما رأى المعتصم عمق خندقها وارتفاع سورها، أعمل المجانيق في مقاومة السور وكان قد غنم في الطريق غنماً كثيراً جداً ففرقها في الناس وأمر أن يأكل كل رجل رأساً ويجيء بملء جلده تراباً فيطرحه في الخندق، ففعل الناس ذلك فتساوى الخندق بوجه الأرض من كثرة ما طرح فيه من الأغنام ثم أمر بالتراب فوضع فوق ذلك حتى صار طريقاً ممهداً، وأمر بالدبابات أن توضع فوقه فلم يحوج الله إلى ذلك، وبينما الناس في الجسر المردوم إذ هدم المنجنيق ذلك الموضع المعيب فلما سقط ما بين البرجين سمع الناس هدة عظيمة فظنها من لم يرها أن الروم قد خرجوا على المسلمين بغتة، فبعث المعتصم من نادى في الناس: إنما ذلك سقوط السور ففرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً لكن لم يكن ما هدم يسع الخيال والرجال إذا دخلوا، وقوىَ الحصار وقد وكلت الروم بكل برج من أبراج السور أميراً يحفظه، فضعف ذلك الأمير (1) -وندوا- الذي هدمت ناحيته من السور عن مقاومة ما يلقاه من الحصار فذهب إلى مناطس (2) فسأله نجدة فامتنع أحد من الروم أن ينجده وقالوا: لا نترك ما نحن موكلون بحفظه.

_ (1) اسمه عند ابن جرير في تاريخه (5/241) وتفسيره بالعربية "الثور". (2) عند ابن جرير اسمه "ياطس".

سنة 264 هـ سقوط سرقوسة من جزيرة صقلية

"قال "وندوا ": إن الحرب علىّ وعلى أصحابي، ولم يبق معي أحد إلا جرح، فصيروا أصحابكم على الثلمه يرمون قليلاً وإلا افتضحتم. وذهبت المدينة فأبوا أن يمدوه بأحد" (1) . فلما يئسَ منهم خرج إلى المعتصم ليجتمع به (ليطلب الأمان على الذرية) فلما وصل إليه أمر المعتصم المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثغرة التي قد خلت من المقاتلة، فركب المسلمون وتقدموا إلى الثملة، ولم يقدر الروم على دفع المسلمين بعد أن تكاثروا ودخلوا المدينة قهراً وتتابع المسلمون إليها يكبرون وتفرقت الروم عن أماكنها فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم وقد حشروهم في كنيسة هائلة ففتحوها قسراً وقتلوا من فيها وأحرقوا عليهم باب الكنيسة فاحترقت فأحرقوا عن آخرهم، ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه النائب وهو مناطس في حصن منيع فركب المعتصم فرسه وجاء حتى وقف بحذاء الحصن الذي فيه "مناطس" فناداه المنادي ويحك يا مناطس! هذا أمير المؤمنين واقف تجاهك فقالوا: ليس بمناطس ها هنا مرتين، فغضب المعتصم من ذلك وولى فنادى مناطس: هذا مناطس ... هذا مناطس، فرجع الخليفة ونصب السلالم على الحصن وطلع عليه الحسن الرومي (2) فقال له: ويحك انزل على حكم أمير المؤمنين، فتمنع ثم نزل متقلداً سيفاً فوضع السيف في عنقه ثم جِيءَ به حتى أوقف بين يدي المعتصم فضربه بالسوط على رأسه ثم أمر به أن يمشى إلى مضرب الخليفة مهاناً إلى الوطاق الذي فيه الخليفة نازل فأوثق هناك. وأخذ المسلمون من عمورية أموالاً لا تحد ولا توصف فحملوا منها ما أمكن حمله، وأمر المعتصم بإحراق ما بقى من ذلك، وبإحراق ما هنالك من المجانيق والدبابات وآلات الحرب لئلا يتقوى بهما الروم على شيء من حرب المسلمين" (3) . سنة 264 هـ 14 رمضان سقوط سرقوسة من جزيرة صقلية: سقطت سرقوسة في يد المسلمين في 14 رمضان سنة 264 هـ 21 مارس

_ (1) "تاريخ الطبري" (5/241) . (2) اسمه من تاريخ ابن جرير (5/241) . (3) "البداية والنهاية" بتصرف (10/299-301) .

سنة 559 هـ وقعة حارم

سنة 878 م، على يد جعفر بن محمد بعد حصار دام تسعة شهور براً وبحراً، وهزم جعفراً أسطولاً رومياً جاء لنجدتها وظفر بأربع قطع بحرية منه، وكان سقوطها كارثة كبرى لبيزنطة وسياستها الحربية، فقد انهارت الجهود الجبارة التي بذلتها سنوات طويلة لإعادة النفوذ البيزنطي على ساحل البحر الأدورياتي" (1) . سنة 559 هـ وقعة حارم: "فتحت في رمضان من هذه السنة، وذلك أن الملك نور الدين محمود زنكي استغاث بعساكر المسلمين فجاؤْه من كل فجٍ ليأخذ ثأره من الفرنج فالتقى معهم على حارم فكسرهم كسرة فظيعة، وأسر البرنس بيمند صاحب أنطاكية، والقومص صاحب طرابلس، والدوك صاحب الروم، وابن جوسليق، وقتل منهم عشرة آلاف وقيل عشرين ألفاً" (2) . سنة 584 هـ رمضان فتح الكرم وصفد: بعد أن عاد صلاح الدين الأيوبي إلى دمشق في أوائل رمضان وجاءته البشائر بفتح الكرم وإنقاذه من أيدي الفرنج، وأراح الله منهم تلك الناحية، وسهل حزنها على السالكين من التجار والغزاة والحجاج (فقُطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [الأنعام: 45] . ولم يقم السلطان بدمشق إلا أياماً حتى خرج قاصداً صفد فنازلها في العشر الأوسط من رمضان، وحاصرها بالمجانيق، وكان البرد شديداً، يصبح الماء فيه جليداً، فما زال حتى فتحها صلحاً في ثمان شوال" (3) . سنة 658 هـ الجمعة 25 رمضان وقعة "عين جالوت": أو هكذا ننسى المفاخر مثلما ... يُنسي الصغير هوى الرِّضاع فِطامُ أو لم تكن في عين جالوت لنا ... همم لردع المعتدين عظَامُ

_ (1) "الكامل" (ج 6) لابن الأثير، "فتح صقلية" لشوقي خليل (ص 77) ط. دار الغد. (2) "البداية والنهاية" (12/266) . (3) "البداية والنهاية" (12/352) .

لما بلغ الملك المظفر قطز ما كان من أمر التتار بالشام المحروسة وذبحهم للمسلمين وتشريدهم وتخريب دورهم وأنهم عازمون على الدخول إلى ديار مصر بادرهم قبل أن يبادروه، وبرز إليهم وأقدم عليهم قبل أن يقدموا عليه، حتى انتهى إلى الشام، فكان اجتماعهم على "عين جالوت" يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان وهذه بشارة عظيمة فإن وقعة بدر كانت يوم الجمعة في رمضان. ولما رأى قطز عصائب التتار قال للأمراء والجيوش الذين معه: لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح، ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم. وكان قطز قد رأى في المنام وهو صغير رسول الله وقال له: أنت تملك الديار المصرية وتكسر التتار، وكان يحدث بهذا. واقتتل الفريقان اقتتالاً عظيماً، وقتل جواد قطز، فترجل وبقي واقفاً على الأرض ثابتاً، والقتال عمال في المعركة، وهو في موضع السلطان في القلب، فلما رآه بعض الأمراء ترجل عن فرسه وحلف على السلطان ليركبنها فامتنع وقال لذلك الأمير: ما كنت لأحرم المسلمين نفعك، ولم يزل كذلك حتى جاؤوه بالخيل فركب، فلامه بعض الأمراء وقالوا: يا خوند لِمَ لا ركبت فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك وهلك الإسلام بسببك، فقال: أما أنا فكنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، قد قتل فلان وفلان وفلان حتى عد خلقاً من الملوك، فأقام للإسلام من يحفظه غيرهم ولم يضيع الإسلام. وكانت النصرةُ ولله الحمد للإسلام وأهله، فهزموهم المسلمون هزيمة هائلة وقتل أمير المغول كتبغانوين وجماعة من بيته، قتله الأمير جمال الدين آقوش الشمس، واتبعهم الجيش الإسلامي يقتلونهم في كل موضع. وقد قاتل الملك المنصور صاحب حماه مع الملك المظفر قتالاً شديداً، وكذلك الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب، وكان أتابك العسكر، وقد أسر من جماعة كتبغانوين ابنه فأحضر بين يدي قطز فقال له: أهرب أبوك؟ قال: إنه لا يهرب، فطلبوه فوجدوه بين القتلى، فلما رأه ابنه صرخ وبكى، فلما تحققه المظفر سجد لله تعالى ثم قال: أنام طيباً،

فتح أنطاكية

كان هذا سعادة التتار وبقتله ذهب سعدهم، وهكذا كان كما قال ولم يفلحوا بعده أبداً وأسر الملك السعيد بن عبد العزيز بن العادل وكان يقاتل مع كتبغا فأمر المظفر بضرب عنقه. واتبع الأمير بيبرس البندقداري وجماعة من الشجعان التتار يقتلونهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب، وهرب من بدمشق منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان، فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم ويستفكون الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارة ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه، فجاوبتها دق البشائر من القلعة وفرح المؤمنون بنصر الله فرحاً شديداً، وأيّد الله الإسلام وأهله تأييداً وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين وظهر دين الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمون إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصليب فانتهبوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النار فيما حولها فاحترق دور كثيرة للنصارى، وملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً، وأحرق بعض كنيسة اليعاقبة (*) ، وهمت طائفة بنهب اليهود فقيل لهم إنهم لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان، وقتلت العامة وسط الجامع شيخاً رافضياً، كان خبيث الطوية مصانعاً للتتارعلى أموال الناس يقال له الفخر محمد بن يوسف الكنجي، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين (فقُطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [الأنعام: 45] . "رحم الله قطز فقد كان بطلاً كثير الخير ناصحاً للإسلام وأهله" (1) . فتح أنطاكية سنة 666 هـ: وهذه معركة من معارك المسلمين ضد الصليبيين أما الزمان فهو رمضان من سنة ستٍ وستين وستمائة، وأما المكان فهو الشام وبالتحديد مدينة أنطاكية، وأما القائد فهو السلطان المسلم والقائد المظفر قاهر المغول والصليبيين الظاهرُ بيبرس -رحمه الله-.

_ (*) "ثبت بأدلة قاطعة أن تحرك المغول للسيطرة على بلاد المسلمين كان بتحريض من الصليبيين وكانت هناك اتصالات بين البابا أنوسنت الرابع قبل سنة 656 هـ وبين ملوك المغول سنة 642 هـ، وبعد ذلك بثلاث سنوات أوفد لويس التاسع الناسك رجلاً آخر. وعندما دخل المغول دمشق قبل موقعة عين جالوت جعل النصارى يشربون الخمر علناً في رمضان ويرشونها على المسلمين، كما صاروا يمرون في الطرقات وهم يحملون الصليب ويجبرون المسلمين على القيام احتراماً وإجلالاً لهم" انظر "معركة شقحب للدكتور محمد لطفي الصباغ" (ص 11-15) . (1) "البداية والنهاية" (13/233-234) ، (13/238-240) .

تولى هذا القائد المسلم الحكم في دولة المماليك بُعَيد معركة "عين جالوت"، وأبدى من الأعمال والإصلاحات ما جعل المؤرخين يعدونه بحق مؤسس الدولة المملوكية في مصر والشام والحجاز. والواقع أن الظاهر بيبرس قاد أمة الإسلام وحقق الله النصر لها على يديه على عدوين قويين تحالفا من أجل القضاء على هذه الأمة ودينها، وهما المغول الوثنيون في الشرق، والصليبيون النصارى في الغرب. فالمغول في الشرق أقاموا لهم دولة في فارس والعراق، وأصبحوا يتحينون الفرص للثأر من المسلمين الذين سحقوهم في معركة "عين جالوت"، كما تحدثنا عن ذلك، فيما مضى. أما النصارى فعلى الرغم من الهزائم التي أنزلها بهم صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- فلا زالت الإمدادات تصلهم تباعاً من الدول الأوربية فتتقوى بها إماراتهم الثلاث في قلب العالم الإسلامي. وهكذا وجد سلطان المسلمين آنذاك أنه محصور بين هاتين القوتين، ومع ذلك لم يضعف ولم يستسلم، ولكنه عزم على الجهاد، هيأ درلته وشعبه لهذا الأمر العظيم، واتخذ الأسباب المعينة على هزيمة الأعداء، ووضع لنفسه منهجاً وأسلوباً عسكرياً فريداً، قوامه الصرامة في التعامل مع الأعداء، ووضع الخطط الحربية المناسبة، والسرية التامة في كل تحركاته ووجهاته حتى مع جنده وقادته، وحقق بتوفيق الله انتصارات حاسمة على المغول وعلى الصليبيين، فتهاوت أمامه المدن والقلاع وطهرها من رجس الصليبيين، وفي رمضان سنة ستٍ وستين وستمائة كان الموعد مع أنطاكية. وأنطاكية عاصمة الإمارة الصليبية التي تحمل اسمها، وهي واحدة من ثلاث إمارات صليبية ظلت باقية في العالم الإسلامي إلى ذلك الوقت، حيث أزالها المماليك بعد ذلك. سار السلطان بيبرس بجيشه نحو أنطاكية مارّاً بمدن الشام، حيث أمرَ بإبطال الخمور والمنكرات، وأمر ببناء مسجد في حمص، وهكذا كان معظم قادة المسلمين يقدمون الأعمال الصالحة قبل جهادهم، ويطهرون بلادهم من المعاصي والمنكرات لعلمهم أن ذلك هو الطريق إلى النصر المظفر بإذن الله.

وما خُذِلَ المسلمون وما هُزموا إلا بما قدمته أيديهم، ولذا كانت وصية خلفاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقادتهم هي اجتناب المعاصي والبعد عن الآثام لأنها سبب الهزائم. وصلت الجيوش الإسلامية إلى أنطاكية، وأحاطت بها من كل جانب، وكان ذلك في يوم جمعة من أيام رمضان المبارك، فكان ذلك شرف زماني عظيم تُرَجَّى فيه إجابة الدعوات، وأرسل المسلمون للنصارى يطلبون منهم الاستسلام حفظاً لأرواحهم، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، وفي يوم السبت زحفت العساكر الإسلامية وأطافت بالمدينة والقلعة على اتساعها، وقاتل أهلها قتالاً شديداً فتسوّر المسلمون الأسوار من جهة الجبل، ونزلوا المدينة فهرب أهلها إلى القلعة، وتسلم المسلمون المدينة، فقتلوا من قاتلهم، وأسروا الباقي، وكان في هذه المدينة مائة ألفٍ من الصليبيين من المحاربين. وأما القلعة فقد اجتمع فيها ثمانية آلاف من المقاتلة الأشدّاء، غير أن المسلمين ضيَّقوا عليهم فطلبوا التسليم في يوم الأحد، على أن لا يقتلوا فاستجاب لهم المسلمون وصعد السلطان الظاهر بيبرس -رحمه الله تعالى- وتسلَّم القلعة وعفا عن كل من فيها. وكُتِبَت كتب البشائر لأنحاء العالم الإسلامي بهذا النصر العظيم، والفتح الكبير وسقطت بذلك إمارة أنطاكية الصليبية، فكان ذلك إيذاناً بزوال الإمارات الصليبية كلها، وكان ملك أنطاكية خارجها فسلم لأجل ذلك، وأرسل له السلطان بيبرس كتاباً يخبره بهذا الفتح ويصف له الوقعة ويدعوه إلى الاستسلام وهذه مقتطفات منه: "وفتحناها بالسيف من يوم السبت من رمضان، وقتلنا كل من اخترته لحفظها، والمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلا وعنده شيء من الدنيا، فما بقي أحد منا إلا وعنده شيء منهم ومنها، فلو رأيت خيالتك وهم صراعى تحت أرجل الخيل، وديارك والنهابة فيها تصول، وأموالك وهي توزن بالقنطار، وإماءك فكل أربع منهن تباع فتشترى من مالك بدينار، ولو شاهدت النيران وهي في قصورك تخترق، والقتلى بنار الدنيا قبل نار الآخرة تحترق لكنت تقول: (يا ليتني كنت ترابا) [النبأ: 40] ، واستنزلنا أصحابك من الصياصي، وأخذناهم بالنَّواصي، وفرقناهم في الداني والقاصي، ولم يبق شيء يطلق عليه اسم العصيان، إلا النهر فلو استطاع لما تسمى بالعاصي، وقد أجرى دموعه ندماً" (1) .

_ (1) "من معارك المسلمين في رمضان" (ص 72-74) .

فتح أرمينيا الصغرى

وهكذا انتصر المسلمون على الصليبيين، واستعادوا منهم منطقة من مناطق العالم الإسلامي التي احتلوها قبل عشرات السنين، ومع ذلك لم ييأس المسلمون ولم يقنطوا وعملوا أسباب النصر فوهب الله لهم ذلك. فتح أرمينيا الصغرى سنة 673 هـ: موعدنا مع نصر محطم حققه المسلمون على النصارى الأرمن في شهر رمضان من سنة ثلاث وسبعين وستمائة هجرية. وأما مكان هذا النصر فهو الجنوب الشرقي من آسيا الصغرى بين جبال طوروس والبحر المتوسط. والحقيقة أن هذه المنطقة التي أطلق عليها المسلمون اسم الدرب تمثل الحدود المتاخمة لبلاد الروم، ولذا اهتم بها المسلمون منذ وقت مبكر نظراً لموقعها الاستراتيجي على أبواب دولة الروم، وأصبحت مدنها ومراكزها ثغوراً من أهم الثغور الإسلامية وأكثرها خطراً، فشحنها الخلفاء المسلمون بالرجال والسلاح، وجعلوا منها مراكز حصينة للدفاع عن أراضي المسلمين، وأصبحت تعرف بثغور الشام. واشتهر من هذه الثغور مدن طرسوسٍ، وأذنة، والمصيصة، والخلفاء مهتمون بأمرها ولا يولونها إلا شجعان القواد والراغبون في الجهاد. وبعد قرون من القوة والمنعة، أصاب هذه الثغور الضعف نتيجة عدم الاهتمام بها، واستغل الروم ذلك فهاجموها واستولوا عليها، ومنذ ذلك الوقت خرجت تلك الثغور من يد المسلمين وعادت للروم، ثم بدأت أعداد من النصارى الأرمن يستقرون فيها واستطاعوا تشكيل كيان ثابت لهم في تلك البقاع سرعان ما تحول إلى دويلة صليبية في شمال العالم الإسلامي. وحينما جاءت الحملات الصليبية إلى العالم الإسلامي فرح بها هؤلاء الأرمن وقدموا لرجالها كلّ المساعدة، وأعانوهم على المسلمين، ودلّوهم على عوراتهم، بل إن الأرمن اشتركوا بصورة مباشرة في الحرب ضدَّ المسلمين، وكانوا عليهم أشد من نصارى أوروبا وأعنف، ولا عجب فملة الكفر واحدة.

ولم يكتف الأرمن بذلك بل كان لهم أثر كبير في تشجيع المغول الوثنيين ودعوتهم لمهاجمة المسلمين، وعقد ملوك أرمينيا الصغرى تحالفاً معهم ضد المسلمين. ولما جاءت الجيويق المغولية، واكتسحت العالم الإسلامي انضمت جموع النصارى من الأرمن وغيرهم معهم، وكانوا لا يقلون عنفاً وقسوة في تعاملهم مع المسلمين. وهذا هو الذي جعل المسلمين يعدّون الأرمن "أخبث عدو للمسلمين" كما يقول أحد المؤرخين. ولكن وكما أشرنا إليه في الصفحات السابقة فإن الأمة الإسلامية كانت لا تستكين للهزيمة، ولا تستسلم للذل، وهذا هو ما يريده الله سبحانه وتعالى لها، أمة مستعلية بدينها منتصرة بعقيدتها، مستمدة أسباب ذلك منه -عز وجل-. وبعد أن أفاقت الأمة الإسلامية من هول الاكتساح المغولي بدأ حكامها في العمل على تقويتها، وأدركوا مدى الخطر العظيم الذي يمثله نصارى الأرمن على حدود الدول الشمالية، فخططوا لإخضاعهم وكسر شوكتهم، وكان ذلك في عهد السلطان المملوكي "الظاهر بيبرس". وهذا الحاكم المسلم واحد من أعظم قادة الأمة الإسلامية في التاريخ، حقق الله على يديه لأمة الإسلام انتصارات عظيمة على المغول والصليبيين. ووضع -رحمه الله- مملكة أرمينيا الصغرى نصب عينيه، وانتهز فرصة هدوء الأوضاع على جبهات القتال مع المغول والصليبيين، فكوّن جيشا عظيما هدفُه استعادة أملاك المسلمين التي استولى عليها نصارى الأرمن، ولكنه أسرََّ ذلك ولم يطلع عليه أحداً من قادته، وسار الجيش الإسلامي من مصر قاصداً الشام ثم اتجه شمالاً إلى بلاد الثغور وكان بيبرس على رأس الجيوش ووصلوا إلى تلك المناطق، ولنترك وصف مسير هذا الجيش لمؤرخ معاصر لهذه الحملة هو ابن عبد الظاهر حيث يقول: "ووصل الجيش النهرَ الأسودَ، وقطعته العساكر بمشقة، ووقف السلطان حتى عدَّى بأكثر الناس، وفرق الأمراء بجيوشهم كل واحد منهم إلى جهة، فطلعوا الجبال وما سأل أحد عن طريق، ولا بالى بمضيق، ومروا وعليهم جبال من الحديد لامعة، وسنابك الخيل تتلوى على الجبال، والأرض ترج رجّاً والجبال تبسُّ بساً وتغدو هباء منبثا".

سنة 702 هـ معركة شقحب (معركة مرج الصفر)

وتساقطت مدن الثغور الواحدة تلو الأخرى في يد المسلمين، وكان ذلك في شهر رمضان. وعيد السلطان بيبرس -رحمه الله- في مدينة "سيس" وهي كرسيُّ المملكة الأرمينية، واستولى على قصر الملك، واتجهت فرقة من الجيش المملوكي إلى مدينة "إياس" وهي ميناء أرمينية على البحر الأبيض فاستولت عليها، وفرت مجموعة من الأرمن والفرنج عبر البحر فغرقوا فيه وهكذا لم يكمُل شهر رمضان إلا والجيوش الإسلامية قد أتمت استعادة بلاد الثغر، واستحق السلطان بيبرس أن يوصف بقاهر الصليبيين والمغول. ولا غرو في ذلك فهو تلميذ صلاح الدين -رحمه الله- سار على منهجه، واتبع خطاه في الجهاد، فحقق الله على يديه النصر العظيم، وكان ذلك بعد عملٍ دؤوب وكفاح مستمر وتحقيق لعوامل النصر كما أوضحها القرآن الكريم، فالنصر دائماً مع المسلمين إن هم صدقوا الله وطبقوا شرعه وعملوا بمقتضاه. وتغنى الشعراء بهذا النصر العظيم وخلّدوه في شعرهم، يقول أحدهم: أي يوم بنصره قد حُبينا ... وبه الله قد أقرَّ العيونا يومَ جزنا بلاد سيسٍ وقلنا ... أيّ نصرٍ من ربِّنا قد جُزينا إذ تبدَّى السلطان بين نجوم ... من بني الترك يعشقون المنونا إلى أن يقول: وترامت كل البلاد وقالت: ... ليتنا مثل سيس قد غُزينا ليت جيش السلطان وافى إلينا ... ليت أنا بخيله قد وُطينا وصدق هذا الشاعر فكم من البلاد تتمنى حكم المسلمين، وتحنّ إلى عدلهم ورحمتهم (1) . سنة 702 هـ 2 رمضان 20 إبريل سنة 1303م "معركة شقحب (2) " أو معركة "مرج الصُّفر": يرى المؤرخ الأرمني أن السبب في سير هذه الحملة التي وقعت فيها معركة شقحب كان رغبة قازان حفيد هولاكو في تحطيم سلطان المسلمين في مصر واسترداد الأرض

_ (1) "من معارك المسلمين في رمضان" (ص 75-77) . (2) شقحب: عين ماء جنوب دمشق بعد قرية الكسوة على يمين الذاهب إلى حوراء.

المقدسة وتسليمها إلى النصارى، وأن قازان كان يريد السير بنفسه على رأس تلك الحملة، ولكنّ تهديد حدوده الشرقية أدى إلى أن ينيب عنه قطلوشاه التي تعاون مع النصارى ولا سيما أن الأرمن الذين كانوا يشكلون قوة كبيرة في جيش قطلوشاه، وقد استولوا على عدد من مدن المسلمين وقتلوا فيها ومثلوا ونهبوا وفعلوا الأفاعيل البالغة في الفظاعة والشناعة. وكان الرعب الذي يرافق تحركات المغول شديداً يملأ صدور الناس ويوهن قواهم. وعمل العلماء على إشراك الخليفة المستكفي بالله والسلطان الناصر محمد بن قلاوون الصالحي في مواجهة هؤلاء الغزاة وقام شيخ الإسلام بن تيمية بمهمة جسيمة في هذا المجال وجعل المرجفون يرددون: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار وتصدى ابن تيمية والعلماء لهولاء المرجفين المثبطين حتى استطاعوا أن يقنعوا الأمراء بالتصدي للتتار مهما كان الحال. واجتمع الأمراء وتعاهدوا وتحالفوا على لقاء العدو وشجعوا أنفسهم ورعاياهم، ونودي بالبلد دمشق أن لا يرحل منه أحد، وتوقدت الحماسة الشعبية وارتفعت الروح المعنوية عند العامة والجند وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية أعظم التأثير في ذلك الموقف. ثم عمل -رحمه الله- على إلهاب عواطف الأمة وإذكاء حماستها وتهيئتها لخوض معركة الخلاص، وتوجه إلى معسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم في القطيفة ما بين دمشق وحمص، فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يحلف للأمراء والناس، إنكم في هذه الكرّة منصورون. فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله) [الحج: 60] . وقد ظهرت عند بعضهم شبهات تفت في عضد المحاربين للتتار من نحو قولهم:

كيف نقاتل هؤلاء التتار وهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام.. فإنهم لم يكونوا فى طاعته في وقت ثم خالفوه؟ فردّ شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الشبهة قائلاً: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليّ ومعاوية -رضى الله عنهما- ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين وهم متلبسون بالمعاصي والظلم. فانجلى الموقف وزالت الشبهة وقال ابن تيمية: "إذا رأيتموني في ذلك الجانب -يريد جانب العدو- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني" وخرج بن تيمية من دمشق صبيحة يوم الخميس من باب النصر بدمشق وصحبته جماعة كبيرة يشهد القتال بنفسه وبمن معه. وأراد السلطان الناصر أن يقف معه بن تيمية تحت رايته في القتال، فقال له بن تيمية: السنة أن يقف تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم، وحرّض السلطان على القتال وبشره بالنصر. وأفتى بن تيمية الناس بالفطر مدة قتالهم، وأفطر هو أيضاً وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليقووا به على القتال أفضل من صيامهم. وكان عدد الجيش المغولي خمسين ألف مقاتل، وقيل إن عدده كان يصل إلى مائة ألف وكان فيه فرقتان الكرج ونصارى الأرمن. وكانت المعركة في يوم السبت 2 رمضان في سهل شقحب الذي يشرف عليه جبل غباغب وكان السلطان الناصر والخليفة المستكفي بالله والقضاة والأمراء في القلب ومر السلطان والخليفة والقراء بين صفوف الجيش وكانوا يقرؤون آيات القرآن التي تحض على الجهاد والاستشهاد وكان الخليفة يقول: دافعوا عن دينكم وعن حريمكم. ووضعت الأحمال وراء الصفوف، وأمر الغلمان بقتل من يحاول الهرب من المعركة.

والتحم القتال وثبت السلطان ابن قلاوون ثباتاً عظيماً، وأمر بجواده فقيدّ حتى يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف وصدق الله فصدقه الله وقُتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي، وثمانية من الأمراء المقدمين معه. واحتدمت المعركة، وحمي الوطيس، واستحر القتل، واستطاع المغول في بادئ الأمر أن ينزلوا بالمسلمين خسارة جسيمة فقتل من قتل من الأمراء ولكن الحال لم يلبث أن تحول بفضل الله -عز وجل-، وثبت المسلمون أمام المغول وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتغير وجه المعركة وأصبحت الغلبة للمسلمين، حتى أقبل الليل فتوقف القتال إلا قليلاً، وطلع المغول إلى أعلى جبل غباغب، وبقوا هناك طول الليل، ولما طلع النهار نزلوا يبغون الفرار بعد أن ترك لهم المسلمون ثغرة في الميسرة ليمروا منها، وقد تبعهم الجنود المسلمون وقتلوا منهم عدداً كبيراً، كما أنهم مروا بأرض موحلة وهلك كثيرون منهم فيها، وقبض على بعضهم. قال ابن كثير: "فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله -عزّ وجل-، وجعلوا يجيئون بهم من الجبال فتضرب أعناقُهم. ثم لحق المسلمون أثر المنهزمين إلى "القريتين" (1) يقتلون منهم ويأسرون ووصل التتار إلى الفرات وهو في قوة زيادته فلم يقدروا على العبور.. والذى عبر فيه هلك.. فساروا على جانبه إلى بغداد فانقطع أكثرهم على شاطيء الفرات وأخذ العرب منهم جماعة كثيرة. وفي يوم الاثنين رابع رمضان رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر. وفيه دخل شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من المجاهدين، ففرح الناس به، ودعوا له، وهنؤوه بما يسرّ الله على يديه من الخير. وفي يوم الثلاثاء خامس رمضان دخل السلطان إلى دمشق ويين يديه الخليفة، وزينت البلد، وبقيا في دمشق إلى ثالث شوال إذ عادا إلى الديار المصرية" (2) .

_ (1) وهي بلدة على طريق المسافر بين بغداد ودمشق. (2) "البداية والنهاية" (14/24-26) .

فتح جزيرة قبرص

وكان فرح السلطان الناصر والمسلمين بهذه المعركة فرحاً كبيراً، ودخل مصر دخول المظافر المنتصر يتقدم موكبه الأسرى المغول يحملون في أعناقهم رؤوس زملائهم القتلى واستقبل استقبال الفاتحين. قال ابن حجر في "الدرر الكامنة" (4/261-265) : "كانت وقعة شقحب وكان للناصر فيها اليد البيضاء من الثبات، ووقع النصر للمسلمين". يقول ابن عبد الهادي: "قد أخبرني صاحب أمير، ذو دين متين، وصدق لهجة، معروف في الدولة، قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء ونحن بمرج الصفر وقد تراءى الجمعان: يا فلان! أوقفني موقف الموت. قال: فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم، ثم قلت له: يا سيدي هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة، فدونك ما تريد. قال: فرفع طرفه إلى السماء وأشخص بصره، وحرّك شفتيه طويلاً، ثم انبعث وأقدم على القتال. وأما أنا فخيّل إليّ أنه دعا عليهم، وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة.. ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر، وانحاز التتار إلى جبل صغير، عصموا نفوسهم به من سيوف المسلمين في تلك الساعة.. وكان آخر النهار وإذا أنا بالشيخ وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما تحريضاً على القتال، وتخويفاً للناس من الفرار". قال ابن عبد الهادي "وظهر فيها من كرامات الشيخ، وإجابة دعائه، وعظيم جهاده وقوة إيمانه وشدة نصحه للإسلام، وفرط شجاعته، ونهاية كرمه، وغير ذلك من صفاته ما يفوق النعت ويجوز الوصف" (1) . فتح جزيرة قبرص في عهد المماليك سنة 829 هـ: مخرت سفن المسلمين عباب البحار للجهاد ونشر دين الله في كل منطقة يصلون

_ (1) انظر "معركة شقحب" للدكتور محمد لطفي الصباغ و"العقود الدرية" لابن عبد الهادي (ص 175-178) .

إليها، كما طوت خيلهم فلوات الأرض حتى وصلت أقصاها. وكانت جزيرة قبرص، من المناطق التي فتحها المسلمون منذ عصر مبكر حيث وصلها معاوية بن أبي سفيان -رضى الله عنه- سنة 28 هـ لتكون بعد ذلك خاضعة للمسلمين تدفع لهم الجزية كل عام، وظلت كذلك مدة من الزمن حتى إذا ضعف المسلمون بعد ذلك طمع فيهم الأعداء من نصارى أوروبا فغزوهم بجيوش جرارة متتابعة وسقطت بعض المناطق الإسلامية في أيديهم ومنها جزيرة قبرص. والحقيقة أن هذه الجزيرة بموقعها الاستراتيجي شرق البحر الأبيض المتوسط ظلت طيلة الحروب الصليبية قاعدة ينطلق منها الصليبيون لمهاجمة العالم الإسلامي، وأصبح حكامها أكثر النصارى تعصباً للحروب الصليبية ورغبة في استمرارها، ولذا ظلوا يسعون لدى ملوك أوروبا ويطلبون منهم إرسال الحملات العسكرية لتحطم العالم الإسلامي. وفي سنة 769 هـ قاد ملك قبرص حملة صليبية اتجهت نحو الإسكندرية وهاجمها في غفلة من حكامها واستطاع دخولها فأعمل السيفَ في رقاب المسلمين وقتل وأسر ونهب، وكانت مقتلة عظيمة لم يصب هذا الثغر بمثلها قبل ذلك، وعاد هذا الملك الصليبي الحاقد على الإسلام محملا بما نهب من المسلمين. وظل حكام المماليك في مصر يتحينون الفرصة للأخذ بالثأر والقضاء على خطر هذه الجزيرة ومعاقبة حكامها. وفي عهد السلطان المملوكي الأشرف برسباي (825-841 هـ) عقد هذا السلطان العزم على فتح هذه الجزيرة وأخذ يستعد لذلك بتجهيز المراكب وتجميع العساكر، وأرسل لها ثلاث حملات متتاليات في ثلاث سنوات ابتداءً من سنة 827 هـ وكلُّها في شهر رمضان. كانت الحملتان الأوليان لغرض الاستكشاف، استطاع المسلمون من خلالهما التعرف على الجزيرة ومدى قوة حكامها، كما حققوا انتصارات عليهم وعادوا محملين بالغنائم والأسرى. أما الحملة الثالثة: فكانت في شهر رمضان سنة 829 هـ وقادها أربعة من أمراء

المماليك انطلقت في عدد كبير من المراكب نحو الجزيرة، تحمل أعداداً عظيمة من المجاهدين، وقد تخلف عدد أكبر لم يجدوا ما يحملهم فحزنوا لذلك حزناً شديداً. يقول المؤرخ المعاصر لذلك الفتح ابن تغري بردي: "وعظم ازدحام الناس على كُتّاب المماليك ليكتبوهم في جملة المجاهدين في المراكب المعينَّة، حتى أنه سافر في هذه الغزوة عددٌ من أعيان الفقهاء، ولما أن صار السلطان لا يُنعم لأحد بالتوجه بعد أن استكفت العساكر، سافر جماعة من غير إذن، وأعجبُ من هذا، أنه كان الرجل ينظر في وجه المسافر للجهاد يعرفه قبل أن يسأله لما بوجهه من السرور والبشر الظاهر بفرحه للسفر، وبعكس ذلك فيمن لم يعينَّ للجهاد، هذا مع كرة من تعين للسفر من المماليك السلطانية وغيرهم، وما أرى هذا إلا أنّ الله تعالى قد شرح صدرهم للجهاد وحببهم في الغزو وقتال العدو ليقضى الله أمراً كان مفعولاً، ولم أنظر ذلك في غزوة من الغزوات قبلها ولا بعدها". وكان ليوم خروج المجاهدين نهار يجل عن الوصف، اجتمع الناس لوداعهم وابتهلوا إلى الله تعالى أن ينصرهم، ووصلت السفن الإسلامية جزيرة قبرص، ونزل المجاهدون يفتحون المدن والقرى كل ذلك في شهر رمضان المبارك، وحلت الهزائم بالنصارى واستنجدوا بملوك أوروبا فوصلت إليهم الإمدادات وتجمعت جيوشهم والتقى بها المسلمون في معركة حاسمة وكانت أعداد النصارى أضعاف عدد المسلمين، والمسلمون مع قلتهم ويسير عددهم في ثبات إلى أن نصر الله الإسلام وأُسر ملك قبرص المدعو "جانوس" وركب المسلمون أقفية النصارى يقتلون ويأسرون حتى أن قتلى النصارى يجلون عن الحصر. وتم فتح العاصمة وتوالت الانتصارات وكمل فتح الجزيرة. ثم أقام المجاهدون وأراحوا أبدانهم سبعة أيام، وهم يقيمون شعائر الإسلام من الأذان والصلاة والتسبيح وحمد الله على هذا الفتح العظيم الذي لم يقع مثله في الإسلام من يوم غزاهم معاوية بن أبي سفيان -رضى الله عنه-. وعاد المسلمون إلى مصر يحملون الأسرى وعلى رأسهم ملك قبرص وفرح المسلمون بذلك فرحاً عظيما، وحينما علم بذلك السلطان المملوكي بكى من شدة الفرح، وبكى الناس لبكائه، وصار يكثر من الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى، وانطلقت ألسن الشعراء تشيد بهذا الفتح العظيم يقول أحدهم:

فتح البوسنة والهرسك

بشراك يا مُلْكَ المليك الأشرفي ... بفتوح قبوص بالحسام المشرفي فتح بشهر الصوم تم له فيا ... لك أشرف في أشرفٍ في أشرفِ فتح تفتحت السماوات العلى ... من أجله بالنصر واللطف الحفي والله حفّ جنوده بملائك ... عاداتها التأييد وهو بها حفي وهكذا انتصر المسلمون في هذا الشهر العظيم بعد أن صدقوا في جهادهم واستعانوا بالله على أعدائهم فوفقهم ونصرهم رغم قلة عددهم وكثرة أعدائهم (1) . فتح البوسنة والهرسك سنة 791 هـ "معركة قوص أوه": سيكون الحديث عن منطقة من مناطق العالم الإسلامي تواجه أعظم هجمة صليبية في العصر الحديث، حيث يقضى على المسلمين بالقتل والأسر والتهجير، وحيث يموت الآلآف بأيدي الصليبيين أو نتيجة الجوع والعطش والمرض، حيث هم محاصرون منذ سنوات. إنها منطقة البوسنة والهرسك، نعود إليها عبر سنين مضت لنعرف كيف وصلها الإسلام وانتشر فيها، وكيف انتصر المسلمون على النصارى الصرب في ذلك الوقت، وضموها إلى بلادهم. في ذلك التاريخ كانت الدولة العثمانية في أوج قوتها وازدهارها حينما اكتسحت أوروبا الشرقية فتهاوت مدنها ودولها تحت ضربات الجيش العثماني المسلم، ووصلت طلائع هذا الجيش إلى مدينة "فيينا" لتحاصرها فترة من الزمن، ويتسابق ملوك أوروبا بإعلان الولاء والانقياد للسلاطين العثمانيين، في ذلك التاريخ كان هَم هؤلاء السلاطين الجهاد في سبيل الله ونشر كلمة التوحيد في كل مكان. لنتوقف قليلاً في عهد السلطان مراد الأول بن السلطان أورخان الغازي، فقد كان من السلاطين العظام الذين جاهدوا في سبيل الله ففتحوا المناطق الواسعة من أوروبا. ولد هذا السلطان سنة ست وعشرين وسبعمائة للهجرة، ونشأ على كريم الأخلاق، ولما شب اشترك مع والده في جهاد اليونان، فأظهر بسالة لا توصف وإقداما لفت الأنظار،

_ (1) "من معارك المسلمين في رمضان" (ص 81-83) .

وبعد وفاة والده تولى الحكم سنة إحدى وستين وسبعمائة هجرية فقضى كل سني حكمه في جهاد مستمر. كانت أول أعماله الجهادية فتح مدينة "أدِرنَه" فجعلها عاصمة لدولته وظلت كذلك حتى فتحت القسطنطينية، ثم ساق جيشه نحو البلقان فتبوأوا مدنها وافتتحوا حصونها، وأبرم معاهدة مع ملك اليونان، بيد أن هذه المعاهدة لم تستمر طويلاً؛ حيث نقضها اليونان، وهكذا استطاع السلطان مراد الأول أن يستولي على جزء كبير من أوروبا الشرقية، وأن يحيط بالقسطنطينية من جميع الجهات. وهنا اضطرب ملوك أوروبا النصارى وارتعدت فرائصهم، وأدركوا عظيم الخطر الذي تشكله هذه الدولة المسلمة الفتية، فطلبوا من البابا "أوربانوس" الخامس أن يأمر جميع الدول النصرانية أن تتحد للوقوف في وجه المسلمين، وإخراجهم من أوروبا قبل أن يجتازوا حدود البلقان وحينئذٍ لا يستطيع أحد الوقوف في وجههم فيكتسحوا أوروبا كلَّها. ولبّى البابا استغاثتهم وكتب لجميع ملوك أوروبا النصارى يأمرهم بالتأهب لمحاربة المسلمين، وأن يشنوا حرباً دينية للحفاظ على النصرانية في وجه الإسلام ولم ينتظر الملك أوروك الخامس ملك الصرب وصول الإمدادات من أوروبا، بل استعان بالدول القريبة منه وكوّن جيشا جراراً من اليونان والصرب والمجر والرومان، وسار بهم إلى عاصمة العثمانيين أدِرْنة فحاصرها، وكان السلطان مراد خارجها فعاد مسرعاً بجيشه، وهاجم النصارى بغتة حيث فوجئوا بالتهليل والتكبير وسيوف المسلمين تعلوهم فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى ولّوا الأدبار تاركين الثرى مخضبا بدمائهم، وهكذا فشلت محاولة الصرب هذه ضد المسلمين. وكان من نتيجة هذه المعركة أن تسابق حكام البلقان لإعلان الولاء للمسلمين ودفع الجزية لهم. وفي سنة إحدى وثمانين وسبعمائة تحالف ملك الصرب الجديد "لازارجر بلينانوفتش" مع ملك البلغار على مهاجمة المسلمين، لكنهما بعد عدة مناوشات تحققا

من عجزهما عن هزيمة العساكر الإسلامية، فأبرما صلحاً مع السلطان مراد، على أن يدفعا له خراجاً سنويّاً. ولم يستمر هذا الصلح طويلاً فقد نقضه النصارى، وبدأوا يعدُّون العدة لمحاربة المسلمين، إلا أن العثمانيين لم يمهلوهم فاجتاحت جيوشهم بلاد البلغار وهزمت ملكها واحتلت مدُنها، وانتهى الأمر بأسر ملك البلغار. ولما علم ملك الصرب لازار بذلك بدأ يستعد لمواجهة المسلمين فألَّف جيشاً من الصرب والبوسنة والهرسك والألبان والأفلاق والبُغدان وتعاهد الجميع على محاربة المسلمين والاستيلاء على الدولة العثمانية، وبلغ الخبر مسامع السلطان مراد فألف مجلسا للشورى والنظر في الأمر، لكن ولده بايزيد هتف قائلاً في المجلس: "الحرب الحرب والقتال القتال" فأبطل كل مشورة، ودقَّت طبول الحرب وسار الجيش الإسلامي إلى الأعداء فالتقاهم في سهل "قوص أوه" سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ونشب القتال بين الجانبين ووثب المسلمون على النصارى والتحموا معهم في القتال التحاما لم يعد ورى معه إلا جماجم طائرة وفرسان غائرة، ودويّ سلاح يدك الجبال الشامخة، وبقيت الحرب بينهما سجالاً مدةً من الزمن دافع الصليبيون الصرب خلالها دفاعاً مستميتاً، وتناثرت الرؤوس، وأزهقت النفوس، وفي أثناء المعركة انحاز صهر ملك الصرب بفرقته إلى المسلمين، ودارت الدائرة على الصربيين، وجرح ملكهم لازار، ثم وقع أسيراً في يد المسلمين، وانتصر المسلمون على الصربيين وكانت من المعارك الحاسمة في تاريخ أوروبا الشرقية، وظلَّ ذكرها شهيراً في أوروبا بأسرها، وزال استقلال الصرب وخضعت كل بلادها للمسلمين، كما فقدت البلغار استقلالها من قبل. وبعد المعركة أخذ السلطان مراد يتمشى بين الجثث وينظر إليها بعين الاندهاش، إذ قام من بينها جندي صربي اسمه "ميلوك كوبلوفتش" فطعن السلطان بخنجر طعنة قاضية، وسقط -رحمه الله- ليسلم الروح بعد قليل. وهكذا شهد سهل كوسوفو بولجي معركة (قوص أوه) الحاسمة بين المسلمين والصرب، وانتصر المسلمون انتصاراً عظيماً، وأخذ الإسلام ينتشر في تلك البقاع حتى تحولت مناطق كاملة إلى الإسلام كما هو الحال في البوسنة والهرسك وكوسفو وغيرها.

سنة 827 هـ فتح بلغراد على يد السلطان العثماني سليمان القانوني

وكما يشهد هذا انتصار المسلمين، فقد شهد أيضاً غدر الصرب الذي ذهب ضحيته سلطان المسلمين مراد، فمات أوائل شهر رمضان من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة من الهجرة -رحمه الله- وسجل التاريخ منذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا أن الصرب لا يلتزمون بعهد ولا ميثاق، ولا يعرفون في تعاملهم مع المسلمين إلا لغة القوة والبطش وسفك الدماء. واليوم وكما غدر الصرب وأعوانهم بقائد المسلمين في تلك المعركة يغدرون بالمسلمين جميعاً في البوسنة والهرسك، فيقتلون ويأسرون ويغتصبون لا يردعهم خلق ولا دين، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، والعجب كل العجب أن يقف المسلمون جميعا موقف المتفرج على هذا كله" (1) . سنة 827 هـ 25 رمضان فتح بلغراد عاصمة المجر على يد السلطان العثماني سليمان القانوني: "كان السلطان سليمان قد أرسل سفيراً إلى ملك المجر يطلب منه دفع الجزية أو الحرب، فما كان من ملك المجر (لويز الثاني) إلّا أن أمر بإعدام السفير، مما أثار غضب السلطان سليمان، فأمر بتجهيز الجيوش وجمع كل ما تتطلبه من الذخائر والمؤن، وسار هو بنفسه في مقدمة الجيش، وأرسل أحد مشاهير قواده (واسمه أحمد باشا) لمحاصرة مدينة "شابتس" (2) القريبة من بلغراد، ففتحها يوم 2 شعبان سنة 927 ص (الموافق 8 تموز - يوليو سنة 1521م) ، ووصل إليها السلطان سليمان في اليوم التالي، ثم قاد الجيوش التي كانت تقوم على حصار هذه المدينة لمساعدة وزيره (بير محمد باشا) الذي كان يحاصر مدينة بلغراد، ويضيق الخناق عليها، ودافع المجريون عن عاصمتهم دفاعاً شديداً، غير أن جند المسلمين تمكنوا من اقتحامها يوم 25 رمضان سنة 927 هـ (29 أغسطس سنة 1521م) وأخلى الجنود المجريون قلعتها، ودخلها السلطان، وصلى الجمعة في إحدى كنائسها التي حُولت فوراً إلى مسجد. وصارت هذه المدينة التي كانت أمنع حصن للمجرين ضد تقدم القوات العثمانية، أكبر مساعد لها على فتح ما وراء

_ (1) "من معارك المسلمين في رمضان" (ص 84-87) . (2) تقع إلى الشمال من بلغراد وتسمى اليوم سابوتيكا.

جهاد المسلمين في الحبشة

الدانوب من الأقاليم والبلدان. وأعلن السلطان هذا الانتصار بالكتابة إلى جميع الولاة، وإلى ملوك أوروبا، ورئيس جمهورية البنادقة، ثم عاد القسطنطينية مكللاً بالنصر والظفر على الأعداء، وأرسل إليه قيصر الروس يهنئه بالفوز والظفر، وكذلك فعل رئيسا جمهوريتي البندقية وراجوزه (1) " (2) . جهاد المسلمين في الحبشة سنة 935 هـ: موعدنا مع نصر عظيم حققه المسلمون للإسلام في بقعة كانت ولا زالت موطناً للجهاد في سبيل الله، وصلها الإسلام منذ وقت مبكر وظل ينتشر فيها وبين أبنائها حتى اعتنقه أكثرهم، فكان منهم الدعاة والمجاهدون الذين حملوا لواء هذا الدين ينشرونه ويدعون له بين بني قومهم. إنها بلاد الحبشة، دار الهجرة الأولى: التي آوت المسلمين المهاجرين فترة من الزمن. لقد انتشر الإسلام على يد هؤلاء المهاجرين، ثم توافد المسلمون إلى تلك البلاد من الحجاز واليمن، واستقروا فيها، وحملوا معهم الإسلام وتعاليمه، وأخذ ينتشر انتشاراً سلميّاً هادئاً، حتى إذا مضى قرن ونيف من الزمان تحول الساحل الحبشي إلى الإسلام وأصبح المسلمون هم سادته وحكامه. ولم يتوقف المد الإسلامي عند الساحل فقط، بل تعداه إلى الداخل في عمق الهضبة الحبشية، حيث أصبح سكان تلك المناطق من المسلمين، وتحولت قبائل كثيرة من الأحباش إلى الإسلام. وبمرور الوقت اتضح الكيان السياسي للمسلمين في الحبشة وكونوا لهم سبع ممالك إسلامية، عرفت بممالك الطراز الإسلامي، وقد تولى حكام هذه الممالك الإسلامية عبء الجهاد في سبيل الله في الحبشة. وإلى جانب هذه الممالك تقوم دولة نصرانية تتخذ من مدينة أكسوم عاصمة لها وهي الدولة التي استضاف واحد من حكامها الأوائل جموع المهاجرين المسلمين، إلا أن

_ (1) من النمسا الآن. (2) "القانوني القائد" لبسام العسلي (ص 28-29) طبع دار النفائس.

حكامها المتأخرين أظهروا العداوة للمسلمين وبدأوا يحاربونهم ويفتنونهم عن دينهم ويضيقون عليهم، وإذا كان المسلمون في أول الأمر قد كفوا عن مهاجمة الحبشة ولم يمدوا إليها موجة الجهاد الإسلامي، فإنهم اضطروا أخيراً إلى إعلان الجهاد ومهاجمة الدولة النصرانية للدفاع عن دينهم وأنفسهم وإخوانهم المسلمين. وتوالى عدد من الحكام المسلمين المجاهدين الذين قتل أغلبهم في ساحات المعارك مع النصارى، وكلما سقط واحد منهم رفع اللواء آخر، حتى آل إلى مجاهد كبير وقائد عظيم من قادة المسملمين الأحباش ذلك هو الإمام أحمد بن إبراهيم القرين أو أحمد جران كما يسميه المسلمون هناك. كان هذا الإمام ابنا لقسيس حبشي فاعتنق الإسلام وحسن إسلامه، ووجد نفسه في دولة إسلامية ضعيفة، يهيمن عليها النصارى، ويأخذون من حكامها الجزية عكس ما يدعو إليه الإسلام، فلم يستسلم لذلك بل عمل على تقوية المسلمين وذلك بالدعوة إلى الجهاد وإثارته في النفوس. واستطاع الإمام أحمد توحيد الدولة الإسلامية في الحبشة، وكان أول عمل قام به بعد ذلك هو منع دفع الجزية للملوك النصارى، وعندئذ أصبح قيام الحرب بينهم أمر لا مفر منه، وعندما تحركت جيوش الحبشة النصرانية، واجتاحت مملكة المسلمين تصدى لها الإمام أحمد وهزمها شر هزيمة، وعندئذٍ اشتعلت في نفوس المسلمين حماسة الجهاد في سبيل الله والتي كمنت في نفوسهم وقتا طويلاً. واستطاع الإمام أحمد تنظيم صفوف القبائل المسلمة في مهارة فائقة، وجعل منهم قوة ضاربة منيعة، وعندما تم له ذلك، أعلن الجهاد في سبيل الله، وحاول البعض من المسلمين اليائسين تحذيره من هذا الأمر، وأن مصيره سيكون مثل مصير الحكام السابقين الذين ماتوا في ساحات المعارك، ولكن الإمام أجابهم بأن الجهاد في سبيل الله لا يمكن أن يعود بالخسران على المسلمين. وتوالت انتصارات المسلمين في الحبشة وتوالى سقوط المدن النصرانية في أيدي المسلمين، وسيطروا على وسط الحبشة وجنوبها في مدة وجيزة، وأقبل الأحباش على

الإسلام يعتنقونه بأعداد كبيرة، حتى أن قائداً من قادتهم قد دخل بجنده في الإسلام دفعة واحدة وكان عددهم عشرين ألفاً، ويذكر أحد المؤرخين أنه لم يبق على النصرانية أكثر من العُشر وهم الذين فضلوا دفع الجزية للمسلمين. وحاول إمبراطور الحبشة جمع جيوشه المنهارة فاجتمع له عدد كبير سار بهم نحو المسلمين وعلم الإمام بذلك فسار بجيشه مسرعا والتقى العسكران الإسلامي والنصراني، وبات المسلمون يذكرون الله ويحمدونه ويسبحونه، وقام الإمام أحمد في أصحابه وقال: توكلوا على الله واعتصموا به وأشيروا عليَّ: فقالوا: الجهاد بغيتنا ومُنانا، ولا نزال نصبر لهم على الضرب والطعن حتى يحكمَ الله بيننا وهو خير الحاكمين، ففرح بقولهم وبات الجميع مستعدين للقتال، وفي صباح يوم من أيام رمضان سنة خمس وثلاثين وتسعمائة من الهجرة بدأت المعركة بين المسلمين وأعدائهم، وأبلى المسلمون بلاء حسنا وصمدوا في وجه النصارى رغم قوتهم وكثرة عددهم، وأنزل الله النصر عليهم، فانهزم النصارى هزيمة قاسية، وقتل أكثرهم وانفتح الطريق إلى عاصمتهم أكسوم فاستولى عليها المسلمون وقضوا على بقية دولتهم. هذا هو الفتح العظيم الذي حصل للمسلمين في الحبشة على يد أحمد القرين -رحمه الله- والذى حول الحبشة كلها إلى الإسلام. ولكنَّ القوى الصليبية في ذلك الوقت لم تكن لتسكت على انهيار دولة النصارى الوحيدة في العالم الإسلامي، وكان الأحباش النصارى قد استنجدوا بالبرتغال وهم سادة البحار في ذلك الوقت، فأنجدوهم بجيش قوي حديث مسلح بالمدافع، التي لا يعرفها المسلمون الأحباش في ذلك التاريخ، ودخلت القوات البرتغالية الحبشة ورحب بها النصارى وقاومها المسلمون، وحدثت معارك عنيفة بين الصليبين والمسلمين وصمد المسلمون أمامهم مدة من الزمن وكانت مدافع البرتغاليين تقصفهم بلا هوادة ولا رحمة، واستنجد المسلمون بالعثمانيين وتأخرت النجدات، وما وصل منها لم يكن ليغير ميزان القوى لضعفه وقلة تسليحه، وحلت الهزيمة بالمسلمين وقتل قائدهم أحمد القرين -رحمه الله- وبذلك تغير مجرى التاريخ في الحبشة، وعادت القوة للنصارى، واتخذت هجماتهم طابعاً من القوة والوحشية،

سنة 1393 هـ العاشر من رمضان لنصر على اليهود

وخربوا المساجد وأماكن العبادة وأفرطوا في القتل والتنكيل، وأرغموا المسلمين على اعتناق النصرانية. وهكذا أبلى هذا القائد المسلم بلاء حسنا في الجهاد، وقاد جيوشه في هضبة الحبشة ينشر الإسلام، وكان أكثر معاركه في شهر رمضان. وإلى جانب نجاحه -رحمه الله- كقائد عسكري، فقد كان نموذجاً للحاكم المسلم، يقيم الحدود، ويداوم على الفرائض، ويجلس ويلطف بالمساكين، ويرحم الصغير ويوقر الكبير، وينصر المظلوم من الظالم حتى يرد الحق إلى مكانه، ولا تأخذه في الله لومة لائم" (1) . سنة 1393 هـ العاشر من رمضان السادس من أكتوبر 1973 النصر على اليهود: منّ الله على عباده وجنوده المؤمنين في مصر بهزيمة اليهود في العاشر من رمضان وعبر المسلمون القناة وحطموا خط بارليف وعلا التكبير في كل مكان من أرض المعركة وأذل المسلمون اليهود في هذه الحرب فالنصر حليف الإيمان والطاعة. دارت على سيناء معركة الوغى ... فوق السهول وفي ربى وبطاح وكتائب الإيمان تهتف كلها ... (الله أكبر) فوق كل سلاح لتدك بارليف النيع بقوة ... طب الجراح بمبضع الجرّاح فإذا (مسليمة) اليمامة هارب ... متنكراً يعدو بمرط (سجاح) وإذا (بمائير) العجوز بمأتم ... ومناحة كبرى سوء صياح ما أفلتت دبابة من حتفها ... (كوهين) أو (شالوم) أو (مزراحي) (عساف ياجوري) أتى مستسلماً ... بفريقه أملا بيوم سراح وهناك في أعلى الهضاب مجند ... كالليث تحت لوائه الصداح (الله أكبر) زلزلت أركانهم ... وكأنما يشدو بها ابن رباح (2)

_ (1) "من معارك المسلمين في رمضان" (ص 92-95) . (2) مجلة منبر الإسلام شعر عبد الغفار الدلاش.

واليوم يعود اليهود يذبحون المسلمون وهم ساجدون في المسجد الإبراهيمي في رمضان ويا للمفارقة العجيبة: وكنا عظاماً فصرنا عظاماً ... وكنا نقوت فها نحن قوت ***

الباب التاسع حدث في رمضان

الباب التاسع حدث في رمضان

قبض موسى ورفع عيسى إلي السماء عليهما السلام

قُبض كليم الرحمن موسى عليه السلام ورفع عيسى عليهما السلام إلي السماء:- قال حريث بن مخشي -رحمه الله-: إن عليا رضي الله عنه قُتِل صبيحة إحدى وعشرين من رمضان، فسمعت الحسن بن علي -رضي الله عنه- يقول وهو يخطب، وذكر مناقب علي، فقال: "قُتل ليلة أُنزل القرآن، وليلة أسري بعيسى عليه السلام" (1) . موت أم المؤمنين خديجة في العاشر من رمضان: رضي الله عنها وأرضاها وجعل جنات الفردوس مأواها، المبشرة ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب؛ لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان. آمنت به إذ كفر به الناس، وصدقته إذ كذّبه الناس، وواسته بما لها إذ حرمه الناس، ورزقه الله ولدها إذ حرمه أولاد النساء. لم يتزوج عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ماتت إكراماً لها، وتقديراً لإسلامها سلّم الرب -عز وجل- عليها وكم لها من مقام صدق في أول البعثة. قالَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد" (2) . مصرع أبي جهل: "في هذا الشهر الكريم في السابع عشر من رمضان، سنة اثنتين للهجرة طُويت أكبر راية من رايات الجاهلية السود..... وهوى أضخم صنم من أصنام الشرك في جزيرة العرب ... لقي أبو جهل مصرعه على أيدي المسلمين في "بدر" وغيبت رمال "القليب" في جوفها السحيق أكبر طاغية عرفته جزيرة العرب" (3) . ولم تنفع اللاتُ والعزى أبا جهل، وقيل سحقاً للقوم الظالمين.

_ (1) "خبر حسن"، أخرجه الحاكم (3/143) وصححه وسكت عنه الذهبي وأسري بعيسى أي رُفع إلى السماء. (2) رواه أحمد في المسند والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. (3) "حدث في رمضان" للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا (ص 37) دار الأدب الإسلامي.

4 هـ زواج الرسول بأم المؤمنين بزينب بنت خزيمة رضي الله عنها

4 هـ: "زواج الرسول بزينب بنت خزيمة بنت الحارث التي يقال لها أم المساكين لكثرة صدقاتها عليهم وبرها لهم وإحسانها إليهم، وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا ودخل بها في رمضان. قال أبو عمر بن عبد البر: ولا خلاف أنها ماتت في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقيل لم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة حتى توفيت -رضى الله عنها- ". 5 هـ حديث الإفك: فحديث الإفك كان في منصرفهم من غزوة بني المصطلق "غزوة المريسيع" في شعبان، وفي قصة الإفك "فاشتكيت حين قدمت شهراً، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي". فالشاهد من هذا أن حديث الإفك امتد إلى رمضان يقيناً. رمضان شهر الصبر وتجلى فيه أروع صبر عرفه الوجود "صبر رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". "لقد كانت حادثة الإفك معركة خاضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك، وخاضها الإسلام، معركة ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخرج منها منتصراً كاظماً لآلامه الكبار محتفظاً بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره، فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله، والآلام التي تناوشه لعلها أعظم الآلام التي مرت في حياته، والخطر على الإسلام من تلك الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها في تاريخه. وها هو ذا يُرمى في طهارة فراشه، وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة، وها هو ذا يرمى في صيان حرمته، وهو القائم على الحرمات في أمته. ها هو ذا يرمى في كل شيء حين يُرمى في عائشة -رضى الله عنها-. يرمى في فراشه وعرضه وقلبه ورسالته، يرمى في هذا كله، ويتحدث الناس في المدينة شهراً

9 هـ قدوم وفد ثقيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

كاملاً، والله يريد لحكمة يراها أن يدع هذا الأمر شهراً كاملاً، لا يبين فيه بياناً، فأي صبر فوق صبر رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟!! وعندما تصل الآلام ذروتها يتعطف عليه ربه، فيتنزل القرآن ببراءة عائشة الصديقة الطاهرة، وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع" (1) . وكان هذا في رمضان. 9 هـ قدوم وفد ثقيف على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان: لما رآهم المغيرة بن شعبة -وكان يرعى- ذهب يشتد ليبشر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلقيه أبو بكر الصديق فأخبره عن ركب ثقيف فقال أبو بكر للمغيرة: أقسمت عليك لا تسبقني إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أكون أنا أحدثه ففعل المغيرة فدخل أبو بكر فأخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقدومهم لما قدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضربت عليهم قبه في المسجد ليكون أرق. قال ابن إسحاق: فلما أسلموا وكتب لهم أمر عليهم عثمان بن أبي العاص وكان أحدثهم سناً لأن الصديق -رضى الله عنه- قال: يا رسول الله إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن. وذكر موسى بن عقبه أن وفدهم كانوا إذا أتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلّفوا عثمان ابن أبي العاص في رحالهم فإذا رجعوا وسط النهار جاء هو إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن العلم فاستقرأه القرآن فإن وجده نائماً ذهب إلى أبي بكر الصديق، فلم يزل دأبه حتى فقه في الإسلام وأحبه رسول الله في حباً شديداً. وصام وفد ثقيف مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بقي من شهر رمضان وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتيهم كل ليلة بعد العشاء يحدثهم قائماً على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام فأكثر ما يحدثهم ما لقي من قومه من قريش. وفي قدومهم هذا "وكانوا بضعة عشر رجلاً" لما سألوه عن الربة "اللات" ما هو صانع بها؟ قال: اهدموها "قالوا: هيهات لو تعلم الربة أنك تريد أن تهدمها قتلت أهلها"، فقال عمر بن الخطاب: ويحك يا ابن عبد يا ليل ما أجهلك، إنما الربة حجر. فقالوا: إنا لم نأتك يا ابن الخطاب، ثم قالوا يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تول أنت هدمها أما نحن فإنا لن نهدمها أبداً، فقال: "سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها" فكاتبوه على ذلك. فكان

_ (1) "البداية والنهاية" (3/91-92) .

9 هـ قدوم رسول ملك حمير على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

كتاب هدم اللات في رمضان فاعظم به من نصر، فبعث رسول الله إليهم أبو سفيان بن حرب والمغيرة وخالد بن الوليد، فهدمها المغيرة بن شعبة ونساء ثقيف خسراً يبكين عليها ويقلن: لنبكين دِفاع، اسلمها الرضاع (1) لم يحسنوا المصَاع (2) . والمغيرة يقول إنما هي لكاع حجارة ومدر. وأبو سفيان يقول: -والمغيرة يضربها بالفأس- "وآهاً لك وآهاً لك" (3) . وقرّت عين الرسول -صلوات الله عليه- بإسلام "ثقيف" بعد إباء عنيد ونفور جامح دام عشرين عاما: "وتاريخ الدعوة الإسلامية، يروي لثقيف وإسلامها قصة قاتمة البداية؛ مشرقة النهاية" (4) . سنة 9 هـ من رمضان "قدوم رسول ملك حمير إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسلامهم": قال ابنُ كثير: "قال الواقدي: وكان ذلك في رمضان سنة تسع. قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتاب ملوك حمير ورسلهم بإسلامهم مقدمه من تبوك وهم الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان، وبعث إليه زرعة ذو يزن ملك بن مرة الرهاوي بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله". سنة 11 هـ ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان وفاة أم أبيها فاطمة بنت محمد عليها السلام: ثبت في الصحيح عن عائشة أن فاطمة عاشت بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ستة أشهر -رضى الله عنها-. قال ابن كثير: "يقال أنها لم تضحك في مدة بقائها بعده عليه السلام، وأنها كانت تذوب من حزنها عليه، وشوقها إليه".

_ (1) أي اللئام. (2) المصاع: الضرب. (3) "البداية والنهاية" (5/26-30) . (4) "حدث في رمضان" (ص 69) .

40 هـ استشهاد علي ابن أبي طالب

رضى الله عنها -، وتكنى أم أبيها، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه عهد إليها أنها أول أهله لحوقاً به، وقال لها مع ذلك: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة؟ وكانت أصغر بنات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المشهور ولم يبق بعده سواها، فلهذا عظم أجرها لأنها أصيبت به عليه السلام. وليس له عليه السلام نسل إلا من جهتها. سنة 40 هـ يوم الجمعة سحر السبع عشرة خلت من رمضان "استشهاد علي ابن أبي طالب": في مثل يوم بدر 17 من رمضان منّ الله باستشهاد عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين خير أهل الأرض في ذلك الزمان، أعبدهم وأزهدهم، وأعلمهم وأخشاهم لله عز وجل وقاتله أشقى الآخرين كما صح عن سيد المرسلين. سنة 58 هـ ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان وفاة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر (رضي الله عنها) أم عبد الله زوجة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأحب أزواجه إليه، المبرأة من فوق سبع سماوات -رضى الله عنها- وعن أبيها، لم يتزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكراً غيرها، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها، ولم يكن في أزواجه أحب إليه منها، وقد أتاه الملك بها في المنام في سرقة من حرير مرتين أو ثلاثا فيقول: هذه زوجتك. ولما تكلم فيها أهل الإفك بالزور والبهتان، غار الله لها فأنزل براءتها في عشر آيات من القرآن تُتلى على تعاقب الأيام. وقد أجمع العلماء على تكفير من قذفها بعد براءتها. مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يومها وفي بيتها وبين سحرها ونحرها، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته في الدنيا، وأول ساعة في الآخرة، ودفن في بيتها. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه ليهون عليّ أني رأيت بياض كف عائشة في الجنة". تفرد به أحمد (1) . وهذا في غاية ما يكون من المحبة العظيمة أنه يرتاح لأنه رأى بياض كفها أمامه في الجنة "فرضي الله عنها" (2) .

_ (1) قال الساعاتي: إسناده لا بأس به. (2) "البداية والنهاية" (8/95) .

95 هـ موت الحجاج الثقفي

سنة 95 هـ ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان موت الحجاج بن يوسف الثقفي: في أرجى الليالي لليلة القدر منّ الله على الأمة وأراحها من الغشوم الظلوم الحجاج بن يوسف الثقفي مبير هذه الأمة كما ثبت في حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكما قالت له أسماء. قال عنه عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأم فجاءت كل أمة بخبيثها، وجئنا بالحجاج لغلبناهم. قال ابن كثير: الحجاج أعظم ما نقم عليه وصح من أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله -عز وجل-. لما بشر الحسن البصري بموت الحجاج سجد شكراً لله تعالى. وأخبر طاووس بموت الحجاج مراراً فلما تحقق وفاته قال: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [الأنعام: 45] (1) . وهذه منة من الله تعالى عظيمة حدثت في ليلة عظيمة من شهر عظيم. استشهاد عبد الرحمن الغافقي في رمضان سنة 114 هـ: استشهد هذا البطل في معركة "بلاط الشهداء" أو "تور بواتيه"، "يمكننا القول: إن عبد الرحمن هو أقدر قائد عسكري عرفته الأندلس في عصر الولاة، ومع قلة الأخبار التي وصلت إلينا عنه إلا أننا نستشف منها عظيم تقدير المؤرخين له وثناءهم عليه" (2) . هو القائد المسلم الذي تتحدث المصادر النصرانية عن شجاعته النادرة وبقدرته الحربية العظيمة.. هو القائد الذي يقول "إن السماوات والأرض لو كانتا رتقا لجعل الله للمتقين منها مخرجا..". هو القائد الذي زحف بسبعين إلى مائة ألف مقاتل عبر جبال البرانس إلى وسط أوروبا، فاستولى على مدينة آرل، ودوقية أقطانية، وهزم الدوق هزيمة قاسية، واستولى على مدينة تور، وفي تور بواتيه يلقى ربه شهيدا بعد أن كانت الغلبة له في بداية الأمر.

_ (1) "البداية والنهاية" (9/143-146) . (2) "معارك المسلمين في رمضان" (ص 54، 55) .

132 هـ قيام الدولة العباسية

موت الإمام المحدث محمد بن شهاب الزهري أول من دوّن الحديث النبوي: "قال ابن سعد وخليفة والزبير: مات لسبع عشرة خلت من رمضان سنة أربع وعشرين ومائة" (1) . قيام الدولة العباسية سنة 132 هـ: بعد دخول أبي العباس عبد الله أول الخلفاء العباسيين دمشق. موت شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك وموت إمام الشافعية الإمام المزني كان في رمضان (2) . 221 هـ نصر أهل السنة في محنة خلق القرآن: وفيها نصر الله أهل السنة في محنة خلق القرآن بثبات إمامهم أحمد بن حنبل في العشر الأخير من رمضان رغم حبسه الطويل والضرب الشديد والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب، وقلة مبالاة أحمد بذلك وصبره وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم، فهيأه الله بما آتاه لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أوليائه. تخلعت يداه وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربه سوطين، ويقول المعتصم: شد قطع الله يديك، ويجيء الآخر فيضربه سوطين، ثم الآخر كذلك، فضربوه أسواطاً فأُغمى عليه وذهب عقله مراراً فأطلقوه في يوم الخامس والعشرين من رمضان سنة 221 فلم يشعر إلا وهو في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجله. وأتوه -رحمه الله- بسويق ليفطر فامتنع من ذلك وأتم صومه. يرحم الله بن حنبل وما أجمل ما قاله البخاري: "لما ضرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة فسمعت أبا الوليد الطيالسي يقول: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان أحدوثة".

_ (1) "سير أعلام النبلاء" (5/350) . (2) انظر "سير أعلام النبلاء" ترجمة ابن المبارك والإمام المزني.

وقال المزني: أحمد بن حنبل يوم المحنة، وأبو بكر يوم الردة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعليّ يوم الجمل وصفين". إن ابن حنبل إن سألت إمامنا ... وإن الأئمة في الأنام تمسكوا خلف النبي محمد بعد الألى ... خلفوا الخلائف بعده واستهلكوا حذو الشراك على الشراك وإنما ... يحذو المثال مثالهُ المستمسك (1) ***

_ (1) "البداية والنهاية" (9/143-146) .

الباب العاشر أسرار الصوم وشروطه الباطنة

الباب العاشر أسرار الصوم وشروطه الباطنة "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش" جزء من حديث صحيح

"اعلم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص". * أما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة. * وأما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. * وأما صوم خصوص الخصوص: "فصوم القلب عن الهضم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله بالكلية. فهو إقبال بكل الهمة على الله عز وجل وانصراف عن غير الله سبحانه" (1) . يقول العلامة ابن رجب: "الطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عمّا سوى الله، فيحفظ الرأس وما حَوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته" (2) . أهل الخصوص من الصُوّام صومهم ... صون اللسان عن البهتان والكذب والعارفون وأهل الأنس صومهم ... صون القلوب عن الأغيار والحجب العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر، هممهم أجل من ذلك. كبرت همة عبد ... طمعت في أن تراك من يصم عن مفطرات ... فصيامي عن سواك * من صام عن شهواته أدركها غداً في الجنة، ومن صام عمّا سوى الله فعيده يوم لقائه (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت) [العنكبوت:5] . وقد صمت عن لذات دهري كلها ... ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي يا معشر التائبين: صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء

_ (1) "إحياء علوم الدين" (1/277) . (2) "لطائف المعارف" (ص 168-169) .

قد اقترب. إن يوماً جامعاً شملي بهم ... ذاك عيدي ليس لي عيد سواه صوم الصالحين: كف الجوارح عن الآثام وتمامه بستة أمور: الأول: غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره، وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله -عز وجل-. قال تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ... ) [النور: 30-31] . أدب نفسي واستعلاء على الرغبة وطهر للمشاعر، وارتفاع وعلو عن عدم الارتكاس إلى الدرك الحيواني الهابط، وإغلاق للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية وثمرته حفظ الفرج. عن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نظرة الفجأة فقال: اصرف بصرك (1) . يا أخي: كان عيسى -عليه السلام- يقول: النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها خطيئة. أخي: من أطلق طرفه كان كثيراً أسفه. فحذار أخي من فضول النظر فضلاً عن النظر إلى الشيطان المرئي المسمى بالتلفاز ويكفي ما فيه من فتن المارقات العاصيات ونظراتهن الجائعة الجاهرة المتلصصة الهاتفة المثيرة التي تثير كوامن الفتنة في صدور الرجال. نظرات خائنة وتكشّف وعري وتنزي كما تتنزى البهيمة، وتهتف للذكور حينما كانت هتاف الحيوان بالحيوان.

_ (1) رواه مسلم: وهو من أفراده.

لواحظنا تجني ولا علم عندها ... وأنفسنا مأخوذة بالجرائر ولم أر أغبى من نفوس عفائف ... تصدق أخبار العيون الفواجر ومن كانت الأجفان حُجّاب قلبه ... أذِنّ على أحشائه بالفواقر ولله در من يقول: وأنا الذي اجتلب النية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل وانظر يا أخي إلى أخبار من مضى، قال أبو الأديان: كنت مع أستاذي أبي بكر الدقاق فمر حدث فنظرت إليه، فرآني أستاذي وأنا أنظر إليه فقال: يا بني لتجدنّ غبها ولو بعد حين. فبقيت عشرين سنة وأنا أراعي الغِبّ، فنمت ليلة وأنا متفكر فيه فأصبحت وقد نسيت القرآن كله (1) . "عن أحمد بن سعيد العابد عن أبيه قال: كان عندنا بالكوفة شاب متعبد لازم المسجد الجامع لا يكاد يفارقه، وكان حسن الوجه حسن القامة حسن السمت، فنظرت إليه امرأة ذات جمال وعقل فشغفت به وطال عليها ذلك، فلما كان ذات يوم وقفت له على الطريق وهو يريد المسجد فقالت له: يا فتى اسمع مني كلماتٍ أكلمك بها ثم اعمل ما شئت، فمضى ولم يكلمها، ثم وقفت له بعد ذلك على طريقه وهو يريد منزله فقالت له: يا فتى اسمع مني كلمات أكلمك بها، فأطرق ملياً وقال لها: هذا موقف تهمة وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعاً، فقالت له: والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك ولكن -معاذ الله- أن يتشوف العباد إلى مثل هذا مني، والذي حملني على أن لقيتك في مثل هذا الأمر بنفسي لمعرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثير، وأنتم -معاشر العباد- على مثال القوارير أدنى شيء يعيبها، وجملة ما أقول لك: إن جوارحي كلها مشغولة بك فالله الله في أمري وأمرك، قال: فمضى الشاب إلى منزله وأراد أن يصلي فلم يعقل كيف يصلي! فأخذ قرطاساً وكتب كتاباً ثم خرج من منزله وإذا بالمرأة واقفة في موضعها فألقى الكتاب إليها ورجع إلى منزله، وكان فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: اعلمي أيتها المرأة أن الله -عزّ وجل- إذا عصاه العبد حلم، فإذا عاد إلى المعصية مرة أخرى ستره، فإذا لبس لها

_ (1) "التبصرة" (1/161) .

ملابسها غضب الله تعالى لنفسه غضبة تضيق منها السماوات والأرض والجبال والشجر والدواب فمن ذا يطيق غضبه، فإن كان ما ذكرت باطلاً فإني أذكرك يوماً تكون السماء فيه كالمهل، وتصير الجبال كالعهن، وتجثو الأم لصولة الجبار العظيم، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي فكيف بإصلاح غيري؟ وإن كان ما ذكرت حقاً فإني أدلك على طبيب هدى يداوي الكلوم الممرضة والأوجاع المرمضة ذلك الله رب العالمين فاقصديه بصدق المسألة، فإني مشغول عنك بقوله تعالى: (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) [غافر: 18-19] فأين المهرب من هذه الآية؟!. ثم جاءت بعد ذلك بأيام فوقفت له على الطريق فلما رآها من بعيد أراد الرجوع إلى منزله كيلا يراها، فقالت: يا فتى لا ترجع فلا كان الملتقى بعد هذا اليوم أبداً إلا غداً بين يدي الله تعالى، ثم بكت بكاءً شديداً وقالت: أسأل لك الله الذي بيده مفاتيح قلبك أن يسهل ما قد عسر من أمرك، ثم إنها تبعته وقالت: امتن عليّ بموعظة أحملها عنك وأوصيني بوصية أعمل عليها، فقال لها: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك، وأذكرك قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار) [الأنعام: 60] قال: فأطرقت وبكت بكاءً شديداً أشد من بكائها الأول، ثم إنها أفاقت ولزمت بيتها وأخذت في العبادة فلم تزل على ذلك حتى ماتت كمداً، فكان الفتى يذكرها بعد موتها ثم يبكي، فيقال له: مم بكاؤك وأنت قد أيأستها من نفسك؟ فيقول: إني قد ذبحت طمعها في أول أمرها، وجعلت قطيعتها ذخيرة لي عند الله تعالى، فأنا استحي منه أن استرد ذخيرة ادخرتها عنده تعالى" (1) . فقل للناظرين إلى المشتهى في ديارهم، هذا أنموذج من دار قرارهم، فإن استعجل أطفال الهوى قدارِهم، وعِدْهمُ قرب الرحيل إلى ديارهم (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) [النور: 30] . الثاني: حفظ اللسان: عن فضول الكلام والهذيان والخوض في الباطل والمراء والجدال والخصومة والكذب والنميمة والفحش والجفاء والمراء والسب وبذاءة اللسان

_ (1) "إحياء علوم الدين" (3/114-115) .

واللعن والسخرية والاستهزاء وإلزامه السكوت والصمت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن فهذا صوم اللسان. فمن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخي العنان سلك به الشيطان في كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم. وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت" (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجمل الخلائقُ بمثلهما" (2) . وقال الحسن: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه. وقال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم. وليتدبر الإنسان قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ق 18] . قال الحسن: يا ابن آدم قد بسطت لك صحيفة ووكل بها ملكان كريمان يكتبان أعمالك فاعمل ما شئت وأكثر وأقل. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة" (3) . وكان علقمة يقول: كم من كلام منعنيه حديث بلال بن الحارث وليعلم العبد أن الموت بين يديه، وأنه مسؤول عن كل كلمة، وأن أنفاسه رأس ماله، وأن لسانه شبكة يقدر أن يقتنص بها الحور العين فإهماله ذلك وتضييعه خسران مبين.

_ (1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. (2) حسن: رواه ابن أبي الدنيا، والبزار، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس، وأبو الشيخ عن أبي ذر وأبي الدرداء وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4048) . (3) رواه مالك وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن بلال بن الحارث وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1619) .

وليعلم العبد أن "الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم هو ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة". فأما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر. * وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول والاشتغال به تضييع زمان وهو عين الخسران. فلا يبقى إلا القسم الرابع، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر إذ يمتزج بما فيه إثم من دقيق الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجاً يخفي دركه فيكون الإنسان به مخاطراً" (1) . وفصل الخطاب قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صمت نجا" صلى الله على من أوتي جواهر الحكم وجوامع الكلم، ولا يعرف ما تحت آحاد كلماته من بحار المعاني إلا خواصُ العلماءِ. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم" (2) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام جُنة من النار، فمن أصبح صائماً فلا يجهل يومئذ، وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه ولا يسبه، وليقل إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (3) . وعند البخاري من حديث أبي هريرة قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب (4) ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم...." الحديث. قال الحافظ في "الفتح" (4/126) : (فلا يرفث) بالضم والكسر ويجوز في ماضيه التثليث: والمراد بالرفث هنا: وهو

_ (1) رواه أحمد والترمذي عن ابن عمرو وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6367) . (2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة. (3) صحيح: رواه النسائي عن عائشة وصححه السيوطي والألباني في "صحيح الجامع" رقم (3878) . (4) للأكثر بالصاد، ولبعضهم بالسين وهو بمعناه: والصخب: الخصام والصياح.

بفتح الراء والفاء: الكلام الفاحش، "وهو يطلق على هذا وعلى الجماع وعلى مقدماته وعلى ذكره مع النساء أو مطلقاً" (1) ، ويحتمل أن يكون لما هو أعم منها. (ولا يجهل) أي لا يفعل شيئاً من أفعال أهل الجهل كالصياح والسفه ونحو ذلك. ولسعيد بن منصور من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه "فلا يرفث ولا يجادل" قال القرطبي: لا يفهم من هذا أن غير الصوم يباح فيه ما ذكر، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم". قال المناوي: "لا يفعل خلاف الصواب من قول أو فعل، فهو أعم مما قبله، أو لا يعمل بخلاف ما يقتضيه العلم" (2) . (وإن امرؤ قاتله أو شاتمه) (3) : قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/126) : "اتفقت الروايات كلها على أنه يقول: "إني صائم" فمنهم من ذكرها مرتين، ومنهم من اقتصر على واحدة، وقد استشكل ظاهره بأن المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين، والصائم لا تصدر منه الأفعال التي رتب عليها الجواب خصوصاً المقاتلة، والجواب عن ذلك بأن المراد بالمفاعلة التهيؤ لها، أي إن تهيأ أحد لمقاتلته أو مشاتمته فليقل إني صائم، فإنه إذا قال ذلك أمكن أن يكف عنه، فإن أصر دفعه بالأخف فالأخف كالصائل، هذا فيمن يروم مقاتلته حقيقة، فإن كان المراد بقوله "قاتله" شاتمه لأن القتل يطلق على اللعن واللعن من جملة السب -ويؤيده ما ذكرت من الألفاظ المختلفة فإن حاصلها يرجع إلى الشتم- فالمراد من الحديث: أن لا يعامله بمثل عمله بل يقتصر على قوله "إني صائم". واختلف في المراد بقولها "فليقل إني صائم" هل يخاطب بها الذي يكلمه بذلك أو

_ (1) من قول أبي زرعة. (2) "فيض القدير" (4/424) . (3) في رواية صالح "فإن سابه أحد أو قاتله" وعند سعيد بن منصور "فإن سابه أحداً أو ماراه" ولابن خزيمة من حديث أبي هريرة "فإن سابك أحد فقل إني صائم" وإن كنت قائماً فاجلس" وللنسائي من حديث عائشة "وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه ولا يسبه".

يقولها في نفسه؟ وبالثاني جزم المتولي ونقله الرافعي عن الأئمة، ورجّح النووي الأول في "الأذكار"، وقال في "شرح المهذب" كل منهما حسن، والقول باللسان أقوى ولو كان جمعهما لكان حسناً، ولهذا التردد أتى البخاري في ترجمته بالاستفهام فقال: "باب هل يقول إني صائم إذا شتم؟ "، وقال الروياني: إن كان رمضان فليقل بلسانه، وإن كان غيره فليقله في نفسه. وادعى ابن العربي أن موضع الخلاف في التطوع. وأما الفرض فيقوله بلسانه قطعاً. وأما تكرير قوله "إني صائم" فليتأكد الانزجار منه أو ممن يخاطبه بذلك، ثم قال ابن حجر: "المراد بالمفاعلة -قاتله- إرادة غير الصائم ذلك من الصائم، وقد تطلق المفاعلة على التهيؤ لها ولو وقع الفعل من واحد، وقد تقع المفاعلة بفعل الواحد كما يقال لواحد عالج الأمر وعافاه الله". قال المناوي: "فليقل بلسانه إني صائم عن مكافأتك أو عن فعل ما لا يرضاه من أصومُ له بحيث يسمعه الصائم وجمعه بين اللسان والجنان أولى فيذكر نفسه بإحضاره صيامه بقلبه ليكف نفسه وينطق بلسانه لينكف عنه خصمه". قال ابن القيم: "أرشد إلى تعديل قوي الشهوة والغضب وأن على الصائم أن يحتمىَ من إفسادهما لصومه فهذه تفسد صومه وهذه تحبط أجره" (1) . * وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" (2) . وعند ابن ماجه قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يدع قول الزور، والجهل، والعمل به، فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه" (3) . والضمير "به" في الأول يعود على قول الزور، وفي الثاني يعود على الجهل. والمراد بقول الزور: الكذب، والجهل: السفه، والعمل به: أي بمقتضاه.

_ (1) " فيض القدير" للمناوي (1/424) . (2) رواه البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي. قال ابن حجر "زاد في نسخة الصغاني" في الصوم. (3) صحيح: صححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" رقم (1370) ، و"صحيح أبي داود" (2045) .

وفي حديث أنس عند الطبراني في "الأوسط" "من لم يدع الخنا والكذب". قال ابن حجر: ورجاله ثقات. "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". "قال ابن بطال: ليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه، وإنما معناه التحذير من قول الزور وما ذكر معه". وقال ابن الكمال: هذا وما أشبهه يتفرع على الكناية أي ليس له اعتبار عند الله. وقال الزين العراقي: أي ليس مطلوب له. وقال ابن حجر: "معناه فليس لله إرادة في صيامه فوضع الحاجة موضع الإرادة، وقد سبق أبو عمر بن عبد البر إلى شيء من ذلك. قال ابن المنير في الحاشية: بل هو كناية عن عدم القبول كما يقول المغضب لمن ردّ عليه شيئاً طلبه منه فلم يقم به: لا حاجة لي بكذا، فالمراد ردّ الصوم المتلبس بالزور وقبول السالم منه. قال ابن العربي: مقتضى هذا الحديث أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صيامه، ومعناه أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه. وقال البيضاوي: ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر المقبول، فنفى السبب وأراد المسبب والله أعلم. واستدل به على أن هذه الأفعال تنقص الصوم، وتعقب بأنها صغائر تكفر باجتناب الكبائر. والرفث والصخب وقول الزور والعمل به مما علم النهي عنه مطلقاً، والصوم مأمور به مطلقاً، فلو كانت هذه الأمور إذا حصلت فيه لم يتأثر بها لم يكن لذكرها فيه مشروطة فيه معنى يفهمه، فلما ذكرت في هذين الحديثين نبهتنا على أمرين: أحدهما: زيادة قبحها في الصوم على غيرها، والثاني: البحث على سلامة الصوم عنها وأن سلامته منها صفة كمال فيه، فمقتضى ذلك أن الصوم يكمل بالسلامة منها، قال: فإذا لم يسلم عنها نقص. ثم قال: ولا شك أن التكاليف قد ترد بأشياء وينبه بها على أخرى بطريق الإشارة، وليس المقصود من الصوم العدم المحض كما في المنهيات لأنه يشترط له النية بالإجماع، ولعلّ القصد به في الأصل الإمساك عن جميع المخالفات، لكن لما كان ذلك يشق خفف الله وأمر

بالإمساك عن المفطرات، ونبه الغافل بذلك على الإمساك عن المخالفات، فيكون اجتناب المفطرات واجباً، واجتناب ما عداها من المخالفات من المكملات والله أعلم" (1) . قال المناوي: "قال الطيبي فيه دليل على أن الكذب والزور أصل الفواحش ومعدن النواهي بل هو قرين الشرك قال تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) [الحج: 30] ، وقد علم أن الشرك مضاد الإخلاص وللصوم مزيد اختصاص بالإخلاص فيرتفع بما يضاده" (2) . الغيبة والصيام: قال ابن حجر: "الغيبة تضر بالصيام، وقد حكي عن عائشة، وبه قال الأوزاعي: إن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم. وأفرط ابن حزم فقال: يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه سواء كانت فعلاً أو قولاً، لعموم قوله "فلا يرفث ولا يجهل"، وقوله: "من لم يدع ... "، والجمهور وإن حملوا النهي على التحريم إلا أنهم خصوا الفطر بالأكل والشرب والجماع" (3) . قال أبو العالية: "الصائم في عبادة وإن كان راقداً على فراشه ما لم يغتب" (4) فكانت حفصة تقول: "يا حبذا عبادة وأنا نائمة على فراشي" (5) . قال العلامة ابن رجب: وفي حديث آخر "ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث"، وقال الحافظ أبو موسى المديني على شرط مسلم. قال بعض السلف: "أهون الصيام ترك الشراب والطعام". وقال جابر: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء".

_ (1) "فتح الباري" (4/140/141) . (2) "فيض القدير" (6/224) . (3) "فتح الباري" (4/125-126) . (4) رواه عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" وهو صحيح موقوف عل أبي العالية. (5) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، ونقل ذلك ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص 165) .

إن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل. وإن كان صومه مجزئاً عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختص به هذا هو أصل قول جمهور العلماء، ولهذا المعنى والله أعلم ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام والشراب. على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل، فإن تحريم هذا عام في كل زمان ومكان بخلاف الطعام والشراب إلى أنّ من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار صومه فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل فإنه محرم بكل حال لا يباح في وقت من الأوقات" (1) . * قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" (2) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رب قائم حظه من قيامه السهر، ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش" (3) . قال الغزالي: "قيل هو الذي يفطر على حرام، أو من يفطر على لحوم الناس بالغيبة، أو من لا يحفظ جوارحه عن الآثام". قال المناوي: "أما الفرض فيسقط والذمة تبرأ بعمل الجوارح فلا يعاقب عقاب ترك العبادة بل يعاتب أشد عتاب حيث لم يرغب فيما عند ربه من الثواب" (4) . الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه: لأن كل ما حُرّم قوله حُرِّم الإصغاء إليه، ولذلك سوى الله -عز وجل- بين المستمع

_ (1) "لطائف المعارف" (ص 163، 164) . (2) صحيح: رواه ابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه أيضاً النسائي، وصححه السيوطي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (رقم 3488) . (3) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" عن ابن عمر، وأحمد والحاكم والبيهقي في سننه عن أبي هريرة، قال المناوي: "قال الحافظ العراقي إسناده حسن، وقال تلميذه الهيثمي: رجاله موثقون" وصححه السيوطي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3490) . (4) "فيض القدير" (4/16) .

وآكل السحت، فقال تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت) [المائدة: 42] ، وقال عز وجل: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت) [المائدة: 63] . ولله در الشاعر: إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... وفي بصري غض وفي منطقي صمتُ فحظي إذاً من صومي الجوع والظما ... فإن قلت إني صمت يومي فما صمتُ الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام: كف اليد والرِجل عن المكاره، وكفّ البطن عن الشهوات وقت الإفطار. فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام. فمثال هذا الصائم مثال من يهدم قصراً ويبني مصراً، فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته لا بنوعه، فالصوم لتقليله، وتارك الاستكثار من الدواء خوفاً من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيهاً. والحرام سم مهلك للدين. والحلال دواء ينفع قليله، ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله. الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار: لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتليء جوفه، فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن مليء من حلال، وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره وربما يزيد عليه في ألوان الطعام حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر. ورقة القلب وصفاؤه إِنما تكون بترك الشبع. قال الجنيد: يجعل أحدهم بينه وبين صدره مخلاة من الطعام ويريد أن يجد حلاوة المناجاة. - عند أكل الصالحين تنزل الرحمة. - حق للمرء أن يتناول الطعام تناول مضطر عالم بقذارة مآله، "وأن يرى إدخاله في نفسه كدخول المستراح، ويتحقق أن نسبة الإنسان إلى الثمار والفواكه نسبة الجعل إلى الروث، فلو نطق الشجر لقال لك أنت تأكل فضالتي، كما يأكل الجعل فضالتك،

والخنزير إذا استطاب لفاظة الإنسان فما هو إلا كاستطابتنا لفاظة الشجر" (1) . - حسب ابن آدم لقيمات وذلك دون عشر لقيمات لأن جمع القلة بالألف والتاء لما دون العشرة. ومن أكل كثيراً نام كثيراً فخسر كثيراً، وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجّد، وإن تهجد لم يجد حلاوة العبادة. يقول الحسن: "حتى إذا أخذته الكظة ونزلت به البطنة قال: يا غلام ائتني بشيء أهضم به طعامي، يا لكع أطعامك تهضم؟ إنما تهضم دينك". ومن أخلى معدته من الطعام فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته من غير الله عز وجل وذلك هو الأمر كله. السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً بين الخوف والرجاء (2) : إذ ليس يدري أيُقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين؟ وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها. فقد رُوي عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون فقال: "إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، يستبقون فيه لطاعته فسبق قوم ففازوا، وتخلف قوم فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون. أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته" أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب، وحسرة المردود تسدّ عليه باب الضحك. وعن الأحنف بن قيس: "أنه قيل له إنك شيخ كبير وإن الصيام يضعفك، فقال: إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذابه. فهذه هي المعاني الباطنة في الصوم". فالمقصود من الصوم: قمع الشهوات والارتفاع إلى أعلى عليين. والالتحاق بأفق

_ (1) "الذريعة إلى مكارم الشريعة" (ص 311) . (2) هذه الشروط الستة ذكرها الغزالي في "الإحياء" (1/275-280) .

الملائكة، والملائكة مقربون من الله عز وجل، والذي يقتدي بهم ويتشبه بهم يقرب من مولاه كقربهم، فإن الشبيه من القريب قريب، فإذا علمت هذا فأي جدوى لتأخير أكلة وجمع أكلتين عند العشاء مع الانهماك في الشهوات الأخرى طول النهار. قال أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف لا يعيبون صوم الحمقى وسهرهم، ولذرة من ذوي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترين. ولذلك قال بعض العلماء: كم من صائم مفطر، ومفطر صائم ومن فهم معنى الصوم وسره علم أن مثل من كفّ عن الأكل والجماع وأفطر بمخالطة الآثام وإطلاق الجوارح كمن مسح على عضو من أعضائه في الوضوء ثلاث مرات وترك الغسل فصلاته مردودة عليه. وجمع بين هذه المعاني وبين الواجبات الظاهرة في الصوم فقد جمع الأصل والفضل وهو الكمال. الصوم على أربعة أنواع. قال الحافظ ابن حجر: "نقل بن العربي عن بعض الزهاد أن الصوم على أربعة أنواع: 1- صيام العوام: وهو الصوم عن الأكل والشرب والجماع. 2- وصيام خواص العوام: وهو هذا مع اجتناب المحرمات من قول أو فعل. 3- وصيام الخواص: وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته. 4- وصيام خواص الخواص: وهو الصوم عن غير الله فلا فطر لهم إلى يوم القيامة، وهذا مقام عالٍ" (1) ا. هـ. قال ابن الجوزي: "الصوم ثلاثة: صوم الروح وهو قصر الأمل، وصوم العقل وهو مخالفة الهوى، وصوم الجوارح وهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع" (2) . وقال: "وما من جارحة في بدن الإنسان إلا ويلزمها الصوم في رمضان وغير رمضان، فصوم اللسان ترك الكلام إلا في ذكر الله تعالى، وصوم السمع ترك الإصغاء

_ (1) "فتح الباري" (4/131-133) . (2) "بستان الواعظين" (ص 316، 317) .

إلى الباطل وإلى ما لا يحلّ سماعه، وصيام العينين ترك النظر والغض عن محارم الله" (1) . ذم أعرابي قوماً فقال: يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفواحش. * وفي "رسالة الحقوق" لعلي زين العابدين: "حق الصوم أن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك، وفرجك وبطنك، ليسترك به من النار، وهكذا جاء في الحديث "الصوم جنة من النار". فإن سكنت أطرافك في حجبتها ورجوت أن تكون محجوباً، وإن أنت تركتها تضطرب في حجابها وترفع جنبات الحجاب فتطلع إلى ما ليس لها بالنظرة الداعية للشهوة، والقوة الخارجة عن حدّ التقية لله لم تأمن أن تخرق الحجاب، وتخرج منه، ولا قوة إلا بالله. فإن تركت الصوم خرقت ستر الله عليك" (2) . * "عن طليق بن قيس، قال، قال أبو ذر: "إذا صمت فتحفّظْ ما استطعت، فكان طليق إذا كان يوم صومه دخل ولم يخرج إلا للصلاة" (3) . قالوا: "صوم القدمين كفهما عن البطش والسعي إلى ما يكتب عليهما وزره ويبقى قبلهما تباعته وإثمه". الشهور كأولاد يعقوب: "قيل الشهور الاثنى عشر كمثل أولاد يعقوب عليه وعليهم السلام. وشهر رمضان بين الشهور كيوسف بين إخوته، فكما أن يوسف أحب الأولاد إلى يعقوب، كذلك رمضان أحب الشهور إلى علّام الغيوب. نكتة حسنة لأمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن كان في يوسف من الحلم والعفو ما غمر جفاهم حين قال (لا تثريب عليكم اليوم) [يوسف: 92] ، فذلك شهر رمضان فيه من الرأفة والبركات والنعمة والخيرات، والعتق من النار، والغفران من الملك القهار، ما يغلب جميع الشهور.

_ (1) "بستان الواعظين" (ص 300، 301) . (2) "عليّ زين العابدين" (ص 107) . (3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/3) ، باب: ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب.

جاء أخوة يوسف معتمدين عليه في سد الخلل، وإزاحة العلل بعد أن كانوا خطايا زلل، فأحسن لهم الإنزال، وأصلح لهم الأحوال، وبلّغهم غاية الآمال، وأطعمهم في الجوع، وأذن لهم في الرجوع، وقال لفتيانه: اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلّهم يعرفونها، فَسَدّ الواحد خلل أحد عشر، كذلك رمضان واحد والشهور أحد عشر، وفي أعمالنا خلل وأي خلل، ويرجو العبد أن يتلافى شهر رمضان ما فرّط فيه في سائر الشهور. كان ليعقوب أحد عشر ولداً ذكوراً بين يديه حاضرين، ينظر إليهم، ويراهم ويطّلع على أحوالهم وما يبدو من فعالهم، ولم يرتد بصره بشيء من ثيابهم، وارتد بقميص يوسف بصيراً، وصار بصره منيراً، فكذلك المذنب إذا شمّ روائح رمضان، وجلس فيه مع المذكرين وقرأ القرآن، وصحبهم بشرط الإسلام والإيمان، وترك الغيبة والبهتان، يصير إن شاء الله مغفوراً له بعد ما كان عاصياً، وقريباً بعد ما كان قاصياً، ينظر بقلبه بعد العمى، ويسعد بقربه بعد الشقا، ويقابل بالرحمة بعد السخط. فالله الله اغتنموا هذه الفضيلة، في هذه الأيام القليلة، تعقبكم النعمة الجزيلة، والدرجة الجليلة والراحة الطويلة، والحالة الرضية، والجنة السرية والعيشة الرضية، لا تنال إلا بالوقار لهذا الشهر، ومن لا يوقره كان مصيره إلى النار" (1) . الصوم لم يعبد به غير الله؟ * قال الحافظ ابن حجر في معنى "الصيام لي" وذكر من معانيه: "سبب الإضافة إلى الله أن الصيام لم يعبد به غير الله، بخلاف الصلاة والصدقة والطواف ونحو ذلك، واعترض على هذا بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات، فإنهم يتعبدون لها بالصيام. وأجيب بأنهم لا يعتقدون إلهية الكواكب وإنما يعتقدون أنها فعالة بأنفسها، وهذا الجواب عندي ليس بطائل، لأنهم طائفتان، إحداهما كانت تعتقد إلهية الكواكب وهم من كان قبل ظهور الإسلام واستمر منهم من استمر على كفره، والأخرى من دخل منهم في الإسلام واستمر على تعظيم الكواكب وهم الذين أشير إليهم" (2) .

_ (1) "بستان الواعظين" بتصرف (ص 317-319) . (2) "فتح الباري" (4/130-131) .

الباب الحادي عشر الموضوع والضعيف في الصوم

الباب الحادي عشر الموضوع والضعيف في الصوم

(1) (شهر رمضان معلق بين السماء والأرض، ولا يرفع إلى الله إلا بزكاة الفطر) . ضعيف: رمز له السيوطي في "الجامع الصغير" بالضعف، وقال المناوي: "أورده بن الجوزي في "الواهيات" وقال: لا يصح فيه محمد بن عبيد المصري مجهول لا يتابع عليه" وأقره الحافظ عليه. قال الألباني: ثم إن الحديث لو صح لكان ظاهر الدلالة على أن قبول صوم رمضان يتوقف على إخراج صدقة الفطر، فمن لم يخرجها لم يقبل صومه، ولا أعلم أحداً من أهل العلم يقول به "الضعيفة" رقم (43 ج 1/59/60) . (2) (صوموا تصحوا) . ضعيف: قال العراقي في "تخريج الإحياء" (3/75) : رواه الطبراني في الأوسط "وأبو نعيم في "الطب النبوي" من حديث أبي هريرة بسند ضعيف". قال الألباني "ولا ينافيه قول المنذري في "الترغيب" (2/60) والهيثمي في "المجمع" (3/179) "ورجاله ثقات"، لأنه لا ينفي أن يكون في السند معه ثقة رجاله علة تقتضي ضعفه كما لا يخفى على العارف بقواعد هذا العلم، ولعلّ الصغاني قد بالغ حين قال (ص 7) : "وهذا الحديث موضوع". (3) عن سلمان الفارسي قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخر يوم من شعبان فقال: "يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه في رزق المؤمن، ومن فطّر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء. قالوا: يا رسول الله

ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم. قال: يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على مذقة لبن، أو تمرة، أو شربة من ماء، ومن أشبع صائما سقاه الله من الحوض شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة، وهو شهر أوله رحمة، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتان ترضون بهما ربكم، وخصلتان لا غنى بكم عنهما، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما، فتسألون الجنة، وتعوذون من النار" (1) . منكر: "فيه علي بن زيد بن جدعان؛ فإنه ضعيف كما قال أحمد، وقال الإمام بن خزيمة "لا أحتج به لسوء حفظه" ولذلك لما روى هذا الحديث في صحيحه قرنه بقوله "إن صح الخبر" وأقره المنذري في "الترغيب" (2/67) (2) ". (4) (إن الجنة لتزخرف لرمضان من رأس الحول إلى الحول، فإذا كان أول ليلة من رمضان هبت ريح من تحت العرش فصفقت ورق الجنة عن الحور العين، فقلن: يا رب اجعل لنا من عبادك أزواجا تقر بهم أعيننا وتقر أعينهم بنا) (3) . منكر: فيه الوليد بن الوليد القلانسي واه، وقال الدارقطني والنسائي متروك وقال الذهبي: تفرد به الوليد بن الوليد القلانسي وقد تركوه" يعني هذا الحديث وفي طريق ابن خزيمة "جرير بن أيوب البجلي". قال ابن خزيمة "إن صح الخبر، فإن في القلب من جرير من أيوب البجلي". وقال المنذري "جرير من أيوب واهٍ، ولوائح الوضع عليه". وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات".

_ (1) رواه المحاملي في "الأمالي" وابن خزيمة في صحيحه (1887) وقال: إن صح، والواحدي في "الوسيط". (2) قول الألباني في "الضعيفة" رقم (871 ج 1/262-263) . (3) أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"، وتمام في "الفوائد" وابن عساكر عن ابن عمر وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1886) من حديث جرير بن أيوب البجلي عن الشعبي عن نافع بن بردة عن أبي مسعود الغفاري مرفوعا به.

(5) (لكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصوم) (1) . ضعيف: أما حديث أبي هريرة ففيه: موسى بن عبيدة الربذي. قال البوصيري في "الزوائد" متفق على تضعيفه، وأما حديث سهل بن سعد ففيه حمّاد بن الوليد. * قال ابن عدي "لا أعلم يرويه عن الثوري غير حماد، ولحماد أحاديث غرائب، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه". * وقال ابن حبان في "الضعفاء والمتروكين" "يسرق الحديث، ويلزق بالثقات ما ليس من أحاديثهم". وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح. وقال الهيثمي: حماد بن الوليد: ضعيف. وقال الذهبي في ضعائفه: متروك ساقط "الضعيفة" رقم (301329/497-498) . (6) (من صام يوماً ابتغاء وجه الله تعالى، بعده الله عز وجل من جهنم كبعد غراب طار وهو فرخ حتى مات هرما) (2) . ضعيف: في حديث أبي هريرة عند أحمد شيخ لهيعة لم يسم - ولهيعة "مستور"، لم يوثقه غير ابن حبان، وقال ابن القطان: مجهول الحال. ورواه الطبراني في "الأوسط" من حديث سلامة بن قيصر وفيه سهل بن بكر ضعيف، وزبان بن قائد ضعيف والحديث لا يصح كما قال البخاري لأن مداره على ابن لهيعة. وقد اختلفوا في إسناده.

_ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وابن ماجه ووكيع في "الزهد"، وابن عدي في "الكامل" عن أبي هريرة، ورواه الطبراني في "الكبير" وابن عدي في "الكامل" وابن الجوزي في "الأحاديث الواهية" عن سهل بن سعد. (2) أخرجه أحمد عن أبي هريرة وضعفه الألباني في "الضعيفة" رقم (31330/498/500) .

(7) (أشعرت يا بلال إن الصائم تسبح عظامه، وتستغفر له الملائكة ما أُكل عنده) (1) موضوع: فيه محمد بن عبد الرحمن القشيري: قال أبو حاتم: متروك الحديث كان يكذب ويفتعل الحديث. وقال الذهبي: متهم ليس بثقة. وقال أبو الفتح الأزدي: كذاب متروك. وقال الألباني: يكذب في الحديث فمثله يكون حديثه موضوعاً ولا كرامه. (8) (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي، فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كانت نورا بين عينيه يوم القيامة) (2) . ضعيف: فيه كيسان أبو عمر ضعفه الدارقطني والبيهقي وابن الملقن في "خلاصة البدر المنير" وابن حجر، وقال العراقي حديث ضعيف جدا. وضعّفه الحافظ الغساني (3) . وما بين كيسان وبين علي غير معروف، وضعفه الألباني. (9) (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله عز وجل إلى خلقه، وإذا نظر الله عز وجل إلى عبده لم يعذبه أبدا، ولله عز وجل في كل ليلة ألف ألف عتيق من النار) (4) . موضوع. فيه عثمان بن عبد الله الشامي. قال عنه الضياء المقدسي: متهم في روايته.

_ (1) أخرجه ابن ماجه، والبيهقي في "شعب الإيمان" وابن عساكر في "تاريخ دمشق" وحكم عليه بالوضع الألباني في "الضعيفة" رقم (31331/500-501) . (2) أخرجه الطبراني، والدارقطني وعنه البيهقي عن علي موقوفا، وأخرجوه عن خباب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "الضعيفة" رقم (401 ج 1/394) . (3) قال الغسائي في "تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدارقطني" (253) : عبد الصمد وكيسان ليسا بقويين. (4) رواه ابن فنجويه في "مجلس من الأمالي في فضل رمضان" عن أبي هريرة مرفوعا ومن هذا الوجه الضياء المقدسي في "المختارة".

وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" ثم قال "موضوع، وفيه مجاهيل، والمتهم به عثمان، يضع" وأقره السيوطي في "اللآليء" والألباني في "الضعيفة" (299 ج 1/313) . (10) (إن الله ليس بتارك أحدا من المسلمين صبيحة أول يوم من شهر رمضان إلا غفر له) (1) . موضوع: فيه سلام الطويل اتهمه غير واحد بالكذب والوضع وشيخه زياد بن ميمون وضاع باعترافه. أورده ابن الجوزي في "الموضوعات"، وأقره الألباني. (11) (سبحان الله ماذا تستقبلون، وماذا يستقبل بكم؟ قالها ثلاثا فقال عمر: يا رسول الله وحي نزل أو عدو حضر؟ قال: لا، ولكن الله يغفر في أول ليلة من رمضان لكل أهل هذه القبلة، قال: وفي ناحية القوم رجل يهز رأسه يقول بخ بخ!!، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كأنك ضاق صدرك مما سمعت؟ قال: لا والله يا رسول الله ولكن ذكرت المنافقين، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن المنافق كافر، وليس لكافر في ذا شيء) (2) . منكر: فيه عمرو بن حمزة ضعفه الدارقطني، وقال البخاري والعقيلي: "لا يتابع على حديثه". وفيه خلف أبو الربيع لم يذكر له البخاري ولا ابن خزيمة ولا ابن أبي حاتم جرحاً ولا تعديلا. قال الألباني: وجملة القول: أن هذا الحديث عندي منكر لتفرد هذين المجهولين به. (12) (صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر) (3) . منكر: الموقوف منه على عبد الرحمن بن عوف صحح إسناده الدارقطني والألباني.

_ (1) رواه الخطيب (5/91) من طريق سلام الطويل عن زياد بن ميمون عن أنس مرفوعا. قاله الألباني في "الضعيفة" رقم (296 ج 1/310) . (2) رواه الطبراني في "الأوسط" من زوائده، وأبو طاهر الأنباري في "مشيخته" وابن فنجويه في "فضل رمضان" والواحدي في "الوسيط" والدولابي في "الكنى" عن أنس بن مالك، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" وابن خزيمة قاله الألباني في "الضعيفة" رقم (298 ج 1/312-313) . (3) رواه ابن ماجه، والضياء في "المختارة" عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف مرفوعا. =

أما المرفوع منه فله علتان: الأولى: الانقطاع لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه كما في "الفتح". الثانية: أسامة بن زيد في حفظه ضعف، وقد خالفه الثقة وهو ابن أبي ذئب قال البيهقي في "السن": روى مرفوعاً وإسناده ضعيف. (13) (صام نوح عليه الصلاة والسلام الدهر إلا يوم الفطر ويوم الأضحى) (1) ضعيف: قال البوصيري في "الزوائد": "هذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة". (14) (الصائم في عبادة، ما لم يغتب) (2) . منكر. وفيه عبد الرحيم بن هارون أورده الذهبي في "الضعفاء والمتروكين" وقال "كذبه الدارقطني" وقال الحافظ في "التقريب": "ضعيف، كذبه الدارقطني". (15) (إن هاتين صامتا عما أحلّ الله، وأفطرتا على ما حرم الله عز وجل عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى، فجعلتا تأكلان لحوم الناس) (3) ضعيف: سنده ضعيف بسبب الرجل الذي لم يسم. وقال الحافظ العراقي إنه مجهول. وعند الطيالسي فيه الربيع بن صبيح ضعيف، ويزيد الرقاشي متروك.

_ = ورواه النسائي، والفريابي في "الصيام عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه موقوفا" قاله الألباني في "الضعيفة" رقم (498 ج 1/505) . (1) أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ... فذكره. ضعفه الألباني في (الضعيفة) رقم (459 ج 1/470-471) . (2) أخرجه ابن عدي من طريق الحسن بن منصور ... عن أبي هريرة، وأورده السيوطي في "الجامع الكبير" وزاد "مسلما أو يؤذه" وذكره الألباني في "الضعيفة" رقم (1829 ج 4/311) . (3) رواه أحمد عن رجل عن عبيد مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أن امرأتين صامتا، وأن رجلا قال: يا رسول الله: إن ها هنا امرأتين قد صامتا وإنهما كادتا أن تموتا من العطش، فأعرض عنه أو سكت، ثم عاد، وأراه قال بالهاجرة - قال: يا نبي الله إنهما والله قد ماتتا أو كادتا أن تموتا، قال: ادعهما، قال: فجاءتا، قال: فجيء بقدح أو عس، فقال لإحداهما: قيئي، فقاءت قيحا أو دما وصديدا ولحما، حتى قاءت نصف القدح، ثم قال للأخرى: قيئي، فقاءت من قيح ودم وصديد ولحم عبيط وغيره حتى ملأت القدح، ثم قال: فذكره. ورواه الطيالسي عن أنس" "الضعيفة" للألباني رقم (519 ج 2/10-11) .

(16) (الصائم في عبادة وإن كان راقدا على فراشه) (1) . ضعيف: رواه تمام وفي سنده: يحيى الزجاج، ومحمد بن هارون قال الألباني: لم أجد من ذكرهما. وفيه هاشم بن أبي هريرة لم يذكر ابن أبي حاتم فيه جرحاً ولا تعديلا. وفي رواية الديلمي عن أنس: محمد بن أحمد بن سهل قال ابن عدي: هو ممن يضع الحديث. ورواه عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" من قول أبي العالية موقوفا عليه "الصائم في عبادة وإن كان راقدا على فراشه ما لم يغتب". (17) (رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان ... ) (2) . باطل: رواية الطبراني فيها عبد الله بن كثير قال عنه الذهبي في "الميزان" وساق له هذا الحديث "لا يُدرى من ذا؟ وهذا باطل، والإسناد مظلم" وأقره الحافظ في "اللسان". وضعفه أيضاً الهيثمي. ورواية أبي نعيم فيها عاصم بن عمر العمري ضعيف. والهيثم بن بشر لم أجد فيه جرحاً ولا تعديلا قاله الألباني. وطريق بن عساكر فيها عمر بن أبي بكر الموصلي قال عنه أبو حاتم: ذاهب الحديث متروك الحديث. وفيها القاسم بن عبد الله العمري قال عنه الإمام أحمد: كان يكذب ويضع الحديث وكثير المزني متهم بالكذب. (18) (من أدرك رمضان بمكة فصام وقام منه ما تيسر له، كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواها، وكتب الله له بكل يوم عتق رقبة، وكل ليلة عتق رقبة، وكل

_ (1) رواه تمام عن سلمان بن عامر الضبي مرفوعا، ورواه السيوطي في "الجامع الصغير" برواية الديلمي في "مسند الفردوس" عن أنس، انظر "الضعيفة" للألباني رقم (653 ج 2/106) . (2) رواه الطبراني وابن عساكر عن بلال بن الحارث مرفوعا، وأخرجه أبو نعيم في "أخبار أصبهان" وبن عساكر. ذكره الألباني في "الضعيفة" رقم (831 ج 2/230-231) .

يوم حُملان فرس في سبيل الله، وفي كل يوم حسنة وفي كل ليلة حسنة) (1) . موضوع: رواه ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعا، وفيه عبد الرحيم بن زيد العَمِّي قال ابن معين فيه: "كذاب خبيث". وقاك النسائي: "ليس بثقة ولا مأمون"، وقال ابن حاتم في "العلل": "هذا حديث منكر، وعبد الرحيم بن زيد متروك الحديث". (19) (رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة) (2) . رواه البزار عن ابن عمر، وأورده السيوطي أيضاً وفيه عاصم بن عمر وهو ضعيف أعلّه الهيثمي به. (20) (ليس ليوم فضل على يوم في الصيام إلا شهر رمضان ويوم عاشوراء) (3) . منكر: أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، والطحاوي في "معاني الآثار"، وابن عدي والخطيب في "الأمالي" عن ابن عباس مرفوعا. قال الألباني: "رجاله ثقات ولكن عبد الجبار بن الورد في حفظه ضعف كما قال البخاري: "يخالف في بعض حديثه". وهذه الرواية الضعيفة تتعارض مع الأحاديث الأخرى التي تصرح بأن لبعض أيام أخرى غير يوم عاشوراء فضلاً على سائر الأيام كصيام يوم عرفة. (21) (من صام يوم الأربعاء والخميس كتب له براءة من النار) (4) . ضعيف: رواه أبو يعلى عن ابن عباس مرفوعا، وضعفه المنذري في "الترغيب" وبينّ السبب الهيثمي فقال: "فيه أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف". (22) (من صام يوم عرفة كان له كفارة سنتين، ومن صام يوماً من المحرم فله بكل

_ (1) "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني رقم (831 ج 2/230) . (2) "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني رقم (ج 2/229) . (3) "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني رقم (285 ج 1/301-302) . (4) "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني رقم (480 ج 1/492) .

يوم ثلاثون يوماً) (1) . موضوع: تفرد به الهيثم بن حبيب اتهمه الذهبي بخبر باطل، وفيه سلام الطويل قال فيه ابن خراش "كذاب"، وقال ابن حبان: "يروي عن الثقات الموضوعات" وقال الحاكم "روى أحاديث موضوعة"، وابن أبي سليم ضعيف. (23) (من صام يوماً من المحرم فله بكل يوم ثلاثون حسنة) (2) موضوع: فيه سلام الطويل، وابن أبي سليم ضعيف، والهيثم بن حبيب مر في الحديث السابق. (24) (نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة) (3) ضعيف: حوشب بن عقيل وشيخه مهدي الهجري لم يخرج لهما البخاري وإن قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي. بل إن الهجري مجهول كما قال ابن حزم في "المحلّى" وأقرّه الذهبي في "الميزان" وفي "التهذيب" عن ابن معين مثله. وضعف الحديث بن حزم، وبن القيم في "الزاد" (1/16، 237) ، وتساهل ابن خزيمة في تصحيح الحديث، وضعفه الألباني في "الضعيفة" رقم (404 ج 1/397-399) قال الألباني: "نقول هذا بياناً لحقيقة هذا الحديث، ولكي لا يغتر به جاهل فيحرم به صيام يوم عرفة على الحاج تمسكا بظاهر النهي، وإلاَّ فالأحب إلينا أن يفطر الحاج هذا اليوم لأنه أقوى له على أداء النسك، ولأنه هو الثابت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فعله في حجة الوداع. لكن رواه الدولابي عن بن عمر موقوفاً عليه وسنده حسن".

_ (1) أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" من طريق الهيثم بن حبيب ثنا سلام الطويل عن حمزة الزيات عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن بن عباس مرفوعا وقال: "تفرد به الهيثم بن حبيب قاله الألباني في "السلسلة الضعيفة" رقم (412 ج 1/411) . (2) أخرجه الطبراني في "الكبير" بنفس إسناد الحديث السابق عن بن عباس مرفوعاً. انظر "السلسلة الضعيفة" للألباني رقم (413 ج 1/412) . (3) أخرجه أبو داود، وبن ماجه، والطحاوي في "مشكل الآثار" والعقيلي في "الضعفاء" والحربي في "غريب الحديث" والحاكم، والبيهقي من طريق حوشب بن عقيل عن مهدي الهجري عن عكرمة عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي!

وروى بن سعد عن عمر نحوه وسنده ضعيف. (25) (كان يستاك آخر النهار وهو صائم) (1) . باطل: أعله ابن حبان بابن ميسرة وقال: "لا يُحتج به، ورفعه باطل، والصحيح عن ابن عمر من فعله" كذا في نصب الراية. (26) (إن البرد ليس بطعام ولا بشراب) (2) . منكر: فيه علي بن زيد بن جدعان ضعيف كما قال الحافظ، وقال شعبة "حدثنا علي بن زيد وكان رفاعا"، قال الألباني يعني أنه يخطئ فيرفع الحديث الموقوف وهذا هو علة هذا الحديث، فإن الثقات رووه عن أنس موقوفا على أبي طلحة خلافا لعلي بن زيد الذي رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخطأ، فرفعه منكر، فقد أخرجه أحمد وبن عساكر من طريق شعبة عن قتادة وحميد عن أنس قال: "مطرنا برداً وأبو طلحة صائم فجعل يأكل منه، قيل له: أتأكل وأنت صائم؟! فقال: إنما هذا بركة"!. وسنده صحيح على شرط الشيخين، وصححه بن حزم في "الأحكام" (6/83) . ورواه البزار موقوفاً وزاد "فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فكرهه، وقال: إنه يقطع الظمأ". قال البزار "لا نعلم هذا الفعل إلا عن أبي طلحة". (27) (من أدرك رمضان، وعليه من رمضان شيء لم يقضه، لم يتقبل، ومن صام تطوعاً وعليه من رمضان شيء لم يقضه، فإنه لا يتقبل منه حتى يصومه) (3) . ضعيف. أخرجه أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخرج الشطر الأول منه

_ (1) رواه بن حبان في "كتاب الضعفاء" عن بن عمر مرفوعا. ذكره الألباني في "السلسلة الضعيفة" رقم (402 ج 1/394-395) . (2) أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" وأبو يعلى في "مسنده" والسلفي في "الطيوريات" وبن عساكر من طريق علي بن زيد بن جدعان من أنس قال: "مطرت السماء بردا فقال لنا أبو طلحة: ناولني من هذا البرد، فجعل يأكل وهو صائم وذلك في رمضان؛ فقلت: أتأكل البرد وأنت صائم؟ فقال: إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا وأنه ليس بطعام ولا شراب! فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بذلك فقال: خذها عن عمك". انظر "الضعيفة" للألباني رقم (63 ج 1/85/86) . (3) "الضعيفة" للألباني رقم (838 ج 2/235-236) .

الطبراني في "الأوسط" وقال "تفرد به بن لهيعة". قال الألباني "إن بن لهيعة كان يضطرب فيه على وجوه، فتاره يسمى تابعي الحديث عبد الله بن أبي رافع، وتارة يسميه عبد الله بن رافع، وتارة: عبد الله لا ينسبه، وتارة يرفع الحديث، وتارة يوقفه، والاضطراب علامة على أن الراوي لم يضبط حفظ الحديث. ولذلك كان المضطرب من أقسام الحديث الضعيف. ومما يؤكد ضعف الحديث ما رواه عن سعيد بن أبي عروبة عن رجل تتابع عليه رمضانان وفرط فيما بينهما؟ فأخبر عن قتادة عن صالح أبي الخليل عن مجاهد عن أبي هريرة أنه قال "يصوم الذي حضر، ويقضي الآخر، ويطعم لكل يوم مسكينا" (1) . (28) (من اعتكف عشراً في رمضان كان كحجتين وعُمرتين) . موضوع: "رواه البيهقي في "الشعب" من حديث الحسين بن علي مرفوعاً وقال: "إسناده ضعيف" ومحمد بن زاذان أحد رجاله متروك، وقال البخاري: لا يكتب حديثه" وفيه أيضاً عنبسة بن عبد الرحمن، قال البخاري: تركوه، وقال الذهبي في "الضعفاء" متروك متهم أي بالوضع، وقال عنه أبو حاتم "كان يضع الحديث"، وقال ابن حبان: صاحب أشياء موضوعة وما لا أصل له (2) . (29) (من أفطر يوماً في شهر رمضان في الحضر فليهد بدنة، فإن لم يجد فليطعم ثلاثين صاعاً من تمر المساكين) . موضوع: "أورده بن الجوزي في "الموضوعات" وأقرّه السيوطي في "اللآلئ" وفيه مقاتل بن سليمان: كذاب، قاله ابن الجوزي، وقال الذهبي عنه: غير ثقة، وخالد بن عمرو قال عنه الذهبي: تالف، كذّبه الفريابي ووهاه بن عدي والحارث بن عبيدة: ضعيف. قال الذهبي: هذا حديث باطل" (3) .

_ (1) قال الألباني: إسناده صحيح انظر "الضعيفة" (ج 2/236) . (2) "السلسلة الضعيفة" للألباني رقم (518 ج 2/10) . (3) "السلسلة الضعيفة" رقم (623 ج 2/88-89) .

(30) (من أفطر "يعني في السفر" فرخصة، ومن صام فالصوم أفضل) . ضعيف شاذ: محلول بالوقف فمحمد بن حازم "أبو معاوية الضرير" مثله يحتج به إذا لم يخالف، أو لم يختلف عليه كما وقع في هذا الإسناد، فأبو هاشم زياد بن أيوب رفعه، وبن أبي شيبة أوقفه. فالصواب في هذا الحديث الواقف، وإنه شاذ مرفوعا (1) . (31) (من كانت له حَمولة تأوي إلى شبع [وَرِيّ] فليصم رمضان حيث أدركه) (2) . ضعيف: قال العقيلي فيه: عبد الصمد بن حبيب الأزدي لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به، وأورده البخاري في "الضعفاء" وقال: "ضعفه أحمد". قال البخاري "منكر الحديث، ذاهب الحديث، ولم يعد البخاري هذا الحديث شيئاً. وفيه حبيب بن عبد الله قال الذهبي في "الميزان" وبن حجر في "التقريب" مجهول وضعفه هذا الحديث الحافظ بن عبد الهادي في رسالته "الأحاديث الضعيفة والموضوعة". (32) (كان لا يمسّ من وجهي شيئاً وأنا صائمة. قالته عائشة) (3) . منكر: رواه بن حبان في "صحيحه". وعلة حديث الترجمة إنما هو تفرد محمد بن الأشعث بهما، وهو في عداد مجهولي الحال فقد أورده البخاري في "التاريخ الكبير" وبن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. قال الألباني: تفرد بهذا الحديث وخالف فيه الثقة وهو طلحة بن عبد الله بن عثمان

_ (1) "السلسلة الضعيفة" رقم (932 ج 2/336) . (2) أخرجه أبو داود، وأحمد، والعقيلي في "الضعفاء" عن سلمة بن المحبق الهذلي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. "السلسلة الضعيفة" للألباني رقم (981 ج 2/412) . ومعنى الحديث: من كانت له حمولة تأويه إلى حال شبع ورفاهية أو إلى مقام يقدر فيه على الشبع ولم يلحقه في سفره وعثاء وشقة فليصم رمضان حيث أدركه. (3) "السلسلة الضعيفة" رقم (958 ج 2/375-376) .

القرشي الذي أثبت أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبل عائشة وهي صائمة. فيما رواه أحمد عن طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: "تناولني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: إني صائمة، فقال: وأنا صائم". (33) (كان يحب أن يفطر على ثلاث تمرات، أو شيء لم تصبه النار) (1) . ضعيف جدا: رواه العقيلي في "الضعفاء"، وأبو يعلى في "مسنده" واللفظ له وعنه الضياء في "المختارة" عن أنس مرفوعا. وفيه عبد الواحد بن ثابت: قال عنه البخاري "منكر الحديث"، وقال العقيلي: "لا يتابع على هذا الحديث" وقال الهيثمي: ضعيف. (34) (لا بأس بقضاء شهر رمضان مفرقا) (2) . ضعيف: قال الألباني: "رواه الماليني في "الأربعين" عن بن عمر مرفوعا وفيه يحيى بن سليم الطائفي ضعيف لسوء حفظه. وفيه محمد بن حسان الزاهد لم يذكر فيه جرح ولا تعديل. ويقابل هذا حديث أبي هريرة المرفوع ولفظه "من كان عليه من رمضان شيء فَلْيَسرُدُه ولا يقطعه" حسن الإسناد عندي تبعا لابن القطان وابن التركماني؛ ولذلك أوردته في "الأحاديث الصحيحة". (35) (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء وجعل عشاءه مسحوراً) (3) . ضعيف: قال ابن رجب: رواه الطبراني عن أنس وفيه حفص بن واقد. قال ابن عدي: هذا الحديث من أنكر ما رأيت له.

_ (1) "السلسلة الضعيفة" رقم (996 ج 2/424-425) . (2) "الضعيفة" رقم (696 ج 2/136-137) . (3) أخرجه ابن ماجه والبيهقي في "شعب الإيمان" ومن طريقه (بن عساكر في تاريخ دمشق) عن محمد بن عبد الرحمن عن سليمان بن بريدة عن أبيه. انظر "السلسلة الضعيفة" رقم (1331 ج 3/500-501) .

(36) (إن الصائم إذا أُكل عنده صلت عليه الملائكة حتى يفرغوا وربما قال: حتى يقضوا أكلهم) (1) . ضعيف: قال الترمذي "حديث حسن صحيح" وأقره المناوي في شرحية "الفيض" و"التيسير". قال الألباني: فيه: ليلى مولاة لحبيب بن زيد لا تعرف، فقد أوردها الذهبي في فصل "النسوة المجهولات" وقال: تفرد عنها حبيب بن زيد. (37) (الصائم إذا أَكَلَ عنده المفاطير صلت عليه الملائكة "حتى يمسي" (2)) . منكر: بهذه الزيادة منكر، ولشريك وهو بن عبد الله القاضي سيء الحفظ. (38) (مَن فطر صائما في رمضان من كسب حلال، صلت عليه الملائكة ليالي رمضان كلها، وصافحه جبريل، ومن يصافحه جبريل يرق قلبه، وتكثر دموعه. قال رجل: يا رسول الله! فإن لم يكن ذاك عنده؟ قال: قبضة من طعام: قال: أرأيت من لم يكن ذاك عنده؟ قال: ففلقت خبز. قال: أفرأيت إن لم يكن ذاك عنده؟ قال: فمَذْقة من لبن: قال: أفرأيت من لم يكن ذاك عنده؟ قال: فشربة من ماء) (3) ضعيف: أخرجه ابن عدي في "الكامل" عن حكيم بن خِذام العبدي: نا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن سلمان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... فذكره وتابعه الحسن بن علي بن أبي جعفر عند ابن عدى. وفي الطريقين عند ابن عدي: 1- علي بن زيد بن جدعان ضعيف لسوء حفظه.

_ (1) أخرجه الترمذي والنسائي في "السنن الكبرى" والدارمي وابن خزيمة وابن ماجه وابن أبي شيبة وابن المبارك في "الزهد" وأحمد، وابن سعد في "الطبقات" وأبو يعلى في "مسنده"، وابن حبان، والطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الحلية" والبيهقي كلهم من طريق حبيب بن زيد الأنصاري.. عن أم عمارة بنت كعب "الضعيفة" رقم (1332 ج 3/502-503) . (2) أخرجه الترمذي وابن خزيمة بإسناد واحد عن شريك عن حبيب بن زيد وليس عند الترمذي "حتى يمسي" وهو بهذه الزيادة منكر. "الضعيفة" ج 3/503) . (3) "الضعيفة" رقم (1333 ج 3/503-504) .

2- حكيم. قال أبو حاتم: "متروك الحديث" وقال البخاري: "منكر الحديث". 3- الحسن بن أبي جعفر ضعيف. فالحديث ضعيف قاله الألباني. (39) (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما أخرّ ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم شعبان) (1) . ضعيف: رواه الطبراني في "الأوسط" عن عائشة. قال ابن حجر في "فتح الباري" (4/252) : فيه ابن أبي ليلى ضعيف. (40) (من صام يوماً لم يخرقه كُتبت له عشر حسنات) . ضعيفٌ: رواه الطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم في "الحلية" عن البراء بن عازب مرفوعا. قال الطبراني: لم يروه عن طلحة إلا أبو جناب، ولا عنه إلا إسحاق الأزرق، تفرد به عبد الرحمن بن عبد الوهاب. قال أبو نعيم: "غريب من حديث طلحة، تفرد به إسحاق الأزرق". وأبو جناب الكلبي يحيى بن أبي حية "ضعيف مدلس، فهو علة الحديث" (2) . (41) (نعم السحور التمر، ونعم الإدام الخل، ورحم الله المتسحّرين) . ضعيف: رواه أبو عوانة في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعا. وفيه: خالد بن يزيد العمري قال عنه الذهبي: كذبه أبو حاتم ويحيى، قال ابن حبان: يروى الموضوعات عن الأثبات. (42) (تسحروا ولو بشربة من ماء، وأفطروا ولو على شربة ماء) . موضوع: رواه ابن عدي عن علي مرفوعا. وفيه حسين بن عبد الله بن ضميرة: كذّبه مالك وأبو حاتم وابن الجارود وقال البخاري: "منكر الحديث"، وقال ابن حبان في "الضعفاء": يروي عن أبيه عن جده

_ (1) "فتح الباري" (4/252) . (2) كلام الألباني في "الضعيفة" رقم (1327 ج 3/496) .

بنسخة موضوعة، وقال ابن عدي عنه: "منكر الحديث". (43) (الصيام جُنّة ما لم يخرقها بكذب أو غيبة) (1) . ضعيف جدا: أخرجه ابن عدي والطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة مرفوعا وفيه الربيع بن بدر وهو ضعيف جدا، ولم يروه عن يونس إلا الربيع. (44) (ليتقِه الصائمُ. يعني الكحل) (2) . منكر: أخرجه أبو داود والبيهقي ولفظ البيهقي "لا تكتحل بالنهار وأنت صائم، اكتحل ليلا. وفيه علتان: الأولى: ضعف عبد الرحمن بن النعمان، وبه أعله المنذري، فقال في "مختصر السنن" "قال: يحيى بن معين: ضعيف، وضعفه الذهبي. الثانية: جهالة النعمان بن معبد: وأشار إلى ذلك شيخ الإسلام بن تيمية في رسالة "الصيام" وقال فيه الذهبي: غير معروف، وقال الحافظ: مجهول. (45) (مر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأناس من اليهود قد صاموا يوم عاشوراء، فقال: ما هذا الصوم؟ قالوا: هذا اليوم الذي نجى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي، فصامه نوح وموسى شكراً لله تعالى، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا أحق ... ) الحديث. رواه أحمد من حديث أبي هريرة. وفي إسناده حبيب بن عبد الله الأزدي قال الحافظ في "التقريب" مجهول. قال الألباني: فلم يحسن صنعاً حين سكت عليه في "الفتح" (4/214) . (46) (صوم أول يوم من رجب كفارة ثلاث سنين، والثاني كفارة سنتين، والثالث كفارة سنة، ثم كل يوم شهرا) (3) ضعيف: أخرجه أبو محمد الخلال في "فضائل رجب" عن ابن عباس.

_ (1) "الضعيفة" رقم (1440 ج 3/631) . (2) "الضعيفة" رقم (1014 ج 3/75-76) . (3) ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3499 ج 3/272) .

(47) (صوموا، فإن الصيام جنة من النار ومن بوائق الدهر) (1) . ضعيف: رواه ابن النجار عن أبي مليكة. (48) (صوم يوم الترويه كفارة سنة، وصوم يوم عرفة كفارة سنتين) (2) . موضوع: رواه أبو الشيخ في "الثواب" وابن النجار عن ابن عباس مرفوعا. ضعفه السيوطي. وأورده الديلمي في "مسند الفردوس" وفيه محمد بن السائب الكلبي قال الحافظ: متهم بالكذب، وفيه على بن علي الحميري لم يذكر فيه ابن أبي حاتم جرحاً ولا تعديلا. (49) (صوموا أيام البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، هن كنز الدهر) (3) . ضعيف: قال الألباني: "رواه أبو ذر الهروي في "جزء من حديثه" عن قتادة ابن ملحان. (50) (صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، صوموا قبله يوماً، وبعده يوماً) . ضعيف: رواه أحمد والبيهقي عن ابن عباس وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3508) . (51) (صوموا يوم عاشوراء يوم كانت الأنبياء تصومه فصوموه أنتم) (4) . ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" عن أبي هريرة مرفوعا. قال الألباني: وهذا منكر بهذا اللفظ، وعلّته الهجري واسمه إبراهيم بن مسلم. قال الحافظ؛ "لين الحديث".

_ (1) "ضعيف الجامع" رقم (3501 ج 3/272) . (2) قال في "الارواء" رقم (956 ج 4/112-113) : ضعيف على أحسن الأحوال وقال في "ضعيف الجامع": موضوع انظر "ضعيف الجامع" رقم (3500 ج 3/272) . (3) "ضعيف الجامع" رقم (3505 ج 3/273) . (4) "الإرواء" حديث رقم (955 ج 4/112) ، "ضعيف الجامع" رقم (3509 ج 3/273-274) .

(52) (صيام يوم عرفة كصيام ألف يوم) . رواه ابن حبان عن عائشة وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3525 ج 3/277) . (53) (الصائم بعد رمضان كالكار بعد الفار) . ضعيف: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عباس، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3529 ج 3/278) قال المناوي: "فيه اسماعيل بن بشير قال العقيلي متهم بالوضع". (54) (الصائم المتطوع بالخيار، ما بينه وبين نصف النهار) (1) . ضعيف. (55) (الصائم في عبادة من حين يصبح إلى أن يُمسي ما لم يغتب، فإذا اغتاب خرق صومه) (2) . موضوع: رواه الديلمي في "مسند الفردوس" عن أبي هريرة، وحكم عليه بالوضع الألباني في "ضعيف الجامع" (3531 ج 3/278) . (56) (الصوم يُدِقُ المصير (3) ، ويُذبِل اللحم ويُبعِد من حر السعير، إن لله مائدة عليها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لا يعقد عليها إلا الصائمون) (4) . ضعيف: ضعفه السيوطي في "الجامع الصغير"، وقال المناوي "قال الهيثمي: فيه

_ (1) ضعيف: رواه البيهقي في "سننه" عن أنس وأبي أمامة وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3528 ج 3/278) ، و"الارواء" رقم (965) . قال المناوي في "فيض القدير" (4/231) : "قال أعني البيهقي عون بن عمارة، وعون ضعيف وفي حديث أبي أمامة جعفر بن الزبير قال الذهبي وجعفر متروك فيه، وفي حديث أبي ذر إبراهيم بن مزاحم وسريع بن نبهان قال الذهبي: وإبراهيم وسريع مجهولان". (2) أشار السيوطي إلى ضعفه في "الجامع الصغير". (2) المصير: الأمعاء، ويدقها أي يصيرها دقيقة، والدقة ضد الغلط. (4) ضعيف: رواه الطبراني في "الأوسط"، وأبو القاسم بن بشران في "أماليه" عن أنس انظر "ضعيف الجامع الصغير" رقم (3561 ج 3/285) .

عبد المجيد بن كثير الحرالي لم أجد من ترجمة"، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير". (57) (الصيام جنة حصينة من النار) (1) . ضعيف: ضعفه المناوي في "فيض القدير" قال: وفيه يوسف بن يعقوب القاضي قال الذهبي في "الضعفاء": "مجهول، وأحمد بن عيسى وابن لهيعة ضعيفان" (2) . وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير". (58) (الصيام جنة ما لم يخرقها) (3) . ضعيف: ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير". (59) (الصيام لا رياء فيه، قال الله تعالى "هو لي وأنا أجزى به" يدع طعامه وشرابه من أجلى) . ضعيف جدا: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي هريرة. وضعفه ابن حجر في "الفتح" (4/129) والسيوطي في "الجامع الصغير" والألباني في "ضعيف الجامع الصغير" رقم (3582 ج 3/289) . (60) (ليس مِن امبِر امصيام في امسفر) (4) . شاذ بهذا اللفظ: قال الألباني: "أخرجه أحمد عن معمر عن الزهري عن صفوان بن عبد الله عن أم الدرداء عن كعب بن عاصم الأشعري -وكان من أصحاب السقيفة- قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره. قلت: وهذا إسناد ظاهره الصحة، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم، وعلته الشذوذ

_ (1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن جابر "ضعيف الجامع الصغير" رقم (3579 ج 3/289) . (2) "فيض القدير" (4/250) . (3) رواه النسائي، والبيهقي في "سننه" عن أبي عبيدة. انظر "ضعيف الجامع الصغير" رقم (3580 ج 3/289) . (4) "السلسلة الضعيفة" رقم (1130 ج 3/264-265) .

ومخالفة الجماعة. فقد قال أحمد "ثنا سفيان عن الزهري به بلفظ "ليس من البر الصيام في السفر". وتابعه عليه ابن جريج ويونس ومحمد بن أبي حفصة والزبيدي كلهم رووه عن الزهري بلفظ سفيان. وتابعهم معمر نفسه عند البيهقي وقال: "وهو المحفوظ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وليس يشك عالم بأن اللفظ الذي وافق معمر الثقات عليه، هو الصحيح الذي ينبغي الأخذ به والركون إليه بخلاف اللفظ الآخر الذي خالفهم فيه فإنه ضعيف لا يعتمد عليه. وإن مما يؤكد وهم معمر في هذا اللفظ الذي شذ به عن الجماعة أن الحديث قد ورد عن جماعة آخرين من الصحابة، مثل جابر بن عبد الله، وعبد الله بن أبي برزة، وعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وعمار بن ياسر وأبي الدرداء، جاء ذلك عنهم من طرق كثيرة، وكلها أجمعت على روايته باللفظ الثاني الذي رواه الجماعة. وإنما عنيت هنا عناية خاصة لبيان ضعف الحديث بهذا اللفظ لشهرته عند علماء اللغة والأدب، ولقول الحافظ ابن حجر في "التلخيص". "هذه لغة لبعض أهل اليمن، يجعلون لام التعريف ميما، ويحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاطب بها هذا الأشعري (يعني: كعب بن عاصم) كذلك لأنها لغته، ويحتمل أن يكون الأشعري هذا نطق بها على ما ألف من لغته، فحملها الراوي عنه، وأداها باللفظ الذي يسمعها به. وهذا الثاني أوجه عندي. والله أعلم". فأقول: إن إيراد الحافظ -رحمه الله تعالى- هذين الاحتمالين قد يشعر القارئ لكلامه أن الرواية ثبتت بهذا اللفظ عن الأشعري، ورجّح الثاني. وهذا الترجيح لا داعي إليه، بعد أن أثبتنا أنه وهم من معمر، فلم يتكلم به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا الأشعري، بل ولا صفوان ابن عبد الله، ولا الزهري. فليعلم هذا فإنه عزيز نفيس إن شاء الله" ا. هـ. (61) (أوصيك يا أبا هريرة! خصال أربع لا تدعهن ما بقيت، أوصيك بالغسل يوم الجمعة، والبكور إليها، ولا تلغ أو لا تله، وأوصيك بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإنه صوم الدهر، وأوصيك بركعتي الفجر، لا تدعهما وإن صليت الليل كله، فإن

فيهما الرغائب، قالها ثلاثا) (1) . ضعيف جدا: رواه ابن عدي من طريق أبي يعلى عن سليمان بن داود اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابن عدي: "سليمان بن داود، عامة ما يرويه بهذا الإسناد لا يتابعه أحد عليه". قال الألباني: قلت: وقال البخاري: "منكر الحديث"، وقال الذهبي: "وقد مر لنا أن البخاري قال: مَنْ قلت فيه: منكر الحديث، فلا تحل رواية حديثه" وقال ابن حبان: "ضعيف". وقال آخر: "متروك". (62) (أول شهر رمضان رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار) (2) . منكر: قال العقيلي: "لا أصل له من حديث الزهري". وقال ابن عدي: "وسلام هو عندي منكر الحديث، ومسلمة ليس بالمعروف" وكذا قال الذهبي: ومسلمة بن الصلت: قال فيه أبو حاتم: "متروك الحديث" كما في ترجمته في "الميزان". (63) (تحفة الصائم الزائر أن تُغَلَّف لحيته، وتجمر ثيابه، ويُذَرَّرُ، وتحفة المرأة الصائمة أن تُمشط رأسها، وتجمر ثيابها وتُذَرَّ) (3) . موضوع: محمد بن موسى الحرشي قال الحافظ "لين"، وهيبرة بن حدير قال يحيى معين: "لا شيء"، وعمير بن مأموم، قال الدارقطني: لا شيء، وسعيد بن طريف قال عنه ابن عدي: أحاديثه كلها لا يرويها غيره، وقال ابن معين: لا يحل لأحد أن يروى عنه،

_ (1) "السلسلة الضعيفة" رقم (1534 ج 4/44-45) . (2) "السلسلة الضعيفة" رقم (1569 ج 4/70-71) . أخرجه العقيلي في "الضعفاء"، وابن عدي، والخطيب في "الموضح" والديلمي، وابن عساكر عن سلام بن سوار بن الصلت عن مسلمة بن الصلت عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره. (3) رواه ابن عدي عن محمد بن موسى الحرشي ثنا هبيرة بن حدير العدوى ثنا سعد الحذاء عن عمير بن مأموم عن الحسن بن علي قال: سمعت أبي، وحدثني -يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الضعيفة" رقم (1789 ج 4/274) .

وقال ابن حبان "كان يضع الحديث على الفور". (64) (ثلاثة لا يسألون عن نعيم المطعم والمشرب: المفطر، والمتسحر، وصاحب الضيف. وثلاثة لا يلامون على سوء الخلق: المريض، والصائم حتى يفطر، والإمام العادل) (1) . موضوع: أخرجه الديلمي في "مسنده من طريق مجاشع بن عمرو ... عن أبي هريرة مرفوعا. قال الألباني: "وهذا موضوع، آفته مجاشع بن عمرو، قال ابن حبان في "الضعفاء" "كان ممن يضع الحديث على الثقات، ويروى الموضوعات عن أقوام ثقات، لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه". (65) (خمس تفطر الصائم وتنقض الوضوء: الكذب، والغيبة والنميمة، والنظر بالشهوة، واليمين الفاجرة) (2) . موضوع: رواه أبو القاسم الخرقي في "عشر مجالس من الأمالي" عن محمد بن الحجاج الحمصي عن جابان عن أنس مرفوعا. والحديث أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" من هذه الطريق وقال: "موضوع"، وأقره السيوطي في "اللآلي"، وزاد ابن عراق في "تنزيه الشريعة" فقال: "قلت: رواه أبو الفتح الأزدي في "الضعفاء" في ترجمة محمد بن الحجاج الحمصي وأعله به، وقال: لا يكتب حديثه، وقال ابن حاتم في "العلل" سألت أبي عن هذا الحديث؟ فقال: هذا حديث كذب انتهى". (66) (ما صام من ظل يأكل لحوم الناس) (3) . ضعيف: رواه الديلمي في "الفردوس" عن أنس، وضعفه الألباني في "ضعيف

_ (1) "السلسلة الضعيفة" رقم (1980 ج 4/447) . (2) "السلسلة الضعيفة" رقم (1708 ج 4/199) . (3) "ضعيف الجامع الصغير" (ج 5/98 رقم 5085) .

الجامع الصغير" رقم (5085 ج 5/98) . (67) (للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة) (1) . ضعيف. رواه الطيالسي، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمرو وضعفه الألباني في "الإرواء" رقم (893) ، و"ضعيف الجامع" (4750 ج 5/28) . (68) (من صام يوماً تطوعا، لم يطلع عليه أحد، لم يرض الله له بثواب دون الجنة) . موضوع: رواه الخطيب عن سهل بن سعد. قال المناوي: "فيه عصام بن الوضاح قال الذهبي: له مناكير قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به" (2) . وقال الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" "موضوع" (3) . (69) (من صام ثلاثة أيام من شهر حرام: الخميس والجمعة والسبت، كُتب له عبادة سنتين) (4) ضعيف: رواه الطبراني في "الأوسط" من حديث يعقوب بن موسى المدني عن مسلمة عن أنس بن مالك. قال المناوي في "فيض القدير" (6/136) : "قال الهيثمي: ويعقوب مجهول، ومسلمة إن كان الخشني فهو ضعيف، وإن كان غيره فلم أعرفه". وضعفه أيضاً الألباني. (70) (من صام رمضان، وستاً من شوالا، والأربعاء والخميس دخل الجنة) (5) . ضعيف: رواه أحمد في "مسنده" عن رجل لم يسم وهو العريف.

_ (1) "الإرواء" رقم (893) . (2) "فيض القدير" (6/162) . (3) "ضعيف الجامع الصغير" رقم (5664 ج 5/211) . (4) "ضعيف الجامع الصغير" رقم (5661 ج 5/210) . (5) "ضعيف الجامع الصغير" رقم (5662 ج 5/210) .

وقال الهيثمي: فيه من لم يسم، وبقية رجاله ثقات، وضعفه الألباني. (71) (من صام رمضان وعرف حدوده وتحفظ ما ينبغي أن يتحفظ، كفر ما قبله) . ضعيف: أخرجه ابن حبان في صحيحه واللفظ له، وأحمد وأبو يعلى وابن المبارك في "الزهد" "وفيه عبد الله بن قرط لم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه غير يحيى بن أيوب، وأورده ابن أبي حاتم (5/140) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلا، وقال الحسيني في "رجال المسند": "مجهول" (1) . (72) (من صام من كل شهر حرام: الخميس، والجمعة، والسبت، كتبت له عبادة سبعمائة سنة) . ضعيف: رواه تمام الرازي في "فوائده" عن أنس عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الحافظ ابن حجر في "تبيين العجب بما ورد في فضل رجب" (ص 24) : "في سنده ضعفاء ومجاهيل". (73) (إن في الجنة نهرا يقال له رجب: ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، من صام يوماً من رجب سقاه الله من ذلك النهر) . ضعيف: قال ابن حجر "أورده أبو سعيد النقاش في كتاب "فضل الصيام"، ورواه أبو الشيخ في "فضل الصوم"، ورواه البيهقي في "فضائل الأوقات" عن أنس بن مالك، ورواه ابن شاهين "في كتاب الترغيب والترهيب" قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية": "فيه مجاهيل". أما موسى بن عمران، فلا يُدرى من هو. وأما منصور بن زيد فلم أقف فيه للمتقدمين على جرح ولا تعديل. وقال الذهبي: "الخبر باطل" (2) .

_ (1) "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان - تحقيق الأرناؤوط" (ص 8 ص 220) . (2) "تبيين العجب بما ورد في فضل رجب" (ص 26-30) لابن حجر -علق عليه إبراهيم يحيى أحمد- مكتبة سليم الحديثة.

(74) (كان إذا دخل رجب قال: اللهم بارك لنا في رجب، وشعبان، وبلغنا رمضان) . ضعيف: رواه البزار في "مسنده"، والطبراني في "الأوسط" والبيهقي في "فضائل الأوقات" عن أنس. وضعفه ابن حجر في "تبيين العجب" (30-32) . فيه زائدة بن أبي الرقاد: قال فيه أبو حاتم يحدث عن زياد النميري، عن أنس أحاديث مرفوعة منكرة، فلا يدري منه، أو من زياد. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي في "السنن" لا أدري من هو. وقال ابن حبان: لا يحتج بخبره". (75) (عن أبي هريرة رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصم بعد رمضان إلا رجب وشعبان) . حديث منكر: قاله ابن حجر في "تبيين العجب" (ص 32) "من أجل يوسف بن عطية فإنه ضعيف جدا". (76) (رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي) باطل موضوع: قال ابن حجر في "تبيين العجب" (33) وقال: "رواه أبو بكر النقاش المفسر. وسنده مركب، ولا يعرف لعلقمة سماع من أبي سعيد، والكسائي المذكور في "السند" لا يدري من هو، والعهدة في هذا الإسناد على النقاش وأبو بكر النقاش: ضعيف متروك الحديث قاله الذهبي في "الميزان". (77) (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم: رجب، لا يقارنه من الأشهر أحد، ولذلك يقال له: شهر الله الأصم، وثلاثة أشهر متواليات: يعني ذا القعدة وذا الحجة، ومحرم،. ألا وإن رجباً شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي. فمن صام من رجب يوماً إيماناً واحتساباً استوجب رضوان الله الأكبر، وأسكنه الله الفردوس الأعلى،

ومن صام من رجب يومين فله من الأجر ضعفان، وزن كل ضعف مثل جبال الدنيا، ومن صام من رجب ثلاثة أيام جعل الله بينه وبين النار خندقا، طول مسيرة ذلك اليوم سنة. ومن صام من رجب أربعة أيام عوفي من البلاء، ومن الجذام، والجنون، والبرص، ومن فتنة المسيخ الدجال، ومن عذاب القبر. ومن صام من رجب خمسة أيام وقي عذاب القبر. ومن صام من رجب ستة أيام خرج من قبره ووجهه أضوأ من القمر ليلة البدر. ومن صام من رجب سبعة أيام فإن لجهنم سبعة أبواب، يغلق الله -تعالى- عنه بصوم كل يوم باباً من أبوابها. ومن صام من رجب ثمانية أيام فإن للجنة ثمانية أبواب، يفتح الله له بكل صوم يوم باباً من أبوابها. ومن صام من رجب تسعة أيام خرج من قبره وهو ينادي: لا إله إلا الله، فلا يرد وجهه دون الجنة. ومن صام من رجب عشرة أيام جعل الله له على كل ميل على الصراط فراشا يستريح عليه. ومن صام من رجب أحد عشر يوماً لم يواف عبد يوم القيامة بأفضل منه إلا من صام مثله، أو زاد عليه. ومن صام من رجب اثني عشر يوماً كساه الله يوم القيامة حليتين الحلة الواحدة خير من الدنيا وما فيها ومن صام من رجب ثلاثة عشر يوماً وضع له يوم القيامة مائدة في ظل العرش، فأكل عليها والناس في شدة شديدة. ومن صام من رجب - أربعة عشر يوماً أعطاه الله من الثواب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ومن صام من رجب خمسة عشر يوماً وقفه الله يوم القيامة موقف الآمنين) . موضوع، رواه الحافظ محمد بن ناصر في "أماليه" عن أبي سعيد الخدري وفيه أبو بكر محمد بن الحسن النقاش، والكسائي. أما النقاش فقد قال عنه ابن حجر في "تبيين العجب" (ص 36) : "النقاش وضاع رجال، فوالله ما حدث أبو معاوية، ولا من فوقه بشيء من هذا قط. وليس الكسائي على بن حمزة القدسي النحوي، فقد جزم بأنه غيره - الإمام أبو الخطاب ابن دحية، فقال: الكسائي المذكور لا يدري من هو. وقال بعد أن أخرج الحديث: هذا موضوع. قال ابن حجر: وللحديث طريق أخرى واهية، وفي رواتها مجاهيل، عند ابن عساكر في "أماليه" وفيها زيادة ونقص وفيها: (من صام من رجب ستة عشر يوماً كان في أوائل من يزور الرحمن وينظر إلى وجهه، ويسمع كلامه. ومن صام من رجب سبعة عشر يوماً نصب الله على كل ميل من الصراط استراحة يستريح محليها. ومن صام من رجب ثمانية عشر يوماً زاحم إبراهيم في قبته. ومن صام من رجب تسعة عشر يوماً بنى الله له قصراً تجاه إبراهيم وآدم، يسلم عليهما، ويسلمان عليه. ومن صام من رجب عشرين يوماً نادى مناد من عند الله: أما ما مضى فقد غفرت لك، فأستأنف العمل) (78) (خيرة الله من الشهور، وهو شهر الله من عظم شهر رجب فقد عظم أمر الله أدخله جنات النعيم، وأوجب له رضوانه الأكبر. وشعبان شهري، فمن عظمّ شهر شعبان فقد عظم أمري، ومن عظم أمري كنت له فرطاً وذخراً يوم القيامة. وشهر رمضان شهر أمتي، فمن عظم شهر رمضان، وعظم حرمته، ولم ينتهكه، وصام نهاره، وقام ليله، وحفظ جوارحه، خرج من رمضان وليس عليه ذنب يطالبه

الله تعالى به) . موضوع: قال ابن حجر في "تبيين العجب" (37-38) : "قال البيهقي: هذا حديث منكر بمرة. قلت: بل هو موضوع ظاهر الوضع، بل هو من وضع نوح الجامع وهو أبو عصمة الدين. قال عنه ابن المبارك، لماّ ذكره لوكيع: عندنا شيخ يقال له: أبو عصمة، كان يضع الحديث. وهو الذي كانوا يقولون فيه: نوح الجامع جمع كل شيء إلا الصدق. وقال الخليلي: أجمعوا على ضعفه". (79) (فضل رجب على سائر الشهور كفضل القرآن على سائر الأذكار، وفضل شعبان على سائر الشهور، كفضل محمد على سائر الأنبياء، وفضل رمضان على سائر الشهور، كفضل الله على عباده) . موضوع: قال ابن حجر في "تبيين العجب" (ص 39) : "السقطي هو الآفة، وكان مشهورا بوضع الحديث، وتركيب الأسانيد". (80) (رجب شهر الله الأصم. ومن صام من رجب يوماً إيماناً واحتساباً استوجب رضوان الله الأكبر) . موضوع: قال ابن حجر في "تبيين العجب" (ص 40) "متن لا أصل له". (81) (من صام ثلاثة أيام من رجب كتب الله له صيام شهر، ومن صام سبعة أيام أغلق عنه سبعة أبواب النار، ومن صام ثمانية أيام فتح الله له ثمانية أبواب الجنة. ومن صام نصف رجب كتب الله له رضوانه، ومن كتب الله له رضوانه لم يعذبه. ومن صام رجب كله حاسبه حساباً يسيرا) . موضوع: رواه أبو القاسم السمرقندي في "فضل رجب" عن أبان بن أبي عياش من حديث أنس: وحكم عليه بالوضع ابن حجر في "تبيين العجب" (ص 40-41) وفيه عمر بن الأزهري: قال البخاري يرمى بالكذب كما في "الميزان".

وكذبه يحيى بن معين. وأبان بن عياش: ضعيف، قال شعبة: "لأن أشرب من بول حمار حتى أروى أحبّ إلي من أن أحدث عن أبان بن عياش" كما في "الميزان" (ج 1/10) . (82) (رجب من أشهر الحرم، وأيامه مكتوبة على أبواب السماء السادسة، فإذا صام الرجل منه يوماً، وجوّد صومه بتقوى الله، نطق الباب ونطق اليوم، فقالا: يارب اغفر له. وإذا لم يتم صومه بتقوى الله لم يستغفرا له) . موضوع: قال ابن حجر في "تبيين العجب" (42) : "في إسناده إسماعيل بن يحيى التميمي، وهو مذكور بالكذب". (83) (من صام يوماً من رجب كان كصيام سنة، ومن صام سبعة أيام غلقت عنه أبواب جهنم. ومن صام ثمانية أيام فتحت له ثمانية أبواب الجنة ومن صام عشرة أيام لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه. ومن صام خمسة عشرة يوماً نادى مناد من السماء قد غفر لك ما سلف، فاستأنف العمل. ومن زاد زاده الله وفي شهر رجب حمل نوح السفينة فصام، وأمر من معه أن يصوموا) . موضوع: رواه البيهقي في "فضائل الأوقات" قال ابن حجر: فيه عثمان بن مطر كذّبه ابن حبان، وأجمع الأئمة على ضعفه. (84) (من صام يوماً من رجب، وصلى فيه أربع ركعات، يقرأ في أول ركعة مائة مرة آية الكرسي، وفي الركعة الثانية قل هو الله أحد مائة مرة، لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له) . موضوع: قال ابن حجر "هذا حديث موضوع على رسول الله. وأكثر رواته مجاهيل، عثمان بن عطاء متروك عند المحدثين". (85) حديث صلاة الرغائب: (رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي. قيل: يا رسول الله ما معنى قولك: رجب شهر الله؟ قال. لأنه مخصوص بالمغفرة، وفيه تحقن الدماء، وفيه تاب الله على أنبيائه، وفيه أنقذ أولياءه من بلاء عذابه. ومن صامه استوجب على الله

ثلاثة أشياء: مغفرة لجميع ما سلف من ذنوبه، وعصمته فيما بقي من عمره، وأماناً من العطش يوم العرض الأكبر. فقام شيخ ضعيف فقال: يا رسول الله، إني لأعجز عن صيامه كله. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صم أول يوم منه، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وأوسط يوم منه، وآخر يوم منه - فإنك تعطى ثواب من صام كله: ولكن لا تغفلوا عن أول ليلة جمعة في رجب، فإنها ليلة تسميها الملائكة: الرغائب. وذلك أنه إذا مضى ثلث الليل لا يبقى ملك في جميع السماوت والأرض إلا ويجتمعون في الكعبة وحواليها، ويطلع الله عزّ وجل عليهم اطلاعه، فيقول: ملائكتي، سلوني ما شئتم. فيقولون: يا ربنا حاجتنا إليك: أن تغفر لصوام رجب. فيقول الله عز وجل: قد فعلت: ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وما من أحد يصوم يوم الخميس، أول خميس من رجب، ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة، يعني ليلة الجمعة: اثنتي عشر ركعة) يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة، وإنا أنزلناه في ليلة القدر ثلاث مرات، وقل هو الله أحد، اثنتي عشر مرة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، فإذا فرغ من صلاته صلى سبعين مرة، يقول: اللهم صلى على محمد النبي الأمي، وعلى آله، ثم يسجد، فيقول في سجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبعين مرة، ثم يرفع رأسه ... " الحديث. موضوع: قال ابن حجر "وقد اتهموا به علي بن جهضم، فنسبوه إلى الكذب وسمعت شيخنا عبد الوهاب الحافظ، يقول: رجاله مجهولون. وقد فتشت عليهم جميع الكتب فما وجدتهم. وقال الحافظ: شيخ علي: علي بن محمد بن سعيد البصري مجهول، وشيخه مجهول قال المصنف. ولقد أبدع من وصفها، فإنه يحتاج من يصليها إلى أن يصوم، وربما كان النهار شديد الحر، فإذا صام لم يتمكن من الأكل حتى يصلي المغرب، ثم يقف فيها، ويقع في ذلك التسبيح الطويل، والسجود الطويل، فيتأذى غاية الأذى: وإني لأغار لرمضان ولصلاة التراويح. كيف زوحم بهذه؟ بل هذه عند العوام أعظم وأجل، فإنه يحضرها من لا يحضر الجماعات". (86) (إن شهررجب شهر عظيم، من صام منه يوماً كتب الله له صوم ألف سنة، ومن صام يومين كتب له صوم ألفي سنة، ومن صام منه ثلاثة أيام، كتب الله له صوم ثلاثة آلاف سنة، ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه أبواب جهنم، ومن صام منه ثمانية

أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية، فيدخل من أيها شاء، ومن صام خمسة عشر بدلت سيئاته حسنات ونادى مناد من السماء قد غفر لك، فاستأنف العمل، ومن زاد زاده الله) . موضوع: قال ابن حجر "هو حديث موضوع، لا شك فيه. والمتهم به الختلي أي إسحاق بن إبراهيم الختلي". (87) (من صام يوماً من رجب عدل صيام شهر، ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه أبواب الجحيم، ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ومن صام عشرة أيام بدّل الله سيئاته حسنات، ومن صام ثمانية عشر نادى منادٍ قد غفر الله لك ما مضى - فاستأنف العمل) . موضوع: قال ابن حجر: رشدين بن سعد والحكم بن مروان متروكان. (88) (في رجب يوم وليلة من صام ذلك اليوم، وقام تلك الليلة كان كمن صام من الدهر مائة سنة، وقام مائة سنة، وهو لثلاث بقين من رجب، وفيه، بعث الله محمدا) . منكر للغاية: قال ابن حجر "هذا حديث منكر إلى الغاية. وهيام بن بسطام الهروي: ضعفه ابن معين، وقال أبو داود: تركوه. وقال جزرة: الهياج منكر الحديث وخالد بن الهياج يروى المناكير". (89) (بعثت نبيا السابع والعشرين من رجب فمن صام ذلك اليوم كان كفارة ستين شهرا) . إسناده منكر: رواه هناد النسفي في "فوائده" عن أنس. وقال ابن حجر: إسناده منكر. (90) (نهى عن صوم رجب كله) . ضعيف: رواه ابن ماجه، والطبراني في "الكبير" والبيهقي في "فضائل الأوقات" عن ابن عباس. وفيه داود بن عطاء.

قال ابن حجر "داود بن عطاء المذكور لينه ابن معين، وقال البيهقي: داود ليس بالقوي" وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أحمد "ليس بشيء" كذا في "الميزان" (2/12) . (91) (عن مكحول أن رجلاً سأل أبا الدرداء عن صيام رجب، فقال: سألت عن شهر كانت الجاهلية تعظمه في جاهليتها، وما زاده الإسلام إلا فضلا وتعظيما، ومن صام منه يوماً تطوعا، يحتسب به ثواب الله ويبتغي به وجه الله مخلصا أطفأ صومه ذلك اليوم غضب الله، وغلق عنه بابا من أبواب النار، ولو أعطى ملء الأرض ذهباً ما كان حقا له، لا يستكمل أجره بشيء من الدنيا دون يوم الحساب، وله عشر دعوات مستجابات،.... ومن صام يومين كان له مثل ذلك، وله مع ذلك أجر عشرة من الصديقين في عمرهم بالغة أعمارهم، وشفع في مثل ما شفعوا.... ومن صام ثلاثة أيام كان له مثل ذلك، وقال الله له عند إفطاره: لقد وجب حق عبدي هذا، ووجبت له محبتي، أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ومن صام تسعة أيام منه رفع كتابه في عليين، وبعث يوم القيامة من الآمنين، ويخرج من قبره ووجهه يتلألأ حتى يقول أهل الجمع هذا نبي مصطفى، وإن أدنى ما يعطى أن يدخل الجنة بغير حساب، ومن صام عشرة أيام فبخ بخ بخ!، له مثل ذلك وعشرة أضعافه.... ويكون من المقربين لله بالقسط، وكمن عبد الله ألف عام صائماً قائماً محتسبا. ومن صام عشرين يوماً كان له مثل ذلك وعشرون ضعفا، وهو ممن يزاحم خليل الله في قبته، ويشفع في مثل ربيعة ومضر، كلهم من أهل الخطايا والذنوب، ومن صام ثلاثين يوماً كان له من جميع ذلك ثلاثين ضعفا..... وإذا خرج من قبره شيعه سبعون ألفاً من النجائب من الدر والياقوت ... فهو من أول الناس دخول جنات عدن..... فإن كان له في كل يوم يصومه على قدر قوته فتصدّق به فهيهات هيهات -ثلاثا- لو اجتمع الخلائق على أن يقدر وأقدر ما أعطي ذلك العبد من الثواب لما بلغوا معشار العشر مما أعطي ذلك العبد من الثواب) .

موضوع: قال ابن حجر في "تبيين العجب" (63-64) . "وهذا حديث موضوع ظاهر الوضع. قبح الله من وضعه فوالله لقد وقف شعري من قراءته في حال كتابته، فقبح الله من وضعه، ما أجرأه على الله وعلى رسوله، والمتهم به عندي: داود بن المحبر أو العلاء بن خالد كلاهما قد كذب، ومكحول لم يدرك أبا الدرداء، ولا والله ما حدّث به مكحول قط". هام: قال العلامة الحافظ ابن حجر العسقلاتي في كتابه "تبيين العجب بما ورد في فضل رجب" (ص 21) "لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو اسماعيل الهروي الحافظ رويناه عنه بإسناد صحيح". (92) (من صام يوم الأربعاء والخميس والجمعة بنى الله له بيتاً في الجنة يرى ظاهره من باطنه وباطنه من ظاهره) . ضعيف: رواه الطبراني في "الكبير" قال الهيثمي: وفيه صالح بن جبلة ضعفه الأزدي. (93) (من صام يوم الأربعاء والخميس والجمعة بنى الله له قصراً في الجنة من لؤلؤ وياقوت وزبرجد وكتب له براءة من النار) . ضعيف: رواه الطبراني في "الأوسط" عن أنس قال الهيثمى (3/199) . وفيه صالح بن جبلة ضعفه الأزدي. (94) (من صام يوم الأربعاء والخميس ويوم الجمعة ثم تصدق يوم الجمعة بما قل أو كثر غفر له كل ذنب عمله حتى يصير كيوم ولدته أمه من الخطايا) . ضعيف: رواه الطبراني في "الكبير". قال الهيثمي (3/199) : فيه محمد بن قيس المدني أبو حازم لم أجد من ترجمة. (95) (افترض الله تعالى على أمتي الصوم ثلاثين يوماً وافترض على سائر الأمم أقل وأكثر وذلك لأن آدم لما أكل من الشجرة بقي في جوفه مقدار ثلاثين يوماً فلما تاب الله عليه أمره بصيام ثلاثين يوماً بلياليها وافترض عليَّ وعلى أمتي بالنهار، وما نأكل

بالليل ففضل من الله) . موضوع: رواه الخطيب من حديث أنس. "ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" ولم يخالف فيه أقره السيوطي وابن عراق في "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" (2/145) وقال: وفيه موسى ابن نصر أبو عمران الثقفى". (96) (لو أذن الله لأهل السماوت وأهل الأرض أن يتكلموا بشروا صوام رمضان بالجنة) . موضوع: رواه العقيلي في "الضعفاء" عن أنس. قال ابن عراق (2/147) : إسناده مجهول وهو غير محفوظ حكم له بالوضع ابن الجوزي ولم يخالف فيها. (97) (إن الله تعالى أوحى إلى الحفظة أن لا يكتبوا على صوام عبيدي بعد العصر سيئة) . موضوع: حكم عليه بالوضع ابن الجوزي ولم يخالف فيه. قال ابن عراق (2/147) : رواه الخطيب من حديث أنس ولا يصح، فيه إبراهيم ابن عبد الله المحزمي الدقاق، قال الدارقطني: له أحاديث باطلة هذا منها. (98) (إذا كان أول ليلة من رمضان نادى الجليل رضوان خازن الجنة فيقول: لبيك وسعديك فيقول: نجّد جنتي وزينها للصائمين من أمة محمد ولا تغلقها عنهم حتى ينقضي شهرهم ... وفيه فإذا كان يوم فطرهم باهى بهم ملائكته..) . موضوع: قال ابن حبان هذا متن باطل، وحكم عليه بالوضع ابن الجوزي والسيوطي وابن عراق. (99) (من أفطر على تمرة من حلال زيد في صلاته أربعمائة صلاة) . موضوع: ذكره ابن عدي من حديث أنس من طريق موسى الطويل حكم عليه بالوضع ابن الجوزي ولم يخالف، وقال ابن عراق (2/147) "فأما وضعه فحدث به".

(100) (من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا عذر كان عليه أن يصوم ثلاثين يوماً، ومن أفطر يومين كان عليه ستين، ومن أفطر ثلاثة كان عليه تسعين) . موضوع: رواه الدارقطني في الأفراد من حديث أنس. قال ابن عراق "ولا يثبت فيه عمر بن أيوب وعنه محمد بن صبيح ليس بشيء قال السيوطي وجاء من طريق آخر أخرجه ابن عساكر، قال ابن عراق: فيه من لم أعرفهم والله أعلم. (101) (من أفطر يوماً من رمضان في غير رخصة رخّصها الله له، لم يقض عنه صيام الدهر كله وإن صامه) . ضعيف: رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي عن أبي هريرة، وقال الترمذي: سمعت محمداً -يعني البخاري- يقول: أبو المطوس الراوي لا أعرف له غير هذا الحديث (1) . وذكره البخاري تعليقا بصيغة التمريض. قال المناوي في "فيض القدير" (6/78) : "قال القرطبي: حديث ضعيف لا يحتج بمثله، وقال الدميري: ضعيف وإن علقه البخاري وسكت عليه أبو داود، وممن جزم بضعفه البغوي، وقال ابن حجر فيه اضطراب، قال الذهبي في "الكبائر هذا لم يثبت". وضعفه الألباني (2) . (102) (من أفطر يوماً من رمضان، فمات قبل أن يقضيه فعليه بكل يوم مُد لمسكين) . ضعيف: رواه أبو نعيم في "الحلية" عن ابن عمر ورواه الطبراني أيضاً "وفيه أشعث ابن سوار ضعفه جمع قاله المناوي (6/78) وضعفه السيوطي والألباني" (3) . (103) (عن عائشة أن شاباً كان صاحب سماع وكان إذا هل هلال ذي الحجة أصبح صائماً فأرسل إليه رسول الله فقال: ما يحملك على صيام هذه الأيام فقال بأبي

_ (1) وقال البخاري عن أبي المطوس بن يزيد "ولا أدري سمعه أبوه من أبي هريرة أم لا". (2) "ضعيف الجامع" رقم (5471) ، و"تخريج المشكاة" (2013) . (3) "ضعيف الجامع" رقم (5469) .

وأمي يا رسول الله إنها أيام المشاعر وأيام الحج عسى الله أن يشركني في دعائهم فقال لك بكل يوم عدل مائة رقبة تعتقها ومائة بدنة تهديها إلى بيت الله ومائة فرس تحمل عليها في سبيل الله، فإذا كان يوم عرفة فلك عدل ألفي رقبة، وألفي بدنة، وألفي فرش تحمل عليها في سبيل الله وصيام سنتين قبلها وسنتين بعدها) . موضوع: رواه ابن عدي ولا يصح. قال ابن عراق (2/148) : "فيه محمد بن عبيد المحرم، قال الذهبي في "ترجمة المحرم" عقب إيراد الحديث هذا كأنه موضوع، وقال الحافظ ابن حجر: هذا إن لم يكن موضوعا فما في الدنيا حديث موضوع والله تعالى أعلم". (104) (من صام آخر يوم من ذي الحجة وأول يوم من المحرم فقد ختم السنة الماضية وافتتح السنة المستقبلة بصوم جعل الله له كفارة خمسين سنة) . موضوع: رواه ابن الجوزي في "الموضوعات" ولم يخالف. "من حديث ابن عباس وفيه الجويباري وهب بن وهب" قاله ابن عراق. (105) (من صام تسعة أيام من أول المحرم بنى الله له قبة في الهواء ميلاً في ميل لها أربعة أبواب) . موضوع: رواه أبو نعيم في "الحلية" من حديث أنس. قال ابن عراق (2/148) : "وفيه موسى الطويل وهو آفته". (106) (من صام يوم عاشوراء كتب الله له عبادة ستين سنة بصيامها وقيامها، ومن صام يوم عاشوراء أعطي ثواب عشرة آلاف ملك، ومن صام يوم عاشوراء أعطي ثواب ألف حاج ومعتمر ومن صام يوم عاشوراء أعطي ثواب عشرة آلاف شهيد، ومن صام يوم عاشوراء كتب الله له أجر سبع سماوات، ومن أفطر عنده مؤمن في يوم عاشوراء فكأنما أفطر عنده جميع أمة محمد...." الحديث. موضوع: رواه ابن الجوزي في "الموضوعات" ولم يُخالف من حديث ابن عباس. قال ابن عراق (2/149) : "وفيه حبيب بن أبي حبيب وهو آفته".

(107) (في يوم عاشوراء تاب الله على آدم وعلى أهل مدينة يونس، وفيه ولد إبراهيم وفيه ولد عيسى بن مريم، وفيه فرق البحر لموسى وبني اسرائيل، وجرت السفينة آخر ذلك يوم العاشور لعشر مضين من المحرم، واستوت على الجوديّ فصام نوح وأصحابه والوحش شكراً لله عز وجل) . موضوع: فيه ابن الصباح وهو وضّاع. (108) (لو يعلم العباد ما رمضان لتمنت أمتي أن يكون السنة كلها، فقال رجل من خزاعة: يا نبي الله حدثنا، فقال: "إن الجنة لتزين لرمضان من رأس الحول إلى الحول، فإذا كان أول يوم من رمضان هبت ريح من تحت العرش فصفقت ورق الجنة فتنظر الحور العين إلى ذلك فيقلن: يا رب اجعل لنا من عبادك في هذا الشهر أزواجا تقر أعيننا بهم، وتقر أعينهم بنا، قال: فما من عبد يصوم يوماً من رمضان إلا زوج زوجة من الحور العين في خيمة من درة مما نعت الله (حور مقصورات في الخيام) على كل امرأة سبعون حلة ليس منها حلة على لون الأخرى، تعطي سبعين لوناً من الطيب، ليس منه لون على ريح الآخر، لكل امرأة منهن سبعون ألف وصيفة لحاجتها، وسبعون ألف وصيف، من كل وصيف صحفة من ذهب، فيها لون طعام تجد لآخر لقمة منها لذة لا تجد لأوله، لكل امرأة منهن سبعون سريرا من ياقوتة حمراء، على كل سرير سبعون فراشا بطائنها من استبرق، فوق كل فراش سبعون أريكة، ويعطى زوجها مثل ذلك على سرير من ياقوت أحمر، موشح بالدر، عليه سواران من ذهب، هذا بكل يوم صامه من رمضان، سوى ما عمل من الحسنات) . موضوع: رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وأبو يعلى من حديث أبي مسعود الغفاري. قال ابن عراق (2/154) : "فيه جرير بن أيوب، قال البيهقي: وجرير بن أيوب ضعيف عند أهل النقل" وأورده المنذري في "الترغيب" من حديث أبي مسعود وقال عقبة جرير بن أيوب واه، ولوائح الوضع ظاهرة على الحديث". (109) (لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا شهر رمضان) .

ضعيف: رواه ابن عدي والبيهقي في سننه من حديث أبي هريرة، وحكم عليه بالوضع ابن الجوزي واقتصر البيهقي على تضعيفه. قال ابن عراق (2/153) : "وجاء من حديث ابن عمر أخرجه تمام في فوائده، ومن حديث عائشة أخرجه ابن النجار، وفي سند الأول ناسب بن عمرو، وفي سند الثاني من لم أعرفهم". (110) (من صام العشر فله بكل يوم صوم شهر وله بصوم يوم التروية سنة، وله بصوم يوم عرفة سنتان) . موضوع: أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" من حديث ابن عباس. قال ابن عراق (2/156) : "إخراج أبي الشيخ له في "الثواب" لا يرقيه عن درجة الوضع، وحديث جابر عند ابن النجار في "تاريخه لا يصلح شاهدا لأنه من طريق محمد ابن عبد الملك الأنصاري وهو وضاع والله أعلم". (111) [حديث] (أبي غليظ بن أمية الجمحي رآني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلي يدي صرد فقال: "هذا أول طائر صام يوم عاشوراء) . حديث منكر: رواه الخطيب وحكم عليه بالوضع ابن الجوزي، وفيه عبد الله بن معاوية منكر الحديث. قال ابن عراق (2/156) : "الحديث أخرجه ابن قانع في "معجم الصحابة". وقال في "الميزان": "هذا حديث منكر". (112) (من أحيى ليلة من رجب وصام يومها أطعمه الله من ثمار الجنة وكساه من حلل الجنة وسقاه من الرحيق المختوم إلا من فعل ثلاثاً: من قتل نفسا أو سمع مستغيثا يستغيث بليل أو نهار فلم يغثه أو شكى إليه أخوه حاجة فلم يفرج عنه) . موضوع: رواه ابن الجوزي في "الموضوعات" من حديث الحسين بن علي وفيه الحسين بن مخارق وهو المتهم به.

(113) (لله تعالى عند كل فطر من شهر رمضان كل ليلة عتقاء من النار ستون ألفا فإذا كان يوم الفطر أعتق مثل ما أعتق في جميع الشهر ثلاثين مرة ستين ألفا) . قال الحافظ بن حجر فيه زيادة منكرة. فيه ناشب بن عمرو الشيباني، قال فيه ابن حجر في "لسان الميزان" "قال الدارقطني ضعيف، وقال البخاري منكر الحديث". (114) (إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام، وإذا سلم رمضان سلمت السنة) . ضعيف: رواه الدارقطني في "الأفراد" من حديث عائشة وفيه عبد العزيز بن أبان وأخرجه البيهقي في "الشعب" من طريقه. وفيه عبد العزيز بن أبان وهو ضعيف بمرة. (115) (من صام رمضان في إنصات وسكون، وكفّ سمعه وبصره وجوارحه من الحرام والكذب اقترب الله منه يوم القيامة حتى تمس ركبته ركبة إبراهيم عليه السلام) . موضوع: رواه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أبي هريرة وفيه السري ابن سهل. قال ابن عراق (2/160) : "عند الحارث في "مسنده" من حديث أبي هريرة وابن عباس خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الحديث وفيه "ومن صام رمضان وكفّ عن الغيبة والنميمة والكذب والخوض بالباطل وأمسك لسانه إلا عن ذكر الله، وكفّ سمعه وبصره وجميع جوارحه عن جميع محارم الله وعن أذى المسلمين كان له من القربى عند الله أن تمس ركبته ركبة إبراهيم الخليل عليه السلام (قال الحافظ ابن حجر في المطالب العالية هذا حديث موضوع. إلا أن ابن الجوزي أورد حديثه في الواهيات وأقره الذهبي في تلخيصه ولم يزد في جرح السري على قوله ضعّفه الدارقطني فكان عنده ليس موضوعاً والله أعلم) . (116) (أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم يُعطها أمة قبلهم: خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين

الله كل يوم جنته، ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى، ويصيروا إليك، ويصفّد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة. قيل: يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال: "لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله") . ضعيف: قال المنذري: رواه أحمد والبزار والبيهقي وكذا في "الإتحاف" أيضاً، وزاد رواه ابن منيع والحارث بسند ضعيف. وضعفه ابن حجر في "المطالب العالية" (1/275) . (117) (اتقوا شهر رمضان فإنه شهر الله جعل لكم إحدى عشر شهرا تشبعون فيها وتروون وشهر رمضان شهر الله، فاحفظوا فيه أنفسكم) . موضوع: رواه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أبي أمامة وواثلة وعبد الله بن بسر، وحكم عليه بالوضع السيوطي، وفيه إسحاق بن محمد الأسدي. (118) (تدرون لم سمي شعبان لأنه يتشعب فيه لرمضان خير كثير وإنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يذيبها من الحر) . موضوع: رواه أبو الشيخ من حديث أنس، وحكم عليه السيوطي بالوضع، وفيه زياد بن ميمون وهو هالك اعترف بالكذب. (119) (تدرون لم سُمي رمضان؟ لأنه ترمض فيه الذنوب، وإن في رمضان ثلاث ليال من فاتته فاته خير كثير: ليلة سبع عشر وليلة تسع عشرة وليلة إحدى وعشرين وآخر ليلة. فقال عمر: يا رسول الله هي سوى ليلة القدر؟ قال نعم، ومن لم يغفر له في شهر رمضان، ففي أي شهر يغفر له) . موضوع: رواه الديلمي في "مسند الفردوس" من طريق زياد بن ميمون، وحكم عليه السيوطي بالوضع. (120) (من صام يوماً من رجب وقام ليلة من لياليه بعثه الله آمناً يوم القيامة ومرّ على الصراط وهو يهلل ويكبر) . موضوع رواه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث جابر من طريق إسماعيل

(ابن يحيى التيمي) ، قال عنه جزرة: كان يضع الحديث، وقال الأزدي: ركن من أركان الكذب. (121) (صوموا يوم النيروز خلافا على المشركين ولكم عندي صيام سنتين) . موضوع: رواه الديلمي في "مسند الفردوي" من حديث أنس. قال ابن عراق "فيه عبد الوهاب بن إبراهيم الحراني وجماعة لم أعرفهم والله تعالى أعلم" وحكم عليه بالوضع السيوطي. (122) (رجب شهر الله الأصم المنبتر الذي أفرده الله تعالى لنفسه فمن صام يوماً إيمانا واحتسابا استوجب رضوان الله الأكبر. وشهر رمضان شهر أمتي ترمض فيه ذنوبهم، فإذا صام عبد مسلم ولم يكذب ولم يغتب، وفطره طيب خرج من ذنوبه كما تخرج الحية من سلخها) . موضوع: رواه الحاكم في تاريخه من حديث أبي سعيد الخدري وفيه أبو هرون العبدي متروك وعنه عصام بن طليق ليس بشيء. قال ابن عراق: "لعل الآفة أبو هرون فإنهم كذبوه حتى قال بعضهم هو أكذب من فرعون". (123) (صوم يوم عرفة كصوم ستين سنة) . موضوع: رواه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث ابن مسعود وفيه محمد ابن تيميم قال فيه ابن حبان كان يضع الحديث. والحديث حكم عليه السيوطي وابن عراق بالوضع. (124) (في أول ليلة من ذي الحجة ولد إبراهيم، فمن صام ذلك اليوم كان كفارة ثمانين سنة، وفي تسع من ذي الحجة أنزل توبة داود فمن صام ذلك اليوم كان كفارة ستين سنة) . موضوع: رواه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث علي، وفيه محمد بن سهل بن الحسين العطار قال الدارقطني كان يضع الحديث، ومن حديث ابن مسعود

صدّره بلفظ ولد إبراهيم الخليل في أول يوم من ذي الحجة فصوم ذلك اليوم كصوم سبعين سنة". قال ابن عراق: وفى سنده من لم أقف لهم على ترجمة. (125) (من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه، وإن صام يوم عرفة أعطاه الله عز وجل مثل ثواب عيسى بن مريم، وإن لم يأكل يوم النحر حتى يصلي أعطاه الله ثواب من صلى في ذلك اليوم، فإن مات إلى ثلاثين مات شهيدا) . موضوع: رواه الديلمي من حديث أنس، وفيه حماد بن عمرو: قال الجوزقاني كان يكذب، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث. حكم عليه بالوضع السيوطي وابن عراق. (126) (من أفطر عنده يوم عاشوراء فكأنما أفطر عنده جميع أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . موضوع: رواه أبو نعيم في "الحلية" من حديث ابن عباس، وفيه حبيب بن أبي حبيب كان يضع الحديث. والحديث حكم عليه بالوضع السيوطي وابن عراق. (127) (يسبح للصائم كل شعرة منه، ويوضع للصائمين والصائمات يوم القيامة تحت العرش مائدة من ذهب مكللة بالدر والجوهر على مقدار دائرة الدنيا عليها من أنواع أطعمة الجنة وأشربتها وثمارها فهم يأكلون ويشربون وينعمون والناس في شدة الحساب) . موضوع: رواه الديلمي من حديث أبي الدرداء من طريق أبي عصمة نوح بن أبي مريم. (128) (من صام يوماً تطوعا فلو أعطي ملء الأرض ذهباً ما وفي بأجره دون يوم الحساب) . موضوع: رواه ابن النجار في تاريخه من حديث أنس، وفيه خراش مولى أنس، وعنه أبو سعيد العدوي. قال ابن عراق (1/57) : "خراش بن عبد الله الطحان عن أنس ساقط عدم، ما أتى به غير أبي سعيد العدوي الكذاب".

(129) (من صلى الجمعة وصام يومه وعاد مريضا وشهد جنازة وشهد نكاحاً وجبت له الجنة) . ضعيف: قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/200) : "رواه الطبراني في "الكبير والأوسط" بنحوه، عن أبي أمامة وفيه محمد بن حفص وهو ضعيف. (130) (من ألبسه الله نعمة فليكثر من الحمد لله، ومن كثرت ذنوبه فليستغفر الله، ومن أبطأ رزقه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، ومن نزل بقوم فلا يصومن إلا بإذنهم ... ) الحديث. ضعيف: رواه الطبراني في "الصغير والأوسط" عن أبي هريرة. قال الهيثمي (3/201) : "وفيه يونس بن تميم ضعّفه الذهبي بهذا الحديث". (131) (سيد الشهور رمضان وأعظمها حرمة ذو الحجة) . ضعيف: رواه البزار عن أبي سعيد الخدري، وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي. (132) (إن أمتي لم يخزوا ما أقاموا شهر رمضان. قيل: يا رسول الله، وما خزيهم في إضاعة شهر رمضان؟ قال: انتهاك المحارم فيه، من زنى فيه أو شرب فيه خمراً لعنه الله ومن في السماوات إلى مثله من الحول، فإن مات قبل أن يدركه رمضان فليست له عند الله حسنة يتقي بها النار، فاتقوا شهر رمضان فإن الحسنات تضاعف فيه ما لا تضاعف فيما سواه وكذلك السيئات) . ضعيف: رواه الطبراني في الصغير والأوسط عن أم هانئ بنت أبي طالب وفيه عيسى بن سليمان أبو طيبة ضعفه ابن معين ولم يكن فيمن يتعمد الكذب ولكنه نسب إلى الوهم. (133) (لكل شيء باب، وباب العبادة الصيام) . ضعيف: رواه أبو يعلى في مسنده عن أبي الدرداء رفعه، وفيه أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف الحديث. (134) (سُئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قبلة الصائم قال: "ريحانة تشمها") .

ضعيف: رواه ابن أبي عمر، والطبراني في الصغير والأوسط. قال ابن أبي حاتم في "العلل" (1/246) "سألت أبي عنه فقال: حديث باطل". قال الهيثمي: فيه أبان بن أبي عياش وهو ممن يرغب عن الرواية عنه. (135) (عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا عائشة، هل من كسرة؟ فأتيته بقرص، فوضعه في فيه، وقال: يا عائشة، هل دخل بطني منه شيء؟ كذلك قبلة الصائم، إنما الإفطار مما دخل، وليس مما خرج") . ضعيف: رواه أبو يعلى في مسنده، وفيه سلمى من بكر بن وائل لا تعرف كما في "التقريب"، ورزين البكري إن كان هو الجهني فثقة، وإلا فمجهول. قال الهيثمي "رواه أبو يعلى وفيه من لم أعرفه". والصواب في الحديث أنه موقوف على ابن عباس. (136) (ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره) . لا أصل له مرفوعا: قال العراقي في "تخريج الإحياء" (1/30، 105) : رواه الترمذي الحكيم في "النوادر" من قول بكر بن عبد الله المزني، ولم أجده مرفوعا". وأقره السخاوي في "المقاصد الحسنة" (970) قاله الألباني في "السلسلة الضعيفة" رقم (961 ج 2/378) . (137) (تحفة الصائم الدهن والمجمَر) . موضوع: رواه الترمذي عن الحسن بن علي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال الترمذي: "هذا حديث غريب ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث سعد ابن طريف. وسعد يضعف، ويقال عمير بن مأموم أيضاً". ورواه البيهقي في "شعب الإيمان". وضعف الحديث السيوطي في "الجامع الصغير" قال المناوي (3/233) : "قال الديلمي: سعد وعمير ضعيفان، وقال ابن الجوزي: لا يعرف إلا من حديث سعد وقد قال يحيى: لا تحل الرواية عنه، وقال ابن حبان كان يضع

الحديث انتهى. وقال الذهبي: تركه واتهمه ابن حبان. وقال الألباني في "ضعيف سنن الترمذي" موضوع (1/92) . (138) (من نزل على قوم، فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم) . ضعيف جدا: رواه الترمذي من حديث عائشة. "قال الترمذي: سألت محمد يعني البخاري عنه فقال: حديث منكر، وقال عبد الحق: ما في رجاله من يقبل حديثه. وقال ابن الجوزي لا يصح" انتهى من "فيض القدير" (6/231) وضعفه السيوطي، وقال الألباني: ضعيف جدا. (139) (ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر) . ضعيف: رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مسعود بن واصل عن النهاس. وسألت محمدا -يعني البخاري- عن هذا الحديث فلم يعرفه من غير هذا الوجه. وقد تكلم يحيى بن سعيد في نهاس بن قهم من قبل حفظه". قال المناوي "والنهاس ضعفوه فالحديث معلول، وقال ابن الجوزي: حديث لا يصح تفرد به مسعود بن واصل عن النهاس، ومسعود ضعفه أبو داود، والنهاس قال القطان: متروك، وابن عدي قال عنه: لا يساوي شيئاً، وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به، وأورده في "الميزان" من مناكير مسعود عن النهاس، وقال: مسعود ضعّفه الطيالسي، والنهاس فيه ضعف" انتهى من "فيض القدير" (5/474-475) والحديث ضعفه السيوطي والدارقطني في "العلل"، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (5161) ، وضعيف الترمذي (762) ، وضعيف ابن ماجه (1728) ، و"مشكاة المصابيح" (1471) . (140) (عن مسلم القرشي قال: سألت -أو سُئل- النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيام الدهر؟ فقال: (إن لأهلك عليك حقا، ثم قال: "صم رمضان والذي يليه، وكل أربعاء وخميس،

فإذا أنت قد صمت الدهر وأفطرت") . رواه الترمذي وأبو داود، وقال الترمذي: حديث مسلم القرشي حديث غريب وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" (420) ، "ضعيف الترمذي" (761) ، و"المشكاة" (2061) . (141) (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصوم من الشهر السبت، والأحد، والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء، والأربعاء، والخميس) . ضعيف: رواه الترمذي عن عائشة وقال هذا حديث حسن. وروى عبد الرحمن ابن مهدي هذا الحديث عن سفيان، ولم يرفعه. وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي" رقم (750) . (142) (إن كنت صائما بعد شهر رمضان، فصم المحرم، فإنه شهر الله، فيه يوم تاب الله فيه على قوم، ويتوب فيه على قوم آخرين) . ضعيف: رواه الترمذي عن علي، وقال الترمذي. هذا حديث حسن غريب، وأشار إلى حسن السيوطي في "الجامع الصغير". قال المناوي في "فيض القدير" (3/34) : "قال الزين العراقي: تفرد بإخراجه الترمذي، وقد أورده ابن عدي في "الكامل" في ترجمة عبد الرحمن الواسطي، ونقل تضعيف الأئمة له أحمد بن حنبل وابن معين والبخاري والنسائي" وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" (1298) . (143) (عن عائشة قالت "كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا منه") . فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبدرتني إليه حفصة -وكانت ابنة أبيها- فقالت: يا رسول الله!! إنا كنا صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه، قال: (اقضيا يوماً آخر مكانه) . وعند أبي داود (لا عليكما، صوما مكانه يوماً آخر) . رواه الترمذي وأبو داود عن عائشة.

وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (6317) ، و"ضعيف سنن أبي داود" و"ضعيف سنن الترمذي" (118) ، و"مشكاة المصابيح" (2080) . (144) (ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة، والقيء، والاحتلام) . ضعيف: رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري، وعند أبي داود عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لا يُفطِر من قاء، ولا من احتلم، ولا من احتجم) . ضعيف: ضعفه الألباني في تخريج حقيقة الصيام "ضعيف سنن الترمذي"، "ضعيف سنن أبي داود" (513) ، "ضعيف الجامع الصغير" (2567) . (145) (عن معاذ بن زهرة، أنه بلغه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أفطر، قال "اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت) . رواه أبو داود وعبد الله بن المبارك في "الزهد" والبيهقي، وابن أبي شيبة في "المصنف" وابن السني. سنده ضعيف: فإن مع إرسال فيه جهالة معاذ أورده ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلا، ولم يوثقه ابن حجر في "التقريب" وإنما قال "مقبول" يعني عند المتابعة، كما نص عليه في المقدمة. وهناك طريقان ضعيفان جدا، لا يستشهد بهما، فيبقى حديثه ضعيفا والطريقان هما: طريق ابن عباس كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أفطر قال: "اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا، اللهم تقبل منا، إنك أنت السميع العليم". ضعيف. أخرجه الدارقطني، وابن السني، والطبراني في "المعجم الكبير". وفيه عبد الملك بن هارون ضعيف جدا، قال الذهبي في "الضعفاء": تركوه، قال السعدي: دجال وفيه هارون بن عنترة، مختلف فيه. ولذلك قال ابن القيم في "زاد المعاد": لا يثبت. وقال الحافظ في "التلخيص": سنده ضعيف، وقال الهيثمي: ضعيف جدا. وحديث أنس بلفظ كان إذا أفطر قال: "بسم الله، اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت" أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير والأوسط" ومن طريقة أبو نعيم في "تاريخ أصبهان".

وقال الطبراني: تفرد به إسماعيل بن عمرو قال الذهبي في "الضعفاء": ضعفه غير واحد، وشيخه داود بن الزبرقان شر منه، قال الذهبي: "قال أبو داود: متروك" وقال الحافظ في "التقريب": متروك كذبه الأزدي. (146) (عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الله عز وجل: أحبّ عبادي إلي أعجلهم إليّ فطر) . ضعيف: رواه أحمد في مسنده والترمذي واللفظ لي وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة، وأشار إلى صحته السيوطي. وقال الترمذي: حسن غريب. قال المناوي "وفيه مسلم بن علي الخشني قال في "الميزان" شامي واه، وقال البخاري: منكر الحديث، والنسائي متروك وابن عدي حديث غير محفوظ ثم ساق له هذا الخبر" انتهى من "فيض القدير" (4/485) . (147) (عن عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها) . ضعيف: ضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" و (المشكاة 2005) . (148) (عن قدامة بن ملحان قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بصوم أيام الليالي الغر البيض ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة) . ضعيف: رواه النسائي وضعفه الألباني في "ضعيف النسائي" رقم (150) . وبلفظ آخر: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يأمر بهذه الأيام الثلاث البيض ويقول: "هن صيام الشهر" عن عبد الملك بن أبي المنهال يحدث عن أبيه رواه النسائي واللفظ له، وابن ماجه وضعفه الألباني في "ضعيف النسائي" رقم (148) ، و"ضعيف ابن ماجه" رقم (375) . (149) (عن حفصة قالت: "أربع لم يكن يدعهن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر وركعتين قبل الغداة") . ضعيف: رواه النسائي، وضعفه الألباني في "ضعيف النسائي" رقم (141) ، و"الإرواء" (954) عن أم سلمة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر بصيام ثلاثة أيام، أول خميس، والاثنين.

قال الألباني: شاذ. (150) (عن ابن عباس، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أبصرت الهلال الليلة. فقال "أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله؟ قال: نعم قال: "قم يا بلال! فأذن في الناس أن يصوموا غدا") . ضعيف: ضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" (402-403) ، "الإرواء" (907) ، "ضعيف ابن ماجه" (364) . (151) (عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحُبلى التي تخاف على نفسها، أن تفطر. وللمرضع التي تخاف على ولدها) . ضعيف جدا: ضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه" (366) . (152) (عن فضالة بن عبيد الأنصاري أن النبي خرج عليهم في يوم كان يصومه. فدعا بإناء فشرب. فقلنا: يا رسول الله! إن هذا يوم كنت تصومه؟ قال: "أجل. ولكني قِئتُ") . ضعيف: رواه ابن ماجه، وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه" (369) . (153) (من خير خصال الصائم السواك) . (خير خصال الصائم السواك) . ضعيف: الأول من رواية ابن ماجه ولفظه، والثاني رواه البيهقي في سننه، والجميع عن عائشة قال المناوي في "فيض القدير" (3/486) : "مجالد وعاصم ليسا بقويين ورواه الدارقطني من هذا الوجه ثم قال فمجالد غيره أثبت منه". (154) (عن ميمونه مولاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل قبّل امرأته وهما صائمان قال: "قد أفطر") . ضعيف جدا: رواه ابن ماجه والدارقطني وقال الألباني "في ضعيف ابن ماجه" (372) : ضعيف جدا.

قال الحافظ الغساني: لا يثبت هذا وأبو يزيد الضبي ليس بمعروف. عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (155) (استعينوا بطعام السحر على صيام النهار. وبالقيلولة على قيام الليل) . ضعيف: رواه ابن ماجه واللفظ له والحاكم والطبراني في "الكبير" والبيهقي في "شعب الإيمان"، قال المناوي "قال الحاكم - فيه زمعة بن صالح وسلمة بن وهرام ليسا بمتروكين وأقرّه الذهبي في "التلخيص" لكنه أورد زمعة في "الضعفاء والمتروكين" وقال ضعّفه أحمد وأبو حاتم والدارقطني، ونقل في "الكاشف" عن أبي داود أنه ضعّف سلمة هذا، وقال ابن حجر في سنده زمعة بن صالح وفيه ضعف، وقال السخاوي: زمعة كان مع صدقة ضعيفا لخطئه ووهمه ولذا لم يخرج له مسلم إلا مقروناً بغيره، وسلمة ضعيف مطلقاً أو في خصوص ما يرويه عن زمعة" انتهى من "فيض القدير" (1/494) . وضعّفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه" (373) و"ضعيف الجامع" (816) . (156) (عن محمد بن إبراهيم، أن أسامة بن زيد كان يصوم أشهر الحرام، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صم شوالا فترك أشهر الحرم، ثم لم يزل يصوم شوالا حتى مات) . ضعيف. رواه ابن ماجه، وضعّفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه" رقم (381) . (157) (عن ابن عمر؛ قال "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يغَدي أصحابه من صدقة الفطر") . ضعيف: رواه ابن ماجه، وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه" (388) . (158) (عن مجيبة الباهلية عن أبيها، أو عمها أنه أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم انطلق، فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حالته وهيئته، فقال: يا رسول الله أما تعرفني؟ قال: "ومن أنت؟ " قال: أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول، قال: "فما غيّرك، وقد كنت حسن الهيئة؟ قال: ما أكلت طعاماً إلا بليل، منذ فارقتك، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "لم عذّبت نفسك؟ " ثم قال: "صم شهر الصبر ويوماً من كل شهر"، قال زدني فإن بي قوة، قال "صم يومين"، قال: زدني، قال "صم ثلاثة أيام"،

قال: زدني، قال: "صم من الحُرُم واترك، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك" وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها". ضعيف: رواه أبو داود واللفظ له، وابن ماجه، قال ابن حجر في "تبيين العجب" (24) . في إسناده من لا يعرف، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" (526) ، و"ضعيف ابن ماجه" (379) . (159) (عن ابن عباس، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في "المعتكف" هو يعكِف الذنوب، ويُجَرى له من الحسنات كعامل الحسنات كلها) . ضعيف: رواه ابن ماجه واللفظ له، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" بلفظ "المعتكف يعكف الذنوب، ويجرى له من الأجر كأجر عامل الحسنات كلها". ضعيف: ضعفه السيوطي في "الجامع" رقم (5940) ، والألباني في "ضعيف ابن ماجه" (394) ، "المشكاة" (2108) . (160) (عن أبي هريرة "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الذي أفطر يوماً من رمضان بكفارة الظهار") . ضعيف: رواه الدارقطني في سننه، وقال الحافظ الغساني في "تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدارقطني" (246) رقم (582، 583) : الحِماني ليس بالقوي وليث عن مجاهد: ليث ليس بالقوي. (161) (وعن أبي هريرة "أن رجلاً أكل في رمضان فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين أو يطعم ستين مسكينا") . ضعيف: رواه الدارقطني برقم 53 (2/191) ، وقال الحافظ الغساني (584) (ص 246) : أبو معشر هو نجيح ليس بالقوي. (162) (أفضل الصوم بعد رمضان شعبان لتعظيم رمضان، وأفضل الصدقة صدقة في رمضان) .

رواه الترمذي، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس، وقال الترمذي: غريب، وضعفه السيوطي والألباني، وفيه صدقة بن موسى قال الذهبي في "المهذب": صدقة ضعّفوه". (163) (شعبان شهري، ورمضان شهر الله) . ضعيف. رواه الديلمي في "مسند الفردوس" عن عائشة: وفيه الحسن بن يحيى الخشني قال الذهبي تركه الدارقطني وضعفه السيوطي والألباني. (164) (جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش، فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله وأنه ليس أحب إلى الله من جوع وعطش) . ليس له أصل: قال العراقي في "تخريج الإحياء" "لم أجد له أصلا" (3/88) . (165) (أقرب الناس من الله يوم القيامة من طال جوعه وعطشه ... ) . قال العراقي "أخرجه الخطيب في "الزهد" من حديث سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأقبل على أسامة بن زيد ... ومن طريقه رواه ابن الجوزي في "الموضوعات"، وفيه حباب بن عبد الله بن جبلة أحد الكذابين وفيه من لا يعرف أيضاً وهو منقطع أيضاً. (166) (أديموا قرع باب الجنة يفتح لكم، فقلت: كيف نديم قرع باب الجنة؟ قال: "بالجوع والظمأ") . قال العراقي في "تخريج الإحياء" لم أجده. (167) (السائحون هم الصائمون) . رواه الحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة، ورواه عنه ابن منده وأبو الشيخ والديلمي وأعله الدارقطني في "العلل" (8/206) ، والصحيح عن الأعمش موقوف عن أبي هريرة وأخرجه العقيلي في "الضعفاء"، وابن عدي في "الكامل" وقال: لا أعلم رفع هذا الحديث عن الأعمش غير حكيم بن خذام (2/638) ، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3329) .

(168) (كان إذا دخل رمضان تغيّر لونه وكثرت صلاته، وابتهل في الدعاء، وأشفق لونه) . ضعيف: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن عائشة. قال المناوي في "فيض القدير" (5/132) "فيه عبد الباقي بن قانع قال الذهبي قال الدارقطني يخطئ كثيرا" وضعفه السيوطي، والألباني في "ضعيف الجامع" رقم (4404) . (169) (كان إذا دخل رمضان شد مئزره، ثم لم يأت فراشه حتى ينسلخ) . ضعيف: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن عائشة. قال المناوي: "رمز السيوطي لحسنه فيه الربيع بن سليمان فإن كان هو صاحب الإمام الشافعي فثقة أو الربيع بن سليمان البصري الأزدي فضعيف قال يحيى: ليس بشيء". وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (4405) . (170) (كان إذا دخل رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل) . رواه البيهقي في "شعب الإيمان" والبزار عن ابن عباس، ورواه ابن سعد عن عائشة. قال ابن حاتم في "العلل" (1/227) "سألت أبي عن حديث.. وذكر الحديث فقال: هذا حديث منكر" والحديث ضعيف فيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف. وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (4403) ، و"تخرج المشكاة" (1966) . (171) (كان إذا أفطر قال: الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت) . رواه ابن السني، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن معاذ. قال المناوي (5/107) : "قال ابن حجر أخرجاه عن رجل عن معاذ هذا وهذا محقق الإرسال ا. هـ، وأقول حصين بن عبد الرحمن هذا أورده الذهبي في "الضعفاء" وقال ثقة نسي أو شاخ وقال النسائي تغير" وضعف الحديث السيوطي، والألباني في "صحيح الجامع" (4353) ، و"الإرواء" (901) ، و"تخريج المشكاة" (1994) .

(172) (صمت الصائم تسبيح، ونومه عبادة، ودعاؤه مستجاب، وعمله مضاعف) . ضعيف: رواه أبو زكريا بن منده في "أماليه"، والديلمي في "مسنده الفردوس" عن ابن عمر. قال المناوي في "فيض القدير" (4/206) "فيه شيبان بن فروخ قال أبو حاتم يرى القدر اضطر إليه الناس بآخرة، والربيع بن بدر وهو ساقط. قال الذهبي: قال الدارقطني وغيره: متروك، قال ابن حجر في "الفتح" "في إسناده الربيع بن بدر وهو ساقط". وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3492) . (173) (صم صيام داود؛ فإنه أعدل الصيام عند الله، يوماً صائما، ويوما مفطرا، وإنه كان إذا وعد لم يخلف، وإذا لقي لم يفر) . ضعيف: رواه النسائي عن ابن عمرو وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3491) . (174) (صام نوح الدهر إلا يوم الفطر والأضحى، وصام داود نصف الدهر، وصام إبراهيم ثلاثة أيام من كل شهر، صام الدهر وأفطر الدهر) . ضعيف: رواه الطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عمرو قال المناوي (4/190) : "رمز السيوطي لحسنه قال الهيثمي: هذا الخبر فيه أبو فارس ولم أعرفه، وأقول فيه أيضاً ابن لهيعة"، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3464) . (175) (ذاكر الله في رمضان مغفورٌ له، وسائل الله فيه لا يخيب) . موضوع: رواه الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن عمر. قال المناوي في "فيض القدير" (3/559) : "قال الهيثمي: فيه هلال بن عبد الرحمن وهو ضعيف، وقال الذهبي في "الضعفاء" منكر الحديث، وأقول فيه أيضاً عبد الله بن علي بن جدعان قال الدارقطني لا يزال عندي فيه لين وقال الذهبي في "الضعفاء"

قال أحمد ويحيى ليس بشيء وأبو زرعة غير قوي". وحكم الألباني عليه بأنه موضوع في "ضعيف الجامع" رقم (3038) . (176) (إذا كان أول ليلة من رمضان فتحت أبواب السماء فلا يغلق منها باب حتى يكون آخر ليلة من رمضان فليس من عبد مؤمن يصلي في ليلة منها إلا كتب الله له ألفا وخمس مائة حسنة، بكل سجدة، وبنى له بيتا في الجنة من ياقوتة حمراء، لها ستون ألف باب لكل باب منها قصر من ذهب موشح بياقوتة حمراء، فإذا صام أول يوم من رمضان غفر له ما تقدم من ذنبه إلى مثل ذلك اليوم، ومن شهد رمضان استغفر له كل يوم سبعون ألف ملك، من صلاة الغداة إلى أن توارى بالحجاب، وكان له بكل سجدة سجدها في شهر رمضان بليل أو نهار شجرة يسير الراكب في ظلها خمس مائة عام) . موضوع: "رواه البيهقي في "شعب الإيمان"، و"فضائل الأوقات" عن أبي سعيد الخدري، وذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" وفيه محمد بن مروان السدي. قال الذهبي: تركوه، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ والضعف على رواياته بين، وقال الحافظ: متهم بالكذب. (177) (حديث: ابيضاض بدن آدم، بصيام أيام البيض) . قال الشوكاني في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" (ص 92) : قال صاحب الخلاصة: موضوع. (178) (عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ذكر شهر رمضان ففصله على الشهور وقال: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه") . ضعيف: قال الألباني ضعيف ذكره "ضعيف سنن النسائي" رقم (127 ص 76) . (179) (إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم، وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيماناً واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) .

ضعيف: أخرجه أحمد والبخاري في "التاريخ الكبير" والنسائي وابن ماجه والبزار في "مسنده"، والخلال في "الأمالي"، وعبد الغني المقدسي في "فضائل شهر رمضان" وابن شاهين في "فضائل شهر رمضان" من طريق النضر بن شيبان. قال البزار: تفرد به النضر. وقال ابن خزيمة "إني خائف أن يكون هذا الإسناد وهماً، أخاف أن يكون أبو سلمة لم يسمع من أبيه شيئاً". وقال النسائي بعد روايته هذا الحديث: "هذا خطأ الصواب حديث أبي سلمة عن أبي هريرة وقال ابن حجر في "التهذيب": "وقد جزم جماعة من الأئمة بأن أبا سلمة لم يصح سماعه من أبيه "وقال أيضاً في "التهذيب" (12/117) قال علي بن المديني وأحمد وأحمد وابن معين وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة وأبو داود: حديثه عن أبيه مرسل". وضعفه الألباني في "ضعيف سنن النسائي" رقم (129 ص 76، 77) . وقال ابن عبد البر: حديث النضر في سماع أبي سلمة عن أبيه لا يصححونه وذهب الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على السند" حديث رقم (1660 ج 1/127، 128) إلى تصحيح الحديث قال: إسناده صحيح. وقال "إن أبا سلمة مات سنة 94 عن 72 سنة أو أكثر فكانت سنه عند موت أبيه أكثر من 10 سنين، فما يبعد أن يحفظ عن أبيه أحاديث، وقد حفظ من هو أصغر من هذا وقبل الأئمة روايته، ولذلك لم يجزم البخاري بضعف هذا الحديث ولا علله وإنما ذكر أن حديث أبي سلمة عن أبي هريرة أصح وهو كما قال أصح. (180) (إن أبواب الجنان تفتح في أول ليلة من رمضان إلى آخر ليلة منه فلا تغلق منها باب، وتغلق أبواب جهنم في أول ليلة من رمضان إلى آخر ليلة منه فلا يفتح منها باب، وتغل فيه مردة الشياطين لحق رمضان وحرمته، ويبعث الله مناديا ينادي في السماء الدنيا كل ليلة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر: يا باغىَ الخير هلم هل من داع يستجاب له، هل من سائل يعطى سؤله، من مستغفر يغفر له، من تائب يتب عليه، ولله تعالى عتقاء عند وقت فطر كل ليلة من شهر رمضان عبادا أو إماء) .

ضعيف: رواه الخطيب في "التاريخ"، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" وفيه ناشب بن عمرو عن مقاتل بن حبان: قال الدارقطني: ضعيف، وقال البخاري منكر الحديث. ورواه الحافظ عبد الغني المقدسي في "فضائل شهر رمضان" وفيه ابن المذهب: قال الذهبي: ليس المتقن، وفيه القردواني: قال الحاكم: ليس بالمتين وفيه سابق البربري وهو غير سابق البربري الزاهد، ضعفه ابن عدي وذكره الذهبي في "المغني" في الضعفاء وسكت عنه ابن أبي حاتم في "الجرح". (181) (نهى عن صيام الراداة) . قال عمر بن حفص الوصابي: هو يوم الشك. حديث منكر: قال ابن أبي حاتم في "علل الحديث" (1/247) "قال أبي هذا حديث منكر". وهو من رواية صالح مولى التومة عن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (182) (عن عائشة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم، وكان أكثر صيامه في شعبان فقلت يا رسول الله: مالي أرى أكثر صيامك في شعبان فقال: يا عائشة إنه شهر ينسخ لملك الموت من يقبض فأحب أن لا ينسخ اسمي إلا وأنا صائم) . حديث منكر: قال ابن حاتم في "علل الحديث" (1/250-251) "سألت أبي عن حديث وذكر الحديث قال أبي: هذا حديث منكر". (183) (عن علي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من منعه الصيام من طعام أو شراب يشتهيه أطعمه الله من ثمار الجنة وسقاه من شرابها") . حديث منكر: قال ابن حاتم في "علل الحديث" (1/251) : "قال أبي هذا حديث منكر". (184) (ثلاث من فَعَلَهُن أطاق الصوم: من أكل قبل أن يشرب، وتسحر، وقال) . ضعيف: رواه البزار عن أنس وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (2542) .

(185) (ثلاث من حفظهن فهو ولي حقا، ومن ضيعهن فهو عدوي حقا: الصلاة، والصيام، والجنابة) . ضعيف: رواه الطبراني في "الأوسط" عن أنس وسعيد بن منصور في "سننه"، عن الحسن مرسلا. قال المناوي (3/290) "قال الهيثمي: فيه عدي بن الفضل وهو ضعيف". وأعله الدارقطني في "علله" (8/243) بالإرسال. وفيه "عبيد الله بن تمام ضعفه الدارقطني وأبو حاتم وأبو زرعة، وقال الساجي: كذاب يحدث بمناكير". (186) عن أبي هريرة قال "أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاث أيام من كل شهر ولا أنام إلا على وتر، سبحة الضحى". ضعيف: أخرجه البخاري في "تاريخه الكبير" في ترجمة أيوب بن يناق. لم يذكر فيه البخاري جرحاً ولا تعديلا، وفيه يونس بن الحارث الطائفي ضعيف. (187) عن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنه كان لا يرى بأسا بقضاء رمضان في عشر ذي الحجة". ضعيف: رواه الطبراني في "الصغير" و"الأوسط" وقال الهيثمي: وفيه إبراهيم بن إسحاق وهو ضعيف "مجمع الزوائد" (3/179) . وقال الدارقطني: متروك. (188) (لا يقض رمضان في عشر ذي الحجة، ولا تعمدن صوم يوم الجمعة، ولا تحتجم وأنت صائم، ولا تدخل الحمام وأنت صائم) . ضعيف: رواه الدارقطني في "العلل" (3/175) ، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" عن علي مرفوعا، قال الدارقطني: والأصح وقفه وأخرجه موقوفا على علي ابن أبي شيبة في "مصنفه"، وعبد الرزاق في "المصنف". (189) عن سعيد بن أبي وقاص "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصم يوم عاشوراء) . ضعيف: رواه الدارقطني في "العلل" (4/396-370) وقال: "عن شعبة مرسلا وهو الصواب".

(190) عن علي، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "في بيض النعام صوم يوم لكل بيضة". ضعيف: ذكره الدارقطني في "العلل" (4/10-11) ، والبيهقي في "سننه" في كتاب الحج، باب بيض النعام يصيبها المحرم، وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" وابن أبي شيبة. (191) (إن الله يكتب الصيام بالليل، فمن صام فقد تعنى ولا أجر له) . ضعيف: رواه الترمذي في "الجامع"، وابن السكن في "الصحابة" والدولابي في "الكنى" من حديث أبي سعيد الخير. قال ابن حجر في "الفتح" (4/239) "قال ابن منده: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال الترمذي. سألت البخاري عنه فقال: ما أرى أبا عبادة سمع من أبي سعيد الخير". (192) (من صلى في آخر جمعة من رمضان، الخمس الصلوات المفروض في اليوم والليلة، قضت عنه ما أخل به من صلاة سنته) . موضوع: قال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص 54) "هذا موضوع لا إشكال فيه، ولم أجده في شيء من الكتب التي جمع مصنفوها فيها الأحاديث الموضوعة، ولكنه اشتهر عند جماعة من المتفقهة بمدينة صنعاء في عصرنا هذا. وصار كثير منهم يفعلون ذلك، ولا أدري من وضعه لهم. فقبح الله الكذابين". (193) (من صلى ليلة الفطر مائة ركعة يقرأ في كل ركعة الحمد مرة وقل هو الله أحد عشر مرات ويقول في ركوعه وسجوده عشر مرات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإذا فرغ من صلاته استغفر مائة مرة ثم يسجد ثم يقول: يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما يا أرحم الراحمين يا إله الأولين والآخرين اغفر لي ذنوبي وتقبل صومي وصلاتي والذي بعثني بالحق لا يرفع رأسه من السجود حتى يغفر الله له ويتقبل منه شهر رمضان ... إلخ) .

موضوع: وأول الحديث: والذي بعثني بالحق نبياً: أن جبريل أخبرني عن إسرافيل عن الله -عز وجل-: "أن من صلى ليلة الفطر...." قال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص 52) : موضوع ورواته مجاهيل. (194) (من أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) . موضوع: رواه الطبراني في "الكبير" عن عبادة، وضعفه السيوطي. قال المناوي في "فيض القدير" (6/39) : "قال الهيثمي فيه عمر بن هارون البجلي والغالب عليه الضعف، وأثنى عليه ابن مهدي لكن ضعفه جمع كثيرون". وقال ابن حجر: حديث مضطرب الإسناد وفيه عمر بن هارون ضعيف، وقد خولف في صحابيه وفي رفعه، ورواه الحسن بن سفيان عن عبادة أيضاً وفيه بشر بن رافع متهم بالوضع، وأخرجه ابن ماجه من حديث بقية عن أبي أمامة بلفظ "من قام ليلتي العيد لله محتسباً لم يمت قلبه حين تموت القلوب، وتقية صدوق لكن كثير التدليس، وقد رواه بالعنعنة. ورواه ابن شاهين بسند فيه ضعف ومجهول، وقال الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (5367) : موضوع. (195) (أغنوهم -يعني المساكين- عن الطواف في هذا اليوم) . ضعيف: رواه ابن عدي والدارقطني من حديث ابن عمر قال الحافظ في "بلوغ المرام" (ص 149) بإسناد ضعيف، قال الصنعاني في "سبل السلام" (2/138) "لأن فيه محمد بن عمر الواقدي وهو متروك متهم بالكذب". (196) (عن أبي ذر أن جبريل قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إن الله قد قبل وصالك ولا يحل لأحد بعدك". ضعيف: قال الحافظ في "الفتح": رواه الطبراني في "الأوسط" من حديث أبي ذر وليس إسناده بصحيح. (197) (من صام ستة أيام بعد الفطر متتابعة فكأنما صام السنة) .

ضعيف: قال ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص 233) : أخرجه الطبراني وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعاً من طرق ضعيفة. (198) (صم رمضان، والذي يليه، وكل أربعاء وخميس؛ فإذا أنت قد صمت الدهر) . ضعيف: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن مسلم القرشيي، وكذا رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال الترمذي غريب وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (3488) . (199) (من قام ليلتي العيد محتسباً لله لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) . موضوع: رواه ابن ماجه في "سننه" وقال الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه" (395) : موضوع. (200) (كان يأمر بصيام البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة، وخمس عشرة ويقول: "هو كصوم الدهر" أو "كهيئة الدهر") . ضعيف: رواه ابن ماجه وقال الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه" رقم (375) : ضعيف". (201) (نعم الشهر شهر رمضان تُفَتّح فيه أبواب الجنان وتُغلق فيه أبواب النار، وتصفّد فيه الشياطين ويغفر فيه إلا لمن يأبَى) . إسناده ضعيف: أخرجه الخطيب البغدادي في "تاريخه"، وابن شاهين في "فضائل شهر رمضان" عن أبي هريرة، وفيه أبو معشر نُجيح بن عبد الرحمن قال ابن المديني: كان يحدّث عن نافع وعن المقبري بأحاديث منكرة. قال أحمد: أصح الناس حديثا عن سعيد المقبري، ليث بن سعد، وأضعفهم عنه حديثا أبو معشر. (202) (أُعْطيت أمتي في رمضان خمساً لم يعطهن نبي قبلي، أما واحدة: فإذا كان أول ليلة نظر الله عز وجل إليهم، ومن نظر الله عز وجل إليه لم يعذبه أبدا. وأما الثانية: فإن خلوف أفواههم حين يُمسون أطيب عند الله -عز وجل- من ريح المسك.

وأما الثالثة: فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة. وأما الرابعة: فإن الله عز وجل يأمر جنته فيقول تزيني واستعدي لعبادي. وأما الخامسة: فإذا كان آخر ليلة غُفر لهم) . إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في "فضائل الأوقات" وابن شاهين في "فضائل شهر رمضان" عن أبي هريرة، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" إلى الأصبهاني في "الترغيب" وأبو الشيخ في "الثواب"، ومدار الحديث على الهيثم بن الحواري، وزيد العمي، وزيد العمي ضعيف الحديث. وفيه هشام بن أبي هشام -أبو المقدام- وهو متروك الحديث كما في "التقريب". (203) (من أفطر يوماً من رمضان من غير مرض ولا رخصة فلا يفيه صيام الدهر كله وإن صامه) . إسناده ضعيف: أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، والدارقطني، والخلال في "الأمالي" وابن حبان في "المجروحين".... عن ابن المطوس -أو أبي المطوس- عن أبيه عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري تعليقا (فتح الباري 8/305) . (204) (إن الله تبارك وتعالى بنى جناناً كلها من ياقوت أحمر، أساسها وأعاليها شبّكت بالذهب، عليها ستور السندس والاستبرق، وكل جنة طولها مائة عام، [وعرضها مائة عام] ، في كل جنة مائة ألف قصر، في كل قصر قبّة بيضاء، سماؤها زبرجد أخضر، الأنهار تطرد في حيطانها، والأشجار دانية عليها، يقول: هذه الجنة صاحبها ينعم فلا ييأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تلك جنان بُنيت لمن صام شهر رمضان يهبها الله لأهلها يوم الفطر") . موضوع: أخرجه ابن أبي الدنيا في "فضل شهر رمضان" وزاهر بن طاهر الشحامي في "تحفة عيد الفطر"، وابن عساكر في "أماليه". وفي إسناده النضر بن طاهر، كذاب يسرق الحديث كما قال ابن عدي والذهبي، وسلام بن سليم متروك الحديث ومتهم.

(205) (اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، والعافية المجلّلة، ورفع الأسقام، والعون على الصيام والصلاة وتلاوة القرآن، اللهم سلمنا لرمضان وسلّمه لنا وتسلّمه منا حتى يخرج رمضان وقد غفرت لنا ورحمتنا وعفوت عنا". ثم يقبل على الناس بوجهه فيقول "أيها الناس: إن هذا شهر رمضان غُلَّتْ فيه الشياطين، وغُلّقت فيه أبواب جهنم، وفُتّحت فيه أبواب الجنان، ونادى مناد كل ليلة: هل من سائل فيُعطى، هل من مستغفر فأغفر له، اللهم أعط كل منفق خلفا، وعجّل لكل ممسك تلفا، حتى إذا كان يوم الفطر نادى منادٍ من السماء: اليوم يوم الجائزة فاغدوا فبادروا خذوا جوائزكم") . إسناده ضعيف: رواه ابن أبي الدنيا في "فضائل شهر رمضان" وابن عساكر عن أبي جعفر وهو مرسل. (206) (من أتى عليه شهر رمضان صحيحاً مسلماً صام نهاره وصلّى ورداً من ليله، وغضّ بصره، وحفظ فرجه ولسانه ويده وحافظ على صلاته مجموعة، وبكّر إلى جُمَعة فقد صام الشهر واستكمل الأجر وأدرك ليلة القدر، وفاز بجائزة الرب". إسناده ضعيف: نفس إسناد الحديث (205) . (207) (انبسطوا في النفقة في شهر رمضان فإن النفقة فيه كالنفقة في سبيل الله) . إسناده ضعيف: رواه ابن أبي الدنيا في "فضائل شهر رمضان" عن ضمرة بن حبيب وراشد بن سعد وفيه أبو بكر بن أبي مريم والحديث مرسل. (208) (نعم غداء المؤمن السحور إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) . إسناده ضعيف: رواه ابن أبي الدنيا في "فضل شهر رمضان" وأبو محمد الجوهري فيه أماليه عن ابن عمر وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقد صح آخر الحديث. (209) (الجماعة بركة، والثريد بركة، والسحور بركة، تسحروا فإنه يزيد في القوّة، تسحروا ولو على جرعة من ماء، صلوات الله على المتسحرين) . إسناده ضعيف جدا: أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" وأبو نعيم

وأبو موسى في "الصحابة" وابن أبي الدنيا في "فضائل شهر رمضان" عن أبي سعيد الإسكندراني وفيه. بحر السقاء متروك الحديث. والحديث مرسل، فالإسكندراني ليس بصحابي. (210) (إن الجنة تزخرف وتزين من الحول إلى الحول لدخول شهر رمضان، فإذا كانت أول ليلة من شهر رمضان هبّت ريح من تحت العرش يُقال لها: المتبرد فيصطفق ورق أشجار الجنان وحلق المصاريع، فيُسمع لذلك طنين لم يسمع السامعون أحسن منه، فتشرف الحور العين حتى يقفن على شجر الجنان فينادين: هل من خاطب إلى الله -عز وجل- فيزوجه، ثم يقلن: يا رضوان ما هذه الليلة فيجيبهن بالتلبية ثم يقول: يا خيرات حسان هذه أول ليلة من شهر رمضان فتفتح فيها أبواب الجنان للصائمين من أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول الله -عز وجل-: يا رضوان: افتح أبواب الجنان، يا مالك: اغلق أبواب الجحيم عن الصائمين من أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يا جبريل: اهبط إلى الأرض فصفِّدْ مردة الشياطين وغُلهُم في الأغلال ثم اقذف بهم في لجج البحار حتى لا يفسدوا على أمة حبيبي. قال: ثم يقول الله -عز وجل- في كل ليلة من شهر رمضان ثلاث مرات: هل من سائل فأعطيه سؤله، هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، من يقرض المليء غير المعدم، والوفي غير الظلوم، قال: ولله -عز وجل- في كل ليلة من شهر رمضان ألف ألف عتيق من النار، فإذا كان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أعتق في كل ساعة منها ألف ألف عتيق من النار كلهم استوجب العذاب، فإذا كان أخر ليلة من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بعدد ما أعتق من أول الشهر إلى آخره، فإذا كانت ليلة القدر أمر الله تبارك وتعالى جبريل عليه السلام فيهبط في كوكبة من الملائكة ومعه لواء أخضر مركز اللواء على ظهر الكعبة وله ستمائة جناح؛ منها جناحان لا ينشرهما إلا في ليلة القدر، فينشرهما في تلك الليلة فيجاوزان المشرق والغرب. قال: ومكث جبريل والملائكة في هذه الأمة فيسلمون على كل قائم وقاعد ومصل وذاكر فيصافحونهم ويؤمنون على دعائهم حتى مطلع الفجر، فإذا طلع الفجر نادى جبريل: يا معشر الملائكة الرحيل الرحيل، فيقولون يا جبريل: ما صنع الله في

حوائج المؤمنين من أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول: إن الله -عز وجل- نظر إليهم في هذه الليلة فعفى عنهم وغفر لهم إلا أربعة: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهؤلاء الأربعة: رجل مدمن خمر، وعاق لوالديه، وقاطع رحم، ومشاحن"، فقيل: يا رسول الله وما المشاحن؟ قال: هو المصارم، فإذا كانت ليلة الفطر سميت ليلة "الجابرة"، فإذا كان غداة الفطر يبعث الله تبارك وتعالى الملائكة في كل بلد فيهبطون إلى الأرض فيقومون على أفواه السكك فينادون بصوت يسمعه جميع مَنْ خلق الله إلا الجن والإنس، فيقولون: يا أمة محمد اخرجوا إلى رب كريم يغفر العظيم، فإذا برزوا في مصلاهم يقول الله -عز وجل-: يا ملائكتي: ما جزاء الأجير إذا عمل عمله، فيقول الملائكة: إلهنا وسيدنا جزاؤه أن توفيه أجره، فيقول الله -عز وجل-: أشهدكم يا ملائكتي أني قد جعلت ثوابهم من صيامهم شهر رمضان وقيامهم رضاي ومغفرتي، فيقول الله -عز وجل-: سلوني وعزتي وجلالي لا تسألوني اليوم شيئاً في جمعكم هذا لآخرتكم إلا أعطيتكموه، ولا لدينا إلا نظرت لكم، وعزتي لأسترنّ عليكم عثراتكم ما راقبتموني، وعزتي لا أخزيكم ولا أفضحكم بين أصحاب الجدود -أو الحدود- انصرفوا مغفوراً لكم، قد أرضيتموني فرضيت عنكم. قال: فتفرح الملائكة ويستبشرون بما يعطي الله -عز وجل- هذه الأمة إذا أفطرت) . إسناده ضعيف جدا. رواه عبد الغني المقدسي في "فضائل شهر رمضان" عن ابن عباس. ورواه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" لأبي الشيخ في "الثواب"، و"البيهقي" والأصبهاني. وذكره السيوطي في "اللآلئ المصنوعة". والحديث لا يصح لأنه مسلسل بالضعفاء، والانقطاع بين الضحاك وابن عباس. (211) (من اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله باعد الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق كل خندق كما بين الخافقين) . ضعيف: كما ورد في "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" بالسعودية - فتوى رقم (6718) . (212) (أظلكم شهركم هذا؛ بمحلوف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما مر بالمسلمين

المسلمين شهر خير لهم منه، وما مر بالمنافقين شهر شر منه، إنه ليكتب أجره ونوافله قبل أن يدخل، ويكتب إصره وشقاؤه قبل أن يدخل، وذلك أن المؤمن يعد القوة بالعبادة والنفقة، ويعدّ النافق غفلة المؤمنين واتباع عوراتهم وهو غنيمة للمؤمن يغنمه الله -عز وجل- أجره) . ولفظ أحمد في "مسنده" (8350) : عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لمحلوف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان ولا أتى على المنافقين شهر شر من رمضان وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة والعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، هو غنم والمؤمن يغتنمه الفاجر". إسناده ضعيف: أخرجه أحمد، وابن خزيمة، والعقيلي في "الضعفاء"، والبيهقي في "الكبرى" وفي "فضائل الأوقات" وعبد الغني المقدسي في "فضائل شهر رمضان" وابن أبي الدنيا وابن شاهين في "فضائل شهر رمضان" عن عمرو بن تميم عن أبيه عن أبي هريرة. قال البخاري: "عمرو بن تميم عن أبيه، عن أبي هريرة في "فضل شهر رمضان"، روى عنه كثير بن زيد: في حديثه نظر. وأبوه: تميم بن يزيد -مولى بن زمعة- قال الحسيني في "الإكمال" (ص 55) : مجهول وتبعه الحافظ بن حجر -على ذلك- في "تعجيل المنفعة" (ص 44) . وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (1020) . قال الشيخ أحمد شاكر في "تخريج مسند أحمد" (16/158) رقم الحديث (8350) : إسناده صحيح. (213) (أظلكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما مر بالمؤمنين شهر خير لهم منه، ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه، إن الله -عز وجل- ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يُدخله، ويكتب إصره وشقاءه من قبل أن يدخله وذلك أن المؤمن يعد فيه القوة للعبادة من النفقة، ويعد المنافق اتباع غفلة الناس واتباع عوراتهم، فهو غنم للمؤمن يغتنمه المنافق) .

ضعيف: "رواه الإمام أحمد، والبيهقي، والطبراني في "الأوسط"، وابن خزيمة في "صحيحه" عن أبي هريرة مرفوعا وسكت عنه المنذري، وأورده الهيثمي، وقال: "رواه أحمد والطبراني في "الأوسط" عن تميم مولى ابن رمانة ولم أجد من ترجمه" ا. هـ (1) . ***

_ (1) "بين يدي رمضان" لمحمد بن إسماعيل المقدم (ص 9-10) .

الباب الثاني عشر الصوم على أربعين وجها

الباب الثاني عشر الصوم على أربعين وجهًا "علي زين العابدين" رحمه الله

قال علي زين العابدين -رحمه الله-: "الصوم على أربعين وجهاً: عشرة منها واجبة كوجوب شهر رمضان. وعشرة منها حرام. وأربعة عشر خصة صاحبها بالخيار: إن شاء صام، وإن شاء أفطر. وصوم النذر واجب، وصوم الاعتكاف واجب". ثم فسّرهُنّ فقال: أما الواجب: * فصوم شهر رمضان. * وصيام شهرين متتابعين - يعني في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق. قال تعالى: (ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيما) [النساء: 92] . * وصيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين لمن لم يجد الإطعام، قال الله -عز وجل-: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) [المائدة: 89] . * وصيام حلق الرأس، قال الله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) [البقرة: 196] صاحبه بالخيار إن شاء صام ثلاثا. * وصوم المتعة لمن لم يجد الهدي، قال الله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ... ) [البقرة: 196] . * وصوم جزاء الصيد، قال الله عز وجل: (ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم) [المائدة: 95] ، وإنما يقوم ذلك الصيد قيمة ثم يقص ذلك الثمن على الحنطة.

وأما الذي صاحبه بالخيار: فصوم الاثنين، والخميس، وصوم ستة أيام من شوال بعد رمضان، ويوم عرفه، ويوم عاشوراء، كل ذلك صاحبه بالخيار: إن شاء صام وإن شاء أفطر (1) . وأما صوم الإذن: فالمرأة لا تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها، وكذلك العبد والأمة. وأما صوم الحرام: فصوم يوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق، ويوم الشك نهينا أن نصومه كرمضان، وصوم الوصال حرام، وصوم الصمت حرام، وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر حرام، والضيف لا يصوم تطوعاً إلا بإذن صاحبه، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نزل على قوم فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم" (2) . * ويؤمر الصبي بالصوم إذا لم يراهق "تأنيساً وليس بفرض". وكذلك من أفطر لعلة من أول النهار ثم وجد قوة في بدنه أمر بالإمساك وذلك تأديب الله -عز وجل- وليس بفرض. * وكذلك المسافر إذا أكل من أول النهار ثم قدم أمر بالإمساك. * وأما صوم الإباحة، فمن أكل أو شرب ناسياً من غير عمد فقد أُبيح له ذلك وأجزأه. * وأما صوم المريض، وصوم المسافر، فإن العامة اختلفت فيه، فقال بعضهم يصوم، وقال قوم لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام وإن شاء أفطر، وأما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعاً، فإن أفطر في السفر والمرض فعليه القضاء (3) قال الله -عز وجل-: (فعدة من أيام أخر) [البقرة: 184] (4) .

_ (1) ومنه أيضاً: ثلاثة أيام من كل شهر، الثلاثة البيض من كل شهر، صيام يوم وإفطار يوم، صيام عشر ذي الحجة "أي: التسع منها". (2) سبق الكلام على ضعفه. (3) وهذا القول مرجوح. (4) "حلية الأولياء" (3/141، 142) .

"قال ابن الجوزي: الصيام ينقسم على أحد عشر ضرباً، صيام الفرض، وصيام الظهار، وصيام النقل، وصيام الوطء في رمضان، وصيام كفارة اليمين، صيام فدية الأذى، وصيام التمتع، وصيام إفساد الحج، وصيام كفارة قتل الصيد، وصيام النوافل، وصيام النذر، والأيام المنهي عن صيامها ستة: يوم الفطر، ويوم الأضحية، وثلاثة أيام بعد أيام التشريق، ويوم الشك" (1) . ***

_ (1) "بستان الواعظين" لابن الجوزي (ص 299-300) .

الباب الثالث عشر الصوم المندوب والمنهي عنه

الباب الثالث عشر الصوم المندوب والمنهي عنه

الصوم المندوب

اعلم يا أخي أن الصوم على نوعين: "أ- الصوم الواجب. ب- الصوم المندوب. الصوم الواجب: ينقسم إلى: (أ) واجب بإلزام الشرع ابتداءً: * كصوم رمضان، والكفارة من الفطر بالجماع في نهاره، وكفارة الظهار، والقتل، وكل منهما شهران متتابعان. * وكفارة اليمين، وفدية الأذى في الإحرام، وكل منهما ثلاثة أيام. * وفدية التمتع والقران وكل منهما عشرة أيام. * وجزاء الصيد وهو تقويم البدنة بدراهم، والدراهم بطعام. فيصام بدلاً عن كل مدّ يوم. (ب) ما يجب بالالتزام: النذر، وقد نزله الشارع منزلة ما ألزمه ابتداء من الواجبات. فهذا ما يتعلق بالصوم الواجب" (1) . الصوم المندوب "الصوم في الجملة من العباد أمر مطلوب، وثمرته تجنى في الآخرة إذ هو إلى الله منسوب. وهو ينقسم إلى قسمين: (أ) مطلق. قد أثنى الله على الصائمين والصائمات ثم قال مجازياً "أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً". (ب) مقيد بزمن: وهو على ضربين: (1) معين. (2) ومبهم.

_ (1) "مدارك المرام في مسالك الصيام" للمحدث قطب الدين القسطلاني" (ص 22-23) الأزهر.

الصوم المقيد بزمن وهو معين: وهو أنواع: النوع الأول: صوم الأشهر: وهي أربعة أزمان: (1) الزمن الأول: شهر الله المحرم. (2) الزمن الثاني: شهر شعبان. (3) الزمن الثالث: شهر شوال. (4) الزمن الرابع: الأشهر الحرم. (5) الزمن الخامس: شهر رجب. النوع الثاني: صوم الأيام منها: (1) صوم عشر ذي الحجة. (2) صوم يوم عرفة. (3) صوم يوم عاشوراء وتاسوعاء. (4) صوم أيام البيض. (5) صوم يوم الاثنين والخميس وما يغتنم من عانى ذلك من الأجر النفيس. الصوم المقيد بزمن وهو مبهم وهو نوعان: أ- غب الصوم وهو إفطار يوم وصوم يوم. ب- ثلاثة أيام من كل شهر.

ويمكن إجمال ما سبق هكذا: الصوم المندوب 1- مطلق 2- مقيد بزمن [معين - مبهم] - - معين - - - صوم الأشهر [المحرم - شعبان - شوال - الأشهر الحرم - رجب] - - - صوم الأيام [عشر ذي الحجة - يوم عرفة - عاشوراء والتاسع - أيام البيض - الاثنين والخميس] - - مبهم (مثال غب الصوم، ثلاثة أيام من كل شهر)

صيام شهر الله المحرم

صيام شهر الله المحرم * قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أفضل الصلاهّ بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم" (1) . * وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الصيام بعد رمضان الشهر الذي تدعونه المحرم" (2) . * وعند مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل". قال النووي: "فإن قيل إن أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم، فكيف أكثر منه في شعبان دون المحرم" (1) . والجواب: لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه. أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه كفر ومرض وغيرهما". قال المناوي (1/41) : " [أفضل الصيام بعد شهر رمضان] المضاف محذوف أي أفضل شهور الله (شهر الله) قال الزمخشري إضافة إليه عزّ أسمه تعظيماً له وتفخيماً، وخصّ بهذه الإضافة دون بقية الشهور مع أن فيها أفضل منه إجماعاً، لأنه اسم إسلامي فإنه اسمه في الجاهلية صفر الأول وبقية الشهور متحدة الأسماء جاهلية وإسلاماً". قال العلامة ابن رجب الحنبلي: "الحديث صريح في أن أفضل ما تطوع به من الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وقد يحتمل أنه يراد أنه أفضل شهر تطوع بصيامه كاملاً بعد رمضان، فأما بعض التطوع ببعض شهر فقد يكون أفضل من بعض أيامه كصيام يوم عرفة أو عشر ذي الحجة أو ستة أيام من شوال ونحو ذلك. ولكن يقال أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم شهر شعبان ولم ينقل إنه كان يصوم المحرم، إنما كان يصوم عاشوراء، وقوله في آخر سنة لئن عشت إلى قابل

_ (1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه الروياني في "مسنده"، والطبراني في "الكبير" عن جندب. (2) صحيح: رواه النسائي عن جندب، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1121) .

لأصومن التاسع يدل على أنه كان لا يصوم التاسع قبل ذلك. وقد أجاب الناس عن هذا السؤال بأجوبة فيها ضعف والذي ظهر لي والله أعلم أن التطوع بالصيام نوعان: * أحدهما: التطوع المطلق بالصوم فهذا أفضله المحرم كما أن أفضل التطوع المطلق بالصلاة قيام الليل. * والثاني: ما صيامه تبع لصيام رمضان قبله أو بعده: فهذا ليس من التطوع المطلق بل صيامه تبع لصيام رمضان وهو ملتحق بصيام رمضان، ولهذا قيل أن صيام ستة من شوال يلتحق بصيام رمضان ويكتب بذلك لمن صامها مع رمضان صيام الدهر. فهذا النوع من الصيام ملتحق برمضان وصيامه أفضل التطوع مطلقاً. فأما التطوع المطلق فأفضله صيام الأشهر الحرم، وأفضل صيام الأشهر الحرم صيام شهر الله المحرم. ويشهد لهذا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في هذا الحديث وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل، ومراده بعد المكتوبة ولو أحقها من سننها الرواتب، فإن الرواتب قبل الفرائض، وبعدها أفضل من قيام الليل عند جمهور العلماء لالتحاقها بالفرائض. فكذلك الصيام قبل رمضان وبعده ملتحق برمضان، وصيامه أفضل من صيام الأشهر الحرم. وأفضل الأشهر الحرم المحرم كما قال الحسن: إن الله افتتح السنة بشهر حرام وختمها بشهر حرام فليس شهر في السنة بعد رمضان أعظم عند الله من المحرم. وكان يسمى شهر الله. وأفضل شهر الله المحرم عُشره الأول، وقال أبو عثمان النهدي: كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان والعشر الأول من ذي الحجة والعشر الأول من المحرم. ولما كان الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلقاً، وكان صيامها كلها مندوباً إليه وكان بعضها ختام السنة الهلالية وبعضها مفتاحاً لها فمن صام شهر ذي الحجة سوى الأيام المحرم صيامها منه، وصام المحرم، فقد ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة، فإن من كان أول عمله طاعة وآخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين.

صوم شعبان

قال ابن المبارك: من ختم نهاره بذكر كتب نهاره كله ذكراً يشير إلى أن الأعمال بالخواتم، فإذا كان البداءة والختام ذكراً فهو أولى أن يكون حكم الذكر شاملاً للجميع. وقد سمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحرم شهر الله وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله، فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته، ولما كان هذا الشهر مختصاً بإضافته إلى الله تعالى، وكان الصيام من بين الأعمال مضافاً إلى الله تعالى، فإن له من بين الأعمال ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام. شهر الحرام مبارك ميمون ... والصوم فيه مضاعف مسنون وثواب صائمه لوجه إلهه ... في الخلد عند مليكه مخزون (1) "قال الزمخشري: خصه من بين الأشهر الحرم لمكان عاشوراء، فأفضل الأشهر لصوم التطوع المحرم. وتفضيل صوم داود باعتبار الطريقة، وهذا باعتبار الزمن، فطريقة داود في المحرم أفضل من طريقته في غيره" (2) . صوم شعبان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان أحب الشهور إليه أن يصومه شعبان ثم يصله برمضان" (3) . * وعن أسامة بن زيد قال: قلت يا رسول الله لم أراك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين وجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن ورفع عملي وأنا صائم" (4) .

_ (1) "لطائف المعارف" (29-32) . (2) "فيض القدير" (1/41) . (3) صحيح: رواه أبو داود عن عائشة، ورواه النسائي وابن خزيمة والحاكم في "المستدرك" وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4628) . (4) حسن: أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3711) .

وعند البيهقي في "الشعب": "شعبان بين رجب وشهر رمضان تغفل الناس عنه، ترفع فيه أعمال العباد، فأحب أن لا يرفع عملي إلا وأنا صائم". * وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما صام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً كاملاً قط غير رمضان، ويصوم حتى يقول القائل، لا والله ما يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم" رواه البخاري. * وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان" رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي. * وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم شهراً أكثر من شعبان، وكان يصوم شعبان كله" وزاد مسلم "كان يصوم شعبان إلا قليلاً". قال ابن حجر (4/252) : "وهذا يبين أن المراد بقوله في حديث أم سلمة عند أبي داود وغيره "أنه كان لا يصوم من السنة شهراً تاماً إلا شعبان يصله برمضان" أي كان يصوم معظمه، ونقل الترمذي عن ابن المبارك أنه جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليلته أجمع ولعلّه قد تعشى واشتغل ببعض أمره، قال الترمذي. كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك، وحاصله أن الرواية الأولى مفسرة للثانية مخصصة لها وأن المراد بالكل الأكثر وهو مجاز قليل الاستعمال. واستبعده الطيبي قال: لأن الكل تأكيد لإرادة الشمول ودفع التجوز، فتفسيره بالبعض مناف له، قال: يحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه تارة أخرى لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان. والأول هو الصواب ويؤيده رواية عبد الله بن شقيق عن عائشة عند مسلم، وسعد ابن هشام، عنها عند النسائي ولفظه "ولا صام شهراً كاملاً قط منذ قدم المدينة غير رمضان" وهو مثل حديث ابن عباس المذكور".

قال السندي قوله: "وهو شهر ترفع فيه الأعمال ... " قيل: وما معنى هذا مع أنه ثبت في الصحيحين أن الله تعالى يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل؟ قلت: يحتمل أمران: أحدهما: أن أعمال العباد يعرض على الله تعالى كل يوم ثم تعرض عليه أعمال الجمعة كل اثنين وخميس ثم تعرض عليه أعمال السنة في شعبان فتعرض عرضاً بعد عرض ولكل عرض حكمة يطلع عليها من شاء من خلقه أو يستأثر بها عنده مع الله تعالى لا يخفى عليه من أعمالهم خافية. ثانيهما: أن المراد أنها تُعرض في اليوم تفصيلاً ثم في الجمعة جملة أو بالعكس (1) باب: "الصوم من آخر الشهر" يعني شعبان. عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له أو لآخر: "أصمت من سرر شعبان؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت فصم يومين" (2) . وفي رواية عند مسلم "فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه". قال ابن حجر: "السرر بفتح السين المهملة ويجوز كسرها وضمها جمع سرة ويقال أيضاً سرار بفتح أوله وكسره، ورجّح الغراء الفتح، وهو من الاستسرار، قال أبو عبيد والجمهور: المراد بالسرر هنا آخر الشهر، سميت بذلك لاستسرار القمر فيها وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين. ونقل داود عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أن سرره أوله، ونقل الخطابي عن الأوزاعي كالجمهور". قال النووي في "شرح مسلم" (3/228-229) : "قال البيهقي في "السنن الكبير" بعد أن روى الروايتين عن الأوزاعي: الصحيح آخره، ولم يعرف الأزهري أن سرره أوله، قال الهروي: والذي يعرفه الناس أن سرره آخره". قال القاضي. الأشهر أن المراد بآخر الشهر كما قاله أبو عبيد والأكثرون، وعلى هذا يقال: هذا الحديث مخالف للأحاديث الصحيحة في النهي عن تقديم رمضان بصوم يوم

_ (1) "حاشية السندي على سنن النسائي" (ج 4/202) . (2) رواه مسلم واللفظ له والبخاري وعند البخاري "أما صمت سَرَر هذا الشهر".

ويومين، ويجاب عنه بما أجاب المازري وغيره، وهو أن هذا الرجل كان معتاد الصيام آخر الشهر أو نذره فتركه بخوفه من الدخول في النهي عن تقدم رمضان، فبين له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الصوم المعتاد لا يدخل في النهي وإنما ينتهي عن غير المعتاد والله أعلم. وقال ابن حجر في "الفتح" (4/271) : "يؤخذ من الحديث: الندب إلى صيام أواخر كل شهر ليكون عادة للمكلف فلا يعارضه النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين لقوله فيه (إلا رجلاً كان يصوم يوماً فليصمه) ". قال ابن حجر (4/271) : "أشار القرطبي إلى أن الحامل لمن حمل سرر الشهر على غير ظاهره وهو آخر الشهر الفرار من المعارضة لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تقدم رمضان بيوم أو يومين وقال: الجمع بين الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك، وحمل الأمر على من له عادة حملاً للمخاطب بذلك على ملازمة عادة الخير حتى لا يقطع". صوم يوم من شعبان يعدل صوم يومين من غيره: قال ابن حجر "قال -أي القرطبي- وفيه إشارة إلى فضيلة الصوم في شعبان وأن صوم يوم يعدل صوم يومين في غيره أخذاً من قوله في الحديث (فصم يومين مكانه) يعني مكان اليوم الذي فوّته من صيام شعبان. قلت: وهذا لا يتم إلا إنْ كانت عادة الخاطب بذلك أن يصوم من شعبان يوماً واحداً، وإلا فقوله (هل صمت من سرر هذا الشهر شيئاً) أعم من أن يكون عادته صيام يوم منه، أو أكثر، نعم وقع في سنن أبي مسلم الكجي (فصم مكان ذلك اليوم يومين) ". لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم" رواه البخاري. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين، إلا أن يوافق ذلك عموماً كان يصومه

حكم التطوع بالصيام بعد انتصاف شعبان

أحدكم، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم، فعدوا ثلاثين، ثم أفطروا" (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تقدموا شهر رمضان بصوم قبله بيوم ولا بيومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً فليصمه" (2) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين، إلا أن يكون شيء يصومه أحدكم، لا تصوموا حتى تروه، ثم صوموا حتى تروه، فإن حال دونه غمام، فأتموا العدة ثلاثين، ثم أفطروا، والشهر تسع وعشرون" (3) . قال ابن حجر (4/152، 153) : "أي لا يتقدم رمضان بصوم يوم يعد منه بقصد الاحتياط فإن صومه مرتبط بالرؤية فلا حاجة إلى التكليف". قال العلماء: معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان. قال الترمذي لما أخرجه: العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان ا. هـ. ومقتضى الحديث أنه لو تقدمه بصيام ثلاثة أيام أو أربعة جاز ويجوز لمن له عادة. ومعنى الاستثناء: "أن من كان له ورد فقد أذن له فيه لأنه اعتاده والله وترك المألوف شديد وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء، ويلتحق بذلك القضاء والنذر لوجوبهما". حكم التطوع بالصيام بعد انتصاف شعبان: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان" (4) .

_ (1) صحيح: رواه الترمذي وأحمد والدارقطني عن أبي هريرة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7393) . (2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة. (3) صحيح: رواه أحمد والنسائي والترمذي والدارمي والحاكم وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7392) . (4) صحيح: رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (397) .

وفي رواية الترمذي: "إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا". اختلف العلماء في صحة هذا الحديث منهم من صححه ومنهم من ضعفه. أما الذين صححوه فقد أوّلوه ففسروه تفسيراً لا يتعارض مع ما تقدم من الأدلة على كثرة الصيام في شعبان: * فقد قال الترمذي عقب روايته: "حديث حسن صحيح لا نعرفه إلّا من هذا الوجه على هذا اللفظ"، ثم قال: ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن يكون الرجل مفطراً فإذا بقي من شعبان شيء أخذ في الصوم لحال شهر رمضان ا. هـ. وقال ابن خزيمة في "صحيحه" (3/282) : "باب إباحة وصل صوم شعبان بصوم رمضان"، والدليل على أن معنى خبر أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان" أي لا تواصلوا شعبان برمضان فتصوموا جميع شعبان لا أنه نهي عن الصوم إذا انتصف شعبان نهياً مطلقاً. هذا كلام من صحح الحديث وخلاصته أن النهي محمول على اختصاص النصف الأخير بالصيام أو على عدم وصل شعبان برمضان. * أما الذين ضعفوه: فقد قال ابن حجر (4/153-154) : "قال جمهور العلماء. يجوز الصوم تطوعاً بعد النصف من شعبان وضعفوا الحديث الوارد فيه. وقال أحمد وابن معين إنه منكر وقد استدل البيهقي بحديث الباب على ضعفه فقال: الرخصة في ذلك بما هو أصح من حديث العلاء وكذا صنع قبله الطحاوي واستظهر بحديث ثابت عن أنس مرفوعاً "أفضل الصيام بعد رمضان شعبان" لكن إسناده ضعيف، واستظهر أيضاً بحديث عمران بن حصين، ثم جمع بين الحديثين بأن حديث العلاء محمول على من يضعفه الصوم، وحديث الباب مخصوص بمن يحتاط بزعمه لرمضان، وهو جمع حسن والله أعلم". قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في "لطائف المعارف" (ص 142) :

"اختلف العلماء في صحة هذا الحديث ثم في العمل به". فأما تصحيحه فصححه غير واحد منهم الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي وابن عبد البر. وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم وقالوا: هو حديث منكر، منهم عبد الرحمن ابن مهدي، والإمام أحمد، وأبو زرعة الرازي، والأثرم. وقال الإمام أحمد: لم يرو العلاء حديثاً أنكر منه وردّه بحديث "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين "فإن مفهومه جواز التقدم بأكثر من يومين. وقال الأثرم: الأحاديث كلها تخالفه. يشير إلى أحاديث صيام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شعبان ووصله برمضان ونهيه عن التقدم على رمضان بيومين، فصار الحديث حينئذ شاذاً مخالفاً للأحاديث الصحيحة. وقال الطحاوي: "هو منسوخ وحكى الإجماع على ترك العمل به، وأكثر العلماء على أنه لا يعمل به". قال ابن عبد البر في "التمهيد" (2/40) : "اختلف العلماء في صوم آخر يوم من شعبان تطوعاً، فأجازه مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأبو حنيفة وأصحابه، وأكثر الفقهاء إذا كان تطوعا ولم يكن خوفاً ولا احتياطاً أن يكون من رمضان. ولا يجوز عندهم صومه على الشك. وقال مالك: إن تيقن أنه من شعبان جاز صومه تطوعاً، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصام يوم الشك إلا تطوعاً، وقال الثوري: لا يتلوم يوم الشك ولا يصوم أحد يوم الشك. قال ابن رجب في "اللطائف" (ص 149) : "قالت طائفة: حديث عمران يدل على أنه يجوز صيام يوم الشك وآخر شعبان مطلقاً سواءً وافق عادة أو لم يوافق وإنما نهي عنه إذا صامه بنية الرمضانية احتياطا وهذا مذهب مالك، وذكر أنه القول الذي أدرك عليه أهل العلم حتى قال محمد ابن مسلمة من

أصحابه يكره الأمر بفطره لئلا يعتقد وجوب الفطر قبل الشهر كما وجب بعده، وحكى ابن عبد البر هذا القول عن أكثر علماء الأمصار". وقال أيضاً (ص 151) : "صيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال: أحدها: أن يصومه بنية الرمضانية احتياطاً لرمضان فهذا منهي عنه وقد فعله بعض الصحابة وكأنهم لم يبلغهم النهي عنه. والثاني: أن يصام بنية الندب أو قضاء عن رمضان أو عن كفارة ونحو ذلك فجوّزه الجمهور ونهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بفطر مطلقاً. والثالث: أن يصام بنية التطوع المطلق فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بالفطر منهم الحسن وإن وافق صوماً كان يصومه ورخّص فيه مالك ومن وافقه. وفرق الشافعي والأوزاعي وأحمد وغيرهم بين أن يوافق عادة أولا، وكذلك يفرق بين من تقدم صيامه بأكثر من يومين ووصله برمضان فلا يكره أيضاً إلا عند من كره الابتداء بالتطوع بالصيام بعد نصف شعبان". * قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (10/328) : "استحب ابن عباس وجماعة من السلف رحمهم الله أن يفصلوا بين شعبان ورمضان بفطر يوم أو أيام، كما كانوا يستحبون أن يفصلوا بين صلاة الفريضة بكلام أو قيام أو مشي أو تقدم أو تأخر من المكان. وفي "مصنف عبد الرزاق" (4/158) : عن عطاء قال: كنت عند ابن عباس قبل رمضان بيوم أو يومين فقرب غداؤه فقال: "أفطروا أيها الصيام: لا تواصلوا رمضان شيئاً، وافصلوا". * قال ابن رجب: "قيل في صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط. ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن.

ليلة النصف من شعبان

قال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القرّاء، وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرّغ لقراءة القرآن. يا مَنْ فرط في الأوقات الشريفة وضيّعها وأودعها الأعمال السيئة وبئس ما استودعها. مضى رجب وما أحسنت فيه ... وهذا شهر شعبان المباركْ فيا من ضيع الأوقات جهلاً ... بحرمتها أفق واحذر بواركْ فسوف تفارق اللذات قسراً ... ويخلي الموت كرهاً منك دارك تدارك ما استطعت من الخطايا ... بتوبة مخلص واجعل مدارك على طلب السلامة من جحيم ... فخير ذوي الجرائم مَنْ تدارك ليلة النصف من شعبان: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله يطلع فى ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" (1) . وعن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه، فيغفر للمؤمنين، ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه" (2) . وعند الطبراني في "الكبير" بلفظ: "إن الله يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه" (3) . قال الألباني: "لا يلزم من ثبوت هذا الحديث اتخاذ هذه الليلة موسماً يجتمع

_ (1) حديث صحيح: أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"، وابن حبان، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وابن عساكر في "التاريخ" قال الألباني: "حديث صحيح رُوي عن جماعة من الصحابة من طرق مختلفة يشد بعضها بعضاً وهم معاذ بن جبل وأبو ثعلبة الخشني وعبد الله بن عمرو وأبي موسى الأشعري وأبي هريرة وأبى بكر الصديق وعوف ابن مالك وعائشة". "السلسلة الصحيحة" رقم (1144/3/135) . (2) حسن: رواه البيهقي في "شعب الايمان"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (771) . (3) حسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1798) .

صيام ستة أيام من شوال

الناس فيها" (1) . قال ابن رجب: "أما صيام يوم النصف منه فغير منهي عنه فإنه من جملة أيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر" (2) فمن صامها من جملة أيام البيض فقد وافق السنة. فصم يومها لله وأحسن رجاءه ... لتظفر عند الكرب منه بلطفه أخي: أشرف هذا الشهر ليلة نصفه فأين أنت من شعبان وأيامه وليلة نصفه. ليالي شعبان وليلة نصفه ... بأيه حال قد تنزل لي صكي وحق لعمري أن أديم تضرعي ... لعل إله الخلق يسمح بالفك صيام ستة أيام من شوال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام رمضان، وأتبعه ستاً من شوال كان كصوم الدهر" (3) . وروى مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر". قال المناوي: "خص شوال لأنه زمن يستدعي الرغبة فيه إلى الطعام لوقوعه عقب الصوم، فالصوم حينئذ أشق، فثوابه أكثر". وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام ستة أيام بعد الفطر، كان تمام السنة (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) " (4) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعده بشهرين، فذلك صيام السنة" (5) .

_ (1) "تحقيق الألباني في كتاب إصلاح المساجد للقاسمي" (ص 99) . (2) "لطائف المعارف" (ص 143) . (3) رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي أيوب. (4) صحيح: رواه ابن ماجه عن ثوبان، والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6328) . (5) صحيح: رواه الدارمي وابن ماجه وابن خزيمة والطحاوي وابن عساكر وأحمد والنسائي وابن حبان عن ثوبان وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3851) .

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "جعل الله الحسنة بعشر أمثالها، الشهر بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعد الشهر تمام السنة" (1) . قال ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص 232-238) بعد إيراده الحديث أبي أيوب: "اختلف في هذا الحديث وفي العمل به فمنهم من صححه، ومنهم من قال هو موقوف، قاله ابن عيينة وغيره وإليه يميل الإمام أحمد، ومنهم من تكلم في إسناده". وأما العمل به فاستحب صيام ستة من شوال أكثر العلماء، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وطاوس والشعبي وميمون بن مهران، وهو قول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. * وأنكر ذلك آخرون. وروي عن الحسن أنه كان إذا ذكر عنده صيام هذه الستة قال: لقد رضي الله بهذا الشهر للسنة كلها، ولعله إنما أنكر على من اعتقد وجوب صيامها وأنه لا يكتفى بصيام رمضان عنها في الوجوب وظاهر كلامه يدل على هذا. * وكرهها الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف، وعلل أصحابهما ذلك مشابهة أهل الكتاب يعنون في الزيادة في صيامهم المفروض عليهم ما ليست منه. وأكثر المتأخرين من مشايخهم قالوا لا بأس به وعللوا أن الفطر قد حصل بفطر يوم العيد حكى ذلك صاحب الكافي منهم. * وكان مهدي يكرهها ولا ينهي عنها. وكرهها أيضاً مالك وذكر في "الموطأ" أنه لم ير أحداً من أهل العلم يفعل ذلك، وقد قيل أنه كان يصومها في نفسه، وإنما كرهها على وجه يخشى منه أن يعتقد فريضتها لئلا يزاد في رمضان ما ليس منه. * وأما الذين استحبوا صيامها فاختلفوا في صيامها على ثلاثة أقوال:

_ (1) صحيح: ذكره أبو الشيخ في "الثواب" عن ثوبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3094) .

أحدها: أنه يستحب صيامها من أول الشهر متتابعة، وهو قول الشافعي وابن المبارك. والثاني. أنه لا فرق بين أن يتابعها أو يفرقها من الشهر كله وهما سواء، وهو قول وكيع وأحمد. والثالث: أنها لا تصام عقب الفطر فإنها أيام أكل وشرب. ولكن يصام ثلاثة قبل أيام البيض وأيام البيض أو بعدها. وهذا قول معمر وعبد الرزاق. وروي عن عطاء. حتى روي عنه أنه كره لمن عليه صيام من قضاء رمضان أن يصومه ثم يصله بصيام تطوع وأمر بالفطر بينهما وهو قول شاذ. * وأكثر العلماء على أنه يكره صيام ثاني يوم الفطر وقد دلّ عليه حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لرجل: إذا أفطرت فصم، وقد سرد طائفة من الصحابة والتابعين الصوم إلا يوم الفطر والأضحى. وعن الشعبي قال: "لأن أصوم يوماً بعد رمضان أحبّ إليّ من أن أصوم الدهر كله". وخرج أبو يعلى الموصلي بإسناد متصل عن أسامة قال: كنت أصوم شهراً من السنة فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أين أنت من شوال فكان أسامة إذا أفطر أصبح الغد صائماً من شوّال حتى يأتي على آخره (1) . * وصيام شوال كصيام شعبان لأن كلا الشهرين حريم لشهر رمضان وهما يليانه، وقد ذكرنا في فضل صيام شعبان أن الأظهر أن صيامهما أفضل من صيام الأشهر الحرم، والاختلاف في ذلك، وإنما كان صيام رمضان واتباعه بست من شوال يعدل صيام الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها. * وفي معاودة الصيام بعد رمضان فوائد عديدة: * منها أن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله. * ومنها أن صيام شوال وشعبان كصلاة السنن قبل الصلاة المفروضة وبعدها فيكمل

_ (1) قال ابن مفلح في "الفروع" (3/120) : "روى سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي أن أسامة بن زيد كان يصوم شهر المحرم فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصيام شوال فما زال أسامة يصومه حتى لقي الله" إسناد جيد.

بذلك ما حصل في الفرض من خلل ونقص فإن الفرائض تجبر أو تكمل بالنوافل يوم القيامة كما ورد ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه متعددة وأكثر الناس في صيامه للفرض نقص وخلل فيحتاج إلى ما يجبره ويكمله من الأعمال، ولهذا نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقول الرجل صمت رمضان كله أو قمته كله قال الصحابي فلا أدري أكره التزكية أم قال لابد من رقدة أو غفلة. كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: "من لم يجد ما يتصدق به فليصم" يعني من لم يجد ما يخرجه صدقة الفطر في آخر رمضان فليصم بعد الفطر، فإن الصيام يقوم مقام الإطعام في التكفير للسيئات كما يقوم مقامه في كفارات الأيمان وغيرها من الكفارات في مثل كفارات القتل والوطء في رمضان والظهار. * ومنها أن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان، فإن الله إذا تقبّل عمل عبد وفقه لعمل صالح بعده كما قال بعضهم: "ثواب الحسنة الحسنة بعدها"، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بعد بحسنة كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها. * ومنها أن صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب وأن الصائمين لرمضان يوفون أجورهم في يوم الفطر وهو يوم الجوائز فيكون معاودة الصيام بعد الفطر شكرا لهذه النعمة فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب. "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم حتى تتورّم قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً) ". وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بشكر نعمة صيام رمضان بإظهار ذكره وغير ذلك من أنواع شكره فقال: (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) . فمن جملة شكر العبد لربه على توفيقه لصيام رمضان وإعانته عليه ومغفرة ذنوبه أن يصوم له شكراً عقب ذلك. كان بعض السلف إذا وُفِّق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهاره صائماً، ويجعل صيامه شكراً للتوفيق للقيام.

وكان وهيب بن الورد يُسئل عن ثواب شيء من الأعمال كالطواف ونحوه فيقول لا تسألوا عن ثوابه ولكن اسألوا ما الذي على من وفق لهذا العمل من الشكر للتوفيق والإعانة عليه. إذا أنت لم تزد على كل نعمة ... لموليكها شكراً فلست بشاكر قال كعب: من صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر من رمضان لم يعص الله دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب، ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر عصى ربه فصيامه عليه مردود. * ومنها أن الأعمال التي كان العبد يتقرب بها إلى ربه في شهر رمضان لا تنقطع بانقضاء رمضان بل هي باقية بعد انقضائه ما دام العبد حياً، وذلك أن كثيراً من الناس يفرح بانقضاء شهر رمضان لاستثقال الصيام وملله وطوله عليه ومن كان كذلك فلا يكاد يعود إلى الصيام سريعاً، فالعائد إلى الصيام بعد فطره يوم الفطر يدل عوده على رغبته في الصيام وأنه لم يمله ولم يستثقله ولا تكره به. وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقضي ما فاته من أوراده في رمضان في شوال. فترك في عام اعتكاف العشر الأواخر من رمضان ثم قضاه في شوال فاعتكف العشر الأول منه. فمنْ كان عليه قضاء من شهر رمضان فليبدأ بقضائه في شوال فإنه أسرع لبراعة ذمته وهو أولى من التطوع بصيام ستة من شوال، فإن العلماء اختلفوا فيمن عليه صيام مفروض هل يجوز أن يتطوع قبله أوْ لا؟ وعلى قول من جوّز التطوع قبل القضاء فلا يحصل مقصود صيام ستة أيام من شوال إلا لمن أكمل صيام رمضان ثم أتبعه بست من شوال، فمن كان عليه قضاء من رمضان ثم بدأ بصيام ست من شوال، حيث لم يكمل عدة رمضان لم يحصل له ثواب. من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال، كما لا يحصل لمن أفطر رمضان لعذر بصيام ستة من شوال آخر صيام السنة بغير إشكال. ومن بدأ بالقضاء في شوال ثم أراد أن يتبع ذلك بصيام ستة من شوال بعد تكميله قضاء رمضان كان حسناً لأنه يصير حينئذ قد صام رمضان وأتبعه بست من شوال، ولا

يحصل له فضل صيام ست من شوال بصوم قضاء رمضان لأن صيام الست من شوال إنما تكون بعد إكمال عدة رمضان. عمل المؤمن لا ينقضي حتى يأتيه أجله، قال الحسن: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت ثم قرأ (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) . هذه الشهور والأعوام، والليالي والأيام، مقادير الآجال، ومواقيت الأعمال، ثم تنقصي سريعا، وتمضي جميعا والذي أوجدها وابتدعها، وخصّها بالفضائل وأودعها باق لا يزول، ودائم لا يحول، هو في جميع الأوقات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، فسبحان من قلّب عباده في اختلاف الأوقات بين وظائف الخدم، يسبغ عليهم فيها فواضل النعم، ويعاملهم بنهاية الجود والكرم. فما يمضي من عمر المؤمن ساعة من الساعات إلا ولله فيها عليه وظيفة من وظائف الطاعات، فالمؤمن يتقلب بين هذه الوظائف ويتقرب بها إلى مولاه وهو راج خائف، المحب لا يملّ من التقرب إلى مولاه، ولا يأمل إلا قربه ورضاه. ما للمحب سوى إرادة حبه ... إن المحب بكل أمر يضرع كل وقت يخليه العبد من طاعة مولاه فقد خسره، وكل ساعة يغفل فيها عن ذكر الله تكون عليه يوم القيامة ترة فوا أسفاه على زمان ضاع في غير طاعته، وواحسرتاه على قلب بات في غير خدمته. ما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها، وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلوها وما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها وتعفوها. سلوا الله الثبات على الطاعات إلى الممات، وتعوذوا به من تقلب القلوب، ومن الحور بعد الكور. ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة. ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل، وغنى قوم بالذنوب افتقر. ترى الحي الأولى بانوا ... على العهد كما كانوا إذا عز ّبغير الله يو ... ما معشر هانوا

صوم الأشهر الحرم

فيا شباب التوبة لا ترجعوا إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الصيام، فالرضاع إنما يصلح للأطفال لا للرجال. ألسنا نرى شهوات النفو ... س تفنى وتبقى علينا الذنوب يخاف على نفسه منْ يتوب ... فكيف يكون الذي لا يتوب صوم الأشهر الحرم قال تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) . في الصحيحين من حديث أبي بكرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب في حجة الوداع فقال في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "اختص الله أربعة أشهر جعلهن حرماً وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم". قال كعب: اختار الله الزمان فأحبه إلى الله الأشهر الحرم. قال ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص 117) : "واختلف في أي هذه الأشهر الحرم أفضل، فقيل رجب قاله بعض الشافعية وضعّفه النووي وغيره، وقيل المحرم قاله الحسن ورجّحه النووي، وقيل ذي الحجة روي عن سعيد بن جبير وغيره وهو أظهر والله أعلم". قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (25/291) : "في المسند وغيره حديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بصوم الأشهر الحرم: وهي رجب وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم". فهذا فى صوم الأربعة جميعاً، لا من يخصص رجب. قال ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص 123) : "قد كان بعض السلف يصوم الأشهر الحرم كلها منهم ابن عمر والحسن البصري، وأبو إسحاق السبيعي. وقال الثوري: الأشهر الحرم أحبّ إلي أن أصوم فيها".

صوم رجب

قال ابن مفلح في "الفروع" (3/119) : قال ابن الجوزي في كتاب "أسباب الهداية": "يستحب صوم الأشهر الحرم وشعبان كله، وهو ظاهر ذكره صاحب المحرر في الأشهر الحرم". قال النووي في "المجموع" (6/438-439) : "قال أصحابنا: ومن الصوم المستحب صوم الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. ومن لا يشق عليه فصوم جميعها فضيلة". صوم رجب * عن خرشة بن الحر قال: "رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول: كلوا فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية" (1) . * وعن ابن عمر أنه كان إذا رأى الناس وما يعدونه لرجب كرهه، وقال: "صوموا منه وأفطروا" (2) . قال ابن قدامة في "المغني" (4/429) : "ويكره إفراد رجب بالصوم. قال أحمد: وإن صامه رجل، أفطر فيه يوماً أو أياماً بقدر ما لا يصومه كله". وبإسناده عن ابن عمر أنه كان إذا رأى الناس..... * وعن ابن عباس نحوه، وبإسناده عن أبي بكرة أنه دخل على أهله، وعندهم سلال جدد وكيزان، فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب نصومه. قال: أجعلتم رجب رمضان، فأكفأ السلال وكسر الكيزان. قال أحمد: "من كان يصوم السنة صامه، وإلا فلا يصومه متواليا يفطر فيه ولا يشبهه برمضان". قال ابن رجب في "اللطائف" (123، 124) : "قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يكره أن يتخذ رجب عيداً".

_ (1) رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح قاله الألباني في "الإرواء" (4/113 رقم 957) . (2) رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح قاله الألباني في "الإرواء" (4/114 رقم 958) .

* وعن ابن عباس أنه كره أن يصام رجب كله، وعن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يريان أن يفطر منه أياماً. وكرهه أنس أيضاً وسعيد بن جبير: وكره صيام رجب كله يحيى ابن سعيد الأنصاري والإمام أحمد. وقال الشافعي في القديم: أكره أن يتخذ الرجل صوم شهر يكمله كما يكمل رمضان، وقال: إنما كرهته أن لا يتأسى رجل جاهل فيظن أن ذلك واجب وإن فعل لحسن. وتزول كراهة إفراد رجب بالصوم بأن يصوم معه شهراً آخر تطوعاً عند بعض أصحابنا مثل أن يصوم الأشهر الحرم أو يصوم رجب وشعبان. وقد تقدم عن ابن عمر وغيره صيام الأشهر الحرم. والمنصوص عن أحمد أنه لا يصومه بتمامه إلا من صام الدهر ويروي عن ابن عمر ما يدل. * عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر: "أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر فقالت: بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة: العلم في الثوب، وميثرة الأرجوان، وصوم رجب كله! فقال لي عبد الله: أما ما ذكرت من رجب فكيف بمن يصوم الأبد" أخرجه مسلم وأحمد. قال ابن رجب: "وهذا يدل على أنه لا يصام رجب إلا مع صوم الدهر". قال الألباني في "إرواء الغليل" (4/115-116) : "فكيف بمن يصوم الأبد: فسروه بأنه إنكار منه لما بلغ أسماء من تحريمه، وإخبار منه أنه يصوم رجبا كله، وأنه يصوم الأبد" كما في "شرح مسلم" للنووي و"السراج الوهاج" لصديق حسن خان. فلعل التوفيق بين صومه لرجب، وكراهته لذلك، أن تحمل الكراهة على إفراد رجب بالصوم كما يفرد رمضان به، فأما صيامه في جملة ما يصوم فليس مكروهاً عنده والله أعلم. وقال الألباني: "نهى عمر رضي الله عنه عن صوم رجب المفهوم من ضربه للمترجبين ليس نهياً لذاته بل لكي لا يلتزموا صيامه ويتموه كما يفعلون برمضان".

قال ابن مفلح في "الفروع" (3/118-120) : "يكره إفراد رجب بالصوم. وتزول الكراهة بالفطر أو بصوم شهر آخر من السنة، قال صاحب المحرر: وإن لم يَله. قال شيخنا: من نذر صومه كل سنة أفطر بعضه وقضاه. وفي الكفارة خلاف. قال: ومن صامه معتقداً أنه أفضل من غيره من الأشهر أثم وعُزر، وحمل عليه فعل عمر. وقال أيضاً: في تحريم إفراده وجهان، ولعله أخذه من كراهة أحمد، وفي "فتاوى ابن الصلاح الشافعي": لم يؤثمه أحد من العلماء فيما نعلمه. ولا يكره إفراد شهر غير رجب، قال صاحب المحرر: لا نعلم فيه خلافاً. وذكر في "الغنية" أنه يستحب صوم أول يوم من رجب وأول خميس منه والسابع والعشرين ... وذكر أشياء واحتج بأخبار ليست صحيحة وكثير منها موضوع. سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عما ورد في ثواب صيام الثلاثة أشهر وما تقول في الاعتكاف فيها؟ والصمت هل هو من الأعمال الصالحات أم لا؟ فقال ابن تيمية رحمه الله (25/290-292) : "أما تخصيص رجب وشعبان جميعاً بالصوم أو الاعتكاف فلم يرد فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء، ولا عن أصحابه، ولا أئمة المسلمين، بل قد ثبت في "الصحيح" أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم شعبان، ولم يكن يصوم من السنة أكثر مما يصوم من شعبان، من أجل شهر رمضان. وأما صوم رجب بخصوصه فأحاديث كلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات. وقد روى ابن ماجه في "سننه" عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن صوم رجب، وفي إسناده نظر. وأما تخصيصها بالاعتكاف فلا أعلم فيه أمراً، بل كل من صام صوماً مشروعاً وأراد أن يعتكف من صيامه كان ذلك جائز بلا ريب، وإن اعتكف بدون الصيام ففيه قولان مشهوران وهما روايتان عن أحمد: أحدهما: أنه لا اعتكاف إلا بصوم، كمذهب أبي حنيفة ومالك.

والثاني: يصح الاعتكاف بدون الصوم كمذهب الشافعي. وأمّا الصمت عن الكلام مطلقاً في الصوم، أو الاعتكاف، أو غيرهما فبدعة مكروهة باتفاق أهل العلم لكن هل ذك محرم أو مكروه؟ فيه قولان في مذهبه وغيره. وفي صحيح البخاري أن أبا بكر الصديق دخل على امرأة من أحمس فوجدها مصمتة لا تتكلم، فقال لها أبو بكر: إن هذا لا يحل إن هذا من عمل الجاهلية. وعن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلاً قائماً في الشمس، فقال: "من هذا؟ " فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال: "مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه" فأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع نذره للصمت أن يتكلم كما أمره مع نذره للقيام أن يجلس، ومع نذره أن لا يستظل أن يستظل، وإنما أمره بأن يوفي بالصوم فقط. وهذا صريح في أن هذه الأعمال ليست من القرب التي يؤمر بها الناذر. فقول الخير وهو الواجب أو المستحب خير من السكوت عنه، وما ليس بواجب ولا مستحب، فالسكوت عنه خير من قوله. ولهذا قال بعض السلف لصاحبه: "السكوت عن الشر خير من التكلم به"، فقال له الآخر: "التكلم بالخير خير من السكوت عنه". * * *

النوع الثانى: صوم الأيام

النوع الثانى: صوم الأيام 1- صوم عشر ذي الحجة * قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر" (1) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما العمل في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة، ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء" (2) . وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء". قال ابن رجب في "اللطائف" (ص 276-) . "دل الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها. وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده". وقال: "والعمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره". وقد دلّ حديث ابن عباس على مضاعفة الأعمال الصالحة في العشر من غير استثناء شيء منها. * وروى عبد الرزاق عن الحسن قال: "صيام يوم من العشر يعدل شهرين". وقال عبد الكريم عن مجاهد: "العمل فى العشر يضاعف". وقال أيضاً: "العمل في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها، فكل عمل صالح يقع فى هذا الشهر فهو أفضل من عمل في عشرة أيام سواها من أي شهر كان فيكون تفضيلاً للعمل في كل يوم منه على العمل في كل يوم من أيام السنة غيره".

_ (1) صحيح: رواه البزار عن جابر، ورواه ابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1133) . (2) صحيح: رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس.

* كان سعيد بن جبير وهو الذي روى الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما إذا دخل العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه. * وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من أيام أعظم ولا أحب إليه العمل عند الله فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد". عن حميد قال: سمعت ابن سيرين وقتادة يقولان: "صوم كل يوم من العشر يعدل سنة". قال ابن رجب في "اللطائف" (ص 277-278) : "في المسند والسنن عن حفصة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يدع صيام عاشوراء والعشر وثلاثة أيام من كل شهر، وفي إسناده اختلاف". وروي عن بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النبي كان لا يدع صيام تسع ذي الحجة، وممن كان يصوم العشر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وقد تقدم عن الحسن وابن سيرين وقتادة ذكر فضل صيامه وهو قول أكثر العلماء أو كثير منهم. * وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صائماً العشر قط"، وفي رواية: "في العشر قط". وقد اختلف جواب الإمام أحمد عن هذا الحديث فأجاب مرة بأنه قد روي خلافه وذكر حديث حفصة، وأشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة فأسنده الأعمش، ورواه منصور عن إبراهيم مرسلاً، وكذلك أجاب غيره من العلماء بأنه إذا اختلفت عائشة وحفصة في النفي والإثبات أخذ بقول المثبت لأن معه علماً خفي على النافي. * وأجاب أحمد مرة أخرى بأن عائشة أرادت أنه لم يصم العشر كاملاً يعني، وحفصة أرادت أنه كان يصوم غالبه، فينبغي أن يصام بعضه ويفطر بعضه. وهذا الجمع يصح في رواية من روى: "ما رأيته صائماً العشر"، وأما من روى: "صائماً في العشر" فيبعد أو يتعذر هذا الجمع.

2- صوم يوم عرفة

* وكان ابن سيرين يكره أن يقال: صام العشر لأنه يوهم دخول يوم النحر فيه، وإنما يقال: صيام التسع، ولكن الصيام إذا أضيف إلى العشر فالمراد صيام ما يجوز صومه منه. ولو نذر صيام العشر فينبغي أن ينصرف إلى التسع أيضاً فلا يلزم بفطر يوم النحر قضاء ولا كفارة فإنه غلب استعماله عرفاً في التسع. ويحتمل أن يخرج في لزوم القضاء والكفارة خلاف، فإن أحمد قال فيمن نذر صوم شوال فأفطر يوم الفطر أنه يلزمه قضاء يوم وكفارة، وقال القاضي أبو يعلى: هذا إذا نوى صومه جميعاً فأما إن أطلق لم يلزمه شيء لأن الفطر مستثنى شرعاً، وهذه قاعدة من قواعد الفقه وهي أن العموم هل يخص بالشرع أم لا ففي المسألة خلاف مشهور". قال النووي في "شرح مسلم" (3/245) : "ليس في صوم هذه التسعة كراهة بل هي مستحبة استحباباً شديداً لا سيما التاسع منها وهو يوم عرفة، فيتأول قولها: "لم يصم العشر"، أنه لم يصمها لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائماً فيه ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر". 2- صوم يوم عرفة * قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوم يوم عرفة كفارة السنة الماضية والسنة المستقبلة" (1) . * قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوم يوم عرفة يكفر سنتين؛ ماضية ومستقبلة، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية" (2) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده، وصيام عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" (3) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام يوم عرفة غفر الله له سنتين: سنة أمامه، وسنة خلفه" (4) .

_ (1) صحيح: رواه الطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد الخدري، ورواه ابن ماجه من هذا الوجه عن أبي سعيد عن قتادة بن النعمان، وصححه السيوطى، والألباني في "صحيح الجامع" رقم (3805) . (2) رواه مسلم وأحمد وأبو داود عن أبي قتادة. (3) رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان عن أبي قتادة. (4) رواه ابن ماجه عن قتادة بن النعمان وصححه السيوطي، والألباني في "صحيح الجامع" رقم (6335) .

قال النووي في شرحه على "صحيح مسلم" (3/226) : "معناه يكفر ذنوب صائمه في السنتين، قالوا: والمراد بها الصغائر". قال المناوي في "فيض القدير" (4/211-212) : "لأن يوم عرفة سنة المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويوم عاشوراء سنة موسى فجعل سنة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تضاعف على سنة موسى في الأجر". وقال: "المكفر الصغائر الواقعة في السنتين فإن لم يكن له صغائر رفعت درجته أو وقي اقترافها أو استكثارها وقول مجلي تخصيص الصغائر تحكم ردوه وإن سبقه إلى مثله ابن المنذر بأنه إجماع أهل السنة وكذا يقال فيما ورد في الحج وغيره لذلك المستند لتصريح الأحاديث بذلك في كثير من الأعمال المكفرة بأنه يشترط في تكفيرها اجتناب الكبائر". وقال المناوي أيضاً (6/162) : "قال البلقيني: الناس أقسام: منهم من لا صغائر له ولا كبائر فصوم عرفة له رفع درجات، ومن له صغائر فقط بلا إصرار فهو مكفر له باجتناب الكبائر ومن له صغائر مع الإصرار فهي التي تكفر بالعمل الصالح كصلاة وصوم. ومن له كبائر وصغائر فالمكفر له بالعمل الصالح الصغائر فقط، ومن له كبائر فقط يكفر عنه بقدر ما يكفر من الصغائر". استحباب الفطر للحاج بعرفة: * عن أم الفضل بنت الحارث: "أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم. فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه" (1) . * وعن ميمونة رضي الله عنها: "أن الناس، شكوا في صيام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة فأرسلت إليه بحلَاب وهو واقف في الموقف، فشرب منه والناس ينظرون" (2) ، رواه: البخاري. * وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "حججت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يصمه -يعني

_ (1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود ومالك. (2) رواه البخاري.

3- صوم يوم عاشوراء

يوم عرفة- ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه، ولا آمر به ولا أنهى عنه" (1) . أكثر أهل العلم يستحبون الفطر يوم عرفة بعرفة، واستدل بهذين الحديثين على هذا. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: يجب فطر يوم عرفة للحاج. وعن ابن الزبير وأسامة بن زيد وعائشة: أنهم كانوا يصومونه، وكان ذلك يعجب الحسن ويحكيه عن عثمان. وعن قتادة مذهب آخر، قال: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء. وقال عطاء: أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف وهي معللة بالضعف عن الدعاء. واستحباب الصوم إذا لم يضعف عن الدعاء نقله البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي في القديم، واختاره الخطابي والمتولى من الشافعية. وقال الجمهور: يستحب فطره، حتى قال عطاء: من أفطره ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم. وقال الطبري: إنما أفطر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة ليدل على الاختيار للحاجة بمكة لكي لا يضعف عن الدعاء والذكر المطلوب يوم عرفة، وقيل إنما كره صوم يوم عرفة لأنه عيد لأهل الموقف لاجتماعهم فيه، يؤيده ما رواه أصحاب السنن عن عقبة مرفوعاً: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صوم يوم عرفة بعرفات (2) . 3- صوم يوم عاشوراء * روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحرى صيام يوم فضّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان".

_ (1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه الدارمي، وأحمد. (2) إسناده لا بأس به: رواه النسائي في "الكبرى"، وأبو داود وابن ماجه وأحمد والبخاري في "التاريخ الكبير"، وقال الذهبي في "سير أعلام النبلاء": إسناده لا بأس به. (10/683) .

قال ابن حجر: "ابن عباس أسند ذلك إلى علمه فليس فيه ما يرد علم غيره". * وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه" رواه البخاري. قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (10/131) : "قال الشافعي عقيب حديث عائشة: لا يحتمل قول عائشة: ترك عاشوراء، بمعنى يصح إلا ترك إيجاب صومه، إذ علمنا أن كتاب الله بين لهم أن شهر رمضان المفروض صومه، وأبان ذلك لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وترك صوم عاشوراء على الاستحباب". عاشوراء: * عاشوراء بالمد على المشهور وحكى فيه القصر. واختلف أهل الشرع في تعيينه فقال الأكثر: هو اليوم العاشر. قال القرطبي: "عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها، فإذا قيل: يوم عاشوراء فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة فصار هذا اللفظ علماً على اليوم العاشر". وذكر أبو منصور الجواليقي أنه لم يسمع فاعولاء إلا هذا، وضروراء وساروراء ودالولاء من الضار والسار والدال، وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر وهذا قول الخليل وغيره. قال الزين بن المنير: الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية. وقيل: هو اليوم التاسع، فعلى الأول فاليوم مضاف لليلته الماضية، وعلى الثاني فهو مضاف لليلته الآتية. وقيل: إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذاً من أوراد الإبل كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية

أربع حالات لصفة صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - لعاشوراء

أيام ثم أوردوها في التاسع قالوا: وردنا عشراً بكسر العين. وروى مسلم عن الحكم بن الأعرج: "انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه فقلت: أخبرني عن يوم عاشوراء، قال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائماً، قلت: أهكذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصومه؟ قال: نعم" وهذا ظاهره أن يوم عاشوراء هو اليوم التاسع، لكن قال الزين بن المنير: قوله: إذا أصبحت من تاسعه فأصبح يشعر بأنه أراد العاشر لأنه لا يصبح صائماً إلا بعد أن أصبح من تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة وهو الليلة العاشرة. قلت: ويقوى هذا الاحتمال ما رواه مسلم أيضاً من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع فمات قبل ذلك" فإنه ظاهر في أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يصوم العاشر وهمّ بصوم التاسع فمات قبل ذلك" (1) . قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عاشوراء يوم العاشر" (2) . صفة صيام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعاشوراء: كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صيامه أربع حالات: الحالة الأولى: أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بالصوم. ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينه صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه". قال ابن حجر في "الفتح" (4/289-291) : "أما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السالف ولهذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه وغير ذلك، ثم رأيت في المجلس الثالث من "مجالس الباغندي الكبير" عن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنباً في الجاهلية فعظم في صدورهم فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك، هذا أو معناه ثم قال ابن حجر: "وجدت في

_ (1) "فتح الباري" (4/288) . (2) صحيح: رواه الدارقطني في "الأفراد"، والديلمي في "مسند الفردوس" عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3968) .

"المعجم الكبير" للطبراني عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقوله الناس، إنما كان يوم تستر فيه الكعبة، وكان يدور في السنة، وكانوا يأتون فلاناً اليهودي -يعني ليحسب لهم- فلما مات أتوا زيد بن ثابت فسألوه، وسنده حسن. فجهلة اليهود يعتمدون في صيامهم وأعيادهم حساب النجوم فالسنة عنده شمسية لا هلالية، فمن ثم احتاجوا إلى من يعرف الحساب ليعتمدوا عليه. وهذا مما يترجى به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى عليه الصلاة والسلام لإضلال اليهود اليوم المذكور وهداية الله للمسلمين له" ا. هـ. فيوم عاشوراء يوم إسلامي له فضيلة عظيمة وحرمة قديمة وصومه لفضله كان معروفاً بين الأنبياء. * قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان عاشوراء يصومه أهل الجاهلية فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه ومن كرهه فليدعه" (1) . الحالة الثانية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة ورأى صيام أهل الكتاب له وتعظيمهم له وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به صامه وأمر الناس بصيامه وأكد الأمر بصيامه والحث عليه حتى كانوا يصومونه أطفالهم. ففي الصحيحيِن عن ابن عباس قال: قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ " فقالوا: هذا يوم عظيم أنجي الله فيه موسى وقومه وغَرّق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً لله فنحن نصومه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم" فصامه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر بصيامه. وهذا الحديث أفاد تعيين الوقت الذي وقع فيه الأمر بصيام عاشوراء وقد كان أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه كان في ربيع الأول فحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية. والرأي الراجح أنه كان فرضاً وواجباً في هذه الحالة.

_ (1) صحيح: رواه ابن ماجه عن ابن عمر وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4457) .

صوم الصبيان في عاشوراء

* عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: "أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً من أَسْلَم أنْ أَذِّنْ في الناس أن من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء" رواه البخاري واللفظ له ومسلم. * وفي الصحيحين عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: "أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه فكنا بعد ذلك نصومه ونُصَوِّم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياه عند الإفطار" (1) ، وفي رواية: "فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم". قال النووي في "شرح مسلم" (3/193) : "في هذا الحديث تمرين الصبيان على الطاعات وتعويدهم العبادات، ولكنهم ليسوا مكلفين". * وعن بنت رَزِينة قالت: قلت لأمي: "أسمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عاشوراء؟ قالت: كان يعظمه، ويدعو برضعائه ورضعاء فاطمة فيتفل في أفواههم ويأمر أمهاتهن ألا يرضعن إلى الليل" (2) ، وفي رواية أخرى: "فكان الله يكفيهم"، وفي أخرى: "وكان ريقهم يجزئهم". "واستدل بهذا الحديث على أن عاشوراء كان فرضا قبل أن يفرض رمضان" (3) . * وعن محمد بن صيفي الأنصار، قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم عاشوراء فقال: "أصمتم يومكم هذا؟ " فقال بعضهم: نعم. وقال بعضهم: لا. قال: "فأتموا بقية يومكم هذا، وأمرهم أن يؤذنوا أهل العروض أن يتموا بقية يومهم ذلك" (4) .

_ (1) اللفظ لمسلم. (2) رواه ابن خزيمة في صحيحه باب "استحباب ترك الأمهات إرضاع الأطفال يوم عاشوراء تعظيما لعاشوراء" قال ابن حجر (4/237) : "توقف ابن خزيمة في صحته وإسناده لا بأس به". (3) "فتح الباري" (4/237) . (4) رواه ابن خزيمة واللفظ له وأحمد وابن ماجه وقال د. محمد مصطفى الأعظمي: إسناده صحيح. تحقيق ابن خزيمة (3/289) .

قال ابن رجب: "وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم هل كان صوم يوم عاشوراء قبل فرض شهر رمضان واجبا؟ أم كان سُنة متأكدة؟ على قولين مشهورين ومذهب أبي حنيفة أنه كان واجباً حينئذ وهو ظاهر كلام أحمد وأبي بكر الأثرم وقال الشافعي رحمه الله: بل كان متأكد الاستحباب فقط وهو قول كثير من أصحابنا وغيرهم" (1) . قال ابن حجر: اختلف السلف هل فرض على الناس صيام قبل رمضان أو لا؟ فالجمهور -وهو المشهور عند الشافعية- أنه لم يجب قط صوم قبل صوم رمضان، وفي وجه وهو قول الحنفية أول ما فرض صيام عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ. فمن أدلة الشافعية حديث معاوية مرفوعاً: "لم يكتب الله عليكم صيامه"، ومن أدلة الحنفية ظاهر حديثي ابن عمر وعائشة المذكورين بلفظ الأمر، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "صام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فُرض رمضان ترك، وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه" رواه البخاري. وحديث مسلمة مرفوعاً: "من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم" (2) . قال ابن حجر في "الفتح" (4/290) ذاهباً إلى وجوب عاشوراء قبل فرض رمضان: "قوله: "ولم يكتب عليكم صيامه" وقد استدل به على أنه لم يكن فرضاً فقط، ولا دلالة فيه لاحتمال أن يريد: ولم يكتب الله عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان، وغايته أنه عام خص بالأدلة الدالة على تقدم وجوبه، أو المراد أنه لم يدخل في قوله تعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) ثم فسره بأنه شهر رمضان، ولا يناقض هذا الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخاً، ويؤيد ذلك أن معاوية إنما صحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سنة الفتح، والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى أوائل العام الثاني، ويؤخذ من

_ (1) "لطائف المعارف" (ص 47) . (2) "فتح الباري" (4/124) .

مجموع الأحاديث أنه كان واجباً لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر مَن أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود: "لما فرض رمضان ترك عاشوراء، مع العلم أنه ما ترك استحبابه بل هو باقٍ، فدلّ على أن المتروك وجوبه. وأما قول بعضهم المتروك تأكداً استحبابه والباقي مطلق استحبابه فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باق ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث يقول: (لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر) ولترغيبه في صومه وأنه يكفر سنة، وأي تأكيد أبلغ من هذا؟ ". الحالة الثالثة: لماّ فرض صيام شهر رمضان ترك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الصحابة بصيام عاشوراء وتأكيده فيه. * روى مسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صامه والمسلمون قبل أن يُفترض رمضان فلما افترض رمضان قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه". * وروى مسلم عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن يوم عاشوراء كان يصام في الجاهلية. فلما جاء الإسلام من شاء صامه ومن شاء تركه". * روى مسلم عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا ولم يتعاهدنا عنده". * وفي الصحيحين عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان خطيبا بالمدينة يعني في قَدْمة قدمها خطبهم يوم عاشوراء فقال: أين علماؤكم يا أهل المدينة سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لهذا اليوم: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم فمن أحب منكم أن يصوم فليصم ومن أحب أن يفطر فليفطر" (1) . وروى مسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إنما هو يوم كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

_ (1) هذا من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد جاء مبيناً في رواية النسائي.

صوم تاسوعاء مع عاشوراء مخالفة لليهود

يصومه قبل أن ينزل شهر رمضان فلما نزل شهر رمضان تُرك"، وفي رواية (تركه) . * عن قيس بن سعد بن عبادة -رضي الله عنهما- قال: "أمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نصوم عاشوراء قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله". فهذه الأحاديث كلها تدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجدد أمر الناس بصيامه بعد فرض صيام شهر رمضان، بل تركهم على ما كانوا عليه من غير نهي عن صيامه. "فإذا كان أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصيامه قبل فرض صيام شهر رمضان للوجوب فإنه ينبني على أن الوجوب إذا نسخ فهل يبقى الاستحباب أم لا؟ وفيه اختلاف مشهور بين العلماء -رضي الله عنهم-، وإن كان أمره للاستحباب المؤكد فقد قيل: أنه زال التأكيد وبقي أصل الاستحباب ولهذا قال قيس بن سعد: ونحن نفعله". * قد روي عن ابن مسعود وابن عمر -رضي الله عنهما- ما يدل على أن أصل استحباب صيامه قد زال، وأكثر العلماء على استحباب صيامه من غير تأكيد وممن روى عن صيامه من الصحابة عمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وأبو موسى وقيس بن سعد وابن عباس وغيرهم، ويدل على بقاء استحبابه قول ابن عباس -رضي الله عنهما-: لم أر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم يوماً يتحرى فضله على الأيام إلا يوم عاشوراء وشهر رمضان، وابن عباس إنما صحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بآخر أمره" (1) . الحالة الرابعة: عزم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في آخر عمره على أن لا يصومه مفردا بل يضم إليه يوماً آخر مخالفة لأهل الكتاب في صيامه. * عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيداً". قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فصوموه أنتم" رواه البخاري ومسلم. وعند مسلم: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فصوموا أنتم". * وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: حين صام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

_ (1) "لطائف المعارف" (ص 47-48) .

"فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رواه مسلم. وعند أبي داود "إذا كان العام المقبل صمنا يوم التاسع". * وعند مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" (1) . وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً" (2) . * وصح عن ابن عباس أنه كان يقول في يوم عاشوراء: خالفوا اليهود وصوموا التاسع والعاشر. قال الإمام أحمد: وأنا أذهب إليه. وروى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه كان يصوم عاشوراء في السفر ويوالي بين اليومين خشية فواته، وكذلك روى عن أبي إسحاق أنه صام يوم عاشوراء ويوما قبله ويوما بعده، وقال: إنما فعلت ذلك خشية أن يفوتني. * وروي عن ابن سيرين أنه كان يصوم ثلاثة أيام عند الاختلاف في هلال الشهر احتياطا. قال النووي في "شرح مسلم" (3/191) : "قال بعض العلماء: لعل السبب في صوم التاسع مع العاشر ألا يتشبه باليهود في إفراد العاشر. وفي الحديث إشارة إلى هذا، وقيل: للاحتياط في تحصيل عاشوراء، والأول أولى والله أعلم". وممن رأى صيام التاسع والعاشر الشافعي وأحمد وإسحاق، وكره أبو حنيفة إفراد العاشر وحده بالصوم. وممن قال بصيامهما: أبو رافع صاحب أبي هريرة وابن سيرين بل ذكر الشافعي في "الأم" استحباب صوم الثلاثة، وذكر الحنابلة أنه إن اشتبه على المسلم أول الشهر صام ثلاثة أيام ليتيقن صومهما.

_ (1) رواه مسلم وابن ماجه. (2) إسناده حسن: رواه أحمد في مسنده، وقال الشيخ شاكر (4/21) : "ابن أبي ليلى قال ابن عدي: عندي أنه لا بأس بروايته عن أبيه عن جده" وحسن إسناده الشيخ شاكر.

قال ابن حجر: "وعلى كل حال فلم يصمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقتداء بهم (1) فإنه كان يصومه قبل ذلك وكان ذلك في الوقت الذي يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه" (2) . وقال: "فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضاً كما ثبت في الصحيح، فهذا من ذلك، فوافقهم أولاً وقال: "نحن أحق بموسى منكم"، ثم أحب مخالفتهم فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله ويوم بعده خلافا لهم. وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر والله أعلم". وقال ابن حجر أيضاً (4/292) : "في رواية مسلم: "كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود تتخذه عيدا" فظاهره أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود حتى يصام ما يفطرون فيه لأن يوم العيد لا يصام، وحديث ابن عباس يدل على أن الباعث على صيامه موافقتهم على السبب وهو شكر الله تعالى على نجاة موسى، لكن لا يلزم من تعظيمهم له واعتقادهم بأنه عيد أنهم كانوا لا يصومونه فلعلهم كان من جملة تعظيمهم في شرعهم أن يصوموه". قال ابن رجب: "وهذا يدل على النهي عن اتخاذه عيدا". * وكان طائفة من السلف يصومون عاشوراء في السفر منهم ابن عباس، وأبو إسحاق السبيعي، والزهري. قالوا له: "يا أبا بكر تصوم يوم عاشوراء في السفر، وأنت تفطر في رمضان في السفر؟ " فقال: "إن رمضان له عدة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت" (3) . وروى عبد الرزاق بإسناده عن طاووس أنه كان يصوم عاشوراء في الحضر ولا يصومه في السفر. قال ابن حجر (4/289) : "نقل ابن عبد البر الإجماع على أنه الآن ليس

_ (1) أي باليهود. (2) "فتح الباري" (4/291، 288) . (3) "التمهيد" (7/215) .

4- صوم أيام البيض

بفرض الإجماع على أنه مستحب. ونقل عياض أن بعض السلف كان يرى بقاء فرضية عاشوراء لكن انقرض القائلون بذلك. وكان ابن عمر يكره قصده بالصوم، ثم انقرض القول بذلك". * وكل ما روي في فضل الاكتحال في يوم عاشوراء والاختضاب والاغتسال فيه فموضوع لا يصح. * أما التوسعة على العيال في ذلك اليوم فلا يصح فيها حديث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما آثار عن السلف: فعن إبراهيم بن محمد عن المنتشر وكان من أفضل أهل زمانه أنه بلغه أنه من وسع على عياله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر السنة. قال ابن عيينة: جربناه منذ خمسين سنة أو ستين سنة فما رأينا منه إلا خيراً. وقال شعبة مثله، وقال يحيى بن سعيد: جربنا ذلك فوجدناه حقّاً (1) . * وأما اتخاذه مأتما كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فما أمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما فكيف بمن دونهم. 4- صوم أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة "قيل: المراد بالبيض الليالي وهي التي يكون فيها القمر من أول الليل إلى آخره، حتى قال الجواليقي: من قال الأيام البيض فجعل البيض صفة الأيام فقد أخطأ، وفيه نظر لأن اليوم الكامل هو النهار بليلته، وليس في الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام لأن ليلها أبيض ونهارها أبيض، فصح قول "الأيام البيض" على الوصف. والبيض وسط الشهر ووسط الشيء أعدله، ولأن الكسوف غالباً يقع فيها، وقد ورد الأمر بمزيد من العبادة إذا وقع فإذا اتفق الكسوف صادف الذي يعتاد صيام البيض صائماً

_ (1) "الاستذكار" (10/140) .

فيتهيأ له أن يجمع بين أنواع العبادات من الصيام والصلاة والصدقة، بخلاف من لم يصمها فإنه لا يتأتى له استدراك صيامها" (1) . * قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا صمت من الشهر ثلاثا فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة" (2) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كنت صائما فصم أيام الغُر" (3) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كنت صائما فعليك بالغر البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة" (4) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، وهي أيام البيض: صبيحة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة" (5) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أبا ذر! إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام، فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة" (6) . عن عبد الملك بن المنهال عن أبيه أنه كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرهم بصيام البيض، ويقول: "هي صيام الدهر" (7) . الأقوال في البيض: قال ابن حجر في "الفتح" (4/267-268) : "قال شيخنا في "شرح الترمذي": حاصل الخلاف في تعيين البيض تسعة أقوال:

_ (1) "فتح الباري" (4/266-267) . (2) صحيح: رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان عن أبي ذر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (673) . (3) حسن: رواه أحمد والنسائي وابن حبان عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1435) ، و"الصحيحة" رقم (1567) . (4) حسن: رواه النسائي عن أبي ذر وأحمد وابن حبان والبيهقي في "سننه"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1435) . (5) إسناده صحيح: رواه النسائي وأبو يعلى والبيهقي في "شعب الإيمان" عن جرير، وقال ابن حجر في "الفتح" (4/266) : إسناده صحيح، وقال الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3849) : حسن. (6) صحيح: رواه الترمذي والنسائي عن أبي ذر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7817) . (7) صحيح: رواه ابن حبان في "صحيحه" واللفظ له، وأخرجه أحمد والطيالسي والنسائي.

5- صيام الاثنين والخميس

أحدها: لا تتعين بل يكره تعيينها، وهذا عن مالك. الثاني: أول ثلاثة من الشهر قاله الحسن البصري. الثالث: أولها الثاني عشر. الرابع: أولها الثالث عشر. الخامس: أولها سبت من أول الشهر ثم من أول الثلاثاء من الشهر الذي يليه وهكذا وهو عن عائشة. السادس: أول خميس ثم اثنين ثم خميس. السابع: أول اثنين ثم خميس ثم اثنين. الثامن: أول يوم والعاشر والعشرون عن أبي الدرداء. التاسع: أول كل عشر عن ابن شعبان المالكي. قلت: بقي قول آخر وهو: آخر ثلاثة من الشهر عن النخعي فتمت عشرة". عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان لا يدع صوم أيام البيض في سفر ولا حضر" (1) . يرحم الله بن حبان حيث يبّوب في كتابه ويقول: ذكر تفضل الله بكتبة صائمي البيض لهم أجر صوم الدهر. 5- صيام الاثنين والخميس (2) * عن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل عن صوم الاثنين فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل عليّ" رواه مسلم.

_ (1) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير"، وحسنه السيوطي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم: (4848) . (2) قال النووي في "المجموع" (6/438) : "قال أهل اللغة: سمي يوم الاثنين لأنه ثاني الأيام، قال أبو جعفر =

* وعن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل عن صومه قال: فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال عمر -رضي الله عنه-: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم" - رسولا وببيعتنا بيعة. قال: فسئل عن صيام الدهر فقال: "لا صام ولا أفطر أو ما صام وما أفطر". فُسئل عن صوم يومين وإفطار يوم قال: "ومن يطيق ذلك". قال: وسئل عن صوم يوم وإفطار يومين قال: "ليت أن الله قوانا لذلك". قال: وسئل عن صوم يوم وإفطار يوم. قال: "ذاك صوم أخي داود عليه السلام". قال: وسئل عن صوم يوم الاثنين قال: "ذاك يوم ولدت فيه ويوم بُعثت أو أنزل عليّ فيه". قال: فقال: "صوم ثلاثة من كل شهر ورمضان إلى رمضان صوم الدهر". قال: وسئل عن صوم يوم عرفة فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية". قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: "يكفر السنة الماضية" رواه مسلم. * وعن حفصة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أخذ مضجعه جعل كفه اليمنى تحت خده الأيمن، وكان يصوم الاثنين والخميس (1) . * وعن عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتحرى صيام الاثنين والخميس (2) . * وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم الاثنين والخميس (3) . * وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس. فقيل له. فقال: الأعمال تُعرض كل اثنين وخميس، فيغفر لكل مسلم إلا المتهاجرين فيقول: أخروهما" (4) .

_ = النحاس: سبيله أن لا يثنى ولا يجمع بل يقال: مضت أيام الاثنين. قال: وقد حكى البصريون اليوم الأثن، والجمع الثنى. وذكر الفراء أن جمعه الأثانين والأثان، وفي كتاب سيبويه اليوم الثني فعلى هذا جمعه الأثناء وقال الجوهري: لا يثنى ولا يجمع لأنه مثنى، فإن أحببت جمعه قلت: أثانين. وأما يوم الخميس فسمي بذلك لأنه خامس الأسبوع. قال النحاس: جمعه أخمسة وخمس وخمسان حكاه الفراء والله أعلم. (1) رواه النسائي وصححه الألباني في "صحيح النسائي" (2/498) وقال: حسن صحيح. (2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه ابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4897) . (3) رواه ابن ماجه وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4970) . (4) صحيح: رواه أحمد عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4804) .

* عن أسامة بن زيد قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم الأيام يسرد حتى يقال: لا يفطر، ويفطر الأيام حتى لا يكاد أن يصوم، إلا في يومين من الجمعة إن كانا في صيامه وإلا صامهما، ولم يكن يصوم من شهر من الشهور ما يصوم من شعبان، فقلت: يا رسول الله، إنك تصوم لا تكاد أن تفطر، وتفطر حتى لا يكاد أن تصوم إلا يومين إنْ دخلا في صيامك وإلا صمتهما، قال: "أي يومين؟ " قال: قلت: يوم الاثنين ويوم الخميس، قال: "ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم"، قال: قلت: ولم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان قال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" (1) . * وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم يوم الاثنين والخميس، فسألته فقال: "إن الأعمال تعرض يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" (2) . ولفظ النسائي: قلت: يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك، وإلا صمتهما قال: "أي يومين؟ " قلت: يوم الاثنين ويوم الخميس قال: "ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" (3) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الأعمال ترفع يوم الاثنين والخميس فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" (4) .

_ (1) إسناده حسن: رواه أحمد واللفظ له، والنسائي. قال الألباني في "إرواء الغليل" (4/103) : وهذا إسناد حسن رجاله ثقات رجال الشيخين غير ثابت بن قيس قال النسائي: ليس به بأس، وقال أحمد: ثقة. وقال المنذري في "مختصر السنن" (3/320) : وهو حديث حسن. (2) صحيح: أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة. (3) حسن صحيح: قاله الألباني في "صحيح سنن النسائي" (2/497) . (4) صحيح: رواه الشيرازي في "الألقاب" عن أبي هريرة، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أسامة بن زيد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم 1583، وحسنه السيوطي.

6- صوم يوم الجمعة مقرونا بغيره

* وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا". * وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" (1) . * وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان يصوم شعبان كله حتى يصله برمضان وكان يتحرى الاثنين والخميس" (2) . * وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا. انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا" رواه مسلم. * وعن أبي هريرة يرفعه قال: "تُعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين فيغفر الله -عز وجل- في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: اركوا (3) هذين حتى يصطلحا، اركوا هذين حتى يصطلحا" رواه مسلم. * وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تفتح أبواب الجنة كل اثنين وخميس، وتعرض الأعمال في كل اثنين وخميس" (4) . 6- صوم يوم الجمعة على الدوام مقروناً بغيره * قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من صام يوم الجمعة،

_ (1) صحيح: رواه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2959) ، و"صحيح الترمذي" رقم (596) . (2) إسناده صحيح على شرط البخاري غير ربيعة وهو ثقة، رواه ابن حبان واللفظ له وابن ماجه، والنسائي والترمذي وأحمد. (3) ارْكُوا: أي أخروا، ركاه يركوه ركوا إذا أخره. (4) حديث صحيح: رواه ابن حبان في صحيحه واللفظ له، ورواه ابن أبي شيبة وأحمد.

7- صيام يوم السبت والأحد مخالفة للمشركين

وراح إلى الجمعة، وعاد مريضاً، وشهد جنازة، وأعتق رقبة" (1) ، أي بصيامه مقرونا بغيره. * وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم من غُرة كل شهر ثلاثة أيام، وقلّما كان يفطر يوم الجمعة" (2) . 7- صيام يوم السبت والأحد مخالفة للمشركين عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: إنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أكثر صومه السبت والأحد، ويقول: "هما عيد المشركين فأحب أن أخالفهم" (3) . * عن كريب مولى ابن عباس قال: أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أسألها أي الأيام كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثرها صوماً؟ فقال: يوم السبت ويوم الأحد فأتيتهم فأخبرتهم، فأنكروا ذلك عليّ، فظنوا أني لم أحفظ فردوني، فقالت مثل ذلك، فأخبرتهم، فقاموا بأجمعهم فقالوا: إنا أرسلنا إليك في كذا وكذا، فزعم أنك قلت: كذا وكذا، فقالت: صدق، كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما كان يصوم من الأيام ويقول: إنهما عيدان للمشركين فأحب أن أخالفهم" (4) . قال ابن حجر: "يستفاد من هذا أن الذي قاله بعض الشافعية من كراهة إفراد السبت وكذا الأحد ليس جيدا، بل الأولى في المحافظة على ذلك يوم الجمعة كما ورد الحديث الصحيح فيه، وأما السبت والأحد فالأولى أن يصاما معا وفرادى امتثالا لعموم الأمر بمخالفة أهل الكتاب" (5) .

_ (1) صحيح: رواه أبو يعلى وابن حبان عن أبي سعيد وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3252) ، وعند أبي يعلى "من وافق صيامه". (2) إسناده حسن: رواه ابن حبان والنسائي والبيهقي، وأخرج القسم الأخير منه الطيالسي وابن أبي شيبة والبيهقي ولفظه: "ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفطر الجمعة" وحسنه الألباني في "صحيح سنن النسائي" رقم (2232) ، و"صحيح الترمذي" (746) ، و"صحيح الجامع". (3) حسن: رواه أحمد والطبراني في "الكبير" والحاكم والبيهقي في "سننه" عن أم سلمة، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4803) ، وضعفه في "جلباب المرأة المسلمة". (4) رواه ابن حبان واللفظ له وإسناده حسن، وصحح الحاكم إسناده كما في "المجموع" (6/482) . وقال ابن القيم في "زاد المعاد" (2/78) : "الحديث أراه حسنا"، وقال الذهبي في "الميزان" (3/688) : "يعني لا يبلغ الصحة". واحتج به ابن حجر في "الفتح" (10/374-375) ، وصححه الذهبي. (5) "فتح الباري" (10/375) .

الصوم المبهم المقيد بزمن

الصوم المبهم المقيد بزمن (1) صوم يوم وإفطار يوماً (غب الصوم) "صوم داود عليه السلام" قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أحب الصيام إلى الله صيام داود، وكان يصوم يوماً، ويفطر يوماً، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه وينام سدسه" (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الصوم صوم أخي داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى" (2) . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صم أفضل الصيام، صيام داود: صوم يوم، وفطر يوم" (3) . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صوم فوق صوم داود، شطر الدهر، صم يوماً وأفطر يوماً" (4) . وفي بعض الروايات: "كان عبد الله بن عمرو يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". وفي رواية حصين: "وكان عبد الله حين ضعف وكبر يصوم تلك الأيام وكذلك يصل بعضها إلى بعض ثم يفطر بعدد تلك الأيام فيقوى بذلك". وفي رواية: "وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياماً وأحصى وصام مثلهن". قال ابن حجر في "الفتح" (8/715) : "يؤخذ منه أن الأفضل لمن أراد أن يصوم صوم داود أن يصوم يوماً ويفطر يوماً دائماً، ويؤخذ من صنيع عبد الله بن عمرو أن من أفطر من ذلك وصام قدر ما أفطر أنه يُجزئ عنه صيام يوم وإفطار يوم". وذهب ابن دقيق العيد إلى أن صوم يوم وإفطار يوم أفضل صور الصيام وأن الأولى التفويض إلى حكم الشارع ولما دل عليه ظاهر قوله: "لا أفضل من ذلك" وقوله: "إنه أحب

_ (1) رواه أحمد، والبخاري ومسلم، وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عمرو. (2) صحيح: رواه الترمذي والنسائي عن ابن عمرو، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1120) . (3) صحيح: رواه النسائي عن ابن عمرو، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3793) . (4) رواه البخاري والنسائي عن ابن عمرو.

الصيام إلى الله تعالى" (1) . وهو قول أكثر العلماء ونقل الترمذي عن بعض أهل العلم أنه أشق الصيام. * عن عبد الله بن عمرو قال: كنت رجلاً مجتهداً فزوجني أبي، ثم زارني، فقال للمرأة: كيف تجدين بعلك؟ فقالت: نعم الرجل من رجل لا ينام ولا يفطر. قال: فوقع بي أبي، ثم قال: زوجتك امرأة من المسلمين فعضلتها، فلم أبال ما قال لي مما أجد من القوة والاجتهاد إلى أن بلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لكني أنام وأصلي وأصوم وأفطر، فنم وصل وأفطر، وصم من كل شهر ثلاثة أيام" فقلت: يا رسول الله أنا أقوى من ذلك. قال: "فصم صوم داود: صم يوماً وأفطر يوماً، وأقرأ القرآن في كل شهر" قلت: يا رسول الله أنا أقوى من ذلك. قال حصين: فذكر لي منصور عن مجاهد أنه بلغ سبعاً، ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي، فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك" فقال عبد الله: لأن أكون قبلت رخصة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحب إليّ من أن يكون لي مثل أهلي ومالي، وأنا اليوم شيخ قد كبرت وضعفت، وأكره أن أترك ما أمرني به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) قال ابن خزيمة: "صوم يوم وفطر يوم أفضل الصيام وأحبه إلى الله وأعدله". وقال (3/295) : "صوم داود أعدل الصيام وأفضله، وأحبه إلى الله إذ صائم يوم مفطر يوم، يكون مؤدياً لحظ نفسه وعينه وأهله أيام فطره، ولا يكون مضيعاً لحظ نفسه وعينه وأهله". صوم الأواب مزامير ... فليصغ شباب البلدان وفي حدثنا لمسلم وابن خزيمة: "فصم صوم داود نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه كان أعبد الناس". قال: قلت: يا نبي الله: وما صوم داود؟ قال: "كان يصوم يوماً ويفطر يوماً". * وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان داود أعبد البشر" (3) .

_ (1) "فتح الباري" (4/263) . (2) إسناده صحيح على شرط البخاري رواه ابن خزيمة في صحيحه. (3) حسن: رواه الترمذي والحاكم في "المستدرك"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4453) ، ورواه البخاري في "التاريخ" عن أبي الدرداء.

(2) صوم يوم وإفطار يومين

قال المناوي في "فيض القدير" (1/171-172) : "أحب الصيام المتطوع به إلى الله تعالى صيام نبي الله داود فهو أفضل من صوم الدهر لأنه أشق على النفس بمصادفة مألوفها يوماً ومفارقته يوماً. قال الغزالي: وسره أن من صام الدهر صار الصوم له عادة فلا يحس بوقعه في نفسه بالانكسار وفي قلبه بالصفاء وفي شهواته بالضعف فإن النفس إنما تتأثر بما يرد عليها لا بما تمرنت عليه، ألا ترى أن الأطباء نهوا عن اعتياد شرب الدواء، وقالوا: من تعوده لم ينتفع به إذا مرض لإلف مزاجه له فلا يتأثر به، وطب القلوب قريب من طب الأبدان. انتهى، وهذا أوضح في البيان وأبلغ في البرهان من قول من قال: صوم الدهر قد يفوت بعض الحقوق، وقد لا يشق باعتياده عليه. وقال أبو شامة: "وقد جمعت الأيام التي ورد فيها الأخبار أن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصومها فقاربت أن تكون شطر الدهر فهو بمثابة صوم داود". قال ابن المنير: "كان داود يقسم ليله ونهاره لحق ربه وحق نفسه، فأما الليل فاستقام له ذلك في ليله، وأما النهار فيتعذر تجزئته لعدم تبعيض الصيام فنزل صوم يوم وفطر يوم بمنزلة التجزئة في شقص اليوم". قال المناوي (2/43) : "ذكر بعض الشافعية أن من فعله فوافق فطره يوماً يسن صومه كالاثنين والخميس يكون فطره فيه أفضل ليتم له فطر يوم وصوم يوم، وصوم يوم وفطر يوم جمع بين القربتين وقيام الوظيفتين، فإن الله لم يتعبد عبده بالصوم خاصة، فلو استفرغ جهده فيه قصّر في غيره فالأولى الاقتصار -أي على صيام يوم وفطر يوم- ليبقى بعض قوة لغيره كالجهاد". (2) صوم يوم وإفطار يومين قال ابن خزيمة في "صحيحه" (3/296-297) : "باب: ذكر تمني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استطاعة صوم يوم وإفطار يومين" * عن أبي قتادة قال: قال عمر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فكيف بمن يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال: "ويطيق ذلك أحد؟ " قال: فكيف بمن يصوم يوماً، ويفطر يوماً؟ قال: "ذاك

(3) صوم عشرة أيام من الشهر

صوم داود"، قال: فكيف بمن يصوم يوماً يفطر يومين؟ قال: "وددت أني طوقت ذلك" (1) . (3) صوم عشرة أيام من الشهر هكذا بوّب النسائي. * عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنه بلغني أنك تقوم الليل وتصوم النهار". قلت: يا رسول الله، ما أردت بذلك إلا الخير، قال: "لا صام من صام الأبد، ولكن أدلك على صوم الدهر، ثلاثة أيام من الشهر" قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك قال: "صم خمسة أيام" قلت: إني أطيق أكثر من ذلك قال: "فصم عشرا" فقلت: إني أطيق أكثر من ذلك قال: "صم صوم داود عليه السلام كان يصوم يوماً ويفطر يوماً" (2) . (4-7) صوم إحدى عشرة أو تسعا أو سبعا أو خمسة أيام من الشهر * عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُكر له صومي، فدخل عليّ فألقيت له وسادة أدم ربعة، حشوها ليف، فجلس على الأرض، وصارت الوسادة فيما بيني وبينه، قال: "أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟ " قلت: يا رسول الله؟ قال: "خمسا" قلت: يا رسول الله؟ قال: "سبعاً" قلت: يا رسول الله؟ قال: "تسعا" قلت: يا رسول الله؟ قال: "احدى عشرة" قلت. يا رسول الله؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صوم فوق صوم داود، شطر الدهر، صيام يوم، وفطر يوم" (3) .

_ (1) إسناده صحيح: رواه ابن خزيمة واللفظ له، وأبو داود من طريق حماد مطولا. وكذا مسلم. (2) رواه النسائي وقال الألباني في "صحيح سنن النسائي" (2/505) : صحيح. (3) صحيح: رواه النسائي واللفظ له، وصححه الألباني في "صحيح النسائي" (2/506) .

(8) صيام أربعة أيام من الشهر

(8) صيام أربعة أيام من الشهر * عن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صم من الشهر يوماً، ولك أجر ما بقي". قلت: إني أطيق أكثر من ذلك قال: "فصم يومين ولك أجر ما بقي". قلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: "صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي" قل: إني أطيق أكثر من ذلك فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل الصوم صوم داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً" (1) . (9) صوم ثلاثة أيام من الشهر كيفية ذلك * عن أبي ذر قال: "أوصاني حبيبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاثة لا أدعهن إن شاء الله تعالى أبدا. أوصاني بصلاة الضحى، وبالوتر قبل النوم، وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر" (2) . * وعن أبي هريرة قال: "أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بركعتي الضحى، وأن لا أنام إلا على وتر، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر" (3) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا أخبركم بما يذهب وحر الصدر؟ صوم ثلاثة أيام من كل شهر" (4) . ووحر الصدر: غشه ووساوسه. * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله" (5) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر" (6) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صم شهر الصبر: رمضان، صم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر" (7) .

_ (1) صحيح: رواه النسائي واللفظ له ومسلم، وصححه الألباني في "صحيح النسائي" (2/507) . (2) صحيح: رواه النسائي بلفظه، والبخاري ومسلم دون قوله: "لا أدعهن أبدا"، وعند البخاري معناه. (3) صحيح: رواه النسائي بلفظه، والبخاري ومسلم بلفظ: "أوصاني" نحوه، وصححه الألباني في "صحيح النسائي" (2/498) . (4) صحيح: رواه النسائي عن رجل من الصحابة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2608) . (5) رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي قتادة. (6) رواه النسائي عن أبي هريرة، ورواه أحمد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3718) . (7) صحيح: رواه أبو داود وابن ماجه عن الباهلي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3794) .

* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ورمضان إلى رمضان صوم الدهر وإفطاره" (1) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر" (2) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر" (3) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر وإفطاره" (4) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام حسن صيام ثلاثة أيام من الشهر" (5) . * عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم من غرة (6) كل شهر ثلاثة أيام (7) . ولقد تفضل الله بكِتبة صيام الدهر وقيامه لمن صام الأيام الثلاثة من الشهر. عن معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوم ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر وقيامه" (8) . * عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، قلت: من أَيِّهِ؟ قالت: لم يكن يبالي من أيه كان (9) .

_ (1) صحيح: رواه أحمد ومسلم عن أبي قتادة. (2) صحيح: رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3803) . (3) صحيح: رواه البزار عن علي وعن ابن عباس، ورواه البغوي والبارودي والطبراني في "الكبير" عن النمر بن حولب، ورواه أيضاً ابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3804) . (4) صحيح: رواه أحمد وابن حبان عن قرة بن إياس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3848) . (5) صحيح: رواه أحمد والنسائي وابن حبان عن عثمان بن أبي العاص، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3850) . (6) أول كل شهر. (7) إسناده حسن: رواه ابن حبان واللفظ له، والطيالسي، وأبو داود، وأحمد. (8) إسناده صحيح على شرط الشيخين غير صحابية قرة -وهو ابن إياس- فقد روى له أصحاب السنن: رواه ابن حبان والبزار. (9) إسناده صحيح على شرط الشيخين. رواه ابن حبان واللفظ له وابن ماجه وأحمد.

* وعن معاذة قالت: قلت لعائشة: أكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم من الشهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، قلت: من أيّه؟ قالت: لم يبال من أيّه صام (1) . * وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: قال: بلغ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أصوم -أسرد الصوم وأصلي الليل- فأرسل إليه، ولماّ لقيه قال: "ألم أُخبَر أنك تصوم ولا تفطر، وتصلي الليل. فلا تفعل، فإن لعينك حظا، ولنفسك حظا، ولأهلك حظّاً، وصم وأفطر، وصل ونم، وصم من كل عشرة أيام يوماً، ولك أجر تسعة" قال: قلت: إني أقوى لذلك يا رسول الله قال: "صم صوم داود إذاً" قال: وكيف كان صيام داود يا نبي الله؟ قال: "كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً، ولا يفرّ إذا لاقى". قال: ومن لي بهذا يا نبي الله (2) . * عن أم سلمة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام: الاثنين والخميس، من هذه الجمعة، والاثنين من المقبلة (3) . * عن حفصة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم من كل شهر يوم الخميس ويوم الاثنين، ومن الجمعة الثانية يوم الاثنين (4) . * عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام ثلاثة أيام من الشهر، فقد صام الدهر كله" ثم قال: "صدق الله في كتابه (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) [الأنعام: 160] " (5) . عن أبي هريرة -رصي الله عنه- قال: "أوصاني خليلي بثلاث لست بتاركهن: أن لا أنام إلا على وتر وأن لا أدع ركعتي الضحى فإنها صلاة الأوابين وصيام ثلاثة أيام من كل شهر" (6) . عن أبي عثمان أن أبا هريرة كان في سفر، فلما نزلوا ووضعت السفرة بعثوا إليه وهو يصلي، فقال: إني صائم، فلما كادوا أن يفرغوا جاء فجعل يأكل، فنظر القوم إلى

_ (1) إسناده صحيح على شرط الشيخين: رواه ابن حبان واللفظ له، والطيالسي والترمذي وابن خزيمة والبغوي. (2) صحيح الإسناد: رواه النسائي بلفظه، ونحوه عند البخاري ومسلم دون قوله: "قال: ومن لي ... ". (3) حسن: رواه النسائي بلفظه، وأبو داود. وقال الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2229) . (4) حسن: رواه النسائي وحسنه الألباني في "صحيح النسائي" رقم (2230) . (5) صحيح: رواه النسائي وصححه الألباني في "صحيح النسائي" رقم (2269) . (6) صحيح: رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وأبو داود وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (1164) .

رسولهم، فقال: ما تنظرون إليّ قد -والله- أخبرني أنه صائم، فقال أبو هريرة: صدق، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من صام ثلاثة أيام من كل شهر، فقد صام الشهر كله"، وقد صمت ثلاثة أيام من كل شهر، وإني الشهر كله صائم، ووجدت تصديق ذلك في كتاب الله جل وعلا: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) [الأنعام: 160] (1) . * عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أُخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أقول: والله لأصومنّ النهار، ولأقومنّ الليل ما عشت، فقلت له: قد قلته يا رسول الله. قال: "فإنك لا تستطيع ذلك، صم وأفطر، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر" (2) . قال ابن حجر في الجمع بين الأحاديث المختلفة في صيام الثلاثة أيام: حديث عائشة قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ما يبالي من أي شهر صام" قال (3) : فكل من رآه فعل نوعاً ذكره، وعائشة رأت جميع ذلك وغيره فأطلقت. والذي يظهر أن الذي أمر به وحث عليه ووصى به أولى من غيره، وأما هو فلعله كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك، أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز، وكل ذلك في حقه أفضل، وتترجح البيض. ورجح بعضهم صيام الثلاثة في أول الشهر لأن المرء لا يدري ما يعرض له من الموانع، وقال بعضهم: يصوم من أول كل عشرة أيام يوماً، وله وجه في النظر، ونقل ذلك عن أبي الدرداء وهو يوافق ما تقدم في رواية النسائي. واختار النخعي أن يصومها آخر الشهر ليكون كفارة لما مضى ويؤيده حديث عمران ابن حصين في الأمر بصيام سرار الشهر، وقال الروياني: صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب، فإن اتفقت أيام البيض كان أحب. وفي كلام غير واحد من العلماء أيضاً أن استحباب صيام البيض غير استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر" (4) .

_ (1) إسناده صحيح على شرط مسلم، رواه ابن حبان بلفظه، والنسائي والطيالسي وأحمد. (2) إسناده صحيح: رواه ابن حبان في صحيحه والبخاري وعبد الرزاق وأحمد. (3) أي البيهقي. (4) "فتح الباري" (4/267) .

(10) صوم يومين من الشهر

قال النووي في "شرح صحيح مسلم" (3/227-228) : "قال القاضي: واختلفوا في تعيين هذه الأيام الثلاثة المستحبة من كل شهر: * ففسره جماعة من الصحابة والتابعين بأيام البيض، وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، منهم عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو ذر، وبه قال أصحاب الشافعي، واختار النخعي وآخرون آخر الشهر. * واختار آخرون ثلاثة من أوّله منهم الحسن. * واختارت عائشة وآخرون صيام السبت والأحد والاثنين من شهر، ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس من الشهر الذي بعده. * واختار آخرون الاثنين والخميس، وفي حديث رفعه ابن عمر: "أول اثنين في الشهر وخميسان بعده". * وعن أم سلمة أول خميس والاثنين بعده، ثم الاثنين. * وقيل: أول يوم الشهر والعاشر والعشرين، وقيل: إنه صيام مالك بن أنس، وروى عنه كراهة صوم أيام البيض. * وقال ابن شعبان المالكي: أول يوم من الشهر والحادي عشر والحادي وعشرون. والله أعلم". (10) صوم يومين من الشهر عن أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصوم فقال: "صم يوماً من الشهر" قلت: يا رسول الله زدني زدني! قال: "تقول: يا رسول الله زدني زدني، يومين من كل شهر" قلت: يا رسول الله زدني زدني، إني أجدني قويّاً. فقال: "زدني زدني، أجدني قويّاً". فسكت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى ظننت أنه ليردني قال: "صم ثلاثة أيام من كل شهر" (1) .

_ (1) صحيح الإسناد: رواه النسائي، وصححه الألباني في "صحيح سنن النسائي" رقم (2282، 2283) .

(11) صوم يوم من الشهر

وفي رواية أخرى: "واستزاده قال: بأبي أنت وأمي، أجدني قويّاً فزاده، قال: "صم يومين من كل شهر" فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني أجدني قويّا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني أجدني قويا. إني أجدني قويّا" فما كان أن يزيده، فلما ألحّ عليه قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صم ثلاثة أيام من كل شهر" (1) . (11) صوم يوم من الشهر قال ابن خزيمة (3/300) : باب: فضل صوم يوم واحد من كل شهر، وإعطاء الله -عز وجل- صائم يوم واحد من الشهر مع الدليل على أن الله لم يرد بقوله: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) [الأنعام: 160] أنه لا يعطي بالحسنة الواحدة أكثر من عشر أمثالها إذ النبي المبيّن عنه -عز وجل- قد أعلم أن الله يعطي بصوم يوم واحد جزاء شهر تام. * عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته عن الصوم، فقال: "صم يوماً من الشهر، ولك أجر ما بقي" (2) . ***

_ (1) صحيح الإسناد: رواه النسائي، وصححه الألباني في "صحيح سنن النسائي" رقم (2282، 2283) . (2) صحيح: رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (3/300) .

الأيام المنهي عن صيامها

الأيام المنهي عن صيامها الأيام المنهي عن صيامها قسمان: أ- منها ما هو متفق على تحريمه كالعيدين. ب- ومنها ما هو مختلف فيه: (1) كأيام التشريق. (2) ويوم الشك. (3) ويوم الجمعة. (4) ويوم السبت. (5) وبعد النصف من شعبان. (6) وصيام الدهر. (1 و2) يوم الفطر، والأضحى * قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنهاكم عن صيام يومين: الفطر والأضحى" (1) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يصلح الصيام في يومين: يوم الأضحى، ويوم الفطر من رمضان" (2) . * وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد -رضى الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "نهى عن صيام يومين. يوم الأضحى ويوم الفطر" (3) . * وعن أبي عبيد مولى أزهر قال: "شهدت العيد مع عمر بن الخطاب، فقال: هذان يومان نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم" (4) .

_ (1) صحيح: رواه أبو يعلى عن أبي سعيد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2517) . (2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد. (3) رواه البخاري ومسلم. (4) رواه أحمد والبيهقي وابن الجارود والشيخان ومالك وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي شيبة والطحاوي.

(ب) الأيام المنهي عن صيامها والمختلف فيها

وأخرجه الطحاوي عن أبي عبيد عن علي وعثمان -رضي الله عنهما- مرفوعاً وإسناده جيد، وفي الباب عن عائشة وابن عمر. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صومين: يوم الفطر ويوم الأضحى. رواه مسلم. وجاء رجل إلى ابن عمر -رضي الله عنهما- فقال: إني نذرت أن أصوم يوماً فوافق يوم أضحى أو فطر، فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أمر الله تعالى بوفاء النذر ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صوم هذا اليوم" رواه مسلم. قال النووي في "شرح مسلم" (3/193، 194) : "قد أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال، سواءً صامهما عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك. ولو نذر صومهما متعمداً لعينهما، قال الشافعي والجمهور: لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاؤهما، وقال أبو حنيفة: ينعقد، ويلزمه قضاؤهما، قال: فإن صامهما أجزأه، وخالف الناس كلهم في ذلك". ثم قال النووي: "ابن عمر توقف عن الجزم بجوابه، لتعارض الأدلة عنده". وقد اختلف العلماء فيمن نذر صوم العيد معيناً. وأما هذا الذي نذر صوم يوم الاثنين فوافق يوم العيد، فلا يجوز له صوم العيد بالإجماع، وهل يلزمه قضاؤه؟ فيه خلاف للعلماء، وفيه للشافعي قولان أصحهما: لا يجب قضاؤه، لأن لفظه لم يتناول القضاء، وإنما يجب قضاء الفرائض بأمر جديد على المختار عند الأصوليين، وكذلك لو صادف أيام التشريق لا يجب قضاؤه في الأصح، والله أعلم. (ب) الأيام المنهي عن صيامها والمختلف فيها 1- أيام التشريق اختلف في كونها يومين، أو ثلاثة بعد يوم النحر وهو قول ابن عمر وأكثر العلماء، وروي عن ابن عباس وعطاء أنها أربعة أيام يوم النحر وثلاثة أيام بعده.

"وسميت أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها أي تنشر في الشمس، وقيل: لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس، وقيل: لأن صلاة العيد تقع عند شروق الشمس، وقيل التشريق التكبير دبر كل صلاة" (1) . قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصوموا هذه الأيام: أيام التشريق، فإنها أيام أكل وشرب" (2) . * وعن نبيشه الهذلي قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أيام التشريق أيام أكل وشرب" (3) . وفي رواية لمسلم: "وذكر لله". وعن كعب بن مالك حدث أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أوس بن الحدثان أيام التشريق فنادى: أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب (4) . * وعن بشير بن سحيم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن ينادى أيام التشريق: "أنه لا يدخل الجنة...." (5) الحديث مثل حديث كعب. * وعن أبي هريرة مرفوعاً به مثل حديث كعب: "أيام منى ... " (6) . * وعن علي مرفوعاً: "إنها ليست أيام صيام إنها أيام أكل وشرب وذكر" (7) . * وعن عبد الله بن حذافة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن ينادي في أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب (8) . * وعن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن حذافة أن يركب راحلته أيام منى فيصيح في الناس: "لا يصومن أحد، فإنها أيام أكل وشرب" قال: فلقد رأيته على راحلته ينادي بذلك" (9) .

_ (1) "فتح الباري" (4/285) . (2) صحيح: رواه أحمد في "مسنده" والنسائي عن حمزة بن عمرو الأسلمي، ورواه أحمد والحاكم عن بديل بن ورقاء وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7355) . (3) رواه مسلم والبيهقي وأحمد والطحاوي. (4) رواه أحمد ومسلم والبيهقي. (5) إسناده صحيح على شرط الشيخين: أخرجه النسائي والدارمي وابن ماجه والطحاوي والطيالسي وأحمد. (6) إسناده حسن: أخرجه ابن ماجه، وقال البوصيري في "الزوائد": إسناده صحيح، رجاله ثقات. (7) أخرجه الطحاوي والبيهقي وأحمد والحاكم، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. (8) سنده صحيح: أخرجه الطحاوي وأحمد. (9) سنده صحيح: رواه أحمد والطحاوي.

* وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه دخل على أبيه عمرو بن العاص، فوجده يأكل، قال: فدعاني، قال: فقلت له: إني صائم، فقال: "هذه الأيام التي نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامهن، وأمرنا بفطرهن" (1) . * وعن عقبة بن عامر مرفوعاً بلفظ: "يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب" (2) . * عن أبي الشعثاء قال: أتينا ابن عمر في اليوم الأوسط من أيام التشريق، قال: فأتى بطعام فدنا القوم، وتنحى ابن له، قال: فقال له: أدن فاطعم، قال: فقال: إني صائم، قال: فقال: أما علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنها أيام طعم وذكر" (3) . قال الألباني في "إرواء الغليل" (4/131) : "وبالجملة، فهذا الحديث متواتر المعنى عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". عن هشام بن عروة بن الزبير قال: أخبرني أبي: كانت عائشة رضي الله عنها تصوم أيام منى، وكان أبوه يصومها. رواه البخاري. وعن عائشة، وعن ابن عمر رضي الله عنهم، قالا: "لم يرَخّص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لم يجد الهدي" (4) . قال النووي في "المجموع" (6/486) : "الجديد -أي عند الشافعي- أنه لا يصح فيها صوم. وممن قال به من السلف العلماء بامتناع صومها للمتمتع وغيره علي بن أبي طالب وأبو حنيفة وداود وابن المنذر، وهو أصح الروايتين عن أحمد.

_ (1) إسناده صحيح: أخرجه مالك وعنه أبو داود وأحمد والدارمي والحاكم: وقال الحاكم: إسناده صحيح ووافقه الذهبي وأقره الألباني. (2) إسناده صحيح على شرط مسلم: أخرجه أبو داود والترمذي والدارمي وابن أبي شيبة وابن خزيمة والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي والألباني. (3) أخرجه أحمد: وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح"، وقال الألباني في "الإرواء" (4/131) : إسناده على شرط مسلم. (4) رواه البخاري والطحاوي والدارقطني والبيهقي. وهو ليس صريحا في الرفع وإنما هو ظاهر فيه، وهو في حكم المرفوع عند جمهور أهل العلم.

وحكى ابن المنذر جواز صومها للمتمتع وغيره عن الزبير بن العوام وابن عمر وابن سيرين، وقال ابن عمر وعائشة والأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق في رواية عنه: "يجوز للمتمتع صومها". قال ابن حجر في "فتح الباري" (4/285) : "هل تلتحق -أيام التشريق- بيوم النحر في ترك الصيام كما تلتحق به في النحر وغيره من أعمال الحج أو يجوز صيامها مطلقاً، أو للمتمتع خاصة، أو له ولمن هو في معناه؟ وفي كل ذلك اختلاف للعلماء، والراجح عند البخاري جوازها للمتمتع. وقد روى ابن المنذر وغيره عن الزبير بن العوام وأبي طلحة من الصحابة الجواز مطلقاً، وعن علي وعبد الله بن عمرو بن العاص المنع مطلقاً وهو المشهور عن الشافعي، وعن ابن عمر وعائشة وعبيد بن عمير في آخرين منعه إلا للمتمتع الذي لا يجد الهدي، وهو قول مالك والشافعي في القديم، وعن الأوزاعي وغيره يصومها أيضاً المحصر والقارن. وفي كتاب "إرشاد المسترشد": "أما أيام التشريق: فإن أهل الظاهر وجديد قولي الشافعي لا يجيزون الصوم فيها مطلقاً، وكرهه مالك وأبو حنيفة وأحمد إلا لمن كان عليه هدي ولم يتمكن من صوم الثلاثة قبل يوم الأضحى. وحديث عائشة وابن عمر يدل على أن النهي عن صومها للكراهة لا للتحريم، والراجح عندي: ما ذهب إليه مالك ومن معه من الأئمة والله أعلم" (1) . قال تعالى: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج) . قال ابن حجر (4/286) . "قوله: "في الحج" يعم ما قبل النحر وما بعده فيدخل فيه أيام التشريق، وقد ثبت نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صوم أيام التشريق وهو عام في حق المتمتع وغيره، وعلى هذا فقد تعارض عموم الآية المشعر بالإذن وعموم الحديث المشعر بالنهي، وفي تخصيص عموم المتواتر بعموم الآحاد نظر لو كان الحديث مرفوعاً فكيف وفي كونه مرفوعاً نظر؟ فعلى هذا يترجح القول بالجواز، وإلى هذا جنح البخاري والله أعلم".

_ (1) "إرشاد المسترشد" (ص 342) .

سر حسن

قال ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص 304-305) : "إنما نهى عن صيام أيام التشريق لأنها أعياد المسلمين مع يوم النحر، فلا تصام بمنى ولا غيرها عند جمهور العلماء خلافا لعطاء في قوله: إن النهي يختص بأهل منى، وإنما نهى عن التطوع بصيامها سواء وافق عادة أو لم يوافق، فأما صيامها عن قضاء فرض أو نذر أو صيامها بمنى للمتمتع إذا لم يجد الهدي ففيه اختلاف مشهور بين العلماء، ولا فرق بين يوم منها ويوم عند الأكثرين إلا عند مالك فإنه قال: في اليوم الثالث منها يجوز صيامه عن نذر خاصة". سرّ حسن: قال ابن رجب في "اللطائف" (ص 305) : "وفي النهي عن صيام هذه الأيام والأمر بالأكل فيها والشرب سرّ حسن وهو أن الله تعالى لما علم ما يلاقي الوافدون إلى بيته من مشاق السفر وتعب الإحرام وجهاد النفوس على قضاء المناسك شرع لهم الاستراحة عقب ذلك بالإقامة بمنى يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وأمرهم بالأكل فيها من لحوم نسكهم، فهم في ضيافة الله عز وجل لطفاً من الله بهم ورأفة ورحمة، وشاركهم أيضاً أهل الأمصار في ذلك، لأن أهل الأمصار شاركوهم في حصول المغفرة والنصب لله. والاجتهاد في عشر ذي الحجة بالصوم وبالذكر والاجتهاد في العبادات، وشاركوهم في حصول المغفرة وفي التقرب إلى الله تعالى بإراقة دماء الأضاحى فشاركوهم في أعيادهم واشترك الجميع في الراحة في أيام الأعياد بالأكل والشرب كما اشتركوا جميعاً في أيام العشر في الاجتهاد في الطاعة والنصب، وصار المسلمون كلهم في ضيافة الله عز وجل في هذه الأيام يأكلون من رزقه ويشكرونه على فضله، ونهوا عن صيامها لأن الكريم لا يليق به أن يجيع أضيافه، فكأنه قيل للمؤمنين في هذه الأيام قد فرغ عملكم الذي عملتموه فما بقي لكم إلا الراحة فهذه الراحة بهذا التعب كما أريح الصائمون لله شهر رمضان بأمره بإفطار يوم العيد. ويؤخذ من هذا إشارة إلى حال المؤمنين في الدنيا، فإن الدنيا كلها أيام سفر كأيام الحج، وهو زمان إحرام المؤمن عما حرم الله عليه من الشهوات فمن صبر في مدة سفره

2- صوم يوم الجمعة

على إحرامه وكفّ عن الهوى، فإذا انتهى سفر عمره، ووصل إلى منى المنى، فقد قضى تفثه ووفى نذره فصارت أيامه كلها كأيام منى: أيام أكل وشرب وذكر لله وصار في ضيافة الله عز وجل في جواره أبد الأبد. فصم عن الدنيا وليكن فطرك الموت. فصم يومك الأدنى لعلك في غد ... تفوز بعيد الفطر والناس صوّم من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها غدا بعد وفاته، ومن تعجّل ما حرم عليه من لذاته عوقب بحرمان نصيبه من الجنة وفواته. أنت في دار شتات ... فتأهب لشتاتك واجعل الدنيا كيوم ... صمته عن شهواته وليكن فطرك عند الله في يوم وفاتك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "نهى عن صيام يوم قبل رمضان، والأضحى، والفطر، وأيام التشريق" (1) . 2- صوم يوم الجمعة * عن محمد بن عباد بن جعفر: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وهو يطوف بالبيت: أنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيام يوم الجمعة؟ فقال: نعم ورب هذا البيت (2) ، وزاد البخاري - يعني أن ينفرد بصومه. * وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده" (3) . * وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تخصّوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" (4) .

_ (1) صحيح: رواه البيهقي في سننه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6964) . (2) رواه مسلم واللفظ له والبخاري وأحمد، وعند النسائي: "ورب الكعبة" وليس عند البخاري إلا قوله: "نعم". (3) رواه مسلم. (4) رواه مسلم.

* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصوموا يوم الجمعة إلا قبله يوم وبعده يوم" (1) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصوموا يوم الجمعة مفردا" (2) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة، إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده" (3) . * وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم (4) . * وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صوم ستة أيام من السنة: ثلاثة أيام التشريق، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم الجمعة مختصة من الأيام (5) . * وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام يوم الجمعة (6) . * وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على جويرية بنت الحارث رضي الله عنها وهي صائمة في يوم جمعة، فقال لها: "أصمت أمس؟ " فقالت: لا. قال: "أتريدين أن تصومي غداً؟ " فقالت: لا. قال: "فأفطري إذا" (7) . قال ابن حجر (4/275) : "هذه الأحاديث تقيد النهي المطلق في حديث جابر وتؤيد الزيادة التي تقدمت من تقييد الإطلاق بالإفراد، ويؤخذ من الاستثناء جوازه لمن صام قبله أو بعده، أو اتفق وقوعه في أيام له عادة بصومها كمن يصوم أيام البيض أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة، ويؤخذ منه جواز صومه لمن نذر يوم قدوم زيد مثلاً أو يوم شفاء فلان".

_ (1) صحيح: رواه أحمد عن أبي هريرة، ورواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7356) . (2) صحيح: رواه أحمد والنسائي والحاكم عن جنادة الأزدي وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7357) . (3) رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة. (4) صحيح: رواه أحمد عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6837) . (5) صحيح: رواه الطيالسي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6961) . (6) رواه أحمد والبخاري ومسلم وابن ماجه. (7) رواه أحمد واللفظ له، والبخاري من حديث جويرية، ورواه النسائي وابن حبان وصححه عن عبد الله بن عمرو، ورواه أبو داود والطحاوي.

قال ابن حجر في "الفتح" (4/275-276) : "استدل بأحاديث الباب على منع إفراد يوم الجمعة بالصيام، ونقله أبو الطب الطبري عن أحمد وابن المنذر وبعض الشافعية، وكأنه أخذه من قول ابن المنذر: ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة، كما ثبت عن صوم يوم العيد، وزاد يوم الجمعة الأمر بفطر من أراد إفراده بالصوم فهذا قد يشعر بأنه يرى تحريمه". وقال أبو جعفر الطبري: "يفرق بين العيد والجمعة بأن الإجماع منعقد على تحريم صوم يوم العيد ولو صام قبله أو بعده، بخلاف يوم الجمعة فالإجماع منعقد على جواز صومه لمن صام قبله أو بعده. ونقل ابن المنذر وابن حزم منع صومه عن علي وأبي هريرة وسلمان وأبي ذر، قال ابن حزم: لا نعلم لهم مخالفا من الصحابة وذهب الجمهور إلى أن النهي فيه للتنزيه. وعن مالك وأبي حنيفة لا يكره". * وقال النووي في "شرح مسلم" (3/197) : "وأما قول مالك في "الموطأ": لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه، ومَنْ يقتدَى نهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه، فهذا الذي قاله هو الذي رآه، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة فيتعين القول به. ومالك معذور؛ فإنه لم يبلغه، قال الداودي -من أصحاب مالك-: لم يبلغ مالكا هذا الحديث، ولو بلغه لم يخالفه". * قال ابن حجر (4/276) : وزعم عياض أن كلام مالك يؤخذ منه النهي عن إفراده لأنه كره أن يخص يوم من الأيام بالعبادة فيكون له في المسألة روايتان. وعاب ابن العربي قول عبد الوهاب منهم: يوم لا يكره صومه مع غيره فلا يكره وحده، لكونه قياسا مع وجود النص. واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وقلما كان يفطر يوم الجمعة". حسنه الترمذي، وليس فيه حجة لأنه يحتمل أن يريد كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها، ولا يضاد ذلك كراهة إفراده بالصوم جمعا بين الحديثين، ومنهم من عدّه من الخصائص، وليس بجيد لأنها لا تثبت بالاحتمال. والمشهور عند الشافعية وجهان:

3- بعد النصف من شعبان

أحدهما ونقله المزني عن الشافعي: أنه لا يكره إلا لمن أضعفه صومه عن العبادة التي تقع فيه من الصلاة والذكر والدعاء. والثاني وهو الذي صححه المتأخرون. كقول الجمهور. وحديث ابن مسعود المتقدم حمله الجمهور على حديث أبي هريرة السابق وقالوا: إذا صام قبله أو بعده جاز بلا كراهة وإلا فهو مكروه، وهو الراجح عندنا لأن أكثر أهل الأصول يقولون: إذا تعارض النهي والفعل قدم جانب الحظر على الفعل لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا". • واختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال: * أحدها: لكونه يوم عيد والعيد لا يصام، قال ابن حجر: "وهذا أقوى الأقوال وأولاها بالصواب وورد فيه صريحاً حديثان: أحدهما رواه الحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً: "يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده"، والثاني رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي وقال: "من كان منكم متطوعاً من الشهر فليصم يوم الخميس فإنه طعام وشراب وذكر"، واستشكل ذلك مع الإذن بصيامه مع غيره. وأجاب ابن القيم وغيره بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة، ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم. * ثانيها: لئلا يضعف عن العبادة واختاره النووي، قال: "الحكمة في النهي عنه أن يوم الجمعة يوم دعاء وذكر وعبادة من الغسل والتبكير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة وإكثار الذكر بعدها وغير ذلك من العبادات في يومها، فاستحب الفطر فيه، فيكون أعون له على هذه الوظائف وأدائها بنشاط وانشراح لها والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة، وهو نظير الحاج يوم عرفة بعرفة، فإن السنة له الفطر كما سبق تقريره لهذه الحكمة". 3- بعد النصف من شعبان المروي عن الشافعي كراهية صيامه، والجمهور على جواز صيامه لحديث عمران بن حصين الذي سبق.

4- صوم السبت

4- صوم السبت قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صيام يوم السبت لا لك ولا عليك" (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصوموا يوم السبت إلا في فريضة، وإن لم يجد أحدكم إلا عود كرم أو لحاء شجرة، فليفطر عليه" (2) ، الكرم هو العنب، واللحاء هو القشر. قال النووي في "المجموع" (6/481-482) : "يكره إفراد يوم السبت بالصوم، فإن صام قبله أو بعده لم يكره. صرّح بكراهة إفراده أصحابنا، منهم الدارمي والبغوي والرافعي وغيرهم. وقال الترمذي: معنى النهي أن يختصه الرجل بالصيام لأن اليهود يعظمونه". ومذهب مالك: عدم كراهية صومه. وقال ابن قدامة في "المغني" (4/428) : "قال أصحابنا: يكره إفراد يوم السبت

_ (1) صحيح: رواه أحمد عن امرأة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، رقم (3852) ، و"الإرواء" رقم (960) . (2) صحيح: أخرجه أبو داود والترمذي والدارمي وابن ماجه والطحاوي وابن خزيمة في "صحيحه" والحاكم والبيهقي وأحمد والضياء المقدسي في "المختارة" عن عبد الله بن بسر السلمي عن أخته الصماء. وقال الترمذي: حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري وأقره الذهبي ووافقه الألباني في "إرواء الغليل" رقم (960) . وقال النسائي: حديث مضطرب، وقال الزهري: ذاك حديث حمصي وضعفه ونقلوا عن مالك أنه قال: هذا كذب، قال النووي: "لا يقبل هذا منه"، وقد صححه الأئمة، وقال أبو داود: هذا حديث منسوخ، وصححه ابن خزيمة وقال ابن مفلح: إسناده جيد: وقال الإمام أحمد: كان يحيى بن سعيد يتقيه وأبى أن يحدثني به. وصحح الحديث ابن السكن. وقال ابن حجر في "تلخيص الحبير" (2/216) : "وقد أعل حديث الصماء بالاضطراب، فقيل هكذا، وقيل: عن عبد الله بن بسر وليس فيه عن أخته الصماء، وهذه رواية ابن حبان، وليست بملة قادحة، فإنه أيضاً صحابي، وقيل: عنه عن أبيه بسر. وقيل: عنه عن الصماء عن عائشة. قلت: يحتمل أن يكون عند عبد الله عن أبيه وعن أخته، وعند أخته بواسطة، وهذه طريقة من صححه ورجح عبد الحق الرواية الأولى وتبع في ذلك الدارقطني، لكن هذا التلون في الحديث الواحد بالإسناد الواحد مع اتحاد المخرج يوهن راويه، وينبئ بقلة ضبطه، إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث، فلا يكون ذلك وإلا على قلة ضبطه وليس الأمر هنا كذلك بل اختلف فيه عن عبد الله بن بسر أيضاً" ا. هـ، وقد رد الألباني على هذا بتفصيل في "إرواء الغليل" حديث رقم (960) وقال: الحديث صحيح من طرق ثلاث. قال النووي: قول أبي داود أنه منسوخ غير مقبول وللأخ علي بن حسن بن عبد الحميد رسالة في ذلك باسم "زهر الروض في حكم صيام يوم السبت في غير الفرض".

5- يوم الشك

بالصوم، فإن صام معه غيره لم يكره، لحديث أبي هريرة وجويرية، وإن وافق صوماً لإنسان لم يكره. قال أبو عبد الله: أما صيام يوم السبت يفترد (1) به فقد جاء فيه حديث الصماء، وكان يحيى بن سعيد يتقيه أي أن يحدثني به وسمعته من أبي عاصم". قال ابن مفلح في "الفروع" (3/124) : "قال الأثرم: وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر، منها حديث أم سلمة يعني أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم يوم السبت والأحد ويقول: "هما عيدان للمشركين فأحب أن أخالفهما" رواه أحمد والنسائي وصححه جماعة، وإسناده جيد، واختار شيخنا (2) أنه لا يكره، وأنه قول أكثر العلماء، وأنه الذي فهمه الأثرم من روايته، وأنه لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى، فالحديث شاذ أو منسوخ، وأن هذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه، كالأثرم وأبي داود، وأن أكثر أصحابنا فهم من كلام أحمد الأخذ بالحديث، ولم يذكر الآجري غير صوم يوم الجمعة، فظاهره لا يكره مع غيره". 5- يوم الشك * عن صلة قال: كنا عند عمار فأتى بشاة مصلية، فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم، قال: إني صائم، فقال عمار: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (3) . وفي رواية ابن خزيمة وغيره: "من صام اليوم الذي يشك فيه". * قال ابن حجر (4/144) : "قال الطيبي: إنما أتى بالموصول ولم يقل: يوم الشك مبالغة في أن صوم يوم فيه أدنى شك سبب لعصيان صاحب الشرع فكيف بمن صام يوماً الشك فيه قائم ثابت، ونحوه قوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) أي الذين أونس

_ (1) أي يصومه منفرداً. (2) أي ابن تيمية. (3) صحيح: أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والدارمي والطحاوي وابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي وابن خزيمة وصححه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال الدارقطني: إسناده حسن صحيح ورواته كلهم ثقات، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وعلقه البخاري بصيغة الجزم ووصله أبو داود والترمذي والحاكم وغيره. واقتصر الحافظ على تحسينه، ورواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عكرمة من قوله.

منهم أدنى ظلم، فكيف بالظلم المستمر عليه؟ قلت: وقد علمت أنه وقع في كثير من الطرق بلفظ: "يوم الشك". وقوله: "أبا القاسم" قيل: فائدة تخصيص ذكر هذه الكنية: الإشارة إلى أنه هو الذي يقسم بين عباد الله أحكامه زماناً ومكاناً وغير ذلك". * قال النووي في "المجموع" (6/454) : "يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا وقع في ألسنة الناس أنه رؤي ولم يقل عدل: أنه رآه، أو قاله وقلنا: لا تقبل شهادة الواحد، أو قاله عدد من النساء والصبيان أو العبيد أو الفساق. قالوا: فأما إذا لم يتحدث برؤيته أحد فليس بيوم شك، سواء كانت السماء مصحية أو أطبق غيم، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور". وقال إمام الحرمين: "إن كان ببلد يستقل أهله بطلب الهلال فليس بشك، وإن كانوا في سفر ولم تبعد رؤية أهل القرى فيحتمل جعله يوم شك". وقال الخطيب البغدادي: "أجمع علماء السلف على أن صوم يوم الشك ليس بواجب وهو إذا كانت السماء متغيمة في آخر اليوم التاسع والعشرين من شعبان، ولم يشهد عدل برؤية الهلال، ليوم الثلاثين يوم الشك، فكره جمهور العلماء صيامه إلا أن يكون له عادة بصوم يصومه فيصومه من عادته، أو كان يسرد الصوم فيأتي ذلك في صيامه فيصومه". * قال النووي في "المجموع" (6/455-458) : "فرع. في مذاهب العلماء في صوم يوم الشك: لا يصح صومه بنية رمضان عندنا -أي الشافعية-، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس وابن مسعود وعمار وحذيفة وأنس وأبي هريرة وأبي وائل وعكرمة وابن المسيب والشعبي والنخعي وابن جريج والأوزاعي. قال: وقال مالك: سمعت أهل العلم ينهون عنه. هذا كلام ابن المنذر، وممن قال به أيضاً: عثمان بن عفان وداود الظاهري، قال ابن المنذر. وبه أقول.

فإن غم عليكم فأكملوا العدة الثلاثين

وقالت عائشة وأختها أسماء: نصومه من رمضان، وكانت عائشة تقول: "لأن أصوم يوماً من شعبان أحبّ إلي من أن أفطر يوماً من رمضان" وروي هذا عن علي أيضاً. قال العبدري: ولا يصح عنه، وقال الحسن وابن سيرين: إن صام الإمام صاموا، وإن أفطر أفطروا، وقال ابن عمر وأحمد بن حنبل: إن كانت السماء مصحية لم يجز صومه، وإن كانت مغيمة وجب صومه عن رمضان. * وعن أحمد روايتان كمذهبنا ومذهب الجمهور، وعنه رواية ثالثة كمذهب الحسن هذا بيان مذاهبهم في صوم يوم الشك عن رمضان". قال ابن حجر (6/146) : "المشهور عن أحمد أنه خص يوم الشك بما إذا تقاعد الناس عن رؤية الهلال، أو شهد برؤيته من لا يقبل الحاكم شهادته، فأما إذا حال دون منظره شيء فلا يسمى شكّاً. واختار كثير من المحققين من أصحابه الثاني. قال ابن عبد الهادي في تنقيحه: الذي دلت عليه الأحاديث -وهو مقتضى القواعد- أنه أي شهر غم أكمل ثلاثين يوماً سواء في ذلك شعبان ورمضان وغيرهما". * وقال الخطيب البغدادي: "فممن منع صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وعمار وحذيفة بن اليمان وابن عمر وابن عباس وأنس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعائشة، وتابعهم من التابعين: سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وأبو وائل وعبد الله بن عكيم الجهني وعكرمة والشعبي والحسن وابن سيرين والمسيب بن رافع وعمر بن عبد العزيز ومسلم بن يسار وأبو السوار العدوي وقتادة والضحاك بن قيس وإبراهيم النخعي، وتابعهم من الخالفين والفقهاء المجتهدين ابن جريج والأوزاعي والليث ابن سعد والشافعي وإسحاق بن راهويه. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز عن رمضان ويجوز تطوعاً". * قال الخطيب: "أما حديث ابن عمر فاختلفت الروايات عنه اختلافاً يؤول إلى أن يكون حجة لنا، فإن بعض الرواة قال في حديثه عنه: "فإن غمّ عليكم فعدوا ثلاثين يوماً" ثم روى عنه: "فأكملوا العدة ثلاثين"، وفي رواية عنه: "فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين"، ثم قال: "لقد ثبت برواية ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما فسّر المجمل، وأوضح

المشكل، وأبطل شبهة المخالف، لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فاقدروا له" مجمل مفسر برواية: "فعدوا له ثلاثين يوماً" و"فأكملوا العدة ثلاثين" و"فاقدروا له ثلاثين" مع موافقة أبي هريرة بن عمر على روايته مثل هذه الألفاظ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأما تعلق المخالف بما روي عن ابن عمر أنه كان يصوم إذا غم الهلال (1) ، فقد روي أنه كان يفعل ويفتي بخلاف ذلك، وفتياه أصح من فعله يعني لتطرق التأويل إلى فعله، ثم روى الخطيب بإسناده عن عبد العزيز بن حكيم قال: "سألوا ابن عمر فقالوا: نسبق قبل رمضان حتى لا يفوتنا منه شيء، فقال ابن عمر: أف أف صوموا مع الجماعة، وأفطروا مع الجماعة" إسناده صحيح إلا عبد العزيز بن حكيم (2) ، فقال يحيى بن معين: هو ثقة، وقال أبو حاتم: ليس بقوي يكتب حديثه، وعن ابن عمر: "لا أتقدم الإمام ولا أصله بصيام". وعن عبد العزيز بن حكيم قال: "ذكر عند ابن عمر يوم الشك فقال: لو صمت السنة كلها لأفطرته" قال الخطيب: وهذا هو الأشبه بابن عمر لأنه لا يجوز الظن به أنه خالف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وترك قوله الذي رواه هو وغيره من العمل بالرؤية أو إكمال العدة فيجب أن يحمل ما روي عن ابن عمر من صوم يوم الشك على أنه كان يصبح ممسكاً حتى يتبين بعد ارتفاع النهار هل تقوم بينة بالرؤية فظن الراوي أنه كان صائماً. وكيف يظن بابن عمر مخالفة السنة، وهو المجتهد في اقتفاء آثار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والاقتداء بأفعاله وطريقة ابن عمر في ذلك مشهورة محفوظة". * قال النووي في "المجموع" (6/455-456) : "فلو صامه -أي يوم الشك- تطوعاً بلا عادة ولا وصله فمذهبنا أنه لا يجوز، وبه قال الجمهور، وحكاه العبدري عن عثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وحذيفة وعمار وابن عباس وأنس والأوزاعي ومحمد ابن سلمة المالكي وداود، وقال أبو حنيفة: لا يكره صومه تطوعاً ويحرم صومه عن رمضان".

_ (1) عند أحمد عن نافع: "كان ابن عمر إذا كان ليلة تسع وعشرين، وكان في السماء سحاب أو قتر أصبح صائماً"، وإسناده صحيح على شرطهما. وعند أبي داود والدارقطني والبيهقي وأحمد عن نافع: "كان ابن عمر إذا حال دون مطلعه غيم أو قتر أصبح صائماً" صحيح. فمن قال: العبرة برأي الراوي لا بروايته لزم الأخذ به كالحنفية. (2) وثقه أبو داود.

* قال ابن رشد في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (2/195-196) : "وأما يوم الشك فإن جمهور العلماء على النهي عن صيام يوم الشك على أنه من رمضان لظواهر الأحاديث التي يوجب مفهومها تعلق الصوم بالرؤية أو بإكمال العدد، واختلفوا في تحرّي صيامه تطوعاً فمنهم من كرهه على ظاهر حديث عمار، ومن أجازه، وكان الليث بن سعد يقول: إنه إن صامه على أنه من رمضان، ثم جاء الثبت أنه من رمضان أجزأه، وهذا دليل على أن النية تقع بعد الفجر في التحول من نية التطوع إلى نيّة الفرض". * وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (14/342-346) : "جملة قول مالك وأصحابه أن يوم الشك لا يُصام على الاحتياط، خوفاً أن يكون من رمضان، ويجوز صومه تطوعاً؛ ومن صامه تطوعاً أو احتياطاً ثم ثبت أنه من رمضان لم يجزه، وكان عليه قضاؤه، وإن أصبح فيه ينوي الفطر ولم يأكل أو أكل ثم صح أنه من رمضان كف عن الأكل في بقية يومه وقضاه". * ذكر عبد الرزاق عن داود بن قيس قال: سألتُ القاسم بن محمد عن صيام اليوم الذي يشك فيه من رمضان، فقال: إذا كان مغيماً يتحرّى أنه من رمضان فلا يصمه. * وقال الوليد بن مزيد: قلت للأوزاعي: إن صام رجل آخر يوم من شعبان تطوعاً -أو خوفاً- أن يكون من رمضان، ثم صح أنه من رمضان أيجزئه؟ قال: نعم. وقد وفق لصومه. * وقال ابن علية: لا ينبغي لأحد أن يتقدم رمضان بصوم، فإن فعل ثم صح أنه من رمضان أجزأ عنه. وممن قال بقول الأوزاعي عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة والثوري وابن علية وعطاء وحجتهم أن رمضان لا يحتاج إلى نية ولا يكون صومه تطوعاً أبداً. * قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لو أن رجلاً أصبح صائماً في أول يوم من شهر رمضان، ولا ينوي أنه من شهر رمضان وينوي بصيامه التطوع ثم علم أن يومه ذلك من رمضان، فإنه يجزي عنه صيامه وليس عليه قضاء ذلك اليوم. * وقال ربيعة بن عبد الرحمن وحماد بن أبي سليمان وابن أبي ليلى: من صام يوم الشك على أنه من رمضان لم يجزه وعليه الإعادة.

قال الشافعي: لو أصبح ينوي صومه متطوعاً لم يجزه من رمضان، ولا أرى رمضان يجزئه إلا بإرادته والله أعلم. قال: ولا فرق عندي بين الصوم والصلاة، وقال أبو ثور: لو أن رجلاً نوى بصوم ذلك اليوم التطوع وهو لا يعلم أنه من رمضان لم يجزه أيضاً وكان عليه قضاؤه. قال ابن عبد البر: قد صح أن التطوع غير الفرض فمحال أن ينوي التطوع ويجزئه عن الفرض. والقول (1) أصح وأحوط من جهة الأثر والنظر إن شاء الله، والله الموفق للصواب. قال ابن سيرين: لأن أفطر يوماً من رمضان لا أتعمده أحبّ إلي من أن أصوم اليوم الذي يشك فيه من شعبان. وقال: خرجت في اليوم الذي يشك فيه، فلم أدخل على أحد يؤخذ عنه العلم إلا وجدته يأكل، إلا رجلاً كان يحسب ويأخذ بالحساب، ولو لم يعلم ذلك كان خيراً له. فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين: * عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر رمضان فقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له" (2) . * وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" (3) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو قال: قال أبو القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" (4) رواه البخاري. * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن أغمي عليكم فعدوا ثلاثين يوماً" (5) .

_ (1) أنه لا يجزئه عن صوم رمضان وعليه القضاء. (2) رواه البخاري ومسلم والنسائي. (3) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود. واللفظ للبخاري. (4) رواه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة، والنسائي عن ابن عباس، والطبراني في "الكبير" عن البراء. (5) رواه أحمد والبخاري ومسلم عن جابر، وأحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، والنسائي عن ابن عباس، وأحمد عن طلق بن علي.

* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين" (1) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله قد أمده لرؤيته؛ فإن أُغمى (2) عليكم فأكملوا العدة" (3) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا عدة شعبان، ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً، ولا تصلوا رمضان بيوم من شعبان" (4) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" (5) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الشهر يكون تسعة وعشرين، ويكون ثلاثين، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا العدة" (6) . قال ابن حجر (4/144) : "ذكر البخاري في الباب أحاديث تدل على نفي صوم يوم الشك رتبها ترتيباً حسناً فصدّرها بحديث عمار المصرح بعصيان من صامه، ثم بحديث ابن عمر من وجهين: أحدهما: بلفظ: "فاقدروا له" والآخر بلفظ: "فأكملوا العدة ثلاثين" وقصد بذلك بيان المراد من قوله: "فاقدروا له". قال ابن حجر (4/145-146) : "قوله: "فإن غم عليكم فاقدروا له" احتمل أن يكون المراد التفرقة بين حكم الصحو والغيم، فيكون التعليق على الرؤية متعلقاً بالصحو، وأما الغيم فله حكم آخر، ويحتمل أن لا تفرقة ويكون الثاني مؤكداً للأول، وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة، وإلى الثاني ذهب الجمهور فقالوا: المراد بقوله: "فاقدروا له" أي انظروا

_ (1) صحيح. (2) فإن غُم: أي حال بينكم وبينه غيم. وأغمى وغم وغمي بتشديد الميم وتخفيفها فهو مغموم، الكل بمعنى، وأما غَبي بفتح الغين وتخفيف الموحدة فمأخوذ من الغباوة وهي عدم الفطنة وهي استعارة لخفاء الهلال. ونقل ابن العربي أنه روى: "عمى" بالعين المهملة من العمى لأنه ذهاب البصر عن المشاهدات. (3) رواه أحمد ومسلم عن ابن عباس. (4) صحيح: رواه أحمد والنسائي والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3809) . (5) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود. (6) صحيح: رواه النسائي عن أبي هريرة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3744) .

النهي عن صوم المرأة تطوعا إلا بإذن زوجها وهو حاضر

في أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين، ويرجع هذا التأويل الروايات الأخرى المصرحة بالمراد، وأولى ما فسر الحديث بالحديث". عن عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحفّظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام" (1) . وعن حذيفة مرفوعاً: "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة" (2) . قال ابن حجر (4/146) : "قوله: (فأكملوا العدة) يرجع إلى الجملتين وهو قوله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة" أي غمّ عليكم في صومكم أو فطركم، وبقية الأحاديث تدل عليه فاللام في قوله: "فأكملوا العدة" للشهر أي عدة الشهر، ولم يخص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً دون شهر بالإكمال إذا غمّ فلا فرق بين شعبان وغيره في ذلك، إذ لو كان شعبان غير مراد بهذا الإكمال لبينه فلا تكون رواية من روى: "فأكملوا عدة شعبان" مخالفة لمن قال: "فأكملوا العدة" بل مبينة لها. ويؤيد ذلك قوله في الرواية الأخرى: "فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً". "فاقدروا له" قال النووي في "المجموع" (6/457-460) : "قال أهل اللغة: هو من التقدير. قال الخطابي: ومنه قوله تعالى: "فقدرنا فنعم القادرون". قال الإمام أبو عبد الله الماوردي: حمل جمهور الفقهاء قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فاقدروا له" على أن المراد إكمال العدة ثلاثين يوماً. والوجه الثاني: أن معنى: "اقدروا" ضيقوا عدة شعبان كما قال الله: (ومن قدر عليه رزقه) أي ضيق. وقال النووي: يحتمل رجوعه إلى هلال شوال لأنه سبقه بقوله: "وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم" يعني هلال شوال. والرأي الأول أقوى. النهي عن صوم المرأة تطوعاً إلا بإذن زوجها وهو حاضر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا

_ (1) صحيح: رواه الدارقطني وصححه ابن خزيمة في "صحيحه"، ورواه أبو داود في "الفتح" (4/145) . (2) صحيح: رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وصححه ابن خزيمة وابن حجر في "الفتح" (4/145) .

بإذنه، وما أنفقت من كسبه من غير أمره، فإن نصف أجره له" (1) . * عن أبي هريرة مرفوعاً: "لا يحل للمرأة أن تصوم [يوماً تطوعاً في غير رمضان] وزوجها شاهد إلا بإذنه" (2) . * وعنه مرفوعاً: "لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه [غير رمضان] " (3) . * وعنه مرفوعاً: "لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه سوى شهر رمضان" (4) . * وعن أبي سعيد الخدري قال: "جاءت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن عنده، فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده، قال: فسأله عما قالت، فقال: يا رسول الله أما قولها: يضربني إذا صليت، فإنها تقرأ بسورتين، وقد نهيتها عنهما، قال: فقال: "لو كانت سورة واحدة لكفت الناس"، وأما قولها: يفطرني، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب، فلا أصبر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ: "لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها"، وأما قولها: إني لا أصلي حتى تطلع الشمس، فإنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس، قال: "فإذا استيقظت فصل" (5) . * عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصومن امرأة إلا بإذن زوجها) (6) . قال النووي في "المجموع" (6/445-446) : "قال المصنف والبغوي وصاحب العدة وجمهور أصحابنا: لا يجوز للمرأة صوم تطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه لهذا الحديث، وقال جماعة من أصحابنا: يكره، والصحيح الأول، فلو صامت بغير إذن

_ (1) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة. (2) رواه البخاري والترمذي والدارمي والزيادة له، وابن ماجه وأحمد والترمذي. (3) رواه البخاري ومسلم، والرواية الأخرى له، وأبو داود والزيادة له، وابن حبان وأحمد. (4) رواه ابن حبان واللفظ له وأحمد والدرامي والحاكم وحسنه الألباني في "إرواء الغليل" رقم (2004) . (5) أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم وأحمد وزاد بعد قوله: "بسورتين": "فتعطلني"، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي وتابعه الألباني في "إرواء الغليل" رقم (2004) . (6) صحيح: رواه أحمد، وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7359) .

إفراد يوم النيروز بصوم

زوجها صحّ باتفاق أصحابنا، وإن كان الصوم حراماً لأن تحريمه لمعنى آخر لا لمعنى يعود إلى نفس الصوم، فهو كالصلاة في دار مغصوبة. وأما صومها التطوّع في غيبة الزوج عن بلدها فجائز بلا خلاف لمفهوم الحديث ولزوال معنى النهي. * والأمَةُ المستباحة لسيدها في صوم التطوع كالزوجة، وأما الأمة التي لا تحل لسيدها بأن كانت محرماً له كأخته أو كانت مجوسية أو غيرهما والعبد، فإن تضررا بصوم التطوع بضعف أو غيره أو نقصاً، لم يجز بغير إذن السيد بلا خلاف، وإن لم يتضررا ولم ينقصا جاز والله أعلم. قال المناوي (6/407) : "فلو نكحها صائمة فلا حق له في تفطيرها كما جزم به المروزي من عظماء الشافعية وأعظم بها فائدة قلّ من تعرض لها أما وهو غائب عن البلد فلا يكره بل يسن قال أبو زرعة: وفي معنى غيبته كونه لا يمكن التمتع بها لنحو المرض". إفراد يوم النيروز بصوم قال ابنُ قدامة في "المغني" (4/428-429) : "يكره إفراد يوم النيروز ويوم المهرجان (1) بالصوم لأنهما يومان يعظمها الكفار فكره كيوم السبت، وعلى قياس هذا، كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم". صيام الدهر قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام الأبد، فلا صام ولا أفطر" (2) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صام من صام الأبد" (3) .

_ (1) عيد تقيمه الفرس احتفالاً بالاعتدال الخريفي. (2) صحيح: رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عبد الله بن الشخير، وابن حبان والنسائي والطبراني في "الكبير" عن ابن عمر، والنسائي وابن حبان عن عمران، والنسائي عن أبي قتادة وصححه الألباني في صحيح "الجامع" رقم (6323) . (3) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن ابن عمرو.

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صام من صام الدهر، صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله" (1) . * قال ابن حجر (4/261-263) : "المعنى أنه لم يحصل أجر الصوم لمخالفته، ولم يفطر لأنه أمسك". * وإلى كراهة صوم الدهر مطلقاً ذهب إسحاق وأهل الظاهر، وهي رواية عن أحمد. وشذّ ابن حزم فقال: يحرم. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي عمرو الشيباني قال: "بلغ عمر أن رجلاً يصوم الدهر، فأتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول: كل يا دهري". * وإلى الكراهة مطلقاً ذهب ابنُ العربي من المالكية فقال: قوله: "لا صام من صام الأبد" إن كان معناه الدعاء فيا ويح من أصابه دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كان معناه الخبر فيا ويح من أخبر عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لم يصم، وإذا لم يصم شرعاً لم يكتب له الثواب لوجوب صدق قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه نفى عنه الصوم، وقد نفى عنه الفضل كما تقدم، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -". * وذهب آخرون إلى جواز صيام الدهر وحملوا أخبار النهي على من صامه حقيقة فإنه يدخل فيه ما حرم صومه كالعيدين وهذا اختيار ابن المنذر وطائفة، ورُوي عن عائشة نحوه. * وذهب آخرون إلى استحباب صيام الدهر لمن قوي عليه ولم يفوت فيه حقًّا، وإلى ذلك ذهب الجمهور. قال السبكي: أطلق أصحابنا كراهة صوم الدهر لمن فوّت حقَّا، ولم يوضحوا هل المراد الحق الواجب أو المندوب، ويتجه أن يقال: إن علم أنه يفوت حقا واجباً حرم، وإن علم أنه يفوت حقًّا مندوباً أولى من الصيام كره، وإن كان يقوم مقامه فلا. ومن حجتهم حديث حمزة بن عمرو فإن في بعض طرقه عند مسلم أنه قال: "يا رسول الله إني أسرد الصوم" فحملوا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله بن عمرو: "لا أفضل من ذلك" أي في حقك فيلتحق به من في معناه ممن يدخل فيه على نفسه مشقة أو يفوت حقا، ولذلك

_ (1) رواه البخاري عن ابن عمرو.

لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد فلو كان السرد ممتنعاً لبينه له لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز قاله النووي. * واختلف المجيزون لصوم الدهر بالشرط المتقدم هل هو أفضل أو صيام يوم وإفطار يوم أفضل؟ فصرح جماعة من العلماء بأن صوم الدهر أفضل لأنه أكثر عملاً فيكون أكثر أجراً وما كان أكثر أجراً كان أكثر ثواباً، وبذلك جزَم الغزالي أولاً وقيّده بشرط أن لا يصوم الأيام المنهي عنها، وأن لا يرغب عن السنة بأن يجعل الصوم حجراً على نفسه، فإذا أمن من ذلك فالصوم من أفضل الأعمال، فالاستكثار منه زيادة في الفضل. وذهب جماعة منهم المتولى من الشافعية وابنُ دقيق العيد إلى أن صيام داود أفضل. وعلى هذا فيختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال، فمن يقتضي حاله الإكثار من الصوم أكثر منه، ومن يقتضي حاله الإكثار من الإفطار أكثر منه، ومن يقتضي حاله المزج فعله، حتى أن الشخص الواحد قد تختلف عليه الأحوال في ذلك، وإلى ذلك أشار الغزالي أخيراً والله أعلم بالصواب. * قال ابن قدامة في "المغني" (4/430) [حنبلي] : "عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم" قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: فَسّر مسدَّد قول أبي موسى: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم" فلا يدخل، فضحك وقال: من قال هذا؟ فأين حديث عبد الله بن عمرو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كرِه ذلك، وما فيه من الأحاديث؟ " قال أبو الخطاب: إنما يكره إذا أدخل فيه يومي العيدين وأيام التشريق، لأن أحمد قال: إذا أفطر يومي العيدين وأيام التشريق رجوت أن لا يكون بذلك بأس. ورُوي نحو هذا عن مالك وهو قول الشافعي؛ لأن جماعة من الصحابة كانوا يسردون الصوم، منهم: أبو طلحة. قيل: إنه صام بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين سنة. ويقوى عندي أن صوم الدهر مكروه، وإن لم يصم هذه الأيام، فإن صامها فقد فعل محرّماً، وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف، وشبه التبتل المنهي عنه بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله ابن عمرو: "إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل؟ " فقلت: نعم، قال: "إنك إذا فعلت ذلك

هجمت (1) له عينك، ونفهت (2) له النفس، لا صام من صام الدهر. صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله"، قلت: فإني أطيق أكثر من ذلك. قال: "فصم صوم داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى"، وفي رواية: "وهو أفضل الصيام". فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: "لا أفضل من ذلك" (3) . * قال ابنُ مفلح في "الفروع" (3/114-115) : "يكره صوم الدهر إذا أدخل فيه يومي العيدين وأيام التشريق، ذكره القاضي وأصحابه، والكراهة كراهة تحريم، ذكره صاحب "المغني" و"المحرر" وغيرهما وهو واضح. وإن أفطر أيام النهي جاز خلافاً للظاهرية ولم يكره والمراد إذا لم يترك به حقًّا ولا خاف منه ضرراً. نقل حنبل: إذا أفطر أيام النهي فليس ذلك صوم الدهر. ونقل صالح: إذا أفطرها رجوت أن لا بأس به، وهذا اختيار القاضي وأصحابه وصاحب "المحرر" والأكثر، وذكر مالك أنه سمع أهل العلم يقولونه لقول حمزة بن عمرو: "يا رسول الله، إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ " قال: "إن شئت فصُم" متفق عليه، ولأن أبا طلحة وغيره من الصحابة وغيرهم فعلوه، ولأن الصوم مطلوب للشارع إلا ما استثناه. واختار صاحب "المُغني": يُكره، وهو ظاهر رواية الأثرم. وللحنفية قولان، وقال شيخُنا: الصواب قول من جعله تركا للأولى أو كرهه فعلى الأول صوم يوم وفطر يوم أفضل منه، خلافاً لطائفة من الفقهاء والعباد، ذكره شيخنا، وهو ظاهر حال من سرده، ومنهم أبو بكر النجاد من أصحابنا. قال أحمد: "ويعجبني أن يفطر منه أياماً، يعني أنه أولى، للخروج من الخلاف، وجزم به جماعة، وقاله إسحاق، وليس المراد الكراهة فلا تعارض". * قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/197-198) [مالكي] : "أما صيام الدهرِ فإنه قد ثبت النهي عن ذلك، لكن مالك لم ير بذلك بأساً، وعسى رأي النهي في ذلك إنما هو من باب خوف الضعف والمرض".

_ (1) هجمت: غارت. (2) نفهت: أعيت. (3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد.

* قال النووي في "المجموع" (6/441-445) : "قال الشافعي والأصحاب في صوم الدهر نحو قول المصنف -أي لا يكره- والمراد بصوم الدهر سرد الصوم في جميع الأيام إلا الأيام التي لا يصح صومها، وهي العيدان وأيام التشريق، وحاصل حكمه عندنا أنه إن خاف ضرراً أوْ فوّت حقا بصيام الدهر كره له، وإن لم يخف ضرراً ولم يفوت حقا لم يكره، هذا هو الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به المصنف والجمهور، وأطلق البغوي وطائفة قليلة أن صوم الدهر مكروه، وأطلق الغزالي في "الوسيط" أنه مسنون. وكذا قال الدارمي: من قدر على صوم الدهر من غير مشقة ففعل فهو فضل. قال الشافعي في "البويطي": لا بأس بسرد الصوم إذا أفطر أيام النهي الخمسة. قال صاحب "الشامل" بعد أن ذكر النص: وبهذا قال عامة العلماء. وكذا نقله القاضي عِياضٌ وغيره عن جماهير العلماء. وممن نقلوا عنه ذلك عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو طلحة وعائشة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. والجمهور من بعدهم. * وقال أبو يوسف وغيره من أصحاب أبي حنيفة يكره مطلقاً. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر على حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه سرد الصوم لا سيما وقد عرض به في السفر. وعن أبي موسى الأشعري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا" وعقد تسعين. رواه البيهقي هكذا مرفوعاً وموقوفاً على أبي موسى. واحتج به البيهقي على أنه لا كراهة في صوم الدهر وافتتح الباب به، فهو عنده المعتمد في المسألة، وأشار غيره إلى الاستدلال به على كراهته، والصحيح ما ذهب إليه البيهقي، ومعنى ضيقت عليه: أي عنه فلم يدخلها، أو ضيقت عليه: أي لا يكون له فيها موضع". * قال ابن خزيمة في "صحيحه" (3/313-314) : "باب فضل صيام الدهر إذا أفطر الأيام التي زجر عن الصيام فيها: عن أبي موسى الأشعري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا" وعقد تسعين (1) .

_ (1) إسناده صحيح، ورواه أيضاً البزار والطبراني في "الكبير".

وعنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الذي يصوم الدهر تضيق عليه جهنم تَضيّق هذه" (1) وعقد تسعين. قال أبو بكر -ابن خزيمة-: سألت المزني عن معنى هذا الحديث، فقال: يشبه أن يكون معناه أي: ضيقت عنه جهنم، فلا يدخل جهنم ولا يشبه أن يكون معناه غير هذا، لأن من ازداد لله عملاً وطاعة ازدادَ عند الله رفعة، وعليه كرامة، وإليه قربة هذا معنى جواب المزني". قال ابن حجر (4/262) : "ورجح هذا التأويل جماعة منهم الغزالي فقالوا: له مناسبة من جهة أن الصائم لما ضيّق على نفسه مسالك الشهوات بالصوم ضيّق الله عليه النار فلا يبقى له فيها مكان لأنه ضيق طرفيها بالعبادة". قال ابن حجر: "والأولى إجراء الحديث على ظاهره وحمله على من فوّت حقًّا واجباً بذلك فإنه يتوجه إليه بالوعيد، ولا يخالف القاعدة التي أشار إليها المزني". * وعند ابن خزيمة: عن زرعة بن ثوب قال: سألت عبد الله بن عمر عن صيام الدهر فقال: "كنا نعد أولئك فينا من السابقين". قال: وسألته عن صيام يوم وإفطار يوم فقال: لم يدع ذلك لصائم مصاماً، وسألته عن صيام ثلاثة أيام من كل شهر قال: "صام ذلك الدهر وأفطره" (2) . * قال النووي في "المجموع" (6/443) : "عن عروة أن عائشة كانت تصوم الدهر في السفر والحضر" رواه البيهقي بإسناد صحيح. وأجابوا عن حديث: "لا صام من صام الأبد" بأجوبة: (أحدها) : جواب عائشة: "من أفطر يوم النحر ويوم الفطر فلم يصم الدهر" وتابعها عليه خلائق من العلماء أن المراد من صام الدهر حقيقة بأن يصوم معه العيد والتشريق وهذا منهي عنه بالإجماع.

_ (1) إسناده صحيح، وروي نحوه في "السنن الكبرى". (2) صححه ابن خزيمة، وقال الألباني: إسناد فيه ضعف. زرعة بن ثوب أورده ابن أبي حاتم (1/2/605) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلاً. التعليق على صحيح ابن خزيمة (3/314) .

(والثاني) : أنه محمول على أن معناه أنه لا يجد من مشقته ما يجد غيره لأنه يألفه ويسهل عليه فيكون خبراً لا دعاءً، ومعناه لا صام صوماً يلحقه فيه مشقة كبيرة ولا أفطر بل هو صائم له ثواب الصائمين. (والثالث) : أنه محمول على من تضرر بصوم الدهر أو فوّت به حقًّا. فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن عمرو بن العاص لعلمه بأنه يضعف عن ذلك، وأقرّ حمزة بن عمرو لعلمه بقدرته على ذلك بلا ضرر". * قال الألباني في "إرواء الغليل" (4/116) : نرى أن صوم الدهر لا يشرع، ولو لم يكن فيها أيام العيد المنهي عن صيامها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صام ولا أفطر". * قال ابنُ عبد البر في "الاستذكار" (10/146) : "أما صيام الدهر لمن أفطر الأيام التي نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامها، فمباح عند أكثر العلماء، إلا أن الصيام عمل من أعمال البر، وفضله معلوم، وفي نهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيام أيام ذكرها على إباحة ما سواها والله أعلم". * قال النووي في "المجموع" (6/443-444) : "فرع: في تسمية بعض الأعلام من السلف والخلف ممن صام الدهر غير أيام النهي الخمسة - العيدين والتشريق فمنهم: عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وأبو طلحة الأنصاري، وأبو أمامة وامرأته، وعائشة رضي الله عنهم. ومنهم: سعيد بن المسيب، وأبو عمرو بن حماس -بكسر الحاء وآخره سين- وسعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف التابعي، سرده أربعين سنة، والأسود بن يزيد صاحب ابن مسعود، ومنهم البُويطي وشيخنا أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد المقدسي الفقيه الإمام الزاهد". قال النووي في "المجموع" (6/444-445) : "فرع: قال أصحابنا: لو نذر صوم الدهر صح نذره بلا خلاف، ولزمه الوفاء به بلا خلاف، وتكون الأعيادُ وأيام التشريق وشهر رمضان وقضاؤه مستثناة فإن فاتَه شيءٌ من صوم رمضان بعذر وزال العذر لزمه قضاء فائت رمضان لأنه آكد من النذر.

الوصال في الصوم

• قال أصحابنا كلهم: وهكذا الحكم إذا نذر صوم الدهر ثم لزمته كفارة بالصوم فيجب صوم الكفارة لأنها تجب بالشرع، وإن كانت بسبب من جهته فكانت آكد من النذر الذي يوجبه هو على نفسه، فعلى هذا يكون حكم الفدية عن صوم النذر ما سبق، هكذا صرح به ابن سريج. وقطع البغوي والرافعي بوجوب الفدية إذا صام عن الكفارة. قال أصحابنا: ولو أفطر يوماً من الدهر لم يمكن قضاؤه، ولا تجب الفدية إن أفطر لعذر وإلا فتجب، قالوا: ولو نذرت امرأة صوم الدهر، فللزوج منعها، فإن منعها فلا قضاء ولا فدية لأنها معذورة، وإن أذن لها أو مات لزمها الصوم، فإن أفطرت بلا عذر أثمت ولزمتها الفدية". فائدة - حكم الإفطار في التطوع: قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/199) : "أجمعوا على أنه ليس على من دخل في صيام تطوع فقطعه لعذر قضاء. واختلفوا إذا قطعه لغير عذر عامداً، فأوجب مالك وأبو حنيفة القضاء، وقال الشافعي وجماعة: ليس عليه قضاء". الوصال في الصوم * عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تواصلوا". قالوا: إنك تواصل. قال: "لست كأحد منكم، إني أطعم وأسقى. أو إني أبيت أُطعم وأسقى" (1) رواه البخاري. * وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال. قالوا: إنك تواصل. قال: "إني لست مثلكم، إني أُطعم وأسقى" (2) رواه البخاري. * وعن أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا تواصلوا، فأيكم إذا أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر"، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله. قال: "إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مُطعِم يُطعمني وساقي يسقيني" (3) رواه البخاري.

_ (1) رواه البخاري والترمذي. (2) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري. (3) رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن أبي سعيد، واللفظ للبخاري.

* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل. قال: "إني لست كهيئتكم، إني يُطعمني ربي ويسقيني" (1) رواه البخاري. * عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال في الصوم، فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله. قال: "وأيكم مثلي؟ إني أبيت يُطعمني ربي ويسقيني". فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رأوا الهلال فقال: "لو تأخر لزدتكم. كالتّنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا" (2) رواه البخاري. * وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إياكم والوصال" مرتين. قيل: إنك تُواصل. قال: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكفلوا من العمل ما تطيقون" رواه البخاري. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما بال رجال يواصلون؟؟ إنكم لستم مثلي، أما والله لو مدّ لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم" (3) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا وصال في الصوم" (4) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إياكم والوصال، إنكم لستم في ذلك مثلى، أني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكفلوا من العمل ما تطيقون" (5) . * عن رجل من الصحابة قال: نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه (6) . * عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إياكم والوصال ثلاث مرات" (7) .

_ (1) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري. (2) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري. (3) رواه أحمد ومسلم عن أنس. (4) صحيح: رواه الطيالسي عن جابر، ورواه أحمد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7569) . (5) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. (6) أخرجه أبو داود وقال الحافظ في "الفتح" (4/239) : إسناده صحيح. (7) أخرجه ابن أبي شيبة وقال الحافظ في "الفتح" (4/243) : إسناده صحيح.

الوصال: هو الترك في ليالي الصيام لما يفطر بالنهار بالقصد، ويدخل من أمسك جميع الليل أو بعضه. وعند الشافعية: الوصال المنهي عنه أن يصوم يومين فصاعداً ولا يتناول في الليل شيئاً لا ماء ولا مأكولا، فإن أكل شيئاً يسيراً أو شرب فليس بوصال. وكذا إن أخّر الأكل إلى السحر لمقصود صحيح أو غيره فليس بوصال، والجمهور قد أطلقوا في بيان حقيقة الوصال أنه صوم يومين فأكثر" (1) . * قال ابن حجر في "الفتح" (4/240-242) : استدل بمجموع الأحاديث على أن الوصال من خصائصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعلى أن غيرَه ممنوع منه إلا ما وقع فيه الترخيص من الإذن فيه إلى السحر. ثم اخُتلف في المنع المذكور: فقيل: على سبيل التحريم، وقيل: على سبيل الكراهة، وقيل: يحرم على من شق عليه ويُباح لمن لم يشق عليه. وقد اختلف السلفُ في ذلك: * فنقل التفصيل عن عبد الله بن الزبير، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً. وذهب إليه من الصحابة أيضاً أخت أبي سعيد، ومن التابعين: عبد الرحمن بن أبي نعم وعامر بن عبد الله بن الزبير، وإبراهيم بن زيد التيمي، وأبو الجوزاء كما نقله أبو نعيم في ترجمته في "الحلية" وغيرهم رواه الطبري وغيره. ومن حجَّتهم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واصل بأصحابه بعد النهي فلو كان النهي للتحريم لما أقرّهم على فعله، فعلم أن المراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف عنهم كما صرحت به عائشة في حديثها. وهذا مثل ما نهاهم عن قيام الليل خشية أن يفرض عليهم ولم ينكر على من بلغه أنه فعله ممن لم يشق عليه، ونظير ذلك صيام الدهر، فمن لم يشق عليه، ولم يقصد موافقة أهل الكتاب ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال.

_ (1) "المجموع" للنووي (6/400) .

* وذهب الأكثرون إلى تحريم الوصال، وعن الشافعية في ذلك وجهان: التحريم والكراهة. وقد نص الشافعي في "الأم" على أنه محظور. * وصرح ابن حزم بتحريمه وصحّحه ابن العربي من المالكية. * وذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية إلى جواز الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد المذكور، وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره إلا أنه في الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنه يؤخره، لأن الصائم له في اليوم والليلة أكلة فإذا أكلها السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره وكان أخف لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى أن محل ذلك ما لم يشق على الصائم وإلا فلا يكون قربة. وانفصل أكثرُ الشافعية عن ذلك بأن الإمساك إلى السحر ليس وصالاً، بل الوصال أن يمسك في الليل جميعه كما يمسك النهار، وإنما أطلق على الإمساك إلى السحر وصالاً لمشابهته الوصال في الصورة، ويحتاج إلى ثبوت الدعوى بأن الوصال إنما هو حقيقة في إمساك جميع الليل، وقد ورد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يواصل من سحر إلى سحر. أخرجه أحمد وعبد الرزاق من حديث علي، والطبراني من حديث جابر. * ويدل على أنه ليس بمحرم حديث أبي داود السابق، فإن الصحابي صرّح فيه بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحرم الوصال. * ومن أدلة الجواز إقدامُ الصحابة على الوصال بعد النهي فدل على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لما أقدموا عليه. * ويؤيد أنه ليس بمحرم أيضاً أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث بشير بن الخصاصية سوّى في علة النهي بين الوصال وبين تأخير الفطر حيث قال في كل منهما: إنه فعل أهل الكتاب، ولم يقل أحد بتحريم تأخير الفطر سوى بعض من لا يعتدُّ به من أهل الظاهر. * ومن حيث المعنى ما فيه من فطم النفس وشهواتها وقمعها عن ملذوذاتها فلهذا استمر على القول بجوازه مطلقاً أو مقيداً من تقدّم ذكره والله أعلم". * قال النووي في "المجموع" (6/399-402) : حكم الوصال: مكروه بلا خلاف عندنا، وهل هي كراهة تحريم أم تنزيه؟ فيه الوجهان: (أصحهما) : عند أصحابنا

وهو ظاهر نص الشافعي كراهة تحريم، لأن الشافعي رضي الله عنه قال في المختصر: فرّق الله تعالى بين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين خلقه في أمور أباحها له، وحظرها عليهم، وذكر منها الوصال. وممن صرح بتصحيح تحريمه من أصحابنا صاحب "العدة" والرافعي وآخرون، وقطع به جماعة من أصحابنا منهم القاضي أبو الطيّب في كتابه "المجرد"، والخطابي في "المعالم"، وسليم الرازي في "الكفاية"، وإمام الحرمين في "النهاية"، والبغوي والروياني في "الحلية"، والشيخ نصر في كتابه "الكافي". قال النووي: اتفق أصحابنا وغيرهم على أن الوصال لا يبطل الصوم سواء حرّمناه أو كرهناه لأن النهي لا يعود إلى الصوم. قال النووي: "مذهبنا أنه منهي عنه، وبه قال الجمهور. وقال العبدري: هو قول العلماء كافة إلا ابن الزبير، فإنه كان يواصل اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال ابن المنذر: كان ابن الزبير وابن أبي نعم يواصل، وذكر الماوردي في "الحاوي" أن عبد الله بن الزبير واصل سبعة عشر يوماً ثم أفطر على سمن ولبن وصبر. قال: وتأول في السمن أنه يلين الأمعاء، واللبن ألطف غذاء، والصبر يقوي الأعضاء. * قال ابن مفلح في "الفروع" (3/116) : يُكره الوصال، وهو أن لا يفطر بين اليومين، لأن النهي رفق ورحمة، ولهذا واصل عليه السلام بهم وواصلوا بعده. وقيل: يحرم، واختاره ابن البناء، وحكاه ابن عبد البر عن الأئمة الثلاثة. قال أحمد: لا يعجبني، وأومأ أحمد أيضاً إلى إباحته لمن يطيقه. وتزول الكراهة بأكل تمرة ونحوها لأن الأكل مظنة القوة، وكذا بمجرّد الشرب على ظاهر ما رواه المروذي عنه أنه كان إذا واصل شرب شربة ماء، خلافاً للشافعية. * ولا يكره الوصال إلى السحر، نصّ عليه، وقاله إسحاق. لكن ترك الأولى، لتعجيل الفطر. * وذكر القاضي عياض المالكي أن أكثر العلماء كرهه.

جواز الوصال حتى السحر

* قال ابن عبد البر في "التمهيد" (14/363) : "كره مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي وجماعة من أهل الفقه والآثار الوصال على كل حال لمن قوي عليه ولغيره". * وعلى هذا: فصوم الوصال محرم عند الشافعي على أصح الأقوال، إلا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمباح له، وهو من خصائصه. * وقال الجمهور: لا يحرم الوصال، لأن النهي وقع رفقاً ورحمة، لكنه يكره عند أكثر العلماء. أما الوصال إلى السحر فلا يكره عند أحمد وإسحاق. وقالت الشافعية: ليس بوصال. * قال النووي في "المجموع" (6/402) : "الحكمة في النهي عن الوصال لئلّا يضعف عن الصيام والصلاة وسائر الطاعات أو يملها ويسأم منها لضعفه بالوصال، أو يتضرر بدنه، أو بعض حواسه وغير ذلك من أنواع الضرر". "إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" (1) : أكثر الروايات: "إني أبيت" ووردت روايات بقوله. "إني أظل عند ربي" كما في حديث أنس عند البخاري، وحديث عائشة عند الإسماعيلي، وحديث أبي هريرة عند أحمد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة. واختلف في معنى قوله: "يطعمني ويسقيني": * فقيل. هو على حقيقته وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صيامه، وتعقبه ابن بطال ومن تبعه بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلاً، وبأن قوله: "يظل" يدل على وقوع ذلك بالنهار فلو كان الأكل والشرب حقيقة لم يكن صائماً. وأجيب بأن الراجح من الروايات لفظ: "أبيت" وعلى تقدير الثبوت فليس حمل الطعام والشراب على المجاز بأولى له من حمل لفظ: "أظل" على المجاز ويراد به مطلق الوجه كما قال تعالى: (ظل وجهه مسودا) فالمراد به مطلق الوقت.

_ (1) بضم الياء وفتحها وفتحها أفصح وأشهر.

وعلى التنزل على الطعام حقيقة فلا يضر شيء من ذلك لأن ما يؤتى به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجرى عليه أحكام المكلفين فيه، كما غسل صدره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طست الذهب، مع أن استعمال أواني الذهب الدنيوية حرام. * وقال ابن المنير في الحاشية: "الذي يفطر شرعاً إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارق للعادة كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى، وليس تعاطيه من جنس الأعمال وإنما هو من جنس الثواب كأكل أهل الجنة في الجنة". * وقال غيره: لا مانع من حمل الطعام والشراب على حقيقتهما، والرواية الأصح: "أبيت" وأكله وشربه في الليل مما يؤتى به من الجنة لا يقطع وصاله خصوصية له بذلك فمن أكل منهم أو شرب انقطع وصاله، وهو لا تنقطع بذلك مواصلته فطعامه وشرابه غير طعامهم وشرابهم صورة ومعنى. وحاصله أنه يحمل ذلك على حالة استغراقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحواله الشريفة حتى لا يؤثر فيه حينئذٍ شيء من الأحوال البشرية. * وقال الجمهور: قوله: "يطعمني ويسقيني" مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة فكأنه قال: يعطيني قوة الآكل والشارب من غير شبع ولا ري مع الجوع والظمأ، فيفيض عليه ما يسدّ مسد الطعام والشراب ويقوى على أنواع الطاعة من غير ضعف ولا كلال. * ويحتمل أن يكون المراد: أنه يشغلني بالتفكر في عظمته والتملّي بمشاهدته والتغذي بمعارفه وقرة العين بمحبته والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام والشراب. * يقول شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية في "مدارج السالكين" (2/408) : "اعلم أن الله عز وجل جعل للقلوب نوعين من الغذاء: نوع من الطعام والشراب الحسي، وللقلب منه خلاصته وصفوه، ولكل عضو منه بحسب استعداده وقبوله. والثاني: غذاء روحاني، خارج عن الطعام والشراب: من السرور والفرح، والابتهاج واللذة والعلوم والمعارف. وبهذا الغذاء كان سماوياً علويّاً، وبالغذاء المشترك كان أرضياً سفليّاً وقوامه بهذين الغذاءين. وله ارتباط بكل واحدة من الحواس الخمس، وغذاء يصل إليه منها".

معني "إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني"

ويقول رحمه الله في "زاد المعاد" في كلامه عن وصال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما يغذيه الله به من المعارف وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه، وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل: لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد لها بوجهك نور يستضاء به ... ومن حديثك في أعقابها حاد إذا شكت من كلال السير أوعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرّت عينه بمحبوبه وتنعم بقربه والرضا عنه وألطاف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كل وقت ومحبوبه حفي به معتز بأمره مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له، أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجل منه ولا أعظم ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحساناً إذا امتلأ قلب المحب بحبه وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه، وتمكن حبه منه أعظم تمكن وهذا حاله مع حبيبه أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلاً ونهاراً، ولهذا قال: "إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" ولو كان ذلك طعاماً وشراباً للفم لما كان صائماً فضلاً عن كونه مواصلاً، وأيضاً فلو كان ذلك في الليل لم يكن مواصلاً، ولقال لأصحابه إذ قالوا له: إنك تواصل: لست أواصل، ولم يقل: لست كهيئتكم بل أقرهم على نسبة الوصال إليه وقطع الإلحاق بينه وبينهم في ذلك بما بينه من الفارق" (1) . وقال ابن القيم في "مدارج السالكين" (2/88) : "وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا طعام وشراب حسي للفم. ولو كان كما ظنه هذا الظان لما كان صائماً، فضلاً عن أن يكون مواصلاً، ولو كان يأكل ويشرب بفيه الكريم حساً، لكان الجواب أن يقول: وأنا لست أواصل أيضاً، فلما أقرهم على قولهم: "إنك تواصل" عُلم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكتفي بذلك الطعام والشراب العالي الروحاني، الذي يغني عن الطعام والشراب المشترك الحسي".

_ (1) "زاد المعاد" (ص 155) .

* ذكر الحافظ ابن رجب أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر، وذكر منها: "تأخيره للفطور إلى السحور: روى عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة قال: "ما واصل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصالكم قط غير أنه قد أخر الفطور إلى السحور" واسناده لا بأس به. وزعم ابن جرير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يواصل في صيامه إلا إلى السحر خاصة وأن ذلك يجوز لمن قوي عليه ويكره لغيره وأنكر أن يكون استدامة الصيام في الليل كله طاعة عند أحد من العلماء وقال: إنما كان يمسك بعضهم لمعنى آخر غير الصيام ليكون أنشط له على العبادة أو إيثاراً بطعامه على نفسه أو لخوف وقلق منعه طعامه أو نحو ذلك فمقتضى كلامه أن من واصل ولم يفطر ليكون أنشط له على العبادة من غير أن يعتقد أن إمساك الليل قربة أنه جائز وإن أمسك تعبداً بالمواصلة، فإن كان إلى السحر وقوي عليه لم يكره وإلا كره". وقال ابن رجب في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" رواه مسلم. "والصحيح أنه أشار إلى ما كان الله يفتح عليه في صيامه وخلوته بربه لمناجاته وذكره من مواد أنسه ونفحات قدسه، فكان يرد بذلك على قلبه من المعارف الإلهية والمنح الربانية ما يغذيه ويغنيه عن الطعام والشراب. الذكر قوت قلوب العارفين يُغنيهم عن الطعام والشراب كما قيل: أنت ربِّي إذا ظمئت إلى الماء وقوتي إذا أردتُ الطعاما. ويتأكد تأخير الفطر في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر، قال ذر بن حبيش: في ليلة سبع وعشرين. من استطاع منكم أن يؤخر فطره فليفعل". لما جاع المجتهدون شبعوا من طعام المناجاة فأفٍ لمن باع لذة المناجاة بفضل لقمة: يا من لحشا المحبّ بالشوق حشا ... ذاك سرّ سراك في الدجا كيف فشا هذا المولى إلى المماليك مشا ... لا كان عيشاً أورث القلب غشا

هديه صلى الله عليه وسلم في صيام التطوع

هديه صلى الله عليه وسلم في صيام التطوع قال شيخ الإسلام ابن القيم في "زاد المعاد" (163/164) : "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم حتى يقال: لا يفطر ويفطر حتى يقال: لا يصوم، وما استكمل صيام شهر غير رمضان، وما كان يصوم في شهر أكثر مما يصوم في شعبان، ولم يكن يخرج عنه شهر حتى يصوم منه، ولم يصم الثلاثة الأشهر سرداً كما يفعله بعض الناس ولا صام رجباً قط ولا استحب صيامه" (1) . وكان هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكمل هدى وأتمه وأرفقه بالأمة. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعثمان بن مظعون: "يا عثمان! أرغبت عن سنتي؟! فإني أنام وأصلي وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان! فإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقًا، فصم وأفطر وصل ونم" (2) . * عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم شهراً كله؟ قالت: ما علمته صام شهراً كله إلا رمضان، ولا أفطره كله حتى يصوم منه حتى مضى لسبيله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه مسلم. * وعن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن صوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: كان يصوم حتى نقول: قد صام قد صام ويفطر حتى نقول: قد أفطر قد أفطر، قالت: وما رأيته صام شهراً كاملاً منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان. رواه مسلم. * وقالت رضي الله عنها: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم حتى نقول: لا يفطر ويفطر حتى نقول: لا يصوم وما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان. رواه مسلم. قال النووي في "شرح مسلم" (3/213) : "في هذه الأحاديث أنه يستحب ألا

_ (1) قال النووي في "شرح مسلم" (3/215) : "لم يثبت في صوم رجب نهي ولا ندب لعينه، ولكن أصل الصوم مندوب إليه". (2) صحيح: رواه أبو داود عن عائشة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7946) .

يخلي شهراً من صيام، ومنها أن صوم النفل غير مختص بزمان معين بل كل السنة صالحة له إلا رمضان والعيد والتشريق". * وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما صام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً كاملاً قط غير رمضان، وكان يصوم إذا صام حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم (1) . * وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئاً، وكان لا تشاء تراه من الليل مصلياً إلا رأيته ولا نائماً إلا رأيته. رواه البخاري. * وروى البخاري عن حميد قال: سألت أنساً رضي الله عنه عن صيام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائماً إلا رأيته، ولا مفطراً إلا رأيته، ولا من الليل قائماً إلا رأيته، ولا نائماً إلا رأيته، ولا مسست خزة ولا حريرة ألين من كف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا شَمِمتُ مِسكة ولا عبيرة أطيب رائحة من رائحة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه البخاري. بأبي هو وأمي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو كل الكمال وجل الجلال وجملة الجمال عليه أفضل الصلاة والسلام. قال ابن حجر (4/254-255) : "يعني أن حاله في التطوع بالصيام والقيام كان يختلف، فكان تارة يقوم من أول الليل، وتارة من وسطه، وتارة من آخره، كما كان يصوم تارة من أول الشهر وتارة من وسطه وتارة من آخره، فكان من أراد أن يراه في وقت من أوقات الليل قائماً أو في وقت من أوقات الشهر صائماً فراقبه المرة بعد المرة فلابد أن يصادفه قائماً أو صائماً على وفق ما أراد أن يراه، هذا معنى الخبر، وليس المراد أنه كان يسرد الصوم ولا أنه كان يستوعب الليل قياماً. ولا يشكل على هذا قول عائشة: "كان عمله ديمة" لأن المراد بذلك ما اتخذه راتباً لا مطلق النافلة، فهذا وجه الجمع بين الحديثين وإلا فظاهرهما التعارض والله أعلم".

_ (1) رواه مسلم واللفظ له والبخاري وأبو داود الطيالسي، وفي رواية لمسلم "ما صام شهراً متتابعاً منذ قدم المدينة"، وفي رواية الطيالسي "شهراً تاماً منذ قدم المدينة غير رمضان".

* عن علقمة قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يختص من الأيام شيئاً؟ قالت: لا، كان عمله ديمة (1) ، وأيكم يطيق ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطيق؟!. رواه البخاري. قال ابن حجر: "قال الزين بن المنير: ظاهر الحديث إدامته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العبادة ومواظبته على وظائفها، ويعارضه ما صح عن عائشة نفسها مما يقتضي نفي المداومة (2) . فأبقى الترجمة (3) على الاستفهام ليترجح أحد الخبرين أو يتبين الجمع بينهما، ويمكن الجمع بينهما بأن قولها: "كان عمله ديمة" معناه أن اختلاف حاله من الإكثار من الصوم ثم من الفطر كان مستداماً مستمراً، وبأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوظف على نفسه العبادة فربما شغله عن بعضها شاغل فيقضيها على التوالي فيشتبه الحال على من يرى ذلك، فقول عائشة: "كان عمله ديمة" منزل على التوظيف، وقولها: "كان لا تشاء أن تراه صائماً إلا رأيته" منزل على الحال الثاني" (4) . قال ابن حجر: "صوم الاثنين والخميس قد وردت فيهما أحاديث وكأنها لم تصح على شرط البخاري (5) فلهذا أبقى الترجمة على الاستفهام، فإن ثبت فيهما ما يقتضي تخصيصهما استثنى من عموم قول عائشة: لا. فلعل المراد بالأيام المسئُول عنها الأيام الثلاثة من كل شهر، هل كان يخصها بالبيض؟ فقالت: لا، تعني لو جعلها البيض لتعينت وداوم عليها، لأنه كان يجب أن يكون عمله دائماً، لكن أراد التوسعة بعدم تعينها فكان لا يبالي من أي الشهر صامها. روى مسلم من حديث عائشة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وما يبالي من أي الشهر صام".

_ (1) الديمة: مطر يدوم أياماً، ثم أطلقت على كل شيء مستمر "الفتح" (4/278) . (2) حديث عبد الله بن شقيق لها السابق ذكره. (3) ترجمة البخاري: هل يخص شيئاً من الأيام؟ (4) "فتح الباري" (4/277) . (5) وإن صحت لغيره.

ومن هديه صلى الله عليه وسلم في الصوم ما يقول عند رؤية الهلال: * عن طلحة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كان إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهله علينا باليُمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله" (1) . * وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "صوموا من وضح إلى وضح (2) " (3) . * وكان إذا كان صائما أمر رجلا فأوفى (4) على شيء، فإذا قال. غابت الشمس أفطر (5) . هديه في الإفطار: * كان لا يصلي المغرب حتى يفطر ولو على شربة من الماء (6) . * وكان يُفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فتمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء (7) . حسا. شرب. * وإذا كان الرطب لم يفطر إلا على الرطب، وإذا لم يكن الرطب لم يفطر إلا على التمر (8) .

_ (1) حسن: رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4726) . (2) أي من الهلال إلى الهلال. (3) رواه الطبراني في "الكبير" عن والد أبي المليح، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3812) . (4) صعد. (5) صحيح: رواه الحاكم عن سهل بن سعد، والطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4772) . (6) صحيح: رواه الحاكم والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس، ورواه ابن عدي والضياء وابن أبي شيبة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4858) . (7) حسن: رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أنس، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4995) . (8) صحيح: رواه عبد بن حميد عن جابر، وأحمد وأبو داود والترمذي عن أنس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4770) .

* وكان يبدأ إذا أفطر بالتمر (1) . وورثت أمته عنه هذا الهدي. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا كان أحدكم صائماً فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء فإن الماء طهور" (2) . ومن هديه في الدعاء عند الإفطار: كان إذا أفطر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله" (3) . وإذا أفطر عند قوم: كان إذا أفطر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند قوم قال: "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وتنزلت عليكم الملائكة" (4) . كان إذا أفطر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند قوم، قال: "أفطر عندكم الصائمون وصلت عليكم الملائكة" (5) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة" (6) . ومن هديه صلى الله محليه وسلم "السحور": قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن السحور بركة أعطاكموها الله فلا تدعوها" (7) . قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أراد أن يصوم فليتسحر بشيء" (8) .

_ (1) صحيح: رواه النسائي عن أنس وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4892) . (2) صحيح: رواه أبو داود والحاكم في "المستدرك" والبيهقي في "سننه" عن سلمان بن عامر ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (746) . (3) حسن: رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر، وحسنه الألباني في "الإرواء" (920) . (4) صحيح: رواه النسائي وابن أبي شيبة وأحمد والبيهقي عن أنس، وكذا رواه الطحاوي وأبو داود وابن السني وابن عساكر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4677) ، وقال: اعلم أن الحديث ليس خاصاً بالصائم كما تفيده كلمة: "أفطر" فإن في ثبوتها نظراً. (5) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" عن ابن الزبير وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4679) . (6) صحيح: رواه ابن ماجه وابن حبان عن ابن الزبير، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1137) . (7) صحيح: رواه أحمد والنسائي عن رجل، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1636) . (8) صحيح: رواه أحمد والضياء عن جابر وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6005) .

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تسحروا فإن في السحور بركة" (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تسحروا ولو بجرعة من ماء" (2) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تسحروا ولو بالماء" (3) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "البركة في ثلاثة: في الجماعة والثريد والسحور" (4) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "السحور أكله بركة، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" (5) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نعم السحور التمر" (6) . ومن هديه وسنته تعجيل الإفطار وتأخير السحور مخالفة لليهود والنصارى: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عجلوا الإفطار، وأخروا السحور" (7) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنا -معشر الأنبياء- أُمرنا أن نعجل إفطارنا ونؤخر سحورنا ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة" (8) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بكروا بالإفطار وأخروا السحور" (9) .

_ (1) صحيح: رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس، والنسائي عن أبي هريرة وابن مسعود وأحمد عن أبي سعيد. (2) صحيح: رواه أبو يعلي عن أنس، والضياء في "المختارة" وأحمد عن أبي سعيد، وابن حبان عن ابن عمرو وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2945) . (3) صحيح: رواه ابن عساكر عن عبد الله بن سراقة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2944) . (4) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" والبيهقي في "شعب الإيمان" عن سلمان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2882) . (5) حسن: رواه أحمد عن أبي صعيد، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3683) . (6) صحيح: رواه ابن حبان والبيهقي في "سننه" عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6772) . (7) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" عن أم حكيم، ورواه أبو يعلي وابن منده وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3989) . (8) صحيح: رواه الطيالسي، والطبراني في "الكبير" و"الصغير" عن ابن عباس، وابن حبان والدارقطني في "الإفراد" وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2286) . (9) صحيح: رواه ابن عدي عن أنس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (2835) .

كم كان بين سحوره صلى الله عليه وسلم وصلاته؟ عن زيد بن ثابت قال: تسحّرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قمنا إلى الصلاة، قال أنس: فقلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: خمسين آية. متفق عليه. وفي رواية للبخاري عن أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وزيد بن ثابت تسحّرا، فلما فرغا من سحورهما قام نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة فصلّى، قال: قلنا لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية. ***

بسم الله الرحمن الرحيم

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف. الطبعة الثالثة 1419هـ - 1998م

الباب الرابع عشر فقه الصوم ورمضان

الباب الرابع عشر فقه الصوم ورمضان

الصيام لغة:

الصيام لغة: الصيام لغة: الإمساك: يُقال: صام النهار إِذا وقف سير الشمس قال تعالى -إخباراً عن مريم-: (إني نذرت للرحمن صوماً) أي صمتا؛ لأنه إِمساك عن الكلام، وقال النابغة الذيباني: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما يعني بالصائمة: الممسكة عن الصهيل. وقال صاحب المحكم: الصوم ترك الطعام والشراب والنكاح والكلام. وقال الراغب: الصوم في الأصل الإمساك عن الفعل، ولذلك قيل للفرس الممسك عن السير: صائم. الصيام شرعاً: "إمساك مخصوص في زمن مخصوص عن شيء مخصوص بشرائط مخصوصة". أو "إمساك المكلّف بالنيَّة عن تناول المطعم والمشرب والاستمناء والاستسقاء من الفجر إلى المغرب" (1) . وقال ابنُ قدامة: "هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس". الصوم الواجب: ثلاثة أقسام: الأول: الواجب للزمان وهو صوم شهر رمضان. والثاني: صوم الكفارات "وهو الوجب لعلة". والثالث: صوم النذور "وهو الواجب بإيجاب الإنسان ذلك على نفسه".

_ (1) "فتح الباري" (4/123) .

صوم رمضان: صوم رمضان واجب بالكتاب والسنة والإجماع وهو رابع أركان الإسلام الخمسة. فأما الكتاب فقوله تعالى: (كتب عليكم الصيام) . وأما السنة فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُني الإسلام على خمس" وذكر الصوم منها، وقوله للأعرابي الذي سأله عن الواجب: "وصوم شهر رمضان" فقال: هل عليّ غيرها: قال: "لا إلا أن تطوّع". وأما الإجماع فلم ينقل إلينا عن أحد من المسلمين القول بعدم وجوبه. وأما من يجب عليه فهو: المسلم البالغ العاقل الصحيح الحاضر؛ لقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) . شهر رمضان: قال ابنُ حجر (4/124) : "قد ذكر أبو الخير الطالقاني في كتابه "حظائر القدس" لرمضان ستين اسماً". قال ابن الجوزي في "التبصرة" (2/71-72) : "إنما سمي الشهر شهراً لشهرته في دخوله وخروجه، قاله النحاس. وأما أسماء الشهور فذكر أبو منصور الأزهري عن المفضل قال: "كانت العرب في الجاهلية تقول لرمضان ناتق، ولشوال وَعِل، وللمحرم مُؤتمر، ولصفر ناجِر، ولربيع الأول خُوّان، ولربيع الآخر بُصَّان، ولجمادي الأولى رُييّ، ولجماد الآخر حَنِين، ولرجب الأصمَّ، ولشعبان عاذل. قال: وكانت قبيلة عاد تسمي هذه الأشهر بهذا فلما نقلت العرب أسماء هذه الأشهر سمّوها بما وقعت فيه من الزمان. قال ثعلب: سمي رمضان؛ لأن الإبل تَرْمض فيه من الحر، وسمي شوّال؛ لأن الألبان كانت تَشُول فيه أي: تذهب وتقل، وسمي ذو القعدة؛ لأنهم كانوا يقعدون فيه، وذو الحجة؛ لأنهم كانوا يحجون فيه، والمحرم؛ لتحريم القتال فيه، وصفر؛ لأنهم كانوا يطلبون القَطرِ فيه، يُقال صَفِر السقاء إذا خلا، وربيع لأنهم كانوا يربعون فيهما، وجُمادى؛ لأن الماء يجمد فيهما ورجب من التعظيم يقال: رجَّبه يرجِّبه إذا عظمه. وقال

فرض الصوم على أحوال

شمّر: ومنه سمي رجب، وشعبان لأنهم يتفرقون ويتشعبون فيه". قال ابن حجر (4/136) : "اختلف في تسمية هذا الشهر رمضان فقيل: لأنه ترمض فيه الذنوب أي: تحرق لأن الرمضاء. شدة الحر، وقيل: وافق ابتداء الصوم فيه زمناً حاراً والله أعلم". هل يقال رمضان أو شهر رمضان؟ ومن رأى كله واسعاً؟ وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "من صام رمضان": قال ابن حجر (4/135-136) : "أشار البخاري بهذه الترجمة إلى حديث ضعيف رواه أبو معشر نجيح المدني عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعاً "لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله، ولكن قولوا شهر رمضان" أخرجه ابن عدي في الكامل وضعفه بأبي معشر. قال البيهقي: وقد احتجّ البخاري لجواز ذلك بعدة أحاديث. وقد ترجم النسائي لذلك أيضاً فقال: "باب الرخصة في أن يقال شهر رمضان: رمضان، وقد يتمسك للتقييد بالشهر بورود القرآن به حيث قال تعالى (شهر رمضان) مع احتمال أن يكون حذف لفظ شهر من الأحاديث من تصرف الرواه، وكأن هذا هو السر في عدم حزم المصنِّف بالحكم، ونقل عن أصحاب مالك الكراهية، وعن ابن الباقلاني منهم وكثير من الشافعية: إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا يُكره، والجمهور على الجواز". فرض الصوم على أحوال فرض رمضان في شعبان (1) في السنة الثانية من الهجرة قبل بدر ولكن للصوم بعد نزول (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) ثلاثُ رتب: (الرتبة الأولى) إيجابه بوصف التخيير: (من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم) . فرخص الله لمطيقي الصيام والراغبين في الفطر أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكيناً.

_ (1) لليلتين خلتا منه.

عن ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (نزل رمضان فشُق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك، فنسختها (وأن تصوموا خير لكم) فأُمروا بالصوم". (1) . * وعن ابن عمر -رضى الله عنه- قرأ (فدية طعام مسكين) قال: هي منسوخة نسختها (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) [البقرة: 185] رواه البخاري. وعن سلمة بن الأكوع -رضى الله عنه- قال: "لما نزلت (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) كان من أراد أن يفطر أفطر وافتدى حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها" رواه البخاري. (الرتبة الثانية) تحتمه: لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة. * عن البراء -رضى الله عنه- قال: "كان أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يُفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صِرمة الأنصاري كان صائماً فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك. فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت هذه الآية (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) ففرحوا بها فرحا شديداً، ونزلت (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) الآية، رواه البخاري. (الرتبة الثالثة) وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة. • فرع: صام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمضان تسع سنين، لأنه فرض في شعبان في السنة الثانية من الهجرة وتوفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شهر ربيع الأول في سنة إحدى عشرة من الهجرة.

_ (1) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم ووصله أبو نعيم في "المستخرج"، ومن طريقه البيهقي.

على من يجب الصيام؟

على من يجب الصيام؟ يجب صوم رمضان في الحال على كل مسلم بالغ عاقل طاهر صحيح مقيم وفي ذلك مسائل: (1) وجوب الصوم على المسافر والحائض متحتم أيضاً لكن يؤخرانه ثم يقضيانه. (2) الكافر الأصلي: الكفار مخاطبون بفروع الشرع في حال كفرهم على المذهب الصحيح بمعنى أنهم يزاد في عقوبتهم في الآخرة ومع هذا فلا يطالب الكافر الأصلي بفعل الصوم في حال كفره بلا خلاف، ولو صام في كفره لم يصحّ بلا خلاف سواء أسلم بعد ذلك أم لا، وإذا أسلم لا يجب عليه القضاء. وهو قول الشافعي وأحمد وقتادة والشعبي ومالك والأوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. (3) المرتدّ: لا يطالب بفعل الصوم في حال ردته، ويأثم بترك الصوم في حال ردته وهو واجب عليه، وإذا أسلم لزمه قضاؤه. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه قضاء مدة الردة إذا أسلم. (4) إذا أسلم الكافر في شهر رمضان صام ما يستقبله من شهره بلا خلاف، فأما اليوم الذي أسلم فيه، استحب له إمساك بقية النهار لحرمة الوقت عند الشافعي ولا يقضيه، وعند أحمد يلزمه إمساكه ويقضيه، وبه قال ابن الماجشون وإسحاق. وقال مالك وأبو ثور وابن المنذر لا قضاء عليه. (5) الصبيان: هل يشرع صومهم أم لا؟ قال ابن حجر في "الفتح" (4/236-237) : "الجمهور على أنه لا يجب على من دون البلوغ، واستحب جماعة من السلف منهم ابن سيرين والزهري وبه قال الشافعي أنهم يؤمرون به للتمرين عليه إذا أطاقوه، وحدَّه أصحابه بالسبع والعشر كالصلاة، وحدَّه إسحاق باثنتي عشرة سنة، وأحمد في رواية بعشر سنين، وقال الأوزاعي: إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعاً لا يضعف فيهن حُمِل على الصوم. والمشهور عن المالكية أنه لا يشرع في حق الصبيان.

وقد تلطف البخاري في التعقيب عليهم بإيراد أثر عمر في صدر الترجمة لأن أقصى ما يعتمدونه في معارضة الأحاديث دعوى عمل أهل المدينة على خلافها ولا عمل يستند إليه أقوى من العمل في عهد عمر مع شدة تحرّيه ووفور الصحابة في زمانه "أن عمر بن الخطاب أتى برجل شرب الخمر في رمضان، فلما دنا منه جعل يقول: للمنخرين، والفم، [فلما رفع إليه عثر] فقال عمر: على وجهك، ويلك، وصبياننا صيام، ثم أمر به فضرب ثمانين سوطاً ثم سيره إلى الشام". وأغرب ابن الماحشون من المالكية فقال: إذا أطاق الصبيان الصوم ألزموه. فإن أفطروا لغير عذرٍ فعليهم القضاء. وفي حديث الربيع بنت معوذ قالت: "أرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتم بقية صومه، ومن أصبح صائماً فليصم. قالت: فكنا نصومه ونصوّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار". وعند مسلم "أعطيناهم اللعبة تُلهيهم حتى يتموا صومهم". ولقد أغرب القرطبي فقال: لعلّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلم بذلك، ويبعد أن يكون أمر بتعذيب صغير بعبادة غير متكررة في السنة. ويرد عليه حديث رزينة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يأمر مرضعاته في عاشوراء ورضعاء فاطمة فيتفل في أفواهم، ويأمر أمهاتهم أن لا يرضعن إلى الليل". "فهكذا تربية الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك ربى الصحابة الكرام أبناءهم، فخرجت أجيال مسلمة تنشر الخير في ربوع الأرض، وعاشت بالإسلام وللإسلام، أما أن نترك أبناءنا وبناتنا يقضون أوقاتهم في الطرقات وفي منابت السوء، ينشأون على الفاسد من الأخلاق والذميم من الأفعال، فيشتد عودهم على ذلك وتشحن قلوبهم بغير الإسلام ثم نريدهم بعد بلوغهم سن الرشد مسلمين يعملون بالإسلام ويدعون إليه فإنهم لا يستجيبون لنا ولا يلقون بالاً لحديثنا وهل يجنى من الشوك العنب" (1) .

_ (1) من كلام للشيخ عمر الأشقر بتصرف. كتاب "الصوم في ضوء الكتاب والسنة" (ص23) .

وينشأ ناشيء الفتيان منا ... على ما كان عوده أبوه ويرحم الله من قال: وإنما أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض إن هبت الريح على أحدهم ... امتنعت عيني عن الغمض فأين أنت من قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) الآية، قال ابن عباس: أدبوهم وعلموهم فيؤمر الغلام والجارية بالصوم ويضربان على تركه إذا أطاقا الصيام ليتمرنا عليه. ولا يجب عليهما الصوم حتى يبلغ الصبي، وحتى تحيض الجارية وهذا قول أكثر أهل العلم. (6) وإذا نوى الصبي الصوم من الليل فبلغ في أثناء النهار بالاحتلام أو السن يتم صومه ولا قضاء عليه. وإن بلغ الصبي وهو مفطر استحب له إمساك بقية اليوم ولا يجب عليه القضاء. (7) المجنون لا يلزمه الصوم بالإجماع للحديث والإجماع، وإذا أفاق لا يلزمه قضاء ما فاته في الجنون سواء قل أو كثر، وسواء أفاق بعد رمضان أو في أثنائه. وهو قول الجمهور خلافا للثوري. ويستحب للمجنون إذا أفاق، في أثناء يوم رمضان إمساك بقية النهار لحرمة الشهر ولا يجب عليه القضاء عند الشافعي. وقال مالك وأحمد يلزمه القضاء ومن نوى الصوم ليلا ثم جن جميع النهار لم يصح صومه وإن أفاق في جزء من النهار صحّ صومه. (8) المغمى عليه لا يلزمه الصوم في حال الإغماء بلا خلاف ويلزمه القضاء، ومن نوى الصوم ليلاً ثم أُغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه، وإن أفاق المغمى عليه في أول النهار أو جزء منه صح صومه. (9) الحائض والنفساء: لا يصح صوم الحائض والنفساء ولا يجب عليهم ويحرم عليهما ويجب قضاؤه وهذا كله مجمع عليه، ولو أمسكت بنية الصوم أثمت. عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم فذلك نقصان دينها" رواه البخاري.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنا نُؤمر بقضاء الصوم ولا نُؤمر بقضاء الصلاة" رواه مسلم. قال أبو الزناد: "إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيراً على خلاف الرأي، فما يجد المسلمون بداً من اتباعها. من ذلك أن الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة". * إذا طهرت الحائض في أثناء الصيام يُستحبُّ لها إمساك بقيته ولا يلزمها، وقطع به الجمهور. * وجوب قضاء الصوم على الحائض والنفساء، إنما هو بأمر مجدد، وليس هو واجباً عليها في حال الحيض والنفاس، وبه قطع الجمهور. * مما يفرق فيه بين الصوم والصلاة في حق الحائض أنها لو طهرت قبل الفجر ونوت صحّ صومها في قول الجمهور ولا يتوقف على الغسل بخلاف الصلاة. * المستحاضة في نزف الدم أشد من الحائض ويباح لها الصوم. (10) الشيخ الكبير الذي يجهده الصوم ويلحقه به مشقة شديدة، والمريض الذي لا يُرجى برؤه لا صوم عليهما ونقل ابنُ المنذر الإجماع فيه (1) لقول الله عز وجل: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) [الحج: 78] ، وتلزمهما الفدية. روى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "الشيخ الكبير يطعم عن كل يوم مسكيناً". ورُوي أن أنساً -رضي الله عنه- ضعف عن الصوم عاما قبل وفاته فأفطر وأطعم. والفدية: مدٌّ من طعام عن كل يوم سواء في الطعام البر والتمر والشعير وغيرها من أقوات البلد عند الشافعي. وقال أحمد: من حنطة أو مدَّان من تمر أو شعير، وقال أبو حنيفة: صاع من تمر، أو نصف صاع حنطة. وقال مكحول وربيعة ومالك وأبو ثور وابن المنذر: لا فدية.

_ (1) قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن للشيخ والعجوز العاجزين الفطر.

أركان الصوم

ولا يجوز تعجيل الفدية قبل دخول رمضان، ويجوز بعد طلوع فجر كل يوم، ويجوز قبل الفجر في رمضان. * ولو نذر الشيخ الكبير العاجز أو المريض الذي لا يُرجى برؤه فلا ينعقد على الصحيح لأنه عاجز. * والشيخ والمريض المأيوس من برئه إذا كان معسراً هل تلزمه الفدية إذا أيسر؟ على الأصح أنها لا تلزمه لأنه عاجز حال التكليف بالفدية وليست في مقابلة جناية كالكفارة تبقى في ذمته إلي اليسار لأنها في مقابلة جنايته. * قال ابنُ مفلح في "الفروع" (3/28) : "قال الآجُري: من صنعته شاقة فإن خاف تلفاً أفطر وقضى، وإن لم يضره تركها أثم، وإلا فلا، قال: هذا قول الفقهاء رحمهم الله". * وإن خاف بالصوم ذهاب ماله جاز. * قال النووي في "المجموع" (6/262) : "من غلبه الجوع والعطش فخاف الهلاك لزمه الفطر، وإن كان صحيحاً مقيما لقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) [النساء: 29] ، ويلزمه القضاء كالمريض. * قال ابن مفلح في "الفروع" (3/29) : "ومن به شبق يخاف أن تنشق مثانته جامع قضى ولا يكفر قال الأصحاب: هذا إن لم تندفع شهوته بدونه، وإلا لم يجز". أركان الصوم ثلاثة: (1) الزمان. (2) الإمساك عن المفطرات. (3) النية (1) . الركن الأول: الزمان ينقسم إلي قسمين: 1- زمن الوجوب وهو شهر رمضان. 2- زمن الإمساك وهو أيام رمضان دون لياليه.

_ (1) أصح الأقوال أنها شرط وليس بركن.

إحصاء عدة شعبان:

وفي كلا الزمنين مسائل اختلف فيها العلماء. أولها: تحديد طرفيهما. الثاني: معرفة العلامة التي يميز بها كل شخص حد هذا الزمان الواجب صومه دون غيره. أما طرفاه: فقد اتفق العلماء على أن الشهر الشرعي يكون تسعاً وعشرين ويكون ثلاثين، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الشهر يكون تسعة وعشرين، ويكون ثلاثين، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة" (1) . إحصاء عدة شعبان: ينبغي على الأمة الإسلامية أن تحصي عدة شعبان استعداداً لرمضان لأن الشهر يكون تسعة وعشرين، ويكون ثلاثين يوماً. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام" (2) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أحصوا هلال شعبان لرمضان" (3) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أحصوا هلال شعبان لرمضان، ولا تخلطوا برمضان، إلاَّ أن يوافقَ ذلك صياماً كان يصومه أحدكم، وصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة

_ (1) صحيح: رواه النسائي وأحمد عن أبي هريرة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3744) . (2) صحيح على شرط مسلم: رواه أبو داود وابن حبان والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وفيه نظر فإن ابن صالح وابن أبي قيس لم يحتج بهما البخاري فهو على شرط مسلم قاله الألباني في "إرواء الغليل" (4/8) . (3) صحيح: رواه الترمذي والحاكم وصححه عن أبي هريرة. قال المناوي (1/193) "رجاله رجال الصحيح إلا محمد بن عمرو فإنه لم يُخرجه الشيخان" وصححه السيوطي، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (198) .

رؤية الهلال هي المعتبرة فقط دون الحساب:

ثلاثين يوماً، فإنها ليست تغمى عليكم العدة" (1) . قال المناوي في "فيض القدير": أحصوا: عدوا واضبطوا والإحصاء أبلغ من العد في الضبط لما فيه من إعمال الجهد في العد. والمراد أحصوا هلاله حتى تكملوا العدة إن غمّ عليكم أو تراؤوا هلال شعبان وأحصوه ليترتب عليه رمضان بالاستكمال أو الرؤية. قال ابنُ قدامة في "المغني" (4/325) : "يستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان وتطلبه ليحتاطوا بذلك لصيامهم، ويسلموا من الاختلاف فإذا رأوه وجب عليهم الصيام إجماعاً". رؤية الهلال هي المعتبرة فقط دون الحساب: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين" رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر (4/151-152) : "قيل للعرب: أميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة. قال الله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم) ولا يرد على ذلك أنه كان فيهم من يكتب ويحسب لأن الكتابة فيهم قليلة نادرة، والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضاً إلاَّ النزر اليسير، فعلّق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلا، ويوضحه قوله في الحديث: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". يقل فسلوا أهل الحساب، والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم، وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض، ونُقل عن بعض الفقهاء موافقتهم. قال الباجي: وإجماع السلف الصالح حُجَّة عليهم. وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق إذ لا يعرفها إلا القليل".

_ (1) صحيح: رواه الدارقطني، والبيهقي في سننه عن أبي هريرة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (199) .

قال ابن بطال: "في الحديث رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف. ولا شك أن في مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين" (1) . * وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له" (2) . وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا جاء رمضان فصوموا ثلاثين إلاَّ أن تروا الهلال قبل ذلك" (3) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتُم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُم عليكم فاقدروا له" (4) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "جعل الله الأهلة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً" (5) . قال ابنُ حجر (4/146) : "للعلماء فيه تأويلان، وذهب آخرون إلى تأويل ثالث، قالوا: معناه فاقدروه بحساب المنازل. قاله أبو العباس بن سريج من الشافعية، ومطرف بن عبد الله من التابعين، وابن قتيبة من المحدثين. قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأما ابن قتيبة هو ممن يعرج عليه في مثل هذا. قال: ونقل ابن خويز منداد عن الشافعي مسألة ابن سريج والمعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور.

_ (1) رواه الشيخان والنسائي وغيرهم عن عدة من الصحابة. (2) أخرجه الشيخان ومالك وغيرهم. (3) صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم (1308) . رواه الطبراني في الكبير وأحمد والطحاوي. وصححه الألباني أيضاً في "صحيح الجامع". (4) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن عمر. (5) صحيح: رواه البيهقي في سننه، وأحمد، والطبراني في الكبير، والديلمي وابن عساكر عن طلق بن علي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3093) .

ونقل ابنُ العربي عن ابن سريج أن قولَه "فاقدروا له" خطاب لمن خصّه الله بهذا العلم، وأن قوله "فأكملوا العدة" خطاب للعامة. قال ابن العربي: فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم. بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد، قال: وهذا بعيد عن النُّبلاء. وقال ابنُ الصلاح: معرفة منازل القمر هي معرفة سير الأهلة، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد، قال: فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه من يراقب النجوم، وهذا هو الذي أراده ابنُ سريج وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه. ونقل الروياني عنه أنه لم يقل بوجوب ذلك عليه، وإنما قال بجوازه، وهو اختيار القفال وأبي الطيب، وأما أبو إسحاق في "المهذب" فنقل عن ابن سريج لزوم الصوم في هذه الصورة فتعدّدت الآراء في هذه المسألة بالنسبة إلى خصوص النظر في الحساب والمنازل: أحدها: الجواز ولا يجزيء عن الفرض. ثانيها: يجوز ويجزيء. ثالثها: يجوز للحاسب ويجزئه لا للمنجم. رابعها: يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم. خامسها: يجوز لهما ولغيرهما مطلقاً. وقال ابنُ الصباغ: أما بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا. قلت: ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك، فقال في الإشراف: صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة، وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته، هكذا أطلق ولم يفصل بين حاسب وغيره، فمن فرّق بينهم كان محجوجاً بالإجماع قبله". * قال النووي في "روضة الطالبين" (2/347-348) : لا يجب مما يقتضيه حساب المنجم الصوم عليه، ولا على غيره. قال الروياني: وكذا من عرف منازل القمر، لا يلزمه الصوم به على الأصح.

وأما الجواز فقال في "التهذيب": لا يجوز تقليد المنجم في حساب، لا في الصوم ولا في الفطر. * قال ابن حجر في "تلخيص الخبير" (2/187-188) : قال ابن دقيق العيد: "إن الحساب لا يجوز أن يعتمد عليه في الصوم لمقارنة القمر للشمس على ما يراه المنجمون، فإنهم قد يقدمون الشهر بالحساب على الرؤية بيوم أو يومين، وفي اعتبار ذلك إحداث شرع لم يأذن الله به، وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع على وجه يرى، لكن وجد مانع من رؤيته كالغيم فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي، قلت: لكن يتوقف قبول ذلك على صدق المخبر به، ولا نجزم بصدقه إلاَّ لو شاهد، والحال أنه لم يشاهد، فلا اعتبار بقوله إذاً، والله أعلم". * وقال ابن عبد البر في "الاستذكار" (10/15) : (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) يريد والله أعلم: من علم منكم بدخول الشهر علم يقين فليصمه، والعلم اليقين: الرؤية الصحيحة الفاشية الظاهرة أو إكمال العدد. وقال فيه (10/115) أيضاً: "قد كان بعض كبار التابعين فيما ذكر محمد بن سيرين ذهب في هذا الباب إلى اعتباره بالنجوم ومنازل القمر وطريق الحساب قال ابن سيرين: كان أفضل له لو لم يفعل". وقال في "التمهيد" (14/350-352) : "ذهب بعض فقهاء البصريين إلى أن معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فاقدروا له": ارتقاب منازل القمر وهو علم كانت العرب تعرف منه قريبا من علم العجم. ثم قال: وفيما ذكر هذا القائل من الضيق والتنازع والاضطراب ما لا يليق أن يتعلق به أولوا الألباب، وهو مذهب تركه العلماء قديماً وحديثاً للأحاديث الثابتة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته.." ولم يتعلق أحد من فقهاء المسلمين فيما علمت باعتبار المنازل في ذلك، وإنما هو شيء روي عن مطرف بن الشخير، وليس بصحيح عنه، والله أعلم، ولو صح، ما وجب اتباعه عليه لشذوذه، ولمخالفة الحجة له، وقول ابن قتيبة قول قد ذكرنا شذوذه ومخالفة أهل العلم له، وليس هذا من شأن ابن قتيبة، ولا هو ممن يعرج عليه في هذا الباب، وقد حكي عن الشافعي أنه قال: من كان مذهبه

الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر، ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغمّ عليه، جاز له أن يعتقد الصيام ويبيته ويجزئه، والصحيح عنه في كتبه وعند أصحابه، أنه لا يصح اعتقاد رمضان إلاَّ برؤية أو شهادة عادلة. وقال ابن عمر في "الاستذكار" (10/19) : "الذي عندنا في كتبه أنه لا يصح اعتقاد رمضان إلاَّ برؤية فاشية". يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (25/131-132) : "إني رأيت الناس في شهر صومهم، وفي غيره أيضاً: منهم من يصغي إلى ما يقوله بعض جهال أهل الحساب من أن الهلال يرى أو لا يرى. ويبني على ذلك إما في باطنه وإما في ظاهره حتى بلغني أن من القضاة من كان يرد شهادة العدد من العدول لقول الحاسب الجاهل الكاذب: إنه يرى أو لا يرى فيكون ممن كذب بالحق لما جاءه". ويقول (ص132-133) : إنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز. والنصوص المستفيضة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك كثيرة. وقد أجمع المسلمون عليه. ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلا، ولا خلاف حديث، إلاَّ أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا. وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصا بالحاسب فهو شاذ، مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم. وقد يقارب من هذا قول من يقول من الإسماعيلية بالعدد دون الهلال وبعضهم يروي عن جعفر الصادق جدولاً يعمل عليه، وهو الذي افتراه عليه عبد الله بن معاوية. وهذه الأقوال خارجة عن دين الإسلام. وقد برَّأ الله منها جعفر وغيره. ويقول أيضاً (ص164) : قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة فيكون قد فعل ما ليس من دينها، والخروج عنها محرم منهي عنه، فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهياً عنهما.

الشهادة على رؤية الهلال:

ويقول أيضاً (ص174) : "ظهر بذلك أن الأمية المذكورة هنا صفهْ مدح وكمال، من وجوه: من جهة الاستغناء عن الكتاب والحساب بما هو أبين منه وأظهر وهو الهلال، ومن جهة أن الكتاب والحساب هنا يدخلهما غلط، ومن جهة أن فيهما تعباً كثيراً بلا فائدة، فإن ذلك شغل عن المصالح. فمن دخل فيه فقد خرج عن الأمة الأمية فيما هو من الكمال والفضل السالم عن المفسدة، ودخل في أمر ناقص يؤديه إلى الفساد والاضطراب، وأيضا فإنه جعل هذا وصفاً للأمة وصفة الكمال التي للأمة يجب حفظها عليها. ويقول أيضاً (ص207) : "والمعتمد على الحساب في الهلال، كما أنه ضال في الشريعة، مبتدع في الدين، فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب، فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي بل خطؤها كثير وقد جرب وهم يختلفون كثيراً: هل يرى؟ أم لا يرى؟ وسبب ذلك: أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب، فأخطأوا طريق الصواب". وفي "المجموع" (6/289) : قال الدارمي: لا يصوم بقول منجم. الشهادة على رؤية الهلال: عن ابن عمر قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه" (1) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وأنسكوا لها، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا" (2) ، وعند أحمد "فإن شهد شاهدان مسلمان"، وقال الدارقطني "ذوا عدل".

_ (1) صحيح: رواه أبو دواد والدارمي وابن حبان والدارقطني والبيهقي وصححه الألباني في "إرواء الغليل" رقم (908) . وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وهو كما قالا. وأقره ابن حجر في "التلخيص". (2) رواه أحمد والنسائي والدارقطني عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، والحديث صححه الألباني في "إرواء الغليل" رقم (909) .

* قال ابن عبد البر في "التمهيد" (14/354-135) : "أجمع العلماء على أنه لا يقبل في شهادة شوال في الفطر إلاَّ رجلان عدلان، واختلفوا في هلال رمضان: * فقال مالك والثوري والأوزاعي والليث والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن وابن علية: لا يقبل في هلال رمضان ولا شوال إلا شاهدا عدل رجلان. * وقال أبو حنيفة وأصحابه في رؤية هلال رمضان: شهادة رجل واحد عدل إذا كان في السماء علة -غيماً أو غباراً-، وإن لم يكن في السماء علة لم يقبل إلاَّ شهادة العامة. ولا يقبل في هلال شوال إلاَّ شهادة عدلين يقبل مثلهما في الحقوق. هكذا حكاه الطحاوي عن أبي حنيفة في كتابه الكبير في الخلاف في اشتراط العدالة ولم يذكر المرأة، وذكر عنه في المختصر في الشهادة على هلال رمضان شاهد واحد مسلم أو امرأة مسلمة. لم يشترط العدالة، وفي الشهادة على هلال شوال رجل وامرأتان كسائر الحقوق. واختلف قول الشافعي في هذه المسألة، فحكى المزني عنه أنه قال: إذا شهد على رؤية هلال رمضان رجل عدل واحد رأيت أن أقبله للأثر الذي جاء فيه والاحتياط والقياس ألا يقبل إلا شاهدان، قال: ولا أقبل على رؤية هلال الفطر إلا عدلين. وفي البويطي: ولا يصام رمضان ولا يفطر منه بأقل من شاهدين حُرّيْن مسلميِنْ عدليْن، وقال أحمد بن حنبل: من رأى هلال رمضان وحده صام، فإن كان عدلاً صام الناس بقوله، ولا يفطر إلاَّ بشهادة عدلين، ولا يفطر إذا رآه وحده". قال النووي في "روضة الطالبين" (2/345) : "وكذا إن شهد عدل على الأظهر المنصوص في أكثر كتبه". وقال في "المجموع" (6/283) : قال في القديم والجديد يقبل من عدل واحد وهو الصحيح وبه قطع المصنف، فهل يقبل من العبد والمرأة؟ فيه وجهان: لا يقبل وهو الصحيح؛ لأن طريقها طرق الشهادة بدليل أنه لا يقبل من شاهد الفرع مع حضور شاهد الأصل فلم قبل من العبد والمرأة كسائر الشهادات. ونص عليه في "الأم"

وأما الكافر والفاسق والمغفل فلا يقبل قولهم بلا خلاف. * وفي "الفروع" لابن مفلح -حنبلي- يقبل في هلال رمضان قول عدل واحد نص عليه وحكاه الترمذي عن أكثر العلماء لحديث ابن عباس وابن عمر، ولأنه خبر ديني، وهو أحوط ولا تهمة فيه، لخلاف آخر الشهر. وتقبل المرأة والعبد ولا يختص بحاكم فيلزم الصوم من سمعه من عدل. وجزم في "المستوعب": لا يقبل صبي، وفي "الكافي" يقبل العبد. * وفي "روضة الطالبين" -شافعي- (2/380-346) : في الصبي المميز الموثوق به طريقان: والمذهب الذي قطع به الأكثرون: القطع بأنه لا تقبل. وقال ابن حجر في "الفتح" (4/147) : "فلا تصوموا حتى تروه. المراد بذلك رؤية بعضهم وهو من يثبت به ذلك، إما واحد على رأي الجمهور أو اثنان على رأى آخرين. ووافق الحنفية على الأول إلا أنهم خصّوا ذلك بما إذا كان في السماء علة من غيم وغيره، وإلا متى كان صحو لم يقبل إلا من جمع كثير يقع العلم بخبرهم. قال أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد" (14/355) : لم يختلف العلماء فيمن رأى هلال رمضان وحده فلم تقبل شهادته أنه يصوم؛ لأنه متعبد بنفسه لا بغيره، وعلى هذا أكثر العلماء، لا خلاف في ذلك إلا شذوذ لا يشتغل به، ومن رأى هلال شوال وحده، أفطر عند الشافعي، والحسن بن حي. وروي عن مالك أنه لا يفطر للتهمة، ومثله قول الليث وأحمد: لا يفطر من رآه وحده، واستحب الشافعي أن يخفي فطره. وقال مالك: من رأى هلال رمضان وحده فأفطر فعليه الكفارة مع القضاء، وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليه. وكان الشعبي والنخعي يقولان: لا يصوم أحد إلا مع جماعة الناس، وقال الحسن: يفعل ما يفعل إمامهم.

مذاهب العلماء فيما إذا رأى الهلال أهل بلد دون غيرهم:

* وعند ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (25/114-115) : "يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس وهذا أظهر الأقوال. * وفي "الفروع" لابن مفلح (3/17) : "وإن صاموا ثمانية وعشرين، ثم رأوا هلال شوال قضوا يوماً فقط نقله ابن حنبل واحتج بقول علي -رضي الله عنه- ولبُعد الغلط بيومين". وإن صمنا بشاهدين ثلاثين يوماً فلم نر الهلال بعد الثلاثين نفطر على الصحيح من قول الشافعي وإن صمنا بشاهد عدل فلم نر الهلال بعد الثلاثين نفطر، نص عليه في "الأم". في الرؤية بالحس: اتفقوا على أن من رأى شهر رمضان وجب عليه الصوم إلا ما روي عن عطاء أنه قال: لا يصح إلا بشهادة غيره. واختلفوا إذا رأى شوالاً وحده هل يفطر أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: لا يفطر، وقال الشافعي: يفطر، وبه قال أبو ثور لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" والجمهور إنما فرقوا بين الصوم والفطر سدًّا للذريعة لأن الصوم ثقيل على النفوس لا يتهم أحد عليه، وأما الفطر فالعادة أنه تتوق إليه النفوس الضعيفة ولو ترك لهم المجال لادّعى كل ضعيف النفس رؤيته وينتهك حرمة رمضان، وأن الصوم عبادة، والفطر فضيلة ولا يسوى بينهما (1) . قال النووي في "المجموع" (6/295) : "ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا أنه لا تقبل شهادة النساء في هلال رمضان، وحكاه ابن المنذر عن الليث واختاره ابن الماجشون المالكي، ولم يحك عن أحد قبولها". مذاهب العلماء فيما إذا رأى الهلال أهل بلد دون غيرهم: عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إِلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهلّ على رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت

_ (1) "إرشاد المسترشد" (ص310) لمحمد ولي بن المنذر الأنصاري.

المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أو لا تكتفي رؤية معاوية وصيامه فقال: لا. هكذا أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رواه مسلم والترمذي وأبو داود. * بوّب النووي في شرح صحيح مسلم "باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم وأم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم" وقال (3/141) : فيه حديث كريب عن ابن عباس، وهو ظاهر الدلالة للترجمة، والصحيح عند أصحابنا أن الرؤية لا تعم الناس، بل تختص بمن قرب على مسافة لا تقصر فيها الصلاة. وقال بعض أصحابنا: تعم الرؤية في موضع جميع أهل الأرض، فعلى هذا نقول: إنما لم يعمل ابن عباس بخبر كريب؛ لأنه شهادة فلا تثبت بواحد، لكن ظاهر حديثه أنه لم يردّه لهذا وإنما ردّه لأن الرؤية لم يثبت حكمها في حق البعيد. * قال ابن حجر: اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: أحدها: لأهل كل بلد رؤيتهم، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس ما يشهد له، وحكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه، وحكاه الماوردي وجهاً للشافعية. ثانيها: مقابله إذا رؤي ببلدة لزم أهل البلاد كلها. قال النووي في "المجموع": عن الليث والشافعي وأحمد يلزم الجميع، قال: ولا أعلمه إلا قول المدني والكوفي يعني مالكاً وأبا حنيفة (6/282) . قال ابن حجر: -وهو المشهور عند المالكية-، لكن حكى ابن عبد البر الإجماع على خلافه، وقال: أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلاد كخراسان والأندلس. قال القرطبي: قد قال شيوخنا إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ثم نقل إلى غيرهم بشهادة اثنين لزمهم الصوم.

وقال ابن الماجشون: لا يلزمهم الشهادة إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة إلا أن يثبت عند الأمام الأعظم فيلزم الناس كلهم لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد إذ حكمه نافذ في الجميع. وقال بعض الشافعية: أن تقاربت البلاد كان الحكم واحداً وإن تباعدت فوجهان: لا يجب عند الأكثر، وبه قال النووي. واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب وحكاه البغوي عن الشافعي. وفي ضبط البعد أوجه: أحدهما: اختلاف المطالع قطع به العراقيون والصيدلاني وصححه النووي في "الروضة" و"شرح المهذب". ثانيها: مسافة القصر قطع به الإمام والبغوي وصححه الرافعي في "الصغير" والنووي في "شرح مسلم" ا. هـ بتصرف. قال ابن عبد البر في "التمهيد" (14/358) : "إلى القول الأول أذهب؛ لأن فيه أثراً مرفوعاً وهو حديث حسن تلزم به الحجة، وهو قول صاحب كبير لا مخالف له من الصحابة، وقول جماعة من فقهاء التابعين، ومع هذا، إن النظر يدل عليه عندي؛ لأن الناس لا يكلفون علم ما غاب عنهم في غير بلدهم، ولو كلفوا ذلك لضاق عليهم. أرأيت لو رؤي بمكة أو بخراسان هلال رمضان أعواماً بغير ما كان بالأندلس ثم ثبت ذلك وبزمان عند أهل الأندلس أو عند بعضهم، أو عند رجل واحد منهم، أكان يجب عليه قضاء ذلك وهو قد صام برؤية وأفطر برؤية أو بكمال ثلاثين يوماً كما أمر، ومن عمل بما يجب عليه مما أمر به فقد قضى الله عنه، وقول ابن عباس عندي صحيح في هذا الباب والله الموفق للصواب. قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (25/105، 107) : "فالصواب في هذا والله أعلم ما دلّ عليه قوله "صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون"، فإذا شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد وجب الصوم. وكذلك إذا شهد بالرؤية نهار تلك الليلة فعليهم إمساك ما بقي سواء كان من إقليم أو إقليمين. وقال ابن تيمية (25/104) : الذين قالوا لا تكون رؤية لجميعها، كأكثر أصحاب

الشافعي منهم من حدد ذلك بما تختلف فيه المطالع: كالحجاز مع الشام، والعراق مع خراسان، وكلاهما ضعيف، فإن مسافة النصر لا تعلق لها بالهلال. وأيضاً فإن هلال الحج ما زال المسلمون يتسكعون فيه برؤية الحجاج القادمين، وإن كان فوق مسافة القصر. وأيضاً إذا اعتبرناها كمسافة القصر، أو الأقاليم، فكان رجل في آخر المسافة والإقليم فعليه أن يصوم ويفطر وينسك وآخر بينه غلوة سهم لا يفعل شيئاً من ذلك، وهذا ليس من دين المسلمين. ثم يقول "والاعتبار ببلوغ الرؤية في وقت يفيد. الأشبه أنه إن رؤي بمكان قريب وهو ما يمكن أن يبلغهم خبره في اليوم الأول فهو كما لو رؤي في بلدهم، ولم يبلغهم، وأما إذا رؤي بمكان لا يمكن وصول خبره إليهم إلا بعد مضي الأول فلا قضاء عليهم". وقال (ص107) "فالضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ لقوله "صوموا لرؤيته" فمن بلغه أنه رؤي ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلاً، وهذا يطابق ما ذكره ابن عبد البر في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيهما إلا بعد شهر فلا فائدة فيه، بخلاف الأماكن الذي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر فإنها محل الاعتبار. ويقول ابن تيمية في (ص108) : وهذا الذي ذكرته هو الذي ذكره أصحابنا، إلا وجوب القضاء إذا لم يكن مما يمكنهم فيه بلوغ الخبر. والحجة فيه أنا نعلم بيقين أنه ما زال في عهد الصحابة والتابعين يرى الهلال في بعض أمصار المسلمين، بعد بعض، فإن هذا من الأمور المعتادة التي لا تبديل لها، ولابد أن يبلغهم الخبر في أثناء الشهر، فلو كانوا يجب عليهم القضاء لكانت هممهم تتوفر على البحث عن رؤيته في سائر بلدان الإسلام، كتوفرها على البحث عن رؤيته في بلده، ولكان القضاء يكثر في أكثر الرمضانات، ومثل هذا لو كان لنقل، ولما لم ينقل دل على أنه لا أصل له، وحديث ابن عباس يدل على هذا فتلخص: أنه من بلغه رؤية الهلال في الوقت الذي يؤدي بتلك الرؤية الصوم أو الفطر أو النسك وجب اعتبار ذلك بلا شك، والنصوص وآثار السلف تدل على ذلك.

إذا رأى القمر نهارا

ومن حدّد ذلك بمسافة قصر أو إقليم فقوله مخالف للعقل والشرع. * ومن لم يبلغه إلا بعد الأداء، وهو مما لا يقضي كالعيد المفعول والنسك فهذا لا تأثير له، وعليه الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر. * وأما إذا بلغه في أثناء المدة: فهل يؤثر في وجوب القضاء؟ وفي بناء الفطر عليه، والقضاء يظهر لي أنه لا يجب وفي بناء الفطر عليه نظر. فهذا متوسط في المسألة. * والقول بشمول كل من بلغه رؤية الهلال من أي بلد أو إقليم من غير تحديد مسافة يقول فيه الألباني: "أخذ بعموم الحديث الصحيح، وبخاصة أنه مذهب الجمهور، وقد اختاره كثير من العلماء المحققين مثل شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (المجلد 25) والشوكاني في "نيل الأوطار" وصديق حسن خان في "الروضة الندية" (1/224-225) وغيره، فهو الحق الذي لا يصح سواه، ولا يعارضه حديث ابن عباس لأمور ذكرها الشوكاني -رحمه الله-، ولعل الأقوى أن يقال: إن حديث ابن عباس ورد فيمن صام على رؤية بلده، ثم بلغه في أثناء رمضان أنهم رأوا الهلال في بلد آخر قبله بيوم، ففي هذه الحالة يستمر في الصيام مع أهل بلده حتى يكملوا ثلاثين، أو يروا هلالهم. وبذلك يزول الإشكال، ويبقى حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وغيره على عمومه؛ يشمل كل من بلغه رؤية الهلال من أي بلد أو إقليم من غير تحديد مسافة أصلاً كما قال ابن تيمية في "الفتاوى" (25/107) وهذا أمر متيسر اليوم للغاية كما هو معلوم، ولكنه يتطلب شيئاً من اهتمام الدول حتى تجعله حقيقة واقعية إن شاء الله تبارك وتعالى. وإلى أن تجتمع الدول الإسلامية على ذلك، فإني أرى على شعب كل دولة أن يصوم مع دولته، ولا ينقسم على نفسه، فيصوم بعضهم معها، وبعضهم مع غيرها، تقدمت في صيامها أو تأخرت، لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف في الشعب الواحد، كما وقع في بعض الدول العربية منذ بضع سنين والله المستعان" (1) . إذا رأى القمر نهاراً اختلفوا إذا رأى القمر نهاراً:

_ (1) "تمام المنة في التعليق على فقه السنة" (ص398) الطبعة الثالثة- المكتبة الإسلامية.

* فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أنه لليلة المقبلة وهو رواية عن أحمد. * وقال أحمد وأبو يوسف والثوري وابن حبيب المالكي: إذا رآه قبل الزوال فهو للماضية، وإذا رآه بعده فهو للمقبلة. وسبب الخلاف: أولاً: أنه ما ورد عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء في ذلك. والثاني: أنه ورد أثران في ذلك عن عمر، أحدهما عام والآخر خاص، فأما العام فما رواه أبو وائل شقيق بن سلمة قال: "أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهاراً فلا تفطروا حتى يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس" رواه الدارقطني والبيهقي إسناد صحيح وبه أخذ الجمهور. وأما الخاص فهو ما رواه الثوري عنه أنه بلغ عمر أن قوماً رأوا الهلال بعد الزوال فأفطروا فكتب إليهم يلومهم وقال: "إذا رأيتم الهلال نهاراً قبل الزوال فأفطروا، وإذا رأيتموه بعد الزوال فلا تفطروا". وبه أخذ من فرّق بين الرؤية في أول النهار وفي آخره والله أعلم. قال ابن حجر في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصوموا حتى تروا الهلال" (4/145) : "ظاهره إيجاب الصوم حين الرؤية متى وجدت ليلاً أو نهاراً لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل، وبعض العلماء فرّق بين ما قبل الزوال أو بعد وخالف الشيعة الإجماع فأوجبوه مطلقاً، وهو ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال". فرع: قال النووي في "المجموع" (6/292) : "لو كانت ليلة الثلاثين من شعبان ولم ير الناس الهلال، فرأى إنسان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام فقال له: الليلة أول رمضان لم يصح الصوم بهذا المنام لا لصاحب المنام ولا لغيره، ذكره القاضي حسين في الفتاوى وآخرون من أصحابنا. ونقل القاضي عياض الإجماع عليه، لأن شرط الراوي والمخبر والشاهد أن يكون متيقظاً حال التحمل، وهذا مجمع عليه ومعلوم أن النوم لا تيقظ فيه، ولا ضبط،

صيام الأسير والمطمور

فترك العمل بهذا المنام لاختلال ضبط الراوي، لا للشك في الرؤية، فقد صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي" والله تعالى أعلم". صيام الأسير والمطمور قد لا يستطع الأسير المسلم الذي وقع في أيدي الكفار معرفة شهر الصيام فما حكم صيامه إذا صام؟ * إن صام بغير تحرّ فصومه غير صحيح، لأنه مطالب بأن يبذل جهده، ويتحرّى كما هو الحال فيمن اشتبهت عليه القبلة. * فإن تحرى وصام فله الحالات: الحالة الأولى: أن لا يتضح للأسير الأمر، أَوافق بصيامه رمضان أو خالف؟ فهذه تجزئه لأنه بذل وسمعه، والله يقول: (فاتقوا الله ما استطعتم) [التغابن: 16] . الحالة الثانية: أن يُوافق صومه صوم رمضان، وهذه لها ثلاثة أوجه: الأول: أن يصومه بنية التطوّع فإن صومه عن رمضان لا يصح عند الأئمة الثلاثة وعند أبي حنيفة يصح؛ لأنه يصحح الصوم من رمضان بمطلق النية وبنية التطوع. الثاني: أن يصومه بنية غير جازمة. وصحَّح العلماء صوم الأسير في مثل هذه الحال لأنه معذور، وممن نص على هذا النووي، وقال: إنه مذهب كافة العلماء، ولم يخالف في ذلك إلاَّ الحسن بن صالح، واحتج النووي على ذلك بدليلين: إجماع العلماء على صحة الصوم من الأسير في هذه الحال، والقياس على الاجتهاد في القبلة لمن وافقها، والشك إنما يضر إذا لم يعتضد باجتهاد (1) .

_ (1) "المجموع" (6/315) .

الثالث: أن يصومه بنية جازمة، وهذا صحيح لا إشكال فيه. الحالة الثالثة: ألا يُوافق صومه صوم رمضان: وهذه لها وجهان: الأول: أن يصوم قبل دخول الشهر، فهذا لا يصح بإجماع المذاهب، لأنه أدى الواجب قبل وجوبه وقبل وجوب سببه" (1) . الثاني: "أن يصوم بعد دخول الوقت: فلا خلاف بينهم في صحة هذا الصوم قضاء، إلا أنه إذا صام شهر شوال فعليه أن يقضي يوماً واحداً، هو يوم العيد إن وافقت عدّة شوال عدة رمضان ويومين إن كان أقلّ، وإن وافق شهر ذي الحجة قضى أربعة أيام: يوم النحر وأيام التشريق" (2) . • فرع: "إذا صام الأسيرُ ونحوه بالاجتهاد فصادف صومُه الليل دون النهار لزمه القضاء بلا خلاف لأنه ليس وقتاً للصوم" (3) . • فرع: لو شرع في الصوم بالاجتهاد فأفطر بالجماع في بعض الأيام، فإن تحقّق أنه صادف رمضان لزمته الكفارة، لأنه وطيء في نهار رمضان الثابت بنوع دلالة، فأشبه من وطيء بعد حكم القاضي بالشهر بقول عدل واحد، وإن صادف شهراً غيره فلا كفارة؛ لأن الكفّارة لحرمة رمضان ولم يصادف رمضان وممن ذكر المسألة المتولي (8) .

_ (1) "بدائع الصنائع" (2/86) . (2) "مقاصد المكلفين" للشيخ عمر الأشقر (ص234-235) طبع دار النفائس - مكتبة الفلاح. (3) "المجموع" (6/298) . (4) "المجموع" (6/299) .

زمن الإمساك

• فرع: إذا لم يعرف الأسير ونحوه الليل ولا النهار، بل استمرت عليه الظلمة دائماً فهذه مسألة مهّمة قلّ من ذكرها. والأصح أنه يلزمه التحرى والصوم ولا قضاء عليه، هذا إذا لم يظهر له فيما بعد الخطأ، فإن تبينّ له أنه صادف الليل لزمه القضاء بلا خلاف والله أعلم" (1) . زمن الإمساك أجمع المسلمون على أن آخر زمن الإمساك هو غروب الشمس وغيبوبتها لقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة: 187] . قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" (2) . ولفظ مسلم: "إذا غابت الشمس ههنا وجاء الليل من ههنا فقد أفطر الصائم"، وعن عبد الله بن أبي أوفى قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم، وأشار بيده قبل المشرق" رواه البخاري. قال الحافظ في "الفتح" (4/232) : "إنما ذكر الإقبال والإدبار معاً لإمكان وجود أحدهما مع عدم تحقق الغروب". وقال: "لا يجب إمساك جزء من الليل مطلقاٌ، بل متى تحقق غروب الشمس حل الفطر"، "وأفطر أبو سعيد الخدري حين غاب قرص الشمس" (3) . وعند سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة "دخلنا على أبي سعيد فأفطر ونحن نرى أن الشمس لم تغرب". قال ابن حجر: "ووجه الدلالة منه أن أبا سعيد لما تحقق غروب الشمس لم يطلب

_ (1) "المجموع" (6/300) . (2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عمر رضي الله عنه. (3) رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم ووصله سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة.

أول زمن الإمساك:

مزيداً على ذلك ولا التفت إلى موافقة من عنده على ذلك، فلو كان يجب إمساك جزء من الليل لاشترك الجميع في معرفة ذلك والله أعلم". واختلفوا في أول زمن الإمساك: * فقال الجمهور: هو طلوع الفجر الثاني وهو الفجر الصادق والمراد الطلوع الذي يظهر لنا لا الذي في نفس الأمر. ولا يتعلق بالفجر الكاذب الأول شيء من الأحكام بإجماع المسلمين. والصوم بطلوع الفجر الصادق "الثاني" وتحريم الطعام والشراب والجماع به هو مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. قال ابن المنذر وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعلماء الأمصار قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الفجر فجران، فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان (1) فلا يُحل الصلاة، ولا يحرم الطعام، وأما الفجر الذي يذهب مستطيلاً في الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام" (2) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كلوا واشربوا ولا يهدينكم (3) الساطع المصُعد، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر" (4) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس الفجر بالأبيض المستطيل في الأفق، ولكنه الأحمر المعترض" (5) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الفجر فجران: فجر يحرم فيه الطعام، وتحل فيه الصلاة، وفجر تحرم فيه الصلاة ويحل فيه الطعام" (6) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" (7) .

_ (1) الذئب. (2) صحيح: رواه الحاكم في "المستدرك" والبيهقي في سننه عن جابر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4278) . (3) يهدينكم: أى يغرنكم. (4) حسن: رواه أبو داود والترمذي عن طلق، والطحاوي وابن خزيمة والدارقطني وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4506) . (5) صحيح: رواه أحمد عن طلق بن علي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5378) . (6) صحيح: رواه الحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4279) . (7) رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر، ورواه البخاري والنسائي عن عائشة.

* وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن بلالاً يؤذن بليل، ليوقظ نائمكم، وليرجع قائمكم" (1) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يغرنكم في سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل حتى يستطير" (2) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن بليل ليرجع قائمكم، ولينبه نائمكم، وليس الفجر أن يقول هكذا، حتى يقول هكذا، يعترض في أفق السماء" (3) . عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: "لما نزلت (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له ذلك فقال: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار" (4) ، وفي رواية "إن وسادك إذن لعريض طويل، إنما هو سواد الليل وبياض النهار" (5) . * وقال سهيل بن سعد: "أنزلت (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) ولم ينزل (من الفجر) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد (من الفجر) فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار" رواه البخاري. * وذهب حذيفة وابن مسعود إلى أنه طلوع الفجر الأحمر كالشفق الأحمر. * والجمهور القائلون بأنه الفجر الأبيض المستطيل في الحد المحرم للشرب والأكل والجماع اختلفوا أيضاً: * فقال الجمهور: هو طلوع الفجر نفسه. * وذهب جماعة من الصحابة إلى جواز السحور إلى أن يتضح الفجر. روى ابن المنذر بإسناد صحيح عن علي أنه صلى الصبح، ثم قال: الآن حين يتبينّ الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

_ (1) رواه النسائي عن ابن مسعود، ورواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو دواد. (2) رواه أحمد ومسلم وأبو دواد والترمذي والنسائي عن سمرة. (3) رواه أحمد والبخارى ومسلم وأبو دواد وابن ماجة عن ابن مسعود. (4) رواه البخاري. (5) رواه البخاري.

الفجر الصادق والفجر الكاذب

قال ابن المنذر: وذهب بعضهم إلى أن المراد بتبينّ بياض النهار من سواد الليل إلى أن ينتشر البياض في الطرق والسكك والبيوت. قال إسحاق: هؤلاء رأوا جواز الأكل والصلاة بعد طلوع الفجر المعترض حتى يتبين بياض النهار من سواد الليل. قال إسحاق: وبالقول الأول أقول، لكن لا أطعن على من تأول الرخصة كالقول الثاني ولا أدري عليه قضاء ولا كفّارة. فمعنى قولهم هو: تبينّ طلوعه عند النظر إليه، وهو مروي عن عروة ومجاهد والحسن وإسحاق قالوا: إن أكل أو شرب يظن أن الفجر لم يطلع فبان له أنه طلع فلا قضاء عليه، وكذلك إذا ظن غياب الشمس ووجدها لم تغب فلا قضاء عليه. وسبب الخلاف: الاحتمال الموجود في قوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) هل المراد به الإمساك بالتبين نفسه أو بالمتبين وهو الفجر؟ واستدلّ الجمهور بما رواه البخاري عن فاطمة عن أسماء قالت: أفطرنا في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم غيم ثم طلعت الشمس فقيل لهشام بن عروة راوي الحديث عن فاطمة: أمروا بالقضاء؟ قال: بد من قضاء. * والقائلون بعدم القضاء حملوا التبين على تبين الفجر إذا نظر إليه الناظر ولو بعد طلوعه بزمن. مسائل: (1) "لو غمّ هلال رمضان فأصبحوا مفطرين، ثم تبين أن ذلك اليوم من رمضان فالقضاء واجب بالاتفاق" قاله ابن حجر (4/236) . (2) من أكل أو شرب شاكاً في طلوع الفجر فذهب ابن عباس وعطاء وهو مروي عن أبي بكر وابن عمر والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والمشهور عن مالك إلى أنه لا قضاء عليه.

وروى عن مالك القول بوجوب القضاء عليه. والراجح الأول: لظاهر الآية ولحديث أذان ابن أم مكتوم. روى عبد الرزاق بإسنادٍ صحيح عن ابن عباس قال: "أحل الله لك الأكل والشرب ما شككت". قال ابن المنذر: وإلى هذا صار أكثر العلماء. "ذكر ابن المنذر في "الإشراف" باباً في إباحة الأكل للشاك في الفجر، فحكاه عن أبي بكر الصديق، وابن عمر وابن عباس وعطاء والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور واختاره ولم ينقل المنع إلا عن مالك" (1) . فقال بتحريمه مالك وأوجب القضاء على من أكل شاكاً. (3) إذا أكل أو شرب أو جامع ظاناً غروب الشمس أوعدم طلوع الفجر فبان خلافه فعليه القضاء وبه قال ابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان وسعيد بن جبير ومجاهد والزهري والثوري، هكذا حكاه ابن المنذر عنهم، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وأبو ثور والجمهور. وقال إسحاق بن راهوية وداود وعطاء وعروة والحسن ومجاهد: صومه صحيح ولا قضاء. (4) فيمن أولج ثم نزع مع طلوع الفجر. قال الشافعي وأبو حنيفة: لا يفطر ولا قضاء ولا كفارة. روى البيهقي بإسناده الصحيح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان إذا نودي بالصلاة والرجل على امرأته لم يمنعه ذلك أن يصوم إذا أراد الصيام قام واغتسل وأتم صيامه". وقال مالك والمزني وزفر وداود: يبطل صومه. وعن أحمد رواية: أنه يفطر وعليه الكفّارة. وفي رواية يصح صومه ولا قضاء ولا كفارة.

_ (1) "المجموع" (6/335-336) .

(5) إذا جامع في الليل وأصبح وهو جنب صح صومه، وكذا لو انقطع دم الحائض والنفساء في الليل فنوتا صوم الغد ولم يغتسلا، صح صومهما بلا خلاف وبه قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وممن قال به علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبو ذر وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وابن عباس وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم، وجماهير التابعين والثوري وأحمد ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور خلافاً لقول سالم ابن عبد الله وأبي هريرة والحسن والنخعي والأوزاعي. وحجة الجمهور أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم" (1) . وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصبح جُنباً من غير حلم ثم يصوم" رواه البخاري ومسلم. وفي روايات لها في الصحيح "من جماع غير احتلام". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم" رواه البخاري ومسلم. وعنها: أن رجلاً جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله.. تدركني الصلاة وأنا جنب أفأصوم؟ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم" فقال: لست مثلنا يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" رواه مسلم. قال ابن المنذرعن حديث أبي هريرة: "من أصبح جنباً فلا صوم له" رواه الشيخان: أحسن ما سمعت فيه أنه منسوخ. (6) إذا طلع الفجر وفي فيه طعام فليلفظه، فإن لفظه صح صومه، فإن ابتلعه بعد علمه بالفجر بطل صومه بلا خلاف ودليله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" رواه البخاري.

_ (1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك عن عائشة وأم سلمة.

الركن الثاني: وهو الإمساك

أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه" (1) ، وفي رواية "وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر". فيكون "إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده" خبراً عن النداء الأول ليكون موافقاً لحديث ابن عمر وعائشة، قال البيهقي: وعلى هذا تتفق الأحاديث: وقال البيهقي: هذا محمول عند عوام أهل العلم على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه ينادى قبل طلوع الفجر. الركن الثاني: وهو الإمساك أجمعت الأمة على تحريم الطعام والشراب والجماع على الصائم، وممن نقل الإجماع ابنُ المنذر. قال تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) . * واختلفوا من ذلك في مسائل: (أ) منها ما هو مسكوت عنه. (ب) ومنها ما هو منطوق به (الحجامة والقيء) . المسكوت عنه: فهو ما يرد الجوف من غير المغذيات، وما يرده من المغذيات من غير طريق الطعام والشراب كالحقنة، وما يرد داخل الأعضاء دون الجوف كالدماغ مثلاً فإن ما يدخل من الأذنين يصل إليه ولا يصل إلى الجوف. * فذهب الشافعي وأبو حنيفة وأحمد إلى إفطار كل ما وصل إلى الجوف سواءً وصله من طريق الغذاء أم لا، وكذلك كل ما وصل إلى الدماغ للتداوي للجائفة والمأمومة وما يدخل الأذنين.

_ (1) صحيح: رواه أحمد والحاكم وأبو داود عن أبي هريرة، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (613) .

* وذهب مالك إلى أن المفطر كل ما وصل الحلق من أي منفذ كان مغذ أو غير مغذ، وما لم يصل إليه ليس بمفطر كالتداوي للجائفة والمأمومة واختلف عنه في الحقنة فمرة رُوي عنه أنها تفطر؛ لأنها تصل إلى الجوف مباشرة ومرة قال: لا؛ لأنا لا تصل إلى الحلق. ونفصّل: (1) إذا ابتلع الصائم ما لا يؤكل في العادة كدرهم ودينار أو تراب أو حصاة أو حشيشاً أو ناراً أو حديداً أو خيطاً أو غير ذلك أفطر. وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وداود وجماهير العلماء من السلف والخلف وخلاف ذلك عن أبي طلحة والحسن بن صالح وبعض أصحاب مالك. (2) إذا بقي في خلل أسنانه طعام فينبغي أن يخلّله في الليل وينقي فمه، فإن أصبح صائماً وفي خلل أسنانه شيء فابتلعه عمداً أفطر عند الشافعي ومالك وأحمد وأبو يوسف، وقال أبو حنيفة: لا يفطر. (3) إذا جرى ريقه ولم يقدرعلى دفعه ومجه لا يفطر، ويفطر إذا قدر فلم يفعل وابتلعه. وفيها تفصيل: ابتلاع الريق لا يفطر بالإجماع إذا كان على العادة لأنه يعسر الاحتراز منه. وإنما يفطر بثلاثة شروط: الأول: أن يتمحض الريق فلو اختلط بغيره وتغير لونه أفطر بابتلاعه. الثاني: أن يبتلعه من معدته، فلو خرج من فيه ثم رده بلسانه أوغير لسانه وابتلعه أفطر. الثالث: أن يبتلعه. على العادة فلو جمعه قصداً ثم ابتلعه فيها وجهان أصحهما: لا يفطر. ولو اجتمع ريق كثير بغير قصد بأن كثر كلامه أوغير ذلك بغير قصد فابتلعه لم يفطر بلا خلاف. (4) غبار الطريق وما يشق الاحتراز منه لا يفطر. (5) لو ابتلع شيئاً يسيراً كحبة السمسم أفطر عند جمهور العلماء.

مذاهب في الاكتحال:

(6) اتفق العلماء على أنه إذا ابتلع ريق غيره أفطر. (7) الحقنة الشرجية: مفطرة عند الشافعي ونقله ابن المنذر عن عطاء والثوري وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق. وقال الحسن بن صالح وداود وشيخ الأسلام ابن تيمية: لا. قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (25/233-234) : "وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما تنازع فيه أهل العلم، فمنهم من لم يفطّر بشيء من ذلك، ومنهم من فطّر الجميع لا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لم يفطر بالكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك. والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد بها الصوم لكان هذا مما يجب على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيانه، ولو ذكر لعلمه الصحابة وبلّغوه للأمة. (8) السعوط: إذا وصل إلى الدماغ يفطر عند الشافعي وحكاه ابن المنذر عن الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة ومالك وإسحاق وأبي ثور، وقال داود لا يفطر. (9) الطعام الباقي بين أسنانه إذا ابتلعه: "قال ابنُ المنذر: أجمع العلماء على أنه لا شىِء على الصائم فيما يبلعه مما يجري مع الريق مما بين أسنانه مما لا يقدر على رده، قال: فإن قدر على رده فابتلعه عمداً، قال أبو حنيفة: لا يفطر، وقال سائر العلماء: يفطر وبه أقول" (1) . مذاهب العلماء في الاكتحال: قال النووي: "جائز عندنا ولا يكره ولا يفطر به، سواء وجد طعمه في حلقه أم لا. وحكاه ابن المنذر عن عطاء والحسن البصري والنخعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور. وحكاه غيره عن ابن عمر وأنس وابن أبي أوفى الصحابيين، وبه قال داود.

_ (1) "المجموع" (6/347) .

مذاهب العلماء في الأكل والشرب ناسيا:

* وقال سليمان التيمي ومنصور بن المعتمر وابن شبرمة وابن أبي ليلى: يبطل صومه. * وقال قتادة: يجوز بالأثمد ويكره بالصبر. * وقال مالك وأحمد: يكره، وإن وصل إلى الحلق أفطر" (1) . فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: سُئل عمن أفطر في رمضان؟ فأجاب: إن أفطر في رمضان مستحلاً لذلك، وهو عالم بتحريمه استحلالاً له، وجب قتله. وإن كان فاسقاً عُوقب عن فطره في رمضان بحسب ما يراه الإمام، وأخذ منه حد الزنا، وإن كان جاهلاً عرف بذلك، وأخذ منه حد الزنا، ويرجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام والله أعلم (2) . من أكل أو شرب ناسياً: * قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أكل أو شرب ناسياً فلا يفطر، فإنما هو رزقٌ رزقه الله" (3) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة" (4) . قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا نسي فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه" (5) . وعند البخاري: "من أكل ناسياً وهو صائم فإنما أطعمه الله وسقاه". مذاهبُ العلماءِ في الأكل وغيره ناسياً: مذهب الشافعية: لا يُفطر بشيء ناسياً الصوم (6) ، وبه قال الحسن البصري ومجاهد

_ (1) "المجموع" (6/387-388) . (2) "مجموع فتاوى" (25/265) . (3) صحيح. (4) رواه الدارقطني، وقال النووي: إسناده صحيح أو حسن. (5) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخارى. (6) سواء كان الصوم صوم تطوع أم فريضة وهو الأصح والراجح.

ما يفطر من غير المأكول والمشروب:

وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور وداود وابن المنذر وغيرهم. * وقال عطاء والأوزاعي والليث: يجب قضاؤه في الجماع ناسياً دون الأكل. * وقال ربيعة ومالك يفسد صوم الناسي في جميع ذلك، وعليه القضاء دون الكفّارة. * وقال أحمد: يجب بالجماع ناسياً القضاء والكفارة ولا شيء في الأكل (1) . * مسألة: إذا أكل الصائم أو شرب أو جامع جاهلاً بتحريمه: فإن كان قريب عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة بحيث يخفى عليه كون هذا مفطراً لم يفطر، وإن كان مخالطاً للمسلمين بحيث لا يخفى عليه تحريمه أفطر. * مسألة: المكره على الأكل وغيره لا يبطل صومه عند الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: يبطل. وعند الشافعية: إذا فعل به غيره بأن أجبر على الطعام قهره، أو ربطت المرأة وجومعت، أو جومعت نائمة فلا فطر في كل ذلك. وكذا لو استدخلت ذكره نائماً أفطرت هي دونه" (2) . وأما ما يُفطر من غير المأكول والمشروب: (1) فقد اتفقوا على أن من قبّل فأمنى أفطر إلا ما روي عن ابن حزم من الخلاف. (2) واختلفوا إذا أمذى، فذهب مالك وأحمد إلى أنه مفطر وعليه القضاء وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنه مفطر ولا قضاء عليه. "سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عما إذا قبل زوجته، أو ضمها، فأمذى هل يفسد صومه؟ أم لا؟ فأجاب يفسد الصوم بذلك، عند أكثر العلماء" (3) .

_ (1) "المجموع" (6/352-353) . (2) "المجموع" (6/353-355) . (3) "مجموع الفتاوى" (25/265) .

"القبلة للصائم":

"القبلة للصائم": اختلفوا في جواز القبلة للصائم: * فحرّمَها الشافعي وأبو حنيفة على من تحرك شهوته. * وحرمها مالك مطلقاً. * وعن أحمد روايتان مثل المذهبين. * ومن كرهها مطلقاً قال: لأنها مدعاة إلى الجماع. * ومن أجازها مطلقاً تمسك بما روي من حديث عائشة وأم سلمة - المتفق عليه - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كان يُقبّل وهو صائم". مذاهب العلماء في القبلة للصائم: قال النووي في "المجموع" (6/397-398) : "مذهبنا كراهتها - أي كراهة تحريمية - لمن حركت شهوته ولا تكره لغيره والأولى تركها، فإن قبل من تحرك شهوته ولم ينزل لم يبطل صومه. قال ابنُ المنذر: رخص في القبلة عمر بن الخطاب وابن عباس وأبو هريرة وعائشة وعطاء والشعبي والحسن وأحمد وإسحاق، قال: وكان سعد بن أبي وقاص لا يرى بالمباشرة للصائم بأساً. وكان ابنُ عمر ينهى عن ذلك. وقال ابن مسعود: يقضي يوماً مكانه. وكره مالك القبلة للشباب والشيخ في رمضان. وأباحتها طائفة للشيخ دون الشاب ممن قاله ابن عباس. هذا نقل ابنُ المنذر ومذهب أبي حنيفة كمذهبنا. وحكى الخطابي عن سعيد بن المسيّب أن من قبل في رمضان قضى يوماً مكانه قال:

القيء للصائم

وسائر الفقهاء: القبلة لا تفطر إلا أن يكون معها إنزال، فإن أنزل معها أفطر ولزمه القضاء دون الكفارة" (1) . القيءُ للصائم * قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يفطر من قاء، ولا من احتلم، ولا من احتجم" (2) . * وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض" (3) . وعن أبي هريرة: إذا قاء فلا يفطر إنما يخرج ولا يولج. وقال ابن عباس وعكرمة: الصوم مما دخل وليس مما خرج. * قال النووي (6/344-345) : مذاهبُ العلماءِ في القيء: "مذهبنا أن من تقايأ عمداً أفطر ولا كفارة عليه إن كان في رمضان. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من تقايأ عمداً أفطر. * قال علي وابن عمر وزيد بن أرقم وعلقمة والزهري ومالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: لا كفارة عليه وإنما عليه القضاء. * قال عطاء وأبو ثور: عليه القضاء والكفارة. قال: وبالأوّل أقول. قال: وأمّا من ذرعه القيء فقال علي وابن عمر وزيد بن أرقم ومالك والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: لا ييطل صومه. قال: وهذا قول كل من يحفظ عنه العلم وبه أقول".

_ (1) "إرشاد المسترشد" (ص 310) لمحمد ولي بن المنذر الأنصاري. (2) حسن: رواه أبو داود عن رجل وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7742) . (3) صحيح: رواه أبو داود والترمذي والنسائى وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة، وصححه الألبانى في "صحيح الجامع" رقم (6243) ، "الأرواء" (930) ، "حقيقة الصيام" (13-14) . وقال ابن حجر في "الفتح" (4/206) : قال البخارى لم يصح وعبد الله بن سعيد المقبري ضعيف جداً، وقال أبو داود سمعت أحمد يقول: ليس من ذا شيء. ورواه أصحاب السنن والحاكم وقال الترمذي غريب لا نعرفه وسألت محمداً عنه فقال: لا أراه محفوظاً، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ولا يصح إسناده ولكن العمل عليه عند أهل العلم.

الحجامة للصائم

قال ابنُ حجر (4/206) : "أما القيء فذهب الجمهور إلى التفرقة بين من سبقه فلا يفطر وبين من تعمده فيفطر، ونقل ابن المنذر الإجماع على بطلان الصوم بتعمد القيء، لكن نقل ابن بطال عن ابن عباس وابن مسعود لا يفطر مطلقاً وهي إحدى الروايتين عن مالك. وعطاء والأوزاعي وأبو ثور فقالوا يقضي ويكفّر، ونقل ابن المنذر أيضاً الإجماع على ترك القضاء على من ذرعه القيء ولم يتعمده إلا في إحدى الروايتين عن الحسن". الحجامة للصائم عن ابن عباس وعكرمة: الصوم مما دخل وليس مما خرج. * قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفطر الحاجم والمحجوم" (1) . * وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم" (2) . * وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "احتجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صائم" (3) . * سُئل أنس بن مالك رضي الله عنه: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف" (4) . وزاد [على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] . وكان ابن عمر يحتجم وهو صائم، ثم تركه فكان يحتجم بالليل. وعن أم علقمة: كنا نحتجم عند عائشة فلا تنهى. * عن أبي سعيد الخدري قال: "رخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القبلة للصائم والحجامة" (5) .

_ (1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن ثوبان وهو متواتر (رواه 18 صحابي) . (2) رواه البخاري. وقال الحافظ ابن حجر (4/15) : "والحديث صحيح لا مرية". فلا يلتفت إلى قول ابن القيم أنه لا يصح. (3) رواه البخاري وأبو داود والترمذي وابن أبي شيية والطحاوي والبيهقي. (4) رواه البخاري. (5) صحيح: أخرجه الطبراني والدارقطني وصححه ابن حزم، والألباني في "إرواء الغليل" رقم (931 ج 4/74) ، وأخرجه أيضاً النسائي في "الكبرى" وابن خزيمة. وقال الدارقطني: إسناده كلهم ثقات.

مذاهب العلماء في حجامة الصائم:

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/155) : وقال ابن حزم: صح حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبي سعيد "رخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحجامة للصائم"، وإسناده صحيح فوجب الأخذ به، لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجماً أو محجوماً. قال الحافظ ابنُ حجر في "الفتح" (4/206) : "أما الحجامة فالجمهور على عدم الفطر بها مطلقاً، وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور يفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء، وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضاً، وقال بقول أحمد من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وأبو الوليد النيسابوري وابن حبان. ونقل الترمذي عن الزعفراني أن الشافعي علق القول على صحة الحديث، وبذلك قال الداودي من المالكية". مذاهب العلماء في حجامة الصائم: قال النوري في "المجموع" (6/389-393) : "مذهبنا أنه لا يفطر بها لا الحاجم ولا المحجوم، وبه قال ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وأم سلمة وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والشعبي والنخعي ومالك والثوري وأبو حنيفة وداود وغيرهم". قال صاحب الحاوي: وبه قال أكثر الصحابة وأكثر الفقهاء. * وقال جماعة من العلماء الحجامة تفطر، وهو قول علي بن أبي طالب وأبي هريرة وعائشة والحسن البصري وابن سيرين وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة والحاكم. * قال الخطابي: قال أحمد وإسحاق: يفطر الحاجم والمحجوم وعليهما القضاء دون الكفارة، وقال عطاء: يلزم المحتجم في رمضان القضاء والكفارة. واحتج هؤلاء بحديث ثوبان قال: سمعت رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أفطر الحاجم

والمحجوم". رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة وإسناد أبي داود على شرط مسلم. * وعن شدّاد بن أوس: أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رجل بالبقيع وهو يحتجم وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم". رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة. وعن رافع بن خديج عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أفطر الحاجم والمحجوم" رواه الترمذي وقال حديث حسن. وهذا الحديث صححه لفيف من العلماء، فحديث أبي موسى عند الحاكم قال عنه ابن المديني: صحيح، وحديث ثوبان قال عنه ابن حنبل: أصح ما روي في الباب. وعن علي بن المديني: لا أعلم فيها أصح من حديث رافع بن خديج. قالما الحاكم: فقد حكم أحمد لأحد الحديثين بالصحة، وعلي للآخر بالصحة، وحكم إسحاق بن راهويه لحديث شداد بن أوس بالصحة وقال: هذا إسناد تقوم به الحجة. قال إسحاق: وقد صح هذا الحديث بأسانيد وبه نقول. قال الحاكم: رضي الله عن إسحاق فقد حكم بالصحة لحديث صحته ظاهرة وقال به. وصحح الدارمي: حديث شداد وثوبان: قال: وبه أقول. قال: وسمعت أحمد بن حنبل يقول: صح عندي حديث ثوبان وشداد. واحتج الجمهور بحديث ابن عباس "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو محرم وأحتجم وهو صائم" رواه البخاري. * وحديث ابن أبي ليلى قال: "حدثني رجل من أصحاب النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحجامة والمواصلة، ولم ينه عنهما إلا إبقاء على أصحابه". رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم. واحتج به أبو داود والبيهقي وغيرهما في أن الحجامة لا تفطر. * وعن أنس قال: "أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أفطر هذان" ثم رخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد في الحجامة

للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم" رواه الدارقطني وقال: رواته كلهم ثقات، قال: ولا أعلم له علة. قال البيهقي: وروينا في الرخصة في ذلك عن سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وابن عباس والحسين بن علي وزيد بن أرقم وعائشة وأم سلمة - رضي الله عنهم -، واستدل الأصحاب بالقياس على الفصد والرعاف. وقد رد العلماء على حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" بأجوبة: (أحدها) ما ذكره الشافعي في "الأم" وتابعه عليه الخطابي والبيهقي أنه منسوخ بحديث ابن عباس وغيره. فحديث شداد بن أوس قال الشافعي: وابن عباس إنما صحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرماً في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة ولم يصحبه محرماً قبل ذلك، وكان الفتح سنة ثمان بلا شك، فحديث ابن عباس بعد حديث شداد بسنتين وزيادة، قال: فحديث ابن عباس ناسخ. قال البيهقي: ويدل على النسخ أيضاً قوله في حديث أنس "ثم رخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد في الحجامة" قال: وحديث أبي سعيد الخدري السابق أيضاً فيه لفظ الترخيص، وغالب ما يستعمل الترخيص بعد النهي. (الجواب الثاني) أجاب به الشافعي أيضاً أن حديث ابن عباس أصح، ويعضده أيضاً القياس فوجب تقديمه. * قال ابن خزيمة: ثبتت الأحاديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أفطر الحاجم والمحجوم" فقام بعض من خالفنا في هذه المسألة وقال: لا يفطر لحديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "احتجم وهو محرم صائماً" ولا حجة له في هذا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما احتجم وهو محرم صائم في السفر لأنه لم يكن قط محرماً مقيماً ببلده، والمسافر إذا نوى الصوم له الفطر بالأكل والشرب والحجامة وغيرها، فلا يلزم من حجامته أنها لا تفطر فاحتجم وصار مفطراً، وذلك جائز. هذا كلام ابن خزيمة حكاه الخطابي في "معالم السنن" ثم قال: وهذا تأويل باطل، لأنه قال: احتجم وهو صائم فأثبت له الصيام مع الحجامة، ولو بطل صومه بها لقال: أفطر بالحجامة كما يقال: أفطر الصائم بأكل الخبز، ولا يقال: أكله وهو

الجماع في نهار رمضان

صائم قلت: ولأن السابق إلى الفهم من قول ابن عباس "احتجم وهو صائم" الإخبار بأن الحجامة لا تبطل الصوم، ويؤيده باقي الأحاديث المذكورة والله أعلم" انتهى من "المجموع" (6/392-394) . الجماع في نهار رمضان قال تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يين الله آياته للناس لعلهم يتقون) [البقرة: 187] . * عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "بينما نحن جلوس عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت: قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: فمكث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبينا نحن على ذلك أُتِي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَق (1) فيها تمر - والعرق: المكتل - قال: أين السائل؟ فقال: أنا. قال: خذ هذا فتصدق به. فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحَرَّتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت أنيابه ثم قال: أطعمه أهلك" (2) . * عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إن رجلاً أتى النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال إنه احترق قال: مالك؟ قال: أصبت أهلي في رمضان. فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكتل يُدعى العرق، فقال: أين المحترق؟ قال: أنا. قال: تصدق بهذا" (3) . قال النووي (6/348-350) : "أجمعت الأمة على تحريم الجماع في القبل

_ (1) العرق: هو المكتل الضخم وهو الزبيل وسمي عرقا لأنه يضفر عرقه عرقة، والعرقة الضفيرة من الخوص. (2) رواه البخاري واللفظ له ومسلم وأحمد ومالك والنسائي والدارقطني وابن خزيمة وأبو عوانة والطحاوى والبزار. (3) رواه البخاري واللفظ له ورواه مسلم مطولاً.

والدبر على الصائم، وعلى أن الجماع يبطل صومه للآيات الكريمة وللأحاديث الصحيحة، ولأنه مناف للصوم فأبطله كالأكل، وسواء أنزل أم لا، فيبطل صومه في الحالين بالإجماع لعموم الآية والأحاديث ولحصول المنافي". وفيه مسائل: (1) من أفسد صوماً واجباً بجماع فعليه القضاء سواءً كان في رمضان أوغيره وهذا قول أكثر الفقهاء. قال العبدري: وبإيجاب قضائه قال جميع الفقهاء سوى الأوزاعي فقال: إن كفّر بالصوم لم يجب قضاؤه، وإن كفر بالعتق أو الإطعام قضاه. (2) أن الكفارة تلزم من جامع في الفرج عامداً أنزل أو لم ينزل في قول عامة أهل العلم، وحكي عن الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: لا كفارة عليه. (3) الجماع دون الفرج إذا اقترن به الإنزال: فقال أحمد في رواية عنه ومالك وعطاء والحسن وابن المبارك وإسحاق: عليه الكفارة. والثانية لا كفارة عليه: وهي رواية عن أحمد وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. (4) لا فرق بين كون الفرج قبلاً أو دبراً من ذكر أو أنثى، وبه قال أحمد والشافعي، وقال أبو حنيفة في أشهر الروايتين عنه: لا كفارة في الوطء في الدبر. (5) الوطء في فرج البهيمة - قبلها أو دبرها - موجب للكفارة في أصح الروايتين عند أحمد والشافعي. (6) ويفسد صوم المرأة بالجِماع. فهل تلزمها الكفارة؟ على قولين: تلزمها: وهو اختيار أبي بكر وقول مالك وأبي حنيفة وأبي ثور وابن المنذر وإحدى الروايتين عن أحمد والشافعي ورجحه في "الفتح" ابن حجر. * والقول الآخر: لا تلزمها، وهو قول للشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وهو قول الحسن. (7) إن تساحقت امرأتان فلم ينزلا، فلا شيء عليهما؛ وإن أنزلتا فسد صومهما

مذاهب العلماء فيمن كرر جماع زوجته في يوم من رمضان:

وأصح الوجهين عند الحنابلة: لا كفّارة عليهما، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. (8) وإذا جامع في أول النهار ثم مرض أو جن، أو كانت امرأة فحاضت أو نفست في أثناء النهار، لم تسقط الكفارة. وبه قال أحمد ومالك والليث وابن الماجشون وإسحاق، وقال أصحاب الرأي: لا كفارة عليهم، وللشافعي قولان. (9) ومن جامع يظن أن الفجر لم يطلع فتبين أنه كان قد طلع، فعليه عند أحمد القضاء والكفارة، وقال أصحاب الشافعي: لا كفارة عليه. (10) إذا استمنى بيده - وهو: استخراج المني - أفطر. (11) إذا نظر إلى امرأة وتلذذ فأنزل لم يفطر عند الشافعي وسفيان الثوري وأبو الشعثاء وأبو حنيفة وأبو يوسف وابن المنذر. * وعند الحسن: عليه القضاء والكفارة. وعن مالك روايتان: إحداهما: كالحسن. والثانية: إن تابع النظر فعليه القضاء والكفارة وإلا فالقضاء. (12) لو قبل امرأة وتلذذ فأمذى، قال مالك وأحمد: يفطر، وعند الشافعية: لا يفطر، وبه قال الحسن البصري والشعبي والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو ثور قال ابن المنذر: وبه أقول. (13) مذاهب العلماء فيمن كرر جماع زوجته في يوم من رمضان: * عليه كفارة واحدة بالجماع الأول، سواء كفر عن الأول أم لا، وهو قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة لأنه لم يصادف صوماً منعقداً بخلاف الجماع الأول. * وعن أحمد: إن كان الوطء الثاني قبل تكفيره عن الأول لزمه كفارة أخرى لأنه وطء محرم فأشبه الأول. (14) مذاهب العلماء فيمن وطء في يومين أو أيام من رمضان: * عند الشافعي ومالك وأحمد في أصح الروايتين عنده: يجب لكل يوم كفارة سواءً كفر عن الأول أم لا. * وعند أبي حنيفة: إن وطيء في الثاني قبل تكفيره عن الأول كفته كفارة واحدة،

وإن كفر عن الأول فعنه روايتان، قال: ولو جامع في رمضانيين ففي رواية عنه أنه كرمضان واحد، وفي رواية تتكرّر الكفارة. (15) فيمن رأى هلال رمضان وحده ولم يقبل القاضي شهادته: فلو صام وجامع في ذلك اليوم فعليه الكفارة وهو مذهب عامة العلماء. وقال عطاء والحسن وابن سيرين وأبو ثور وإسحاق بن راهويه: لا يلزمه الصوم. وقال أبو حنيفة: يلزمه الصوم، ولكن إن جامع فلا كفارة. ومن رأى هلال شوال وحده يلزمه الفطر وقال به أكثر العلماء. وقال مالك والليث وأحمد: لا يجوز له الأكل فيه. (16) إن كان الزوج مجنوناً فوطئها وهي صائمة مختارة فعلى قول من يقول على كل واحد كفارة وهو قول الجمهور لزمتها الكفارة في مالها، ولا يتحملها الزوج لأنه ليس أهلاً للتحمل، كما لا تلزمه عن فعل نفسه. * وإن قلنا تجب كفارة عنه وعنها فلا شيء عليه ولا عليها. (17) قال النووي: "لو كان الزوج مسافراً صائماً وهي حاضرة صائمة فإن أفطر بالجماع بنية الترخص فلا كفارة عليه عن نفسه بلا خلاف، وإن لم يقصد به الترخص فوجهان: أصحهما: لا كفارة عليه أيضاً، لأنه لا يلزمه الصوم فصار كقاصد الترخص. ولو قدم المسافر مفطراً فأخبرته أنها مفطرة وكانت صائمة فوطئها، فإن قلنا الكفارة عنه فقط فلا شيء عليه ولا عليها، وإن قلنا عنه وعنها وجبت الكفارة عليها في مالها لأنها غرته - هكذا قالوه -. (18) الوطء بزنا أو شبهة أو نكاح فاسد سواء في إفساد الصوم ووجوب القضاء والكفارة وإمساك بقية النهار. (19) إذا وطيء الصائم في نهار رمضان وقال: جهلت تحريمه، فإن كان ممن يخفى عليه لقرب إسلامه ونحوه فلا كفارة وإلّا وجبت.

مذاهب العلماء في المباشرة فيما دون الفرج - القبل والدبر -:

(20) مذاهب العلماء في المباشرة فيما دون الفرج - القُبل والدبُر -: * إن لم ينزل فلا شيء عليه. * وإن أنزل فعليه القضاء ولا كفارة عند الشافعي وأبي حنيفة وهو الراجح والأصح. * وقال داود: كل إنزال تجب به الكفارة حتى الاستمناء إلا إذا كرر النظر فأنزل فلا قضاء ولا كفارة. وقال مالك وأبو ثور والزهري والأوزاعي والثوري وإسحاق وعطاء والحسن وابن المبارك: عليه القضاء والكفارة. * وقال أحمد: يجب بالوطء فيما دون الفرج الكفارة. (21) قال ابن تيمية في "حقيقة الصيام" (ص 26-27) : "المجامع الناسي فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، ويذكر ثلاث روايات عنه: إحداها: لا قضاء عليه ولا كفارة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين. والثانية: عليه القضاء بلا كفارة، وهو قول مالك. والثالثة: عليه الأمران، وهو المشور عن أحمد. والأول أظهر، فإنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسُنة أن من فعل محظوراً مخطئاً أو ناسياً لم يؤاخذه الله بذلك، وحينئذ يكون بمنزلة من لم يفعله، فلا يكون عليه إثم ومن لا إثم عليه لم يكن عاصياً ولا مرتكب لما نهي عنه، وحينئذ فيكون قد فعل ما أمر به ولم يفعل ما نهي عنه، ومثل هذا لا يبطل عبادته". مسائل: (1) لو رأى الصائم في رمضان مشرفاً على الغرق ونحوه ولم يمكنه تخليصه إلا بالفطر ليتقوى فأفطر لذلك جاز، بل هو واجب عليه ويلزمه القضاء. (2) الإمساك تشبيهاً بالصائمين من خواص رمضان كالكفارة، فلا إمساك على متعدٍ بالفطر في نذر أو قضاء أو كفارة، كما لا كفارة عليه.

مذاهب العلماء فيمن أفطر بغير الجماع في نهار رمضان

(3) إذا نام جميع النهار وكان قد نوى من الليل صحّ صومه. (4) لو نوى من الليل ولم ينم النهار ولكن كان غافلاً عن الصوم في جميعه صح صومه بالإجماع. (5) لو نوى الصوم في الليل ثم شرب دواء فزال عقله نهاراً بسببه، قال البغوي: إن قلنا لا يصح صوم المغمى عليه فهذا أولى، وإلا فوجهان: أصحهما: لا يصح، لأنه بفعله. قال المتولي: ولو شرب المسكر ليلاً وبقي سكره جميع النهار لم يصح صومه وعليه القضاء في رمضان وإن صحا في بعضه. (6) مذاهب العلماء فيمن أفطر بغير الجماع في نهار رمضان عدواناً: * إذا قضى يوماً كفاه عن الصوم: وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء. * وحكى ابن المنذر وغيره عن ربيعة بن عبد الرحمن أنه يلزمه أن يصوم اثني عشر يوماً مكان كل يوم؛ لأن السنة اثنا عشر شهراً. * وقال سعيد بن المسيب: يلزمه صوم ثلاثين يوماً. * وقال النخعي: يلزمه صوم ثلاثة آلاف يوم - كذا حكاه ابن المنذر -. * وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود - رضي الله عنهما -: لا يقضيه صوم الدهر. * والمشهور عن مالك أنه يوجب الكفارة عن فطر لمعصية قاله النووي. الركن الثالث: النية وقت نيّة الصوم (*) تقديم النيّة في الصوم لم يختلف العلماء في جواز تقديم النية في الصوم كما اختلفوا في الوضوء والصلاة، والسبب في ذلك أمران:

_ (*) بحث النية بأكمله اكتفينا فيه بجمع الشيخ عمر الأشقر.

تأخير النية في الصوم

1- النصوص الصريحة الدالة على أنَّ محلَّ النية في الصوم هو الليل، وسيأتي بيانها. 2- أن اشتراط مقارنة النيّة لأول الصوم فيه مشقّة بالغة، وحرج شديد والله يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78] ، ووجه المشقة والحرج أنَّ أول الصوم يأتي في وقت غفلة من الناس، ولعسر مراقبة أول الصوم وهو الفجر (1) . تأخير النية في الصوم اختلف العلماء في جواز تأخير النية في بعض أنواع الصوم، وسأحاول تحقيق مذاهب العلماء في ذلك، والراجح منها. 1- القضاء والكفّارة: لا يجوز تأخير نيّة صوم الكفارة وقضاء رمضان، ولا يصحّ صومهما إلا بنيّة من الليل عند كافة العلماء. قال النووي: "ولا نعلم أحداً خاف في ذلك" (2) . 2- صوم رمضان: القائلون بجواز صومه بنيّة من النَّهار: ذهب الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - وأصحابه إلى أن صوم رمضان يتأدى بنية من بعد غروب الشمس إلى منتصف النَّهار" (3) . وخالف زفر (4) من الأحناف في المريض والمسافر إِذا صاما رمضان، قال: لابدَّ لهما

_ (1) راجع في هذا الموضوع "الإحكام في آيات الأحكام" لابن العربي (2/564، 4/1908) ، "الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 24) ، "إرشاد الساري" (1/54) ، "المحلى" لابن حزم (6/162) ، "الذخيرة" (1/243) . (2) "المجموع" (6/337) . (3) "فتح القدير" لابن الهمام (2/48) ، "تحفة الفقهاء" (1/534) ، "المغني" (3/91) ، "الإفصاح" (1/157) ، "حاشية ابن عابدين" (2/92) ، "بدائع الصنائع" (2/ 85) . (4) هو: زفر بن الهذيل من تميم، فقيه كبير من أصحاب أبي حنيفة، أصله من أصبهان، أقام بالبصرة، وولي قضاءها، وتوفي بها سنة 158 هـ، "شذرات الذهب" (1/243) ، "العبر" (1/299) .

من تبييت النيّة من الليل؛ لأنه في حقهما كالقضاء، لعدم تعينه عليهما، ولم يرتض الأحناف منه ذلك؛ لأن صوم رمضان متعينّ بنفسه على الكلّ، غير أنه جاز لهما تأخيره تخفيفاً للرخصة، فإذا صاما وتركا الترخيص التحقا بالمقيم الصحيح (1) . وقد استدل الأحناف بأدلّة كثيرة نجملها فيما يأتي: 1- احتجوا بحديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث رجلا ينادي في النّاس يوم عاشوراء: "أن من أكل فليتم، أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل" (2) . ولا يتم لهم الاستدلال بالحديث إلا على القول بأن صوم عاشوراء كان واجبا، وقد نازع في ذلك بعض مخالفيهم (3) . وإذا حققنا أن صوم عاشوراء كان واجبا فهل يتم للأحناف الاستدلال بالحديث على جواز صيام رمضان بنية من النهار؟ قال منازعوهم: لا؛ لأنَّ الحديث منسوخ، فلا يصحّ الاستدلال به. إلاَّ أن الأحناف قالوا: لا يلزم من كون الحديث منسوخا أن تنسخ كل الأحكام التي تتعلق به، فالحديث دل على شيئين: أحدهما: وجوب صوم عاشوراء، والثاني: أن الصوم الواجب في يوم بعينه يصحُّ بنية من نهار، والمنسوخ الأول: ولا يلزم من نسخه نسخ الثاني (4) . ومع ذلك فإنّني أرى أنَّ الحديث لا تقوم به حُجة، لأن المتنازع فيه في صوم الفرض المقدور هل يجوز أن ينويه من النهار بلا عذر أم الذي دل عليه الحديث؟ فهو صحة صوم من لم يعلم وجوب الصوم عليه من الليل، كالذي لم يبلغه أن اليوم أول رمضان إلا بعد أن أصبح، وقد احتج ابن حزم بالحديث على صحة صوم من لم يعلم وجوب الصوم إلا بعد طلوع الفجر كما سيأتي.

_ (1) "فتح القدير" (2/48) . (2) رواه البخاري "فتح الباري" (4/140) . (3) وهو الأقوى. (4) "حاشية السندي على النسائي" (4/193) .

وقد أجاب النووي بجواب آخر حيث يقول: "وعلى فرض وجوبه فكان في ابتداء فرض عليهم من حين بلغهم، ولم يخاطبوا بما قبله، كأهل قباء في استقبال الكعبة، فإن استقبالها بلغهم في أثناء الصلاة، فاستداروا وهم فيها من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة، وأجزأتهم صلاتهم حيث لم يبلغهم الحكم إلا حينئذ، وإن كان الحكم باستقبال القبلة قد سبق في حق غيرهم قبل هذا" (1) . 2- استدل صاحب الهداية من الأحناف بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما شهد الأعرابي برؤية الهلال: "إلا من أكل فلا يأكل بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم" (2) . وقد اختلط على المؤلف حديث الأعرابي هذا بحديث سلمة بن الأكوع (3) في صوم عاشوراء، إذ هذا اللفظ الذي ذكره صاحب الهداية لم يذكر في حديث الأعرابي، وحديث الأعرابي أخرجه أصحاب السنن وابن خزيمة (4) ، وابن حبان (5) ، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم، عن ابن عباس أن أعرابياً جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إني رأيت الهلال، فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال: نعم. قال: "أتشهد أنَّ محمداً رسول الله؟ " قال: نعم. قال: "فأذّن في الناس يا بلال أن يصوموا غداً" (6) . فرؤية الأعرابي وإخباره للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت ليلاً، والأمر بصومه كان في الليل، كما هو واضح من قوله: "أن يصوموا غداً"، وقد استغرب ابن الهمام ما ذكره صاحب الهداية (7) .

_ (1) "المجموع" (6/337) . (2) "الهداية" (2/43) . (3) سلمة بن عمرو بن سنان الأكوع صحابي، كان شجاعاً رامياً عداء يسبق الخيل، من الذين بايعوا تحت الشجرة، له في الصحيحين (77) حديثاً، توفي بالمدينة سنة 47 هـ. راجع: "تهذيب التهذيب" (4/150) ،"خلاصة تهذيب الكمال" (1/404) ، "الكاشف" (1/385) . (4) هو محمد بن إسحق بن خزيمة السلمي، إمام نيسابور في عصره، ولد وتوفي بنيسابور (223- 311 هـ) ، كان فقيهاً مجتهداً عالماً بالحديث، تزيد مؤلفاته على (140) مؤلفاً. (5) هو محمد بن حبان التميمي أبو حاتم البستي، مؤرخ محدث، من مؤلفاته "المسند الجامع الصحيح" المعروف بصحيح ابن حبان، وفاته في سنة (354 هـ) . را جع: "شذرات الذهب" (3/6) ، "طبقات الحفاظ" (ص 374) ، "الأعلام" (6/306) . (6) "تلخيص الحبير" (2/187) . (7) "فتح القدير" (2/43) .

3- واحتجوا بقرله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] . فقد أباح للمؤمنين الأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر، وأمر بالصيام عنها بعد طلوع الفجر: متأخراً عنه، لأنَّ كلمة "ثم" للتعقيب مع التراخي، فكان هذا أمراً بالصوم متراخياً عن أول النهار، والأمر بالصوم أمر بالنيّة، إذ لا صحة للصوم شرعا بدون النية، فكان أمراً بالصوم بنية متأخرة عن أوّل النهار، ومن أتى به فقد أتى بالمأمور به، فيخرج عن العهدة، وفيه دلالة على أنَّ الإمساك في أول النَّهار يقع صوماً وجدت فيه النية أو لم توجد؛ لأن إتمام الشيء يقتضي سابقية وجود بعض منه، ولأنه صام في وقت متعين شرعاً لصوم رمضان لوجود ركن الصوم مع شرائطه. هكذا احتجّ صاحب بدائع الصنائع بالآية الكريمة (1) . ونحن نخالفه في عدّة أمور: أولاً: نخالفه في أن "الأمر بالصوم أمر بالنيّة"، وتعليله لذلك بأنّه "لا صحة للصوم شرعاً بدون النية". ذلك أن وجوب النية في الصوم غير مأخوذ من مجرد الأمر بالصوم، بل من أدلّة أخرى منفصلة، كقوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة: 5] . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما الأعمال بالنيّات" (2) ، وبناء على ذلك فليس الأمر بالصوم أمرا بالنية. ثانياَ: إذا تقرّر الأمر السابق بطل مابناه عليه من أن الشارع أمر بالصوم بنية متأخرة عن أول النهار، ولو كان قوله هذا حقا لكان الأفضل أن نأتي بالنيّة بعد طلوع الفجر، وهذا لم يقل به أحد، حتى ولا الأحناف الذين يجيزون النية من النهار. ثالثا: أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينّ هذه الآية كما بين غيرها من الآيات بقوله: "لا صوم لمن لم يبيّت الصيام من الليل"، فوجب أن نأخذ ببيانه.

_ (1) "بدائع الصنائع" (2/86) . (2) صحيح.

رابعاً: ونخالفه في أن الإمساك في أول النهار يقع صوما وجدت فيه النية أم لم توجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّما الأعمال بالنيات"، وهذا لم ينو فكيف يقع صوما ولم توجد منه نيّة؟ ويلزم بناء على قوله: أنَّ من أصبح ناويا الإفطار في رمضان أن يكون صائماً إذا لم يأكل أو يشرب أو يجامع. وتعليله بأنه صام في وقت متعين شرعاً يلزم منه أن من صلى ركعتين في آخر وقت الصبح بحيث لم يبق من الوقت إلاَّ ما يكفي لصلاة الفرض، ولم ينو بهما فرض الوقت أن تجزيا عن صلاة الفريضة، لأن الوقت أصبح متعيناً لصلاة الصبح، ولا يصح منه غيرهما، وهم لا يقولون بذلك. 4- واحتجوا بالقياس: ولهم في القياس طريقان: الأول: قياس الفرض على النفل (1) ، فالنفل صح فيه أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينويه من النهار. وقال منازعوهم: هذا قياس لا يصحّ، لأننا عهدنا من الشارع أنه يخفف في النوافل ما لا يخفف في الفرائض. ففي الصلاة مثلاً سامح الشارع في ترك القيام في صلاة التطوع، وترك استقبال القبلة فيه في السفر تكثيراً له بخلاف الفرض (2) . ثم نقول لهم: صحَّ الحديث في أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحدث الصوم بنيّة من النَّهار في النوافل، وصحَّ أن أكثر من صحابي قال: "لا صيام لمن لم يبيت الصوم من الليل" أو نحو هذا، وهذا له حكم المرفوع، لأنه لا يقال بالرأي بل الذي نرجّحه صحته مرفوعاً إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله، كما سيأتي بيانه. فلمّا صح هذا وهذا كان الواجب ألا نضرب حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعضه ببعض، بل علينا أن نوفق بين الأحاديث، وهذا ما فعلناه عندما حملنا حديث إحداثة النية من النهار على صوم النفل، بل هو صريح في ذلك، وحملنا حديث "لا صوم لمن لم يييت الصيام من الليل" على صيام الفرض. الثاني: قياس النيّه المتأخرة على المتقدمة من أوّل الغروب والجامع بينهما "التيسير ودفع الحرج" (3) .

_ (1) "فتح القدير" (2/48) . (2) "المغني" لابن قدامة (3/92) . (3) "فتح القدير" (2/48) .

قالوا: "الأصل أن النيّه لا يصح اعتبارها إلا بالمقارنة، أو مقدمة مع عدم اعتراض ما ينافي المنوي بعدها قبل الشروع فيه، فإنه يقطع اعتبارها على ما قدمنا في شروط الصلاة" (1) . ولم يجب فيما نحن فيه، لا المقارنة وهو ظاهر، فإنه لو نوى بعد الغروب أجزأه، ولا عدم تخلل المنافي لجوازالصوم بنية يتخلل بينها وبينه الأكل والشرب والجماع مع انتفاء حضورها بعد ذلك إلى انقضاء يوم الصوم (2) . ثم أخذ يبين الحرج الذي سينشأ من عدم إجازة النية من النهار: "فكثير من النّاس يقع في الحرج لو لم تجز من النهار، كالذي نسيها ليلاً، وفي حائض طهرت قبل الفجر ولم تعلم إلا بعده، وهو كثير جداً، فإن عادتهن وضع الكرسف عشاء، ثم النوم، ثم رفعه بعد الفجر، وكثير ممن تفعلن ذلك تصبح فترى الطهر، وهو محكوم بثبوته قبل الفجر، ولذا نلزمها بصلاة العشاء، وفي صبي بلغ بعده، ومسافر أقام، وكافر أسلم" (3) . ثم قال: "فيجب القول بصحتها نهاراً، وتوهم أنَّ مقتضاه قصر الجواز على هؤلاء، أن هؤلاء لا يكثرون كثرة غيرهم بعيد عن النظر ... " (4) . فهو بذلك يثبت أن "المعنى الذي لأجله صحت النية المتقدمة لذلك التيسير ودفع الحرج موجود في النية المتأخرة ... " (5) . والإجابة على ذلك أن القول بهذا يلزمهم القول بإجازة الصوم بنيّة من النهار قبل الزوال وبعده، لا كما يقولون بأن النية بعد الزوال لا تصح، وذلك لأنَّ الحرج قد يوجد بعد الزوال، فقد يبلغ الصبي، ويسلم الكافر، ويفيق المجنون، ويصحو المغمى عليه، وهم لا يقولون بذلك. ثمّ إنَّ إجازة صوم هؤلاء من النهار بلا نية على القول به كما هو مذهب ابن حزم

_ (1) المصدر السابق. (2) المصدر السابق. (3) "فتح القدير" (2/48) ، بتصرف يسير. (4) المصدر السابق. (5) المصدر السابق.

أدلة الفريق الموجب للنية من الليل في صوم رمضان "الجمهور"

خاص بهم للضرورة (1) ، وقد احتج لمذهبه هذا بحديث صيام عاشوراء حيث أمر من أكل بالإمساك، ومن لم يأكل بالصيام، أما الذين كانوا قادرين على النية من الليل فلم يفعلوا فلا حرج في إيجاب النية عليهم من الليل لإباحة النية في الليل بطوله، وقد تابع ابن حزم في مذهبه الشوكاني من المتأخرين (2) . إلا أن كثيراً من الفقهاء نازع في إيجاب النية على الكافر يسلم في نهار يوم الصيام، والصبي يبلغ أثناءه، لكونهما غير مُكَلفَينِ من أوله، فهم يرون أن الصيام عليهما غير واجب، والحائض لها أن تنوي من الليل إذا علمت أنَّ عادتها الطهر قبيل الفجر. الفريق الموجب للنية من الليل في صوم رمضان: وذهب مالك وأحمد وإسحق (3) والشافعي وداود وجماهير العلماء من السلف والخلف إلى أنه لا يصح صوم رمضان إلا بنية من الليل (4) . أدلتهم: أولاً: احتجوا بما رواه النسائي (5) من طريق أحمد بن أزهر عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب عن سالم عن عبد الله بن عمر (6) عن حفصة (7) ، قالت:

_ (1) "المحلى" (6/164-166) . (2) "نيل الأوطار" (4/208) . (3) هو إسحق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التيمي المعروف بإسحق بن راهويه، عالم خراسان في عصره، وهو أحد كبار الحفاظ، أخذ عنه الأمام أحمد، والبخاري ومسلم والنسائي وغيرهم، ولد في سنة (161 هـ) وتوفي سنة (238 هـ) . راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (1/69) ، "طبقات الحفاظ" (ص 188) ، "تهذيب التهذيب" (1/216) . (4) "المجموع" للنووي (6/337) ، وراجع "المغني" لابن قدامة (3/91) . (5) هو أحمد بن شعيب، أصله من (نسا) بخراسان، استوطن مصر، وهو صاحب كتاب السنن الصغرى، أحد الكتب الستة المعتمدة في الحديث، ولادته في سنة (215 هـ) ، ووفاته في القدس أو مكة سنة (303 هـ) . راجع: "تذكرة الحفاظ" (4/699) ، "خلاصة تهذيب الكمال" (1/17) ، "طبقات الحفاظ" (ص 303) . (6) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، أسلم مع أبيه وهاجر، راوية مكثر من الحديث عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اشتهر بالحرص الشديد على اتباع السُنة، والاجتهاد في العبادة، ولد قبل الهجرة بعشر سنوات وتوفي سنة (84 هـ) . راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (2/81) ، "الكاشف" (2/112) ، "طبقات الحفاظ" (ص 9) . (7) هي أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب، لها في البخاري ومسلم (60) حديثاً، ولدت قبل الهجرة =

قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يبيّت الصيام من الليل فلا صيام له" (1) . وقد اعترض الأحناف على الحديث باعتراضات عدة: 1- أن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة (2) ، وهذا الذي ذكروه من ضعف الحديث قاله جماعة من الحفاظ، فضعفوا رفعه إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورجحوا أن الحديث موقوف. قال البخاري: هو خطأ، وهو حديث فيه اضطراب، والصحيح عن ابن عمر موقوف. وقال الترمذي: الموقوف أصح. وقال النسائي: الصواب عندي أنّه موقوف ولم يصح رفعه. وجوابنا على ذلك من وجهين: أ- أن جماعة من الحفاظ حكموا بصحته مرفوعاً، منهم ابن خزيمة وابن حبان، وقال الحاكم (3) في "الأربعين": صحيح على شرط الشيخين، وقال في "المستدرك": صحيح على شرط البخاري. وقال البيهقي رواته ثقات إلا أنه روي موقوفاً (4) . والسبب الذي من أجله ضعفه من ضعّفه لا يعتبر سبباً قوياً لتضعيف الحديث، فكونه روي موقوفاً، وروي مرفوعاً، ليس سبباً موجباً لتضعيفه، خاصة وأن الذي رفعه

_ = بـ (18) سنة، وتوفيت سنة (45 هـ) . راجع: "تهذيب التهذيب" (12/410) ، "خلاصة تهذيب الكمال" (3/378) ، "الكاشف" (3/468) . (1) "سنن النسائي" (4/196) . (2) "فتح القدير" لابن الهمام (2/46) . (3) هو محمد بن عبد الله بن حمدويه الضبي النيسابوري من أكابر حفاظ الحديث، أخذ عن نحو ألفي شيخ، صنف كتباً كثيرة منها: "تاريخ نيسابور"، "المستدرك على الصحيحين"، وتوفي سنة (405 هـ) . راجع: "تذكرة الحفاظ" (3/1039) ، "شذرات الذهب" (3/176) ، "طبقات الحفاظ" (ص 409) . (4) انظر تحقيق ابن حجر للحديث في "تلخيص الحبير" (2/188) ، فمنه نقلنا، والحديث رواه غير النسائي: أبو داود والترمذى وابن ماجه، أقول: وقد وهم ابن رشد إذ عزاه في "بداية المجتهد" (1/301) إلى البخاري.

ثقة ثبت، بل إن روايته مرفوعاً وموقوفاً تعتبر سبباً موجباً لقوة الحديث. يقول ابن حزم - بعد أن ساق رواية النسائي -: "وهذا إسناد صحيح، ولا يضر إسناد ابن جريج له، وإن وقفه معمر (1) ، ومالك، وعبيد الله، ويونس، وابن عيينة (2) ، فابن جريج (3) لا يتأخر عن أحد من هؤلاء في الثقة والحفظ". ثم قال: "والزهري (4) واسع الدراية، فمرة يرويه عن سالم عن أبيه، ومرة عن حمزة عن أبيه، وكلاهما ثقة. وابن عمر كذلك مرة رواه مسنداً، ومرة روى أن حفصة أفتت به، ومرة أفتى به هو". ثم يقول: "وكل هذا قوة للخبر" (5) . وقال الخطابي: "أسنده عبد الله بن أبي بكر (6) ، والزيادة من الثقة مقبولة" (7) . ب- وعلى التسليم لهم بضعف الحديث: فإنه قد رُوي موقوفاً عن ثلاثة من الصحابة بأسانيد صحيحة، والصحابة الذين يروى موقوفاً عليهم هم: ابن عمر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وعائشة بنت أبي بكر - رضي الله عنهم - جميعاً (8) .

_ (1) هو معمر بن راشد بن أبي عمرو الأزدي، فقيه حافظ للحديث، ولد في البصرة (95 هـ) ، وسكن اليمن، وتوفي بها (153 هـ) . راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (3/47) ، "طبقات الحفاظ" (ص 82) ، "الكاشف" (3/164) . (2) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران: ميمون الهلالي أبو محمد الكوفي الأعور، أحد أئمة الإسلام، قال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز، توفي بمكة سنة (198 هـ) . راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (1/397) ، "طبقات الحفاظ" (ص 113) ، "الكاشف" (1/379) . (3) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، فقيه الحرم المكي، وإمام أهل الحجاز في عصره، رومى الأصل، ولد وتوفي بمكة سنة (80-150 هـ) . راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (2/178) ، "الكاشف" (2/210) ، "طبقات الحفاظ" (ص 74) . (4) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، من بني زهرة بن كلاب من قريش، أول من دون الحديث، وأحد كبار الحفاظ الفقهاء، تابعي من أهل المدينة، عاش ما بين (58-124 هـ) . راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (2/457) ، "الكاشف" (3/96) ، "طبقات الحفاظ" (ص 42) . (5) "المحلى" (6/162) . (6) هو عبد الله بن أبي بكر الصديق صحابي من العقلاء الشجعان السابقين الى الإسلام، كان له دور هام في هجرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، توفي سنة (11هـ) . راجع: "الأعلام" (4/234) . (7) "تلخيص الحبير" (2/188) . (8) راجع سنن النسائي، و"المحلى" (6/161) ، و"تلخيص الحبير" (2/188) .

وهؤلاء لا يعرف لهم مخالف من الصحابة أصلاً، والأحناف يستعظمون مخالفة الصحابي الذي لم يعرف له مخالف. فإن قالوا: حديث عاشوراء يدل على جواز الصوم بنية من النهار، وهو أصح من هذا الحديث كما قاله أبن الهمّام (1) ، فالجواب أن حديثَ عاشوراء لا يدل على مدعاهم كما سبق بيانه. 2- أنَّه من الآحاد، فلا يصلح ناسخاً للكتاب (2) . وكون الزيادة على النص القرآني تعتبر نسخاً لا يسلم لهم، كما بحثناه من قبل. 3- أنهم حملوه على صوم القضاء والنذر: وهذا تأويل بعيد كما يقول الآمدي: وإنما كان هذا التأويل بعيداً، لأن الصوم في الحديث نكرة، وقد دخل عليه حرف النفي، فكان ظاهره العموم في كل صوم، ثم المتبادر إلى الفهم من لفظ الصوم إنما هو الصوم الأصلي المتخاطب به في اللغات: وهو الفرض والتطوع، دون ما وجوبه بعارض، ووقوعه نادر، وهو القضاء والنذر. وقد أصابَ الآمدي في رده عليهم عندما يينّ أنّ ترك ما هو قوي في العموم، وإخراج الأصل الغالب من النص، وإرادة العارض البعيد النادر إلغاز في القول. وقرّب هذا بمثال ضربه، فالسيد إذا قال لعبده: من دخل داري من أقاربي فأكرمه، ثم قال: إنّما أردت قرابة السبب دون قرابة النسب، أو ذوات الأرحام البعيدة، دون العصبات القريية، كان قوله منكراً مستبعداً (3) . 4- وقالوا ليس معناه كما ذكرتم، بل إنَّ المراد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام"، أي لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل بأن نوى الصيام من وقت النيّة (4) . وهذا تأويل غريب للحديث، يبطله أدنى تأمل في نص الحديث، فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

_ (1) "فيض القدير" (2/47) . (2) "بدائع الصنائع" (2/86) . (3) "الإحكام في أصول الأحكام للآمدي" (3/83) . (4) "الهداية" (2/46) ، و"العنايهّ" (2/46) .

"لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" نصّ في أنّ مراد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الليل، لقوله: "يبيت"، والتبييت فعل الأمر في البيات وهو الليل. ومما يوضح هذا الأمر رواية ابن عمر الموقوفة عليه "لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر"، وقالت عائشة مثل ذلك. وقالت حفصة: "لا صيام لمن لم يجمع قبل الفجر". فنص الحديث المرفوع، والأحاديث الموقوفة صريحة في إيجاب إيقاع النيَّة في الليل، وهذا التأويل الذي ذكروه لا وجه له، بل هو تمحل من قائله لنصرة المذهب، وهذا لا يجوز لهم. 5- قالوا أيضاً: الحديث محمول على نفي الفضيلة أو الكمال: كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (1) . وجوابنا أنَّ هذا الحديث ضعيف (2) ، ولو ثبت لما صحت صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، ونظيره الصحيح قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (3) ، فنفي الشيء كالصلاة والصوم لعدم وجود شيء يدل على وجوبه لا استحبابه. ثانياً: احتجّ الموجبون للنيّه في الليل على أبي حنيفة وأصحاب بالقياس، فقاسوا صوم رمضان على القضاء والكفارة، بجامع الفرضية والوجوب في كل، وفرّق الأحناف بين صوم الكفارة والقضاء وصوم رمضان بأن الوقت في رمضان متعينّ لصومه، أما في القضاء والكفارة فالوقت غير متعين لهما شرعاً؛ لأن خارج رمضان متعين للنفل، فلا يكون لغيره إلا بتعيينه، فإذا لم ينو من الليل صوماً آخر بقي الوقت متعيناً للتطوع فلا يملك تغييره (4) . فمناط التفرقة عندهم بين صوم القضاء والكفارة وصوم رمضان هو أن الوقت غير

_ (1) "بدائع الصنائع" (2/86) ، "الهداية" (2/46) . (2) قال الحافظ السخاوي في حديث "لا صلاة لجار المسجد": رواه الدارقطني والحاكم والطبراني فيما أملاه، ومن طريقه الديلمي..، وابن حبان في "الضعفاء"، وأسانيدها ضعيفة، وليس له - كما قال شيخنا - إسناد ثابت، وقد قال ابن حزم: هذا حديث ضعيف "المقاصد الحسنة" (ص 467) . (3) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (رواه أحمد والبخاري في جزء القراءة، وصححه أبو داود والترمذي والدارقطني وابن حبان والحاكم) ، ولفظه عندهم: (فإنه لا صلاة لمن لم يقرأها) "تلخيص الحبير" (1/231) . (4) "بدائع الصنائع" (2/86) .

النية لكل يوم

متعينّ للأولين، ولكنّه متعين لصوم رمضان. وجوابنا أن وقت الصلاة قد يتضيق على المصلّي بألا يبقى إلا ما يكفي لصلاة الفرض، فهل تصح صلاته فرضاً إذا نوى أن يصليها نفلاً. الأحناف هنا لا يخالفون غيرهم في أنَّ الصلاة لا تصحُّ فرضاً، على الرغم من أنَّ الوقت لا يتسع لغير الفريضة، ولا فرق بين هذه الحالة وصوم رمضان. النية لكل يوم مذهب مالك وإسحق ورواية عن أحمد أنه يجزيء الصائم نيّة واحدة لجميع الشهر في أوله (1) . واستدوا على ذلك بأدلة منها: أولاً: أنَّ صوم الشهر عبادة واحدة. ثانياً: أنَّ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "ولكل امريء ما نوى"، وهذا نوى صيام الشهر فله ما نوى. ثالثاً: قاسوا الصوم على الحج، فالحج: طوافه، وسعيه، والوقوف بعرفة ... إلخ، يجزيء بنيّة واحدة. وذهب الإمام الشافعي وأبو حنيفة ورواية عن أحمد إلى القول بوجوب نيّة مستقلّة لكلّ يوم (2) . وهذا هو المذهب الراجح؛ لأنَّ صوم كلّ يوم عبادة مستقلة، يدلّ على ذلك أنَّ فساد بعض أيام الشهر لا يفسد بعضها الآخر. ولأنه يتخلل صوم أيام الشهر ما ينافيها؛ إذ يباح في الليل الطعام والشراب والنكاح. وقد وهم من قاس أيام رمضان على أعمال الحج باعتبار التعدّد للأفعال، لأن الحج عمل واحد، ولا يتم إلا بفعل ما اعتبره الشارع من المناسك، والإخلال بواحد من أركانه يستلزم عدم إجزائه.

_ (1) "المغني" لابن قدامة (3/97) ، "العيني على البخاري" (1/33) ، "الإفصاح" (1/157) . (2) المصادر السابقة.

حكم من ظهر له وجوب الصيام نهارا

حكم من ظهر له وجوب الصيام نهاراً مالحكم فيمن ظهر له وجوب الصيام عليه من النهار، كالمجنون يفيق، والصبي يحتلم، والكافر يسلم، وكمن انكشف له من النهار أن ذلك اليوم من رمضان؟ أما على مذهب أبي حنيفة وأصحابه فالحكم واضح؛ إذ يعتبرون صوم من نوى قبل منتصف النهار صحيحاً. وعلى مذهب القائلين بوجوب تبييت النية من الليل لا يصحّ صومُهم، ولا خلاف في ذلك عند الشافعية (1) . وقد نصّ الشافعي - رحمه الله - على أن من أصبح لا يرى أن يومه من رمضان، ولم يطعم، ثم استبان ذلك له، فعليه صيامه وإعادته (2) . وابنُ حزم يصحّح صوم الناسي، والنائم، والجاهل، بنيّة من النهار، بل يرى أنَّ هؤلاء إن أكلوا وشربوا وحصل منهم الجماع، ثم ظهر لهم أن يومهم من رمضان وجب عليهم الإمساك وأجزأ عنهم، وقد احتجَّ على ما ذهب إليه بأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر من أكل في نهار عاشوراء بالكف والإمساك، ولم يثبت أنه أمرهم بالقضاء (3) . وابن حجر لم يرتض ذلك الاحتجاج: "لأنَّ الأمر بالإمساك لا يستلزم الإجزاء، فيحتمل أن يكون أمراً بالإمساك لحرمة الوقت، كما يؤمر من قدم من سفر في رمضان نهاراً، وكما يؤمر من أفطر يوم الشك، ثم رأى الهلال. وكل ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء". وقد بينّ ابن حجر أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالقضاء صريحاً في حديث أخرجه أبو داود والنسائي، وفيه أنَّ أسلم أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "صمتم يومكم هذا؟ " قالوا: لا، قال: "فأتموا بقية يومكم واقضوه". ثم بينّ أنه على تقدير عدم ثبوت هذا الحديث في الأمر بالقضاء فلا يتعينّ ترك

_ (1) "المجموع" (6/34) . (2) "مختصر المزني" (2/6) . (3) "المحلى" (6/164) .

الليل كلة وقت للنية

القضاء، لأنَّ من لم يدرك اليوم بكماله لا يلزمه القضاء، كمن بلغ أو أسلم أثناء النَّهار" (1) . الليل كلة وقت للنية لا تصحّ النيةُ قبل بداية الليل، فلو نوى قبل دخول الليل بلحظة لم يصح (2) ، وفي مذهب الحنابلة (3) إن نوى من النهار صوم الغد لم تجزئه تلك النيّة إلا أن يستصحبها إلى جزء من الليل. وقد روى سعيد بن منصور عن أحمد: من نوى الصوم عن قضاء رمضان بالنهار، ولم ينو من الليل فلا بأس، إلا أن يكون فسخ النيّة بعد ذلك، فظاهر هذا حصول الإجزاء بنيّة من النَّهار، إلا أن القاضي قال: هذا محمول على من استصحب النيّة إلى جزء من الليل، وهذا صحيح ظاهر، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صيام لمن لم يبيت من الليل". وكما لا تصح النيّة قبل الغروب لا تصح بعد انقضاء الليل ولو بلحظة، خلافاً لأبي حنيفة كما سبق، وهل تصح مع الفجر؟ قال النووي: الصحيح لا تصحّ، لأن أول وقت الصوم يخفى، فوجب تقديم النيّة عليه، بخلاف سائر العبادات (4) . والليل كلّه محلّ للنيّة، وقد خطأ علماء الشافعية وغيرهم أبا الطيب بن أسامة من الشافعية فيما ذهب إليه من أن النيّة لا تصح إلا بعد منتصف الليل، قال النووي: "واتفق أصحابُنا على تغليطه" (5) . وقد قاس أبو الطيّب الصوم على أذان الصبح والدفع من مزدلفة. قال النووي: وهو قياس عجيب، وأي علّة تجمعهما؟ ولو جمعتهما علّة فالفرق ظاهر، لأنَّ اختصاص الأذان والدفع بالنصف الثاني لا حرج فيه، بخلاف النيّة، فقد يستغرق كثير من الناس النصف الثاني بالنوم، فيؤدي إلى تفويت الصوم، وفي هذا حرج شديد لا أصل له (6) .

_ (1) "فتح الباري" (4/142) . (2) "المجموع" (6/332) . (3) "المغني" لابن قدامة (3/93) . (4) "المجموع" (6/332) . (5) "المجموع" (6/332) . (6) المصدر السابق.

ومما يدلّ على خطئه أنَّ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صيام لمن لم يبيت الصوم من الليل" ليس فيه هذا التحديد الذي حدّه، بل يفهم منه أنَّ من نوى في أي جزء من الليل صحَّ صومه. ومما يدل على بطلان قياسه أن الأذان والدفع من مزدلفة "يجوزان بعد الفجر بخلاف نية الصوم، ولأنَّ اختصاصهما بالنصف الأخير بمعنى تجويزهما فيه، واشتراط النيّة بمعنى الإيجاب والحتم وفوات الصوم بفواتها، وهذا فيه مشقة ومضرة بخلاف التجويز، ولأن منعهما في النصف الأول لا يفضي إلى اختصاصهما بالنصف الأخير لجوازهما بعد الفجر، والنية بخلافه". 3- صوم النذر: يجب تبييت النية من الليل في صوم النذر عند جماهير العلماء؛ لأنَّ النذر كالواجب، وبذلك قطع جمهور فقهاء الشافعية، وقد حكى بعضهم فيه وجهين بناء على أنّه يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع، أو جائزه ومندوبه إن قلنا كواجب لم يصح بنيّة من النهار وإلا فيصح كالنفل. وجمهور فقهاء الشافعية لم يجروا الخلاف في هذه المسألة في الصوم المنذور كما أجروها في بقية المسائل، وذلك لأنّ الحديث هنا عام في اشتراط تبييت النية للصوم، خص منه النفل بدليل، وبقي النذر على عمومه (1) . ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أن النذر المعينّ يجوز بنيّة من النهار، لأنه كصوم رمضان، لأنَّ الوقت متعين لصومه كما سبق. أمّا النذرالمطلق فلابدَّ له من نية من الليل، وذلك لأنَّ الوقت غير متعين لصيامه (2) ، وقد سبق أن بيّنا أنَّ هذا الذي اعتمدوه في التفرقة هنا، وفي غير هذا الموضع، لا يصح أن يكون مفرقاً. 4- صوم النفل: الإمام مالك - رحمه الله تعالى - لا يجيز صوم النفل إلا بنيّة من الليل كالفرض،

_ (1) "المجموع" (6/332) . (2) "بدائع الصنائع" (2/85) ، "تحفة الفقهاء" (1/534) .

وقال بهذا القول غير مالك عبد الله بن عمر، وزفر من الأحناف، وداود الظاهري، وتابعه ابن حزم، وبه قال المزني (1) من الشافعية، ونقل ابن المنذر عن مالك أنه استثنى من يسرد الصوم، فصحح نيته من النهار (2) ، وحجة هؤلاء قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لاصيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل". وذهب جماهير العلماء إلى أنَّ صوم النفل يصحُّ بنيّة من النهار، وبذلك قال علي ابن أبي طالب (3) ، وابن مسعود وحذيفة بن اليمان، وطلحة، وابن عباس، وأبو حنيفة، وأحمد، والشافعي، وسعيد بن المسيّب (4) ، وسعيد بن جبير، والنخعي، وآخرون (5) . وقال ابن حزم: "قال بهذا جمهور السلف" (6) . واحتجّ هؤلاء بحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم، فقال: "هل عندكم شيء؟ " قلنا: لا. قال: "فإني إذن صائمٌ" (7) ، وفي رواية قال: "إذن أصوم" (8) . وروى البيهقي والشافعي بالإسناد الصحيح عن حذيفة أنّه بدا له الصوم بعد ما زالت الشمس (9) .

_ (1) هو إسماعيل بن يحيى المزني صاحب الإمام الشافعي من أهل مصر، كان زاهداً عالما قوي الحُجة، من كتبه "الجامع الكبير"، و"الجامع الصغير"، نسبته إلى مزينة من مضر. وُلد سنة (175هـ) ، وتوفي سنة (264هـ) . راجع: "وفيات الأعيان" (1/217) ، "الأعلام" (1/327) . (2) "المجموع" (6/339) . (3) هو علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وزوج ابنته فاطمة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومن أكابر الخطباء والعلماء بالقضاء، توفي شهيداً سنة (40هـ) . راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (2/250) ، "الكاشف" (2/287) ، "طبقات الحفاظ" (ص 4) . (4) هو سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي القرشي، من كبار التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ولد سنة (13هـ) ، وتوفي سنة (94هـ) . راجع: "خلاصة تهذيب الكمال" (1/390) ، "طبقات الحفاظ" (ص 17) ، "الكاشف" (1/372) . (5) "المجموع" (6/339) ، وانظر "المُغني" (3/196) ، و"المحلى" (6/172) . (6) "المحلى" (6/172-173) . (7) رواه مسلم "مشكاة المصابيح" (1/643) . (8) رواه البيهقي. (9) "المجموع" (6/339) .

قالوا: حديث تبييت النية عام، فنخصه بما ذكرناه جمعاً بين الأحاديث. ومع أنَّ ابن حزم روى حديث عائشة السابق، وروى عن عشرة من الصحابة أنَّهم كانوا يعزمون على صوم النفل في النَّهار إلا أنه لم يقل بجواز صيام النفل بنيّة من النهار. قال: "لأنّه ليس في الحديث أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن نوى الصيام من الليل، ولا أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصبح مفطراً، ثم نوى الصوم بعد ذلك، ولو كان هذا في ذلك الخبر لقلنا به، لكن فيه أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح متطوعاً صائما ثم يفطر، وهذا مباح عندنا....، فلما لم يكن في الخبر ما ذكرنا، وكان قد صح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا صيام لمن لم يبيته من الليل" لم يجز أن نترك هذا اليقين لظنٍ كاذب، ولو أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصبح مفطراً ثمَّ نوى الصوم نهارا لبيّنه" (1) . وتابع الصنعاني من المتأخرين ابنَ حزم فيما ذهب إليه، فبعد أن ساق حديث عائشة الذي احتجّ به الجمهور قال: "فالجواب عنه أنه أعمّ من أن يكون بيَّت الصوم أو لا، فيحمل على التبييت، لأنّ المحتمل يردّ إلى العامّ ونحوه" (2) . ثم قال: "والأصل عموم حديث التبييت، وعدم الفرق بين الفرض والنفل والقضاء والنذر، ولم يقم ما يرفع هذين الأصلين فتعينّ البقاء عليهما" (3) . والجواب على ما ذكراه: أولاً: أنّ ابن حزم تناقض هنا تناقضا بينا، فهو يرى أنَّ من نوى في حال صيامه أنّه تارك للصوم عامداً بذلك ذاكراً لصومه، إلاّ أنَّه لم يأكل، ولم يشرب، ولا وطيء، ولا فعل فعلا ينقض الصوم، فإنَّ صومه قد بطل وأنّه أفطر (4) . ووجه التناقض أنّه يرى أنَّ من نوى قطع الصوم وتركه فإنَّ صومه يبطل، والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما دخل على عائشة طلب طعاما ليأكله، فلما لم يجد شيئاً قال: إنِّي صائم، فإذا كان نوى الصوم من الليل، وكان الصوم لا يجزيء بنيّة إلا من الليل، فعلى

_ (1) "المحلى" (6/172-173) . (2) "سبل السلام" (2/154) . (3) المصدر السابق. (4) "إحكام الأحكام" (المجلد الثاني 711) .

المدى الذي يصح أن يحدث فيه النية من النهار:

قول ابن حزم يعتبر صيام الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باطلا. ولما لم يكن باطلا حتما، فيلزمه أحد أمرين: الأول: القول بأنّ من عزم على قطع نيّة الصوم أو تركه لا يبطل صومه بذلك. والثاني: أن يجيز الصوم بنية من النهار. ثانياً: ورد في رواية البيهقي "إذن أصوم"، كما ورد عن الصحابة الذين روى ابن حزم أقوالهم ما يدلّ على أنهم كانوا يحدثون النيّة من النّهار، فعائشة تقول: "إنّي لأصبح يوم طهري، وأنا أريد الصوم، فأستبين طهري فيما بيني وبين نصف النهار، فأغتسل، وأصوم". وروي عن عُبيد الله بن عمر أنّ أبا هريرة كان يصبح مفطراً، فيقول: هل من طعام؟ فيجده أو لا يجده، فيتم ذلك اليوم. وسأل رجل علي بن أبي طالب، فقال: أصبحت ولا أريد الصوم؟ فقال له علي: أنت بالخيار بينك وبين نصف النهار، فليس لك أن تفطر، وكذلك قال أكثر من صحابي (1) . والصحابة أعلم بالتنزيل وبمراد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منّا، خاصّة ورواية البيهقي تكاد تكون صريحة في أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدث النيّة من النهار. المدى الذي يصحّ أن يحدث فيه النيّة من النَّهار: ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن المتنفل يجوز له أن يحدث الصوم بنيّة من النهار، إلا أنهم حدّوا منتصف النهار كحدّ أقصى، فلا يجوز عندهم أن ينوي الصوم بعد منتصف النهار (2) ، قالوا: "لأنَّ الصوم هو الإمساك عن الغداء، وتأخير العشاء إلى اللّيل، وبعد الزوال لا يجوز؛ لأنه لم يوجد الإمساك عن الغداء لله تعالى" (3) . وذهب الشافعي في القديم إلى القول بقولهم، وذهب في الجديد إلى صحة صوم من نوى بعد الزوال، وهو قول معظم أصحاب الشافعي، وقال الأصحاب بناء على ذلك:

_ (1) انظر "المحلى" (6/172) . (2) "حاشية ابن عابدين" (2/92) ، "بدائع الصنائع" (2/85) . (3) "تحفة الفقهاء" (1/534) .

شروط من أجاز صوم النفل بنية من النهار:

"يصحّ في أيّ لحظة، لكن يشترط ألا يتصل غروب الشمس بالنيّة، بل يبقى بينهما زمن ولو أدنى لحظة" (1) . وهذا مذهب الحنابلة أيضاً أنه: "يصح صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال وبعده، هذا هو المذهب، نصّ عليه، وعليه أكثر الأصحاب" (2) . وهذا القول هو الراجح؛ لأنَّ النصوص الدالة على جواز الصوم بالنيّة من النّهار لم تُفرّق بين إحداث النية قبل الزوال وبعده. شروط من أجاز صوم النفل بنيّةٍ من النهار: يشترط الذين يقولون بصحة صيام من أحدث النية من النهار ألا يأتي بمناف قبل أن ينوي من أكل أو شرب أو جماع. وذهب أبو العباس بن سريج (3) ، ومحمد بن جرير الطبري إلى أن من شرب أو أكل أو جامع من النهار، ثم نوى بعد ذلك الصوم تطوعاً صحّ صومه (4) . قال النووي: "وهذا خلاف قول جماهير العلماء" (5) . ويدلّ على بطلان هذا القول أن القرآن اشترط الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى الليل، فهذا الذي تناول المفطرات عمداً في النهار لا يصحّ الصوم منه، لأنه أكل بعد الفجر، فالشارع أباح تأخير النيّة، ولم يبح ابتداء الصوم لمن تناول مفطراً من النهار. المقدار الذي يثاب عليه الناوي من النهار: قال الشافعي يثاب من حين نوى (6) ، ويمكن أن يحتجّ له بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما الأعمال

_ (1) "المجموع" (6/335) . (2) "الإنصاف" (3/297) . (3) هو أحمد بن عمر بن سريج الشافعي، مولده ووفاته ببغداد سنة (249-306هـ) ، ولي قضاء شيراز، له أربعمائة مصنف، كان ناصراً للسنة خاذلا للبدعة، حاضر الجواب، له مناظرات ومساجلات. راجع: "تاريخ بغداد" (4/287) ، "الأعلام" (1/178) . (4) "المجموع" (6/326) . (5) "المجموع" (6/326) . (6) "الهداية" (2/51) .

صفة النية في الصوم

بالنيات، وإنما لكلّ امريء ما نوى"، فهذا لم ينو الصوم إلا بعد مضي جزء من النهار، فليس له من الثواب إلا المقدار الذي نواه. وهذا مذهب الحنابلة، قال صاحب الإنصاف: "الثواب من وقت النية على الصحيح من المذهب" (1) . ولعل ما ذهب إليه الأحناف (2) من أنَّه يُثاب على النَّهار كلّه أصحّ؛ لأنه يلزم على قول الشافعية والحنابلة أن يكون الصوم متجزئاً، ونحن نعلم أنّ الصوم إنَّما يكون يوماً كاملاً من الفجر إلى الليل، وهذا أمسك النَّهار كلَّه وأخّر النيّة، وفضل الله واسع فلا يحجر، فيثاب الناوي نهارا على اليوم كلّه، كما يثاب من يدرك بعض صلاة الجماعة ثواب الجماعة، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى. صفة النيّة في الصوم أما الصوم فلا يتأدى بمجرد نيّة الفعل، بل لابد من أن ينوي صوم رمضان، والسبب في هذا أنَّ الصوم منه التطوع ومنه الواجب، والواجب قد يكون عن شهر رمضان أو كفّارة أو نذر، ولا يتميز رمضان عما سواه إلا بقصده قصداً واضحاً بحيث لا يختلط بغيره. وهذا مذهب الإمام مالك والشافعي، وأحمد في أظهر روايتيه، بل إنَّ هؤلاء الأئمة الأعلام قالوا بوجوب نيّة الفرضية في الصوم، وممن قال بذلك إسحاق وداود الظاهري، وإن كان الأرجح في مذهب الشافعية والحنابلة عدم اشتراطها. وخالف الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- وجميع أصحابه، فقالوا: يتأدى صوم شهر رمضان بنيّةٍ مطلقة من المقيم الصحيح، بل ويتأدى عندهم بنيّة النفل، ونيّة القضاء والكفارة، وحُجَّة أبي حنيفة عدم قابلية المحل؛ لأن شهر رمضان متعينّ لصوم الفرض لمن شهده صحيحاً غير مريض، واحتجّوا بقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] . والصحيح المقيم شهد الشهر وصامه، فيخرج من العهدة. وقد أوردنا فيما سبق اعتراض الشافعي -رحمه الله- أن الواجب الموسع قد يتضيق

_ (1) "الإنصاف" (3/398) . (2) "الهداية" (2/51) .

تبيت النية في صوم رمضان

كما لو أخر صلاة الظهر إلى آخر وقتها بحيث لم يبق من الوقت إلا ما يكفي صلاة الفرض، فيلزم الأحناف -بناءً على ذلك القول- بأن الفريضة هنا تتأدى بنية النافلة، إلا أن الأحناف يُفرّقون بين ما تضيق بحكم شرعي أصلي كرمضان، وبين ما تضيق بفعل الإنسان كما في تأخير الصلاة إلى آخر وقتها وكما في نذر يوم بعينه فالأول يتأدى ولو نوى به شيئاً آخر، والثاني لا يتأدى إلا بقصده بعينه. وأقوى ما يردّ به على هؤلاء قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإنما لكل امريء ما نوى"، وهذا لم ينو الفرض أو رمضان؛ فلا يحصل له، وقد تناقض الأحناف هنا، فقد قالوا في الحجّ: إنّه لا يتأدى بنيّة النفل إذا كان عليه حجَّة الفريضة، وإذا نوى من عليه حجَّة الإسلام عن غيره فإنه يقع عن المحجوج عنه، واحتجوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإنما لكلِّ امريء ما نوى"، ولكنَّهم لم يسيروا على النسق نفسه في الصيام مما جعل مخالفيهم يرمونهم بالتناقض، إلا أن الأحناف رفضوا ذلك، وقالوا: شهر رمضان متعينّ للصوم لمن شهده صحيحاً، بخلاف وقت الحج فإنّه لم يتمحض للحجّ. ولكن أين الدليل على أنَّ ما تعين وقته للعبادة بحيث يصبح ظرفاً لها لا يحتاج إلى تعيينه، ويصحّ أداؤه بنيّة النفل؟! وما الذي أخرج هذه الصورة من الحديث "إنما الأعمال بالنيات"؟! أما استدلالهم بالآية فلا حُجة فيه، فالآية تأمر بالصوم الشرعي، والصوم الشرعي لابدَّ له من النية التي تحدده وتميزه، وإلا لم يكن صياماً، وفي الحديث (1) "لا صيام لمن لم يجمع الصيامَ من الليل" (2) . صوم رمضان * قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر، فلا صيام له" (3) .

_ (1) رواه ابن عمر بهذا اللفظ "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" رواه الخمسة. انظر "نيل الأوطار" (4/219) . (2) راجع في "صفة نية الصيام" ما يأتي: "الأم" (2/18) ، "مختصر المزني" (1/15) ، "المجموع" (6/186، 6/328، 6/338-346، 3/345-346) ، "بدائع الفوائد" (3/93) ، "المُغني" (3/94، 95) ، "التوضيح" (19، 95) ، "حاشية ابن عابدين" (1/308) ، "بدائع الفوائد" (2/83) ، "الإفصاح" لابن هبيرة (1/156) ، "فتح القدير" (2/49) ، "إرشاد الساري" (1/53) ، "العينيى على البخاري" (1/33) . (3) صحيح: رواه الدارقطني في "الأفراد"، والبيهقي في سننه عن عائشة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6534) .

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يبيت الصيام من الليل، فلا صيام له" (1) . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" (2) . مذهب كافة العلماء أنَّه لا يصح صوم إلا بنية، سواء أكان الصوم واجبًا أم تطوعًا (3) . وحجتهم أن الصوم عبادة محضة لا تتأدى إلا بالنية، والنصوص الدالة على لزوم النية للعبادات تشمل الصوم، هذا عدا النصوص المصرحة بإيجاب النية في الصوم. وخالف الجمهور عطاء ومجاهد (4) وزفر (5) ، في حالة ما إذا كان الصوم متعينًا، بأن يكون الصائم صحيحًا مقيمًا في شهر رمضان، فهذا عندهم لا يفتقر إلى نية، وحجَّتهم أنَّ رمضان مستحقُّ الصوم يمنع غيره من الوقوع فيه، فهم لاحظوا أن الصوم في هذه الحالة متعين بصورته، ولا يحتاج إلى نيّة تميّزه. عن العادات أو تميز مراتبه، يقول الكاساني مبينا ما يمكن أن يحتجّ به لزفر:

_ (1) صحيح: رواه النسائي عن حفصة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6535) . (2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6538) . (3) "بداية المجتهد" (1/300) ، "المجموع" (6/336) ، وقد نقل ابن هبيرة الإجماع على وجوب النية في الصوم، "الإفصاح" (1/157) ، وليس الأمر كما قال. (4) هو مجاهد بن جبير أبو الحجاج المكي، تابعي مفسر من أهل مكة، قال فيه الذهبي: شيخ القراء والمفسرين، أخذ التفسير عن ابن عباس، وتوفي بمكة سنة (104هـ) ، وكانت ولادته سنهّ (21هـ) . راجع: (تهذيب التهذيب (10/402) ، (تذكرة الحفاظ 1/92) ، (شذرات الذهب 1/125) ، (الكاشف 3/120) ، (طبقات الحفاظ ص 35) . (5) "المجموع" (6/366) ، "المحلى" (6/161) ، "بداية المجتهد" (1/300) ، وقد ينقل بعضهم أن أبا حنيفة ممن يقول بذلك، وليس هذا بصواب، فأبو حنيفة يوجب النية في الصوم، إلا أنه يجوز إنشاءها من النهار كما ذكرنا في فصل "وقت النية".

"النيّة إنما تشترط للتعين، والحاجة إلى التعيين إنَّما تكون عند المزاحمة، ولا مزاحمة لأنَّ الوقت لا يحتمل إلا صومًا واحداً في حقّ المقيم، وهو صوم رمضان، فلا حاجة إلى تعيين بالنية" (1) . واحتجّ له أيضاً بأنّ الآية الآمرة بالصيام (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) مطلقة عن شرط النية، والصوم هو الإمساك، وقد أتي به فيخرج عن العهد" (2) . من هنا قصر زفر قوله في الصوم الذي لا يحتاج إلى نيّة على صوم رمضان من الحاضر المقيم، أما المسافر فلا بد أن يأتي بالنيّة إذا صام رمضان؛ لأنَّ صوم رمضان غير متعيّن في حقه، فله -عند زفر- أن يصومه نافلة أو قضاء، ولأنَّه لم يشهد الشهر. أمَّا صوم النَّذر والكفّارة فيشترط لهما النيّة إجماعاً (3) . ومن هنا نعلم أن ابن رشد (4) . لم يصب الحقيقة عندما قرر أن سبب الاختلاف في هذا الموضوع هو الاحتمال المتطرق إلى الصوم: أهو عبادة معقولة المعنى، أو غير معقولة المعنى؟ فهو يرى أن من ذهب إلى أنها غير معقولة المعنى أوجب النية، ومن رأى أنّها معقولة المعنى قال: قد حصل المعنى إذا صام ولم ينو (5) . هذا الذي ذهب إليه ليس هو السبب كما بينا؛ إذ الجميع يرون أنّ الصيام

_ (1، 2) "بدائع الصنائع" (2/83) . (3) "المجموع" (6/336) ، و"المحلى" (6/161) ، وأنكر الكرخي أنَّ زفر يقول بصحة الصوم من الحاضر بغير نية، وادّعى أنّ مذهب زفر كمذهب جواز الصوم بنيّة واحدة من أول الشهر، وقال آخرون: إنَّ زفر رجع عن ذلك لما كبر ("الهداية" (2/92) . (4) هو محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي الفيلسوف، عني بكلام أرسطو وترجمته إلى العربية، له "بداية المجتهد" في الفقه، ولد عام (520هـ) ، وتوفي سنة (595هـ) . راجع: "شذرات الذهب" (4/320) ، "الأعلام" (6/212) . (5) "بداية المجتهد" (1/300) .

مباحث تتعلق بالنية في الصوم:

عبادة محضة غير معقولة المعنى، والسبب الحقيقي أن زفر ومن معه يرون أن الصوم متعيّن بنفسه فلا يحتاج إلى نية. والجمهور يردّون على زفر ومن معه بالنصوص الآمرة بالنية في العبادات عمومًا، وفي الصوم على وجه الخصوص، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما الأعْمَالُ بِالنِّيات" (1) ، وقوله: "لا صِيَامَ لمَنْ لَمْ يُبيِّت الصيَام مِنَ الليْل" (2) . ورد الشافعي حجّتهم في أنّ الصوم لا يحتاج إلى نيّة؛ لأنه متعيّن بصورته، إذ له وقت محصور محدود، بأنّ هذا يمكن أن يقع في الصلاة. فوقت الصلاة قد يتضيّق حتى لا يسع إلا الفرض، ومع ذلك لا بدَّ للصلاة التي وقعت في الوقت المتضيّق من نية (3) . وكذلك من نذر أن يصوم شهرًا من هذه السنة، ثم أخره حتى لم يبق إلا شهر واحد، ولا يجوز أن يصومه بغير نيّة بحجّة أن وقته أصبح محصورًا محدودًا. أما قول زفر: إنَّ الصوم مأمور به في الآية مطلقًا عن شرط النية فمردود عليه؛ لأنَّ اسم الصوم المطلق ينصرف حين الأمر به إلى الصوم الشرعي، وهو: الإمساك عن المفطر مع اقتران النيّة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. مباحث تتعلق بالنية في الصوم: 1- استصحاب حكم النية: هو شرط من شروط النية، والإتيان بالنية في أول العبادة شرط لا تصح العبادة بدونه.

_ (1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والطحاوي والدارقطني وابن خزيمة وابن حبان. (2) سبق تخريجه. (3) "الأم" (2/83) ، ومن هنا ذهب الشوكاني في "السيل الجرار" (1/20) ، إلى أنّ النيّة واجبة في كلّ عبادة، سواء كانت مما يتلبس أم لا، لورود الأمر بها، والتقيد بهذا الضابط غير صحيح.

(2) رفض النية:

ولكن هل يجب على العابد أن يبقى ذاكرًا لهذه النية غير غافل عنها طيلة العبادة؟ الجواب: لا، لا يجب عليه ذلك؛ لأن إلزام العباد بهذا في غاية المشقة والكلفة، بل لو قيل بوجوبه لكان من التكليف بما لا يطاق؛ لأن العباد مأمورون بأشياء أخرى غير النية في أثناء العبادة كالصلاة مثلاً، فإنهم مأمورون بالذكر وقراءة القرآن والتفكر والتفهم لذلك كله. وفي الصيام يشغل العابد بأمور خارجة عن العبادة لا يتذكر معها النية فقد يكون مشغولاً بالبيع والشراء وأعمال الدنيا، بل قد ينام فيغفل عن كل شيء. من هنا نصّ العلماء على أن الواجب على العابد "استصحاب حكم النية دون حقيقتها"، ويريدون بالاستصحاب هنا أن الشارع حكم بعدم بطلانها حال ذهول العابد عنها، وعزوبها عنه، وكل ما يلزم العابد في هذه الحال ألا يأتي بما ينافيها ويبطلها، كأن ينوي قطعها أو يرفضها. وسنذكر فيما يلي مسائل لها صلة بهذا الشرط (1) . (2) رفض النية: رفض النية معناه: "تقدير ما وجد من العبادة والنية كالمعدوم". ورفض العبادة إما أن يكون بعد الانتهاء منها، أو في أثنائها: (أ) رفض النية بعد تمام العبادة: رفض الصوم بعد تمامه لا أثر له في إبطاله. والقول بهذا هو المذهب الصحيح المشهور عند الشافعية. ومدار الفتوى عند المالكية أن رفض نية العبادة لا أثر له في إبطال الصوم والصلاة وغيرها من العبادات.

_ (1) راجع في هذه المسألة: "قواعد الأحكام" (1/307) ، "الذخيرة" (1/243) ، "المغني" لابن قدامة (1/112) ، (1/467) ، "الأم" (1/25، 86) ، "الخطاب" على خليل (1/230) .

(ب) رفض نية الصوم في أثنائه:

ومن الغريب أن يحكي القرافي أن رفض الصلاة والصوم يؤثر ولو بعد الكمال ويقول: هذا هو المشهور عندهم، إلا أنه استشكل هذا بأنه يقتضي إبطال جميع الأعمال. ولعلّ القول الفصل في هذه المسالة ما قالة ابن رشد: "من ادَّعى أن التكليف يرجع بعد سقوطه لأجل الرفض فعليه الدليل". (ب) رفض نية الصوم في أثنائه: إذا رفض العابد العبادة في أثناءها فما الحكم؟ اختلف وجهات نظر العلماء في ذلك: يرى داود الظاهري وابن حزم بطلان أي عبادة إذا رفضت النية في أثنائها (1) ؛ لأن النية شرطّ في العبادات كلها، وإذا فقد الشرط فقد المشروط، والأعمال بالنيات وذهب جماهير ومنهم مالك والشافعي وأحمد إلى القول بذلك: أي ببطلان العبادة إذا رفضت النية في الصلاة، وخالفهم في هذا أبو حنيفة فقال بعدم البطلان (2) . ولكن جماهير العلماء عكسوا القضية في الحج والعمرة، فقد ذهبوا إلى أن هاتين العبادتين لا تبطلان برفض النية. يقول الحطاب مبينًا هذه المسألة: "الإحرام سواء كان بحج وعمرة أو أيهما أو بإطلاق لا يرتفض، ولو رفضه في أثنائه ولم أر في هذا خلافًا، وهو مذهب الكافة، وهو مذهب مالك والأئمة، وخالف داود الظاهري، فقال: يرفض إحرامه" (3) . وقد اختلفت تعليلات العلماء للفرق الذي اقتضى تصحيح الحج والعمرة

_ (1) "المحلى" (6/174) ، "الخطاب" علي خليل (1/240) ، وهو مذهب بعض المالكية وكثير من الأحناف. (2) "المجموع" (3/250) . (3) "الحطاب" (1/240) .

حال رفض نيتهما، وإبطال الصلاة في الحال نفسه: (1) فمنهم من يرى إلى أن الأمر يعود إلى حاجة كل من العبادتين إلى النية فأحكام النيات مغلظة في الصلاة عنها في الحج والعمرة. (2) ومنهم من لاحظ طبيعة كل من العبادتين، فقد علمنا أن الشارع لا يبطل الحج بأقوى المفسدات له كالجماع، ويأمر بإتمام العبادة، فالمحظورات لا تؤثر في الخروج من العبادة بخلاف الصلاة، ورأينا الشارع يصحح عبادة الحاجّ الذي نوى مبهمًا إحرامه، أو نوى النفل، وعليه حجة الإسلام، فيقع الفرض. (3) ومنهم من نظر إلى أنّ جانب التعبد في الصلاة أكثر وأعظم منه في الحج والعمرة، فهاتان العبادتان تدخلهما الأعمال المالية والبدنية، وقد عهد من الشارع عدم إيجاب النية في جنس هذه الأعمال من غير العبادات. (4) ولاحظ بعضهم أن الحج والعمرة عبادتان شاقتان فناسب أن يقال بعدم تأثير الرفض دفعًا للمشقة الحاصلة (1) . وبقية العبادات: من العلماء من يلحق بعضًا منها بالحج والعمرة في عدم اعتبار رفض النية في العبادة، ومنهم من يلحقه بالصلاة لشيء من الاعتبارات التي ذكرها في العبادتين: فالصوم مثلاً فيه قولان مشهوران عند العلماء: فالذي يلحقه بالصلاة لاحظ أن تأثير النيه فيه قوي كالصلاة، وأن طبيعة كل من العبادتين متقاربه إذ تبطلان بفعل شيء من مبطلاتهما. * ففي صحة الصوم قولان مشهوران في مذهب الشافعية إذا رفضت نيته، أصحهما لا يبطل (2) . ومذهب المالكية القول بالبطلان (3) .

_ (1) راجع هذه التعليلات في "المجموع" (6/331-332) ، "نهاية الأحكام" (45) ، "قواعد الأحكام" (1/214-215) . (2) "المجموع" (6/331) . (3) "الذخيرة" (1/511) .

(3) قلب نية الصوم وتغييرها:

* والذي يلحقه بالحج يرى أن الفارق بين الصوم والصلاة يتمثل في أن الصوم ليس له عقد تحرم وتحلل يؤثر فيه القصد؛ ذلك لأن الصلاة يتعلق تحريمها وتحليلها بقصد الشخص واختباره، والصوم بخلافه لأن الناوي ليلاً يصير شارعًا في الصوم بطلوع الفجر، ويفطر بغروب الشمس، وإن لم يشعر بهما، فضعف النية في الصلاة له تأثير كبير بخلاف الصوم، مما يدل على هذا جواز تقديم النية في الصوم في الفرض والنفل، وجواز تأخيرها في النفل، وهذا لا يجوز في الصلاة. * ومنهم من لا حظ أن الصوم أقل حاجة إلى النيّة من الصلاة؛ لأن الصوم ملحق بالمتروك، بخلاف الصلاة فهي من باب الأفعال. (3) قلب نية الصوم وتغييرها: من مبطلات النية في العبادات تغييرها وقلبها، مذهب ابن حزم هنا كمذهبه في رفض النية وقطعها، فهو يرى أن من صرف نيته من صلاة إلى صلاة مثلاً متعمدًا فصلاته باطلة. وغيره من العلماء يذهب إلى هذا المذهب، إلا في حالات قليلة. أقسام النية التي قلبت الذي يُتصور في قلب النية أقسام: (1) نقل فرض إلى فرض: في هذه الحال تبطل الأولى، ولا تصح الثانية، وممن نصّ على هذه ابن قدامة في الصلاة، والشافعي لم يصحّح أن يعد الرجل دراهم أخرجها زكاة ماله فوجده هالكًا - أن يعدّ تلك الدراهم زكاة مال آخر. * أما قلب النية في الصوم: فالعلماءُ لا يجيزون قلب شهر رمضان إلى غيره، أما قلب صوم نذر إلى صوم كفارة مثلاً، فالخلاف مبني على ما ذكرناه من قبل: هل رفض النية في الصوم مبطل له أم لا؟

(2) نقل نفل إلى فرض:

فعلى القول القائل بعدم بطلانه يصح صرف نيته، وعلى القول الآخر يبطل الصوم (1) . (2) نقل نفل إلى فرض: هذا لا يصح في الصلاة بالإجماع، وكذا في الزكاة، وفي الصوم صحح أبو حنيفة صوم الفرض بنية التطوع خلافًا لقول الجمهور، وفي الحج يتأدى الفرض بنية التطوع. (3) نقل نفل إلى نفل: إذا كان النفل مطلقًا فغالب العلماء يرون صحة ذلك، أما إذا كان مقيدًا فالذي نصّ عليه الماوردي عدم الصحة (2) . (4) عدم التشريك في النية: لا نريد بالتشريك هنا ما ينافي الإخلاص وإنما نريد هنا أن يقصد بالعمل الواحد قربتين، كأن ينوي بالصلاة الرباعية قضاء فائتة وفريضة الوقت الحاضر. والقاعدة العامة التي يكادُ الفقهاء يجمعون عليها أن هذه النيّة غلط؛ لأن العبادة الواحدة لا يمكن أن تغني غناء عبادتين. إلا أن بعضا منهم استثنى بعض العبادات وحكم بحصول كلتا العبادتين: فمن ذلك منْ نوى بصلاته الفريضة وتحية المسجد، ومن نوى بغسله رفع الحدث الأصغر والأكبر، أو غسل الجمعة والجنابة، أو نوى بتيممه رفع الحدثين: الأكبر والأصغر. والذي يقول بحصول العبادتين بالفعل الواحد في مثل هذه الصور فلأن مراد الشارع يتحقق بحصول الفعل. أما ما صححّوه من تجويز عبادتين بنية واحدة فالذي يظهر لي فيه أن الشارع قد اعتبر فيه هذين الأمرين المقصودين ولو لم يقصدهما الفاعل، ومن قال: إن الصائم في يوم عرفة قضاء ينال ثواب صيام عرفة ويجزيء عنه من القضاء.

_ (1) "المجموع" (6/332) . (2) "المجموع" (4/110) .

(5) قصد الصوم دفعة واحدة:

وابنُ حزم يرى بطلان كلّ عبادة قصد بها تحقيق قربتين سواءً أكانت العبادة صلاة أو صومًا أم زكاة ولم يستثن من ذلك إلا من مزج قصد العمرة بالحج في حالة إحرامه بهما والهدي معه؛ لأن هذا هو الحكم. وغالبية العلماء يرون أنّ من قصد أكثر من عبادة بالفعل الواحد تحصل واحدة منهما ولا تبطل كلها. وقسم من الأحناف لهم رأي حسن في اعتبار المقصود الذي ينبغي أن يتحقق، فهم يرون أن العبادة الأوجب لها الأولوية، فإذا صام يوماً عن قضاء وكفارة جعل عن القضاء لأنه أوجب، فإن استويا في القوة فله أن يجعلهما إلى أيّ عبادة شاء، كمن نوى صومًا عن ظهار، وكفارة يمين. (5) قصد الصوم دفعة واحدة: وهذا شرط من شروط النية، وقد حقق العز بن عبد السلام القول في هذه المسألة فقال: "تفريق النية على الطاعة يختلف باختلاف الطاعات، والطاعات أقسام: أولها: طاعة متحددة: وهي التي يفسد أولها بفساد آخرها كالصلاة والصيام، فلا يجوز تفريق النية على أبعاضها. مثاله في الصيام: أن ينوي إمساك الساعة الأولى وحدها، ثم ينوي إمساك الساعة الثانية، وكذلك يفرد كل إمساك بنية تختص به إلى آخر النهار فإن صومه لا يصح. وكذلك لو أفرد نية الصلاة على أركانها وأبعاضها، مثل أن يفرد التكبير بنية، والقيام بنية ثانية، والركوع بنية ثالثة. وكذلك إلى انقضاء الصلاة، فإن صلاته لا تصح. ثانيها: طاعة متعددة كالزكاة والصدقات وقراءة القرآن، فهذا يجوز أن يفرد أبعاضه بالنية، وأن يجمعه في نية واحدة. فلو فرق النية على أحد جزئي الجملة في القراءة مثل أن قال: بسم الله، أو قال: فالذين آمنوا؛ فالذي أراه أنه لا يثاب على ذلك، ولا يثاب إلا

إذا فرّق النيّة على الجمل المفيدة وجمل القرآن ضربان: أحدهما: ما لا يذكر إلا قرآنًا كقوله: (كذبت قوم نوح المرسلين) [الشعراء 105] فهذا يحرم على الجنب قراءته. الضرب الثاني: ما يغلب عليه كونه ذكرًا ليس بقرآن كقوله: بسم الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، فهذا لا يحرم على الجنب قراءته إلا أن ينوي به القراءة لغلبة الذكر عليه. ثالثهما: ما اختلف في اتحاده كالوضوء والغسل فمن رآهما متحدين منع من تفريق النية على أجزائهما، ومن رآهما متعددين جوّز تفريق النية على أبعاضهما" (1) .

_ (1) "قواعد الأحكام" (1/219) ، "المجموع" (1/379-380) ، "الإنصاف" (1/151) .

النيابة في النيات في الصوم

النيابة في النيات في الصوم مقدمة وتمهيد هام: مرادنا بالنية هنا: أن ينوي شخص ما تأدية عبادة عن غيره في صلاة أو صوم أو حج. وقد اختلف العلماء في ذلك بين مانع مطلقًا، ومجيز مطلقًا، ومجيز في بعض دون بعض. فقد ذهب إلى المنع مطلقًا علماء المعتزلة (1) ، والإمام مالك (2) وأصحابه. وذهب إلى الإجازة مطلقًا ابن تيمية في أحد أقواله (3) . وذهب جماهير العلماء إلى جواز النيابة في الحجّ، وممن قال بذلك: ابن عباس، وعليّ بن أبي طالب، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأهل الظاهر، وغيرهم. ومن هؤلاء المجيزين للنيابة في الحجّ من منع النيابة في الصوم، منهم الشافعي، والثوري، وقال بذلك: ابن عمر، وعائشة، وأبو حنيفة (4) . وأجاز أحمد النيابة في صوم النذر خاصة، وهو قول ابن عباس وإسحاق، وأبي عبيد،. والليث بن سعد (5) . ***

_ (1) "نيل الأوطار" (4/99) ، "أصول الفقه" لأبي زهرة ص 323. (2) "الوافقات" (2/174) . (3) نسبه إليه محمد رشيد رضا في "التفسير" (8/254) . (4) "المجموع" للنووي (6/431) . (5) "المجموع" (6/431) ، "تهذيب السنن" (3/281) .

أدلة الذين منعوا النيابة مطلقا

أدلة الذين منعوا مطلقًا أولاً: النصوص التي تدل بعمومها على منع النيابة: استدلّوا بقوله تعالى: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم: 36 - 39] يقول القرطبي: "أخبر تعالى أنّه ليس للإنسان إلا سعي نفسه، فمن قال إنّ له سعي غيره، فقد خالف الآية" (1) . ويقول ابن كثير: "كلّ نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنَّما عليها وزرها، لا يحمله عنها أحد، وكذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه" (2) . ويعتبر ما دلت عليه هذه الآية قاعدة من قواعد دين الله في كلّ شريعة أنزلها، فقد أخبر هنا أنَّ هذا كان مقررًا في الكتب الماضية العظيمة، وعند الرسل العظام: عند إبراهيم وموسى. وعندما نجيل النظر في شريعتنا الغراء نرى نصوصًا كثيرة تدلّ على مثل ما دلت عليه الآية الماضية، فمن ذلك قوله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164] ، فهذه الآية كتلك في معناها. وجاءت النصوص تقرر أن الهداية والضلال، والمجاهدة والقعود، والتزكية والقدسية، كلّ ذلك خاص بمن حصل منه: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الإسراء: 15] . وقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى

_ (1) "تفسير القرطبي" (4/151) . (2) "تفسير ابن كثير" (6/462) .

فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [فاطر: 18] ، وقال تعالى: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ) [العنكبوت: 6] . واحتجوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وإنما لكل امريء مَا نَوَى" فإنَّ مفهوم هذه العبارة: أنّه لا يحصل على ما نوى غيره (1) ، والجنَّة يدخلها النّاس بأعمالهم: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 43] ، ويصلى الكفرة النار بأعمالهم: (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [يس: 64] . وفي يوم القيامة لا يملك أحد لغيره شيئاً: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا) [الإنفطار: 19] . وقد قرر هذه الحقيقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببيان عام أعلنه على الملأ وعمّ وخصّ، فقد روى أبو هريره -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام حين أنزل الله عليه (وأنذر عشيرتك الأقربين) [الشعراء: 214] ، فقال: "يا معشر قريش، -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف، اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس ابن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً يا صفية عمّة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا" (2) . ثانياً: النصوص المصرحة بمنع النيابة في بعض العبادات: فقد استدلّوا بحديث ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه" (3) . ***

_ (1) راجع "فتح الباري" (1/14) ، العيني على البخاري (1/27) ، "دليل الفالحين" (1/50) . (2) "صحيح البخاري" (ص 11) - كتاب الوصايا. (3) أخرجه النسائي في "سننه".

ثالثًا: قالوا: جواز النيابة في العبادات تنافي الغرض من تشريعها: لأن المقصود من العبادات الخضوع لله، والتوجه إليه، والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة القلب بذكره؛ حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرًا مع الله، ومراقبا له غير غافل عنه، وأن يكون ساعيًا في مرضاته، وما يقرب إليه على حسب طاقته، والنيابة تنافي هذا المقصود وتضاده؛ لأنَّ معنى ذلك ألا يكون العبد عبدًا، ولا المطلوب بالخضوع والتوجه خاضعًا، ولا متوجهًا، إذا ناب عنه غيره في ذلك، وإذا قام غيره في ذلك مقامه فذلك القائم هو الخاضع المتوجه، والخضوع والتوجه ونحوهما إنما هو اتصاف بصفات العبودية، والاتصاف لا يعدو المتصف به، ولا ينتقل عنه إلى غيره. والنيابة إنّما معناها أن يكون المنوب عنه بمنزلة النائب، حتى يعدّ المنوب عنه متصفًا بما اتصف به النائب، وذلك لا يصحّ في العبادات كما يصحّ في التصرفات (1) . يقول العز بن عبد السلام موضحًا هذه المسألة: "لا يثاب الإنسان ولا يعاقب إلا على كسبه واكتسابه؛ لأنَّ الغرض بالتكاليف تعظيم الإله بطاعته، واجتناب معصيته، وذلك مختص بفاعليه؛ إذ لا يكون معظّم الحرمات منتهكًا لها بانتهاك غيره، ولا منتهك الحرمات معظمًا لها بتعظيم غيره، فكذلك لا تجوز الاستنابة في المعاصي والمخالفات، ولا في الطاعات البدنيات إلا ما استثني ... " (2) . رابعًا: قالوا: لو صحت النيابة في العبادات البدنية لصحت في الأعمال القلبية كالإيمان وغيره من الصبر والشكر والرضى والتوكل والخوف والرجاء وما أشبه ذلك. ولو كانت النيابة جائزة، فإنَّ التكاليف ينبغي ألا تكون محتومة على المكلف عينًا لجواز النيابة، فكان يجوز أمره ابتداء على التخيير بين العمل والاستنابة، ولصحّ مثل ذلك في المصالح المختصة بالأعيان من العبادات كالأكل

_ (1) "الموافقات" (2/167-168) . (2) "قواعد الأحكام" (1/135) .

المجيزون النيابة مطلقا وأدلتهم

والشرب والوقاع واللباس، وما أشبه ذلك، وفي الحدود والقصاص والتعزيرات وأشباهها من أنواع الزجر، وكل ذلك باطل بلا خلاف، من جهة أنّ حكم هذه الأحكام مختصة فكذلك سائر العبادات (1) . خامسًا: احتجّ مالك بعمل أهل المدينة: فعملهم على عدم النيابة، قال القرطبي: "وهو أقوى ما يحتج به لمالك" (2) . *** المجيزون مطلقًا موقفهم من حجج المانعين: ذهب بعض العلماء إلى أنَّ قوله تعالى: (وأن ليس للإِنسان إِلا ما سعى) منسوخ، وقد نسب بعض المفسرين القول بذلك إلى ابن عباس (3) ، وعندي في صحة هذه النسبة إلى ابن عباس نظر، لما سنعلمه بعد من أنّه كان يفتي بألا يصام عن الميت في صوم فرض، بل يُطْعم عنه، ولأنَّه راوي الحديث الذي سبق ذكره: "لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد.." الحديث. كما نسبت كتب التفسير إلى عكرمة مولي ابن عباس أنَّه كان يقول: "كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى، أما هذه الأمة فلها ما سعى غيرها، يدلُّ عليه حديث سعد بن عبادة: هل لأمي إن تطوعت عنها؟ قال: "نعم" (4) . ونسبوا إلى بعض أهل العلم أنَّ هذه الآية: (وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى) ، خاصة بالكافر، أما المؤمن فله ما سعى غيره (5) . وهذه الأقوال: من القول بأنَّ الآية منسوخة، أو أنَّها خاصة بالأمم من

_ (1) "الموافقات" (2/168) . (2) "تفسير القرطبي" (2/282) . (3) انظر "البحر المحيط" لأبي حيان عند تفسيره لهذه الآية. (4) المصدر السابق. (5) المصدر السابق.

قبلنا، أو خاصة بالكافر غير صحيحة: أولاً: لأنّ الآية خبر لم يتضمن تكليفًا، وما كان كذلك لا يجري فيه النسخ. ثانيًا: ولأنَّه قد دلَّ على معناها نصوص كثيرة من الكتاب والسُنة، وقد ذكرنا جملة منها. ثالثًا: مما يدلّ على بطلان خصوصيتها بالأمم السابقة وجود النصوص الدالة على ما دلت عليه في شريعتنا، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا وجد في شرعنا ما يقره ويؤيده. رابعًا: القول بخصوصيتها بالكافر خلاف الظاهر، وليس عليه دليل. أدلة المجيزين للنيابة مطلقًا أوفي حال دون حال: الذين قالوا بالإجازة خصوا النصوص التي استدلّ بها المانعون بمخصصات كثيرة نذكر منها ما يأتي: 1- ما رواه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان الفضل رديف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصرف وجه الفضل إلى الشقِّ الآخر، فقالت: إنَّ فريضة الله أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: " نعم". وذلك في حجِّة الوداع" (1) . 2- حديث أبي رزين العقيلي (2) ، أنَّه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنَّ أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحجّ، ولا العمرة، ولا الظعن، قال: "حج عن

_ (1) رواه البخاري (24) - - كتاب جزاء الصيد، "فتح الباري" (4/67) ، ومسلم (انظره: بشرح النووي) (9/69) . (2) هو: لقيط بن عامر بن صبرة بن عقيل بن كعب العقيلي أبو رزين صحابي، لم يذكروا تاريخ مولده ووفاته. راجع: "تهذيب التهذيب" (8/456) ، و"خلاصة تهذيب الكمال" (2/372) ، "الكاشف" (3/13) .

أبيك، واعتمر" (1) . 3- حديث عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- قال: "جاء رجل من خثعم إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إنَّ أبي أدركه الإسلام، وهو شيخ كبير، لا يستطيع ركوب الرحل، والحج مكتوب عليه، أفأحج عنه؟ قال: "أنت أكبر ولده؟ " قال: نعم. قال: "أرايت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه، أكان ذلك يجزيء عنه"، قال: نعم، قال: "فاحجج عنه" (2) . 4- عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من شبرمة؟ " قال: أخ لي، أو قريب لي. قال: "حجَّ عن نفسك، ثم عن شبرمة". وفي رواية: "هذه عنك، ثم عن شبرمة" (3) . ومنها الأحاديث الدالة على صحّة صوم الولي عن ميت عليه صيام من رمضان أو نذر، فمن هذه الأحاديث: 5- حديث عائشة -رضي الله عنها- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" (4) . 6- وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنَّ امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله تبارك وتعالى أنجاها أن تصوم شهرًا، فأنجاها الله عز وجل، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها (إمَّا أختها أو ابنتها) إلى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له، فقال: "أرأيت لو كان عليها دين، كنت تقضينه؟ " قالت: نعم. قال "فَدَيْنُ الله أحقّ أن يقضى، فاقض عن أمك" (5) .

_ (1) رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (2) رواه أحمد والنسائي. (3) رواه أبو داود، وابن ماجه، قال البيهقي: إسناده صحيح، وروي موقوفًا، ورجّح ابن القطان رفعه، وقال الطحاوي: الصحيح أنه موقوف، وقال ابن حجر بعد أن ذكر الحديث ومخرجيه والكلام فيه "فيجتمع من هذا صحّة الحديث"، انظر "تلخيص الحبير" لابن حجر (2/223-224) . (4) متفق عليه "مشكاة المصابيح" (1/633) . (5) رواه السبعة.

7- حديث ابن عباس أيضاً، أن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- استفتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال: "اقضه عنها" (1) . موقف المانعين للنيابة في العبادات من هذه النصوص الدالة على الجواز ومناقشتهم: أولاً: تضعيف هذه النصوص: قالوا يدلّ على ضعفها اضطرابها، ففي بعض الروايات أنَّ الذي سأل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل، وفي رواية امرأة، وفي رواية أن المسؤول عن الصيام عنه أب، وفي رواية أم، وفي رواية أخت، والمسؤول فيه في رواية حج، وفي أخرى صوم (2) . وحسبنا في الردّ عليهم أن هذه التي قالوا: إنَّها مضطربة، اتفق على إخراجها البخاري ومسلم. وقد حقَّق العلماء أن هذا الاضطراب غير قادح؛ لأنه من باب اختلاف الوقائع، بل في بعض الروايات توضيح لذلك، كتلك الرواية التي أخرجها مسلم، وقد سألت المرأة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحجّ عن أمها، والصيام عنها. ثم توجد نصوص من تلك الأحاديث لا اضطراب فيها. وضعفوها أيضاً من جهة مخالفة الرواة لها "عائشة وابن عباس" -رضي الله عنهما- بفتواهما، وهذا غير قادح؛ لأنَّ الحُجة بما روياه. ثانياً: جعل الشاطبي عدم أخذ العلماء بهذه الأحاديث أو ببعضها دليلاً على ضعف الأخذ بها في النظر، ومما ضعّفها في نظره أنها تدلّ على جواز النيابة في الحجّ، والحج يشتمل على ركعتي الطواف، وقد أجمع العلماء على عدم جواز النيابة في الصلاة (3) . وهذا الذي ذكره لا يوجب ضعف هذه

_ (1) متفق عليه. (2، 3) "الموافقات" (2/74) .

الأحاديث؛ إذ ليس مما يضعّف الحديث عدم أخذ العلماء به كما هو مقرر في علم أصول الحديث، والصلاة في الحج "ركعتا الطواف" إنّما جازتا على وجه التبعية؛ إذ هما تابعتان ولم يقصدهما مؤديهما على أنّهما صلاة مستقلة عن الحج. ثالثًا: قالوا هي خاصة بالمأذون لهم بالنيابة: فقد ذكر ابن عبد البر أن حديث الخثعمية التي أذن لها الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحج عن أبيها، محمول عند مالك وأصحابه على الخصوصية (1) ، واستدلّوا على ذلك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للسائل: "حج عنه، وليس لأحد بعده" (2) . ويجاب عن ذلك بأمور: 1- أنَ الخصوصية لا تثبت بغير دليل، فقد دلَّ صريح لفظ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باختصاص أبي بُردة بن نيار (3) بجواز التضحية بعناق دون غيره، حيث قال له: "لا تجزيء عن أحد بعدك" (4) وكما خصّ خزيمة (5) دون غيره بكون شهادته بشهادة رجلين (6) . 2- وكيف تتمّ دعوى الخصوصية، وقد صحّ في بقية الأحاديث

_ (1) "تفسير القرطبي" (4/152) . (2) ضعف ابن حجر هذه الرواية في "فتح الباري" (4/69) . (3) اسمه: هانيء، وقيل: الحارث بن عمرو، وقيل: مالك بن هبيرة، خال البراء بن عازب، صحابي توفي عام (41هـ) . راجع: "تهذيب التهذيب" (12/19) ، "الكاشف" (3/312) . (4) رواه البخاري ومسلم وأبو داود "تلخيص الحبير" (4/139) . (5) هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الأنصاري، صحابي جليل، من أشراف الأوس في الجاهلية والإسلام، له في "الصحيحين" (38) حديثًا، قتل بصفين سنة (37هـ) . راجع: "تهذيب التهذيب" (3/140) ، "خلاصة تذهيب الكمال" (1/289) ، "الكاشف" (1/279) . (6) البخاري في "صحيحه" انظر: "فتح الباري" (6/22) .

إذن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغيرها في الصوم عن الأب أو الأم أو الحج عنهما؟ كما أذن لأبي رزين العقيلي (1) . 3- والرواية التي أوردوها دالة على الخصوصية ضعيفة كما حقق ذلك ابن حجر (2) . رابعًا: ومنهم من تأول هذه الأحاديث على وجه يوجب ترك اعتبارها مطلقًا: وذلك أنّه قال: سبيل الأنبياء -صلوات الله عليهم-: ألا يمنعوا أحدًا من فعل الخير. يريد أنَّهم سئلوا عن القضاء في الحجّ والصوم، فأنفذوا ما سئلوا فيه، من جهة كونه خيرًا، لا من جهة أنه جاز عن المنوب عنه، هكذا قال الشاطبي، وذكر قريبًا منه ابن العربي، والقرطبي (3) . وهذا الذي قالوه كلام -بعيد فكيف يُظنّ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن- يقرَّ السائلين عن خلاف الحق، مجاراة لرغبة السائل في عمل الخير، بل كيف يقول للسائلين: حجّوا، وصوموا، ويجزيء ذلك عن من فعلوه عنه، وواقع الأمر على خلاف ذلك. هذا ما لا يكون أبدًا، ولا يظنّ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، وغفر الله لهم مقالتهم هذه. خامسًا: حملوا بعض هذه الأحاديث محملاً بعيدًا، فقالوا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صام عنه وليه" محمول على ما تصحّ النيابة فيه، وهو الصدقة مجازًا؛ لأنَّ القضاء تارة يكون بمثل المقضي، وتارة بما يقوم مقامة عند تعذره، وذلك في الصيام: الإطعام، وفي الحج: النفقة عمّن يحج عنه، أو ما أشبه ذلك (4) .

_ (1) انظر الأحاديث الدالة على جواز النيابة التي سقناها. (2) "فتح الباري" (4/69) . (3) "الموافقات" (2/174) ، "تفسير القرطبي" (4/152) ، "أحكام القرآن" لابن العربي (1/287، 288) . (4) "الموافقات" (2/175) .

وهذا حمل بعيد، يدلّ على ضعفه إذنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأحاديث الأخرى بالحجّ والصيام، وبقوله للملبي عن شبرمة: "حجّ عن نفسك أولاً، ثم حجّ عن شبرمة". السادس: ردّوا هذه الأحاديث بدعوى أنَّها مخالفة لظاهر القرآن: يقول القرطبي: "رأي مالك أنَّ ظاهر حديث الخثعمية مخالف لظاهر القرآن، فرجح ظاهر القرآن"، وقد رجح القرطبي ظاهر القرآن لأمرين، قال: "ولا شك في ترجيحه من جهة تواتره، ومن جهة أنَّ القول المذكور قول امرأة ظنَّت ظنًا"، ثم أورد إشكالا على ما ذهب إليه، ولم يستطع الردَّ عليه ردا مجزئًا، فقال: "لا يقال: قد أجابها الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سؤالها، ولو كان غلطا لبينه لها، لأنَّا نقول: إنَّما أجابها عن قولها: أفاحج عنه؟ قال: "حجي عنه" (1) . فأين الجواب عن الإشكال الذي أورده؟ ولقد صدق ابن حجر وبرَّ حين قال معقبًا على ما ذكره القرطبي: "وتعقّب بأنَّ في تقرير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها على ذلك حجَّة ظاهرة" (2) . وما ذكره القرطبي ذكره الشاطبي بأجلى من عبارة القرطبي، قال: "هذه الأحاديث على قلتها معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي، ولم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي ولا المعنوي، فلا يعارض الظن القطع، كما تقرر أن خبر الواحد لا يعمل به إلا إذا لم يعارضه أصل قطعي، وهو أصل مالك بن أنس وأبي حنيفة". ثمَّ بين أنَّ هذا الجواب عن الأحاديث هو الجواب القوي المرضيّ، فقال: "وهذا الوجه هو نكتة الموضع، وهو المقصود فيه، وما سواه من الأجوبة تضعيف لمقتضى التمسك بتلك الأحاديث، وقد وضح مأخذ هذا الأصل الحسن" (3) . وفي الردّ نقول: إنَّ هذا الذي ردّوا به الأحاديث ليس بحسن، فإنَّ ما

_ (1) "فتح الباري" (4/70) . (2) "الموافقات" (2/175) . (3) "الموافقات" (2/175) .

موقف الذين أجازوا النيابة في بعض العبادات من حجج المجيزين مطلقا:

قالوه لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن التوفيق، وفي حال إمكان التوفيق بين النصوص فلا يعدل عنه، وقد أمكن هنا كما سيأتي بيانه قريبًا. موقف الذين أجازوا النيابة في بعض العبادات من حجج المجيزين مطلقًا: عرضنا موقف المانعين من النيابة تجاه النصوص الدالة على جواز النيابة، فما موقف غيرهم من العلماء؟ جماهير العلماء -كما ذكرنا في مقدمة هذا الفصل- احتجّوا على جواز النيابة في الحج بالأحاديث الأربعة الأولى (1) . فقد أذن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها للخثعمية، وللخثعمي، ولأبي رزين العقيلي، بالحج عن آبائهم. وأقر ذلك الملبي عن شبرمة بالحج عنه، وإنما اعترض عليه في أمر آخر،. وهو أن عليه أن يحج عن نفسه أولاً، ثم ليحج بعد ذلك عن شبرمة، ومما يستأنس به أنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن للولي أن ينوي عن الصغير في الحج (2) . والشافعي ومن معه أجازوا أن يحجّ المرء نيابة عن غيره، ولكنّه منع النيابة في الصوم مطلقًا، وعندما قيل له: لم فرّقت بين الصوم والحج؟ قال: "قد فرّق الله بينهما، فإن قيل: أنَّى قلت: فرض الله الحج على من وجد إليه سبيلاً، وسن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقضي عمن يحج، ولم يجعل الله ورسوله من الحجّ بدلاً غير الحج". وفرض تعالى الصوم، فقال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184] ، فقيل: يطيقونه: كانوا يطيقونه، ثم عجَزوا عنه، فعليهم في كل يوم طعام مسكين" (3) .

_ (1) من أدلة المجيزين مطلقًا. (2) رواه مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما "أن امرأة رفعت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صبيًا قائلة: ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولك أجر"، انظر: "شرح النووي على مسلم" (9/99) . (3) اختلاف الحديث، انظر: هامش كتاب "الأم" (2/89) .

وبهذا فرق بين الصلاة، والحج فقال: "وأمر بالصلاة، وسنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا تقضي الحائض، ولا يقضي عنها ما تركت من الصلاة، وقال عوام المفتين: ولا المغلوب على عقله، ولم يجعلوا في ترك الصلاة كفارة، ولم يذكر في ذلك كتاب ولا سُنة عن صلاة كفارة من صدقة، ولا أن يقوم به أحد عن أحد، وكان عمل كل امريء لنفسه، وكان الصوم والصلاة عمل المرء لنفسه لا يعمله غيره، وكان يعمل الحج عن الرجل اتباعًا للسنة وبخلافه الصوم والصّلاة" (1) . ثم ذكر فرقًا آخر بين الحجّ والصوم والصلاة، وهو أنَّ الحجّ "فيه نفقة من المال، وليس ذلك في الصوم والصّلاة" (2) . ومع هذا الفرق الذي ذكره الشافعي إلا أنَّ النصوص الدالَّة على جواز النيابة في الصوم لا تزال قائمة تلزمه بأن يقول بمقتضاها، لكنَّه لا يرى صحتها، وقد بيَّن ضعفها في أكثر من موضع في كتبه، قال الشافعي: "فإن قيل: أفروي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه أمر أحدًا أن يصوم عن أحد؟ قيل: نعم. روى ابن عباس رضي الله عنهما وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإن قيل: لِمَ لم تأخذ به؟ قيل: حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ابن عباس - رضي الله عنهما عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نذر نذرًا"، ولم يسمّه مع حفظ الزهري، وطول مجالسة عبيد الله لابن عباس. فلما جاء غيره عن رجل عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بغير ما في حديثه أشبه ألا يكون محفوظا. فإن قيل: أتعرف الذي جاء بهذا الحديث يغلط عن

_ (1) اختلاف الحديث، انظر هامش كتاب "الأم" (2/849) . (2) المصدر السابق. والشافعي -رحمه الله- يجيب هُنا عن الذين قاسوا الصوم والصلاة على الحج بحجة أن ذلك كله دين الله ثابت في الذمة فشمله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فدين الله أحقّ بالقضاء"، وقد وضّح هذه المسألة الغزالي في "شفاء الغليل" (ص 45) ، فبّين أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شبه الحج بدين عرف من جهة الشرع تطرق النيابة إلى أدائه، وعرف أيضاً أنَّ الحج تتطرق النية إلى أدائه، وعرف أن الصلاة والصوم لا مدخل للنيابة في تبرئة الذمة عنهما، ثم قال: "فالأدلة المعرفة للجمع والفرق في النيابة تخصص العلة بالحج، وتقطع عنه الصوم والصلاة".

ابن عباس؟ قيل: نعم، وروى أصحاب ابن عباس عن ابن عباس أنه قال لابن الزبير: إنَّ الزبير حل من متعة الحج، فروي هذا عن ابن عباس أنَّها متعة النساء، وهذا غلط فاحش" (1) . وقد ساق البيهقي كلام الشافعي، ثمَّ قال (2) : "يعني به -أي الحديث الذي ضعّفه- حديث الشافعي عن مالك عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس: "أنَّ سعد بن عبادة (3) استفتى ... " الحديث؛ قال البيهقي: وهو حديث صحيح رواه البخاري ومسلم من رواية مالك وغيره عن الزهري، إلا أن في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أنَّ امرأة سألت يعني عن صوم أمها، وكذلك رواية الحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل (4) عن مجاهد عن ابن عباس - رضي الله عنهما" (5) . وقد تكلم البيهقي عن هذه الأحاديث الدالة على جواز صوم الولي عن الميت في "معرفة السنن والآثار"، وبيَّن قوة هذه الأحاديث، واختتم كلامه قائلاً: "وقد أودعها صاحبا "الصحيحين" كتابيهما، ولو وقف الشافعي على جميع طرقها ونظائرها لم يخالفها إن شاء الله تعالى" (6) . وقال النووي بعد نقله كلام البيهقي، وبعد جزمه بصحّة الأحاديث الدالة

_ (1) اختلاف الحديث، انظر: هامش كتاب "الأم" (2/89) . (2) "المجموع" (6/426) . (3) هو سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي، صحابي جليل، سيد الخزرج، شهد بيعة العقبة الثانية، وكان أحد النقباء الاثنى عشر، توفي عام (14هـ) . راجع: "تقريب التهذيب" (3/475) ، "خلاصة تهذيب الكمال" (1/369) ، "الكاشف" (1/9352) . (4) سلمة بن كهيل الحضرمي الكوفي تابعي ثقة، سمع زيد بن أرقم، وابن عمر توفي سنة (121هـ) . راجع: "تقريب التهذيب" (1/318) ، "خلاصة تهذيب الكمال" (1/405) ، "الكاشف" (1/386) . (5) "المجموع" (6/426) . (6) "المصدر السابق".

على جواز النيابة في الصوم، قال: "ويتعين أن يكون هذا -جواز النيابة في الصوم- مذهب الشافعي؛ لأنه قال: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، واتركوا قولي المخالف له". ثم قال -معتذرًا للشافعي في تضعيفه للحديث-: "وقد صحت في المسألة أحاديث، والشافعي إنَّما وقف على حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- من بعض طرقه، ولو وقف على جميع طرقه، وعلى حديث يزيد، وحديث عائشة -رضي الله عنها- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُخالف ذلك" (1) . أما الإمام أحمد ومن ذهب مذهبه من الذين قالوا بجواز النيابة في صوم النذر خاصة فحجّتهم: أولاً: أنَّ السائلة في "الحديث الخامس" (2) . حديث ابن عباس قد صرَّحت أنَّ أمَّها نذرت أن تصوم شهرًا، ثم توفيت قبل أن تفي بنذرها (3) . ثانياً: حملوا حديث عائشة -رضى الله عنها-: "الحدث الرابع": "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" (4) . على صوم النذر؛ لأنه قد ورد النهي في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- من النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أن يصلي أحد عن أحد، أو يصوم أحد عن أحد (5) ، وقالوا: وفقنا بين هذين النصّين بحمل النهي على النيابة في صوم الفرض، وحملنا الإذن في النيابة على صوم النذر. ثالثًا: قالوا هذا الذي صرنا إليه هو الذي أفتى به رواة هذه الأحاديث، فعائشة -رضي الله عنها- التي روت: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه"، وابن عباس -رضي الله عنهما- الذي روى إفتاء الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة بأن تصوم عن أمها، لم يفهما من هذه النصوص جواز النيابة في صوم الفرض، فقد

_ (1) "المجموع" (6/426) . (2) من أدلة المجيزين مطلقًا. (3) سبق تخريجه من قبل. (4) سبق تخريجه من قبل. (5) سبق تخريجه من قبل.

أخرج الطحاوي عن عَمْرة أن أمّها ماتت وعليها من رمضان، فقالت لعائشة: -رضي الله عنها- أقضيه عنها؟ قالت: "بل تصدقي عنها مكان كلّ يوم نصف صاع على كل مسكين" (1) . وابن عباس -رضي الله عنهما- أفتى: "إذا مرض الرجل ثم مات ولم يصم، أطعم عنه، ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضي عنه" (2) . قالوا: فرواة الأحاديث لم يفهموا منها جواز النيابة في صوم الفرض، وقد تقرّر عند علماء الشريعة، أن راوي الحديث أدرى بمعنى ما روى، لا سيما إذا كان ما فهم هو الموافق لقواعد الشريعة وأصولها، كما هو الشأن هنا، خاصة إذا كان الراوي من كبار فقهاء الصحابة مثل أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنهما-، وحبر هذه الأمة ابن عباس رضي الله عنهما-. رابعًا: قالوا وفي هذا الذي صرنا إليه رفع للإشكال الذي سببّه حديث عائشة، فما صرنا إليه فيه إعمال للقاعدة القاضية بأن الفرائض لا تقبل النيابة، وإعمال للنصوص المجيزة للصوم عن الولي. خامسًا: وقد قوى ابن القيم مذهب الحنابلة، وقال: "وهو مقتضى الدليل والقياس" ثم أخذ يبين وجه ذلك: "لأن النَّذر ليس واجبا بأصل الشرع، وإنما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدَّيْن الذي استدانه، ولهذا شبَّهه النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدّيْن في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، والمسؤول عنه فيه: أنَّه كان صوم نذر". وتابع استدلاله قائلاً: "والدَّين تدخله النيابة، وأمَّا الصوم الذي فرضه الله عليه ابتداء فهو أحد أركان الإسلام، فلا تدخله النيابة بحال، كما لا يدخل الصلاة والشهادتين، فإن المقصود منها طاعة العبد بنفسه، وقيامه بحق العبودية التي خلق لها، وأمر بها، وهذا أمر لا يؤديه عنه غيره، كما لا يسلم

_ (1) أخرجه الطحاوي، وابن حزم في "المحلى" (7/4) ، واللفظ له بإسناد صحيح كما قال ابن التركماني. (2) أخرجه أبو داود بإسناد صحيح على شرط الشيخين، وله طريق آخر عند ابن حزم في "المحلى" (7/7) .

تحرير محل النزاع

عنه غيره، ولا يصلي عنه غيره". ثم أخذ يبين أنَّ النذر أخف حكمًا من الفرض وبذلك يفارقه: "وسر الفرق: أنَّ النذر التزام المكلَّف لما شغل به ذمته، لا أنَّ الشارع ألزمه به ابتداء، فهو أخف حكمًا مما جعله الشارع حقًا له عليه، شاء أم أبى، والذمة تسع المقدور عليه، المعجوز عنه، ولهذا تقبل أن يشغلها المكلَّف بما لا قدرة له عليه، بخلاف واجبات الشرع فإنَّها على قدر طاقة البدن، لا تجب على عاجز"، إلى أن قال: " ... فلا يلزم من دخول النيابة في واجب النذر بعد الموت، دخلوها في واجب الشرع" (1) . أما الذين قالوا بأنّه لا ينوب أحد عن أحد في حج ولا صوم إلا الابن عن أبيه فقد احتجوا بأنَّ السائل في غالب الأحاديث ولد، وحملوا بقيّة الأحاديث على الولد؛ لأنَّ النصوص من أمثال قوله: (وأن ليس للإِنسان إِلا ما سعى) مانعة من النيابة، قالوا: ولا تعارض بين الآية ونيابة الابن؛ لأن الابن من سعي أبيه كما صح الحديث بذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إنَّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإنَّ ولده من كسبه" (2) . ويشكل على ما قرروه حديث شُبْرمة الملبي في الحج عن أخيه، وحديث عائشة -رضي الله عنها- الذي فيه: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه"، فإنَّه أطلقه ولم يقيده بالولد، وفي حديث السائلة عن النذر قيل: المسؤول عن الصوم عنها كانت أختها كما في إحدى الروايات. وفي حديث الصدقة تحمل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة عن عمه. ولذا وصف ابن حجر القائلين بقصر النيابة على الولد بالجمود. تحرير محل النزاع بعد أن عرضنا مذاهب العلماء في النيابة وأدلتهم وما ورد عليها من

_ (1) "تهذيب السنن" (3/282) . (2) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي، وهذا اللفظ للدارمي وأبي داود، ولفظ الرواية الأخرى: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم" انظر: "مشكاة المصابيح" (2/75) .

مناقشات يجدر بنا أن نحرر محل النزاع فنقول: ليس كلّ العبادات موضع خلاف، ولا كلّ الأشخاص تجوز نيابتهم عن غيرهم، ولذا سأبين العبادات التي اتفق العلماء على أنه لا مجال للنيابة فيها، ثم الذين لا تجوز النيابة عنهم باتفاق. أولاً: عبادات لا مجال للنيابة فيها: أ- العبادات القلبية كإيمان القلب وإسلامه، وحبه ورجائه ... فقد اتفق العلماء على أنّه لا مجال للنيابة فيها، ولم يذكروا خلافًا في ذلك، بل لا يتصور الخلاف. ب- العبادات الشبيهة بالعاديّات كالوضوء والغسل والتيمم، وما ذكره بعض الفقهاء من وجوب النيّة في غسل الميّت فليس هو من باب النيابة؛ لأنَّ الميت هنا غير مكلف غسل نفسه، وإنما هو فعل أمُر به الأحياء للأموات، فينوي قصد الفعل الذي أمر به، وكذلك ما ذكروه من غسل الزوج زوجته المجنونة إذا طهرت من حيضها ونفاسها، وغسله للزوجة الذمية إذا طهرت في حيضها ونفاسها قهرًا إذا امتنعت فلا يدخل في هذا الباب؛ لأن المجنونة والذميَّة لو اغتسلتا بنفسيهما صحّ مع أنهما ليستا من أهل النيّة.، فالقول بوجوب غسلهما أو اغتسالهما إنّما هو لمجرد التطهر. وكذلك ما ذكروه من أنّ الشخص قد يوضيء غيره أو ييممه أو يغسله، والمتوضيء والمتيمم والمغتسل من أهل النية، كمن وضّأ مريضاً أو يمم أقطعًا، ليس من باب النيابة؛ لأنَّ هذا الموضيء والمغسل والميمم بمثابة الآلة، فمثله كمثل جهاز من الأجهزة الحديثة يقوم بغسل الإنسان أو توضئته، وكمثل جنب أمطرت السماء فوقف صامدًا تحت المطر ينوي الغسل من الجنابة، فالنية هنا على المتوضيء والمغتسل والمتيمم، لا على من فعل ذلك به، وهذا واضح، وغفل من قال بأن النية على الموضيء. جـ- نقل الطبري وغيره الإجماع على أنَّ النيابة لا تدخل الصلاة (1) ،

_ (1) "فتح الباري" (4/69) .

ولا يعتدُّ بمخالفة الظاهرية في تجويزهم النيابة في الصلاة المنذورة خاصة لمخالفته للإجماع، وممّن نصَّ على أن الصلاة المنذورة لا تقضي عن الميت الشافعي في اختلاف علوم الحديث (1) . ثانياً: الذين لا تجوز النيابة عنهم: أ- لا تجوز النيابة عن الأحياء القادرين على الفعل؛ فلا يجوز أن ينيب حيّ قادر غيره ليحج عنه أو يصوم عنه، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على عدم جواز النيابة عن القادر في حج واجب (2) . ب- ولا يجوز أن ينيب الحيُّ غير القادر أحدًا عنه إلا في الحجّ، أما الذي لا يستطيع الصوم فيطعم عن كل يوم مسكينًا، والخلاف في الحيّ غير القادر في الحجّ، إذا كان غير مستطيع بنفسه، ولكنَّه مستطيع بغيره. جـ- ولا تجوز النيابة عن ميّت لم يفرّط ولم يقصّر، فمذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي والجمهور أنَّ من كان عليه صوم، ولم يتمكن من قضائه حتى مات بسبب سفر أو مرض -أو غيرهما من الأعذار- فهذا لا شيء عليه، ولا يصام عنه، ولا يطعم عنه، قال العبدري: وهو قول كافة العلماء إلا طاووسًا وقتادة، فقالا: يجب أن يطعم عنه لكلّ يوم مسكينًا، لأنَّه عاجز فأشبه الشيخ الهرم" (3) . د- ولا تجوز النيابة عن شخص كان متعمدًا لترك العبادة، يقول ابن القيم: "من ترك الحجّ عمدًا حتى مات، أو ترك الزكاة فلم يخرجها حتى مات فإنَّ مقتضى الدليل وقواعد الشرع أن فعلهما عنه بعد الموت لا يبريء ذمته، ولا يقبل منه، والحق أحق أن يتبع" (4) . وقال في موضع آخر: "ولا يحج عن أحد إلا إذا كان معذورًا بالتأخير

_ (1) "اختلاف علوم الحديث" هامش "الأم" (2/89) . (2) "فتح الباري" (4/66) . (3) "المجموع للنووي" (6/431) . (4) "تهذيب السنن" (3/282) .

الرأي الراجح:

كما يعطم الولي عمن أفطر في رمضان لعذر". "فأما المفرط في غير عذر أصلا فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله تعالى التي فرط فيها، وكان هو المأمور بها ابتلاءً وامتحانًا دون الولي" (1) . وبهذا يتحرر محل النزاع، فالنزاع بين العلماء في النيابة في العبادات في عبادتين. الأولى: في الصوم عن الميت الذي عليه صوم نذر، أو صوم من رمضان، كان يمكنه قضاؤه، ثم توفّي قبل أن يقضيه. الثانية: في الحجّ في حالتين: في ميّت لم يحجّ ولم يكن متعمدًا للترك، ولكنَّه كان يسوف ويؤجل فوافاه الأجل. وفي حيّ غْير قادر على الحجّ بنفسه، ولكنّه قادر بغيره، بأن ينفق على من يحجّ عنه من ماله، أو يجد من يطيعه من ولد أو قريب إذا أمره بالحجّ عنه. الرأي الراجح: وما ذهب إليه الجمهور من جواز النيابة في الحجّ في الحالتين المذكورتين هو الرأي الراجح الذي تشهد له الأدلة كما بينا، ونرى أنّه تجوز النيابة فيه من الولد ومن غير الولد -خلافًا لمن قيده بذلك-. ومذهب الإمام الشافعي في عدم جواز النيابة في صوم الفريضة مذهب قويّ، إلا أننا نرجح مذهب الحنابلة في جواز النيابة في صوم النذر؛ لصحة الأحاديث في ذلك، على أن يكون النائب وليًا: ولدًا أو أبًا، أما غير الولي فلا؛ وذلك للحديث: "منْ مات وعليه صوم صام عنه وليه". ونستطيع القول بأن العبادات البدنية التي لا مدخل للمال فيها لا تجوز النيابة فيها مطلقًا، وهي الوضوء، والغسل، والتيمم، والصلاة، والصوم غير المنذور. والعبادات المالية تجوز فيها النيابة مطلقًا، ولذلك أقرَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل حبَّب قضاء الدين عن الميّت، فعن سلمة بن الأكوع: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بجنازة، فقالوا:

_ (1) "إعلام الموقعين" (4/482) .

إهداء ثواب العبادة للأموات

صل عليه. قال: "هل ترك شيئاً؟ " قالوا: لا. قال: "هل عليه دين؟ " قالوا: ثلاثة دنانير، قال: "صلّوا على صاحبكم"، قال رجل من الأنصار -يقال له أبو قتادة-: صلّ عليه يا رسول الله وعليَّ دينه" (1) . وعن أبي قتادة -رضي الله عنه- نحو من حديث سلمة بن الأكوع، وفيه: "أرأيت إن قضيت عنه، أتصلي عليه؟ قال: إن قضيت عنه بالوفاء صليت عليه، قال: فذهب أبو قتادة فقضى عنه، فقال: أوفيت ما عليه؟ قال: نعم، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى عليه" (2) . ويدلّ على ذلك ما سيأتي من جواز الصدقة عن الميت. أما العبادات التي فيها مدخل للمال كالحجّ، فالراجح دخول النياية فيها لأجل ذلك. -وبناء على هذا الأصل-: جاز للولي أن يقوم بتفريق زكاة مال اليتيم، وزكاة مال المحجوز عليه لجنون أو سفه، وجاز أن يفوض الرجل غيره في التصرف في ماله بما في ذلك إخراج الزكاة عنه. إهداء ثواب العبادة للأموات هذه المسألة شديدة الارتباط بالمسألة السابقة، بل إنَّ الفقهاء يعرضون هاتين المسالتين، وكأنهما مسألة واحدة. والأقوال فيهما متقاربة: فالإمام مالك -رحمه الله تعالى- منع من إهداء الثواب مطلقًا، وبذلك قالت المعتزلة (3) . وذهب ابن تيمية إلى جواز إهداء ثواب ما يتعبد به المرء للميّت مطلقًا، أي سواء أكان صلاة، أم صيامًا، أم حجًا، أم قراءة قرآن (4) .، وقد انتصر

_ (1) أخرجه البخاري في صحيحه. (2) رواه أحمد والسياق له "مشكاة المصابيح" (2/110) ، (5/297، 301، 302، 304، 311) ، وأخرجه الترمذي والنسائي والدارمي، (انظر: "أحكام الجنائز (ص 85)) . (3) "نيل الأوطار" (4/99) . (4) انظر: "مجموع الفتاوى" (26/16) ، وقد نسب هذا القول إلى ابن تيمية محمد رشيد رضا في "تفسير المنار" (8/254، 270) ، والألباني في "أحكام الجنائز" (ص 174) .

النية: ركن أم شرط في الصوم؟

ابن القيم لشيخه في كتاب "الروح"، و"أطال الاستدلال" و"الاحتجاج لنصرة هذا المذهب. وأجاز الإمام أحمد وبعض الشافعية إهداء ثواب قراءة القرآن إلى الأموات (1) ، ومنع من ذلك الشافعي -رحمه الله تعالى- كما منعه مالك. ويرى بعض العلماء أن جواز الإهداء مقصور على الابن، فيجوز له أن يهدي لأمه وأبيه، ولا يجوز من غيره (2) . حجج المانعين: احتج المانعون هنا بالحجج نفسها التي استدلّ بها مانعو النيابة في العبادات، وقد سبق ذكرها. حجج المجيزين: احتجوا بالنصوص التي تدل على جواز النيابة. وبالنظر في هذه الأدلة والنصوص التي ساقوها نجد أنها لا تنهض للاستدلال على جواز إهداء الثواب إلى الميت في كل العبادات. النية: ركن أم شرط في الصوم؟ * مذهب الحنابلة أن النية في العبادات شرط في صحتها. * ومذهب الأحناف كمذهب الحنابلة باستثناء الوضوء والغسل، فإنها سنة فيهما عندهم. * ومذهب المالكية كمذهب الحنابلة والأحناف كما أشار لذلك ابن العربي (3) . * واختلف علماء الشافعية -كما يقول النووي- في نية الصلاة: هل هي

_ (1) "نيل الأوطار" (4/99) . (2) انظر: "نيل الأوطار" (4/99) ، "تفسير المنار" (8/254) و"أحكام الجنائز" (ص 174) . (3) "أحكام القرآن" (1/286) .

الصوم في السفر

ركن أم شرط.؟ الأكثرون هي فرض وركن من أركان الصلاة. وممن عدها ركنًا إمام الحرمين -الجويني-. ومال الغزالي في "الوسيط" إلى عدّها شرطا في الصلاة، ونفى أن تكون من الأركان، إلا أنه جعلها في الصوم ركنًا (1) . * وحجة الحنابلة والأحناف والمالكية ومن وافقهم من الشافعية في أن النية شرط حديث "إنما الأعمال بالنيات" فالحديث يقضي بعدم المشروط عند عدم الشرط، فإذا قدرنا أن الذات الشرعية لا تكون إلا بالنية انتفت الشرعية بانتفاء النية، وهذا هو معنى الشرط. * وإذا قدرنا "الصحة" التي هي أقرب المجازين إلى الحقيقة - أفاد انتفاء الصحة بانتفاء النية. * وليست النية ركنًا عندهم، لأن ركن الشيء ما يتم به، وهو داخل فيه، والنية هنا ليست داخلة في العبادة، بل العبادة متوقفة عليها لا تصح إلا بها. * ومذهب الذين عدّوا النيّة ركنًا من الشافعية لا غبار عليه في العبادات التي يشترطون أن تكون النيّة فيها مقارنة لأول العبادة، ففي الصلاة يرى الشافعية أن النية يجب أن تقارن التكبير، ولا يجوز أن تتقدم عليه. * وعلى ذلك فيمكننا أن نقرر أن النية ينبغي أن تكون شرطا في العبادات إذا أجزنا تقدّم النيّة على العبادة، وركنًا إذا قلنا بوجوب مقارنتها لأول العبادة، أما القول بتقدم النيّة على العبادة كالصوم، ثم عدّها في هذه الحالة ركنًا - فهذا خطأ بيّن" (2) . الصوم في السفر المفطرون أقسام: * قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/165) :

_ (1) "نهاية الإحكام" (ص 43) . (2) "مقاصد المكلفين" لعمر الأشقر (ص 342-344) .

"المفطرون في الشرع على ثلاثة أقسام: القسم الأول: صنف يجوز له الفطر والصوم بإجماع. القسم الثاني: وصنف يجب عليه الفطر على اختلاف في ذلك بين المسلمين. القسم الثالث: وصنف لا يجوز له الفطر. وكل واحد من هؤلاء تتعلق به أحكام. * أما الذين يجوز لهم الأمران: أ- فالمريض: باتفاق. ب- والمسافر: باختلاف. جـ- والحامل والمرضع. د- والشيخ الكبير. وهذا التقسيم كله مجمع عليه. * أما المسافر فالنظر فيه في مواضع: (1) هل إن صام أجزأه صومه أم ليس يجزئه؟ (2) هل إن كان يجزيء المسافر صومه، الأفضل له الصوم أو الفطر أو هو مخير بينهما؟ (3) وهل الفطر الجائز له هو في سفر محدود أم في كل ما ينطلق عليه اسم السفر في وضع اللغة؟ (4) ومتى يفطر المسافر؟ (5) ومتى يمسك؟ (6) وهل إذا مرّ بعض الشهر له أن ينشيء السفر أم لا؟ (7) ثم إذا أفطر ما حكمه؟ * وأما المريض فالنظر فيه أيضاً في تحديد المرض الذي يجوز له فيه الفطر وفي حكم الفطر.

المسألة الأولى [إن صام المريض أو المسافر هل يجزيه؟]

المسألة الأولى [إن صام المريض أو المسافر هل يجزيه؟] إن صام المريض والمسافر هل يجزيه صومه عن فرضه أم لا؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى أنه إن صام، وقع صيامه وأجزأه، وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا يجزيه، وأن فرضه أيام أخر (1) . قال ابن عبد البر في "التمهيد" (22/48) : "قالوا: المسافر لا يصوم في سفره؛ لأن الله أراد منه صيام أيام أُخر، وهذا قول يروى عن عبيدة وسويد بن غفلة" ثم رد عليه -رحمه الله-. * قال النووي في "المجموع" (6/269-271) : في مذاهب العلماء في جواز الصوم والفطر في السفر "مذهبنا جوازهما وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال العبدري: هو قول العلماء. وقال الشيعة: لا يصح وعليه القضاء، واختلف أصحاب داود الظاهري فقال بعضهم.: يصح صومه، وقال بعضهم: لا يصح. وقال ابن المنذر: "كان ابن عمر وسعيد بن جبير يكرهان صوم المسافر" فقال: وروينا عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "إن صام قضاه"، قال: وروي عن ابن عباس فقال: "لا يجزئه الصيام" وحكى أصحابنا بطلان صوم المسافر عن أبي هريرة وأهل الظاهر والشيعة. * قال ابن حجر في "الفتح" (4/216) : "اختلف السلف في هذه المسألة فقالت طائفة: لا يجزيء الصوم في السفر عن الفرض، بل من صام في السفر وجب قضاؤه في الحضر لظاهر قوله تعالى: (فعدة من أيام أخر) ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس من البر الصيام في السفر" (2) ومقابلة البر الإثم، وإذا كان آثما بصومه لم يجزئه وهذا قول بعض أهل الظاهر، وحكي عن عمر وابن عمر وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم، واحتجوا بقوله تعالى: (فمن كان

_ (1) "بداية المجتهد" (2/165) . (2) رواه البخاري ومسلم عن جابر.

مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) قالوا: ظاهره فعليه عدة أو فالواجب عدّة، وتأوله الجمهور بأن التقدير فأفطر فعدة". قال ابن رشد: "وهذا الحذف في الكلام هو الذي يعرفه أهل صناعة الكلام بلحن الخطاب". * ودليل من ذهبوا إلى أن الصوم في السفر لا يصح ما رواه مسلم في "صحيحه" عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس البر أن تصوموا في السفر". * وروي مسلم عن جابر أيضاً: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراغ الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح ماء فرفعه. حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل بعد ذلك أن بعض الناس قد صام، فقال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة". * عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر أكثرنا ظلاً صاحب الكساء، فمنا من يقي الشمس بيده، فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر" رواه البخاري ومسلم. * وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره تؤتى معصيته" (1) . وفي حديث آخر: "إن الله تعالى يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه" (2) . * واحتج الجمهور بأحاديث منها: * عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أأصوم في السفر؟ -وكان في الصيام- فقال: "إن شئت فصم، وإن

_ (1) صحيح: رواه أحمد، وابن خزيمة وَابن حبان والبيهقي في "شعب الإيمان" وصححه ابن خزيمة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1886) . (2) صحيح: رواه أحمد والبيهقي في "سننه" عن ابن عمر، والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس وعن ابن مسعود وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1885) .

شئت فأفطر" (1) . * وعن حمزة بن عمرو -رضي الله عنه- أنه قال: "يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل عليّ جناح؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" رواه مسلم. * وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم، إلا ما كان من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وابن رواحة" رواه البخاري ومسلم. * وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كنا نسافر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" رواه الشيخان. * وعن أبي سعيد الخدري وجابر -رضي الله عنهما- قالا: "سافرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيصوم الصائم ويفطر المفطر، ولا يعيب بعض على بعض" رواه مسلم. * عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كنا نغزو مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفًا فأفطر فإن ذلك حسن" رواه مسلم. * وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "سافر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهارًا ليراه الناس، فأفطر حتى قدم مكة"؛ فكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: "صام رسول الله في السفر وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر، رواه البخاري. * وعن ابن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: "كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فقال لرجل: "انزِلْ فاجْدَح لي"، قال: يا رسول الله الشمس،

_ (1) رواه البخاري واللفظ له، ومسلم.

قال: "انزلْ فاجدح" (1) ، قال: يا رسول الله الشمس قال: "انزل فاجدح لي، فنزل فجدح له فشرب، ثم رمى بيده هنا ثم قال: "إذا رأيتم الليل أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم" فهو ظاهر في أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان صائماً. * وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة في رمضان فأفطر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصمت، وقصّر وأتممت، فقلت: بأبي وأمي أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت فقال: "أحسنت يا عائشة" (2) . ورد الجمهور على استدلال المانعين الصوم في السفر بحديث جابر "خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف من المسلمين، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة فسار ومن معه من المسلمين يصوم ويصومون حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطروا" (3) قال الزهري: وإنما يؤخذ بالآخرة فالآخرة من أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذه الزيادة التي في آخره من قول الزهري، وقعت مدرجة عند مسلم ولفظه: "حتى بلغ الكديد فأفطر" قال: وكان صحابة رسول الله يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره. وجزم البخاري في الجهاد أنها من قول الزهري، وفي رواية عند مسلم: "فلما بلغ الكديد بلغه أن الناس يشق عليهم الصيام، فدعا بقدح من لبن ثم أمسكه بيده حتى رآه الناس وهو على راحلته ثم شرب فأفطر" فمن أخذ بظاهر الحديث ظن أن الصوم في السفر منسوخ وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفطر بعد أن صام ونسب من صام إلى العصيان، ولا حجة في شيء من ذلك لأن مسلمًا أخرج من حديث أبي سعيد أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صام بعد هذه القصة في السفر ولفظه: "سافر مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مكة ونحن صيام، فنزلنا منزلاً، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا"، فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، فنزلنا منزلاً فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنكم مصبحو عدوكم فالفطر أقوى لكم فأفطروا"، فكانت عزيمة فأفطرنا. ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك في السفر"

_ (1) الجدح: تحريك السويق ونحوه بالماء بعود يقال له: المجدح مجنح الرأس. (2) رواه الدارقطني وقال: إسناده حسن، "المجموع" (6/270) . (3) رواه مسلم.

وهذا الحديث نص في المسألة، ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصائمين إلى العصيان لأنه عزم عليهم فخالفوا وهو شاهد لمن قال: إن الفطر أفضل لمن شق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوي على لقاء العدو. * وروى الطبري في تهذيبه من طريق خيثمة سألت أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن الصوم في السفر فقال: لقد أمرت غلامي أن يصوم، قال فقلت له: فأين هذه الآية (فعدة من أيام أخر) فقال: إنها نزلت ونحن نرتحل جياعًا وننزل على غير شبع، وأما اليوم فنرتحل شباعًا وننزل على شبع" فأشار أنس إلى الصفة التي يكون فيها الفطر أفضل من الصوم. * ما الجواب عن قول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس من البر الصيام في السفر" فسلك المجيزون فيه طرقًا: * فقال بعضهم قد خرج على سبب فيقصر عليه وعلى من كان في مثل حاله، وإلى هذا جنح البخاري في ترجمته "باب قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن ظُلِّلَ واشتد عليه الحر "ليس من البر الصوم في السفر". وساق الطبري سبب وروده الحديث ولفظه عنده من رواية كعب بن عاصم الاشعري: "سافرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في حر شديد، فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظل شجرة وهو مضطجع كضجعة الوجع، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما لصاحبكم، أي وجع به؟ فقالوا: ليس به وجع، ولكنه صائم وقد اشتد عليه الحر، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ: "ليس من البر أن تصوموا في السفر عليكم برخصة الله التي رخّص لكم"، ثم قال الطبري بعده: فكان قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك لمن كان في مثل هذه الحال. قال ابن دقيق العيد: أخذ من هذه القصة أن كراهة الصوم في السفر مختصة بمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينزل قوله: "ليس من البر الصوم في السفر" على مثل هذه الحالة، ثم قال ابن دقيق العيد: والمانعون في السفر يقولون: إن اللفظ عام، والعبرة بعمومه لا بخصوص السبب قال: وينبغي أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام

المسألة الثانية [هل الصوم في السفر أفضل أم الفطر]

وعلى مراد المتكلم، وبين مجرد ورود العام على سبب، فإن بين العامين فرقًا واضحًا، ومن أجراهما مجرى واحداً لم يصب، فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به كنزول آية السرقة في قصة سرقة رداء صفوان، وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم فهي المرشدة لبيان المجملات وتعيين المحتملات. وقال ابن المنير: هذه القصة تشعر بأن من اتفق له مثل ما اتفق لذلك الرجل أنه يساويه في الحكم، وأما من سلم من ذلك ونحوه فهو في جواز الصوم على أصله والله أعلم. وحمل الشافعي نفي البر المذكور في الحديث على من أبى قبول الرخصة فقال: معنى قوله: "ليس من البر" أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة، وقد أرخص الله تعالى له أن يفطر وهو صحيح وجزم ابن خزيمة وغيره بهذا المعنى. وقال الطحاوي: المراد بالبر الكامل الذي هو أعلى مراتب البر، وليس المراد إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برًّا لأن الإفطار قد يكون أبرّ من الصوم إذا كان للتقوى على لقاء العدو مثلاً، وهو نظير قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس المسكين بالطواف" ... الحديث، فإنه لم يرد إخراجه من أسباب المسكنة كلها، وإنما أراد أن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يجد غنى يغنيه ويستحي أن يسأل ولا يفطن له. *** المسألة الثانية [هل الصوم في السفر أفضل أم الفطر] قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/167-168) : "إذا قلنا أنه -أي المسافر- من أهل الفطر على مذهب الجمهور؛ فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة مذاهب: * فبعضهم رأى الصوم أفضل، وممن قال بهذا القول: مالك وأبو حنيفة.

المسألة الثالثة [هل الفطر الجائز للمسافر هو في سفر محدود أم غير محدود؟]

* وبعضهم رأى أن الفطر أفضل، وممن قال بهذا القول: أحمد وجماعة. * وبعضهم رأى أن ذلك على التخيير، وأنه ليس أحدهما أفضل". * ذهب أكثر العلماء إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق عليه وأطاقه بلا ضرر. وبه قال حذيفة بن اليمان وأنس بن مالك وعثمان بن أبي العاص -رضي الله عنهم-، وعروة بن الزبير والأسود بن يزيد وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وسعيد بن جبير والنخعي والفضيل بن عياض ومالك وأبو حنيفة والثوري وعبد الله بن المبارك وأبو ثور وآخرون. وبه قال الشافعي. وهو مذهب الجمهور. * وقال كثير منهم الفطر أفضل عملاً بالرخصة. وهو قول ابن عباس وابن عمر وابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وعبد الملك بن الماجشون المالكي. * وقال آخرون هو مخير مطلقًا وهما سواء. * وقال آخرون: أفضلهما: أيسرهما وأسهلهما عليه وهذا قول مجاهد وِعمر ابن عبد العزيز وقتادة واختاره ابن المنذر لقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر) فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسر كمن يسهل عليه حينئذ ويشق جمليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل والراجح: قول الجمهور. قال ابن حجر في "الفتح" (4/216) : "الحاصل أن الصوم لمن قوى عليه أفضل من الفطر، والفطر لمن شق عليه أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم، وأنه من لم يتحقق المشقة بخير بين الصوم والفطر"، ثم قال بعد ذلك: "والذي يترجح قول الجمهور". المسألة الثالثة [هل الفطر الجائز للمسافر هو في سفر محدود أم غير محدود؟] قال ابن رشد (2/169) .

المسألة الرابعة [متى يفطر المسافر ومتى يمسك؟]

"وهل الفطر الجائز للمسافر هو في سفر محدود أو في سفر غير محدود؟ * فإن العلماء اختلفوا فيها: فذهب الجمهور إلى أنه إنما يفطر في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، وذلك على حسب اختلافهم في هذه المسألة. وذهب قوم إلى أنه يفطر في كل ما ينطلق عليه اسم سفر وهم أهل الظاهر. * والسبب في اختلافهم معارضة ظاهر اللفظ للمعنى، وذلك أن ظاهر اللفظ أن كل ما ينطلق عليه اسم مسافر فله أن يفطر لقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وأما المعنى المعقول من إجازة الفطر في السفر فهو المشقة، ولما كانت لا توجد في كل سفر، وجب أن يجوز الفطر في السفر الذي فيه المشقة، ولما كان الصحابة كأنهم مجمعون على الحد في ذلك، وجب أن يقاس ذلك على الحد في تقصير الصلاة". * قال النووي في "المجموع" (6/269) : "فرع في مذاهب العلماء في السفر المجوز للفطر: مذهبنا أنه ثمانية وأربعون ميلاً بالهاشمي، وهذه المراحل مرحلتان قاصدتان وبهذا قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا في سفر يبلغ ثلاثة أيام كما قال في القصر، وقال قوم: يجوز في كل سفر وإن قصر". *** المسألة الرابعة [متى يفطر المسافر ومتى يمسك؟] * قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/170-171) : "متى يفطر المسافر ومتى يمسك؟ فإن قومًا قالوا: يفطر يومه الذي خرج فيه مسافرًا، وبه قال الشعبي والحسن وأحمد. وقالت طائفة: لا يفطر يومه ذلك، وبه قال فقهاء الأمصار. واستحب جماعة العلماء لمن علم أنه يدخل المدينة أول يومه ذلك أن يدخل صائماً، وبعضهم في ذلك أكثر تشديدًا من بعض، وكلهم لم يوجبوا على من دخل مفطرًا كفارة. واختلفوا فيمن دخل وقد ذهب بعض النهار، فذهب مالك والشافعي إلى

أنه يتمادى على فطره. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يكف عن الأكل، وكذلك الحائض عنده تطهر تكف عن الأكل. * قال ابن عبد البر في "التمهيد" (22/49-54) : [مالكي] "اتفق الفقهاء في المسافر في رمضان أنه لا يجوز له أن يبيت الفطر؛ لأن المسافر لا يكون مسافرًا بالنية، وإنما يكون مسافرًا بالعمل والنهوض في سفره، ويعمل عمل المسافر ويبرز عن الحضر فيجوز له حينئذ تقصير الصلاة وأحكام المسافر؛ ولا خلاف بينهم في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر في الحضر حتى يخرج. * واختلف أصحاب مالك في هذا إن أفطر قبل أن يخرج، فذكر ابن سحنون عن ابن الماجشون أنه قال: إن سافر فلا شيء عليه من الكفارة، وإن لم يسافر فعليه الكفارة. قال: وقال أشهب. لا شيء عليه من الكفارة سافر أو لم يسافر، وقال سحنون: عليه الكفارة سافر أو لم يسافر، ثم رجع إلى قول عبد الملك. * قال ابن حبيب: إن كان قد تأهب لسفره وأخذ في الحركة فلا شيء عليه. وحكى ذلك عن أصبغ وعن ابن الماجشون، فإن عاقه عن السفر عائق، كان عليه الكفارة؛ وحسبه أن ينجو إن سافر. وروى عيسى عن ابن القاسم أنه ليس عليه إلا قضاء يوم لأنه متأول في فطره. واختلف الفقهاء في الذي يصبح في الحضر صائماً في رمضان، ثم يسافر في صبيحة يومه ذلك وينهض في سفره: هل له أن يفطر ذلك اليوم أم لا؟ فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أنه لا يفطر ذلك اليوم بحال. وهو قول الزهري ويحيى بن سعيد والأوزاعي وبه قال أبو ثور.

_ (1) وهو مروي عن عبد الله بن عمر والشعبي. (2) وهو قول أنس.

* اختلفوا -إن فعل- فكلهم قال: يقضي ولا يكفر، وروي عن بعض أصحاب مالك أنه يقضي ويكفر، وهو قول ابن كنانة والمخزومي، وليس قولهما هذا بشيء؛ لأن الله قد أباح له الفطر في الكتاب والسنة وإنما قولهم لا يفطر استحبابًا لتمام ما عقده، فإن أخذ برخصة الله كان عليه القضاء، وأما الكفارة فلا وجه لها، ومن أوجبها فقد أوجب ما لم يوجبه الله. وروي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في هذه المسألة أنه يفطر إن شاء في يومه ذلك إذا خرج مسافرًا، وهو قول الشعبي، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق: قال أحمد: يفطر إذا برز عن البيوت (1) ، وقال إسحاق، يفطر حين يضع رجله في الرحل -وهو قول داود-. * وقال الحسن البصري: يفطر في بيته إن شاء يوم يريد أن يخرج (2) . قال أبو عمر: قول الحسن شاذ، ولا ينبغي لأحد أن يفطر، وهو حاضر لا في نظر ولا في أثر، وقد روي عن الحسن خلاف ذلك. ذكر عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن يقول: لا يفطر ذلك اليوم إلا أن يشتد عليه العطش، فإن خاف على نفسه أفطر. وقال إبراهيم: لا يفطر ذلك اليوم. * واختلفوا في الذي يختار الصوم في السفر فيصوم ثم يفطر نهارًا من غير عذر، فكان مالك يوجب عليه القضاء والكفارة. وقد روي عنه: أنه لا كفارة عليه وهو قول أكثر أصحابه إلا عبد الملك -فإنه قال: إن أفطر بجماع كفّر؛ لأنه لا يقوى بذلك على سفره ولا عذر له؟ وعلى ذلك مذاهب سائر الفقهاء بالحجاز والعراق: أنه لا كفارة عليه. وروى البويطي عن الشافعي قال: إن صح حديث الكديد (1) لم أر بأسا أن يفطر المسافر بعد دخوله في الصوم في سفره. وروى المديني عنه -كقول مالك-: أنه لا يرى الكفارة على من فعل ذلك.

_ (1) وقد صح.

قال أبو عمر: الحجة في سقوط الكفارة واضحة من جهة النظر؛ لأنه متأول غير هاتك لحرمة صومه عند نفسه وهو مسافر قد دخل في عموم إباحة الفطر، ومن جهة الأثر أيضاً، ثم ساق الأحاديث وقال: "فهذه الآثار كلها تبين لك أن للصائم أن يفطر في سفره بعد دخوله في الصوم مختارًا له في رمضان. * واختلفوا في المسافر يكون مفطرًا في سفره ويدخل الحضر في بقية يومه ذلك: قال مالك والشافعي وأصحابهما -وهو قول ابن علية وداود في المرأة تطهر والمسافر يقدم وقد أفطروا في السفر-: أنهما يأكلان ولا يمسكان. قال مالك والشافعي: ولو قدم مسافر في هذه الحال فوجد امرأته قد طهرت، جاز له وطؤها؛ قال الشافعي: أحب لهما أن يستترا بالأكل والجماع خوف التهمة. * وروى الثوري عن جابر بن زيد أنه قدم من سفر في شهر رمضان فوجد المرأة قد اغتسلت من حيضتها فجامعها. وروي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "من أكل أول النهار فليأكل آخره". قال سفيان: هو كصنيع جابر بن زيد، ولم يذكر سفيان عن نفسه خلافًا لهما. وقال ابن علية: القول ما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: من أكل أول النهار فليأكل آخره. * وقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح وعبيد الله بن الحسن في المرأة تطهر في بعض النهار، المسافر يقدم وقد أفطر في سفره: أنهما يمسكان بقية يومهما وعليهما القضاء؛ واحتج لهم الطحاوي بأن قال: لم يختلفوا أن مَنْ غم عليه هلال رمضان فأكل، ثم علم أنه يمسك عما يمسك عنه الصائم. وفرّق ابن شبرمة بن الحائض والمسافر: فقال في الحائض: تأكل ولا تصوم إذا طهرت بقية يومها، والمسافر إذا قدم ولم يأكل شيئًا يصوم يومه

سنة ميتة فتمسك بها:

ويقضي" أ. هـ. قال ابن رشد - رادًّا على الطحاوي في قياس السفر على يوم الشك وأنه يشبهه-: "من لم يشبهه به قال: لا يمسك عن الأكل؛ لأن الأول أكل لموضع الجهل، وهذا أكل لسبب مبيح أو موجب للأكل". فائدة: سُنَّة ميتة فتمسك بها: عن محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك -رضي الله عنه- في رمضان وهو يريد سفرًا وقد رحلت راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل فقلت: سُنَّة؟ قال سنة ثم ركب" (1) . وعند الدارمي والبيهقي والدارقطني بلفظ: "أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر، وقد رحلت دابته ولبس ثياب السفر، وقد تقارب غروب الشمس فدعا بطعام فأكل منه، ثم ركب فقلت له سنة؟ قال: "نعم". * عن جعفر بن جبر قال: كنت مع أبي بصرة الغفاري صحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفينة من الفسطاط في رمضان فرفع، ثم قرب غداه، قالِ جعفر في حديثه: "فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة، قال: اقترب، قلت: ألست ترى البيوت، قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال جعفر في حديثه: فأكل" (2) .

_ (1) رواه الترمذي واللفظ له، والضياء المقدسي في "المختارة" والدارمي، والبيهقي في "سننه"، والدارقطني، والطبراني في "المعجم الوسيط" وصحح الحديث: الترمذي وابن العربي والضياء المقدسي وابن القيم في "زاد المعاد"، وأبو المحاسن المقدسي في "مختصر أحاديث الأحكام" والألباني في رسالته القيمة "تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر والرد على من ضعفه" طبع المكتب الإسلامي. وقال الألباني: "ويمكن أن يضم إليهما: الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية فإنهما أخذا بالحديث وعملا به وذلك دليل على أن الحديث ثابت عندهما. (2) رواه أبو داود وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" رقم (2109) .

* عن دحية بن خليفة -رضي الله عنه- أنه خرج من قريته إلى قريب من قرية عقبة في رمضان، ثم إنه أفطر وأفطر معه ناس، وكره آخرون أن يفطروا، قال: فلما رجع إلى قريته، قال: "والله لقد رأيت اليوم أمرًا ما كنت أظن أن أراه! إن قومًا رغبوا عن هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه! يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللَّهم اقبضني إليك" (1) . * عن اللجلاج وغيره قالوا: كنا نسافر مع عمر -رضي الله عنه- ثلاثة أميال فيتجوز في الصلاة ويفطر" (2) . * وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال لي أبو موسى: ألم أنبِّأ أنّك إذا خرجت خرجت صائماً، وإذا دخلت دخلت صائماً؟ فإذا خرجت فاخرج مفطرًا. وإذا دخلت فادخل مفطرًا" (3) . * وعن ابن عمر -رضي الله عنهم- أنه خرج في رمضان فأفطر (4) . * وعن ابن عباس قال: "إن شاء صام وإن شاء أفطر" (5) . * عن مغيرة قال: خرج أبو ميسرة في رمضان مسافرًا فمرّ بالفرات، وهو صائم، فأخذ منه حسوة فشربه وأفطر (6) . * وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري قالا: يفطر إن شاء (7) .

_ (1) أخرجه أحمد وأبو داود: قال الألباني: "رجاله ثقات محتج بهم في "الصحيحين" غير منصور الكلبي، قال فيه العجلي في "كتاب الثاقات": مصري تابعي ثقة. ووثقه ابن حبان وقال ابن المديني: مجهول وهذا هو الراجح عندي، وقال الحافظ فيه: "مستور". (2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/151/2) بإسناد حسن أو قريب منه، كما قال الألباني في "تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره" (ص 31) . (3) رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح على شرط الستة. (4) قال الألباني: رواه ابن أبي شيبة بإسناد رجاله ثقات. (5) رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. (6) رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، ثم روى هو والبيهقي بسند آخر عنه مختصرًا وهو صحيح أيضاً. (7) رواه ابن أبي شيبة وسنده صحيح.

* وفي كتاب "المسائل" لإسحاق بن منصور المروزي ما نصه: "قلت - يعني للإمام أحمد-: إذا خرج مسافرًا متى يفطر؟ فقال: إذا برز عن البيوت، فقال إسحاق: يعني ابن راهوية-: بل حين يضع رجله فله الإفطار، كما فعل أنس بن مالك وسنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإذا جاوز البيوت قصر". * يقول الألباني -حفظه الله-: "ولقد أنصف الإمام ابن العربي -رحمه الله تعالى-، فإنه ذهب إلى العمل بالحديث في هذه المسألة خلافًا لكثير من علماء المالكية، وتبعه على ذلك القرطبي وغيره، وسبقهم إلى الجهر بذلك الحافظ ابن عبد البر". فقال ابن العربي في "عارضة الأحوذي" (4/13-16) - تعليقًا على الحديث: "وهذا صحيح، لم يقل به إلا أحمد بن حنبل!، فأما علماؤنا -يعني المالكية- فمنعوا منه، لكنهم اختلفوا إذا أكل هل عليه كفارة أم لا؟ فقال مالك في "كتاب ابن حبيب": لا كفارة عليه، وهو يقتضي جواز الفطر مع أهبة السفر". * وقال القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (2/278-279) بعد أن حكى الخلاف الذي ذكره ابن العربي-: "قلت: قول أشهب في نفي الكفارة حسن؛ لأنه فعل ما يجوز له فعله، والذمهّ بريئة، فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف، ثم إنه مقتضى قوله تعالى: (أو على سفر وقال أبو عمر ابن عبد البر: هذا أصح أقاويلهم في هذه المسألة، ولو كان الأكل مع نية الفطر يوجب عليه الكفارة، لأنه كان قبل خروجه ما أسقطها عنه خروجه، فتأمل ذلك تجده ذلك، إن شاء الله تعالى". وهذا هو الذي استظهره العلامة الصنعاني في "سبل السلام" (2/926) ، وهو الذي نقطع به لهذا الحديث الصحيح فإنه نص في المسألة لا يقبل التأويل، مع تأيده بظاهر القرآن والآثار الصحيحة عن السلف -رضي الله عنهم" (1) .

_ (1) رسالة "تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره والردّ على من ضعفه " (للشيخ الألباني - طبع المكتب الإسلامي) .

المسألة الخامسة [هل يجوز للصائم أن ينشئ سفرا ثم لا يصوم فيه]

المسألة الخامسة [هل يجوز للصائم أن ينشئ سفرًا ثم لا يصوم فيه] قال ابن رشد (2/171- 172) : "هل يجوز للصائم في رمضان أن ينشئ سفرا، ثم لا يصوم فيه؟ فإن الجمهور على أن يجوز ذلك له. وروي عن بعضهم وهو عبيدة السلماني وسويد بن غفلة وابن مجلز: أنه إن سافر فيه صام ولم يجيزوا له الفطر. والسبب في اختلافهم: اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وذلك أنه يحتمل أن يفهم منه أن من شهد بعض الشهر فالواجب عليه أن يصومه كله، ويحتمل أن يفهم منه أن من شهد أن الواجب أن يصوم ذلك البعض الذي شهده، وذلك أنه لما كان المفهوم باتفاق أن من شهده كله فهو يصومه كله، كان من شهد بعضه فهو يصوم بعضه، ويؤيد تأويل الجمهور إنشاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السفر في رمضان". يريد الله بكم اليسر "هذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها، فهي ميسرة لا عسر فيها، وهي توحي للقلب الذي يتذوقها، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها، وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد. سماحة تؤدي معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي سيل الحياة الجاري، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين. إن علينا أن نأخذ هذا الدين -كما أراده الله- بتكاليفه كلها، طاعة وتقوى، وأن نأخذه جملة بعزائمه ورخصه، متكاملاً متناسقا في طمأنينة

صيام المريض

إلى الله، ويقين بحكمته، وشعور بتقواه. والأحاديث بمجموعها تساعد على تصور ما كان عليه السلف الصالح من إدراك للأمر وصورة سلوك أولئك السلف -رضوان الله عليهم- أملأ بالحيوية، وألصق بروح هذه الدين وطبيعته من البحوث الفقهية ومن شأن الحياة معها وفي جوها أن تنشئ في القلب مذاقًا حيًّا لهذه العقيدة وخصائصها" (1) . صيام المريض اختلفوا في المرض الذي يجيز الفطر: * فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: هو المرض الذي تلحقه المشقة إن صام فيه أو يخاف زيادته. * وقال أحمد: هو المرض الغالب. * وقالت الظاهرية: إذا انطلق عليه اسم المريض أفطر. وسبب اختلافهم: هل المراد بالآية مطلق المرض أم المرض الذي تلحق صاحبه المشقة، أو المرض المتعارف بين الناس أنه يقال لصاحبه مريض. والراجح: ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة لقوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) . يقول الشيخ عمر الأشقر: "يجب أن نعلم أن المرض الذي يجوز الفطر به هو المرض الذي يزيد بالصوم، أو يتأخر برؤه به، أما المرض الذي لا يؤثر فيه الصوم فلا يجوز لصاحبه الفطر" (2) . * قال ابن حجر في "فتح الباري" (8/28) : "اختلف السلف في الحد الذي إذا وجده المكلف جاز له الفطر، والذي عليه الجمهور: أنه المرض الذي يبيح له التيمم مع وجود الماء، وهو إذا خاف على نفسه لو تمادى على الصوم، أو على عضو من أعضائه أو زيادة في المرض الذي بدأ به أو تماديه. وعن ابن

_ (1) "الظلال". (2) "الصوم في ضوء الكتاب والسنة" (ص28) .

الحامل والمرضع ماذا عليها إذا أفطرت

سيرين: متى حصل للإنسان حال يستحق بها اسم المرض فله الفطر، وقال عطاء: يفطر من المرض كله، وعن الحسن والنخعي: إذا لم يقدر على الصلاة قائمًا يفطر". الأمراض المبيحة للفطر: ا- أمراض القلب كالجلطة الحديثة، والذبحة الصدرية غير المستجيبة للعلاج -وقصور الشرايين التاجية، وهبوط القلب والحمى الروماتيزمية، واضطراب النبض. 2- أمراض الصدر: الالتهاب الرئوي الشعبي -حالات الدرن الحاد - حساسية الصدر - النزلة الشعبية الحادة. 3- أمراض الجهاز الهضمي: تليف الكبد - القرحة الحادة المزمنة في العدة أو الاثنى عشر، مرض الإسهال الحاد، أو المزمن. 4- الحمّيات: كالحمى التيفودية، الحمى المالطية - الالتهاب الكبدي - الالتهاب السحائي - الحصبة - الجدري الكاذب - حمى النفاس - التهاب الغدد اللمفاوية. 5- أمراض الكلى: التهاب الكلى - البولينا. 6- الأمراض النفسية: الصرع - الفصام. 7- أمراض النساء والولادة: الحمل. 8- أمراض العيون: (الجلوكوما) أو المياه الزرقاء - مرض الشبكية السكري. الحامل والمرضع ماذا عليها إذا أفطرت * روى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس -رضي الله عنهما- يقرأ (وعلى الذين يُطوَقونه (1) فدية طعام مسكين) قال ابن عباس: ليست بمنسوخة

_ (1) قال البخاري: (قراءة العامة يطيقونه وهو أكثر) -يعني: من أطاق يطيق-. وقرأ ابن عباس (يُطَوَّقونه) بفتح الطاء وتشديد الواو مبنيًا للمجهول مخفف الطاء من: طُوق. بضم أوله بوزن قطع، وهذه قراءة ابن مسعود أيضاً، وقد وقع عند النسائي عن عمرو بن دينار: يطوقونه: يكلفونه وهو تفسير حسن أي: يكلفون إطاقته.

"هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعمان مكان كل يوم مسكينًا". قال ابن حجر في "الفتح" (4/222) : "اتفقت الأخبار على أن قوله (وعلى الذين يطيقونه فدية) منسوخ، وخالف في ذلك ابن عباس فذهب إلى أنها محكمة لكنها مخصوصة بالشيخ الكبير ونحوه" وقال أيضًا في "الفتح" (8/29) : "قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة: -هذا مذهب ابن عباس-، وخالفه الأكثر، وفي هذا الحديث (1) ما يدل على أنها منسوخة. وهذه القراءة تضعف تأويل من زعم أن "لا" محذوفة من القراءة المشهورة، وأن المعنى: وعلى الذين لا يطيقونه فدية، وأنه كقول الشاعر "فقلت يمين الله أبرح قاعدًا" أي: لا أبرح قاعدًا، ورد بدلالة القسم على النفي بخلاف الآية، ويثبت هذا التأويل أن الأكثر على أن الضمير في قوله تعالى: (يطيقونه) للصيام فيصير تقدير الكلام وعلى الذين يطيقون الصيام فدية، والفدية لا تجب على المطيق إنما تجب على غيره، والجواب عن ذلك أن في الكلام حذفًا تقديره: وعلى الذين يطيقون الصيام إذا أفطروا فدية، وكان هذا في أول الأمر عند الأكثر، ثم نسخ وصارت الفدية للعاجز إذا أفطر وقد تقدم حديث ابن أبي ليلى قال: "حدثنا أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نزل رمضان شق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينًا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك فنسختها: (وأن تصوموا خير لكم) ، وأما على قراءة ابن عباس فلا نسخ لأنه يجعل الفدية على من تكلف الصوم وهو لا يقدر عليه فيفطر ويكفر، وهذا الحكم باق". الحامل والمرضع إذا أفطرتا ماذا عليهما؟ هذه المسألة للعلماء فيها أربعة مذاهب:

_ (1) عن سلمة بن الأكوع قال: "لما نزلت (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها" رواه البخاري قال ابن حجر: هذا صريح في دعوى النسخ وأصرح منه ما تقدم من حديث ابن أبي ليلى.

* أحدها: أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس وسعيد بن جبير. * والقول الثاني: أنهما يقضيان فقط ولا يطعمان، وهو مقابل الأول، به قال عطاء بن أبي رباح والحسن والضحاك والنخعي والزهري وربيعة والأوزاعي وأبو حنيفة والثوري وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي. قال ابن المنذر: وبقول عطاء أقول. * والثالث: أنهما يقضيان ويطعمان: "يفديان"، وهو قول الشافعي وأحمد وروي عن مجاهد. * والقول الرابع: أن الحامل تفطر وتقضي ولا فدية، والمرضع تفطر وتقضي وتفدي. وبه قال مالك ورواية عن الشافعي. وسبب اختلافهم تردد شبههما بين الذي يجهده الصوم وبين المريض، فمن شبّههما بالمريض؛ قال: عليهما القضاء فقط، ومن شبّههما بالذي يجهده الصوم؛ قال: عليهما الإطعام فقط بدليل قراءة من قرأ: (يطَوَّقونه فدية طعام مسكين) الآية. * وأما من جمع عليهما الأمرين فيشبه أن يكون رأى فيهما من كل واحد شبها فقال: عليهما القضاء من جهة ما فيهما من شبه المريض، وعليهما الفدية من جهة ما فيهما من شبه الذين يجهدهم الصيام، ويشبه أن يكون شبههما بالمفطر الصحيح، لكن يضعف هذا، فإن الصحيح لا يباح له الفطر. * ومن فرّق بين الحامل والمرضع ألحق الحامل بالمريض وأبقى حكم المرضع مجموعا من حكم المريض، وحكم الذي يجهده الصوم أو شبهها بالصحيح، ثم قال ابن رشد: "ومن أفرد لها أحد الحكمين أولى -والله أعلم- ممن جمع، كما أنّ من أفردهما بالقضاء أولى ممن أفردهما بالإطعام فقط؛ لكون القراءة غير متواترة، فتأمل هذا فإنه بيّن" (1) .

_ (1) "بداية المجتهد" (2/176-177) .

* قال الشيخ عمر الأشقر: "وممن يلحق بالمريض الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما، أو شق عليهما الصوم فلهما الفطر وعليهما قضاء عدة ما أفطرتاه، فعن أنس بن مالك الكعبي (1) قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة، والصوم عن المسافر وعن المرضع والحبلى" (2) . وعن أنس بن مالك الكعبي قال: "غارت علينا خيل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتيت رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجدته يتغدى فقال: "أدْن فكل" فقلت: إني صائم فقال: "ادن أحدثك عن الصوم -أو الصيام-" إن الله تبارك وتعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع الصوم -أو الصيام" والله لقد قالهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كليهما أو أحدهما فيا لهف نفسي ألا أكون طعمت طعام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". وحصل الخلاف بين العلماء هل عليهما شيء آخر غير القضاء؟ فمن العلماء من أوجب أن يُطعما مسكينًا عن كل يوم أفطرتاه، ومن ذهب إلي وجوب الإطعام مع صيام عدة الأيام فليس لديه دليل يوجب الإطعام" (3) . * قال ابن قدامة في "المغني" (4/395) : "قال ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم- ولا مخالف لهما في الصحابة-: لا قضاء عليهما؛ لأن الآية تناولتهما، وليس فيها إلا الإطعام، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم" ولنا أنهما يطيقان القضاء، فلزمهما كالحائض والنفساء، والآية أوجبت الطعام ولم تتعرض للقضاء فأخذناه من دليل آخر. والمراد بوضع الصوم: وضعه في مدة عذرهما ولا يشبهان الشيخ الهرمّ، لأنه عاجز عن القضاء وهما يقدران عليه. قال أحمد: "أذهب إلى حديث أبي هريرة" يعني: ولا أقول بقول ابن

_ (1) هو غير أنس بن مالك الأنصاري خادم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما رجل من بني عبد الله بن كعب، انظر "الإصابة" (1/114-115) "وتجريد أسماء الصحابة" (1/31) . (2) أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه والبغوي، وأحمد، وجوّد إسناده الشيخ الألباني -حفظه الله- في "مشكاة المصابيح" (1/629) . (3) "الصوم في ضوء الكتاب والسنة" (ص 29-30) .

بحث للألباني في "الحامل والمرضع"

عباس وابن عمر في منع القضاء. فرع: قال النووي في "المجموع" (6/274) : "إذا أوجبنا الفدية على المرضع إذا أفطرت للخوف على ولدها، فلو استؤجرت لإرضاع ولد غيرها فالصحيح بل الصواب الذي قطع به القاضي حسين في فتاويه وصاحب التتمة وغيرهما أنه يجوز لها الإفطار وتفدى، كما في ولدها، بل قال القاضي حسين: يجب عليها الإفطار إن تضرّر الرضيع بالصوم، واستدل صاحب التتمة بالقياس على السفر، فإنه يستوي في جواز الإفطار به من سافر لغرض نفسه وغرض غيره بأجرة وغيرها، وشذ الغزالي في فتاويه فقال: "ليس عليها أن تفطر ولا خيار لأهل الصبي" وهذا غلط ظاهر. قال القاضي حسين: وعلى من تجب فدية فطرها في هذا الحال؟ فيه احتمالان أصحهما وجوبها على المرضع. قال القاضي: ولو كان هناك نسوة مراضع فأرادت واحدة أن تأخذ صبيًا ترضعه تقربًا إلى الله تعالى، جاز لها الفطر للخوف عليه، وإن لم يكن متعينًا عليها". فرع: لو كانت المرضع أو الحامل مسافرة أو مريضة فأفطرت بنية الترخص بالمرض أو السفر فلا فدية عليها بلا خلاف. بحث للألباني في "الحامل والمرضع" * عن عمرو بن دينار (يطيقونه) : يكلّفونه، (فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً) طعام مسكين آخر، ليست بمنسوخة (فهو خير له وأن تصوموا خير لكم) لا يرخص في هذا إلا للذي لا يطيق الصيام أو مريض لا يشفى" (1) . * عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "رخص للشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة في ذلك -وهما يطيقان الصوم- أن يفرطا إن شاءا، ويطعما كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليهما، ثم نسخ ذلك في هذه الآية:

_ (1) رواه النسائي والدارقطني، وقال الدارقطني: إسناده صحيح ثابت، وقال الألباني في "إرواء الغليل" (912) (4/17) : إسناده صحيح.

فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم، والحسبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا، وأطعمتا كل يوم مسكينًا" (1) . * وعن ابن عباس قال: "إذا خافت الحامل على نفسها، والمرضع على ولدها في رمضان قال: يفطران، ويطعمان مكان كل يوم مسكينًا، ولا يقضيان صومًا" (1) . * وعن ابن عباس: "أنه رأى أم ولد له حاملاً أو مرضعًا فقال: أنت بمنزلة الذي لا يطيق، عليك أن تطعمي مكان كل يوم مسكينًا ولا قضاء عليك" (3) . * وعنه "أنت من الذين لا يطيقون الصيام، عليك الجزاء، وليس عليك القضاء" (4) . * وعن ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهما- قالا: "الحامل والمرضع تفطر ولا تقضى" (5) . * وعن ابن عمر: "أن امرأته سألته وهي حبلى، فقال: أفطري وأطعمي عن كل يوم مسكينًا ولا تقضي" (6) . * وعن نافع قال: "كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش، وكانت حاملاً، فأصابها عطش في رمضان، فأمرها ابن عمر أن تفطر وتطعم عن كل يوم مسكينًا" (7) .

_ (1) رواه ابن جرير في "تفسيره" (2752، 2753) وبن الجارود في "المنتقى" والبيهقي عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال الألباني في "إرواء الغليل" (4/18) : إسناد هذه الرواية صحيح على شرط الشيخين. (2) رواه الطبري في "تفسيره"، وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم. انظر: "الإرواء" (4/19) . (3) إسناده صحيح على شرط مسلم. (4) رواه الدارقطني وقال: "إسناده صحيح". (5) رواه الدارقطني وقال: هذا صحيح. (6) قال الألباني في "إرواء الغليل" (4/20) : وإسناده جيد. (7) رواه الدارقطني وقال الألباني في "الإرواء" (4/21) : إسناده صحيح.

* وعن مجاهد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قرأ: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) يقول: "هو الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام فيفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا: نصف صاع من حنطة" (1) . * وعن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إذا عجز الشيخ الكبير عن الصيام أطعم عن كل يوم مدا مدا" (2) . * وعن قتادة أن أنسًا -رضي الله عنه- ضعف قبل موته فأفطر، وأمر أهله أن يطعموا مكان كل يوم مسكينًا (3) . * وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه ضعف عن الصوم عامًا فصنع جفنة ثريد ودعا ثلاثين مسكينًا فأشبعهم (4) . قال الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (4/22- 25) : "إن قول ابن عباس في هذه الآية: (وعلى الذين يطيقونه ... ) ليست منسوخة، وأن، المراد بها الشيخ الكبير المرأة الكبيرة لا يستطيعان الصيام إشكالاً كبيرًا؛ ذلك لأن معنى (يطيقونه) أي: يستطيعون بمشقة، فكيف تفسر حينئذ أن المراد بها من لا يستطيع الصيام؟ لا سيما وابن عباس -رضي الله عنهما- نفسه يذكر في رواية عزرة أن الآية نزلت في الشيخ الكبير والعجوز الكبير وهما يطيقان أي يستطيعان الصوم، ثم نسخت، فكيف تفسر الآية بتفسيرين متناقضين (يستطيعون) و (لا يستطيعون) ؟! وأيضًا فقد جاء عن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: "لما نزلت (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) كان من أراد أن يفطر ويفتدي فعل حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها" أخرجه الستة إلا ابن ماجه. وفي رواية عنه قال: "كنا في رمضان على عهد. رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

_ (1) رواه الدارقطني وصححه. (2) رواه الدارقطني وصححه. (3) رواه الدارقطني، وقال الألباني في "الإرواء" (4/21) : سنده صحيح. (4) رواه الدارقطني، وقال الألباني في "الإرواء" (4/22) : سنده صحيح وعلقّ البخاري بنحوه.

من شاء صام ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين، حتى نزلت هذه الآية: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) أخرجه مسلم. فهذا يبيِّن لنا أن في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- إشكالاً آخر، وهو أنه يقول: أن الرخصة التي كانت في أول الأمر، إنما كانت للشيخ أو الشيخة وهما يطيقان الصيام، وحديث سلمة يدل على أن الرخصة كانت عامة لكل مكلف شيخًا أو غيره، وهذا هو الصواب قطعًا لأن الآية عامة، فلعل ذكر ابن عباس -رضي الله عنهما- للشيخ والشيخة لم يكن منه على سبيل الحصر، بل التمثيل، وحينئذ فلا اختلاف بين حديثه والحديث المذكور، ويبقى الخلاف في الإشكال الأول قائمًا لأن الحديث المشار إليه صريح في نسخ الآية، وابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: ليست بمنسوخة. ويحملها على الذين لا يستطيعون الصيام كما سبق بيانه، فلعل مراد ابن عباس -رضي الله عنهما- أن حكم الفدية الذي كان خاصًا بمن يطيق الصوم ويستطيعه، ثم نسخ دلالة القرآن، كان هذا الحكم مقررًا أيضاً في حق من لا يطيق الصوم ولا يستطيعه، غير أن الأول ثبت بالقرآن وبه نسخ، وأما الآخر فإنما يثبت مشروعيته بالسنة لا بالقرآن ثم لم ينسخ، بل استمرت مشروعيته إلى يوم القيامة، فأراد ابن عباس -رضي الله عنهما- أن يخبر عن الفرق بين الحكمين: بأن الأول نسخ، والآخر لم ينسخ، ولم يرد أن هذا يثبت بالقرآن بآية (وعلى الذين يطيقونه) وبذلك يزول الإشكال إن شاء الله تعالى. ويؤيد ما ذكرته أن ابن عباس -رضي الله عنهما- في رواية عزرة بعد أن ذكر نسخ الآية المذكورة قال: "وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم، والحبلي والمرضع إذا خافتا أفطرتا، وأطعمتا كل يوم مسكينًا" ففي قوله: "ثبت" إشعار بأن هذا الحكم في حق من لا يطيق الصوم كان مشروعًا، كما كان مشروعًا في حق من يطيق الصوم، فنسخ هذا، واستمر الآخر، وكل من شرعيته واستمراره إنما عرفه ابن عباس -رضي الله عنهما- من السنة وليس من القرآن. ويزيده تأييدًا، أن ابن عباس -رضي الله عنهما- أثبت هذا الحكم

للحبلى والمرضع إذا خافتا ومن الظاهر جدًا أنهما ليسا كالشيخ والشيخة في عدم الاستطاعة، بل إنهما مستطيعتان، ولذلك قال لأم ولد له أو مرضع: "أنت بمنزلة الذي لا يطيق" فمن أين أعطاهما ابن عباس -رضي الله عنهما- هذا الحكم مع تصريحه بأن الآية (وعلى الذين يطيقونه) منسوخة؟ ذلك من السنة بلا ريب. وبذلك يلتقي حديث سلمة مع حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، ويتبين أن في حديثه ما يوافق حديث سلمة، ويزيد على حديث سلمة وهو ثبوت الإطعام على العاجز عن الصيام، فاتفقت الأحاديث ولم تختلف والحمد لله على توفيقه. وإذا عرفت هذا فهو خير مما ذكره الحافظ في "الفتح": "أن ابن عباس ذهب إلى أن الآية المذكورة محكمة، لكنها مخصوصة بالشيخ الكبير" لما عرفت أن ابن عباس -رضي الله عنهما- صرّح بأن الآية منسوخة، لكن حكمها منسحب إلى العاجز عن الصيام. بدليل السنة لا الكتاب لما سبق بيانه، وقد توهم كثيرون أن ابن عباس -رضي الله عنهما- يخالف الجمهور الذين ذهبوا إلى نسخ الآية وانتصر لهم الحافظ ابن حجر في "الفتح" فقال (8/136) تعليقًا على رواية البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قرأ (فدية طعام مسكين) : "هو صريح في دعوي النسخ، ورجحه ابن المنذر من جهة قوله: (وأن تصوموا خير لكم) قال: لأنها لو كانت في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام لم يناسب أن يقال له: (وأن تصوموا خير لكم) مع أنه لا يطيق الصيام". قلت: وهذه حجة قاطعة فيما ذكر، وهو يشير بذلك إلى الرد على ابن عباس -رضي الله عنهما-، ومثله لا يخفى عليه مثلها، ولكن القوم نظروا إلى ظاهر الرواية المتقدمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عند البخاري - الصريحة في نفي النسخ-، ولم يتأملوا في الرواية الأخرى الصريحة في النسخ-، ثم لم يحاولوا التوفيق بينهما، وقد فعلنا ذلك بما سبق تفصيله. وخلاصته: أن يحمل النفي على نفي نسخ الحكم لا الآية، والحكم

مأخوذ من السنة، ويحمل النسخ عليها، بذلك يتبين أن ابن عباس -رضي الله عنهما- ليس مخالفًا للجمهور. وهذا الجمع مما لم أقف عليه في كتاب، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ من نفسي، وأستغفر الله من كل مالا يرضيه" انتهى قول الشيخ الألباني. * وجاء في صفة صوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان لتلميذي الشيخ الألباني: سليم الهلالي وعلي حسن علي عبد الحميد: "قد يظن أن ابن عباس مخالف لجمهور الصحابة، أو أنه متناقض، وخاصة إذا عرفت أنه صرح بالنسخ في رواية أخرى. وقد نظر القوم إلى ظاهر الرواية المتقدمة عند البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه" الصريحة في نفي النسخ، فظنوا أن حبر الأمة مخالف لجمهور الصحابة، ولما صدموا بالرواية الصريحة في النسخ، زعموا أنه متناقض". * والحق الذي لا ريب فيه أن الآية منسوخة لكن بمفهوم الأقدمين للنسخ، فقد كان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- يطلقون النسخ على رفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد أو حمل مطلق على مقيد، وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخًا لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ في لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه (1) . ومعلوم أن من تأمل كلامهم رأى فيه ما لا يحصى من ذلك، وزال عنه إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر، والذي يتضمن أن يُرفع حكم شرعي متقدم بدليل شرعي متأخر بالنسبة للمكلفين. ويؤيد هذا المعنى أن الآية عامة لكل مكلف ... والحديث صريح في أن الآية منسوخة بالنسبة للذي يطيق الصيام، غير منسوخة بالنسبة للذي لا يطيق الصيام أي: إن الآية مخصوصة لذلك، فإن ابن

_ (1) انظر: "أعلام الموقعين" (1/35) ، و"الموافقات" (3/118) .

عباس -رضي الله عنهما- موافق للصحابة، وحديثه موافق لحديثي عبد الله بن عمر وسلمة -رضي الله عنهم-، وكذلك غير متناقض فقوله: "ليست بمنسوخة أي: إن الآية مخصوصة، وبهذا يتبين أن النسخ في فهم الصحابة يقابل التخصيص والتقييد في مفهوم الأصوليين المتأخرين ولهذا الأمر أشار القرطبي -رحمه الله- في "تفسيره" (1) . ولعلك أخي المسلم تظن أن ما ثبت عن ابن عباس ومعاذ (2) -رضي الله عنهما- مجود رأي واجتهاد وإخبار وهو لا يرقى إلى مصاف الحديث المرفوع الذي يخصص عام القرآن ويقيد مطلقه ويفسر مجمله، والجواب كالآتي: 1- إن هذين الحديثين لهما حكم المرفوع باتفاق أهل العلم بحديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يجوز لمؤمن يحب الله ورسوله أن يخالفهما إذا ثبتا لديه لأنهما جاءا في تفسير يتعلق لسبب نزول أي: إن هذين الصحابيين الذين شهدا الوحي والتنزيل أخبرا عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فهذا حديث مسند لا ريب (3) . 2- أثبت ابن عباس -رضي الله عنهما- هذا الحكم للمرضع والحبلى فمن أين أعطاهما هذا الحكم؟ لاشك أنه من السنة، وخاصة أنه لم ينفرد بل وافقه عبد الله بن عمر الذي روى أن هذه الآية منسوخة. 3- لا مخالف لابن عباس -رضي الله عنهما- من الصحابة كما جاء في

_ (1) "الجامع لأحكام القرآن" (2/228) . (2) حديث معاذ "أما أحوال الصيام، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم الدينة فجعل يصوم ثلاثة أيام من كل شهر وصيام عاشوراء، ثم إن الله فرض عليه الصيام فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ... ) الآية، ثم أنزل الله الآية الأخرى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) الآية، فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، فهذا حولان ... " رواه أبو داود والحاكم والبيهقي وأحمد. وقال الحَاكم "صحيح الإسناد ووافقه الذهبي" وأعله البيهقي والدارقطني والمنذري بأن هذا مرسل فعبد الرحمن ابن أبي ليلى لم يدرك معاذ بن جبل. قال الألباني في "الإرواء" (4/21) : لكن قد جاء بعضه من طريق غير السعودي. (3) انظر: "تديب الراوي" (1/192-193) ومقدمة ابن الصلاح (ص24) .

القضاء

المغني" (3/21) . 4- هذا البيان يبين معنى وضع الصوم عن الحامل والمرضع الوارد في حديث أنس بن مالك والكعبي المتقدم -رضي الله عنهما-، وأنه مقيد بالخوف على نفسها أو ولدها، وأن عليها الجزاء لا القضاء. 5- من زعم أنه وضع الصوم على الحامل والمرضع كوضع الصيام عن المسافر ورتب على ذلك أن القضاء يلزمهما مردود عليه؛ لأن القرآن بين معنى وضع الصيام عن المسافر (فعدة من أيام أخر) وبين كذلك معنى وضعه عمن لا يطيقونه (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) وقد ثبت لديك أن الحامل والمرضع ممن تشملهم هذه الآية بل هي خاصة لهم. القضاء قضاء رمضان للمسافر والمريض، والحامل والمرضع علي قول الجمهور لا يجب على الفور بل يجب على التراخي وجوبًا موسعًا؛ لما ورد عن عائشة -رضي الله عنها-: "كان يكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان" (1) . قال الحافظ في "الفتح" (4/191) : "وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان سواءً كان لعذر أو لغير عذر". والمبادرة إلى القضاء أولى من التأخير قال تعالى: (وسارعوا إِلى مغفرة من ربكم) الآية. وقال تعالى: (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) [المؤمنون: 61] . * ويتعلق بقضاء رمضان مسائل: منها: هل يقضيان ما عليهما متتابعًا أم لا؟

_ (1) أخرجه البخاري ومسلم.

المسألة الأولى [هل يقضى الصوم متتابعا أم لا؟]

ومنها: ماذا عليهما إذا أخرا القضاء بغير عذر إلى أن يدخل رمضان آخر. ومنها: إذا ماتا ولم يقضيا هل يصوم عنهما وليهما أو لا يصوم؟ المسألة الأولى [هل يقضى الصوم متتابعًا أم لا؟] * ذهب جمهور الفقهاء على عدم وجوب التتابع في قضاء رمضان إلا أنه مستحب عندهم ويجوز تفريقه. قال النووي في "المجموع" (6/413) : "مذهبنا أنه يستحب تتابعه ويجوز تفريقه، وبه قال علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن عباس وأنس وأبو هريرة والأوزاعي، والثوري وأبو حنيفة ومالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور -رضي الله عنهم-". قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لا بأس به أن يفرق" (1) . وقال أبو هريرة -رضي الله عنه- "يواتره إن شاء" (2) . قال أبو داود في مسائله (ص95) : "سمعت أحمد سُئل عن قضاء رمضان؟ قال: إن شاء فرّق وإن شاء تابع". ولا يختلف المجيزون للتفريق أن التتابع أولى. * ونقل ابن المنذر وغيره عن علي وعائشة وجوب التتابع وهو قول بعض أهل الظاهر. وروى عبد الرزاق بسنده عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال "يقضيه تباعًا". وعن عائشة -رضي الله عنها-: "نزلت (فعدة من أيام أخر متتابعات) فسقطت متتابعات" (3) . وهذا إن صح يشعر بعدم وجوب التتابع فكأنه كان أولاً واجبًا ثم نسخ (4) .

_ (1) أخرجه البخاري معلقًا ووصله الدارقطني وعبد الرزاق وابن أبي شيبة بسند صحيح. (2) أخرجه ابن أبي شيبة والدارقطني وإسناده صحيح. (3) خرجه عبد الرزاق في "المصنف" والدارقطني والبيهقي عن عائشة -رضي الله عنهما، وقال الدارقطني: صحيح وقال البيهقي: "قولها سقطت تريد: لا يصح له تأويل غير ذلك". (4) "فتح الباري" (4/223) .

متى يقضى؟

قال النووي: "وعن ابن عمر وعائشة والحسن البصري وعروة بن الزبير والنخعي وداود الظاهري أنه يجب التتابع". قال داود: هو واجب وليس بشرط. وحكى صاحب البيان عن الطحاوي أنه قال: "التتابع والتفريق سواء، ولا فضيلة في التتابع". * قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/173-174) : "وسبب اختلافهم تعارض ظواهر اللفظ والقياس، وذلك أن القياس يقتضي أن يكون الأداء على صفة القضاء، أصل ذلك الصلاة والحج. أما ظاهر قوله تعالى: (فعدة من أيام أخر) فإنما يقتضي إيجاب العدد فقط لا إيجاب التتابع". متى يقضى؟ قال ابن المسيب: "لا بأس أن يقضي رمضان في العشر". ورواه البخاري معلقًا: "قال سعيد بن المسيب في صوم العشر: لا يصلح حتى يبدأ برمضان". قال ابن حجر: "روى ابن المنذر عن علي -رضي الله عنه- أنه نهى عن قضاء رمضان في عشر ذي الحجة وإسناده ضعيف، قال: وروي بإسناد صحيح نحوه عن الحسن والزهري وليس مع أحد منهم حجة على ذلك، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عمر أنه كان يستحب ذلك" (1) . قال النووي في "المجموع" (6/413) [شافعي] .: "يجوز قضاء رمضان عندنا في جميع السنة غير رمضان الثاني وأيام العيد والتشريق، ولا كراهة في شيء من ذلك سواء ذو الحجة وغيره، وحكاه ابن المنذر عن سعيد ابن المسيب وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وبه قال جمهور العلماء.

_ (1) "فتح الباري" (4/223) .

ماذا على من أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر

قال ابن المنذر: وروينا عن علي بن أبي طالب أنه كره قضاءه في ذي الحجة، قال: وبه قال الحسن البصري والزهري، قال ابن المنذر: وبالأول أقول لقوله تعالى: (فعدة من أيام أخر) . ماذا على من أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر * عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أي إنسان مرض في رمضان، ثم صح فلم يقضه حتى أدركه رمضان آخر فليصم الذي حدث، ثم يقض الآخر ويطعم مع كل يوم مسكينًا". قال ابن جريج لعطاء: كم بلغك يُطْعَم؟ قال: مَدًا، زعموا". * وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "من فرط في صيام رمضان حتى أدركه رمضان آخر فليصم هذا الذي أدركه، ثم ليصم ما فاته ويطعم مع كل يوم مسكينًا". * قال النووي في "المجموع" (6/412-413) : "مذهب العلماء فيمن أخّر قضاء رمضان بغير عذر: مذهبنا أنه يلزمه صوم رمضان الحاضر، ثم يقضي الأول ويلزمه عن كل يوم فدية، وهي مد من طعام، وبهذا قال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء بن أبي رباح والقاسم بن محمد والزهري والأوزاعي ومالك والثوري وأحمد وإسحاق، إلا أن الثوري قال: الفدية مُدّان عن كل يوم. * وقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبو حنيفة والمزني وداود: يقضيه ولا فدية عليه. أما إذا دام سفره ومرضه ونحوهما من الأعذار حتى دخل رمضان الثاني فمذهبنا أنه يصوم رمضان الحاضر، ثم يقضي الأول ولا فدية عليه لأنه معذور. وحكاه ابن المنذر عن طاووس والحسن البصري والنخعي وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق، وهو مذهب أبي حنيفة والمزني

وداود. قال ابن المنذر: وقال ابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وقتادة: يصوم رمضان الحاضر عن الحاضر، ويفدي عن الغائب ولا قضاء عليه". قال العلامة ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/174) : "وسبب اختلافهم: هل تقاس الكفارات بعضها على بعض أم لا؟ فمن لم يجز القياس في الكفارات قال: عليه القضاء فقط. ومن أجاز القياس في الكفارات قال: عليه كفارة -قياسًا على من أفطر متعمدًا-؛ لأن كليهما مستهين بحرمة الصوم. أما هذا فيترك زمان القضاء، وأما ذلك فبالأكل في يوم لا يجوز فيه الأكل، وإنما كان يكون القياس مستندًا لو ثبت أن للقضاء زمانًا محدودًا بنص من الشارع؛ لأن أزمنة الأداء هي المحدودة في الشرع؛ وقد شدّ قوم فقالوا: إذا اتصل مرض المريض حتى يدخل رمضان آخر أنه لا قضاء عليه، وهذا مخالف للنص" ا. هـ. * قال البخاري: "ولم يذكر الله تعالى الإطعام، إنما قال: (فعدة من أيام أخر) . قال ابن حجر (4/224) في رده على قول البخاري: "لكن إنما يقوى ما احتج به إذا لم يصح في السنة دليل الإطعام إذ لا يلزم من عدم ذكره في الكتاب أن لا يثبت بالسنة، ولم يثبت فيه شيء مرفوع وإنما جاء فيه عن جماعة من الصحابة -منهم من ذكر، ومنهم عمر -عند عبد الرزاق-، ونقل الطحاوي عن يحيى بن أكثم قال: وجدته عن ستة من الصحابة لا أعلم لهم فيه مخالفًا. انتهى وهو قول الجمهور. وخالف في ذلك إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وأصحابه، ومال الطحاوي إلى قول الجمهور في ذلك. وممن قال بالإطعام: ابن عمر، ولكنه بالغ في ذلك فقال: يطعم ولا يصوم. وروى عبد الرزاق عن عمر: "من صام يوماً من غير رمضان وأطعم مسكينًا فإنهما يعدلان يوماً من رمضان" ونقله ابن المنذر عن ابن عباس وعن قتادة، وانفرد به ابن وهب بقوله: من أفطر يوماً في قضاء رمضان وجب عليه لكل يوم صوم يومين" اهـ. وقول الجمهور هو الراجح.

إذا مات وعليه صوم هل يصوم عنه وليه أم لا؟

إذا مات وعليه صوم هل يصوم عنه وليه أم لا؟ سبق ذكر هذه المسألة في النيابات في النية. والراجح الذي تميل إليه النفس أنه لا يصوم الولي عن الميت إلا صوم النذر وبه قال الإمام أحمد كما جاء في "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود (ص96) قال: سمعت أحمد ابن حنبل قال: لا يُصام عن الميت إلا في النذر، قال أبو داود: قلت لأحمد: فشهر رمضان؟ قال: يطعم عنه". وذهبت عائشة -رضي الله عنها- وهي راوية الحديث - إلى الإطعام بدليل ما روته عمرة: أن أمها ماتت وعليها من رمضان، فقالت لعائشة -رضي الله عنها-: أقضيه عنها؟ قالت: لا، بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين" (1) . ومن المقرر أن راوي الحديث أدرى بمعنى مَرْويِّه، وذهب إلى هذا التفصيل ابن عباس حبر الأمة -رضي الله عنهما-. "إذا مات الرجل في رمضان، ثم مات ولم يصم، أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه" (2) . * ومن المعلوم أن ابن عباس -رضي الله عنهما- هو راوي الحديث الثاني-، وخاصة أنه روى حديثًا فيه نص على أن الولي يصوم عن الميت صوم النذر: "أن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- استفتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إن أمي مات وعليها نذر فقال: "اقضيه عنها" أخرجه الشيخان وغيرهما (1) . قال ابن حجر في "الفتح" (4/228-229) : "اختلف المجيزون في المراد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وليه" فقيل: كل قريب، وقيل الوارث خاصة، وقيل عصبته، والأول أرجح، والثاني قريب، ويرد الثالث قصة المرأة التي سألت عن نذر أمها.

_ (1) أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" ابن حزم في "المحلى" واللفظ له بسند صحيح. (2) أخرجه أبو داود بسند صحيح، وابن حزم في "المحلى" وصح إسناده.

الكفارة

واختلفوا أيضاً هل يختص ذلك بالولي؟ لأن الأصل عدم النيابة في العبادة البدنية ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة في الحياة فكذلك في الموت إلا ما ورد فيه الدليل فيقتصر على ما ورد فيه ويبقى الباقي على الأصل وهذا هو الراجح، وقيل يختص بالولي فلو أمرَ أجنبيًّا بأن يصوم عنه أجزأ كما في الحج، وقيل يصح استقلال الأجنبي بذلك وذكر الولي لكونه الغالب وظاهر صنيع البخاري اختيار هذا الأخير، وبه جزم أبو الطيب الطبري وقوّاه بتشبيهه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك بالدَّيْن، والدين لا يختص بالقريب". فرع: من مات وعليه صوم نذر صام عنه رجال بعدد الأيام التي عليه جاز، قال الحسن: "إن صام عنه ثلاثون رجلاً كل واحد يومًا جاز" (2) . أما الإطعام فإن جمع وليه مساكين بعدد الأيام التي عليه وأشبعهم جاز، وكذلك فعل أنس بن مالك -رضي الله عنه-. الكفارة من أفسد صوم يوم من رمضان بجماع تام أثم به، ولزمته الكفارة وبهذا قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وداود والعلماء كافة إلا الشعبي وسعيد بن جبير والنخعي وقتادة فإنهم قالوا: لا كفارة عليه، كما لا كفارة عليه بإفساد الصلاة وهذا مرجوح لأن الصوم يخالف الصلاة فإنه لا مدخل للمال في جبرانها. والكفارة هي: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا. هل هذه الكفارة مرتبة ككفارة الظهار أو على التخيير. ونعني بالترتيب: ألا يتنقل المكلف إلى واحد من الواجبات المخيّرة إلا بعد العجز عن الذي قبله، وبالتخيير: أن يفعل منها ما شاء ابتداءً من غير عجز عن

_ (1) يراجع في هذه المسألة قول ابن القيم في "تهذيب سنن أبي داود" (3/279-282) . (2) أخرجه البخاري معلقًا ووصله الدارقطني في كتاب الذبح، وصحح إسناده الألباني في "مختصره" (1/58) .

الآخر اختلفوا في ذلك. * فقال الجمهور: هذه الكفارة على الترتيب: فيجب عتق رقبة فإن عجز فصوم شهرين متتابعين، فإن عجز فإطعام ستين مسكينًا، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد في أصح الروايتين عنه. * وقال مالك: هو مخير بين الخصال الثلاث وأفضله عنده الإطعام. * وعن الحسن البصري أنه مخير بين عتق رقبة ونحر بدنة. * "وسبب اختلافهم في وجوب الترتيب: تعارض ظواهر الآثار في ذلك والأقيسة، وذلك أن ظاهر حديث الأعرابي المتقدم في باب الجماع يوجب أنها على الترتيب إذ سأله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الاستطاعة عليها مرتبًا، وظاهر ما رواه مالك من "أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينًا" أنها على التخيير. وأما الأقيسة المعارضة في ذلك فتشبيها تارة بكفارة الظهار وتارة بكفارة اليمين، لكنها أشبه بكفارة الظهار منها بكفارة اليمين، وأخذ الترتيب من حكاية لفظ الراوي. وأما استحباب مالك الابتداء بالإطعام فمخالف لظواهر الآثار، وإنما ذهب إلى هذا من طريق القياس؛ لأنه رأى الصيام قد وقع بدلاً منه الإطعام في مواضع شتى من الشرع، وأنه مناسب له أكثر من غيره وهذا كأنه من باب ترجيح القياس الذي تشهد له الأصول على الأثر الذي لا تشهد له الأصول" (1) . والراجح قول الجمهور وهي: أنها على الترتيب. ومما يرجح هذا: * أن الذين رووا الترتيب أكثر فروايتهم أرجح لأنهم أكثر عددًا فمن روى الترتيب عن الزهري تمام ثلاثين نفسًا. * ولأن معهم زيادة علم، حيث اتفقوا على أن الإفطار كان بالجماع، ولم يحدث هذا في الروايات الأخرى، ومن علم حجة على من لا يعلم. * ومما يرجح الترتيب أنه أحوط. * ولأن الأخذ به مجزئ سواء قلنا بالتخيير أو لا، بخلاف العكس.

_ (1) "بداية المجتهد" (2/183-184) .

* قال البيضاوي: ترتيب الثاني بالفاء على فقد الأول ثم الثالث بالفاء على فقد الثاني يدل على عدم التخيير، مع كونها في معرض البيان وجواب السؤال فينزل منزلة الشرط للحكم. * قال ابن حجر في "الفتح" (4/197-198) في معرض الرد على مالك: "وقع في "المدونة" ولا يعرف مالك غير الإطعام ولا يأخذ بعتق ولا صيام. قال ابن دقيق العيد: وهي معضلة لا يهتدي إلى توجيهها مع مصادمة الحديث الثابت، غير أن بعض المحققين من أصحابه حمل هذا اللفظ وتأوله على الاستحباب في تقديم الطعام على غيره من الخصال. وكل الوجوه التي ذكروها لا تقاوم ما ورد في الحديث من تقديم العتق على الصيام ثم الصيام، سواء قلنا الكفارة على الترتيب أو التخيير، فإن هذه البداءة إن لم تقتض وجوب الترتيب فلا أقل من أن تقتضي استحبابه. ومن المالكية من وافق على هذا الاستحباب، ومنهم من قال: إن الكفارة تختلف باختلاف الأوقات، ففي وقت الشدة يكون بالإطعام، وفي غيرها يكون بالعتق أو الصوم ونقلوه عن محققي المتأخرين ومنهم من قال: الإفطار بالجماع يكفر بالخصال الثلاثة، وبغيره لا يكفر إلا بالإطعام وهو قول أبي مصعب، وقال ابن جرير الطبري: هو مخيَّر بين العتق والصوم ولا يطعم إلا عند العجز عنهما". * ولقد رجح ابن رشد قول الجمهور، ورجحه أيضًا ابن العربي شيخ المالكية فيقول: "إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقله (1) من أمر بعد عدمه لأمر آخر وليس هذا شأن التخيير" (2) . * قال ابن حجر في "الفتح" (4/197) : "والمراد بالإطعام لإعطاء لا اشتراط حقيقة الإطعام من وضع المطعوم في الفم، بل يكفي الوضع بين يديه بلا خلاف، وفي إطلاق الإطعام ما يدل على الاكتفاء بوجود الإطعام من غير اشتراط مناولة وفي ذكر الإطعام ما يدل على

_ (1) أي الأعرابي. (2) "فتح الباري" (4/198) .

حكمة الأنواع الضعيفة في الكفارة

وجود طاعمين فيخرج الطفل الذي لم يطعم كقول الحنفية، ونظر الشافعي إلى النوع فقال: يسلم لولية". حكمة الأنواع الضعيفة في الكفارة قال ابن حجر: "ذكر في حكمة هذه الخصال من المناسبة أن من انتهك حرمة الصوم بالجماع فقد أهلك نفسه بالمعصية فناسب أن يعتق رقبة فيفدي نفسه، وقد صح أن من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار. * أما الصيام فمناسبته ظاهرة لأنه كالمقاصة بجنس الجناية، وأما كونه شهرين فلأنه لما أمر بمصابرة النفس في حفظ كل يوم من شهر رمضان على الولاء فلما أفسد منه يوماً كان كمن أفسد الشهر كله من حيث أنه عبادة واحدة بالنوع فكلف بشهرين مضاعفة على سبيل المقابلة لنقيض قصده. وأما الإطعام فمناسبته ظاهرة لأنه مقابلة كل يوم بإطعام مسكين. ثم إن هذه الخصال جامعة لاشتمالها علي حق الله وهو الصوم، وحق الأحرار بالإطعام، وحق الإرقاء بالعتق، وحق الجاني بثواب الامتثال" (1) . * يشترط في صوم هذه الكفارة التتابع عند الجمهور وهو الراجح، وجوّز ابن أبي ليلى تفريقه. وحديث أبي هريرة مقيد بالتتابع فيحمل المطلق عليه. * يجب على المكفر مع الكفارة قضاء اليوم الذي جامع فيه وهو قول جميع الفقهاء خلافًا للأوزاعي فقال: إن كفر بالصوم لم يجب قضاؤه، وإن كفر بالعتق أو الإطعام قضاه. * لو جامع في صوم غير رمضان من قضاء أو نذر أو غيرهما فلا كفارة وبه قال الجمهور. وقال قتادة تجب الكفارة في إفساد قضاء رمضان. اختلافهم في وجوب الكفارة على المرأة إذا طاوعته على الجماع

_ (1) "فتح الباري" (4/197) .

مسألة [مقدار الكفارة بالإطعام]

* ذهب الشافعي وأحمد وداود إلى أنه لا كفارة عليها. وذهب أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه إلى وجوب الكفارة عليها وهو قول الجمهور. قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/183) : "وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الأثر للقياس، وذلك أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر المرأة بكفارة في الحديث، والقياس أنها مثل الرجل إذا كان كلاهما مكلفًا". قال ابن حجر: "استدل بإفراده بذلك (1) على أن الكفارة عليه وحده دون الموطوءة وكذا قوله في المراجعة "هل تستطيع" و"هل تجد" وغير ذلك، وهو الأصح من قولي الشافعية وبه قال الأوزاعي. وقال الجمهور وأبو ثور وابن المنذر تجب الكفارة على المرأة أيضاً على اختلاف وتفاصيل لهم في الحرة والأمة والمطاوعة والمكرهة وهل هي عليها أو على الرجل عنها، واستدل الشافعية بسكوته عليه الصلاة والسلام عن إعلام المرأة بوجوب الكفارة مع الحاجة، وأجيب بمنع وجود الحاجة إذ ذاك لأنها لم تعترف ولم تسأل واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكمًا ما لم تعترف، وبأنها قضية حال فالسكوت عنها لا يدل على الحكم لاحتمال أن تكون المرأة لم تكن صائمة لعذر من الأعذار، ثم إن بيان الحكم للرجل بيان في حقها لاشتراكما في تحريم الفطر وانتهاك حرمة الصوم كما لم يأمره الغسل. والتنصيص على الحكم في في بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين، ويحتمل أن يكون سبب السكوت عن حكم المرأة ما عرفه في كلام زوجها بأنها لا قدرة لها على شيء. قال القرطبي: ليس في الحديث ما يدل على شيء لأنه ساكت عن المرأة فيؤخذ حكمها من دليل آخر مع احتمال أن يكون سبب السكوت أنها كانت غير صائمة". مسألة [مقدار الكفارة بالإطعام] اختلفوا في مقدار الكفارة بالإطعام: فقال مالك والشافعي وأحمد في

_ (1) وهي قوله: "خذ هذا فتصدق به".

مسألة [هل تسقط الكفارة بالإطعام]

المشهور عنه: يطعم لكل مسكين مُدًا بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. * وقال أبو حنيفة: لا يجزيء أقل من مدين يعني نصف صاع. وسبب الخلاف: معارضة القياس لمفهوم الحديث. * أما القياس: هو قياس هذه الكفارة بفدية الأذى التي نص عليها. * وأما الأثر فهو: ما روي في بعض طرق حديث أبي هريرة أن العرق الذي أتى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه خمسة عشر صاعًا. والراجح ما ذهب إليه الجمهور لما رواه الدارقطني عن علي -رضي الله عنه- لكل مسكين مدّ والله أعلم. مسألة [هل تسقط الكفارة بالإعسار، وهل يجب عليه الإطعام إذا أيسر وكان معسرًا في وقت الوجوب؟] * اختلفوا هل تكون الكفارة في ذمته إذا كان معسرًا وإذا أيسر وجبت عليه أم لا؟ * فذهب الشافعي في المشهور عنه والأوزاعي إلى أنها تسقط عليه إذا كان معسرًا وقت الوجوب، وقال الأوزاعي: لا شيء عليه إن كان معسرًا. * وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها لا تسقط عنه. وسبب الخلاف: أن من أسقطها بالإعسار قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع العرق للأعرابي فأمره أن يطعمه أهله ولم يأمره بقضائها إذا أيسر فعلم بذلك أنها ساقطة عنه، وترك البيان وقت الحاجة لا يجوز عند أهل الأصول، ومن لم يسقطها شبهها بالديون التي تكون في الذمة. ورجّح النووي في "شرح مسلم" وجوبها في الذمة وهو الراجح لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فدين الله أحق أن يقضى" وأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحتمل أنه أمر الإعرابي بقضائها إذا أيسر ولم يذكره الراوي. ويحتمل أنه لما كان أهله أحوج الناس إليها كفر عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتصدق بها على أهله لقوله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) . * قال ابن حجر في "فتح الباري" (4/203) :

خلافهم في الكفارة

"قال ابن دقيق العيد: تباينت في هذه القصة المذاهب: فقيل إنه دل على سقوط الكفارة بالإعسار المقارن لوجوبها لأن الكفارة لا تصرف إلى النفس ولا إلى العيال، ولم يبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقرارها في ذمته إلى حين يساره، وهو أحد قولي الشافعية وجزم به عيسى بن دينار من المالكية. وقال الأوزاعي يستغفر الله ولا يعود. ويتأيد ذلك بصدقة الفطر حيث تسقط بالإعسار المقارن لسبب وجوبها وهو هلال الفطر، لكن الفرق بينهما أن صدقة الفطر لها أمد تنتهي إليه وكفارة الجماع لا أمد لها فتستقر في الذمة. وليس في الخبر ما يدل على إسقاطها بل فيه ما يدل على استمرارها على العاجز، وقال الجمهور: لا تسقط الكفارة بالإعسار، والذي أذن له في التصرف فيه ليس على سبيل الكفارة. قيل لما كان عاجزًا عن نفقة أهله جاز له أن يصرف الكفارة لهم، وهذا هو ظاهر الحديث. قال الشيخ تقي الدين: وأقوى من ذلك أن يجعل الإعطاء لا على جهة الكفارة بل على جهة أصدق عليه وعلى أهله بتلك الصدقة لما ظهر من حاجتهم، وأما الكفارة فلم تسقط بذلك، ولكن ليس استقرارها في ذمته مأخوذًا من هذا الحديث. وأما ما اعتلوا به من تأخير البيان فلا دلالة فيه لأن العلم بالوجوب قد تقدم. ولم يرد في الحديث ما يدل على الإسقاط لأنه لما أخبره بعجزه، ثم أمره بإخراج العرق دل على أن لا سقوط عن العاجز، ولعله أخر البيان إلى وقت الحاجة وهو القدرة أ. هـ. وتصرف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مال الصدقة تصرف الإمام في إخراج مال الصدقة فلا يكون فيه إسقاط ولا أكل المرء من كفارة نفسه ولا إنفاقه على من تلزمه نفقتهم من كفارة نفسه". خلافهم في الكفارة اختلفوا في إيجاب الكفارة بالقبلة والنظر والمباشرة والإنعاظ. ورأى الجمهور أقوى وأرجح أن لا كفارة. واختلفوا في وجوب الكفارة على من أكل أو شرب متعمدًا فذهب مالك

الفدية

وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى وجوب القضاء والكفارة ورأى الجمهور وهو الأرجح أن لا كفارة. فلا كفارة إلا في الجماع في رمضان متعمدًا. * قال النووي في "روضة الطالبين" (2/379) : "هل تكون شدة الغلمة عذرًا في العدول عن الصيام إلى الإطعام؟ وجهان: أصحهما: أنها عذر". الفدية تكلمنا عنها في الكلام عن المريض الذي يرجى شفاؤه، والحامل والمرضع. قال تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) . قرأ ابن عمر فدية طعام مساكين. بالإضافة وبلفظ الجمع وهي قراءة نافع وابن زكوان. وقرأ الباقون بتنوين "فديةٌ" وتوحيد "مسكين" و"طعامُ" بالرفع على البدلية، وأما الإضافة فهي من إضافة الشيء إلى نفسه، والمقصود به البيان مثل خاتم حديد، وثوب حرير، لأن الفدية تكون طعامًا وغيره. ومن جمع مساكين فلمقابلة الجمع بالجمع، ومن أفرد فمعناه فعلى كل واحد ممن يطيق الصوم. ويستفاد من الإفراد أن الحكم لكل يوم يفطر فيه إطعام مسكين، ولا يفهم ذلك من بالجمع، والمراد بالطعام الإطعام". قال النووي في "روضة الطالبين" (2/380-385) : "هي مد من الطعام لكل يوم من أيام رمضان. وجنسه جنس زكاة الفطر. فيعتبر غالب قوت البلد على الأصح. ولا يجزيء الدقيق والسويق. ومصرفها: الفقراء أو المساكين. وكل مد من ككفارة تامة فيجوز صرف عدد منها إلى مسكين واحد، بخلاف أمداد الكفارة فإنه يجب صرف كل مدّ إلى مسكين. * وتجب الفدية بثلاثة طرق: الأول: فوات نفس الصوم، كمن فاته صوم يوم من رمضان ومات قبل

قضائه، بعد تمكنه من القضاء وترك الأداء بعذر أم بغيره. فلابد من تداركه بعد موته، وفي صفة التدارك قولان: الجديد أنه يُطعم من تركته عن كل يوم مدًا" (1) . * الشيخ الهرم الذي لا يطيق الصوم، أو تلحقه به مشقة شديدة. لا صوم عليه. وفي وجوب الفدية عليه قولان أظهرها الوجوب ويجري القولان في المريض الذي لا يرجى برؤه. * وإذا أوجبنا الفدية على الشيخ، فكان معسرًا، هل تلزمه إذا قدر؟ قولان كالكفارة. الطريق الثاني لوجوب الفدية: ما يجب لفضيلة الوقت (2) . * كالحامل والمرضع: [تجب عليهما الفدية فقط عند ابن عباس] (3) . ولا تتعدد الفدية بتعدد الأولاد على الأصح. * لو رأى مشرفًا على الهلاك بغرق أو غيره وافتقر في تخليصه إلى الفطر فيجب عليه الفطر ويلزمه القضاء، وتلزمه الفدية على الأصح أيضاً كالمرضع. الطريق الثالث: ما يجب لتأخير القضاء: فمن عليه قضاء رمضان، وأخّره حتى دخل رمضان السنة القابلة، نظر، فإن كان مسافرًا أو مريضاً، فلا شيء عليه، فإن تأخير الأداء بهذا العذر جائز فتأخير القضاء أولى، وإن لم يكن فعليه مع القضاء لكل يوم مد. ولو أخّر حتى مضى رمضانان فصاعدًا، فهل تكرر الفدية؟ وجهان. قال في "النهاية": الأصح التكرر. فإن تكررت السنون زادت الأمداد. ولو أفطر عدوانا وألزمناه الفدية فأخرّ القضاء فعليه لكل يوم فديتان واحدة للإفطار، وأخرى للتأخير، هذا هو المذهب".

_ (1) "فتح الباري" بتصرف (8/29- 30) . (2) وهو الأصح. (3) ما بين [] ليس موجودًا في "الروضة"

صوم النذر

صوم النذر النذر ضربان: * أحدهما: نذر تبرر. * والثاني: نذر لجاج وغضب. * النوع الأول: نذر التبرر: ونوعان: (1) أحدهما: نذر المجازاة: وهو أن يلتزم قربة كالصوم في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع بلية كقوله: إن شفى الله مريضي، أو رزقني ولدًا، أو نجانا من الغرق أو من العدو الظالم، ونحو ذلك فللَّه على صوم كذا أو صلاة كذا، فإذا حصل المعلق به لزمه الوفاء بما التزم، وهذا لا خلاف فيه لعموم الحديث الصحيح: "من نذر أن يطيع الله فليطعه". (2) أن يلتزمه ابتداء من غير تعليق على شيء: فيقول ابتداءً: لله على أن أصوم. وفيه وجهان أصحهما أنه يصح نذره. * النوع الثاني: "نذر اللجاج والغضب". وهو أن يمنع نفسه من فعل أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة بالفعل أو بالترك ويقال فيه يمين اللجاج والغضب، ويقال له أيضاً: يمين الغلق ويقال أيضاً: نذر الغَلقَ. فإذا قال: إن كلمت فلانًا، أو إن دخلت الدار أو إن لم أخرج من البلد فللَّه على صوم شهر أو نحو ذلك. وهذا يخيرّ بين ما التزم وكفارة اليمين. * الصيغة قد تردد فتحتم نذر التبرر، وتحتمل نذر اللجاج فيرجع فيها إلى قصد الشخص وإرادته. فإن قال: إن صليت فللَّه على صوم يوم معناه: إن وفقني الله للصلاة صمت فإذا وفق لها لزمه الصوم.

ويتصور اللجاج بأن يقول له: صل فيقول لا أصلي وإن صليت فعليّ صوم فإذا صلى ففيما يلزمه الأقوال والطريق السابق. * الملتزم بالنذر إن نذر واجبًا فلا يصح نذره لأنه واجب بإيجاب الشرع له، كمن نذر صوم رمضان لا يصح نذره. * وإن نذر مستحبًا كنوافل الصوم لزمه بلا خلاف. من نذر أن يصوم أيامًا فوافق النحر أو الفطر. * عن حكيم بن أبي حُرة الأسلمي أنه "سمع عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- سئل عن رجل نذر أن لا يأتي عليه يوم إلا صام فوافق يوم أضحى أو فطر فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، لم يكن يصوم الأضحى والفطر ولا يرى صيامهما" رواه البخاري. قال ابن حجر في "الفتح" (11/599) : "انعقد الإجماع على أنه لا يجوز له أن يصوم يوم الفطر ولا يوم النحر لا تطوعًا، ولا عن نذر سواء عينهما أو أحدهما بالنذر، أو وقعا معا، أو أحدهما اتفاقًا، لو نذر لم ينعقد نذره عند الجمهور، وعند الحنابلة روايتان في وجوب القضاء، وخالف أبو حنيفة فقال: لو أقد فصام وقع ذلك عن نذره". وفي سياق الحديث إشعار برجحان المنع عند ابن عمر. وعن الحسن: يصوم يوماً مكانه. قال النووي في "المجموع" (8/442-443) : "إذا نذر صوم يوم الفطر أو الأضحى أو التشريق وقلنا أنه لا يجوز صوم يوم التشريق لم ينعقد نذره ولم يلزمه بهذا النذر شيء. هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد وجماهير العلماء. وخالفهم أبو حنيفة فقال: ينعقد نذره، ولا يصوم ذلك، بل يصوم غيره. قال: فإن صامه أجزأه وسقط عنه به فرض نذره "ورأى الجمهور هو الأصح والأرجح لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا نذر في معصية".

مسائل

مسائل من المجموع (1) إذا أطلق التزام الصوم: فقال لله علىّ صوم أو أن: أصوم لزمه صوم يوم بناءً على أن النذر ينزل على أقل ما يصح من جنسه. (2) هل يجب تبييت النية في الصوم المنذور أم يكفي بنية قبل الزوال؟ الأصح: اشتراط التبييت فالنذر واجب. (3) إذا لزمه صوم يوم النذر فيستحب البادرة به، ولا تجب المبادرة، بل يخرج عن نذره بأي يوم صامه من الأيام التي تقبل الصوم غير رمضان. * ولو نذر صوم يوم خميس ولم يعين صام أي خميس شاء، فإذا مضى خميس ولم يصم مع التمكن استقر في ذمته حتى لو مات قبل الصوم فدى عنه. * ولو عين في نذره يوماً كأول خميس من الشهر أو أول خميس هذا الأسبوع تعيّن، وبه قطع الجمهور فلا يصح الصوم قبله، فإن أخرّه عنه صام قضاء، سواء أخره بعذر أم لا، لكن أن أخره بعذر أثم، وإن أخره بعذر سفر أو مرض لا يأثم. (4) لوعيّن يوماً من أسبوع والتبس عليه فينبغي أن يصوم يوم الجمعة لأنه آخر الأسبوع، فإن لم يكن هو المعين في نفس الأمر أجزأه وكان قضاءً، ومما يدل على أن يوم الجمعة آخر الأسبوع ويوم السبت أوله حديث أبي هريرة رضي الله عنه- قال: "أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيه الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبعث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل" رواه مسلم. (5) الصوم المعين بالنذر لا يثبت له خواص رمضان: سواءً عيناه بالنذر أم جوّزناه من الكفارة بالفطر بالجماع فيه، ووجوب الإمساك لو أفطر، وعدم قبول صوم آخر من قضاء أو كفارة أو غيرهما، بل لو صامه من قضاء أو كفارة صحّ بلا خلاف.

(6) إذا نذر صوم أيام بأن قال: لله علي صوم عشرة أيام: يجوز صوم هذه الأيام متفرقة ومتتابعة لحصول الوفاء بالمسمى. (7) وإن عيّن النذر بالتتابع لزمه. فإن أخلّ به فحكمه حكم صوم الشهرين المتتابعين. (8) إذا نذر صوم شهر: نُظر: إن عيّنه كرجب أو شعبان، أو قال: أصوم شرًا من الآن، فالصوم يقع متتابعًا لتعين أيام الشهر ولو أفطر يوماً لا يلزمه الاستئناف. * فلو شرط التتابع: فيه وجهان أصحهما: يلزمه، حتى لو أفسد يوم لزمه الاستئناف، وإذا فات لزمه قضاؤه متتابعًا. (9) إذا نذر صوم سنة: فله حالان: (أحدهما) أن يعين سنة متوالية بأن يقول أصوم سنة كذا أو سنة من أول شهر كذا أو من الغد فصيامها يقع متتابعًا لضرورة الوقت ويصوم رمضان عن فرصة ويفطر العيدين وكذا التشريق ولا يجب قضاء رمضان والعيدين والتشريق لأنها داخلة في النذر. ولو أفطرت المرأة فيها بحيض أو نفاس ففي وجوب القضاء قولان أصحهما لا يجب كالعيد وبه قال الجمهور. * ولو أفطر بالمرض فيه الخلاف ورجح ابن حج وجوب القضاء لأنه لا يصح أن ينذر صوم أيام الحيض ويصح أن ينذر صوم أيام المرض. ولو أفطر بالسفر فطريقان أصحهما: وجوب القضاء. (الحال الثاني) : إذا نذر صوم سنة وأطلق، فإن لم يشترط التتابع صام ثلاثمائة وستين يوماً أو اثنى عشر شهرا بالأهلة أيهما شاء فعله وأجزأه، وكلشهر استوعبه بالصوم فناقصه كالكامل يحسب شهرًا، وإن انكسر شهر أتمه ثلاثين يوماً، وشوال وذو الحجة منكسران بسبب العيد والتشريق ولا يلزمه التتابع هنا بلا خلاف، فلو صام سنة متوالية قضى العيدين ورمضان ويجب قضاء أيام الحيض. وإذا أفطر بلا عذر وجب الاستئناف بلا خلاف.

(10) لو نذر صوم ثلثمائة وستين يوماً لزمه صوم هذا العدد ولا يلزمه فيه التتابع. ولو قال متتابعة لزمه التتابع ويقضي رمضان والعيدين والتشريق على الاتصال. (11) إذا نذر أن يصوم في الحرم ففيه خلاف والأصح: لا يجزئه في غيره. (12) إذا قال لله على صوم هذه السنة لزمة صوم باقي سنة التاريخ ولا يلزمه غير ذلك، لأن السنة تنصرف إلى المعهودة المشار إليها، وهي سنة التاريخ فكأنه قال: باقي هذه السنة. (13) لو نذر صوم يوم الخميس مثلاً لم يجز الصوم قبله. وبه قال مالك وأحمد وداود وهو المشهور من مذهب الشافعي. وقال أبو يوسف يجزئه. ودليل الجمهور أنه صوم متعلق بزمان، فلا يجوز قبله كرمضان. (14) وإن نذر أن يصوم في كل اثنين لم يلزمه قضاء أثاني رمضان لأنه يعلم أن رمضان لابد فيه من الأثانين فلا يدخل في النذر فلم يجب قضاؤها وكذا أيام العيد إذا وافقت الإثنين. * وإن لزمه صوم الاثنين بالنذر، ثم لزمه صوم شهرين متتابعين في كفارة. بدأ بصوم الشهرين ثم يقضى صوم الأثانين، لأنه إذا بدأ بصوم الشهرين يمكنه بعد الفراغ من الشهرين، أن يقضي صوم الأثانين، وإذا بدأ بصوم الأثانين لم يمكنه أن يقضي صوم الشهرين فكان الجمع بينهما أولى. (15) إن نذر صوم الدهر: انعقد نذره، ويستثنى منه العيدان والتشريق وقضاء رمضان، وكذا لو كان عليه كفارة حال النذر، ويلزمه صوم ما سوى ذلك من أيام الدهر، ولو لزمه كفارة بعد النذر فالمذهب أن يصوم عنها ويفدي عن النذر. (16) إن نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان يصح نذره لأنه يمكنه أن يتحرى اليوم الذي يقدم فيه، فينوي صيامه من الليل، فإذا قدم صارما صامه قبل القدوم تطوعًا وما بعده فرضًا وذلك يجوز.

فإن قلنا ينعقد نذره نظر إن قدم ليلاَّ فلا صوم على الناذر لأنه لم يوجد يوم قدوم. ولو عنى باليوم الوقت لم يلزمه أيضاً لأن الليل ليس بقابل للصوم، قال الشافعية: ويستحب (الفداء أو يصوم يوماً آخر) . * وإن قدم بالنهار فللناذر أربعة أحوال: (1) أن يكون مفطرًا فيلزمه أن يصوم عن نذره يوماً آخر. (2) أن يقدم فلان والناذر صائم عن واجب من قضاء أو نذر فيتم ما هو فيه ويلزمه صوم يوم آخر لهذا النذر. (3) أن يقدم وهو صائم تطوعًا أو غير صائم وهو ممسك وهو قبل زوال الشمس فيبني على أنه يجب الصوم من أول النهار فيلزمه صوم يوم آخر. (4) أن يقدم فلان يوم العيد أو في رمضان، فهو كما لو قدم ليلاً. (17) إذا قال: إن قدم فلان فلله على أن أصوم أمس يوم قدومه فلا يصح نذره. (18) إذا اجتمع في يوم نذران بأن قال: إن قدم زيد لله على أن أصوم اليوم الذي يلي يوم مقدمه، وإن قدم عمرو فلله على أن أصوم أول خميس بعده، فإن قدم زيد وعمرو يوم الأربعاء، لزمه صوم يوم الخميس عن أول نذره، ثم يقضي عن الآخر. (19) لو شرع في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه فهل يلزمه إتمامه؟ فيه وجهان، الصحيح: أنه يلزمه. عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (20) "كفارة النذر كفارة اليمين" رواه مسلم. قال ابن حجر في "الفتح" (11/595) : "حمله الجمهور على نذر اللجاج وبعضهم على النذر المطلق". قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم" رواه مسلم. واختلف فيمن وقع من النذر من ذلك هل تجب فيه كفارة؟ فقال الجمهور: لا، وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية وبعض الحنفية:

صوم الكفارات

نعم، ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك كالقولين. واتفقوا على تحريم النذر في المعصية، واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة. صوم الكفارات سبق ذكره في "الصوم على أربعين وجها": قال تعالى: (لا يُؤَاخِذُكمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقدتُّمُ الأَيمَانَ فَكَفَّارَتُة إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِن أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكمْ أَوْ كِسْوَتُمْ أَوْ تحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّم يَجِدْ فَصِيَام ثَلاثةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفارَة أَيْمَانِكُم إِذَا حَلَفتُمْ وَاحْفَظوا أَيْمَانَكمْ كذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ) [المائدة: 89] . وقال تعالى: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) . قال مجاهد: كل شيء في القرآن "أوْ" نحو قوله: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) فهو فيه مخير، وما كان (فمن لم يجد) فهو على الولاء أي على الترتيب. رواه الطبراني بسند صحيح. وقال عطاء: ما كان في القرآن (أو أو) فلصاحبه أن يختار أيها شاء. سنده صحيح. وقال عكرمة: كل شيء في القرآن "أو أو" فليتخير أي الكفارات شيء، فإذا كان (فمن لم يجد) فالأول الأول. قال ابن بطال: هذا متفق عليه بين العلماء. مسألة [اختلافهم في اشتراط تتابع الأيام الثلاثة في صوم الكفارة] ذهب مالك والشافعي إلى عدم اشتراط التتابع ويجزئه التفريق وإن كانا استحباه ودليلهم أن التتابع صفة، تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عدما. * وذهب أبو حنيفة والثوري والمزني وأحد قولي الشافعي إلى وجوب التتابع وسبب اختلافهم في ذلك شيئان: أحدها: هل يجوز العمل بالقراءة التي

ليست في المصحف؟ وذلك أن في قراءة عبد الله بن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) والسبب الثاني: اختلافهم هل يحمل الأمر بمطلق الصوم على التتابع أم ليس يحمل إذا كان الأصل في الصيام الواجب بالشرع إنما هو التتابع. مسألة: "قال أبو حنيفة في الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني أو برئ من الإسلام أو من النبي أو من القرآن إنها يمين تلزم فيها الكفارة، ولا تلزم فيها، إذا قال: واليهودية والنصرانية والنبي والكعبة إن كانت على صيغة الإيمان" (1) . * عن كعب بن عجرة قال: أتيته - يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - فقال: ادن فدنوت، فقال: "أيؤذيك هوامك؟ " قلت: نعم. قال: "فدية من صيام أو صدقة أو نسك" رواه البخاري. ***

_ (1) القرطبي (4/2268) .

فصل: ما يباح للصائم فعله

ما يباح للصائم فعله من رحمه الله بعباده ورفعًا للحرج عن أمة حبيبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أباح الشارع للصائم فعل أشياء: (1) الصائم يصبح جنبًا: من أدركه الفجر وهو جنب من أهله، فيغتسل بعد الفجر ويصوم. وكذلك الحائض والنفساء إذا انقطع الدم من الليل جاز لهما تأخير الغسل إلى الصبح وأصبحتا صائمتين. عن عائشة وأم سلمة -رضي الله عنهما- "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم" (1) . (2) السواك للصائم: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" (2) . قال ابن حجر في "الفتح" (4/188) : "يقتضي إباحته في كل وقت وعلى كل حال". قال ابن عمر يستاك أول النهار وآخره. وقال ابن سيرين: لا بأس بالسواك الرطب. قيل له طعم. قال: والماء له طعم وأنت تمضمض به. قال ابن حجر في "تلخيص الحبير" (2/202) : "روى الطبراني بإسناد جيد عن عبد الرحمن بن غنم. قال: سألت معاذ بن جبل أأتسوك وأنا صائم؟ قال: نعم. قلت: أي النهار؟ قال: غدوة أو عشية. قلت: إن الناس يكرهونه عشية ويقولون إن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" قال: "سبحان الله لقد أمرهم بالسواك، وما كان بالذي يأمرهم أن ييبسوا بأفواهم عمدًا، ما في ذلك من الخير شيء بل فيه شر".

_ (1) أخرجه البخاري ومسلم ومالك. (2) أخرجه البخاري.

فالسواك عام قبل الزوال وبعده. (3) المضمضة والاستنشاق: إلا أنه تكره المبالغة فيهما. عن لقيط بن صبرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ... وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" (1) . قال ابن قدامة: "وإن تمضمض أو استنشق في الطهارة فسبق الماء إلي حلقه من غير قصد ولا إسراف فلا شيء عليه". قال عطاء: إن استنثر فدخل الماء في حلقه لا بأس إن لم يملك. (4) المباشرة والقبلة للصائم: عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه" (2) . (5) تحليل الدم وضرب الإبر والحقن التي في العضل أو الوريد: ليست من المفطرات "لأنها ليست منصوصًا عليها ولا بمعنى المنصوص ولكن الاحتياط أن الإنسان لا يستعمل مثل هذه الإبرة وهو صائم إلا في حال مرض يبيح له الفطر وحينئذ يفطر ويستعملها". كما قال الشيخ ابن عثيمين. (6) الحجامة: وهو أخذ الدم من الرأس أو من عرق من العروق، وكذا القصد. فقد كانت من جملة المفطرات ثم نسخت، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم لما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو صائم" (3) .

_ (1) صحيح: أخرجه أصحاب السنن والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي والألباني وصححه الألباني في "إرواء الغليل": رقم (90) - (935) وفي "حقيقة الصيام" (ص 20) . (2) أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. انظر: "إرواء الغليل" (4/80-85) . (3) أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي.

(7) الكحل والقطرة ونحوهما مما يدخل العين: هذه الأمور لا تفطر سواء وجد طعمه في حلقه أم لم يجده لأن العين ليست بمنفذ للجوف، وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" وفي رسالته "حقيقة الصيام" وتلميذه ابن القيم في "زاد المعاد". قال البخاري في "صحيحه": "لم ير أنس والحسن وإبراهيم بالكحل للصائم بأسًا". (8) صب الماء البارد على الرأس والاغتسال: بوّب البخاري في صحيحه: "باب اغتسال الصائم، وبلّ ابن عمر -رضي الله عنهما- ثوبًا فألقاه عليه وهو صائم" ودخل الشعبي الحمام وهو صائم. وقال الحسن: لا بأس بالمضمضة والتبرد للصائم" (1) . وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو من الحر" (2) . (9) ذوق الطعام: وهذا مقيد بعدم دخوله الحلق. عن عطاء عن ابن عباس قال: "لا بأس أن يذوق الخل والشيء يريد شراءه" (3) . وعن ابن عباس قال: "لا بأس أن يتطاعم الصائم العسل والسمن ونحوه يمجه" (4) .

_ (1) صححها الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/182- 183) . (2) صحيح: أخرجه أبو داود وأحمد. وصححه الألباني في "صحيح الجامع" و"صحيح سنن أبي داود". (3) حسن: رواه أحمد والبخاري معلقًا ووصله ابن أبي شيبه وحسن الألباني إسناده في "إرواء الغليل" رقم (973) . (4) رواه البيهقي وسكت عنه الحافظ في "الفتح"، وحسن سنده الألباني في "إرواء الغليل" (4/86) .

(10) السلف للصائم الترفه والتجمل بالترجل والإدهان كما قال ابن حجر. وأيضاً التطيب. عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إذا كان صوم أحدكم فليصبح دهينًا مترجلاً" (1) . (11) ما لا يمكن الاحتراز منه كبلع الريق وغبار الطريق وغربلة الدقيق والنخامة ونحو ذلك. (12) العلك: كل ما يمُضغ ويبقى في الفم كالمصطكي واللبان قال ابن حجر في "الفتح" (4/190) : "رخص في مضغ العلك أكثر العلماء إن كان لا يتحلب منه شيء فمان تحلب منه شيء فازدرده فالجمهور على- أنه يفطر. (13) قال ابن المنذر: "أجمعوا على أنه لا شيء على الصائم فيما يبتلعه مما جرى مع الريق مما بين أسنانه مما لا يقدر على إخراجه" (2) . ***

_ (1) رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم. (2) "فتح الباري" (4/190) .

الباب الخامس عشر الاعتكاف

الباب الخامس عشر الاعتكاف

الاعتكاف "معنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال. فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه وعكف قلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقى له همّ سوى الله وما يرضيه عنه كما كان داود الطائي يقول في ليله: "همك عطّل عليّ الهموم وخالف بيني وبين السهاد، وشوقى إلى النظر إليك أوثق مني اللذات وحال بيني وبين الشهوات". مال شغل سواه مالي شغل ... ما يصرف عن قلبي هواه عذل ما أصنع إن جفان وخاب الأمل ... مني بدل ومنه مالي بدلْ كان بعضهم لا يزال منفردًا في بيته خاليًا بربه فقيل له: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: "أنا جليس من ذكرني". أوحشتني خلواتي ... بك من كل أنيسي وتفردت فعاينـ ... تك بالغيب جليسي (1) * الاعتكاف لغة: اللبث والحبس والملازمة. قال الشافعي في "سنن حرملة": الاعتكاف لزوم المرء شيئًا، وحبس نفسه عليه برًا كان أو إثمًا، قال الله تعالى: (ما هَذِه التَمَاثيلُ الَّتِي أَنتمْ لَهَا عَاكِفُونَ) [الأنبياء: 52] . قال تعالى: (فَاَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ) [الأعراف: 138] .

_ (1) "لطائف المعارف".

وقال تعالى: (وَأَنتُم عَاكِفونَ فِي المسَاجِدِ) [البقرة: 187] . يقال: عكف يعكفُ ويعكف -بضم الكاف وكسرها- لغتان مشهورتان عكفا وعكوفا أقام على الشيء. وعَكفته أعكِفه عكفًا. ويسمى الاعتكاف جوارًا كما جاء في الحديث قول عائشة: "وهو مجاور في المسجد". الاعتكاف شرعًا: "المقام في المسجد على سبيل القربة من شخص مخصوص بصفة مخصوصة". أو: "ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في مكان مخصوص". أدلة مشروعيته: 1- القرآن: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) . 2- السنة: كقول عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده" (1) . 3- الإجماع: نقله ابن المنذر في "الإجماع" (ص 47) وأقره ابن قدامة في "المغني" (3/183) . حكمه: "الاعتكاف سنة بالإجماع ولا يجب إلا بالنذر بالإجماع. ويستحب ويتأكد استحبابه في العشر الأواخر من شهر رمضان طلبا لليله القدر" (2) . قال الشافعي: من أراد الاقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اعتكافه العشر الأواخر من رمضان فينبغي أن يدخل المسجد قبل غروب الشمس ليلة الحادي والعشرين منه لكيلا يفوته شيء منه، ويخرج بعد غروب الشمس ليلة العيد، سواء تم الشهر

_ (1) رواه البخاري ومسلم. (2) "المجموع" (6/501) .

أركان الاعتكاف أربعة:

أو نقص. والأفضل أن يمكث ليلة العيد في المسجد حتى يخرج منه إلى المصلى لصلاة العيد. أركان الاعتكاف أربعة: 1- اللبث في المسجد. 2- النية: قال ابن رشد: "أما النية فلا أعلم فيها خلافا". 3- المعتكف. 4- المعتكف فيه (1) . المعتكف: شروط المعتكف ثلاثة: (1) الإسلام. (2) العقل. (3) النقاء عن الحدث الأكبر وهو: الجنابة والحيض والنفاس، فلا يصح اعتكاف من كافر أصلي ولا مرتد، ولا اعتكاف زائل العقل بجنون أو إغماء أو مرض أو سكر، ولا صبي غير مميز لأنه لا نية لهم ويصح اعتكاف الصبي المميز والمرأة المزوجة وغيرها، والعبد والمكاتب، لكن يحرم على المرأة والعبد الاعتكاف بغير إذن الزوج والسيد، فلو خالفا صح مع التحريم (2) . [مكان الاعتكاف] * قال القرطبي في "تفسيره" (2/333) : "أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد لقول الله تعالى: (في المساجد) . * وقال الموفق ابن قدامة في "المغني" (3/187) : "لا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلاً. لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافًا، والأصل في ذلك قول الله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) فخصها بذلك، فلو صح الاعتكاف في غيرها لم يختص تحريم المباشرة فيها،

_ (1) "روضة الطالبين" (2/391) . (2) "المجموع" (6/501) .

أقوال أهل العلم في المسجد المعتكف فيه

فإن المباشرة محرمة في الاعتكاف مطلقا". * ونقل الحافظ ابن حجر في "الفتح" عن محمد بن عمر بن لبابة المالكي جوزه في أي مكان، ولا عبرة بخلافه فإنه محجوج بالإجماع قبله؛ ولذا لم يأبه القرطبي -وهو مالكي مثله- بخلافه. * اختلاف أهل العلم في المسجد المعتكف فيه على أقوال ستة: الأول: أن الاعتكاف يصح في أي مسجد: ولو كان مهجورًا لا تقام فيه الجماعة-، هذا مذهب الإمام مالك والشافعي وداود (1) . * واشترط مالك كون المسجد جامعًا إذا كانت الجمعة تتخلل فترة اعتكافه. * واستحب الشافعي في هذه الحال أن يكون اعتكافه في مسجد جامع، ولو اعتكف في غيره لزمه الخروج إليها عنده، وهل يبطل اعتكافه؟ فيه قولان. قال النووي في "المجموع" (6/513) : "وبطلان اعتكافه هو المشهور من نصوص الشافعي" أ. هـ. الثاني: أنه لا يصح إلا في مسجد جامع: وهو قول الزهري والحكم وحمّاد، وأول قوليْ عطاء، ورواية عن مالك. الثالث: أنه لا يصحّ إلا في مسجد جماعة: وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول الحسن وعروة، ورواية عن الزهري. واحتج له بحديث حذيفة مرفوعًا: "كل مسجد له إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصلح" (2) . وهذا القول هو أعدل الأقوال وأقومها لا سيما عند

_ (1) لكن يلزم عنده الخروج لكل صلاة إلى المسجد الذي تقام فيه الجماعة لقوله بوجوبها. (2) ضعيف: رواه سعيد بن منصور والدارقطني، وقال الدارقطني: الضحاك لم يسمع من حذيفة. وقال ابن حزم: جويبر هالك، والضحّاك ضعيف، ولم يدرك حذيفة وقال النووي في "المجموع" (6/483) : وجويبر ضعيف باتفاق أهل الحديث، فهذا الحديث مرسل ضعيف لا يحتج به.

من تحقّق لديه وجوب صلاة الجماعة على الأعيان. قال ابن قدامة في "المغني" (3/187) : "إنما اشترط. ذلك لأن الجماعة واجبة، واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعة الواجبة، وإما خروجه إليها فيتكرر ذلك كثيرًا مع إمكان التحرز منه، وذلك مناف للاعتكاف". "ويلزمه الخروج إلى الجمعة ولا يبطل اعتكافه لأنه خروج بعذر مشروع، ولا يتكرر إلا مرة في الأسبوع" (1) . * قال ابن قدامة (3/192) : "وكذلك له الخروج إلى ما أوجبه الله تعالى عليه مثل من يعتكف في مسجد لا جمعة فيه فيحتاج إلى خروجه ليصلي الجمعة، ويلزمه السعي إليها فله الخروج إليها ولا يبطل اعتكافه. وبهذا قال أبو حنيفة ". وإلى عدم بطلان اعتكافه بالخروج إليها ذهب: سعيد بن جبير والحسن البصري والنخعي وأحمد وعبد الملك من أصحاب مالك وابن المنذر وداود، نقل ذلك عنهم: النووي في "المجموع" (6/514) . وقال الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/114) : "وكذلك في الخروج في الجمعة ضرورة لأنها فرض عين، ولا يمكن إقامتها في كل مسجد فيحتاج إلى الخروج إليها كما يحتاج إلى الخروج لحاجة الإنسان فلم يكن الخروج إليها مبطلاً لاعتكافه". الرابع: أنه لا يصح إلا في المسجد الحرام والمسجد النبوي: "وهو آخر قولى عطاء، فقد روى عبد الرزاق في "مصنفه" (4/349) عنه أنه قال: لا جوار إلا في مسجد جامع، ثم قال: لا جوار إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة.

_ (1) "المغني" (3/189) .

"لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة" والرد عليه

الخامس: أنه لا يصح إلا في المسجد النبوي فقط: وهو قول سعيد بن المسيب، فأخرج عبد الرزاق (4/346) : عن ابن المسيب قال: لا اعتكاف إلا في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ونسبه أيضاً ابن المنذر إليه، وعلق عليه النووي في "المجموع" (6/483) بقوله: "ما أظن أن هذا يصح عنه" أ. هـ. ونسبه إليه ابن حزم في "المحلى" (5/194) وقال: "إن لم يكن قول سعيد فهو قول قتادة". وقال الحافظ في "الفتح" (4/272) : "وخصه ابن المسيب بمسجد المدينة". لكن روى ابن أبي شيبة عنه أنه قال: لا اعتكاف إلا في مسجد نبي. بالتنكير. فيشمل المساجد الثلاثة، وكذا نقل عنه ابن حزم في "المحلى" (5/195) . وابن قدامة (3/188) وولي الدين العراقي في "طرح التثريب" (4/171) وقال: "وهو بمعنى الذي قبله -يعني قول حذيفة الآتي- ولهذا جعلهما ابن عبد البر قولا واحد" أ. هـ. السادس: أنه لا يصح إلا في المساجد الثلاثة: وهو قول حذيفة وقد تفرد به. "عن أبي وائل، قال، قال حذيفة لعبد الله -يعني ابن مسعود-: عكوفٌ بين دارك ودار أبي موسى لا يَضُر!؟ وقد علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة"! فقال عبد الله: لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطات وأصابوا!! (1) .

_ (1) رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" والذهبي في "سير أعلام النبلاء" (15/81) . وشيخ الطحاوي قال عنه الذهبي في "الميزان" (3/ 575) : "صاحب مناكير" وأخرجه البيهقي (4/316) والطبراني في "الكبير" (9/349) ، وعبد الرزاق الصنعاني (4/347) ، وابن أبي شيبة (3/91) والإسماعيلي وصححه الالباني في "قيام رمضان" الطبعة الثانية (ص 36) .

قال الحافظ الذهبي بعد روايته للحديث "صحيح غريب عال". وقد عمل بعض السلف بهذا الحديث فقد روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (3/91) وابن حزم (5/194) بسند صحيح عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا اعتكاف إلا في مسجد نبي. * وممن يذهب إلى هذا القول في عصرنا: محدث ديار الشام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -حفظه الله-. قال في رسالته "قيام رمضان" (ص 36) : "وقد وقفت على حديث صحيح صريح يخصص (المساجد) المذكورة في الآية بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا اعتكاف إلا في الساجد الثلاثة". وقد قال به من السلف فيما اطلعت عليه حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب وعطاء إلا أنه لم يذكر المسجد الأقصى. وقال غيرهم بالمسجد الجامع مطلقا، وخالف آخرون. فقالوا: ولو في مسجد بيته. ولا يخفى أن الأخذ بما وافق الحديث منها هو الذي ينبغي المصير إليه؛ والله سبحانه وتعالى أعلم. السابع: لا اعتكاف إلا في مسجد مصر جامع. الثامن: لا اعتكاف إلا في مسجد مكة أو مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس (1) .

_ (1) انظر: رسالة "دفع الاعتساف عن محل الاعتكاف" لجاسم الفهيد الدوسري ضمن كتاب "زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء" وهي رسالة قيمة نقلنا معظمها ولخصناها، وانظر: رسالة الانصاف في أحكام الاعتكاف "لعلي حسن عبد الحميد الحلبي طبع الكتبة الإسلامية بالاردن، ورسالة إيضاح الدلالة في تخريج وتحقيق حديث لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة "تأليف محمد بن عبد الوهاب الوصابي العبدلي الناشر مكتبة الضياء" وانظر: "المحلى" لابن حزم (5/مسألة رقم 633) .

الرد على فضيلة الشيخ الألباني

الرد على فضيلة الشيخ الألباني مولانا وسيدنا محدث ديار الشام فضيلة الشيخ الالباني لا ينكر علمه إلاَّ جاحد أو من يريد أن يستر الشمس بكف طفل صغير. ياناطح الجبل العالي لِتُكْلمه ... أشفق على الرأس لاتشفق على الجبل وهو مجدد عصرنا في الحديث النبوي كما يقول العلامة ابن باز، وهو "من خيرة أهل الحديث وقلّ رجل يكون مثله في الحديث في هذا الزمان". كما يقول الشيخ ابن عثيمين. والشيخ في هذه المسألة مجتهد معذور وله أجر على اجتهاده، ومن الأمانة بعد هذا أن ننشر رد من أجادوا الرد ووافقوا مذهب الجمهور وعامة أهل الفقه في سائر الأمصار على اختلاف العصور. وقد رد الشيخ جاسم الفهيد الدوسري في رسالته "دفع الاعتساف عن محل الاعتكاف" فيقول -حفظه الله-: "الجواب عن هذا الخبر من وجوه ستة: الأول: أنه اختلف في رفعه ووقفه والصواب وقفه: فقد رواه ثلاثة من الحفاظ عن ابن عيينة به موقوفًا من كلام حذيفة، وهم: ا- عبد الرزاق الصنعاني في "مصنفه" ومن طريق الطبراني في "الكبير". 2- سعيد بن عبد الرحمن بن حسان المخزومي. 3- محمد بن أبي عمر العدني. ومما يؤيد الوقف: ما أخرجه عبد الرزاق ومن طريق الطبراني، وابن أبي شيبة من طريق الثوري ... قال: جاء حذيفة فذكره موقوفًا. قال الهيثمي في "المجمع": وإبراهيم النخعي لم يدرك حذيفة. ولكن نقل الأعمش عن إبراهيم أنه قال: إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله فهو عن غير واحد عن عبد الله "تهذيب" (1/177-178) . وقال الحافظ العلائي في "التحصيل": "وجماعة من الائمة صححوا

مراسيلة، وخص البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود" وهذا منها، هذا من جهة الصناعة الحديثية. * وأما من جهة النظر فإن ابن مسعود لم يقبل رواية حذيفة. بل ردها، ولو ثبت رفع الحديث لما تجاسر على ذلك، وهو من أئمة الصحابة وفقهائهم، وقد أفتى بخلاف ذلك. فقد أخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة والطبراني بسند صحيح عن شداد ابن الأزمع قال: "اعتكف رجل في المسجد في خيمة له فحصبه الناس، قال: فأرسلني الرجل إلى ابن مسعود، فجاء عبد الله وطرد الناس، وحسن ذلك" أ. هـ فعُلِم أن حذيفة إنما قال ذلك اجتهادًا منه، ولم يكن ابن مسعود ملزمًا باجتهاده. الثاني: مما يضعف الاستدلال بهذا الخبر قول ابن مسعود -رضي الله عنه- (لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطأت فأصابوا) :وهذا تصريح منه بخطأ حذيفة ونسيانه في رواية الحديث وصواب عمل الآخرين بخلاف، فلعل حذيفة اشتبه عليه حديث "لا تشد الرحال ... " فإنه قريب منه، لا سيما أن الخطابي قد ذكر في "معالم السنن" (2/222) : أن بعض أهل العلم استنبط من حديث النهي عن شد الرحال أن الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد الثلاثة. * وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": "قال عبد الله: (فعلّهم أصابوا وأخطأت) ؛ فهذا يدل على أنه لم يستدل على ذلك بحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى ان عبد الله يخالفه ويجوّز الاعتكاف في كل مسجد، ولو كان ثم حديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما خالفه". الثالث: أن في متن الحديث اختلافًا وشكًا: قد رواه سعيد بن منصور في "سننه"، ومنتقى الأخبار للمجد عن شقيق قال: قال حذيفة لعبد الله بن مسعود: قد علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة" أو قال: "مسجد جماعة". ورواه الطبراني بسند صحيح عن النخعي وفيه: قال حذيفة: "أما أنا فقد

علمت أنه لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة"، وأعله الهيثمي في "المجمع" والحافظ بالانقطاع فهذا الاختلاف مما يوهن الاستدلال بالحديث لأنه جمع حكمين مختلفين في مسألة واحدة، وقد استدل به أيضاً أصحاب القول الثالث. * قال ابن حزم (5/195-196) : "قلنا: هذا شك من حذيفة أو ممن دونه، ولا يقطع على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشك، ولو أنه عليه الصلاة والسلام- قال: "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة" لحفظه الله تعالى. * وقال الشوكاني في "النيل" (4/360) : "وأيضاً الشك الواقع في الحديث مما يضعف الاحتجاج بأحد شقيه" أ. هـ. الرابع: أنه منسوخ، قال أبو جعفر الطحاوي في "مشكل الآثار" (4/20) : "فتأملنا هذا الحديث فوجدنا فيه إخبار حذيفة لابن مسعود أنه قد علم ما ذكره له عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتَرْك ابن مسعود إنكار ذلك وجوابه إياه بما أجابه في ذلك من قوله لهم: "حفظو" أي قد نسخ ما قد ذكرته من ذلك، وأصابوا فيما قد فعلوا. وكان ظاهر القرآن على ذلك وهو قول الله عز وجل (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) . فعمّ المساجد كلها بذلك، وكان المسلمون عليه في مساجد بلدانهم" أ. هـ. الخامس: أن الحديث -إنْ صح- ومحمول على بيان الأفضلية: ذكره الكاساني في "البدائع" (2/113) وقال: "فأفضل الاعتكاف أن يكون في المسجد الحرام، ثم مسجد المدينة، ثم في المسجد الأقصى، ثم في المساجد العظام التي كثر أهلها" أ. هـ. السادس: أنه لو ثبت رفع الحديث لما أجمعت الأمة على ترك العمل به: فلم ينقل عن أحد من الأئمة المتقدمين منهم والمتأخرين: أنه أخذ بظاهر هذا الحديث سوى رواية حذيفة -رضي الله عنه- فإن قيل: قد أخذ به سعيد ابن المسيب وعطاء؟ فالجواب: أن النقل عن سعيد قد اختلف كما تقدم في القول الخامس،

وأما عطاء فقد استثنى المسجد الأقصى من ذلك، ولو كان قد أخذ بالحديث لما استثناه منه لأنه مذكور فيه، فعلم أن فتواه إنما هي اجتهاد منه، فقد روى عبد الرزاق (4/349) عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: فمسجد إيلياء؟ -يعني الأقصى- قال: لا يجاور إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة- فعلم تفرد حذيفة بذلك. * والقول الحقيق بالقبول هو أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد جماعة، وإن كان الاعتكاف تتخلله صلاة الجمعة فالأولى: أن يكون في مسجد جامع خروجًا من خلاف الإمامين: مالك والشافعي. والله أعلم" (1) . * قال النووي في "المجموع" (6/507-508) : "إن الاعتكاف إنما يكون في المساجد، وإذا ثبت جوازه في المساجد صحّ في كل مسجد (2) ، ولا يقبل تخصيص من خصه ببعضها إلا بدليل، ولم يصح في التخصيص شيء صريح". وقال جصَّاص في "أحكام القران" (1/243) : "وظاهر قوله: (وأنتم عاكفون في المساجد) يبيح الاعتكاف في سائر المساجد لعموم اللفظ، ومن اقتصر به على بعضها. فعليه بإقامة الدلالة، وتخصيص بمساجد الجماعات لا دلالة عليه. كما أن تخصيص من خصه بمساجد الأنبياء لا لم يكن عليه دليل سقط باعتباره" وقال: "فغير جائز لنا تخصيص عموم الآية بما لا دلالة فيه على تخصيصها". * وكذا قال الإمام ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/427-428) . فرع: قال ابن قدامة في "المغني" (3/189) . "وإن كان اعتكافه مدة غير وقت الصلاة قليلة أو بعض يوم جاز في كل

_ (1) انتهى تلخيص رسالة "دفع الاعتساف عن محل الاعتكاف" المنشورة ضمن كتاب "زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء" للشيخ جاسم الفهيد الدوسرى نشر دار البشائر الإسلامية ببيروت. (2) وهو قول الجمهور كما قال ابن حجر في "الفتح" (4/319) .

[وقت الاعتكاف]

مسجد لعدم المانع". وكذا المعذور بترك الجماعة كامرأة مريض. (فرع) : الجمهور على أن المرأة تعتكف في المسجد؛ وبه قال: الشافعي ومالك وأحمد وأبو داود. وجوز أبو حنيفة والثوري اعتكافها في مسجد بيتها. (فرع) : قال النووي في "روضة الطالبين" (2/398-399) : "إذا نذر الاعتكاف في مسجد بعينه، فإن عيّن المسجد الحرام تعين، وكذا مسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو مسجد الأقصى، وإن عين غير هذه الثلاثة لم يتعين على الأصح. وإذا حكمنا بالتعيين، فإن عين المسجد الحرام لم يقم غيره مقامه، وإن عيّن مسجد المدينة، لم يقم مقامه إلا المسجد الحرام، وإن عيّن الأقصى لم يقم مقامه إلا المسجد الحرام، ومسجد المدينة، وإذا حكمنا بعدم التعيين فليس له الخروج بعد الشروع لينتقل إلى مسجد آخر، لكن لو كان ينتقل في خروجه لقضاء الحاجة إلى مسجد آخر على مثل تلك المسافة جاز على الأصح. [وقت الاعتكاف] يصح في أي وقت من أيام السنة، فقد ثبت أن النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف في العشر الأوائل من شوال، وفي رواية في العشر الأواخرْ" (1) . لكنه يتأكد في رمضان لمواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، فقد اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فى العشر الوسط من رمضان. وفي رواية "أنه كان يعتكف في كل رمضان". وأفضله العشر الأواخر لان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكفها حتى توفاه الله عز وجل كما تقدم: عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ِ يعتكف في كل رمضان، فإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي اعتكف فيه. قال: فاستأذنته عائشة أن تعتكف، فأذن لها فضربت فيه قبة، فسمعت بها حفصة فضربت قبة، وسمعت زينب بها فضربت قبة أخرى، فلما انصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الغداة أبصر أربع قباب. فقال: "ما هذا؟ " فأخُبرَ خبرهن. فقال: "ما حملهن على هذا؟ آلبر؟ انزعوها فلا أراها"؛ فنزعت فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر

_ (1) قطعة من حديث عائشة المتفق عليه.

العشرين من شوال" رواه البخاري. * "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً". * قال النووي في "المجموع" (6/516) : "مذهب العلماء فيمن نذر اعتكاف العشر الأواخر من رمضان أو غيره: متى يدخل في اعتكافه؟ مذهبنا اْنه يلزمه أن يدخل فيه ليلة الحادي والعشرين ويخرج عن نذره بانقضاء الشهر تم أو نقص، وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه. وقال الأوزاعي وإسحاق وأبو ثور: يجزئه الدخول في طلوع الفجر يوم الحادي والعشرين ولا يلزمه ليلة الحادي والعشرين، دليلنا أن العشر اسم لليالي والأيام والله أعلم. * وقال آخرون: "السنة في مبتدأ الاعتكاف أن تكون بعد صلاة الفجر، فقد روت السيدة عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله: "كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه". ولفظ: "كان يقتضي الدوام عند أهل العلم". قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (1/430) : "والسبب في اختلافهم معارضة الأ-يسة بعضها بعضًا، ومعارضة الأثر لجميعها (1) ، وذلك أنه من رأى أن أول الشهر ليلة واعتبر الليالي قال: يدخل قبل مغيب الشمس، ومن لم يعتبر الليالي قال يدخل قبل الفجر". الحق أن اسم اليوم في كلام العرب قد يقال على النهار مفردًا، وقد يقال على الليل والنهار معًا، لكن يشبه أن تكون دلالته الأولى إنما هي على النهار، ودلالته على الليل بطريق اللزوم. وأما الأثر المخالف لهذه الأقيسة كلها فهو ما خرّجه البخاري وغيره من

_ (1) قطعة من حديث متفق عليه.

العمل الذي يخص الاعتكاف

أهل الصحيح عن عائشة قالت ... " (1) . * وبوب البخاري في "صحيحه" "باب من خرج من اعتكافه بعد الصبح"، ثم أورد فيه حديث أبي سعيد الخدري وفيه: "اعتكفنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العشر الأوسط، فلما كان صبيحة عشرين نقلنا متاعنا ... ". فبهذا الحديث يترجح أن بداية الاعتكاف تكون بعد الفجر، ونهايته كذلك، حتى ينقض للمعتكف في معتكفه يوم وليلة بتمامها". العمل الذي يخص الاعتكاف * اختلفوا في الأعمال التي تخص الاعتكاف. * فروى عن عائشة ورواية عن علي أنها: الصلاة وذكر الله وتلاوة القرآن. وهو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة والمشهور عن أحمد والأوزاعي وابن القاسم. * "وروى عن علي -رضي الله عنه- وعن سعيد بن جبير والحسن والنخعي ورواية عن أحمد وابن وهب: أنها جميع ما يتقرب به إلى الله تعالى وهؤلاء أجازوا عيادة المريض وحضور الجنازة. وسبب الخلاف: أنه ثبت عن عائشة: "أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يدخل البيت إلا لحاجة" رواه البخاري ومسلم وزاد: "إلا لحاجة الإنسان وفسرها الزهري بالبول والغائط، فمن فهم من فعله ذلك التشريع للأمة قال: لا يعمل إلا الأعمال الخاصة بالمساجد، واستدلوا أيضاً بما روى عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت:" السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد منه".

_ (1) حديث عائشة السابق.

ولذلك اختلفوا في قراءة الحديث والفقه: فاستحبه الشافعي وأبو حنيفة، ولم يستحبه مالك وأحمد. ومن فهم الاعتكاف على أنه: "حبس النفس على الطاعات" أجاز له جميع القرب ولو كانت خارجة عن المعتكف. * قال إسحاق: لا يعود المريض في الاعتكاف الواجب، وله أن يشترط عند ابتدائه في التطوع في عيادة المريض ومثله قال الشافعي في جواز الاشتراط. ولأحمد قولان في جوازه وعدمه. ومنعه مالك والأوزاعي وهو اختيار ابن المنذر كما ثبت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه: لا يخرج إلا لما لا بد منه المجمع عليه مثل قضاء الحاجة وهو الراجح عندي. ِ* قال ابن حجر: "لو خرج فتوضأ خارج المسجد لم يبطل، ويلتحق بهما -أي الأكل والشرب- القيء والفصد لمن احتاج إليه. * وعن علي والنخعي والحسن البصري إن شهد المعتكف جنازة أو عاد مريضاً أو خرج للجمعة بطل اعتكافه" (1) . * من الحاجات الضرورية التي تدعو المعتكف لخروجه من معتكفه الطعام والشراب إذا لم يكن هناك من يأتيه به. والاغتسال إذا لم يكن للمسجد مكان يمكنه أن يغتسل فيه. وصلاته على الجنازة وتغسيله الميت إذا تعين عليه ذلك كأن لم يوجد من يصلي عليها، أو يغسله. وكان بعض أزواجه يزرنه وهو معتكف، فإذا قامت من عنده قام فودعها، ولم يكن يباشر امرأة من نسائه بقبلة ولا غيرها. قال ابن حزم في "مراتب الإجماع" (ص 48) : "واتفقوا على أن من خرج من معتكفه لغير حاجة ولا ضرورة ولا بر أمر به، أو ندب إليه فإن اعتكافه قد بطل". "وقد استنبط بعض أئمة العلم مما ثبت عن السيدة عائشة -رضي الله

_ (1) "فتح الباري" (4/321) .

الخروج إلى الجمعة

عنها-: أنها كانت ترّجل رسول الله وهو معتكف يناولها رأسه وهي في حجرتها والنبي في المسجد "أن المعتكف ممنوع من الخروج من المسجد إلا لغائط أو بول". ووجهه أنه لو جاز له الخروج لغير ذلك لما احتاج إلي إخراج رأسه من المسجد خاصة، ولكان يخرج بجملته ليفعل حاجته من تسريح رأسه في بيته، وقد أكدت ذلك بقولها في بقية الحديث: "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" وقد يقال: هذا فعل لا يدل على الوجوب. وجوابه: أنه بيّن به الاعتكاف المذكور في القرآن، وذلك يدل على أن هذه طريقة الاعتكاف وهيئته المعروفة. والله أعلم" (1) . الخروج إلى الجمعة اختلفوا في خروجه إلى الجمعة: * فقال مالك في رواية وأبو حنيفة: يخرج إليها ويبني. * ومشهور مذهب مالك: أن من أراد اعتكاف عشرة أيام لزم اعتكافها في الجامع. وإن اعتكف في غيره وخرج إلى الجمعة بطل اعتكافه. * وقال سعيد بن جبير والحسن البصري والنخعي وأحمد وعبد الملك من أصحاب مالك وابن المنذر وداود وأبو حنيفة في رواية عنه: لا يبطل اعتكافه. * وللشافعي قولان أشهرهما: أنه يبطل اعتكافه. واتفقوا على أنه يخرج وإنما اختلفوا في البطلان. الصوم في الاعتكاف. هل الصوم شرط في الاعتكاف أم لا؟ * قال النووي في "الجموع" (6/511) : "مذهبنا أنه مستحب وليس

_ (1) "طرح التثريب" (4/177) لأبي زرعة العراقي.

شرطا لصحة الاعتكاف على الصحيح عندنا، وبهذا قال الحسن البصري وأبو ثور وداود وابن المنذر، وهو أصح الروايتين عن أحمد. قال ابن المنذر وهو مروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود. * وقال ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير والزهري ومالك والاوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق في رواية عنهما: لا يصح إلا بصوم. قال القاضي عياض: وهو قول الجمهور وهو الأصح والراجح. لقول السيدة عائشة -رضي الله عنها-: "السنة فيمن اعتكف أن يصوم". قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" (4/317) : "مذهب المحدثين أن الصحابي إذا قال: السنة كذا، فهو مرفوع. والسنة: السيرة والطريقة، وذلك قدر مشترك بين الواجب والسنة المصطلح عليها. ومثله حديث "سنّوا بهم سنة أهل الكتاب"، ولم تكن السنة المصطلح عليها معروفة في ذلك الوقت وذكر سنة الصوم للمعتكف مع ترك المس والخروج دليل على أن المراد الوجوب لا السنة المصطلح عليها". * زد على ذلك ما قاله ابن القيم في "زاد المعاد" (2/87) أنه: "لم ينقل عن النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه اعتكف مفطرًا قط. ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم، ولا فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا مع الصوم. فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف: "أن الصوم شرط في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية". * قال الإمام الجصّاص في "أحكام القرآن" (1/245) : "لما كان الاعتكلاف اسمًا مجملاً لما بينا، كان مفتقرًا إلى البيان، فكل ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اعتكافه فهو وارد مورد البيان، فيجب أن يكون على الوجوب، لأن فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب إلا ما قام دليله، فلما ثبت عن

_ (1) رواه أبو داود والبيهقي وسنده صحيح.

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجب أن يكون الصوم من شروطه التي لا يصح إلا بها كفعله في الصلاة لأعداد الركعات والقيام والركوع والسجود لما كان هذا كله على وجه البيان كان على الوجوب". * شبهة: إن قيل روى البخاري عن ابن عمر أن عمر -رضي الله عنه- سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: "أوف بنذرك". فلو كان الصوم شرطا لما صح اعتكافه الليل لأنه لا صيام فيه؟ فالجواب من وجوه: أ- أن الروايات في الحديث اختلفت. ففي إحداها: إنه كان عليه اعتكاف يوم في الجاهلية فأمره أن يفي به. وفي ثانيهّ: سأل عمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نذر كان نذره في الجاهلية اعتكاف، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوفائه. وفي ثالثة: اذهب فاعتكف يوماً. وفي رابعة: فاعتكف ليلة. والروايتان الأوليان في "الصحيحين" والثالث في "صحيح مسلم" والرابعة في "البخارى" فلا حجة في إيراده على ما ذكر لاختلاف الروايات. ب- قال ابن حجر في "الفتح" (4/322) : "فمن أطلق ليلة أراد بيومها، ومن أطلق يوماً أراد بليلته" فإن: "الليلة تغلب في لسان العرب على اليوم حكى عنهم أنم قالوا: صمنا خمسًا والخمس يطلق على الليالي، فإنه لو أطلق علي الأيام لقيل خمسة، وأطلقت الليالي وأريدت الأيام" (1) . * قال ابن عبد الهادي في "التنقيح": "ويمكن الجمع في حديث عمر

_ (1) "إحكام الأحكام" (2/56) ابن دقيق العيد.

مذاهب العلماء في أقل الاعتكاف

بين اللفظين بأن يكون المراد اليوم مع الليلة، أو الليلة مع اليوم وحينئذ فلا يكون فيه دليل على صحة الاعتكاف بغير صوم فإن الاعتكاف لم يشرع إلا مع الصيام، وهذا القول هو القوي إن شاء الله وهو أن الصيام شرط في الاعتكاف، فإن الاعتكاف لم يشرع إلا مع الصيام، وغالب اعتكاف النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه إنما كان في رمضان" (1) . جـ- روى الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر: "أن عمر نذر في الشرك أن يعتكف ويصوم فامره عليه الصلاة والسلام بعد إسلامه أن يفي بنذره"، وقد حسن الدارقطني إسناده. * شبهة أخرى: تقدم الحديث في اعتكافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشر الأوائل من شوال، وهذا يتناول اعتكافه يوم العيد، ويوم العيد نُهى عن صومه. * والجواب من وجهين: (1) قال ابن عبد الهادي في "التنقيح": "هذا ليس بصريح في دخول يوم الفطر لجواز أن يكون أول العشر الذي اعتكف ثاني يوم الفطر بل هذا هو الظاهر. وقد جاء مصرحًا في حديث "فلما أفطر اعتكف" (2) . (2) أن في إحدى روايتيه عند البخاري كما تقدم أنه صام "العشر الأواخر فلا حجة في هذه الشبهة البتة" (3) . *** مذاهب العلماء في أقل الاعتكاف أما زمان الاعتكاف فليس لأكثره عندهم حد واجب. * أما أقل زمن الاعتكاف.

_ (1، 2) نقله عند الزيلعي في "نصب الراية" (2/489) . (3) "الإنصاف في أحكام الاعتكاف" (16-19) .

ما يباح للمعتكف

* فعند الشافعي وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء أنه لا حد له، واختلف عند مالك في ذلك، فقيل: ثلاثة أيام وقيل يوم وليلة، وقال ابن القاسم عنه: أقله عشرة أيام، وعند البغدادين من أصحابه: أن العشرة استحباب، وأن أقله يوم وليلة. * قال النووي في "المجموع" (6/515) : "الصحيح المشهور من مذهبنا: أنه يصح كثيره وقليله ولو لحظة وهو مذهب: داود (1) والمشهور عن أحمد ورواية عن أبي حنيفة. * وقال مالك وأبو حنيفة في المشهور عنه: أقله يوم بكماله بناء على أصلهما في اشتراط الصوم. "والسبب في اختلافهم معارضة القياس للأثر. * أما القياس فإنه من اعتقد أن من شرطه الصوم قال: لا يجوز اعتكافه ليلة، فذا لم يجز اعتكافه ليلة فلا أقل من يوم وليلة، إذ انعقاد صوم النهار إنما يكون بالليل، وأما الأثر المعارض فما خرجه البخاري من حديث عمر ولا معنى للنظر مع الثابت من مذهب الأثر" (2) . ما يباح للمعتكف 1- يجوز له الخروج لقضاء الحاجة وجلب طعامه وشرابه إن لم يجد من يحمله إليه، كما يجوز له الخروج إلى الغسل إن لم يكن بالمسجد مكان له. 2- يجوز له تسريح شعره وتمشيطه. 3- يجوز له التوضأ ونحوه في المسجد. وقد روى رجل من الصحابة قال: "حفظت لك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ في المسجد" (3) . 4- ويجوز له أن يتخذ خيمة صغيرة أو شبهها مثل خباء في مؤخرة

_ (1) وابن علية. (2) "بداية المجتهد" (2/205-206) . (3) رواه أحمد بسند صحيح.

الجماع في الاعتكاف

المسجد ليعتكف فيها، فقد كانت عائشة -رضي الله عنها- تضرب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خباءً إذا اعتكف (1) وكان ذلك بأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) . * وقد اعتكف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرة في قبة تركية على سدتها حصير. قال ولي الدين العراقي في "طرح التثريب" (4/175) : "وفيه -أي حديث عائشة- في ترجيل شعر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتقدم أن الاشتغال بتسريح الشعر لا ينافي الاعتكاف. قال الخطابي: وفي معناه حلق الرأس وتقليم الأظافر وتنظيف البدن من الشعث والدرن. ويؤخذ من ذلك جواز فعل سائر الامور المباحة كالأكل والشرب وكلام الدنيا وعمل الصنعة من خياطة وغيرها". 5- ورّخص الجمهور له في البيع والشراء لما لابد منه، إلا أنهم اتفقوا على أنه لا يشتغل بالتجارة ولا بالحرفة للاكتساب، لأن ذلك ينافي الاعتكاف. 6- قال ابنُ حجر في "الفتح" (4/329) : "جواز اشتغال المعتكف بالأمور المباحة من: تشييع زائره والقيام معه والحديث مع غيره، وإباحة خلوة المعتكف بالزوجة، وزيارة المرأة للمعتكف". الجماع في الاعتكاف * أجمع العلماء على أن الاعتكاف يفسد بالجماع عمداً قال الله تعالى: ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد قال الشوكاني في "السيل الجرار" (2/136) : "ودل عليه إجماع الأمة". * فإن باشر فيما دون الفرج بشهوة قال مالك: يبطل مطلقًا وهو أصح القولين عند الشافعية. وقال أبو حنيفة وأحمد: إن أنزل بطل اعتكافه وإلا فلا. وقال عطاء: لا يبطل مطلقًا واختاره ابن المنذر.

_ (1) رواه البخاري. (2) رواه مسلم.

من جامع ناسيا في اعتكافه

* المرأة المعتكفة كالرجل المعتكف في تحريم الجماع والمباشرة بشهوة وفي إفساده بهما. ويفرق بين العالمة الذاكرة المختارة والناسية والجاهلة والمكرهة. * إذا استمنى بيده فإن لم ينزل لم يبطل اعتكافه بلا خلاف وإن أنزل فالأصح البطلان" (1) . من جامع ناسيا في اعتكافه ذهب الشافعية وداود إلى: أنه لا يفسد اعتكافه. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: يفسد. والجميع متفقون على: عدم جواز المباشرة والقبلة للمعتكف. هل تجب الكفارة على من جامع * واختلفوا في وجوب الكفارة عليه، والجمهور على: أنه يقضى اعتكافه الذي أفسده بالجمع ولا شيء عليه. وقال الحسن البصري والزهري: عليه مثل كفارة المجامع في رمضان هي مثلها. وقال مجاهد: يتصدق بدينارين. وسبب الخلاف: هل يجوز القياس في الكفارات أم لا؟ فمن قاس على كفّارة الجماع في رمضان قال: هي مثلها. * وأما مجاهد فلعله قاسها على المجامع امرأته وهي حائض عند من أوجب الكفارة عليه. والله أعلم. والراجح أنه ليس عليه إلا القضاء حتى يثبت دليل من الشارع على الوجوب. هل يجوز للمعتكف أن يتزوج قال النووي: "يجوز أن يتزوج وأن يُزوّج وقد نص عليه الشافعي في المختصر" (2) .

_ (1) "المجموع" للنووي (6/556) . (2) "المجموع" (6/559) .

الطيب للمعتكف

الطيب للمعتكف قال النووي في "المجموع" (6/564) : "مذهبنا أنه لا كراهية فيه. قال ابن المنذر: وبه قال أكثر العلماء منهم: مالك وأبو حنيفة وأبو ثور. * وقال عطاء لا تتطيب المعتكفة قال: فإن خالفت لم يقطع تتابعها قال: وقال معمر: يكره أن يتطيب المعتكف. قال ابن المنذر: لا معنى لكراهية ذلك قال: ولعل عطاء إنما كره طيبها لكونها في المسجد، كما يكره لغير المعتكفة الطيب إذا أرادت الخروج إلى المسجد". المعتكفه إذا حاضت قال النووي في "المجموع" (6/549) : "مذهبنا أنه يلزمها الخروج من المسجد، وإذا خرجت سكنت في بيتها كما كانت قبل الاعتكاف حتى ينقطع حيضها، ثم تعود إلى اعتكافها، وحكاه ابن المنذر عن عمرو بن دينار والزهري وربيعة والأوزاعي ومالك وأبي حنيفه. * قال: وقال أبو قلابة: تضرب خبائها على باب المسجد قال النخعي: تضربه في دارها حتى تطهر فتعود إلى الاعتكاف". * قال النووي: "المستحاضة المعتكفة لا يجوز لها الخروج من المسجد إن كان اعتكافها نذرًا سواء المتتابع وغيره، لأنها كالطاهرة لكنها تتحرز من تلويث المساجد وقد ثبت في "صحيح البخاري" عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "اعتكف مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة من أزواجه وهي مستحاضة فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي"، وممن ذكر المسألة صاحب "الحاوي" وابن المنذر وأشار إلى أنها مجمع عليها". البيع والشراء للمعتكف قال النووي في "المجموع" (6/564) : "الأصح من مذهبنا كراهيته إلا لما لابد منه. قال ابن المنذر: "وممن كرهه عطاء ومجاهد والزهري،

مسألة

البيع والشراء للمعتكف قال النووي في "المجموع" (6/564) : "الأصح من مذهبنا كراهيته إلا لما لابد منه. قال ابن المنذر: "وممن كرهه عطاء ومجاهد والزهري، ورخص فيه أبو حنيفة وقال سفيان الثوري وأحمد: يشتري الخبز إذا لم يكن له من يشتري. * وعن مالك رواية كالثوري، ورواية يشتري ويبيع اليسير. قال ابن المنذر: وعندي لا يبيع ولا يشتري، إلا ما لابد له منه إذا لم يكن له من يكفيه ذلك. قال فأما سائر التجارات فإن فعلها في المسجد كره، وإن خرج لها بطل اعتكافه، وإن خرج لقضاء حاجة الإنسان فباع واشترى في مروره لم يكره والله أعلم. * إذا خاط المعتكف ما تدعو الحاجة إليه جاز له ذلك. * قال الشافعي: لا يفسد الاعتكاف سباب ولا جدال. * إذا تعين عليه أداء شهادة جاز له الخروج لأدائها ولا يبطل اعتكافه. مسألة اختلفوا إذا اشترط التتابع في النذر أو كان التتابع لازمًا عند من يرى ذلك، فما الذي يقطعه؟ وهي: يبني أو يستأنف؟ ذهب الأئمة الأربعة إلى أنه إذا قطعه المرض يبني، وذهب الثوري إلى أنه يستأنف. والراجح إن شاء الله قول الجمهور لان المرض عذر شرعي. ومثل المريض المغمى عليه والمجنون. * قال النووي: لو كثر خروج المعتكف للحاجة لعارض يقتضيه كإسهال ونحوه فوجهان أصحهما لا يضره.

مرض المعتكف

مرض المعتكف المرض على أقسام: الأول: المرض اليسير الذي لا تشق معه الإقامة في المسجد كصداع وحمى خفيفة ووجع الضرس والعين فلا يجوز بسببه الخروج من المسجد إذا كان الاعتكاف نذرًا متتابعًا، فإنا خرج بطل اعتكافه. الثاني: مرض يشق معه الإقامة في المسجد لحاجته إلى الفرش والخدم وتردد الطبيب ونحو ذلك فيباح له الخروج، فإذا خرج ففي انقطاع التتابع طريقان أحدهما وهو ظاهر النص: لا ينقطع. الثالث: مرض يخاف معه تلويث المسجد فله الخروج ولا ينقطع التتابع. إذا أخرجه السلطان قال النووي في "المجموع" (6/545) : "قال الشافعي في "المختصر": فإن مرض أو أخرجه السلطان اعتكافه واجب، فإذا برئ أو خُلي بني، فإن مكث بعد برئه شيئًا من غير عذر ابتدأه هذا نصه". * يجوز للمعتكف أن يصعد منارة المسجد إن كانت مبنية في المسجد أو يكون بابها في المسجد للأذان أو غيره. ويجوز له الصعود إلى سطح المسجد للأذان وغيره. قضاء الاعتكاف الجمهور على: وجوب قضاء الاعتكاف على المتطوع. إذا قطعه بلا عذر لما ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يعتكف العشر الأواخر ولم يعتكف واعتكف عشرًا من شوال وأجمعوا على وجوب قضاء النذر والجمهور على: أن من فعل كبيرة فسد اعتكافه. الأولى للمعتكف أن يبيت في المسجد

حكمة الاعتكاف

حتى يخرج للمصلى قال ابن عبد البر في "التمهيد" (23/54) : "قال مالك في "الموطأ" أنه رأى أهل الفضل إذا اعتكفوا العشر الأواخر من رمضان لا يرجعون إلى أهليهم حتى يشهدوا العيد مع الناس". * وذكر ابن أبي شيبة في "مصنفه": من كان يحب أن يغدو المعتكف كما هو من مسجده إلى المصلى". * خرج أبو قلابة إلى المصلى. * وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يستحبون للمعتكف أن يبيت ليلة الفطر في مسجده حتى يكون غدوه منه. وعن أبي مجلز قال: "بت ليلة الفطر في المسجد الذي اعتكفت فيه حتى يكون غدوك إلى مصلاك منه" (1) . * قال زياد بن السكن: كان زبيد اليامي ومعه جماعة إذا كان يوم النيروز ويوم المهرجان اعتكفوا في مساجدهم، ثم قالوا: إن هؤلاء قد اعتكفوا على كفرهم واعتكفنا على إيماننا فاغفر لنا (2) . * يقول شيخ الإسلام ابن القيم: "لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفًا على جمعيته على الله ولم شعثه بالإقبال بالكلية على الله تعالى، وإن شعث القلب لا يلُمه إلا الإقبال على الله تعالى. شرع الله الاعتكاف الذي مقصوده وروحه: عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والأشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه والاقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيستولى عليه بدلها ويصير الهم كله به والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق فيعده بذلك لأنسه

_ (1) "مصنف ابن أبي شيبه" (2/504) طبع دار الفكر. (2) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (رقم 3683) إسناده لا بأس به.

به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه، فهذا هو مقصود الاعتكاف الأعظم" (1) . ***

_ (1) "زاد المعاد" (2/86-87) .

الباب السادس عشر وداع رمضان

الباب السادس عشر وداع رمضان "إذا كنت تبكي وهم جيرة فكيف تكون إذا ودّعوا"

فصل: العشر الأواخر من رمضان

العشر الأواخر من رمضان * في "الصحيحين" عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله" هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم: "أحيا الليل وأيقظ أهله وشدّ المئزر" (1) . * وفي رواية لمسلم عنها قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره". * كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر منها: (1) إحياء الليل: فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، ويحتمل أن يريد بإحياء الليل إحياء غالبه. (2) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوقظ أهله للصلاة: قال سفيان الثوري: أحبّ إلى إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك. وقد صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يطرق فاطمة وعليًا ليلاً فيقول لهما: ألا تقومان فتصليان؟! وكان يوقظ عائشة بالليل إذا أقضى تهجده وأراد أن يوتر قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء" (2) . وفي "الموطا" أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل من شاء الله أن يصلي حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم: الصلاة، الصلاة

_ (1) قطعة من حديث عائشة المتفق عليه. (2) صحيح: رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن حبان والحاكم وابن خزيمة عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3494) وفي رواية: "فإن قاما من ليلتهما هذه كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات".

ويتلو هذه الآية: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) ... الآية. * كانت امرأة حبيب العجمي أبي محمد تقول له بالليل: قد ذهب الليل، وبين أيدينا طريق بعيد وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدّامنا ونحن قد بقينا. يا نائم الليل كم ترقد ... قم يا حبيبي قد دنا الموعد وخذ من الليل وأوقاته ... وردا إذا ما هجع الرقد من نام حتى ينقضي ليله ... لم يبلغ المنزل أو يجهد قل لذوي الألباب أهل التقى ... قنطرة العرض لكم موعد (3) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشد المئزر واختلفوا في تفسيره: فمنهم من قال: هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة كما يقال: فلان يشد وسطه ويسعى في كذا، وهذا فيه نظر فإنها قالت: جد وشد المئزر وعطفت شد المئزر على جده، والصحيح أن المراد: اعتزاله للنساء. وبذلك فسره السلفُ والأئمة المتقدمون منهم: سفيان الثوري. وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غالبًا يعتكف العشر الأواخر، والمعتكف ممنوع من قربان النساء بالنص والإجماع. وقد قالت طائفة من السلف في تفسير قوله تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم) إنه طلب ليلة القدر، والمعنى في ذلك: أن الله تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح فيفوتهم طلب ليلة القدر. فأمر ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل خصوصًا في الليالي المرجوّ فيها ليلة القدر. فمن هنا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصيب من أهله في العشرين من رمضان، ثم يعتزل نساءه ويتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر.

(4) تأخيره للفطور إلى السحور: في "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال في الصوم" فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله؟ فقال: "وأيكم مثلي إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني". ويتأكد تأخير الفطر في الليالي التي ترجى فيها ليلة، القدر. (5) اغتساله بين العشاءين: قال ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة. * ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر فأمر ذر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان. ورُوي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أنه إذا كان ليلة أربعين وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار ورداء، فإذا أْصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قبل. * وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر. ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة (1) والتي تليها ليلتنا، يعني: البصريين وقال حماد بن سلمة: كان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيبان ويطيبون المسجد بالنضوح والدخنة في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر. وقال ثابت: كان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر. فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين، والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد وسائر الصلوات. ولا يكمل تزين الظاهر إلا بتزين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى وتطيره من الذنوب وأوضارها، فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئًا قال الله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس

_ (1) أي أرجى الليالي ليلة القدر عند أهل المدينة.

التقوى ذلك خير) . إذا المرء لم يلبس ثيابًا من التقى ... تقلب عريانا وإن كان كاسيًا ويوصى الشاعر بترك زاد الدنيا بالصوم والحصول على زاد الآخرة وهو التقوى وذلك لقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) . زاد بزاد ويا شتّان بينهما ... تقوى الإله بصوم الشهر تشريها لا يصلح لمناجاة الملك في الخلوات إلاَّ من زيّن ظاهره وباطنه وطهرهما خصوصًا لملك الملوك الذي يعلم السر وأخفى وهو لا ينظر إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. قالوا غدًا العيد ماذا أنت لابسه ... فقلت خلعة ساق حبه جرعا فقر وصبر هما ثوبان تحتهما ... قلب يرى إلفه الأعياد والجمعا أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به ... يوم التزاور بالثوب الذي خلعا الدهر لي مأتم إن غبتَ يا أملي ... والعيد ما كنت لي مرأى ومستمعا (6) الاعتكاف: ففي "الصحيحين" "عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله". وإنما كان يعتكف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه العشر التي يطلب فيها ليلة القدر قطعًا لإشغاله وتفريغًا للياليه وتخليًا لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان يحتجر حصيرًا يتخلى فيها عن الناس فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم" (1) . فالمبادرة المبادرة إلى اغتنام العمل فيما بقى من الشهر فعسى أن يستدرك به ما فات من ضياع العمر.

_ (1) "لطائف المعارف" (207-213) .

تولى العمر في سهو ... وفي لهو وفي خسر فيا ضيعة ما أنفقت في الأيام من عمري ومالي في الذي ضيعت من عمري من عذر فما أغفلنا عن واجـ ... ـبات الحمد والشكر أما قد خصنا الله ... بشهر أيما شهر بشهر أنزل الرحمن فيه أشرف الذكر وهل يشبهه شهر ... وفيه ليلة القدر فكم من خبر صحّ ... بما فيها من الخير روينا عن ثقات أنها تطلب في الوتر فطوبى لامرئ يطلبها في هذه العشر ففيها تنزل الأملا ... ك بالأنوار والبر وقد قال "سلام هي حتى مطلع الفجر" ألا فادخروها إنها من أنفس الذكر فكم من معتق فيها ... من النار ولا يدري (1) في الليالي العشر ينال القوم مطلوبهم بخدمة محبوبهم. "رياح الأسحار تحمل أنين المذنبين وأنفاس المحبين وقصص التائبين ثم تعود بردّ الجواب بلا كتاب". أعلتمُ أن النسيم إذ أسرى ... حمل الحديث إلى الحبيب كما جرى جهل الحبيب بأنني في حبهم ... سهر الدجى عندي ألذ من الكرى

_ (1) "لطائف المعارف" (207-213) .

فإذا ورد بريد برد السحر يحمل ملطفات الألطاف لم يفهمها غير من كتبت إليه. نسيم صبا نجد متى جئت حاملاً ... تحيتهم فاطو الحديث عن الركبِ ولا تذع السر المصون فإنني ... أغار على ذكر الأحبة من صحبي يا يعقوب الهجر قد هبت ريح يوسف الوصل، فلو استنشقت لعدت بعد العمى بصيرًا، ولوجدت ما كنت لفقده فقيرًا. كان لي قلب أعيش به ... ضاع مني في تقلبه رب فاردده عليّ فقد ... عيل صبري في تطلبه واغث ما دام بي رمق ... يا غياث المستغيث به قال يحيى بن معاذ: ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو. إن كنت لا أصلح للقرب ... فشأنكم عفوٌ عن الذنب كان مطرف يقول في دعائه: "اللَّهم ارض عنا، فإن لم ترض عنا فاعفَ عنا". من عظمت ذنوبه في نفسه لم يطمع في الرضا وكان غاية أمله أن يطمع في العفو ومن كملت معرفته لم ير نفسه إلا في هذه المنزلة. يا رب عبدك قد أتاك ... وقد أساء وقد هفا يكفيه منك حياؤ ... هـ من سوء ما قد أسلفا حمل الذنوب على ... الذنوب الموبقات وأسرفا وقد استجار بذيل عفوك ... من عقابك ملحفا رب اعف عنه ... فلانت أولى من عفا (1)

_ (1) "لطائف المعارف".

في وداع رمضان

في وداع رمضان إخوتاه: إذا أكمل الصائمون صيام رمضان وقيامه فقد وفوا ما عليهم من العمل وبقى ما لهم من الأجر وهو المغفرة. من وفّى ما عليه من العمل كاملاً وفّى له الأجر كاملاً، ومن سلم ما عليه موفرا تسلم ماله نقدًا لا مؤخرًا. ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم ... ولا أسلمها إلا يدًا بيد فإن وفيتهم بما قلتم وفيت أنا ... وإن أبيتم يكون الرهن تحت يدي ومن نقص من العمل الذي عليه، نقص من الأجر بحسب نقصه فلا يلم إلا نفسه. قال سلمان: الصلاة مكيال فمن وُفى وفيّ له ومن طفف فقد علمتم ما قيل في المطففين. فالصيام وسائر الأعمال على هذا المنوال من وفّاها فهو من خيار عباد الله الموفين، ومن طفف فيها فويل للمطففين، أما يستحيي من يستوفى مكيال شهواته ويطفف في مكيال صيامه وصلاته. غدًا توفى النفوس ما كسبت ... ويحصد الزارعون ما زرعوا إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم وإن أساؤا فبئس ما صنعوا كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكمال، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده وهؤلاء الذين (يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) . كانوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منهم بالعمل، وقد سمعوا قول الله عز وجل: (إِنما يتقبل الله من المتقين) . عن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إليّ من الدنيا وما فيها لأن الله يقول: (إِنما يتقبل الله من المتقين) .

* وقال مالك بن دينار، الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل. * وقال عبد العزيز بن أبي داود: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهمّ أيقبل منهم أم لا؟ * وخرج عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في يوم عيد الفطر فقال في خطبته: "أيها الناس إنكم صمتم لله ثلاثين يومًا وقمتم ثلاثين ليلة وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم". كان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر فيقال له: إنه يوم فرح وسرور فيقول: صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملاً فلا أدري أيقبله مني أم لا، ورأى وهيب بن الورد قومًا يضحكون في يوم عيد فقال: إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين!! * وعن الحسن قال: إن الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون. لعلك غضبان وقلبي غافل ... سلام على الدارين إن كنت راضيًا فياليت شعري من هذا المقبول فنهنّيه، ومن هذا المحروم فنعزيه. ماذا فات من فاته خير رمضان، وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان، كم بين من حظه فيه القبول والغفران، ومن كان حظه فيه الخيبة والخسران. متى يغفر لمن لا يغفر له في هذا الشهر؟ من يقبل من رد في ليلة القدر. متى يصلح من لا يصلح في رمضان؟ متى يصلح من كان فيه من داء الجهالة والغفلة مرضان؟! إذا الروض أمسى مجدبًا في ربيعه ... ففي أي حين يستنير ويُخصِبُ كل ما لا يثمر من الأشجار في أوان الثمار فإنه يقطع، ثم يوقد في النار. * من فرط في الزرع في وقت البدار لم يحصد يوم الحصاد غير الندم والخسران.

ترحل شهر الصبر والهفاه وانصرما ... واختص بالفوز في الجنات من خدما وأصبح الغافل المسكين منكسرًا ... مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما من فاته الزرع في وقت البدار فما ... تراه يحصد إلا الهمّ والندما * يا إخوتاه شهر رمضان يفاض على المتقين في أوله خلع الرحمة والرضوان، ويعامل أهل الإحسان بالفضل والإحسان، وأما أوسط الشهر فالأغلب عليه المغفرة، وأما آخر الشهر فيعتق فيه من النار من أوبقته الأوزار واستوجب النار بالذنوب الكبار، وإنما كان يوم الفطر من رمضان عيد لجميع الأمة لأنه تعتق فيه أهل الكبائر من الصائمين من النار، فيلتحق فيه المذنبون بالأبرار. * رُؤى بعض العارفين ليلة عيد يبكي على نفسه وينشد: بحرمة غربتي كم ذا الصدود ... ألا تعطف عليّ ألا تجودُ سرور العيد قد عمّ النواحي ... وحزني في ازدياد لا يبيد فإن كنت اقترفت خلال سوء ... فعذري في الهوى أن لا أعود فيا أرباب الذنوب العظيمة: الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة، فما منها عوض ولا لها قيمة فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة، والمنحة الجسيمة. يا من أعتقه مولاه من النار: إياك أن تعود بعد أن صرت حرا إلى رق الأوزار، أيبعدك مولاك من النار وتتقرب منها، وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها. وإن امرءًا ينجو من النار بعدما ... تزوّد من أعمالها لسعيدُ إن كانت الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها، وإن تكن المغفرة للمتقين فالظالم غير محجوب عنها. إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يرجو ويدعو المذنب

فيا أيها العاصي وكلنا ذلك لا تقنط من رحمة الله بسوء أعمالك، فكم يعتق من النار في هذه الأيام من أمثالك، فأحسن الظن بمولاك وتب إليه فإنه لا يهلك على الله هالك إذا أوجعتك الذنوب فداوها ... برفع يد بالليل والليل مظلمُ ولا تقنطن من رحمة الله إنما ... قنوطك منها من ذنوبك أعظمُ فرحمته للمحسنين كرامة ... ورحمته للمذنببن تكرمُ كان بعض السلف إذا صلى استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم فكيف حال المسيئين مثلنا في عباداتهم ارحموا مَنْ حسناتهُ كلها سيئات وطاعاته كلها غفلات. أستغفر الله من صيامي ... طول زماني ومن صلاتي يوم يرى كله خروق ... وصلاته أيّما صلاة مستيقظ في الدجى ولكن ... أحسن من يقظتي سباتي من استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر ويعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود" (1) . "كان حسان بن أبي سنان يصوم الدهر ويفطر على قرص ويتسحر بآخر، فنحل وسقم جسمه حتى صار كهيئة الخيال، فلما مات وأدخل مغتسلة ليغسل كشف الثوب عنه فذا هو كالخيط الأسود قال: وأصحابه يبكون حوله. قال حُريث: فحدثني يحيى البكاء وإبراهيم بن محمد العُرنيّ قالا: لما نظرنا إلى حسان على مغتسله وما قد أبلاه الدءوب استدمع أهل البيت وعلت أصواتهم فسمعنا قائلاً يقول من ناحية البيت:

_ (1) "لطائف المعارف".

تجوع للإله لكي يراه ... نحيل الجسم من طول الصيام فوالله ما رأينا في البيت إلا باكيًا ونظرنا فلم نجد أحدًا. قال حريث بن طرفة: فكانوا يرون أن بعض الجن قد بكاه" (1) . * أين من كان إذا صام صان الصيام، وإذا قام استقام في القيام، أحسنوا الإسلام ثم رحلوا بسلام، فما بقى إلا من إذا صام افتخر بصيامه وصال، وإذا قام عجب بقيامه وقال: كم بين خليّ وشجيّ، وواجد وفاقد، وكاتم ومبدي. "عباد الله إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومنْ فَرط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقى من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملاً صالحاً يشهد لكم به عند الملك العلاّم، وودعوه عند فراقه بأزكى تحية وسلام. سلام من الرحمن كل أوان ... على خير شهر قد مضى وزمانِ سلام على شهر الصيام فإنه ... أمان من الرحمن كل أمان لئن فنيت أيامك الغر بغتة ... فما الحزن من قلبي عليك بفان" (2) "شهر رمضان، وأين هو شهر رمضان؟ ألم يكن منذ لحظات بين أيدينا، ألم يكن ملء أسماعنا وملء أبصارنا؟ ألم يكن هو حديث منابرنا، زينة منائرنا، وبضاعة أسواقنا، ومادة موائدنا، وسمر أنديتنا، وحياة مساجدنا فأين هو الآن!! " (3) . * أي شهر رمضان، أي سلطان الشهور وجامع البشر والسرور جمع

_ (1) "لطائف المعارف". (2) "التبصرة" لابن الجوزي (1/199) . (3) "وداع رمضان" لمحمد عبد الله دراز.

البستان للزهور، أي شهر رمضان باث الأنس والحبور بث البدور للنور. * أي شهرنا الكريم، وموسم خيرنا الوسيم، أي شهر المكرمات والكرامات، انجابت فيك الظلمات والظلامات، وتضاعفت فيك الحسنات، وفتحت أبواب السموات، لو لم يكن لك من الفضل إلا ليلة القدر، وتردد الملائكة حتى مطلع الفجر لكان كفاية في تفضيلك ونهاية في تبجيلك. * أي شهر الأرواح، تهتز فيك وترتاح، وتطير بغير جناح. * أي شهر النعيم ووددنا أن لو كان شهرك حجة (1) ويا ليتك فينا ما تزال مقيمًا. * أي شهرنا الذي هيم نفوسنا، أي شهرنا المعظم قدره، المشرف ذكره. "لقد ذهبت أيامه وما أطعتم، وكتبت عليكم فيه آثامه وما أضعتم، وكأنكم بالمشمرين فيه وقد وصلوا وانقطعتم، أترى ما هذا التوبيخ لكم أو ما سمعتم". ما ضاع من أيامنا هل يغرمُ ... هيهات والأزمان كيف تقوّمُ يوم بأرواح تباع وتشترى ... وأخوه ليس يسام فيه درهم قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحنُّ ومن ألم فراقه تئن. دهاك الفراق فما تصنعُ ... أتصبر للبين أم تجزع إذا كنت تبكي وهم جيرة ... فكيف تكون إذا ودّعوا * كيف لا تجرى للمؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل بقى له في عمره إليه رجوع. تذكرت أيامًا مضت ولياليا ... خلتْ فجرتْ من ذرهنّ دموعُ ألا هل لها يوماً من الدهر عودة ... وهل لي إلى يوم الوصال رجوعُ وهل بعد إعراض الحبيب تواصل ... وهل لبدور قد أفلن طلوعُ

_ (1) سنة.

* أين حرق المجتهدين في نهاره، أين قلق المتهجدين في أسحاره، كيف حال من خسر في أيامه ولياليه، ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه، وقد عظمت فيه مصيبتُ وجَل عزاؤه. كم نصح المسكين فما قبل النصح، كما دُعي إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح، كم يشاهد الواصلين فيه وهو متباعد، كم مرت به زمر السائرين وهو قاعد، حتى إذا ضاق به الوقت، وخاف المقت، ندم على التفريط حين لا ينفع الندم، وطلب الاستدراك في وقت العدم. أتترك من تحب وأنت جار ... وتطلبهم وقدْ بعد المزار وتبكي بعد نأيهم اشتياقا ... وتسأل في المنازل أين ساروا تركت سؤالهم وهم حضور ... وترجو أن تخبرك الديارُ فنفسك لُمْ ولا تلم المطايا ... ومتْ كمدا فليس لك اعتذارُ * يا شهر رمضان تَدَققْ، دموع المحيين تَدفَّق، قلوبهم من ألم الفراق تَشَقَّقْ. عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام ما تخرّق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يُعتق. عسى وعسى من قبل وقت التفرقِ ... إلى كلّ ما يرجو من الخير تلتقي فيجبر مكسور ويقبل تائب ... ويعتق خطّاء ويسعد من شقى (1) ***

_ (1) "لطائف المعارف" لابن رجب.

فصل: مواعظ

مواعظ موعظة ... أخي: من صام عن الطعام والشراب فصومه عادة. ومن صام عن الربا والحرام وأفطر على الحلال من الطعام فصومه عدة وعبادة. ومن صام عن الذنوب والعصيان وأفطر على طاعة الرحمن فإنه صائم رضي. ومن صام عن القبائح وأفطر على التوبة لعلام الغيوب فهو صائم تقى. ومن صام عن الغيبة والبهتان وأفطر على تلاوة القرآن فهو صائم رشيد. ومن صام عن المنكر والأغيار وأفطر على الفكرة والاعتبار فهو صائم سعيد. ومن صام عن الرياء والانتقاص وأفطر على التواضع والإخلاص فهو سالم. ومن صام عن خلاف النفس والهوى وأفطر على الشكر والرضا فهو صائم غانم. ومن صام عن قبيح أفعاله وأفطر على تقصير آماله فهو صائم مشاهد. ومن صام عن طول أمله وأفطر على تقريب أجله فهو صائمٌ زاهد. قال ابن القيم: الصوم لجام المتقين وجنة المحاربين ورياضة الأبرار والمقربين وهو لرب العالمين. ***

يا قادمًا بالتقى في عينك الحبّ ... طال اشتياقي فكم يهفو لكم قلبُ صبرت عامًا أمني قرب عودتكم ... نفسي فهل يدنو لكم سرب قل هل طيفكمو فاخضر عامرنُا ... والله أكرمنا إذ جاءنا الخصبُ ففيكموا يرتقي الأبرار منزلةً ... والخاملون كسالى زرعهم جدب (1) يقول الشاعر: للعناق الألاّق قم اطلق ... الروح ... تُلقَّاهُ بكرة وعشيا بانجذاب الأشواق رُح باشر ... الإقبال تَحسُو الأنوارَ.. طلقًا ظميا وتزود بخير زاد -هي التقوى- ... اتخذ بُرْدَها المباركَ زيًا عبْرَ روضاته الفسيحات فاسبح ... تقطف الهدى منه شهدًا جنيا عند أعتاب بابه فتمسح ... تبلغ الروح منك سقف الثريا واعمل الصالحات فيه فإن الأجر ... يربُو.. فاغنمه ربحا رضيا وانصب الوجه للعلي تعالى ... (إنه كان وعده مأتيا) وعلى عشرة الأواخر فانكبَّ دءوبًا ... وانهض بهن حفيا شمر الساعدين.. أسرج قوى الإيمان ... تطوى بها السويعات طيا (2) قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يخلف قوم يحبون السَّمانة، يشهدون قبل أن يُستشهدوا" (3) .

_ (1) المجلة الحربية رمضان (1414هـ) . (2) المجلة الحربية رمضان (1411هـ) - للشاعر فريد قرني. (3) رواه مسلم عن أبي هريرة.

عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: كنا نغازي ومعنا عطاء الخرساني وكان يحيي الليل صلاة فإذا كان في جوف الليل نادى من فسطاطه يا يزيد ين جابر يا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر يا هشام بن الغاز قوموا فتوضئوا فصلوا، قيام هذا الليل وصيام هذا النهار أهون من مقطعات الحديد ولباس القطران الوحاء ثم الوحاء ثم الوحاء، النجاء ثم النجاء ثم يقبل على صلاته" (1) . عن الهيثم بن جماذ قال: دخلت على يزيد الرقاشي وهو يبكي في يوم حار وقد عطش نفسه أربعين سنة فقال لي: أدخل تعالى نبكي على الماء البارد في اليوم الحار. عن مالك قال: بلغني أن حسين بن رستم الأيلي دخل على قوم وهو صائم فقالوا له: أفطر فقال: إني وعدت الله وعدا، وأنا أكره أن أُخلف الله ما وعدته. * قالوا: الصوم لذة الحرمان. * وقالوا: الصوم رجولة مستعلنة وإرادة مستعلية (2) . * قالوا: رمضان شهر الحرية عما سوى الله، "وفي الحرية تمام العبودية، وفي تحقيق العبودية تمام الحرية" كما يقول أحمد بن خضرويه. * قالوا: رمضان شهر القوة فليس الشديد بالصرعة إما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. "والصيام الذي فرضه الله على المسلمين فيه الجمع بين القوتين المعنوية والمادية جمعا رائعًا منسجمًا يعطي أحسن الثمار". وهو من الناحية المعنوية يعطي المسلم ثلاث قوى معنوية لها أكبر الأثر في سعادة الأفراد والجماعات:

_ (1) "شعب الإيمان". (2) "أحكام الصيام وفلسفته في ضوء القرآن والسنة" للدكتور مصطفى السباعي المكتب الإسلامي.

أولاهما- الصبر: وما أدراك ما الصبر وخاصة في ميدان المعركة. ثاثيهما: الطاعة: امتثالاً لأمر الله وطاعة لرسوله. "وهل كان خالد بن الوليد يصل إلى المثل الأعلى في القائد الذي يعزل وهو في قلب المعركة فيسلم القيادة إلى غيره، ثم ينخرط جنديًّا يقاتل بنفس الروح العالية التي كان يقاتل بها وهو قائد، ثم يقول قولتة المشهورة: "إنما أحارب لرب عمر لا لعمر". ثالثها: النظام: فالمسلم في رمضان يأكل بنظام، وينام بنظام، ويستيقظ بنظام، والمجتمع الإسلامي في رمضان مجتمع يتجلّى فيه النظام بأروع مظاهره. هذه هي الأخلاق التي يغرسها الصيام في نفس المسلم: الصبر والطاعة والنظام. أترون أمة من الأمم تتحلى بهذه القوى المعنوية، ثم تجد سبيلها إلى الانهيار. أترون جيشًا يتحلى أفراده بهذه الأخلاق القوية، ثم يجد نفسه على عتبة الهزيمة. فلا تنس وأنت تصوم رمضان أن الله يريد أن يجعلك بالصيام مثال "القوي الأمين فحذار أن ينسلخ عنك رمضان وأنت "الضعيف الخائن" (1) . وأنشد بعضهم: الصوم جنة أقوام من النار ... والصوم حصن لمن يخشى من النار والصوم ستر لأهل الخير كلهم ... الخائفين من الأوزار والعار والشهر شهر آله العرش من به ... رب رحيم لثقل الوزر ستار فصام فيه رجالٌ يربحون به ... ثوابهم من عظيم الشأن غفار فأصبحوا في جنان الخلد قد نزلوا ... من بين حور وأشجار وأنهار

_ (1) بتصرف من كلام الدكتور مصطفى السباعي في كتابه "أحكام الصيام وفلسفته".

فضل الجوع:

فضل الجوع: رويُ عن يحيى بن معاذ -رضي الله عنه- أنه قال في شبع من الطعام عجز عن القيام، ومن عجز عن القيام افتضح بين الخدام، وإذا امتلأت المعدة رقدت الأعضاء عن الطاعات وقعدت الجوارح عن العبادات" وأنشدوا: تجوع فإن الجوع يورث أهله ... عواقب خير عمها الدهر دائم ولا تك ذا بطن رغيب وشهوة ... فتصبح في الدنيا وقلبك هائم * وروي عن ذي النون المصري -رحمه الله تعالى- أنه قال: تجوع بالنهار وقم بالأسحار ترى عجبًا من الملك الجبار. * وروي عن يحيى بن معاذ -رضي الله عنه- أنه قال: لو كان الجوع يباع في السوق لكان المريد محقوقًا إذا دخل السوق ألا يشتري شيئًا غيره. والله تعالى قد فضلكم بدين الإسلام ومنَّ عليكم بشهر الصيام، والله أعلم، وأنشدوا: وربك لو أبصرت يومًا تتابعت ... عزائمهم حتى لقد بلغوا الجهدَا لأبصرت قومًا حاربوا النوم وارتدوا ... بأردية السهاد واستعملوا الكدّا وصاموا نهارًا دائمًا ثم أفطروا ... على بلغ الأقوات واستقربوا البعدا أولئك قوم حسّن الله فعلهم ... وأورثهم من حسن فعلهم الخلدا * حج روح بن زنباع مرة فنزل على ماء بين مكة والمدينة فأمر فأصلحت له أطعمة مختلفة الألوان، ثم وضعت بين يديه. وبينما هو يأكل إذ جاء راع من الرعاة يرد الماء فدعاه روح بن زنباع إلى الأكل من ذلك الطعام فجاء الراعي فنظر إلى طعامه وقال: إني صائم فقال له روح: في مثل هذا اليوم الطويل الشديد الحر تصوم يا راعي؟ فقال الراعي: أفأغبن أيامي من أجل طعامك، ثم إن

الراعي إرتاد لنفسه مكانًا فنزله وترك روح ابن زنباع فقال روح: لقد ضننت بأيامك يا راعي ... إذ جاد بها روح بن زنباع ثم إن روحًا بكى طويلاً وأمر بتلك الأطعمة فرفعت وقال: انظروا هل تجدون لها آكلا من هذه الأعراب أو الرعاة؟ ثم سار من ذلك المكان وقد أخذ الراعي بمجامع قلبه وصغرت إليه نفسه والله تعالى أعلم (1) . وشهر الصوم شاهده علينا ... بأعمال القبائح والذنوب فيا رباه عفوًا منك والطف ... بفضلك للمحير والكئيب وهذا الصوم لا تجعله صومًا ... يصيرنا إلى نار اللهيب سلام الله ما هبت عليه ... قبولٌ أو شمال أو جنوب * قال صالح المرى: كان عطاء السلمي قد اجتهد حتى انقطع فقلت: له يوماً إني مكرمك بكرامة فلا ترد كرامتي فبعثت إليه شربة من سويق مع ولدي وقلت له لا تبرح حتى يشربها فجاء فقال: قد شربها فبعثت له في اليوم الثاني مثلها فجاء فقال: ما شربها، فأتيت إليه فلمته وقلت: رددت عليّ كرامتي وهذا يقويك على العبادة فقال: يا أبا بشر لقد شربتها في أول يوم واجتهدت في الثاني فلم أقدر كلما هممت بشربها ذكرت قوله تعالى: (وطعامًا ذا غصة) قال: فقلت: أنا في وادٍ وأنت في واد. أطلتَ وعنفتني يا عزولْ ... بليت فدعني حديثي طويل هوايَ هوىً باطن ظاهر ... قديم حديث لطيف جليل ألا ما لذا الليل لا ينقضي ... كذا ليل كل محب طويل أبيت أساهر نجم الدجى ... إلى الصبح وحدي ودمعي يسيل

_ (1) "البداية والنهاية" (9/58-59) .

أمت نفسك حتى تحييها، فعاقبة الصبر حلوة كم صبر بشر عن مشتهى حتى سمع: كل يا من لم يكل ما مد سجاف "نعم العبد" على قبة (ووهبنا له أهله) حتى جرب في أمانة (إِنا وجدناه صابرْا) . إنَّ الألم ليحمد إذا كان طريقًا إلى الصحة، وإن الصحة لتذم إذا كانت سبيلاً إلى المرض، أي فائدة ساعة أوقعت غمًا طويلاً، ما فهم مواعظ الزمان من أحسن الظن بالأيام، إياك أن تسمع كلام الأمل فإنه غرور محض. ألا خيراً لمقترح النواح ... أطير إليه منشور الجناح فأسأله وألطفه عساه ... سيسلى ما بقلبي من جراح ويجلو ما دجا من ليل جهلي ... بنور هدى كمنسلخ الصباح سأصرف همتي بالكل عما ... نهاني الله من أمر المزاح إلى شهر الخضوع مع الخشوع ... إلى شهر العفاف مع الصلاح يجازي الصائمون إذا استقاموا ... بدار الخلد والحور الملاح وبالغفران من رب عظيم ... وبالملك الكبير بلا براح فيا أحبابنا اجتهدوا وجدّوا ... لهذا الشهر من قبل الرواح عسى الرحمن أن يمحو ذنوبي ... ويغفر ذلتي قبل افتضاحي قال الحسن: إن لله تعالى عبادًا، كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين وكمن رأى أهل النار في النار معذبين، قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة وأنفسهم عفيفة وحوائجهم خفيفة صبروا أيامًا قصارًا تعقب راحة طويلة، أما الليل فصافة أقدامهم تسيل دموعهم على خدودهم يجأرون إلى ربهم عز وجل ربنا ربنا، وأما النهار فعلماء حلماء بررة أتقياء ينظر إليهم الناظر فيحسبهم عرض أو قد خولطوا وما بهم مرض ولكن خالط القوم أمرٌ عظيم" (1) . يا قليل الصبر إنما هي مراحل فصابر لجة البلاء فالموت ساحل، تأمل تحت سجف ليل الصبر

_ (1) "التبصرة" (1/200) .

سجع على قوله تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا)

صبح الأجر، واحبس لسانك عن الشكوى في سجن الصبر، واقطع نهار اللأواء بحديث الفكر، وأوقد في دياجي الآلام مصباح الشكر، وقلب قلبك بين ذكر الثواب وتمحيص الوزر وتعلم أن البلاء يمزق ركام الذنوب تمزيق الشباك ويرفع درجات الفضائل إلى كاهل السماك ومن تفكر من سر- (إِن الله مع الصابرين) أنس بجليسه ومن تذكر- (إِنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) فرح بامتلاء كيسه. إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد كما كان أرصدا سجع على قوله تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا) لله أقوام امتثلوا ما أمروا وزجروا عن الزجر فانزجروا فإذا لاحت الدنيا غابوا وإذا بانت الأخرى حضروا فلو رأيتهم في القيامة إذا حشروا (إِني جزيتهم اليوم بما صبروا) . جن عليهم الليل فسهروا، وطالعوا صحف الذنوب فانكسروا وطرقوا باب المحبوب واعتذروا وبالغوا في المطلوب، ثم حذروا فانظر بماذا وعدوا في الذكر وذكروا (إِني جزيتهم اليوم بما صبروا) . ربحوا والله وما خسروا وعاهدوا على الزهد فما عذروا واحتالوا على نفوسهم فامتلكوا وأسروا، وتفقدوا نعم المولى فاعترفوا وشكروا (إِني جزيتهم اليوم بما صبروا) . بيوتهم في خلوها كالصوامع، وعيونهم تنظر بالتقى من طرف خاشع، والأجفان قد سحت سُحْبَ المدامع تسقى بذر الفكر الذي بذروا (إِني جزيتهم اليوم بما صبروا) . * استوحشوا عن كل جليس شغلا بالمعنى النفيس وذموا مطايا الجد فسارت العيس وبادروا الفرصة ففاتوا إبليس لا وقفوا ولا فتروا (إِني جزيتهم اليوم بما صبروا) .

الباب السابع عشر حيوانات تصوم

الباب السابع عشر حيوانات تصوم هذه حيوانات تمتنع عن الطعام أوقاتاً، أفلا تصوم أنت بعد ذلك أياماً

معجزة الدب الأبيض:

حيوانات تصوم كالإنسان إن الإمساك عن الطعام ليس بقاصر على الإنسان وحده ... فهناك حيوانات تصوم في ظروف معينة، وأغلب الطيور تمتنع عن تناول الطعام حينما تقوم بحضانة البيض.. والزواحف والثعابين تنطوي على نفسها مدة طويلة ولا تتناول طعامًا ... وذلك ما يُعرف بالبيات الشتوي. معجزة الدب الأبيض: ومن معجزات الله في خلقه ما أرويه للقارئ عن معجزة (الدب الأبيض) كما جاء في كتاب "غرائز الحيوانات" للأستاذ (محمد فياض) : والدب الأبيض أقوي الحيوانات التي تعيش في المنطقة المتجمدة الشمالية، وأضخمها جثة وقد يبلغ طوله في بعض الحالات ثلاثة أمتار، ووزنه سبعة قناطير ... وهو يعوم بسهولة في الماء ويعدو بسرعة على الجليد ويتسلق أكوامه العالية، ومن دواعي الدهش أن مثل هذا الحيوان الكبير الجسم، الثقيل الوزن، يتحرك بخفة فوق الجليد الأملس دون أن ينزلق، ويرجع السبب في ذلك، إلى أن باطن قدمه العريضة، مزودة بخصلة من الشعر الطويل الخشن، الذي يثبتها فوق الجليد ويمنع انزالقها. وهو يتغذى بالأسماك وعجول البحر ... التي يصطادها بنفسه ... وبجثث الحيتان الميتة التي يقذف بها البحر إلى الشاطئ. وفي الصيف عندما تظهر الخضرة في البقاع الشمالية يضيف الدب إلى غذائه أثمار التوت وبعض البقول والأعشاب. وفي الشتاء حيث تنقرض الخضرة ويندر الغذاء يأكل الدب كل ما يصادفه من أعشاب بحرية وأوراق جافة وأخشاب وغير ذلك. (والمبيت الشتوي) مقصور على الأنثى التي تدفن نفسها تحت الجليد، وتقضي شهور الشتاء في (سبات عميق) وفي هذه الفترة تلد ... وفي العادة تضع صغيرين وتغذيهما بلبنها الذي يتدفق من ثديها بغزارة. وهي لا تخشى الاختناق تحت غطائها السميك من الجليد، لأنها تترك فيه

منفذا يتسرب منه الهواء إليها ... ويظل هذا المنفذ مفتوحًا لا يسده الجليد، وذلك بتأثير أنفاسها الساخنة والحرارة المنبعثة من جسمها. وبالرغم من أنها تصوم أثناء مبيتها الشتوي فإن لبنها يدر بغير انقطاع لتغذية ولديها ... وتعتبر هذه الظاهرة من المعجزات الإلهية ... إذ كيف يتيسر لها أن تدبر هذا السيل المستمر من الغذاء بدون أن تتناول شيئا من الطعام؟ والسر في ذلك يرجع إلى أنها أثناء الصيف تلتهم كميات وافرة من الغذاء الذي يتحول بعضه إلى طبقة سميكة من الدهن تحت جلدها ... وفي الشتاء يؤدي هذا الدهن ثلاث وظائف ضرورية لحياتها ولذريتها. فهو يقيها البرد أثناء رقادها تحت الجليد ... ويتحول جزء منه إلى غذاء صالح لها ويتحول جزء آخر إلى لبن يعول ولديها. ووكالات الأنباء والصحافة العالمية، تطالعنا أحيانًا بخبر عن رجل هندي يرقد في صندوق معدني، مصنوع بطول جسمه وعرضه ... ويأتي أعوانه فيغطون الصندوق، ويحكمون إغلاقه ويضعونه في قاع حمام السباحة، ويتركونه تحت الماء ساعة كاملة، ثم يرفعونه ويفتحونه فيرى النظارة الرجل الهندي حيًّا لم يصبه أذى ... وقد حاول بعض العلماء تفسير هذه الظاهرة فقال: إن (الأوكسجين) المحتوي عليه الصندوق يكفي للتنفس طول المدة التي يظل فيها تحت الماء وإن بخار الماء وثاني أوكسيد الكربون المتولدين من التنفس في هذه الفترة لا يكفيان لإحداث الاختناق. وربما كان هذا التعليل صحيحًا ولكن لم يجرؤ أحد على اختبار صحته بطريقة علمية ... ومهما كان السر في هذه العملية ... فإن هذا الساحر الهندي يعجز عن محاكاة أنثى الدب الأبيض، لأنه لا يستطيع أن يدفن نفسه في الجليد طول شهور الشتاء، ويعمل على استمرار تنفسه، ويدبر أمر تغذيته مع طفلين راقدين بجانبه ... ، ثم يخرج بعد ذلك حيًّا لم يمسه الضرر ... إلا أن في خلق الله أسرارًا تحار في إدراكا عقول البشر ونواميسِ أحكم الله وضعها وتنسيقها وصدق الله إذ يقول: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه: 49، 50] .

طائر البطريق ومدرسة الحضانة:

طائر البطريق ومدرسة الحضانة: في الأقاليم الباردة الجنوبية يعيش نوع من الحيوان يسمى (البنجوين) أو (طائر البطريق) وأشهر مواطنه (رأس هورن) بجنوبي أمريكا وجزائر (فرلكلاند) ورأس الرجاء الصالح و (نيوزيلاندة) واستراليا.. وجزر المحيط المتجمد الجنوبي، وبالرغم من أنه يعتبر من الطيور فهو لا يستطيع الطيران، لأن جناحيه لا يقويان على حمله وهي أشبه بزعنفتين كبيرتين، وقد يستعين بهما وبقدميه العريضتين ذات الأغشية الممتدة بين الأصابع، على السباحة في الماء. ومن دأبه أنه يقف منتصبًا على قدميه ويمشي على هذه الصورة ... وإذا حاول السير بسرعة اختل توازنه وهوى على الأرض ... وهو إذا غضب ضرب بمنقاره وبجناحيه القويين الثقيلين ... وغذاؤه مقصور على الأسماك وهو يستطيع صيدها بسهولة لأن له قدرة عجيبة على السباحة والغوص في الماء. وبما أنه يعيش في أشد بقاع العالم برودة فقد وهبه الله -سبحانه- وقاء يحميه من البرد القارس، فتحت كسائه الخارجي من الريش طبقة سميكة من الدهن، كما غطى ريشه بغشاء زيتي يحول دون وصول المطر إلى جلده. وهو يقضي أيامه ولياليه في البحر بين الثلوج والأمواج المتلاطمة، ولا يقيم على البر إلا عندما يضطر لوضع البيض وتربية الصغار وفي الغالب يكون هذا في أوائل صيف المنطقة المتجمدة الجنوبية ... وتضع الأنثى بيضتين في وكر من الحصى، وتحتضنهما بالتناوب مع زوجها ... وبعض مضي خمسة أسابيع يخرج منهما فرخان كبيران شرهان. يغذيهما والداهما من الأسماك والحيوانات المائية الرخوة التي يحملانها إليهما من البحر، وينمو جسدهما إلى عشرة أمثاله في أسبوعين ... ومثل هذا النمو السريع يستلزم كميات وافرة من الغذاء ... ولذا يصرف الوالدان معظم وقتهما بين البحر والوكر منهمكين في صيد كميات كبيرة من الأسماك ... وفي غيبتهما قد يتعرض الفرخان لخطر كبير، فقد تخطفهما بعض الطيور الجارحة،

الصحة والجمال والرشاقة وعلاقتها بالصوم

وقد يتحركان خارج الوكر ويضلان السبيل فلا يستطيعان العودة إليه ويموتان جوعا لندرة وجود الغذاء على الصخور والثلوج وقد تدوسهما أقدام الطيور الكبيرة. ولدفع هذه الأخطار يلجأ طيور (البنجوين) إلى حيلة غريبة تصون بها صغارها التي بدأ النشاط يدب فيها.. فتجمعها في مكان خاص، ويتعهد فريق من كبار الوالدين بحراساتها والدفاع عنها مع السماح لها بالتحرك واللعب، داخل نطاق محدود.. بينما يتعهد فريق آخر بشئون التغذية، وقد يكون بين الفريق الأول متطوعون ليس لهم أبناء.. وقد يقوم أفراد من الفريق الثاني بتغذية صغار لا تجمعها به صلة.. مثل هذه الطريقة في الحراسة والتغذية لا تبعد كثيرًا عن النظم المتبعة في مدارس الحضانة عند الإنسان فسبحان الله (الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى) . وعندما يكتمل نمو الأفراخ تصوم عن الأكل وتذهب إلى شاطئ البحر ... وتبقى هناك حتى تسقط عنها آخر خصلة من الزغب، ويصبح جسمها مغطى بالريش، وعندئذ تثب في الماء والثلوج، وترحل عن البر مبتعدة عنه مئات الأميال، وتعيش على الأسماك التي تلتقطها من البحر.. وبعد مضي سنتين تدفعها الغريزة نحو البر، لوضع البيض وتنشئة الصغار.. وإذ ذاك تصوم عن الأكل شهرًا كاملاً حتى تظهر الأفراخ.. وبعد أن يهجرها أبناؤها إلى البحر يسقط عنها ريشها وينمو غيره، وأثناء هذه الفترة من التغيير الجثماني تنقطع عن الغذاء.. فهذا الطيور تصوم قبل أن تلقى عليها مسئولية الأبوة.. وتصوم قبل أن تستقل بالجهاد في حياتها.. وتصوم بعد أن يتركها أبناؤها. ولا شك أن الصيام ضروري لها كما هو ضروري لبعض المخلوقات، ومنها الإنسان. الصحة والجمال والرشاقة: ذكر المؤرخ الاجتماعي المشهور (عبد الرحمن بن خلدون) في مقدمة تاريخه المعروفة فضلاً كاملاً ذكر فيه (أثر الجوع في صلاح البشر وأخلاقهم)

صوم بعض الحيوانات آثناء فترة النزو الجنسي:

نقتطف منها للقارئ هذه السطور: "إن كثرة الأغذية ورطوبتها، تولد في الجسم فضلات رديئة ينشأ عنها بعد أقطارها وضخامتها من غير نسبة كما ينشأ عنها كثرة الأخلاط الفاسدة، ويتبع ذلك انكشاف الألون، وقبح الأشكال من كثرة اللحم -كما قلنا- وتغطي الرطوبات على الأذهان والأفكار، بما يصعد على الدماغ من أبخرتها الرديئة فتجيء البلادة والغفلة والانحراف عن الاعتدال والجمال.. واعتبر ذلك في حيوانات القفر.. ومواطن الجدب.. (من الغزال، والزرافة والمها، والحمر الوحشية، والبقر الوحشي) مع أمثالها من حيوان التلول والأرياف، والمراعي الخصبة كيف تجد بينها بونًا بعيدًا، في صفاء أديمها، وحسن رونقها وأشكالها، وتناسب أعضائها، وحدة مداركها؟ فالغزال أخو الماعز، والزرافة أخت البعير، والحمار والبقر.. أخو الحمار والبقر. والبون بينهما ما رأيت.. "وما ذاك إلا لأجل أن الخصب في التلول فعل في أبدان هذه من الفضلات الرديئة والأخلاط الفاسدة ما ظهر عليها أثره.. والجوع لحيوان القفر حسن في خلقها وأشكالها ما شاء" (واعتبر ذلك أيضاً في الآدميين) ويؤكد ما ذكره (ابن خلدون) ما جاء في الحديث الصحيح: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًا من بطنه. بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه.. فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه" [رواه أحمد عن المقدم ابن معد يكرب] (1) . (1) صوم بعض الحيوانات آثناء فترة النزو الجنسي: مثل ذلك: سمك السلمون. إن هذا النوع من السمك، حين يبدأ بالهجرة من البحار نحو الأنهار للتكاثر، وتكون عضلاته محملة بكميات كبيرة من الشحوم، لذلك تراه يصوم خلال فترة الهجرة والرحلة هذه، يكون جسمه قد هزل وطرأت عليه نحافة

_ (1) من مقالة الصوم ضرورة صحية واجتماعية للإنسان والحيوان والطيور البرية والبحرية "الوعي الإسلامي" العدد 337 رمضان 1414هـ.

الصوم بعد الولادة.

شديدة، هذا وإن تخلص هذا الحيوان من هذه الشحوم يكسب هذه العضلات مرونة وقوة فريدتين، الأمر الذي يساعد على اجتياز المسافات البعيدة ومعاكسة مجرى تيارات الأنهار. * وهناك بعض الطيور تصوم أيضاً أثناء فترة التكاثر والنزو، ومنها طائر البنغوان وذكر الأوز. * صوم الثديات: "حيوان الفقمة": ونذكر هنا صوم ذكر حيوان الفقمة ذى الفرو، الذي يعيش في منطقة آلاسكا إن هذا الحيوان يبقى من منتصف شهر آيار وحتى آخر شهر تموز دون طعام أو شراب بل ودون نوم أيضاً، وهذه الفترة تتوافق مع فترة التكاثر عند هذا الحيوان وهو يمضي كل وقته ساهرًا يرعى زوجاته اللاتي يتراوح عددهن بين 5-6 زوجات. بعد هذه الفترة الطويلة من الصوم، ينام هذا الحيوان مدة ثلاثة أسابيع متواصلة إذا لم يزعجه أحد، وبعد ذلك يأخذ بتناول غذائه على الشكل المعتاد. * أسد البحر. وكذلك أسد البحر الذي يصوم أيضاً أثناء فترة النزو، وحياة هذا الحيوان تشبه تمامًا حياة حيوان الفقمة. (2) الصوم بعد الولادة. * بعض أنواع العنكبوت لا تأكل شيئا خلال فترة الأشهر الستة التي تعاقب الولادة. * كما أن الصيصان: لا تأكل ولا تشرب شيئا خلال الأيام الثلاثة التي تلي خروجها من البيضة. * وكذلك الحال عند كثير من الثديات، حيث لا يبدأ الثدي بإفراز الحليب إلا بعد ثلاثة أيام من ولادة الأم لصغيرها. (3) صوم الخادرة: الخادرة هي حشرة في الطور الانتقالي بين اليرقة والحشرة الكاملة. وهذه

الصوم حين يكون حس الجوع غائبا:

المرحلة عند الحشرات هي المرحلة التي تلي تمامًا مرحلة اليرقة. وفي هذه المرحلة لا تتحرك الحشرة إلا قليلاً جدا، ولا تأكل شيئًا على الإطلاق، إذا تعتمد على مدخراتها الموجودة لديها قبل الدخول في هذه المرحلة. (4) الصوم حين يكون حس الجوع غائبًا: إن كثيرا من الحيوانات تتناول وجبات غذائية متباعدة جدا، والسبب في ذلك أنه ليس لديها شعور بالجوع، فمثلا بعض أنواع الثعابين لا تأكل وجباتها الغذائية إلا بعد فاصل زمني طويل. (5) الصوم في حالات الغضب: ونذكر في هذا المجال، الصوم الذي تمارسه الكلاب حزنًا على صاحبها حين يموت. (6) الصوم في حالة الأسر: بعض الحيوانات ترفض تناول الطعام أسيرة مقيدة، فهي تفضل الموت جوعًا، كما يقول العالم "باتريك هنري": "أعطني الحرية أو أعطني الموت". (7، 8) الصوم في حالة المرض، أو حين الإصابة بجرح. كما يفعل الحصان عند مرضه، والكلب عند إصابته بكسر. (9) الصوم عند فقدان الغذاء. (10) السبات الشتوي عند الحيوان: الأفاعي - الحلزون - الذباب - الزلاقط - الدببة - التمساح: هذه أصناف من الحيوانات تدخر ما يلزمها لفصل الشتاء في داخل عضويتها، وهذا ما نسميه بالمدخرات الداخلية. وتقضي هذه الحيوانات فصل الشتاء وهي شبه نائمة ما يقلل الحاجة إلى المواد الغذائية إلى حد كبير. (11) السبات الشتوي عند النباتات: "بعض النباتات تدخر في أجسامها كمية كبيرة من الغذاء كاللفت والبصل

مثلا، وهذه المدخرات تكفيها لتبقى حية فترة طويلة من الزمن دون غذاء" (1) . أخي: إن كانت الحيوانات تمتنع أحيانًا عن الطعام أفلا تصوم أنت، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي من بعدهم قوم يتسمنون ويحبون السِّمن، ويعطون الشهادة قبل أن يسألوها" (2) . ***

_ (1) نقل باختصار من كتاب "التداوي بالصوم" (17-22) تأليف هـ. م شيلتون دار الرشيد دمشق بيروت. (2) صحيح: رواه الترمذي والحاكم عن عمران بن حصين وصححه الألباني "صحيح الجامع" رقم (3294) .

الباب التاسع عشر الصوم علاج رباني

الباب التاسع عشر الصوم علاج رباني (وإذا مرضت فهو يشفين) "لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب" حديث حسن

الصموم علاج رباني قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما ملأ آدمى وعاء شرًا من بطنه بحسب ابن آدم أُكُلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" (1) وفي رواية "لقيمات" وهو جمع قلة أقل من عشرة. وقبل أن نتكلم عن أثر الصوم في علاج الأمراض نقول بداية إن الصوم عبادة نفعلها تعبدًا لله تعالى واستسلامًا لأمره، لا نعللها بأغراض مادية ولا نجعل من هذه غاية التشريع ومقصد المشرع فالعبادة أسمى من هذا بكثير. يقول الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر في كتابه "من توجيهات الإسلام": "من الخير للمؤمنين أن ينظروا إلى ما طلبه الله منهم نظرة غير هذه النظرة، نظرة أسمى منها وأجل ذلك أنهم عباد لله خاضعون، وأنهم مربوبون لرب العالمين، فمن شانه أن يأمر بما شاء أمرًا مطلقًا لا تقييد فيه بما يفهمه الناس أو لا يفهمونه، بل لا تقيد فيه بما يشتمل في ذاته على فائدة للناس أو لا يشتمل. هذا هو سبيل العبادة كما يريدها الله: إخلاص في التقبل، وإخلاص في الامتثال والتنفيذ وثقة واطمئنان ورضا بحكم الله كما أمر به الله". فمن قصد بالوضوء النظافة فهجرته إلى غير الله، ومن قصد بالصوم العلاج الصحي فهجرته إلى غير الله. وليس معنى ما ذكرته لكم أيضاً عن العبادات أنه لا يترتب عليها شيء من الآثار النافعة المفيدة، كلا فإن لها آثارًا نشهدها ونراها وندركها بعقولنا، لا أريد أن أتكلم عنِ الآثار الصحية، فإن ذلك شأن الأطباء وهم أهل الاختصاص فيه (وَمَا أَرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نّوحِي إليهم فَاسْأَلُوا أهْلَ الذكرِ إِن كُنتُمْ لا تعْلمُونَ) [النحل: 43] .

_ (1) صحيح: رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه عن المقدام بن معد يكرب، ورواه أيضاً ابن المبارك وابن سعد وابن عساكر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5674) .

ولهذا فنحن في هذه الورقات القليلة نحاول إيجاز ما كتبه الأطباء عن الصوم وإن كان ذلك يحتاج إلى مجلدات: "قيل للحارث بن كلدة طبيب العرب: ما أفضل الدواء؟ قال: الأزم. يريد قلة الأكل" (1) . * لقد أقيمت للصوم مشاف ومصحات خاصة في معظم الدول الأوربية والأمريكية فيما يعرف "بالصوم الطبي" لقد كانت النتائج مذهلة حقا بينما المعالجات الكيماوية لا تخلو من أضرار جانبية، والصوم الطبي كالعمليات الجراحية ولكنه بدون مشرط فلابد فيه من الإشراف الطبي. والصوم الطبي معناه "الامتناع عن تناول كل غذاء ما عدا الماء". * "لقد كان ابن سينا وهو من عمالقة الأطباء يفرض صوم ثلاثة أسابيع في كثير من الحالات المرضية التي كانت تعرض له". مع أشهر أطباء العالم: * يقول الطبيب العالمي الكسيس كاريل الحائز على جائزة نوبل في الطب والجراحة في كتابه "الإنسان ذلك المجهول" وهذا الكتاب حجة عند الأطباء: "إن كثرة وجبات الطعام، وانتظامها، ووفرتا تعطل وظيفة أدت دورًا عظيمًا في بقاء الأجناس البشرية، وهي وظيفة التكيف على قلة الطعام، ولذلك كان الناس يلتزمون الصوم في بعض الحالات". ويقول: "إن الأديان كافة لا تفتأ تدعو إلى وجوب الصوم والحرمان من الطعام، إذ يحدث أول الأمر الشعور بالجوع، ويحدث أحيانًا التهيج العصبي، ثم يعقب ذلك شعور بالضعف، بَيْد أنه يحدث إلى جانب ذلك ظواهر خفية أهم بكثير منه، فإن سكر الكبد سيتحرك، ويتحرك معه أيضاً الدهن المخزون تحت الجلد، وبروتينات العضل والغدد، وخلايا الكبد، وتضحى جميع الأعضاء بمادتها الخاصة للإبقاء على كمال الوسط الداخلي وسلامة القلب، وإن الصوم لينظف ويبدل أنسجتنا". * كتب الدكتور روبرت بارتولو وهو طبيب أمريكي من أنصار العلاج

_ (1) "التداوي بالصيام" (ص56) لمحمد إبراهيم سليم. مكتبة ابن سينا.

الصوم والأمراض الجلدية:

الدوائي للزهري قال "لا شك في أن الصوم من الوسائل الفعالة في التخلص من الميكروبات، وبينها مكروب الزهري، لما يتضمنه من إتلاف للخلايا، ثم إعادة بنائها من جديد، وتلك هي "نظرية- التجويع في علاج الزهري". * استخدم "الدكتور آلان" الصوم بنجاح في علاج السكر والنقرس. * واستخدمه "الدكتور كارلسون" في تجديد الشباب، والدكتور "جننجز" في حالات مرضية كانت تعرض له. * ويقول "بانار مكفادن" زعيم الثقافة البدنية في أمريكا "الصوم يستطيع أن يُبرئ كل علة خابت في علاجها الوسائل الأخرى". * ويقول الدكتور ماك فادون وهو أحد علماء الطب الكبار في أمريكا في كتابه الذي ألفه عن الصيام بعد أن ظهرت له نتائج عظيمة من أثر الصيام وتبين له مفعوله في القضاء على الأمراض المستعصية "إن كل إنسان يحتاج إلى الصيام، وإن لم يكن مريضاً، لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض، ويثقله ويقل نشاطه، فإذا صام خفّ وزنه وتحللت هذه السموم من جسمه، بعد أن كانت مجتمعة، فتذهب عنه حتى يصفو صفاء تامًا، ويستطيع أن يسترد وزنه، ويجدد جسمه في مدة لا تزيد على العشرين يوماً بعد الإفطار، ولكنه يحس بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل". والجدير بالذكر أن هذا الطبيب عالج بالصوم كثيرًا من المرضى بأمراض مختلفة، وذكر أسماءهم وأمراضهم وتواريخ معالجتهم، إلا أنه قرر أن انتفاع المرضى بالصوم بتفاوت حسب أمراضهم. فأكثر الأمراض تأثرًا بالصيام أمراض المعدة "فالصوم لها مثل العصا السحرية يسارع في شفائها، ويرى المعالج به العجب العجاب، وتليها أمراض الدم، ثم أمراض العروق كالروماتيزم مثلاً". الصوم والأمراض الجلدية: يقول الدكتور محمد الظواهري أستاذ الأمراض الجلدية -بطب القصر العيني- "إن علاقة التغذية بالأمراض الجلدية متينة" فالامتناع عن الغذاء

الصوم والعظام:

والشراب مدة ما يقلل من الماء في الجسم والدم، وهذا بدوره يدعو إلى قلة الماء في الجلد، وحينئذ تزداد مقاومة الجلد للأمراض الجلدية المؤذية والميكروبية. وقلة الماء من الجلد تقلل أيضاً من حدة الأمراض الجلدية الالتهابية والحادة والمنتشرة بمساحات كبيرة في الجسم، وأفضل علاج لهذه الحالات من الوجهة الغذائية هو الامتناع عن الطعام والشراب فترة ما". تتحسن حالة مرضى البشرة الدهنية، وحب الشباب وقشور الشعر ويكتمل هذا التحسن مع الامتناع عن المواد السكرية والأطعمة الدسمة. * أما حالات التهاب الجلد، وأكزيما الجلد، وحساسية الجلد فتتحسن مع الصيام مع تجنب الملح والدهنيات. * العظام: يقول الدكتور مصطفى إسماعيل حافظ المدرس بقسم جراحة العظام بطب الأزهر "إن الصيام مفيد جدًا للمرضى الذين يعانون من خشونة المفاصل وآلام الركبة بالإضافة إلى أنه يساعد على تقليل الوزن الذي هو سبب أساسي لآلام المفاصل ويقول: إن تنوع الطعام وكثرته يزيد من آلام الروماتيزم ويأتي الشهر الكريم ليحد من هذه المعاناة". * الحميات: يقول الدكتور محمد أحمد ضرغام استشاري الحميات وعضو الجمعية المصرية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة: "إن من الفوائد التي توصل إليها العلم الحديث مؤخراً أن الصيام يحمي المسلم من متاعب المرارة واحتمال تكون الحصوات، كما يساعد على القضاء على أمراض عسر الهضم الذي يؤدي إلى الانتفاخ ويرهق القولون، وذلك لأن المعدة تبدأ في الارتياح بعد عناء طويل. * وعن أمراض القلب والدورة الدموية: يقول الدكتور محمد ضرغام "إن مرضى الذبحة الصدرية وتصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم لا تعاودهم الأزمات في هذا الشهر الكريم. كما يؤدي العامل النفسي والهدوء الروحي إلى إقلال ارتفاع ضغط الدم المرتفع.

ويقول د. ضرغام "إن مرضى السكر منهم من يتحسن في شهر رمضان وهم غالبًا من المرضى المصابين بالسمنة، فالصيام بالنسبة لهؤلاء يعتبر نوعًا من الرجيم يقلل من تناول الطعام مما يؤدي إلى تحسن مستوى السكر بالإضافة إلى انخفاض الوزن". * ويقول الدكتور سالم نجم الأستاذ بطب عين شمس: الصوم يعطي راحة للجهاز الهضمي والقولون والكبد وغدة البنكرياس من دورهم في إفراز المواد الهاضمة بكل أنواعها. * يقول الدكتور محمود عزت أستاذ التحاليل الطبية بطب الزقازيق "إن الصيام يحول دون تحول كمية كبيرة من الدم إلى الجهاز الهضمي.. وبذلك يوزع الدم توزيعًا متوازنًا بين أجزاء الجسم وخاصة المخ والعضلات". ويضيف: "إلى أهمية عدم الربط بين الصوم وضعف القدرة على بذل الجهد لأن الجسم يتكيف مع الوضع الجديد ويصبح أكثر قدرة على الحركة أكثر من أيام الإفطار إذ تزيد كمية الدم إلى العضلات" (1) . * في بحث للطبيب عصام العريان في مصر على 120 صائماً من الرجال والنساء في مختلف الأعمار ما يأتي: * إن الصيام ضبط متوسط معدل الجلوكوز في الدم طول الشهر (80-120مللي في اللتر) . * إن الصيام يحدث انخفاضًا في معدل الكولتسرول للصائمين الذين بدءوا الصيام بكولسترول مرتفع، بينما لم يتأسر معدل الكولتسرول للذين بدءوا الصيام وهو طبيعي لديهم (150-250 مللي جرام في اللتر) . * إن الصيام يحدث انخفاضا في مستوى حمض البوليك بينما لم يحدث أي تغير في مستوي البولينا بالدم أثناء الصيام" (2) .

_ (1) "رمضان طبيب بلا أجر" مقال (ص57) في مجلة لواء الإسلام العدد الأول للسنة الثامنة والأربعين رمضان 1414هـ فبراير 1994م. (2) "التداوي بالصيام" (ص102) .

الصوم ومستوى جديد من الصحة:

يقول دكتور ضرغام: "أكدت الأبحاث العلمية التي أجريت على بعض المرضى انتظام ضغط الدم ووصوله إلى المعدل الطبيعي ما بين 120-80 بحد أقصى 140-90 وعودة الصفاء الذهني إلى طبيعته". * يقول الدكتور أنور المفتي وهو يتحدث عن الإفطار على مادة سكرية: "إن الأمعاء تمتص الماء المحلى بالسكر في أقل من خمس دقائق، فيرتوي الجسم، وتزول أعراض نقص السكر والماء فيه. في حين أن الصائم الذي يملأ معدته مباشرة بالطعام أو الشراب يحتاج إلى ثلاث أو أربع ساعات حتى تمتص أمعاؤه ما يكون في إفطاره من سكر وعلى هذا تبقى عنده أعراض ذلك النقص، ويكون حتى بعد أن يشبع كمن لا يزال يواصل صومه" ومن هنا يكشف الطب الحديث عن حكمة التوجيه النبوي الكريم في الإفطار على التمر أو الماء. * الصوم ومستوى جديد من الصحة: يقول العالم: "آيتون سنكلير": "إن أكبر شيء يعطينا إياه الصوم هو مستوى جديد من الصحة، وهذا التجدد في الصحة ينعم به الكبار في السن والشباب على السواء، بالنسبة ذاتها وذلك أن البنية تتجدد بكاملها فتتحسن وظائفها العديدة وتنشط زد على ذلك أن الصوم يمنح الجسم الفرص المثلى للتخلص من السموم والفضلات المتراكمة بين ثناياه في صميم نسيجه العضوي". كما أنه بالإضافة إلى ذلك يعمل على طرد جميع العوامل المؤدية إلى الهرم والشيخوخة والاستحالة العضوية، وبذلك لن تكون نتيجة الصوم إلا صحة وفيرة وبأعلى مستوى. هذا وإن أثر التجدد العضوي والحيوية يبدو واضحًا جليًا على بشرة الإنسان فالتجمعات الجلدية، والارتخاء، والبقع، والحبوب تختفي تمامًا بالصوم كما أن الجلد يصبح أكثر نضارة وحيوية". * سئل "ميشيل انجلو" شيخ المعمرين مرة عن السر في صحته الجيدة وتمتعه بنشاط غير عادي بعد أن تجاوز سن الستين فقال: إنني أعزو احتفاظي

نتائج طبية هامة للصوم الطبي والصوم الإسلامي من باب أولى

بالصحة والقوة والنشاط في سنوات كهولتي إلى أني أمارس الصوم بين حين وآخر، ففي كل عام أصوم شهرًا، وفي كل شهر أصوم أسبوعًا، وفي كل أسبوع أصوم يوماً ... وفي كل يوم آكل وجبتين بدلاً من ثلاث". * قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله يطعم ويسقيهم" (1) . قال المناوي: (6/420) "أي يحفظ قواهم ويمدهم بما يقع موقع الطعام والشراب في حفظ الروح وتقويم البدن، ذكره البيضاوي". نتائج طبية هامة نتائج باهرة في "التداوي بالصوم" لشيلتون: في كتاب "التداوي بالصوم" لصاحبه هـ. م شيلتن نتائج باهرة نوردها على سبيل الإجمال (1) الصوم والقلب: هناك ثلاث فوائد هامة للصوم بالنسبة إلى القلب: أ- الصوم يحذف المنبهات الدائمة للقلب. ب- يسمح للقلب بالراحة. ج- ينقي الدم، وبذلك يتاح للقلب أن يتغذى بدم نقي ونظيف.

_ (1) حسن رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن عقبة بن عامر، وابن عدي والروياني والحاكم عن عبد الرحمن بن عوف، وصححه الحاكم، وقال الترمذي: حديث حسن غريب: وأشار السيوطي إلى صحته قال المناوي في "فيض القدير" (6/420) : قال في المنار: ولم يبين علته المانعة من تصحيحه وهي عندي موجبة لضعفه لأن فيه بكير بن يونس أو يونس بن بكير، قال أبو حاتم: منكر الحديث ضعيفه اهـ. قال الذهبي: ضعفوه، وقال البيهقي: تفرد به بكر وهو فيما قال البخاري منكر الحديث. وفي الميزان: عن أبي حاتم هذا حديث باطل، وأورده ابن الجوزي من عدة طرق وأعلها. وفي الأذكار: فيه بكر بن يونس وهو ضعيف، وحسنه السيوطي والألباني في صحيح الجامع رقم (7439) .

إن القلب بضرب 80 ضربة في الدقيقة الواحدة أي ما يعادل 115200 مرة في الـ 24 ساعة وقد لوحظ في الأيام الأولى من الصوم تناقص عدد ضربات القلب، بحيث تصل إلى أقل من 60 ضربة في الدقيقة، وبعد ذلك يعود نبض القلب ليثبت على 60 ضربة بالدقيقة طيلة فترة الصوم. وإن هذا النقص في عدد دقات القلب يوفر 28800 دقة في الـ 24 ساعة وهذا معناه أن القلب يرتاح من ربع العمل الذي كان يقوم به. هذا من الناحية الكمية، أما من الناحية الكيفية، فالصوم يحسن قوة دقات القلب وشدتها، ونستطيع أن نقول إن الصوم هو طور راحة وعطلة صيفية يستفيد منها كثيرًا ويستعيد أثناءها وبعدها نشاطه على الوجه الأكمل. (2) الصوم وتجدد الأعضاء والأنسجة: يقول هـ. م شيلتون: "لقد أثبت عدد من الباحثين أن الجروح الطارئة تكون أسرع التئامًا وشفاء أثناء الصوم منها خارج أوقات الصوم. وكذلك بالنسبة إلى الكسور الطارئة على العظام فإن سرعة التئامها خلال فترة الصوم أكبر مما هو عليه خارج هذه الفترة. (3) الصوم راحة فيزيولوجية ويحسّن التنفس: * إن جميع العلياء الذين عملوا في هذا المجال أثبتوا أن الصوم هو دور راحة فيزيولوجية لا شك فيه وأن الغدد الصماء وجهاز التنفس والجملة العصبية ترتاح أثناء الصوم. * أما التنفس فيعتبر من أهم الوظائف العضوية التي تتحسن بالصوم، وإن تأثيرات الصوم المفيدة لوظيفة التنفس يمكن مشاهدتها بسهولة عند المرضى المصابين بالربو والتي تتحسن حالتهم كثيرًا أثناء الصوم. -أما الفضلات والسموم فالصوم الطبي يحذف تمامًا مصدر السموم هذا، فتتخلص القناة الهضمية تمامًا من جراثيمها، لذلك فإن أسبوعًا واحداً من الصوم يكفي لتتخلص المعدة والأمعاء من الجراثيم.

(4) الخلل العقلي والتشاؤم والصرع وفاعلية الصوم لها: إن جميع حالات الخلل العقلي يمكن السيطرة عليها بواسطة الصوم، فلقد تم تحسن جميع الحالات تحسنًا كبيرًا. فالتشاؤم قد اختفى تمامًا أثناء الصوم (1) . وللصوم تأثير كبير وفائدة جليلة في علاج حالات الصرع. (5) الصوم وأعضاء الحس والشعور: العين - اللمس - الذوق - الشم - الأذن: * قوة الإبصار تزداد خلال الصوم ازدياد ملحوظًا، وحالات من ضعف البصر الشديد قد تحسنت تحسنًا كبيرًا خلال الصوم، ومما لا شك فيه أنه خلال الصوم تصبح العين أكثر جلاء وبريقًا. غير أنه في حالات الصوم الطويل جدًا، يلاحظ أن حسّ الرؤية يضعف، ولكن هذه الحالات مؤقتة، إذ تختفي بعد انتهاء الصوم مباشرة. * حاسية اللمس تشتد وتزداد أثناء الصوم. * أما الذوق فكثير من الصائمين يقولون إن حس الذوق يزداد لديهم ويصبح أكثر قوة بعد انتهاء الصوم. * أما التحسن الذي يطرأ على حاسة السمع فيمكن ملاحظته بسهولة أكثر بكثير من التحسن الذي يطرأ على بقية الحواس. * مقدرة حاسة الشم تتحسن تحسنًا ملحوظًا خلال الصوم وبعده. (6) الحموضة المعدية: في الحقيقة لا يوجد وسيلة أخرى أكثر فائدة من الصوم لمعالجة حالات فرط الحموضة المعدية. (7) عصارة الصفراء: آلاف التجارب التي أجريت على الصائمين دلت على أنه كلما كانت كمية

_ (1) تقول الدكتورة زينب البشري الأستاذ بمركز الطب النفسي: إن الصيام يعطي شعورًا للمسلم بالارتياح والصفاء الذهني.

الصفراء مزدادة وكبيرة في بدء الصوم، زادت الكمية المطروحة منها في الأمعاء، وبالتالي فإننا نشاهد أن المريض يستعيد صحته بسرعة أكبر". (8) التهابات القولون والصوم: في حالات إلتهابات القولون تكون كمية المفرزات المخاطية كبيرة ولزجة، تتناقص تدريجيا خلال الصوم إلى أن تنتهي بالشفاء التام. (9) الإفرازات الحامضية للمهبل: المفرزات الحامضية التي يفرزها المهبل عند المرأة، والإفرازات البيضاء تجف وتختفي أثناء الصوم لتعود إلى الشكل الطبيعي والعادي في الحالات السليمة. (10) الصوم والخصوبة الجنسية عند النساء: يقول هـ. م شيلتون: "إن الصوم كان كافيًا لاستعادة الخصب الجنسي عندهن، وهناك كثير من النساء توجد لديهن صعوبة في الحمل مع قلة في الإخصاب، استطعن عن طريق الصوم إنجاب أطفال، كما تحسن وضعهن العام تحسنًا كبيرًا". (11) الصوم والتجدد: أشارت تجارب كل من الدكتور، "كارلسون" والدكتور "كوند" في قسم الفيزيولوجيا بجامعة "شيكاغو" أن صومًا لمدة أسبوعين فقط كاف لأن يجدد مؤقتًا الأنسجة إلى حالة فيزيولجية تشبه ما هي عليه لدى من عمره سبعة عشر عامًا. والصوم يبعد الشيخوخة ويزيد في القوة العضلية. إن التجارب التي أجريت على الإنسان والكلاب في المختبر الحيوي بجامعة "شيكاغو" والتي نشرت نتائجها في مجلة، "الأبحاث الاستقلالية" قد أظهرت أن صومًا لمدة 30-40 يوماً يعطي زيادة في الاستقلاب مقدارها 5-6%، وإذا ما علمنا أن النقص في درجة الاستقلاب هو مظهر من مظاهر الشيخوخة عرفنا أن الصوم بزيادته معدل الإستقلاب في الجسم يعمل على إعادة الشباب إليه.

يقول الدكتور "تيلدن" إنه يجب أن يمضي وقت طويل حتى نستطيع أن نفهم أن التوقف عن تناول الأطعمة والأغذية يعطي القوة كما يعطيها تناول الغذاء. وهذا التناقض العجيب يبدو فقط للأشخاص الذين لم يجربوا الصوم كطريقة من طرق العلاج. لقد أجريت تجارب عديدة بواسطة جهاز خاص يدعي جهاز قياس القوة "الدينامومتر" أثبتت أن القوة المعضلية تبقى ثابتة أثناء الصوم، كما أنه وجدت عند بعض المرضى زيادة في القوة العضلية لدى إجراء المقارنة بين ما هي عليه في اليوم الأول من الصوم وما تغدو عليه في اليوم الحادي والعشرين. * إن أحد الأبطال العالميين وهو "فريدي ولش" وهو بطل العالم للوزن الخفيف في المصارعة، كان يبدأ تدريبه بالصوم لمدة أسبوع، وذلك أثناء استعداده لخوض مباراة هامة. * في بدء الصوم وفي الأيام الثلاثة أو الأربعة الأولى من الصوم يحس الإنسان بالانكسار في القوة الفعلية وبعد ذلك تتحسن حالته ويحس بقوة متزايدة وبحيوية أشد وأقوى إذا استمر في الصوم. (13) كسب الوزن وخسارته أثناء الصوم: استنتج كارنتون الطبيب العالمي أن الأشخاص يفقدون 750 جرام كل يوم في بدء صومهم، 250 جرام في نهار الصوم. ويستطيع الشخص الصائم أن يفقد 40% من وزنه دون أن تتعرض حياته للخطر وإن تعجب فاعجب أن هناك بعض الحالات القليلة جدًا زاد وزنها عندما صامت مثلما حدث مع بطل الألعاب السويدية صام سبعة أيام وزاد وزنه 1350ج وهذه الحالات النادرة لها تفسير علمي كما قال الدكتور "كارنتون" ليس هذا مجاله. ولكنها حالات نادرة. (15) الصوم مفيد في حالات الحمى التيفية. (16) حالات نقص التغذية الشديدة لا تشاهد مطلقًا أثناء الصوم الطبي مهما

طالت مدته: مثل مرض البري بري والبلاجرا. (17) يرى الدكتور "ج. هـ بحيلوج" وهو من كبار معارضي الصوم الطبي أن الصوم: (1) يحذف الزائد من الشحوم في الجسم. (2) وكل تراكم من الآزوت الحر والفضلات يختفي بسرعة أثناء الصوم. (3) يولد الشاهية، ويزيد في قابلية التمثيل الغذائي للأنسجة. (4) يجدد نشاط أنسجة الجسم ويعيد إليها شبابها. (5) يورث شعورًا متزايدًا، بالنشاط والراحة. (18) يقول الدكتور "جيو. س. ويجر": "أثناء خبرتي الشخصية المتعلقة بالصوم فإنني لم أر أي حالة من حالات التدرن تظهر في الجسم نتيجة الصوم، بل على العكس من ذلك فقد رأيت عدة مرضى كانوا مصابين بالتدرن تقدمت حالتهم الصحية تقدمًا ملموسًا وتماثلوا نحو الشفاء بعد صوم أعقبه تغذية صحيحة. (19) الصوم ومقاومة الجسم: الصوم يزيد في مقاومة الجسم ولا ينقصها. يقول العالم "بيرزون": إنه بعد أن صام مدة طويلة، فإن لدغ البعوض لم يكن يحدث لديه الحكة الشديدة والاحمرار الذي كان يحصل عنده قبل الصوم ولقد عالج المؤلف (هـ. م شيلتون) أحد المرضى المصابين بفقر دم شديد بصيام مدة 12يوم فقط، فوجد أن الكريات الحمر زادت من 000، 500، 1 إلى 3.200.000 كما أن الخضاب قد زاد من 55% إلى 85% والكريات البيض قد نقصت من 17.000 إلى 14.000. * لقد أثبت العالم "روجر جوس" بتجربته التي أجرها على الأرانب، أن المقاومة عند هذه الحيوانات تزداد بفعل الصوم، فقد أخذ مجموعة من الأرانب، وقام بتصويمها مدة أسبوع كامل، وبعد انتهاء صومها بيومين أو ثلاثة قام

بتلقيحها بالعصبات الكولونية، ثم أخذ مجموعة أخرى من الأرانب وقام بنقل الجرثوم نفسه إليها ولكن من غير أن يصومها هذه المرة، فوجد أن مجموعة الأرانب الثانية قد ماتت بسرعة متأثرة من الجرثوم، في حين أن أرانب المجموعة الأولى قد أصيبت بالمرض ولكنها استطاعت أن تتغلب عليه وتشفى منه. (20) الأمور التي لا يحدثها الصوم على الإطلاق: (1) الصوم لا يؤدي إلى ضمور المعدة. (2) ولا يكون سببًا في أن تهاجم العصارة الهضمية أعضاء الهضم نفسها. (3) لا يسبب الصوم شللاً في الأمعاء. (4) ولا يكون سببًا في فقر الدم. (5) ولا يسبب الأحمضاض. (6) ولا يضعف العضلة القلبية ولا يؤدي إلى استرخائها. (7) ولا يسبب الأزمات التي تلاحظ في سوء التغذية. (8) ولا يسبب مرض السل ولا يمهد له الطريق أبدًا. (9) ولا ينقص المقاومة للأمراض. (10) ولا يتلف الأسنان. (11) ولا يضعف الغدد. (12) ولا يسئ إلى الجملة العصبية. (13) ولا يسبب الشذوذ النفسي. (21) أشار العالم "كارينتون" إلى أن هناك حالات من الشلل وبعض الأمراض الأخرى يحصل فيها تحسن يومي طيلة فترة الصوم، ولكن اعتبارا من اللحظة التي يقطع فيها الصوم بشكل مبكر، فإن هذا التحسن يتوقف. (22) في حالات السل المتقدم فإن الصوم غير مستطب ولا ينصح به. (23) اضطرابات والتهابات الطرق التنفسية لا تختفي عادة في صوم قصير المدة.

(24) إن الصوم لفترة قصيرة قد أعطى بعض التحسن الجزئي والقليل في حالات السرطان. (25) الداء السكري عند المرضى البدينين يتطلب صومًا طويلاً نسبيًا: يقول الدكتور السوري محمود برشه أخصائي الصوم الطبي معلقًا: "أحب أن أضيف هنا أن المريض بالسكري الذي لم يمض على مرضه خمس سنوات "وهو المسمى بالداء السكري الحديث" هو الذي يستفيد من عملية الصوم الطبي، وعندي حوادث عديدة من هذه الحالة، أما المريض بالسكري القديم الذي مضى على مدته أكثر من خمس سنوات فلا يستفيد من صيامه ولو صام عدة مرات ولفترات طويلة، وقد أشرفت على صيام العديد من الأشخاص صاموا أكثر من أربعين يوماً ولم يستفيدوا من صومهم" ولكل من ديوي وهازارد وكاينتون ومافون تجاربهم على مرضى الداء السكري وأثر الصوم الحسن عليه. "يقول الدكتور مراد عبد الكريم المراد استشاري ورئيس قسم السكري والغدد بالمستشفى المركزي بالرياض: "مريض سكري النضوج الذي يعالج بالحمية الغذائية فقط هذا النوع من المرضى يستطيع صوم شهر رمضان ونحثه على الصيام في رمضان وفي غير رمضان. أما مريض السكري الذي لا يستطيع الصوم فهو: * مريض مصاب بالسكري غير المستقر وهذه حالة نادرة. * مريض دون الثلاثين عامًا وهو الذي يكتشف عنده السكري في أوائل شهر رمضان لا يستطيع الصوم عادة لأن مرضه يحتاج إلى متابعة مستمرة بغية الوصول إلى توازن السكر في الدم. * المريض المسن المصاب بالسكري منذ أكثر من ثلاثين عامًا ويعاني من مضاعفات مرض السكري المتقدمة مثل فشل القلب، الفشل الكلوي لا يستطيع الصوم. * المريضة الحامل المصابة بالسكري لا تستطيع الصوم عادة. ثم يقول بعد ذلك "إن غالبية مرضى السكري يستطيعون الصوم" (1) .

_ (1) "مرضى السكري وصيام" رمضان للدكتور عبد الكريم المراد - المجلة العربية العدد 200 رمضان 1414هـ.

وللدكتور الشهير "آلان" تجاربه الشهيرة التي نشرت حول علاج الداء السكري بالصوم والتي أسماها "معالجة آلان". (26) يقول العالم "سنكلير": "إنه قبل شروعه بالصوم، كان يوجد لديه صداع شديد كان يستمر أحيانًا أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، وحين شرع في الصوم ظل يشكو من هذا الصداع في اليوم الأول فقط ثم اختفى دون رجعة. (27) يقول "بلوتارك": بدلاً من استعمال العقاقير والأدوية، صم ولو يوماً واحداً". (28) الصوم والوقاية من المرض: يقول "تيلدن" إن جميع الأمراض الحادة يمكن الوقاية منها إذا سبقت بصوم طويل نسبيًا، يسمح بإنقاص السموم المتراكمة، الأمر الذي يدل على أن الصوم الوقائي يضمن لنا مناعة فعالة ضد أي مرض. إن هذه المقولة إذا أخذت مأخذ الجد لابد وأن نجني منها الكثير من الثمار الحسنة. (29) يقول البروفسور "وود" أستاذ الكيمياء في جامعة مونتريال في كندا: "إن الصوم كعلاج في حالات الروماتيزم المفصلي الحاد قد طبق على سبعة من المرضى، وقد شفى هؤلاء المرضى بسرعة كبيرة بعد 4-8 أيام فقط من الصوم، كذلك طبق هذا البروفسور طريقة الصوم عند 40 مريضًا يشكون من المرض نفسه، واستنتج أن للصوم فائدة كبيرة في هذا المرض ذلك أنه لم تفشل هذه الطريقة من العلاج عند أي مريض من المرضى المذكورين كما أنه لم يعط هؤلاء المرضى أي دواء أثناء الصوم. كما ذكر هذا البرفسور أيضاً أن الصوم في حالات الروماتيزم يجنب حدوث الاختلاطات القلبية التي تحدث عادة إبان سير هذا المرض. (30) أغلب أنواع السعال يمكن إيقافها بصوم لا يتجاوز ثلاثة أيام، وإذا ما تم تجنب الأخطاء الغذائية، فإن السعال سيختفي تمامًا ولن يعود أما المرضى

المصابون بالربو القصبي المعند فإن للصوم تأثيراً واضحًا في تحسين حالة المريض. (31) حالات الزحار "الإسهال" لا يكون العلاج السليم بإعطاء أدوية مسكنة بل إنما يتم بالصوم. (32) يقول الدكتور "شو": إنه من النادر جدًا أن لا تختفي آلام الأسنان بعد صوم 24 ساعة فقط، كما قال أيضًا: إذا كان لدينا شخص مصاب بآلام في أسنانه، فمهما كانت شدتها، فإنها ستختفي أو تخف حدتها بعد 24 ساعة من امتناعه عن كل طعام وشراب ما عدا الماء، ودلك شريطة ألا يكون هناك تورم في الوجه أو ترفع حروري، وفي جميع الحالات لا توجد طريقة علاج مكللة بالنجاح التام مثل الصوم. (33) هناك أمراض أيضاً تتحسن بالصوم كالتهاب الأنف والتهاب القصبات والربو والتهاب القولون والتهاب المثانة. (34) أثر الصوم وفائدته الكبرى في شفاء الداء الإفرنجي غير مختلف فيه. إذ ليس هناك ما هو أشد فعالية من الصوم في الطور الأولى والثانوي للداء الأفرنجي كما أثبت فعاليته في شفاء الطور الثلاثي من هذا المرض. (35) هناك حالات من الصمم التام والعمى شفيت بالصوم: يقول شيلتون "لقد أتاني مريض وهو مصاب بالصمم في أذن واحدة، وقد لازمه ذلك الصمم مدة 25 عامًا، صام هذا المريض مدة 30 يوماً وبعدها كانت النتائج مرضية جدًا، فقد استعاد سمعه كالمعتاد في الأذن المصابة. (36) الصوم أحسن علاج للمصابين بطنين الأذن، ودوار منيير والصمم الشيخي. (37) قال كارينتون: لقد صام عدد من المرضى من أجل التخلص من أمراض رئوية مزمنة أو متكررة فاختفت هذه الأمراض.

الصوم الطبي:

وأخص بالذكر: مريض الربو والسعال التحسسي والتهاب القصبات المزمن. (38) تحسن الذاكرة والانتباه من آثار الصوم: والصوم في حالات الصرع مفيد كما قال الدكتور رابا غلياني. (39) الصوم والإدمان الكحولي: لقد كان "ديوي" أول من أشار إلى قيمة الصوم الكبير في مكافحة الإدمان الكحولي وقال كارينتون: إن الصوم هو أحد الطرق الأكثر سهولة من أجل معالجة الكحولية. وقال ماك فاون في كتابه "الموسوعة العامة الفيزيائية": إنه ليس هناك نقدمها كنصيحة لمريض الإدمان أفضل من أن ننصحه بالصوم التام. (40) الصوم أفضل علاج للمعتادين على التبغ والتدخين. (41) وينصح أيضًا، المعتادين على القهوة والشاي والكاكاو التي تحوي الكافئين بالصوم. (42) تعالج حالات إدمان الأفيون والمورفين والكاكائين بالصوم: كما قال ماك فاوق: إن الصوم هو العلاج ذو القيمة الكبيرة جدًا. يقول شليتون: وفي كل الحالات التي عالجتها بنفسي لم أذكر ولا حالة واحدة عاد فيها المدمن إلى ما كان يدمن عليه قبل أن يقوم بالصوم. الصوم الطبي: يقول الدكتور السوري محمود البرشة المختص بالصوم الطبي: "لا يزال موضوع الصوم الطبي في بلادنا، موضوعًا حديثًا في تطبيقاته الوقائية والعلاجية على حد سواء، في حين أنه أقيمت للصوم مشاف ومصحات خاصة في معظم الدول الأوربية والأمريكية.. ومن حين لآخر تصدر أبحاث علمية جديدة تزيد المعرفة بهذا الموضوع وتطبيقاته العلمية وفوائده السريرية. وقد أشرفت بنفسي في عيادتي الخاصة على ما يزيد عن ثلاثة آلاف صائم

كانت الغاية من الصوم عندهم مختلفة.. وبنتيجة هذه الإحصائية التطبيقية أستطيع أن أقول: إن النتائج كانت مذهلة حقًا. ففي هذه الحالات التي زادت على الثلاثة آلاف لم أشاهد حالة واحدة أدت إلى نتيجة سيئة وسأذكر بعض هذه الحالات التي شفيت أو تحسن أصحابها بالصوم من خلال مشاهداتي السريرية الخاصة. (1) في حالة البدانية "السمنة" استطاع الصوم الطبي أن ينقص الوزن أسبوعيًّا ما بين (5-7) كيلو جرام دون أن يشعر الصائم بالجوع أو الوهن. ويعتبر الصوم الطبي من أنجح الوسائل المستعملة حديثًا في إنقاص الوزن في التحضير للعمليات الجراحية، فمن الممكن أن تنخفض نسبة الكوليسترول من 900 ملج/ لتر لتصل إلى الرقم الطبيعي خلال صوم أسبوعين فقط. (2) الروماتيزم: تزول الآلام الروماتيزمية بعد صيام أسبوع واحد، ويمكن لهجمات الروماتيزم أن تختفي بعد صوم ثلاثة أسابيع فقط. (3) التهاب الوريد المزمن: عندي كثير من المشاهدات السريرية التي لم يشف أصحابها إلا على الصوم. ويعتبر الصوم الطبي أسرع علاج إذ أن الشفاء يتم بعد صيام أسبوعين فقط. (4) القرحات الدوالية: كان عندي مريض مصاب بقرحة دوالية 10سم ووصف له في النهاية بترساقه، وقد شفيت هذه القرحة على صوم أربعين يوماً. وقد أشرفت على عدد من مثل هذه الحالات، وهذا من عجائب الصوم الطبي ومن نتائجه الباهرة التي لا تضاهي. (5) التهاب المفاضل التنكسي: عند المسنين والسمن عند العوام بالعصبي لدى كثير من الحالات التي تحسن أصحابها بعد صوم أسبوعين فقط. (6) حب الشباب المعند يزول بعد صوم ثلاثة أسابيع وكأن صاحبه قد أجري عملية تجميل رائعة. (7) ارتفاع حالات الكوليسترول وتراي جليسيريد يكفيها صوم أسبوعين حتى تنخفض كل المقادير المرتفعة إلى أقل من رقمها الطبيعي.

(8) الحبسة الدماغية: وهي عدم القدرة على الكلام من منشأ دماغي قد شفى أصحابها على صوم ثلاث حالات شفوا تمامًا بعد صيام ثلاثة أسابيع وعادت لهم القدرة على الكلام تمامًا. (9) عسر الهضم وسوء الامتصاص والنفخة المزمنة وحس الطعم الكريه في الفم كل ذلك قد شفى تمامًا أثناء الصوم. (10) التهاب القولون المزمن قد تحسن بعد صوم عدة مرات، وذلك من خلال العشرات من الصائمين. (11) أشرفت على صوم عدة مرضى مصابين بالداء السكري الذي لم يمض عليه خمس سنوات فزال المرض تمامًا ولم نحتج إلى استعمال أي معالجة كيماوية بعد ذلك. (12) المصابين بارتفاع التوتر الشرياني، يكفيهم صيام ثلاثة أيام حتى يبدأ الرقم بالانخفاض تدريجيًا. (13) داء القلاع المزمن: من جملة الأمراض التي أشرفت عليها وتحسن أصحابها بعد صوم أسبوع واحد فقط. (14) من غريب المشاهدات التي لاحظتها أثناء إشرافي على الصائمين تجدد نمو الشعر في رؤوسهم. (15) التهاب الجيوب المزمنة واللوزات المزمنة: تتحسن بعد صوم أسبوعين فقط. (16) عالجت بالصوم الطبي المرضى المصابين بداء الصدف فكانت النتيجة التحسن بنسبة تزيد عن 70% بعد صيام أربعين يوماً. (17) المصابون بأمراض تحسسية سواء منها الشرى أم الربو أم السعال التحسسي المعند على المعالجة، فقد كانت النتيجة رائعة وعجيبة بعد صيام ثلاثة أسابيع فقط وقد عالجت الكثير من هؤلاء المرضى، بعد أن يئسوا من كافة العلاجات الأخرى، فلنم يجدوا شفاءً إلا بالصوم الطبي.

(18) أشرفت على صوم الكثير من المريضات المصابات بالتهابات نسائية مزمنة مضرة فكان الشفاء حليفهن. (19) الشقيقة (صداع منتصف الرأس) المزمنة هي إحدى الأمراض التي تستجيب بسرعة للصوم الطبي. (20) الذين يشكون من آلام فقرية سواء كانت رقبية أم قطنية عجزية لم تصل إلى حد انفتاق النواة اللبية، فإن الصيام الطبي كفيل بضمان شفائهم بعد مدة ثلاثة أسابيع فقط. وأنا كفيل بهذه النتيجة الحتمية إن شاء الله حيث أنه لم تفشل معالجة مريض واحد من هؤلاء المرضى الذين أشرفت عليهم، وقد بلغ عددهم المئات. (21) قد يستغرب قارئ هذه الفقرات وخصوصًا الأطباء منهم، ولكن الواقع العملي التطبيقي هو الحقيقة القاطعة لذلك، وعندي من المشاهدات العملية ما تكفي لأن تكون مناظرة فاصلة قاطعة" (1) . * وفي نهاية القرن السابع عشر كتب الدكتور "هوفمان" كتابًا شهيرًا حول العلاج بالصوم عنوانه "وصف النتائج الخيالية والسحرية الناتجة عن الصوم في جميع الأمراض". * أما الدكتور الروسي "ثون سيلاند" فقد كتب يقول: "عقب جميع التجارب التي أجريتها، توصلت إلى أن الصوم ليس فقط واسطة علاجية من نوعية جيدة جدًا، بل أنه يستحق الاحترام من وجهة النظر الثقافية". * كما أن الدكتور "وولف باير" وهو طبيب مشهور من الأطباء الألمان أشار في كتابه "العلاج بالصوم علاج المعجزات" إلى أنه يؤكد بأن الصوم هو الواسطة الأكثر فعالية من أجل القضاء على أي مرض من الأمراض، ثم أضاف يقول: إن الصوم والجراحة هما الأمران الكبيران والهامان اللذان نملكهما في عتادنا الطبي. * وكذلك الأمر فإن الدكتور "سولد" رئيس مصحة "كلوزفيتز" يقول:

_ (1) من تعليق الدكتور محمود البرشة على كتاب "التداوي بالصوم" تأليف هـ. م شيلتون.

إن الصوم هو الطريقة الوحيدة ذات التطور الطبيعي التي تستطيع بواسطة التنظيف الكامل أن تعيد العضوية إلى وضع فيزيولوجي عادي. ويقول الدكتور "أوزبك" أستاذ الجراحة في أوبسالا: لقد حصلت على نتائج باهرة في أغلب الحالات المرضية التي عالجتها بالصوم. ولقد بلغ نجاحه هذا حدًا جعل الإدارة المسؤولة عن الأبحاث تخصص له جائزة مقدارها خمسة آلاف دولار بالإضافة إلى خمسمائة دولار تقدم له كل عام تشجيعًا له على أبحاثه. وهكذا يستعمل الصوم في الوقت الحاضر في كثير من المصحات الأوربية وفي بريطانيا، وفي جميع أنحاء المعمورة (1) . ***

_ (1) كتاب التداوي بالصوم تأليف هـ. م شيلتون. تصدير سماحة الشيخ أحمد كفتارو المفتي العام لسوريا - دار الرشيد دمشق.

الفرق بين الصيام الإسلامي والتجويع [الصوم الطبي]

الفرق بين الصيام الإسلامي والتجويع [الصوم الطبي] (1) عرف علماء التغذية الصيام بأنه الامتناع الكلي أو الجزئي عن تناول المأكولات والمشروبات معًا، أو عن تناول المأكولات فقط لفترة من الزمن طالت أم قصرت. وقد دخل التجويع (Starvation) في هذا المفهوم للصيام، ويلاحظ أن هذا المفهوم يختلف اختلافًا جوهريًّا عن تعريف الصيام الإسلامي، والذي هو إمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية، ولا تذكر المراجع الطبية غالبًا الصيام إلا تحت عنوان التجويع (Starvation) ، وقد حصل لذلك خلط ولبس بين الصيام الإسلامي والتجويع، مما جعل الكثيرين من متلقى العلوم الحديثة وخصوصًا الأطباء لا يفرقون بينهما، ويسقطون أخطار التجويع على الصيام الإسلامي، لأن المدرسة الطبية الغربية التي تتلمذ فيها الجميع، لا تشير من قريب أو بعيد إلى الصيام الإسلامي، وتكتفي بالتعميم، هذا وقد أصبح للتجويع مدرسة طبية وأقيمت له مصحات عالمية في كثير من بلدان العالم، يعالجون به عددًا من الأمراض المزمنة، وقد سموه الصيام الكلي أو الطبي (2) فكان لزامًا علينا في هذا البحث أن نتعرف على

_ (1) هذا البحث بأكمله من كتاب "الصيام معجزة علمية" للدكتور عبد الجواد الصاوي - نشر المجلس الأعلى للمساجد - هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة برابطة العالم الإسلامي، وفيه أبحاث من كبار الأطباء وأساتذة كلية الطب جامعة الملك سعود بالرياض وأساتذة كلية الطب جامعة الملك عبد العزيز في ندوتين لهيئة الإعجاز العلمي بينها وبين الأساتذة والباحثين من خارج وداخل المملكة السعودية في جمادي الآخرة سنة 1411هـ. (2) وفي هذا النوع من الصيام كما يسمونه يمتنع فيه عن الطعام فقط دون الماء، لفترة من الزمن تطول أو تقصر، وتقوم فكرته على حقيقة مقدرة الطاقة المختزنة في الجسم على إمداد الإنسان بالحياة والحركة فترة تتراوح من شهر إلى ثلاثة شهور.

وظائف الأعضاء في الصيام الإسلامي

كل من الصيام الإسلامي والتجويع، وأن نبين الفروق الجوهرية بينهما. وظائف الأعضاء في الصيام الإسلامي تتراوح الفترة الزمنية التي يمتنع فيها المسلم عن تناول الطعام والشراب من 12-16 ساعة، وتقابل هذه الفترة في علم وظائف الأعضاء بمرحلتين في تمثيل الغذاء داخل الجسم: 1- مرحلة امتصاص الغذاء وتتراوح من 3-5 ساعات تبعًا لكمية ومحتويات الوجبة الغذائية المتناولة في السحور. 2- مرحلة ما بعد الامتصاص: والتي تبدأ بعد امتصاص جميع المواد الغذائية في وجبة السحور من الأمعاء الدقيقة. يتكون التمثيل الغذائي من مرحلتين: مرحلة بناء، ومرحلة هدم، وأثناء مرحلة البناء تستخدم المواد الغذائية في البناء، وتقابل مرحلة امتصاص الغذاء، وأثناء مرحلة الهدم تكسر المواد الغذائية بواسطة عمليات الأكسدة لإنتاج الطاقة، في صورة حرارة أو عمل أو طاقة مختزنة، وتقابل مرحلة ما بعد الامتصاص. 1- مرحلة امتصاص الغذاء: وهي مرحلة البناء بعد تناول الطعام في وجبة السحور، يرتفع مستوى الجلوكوز والدهون والأحماض الأمينية في الدم، وتبدأ مرحلة البناء والترميم كالتالي: أولاً: امتصاص الكربوهيدرات: تمتص الكربوهيدرات في صورة جلوكوز بصورة رئيسية، وتمر أولاً إلى الكبد عبر الدورة البابية. يزيل الكبد حوالي 60-80% من الكربوهيدرات، وتخزن بعضها في صورة جليكوجين، عن طريق تشجيع عملية تكون الجليكوجين الكبدي (Glycogenesis) ، ويحول الباقي إلى أحماض دهنية وثلاثي الجليسرول، حيث تخزن الأحماض الدهنية تباعًا في النسيج الشحمي، ويدخل باقي الجلوكوز (من 20-40%) إلى الأنسجة الطرفية، حيث يختزن كجليكوجين في العضلات، أو

يؤكسد ليعطي مسافة كيمائية في صرة مركب (أدينوزين ثلاثي الفوسفات) وأشباهه. وتحفظ الكربوهيدرات معدل جلوكوز الدم ثابتًا، ولو هبط عن معدله لتأثرت جميع الأنسجة التي تعتمد عليه كمصدر أساسي للطاقة، مثل المخ والجهاز العصبي، ويحدث لها حالة مثل التي تحدث لمرضى السكري غير المتحكم فيه. ينبه ارتفاع الجلوكوز في الدم إفراز الأنسولين، ويقلل من إفراز هرمون الجلوكاجون، والذي يقل بوضوح شديد بعد وجبة غنية بالكربوهيدات. تتحول الكربوهيدرات إلى دهون، تختزن في العضلات المخططة والكبد والنسيج الشحمي، كما تتحول إلى أحماض أمينية غير أساسية، عندما لا تتوفر هذه الأحماض في الغذاء. ثانيًا: امتصاص الدهون: أما الدهون من وجبة السحور، فتمتص وتصل إلى الدورة الدموية عن طريق القناة السليمفاوية الصدرية، لتختزن في خلايا الأنسجة الشحمية، على هيئة ثلاثي الجليسرول (Triacylgiycerol) ، تحت الجلد، وفي العضلات، وفي الأحشاء، وهذا الخلايا تكبر ثم تنكمش، حينما تحدث تغيرات تخزينية لمستوى الدهن فيها، ويعتبر الدهن مخزنا للطاقة ومادة عازلة في الجسم. ثالثًا: امتصاص الأحماض الأمينية (البروتينات) : تتحول البروتينات إلى مكوناتها من الأحماض الأمينية، بفعل العصارات الهضمية في المعدة والأمعاء، ثم تمتص هذه الأحماض ولا تختزن كما هي، ولكن تستخدم في تكوين البروتين الذي يزداد نتيجة لتثبيط عملية تصنيع جلوكوز جديد (Gluconeogenesis) في الكبد فور تناول الوجبة؛ كما يؤكسد الكبد مزيدًا منها. تتحلل الأحماض الأمينية الزائدة إلى جزء آزوتي، يتحول إلى بولينا تخرج معه البول، وإلى جزء غير آزوتي قد يتحول إلى جليكوجين يخزن في

الكبد، أو يتحول إلى دهن، يخزن في الجسم لوقت الحاجة. والخلاصة أن التأثير الكلي لوجبة الغذاء - (في السحور) ، بناء على ما سبق-، هو تقديم مخزون للجسم من الكربوهيدرات في الكبد، والعضلات، ومخزون من الدن (ثلاثي الجليسرول) في النسيج الشحمي، والكبد، واستخدام الأحماض الأمينية في تصنيع البروتين في كل أنسجة الجسم، وخاصة الكبد، وتقديم الأحماض الدهنية الأساسية والفيتامينات والمعادن، والتي لا يمكن للجسم أن يصنعها بداخله، وتتوقف عليها عمليات الاستقلاب الأساسية. 2- فترة ما بعد الامتصاص: وهي مرحلة الهدم: تبدأ هذه المرحلة بعد تناول وجبة السحور بحوالي 4-6 ساعات بعدما تمتص جميع محتويات الأمعاء الدقيقة، وتتراوح فترة ما بعد الامتصاص من (6-12) ساعة من امتصاص الطعام، وقد تمتد حتى 40 ساعة، وبما أن الصيام الإسلامي يبدأ من بداية مرحلة الامتصاص، وعلى اعتبار أن الصوم في المناطق المدارية حوالي 15 ساعة، فإن عدد ساعات الصيام الإسلامي لن تتعدى غالبًا فترة ما بعد الامتصاص. ويمكن تلخيص أهم الأحداث في هذه المرحلة فيما يلي: 1- تتوقف جميع المواد الغذائية التي تصل الجسم من خلال الأمعاء خلال هذه الفترة، ويعتمد الجسم البشري على المخزون من الغذاء للحصول منه على الطاقة، ويحرك هذا المخزون هبوط تركيز جلوكوز الدم، وفي بداية هذه المرحلة يكون مصدر الجلوكوز في الدم ناتج من تحلل الجليكوجين الكبدي، وتأخذ جميع أنسجة الجسم الطاقة منه. 2- يهبط مستوى الجلوكوز في الدم، فيؤدي إلى نقص إفراز الإنسولين (الذي كان مرتفعًا في فترة الامتصاص) ، وهذا يعمل كمنبه لإفراز هرمون الجلو-كاجون، وهذه التغيرات الهرمونية تؤدي إلى ازدياد تحلل الجليكوجين الكبدي، وتثبيط تكونه، وازدياد تصنيع جلوكوز جديد في الكبد، لأن تحلل الجليكوجين بمفرده لا يكون قادرًا على إنتاج الجلوكوز الكافي، خصوصًا كلما

اتجهنا لنهاية هذه المرحلة، فيصنع جلوكوز إضافي من الأحماض الأمينية في الكبد، وخصوصًا من حمض الألانين لذلك فالكبد يقدم خلال هذه المرحلة كل جولكوز الجسم، (75% منه من تحلل الجليكوجين، 25% من عملية تصنيع جلوكوز جديد) ، وبالتالي فالأنسجة التي تعتمد اعتمادًا أساسيًا على الجلوكوز مثل المخ، وكرات الدم الحمراء، تستهلك الجلوكوز، ولا تتأثر بتاتًا بأي نقص فيه في مرحلتي الامتصاص وما بعد الامتصاص، وهما يمثلان فترة الصيام الإسلامي. 3- ينقص تكون الدهن (ثلاثي الجليسرول) وتخزينه، ويزداد تحلله، بسبب ارتفاع هرمون الجلوكاجون، وهبوط الإنسولين والجلوكوز في الدم، مما يؤدي إلى تنشيط إطلاق الأحماض الدهنية الحرة من النسيج الشحمي، والتي تؤكسد لتمد معظم الأنسجة باحتياجاتها من الطاقة، مثل العضلات والقلب، وتحفظ بهذا معظم الجلوكوز للأنسجة الأخرى، وفي نهاية هذه المرحلة يعتمد الجسم أساسًا على أكسدة هذه الدهون. 4- معدل تحلل الدهون وهبوط الإنسولين في الدورة البابية خلال هذه الفترة، لا يكون بالقدر الذي يشجع الكبد لتحويل الأحماض الدهنية الحرة إلى أجسام كيتونية، ولا يزال المخ في هذه الفترة يستخدم الجلوكوز فقط. 5- تبدأ الأحماض البروتينية في الانطلاق تحت تأثير هبوط الإنسولين، كنتيجة للنقص الشديد في تصنيع بروتين العضلات، وخصوصًا حمضي الجلوتامين والألانين، حيث يشاركان في عملية تصنيع الجلوكوز الجديد في الكبد، الذي يعزز الجلوكوز المنتج بواسطة تحلل الجليكوجين) ، والنتيجة النهائية للتغيرات في تركيز هرموني (الإنسولين والجلوكاجون، هو توفير الجلوكوز، وإطلاق الأحماض الدهنية الحرة من النسيج الشحمي، فتستهلك العضلات الطرفية والنسيج الشحمي، جلوكوزًا أقل في نهاية هذه المرحلة، وتعتمد أكثر على الأحماض الدهنية كمصدر رئيسي للطاقة. هناك علاقة بين نسبة أكسدة الأحماض الدهنية واستهلاك الجلوكوز بواسطة

وظائف الأعضاء في التجويع المطلق:

الأنسجة في هذه المرحلة، فكلما زادت أكسدة الدهون، قل استهلاك الجلوكوز، والعكس با-لعكس، لذلك فعندما -تقل نسبة الأكسدة للأحماض الدهنية، لا يتأخر نفاد الجليكوجين عن حوالي 10 ساعات، وعندما تزداد أكسدة هذه الأحماض، فلربما يتأخر نفاذه إلى حوالي 24 ساعة، وبما أنه في نهاية هذه الفترة تتسارع أكسدة الأحماض الدهنية، وفي بدايتها يستهلك الجلوكوز بكميات أكبر، فمعظم الأنسجة تستهلك الجلوكوز أثناء فترة الصيام الإسلامي. أما في نهايتها فيستهلكه المخ والجهاز العصبي وكرات الدم الحمراء فقط وهذه الأجهزة التي تعتمد أساسًا على الجلوكوز لا تحصل على الطاقة إلا منه خلال فترة الصيام الإسلامي، من ذلك ندرك بعض الحكمة في حرص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يلتزم المسلمون بتناول السحور وتأخيره إلى نهاية الليل (طلوع الفجر) ، ثم حرصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيضاً على تعجيل الفطر، حتى تختصر فترة ما بعد الامتصاص إلى القدر غير المرهق للعمليات الحيوية، وبما لا يمثل أدنى شدة على الجسم البشري. وظائف الأعضاء في التجويع المطلق: قسمت المراجع الطبية التجويع إلى ثلاث مراحل: مبكر، ومتوسط الأجل، وطويل الأجل، والمرحلة المبكرة منه هي مرحلة ما بعد امتصاص الغذاء، وقد تقدم الحديث عنها في الصيام الإسلامي، واعتبرها البعض مرحلة مستقلة، وقسم التجويع إلى مرحلتين: قصير الأجل، وطويل الأجل. 1- التجويع قصير الأجل: تتراوح مدة هذه المرحلة من يومين إلى سبعة أيام، والتغيرات الاستقلابية التي تحدث خلال هذه الفترة، عبارة عن استمرار وتسريع للعمليات التي بدأت في فترة ما بعد الامتصاص. يحدث انخفاض تدريجي في تركيز جلوكوز الدم والإنسولين في هذه المرحلة مع ارتفاع لهرمون الجلوكاجون، فيؤدي إلى زيادة إفراز الأحماض الأمينية في العضلات، و (خصوصًا حمضي الجلوتامين والألانين) وزيادة انحلال الدهن في الأنسجة الشحمية، ويتحول بعض الجلوتامين الذي تفرزه

العضلات بواسطة الخلايا الماصة في الأمعاء إلى حمض الألانين، الذي يساهم مع حمض اللاكتيك الذي تفرزه الكريات الحمراء والأنسجة الأخرى، وكذلك الجليسرول الذي يتم إفرازه من تحلل الدهن تساهم كلها في زيادة معدل تكوين الجلوكوز الجديد في الكبد، ويزيد إنتاج هذا الجلوكوز في هذه المرحلة من ضعفين إلى ثلاثة أضعاف إنتاجه في فترة ما بعد الامتصاص، وهو مسئول عن كل كمية الجلوكوز التي يفرزها الكبد، وتقترن زيادة إنتاج الجلوكوز إبان فترة التجويع قصير الأجل، بارتفاع تحلل البروتين، ويحدث بذلك توازن نتروجيني سلبي هام، يتم فيه إفراز معظم النتروجين على شكل بولينا، ويأخذ الكبد في هذه المرحلة مساهمة كبيرة في إمداد الأنسجة المختلفة بالطاقة التي تحتاجها؛ وتوفر 20% من الطاقة اللازمة للعضلات والدماغ. وهكذا فإن الاستقلاب الحاصل خلال فترة التجويع قصير الأجل، يتصف بارتفاع معدلات استقلاب البروتين، وتصنيع الجلوكوز الجديد بكميات كبيرة، وتكون الأجسام الكيتونية لتأمين حاجة الجسم من الطاقة. 2- التجويع لفترات طويلة: تتراوح مدة هذه المرحلة من أسبوعين إلى ستة أسابيع، ينخفض خلالها معدل تحلل البروتين وإفراز النتروجين، ويزداد تحلل الدهون، ويعتمد على ثلاثي الجليسرول القادم من الأنسجة الشحمية لتأمين الطاقة، وينخفض إنتاج جلوكوز الكبد من حوالي 200 جم يوميًّا خلال فترة ما بعد الامتصاص، إلى حوالي 50 جم/ في اليوم، خلال هذه المرحلة، ويعتمد حوالي 75% من جلوكوز الكبد على مصادر الأحماض غير الأمينية (لاكتات، بيروفات، جليسرول) ، ويعني ذلك أن عملية تصنيع الجلوكوز الجديد لا يكون وقودها الأساسي الأحماض الأمينية كما في الفترة السابقة. وفي الوقت ذاته تشارك الكليتان في إنتاج الجلوكوز الجديد، إذ تكون الكلية حوالي 40 جم/ في اليوم (تؤخذ من الأحماض الأمينية) ، مع إفراز النيتروجين الزائد على شكل أمونيا لا على شكل بولينا، وينخفض لذلك فقدان النيتروجين بصورة تدريجية خلال هذه المرحلة، ومع انخفاض الطلب على

أوجه الاتفاق والاختلاف بين الصيام الإسلامي والتجويع:

الجلوكوز في هذه الفترة ينخفض أيضاً معدل إفراز الأحماض الأمينية من العضلات إلى حوالي ثلث الكمية المفرزة في فترة ما بعد الامتصاص. ومع ازدياد معدل انحلال الدهن تزداد الأحماض الدهنية التي تصل إلى الكبد، فيرتفع معدل إنتاج الأجسام الكيتونية، وتزداد تدريجيًّا في الدم وتصل إلى مستوى ثابت، يعتمد عنده الدماغ للحصول على الطاقة منها، لتحل محل الجلوكوز كمصدر رئيسي للطاقة، إذ توفر من (60-80%) من كمية الطاقة التي يحتاجها الدماغ. هذا وقد وجد أن ارتفاع مستوى الأجسام الكيتونية في مصل الدم لا ينتج زيادة في حموضة الدم، وذلك لأن الأمونيا الناجمة عن تكون الجلوكوز الجديد في الكلية (من الجلوتامين أساسًا) تسبب زيادة تعويضية في إفراز البروتينات. ويبدو أيضاً أن ارتفاع مستويات الأجسام الكيتونية يساهم في انخفاض تكون الجلوكوز الجديد الملازم لهذه المرحلة، وذلك يمنع انحلال بروتينات العضلات؛ لذا فإن الأجسام الكيتونية تعمل على خفض إنتاج جلوكوز الكبد، وتعمل بمثابة طاقة بديلة للدماغ، وتحافظ على بروتينات الجسم، ومع نفاذ كمية الدهون القابلة للنقل والتحريك في نهاية هذه المرحلة، فإنه تحدث زيادة في استقلاب البروتينات في المراحل قبل النهائية، وهكذا فإن القدرة على تحمل التجويع أو الصيام الطبي لفترات طويلة، يعتمد على كمية الدهون المخزونة في الأنسجة الشحمية. أوجه الاتفاق والاختلاف بين الصيام الإسلامي والتجويع: هناك أوجه اتفاق واختلاف بين الصيام الإسلامي، وبين ما يعرف بالصيام الطبي (التجويع المطلق) ، وتتيح أوجه الاتفاق بينهما مساحة مشتركة تجعل كل الفوائد الثابتة علميًا للصيام الطبي، تتحقق بالصيام الإسلامي المثالي، التي تقل فيه فترة الهضم والامتصاص، وذلك بالاعتدال في الطعام أثناء السحور والإفطار وتتاح فيه فرصة أكبر لعملية تحلل المدخرات الغذائية وذلك ببذل الجهد والعمل الدائب والتخلص من الكسل وكثرة النوم أثناء الصيام.

وبناء على ذلك فقد استشهدنا ببعض الأبحاث التي أجريت على الصيام الطبي لعلاج بعض الأمراض، ولإثبات بعض الحقائق التي أخبرها عنها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصيام، ولتكن هذه الأبحاث حافزًا للباحثين على إجرائها في الصيام الإسلامي. ويمكن تلخيص أوجه الاتفاق والاختلاف بين الصيام الطبي والصيام الإسلامي في النقاط التالية: 1- يتفق الإثنان في تحقيق هدف مشترك، هو إراحة الجسم من هضم الغذاء، وإتاحة الفرصة لاستهلاك المدخر منه، وطرح السموم المتراكمة فيه، وتنشيط عمليات الاستقلاب الحيوية. 2- كلاهما يمتنع فيه عن تناول المواد الغذائية في فترة زمنية محددة. 3- ويختلفان في أن للصيام الإسلامي فترة زمنية محددة بنهار اليوم، ومتتابعة لمدة شهر، ودورية كل سنة على وجه الإلزام للمسلم، ولعدة أيام متفرقة في بقية العام على وجه الاختيار (صيام التطوع) ، أما في الصيام الطبي: فهو امتناع عن الغذاء فترة زمنية متصلة تحدد لكل إنسان حسب ظروفه، أو مرضه، وهي على وجه الاختيار. 4- الصيام الإسلامي يستطيعه كل المكلفين الأصحاء في شتى الأقطار والأزمان، وهو سهل ميسور، وليس فيه أية أخطار على الجسم، ولا يمثل أية شدة، والمسلمون يصومون طائعين، فرحين، محبين، أما الصوم الطبي فلا يستطيعه الناس جميعًا وهو قهر شديد للنفس، ويمثل مشقة وعنتًا للجسم، ولا يقبل عليه إلا من طغى عليه المرض، أو استيقن بفائدة يجنيها من ممارسته، ويصوم محاطا بالأطباء والممرضين وأجهزة الإسعاف والطوارئ. 5- للتجويع أْخطاء لا توجد في الصيام الإسلامي: يحرم الجسم في أثناء التجويع من إمداده بالأحماض الدهنية الأساسية، والأحماض الأمينية الأساسية (Essential Naimo and Fatty Acids) ، والتي لا تتوافر إلا في الغذاء، وتتجمع كميات كبيرة من الأحماض الدهنية في الكبد، نتيجة لتحلل الدهن

مميزات الصيام الإسلامي لا توجد في التجويع:

المختزن في أنسجة الجسم بمعدلات كبيرة، مما يؤدي إلى ترسب الدهن بكثرة (ثلاثي الجليسرول Triaclyglycerol) في خلاياه، الأمر الذي ينجم عنه حالة تشمع للكبد (Fatty Liver) فتضطرب وظائفه ويصاب الجسم بالعلل. وهذا بفضل الله لا يحدث في الصيام الإسلامي، حيث يمد الجسم بالأحماض الدهنية الأساسية والأحماض الأمينية الأساسية في وجبتي السحور والفطور، ويقوم الكبد بتركيب البروتين والمواد الدهنية والفوسفورية، بمعدل كاف لعملية تصنيع البروتين الشحمي (Lipoprotin) منخفض الكثافة جدًا، وهو المركب الذي يسهل نقل الدهون من الكبد، وحتى لا تتجمع بكميات كبيرة تعوق هذه العملية الحيوية، فلا يحدث التشمع الكبدي كما في حالة التجويع. والحرمان من الأ-حماض الأمينية والد-هنية يؤدي إلى خلل -في الجسم فلا تتكون بعض البروتينات، والهرمونات، والأنزيمات الهامة، والتي يتوقف تكونها على توافر الأحماض الأساسية، كما أن الحرمان من الأحماض الأمينية في الغذاء يؤدي إلى تهدم مزيد من خلايا الجسم، وخصوصًا العضلات لإنتاج هذه الأحماض واستخدامها في تصنيع الجلوكوز، أو إنتاج الطاقة بعد تحويلها إلى أحماض أكسجينية، ويحدث بذلك توازن نتروجيني سلبي (Negative Nitrogen Balance) . كما أنه في حالة التجويع تحدث أكسدة كثيفة للأحماض الدهنية المتجمعة في الكبد، مما ينتج عنه كميات كبيرة من الأجسام الكيتونية (Acito Acetic and Sever Metavolic Acidosis) والتي تؤدي بدورها إلى حموضة شديدة بالدم، (Sever Metavolic Acidosis) . 6- للصيام الإسلامي مميزات لا توجد في التجويع: أ- يحدث توازن لدورتي البناء والهدم أثناء الصيام الإسلامي، وذلك بتناول الطعام في المساء، والامتناع عنه أثناء النهار، ويصب في مجمع الأحماض الأمينية كمية كبيرة من هذه الأحماض القادمة مع الغذاء، مما يساعد على التجديد السريع لخلايا، ومكوناتها، وتوفير القدر اللازم منها لإنتاج

جلوكوز الدم أثناء النهار، وتوفير الأحماض الأمينية الحرة في بلازما الدم. ب- وجود كمية مخزونة من البروتين في خلايا الكبد، بواسطة التضخم (Hypertrophy) ، وفرط التنسج (Hyperplasia) ، بعد وجبتي الفطور والسحور يجعل الجسم قادرًا على تكوين البروتينات الحيوية اللازمة كبروتينات البلازما (الألبيومين والجلوبيولين والفيبرونوجين) ، وعوامل تخثر الدم، وكثير من البروتينات اللازمة لنقل المواد والمركبات الحيوية فيما بين الأعضاء والأنسجة المختلفة، وذلك كالبروتين اللازم لنقل الحديد، وفيتامين ب 12، والأدوية، وغير ذلك، وهذا لا يتوفر بكميات كافية أثناء التجويع لفترات طويلة، مما يسبب سيولة في الدم، وتورمًا في الجسم، وانخفاضًا في الأجسام المضادة، وظهور أعراض نقص فيتامين ب 12، وبعض المعادن الحيوية الأخرى. ج- يحدث مزيدًا من إنتاج اليوريا من الأمونيا المتكونة من الأحماض الأمينية، بعد تناول الغذاء في المساء، ولا يحدث غالبًا أي خلل في التوازن النتروجيني أثناء النهار، نتيجة لتخزين الكبد الكمية من البروتين في خلاياه بعد وجبتي السحور والإفطار. د- يتخلص الجسم من الدهون بطريقة طبيعية آمنة في الصيام الإسلامي، فلا تؤدي إلى تشمع الكبد، حيث لا تتجمع كميات كبيرة منها كما في التجويع. هـ- تنشط عمليات الكبد الحيوية في الصيام الإسلامي، فيقوم بتصنيع البروتين، والمواد الدهنية الفوسفورية، لتكوين البروتين الشحمي، الحيوي للجسم (VDLP) ، والذي يقوم بنقل الدهون من الكبد، بعكس التجويع الذي يثبط هذه العملية الحيوية. و تتأكسد الأحماض الدهنية ببطء، ولا تتجمع الأجسام الكيتونية في الدم، وتحدث حموضة الدم الخطيرة كما في حالة التجويع. ***

نظريات علمية في بعض فوائد الصيام الإسلامي وآدابه

نظريات علمية في بعض فوائد الصيام الإسلامي وآدابه الصيام والتخلص من السموم يتعرض الجسم البشري لكثير من المواد الضارة، والسموم التي قد تتراكم في أنسجته، وأغلب هذه المواد تأتي للجسم عبر الغذاء الذي يتناوله بكثرة، وخصوصًا في هذا العصر، الذي عمت فيه الرفاهية مجتمعات كثيرة، وحدث وفر هائل في الأطعمة بأنواعها المختلفة، وتقدمت وسائل التقنية في تحسنها وتهيئتها وإغراء الناس بها، فانكب الناس يلتهمونها بينهم، مما كان له أكب الأثر في إحداث الخلل لكثير من العمليات الحيوية داخل خلايا الجسم، وظهر -نتيجة لذلك- ما يسمى بأمراض الحضارة: كالسمنة، وتصلب الشرايين، وارتفاع الضغط الدموي، وجلطات القلب، والمخ، والرئة، ومرض السرطان، وأمراض الحساسية والمناعة. وتذكر المراجع الطبية: أن جميع الأطعمة تقريبًا في هذا الزمان تحتوي على كميات قليلة من المواد السامة، وهذه المواد تضاف للطعام أثناء إعداده، أو حفظه: كالنكهات، والألوان، ومضادات الأكسدة، والمواد الحافظة، أو الإضافات الكيميائية للنبات أو الحيوان: كمنشطات النمو، والمضادات الحيوية، المخصبات، أو مشتقاتها، وتحتوي بعض النباتات في تركيبها على بعض المواد الضارة، كما أن عددًا كبيرًا من الأطعمة تحتوي على نسبة من الكائنات الدقيقة، التي تفرز سمومها فيها وتعرضها للتلوث، هذا بالإضافة إلى السموم التي نستنشقها مع الهواء، من عوادم السيارات، وغازات المصانع، وسموم الأدوية التي يتناولها الناس بغير الناس بغير ضابط، إلى غير ذلك من سموم الكائنات الدقيقة، التي تقطن في أجسامنا بأعداد تفوق الوصف والحصر، وأخيرًا مخلفات الاحتراق الداخلي للخلايا، والتي تسبح في الدم، كغاز ثاني أكسيد

الكربون، واليوريا، والكرياتنين، والأمونيا، والكبريتات، وحمض اليوريك.. إلخ، ومخلفات الغذاء المهضوم، والغازات السامة التي تنتج من تخمره وتعفنه، مثل الأندول والسكاتول والفينول. كل هذه السموم جعل الله سبحانه وتعالى للجسم منها فرجًا ومخرجًا، فيقوم الكبد وهو الجهاز الرئيسي في تنظيف الجسم من السموم، بإبطال مفعول كثير من هذه المواد السامة، بل قد يحولها إلى مواد نافعة، مثل: اليوريا، والكرياتين، وأملاح الأمونيا، غير أن للكبد جهدًا وطاقة محدودة، وقد يعتري خلاياه بعض الخلل لأسباب مرضية، أو لأسباب طبيعية كتقدم السن فيترسب جزء من هذه المواد السامة في أنسجة الجسم، وخصوصًا في المخازن الدهنية. وتذكر المراجع الطبية، أن الكبد يقوم بتحويل مجموعة واسعة من الجزئيات السمية، والتي غالبًا ما تقبل الذوبان في الشحوم، إلى جزئيات تذوب في الماء غير سامة، يمكن أق يفرزها الكبد عن طريق الجهاز الهضمي، أو تخرج عن طريق الكلى. وفي الصيام تتحول كميات هائلة من الشحوم المختزنة في الجسم إلى الكبد حتى تؤكسد، وينتفع بها، وتستخرج منها السموم الذائبة فيها، وتزال سميتها ويتخلص منها مع نفايات الجسد. كما أن هذه الدهون المتجمعة أثناء الصيام في الكبد، والقادمة من مخازنها المختلفة، يساعد ما فيها من الكوليستيرول على التحكم وزيادة إنتاج مركبات الصفراء في الكبد، والتي بدورها تقوم بإذابة مثل هذه المواد السامة، والتخلص منها مع البراز. ويؤدي الصيام خدمة جليلة للخلايا الكبدية، بأكسدته للأحماض الدهنية، فيخلص هذه الخلايا من مخزونها من الدهون، وبالتالي تنشط هذه الخلايا، وتقوم بدورها خير قيام، فتعادل كثيرًا من المواد السامة، بإضافة حمض الكبريت أو حمض الجلوكونيك، حتى تصبح غير فعالة ويتخلص منها الجسم. كما يقوم الكبد بالتهام أية مواد دقيقة، كدقائق الكربون التي تصل إلى الدم

ببلعمة جزيئاتها، بواسطة خلايا خاصة تسمى خلايا "كوبفر"، والتي تبطن الجيوب الكبدية، ويتم إفرازها مع الصفراء. وفي أثناء الصيام يكون نشاط هذه الخلايا في أعلى معدل كفائتها، للقيام بوظائفها، فتقوم بالتهام البكتريا، بعد أن تهاجمها الأجسام المضادة المتراصة. وبما أن عمليات الهدم (Catabolis) في الكبد أثناء الصيام تغلب عمليات البناء في التمثيل الغذائي، فإن فرصة طرح السموم المتراكمة في خلايا الجسم تزداد خلال هذه الفترة، ويزداد أيضاً نشاط الخلايا الكبدية في إزالة سمية كثير من المواد السامة، وهكذا يعتبر الصيام شهادة صحية لأجهزة الجسم بالسلامة. يقول الدكتور "ماك فادون" وهو من الأطباء العالميين، الذين اهتموا بدراسة (1) الصوم وأثره، "إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم، وإن لم يكن مريضاً، لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم، فتجعله كالمريض وتثقله، فيقل نشاطه، فإذا صام الإنسان تخلص من أعباء هذه السموم، وشعر بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل". ***

_ (1) الصوم الطبي الذي هو الجوع المطلق والتجويع.

هل الأفضل في الصيام الحركة أم السكون؟

هل الأفضل في الصيام الحركة أم السكون؟ ذكرت المراجع، أن الحركة العضلية في فترة ما بعد امتصاص الغذاء - (أثناء الصوم) - تؤكسد مجموعة خاصة من الأحماض الأمينية (ليوسين وأيسولوسين والفالين) ، وتسمى الأحماض ذات السلسلة المتفرعة (BrCAAs) ، وبعد أن تحصل الخلايا العضلية على الطاقة المنبعثة من هذا التأكسد، يتكون داخل هذه ا-لخلايا حمضين أمينيين -في غاية الأهمية، وهما حمضا الألانين والجلوتامين، ويعتبر الأول وقودًا أساسيًا في تصنيع الجلوكوز الجديد في الكبد، ويدخل الثاني في تصنيع الأحماض النووية، ويتحول جزء منه إلى الحمض الأول، كما يتكون أثناء النشاط والحركة حمضًا البيروفيت واللاكتيت، من أكسدة الجلوكوز. في الخلايا العضلية واللذان يعتبران أيضاً الوقود الأولي لتصنيع جلوكوز الكبد. تتأكسد الأحماض الأمينينة ذات السلسلة المتفرعة أساسًا في العضلات، حيث يوجد الأنزيم الخاص بتحويل مجموعة الأمين (Amino Transteraset) بكثرة في جهازي الاحتراق (الميتوكندريا) والسيتوزول (Cytosol) في الخلايا العضلية، وتزداد هذه الأكسدة بالحركة، لذلك فعملية تصنيع جلوكوز جديد في الكبد تزداد بازدياد الحركة العضلية، وربما تصل إلى ثلاثة أضعافها في حالة عدم الحركة، ويعتبر حمض الألانين أهم الأحماض الأمينية المتكونة في العضلات أثناء الصيام، إذ يبلغ 30% منها، وتزيد هذه النسبة بالحركة والنشاط، ويتكون من أكسدة بعض الأحماض الأمينية ومن البيروفيت، كما يتحول هو أيضاً إلى البيروفيت عبر دائرة تصنيع الجلوكوز في الكبد، وأكسدته في العضلات. ويستهلك الجهاز العضلي الجلوكوز القادم من الكبد، للحصول منه على الطاقة، فإن زادت الحركة وأصبح الجلوكوز غير كاف لإمداد العضلات بالطاقة، حصلت على حاجتها من أكسدة الأحماض الدهنية الحرة القادمة من تحلل الدهن في الأنسجة الشحمية؛ فإن قلت الأحماض الدهنية حصلت العضلات على الطاقة من الأجسام الكيتونية الناتجة من أكسدة الدهون في الكبد؛ والذي يؤكد

أن النشاط والحركة تنشط جميع علميات الأكسدة لكل المركبات التي تمد الجسم بالطاقة؛ وتنشط عملية تحلل الدهون، كما تنشط أيضاً عملية تصنيع الجلوكوز بالكبد، من الجليسرول الناتج من تحلل الدهون في النسيج الشحمي ومن اللاكتيب الناتج من أكسدة الجلوكوز في العضلات. لذلك فالحركة والنشاط أثناء الصيام الإسلامي عمل إيجابي وحيوي يزيد من كفاءة عمل الكبد والعضلات؛ ويخلص الجسم من الشحوم، ويحميه من أخطار زيادة الأجسام الكيتونية. كما أن الحركة العضلية تثبط تصنيع البروتين في الكبد والعضلات، وتتناسب درجة التثبيط مع قوة الحركة ومدتها، وهذا بدوره يوفر طاقة هائلة تستخدم في تكوين البروتين، حيث تحتاج كل رابطة فن الأحماض الأمينية إلى مخزون الطاقة في خمسة جزئيات للأدينوزين والجوانين ثلاثي الفوسفات (ATP & GTP) وإذا كان كل جزيء من هذين المركبين يحتوي على كمية من الطاقة -تتراوح من 5-10 كيلو كا-لوري، وإذا علمنا أن أبسط أ-نواع البروتين لا يحتوي ا-لجزيء منه على أقل من 100 حمض أميني، فكم تكون إذًا الطاقة المتوفرة من تثبيط تكوين مجموعة البروتينات المختلفة بأنواعها المتعددة؟ وفي أثناء الحركة أيضاً يستخدم الجلوكوز والأحماض الدهنية والأحماض الأمينية في إنتاج الطاقة للخلايا العضلية، وهذا بدوره يؤدي إلى تنبيه مركز الأكل في الوساد تحت البصري (Hypothalamus) ، وذلك لوجود علاقة عكسية (Freed Back) بين هذه المواد في الدم ودرجة الشبع وتنبيه مركز الأكل في الدماغ. لذلك فالحركة العضلية تنبه مركز الأكل وتفتح الشهية للطعام. كما أن الحركة والنشاط العضلي الزائد، يحلل الجليكوجين إلى جلوكوز في عدم وجود الأكسجين، وينتج من جراء التمثيل الغذائي للسكر الناتج حمض اللا-كتيك، الذي -يمر إلى الدم ويتحول بدوره إ-لى جلو-كوز، وجليكوجين بواسطة الكبد، ففي العضلات لا يتحلل الجليكوجين إلى جلوكوز في حالة السكون كما في الكبد، وذلك لغياب أنزيم فوسفاتاز -6- الجلوكوز

(Glusose 6 Phosphatase) ، فالحركة إذن عامل هام لتنشيط استقلاب المخزون من الجليكوجين العضلي إلى جلوكوز، وتقديمه للأنسجة التي تعتمد عليه كالمخ، والجهاز العصبي، وخلايا الدم، ونقيُ العظام، ولب الكلى. كما يمكن أن تكون للحركة العضلية علاقة بتجديد الخلايا المبطنة للأمعاء، فتحسن بذلك الهضم والامتصاص للمواد الغذائية، إذ تحتاج هذه الخلايا لحمض الجلوتامين لتصنيع الأحماض النووية (Nucleotide Synthesis) والذي تنتجه العضلات بكثرة أثناء الحركة. ويتجدد شباب الخلايا المبطنة للأمعاء (Mucosal) كل يومين إلى 6 أيام، وتفقد يوميًا 17 بليون خلية (15) ، فهل يمكن أن تكون الحركة العضلية علاجًا لاضطرابات الهضم وسوء الامصاص؟ إن فلسفة الصيام مبنية على ترك الطعام والشراب، وتشجيع آليات الهدم (العمليات الكيمائية الحيوية) أساسًا في عملية التمثيل الغذائي، والنهار هو الوقت الذي تزداد فيه عمليات التمثيل الغذائي، وخصوصًا عمليات الهدم، لأنه وقت النشاط والحركة واستهلاك الطاقات في أعمال المعاش، وقد هيأ الله سبحانه وتعالى للجسم البشري ساعة بيولوجية تنظم هرمونات الغدد الصماء، وكثيرًا من آليات التمثيل الغذائي بما يتوافق ونشاط هذه الآليات أثناء النهار. ولنضرب مثلاً بهرمون الكورتيزول والأدرينالين، فالأولى يكون في أقصى زيادة له عند التاسعة صباحًا تقريبًا -في الشخص الذي ينام ليلاً-، ويقل تدريجيًا حتى يصل إلى خمس معدل تركيزه عند منتصف الليل، وهذا الهرمون هو من هرمونات الهدم، إذ يعمل على تكسير اليروتينات إلى أحماض أمينية، والثاني هرمون الأدرينالين، إذ يصل إلى أقصى معدل له في نهاية فترتي الصباح والظهيرة (حوالي التاسعة صباحًا والثانية ظهرًا) . وهذا الهرمون يرفع معدل تركيز الجلوكوز والأحماض الدهنية، ويزيد من معدل هدمها، كما يساعد في تثبيط كون البروتين، وأكسدة الأحماض الأمينية في العضلات، ويحرك الألانين إلى الكبد، لتكوين جلوكوز جديد فيه وتقديم المزيد من الطاقة للجسم، كما ينبه الجهاز العصبي.

لذلك فقد يكون هذا أحد الأسرار التي جعل الله من أجلها الصيام في النهار، وقت النشاط والحركة والسعي في مناكب الأرض، ولم يجعله بالليل وقت السكون والراحة! من أجل هذا يمكننا أن نقول وبكل ثقة إن النشاط والحركة أثناء الصيام يوفر للجسم من الجلوكوز المصنع أو المخزون في الكبد، وهو الوقود المثالي، لإمداد المخ، وكرات الدم الحمراء، ونقيُ العظام، والجهاز العصبي، بالطاقة اللازمة، لتجعلها أكثر كفاءة لأداء وظائفها، كما توفر الحركة طاقة للجسم البشري، تستخدم في عملياته الحيوية، فهي تثبط تكون البروتين من الأحماض الأمينية، وتزيد من تنشيط آليات الهدم أثناء النهار، فتستهلك الطاقات المختزنة، وتنظف المخازن من السموم التي يمكن أن تكون متماسكة أو ذائبة في المركبات الدهنية، أو الأمينية، وإن الكسل والخمول والنوم أثناء نهار الصيام ليعطل كل هذه الفوائد، بل قد يصيب صاحبه بكثير من العلل ويجعله أكثر خمولاً وتبلدًا. كما أن النوم أثناء النهار والسهر طوال ليل رمضان، يؤدي إلى اضطراب عمل الساعة البيولوجية في الجسم، مما يكون له أثر شيء على الاستقلاب الغذائي داخل الخلايا. ولقد أجريت دراسة أثبتت هذا الاضطراب على هرمون الكورتيزول، قام بها الدكتور محمد الحضرامي في كلية الطب جامعة الملك عبد العزيز، وقد أجرى الدراسة على 10 أشخاص أصحاء مقيمين خارج المستشفى، وأظهرت الدراسة أن أربعة منهم حصل عندهم اضطراب في دورة الكورتيزول اليومية، وذلك خلال الأسبوعين الأخيرين من شهر رمضان، مع انقلاب النسب المعهودة في الصباح وفي منتصف الليل، فقد لوحظ أن المستوى الصباحي قد انخفض، والمستوى المسائي قد ارتفع، وهذا على عكس الوضع الاعتيادي اليومي، وقد عزا الباحث هذا الاضطراب إلى تغير العادات السلوكية عند هؤلاء الصائمين، الذين يقضون النهار في النوم، والليل في السهر، وقد عاد الوضع الطبيعي للكورتيزول بعد 4 أسابيع من نهاية شهر الصيام، وبعد أن استقر نظام النوم ليلاً والنشاط نهارًا، عند هؤلاء الأشخاص.

الصيام والتخلص من الشحوم

من أجل هذا كان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحبه والمسلمون الأولون لا يفرقون في الأعمال بين أيام الصيام وغيرها، بل قد يعقدون ألوية الحرب ويخوضونها صائمين متعبدين، فهل يتحرر المسلمون من أوهام الخوف من الحركة والعمل أثناء الصيام!! وهل يهبون قائمين لله عاملين ومنتجين ومجاهدين، مقتدين بنبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلفهم الصالح رضوان الله عليهم! الصيام والتخلص من الشحوم ترتبط السمنة بالإفراط في تناول الطعام وخصوصًا الأطعمة الغنية بالدهون، هذا بالإضافة إلى وسائل الحياة المريحة، والسمنة مشكلة واسعة الانتشار، وقد وجد أن السمنة تقترن بزيادة خطر الأمراض القلبية الوعائية، مثل قصور القلب، والسكتة القلبية، ومرض الشريان التاجي، ومرض انسداد الشرايين المحيطة بالقلب. وتحدث السمنة نتيجة لاضطراب العلاقة بين ثلاثة عناصر من الطاقة وهي: الكمية المستهلكة من الطعام، والطاقة المبذولة في النشاط والحركة، والطاقة المختزنة على هيئة دهون بصفة أساسية، فالإفراط في تناول الطعام مع قلة الطاقة المبذولة في الحركة يؤدي إلى ظهور السمنة. إن الإنسان العادي يستهلك حوالي 20 طنًا من الطعام في فترة حياته، وحدوث نسبة 25% من الخطأ في توازن الطاقة يؤدي إلى زيادة في الوزن تبلغ 50 كجم، أو زيادة عند شخص بالغ يزن 70 كجم فيصبح وزنه 120 كجم، وهذا من شأنه أن يبين مدى الدقة المطلوبة في تنظيم تناول الطعام للمحافظة على استقرار وزن الجسم. ومن المعتقد أن السمنة تنجم إما عن خلل استقلابي (خلل في التمثيل الغذائي) ، أو عن ضغوط بيئية، أو اجتماعية، وقد تنجم البدانة أيضًا عن خلل في الغدد الصماء، أو عن أسباب نفسية واجتماعية متضافرة، تظهر على شكل إفراط في الأكل، وكثيرًا ما يتزامن حدوث الاضطرابات الاستقلالية، واالضغوط البيئية، بحيث يكمل أحدهما الآخر فتتفاقم الحالة.

وفي المقابل يرى كثير من العلماء أن الاضطراب النفسي الذي يفضي إلى الشراهة في تناول الطعام، والذي يتسبب في السمنة، قد يؤدبَ إلى ظهور اضطرابات في عملية الاستقلاب أو التمثيل الغذائي، وبالتالي فمن المتعذر تفسير الاضطرابات الرئيسية في توازن الطاقة -في حالة السمنة- بأنها عبارة عن التغير في أحد العناصر، ولكن يظل واضحًا تمامًا أن الإفراط في الأكل هو أحد العوامل الرئيسية في حدوث السمنة. وهناك تغيرات كيميائية حيوية تصاحب السمنة، أهمها تغير نمط استقلاب الدهون، إذ تزداد البروتينات الشحمية (نوع بيتا) في البلازما، والأحماض الدهنية الحرة؛ ويزداد تركيز الإنسولين في الدم زيادة كبيرة، مما يؤدي إلى تضخم البنكرياس، أو زيادة أنسجته، فيؤدي إلى زيادة إنتاج الإنسولين الذي يتسبب في تكون الأحماض الدهنية في الكبد من المواد الكربوهيدراتية، وزيادة ترسب المواد الدهنية في الأنسجة الشحمية، وهذا يؤد إلى ظهور أعراض مرض السكري، حيث تفقد مستقبلات الإنسولين الموجودة على الأنسجة الاستجابة للإنسولين. لقد حاول كثيرون علاج السمنة فوضعت أنظمة غذائية كثيرة، كان أغلبها مزيفًا، وغير مبني على أسر علمية، إذ لا تعمل هذه الأنظمة إلا على فقدان كمية كبيرة نسبيًا من ماء الجسم، فيعطي الانطباع بانخفاض الوزن، وبعض هذه الأنظمة أدت إلى فقدان الجسم لكمية من الدهون، لكنها أدت أيضاً إلى ظهور الأجسام الكيتونية. أما الصيام الإسلامي المثالي يعتبر. النموذج الفريد للوقاية والعلاج من السمنة في آن واحد، حيث يمثل الأكل المعتدل، والامتناع عنه مع النشاط والحركة، عامدين مؤثرين في تخفيف الوزن، وذلك بزيادة معدل استقلاب الغذاء بعده وجبة السحور، وتحريك الدهن المختزن لأكسدته في إنتاج الطاقة اللازمة بعد منتصف النهار. ويرجع العلماء الزيادة في معدل استقلاب الغذاء (BMR) بعد تناول وجبة الطعام إلى ارتفاع الأدرينالين والنورادرينالين، وازدياد السيالات السمبثاوية

الصيام وتجدد الخلايا

(Sympathetic Discharge) ، نتيجة لنشاط الجهاز العصبي الودي، وعمل القوة المتحركة النوعية (Specific Dynamic Action) ، حيث يستهلك كل نوع من محتويات الطعام طاقة حتمية أثناء عمليات التمثيل الغذائي، فتستهلك كمية البروتين التي يمكن أن تعطي الجسم 100 كيلو كالوري، 30 كيلو كالوري، وتستهلك نفس الكمية من الكربوهيدرات والدهون 6 ك. ك، و4 ك. ك على التوالي، يستمر نشاط عمليات الاستقلاب لمدة 6 ساعات، أو أكثر، بعد تناول وجبة الطعام. ويعتبر بذلك الجهد العضلي من أهم الأشياء التي تؤدي إلى زيادة معدل الاستقلاب (Metabotion) ، والذي يظل مرتفعًا ليس أثناء الجهد العضلي فقط، ولكن بعد ذلك بفترة طويلة كافية. وبهذا يحقق الصيام الإسلامي المثالي المتمثل في الحفاظ على وجبة السحور، والاعتدال في الأكل والحركة والنشاط أثناء الصيام، نظامًا غذائيًا ناجحًا في علاج السمنة، أما نظام التجويع الطويل بالانقطاع الكلي عن الطعام فيؤدى إلى هبوط الاستقلاب، نتيجة لتثبيط الجهاز الودي (السمبشاوي) ، وهبوط الأدرينالين والنورأدرينالين السابح في الجسم، وهذا يفسر لماذا يهبط وزن الشخص الذي يريد تخفيف وزنه، بواسطة التجويع بشدة في البداية، ثم يقل بالتدريج بعد ذلك، ويكون معظم الوزن المفقود في الأيام الأولى هو في الواقع من الماء الموجود داخل الجسم، المليء بالطاقة المختزنة والأملاح المرافقة لها. الصيام وتجدد الخلايا اقتضت حكمة الله تعالى أن يحدث التغيير والتبديل في كل شيء وفق سنة ثابتة، فقد اقتضت هذه السنة في جسم الإنسان أن تتبدل محتوى خلاياه على الأقل كل ستة أشهر، وبعض الأنسجة تتجدد خلاياها في فترات قصيرة تعد بالأيام، والأسابيع، مع الاحتفاظ بالشكل الخارجي الجيني، وتتغير خلايا جسم الإنسان وتتبدل، فتهرم خلايا ثم تموت، وتنشأ أخرى جديدة تواصل مسيرة الحياة، هكذا باضطراد، حتى يأتي أجل الإنسان، إن عدد الخلايا التي

تموت في الثانية الواحدة في جسم الإنسان يصل إلى 125 مليون خلية وأكثر من هذا العدد يتجدد يوميًّا في سن النمو، ومثله في وسط العمر، ثم يقل عدد الخلايا المتجددة مع تقدم السن. وبما أن الأحماض الأمينية هي التي تشكل البنية الأساسية في الخلايا، ففي الصيام الإسلامي تتجمع هذه الأحماض القادمة من الغذاء مع الأحماض الناتجة من عملية الهدم، في مجمع الأحماض الأمينية في الكبد (Amino Acid) ، ويحدث فيها تحول داخلي واسع النطاق، وتدخل في دورة السترات) (Citrate Cycle) ، ويتم إعادة توزيعها بعد عملية التحول الداخلي (Interconversion) ، ودمجها في جزئيات أخرى، كالبيورين (Purines) ، والبيريميدين، أو البروفرين (Prophyrins) ، ويصنع منها كل أنواع البروتينات الخلوية، وبروتين البلازما، والهرمونات، وغير ذلك من المركبات الحيوية، أما أثناء التجويع فتتحول معظم الأشخاص الأمينية القادمة من العضلات وأغلبها حمض الألانين، تتحول إلى جلوكوز الدم، وقد يستحمل جزء منها لتركيب البروتين، أو يتم أكسدته لإنتاج الطاقة بعد أن يتحول إلى أحماض أكسجينية (Oxoacids) ، وهكذا نرى أنه أثناء الصيام يحدث تبدل وتحول واسع النطاق داخل الأحماض الأمينية المتجمعة من الغذاء، وعمليات الهدم للخلايا، بعد خلطها وإعادة تشكليها ثم توزيعها حسب احتياجات خلايا الجسم، وهذا يتيح لبنات جديدة للخلايا ترمم بناءها، وترفع كفاءتها الوظيفية، مما يعود على الجسم البشري بالصحة، والنماء، والعافية، وهذا لا يحدث في التجويع، حيث الهدم المستمر لمكونات الخلايا، وحيث الحرمان من الأحماض الأمينية الأساسية، فعندما تعود بعض اللبنات القديمة لإعادة الترميم تتداعي القوى، ويصير الجسم عرضة للأسقام، أو الهلاك، فنقص حمض أميني أساسي واحد، يدخل في تركيب بروتين خاص، يجعل هذا البروتين لا يتكون، والأعجب من ذلك أن بقية الأحماض الأمينية التي يتكون منها هذا البروتين تتهدم وتدمر. كما أن إمداد الجسم بالأحماض الدهنية الأساسية (Essential Fatty Acids) في الغداء، له دور هام في تكوين الدهون الفوسفاتية،

(Phospholipids) ، والتي مع الدهن العادي (Triacylgycerol) تدخل في تركيب البروتينات الشحمية، (Lipoproteins) ويقوم النوع منخفض الكثافة جدا منها (Very Low Density Lipoprotein) بنقل الدهون الفوسفاتية والكليستيرول من أماكن تصنيعها بالكبد، إلى جميع خلايا الجسم، حيث تدخل في تركيب جدر الخلايا الجديدة، وتكوين بعض مركباتها الهامة، ويعرقل هذه العملية الحيوية كل من الأكل الغني جدًا بالدهون والحرمان المطلق من الغذاء كما في حالة التجويع، حيث تتجمع كميات كبيرة من الدهون في الكبد تجعله غير قادر على تصنيع الدهون الفوسفاتية والبروتين بمعدل يكفي لتصنيع البروتين الشحمي، فلا تنتقل الدهون من الكبد إلى أنحاء الجسم، لتشارك في بناء الخلايا الجديدة، وتتراكم فيه، وقد تصيبه بحالة التشمع الكبدي، (Fatty Liver) فتضطرب وظائفه، وينعكس هذا بالقطع على تجدد خلاياه هو أولاً، ثم على خلايا الجسم كله فخلايا الكبد التي تبلغ من (200-300) مليار خلية تتجدد كل أربعة شهور، وتعتبر هذه الخلايا من أهم وأنشط خلايا الجسم، وتقدم أجل وأعظم الخدمات في تجديد وإصلاح خلايا الجسم كله، إذ تقوم بإنتاج بروتينات البلازما كلها تقريبًا (من 30-50 جم يوميًّا) وتكوين الأحماض الأمينية المختلفة، بعمليات التحول الداخلي وتحويل البروتين والدهن والكربوهيدرات كل منها للآخر، وتقديمها خلايا الجسم، حسب احتياجها، وصناعة الجلوكوز وتخزينه لحفظ تركيزه في الدم، وأكسدة الجلوكوز الأحماض الدهنية بمعدلات مرتفعة لإمداد الجسم وخلاياه بالطاقة اللازمة في البناء والتجديد؛ إذ تحتوي على كل خلية كبدية من الوحدات المولدة للطاقة (Mitochondria) حوالي 1000 وحدة، كما تكون الخلايا الكبدية الكوليسترول، والدهون الفوسفاتية، التي تدخل في تركيب جدر الخلايا، وفي المركبات الدقيقة داخل الخلية، وفي العديد من المركبات الكيميائية الهامة، واللازمة لوظيفة الخلية، كما تقوم خلايا الكبد بصناعة إنزيمات حيوية وهامة لخلايا الجسم، كخميرة الفوسفتاز القلوية (Alikaline Phosphatase) ، والتي بدونها لا تستخدم الطاقة المتولدة من الجلوكوز والأكسجين، ولا يتم عدد كثير من عمليات الخمائر والهرمونات وتبادل

لماذا الإفطار على التمر؟

الشوارد، فيتأثر تجدد الخلايا وتضطرب وظائفها، كما تقدم خلايا الكبد خدمة جليلة في بناء الخلايا الجديدة، حيث تختزن في داخلها عددًا من المعادن والفيتامينات الهامة واللازمة في تجديد خلايا الجسم كالحديد والنحاس وفيتامين أ، ب2، ب12، وفيتامين د، وتقدم خلايا الكبد أيضاً أعظم الخدمات في تجديد الخلايا، حيث تزيل من الجسم المواد السامة والتي تعرقل هذا التجديد، أو حتى تدمر الخلايا نفسها، كما في مادة الأمونيا والتي تسمم خلايا المخ، وتدخل مريض تليف الكبد إلى غيبوبة تامة. إن الصيام الإسلامي هو وحده النظام الغذائي الأمثل في تحسين الكفاءة الوظيفية للكبد، حيث يمد بالأحماض الدهنية والأمينية الأساسية، خلال وجبتي الإفطار والسحور، فتتكون لبنات البروتين، والدهون الفوسفاتية والكوليسترول وغيرها، لبناء الخلايا الجديدة، وتنظيف خلايا الكبد من الدهون التي تجمعت فيه بعد الغذاء، خلال نهار الصوم، فيستحي بذلك أن يصاب الكبد بعطب التشمع الكبدي، أو تضطرب وظائفه، بعدم تكوين المادة الناقلة للدهون منه، وهي الدهن الشحمي منخفض الكثافة جدًا (VLDL) والذي يعرقل تكونها التجويع، أو كثرة الأكل الغني بالدهون كما بينا. وعلى هذا يمكن أن نستنتج أن الصيام الإسلامي يمتلك دورًا فعالاً في الحفاظ على نشاط ووظائف خلايا الكبد، وبالتالي يؤثر بدرجة كبيرة في سرعة تجدد خلايا الكبد، وكل خلايا الجسد، وهو ما لا يفعله الصيام الطبي ولا الترف في الطعام الغني بالدهون. لماذا الإفطار على التمر؟ عند نهاية مرحلة ما بعد الامتصاص -في نهاية يوم الصوم- يهبط مستوى تركيز الجلوكوز والإنسولين من دم الوريد البابي الكبدي، وهذا يقلل بدوره نفاذ الجلوكوز، وأخذه بواسطة خلايا الكبد والأنسجة الطرفية كخلايا العضلات، وخلايا الأعصاب، ويكون قد تحلل كل المخزون من الجيلكوجين الكبدي أو

كاد، وتعتمد الأنسجة حينئذ في الحصول على الطاقة من أكسدة الأحماض الدهنية، وأكسدة الجلوكوز المصنع في الكبد من الأحماض الأمينية والجليسرول، لذلك فإمداد الجسم السريع بالجلوكوز في هذا الوقت له فوائد جمة، إذ يرتفع تركيزه بسرعة في دم الوريد البابي الكبدي، فور امتصاصه، ويدخل إلى خلايا الكبد أولاً ثم خلايا المخ، والدم، والجهاز العصبي، والعضلي، وجميع الأنسجة الأخرى، والتي هيأها الله تعالى لتكون السكريات غذاؤها الأمثل والأيسر للحصول منها على الطاقة، ويتوقف بذلك تأكسد الأحماض الدهنية ليقطع الطريق على تكون الأجسام الكيتونية الضارة، وتزول أعراض الهمود، والضعف العام، والاضطراب البسيط في الجهاز العصبي، إن وجدت لتأكسد كميات كبيرة من الدهون، كما يوقف تناول الجلوكوز عملية تصنيع الجلوكوز في الكبد، فيتوقف هدم الأحماض الأمينية وبالتالي حفظ بروتين الجسم. ويعتبر التمر من أغنى الأغذية بسكر الجلوكوز وبالتالي فهو أفضل غذاء يقدم للجسم حينئذ إذ يحتوي على -نسبه عالية من السكر-يات، تتراوح ما بين (75-87%) ، يشكل الجلوكوز 55% منها، والفركتوز 45%، علاوة على نسبة من البروتينات، والدهون، وبعض الفيتامينات، أهمها: أ، ب2، ب12 وبعض المعادن الهامة، أهمها: الكالسيوم، والفوسفور، والبوتاسيوم، والكبريت، والصوديوم، والمغنسيوم، والكوبالت، والزنك، والفلورين، والنحاس، والمنجنيز، ونسبة من السليولوز، ويتحول الفركتوز إلى جلوكوز بسرعة فائقة ويمتص مباشرة من الجهاز الهضمي ليروى ظمأ الجسم من الطاقة، وخصوصًا تلك الأنسجة التي تعتمد عليه أساسًا، كخلايا المخ، والأعصاب، وخلايا الدم الحمراء وخلايا نقي العظام. وللفركتوز مع السليولوز تأثير منشط للحركة الدودية للأمعاء، كما أن الفوسفور مهم في تغذية حجرات الدماغ، ويدخل في تركيب المركبات الفوسفاتية، مثل الأدينوزين والجوانين ثلاثي الفوسفات، والتي تنقل الطاقة وترشد

أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصائم بالهدوء والبعد عن الشجار وتفسير ذلك طبيا:

وترشد استخدامها في جميع خلايا الجسم، كما أن جميع الفيتامينات التي يحتوي عليها التمر لها دور فعال في عمليات التمثيل الغذائي (أ، ب1، ب2 والبيوتين والريبوفلافين ... إلخ) ، ولها أيضاً تأثير مهدئ للأعصاب، وللمعادن دور أساسي في تكوين بعض الأنزيمات الهامة في عمليات الجسم الحيوية، ودور حيوي في عمل البعض الآخر، كما أن لها دورًا هامًا في انقباض وانبساط العضلات والتعادل الحمضي القاعدي في الجسم، فيزول بذلك أي توتر عضلي، أو عصبي، ويعم النشاط والهدوء والسكينة سائر البدن. وعلى العكس من ذلك لو بدأ الإنسان فطره بتناول المواد البروتيتنية، أو الدهنية، فهي لا تمتص إلا بعد فترة طويلة من الهضم والتحلل، ولا تؤدي الغرض في إسعاف الجسم لحاجته السريعة من الطاقة، فضلاً على أن ارتفاع الأحماض الأمينية في الجسم نتيجة للغذاء الحالي من السكريات، أو حتى الذي يحتوي على كمية قليلة منه، يؤدي إلى هبوط سكر الدم. لهذا الأسباب يمكن أن ندرك الحكمة في أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإفطار على التمر؟ عن سلمان بن عامر رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء، فإنه طهور "رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح (1) . وعن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يفطر قبل أن يصلي على رطبات فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن (2) . أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصائم بالهدوء والبعد عن الشجار وتفسير ذلك طبيًا: إذا اعترى الصائم غضب وانفعل وتوتر، ازداد إفراز الأدينالين في دمه،

_ (1) أبو داود (2/764) رقم (3355) ، والترمذي (3/46) حديث رقم (658) ، وأيضًا صفحة (78) حديث رقم (695) . (2) أبو داود (2/764) حديث رقم (2356) ، والترمذي (3/79) حديث رقم (696) .

زيادة كبيرة، وقد يصل إلى 20 أو 30 ضعفًا عن معدله العادي، أثناء الغضب الشديد أو العراك، فإن حدث هذا في أول الصوم أثناء فترة الهضم والامتصاص، اضطراب هضم الغذاء وامتصاصه، زيادة على الاضطراب العام في جميع أجهزة الجسم، ذلك لأن الأدرينالين يعمل على ارتخاء العضلات الملساء في الجهاز الهضمي، ويقلل من تقلصات المرارة ويعمل على تضييق الأوعية الدموية الطرفية وتوسيع الأوعية التاجية كما يرفع الضغط الدموي الشرياني، ويزيد كمية الدم الواردة إلى القلب، وعدد دقاته. وإن حدث الغضب والشجار في منتصف النهار، أو آخره، أثناء فترة ما بعد الامتصاص، تحلل ما تبقى من مخزون الجليكوجين في الكبد، وتحلل بروتين الجسم إلى أحماض أمينية، وتأكسد المزيد من الأحماض الدهنية، كل ذلك ليرتفع مستوى الجلوكوز في الدم، فيحترق ليمد الجسم بالطاقة اللازمة في الشجار والعراك، وبهذا تستهلك الطاقة بغير ترشيد، كما أن بعض الجلوكوز قد يفقد مع البول إن زاد عن المعدل الطبيعي، وبالتالي يفقد الجسم كمية من الطاقة الحيوية الهامة في غير فائدة تعود عليه، ويضطر إلى استهلاك الطاقة من الأحماض الدهنية التي يؤكسد المزيد منها، وقد تؤدي إلى تولد الأجسام الكيتونية الضارة في الدم. كما أن الازدياد الشديد للادرينالين في الدم يعمل على خروج كميات كبيرة من الماء من الجسم، بواسطة الإدرار البولي (Diuresis) . كما يرتفع معدل الاستقلاب الأساسي (Basal Metabolic Pate) عند الغضب والتوتر، نتيجة لارتفاع الأدرينالين والشد العضلي. وارتفاع الأدرينالين قد يؤدي لنوبات قلبية، أو موت الفجاءة عند بعض الأشخاص المهيئين لذلك، نتيجة لارتفاع ضغط الدم، وارتفاع حاجة عضلة القلب للأكسجين، من جراء ازدياد سرعته، وقد يتسبب الغضب أيضاً في النوبات الدماغية، لدى المصابين بارتفاع ضغط الدم وتصلب الشرايين. كما أن ارتفاع الأدرينالين نتيجة للضغط النفسي في حالات الغضب والتوتر

من فوائد عدم شرب الماء في الصيام

يزيد في تكون الكوليستيرول من الدهن البروتيني منخفض الكثافة، والذي قد يزداد أثناء الصيام، وثبتت علاقته بمرض تصلب الشرايين. لهذا، ولغيره مما عرف، ومما لم يعرف بعد، وصى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصائم بالسكينة، وعدم الصخب، والانفعال، أو الدخول في عراك مع الآخرين. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخبن فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني صائم" متفق عليه. من فوائد عدم شرب الماء في الصيام يشكل ا-لماء (60-70%) من وزن الجسم للبا-لغين، وينقسم إ-لى قسمين رئيسيين: قسم داخل الخلايا، وقسم خارجها بين الخلايا: في الأنسجة والأوعية الدموية والعصارات الهضمية وغير ذلك، وبين القسمين توازن دقيق، والتغير في تركيزات الأملاح -وخصوصًا الصوديوم الذي يتركز وجوده في السائل خارج الخلايا- ينبه أو يثبط عمليتين حيويتين داخل الجسم، وهما آلية إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول (ADH) ، وآلية الإحساس بالعطش، واللتان تؤثر كل منهما في تهيئة الجسم للحفاظ على الماء داخله وقت الشدة، وذلك بتأثير الهرمون المضاد لإدرار البول على زيادة نفاذية الأنابيب الكلوية البعيدة، والأنابيب والقنوات الجامعة، حيث يسرع امتصاص الماء ويقلل من إخراجه، كما يتحكمان معًا في تركيزات الصوديوم خارج الخلايا، وكلما زاد تركيز الصوديوم زاد حفظ الماء داخل الجسم. ولقد درس مصطفى وزملاؤه في السودان سنة 1978م توازن الماء والأملاح في جسم الصائم، وقد ثبت من خلال هذا البحث أن الإخراج الكلي للصوديوم يقل، وخصوصًا أثناء النهار. إن تناول الماء أثناء الامتناع عن الطعام (في الصيام) يؤدي إلى تخفيف التناضح (في السائل خارج الخلايا وهذا بدوره يؤدي إلى تثبيط إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول، فيزداد الماء الخارج من الجسم في البول، مع ما يصحبه من

الصوديوم وبعض الأملاح الأخرى، وفي هذا تهديد لحياة الإنسان إن لم تعوض هذه الأملاح، حيث يعتبر الصوديوم عنصرًا حيويًا في توطيد الجهد الكهربائي عبر جدر الخلايا العصبية وغير العصبية، كما أن له دورًا حيويًا في تنبيه وانقباض العضلات وعند نقصانه يصاب الإنسان بضعف عام في جسمه. وقد وجدت علاقة بين العطش وبين تحلل الجليكوجين، إذ يسبب العطش إفراز جرعات. تتناسب وقوة العطش من هرموني الأنجوتنسين 2 (Abgiotensin II) والهرمون القابض للأوعية الدموية (Vasopression) واللذان يسببان تحلل الجليكوجين في إحدى مراحل تحلل بخلايا الكبد. فكلما زاد العطش زاد إفراز هذين الهرمونين بكميات كبيرة مما يساعد في إمداد الجسم بالطاقة وخصوصًا في نهاية اليوم. كما أن زيادة الهرمون المضاد لإدرار البول (ADH) المستمر طوال فترة الصيام في شهر رمضان، قد يكون له دور هام في تحسين القدرة على التعلم وتقويه الذاكرة، وقد ثبت ذلك على حيوانات التجارب. لذلك فالقدرة العقلية قد تتحسن عند الصائمين بعكس ما يعتقد عامة الناس. كما أن الحرمان من الماء أثناء الصيام، يسبب زيادة كبيرة في آليات تركيز البول في الكلي، مع ارتفاع في القوة الأزموزية البولية قد يصل من 1000 إلى 12 ألف مل أزمو/كجم ماء، وهكذا تنشط هذه الآليات الهامة لسلامة وظائف الكلى. كما أن عدم شرب الماء خلال نهار الصيام يقلل من حجمه داخل الأوعية الدموية، وهذا بدوره يؤدي إلى تنشيط الآلية المحلية بتنظيم الأوعية وزيادة إنتاج البروستاجلاندين (Postaglandine) والذي له تأثيرات عديدة وبجرعات قليلة إذ أن له دورًا في حيوية ونشاط خلايا الدم الحمراء، وله دور في التحكم في تنظيم قدرة هذه الخلايا لتعبر من خلال جدران الشعيرات الدموية، وبعض أنواعه له دور في تقليل حموضة المعدة، ومن ثم تثبيط تكون القرح المعدية كما ثبت في

حيوانات التجارب، كما أنه له دورًا في علاج العقم حيث يسبب تحلل الجسم الأصفر، ومن ثم فمن الممكن أن يؤدي دورًا في تنظيم دورة الحمل عند المرأة، كما يؤثر على عدة هرمونات داخل الجسم فينبه إفراز هرمون الرينين، وبعض الهرمونات الأخرى مثل الهرمون الحاث للقشرة الكظرية غيره (SH ACTH) ، كما يزيد من قوة استجابة الغدة النخامية (Pitutary Gland) للهرمونات المفرزة من منطقة تحت الوساد في المخ (Hypothalamus) ، كما يؤثر على هرمون الجلوكاجون، والكاتيكولامين (الأدرينالين والنور أدرينالين) ، وبقية الهرمونات التي تؤثر على إطلاق الأحماض الدهنية الحرة، كما يوجد البروستجلاندين في المخ، ومن ثم له تأثير في إفراز الناقلات للإشارات العصبية، كما أن له دورًا في التحكم في إنتاج أحادى فوسفات الأدينوزين الحلقي (CAMP) والتي يزداد مستواها لأسباب عديدة، وتؤدي دورًا هامًا في تحلل الدهن المختزن، لذلك فالعطش أثناء الصيام له فوائد عديدة بطريق مباشر أو غير مباشر نتيجة لزيادة مادة البروستجلاندين، حيث يمكن أن يحسن كفاءة خلايا الدم، ويحمي الجسم من قرحة المعدة، ويشارك في علاج العقم، ويسهل الولادة ويحسن الذاكرة، ويحسن آليات عمل الكلى، وغير ذلك. كما أن الله سبحانه وتعالى جعل للجسم البشري مقدرة على صنع الماء من خلال العمليات والتحولات الكيمائية العديدة، التي تحدث في جميع خلايا الجسم، إذ يتكون أثناء عمليات استقلاب الغذاء، وتكوين الطاقة في الكبد، والكلى، والمخ، والدم، وسائر الخلايا تقريبًا جزئيات ماء، وقد قدر العلماء كمية هذا الماء في اليوم من ثلث إلى نصف لتر، ويسمى الماء الذاتي أو الداخلي (Intrinsic Water) . وكما خلق الله للإنسان ماء داخليًا، خلق له طعامًا داخليًا أيضاً فمن نفايات أكسدة الجلوكوز يصنع الجلوكوز مرة أخرى، حيث يتحول كل من حمض اللاكتيك والبيروفيت، وهما نتاج أكسدة الجلوكوز إلى جلوكوز مرة أخرى، حيث تتوجه هذه النفايات إلى الكبد، فيجعلها وقودًا لتصنيع جلوكوز جديد في الكبد، ويتكون يوميًا حوالي 36 جرامًا من هذا الجلوكوز الجديد من

هذين الحمضين، غير الذي يتكون من الجليسررول والأحماض الأمينية. وبهذا يمكن أن ندرك سر نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس عن إكراه مرضاهم على الطعام والشراب، حيث كان معتقد الناس -وللأسف ما يزال- أن الجسم البشري كالآلة الصماء، لا تعمل إلا بالإمداد الدائم بالغذاء، وأن في الغذاء الخارجي فقط تكمن مقاومة ضعف المرض. وأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله يطعمهم ويسقيهم فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله عز وجل يطعمهم ويسقيهم" رواه ابن ماجه والحاكم وصححه هو والألباني (1) . ***

_ (1) ابن ماجه (2/1140) حديث رقم (3444) ، والحاكم (4/410) ، وراجع الصحيحة للألباني (2/364) حديث رقم (727) .

الصيام وجهاز المناعة

أبحاث تجريبية ودراسات على الصيام في الصحة والمرض أجرى بعض الباحثين أبحاثًا حول تأثير الصيام الإسلامي، والصيام الطبي على الجسم البشري في الصحة والمرض، وقد شجعت هذه الأبحاث كثيرًا من الباحثين، ليهتموا بإجراء مزيد منها عن الصوم الإسلامي، وسنرى ثروة طيبة من هذه الأبحاث في القريب العاجل بإذن الله. سنعرض ملخصًا لبعض هذه الأبحاث كنماذج والتي تؤكد فوائد الصوم المحققة للجسم أثناء صحته ومرضه. الصيام وجهاز المناعة أجرى الدكتور رياض البيبي، والدكتور القاضي في الولايات المتحدة الأمريكية تجارب مخبرية على متطوعين أثناء صيام شهر رمضان، وأجريت لهم تحليلات الدم قبل بداية الصيام، وأثناء الشهر، وبعد انتهاء الصيام، وشملت الفحوص التحليلات الكيميائية للدم، بما في ذلك تحديد نسبة البروتينات الشحمية (Lipoproteins) إضافة إلى فحوص متخصصة لتقويم كفاءة جهاز المناعة في الجسم، وقد شملت الفحوصات تحديد عدد الخلايا الليمفاوية في الدم (Lymphoctes) ، ونسبة أنواعها المختلفة بعضها إلى بعض، ومدى حسن أداء كل منها هذا إضافة إلى قياس نسبة الأجسام المضادة في الدم (Antibodies) ، وقد أظهرت هذه التجارب أثرًا إيجابيًّا واضحًا للصيام على جهاز المناعة في الجسم، حيث تحسن المؤشر الوظيفي للخلايا اللمفاوية عشرة أضعاف، وبالرغم من أن العدد الكلي للخلايا اللمفاوية لم يتغير، إلا أن نسبه النوع المسئول عن مقاومة الأمراض (خلايات) ، ازداد كثيرًا بالنسبة إلى الأنواع الأخرى، هذا بالإضافة إلى ارتفاع محدود في أحد فصائل البروتين في الدم (IGE) ، وهو أحد أعضاء مجموعة البروتينات المكونة للأجسام المضادة في الدم، وكانت التغيرات

الصيام ومكونات الدم

التي طرأت على البروتين الدهني، على شكل زيادة في النوع منخفض الكثافة (LdL) ، دون أي زيادة في النوع عالي الكثافة (HDL) ، وهذا نمط له تأثير منشط على الردود المناعية. الصيام ومكونات الدم أجرى الدكتور محمد منيب وزملاؤه من تركيا بحثًا على مائة شخص من المسلمين، أخذت منهم عينات من الدم قبل رمضان وفي نهايته؛ لتحليل وتقويم البروتين، والدهن الكلي، والدهون الفوسفاتية، والأحماض الدهنية الحرة، والكوليستيرول، والألبيومين، والجلوبيولين، وسكر الدم، واليوريا، وثلاثي الجليسرول، وأشياء أخرى. وكانت النتائج كالتالي: 1- لم يحدث أي تغير في مستويات البروتين الكلي في مصل الدم، ولا في مجموع الدهون، لا مجموع الكوليستيرول بشقيه عالي الكثافة ومنخفض الكثافة، ولا حمض اليوريك أو اليوريا. 2- حدثت ارتفاعات هامة في الدهون الفوسفاتية، والصوديوم، والبوتاسيوم. 3- حدث هبوط عام في مقادير السكر للصائم وثلاثي الجليسرول. 4- حدث هبوط جزئي بسيط في وزن الجسم. 5- ثبت في هذا البحث أن نسبة ألفا: بيتا (Ratio Of: B Phosholipids) في الدهون الفوسفاتية انخفضت بعد الصيام، حيث كانت قبل صيام رمضان 3.1: 68 وصارت بعده 9.8: 45 والفرق بينهما له أهمية من الناحية الإحصائية. 6- لم يشاهد أسيتون في البول، لا في أول الشهر، ولا في آخره، وهذا يؤكد عدم تكون الأجسام الكيتونية أثناء الصيام الإسلامي. 7- يتجدد بفضل صوم رمضان، الجلايكوجين في جسم الإنسان

باستمرار، كما تنشط حركة الدهون المختزنة، ويزداد استخدامها في الحصول على الطاقة. ثم ذكر الباحث في نهاية بحثه، أن الجسم يُمنع بالصيام من أن يأخذ طعامًا زائدًا عن الحاجة، فيؤدي ذلك إلى مكان تقليل فضلات الاستقلاب في خلايا الجسم، وبالتالي ينال الجسم راحة نسبية لمدة شهر واحد في السنة، متمثلاً في راحة الجهاز الهضمي، والكبد، والكليتين، وأجهزة أخرى عديدة. كما أجرى الدكتور محمود أبو المكارم، وزملاؤه في كلية طب الأزهر، بحثًا قريبًا من البحث السابق، حول تأثير صيام رمضان على بروتينات ودهون الدم، أظهرت نتائجه أن مجموع البروتين الكلي، الألبيومين، ونوع ب من مقدم البروتين الدهني (Apoprotien) ، والأحماض الدهنية، لم يحدث فيها أي تغيير هام، كما أن الكوليستيرول وثلاثي الجليسرول زادًا زيادة طفيفة، وأن الجزء من الكوليستيرول عالي الكثافة، ونوع (أ) من مقدم البروتين الدهني (Apoprotien A) زادًا زيادة واضحة، وهما عاملان وقائيان ضد مرض تصلب الشرايين، ومرض جلطة القلب. ودرس الحازمي تأثيرات صيام رمضان على بعض المكونات الكيميائية الحيوية ومكونات الدم عند 36 شخصًا سليمًا، لاحظ زيادة قليلة في مستوى الكوليستيرول، وسجل هذه الزيادة كلِّ من جمعه وشكري، غير أن الزيادة كانت في البروتين الدهني منخفض الكثافة ومنخفض الكثافة جدًا (LDL & VLDL) وعزا الدكتور رياض سليماني هذا الزيادة إلى تناول الدهون والسكريات بكثرة أثناء الصيام، والتحرك السريع للدهون المختزنة في الأنسجة الدهنية، وزيادة تصنيع الكوليستيرول الداخلي في الجسم. ونقول ربما تكون هذه الزيادة مفيدة، لأن الكوليستيرول يدخل في تركيب غشاء الخلايا التي تكون حديثًا، كما تصنع منه خلايا الغدد الصماء، الهرمونات الأستيرويدية ذات الأهمية الحيوية للجسم، وربما تفيد الزيادة في البروتين الدهني منخفض الكثافة أيضاً، في علاج مرض زيادة الكوليستيرول في الدم، بتثبيطه

الصيام وهرمونات المرأة

للخلايا المصنعة للكوليستيرول، بواسطة التحكم الاسترجاعي (Feed Back) ، بعد فترة في الصيام المثالي، الذي يبذل أثناءه الجهد والنشاط المعتاد، ويلتزم فيه بالحمية من كثرة تناول الدهون الحيوانية، كما تفيد هذه الزيادة في هذا البروتين الدهني منخفض الكثافة أيضاً، في الردود المناعية داخل الجسم، فتزيد مقاومته للأمراض. كما درس الحازمي تأثير الصيام على مكونات الدم الأساسية، فلم يلاحظ أي تغير هام في الهيموجلوبين، وقياسات خلايا الدم الحمراء، غير أنه لاحظ نقصًا في مستوى الحديد في البلازما، والمقدرة الكلية لترابط الحديد (Totalion - Bonding - Capacity) ، وهذا يثبت كما يقول الباحث، أن المخزون من الحديد لا يستهلك بالصيام، كما أثبت سكوت (Scott) أنه لا يوجد تغير في كرات الدم البيضاء، أو سرعة الترسيب أثناء الصوم. وعلى العموم فإن مكونات الدم الكيميائية، أو الفسيولوجية كما يقول الأستاذ الدكتور رياض سليماني، لا يوجد فيها أثناء الصيام تغيرات كبيرة، وإذا وجدت هذه التغيرات فإنها قليلة، وقابلة للعودة إلى طبيعتها بسهولة. الصيام وهرمونات المرأة أجرى الدكتور حسن نضرت والدكتور منصور سليمان، بجامعة الملك عبد العزيز بحثًا حول تأثير صيام رمضان على مستوى البروجستيرون والبرولاكتين في مصل الدم، لنساء صحيحات، تتراوح أعمارهن بين 22-25 عامًا، لتحديد ما إذا كان صيام رمضان يؤثر على فسيولوجيا الخصوبة عند المرأة، وقد أظهرت النتائج أن ثمانين بالمائة قد نقص عندهن مستوى البرولاكتين في المصل، ولم يتغير مستوى البروجستيرون، وقد نصح الباحثان المرضعات بالإفطار (1) . وهذا البحث يؤكد أهمية الصوم لعلاج العقم عند المرأة المتسبب من زيادة هرمون البرولاكتين، فحينما ينقص بالصيام تتهيأ المرأة لحالتها الطبيعية في الخصوبة.

_ (1) لذلك ندرك سر الشارع الحكيم في إباحة الفطر للمرضع.

الصيام ومرضى الجهاز البولي

الصيام ومرضى الجهاز البولي أجرى الدكتور فاهم عبد الرحيم وزملاؤه بكلية طب الأزهر، بحثًا عن تأثير صيام شهر رمضان على عمل وظائف الكليتين عند الأشخاص العاديين، وعند المرضى المصابين ببعض أمراض الجهاز البولي، أو بمرض تكون الحصى الكلوي (Renal Calculi) ، وشملت الدراسة عشرة من مرضى الجهاز البولي، وخمسة عشر مريضاً بالحصى، بالإضافة إلى عشرة أشخاص عاديين للمقارنة، وتم خلال كل من فترتي الصيام والإفطار أخذ عينات من البول، وتحليلها لمعرفة نسبة الكالسيوم، والصوديوم، والبوتاسيوم، واليوريا، والكرياتينين، والحامض البولي. وكانت نتيجة تأثير الصيام على هذه العناصر على النحو التالي: حدث نقص هام في حجم البول، وزيادة في كثافته النوعية، لدى كل المجموعات التي شملتها الدراسة، وحدثت تغيرات طفيفة جدًا في مكونات المصل من الكالسيوم، والصوديوم، والبوتاسيوم، والحامض البولي، والكرياتينين، واليوريا لدى الجميع. وحدثت زيادة طفيفة في الكالسيوم في البول لدى الجميع. بالإضافة إلى زيادة لا تذكر في الحامض البولي واليوريا لدى الجميع، وحدوث تغير طفيف في الصوديوم والبوتاسيوم في مجموعة المقارنة، وفي الكرياتينين البولي لدى المرضى، فضلاً عن حدوث زيادة كبيرة في الصوديوم والبوتاسيوم لدى مجموعة المرضى، وفي كرياتينين البول لدى مجموعة المقارنة. وعليه فقد كان التغير الحاصل في عناصر المصل لدى المجموعات التي شملتها الدراسة طفيفًا، عديم الأهمية، بيد أن التغيرات التي طرأت على مكونات البول خلال الصيام، قد تمنع تكون الحصى، نظرًا لنقص الكالسيوم في البول، وزيادة الصوديوم والبوتاسيوم، التي كانت نسبتها أكبر لدى من يعانون من الحصى، ولدى المصابين بأمراض الجهاز البولي.

الصيام وعمل الغدة الدرقية

وقد استنتج الباحثون من ذلك أن الصيام لم يؤثر سلبيًّا على مجموعة المرضى الذين شملتهم هذه الدراسة، والذين يعانون إما من تكون الحصى في الكلية، أو من أمراض الجهاز البولي، فضلاً عن التأثير المحتمل للصيام في منع تكوين حصيات الكلى، عكس ما هو شائع عند الأطباء وغيرهم، إذ أن زيادة الكثافة النوعية للبول ترجع إلى زيادة إفراز البولة، التي تكون 80% من المواد المذابة في البول، والبولينا مادة غروية تنتشر فتساعد على عدم ترسب أملاح البول التي تكون حصيات المسالك البولية. كما أجرى قادر وزملاؤه سنة 1988م، دراسة على المرضى الذين يعيشون على غسيل كلوي مزمن، ويصومون شهر رمضان، وأثبتوا أنه لا يوجد تغير يذكر في نسبة اليوريا، والكرياتينين، والصوديوم، والبيكربونات، والفوسفر والكالسيم، ولكن وجد ارتفاع ملحوظ على نسبة البوتاسيوم في الدم، وعزا الباحثون ذلك إلى تناول المشروبات الغنية بالبوتاسيوم بعد الإفطار. كما أثبتا سكوت (Scott) أنه لا يوجد تغير يذكر في اليوريا والكرياتينين أثناء الصيام. الصيام وعمل الغدة الدرقية أجرى الدكتور رياض سليماني، دراسة تناولت أثر صيام شهر رمضان على عمل الغدة الدرقية عند مجموعة من الرجال الأصحاء، وجرى في الدراسة تحديد مستوى كل من ثيروكسين البلازما (Plasma) والثيروكسين الحر، والثرونين ثلاثي اليود (Triiodo - Thyronin:T3) والهرمون المنشط للغدة الدرقية (TSH) ، عند 28 من الذكور الأصحاء قبل رمضان وبعده، كما تمت دراسة آثار الامتناع عن تناول الطعام على المدى القصير من بزوغ الفجر إلى غروب الشمس، ولم تسجل أية اختلافات هامة بين هذه المستويات في الصباح المساء، (بعد فترة صيام لمدة 14 ساعة) في اختبارات عمل الغدة الدرقية. ولم تظهر بالإضافة إلى ذلك أية اختلافات هامة، في نتائج اختبارات عمل الغدة الدرقية، التي أجريت قبل رمضان وفي نهايته، واستنتج الباحث أن

الصيام وهرمونات الشدة

صيام شهر رمضان من قبل رجال يتمعتون بصحة جيدة، لم يغير النسب القياسية لعمل الغدة الدرقية. الصيام وهرمونات الشدة أجرى الدكتور صباح الباقر وزملاؤه بكلية الطب -جامعة الملك سعود- دراسة عن تأثير صيام شهر رمضان على هرمونات البرولاكتين، والإنسولين، والكورتيزول. وقد أخذت قياسات مستى البرولاكتين، والإنسولين، والكورتيزول، عند الساعة 9 صباحًا، 4 عصرًا، 9 ليلاً، 4 صباحًا لدى سبعة أشخاص أصحاء أثناء صيامهم شهر رمضان، كما أخذت قياسات مماثلة في الأيام العادية خارج شهر الصيام للمقارنة. وقد لوحظ من ذلك حدوث تغيرات هامة في هذه الهرمونات في النهار، ففي الأيام العادية، لوحظ أن مستوى البرولاكتين يرتفع عند الساعة 4 عصرًا، ولا توجد فروق هامة بين القياسات الثلاثة الأخرى، وفي أثناء رمضان بلغت مستويات البرولاكتين ذروتها عند الساعة التاسعة مساء (188.5 68.3 MIU/L) ، ووصلت مستوياتها إلى أدنى حد لها عند الساعة الرابعة صباحًا (±©94.3 42.3 MIU/ L) ، ووصل الإنسولين في اليوم العادي أعلى مستوياته عند الساعة 4 عصرًا (23.6u U/ML) ، بينما سجلت أعلى المستويات خلال شهر رمضان عند الساعة التاسعة صباحًا (320.2 121.4u Mol/L) ، وبلغت المستويات الدنيا ذروتها عند الساعة التاسعة ليلاً (71.7 35.9 Uol/L) ، ولم تسجل أية تقلبات ذات شأن في مستويات الكروتيزول خلال شهر رمضان. واستنادًا إلى الحد الأدنى من التغيرات الطفيفة في مستوى الكورتيزول وانخفاض مستوى البرولاكتين عند الساعة 4 عصرًا (بعد 12 ساعة صيام) ، وذلك خلال شهر رمضان ومقارنة بيوم عادي لا صيام فيه، استنتج الباحثون أن صيام رمضان لا يعتبر عملاً شاقًا. هذا وقد درس خاليكو (Khaleque) وزملاؤه عام 1961 م عدد كرات

الصيام وخلايا الدم

الدم البيضاء حمضية النوع (Fosinophil) ، كمؤشر للضغط النفسي، قبل وبعد صيام رمضان، وخصوصًا في اليوم الأول من الصيام، والذي يفترض فيه أن أنسب الأيام لحدوث الشدة العصبية، إن وجدت، وقد ثبت من خلال البحث أنه لا يوجد تغيير هام في عدد هذه الخلايا البيضاء، أثناء اليوم الأول من الصيام ولا في غيره، مع أنها تزداد عند التعرض لشدة نفسية أو عصبية، مما يؤكد أن الصيام ليس صورة الضغط العصبي، الذي يفضي بصاحبه إلى اضطرابات نفسيه من أي نوع كان. الصيام وخلايا الدم الحمراء أجرى الدكتور محمد الحضرامي بكلية الطب جامعة الملك عبد العزيز، بحثًا عن تأثير صيام شهر رمضان على حياة خلايا الدم الحمراء خلال شهر الصيام. وكان الفريق الذي خضع للدراسة يتكون من ستة أشخاص بالغين عاديين، بالإضافة إلى ثلاثة أشخاص يعانون من مرض الخلايا المنجلية. وقام الأشخاص التسعة بصيام شهر رمضان، وكان معدل مقدار مادة الكروم المشعة والتي استخدمت في الاختبار، لتحديد عمر خلايا الدم الحمراء (51CrT 50) عند الأشخاص العاديين، أثناء رمضان، من 25-40 يوماً وعند الأشخاص المرضى من 10-5 و12 يومًا. كما لم يلاحظ أي تغيرات تذكر في خلايا الدم الأولية غير الناضجة (Reticulocytes) ، وحجم كرات الدم الحمراء، ومعدل تركيز الهيموجلوبين بها (MCH, MCHC) . وهذه الأرقام تماثل تلك الأرقام المنشورة الخاصة بالأشخاص غير الصائمين، الأصحاء منهم ومرضى الخلايا المنجلية، ولم تلاحظ الدراسة وجود أية آثار ضارة للصيام، على قدرة الخلايا الحمراء على البقاء لدى هؤلاء المتطوعين يبرر نصحهم بعدم الصيام.

الصيام وتجلط الدم

الصيام وتجلط الدم أجرى الدكتور جلال ساعور أستاذ الأمراض الباطنية بمستشفى الملك فيصل التخصصي، بحثًا عن تأثير الصيام على مرضى القلب، الذين يتناولون علاجًا مضادًا لتجلط الدم، وقد كتب الدكتور ملخصًا لبحثه فقال: تقبل الغالبية العظمى من المسلمين على صيام شهر رمضان كل سنة، مما يترتب عليه حدوث تغيرات رئيسية في النشاط الجسمي وأنماط النوم، فضلاً عن تغير أوقات تناول الطعام والشراب، ونوعه، وكميته، وعليه فمن الممكن أن يؤثر الصيام تأثيرًا سلبيًا على التحكم في منع التجلط من خلال الفقدان النسبي لسوائل الجسم، وانخفاض النتاج القلبي، وزيادة الإجهاد، ولزوجة الدم، فضلاً عن التغيرات التي تطرأ على امتصاص الأدوية واستقلابها. وفي الفترة الواقعة بين 1981م إلى 1985م تم فحص ما مجموعة 289 مريضًا في عيادة منع تخثر الدم بمستشفى الملك فيصل التخصصي، تلقى 247 مريضاً منهم العلاج المضاد لتجلط الدم، نظرًا لحالة القلب لديهم، و42 نظرًا للتجلط الشديد للأوردة، مع أو بدون الانسداد الرئوي. وبينما كان المرضى تحت العلاج، صام 106 منهم 309 شهرًا رمضانيًا واختار 183 منهم عدم الصيام، خلال 594 شهرًا (1) . وقد لوحظ أن حدوث مضاعفات الانسداد التجلطي والنزيف متماثلة في المجموعتين، وكان متوسط الجرعة من الوارفمارين (2) اللازمة لإحداث أفضل تأثير لمنع التجلط في المجموعتين خلال شهر رمضان متماثلاً: 6.5 ± 2.1 ملجم مقابل 6،7 ± 2،2 ملجم. ومنذ عام 1986م أخذنا ننصح مرضانا الذين يتناولون علاجًا ضد التجلط

_ (1) عدد أشهر الصيام ا-لمحسوبة هنا -هي مجموع ا-لشهور التي صامها جميع هؤلاء الصائمين خلال فترة الاختبار (4 سنوات) فمنهم من صام 4 أشهر ومنهم من صام ثلاثة أو اثنين وهكذا..، وبالمقابل المفطرين أيضاً، فهي مجموع الشهور التي أفطروها جميعًا خلاك فترة الاختبار. (2) اسم دواء.

الصيام ومرضى السكري

عن طريق الفم، بأنه لا ضرر من صومهم شهر رمضان، وقام خلال هذه الفترة 277 مريضاً يحملون صمامات بديلة، بصيام ما مجموعه 1045 شهرًا، ولم تظهر على أي منهم في هذه الفترة مضاعفات الانسداد التجلطي. الصيام ومرضى السكري أجرى الدكتور رياض سليماني وزملاؤه -كلية الطب بمستشفى الملك خالد الجامعي، دراسة على تأثير صيام رمضان على التحكم في مرض السكري، عند 47 من مرضى النوع الثاني (1) ، وعند مجموعة من الأشخاص الذين لا يعانون من هذا المرض، وتم تحديد وزن الجسم، والبروتين السكري، وخضاب الدم السكري، قبل رمضان وفور انتهائه، عند كل من المجموعتين. وتم قياس البروتين السكري، (Gylycosylated Protiein) عند 9 من مرضى السكري، وقد لوحظ أنه لم يطرأ أي تغير على الوزن عند هؤلاء المرضى إذ كان قبل رمضان (75.2 ± 12.8) في مقابل، (75.1 ± 12.4) كلجم بعده، كما لم يطرأ تغير على خضاب الدم السكري، (Glycosylated Hemoplonin) ، إذ كان قبل رمضان (10.9 ± 3.1) في مقابل (10.5 ± 2.8) مجم/100 مل بعده، ولم يطرأ تغير على البروتين السكري (Glycosylated Protein) حيث كان (1.19 ± 0.35) مقابل (1.17 ± 0.39) ، ملجم/100 مل، (بعد) انتهاء صيام رمضان. أما في المجموعة التي لا يعاني أفرادها من مرض السكري، فقد لوحظ انخفاض هام في الوزن خلال الصيام (74.2 ± 10.4) كلجم، مقابل (72.5 ± 10.2) كلجم، بيد أنه لم يسجل أي تغيير يذكر في خضاب الدم السكري (Glycosylated Hemoplonin) . واستنتج الباحثون من ذلك أن صيام شهر رمضان لا يسبب أي فقدان هام في وزن الجسم، وليس له أي أثر يذكر على التحكم في مرض السكري لدى مرضى النوع الثاني.

_ (1) هو النوع الذي لا يعتمد المريض فيه على تناول دواء الإنسولين.

كما قام الدكتور ألفونشو (Olu1fonsho) وزملاؤه بكلية الطب مستشفى الملك خالد الجامعي بالرياض، بتوزيع استبيان على 203 من مرضى السكري، (89 من الذكور و114 من الإناث) وذلك لتقويم مفاهيمهم، ومواقفهم، وممارساتهم، خلال صيامهم شهر رمضان. وتراوحت أعمار هؤلاء المرضى بين 14 و18 عامًا. وقد قام أكثر هؤلاء (89%) بصيام رمضان، وكان أقل نسبة للصيام (72%) عند من هم دون سن الخامسة والعشرين، اعترف 12% فقط بأنهم يتناولون قدرًا أكبر من الطعام في رمضان، بينما ذكر عدد أكبر منهم 27% أنهم يستهلكون قدرًا أكبر من الحلويات، وذكر أكثر من الثلث (37%) أن نشاطهم الجسمي يقل في رمضان، كما أن ضعف هذا النشاط كان أكثر شيوعًا لدى أولئك الذين لم يصوموا رمضان (61%) منه لدى الذين صاموه، (35%) ، وأعرب عدد كبير (59%) أنهم شعروا بتحسن صحتهم خلال شهر رمضان، ولم يتردد على المستشفيات في حالات طارئة، سوى (6.5%) منهم، في حين لم تتجاوز نسبة من دخلوا المستشفى بسبب مرض السكري (5%) . أما بالنسبة للأشخاص الذين لم يصوموا، فقد كانت هذه النتائج أقل إيجابية، إذ أعرب (10%) منهم فقط عن تحسن الصحة، فيما ارتفعت المراجعات الطارئة للمستشفى (15%) وبلغت حالات دخول المستشفى (15%) . وكان هناك اعتقاد سائد لدى (75% من المرضى) بأن صيام شهر رمضان يؤدي إلى تحسن الصحة، وكان هذا الشعور قويًا لدى المرضى الذين صاموا الشهر (80%) مقابل المرضى الذين أفطروه (26%) . وقد أظهرت الدراسة أن معظم مرضى السكري، يفضلون صيام شهر رمضان، وأنهم يعتقدون أن لذلك أثرًا إيجابيًا على مرضهم. وقد أثبت باربر (Barber SG) وزملاؤه سنة 1979م في برمنجهام، أن هناك تغيرًا قليلاً في تحكم مرض السكري عند المسلمين الصائمين، وأن عدد المرضى المراجعين لعيادات السكر قد تناقص، ولا توجد زيادة في معدل احتجاز

مرضى السكري المرتفع وغير المتحكم فيه، داخل المستشفى خلال شهر رمضان. وقد قام خوقير وزملاؤه سنة 1987م بدراسة شملت 52 مريضاً من مرضي السكري، 20 منهم يعتمدن على الأنسولين في العلاج، و32 منهم لا يعتمدون على الإنسولين، وقد وجد أن 15 مريضاً من الذين لا يعتمدون على الإنسولين قل وزنهم وانخفضت مستويات السكر (Glucose Levels) لديهم بعد الصيام، عنه قبل أن يصوموا. كما قلت جرعة الإنسولين بنسبة 10% عن المعتاد عند المجموعة التي تعتمد على الإنسولين في العلاج، وقل وزن سبعة منهم، بينما ارتفع معدل السكر عند باقي المجموعة، لذلك نصح الباحثون بعناية خاصة لهؤلاء المرضى، إذا أرادوا أن يصوموا كل أيام شهر رمضان، ولا حرج عليهم بعد ذلك. أما مرضى السكري الذين ينصحون بعدم الصيام فقد حددتهم دراسة التقييم الشامل الذي أجراه الدكتور سليماني وزملاؤه عن مرضى السكري وصيام رمضان سنة 1988م وهم كالتالي: 1- المرضى المعرضون لزيادة الأجسام الكيتونية في دمائهم (Prone To Ketosis) . 2- المرضى الذين يعانون من تأرجح كبير وسرعة تغير في مستوى الجلوكوز لديهم. 3- الحوامل. 4- الأطفال الصغار المصابون بمرض السكري. 5- مرضى السكري الذين يعانون من مضاعفات مرضية خطيرة مثل الفشل الكلوي أو الذبحة الصدرية. 6- مرضى السكري الذين يعانون من أمراض خطيرة مثل التسمم الدموي الشديد، (Sever Sepsis) ، أو فشل القلب الاحتقانى (congestive Heart Failuer) .

تأثير الصيام على الحمل والرضاعة

تأثير الصيام على الحمل والرضاعة أجريت دراسة (74) في إحدى القرب في غرب أفريقيا لمعرفة تأثير صيام شهر رمضان على الأحداث الاستقلابية عند النساء الحوامل والمرضعات، وقد وجد الدارسون أن كل المرضعات في هذه القرية، وتسعين بالمائة من الحوامل يصومون شهر رمضان كاملاً، وقد جرى قياس كل من جلوكوز المصل، والأحماض الدهنية الحرة، وثلاثي الجليسرول، والأجسام الكيتونية، وبيتاهيدروكسي بيوتيريت (Beta Hydroxy Butyrate) والألانين، والإنسولين، والجلوكاجون، ومستوى هرمون الثروكسين (T3) ، وقد أخذت العينات عند السابعة صباحًا والسابعة مساء من 22 امرأة حاملاً، وعشر نساء مرضعات وعشر أخريات غير حوامل وغير مرضعات كمجموعة مقارنة، وقورنت النتائج بالقياسات التي حددت لهذه المركبات، بعد الامتناع الطبيعي عن الطعام طول الليل خارج أيام رمضان، وكانت النتائج النهاية كالتالي: 1- لم تختلف هذه القياسات عند المرضعات عن مجموعة المقارنة أي النساء غير المرضعات وغير الحوامل، برغم ما تتعرض له المرضع من مشقة الرضاعة، ومشقة الصيام، الذي يصل إلى 19 ساعة. 2- كانت نسبة الجلوكوز في المراحل الأخيرة من الحمل 11± 3.01 مل مول/لتر، وهي أقل من جميع المجموعات الأخرى. 3- مستوى الأحماض الدهنية الحرة والأجسام الكيتونية (بيتاهيدروكسي بيوتيريت) كانت عند الحوامل أعلى أثناء صيام شهر رمضان، وكان مستوى الألانين أقل في المراحل الأخيرة من الحمل، عنه في المراحل الأولى. واستنتج الباحثون أن عمليات الهدم تتسارع في المراحل الأخيرة من الحمل فقط أثناء شهر رمضان، فتظهر بعض آثار التجويع، وعزوا نقص سكر الدم إلى الدخل الاقتصادي المتدني، الذي يعاني منه سكان هذه المناطق. كما أجرى الدكتور سمير عباس وزملاؤه بكلية الطب -جامعة الملك عبد العزيز - بحثًا لمعرفة أثر صيام شهر رمضان على النساء السعوديات الحوامل،

وذلك بدراسة 4 عوامل دموية، هي نسبة اليهموجلوبين، وعدد كرات الدم الحمراء والبيضاء، ونسبة الهيماتوكرينت، وثلاثة عشر مركبًا كيميائيًا في البلازما، هي: الصوديوم، والبوتاسيوم، والكلورايد، واليوريا، والكرياتينين، إنزيمات الكبد (Scot, SGpt, Phoshatase) والبليروبين، والبروتينات، والكوليستيرول، والجلوكوز، والكورتيزول. وقد أجريت الدراسة على مائة امرأة حامل صائمة، وخمسين امرأة حاملاً غير صائمة، وخمسين امرأة غير حامل وغير صائمة، كمجموعة مقارنة، وتتراوح أعمارهن من 17-37 سنة، وحالتهن الصحية طبيعية، ومتقاربات من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، وجرى تحديد هذه المركبات خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، والثلاثة الثانية، والأخيرة، لمعرفة تأثير الصيام على مراحل الحمل المختلفة، وقد حدث تغيير هام ومرتفع في أربعة مركبات عند الحوامل الصائمات، وهي: إثنين من إنزيمات الكبد (©Sgot , SGpt) والبليروبين، والكلورايد، وقد هبط الإنزيم الكبدي الأول (SGpt) عن المعدل المعتاد، وازداد الهبوط في الأشهر الثلاثة الثانية، وازداد الإنزيم الكبدي الثاني (SGot) في الأشهر الثلاثة الأولى، وبنسبة أقل في الأشهر الباقية، أما البيلوربين، فقد هبط هبوطا ملحوظا في الثلاثة أشهر الأولى، ولم يكن ثابتًا أو متساويًا خلال الأشهر التالية، كما هبط أيضاً الكلورايد (CI) ، وكان هذا الهبوط ثابتًا طوال أشهر الحمل. وقد حدث تغيير هام فقط في ثلاث مركبات أخرى هي: الكرياتينين، وإنزيم الفوسفات القلوي (Alkalin Phoshatase) ، والكوليستيرول، وقد حصل هبوط في الكرياتينين، وخصوصًا في الأشهر الثلاثة الأولى، وارتفاع متدرج في إنزيم الفوسفات القلوي، والكوليستيرول في الأشهر الثلاثة الأولى وحتى نهاية الحمل. وقد حدث أيضاً تغيير أقل أهمية في ثلاثة مركبات، هي: كرات الدم الحمراء، والبيضاء، والكورتيزول، فحدث نقص بسيط في عدد كريات الدم الحمراء، ولم تتغير نسبة الهيموجلوبين خلال أشهر الحمل المختلفة، أما كريات

تأثير الصيام الإسلامي على وزن الجسم

الدم البيضاء، فقد نقصت قليلاً عن معدلها الطبيعي، واستمرت في زيادة طفيفة طوال أشهر الحمل، أما الكرتيزول فقد ازداد قليلاً، واستمرت هذه الزيادة مع تقدم أشهر الحمل. ولم يحصل أي تغيير يذكر في سبعة عوامل وهي: الهيموجلوبين، وقياس حجم الكرية الحمراء، واليوريا، والصوديوم، والبوتاسيوم، والبروتين الكلي، وسكر الدم. ثم قال الباحثون: إن التغير الذي حدث في العوامل العشرة الأولى، لم يتجاوز الحدود الطبيعية للقياسات المخبرية، وقد تكون بعض هذه التغيرات نافعة والبعض الآخر قد يكون ضارًا إذا كانت المرأة مريضة بمرض أخر. وعلى الجملة فهذا البحث قد أثبت أن الصيام الإسلامي لا يسبب أدنى ضرر للمرأة الحامل الصحيحة. تأثير الصيام الإسلامي على وزن الجسم تفاوتت الأبحاث الطبية في هذا الموضوع، فبعضها أثبت تأثيرًا هامًا، والبعض الآخر لم يثبت ذلك، ففي دراسة قام بها فيدايل وزملاؤه (76) (Fedail) على 28 شخصًا صحيحًا صاموا شهر رمضان، أثبت أن هناك نقصًا في وزن جسم كل صائم منهم، بلغ في المتوسط 66 يم ± 8يم1 للمجموعة كلها، في -حين لم تثبت الدراسة التي قام بها شكري على -ثلاثين فردًا رجالاً ونساء (19 امرأة و11 رجلاً) لم تثبت هذه الدراسة نقصًا هامًا في وزن الرجال، ما عدا بعض النساء اللاتي عزي النقص عندهن إلى حدوث الدورة الشهرية. وعلى العموم فإن هذه الدراسات تثبت التوازن الذي يحدثه الصيام الإسلامي في عمليتي البناء والهدم، وأن القدر الضئيل الذي قد يفقده الحسم، ربما يكون ضروريِّا ولازمًا لحفظ الصحة، ولابد من توجيه الأبحاث وإجرائها على أجسام مرضى السمنة، حتى نرى أثر الصيام المباشر على مثل هذه الأوزان الزائدة، وقد طالب بذلك الأستاذ الدكتور رياض سليماني، في بحثه "حقائق صيام رمضان في الصحة والمرض".

الصيام والإخصاب عند الرجل

الصيام والإخصاب عند الرجل أجرى الدكتور سمير عباس والدكتور عبد الله باسلامة، بكلية الطب جامعة الملك عبد العزيز دراسة على واحد وعشرين شخصًا، ثمانية منهم أصحاء وعشرة يعانون من نقص المنويات (Oligospermia) ، وثلاثة ليست لديهم منويات (Azospermia) ، وأخذت منهم عينات من الدم، والمني، في خلال شهر شعبان ورمضان، وشوال، لتحليل المني، والهرمونات التالية. - التيستوستيرون Testosterone. - البرولاكتين Prolactin. - الهرمون الملوتن L.H. - الهرمون المنبه للجريب FSH. وذلك لمعرفة تأثير صيام شهر رمضان على خصوبة الرجل، وقد أظهرت نتائج البحث، أن هناك "تغيرات حيوية بين الأشخاص الطبيعيين، حيث يتحسن أداء هرمون الذكورة (Testosterone) ، لكن لم يحصل في مستواه أي ارتفاع حيوي خلال الأشهر الثلاثة من البحث، كما أن حجم المني، والعدد الكلي للمنويات، ازداد ازديادًا ملحوظا أثناء شهر الصيام، ولاحظ الباحثان من إحصائيات المستشفى الجامعي أن عدد حالات الحمل تصل إلى معدل كبير في شهر شوال، كما وجد أن هناك تحسنًا في نسبة المنويات الحية وانخفاضًا في نسبة المنويات الميتة أثناء شهر الصيام. كما أن الهرمون المنبه للجريب (FSH) ، يزداد ازديادًا ملحوظًا خلال شهر رمضان، مقارنة بمستواه قبل وبعد الصيام في الأشخاص الطبيعيين، ويقل عن شهر شوال في الأشخاص الذين يعانون من نقص المنويات، أو انعدامها، وهذا الهرمون له علاقة بتصنيع المركبات الاستيرويدية في نسيج الخصية، كما يمكن أن يعزى التغير في مستوى التيستوستيرون إلى التغير في مستوى هذا الهرمون، كما أن الهرمون الملوتن (L.H) ازداد زيادة ملحوظة أثناء الصيام، ونقص بعده في الأشخاص الطبيعيين، كما أنه لم تسجل له أي تغيرات هامة عند الأشخاص

تأثير الصيام المتواصل على مرضى التهاب المفاصل الشبيه بالرثية

المرضى بنقص المنويات، وحدث نقص هام عند المرضى بانعدام المنويات، وهذا الهرمون له علاقة بتكون المنويات الحية في الخصية، ما سجلت زيادة في البرولاكتين، أثناء وبعد رمضان عند الأشخاص الطبيعيين، ونقص بعد الصيام عند المرضى بقلة المنويات، وارتفاع عالٍ عند المرضى بانعدام المنويات، بالمقارنة مع المجموعات الأخرى، وهذا الهرمون له تأثير مثبط على تكون الإندروجين الناتج من الخصية. وخلص الباحثان على أن للصيام أثرًا مفيدًا على تكون المنويات، إما عن طريق محور التأثير الهرموني (Hyplthalamo-pitutary Testicular) ، أو عن طريق التأثير المباشر على الخصيتين. تأثير الصيام المتواصل على مرضى التهاب المفاصل الشبيه بالرثية تم فحص ثلاثة عشر مريضًا من مرضى التهاب المفاصل الشبيه بالرثية، أو الروماتيزم (Rheumatoidarthritis) ، بعد صيام تام لمدة أسبوع، مع مجموعة ضابطة، لمعرفة تأثير الصيام "المتواصل" على وظائف الخلايا المتعادلة في الدم (Neutrophil) ومحلى سير الحالة المرضية في هؤلاء المرضى. وكانت نتائج البحث كالتالي: - نقص وزن المرضى بمقدار يتراوح من 1-5 كجم. - تحسنت الالتهابات في المفاصل، ونقصت سرعة الترسيب. - ازدادت في فترة الصيام القدرة على قتل وسحق البكتيريا. وخلص البحث على أن هناك علاقة بسن الالتهابات في المفاصل وازدياد المقدرة للخلايا البيضاء المتعادلة على سحق البكتيريا، وتحسن الحالة الإكلينيكية لمرضى الروماتويد بالصيام. تأثير الصيام على قرحة المعدة أجرى الباحثون معظم وعلى، وحسين، دراسة كان الهدف منها التعرف على تأثير صيام شهر رمضان على حموضة المعدة "زيادة الحموضة وقلتها"،

تأثير الصيام المتواصل على الغدد الجنسية

وقد وجد الباحثون أن الحموضة في المعدة اعتدلت (Isochlorhydria) عند كل المرضى الذين يعانون من قلة الحموضية (Hypochlorhydria) أو زيادتها (Hyperchlorhydria) ، مما يؤكد أن صيام شهر رمضان يخفف ويمنع حدوث الحموضة الزائدة، والتي تكون سببًا رئيسيًّا في حدوث قرحة المعدة. تأثير الصيام المتواصل على الغدد الجنسية نشرت مجلة الغدد الصماء والاستقلاب الإكلينيكية في العدد 53 عام 1981م (1) ، بحثًا لمجموعة من العلماء والأطباء، قاموا فيه بدراسة تأثير الصوم على الغدد الجنسية في الذكور. وقد أجريت الدراسة في مستشفى ماستشوست بالولايات المتحدة على ستة أشخاص أصحاء بدينين، وتتراوح أعمارهم بين 26 و45 عامًا. وقد قسمت الدراسة إلى ثلاث مراحل: 1- المرحلة الأولى للتقويم: (Control) وتستمر ثلاثة أيام، ويأكل فيها هؤلاء الأشخاص حسب نظامهم العادي اليومي. 2- المرحلة الثانية "فترة الصوم" (2) : يصوم هؤلاء الأشخاص صيامًا كاملاً لمدة عشرة أيام، والصيام الكامل يعني عدم تناول أي طعام أو شراب لا بالليل ولا بالنهار، ما عدا الماء القراح الذي يسمح بتناوله ليلاً ونهارًا. 3- المرحلة الثالثة "إعادة التغذية": وتستمر لمدة خمسة أيام. وقد أجري فحص الدم لمعاينة الهرمونات الجنسية في الأيام التالية: 1- اليوم الثاني "أي أثناء فترة التقويم". 2- اليوم الحادِي عشر "أي أثناء فترة الصيام، والتي توافق اليوم الثامن للصوم".

_ (1) كان للدكتور محمد علي البار الفضل في الحصول على هذا البحث وترجمته. (2) يقصد بالصوم هنا التجويع أو الصيام المتواصل.

3- اليوم السادس عشر "أي اليوم الثالث من إعادة التغذية". ويعاد فحص الدم بعد تنبيه الغدة النخامية بواسطة هرمون (LRH) ، وذلك في اليوم الثالث، واليوم الثاني عشر، واليوم السابع عشر وقد درست الهرمونات الجنسية التالية: 1- هرمون الذكورة، التيستوستيرون (Testosterone) . 2- الهرمون المنبه للجريب F.S.H. 3- الهرمون الملوتن L.H. يعتبر الهرمون المنبه للجريب، والهرمون الملوتن، من الهرمونات المنمية للغدة التناسلية (Gonadotropins) . وقد كانت نتائج البحث كالتالي: 1- انخفض هرمون الذكورة "التيستوستيرون" انخفاضًا كبيرًا أثناء الصوم، واستمر الانخفاض لمدة ثلاثة أيام بعد إعادة التغذية، وفي اليوم الرابع من إعادة التغذية، ارتفع مستوى هذا الهرمون ارتفاعًا كبيرًا، بحيث تجاوز مستواه الطبيعي قبل الصوم. 2- ازداد إفراز الهرمونات المنمية للغدة التناسلية في البول، لكلا الهرمونين: الهرمون المنبه للجريب (F.S.H) والهرمون الملوتن بصورة كبيرة أثناء الصيام واستمر كذلك لمدة ثلاثة أيام بعد انتهاء الصوم. 3- ازداد إفراز الهرمون الملوتن (L.H) في الدم أثناء فترة الصيام، وهو أمر متوقع نتيجة انخفاض إفراز هرمون الذكورة "التيستوستيرون". 4- انخفض الهرمون المنبه للجريب (F.S.H) أثناء الصوم، وكان المتوقع أن يزداد الإفراز، ولعل ذلك يوضح أن تأثير الصوم تأثير محدود في خفض القدرة الجنسية. مناقشة النتائج: اتضح أن صيام مدة محدودة "عشرة أيام" صيامًا متواصلاً أدى إلى خفض كبير في مستوى هرمون الذكورة "التيستوستيرون"، وبالتالي أدى إلى

صيام رمضان وأثره على بعض أمراض الأوعية الدموية الطرفية

إضعاف الرغبة الجنسية، ولكن هذا التأثير مؤقت، ولا يؤثر على الأنسجة الخاصة بالخصوبة، وقد انتهى مفعوله بعد ثلاثة أيام من التغذية، وارتفع مستوى هرمون الذكورة في اليوم الرابع من إعادة التغذية إلى مستوى أعلى مما كان عليه قبل بدء الصوم. وهذا يوضح أن تأثير الصوم على الرغبة الجنسية يمر بمرحلتين: الأولى: خفض الرغبة الجنسية أثناء فترة الصيام ولأيام قليلة بعدها. الثانية: رفع مستوى القدرة الجنسية وتحسينها بعد انتهاء فترة الصوم، إلى مستوى أفضل مما كانت عليه قبل بدء الصوم. صيام رمضان وأثره على بعض أمراض الأوعية الدموية الطرفية توجد هناك أمراض عديدة تصيب الأوعية الدموية الطرفية، والتي تبدو أن لها علاقة بنشاط الجهاز العصبي الودي "ا-لسمبثاوي" الزائد في نهايات الشرايين الدموية (Arterioles) ، ويعتبر مرض الرينود (Raynoud's Disease) أحد هذه الأمراض، حيث تنقبض فيه عضلات جدر الشرايين الدقيقة انقباضًا ذاتيًّا شديدًا، مسببة آلامًا مبرحة، وتهجم هذه الآلام عند التعرض للبرد، أو الضغط العصبي، ولو استمر المرض لعدة سنوات فقد يؤدي إلى فقدان الأطراف، ولعلاج هذا المرض يمنع التعرض للبرد ما أمكن، ويتحاشى التدخين، ويعطى بعض الأدوية كموسعات للأوعية الدموية، كما يستأصل العصب السمبثاوي الموضعي المغذي للأطراف، ويتحاشى التعرض للضغوط العصبية والنفسية، وهناك مرض آخر (Buerger's Disease) من نفس هذا النوع، يؤثر على الشرايين والأوردة الطرفية، والتدخين ينشط هذا المرض ويزيده سوءًا، وعند منع التدخين يتحسن المريض تحسنًا ملحوظ، وقد يحتاج بعض المرضى إلى استئصال العصب الودي "السمبثاوي" المغذي للأطراف، وأحيانًا يحتاج هذا المريض إلى بتر أطرافه لو استمر في التدخين. وفد ذكر الدكتور صباح الباقر في دراسة له سنة 1991م أن الصيام

تأثير الصيام على الوارد الكهربائية والتناضح في البول والدم

الإسلامي يؤدي دورًا هامًا في علاج أمراض الأوعية الدموية الدقيقة، ولخص هذا الدور في النقطتين التاليتين: 1- تحريم التدخين أثناء ساعات الصيام، يقدم خدمة جليلة في علاج المرض. 2- لا يشكل الصيام أي مشقة أو ضغط على الجسم بل على العكس، يعتبر عاملاً مهدئًا، حيث تزداد العوامل المنشطة للإيمان في الصلاة والذكر وقراءة القرآن. وقد ذكر خاليكو وزملاؤه عام 1961م في دراسة لهم عن الضغط أو الشدة في صيام رمضان، أن الصيام يقلل من نشاط الجهاز العصبي الودي "السمبثاوي"، وتمثل هذا في انخفاض عدد ضربات القلب، أثناء الراحة في صيام رمضان انخفاضا ملحوظًا، عنه في غير رمضان، وخصوصًا عند الرجال، وقل حجم الأكسجين في الأوردة (VO 2) في كل الأشخاص الذين أجريت عليهم التجربة كما حصل نقص في الطاقة المستهلكة يتراوح من 7-23%. وأثبتت الدراسات على حيوانات التجارب أن هناك نقصًا ملحوظا في نشاط الجهاز العصبي الودي "السمبثاوي" أثناء فترات الحرمان من الغذاء لهذه الحيوانات. وخلص الدكتور الباقر إلى أن تثبيط الجهاز القصبي الودي "السمبثاوي" أثناء الصيام، يلغي العامل الثاني المسبب للمرض، وبالتالي تظهر فائدة الصيام الإسلامي في الشفاء من مثل هذه الأمراض. تأثير الصيام على الوارد الكهربائية والتناضح في البول والدم أجرى الدكتور صباح الباقر دراسة على عشرة أشخاص أصحاء في كلية الطب -جامعة الملك سعود بالرياض- أثناء شهر رمضان، ووجد أن هناك زيادة هامة في تركيز الصوديوم، والبوتاسيوم في البول، وهذا راجع إلى قدرة الكلى على تركيز البول وزيادة عمل الهرمون المضاد لإدرار البول

(Antidiuretic Hormpne) ، ولم توجد زيادة هامة في قوة التناضح أو النافذ (Osmosis) في البول. كما وجدت زيادة هامة أيضاً في تركيز الصوديوم، والبوتاسيوم في الدم ولم يظهر تغيير هام في قوة التناضح في الدم، وبرغم وجود بعض هذه التغيرات أثناء الصيام، فقد ذكر الباحث أنها تقع داخل المعدل الطبيعي المسموح به. وهكذا يتضح أن الصيام عامل هام في تنشيط أجهزة الجسم للعمل "زيادة قدرة الكلى على تركيز أملاح البول، وزيادة عمل الهرمون المضاد لإدرار البول"، مع المحافظة على معدلات الأملاح والتناضح في المستوى الطبيعي، وبالتالي فلا يشكل الصوم أي خطر على مكونات الدم من العناصر التي تكوّن الشوارد الكهربائية، ولا على قوة التناضح أو الأزموزية في البول أو الدم. كما وجد الحازمي زيادة طفيفة أيضاً في مستوى الصوديوم، والبوتاسيوم، والكلورايد، والفوسفات، وتعود هذه الزيادة إلى معدلها الطبيعي سريعًا بالفطر، وهذه الزيادة أيضاً داخل المعدل الطبيعي، ولم تسجل زيادة تذكر في الكالسيوم. ***

وجوه الإعجاز في الصوم

وجوه الإعجاز في الصوم الوجه الأول من الإعجاز الوقاية من العلل والأمراض أخبر الله سبحانه وتعالى أنه فرض علينا الصيام وعلى كل أهل الملل قبلنا، لتكتسب به التقوى الإيمانية، والتي تحجزنا عن المعاصي والآثام، ولنتوقى به كثيرًا من الأمراض والعلل الجسمية والنفسية، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام جُنة" أي: وقاية وستر. وقد ثبت من خلال هذا البحث بعض الفوائد الوقائية للصيام ضد كثير من الأمراض والعلل الجسمية والنفسية، منها على سبيل المثال لا الحصر: 1- يقوي الصيام جهاز المناعة، فيقي الجسم من أمراض كثيرة، حيث يتحسن المؤشر الوظيفي للخلايا اللمفاوية عشرة أضعاف، كما تزداد نسبة الخلايا المسئولة عن المناعة النوعية زيادة كبيرة، كما ترتفع بعض أنواع الأجسام المضادة في الجسم وتنشط الردود المناعية نتيجة لزيادة البروتين الدهني منخفض الكثافة. 2- الوقاية من مرض السمنة وأخطارها، حيث إنه من المعتقد أن السمنة كما قد تتتج عن خلل في تمثيل الغذاء، فقد تتسبب عن ضغوط بيئية أو نفسية أو اجتماعية، وقد تتضافر هذه العوامل جميعًا في حدوثها، وقد يؤدي الاضطراب النفسي إلى خلل في التمثيل الغذائي، وكل هذه العوامل التي يمكن أن تنجم عنها السمنة، يمكن الوقاية منها بالصوم: من خلال الاستقرار النفسي والعقلي الذي يجني بالصوم نتيجة للجو الإيماني الذي يحيط. بالصائم، وكثرة العبادة في الذكر، وقراءة القرآن، والإنفاق في سبيل الله، والبعد عن الانفعال والتوتر، وضبط النوازع والرغبات، وتوجيه الطاقات النفسية الجسمية توجيهًا إيجابيًا نافعًا. هذا فضلاً عن تأثير الصيام المثالي في استهلاك الدهون المختزنة، ووقاية الجسم من أخطار أمراض السمنة: كالأمراض القلبية الوعائية، مثل قصور

القلب، والسكتة القلبية، وانسداد الشرايين المحيطة بالقلب، وكمرض تصلب الشرايين. 3- يقي الصيام الجسم من تكون حصيات الكلى، إذ يرفع معدل الصوديوم في الدم، فيمنع تبلور أملاح الكالسيوم، كما أن زيادة مادة البولينا في البول، تساعد في عدم ترسب أملاح البول، التي تكون حصيات المسالك البولية. 4- يقي ا-لصيام الجسم من أخطار ا-لسموم المتراكمة في -خلاياه، وبين أنسجته من جراء تناول الأطعمة خصوصًا المحفوظة والمصنعة منها، تناول الأدوية واستنشاق الهواء الملوث بهذه السموم. 5- يخفف الصيام ويهدئ ثورة الغريزة الجنسية خصوصًا عند الشباب، وبذلك يقي الجسم من الاضطرابات النفسية والجسمية، والانحرافات السلوكية، انظر بحث تأثير الصيام المتواصل على الغدد الجنسية، حيث يمكن الاستفادة من هذا البحث في بيان وجه الإعجاز في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" إذا التزم الشباب الصيام وأكثر منه، وذلك لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "فعليه بالصوم"، أي: فليكثر من الصوم، كما ذكر السلف، والإكثار من الصوم مع الاعتدال في الطعام والشراب، وبذل الجهد يقترب من الصيام الكلي، ويجني الشباب فائدته في تثبيط غرائزه المتأججة بيسر، ما لا يتعرض إلى أخطار هذا النوع من الصيام، والذي ذكرناه تحت أخطار التجويع. وهذا البحث يجلي بوضوح الإعجاز في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فإنه له وجاء" من وجهين: الأول: الإشارة إلى أن الخصيتين هما مكان إنتاج عوامل الإثارة الجنسية، حيث أن معنى الوجاء أن ترض أنثيا الفحل (خصيتيه) رضًا شديداً، يذهب شهوة الجماع، ويتنزل في قطعه منزلة الخصي. وقد ثبت أن في الخصيتين خلايا متخصصة في إنتاج هرمون التيستوستيرون (Testosterone) ، وهو "الهرمون المحرك والمثير للرغبة الجنسية، وأن قطع الخصيتين (الخصي) يذهب هذه الرغبة ويخمدها تمامًا.

الوجه الثاني منافع وفوائد الصيام

الثاني: أن الإكثار من الصوم مثبط للرغبة الجنسية وكابح لها، وقد ثبت في هذا البحث هبوط مستوى هرمون الذكورة (التيستوستيرون) هبوطا كبيرًا أثناء الصيام المتواصل، بل وبعد رعادة التغذية بثلاثة أيام، ثم ارتفع ارتفاعًا كبيرًا بعد ذلك، وهذا يؤكد أن الصيام له القدرة على كبح الرغبة الجنسية مع تحسينها بعد ذلك، وهذا يؤكد فائدة الصوم في زيادة الخصوبة عند الرجل بعد الإفطار، فهل كان يستطيع أن يتحدث بهذه العبارة الموجزة والتي تحوي كل هذه الدقة العلمية، إلا نبي يوحى إليه من خالق الإنسان العليم بدقائق تكوينه!. 6- يعتبر الصيام وقاية من الأمراض العقلية والنفسية، فقد ثبت تأثيره على مرض انفصام الشخصية، فقد أشار الدكتور يوري نيكولايوف، من المعهد النفسي بموسكو، إلى أن الأمراض العقلية يمكن السيطرة عليها بمفعول الصيام والحمية، وقد تبين عند مراجعة 1000 مريض عقلي التزموا الصيام (1) ، أن التحسن كان ملحوظًا لدى 65% منهم، وقد وقع فحص نصف هؤلاء المرضى بعد 6 سنوات، واتضح أنهم لا يزالون يتمتعون بصحة طيبة، كما أن الدكتور آلان كوت قد ألزم 35 مريضاً ببرنامج صيام، تخلص 24 منهم من مرضهم. الوجه الثاني من الإعجاز منافع وفوائد الصيام بعد أن أخبرنا الله سبحانه وتعالى، وأخبرنا رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الصيام يحقق لنا وقاية من العلل الجسمية والنفسية، ويشكل حاجزًا وسترًا لنا من عقاب الله، أخبرنا -جل في علاه- أن في الصيام خيرًا ليس للأصحاء المقيمين فقط، بل أيضًا للمرضى والمسافرين، والذين يستطيعون الصوم بمشقة، ككبار السن ومن في حكمهم، قال تعالى: (أيامًا معدودات فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) . ذكر الفخر الرازي: أن للعلماء ثلاثة وجوه في قوله تعالى: (وأن

_ (1) الصيام الطبي.

تصوموا خير لكم) أحدها: أن يكون هذا خطابًا مع الذين يطيقونه فقط، ويكون التقدير: وأن تصوموا أيها المطيقون، وتحملتم المشقة فهو خير لكم من الفدية، وقد اختار هذا القاسمي في محاسن التأويل. الثاني: أن هذا خطاب مع كل من تقدم ذكرهم، أعني المريض والمسافر والذين يطيقونه، وهذا أولى؛ لأن اللفظ عام ولا يلزم من اتصاله بقوله (وعلى الذين يطيقونه) أن يكون مختصًا بهم؛ لأن اللفظ عام ولا منافاة في رجوعه إلى الكل فوجب الحكم بذلك. الثالث: أن يكون معطوفًا على أول الآية فالتقدير: كتب عليكم الصيام، وأن تصوموا خير لكم، والخير اسم تفضيل على غير قياس، وهو الحسن لذاته، ولما يحقق من لذة أو نفع أو سعادة، فالصيام حسن لذاته، ولما يحصل للمؤمن من المنافع واللذة الروحية والسعادة في الدنيا والآخرة. ومعنى (إن كنتم تعلمون) أي: فضيلة الصوم وفوائده. ومما سبق يتبين لنا أن الله سبحانه وتعالى قرر أن للصوم منافع وفوائد هي متحققة حتمًا على كل من افترضه عليه، من الأصحاء المقيمين، والذين يصومون بلا مشقة زائدة، وأن هذه الفوائد والمنافع تعم أهل الرخص إن صاموا، ما لم يتحقق الضرر، ولا منافاة -فيما نعلم- بين تقرير الله هذا، وبين قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) بعد قوله: (فمن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) فاليسر هنا هو رفع الإلزام، وتشريع الرخصة، والعسر خلافه، قال القاسمي في محاسن التأويل: يريد الله بكم اليسر أي: تشريع السهولة بالترخيص للمريض والمسافر، وبقصر الصوم على شهر (ولا يريد بكم العسر) في جعله عزيمة على الكل، وزيادته على شهر. إن المولى عز وجل قد بين أن ترك حرية الاختيار بين الصيام والفطر، للمرضى، والمسافرين، والمطيقين، مع حثهم على الصيام لفوائده وفضائله -والتي لا يعلمونها في الغالب- أن هذا هو التشريع الذي أراده لهم، وهو تشريع سهل ميسور، وأن في إبقاء فرضية الصيام على المرضى، والمسافرين،

والمطيقين عنت ومشقة وعسر، لم يشرعه الله، فليس هناك تعارض بين تقرير خيرية الصيام لهؤلاء وقوله سبحانه (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) فما قال أحد بأن العسر هو الصيام بل يكون الخلاف دائمًا بين علماء المسلمين في الخيار والأفضلية بين ما هو الأيسر أو الأفضل، الصيام أم الفطر؟ فمن قائل: الفطر، ومن قائل: الصيام، ومن قائل: بأنه أيسرهما على المرء، لقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) إذن فقد يكون الصيام هو الأيسر لبعض هؤلاء من الفطر. لقد ذكر علماء المسلمين أن من الأمراض ما ينقصه الصوم أو يكون علاجًا له أو مساعدًا على زواله، لذلك قرر أكثر الفقهاء أن رخصة الإفطار في المرض ليست على الإطلاق، فقالوا: إن المرض المبيح للفطر هو الذي يؤدي إلى ضرر في النفس، أو زيادة في العلة، وكلام ابن الجوزي كان أكثر تحديدًا، إذ قال: "وليس المرض والسفر على الإطلاق، فإن المريض إذا لم يضر به الصوم لم يجز له الإفطار، وإنما الرحمة موقوفة على زيادة المرض بالصوم. إن قضية الضرر والمشقة التي يمكن أن يعاني منها المريض، أو المسافر، أو كبير السن، ومن في حكمه، نتيجة للصيام - قضية نسبية، تختلف من فرد لآخر، ومن بيئة لأخرى، وتتأثر بالحالة النفسية والمزاجية للأشخاص، والعرف الاجتماعي العام، وظنون الأطباء، والعاملين في الحقل الصحي. ونستطيع أن نقول: إنه ليس هناك ما يثبت أن للصيام الإسلامي ضررًا محققًا على معظم الأمراض، أو على وظائف الأعضاء في الشيخوخة، أو أثناء الحمل، أو الرضاعة، أو أثناء السفر، حتى يظل الصيام خير لمعظم المرضى، والمسافرين والمطيقين للصيام، محققًا لهم من الفوائد والمنافع الشيء الكثير الذي لا يعلمونه. ولو قرض وتحقق الضرر في بعض الحالات، أو بعض الظروف، فيكون هذا هو العسر الذي يعود فيه التشريع تلقائيًا إلى اليسر، والذي هو هنا وجوب الفطر لا الرخصة. ولقد عرف الحرالي اليسر بأنه: عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم

والعسر ما يجهد النفس ويضر الجسم. إن العسر هو ما يصيب النفس من جهد شديد لا تتحمله عادة، فيجهدها ويثبط عملها، أو كل ما يصيب الجسم بضرر محقق أو ضعف يؤدي إلى ضرر، أو يفوت مصلحة راجحة. إن هذا العسر قد أبدلنا الله عنه بتشريع اليسر، وهو كل عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم، وهو هنا الرخصة، وحرية الاختيار بين الصيام والإفطار، لمطلق من يسمى مريضًا، أو على سفر، أو شيخا كبيرًا في العادة وتظل قاعدة (وأن تصوموا خير لكم) ، برغم مشقة المرض أو السفر، أو ازدياد مشقة الحرمان من الغذاء للشيخ الكبير، ومن في حكمه تحت هؤلاء على الصيام ليجنوا منه الفوائد الجسدية والنفسية، وليكون العلم بأسرار الصيام وفوائده، معينًا لهؤلاء وميسرًا لهم تحمل هذه المشقات الاختيارية والممكنة، والناس متفاوتون في هذا، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. أما إذا حصل الضرر أو ترجح وقوعه، عاد التشريع إلى تحريم الصيام ووجوب الفطر، فهذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم في السفر ويفطر، ويقول لرجل سأله عن الصيام في السفر: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر". وها هو ذا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوجب الفطر على الناس في سفر الحرب، حينما رآهم يتساقطون من شدة الحر، ويفطر أمامهم، ويأمر الناس جميعًا بالفطر، ويقول لمن صام منهم: "أولئك العصاة" أولئك العصاة"، وهو هو ذا أيضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سافر مع أصحابه إلى مكة صائمين، فنزلوا منزلاً، فقال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم! "إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم" فكانت رخصة، فمنهم من صام، ومنهم من أفطر، بعد أن كانوا جميعًا صائمين، ثم نزلوا منزلاً آخر فقال: "إنكم مصبحوا عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا"، فكانت عزمة، فأفطروا، ثم قال راوي الحديث: لقد رأيتنا نصوم مع رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك في السفر. فالصيام للمرض والمسافرين والمطيقين هو الأولى والأنفع، ما لم تضعف النفس عن لمحمل المشقة، أو يصيبها أو يصيب الجسد ضرر محقق أو متوقع، في الأولى تكون الرخصة، وفي الثنية تكون العزمة، ويستعين الإفطار، بهذا قال بعض أهل التفسير وجمهور الفقهاء كلما ذكرنا.

ونخلص مما تقدم أن الله سبحانه أثبت للصيام منافع وفوائد جسمية، نفسية، علاوة على المنافع الأخروية، لمن ثبتت لهم رخصة الإفطار من المرضى، والمسافرين، وكبار السن، ومن في حكمهم، وأن هذه المنافع والفوائد للأصحاء أولى وأثبت، لعموم اللفظ في قوله تعالى (وأن تصوموا خير لكم) والذي يرجع إلى كل من سبق ذكرهم من أصحاب الأعذار. وقد تجلت هذه الفوائد واستقر خبرها في زماننا هذا، لمن أوجب الله عليهم الصيام، ولمن أطاقوه من أهل الرخص، الذين يستطيعون تناول وجبتي الفطور والسحور كالأصحاء. ولا يفوتنا إثبات أنه لا يوجد بحث علمي أجري على الصائمين الأصحاء، في الظروف الطبيعية إلا وأفاد أحد أمرين: (أ) إما عدم تأثير الصيام على وظائف الأعضاء ومكونات الجسم بأي قدر يشكل خطورة على الجسم. (ب) أو أنه يظهر فائدة جلية في بعض هذه الوظائف، أو تحسين بعض مكونات الجسم. ولا يوجد بحث علمي -فيما أعلم- في تأثير الصيام الإسلامي على المرضى، أثبت خطرًا محققًا على مريض استطاع الصيام في الظروف الاعتيادية للإنسان، وقد كثفت البحث عن هذا، واطلعت على ملخصات لعدة قوائم للأبحاث، من مراكز عالمية في هذا الموضوع، بالإضافة إلى ما توفر لنا من الأبحاث المنشورة في المجلات، والمراجع الطبية، وأعمال الندوات والمؤتمرات العلمية، وكانت كل الأبحاث التي وقعت تحت يدي إما لا تثبت ضررًا للمرضى، أو أنها تثبت فائدة لهم. وهذه أمثلة على بعض الأمراض الخطوة: 1- كان وما زال الأطباء يعتقدون أن الصيام يؤثر على مرضى المسالك البولية، وخصوصًا الذين يعانون من تكون الحصيات أو الذين يعانون من فشل كلوي، فينصحون مرضاهم بالفطر، وتناول كميات كبيرة من السوائل.

وقد ثبت خلاف ذلك، إذ ربما كان الصيام سببًا في عدم تكون بعض الحصيات، وإذابة بعض الأملاح، ولم يؤثر الصيام مطلقًا حتى على من يعانون من أخطر أراض الجهاز البولي، وهو مرض الفشل الكلوي مع الغسيل المتكرر. 2- كان يعتقد أن الفقدان النسبي لسوائل الجسم، وانخفاض عدد ضربات القلب، وزيادة الإجهاد أثناء الصوم، يؤثر تأثيرًا سلبيًّا على التحكم في منع تجلط الدم، وهو من أخطر الأمراض، وقد ثبت أن الصيام الإسلامي لا يؤثر على ذلك في المرضى الذين يتناولون الجرعات المحددة من العلاج. 3- ثبت أن الصيام لا يشكل خطرًا على معظم مرضي السكري، إن لم يكن يفيد الكثيرين منهم. 4- يعالج الصيام عددًا من الأمراض الخطيرة أهمها: أ- الأمراض الناتجة عن السمنة: كمرض تصلب الشرايين، وضغط الدم، وبعض أمراض القلب. ب- يعالج بعض أمراض الدورة الدموية الطرفية مثل: مرض الرينود (Raynaud's Disease) ، ومرض برجر. ج- يعالج كثيرًا من الأمراض التي تنشأ من تراكم السموم، والفضلات الضارة في الجسم. د- يعالج الصيام المتواصل مرض التهاب المفاصل المزمن (الروماتويد) هـ- يعدل الصيام الإسلامي ارتفاع حموضة المعدة، وبالتالي يساعد في التئام قرحة المعدة مع العلاج المناسب. و لا يسبب الصيام أي خطر على المرضعات، أو الحوامل، ولا يغير من التركيب الكيميائي، أو التبدلات الاستقلابية في الجسم عند المرضعات، خلال الشهور الأولى والمتوسطة من الحمل. أما الفوائد التي يجنيها الصائمون عمومًا، فهي أكثر من أن تحصى، وقد ذكرنا طرفًا منها عند الحديث عن الأثر الوقائي للصيام، في أول هذا الباب،

وسنشير هنا إلى بعض الحقائق العلمية العامة، وبعض الأبحاث الخاصة، التي تؤكد فوائد الصوم ومنافعه للإنسان، والتي ثبتت من خلال هذا البحث. 1- يمكن الصيام آليات الهضم والامتصاص في الجهاز الهضمي وملحقاته، من أداء وظائفها على أتم وأكمل وجه، وذلك بعدم إدخال الطعام والشراب على الوجبة الغذائية، أثناء هضمها وامتصاصها. كما يتيح الصيام راحة فسيولوجية للجهاز الهضمي وملحقاته، وذلك بمنع تناول الطعام والشراب لفترة تتراوح من 9-11 ساعة بعد امتصاص الغذاء، فتستريح الغدد اللعابية، والمعدة، ويستريح الكبد أيضاً من إفراز جزء كبير من عصارته الصفراوية، بما فيها من أملاح وأحماض وأصباغ صفراوية هاضمة للدهون، ويستريح الجهاز الهضمي من إفراز هرموناته وإنزيماته من المعدة والأمعاء، كما تستريح آليات الامتصاص في الأمعاء طوال هذه الفترة من الصيام. وتتمكن الانقباضات الخاصة (Mingrationg Motor Complex) بتنظيف الأمعاء، لعملها المستمر دون توقف. 2- يمكّن الصيام الغدد ذات العلاقة بعمليات الاستقلاب، في فترة ما بعد الامتصاص، من أداء وظائفها، في تنظيم وإفراز هرموناتها الحيوية على أتم حال، وذلك بتنشيط آليات التثبيط والتنبيه لها يوميًا، ولفترة دورية ثابتة، ومتغيرة طوال العام، وبالتالي يحصل توازن بين الهرمونات المتضادة في العمل، مثل هرموني: النمو والإنسولين، كهرمونات بناء من ناحية، وهرموني: الجلوكاجون والكورتيزول، كهرمونات هدم من ناحية أخرى، والذي يتوقف على توازنها الدقيق، تركيز الأحماض الأمينية في الدم، وتوازن الاستقلاب. 3- ينشط الصيام آليات الاستقلاب، أو التمثيل الغذائي للجلوكوز، والدهون، والبروتينات في الخلايا، لتقوم بوظائفها على أكمل وجه، فآلية احتراق الجلوكوز في دائرة حمض الستريك لإنتاج الطاقة، وآلية تخزينه إلى جليوكوجين، وآلية تحويل الجليوكوجين إلى جلوكوز مرة أخرى، وآلية تخزين

الدهون، وآلية تجمع الأحماض الأمينية لتكوين بروتين الخلايا، والأنسجة، والبلازما، والهيموجلوبين، وتكوين الهرمونات والإنزيمات المختلفة، وآلية تثبيط هذه العملية الحيوية، وآلية تكوين أحماض أمينية، مثل الألانين من البيروفيت وغيره، وآلية تصنيع جلوكوز جديد في الكبد من هذه الأحماض الأمينية، والآليات الدقيقة التي تربط بين هذه الآليات في العمليات الكيميائية المعقدة، وما يصاحبها من إنزيمات، وهرمونات، وأملاح معدنية، وخلاف ذلك، والتوازن الحاصل لمكونات الخلايا والأنسجة والجسم عمومًا، كل ذلك يتم على أكمل وأتم وجه في الصيام كما سبق وأن شرحناه. أما إذا اقتصر الجسم على البناء فقط، وكان همه التخزين للغذاء في داخله، فإن آليات البناء تغلب آليات الهدم، فيعتري الأخيرة -لعدم استعمالها بكامل طاقتها-، وهن تدريجي، تظهر ملامحه عند تعرض الجسم لشدة مفاجئة، بانقطاع الطعام عنه في الصحة، أو المرض، فقد لا يستطيع هذا الإنسان مواصلة حياته، أو مقاومة مرضه. 4- يحسن الصيام خصوبة المرأة والرجل على السواء. 5- يستفيد الإنسان من العطش أثناء الصيام استفادة كبيرة، حيث يساعد في إمداد الجسم بالطاقة، وتحسين القدرة على التعلم، وتقوية الذاكرة. 6- تتهدم الخلايا المريضة والضعيفة في الجسم عندما يتغلب الهدم على البناء أثناء الصيام، وتتجدد الخلايا أثناء مرحلة البناء. 7- إن أداء الصيام الإسلامي طاعة لله وخشوعًا له، ورجاء فيما عنده سبحانه من الأجر والمثوبة، لعلم ذو فائدة جمة لنفس الإنسان وجسمه، حيث يبث في النفس السكينة والطمأنينة، وينعكس هذا بدوره على آليات الاستقلاب، فيجعلها تتم في أوفق وأيسر وأنفع السبل، مما يعود بالنفع والفائدة على الجسم. إن الصيام كاقتناع فكري وممارسة عملية، يقوي لدى الإنسان كثيرًا من جوانبه النفسية، فيقوى لديه الصبر، والجلد، وقوة الإرادة، وضبط النوازع والرغبات، ويضفي على نفسه السكينة والرضا والفرح.. وقد أخبر بذلك

الوجه الثالث يسر الصيام الإسلامي وسهولته

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" (1) . متفق عليه، وما يدخله السرور على الصائم بوعد الله له بأنه يدخل الجنة من باب الريان، وأن من صام يومًا في سبيل الله، باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا، وأن من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه.. إلى آخر ما أشارت إليه أحاديث الباب، وتلك الأحاديث المبشرة المشجعة وا-لمفرحة لنفس الصائم، وهذه لذة وسعادة لا يحققها في النفس إلا الصيام. الوجه الثالث من الإعجاز يسر الصيام الإسلامي وسهولته 1- تشير الدراسات العلمية المحققة في وظائف أعضاء الجسم أثناء مراحل التجويع على يسر الصيام الإسلامي وسهولته. لقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن حقيقة علمية أخرى وهي أن الصيام الذي فرضه علينا وحدد لنا مدته الزمنية طلوع الفجر إلى غروب الشمس، في قوله تعالى: (وكلُوا واشْرَبوا حتّى يتبيّن لكُم الْخيْطُ الأبْيضُ منَ الخيطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجرِ ثمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَيلِ) [البقرة: 1187] ، أخبرنا بأن هذا الصيام سهل ويسير، لا مشقة فيه ولا ضرر، قال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ... ) قال الفخر الرازي في تفسير الآية: "إن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر، وما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ما أوجب هذا القليل على المريض، ولا على المسافر". فالصيام الإسلامي صيام سهل ميسور للأصحاء المقيمين، لا مشقة للنفس فيه، ولا ضرر يلحق الجسم من جرائه، على وجه القطع واليقين. وتتمثل مظاهر يسر الصيام في النقاط التالية: 1- الصيام المفروض أيام قليلة معدودة وهو شهر في السنة، ولم

_ (1) "صحيح مسلم" ج2 (كتاب الصيام رقم الحديث 163، ص807) .

يفرض الله صيام الدهر. كله ولا صيام أكثر، ولو شاء سبحانه لفرضه، ولكن رحمته وسعت جميع الأمم، وسهلت عليهم أمر هذا التكاليف. 2- الصيام الإسلامي مفروض وملزم للأصحاء المقيمين (1) ، وشعور الفرد بإلزامية الصيام على الجميع: السابقين منهم والحاضرين، ميسر له ومخفف عنه توهم المشقة النفسية، الناتجة عن الحرمان المؤقت من الطعام والشراب، وتغيير الإلف والعادة، كما أن ترجّى الحصول على منافع وفوائد الصيام، يهون هذه المشقة النفسية المتوهمة ويزيلها. 3- تشريع رخصة الفطر للمرضى، والمسافرين، والمطيقين، برغم الفوائد والمنافع التي يجنونها من الصيام إن صاموا، تخفيفًا وتيسيرًا لهم من مشقات المرض والسفر، ومشقة الحمل والرضاعة، وقلة الصبر على الحرمان من الغذاء لكبار السن، وتحريم الصيام عليهم إن تحقق لهم ضرر، أو فاتت مصلحة حيوية عامة أو خاصة بصيامهم. 4- إلزام ذوي الأعذار الموقوتة، كالمرضى والمسافرين، بإعادة الصيام في وقت آخر من العام حتى لا يحرموا من فوائده ومنافعه، وإسقاط هذا الإلزام لذوي الأعذار الدائمة ككبار السن -باتفاق-، ولذوي الأعذار شبه الدائمة: كالحوامل والمرضعات، وذوي الأمراض المزمنة التي لا يرجي برؤها في الغالب، تيسيرًا ورأفة ورحمة بهم. 5- يتجلى يسر الصيام الإسلامي في إمداد الجسم بجميع احتياجاته الغذائية، وعدم حرمانه من كل ما هو لازم ومفيد له، فالإنسان في هذا الصيام، يمتنع عن الطعام والشراب فترة زمنية محدودة، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وله حرية المطعم والمشرب من جميع الأغذية والأشربة المباحة ليلاً، ويعتبر الصيام الإسلامي بهذا تغيير لمواعيد تناول الطعام والشراب فحسب، فلم يفرض الله سبحانه الانقطاع الكلي عن الطعام لمدد طويلة، أو حتى لمدة يوم وليلة، تيسيرًا وتخفيفًا على أمة خاتم الأنبياء، عليه الصلاة

_ (1) هذا على العموم وإلا فهناك شروط أخرى كالإسلام والبلوغ، وتراجع كتب الفقه في ذلك.

والسلام، وقد تجلى هذا اليسر بعد تقدم وسائل المعرفة والتقنية في هذا العصر، وبعدما عرف الإنسان دقيق تركيبه، ومكونات جمسه، وشاهد الخلايا البشرية بالمجاهر العملاقة، وعرف مكوناتها ووظائفها، وقدرًا كبيرًا من أسرارها، وتوصل بعلومه إلى معرفة مكونات جميع الأغذية والأشربة، وكيف يستفيد منها الجسم والكائن الحي، كما عرف الأخطار الناجمة من كثرة الإسراف في تناولها وغير ذلك مما أثبتناه في هذا البحث. وهذه هي الأدلة العلمية القاطعة والبراهين الواضحة، على يسر الصيام الإسلامي وسهولته. ففي خلال المرحلة الأولى من الامتناع عن الطعام (مرحلة ما بعد الامتصاص) : تنشط جميع آليات الاستقلاب، فتتسارع عملية تحلل الجليوكوجين إلى جلوكوز، وتنشط آلية استقلاب الدهون، فتتحلل إلى أحماض دهنية وجليسرول، ثم تتأكسد الأحماض الدهنية، في دائرة حمض الستريك لإنتاج الطاقة، ويدخل الجيسرول في دائرة تصنيع جلوكوز جديد، كما تنشط أيضًا آلية استقلاب فتستهلك الأحماض الأمينية في عملية تصنيع الجلوكوز الجديد أيضاً وينتج الكبد (200جم) في اليوم منه، وذلك لحفظ معدل تركيز الجلوكوز في الدم، في مستوى ثابت لإمداد الأنسجة التي تعتمد على التغذية به، من الطاقة اللازمة لها، وتنشط عملية تحلل الجليوكوجين إلى جلوكوز بمعدل أكبر في الساعات الأولى من هذا الصيام، وأما عملية تحلل الدهون وأكسدتها، مع عملية تحول الأحماض الأمينية إلى جلوكوز، فتحدثان بمعدلات أكبر في نهاية هذه الفترة (1) . وأهم أحداث هذه المرحلة -والتي يقع فيها الصيام الإسلامي- هي: 1- الجلوكوز هو الوقود الوحيد للمخ. 2- لا تتأكسد الدهون بالقدر الذي يولد أجسامًا كيتونية زائدة بالدم. 3- لا يستهلك البروتين في إنتاج الطاقة، بالقدر الذي يحدث خللاً في

_ (1) وظائف الأعضاء في التجويع المطلق.

التوازن النتروجيني في الجسم. وهذه الحقائق تجعل الصيام الإسلامي متفردًا في يسره وسهولته، حتى إن بعض العلماء لم يعد فترة ما بعد الامتصاص، أو الفترة المبكرة من توقف الغذاء، من مراحل التجويع. أما في المرحلة الثانية (التجويع المتوسط) : فتنبه أكثر عملية تصنيع الجلوكوز الجديد، وتحدث عملية الأكسدة للدهون بصورة أكبر من المرحلة الأولى، وتنتج الأجسام الكيتونية لإمداد عدد من الأنسجة بالطاقة اللازمة، فمثلاً يستهلك المخ من الطاقة من -هذه الأجسام- حوالي من 10-20% من احتياجاته، والجلوكوز المنتج في هذه المرحلة، ضعفا المنتج منه في المرحلة السابقة أو ثلاثة أضعافه، وبرغم توفر وقود من الجليسرول، واللاكتات، لعملية تصنيع الجلوكوز الجديد، إلا أنه في هذه الفترة يرتفع معدل تحلل البروتين، وينتج توازن نتروجيني سلبي، يفرز فيه النتروجين على هيئة بولينا، كما يأخذ الكبد كميات متزايدة من الأحماض الدهنية الحرة، ويتأكسد جزء كبير منها، وهذا يؤدي إلى تولد مزيد من الأجسام الكيتونية. وأهم ما يحدث في هذه المرحلة هو: 1- ارتفاع معدل استقلاب البروتين وحدوث توازن نتروجيني سلبي. 2- تزداد عملية تصنيع جلوكوز جديد بأكسدة المزيد من الدهون. 3- تكوين الأجسام الكيتونية، واعتماد المخ على جزء منها للحصول على الطاقة. وفي المرحلة الثالثة: (التجويع طويل الأجل) يحدث الآتي: 1- انخفاض معدل تحلل البروتين وإخراج النتروجين. 2- زيادة الاعتماد على ثلاثي الجليسرول (الدهون) لإنتاج الطاقة. 3- تنشيط عملية تصنيع جلوكوز جديد، وإنتاج حوالي 75% من الجلوكوز في الكبد بهذه العملية، من أحماض غير أمينية مثل اللاكتات، والبيروفات والجليسرول، وينتج الكبد بهذه العملية 50جم في اليوم، بدلا من

200جم يوميًّا في المرحلة الأولى، كما تشارك الكلى في تصنيع الجلوكوز، حيث تنتج الكلية 40 كم/يوميًا. 4- ينخفض الطلب على الجلوكوز خلال هذه المرحلة، ويعتمد المخ على الأجسام الكيتونية، بنسبة 70-80% للحصول منها على الطاقة نتيجة لازدياد تحلل الدهون. من خلال عرض الحقائق السابقة، ندرك أن مدة الصيام الإسلامي والتي تتراوح من 12-16 ساعة في المتوسط، يقع جزء منها في فترة الامتصاص، ويقع معظمها في فترة ما بعد الامتصاص، ويتوفر فيها تنشيط جميع آليات الامتصاص والاستقلاب بتوازن، فتنشط آلية تحلل الجليوكوجين، وأكسدة الدهون، وتحللها وتحلل البروتين، وتكوين الجلوكوز الجديد منه، ولا يحدث للجسم البشري أي خلل في أي من وظيفة وظائفه، فلا تتأكسد الدهون بالقدر الذي يولد أجسامًا كيتونية تضر الجسم، ولا يحدث توازن نتروجيني سلبي لتوازن استقلاب البروتين، ويعتمد المخ البشري، وخلايا الدم الحمراء والجهاز العصبي، على الجلوكوز وحده للحصول منه على الطاقة. بينما التجويع أو الصيام الطبي، القصير والطويل منه، لا يقف عند تنشيط هذه الآليات، بل يشتد حتى يحدث خللاً في بعض وظائف الجسم. الفرق بين الصيام الإسلامي والتجويع: أ- التوازن بين البناء والهدم في الصيام الإسلامي، حيث يتحسن البناء عن معدل الهدم، بخلاف التجويع، حيث يزداد معدل الهدم عن معدل البناء، والذي يكون على حساب تدمير خلايا العضلات. ب- لا توجد أجسام كيتونية في الصيام الإسلامي، حيث تتأكسد الأحماض الدهنية باعتدال، لكنها توجد في التجويع، حيث يكون التأكسد لهذه الأحماض بكثافة عالية. ج- يتحسن إنتاج الطاقة في دائرة حمض الستريك أثناء الصيام الإسلامي، أفضل من غير الصائمين، وأفضل بكثير منه في التجويع.

د- التوازن في إنتاج جلوكوز الدم وتحول الجليوكوجين إليه، وبالعكس أثناء الصيام الإسلامي عنه في التجويع، وكل هذا يؤكد تفوق الصيام الإسلامي على الصيام الطبي، مع تحقيقه لكل فوائده، حيث يشتركا معًا في تنشيط عمليات الهدم، وتخليص الجسم من الأنسجة المريضة، والفضلات السامة. إن الفترة الزمنية التي وقتها الله سبحانه وتعالى من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، هي فترة زمنية كافية، لتنشيط كافة العمليات الحيوية داخل الجسم البشري، وإن في الزيادة عليها جهد ومشقة وحرج، ولا يجني منها ثمرة حقيقية، لذلك نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال في الصوم، وهو: التجويع المطلق الذي لا يتناول فيه المرء طعامًا وشرابًا لأكثر من يوم؛ لأنه لن يحقق فائدة زائدة، بل سيحطم الأنسجة لحفظ توازن الطاقة في الجسم، وقد يتشمع الكبد، وتضطرب وظائفه، وترتفع الأجسام الكيتونية، فتحدث حموضة الدم الخطرة. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى" رواه البخاري. إن هذا الحديث يؤكد أهمية الطعام والشراب في الصيام، وأن في مواصلة الانقطاع عنهما ضرر وحرج، وأن ما يراه أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من انقطاعه عنهما، إنما هو أمر خاص به، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطعم ويسقى بطريق آخر، غير معتاد للبشر، كما أخبر بذلك. * يعتبر الصيام الإسلامي تمثيلاً غذائيًّا فريدًا؛ إذ يشتمل على مرحلتي البناء والهدم، فبعد وجبتي الإفطار والسحور، يبدأ البناء للمركبات الهامة في الخلايا، وتجديد المواد المختزنة، والتي استهلكت في إنتاج الطاقة، وبعد فترة امتصاص وجبة السحور، يبدأ الهدم، فيتحلل المخزون الغذائي من الجليوكوجين والدهون، ليمد الجسم بالطاقة اللازمة، أثناء الحركة والنشاط في نهار الصيام. تتراوح فترة الهدم أثناء الصيام الإسلامي من 8-13 ساعة، وهذه الفترة تقع على وجه القطع في الفترة التي سماها العلماء فترة ما بعد الامتصاص،

والتي تتراوح من 6-12 ساعة وقد تمتد إلى 40 ساعة، حسب تقسيم المدارس المختلفة لمراحل التجويع، أو الصوم المطلق (Starvation) ويعتبر العلماء هذه الفترة فترة أمان كامل، ولا يحصل منها أي ضرر على الإطلاق للجسم، بل على العكس يستفيد الجسم منها فوائد عديدة، قد ذكرنا طرفا منها. لذلك كان تأكيد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحثه على ضرورة تناول وجبة السحور، لإمداد الجسم بوجبة بناء يستمر لمدة 4 ساعات، محسوبة من زمن الانقطاع عن الطعام، وبهذا أيضاً يمكن تقليص فترة ما بعد الامتصاص إلى أقل زمن ممكن، كما أن حث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على تعجيل الفطر، وتأخير السحور، يقلص فترة الصيام أيضًا إلى أقل حد ممكن؛ حتى لا يتجاوز فترة ما بعد الامتصاص ما أمكن، وبالتالي فإن الصيام الإسلامي لا يسبب شدة، ولا يشكل ضغطا نفسيًا ضارًا على الجسم البشري، بحال من الأحوال. روى زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: تسحرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قمنا إلى الصلاة، قيل: كم كان بينهما؟ قال خمسون آية (متفق عليه) (1) . وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا". (متفق عليه) (2) . عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: دعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى السحور في رمضان فقال: "هلم إلى الغداء المبارك" (3) . عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هو الغداء

_ (1) راجع فتح الباري (4/138) حديث رقم (1921م) ، ومسلم (2/771) حديث رقم (47) . (2) راجع فتح الباري (2/99) حديث رقم (617) ، ومسلم (2/768) حديث رقم (36-38) . (3) أبو داود (2/757) ، حديث (2344) ، والنسائي (4/145) ، وابن حبان (5/194) حديث رقم (56) .

المبارك" يعني: السحور (1) . عن عبد الله بن حارث عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دخلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يتسحر فقال: "إنها بركة أعطاكم الله إياها فلا تدعوه" رواه النسائي بإسناد حسن (2) . عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه، وهو صحيح (3) . وعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "فرق ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" رواه مسلم (4) . وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تسحروا فإن في السحور بركة". متفق عليه (5) . روى سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" متفق عليه (6) . وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون" أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وهو صحيح (7) . وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

_ (1) ابن حبان (5/193) حديث رقم (3455) . (2) راجع النسائي (4/145) . (3) راجع ابن حبان (5/194) حديث رقم (3458) . (4) مسلم (2/770-771) حديث رقم (46) . (5) البخاري (2/36) حديث (1923) ، ومسلم (2/770) حديث رقم (45) . (6) مسلم (ج2 ص771) حديث رقم (48) ، والبخاري مع الفتح (4/189) . (7) سنن أبي داود (2/363) حديث (2353) ، وابن ماجه في الصوم، في باب تعجيل الإفطار، حديث رقم (1698) ، وابن خزيمة (3/275) حديث رقم (2060) .

قط صلى صلاة المغرب حتى يفطر، ولو على شربة ماء" أبو يعلى في مسنده وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وهو حديث حسن (1) . * وجود مخزون من الطاقة في الجسم البشري، يكفي الإنسان حينما يمتنع عن تناول الطعام امتناعًا تامًا، لمدة شهر إلى ثلاثة شهور، لا يتناول فيها أي طعام قط، ولقد هيأ الله سبحانه هذا المخزون الهائل في جسم الإنسان ليمده بأسباب الحياة في وقت الحاجة، كما في الصيام، والمرض وفي أوقات الشدة، والحرمان من الغذاء، فالجلوكوز المختزن في صورة جليوكوجين في الكبد، والعضلات، يمد الجسم بالطاقة اللازمة له خلال الفترة الأولى من الامتناع عن الطعام، بينما تقدم الدهون المختزنة في الأنسجة الشحمية، والبروتينات المختزنة في العضلات، الطاقة اللازمة للجسم، في الفترات المتوسطة والطويلة من التوقف عن تناول الطعام (التجويع المطلق) . وبناء على هذه الحقيقة يمكننا أن نؤكد أن الذي يتوقف أثناء الصيام، هو عمليات الهضم والامتصاص، وليست عمليات التغذية، فخلايا الجسم تعمل بصورة طبيعية، وتحصل على جميع احتياجاتها اللازمة لها، من هذا المخزون بعد تحلله، والذي يعتبر هضمًا داخل الخلية، فيتحول الجليوكوجين إلى سكر الجلوكوز، والدم والبروتينات إلى أحماض دهنية وأحماض أمينية، بفعل شبكة معقدة من الإنزيمات، والتفاعلات الكيمائية الحيوية الدقيقة، والتي يقف الإنسان أمامها مشدوها معترفًا بجلال الله وعلمه، وعظيم قدرته وإحكام صنعه. ويمارس الإنسان بعد 4 أيام من انقطاعه عن الطعام في المصحات الطبية - التي تعالج بالصوم الطبي، أو الانقطاع الكلي عن الطعام- حياته العادية، من السير والقراءة والكتابة، بل ويمارس التمارين الرياضية والسباحة، ولكن تحت إشراف طبي دقيق، ولا يشعر الإنسان بالتعب والإعياء إلا في الأيام الأربعة الأولى من انقطاعه عن الطعام، ولا يحس بالجوع المعتاد إلا في خلال هذه

_ (1) ابن خزيمة (3/276) حديث رقم (2063) ، وابن حبان (5/207) حديث رقم (3494) ، وأبو يعلى في مسنده (4/50) حديث رقم (3780) .

الأيام، ثم يختفي بعد ذلك، وقد شرح الدكتور (بريزتنس) ذلك بقوله: "إن الشعور بالتعب والإرهاق الذي يترافق مع الجوع هو حالة فيزيائية صرف، وبناء على تجارب عديدة أجريت في المخابر، فإن الصوم بحد ذاته لا يؤدي إلى هذه الأعراض، ولا إلى الآلام والضعف وخصوصًا في الأيام الأولى منه، وإنما ذلك يرجع إلى أسباب عديدة، ليس الصوم واحداً منها، وإن غياب هذه الأعراض مع استمرار الصوم، يبرهن على أن الصوم ليس له علاقة بذلك، وأهم هذه الأسباب: التوقف المفاجئ عن تناول المنبهات التي اعتاد المرء تناولها، والعادات السيئة في الطعام، وعلى رأسها الإسراف فيه، وقد وجد أن الأشخاص البدينين والذين يعيشون في حالة من الرخاء، هم الذين يشكون من هذه الأعراض أكثر من غيرهم، وفرق بين هذا، وبين الجوع الحقيقي الذي هو ظاهرة فسيولوجية، ونداءات للحصول على الغذاء الضروري للجسم، والذي لا يحدث إلا بعد نفاد جزء كبير من مخزون الغذاء في الجسم. ولكن مع كل هذه الإمكانية الهائلة التي هيأها الله سبحانه للجسم الإنساني، في مقدرته على حفظ حياته، عند انقطاعه التام عن تناول الطعام، مع كل هذا، فقد فرض علينا سبحانه وتعالى صيامًا لا ننقطع فيه عن الطعام إلا فترة زمنية لا تتعدى -في الغالب- نصف يوم، فكم هي سهلة ميسورة! يمكن أن يمارس فيها الصائم أشق الأعمال وأشدها، من غير ضرر يلحق به، أو حتى شدة يتعرض لها، فالطاقة المحركة متوفرة وبكثرة، وبناء الخلايا وتجديد التالف منها لن يتأثر مطلقًا، فالمركبات الثلاثة الهامة: البروتينات، والكربوهيدرات، والدهون، يمكن أن يتحول كل منها للآخر داخل الخلايا، وتبنى منها جمع مركبات الخلية، وعليه فلن يتأثر أي عمل حيوي داخل الجسم، بل تستفيد كل أجهزة الجسم بالصيام، فينشط لمزيد من العمل والحركة، كما أن تناول الطعام في الفطور والسحور، يجدد مخزون الطاقة التي استهلكت في العمل، ويمد الجسم باحتياجاته من الأحماض الأمينية، والدهنية الأساسية، والتي لا يستطيع الجسم تصنيعها بداخله، ويمده أيضًا باحتياجاته اليومية من الفيتامينات والمعادن، والتي لابد له من الحصول عليها في الغذاء، وبذلك يستطيع الإنسان أن يصوم السنة

كلها صيامًا إسلاميًا، يتناول فيه وجبتي السحور والفطور، من غير ضرر يهدد حياته، ولكن رحمة الله بالإنسان أبت إلا تخفيف ذلك عليه بإلزامه شهرًا واحداً في السنة، وتركته حرًا مختارًا فيما بعد ذلك، في السنن والنوافل التي أمر بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو حافظ عليها، كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو الاثنين والخميس من كل أسبوع، وكصيام ستة أيام من شوال، ويوم عاشوراء، وعرفة، ومنع الإنسان من قهر نفسه وتعذيبها بإلزامها صوم السنة كلها، وقد اعترض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أحد الصحابة الذي ألزم نفسه بصيام السنة كلها، حتى نحل جسمه وتغيرت ملامحه، فقال له: لم "عذبت نفسك"! وأمره بالاعتدال فأي تخفيف أيسر من هذا التخفيف! وصدق الله العظيم القائل: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28] ، وأي يسر أعظم من هذا اليسر! قال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا وريد بكم العسر) وهكذا يتجلى الإعجاز العلمي في الصيام الإسلامي بظهور الحقائق العلمية في هذا الزمان والتي ما كان في مقدور بشر منذ أربعة عشر قرنًا أن يخبر عنها وأن يجزم بها، هذا وقد نشأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيئة لا تعرف هذا الصيام ولا تمارسه. وبعد أن استبانت الحقائق عن الجسم البشري والتمثيل الغذائي فيه، وأخطار كثرة الأكل، نادى العلماء بالاعتدال في الطعام، والشراب، وضرورة الصيام للإنسان وقاية وعلاجًا، وتحقيقًا لمنافع وفوائد شتى، لخصها الدكتور (آلان كوت) (1) في الفصل الأول من كتابه "الصوم الطبي" إجابة عن سؤال، لماذا نصوم؟ قال: لتخفيف الوزن بأسرع وأسهل طريقة، ولنعطي أجهزة الجسم فترة راحة مناسبة، ولتنظيف أجسامنا وتطهيرها بخراج الخبث والسموم منها، ولنترك لأجسامنا فرصة كي ترمم نفسها بنفسها، ولنعالج به عددًا من الأمراض الشائعة، ولنتخلص به من التوتر النفسي، ولنصقل به الحواس ونوقظ المواهب، ولنكتسب به القدرة على ضبط النفس والسمو الروحي، فتتحسن بذلك أجسامنا وعقولنا، وتتباطء عملية السير نحو الشيخوخة، ثم سرد في فصول كتابه

_ (1) انظر كتاب الصوم الطبي، النظام الغذائي الأمثل.

تفصيلاً لهذا، ودعى الأطباء لاعتماد الصوم في العلاج والوقاية من الأمراض. وهذا (هـ. م شيلتون) في كتابه (التداوي بالصوم) (1) ، يؤكد أن الصوم يعطي راحة تامة للأعضاء الحيوية الهامة، ويوقف امتصاص الأغذية التي تتحلل داخل الأمعاء، ويفرغ القناة الهضمية، ويخلصها من الجراثيم والتخمرات، ويعطي لأجهزة الإفراغ الفرصة كي تستعيد نشاطها، ويصلح ويجدد الكيمياء الفيزيولوجية والإفرازات الطبيعية، ويسهل امتصاص الترسبات والتراكمات والبوارز الشاذة، ويحسن الوظائف العامة في الجسم، ويعيد الشباب للخلايا والأنسجة، ويجدد العضوية بإزالة الأنسجة الميتة والضعيفة، وإحلال أنسجة جديدة شابة وفتية بدلاً منها. ثم يفرد فصلين في كتابه يتحدث فيهما عن علاج الأمراض الحادة والمزمنة بالصوم. وها هي الحقائق العلمية المبثوثة في الكتب والأبحاث الطبية تؤكد منافع الصيام الإسلامي وفوائده: * فهو وسيلة وقائية من الأمراض والعلل، الناتجة من كثرة الأكل ودوامه بلا توقف على مدار العام. * وهو وسيلة علاجية لبعض الأمراض الحادة والمزمنة. * وهو منشط لسائر العمليات الحيوية داخل الجسم ورافع لمعدل أدائها، ومجدد لمكونات الخلايا الأساسية، ومخزون الطاقة فيها، لتكون أكثر قوة وقدرة في مواجهة الشدائد، عندما يقل الطعام أو يحرم منه تحت أي ظرف طارئ. * وهو كابح للرغبات الجنسية المتأججة، ومثبط لها وخصوصًا عند الشباب. * وهو صيام سهل ميسور يستطيعه كل الناس في أي مكان، وتحت أي ظرف

_ (1) هـ. م شيلتون "التداوي بالصوم". الفصل (34، 35) ص (154-177) .

ظرف مناخي على الأرض، ولا يحدث أثناءه أو بسببه أي خلل أو اضطراب، في أي من العمليات الحيوية، أو المركبات الضرورية للجسم؛ ذلك لأن الجسم البشري يمتلك من الطاقة المختزنة فيه ما تجعله على مواصلة الانقطاع التام عن الأكل لفترة زمنية تتراوح من شهر إلى ثلاثة شهور متصلة. فالتغذية لا تتوقف أبدًا عن خلايا الجسم، بل الذي يتوقف فقط -بعد فترة امتصاص الغذاء-، هو عمليات الهضم والامتصاص. * وهو صيام لا يسبب مشقة للجسم أو شدة عليه، وإنما المشقة المتوهمة هي مخالفة الإلف والعادة في تناول الطعام، والجوع الذي يشعر به الصائم، وهو أحد مظاهر هذه المشقة، إنما هو جوع وهمي أو اعتيادي، وسببه عادة تناول الطعام في أوقات معينة وتعود تناول المنبهات، ولا يعبر هذا الإحساس دائمًا عن حاجة الخلايا الملحة للغذاء. * وهو صيام يشتمل على عمليتي البناء والهدم في آن واحد فيوفر الجلوكوز كوقود وحيد لخلايا الدماغ، وكوقود أساسي لبقية الأنسجة الأخرى، ويحفظ الجسم من أخطار تنشيط عمليات الهدم بمفردها، من الأكسدة الشديدة والسريعة للدهون وتحلل بروتينات الخلايا وتحطم مكوناتها، وتراكم الأجسام الكيتونية في الدم، وحدوث التوازن النتروجيني السلبي في الجسم، كما يحدث في الصيام الطبي أو التجويع طويل الأجل وقصيره، كما لا يحرم الجسم من إمداده بالمواد الضرورية له في الغذاء كالأحماض الأمينية والدهنية الأساسية والمعادن، وبعض الفيتامينات، والتي لا يستطيع تصنيعها داخل خلاياه، لذلك فهو صيام آمن بكل المقاييس العلمية، ويحقق كل منافع وفوائد الصيام الطبي، بل ويتفوق عليه خصوصًا إن توفرت فيه شروط الصيام المثالي الذي أمر به الشارع الحكيم. فمن أخبر محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن في الصيام وقاية للإنسان من أضرار نفسية وجسدية؟ ومن أخبره أن فيه منافع وفوائد يجنيها الأصحاء؟ بل ومن يستطيع الصيام من المرضى وأصحاب الأعذار!! ومن أخبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن الصيام سهل ميسور، لا يضر بالجسم ولا يجهد النفس؟ ومن أطلعه على أن كثرة الصوم تثبط

الرغبة الجنسية، وتخفف من حدتها وثورتها خصوصًا عند الشباب!! فيصير الشاب كالخصي آمنًا من الاضطرابات الغريزية والنفسية ومحصنًا ضد الانحرافات السلوكية!! إن الله -جل في علاه- هو الذي أخبر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأطلعه على هذه الحقائق فهو سبحانه خالق الإنسان العليم بدقيق تركيبه، والخبير بما يصحه ويصلحه (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) . إن أسرار الصيام ستتجلى بظهور الحقائق العلمية يوماً بعد يوم، ويرى العلماء بأعينهم ويدركوا بأدواتهم صدق الوحي الذي بهذا التشريع اليسير النافع، كما أخبر الله عنهم قوله تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [سبأ: 6] . لقد تجلت في هذا الزمان حقيقة الصيام، وأنه معجزة علمية وضرورة إنسانية، وستتجلى هذه ا-لحقيقة أكثر وأكثر، كلما ازداد الإنسان علمًا بسنن الخلق، وسيعلم المعاندون والمستكبرون أن هذا القرآن وحي الله العليم بأسرار خلقه، قال تعالى: (قلْ أنزلَه الَذي يَعْلَم السِّرَّ فِي السَّمَوَات وَالأرْضِ) [الفرقان: 6] ، وقال تعالى: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون) [النساء: 166] ، وسيروا بيقين آيات الله في أنفسهم ومن حولهم، شاهدة بذلك، حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق * أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) فالحمد لله الذي عرّفنا بعض أسرار الصيام، معرفة يقينية تعيننا على مغالبة شهواتنا، وتزيل عنا كثير، من أوهام نفوسنا، وتدفعنا إلى المضي في طريق ربنا مستمسكين بها عاضين عليها بالنواجذ. ***

دفاع العقاد عن الصيام ردا على المستشرقين

دفاع العقاد عن الصيام ردًا على المستشرقين دائمًا وأبدًا يمكر أعداء دين الله بالمسلمين ويلمزون أغلى شيء عندهم وهو دينهم ويسخرون من نور عباداتهم فهذا الصليبي القديم الذي ما كان يفيق من شرب الخمر.. هذا الأخطل ... يعيب شعائر الإسلام فيقول في قحة وتطاول: ولست بصائم رمضان عمري ... ولست بآكل لحم الأضاحي ولست بزاجر عنسًا بكورًا ... إلى بطحاء مكة للنجاح ولست بصائح في جنح ليل ... كمثل العير حيّ على الفلاح فمات على كفره وأمّه الهاوية واليوم يطعنون في الصيام ... جاء في موسوعة الحضارات الصادرة عن هيئة اليونسكو على لسان مستشرق صليبي ما يعتبر أن صيام شهر رمضان مرهق وشاق للغاية إلى غير ذلك من المفتريات وهو معذور فإنه لو ذاق لعرف، ويرحم الله الأستاذ العقاد فقد أغنانا في رده المسهب على ذلك المستشرق الفرنسي وأمثاله من خلال كتابه "ما يقال عن الإسلام" ومن المجدي هنا أن انقل لك فقرات من هذا الرد. يقول -رحمه الله- للرد عليه: "قد ثبت للعبادات الروحية من الفضائل ما لم يثبت لها قبل القرن العشرين بغير فضيلة الطاعة الواجبة لأوامر الدين أو بغير الأسباب التي ينفرد الدينيون بتفسيرها وإقامة الأدلة على لزومها فلا تدخل في نطاق البحوث التي يتصدى لها علماء الماديات أو علماء المحسوسات، والصيام في مقدمة هذه الأوامر المادية التي أعيد فيها النظر على أيدي أبناء القرن العشرين فظهرت لها مزاياها الكثيرة إلى جانب مزايا العبادة والإيمان بحقوق الغيب مع حقوق الشهادة والعيان فقد أصبح أبناء القرن العشرين جميعًا يزاولون نوعًا من أنواع الصيام في وقت من الأوقات لصلاح البنية أو صلاح الخلق أو

صلاح الذوق والجمال، ومعنى الصيام أنه هو الكف عن شهوات الطعام وسائر الشهوات الجسدية وقتاً من الأوقات. وهذا هو الصيام الذي تدعو إليه الحاجة في تحقيق أغراض التربية النفسية والتربية الاجتماعية وسائر دروب التربية النافعة على حالة من الحالات: 1- فمن الصيام "ما يتقرر اليوم لتربية الأخلاق الفدائية في الجنود" ومن يؤدون عملاً يستدعي من الشجاعة ورياضة النفس على تقلبات الحياة ما تستدعيه أعمال الجنود الفدائيين. وقد يستدعي عمل الجندي الفدائي أن يكف عن الطعام بضعة أيام، أو يستدعي أن يقبل الطعام الذي تعافه نفسه أيامًا، أو يستدعي أن يرفض الطعام الجيد المشتهى وهو حاضر بين يديه. 2- ومن الصيام الذي ثبت لزومه في هذا العصر "صيام الرياضيين" وهم يملكون بإرادتهم زمام وظائفهم الجسدية، ويتجنبون كل طعام يحول بينهم وبين رشاقة الحركة أو يحول بينهم وبين الصبر على الحركة العنيفة والحركة تتعاقب على انتظام إلى مسافة طويلة من المكان أو من الزمان ولا يستطيعها من يجهل نظام الصيام ويروض نفسه وجسده على نوع من أنواعه طوال الحياة. 3- ومن الصيام العصري "صيام التجميل" وقد يصبر عليه من لا يصبرون عادة على "صيام الرياضة النفسية"، أو "صيام الرياضة البدنية"، وقد يقضي على الصائم من الرجال والنساء أن يلتزم الحمية في تناول الغذاء المستطاب وإن يكن صالحًا للتغذية موفور الفائدة للبنية الحية، ولكنه يؤخذ بمقدار لا يزيد عليه من يحرص على الوسامة واعتدال الأعضاء. 4- ومن الصيام الشائع في العصر الحديث "صيام الاحتجاج على الظلم" والتنبيه إلى القضايا والحقوق التي يهملها الظالمون، ولا يعطونها نصيبها لواجب من الفهم والعناية. وهذه الأنواع من الصيام كلها صالحة لغرض من أغراض التربية العامة أو الخاصة يهتدي إليه أبناء القرن العشرين، ويعلمون منه أن الآداب الدينية تسبق

التحقيق العلمي إلى خلق العادات الصالحة واشتراع الآداب الضرورية لمطالب الجسد والروح في الجانب الخاص أو الجانب العام في حياة الإنسان. ولعل الفضيلة العصرية -فضيلة القرن العشرين- التي تحسب من الأخبار الصادقة ولا تحسب من الإشاعات المسجاة أنه يعرض مسائل الحياة للبحث والتقرير، ويجمع الأشتات والمتفرقات من معلومات الأقدمين ليجري عليها حكم العقل والعلم في نسق جديد، وعلى هذا النسق يتناول الباحثون العصريون أنواع الصيام ويقسمو-نها إلى أقسامها على حسب أغراضها ا-لعامة أو الخاصة من قديم العصور إلى العصر الحديث. وقد أحسنوا تقسيمها حقا حين حصروها في هذه الأقسام الخمسة التي تحيط بها ولا تستثني نوعًا منها وهي: 1- صيام التطهير الذي يكف الصائم عن الإلمام بالخبائث والمحظورات من شهوات النفوس أو الأجسام. 2- وصيام العطف، ومنه صيام الحداد في أيام الحزن أو المحنة ليشعر الصائم بأنه يذكر أحبابه الذاهبين أو الغائبين ولا يبيح لنفسه ما حرموه بفقدان الحياة أو فقدان النعمة والحرية. 3- وصيام التكفير عن الخطايا والذنوب تطوعًا من الصائم يعاقب نفسه على الذنب الذي يندم على وقوعه، ويعتزم التوبة منه والتماس العذر فيه. 4- وصيام الاحتجاج والتنبيه، وهو صيام المظلومين وأصحاب القضايا العامة التي لا تلقى من الناس نصيبها الواجب من الاهتمام أو الإنصاف. 5- وصيام الرياضة النفسية أو البدنية التي تمكن الصائم من السيطرة بإرادته على وظائف جسمه تصحيحًا لعزيمته أو طلبًا للنشاط واعتدال الأعضاء. كل هذه الأنواع الصومية تستدعي الكف عن الطعام وشهوات الجسد تارة بالامتناع عن الطعام كله بعض الوقت وتارة بالامتناع عن بعضه في جميع الأوقات، وتارة بالإقلال من جميع مقاديره، والمباعدة بين وجباته أو بالقدرة على مخالفة العادات المتبعة في تقديره وتوقيته على جميع الأحوال وشريطته

العامة التي تلاحظ في جميع أنواعه هي: تحكيم الإرادة في شهوات النفس والجسد أو تربية العزيمة على قيادة الإنسان لنفسه حيث يريد، والمتواتر من أقوال البا-حثين من عادات الأجناس البشرية أن ا-لصيام بجميع أنواعه -قديمًا في أمم العالمين القديم والجديد. مزايا الصيام الإسلامي: وعند المقابلة بين أنواع الصيام نتبين مزايا الصيام الإسلامي بين جميع هذه الأنواع فإنه واف بالشريطة العامة للصيام المفروض بحكم الدين أو المتبع لرياضة الأخلاق، وهو على ذلك صالح لمقاصد التطهير والعطف والتوبة والتكفير. ولا جدال في رجحان الصيام بنظامه الإسلامي على نظام الصيام الذي يتحرى الصائم فيه اجتناب بعض الألوان من الأطعمة الفاخرة أو الأطعمة الشهية فإن اجتناب بعض الألوان لا يكفي لترويض وظائف الجسد وتغليب حكم الإرادة عليها. ولا جرم كان الصيام في الإسلام نظاما لا يَفْضُله نظام بين شتى الأنظمة التي تقدمت بها فرائض الصيام" (9) . ***

_ (1) "ما يقال عن الإسلام ". عباس محمود العقاد.

الباب التاسع زكاة الفطر

الباب التاسع زكاة الفطر "طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين" حديث شريف

حكمها:

يُودع الضيف الكريم ويجهز بالهدايا والتحف والعطايا والطرف. أتدرون ما تحفة ضيفكم؟ إنها زكاة فطركم طهرة صومكم، وزكاة نفوسكم وصلاح أمركم. * وقد فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر (طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين) (1) . زكاة الفطر (صدقة الفطر) يقال: زكاة الفطر، وصدقة الفطر. ويقال للمُخْرَج فطرة، وكأنها من الفطرة، أي: الخلقة، أي: زكاة الخلقة. حكمها: زكاة الفطر فرض لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر [من رمضان على الناس] ، (2) . ولحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر" (3) . هي واجبة عند جمهور أهل العلم: الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد، خلافًا لمن شذ، كالأصم، وابن علية، وابن اللبان، من الشافعية، وأصبغ، من المالكية، وبعض أصحاب داود، بل قال البيهقي- فيما نقله عنه النووي في المجموع (6/62) -: "أجمع العلماء على وجوب صدقة الفطر، وكذا نقل الإجماع ابن المنذر في "الإشراف" وهذا يدل على ضعف الرواية عن ابن علية، والأصم، وإن كان الأصم لا يعتد به في الإجماع".

_ (1) جزء من حديث رواه أبو داود، وابن ماجه، والحكم، والبيهقي والدراقطني، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال الدارقطني: رواته ليس فيهم مجروح. وحسنه النووي في "المجموع"، وابن قدامه في "المغني"، وقواه ابن دقيق العيد في "الإلمام"، انظر "إرواء الغليل" (3/332) . (2) رواه الشيخان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وما بين المعكوفتين عند مسلم والنسائي. (3) جزه من حديث صحيح، أخرجه ابو داود وابن ماجه، والبيهقى، والحاكم، والدارقطني.

فيمن تجب عليه، وعمن تجب؟

* قال ابن عبد البر في التمهيد (14/322-324) : "قال أبو جعفر الطبري: أجمع العلماء جميعًا -لا اختلاف بينهم- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بصدقة الفطر، ثم اختلفوا في نسخها فقال قيس بن سعد بن عبادة: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بها قبل نزول الزكاة، فلما نزلت آية الزكاة لم يأمرنا، ولم ينهنا عنها، ونحن نفعله" (1) . قال: وقال جل أهل العلم: هي فرض لم ينسخها شيء. قال: وهو قول مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وأبي ثور. قال ابن عبد البر: والقول بوجوبها من جهة اتباع سبيل المؤمنين واجب أيضاً؛ لأن القول بأنها غير واجبة شذوذ أو ضرب من الشذوذ. قال النووي رادِّا على حديث قيس بن سعد في المجموع (6/62) : "هذا الحديث مداره على أبي عمار، لا يعلم حاله في الجرح والتعديل، فإن صح فجوابه أنه ليس فيه إسقاط الفطرة لأنه سبق الأمر به، ولم يصرح بإسقاطها والأصل بقاء وجوبها". قال الحافظ- ابن حجر في الفتح (3/368) : "إن في إسناده راويًا مجهولاً، وعلى تقدير الصحة فلا دليل على النسخ لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأول؛ لأن نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر". وقال الخطابي في معالم السنن (2/214) : "وهذا لا يدل على زوال وجوبها، وذلك أن الزيادة في جنس العبادة لا يوجب نسخ الأصل المزيد عليه، غير أن محل الزكوات الأموال، ومحل زكاة الفطر الرقاب". فيمَنْ تجب عليه، وعمن تجب؟ تجب زكاة الفطر عَلى الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، من المسلمين لحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "فرض رسول الله

_ (1) صحيح: أخرجه النسائي، وابن ماجه، وأحمد، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي، وضعفه النووي، وابن حجر، وصححه الألباني.

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين" (1) . * قال ابن رشد في بداية المجتهد (2/130) : "وأجمعوا على أن المسلمين مخاطبون بها ذكرانًا كانوا أو إناثاً، صغارًا أو كبارًا.، عبيدًا أو أحرارًا إلا ما شذ فيه الليث فقال: ليس على أهل العمود زكاة الفطر، إنما هي على أهل القرى، ولا حجة له، وما شذ أيضاً من قول من لم يوجبها على اليتيم". * ذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها على العبد الكافر لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر" رواه مسلم، وأحمد، وهذا الحديث عام، وحديث ابن عمر خاص، ومعلوم أن الخاص يقضي على العام. وقال آخرون: لا تجب إلا على الصائم، لحديث ابن عباس: " ... طهرة للصائم ... ". * قال الخطابي في معالم السنن (3/214) : "وهي واجبة على كل صائم غني ذي جدة يجدها عن قوته، إذا كان وجوبها لعلة التطهير، وكل الصائمين محتاجون إليها، فإذا اشتركوا في العلة اشتركوا في الوجوب". وأجاب الحافظ -رحمه لله-: "إن ذكر التطهير خرج على الغالب كما أنها تجب عمن لا يذنب كمتحقق الصلاح، أو من أسلم قبل غروب الشمس بلحظة". * وذهب بعضهم إلى وجوبها على الجنين، وليس لهم دليل على ذلك. قال ابن رشد: "أما عمن تجب فإنهم اتفقوا على أنها تجب على المرء في نفسه إذا لم يكن لهم مال، وكذلك في عبيده إذا لم يكن لهم مال. * ذهب الشافعي ومالك أنها تلزم الرجل عمن ألزمه الشرع النفقة عليه، وخالفه أبو حنيفة في الزوجة وقال تؤدي عن نفسها، وخالفهم أبو ثور في العبد إذا كان له مال، فقال: إذا كان له مال زكى عن نفسه ولم يزك عنه سيده، وبه

_ (1) أخرج الجماعة، والبيهقي، والدارمي، والطحاوي من طريق مالك.

اليسار شرط لوجوب الفطرة:

قال أهل الظاهر والجمهور على أنه لا تجب على المرء في أولاده الصغار إذا كان لهم مال زكاة الفطر، وبه قال الشافعي أبو حنيفة ومالك. * والإسلام شرط في جوب الفطرة: فلا تجب على الكافر عن نفسه اتفاقًا، وهل يخرجها عن غيره كمستولدته المسلمة مثلاً؟ نقل ابن المنذر الإجماع على عدم الوجوب. * والعبد الكافر هل يخرجها سيده المسلم عنه؟ قال ابن حجر: "قال الجمهور لا، خلافًا لعطاء والنخعي والثوري والحنيفة وإسحاق". * وعبيد التجارة: ذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن على السيد فيهم زكاة الفطر، وقال أبو حنيفة وغيره: ليس في عبيد التجارة صدقة. اليسار شرط لوجوب الفطرة: قال النووي في ا-لمجموع (6/67) : "مذهبنا أنه يشترط أن يملك فاضلاً عن قوته وقوت من يلزمه نفقته ليلة العيد ويومه، حكاه العبدري عن أبي هريرة وعطاء والشعبي وابن سيرين وأبي العالية والزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وأبي ثور". * قال أبو حنيفة: لا تجب إلا على من يملك نصابًا من الذهب أو الفضة وقيمته نصابًا فاضلاً عن مسكنه وأثاثه الذي لا بد منه. قال العبدري: ولا يحفظ هذا عن أحد غير أبي حنيفة، قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن من لا شيء له فلا فطرة عليه. عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبيد ممن تمونون". مسألة: قال النووي في المجموع (6/107) : "تجب فطرة العبد على سيده. وبه قال جميع العلماء إلا داود، فأوجبها على العبد، قال: ويلزم السيد تمكينه من الكسب لأدائها لحديث ابن عمر "على كل حر وعبد" قال

الجمهور: على بمن "عن". * مسألة: لا يلزمه فطرة زوجته وعبده الكافِرَيْن عند علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وابن المسيب والحسن ومالك والشافعي وأحمد وأبي ثور وابن المنذر. وقال أبو حنيفة: تجب عليه فطرة عبده الذمي، وحكاه ابن المنذر عن عطاء ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وسعيد ين جبير والنخعي والثوري إسحاق وأصحاب الرأي. * مسألة: العبد الآبق تجب فطرته عند الشافعي وبه قال أبو ثور وابن المنذر. * وقال عطاء والثوري وأبو حنيفة: "لا تجب". * وقال الزهري وأحمد إسحاق: تجب إن كان في دار الإسلام. * وقال مالك: تجب إن لم تطل غيبته ويؤيس منه. * مسألة: لو كان بين الزوج وزوجته عبد أو عبيد كثيرون مشتركون مناصفة وجب عن كل صاع، يلزم كل واحد من الشريكين نصفه. وهذا مذهب مالك والشافعي وعبد الملك بن الماجشون إسحاق وأبي ثور ومحمد بن الحسن وابن المنذر. * وقال الحسن البصري وعكرمة وا-لثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف: لا شيء على واحد منهما. وعن أحمد روايتان. * مسألة: إذا لم يكن للطفل مال ففطرته على أبيه بالإجماع، نقله ابن المنذر وغيره. وإن كان للطفل ماله ففطرته فيه وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال محمد: تجب في مال الأب. * واليتيم الذي له مال فتجب فطرته فيه عند الجمهور وبه قال به مالك والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف بن المنذر، وقال محمد بن الحسن: لا تجب، وأما الجد فعليه فطرة ولد ولده الذي تلزمه نفقته، وبه قال الشافعي وأبو ثور وقال أبو حنيفة: لا تلزمه.

وقت خروجها:

* مسألة: تجب الفطرة بغروب الشمس ليلة. عيد الفطر وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق وهو الصحيح عند الشافعية. * وقال أبو حنيفة بطلوع فجر يوم الفطر به قال صاحباه وأبو ثور وداود. * وعن مالك روايتان كالمذهبين. * مسألة وقت خروجها: قال العبدري: أجمعوا على أن الأفضل أن يخرجها يوم الفطر قبل صلاة العيد، وجوز مالك وأحمد والكرخي -الحنفي- أن يخرجها قبل الفطر بيوم أو يومين، وجوز الشافعية تقديمها في جميع رمضان لا قبله، وعن أبي حنيفة تقدم: سنة أو سنتين. والأرجح أنه يجوز تقديمها بيوم أو يومين لما ورد من فعل ابن عمر، وراوي الحديث أدرى بمعنى روايته. * وإن تاخرت عن الصلاة كانت صدقة من الصدقات لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- " ... من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد صلاة فهي صدقة من الصدقات". * وقال الجمهور: إن أخرها عن الصلاة أثم ولزمه إخراجها وتكون قضاء وبه قال مالك وأبو حنيفة والليث وأحمد. * وعند الشافعي: أنه لو أخرها عن صلاة الإمام وفعلها في يومه لم يأثم وكانت أداء. وإن أخرها عن يوم الفطر أثم ولزم إخراجها قضاء. * وعن ابن سيرين والنخعي: أنه يجوز تأخيرها عن يوم الفطر. * وعن داود والحسن بن زياد: إن لم يؤدها قبل صلاة العيد سقط فلا يؤديها بعد كالأضحية. * دفع الزكاة إلى كافر أو ذمي: قال ابن المنذر: أجمعت الأمة أنه لا يجزيء دفع زكاة المال إلى ذمي، واختلفوا في زكاة الفطر.

أصناف زكاة الفطر:

* فذهب الجمهور: مالك والليث وأحمد وأبو ثور والشافعي إلى أنه لا يجوز دفعها إلى الكافر أو الذمي. * وعن عمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل -ومرة الهمداني- أنهم كانوا يعطون منها الرهبان. * وجوّز أبو حنيفة دفع الفطرة إلى الكافر. أصناف زكاة الفطر: تخرج زكاة الفطر. صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب، أو سلت؛ لحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر أو صاعًا من أقط أو صاعًا من زبيب" (1) ، ولحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صدقة الفطر صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر أو صاعًا من سلت" (2) . وقد اختلف في تفسير لفظ الطعام الوارد في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- فقيل: الحنطة، قيل: غير ذلك، والذي تطمئن إليه النفس أنه عام يشمل كل ما كيل من الطعام كالحنطة والأصناف المذكورة آنفا والدقيق والسويق، وكل ذلك فعل زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نؤدي زكاة رمضان صاعًا من طعام عن الصغير والكبير والحر والمملوك من أدى سلتًا قُبل منه، وأحسبه قال: من أدى دقيقًا قبل منه ومن أدى سويقًا منه" (3) . وعنه -رضي الله عنه- أنه كان يقول: "صدقة رمضان صاع من طعام، من جاء ببر قبل منه ومن جاء بشعير قبل منه، ومن جاء بتمر قبل منه، ومن جاء بسلت منه، ومن جاء بزبيب قبل منه، وأحسبه قال: من جاء بسويق قبل منه" (4) .

_ (1) أخرجه الستة وأحمد. (2) أخرجه ابن خزيمة (4/80) ، والحاكم (1/48-410) بإسناد صحيح، والسلت: نوع من الشعير لا قشر له. (3) (4) أخرجه ابن خزيمة بإسناد صحيح، ولذلك ترجم له ابن خزيمة -رحمه لله- بـ "باب إخراج جمع الأطعمة في صدقة الفطر".

مقدارها:

أما الاحاديث التي تنفي وجود الحنطة أو أن معاوية -رضي الله عنه- رأى إخراج مدين من سمراء الشام وأنها تعدل صاعًا، فيحمل ذلك على ندرتها وكثرة الاصناف الباقية وكونها الغالبة على طعاعهم، ويؤيد هذا المعنى قول أبي سعيد: "وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر" (1) . ويقطع جهيزة المخالف ما يأتي في بيان مقدارها من الأحاديث الصحيحة الصريحة بوجود الحنطة وأن مدين منها تعدل صاعًا ليعلم المسلم الذي يقدّر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حق قدرهم أن رأى معاوية لم يكن اجتهاداً رآه بل يستند إلى حديث مرفوع إلى الصادق المصدوق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مقدارها: يخرجها المسلم صاعًا من طعام من الأصناف الآنفة الذكر وقد اختلف في الحنطة فقيل: نصف صاع، وهو الأرجح والاصح لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأدَّوا صاعًا من بر أو قمح اثنين أو صاعًا من تمر أو صاعًًا من شعير عن كل حر وعبد وصغير وكبير" (2) . والصاع المعتبر هو صاع أهل المدينة؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الوزن وزن أهل مكة، والمكيال ميكال أهل المدينة" (3) . عمن يؤديها الرجل؟ يخرجها المسلم عن نفسه وكل من يمونه من صغير وكبير وذكر وأنثى وحر وعبد لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون" (4) .

_ (1) سبق تخريجه. (2) صحيح أخرجه الدارقطني وأحمد، وانظر "سلسلة الأحاديث الصحيحة" لشيخنا (1157) ، "صحيح الجامع الصغير" (3655) . (3) سلسلة الأحاديث الصحيحة (165) . (4) إرواء الغليل (835) .

جهة إخراجها:

* قال النووي في المجمع (6/110) : "الواجب في الفطرة عن كل شخص صاع من أي جنس أخرج، سواء البر والتمر والزبيب والشعير وغيرها من الأجناس المجزئة، ولا يجزي دون صاع من شيء منها، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وأكثر العلماء، وممن قال به أبو سعيد الخدري والحسن البصري وأبو العالية وأبو الشعثاء وإسحاق وغيرهم. * قال ابن المنذر: وقالت طائفة يجزيء من البر نصف صاع ولا يجزيء من الزبيب والتمر وسائر الأشياء إلا صاع،-قاله الثوري وأكثر أهل الكوفة إلا أبا حنيفة فقال: يجزيء نصف صاع زبيب كنصف صاع بر. * الصاع المجزيء في الفطرة: خمسة أرطال وثلث بالبغدادي وبه قال جمهور أهل العلم: الشافعي ومالك وأحمد وأبو يوسف وفقهاء الحرمين وأكثر فقهاء العراقيين، وقال أبو حنيفة ومحمد: ثمانية أرطال. جهة إخراجها: لا تدفع إلا لمستحقيها وهم المساكين، لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- "فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين". وهذا ما اختاره شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (25/71-78) وتلميذه ابن القيم في كتابه القيم "زدا المعاد" (2/44) . قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وابن المنذر: يجوز صرفها إلى مسكين واحد. ذهب بعض أهل العلم أنها تصرف للاصناف الثمانية وهذا مما لا دليل عليه وقد رده شيخ الإسلام في المصدر المذكور آنفًا فراجِعْه فإنه مهم جداً. من السُنة أن يكون لها من تجمع عنده؛ فقد وكل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا هريرة رضي الله عنه قال: "أخبرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أحفظ زكاة رمضان" (1) . وقد كان ابن عمر -رضي الله عنه- يعطيها للذين يقبلونها وهم العمال الذين ينصبهم الإمام لجمعها وذلك قبل الفطر ييوم أو يومين. أخرج ابن خزيمة (4/83) من طريق عبد الوارث عن أيوب: "قلت: متى كان ابن عمر يعطي

_ (1) رواه البخاري.

هل تجزيء القيمة في الزكاة

الصاع؟ قال: إذا قعد العامل، قلت: متى كان يقعد العامل؟ قال: قبل الفطر بيوم أو يومن". هل تجزيء القيمة في الزكاة (1) من أجاز إخراج القيمة في الزكاة: قال ابن قدامة -رحمه لله- وقال الثوري وأبو حنيفة: يجوز. وقد روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن وقد روى عن أحمد مثل قولهم فيما عدا الفترة اهـ (2) . قال النووي وهو الظاهر من مذهب البخاري في صحيحه (3) وقال ابن رشيد: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكنه قاده إلى ذلك الدليل (4) . وقد روى سعيد بن منصور في سننه عن عطاء قال: كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم (5) . وروى ابن أبي شيبة عن عون قال: سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقرأ إلى عدي بالبصرة "يؤخذ من أهل الديوان من أعطياتهم من كل إنسان نصف درهم (6) . وعن الحسن قال: لا بأس أن تعطى الدراهم في صدقة الفطر (7) . وعن أبي إسحاق قال: أدركتهم وهم يؤدو في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام (8) .

_ (1) هذا البحث بأكمله من رسالة "هل تجزيء القيمة في الزكاة؟ " لحبيبنا وشيخنا محمد إسماعيل -حفظه الله-. (2) المغني (3/65) . (3) المجموع (5/429) . (4) فتح الباري (3/212) . (5) المغني (3/65) . (6) (7) (8) مصنف ابن أبي شيبه (4/37-38) .

المانعون (الجمهور) وأدلتهم

وعن عطاء أنه كان يعطي في صدقة الفطر ورقا (دراهم فضيه) (1) . * قال ا-لنووي -في المجموع (6/112) : "قال إسحاق وأ-بو ثور: لا تجزيء إلا عند الضرورة". المانعون وأدلتهم من هم المانعون؟. قال الخرقي -رحمه لله-: ومن أعطى القيمة لم تجزئه (2) . قال ابن قدامه -رحمه لله- قال أبو داد: قيل لأحمد -وأنا أسمع-: أعطي دراهم -يعني في صدقة الفطر- قال: أَخاف ألا يجزئه؛ خلاف سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال أبو طالب -رضي الله عنهما- قال لي أحمد: لا يُعطي قيمته. قيل له: قوم يقولون عمر بن عبد العزيز كان يأخذ بالقيمة قال: يدعون قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقولون قال فلان. قال ابن عمر: فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال الله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وقال: قوم يردون السنن يقولون. قال فلان وقال فلان وظاهر مذهبه أنه لا يجزئه إخراج القيمة في شيء من الذكوات، وبه قال مالك والشافعي (3) . أدلة المانعين وهم جمهور أهل العلم (1) زكاة الفطر قربة وعبادة مفروضة من جنس متعين فلا يجزيء إخراجها من غير الجنس المعين، كما لا يجزي إخراجها في غير الوقت المعين. قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني -رحمه لله-: "الشائع المعتمد في الدليل لأصحابنا: أن الزكاة قربة لله تعالى، وكل ما كان كذلك فسبيله أن يتبع

_ (1) مصنف ابن أبي شيبة (4/37-38) . (2) المغني لابن قدامه (3/65) . (3) المغني لابن قدامه (3/65) .

فيه أمر الله تعالى، ولو قال إنسان لوكيله: اشتر ثوبًا، وعلم الوكيل أن غرضه التجارة، وجد سلعة هي أنفع لموكله، لم يكن له مخالفته وإن رآه أنفع، فما يجب لله تعالى بأمره أولى بالاتباع. كما لا يجوز في الصلاة إقامة السجود على الخد والذقن مقام السجود على الجبهة والأنف والتعليل فيه بمعنى الخضوع؛ لأن ذلك مخالفة للنص وخروج على معنى التعبد، كذلك لا يجوز في الزكاة إخراج قيمة الشاة أو البعير أو الحب أو الثمر المنصوص على وجوبه؛ لأن ذلك خروج على النص وعلى معنى التعبد، والزكاة أخت الصلاة" (1) اهـ. وبيان ذلك أن الله سبحانه أمر بإيتاء الزكاة في كتابه أمراً مجملاً بمثل قوله تعالى: (وآتوا الزكاة) وجاءت السنة ففصلت ما أجمله القرآن وبينت المقادير المطلوبة بمثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "في كل أربعين شاة شاة" وقوله: "في كل خمسة من الإبل شاة" إلخ، فصار كأن الله تعالى قال: وآتوا الزكاة من كل أربعين شاة شاة فتكون الزكاة حقًا للفقير بهذا النص، فلا يجوز الاشتغال بالتعليل لإبطال حقه من العين. (2) إخراج القيمة خلاف ما أمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفرضه، وقد روى أبو داود وابن ماجة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر" (2) . وهو نص يجب الوقوف عنده، فلا يجوز تجاوزه إلى أخد القيمة لأن في هذه الحال سيأخذ من الحب شيئًا غير الحب، ومن الغنم شيئًا غير الشاة ... إلخ، وهو خلاف ما

_ (1) المغني (-5/430) . (2) صححه الحاكم على شرطهما إن صح سماع عطاء عن معاذ، ولم يسمع منه لانه ولد بعد موته أو في سنة موته أو بعد موته بسنة، وقال البزار: "لا نعلم أن عطاء سمع من معاذ". انظر "فيض القدير" للمناوي (3/433) ، وكذا ضعيف الجامع الصغير رقم (2835) . قال المناوي -رحمه لله-: (والمراد أن الزكاة من جنس المأخوذ منه، هذا هو الأصل، وقد يعدل عنه لموجب) اهـ من "فيض القدير" (3/433) .

قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله تعالى (1) -:"ولنا قول ابن عمر: فرض رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر صاعًا من تمر، وصاعًا من شعير، فإذا عدل عن ذلك فقد ترك للفروض، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "في أربعين شاة شاةٌ، وفي مائتي درهم خمسة دراهم وهو وارد بيانًا لمجمل قوله تعالى: وآتوا الزكاة فتكون الشاة المذكورة هي الزكاة المأمور بها، والأمر يقتضي الوجوب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض الصدقة على هذا الوجه، وأمر بها أن تؤدى، ففي كتاب أبي بكر الذي كتبه في الصدقات أنه قال: "هذه الصدقة التي فرضها رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر بها أن تؤدى" ا. هـ. وفي رواية: "إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين التي أمر الله بها ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها".. الحديث قال الحافظ: "على وجهها" أي: "على الكيفية المبينة في هذا الحديث" ا. هـ. أما حديث معاذ -رضي الله عنه- وفيه: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم" ... الحديث. فقد قال ابن قدامة -رحمه لله- "ولأن مخرج القيمة قد عدل عن المنصوص فلم يجزئه كما لو أخرج الرديء مكان الجيد" (2) . ا. هـ. وقال الشوكاني -رحمه لله-: وقد استدل بهذا الحديث من قال إنها تجب الزكاة من العين، لا يعدل عنها إلى القيمة إلا عند عدمها، وعدم الجنس، وقال أيضاً: "فالحق أن الزكاة واجبة من العين لا يعدل عنها إلى القيمة إلا لعذر" (3) . وقال الشوكاني أيضاً في السيل الجرار: "أقول: الثابت في أيام النبوة أن الزكاة كانت تؤخذ من عين المال الذي تجب فيه، وذلك معلوم لا شك فيه، وفي أقواله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يرشد إلى ذلك، ويدل عليه كقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ لما بعثه إلى

_ (1) المغني 3/65- 66. (2) المغني 3/66. (3) نيل الأوطار 4/171.

اليمن: "خذ الحب من الحب" ا. هـ. (3) ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عينها من أجناس مختلفة وأقيامها مختلفة غالبا، فلو كانت القيمة معتبرة لكان الواجب صاعًا من جنس وما يقابل قيمته من الأجناس الأخرى، وقال النووي -رحمه لله-: "ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشياء قيمها مختلفة، وأوجب في كل نوع منها صاعًا فدل على أن المعتبر صاع ولا نظر إلى قيمته" (1) ا. هـ. (4) ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي وهو "أن التكليف والابتداء لإخراج الزكاة ليس بنقص الأموال فقط -كما فهم أبو حنيفة- فإن هذا ذهول عن التوفية لحق التكلف في تعيين الناقص، وهو يوازي التكليف في قدر ناقص، فإن المالك يريد أن يبقي ملكه بحاله، ويخرج من غيره عنه، فإذا مالت نفسه إلى ذلك وعلقت به كان التكليف قطع تلك العلاقة التي هي -بين القلب وبين ذلك الجزء من المال، فوجب إخراج ذلك الجزء بعينه" (2) ا. هـ. (5) أن الزكاة وجبت لدفع حاجة الفقير وشكرًا لله على نعمة المال، والحاجات متنوعة فينبغي أن يتنوع الواجب ليصل إلى الفقير من كل نوع ما تدفع به حاجته ويحصل شكر النعمة بالمواساة من جنس ما أنعم الله عليه به" (3) . (6) قال الشيخ محمد بن صالح آل عثيمين: "ولأن إخراج القيمة مخالف لعمل الصحابة -رضي الله عنهم- حيث كانوا يخرجونها صاعًا من طعام وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليكلم بستتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" ا. هـ. وقد روى البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كنا نعطيها في زمان النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب". قال الحافظ: "كنا نعطيها" أي: زكاة الفطر (في زمان

_ (1) "شرح النووي" 7/60. (2) "أحكام القرآن" 2/945. (3) "المغني" 3/373.

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) هذا حكمه: الرفع؛ لإضافته إلى زمنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ففيه إشعار باطلاعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، وتقريره له ولا سيما في هذه الصورة التي كانت توضع عنده، وتجمع بأمره، وهو الآمر بقبضها وتفرقتها (1) ا. هـ. وقال الباجي في "المنتقى" عند هذا الحديث: قوله: "كنا نخرج زكاة الفطر" يلحق عند أكثر أهل العلم بالمسند، وهو مذهب مالك والشافعي؛ لأن الصحابي إذا أخبر بفعل من الشرع، وأضاف ذلك إلى زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالظاهر أْنه أضافه إلى زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن هذا الحديث رواه داود بن قيس عن عياض ابن عبد الله فقال: "وكنا نخرج إذ كان فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر"، فذكره فصرح برفعه، فإذا كان الأمر المضاف مما يظهر ويتبين ولا يخفى مثله على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينكره، وأقر عليه فإنه حجة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقر على المنكر، وإخراج زكاة الفطر يكثر المخرجون لها والآخذون ويتكرر ذلك حتى لا يمكن أن يخفى أمرها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بين أظهرهم، فثبت أن الخبر حجة، وأنه مسند" (2) . وقد حكى الحافظ رواية الطحاوي عن عياض، وقاله فيه: "ولا يخرج غيره" أي: غير الشعير والزبيب والأقط والتمر" ا. هـ. وفي حديث أبي سعيد: "فقال له رجل من القوم: أو مُدّين من قمح؟ فقال: لا، تلك قيمة معاوية مطوية لا أقبلها، ولا أعمل بها". قال الشيخ أبو بكر الجزائري: "الواجب أن تخرج زكاة الفطر من أنواع الطعام، ولا يعدل عنه إلى النقود إلا لضرورة إذ لم يثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرج بدلها نقودًا، بل لم ينقل حتى عن الصحابة إخراجها نقودًا" (3) ا. هـ. وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرني بحفظ زكاة رمضان، فاتاني آت فجعل يحثوا من الطعام فأخذته، وقلت:

_ (1) "الفتح" 3/373. (2) "المنتقى" 2/87. (3) "منهاج المسلم" 259.

والله لأرفعنك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... " الحديث. وفي رواية أبي المتوكل عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنه كان على تمر الصدقة"، ولابن الضريس: "فإذا التمر قد أخذ منه ملء الكف". (7) وفي حديث أنس المشهور: "ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده ابن لبون فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين، إن استيسرتا له، أو عشرين درهمًا". وقال ابن تيمية الجد في "المنتقى": "والجُبرانات المقدرة في حديث أبي بكر تدل على أن القيمة لا تشرع وإلا كانت تلك الجبرانات عبثًا" ا. هـ. وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": قوله "والجبرانات" بضم الجيم جمع جبران، وهو ما يُجبر به الشيء، وذلك نحو قوله في حديث أبي بكر السابق "ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا" فإن ذلك ونحوه يدل على أن الزكاة واجبة في العين، ولو كانت القيمة هي الواجبة لكان ذكر ذلك عبثًا؛ لأنها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فتقدير الجبران بمقدار معلوم لا يناسب تعلق الوجوب بالقيمة" ا. هـ. وقال الإمام ابن قدامة في "المغني": "ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض الصدقة على هذا الوجه، وأمر بها أن تؤدى، ففي كتاب أبي بكر الذي كتبه في الصدقات أنه قال: "هذه الصدقة التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر بها أن تؤدى"، وكان فيه: "في خمس عشرين من الإبل بنت مخاض فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر"، وهذا يدل على أنه أراد عينها لتسميته إياها، وقوله: فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر"، ولو أراد المالية أو القيمة لم يجز؛ لأن خمسًا وعشرين لا تخلو عن مالية بنت مخاض وكذلك قوله "فابن لبون ذكر"، فإنه لو أراد المالية للزمه مالية بنت مخاض دون مالية ابن لبون" (1) ا. هـ. (8) والقول بالقيمة فيه مخالفة للأصول من جهتين:

_ (1) "المغني" 3/66.

الجهة الأولى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذكر تلك الأصناف لم يذكر معها القيمة، ولو كانت جائزة لذكرها مع ما ذكر، كما ذكر العوض في زكاة الإبل وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أْشفق وأرحم بالمساكين من كل إنسان (1) . الجهة الثانية: وهي القاعدة العامة أنه لاينتقل إلى البدل إلا عند فقد المبدل عنه، وأن الفرع إذا كان يعود على الأصل بالبطلان هو باطل -كما رد ابن دقيق العيد على الحنابلة قولهم: إن الأشنان يجزيء عن التراب في الولوغ- أي: لأنه ليس من جنسه فيسقط العمل به. وكذلك لو أن كل الناس أخذوا بإخراج القيمة لتعطل العمل بالأجناس المنصوصة، فكأن الفرع الذي هو القيمة سيعود على الأصل الذي هو الطعام بالإبطال فيبطل. ومثل ما يقوله بعض الناس اليوم في الهدي بمنى مثلاً بمثل ففي القول بالقيمة جزء الناس على ما هو أعظم، وهو القول بالقيمة في الهدي، ولم يقل به أحد من العلماء، علمًا بان الأحناف أنفسهم لا يجيزون القيمة في الهدي؛ لأن الهدي فيه جانب تعبد وهو النسك. (9) ويمكن أن يقال لهم أيضاً: إن زكاة الفطر فيها جانب تعبد طهرة الصائم وطعمة للمساكين، كما أن عملية شرائها ومكيلها وتقديمها فيه إشعار بهذه العبادة، أما تقديمها نقدم فلا يكون فيه فرق عن أي صدقة. من الصدقات من حيث الإحساس بالواجب والشعور بالإطعام، فإخراج القيمة يخرج الفطرة "زكاة

_ (1) إذ السكوت في مقام البيان يفيد الحصر، وإلى هذه القاعدة المقررة يشير ابن حزم في كثير من استدلاته بقوله تعالى: (وما كان ربك نسيا) وذلك لأنه إذا كان الله لا ينسى- وتنزه ربنا عن النسيان وعن كل نقص- فسكوته سبحانه أو سكوت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المبلغ عنه في معرض البيان لشيء من أفعال الكلفين عن شيء آخر يشبهه أو يجانسه، لا يكون نسيانا أو ذهولاً -تعالى الله عن ذلك- ولكنه يفيد قصر الحكم عن ذلك الشئ المبين حكمه، ويكون ما عداه وهو المسكوت عنه مخالفًا له في الحكم، فإن كان المنصوص عليه بالبيان فمأذونًا فيه كان المسكوت عنه ممنوعًا، وان كان العكس فالعكس، وهو معنى قولهم: السكوت في معرض البيان يفيد الحصر، وهي قاعدة عظيمة بنى عليها العلماء كثيرًا من الأحكام.

كيف يقدر الصاع؟

الفطر" من كونها شعيرة ظاهرة إلى كونها صدقة خفية، فإن إخراجها صاعًا من طعام يجعلها ظاهرة بين المسلمين معلومة للصغير والكبير يشاهدون كيلها وتوزيعها ويتبادلونها بينهم بخلاف ما لو كانت دراهم يخرجها الإنسان خفية بينه وبين الآخذ. قال ابن حجر في "الفتح" (4/437) : "وكان الأشياء التي ثبت ذكرها في حديث أبي سعيد لمُّا كانت متساوية في مقدار ما يخرج منها مع ما يخالفها في القيمة دل على أن المراد إخراج هذا المقدار من أي جنس كان. تنبيهات: أولاً- كيف يقدر الصاع؟ 1- الصاع النبوي يبلغ وزنه أربعمائة وثمانين مثقالاً من البر الجيد، أي ألفي جرام "40 جرامًا و 2 كيلو" فذا أراد أن يعرف الصاع النبوي عليه أن يزن 2040 جرام برًا ثم يضعها في إناء بقدرها فيعلمه ثم يكيل به. وقال بعض العلماء: الصاع- (سدس) كيلة مصرية أي قدح وثلث مصري وهو يساوي بالجرامات. 2176 "وذلك حسب وزن القمح". وقال جماعة من العلماء: الصاع أربع حفنات بكفي رجل معتدل الكفين. ومن لم يكن عنده مكيال ولا ميزان فليخرج أربعة أمداد ... ومن تطوع خيرًا فهو خير له. 2- وقد شرعت في شعبان من السنة الثانية من الهجرة لتكون طهرة للصائم مما عسى أن يكون وقع فيه من اللغو، والرفث، ولتكون طهرة للصائم. * قال شيخ الإسلام: لا ينبغي أن يعطي الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله، فإن الله فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج من المؤمنين كالفقراء أو الغارمين أو كمن يعاود المؤمنين فمن لم يصلَّ من أهل الحاجات لا يعطي شيئًا حتى يتوب ويلتزم آداء الصلاة. ويجب صرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية إن كانوا موجودين وإلا صُرفت

إلى الموجود منهم إلى حيث يوجدون" ا. هـ (1) . قال شيخ الإسلام في "الاختيارات الفقهية": ويجزئه في الفطرة من قوت بلده مثل الأرز وغيره، ولو قدر على الأصناف المذكورة في الحديث -وهو رواية عن أحمد، وقول أكثر العلماء-، ولا يجوز دفع زكاة الفطر إلا لمن يستحق الكفارة، وهو من يأخذ لحاجته لا في الرقاب والمؤلفة قلوبهم وغير ذلك، ويجوز دفعها إلى الفقير وهو مذهب أحمد. * ولا يعتبر في زكاة الفطر ملك النصاب بل تجب على من ملك صاعًا فاضلاً عن قوته يوم العيد وليله وهو قول الجمهور. وإذا كان عليه دين وصاحبه لا يطالبه به أدَّى صدقة الفطر وقت وجوبها عليه كما يطعم عياله يوم العيد وهو مذهب أحمد" ا. هـ (2) . * وقال -رحمه الله أيضاً- ويجوز إخراج القيمة في زكاة لعدم العدول عن الحاجة والمصلحة مثل أن يبيع ثمرة بستانه أو زرعه فهنا إخراج عشر الدراهم يجزئه ولا يكلف أن يشتري ثمرًا أو حنطة فإنه قد يساوي الفقير بنفسه وقد نص أحمد على جواز ذلك، ومثل أن تجب عليه في الإبل وليس عنده شاة فإخراج القيمة كاف، ولا يكلف السفر لشراء شاة، أو أن يكون المستحقون طلبوا القيمة لكونها أنفعً لهم فهذا جائز" (3) اهـ (4) . ***

_ (1) الفتاوى الكبرى ص 456. (2) الفتاوى الكبرى 4/445. (3) الفتاوى الكبرى ص 456، وكتاب الاختبارات العلمية. (4) راجع رسالة "هل تجزيء القيمة في الزكاة" لشيخنا محمد إسماعيل -حفظه الله-، فلقد أكثرنا النقل منها.

الباب العشرون العيد لمن طاعاته تزيد

الباب العشرون العيد لمن طاعاته تزيد

أعياد المؤمنين في الدنيا والآخرة

"العيد هو موسم الفرح والسرور، وأفراح المؤمنين وسرورهم في الدنيا إنما هو بمولاهم إذا فازوا بكمال طاعته، وحازوا ثواب أعمالهم بوثوقهم بوعده لهم عليها بفضله ومغفرته كما قال تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) [يونس: 58] . قال بعض العارفين: ما فرح أحد بغير الله إلا بغفلته عن الله، فالغافل يفرح بلهوه وهواه والعاقل يفرح بمولاه. وكان فؤادي خاليًا قبل حبكم ... وكان بذكر الخلق يلهو ويمرحُ فلما دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أراه عن فنائك يبرحُ رُميتُ ببُعد منك إن كنت كاذبًا ... وإنْ كنت في الدنيا بغيرك أفرحُ وإن كان شيء في البلاد بأسرها ... إذا غبتَ عن عيني لعيني يملحُ فإن شئت واصلني وإن شئت لم تصل ... فلست أرى قلبي لغيرك يصلُح ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن طاعاته تزيد، ليس العيد لمن تجمل باللباس والركوب، إنما العيد لمن غُفرت له الذنوب، في ليلة العيد تفرق خلع العتق والمغفرة على العبيد، فمن ناله منها شيء فله عيد، وإلا فهو مطرود بعيد" (1) . للناس فطر وعيد ... إني فريد وحيد يا غايتي ومُنايَ ... أتمّ لي ما أريد ويقول عابد: ليس عيد المحب قصد المصلى ... وانتظار الأمير والسلطان إنما العيد أن تكون لدى الحب كريمًا ... مقربا في أمان

_ (1) "لطائف المعارف".

أبدان العارفين في الدنيا وقلوبهم في الآخرة

وأنشد: إذا ما كنت لي عيدًا ... فما أصنع بالعيد جرى حبك في قلبي ... كجري الماء في العود وأما أعياد المؤمنين في الجنة فهي أيام زيارتهم لربهم عز وجل فيزرونه ويكرمهم غاية الكرامة ويتجلى لهم وينظرون إليه، ليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه. إن يومًا جامعًا شملي بهم ... ذاك عيدي ليس لي عيد سواه كل يوم كان للمسلمين عيدًا في الدنيا فإنه عيد لهم في الجنة يجتمعون فيه على زيارة ربهم ويتجلى لهم فيه، ويوم الجمعة يدعى في الجنة يوم المزيد، ويوم الفطر والأضحى يجتمع أهل الجنة فيهما للزيارة، وروي أنه يشارك النساء الرجال فيهما كما كن يشهدان العيدين مع الرجال دون الجمعة فهذا لعموم أهل الجنة فأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يزورن ربهم كل يوم مرتين بكرة وعشيا؛ الخاص كانت كلها لهم أعيادًا فصارت أيامهم في الآخرة كلها أعياد. قال الحسن كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد: عيدي مقيم وعيد الناس منصرف ... والقلب مني عن اللذات منحرف ولي قرينان مالي منهما خلف ... طول الحنين وعين دمعها يكفُ وكيف لا يكون يوم الفطر عيدًا، بعد الصيام والاعتكاف والعشر الأواخر من رمضان، وغفران الذنوب، وطول التهجد والقيام. كل ما في الدنيا يذكر بالآخرة فمواسمها وأعيادها وأفراحها تذكر بمواسم الآخرة وأعيادها وأفراحها. صنع عبد الواحد بن زيد طعامًا لإخوانه يوماً، فقام عتبة الغلام على رؤوس الجماعة يخدمهم وهو صائم فجعل عبد الواحد ينظر إليه ويسارقه النظر ودموع عتبة تجري، فسأله بعد ذلك عن بكائه حينئذ، فقال: ذكرت موائد الجنة والولدان قائمون على رؤوسهم، فغشى على عبد الواحد.

أبدان العارفين في الدنيا وقلوبهم في الآخرة: جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة والروح في وطن أخي: يومنا هذا يوم العيد، قد ميز فيه الشقي والسعيد، فكم فرح بهذا اليوم مسرور وهو مطرود مهجور. * قال بعض أصحاب سفيان الثوري: خرجت معه يوم عيد فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا غض البصر. ورجع حسان بن أبي سنان من عيده فقالت امرأته: كم من امرأة حسناء قد رأيت؟ فقال: ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت إلى أن رجعت! * يا من يفرح في العيد بتحسين لباسه، ويوقن بالموت وما استعد لبأسه، ويغتر بإخوانه وأقرانه وُجلاسه، وكأنه قد أمن سرعة اختلاسه، كيف تقر بالعيد عين مطرود عن الصلاح، كيف يضحك سن مردود عن الفلاح، كيف يُسَر من يُصر على الأفعال القباح، كيف لا يبكي من قد فاته جزيل الأرباح. * فيا من وفى في رمضان على أحسن حال، لا تتغير بعده في شوال، يا من رأي العيد ووصل إليه، متى تشكر المنعم وتثنى عليه، فكم من صحيح هيأ طيب عيده صار ذلك الطيب في تلحيده. يا من يصلح في رمضان وعزمه على الزلل في شوال أفسدت رمضان، ويحك! رب الشهرين واحد. * أخي: ليس العيد ثوبًا يجرّ الخيلاء جره، ولا تناول مطعم بكف شره لا يؤمن شره، إنما العيد لبس توبة عاص تائب يسر بقدوم قلب غائب. * والله ما عيد يعقوب إلا لقاء يوسف، ولا أيام تشريق الصديق إلا أيام الغار. يا راكبا تطوى المهامة عيسهُ ... فتريه رضراض الحصى مُترضرضا بلغ رعاك الله سكان الغَضَى ... مني التحية إن عَرْصت مُعرضا وقل انقضى زمن الوصال وودُّنا ... باق على مر الليالي ما انقضى

ليس المحب من غيره انقضاء رمضان وتوليه، فالجليل باق لا يزول، ورب الشهر لا يحول. قد يبلغ الشوق إلى الله بالمشتاق أن يقول: الناس بالعيد قد سُروا وقد فرحوا ... وما فرحتُ به والواحد الأحد لما تيقنت أني لا أعاينكم ... غَضَّمتُ عيني فلم أنظر إلى أحد رمضانهم دائم وشوالهم صائم، أعيادهم سرور القوم بالمحبوب، وأفراحهم بكمال التقوى وترك الذنوب، إذا جن عليهم الليل عادت القلوب بالمناجاة جُدُدا وإذا جاء النهار سلكوا من الصوم جددا (1) . يجمعون هممهم فيما أهمهم إذا بات هم الغافل بددا، جزموا على ما عزموا، أبدا أعيادهم بقرب القلوب إلى الحبيب دائمة، وأقدامهم في الدجى على باب اللجأ قائمة، وأرواحهم بالاشتياق إلى الملك الخلاق هائمة، قربهم مولاهم فالنفوس عن الفاني الأدنى صائمة. مغزى العيد الاجتماعي والإنساني: "أما مغزاه الاجتماعي فهو ما يضيفه على القلوب من أنس، وعلى النفوس من بهجة وعلى الأجسام من راحة، وما يدعو إليه من تجديد أواصر الحب بين الأصدقاء، والتراحم بين الأقرباء. في العيد تتقارب القلوب على الود، وتجتمع على الألفة، ويتناسى الناس أضغانهم، يجتمعون بعد افتراق، ويتصافون بعد كدر. * وفي العيد من المغزى الاجتماعي تذكير أبناء المجتمع بحق الضعفاء والعاجزين عليهم حتى تشتمل الفرحة بالعيد كل بيت، وتعم النعمة كل أسرة، وإلى هذا المغزى الاجتماعي العظيم يرمز تشريع "صدقة الفطر" في عيد الفطر، ونحو "الأضاحى" في عيد الأضحى، إن في تقديم صدقة الفطر ليلته إطلاقًا للأيدي الخيّرة، فلا تشرق الشمس العيد إلا والبسمة تعلو شفاه الناس جميعًا.

_ (1) الجدد: الأرض الغليظة المستوية.

مغزى العيد الاجتماعي والإنساني

* أما المعنى الإنساني في العيد، فهو أن يشرك أعدادًا لا حصر لها من أبناء الشرق والغرب بالفرح والسرور في وقت واحد، فإذا بالأمة تلتقي على الشعور المشترك بالغبطة، وإذا بأبناء الأمة الواحدة على اختلاف ديارهم يشتركون في السراء كما يشتركون في الضراء، ففي العيد تقوية لهذه الروابط الفكرية والروحية التي يعقدها الدين بين أبناء من مختلف اللغات والأقوام. * تلك هي بعض المعاني الاجتماعية والإنسانية في العيد، ومن ثم كانت الأعياد مظهرًا واضحًا لهذه المعاني في كل مجتمع. ومن أراد معرفة أخلاق الأمة فليراقبها في أعيادها إذ تنطلق فيها السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول على حقيقتها، والمجتمع السعيد هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروتها، ويمتد شعوره إلى أبعد مدى. يوم كانت أمتنا تتذوق طعم السعادة في مجتمعاتنا، كان الأخ يفكر في ليلة العيد بجاره قبل أن يفكر بنفسه، ويقدم حاجة أولاد صديقه على حاجة أولاده. * حدّث الواقدي قال: كان لي صديقان أحدهما هاشمي، وكنا كنفس واحدة، فنالتني ضائقة شديدة، وحضر العيد فقالت امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البأس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء فقد قطعوا قلبي -رحمة لهم- لما عليهم من الثياب الرثة، فانظر كيف تعمل لكسوتهم؟. قال الواقدي: فكتبت إلى صديق الهاشمي أسأله التوسعة علي، فوجه إلي كيسا مختومًا فيه ألف درهم، فما استقر في يدي حتى كتب إليّ الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صديقي الهاشمي، فوجهت إليه الكيس بختمه، ثم أخبرت امرأتي بما فعلته فاستحسنته ولم تعنفني عليه، فينما أنا كذلك إذا وافاني صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: اصدقني عما فعلت بالكيس الذي وجهته إليك، فعرّفته الخبر فقال لي: إنك حين طلبت مني المال لم أكن أملك إلا ما بعثت به إليك، ثم أرسلت إلى صديقي الثالث أساله المواساة فوجه إلي الكيس الذي بعثت به إليه.

قال الواقدي: فتواسينا الألف درهم فيما بيننا: كل واحد ثلاثمائة، ثم أخرجنا للمرأة مائة درهم، ونمى الخبر إلى المأمون، فدعاني وسألني فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار، لكل واحد منا آلفا دينار، وللمرأة ألف دينار" هذا هو التعبير الصادق عند سمو الأخلاق الاجتماعية في كل أمة. أريد أن نظهر في أعيادنا بمظهر الأمة الواعية التي لا يحول احتفاؤها بأعيادها دون الشعور بمصائبها. أريد أن نقتصد في ضحكنا فتبدو على وجوهنا مسحة من الحزن الكريم الوقور ينم على مبلغ عنايتنا بقضايانا واهتمامنا بما يجري في وطننا من أحداث ونكبات (1) . ما العيد إلا أن نعود لديننا ... حتى يعود قدسنا المفقودُ ما العيد إلا أن نكون أمة ... فيها محمد لا سواه عميدُ ما العيد إلا أن نعدَّ نفوسنا ... للحرب حيث بها هناك نجودُ ما العيد إلا أن تكون قلوبنا ... نحو العدو كأنها جلمودُ كونوا أشداءًا على أعدائكم ... والله إن عدوكم لعنيدُ فالمسلمون مكلفون بواجب ... لم يلههم عنه هوى وجمودُ والمسلمون كبيرهم وصغيرهم ... بين الخلائق عالم محمود (2) ***

_ (1) "أحكام الصيام وفلسفته" (ص90-93) تأليف الدكتور مصطفى السباعي - المكتب الإسلامي. (2) "منكرات الأفراح" (ص 67) لمحمود مهدي استنابولي.

عندما يحزن العيد

عيد بأي حال جئت يا عيد: أقبلت يا عيد، والأحزانُ أحزانُ ... وفي ضمير القوافي ثار وبركانُ أقبلت يا عيد، والرمضاء تلفحني ... وقد شَكَت من غبار الدرب أجفانُ أقبلت يا عيد، هذي أرض حسرتنا ... تموج موجًا وأرض الأنس قيعانُ أقبلتَ يا عيد، والظلماء كاشفة ... عن رأسها، وفؤاد البدر حيرانُ أقبلت يا عيد، أجري اللحن في شفتي ... رَطبًا، فيغبطني أهل وإخوانُ أزف تهنئتي للناس أشعرهم ... أني سعيد وأن القلبَ جَذلانُ وأرسل البسمة الخضراء تذكرة ... إلى نفوسهمو تزهو وتزدانُ قالوا وقد وجّهوا نحوي حديثهمو ... هذا الذي وجهه للبشر عنوان هذا الذي تصدر الآهات عن دمه ... شعرًا رصينًا له وزن وألحانُ لا لن أعاتبهم، هم ينظرون إلى ... وجهي، وفي خاطري للحزن كتمانُ والله لو قرأوا في النفس ما كتتبت ... يَدُ الجراح، وما صاغتْه أشجانُ ولو رأوا كيف بات الحزن متكئًا ... على ذراعي، وفي عينيه نُكرانُ لأغمضوا أعينًا مبهورةً وبكوا ... حالي، وقد نالني بؤس وحرمانُ أقبلتَ يا عيد، والأحزان نائمة ... على فراشي، وطرف الشوق سهرانُ من أين نفرح يا عيد الجِرَاح وفي ... قلوبنا من صنوف الهم ألوانُ؟ ومن أين نفرح والأحداث عاصفة ... وللدُمى مقِل ترنو وآذانُ؟ من أين.. والمسجد الأقصى محطمة ... آماله، وفؤاد القدس ولهانُ؟ من أين.. نفرح يا عيد الجراح وفي ... دروبنا جُدُر قامت وكثبان؟

من أين ... والأمة الغراء نائمة ... على سرير الهوى، والليل نشوان؟ من أين.. والذل يبني ألف منتجع ... في أرض عزّتنا، والربح خُسْرانُ؟ من أين نفرح والأحباب ما اقتربوا ... منا، ولا أصبحوا فينا كما كانوا؟ يا من تسرب منهم في الفؤاد هوى ... قامت له في زوايا النفس أركان أصبحت في يوم عيدي والسؤال على ... ثغري يئنّ وفي الأحشاء نيرانُ أين الأحبة.. لا غيم ولا مطر ... ولا رياض ولا ظل وأغصانُ؟ أين الأحبة.. لا نجوى معطرة ... بالذكريات ولا شيح وريحانُ أين الأحبة.. لا بدر يلوح لنا ... ولا نجوم بها الظلماء تزدانُ؟ أين الأحبة.. لا بحر ولا جزر ... تبدو، ولا سفن تجري وشطآنُ؟ أين الأحبة.. وارتد السؤال إلى ... صدري سهامًا لها في الطعن إمعانُ (1) ؟ ***

_ (1) قصيدة "عندما يحزن العيد" من ديوان "شموخ في زمن الإنكسار" لعبد الرحمن صالح العشماوي.

سنن العيد

عندما يحزن العيد سنن العيد قال ابن عابدين "سمي العيد بهذا الاسم لأن لله تعالى فيه عوائد الإحسان، أي أنواع الإحسان العائدة على عباده في كل يوم، منها: الفطر بعد المنع عن الطعام، وصدقة الفطر" (1) . قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أبا بكر، إن لكل قومٍ عيداً، وهذا عيدنا" (2) "وشبه الجملة من الجار والمجرور خبر إن المقدم على اسمها يفيد الحصر والقصر". قال ابن رجب الحنبلي في "لطائف المعارف" (287) : * "قال مخنف بن سليم وهو معدود من الصحابة "الخروج يوم الفطر يعدل عمرة والخروج يوم الأضحى يعدل حجة" اهـ. قال الصديق -رضي الله عنه- "لست تاركًا شيئًا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعمل به إلا عملت به إني أخشى إن تركت شيئًا أن أزيغ". وهذه جملة من هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (1) التجمل في العيد: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ عمر جبة من استبرق، تباع في السوق، فأخذها، فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، ابتع هذه، تجمل بها للعيد والوفود، فقال له رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما هذه لباس من لا خلاق له"، فلبث عمر ما شاء الله أن يلبث، ثم أرسل إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجبة ديباج، فاقبل بها عمر، فأتى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إن قلت: "إنما هذه لباس من لا خلاق له" وأرسلت إلي بهذه الجبة، فقال له

_ (1) "حاشية ابن عابدين" (2/165) . (2) رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه.

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تبيعها أو تصيب بها حاجتك" (1) قال الإمام السندي: "منه عُلم أن التجمل يوم العيد كان عادة متقررة بينهم، ولم ينكرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعُلم بقاؤها" (2) . * وكان ابن عمر "يلبس أحسن ثيابه في العيدين" (3) * قال الإمام مالك -رحمه الله-: "سمعت أهل العلم يستحبون الطيب والزينة في كل عيد". (2) الاغتسال يوم العيد قبل الخروج: عن نافع: "أن عبد الله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى" (4) . قال الإمام سعيد بن المسيب "سنة الفطر ثلاث: المشي إلى المصلى، والاكل قبل الخروج والاغتسال" (5) . * قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (2/370) : "يستحب أن يتطهر بالغسل للعيد، وكان ابن عمر يغتسل يوم الفطر، وروي ذلك عن علي -رضي الله عنه-، وبه قال علقمة، وعروة، وعطاء، والنخعي، والشعبي، وقتادة، وأبو الزناد، ومالك، والشافعي، وابن المنذر". "وأما الذي روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فهو ضعيف" (6) .

_ (1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد. (2) حاشية السندي على النسائي (3/181) . (3) رواه البيهقي وابن أبي الدنيا وصحح إسناده ابن حجر في "فتح الباري" (2/439) . (4) أخرجه الإمام مالك ورواه أيضاً الشافعي وعبد الرزاق وسنده صحيح. (5) رواه الفريابي بإسناد صحيح، انظر "إرواء الغليل" (2/104) . (6) "كما عند ابن ماجة وفي إسناده جبارة بن المغلس وشيخه وهما ضعيفان ورواه أيضاً وفيه يوسف بن خالد السمتي، كذبه غير واحداً". انظر الرسالة القيمة "أحكام العيدين في السنة المطهرة" لعلي حسن عبد الحميد - المكتبة الإسلامية- الأردن.

الخروج إلى المصلى:

(3) الخروج إلى المصلى: * عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة" (1) . * عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغدو إلى المصلى في يوم العيد، والعترة تُحمل بين يديه، فإذا بلغ المصلى نصبت بين يديه، فيصلي إليها وذلك أن المصلى كان فضاء ليس فيه شيء يستتر به" (2) . * وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قيل له: أشهدت العيد مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟، قال: نعم، ولولا مكاني من الصغر ما شهدته، حتى أتى العَلَم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة، فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال ثم أنطلق هو وبلال إلى بيته" (3) . وزاد مسلم في روايته عن ابن جريج: "قلت لعطاء أحقًا على الإمام الآن أن يأتي النساء حين يفرغ فيذكرهن؟ قال: أي لعمري إن ذلك لحق عليهم، وما لهم لا يفعلون ذلك؟! ". فالسنة في صلاة العيدين أن تؤدي في المصلى وبذلك قال جمهور العلماء. قال البغوي في "شرح السنة": "السنة أن يخرج الإمام لصلاة العيدين، إلا من عذر، فيصلي في المسجد". وقال النووي "هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى، وأنه أفضل من فعلها في المسجد، وعلى هذا عمل الناس في معظهم الأمصار". وقال ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/450) : "استدل به على استحباب الخروج إلى الصحراء لصلاة العيد، وأن ذلك أفضل من صلاتها

_ (1) رواه البخاري ومسلم والنسائي. (2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة واللفظ له. (3) رواه البخاري والسياق له، ومسلم وابن أبي شيبة وأبو نعيم في مستخرجه.

في المسجد، لمواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك مع فضل مسجده. وقال الشافعي في "الأم": "بلغنا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة، وكذا من بعده، إلا من عذر مطر ونحوه، وكذا عامة أهل البلدان إلا أهل مكة". * قال ابن الحاج. في "المدخل" (283) : "والسنة الماضية في صلاة العيدين أن تكون في المصلى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام" (1) . ثم هو مع هذه الفضيلة العظيمة خرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المصلى وتركه". وقال ابن قدامة في "المغني" (2/229) : "السنة أن يصلي العيد في المصلى". وقال العلامة العيني الحنفي: "وفيه البروز إلى المصلى والخروج إليه، ولا يصلى في المسجد إلا عن ضرورة". قال الألباني "صلاة العيدين الآن في المساجد: بدعة حتى على قول الشافعي لأنه لا يوجد مسجد واحد في بلادنا يسع أهل البلد الذي هو فيه". عن أم عطية: "أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق، والحيّض وذوات الخدور، فأما الحيّض فيعتزلن الصلاة - وفي لفظ المصلى -، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين" (2) . والسنة مشروعية خروج النساء إلى المصلى لصلاة العيدين، بل ذهب كثير من أهل العلم إلى الوجوب ومنهم الصنعاني والشوكاني، وصديق حسن خان، وهو ظاهر كلام ابن حزم، ومال إليه ابن تيمية في "اختياراته" عن أبى بكر الصديق -رضي الله عنه- قال "حق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيد" (3) .

_ (1) يبلغ درجة التواتر. (2) رواه مسلم واللفظ له، والبخاري والترمذي، والنسائي وابن ماجة وأحمد. (3) رواه ابن أبي شيبة وسنده صحيح.

التكبير في العيدين:

* يقول محدث الشام الشيخ الألباني عن حكمة الصلاة في المصلى: "إن هذه السنة -سنة الصلاة في الصحراء- لها حكمة عظيمة بالغة: أن يكون للمسلمين يومان في السنة، يجتمع فيها أهل كل بلدة، رجالاً ونساء وصبيانا. يتوجهون إلى الله بقلوبهم، تجمعهم كلمة واحدة، ويصلون خلف إمام واحد ويكبرون ويهللون، ويدعون الله مخلصين، كأنهم على قلب رجل واحد، وقد أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخروج النساء لصلاة العيد مع الناس ولم يستثن منهن أحد، حتى أنه لم يرخص لمن لم يكن عندها ما تلبس في خروجها، بل أمر أن تستعير ثوبًا من غيرها، وحتى أنه أمر من كان عندهن عذر يمنعهن بالصلاة، بالخروج إلى المصلى "ليشهدن الخير ودعوة المسلمين" (1) . * ومقصد آخر: قول الدهلوي: "إن كل أمة لابد لها من عرضة ويجتمع فيها أهلها لتظهر شوكتهم وتعلم كثرتهم، ولذلك كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخالف في الطريق ذهابا وإيابًا ليطلع أهل كلتا الطريقين على شوكة المسلمين". (4) من السنة إتيان المصلى ماشيا: قال علي -رضي الله عنه- "إن من السنة أن تأتي العيد ماشيًا" (2) . قال ابن القيم في "الزاد" "وكان ابن عمر -رضي الله عنه- مع شدة اتباعه للسنة- لا يخرج حتى تطلع الشمس ويكبر من بيته إلى المصلى". (5) التكبير في العيدين: قال البغوي "ومن السنة إظهار التكبير ليلتي العيدين مقيمين وسفرا في منازلهم ومساجدهم وأسواقهم وبعد الغدو في الطريق، وبالمصلى إلى أن يحضر الإمام، كان ابن عمر -رضي الله عنه- - يغدو إلى المصلى يوم الفطر إذا طلعت الشمس فيكبر حتى يأتي المصلى ثم يكبر بالمصلى حتى إذا جلس الإمام ترك التكبير" (3) .

_ (1) كل ما ذكرناه في الخروج إلى المصلى فهو من رسالة "صلاة العيدين في المصلى هي السنة" للشيخ المحدث الألباني - المكتب الإسلامي. (2) أخرجه الترمذي وحسنه، وابن ماجه، وصححه الألباني. (3) أخرجه الحاكم والبيهقي وصححه، رواه الدارقطني وابن أبي شيبة بإسناد صحيح، انظر "إرواء الغليل" (650) .

صيغ التكبير:

وكان ابن المسيب وعروة وأبو سلمة وأبو بكر يكبرون ليلة الفطر في المسجد يجهرون بالتكبير. وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يخرج يوم الفطر فيكبر حتى يأتي المصلى، وحتى يقضي الصلاة، فإذا قضى الصلاة قطع التكبير" (1) . * قال الشيخ المحدث الألباني: "وفي الحديث دليل على مشروعية ما جرى عليه عمل المسلمين من التكبير جهرًا في الطريق إلى المصلى، وإن كان كثير منهم بدؤوا يتساهلون بهذه السنة حتى كادت تصبح في خبر كان ... ومما يحسن التذكير به بهذه المناسبة، إن الجهر بالتكبير هنا لا يُشرع فيه الاجتماع عليه بصوت واحد كما يفعله البعض، وكذلك كل ذكر يشرع فيه رفع الصوت أو لا يشرع، فلا يشرع فيه الاجتماع المذكور فلنكن على حذر من ذلك" (2) . * سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن وقت التكبير في العيدين فقال رحمه الله: "الحمد لله"، أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة: أن يكبر في فجر يوم عرفة، إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة، ويُشرع لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة. (6) صيغ التكبير: * "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد" (3) . * "الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد" (4) . * "الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا" (5) .

_ (1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" والمحاملي في "صلاة العيدين" وصححه الألباني في الصحيحة رقم (170) . (2) السلسلة الصحيحة (1/12) . (3) رواه ابن أبي شيبة بإسناد صححه الألباني عن ابن مسعود. (4) عن ابن مسعود وابن عباس بسند صحيح. (5) رواه عبد الرازق بسند صحيح عن سلمان.

* "الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر وأجلّ، الله أكبر على ما هدانا" (1) . فقال أبو عبد الرحمن السلمي: كانوا في الفطر أشد منهم في الأضحى فقال وكيع: يعني في التكبير. عن أنس رضى الله عنه قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات" (2) . قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة: أن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد، فكأنه أراد سد هذه الذريعة (3) . (7) مخالفة الطريق في الذهاب والإياب إلى المصلى: عن جابر -رضي الله عنه- فقال: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يوم عيد خالف الطريق" (4) . قال الإمام النووي: "وإذا لم يعلم السبب، استحب التأسي قطعًا، والله أعلم" (5) . (8) لا يصلي قبل العيد شيئا: عن ابن عباس "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يوم الفطر ركعتين، لم يصل قبلها ولا بعدها" (6) . قال ابن حجر في "فتح الباري" (2/476) : "والحاصل أن صلاة العيد لم يثبت لها سنة قبلها ولا بعدها، خلافًا لمن قاسها على الجمعة". وعن أبي سعيد الخدري: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصلي قبل العيد شيئا،

_ (1) رواه البيهقي، وصحح إسناده الألباني عن ابن عباس. (2) رواه البخاري والترمذي وابن ماجه وأحمد. (3) فتح الباري (2/447) . (4) رواه البخاري. (5) روضة الطالبين (2/77) . (6) رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه.

حكم صلاة العيدين:

فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين" (1) . * حكم صلاة العيدين: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا رجحنا أن صلاة العيد واجبة على الأعيان، كقول أبي حنيفة وغيره وهو أحد أقوال الشافعي، وأحد القولين في مذهب أحمد، وقول من قال: لا تجب، في غاية البعد؛ فإنها من أعظم شعائر الإسلام، والناس يجتمعون لها أعظم من الجمعة، وقد شرع فيها التكبير، وقول من قال: هي فرض على الكفاية لا ينضبط" (2) . قال العلامة صديق حسن خان: "من الأدلة على وجوبها أنها مسقطة للجمعة إذا اتفقتا في يوم واحد" (3) ، وما ليس بواجب لا يسقط ما كان واجبًا، وقد ثبت أنه لازمها جماعة منذ شرعت إلى أن مات، وانضم إلى هذه الملازمة الدائمة أمره للناس بأن يخرجوا إلى الصلاة" (4) . وقت صلاة عيد الفطر: عن عبد الله بن بُسر صاحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه خرج مع الناس يوم فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح" (5) . أي وقت صلاة النافلة إذا مضى وقت الكراهة. قال ابن القيم: "يؤخر صلاة عيد الفطر، ويعجل الأضحى".

_ (1) رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الحافظ والألباني. (2) مجموع الفتاوى (23/161) . (3) كما في حديث أبي هريرة - عندما اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون" رواه أبو داود وابن ماجة وسنده حسن. انظر المغنى (2/358) ، ومجموع الفتاوى (24/212) . (4) انظر الروضة الندية (1/142) ، الموعظة الحسنة (42-43) ، نيل الأوطار (3/383- 383) وتمام المنة (2/37) . (5) علقه البخاري في صحيحه، ووصله أبو داود وابن ماجه والحاكم والبيهقي وسنده صحيح.

وقال صديق حسن خان: وقتهما بعد ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الزوال. وقال الشيخ أبو بكر الجزائري في "منهاج المسلم" (278) : "وقتهما من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الزوال، والأفضل أن تؤخر صلاة الفطر ليتمكن الناس من إخراج صدقاتهم". (9) لا أذان ولا إقامة للعيدين: عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة" (1) . وعن ابن عباس وجابر رضي الله عنهما قال: "لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى" (2) . قال ابن القيم في "زدا المعاد" (1/442) : "وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة من غير أذان، ولا إقامة، ولا قول: الصلاة جامعة، والسنة أنه لا يفعل شيء من ذلك. قال الصنعاني في "سبل السلام" (2/67) : "عدم شرعيتها في صلاة العيد فإنها بدعة". (10) صلاة العيد ركعتان: * عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- "صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (3) . * الركعة الأولى تبدأ بتكبيرة الإحرام ثم يكبر فيها سبع تكبيرات، وفي الركعة الثانية خمس تكبيرات، سوى تكبيرة الانتقال. عن عائشة رضي الله عنها "إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر في الفطر

_ (1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي. (2) رواه البخاري. (3) رواه أحمد والنسائي والطحاوي في "شرح معاني الآثار" والبيهقي وسنده صحيح.

والأضحى: في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمسًا سوى تكبيرتي الركوع" (1) . قال الإمام البغوي: "وهذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم، أنه يكبر في صلاة العيد في الأول سبعًا سوى تكبيرة الافتتاح، وفي الثانية خمسًا سوى تكبيرة القيام قبل القراءة رُوي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي". * والسنة في التكبير أن يكون قبل القراءة لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال "كبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة العيد: سبعًا في الأولى، ثم قرأ، ثم كبر فركع، ثم سجد، ثم قام فكبر خمسًا، ثم قرأ، ثم كبر فركع ثم سجد" (2) . * لم يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يرفع يديه مع تكبيرات العيد (3) ، لكن قال ابن القيم: "وكان ابن عمر - مع تحريه للاتباع يرفع يديه مع كل تكبيرة" (4) . قال: الإمام مالك: "ارفع يديك مع كل تكبيرة" وهذا قول عطاء. * لم يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر معين بين تكبيرات العبد، ولكن ثبت عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال عن صلاة العيد "بين كل تكبيرتين حمد لله عز وجل، وثناء على الله" (5) . وفيه أيضاً عن ابن مسعود أنه قال "يحمد الله ويثني عليه، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (6) . * عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه-: "سألني عمر بن الخطاب عما

_ (1) إسناده صحيح: رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والبيهقي. (2) حسن بشواهد: رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد. انظر إرواء الغليل (3/108- 112) وزاد المعاد (1/443-444) . (3) إرواء الغليل (3/112-114) . (4) زاد المعاد (1/441) . (5) رواه البيهقي والمحاملي وجوده الألباني. (6) صححه الألباني.

التخيير بحضور الخطبة:

قرأ به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العيد؟ فقلت: بـ (اقتربت الساعة) و (ق) أخرجه مسلم. قال ابن القيم "وربما قرأ فيهما (سبح اسم ربك الأعلى) ، (هل أتاك حديث الغاشية) أخرجه مسلم من حديث النعمان بن بشير. صح عنه هذا وهذا ولم يصح عنه غير ذلك. وباقي هيئاتها، كغيرها من الصلوات المعتادة. (11) من فاتته صلاة العيد جماعة، يصلي ركعتين: قال البخاري -رحمه الله- "باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين". وهو قول عطاء ومذهب الشافعي. (12) الخطبة بعد الصلاة: السنة في خطبة العيد أن تكون بعد الصلاة؛ خلافًا لما فعله مروان بن الحكم عن ابن عباس قال "شهدت العيد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة" (1) . (13) التخيير بحضور الخطبة: وخطبة العيد كسائر الخطب، تفتتح بالحمد والثناء على الله عز وجل. قال ابن القيم في "زاد المعاد" (1/447-448) : "وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفتتح خطبة كلها بالحمد لله، ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيد بالتكبير، وإنما روى ابن ماجة في "سننه" (2) . عن سعد القرظ مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يكثر التكبير بين أضعاف الخطبة، ويكثر التكبير في خطبتي العيدين، وهذا لا يدل على أنه كان يفتتحها به". وحضور الخطبة ليس واجبًا كالصلاة: قال عبد الله بن السائب: شهدت

_ (1) رواه البخاري ومسلم وأحمد. (2) ورواه الحاكم والبيهقي وسنده ضعيف، عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد المؤذن ضعيف، وأبوه وجده مجهولان.

العيد مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما قضى الصلاة قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب" (1) . قال ابن القيم في "زاد المعاد" (1/448) : "ورخص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن شهد العيد أن يجلس للخطبة أو أن يذهب". (14) التهنئة بالعيد: قال جبير بن نفير "كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك" (2) . * سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن التهنئة يوم العيد فأجاب: "أما التهنئة يوم العيد، بقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد صلاة العيد: تقبل الله منا ومنكم، وأحال الله عليك ونحو ذلك، فهذا قد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه، ورخص فيه الأ-ئمة كأحمد وغيره، لكن قال أحمد: أنا لا ابتدئ أحدًا، فإن ابتدأني أحد أجبته، وذلك لأن جواب التحية واجب، وأما الابتداء بالتهنئة فليس سنة مأمورًا بها، ولا هو أيضاً مما نهى عنه، فمن فعله فله قدوة، ومن تركه فله قدوة، والله أعلم" (3) . (15) السنة أن يخرج المعتكف فقط من المسجد إلى المصلى: قال إبراهيم النخعي: "كانوا يستحبون للمعتكف فقط أن يبيت ليلة الفطر في مسجده حتى يكون خروجه منه" وبوب ابن أبي شيبة في مصنفه "من كان يحب أن يغدو المعتكف كما هو من مسجده إلى المصلى".

_ (1) إسناده صحيح: رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم، وصححه الحاكم والذهبي وابن خزيمة والألباني في إرواء الغليل (3/96-98) . (2) قال ابن حجر في "فتح الباري" (2/446) : أدينا في "المحامليات بإسناد حسن عن جبير بن نفير" وحسنه أيضاً السيوطي في "وصل الأماني بأصول التهاني". (3) مجموع الفتاوى (24/253) .

التوسعة على العيال

(16) الإذن بسماع الدف من الجويريات وتركه أولى: عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث (1) ، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمار الشيطان عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فاقبل عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال "دعهما" فلما غفل غمزتهما فخرجتا. وفي رواية أخرى "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا" (2) . قال ابن حجر في "فتح الباري" (2/443) : "وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يُحَصِّل لهم بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة، وأن الإعراض عن ذلك أولى، وفيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين. ***

_ (1) كان فيه حرب بين الأوس والخزرج، وبعاث: اسم لحصن الأوس. (2) الروايتان للبخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه.

الباب الحادي والعشرون فتاوى الصيام

الباب الحادي والعشرون فتاوى الصيام إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم

*

من فتاوى الصيام - سئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله: ما هي أركان الصيام: فأجاب: "الصيام له ركن وهو: التعبد لله عز وجل بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. والمراد بالفجر هنا: الفجر الثاني دون الأول. * ويتميز الفجر الثاني عن الفجر الأول بثلاثة مميزات: الميزة الأولى: أن الفجر الثاني يكون معترضًا في الأفق، والفجر الأول يكون مستطيلاً -أي: ممتدًا من المشرق إلى المغرب- وأما الفجر الثاني فيمتد من الشمال إلى الجنوب. الميزة الثانية: أن الفجر الثاني لا ظلمة بعده بل يستمر النور في الازدياد حتى طلوع الشمس، وأما الفجر الأول فيظلم بعد أن يكون له شعاع. الميزة الثالثة: أن الفجر الثاني متصل بياضه بالأفق، وأما الفجر الأول فبينه وبين الأفق ظلمة. والفجر الأول ليس له حكم في الشرع فلا تحل به صلاة الفجر ولا يحرم به الطعام على الصائم بخلاف الفجر الثاني" (1) . - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله (2) : بماذا يثبت دخول شهر رمضان وخروجه.. وما حكم من رأى الهلال وحده عند دخول الشهر أو خروجه؟ فأجاب: يثبت دخول الشهر وخروجه بشاهدي عدل فأكثر.. وِيثبت دخوله فقط بشاهد واحد؛ لأنه ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "فإنْ شهِدَ شاهِدان فصُومُوا وَأَفْطِروا"

_ (1) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 172، 173) . (2) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لسماحة الشيخ ابن باز (162، 163) .

ما هي الطريقة التي يثبت بها أول كل شهر قمري؟

وثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر الناس بالصيام بشهادة ابن عمر -رضي الله عنهما- وبشهادة أعرابي، ولم يطلب شاهدا آخر عليه الصلاة والسلام. والحكمة في ذلك والله أعلم: الاحتياط للدين في الدخول والخروج، كما نص على ذلك أهل العلم. ومن رأى الهلال وحده في الدخول أو الخروج ولم يعمل بشهادته، فإنه يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، ولا يعمل بشهادة نفسه -في أصح أقوال أهل العلم-؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "الصوم يَوْم تَصُومُون، والفِطْرُ يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون"، والله ولي التوفيق. - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1) : ما هي الطريقة التي يثبت بها أول كل شهر قمري؟ فأجابت: دلت الأحاديث الصَّحيحة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن الهلال متى رآه ثقة بعد غروب الشمس في ليلة الثلاثين من شعبان أو ثقات ليلة الثلاثين من رمضان فإن الرؤية تكون مُعتبرة، ويعرف بها أول الشهر من غير حاجة إلى اعتبار المدة التي يمكُثها القَمَر بعد غروب الشمس، سواء كانت عشرين دقيقة أم أقل أو أكثر؛ لأنه ليس هناك في الأحاديث الصحيحة ما يدل على التحديد بدقائق معينة لغروب القمر بعد غروب الشمس. وقد وافق مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة على ما ذكرنا. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا وآله وصحبه وسلم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب ... رئيس اللجنة الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز - سئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: ما حكم من رأى الهلال وحده، ولم يصم مع الناس؟

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (2031) .

فأجاب: من رأى الهلال وَحْدَهُ، فيجب عليه أن يبلِّغ به المحكمة الشرعية ويشهد به. ويثبت دخول شهر رمضان بشهادة واحد، إذا ارتضاه القاضي وحكم بشهادته، فإن رُدّت شهادته فقد قال بعض العلماء: إنه يلزمه أن يصوم لأنه تيقن أنه رأى الهلال، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته" وهذا قد رآه وقال بعض أهل العلم: لا يلزمه أن يصوم؛ لأن الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس، وموافقته للجماعة خير من انفراده وشذوذه، وفصَّل آخرون فقالوا: يلزمه الصوم سرًّا، فيلزمه الصوم لأنه رأى الهلال، ويكون سرًّا لئلا يظهر مخالفة الجماعة (1) . - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: كيف يمكن معرفة دخول هلال أي شهر مثل شهر رمضان؟ فأجاب: الهلال هو رؤية القمر متأخرًا عن الشمس غائبا بعدها، فإذا رؤي الهلال بعد غروب الشمس، فإنه يَتَحَقَّق من دخول الشهر الثاني، ولا يتمَكَّن من رؤيته إلا حديد البصر. أما في الليلة الثانية، فإنه يراه الجميع، حيث إنه يتأخر عن الشمس ساعة إلا ربعًا، وفي الليلة الثالثة يغيب وقت العشاء. ثبت عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: "أنا أعلم الناس بوقت صلاة العشاء كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّيها لمغيب القمر الثالثة". -أي: إذا غاب القمر الليلة الثالثة- أي: بعد مغيب الشمس بساعة ونصف وهو وقت غروب الشفق. أما إذا رؤي الهلال محاذيا للشمس أو سابقا لها فهو تابع للشهر الذي قبله، كذلك عندما يكون آخر الشهر يُرى القمر في الأفق وهو متقوس ورأساه إلى أسفل فإذا هلّ صارت رأساه إلى أعلى. والله أعلم (2) .

_ (1) "فقه العبادات" لابن عثيمين (ص 172) . (2) "فتاوى الصيام" لابن جبرين (ص 23) .

هل يجوز للمسلم الاعتماد في بدء الصوم ونهايته على الحساب الفلكي

- وسئل حفظه الله: بماذا يثبت هلال شهر رمضان وبماذا يثبت هلال شهر شوال؟ فأجاب: يثبُت هلال رمضان برؤية عدل واحد -ولو أنثى-. أما هلال شوال فلا يثبت إلا برؤية شاهدين عدلين وذلك من باب الاحتياط؛ لأن كثيرا من الناس -والعياذ بالله- يحرصون على رؤيته خروجًا ولا يحرصون على رؤيته دخولاً (1) . - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: إذا تيقن شخص من دخول الشهر برؤية الهلال ولم يستطع إبلاغ المحكمة فهل يجب عليه الصيام؟ فأجاب: اختلف العلماء في هذا فمنهم من يقول: إنه يلزمه؛ وذلك بناء على أن الهلال هو ما استهل واشتهر بين الناس، أو أن الهلال هو ما رؤي بعد غروب الشمس، سواء اشتهر بين الناس أم لم يشتهر. والذي يظهر لي: أن من رآه وتيقن رؤيته وهو في مكان ناء لم يشاركه أحد في الرؤية أو لم يشاركه أحد في الترائي فإنه يلزمه الصوم. لعموم قوله تعالى (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إِذَا رَأَيْتُموه فَصُومُوا". ولكن إن كان في البلد وَشَهد به عند المحكمة، وردت شهادته فإنه في هذه الحال يصوم سِرًّا لئلا يُعلن مُخَالفة الناس (2) . - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3) : هل يجوز للمسلم الاعتماد في بدء الصوم ونهايته على الحساب الفلكي، أو لابد من رؤية الهلال؟

_ (1) "فتاوى الصيام" لابن جبرين (ص 28) . (2) "فتاوى ابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/149) . (3) فتوى رقم (386) .

فأجابت: الشريعة الإسلامية شريعة سمحة وهي عامة شاملة أحكامها جميع الثقلين الإنس والجن، على اختلاف طبقاتهم: علماء وأميين أهل الحضر وأهل البادية، فلهذا سهَّل الله عليهم الطريق إلى معرفة أوقات العبادات، فجعل لدخول أوقاتها وخروجها أمارات يشتركون في معرفتها، جعل زوال الشمس أمارة على دخول وقت المغرب وخروج وقت العصر، وغروب الشفق الأحمر أمارة على دخول وقت العشاء مثلا، وجعل رؤية الهلال بعد استتاره آخر الشهر أمارة على ابتداء شهر قمري جديد وانتهاء الشهر السابق، ولم يكلفنا معرفة بدء الشهر القمري بما لا يعرفه إلا النزر اليسير من الناس، وهو علم النجوم، أو علم الحساب الفلكي. وبهذا جاءت نصوص الكتاب والسنة بجعل رؤية الهلال ومشاهدته أمارة على بدء صوم المسلمين شهر رمضان، والإفطار منه برؤية هلال شوال، وكذلك الحال في ثبوت عيد الأضحى ويوم عرفات قال الله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] وقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" فجعل -عليه الصلاة والسلام- الصوم لثبوت رؤية هلال شهر رمضان والإفطار منه لثبوت رؤية هلال شوال، ولم يربط ذلك بحساب النجوم وسير الكواكب، وعلى هذا جرى العمل زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وزمن الخلفاء الراشدين والأئمة الأربعة والقرون الثلاثة التي شهد لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفضل والخير، فالرجوع في إثبات الشهور القمرية إلى علم النجوم في بدء العبادات والخروج منها دون الرؤية من البدع التي لا خير فيها، ولا مستند لها من الشريعة، وإن المملكة العربية السعودية متمسكة بما كان عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والسلف الصالح من إثبات الصيام والإفطار والأعياد وأوقات الحج ونحوها برؤية الهلال، والخير كل الخير في اتباع من سلف في الشئون الدينية والشر كل الشر في البدع التي أحدثت في الدين. حفظنا الله وإياك وجميع المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (1) : ما هي الطريقة الشرعية التي يثبت بها دخول الشهر؟ وهل يجوز اعتماد حساب المراصد الفلكية في ثبوت الشهر وخروجه؟ وهل يجوز للمسلم أن يستعمل ما يسمى (بالدربيل) في رؤية الهلال؟ فأجاب: الطَّريقة الشرعية لِثُبُوت دخول الشهر أن يتراءى الناس الهلال وينبغي أن يكون ذلك ممن يوثق به في دينه وفي قوة نظره، فإذا رأوه وجب العمل بمقتضى هذه الرؤية صومًا إن كان الهلال هلال رمضان وإفطارًا إن كان الهلال هلال شوال، ولا يجوز اعتماد حساب المراصد الفلكية إذا لم يكن رؤية فإن كان هناك رؤية -ولو عن طريق المراصد الفلكية- فإنها معتبرة لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا". أما الحساب: فإنه لا يجوز العمل به ولا الاعتماد عليه. وأما استعمال ما يسمى (بالدربيل) -وهو: المنظار المقرب- في رؤية الهلال فلا بأس به ولكن ليس بواجب؛ لأن الظاهر من السنة أن الاعتماد على الرؤية المعتادة لا على غيرها. ولكن لو استعمل -فرآه من يوثق به-، فإنه يُعمل بهذه الرؤية، وقد كان الناس قديمًا يستعملون ذلك لما كانوا يصعدون (المنائر) في ليلة الثلاثين من رمضان فيتراءونه بواسطة هذا المنظار، على كل حال: متى ثبتت رؤيته- بأي وسيلة- فإنه يجب العمل بمقتضى هذه الرؤية لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا رَأَيْتُمُوه فَصُوموا وَإذا رَأَيْتُموه فَأَفْطِروا". - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: هل يجوز الاعتماد على الحساب في رؤية شهر رمضان؟ فأجاب: جاءت الشريعة بالاعتماد على الرؤية لا على الحساب. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنا أُمة أُمية لا نَحْسِب وَلاَ نَكْتُب، صُوموا لِرُؤْيتهِ وَأَفْطِروا لِرؤيته، فإِن غُم عَلَيكُم فَأكمِلوا العِدَّة".

_ (1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/150، 151) .

وفي رواية: "فَأقْدِرُوا لَه". فأخذ العلماء من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّا أمة أمية ... " أنه لا يجوز الاعتماد في شهر شعبان ورمضان إلا على الرؤية فقط. ولكن قال بعضهم: إذا وُجد زمان قد زالت فيه الأمية التي ذكرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه يصح أن يعتمد الحساب، وهو: أنهم يجعلون شهرا تاما ثلاثين يوما، وشهرا ناقصا تسعة وعشرين يوما، وهذا في السنة البسيطة. أما في السنة الكبيسة: فيكون سبعة أشهر تامة وخمسة ناقصة. أما الجمهور، فيقولون: إن الحكم باقٍ ولو زالت الأمية، وصار الناس يحسبون ويكتبون؛ لأنه جعله حكمًا عامًا، وما كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحابته فهو باقٍ لمن بعدهم (1) . - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: إذا رأيت هلال رمضان وتقدمت للإفادة بذلك، ولم يؤيدني أحد فهل أصوم أم لا؟ فأجاب: إذا تقدم الإنسان وذكر للقَاضِي أو المسؤول أنه رأى هلال رمضان ولم يُقْبَل منه ولم يُعْمَل برؤيته. فهذا فيه خلاف بين العلماء: - فقد ذهب الأكثرون إلى أنه يصوم؛ لأنه ثبت الشهر في حقه برؤيته، فيصوم ويسبق الناس بيوم ويفطر معهم إذا أفطروا. وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه لا يصوم إذا لم يعمل برؤيته؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصَوم يَومَ تَصومُون وَالإِفْطَار يَوْم تُفْطِرون وَالأَضْحَى يَوم تُضَحُون" وهذا اليوم لم يصمه المسلمون فلا يصومه هو، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وجماعة من أهل العلم وهو أظهر في الدليل، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم يَوْم تَصُومُون"

_ (1) "فتاوى الصيام" لابن جبرين (ص 21) .

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن أهل المدينة رأى بعضهم هلال ذي الحجة، ولم يثبت عند حاكم المدينة؛ فهل لهم أن يصوموا اليوم الذي في الظاهر التاسع

والمسلمون لم يَصُوموا فتصبح شهادته لاغية في حَقِّه وحق غيره فلا يصوم. هذا هو الأرجح. والله ولي التوفيق (1) . - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن أهل المدينة رأى بعضهم هلال ذي الحجة، ولم يَثْبُت عند حاكم المدينة؛ فهل لهم أن يَصُوموا اليوم الذي في الظَّاهر التاسع. وإن كان في الباطن العاشر؟ فأجاب: نعم. يَصُومون التَّاسع في الظاهر المعروف عند الجماعة، وإن كان في نفس الأمر يكون عاشرا، ولو قُدِّر ثبوت تلك الرؤية. فإن في "السنن" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "صَوْمُكُم يوم تَصُومُون، وفِطركم يَوْم تُفْطِرُون، وَأَضْحَاكُم يَوم تُضحُّون" أخرجه أبو داود، وابن ماجة، والترمذي وصححه، وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الفِطْر يَوْم يُفْطِر النَّاس، والأَضْحَى يَوم يُضح النَّاس" رواه الترمذي. وَعَلى هذا العمل عند أئمة المسلمين كلهم، فإنَّ الناس لو وقفوا بعرفة في اليوم العاشر خطأ أجزاهم الوقوف بالاتفاق، وكان ذلك اليوم يوم عرفة في حقهم، ولو وقفوا الثامن خطأ ففي الإجزاء نزاع، والأظهر صحة الوقوف أيضًا، وهو أحد القولين في مذهب مالك، ومذهب أحمد وغيره. قالت عائشة رضي الله عنها: "إِنما عَرَفة اليوم الّذي يَعرفُه النَّاس". وأصل ذلك: أن الله سبحانه وتعالى عَلَّق الحكم بالهلال والشهر فقال تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) [البقرة: 189] . والهلال اسم لما يستهل به: أي يعلن به، ويجهر به فإذا طلع في السماء ولم يعرفه الناس ويستهلوا لم يكن هلالا. وكذا الشهر مأخوذ من الشهرة، فإن لم يشتهر بين الناس لم يكن الشهر قد دخل، وإنما يغلط كثير من الناس في مثل هذه المسألة؟ لظنهم أنه إذا طَلَع في السَّماء كان تلك الليلة أَوَّل الشهر، سَواء ظهر ذلك للناس واستهلوا به أو لا. وليس كذلك: بل ظهوره للناس واستهلالهم به لابد منه ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صَوْمُكُم يَوْم تَصُومُون، وَفِطْرُكم يَوْم تُفْطِرُون وَأَضْحَاكُم يَوْم تُضَحون" أي هذا اليوم الذي تعلمون أنه وقت الصوم، والفطر،

_ (1) "مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز" (3/176، 177) .

والأضحى، فإذا لم تعلموه لم يترتب عليه حكم. وصوم اليوم الذي يشك فيه: هِل هو تاسع ذي الحجة؟ أو عاشر ذي الحجة؟ جائز. -بلا نزاع بين العلماء-؛ لأن الأَصل عدَم العاشر، كما أنهم لو شكوا ليلة الثلاثين من رمضان: هل طلع الهلال؟ أم لم يطلع؟ فإِنهم يَصُومون ذلك اليوم المشكوك فيه باتفاق الأئمة. وإنما يوم الشك -الذي رويت فيه الكراهة- الشك في أول رمضان، لأن الأصل بقاء شعبان. وإنما الذي يشتبه في هذا الباب مسألتان: إحْدَاهما: لو رأى هلال شوال وحده، أو أخبره به جماعة يعلم صدقهم هل يفطر؟ أم لا؟ والثانية: لو رأى هلال ذي الحجة، أو أخبره جماعة يعلم صدقهم، هل يكون في حقه يوم عرفة، ويوم النحر هو التاسع، والعاشر بحسب هذه الرؤية التي لم تشتهر عند الناس؟ أو هو التاسع والعاشر الذي اشتهر عند الناس؟ فأما المسألة الأولى: فالمنفرد برؤية هلال شوال، لا يفطر علانية، باتفاق العلماء. إلا أن يكون له عذر يبيح الفطر كمرض وسفر، وهل يفطر سرًا؟ ذلك على قولين للعلماء أصحهما: لا يُفطِر سرا، وهو مذهب مالك، وأحمد في المشهور في مذهبهما. وفيهما قول: أنه يُفطِر سرًّا كالمشهور في مذهب أبي حنيفة، والشافعي وقد روي أن رجلين في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رأيا هلال شوال، فأفطر أحدهما، ولم يفطر الآخر. فلما بلغ ذلك عمر قال للذي أفطر: "لولا صَاحِبك لأَوجَعْتُك ضَربًا". والسبب في ذلك أن الفطر يوم يفطر الناس وهو يوم العيد، والذي صامه المنفرد برؤية الهلال ليس هو يوم العيد الذي نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صومه، فإنه نهى عن صوم يوم الفطر، ويوم النحر، وقال: (أَما أَحَدُهما فَيَوم فِطْرِكُم من صَوْمِكمْ، وأَما الآخر فيوم تأكلون فيه من نُسُكِكُم". فالذي نهى عن صومه هو اليوم الذي يفطره المسلمون، وينسك فيه المسلمون. وهذا يظهر بالمسألة الثانية، فإنه لو انفرد برؤية ذي الحجة لم يكن له أن يقف قبل الناس في اليوم الذي هو في الظاهر الثامن، وإن كان بحسب رؤيته هو التاسع، وهذا لأن

في انفراد الرجل في الوقوف، والذبح، من مخالفة الجماعة ما في إظهاره للفطر. وأما صوم يوم التاسع في حق من رأى الهلال، أو أخبره ثقتان أنهما رأيا الهلال، وهو العاشر بحسب ذلك، ولم يثبت ذلك عند العامة، وهو العاشر بحسب الرؤية الخفية، فهذا يخرج على ما تقدم. فمن أمره بالصوم يوم الثلاثين الذي هو بحسب الرؤية الخفية من شوال ولم يأمره بالفطر سرًّا، سوّغ له صوم هذا اليوم، واستحبه لأن هذا هو يوم عرفة، كما أن ذلك من رمضان، وهذا هو الصحيح الذي دَلَّت عليه السنَّة والاعتبار. ومن أمره بالفِطْر سرًّا لرؤيته، نهاه عن صوم هذا اليوم عند هذا القائل كهلال شوال الذي انفرد برؤيته. فإن قيل: قد يكون الإمام الذي فوض إليه إثبات الهلال مقصرا، لرده شهادة العدول، إما لتقصيره في البحث عن عدالتهم، وإما رد شهادتهم لعداوة بينه وبينهم، أو غير ذلك من الأسباب، التي ليست بشرعية، أو لاعتماده على قول المنجم الذي زعم أنه لا يرى. قيل: ما يثبت من الحكم لا يختلف الحال فيه بين الذي يؤتم به في رؤية الهلال، مجتهدا مُصِيبا كان أو مخطئا، أو مُفرطا، فإنه إذا لم يظهر الهلال ويشتهر بحيث يتحرى الناس فيه. وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الأئمة: "يُصَلون لَكُم فإن أَصَابُوا فَلَكُم وَلَهُم، وِإن أَخْطَأُوا فَلَكُم وَعَلَيهِم". فخطؤه وتفريطه عليه، لا على المسلمين الذين لم يفرطوا، ولم يخطئوا. ولا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة أَنَّه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، كما ثبت عنه في "الصحيحين" أنَّه قال: "إِنا أُمة أُمية لا نَكْتُب، وَلاَ نَحْسِب، صُومُوا لِرُؤْيتهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتهِ". والمعتمد على الحساب في الهلال -كما أنه ضال في الشريعة-، مبتدع في الدين، فهو مخطيء في العقل، وعِلم الحساب، فإِن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرُّؤية لا تَنْضَبط بأمر حسابي، وإنما غاية الحساب منهم إذا عدل أن يعرف كم بين الهلال والشَّمس من

درجة وقت الغروب مثلاً: لكن الرؤية ليست مَضْبُوطة بدرجات محدودة، فإنها تختلف باختلاف حدة النظر وكلاله، وارتفاع المكان الذي يتراءى فيه الهلال، وانخفاضه، وباختلاف صفاء الجو وكدره، وقد يراه بعض الناس لثمان درجات، وآخر لا يراه لثنتي عشر درجة. ولهذا تنَازع أهل الحساب في قوس الرؤية تنازعا مضطربا، وآلمتهم -كبطليموس-، لم يتكلموا في ذلك بحرف، لأن ذلك لا يقوم عليه دَليل حِسَابي، وإنما يتكلم فيه بعض متأخريهم، مثل كوشيار الدّيلمي، وأمثاله. لما رأوا الشريعة عَلَّقت الأحكام بالهلال، فرأوا الحساب طريقًا تنضبط فيه الرؤية، وليست طريقة مستقيمة، ولا معتدلة، بل خطؤها كثير، وقد جرب، وهم يختلفون كثيرًا: هل يرى؟ أم لا يرى؟ وسَبَبُ ذلك: أنهم ضَبَطُوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب، فأخطأوا طريق الصواب، وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبينت أن ما جاء به الشَّرع الصَّحيح هو الذي يوافقه العقل الصَّريح، كما تكلمت على حد اليوم أيضًا، وبينت أنه لا ينضبط بالحساب؛ لأن اليوم يظهر بسبب الأبخرة المتَصَاعِدة، فمن أراد أن يأخذ حصة العشاء من حصة الفجر، إنما يَصِحُّ كلامه لو كان الموجب لظهور النُّور وخفائه مجرد محاذاة الأفق التي تُعلَم بِالحساب. فأما إذا كان للأبخرة في ذلك تأثير، والبخار يكون في الشتاء والأرض الرطبة أكثر مما يكون في الصَّيف والأرض اليابسة، وكان ذلك لا ينضبط بالحساب، فسدت طريقة القياس الحسابي. ولهذا تُوجد حصة الفجر في زمان الشتاء أطول منها في زمان الصيف. والآخذ بمجرد القياس الحسابي يشكل عليه ذلك؛ لأن حِصة الفجر عنده تتبع النَّهار، وهذا أيضًا مَبسُوط في موضعه، والله سبحانه أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (1) .

_ (1) "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/202-208) .

ما حكم الذي لا يصوم حتى يرى بنفسه

وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: ما حكم الذي لا يصوم في أول رؤية هلال رمضان إذا رؤي حتى يرى بنفسه، ويستدل بالحديث القائل: "صُومُوا لِرُؤْيَته وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَته" وهل صحيح استدلالهم بهذا الحديث؟ فأجابت: الواجب الصيام إذا ثبتت رؤية الهلال ولو بواحد عدل من المسلمين، كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصيام عندما شهد الأعرابي برؤيته الهلال، وأما الاستدلال بحديث: "صوموا لرؤيته" على أن كل فرد لا يصوم إلا برؤيته بنفسه فغير صحيح؛ لأن الحديث خطاب عام بالصيام عند تَحقق الرؤية ولو من واحد عَدل من المسلمين (1) . وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: إنه من غير الممكن رؤية الهلال بالعين المجردة قبل أن يصبح عمره ثلاثين ساعة، وبعد فإنه من غير الممكن رؤيته بسبب حالة الجو، آخذين بعين الاعتبار هذا الوضع، فهل يمكن لسكان انجلترا استعمال المعلومات الفلكية لهذه البلاد في حساب الموعد المحتمل لرؤية القمر الجديد وموعد بدء شهر رمضان، أم يجب علينا رؤية القمر الجديد قبل بدئنا بصوم شهر رمضان المبارك؟ فأجابت: تجوز الاستعانة بآلات الرصد في رؤية الهلال ولا يجوز الاعتماد على العلوم الفلكية في إثبات بدء شهر رمضان المبارك أو الفطر؛ لأن الله لم يشرع لنا ذلك، لا في كتابه ولا في سنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما شرع لنا إثبات بدء شهر رمضان ونهايته برؤية هلال شهر رمضان في بدء الصوم ورؤية هلال شوال في الإفطار والاجتماع لصلاة عيد الفِطْر وجعل الأهلة مواقيت للناس وللحج. فلا يجوز لمسلم أن يؤقِّت بغيرها شيئًا من العبادات من صوم رمضان والأعياد وحج البيت، والصوم في كفارة القتل خطأ وكفارة الظهار ونحوها.

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" فتوى رقم (7753) .

سؤال عن إخبار مخبر، أن أهل بلد رأوا هلال شوال، وعيدوا؟

قال الله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] ، وقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189] ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صُومُوا لِرُؤْيَته وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَته فَإِن غُمَّ عَلَيكُم فَأكمِلوا العِدَّة ثَلاَثْين". وعلى ذلك: يجب على من لم ير الهلال في مطلعهم في صحو أو غيم أن يتموا العِدة ثلاثين إن لم يره غيرهم في مطلع آخر فإن ثبت عندهم رؤية الهلال في غير مطلعهم لزمهم أن يتبعوا ما حكم به ولي الأمر العام -المسلم- في بلادهم من الصوم أو الإفطار؛ لأن حكمه في مثل هذه المسألة يرفع الخلاف بين الفقهاء في اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره، فإن لم يكن ولي أمرهم الحاكم في بلادهم مسلمًا عملوا بما يحكم به مجلس المركز الإسلامي في بلادهم من الصوم تبعًا لرؤية الهلال في غير مطلعهم أو الإفطار: عملاً باعتبار اختلاف المطالع. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) . - وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-: عن إخبار مخبر، أن أهل بلد رأوا هلال شوال، وعيّدوا؟ فأجاب: أما إخبار مخبر أن أهل البلد الفلانية أفطروا يوم كذا، فلابد من شهادة اثنين: وهذا فيه تفصيل: إن كان البلد فيه قاض، فأخبر رجلان أن أهل البلد أفطروا كلهم وعيدوا. فالذي نرى: الاعتماد على مثل هذا، وإن كان البلد ليس فيه قاض، ولا يدري سبب فطرهم، فلا أرى الاعتماد على فعلهم (2) . - وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-: عن اختلاف الأهلة بالكبر.. الخ؟ فأجاب: وأما اختلاف الأهلة بالكبر والصغر، وارتفاع المنازل وانخفاضها فلا حكم له؛ لأن ذلك يختلف اختلافًا كثيرًا (3) .

_ (1) فتاوى اللجنة الدائمة، فتوى رقم (319) . (2) "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" (5/310) . (3) المصدر السابق (5/306) ، ولقد بوب الإمام النووى في شرح مسلم: (باب بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال وصغره) .

سؤال عن شهادة الأعراب؟

- وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-: عن هلال شوال، إذا شهد به شاهدان ... الخ؟ فأجاب: أما مسألة الرؤية لهلال شوال، إذا شهد به شاهدان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده فلم يحكم بشهادتهما، فهل لهما ولمن عرف عدالتهما الفطر، أم لا؟ أما إذا انفرد واحد بالرؤية، فنص أحمد: أنه لا يفطر. وهو قول مالك وأبي حنيفة، وهو مروي عن عائشة -رضي الله عنها-، لحديث: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون" وقيل: يفطر سرًّا وهو قول الشافعي، قال المجد: ولا يجوز إظهاره بالإجماع. وكذلك الحكم إذ رآه عدلان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا عنده ورُدَّت شهادتهما، لجهله بحالهما، فالمذهب: أنه لا يجوز لهما، ولا لمن عرف عدالتهما الفطر، للحديث السابق، ولما فيه من تشتيت الكلمة وجعل مرتبة الحكم لكل أحد، وهذا القول اختيار الشيخ تقي الدين، واختار الموفق: أنه يجوز له الفطر؛ لحديث "وإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا" رواه أحمد وغيره. وأجاب أيضًا: ومن رأى هلال شوال وحده بيقين فالمشهور في مذهب أحمد: أنه لا يفطر، وهو قول مالك وأبي حنيفة، وقيل: يفطر، وهو قول الشافعي، وقاله بعض أصحاب أحمد، واستحسنه في الإقناع، وأما إظهار الفطر والحالة هذه، فلا يجوز، حكاه بعضهم إجماعا (1) . وأجاب أيضًا: ولو انفرد رجل برؤية هلال شوال، لم يجز لغيره الفطر بشهادته، لا أهله ولا غيرهم، عند من لا يجوز له الفطر. - وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-: عن شهادة الأعراب؟ فأجاب: وأما قبول شهادة الأعراب بالهلال، فحكمهم حكم الحضر، لا يحكم شهادة مجهول الحال. والأعرابي الذي عمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشهادته، يحتمل أنه يعرف حاله، والعلماء لم يفرقوا في هذه المسألة بين الحاضرة والبادية (2) .

_ (1) (2) "الدرر السنية في الأبوبة النجدية" (5/315) .

هل يعمل بالبرقية والمدافع في ثبوت الصوم والفطر؟

- وسئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-: هل يعمل بالبرقية وأصوات المدافع والبواريد في ثبوت الصوم والفطر؟ فأجاب: لا ريب أن كل أمر مُهم عمومي، يُرَاد إعلانه وإشاعته والإخبار به على وجه السرعة والتعميم، يسلك فيه طريق يحصل به هذا المقصود. فتارة ينادي فيه على وجه التصريح، أو الإجمال القولي. وتارة يعبر عنه بأصوات عالية كالرمي ونحوه مما له نفوذ وسريان إلى المحال والأماكن البعيدة، وتارة بالبرقيات المتنوعة. ولم يزل الناس على هذا يُعَبرون ويخبرون عن مثل هذه الأمور بأسرع وسيلة يتعمم ويشيع فيها الخبر، وعلى هذا المعنى مُجْتمعون، وبالعمل به في الأمور الدينية والدنيوية متفقون، وكلما تجدَّد لهم وسيلة أسرع وأنجح مما قبلها، أسرعوا إليها. وقد أقَرَّهم الشارع على هذا الجنس والنوع، ووردت أدلة وأصول في الشريعة تدل عليه، فكل ما دل على الحق والصدق والخبر الصحيح مما فيه نفع للناس في أمور دينهم ودنياهم، فإن الشارع يقره ويقبله، ويأمر به أحيانًا، ويجزيه أحيانًا، بحسب ما يؤدي إليه من المصلحة. فالشارع لا يرد خبرًا صحيحًا بأي طريق وَصَل، ولا ينفي حقًّا وصدقًا بأي وسيلة ودلالة اتصال، وخصوصًا إذا استفاض ذلك واحتفت به القرائن المتنوعة، فاستمسك بهذا الأصل الكبير، فإنه نافع في مسائل كثيرة ويمكنك إذا فهمته أن تطبق عليه كثيرًا من الأفراد والجزئيات الواقعة، والتي لا تزال تقع، ولا يقصر فهمك عنه فيفوتك خير كثير، وربما ظننت كثيرًا من الأشياء بدعًا محرمة إذا كانت حادثة ولم تجد لها تصريحًا في كلام الشارع فتخالف بذلك الشرع والعقل وما فطر عليه الناس. فصل فإذا فهمت هذا الأصل، فقد عُلِم وتَقَرر: أن الناس في كل قطر وبلد يجرون في أمورهم على الأحكام الشرعية في صومهم وفطرهم وعباداتهم وعندهم حاكم شرعي.

فإنه متى ثبت عنده بالطريق الشرعي وجوب الصوم والفطر، فإنه في الغالب لا يطلع على مستند هذا الحاكم الشرعي إلا من باشره من قاض ومباشر للقصة، ومن حضرها. وأما من سواهم من أهل البلد، فضلاً عن أهل القطر، فضلاً عن بقية الأقطار، فإنما يصل إليهم الخبر بما يثبت به ذلك الخبر ويشاع من قالةٍ يتناقلونه أو نداء في الأمكنة المرتفعة وغيرها، أو رمي بمدافع ونحوها، أو ببرقيات ليصل الخبر إلى القريب والبعيد، فهذا عمل متصل جنسه في جميع قرون الأمة من غير نكير، وإن كان بعض أفراده لم تحدث إلا من قريب، كالبرقيات ونحوها، فعلم أن الأمة مجمعة على العمل بهذا النوع من الأدلة المعتادة. ومما يدل على ذلك أن الاستفاضة في الأخبار من جملة الطرق الشرعية التي تفيد صدق مخبرها، حتى إن الفقهاء -رحمهم الله- جعلوا شهادة الشهود تارة تستند إلى ما يراه الشاهد ويسمعه من المشهود عليه، وتارة على ما يسمعه من أخبار الاستفاضة، فيشهد بما استفاض مستندًا على الاستفاضة، وقد ذكروا لذلك أمثلة كثيرة. ومن المعلوم أن الاستفاضة الحاصلة من رمي المدفع ونحوه والبرقيات ونحوها، أبلغ بكثير من الاستفاضات المفيدة للعلم، خصوصًا وقد أيد ذلك شاهد الحال، واحتفت به القرائن الكثيرة التي تدل دلالة يقينية على ثبوت ذلك الخبر، وكذلك العادة المطردة، والعرف المستقر الذي جرى عليه الناس في بث هذه الأخبار مع قرينة تشوف الناس، والاشتباه في الوقت مع أن الإخبار بالرمي والبرق ونحوها من الأمور الرسمية التي لا يجرؤ عليها أحد من العامة، إلا عن طريق أمر الحكام وأولياء الأمور وإذنهم، فمتى عرفت الواقع، لم يبق عندك في ذلك الخبر شك، وعرفت أنه خبر يفيد العلم، وإذا كانت أخبار الآحاد إذا احتفت بها القرائن، أفادت العلم فكيف بمثل هذه الأخبار المستفيضة المؤيدة من الحكام الشرعيين؟!! ومما يدل على ذلك من الأصول الشرعية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما قدم المدينة وتشاور المسلمون في تعيين أمر يعرفون به الوقت والحضور للصلوات الخمس في أوقاتها، فمنهم من أشار بالبوق، ومنهم من أشار بالناقوس، ومنهم من أشار بإيقاد النار، ومنهم من أشار ببعث من ينادي للصلاة والحضور إليها، فاختار الله سبحانه وتعالى هذا الأذان المبارك

الذي لا تعدُّ خيراته ومصالحه -ولله الحمد- والمقصود أنهم اتفقوا على أن هذه الأشياء التي ذكروها متى اتفق الناس على واحدٍ منها، أفادتهم العلم بدخول الوقت، وبعضها أصوات تسمع، وبعضها نار تشاهد، فعلم أنه قد تقرر عندهم حصول المقصود بها، ولكنهم يبحثون أيها أنسب، ومثل هذا لا يخفى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلو كانت هذه الأمور ونحوها لا يحصل بها العلم المطلوب الإعلام به، لأخبرهم بذلك، ولَما أقرهم على هذا البحث. ونفس الأذان الذي اختاره الله للمسلمين لمعرفة دخول الوقت، هو من هذا القبيل، فإن المؤذنين ينادون في أوقات الصلاة بألفاظ الأذان وهي ثناء على الله، وشهادة له بالتوحيد، ودعاء مطلق للصلاة والفلاح، فيكون هذا كالتصريح بقولهم: دخل الوقت، ومسألة رمي المدافع، وإرسال البرقيات المعتمدة في الخبر عن ثبوت الأشهر، من هذا الجنس، وهي بسبب تحريرها والعناية التامة بها أقرب إلى الصواب؛ لأنها لا تكون إلا بعد الثبوت والتروي من الخبر الذي لا تردد فيه، وبعد أن يعتمد عليها ولاة الأمر وحكام الشرع، فالتحقيق بها أتم والغلط فيها أبعد. يؤيد هذا: أن من قواعد الشريعة، أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وما يحصل المأمور أو لا يتم إلا به فهو مأمور، وهذه الأمور متى ثبتت عند أولياء الأمر، تعين عليهم أن يخبروا بها الناس ويبثوها بينهم، بحسب قدرتهم بأسرع وقت يمكن ليصوموا، ويفطروا، ويصلوا ويقيموا الأمور الشرعية. ومن المعلوم أن الرمي، وإِرسال البرقيات، أبلغ من مجرد نداء المصوتين بثبوت الشهر، ويشيع الخبر بها بأسرع وقت، فأقل الحالات فيها أنها مستحبة، والقاعدة الشرعية تقتضي وجوبها مع القدرة عليها، إذا تباعدت الأقطار ولم يحصل المقصود إِلا بها. هذا من جهتها في نفسها، وأما المبُلِّغُون المخبَرُون بها، فإنه يتعينَّ عليهم العمل بمضمون ما دلت عليه، من الصيام، والفطر، ودخول الأوقات وغيرها. ومما يدل على ذلك أن مقصود الإخبار بالرمي والإبراق ونحوه هو ترجمة وتعبير عما تقرر عليه الأمر عند أهل الحكم الشرعي، وهي ترجمة يفهمها كل أحد، لأنها تعبير عن أمر يتفق عليه

أولو الأمر والحكام على الناس ويَعْرِفُه الناس معرفة لا يشكون فيها وفي المراد منها، وما كان هكذا فالشريعة لا ترده، بل تقبله، وتأمر به عند تيسره، والترجمة التي يحصل بها العلم، لم يزل العمل بها على أي طريقة وصفة كانت. ويَدُلُّ على هذا أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمر بالتبليغ عنه وتبليغ شرعه وحث على ذلك بكل وسيلة وطريقة. والتبليغ أنواع متعددة: فتارةً تبليغ ألفاظ الكتاب والسنة. - وتارة تبليغ معانيها. - وتارة تبليغ الأحكام الثابتة شرعًا: لِيَصِل علمها إلى الناس، فيتمكنون من العمل بما شَرَعَهُ الله. والإخبار بالرمي والإبراق من هذا النوع، فإنه إذا ثبت بالطُّرق الشرعية وجوب الصيام والفطر على الناس، أو وجوب شريعة من الشرائع، تعين على ولاة الأمر تبليغ الناس بأسرع ما يقدرون عليه، ليقوم الناس بما أمر الله به ورسوله في الصيام، والفطر، والصلاة وغيرهما. وكلما كان الطريق للتبليغ به أقوى وأسرع أو أشمل، كان أولى من غيره وكان داخلا في تبليغ الأحكام الشرعية. فدخل في هذا: تبليغهم بجميع المقربات. وبذلك يعلم حكمِ إيصال أصوات المبُلِّغين عن الشارع من الخُطَباء والوعاظ وغيرهم بالآلات الموُصلة للأصوات إلى مَسَامع الخلق. وهذه المسألة أوضح من أن يحتج لها، لكن لما حصل الاشتباه فيها على كثير من الناس احتيج إلى بيان الأصول الشرعية التي أخذت منها. * ومما يؤيد ذلك، ويوضحه: أن الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر من أكبر واجبات الدين، ومن أعظم ما يدخل في ذلك أنه إذا ثبتت الأحكام الشرعية التي يتوقف عمل الناس بها على بلوغ الخبر، فإنه يتعين على القادرين إيصالها إلى الناس بأسرع طريق وأَحْسَن وسيلة يتمكنون بها من أداء الواجبات، وتوقي المحرمات، ولا يشك أحد أن

إِشاعة الأحكام وتعميمها إِذا ثبتت بالأصوات والرمي، وما هو أبعد مدى منه وأبلغ انتشارا مما يدخل في هذا الأصل الكبير. * ومما يدل على ذلك: أن صُدُور هذه الأخبار بالإِبراق ونحوه، تقع محررة منقحة يندر جدا وقُوع الخَطَأ والغلط فيها، فضلا عن التعمد ومخالفة ما ثبت عند ولاة الأمر، والناس قد عرفوا واصطلحوا أنها إذا حصلت فإنها لا تصدر إلا بعد عرضها على الحكَّام الشرعيين وتنقيحها وثبوتها ثبوتا لا تردد فيه، وأنها أبلغ من شهادة الشهود التي تحتمل السَّهو والغلط أكثر من هذا، وهذه الأشياء لا يمكن التقول أو الافتئات فيها على ولاة الأمر وإذا كان الناس يعتمدونها في أمور دينهم ودنياهم، كالولايات والوكالات في النكاح، والعقود، والمواريث، وموت الأزواج، ويثبتون مقتضى ذلك من العدة، والإحداد، والميراث وغير ذلك، وكإخراج الزكاة والكفارات، وكالحوالات والتنقل من محل إلى محل، ونحو ذلك مما لا يحصى، فما المانع من قبولها في ثبوت الأشهر، والصَّيام، والفطر ونحوه، وهي في هذه الحال قد احتف بها من القرائن المحققات والضبط والتحرير ما لا يوجد في غيرها، خصوصا الصادر في مقر الحاكم الشرعي. وهذا واضح -ولله الحمد- فالشارع لا يرد خبرا صادقا ولا يَنْفي طريقا يحصل به الثبوت، ولا يفرق بين المتماثلات، وإنما يتوقف في خبر المجهول ومن لا يوثَق بخبره، أو من محل لا حاكم فيه، فهذا النوع يجب التَّثبت في خبره. والحاصل: أن إِيصال الأخبار بالرمي والبرقيات ونحوها مما يوصل الخبر إلى الأماكن البعيدة، هو عبارة وتعبير عما اتَّفق عليه ولاة الأمر، وثبت عندهم مُقْتَضَاه، وهو من الطُّرق التي لا يرتاب الناس فيها، ولا يَحْصُل لهم أدنى شك في ثبوت خبرها، ومن توقَّف فيها في بعض اَلأمور الشرعية فلم يتوقف لشكه في أنها أفادت العلم، وإنما ذلك لظنه أن هذا الطريق المعين لم يكن من الطرق المعتادة في الزمان الأول وهذا لا يوجب التوقف، فكم من أمور حدثت لم يكن لها في الزمان الأول وُجُود، وصارت أَولى وأحق بالدخول من كثير من الأمور الموجودة قبل ذلك والله أعلم" (1) .

_ (1) "الفتاوى السعدية" للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص 218-226) .

هل يعتبر المذياع والتليفون وسيلة من الوسائل الشرعية التي يعتمد عليها في الصوم

- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: 1- هل يعتبر المذياع وسيلة من الوسائل الشرعية التي يتم الصوم بناءً على إعلانها بثبوت الرؤية، وهل تتحقق في المذياع الشروط الواجب توافرها في شاهد إثبات الرؤية حتى يمكن الصوم بناءً على إخباره بذلك. 2- هل يعتبر التليفون والبرقيات من وسائل الإعلام الشرعية التي يعتمد عليها في ذلك، على الرغم من عدم معرفة الشخص المتحدث أو المبرق؟ وأما بالنسبة لخبر المذياع أو البرقيات بثبوت الهلال دخولا أو خروجًا فنظرًا إلى أنهما منسوبان إلى الدولة ولا يمكن أن يجرأ أحد أن يختلق خبرًا بذلك أو يغيره بزيادة أو نقص مؤثرة لا سيما وقد جرت العادة من المسئولين عنهما -منذ كان استخدامها كوسيلة إعلام- بتحري الدِّقة التامة في النَّقل فلا يظهر مانع يَحُول دُون قَبُول خبرهما، وإن لم يكن متولي النقل معروفا معرفة تزكية. وأما التليفون فيحتاج إلى مزيد تحقيق وتأكد عن شخص ناقل الخبر وحاله من حيث العدالة والتَّحري في نقل الأخبار؛ لأن التّليفون ليس شأنه كشأن الإذاعة أو اللاسلكي؛ لكون استخدامه عامًّا. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) . للقاضي إذا تحقق من خبر الإذاعة إعلان دخول الشهر وسئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- (2) : عن حكم الصيام والفطر على خبر الإذاعة؟ فأجاب: يجوز للقاضي أو من يقوم مقامه إذا تحقق من خبر الإذاعة السعودية إعلان دخول الشهر أو خروجه رسميا: أن يقرر ثبوت ذلك شرعًا ويأمر الناس بالعمل بمقتضاه، سواء سمعه بنفسه من الراديو أو ثبت عنده بخبر ثقة عدل ممن له فهم فيما يذاع وتمييز

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (256) . (2) "فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/168، 169) .

العمل بخبر المذياع في دخول رمضان

للإذاعة السعودية من غيرها، ويكتفي بواحد؛ لأن ذلك من باب الخبر والرواية وليس من باب الشهادة، فإن لم يكن في البلد قاض ولا من يقوم مقامه فالأمير المنصوب يقوم بذلك بعد استشارته من يثق به من أعيان أهل البلد. وأما المحلات التي لا يوجد فيها قاضي ولا أمير.. -كبعض القرى الصغار ومن هم في قصر نائي أو في برية ونحو ذلك- فيجوز للإنسان إذا تيقن ما ذكر من الإذاعة أن يعمل بموجب ما تيقنه، ومن صدقه من رفقته وغيرهم ووثق بخبره جاز له أن يعمل بموجب خبره، ومن لم يصدقه فلا يلزمه أن يقبل قوله حتى يتيقن ثبوت ذلك. أما مع وجود القاضي فلا يجوز لأحد أن يفتات ويطلق الرمي بالرصاص إشعارًا بدخول الشهر بمجرد سماعه الخبر من الإذاعة؛ لأن ذلك مما يسبب الفوضى بين الناس، وقد يخطيء فهم الإنسان، أو تكون الإذاعة التي سمعها غير الإذاعة السعودية، أو غير ذلك، وهذا فيه عدة مفاسد، مع ما فيه من الافتيات على المسئولين، فلا لإشعاركم. العمل بخبر المذياع (الراديو) في دخول رمضان - وسئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- (1) : عن العمل بخبر المذياع (الراديو) في دخول رمضان، وخروجه -إذا لم يكن في البلد ولا قريب منها برقية-، وإذا علم صدق نفسه ولم يقبل خبره في دخوله أو خروجه..؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه. وبعد: فكل بلد ليس بها برقية ولا قريبة من البلد التي بها برقية إذا لم يبلغهم هلال دخول رمضان أو هلال خروجه إلا عن طريق الراديو نقلا عن الإذاعة السعودية فإنه يسوغ لهم بل يلزمهم صيام ذلك اليوم، ويشرع في حقهم قيام تلك الليلة. وكذا حكم خروج رمضان لكن ليس ذلك على الإطلاق، بل الذي يتعين على من سمع الخبر عن الإذاعة السعودية أن يرفع ذلك إلى من إليه مرجع تلك البلد في ثبوت الأهلة من طلبة العلم والأمراء. وحينئذ على من هم المرجع في ذلك النظر في حال ذلك الخبر.

_ (1) "فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/164-167) .

فإذا كان مسلما عدلا ولو ظاهرا، وكان من أهل الثقة والتثبت فيما ينقله ويخبر به تعين على طالب العلم أو الأمير الذي هو المرجع العمل بذلك والأمر بالصيام والقيام، وكذا حكم الإفطار سواء كان ذلك الخبر الذي اجتمعت فيه الشروط المنوه عنها رجلاً واحدًا أو أكثر، وسواء كان حرا أو عبدا، أو رجلاً أو امرأة، وسواء كان بلفظ الشهادة، أو لا؛ لأن ذلك من باب الخبر لا من باب الشهادة، وإنما هو إخبار أن الهلال ثبت عند قاض من قضاة المسلمين معتبر وحكم به وعمل بحكمه ونفذ في أنحاء المملكة. والدليل على أن جنس هذا من باب الخبر لا من باب الشهادة حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن رجلاً أعرابيًا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره أنه رأى هلال رمضان فقَال: "أتَشْهَدُ أنْ لاَ إِلَه إلا الله وَأني رَسُولُ الله. قَالَ: نَعَم. فَأمَرَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلاَلاً أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِأنْ يَصُومُوا مِن الغد" وفي رواية: "وَأَنْ يَقُومُوا تِلْكَ الَّليلة" رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة. ووجه الدلالة منه: أن من سمع نداء بلال بذلك اكتفى به شرعا في ثبوت الهلال، وكذا من لم يسمع نداء بلال وأخبره شخص بذلك فإنه يثبت عنده الهلال بمجرد ذلك، وهلم جَرّا. ولا يشترط في ثبوته في حقه أن يكون شهد عنده بذلك اثنان، وهذا بين بحمد الله. ويدل عليهَ أيضًا في مسألة خروج رمضان حديث أبي عمير بن أنس -رضي الله عنهما-: "أنَّ رَكْبا جَاءُوا إلى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَهِدُوا أَنَّهُم رَأَوْا هِلاَلَ الفِطْرِ بِالأمْسِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُفْطِرُوا، وَإذا أصبحوا أن يَغدوا إلى مُصلاهم" رواه أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، وإسناده صحيح. فأفطر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمر بالإفطار ومن المعلوم أن المسلمين بالمدينة أفطروا بذلك ومستند إفطار أكثرهم ليس هو سماع لفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإفطار، وإنما تبلغه الناس بعضهم من بعض، واكتفوا بمجرد ذلك من غير احتياج إلى أمر آخر وراء ذلك. والنبي صلوات الله وسلامه عليه مُرَادُه من أَمْرِ الناس بذلك ليس هو أن يذهب اثنان ممن سمعوا أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقفان على كل فرد - من المسلمين يخبرانه بذلك.

وأما إن لم يكن المخبر الآخذ من الراديو مستكمل الشروط التي تقدمت لم يسغ العمل بخبره. لكن إذا علم صدق نفسه وكان ذلك هلال دخول رمضان فإنه يصوم وحده على ما صرح به الفقهاء -رحمهم الله- في كتبهم، إلا أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية -قدس الله روحه- يرى الصوم. فهي مسألة خلاف، وهو مبني على أن الهلال هل هو اسم لما ظهر في السماء أو اسم لما اشتهر بين الناس؟ واختار هو رحمه الله الثاني. وإن كان الهلال الذي لم يقبل خبره عنه هلال الفطر، فإنه يتعين عليه الصيام مع الناس. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضحُونَ". وعلم مما تقدم: أنه ليس لسامع الإذاعة السعودية عن طريق الراديو أن يعمل في نفسه بذلك، بل يرد الأمر إلى مرجعه كما تقدم؛ بل هذا حكم من رأى الهلال رؤية عين أن لا يعمل بذلك، بل عليه أن يرد ذلك إلى مرجعه، فإن ثبت برؤيته هلال فذاك، وإلا ففيه التفصيل السابق. وإذا كان هذا في رؤية الهلال بالعين فكذلك في مسألة أخذه عن الإذاعة بطريق الراديو. وأما كون الطريق في التبليغ بعض هذه الآلات المودعة القوى الكهربائية مثل اللاسلكي والإذاعة والراديو فلا يضر ذلك الخبر شيئًا، ولا يفت في اعتباره، لوجود القرائن الدالة الواضحة القوية على صدور ذلك. وقد كان من المعلوم الاكتفاء بصوت الآلات النارية كالمدفع ونحوه وقد كان مما يستعمل سابقًا عند ملوك المسلمين إشعال نيران في مواضع خاصة منتظمة بعيد بعضها عن بعض بقدر ما يدرك من في الموضع الثاني ضوء تلك النار التي في الموضع الأول، ثم الثالث مع الثاني كذلك، وهكذا إلى آخر موضع، يعلمون بإشعال تلك النار أمورًا هامة بناءً على تعميد واعتماد من يشعل تلك النار، ومن يراها أن ذلك الأمر الهام قد حصل، وكإخبار بمسير عدو، وأمر مخوف، وغير ذلك. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه

وما حكم من سمع الخبر من الإذاعة ولم يأخذ به

الاعتماد على الإذاعة في ثبوت الصوم والفطر - وسئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله (1) : هل يعتمد في الأخبار الدينية كثبوت صوم وفطر، على الإذاعة السعودية، وهل حكمه كالبرقية في الاعتماد عليه؟ فأجاب: المسألة عندي فيها إشكال: لأني إذا نظرت إلى مجرد خبر المذيع، وأنه يخبر عن ثبوت ذلك الخبر الدِّيني، فالمُذِيع في الغالب مجهولة حالته من عدالة وغيرها وتثبت أو تسرع، وهذا مما يوقف عن الجزم بالاعتماد عليه، وإن نظرت إلى أن المذيع -من محطة جدة أو مكة- عليه مراقبة شديدة، ولا يجسر على مثل هذا الخبر إلا بعد ثبوته عند الحكومة ثُبوتًا رسميا، قربت خبره من خبر البرقية، فعلى هذا. أما القرينة والاحتياط إذا أمكن فهو اللازم، والجزم بِأَحَد الأمرين أتوقف فيه، وربما فيما يستقبل تعمل الحكومة عملا للمحال التي لا برقية فيها يتمكنون بها من الجزم بخبره. إذا استمرت العادة أن لا يذاع إلا ما هو محقق وما حكم من سمع الخبر من الإذاعة ولم يأخذ به وسئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله (2) : عن خبر الراديو في دخول رمضان وخروجه إذا كان في بلد ليس فيه لاسلكى: فهل يجب الصيام بقول إذاعة مكة؟ وكذلك ما حكم من سمع الإذاعة فأصبح مفطرًا؟ وكذلك ما حكم من لم يبلغه خبر الصيام بعد طلوع الشمس وهو لم يأكل ولم يشرب؟ فأجاب: الحمد لله. لا بأس من اعتماد خبر الراديو إذا استمرت العادة أنه لا يذاع إلا ما هو محقق وثابت؛ لأن القصد فيه الثبوت والتحقيق.

_ (1) "الفتاوى السعدية" للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص (217، 218) . (2) "فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/169، 170) .

كتاب الحكم برؤية الهلال؟

فكل خبر يغلب على الظن صدقه لما حف به من القرائن وشواهد الأحوال فإنه يقبل. وكل خبر يغلب على الظن كذبه لما يحف به من القرائن وشواهد الحال فإنه يرد. لكن يشترط في سامع الخبر من الراديو عدالته ويقظته وتحققه عمّا سمعه وعن مصدره، وعن الإذاعة التي سمعه عنها؛ لاختلاف المحطات الصادر عنها ذلك الخبر في القبول وعدمه وذلك بسبب اختلاف المراجع، إذ منها ما يعتمد على خبره في أمور الدين ومنها ما هو بخلاف ذلك. أما حكم من سمع الخبر من الإذاعة ولم يلتفت إليه بل أصبح مفطرًا فهذا يعذر؛ لخفاء مثل ذلك عليه، ولعدم استقرار الفتوى في ذلك. أما الذي لم يبلغه الخبر إلا بعد طلوع الشمس وهو لم يأكل ولم يشرب فإنه يمسك حال وصول الخبر إليه، ويقضي هذا اليوم. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. - وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-: عن كتاب الحكم برؤية الهلال؟ فأجاب: الذي يظهر لي العمل به، والاعتماد عليه في ذلك، لأن الفقهاء ذكروا أنه إذا رؤي هلال رمضان بمكان، لزم جميع الناس الصوم، وإنما يثبت ذلك غالبًا في حق غير أهل موضع الرؤية، بإخبار الثقات فرعًا عن الأصل، وخطوط القضاة، بل أهل موضع الرؤية ليسوا كلهم يأتون إلى الشاهد برؤية الهلال ليسمعوا شهادته، بل يعتمدون على إخبار بعضهم بعضًا عن الشاهد، كشهادة الفرع على الأصل. فإذا تقرر قبول خبر الفرع أو شهادته في ذلك، فكذلك كتاب القاضي لأن الفقهاء ذكروا أنه لا تقبل الشهادة على الشهادة، إلاَّ فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وأن كتاب القاضي حكمه كالشهادة على الشهادة. وكلامه في الكافي صريح في قبول الشهادة على الشهادة في ذلك، لما ذكر وجهين في قبول قول المرأة في هلال رمضان، قال في تعليل الوجه الثاني: ولهذا يقبل فيه شهادة

الصيام برؤية واحدة

الفرع مع الإمكان، ونظَّره صاحب الفروع، بقوله: كذا قال، والذي يظهر لي: أن تنظيره إنما هو لاعتبار لقبول شهادة الفرع، مع عدم إمكان شهادة الأصل، وكما قدمنا: أن المسلمين يعتمدون على ذلك مع الإمكان وعدمه، ولعلك وقفت على قول شارح الإقناع، عند قول الماتن، في حكم كتاب القاضي: لا يقبل في حد لله تعالى: كزنا ونحوه قال الشارح: وكالعبادات، ووجه ذلك: أنه لا مدخل لحكمه في عبادة، فكذا كتابه. قال الشيخ تقي الدين: أمور الدين والعبادات المشتركة، لا يحكم فيها إلاَّ الله تعالى، ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إجماعًا، قال في الفروع عقيبه: فدل على أن إثبات سبب الحكم، كرؤية الهلال، والزوال، ليس بحكم ... الخ: فدل ذلك: أن كتاب القاضي بإثبات رؤية الهلال، ليس حكمًا في عبادة، ولا إثباتا لها وإنما هو لإثبات سببها، فلا ينافي كونه لا يقبل في عبادة، وكونه لا يحكم فيها: وقد صرحوا بأنه لا مدخل لحكمه في عبادة ووقت، وإنما هو فتوى، فدل كلامهم على أن إثباته لرؤية الهلال مثلاً فتوى، والفتوى يعمل فيها بالحظ، وإن كان كتابه: شهد عندي فلان وفلان مثلاً برؤية الهلال، ففرع على الأصل، لا فتوى (1) . الصيام برؤية واحدة - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (2) : هل يلزم المسلمين جميعًا في كل الدول الصيام برؤية واحدة؟ وكيف يصوم المسلمون في بعض بلاد الكفار التي ليس فيها رؤية شرعية؟! فأجاب: هذه المسألة اختلف فيها أَهْلُ العلم أي إذا رُؤي الهلال في بلد من بلاد المسلمين وثَبتَت رؤيته شرعًا فهل يَلْزَم بقية المسلمين أن يعملوا بمقتضى هذه الرؤية فمن أهل العلم من قال إنه يلزمهم أن يعملوا بمقتضى هذه الرؤية واستدلوا بعموم قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] وبقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا رَأَيْتُمُوه فَصومُوا" قالوا والخطاب عام لجميع المسلمين.

_ (1) "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" (5/310-312) . (2) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/152-156) .

ومن المعلوم أنه لا يراد به رؤية كل إنسان بنفسه لأن هذا متعذر وإنما المراد بذلك إذا رآه من يثبت برؤيته دخول الشهر. وهذا عام في كل مكان، وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه إذا اختلفت المطالع فلكل مكان رؤيته. وإذا لم تختلف المطالع، فإنه يجب على من لم يروه إذا ثبتت رؤيته بمكان يوافقهم في المطالع أن يعملوا بمقتضى هذه الرؤية. واستدل هؤلاء بنفس ما استدل به الأولون فقالوا: إن الله تعالى يقول (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) . ومن المعلوم أنه لا يراد بذلك رؤية كل إنسان بمفرده، فيعمل به في المكان الذي رؤي فيه، وفي كل مكان يوافقهم في مطالع الهلال أما من لم يوافقهم في مطلع الهلال فإنه لم يره لا حقيقة ولا حكما.. قالوا: وكذلك نقول في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا" فإن من كان في مكان لا يوافق مكان الرائي في مطالع الهلال لم يكن رآه لا حقيقة ولا حكما. قالوا: والتوقيت الشهري كالتوقيت اليومي، فكما أن البلاد تختلف في الإمساك والإفطار اليومي فكذلك يجب أن تختلف في الإمساك والإفطار الشهري، ومن المعلوم أن الاختلاف اليومي له أثره، باتفاق المسلمين. فمن كانوا في الشرق فإنهم يمسكون قبل من كانوا في الغرب ويفطرون قبلهم أيضًا. فإذا حكمنا باختلاف المطالع في التوقيت اليومي، فإن مثله تماما في التوقيت الشهري. ولا يمكن أن يقول قائل أن قوله تعالى: (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا أَقْبَلَ الَّليل مِن هَاهُنا وأَدْبَر النَّهار من هَاهُنا وَغَرَبَت الشَّمْس فَقَد أَفْطَر الصَّائم" لا يمكن لأحد أن يقول: إن هذا عام لجميع المسلمين في كل الأقطار.

إذا رؤي الهلال في المملكة هل يجب الصيام على أهل البلاد الأخرى؟

وكذلك نقول في عموم قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا". وهذا القول كما ترى له قوته بمقتضى اللفظ والنظر الصحيح والقياس الصحيح أيضًا قياس التوقيت الشهري على التوقيت اليومي. وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأمر معلق بولي الأمر في هذه المسألة فمتى رأى وجوب الصوم أو الفطر مستندًا بذلك إلى مستند شرعي فإنه يُعمل بمقتضاه لئلا يختلف الناس ويتفرقوا تحت ولاية واحدة. واستدل هؤلاء بعموم الحديث: "الصوم يوم يَصُوم الناس والفِطْر يوم يُفْطِر الناس". وهناك أقوال أخرى ذكرها أهل العلم الذين ينقلون الخلاف في هذه المسألة. وأما الشِّق الثاني من السؤال: وهو كيف يصوم المسلمون في بعض بلاد الكفار التي ليس بها رؤية شرعية. فإن هؤلاء يمكنهم أن يثبتوا الهلال عن طريق شرعي وذلك بأن يتراؤوا الهلال إذا أمكنهم ذلك فإن لم يمكنهم هذا فإنه متى ثبتت رؤية الهلال في بلد إسلامي فإنهم يعملون بمقتضى هذه الرؤية سواء رأوه أو لم يروه. وإن قُلنا بالقول الثاني وهو اعتبار كل بلد بنفسه إذا كان يخالف البلد الآخر في مطالع الهلال ولم يتمكنوا من تحقيق الرؤية في البلد التي هم فيها فإنهم يعتبرون أقرب البلاد الإسلامية إليهم؛ لأن هذا أعلى ما يمكنهم العمل به. إذا رؤي الهلال في المملكة هل يجب الصيام على أهل البلاد الأخرى؟ - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله- (1) : إذا رؤي الهلال في المملكة مثلاً، هل يجب على أهل البلاد الأخرى الصيام أم أنه يعتبر لكل أهل بلدة رؤيتهم؟ فأجاب: هذه مسألة خلافية.

_ (1) "فتاوى الصيام" لابن جبرين ص (26، 27) .

القول الأول: أنه إذا رؤي الهلال في بلد لزم أهل البلاد الأخرى أن يصوموا. والذين قالوا هذا القول اعتبروا الشهر شهرًا واحدًا، ولم يعتبروا اختلاف المطالع، فإذا أهلّ الهلال على أهل المشرق صام برؤيته أهل المغرب، وكذا بالعكس هذه البلاد. وقالوا: كيف نجعل شهر بلاد يتقدم على شهر البلاد الأخرى بيوم أو بيومين أو نحو ذلك مع أنهم كلهم مسلمون ويدينون بدين موحد. القول الثاني: أن لكل أهل بلدة رؤيتهم. وقد ذهب إلى هذا القول بعض العلماء منهم الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله-، وألّف في ذلك رسالة أيدها كذلك بالأحاديث. ومن الأحاديث التي استدل بها أصحاب هذا القول قصة كريب: حيث سافر إلى الشام ثم رجع إلى المدينة في آخر رمضان، فسأله ابن عباس -رضي الله عنه- عما لقي حتى سأله عن الهلال. فقال: متى رأيتموه؟ قال: رأيناه ليلة الجمعة وصمناه. ثم قال: وهل صام أمير المؤمنين؟ قال: نعم. فقال ابن عباس: لكنا لم نره إلا ليلة السبت فصمنا ولا نزال نصوم حتى نراه أو نكمله ثلاثين. قال كريب: أولا تكتفي برؤية أمير المؤمنين وصيامه؟ قال: هكذا أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ففي هذا الحديث: أن ابن عباس جعل لأهل الشام رؤيتهم ولأهل المدينة رؤيتهم وأن كلاَّ منهم يصوم إذا أهلّ عليه الهلال. القول الثالث: أن رؤية أهل المشرق رؤية لأهل المغرب ولا عكس؛ والسبب أنه إذا رؤي في المشرق لزم أن يُرى في المغرب ولابد؛ وذلك لأنه لا يغيب عن أهل المشرق قبل أن يغيب عن أهل المغرب. وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وغيره.

رؤية الهلال في بلد هل تلزم البلاد الأخرى بالصيام؟

والراجح: القول الثاني: وهو أن لكل أهل بلدة رؤيتهم إذا كان هناك مسافة بين البلدتين يمكن أن يُرى في البلدة الأخرى. وهذا ما عليه العمل. وبالله التوفيق. رؤية الهلال في بلد هل تلزم البلاد الأخرى بالصيام؟ وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله- (1) : إذا رأى المسلمون الهلال في بلد فهل يجب على المسلمين في البلاد الأخرى الصيام؟ فأجاب: لا نشك في اختلاف المطالع وتفاوت ما بين البلدين في رؤية الهلال، ولأجل هذا الاختلاف ترجّح عند كثير من العلماء أن لكل أهل بلد رؤيتهم إذا كان هناك تفاوت محسوس. ودليلهم: قصة كريب مولى ابن عباس لما أهلّه رمضان وهو بالشام، فصام أهل الشام يوم الجمعة، ولم يُرَ الهلال في المدينة إلا ليلة السبت، فأخبر ابن عباس بأن معاوية وأهل الشام صاموا يوم الجمعة، فقال ابن عباس: لكنا صمنا يوم السبت فلا نزال نصومه حتى نرى الهلال أو نكمل ثلاثين، كذلك أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد رجَّح شيخ الإسلام ابن تيمية وجوب الصيام على أهل البلاد التي رأت الهلال، وعلى من كان أمامهم من البلاد، وحقّق أنه متى رؤي في بلدة فلا بد أن يرى في البلاد بعدها؛ لأنه يتأخر غروبه عن الشمس، وكلما تأخر ازداد بُعدا عن الشمس وتجليًّا وظهورًا، فإذا رؤي في البحرين مثلا وجب الصيام على البلاد التي بعدها كنجد والحجاز ومصر والمغرب، ولم يجب على ما قبلها كالهند والسند وما وراء النهر. أهل القرية يلزمهم رؤية العاصمة - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2) : هل يصح الصوم في قرية بعيدة من العاصمة على رؤية العاصمة، أم يجب علىَّ أن أتقيد برؤية أهل قريتي؟

_ (1) "فتاوى الصيام" لابن جبرين ص (21) . (2) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (6486) .

كيف يصوم الناس إذا اختلفت المطالع؟

فأجابت: إذا ثبتت الرؤية في العاصمة فإن أهل القرية المذكورة يعتمدون على هذه الرؤية ويصومون مع المسلمين. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز كيف يصوم الناس إذا اختلفت المطالع؟ - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: كيف يصوم الناس إذا اختلفت المطالع؟ وهل يلزم أهل البلاد البعيدة كأمريكا واستراليا أن يصوموا على رؤية أهل المملكة، لأنهم لا يتراءون الهلال؟ فأجاب: الصَّواب اعتماد الرؤية وعدم اعتبار اختلاف المطالع في ذلك لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر باعتماد الرؤية ولم يفصّل في ذلك.. وذلك فيما صحّ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "صُومُوا لِرُؤيته وَأفطِرُوا لِرُؤْيته، فَإِن غُمَّ عَلَيكُم فَأكمِلوا العِدَّة ثَلاَثين" متفق علي صحته. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تَصُوموا حَتَّى تَرَوا الهِلال أو تُكملوا العدة ولا تُفْطِروا حتى تَرَوا الهِلال أو تُكْمِلوا العِدَّة". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ولم يشر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اختلاف المطالع، وهو يعلم ذلك. وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أن لكل بلد رؤيته إذا اختلفت المطالع. واحتجوا بما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه لم يعمل برؤية أهل الشام. وكان في المدينة -رضي الله عنه- وكان أهل الشَّام قد رأوا الهلال ليلة الجمعة وصاموا بذلك في عهد معاوية -رضي الله عنه- أما أهل المدينة فلم يروه إلا ليلة السبت، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما- لما أخبره كُريب برؤية أهل الشام وصيامهم: نحن رأيناه ليلة

الصوم مع الدولة التي تقيم فيها

السبت فلا نزال نصوم حتى نراه أو نكمل العدة. واحتج بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "صُومُوا لِرُؤْيَتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيتهِ" الحديث. وهذا قول له حَظُّه من القُوة.. وقد رأى القول به أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية. جمعًا بين الأدلة والله ولي التوفيق (1) . الصوم مع الدولة التي تقيم فيها وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله به باز -حفظه الله-: إذا ثبت دخول شهر رمضان في إحدى الدول الإسلامية، كالمملكة العربية السعودية، وأعلن ذلك، ولكنه في الدولة التي أقيم بها لم يعلن عن دخول شهر رمضان، فما الحكم؟ هل نصوم بمجرد ثبوته في المملكة؟ أم نفطر معهم ونصوم معهم متى ما أعلنوا دخول شهر رمضان؟ وكذلك بالنسبة لدخول شهر شوال -أي يوم العيد- ما الحكم إذا اختلف الأمر في الدولتين وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء؟ فأجاب: على المسلم أن يصوم مع الدولة التي هو فيها ويفطر معها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصَّوم يَوْم تَصُومون، وَالفِطْر يوم تُفْطِرون، والأَضْحَى يَوْم تضَحُّون" وبالله التوفيق (2) . كل مسلم يصوم ويفطر مع مسلمي بلده - وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله- (3) : إذا ثبت دخول رمضان في إحدى الدول الإسلامية: كالمملكة مثلاً، في بلاد أخرى لم يعلن دخوله: فما الحكم؟ هل نصوم مع المملكة؟ وما الأمر إذا اختلف الأمر في الدولتين؟ فأجاب: كل مسلم يصوم ويفطر مع المسلمين الموجودين في بلده، وعلى المسلمين أن يهتموا برؤية الهلال في قطرهم الذي هم فيه، ولا يصوموا برؤية قطر آخر يبعد عن

_ (1) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لسماحة الشيخ ابن باز (163، 164) . (2) "مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز" (3/175) . (3) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/124) .

هل يمكن لأهل أفريقيا أن يصوموا برؤية أهل مكة

قطرهم؛ لأن المطالع تختلف، وإذا قُدِّر أن بعض المسلمين في دولة غير إسلامية، وليس حولهم من المسلمين من يهتم برؤية الهلال: فلا بأس أن يصوموا مع المملكة العربية السعودية. هل يمكن لأهل أفريقيا أن يصوموا برؤية أهل مكة - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء (1) : هل يمكن أن يصوم أهل أفريقيا برؤية أهل مكة؟ فأجابت: قد صدر بهذه المسألة قرار من هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية هذا مضمونه: أولاً: اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسًّا وعقلاً ولم يختلف فيها أحد من العلماء، وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في: اعتبار خلاف المطالع، وعدم اعتباره. ثانيًا: مسألة اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، والاختلاف فيها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين، وهو من الخلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة، ويؤجر فيه المخطئ أجر الاجتهاد. وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: - فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع. - ومنهم من لم ير اعتباره. واستدل كل فريق منهم بأدلة من الكتاب والسنة. وربما استدل الفريقان بالنص الواحد كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189] .

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (3686) .

وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صُومُوا لِرُؤْيتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيته" الحديث. وذلك لاختلاف الفهم في النص وسلوك كل منهما طريقًا في الاستدلال به. ونظرًا لاعتبارات رأتها الهيئة وقدرتها، ونظرًا إلى أن الاختلاف في هذه المسألة ليست له آثار تخشى عواقبها، فقد مضى على ظهور هذا الدين أربعة عشر قرنًا، لا نعلم فيها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة، فإن أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء يرون بقاء الأمر على ما كان عليه، وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة، إذ لكل منهما أدلته ومستنداته. ثالثًا: نظر مجلس الهيئة في مسألة ثبوت الأهلة بالحساب، وما ورد في الكتاب والسنة، واطلعوا على كلام أهل العلم في ذلك، فقرروا بإجماع عدم اعتبار حساب النجوم في ثبوت الأهلة في المسائل الشرعية. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صُومُوا لِرُؤْيتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيته" الحديث. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْه، وَلاَ تفْطِرُوا حَتَّى تَرُوه.." الحديثَ وما في معنى ذلك من الأدلة. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1) : ما رأي الإسلام في اختلاف أعياد المسلمين الدينية عيد الفطر وعيد الأضحى علما بأن ذلك يؤدي إلى صوم يوم يحرم صيامه يوم عيد الفطر أو الإفطار في يوم يجب صومه؟ نرجو جوابًا شافيًا في هذه المسألة الخطيرة يكون حجة عند الله، وإذا كان ذلك الاختلاف محتمل حدوثه في يومين فإنه يحتمل في ثلاثة أيام وإذا كان الإسلام يرفض الاختلاف؛ فما الطريق الصحيح لتوحيد أعياد المسلمين؟ فأجابت: اتفق العلماء على أن مطالع الأهلة مختلفة وأن ذلك مما علم بالضرورة حسًّا

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتاوى رقم (388) .

وعقلاً، ولكنهم اختلفوا في اعتبار ذلك في بدء صوم رمضان ونهايته، وعدم اعتباره على قولين: - فمن أئمة الفقهاء من رأى اعتبار اختلاف المطالع في بدء صوم رمضان ونهايته. - ومنهم من لم ير اعتباره في ذلك. واستدل كل فريق بأدلة من الكتاب والسنة والقياس. وربما استدل الفريقان بالنص الواحد كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] ، وقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189] ، وبقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صُومُوا لِرُؤْيَتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتهِ" الحديث، وذلك لاختلاف الفهم في النصوص وسلوك كل من الفريقين طريقًا في الاستدلال بها. وبالجملة: فموضوع الاستفتاء في المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، ولهذا اختلف فيه الفقهاء قديما وحديثًا، ولا حرج على أهل أي بلد إذا لم يروا الهلال ليلة الثلاثين أن يأخذوا برؤيته في غير مطلعهم متى ثبت ذلك لديهم، فإذا اختلفوا فيما بينهم أخذوا بحكم الحاكم في دولتهم -إن كان الحاكم مسلما- فإن حكمه بأحد القولين يرفع الخلاف، ويلزم الأمة العمل به، وإن لم يكن مسلمًا أخذوا بحكم مجلس المركز الإسلامي في بلادهم محافظة على الوحدة في صومهم رمضان وصلاتهم العيد في بلادهم. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1) : هناك خلاف كبير بين علماء المسلمين في تحديد بدء صوم رمضان وعيد الفطر المبارك، فمنهم من عمل بحديث "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، ومن العلماء من يعتمد على آراء الفلكيين حيث يقولون: إن علماء الفلك قد وصلوا إلى القمة في علم الفلك بحيث يمكنهم معرفة بداية الشهور القمرية، وعلى ذلك يتبعون التقويم؟

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (2036) .

اختلاف مطالع الأهلة وأي الجهات أولى بالاتباع

فأجابت: أولاً: القول الصحيح الذي يجب العمل به هو ما دل عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صُومُوا لِرُؤْيَتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤيَتهِ فَإِن غُمَّ عَلَيكُم فَأكمِلوا العِدَّة) مع أن العبرة في بدء شهر رمضان وانتهائه برؤية الهلال فإن شريعة الإسلام التي بعث الله بها نبينا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامة خالدة مستمرة إلى يوم القيامة. ثانيًا: أن الله تعالى علم ما كان وما سيكون من تقدم علم الفلك وغيره من العلوم، ومع ذلك قال (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] وبينه رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" الحديث. فعلق صوم شهر رمضان والإفطار منه برؤية الهلال ولم يعلقه بعلم الشهر بحساب النجوم مع علمه تعالى بأن علماء الفلك سيتقدمون في علمهم بحساب النجوم وتقدير سيرها. فوجب على المسلمين المصير إلى ما شرعه الله لهم على لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التعويل في الصوم والإفطار على رؤية الهلال. وهو كالإجماع من أهل العلم، ومن خالف في ذلك وعول على حساب النجوم فقوله شاذ لا يعول عليه. اختلاف مطالع الأهلة وأي الجهات أولى بالاتباع - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1) : نحن الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا، يصادفنا في كل بداية لشهر رمضان مشكلة تسبب انقسام المسلمين إلى ثلاث فرق: 1- فرقة تصوم بتحري الهلال في البلدة التي يسكنون فيها. 2- فرقة تصوم مع بداية الصيام في المملكة العربية السعودية. 3- فرقة تصوم عند وصول خبر من اتحاد الطلبة المسلمين في أمريكا وكندا الذي يتحرى الهلال في أماكن متعددة في أمريكا، وفور رؤيته في إحدى البلاد يعمم على المراكز المختلفة برؤيته فيصوم مسلموا أمريكا كلهم في يوم واحد على الرغم من المسافات الشاسعة التي بين المدن المختلفة.

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء" فتوى رقم (1657) .

فأي الجهات أولى بالاتباع والصيام برؤيتها وخبرها؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله؟ فأجابت: قد سبق أن نظر مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية هذه المسألة وأصدر فيها قرارًا مضمونه ما يلي: أولاً: اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسًّا وعقلا ولم يختلف فيها أحد من العلماء وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره. ثانيًا: مسألة اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال والاختلاف فيها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين وهو من الخلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، ويؤجر فيه المخطيء أجر الاجتهاد. وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع، ومنهم من لم ير اعتباره. واستدل كل فريق منهم بأدلة من الكتاب والسنة، وربما استدل الفريقان بالنص الواحد، كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة: 189] وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صُومُوا لِرُؤْيَتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤيَتهِ" الحديث، وذلك لاختلاف الفهم في النص وسلوك كل منهما طريقًا في الاستدلال به. ونظرًا لاعتبارات رأتها الهيئة وقدرتها، ونظرًا إلى أن الاختلاف في هذه المسألة ليست له آثار تخشى عواقبها فقد مضى على ظهور هذا الدين أربعة عشر قرنًا، لا نعلم فيها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة، فإن أعضاء مجلس كبار العلماء يرون بقاء الأمر على ما كان عليه وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة، إذ لكل منهما أدلته ومستنداته. ثالثًا: نظر مجلس الهيئة في مسألة ثبوت الأهلة بالحساب وما ورد في ذلك من أدلة في الكتاب والسنة واطلعوا على كلام أهل العلم في ذلك فقرروا بإجماع: عدم اعتبار

حساب النجوم في ثبوت الأهلة في المسائل الشرعية لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صُومُوا لِرُؤْيَتهِ وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتهِ" الحديث، وما في معنى ذلك من الأدلة. وترى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أن اتحاد الطلبة المسلمين في الدول التي حكوماتها غير إسلامية يقوم مقام حكومة إسلامية في مسألة إثبات الهلال بالنسبة لمن يعيش في تلك الدول من المسلمين. وبناء على ما جاء في الفقرة الثانية من قرار مجلس الهيئة يكون لهذا الاتحاد حق اختيار أحد القولين: إما اعتبار اختلاف المطالع، وإما عدم اعتبار ذلك، ثم يعمم ما رآه على المسلمين في الدولة التي هو فيها، وعليهم أن يلتزموا بما رآه وعممه عليهم؛ توحيدًا للكلمة، ولبدء الصيام وخروجًا من الخلاف والاضطراب، وعلى كل من يعيش في تلك الدول أن يتراءوا الهلال في البلاد التي يقومون فيها، فإذا رآه ثقة منهم أو أكثر صاموا بذلك، وبلغوا الاتحاد ليعمم ذلك. وهذا في دخول الشهر. أما في خروجه فلابد من شهادة عدلينْ برؤية هلال شوال أو إكمال رمضان ثلاثين يوما، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صُومُوا لِرُؤْيَتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتهِ فَإِن غُم عَلَيكُم فَأكمِلوا العُدة ثَلاِثين يَومًا". وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. البلاد التي فيها النهار أطول من الليل والصيام - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1) : تلقت رابطة العالم الإسلامي رسالة من الشيخ محمد دير منجى مبعوثها في كوبنهاجن -الدانمارك- يفيد فيها بأنه في بعض جهات الدول الاسكندنافية يكون النهار أطول من الليل بكثير على مدار السنة، حيث يكون الليل ثلاث ساعات فقط، في حين يكون النهار واحد وعشرين ساعة، وذكر أنه إذا صادف أن قدم شهر رمضان في الشتاء فإن المسلمين فيها يصومون مدة ثلاث ساعات فقط، وأما إذا كان شهر رمضان في فصل الصيف فإنهم يتركون الصوم لعدم قدرتهم عليه نظرًا لطول النهار. وطلب الشيخ دير منجى فتوى تحدد مواعيد الإفطار والسحور، والمدة

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (1442) .

صيام من يطول نهارهم جدا وكذا من يقصر نهارهم

التي يصام فيها شهر رمضان لإعلانها للمسلمين في هذه البلاد، ويرجو التكرم بإصدار بيان شرعي في هذا الموضوع حتى يتسنى له على ضوئه إجابة المذكور باللازم؟ فأجابت: شريعة الإسلام كاملة وشاملة قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا) [المائدة: 3] وقال تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام: 19] وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ: 28] . وقد خاطب الله المؤمنين بفرض الصيام فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183] . وبين ابتداء الصيام وانتهائه، فقال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] ، ولم يخصص هذا الحكم ببلد ولا بنوع من الناس، بل شرعه شرعًا عاما، وهؤلاء المسئول عنهم داخلون في هذا العموم، والله جل وعلا لطيف بعباده شرع لهم من طرق اليسر والسهولة ما يساعدهم على فعل ما وجب عليهم، فشرع للمسافر والمريض -مثلاً- الفطر في رمضان لدفع المشقة عنهما قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) الآية [البقرة: 185] فمن شهد رمضان من المكلفين وجب عليه أن يصوم سواء طال النهار أو قصر، فإن عجز عن إتمام صيام يوم وخاف على نفسه الموت أو المرض جاز له أن يفطر بما يَسُد رمقه ويدفع عنه الضرر، ثم يمسك بقية يومه وعليه قضاء ما أفطره في أيام أخر يتمكن فيها من الصيام. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. صيام من يطول نهارهم جدًا وكذا من يقصر نهارهم - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (1) :

_ (1) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لسماحة الشيخ ابن باز (164، 169) .

كيف يصنع من يطول نهارهم إلى إحدى وعشرين ساعة هل يقدرون قدرًا للصيام وكذا ماذا يصنع من يكون نهارهم قصيرا جدًّا، وكذلك من يستمر عندهم النهار ستة أشهر والليل ستة أشهر؟ فأجاب: من عندهم لَيل ونهار في ظرف أربعٍ وعشرين ساعة فإنهم يصومون نهاره سواء كان قصيرًا أو طويلاً ويكفيهم ذلك والحمد لله ولو كان النهار قصيرًا. أما من طال عندهم النهار أو الليل أكثر من ذلك كستة أشهر: فإنهم يقدرون للصيام وللصلاة قدرهما، كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك في يوم الدجال الذي كسنة، وهكذا يومه الذي كشهر أو كأسبوع، يقدر للصلاة قدرها في ذلك. وقد نظر مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة في هذه المسألة وأصدر القرار رقم: 61 بتاريخ 12/4/1398هـ ونصه ما يلي: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الثانية عشرة المنعقدة بالرياض في الأيام الأولى من شهر ربيع الآخر عام 1398هـ كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة رقم 555 وتاريخ 16/1/1398هـ المتضمن ما جاء في خطاب رئيس رابطة الجمعيات الإسلامية في مدينة (مالو) بالسويد الذي يفيد فيه بأن الدول الاسكندنافية يطول فيها النهار في الصيف ويقصر في الشتاء نظرًا لوضعها الجغرافي كما أن المناطق الشمالية منها لا تغيب عنها الشمس إطلاقًا في الصيف، وعكسه في الشتاء ويسأل المسلمون فيها عن كيفية الإفطار والإمساك في رمضان، وكذلك كيفية ضبط أوقات الصلوات في هذه البلدان. ويرجو معاليه إصدار فتوى في ذلك ليزودهم بها. ا. هـ. وعرض على المجلس أيضًا ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ونقول أخرى عن الفقهاء في الموضوع، وبعد الاطلاع والدراسة والمناقشة قرر المجلس ما يلي: أولاً: من كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس إلا أن نهارها يطول جدُّا في الصيف، ويقصر في الشتاء، وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعًا.

لعموم قوله -تعالى-: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء: 78] وقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء: 103] . ولما ثبت عن بريدة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن رجلاً سأله عن وقت الصلاة، فقال له: "صَلّ مَعَنا هَذَيْن" يعني اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشَمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها. ثم قال: "أين السَّائِل عن وَقْت الصَّلاة؟ " فقال الرجل: أنا يا رسول الله. قال: "وَقت صَلاَتكم بَيْن مَا رَأَيْتُم" رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "وَقت الظُّهر إذا زَالَت الشَّمْس، وَكَان ظِلُّ الرَّجُل كَطُوله مَا لَم يَحْضُر العَصْر، وَوَقت العَصْر ما لم تصفر الشَّمْس، وَوَقت صَلاة المغرِب مَا لم يَغِب الشَّفَق، وَوَقت صَلاة العِشَاء إلى نِصف الَّليل الأَوْسَط، وَوَقت صَلاة الصبح من طُلُوع الفَجْر مَا لم تَطْلُع الشَّمس، فإذا طلعت الشمس، فَأمْسك عن الصَّلاة، فإنها تَطْلُع بين قَرني شيطان" أخرجه مسلم في "صحيحه". إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في تحديد أوقات الصلوات الخمس قولاً وفعلاً، ولم تفرق بين طول النهار وقصره وطول الليل وقصره ما دامت أوقات الصلوات متمايزة بالعلامات التي بينها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذا بالنسبة لتحديد أوقات صلاتهم وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان. فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم ما دام النهار يتمايز في بلادهم من الليل، وكان مجموع زمانهما أربعًا وعشرين ساعة. ويحل لهم الطعام والشراب والجماع ونحوها في ليلهم فقط وإن كان قصيرًا فإن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد.

وقد قال الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] . ومن عجز عن إتمام يوم بطوله أو علم بالأمارات أو التجربة أو إخبار طبيب أمين حاذق، أو غلب على ظنه أن الصوم يفضي إلى إهلاكه أو مرضه مرضًا شديدًا، أو يفضي إلى زيادة مرضه أو بطء برئه أفطر، ويقضي الأيام التي أفطرها في أي شهر تمكن فيه من القضاء. قال تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] . وقال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286] . وقال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَليْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج) [الحج: 78] . ثانيًا: من كان يقيم في بلاد لا تغيب عنها الشمس صيفًا، ولا تطلع فيها الشمس شتاء أو في بلاد يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها ستة أشهر مثلاً، وجب عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة، وأن يقدروا لها أوقاتها، ويحددوها معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها من بعض. لما ثبت في حديث الإسراء والمعراج من أن الله تعالى فرض على هذه الأمة خمسين صلاة كل يوم وليلة فلم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل ربه التخفيف حتى قال: "يَا محمد إِنَّهن خَمْسُ صَلَوات كُلّ يَوم وَلَيلة لِكُلِّ صَلاة عَشْر فَذَلِك خَمْسُون صَلاَة.." إلى آخره. ولما ثبت من حديث طلحة بن عبيد الله -رضى الله عنه- قال: "جَاءَ رَجُل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أَهْل نجد ثَائِر الرأس، نَسمَعُ دَوِي صَوته وَلاَ نَفْقَه مَا يَقُول، حتى دنا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خَمْسُ صَلَواتٍ فِي اليَوْم والَّليلة"، فقال: هَل عَلَيَّ غَيرَهُنَّ؟ قال: "لاَ، إِلاَّ أن تَطَّوع.." الحديثَ. ولما ثبت من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: نُهِينَا أَن نَسأَلَ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء فكان يُعْجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن

حكم صوم من لا تطلع عندهم الشمس أيام الشتاء مطلقا

نسمع فجاء رجل من أهل الباديةَ فقال: يا محمد أتانا رَسُولُك فَزَعَم أَنَّك تزعم أَنَّ الله أَرْسَلَك قال: "صَدَق" إلى أن قال: وَزَعَم رَسُولك أَنَّ عَلَينَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ في يَوْمِنَا وَلَيلَتَنَا قال: "صَدَق"، قال: فَبَالَّذي أَرْسَلَك. آلله أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ: "نَعَم.." الحديث. وثبت أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدث أصحابه عن المسيح الدَّجال، فقالوا: ما لبثه في الأرض؟ قال: "أَربَعُونَ يوما: يَوْم كَسَنَة، وَيَوم كَشَهر، وَيَوم كَجُمُعَة وَسَائِر أَيامِه كَأَيَّامِكُم"، فقيل: يَا رَسولَ الله! اليَوم الذي كَسَنَة أَيَكْفِينا فِيه صَلاة يَوم؟ قال: "لا، أَقْدِرُوا لَهُ قَدْرَه". فلم يعتبر اليوم الذي كسنة يومًا واحدًا يكفي فيه خمس صلوات، بل أوجب فيه خمس صلوات في كل أربع وعشرين ساعة، وأمرهم أن يوزعوها على أوقاتها اعتبارا بالأبعاد الزمنية التي بين أوقاتها في اليوم العادي في بلادهم، فيجب على المسلمين في البلاد المسئول عن تحديد أوقات الصلوات فيها أن يحددوا أوقات صلاتهم معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم يتمايز فيها الليل من النهار وتعرف فيها أوقات الصلوات الخمس بعلاماتها الشرعية في كل أربع وعشرين ساعة. وكذلك يجب عليهم صيام شهر رمضان، وعليهم أن يقدروا لصيامهم فيحددوا بدء شهر رمضان ونهايته، وبدء الإمساك والإفطار في كل يوم منه ببدء الشهر ونهايته، وبطلوع فجر كل يوم وغروب شمسه في أقرب البلاد إليهم يتميز فيها الليل من النهار، ويكون مجموعهما أربعا وعشرين ساعة لما تقدم في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المسيح الدجال وإرشاده أصحابه فيه عن كيفية تحديد أوقات الصلوات فيه إذ لا فارق في ذلك بين الصوم والصلاة. والله ولي التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. "هيئة كبار العلماء" حكم صوم من لا تطلع عندهم الشمس أيام الشتاء مطلقا - وسئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله (1) :

_ (1) "فتاوى وسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/160-161) .

العبرة في ابتداء الصيام في البلدة التي سافر منها وفي نهايته في البلدة التي قدم إليها

عن رجل يدرس في ألمانيا الغربية ويقول أن الشمس لا تطلع عندهم أيام الشتاء مطلقًا، وأما الصيف فالنهار عندهم تسع ساعات فقط ويسأل متى يكون فطرهم ومتى يكون إمساكهم؟ فأجاب: الحمد لله. أما الإمساك فقد قال الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] . فما دام الليل باقيًا فلا حرج على من أكل أو شرب، والأصل بقاء الليل، فإذا تبين الفجر لزم الإمساك مع الاحتياط ببضع دقائق قبل تبين الفجر احتياطًا للعبادة. وأما الفطر فالأصل بقاء النهار، فلا يفطر حتى يغلب على الظن غروب الشمس ويعرف ذلك بغشيان الظلام واختفاء أنوار الشمس، فإذا غلب على ظن الإنسان ذلك باجتهاده أو بخبر ثقة جاز له الفطر. ا. هـ قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ "ذكر الفقهاء حكم ما إذا اشتبهت الأشهر على أسير أو مطمور أو بمفازة ونحوها فإنه يتحرى ويجتهد في معرفة شهر رمضان وجوبًا كاستقبال القبلة. فإن وافق الشهر أو بعده أجزأ صيامه وإن وافق قبله لم يجزه. نص عليه الإمام أحمد، لأنه أدي العبادة قبل وقتها فلم يجزه كالصيام (1) . العبرة في ابتداء الصيام في البلدة التي سافر منها وفي نهايته في البلدة التي قدم إليها - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2) : ما دامت عدة ثلاثين يومًا على الأكثر. فهل عليه أن يلتزم بإكمال صيامه الذي بدأه في السعودية حسب رؤية شهر شوال في المملكة فقط حتى بعد وصوله إلى الهند، أو يواصل الصوم مع المسلمين هناك وبذلك يصوم اليوم الحادي والثلاثين واليوم الثاني والثلاثين وإذا أفطر خلال الرحلة مدة الفرق هذه مع المسلمين في الهند بعد وصوله؟ أفتوني مما علمكم الله وجزاكم الله خيرًا وأمدكم بالصحة والعافية؟

_ (1) المصدر السابق (4/161-162) . (2) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (5084) .

ما الحكم في قوم يصومون رمضان ثلاثين يوما باستمرار؟

فأجابت العبرة في ابتداء الصِّيام في البلد التي سافر منه، وفي نهايته في البلد التي قدم إليها. وإذا كان مجموع ما صامه ثمانية وعشرين يومًا وَجَبَ عليه قضاء يوم؛ لأن الشهر القمري لا يكون أقل من 29 يومًا، وإن كان قد أتم صيام ثلاثين يومًا في البلد الذي سافر إليه وبقى على أهل هذا البلد صيام يوم مثلاً وَجَبَ عليه أن يصوم معهم حتى يفطر بفطرهم يوم العيد ويُصَلِّي معهم يوم العيد. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله (1) : ما الحكم في قوم يصومون رمضان ثلاثين يوما باستمرار؟ فأجاب: قد دلت الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماع أصحاب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين لهم بإحسان من العلماء على أن الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعا وعشرين فمن صامه دائما ثلاثين من غير نظر في الأهلة فقد خالف السنة والإجماع، وابتدع في الدين بدعة لم يأذن بها الله. قال الله سبحانه: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) الآية [الأعراف: 3] . وقال سبحانه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) الآية [آل عمران: 31] . وقال: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 7] ، وقال عز وجل: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) [النساء: 13، 14] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة. وفى الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "صُومُوا لِرُؤْيَتهِ فَإِن غُم عَلَيكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ" متفق عليه. وفي رواية لمسلم: "فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلاَثين" وفي لفظ آخر في الصحيحين: "إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ فَصُومُوا وَإذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِن غُم عَلَيكُم فَعُدوا ثَلاَثين". وفى صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "صُومُوا

_ (1) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (2/155-157) .

متى قامت البينة على دخول رمضان وجب الصوم

لِرُؤْيَتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَته فَإِن غُم عَلَيكُم فَصُومُوا ثَلاَثين" وفي لفظ آخر "فَأكمِلوا العِدّة ثَلاَثين" وفي لفظ آخر "فَأكمِلوا شَعْبَان ثَلاَثين يومًا" وعن حذيفة -رضي الله عنه- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لاَ تَصُوموا حَتى تَرَوْا الهِلاَل أو تُكْمِلوا العِدة وَلا تفْطِروا حَتى تَرَوا الهِلاَل أو تكْمِلوا العِدة" رواه أبو داود والنسائي، بإسناد صحيح. متى قامت البينة على دخول رمضان وجب الصوم - سئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله- (1) : إذا قامت البينة على دخول شهر رمضان، ولم يعلم الناس بهذه البينة إلا بعد أن أصبحوا مفطرين؟ فأجاب: إذا قامت البينة بدخول شهر رمضان، وجب الإمساك، والقضاء على كل من صار في أثناء ذلك اليوم مفطرًا وهو أهل للوجوب. وقد ثبت أن أعرابيا قدم المدينة، وأخبر أنه رأى الهلال فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصوموا لرؤيته اعتمادًا على رؤية الأعرابي. فأهل تلك البلدة إذا أصبحوا مفطرين ثم جاءهم الخبر في النهار وتحقق أن ذلك اليوم من رمضان، فإنهم يمسكون بقية النهار؛ لحرمة الزمان، ثم يقضون بعد ذلك. ولا يقول أحد ما دمت سأقضي فلا حاجة إلى الإمساك بل نقول له يمسك لحرمة الزمان، فإن شهر رمضان له حرمة، فيمسك بقية النهار ولو لم يبق إلا ساعة واحدة، ثم يجب القضاء على من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه. هذا هو الصحيح -إن شاء الله- وهو ما عليه الفتوى. رأى هلال رمضان ورد القاضي شهادته مخافة الخطأ هل يصوم؟ - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله- (2) :

_ (1) "فتاوى الصيام" لابن جبرين (ص 22) . (2) "فتاوى الصيام، لابن جبرين (ص 28-29) .

لا يجوز للمسلم صيام يوم الثلاثين من شعبان إذا لم تثبت رؤية الهلال

إذا رأى إنسان هلال شهر رمضان وتحقق من رؤيته، ولما ذهب إلى القاضي رده ولم يقبل شهادته مخافة أنه قد أخطأ، فهل يجب عليه الصيام أم أنه يفطر؟ فأجاب: هذه مسألة خلافية بين أهل العلم: فمنهم من قال: إنه يصوم حتى ولو أصبح الناس مفطرين؛ لأنه قد تحقق من دخول الشهر. والقول الثاني: أنه إذا رأى هلال رمضان فإنه يفطر إذا كان الناس مفطرين واستدلوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صَوْمُكم يوم تَصُومون وفِطْرُكم يوم تُفْطِرون". والراجح إن شاء الله: القول الثاني لاستدلالهم بالحديث المذكور. لا يجوز للمسلم صيام يوم الثلاثين من شعبان إذا لم تثبت رؤية الهلال - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1) : لو صام رجل يوم الثلاثين من شعبان من غير رؤية الهلال أو أفطره فهل يصح صومه أو لا مع الدليل؟ فأجابت: لا يجوز للمسلم صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم تثبت رؤية الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، إلا أن يوافق صومه إياه صوما كان يصومه، مثل من عادته صوم يوم الاثنين أو الخميس فيوافق ذلك يوم الثلاثين فله صومه مع أيام صامها من شعبان قبله، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تَقَدَّمُوا رَمَضَان بِصَوْم يوم ولا يومين إِلاَّ أن يَكُون رَجُل كَانَ يَصُوم صيامًا فَلُيَصُمه" رواه البخاري ومسلم. نِيّة الصِّيام - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2) : عن إمام جماعة بمسجد مذهبه حنفي ذكر لجماعته أن عنده كتابًا فيه أن الصيام في شهر

_ (1) "مجموع فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (4442) . (2) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/214) .

صائم رمضان هل يفتقر كل يوم إلى نية؟

رمضان إذا لم ينو بالصيام قبل عشاء الآخرة، أو بعدها أو وقت السحور، وإلاَّ فما له في صيامه أجر: فهل هذا صحيح؟ أم لا؟ فأجاب: الحمد لله. على كل مسلم يعتقد أن الصوم واجب عليه، وهو يريد أن يصوم شهر رمضان النية، فإذا كان يعلم أن غدا من رمضان فلابد أن ينوي الصوم، فإن النية محلها القلب، وكل من علم ما يريد فلابد أن ينويه. والتكلم بالنية ليس واجبا بإجماع المسلمين، فعامة المسلمين إنما يصومون بالنية، وصومهم صحيح بلا نزاع بين العلماء والله أعلم. صائم رمضان هل يفتقر كل يوم إلى نية؟ - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (1) : ما يقول سيدنا في صائم رمضان، هل يفتقر كل يوم إلى نية؟ أم لا؟ فأجاب: كل من علم أن غدًا من رمضان، وهو يريد صومه، فقد نوى صومه، سواء تلفظ بالنية، أو لم يتلفظ. وهذا فعل عامة المسلمين، كلهم ينوي الصيام. - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله (2) : هل نية الصيام كافية عن نية صوم كل يوم على حدة؟ فأجاب: من المعلوم أن كل شخص يقوم في آخر الليل ويتسحر، فإنه قد أراد الصوم ولا شك في هذا لأن كل عاقل يفعل الشيء باختياره لا يمكن أن يفعله إلا بإرادة، والإرادة هي النية فالإنسان لا يأكل في آخر الليل إلا من أجل الصوم ولو كان مجرد الأكل لم يكن من عادته أن يأكل في هذا الوقت. فهذه هي النية ولكن يحتاج إلى مثل هذا السؤال فيما لو قدر أن شخصا نام قبل غروب الشمس في رمضان وبقي نائمًا لم يوقظه أحد حتى طلع الفجر من اليوم التالي فإنه لم ينو من الليل لصوم اليوم التالي فهل نقول أن صومه اليوم التالي صوم صحيح بناء على النية السابقة؟

_ (1) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمة" (25/215) . (2) "الفتاوى لابن عيثمين - كتاب الدعوة" (1/144-145) .

تبييت النية في الصوم

أو نقول: إن صومه غير صحيح لأنه لم ينوه من ليلته؟ نقول: إن صومه صحيح فإن القول الراجح أن نية صيام رمضان في أوله كافية لا يحتاج إلى تجديد النية لكل يوم اللهم إل أن يوجد سبب يبيح الفطر فيفطر في أثناء الشهر فحينئذ لابد من نية جديدة لاستئناف الصوم. تَبيِيتُ النِّيَّة في الصوم وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (1) : رجل نام وبعد نومه أُعلن عن ثبوت رؤية هلال رمضان، ولم يكن قد بيَّت نية الصوم، وأصبح مفطرًا لعدم علمه بثبوت الرؤية، فما هو الواجب عليه؟ فأجاب: هذا الرجل نام أول ليلة من رمضان قبل أن يثبت الشهر ولم يبيت نية الصوم ثم استيقظ وعلم بعد أن طلع الفجر أن اليوم من رمضان فإنه إذا علم يجب عليه الإمساك، ويجب عليه القضاء، عند جمهور أهل العلم، ولم يخالف في ذلك -فيما أعلم- إلا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه قال: إن النية تتبع العلم، وهذا لم يعلم فهو معذور، فهو لم يترك تبييت النية بعد علمه ولكنه كان جاهلاً، والجاهل معذور، وعلى هذا فإذا أمسك من حين علمه فصومه صحيح ولا قضاء عليه. وأما جمهور العلماء فقالوا: إنه يجب عليه الإمساك، ويجب عليه القضاء وعللوا ذلك بأنه فاته جزء من اليوم بلا نية. والذي أرى أن الاحتياط في حقه أن يقضي هذا اليوم. النية الجازمة للفطر بدون أكل أو شرب هل تفطر؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (2) : هل النية الجازمة للفطر دون أكل وشرب هل يفطر بها الإنسان؟ فأجاب: من المعلوم أن الصوم جامع بين النية والترك فينوي الإنسان بصومه التقرب

_ (1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/473-474) . (2) "فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (1/474-475) .

لا يجوز لمن نوى صوم القضاء وشرع فيه أن يقطعه

إلى الله عز وجل بترك المفطرات، فإذا عزم على أنه قطع صومه فعلا فإن الصوم ينقطع ولكنه إذا كان في رمضان يجب عليه الإمساك حتى تغيب الشمس لأن كل من أفطر في رمضان بغير عذر لزمه الإمساك والقضاء وأما إذا لم يعزم ولكن تردد فموضع خلاف بين العلماء فمنهم من قال: إن صومه يبطل لأن التردد ينافي العزم، ومنهم من قال: إنه لا يبطل لأن الأصل بقاء نية الصوم حتى يعزم على تركها وإزالتها. لا يجوز لمن نوى صوم القضاء وشرع فيه أن يقطعه - وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان -حفظه الله- (1) : من صام يوم القضاء: فهل يجوز قطعه، وكذلك صوم يوم النفل؟ فأجاب: لا يجوز للإنسان إذا نوى صوم القضاء وشرع فيه أن يقطعه؛ لأنه إذا نواه وبدأه وجب عليه إكماله؛ لأن الفرض الموسع إذا دخل فيه الإنسان فإنه يجب عليه إكماله، ولا يجوز له قطعه، وإنما التوسعة قبل أن يدخل فيه، فإذا دخل فيه فلا يجوز قطعه. أما إذا صام النفل: فإنه يجوز له أن يقطعه، لأن صيام النفل لا يلزمه إتمامه ولكن الأفضل له إتمامه، وله أن يفطر، ولا حرج عليه في ذلك: فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل بيته وهو صائم صيام نفل، ولما وجد فيه طعاما أهدي إليهم أكل منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقطع صومه، فدل على أن صوم النافلة لا يلزم إتمامه. حكم تعليق النية في صيام النفل - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله- (2) : ما حكم تعليق النية في صيام النفل؟ فأجاب: تعليق النية في صيام النفل لا بأس به.

_ (1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/135) . (2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 37) .

هل يصح أن ينوي الصائم -صيام نفل- نية الصيام بعد الزوال؟

كأن يقول: سوف أصوم حتى أجهد فإذا رأيت جهدًا أو مشقة أفطرت. - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: هل يصح أن ينوي الصائم -صيام نفل- نية الصيام بعد الزوال؟ فأجاب: صوم النَّفل مُوَسع فيه فيصح أن ينويه من النهار، واختلف الفقهاء: هل يصح بعد الزوال أو لا؟ من الفقهاء كصاحب "زاد المستقنع" من صحَّح نيته بعد الزوال، ومنهم من قال: لا يصح إلا قبل الزوال. والراجح: أنه لا يكون إلا قبل الزوال أما بعد الزوال فقد مضى أكثر النهار والصوم بنية إنما يكون بنية معظم النهار، فإذا لم يبق إلا أقله فلا يحسب صيامه. ولابد من شرط وهو أن لا يكون أكل أول النهار. فإذا أصبح المسلم ونيته الإفطار ولكن لم يتناول مفطِرًا، ولما كان في أثناء النهار عزم على إتمام ذلك النهار بإمساك: جاز ذلك. ودليله: الحديث المشهور عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "هل عندكم شيء؟ " قالت: لا. قال: "إني إذًا صائم". فنوى الصيام في أثناء النهار مع أنه طلب الطعام ولو وجده لأكله، فلما لم يجده عزم على إكمال نهاره صائمًا (1) . وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: هل يثاب الصائم نفلاً على الوقت الذي سبق نيته: مثلاً إذا نوى الصائم نفلاً الصوم بعد الزوال فهل الوقت الذي قبل الزوال يثاب عليه أم لا؟ فأجاب: الصَّحيح أن الثواب من النية فما بعد، لأن أول النهار الذي تركه لعدم الطعام يعتبر كترك عادي، فهو يثاب من حين العزم على الصيام لأنه بعد هذا العزم لو جاءه لتركه، لكونه قد عزم مع أن المتطوع أمير نفسه يجوز له أن يفطر بعدما نوى الصيام.

_ (1) "فتاوى الصيام" لابن جبرين ص (38) .

هل من نوى الإفطار يفطر؟

قالت عائشة رضي الله عنها: "دَخَلَ عَلَينا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنا: يَا رَسولَ الله أُهدِي لنا حيس. فقال: قربيه. فلقد أَصْبَحْتُ صَائِمًا. فأكل" (1) . هل من نوى الإفطار يفطر؟ سئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله (2) : قولهم: ومن نوى الإفطار أفطر، هل هو وجيه؟ فأجاب: نعم هو وجيه؛ وذلك أن الصِّيام مركب من حقيقتين: النية وترك جميع المفطرات، فإذا نوى الإفطار، فقد اختلت الحقيقة الأولى وهي أعظم مقومات العبادة، فالأعمال كلها لا تقوم إلا بها. ومعنى قولهم: أفطر، معناه: أنه حكم له بعدم الصيام، لا بمنزلة الآكل والشارب، كما فسروا مرادهم. ولذلك لو نوى الإفطار وهو في نفل، ثم بعد ذلك أراد أن ينوي الصيام قبل أن يحدث شيئًا من المفطرات، جاز له ذلك، ولكن أجره وصيامه المثاب عليه من وقت نيته فقط، وإن كان الذي نوى الإفطار في فرض، فإن ذلك اليوم لا يجزئه ولو أعاد النية قبل أن يفعل مفطرا؛ لأن الفرض شرطه أن النية تشمل جميعه من طلوع فجره إلى غروب شمسه، بخلاف النفل. وهنا فائدة يحسن التنبيه عليها، وهي أن قطع نية العبادة نوعان: * نوع لا يضره شيء: وذلك بعد كمال العبادة. فلو نوى قطع الصلاة بعد فراغها أو الصيام، أو الزكاة، أو الحج أو غيرها بعد الفراغ، لم يضر؛ لأنها وقعت وحلت محلها، ومثلها لو نوى قطع نية طهارة الحدث الأكبر أو الأصغر بعد فراغه من طهارته، لم تنتقض طهارته. * والنوع الثاني: قطع نية العبادة في حال تلبسه بها، كقطعه نية الصلاة وهو فيها،

_ (1) المصدر السابق ص (38-39) . (2) "الفتاوى السعدية" للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص (228، 229) .

حكم جمع نية واحدة لأكثر من عمل

والصيام وهو فيه، أو الطهارة وهو فيها، فهذا لا تصح عبادته ومتى عرفت الفرق بين الأمرين، زال عنك الإشكال. - وسئل سماحة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله حفظه الله (1) : من المعلوم أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حث على صيام الأيام البيض، وصيام من كل شهر ثلاث أيام: فكيف نجمع بينهما؟ هل نصوم ستة أيام أم ثلاثة؟ وجزاكم الله خيرا. فأجاب: نعم: قد حث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على صيام ثلاثة أيام من كل شهر وحث على صيام أيام البيض، وهي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر. وسميت أيام البيض: لبياض لياليها بالقمر. وقد اختلف العلماء في الجمع بين الحديثين الواردين في فضل صيام هذه الأيام: فقيل: المراد أن الأفضل أن يجعل هذه الثلاثة في أيام البيض، وإن صامها في غيرها من الشهر فلا بأس. وقيل: إن المراد أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويصوم أيام البيض أيضًا، فيكون المجموع ستة أيام من الشهر. والأول أرجح، والله أعلم؛ لأن من صام أيام البيض فقد صام ثلاثة أيام من كل شهر. - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: هل يجوز للشخص أن يشرك النية في عمل واحد أو لعمل واحد فمثلاً يكون عليه قضاء يوم من شهر رمضان وجاء عليه يوم وقفة عرفة فهل يجوز أن ينوي صيام القضاء والنافلة في هذا اليوم وتكون نيته أداء القضاء ونيته الأخرى للنافلة، أو أن يجمع الحج والعمرة في وقت الحج؟ أفتونا أفادكم الله وجزاكم الله خير الجزاء؟ فأجابت: لا حرج أن يصوم يوم عرفة عن القضاء ويجزئه عن القضاء ولكن لا يحصل له مع ذلك فضل صوم عرفة؛ لعدم الدليل على ذلك. وأما دخول العمرة في الحج فقد نص عليه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دَخَلَت العُمْرة في

_ (1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/149، 150) .

وقت الإمساك، والأكل بعد طلوع الفجر

الحَجِّ إلى يَوْم القيامة". وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز وقت الإمساك، والأكل بعد طلوع الفجر وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء: قرأت في تفسير المنار للشيخ رشيد رضا "الجزء الأول" وذكر فيه أن الصائم يمسك قبل أذان الفجر بثلث ساعة، أي بمقدار عشرين دقيقة ويسمي ذلك إمساكًا احتياطيًّا، فما هو المقدار بين الإمساك وأذان الفجر في رمضان، وما حكم من يسمع المؤذن يقول الصلاة خير من النوم ويشرب ما دام لم ينته من الأذان فهل يصح؟ ما حكم من يسمع المؤذن يؤذن لصلاة الصبح ويشرب هل يصح صومه أم لا، والبعض من الناس يجلس على الكيرم والورق وشرب الدخان إلى وقت الأذان، وقام يشرب بدليل أنه يجوز وقد أخبرني بعض الشباب أنه يسمعني وأنا أؤذن للصبح ويقوم إلى الماء يشرب فما حكم من يفعل ذلك عمدًا؟ فأجابت: الأصل في الإمساك للصائم وإفطاره، قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] . فالأكل والشرب مباح إلى طلوع الفجر وهو الخيط الأبيض الذي جعله الله غاية لإباحة الأكل والشرب فإذا تبين الفجر الثاني حرم الأكل والشرب وغيرها من المفطرات، ومن شرب وهو يسمع أذان الفجر فإن كان الأذان بعد طلوع الفجر الثاني فعليه القضاء وإن كان قبل الطلوع فلا قضاء عليه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (2) .

_ (1) "فتاوى اللجنة" فتوى رقم: (13019) . (2) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (6468) .

الأكل والشرب بعد الأذان

الأكل والشرب بعد الأذان وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (1) : هل يجوز للإنسان أن يأكل ويشرب بعد الأذان؟ فأجاب إذا كان المؤذن لا يؤذن إلا بعد طلوع الفجر فإنه لا يجوز الأكل بعده لقول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة: 187] . ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ بِلاَلاً يُؤَذن بِلَيلٍ فَكُلوا واشْرَبُوا حَتى يِؤذن ابن أُمّ مَكْتُوم فَإنه لا يُؤذن حَتَّى يَطْلع الفَجْر". أما إذا كان المؤذن يؤذن بالتحري وليس يشاهد الفجر فإن الاحتياط ألا تأكل بعد سماع الأذان. ولكن الجزم بأن هذا -الأكل بعد الأذان المبني على التحري- الجزم بأن صومه فاسد غير مستطاع لدي، لأن الفجر لم يتبين تبينًا يمتنع معه الأكل لكن لا شك أن الاحتياط أن يتوقف الإنسان إذا سمع أذان الفجر. الكف عن السحور عند بدء أذان الفجر - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: هل يجب علينا الكف عن السحور عند بدء أذان الفجر، أم يجوز لنا الأكل والشرب حتى ينتهي المؤذن؟ فأجاب إذا كان المؤذن معروفًا بأنه لا ينادي إلا على الصبح فإنه يجب الكف عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من حين يؤذن. أما إذا كان الأذان بالظن والتحري حسب التقاويم فإنه لا حرج في الشرب أو الأكل

_ (1) "فتاوى ابن عثيمين" (1/525-526) .

لا يمسك عن الطعام حتى نهاية الأذان

وقت الأذان. لما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إِن بِلالاً يُؤَذن بِلَيل، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادي ابن أم مَكْتُوم". قال الراوي في آخر هذا الحديث "وكَان ابْن أمّ مكْتوم رَجلا أَعْمَى، لا ينَادِي حَتّى يُقَال له: أَصْبَحْت أصْبَحْت" متفق على صحته. والأحوط للمؤمن والمؤمنة الحرص على إنهاء السحور قبل الفجر عملا بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دع ما يريبك إلا ما لا يريبك". وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من اتَّقَى الشُبُهات فَقَد استَبرَأ لِدِينه وَعِرضِه". أما إذا علم أن المؤذن ينادي بليل لتنبيه الناس على قرب الفجر، كفعل بلال فإنه لا حرج في الأكل والشرب حتى ينادي المؤذنون الذين يؤذنون على الصبح عملا بالحديث المذكور (1) . لا يمسك عن الطعام حتى نهاية الأذان - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: يحدث ومن عدة سنوات أنهم لا يمسكون عن الطعام حتى نهاية الأذان، فما حكم عملهم هذا؟ فأجاب: الأذان لصلاة الفجر إما أن يكون بعد طلوع الفجر أو قبله، فإن كان بعد طلوع الفجر فإنه يجب على الإنسان أن يمسك بمجرد سماع النداء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِنَّ بِلاَلا يُؤَذن بِلَيل فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسمَعُوا أَذَانْ ابن أُم مَكتُوم، فإنه لا يُؤَذنَ حَتَّى يَطْلُع الفَجْرُ" فإذا كنت تعلم أن هذا المؤذن لا يؤذن إلا إذا طلع الفجر، فأمسك بمجرد أذانه، أما إذا كنت تعلم أن هذا المؤذن يؤذن بناء على ما يعرف من التوقيت أو بناء على ساعته، فإن الأمر في هذا أهون. وبناء على هذا، نقول لهذا السائل: إن ما مضى لا يلزمكم قضاؤه، لأنكم لم تتيقنوا

_ (1) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لسماحة الشيخ ابن باز (ص 170) .

هل للصائم الفطر بمجرد الغروب؟

أنكم أكلتم بعد طلوع الفجر، لكن في المستقبل ينبغي للإنسان أن يحتاط لنفسه، فإذا سمع المؤذن فليمسك (1) . - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: نود أن نعرف حكم أكل وشرب من شك في طلوع الفجر؟ فأجاب: يجوز للإنسان أن يأكل ويشرب حتى يتبين له الفجر؛ لقول الله تعالى: (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] . فما دام لم يتيقن أن الفجر قد طلع، فله الأكل، ولو كان شاكا حتى يتيقن، بخلاف من شك في غروب الشمس، فإنه لا يأكل حتى يتيقن غروب الشمس أو يغلب على ظنه غروب الشمس (2) . هل للصائم الفطر بمجرد الغروب؟ - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن غروب الشمس: هل يجوز للصائم أن يفطر بمجرد غروبها؟ فأجاب: إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق. وإذا غاب جميع القرص ظهر السواد من المشرق، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا أَقْبَل الليل مِن هَهُنا، وأَدْبَر النَهار مِن هَهُنَا وغَرَبت الشَّمْس فَقَد أَفْطَر الصَّائم" (3) . هل يتابع الصائم المؤذن في الأذان أم يستمر في فطره؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/533) . (2) "فقه العبادات" لابن عثيمين (ص 190) . (3) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/215، 216) .

هل هناك دعاء مأثور عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وقت الإفطار وما هو وقته؟ وهل يتابع الصائم المؤذن في الأذان أم يستمر في فطره؟ فأجاب نقول إن وقت الإفطار موطن إجابة للدعاء لأنه في آخر العبادة ولأن الإنسان أشد ما يكون غالبًا من ضعف النفس عند إفطاره. وكلما كان الإنسان أضعف نفسًا وأرق قلبًا كان أقرب إلى الإنابة والإخبات إلى الله عز وجل. والدعاء المأثور: "اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرت". ومنه أيضًا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلت العُرُوق وَثَبُتَ الأَجْرُ إنْ شاء الله". وهذان الحديثان، وإن كان فيهما ضعف لكن بعض أهل العلم حسَّنهما. وعلى كل حال: فإذا دعوت بذلك، أو بغيره عند الإفطار فإنه موطن إجابة، وأما إجابة المؤذن وأنت تفطر: فنعم مشروعة؛ لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذَا سَمِعْتُم المؤُذِّنَ فَقُولوا مِثْلَمَا يَقُول" يشمل كل حال من الأحوال إلا ما دل الدليل على استثنائه، والذي دل على استثنائه إذا كان يصلي وسمع المؤذن، فإنه لا يجيب المؤذن، لأن في الصلاة شغلاً، كما جاء به الحديث. على أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله عليه- يقول: إن الإنسان يجيب المؤذن ولو كان في الصلاة لعموم الحديث، ولأن إجابة المؤذن ذكرٌ مشروع ولو أن الإنسان عطس وهو يصلي يقول: الحمد لله، ولو بشر بولد أو بنجاح ولد وهو يصلي يقول: الحمد لله نعم: يقول الحمد لله ولا بأس وإذا أصابك نزغ من الشيطان وفتح عليك باب الوساوس فتستعيذ بالله منه وأنت تصلي. لذا نأخذ من هذا قاعدة: وهو أن كل ذكر وُجِدَ سببه في الصلاة فإنه يقال؛ لأن هذه الحوادث يمكن أن نأخذ منها عند التتبع قاعدة. لكن مسألة إجابة المؤذن -وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول بها- أنا في نفسي منها شيء، لماذا؟

بلاد يتأخر فيها الغروب كيف يفطر أهلها؟

لأن إجابة المؤذن طويلة توجب انشغال الإنسان في صلاته انشغالاً كثيرًا والصلاة لها ذكرٌ خاص لا ينبغي الشغل عنه. فنقول: إذا كنت تفطر وسمعت الأذان تجيب المؤذن. بل قد تقول: إنه يتأكد عليك أكثر لأنك تتمتع الآن بنعمة الله وجزاء هذه النعمة الشكر ومن الشكر إجابة المؤذن فتجيب المؤذن ولو كنت تأكل ولا حرج عليك في هذا. وإذا فرغت من إجابة المؤذن فصلِّ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقل: "اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامة والصّلاة القَائِمَة آتِ مُحَمدًا الوَسِيلَة وَالفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مقَامًا مَحْمُودًا الذي وَعَدته" (1) . بلاد يتأخر فيها الغروب كيف يفطر أهلها؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: نحن في بلاد لا تغرب الشمس فيها إلا الساعة التاسعة والنصف مساءًا أو العاشرة فمتى نفطر؟ فأجاب: تفطرون إذا غربت الشمس فما دام لديكم ليل ونهار في 24 ساعة فيجب عليكم الصوم ولو طال النهار (2) . الإفطار بغروب الشمس - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: يطول النهار في بعض البلاد طولاً غير معتاد يصل إلى عشرين ساعة أحيانًا، هل يطالب المسلمون في تلك البلاد بصيام جميع النهار؟ فأجاب: نعم يطالبونْ بصيام جميع النهار؛ لقول الله تعالى: (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] .

_ (1) "فتاوى ابن عثيمين" (1/531، 532) . (2) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/160-161) .

راكب الطائرة متى يفطر؟

ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا أَقْبَل الليل مِن هَهنَا وَأَدْبَر النَّهار مِن هَهنا وغَرَبَت الشَّمْس فَقَد أَفْطَر الصُّائم" (1) . راكب الطائرة متى يفطر؟ - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (*) : الصائم إذا كان في الطائرة واطلع بواسطة الساعة وبالتليفون عن إفطار البلد القريب منه فهل له الإفطار؟ علمًا بأنه يرى الشمس بسبب ارتفاع الطائرة،أم لا؟ ثم كيف الحكم إذا أفطر بالبلد ثم أقلعت به الطائرة فرأى الشمس؟ فأجابت: إذا كان الصائم في الطائرة واطلع بواسطة الساعة والتليفون عن إفطار البلد القريبة منه وهو يرى الشمس بسبب ارتفاع الطائرة فليس له أن يفطر: لأن الله تعالى قال: (ثُم أَتمُّوا الصيَامَ إِلَى الَّليلِ) [البقرة: 187] . وهذه الغاية لم تتحقق في حقه ما دام يرى الشمس. وأما إذا أفطر بالبلد بعد انتهاء النهار في حقه فأقلعت الطائرة ثم رأى الشمس فإنه يستمر مفطرًا لأن حكمه حكم البلد التي أقلع منها وقد انتهى النهار وهو فيها. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. المسافر في الطائرة متى يفطر؟ - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء (* *) : شخصان من سكان الدمام أقلعت بهما الطائرة من مطار الظهران ضمن ركابها قبل غروب الشمس بعشر دقائق في شهر رمضان متجهة إلى جازان، وارتفعت الطائرة بنحو تسعة وعشرين ألف قدم عن سطح الأرض، وبعد مضي خمس وثلاثين دقيقة والطائرة تحلق في سماء الرياض. وبهذا التوقيت أهل الرياض يفطرون وركاب الطائرة لا يزالون يشاهدون الشمس وربما يمضي

_ (1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/160-161) . (*) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (1693) . (* *) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" فتوى رقم (2254) .

أكثر من ربع ساعة وهم لا يزالون يشاهدونها. فهل يحل لركاب الطائرة الإفطار وأمثالهم؟ أفتونا أثابكم الله. فأجابت: الأصل أن لكل شخص في إمساكه في الصيام وإفطاره وأوقات صلاته حكم الأرض التي هو عليها أو الجو الذي يسير فيه. فمن غربت عليه الشمس في مطار الظهران مثلاً أفطر أو صلى المغرب وأقلعت به الطائرة متجهة إلى الغرب ورأى الشمس بعد باقية فلا يلزمه الإمساك، ولا إعادة صلاة المغرب؟ لأنه وقت الإفطار أو الصلاة له حكم الأرض التي هو عليها. وإن أقلعت به الطائرة قبل غروب الشمس بدقائق واستمر معه النهار فلا يجوز له أن يفطر ولا أن يصلي المغرب حتى تغرب شمس الجو الذي يسير فيه حتى ولو مر بسماء بلد أهلها قد أفطروا وصلوا المغرب وهو في سمائها يرى الشمس، كما ورد في السؤال من حال الشخصين اللذين مرا صائمين بسماء الرياض وقت الإفطار، وركاب الطائرة لا يزالون يشاهدون الشمس وهذا هو مقتضى الأدلة الشرعية. قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخيطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثم أَتمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) [البقرة: 187] . وقال تعالى: (أقم الصلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّليلِ وَقرآنَ الْفَجرِ إِنَّ قرآنَ الفجرِ كَانَ مَشْهودًا) [الإسراء: 78] . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا أَقْبَلَ الَّليل مِن هَا هُنا وَأَدْبَر النَّهَار مِنْ هَا هُنا، وَغَربَت الشَّمْس: فَقَد أَفْطَر الصَّائِم". ولكن لو نزلوا في مكان قد غربت فيه الشمس صار لهم حكم أهل ذلك المكان في الصوم مدة وجودهم فيه. وباللَّه التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والاٍفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

لا يلزمه الإفطار

لا يلزمه الإفطار - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: من ركب الطائرة وقد غربت الشمس فأفطر ثم رآها بعد إقلاع الطائرة فهل يمسك؟ فأجاب: جوابنا على هذا: أنه لا يلزمهم الإمساك؟ لأنه حان وقت الإفطار وهم في الأرض فقد غربت الشمس وهم فى مكان غربت منه. وقد قال بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أقْبَل الَّليلُ مِنْ هَا هُنا وَأَدْبَر النَهار مِنْ هَا هُنا وَغرَبَتِ الشَمْس فَقَدْ أفْطَر الصائِم". فإذا كانوا قد أفطروا فقد انتهى يومهم وإذا انتهى يومهم فإنه لا يلزمهم الإمساك إلا في اليوم الثاني. وعلى هذا: فلا يلزمهم الإمساك في هذه الحالة لأنهم أفطروا بمقتضى دليل شرعي فلا يلزمهم الإمساك إلا بدليل شرعي. كيف يفطر من يؤذن المغرب في بلده وهو في الطائرة يرى الشمس لم تغرب - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله- (*) : ستقلع بنا الطائرة بإذن الله تعالى من الرياض في رمضان قبل أذان المغرب بساعة تقريباً، وسيؤذن للمغرب ونحن في أجواء السعودية، فهل نفطر؟ وإذا رأينا الشمس ونحن في الجو وهذا -هو الغالب- فهل نظل على صيامنا ونفطر في بلدنا، أم نفطر بمجرد الأذان في السعودية؟ فأجاب: إذا أقلعت الطائرة من الرياض مثلا قبل غروب الشمس إلى جهة المغرب، فإنك لا تزال صائما حتى تغرب الشمس وأنت في الجو أو تنزل في بلد قد غابت فيها الشمس.

_ (*) "مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز" (3/195، 196) .

من أسلم وسط نهار رمضان

لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم) . متفق على صحته. من أسلم وسط نهار رمضان وجب عليه الإمساك - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظهْ الله- (1) : إذا أسلم رجل بعد مضي أيام من شهر رمضان، فهل يطالب بصيام الأيام السابقة؟! فأجاب: هذا لا يطالب بصيام الأيام السابقة لأنه كان كافرًا فيها، والكافر لا يطالب بقضاء ما فاته من الأعمال الصالحة لقول الله تعالى (قُل للَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَر لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال: 38] ، ولأن الناس كانوا يسلمون في عهد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن يأمرهم بقضاء ما فاتهم من صوم ولا صلاة ولا زكاة. ولكن لو أسلم في أثناء النهار فهل يلزمه الإمساك والقضاء؟ أو الإمساك دون القضاء؟ أو لا يلزمه إمساك ولا قضاء؟ في هذه المسألة خلاف يين أهل العلم. والقول الراجح: أنه يلزمه الإمساك دون القضاء، فيلزمه الإمساك لأنه صار من أهل الوجوب، ولا يلزمه القضاء لأنه قبل ذك ليس من أهل الوجوب. فهو كالصبي إذا بلغ في أثناء النهار، فإنه يلزمه الإمساك ولا يلزمه القضاء على القول الراجح في هذه المسألة. إذا أفطر لعذر وزال العذر في نفس النهار هل يواصل أم يمسك؟ - وسئل فضيلة الضيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: إذا أفطر لعذر وزال العذر في نفس النهار فهل يواصل الفطر أم يمسك؟ فأجاب: إنه لا يلزمه الإمساك لأن هذا الرجل استباح هذا اليوم بدليل من الشرع فحرمة هذا اليوم غير ثابتة في حق هذا الرجل ولكن عليه أن يعيده وإلزامنا إياه أن يمسك بدون فائدة له شرعاً ليس بصحيح.

_ (1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/158، 159) .

ومثال ذلك: رجل رأى غريقا في الماء وقال إن شربت أمكنني إنقاذه وإن لم أشرب لم أتمكن من إنقاذه. فنقول: اشرب وأنقذه فإذا شرب وأنقذه فهل يأكل بقية يومه؟ نعم يأكل بقية يومه؛ لأن هذا الرجل استباح هذا اليوم بمقتضى الشرع فلا يلزمه الإمساك. ولهذا لو كان عندنا إنسان مريض هل نقول لهذا المريض لا تأكل إلا إذا جعت ولا تشرب إلا إذا عطشت؟ لا. لماذا؟ لأن هذا المريض أبيح له الفطر، فكل من أفطر في رمضان بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يلزمه الإمساك والعكس بالعكس. لو أن رجلاً أفطر بدون عذر وجاء يستفتينا: أنا أفطرت وفسد صومي هل يلزمني الإمساك أو لا يلزمني؟ قلنا يلزمك الإمساك لأنه لا يحل لك بأن تفطر فقد انتهكت حرمة اليوم بدون إذن من الشرع فنلزمك بالبقاء على الإمساك وعليك القضاء لأنك أفسدت صوماً واجباً شرعت فيه. - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (1) : ينتشر عند كثير من الناس أن الإنسان إذا رأى صائما يأكل أن لا يذكره فما مدى صحة هذا الكلام، وكيف يصنع من يرى صائماً يأكل؟ فأجاب: إذا رأى صائماً يأكل فليذكره؛ لأن هذا من باب التعاون على البر والتقوى، كما لو رأى الإنسان شخصًا مصليّا إلى غير القبلة، أو رأى شخصا يريد أن يتوضأ بماء نجس، أو ما أشبه ذلك، فإنه يجب عليه تبيين الأمر له، والصائم وإن كان معذورا لنسيانه لكن أخوه الذي يعلم بالحال يجب عليه أن يذكره. ولعل هذا يؤخذ أيضًا من قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني" فإنه إذا كان يذكر الناسي في الصلاة فكذلك الناسي في الصوم يذكر.

_ (1) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 195-196) .

إذا رؤي صائم يأكل أو يشرب في نهار رمضان ناسيا فهل يذكر أم لا؟

- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (*) : إذا رؤي صائم يأكل أو يشرب في نهار رمضان ناسيا فهل يذكر أم لا؟ فأجاب: من رأى صائمًا يأكل أو يشرب في نهار رمضان فإنه يجب عليه أن يذكره لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين سها في صلاته: "فَإِذا نَسِيت فَذَكروني" والإنسان الناسي معذور لنسيانه، لكن الإنسان الذاكر الذي يعلم أن هذا الفعل مبطل لصومه ولم يدل عليه يكون مقصراً لأن هذا أخوه فيجب أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه. والحاصل: أن من رأى صائماً يأكل أو يشرب في نهار رمضان ناسياً فإنه يذكره، وعلى الصائم أن يمتنع من الأكل فوراً. ولا يجوز له أن يتمادى في أكله أو شربه، بل لو كان في فمه ماء أو شيء من طعام فإنه يجب عليه أن يلفظه، ولا يجوز له ابتلاعه بعد أن ذَكَرَ أو ذُكِّر أنه صائم. وأنني بهذه المناسبة أود أن أبين أن المفطرات التي تفطر الصائم، لا تفطره في ثلاث حالات: 1- إذا كان ناسيًا. 2- وإذا كان جاهلاً. 3- وإذا كان غير قاصد. فإذا نسي فأكل أو شرب فصومه تام لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه". وإذا أكل أو شرب يظن أن الفجر لم يطلع أو يظن أن الشمس قد غربت ثم تبين أن الأمر خلاف ظنه فإن صومه صحيح لحديث أسماء بنت أبي بكر- رضي الله عنهما- قالت: "أفطرنا في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم غيم ثم طلعت الشمس، ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقضاء". ولو كان القضاء واجبًا لأمرهم به ولو أمرهم به لنقل إلينا لأنه إذا أمرهم به صار من شريعة الله وشريعة الله لابد أن تكون محفوظة بالغة إلى يوم القيامة. وكذلك إذا لم يقصد فعل ما يفطر فإنه لا يفطر، كما لو تمضمض فنزل الماء إلى جوفه فإنه لا يفطر بذلك لأنه غير قاصد.

_ (*) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/164-166) .

هل يؤمر الصبي المميز بالصيام؟

وكما لو احتلم وهو صائم فأنزل فإنه لا يفسد صومه لأنه نائم غير قاصد وقد قال الله عز وجل: (وَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأتم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) [الأحزاب: 5] . هل يؤمر الصبي المميز بالصيام؟ - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: هل يؤمر الصبي المميز بالصيام؟ وهل يجزئ عنه لو بلغ في أثناء الصيام؟ فأجاب: الصبيان والفتيات إذا بلغوا سبعًا فأكثر يؤمرون بالصيام ليعتادوه وعلى أولياء أمورهم أن يأمروهم بذلك كما يأمرونهم بالصلاة فإذا بلغوا الحلم وجب عليهم الصوم. وإذا بلغوا في أثناء النهار أجزأهم ذلك اليوم، فلو فرض أن الصبي أكمل الخامسة عشرة عند الزوال وهو صائم ذلك اليوم أجزأه ذلك، وكان أول النهار نفلاً وآخره فريضة إذا لم يكن بلغ قبل ذلك بإنبات الشعر الخشن حول الفرج وهو المسمى العانة، أو بإنزال المني عن شهوة. وهكذا الفتاة الحكم فيهما سواء، إلا أن الفتاة تزيد أمرًا رابعًا يحصل به البلوغ وهو الحيض (1) . حكم صيام من يعقل زمنًا ويُجَن زمنًا آخر - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (*) : ما حكم صيام من يعقل زمنا ويجن زمنا آخر، أو يعقل زمنا ويخرف أو يهذري مرة أخرى؟ فأجاب: الحكم يدور مع علته، ففي الأوقات التي يكون فيها صاحيًا عاقلاً، يجب عليه الصوم، وفي الأوقات التي يكون فيها مجنونًا مهذريًا لا صوم عليه، فلو فرض أنه يجن يومًا ويفيق يومًا، أو يهذري يومًا ويصحو يومًا، ففى اليوم الذي يصحو فيه يلزمه الصوم، وفي اليوم الذي لا يصحو فيه لا يلزمه الصوم (2) .

_ (1) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لسماحه الشيخ ابن باز (ص 160، 161) . (*) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/179، 180) . (2) "فقه العبادات" لابن عثيمين (ص 187) .

فاقد الذاكرة والمعتوه والصبي والمجنون هل يجب عليهم الصوم؟

وسئل أيضا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (*) : لكن لو حدث له أثناء النهار مثلاً: كان عاقلاً ثم ذهب عقله؟ فأجاب: فإذا جُنَّ في أثناء النهار بطل صومه؟ لأنه صار من غير أهل العبادة، وكذلك إذا هذر في أثناء اليوم فإنه لا يلزمه الإمساك ولكنه يلزمه القضاء، وكذلك الذي جن في أثناء النهار يلزمه القضاء، لأنه فى أول النهار كان من أهل الوجوب. فاقد الذاكرة والمعتوه والصبي والمجنون هل يجب عليهم الصوم؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (* *) : فاقد الذاكرة هل يجب عليه الصيام والمعتوه والصبي والمجنون؟ فأجاب إن الله سبحانه وتعالى أوجب على المرء العبادات إذا كان أهلاً للوجوب بأن يكون ذا عقل يدرك به الأشياء، وأما من لا عقل له، فإنه لا تلزمه العبادات، وبهذا لا تلزم المجنون، ولا تلزم الصغير الذي لا يميز، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى، ومثله المعتوه الذي أُصيب بعقله على وجه لم ييلغ حد الجنون. ومثله أيضا: الكبير الذي بلغ فقدان الذاكرة كما قال هذا السائل، فإنه لا يجب عليه صوم ولا صلاة ولا طهارة؟ لأن فاقد الذاكرة هو بمنزلة الصبي الذي لم يميز، فتسقط عنه التكالف فلا يلزم بطهارة، ولا يلزم بصلاة، ولا يلزم أيضا بصيام. وأما الواجبات المالية، فإنها تجب في ماله وإن كان في هذه الحال فالزكاة مثلاً يجب على من يتولى أمره أن يخرجها من مال هذا الرجل الذي بلغ هذا الحد؛ لأن وجوب الزكاة يتعلق بالمال كما قال الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِم صَدَقَةً تُطَهرهُم وَتزَكيهِم بِهَا) [التوبة: 103] ، قال تعالى: (خذ من أموالهم) ولم يقل خذ منهم. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ حينما بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم".

_ (*) "فقه العبادات" لابن عثيمين (ص 187) . (* *) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/490، 491) .

كلما أراد أن يصوم أغمى عليه هل له الفطر؟!

فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صدقة في أموالهم" فبين أنها في المال وإن كانت تؤخذ من صاحب المال. وعلى كل حال: الواجبات المالية لا تسقط عن شخص هذه حاله، أما العبادات البدنية كالصلاة والطهارة والصوم: فإنها تسقط عن مثل هذا الرجل لأنه لا يعقل. وأما من زال عقله بإغماء من مرض، فإنه تجب عليه الصلاة، على قول أكثر أهل العلم، فإذا أُغمي على المريض لمدة يوم أو يومين فلا قضاء عليه لأنه ليس عليه عقل وليس كالنائم الذي قال فيه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها"؛ لأن النائم معه إدراك بمعنى أنه يستطع أن يستيقظ إذا أوقظ وأما هذا المغْمي عليه فإنه لا يستطيع أن يفيق إذا أوقظ -هذا إذا كان الإغماء ليس بسبب منه-. أما إذا كان الإغماء بسبب منه كالذي أغمي عليه من البنج فإنه يقضي الصلاة التي مضت عليه وهو في حال الغيبوبة. كلما أراد أن يصوم أغمى عليه هل له الفطر؟! - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (1) : عن رجل كلما أراد أن يصوم أُغمى عليه، ويَزبد ويخبط، فيبقى أيامًا لا يفيق، حتى يتهم أنه جُنُون. ولم يتحقق ذلك منه؟ فأجاب: الحمد لله. إن الصوم يوجب له مثل هذا المرض، فإنه يفطر ويقضي، فإن كان هذا يصيبه في أي وقت صام، كان عاجزًا عن الصيام، فيطعم عن كل يوم مسكينًا، والله أعلم. صيام المرأة الكبيرة التي يشق عليها الصوم - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (2) : المرأة الكبيرة إذا كان الصيام يضرها هل تصوم؟

_ (1) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/217) . (2) "فتاوى الشيخ صالح العثيمين" (1/488-489) .

متى يسقط صيام رمضان عن الكبير

فأجاب: إذا كان الصوم يضر بها كما ذكر السائل فإنه لا يجوز لها أن تصوم؛ لأن الله تعالى يقول في القرآن: (وَلاَ تَقْتُلُو أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29] . (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلى الْتَّهْلُكَة) [البقرة: 195] . فلا يجوز لها أن تصوم والصوم يضر بصحتها، وما دامت طاعنة في السن فإن الغالب أنها لن تقدر على الصوم في المستقبل. وحينئذٍ تطعم عن كل يوم مسكينًا، فإما أن تدفع إلى المساكين ذلك الطعام ومقداره ربع صاع من البُر أو نصف صاع من غيره والأرز مثل البُرّ؛ لأن انتفاع الناس به كانتفاعهم بالبر بل أبلغ إذ أنه لا يحتاج إلى كلفة ولا مشقة كما يحتاج إليها البر وإما أن تصنع طعاما ويدعى إليه مساكين بعدد أيام الشهر وبذلك تبرأ ذمتها والله أعلم. متى يسقط صيام رمضان عن الكبير - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله- (1) : متى يسقط صيام رمضان عن الكبير؟ فأجاب: متى عجز الكبير عن الصيام سقط عنه وانتقل إلى الإطعام، وعليه يُحْمَل قوله تعالى: (وعَلَىَ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسكِين) [البقرة: 184] ، فإن بلغ سنًا لا عقل ولا معرفة لديه سقط عنه على الصحيح إلى غير بدل لإلحاقه بمن رُفِعَ عنه القلم، فهو أولى بالسقوط عن الصغير. - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: يوجد عندنا امرأة كبيرة السن لا تطيق الصوم فماذا تفعل؟ فأجاب: عليها أن تطعم مسكينًا عن كل يوم نصف صاع من قوت البلد من تمر أو أرز أو غيرهما، مقداره بالوزن كيلو ونصف على سبيل التقريب كما أفتى بذلك جماعة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنهم ابن عباس -رضي الله عنه وعنهم-، فإن كانت فقيرة لا

_ (1) "فتاوى الصيام" لابن جبرين (ص 80) .

صيام المريض الذي لا يرجى برؤه

تستطيع الإطعام فلا شيء عليها، وهذه الكفارة يجوز دفعها لواحد أو أكثر في أول الشهر أو وسطه أو آخره وبالله التوفيق (1) . صيام المريض الذي لا يرجى برؤه - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: هل يجب الصيام على المريض الذي لا يرجى برؤه؟ فأجاب: المريض الذي لا يرجى برؤه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا. قال تعالى: (وَعَلَى الذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسكِين) [البقرة: 184] . يقول بعض العلماء: إن هذه الآية في الشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى بُرؤُه فيفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا. وقد نُقِل ذلك عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- كابن عباس وغيره من الصحابة، وفعل ذلك أنس في آخر حياته. فدل ذلك على أن عندهم فيه دليلاً: فإن أنسا لما كبر سنه، قبل موته بسنتين أو بثلاث صعب عليه الصوم، فكان إذا دخل رمضان جمع ثلاثين مسكينا، وأطعمهم حتى يشبعوا وأكتفى بذلك عن الصوم (2) . - وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-: الدكتور الذي يأمر بالإفطار، هل يسمع أي دكتور كان أو يشترط فيه أن يكون مسلمًا؟ فأجاب: إذا كان الطيب متخصصا في المهنة وصادقا فيها، وقال للمريض إن الصوم يضرك فإنه يفطر ولو كان الطيب غير مسلم -إذا لم يوجد غيره- وخصوصًا إذا كان المريض بحاجة إلى الفطر (3) .

_ (1) "مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز" (3/235، 236) . (2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (81، 82) . (3) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (1/34) .

قبول خبر الطبيب المسلم العدل. وغير المسلم والمسلم غير العدل

قبول خبر الطبيب المسلم العدل. وغير المسلم والمسلم غير العدل - وسئل العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-: عن رجل يذكر أنه مصاب بمرض السل، ويعالج منه مدة سنتين وألزمه الأطباء بترك الصيام شهري رمضان، وخوفوه بأنه إذا صام انتكس عليه المرض، وكذلك أعطوه تقريرًا بترك الصيام خمس سنوات. إلى آخر ما ذكر. ويستفتي عن حكم ترك الصيام هذه المدة؟ فأجاب: الحمد لله. قال الله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمهَ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ منْ أَيام أُخَرَ) [البقرة: 185] . أي ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام أو يؤذيه أو كان في حال سفر فله أن يفطر، وعليه قضاء عدة ما أفطره من الأيام، ولهذا قال الله تعالى: (يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسرَ وَلاَ يرُيدُ بِكُمُ الْعُسرَ) [البقرة: 185] ونص العلماء على أنه إذا أخبر طبيب مسلم ثقة بأن الصيام مما يضر بهذا المريض أو يمكن منه العلة أو يبطئ البُرء ونحو ذلك فإن ترك الصيام في مثل هذه الحالة جائز شرعاً. فإن كان الطبيب غير مسلم أو مسلما لكنه غير عدل فلا يقبل قوله إلا عند الضرورة مثل ألا يتمكن من سؤال غيره فإذا وجدت الضرورة وحفت القرائن على صدق غير المسلم ونحوه بأن يحس المريض من نفسه بذلك أو يكون مشتهرا أن هذا المرض مما يتمكن بالصيام ويصعب برؤه، فحينئذ يجوز ترك الصيام حتى يعافيه الله ويقوى عليه بدون ضرر. أما ما مضى من الأشهر فعليك قضاؤها بعد البرء ولا كفارة في تأخيرها لأن تركك لها لاستمرار المرض معك. والسلام عليكم (1) . - وسئل أيضًا العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-: مريض مصاب بدرن رئوي، ومعه شهادة من الطبيب المختص ينصحه بعدم الصيام خمس سنوات متتاليات، ويسأل عن الحكم في ذلك؟ فأجاب: الحمد لله. قبول قول الطيب المسلم الثقة في هذه الأمور سائغ يجوز تأخير الصيام في المدة المذكورة عملا بقوله. وأما غير المسلم الثقة فلعله يسوغ قبول قوله في مثل

_ (1) "فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/182، 183) .

سفر القصر، وسفر الطاعة والمعصية، والسافر في رمضان هل ينكر عليه؟

هذه المسألة مدة المعالجة وما بعدها بزمن غير طويل للضرورة وهي عدم وجود الطبيب المسلم الثقة، وبخلاف ما بعد المعالجة بزمن طويل، لا سيما مع إحساس الإنسان من نفسه بتمام البرء والنشاط والقوة على الصيام وغلبة ظنه أن الصيام لا يسبب زيادة المرض أو تأخير البرء (1) . وسئل أيضًا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله- (2) : أيهما أفضل: الصوم أم الفطر في السفر؟ فأجاب: يجوز في السفر الصوم والفطر ولا يعيب من صام على من أفطر ولكن مع المشقة والتعب يفضل الفطر لقوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحابته صاموا سنة ثمانٍ حتى قيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، ثم أفطروا ليتقوّوا على قتال عدوهم، فإذا احتاج الصائم إلى خدمة غيره فالفطر أفضل ما دام مسافرا، وعليه يُحْمَل حديث: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر". سفر القصر، وسفر الطاعة والمعصية، والسافر في رمضان هل ينكر عليه؟ - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن المسافر في رمضان، ومن يصوم يُنْكر عليه، ويُنْسب إلى الجهل، ويقال له: الفطر أفضل؟ وما هو مسافة القصر؟ وهل إذا أنشأ السفر من يومه يفطر؟ وهل يفطر السفار من المكارية والتجار والجمال والملاح وراكب البحر؟ وما الفرق بين سفر الطاعة، وسفر المعصية؟ فأجاب: الحمد لله. الفطر للمسافر جائز باتفاق المسلمين، سواء كان سفر حج، أو

_ (1) "فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/183، 184) . (2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 77) .

جهاد، أو تجارة أو نحو ذلك من الأسفار التي لا يكرهها الله ورسوله. وتنازعوا في سفر المعصية كالذي يسافر ليقطع الطريق ونحو ذلك، على قولين مشهورين، كما تنازعوا في قصر الصلاة. فأما السفر الذي تقصر فيه الصلاة: فإنه يجوز فيه الفطر مع القضاء باتفاق الأئمة، ويجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة، سواء كان قادرًا على الصيام أو عاجزًا، وسواء شق عليه الصوم، أو لم يشق، بحيث لو كان مسافرًا في الظل والماء ومعه من يخدمه جاز له الفطر والقصر. ومن قال: إن الفطر لا يجوز إلا لمن عجز عن الصيام فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك من أنكر على المفطر، فإنه يستتاب من ذلك. ومن قال: إن المفطر عليه إثم، فإنه يستتاب من ذلك، فإن هذه الأحوال خلاف كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخلاف إجماع الأمة. وهكذا السنة للمسافر أنه يصلي الرباعية ركعتين، والقصر أفضل له من التربيع عند الأئمة الأربعة: كمذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد والشافعي في أصح قوليه. ولم تتنازع الأمة في جواز الفطر للمسافر؛ بل تنازعوا في جواز الصيام للمسافر: فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الصائم فى السفر كالمفطر في الحضر، وأنه إذا صام لم يجزه بل عليه أن يقضي، ويروى هذا عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وغيرهما من السلف، وهو مذهب أهل الظاهر. وفي "الصحيحين" عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس من البر الصوم فى السفر" لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز للمسافر أن يصوم، وأن يفطر، كما في الصحيحين عن أنس قال: كنا نسافر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم". وقد قال الله تعالى: (مَن كَانَ مَرِيضا أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّْة مْن َأيَّام أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسرَ) [البقرة: 185] .

وفي المسند عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن الله يحب أن يؤخذ برخصه. كما يكره أن تؤتى معصيته". وفي الصحيح أن رجلا قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني رجل أكثر الصوم أفأصوم في السفر؟ فقال: "إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس". وفي حديث آخر "خياركم الذين في السفر يقصرون ويفطرون". وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه ويفطر: - فمذهب مالك والشافعي وأحمد أنه مسيرة يومين قاصدين بِسَير الإبل والأقدام، وهو ستة عشر فرسخا، كما بين مكة وعسفان، ومكة وجدة. - وقال أبو حنيفة: "مسيرة ثلاثة أيام". - وقال طائفة من السلف والخلف: بل يقصر ويفطر في أقل من يومين. وهذا قول قوي، فإنه قد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعرفة، ومزدلفة ومنى، يقصر الصلاة، وخلفه أهل مكة وغيرهم يصلون بصلاته، لم يأمر أحدا منهم بإتمام الصلاة. وإذا سافر في أثناء يوم، فهل يجوز له الفطر؟ على قولين مشهورين للعلماء، هما روايتان عن أحمد. أظهرهما: أنه يجوز ذلك. كما ثبت في السنن أن من الصحابة من كان يفطر إذا خرج من يومه ويذكر أن ذلك سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نوى الصوم في السفر، ثم إنه دعا بماء فأفطر، والناس ينظرون إليه. وأما اليوم الثاني: فيفطر فيه بلا ريب، وإن كان مقدار سفره يومين في مذهب جمهور الأئمة والأمة. وأما إذا قدم المسافر في أثناء يوم ففي وجوب الإمساك نزاع مشهور بين العلماء، لكن عليه القضاء سواء أمسك أو لم يمسك.

السفر المبيح للفطر

ويفطر من عادته السفر، إذا كان له بلد يأوي إليه، كالتاجر الجلاب الذي يجلب الطعام، وغيره من السلع، وكالمكاري الذي يكري دوابه من الجلاب وغيرهم وكالبريد الذي يسافر في مصالح المسلمين، ونحوهم، وكذلك الملاح الذي له مكان في البر يسكنه. فأما من كان معه في السفينة امرأته، وجميع مصالحه، ولا يزال مسافرا فهذا لا يقصر، ولا يفطر. وأهل البادية: كأعراب العرب، والأكراد، والترك، وغيرهم الذين يشتون في مكان، ويصيفون في مكان، إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتى إلى المصيف، ومن المصيف إلى المشتى: فإنهم يقصرون. وأما إذا نزلوا بمشتاهم، ومصيفهم، لم يفطروا، ولم يقصروا. وإن كانوا يتتبعون المراعي، والله أعلم (1) . السفر المبيح للفطر - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله- (2) : ما السفر المبيح للفطر؟ فأجاب: السفر المبيح للفطر وقصر الصلاة هو 83 كم تقريبا، ومن العلماء من لم يحدد مشاقة للسفر بل كل ما هو في عرف الناس سفر فهو سفر، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سافر ثلاثة فراسخ قصر الصلاة، والسفر المحرم ليس مبيحا للقصر ولا للفطر لأن سفر المعصية لا تناسبه الرخصة، وبعض أهل العلم لا يفرق بين سفر المعصية وسفر الطاعة لعموم الأدلة، والعلم عند الله. متى يبدأ المسافر بالفطر؟ - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:

_ (1) "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/209-213) . (2) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/179-180) .

الصيام في السفر بالوسائل المريحة

متى يبدًا المسافر بالفطر؟ هل يفطر إذا شد رحله أو يفطر إذا فارق البلد؟ فأجاب: روي عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه أفطر عندما شد رحله قبل أن يفارق البلد، وقال: إن ذلك السنة، فقال له صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف تفطر وأنت ترى الدور ولا تزال بين القصور؟ فقال: أترغبون عن سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وآخرون قالوا: ما دام يمشي بين البيوت المسكونة فإنة لا يكون على سفر والله تعالى يقول: (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) [البقرة: 184] . ولا يكون على سفر حتى يفارق العامر، ومثله القصر في الصلاة يقول الفقهاء في تحديد بداية القصر: إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه. وأما قول أبي الدرداء: إن هذا من السنة. المراد به: الفطر في جنس السفر، فالاختيار أنه يفطر إذا فارق البلد. ولعل عذر أبي الدرداء، مشقة النزول إذا خرج من البلد، ومشقة حط الرحل وإصلاح الأكل، ولعل ذلك كان في شدة الحر أو في آخر النهار وقد شق عليهم جمع الرحل ورفق على الدواب ونحو ذلك (1) . الصيام في السفر بالوسائل المريحة - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله-: نحن الآن في زمن توفرت فيه وسائل النقل المريحة من طائرات وسيارات وقطارات، والصائم بحمد الله يسافر المسافات الطويلة دون أن يحس بتعب وخاصة إذا سافر بالطائرة. فما الأفضل له في هذه الحالة، الصيام أم الفطر؟ فأجاب: المسافر مخير بين الصوم والفطر وظاهر الأدلة الشرعية أن الفطر أفضل، ولا سيما إذا شق عليه الصوم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ليس من البر الصوم في السفر": وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته"، ومن صام، فلا حرج عليه إذا لم يشق عليه الصوم فإن شق عليه الصوم كره له ذلك والله ولي التوفيق (2) .

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 80) . (2) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (2/168-169) .

نوى الصيام ثم سافر في أثناء النهار هل له أن يفطر؟

- وسئل أيضًا فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-: نعيش الآن في زمن توفرت فيه وسائل النقل المريحة، ويمكن للصائم أن يسافر لمسافات طويلة دون أن يحس بتعب، فما الأفضل للإنسان المسافر أن يصوم أو يفطر؟ فأجاب: رُخَص السفر من قصر الصلاة والإفطار في رمضان رخص عامة في جميع حالات السفر ولو اختلفت وسائله، وتوفر الراحة أحيانًا بسبب ما استجد من وسائل السفر لا تغير هذا الحكم؛ لأن هذه الوسائل المريحة لا تدوم ولأن الراحة لا تحصل لكل المسافرين؛ فقد يعرض لهذه الوسائل من الخلل والعطل أو تغير الاتجاه ما يتعب المسافرين أكثر مما لو كانوا على الوسائل القديمة. وعلى كل حال: فمسألة الترخص للمسافر تتبع الأرفق به، فإن كان الأرفق به الإفطار؛ أفطر، وإن كان الأرفق به الصيام؛ صام، كلا الأمرين جائز بالنسبة إليه، والأفضل في كل حال الأخذ بالرخصة، لأن الله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه (1) . - وسئل أيضًا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: يقول إذا كنت مسافرًا في رمضان وكنت مفطرًا في سفري وعند وصولي إلى البلد الذي سأمكث فيه عدة أيام أمسكت بالصيام في بقية ذلك اليوم وفي الأيام التالية فهل لي رخصة في الإفطار في نهار هذه الأيام وأنا في بلد ليس في بلدي الأصلي أم لا؟ فأجاب: نعم يجوز للمسافر إذا صام في سفره أن يفطر في أثناء النهار ولا حرج عليه كما أفطر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حال السفر (2) . نوى الصيام ثم سافر في أثناء النهار هل له أن يفطر؟ - وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-: إذا نوى حاضر صوم يوم، ثم سافر في أثنائه؛ فهل له أن يفطر فى ذلك اليوم؟ فأجاب: إِذا نوى الإنسان الصيام وصام، ثم عرض له السفر أثناء النهار فإن له أن

_ (1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/148-149) . (2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/481) .

حكم من جامع زوجته في نهار رمضان وهو على سفر

يفطر، إذا خرج من البلد مسافرا السفر الذي ييلغ ثمانين كيلو مترا فأكثر. وإن أكمل اليوم الذي صام أوله فهو أحسن وأحوط، نظرا لأن بعض العلماء يرى وجوب إكمال اليوم الذي سافر فيه وعدم الإفطار فيه (1) . حكم من جامع زوجته في نهار رمضان وهو على سفر - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: قدم من أبْهَا إلى مكة ليلاً، وفي الصباح وسوس له الشيطان فجامع زوجته فما الحكم؟ فأجاب: هذا الرجل قدم هو وزوجته للعمرة، واعتمرا في الليل وأصبحا صائمين، وفي ذلك اليوم الذي أصبحا فيه صائمين جامعها. نقول: ليس عليه شيء إلا قضاء ذلك اليوم فقط، فليس عليه إثم ولا كفارة، وإنما عليه قضاء ذلك اليوم فقط؛ لأن المسافر يجوز أن يقطع صومه سواء قطعه بأكل أو شرب أو جماع؛ لأن صوم المسافر ليس واجبا عليه. كما قال تعالى: (فَمَن كانَ مِنْكُم مريضا أَوْ عَلَى سَفرٍ فَعِدَّةٌ منْ أَيَّام أُخَرَ) [البقرة: 184] . ولهذا أحب من الأخوة الذين يُستفتون في مكة مثلاً إذا جاء سائل يسأل: أنه وطيء زوجته وهو صائم، فما حكم ذلك؟ ينبغي أن نستفصل منه ونقول: هل أنت مسافرا أم لا؟ إذا قال: إنه مسافر. فنقول: ليس عليك إلا القضاء، لكن لو جامع زوجته وهو في بلده في نهار رمضان وهما صائمان ترتب عليه أمور: أولاً: فساد الصوم. ثانيا: وجوب الإمساك بقية اليوم. ثالثا: قضاء ذلك اليوم. رابعا: الإثم.

_ (1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/148) .

المقيم في بلد أكثر من أربعة أيام يصوم

خامسًا: الكفارة، وهي عتق رقبة، فإذا لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا (1) . المقيم في بلد أكثر من أربعة أيام يصوم - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: إذا كنت مسافرًا في رمضان وكنت مفطرا في سفري، وعند وصولي إلى البلد الذي سوف أمكث فيه عدة أيام، أمسكت بالصيام في بقية ذلك اليوم وفي الأيام التالية، فهل لي رخصة بالإفطار في نهار هذه الأيام وأنا في بلد ليس بلدي الأصلي أم لا؟ فأجاب: إذا مر المسافر ببلد غير بلده وهو مفطر، فليس عليه أن يمسك إذا كانت إقامته فيها أربعة أيام، فأقل. أما إن كان قد عزم على الإقامة فيها أكثر من أربعة أيام، فإنه يمسك ذلك اليوم الذي قدم فيه مفطرًا ويقضيه ويلزمه الصوم في بقية الأيام؛ لأنه بنيته المذكورة صار في حكم المقيمين لا في حكم المسافرين كما تقدم في جواب السؤال الأول.. والله ولي التوفيق (2) . هل للفطر في السفر أيامًا معدودة؟ وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: نود أيضًا أن نعرف هل للفطر في السفر أيامًا معدودة؟ فأجاب: لا ليس له أيام معدودة (3) . - وسئل أيضًا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: يعني لو كان الإنسان يريد أن يسافر مثلاً، أو يبقى في مدينة غير مدينته مثلا أكثر من خمسة أيام أو ستة أيام؟ فأجاب: فله أن يفطر؛ لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح مكة دخلها في رمضان في العشرين منه ولم يصم بقية الشهر كما صح ذلك. أي: صح أنه لم يصم بقية الشهر

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/480-481) . (2) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (2/169) . (3) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 199) .

المسافة التي يجب عندها الإفطار

من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- فيما أخرجه البخاري عنه، وبقي بعد ذلك تسعة أيام أو عشرة، فبقي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة وأفطر في رمضان (1) . إذا سافر مسافة 400 كم هل يحق له الأفطار؟ - وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-: إذا سافر الصائم مسافة أربع مئة كيلو متر: هل يحق له الإفطار؟ وكم هي المدة المقررة للصائم أو المسافر أن يفطر فيها؟ فأجاب: نعم؛ من سافر سفرًا مباحًا مسافة تبلغ أربع مئة كيلو متر؛ فإنه يجوز له الإفطار؛ لأن هذا أكثر من المسافة المقدرة للإفطار؛ لأن المسافة هي ثمانون كيلو مترًا؛ فإذا سافر ثمانين كيلو مترًا فأكثر -سفرًا مباحًا-؛ فإنه يجوز له الترخيص للإفطار وقصر الصلاة. أما المدة التي يجوز للمسافر فيها أن يقصر الصلاة، فلا تحديد لها، فإنه يجوز للمسافر أن يقصر الصلاة طيلة سفره؛ إلا إذا نوى إقامة تزيد على أربعة أيام فإنه يأخذ أحكام المقيمين. أما إذا نوى إقامة دون ذلك، أو لم ينو إقامة محددة فإنه لا يزال يجوز له الإفطار وقصر الصلاة إلى أن يرجع إلى بلده، والله أعلم (2) . - المسافة التي يجب عندها الإفطار - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: على مسافة كم من الكيلو مترات يجب الإفطار؟ وماذا لو صام ولم يفطر؟ فأجابت: رخَص بعض العلماء في قصر الصلاة الرباعية والفطر في نهار رمضان في كل ما يسمى سفرًا وحدد جمهور العلماء المسافة بثمانين كيلو متر تقريبًا.

_ (1) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 199) . (2) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/148) .

مسافر وصل إلى أهله قبيل العصر مفطرا هل يمسك بقية اليوم؟

ومن صام في السفر الذي يشرع فيه الإفطار فصيامه صحيح للأدلة الدالة على ذلك، ولا حرج عليه إلا إذا أضر به الصوم فإنه يتأكد عليه الإفطار لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس من البر الصوم في السفر". وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) . مسافر وصل إلى أهله قبيل العصر مفطرًا هل يمسك بقية اليوم؟ - سئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: إذا كنت في سفر وأفطرت خلال سفري هذا، وفي أحد الأيام وصلت إلى أهلي قبيل العصر. هل يجب على الإمساك أم الإفطار؟ فأجاب: يجب الإمساك على من انتهى السبب الذي أفطر لأجله. فإذا انتهى السفر في أثناء النهار، وجب إمساك بقية النهار؛ لأن الله تعالى قال: (أَوْ عَلى سَفَر) [البقرة: 184] فقد انتهى السفر، وكذا يقال في المريض إذا أفطر ثم شفي وبريء في وسط النهار، فعليه إمساك بقية يومه لزوال العذر مع وجوب قضاء ذلك اليوم كاملاً (2) . إذا رجع المسافر إلى بلده مفطرًا هل يستمر في فطره أم يمسك؟ - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: إذا رجع المسافر إلى بلده وهو مفطر هل يستمر في فطره، أم يجب عليه أن يمسك؟ فأجاب: المسافر إذا وصل من سفره إلى بلده وهو مفطر فيجب أن يمسك بقية نهاره، ويقضي يومه كله، وإذا أفطر يعتبر آثما؛ حيث إِن الرخصة للمسافر. كما قال تعالى:

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (7652) . (2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 76) .

(أَوْ عَلَى سَفَر) [البقرة: 184] ، وهو ليس بمسافر فيمسك حرمة لرمضان (1) . - وسئل أيضا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: المسافر إذا وصل مكة صائمًا، فهل يفطر ليتقوى على أداء العمرة؟ فأجاب: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة عام الفتح في اليوم العشرين من رمضان وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفطرَا وكان يصلي ركعتين في أهل مكة ويقول لهم: "يا أهل مكة أتموا فإنا قوم سفر". وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مفطرا في ذلك العام أي أنه أفطر عشرة أيام في مكة في غزوة الفتح، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر". كما أنه بلا شك كان يصلي ركعتين في هذه المدة، لأنه كان مسافرا فلا ينقطع سفر المعتمر بوصوله إلى مكة، فلا يلزمه الإمساك إذا قدم مفطرا بل قد نقول له: الأفضل -إذا كان ذلك أقوى على أداء العمرة- أن لا تصوم ما دمت إذا أديت العمرة تعبت. وقد يكون بعض الناس مستمرا على صيامه حتى في السفر نظرا لأن الصيام في السفر في الوقت الحاضر ليس بمشق على الأمة، فيستمر في سفره صائما ثم يقدم مكة ويكون متعبا، فيقول في نفسه: هل أستمر على صيام أو أؤجل أداء العمرة إلى ما بعد الفطر أي إلى الليل أو الأفضل أن أفطر لأجل أن أؤدي العمرة فور وصولي إلى مكة؟ نقول له في هذه الحال: الأفضل أن تفطر حتى لو كنت صائما، فأفطر لأجل أن تؤدي العمرة فور وصولك إلى مكة، وأنت نشيط؛ لأن الأفضل فيمن قدم إلى مكة لأداء النسك أن يبادر فورا بأدئه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل مكة وهو في النسك بادر إلى المسجد حتى كان يُنيخَ راحلته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند المسجد ويدخله حتى يؤدي النسك الذي كان متلبسا به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكونك تفطر لتؤدي العمرة بنشاط في النهارأفضل من كونك تبقى صائما ثم إذا أفطرت في الليل قضيت عمرتك. وقد ثبت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان صائما في سفره لغزوة الفتح فجاء إليه أناس فقالوا يا رسول الله: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنهم ينتظرون ماذا تفعل -وكان هذا بعد

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 78) .

المبتعث مسافر يفطر ولو امتد ابتعاثه سنوات

العصر- فدعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بماء فشرب والناس ينظرون، فأفطر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أثناء السفر بل أفطر في آخر اليوم. كل هذا من أجل أن لا يشق الإنسان على نفسه بالصيام وتكلف بعض الناس في الصوم في السفر مع المشقة لا شك أنه خلاف السنة، وإنه ينطق عليهم قول النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ليس من البر الصيام في السفر" (1) . المبتعث مسافر يفطر ولو امتد ابتعاثه سنوات - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: نحن مجموعة من المبتعثين في بلاد أخرى بعضنا له سنة والبعض الآخر سنتان أو ثلاث أو أربع فهل لنا حكم المسافر في الصيام؟ فأجاب: هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم. والجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة يقولون: إنهم في حكم المقيم يلزمهم الصوم، ولا يجوز لهم قصر الصلاة، ولا أن يمسحوا على الخفين ثلاثة أيام بل يوم وليلة. وبعض أهل العلم يقول: إنهم في حكم المسافرين، وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهو ظاهر النصوص فهي لم تُحدِّد مدة السفر. وذُكر أن ابن عمر -رضي الله عنهما- أقام في أذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة. وهذا الرأي واضح الرجحان ولكن من كان في نفسه حرج منه ورأى أن يأخذ بقول الجمهور وهو إتمام الصلاة ووجوب الصوم فلا حرج عليه في ذلك وهذا ما نراه ورآه شيخ الإسلام ابن تيمية. وقال أيضًا: الحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بالإحسان وسلم تسليما كثيرا.

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/478-479) .

وبعد: فقد نشر لي في (المسلمون) يوم السبت 28 شعبان 1405 هـ جواب حول ترخص المبتعث برخص السفر من القصر والفطر ومسح الخفين ثلاثة أيام وكان الجواب مختصرًا وقد طلب مني بعض الإخوان أن أبسط القول في ذلك بعض البسط فأقول -وبالله التوفيق ومنه الهداية والصواب-: المغتربون عن بلادهم لهم ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يَنْووا الإقامة المطلقة بالبلاد التي اغتربوا إليها كالعمال المقيمين للعمل والتجار المقيمين للتجارة ونحوهم ممن يقيمون إقامة مطلقة فهؤلاء في حكم المستوطنين في وجوب الصوم عليهم في رمضان وإتمام الصلاة والاقتصارعلى يوم وليلة في مسح الخفين، لأن إقامتهم التي اغتربوا إليها لا يخرجون منها إلا أن يخرجوا. الحالة الثانية: أن ينووا الإقامة المقيدة بغرض معين لا يدرون متى ينتهي، ومتى انتهى رجعوا إلى بلادهم، كالتجار الذي يقدمون لبيع السلع أو شرائها ثم يرجعون، وكالقادمين لمراجعة دوائر حكومية أو غيرها لا يدرون متى ينتهي غرضهم حتى يرجعوا إلى بلادهم فهؤلاء في حكم المسافرين فلهم الفطر وقصر الصلاة الرباعية ومسح الخفين ثلاثة أيام ولو بقوا سنوات. هذا قول جمهور العلماء بل حكاه ابن المنذر إجماعًا لكن لو ظن هؤلاء أن الغرض لا ينتهي إلا بعد المدة التي ينقطع بها حكم السفر فهل لهم الفطر والقصر؟ على قولين. الحالة الثالثة: أن ينووا الإقامة المقيدة بغرض معين يدرون متى ينتهي، ومتى انتهى رجعوا إلى بلادهم بمجرد انتهائه، فقد اختلف أهل العلم -رحمهم الله- في حكم هؤلاء فالمشهور عن مذهب الإمام أحمد أنهم إن نووا إقامة أكثر من أربعة أيام أتموا وإن نووا دونها قصروا، قال في "المغني" (صفحة 288 المجلد الثاني) وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور قال: وروى هذا القول عن عثمان -رضي الله عنه- وقال الثوري وأصحاب الرأي إن أقام خمسة عشر يومًا مع اليوم الذي يخرج فيه أتم، وإن نوى دون ذلك قصر -انتهى- وهناك أقوال أخرى ساقها النووي في "شرح المُهَذب" (صفحة 220 المجلد الرابع) تبلغ عشرة أقوال وهي أقوال اجتهادية متقابلة ليس فيها نص يفصل بينها ولهذا

ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، إلى أن هؤلاء في حكم المسافرين لهم الفطر وقصر الصلاة الرباعية والمسح على الخفين ثلاثة أيام. انظر "مجموع الفتاوى - جمع ابن قاسم" صفحة (137، 138، 184) مجلد (24) و"الاختيارات" صفحة (73) وانظر "زاد المعاد لابن القيم" صفحة (29) مجلد (3) أثناء كلامه على فقه غزوة تبوك. وقال في "الفروع" لابن مفلح -أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية- صفحة (64) مجلد (2) بعد أن ذكر الخلاف فيما إذا نوى مدة فوق أربعة أيام قال: "واختار شيخنا وغيره القصر والفطر وأنه مسافر ما لم يجمع على إقامة ويستوطن بها قامته لقضاء حاجة بلا نية إقامة". انتهى. واختار هذا القول الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. انظر صفحة (372، 375) مجلد (4) من "الدرر السنية"، واختاره أيضًا الشيخ محمد رشيد رضا صفحة (1180) المجلد الثالث من "فتاوى المنار"، وكذلك اختاره شيخنا عبد الرحمن بن ناصر السعدي صفحة (47) من "المختارات الجلية". وهذا القول هو الصواب، لمن تأمل نصوص الكتاب والسنة. فعلى هذا: يفطرون ويقضون كأهل الحال الثانية، لكن الصوم أفضل إن لم يشق، ولا ينبغي أن يؤخروا القضاء إلى رمضان ثان؛ لأن ذلك يوجب تراكم الشهور عليهم فيثقل عليهم القضاء أو يعجزوا عنه. والفرق بين هؤلاء وأهل الحال الأولى: أن هؤلاء أقاموا لغرض معينّ ينتظرون انتهاءه، ولم ينووا الإقامة المطلقة، بل لو طلب منهم أن يتموا بعد انتهاء غرضهم لأبوا ذلك، ولو انتهى غرضهم قبل المدة التي نووها ما بقوا في تلك البلاد. أما أهل الحال الأولى: فعلى العكس من هؤلاء، فهم عازمون على الإقامة المطلقة مستقرون في محل الإقامة لا ينتظرون شيئًا معينا ينهون إقامتهم بانتهائه، فلا يكادون يخرجون من مغتربهم هذا إلا بقهر النظام فالفرق ظاهر للمتأمل، والعلم عند الله تعالى. فمن تبين له رجحان هذا القول فعمل به فقد أصاب ومن لم يتبين له فأخذ بقول الجمهور فقد أصاب؛ لأن هذه المسألة من مسائل الاجتهاد التي من اجتهد فيها فأصابَ

هل السائقون خارج المدن بصفة مستمرة ينطبق عليهم حكم السفر؟

فله أجران، ومن اجتهد فيها فأخطأ فله أجر واحد والخطأ مغفور. قال الله تعالى: (لاَ يُكَلفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا حَكَم الحاكِمُ فاجْتهد ثُمَّ أصَابَ فَلَهُ أجْرَانِ وإذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ" أخرجه البخاري. نسأل الله تعالى أن يوفقنا الصواب عقيدة وقولاً وفعلاً، إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين (1) . وسأل أيضًا -حفظه الله-: هل السائقون خارج المدن بصفة مستمرة ينطبق عليهم حكم السفر؟ فأجاب: نعم ينطبق حكم السفر عليهم فلهم القصر والجمع والفطر. فإذا قال قائل: متى يصومون وعملهم متواصل؟ قلنا: يصومون في أيام الشتاء لأنها قصيرة وباردة. أما السائقون داخل المدن فليس لهم حكم المسافر ويجب عليهم الصوم. - وسئل أيضًا -حفظه الله-: سائق شاحنة لسافات طويلة كيف يصوم ومتى؟ فأجاب: جوابنا على هذا السؤال أن نقول: إن الله تعالى قد بين حكم هذه المسألة في قوله: (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَة مِّنْ أَيَّام أُخَرَ) [البقرة: 185] . فأنت أيها الأخ المشتغل في هذه الشاحنة ما دمت مسافرا، لك أن تترخص بجميع رخص السفر من القصر والجمع والفطر في رمضان والمسح على الخفين ثلاثة أيام وغيرها من ما هو معروف في أحكام السفر.

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/481-485) .

لا يجوز الفطر في رمضان إلا لعذر

وعلى هذا فنقول يجوز لك أن تفطر في هذه الحال. فإن الله تعالى قد أطلق في الآية (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ) [البقرة: 185] . ولم يقيده بشيء، وما أطلقه الله ورسوله، فإنه يجب العمل بمطلقه. فإذا قلت: كيف أصنع وأنا دائمًا في هذه المهنة أسافر دائمًا شتاءً وصيفًا؟ نقول لك: إذا كنت في أهلك في رمضان وجب عليك أن تصوم، وإذا كنت في غير أهلك، فأنت مسافر لا يجب عليك أن تصوم. ثم إنه من الممكن بأن نقول لك فائدة عظيمة، وهي: أنك بدل أن تصوم في هذا الحر الشديد تصوم في أيام الشتاء القصيرة المدة الباردة، وذلك أسهل لك والله أعلم (1) . لا يجوز الفطر في رمضان إلا لعذر - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: إذا كنت على سفر من أجل أعمال تجارية فوصلت إلى البلاد التى قصدتها في نهاية شهر شعبان فبقيت في هذا البلد حتى منتصف شوال هل يجوز لي الإفطار أم لا؟ فأجاب: لا يجوز الفطر في رمضان إلا لعذر كمشقة السفر والمرض، مع أن المسافر يفضل له أن يصوم، وهو الأكثر من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لكن مع المشقة له أن يفطر أخذًا برخصة الله. فأما المقيم في غير بلده: فإن كان على أهبة السفر فله القصر والفطر كما لو لم يستقر في البلد، بل بنى له خيمة في خارج البلد أو بقي في سيارته فهو يتضرر بالحر والشمس والريح، والتردد في قضاء حاجاته. أما إن استقر به النوى وسكن في فندق مكيف أو فى قصر منيف أو عمارة أو نحو ذلك وكملت عليه الحوائج والمرفهات وتمتع بما يتمتع به المقيمون من الفرش والسرر والأطعمة والمكيفات والخدمة التامة، فإنه في هذه الحالة مقيم ولا يصدق عليه السفر

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/489) .

حكم السفر في شهر رمضان تحايلا على الإفطار

الذي هو قطعة من العذاب. فمثل هذا لا أرى له الفطر ولا القصر بل هو أسوة المقيمين. والله أعلم (1) . حكم السفر في شهر رمضان تحايلاً على الإفطار - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: ما حكم السفر في شهر رمضان من أجل الإفطار، ونود أن نعرف كيف يكون ذلك؟ فأجاب: الصيام في الأصل واجب على الإنسان، بل هو فرض وركن من أركان الإسلام كما هو معروف. والشيء الواجب في الشرع، لا يجوز للإنسان أن يفعل حيلة ليسقطه عن نفسه، - فمن سافر من أجل أن يفطر كان السفر حراما عليه، وكان الفطر كذلك حراما عليه. فيجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن يرجع عن سفره ويصوم. فإن لم يرجع: وجب عليه أن يصوم وولو كان مسافرا. وخلاصة الجواب: أنه لا يجوز للإنسان أن يتحيَّل على الإفطار في رمضان بالسفر؛ لأن التحيل على إسقاط الواجب لا يسقطه، كما أن التحيل على المحرم لا يجعله مباحا (2) . حكم صيام الحائض النفساء - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: ما حكم الصيام للمرأة الحائض والنفساء، ويد أخرتا القضاء إلى رمضان آخر، فماذا يلزمهما؟ فأجاب: على الحائض والنفساء أن تفطر وقت الحيض والنفاس، ولا يجوز لهما الصوم ولا الصلاة في حال الحيض والنفاس، ولا يصحان منهما وعليهما قضاء الصوم دون الصلاة.

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 75-76) . (2) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 200، 201) .

لما ثبت عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنها سُئِلت: هَل تَقْضِي الحَائِض الصوم والصَّلاة؟ فَقَالت: كُنَّا نُؤْمَر بِقَضَاء الصَّومَ ولاَ نُؤْمَر بِقَضَاء الصَّلاة" متفق على صحته. وقد أجمع العلماء -رحمهم الله- على ما ذكرته عائشة -رضي الله عنها- من وجوب قضاء الصوم وعدم قضاء الصلاة في حق الحائض والنفساء، -رحمة من الله سبحانه لهما وتيسيرا عليهما-؛ لأن الصلاة تتكرر كل يوم خمس مرات، وفي قضائها مشقة عليهما. أما الصوم فإنما يجب في السنة مرة واحدة وهو صوم رمضان فلا مشقة في قضائه عليهما. ومن أخرت القضاء إلى ما بعد رمضان آخر لغير عذر شرعي، فعليها التوبة إلى الله من ذلك مع القضاء وإطعام مسكين عن كل يوم. وهكذا المريض والمسافر إذا أخرا القضاء إلى ما بعد رمضان آخر من غير عذر شرعي فإن عليهما القضاء والتوبة وإطعام مسكين عن كل يوم. أما إن استمر المرض أو السفر إلى رمضان آخر، فعليهما القضاء فقط دون الإطعام، بعد البرء من المرض، والقدوم من السفر (1) . - وسئل أيضًا فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-: إذا كانت المرأة حائضًا في رمضان أو في آخر فترة نفاس وطهرت من ذلك بعد الفجر من أحد أيَّام رمضان، فهل عليها أن تكمل صيام ذلك اليوم أم لا؟ وماذا عليها أن تفعل لو اغتسلت وبدأت في الصيام ثم ظهر شيء من ذلك بعد انتهاء المدة المعتادة لكل من الحيض والنفاس، هل تقطع صيامها، أم لا يؤثر ذلك عليه؟ فأجاب: أما بالنسبة للنقطة الأولى من السؤال: وهي ما إذا طهرت الحائض في أثناء النهار، أو النفساء طهرت في أثناء النهار، فإنها تغتسل وتصلي وتصوم بقية صومها، ثم تقضي هذا اليوم في فترة أخرى. هذا الذي يلزمها. وأما النقطة الثانية: وهي إذا انقطع دمها من الحيض ثم اغتسلت ثم رأت بعد ذلك

_ (1) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لابن باز (ص 172-173) .

جاءها الحيض في سن الحادية عشرة هل يلزمها الصوم؟

شيئًا: فإنها لا تلتفت إليه؛ لقول أم عطية -رضي الله عنها-: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئًا": فلا تلتفت إلى ذلك. أما بالنسبة للنفساء: فإذا كانت انقطع دمها قبل الأربعين، ثم اغتسلت، ثم عاد إليها شيء فإنها تعتبر نفساء، وهذا الذي عاد يعتبر من النفاس، لا يصح معه صوم ولا صلاة ما دام موجودًا؛ لأنه عاد في فترة النفاس. أما إذا كانت تكاملت الأربعين، واغتسلت، ثم عاد إليها شيء بعد الأربعين: فإنها لا تلتفت إليه إلا إذا صادف أيام عادتها قبل النفاس: فإنه يكون حيضًا. الحاصل: أن هذا لابد فيه من تفصيل: - إذا أكملت عادة الحائض، واغتسلت، ثم رأت شيئًا بعد ذلك: لا تلتفت إليه. - وإذا كانت عادتها لم تكمل، ورأت طهرًا في أثناء العادة، واغتسلت ثم عاد إليها الدم فإنها تعتبره حيضًا؛ لأنه جاءها في أثناء العادة. - وكذلك النفساء إذا كان عاد إليها في فترة الأربعين: فإنه يعتبر نفاسًا وإن كان عاد إليها بعد تمام الأربعين: فإنها لا تعتبره شيئًا، إلا إذا صادف أيام حيضها قبل النفاس وقبل الحمل (1) . جاءها الحيض في سن الحادية عشرة هل يلزمها الصوم؟ - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: فتاة أتاها الحيض في السنة الحادية عشر من عمرها فهل يلزمها الصيام مع ملاحظه أنها لا تتمتع بصحة جيدة وفى حالة عدم قدرتها على الصيام ما الذي يترتب عليها؟ فأجابت: إذا كان الواقع كما ذكرت لزمها الصيام؛ لأن الحيض من علامات بلوغ النساء إذا جاءها وهي في التاسعة من عمرها فأكثر. فإذا استطاعت الصيام وجب عليها أداؤه في وقته، وإذا عجزت أو نالها منه مشقة

_ (1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/131-132) .

النفساء والصوم

شديدة أفطرت ووجب عليها قضاء ما أفطرته من الأيام عند القدرة على ذلك (1) . - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: ما الحكم إذا طهرت الحائض في أثناء نهار رمضان؟ فأجاب: عليها الإمساك في أصح قولي العلماء لزوال العذر الشرعي وعليها قضاء ذلك اليوم كما لو ثبت رؤية رمضان نهارًا، فإن المسلمين يمسكون بقية اليوم، ويقضون ذلك اليوم عند جمهور أهل العلم. ومثلها المسافر: إذا قدم في اثناء النهار في رمضان إلى بلده، فإن عليه الإمساك في أصح قولي العلماء: لزوال حكم السفر مع قضاء ذلك اليوم. والله ولي التوفيق (2) . - وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: هل يجوز لي أن آكل حبوب منع العادة الشهرية في أواخر شهر رمضان المبارك لكي أكمل بقية الصيام؟ فأجاب: يجوز أكل دواء لمنع الحيض إذا كان القصد هو العمل الصالح، فإذا قصدت فعل الصيام في زمنه والصلاة مع الجماعة كقيام رمضان والاستكثار من قراءة القرآن وقت الفضيلة فلا بأس بأكل الحبوب لهذا القصد، فإن كان القصد مجرد الصيام حتى لا يبقى دينًا فلا أراه حسنًا، وإن كان مجزئًا للصوم بكل حال (3) . النفساء والصوم - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: أنا فتاة متزوجة ورزقني الله بولدين توأمين. انتهيت من الأربعين في اليوم السابع من رمضان ولكن الدم لا يزال مستمرا ولكن تغير لونه على ما قبل الأربعين فما حكم صلاتي وصيامي؟

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (3325) . (2) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/213) . (3) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 130/131) .

الدم الخارج بعد السقط هل يفطر

فأجاب: المرأة النفساء إذا بقي الدم معها فوق الأربعين وهو لم يتغير فإن صادف ما زاد عن الأربعين عادة حيضتها السابقة جلست وإن لم يصادف عادة حيضتها السابقة فقد اختلف العلماء في ذلك فمنهم من قال تغتسل وتصلي وتصوم ولو كان الدم يجري عليها؛ لأنها تكون حينئذٍ كالمستحاضة ومنهم من قال: إنها تبقى حتى تتم ستين يومًا؛ لأنه وجد من النساء من يبقى في النفاس ستين يوما، ويقال: إن بعض النساء كانت عادتها في النفاس ستين يومًا وبناءً على ذلك، فإنها تنتظر حتى تتم ستين يومًا ثم بعد ذلك ترجع للحيضة المعتادة (1) الدم الخارج بعد السقط هل يفطر - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: الدم الذي يخرج من الحامل إذا أسقطت الجنين هل يفطر؟ فأجاب: إن الحامل لا تحيض -كما قال الأمام أحمد- إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الحيض، والحيض كما قال أهل العلم: خلقه الله تبارك وتعالى لحكمة غذاء الجنين في بطن أمه، فإذ نشأ الحمل انقطع الحيض. لكن بعض النساء قد يستمر الحيض على عادته كما كان قبل الحمل فإذا كان ذلك فإن الحامل لا تصوم ولا تصلي لأن هذا حيض. وأما الدم الذي يخرج من الحامل إذا أسقطت الجنين: - فإن كان الجنين قد تبين فيه خلق إنسان، فالدم نفاس، فلا تصوم ولا تصلي وإذا اسقطت أثناء الصوم بطل صومها. - وإن كان الجنين أُسْقِط علقة أو مضغة لم يتبين أنها ابتداء خلق إنسان فالدم ليس نفاسًا، فتصوم وتصلي ولا حرج (2) .

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/499) . (2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/498-499) .

حكم صيام من أجهضت

حكم صيام من أجهضت - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: حدث في يوم من الأيام في رمضان هذا - أن سقط الجنين إثر إجهاض حصل لها وذلك نهارًا، وأتمت صيام هذا اليوم الذي حدث فيه سقوط الجنين، فما حكم صيامها هذا اليوم؟ وبعد الإفطار ذهبت للمستشفى وتم إجراء عملية تنظيف لأرحامها ولم تصم ذلك اليوم، فما حكم ذلك؟ والآن بعد خروجها من المستشفى هل تنتظر لحين طهرها أو تصوم؟ وإذا كانت تنتظر فما المدة المحددة لذلك؟ وهل تقضي فقط أو مع الإطعام؟ فأجابت: إذا كان الجنين الذي وضعته فيه خلق إنسان كاليد والرجل ونحوهما: فإنها تجلس مدة النفاس حتى تطهر أو تكمل أربعين يوما ثم تغتسل وتصلي وتقضي اليوم الذي وضعت فيه وما بعده من ايام الصيام الواجبة عليها، ولا إطعام عليها إن قضت الصيام قبل دخول رمضان الآخر، فإن طهرت قبل تمام الأربعين: اغتسلت وصلت وصامت؛ لزوال المانع من ذلك. فإن لم يكن شيء من خلق الإنسان: فإن صومها صحيح، ويعتبر الدم دم فساد، تصلي وتصوم معه، وتتوضأ لكل صلاة حتى تأتيها العادة المعروفة (1) . حكم صيام من أسقطت في الشهر الثالث - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: أسقطت امرأة في الشهر الثالث من حملها أول رمضان، وأفطرت خمسة أيام بعد الإسقاط لوجود الدم من أثر الإسقاط الظاهر استمر معها الدم في نفس الفرج وهو غير خارج منه، وقد استمرت على الصوم والصلاة خلال خمسة وعشرين يومًا فهل يصح الصوم والصلاة وهي على هذه الحالة مع العلم أنها تتوضأ وضوءاً كاملاً لكل صلاة ولاتزال على هذه الحالة حتى الان حيث تجد الدم والبلل منه في الفرج وتذكر أنها كانت تستعمل حبوب منع الحمل والحيض قبل أن تحمل؟

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (10653) .

متى طهرت النفساء فإنها تصوم وتصلي

فأجابت: إذا كان الواقع كما ذكرت من إسقاطها الحمل في الشهر الثالث من حملها فلا يعتبر دم نفاس؛ لأن ما نزل منها من الحمل إنما هو علقة لا يتبين فيها خلق آدمي، وعلى ذلك يصح صومها وتصح صلاتها وهي ترى الدم في الفرج ما دامت تتوضأ لكل صلاة كما ذكر في السؤال وعليها أن تقضي ما فاتها من الصوم والصلاة في الأيام الخمسة التي أفطرتها ولم تُصَلَّ فيها، مع العلم بأن هذا الدم يعتبر دم استحاضة. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) . وسئل سماحة الشيخ عبد العزنر بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: إذا طهرت النفساء خلال أسبوع ثم صامت مع المسلمين في رمضان أياما معدودة ثم عاد إليها الدم، هل تفطر في هذه الحالة وهل يلزمها قضاء الأيام التي صامتها والتي أفطرتها؟ فأجاب: إذا طهرت النفساء في الأربعين، فصامت أياما ثم عاد إليها الدم في الأربعين، فإن صومها صحيح، وعليها أن تدع الصلاة والصيام في الأيام التي عاد فيها الدم -لأنه نفاس- حتى تطهر أو تكمل الأربعين، ومتى أكملت الأربعين وجب عليها الغسل وإن لم تر الطهر؛ لأن الأربعين، هي نهاية النفاس في أصح قولي العلماء، وعليها بعد ذلك أن تتوضأ لوقت كل صلاة حتى ينقطع عنها الدم، كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك المستحاضة، ولزوجها أن يستمتع بها بعد الأربعين وإن لم تر الطهر؛ لأن الدم -والحال ما ذكر- دم فساد لا يمنع الصلاة ولا الصوم، ولا يمنع الزوج من استمتاعه بزوجته، لكن إن وافق الدم بعد الأربعين عادتها في الحيض، فإنها تدع الصلاة والصوم وتعتبره حيضا. والله ولي التوفيق (2) . متى طهرت النفساء فإنها تصوم وتصلي - وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: إذا وضعت قبل رمضان بأسبوع مثلاً وطهرتُ قبل أن أكمل الأربعين هل يجب عليّ الصيام؟

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (1795) . (2) "مجموع فتاوي الشيخ ابن باز" (3/123) .

صيام الحامل والمرضع

فأجاب: نعم، متى طهرت النفساء وظهر منها ما تعرفه علامة على الطهر وهي القصة البيضاء أو النقاء الكامل، فإنها تصوم وتصلي ولو بعد الولادة بيوم أو اسبوع، فإنه لا حد لأقل النفاس، فمن النساء من لا ترى الدم بعد الولادة أصلاً، وليس بلوغ الأربعين شرطًا، وإذا زاد الدم على الأربعين ولم يتغير فإنه يعتبر دم نفاس تترك لأجله الصوم والصلاة. والله أعلم (1) . صيام الحامل والمرضع - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: هل يباح الفطر للمرأة الحامل والمرضع وهل يجب عليهما القضاء أم هناك كفارة عن فطرهما؟ فأجاب: الحامل والمرضع حكمها حكم المريض، إذا شق عليهما الصوم شرع لهما الفطر، وعليهما القضاء عند القدرة على ذلك، كالمريض، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يكفيهما الإطعام، عن كل يوم: إطعام مسكين، وهو قول ضعيف مرجوح، والصواب أن عليهما القضاء كالمسافر والمريض، لقول الله عز وجل: (فَمَن كَانَ مِنكُم مًرِيضا أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدةٌ منْ أَيَّام أُخَرَ) [البقرة: 184] ، وقد دل على ذلك أيضًا حديث أنس ابن مالك الكعبي: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَ الله وَضَعَ عن المُسافر الصَّوم وَشَطر الصلاة، وعن الحبلى والمُرضِع الصَّوم" رواه الخمسة (2) . حكم الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما - وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: من المشهور فى مذهب الحنابلة أن الجاهل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينًا ولا تقضيان. ما قول فضيلتكم في ذلك؟ فأجاب: أما كونها تفطر وتكفِّر فهذا هو المشهور، وأما كونها لا تقضي فهذا ليس

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 130) . (2) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لابن باز (ص 171) .

بصحيح؛ بل الصحيح أنها تقضي وتطعم. وهذا مروي عن ابن عباس وعليه فسر الآية وهي قول الله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطيقونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسكِين) [البقرة: 184] . فروي عن ابن عباس وغيره من السلف: أن هذه الآية باقية لم تُنْسَخ وأنها إما في حقِّ الكبير الذي يشق عليه الصيام مع كونه يطيقه فَيُطْعم ولا صيام عليه، وكذا المريض الذي لا يرجى برؤه، وإما في حق المرأة الحامل أو المرضع التي تخاف على ولدها؟ جنينها في بطنها أو رضيعها، تخاف عليه ألا يجد لبنًا أو لا يجد قوتًا وغذاء فتفطر لأجل غيرها، ففي هذه الحال إذا افطرت فإنها تكفر لكونها أفطرت من غير مرض ولكونها تطيق الصيام، بعد زوال العذر تصومه أي تقضي وتطعم. هذا هو المشهور، والرواية التي فيها أنها لا تطعم رواية ضعيفة؟ لأنها لا تقضي، أما الرواية التي فيها أن تطعم وتقتصر على الإطعام، فهي رواية ضعيفة، سواء كانت عن ابن عباس أو كانت عن الإمام أحمد فلا تثبت بل الثابت والمشهور أنه لابد من القضاء مع الإطعام (1) . حكم الحامل إذا خافت على نفسها أو خافت على ولدها - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: الحامل إذا خافت على نفسها أو خافت على ولدها فهل لكل حال حكم في الصيام؟ فأجاب بقول: المرأة الحامل لا تخلو من حالين: إحداهما: أن تكون قوية نشيطة لا يلحقها في الصوم مشقة ولا تأثير على جنينها، فهذه المرأة يجب عليها أن تصوم؟ لأنه لا عذر لها في ترك الصيام. والحالة الثانية: أن تكون المرأة غير مُتَحَمِّلة للصيام لثقل الحمل عليها أو لضعفها في جسمها أو لغير ذلك. وفي هذا الحال تفطر لا سيما إذا كان الضرر على جنينها، فإنه يجب عليها الفطر حينئذٍ. وإذا افطرت فإنها كغيرها ممن يفطر بعذر، يجب عليها قضاء الصوم متى زال ذلك العذر عنها، فإذا وضعت وجب عليها قضاء الصوم بعد أن تطهر من النفاس.

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (131/132) .

صيامك وأنت حامل ومعك نزيف لا يؤثر على الصيام

ولكن أحيانا يزول عذر الحمل ويخلفه عذر آخر وهو عذر الرضاع فإن المرضع قد تحتاج الأكل والشرب لا سيما في أيام الصيف الطويلة النهار الشديد الحر، فإنها قد تحتاج إلى أن تفطر لتتمكن من تغذية ولدها بلبنها وفي هذه الحالة نقول لها: أفطري وإذا زال عنك العذر فإنك تقضين ما فاتك من الصوم. وقد ذكر بعض أهل العلم أنه إذا كان إفطار الحامل والمرضع من أجل الخوف على الولد فقط دون الأم، فإنه يجب عليها مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم يدفعه من عليه نفقة هذا الطفل. وفي معنى ذلك -أي في معنى الحامل والمرضع التي تفطر خوفا على الولد- من أفطر لإنقاذ غريق أو حريق ممن يجب إنقاذه فإنه يفطر ويقضي. مثلاً: رأيت النار تلتهم هذا البيت وفيه أناس مسلمون ولا يمكنك أن تقوم بالواجب -واجب الإنقاذ- إلا إذا أفطرت وشربت لتتقوى على إنقاذ هؤلاء فإنه يجوز لك بل يجب عليك في بهذا الحال أن تفطر لإنقاذهم. ومثله: هؤلاء الذين يشتغلون بالإطفاء: فإنهم إذا حصل حريق بالنهار وذهبوا لإنقاذه ولم يتمكنوا منه إلا أن يفطروا ويتناولوا ما تقوى به أبدانهم فإنهم يفطرون ويتناولون ما تقوى به أبدانهم؛ لأن هذا شبيه تماما بالحامل التي تخاف على جنينها أو المرضع التي تخاف على طفلها. والله تبارك وتعالى حكيم لا يفرق بين شيئين متماثلين في المعنى بل يكون حكمهما واحدا، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية، وهو عدم التفريق بين المتماثلين وعدم الجمع بين المختلفين والله عليم حكيم (1) . صيامك وأنت حامل ومعك نزيف لا يؤثر على الصيام - وسئلت أيضًا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: في شهر رمضان الكريم كنت حاملاً وصار معي نزيف في 20 رمضان وأنا لا أكلت ولا

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/487-488) .

حكم المرأة الحامل التي لا تطيق الصوم

شربت صائمة، وأفطرت أربعة أيام وأنا في المستشفى وبعد رمضان صمت الذي أفطرت، هل أصوم ثانية والطفل لا زال في بطني أفيدوني أفادكم الله. فأجابت: صيامك وأنت حامل ومعك نزيف لا يؤثر على الصيام كالاستحاضة، والصيام صحيح، والأيام الأربعة التي أفطرتها في المستشفى ثم قضيتها بعد رمضان يكفيك ذلك ولا يلزمك صيامها مرة ثانية. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) . حكم المرأة الحامل التي لا تطيق الصوم - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: امرأة حامل لا تطيق الصوم فماذا تفعل؟ فأجاب: حكم الحامل التي يشق عليها الصوم حكم المريض، وهكذا المرضع إذا شق عليهما الصوم تفطران وتقضيان، لقول الله سبحانه (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَير فَعِدَة منْ أَيَّام أُخَرَ) [البقرة: 185] . وذكر بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن عليهما الإطعام فقط. والصواب الأول، وأن حكمهما حكم المريض؛ لأن الأصل وجوب القضاء ولا دليل يعارضه. ومما يدل على ذلك: ما رواه أنس بن مالك الكعبي -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن الله وَضَعَ عن المسُافر الصَّوم وشَطر الصلاة وعن الحُبلَى والمُرضِع الصَّوم" رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربع بإسناد حسن، فدل على أنهما كالمسافر في حكم الصوم تفطران وتقضيان. أما القصر فهو حكم يختص بالمسافر لا يشاركه فيه أحد، وهو صلاة الرباعية ركعتين وبالله التوفيق (2) .

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (13168) . (2) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/207-308) .

لم تصم ثلاث رمضانات بسبب الولادة والحمل

الحكم إذا رأت الحامل الدم في رمضان وصامت وسئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-: إذا رأت الحامل الدم في رمضان، وصامت، فما الحكم؟ فأجاب: هذا مبني على أن الدَّم الذي يأتي المرأة الحامل، دم فساد، كما هو المشهور في المذهب، فعليه: لا تفطر بل يجب عليها الصيام والصلاة، أو هو حيض كما هو في الرواية الثانية عن الإمام أحمد، وهي الصحيحة فيكون حيضاً، تترك له الصلاة والصيام، فإن صامت قضت، وهذا هو المختار، والله أعلم (1) . لم تصم ثلاث رمضانات بسبب الولادة والحمل - وسئلت أيضا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: منذ ثلاث سنوات وزوجتي تلد في بداية شهر رمضان المبارك ولم تصم ثلاثة شهور من رمضان، أفيدونا ما هي الكفارة؟ فأجابت: يجب عليها أن تبادر إلى قضاء ما عليها من صيام رمضان للسنوات الثلاث الماضية، كما يجب عليها أن تطعم عن كل يوم مسكينا مقدار نصف صاع من بُرًّ أو أرز ونحوهما من قوت البلد: وذلك لتأخيرها القضاء حتى دخل رمضان آخر إذا كانت أخرت القضاء وهى قادرة عليه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (2) . حكم من رؤي مفطرًا في مكة في رمضان - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:

_ (1) "الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي" (ص 228) . (2) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (10727) .

هل يفطر من يعمل في الأفران

عمن رؤي مفطرًا في مكة في رمضان؟ فأجاب: وجود شخص يُفْطر في مكة، في مثل هذا اليوم ليس بغريب؛ لأن مكة فيها الآفاقي، وفيها المواطن الذي من أهل مكة. والآفاقي يجوز له إذا كان قد أتى إلى العمرة وسيرجع إلى بلده، يجوز له أن يُفْطر، فهذا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلم الناس بالله وأخشاهم له فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة في اليوم العشرين من رمضان، فصادف بقاؤه في مكة العشر الأواخر من رمضان ولم يصم. ثبت ذلك عنه في صحيح البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهو قد بقي في مكة تسعة عشر يوما يقصر الصلاة، عشرة منها في رمضان وتسعة في شوال. فهذا الرجل الذي يفطر الآن ليس بغريب. وهذه المسألة مسألة يَجْهَلُها الناس يظن الناس أن من قدم إلى مكة لزمه الإمساك وأنه لا يجوز أن يفطر وهذا ظن غير صحيح بل للمسافر أن يفطر حتى يرجع إلى بلده (1) . هل يفطر من يعمل في الأفران وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: في قريتنا شخص يعمل في طابونة (فرن) للرغيف وهو رجل يصلي ويصوم رمضان والحمد لله ولكنه سألني هل يجوز له أن يفطر في رمضان؟ علمًا بأنه يواجه حر النار الشديد وهو يصنع الرغيف طوال ساعات النهار وهو صائم، لذلك فهو يواجه عطشًا شديدًا وإرهاقًا في العمل، فأرجو من سماحتكم التكرم بالإجابة الشافية على ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى. فأجابت: لا يجوز لذلك الرجل أن يفطر بل الواجب عليه الصيام وكونه يخبز في نهار رمضان، ليس عذرًا للفطر، وعليه أن يعمل حسب استطاعته. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (2) .

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/491-492) . (2) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء" رقم (13489) .

وسئلت أيضًا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: نحمد الله تعالى ونصلي ونسلم على نبيه الكريم ونسأله جل شأنه أن يعز الإسلام والمسلمين وأن يحمي الدين من أعداء الله، والمركز الإسلامي -كما تعلمون- واجهة للإسلام والمسلمين في هذه البلاد وقد وصلتنا من أحد المعاهد العلمية التابعة لجامعة توينجن في ألمانيا الغربية (معهد دراسات طب العمل والطب الاجتماعي) رسالة فيها بعض الاستفسارات الفقهية بما يخص شهر رمضان والصيام فيه، ونحن لشعورنا بأهمية هذا الموضوع وبحساسية الأمر آثرنا استشارتكم وسؤالكم رغبة منا في الوصول إلى أكبر قدر من الصواب بتوفيق من الله سبحانه. والأسئلة التي وصلتنا كالتالي: ما حكم الشرع الإسلامي في حالة العمال الذين يعملون في أعمال مرهقة بدنيًّا خاصة في شهور الصيف، أعطي مثالاً لمن يعملون أمام أفران صهر المعادن صيفًا، ما حكم الشرع في الصيام في المناطق الشمالية من الكرة الأرضية حيث لا تغيب الشمس إلا غيابًا قصيرًا جدًا قد لا يتعدى دقائق أو حيث لا تغيب الشمس مطلقًا في البلاد الاسكندنافية؟ ونريد أن نلفت نظر فضيلتكم إلى أن الأمر قد يستغل من جانب السلطات هنا لاستخراج أو لاستصدار قوانين لتطبيقها على العمال الأجانب في ألمانيا والذين يتراوح عدد المسلمين منهم أكثر من مليون ونصف على أضعف التقديرات، ونحن نخشى أن إجابة هذه الأسئلة -دون الالتفات إلى هذا الأمر- قد يؤدي إلى فتنة المسلمين المقيمين في هذه البلاد وأغلبهم ممن يجهلون الأحكام الشرعية في دينهم. فأجابت: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن صيام شهر رمضان فرض على كل مكلف وركن من أركان الإسلام، فعلى كل مكلف أن يحرص على صيامه تحقيقًا لما فرض الله عليه، رجاء ثوابه وخوفا من عقابه دون أن ينسى نصيبه من الدنيا، ودون أن يؤثر دنياه على أخراه، وإذا تعارض أداء ما فرضه الله عليه من العبادات مع عمله لدنياه وجب عليه أن ينسق بينهما حتى يتمكن من القيام بهما جميعا، ففي المثال المذكور في السؤال يجعل الليل وقت عمله لدنياه، فإن لم يتيَسَّر ذلك أخذ إجازة من عمله شهر رمضان ولو بدون مرتب فإن لم يتيسر ذلك بحث عن عمل آخر يمكنه فيه الجمع بين أداء الواجبين ولا يؤثر جانب دنياه على جانب آخرته، فالعمل كثير وطرق كسب المال ليست قاصرة على مثل ذلك النوع من الأعمالْ الشاقة ولن يعدم المسلم وجهًا من وجوه الكسب المباح الذي يمكنه معه القيام بما فرضه الله عليه من العبادة بإذن الله، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُُ مخْرَجًا

صوم العاملين في مجال الحديد والصلب

وَيرزُقْهُ مِنْ حَيثُ لاَ يَحْتَسِبْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللُّهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيء قَدْرًا) [الطلاق: 2، 3] . وعلى تقدير أنه لم يجد عملاً دون ما ذكر مما فيه حرج وخشي أن تأخذه قوانين جائرة وتفرض عليه ما لا يتمكن معه من إقامة شعائر دينه أو بعض فرائضه فليفر بدينه من تلك الأرض إلى أرض يتيسر له فيها القيام بواجب دينه ودنياه ويتعاون فيه مع المسلمين على البر والتقوى فأرض الله واسعة، قال الله تعالى: (وَمَن يُهَاجِر فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضْ مُرَاغَمًا كثيَرًا وَسَعَة) الآية [النساء: 100] وقال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيرِ حِسَاب) [الزمر: 10] . فإذا لم يتيسر له شيء من ذلك كله واضطر إلى مثل ما ذكر في السؤال من العمل الشاق صام حتى يحس بمباديء الحرج فيتناول من الطعام والشراب ما يحول دون وقوعه في الحرج ثم يمسك وعليه القضاء في أيام يسهل عليه فيها الصيام (1) . صوم العاملين في مجال الحديد والصلب - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: نطلب من سماحة الشيخ النظر في الفتوى التي جاءت ضمن التوصيات بخصوص ما يرخصه الشرع للعاملين في معامل مركبات الحديد والصلب بالإفطار في رمضان؟ فأجاب: نفيدكم أن الأصل وجوب صوم رمضان، وتبييت النية له من جميع المكلفين من المسلمين قبل أن يصبحوا صائمين، إلا من رخّص لهم الشارع بأن يصبحوا مفطرين، وهم المرضى والمسافرون ومن في معناهم. أما أصحاب الأعمال الشاقة فإنهم داخلون ضمن المكلفين، وليسوا في معنى المرضى والمسافرين، فيجب عليهم تبييت نية صوم رمضان بأن يصبحوا صائمين. ومن اضطر منهم للفطر أثناء النهار فيجوز له أن يفطر بما يدفع اضطراره، ثم يمسك بقية يومه في

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء" رقم (4316) .

من أخذ شيء من ماله ولا يقدر عليه إلا بالفطر

الوقت المناسب. ومن لم تحصل له ضرورة وجب عليه الاستمرار في الصيام، هذا ما تقتضيه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وما دلَّ عليه كلام المحققين من أهل العلم من جميع المذاهب وعلى ولاة أمور المسلمين الذين يوجد عندهم أصحاب أعمال شاقة كالمسألة المسؤول عنها أن ينظروا في أمرهم إذا جاء رمضان، فلا يكلفوهم من العمل -إن أمكن- ما يضطرهم إلى الفطر في نهار رمضان بأن يجعل العمل ليلاً أو تُوَزَّعَ ساعات العمل في النهار بين العمال توزيعًا عادلاً يستطيعون به الجمع يين العمل والصيام. أما الفتوى المشار إليها فهي في قضية فردية أفتوا فيها باجتهادهم مشكورين إلا أنه فاتهم ذكر القيود التي ذكرنا والتي قرَّرها المحققون من أهل العلم في كل مذهب. نسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه الخير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) . من أخذ شيء من ماله ولا يقدر عليه إلا بالفطر وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-: عن فطر من أخذ شيء من ماله، ولا يقدر عليه إلا بالفطر؟ فأجاب: أما إذا أخذ غنم أو غيرها لأهل بلد، ولا يقدر أهل البلد على لحوق المأخوذ إلا بالفطر، فإنه جائز فيما نرى (2) . يفطر لإنقاذ غيره من مهلكة وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-: هل يقاس على الحامل إذا خافت على ولدها -هل يقاس عليها- من أفطر مثلاً لإنقاذ غيره، يعني: بأن يقضي وعليه إطعام؟ فأجاب: نعم؛ يفطر لإنقاذ غيره من مهلكة إذا استدعى الأمر أن يفطر ولا يتمكن من إنقاذ غيره من المهلكة إلا بالإفطار؛ فله أن يفطر ويقضي (3) .

_ (1) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/233-234) . (2) "الدرر السنية في الفتاوى النجدية" (5/348) . (3) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح فوزان" (3/141) .

الفطر بسبب الامتحانات لا يجوز

الفطر بسبب الامتحانات لا يجوز وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: هل الامتحان عذر يبيح الإفطار في رمضان؟ لأنه انتشرت عندنا بعض الفتاوى بإباحة الفطر في رمضان لمن خاف شرود ذهنه وعدم تركيزه، وهل يجوز طاعة الوالدين في الفطر لسماعهم هذه الفتاوى التي تجيز الفطر؟ نرجو من فضيلتكم الرد بسرعة لعموم البلوى بهذه الفتاوى وجزاكم الله خيرًا. فأجابت: الامتحان المدرسي ونحوه لا يعتبر عذرًا مبيحًا للإفطار في نهار رمضان، ولا يجوز طاعة الوالدين في الإفطار للامتحان؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما الطاعة بالمعروف، كما جاء بذلك الحديث الصَّحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) . - وسئل أيضًا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: إذا كان امتحان الشهادة الثانوية في رمضان فهل يجوز للطالب أن يفطر في رمضان حتى يستطيع أن يركز في الامتحان؟ فأجاب: لا يجوز للمكلف الإفطار في رمضان من أجل الامتحان، لأن ذلك ليس من الأعذار الشرعية بل يجب عليه الصوم وجعل المذاكرة في الليل إذا شق عليه فعلها في النهار. وينبغي لولاة أمر الامتحان أن يرفقوا بالطلبة وأن يجعلوا الامتحان في غير رمضان، جمعًا بين مصلحتين: 1- مصلحة الصيام. 2- التفرغ للإعداد للامتحان. وقد صحَّ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "اَّللهم مَن وَلِي مِن أَمْر أُمتي شَيئًا فَرَفَقَ بِهِم فَارفق

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (9601) .

به، وَمَن وَلِي مِن أَمْر أمتي شيئًا، فشق عليهم فاشقق عليه" أخرجه مسلم في "صحيحه". فوصيتي للمسؤولين عن الامتحان أن يرفقوا بالطلبة والطالبات وألا يجعلوه في رمضان بل قبله أو بعده ونسأل الله للجميع التوفيق (1) . وسئل أيضًا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: عما وقع من رجل في حال الجهل، وهو أنه جامع زوجته في نهار رمضان وهو صائم عدة مرات، ثم سمع بعد ذلك أنه لا يجوز الجماع في حال الصوم؟ فأجاب: لا شك أن الله سبحانه قد حرم على عباده في نهار رمضان الأكل والشرب والجماع، وكل ما يفطر الصائم، وأوجب على من جامع في نهار رمضان -وهو مكلف صحيح مقيم غير مريض ولا مسافر- الكفارة، وهو عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد. أما من جامع في نهار رمضان، وهو ممن يجب عليه الصيام، لكونه بالغا صحيحًا مقيما -جهلا منه- كمثل ما وقع منك. فقد اختلف أهل العلم في شأنه: - فقال بعضهم: عليه الكفارة؛ لأنه مفرط في عدم السؤال، والتفقه في الدين. - وقال آخرون من أهل العلم: لا كفارة عليه من أجل الجهل. وبذلك تعلم أن الأحوط لك هو الكفارة، من أجل تفريطك وعدم سؤالك عما يحرم عليك قبل أن تفعل ما فعلت. لاذا كنت لا تستطيع العتق والصيام، كفاك إطعام ستين مسكينًا عن كل يوم جامعت فيه، فإذا جامعت في يومين فكفارتان، وإن كنت جامعت في ثلاثة أيام فثلاث كفارات.

_ (1) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (1/162-163) .

حكم من جامع زوجته في نهار رمضان وهي حائض

وهكذا كل جِماع في يوم عنه كفارة، أما الجِمَاعات المتعددة في يوم واحد فيكفي عنها كفارة واحدة، هذا هو الأحوط لك والأحسن، حرصًا على براءة الذمة، وخروجا من خلاف أهل العلم، وجبرًا لصيامك. وإذا لم تحفظ عدد الأيام التي جامعت فيها، فاعمل بالأحوط وهو الأخذ بالزائد، فإذا شككت هل هي ثلاثة أيام أو أربعة، فاجعلها أربعة وهكذا ولكن لا يتأكد عليك إلا الشيء الذي تجزم به. وفقنا الله وإياك لما فيه رضاه، وبراءة الذمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) . حكم من جامع زوجته في نهار رمضان وهي حائض وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: امرأة في الكويت تسأل قالت: جامعني زوجي في النهار في يوم من أيام شهر رمضان المبارك وأنا حائض وزوجي صائم فما الحكم؟ فأجابت: هذا السؤال يشتمل على مسألتين: الأولى: أن هذا الزوج جامع زوجته في نهار شهر رمضان. والجواب عن ذلك: أن عليه القضاء والكفارة، مع التوبة إلى الله سبحانه فيقضي يومًا بدلاً عن اليوم الذي جامع فيه. وأما الكفارة: فعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا. أما وجوب القضاء: فمما رواه ابن ماجه بسنده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأعرابي الذي جامع زوجته في نهار رمضان: "وصُم يَوْما مَكَانَه" وأما وجوب الكفارة: فلما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السنن وغيرها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال

_ (1) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/199-200) .

حكم الصائم إذا جامع وهو مسافر

للأعرابي الذي جاء زوجته في نهار رمضان "أعتق رقبة". قال: لا أجد، قال: "صم شَهْرَين مُتتابِعَين"، قال: لا أستطيع، قال: "أَطْعِم سِتِّين مِسكينًا" الحديث. وليس على المرأة شيء؛ لأن وجوب أداء الصيام ساقط في حقها للحيض. وأما المسألة الثانية، فهي: أنه جامع زوجته وهي حائض. والجواب: عليه دينار أو نصفه؛ لحديث ابن عباس: "يَتَصَدَّق بِدِينار أو نِصْفُه" رواه أحمد والترمذي وأبو داود، وقال: هكذا الرواية الصحيحة والمراد بدينار: مثقال من الذهب مضروبًا كان أو غيره، أو قيمته من الفضة. وهذه المرأة إن كانت مطاوعة، فعليها الكفارة كالرجل، وعليهما جميعًا التوبة إلى الله سبحانه من الجماع في الحيض. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) حكم الصائم إذا جامع وهو مسافر - وسئل العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-: "إن الله سبحانه وتعالى أباح الفطر على المسافر. إن كان أهله معه ثم جامع أهله وهو بالسفر نهارًا، فما يكون الحكم الشرعي؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا، ونسترحم إفادتنا، ننتظر ذلك بفارغ الصبر؟ فأجاب: إذا كان مسافرًا سفر قصر، وكان ذلك السفر غير سفر معصية فإن له الفطر في نهار رمضان، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، بل عند طائفة من العلماء أنه لا يجزيه لو صام عن صيام رمضان والنصوص من الكتاب والسنة الدالة على فطره بالسفر المذكور لم تفرق في تعاطيه المفطرات بين أكل وشرب وجماع، بل له تعاطي الجميع من غير فرق، وحينئذ فهذا المجامع المذكور فى السؤال لا يلزمه شيء.

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (305) .

استعمال العادة السرية في نهار رمضان مفسد للصوم

بل هنا مسألة أبلغ من ذلك: وهي أنه لو صام في السفر ثم جامع في هذا الصيام فسد صومه فقط، ولا كفارة عليه لوطئه المذكور: لأنه محكوم بفطره من حين عزم على الجماع. والله أعلم (1) . استعمال العادة السرية في نهار رمضان مفسد للصوم وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: في رمضان السابق وأنا صائم وقعت في العادة السرية فماذا يجب علي؟ فأجاب: عليك أن تتوب إلى الله من هذه العادة لأنها محرمة على أصح القولين لأهل العلم لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُمْ فَإِنَهم غَيرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون: 5- 7] ، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يَا مَعْشَر الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاع مِنْكُم البَاءَة فَلْيتزوج فَإِنهُ أَغَض للبَصَر وَأَحْصَن للفَرج فَمَن لَم يَستَطِع فَعَلَيه بالصُّوم فإنه لَهُ وِجاء" فأرشد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشباب الذين لا يستطيعون الباءة إلى الصوم، والصوم فيه نوع من المشقة بلا شك، ولو كانت العادة السرية جائزة لأَرشدَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليها، لأنها أهون على الشباب، ولأن فيها شيئا من المتعة، وما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعدل عن الأسهل إلى الأشق لو كان الأسهل جائزا، لأنه كان من عادته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما (2) . فَعُدُول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأيسر في هذه المسألة يدل على أنه ليس بجائز. أما بالنسبة لعمله إياها وهو صائم في رمضان، فإنه يزداد إثما لأنه بذلك أفسد صومه، فعليه أن يتوب إلى الله توبتين، توبة من عمل العادة السرية، وتوبة لافساد صومه. وعليه أن يقضي هذا اليوم الذي أفسده.

_ (1) "فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/196-197) . (2) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/171-172) .

خروج المني في نهار رمضان

وسئل أيضًا -حفظه الله-: شاب استمنى في رمضان جاهلاً بأنه يفطر وفي حالة غلبت عليه شهوته، فما الحكم؟ فأجاب: الحكم أنه لا شيء عليه، لأننا قررنا فيما سبق أنه لا يفطر الصائم إلا بثلاثة شروط: العلم -الذكر- الإرادة. ولكني أقول: أنه يجب على الإنسان أن يصبر على الاستمناء، لأنه حرام لقول الله تعالى: (وَالذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِم أَوْ مَا مَلَكَتْ آَيمَانُهُم فَإِنَّهُم غَير مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون: 5- 7] . ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يَا مَعْشَر الشَّبَاب، مَنْ اسْتَطاعَ مِنكُم الباءَة فَلْيتَزَوج، فإنه أَغَضّ للبَصَر، وَأَحْصَن للفَرْج، وَمَن لَم يَسْتَطِع فَعَلَيه بِالصَّوم" ولو كان الاستمناء جائزا لأرشد إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأنه أيسر على المكلف، ولأن الإنسان يجد فيه متعة، بخلاف الصوم ففيه مشقة، فلما عدل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصوم، دلَّ هذا على أنه ليس بجائز (1) . خروج المني في نهار رمضان وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله: رجل عنده سلس البول فأراد أن يجفف ذَكَره فخرج منه منى في نهار رمضان؟ فأجاب: إذا كان هذا الذي خرج منه شهوة يعني إذا حاول أن يفْرِغ البول من المكان فحصلت عنده شهوة فأنزل فإن صومه يفسد، لأن إنزال المني بشهوة بفعل من الصائم من المفطرات أما إذا كان هذا بغير شهوة فإن صومه صحيح ولا قضاء عليه (2) . وسئلت أيضًا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: أشكو نزول السائل المنوي في أيام رمضان أثناء الصيام بدون أي احتلام أو ممارسة العادة السرية فهل في هذا تأثير على الصوم؟ أفيدونا أفادكم الله.

_ (1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/172/173) . (2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/507) .

حكم من قبل أو لمس وهو صائم فأمنى أو أمذى

فأجابت: إذا كان الأمر كما ذكر فإن نزول المني منك بدون لذة في نهار رمضان لا يؤثر على صيامك وليس عليك القضاء (1) . حكم من قبَّل أو لمس وهو صائم فأمنى أو أمذى وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-: عمن قَبل أو لمس وهو صائم فأمنى أو أمذى.. إلخ؟ فأجاب: المشهور في مذهب أحمد، أنه يفطر بذلك، وفقا لمالك، واختار الشيخ تقى الدين أنه لا يفطر بذلك، وفقا لأبي حنيفة والشافعي والله أعلم (2) . حكم من قبل زوجته فأمذى هل يفسد صومه؟ وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عما إذا قبل زوجته، أو ضمها، فأمذى، هل يفسد ذلك صومه أم لا؟ فأجاب: يفسد الصوم بذلك، عند أكثر العلماء (3) . - وسئل أيضا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: هل خروج المذي لأي سبب كان يفطر الصائم أم لا؟ فأجاب: لا يفطر الصائم بخروجه منه في أصح قولي العلماء (4) . - وسئل أيضًا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: هل خروج المذي يعد ناقضا من نواقض الصيام يوجب القضاء؟ فأجاب: فيه خلاف، والذي يميل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن من

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (10645) . (2) "الدرر السنية فى الأجوبة النجدية" (5/352) . (3) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/265) . (4) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/245) .

حكم من سحب منه دم وهو صائم

خرج منه المذي فإنه لا يقضي لأنه قد يكون أمرا أغلبيا يكثر فى الشباب ونحوهم بمجرد نظر أو لمس أو غير ذلك فيعظم الضرر بإلزامهم بالقضاء. والصحيح أن نقول: إن كان خروجه عن تسبب وتعمد فإنه يقضي، وإن كان عن غير تسبب كنظر الفجاءة أو لمس من غير قصد فثارت منه الشهوة فإنه لا يقضي. والله أعلم (1) . حكم من سحب منه دم وهو صائم - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: ما حكم من سحب منه دم وهو صائم في رمضان وذلك بغرض التحليل من يده اليمنى ومقداره (برواز) متوسط؟ فأجاب: مثل هذا التحليل لا يفسد الصوم بل يعفى عنه، لأنه مما تدعو الحاجة إليه وليس من جنس المفطرت المعلومة من الشرع المطهر (2) . - وسئل أيضًا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل سحب الدم بكثرة يؤدي إلى إفطار الصائم؟ فأجاب: سحب الدم بكثرة إذا كان يؤدي إلى ما تؤدي إليه الحجامة من ضعف البدن واحتياجه للغذاء، حكمه كحكم الحجامة، وأما ما يخرج بغير اختيار الإنسان مثل أن تجرح الرجل فتنزف دما كثيرا فإن هذا لا يضر لأنه ليس بإرادة الإنسان (3) التبرع بالدم: هل يفطر الصائم؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله: إذا أخذ شيء من الدم لغرض؟

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (53) . (2) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (2/163) . (3) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/175) .

هل الفصاد في نهار رمضان يفسد الصوم؟

فأجاب: إذا أخذ الإنسان شيئًا من الدم قليلاً لا يؤثر في بدنه ضعفًا فإنه لا يفطر بذلك سواء أخذه للتحليل أو لتشخيص المرض، أو أخذه للتبرع به لشخص يحتاج إليه. أما إذا أُخذ من الدم كمية كبيرة يلحق البدن بها ضعف فإنه يفطر بذلك، قياسا على الحجامة التي ثبتت السنة بأنها مفطرة للصائم. وبناء على ذلك فإنه لا يجوز للإنسان أن يتبرع بهذه الكمية من الدم وهو صائم صومًا واجبًا، إلا أن يكون هناك ضرورة فإنه في هذا الحال يتبرع به لدفع الضرورة ويكون مفطرًا يأكل ويشرب بقية يومه ويقضي بدل هذا اليوم. وذكرت هذا التفصيل وإن كان السؤال يختص بنهار رمضان.. وبناء على ذلك فإنه إذا كان صائمًا في نهار رمضان فإنه لا يجوز أن يتبرع بدم كميته كثيرة بحيث يلحق بدنه منها ضعف إلا عند الضرورة فإنه يتبرع بذلك، ويفطر بقية يومه ثم يقضي بدله يومًا آخر (1) . هل الفصاد في نهار رمضان يفسد الصوم؟ وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن الفصاد في شهر رمضان، هل يفسد الصوم أم لا؟ فأجاب: إن أمكنه تأخير الفصاد أخَّره، وإن احتاج إليه لمرض افتصد وعليه القضاء في أحد قولي العلماء. والله أعلم (2) . وسئل أيضًا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: هل الحجامة من مبطلات الصيام؟ فأجاب: هذه مسألة خلافية: ذهب "الإمام أحمد" إلى أن الحاجم والمحجوم يفطران إذا ظهر من المحجوم دم؛ إذا كانا -الحاجم والمحجوم- عامدين ذاكرين لصومهما.

_ (1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/174-175) . (2) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/268) .

واستدل -رحمه الله- بأحاديث مرفوعة وردت في ذلك عن جماعة من الصحابة بلفظ: "أَفْطَر الحَاجِم والمحجُوم". وهذا الحديث قال فيه بعضهم: إنه يبلغ حد التواتر رواه اثنا عشر من الصحابة. وعلَّل أصحاب هذا القول إفطار الحاجم لأنه يمتص الدم. وأما المحجوم فلأنه يظهر منه دم كثير فيفطر كما أن خروج دم الحائض يسبب فطرها، وقد يكون الدم الذي يخرج من الحائض في بعض النساء أقل من الذي يخرج من المحتجم، ولأن خروج الدم قد يضعف البدن، وقد يكون استفراغًا كالقيء. ولو لم تصدق عليه هذه العلل فإن الحديث صحيح رواه جماعة من الصحابة منهم ثوبان وشداد بن أوس ورافع بن خديج. وهؤلاء الثلاثة روى أحاديثهم "الإمام أحمد" في "مسنده" وأهل "السنن" وكذلك معقل بن يسار وبلال بن رباح وعائشة وأبو هريرة -ورواه أيضًا صاحب القصة الذي ورد فيه الحديث- رضي الله عنهم. وخالف فى ذلك الأئمة الثلاثة، وقد أخذ أصحابهم يتكلفون في الإجابة عن الأحاديث التي استدل بها الإمام أحمد -رحمه الله- قال بعضهم: إنما قال: "افطر الحاجم والمحجوم" لأنهما كانا يغتابان الناس. ولما نقل هذا القول الإمام أحمد -رحمه الله- قال: لو كانت الغيبة تفطر ما بقي منّا أحد إلا وهو مفطر. وأجاب آخرون بأجوبة، منها: أن الحديث منسوخ وقالوا: إنه ورد في أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخَّص في الحجامة للصائم والرخصة تدل على أن حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" منسوخ. ولكن الحديث الذي فيه الرخصة فيه ضعف، وعلى تقدير صحته فلعل الرخصة هي السابقة للمنع، فليس عندنا دليل على أنها متأخرة عن هذا الحديث. وأقوى ما تمسك به أصحاب هذا القول حديث ابن عباس الذي رواه البخاري قال: "احْتَجَم النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صَائِم واحْتَجَم وهو مُحْرم". ولكن جميع الرواة قالوا فيه: احتجم وهو صائم محرم. هذا هو اللفظ الصحيح وأكثر تلامذة ابن عباس لم يذكروا الصيام، وإنما اقتصروا على الإحرام. ولما نقل الحديث للإمام أحمد قال: ليس فيه الصيام إنما انفرد بذكره فلان وفلان ...

حكم تغيير الدم لمريض الكلى وهو صائم

أما تلامذة ابن عباس كسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة وكريب فلم يذكروا الصيام وإنما قالوا: احتجم وهو محرم. فدلَّ على أن الصيام زيادة من بعض الرواة، ولكن ما دامت الزيادة من ثقة فهي مقبولة. وقد أجاب بعض العلماء عن هذه الزيادة فقال: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن محرما إلا في سفر، والمسافر مباح له الفطر فيكون احتجم وهو مفطر، وأجاب أصحاب القول الثاني بأن قوله: "صائم" يدل على أنه بقي على صيامه، فإنه لو كان مفطرا لما صح أن يقال: "وهو صائم" فدل على أنه احتجم وهو صائم ولم يتأثر صيامة بذلك الاحتجام. والصحيح: إن شاء الله: ما ذهب إليه الإمام أحمد -رحمه الله- وهو أن الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أفطر الحاجم والمحجوم". والله أعلم (1) وسئل أيضًا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: ما هى الحالات التي يبطل فيها خروج الدم الصيام؟ فأجاب: الصيام لا يبطل إلا بالحجامة على الصحيح، مع الخلاف القوي فيها والأكثرون يرون أنه يبطل حتى بالحجامة، لكن الأرجح بطلانه بالحجامة (2) . حكم تغيير الدم لمريض الكلى وهو صائم - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: ما حكم تغيير الدم لمريض الكلى وهو صائم، هل يلزمه القضاء أم لا؟ فأجاب: يلزمه القضاء بسبب ما يزود به من الدم النقي، فإن زود مع ذلك بمادة أخرى فهي مفطر آخر (3) .

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (54-56) . (2) "فتاوى الشيخ ابن باز" (3/254) . (3) "فتاوى الأخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الأسلام" للشيخ ابن باز (182) .

قلع الضرس وبلع الريق هل يفطر الصائم؟

- وسئلت أيضًا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: يوجد بعض المرضى شفاهم الله تتعطل كلاهم عن العمل مما يضطرهم إلى ما يسمى بالغسيل وهو: أنه هناك كلية صناعية تقوم بتطهير الدم وتنقيته من الشوائب وذلك في الأسبوع مرتين أو ثلاث بحيث يخرج دم الإنسان كله من جسده بأنبوب آخر بعد التنقية مع أنه يضاف للدم داخل الكلية الصناعية بعض المواد المطهرة ولولا هذا العمل لتعرضت حياة الإنسان للموت بسبب تعطل الكلى فهذا الأمر ضروري. والسؤال: هل يؤثر الغسيل على الصيام إذا كان الإنسان صائما؟ علمًا بأن هذا ضرورة له ويشق عليه أن يفطر ويقفي وجسمه لا يستفيد سوى تنقية الدم من الشوائب وقد كثر التساؤل، أرجو من سماحتكم الإفادة جزاكم الله خيرا؟ فأجابت: غسيل الكلى عبارة عن إخراج دم المريض إلى آلة (كلية صناعية) تتولى تنقيته ثم إعادته إلى الجسم بعد ذلك، وأنه يتم إضافة بعض المواد الكيماوية والغذائية كالسكريات والأملاح وغيرها إلى الدم. وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء والوقوف على حقيقة الغسيل الكلوي بواسطة أهل الخبرة أفتت اللجنة بأن الغسيل المذكور للكلى يفسد الصيام (1) . قلع الضرس وبلع الريق هل يفطر الصائم؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظة الله-: قلع الضرس للصائم هل يفطر؟ وبلع الريق وتحليل الدم؟ فأجاب: الدَّم الخارج بقلع الضرس ونحوه لا يفطر؟ فإنه لا يؤثر تأثير الحجامة فلا يفطر به أبدًا. كذلك أيضًا: لا يفطر الصائم بإخراج الدم من أجل التحليل؟ فإن الطبيب قد يحتاج إلى الأخذ من دم المريض ليختبره، يختبر هذا الدم وينظر ما هو المرض الذي أصابه فهذا

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (9944) .

حكم أخذ الحقنة الشرجية للصائم

أيضًا لا يفطر؛ لأنه دم يسير لا يؤثر على البدن تأثير الحجامة فلا يكون مفطرا والأصل بقاء الصيام ولا يمكن أن نفسده إلا بدليل شرعي. وهنا لا دليل على أن الصائم يفطر بمثل هذا الدم اليسير. وأما أخذ الدم الكثير من الصائم من أجل حَقْنه في رجل محتاج إليه مثلاً، فإنه إذا أخذ منه الدم الكثير الذي يفعل بالبدن مثل فعل الحجامة فإنه يفطر بذلك. وعلى هذا: فإذا كان الصوم واجبا فإنه لا يجوز لأحدٍ أن يتبرع بهذا الدم الكثير لأحد إلا أن يكون هذا المتبرع له في حالة خطرة لا يمكن أن يصبر إلى ما بعد الغروب وقرر الأطباء أن دم هذا الصائم ينفعه ويزيل ضرورته فإنه في هذه الحال لا بأس أن يتبرع بدمه ويفطر ويأكل ويشرب حتى تعود إليه قوته ويقضي هذا اليوم الذي أفطره والله أعلم (1) . - وسئل أيضًا الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: لو تسبب في خروج الدم كأن يخلع ضرسه؟ فأجاب: لا حرج عليه أيضًا، لأنه لم يخلع ضرسه ليخرج الدم، وإنما خلع ضرسه لألم فيه، فهو إنما يريد إزالة هذا الضرس، ثم إن الغالب أن الدم الذي يخرج بخلع الضرس، الغالب أنه دم يسير لا يكون له معنى الحجامة (2) . حكم أخذ الحقنة الشرجية للصائم - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: ما حكم أخذ الحقنة الشرجية عند الصائم للحاجة؟ فأجاب: حكمها عدم الحرج في ذلك إذا احتاج إليها المريض في أصح قولي العلماء، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وجمع كثير من أهل العلم لعدم مشابهتها للأكل والشرب (3) .

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/511) . (2) "فقة العبادات لابن عثيمين" (196) . (3) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" للشيخ ابن باز (182) .

استعمال الإبر في الوريد وفي العضل هل يفطر الصائم؟

استعمال الإبر في الوريد وفي العضل هل يفطر الصائم؟ - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: ما حكم استعمال الإبر التي في الوريد والإبر التي في العضل.. وما الفرق بينهما وذلك للصائم؟ فأجاب: الصحيح أنهما لا تفطران، وإنما التي تفطر في إبر التغذية خاصة. وهكذا أخذ الدم للتحليل لا يفطر به الصائم لأنه ليس مثل الحجامة أما الحجامة فيفطر بها الحاجم والمحجوم في أصح أقوال العلماء لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفْطَر الحَاجِم والمحجُوم" (1) . - وسئل أيضًا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله: هل يجوز استعمال الطيب، كدهن العود والكولونيا والبخور في نهار رمضان؟ فأجاب: نعم يجوز استعماله بشرط ألا يستنشق البخور (2) . استعمال الصائم الروائح العطرية في نهار رمضان - وسئل أيضًا فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-: ما حكم استعمال العطر في نهار رمضان؟ فأجاب: لا بأس باستعمال العطر للصائم في بدنه وثيابه، إلا إذا كان الطيب بخورًا أو مسحوقًا فإنه لا يتعمَّد شمهما، لأنه يدخل إلى أنفه شيء من أجزائها، ويصل إلى دماغه، فيؤثر ذلك على صيامه كما نص على ذلك أهل العلم (3) . الكحل هل يبطل الصيام - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-:

_ (1) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" للشيخ ابن باز (175) . (2) "مجموع فتاوى للشيخ ابن باز" (3/352) . (3) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/130) .

استخدام مراهم للأنف للصائم

قرأت في بعض كتب الفقهاء أن الكحل من مبطلات الصيام، أرجو التوضيح مع بيان القول الراجح؟ فأجاب: اختلف العلماء في هذه المسألة: فعدَّه بعضهم من المفطرات وقالوا: إن في العين عروقًا تتصل بالحلق، وإن العلاج الذي يصبّ في العين له قوة سريان يحس به في الحلق. فلأجل ذلك جعلوا العين منفذًا للجوف، فمنعوا الاكتحال الذي له حرارة وقوة وألحقوا به العلاجات الحديثة مثل المَراهِم والقطرات، فإنها بمجرد ما توضع على العين تنفذ في العروق وتصل إلى الحلق، ويحس بطعمه، ولذلك قالوا إنها مفطرة؛ لأن كل شيء وصل طعمه إلى الحلق وأحس بطعمه واختلط بالريِّق، فلابد أنه يدخل في الجوف، ولو لم يكن شيئًا محسوسًا. واستدلوا أيضًا بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالإثمد عند النوم، وقال: "لِيتقه الصائم" رواه أبو داود وغيره. القول الثاني: وهو اختيارالشيخ تقي الدين: أن الاكتحال لا يفطر، لأن العين ليست منفدًا محسوسًا كالفم والأنف، ولو كان فيها عروق داخلة، فإذا كانت العين منفدا غير محسوس، فلا يضر الاكتحال ووصول طعم الكحل إلى الحلق، ولو كان الاكتحال منهيًا عنه لورد ذكر النهي في السنة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابد وأنه قد بين لأمته كل شيء يخل بعباداتهم كالصيام، ثم إن الاكتحال شيء معتادون على العلاج به ولو كان علاج العين ينافي الصيام أو يفطر لنقل لنا، فلما لم ينقل دل على أنه باقي على الأصل وهو الإباحة. أما الحديث الذي استدل به أصحاب القول الأول فهو ضعيف، والأولى تأخير الاكتحال إلى الليل، فإن كان هناك ضرورة وعالج عينه نهارًا فلا بأس. والله أعلم (1) . استخدام مراهم للأنف للصائم - وسئل الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (52-53) .

حكم القطرة والمرهم في العين للصائم

هناك بعض الناس من الصُوام يجد نشوفة في أنفه أو في شفتيه فيستعمل بعض المراهم أو المرطبات لذلك: فما حكمه؟ فأجاب: يجد بعض الصوام نشوفة في أنفه ونشوفة في شفتيه، فلا بأس أن يستعمل الإنسان ما يندي الشفتين والأنف من مرهم، أو يبله بالماء بخرقة أو شبه ذلك، ولكن يحترس من أن يصل شيء إلى جوفه من هذا الشيء الذي أزال به النشوفة (1) . حكم القطرة والمرهم في العين للصائم - وسئل الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: ما حكم القطرة والمرهم في العين؟ فأجاب: لا بأس للصائم أن يكتحل وأن يقطر في عينه كذلك في أذنيه حتى وإن وجد طعمه في حلقه، فإنه لا يفطر بهذا، لأنه ليس بأكل ولا شرب ولا بمعنى الأكل والشرب، والدليل إنما جاء في منع الأكل والشرب فلا يلحق بهما ما ليس في معناهما، وهذا الذي ذكرناه هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وهو الصواب (2) . القطرة في الأنف والأذن والعين في نهار رمضان - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: ما حكم استعمال معجون الأسنان، وقطرة الأذن، وقطرة الأنف، وقطرة العين للصائم؟ واذا وجد الصائم طعمهما في حلقه فماذا يصنع؟ أثابكم الله. فأجاب: بسم الله والحمد لله.. تنظيف الأسنان بالمعجون لا يفطر به الصائم كالسواك، وعليه التحرز من ذهاب شيء منه إلى جوفه، فإن غلبه شىء من ذلك بدون قصد فلا قضاء عليه. وهكذا قطرة العين والأذن لا يفطر بهما الصائم في أصح قولي العلماء.

_ (1) "فقة العبادات لابن عثيمين" (193) . (2) "فقة العبادات لابن عثيمين" (191-192) .

فإن وجد "طعم القطور في حلقه، فالقضاء أحوط ولا يجب؛ لأنهما ليسا منفذين للطعام والشراب، أما القطرة في الأنف فلا تجوز، لأن الأنف منفذ. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وبالغ فِي الاسْتِنْشَاق إلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا" وعلى من فعل ذلك القضاء لهذا الحديث، وما جاء في معناه إن وجد طعمهما في حلقه، والله ولي التوفيق (1) . - وسئل أيضًا الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: قطرة العين والأنف والاكتحال والقطرة في الأذن هل تفطر الصائم؟ فأجاب: جوابنا على هذا أن نقول: قطرة الأنف إذا وصلت إلى المعدة أو إلى الحلق فإنها تفطر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في حديث لقيط بن صبرة: "بَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاق، إلا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا" فلا يجوز للصائم أن يقطر في أنفه ما يصل إلى معدته أو إلى حلقه وأما مالا يصل إلى ذلك من قطرة الأنف فإنها لا تفطر. وأما قطرة العين ومثلها أيضًا الاكتحال وكذلك القطرة في الأذن: فإنها لا تفطر الصائم؛ لأنها ليست منصوصًا عليها ولا بمعنى المنصوص عليه، والعين ليست منفذا للأكل والشرب. وكذلك الأذن فهي كغيرها من مسام الجسد. وقال أهل العلم: لو لَطَّخَ الإنسان قدميه ووجد طعمه في حلقه لم يفطره ذلك؛ لأن ذلك ليس منفذاً. وعليه: فيكون إذا اكتحل أو قطر في عينه أو قطر في أذنه لا يفطر بذلك ولو وجد طعمه في حلقه ومثل هذا لو تَدَهن بدهن للعلاج أو لغير العلاج فإنه لا يضره وكذلك لو كان عنده ضيق تنفس فاستعمل هذا الغاز الذي يبخ في الفم لأجل تسهيل التنفس عليه فإنه لا يفطر؛ لأن ذلك لا يصل إلى المعدة، فليس أكلاً ولا شربا والله أعلم (2) .

_ (1) "فتاوى الشيخ ابن باز" (3/247-248) . (2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/520) .

شرب الدخان حرام ومن المفطرات

شرب الدخان حرام ومن المفطرات - وسئل الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: إذا كان الدخان ليس بطعام ولا شراب ولا يصل إلى الجوف فهل هو من المفطرات؟ فأجاب: فنقول له: إن شرب الدخان حرامٌ عليك في رمضان وفي غير رمضان وفي الليل والنهار. فاتق الله في نفسك وأقلع عن هذا الدخان، واحفظ صحتك وأسنانك ومالك وأولادك ونشاطك مع أهلك؛ حتى ينعم الله عليك بالصحة والعافية، وأما قوله: "إنه ليس بشراب" فإني أقول له: هل يقال فلان يشرب الدخان؟ يقال يشرب الدخان؛ وشرب كل شىء بحسبه، فهذا شراب بلا شك ولكنه شراب ضار محرم. ونصيحتي له ولأمثاله: أن يتقي الله في نفسه وماله وولده وفي أهله؛ لأن كل هذه الأشياء يصحبها ضرر من تعاطي هذا الدخان، وأسأل الله سبحانه وتعالى له ولإخواننا المسلمين العصمة مما يغضب الله وبهذا تبين أن شرب الدخان يفطر الصائم مع ما فيه من الإثم (1) . بلع البلغم هل يفطر الصائم؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل بلع البلغم يفطر؟ فأجاب: البلغم أو النخامة، إذا لم تصل إلى الفم فإنها لا تفطر -قولاً واحدا في المذهب-، فإن وصلت إلى الفم ثم ابتلعها. ففيه قولان لأهل العلم: - منهم من قال: إنها تفطر إلحاقًا لها بالأكل والشرب.

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (87) .

ابتلاع النخامة هل يفطر الصائم؟

- ومنهم من قال: لا تفطر إلحاقًا لها بالريق، فإن الريق لا يبطل به الصوم حتى لو جمع ريقه وبلعه فإن صومه لا يفسد. وهذا هو الراجح، لأنه لا يوجد دليل على إفساد صومه (1) . ابتلاع النخامة هل يفطر الصائم؟ - وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: ما حكم ابتلاع النخامة؟ ومتى يفطر الصائم إذا ابتلعها؟ فأجاب: يحرم على الصائم بلع النخامة وذلك لاستقذارها، والنخامة تارة تنزل من الرأس إلى الحلق، وتارة تخرج من الصدر. وفي كلا الحالتين: فإنه يحرم على الصائم ابتلاعها. فإن اخرجها من صدره مثلاً ثم وصلت إلى فمه ثم أعادها، ففي هذه الحالة تكون مفطرة: لأنه قد ابتلع شيئًا له جرم مع التمكن من إلقائها ومع كراهة ابتلاعها حتى لغير الصائم فهي مستقذرة طبعًا. أما إن نزلت إلى حلقه وابتلعها مع ريقه فلا يفطر بها مع تحريم ابتلاعها في الصيام (2) . حكم من ترك القضاء حتى رمضان الذي بعده - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: ما حكم من ترك قضاء صيام رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده، ولم يكن له عذر، هل تكفيه التوبة مع القضاء، أم تلزمه كفارة؟ فأجاب: عليه التوبة إلى الله سبحانه. وإطعام مسكين عن كل يوم مع القضاء وهو: نصف صاع- بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - من قُوت البلد من تمر أو بُر أو أرز أو غيرها. ومقداره: كيلو ونصف على سبيل التقريب، وليس عليه كفارة سوى ذلك.

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/515) . (2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (87) .

القضاء لمن لم يصم رمضان سنوات عديدة

كما أفتى بذلك جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- منهم ابن عباس -رضي الله عنهما-. أما إن كان معذورًا لمرض أو سفر، أو كانت المرأة معذورة بحمل أو رضاع يشق عليها الصوم معهما، فليس عليهم سوى القضاء (1) . القضاء لمن لم يصم رمضان سنوات عديدة - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: ما حكم المسلم الذي مضى عليه أشهر من رمضان -يعني سنوات عديدة- بدون صيام مع إقامة بقية الفرائض وهو بدون عائق عن الصوم أيلزمه القضاء إن تاب؟ فأجاب: الصحيح أن القضاء لا يلزمه إن تاب؟ لأن كل عبادة مُوَقَّتة بوقت إذا تعمد الإنسان تأخيرها بدون عذر فإن الله لا يقبلها منه. وعلى هذا: فلا فائدة من قضائه، ولكن عليه أن يتوب إلى الله عز وجل ويكثر من العمل الصالح ومن تاب تاب الله عليه (2) . قضاء رمضان لمن أفطر بغير عذر جهلاً بوجوب الصيام - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل يجب القضاء على من أفطر أياما من رمضان بغير عذر جهلاً منه بوجوب صيام الشهر؟ وما حكم من كان صيامه غير تعبدي وإنما يرى الناس يصومون فيصوم معهم؟ فأجاب: نعم يجب القضاء على ذلك الشخص الذي أفطر أيامًا من رمضان جهلاً منه بعدم وجوب صيام الشهر؛ وذلك لأن عدم علم الإنسان بالوجوب لا يسقط الواجب وإنما يسقط الإثم، فهذا الرجل ليس عليه إثم لما أفطره ولكن عليه القضاء. ثم إن كان الرجل يجهل أن صوم رمضان كله واجب، وهو عائش بين المسلمين بعيد

_ (1) "تحفة الأخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" للشيخ ابن باز (177) . (2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/536) .

جدًّا، فالظاهر أن هذه مسألة فرضية، أما من كان حديث عهد بالإسلام فهذا ربما يجهل صيام كل الشهر. أما جواب الفقرة الثانية: عن الرجل الذي كان يصوم: لأنه يرى أن الناس يصومون فصام معهم فالظاهر أن هذا يصح صومه؛ لأنه يمسك بنية وهي أنه يفعل كما يفعل المسلمون، والمسلمون يفعلون ذلك تعبدًا لله عز وجل، لكن يجب أن يبين له أن الصوم عبادة وأن ترك الإنسان طعامه وشرابه وشهوته لابد أن يخلص فيه لله عز وجل، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: "يَدَع طَعَامه وَشَرَابه وَشَهْوَتَه مِنْ أجْلِي" (1) . - وسئل أيضًا العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-: عمن أكل ظانًّا أن الشمس قد غربت فتبين أنها لم تغرب؟ فأجاب: فقد اختلف العلماء في وجوب القضاء عليه: فقال الجمهور بوجوبه، مستدلين بما روى مالك عن عمر: أنه أفطر ثم طلعت الشمس، فقال: "الخطب يسير، وقد اجتهدنا". وزاد عبد الرزاق فى روايته من هذا الوجه: "نقضي يومًا". وله من طريق حنظلة عن أبيه نحوه، ورواه سعيد بن منصور، وفيه: فقال: "من أفطر منكم فليصم يومًا مكانه". وبما روى هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أفطرنا على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم غيم ثم طلعت الشمس. قيل لهشام: أمروا بالقضاء؟ قال: "بد من قضاء". رواه البخاري. وقال آخرون: لا قضاء عليهم، واستدلوا لذلك بما روى زيد بن وهب قال: كنت جالسًا في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتينا بعساس فيها شراب من بيت حفصة، فشربنا ونحن نرى أنه من الليل، ثم انكشف السحاب فإذا الشمس طالعة، قال فجعل الناس يقولون: نقضي يومًا مكانه، فقال عمر: "والله لا نقضيه، ما تجانفنا لأثم". وممن قال بهذا القول مجاهد، والحسن، وإسحاق، وأهل الظاهر، وهو إحدى

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/536-537) .

قضاء الصوم على الترتيب ولو لسبع سنوات

الروايتين عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وحكى هذا القول عن عروة. وقال ابن خزيمة -على قول هشام-: "بد من قضاء". إنه لم يسنده، ولم يتبين لي أن عليهم قضاء. وقال ابن حجر على قول هشام: "لا أدري أقضوا أم لا" ظاهر هذه الرواية تعارض التي قبلها وهي قوله: "فأمروا بالقضاء" وأما حديث أسماء فلا يحفظ فيه إثبات القضاء ولا نفيه. وقال في "الفروع": "صح عن عمر في هذه الصورة روايتان: إحداهما القضاء والأمر، والثانية "لا نقضي ما تجانفنا لإثم". وقال: "قد كنا جاهلين. فعلى هذا لا قضاء" ا. هـ. والأحوط: القضاء. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (1) . قضاء الصوم على الترتيب ولو لسبع سنوات - وسئل العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-: - عن حكم ما يلزمه شرعًا حول أشهر الصوم من سنين سبع أمضاها تحت العلاج في المستشفيات بالخارج، وعن ما إذا كان هناك ما يوجب كفارة في ذلك؟ فأجاب: نفيدك أنه ما زال الأمر كما ذكرت من كون المدة التي مضت عليكم، ولم تصم خلال السنوات السبع نظرًا لعدم تمكن حالتك الصحية من أداء ذلك الركن بحكم بقائك مريضًا في المستشفيات. فإن الواجب عليك والحالة هذه هو قضاء ما فاتك من أشهر الصوم من السنين السبع على الترتيب أولاً بأول. ويستحب قضاء الأيام من كل شهر متتابعة، فإن لم تستطع جاز لك التفريق بين أيام كل شهر.

_ (1) "فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/193-194) .

من برئت ذمته بالإطعام لم يجب عليه الصيام

ولا كفارة عليك في ذلك؛ لأنك زمن تَركك للصوم خلال السنين السبع معذور كما هو الظاهر من سؤالك هذا (1) . من برئت ذمته بالإطعام لم يجب عليه الصيام - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: إذا بريء شخص من مرض فسبق أن قرر الأطباء استحالة شفائه منه وكان ذلك بعد مضي أيام من رمضان فهل يطالب بقضاء الأيام السابقة؟ فأجاب: إذا أفطر شخص رمضان -أو من رمضان- لمرض لا يرجى زواله إما بحسب العادة وإما بتقرير الأطباء الموثوق بهم، فإن الواجب عليه أن يطعم مسكينًا. فإذا فعل ذلك وقدر الله له الشفاء فيما بعد فإنه لا يلزمه أن يصوم عما أطعم عنه لأن ذمته برئت بما أتى به من الإطعام بدلاً عن الصوم. وإذا كانت ذمته قد برئت فلا واجب يلحقه بعد براءة ذمته. ونظير هذا: ما ذكره الفقهاء رحمهم الله في الرجل الذي يعجز عن أداء فريضة الحج عجزًا لا يرجى زواله فيقيم من يحج عنه ثم يبرأ بعد ذلك فإنه لا تلزمه الفريضة مرة ثانية (2) . إذا تعدد الجماع في اليوم أو في الشهر هل تتعدد الكفارة؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: إذا تعدد الجماع في اليوم أو في شهر رمضان فهل تتعدد هذه الكفارة؟ فأجاب: المفهوم من مذهب الإمام أحمد أنه إذا تعدد في يوم ولم يكفر عن الجماع

_ (1) "فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/199) . (2) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/180) .

الأول كفاه كفارة واحدة، وإن تعدد في يومين لزمه لكل يوم كفارة؛ لأن كل يوم عبادة مستقلة (1) . وسئل أيضًا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: إذا جامع الرجل الزوجة في نهار رمضان في اليوم الواحد أكثر من مرة. فهل تجب عليه كفارة واحدة أو أكثر؟ فأجاب: إذا جامع الرجل زوجته في اليوم مرتين فليس عليه إلا كفارة واحدة. وكذلك إذا جامع في يومين ولم يكفر عن اليوم الأول فإنه يكفر عن هذين اليومين كفارة واحدة. أما إذا جامع مثلاً أول النهار ثم كفر ثم جامع بعد ذلك فعليه كفارة ثانية (2) . لم أوجبوا الكفارة على الرجل مطلقًا وأسقطوها عن المرأة مع النسيان والإكراه؟ - وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-: لم أوجبوا الكفارة على الرجل مطلقا وأسقطوها عن المرأة مع النسيان والإكراه؟ فأجاب: في هذه المسألة خلاف كثير، والمشهور في المذهب وجوب القضاء والكفارة على الرجل مع النسيان كالعمد، وهو مذهب مالك، وعن أحمد رواية أخرى: لا كفارة عليه -اختاره ابن بطة- وعنه لا قضاء- اختاره الآجري والشيخ تقي الدين-، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، والمكره كالمختار في المشهور من المذهب، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك: وعن أحمد رواية أخرى: لا قضاء ولا كفارة عليه. والمرأة المطاوعة يفسد صومها، وتُكَفِّر في إحدى الروايتين، وهو قول أبي حنيفة ومالك، والرواية الأخرى لا كفارة عليها، وهو مذهب الشافعي، وفي فساد صوم المكرهة على الوطء روايتان: إحداهما: يفسد، وهو قول أبي حنيفة ومالك. والثانية: لا يفسد، وهو أحد قولي الشافعي، وعلى القول بفساده، فنص أحمد لا كفارة عليها، وهو

_ (1) "فقة العبادات لابن عثيمين" (198) . (2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (70) .

جامع زوجته وهو لم يعلم أن ذلك اليوم من رمضان

قول الأكثرين، وفي وجوب الكفارة على الناسية قولان: أحدهما: أنها كالرجل، وهو الذي ذكره القاضي والمشهور في المذهب، وهو قول الجمهور لا كفارة عليها. وفي عبارة الكافي التي ذكرتموها توجيه الفرق بين الرجل والمرأة في ذلك وقوله: ولأنه حق مال يتعلق بالوطء، يعني أن الكفارة حق، يجب في المال بسبب الوطء، وقوله: من دون جنسه، معناها: أن الكفارة حق يوجبه الوطء خاصة من دون جنسه، أي جنس الوطء من أنواع الاستمتاع، كالقبلة واللمس ونحوهما، فلا كفارة في ذلك، أو مراده بجنسه جنس مفسدات الصيام، من الأكل والشرب ونحوهما (1) . جامع زوجته وهو لم يعلم أن ذلك اليوم من رمضان - وسئل العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-: عن رجل جامع زوجته أول يوم من رمضان، وهو لم يعلم أن ذلك اليوم من رمضان؟ فأجاب: الحمد لله. المذهب أن عليه القضاء والكفارة. وفيه قول آخر أن ليس عليه كفارة؛ لأنه معذور، اختاره الشيخ تقي الدين وغيره، وهو الصواب إن شاء الله تعالى. والسلام عليكم (2) . باشر زوجته معتقدًا بقاء الليل ثم تبين له طلوع الفجر - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن رجل وَطِيء امرأته وقت طلوع الفجر معتقدًا بقاء الليل، ثم تبين أن الفجر قد طلع، فما يجب عليه؟ فأجاب: الحمد لله. هذه المسألة فيها ثلالة أقوال لأهل العلم: أحدها: أن عليه القضاء والكفارة، وهو المشهور من مذهب أحمد. والثاني: أن عليه القضاء، وهو قول ثانٍ في مذهب أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ومالك.

_ (1) "الدرر السنية فى الأجوبة النجدية" (5/357-358) . (2) "فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (4/195) .

جامع زوجته وهو جاهل هل تلزمه الكفارة؟

والثالث: لا قضاء ولا كفارة. وهذا قول طوائف من السلف: كسعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، وإسحاق، وداود، وأصحابه والخلف. وهؤلاء يقولون: من أكل معتقدًا طلوع الفجر، ثم تبين له أنه لم يطلع. فلا قضاء عليه. وهذا القول أصح الأقوال، وأشبهها بأصول الشريعة، ودلالة الكتاب والسنة، وهو قياس أصول أحمد وغيره، فإن الله رفع المؤاخذة عن الناسي والمخطئ. وهذا مخطيء، وقد أباح الله الأكل والوطء حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، واستحب تأخير السحور، ومن فعل ما ندب إليه، وأبيح له، لم يفرط فهذا أولى بالعذر من الناسي، والله أعلم (1) . جامع زوجته وهو جاهل هل تلزمه الكفارة؟ - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: إذا جامع الرجل زوجته وهو جاهل. فهل تلزمه الكفارة؟ فأجاب إذا جامع زوجته وهو جاهل بالحكم لا بما يترتب عليه فإنه يعذر بجهله والحالة هذه، أما إذا كان عالماً بحرمة الجماع في نهار رمضان فإن عليه القضاء والكفارة (2) . - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: هل هذا الحكم عام فيمن وطيء امرأته في دبرها - والعياذ بالله؟ فأجاب تجب عليه الكفارة بالجماع سواء وطيء في قبل أو دبر (3) . إذا لم يجد الإطعام هل تسقط عنه الكفارة؟ - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: إذا جامع الرجل امرأته في نهار رمضان ولم يجد الإطعام فهل تسقط عنه الكفارة؟

_ (1) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/263-264) . (2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (68) . (3) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (70) .

هل تسقط كفارة الوطء عن هذا الرجل؟

فأجاب: اختلف أهل العلم في هذه المسألة: فالمذهب أنها تَسقُط وذلك لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يلزمه بالقضاء ولم يقل له: أطعمها أهلك وإذا أيسرت فاقض بل قال: أطعمها أهلك. والقول الثاني: أنها لا تسقط وأنها تبقى في ذمته متى أيسر كفّر، فإذا قدر على العتق فيما بعد أعتق، وإذا استطاع الصوم في زمن من الأزمان كفّر به واستدل أهل هذا القول بأن الكفارة لازمة للذمة، ولوازم الذمة لا تسقط بالعسر مثل كفارة النذور وكفارة الأيمان فإنها لا تسقط أيضا بل تبقى في الذمة حتى يستطيع ويقدر على التكفير (1) . هل تسقط كفارة الوطء عن هذا الرجل؟ - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: رجل عليه كفارة وطء في نهار رمضان لكنه رجل فقير لم يجد عتق رقبة ولم يستطع صيام شهرين متتابعين ولم يجد أيضًا إطعام ستين مسكينًا، فماذا يفعل؟ فأجاب: إذا لم يجد عتق رقبة ولم يستطع صيام شهرين متتابعين ولم يجد إطعام ستين مسكينا، فإن العلماء المحققين قالوا إنه إذا لم يجد الإطعام فإن الكفارة تسقط عنه إلى غير بدل ولكن عليه أن يقضي ذلك اليوم الذي أفسده ويتوب إلى الله عز وجل ولا يعود (2) . أفطر رمضان متعمدًا ثم جامع هل يلزمه القضاء والكفارة؟ - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن رجل أفطر نهار رمضان متعمدًا، ثم جامع: فهل يلزمه القضاء والكفارة؟ أم القضاء بلا كفارة؟ فأجاب: عليه القضاء.

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (68) . (2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (67-68) .

جامع زوجته بعد أن أفطر بالأكل هل عليه الكفارة؟

وأما الكفارة فتجب في مذهب مالك، وأحمد، وأبى حنيفة، ولا تجب عند الشافعي (1) . جامع زوجته بعد أن أفطر بالأكل هل عليه الكفارة؟ - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن رجل أراد أن يواقع زوجته في شهر رمضان بالنهار، فأفطر بالأكل قبل أن يجامع، ثم جامع، فهل عليه كفارة أم لا؟ وما على الذي يفطر من غير عذر؟ فأجاب: الحمد لله. هذه المسألة فيها قولان للعلماء مشهوران: أحدهما: تجب، وهو قول جمهورهم: كمالك، وأحمد، وأبى حنيفة وغيرهم. والثاني: لا تجب، وهو مذهب الشافعي، وهذان القولان مبناهما: على أن الكفارة سببها الفطر من الصوم، أو من الصوم الصحيح، بجماع أو بجماع غيره، على اختلاف المذاهب. فإن أبا حنيفة يعتبر الفطر بأعلى جنسه ومالك يعتبر الفطر مطلقا، فالنزاع بينهما إذا أفطر بابتلاع حصاة أو نواة ونحو ذلك. وعن أحمد رواية أنه إذا أفطر بالحجامة كفّر، كغيرها من المفطرات بجنس الوطء. فأما الأكل والشرب ونحوهما فلا كفارة في ذلك. ثم تنازعوا هل يشترط الفطر من الصوم الصحيح؟ فالشافعي وغيره يشترط ذلك، فلو أكل ثم جامع، أو أصبح غير ناو للصوم ثم جامع، أو جامع وكفّر ثم جامع: لم يكن عليه كفارة: لأنه لم يطأ في صوم صحيح. وأحمد في ظاهر مذهبه وغيره يقول: بل عليه كفارة في هذه الصور ونحوها؛ لأنه وجب عليه الإمساك فى شهر رمضان، فهو صوم فاسد فأشبه الإحرام الفاسد. وكما أن المحرِم بالحج إذا أفسد إحرامه لزمه المضي فيه بالإمساك عن محظوراته، فإذا أتى شيئًا منها كان عليه ما عليه من الإحرام الصحيح وكذلك من وجب عليه صوم شهر رمضان إذا وجب عليه الإمساك فيه وصومه فاسد، لأكل أو جِمَاع، أو عدم نيّة، فقد لزمه الإمساك عن محظورات الصيام.

_ (1) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/263) .

قدم مسافرا وهو مفطر ووجد امرأته تغتسل من الحيض هل يجوز أن يجامعها؟

فإذا تناول شيئًا منها كان عليه ما عليه في الصوم الصحيح. وفي كلا الموضعين عليه القضاء؛ وذلك لأن هتك حرمة الشهر حاصلة في الموضعين بل هِي في هذا الموضع أشد؛ لأنه عاص بفطره أولاً، فصار عاصيًا مرتين فكانت الكفارة عليه أوْكد، ولأنه لو لم تجب الكفارة على مثل هذا لصار ذريعة إلى أن لا يكفر أحدا. فإنه لا يشاء أحد أن يجامع في رمضان إلا أمكنه أن يأكل، ثم يُجامع بل ذلك أعْون له على مقصوده، فيكون قبل الغداء عليه الكفارة، وإذا تغدَّى هو وامرأته ثم جامعها فلا كفارة عليه، وهذا شنيع في الشريعة لا ترد بمثله. فإنه قد استقر في العقول والأديان أنه كلما عظم الذنب كانت العقوبة أبلغ، وكلما قوي الشبه قويت، والكفارة فيها شوب العبادة، وشوب العقوبة، وشرعت زاجرة وماحية، فبكل حال: قوة السبب يقتضي قوة المسبب. ثم الفطر بالأكل لم يكن سببًا مستقلاً موجبًا للكفارة. كما يقوله أبو حنيفة، ومالك، فلا أقل أن يكون مُعينًا للسبب المستغل، بل يكون مانعًا من حكمه، وهذا بعيد عن أصول الشريعة. ثم المجامع كثيرا ما يفطر قبل الإيلاج، فتسقط الكفارة عنه بذلك على هذا القول، وهذا ظاهر البطلان، والله أعلم (1) . قدم مسافرًا وهو مفطر ووجد امرأته تغتسل من الحيض هل يجوز أن يجامعها؟ - وسئلت لجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: إذا جاء الرجل إلى بيته من السفر وهو مفطر وبعد مسك الصيام وجد زوجته تغتسل من الحيض -وبعد غسلها- هل يجوز أن يجامعها في الحال أو يصوموا يومهم؟ فأجابت: إذا قدم المسافر إلى بلده في رمضان لزمه الإمساك ولا يجوز له أن يجامع زوجته في يوم قدومه مراعاة لحرمة زمن الصيام. وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم (2) .

_ (1) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/260-263) . (2) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء" رقم (13432) .

حكم من مات وعليه صيام واجب

حكم من مات وعليه صيام واجب - وسئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-: من مات قبل أن يصوم الواجب عليه ما حكمه؟ فأجاب: إذا مات قبل أن يصوم الواجب الذي عليه من رمضان أو غيره فلا يخلو إما بأن يكون قد تمكن من أداء ما وجب عليه من غير عذر مرض ولا سفر ولا عجز أو لا يكون قد تمكن. فإن كان قد تمكن من صيامه ولم يكن عذر يمنعه من أدائه، فهذا لا يخلو إما أن يكون صيامه نذرًا موجبا له على نفسه أو كان واجبا عليه بأصل الشرع كالقضاء لرمضان والكفارة. فإن كان نذرًا صام عنه وليه استحبابًا وإن كان قد خلف تركة وجب أن يصام عنه، وذلك جميع الواجبات بالنذر كلها تفعل عن الميت، لأن النيابة دخلت فيها لخفتها ولكونها أقل مرتبة من الواجبة بأصل الشرع. وإن كان واجبا بأصل الشرع كمن مات وعليه قضاء رمضان وقد عوفي ولم يصمه فإنه يجب أن يطعم عنه كل يوم مسكينًا بعدد ما عليه وعند الشيخ تقي الدين: إن صِيمَ عنه أيضًا أجزأ - وهو قوي المأخذ. الحال الثاني: أن يموت قبل أن يتمكن من أداء ما عليه مثل أن يمرض في رمضان ويموت في أثنائه وقد أفطر لذلك المرض أو يستمر به المرض حتى يموت ولو بعد مدة طويلة فهذا لا يكفر عنه لعدم تفريطه، ولأنه لم يترك ذلك إلا لعذر، وإن كان كفارة فكذلك، وإن كان نذرًا بأن عين له وقتًا ومات قبل ذلك الوقت كأن عين مثلاً عشر ذي الحجة ومات فى ذي القعدة لم يكن عليه شيء فلا يقضي لعدم إدراك ما يتعلق به الوجوب، وإن لم يعين وقتًا أو عين وقتًا وفرط ولم يصمه وجب أن يقضي عنه وإن لم يفرط بل صادفه الوقت مريضًا ونحوه فيقضي أيضًا على المذهب لأنه أدركه وقت الوجوب. والصحيح: أن حكمه حكم الواجب بأصل الشرع وهو أحد القولين في المذهب، وهو الموافق لقاعدة المذهب، فإن القاعدة أن الواجب بالنذر أنه يحذى به حذو الواجب

من مات وعليه قضاء من شهر رمضان

بأصل الشرع، فنهاية الأمر يلحق به إلحاقا وأما كونه يكون أقوى منه فبعيد جدًا والله أعلم (1) . من مات وعليه قضاء من شهر رمضان - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: ما حكم من مات وعليه قضاء من شهر رمضان؟ فأجاب: إذا مات وعليه قضاء من رمضان فإنه يصوم عنه وليه، وهو قرييه أو وارثه، لحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" فإن لم يصم وليه، أطعم عن كل يوم مسكينًا (2) . - وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: من مات وعليه قضاء، هل يصام عنه؟ فأجاب: إذا كان على المريض قضاء أيام من رمضان ولم يقضها حتى مات، فإن كان تركها تهاونًا وتفريطًا فإنه يصام عنه، أما إذا لم يفرط فلا يقضى عنه (3) . مات وعليه كفارة - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: لي أخ تُوفِّي وعليه كفارة القتل الخطأ وهي صيام شهرين متتابعين، فهل يجوز صيامهما عنه؟ وهل يجوز اقتسامهما بالتتابع - مع إخوتي الأحياء لنبريء شقيقنا المتوفى؟ فأجاب: بسم الله والحمد لله، يشرع لأحدكم أن يصوم عنه شهرين متتابعين: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" متفق على صحته. والولي هو القريب، ولا يجوز تقسيمها على جماعة، وإنما يصومهما شخص واحد

_ (1) "الإرشاد الى معرفة الأحكام" (85-86) . (2) "فقة العبادات لابن عثيمين" (202-203) . (3) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 124) .

إذا مات الشخص وعليه صيام من رمضان

متتابعين كما شرع الله ذلك؛ لقوله سبحانه في حق القاتل: (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) [النساء: 192] . أما من استطاع العِتْق فعليه العِتْق، ولا يجزئه الصيام. وفق الله الجميع (1) . إذا مات الشخص وعليه صيام من رمضان - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: إذا مات الشخص وعليه صيام من رمضان أو نذر، هل يصوم عنه أهله أو يدفعون كفارة مكان كل يوم؟ فأجابت: إن شفي وقدر على الصيام ثم مات ولم يصم شرع لوليه أن يصوم عنه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" متفق على صحته. والولي هو القريب كالأب والابن، والأخ وابن العم وغيره، وإن اتصل مرضه حتى مات فلا قضاء عليه ولا فدية، ولا على قريبه (2) . يشرع ذلك أن تصوم عن والدك من الأيام مما يغلب على ظنك أنه أفطرها - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: إن والدي تُوفِّي وعليه أيام من رمضان لعام 1400 هـ لا أعرف عددها، وهي ليست في حالة مرض، وأظن أنها في حالة سفر وتعب، وقد حل شهر رمضان الثاني وهو لم يقضه، وقد أشعرته أن عليه ايامًا هل هو قاضيها، فقال: إنني سوف أقضيها في الشتاء، وقد تُوفي إثر حادث مروري فجأة وأنا متأكد أنه لم يقضها أطلب من فضيلتكم إرشادي ماذا أفعل، هل أصوم عنه أو أتصدق حيث أنه خلَّف مالاً كثيرًا؟ هذه كامل المشكلة. فأجابت: يشرع ذلك أن تصوم عن والدك من الأيام ما يغلب على ظنك أن والدك

_ (1) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/226) . (2) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (6288) .

حكم من مات وعليه خمسة أيام وله خمسة أبناء

أفطرها؛ لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات وعليه صيام، صام عنه وليه" متفق عليه (1) . حكم من مات وعليه خمسة أيام وله خمسة أبناء - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: إذا كان على الميت خمسة أيام من رمضان لم يقضها وأراد أبناؤه وعددهم خمسة أبناء أن يصوموها. فهل يجوز أن يصوم كل واحد منهم يومًا أم لابد أن يقضيها عنه أحدهم؟ فأجاب: ورد في الحديث الصحيح: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه". والولي يدخل فيه كل الورثة، فإذا كان على الميت خمسة أيام كما هو في السؤال فإنه يجوز لأبنائه الخمسة أن يقتسموا صيامها فيصوم كل واحد عن يوم مثلاً ويجوز أن يصوموا كلهم في يوم واحد. ويستثنى من ذلك الكفارة فإنه يشترط التتابع فيتكفَّل بها أحد الورثة (2) . صم عن نفسك أولاً ثم صم عن قريبك - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: تُوفِّي جدي وعليه أيام لم يصمها لمرضه، وأحببت أن أصوم عنه، ولكن علي أيام عن مدة الحيض من سنين مضت أحاول الآن قضاءها، فهل يجوز أن أصوم عنه، وعلى هذه الأيام أم أقضي ما عليَّ أولاً ثم أصوم عنه؟ فأجابت: من وَجَبَ عليه قضاء صيام أيام من رمضان وجب عليه المبادرة بالصيام عن نفسه ثم يصوم عن قريبه ما شرع له صيامه عنه. إذا اتصل موت جدك بمرضه فليمر عليه صيام، واذا شفي من مرضه ثم مات قبل أن يقضي فصومي عنه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" والولي: هو القريب (3) .

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء" رقم (4860) . (2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 125) . (3) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء" رقم (7942) .

الأولى أن تتولى أمها القضاء عنها

الأوْلى أن تتولى أمها القضاء عنها وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: لي بنت وهي ضعيفة الجسم، وقد أقبل شهر رمضان علينا ومنعتها أمها من صيام شهر رمضان في خلال سنتين، ثم إن البنت تُوفِّيت وصيام الشهرين في ذمتها، وأسأل: هل على أمها إثم في ذلك، لأنها هي المتسببة في ذلك، وهل يجب عليها القضاء عن بنتها؟ أفيدونا عن ذلك جزاكم الله خيرًا. فأجابت: إذا كانت هذه البنت لا تقوى على الصيام لضعفها فهي في حكم المريضة لم تأثم أمها بمنعها من صيام شهر رمضان. وإذا استمر بها الضعف وعدم القدرة على الصيام حتى ماتت فلا يجب قضاء الصيام عنها. أما إذا كانت البنت تقوى على الصيام مع ضعفها دون مشقة فادحة، ولا حرج، فأمها آثمة بمنعها من صيام رمضان، ويشرع قضاء الصوم عنها والأوْلى أن تتولى القضاء أمها لكونها متسببة (1) . من الأحق بالقضاء عن المرأة زوجها أو أولادها؟ - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: رجل تُوفِّيت زوجته وعليها قضاء من شهر رمضان، ما حكم القضاء عنها، ومن أحق بالقضاء: زوجها أو أولادها، وهل يجوز تجزئة القضاء على العائلة كل شخص يصوم يومًا، يعني توزع أيام القضاء على العائلة؟ فأجابت: إذا كانت منذ أن أفطرت الأيام من شهر رمضان لم تستطع الصيام حتى توفيت فليس عليها شيء. أما إن كانت قد صحت من المرض، ولم تقض، فالمشروع لورثتها وأقاربها قضاء ما

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء" رقم (5870) .

مات على نية قضاء الصوم ولم يقض

عليها من الصيام؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" متفق على صحته. ولا بأس بتوزيع الأيام بينهم. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) . مات على نية قضاء الصوم ولم يقض - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: ما حكم من مات على نية قضاء الصوم ولم يقض؟ وهل يجوز لأبنائه القضاء عنه؟ فأجابت: من أفطر في رمضان لعذر شرعي ولم يتمكن من القضاء من غير تقصير منه حتى مات فلا قضاء عليه ولا إطعام، أما إن كان التأخير من دون عذر حتى مات فيشرع لأحد أقربائه أن يصوم عنه؛ لما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: متفق على صحته. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (2) . - وسئل أيضًا فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-: مرضت زوجتي في رمضان الماضي بعد أن صامت اثنين وعشرين يومًا وبقي عليها ثمانية أيام، وقد اشتد عليها المرض ولم تستطع إكمالها وتُوفَيت بعد رمضان بأيام قليلة، أفيدونا ماذا نعمل في الأيام المتبقية عليها؟ ولكم جزيل الشكر. فأجاب: هذه المرأة التي مرضت في شهر رمضان وتركت الصيام لأجل المرض واستمر بها المرض إلى أن توفيت ليس عليها شيء فيما تركت من صيام؛ لأنها لم تفرط ولم تترك القضاء تفريطًا، وإنما المرض حال بينها ويين الصيام والقضاء فلا شيء عليها في ذلك لقوله تعالي: (لاَ يُكَلفُ الله نَفْسًا إلاُّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286] (3) . لا شيء على من لم يفرط في قضاء ما عليه - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله-:

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (3122) . (2) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (9861) . (3) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (1/925) .

أصيبت باختلال عقلي فلم تصلي ولم تصم ثم ماتت هل يصام عنها؟

لنا بنت توفيت قبل يومين وعليها أيام من شهر رمضان، أرجو إفادتنا: هل نصوم عنها تلك الأيام، أو نتصدق عنها، أو نصوم عنها ونتصدق؟ أرجو إفادتنا أثابكم الله ووفقكم لما فيه خير الإسلام والمسلمين والسلام. فأجاب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته بعده: إذا كانت البنت ماتت في مرضها بعد العيد، فليس عليها شيء لا قضاء ولا إطعام، أما إن كانت بعد العيد سليمة تستطع الصوم، وإنما حدث الأجل بعارض، فيشرع لكم أن تصوموا عنها ما يقابل الأيام التي مضت عليها بعد العيد وهي سليمة (1) . أصيبَتْ باختلال عقلي فلم تصلي ولم تصم ثم ماتت هل يصام عنها؟ - وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-: والدتي يرحمها الله مرضت قبل وفاتها مرضًا شديدا إثر سقوطها على رأسها سقوطًا شديدًا أدى إلى إصابتها باختلال عقلي لمدة سنة كاملة، ولذا لم تستطع أداء فريضتي الصيام والصلاة، فأرجو إفادتي: هل يجب على أن أقوم بالقضاء عنها، أو الكفارة أو أي عمل ترشدونني إليه، حفظكم الله وسدد خطاكم؟ فأجاب: إذا كانت بالصفة التى ذكرت بأنها مختلة العقل والشعور بسبب الإصابة فهذه لا صيام عليها ولا تكليف عليها لأنها زائلة العقل، والعبادة إنما تجب على العاقل البالغ؛ فلا صيام على هذه المصابة التى ماتت بإصابتها وهي مختلة العقل وزائلة الشعور. أما إذا كان معها عقلها ومعها شعورها، ولكنها أتت عليها الإصابة حتى ماتت: فإن الصيام لا يسقط عنها. فإذا كان لها تركة: فإنه يخرج من تركتها كفارة إطعام مسكين عن كل يوم من الأيام التى تركتها، وأن تبرع أحد من أقاربها وأطعم عنها أو صام عنها: فإنه يرجى أن ينفعها ذلك (2) .

_ (1) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/228-229) . (2) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/140-141) .

هل القضاء عن الميت خاص بصوم النذر فقط؟

هل القضاء عن الميت خاص بصوم النذر فقط؟ وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: من مات وعليه قضاء أيام من رمضان فهل يصام عنه مطلقًا أم يُقضى الأيام المنذورة فقط؟ فأجاب: ذهب الإمام أحمد إلى أن القضاء خاص بالنذر أما الفرض فإنه لا يقضى عن الميت ولكن يتصدق. من تركته عن كل يوم نصف صاع. واستدل الإمام أحمد -رحمه الله- بحديث: "لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد". وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا فرق بين النذر والفرِض فكلاهما يُقضى عن الميت لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه". أما الحديث الذي استدل به الإمام أحمد فإنه محمول على الأحياء، فإن الحي لا يجوز له أن يوكل غيره في العبادات إلا في بعض الحالات. فالقول الصحيح -إن شاء الله-: أن قضاء الصيام عن الميت عام في الفرض والنذر (1) . موجبات القضاء والكفارة - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: أريد أن أعرف موجبات القضاء والكفارة في رمضان، علمًا أنه سبق أن بحثت الموضوع، وانتهى بي البحث إلى رأيين: أحدهما يرى أن موجبات القضاء والكفارة هو الجماع لا غير، والدليل معروف في السنة المطهرة، أما الرأي الثاني: فيجعل كل ما يصل إلى المعدة عمدًا موجبًا للقضاء والكفارة، إضافة إلى الجماع دون أن أعثر على دليل من الكتاب والسنة. لذا أرجو من فضيلتكم إفادتي بالجواب الشافي المدعم بالدليل من الكتاب والسنة، وجزاكم الله عنا وعن المسلمين كل خير.

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 124-125) .

فأجابت: نص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الحكم بوجوب الكفارة على أعرابى لكونه جامع زوجته عمدا في نهار رمضان وهو صائم، فكان ذلك منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيانًا لمناط الحكم، ونصا على علته. واتفق الفقهاء على أن كونه أعرابيًا وصف طردي لا مفهوم له، ولا تأثير له في الحكم فتجب الكفارة بوطء التركي والأعجمي زوجته. واتفقوا أيضًا على أن وصف الزوجة في الموطوءة طردي غير معتبر فتجب الكفارة بوطء الأمة وبالزنا. واتفقوا أيضًا على أن مجيء الواطيء نادمًا لا أثر له في وجوب الكفارة فلا اعتبار له أيضًا في مناط الحكم. ثم اختلفوا في الجماع هل هو وحده المعتبر في وجوب الكفارة بإفساد الصوم به فقط، أو المعتبر انتهاك حرمة رمضان بإفساد الصوم عمدًا ولو بطعام أو شراب: * فقال الشافعي وأحمد بالأول. * وقال أبو حنيفة ومالك ومن وافقهما بالثاني. ومنشأ الخلاف بين الفريقين اختلافهما في تنقيح مناط الحكم، هل هو انتهاك حرمة صوم رمضان لافساده بخصوص الجماع عمدًا، أو انتهاكه بإفساد صومه عمدًا مطلقًا ولو بطعام أو شراب. والصواب الأول؛ تمشيا مع ظاهر النص، ولأن الأصل براءة الذمة من وجوب الكفارة حتى يثبت الموجب بدليل واضح (1) . - وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-: من صام يوم قضاء فهل يجوز قطعه. وكذلك يوم النفل؟ فأجاب: لا يجوز للإنسان إذا نوى صوم القضاء وشرع فيه أن يقطعه لأنه إذا نواه وبدأه وجب عليه إكماله، لأن الفرض الموسّع إذا دخل فيه الإنسان فإنه يجب عليه إكماله ولا يجوز له قطعه، وإنما التوسعة قبل أن يدخل فيه فإذا دخل فيه فلا يجوز قطعه.

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (9393) .

لا يجزيء دفع نقود عن الإطعام

أما إذا صام النَّفل فإنه يجوز له أن يقطعه لأن صيام النفل لا يلزم إتمامه ولكن الأفضل له إتمامه وله أن يفطر ولا حرج عليه في ذلك، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل بيته وهو صائم صيام نفل ولما وجد فيه طعاما أهدي إليهم أكل منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقطع صومه، فدل على أن صوم النافلة لا يلزم إتمامه (1) . لا يجزيء دفع نقود عن الإطعام - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: بعض الطلبة عليهم قضاء رمضان، وقد حال عليهم رمضان آخر وكما نعلم أن عليهم القضاء مع الإطعام عن كل يوم مسكين، لكن يريدون أن يقضوها في أي مكان آخر في "الرياض" في أوقات الشتاء أو "أبها" فهل يجوز أن يطعموا دفعة واحدة قبل الصيام أو أنهم يصومون ثم بعد ذلك إذا وصلوا إلى بلدهم يطعمون على حسب الأيام التي صاموها، حيث أنهم لا يعرفون أحدًا في المدن الأخرى، وهل تجزيء النقود في ذلك، وكم تعادل النقود في كل يوم إذا كانت تجزيء عن ذلك؟ فأجابت: يجوز أن يطعموا كفارة تأخير القضاء دفعة واحدة أو في دفعات قبل القضاء وأثناءه وبعده، ولا يجزيء دفع النقود عن الإطعام. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (2) . إطعام المساكين هل يكفي في مكان واحد؟ - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: هل يكفي إطعام المساكين فى مكان واحد أم لابد من تمليكهم؟ فأجاب: الفقهاء قالوا: لابد من التمليك وهو أن يُسَلِّم لهم طعاما لا يزال حبا أو دقيقَا ... إلخ. أما شيخ الإسلام وغيره فيختارون أنه يكفي أكلهم عنده حتى يشبعوا (3) .

_ (1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (1/925) . (2) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (10750) . (3) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 82) .

الإطعام هل يجوز لغير السلمين؟

الإطعام هل يجوز لغير السلمين؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: الإطعام هل يجوز لغير المسلمين؟ وما هي أقسام المرض في الصيام؟ فأجاب: جوابنا على هذا أولاً: لابد أن نعرف أن المرض ينقسم إلى قسمين: مرض يرجى بُرؤُه مثل الأمراض الطارئة التيِ يرجى أن يشفى منها، هذا حكمه كما قال الله تعالى: (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أوْ عَلَى سَفَر فعِدَّةٌ منْ أَيَّام أُخَرَ) [البقرة: 185] ليس عليه إلا أن ينتظر البرء ثم يصوم. فإذا قدر أنه استمر به المرض في هذه الحال ومات قبل أن يُشْفى فليس عليه شيء؛ لأن الله أوجب عليه القضاء في أيام أخر وقد مات قبل إدراكها فهو كالذي يموت في شعبان قبل أن يدخل رمضان لا يقضى عنه. والقسم الثاني: أن يكون المرض ملازمًا للمرء مثل مرض السرطان -والعياذ بالله- ومرض الكلى ومرض السكر، وما أشبهها من الأمراض الملازمة التي لا يرجى انفكاك المريض منها فهذه يفطر صاحبها في رمضان ويلزمه أن يطعم عن كل يوم مسكينًا كالكبير والكبيرة، اللذين لا يطيقان الصيام يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكينًا. ودليل هذا: قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصيَامُ كَمَا كتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تتقونَ * أيَّامًا مَعْدُودَات فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ منْ أَيامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهَ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسكِين) [البقرة: 183، 184] . فكان هذا في أول الأمر على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ولكن الصيام خير له كما قال تعالى (وَأَن تَصُومُوا خَيرٌ لَكُمْ) [البقرة: 184] . فكان هذا التخيير بين الصيام والإطعام ثم وجب الصيام عينًا في قوله في الآية الثانية: (شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرآنُ هُدًى للنَّاسِ وَبينَاتِ منَ الْهُدَى وَالْفُرقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ منْ أَيَّام أُخَرَ) [البقرة: 185] . فجعل الله تعالى الإطعام عديلاً للصيام إما هذا أو هذا أول الأمر فإذا لم يتمكن

حكم قراءة آيات الصيام أول ليلة من رمضان في العشاء

الإنسان من الصيام لا حال رمضان ولا ما بعده رجعنا إلى العديل الذي جعله الله معادلاً للصيام وهو الإطعام. فيجب على المريض المستمر مرضه وعلى الكبير من ذكر وأنثى أن يطعما عن كل يوم مسكينًا سواء أطعما بالتمليك بأن دفعا إلى الفقراء طعامًا أو كان بالإطعام بالدعوة يدعو مساكين بعدد أيام الشهر فَيُعَشيهم، كما كان أنس بن مالك -رضي الله عنه- يفعل حين كبر صار يجمع ثلاثين مسكينًا فيعشيهم. ويكون ذلك بدلاً عن صوم الشهر. وخلاصة الجواب: أن المرض على قسمين قسم مرض يرجى زواله فيقضي، ومرض ملازم فيطعم عن كل يوم مسكينًا وأما إذا كان الإنسان في بلاد غير إسلامية ووجب عليه إطعام فإن كان في هذه البلاد مسلمون من أهل الاستحقاق أطعمهم وإلا فإنه يصرفه إلى أي بلد من بلاد المسلمين التي تحتاج إلى هذا الإطعام والله أعلم (1) . حكم قراءة آيات الصيام أول ليلة من رمضان في العشاء وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله-: عن قراءة آيات الصيام، أول ليلة من رمضان في العشاء؟ فأجاب: لا أعلم لهذا أصلاً ووإنما استحب أحمد في رواية عنه: قراءة سورة القلم في العشاء الآخرة أول ليلة من رمضان وواستحبه الشيخ تقي الدين، وأما قراءة آخر سورة المائدة فلا علمنا أحد استحبه (2) . حكم السهر في ليالى رمضان لتلاوة القرآن بأجرة - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: السهر في ليالى رمضان عند بعض الناس بالأجر لإحياء ليالى شهر رمضان هل هذا يجوز أم لا يجوز أم حلال أم حرام، أم منهي عنه مع الدليل من الكتاب والسنة؟ حيث أنني أسهر عند بعض الناس كل عام، وأردت أن أمتنع هذا العام حتى أعرف الدليل أرجو إفتائي جزاكم الله خيرا؟ فأجابت: أمر الله تعالى بعبادته وحث على تلاوة كتابه ودراسته، وهذا في ليالى

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/543-544) . (2) "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" (5/310) .

رمضان آكد، فقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا ليلها وحث أهله وأمته على ذلك، فمن فعل ذلك ابتغاء مرضاة الله ورجاء ثوابه فله أجر عظيم. أما ما اعتاده بعضى المسلمين من السهر في ليالى رمضان في غير بيوتهم لتلاوة القرآن بأجرة فهو بدعة سواء قصدوا بذلك حصول البركة لهذه البيوت ولأهلها أو قصدوا هبة ثواب ما قرأوا لأهلها أحياء وأمواتًا، فإنه لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه فعله؛ فكان بدعة محدثة. وقد ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية: وعلى هذا فلا أجر لمن فعله، ولا لمن ساعد عليه، بل عليه وزر لابتداعه وإحداثه في الدين ما ليس منه (1) . وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: كنت في يوم من أيام رمضان ذهبت في صبح يوم من أيامه إلى جبل ويوجد بالجبل بعض الصيود، فأخذت بندقية فصدت بعض الصيد كي نأكله بعد الإفطار، فهل علي إثم في ذلك أو كفارة عما فعلته؟ وهل الصيد في شهر رمضان محرم؟ وماذا أعمل إذا كان علي شيء؟ فأجابت: من قتل صيدًا وهو صائم فإنه لا يؤثر على صيامه، فصيامك صحيح ولا قضاء عليك، ولا حرج في الصيد في رمضان (2) . اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (5049) . (2) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (11583) .

هل الإفطار الجماعي من محدثات الأمور؟

هل الإفطار الجماعي من محدثات الأمور؟ - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: هناك جماعة من الجماعات العاملين في حقل الدعوة في معظم الجماعات الجزائرية يقومون بالإعلان كل يوم أحد على أنه سيكون إفطار جماعي، وهم يصومون الاثنين ثم يجتمعون في قاعة من القاعات ويفطرون معا، فلما استفسرنا عن هذا العمل قيل لنا: إنه لصالح الدعوة، ونحن نريد أن نجمع صفوف المسلمين. والسؤال هو حكم الشرع حول ذلك: هل هو من محدثات الأمور أم لا؟ فأجابت: إذا كان الأمر كما ذكر في السؤال فلا حرج في الاجتماع المذكور والإعلان عنه (1) . وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. الاعتكاف هل له أقسام؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل الاعتكاف له أقسام أم أنه قسم واحد؟ فأجاب: الاعتكاف ليس إلا قسمًا واحدا، وهو كما أسلفنا: لزوم مسجد لطاعة الله عز وجل، لكن قد يكون أحيانًا بصوم، وقد لا يكون بصوم. وقد اختلف أهل العلم: هل يصح الاعتكاف بدون صوم أو لا يصح إلا بصوم؟ ولكن الاعتكاف المشروع إنما هو ما كان في ليالى العشر -عشر رمضان- لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف هذه العشر رجاء لليلة القدر (2) . شروط الاعتكاف - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: ما هي شروط الاعتكاف، وهل الصيام منها، وهل يجوز للمعتكف أن يزور مريضًا، أو

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (11596) . (2) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 208) .

يجيب الدعوة، أو يقضي حوائج أهله، أو يتبع جنازة، أو يذهب إلى العمل؟ فأجابت: يُشْرَع الاعتكاف في مسجد تقام فيه صلاة الجماعة، وإن كان المعتكف ممن يجب عليهم الجمعة ويتخلل مدة اعتكافه جمعة ففي مسجد تقام فيه الجمعة أفضل، ولا يلزم له الصوم، والسنة ألا يزور المعتكف مريضًا أثناء اعتكافه، ولا يجيب الدعوة، ولا يقضي حوائج أهله، ولا يشهد جنازة، ولا يذهب إلى عمله خارج المسجد؛ لما ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "السنّة على المعتَكِف ألا يَعُود مَرِيضًا ولا يَشهَد جَنَازة، ولا يَمَسّ امرأة، ولا يباشِرها، ولا يَخْرج لِحَاجة إِلاَّ لِماَ لاَبُدَّ مِنه". وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) . - وسئل أيضًا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل الاعتكاف في شهر رمضان سُنَّة مؤكدة؟ وما هي شروطه في غير رمضان؟ فأجاب: الاعتكاف في رمضان سُنَّة فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته واعتكف أزواجه من بعده، وحكى أهل العلم إجماع العلماء على أنه مسنون ولكن الاعتكاف ينبغي أن يكون على الوجه الذي من أجله شرع وهو أن يلزم الإنسان مسجدًا لطاعة الله سبحانه وتعالى بحيث يتفرغ من أعمال الدنيا إلى طاعة الله بعيدًا عن شؤون دنياه ويقوم بأنواع الطاعة من صلاة وذكرٍ وغير ذلك. وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف ترقُّبًا لليلة القدر والمعتكف يبعد عن أعمال الدنيا فلا يبيع ولا يشتري ولا يخرج من المسجد ولا يتَّبع جنازة ولا يعود مريضًا، وأما يفعله بعض الناس من كونهم يعتكفون ثم يأتي إليهم الزوار أثناء الليل وأطراف النهار وقد يتخلل ذلك أحاديث محرمة فذلك مناف لمقصود الاعتكاف. ولكن إذا زاره أحد من أهله وتحدث عنده فذلك لا بأس به فقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أن زارته صفية وهو معتكف فتحدثت عنده. المهم أن يجعل الإنسان اعتكافه تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى (2) .

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (6718) . (2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/547، 548) .

هل تكفي النية إذا شرط في اعتكافه شيئا لابد منه ولم ينطق به؟

- وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: الاعتكاف له زمان محدد، أو يقتصر على رمضان، أم يجوز في غير رمضان؟ فأجاب: المشروع أن يكون في رمضان فقط لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعتكف في غير رمضان، إلا ما كان منه في شوال حين ترك الاعتكاف سنة في رمضان فاعتكف في شوال. ولكن لو اعتكف الإنسان في غير رمضان، لكان هذا جائزا؛ لأن عمر -رضي الله عنه-، سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني نذرت أن أعتكف ليلة أو يوما في المسجد الحرام، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَوْفِ بنذرك" (1) . هل تكفي النية إذا شرط في اعتكافه شيئًا لابد منه ولم ينطق به؟ - وسئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-: إذا شرط في اعتكافه شيئًا مما له منه بد، فهل تكفي نيته، أم لابد من نطقه؟ فأجاب نيته كافية عن نطقه، كما هو الأصل في كل العبادات، إلا الاشتراط في الحج، فلابد من نُطْقهِ فيه، والله أعلم (2) . بعض أحكام الاعتكاف - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: ما حكم الاعتكاف في المساجد، وما معناه شرعًا، وهل هو شامل للنوم مع الأكل في المساجد وإباحته أم لا؟ فأجاب: لا ريب أن الاعتكاف في المسجد قربة من القرب، وفي رمضان أفضل من غيره؛ لقول الله تعالى: (وَلاَ تُبَاِشُروهُنَّ وَأَنتُم عَاكِفُونَ فِي الْمسًاجِدِ) [البقرة: 187] .

_ (1) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 208) . (2) "الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي" (ص 232) .

متى يبدأ دخول المعتكف المسجد في العشر الأواخر ومتى ينتهي؟

ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وترك ذلك مرة فاعتكف في شوال. والمقصود من ذلك: هو التفرغ للعبادة والخلوة بالله لذلك، وهذه هي الخلوة الشرعية. وقال بعضهم في تعريف الاعتكاف: "هو قطع العلائق عن كل الخلائق للاتصال بخدمة الخالق". والمقصود من ذلك: قطع العلائق الشاغلة عن طاعة الله وعبادته، وهو مشروع في رمضان وغيره كما تقدم، ومع الصيام أفضل، وإن اعتكف من غير صوم فلا بأس على الصحيح من قولي العلماء، لما ثبت في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، -وكان ذلك قبل أن يسلم- فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوف بِنَذْرك". ومعلوم أن الليل ليس مَحَلا للصوم، وإنما محله النهار، ولا بأس بالنوم والأكل فى المسجد للمعتكف وغيره؛ لأحاديث وآثار وردت في ذلك؛ ولما ثبت من حال أهل الصفةّ مع مراعاة الحرص على نظافة المسجد والحذر من أسباب توسيخه من فضول الطعام أو غيرها؛ لما جاء في الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "عُرِضَت عَلَي أُجُور أُمَّتي حَتى القَذَاة يُخْرِجها الرجل من المسجِد" رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة. ولحديث عن -عائشة رضي الله عنها-، "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب" رواه الخمسة إلا النسائي وسنده جيد. والدُّور: هي الحارات والقبائل القاطنة في المدن. وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل به، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) . متى يبدأ دخول المعتكف المسجد في العشر الأواخر ومتى ينتهي؟ - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:

_ (1) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3/264، 265) .

متى يخرج المعتكف من اعتكافه؟

إذا أراد شخص أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان كلها في المسجد: فمتى يكون بدء دخوله المسجد، ومتى يكون انتهاء اعتكافه؟ فأجابت: روى البخاري ومسلم -رحمهما الله- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يعتكف، صلى الفجر، ثم دخل معتكفه". وينتهي مدة اعتكاف عشر رمضان بغروب شمس آخر يوم منه (1) . متى يخرج المعتكف من اعتكافه؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله: متى يخرج المعتكف من اعتكافه؟ أبعد غروب الشمس ليلة العيد أم بعد فجر يوم العيد؟ فأجاب: يخرج المعتكف من اعتكافه إذا انتهى رمضان، وينتهي رمضان بغروب الشمس ليلة العيد، كما أنه يدخل المعتَكَف بغروب شمس ليلة العشرين من رمضان، فإن العشر الأواخر تبتديء بغروب الشمس ليلة العشرين من رمضان، وتنتهي بغروب الشمس ليلة العيد (2) . حكم الاعتكاف في الغرف التي داخل المسجد - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: هل تعتبر غرفة الحارس وغرفة لجنة الزكاة في المسجد صالحة للاعتكاف فيها؟ علمًا بأن أبواب هذه الغرف في داخل المسجد. فأجابت: الغرف التي داخل المسجد وأبوابها مشرعة على المسجد لها حكم المسجد، أما إذا كانت خارج المسجد فليست من المسجد، وإن كانت أبوابها داخل المسجد. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (3) .

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (6718) . (2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/551) . (3) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (6718) .

يجوز الاعتكاف في أي وقت دون العشر الأواخر

يجوز الاعتكاف في أي وقت دون العشر الأواخر - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: هل يجوز الاعتكاف في أي وقت دون العشر الأواخر من رمضان؟ فأجابت: نعم يجوز الاعتكاف في أي وقت، وأفضله ما كان في العشر الأواخر من رمضان؛ اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه- رضي الله عنهم-. وقد ثبت عنه أنه اعتكف في شوال في بعض السنوات. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) . هل يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله: هل يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة؟ وما الدليل؟ فأجاب نعم يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة -المسجد الحرام ومسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمسجد الأقصى-. ودليل ذلك: عموم قوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) [البقرة: 187] . فإن هذه الآية خطاب لجميع المسلمين، ولو قلنا: إن المراد بها المساجد الثلاثة، لكان أكثر المسلمين لا يخاطبون بهذه الآية؛ لأن أكثر المسلمين خارج مكة والمدينة والقدس. وعلى هذا فنقول: إن الاعتكاف جائز في جميع المساجد، وإذا صح الحديث بأنه "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة" فالمراد أنه الاعتكاف الأكمل والأفضل، ولا شك ان الاعتكاف في المساجد الثلاثة افضل من غيره، كما أن الصلاة في المساجد الثلاثة افضل من غيرها، فالصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في المسجد النبوي خير من ألف صلاة فيما عداه إلا المسجد الحرام، والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة.

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (3810) .

الاتصال بالتليفون للمعتكف هل يجوز؟

هذا -أي الأجر- فيما يفعله الإنسان في المساجد، كصلاة الجماعة في الفريضة، وفي صلاة الكسوف، وكذلك تحية المسجد، وأما الرواتب والنوافل التي تفعلها غير مقيد بالمسجد فصلاتك في البيت أفضل. ولهذا نقول في مكة: صلاتك الرواتب في بيتك أفضل من صلاتك إياها في المسجد الحرام. وكذلك الأمر بالنسبة للمدينة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال وهو بالمدينة: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي النوافل في بيته. أما التراويح، فإنها من الصلوات التي تشرع في المساجد؛ لأنها تشرع فيها الجماعة (1) . وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل يجوز لمن كان متطوعًا للإمامة في أحد المساجد أن يخرج من معتكفه فى الحرم للصلاة بالناس؟ فأجاب: المعتكف الذي يصلي في المسجد صلاة التراويح تطوعا منه لا يخرج من معتكفه؛ لأنه غير ملزم بهذا المسجد، وأهل المسجد يدبرون لهم إماما. أما إذا كان الإنسان رسميًّا في هذا المسجد فإنه لا يجوز له أن يعتكف ويدع المسجد الذي تعهد به أمام الحكومة (2) . الاتصال بالتليفون للمعتكف هل يجوز؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل يجوز للمعتكف الاتصال بالتليفون لقضاء حوائج السلمين؟ فأجاب: نعم يجوز للمعتكف أن يتصل بالتليفون لقضاء بعض حوائج المسلمين، إذا كان التليفون في المسجد الذي هو معتكف فيه؛ لأنه لم يخرج من المسجد.

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/548، 549) . (2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/550) .

رفض والده ولم يسمح له بالاعتكاف

أما إذا كان خارج المسجد فلا يخرج لذلك، وقضاء حوائج المسلمين إذا كان هذا الرجل معنيا بها فلا يعتكف لأن قضاء حوائج المسلمين أهم من الاعتكاف لأن نفعها متعدٍّ، والنفع المتعدي أفضل من النفع القاصر، إلا إذا كان النفع القاصر من مهمات الإسلام وواجباته (1) . رفض والده ولم يسمح له بالاعتكاف - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: ما حكم من لم يسمح له والده بالاعتكاف لأسباب غير مقنعة؟ فأجاب: الاعتكاف سنة، وبر الوالدين واجب، والسنة لا يسقط بها الواجب، ولا تُعارِض الواجب أصلاً لأن الواجب مقدم عليها. وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: "مَا تَقَرَّب إِلَيَ عَبدِي بِشَيء أحَبُّ إِليَ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيه" فإذا كان أبوك يأمرك بترك الاعتكاف ويذكر أشياء تقتضي ألا تعتكف لأنه محتاج إليك فيها، فإن ميزان ذلك عنده وليس عندك، لأنه قد يكون الميزان عندك غير مستقيم وغير عدل؛ لأنك تهوى الاعتكاف، فتظن أن هذه المبررات ليست مبررا وأبوك يرى أنها مبرر. فالذي أنصحك به ألا تعتكف؛ نعم. لو قال أبوك: لا تعتكف، ولم يذكر مبررات لذلك فإنه لا يلزمك طاعته في هذه الحال؛ لأنه لا يلزمك أن تطيعه في أمر ليس فيه ضرر عليه فى مخالفتك إياه وفيه تفويت منفعة لك (2) . هل للمعتكف في الحرم أن يخرج للأكل أو الشرب؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل للمعتكف في الحرم أن يخرج للأكل أو الشرب وهل يجوز له الصعود إلى سطح المسجد لسماع الدروس؟

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/550، 551) . (2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/551) .

فأجاب: نعم.. يجوز للمعتكف في المسجد الحرام أو غيره أن يخرج للأكل والشرب، إن لم يكن في إمكانه أن يحضرهما إلى المسجد؛ لأن هذا أمر لابد منه، كما أنه سوف يخرج لقضاء الحاجة، وسوف يخرج للاغتسال من جنابة إذا كانت عليه الجنابة. وأما الصعود إلى سطح المسجد فهو أيضًا لا يضر لأن الخروج من باب المسجد الأسفل إلى السطح ما هي إلا خطوات قليلة ويقصد بها الرجوع إلى المسجد أيضًا، فليس في هذا بأس (1) . ما الذي يباح للمعتكف؟ وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: نود أن نعرف ما الذي يباح للمعتكف؟ فأجاب: المعتكف كما أسلفنا يلتزم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل وعبادته، فينبغي أن يكون أكثر همَّه اشتغاله بالقربات من الذكر وقراءة القرآن وغير ذلك، ولكن المعتكف أفعاله تنقسم إلى أقسام: قسم مباحٌ، قسمٌ مشروع ومستحب، وقسمٌ ممنوعٌ. فأما المشروع: فهو أن يشتغل بطاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته والتقرب إليه؛ لأن هذه هو لُبُّ الاعتكاف والمقصود منه، ولهذا قُيد في المساجد. وقسم آخر هو الممنوع: هو ما ينافي الاعتكاف، مثل أن يخرج الإنسان من المسجد بلا عذر، أو يبيع ويشتري، أو يجامع زوجته، أو ما أشبه ذلك من الأفعال التي تبطل الاعتكاف لمنافاتها لمقصوده. وقسمٌ ثالث: جائز مباح، كالتحدث إلى الناس، والسؤال عن أحوالهم وغير ذلك مما أباح الله تعالى للمعتكف، ومنه: خروجه لما لابد له منه كخروجه لإحضار الأكل والشرب، إذا لم يكن له من يحضرهما وخروجه لقضاء الحاجة من بول وغائط، وكذلك خروجه لأمر مشروع واجب؛ بل هذا واجب عليه، كما لو خرج ليغتسل من الجنابة، وأما خروجه لأمر مشروع غير واجب، فإن اشترطه فلا بأس، وإن لم يشترطه فلا يخرج، وذلك كعيادة المريض، وتشييع الجنازة، وما أشبههما، فله ان يخرج لهذا إن اشترطه،

_ (1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/205، 206) .

جواز تنقل المعتكف في جميع أنحاء المسجد

إن لم يشترطه فليس له أن يخرج، ولكن إذا مات له قريب أو صديق وخاف إن لم يخرج أن يكون هناك قطيعة أو مفسدة فإنه يخرج ولو بطل اعتكافه؛ لأن الاعتكاف مستحب لا يلزمه المضى فيه (1) . جواز تنقل المعتكف في جميع أنحاء المسجد - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل يلتزم المعتكف مكانًا محددًا في المسجد، أم يجوز له التنقل في أنحائه؟ فأجاب: يجوز للمعتكف أن يتنقل في أنحاء المسجد من كل جهة، لعموم قوله تعالى: (وَأَنتُم عَاكِفُونَ فِي الْمساجِدِ) [البقرة: 187] ، (في) : للظرفية، فتشمل ما لو شغل الإنسان جميع الظرف (2) . ما يستحب وما يكره للاعتكاف - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: نود أن نعرف ما الذي يُستَحب للاعتكاف، وما يكره له؟ فأجاب: الذي يستحب فى الاعتكاف أن يشتغل الإنسان بطاعة الله عز وجل، من تلاوة القرآن والذكر والصلوات وغير ذلك، وأن لا يضَيع وقته فيما لا فائدة فيه، كما يفعله بعض المعتكفين، تجده يبقى في المسجد يأتيه الناس في كل وقت يتحدثون إليه، ويقطع اعتكافه بلا فائدة. وأما المتحدِّث أحيانًا مع بعض الناس أو بعض الأهل فلا بأس به؛ لما ثبت في الصحيحين من فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين كانت صفية -رضي الله عنها- تأتي إليه فتتحدث عنده ساعة ثم تنقلب إلى بيتها (3) .

_ (1) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 210، 211) . (2) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 211) . (3) "فقه العبادات لابن عثيمين" (ص 209، 210) .

هل يلزم من نذر أن يعتكف الوفاء به؟

هل يَلْزَم من نذر أن يعتكف الوفاء به؟ - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: تقدم أن الاعتكاف طاعة لله -جل وعلا- والطاعة إذا نذرت يجب الوفاء بها ولكني سمعت أن بعض العلماء يقول: لايلزم من نذر الاعتكاف أن يعتكف الوفاء به. فهل هذا صحيح؟ فأجاب: الاعتكاف طاعة يجب الوفاء بها، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" أما الأحناف: فإنهم قالوا: لا يلزم الوفاء به، لأن عندهم قاعدة في النذر وهي: أن النذر لا يلزم الوفاء به إلا ما كان جنسه واجبًا بأصل الشرع والاعتكاف ليس جنسه واجبًا بأصل الشرع. والصحيح: قول الجمهور لعموم حديث: "من نذر أن يطيع الله فليطعه". والاعتكاف من طاعة الله (1) . نذر أن يعتكف في مسجد معين هل يجوز له أن يعتكف في غيره؟ - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: من نذر أن يعتكف في مسجد معين، فهل يجوز له أن يعتكف في غيره؟ فأجاب: من نذر أن يعتكف في أي مسجد غير المساجد الثلاثة جاز له أن يوفي باعتكافه في أي مسجد آخر، لأن البقاع كلها سواء، وكذلك من نذر أن يعتكف في مسجد في البلدة الفلانية، جاز له أن يوفي باعتكافه في، أي بلد. وهناك قاعدة في هذا، وهي أنه إذا عينّ الأفضل تَعَينَّ، ولم يجز فيما دونه. فمن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام لزمه الاعتكاف فيه، ولم يجز فيما دونه، لأن كل المساجد دونه في الفضل، وإذا عين المفضول جاز في الفاضل. دليل ذلك: أن رجلاً قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 114) .

صيام الثلاثة أشهر والاعتكاف فيها

مسجد بيت المقدس. قال: "صل ها هنا". قال: إني نذرت أن أصلي في ذلك المسجد. قال: "صل ها هنا". فلما رآه مصرًا قال: "شأنك إذًا". رواه أبو داود والحاكم وصححه (1) . صيام الثلاثة أشهر والاعتكاف فيها - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عما ورد في ثواب صيام الثلاثة أشهر، وما تقول في الاعتكناف فيها، والصمت: هل هو من الأعمال الصالحات؟ أم لا؟ فأجاب: أما تخصيص رجب وشعبان جميعًا بالصوم، أو الاعتكاف فلم يرد فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء، ولا عن أصحابه، ولا أئمة المسلمين، بل قد ثبت في "الصحيح": أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم إلى شعبان، ولم يكن يصوم من السنة أكثر مما يصوم شعبان، من أجل شهر رمضان. وأما صوم رجب بخصوصه، فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يُروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات، وأكثر ما روي في ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل رجب يقول: "اللَهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان". وقد روى ابن ماجة في سننه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن صوم رجب وفي إسناده نَظَر. لكن صح أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يضرب أيدي الناس؛ ليضعوا أيديهم في الطعام في رجب. ويقول: لا تشبهوه برمضان. ودخل أبو بكر فرأى أهله قد اشتروا كِيزانًا للماء، واستعدوا للصوم، فقال "ما هذا؟! " فقالوا: رجب. فقال: "أتريدون أن تشبهوه برمضان؟ " وكسر تلك الكيزان. فمتى أفطر بعضًا لم يكره صوم البعض. وفي "المسند" وغيره: حديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بصوم الأشهر الحرم وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 115) .

فهذا في صوم الأربعة جميعا، لا من يخصص رجب. وأما تخصيصها بالاعتكاف فلا أعلم فيه أمرًا، بل كل من صام صومًا مشروعًا، وأراد أن يعتكف من صيامه كان ذلك جائزًا بلا ريب. وإن اعتكف بدون الصيام، ففيه قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد: أحدهما: أنه لا اعتكاف إلا بصوم، كمذهب أبى حنيفة، ومالك. والثاني: يصح الاعتكاف، بدون الصوم. كمذهب الشافعي. وأما الصمت عن الكلام مطلقًا في الصوم، أو الاعتكاف، أو غيرهما فبدعة مكروهة، باتفاق أهل العلم. لكن هل ذلك محرم، أو مكروه؟ فيه قولان في مذهبه، وغيره. وفي "صحيح البخاري": أن أبا بكر الصديق دخل على امرأة من أحمس فوجدها مصمتة لا تتكلم، فقال لها أبو بكر: "إن هذا لا يحل: إن هذا من عمل الجاهلية". وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا قائمًا في الشمس، فقال: من هذا؟ فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم فى الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم ويصوم. فقال: مروه فليجلس وليستظل وليتكلم، وليتم صومه". فأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع نذره للصمت، أن يتكلم، كما أمره مع نذره للقيام أن يجلس، ومع نذره أن لا يستظل، أن يستظل. وإنما أمره بأن يوفي بالصوم فقط، وهذا صريح في أن هذه الأعمال ليست من القرب التي يؤمر بها الناذر. وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه". كذلك لا يؤمر الناذر أن يفعلها، فمن فعلها على وجه التعبد بها والتقرب، واتخاذ ذلك دينًا وطريقًا إلى الله تعالى: فهو ضال جاهل مخالف لأمر الله ورسوله. ومعلوم أن من يفعل ذلك -من نذر اعتكافًا ونحو ذلك-، إنما يفعله تدينًا، ولا ريب أن فعله على وجه التدين حرام فإنه يعتقد ما ليس بقربه قربة، ويتقرب إلى الله تعالى بما لا يحبه الله،

وهذا حرام، لكن من فعل ذلك قبل بلوغ العلم إليه، فقد يكون معذورا بجهله إذا لم تقم عليه الحجة، فإذا بلغه العلم فعليه التوبة. وجماع الأمر في الكلام قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت". - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: من فاته من رمضان صيام بعض الأيام وذلك لعذر. فهل يجب عليه أن يصومها متتابعة أم يجوز له أن يفرقها؟ فأجاب: الصحيح أنه يجوز قضاؤها متفرقة؛ لأن الآية ليس لها نص على التتابع بل إن الله -جل وعلا- أطلق فيها فدل على أنه يجوز أن يقضيها متفرقة. ولكن الأفضل أن يقضيها متوالية؛ لأن ذلك حكاية الأداء، فإن الأيام التي أفطرها كانت متوالية فيقضيها متوالية (1) . - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين حفظه الله: ظاهرت من امرأتي ولم أجد عتق رقبة، فصمت شهر ذي القعدة ولما وصلت إلى اليوم العاشر من ذي الحجة قيل لي: لا يجوز لك صوم العيد. فهل أعيد الصيام لأن التتابع واجب؟ فأجاب: من كان عليه صيام شهرين متتابعين -كما هي حالة السائل-، فوافق صيامه يوم عيد، نقول: أفطر يوم العيد وصم يوما بدله: فإن التتابع واجب إلا في مثل هذه الحالة (2) . - وسألت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: ما حكم امرأة صامت بدون إذن زوجها (أي بدون علمه) يومين علمًا أن الصوم كان قضاء لشهر رمضان المبارك، وكانت عند الصيام خجلت أن تخبر زوجها بذلك، إن كان غير جائز هل عليها كفارة؟

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 125) . (2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 102) .

فأجابت: يجب على المرأة قضاء ما أفطرته من أيام رمضان ولو بدون علم زوجها، ولا يشترط للصيام الواجب على المرأة إذن الزوج فصيام المرأة المذكورة صحيح. وأما الصيام غير الواجب فلا تصوم المرأة وزوجها حاضر إلا بإذنه -غير رمضان- (1) . وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: رجل كان على الإسلام ثم ارتد، وفي 15 من رمضان تاب في أثناء النهار. فهل يقضي ما فاته؟ فأجاب: المرتد إذا تاب في أثناء النهار أمرناه بإمساك بقية نهاره وبقية شهره وأسقطنا عنه ما مضى -وهذا الحكم ينطق أيضًا على الكافر الأصلي-. ودليل ذلك: أن ثقيفا لما أسلمت كانوا في سنة تسع في رمضان وهم آخر من أسلم من أهل الحجاز فلما أسلموا لم يأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقضوا أول الشهر بل أمرهم بإمساك بقيته. والله أعلم (2) . - وسئلت أيضًا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: هل ثبت أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صام عشر ذي الحجة؟ فأجابت: لم يثبت -فيما نعلم- أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صام عشر ذي الحجة أي: التسعة أيام ما قبل العيد. لكنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حث على العمل الصالح فيها، فقد ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" رواه البخاري (3) . وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (12582) . (2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 123، 124) . (3) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (7233) .

- وسئلت أيضًا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: اختلف الناس هنا في صوم يوم عرفة لهذا العام، حيث صادف يوم السبت فمنهم من قال: إن هذا يوم عرفة نصومه لأنه يوم عرفة وليس لكونه يوم السبت المنهي عن صيامه، ومنهم من لم يصمه لكونه يوم السبت المنهي عن تعظيمه مخالفة لليهود، وأنا لم أصم هذا اليوم وأنا في حيرة من أمري، وأصبحت لا أعرف الحكم الشرعي لهذا اليوم، وفتشت عنه في الكتب الشرعية والدينية فلم أصل إلى حكم واضح قطعي حول هذا اليوم، أرجو من سماحتكم أن ترشدني إلى الحكم الشرعي وأن ترسله لي خطيًا، ولكم من الله الثواب على هذا وعلى ما تقدموه للمسلمين من العلم النافع لهم في الدنيا والآخرة. فأجابت: يجوز صيام يوم عرفة مستقلاً سواء وافق يوم السبت أو غيره من أيام الأسبوع لأنه لا فرق بينها؛ لأن صوم يوم عرفة سنة مستقلة، وحديث النهي عن يوم السبت ضعيف؛ لاضطرابه ومخالفته للأحاديث الصحيحة. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) . - وسئل أيضًا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل يجوز صيام يوم عاشوراء وحده من غير أن يصام يوم قبله أو بعده، لأنني قرأت في إحدى المجلات فتوى مفادها أنه يجوز ذلك لأن الكراهة قد زالت حيث اليهود لا يصومونه الآن..؟ فأجاب: كراهة إفراد يوم عاشوراء بالصوم ليست أمرا متففا عليه بين أهل العلم فإن منهم من يرى عدم كراهة إفراده، ولكن الأفضل أن يصام يوم قبله أو يوم بعده، والتاسع أفضل من الحادي عشر، أي من الأفضل أن يصوم يوما قبله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لئن بقيت إلى قادم لأصومن التاسع" -يعني مع العاشر- وقد ذكر بعض أهل العلم أن صيام عاشوراء له ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده. الحالة الثانية: أن يفرده بالصوم.

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (11747) .

الحالة الثالثة: أن يصوم يومًا قبله ويومًا بعده. وذكروا أن الأكمل أن يصوم يومًا قبله ويوما بعده، ثم أن يفرده بالصوم. والذي يظهر أن إفراده بالصوم ليس بمكروه لكن الأفضل أن يضم إليه يومًا قبله أو يوما بعده (1) . - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: هل يجب على من أراد صيام الست من شوال أن يصومها متتابعة أم يجوز تفرقتها في أول الشهر وأوسطه وآخره؟ فأجاب: صيام هذه الستة سنة وليس واجبا، والأفضل صيامها بعد العيد متتابعة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر". لكن يجوز صيامها متتابعة ومتفرقة، كما يجوز صومها من أول الشهر أو من أوسطه أو من آخره، فإن ذلك كله يحصل به الصيام المطلوب فإن خرج الشهر قبل صيامها لعذر من مرض أو سفر أو نفاس، فلا مانع من صيامها بعده. والله أعلم (2) . - وسئل أيضًا العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-: إذا صام ستة أيام من شوال في ذي القعدة، فهل يحصل له الأجر الخاص بها؟ فأجاب: أما إن كان له عذر من مرض أو حيض أو نفاس أو نحو ذلك من الأعذار التي بسببها أخر صيام قضائه أو أخر صيام الست، فلا شك في إدراك الأجر الخاص، وقد نصوا على ذلك. وأما إذا لم يكن له عذر أصلاً، بل أخر صيامها إلى ذي القعدة أو غيره فظاهر النص يدل على أنه لا يدرك الفضل الخاص، وأنه سنة في وقت فات محله، كما إذا فاته صيام عشر ذي الحجة أو غيرها حتى فات وقتها، فقد زال ذلك المعنى الخاص، وبقي الصيام المطلق (3) .

_ (1) "الفتاوى لابن عثيمين - كتاب الدعوة" (1/188، 189) . (2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (ص 104) . (3) "الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن السعدي" (ص 230) .

- وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: شخص يصوم ستة أيام شوال، أتاه مرض أو مانع أو تكاسل عن صيامها في إحدى السنوات هل عليه إثم؟ لأننا نسمع أنه من يصومها عام يجب عليه عدم تركها. فأجابت: صيام ستة أيام من شوال بعد يوم العيد سنة، ولا يجب على من صامها مرة أو أكثر أن يستمر على صيامها، ولا يأثم من ترك صيامها. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) . - وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-: بالنسبة لأيام البيض: هل صحيح أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يترك صيامها سفرًا ولا حضرًا؟ أم أنه أمر مستحب؟ فأجاب: الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم تطوعا ويكثر الصيام، كان يصوم حتى يقال: إنه لا يفطر، وكان يفطر حتى يقال: إنه لا يصوم؟ فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكثر من صيام التطوع حضرا وسفرًا. أما كونه يلازم أيام البيض: فهذا لا أدري ولا يحضرني الآن شيء فيه (2) . - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: امرأة تسأل تقول: إنها نذرت أن تصوم شهر رجب من كل عام ثم كبرت بها السن وعجزت عن الصيام فماذا تفعل؟ فأجاب أولاً: أنصح جميع إخواني المسلمين بالبعد عن النذر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النذر وقال: "إنَّهُ لاَ يَأتِي بِخَير وِإنما يستخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخيل". وقد أشار الله عز وجل إلى النهي عنه في القرآن، فقال تعالى: (وَأقْسَمُوا بِالله جَهْدَ أيمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ قل لا تقسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) [النور: 53] .

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (7306) . (2) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/151) .

فإذا كان كذلك فلا تنذر فإن نذرت فإن كان طاعة وجب عليك الوفاء به لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نذر أن يطيع الله فليطعه". سواء كان هذ النذر مشروطًا بشرط حصول نعمة أو اندفاع نقمة أو كان نذرًا مطلقا، فنذر الطاعة قد يكون مشروطا بحصول نعمة أو اندفاع نقمة وقد يكون مطلقًا بلا شرط. هذه ثلاثة أحوال: 1- إذا قال قائل: لله عليَّ نذر أن أصوم غدًا. هذا نذر طاعة مطلق. يعني ما له سبب. 2- إذا قال: إن نجحت في الامتحان فلله على نذر أن أصوم ثلاثة أيام. هذا مقيد بحصول مصلحة. 3- إذا قال: إن شفى الله مريضي فلله على نذر أن أصوم شهرا. هذا نذر طاعة مقيد باندفاع نقمة وهو المرض. وعلى هذا: فنذر الطاعة يجب الوفاء به، ولكن نذر شهر رجب: نسأل هذه الناذرة: لماذا خصت شهر رجب بالنذر؟ إن قالت: لأنني أعتقد أن تخصيص رجب بالصوم عبادة. قلنا لها: هذا نذر مكروه، ولا يجب الوفاء به، لأن تخصيص رجب بالصوم مكروه، يعني: يكره للإنسان أن يخص شهر رجب بذاته من بين سائر السنَة، أما إذا كانت نذرت شهر رجب لأنه الشهر الموالي لحصول الحادث لا لعينه فإنها تصومه فإن عجزت فإن النذر الواجب يحذى به حذو الواجب في أصل الشرع. وهنا سؤال: لو قال قائل لله: علي نذر أن ألبس هذا الثوب أيجب عليه أن يوفي نذره أم لا؟ الجواب: لا يجب أن يوفي به؛ لأن نذر المباح حكمه حكم اليمين. فالآن: إن شاء لبس الثوب ولا عليه شيء، وإن شاء لم يلبس ووجب عليه أن يكفِّر

نذر أن يصوم الاثنين والخميس ثم بدا له أن يصوم يوما ويفطر يوما

كفارة يمين وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة (1) . - وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-: إذا نذرت صيام شهرين متتابعين، وبعد مضي خمسة وأربعين يوما من الصيام أفطرت لعذر شرعي، وبعد أن أردت أن أتم بقية الشهرين بعد انقضاء العذر وقعت في خلاف بين الناس، فمنهم من قال: يجب عليك إعادة الصيام. ومنهم من قال: أتمم صومك، والآن -وقد مضى وقت طويل بين الخمسة والأربعين يومًا وبقية الشهرين- ماذا علي أن أفعل؟ فأجاب: إذا كان الإفطار بعذر شرعي: كالحيض والنفاس وغيرهما فإنه لا يقطع التتابع. لكن: بما أنه قد مضى وقت طويل بعد انقطاع العذر حسبما ذكرت، ولم تصم خلاله: فإن التتابع قد انقطع، وعليك باستئناف صيام الشهرين المتتابعين من جديد؛ لأن التتابع مشروط فى النذر -كما ذكرت- فلابد منه، والله أعلم (2) . نذر أن يصوم الاثنين والخميس ثم بدا له أن يصوم يومًا ويفطر يومًا - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن رجل نذر أنه يصوم الاثنين والخميس، ثم بدا له أن يصوم يوما ويفطر يومًا، ولم يرتب ذلك إلا بأن يصوم أربعة أيام، ويفطر ثلاثة أو يفطر أربعة، ويصوم ثلاثة: فأيهما أفضل؟ أفتونا يرحمكم الله؟ فأجاب: الحمد لله. إذا انتقل من صوم الاثنين والخميس إلى صوم يوم وفطر يوم، فقد انتقل إلى ما هو أفضل. وفيه نزاع، والأظهر أن ذلك جائز كما لو نذر الصلاة في المسجد المفضول، وصلى في الأفضل، مثل أن ينذر الصلاة في المسجد الأقصى فيصلى في مسجد أحد الحرمين، والله أعلم (3) .

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/559، 560) . (2) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/152، 153) . (3) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/289-290) .

نذرت أن تصوم سنة -لوجه الله- لشفاء زوجها

نذرت أن تصوم سنة -لوجه الله- لشفاء زوجها - وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-: بعد مرض زوجي نذرت أن أصوم سنة -لوجه الله تعالى- بعد شفائه من هذا المرض، والحمد لله فقد تحقق أملي بقدرة الله عز وجل فشفي زوجي من مرضه، وأنا الآن مريضة وقد منعني الطبيب من الصيام وحاولت أن أصوم مرات عديدة -على الرغم من قول الطبيب- وأنا الآن لا أستطيع الصيام فأرجو أن تقولوا لي: هل يلزمني دفع مبلغ من النقود وكفارة عن هذا الصوم؟ وهل استطيع أن أدفعها لأحد من أقاربي المحتاجين أو هل يمكن أن أصوم يومين في الأسبوع على قدر استطاعتي؟ أفيدوني وفقكم الله. فأجاب: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "من نذر أن يطيع الله فليطعه". وأنت نذرت إذا شفى زوجك أن تصومي سنه، وأن الطبيب نهاك عن الصيام، فإن كانت السنه غير معينة، فالصيام يبقى فى ذمتك حتى تستطيعي فإذا استطعت وزال عنك المانع فإنك تؤدين الصيام الذى نذرته لأنه دين فى ذمتك فانتظرى حتى يزول المانع وتصومي إن شاء الله؛ لأنك لم تعينى سنه معينه بعينها بل سنه مطلقه فأي سنه تصومينها فإنها تجزئ مع الإطلاق ولا يجزئ أن تصومي يومين من كل أسبوع؛ لأنك نذرت سنه والستة اثنا عشرة شهرا متتابعه، وإن كنت نذرت سنة معينة فلم تستطيعي صيامها فإنك تقضينها إذا استطعت والله أعلم. وينبغي أن يُعلم أن النذر كما قال الرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل". وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النذر، فالدخول في النذر مكروه؛ لأنه يلزم عليه الحرج وأن الإنسان يكلف نفسه شيئًا لا يستطيع الوفاء به أو يشق عليه فالإنسان قبل النذر لا ينبغي له أن ينذر، ولكن بعد ما ينذر فإنه يتعين عليه الوفاء إذا كان نذره نذر طاعة. والله تعالى أثنى على الذين يوفون بالنذر فقال: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوما كَانَ شَرُهُ مُستَطِيرًا) [الإنسان: 7] . وقال: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم من نَّذْر فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ) [البقرة: 270] ، وقال تعالى: (وَلْيوفُوا نُذُورَهُم) [الحج: 29] .

حكمة إباحة الصوم في أيام التشريق للمتمتع والقارن مع عدم الهدي

والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "مَنْ نذَر أن يُطيع الله فليطعه" (1) . حكمة إباحة الصوم في أيام التشريق للمتمتع والقارن مع عدم الهدي - وسئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-: ما الحكمة في إباحة الصوم في أيام التشريق للمتمتع والقارن مع عدم الهدي؟ فأجاب: يُستفاد من إباحة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصيام أيام التشريق للمتمتع والقارن الذي لم يجد الهدي، دون قضاء رمضان، مع أنه أكمل وأعظم، فائدتان: إحداهما: أن الوقت إذا كان متسعا للواجب الأعلى، متعينًا للواجب الأدنى، أنه من مُرَجِّحات المفضول على الفاضل. وفائدة أخرى: أنه إذا تعارض واجب ومُحَرم، تعين تقديم الواجب، وبهذه الحال لا يصير حرامًا في حق المؤدي للواجب، كما يجب على المضحي أخذ شيء من شعرة، فهذا لا يدخل في المحرم. والله أعلم (2) . - وسئل أيضًا فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-: هل يشرع قيام النصف من شعبان وصيام الخامس عشر منه؟ فأجاب: لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقيام ليلهّ النصف من شعبان بخصوصها ولا بصيام اليوم الخامس عشر من شعبان بخصوصه، لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء يعتمد عليه. فليلة النصف من شعبان كغيرها من الليالي إن كان له عادة القيام في الليل، فإنه يقوم فيها كما يقوم في غيرها -دون أن يكون لها ميزهّ- لأن تخصيص وقت لعبادة من العبادات لابد له من دليل صحيح، فإذا لم يكن هناك دليل صحيح فإن ذلك يِكون بدعة، وكل بدعة ضلالة. وكذلك لم يرد في صيام يوم الخامس عشر من شعبان، أو النصف من شعبان بخصوصه دليل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقتضي مشروعية صيام ذلك اليوم.

_ (1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" طبعة دار الوطن (1/34، 35) . (2) "الفتاوى السعدية" (231) .

حكم الإستكثار من صيام شعبان وحكم صوم النصف الأخير منه

أما ما ورد من الأحاديث في هذا الموضوع فكلها ضعيفة؛ كما نص على ذلك أهل العلم، ولكن من كان من عادته أن يصوم الأيام البيض فانه يصومها في شعبان كما يصومها في غيره، لا على أنه خاص بهذا اليوم كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم ويكثر الصيام في هذا الشهر، لكنه لم يخص هذا اليوم، وإنما يدخل تبعًا (1) . - وسئل أيضًا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: ما حكم صيام نصف شعبان وهي الأيام (13-14-15) ؟ فأجاب: يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، من شعبان أو غيره لما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر عبد الله بن عمرو بن العاص بذلك وثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيضًا أنه أوصى أبا الدرداء وأبا هريرة بذلك، وإن صام هذه الثلاثة من بعض الشهور دون بعض أوصامها تارة وتركها تارة فلا بأس لأنها نافلة لا فريضة، والأفضل أن يستمر عليها في كل شهر إذا تيسر له ذلك (2) . حكم الإستكثار من صيام شعبان وحكم صوم النصف الأخير منه - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: هل يستحب الإكثار من صيام شهر شعبان؟ وهل يجوز صوم آخره؟ لأنني قرأت حديثًا في النهي عن صوم النصف الأخير من شعبان؟ فأجاب: يستحب الإكثار من الصيام في شهر شعبان، وقد ورد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكثر من الصيام في شهر شعبان. وكانت -رضي الله عنها- تقول: "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم شعبان إلا قليلاً" وهذا دليل على فضل الصيام في شعبان. أما صيام آخره: فقد ورد النهي عن صيامه في حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان". وقد أنكر بعض العلماء هذا الحديث -وإن كان سنده صحيحًا-

_ (1) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح بن فوزان" (3/151-152) . (2) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (1/122) .

التهنئة بقدوم رمضان

واستدلوا على نكارته بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: "هل صمت من سرر هذا الشهر شيئًا؟ " قال: لا. قال: "فإذا صمت فأفطر يومين". وسرر الشهر: أواخره التي يستتر فيها القمر، فدل هذا على أنه يتأكد الصيام في أول الشهر وآخره. وقد ذكر العلماء أن الحكمة في الإكثار من صيام شعبان حتى يتهيأ المسلم لرمضان. أما النهي: فقد ورد في وصل شعبان برمضان؛ لأن المسلم مأمور أن يميز شهر رمضان عن غيره، لذلك أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفطر قبل رمضان بيوم أو يومين بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوم أحدكم فليصمه". فالصحيح -إن شاء الله- أنه يجوز صوم آخر شعبان إلا اليومين اللذين قبل رمضان (1) . التهنئة بقدوم رمضان - وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله -حفظه الله-: عندما يحل شهر رمضان نسمع كثيرًا من الناس يباركون على بعضهم بقدومه بقولهم: "مبروك عليك شهر رمضان": فهل لذلك أصل في الشرع؟ أفتونا مأجورين. فأجاب: التهنئة بدخول شهر رمضان لا بأس بها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان، ويحثهم على الاجتهاد فيه بالأعمال الصالحة، وقد قال الله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58] . فالتهنئة بهذا الشهر والفرح بقدومه يدلان على الرغبة في الخير، وقد كان السلف يبشر بعضهم بعضًا بقدوم شهر رمضان؛ اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كما جاء ذلك في حديث سلمان الطويل الذي فيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أيها النَّاس! قَدْ أَظَلَّكم شَهْرٌ عَظِيم مبارك" إلى آخر الحديث (2) . الموت في رمضان - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-:

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين (100) . (2) "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح فوزان" (3/123) .

هل يضاعف الصوم في الحرم؟

يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار" هل معنى ذلك أن من يموت في رمضان يدخل الجنة بغير حساب؟ فأجاب: ليس الأمر كذلك: بل معنى هذا أن أبواب الجنة تفتح تنشيطًا للعاملين ليتسنى لهم الدخول، وتغلق أبواب النار لأجل انكفاف أهل الإيمان عن المعاصي حتى لا يلجوا هذه الأبواب، وليس معنى ذلك أن من مات في رمضان يدخل الجنة بغير حساب إنما الذين يدخلون الجنة بغير حساب هم الذين وصفهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: "هُمُ الَّذين لاَ يَستَرقُونَ وَلاَ يَكْتَوُون وَلاَ يَتَطَيرُون وَعلَى رَبِّهِم يَتَوَكلون" (1) . هل يضاعف الصوم في الحرم؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل يضاعف الصوم في الحرم؟ فأجاب: الصلاة في مكة أفضل من غيرها بلا ريب؛ ولهذا ذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينما كان مقيمًا في غزوة الحديبية كان في الحلِّ ولكن كان يصلي في الحرم -أي داخل أميال الحرم-، وهذا يدل أن الصلاة في الحرم -أي فيما دخل في الأميال- أفضل من الصلاة في الحل؛ وذلك لفضل المكان وقد أخذ العلماء من هذه قاعدة قالوا فيها: إن الحسنات تُضاعف في كل مكان وزمان فاضل، كما أن الحسنات تضاعف أيضًا باعتبار العامل. كما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لاَ تَسُبوا أصحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أنَ أحَدَكُم أنْفَقَ مِثْل أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أحَدُهُم وَلاَ نَصِيفه". إذًا: فالعبادات تتضاعف باعتبار العامل وباعتبار الزمان وباعتبار المكان كما تتفاضل أيضًا باعتبار نِسَبها وهيئتها، وهذا أمر معلوم ولا يتسع المُقام لبسطه وشرحه ولكننا نقول: إن الصلاة في مكة أفضل من الصلاة في غيرها، ونقول: إن الصلاة في المسجد الحرام نفسه تتضاعف فتكون بمائة ألف صلاة فيما عداه، وقد أخذ أهل العلم من ذلك أن الصيام يضاعف في مكة ويكون أفضل من الصيام في غيرها وذلك لشرف مكانه على أن الصيام

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد صالح العثيمين" (1/561) .

الكافر لا يجاهر بالفطر في رمضان

إمساك وليس بعمل يحتاج إلى مكان ولا زمان سوى الزمان الذي شرع فيه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وقد ورد في حديث عن ابن ماجه بإسناد ضعيف أن "من صام رمضان في مكة وقام مما تيسر منه كُتب له أجر مائة ألف رمضان" وهذا إسناده ضعيف ولكن يستأنس به ويدل على أن صوم رمضان في مكة أفضل من صوم في غيرها (1) . الكافر لا يجاهر بالفطر في رمضان - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: صاحب شركة لديه عُمّال غير مسلمين، فهل يجوز له أن يمنعهم من الأكل والشرب أمام غيرهم من العمال المسلمين في نفس الشركة خلال نهار رمضان؟ فأجاب أولاً نقول: إنه لا ينبغي للإنسان أن يستخدم عمالاً غير مسلمين مع تمكنه من استخدام المسلمين؛ لأن المسلمين خير من غير المسلمين؛ قال الله تعالى: (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) [البقرة: 221] ، ولكن إذا دعت الحاجة إلى استخدام عمال غير مسلمين، فإنه لا بأس به بقدر الحاجة فقط. وأما أكلهمْ وشربهم في نهار رمضان أمام الصائمين من المسلمين فإن هذا لا بأس به؛ لأن الصائم المسلم يحمد الله عز وجل أن هداه للإسلام الذي به سعادة الدنيا والآخرة، ويحمد الله تعالى أن عافاه، فهو وإن حُرم عليه الأكل والشرب في هذه الدنيا شرعًا في أيام رمضان فإنه سينال الجزاء يوم القيامة حين يقال له: (كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية) [الحاقة: 24] لكن يمنع غير المسلمين من إظهار الأكل والشرب في الأماكن العامة لمنافاته للمظهر الإسلامي في البلد. التدرج في الصوم - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل حدث تدرج في صيام رمضان كالأمر في تحريم الخمر؟ فأجاب: نعم حصل تدرج فحين نزل الصوم كان من شاء صام ومن شاء أطعم ثم بعد

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/557، 558) .

هل يكفر تارك الصوم؟

ذلك صار الصوم واجبًا لقوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكمُ الشَهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] . التدرج الآخر أنهم كانوا إذا ناموا بعد الإفطار أو صَلُّوا العشاء لا يحل لهم الأكل والشرب والجماع إلا عند غروب اليوم التالى ثم خفف عنهم. قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] . فكانت المحظورات على الصائم إذا نام أو صلى العشاء، ثم نسخ ذلك فكانت جائزة إلى أن يتبين الفجر. هل يَكْفُر تارك الصوم؟ - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: هل يكفر تارك الصوم ما دام يصلي ولا يصوم بدون مرض، وبدون أي شيء؟ فأجابت: من ترك الصوم جَحدًا لوجوبه فهو كافر إجماعًا ومن تركه كَسَلاً وتهاونًا فلا يكْفُر ولكنه على خطر كبير بتركه ركن من أركان الإسلام مُجمع على وجوبه. ويستحق العقوبة والتأديب من ولي الأمر بما يردعه وأمثاله، بل ذهب بعض أهل العلم إلى تكفيره وعليه قضاء ما تركه مع التوبة إلى الله سبحانه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) . صيام بعض الأيام بلياليها هل يجزيء عن صيام الشهر؟ - وسئلت الجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: هل يمكن أن يصوم المرء ثلاثة أيام ليلاً ونهارا في رمضان وتكون بدل ثلاثين يومًا؟ فأجابت: لا يجوز ذلك ولا قال به أحد من أهل العلم؛ لأن الليل ليس محلاً للصيام، ومن فعله يعتبر مخالفًا للشرع المطهر وآتيًا بما لم يشرعه الله ومفطرًا في رمضان بغير عذر،

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (6060) .

حكم من أفطر في رمضان

ولأن الله سبحانه أوجب على المكلَّفين من المسلمين صوم رمضان كله، فلا يجزيء صوم بعضه عنه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) . اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز حكم من أفطر في رمضان - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عمن أفطر في رمضان؟ فأجاب: إذا أفطر في رمضان مستحلاً لذلك، وهو عالم بتحريمه -استحلالاً له- وجب قتله، وإن كان فاسقًا عوقب عن فطره في رمضان بحسب ما يراه الإمام، وأخذ منه حد الزنا، وإن كان جاهلاً عُرِّف بذلك، وأخذ منه حد الزنا، ويرجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام، والله أعلم (2) . أيهما أفضل عشر ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟ - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان. أيهما أفضل؟ فأجاب: أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة. وأما ليالى عشر رمضان فهي ليالي الإحياء، التي كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحييها كلها، وفيها ليلة خير من ألف شهر.

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" رقم (3089) . (2) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/265) .

أيهما أفضل ليلة القدر أم ليلة الإسراء؟

فمن أجاب بغير هذا التفصيل، لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة (1) . أيهما أفضل ليلة القدر أم ليلة الإسراء؟ - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن "ليلة القدر"، و"ليلة الإسراء" بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيهما أفضل؟ فأجاب: بأن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى الأمة، فحظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي اختص به ليلة المعراج منها أكمل من حظه من ليلة القدر. وحظ الأمة من ليلة القدر أكمل من حظهم من ليلة المعراج. وإن كان لهم فيها أعظم حظ. لكن الفضل والشرف والرتبة العليا إنما حصلت فيها لمن أُسْرِي به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) . هل يجوز إهداء ثواب الصيام للميت؟ - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: هل يجوز إهداء ثواب الصيام للميت؟ فأجاب: النقل المطلق الصحيح: أنه يجوز صيامه وإهداء ثوابه للميت ويصل إليه الثواب. إن شاء الله (3) . هل أصوم وأصلي عن والدي المتُوفَّى؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: أصلي لأبي المتَوفَّى صلاة النافلة في الحرم هل يجوز ذلك والصدقة والصوم؟ فأجاب: نعم يجوز للإنسان أن يتصدق عن والده أو والدته أو أقاربه أو غير هؤلاء من

_ (1) "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (25/287) . (2) "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (3) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (124)

المسلمين ولا فرق بين الصدقات والصلوات والصيام والحج وغيرها ولكن السؤال الذي ينبغي أن نقول هل هذا من الأمور المشروعة أو من الأمور الجائزة غير المشروعة؟ نقول: إن هذا من الأمور الجائزة غير المشروعة وأن المشروع في حق الولد أن يدعو لوالده دعاء إلا في الأمور المفروضة التي تدخلها النيابة فإنه يؤدي عن والده ما افترض الله عليه ولم يؤده كما مات والده وعليه صيام؛ فقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "من مات وعليه صوم صام عنه وليه". ولا فرق في ذلك بين أن يكون الصيام صيام فرد بأصل الشرع كصيام رمضان أو إلزام الإنسان نفسه كما في صيام النذر. والله أعلم. - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: يقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" فهل هو إطعام وإسقاء حقيقي أم معنوي؟ فأجاب: اختلف أهل العلم في ذلك. فقيل: هو إطعام وإسقاء حقيقى فيؤتى إليه بطعام وشراب من الجنة. وقيل: إنه إطعام وإسقاء معنوي، والمراد أن الله يفتح على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المعارف والأوراد ما يقوم مقام الطعام والشراب. وهذا قول الأكثرين فإن تلك الفتوحات الإلهية والأوراد الرَبانية تنزل على قلوب أولياء الله فتقويها وتشغل نفوسهم عن مشتهياتها من الطعام والشراب كما يقول بعضهم: لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد ومما يؤيد هذا القول أنه ورد في بعض روايات الحديث الوارد في السؤال "إِني أظَلُ عِنْد رَبي يُطْعِمني وَيُسقِيني" وكلمة "أظل" معناها: أمكث نهارًا. ومن المعلوم أن نهار الصيام لا يجوز فيه الأكل لا من طعام الجنة ولا من غيرها (2) .

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/554) . (2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (123) .

حكم الاعتكاف للرجل والمرأة

حكم الاعتكاف للرجل والمرأة - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: ما حكم الاعتكاف للرجل والمرأة، وهل يشترط له الصيام، وبماذا يشتغل المعتكف، ومتى يدخل معتكفه، ومتى يخرج منه؟ فأجاب: الاعتكاف سنة للرجال والنساء؛ لما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يعتكف في رمضان واستقر أخيرًا اعتكافه في العشر الأواخر، وكان يعتكف بعض نسائه معه، ثم اعتكفن من بعده - - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومحل الاعتكاف المساجد التي تقام فيها صلاة الجماعة، وإذا كان يتخلل اعتكافه جمعة، فالأفضل أن يكون اعتكافه في المسجد الجامع، إذا تيسر ذلك وليس لوقته حد محدود في أصح أقوال أهل العلم، ولا يشترط له الصوم ولكن مع الصوم أفضل. والسنه له أن يدخل معتكفه حين ينوي الاعتكاف ويخرج بعد مضي المدة التي نواها وله قطع ذلك إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لأن الاعتكاف سُنة ولا يجب بالشروع فيه إذا لم يكن منذورًا ويستحب الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان تأسيًا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ويستحب لمن اعتكفها دخول معتكفه بعد صلاة الفجر من اليوم الحادي والعشرين اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويخرج متى انتهت العشر. وإن قطعه فلا حرج عليه إلا أن يكون منذورًا كما تقدم. والأفضل أن يتخذ مكانًا معينًا في المسجد يستريح فيه إذا تيسر ذلك، ويشرع للمُعْتَكِف أن يكثر من الذكر وقراءة القرآن والاستغفار والدعاء والصلاة في غير أوقات النهي. ولا حرج أن يزوره بعض أصحابه، وأن يتحدث معه كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزوره بعض نسائه، ويتّحدثن معه. وزارته مرة صفية -رضي الله عنها- وهو معتكف في رمضان، فلما قامت قام معها إلى باب المسجد، فدلّ على أنه لا حرج في ذلك.

هل يجوز الاعتكاف بلا صوم؟

وهذا العمل منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدل على كمال تواضعه، وحسن سيرته مع أزواجه عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعهم بإحسان (1) . - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل يجوز للمرأة أن تعتكف في مسجدها الذي في منزلها؟ فأجاب: لا، المرأة إذا أرادت الاعتكاف فإنما تعتكف في المسجد، إذا لم يكن في ذلك محظور شرعي، فإن كان في ذلك محظور شرعي فلا تعتكف (2) . هل يجوز الاعتكاف بلا صوم؟ - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: هل يجوز الاعتكاف بلا صوم؟ فأجاب: الصحيح: أنه يجوز الاعتكاف بلا صوم ودليل ذلك أن عمر -رضي الله عنه- قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوف بنذرك". والليلة ليست محلاً للصوم فدلَّ ذلك على أنه يجوز الاعتكاف بدون الصيام، ولكن يتأكد الصيام لمن اعتكف نهارًا خروجًا من الخلاف؛ لأن بعض العلماء قال: لا اعتكاف إلا بصوم، ولأن الذين قالوا بجواز الاعتكاف بلا صوم قالوا: إن الأفضل الاعتكاف مع الصيام (3) . ليس له أن يخص يومًا بعينه يعتاد الاعتكاف فيه - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:

_ (1) "تحفة الأخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لسماحة الشيح ابن باز (183، 184) . (2) "فقة العبادات" لابن عثيمين (209) . (3) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (113) .

هذا الحديث لا يصح في فضل الاعتكاف

هل يجوز لمن يريد الاعتكاف أن يخصص يومًا بعينه للاعتكاف؟ فأجابت: ليس له أن يخص يومًا بعينه يعتاد الاعتكاف فيه، لكن يحرص على الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان؛ اقتداءً بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) . هذا الحديث لا يصح في فضل الاعتكاف - وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: من روى حديث: "من اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله باعد الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق كل خندق كما بين الخافقين"، وما درجة هذا الحديث، وإذا أراد شخص أن يعتكف يومًا واحدًا متى يكون بدء اعتكافه، ومتى يكون انتهاؤه، وكذلك إذا أراد أن يعتكف يومين فمتى يكون ابتداؤهما، ومتى يكون انتهاؤهما؟ فأجابت: الحديث ضعيف، وبدء اعتكاف يوم يكون بعد صلاة الفجر، ونهايته غروب الشمس، وهكذا اليومان. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (2) . إخراج زكاة الفطر عن الأخت - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: أنا تايلاندي الجنسية طالب في إحدى جامعات السودان ولي أخت صغيرة في بلدي تايلاند لم تبلغ حتى الآن وخلال الشهور الماضية جاءني خبر مفجع وهو أن أبي تُوفِّى تاركًا أختي الصغيرة وسؤالي: هل يجب علي إخراج زكاة الفطر عنها علمًا أنه ليس لها أخ سواي ينفق عليها؟ فأجاب: إذا كان والدك توفي قبل انسلاخ رمضان، ولم يؤد أًحد من أقاربك زكاة الفطر عن أختك، فإن عليك أن تؤدي زكاة الفطر عنها إذا كنت تستطيع ذلك.

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (8701) . (2) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (6718) .

هل تلزم صدقة الفطر الرجل عن أهل بيته؟

وعليك أيضًا أن ترسل لها من النفقة ما يقوم بحالها حسب طاقتك؛ لقول الله سبحانه (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا) [الطلاق: 7] . ويقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قال له سائل: من أبر يا رسول الله؟ قال: "أمك". قال ثم من؟ قال: "أمك". قال ثم من؟ قال: "أمك". قال ثم من؟ قال: "أباك. ثم الأقرب فالأقرب". ولأن الإنفاق عليها من صلة الرحم الواجبة، إذا لم يوجد من يقوم بالنفقة عليها سواك، ولم يخلف لها أبوك من التركة ما يقوم بحالها، وفقكما الله لكل خير (1) . هل تلزم صدقة الفطر الرجل عن أهل بيته؟ - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: هل تلزم صدقة الفطر الرجل عن أهل بيته بما فيهم الزوجة والخادم؟ فأجاب: يجب على المسلم إخراجها عن نفسه وأهل بيته: من أولاده وزوجاته، ومماليكه، إذا فضلت عن قوته وقوتهم يومه وليلته. أما الخادم المستأجر: فزكاته على نفسه إلا أن يتبرع بها المستأجر أو تشترط عليه. أما الخادم المملوك: فزكاته على سيده، كما تقدم في الحديث (2) . هل يلزم إخراج الفطرة عن الولد الغائب؟ - وسئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله-:

_ (1) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (2/170-171) . (2) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" للشيخ ابن باز (154-155) .

هل يلزم إخراج الفطرة عن الولد الغائب؟

هل يلزم إخراج الفطرة عن الولد الغائب؟ فأجاب: أما فطرة الولد الغائب فإنها تلزم بشرط أن يكون فقيرًا، وأبوه غني، ولا تسقط غيبته الوجوب (1) . هل الأنواع التي تخرج في صدقة الفطر محددة؟ - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: هل الأنواع التي تخرج في صدقة الفطر محددة؟ وإن كانت كذلك فما هي؟ فأجاب: الواجب إخراجها من قوت البلد سواء كان: تمرًا، أو شعيرًا أو برًا، أو ذرة، أو غير ذلك، في أصح قولي العلماء، ولأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يشترط في ذلك نوعًا معينًا، ولأنها مواساة، وليس على المسلم أن يواسي من غير قوته (2) . الأطعمة التي يجوز إخراج زكاة الفطر منها - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: ما الأطعمة التي يجوز إخراج زكاة الفطر منها؟ فأجاب: ورد في الحديث أنها تخرج من خمسة أشياء وهي: 1- البُر 2- الشعير 3- والتمر 4- والزييب 5- والأقط. لكن ذكر بعض العلماء المحققين أن تخصيص هذه الخمسة حيث أنها المستعملة في ذلك الوقت، وأجاز إخراجها من غالب قوت البلد كالأرز مثلاً والذرة في البلاد التي تقتاتها ونحو ذلك والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (3) .

_ (1) "الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدى" (209) . (2) "تحفة الأخوان بأجوبة مهمة تتملق باركان الإسلام" لابن باز (155) . (3) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (189) .

هل يجوز إخراج زكاة الفطر لحما؟

هل يجوز إخراج زكاة الفطر لحمًا؟ - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: بعض أهل البوادي ليس عندهم طعام يخرجونه لزكاة الفطرة فهل يجوز لهم الذبح من المواشي وتوزيعها. على الفقراء؟ فأجاب: لا يصح ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرضها صاعًا من طعام واللحم يوزن ولا يكال، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر صاعًا من تمر وصاعًا من شعير". وقال أبو سعيد -رضي الله عنه-: "كنا نخرجها في زمن النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صاعًا من طعام، كان طعامنا التمر والشعير والزييب والأقط". ولهذا كان القول الراجح من أقوال أهل العلم أن زكاة الفطر لا تجزيء من الدراهم ولا من الثياب ولا من الفرش. ولا عبرة بقول من قال من أهل العلم: إن زكاة الفطر تجزيء من الدراهم؛ لأنه ما دام بين أيدينا نص عن النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه لا قول لأحد بعده ولا استحسان للعقول في إبطال الشرع، والله عز وجل لا يسألنا عن قول فلان وفلان يوم القيامة وإنما يسألنا عن قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لقوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) [القصص: 65] . فتصور نفسك واقفًا بين يدي الله يوم القيامة وقد فرض عليك على لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تؤدي زكاة الفطر من الطعام فهل يمكنك إذا سئلت يوم القيامة: ماذا أجبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فرض هذه الصدقة؟ فهل يمكنك أن تدافع عن نفسك وتقول: والله هذا مذهب فلان وهذا قول فلان؟ الجواب: لا. ولو أنك قلت ذلك لم ينفعك. فالصواب بلا شك أن زكاة الفطرة لا تجزيء إلا من الطعام وأن أي طعام يكون قوتًا للبلد فإنه مجزيء وإذا رأيت أقوال أهل العلم في هذه المسألة وجدت أنها طرفان ووسط:

حكم من يجبر على إخراج زكاة الفطر دراهم

فطرف يقول: أخرجها من الطعام، وأخرجها من الدراهم، وطرف آخر يقول: لا تخرجها من الدراهم ولا تخرجها من طعام إلا من خمسة أصناف فقط وهي البر والتمر والشعير والزبيب والأقط وهذان القولان متقابلان. وأما القول الوسط فيقول: أخرجها من كل ما يطعمه الناس ولا تخرجها مما لا يطعمه الناس، فأخرجها من البر والتمر والأرز والذرة, إذا كنت في مكان يقتات الناس فيه الذرة وما أشبه ذلك, حتى لو فرض أننا في أرض يقتات أهلها اللحم. وبناء على ذلك , يتبين أن ما ذكره السائل من إخراج أهل البوادي للحم بدلاً عن زكاة الفطر فلا يجزيء عن زكاة الفطر (1) . حكم من يُجْبَر على إخراج زكاة الفطر دراهم - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: ما حكم من يجبر على إخراج زكاة الفطر من الدراهم؟ وهل تجزئه؟ فأجاب: الظاهر لي إذا أجبر الإنسان على إخراج زكاة الفطر دراهم فليعطها إياهم ولا يبارز بمعصيه ولاة الأمور, لكن فيما بينه وبين الله يخرج ما أمره به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيخرج صاعًا من طعام كما أمر النبي؛ لأن إلزامهم إياك بأن تخرج من الدراهم إلزام بما لم يشرعه الشارع وحينئذ يجب عليك أن تقضي ما تعتقد أنه هو الواجب (2) . حكم إخراج زكاة الفطر أثناء الخطبة بعد صلاة العيد - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: ما حكم من لم يخرج زكاة الفطر إلا في أثناء الخطبة بعد صلاة العيد، وذلك من أجل نسيانه؟ فأجاب: إخراج زكاة الفطر قبل الصلاة واجب، ومن نسي ذلك فلا شيء عليه

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/465-467) . (2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/465) .

هل تسقط زكاة الفطر عمن لم يخرجها قبل العيد؟

سوى إخراجها بعد ذلك؛ لأنها فريضة، فعليه أن يخرجها متى ذكرها، ولا يجوز لأحد أن يتعمد تأخيرها إلى ما بعد صلاة العيد في أصح قولي العلماء؛ لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المسلمين أن يؤدوها قبل صلاة العيد (1) . هل تسقط زكاة الفطر عمن لم يخرجها قبل العيد؟ - وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: من لم يخرج زكاة الفطر قبل العيد: فهل تسقط عنه؟ فأجاب: من لم يخرج زكاة الفطر قبل العيد فإنه آثم ولا تسقط عنه بل عليه أن يخرجها قضاء (2) . نسي إخراج زكاة الفطر قبل العيد - وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: أعددت زكاة الفطر قبل العيد لإعطائها إلى فقير أعرفه، ولكنني نسيت إخراجها قبل صلاة العيد، وقد أخرجتها بعد الصلاة. فما الحكم؟ فأجاب: لا ريب أن السنة إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد، كما أمر بهذا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن لا حرج عليك فيما فعلت، فإخراجها بعد الصلاة يجزيء والحمد لله. وإن كان جاء في الحديث أنها صدقة من الصدقات، لكن ذلك لا يمنع الإجزاء، وأنه وقع في محله، ونرجو أن يكون مقبولاً، وأن تكون زكاة كاملة، لأنك لم تؤخر ذلك عمدًا، وإنما أخرته نسيانًا. وقد قال الله عز وجل في كتابه العظيم: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) [البقرة: 286] .

_ (1) "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (3 /101) . (2) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (187) .

حكم وضعها عند الجار حتى يأتي الفقير وتأخرت عن يوم العيد

وثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: "يقول الله عز وجل: قد فعلت" فأجاب دعوة عباده المؤمنين في عدم المؤاخذة بالنسيان (1) . حكم وضعها عند الجار حتى يأتي الفقير وتأخرت عن يوم العيد - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: نود أيضًا أن نعرف حكم وضعها عند الجار حتى يأتي الفقير دون توكيل من الفقير؟ فأجاب: نعم يجوز للإنسان أن يضعها عند جاره ويقول: هذه لفلان إذا جاء فأعطها إياه. لكن لابد أن تصل يد الفقير قبل صلاة العيد، لأنه وكيل عن صاحبها أما لو كان الجار قد وكله الفقير، وقال: اقبض زكاة الفطر من جارك لي، فإنه يجوز أن تبقى مع الوكيل ولو خرج الناس من صلاة العيد (2) . لا يجوز إعطاؤها إلا للفقير من المسلمين - وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل يجوز إعطائها للعمال والشغالات والشغالين غير المسلمين؟ فأجاب: لا. لا يجوز إعطاؤها إلا للفقير من المسلمين فقط (3) . حكم إخراج زكاة الفطر للمجاهدين وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-:

_ (1) "مجموعة فتاوى الشيخ ابن باز" (3/103) . (2) "فقة العبادات لابن عثيمين" (214، 215) . (3) "فقة العبادات لابن عثيمين" (214) .

زكاة الفطر توزع بين فقراء البلد

ما حكم إخراج صدقة الفطر للمجاهدين في البوسنة والهرسك وغيرها وإن كان الحكم بالجواز، فما هو الأفضل في ذلك؟ فاجاب: المشروع إخراجها في فقراء المسلمين في البلد التي فيها المزكي؛ لأنهم أحوج إليها غالبًا، ولأنها مواساة لهم حتى يستغنوا بها عن السؤال أيام العيد، وإن نقلت إلى غيرهم من الفقراء أجزأت في أصح قولي العلماء؛ لأنها بلغت محلها، لكن صرفها في فقراء البلد أولى وأفضل وأحوط. ويجوز التوكيل في دفعها للفقراء في البلاد وخارجها إذا كان الوكيل ثقة كزكاة المال، ويجوز توكيله في شراء الطعام المجزيء، وتوزيعه على الفقراء. والله ولي التوفيق (1) . وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل يجوز للققير الذي يريد المزكي أن يعطيه زكاة الفطر أن يوكل شخصًا آخر في قبضها من المزكي وقت دفعها؟ فأجاب: يجوز ذلك، أي يجوز أن يقول من عنده زكاة فطر للفقير: وكِّل من يقبض الزكاة عنك وقت دفعها (2) . زكاة الفطر توزع بين فقراء البلد وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله-: بالنسبة للفطرة هل توزع على فقراء بلدتنا أم على غيرهم؟ وإذا كنا نسافر قبل العيد بثلاثة أيام ماذا نفعل تجاه الفطرة؟ فأجاب: السنة توزيع زكاة الفطر يين فقراء البلد صباح يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز توزيعها قبل ذك ييوم أو يومين ابتداء من اليوم الثامن والعشرين. وإذا سافر من عليه زكاة

_ (1) "تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام" لابن باز (155-116) . (2) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/469) .

هل أخرج زكاة الفطر في بلدي أم في مكان العمل الذي أقيم فيه؟

الفطر قبل العيد ييومين أوأكثر أخرجها في البلاد الإسلامية التي يسافر إليها، وإن كانت غير إسلامية التمس بعض فقراء المسلمين وسلمها لهم. وإن كان سفره بعد جواز إخراجها فالمشروع له توزيعها بين فقراء بلده، لأن المقصود منها مواساتهم والإحسان إليهم وإغناؤهم عن سؤال الناس أيام العيد (1) . هل أخرج زكاة الفطر في بلدي أم في مكان العمل الذي أقيم فيه؟ وسئل فضيلة الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله-: أنا مقيم في هذا البلد للعمل، فهل يجوز لي إخراج زكاة الفطر هنا أم في بلدي الذي قدمت منه؟ فأجاب: يشرع إخراج صدقة الفطر في البلد الذي ينتهي شهر رمضان وأنت فيه لأنها تابعة للبدن، فحيث وجد المسلم في بلد وحان انتهاء شهر رمضان فإنه يخرج زكاة الفطر عن نفسه في فقراء ذلك البلد، إن وكَّل من يخرجها عنه في بلده أجزأه ذلك لكنه خلاف الأولى. والله أعلم. وإذا كنت في بلد ليس فيه مسلمون، أو فيه مسلمون لكنهم لا يستحقون صدقة الفطر لأنهم أغنياء فإنها تخرج في أقرب بلد فيه فقراء من المسلمين (2) . هل يجوز نقل زكاة الفطر من بلد لآخر؟ وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله-: هل يجوز نقل زكاة الفطر من البلد التي أقطن بها إلى بلاد أخرى؟ فأجاب: ذهب الأكثرون إلى أنها لا تخرج من البلاد إذا كان فيها فقراء وهذا هو القول الصحيح، فإنه إذا كان في البلاد فقراء واستطعت أن توصلها لهم وأنت تعرف أنهم

_ (1) "الفتاوى لابن باز - كتاب الدعوة" (2/171) . (2) "الفتاوى لابن فوزان - كتاب الدعوة" (2/13، 14) .

محتاجون فإنه لا يجوز لك نقل زكاتك إلى بلاد أخرى، أما إذا كانت بلادك ليس فيها فقراء، فإنه يجوز نقلها ولو إلى بلاد بعيدة، ولكن لابد أن يذكر أنها زكاة فطر، ولابد أيضًا أن يقدم إرسالها حتى تصل إليهم قبل خروج وقتها (1) . حكم نقل زكاة الفطر وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: عن حكم نقل زكاة الفطر إلى البلدان البعيدة بحجة وجود من أهلها الفقراء الكثيرين من القارات التي تخرج عن البلد؟ فأجاب: نقل صدقة الفطر إلى بلاد غير بلاد الرجل الذي أخرجها إن كان للحاجة بأن لم يكن عنده أحد الفقراء، فلا بأس به، وإن كان لغير حاجة بأن وجد في البلد من يتقبلها، فإنه لا يجوز (2) . وسئل أيضًا -حفظه الله-: جماعة وكَّلوا أحدهم بشراء قمح، وتوزيعه زكاة للفطر في أفغانستان، فما حكم عملهم هذا؟ فأجاب المشهور من مذهب الحنابلة في هذه المسألة أنها لا تجوز؛ لأنه لا يجوز نقل الزكاة عن محل وجوبها إلا إذا لم يكن في المحل أهل لها، فإنها تفرق في أقرب البلاد إليه، وعلى هذا فإذا كان في بلد فيه فقراء فإنه لا يوزعها في بلد آخر سواه؛ لأن أهل بلده أحق من غيرهم. أما لو لم يكن عنده فقراء فإنه لا حرج أن ينقلها إلى بلاد أخرى، وكذلك على القول الراجح إذا كان في نقلها مصلحة مثل أن ينقلها إلى أشد حاجة، لكن زكاة الفطر ليست كزكاة المال؛ لأن زكاة المال وقتها أوسع، أما زكاة الفطر فهي مخصوصة قبل العيد بيومين إلى صلاة العيد (3) .

_ (1) "فتاوى الصيام لابن جبرين" (187) . (2) "فقة العبادات" لابن عثيمين (214) . (3) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/467-468) .

زكاة الفطر تتبع الإنسان أينما كان

زكاة الفطر تتبع الإنسان أينما كان وسئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -حفظه الله-: هل يجوز للإنسان أن يخرج زكاة الفطر في بلده علمًا بأنه الآن في مكة، وقد حان وقت إخراجها؟ فأجاب: زكاة الفطر تتبع الإنسان، فإذا جاء وقت الفطر وأنت في بلد فأدِّ زكاة الفطر وأنت في ذلك البلد فإذا كنت مثلا من أهل المدينة وجاء عليك العيد وأنت في مكة فأخرج زكاة الفطر في مكة، وإذا كنت من أهل مكة وجاء العيد وأنت في المدينة فأخرج زكاة الفطر في المدينة، وكذلك لو كنت من أهل مصر مثلا أو الشام أو العراق، وجاء العيد وأنت في مكة فأخرج الزكاة في مكة، وإذا كنت من أهل مكة وجاء الفطر في مصر أو الشام أو العراق فأخرج الزكاة في تلك البلاد (1) . تزيين المساجد بالأنوار في أيام الفطر وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: تجري عادة في بعض المساجد في أيام الفطر وفي غيرها من أيام المناسبات الدينية وهي تزيين المساجد بأنواع وألوان مختلفة من الكهرباء والزهور. هل يجيز الإسلام هذا العمل أم لا؟ وما دليل الجواز أو المنع؟ فأجابت: المساجد بيوت الله، وهي خير بقاع الأرض، أذن الله تعالى أن ترفع وتعظم بتوحيد الله، وذكره وإقام الصلاة فيه، ويتعلم الناس بها شئون دينهم، وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة وبتطهيرها من الرجس والأوثان والأعمال الشركية والبدع والخرافات ومن الأوساخ والأقذار والنجاسات. وبصيانتها من اللهو واللعب والصخب وارتفاع الأصوات، ولو كان نشد ضالة وسؤالا عن ضائع ونحو ذلك مما يجعلها كالطرق العامة وأسواق التجارة وبالمنع من الدفن فيها ومن بنائها على القبور.

_ (1) "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" (1/468) .

ومن تعليق الصور بها، أو رسمها بجدرانها إلى أمثال ذلك مما يكون ذريعة إلى الشرك ويشغل بال من يعبد الله فيها، ويتنافى مع ما بنيت من أجله. وقد راعى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك كما هو معروف في سيرته وعمله وبيَّنه لأمته ليسلكوا منهجه ويهتدوا بهديه في احترام المساجد وعمارتها بما فيه رفع لها من إقامة شعائر الإسلام بها مقتدين في ذلك بالرسول الأمين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه عظم المساجد بإنارتها ووضع الزهورعليها في الأعياد والمناسبات ولم يعرف ذلك أيضًا من الخلفاء الراشدين ولا الأئمة المهتدين من القرون الأولى التي شهد لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنها خير القرون مع تقدم الناس وكثرة أموالهم وأخذهم من الحضارة بنصيب وافر وتوفر أنواع الزينة وألوانها في القرون الثلاثة الأولى، والخير كل الخير في اتباع هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهدي خلفائه الراشدين ومن سلك سبيلهم من أئمة الدين بعدهم. ثم إن في إيقاد السرج عليها أو تعليق لمبات الكهرباء فوقها أو حولها أو فوق مناراتها وتعليق الرايات والأعلام ووضع الزهور عليها في الأعياد والمناسبات -تزيينًا وإعظامًا لها- تشبهًا بالكفار فيما يصنعون ببيعهم وكنائسهم، وقد نهى النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التشبه بهم في أعيادهم وعباداتهم. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1) . ***

_ (1) "فتاوى اللجنة الدائمة" رقم (2036) .

من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية

من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سئل قدس الله روحه عن رجل رأى الهلال وحده، وتحقّق الرؤية: فهل له أن يفطر وحده؟ أو يصوم وحده؟ أو مع جمهور الناس؟ فأجاب: الحمد لله. إذا رأى هلال الصوم وحده، أو هلال الفطر وحده، فهل عليه أن يصوم برؤية نفسه؟ أو يفطر برؤية نفسه؟ أم لا يصوم ولا يفطر إلا مع الناس؟ على ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد: أحدها: أن عليه أن يصوم، وأن يفطر سرًا، وهو مذهب الشافعي. والثاني: يصوم ولا يفطر إلا مع الناس، وهو المشهور من مذهب أحمد، ومالك، وأبي حنيفة. والثالث: يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون" رواه الترمذي، وقال: حسن غريب، وراه أبو داود، وابن ماجه، وذكر الفطر والأضحى فقط، ورواه الترمذي من حديث عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد عن المقبري عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون"، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، قال: وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة، وعظم الناس. ورواه أبو داود بإسناد آخر، فقال: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا حماد من حديث أيوب عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة، ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه فقال وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف".

ولأنه لو رأى هلال النحر لما اشتهر، والهلال اسم لما استهلّ به، فإن الله جعل الهلال مواقيت للناس والحج، وهذا إنما يكون إذا أستهل به الناس، والشهر بين، وإن لم يكن هلالا ولا شهرًا. وأصل هذا المسألة أن الله سبحانه وتعالى علّق أحكامًا شرعية بمسمى الهلال، والشهر: كالصوم والفطر والنحر، فقال تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) . فبين سبحانه أن الأهلة مواقيت للناس والحج. قال تعالى: (كتب عليكم الصيام) إلى قوله (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس) أنه أوجب صوم -شهر رمضان، وهذا متفق- عليه بين المسلمين، لكن الذي تنازع الناس فيه أن الهلال هل هو اسم لما يظهر في السماء؟ وإن لم يعلم به الناس؟ وبه يدخل الشهر، أو الهلال اسم لما يستهل به الناس، والشهر لما اشتهر بينهم؟ على قولين: فمن قال بالأول يقول: من رأى الهلال وحده فقد دخل ميقات الصوم، ودخل شهر رمضان في حقه، وتلك الليلة هي في نفس الأمر من رمضان، وإن لم يعلم غيره، ويقول من لم يره إذا تبيّن له أنه كان طالعًا قضى الصوم وهذا هو القياس في شهر الفطر، وفي شهر النحر، لكن شهر النحر ما علمت أن أحدًا قال من رآه يقف وحده، دون سائر الحاج، وأنه ينحر في اليوم الثاني، ويرمي جمرة العقبة، ويتحلل دون سائر الحاج، وإنما تنازعوا في الفطر، فالأكثرون الحقوه بالنحر، وقالوا: لا يفطر إلا مع المسلمين وآخرون قالوا: بل الفطر كالصوم، ولم يأمر الله العباد بصوم واحد وثلاثين يومًا، وتناقض هذه الأقوال يدل على أن الصحيح هو مثل ذلك في ذي الحجة. وحينئذ فشرط كونه هلالا وشهرًا شهرته بين الناس، واستهلال الناس به حتى لو رآه عشرة، ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد، لكون شهادتهم مردودة، أو لكونهم لم يشهدوا به، كان حكمهم حكم سائر المسلمين، فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين، - فكذلك لا يصومون إلا مع المسلمين، وهذا معنى قوله: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم

فتوي هامه في صوم الجمال والملاح والفرق بين سفر الطاعة والمعصية؟

تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون". ولهذا قال أحمد في روايته: يصوم مع الإمام وجماعة المسلمين في الصحو والغيم، قال أحمد: يد الله على الجماعة. وعلى هذا تفترق أحكام الشهر، هل هو شهر في حق أهل البلد كلهم؟ أو ليس شهرًا في حقهم كلهم؟ يبين ذلك قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فإنما أمر بالصوم من شهد الشهر، والشهود لا يكون إلا لشهر اشتهر بين الناس، حتى يتصور شهوده، والغيبة عنه. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وصوموا من الوضح إلى الوضح" ونحو ذلك خطاب للجماعة، لكن من كان في مكان ليس فيه غيره، إذا رآه صامه، فإنه ليس هناك غيره. وعلى هذا فلو أفطر ثم تبين أنه رؤي في مكان آخر، أو ثبت نص النهار، لم يجب عليه القضاء. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. فإنه إنما صار شهرًا في حقهم من حين ظهر، واشتهر، ومن حينئذٍ وجب الإمساك كأهل عاشوراء، الذين أمروا بالصوم في أثناء اليوم، ولم يُؤمروا بالقضاء على الصحيح، وحديث القضاء ضعيف، والله أعلم. سُئل قدَّسَ الله رُوُحَهُ عن المسافر في رمضان، ومن يصوم، ينكر عليه، وينسب إلى الجهل. ويقال له الفطر أفضل، وما هو مسافة القصر؟ وهل إذا أنشأ السفر من يومه يفطر؟ وهل يفطر السفار من المكارية والتجار والجمال والملاح وراكب البحر؟ وما الفرق بين سفر الطاعة، وسفر المعصية؟ فأجاب: الحمد لله، الفطر للمسافر جائز باتفاق المسلمين، سواء كان سفر حج، أو جهاد، أو تجارة، أو نحو ذلك من الأسفار التي لا يكرهها الله ورسوله. وتنازعوا في سفر المعصية كالذي يسافر ليقطع الطريق ونحو ذلك، على قولين مشهورين كما تنازعوا في قصر الصلاة.

فأما السفر الذي تقصر فيه الصلاة فإنه يجوز فيه الفطر مع القضاء باتفاق الأئمة، ويجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة، سواء كان قادرًا على الصيام، أو عاجزًا وسواء شق عليه الصوم، أو لم يشق، بحيث لو كان مسافرًا في الظل والماء ومعه من يخدمه جاز له الفطر والقصر. ومن قال: إن الفطر لا يجوز إلا لمن عجز عن الصيام فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وكذلك من أنكر على المفطر، فإنه يستتاب من ذلك. ومن قال: إن المفطر عليه إثم، فإنه يستتاب من ذلك، فإن هذه الأحوال خلاف كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخلاف إجماع الأمة. وهكذا السنة للمسافر أنه يصلي الرباعية ركعتين، والقصر أفضل له من التربيع، عند الأئمة الأربعة: كمذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، والشافعي، في أصح قوليه. ولم تتنازع الأمة في جواز الفطر للمسافر؟ بل تنازعوا في جواز الصيام للمسافر، فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، وأنه إذا صام لم يجزه بل عليه أن يقضي، ويروى هذا عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وغيرهما من السلف وهو مذهب أهل الظاهر، وفي الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ليس من البر الصوم في السفر" لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز للمسافر أن يصوم، وأن يفطر، كلما في الصحيحين عن أنس قال: " كنا نسافر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" وقد قال الله تعالى: 0فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ، وفي المسند عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته"، وفي الصحيح أن رجلاً قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني رجل أكثر الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال: "إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس" وفي حديث آخر: "خياركم الذين في السفر يقصرون ويفطرون".

وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه، ويفطر، فمذهب مالك والشافعي، وأحمد أنه مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام، وهو ستة عشر فرسخًا، كما بين مكة وعسفان، ومكة وجدة. وقال أبو حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام، وقال طائفة من السلف والخلف: بل يقصر ويفطر في أقل من يومين. وهذا قول قوي، فإنه قد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعرفة، ومزدلفة، ومنى، يقصر الصلاة، وخلفه أهل مكة وغيرهم يصلون بصلاته، لم يأمر أحدًا منهم بإتمام الصلاة. وإذا سافر في أثناء يوم، فهل يجوز له الفطر؟ على قولين مشهورين العلماء، هما روايتان عن أحمد. أظهرهما: أنه يجوز ذلك، كما ثبت في السنن أن من الصحابة من كان يفطر إذا خرج من يومه، ويذكر أن ذلك سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نوى الصوم في السفر، ثم إنه دعا بماء فأفطر، والناس ينظرون إليه. وأما اليوم الثاني: فيفطر فيه بلا ريب، وإن كان مقدار سفره يومين في مذهب جمهور الأئمة والأمة. وأما إذا قدم المسافر في أثناء يوم، ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء؛ لكن عليه القضاء سواء أمسك أو لم يمسك. ويفطر من عادته السفر إذا كان له بلد يأوى إليه. كالتاجر الجلاب الذي يجلب الطعام، وغيره من السلع، وكالمكاري الذي يكري دوابه من الجلاب وغيرهم. وكالبريد الذي يسافر في مصالح المسلمين. ونحوهم، وكذلك الملاح الذي له مكان في البر يسكنه. فأما من كان معه في السفينة امرأته، وجميع مصالحه، ولا يزال مسافراً فهذا لا يقصر، ولا يفطر. وأهل البادية: كأعراب العرب، والأكراد، والترك، وغيرهم والذين يشتون في مكان، ويصيفون في مكان، إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتى إلى

فتوي عن الأكل بعد أذان الصبح

المصيف، ومن المصيف إلى المشتى، فإنهم يقصرون، وأما إذا نزلوا بمشتاهم، ومصيفهم، لم يفطروا، ولم يقصروا، وإن كانوا يتتبعون المراعي، والله أعلم. وسُئل رحمه الله عمن يكون مسافرًا في رمضان، ولم يصبه جوع، ولا عطش، ولا تعب: فما الأفضل له: الصيام؟ أم الإفطار؟ فأجاب: أما المسافر فيفطر باتفاق المسلمين، وإن لم يكن عليه مشقة، والفطر له أفضل، وإن صام جاز عند أكثر العلماء. ومنهم من يقول: لا يجزئه. وسئل عن غروب الشمس، هل يجوز للصائم أن يفطر بمجرد غروبها؟ فأجاب: إذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق. وإذا غاب جميع القرص ظهر السواد من المشرق، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم". وسئل عما إذا أكل بعد أذان الصبح في رمضان، ماذا يكون؟ فأجاب: الحمد لله. أما إذا كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر، كما كان بلال يؤذّن قبل طلوع الفجر على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكما يؤذن المؤذنون في دمشق وغيرها قبل طلوع الفجر، فلا بأس بالأكل والشرب بعد ذلك بزمن يسير. وإن شك: هل طلع الفجر؟ أو لم يطلع؟ فله أن يأكل ويشرب حتى

صوم المغمي عليه

يتبيّن الطلوع، ولو علم بعد ذلك أنه أكل بعد طلوع الفجر، ففي وجوب القضاء نزاع. والأظهر أنه لا قضاء عليه، وهو الثابت عن عمر، وقال به طائفة من السلف والخلف، والقضاء هو المشهور في مذهب الفقهاء الأربعة، والله أعلم. وسئل عن رجل كلما أراد أن يصوم أُغمي عليه، ويزبد ويخبط، فيبقى أيامًا لا يفيق، حتى يُتهم أنه مجنون، ولم يتحقّق ذلك منه؟ فأجاب: الحمد لله. إن كان الصوم يوجب له مثل هذا المرض، فإنه يفطر ويقضي، فإن كان هذا يصيبه في أي وقت صام، كان عاجزاً عن الصيام، فيطعم عن كل يوم مسكيناً، والله أعلم. وسُئل رحمه الله عن امرأة حامل رأت شيئًا شبه الحيض، والدم مواظبها، وذكر القوابل أن المرأة تفطر لأجل منفعة الجنين، ولم يكن بالمرأة ألم، فهل يجوز لها الفطر؟ أم لا؟ فأجاب: إن كانت الحامل تخاف على جنينها، فإنها تفطر، وتقضي عن كل يوم يوماً، وتطعم عن كل يوم مسكيناً، رطلاً من خبز بأدمه، والله أعلم. ***

من فتاوى الشيخ ابن باز

من فتاوى الشيخ ابن باز حفظه الله الصوم والإفطار يتبعان بلد الإقامة س: أنا من شرق آسيا، عندنا الشهر الهجري يتأخر عن المملكة العربية السعودية بيوم، ونحن الطلاب سنسافر في شهر رمضان في هذه السنة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.." إلى آخر الحديث، وقد بدأنا الصوم في المملكة العربية السعودية ثم نسافر إلى بلادنا في شهر رمضان وفي نهاية الشهر نكون قد صمنا واحدًا وثلاثين يومًا. وسؤالي هو: ما حكم صيامنا وكم يومًا نصوم؟ أبو بكر. م. ج ج: إذا صمتم في السعودية أو غيرها ثم صمتم بقية الشهر في بلادكم فأفطروا بإفطارهم، ولو راد ذلك على ثلاثين يوماً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصوم يوم تصومون والإفطار يوم تفطرون" لكن إن لم تكملوا تسعة وعشرين يومًا فعليكم إكمال ذلك لأن الشهر لا ينقص عن تسع وعشرين. والله ولي التوفيق. تقلع بنا الطائرة قبل الغروب بساعة، وتمضي الساعة والشمس لم تغرب فهل نفطر أم ننتظر غروب الشمس؟ س: ستقلع بنا الطائرة بإذن الله تعالى من الرياض في رمضان قبل أذان المغرب بساعة تقريبًا، وسيؤذن للمغرب ونحن في أجواء السعودية، فهل نفطر؟ وإذا رأينا الشمس ونحن في الجو وهذا هو الغالب فهل نظل على صيامنا، ونفطر في بلدنا أم نفطر بمجرد الأذان في السعودية؟ قارئ ج: إذا أقلعت الطائرة عن الرياض مثلاً قبل غروب الشمس إلى جهة المغرب فإنك لا تزال صائمًا حتى تغرب الشمس وأنت في الجو أو تنزل في بلد

قد غابت فيه الشمس لقوله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" متفق على صحته. الدعوة (944) حكم من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر س: سئل سماحة الشيخ عن حكم من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر فكيف يعمل؟.. ج: من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر فعليه أن يمسك عن المفطرات بعية يومه لكونه يوماً من رمضان لا يجوز للمقيم الصحيح أن يتناول فيه شيئا من المفطرات، وعليه القضاء؛ لكونه لم يبيت الصيام قبل الفجر، وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له" ونقله الموفق ابن قدامة -رحمه الله- في المغني، وهو قول عامة الفقهاء.. والمراد بذلك صيام الفرض لما ذكرنا من الحديث الشريف، أما صيام النفل فيجوز أثناء النهار إذا لم يتناول شيئاً من المفطرات لأنه صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يدل على ذلك. ونسأل الله أن يوفق المسلمين لما يرضيه، وأن يتقبل منهم صيامهم، وقيامهم، إنه سميع قريب، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. الدعوة (899) أعُالَجُ في المستشفى، وأتناول دواء يسبب لي الجوع الشديد، هل أفطر أم أصبر؟ س: أنا في السادسة عشرة من عمري، وأعالج في مستشفى الملك فيصل

التخصصي من حوالي خمس سنوات إلى الآن، وفي شهر رمضان من العام الماضي أمر الدكتور بإعطائي علاجًا كيماويًا في الوريد، وأنا صائم، وكان العلاج قويًا، ومؤثرًا على المعدة، وعلى جميع الجسم، وفي نفس اليوم الذي أخذت فيه العلاج جعت جوعًا شديداً ولم يمض من الفجر إلا حوالي سبع ساعات، وفي حوالي العصر تألمت منه وكدت أموت، ولم أفطر حتى أذان المغرب، وفي شهر رمضان هذا العام إن شاء الله سيأمر الدكتور بإعطائي ذلك العلاج، هل أفطر في ذلك اليوم أم لا؟ وإذا لم أفطر فهل عليّ قضاء ذلك اليوم؟ وهل أَخْذ الدم من الوريد يفطر أم لا؟ وكذلك العلاج الذي ذكرت؟ أفيدوني جزاكم الله خيرًا. ج. ع. أ- الرياض ج: المشروع للمريض الإفطار في شهر رمضان إذا كان الصوم يضره أو يشق عليه أو كان يحتاج إلى علاج في النهار بأنواع الحبوب والأشربة ونحوها مما يؤكل ويشرب لقول الله سبحانه: (وَمَن كانَ مرِيضا أَو عَلَى سَفرٍ فَعِدََّةٌ مِن أَيَّامٍ أخَرَ) [البقرة: 185] ، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله يجب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته". وفي رواية أخرى. "كما يحب أن تؤتى عزائمه". أما أخذ الدم من الوريد للتحليل أو غيره فالصحيح أنه لا يفطر الصائم، لكن إذا كثر فالأولى تأجيله إلى الليل، فإن فعله في النهار فالأحوط القضاء تشبيهًا له بالحجامة. أنا امرأة مريضة، وقد أفطرت بعض أيام رمضان، ولم أستطع قضاءها، ما كفارة ذلك؟ س: أنا سيدة مريضة، وقد أفطرت بعض الأيام في رمضان الماضي، ولم

أستطع قضاءها لمرضي، فما هي كفارة ذلك؟ كذلك فإنني لن أستطيع صيام رمضان هذا العام، فما هي كفارة ذلك أيضًا؟ مريم. م - الرياض ج: المريض الذي يشق عليه الصيام يشرع له الإفطار، ومتى شفاه الله قضى ما عليه لقول الله سبحانه: (وَمن كانَ مرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخرَ) [البقرة: 185] ، وليس عليك أيتها السائلة حرج في الإفطار هذا الشهر ما دام المرض باقيًا؛ لأن الإفطار رخصة من الله للمريض والمسافر، والله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته، وليس عليك كفارة، ولكن متى عافاك الله فعليك القضاء شفاك الله من كل سوء، وكفر عنا وعنكم السيئات. إذا احتلم الصائم في نهار رمضان هل يبطل صومه أم لا؟ س: إذا احتلم الصائم في نهار رمضان هل يبطل صومه أم لا؟ وهل تجب عليه المبادرة بالغسل؟ عمر. م. أ - الرياض ج: الاحتلام لا يبطل الصوم لأنه ليس باختيار الصائم، وعليه أن يغتسل غسل الجنابة، إذا رأى الماء وهو المني. ولو احتلم بعد صلاة الفجر، وأخر الغسل إلى وقت صلاة الظهر فلا بأس، وهكذا لو جامع أهله في الليل، ولم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر لم يكن عليه حرج في ذلك فقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يصبح جنبًا من جماع ثم يغتسل ويصوم، وهكذا الحائض والنفساء لو طهرتا في الليل، ولم تغتسلا إلا بعد طلوع الفجر لم يكن عليهما بأس في ذلك وصومهما صحيح، ولكن لا يجوز لهما ولا للجنب تأخير الغسل أو الصلاة إلى طلوع الشمس بل يجب على الجميع البدار بالغسل قبل طلوع الشمس حتى يؤدوا الصلاة في وقتها.

وعلى الرجل أن يبادر بالغسل من الجنابة قبل صلاة الفجر حتى يتمكن من الصلاة في الجماعة، والله ولي التوفيق. الدعوة 945 هل الاحتلام يفسد الصوم، وإذا سال الدم من جسم الإنسان هل يفطر، وهل القيء يفسد الصوم؟ س: كنت صائمًا، ونمت في المسجد وبعد ما استيقظت وجدت أني محتلم. هل يؤثر الاحتلام في الصوم علمًا أنني لم أغتسل، وصلّيت الصلاة بدون غسل؟ ومرة أخرى أصابني حجر في رأسي وسال الدم منه، هل أفطر بسبب الدم؟ وبالنسبة للقيء هل يفسد الصوم أو لا؟ أرجو إفادتي. م. و. أ - الرياض ج: الاحتلام لا يفسد الصوم؛ لأنه ليس باختيار العبد، ولكن عليه غسل الجنابة إذا خرج منه مني؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سُئل عن ذلك أجاب بأن على المحتلم الغسل إذا وجد الماء -يعني المني-، وكونك صليت بدون غسل هذا غلط منك، ومنكر عظيم، وعليك أن تعيد الصلاة مع التوبة إلى الله سبحانه، والحجر الذي أصاب رأسك حتى أسال الدم لا يبطل صومك، وهذا القيء الذي خرج منك بغير اختيارك لا يبطل صومك؛ لقول النبي: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء" رواه أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح. ما حكم صيام النصف من شعبان س: ما حكم صيام نصف شعبان وهي الأيام [13-14-15] ؟ خالد. ي - مكة المكرمة ج: يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر من شعبان أو غيره لما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر عبد الله بن عمرو بن العاص بذلك، وثبت عنه أيضًا أنه أوصى أبا الدرداء، وأبا هريرة بذلك، وإن صام هذه الثلاثة من بعض الشهور

دون بعض أو صامها تارة وتركها تارة فلا بأس لأنها نافلة لا فريضة، والأفضل أن يستمر عليها في كل شهر إذا تيسر له ذلك. قيمة زكاة الفطر س: كم قيمة زكاة رمضان؟ مريم. م - الرياض ج: كأن السائلة تريد زكاة الفطر من رمضان، والواجب في ذلك صاع واحد من قوت البلد من أرز أو بر أو تمر، أو غيره عن الذكر والأنثى والحر والمملوك والصغير والكبير من المسلمين كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والواجب إخراجها قبل خروج الناس إلى صلاة العيد، وإن أخرجت قبل العيد بيوم أو يومين فلا بأس، ومقداره بالكيلو ثلاثة "كيلو" على سبيل التقريب. س: الأخ إحسان بن عبد القادر من سدني في استراليا يقول في سؤاله: كيف يصنع من يطول نهارهم إلى إحدى وعشرين ساعة هل يقدرون قدرًا للصيام، وكذا ماذا يصنع من يكون نهارهم قصيرًا جدًا، وكذلك من يستمر عندهم النهار ستة أشهر والليل ستة أشهر؟ ج: من عندهم ليل ونهار في ظرف أربع وعشرين ساعة فإنهم يصومون نهاره سواء كان قصيرًا أو طويلاً، ويكفيهم ذلك، والحمد لله، ولو كان النهار قصيراً أما من طال عندهم النهار أو الليل أكثر من ذلك كستة أشهر فإنهم يقدّرون للصيام وللصلاة قدرهما كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك في يوم الدجّال الذي كسنة، وهكذا يومه الذي كشهر أو كأسبوع، يقدّر للصلاة قدرها في ذلك. وقد نظر مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة في هذه المسألة وأصدر القرار رقم 61 بتاريخ 12/4/1398هـ، ونصه ما يلي: "الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الثانية عشرة المنعقدة بالرياض في الأيام الأولى من شهر ربيع الآخر عام 1398هـ كتاب معالي الأمين

العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة رقم 555 وتاريخ 16/1/1398هـ المتضمن ما جاء في خطاب رئيس رابطة الجمعيات الإسلامية في مدينة "مالو" بالسويد الذي يُفيد فيه بأن الدول الاسكندنافية يطول فيها النهار في الصيف، ويقصر في الشتاء نظرًا لوضعها الجغرافي كما أن المناطق الشمالية منها لا تغيب عنها الشمس إطلاقًا في الصيف، وعكسه في الشتاء، ويسأل المسلمون فيها عن كيفية الإفطار والإمساك في رمضان، وكذلك كيفيّة ضبط أوقات الصلوات في هذه البلدان، ويرجو معاليه إصدار فتوى في ذلك ليزودهم بها. اهـ. وعرض علي المجلس أيضًا ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ونُقول أخرى عن الفقهاء في الموضوع، وبعد الإطلاع والدراسة والمناقشة قرر المجلس ما يلي: أولاً: من كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس إلا أن نهارها يطول جدًا في الصيف، ويقصر في الشتاء، وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعًا، لعموم قوله تعالى: (أَقمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقرآنَ الْفَجْرِ إِنّ قرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشهُودًا) [الإسراء: 78] . وقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوقُوتًا) [النساء: 103] ، ولما ثبت عن بريدة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن رجلاً سأله عن وقت الصلاة، فقال له. "صلّ معنا هذين" -يعني اليومين- فلما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة آخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها ثم قال: "أين السائل عن وقت الصلاة؟ " فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال: "وقت صلاتكم بين ما رأيتم" رواه البخاري ومسلم.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل طوله، ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس، فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني شيطان". أخرجه مسلم في صحيحه. إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في تحديد أوقات الصلوات الخمس قولاً وفعلاً، ولم تفرق بين طول النهار وقصره وطول الليل وقصره، ما دامت أوقاتُ الصلوات متمايزة بالعلامات التي بينها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذا بالنسبة لتحديد أوقات صلاتهم. وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم ما دام النهار يتمايز في بلادهم من الليل، وكان مجموع زمانهما أربعًا وعشرين ساعة. ويحل لهم الطعام والشراب والجماع ونحوها في ليلهم فقط وإن كان قصيرًا، فإن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد، وقد قال الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيطِ الأَسْوَدِ مِن الفَجْرِ ثُمَ أَتِمُّوا الصّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] ، ومن عجز عن إتمام صوم يومٍ لطوله أو علم بالأمارات أو التجربة أو إخبار طبيب أمين حاذق، أو غلب على ظنه أن الصوم يفضي إلى إهلاكه أو مرضه مرضًا شديدًا، أو يفضي إلى زيادة مرضه أو بطء برئه أفطر، ويقضي الأيام التي أفطرها في أي شهر تمكن فيه من القضاء، قال تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمن كَانَ مرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعدَّةٌ منْ أَيًامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] . وقال الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إِلا وسَعها) . وقال: (وَمَا جَعَلَ عَلَيكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرجٍ) [الحج: 78] . ثانيًا: من كان يُقيم في بلاد لا تغيب عنها الشمس صيفا، ولا تطلع فيها الشمس شتاء أو في بلاد يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها ستة أشهر مثلاً، وجب عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة،

وأن يقدّروا لها أوقاتها، ويحددوها معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها من بعض، لما ثبت في حديث الإسراء والمعراج من أن الله تعالى فرض على هذه الأمة خمسين صلاة كل يوم وليلة فلم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل ربه التخفيف حتى قال: "يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشرة فذلك خمسون صلاة ... " إلى آخره، ولما ثبت من حديث طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خمسُ صلوات في اليوم والليلة"، فقال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: "لا، إلا أن تطوع ... " الحديث. ولما ثبت من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "نهينا أن نسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك فقال: "صدق" إلى أن قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال: "صدق"، قال: فبالذي أرسلك، الله أمرك بهذا؟ قال: "نعم ... " الحديث. ولما ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدََّث أصحابه عن المسيح الدجال، فقالوا: ما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم"، فقيل: يا رسول الله، اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟! قال: "لا، أقدروا له قدره" فلم يعتبر اليوم الذي كسنة يومًا واحدًا يكفي فيه خمس صلوات، بل أوجب فيه خمس صلوات في كل أربع وعشرين ساعة، وأمرهم أن يوزّعوها على أوقاتها اعتباراً بالأبعاد الزمنية التي بين أوقاتها في اليوم العادي في بلادهم، فيجب على المسلمين في البلاد المسئول عن تحديد أوقات الصلوات فيها أن يحددوا أوقات صلاتهم معتمدين في ذلك على

أقرب بلاد إليهم يتمايز فيها الليل من النهار، وتعرف فيها أوقات الصلوات الخمس بعلاماتها الشرعية في كل أربع وعشرين ساعة. وكذلك يجب عليهم صيام شهر رمضان، وعليهم أن يقدّروا لصيامهم فيحددوا بدء شهر رمضان ونهايته، وبدء الإمساك والإفطار في كل يوم منه ببدء الشهر ونهايته، وبطلوع فجر كل يوم وغروب شمسه في أقرب البلاد إليهم يتميز فيها الليل من النهار، ويكون مجموعها أربعًا وعشرين ساعة لما تقدم في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المسيح الدجال، وإرشاده أصحابه عن كيفية تحديد أوقات الصلوات فيه؛ إذ لا فرق في ذلك بين الصوم والصلاة. والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. ***

من فتاوى اللجنة

من فتاوى اللجنة س: إذا مات شخص وعليه كفارة الصوم والصلاة فهل يجوز أن يقوم به شخص آخر بتقديم كفارة من مال وحبوب وشعير وكذلك تفيدونا بالقرآن؟ ج: من مات وعليه صوم واجب قدر على صومه ولم يصمه ومات وهو في ذمته استحب أن يصومه عنه أحد أقاربه؛ لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"، أما الصلاة فلا يشرع، كذلك التكفير عما في ذمته من صيام أو صلاة بمال أو حبوب أو شعير أو غير ذلك ولا أن يكفر عنه بقراءة القرآن لعدم ورود شيء من ذلك في الشريعة المطهرة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. (الدعوة 806 - اللجنة) إذا مر المسافر ببلد فهل يمسك؟ س: إذا كنت مسافرًا في رمضان، وكنت مفطرًا في سفري، وعند وصولي إلي البلد الذي سوف أمكث فيه عدة أيام أمسكت بالصيام في بقية ذلك اليوم وفي الأيام التالية فهل لي رخصة بالإفطار في نهار هذه الأيام، وأنا في بلد ليس بلدي الأصلي أم لا؟ ج: إذا مر المسافر ببلد غير بلده وهو مفطر فليس عليه أن يمسك إذا كانت إقامته فيها أربعة أيام فأقل أما إن كان قد عزم على الإقامة فيها أكثر من أربعة أيام فإنه يتم ذلك اليوم الذي قدم فيه ويقضيه، ويلزمه الصوم في بقيه الأيام؛ لأنه بنيته المذكورة صار في حكم المقيمين لا في حكم المسافرين كما تقدم في جواب السؤال الأولى.. والله ولي التوفيق. (الدعوة 977 - ابن باز)

المريض الذي لا يقوى على الصيام س: مريض بالسل يشق عليه الصوم في رمضان، وقد أفطر رمضان الماضي فهل عليه إطعام؟ علمًا بأنه لا يرجى برؤه، ولم يعالج إلا مدة يسيرة كشهر ينزل من مسكنه بالبادية إلى البلد، ومن ثم يضيق في البلد ويخرج. ج: إذا كان هذا المريض لا يقوى على صيام رمضان وكان لا يرجى برؤه سقط عنه الصيام ووجب عليه أن يطعم عن كل يوم أفطره مسكينًا يعطيه نصف صاع من بر أو تمر أو أرز ونحو ذلك مما اعتاد أهله أن يأكلوا من الطعام -مع القدرة على ذلك- كالشيخ الكبير والعجوز الكبيرة اللذين يشق عليهما الصوم. البحوث 12 - اللجنة أفطر بعذر هل عليه كفارة؟ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم لسماحة الرئيس العام من خالد زعل رميح الظفيري، والمحال من الإمامة برقم 445/2 في 24/3/1397هـ الذي جاء فيه: أنه أفطر يومين من شهر رمضان 1395هـ ووصل شهر رمضان عام 1396هـ وهو لم يقضهما وأفطر في رمضان عام 1396هـ ثلاثة أيام، وقضى الخمسة متوالية في محرم 1397هـ فهل يحتاج إلى دفع دية، وأن والده توفي، وأن والدته تصلي، وتصوم، وأخذت تصلي بعد صلاتها ركعتين كل وقت لأبيه، فقال لها بعض الناس: تصلي يوم الجمعة، فأخذت تصلي كل جمعة ركعتين بعد فرضها، ويطلب الإفادة عن ذلك. وقد أجابت اللجنة بما يلي: إذا كان إفطارك الذي ذكرته لعذر فلا شيء عليك إلا القضاء الذي قمت به لقول الله سبحانه: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) ، وإن

كان الإفطار لغير عذر فعليك مع القضاء الذي قمت به التوبة؛ لأن الإفطار في رمضان لا يجوز إلا لعذر، ولا كفارة عليك عن الأيام الثلاثة التي أفطرتها من رمضان عام 1396هـ، أما اليومان اللذان أفطرتهما من رمضان عام 1395هـ فعليك مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم إن كنت أخرتها إلى رمضان عام 1396هـ من دون عذر شرعي ومقدار الإطعام لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد هذا إن كان إفطارك بغير الجماع، أما إن كان بالجماع فعليك مع القضاء عن كل يوم أفطرته بالجماع كفارهّ، هي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم تجد فصيام شهرين متتابعين، فإن عجزت فإطعام ستين مسكينًا. أما ما تقوم به أمك من صلاة ركعتين لأبيك بعد كل صلاة جمعة فلا يجوز؛ لأن الله لم يشرع ذلك بل هو بدعة، وإنما شرع لها الدعاء له والصدقة عنه، والله الموفق، وصلى الله على عبده ورسوله وآله. كفارة إفطار المريض الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة الرئيس العام من المستفتية: شريفة بنت سعد بن عواض، والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، ومضمون: السؤال مرضت، واشتد بي المرض، وأخذني أخي وأدخلني في المستشفى بمكة، وعند دخولي المستشفى جاء شهر رمضان مرتين، وأنا في نفس المستشفى، وبعد ذلك نقلت إلى الرياض، ودخلت المستشفى مرة ثانية، وجاء شهر رمضان، وكنت أحسن من قبل، فصمت، ولم يبق إلا الشهران الأولان، والسؤال هو: هل يلزمني الصيام عن الشهرين مع العلم بأنني أصوم في كل شهر ثلاثة أيام، أم أنه يلزمني صدقة أم ماذا أفعل، وهل يلزمني أن أطلب الصدقة من ولدي الوحيد وهو ميسور الحال حيث إنه ليس مو-ظفًا ولا عنده منزل إلا بالإيجار، وأ-نا امرأة ضعيفة الحال لا أستطيع العمل والكسب والتصدق فما هو الحل؟

وبعد دراسة اللجنة للسؤال أجابت بما يلي: الواجب على السائلة قضاء صيام الشهرين المذكورين لعموم قوله تعالى: (ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وما ذكرته السائلة من صيام ثلاثة أيام من كل شهر فإن كانت نيتها فيه القضاء عما تركته من صيام الشهرين فهذه النية صحيحة، وعليها أن تأتي بما بقي من أيام الشهرين، وإن كانت نيتها فيه التطوع فإنه لا يسقط به الفرض، وعليها أن تصوم شهرين كاملين، وليس عليها إطعام مع الصيام؛ لأنها معذورة في التأخير بسبب المرض. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. قضاء الصوم بعد الشفاء من مرض طويل المدة الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم من رئيس هيئة الأمر بالمعروف ببدر إلى سماحة الرئيس العام، والذي أحيل إليها من الأمانة العامة برقم 1938/2 وتاريخ 22/11/96هـ ومضمونه: هناك امرأة أصيبت بمرض نفساني: حرارة واضطراب أعصاب، وغير ذلك، وأنها على أثر ذلك تركت الصوم مدة أربع سنوات تقريبًا فهل في مثل هذه الحالة تقضي الصوم أولاً، وماذا يكون حكمها؟ وقد أجابت اللجنة بما يلي: إذا كانت تركت الصوم لعدم قدرتها عليه وجب عليها قضاء ما أفطرته من رمضان في السنوات الأربع عند قدرتها على ذلك قال الله تعالي: (ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) وإن كان مرضها وعجزها عن الصوم لا يرجى زواله حسب تقرير الأطباء أطعمت عن كل يوم أفطرته مسكينًا نصف صاع من بر أو تمر أو أرز أو نحو ذلك مما يأكله أهلها في بيوتهم كالشيخ

الكبير والعجوز الذين يجهدهما الصوم، ويشق عليهما مشقة شديدة، وليس عليها قضاء، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم. (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) أفطرت رمضان لعذر منذ 24 عام س: والدتي أنجبت طفلاً عام 1382 هـ في شهر رمضان المبارك، ومعروف لديهم أن المرضع في شهر رمضان لا يجوز أن تصوم خوفًا على حياة طفلها، ولم يكن معروفًا لديهم قضاء شهر رمضان بعد كبر الطفل، لأنهم ساكنون في البادية لا يعرفون من الإسلام إلا قليلاً واليوم بعد انتشار العلم عرفت أن المرضع إذا أفطرت رمضان لا بد أن تقضيه، ولكنها أفطرت ذلك الشهر في عام 1382 هـ لعذر حقيقي هو إرضاع طفلها، وكبر الطفل وصار اليوم عمره 24 سنة ولم تقض ذلك الشهر، وهذا والله العظيم بسبب الجهل لا تهاونًا وقصد التعمد، أرجو إفادتنا. ج: يجب عليها المبادرة إلى قضاء ذلك الشهر في أقرب وقت فتصومه ولو متفرقًا بقدر الأيام التي صامها المسلمون ذلك العام، وعليها مع الصيام صدقة هي: إطعام مسكين عن كل يوم كفارة عن التخير فإن من أخر القضاء حتى أدركه رمضان آخر لزمه مع القضاء كفارة فيكفي عن الشهر كله كيس من الأرز خمسة وأربعون كيلو جرامًا وكان الواجب عليها البحث والسؤال عن أمر دينها، فإن هذه المسألة مشتهرة ومعروفة بين أفراد الناس وهي أن من أفطر لعذر لزمه القضاء فورًا، ولم يجز له التأخير لغير عذر فأما فطرها بسبب الرضاع فقد يكون لعذر إذا خافت على نفسها من الضرر باجتماع الصوم والرضاع فيكفيها القضاء فورًا، وقد تكون بسبب الطفل إذا خافت عليه الجوع والمرض فأفطرت فيكون عليها مع القضاء كفارة طعام مساكين بقدر الأيام التي أفطرت، ولو قضته في ذلك العام وعلى هذا فإن كان فطرها بسبب الطفل، وأخرت القضاء فعليها كفارتان كما ذكرنا، والله أعلم. (اليمامة 892 - ابن جبرين)

ليس عليها كفارة س: تقيأت أختي وهي صائمة، وتعمدت الأكل فماذا يجب عليها؟ (الجزوليت عبد الله. سلا - المغرب) ج: لا يجوز للصائم تعمد إخراج القيء من جوفه بإدخال بده في فمه أو جعلها تحت بطنه أو شم شيء مما له رائحة تحرك ما في الجوف من الطعام، ونحوه حتى يخرج فمتى فعل الصائم شيئًا من ذلك فخرج منه القيء لزمه قضاء ذلك اليوم إن كان فرضًا، وهذه المرأة أخطأت أولاً في كونها استدعت القيء عمدًا، وأخطأت ثانيًا في تعمدها الأكل بعد ذلك فإن من فسد صومه بفعل بعض المفطرات عمدًا لا يجوز له الأكل ونحوه بل يمسك بقية يومه، وإن كان ملزمًا بقضائه فلعلها أحست بمرض أو ضعف في البدن وبكل حال فليس عليها كفارة إن شاء الله، وإنما يلزمها قضاء ذلك اليوم فقط، والله أعلم. (المسلمون 54 - ابن جبرين) من عجز عن الصيام ورد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالي: "لي عم شقيق والدي، وقد بلغ من الكبر عتيًّا، وأصبح لا يعرف الناس ولا الجهات الأربع الأصلية، ولا يعرف من أموره شيئًا، وكأنه طفل مولود في حركاته، وتصرفاته، وحيث إنه لا يقدر على الصيام ولا الصلاة فأرجو الإفادة هل يلزم دفع شيء مقابل صيامه الذي لا يستطيعه مثل إطعام مسكين أو صدقة.. إلخ، لأنني حريص جدًا على براءة ذمتي وعمل الخير له". وأجابت بما يلي: إذا كان الواقع كما ذكرت من أن عمك أصبح لا يعرف الناس، وأنه لا يعرف الجهات الأربع الأصلية ... إلخ، وأنك حريص على القيام بما يجب

عليه فليس عليه صلاة ولا صيام ولا إطعام، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. البحوث 6 (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) من عجز عن الصوم لكبر أو مرض س: إذا كانت والدتي مريضة، وذلك قبل رمضان بأيام وأنهكها المرض، وهي كبيرة السن فصامت خمسة عشر يومًا من رمضان، ولكن لم تستطع صيام ما تبقى ولم تقدر على القضاء فهل يصح لها أن تتصدق؟ وكم يكفي في الصدقة يوميًا مع العلم بأنني أعولها فهل أدفع ما عليها في حالة ما لم يكن عندها ما تتصدق به؟ ج: من عجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يُرجى برؤه أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينًا قال تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) ، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- نزلت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصيام فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا. رواه البخاري. فأمك يجب أن تطعم عن كل يوم مسكينا، وهو مد بر، وإن كانت لا تجد ما تطعمه عن نفسها، وأردت الإطعام عنها فهذا من باب الإحسان، والله يحب المحسنين. (البحوث 4 - اللجنة) الاحتلام لا يفسد الصوم س: هل يفسد صيام من احتلم ليلاً؟ (عماد عمر سرحان - السودان) ج: الاحتلام أمر قهري ليس باختيار الإنسان، ولا حيلة له في رده، فإذا احتلم الصائم نهارًا لا يبطل صومه، ولو تكّرر؛ لكونه يقع منه في النوم،

وقد رفع عنه القلم حتى يستيقظ، فأما الاحتلام ليلاً فلا أعلم قائلاً بإبطاله للصوم، بل الجماع ليلاً في رمضان مباح لقوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إِلى نسائكم) فأما الجماع في نهار رمضان فيبطل الصيام، ويوجب الكفارة. والله أعلم. (ابن جبرين) باشر أجنبية وهو صائم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الأسئلة المقدمة لسماحة الرئيس العام من: عبد رب الرسول مجذوب الحسن، المقيدة بإدارة البحوث رقم 746 في 21/4/1402هـ وأجابت عن كل سؤال عقبه بما يناسبه. س: ما حكم من اختلى بأجنبية في نهار رمضان، وهو صائم، وطلب منها أن تكشف عورتها لإشباع الشهوة دون أن يجامعها أو يخرج منه مني، هل صيامه عن ذلك اليوم صحيح؟ وإن لم يكن صحيحًا هل يجب عليه القضاء والكفارة؟ ج؟ إذا كان الواقع ما ذكرت فقد أثم الشخص المذكور والمرأة المذكورة باختلائهما منفردين، وكشف عورتها له يتمتع بها، وعلى كل منهما أن يستغفر الله ويتوب إليه توبة صادقة، وليس على من لم ينزل منهما مني قضاء ذلك اليوم أما من أنزل منهما منيًا فعليه القضاء دون الكفارة؛ لأن الكفارة تجب بالجماع خاصة في نهار رمضان، وإن لم ينزل. (اللجنة الدائمة - الدعوة) س: ما حكم السواك في نهار رمضان؟ ج: يُستحبُّ السواك للصائم ولغيره على الصحيح، وكرهه بعض العلماء للصائم بعد الزوال، والصحيح أنه لا يكره له مطلقًا لعموم الأدلة على استحبابه ولحديث عامر بن ربيعة: "رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لا أحصي يتسوك وهو

صائم". رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من خير خصال الصائم السواك". رواه ابن ماجه. س: هل تذوق الطعام مفطر للصائم؟ ج: يجوز ذوق الطعام -للحاجة- لكن لا يبتلعه ويُكره لغير حاجة. (الرياض 6187 - الفوزان) استقاء وهو صائم س: ما حكم من استقاء وهو صائم أو تقيأ بغير فعله؟ ج: إذا استقاء الإنسانُ وهو صائم أفطر؛ لأنه استدعى القيء باختياره لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. "من استقاء فليقض" رواه الترمذي وحسّنه، وقال: والعمل عليه عند أهل العلم، أما إذا غلبه القيء، وخرج بغير اختياره فصيامه صحيح لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقض" رواه الخمسة إلا النسائي. (الرياض 6187 - الفوزان) يجتهد في رمضان ويتهاون في غيره س: ما حكم من يُحيي رمضان بالصيام والصلاة وقراءة القرآن والتقرب من الله بالعبادات الأخرى.. وفي غير رمضان يتهاون في كل هذه الأمور وكأنه أخذ ذلك من حديث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما"؟ ج: من كان يجتهد في رمضان في الأعمال الصالحة، وفي غير رمضان يتهاون في ذلك فهذا يخشى عليه من عدم القبول؛ لأن من شروط صحة التوبة العزم على أن لا يعود إلى المعاصي بعد التوبة منها -ولما سُئل بعض السلف عن مثل هؤلاء قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان- ولا حجة لهم في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما"؛ لأن تمام الحديث "ما

اجتنبت الكبائر" فالذنوب التي تكفر في رمضان ونحوه إنما هي الصغائر والتهاون بالصلاة المفروضة من أعظم الكبائر فهو لا يكفّر إلا بالتوبة الصحيحة. س: من مات في شهر رمضان وكان صائمًا أوله هل يقضى عنه بقية الشهر أم يتصدق عن كل يوم بقي عليه؟ ج: من مات في أثناء شهر رمضان وقد صام أوله فليس عليه شيء عن بقيته، ولا يصام عنه؛ لأنه لم يدركه، وما لم يدركه فإنه لا يجب عليه، وإن كان قد أفطر شيئًا مما أدرك بسبب المرض ثم مات فلا شيء عليه أيضًا؛ لأنه لم يتمكن من وقت القضاء ولو تمكن منه فإن وقته موسع إلى رمضان الآخر، ومن مات في أثناء الوقت الموسع فلا شيء عليه. (الرياض 6186 - الفوزان) متى يجب الصيام؟ س: أنا شاب بلغ من العمر 23 سنة، وقد شجعني والدي على الصيام وأنا عمري 15 سنة تقريبًا والله أعلم، وكنت أصوم وأفطر أيامًا لأني لم أكن أعرف المعنى الحقيقي للصوم، ولكن بعد إن بلغت ووعيت أكثر بدأت أصوم كل شهر رمضان المبارك، ولم أفطر في أي يوم من أيامه والحمد لله. وسؤالي هو هل علي قضاء السنوات الماضية؟ علمًا بأني في السن الـ 18 بدأت أصوم كل شهر رمضان. ج: متى أتم الإنسان 15 عامًا وجبت عليه التكاليف.، فإن هذه السن علامة البلوغ فهذا الذي تساهل بالصوم وقد حكم ببلوغه قد ترك واجبًا فعليه قضاء ما ترك أو أفطر فيه من أيام الرمضانات التي مرت، قبل توبته ولا يعذر بجهله بحكمة الصيام فعليه قضاء الأيام التي تركها أو لم يتم الصيام فيها مع الكفارة عن كل يوم طعام مسكين فإن كان جاهلاً بعددها فعليه الاحتياط حتى يتيقن أنه قضى ما وجب في ذمته، والله أعلم. (اليمامة 887 - ابن جبرين)

النبي عليه السلام كان يدركه الفجر وهو جُنُبُ من أهله. س: هل يجوز صيام المرء وهو على جنابة بدون قصد لهذه الجنابة؟ ج: ثبت في الحديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم وحيث إن الاغتسال من الجنابة شرط لصحة الصلاة فلا يجوز تأخيره لوجوب صلاة الصبح في وقتها، لكن لو غلبه النوم وهو جنب فلم يستيقظ إلا في الضحى فإنه يغتسل ويصلي صلاة الفجر ويستمر في صومه وكذا لو نام في النهار وهو صائم فاحتلم فإنه يغتسل لصلاة الظهر أو العصر ويتم صومه. (اليمامة 887 - ابن جبرين) تأخير قضاء رمضان س: هل يجوز تأجيل صيام دين رمضان إلى فصل الشتاء؟ ج: يجب قضاء صيام رمضان على الفور بعد التمكّن وزوال العذر، ولا يجوز تأخيره بدون سبب مخافة العوائق من مرض أو سفر أو موت، ولكن لو أخره فصامه في الشتاء، وفي الأيام القصيرة أجزأه ذلك وأسقط عن القضاء. (اليمامة 183 - ابن جبرين) صوم الوصال س: ما هو صوم الوصال، وهل هو سُنَّة؟ (أحمد محمود غريب - الفجيرة) ج: صوم الوصال أن لا يفطر الإنسان في يومين فيواصل الصيام متتاليين، وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه وقال: "من أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر"، والمواصل للسحر من باب الجائز، وليست من باب المشروع، والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حث على تعجيل الفطر، وقال: "لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر"، لكنه أباح

لهم أن يواصلوا إلى السحر فقط فلما قالوا: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنك تواصل. فقال: "إني لست كهيئتكم". (المسلمون - ابن عثيمين) الصوم في السفر س: هل يُشترط لترخص المسافر في سفره بالفطر في رمضان أن يكون سفره على الرجل أو على الدابة أو ليس هناك فرق بين الرجل وراكب الدابة وراكب السيارة أو الطائرة؟ وهل يشترط أن يكون في السفر تعب لا يستطيع تحمله؟ وهل الأحسن أن يصوم المسافر إذا استطاع أو الأحسن له الفطر؟ ج: يجوز للمسافر سفر قصر أن يفطر في سفره سواء كان ماشيًا أو راكبًا وسواء كان ركوبه بالسيارة أو الطائرة أو غيرهما، وسواء تعب في سفره تعبًا لا يتحمل معه الصوم أو لم يتعب، اعتراه جوع وعطش أو لم يصبه شيء من ذلك؛ لأن الشرع أطلق الرخصة للمسافر سفر قصر في الفطر، وقصر الصلاة ونحوهما من رخص السفر ولم يقيد ذلك بنوع من المركب، ولا بخشية التعب أو الجوع أو العطش، وقد كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسافرون معه في غزوة في شهر رمضان فمنهم من يصوم ومنهم من يفطر، ولم يعب بعضهم على بعض، لكن يتأكد على المسافر الفطر في شهر رمضان إذا شق عليه الصوم لشدة حر أو وعورة مسلك أو بعد شقة وتتابع سير مثلاً، فعن أنس: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر فصام بعض وأفطر بعض فتحزم المفطرون وعملوا وضعف الصائمون عن بعض العمل، فقال: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر" وقد يجب الفطر في السفر لأمر طارئ يوجب ذلك، كما في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سافرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مكة ونحن صيام قال: فنزلنا منزلاً، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم". فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفَطر، ثم نزلنا منزلاً آخر فقال: "إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا"، وكانت عزمة، فأفطرنا، ثم قال: لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك في السفر.

رواه مسلم. وكما في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فرأى رجلاً قد اجتمع الناس عليه، وقد ظلل عليه فقال: "ما له؟ " قالوا: رجل صائم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس البر أن تصوموا في السفر" رواه مسلم. (الجندي المسلم - اللجنة الدائمة) القيء غير المتعمد لا يفسد الصوم س: قارئ يسأل هل القيء يفسد الصوم؟ ج: إن ما قد يتعرض له الصائم من جراح أو رعاف أو قيء أو ذهاب الماء أو البنزين إلى حلقه بغير اختياره فكل هذه الأمور لا تفسد الصوم لكن من تعمد القيء فسد صومه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء". (ابن باز) قيام الليل س: هل يكون قيام الليل في شهر رمضان المبارك فقط أم في جميع أيام السنة، ومن أي ساعة يبدأ وإلى أي ساعة ينتهي؟ وهل يكون القيام صلاة فقط أم صلاة وقراءة القرآن الكريم؟ ج: قيام الليل بالصلاة والتهجّد سنّة وفضيلة حافظ عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحابته كما قال تعالى: (إِن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك) وليس خاصًا بشهر رمضان ووقته ما بين العشاء والفجر لكن الصلاة آخر الليل أفضل، وإن صلى وسطه فله أجر، والأولى أن يكون عقب النوم أو في النصف الأخير من الليل، والله أعلم. (عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين) ***

صيام رمضان 30 يومًا باستمرار س: قارئ من الخُبر بعث سؤالاً يقول فيه: ما الحكم في قوم يصومون رمضان ثلاثين يومًا باستمرار؟ ج: قد دلّت الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين لهم بإحسان من العلماء على أن الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعًا وعشرين، فمن صامه دائمًا ثلاثين من غير نظر في الأهلة فقد خالف السنة والإجماع وابتدع في الدين بدعة لم يأذن بها الله، قال الله سبحانه: (اتبعوا ما أنزل إِليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) الآية، وقال سبحانه: (قل إِن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم) الآية، وقال: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إِن الله شديد العقاب) ، وقال عز وجل: (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي الصحيحين من حديث -ابن عمر رضي الله عنهما- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "صوموا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له" متفق عليه، وفي رواية لمسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين" وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فصوموا ثلاثين" وفي لفظ آخر: "فأكملوا العدة ثلاثين"، وفي لفظ آخر: "فأكملوا شعبان ثلاثين يومًا" وعن حُذيفة -رضي الله عنه- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة" رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح، وثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عدة أحاديث أنه قال: إن الشهر هكذا وهكذا وهكذا" وأشار بأصابعه العشر وخنس إبهامه في الثالثة ثم قال: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا" بأصابعه العشرة ولم يخنس منها شيئًا. يشير - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

إلى أنه يكون في بعض الأحيان ثلاثين ويكون في بعضها تسعًا وعشرين، وقد تلقى أهل العلم والإيمان من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأتباعهم بإحسان هذه الأحاديث الصحيحة بالقبول والتسليم وعملوا بمقتضاها فكانوا يتراءون هلال شعبان ورمضان وشوال ويعملون بما تشهد به البينة من تمام الشهر أو نقصانه فالواجب على جميع المسلمين أن يسيروا على هذا النهج القويم وأن يتركوا ما خالف ذلك من آراء الناس وما أحدثوه من البدع، وبذلك ينتظمون في سلك من وعدهم الله بالجنة والرضوان في قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإِحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم) . (الدعوة 1010 - ابن باز) الأيام المنهي عن الصيام فيها س: الأخ محمد إبراهيم النجدي من ميت طريف -دقهلية- بمصر يسأل عن الأيام التي يكره فيها الصيام. ج: الأيام التي ينهى عن الصيام فيها يوم الجمعة حيث لا يجوز أن يصوم يوم الجمعة مفرداً يتطوع بذلك؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذلك، وهكذا لا يفرد يوم السبت تطوعًا ولكن إذا صام الجمعة ومعها السبت أو معها الخميس فلا بأس كما جاءت بذلك الأحاديث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كذلك ينهى عن صوم يوم عيد الفطر وذلك محرم، وكذلك يوم عيد النحر وأيام التشريق كلها لا تصام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك إلا أن أيام التشريق قد جاء ما يدل على جواز صومها عن هدي التمتع والقران خاصة لما ثبت في البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- وابن عمر -رضي الله عنهما- قالا: "لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي"، أما كونها تصام تطوعًا أو لأسباب أخرى فلا يجوز كيوم العيد وهكذا يوم الثلاثين من شعبان إذا لم تثبت رؤية الهلال فإنه يوم شك لا يجوز صومه في أصح قولي العلماء سواء كان

حكم صوم يوم عاشوراء

صحوًا أو غيمًا للأحاديث الصحيحة الدالة على النهي عن ذلك، والله ولي التوفيق. (المجلة العربية 97 - ابن باز) حكم صوم يوم عاشوراء س: الأخ عبد القدوس محمد من الرياض يسأل عن حكم صيام يوم عاشوراء، وهل الأفضل صيام اليوم الذي قبله أم اليوم الذي بعده أم يصومها جميعًا، أم يصوم يوم عاشوراء فقط؟ نرجو توضيح ذلك جزاكم الله خيرًا. ج: صيام يوم عاشوراء سنة، لما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الدلالة على ذلك، وأنه كان يومًا تصومه اليهود؛ لأن الله نجى فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه فصامه نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شكرًا لله، وأمر بصيامه، وشرع لنا أن نصوم يومًا قبله أو يومًا بعده، وصوم التاسع مع العاشر أفضل، وإن صام العاشر مع الحادي عشر كفى ذلك لمخالفة اليهود، وإن صامهما جميعًا مع العاشر فلا بأس لما جاء في بعض الروايات: "صوموا يومًا قبله ويومًا بعده" أما صومه وحده فيكره، والله ولي التوفيق. (المجلة العربية 96 - ابن باز) استنشاق الدواء هل يفطر؟ س: يوجد دواء مع المرضى بمرض الربو يأخذونه بطريق الاستنشاق، هل يفطر أو لا؟ ج: وقد أجابت اللجنة عن هذا السؤال بما يلي: دواء الربو الذي يستعمله المريض استنشاقًا يصل إلى الرئتين عن طريق القصبة الهوائية، لا إلى المعدة فليس أكلاً ولا شربًا ولا شبيهًا بهما، وإنما هو شبيه بما يقطر في الأحليل، وما تداوى به المأمومة والجائفة وبالكحل والحقنة الشرجية ونحوها من كل ما يصل إلى الدماغ أو البدن من غير الفم أو الأنف، وهذه الأمور اختلف العلماء في تفطير الصائم باستعمالها فمنهم من لم يفطر الصائم باستعمال شيء منها، ومنهم من فطره باستعمال بعض دون بعض، مع

اتفاقهم جميعًا على أنه لا يسمى استعمال شيء منها أكلاً ولا شربًا، لكن من فطر باستعمالها أو بشيء منها جعله في حكمها بجامع أن كلاً من ذلك يصل إلى الجوف باختيار، ولما ثبت من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا" فاستثنى الصائم من ذلك مخافة أن يصل الماء إلى حلقه أو معدته بالمبالغة في الاستنشاق فيفسد الصوم، فدل على أن كل ما وصل إلى الجوف اختيارًا يفطر الصائم. ومن لم يحكم بفساد الصوم بذلك كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ومن وافقه، لم ير قياس هذه الأمور على الأكل والشرب صحيحًا فإنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر هو كل ما كان واصلاً إلى الدماغ أو البدن أو ما كان داخلاً من منفذ أو واصلاً إلى الجوف، وحيث لم يقم دليل شرعي على جعل وصف من هذه الأوصاف مناطا للحكم بفطر الصائم يصح تعليق الحكم به شرعًا، وجعل ذلك في معنى ما يصل إلى الحلق أو المعدة من الماء بسبب المبالغة في استنشاقه غير صحيح أيضًا لوجود الفارق فإن الماء يغذي فإذا وصل إلى الحلق أو المعدة أفسد الصوم سواء كان دخوله من الفم أو الأنف إذ كل منهما طريق فقط، ولذا لم يفسد الصوم بمجرد المضمضة أو الاستنشاق دون مبالغة ولم ينه عن ذلك، فكون الفم طريقًا وصف طردي لا تأثير له، فإذا وصل الماء ونحوه من الأنف كان له حكم وصوله من الفم، ثم هو والفم سواء والذي يظهر عدم الفطر باستعمال هذا الدواء استنشاقًا لما تقدم من أنه ليس في حكم الأكل والشرب بوجه من الوجوه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. (الجندي المسلم - اللجنة) مراتب الفرض ومراتب الفضل س: سمعت أن الصيام مراتب، فما صحة هذا القول وهل لكل منها ثواب خاص بها؟ (هند سليم إبراهيم - لندن) ج: إذا قصد بالمراتب الفرض والنفل فهذا صحيح، والفرض أفضل من النفل أما مراتب الفضل والأجر عند الله باعتبار الصائمين، فهذا اختلف اختلافًا

صيام رمضان 28 يوما

كبيرًا بحسب ما يفعله الإنسان أثناء الصوم من التزام بالأخلاق والآداب الإسلامية أو عدم التزامه بها، وبحسب ما يقوم في قلبه من الإخلاص. (المسلمون- ابن عثيمين) من يصوم ولا يصلي س: لقد شاهدتا بعضًا من شباب المسلمين يصومون ولكن لا يصلون هنا هل يقبل صيام من صام ولم يصل؟ ولقد سمعت بعض الواعظين بالدين يقول لهؤلاء الشباب: أفطروا ولا تصوموا فمن لم يصل لا صوم له. أفتوني هل يصومون أو يفطرون سواء، وهل لنا الحق أن نقول لهم: أفطروا إذا لم تصلوا؟ ج: من وجبت عليه الصلاة فتركها عمدًا جاحدًا لوجوبها كفر بإجماع العلماء، ومن تركها تهاونًا وكسلاً كفر على القول الصحيح من أقوال أهل العلم ومتى حكم بكفره حبط صومه وغيره من العبادات لقوله سبحانه: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) ولكن لا يؤمر بترك الصيام؛ لأن صيامه لا يزيده إلا خيرًا وقربًا من الدين ولخوف قلبه يرجى من ورائه أن يعود إلى فعل الصلاة والتوبة من تركها، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. (الجندي المسلم - اللجنة) صيام رمضان 28 يومًا س: قاريء يسأل: هل يجوز صيام 28 يومًا فقط من شهر رمضان؟ ج: ثبت في الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الشهر لا ينقص عن تسعة وعشرين يومًا، ومتى ثبت دخول شهر شوال بالبينة الشرعية بعد صيام المسلمين ثمانية وعشرين يومًا فإنه يتعين أن يكونوا أفطروا اليوم الأول من رمضان فعليهم قضاؤه؛ لأنه لا يمكن أن يكون الشهر ثمانية وعشرين يومًا، وإنما الشهر تسعة وعشرون يومًا أو ثلاثون. (ابن باز)

عليه 10 أيام من رمضان منذ 8 أعوام س: إذا كان عليَّ صيام عشرة أيام من رمضان منذ ثماني سنوات، والسبب كنت مريضًا فهل أصومها أو أكفر؟ ج: حيث ذكرت أنك أفطرت بسبب المرض، ومضى عليك ثماني سنوات، وأنت لم تصمها فإن فطرك مشروع، ويجب عليك القضاء، ولا يجزئك أن تتصدق إلا إذا تقرر عجزك عنها دائمًا فتكون بمنزلة الكبير الذي لا يستطيع الصيام، ومما يحسن تنبيهك عليه إن كان قد حصل لك الشفاء قبل رمضان آخر لم يجز لك تأخير القضاء من غير عذر ومن أخر القضاء من غير عذر حتى أدركه رمضان آخر حرم عليه، وحينئذ فعليك مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم ما يجزئ في كفارة، رواه سعيد بإسناد حسن عن ابن عباس، والدارقطني بإسناد صحيح عن أبي هريرة، ومقدار الإطعام هو مد من البر عن كل يوم يعطى للمساكين، وإن كان التأخير لعذر فليس فيه إلا القضاء. (الجندي المسلم- اللجنة) تأخير غسل الجنابة إلى طلوع الفجر س: قارئ يسأل: هل يجوز غسل الجنابة إلى طلوع الفجر، وهل يجوز للنساء تأخير غسل الحيض أو النفاس إلى طلوع الفجر؟ ج: إذا رأت المرأة الطهر قبل الفجر فإنه يلزمها الصوم، ولا مانع من تأخيرها الغسل إلى بعد طلوع الفجر، ولكن ليس لها تأخيره إلى طلوع الشمس بل يجب عليها أن تغتسل وتصلي قبل طلوع الشمس. أما الجنب فليس له تأخير الغسل إلى ما بعد طلوع الشمس بل يجب عليه أن يغتسل، ويصلي الفجر قبل طلوع الشمس ويجب على الرجل المبادرة بذلك حتى يدرك صلاة الفجر مع الجماعة. (ابن باز)

هل نصوم 31 يوما

من يصوم ويصلي في رمضان فقط س: إذا كان الإنسان حريصًا على صيام رمضان والصلاة في رمضان فقط، ولكنه يتخلى عن الصلاة بمجرد انتهاء رمضان فهل له صيام؟ ج: الصلاة ركن من أركان الإسلام وهي آكد الأركان بعد الشهادتين وهي من فروض الأعيان ومن تركها جاحدًا لوجوبها أو تركها تهاونا وكسلاً فقد كفر، أما الذين يصومون رمضان ويصلون في رمضان فقط فهذا مخادعة لله فبئس الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان، فلا يصح لهم صيام مع تركهم الصلاة في غير رمضان. (الجندي المسلم - اللجنة) هل نصوم 31 يومًا س: إذا كنا قد بدأنا الصوم في المملكة العربية السعودية ثم سافرنا إلى بلادنا في شرق آسيا في شهر رمضان حيث يتأخر الشهر الهجري هناك يومًا فهل نصوم واحدًا وثلاثين يومًا؟ ج: إذا صمتم في السعودية أو غيرها ثم صمتم بقية الشهر في بلادكم أو غيرها فأفطروا إفطارهم ولو زاد ذلك على ثلاثين يومًا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصوم يوم تصومون، والإفطار يوم تفطرون"، لكن إن لم تكملوا تسعة وعشرين يومًا فعليكم إكمال ذلك؛ لأن الشهر لا ينقص عن تسعة وعشرين يومًا. (الدعوة 899 - ابن باز) قطرة العين هل تفطر س: استعمال قطرة العين في نهار رمضان هل تفطر أم لا؟ ج: الصحيح أن القطرة وإن كان فيها خلاف بين أهل العلم حيث قال

من أكل وقت الأذان

بعضهم أنه إذا وصل طعمها إلى الحلق فإنها تفطر. والصحيح أنها لا تفطر لأن العين ليست منفذًا، لكن لو قضى احتياطا وخروجًا من الخلاف فلا بأس، وإلا فالصحيح أنها لا تفطر سواء كانت في العين أو في الأذن. (ابن باز) من أكل وقت الأذان س: القارئ ع. الفارس يسأل عن الحكم الشرعي للصيام فيمن سمع أذان الفجر واستمر في الأكل والشرب؟ ج: الواجب على المؤمن أن يمسك عن المفطرات من الأكل والشرب وغيرهما إذا تبين له طلوع الفجر، وكان الصوم فريضة كرمضان، وكصوم النذر والكفارات لقول الله عز وجل: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إِلى الليل) الآية من سورة البقرة. فإذا سمع الأذان وعلم أنه يؤذن على الفجر وجب عليه الإمساك فإن كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر أو بعد الفجر فإن الأولى والأحوط له أن يمسك إذا سمع الأذان ولا يضره لو شرب أو أكل شيئًا حين الأذان؛ لأنه لم يعلم بطلوع الفجر. ومعلوم أن من كان داخل المدن التي فيها الأنوار الكهربائية ولا يستطيع أن يعلم طلوع الفجر بعينه وقت طلوع الفجر ولكن عليه أن يحتاط بالعمل بالأذان والتقويمات التي تحدد طلوع الفجر بالساعة والدقيقة عملاً بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه". والله ولي التوفيق. (الدعوة 1014 - ابن باز) ***

توضيح من سماحة الشيخ الفاضل عبد العزيز بن باز علم الحساب لا يعتمد عليه في إثبات الصوم والفطر والأحكام الشرعية بإجماع سلف الأمة

توضيح من سماحة الشيخ الفاضل عبد العزيز بن باز علم الحساب لا يعتمد عليه في إثبات الصوم والفطر والأحكام الشرعية بإجماع سلف الأمة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد. فقد رأست الدورة السادسة لندوة توحيد التقويم الهجري المنعقدة في مكة المكرمة من يوم الثلاثاء 10/1/1046هـ وفق الحساب الذي يستعمله الفلكيون، ولم أوقع على البيان والجداول خشية أن يظن من يطلع عليها أنني موافق على إثبات الصوم والفطر والأحكام الشرعية بالحساب. وقد أفهمت اللجنة ذلك وأوضحت لها أن إثبات الأهلة والأحكام الشرعية إنما يكون بالرؤية أو إكمال العدد كما نص على ذلك نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحاديث صحيحة منها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" متفق عليه. ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة" رواه النسائي وأبو داود بإسناد صحيح. ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنا أمّة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة، الشهر هكذا وهكذا وهكذا" -يعني تمام ثلاثين- متفق عليه وهذا لفظ مسلم. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. أما توحيد التقويم بالحساب فلا مانع أن يعتمد عليه في المسائل الإدارية ونحوها. وللإيضاح والنصيحة وبراءة الذمة رأيت نشر هذا البيان، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، إنه جواد كرم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عبد العزيز بن عبد الله بن باز (الإصلاح 95)

أفطر عمدًا من أجل الامتحانات س: أنا فتاة أجبرتني الظروف على إفطار ستة أيام من شهر رمضان عمدًا والسبب ظروف الامتحانات؛ لأنها بدأت في شهر رمضان.. والمواد صعبة، ولولا إفطاري هذه الأيام لم أتمكن من دراسة المواد نظرًا لصعوبتها وأرجو إفادتي ماذا أفعل كي يغفر الله لي جزاكم الله خيرًا؟ ج: عليك التوبة من ذلك وقضاء الأيام التي أفطرتها والله يتوب على من تاب، وحقيقة التوبة التي يمحو الله بها الخطايا الإقلاع من الذنب وتركه تعظيمًا لله سبحانه وخوفًا من عقابه والندم على ما مضى منه والعزم الصادق أن لا يعود إليه، وإن كانت المعصية ظلمًا للعباد فتمام التوبة تحللهم من حقوقهم.. قال الله تعالى: (وتوبوا إِلى الله جميعًا أيها المؤمنونِ لعلكم تفلحون) ، وقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إِلى الله توبة نصوحًا) الآية. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "التوبة تجب ما قبلها"، وقال عليه الصلاة والسلام: "من كان عنده لأخيه مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ من حسناته بقدر مظلمته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه". رواه البخاري في صحيحه، والله ولي التوفيق. (الدعوة 968 - ابن باز) فاقد العقل لا يجب عليه الصوم فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم من سليم بن سميحان الحربي إلى سماحة الرئيس العام والمحال إليها برقم 1930/ في 7/11/1401هـ ونصه: إن ابنتي تبلغ من العمر ثلاثين عامًا ولديها أطفال مصابة باختلال عقلي منذ أربعة عشر عامًا، وكان في السابق يصيبها هذا المرض مدة وينقطع عنها مدة أخرى، وقد أصابها هذه المرة على خلاف العادة حيث لها الآن ثلاثة أشهر تقريبًا مصابة به وبذلك فهي لا تحسن صلاتها ولا وضوءها إلا

بواسطة إنسان يرشدها كيف وكم صلت. والآن بعد دخول شهر رمضان المبارك صامت يومًا واحدًا فقط ولم تحسن صيامه أما الأيام الباقية فإنها لم تصمها أرشدوني -أثابكم الله- في هذا الموضوع بما يجب عليه، ويجب عليها علمًا بأنني ولي أمرها. وأجابت بما يلي: إذا كان الواقع من حالها كما ذكرت لم يجب عليها صوم ولا صلاة أداء ولا قضاء ما دامت كذلك، وليس عليك سوى رعايتها، لأنك وليها، وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.." الحديث، وإذا قدر أنها أفاقت في بعض الأحيان وجبت عليها الصلاة الحاضرة وقت الإفاقة وكذلك إذا قدر أنها أفاقت يومًا أو أيامًا من شهر رمضان فيما بعد صامت ما أفاقت فيه فقط، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - الدعوة 925) راعي الغنم لا يجوز له الإفطار س: رجل صام رمضان وأفطر من منتصف الشهر 15 يومًا، وعذره أنه يرعى غنمًا بأجرة، وقد سأل رجلاً يدعي أنه طالب علم وأفتاه قائلاً: تصدق عن كل يوم بربع دينار، وقد استدل المفتي بالآية الكريمة: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) ، وأنا حاضر والسؤال عن الجواب.. ج: أولاً: لا يجوز لمن يرعى غنمًا أن يفطر إلا في حالة الاضطرار فيتناول إذا اضطر ما يدفع الاضطرار ثم يمسك بقية يومه ثم يقضي الأيام التي أفطرها. ثانيًا: ما أجاب به المسئول من أنه يتصدق عن كل يوم بربع دينار ليس بصحيح بل الواجب عليه القضاء لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أيامًا معدودات فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرًا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إِن كنتم تعلمون شهر رمضان الذي أنزل فيه

القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) قال ابن جرير -رحمه الله تعالى- بعد ذكره لطائفة من الأقوال في تفسير قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) قال: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) منسوخ بقول الله تعالى ذكره: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) لأن الهاء التي في قوله: (وعلى الذين يطيقونه) من ذكر الصيام ومعناه وعلى الذين يطيقونه الصيام فدية طعام مسكين فإذا كان ذلك كذلك، وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين على أن من كان مطيقًا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوم شهر رمضان وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. (الدعوة 805 - ابن باز) من ترك صيام رمضان من غير عذر س: ما حكم المسلم الذي مضى عليه أشهر من رمضان يعني سنوات عديدة بدون صيام مع إقامة بقية الفرائض، وهو بدون عائق عن الصوم أيلزمه القضاء إن تاب؟ ج: صيام رمضان ركن من أركان الإسلام، وترك المكلف عمدًا للصيام من أعظم الكبائر، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى كفره وردته بذلك، وعليه التوبة النصوح والإكثار من الأعمال الصالحة من النوافل وعليه أن يحافظ على شرائع الدين من صلاة وصيام وحج وزكاة وغير ذلك، وليس عليه قضاء في أصح قولي العلماء؛ لأن جريمته أكبر من أن يجبرها القضاء. (الدعوة 805 - ابن باز) استعمال حبوب منع الحيض في رمضان س: هل يجوز للمرأة استعمال دواء لمنع الحيض في رمضان أو لا؟ ج: يجوز أن تستعمل المرأة أدوية في رمضان لمنع الحيض إذا قرر أهل

الخبرة من الأطباء ومن في حكمهم أن ذلك لا يضرها، ولا يؤثر على جهاز حملها، وخير لها أن تكف عن ذلك، وقد جعل الله لها رخصة في الفطر إذا جاءها الحيض في رمضان، وشرع لها قضاء الأيام التي أفطرتها، ورضي لها بذلك دينًا. (الدعوة 757 - ابن باز) الكلام مع المرأة ومس يدها في نهار رمضان س: ما حكم الكلام مع امرأة أو مس يدها في نهار رمضان للصائم نظرًا إلى أن جميع المتاجر والمحلات تعمل بيد النساء؟ ج: إذا كان كلام الرجل مع المرأة من غير ريبة ولا قصد إلى التمتع بالحديث معها بأن كان للمفاوضة التجارية والسؤال عن الطريق ونحو ذلك، أو مس يدها دون قصد فذلك جائز في رمضان وفي غير رمضان. وأما إن كان كلامه معها لقصد التلذذ بالحديث معها فلا يجوز لا في رمضان، ولا في غيره، وهو في رمضان أشد منعًا. (الدعوة 806 - اللجنة) القطرة لا تفسد الصوم س: تلقت اللجنة استفتاء هذا نصه: في كتاب الضياء اللامع ورد في خطبة خاصة بشهر رمضان وما يتعلق بالصيام عبارة نصها "ولا يفطر أيضًا إذا غلبه القيء، وإذا داوى عينيه أو أذنه أو قطر فيهما" فما رأيكم في ذلك؟ ج: ما قاله من أن من قطر في عينيه أو أذنيه للتداوي لا يفسد صومه بذلك هو الصحيح؛ لأن ذلك لا يسمى أكلاً ولا شربًا لا - في العرف العام ولا في لسان الشرع، ولأنه يدخل من مدخل غير معتاد للطعام والشراب، ولو أخر التقطير في عينيه وأذنيه إلى الليل كان أحوط للخروج من الخلاف وكذلك من غلبه القيء لا يفسد صومه بخروجه؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، والشريعة مبنية على رفع الحرج، لقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من

حرج هو وغير ذلك من الأدلة ولقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء..". (الدعوة 805 - اللجنة) لا يجوز للحائض أن تصوم س. هل للمرأة إذا حاضت أن تفطر في رمضان، وتصوم أيامًا مكان الأيام التي أفطرتها؟ ج: لا يصح صوم الحائض، ولا يجوز لها فعله فإذا حاضت أفطرت وصامت أيامًا مكان الأيام التي أفطرتها بعد طهرها. (الدعوة 807 - اللجنة) لي ولد توفي وعليه يوم من رمضان فما الحكم؟ س: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال الذي قدمه جميل أبو سليمان إلى سماحة الرئيس العام المحال إليها برقم 1092 في 5/6/1402هـ ونصه: إن ابني البالغ من العمر 18 عامًا قد توفي قبل خمسة أيام وكان عليه يوم واحد لم يصمه في رمضان، وهو أول يوم وكان ذلك من جراء حادث وقع له في سيارة كسر على أثرها فخذه الأيمن ويده اليسرى، وقد نقل من المستشفى إلى الدار، وكانت الدار لدينا غير مزودة بمكيف هواء، وكما يعلم بأن الجبس حار؛ لأن نصف جسمه مكسو به على شكل بنطلون، وقد صام الأيام التي تلي هذا اليوم كاملة بعد أن زودت الدار بالمكيف، فما هو الحكم في ذلك جزاكم الله خيرًا علمًا بأنه لم يقض هذا اليوم، وقد نصح له الطبيب بعدم الصوم كلية من أجل أن يلتئم العظم، ويحتاج إلى تغذية عالية. والسلام عليكم. وأجابت بما يلي: إذا كان الواقع كما ذكر من أن ابنك أصيب في حادث سيارة، وأنه أفطر لذلك يومًا من رمضان لعجزه عن صيامه، وأنه مات قبل أن يتمكن من قضاءه فلا شيء عليه ولا على أوليائه لا قضاء ولا فدية لقوله تعالى:

لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. (الدعوة 845 - اللجنة) أفطر رمضان لمرض ومات قبل أن يقضيه س: رجل مات يوم عيد الفطر، وأول يوم من رمضان أو الثاني أصابه المرض ومر عليه رمضان كله وهو مفطر، فهل على ورثته الصيام عنه بعد وفاته أو عليهم إطعام أو ليس على الميت ولا على الورثة شيء من ذلك. ج: إذا كان هذا المريض أفطر لعدم قدرته على الصيام لم يتمكن من القضاء لأنه مات يوم عيد الفطر "فالصوم لم يجب عليه أداؤه لعدم القدرة لمرضه ولا قضاء لعدم التمكن لموته يوم عيد الفطر وليس على ورثته الصوم ولا الإطعام عنه. (الدعوة 805 - اللجنة) مرض والدي فمات وعليه أيام أوصاني بصيامها س: مات والدي بعد مرض ألمَّ به منعه من الصيام نصف شهر رمضان، وقد أوصاني بصيام تلك الأيام فهل يلزمني ذلك أو إخراج كفارة؟ ج: إذا كان الأمر كما ذكرت فلا يلزمك أن تصوم عنه ولا يلزم إخراج كفارة عن الأيام التي لم يتمكن من صيامها لعموم قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إِلا وسعها) وحيث إن والدك لم يتمكن من الصيام ولا من القضاء فلا يجب عليه شيء. (الدعوة 807 - اللجنة) جامع امرأته في نهار رمضان س: ما حكم من وقع في حرام في شهر رمضان إذا كان في صيام، وإذا كان ليلاً، وما هي الكفارة؟ ج: من جامع امرأته أو أمته في شهر رمضان، فإن كان ليلاً فيما بين غروب

الشمس وطلوع الفجر فلا بأس، وإن كان جماعه نهارًا فيما بين طلوع الفجر وغروب الشمس وهو صائم مكلف به فهو آثم عاص لله ورسوله، وعليه القضاء والكفارة، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا لكل مسكين مد من بر، ونحوه مما اعتاد أهل جهته أن يطعموه في بلادهم. (الدعوة 806 - اللجنة) المجاهدون هل يفطرون. س: هل الذين يحاربون العدو يحل لهم الإفطار في رمضان ويقضون بعده؟ ج: إذا كان الذين يحاربون الكفار مسافرين سفرًا تقصر فيه الصلاة، جاز لهم أن يفطروا وعليهم القضاء بعد رمضان. وإن كانوا غير مسافرين بأن هجم عليهم الكفار في بلادهم فمن استطاع منهم الصوم مع الجهاد وجب عليه الصوم، ومن لم يستطع الجمع بين الصيام والقيام بما وجب عليه عينًا من الجهاد، جاز له أن يفطر وعليه القضاء، صوم الأيام التي أفطرها بعد انتهاء رمضان. (الدعوة 806 - اللجنة) عمرها 13 سنة ولم تصم س: فتاة بلغ عمرها اثني عشر أو ثلاثة عشر عامًا، ومر عليها شهر رمضان المبارك، ولم تصمه فهل عليها شيء أو على أهلها، وهل تصوم وإذا ما صامت فهل عليها شيء؟ ج: المرأة تكون مكلفة بشرط الإسلام والعقل والبلوغ ويحصل البلوغ بالحيض أو الاحتلام أو نبات شعر خشن حول القبل، أو بلوغ خمسة عشر عامًا فهذه الفتاة إذا كانت قد توافرت فيها شروط التكليف فالصيام واجب عليها،

ويجب عليها قضاء ما تركته من الصيام في وقت تكليفها، وإذا اختلف شرط من الشروط فليست مكلفة ولا شيء عليها. (الدعوة 847 - اللجنة) العامل هل يجوز له الإفطار س: سمعت خطيبًا من أئمة المساجد في ثاني جمعة في رمضان المبارك إجازة الإفطار للعامل الذي أجهده العمل، وليس له مورد غير عمله هذا وأن يطعم مسكينًا لكل يوم من أيام رمضان وحده نقدًا خمسة عشر درهمًا هذا مما دعاني لكتابة هذه الرسالة، وهل لهذا دليل صحيح من الكتاب والسنة؟ ج: لا يجوز للمكلف أن يفطر في نهار رمضان لمجرد كونه عاملاً لكن إن لحق به مشقة عظيمة اضطرته إلى الإفطار أثناء النهار فإنه يفطر بما يدفع المشقة ثم يمسك إلى الغروب، ويفطر مع الناس ثم يقضي ذلك اليوم الذي أفطره والفتوى التي ذكرتها ليست بصحيحة وقد صدرت فتوى من اللجنة الدائمة في هذا الموضوع. (الدعوة 822 - اللجنة) من أكل أثناء الأذان أو بعده بقليل س: قال تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) ما حكم من أكمل سحوره وشرب ماء وقت الأذان أو بعد الأذان للفجر بربع ساعة؟ ج: إن كان المذكور في السؤال يعلم أن ذلك قبل تبين الصبح فلا قضاء عليه، وإن علم أنه بعد تبين الصبح فعليه القضاء أما إن كان لا يعلم هل كان أكله وشربه بعد تبين الصبح أو قبله فلا قضاء عليه؛ لأن الأصل بقاء الليل، ولكن ينبغي للمؤمن أن يحتاط لصيامه وأن يمسك عن المفطرات إذا سمع الأذان إلا إذا علم أن هذا الأذان كان قبل الصبح. (الدعوة 753 - اللجنة)

قراءة القرآن أم صلاة التطوع س: أيهما أفضل في نهار شهر رمضان المبارك قراءة القرآن أم صلاة التطوع؟ ج: كان من هديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات، وكان جبريل يدارسه القرآن ليلاً، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان لما يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف. هذا هدي الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الباب في هذا الشهر. أما المفاضلة بين قراءة القارئ وصلاة المصلي تطوعًا فتختلف باختلاف أحوال الناس وتقدير ذلك راجع إلى الله جل وعلا؛ لأنه بكل شيء محيط. (الدعوة 755 - اللجنة) بلع الريق لا يفطر س: أ- في أثناء الصوم إذا بلغ التفلان والبلع ليس بقصد ري الظمأ هل يتم له الصوم أم لا؟ ب: وإن أحد الأشخاص كان نائمًا، وقام من النوم بعد أذان الفجر فورًا وتسحر بعد القيام من النوم فورًا هل يجوز الصوم أم لا والصوم كان في شهر رمضان المبارك؟ جـ: هل يجوز شرب الماء في أثناء أذان الفجر أم لا؟ ج: أ- إذا بلعه قبل أن يخرج من فمه فلا يفسد صومه بذلك. ب: إذا قام من نومه فأكل بعد أذان الفجر لم يجزئه صوم ذلك اليوم. وعليه قضاؤه إن كان من أيام رمضان وعليه أن يتحرى طلوع الفجر في المستقبل حتى لا يقع في مثل هذا مرة أخرى. جـ: لا يجوز أكل ولا شرب في الصيام بعد الشروع في أذان الفجر

الصادق إذا ثبت له الأذان بعد الفجر. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. (الدعوة 849 - اللجنة) حكم صيام من يشرب الخمر في ليالي رمضان س: ابتلي شخص بشرب الخمر حتى أنه ليشربها في ليالي رمضان، فما حكم صيامه نهارًا ما دام يشرب الخمر في الليل؟ ج: شرب الخمر من اكبر الكبائر، لقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إِنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاءُ في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) فشربها محرم في رمضان وفي غير رمضان، وإن كان شربها في رمضان أشد تحريمًا فعلى شاربها أن يتوب إلى الله بأن يجتنب شربها، ويأسف على ما فرط من جريمة شربها، ويندم على ذلك، ويعزم على ألا يعود إليها في رمضان ولا في غيره. أما صيام من شربها ليلاً فهو صحيح مجزئ ما دام قد أمسك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية الصوم لله. (الدعوة 786 - اللجنة) الحامل إذا أفطرت تقضي فقط وسألت الأخت س/م/ع: كنت حاملة في شهر رمضان فأفطرت وصمت بدلاً منه شهرًا كاملاً، وتصدقت ثم حملت ثانية في شهر رمضان فأفطرت، وصمت بدلاً منه شهرًا يومًا بعد يوم لمدة شهرين، ولم أتصدق فهل في هذا شيء يوجب عليَّ الصدقة ... ؟ ج: إن خافت الحامل على نفسها أو جنينها من الصوم أفطرت وعليها

القضاء فقط شأنها في ذلك شأن المريض الذي لا يقوى على الصوم أو يخشى منه على نفسه، قال الله تعالى: (ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. (الدعوة 805 - اللجنة) المريض الذي يشق عليه الصيام س: أنا سيدة مريضة وقد أفطرت بعض الأيام في رمضان الماضي ولم أستطع قضاءها لمرضي فما هي كفارة ذلك؟ كذلك فإنني لن أستطيع صيام رمضان هذا العام فما هي كفارة ذلك أيضًا؟ وجزاكم الله خيرًا.. ج: المريض الذي يشق عليه الصيام يشرع له الإفطار، ومتى شفاه الله قضى ما عليه لقول الله سبحانه: (ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وليس عليك أيتها السائلة حرج في الإفطار في هذا الشهر ما دام المرض باقيًا لأن الإفطار رخصة من الله للمريض والمسافر والله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته، وليس عليك كفارة، ولكن متى عافاك الله فعليك القضاء شفاك الله من كل سوء وكفر عنا وعنكم السيئات. (الدعوة 901 - ابن باز) أخّر القضاء حتى دخل رمضان التالي س: ما حكم من أفطر يومًا من رمضان "عفوًا" ولم يقضه حتى دخل عليه رمضان الذي يليه؟ ج: إن كان أخَّر قضاء اليوم الذي أفطره لعذر من مرض ونحوه فليس عليه إلا القضاء عند القدرة، وإن كان أخر القضاء لغير عذر فقد أساء وعليه القضاء وإطعام مسكين..

س: ما حكم من عليه صوم يوم من رمضان عام 92م ولم يقض حتى أدركه رمضان عام 93 ولم يقض؟ ج: إذا أهمل الإنسان قضاء يوم أو أكثر من رمضان حتى أدركه رمضان السنة التي بعدها قضي ما فاته من اليوم أو الأيام وأطعم عن كل يوم مسكينًا مدًّا من بر أو نحوه مما اعتادوا أكله في بلادهم إن كان أخر القضاء بلا عذر أما إن كان أخر القضاء لعذر من مرض أو ضعف لا يقوى معه على قضاء ما فاته فليس عليه إطعام. (الدعوة 805 - اللجنة) حاولت الصوم فلم أستطع لمرضي س: أنا امرأة أصبت بمرض ولم أستطع صيام شهر رمضان، وعندما أحسست أنني شفيت أردت أن أصوم هذا الشهر الذي عليّ ولكن لم أستطع صيامه له، وصمت منه 12 يومًا فقط، لقد حاولت في الباقي ولكن لم أستطع لما أحس من ألم. ماذا أفعل في الباقي؟ جزاكم خيرًا. (المرسلة: س. س. ش. الزلفى) ج: عليك محاولة الصيام مهما استطعت مع الصبر على المشقة فإنه أعظم للأجر، فأما إن عجزت وشق عليك الصيام أو كان يزيد في المرض ولا يرجى برؤه فإنه يجزئ عنك الفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم. فإن زال المرض وحصلت القدرة بعد ذلك فالاحتياط القضاء لما فات، والله الشافي. (اليمامة 895 - ابن جبرين) السفر للدراسة لا يبيح الفطر س: سافرت للعلاج إلى جمهورية مصر العربية بإحدى المستشفيات النفسية قبل شهر رمضان بأيام، وعندما حل شهر رمضان لم أتمكن من الصيام، ولم يساعدني الأطباء على صيامه، هل أترك الصيام للعام الماضي، وأقضيه فيما

بعد عودتي؛ لأنني سأسافر إلى بريطانيا للدراسة هذه الأيام، وما هي كفارة القضاء؟ ج: عليك بالمبادرة بقضاء رمضان الذي أفطرته وتعاطي العلاج فإن أخرته إلى رمضان آخر لغير مرض ونحوه فعليك مع القضاء كفارة، وهي إطعام مسكين بعدد الأيام التي عليك، ولا يبيح السفر للدراسة الإفطار فإن الطلاب يتمكنون من الدراسة والصيام بسهولة ويسر. (اليمامة 896 - ابن جبرين) تحري هلال محرم أمر ليس باللازم س: يصوم كثير من المسلمين يوم عاشوراء، ويهتمون بصيامه نظرًا لما يسمعونه من الدعاة في الحث عليه والترغيب فيه. فلماذا لا يوجه الناس لتحري هلال محرم حتى يعرف السلمون ذلك بعد إذاعته أو نشره في وسائل الإعلام؟ ج: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه، صيام يوم عاشوراء سنة يستحب صيامه، صامه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصامه الصحابة، وصامه موسى قبل ذلك شكرًا لله عز وجل؛ ولأنه يوم نجى فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه فصامه موسى وبنو إسرائيل شكرًا لله عز وجل ثم صامه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شكرًا لله عز وجل وتأسيًا بنبي الله موسى، وكان أهل الجاهلية يصومونه أيضًا، وأكده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الأمة، فلما فرض الله رمضان قال: "من شاء صام ومن شاء ترك"، وأخبر عليه الصلاة السلام أن صيامه يكفر الله به السنة التي قبله، والأفضل أن يصام قبله يوم أو بعده يوم خلافًا لليهود لقوله عليه الصلاة والسلام: "صوموا قبله يوم أو بعده يوم" -وفي لفظ- "صوموا يوماً قبله ويومًا بعده" فإذا صام يومًا قبله أو بعده يومًا أو صام اليوم الذي قبله واليوم الذي بعده أي صام ثلاثة أيام كله طيب، وفيه مخالفة لأعداء الله اليهود. أما تحري ليلة عاشوراء فهذا أمر ليس باللازم لأنه نافلة ليس بالفريضة.

فلا يلزم الدعوة إلى تحري الهلال لأن المؤمن لو أخطأ فصام بعده يومًا وقبله يومًا لا يضره ذلك وهو على أجر عظيم، ولهذا لا يجب الاعتناء. بدخول الشهر من أجل ذلك لأنه نافلة فقط. (الأمن 24 - ابن باز) فتوى حول صيام يوم عاشوراء س: من صام التاسع والعاشر فتبين له بعد ذلك أنه صام الثامن والتاسع فما الحكم؟ وهل عليه قضاء ذلك؟ ج: ليس عليه القضاء، وله الأجر إن شاء الله كاملاً على حسب نيته؛ لأنه ظن أن هذا هو التاسع والعاشر حسب التقويمات فله أجره إن شاء الله، وليس عليه قضاء وله أجر صوم اليومين. س: لو تبين له في اليوم التاسع أن غدًا العاشر فهل يواصل صيام ثلاثة أيام؟ ج: الأفضل له أن يواصل، حتى يصوم العاشر يقينًا هذا هو الأفضل وإن لم يصم فلا حرج، ويفوته صوم العاشر. س: إذا وافق العاشر يومًا سيسافر فيه المسلم فهل له أن يصوم ثم يفطر بعد سفره ومفارقة بلدته ثم يقضيه بعد أن يعود من سفره؟ ج: هو مخير إن شاء صام وإن شاء ترك، إذا بدأ في يوم سفره إن شاء صام وكمل الصيام، وإن شاء أفطر، وإن شاء صام وإذا سافر أفطر. كله مخير فيه، والحمد لله وليس فيه قضاء. (مجلة الأمن 24 - ابن باز) صيام ست من شوال، وما ورد في موطأ مالك س: ماذا ترى في صيام ستة أيام بعد رمضان من شهر شوال، فقد ظهر في

موطأ مالك: أن الإمام مالك بن أنس قال في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان أنه لم ير أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد مات السلف، وأن أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان لما ليس منه هذا الكلام في الموطأ (الرقم 228 - الجزء الأول) . ج: ثبت عن أبي أيوب -رضي الله عنه- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فذاك صيام الدهر". رواه الخمسة ومسلم وأبو داود والترمذي. فهذا حديث صحيح يدل على أن صيام ستة أيام من شوال سنة وقد عمل به الشافعي وأحمد وجماعة من الأئمة من العلماء، ولا يصح أن يقابل هذا الحديث بما يعلل به بعض العلماء لكراهة صومها خشية أن يعتقد الجاهل أنها من رمضان أو خوف أن يظن وجوبها أو بأنه لم يبلغه عن أحد ممن سبقه من أهل العلم أنه كان يصومها فإنه من الظنون وهي لا تقاوم السنة الصحيحة ومن علم حجة على من لم يعلم. (الدعوة 857 - اللجنة) صوم النافلة لا يقضى س: أصوم ثلاثة أيام من كل شهر وفي أحد الأشهر أصابني مرض فلم أصمها فهل عليَّ قضاء أو كفارة؟ ج: صوم النافلة لا يقضى ولو ترك اختيارًا إلا أن الأولى بالمسلم المداومة على ما كان يعمله من عمل صالح لحديث "أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل" فلا قضاء عليك ولا كفارة علمًا أن ما تركه الإنسان من عمل صالح كان يعمله لمرض أو عجز أو سفر ونحو ذلك يكتب له أجره لحديث "إذا مرض ابن آدم أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا". (الدعوة 746 - اللجنة)

من فتاوى الشيخ ابن عثيمين حفظه الله

من فتاوى الشيخ ابن عثيمين حفظه الله صيام القضاء والنافلة بنية واحدة (*) سؤال: صيام القضاء مع صيام النافلة بنية واحدة مثل صيام يوم عرفة قضاء رمضان بنيّة واحدة؟ الفتوى: إذا كان المقصود أن تصوم يوم عرفة مع القضاء أو عاشوراء مع القضاء فإنَّ ذلك ليس فيه حرج لا بأس أن تصوم يوم القضاء في يوم عرفة، ويحصل لك الأجر، وكذلك يوم عاشوراء بينة القضاء ويحصل له الثواب. تبييت النية في الصوم سؤال: رجل نام وبعد نومه أعلن عن ثبوت رؤية هلال رمضان، ولم يكن قد بيت نية الصوم، وأصبح مفطرًا لعدم علمه بثبوت الرؤية، فما هو الواجب عليه (1) ؟ الفتوى: هذا الرجل نام أول ليلة من رمضان قبل أن يثبت الشهر ولم يبيت نية الصوم ثم استيقظ وعلم بعد أن طلع الفجر أن اليوم من رمضان فإنه إذا علم يجب عليه الإمساك، ويجب عليه القضاء، عند جمهور أهل العلم، ولم يخالف في ذلك -فيما أعلم- إلا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فإنه قال: إن النّيَّة تتبع العلم، وهذا لم يعلم فهو معذور، فهو لم يترك تبييت النية بعد علمه ولكنه كان جاهلاً، والجاهل معذور، وعلى هذا فإذا أمسك من حين علمه فصومه صحيح ولا قضاء عليه. وأما جمهور العلماء فقالوا: إنه يجب عليه الإمساك، ويجب عليه القضاء وعللوا ذلك بأنه فاته جزء من اليوم بلا نية.

_ (*) الفتاوى الخاصة بالصيام مأخوذة من كتاب مسائل في الصيام، وما زاد على ذلك نبهنا عليه في الهامش. وجزى الله جامعها الأخ أشرف عبد المقصود خيراً. (1) فتاوى الحرم 1408هـ.

والذي أرى أن الاحتياط في حقِّه أن يقضي هذا اليوم. *** النية الجازمة للفطر بدون أكل أو شرب هل تفطر؟ سؤال: هل النية الجازمة للفطر دون أكل وشرب هل يفطر بها الإنسان؟ الفتوى: من المعلوم أن الصوم جامع بين النية والترك فينوي الإنسان بصومه التقرب إلى الله عز وجل بترك المفطرات فإذا عزم على أنه قطع صومه فعلاً فإن الصوم ينقطع ولكنه إذا كان في رمضان يجب عليه الإمساك حتى تغيب الشمس؛ لأن كل من أفطر في رمضان بغير عذر لزمه الإمساك والقضاء وأما إذا لم يعزم، ولكن تردد فموضع خلاف بين العلماء منهم من قال: إن صومه يبطل؛ لأن التردد ينافي العزم ومنهم من قال: إنه لا يبطل؛ لأن الأصل بقاء نية الصوم حتى يعزم على تركها وإزالتها. نويت صيام كفارة ثم أجلته للشتاء سؤال: نويت صيام ستين يومًا كفارة، وأجلتها إلى الشتاء، ماذا لو متُّ قبل الشتاء؟ الفتوى: إن الإنسان إذا وجب عليه صيام كفارة وجب عليه أن يبادر بذلك؛ لأن الواجبات تُؤَدَّى على الفور ولكن إذا كان يَشُقُّ عليه أن يصوم الكفارة في أيام الصيف لطول النهار وشدة الحر فلا حرج عليه أن يؤجل ذلك إلى وقت البرد، وإذا توفي قبل فليس عليه إثم؛ لأنه أخرها لعذر، ولكن يصام عنه منها ما أمكن فعله فإن لم يصم عنه أحد أطعم عنه عن كل يوم مسكين. ***

نويت صيام الاثنين والخميس بدون نذر، فهل يجب عليَّ طول العمر؟ سؤال: نويت صيام الاثنين والخميس من كل أسبوع ولم أنذر بذلك فهل يجب عليَّ الصيام كل العمر، وإذا صمت يوم الخميس "مثلاً" ثم أفطرت فهل يجب عليّ قضاؤه؟ الفتوى: مجرد نية الفعل لا تلزمه بالفعل فإذا نوى الإنسان أن يصوم يوم الاثنين والخميس ولكنه لم يصم فلا شيء عليه وكذلك لو شرع في الصوم ثم قطعه فلا شيء عليه أيضًا؛ لأن صوم النفل لا يلزمه إتمامه حتى لو نوى الإنسان أن يتصدق بمال وفصل المال وجعله على حدة فإنه لا يلزمه أن يتصدق به إذ أن النية لا أثر لها في مثل هذه الأمور وعلى هذا نقول للأخ السائل: إنه لا يجب عليك أن تقضي عن يوم الخميس الذي أفطرته ولا يجب عليك أن تستمر في صيام الاثنين والخميس، ولكن إن فعلت ذ-لك فهو -خير لأن يومي الا-ثنين والخميس يُسَنُّ صيامهما. حكم تردد النية في الصوم أو الفطر سؤال: سمعنا الليلة المدفع أكثر من مرة فشككنا هل هو العيد أم رمضان؟ وانتظرنا نسمع شيئًا من الإمام قبل الفجر فلم نسمع شيئا فما حكم تردد النية في الصوم أو الفطر؟ الفتوى: الواجب أن الإنسان يَتَثَبَّتُ والأصل بقاء ما كان على ما كان لو كان هناك شيء لكان ظاهرًا بحيث يَتَبَيَّن للناس حتى لا يتسحروا ولا يصوموا وعلى كل حال اليوم هذا يعتبر من رمضان ولو كان خروج الشهر ثابتًا لكان الأمر بينًا وعلى هذا فالواجب على الإنسان في مثل هذا الحال أن يصوم بلا تردد؛ لأن الأصل بقاء رمضان فإذا تبين بعد ذلك أنه يوم العيد أفطر. ***

أقسام الناس في الصيام

أقسام الناس في الصيام الإفطار للمسافر من أجل التقوي على العمرة سؤال: المسافر إذا وصل مكة صائمًا، فهل يفطر ليتقوى على أداء العمرة؟ الفتوى: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة عام الفتح في اليوم العشرين من رمضان وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفطرًا، وكان يصلي ركعتين في أهل مكة، ويقول لهم: "يا أهل مكة أتمُّوا فإنا قومُ سَفَر" وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مفطرًا في ذلك العام أي أنه أفطر عشرة أيام في مكة في غزوة الفتح وفي صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لم يزل مفطرًا حتى انسلخ الشهر" كما أنه بلا شك كان يصلي ركعتين في هذه المدة؛ لأنه كان مسافرًا فلا ينقطع سفر المعتمر بوصوله إلى مكة فلا يلزمه الإمساك إذا قدم مفطرًا بل قد نقول له: الأفضل إذا كان ذلك أقوى على أداء العمرة أن لا تصوم ما دمت إذا أديت العمرة تعبتَ وقد يكون بعض الناس مستمرًا على صيامه حتى في السفر نظرًا؛ لأن الصيام في السفر في الوقت الحاضر ليس بمشق على الأمة فيستمر في سفره صائمًا ثم يقدم مكة ويكون متعبًا فيقول في نفسه هل أستمر على صيام أو أؤجل أداء العمرة إلى ما بعد الفطر أي إلى الليل أو الأفضل أن أفطر؛ لأجل أن أؤدي العمرة فور وصولي إلى مكة نقول له في هذه الحال: الأفضل أن تفطر حتى لو كنت صائمًا فأفطر لأجل أن تؤدي العمرة فور وصولك إلى مكة، وأنت نشيط؛ لأن الأفضل فيمن قدم إلى مكة لأداء النسك أن يبادر فورًا لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل مكة وهو في النسك بادر إلى المسجد حتى كان ينيخ راحلته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند المسجد ويدخله حتى يؤدي النسك الذي كان متلبسًا به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكونك تفطر لتؤدي العمرة بنشاط في النهار أفضل من كونك تبقى صائمًا ثم إذا أفطرت في الليل قضيت عمرتك. وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان صائمًا في سفره لغزوة الفتح فجاء إليه أناس

السفر المبيح للفطر

فقالوا: يا رسول الله، إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنهم ينتظرون ماذا تفعل، وكان هذا بعد العصر فدعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بماء فشرب والناس ينظرون، فأفطر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أثناء السفر بل أفطر في آخر اليوم كل هذا من أجل أن لا يشق الإنسان على نفسه بالصيام، وتكلف بعض الناس في الصوم في السفر مع المشقة لا شك أنه خلاف السنة، وإنه ينطبق عليهم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس من البر الصيام في السفر". *** السفر المبيح للفطر سؤال: ما هو السفر المبيح للفطر (1) ؟ (سلامة رزق سلامة - مصر) الفتوى: السفر المبيح للفطر وقصر الصلاة هو (83) كيلو ونصف تقريبًا، ومن العلماء من لم يحدد مسافة للسفر بل كل ما هو في عرف الناس سفر فهو سفر ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سافر ثلاثة فراسخ قصر الصلاة والسفر المحرم ليس مبيحًا للقصر والفطر؛ لأن سفر المعصية لا تناسبه الرخصة، وبعض أهل العلم لا يفرق بين سفر المعصية وسفر الطاعة لعموم الأدلة والعلم عند الله. حكم من جامع زوجته في نهار رمضان وهو على سفر سؤال: قدم من أبها إلى مكة ليلاً، وفي الصباح وسوس له الشيطان فجامع زوجته، فما الحكم (2) ؟ الفتوى: هذا رجل قدم هو وزوجته للعمرة، واعتمر في الليل وأصبحا صائمين، وفي ذلك اليوم الذي أصبحا فيه صائمين جامعها، نقول: ليس عليه شيء إلا قضاء ذلك اليوم فقط، فليس عليه إثم ولا كفارة، وإنما عليه قضاء

_ (1) المسلمون عدد (15) . (2) فتاوى الحرم 1408هـ.

ذلك اليوم فقط، لأن المسافر يجوز أن يقطع صومه، سواء قطعه بأكل أو شرب أو جماع؛ لأن صوم المسافر ليس واجبًا عليه، كما قال تعالى: (فَمَن كانَ مِنكُم مرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامِ أُخَرَ) [البقرة: 184] ، ولهذا أحب من الإخوة الذين يُستفتون في مكةَ مثلاً إذا جاء سائل يسأل: أنه وطئ زوجته وهو صائم، فما حكم ذلك؟ ينبغي أن نستفصل منه، ونقول له: هل أنت مسافر أم لا؟ إذا قال: إنه مسافر، فنقول: ليس عليك إلا القضاء، لكن لو جامع زوجته وهو في بلده في نهار رمضان وهما صائمان ترتب عليه أمور: أولاً: فساد الصوم، ثانيًا: وجوب الإمساك بقية اليوم، ثالثًا: قضاء ذلك اليوم، رابعًا: الإثم، خامسًا: الكفارة، وهي عتق رقبة، فإذا لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا. للمسافر الفطر حال السفر سؤال: يقول إذا كنت مسافرًا في رمضان، وكنت مفطرًا في سفري وعند وصولي إلى البلد الذي سأمكث فيه عدة أيام أمسكت بالصيام في بقية ذلك اليوم، وفي الأيام التالية فهل لي رخصة في الإفطار في نهار هذه الأيام وأنا في بلد ليس في بلدي الأصلي أم لا؟ الفتوى: نعم يجوز للمسافر إذا صام في سفره أن يفطر في أثناء النهار ولا حرج عليه كما أفطر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حال السفر. المبتعث مسافر يفطر ولو امتد ابتعاثه سنوات سؤال: نحن مجموعة من المبتعثين في بلاد أخرى بعضنا له سنة، والبعض الآَخر سنتان أو ثلاث أو أربع فهل لنا حكم المسافر في الصيام (1) ؟ (محمد طارق لطفي - محمد علي - حاتم زكي - لندن) الفتوى: هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، والجمهور، ومنهم الأئمة

_ (1) المسلمون عدد (15) .

الأربعة يقولون: إنهم في حكم المقيم يلزمهم الصوم ولا يجوز لهم قصر الصلاة ولا أن يمسحوا على الخفين ثلاثة أيام بل يوم وليلة، وبعض أهل العلم يقول: إنهم في حكم المسافرين، وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وهو ظاهر النصوص فهي لم تُحَدِّد مُدَّة السفر. وذكر أن ابن عمر أقام في أذربيجان ستة أشهر يُقْصر الصلاة، وهذا الرأي واضح الرجحان، ولكن من كان في نفسه حرج منه ورأى أن يأخذ بقول الجمهور وهو إتمام الصلاة ووجوب الصوم فلا حرج عليه في ذلك وهذا ما نراه ورآه شيخ الإسلام ابن تيمية. تتمة للفتوى السابقة (1) : المغترب الذي لا ينتوي الإقامة في حكم المسافر الصيام واجب على الذين ينتوون الإقامة الدائمة خارج أوطانهم الحمد لله رب العالمين كثيراً كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بالإحسان وسلم تسليمًا كثيراً. وبعد فقد نشر لي في "المسلمون" يوم السبت 28 شعبان 1405هـ جواب حول ترخص المبتعث برخص السفر من القصر والفطر ومسح الخفين ثلاثة أيام، وكان الجواب مختصرًا، وقد طلب مني بعض الإخوان أن أبسط القول في ذلك بعض البسط، فأقول وبالله التوفيق ومنه الهداية والصواب: المُغتربون عن بلادهم لهم ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن ينووا الإقامة المطلقة بالبلاد التي اغتربوا إليها كالعمال المقيمين للعمل والتجار المقيمين للتجارة ونحوهم ممن يقيمون إقامة مطلقة فهؤلاء

_ (1) المسلمون عدد (18) .

في حكم المستوطنين في وجوب الصوم عليهم في رمضان، وإتمام الصلاة والاقتصار على يوم وليلة في مسح الخفين؛ لأن إقامتهم مطلقة غير مقيدة بزمن ولا غرض، فهم عازمون على الإقامة في البلاد التي اغتربوا إليها لا يخرجون منها إلا أن يخرجوا. الحالة الثانية: أن ينووا الإقامة المقيدة بغرض معين لا يدرون متى ينتهي ومتى انتهى رجعوا إلى بلادهم كالتجار الذين يقدمون لبيع السلع أو شرائها ثم يرجعون وكالقادمين لمراجعة دوائر حكومية أو غيرها لا يدرون متى ينتهي غرضهم حتى يرجعوا إلى بلادهم فهؤلاء في حكم المسافرين فلهم الفطر وقصر الصلاة الرباعية ومسح الخفين ثلاثة أيام ولو بقوا سنوات هذا قول جمهور العلماء بل حكاه ابن المنذر إجماعًا لكن لو ظن هؤلاء أن الغرض لا ينتهي إلا بعد المدة التي ينقطع بها حكم السفر فهل لهم الفطر والقصر على قولين. الحالة الثالثة: أن ينووا الإقامة المقيدة بغرض مُعين يدرون متى ينتهي ومتى انتهى رجعوا إلى بلادهم بمجرد انتهائه فقد اختلف أهل العلم رحمهم الله في حكم هؤلاء فالمشهور عن مذهب الإمام أحمد أنهم إن نووا إقامة أكثر من أربعة أيام أتموا، وإن نووا دونها قصروا، قال في المغني (صفحة 288 المجلد الثاني) : وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور، قال: وروي هذا القول عن عثمان -رضي الله عنه-، وقال الثوري وأصحاب الرأي: إن أقام خمسة عشر يومًا مع اليوم الذي يخرج فيه أتم، وإن نوى دون ذلك قصر -انتهى- وهناك أقوال أخرى ساقها النووي في شرح المُهذَّب (صفحة 220 المجلد الرابع) تبلغ عشرة أقوال وهي أقوال اجتهادية متقابلة ليس فيها نص يفصل بينها، ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى أن هؤلاء في حكم المسافرين لهم الفطر وقصر الصلاة الرباعية والمسح على الخفين ثلاثة أيام انظر مجموع الفتاوى جمع ابن قاسم صفحة (137، 138، 184) مجلد (24) والاختيارات صفحة (73) ، وانظر زاد المعاد لابن القيم صفحة (29) مجلد (3) أثناء كلامه على فقه غزوة تبوك. وقال في الفروع لابن مفلح -أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية- صفحة (64) مجلد (2) بعد أن ذكر الخلاف فيما إذا نوى مدة فوق

أربعة أيام قال: واختار شيخنا وغيره القصر والفطر، وأنه مسافر ما لم يجمع على إقامة ويستوطن كإقامته لقضاء حاجة بلا نية إقامة. انتهى. واختار هذا القول الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب انظر صفحة (372، 375) مجلد (4) من الدرر السنية، واختاره أيضًا الشيخ محمد رشيد رضا صفحة (1180) المجلد الثالث من فتاوى المنار، وكذلك اختاره شيخنا عبد الرحمن بن ناصر السعدي صفحة (47) من المختارات الجلية، وهذا القول هو الصواب لمن تأمل نصوص الكتاب والسنة فعلى هذا يفطرون، ويمّضون كأهل الحال الثانية لكن الصوم أفضل إن لم يشق ولا ينبغي أن يؤخروا القضاء إلى رمضان ثان؛ لأن ذلك يوجب تراكم الشهور عليهم فيثقل عليهم القضاء أو يعجزوا عنه. والفرق بين هؤلاء وأهل الحال الأولى أن هؤلاء أقاموا لغرض معين ينتظرون انتهاءه ولم ينووا الإقامة المطلقة بل لو طلب منهم أن يتموا بعد انتهاء غرضهم لأبوا ذلك، ولو انتهى غرضهم قبل المدة التي نووها ما بقوا في تلك البلاد. أما أهل الحال الأولى فعلى العكس من هؤلاء فهم عازمون على الإقامة المطلقة مستقرون في محل الإقامة لا ينتظرون شيئًا معينًا ينهون إقامتهم بانتهائه، فلا يكادون يخرجون من مغتربهم هذا إلا بقهر النظام فالفرق ظاهر للمتأمل، والعلم عند الله تعالى فمن تبين له رجحان هذا القول فعمل به فقد أصاب ومن لم يتبين له فأخذ بقول الجمهور فقد أصاب؛ لأن هذه المسألة من مسائل الاجتهاد التي من اجتهد فيها فأصاب فله أجران ومن اجتهد فيهاِ فأخطأ فله أجر واحد، والخطأ فور قال الله تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إِلا وسعها) [البقرة: 286] ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" أخرجه البخاري. نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى الصواب عقيدة وقولاً وفعلاً إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ***

حكم المريض مرضًا مستمرًا هل يصوم؟ سؤال: المريض مرضًا مستمرًا ماذا يفعل؟ الفتوى: إذا كان المريض بمرض يُرجى بُرؤه فإنه يقضي ما فاته أثناء مرضه، وأما إذا كان مريضًا مرضًا لا يُرجى بُرؤه فإنه يطعم عن كل يوم مسكينًا ربع صاع من البر أو نصف صاع من غيره أما إذا قال له الطبيب: إن صومك يَضُرُّك في أيام الصيف فنقول له: يصوم ذلك في أيام الشتاء، وهذا تختلف حاله عن الذي يضره الصوم دائمًا والله أعلم. الصوم والصلاة للمريض مرض لا يرجى شفاؤه سؤال: شخص له ولدان مرضا مرضًا لا يرجى شفاؤه، ولم يسبق لهما الصوم فما هو الواجب في حقه نحوهما؟ وما هي كيفية الصلاة بالنسبة لهما (1) ؟ الفتوى: المريض مرضًا لا يُرجى زواله لا يلزمه الصوم؟ لأنه عاجز، ولكنه يلزمه بدلاً عنه بأن يطعم عن كل يوم مسكينًا هذا إذا كان عاقلاً بالغًا وللإطعام كيفيتان الأولى أن يصنع طعامًا غداء أو عشاء ثم يدعو إ-ليه المساكين بقدر الأيام التي عليه، كما كان أنس بن مالك يفعل ذلك حين كبر. وأما الكيفية الثانية أن يوزع طعامًا ويعتني المسكين بطبخه، ومقدار هذا الطعام مد من البر أو الأرز والمد يعتبر بمد صاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بع صاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاع النبي كيلوين وأربعين غرامًا فيكون المد نصف كيلو وعشرة غرامات، فيطعم الإنسان هذا القدر من الأرز أو البر، ويجعل معه لحمًا ويقدمه. وأما ما مضى من الصيام فإنه يطعم عنه أيضًا. أما بالنسبة للصلاة فيلزمهما أن يُصليا حسب الاستطاعة، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر إن بن حصين: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب". ***

_ (1) فتاوى الحرم 1408هـ.

حكم الحامل في الصيام سؤال: الحامل إذا خافت على نفسها أو خافت على ولدها فهل لكل حال حكم في الصيام؟ الفتوى: المرأة الحامل لا تخلو من حالين: إحداهما أن تكون قوية نشيطة لا يلحقها في الصوم مشقة ولا تأثير على جنينها فهذه المرأة يجب عليها أن تصوم؛ لأنه لا عذر لها في ترك الصيام. والحالة الثانية أن تكون غير مُتَحَمِّلة للصيام لثقل الحمل عليها أو لضعفها في جسمها أو لغير ذلك وفي هذا الحال تُفْطِر لا سيما إذا كان الضرَّر على جنينها فإنه يجب عليها الفطر حينئذ، وإذا أفطرت فإنها كغيرها ممن يفطر بعذر يجب عليها قضاء الصوم متى زال ذلك العذر عنها فإذا وضعت وجب عليها قضاء الصوم بعد أن تطهر من النفاس، ولكن أحيانًا يزول عذر الحمل ويخلفه عذر آخر وهو عذر الرضاع فإن المرضع قد تحتاج الأكل والشرب لا سيما في أيام الصيف الطويلة النهار الشديد الحر فإنها قد تحتاج إلى أن تفطر لتتمكن من تغذية ولدها بلبنها وفي هذه الحالة نقول لها: أفطري وإذا زال عنك العذر فإنك تقضين ما فاتك من الصوم وقد ذكر بعض أهل العلم أنه إذا كان إفطار الحامل والمرضع من أجل الخوف على الولد فقط دون الأم فإنه يجب عليها مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم يدفعه من عليه نفقة هذا الطفل وفي معنى ذلك أي في معنى الحامل والمرضع التي تفطر خوفًا على الولد في معنى ذلك من أفطر لإنقاذ غريق أو حريق ممن يجب إنقاذه فإنه يُفطر ويقضي، مثلاً رأيت النار تلتهم هذا البيت وفيه أناس مسلمون ولا يمكنك أن تقوم بالواجب واجب الإنقاذ إلا إذا أفطرت وشربت لتتقوى على إنقاذ هؤلاء فإنه يجوز لك بل يجب عليك في هذا الحال أن تفطر لإنقاذهم ومثله هؤلاء الذين يشتغلون بالإطفاء فإنهم إذا حصل حريق بالنهار وذهبوا لإنقاذه ولم يتمكنوا منه إلا أن يفطروا ويتناولوا ما تقوى به أبدانهم فإنهم يفطرون ويتناولون ما تقوى به أبدانهم؛ لأن هذا شبيه تمامًا بالحامل التي تخاف على جنينها أو المرضع التي تخاف على طفلها والله تبارك وتعالى حكيم لا يفرق بين شيئين متماثلين في المعنى بل يكون

سائق الشاحنات كيف يصوم ومتى؟!

حكمهما واحدًا وهذا عن كمال الشريعة الإسلامية وهو عدم التفريق بين المتماثلين وعدم الجمع بين المختلفين والله عليم حكيم. صيام المرأة الكبيرة التي يشق عليها الصوم سؤال: المرأة الكبير إذا كان الصيام يضرها هل تصوم؟ الفتوى: إذا كان الصوم يضر بها كما ذكر السائل فإنه لا يجوز لها أن تصوم؛ لأن الله تعالى يقول في القرآن (وَلا تَقْتُلُوا أَنفسَكم إنّ الله كانَ بِكم رَحيمًا) [النساء: 29] ، (وَلا تُلْقُوا بأَيْديكُم إِلَى التَّهْلُكَة) [البقرة: 195] فلا يجوز لها أن تصوم والصوم يضر بصحَّتها، وما دامت طاعنة في السن فإن الغالب أنها لن تقدر على الصوم في المستقبل وحينئذ تطعم عن كل يوم مسكينًا فإما أن تدفع إلى المساكين ذلك الطعام ومقداره ربع صاع من البر أو نصف صاع من غيره والأرز مثل البر لأن انتفاع الناس به -كانتفاعهم بالبر بل أبلغ إذ أنه لا يحتاج إليها البر، وإما أن تصنع طعامًا ويدعي إليه مساكين بعدد أيام الشهر وبذلك تبرأ ذمتها، والله أعلم. سائق الشاحنات كيف يصوم ومتى؟! سؤال: سائق شاحنة لمسافات طويلة كيف يصوم ومتى؟! الفتوى: جوابنا هذا السؤال أن نقول: إن الله تعالى قد بين حكم هذه المسألة في قوله: (وَمَن كانَ مَرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] ، فأنت أيها الأخ المشتغل في هذه الشاحنة ما دمت مسافرًا لك أن تترخص بجميع رخص السفر عن القصر والجمع والفطر في رمضان والمسح على الخفين ثلاثة أيام وغيرها مما هو معروف في أحكام السفر، وعلى هذا فنقول يجوز لك أن تفطر في هذه الحال فإن الله تعالى قد أطلق في الآية: (وَمَن كانَ مَرِيضًا أَو على سَفَرٍ) [البقرة: 185] ، ولم يقيده بشيء وما أطلقه الله ورسوله فإنه يجب العمل بمطلقه فإذا قلت كيف أصنع وأنا دائمًا في هذه المهنة أسافر دائمًا شتاء وصيفًا نقول لك إذا كنت في أهلك في رمضان وجب عليك أن تصوم وإذا كنت

فاقد الذاكرة والمعتوه والصبي والمجنون هل يجب عليه الصوم؟

في غير أهلك فأنت مُسافر لا يجب عليك أن تصوم، ثم إنه من الممكن بأن نقول لك فائدة عظيمة وهي أنك بدل أن تصوم في هذا الحر الشديد تصوم في أيام الشتاء القصيرة المدة الباردة وذلك أسهل لك، والله أعلم. فاقد الذاكرة والمعتوه والصبي والمجنون هل يجب عليه الصوم؟ سؤال: فاقد الذاكرة هل يجب عليه الصيام والمعتوه والصبي والمجنون؟ الفتوى: إن الله -سبحانه وتعالى أوجب على المرء العبادات إذا كان أهلاً للوجوب بأن يكون ذا عقل يُدرك به الأشياء، أما من لا عقل له فإنه لا تلزمه العبادات وبهذا لا تلزم المجنون ولا تلزم الصغير الذي لا يميز وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى، ومثله المعتوه الذي أصيب بعقله على وجه لم يبلغ حد الجنون، ومثله أيضًا الكبير الذي بلغ فقدان الذاكرة كما قال هذا السائل فإنه لا يجب عليه صوم ولا صلاة ولا طهارة؛ لأن فاقد الذاكرة هو بمنزلة الصبي الذي لم يُميَّز، فتسقط عنه التكاليف فلا يلزم بطهارة، ولا يلزم بصلاة، ولا يلزم أيضًا بصيام، وأما الواجبات المالية فإنها تجب في -ماله، وإن كان في هذه الحال فالزكاة مثلاً يجب على من يتولى أمره أن يُخرجها من مال هذا الرجل الذي بلغ هذا الحد؛ لأن وجوب الزكاة يتعلق بالمال كما قال الله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) [التوبة: 103] ، قال (خذ من أموالهم) ولم يقل خذ منهم، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ حينما بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" فقال: "صدقة في أموالهم" فبين أنها في المال، وإن كانت تؤخذ من صاحب المال. وعلى كل حال الواجبات المالية لا تسقط عن شخص هذا حاله، أما العبادات البدنية كالصلاة الطهارة والصوم فإنها تسقط عن مثل هذا الرجل؛ لأنه لا يعقل، وأما من زال عقله بإغماء من مرض فإنه لا تجب عليه الصلاة على قول أكثر أهل العلم فإذا أُغمي على المريض لمدة يوم أو يومين فلا قضاء عليه؛ لأنه ليس عليه

الإفطار من أجل الامتحانات هل يجوز؟!

عقل وليس كالنائم الذي قال فيه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليُصلِّها إذا ذكرها"؛ لأن النائم معه إدراك بمعنى أنه يستطيع أن يستيقظ إذا أوقظ، وأما هذا المغمي عليه فإنه لا يستطيع أن يفيق إذا أوقظ هذا إذا كان الإغماء ليس بسبب منه أما إذا كان الإغماء بسبب منه كالذي أغمي عليه من البنج فإنه يقضي الصلاة التي مضت عليه وهو في حال الغيبوبة. شخص يفطر في نهار رمضان بمكة سؤال: يقول: يوجد شخص الآن يفطر؟ (هذا السؤال وقع في مكة في رمضان) (1) ؟ الفتوى: وجود شخص يفطر في مكة في مثل هذا اليوم ليس بغريب؟ لأن مكة فيها الآفاقي وفيها المواطن الذي من أهل مكة والآفاقي يجوز له إذا كان قد أتى إلى العمرة وسيرجع إلى بلده يجوز له أن يفطر فهذا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلم الناس بالله وأخشاهم له فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة في اليوم العشرين من رمضان فصادف بقاؤه في مكة العشر الأواخر من رمضان ولم يصم، ثبت ذلك عنه في صحيح البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو قد بقي في مكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة عشرة منها في رمضان وتسعة في شوال فهذا الرجل الذي يفطر الآن ليس بغريب، وهذه المسألة يجهلها الناس، يُظُنُّ الناس أن من قدم إلى مكة لزمه الإمساك، وأنه لا يجوز أن يفطر، وهذا ظن غير صحيح بل للمسافر أن يفطر حتى يرجع إلى بلده. الإفطار من أجل الامتحانات هل يجوز؟! سؤال: تقول: أنا امرأة أجبرتني الظروف على الإفطار ستة أيام من شهر رمضان والسبب ظروف الامتحانات؛ لأنها بدأت في شهر رمضان والمواد صعبة،

_ (1) فتاوى نسائية.

ولولا وفطاري هذه الأيام لم أتمكن من دراسة هذه المواد نظرًا لصعوبتها، أرجو إفادتي ماذا أفعل كي يغفر الله لي؟ الفتوى: أولاً: إضافة الشيء إلى الظروف خطأ، والأولى أن يقال اضطررت، وما أشبه ذلك. ثانيًا إفطارها في رمضان من أجل الاختبار أيضًا خطأ ولا يجوز؛ لأنه بإمكانها أن تراجع بالليل وليس هناك ضرورة إلى أن تُفطر فعليها أن تتوب إلى الله عز وجل، وعليها القضاء، لأنها متأولة ما تركتها تهاونًا. صوم سائقي الحافلات سؤال: هل ينطبق حكم المسافر على سائقي السيارات والحافلات لعملهم المتواصل في نهار رمضان (1) ؟ (عبد الشهيد دبركي الفرماوي مفتش أتوبيسات بمصر - أشمون) الفتوى: نعم ينطبق حكم السفر عليهم فلهم القصر والجمع والفطر، فإذا قال قائل متى يصومون وعملهم متواصل؟ قلنا: يصومون في أيام الشتاء؛ لأنها أيام قصيرة وباردة. أما السائقون داخل المدن فليس لهم حكم المسافر، ويجب عليهم الصوم. صوم الأطفال في رمضان سؤال: طفلي الصغير يصر على صيام رمضان رغم أن الصيام يضره لصغر سنه واعتلال صحته، فهل أستخدم معه القسوة ليفطر (2) ؟ (أم أحمد - أبو ظبي) الفتوى: إذا كان صغيراً لم يبلغ فإنه لا يلزمه الصوم ولكن إذا كان يستطيعه دون مشقة، فإنه يؤمر به، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يُصَوِّمُون

_ (1) المسلمون عدد (15) . (2) المسلمون عدد (15) .

أولادهم حتى إن الصغير منهم ليبكي فيعطونه اللعب يتلهى بها، ولكن إذا ثبت أن هذا يضره فإنه يُمنع منه، وإذا كان الله سبحانه وتعالى منعنا عن إعطاء الصغار أموالهم خوفًا من الإفساد بها فإن خوف إضرار الأبدان من باب أولى أن يمنعهم منه، ولكن المنع يكون عن غير طريق القسوة فإنها لا تنبغي في معاملة الأولاد عند تربيتهم. ***

الحائض والصيام طهرت قبل الفجر، واغتسلت هل يصح صومها؟ سؤال: إذا طهرت الحائض قبل الفجر واغتسلت بعد فما الحكم؟ الفتوى: إن صومها صحيح إذا تيقنت الطهر قبل طلوع الفجر، المهم أن المرأة تتيقن أنها طَهُرت؛ لأن بعض النساء تظن أنها طهرت، وهي لم تطهر، ولهذا كان النساء يأتين بالقطن لعائشة -رضي الله عنها- فَيُرينها إياه علامة على الطهر، فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. فالمرأة عليها أن تتأنى حتى تتيقن أنها طهرت فإذا - طهرت فإنها تنوي الصوم، وإن لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر، ولكن عليها أيضاً أن تراعي الصلاة فتبادر بالاغتسال لتصلي صلاة الفجر في وقتها، وقد بلغنا أن بعض النساء تطهر بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الفجر، ولكنها تؤخر الاغتسال إلى ما بعد طلوع الشمس بحجة أنها تريد أن تغتسل غسلاً أكمل وأنظف وأطهر، وهذا خطأ لا في رمضان ولا في غيره؛ لأن الواجب عليها أن تبادر وتغتسل لتصلي الصلاة في وقتها ثم لها أن تقتصر على الغسل الواجب لأداء الصلاة، وإذا أحبت أن تزداد طهارة ونظافة بعد طلوع الشمس فلا حرج عليها، ومثل المرأة الحائض من كان عليها جنابة فلم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر فإنه لا حرج عليها، وصومها صحيح، كما أن الرجل لو كان عليه جنابة ولم يغتسل منها إلا بعد طلوع الفجر وهو صائم فإنه لا حرج عليه في ذلك؛ لأنه ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يُدرِكه الفجر وهو جنُب من أهله فيقوم ويغتسل بعد طلوع الفجر. والله أعلم. حاضت بعد غروب الشمس بقليل، هل يصح صومها؟ سؤال: إذا حاضت المرأة بعد غروب الشمس بقليل فما حكم صومها؟ الفتوى: جوابنا عليه أن صيامها صحيح حتى لو أحست بأعراض الحيض قبل الغروب من الوجع والتألم، ولكنها لم تره خارجا إلا بعد غروب الشمس

فإن صومها صحيح؛ لأن الذي يُفسد الصوم إنما هو خروج دم الحيض، وليس الإحساس به. استعمال حبوب منع الحيض في رمضان سؤال: هل يجوز استعمال حبوب منع الحيض للمرأة في رمضان أم لا؟ الفتوى: الذي أرى أن المرأة لا تستعمل هذه الحبوب لا في رمضان ولا في غيره؛ لأنه ثبت عندي من تقرير الأطباء أنها مُضرة جدا على المرأة على الرحم والأعصاب والدم وكل شيء مُضر فإنه منهي عنه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ضرر ولا ضِرار". وقد علمنا عن كثير من النساء اللاتي يستعملن هذه الحبوب أن العادة عندهن تضطرب وتتغير ويتعبن، ويُتعبن العلماء في كيفية جُلُوسهن الذي أنصح به أن لا تستعمل المرأة هذه الحبوب أبدًا لا في رمضان ولا في غيره. الحيض يمنع الصوم والصلاة سؤال: ما حكم من أنزلت العادة الشهرية قبل وقتها بالعلاج فتوقف الدم وبعد الصيام بثمانية أيام جاءت في وقتها فما حكم الأيام التي لم تصلي فيها؟ الفتوى: لا تقضي المرأة الصلاة إذا تسببت لنزول الحيض؛ لأن الحيض دم متى وجد وجد حكمه، كما أنها لو تناولت ما يمنع الحيض، ولم ينزل الحيض فإنها تُصلي وتصوم ولا تقضي الصوم؛ لأنها ليست بحائض فالحكم يدور مع علته قال الله عز وجل: (وَيَسْأَلونكَ عَنِ الْمَحيضِ قُلْ هوَ أَذى) [البقرة: 222] ، فمتى وجد هذا الأذى ثبُت حكمه، ومتى لم يوجد لم يثبت حكمه. * * *

قضاء الصوم للحائض إذا طهرت قبل الفجر سؤال: إذا طهرت الحائض واغتسلت بعد صلاة الفجر، وصلت وكملت صوم يومها فهل يجب عليها قضاؤه (1) ؟ الفتوى: إذا طهرت الحائض قبل طلوع الفجر ولو بدقيقة واحدة ولكن تيقنت الطهر فإنه إذا كان في رمضان فإنه يلزمها الصوم، ويكون صومها ذلك اليوم صحيحًا، ولا يلزمها قضاؤه؛ لأنها صامت وهي طاهر، وإن لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر فلا حرج كما أن الرجل لو كان جُنبا من جماع أو احتلام وتسحر ولم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر كان صومه صحيحًا. وبهده المُناسبة أودُّ أن أنبه إلى أمر آخر عند النساء إذا أتاها الحيض وهي قد صامت ذلك اليوم فإن بعض النساء يظن أن الحيض إذا أتاها بعد فطرها قبل أن تُصلي العشاء فسد صوم ذلك اليوم وهذا لا أصل له بل إن الحيض إذا أتاها بعد الغروب ولو بلحظة فإن صومها تام وصحيح. تحذير الحائض من ترك قضاء الصوم سؤال: سائلة تقول: إنها منذ أن وجب عليها الصيام وهي تصوم رمضان ولكنها لا تقضي الأيام التي تفطرها بسبب الدورة الشهرية، ولجهلها بعدد الأيام التي أفطرتها فهي تطلب إرشادها إلى ما يجب عليها فعله الآن (2) ؟ الفتوى: يؤسفنا أن يقع مثل هذا بين نساء المؤمنين فإن هذا الترك -أعني ترك قضاء ما يجب عليها من الصيام- إما أن يكون جهلاً، وإما أن يكون تهاونًا، وكلاهما مصيبة؛ لأن الجهل دواءه العلم والسؤال، وأما التهاون فإن دواءه تقوى الله عز وجل ومراقبته والخوف من عقابه والمبادرة إلى ما فيه رضاه فعلى هذه المرأة أن تتوب إلى الله مما صنعت، وأن تستغفر، وأن تتحرى الأيام

_ (2،1) فتاوى نسائية.

التي تركتها بقدر استطاعتها فتقضيها وبهذا تبرأ ذمَّتها، ونرجو لها أن يقبل الله توبتها. الدم الخارج بعد السقط، هل يفطر؟ سؤال: الدم الذي يخرج من الحامل إذا أسقطت الجنين هل يفطر؟ الفتوى: إن الحامل لا تحيض كما قال الإمام أحمد، إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الحيض، كما قال أهل العلم: خلقه الله تبارك وتعالى لحكمة غذاء الجنين في بطن أمه، فإذا نشأ الحمل انقطع الحيض لكن بعض النساء قد يستمر الحيض على عادته كما كان قبل الحمل فإذا كان ذلك فإن الحامل لا تصوم ولا تصلي؛ لأن هذا حيض. وأما الدم الذي يخرج من الحامل إذا أسقطت الجنين فإن كان الجنين قد تبين فيه خلق إنسان فالدم نفاس فلا تصوم ولا تصلي، وإذا أسقطت أثناء الصوم بطل صومها. وإن كان الجنين أسقط علقة أو مضغة لم يتبين أنها ابتداء خلق أنسان فالدم ليس نفاسًا، فتصوم وتصلي ولا حرج. النفساء والصوم سؤال: أنا فتاة متزوجة ورزقني الله بولدين توأمين، انتهيت من الأربعين في اليوم السابع من رمضان، ولكن الدم لا يزال مستمرًا، ولكن تغير لونه على ما قبل الأربعين، فما حكم صلاتي وصيامي؟ الفتوى: المرأة النفسَاء إذا بقي الدم معها فوق الأربعين وهو لم يتغير فإن صادف ما زاد عن الأربعين عادة حيضتها السابقة جلست، وإن لم يصادف عادة حيضتها السابقة فقد اختلف العلماء في ذلك فمنهم من قال: تغتسل وتصلى وتصوم ولو كان الدم يجري عليها؛ لأنها تكلون حينئذ كالمُستحاضة. ومنهم من قال: إنها تبقى حتى تتم ستين يومًا؛ لأنه وُجد من النساء من يبقى في النفاس ستين يوماً ويقال: إن بعض النساء كانت عادتها في النفاس ستين يومًا، وبناء على ذلك فإنها تنتظر حتى تتم ستين يومًا ثم بعد ذلك ترجع للحيضة المعتادة.

استعمال بخاخ ضيق النفس للصائم لا يفطر

ما يفطر الصائم وما لا يفطره القيء في نهار رمضان هل يفطر؟ سؤال: فيمن ذرعه القيء؟ الفتوى: نقول: إذا قاء الإنسان متعمدًا فإنه يفطر، وإن قاء بغير عمد فإنه لا يفطر، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء عمدًا فليقض". فإن غلبك القيء فإنك لا تفطر، فلو أحس الإنسان بأن معدته تموج، وأنها سيخرج ما فيها فهل نقول يجب عليك أن تمنعه؟ لا. أو تجذبه؟ لا. لكن نقول قف موقفًا حياديًا لا تستقيء ولا تمنع لأنك إن استقيت أفطرت، وإن منعت تضررت، فدعه إذا خرج بغير فعل منك فإنه لا يضرك، ولا تُفطر بذلك. استعمال بخاخ ضيق النفس للصائم لا يفطر سؤال: استعمال بخاخ ضيق النفس للصائم هل يفطر؟ الفتوى: الجواب على السؤال أن هذا البخاخ الذي تستعمله لكونه يتبخر ولا يصل إلى المعدة فحينئذ نقول لا بأس أن تستعمل هذا البخاخ وأنت صائم ولا تفطر بذلك؛ لأنه كما قُلنا لا يدخل منه إلى المعدة أجزاء؛ لأنه شيء يتطاير ويتبخر ويزول ولا يصل منه جرم إلى المعدة حتى نقول إن هذا مما يوجب الفطر فيجوز لك أن تستعمله وأنت صائم ولا يبطل الصوم بذلك. الكلام السوء ينقص أجر الصائم سؤال: هل تحدُّث المرء بكلام حرام في نهار رمضان يفسد صومه (1) ؟ (أحمد سعيد- صنعاء) الفتوى: إذا قرأنا قوله تعالى: (يا أَيّها الذِينَ آمنُوا كتبَ علَيكَمُ الصيَام كما

_ (1) المسلمون عدد (15) .

كتبَ عَلَى الَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَقون) [البقرة: 183] . عرفنا ما هي الحكمة من إيجاب الصوم وهي التقوى والتعبد لله سبحانه وتعالى. والتقوى وهي ترك المحارم وهي عند الإطلاق تشمل فعل المأمور به وترك المحظور وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يدع قول الزّور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه". وعلى هذا يتأكد على الصائم اجتناب المحرمات، من الأقوال والأفعال فلا يغتاب الناس ولا يكذب ولا ينم بينهم ولا يبيع بيعًا محرَّمًا، ويجتنب جميع المحرمات، وإذا فعل الإنسان ذلك في شهر كامل فإن نفسه سوف تستقيم بقية العام. ولكن المؤسف أن كثيرًا من الصائمين لا يُفرقون بين صومهم وفطرهم فهم على العادة التي هم عليها من الأقوال المحرمة من كذب وغش وغيره. ولا تشعر أن عليه وقار الصوم وهذه الأفعال لا تُبطل الصوم ولكن تُنقص من أجره، وربما عند المعادلة تُضيِّع أجر الصوم كله. والله المستعان. دهان الوجه واليدين بالمستحضرات الطبية هل يفسد الصوم؟ سؤال: هل دهان الوجه واليدين بالمستحضرات الطبية الحديثة أثناء الصيام بالنسبة للمرأة ممنوع في الدين؟ الفتوي: إنه ليس على المرأة إذا دهنت وجهها بما يُجمِّله أو لا يجمله، المهم أن الدُّهون هذه بجميع أنواعها سواء في الوجه أو في الظهر أو في أي مكان لا تؤثر على الصائم ولا تُفطره. استعمال التحاميل في نهار رمضان سؤال: ما حكم استعمال التحاميل في نهار رمضان إذا كان الصائم مريضًا؟ الفتوى: لا بأس بها، لا بأس أن يستعمل الإنسان التحاميل التى تكون من دبره إذا كان مريضًا؛ لأن هذا ليس أكلاً ولا شربًا ولا بمعنى الأكل

الروائح العطرية هل تفطر؟ والبخور هل يفطر؟

والشرب، والشارع إنما حرم علينا الأكل والشرب فما قام مقام الأكل والشرب أعطي حكم الأكل والشرب، وما ليس كذلك فإنه لا يدخل فيه لفظا ولا معنى فلا يثبت له حكم الأكل والشرب. استعمال الروائح العطرة في نهار رمضان سؤال: ما حكم استعمال الصائم الروائح العطرية في نهار رمضان (1) ؟ (سامح مصطفى- البحرين) الفتوى: لا بأس أن يستعملها في نهار رمضان، وأن يستنشقها إلا البُخُور لا يستنشقه؛ لأن له جُرمًا يصل إلى المعدة وهو الدخان. الحناء لا تفطر الصائم سؤال: هل يجوز وضع الحناء للشعر أثناء الصيام والصلاة لأني سمعت بأن الحناء تفطر الصائم (2) ؟ الفتوى: هذا أيضًا لا صحة له فإن وضع الحناء أثناء الصيام لا يفطر ولا يؤثر على الصائم شيئًا كالكحل، وكقطرة الأذن وكالقطرة في العين فإن ذلك كله لا يَضُرّ الصائم ولا يفطره. وأما الحناء أثناء الصلاة فلا أدري كيف يكون هذا السؤال إذ أن المرأة التي تصلي لا يمكن أن تتحنا. ولعلها تريد أن الحناء هل يمنع صحة الوضوء إذا تحنت المرأة؟ والجواب أن ذلك لا يمنع صحة الوضوء؛ لأن الحناء ليس له جرم يمنع وصول الماء، وإنما هو لون فقط، والذي يؤثر على الوضوء هو ما كان له جسم يمنع وصول الماء، فإنه لابد من إزالته حتى يصح الوضوء. * * *

_ (1) المسلمون عدد (15) . (2) فتاوى نور على الدرب.

شرب الدخان حرام ومن المفطرات سؤال: إذا كان الدخان ليس بطعام ولا شراب ولا يصل إلى الجوف فهل هو من المفطرات؟ الفتوى: فنقول له: إن شرب الدخان حرام عليك في رمضان وفي غير رمضان، وفي الليل وفي النهار، فاتق الله في نفسك، وأقلع عن هذا الدخان، واحفظ صحتك وأسنانك ومالك وأولادك ونشاطك مع أهلك حتى ينعم الله عليك بالصحة والعافية، وأما قوله إنه ليس بشراب فإني أقول له: هل يقال فلان يشرب الدخان؟ يقال: يشرب الدخان، وشرب كل شيء بحسبه، فهذا شراب بلا شك، ولكنه شراب ضار مُحرَّم، ونصيحتي له ولأمثاله أن يتقي الله في نفسه وماله وولده وفي أهله؛ لأن كل هذه الأشياء يصحبها ضرر من تعاطي هذا الدخان، وأسأل الله سبحانه وتعالى له ولإخواننا المسلمين العصمة مما يُغضب الله، وبهذا تبين أن شرب الدخان يفطر الصائم مع ما فيه من الإثم. القبلة والمداعبة في رمضان سؤال: هل يجوز للصائم أن يقبل زوجته ويداعبها في الفراش وهو في رمضان؟ الفتوى: نعم يجوز للصائم أن يقبل زوجته ويُداعبها وهو صائم سواء في رمضان أو في غير رمضان، لكنه إن أمنى من ذلك فإنه صومه يفسد، فإن كان في نهار رمضان لزمه إمساك بقية اليوم ولزمه قضاء ذلك اليوم، وإن كان في غير رمضان فقد فسد صومه، ولا يلزمه الإمساك لكن إن كان صومه واجبًا وجب عليه قضاء ذلك اليوم، وإن كان صومه تطوعًا فلا قضاء عليه. لا حرج على الصائم إذا تحرى ما يخفف صومه سؤال: الصائم إذا سافر من بلده الحار إلى بلد بارد أو إلى بلد نهاره قصير هل يجوز له ذلك؟ الفتوى: لا حرج عليه في ذلك، إذا كان قادرًا على هذا الشيء فإنه لا

حرج أن يفعل؛ لأن هذا من فعل ما يُخفِّف العبادة عليه، وفعل ما يخفف العبادة عليه أمر مطلوب، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصب على رأسه الماء من العطش أو من الحر وهو صائم، وكان ابن عمر -رضي الله عنه- يبل ثوبه وهو صائم، وذكر عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن عنده حوضًا من الماء ينزل فيه وهو صائم، كل هذا من أجل تخفيف أعباء العبادة، وكلما خفت العبادة على المرء كان أنشط لفعلها، وفعلها وهو مطمئن مستريح، ولهذا نهى النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يُصلي الإنسان وهو حاقن أي: محصور بالبول، فقال -عليه الصلاة السلام-: "لا يصلي بحضرة الطعام، ولا وهو يدافع الأخبثين" كل ذلك من أجل أن يؤدي الإنسان العبادة وهو مستريح مطمئن مقبل على ربه وعلى هذا فلا مانع من أن يبقى الصائم حول المُكيف، وفي غُرفة باردة، وما أشبه ذلك. النظر إلى النساء والمردان، هل يؤثر على الصوم؟ سؤال: النظر إلى النساء والأولاد المُرد هل يؤثر على الصيام؟ الفتوى: نعم، كل معصية فإنها تؤثر على الصيام؛ لأن الله تعالى إنما فرض علينا الصيام للتقوى (يا أَيُّها الَّذينَ آمنُوا كتب عَليكُم الصِّيَامُ كما كُتب عَلَى الذِينَ مِن قَبلِكم لَعَلَّكُم تَتَقُونَ) [البقرة: 183] ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يدع قول الزور والجهل والعمل به فليسر لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"، وهذا الرجل الذي ابتلي بهذه البلية نسأل الله أن يُعافيه منها، هذا لا شك أنه يفعل المحرم فإن النظر سهم من سهام إبليس -والعياذ بالله- وكم من نظرة أوقعت في قلب صاحبها البلابل فصار -والعياذ بالله- أسيرًا لها كم من نظرة أثرت على قلب الإنسان حتى أصبح أسيرًا في عشق الصور، ولهذا يجب على الإنسان إذا ابتلي بهذا الأمر أن يرجع إلى الله عز وجل بالدعاء بأن يُعافيه منه، وأن يعرض عن هذا ولا يرفع بصره إلى أحد من النساء أو أحد من المُرد، وهو مع الاستعانة بالله تعالى واللجوء إليه وسؤال العافية من هذا الداء سوف يزول عنه إن شاء الله تعالى.

خروج المني في نهار رمضان سؤال: رجل عنده سلس البول فأراد أن يجفف ذكره فخرج منه مني في نهار رمضان؟ الفتوى: إذا كان هذا الذي خرج منه شهوة إذا حاول أن يُفرغ البول من المكان فحصلت عنده شهوة فأنزل، فإن صومه يفسد؛ لأن إنزال المني بشهوة بفعل من الصائم من المفطرات أما إذا كان هذا بغير شهوة فإن صومه صحيح ولا قضاء عليه. تطاير الحبوب عند الطحن لا يفسد الصوم سؤال: فيمن يطحن الحبوب إذا تطاير إلى حلقه شيء من جرَّاء ذلك وهو صائم؟ الفتوى: إنه لا يجرح صومهم وصومهم صحيح؛ لأن تطاير هذه الأشياء بغير اختيارهم وليس لهم قصد في وصولها أجوافهم وأحب بهذه المناسبة أن أبين أن المفطرات التي تُفطر الصائم من الجماع والأكل والشرب وغيرها لا يفطر بها الصائم إلا بثلاثة شروط: أولاً: أن يكون عالماً فإن لم يكن عالما لم يفطر لقوله تعالى: (وَلَيس عليكَم جناح فيما أَخطَأتم به وَلَكن مَّا تعمدَت قُلُوبكم) [لأحزاب: 5] ، ولقوله: (ربنَا لا تؤَاخذنَا إن نَّسينَا أو أَخطَأنَا) [البقرة: 286] . فقال الله: فقد فعلت ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه" والجاهل مخطئ ولو كان عالما ما فعل فإذا فعل شيئًا من المفطرات جاهلاً فلا شيء عليه وصومه تام وصحيح سواء كان جهله في الحُكم أم بالوقت مثال جهله بالحكم: أن يتناول شيئًا من المُفطرات يَظُنُّ أنه لا - يفطر كما لو احتجم يظن أن الحجامة لا تُفطر فنقول: صومك صحيح ولا شيء عليك إلى غير ذلك من الأمور التي تقع للمرء بغير اختياره فإنه لا حرج عليه، ولا يُفطر بذلك لما ذكرنا، والخلاصة أن

جميع المفطرات لا يفطر بها الإنسان إلا بشروط ثلاثة: أن يكون عالما، ثانيًا: ذاكرًا، ثالثًا: مُختارًا. والله أعلم. استرخاء الصائم المرهق ونومه سؤال: أقضي نهاري في رمضان نائمًا أو مسترخيًا حيث لا أستطيع العمل لشدة شعوري بالجوع والعطش، فهل يؤثر ذلك في صحة صيامي؟ (علي أحمد محمد - مصر) الفتوى: هذا لا يؤثر على صحة الصيام، وفيه زيادة أجر لقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة: "أجرك على قدر نصبك" فكلما زاد تعب الإنسان زاد أجره، وله أن يفعل ما يخفف العبادة عليه كالتبرد بالماء والجلوس في المكان البارد. لا بأس بالسباحة للصائم سؤال: ما حكم السباحة في البحر أو في البرك في نهار رمضان؟ الفتوى: نقول: لا بأس للصائم أن يسبح في البحر أو في البرك سواء كانت البركة عميقة أو غير ذلك فإنه يسبح كما يريد وينغمس بالماء، ولكن يحرص أن لا يتسرب الماء في جوفه بقدر ما يستطيع وهذه السباحة تنشط الصائم وتعينه على صومه، وما كان منشطا على طاعة الله فإنه لا يُمنع؛ لأنه مما يخفف العبادة على العابد ويُيَسرها عليه، وقد قال الله تبارك وتعالى في معرض آيات الصوم: (يرِيدُ الله بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العسرَ وَلِتكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا الله عَلَى مَا هَدَاكم) [البقرة: 185] . والنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن هذا الدين ليسر، ولن يُشادَّ هذا الدين أحد إلا غلبه" فلا بأس أن يسبح في البركة كما أنه لا بأس أن يتسبح من الدش وغيره، والله أعلم. * * *

سريان البنج في الجسم هل يفطر

التمضمض من شدة الحر لا يفطر الصائم سؤال: التمضمض من شدة الحر هل يفسد الصوم؟ الفتوى: جوابنا على هذا السؤال: لا يفسد صومه بذلك لأن الفم في حكم الظاهر ولو لم يكن الفم في الظاهر ما كان غسله واجبًا في الوضوء ثم إن هذا أعني المضمضة بالماء إذا يبس الفم من شدة الحر مما ييسر الصوم ويسهله فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كَانَ يَصُبُّ الماء عَلى رَأسِهِ مِنْ شدَّة العَطَش، مِنْ شدَة الحَر. وكان ابن عمر رضي الله عنه يبل ثوبه في صومه ويلبسه ليبرد على جسده وكان لأنس بن مالك حوض يملأه فيسبح فيه في الصوم كل هذا مما يدل على أن فعل ما يخفف على المرء جائز لا بأس به ولكن ليحذر هذا المتمضمض، ليحذر من أن تسرب الماء في جوفه في هذه الحال بدون اختياره فإنه ليس عليه في ذلك بأس والله أعلم. سريان البنج في الجسم هل يفطر الصائم سؤال: سريان البنج في الجسم هل يفطر وخروج الدم عند قلع الضرس؟ الفتوى: كلاهما لا يفطر ولكن لا يبلغ الدم الخارج من الضرس. معجون الأسنان هل يكره للصائم؟ سؤال: معجون الأسنان للصائم وهل يقاس على السواك؟ الفتوى: جوابنا على هذا نقول السواك للصائم سنة في أول النهار وفي آخره. ولا أعلم حُجة مستقيمة لمن قال إنه يكره للصائم أن يتسوك بعد الزوال لأن الأدلة في مشروعية السواك عامة ليس فيها ما يدل على التفصيل وقد ذكر البخاري في صحيحه عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: "رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لا أُحصي يتوسك وهو صائم" لكنه ذكر معلقًا بصيغة التمريض وعلى هذا التسوك للصائم مشروع كما أنه مشروع لغيره أيضًا، وأما الفرشاة والمعجون للصائم فلا يخلو من حالتين: إحداهما أن يكون قويًا ينفذ إلى المعدة ولا يتمكن

الإنسان من ضبطه فهذا محذور عليه ولا يجوز له استعماله لأنه يؤدي إلى إفساد الصوم وما أدى إلى المُحَرَّم فهو مُحَرم، وفي حديث لقيط بن صبرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا فاستثنى الرسول عليه الصلاة والسلام من المبالغة في الاستنشاق استثنى حالة الصوم لأنه إذا بالغ في الاستنشاق وهو صائم فإن الماء قد يتسرب إلى جوفه فيفسد بذلك الصوم فنقول له إذا كانت الفرشاة والمعجون قوية بحيث تنفذ إلى معدته فإنه لا يجوز له استعمالها في هذه الحال أو على الأقل نقول إنه يكره وأما إذا كانت ليس بتلك القوة ويمكنه أن يتحرَّز منها وهي الحالة الثانية فإنه لا حرج عليه باستعمالها لأن باطن الفم في حكم الظاهر ولهذا يتمضمض الإنسان بالماء ولا يضره ولو كان داخل الفم بحكم الباطن لكان الصائم يمنع أن يتمضمض. السواك والطيب للصائم سؤال: ما هي أقوال المذاهب الأربعة في السواك والطيب بالنسبة للصائم (1) ؟ الفتوى: أما الصواب فعندي منه عُلم وأما المذاهب الأربعة فليس عندي منها علم. الصواب أن التسوك للصائم سنة في أول النهار وآخره، لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "السَّواك مَطهَرة للِفَم مَرضاة للرب" وقوله: "لولا أن أشُقّ على أُمتي لأمرتهُم بالسواك مع كل وضوء". وأما الطيب فكذلك جائز للصَّائم في أول النهار وفي آخره، سواء كان الطيب بخورًا أو دهنًا أو غير ذلك، إلا أنه لا يجوز أن يستنشق البخور، لأن البخور له أجزاء محسوسة مشاهدة، إذا استنشق تصاعدت إلى داخل أنفه ثم إلى معدته ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبرة: "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً".

_ (1) فتاوى الحرم 1408 هـ.

دواء الغرغرة هل يبطل الصوم

خروج الدم من الصائم هل يفطر؟ سؤال: خروج الدم من الصائم هل يفطر؟ الفتوى: النَّزيف الذي يحصل في الأسنان لا يُؤثر على الصوم ما دام يحترز من ابتلاعه ما أمكن لأن خروج الدم بغير إرادة الإنسان لا يعد مفطرًا ولا يلزم من أصابه ذلك أن يقضي، وكذلك لو رَعَف أنفه واحترز ما يمكنه عن ابتلاعه فإنه ليس عليه في ذلك شيء ولا يلزمه قضاء. دواء الغرغرة هل يبطل الصوم سؤال: هل يبطل الصوم باستعمال دواء الغرغرة؟ (مجدي هلال- الدوحة) الفتوى: لا يبطل الصوم إذا لم يبتلعه لكن لا تفعله إذا إذا دعت الحاجة ولا تفطر به إذا لم يدخل جوفك شيء منه. قبل فتاة أجنبية في رمضان هل يفسد صومه سؤال: ما حكم من قبَّل فتاة أجنبية منه في رمضان، وهل يجب عليه القضاء (1) ؟ الفتوى: هذا الرجل الذي قبّل امرأة أجنبية منه لا شك أنه لم يأت بحكمة الصوم، لأن هذا الرجل فعل الزور، والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من لم يدع قول الزور والعلم به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"، فإن فعل ذلك مكرهًا إياها على ذلك فقد اجتمع في حقه فعل الزور والجهل فصيامه في الحقيقة فاقد الحكمة ناقص الأجر بلا شك، ولكنه عند جمهور أهل العلم لا يفسد بمعنى أننا لا نلزمه بقضائه، وعلى مُقَدِّم السؤال أن ينصح الرجل الذي وقع منه

_ (1) فتاوى الحرم 1408 هـ.

الحقنة الشرجية للصائم هل تفطر

هذا الأمر، وأن يأمره بالتوبة إلى الله عز وجل، فإن هذا الفعل مُحرَّم ويؤدي إلى أن يتعلق القلب بالمخلوقين، وينسى ذكر الله تعالى ويحصل بذلك الفتنة العظيمة. الحقنة الشرجية للصائم هل تفطر سؤال: ما حكم الحقنة الشرجية التي يحقن بها المريض وهو صائم (1) ؟ الفتوى: الحقنة الشرجية التي يحتقن بها المرضى ضد الإمساك اختلف فيها أهل العلم، فذهب بعضهم إلى أنها مفطرة بناءً على كل ما يصل إلى الجوف فهو مفطر، وقال بعضهم: إنها ليست مفطرة، وممن قال بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن هذا ليس أكلاً ولا شربًا ولا بمعنى الأكل والشرب. والذي أرى: أن يُنظر إلى رأى الأطباء في ذلك، فإذا قالوا إن هذا كالأكل والشرب وجب إلحاقه به وصار مفطرًا، وإذا قالوا إنه لا يُعطي الجسم ما يعطي الأكل والشرب فإنه لا يكون مفطراً. الحقن والإبر المغذية هل تفطر الصائم سؤال: الحقنة في العضل أو الوريد هل تُفسد الصوم والإبر المغذية (2) ؟ الفتوى: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه أجمعين جوابنا على هذا أن نقول إنه لا يفسد الصوم إذا احتقن الإنسان بالإبر في وريده أو في عضلاته فإن صومه لا يفسد بذلك لأن هذا ليس بأكل ولا شرب ولا بمعنى الأكل والشرب والله تبارك وتعالى يقول للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكلِّ شيْءٍ وَهدى وَرَحْمَةً وَبشْرَى للْمُسْلِمِينَ) [النحل: 89] وكل شيء يحتاج الناس إليه لا سيما في عبادتهم العظيمة كالصوم فإن الشرع لابد أن بيبنه ولم يأت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفظ عام يدل على أن

_ (1) (2) فتاوى الحرم 1408 هـ.

الصائم لا يدخل إلى جوفه شيئًا من أي طريق وإنما جاء الأكل والشرب فيما يدخل إلى الجوف وعلى هذا فالإبر في العضلات أو في العرق لا تُفطر حتى لو أحس بطمعها في حلقه فإنه لا يفسد صيامه وإنما قال كثير من أهل العلم بأن الإبر المغذية التي يُستغنى بها عن الطعام والشَّراب هي التي تفطر الصائم لأنها بمعنى الأكل والشرب وهي التي إذا استعملها المرء لم يحتج معها إلى الطعام والشراب والشرع حكيم لا يفرق بين شيئين متماثلين بالمعنى وعلى هذا إذا ركب للإنسان إبر مغذية تغنيه عن الطعام والشراب فإنه يكون بذلك كالأكل والشرب ولا يصح له الصوم والغالب أن مثل هذه الإبر لا يحتاج إليها إلا إنسان مريض يباح له الفطر ولكننا نقول ذلك من أجل تبيين الحكم على أنه لقائل أن يقول: إن هذه الإبر أيضًا لا تفطر لأنه لا يحصل بها ما يحصل في الأكل والشرب من التلذذ والشهوة والتغذية الكاملة وملأ المعدة وهذا كله لا يحصل ولهذا تجد الذي يتغذي بها يكون معه شوق كبير إلى الأكل والشرب ويرى أنه لم يستغن بها عن الأكل والشرب ولا ندري فلعل الشرع عندما منع الأكل والشرب للصائم لا لأنه يتغذى به فقط -بل لأنه يتغذى به وينال به شهوته ولكن الاحتياط أن الإنسان لا يستعمل مثل هذه الإبر وهو صائم إلا في حال مرض يبيحُ له الفطر وحينئذ يفطر ويستعملها والله الموفق. الإبر والحقن العلاجية في نهار رمضان سؤال: هل الإبر والحقن العلاجية في نهار رمضان تؤثر على الصيام؟ الفتوى: الإبر العلاجية قسمان أحدهما: ما يقصد به التغذية ويستغنى به عن الأكل والشرب لأنها يمعناه فتكون مفطرة لأن نصوص الشرع إذا وجد المعنى الذي تشتمل عليه صورة من الصور حكم على هذه الصورة بحكم ذلك النص. أما القسم الثاني: وهو الإبر التي لا تغذي يعني أي لا يستغنى بها عن الأكل والشرب فهذه لا تفطر لأنه لا ينالها النص لفظا ولا معنى فهي ليست أكلاً ولا شرابًا ولا بمعنى الأكل ولا الشرب، والأصل صحة الصيام حتى يثبت ما يفسده بمقتضى الدليل الشرعي.

حقنة العروق وحقنة العضل هل تفطر

حقنة العروق وحقنة العضل هل تفطران؟ سؤال: حقنة العروق وحقنة العضل هل تفطران؟ الفتوى: جوابنا على هذا أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى بين في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يكون مفطرًا وما لا يكون والله تعالى أنزل الكتاب تبيانًا لكل شيء وهذا الذي حدث في الأزمان المتأخرة من هذه الحقن وإن كان أصلها غير موجود فيما سبق لكن الشرع يشتمل على حكمه فما كان بمعنى المنصوص عليه فله حكم المنصوص عليه وما لم يكن بمعناه فإنه لا يثبت له حكمه والذي فيه التفطير مما ذكر هو الأكل والشرب وهما عن طريق الفم وقد دل حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه الذي قال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا" على أن ما دخل من الأنف كالذي يدخل من الفم وما عدا ذلك فإن الأصل فيه عدم التفطير لأنه لو كان مفطرًا لبينه الله ورسوله، وعلى هذا فإنا نقول إن هذه الإبر أو الحقن كما قال السائل التي تكون في العضل أو تكون في العروق غير مفطرة لأنها ليست منصوصًا عليها ولا بمعنى المنصوص عليه والأصل في الصيام الصحة حتى يقوم دليل على الفطر ولا فرق في هذا بين أن يجد الإنسان طعم هذه الحقنة في حلقه أو لا يجده لأن ذلك ليس بمعنى المنصوص عليه وأما الحقن التي يستغني بها عن الطعام والشراب فقد سبق ذكرها في جواب السؤال العاشر. هل الحجامة تفطر الصائم؟ سؤال: كيف نوفق بين حديث "أفطر الحاجم والمحجوم" وبين حديث "أنه احتجم وهو صائم"؟ الفتوى: نعم نوفق بينهما أن احتجام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صائم لا يدري هل هو قبل الحديث "أفطر الحاجم والمحجوم" أو بعده؟ وإذا كان لا يدري هو قبله أو بعده فأيهما الناقل عن الأصل أفطر الحاجم والمحجم أو احتجم وهو صائم نقول إذا كنا لا ندري فإننا نأخذ بالنص الناقل عن الأصل لأن النص الموافق

هل هذا الحديث صحيح

للأصل ليس فيه دلالة جديدة إذ هو مبق على الأصل والأصل أن الحجامة تفطر أو لا تفطر؟ الأصل أن الحجامة لا تفطر فاحتجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صائم قبل أن يثبت حكم التفطير بالحجامة هذا أولاً. ثانيًا: هل كان احتجام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صائم صيامًا واجبًا أم صيام تطوع؟ لا ندري قد يكون صيامًا واجبًا وقد يكون صيام تطوع فإن كان صيام تطوع فلمن صام صوم تطوع أن يبطله فإذا احتجم فليس في هذا دليل على أن الحجامة لا تفطر لاحتمال أن يكون صومه تطوعًا ولا يمكن أن ندعي أن حديث ابن عباس ناسخ لأن من شرط النسخ العلم بتأخر الناسخ عن المنسوخ فإذا لم نعلم لم يجز لنا أن نقول بالنسخ لأن النسخ ليس بالأمر الهين، النسخ معناه أن تبطل نصا من الشرع بنص آخر بل لابد أن نتحقق أن هذا النص المتقدم نسخ بالنص المتأخر. هل صحيح هذا الحديث في الحجامة سؤال: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفطر الحاجم والمحجوم" هل هو صحيح وما معناه؟ الكلام عن الدم؟ الفتوى: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين جوابنا على هذا أن نقول: إن هذا الحديث صحيح صحّحه الإمام أحمد وغيره ومعناه أن الصائم إذا حجم غيره أفطر وإذا حجّمه غيره أفطر وذلك أن الحجامة فيها حاجم ومحجوم فالمحجوم الذي استخرج الدم منه والحاجم الذي استخرج الدم فإذا كان الصوم واجبًا فإنه لا يجوز للصائم أن يحتجم لأنه يستلزم الإفطار من صوم الواجب عليه إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك بأن هاج به الدم وشق عليه فإنه لا حرج أن يحتجم حينئذ ويعتبر نفسه مفطرًا يقضي هذا اليوم ويأكل ويشرب في بقيته لأن كل من أفطر لعذر شرعي يبيح الفطر فإنه يجوز أن يأكل في بقية يومه إذ أن هذا اليوم الذي أباح له الشارع الإفطار فيه ليس يومًا يجب عليه إمساكه في مقتضى أدلة الشرع ثم إنه بهذه المناسبة أود أن أذكر أن بعض الناس يُغالي في هذا الأمر حتى إن بعضهم يحصل به خدش يسير يخرج منه الدم اليسير فيظن أنه صومه بطل بهذا ولكن هذا الظن

ليس بصحيح بل نقول إن خروج الدم إذا خرج بغير فعلك لا يؤثر عليك سواء كان كثيرًا أو قليلاً فلو فرض أن إنسانًا رعف أنفه فخرج منه دمٌ كثير فإنه لا يضرُّ أو كان به جرح فانفجر وخرج منه دمُ كثير فإنه لا يضر أو أصيب بحادث فخرج منه دم كثير فإنه لا يضره ولا يفطر به لأنه خرج بغير اختياره أما إذا أخرج الدم هو باختياره، فإن كان هذا الدم يستلزم ما تستلزمه الحجامة من ضعف البدن وانحطاط القوة فإنه يكون مفطرًا إذ أنه لا فرق بينه وبين الحجامة في المعنى وإن كان الدم يسيرًا لا يتأثر به الجسم فإنه لا يضر ولا يفطر مثل أن يخرج منه الدم من أجل اختباره أو نحوه فإنه لا يضره ولا يفطر به على كل إنسان أن يكون عارفًا بحدود ما أنزل الله على رسوله ليعبد الله على بصيرة والله الموفق" (1) . حكم الاغتسال للجنابة بعد طلوع الفجر للصائم سؤال: الاغتسال للجنابة بعد طلوع الفجر للصائم ما حكمه؟ الفتوى: نقول: حكمه جائز وصيامه لذلك اليوم مقبول وذلك لأنه لا حرج على المرء أن يدخل في الصيام وعليه جنابة حتى لو طلع الفجر وهي عليه ثم اغتسل بعد طلوع الفجر فإنه لا حرج عليه في ذلك فقد "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم ويستمر في صيامه" وما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه لا شك في جوازه لأن لنا فيه أسوة حسنة وأن ما فعله فالأمة فيه تبع له إلا ما قام الدليل أنه خاص به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه يختص به والله أعلم. الاحتلام في نهار رمضان سؤال: فيمن احتلم في نهار رمضان؟ الفتوى: على ذلك نقول: صيامه صحيح فإن الاحتلام لا يبطل الصوم لأنه بغير اختياره وقد رفع القلم عنه في حال نومه ولكن ينبغي للإنسان أن يستوعب يوم الصوم بالذكر وقراءة القرآن وطاعة الله سبحانه وتعالى وأن لا يفعل كما يفعله كثير من الناس يسهرون في لياليهم في ليالي رمضان ربما يسهرون على

_ (1) انظر رأي جمهور أهل العلم في الحجامة للصائم في موضعها من فقه الصوم.

أمر لا ينفعهم ويضرهم وإذا كان في النهار يستغرقون النهار كله بالنوم فإن هذا لا ينبغي بل الذي ينبغي أن يجعل الإنسان صيامه محلاً للطاعات والذكر وقراءة القرآن وغير هذا مما يقرب من الله تبارك وتعالى والله أعلم. *** الصائم والأذان والإمساك والسحور هل يلزم الصائم الإمساك من حين سماع النداء؟ سؤال: هل يلزم الصائم أن يمسك من حين يسمع النداء أو إلى أن ينتهي المؤذن؟ الفتوى: جوابنا على هذا السُّؤال الذي يقول فيه صاحبه أن يمسك من حين أن يسمع المؤذن مؤذن الفجر أو يجوز له أن يأكل ويشرب حتى ينتهي من الأذان جوابنا على هذا أن نقول: أيُّها السائل إن الحكم لم يجعل مرتبا على الأذّن بل هو مرتب على طلوع الفجر فمتى طلع الفجر وجب على المرء الإمساك سواء أذّن أم لم يؤذن ولو لم يطلع الفجر فإنه لا يجب الإمساك سواء أذّن أو لم يؤذن لقوله تعالى: (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة: 187] وفي قوله تعالى (حتى يتبين) دليل على أنه يجوز للمرء أن يأكل ويشرب مع الشك في طلوع الفجر وذلك لأن الأصل بقاء الليل وما كان هو الأصل فإنه لا ينتقل عنه إلا بيقين وإذا علم أن هذا المؤذن لا يؤذن إلا حينما يطلع الفجر فعليه أن يمسك بمجرد سماعه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر" وعلى هذا إذا علمت أن المؤذن حريص على مراقبة الوقت وأنه لا يتسرع فإنه يجب عليك بمجرد سماعه أن تمسك أما إذا كنت تشك في هذا الأمر فإنه يجوز لك أن تأكل وتشرب.

الأكل والشرب بعد الأذان سؤال: هل يجوز للإنسان أن يأكل ويشرب بعد الأذان (1) ؟ الفتوى: إذا كان المؤذن لا يؤذن إلا بعد طلوع الفجر فإنه لا يجوز الأكل بعده لقوله الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة: 187] ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر". أما إذا كان المؤذن يؤذن بالتحري وليس يشاهد الفجر فإن الاحتياط ألا تأكل إلا بعد سماع الأذان، ولكن الجزم بأن هذا -الأكل بعد الأذان المبني على التحرى- الجزم بأن صومه فاسد غير مُستطاع لدي، لأن الفجر لم يتبين تبينًا يمتنع معه الأكل، لكن لا شك أن الاحتياط أن يتوقف الإنسان إذا سمع أذان الفجر. لا شيء عليه لأنه أفطر بعد الغروب سؤال رجل عقد الصيام في مكة، حصل له ظرف فخرج إلى الطائف، وأفطر على أذان مكة من الراديو فهل عليه شيء (1) ؟ الفتوى: إذا أفطر على أذان مكة وهو في الطائف، فقط أفطر بعد الغروب، ولا شيء عليه، لأن الطائف أسبق في الغروب من مكة. لا يلزمه الإفطار سؤال: من ركب الطائرة وقد غربت الشمس فأفطر ثم رآها بعد إقلاع الطائرة فهل يمسك؟ الفتوى: جوابنا على هذا أنه لا يلزمهم الإمساك لأنه حان وقت الإفطار وهم في الأرض فقد غربت الشمس وهم في مكان غربت منه وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر

_ (1) فتاوى الحرم 1408 هـ.

الصائم" فإذا كانوا قد أفطروا فقد انتهى يومهم وإذا انتهى يومهم فإنه لا يلزمهم الإمساك إلا في اليوم الثاني وعلى هذا فلا يلزمهم الإمساك في هذه الحالة لأنهم أفطروا بمقتضى دليل شرعي فلا يلزمهم الإمساك إلا بدليل شرعي. حكم من أكل أو شرب ناسيا سؤال: ما حكم من أكل أو شرب ناسيًا وهل يجب على من رآه يأكل ويشرب ناسيًا أن يذكره بصيامه (1) ؟ (إسلام محمد إسماعيل علي - الدمام) الفتوى: من أكل أو شرب ناسيًا وهو صائم فإن صيامه صحيح لكن إذا تذكر يجب عليه أن يقطع حتى إذا كانت اللقمة أو الشربة في فمه فإنه يجب عليه أن يلفظها ودليل تمام صومه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما ثبت عنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه". ولأن النسيان لا يؤاخذ المرء عليه لقوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة: 286] . فقال الله تعالى قد فعلت. أما من رآه فإنه يجب عليه أن يذكره لأن هذا من تغيير المنكر وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه". ولا ريب أن أكل الصائم وشربه حال صيامه من المنكر ولكن يعفى عنه حال النسيان لعدم المؤاخذة أما من رآه فإنه لا عذر له في ترك الإنكار عليه. ***

_ (1) المسلمون عدد (15) .

إذا أفطر لعذر وزال العذر في نفس النهار هل يواصل أم يمسك؟ سؤال: إذا أفطر لعذر وزال العذر في نفس النهار فهل يواصل الفطر أم يمسك؟ الفتوى: إنه لا يلزمه الإمساك لأن هذا الرجل استباح هذا اليوم بدليل من الشرع فحرمة هذا اليوم غير ثابتة في حق هذا الرجل ولكن عليه أن يعيده وإلزامنا إياه أن يمسك بدون فائدة له شرعًا ليس بصحيح ومثال ذلك رجل رأى غريقًا في الماء وقال إن شربت أمكنني إنقاذه وإن لم أشرب لم أتمكن من إنقاذه فنقول اشرب وانقذه فإذا شرب وأنقذه فهل يأكل بقية يومه؟ نعم يأكل بقية الإمساك ولهذا لو كان عندنا إنسان مريض هل نقول لهذا المريض: لا تأكل إلا إذا جُعت ولا تشرب إلا إذا عطشت؟ لا. لماذا؟ لأن هذا المريض أبيح له الفطر فكل من أفطر في رمضان بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يلزمه الإمساك والعكس بالعكس لو أن رجلاً أفطر بدون عذر وجاء يستفتينا: أنا أفطرت وفسد صومي هل يلزمني؟ قلنا يلزمك الإمساك لأنه لا يحل لك أن تُفطر فقد انتهكت حرمة اليوم بدون إذن من الشرع فنلزمك بالبقاء على الإمساك وعليك القضاء لأنك أفسدت صومًا واجبًا شرعت فيه. بلاد يتأخر فيها الغروب كيف يفطر أهلها سؤال: نحن في بلاد لا تغرب الشمس فيها إلا الساعة التاسعة والنصف مساء أو العاشرة فمتى نفطر (1) ؟ (حاتم يوسف زكي - سوداني بلندن) الفتوى: تفطرون إذا غربت الشمس فما دام لديك ليل ونهار في 24 ساعة فيجب عليكم الصوم ولو طال النهار. ***

_ (1) جريدة المسلمون عدد (15) .

حكم الذين يتقدمون في الأذان في رمضان سؤال: ما حكم الذين يتقدمون في الأذان في رمضان؟ الفتوى: الذين يتقدمون في الأذان في أيام الصوم يتسرعون في أذان الفجر يزعمون أنهم يحتاطون بذلك الصيام وهم في ذلك مخطئون لسببين: السبب الأول: أن الاحتياط في العبادة هو لزوم ما جاء به الشرع والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر" ما قال حتى يقرب طلوع الفجر، إذا فالاحتياط للمؤذنين: أن لا يؤذنوا حتى يطلع الفجر. السبب الثاني: قد أخطأ هؤلاء المؤذنون الذين يؤذنون للفجر قبل طلوع الفجر وزعموا أنهم يحتاطون لأمر احتياطهم فيه. غير صحيح لكنهم يفرطون في أمر يجب عليهم الاحتياط له وهو صلاة الفجر فإنهم إذا أذنوا قبل طلوع الفجر صلى الناس وخصوصًا الذين لا يصلون في المساجد من نساء أو معذورين عن الجماعة صلاة الفجر وحينئذ يكون أداؤهم لصلاة الفجر قبل وقتها وهذا خطأ عظيم لهذا أوجه النصيحة لإخواني المؤذنين أن لا يؤذنوا إلا إذا تبين الصبح وظهر لهم فإذا ظهر لهم سواء شاهدوا بأعينهم أو علموه بالحساب الدقيق فإنهم يؤذِّنون وينبغي للمرء أن يكون مستعدًا للإمساك قبل الفجر خلاف ما يفعله بعض الناس إذا قرب الفجر جدًا قدم سحوره زاعمًا أن هذا هو أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتأخير السحور ولكن ليس هذا بصحيح فإن تأخير السحور إنما ينبغي إلى وقت يتمكن الإنسان فيه من التسحر قبل طلوع الفجر والله أعلم. أيهما أتبع مؤذن الحي أم إعلان المذياع؟ سؤال: في أحد أيام رمضان أعلن المذيع في الإذاعة أن أذان المغرب بعد دقيقتين وفي اللحظة نفسها أذن مؤذن الحي فأيهما أولى بالاتباع (1) ؟ الفتوى: إذا كان المؤذن يؤذن عن مشاهدة وهو ثقة فإننا نتبع المؤذن لأنه

_ (1) المسلمون عدد (15) .

يؤذن عن واقع محسوس وهو مشاهدته غروب الشمس، أما إذا كان يؤذن على ساعة ولا يرى الشمس فالغالب على الظن أن إعلان المذيع هو أقرب للصواب لأن الساعات تختلف وبعض الناس لا يهتم بمراعاة ساعته ولأن التأخر في مثل هذه الحال أولى لأنه أحوط. هل يتابع الصائم المؤذن في الأذان أم يستمر في فطره سؤال: هل هناك دعاء مأثور عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وقت الإفطار وما هو وقته؟ وهل يتابع الصائم المؤذن في الأذان أم يستمر في فطره؟ الفتوى: نقول إن وقت الإفطار موطن إجابة للدعاء لأنه في آخر العبادة ولأن الإنسان أشد ما يكون غالبًا من ضعف النفس عند إفطاره وكلما كان الإنسان أضعف نفسًا وأرق قلبًا كان أقرب إلى الإنابة والإخبات إلى الله عز وجل والدُّعاء المأثور "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت" ومنه أيضًا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله" وهذان الحديثان وإن كان فيهما ضعف لكن بعض أهل العلم حسنهما، وعلى كل حال فإذا دعوت بذلك أو بغيره عند الإفطار فإنه موطن إجابة وأما إجابة المؤذن وأنت تفطر فنعم مشروعة لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول" يشمل كل حال من الأحوال إلا ما دل الدليل على استثنائه والذي دل الدليل على استثنائه إذا كان يصلي وسمع المؤذن فإنه لا يجيب المؤذن لأن في الصلاة شغلاً كما جاء به الحديث على أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله عليه- يقول: إن الإنسان يجيب المؤذن ولو كان في الصلاة لعموم الحديث ولأن إجابة المؤذن ذكر مشروع ولو أن الإنسان عطس وهو يصلي يقول: الحمد لله. ولو بشر بولد أو بنجاح ولد وهو يصلي يقول: الحمد لله. نعم يقول: الحمد لله ولا بأس وإذا أصابك نزغ من الشيطان وفتح عليك باب الوساوس فتستعيذ بالله منه وأنت تصلي، لذا نأخذ من هذا قاعدة وهو أن كل ذكر وجد سببه في الصلاة فإنه يقال: لأن هذه الحوادث يمكن أن نأخذ منها عند التتبع قاعدة لكن مسألة إجابة المؤذن -وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول بها- أنا في نفسي منها شيء. لماذا؟ لأن إجابة المؤذن

طويلة توجب انشغال الإنسان في صلاته انشغالاً كثيرًا والصلاة لها ذكر خاص لا ينبغي الشغل عنه. فنقول إذا كنت تفطر وسمعت الأذان تجيب المؤذن بل قد نقول: إنه يتأكد عليك أكثر لأنك تتمتع الآن بنعمة الله وجزاء هذه النعمة الشكر ومن الشكر إجابة المؤذن فتجيب المؤذن -ولو كنت تأكل- ولا حرج عليك في هذا وإذا فرغت من إجابة المؤذن فصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقل: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت مُحمَّدا الوسيلة والفضيلة وابعثُه مقامًا محمُودًا الذي وعدته إنك لا تُخلف الميعاد". لا يمسك عن الطعام حتى نهاية الأذان سؤال: يحدث ومن عدة سنوات أنهم لا يمسكون عن الطعام حتى نهاية الأذان، فما حكم عملهم هذا (1) ؟ الفتوى: الأذان لصلاة الفجر إما أن يكون بعد طلوع الفجر أو قبله، فإن كان بعد طلوع الفجر فإنه يجب على الإنسان أن يمسك بمجرد سماع النداء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر" فإذا كنت تعلم أن هذا المؤذن لا يؤذن إلا إذا طلع الفجر، فأمسك بمجرد أذانه، أما إذا كان المؤذن يؤذن بناء على ما يعرف من التوقيت أو بناء على ساعته، فإن الأمر في هذا أهون. وبناء على هذا نقول لهذا السائل: إن ما مضى لا يلزمكم قضاؤه، لأنكم لم تتيقنوا أنكم أكلتم بعد طلوع الفجر، لكن في المستقبل ينبغي للإنسان أن يحتاط لنفسه، فإذا سمع المؤذن فليمسك. لا يفطر حتى يفطروا سؤال: يقول السائل إذا بدأنا الصوم في المملكة العربية السعودية ثم سافرنا إلى بلادنا في شرق آسيا في شهر رمضان حيث يتأخر الشهر الهجري هناك يومًا فهل نصوم واحد وثلاثين يومًا وإن صاموا تسعة وعشرين يومًا فهل يفطرون أم لا؟

_ (1) فتاوى الحرم 1408 هـ.

الفتوى: إذا سافر الإنسان من بلد والتي صام فيها أول الشهر إلى بلد تأخر عندهم الفطر فإنه يبقى لا يفطر حتى يفطروا ونظير هذا لو سافر في يومه إلى بلد يتأخر فيه غروب الشمس فإنه يبقى صائمًا حتى تغرب الشمس ولو بلغ عشرين ساعة إلا إن أفطر من أجل السفر فله الفطر من أجل السفر وكذلك العكس لو سافر إلى بلد أفطروا قبل أن يتم الثلاثين فإنه يفطر معهم إن كان الشهر تامًا قضى يومًا وإن كان غير تام فلا شيء عليه. فهو يقضي إذا نقص الشهر وإذا زاد الشهر يتحمل الزيادة. والله أعلم. بركة السحور سؤال: يقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تسحروا فإن في السحور بركة" فما المقصود ببركة السحور (1) ؟ الفتوى: بركة السحور المراد بها البركة الشرعية والبركة البدنية أما البركة الشرعية منها امتثال أمر الرسول والاقتداء به وأما البركة البدنية فمنها تغذية البدن وقوته على الصوم. شهادة الزور في رمضان سؤال: هل يصح صيام رجل شهد الزور في رمضان (2) ؟ الفتوى: شهادة الزور من أكبر الكبائر وهي أن يشهد رجل بما لا يعلم أو بما يعلم بخلافه، ولا تبطل الصوم ولكنها تنقص أجره. السحور بعد الفجر سؤال: تحريت وقت الفجر قدر استطاعتي وظننت بقاء الليل فقمت للسحور فسمعت أثناء ذلك أذان الفجر فلفظت اللقمة ونويت الصوم فهل صومي صحيح (3) ؟ الفتوى: الصوم صحيح لأنه لم يأكل بعد أن تبين الفجر.

_ (1) المسلمون عدد (15) . (2) ، (3) جريدة المسلمون عدد (15) .

القضاء والكفارة والإطعام القضاء لمن لم يصم رمضان سنوات عديدة سؤال: ما حكم المسلم الذي مضى عليه أشهر من رمضان يعني سنوات عديدة بدون صيام مع إقامة بقية الفرائض وهو بدون عائق عن الصوم أيلزمه القضاء إن تاب؟ الفتوى: الصحيح أن القضاء لا يلزمه إن تاب لأن كل عبادة موقتة بوقت إذا تعمد الإنسان تأخيرها عن وقتها بدون عذر فإن الله لا يقبلها منه وعلى هذا فلا فائدة من قضائه ولكن عليه أن يتوب إلى الله عز وجل ويكثر من العمل الصالح ومن تاب تاب الله عليه. قضاء رمضان لمن أفطر أيامًا بغير عذر جهلاً منه بوجوب صيام الشهر سؤال: هل يجب القضاء على من أفطر أيامًا من رمضان بغير عذر جهلاً منه بوجوب صيام الشهر؟ وما حكم من كان صيامه غير تعبدي، وإنما يرى الناس يصومون فيصوم معهم (1) ؟ الفتوى نعم يجب القضاء على ذلك الشخص الذي أفطر أيامًا من رمضان جهلاً منه بعدم وجوب صيام الشهر، وذلك لأن عدم علم الإنسان بالوجوب لا يسقط الواجب وإنما يسقط الإثم، فهذا الرجل ليس عليه إثم لما أفطره ولكن عليه القضاء. ثم إن كون الرجل يجهل أن صوم رمضان كله واجب. وهو عائش بين المسلمين بعيد جدًا، فالظاهر أن هذه مسالة فرضية، أما من كان حديث عهد بالإسلام فهذا ربما يجهل صيام كل الشهر. أما جواب الفقرة الثانية، عن الرجل الذي كان يصوم لأنه يرى أن الناس يصومون فصام معهم فالظاهر أن هذا يصح صومه، لأنه يمسك بنية وهي أنه يفعل كما يفعله المسلمون، والمسلمون يفعلون ذلك تعبدًا لله عز وجل، لكن

_ (1) فتاوى الحرم 1408 هـ.

يجب أن يبين له أن الصوم عبادة وأن ترك الإنسان طعامه وشرابه وشهوته لابد أن يخلص فيه لله عز وجل، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: "يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي". عمره 27 عامًا ولم يصم طول هذه المدة فهل عليه قضاء سؤال: أنا شاب أبلغ من العمر 27 عامًا وكنت ضالاً ضلالاً بعيدًا وتبت إلى الله توبة نصوحًا ولله الحمد ولم أصم طوال هذه الفترة فهل يجب عليَّ القضاء؟ الفتوى: هذا الرجل الذي كان ضالاً كما وصف عن نفسه ثم منَّ الله عليه بالهداية نسأل الله تعالى له الثبات وأن يبقيه على ما كان عليه من هذا الانتصار على النفس وعلى الهوى والشيطان وهو من نعمة الله عليه ولا يعرف الضلال إلا من ابتلي به ثم هُدي إلى الإسلام فلا يعرف الإنسان قدر الإسلام إلا إذا كان يعرف الكفر ونقول لهذا الرجل: نُهنئُك بنعمة الله عليك بالاستقامة ونسأل الله تعالى أن يُثَبِّتَنَا وإيَّاك على الحق وما مضى من الطاعات التي تركتها من صيام وصلاة وزكاة وغيرها لا يلزمك قضاؤه الآن؛ لأن التوبة تجب ما قبلها فإذا تبت إلى الله وأنبت إليه وعملت عملاً صالحا فإن ذلك يكفيك عن إعادة هذه الأعمال وهذا أمر ينبغي أن تعرفه وهي أن القاعدة: أن العبادة المؤقَّتة بوقت إذا أخرجها الإنسان عن وقتها بلا عذر فإنها لا تصح مثل الصلاة والصيام لو تعمد الإنسان أن لا يصلي حتى خرج الوقت ثم جاء يسألنا هل يجب عليَّ القضاء قلنا له: لا يجب عليك ولو أن أحدًا ترك يومًا من رمضان لم يصمه وجاء يسألنا هل يجب على قضاء؟ نقول له: لا يجب عليك القضاء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد". وأنت إذا أخرت العبادة الموقتة عن وقتها ثم أتيت بها بعد الوقت فإنك أتيت عملاً ليس عليه أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتكون باطلة، ولا تنفعك، ولكن لو قال قائل: رجل نسي الصلاة حتى خرج الوقت هل يقضيها؟ نقول: نعم تقضيها لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها" ولكن لو قلت لي: هذا الحديث يُعارض كلامك حيث قلتَ: إن الإنسان إذا ترك الصلاة

متعمدًا لا يقضيها ووجه المعارضة أنه إذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألزم الناسي وهو معذور بقضائها فالمُتَعمد من باب أولى. ولكننا نقول في الجواب: الإنسان المعذور يكون وقت الصلاة في حقه إذا زال عذره فهو لم يؤخر الصلاة عن الوقت ولهذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: " فليصلِّها إذا ذكرها" أما من تعمد ترك العبادة حتى خرج وقتها فقد أداها في غير وقتها المحدد فلا تُقبل منه. من أخر القضاء حتى دخل رمضان التالي سؤال: ما حكم من أخر القضاء حتى دخل رمضان التالي؟ الفتوى: تأخير قضاء رمضان إلى رمضان التالي لا يجوز على المشهور عند أهل العلم؛ لأن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان. وهذا يدل على أن لا رخصة بعد رمضان الثاني فإن فعل بدون عذر فهو آثم وعليه أن يُبادر القضاء بعد رمضان الثاني واختلف العلماء هل يلزمه مع ذلك إطعام أو لا يلزمه والصحيح أنه لا يلزمه إطعام؛ لأن الله عز وجل يقول: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] ، فلم يُوجب الله سبحانه وتعالى سوى القضاء. قضاء رمضان لمن أخره لرمضان الثاني سؤال: امرأة أفطرت أيامًا من رمضان الماضي، ثم قضتها في أواخر شعبان، وبقي عليها واحد لمجيء العادة إليها حتى دخل عليها رمضان الثاني، فماذا تفعل (1) ؟ الفتوى: يجب عليها أن تقضي ذلك اليوم الذي لم تتمكن من قضائه قبل دخول رمضان هذا العام، فإذا انتهى رمضان هذه السنة، قضت ما فاتها من

_ (1) فتاوى الحرم 1408 هـ.

رمضان العام الماضي، ولا حرج عليها إن كانت معذورة، فإن كانت غير معذورة فعليها الإثم مع القضاء، وليس عليها كفارة. حكم من أفطر في رمضان بعذر حتى دخل رمضان آخر سؤال: امرأة أفطرت في رمضان سبعة أيام وهي نفساء، ولم تقضي حتى أتاها رمضان الثاني وطافها من رمضان الثاني سبعة أيام وهي مرضع ولم تقضي بحجة مرض عندها فماذا عليها وقد أوشك دخول رمضان الثالث أفيدونا أثابكم الله (1) ؟ الفتوى: إذا كانت هذه المرأة -كما ذكرت عن- نفسها أنها في مرض ولا تستطيع القضاء فإنها متى استطاعت صامته؛ لأنها معذورة حتى ولو جاء رمضان الثاني، أما إذا كان لا عذر لها، وإنما تتعلل وتتهاون فإنه لا يجوز لها أن تؤخر قضاء رمضان إلى رمضان الثاني قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كان يكون عليَّ الصوم فما أستطيع أن أقضيَه إلا في شعبان" وعلى هذا فعلى المرأة هذه أن تنظر في نفسها إذا كان لا عذر لها فهي آثمة وعليها أن تتوب إلى الله، وأن تبادر بقضاء ما في ذِمَّتِها من الصيام، وإن كانت معذورة فلا حرج عليها ولو تأخرت سنة أو سنتين. حكم من صام 6 أيام من شوال وعليه قضاء سؤال: ما رأيكم فيمن يصوم 6 أيام من شوال وعليه قضاء؟ الفتوى: على ذلك من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صام رمضان ثم أتبعه بستٍّ من شوال كان كصيام الدهر"، إذا كان على الإنسان قضاء وصام الست هل صامها قبل رمضان أو بعد رمضان؟ نقول: هذا رجل صام رمضان أربعة وعشرين يومًا فبقي عليه ستة أيام إذا صام الستة من شوال قبل أن يصوم الستة القضاء فهل يقال إنه صام رمضان وأتبعه بست من شوال؟ لا ما

_ (1) فتاوى نسائية.

صام رمضان، إذ لا يقال صام رمضان إلا إذا أكمله، وعلى هذا فلا يثبت أجر صيام ستة من شوال لمن صامها وعليه قضاء من رمضان إلا إذا قضى رمضان ثم صامها. حكم من جامع امرأته في نهار رمضان سؤال: ما حكم من جامع امرأته في نهار رمضان؟ الفتوى: إن كان ممن يُباح له الفطر ولها، كما لو كانا مسافرين فلا بأس في ذلك حتى وإن كانا صائمين أما إذا كانا مما لا يحل له الفطر فإنه حرام عليه وهو آثم وعليه مع القضاء عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا وزوجته مثله إن كانت مُطاوعة أما إن كانت مكرهة فلا شيء عليها. كفارة من جامع زوجته وهو صائم سؤال: رجل جامع زوجته وهو صائم هل يجوز له أن يطعم ستين مسكينًا لكفارته؟ الفتوى: من جامع امرأته في نهار رمضان والصوم واجب عليه فعليه كفارة وهى عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، ولكن السؤال هل يجوز أن يطعم ستين مسكينًا؟ فنقول: إذا كان قادرًا على الصيام فإن عليه صيام شهرين متتابعين، فالرجل إذا عزم الشيء هان عليه أما إذا مَنَّى نفسه الكسل وتثاقل الشيء فإنه يصعب - عليه والحمد لله الذي جعل في هذه الد-نيا خصالاً نعملها تُسقط عنا عقاب الآخرة. فنقول للأخ: صم شهرين متتابعين إذا كنت لا تجد رقبة واستعن بالله وإذا كان الوقت الآن حارًا والنهار طويلاً فلك فرصة أن تؤخره إلى أيام الشتاء لأنها أيام قصيرة والجو بارد والزوجة كالرجل إذا كانت مُطاوعة أما إذا كانت مكرهة ولم تتمكن من الخلاص فإن صيامها تام ولا كفارة عليها. ولا تقضي اليوم الذي جامعت فيه وهي مكرهة.

الإطعام هل يجوز لغير المسلمين سؤال: الإطعام هل يجوز لغير المسلمين وأقسام المريض في الصيام؟ الفتوى: جوابنا على هذا أولاً: لا بد أن نعرف أن المرض ينقسم إلى قسمين: مرض يُرجى بُرؤه مثل الأمراض الطارئة التي يرجى أن يشفى منها هذا حكمه كما قال الله تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] ليس عليه إلا أن ينتظر البرء ثم يصوم فإذا قدر أنه استمر به المرض في هذه الحال ومات قبل أن يُشفى فليس عليه شيء؛ لأن الله أوجب عليه القضاء في أيام أخر وقد مات قبل إدراكها فهو كالذي يموت في شعبان قبل أن يدخل رمضان لا يقضي عنه. والقسم الثاني: أن يكون المرض ملازمًا للمرء مثل مرض السرطان والعياذ بالله، ومرض الكلى ومرض السُّكر وما أشبهها من الأمراض الملازمة التي لا يرجى انفكاك المريض منها فهذه يفطر صاحبها في رمضان ويلزمه أن يُطعم عن كل يوم مسكينًا كالكبير والكبيرة اللذين لا يطيقان الصيام ينظران ويطعمان عن كل يوم مسكينًا، ودليل هذا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 183، 184] . فكان هذا في أول الأمر على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ولكن الصيام خير له كما قال تعالى: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة: 184] ، فكان فيه التخيير بين الصيام والإطعام ثم وجب الصيام عينًا في قوله في الآية الثانية (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] ، فجعل الله تعالى الإطعام عديلاً للصيام إما هذا أو هذا أول الأمر فإذا لم يتمكن الإنسان من الصيام لا حال رمضان ولا ما بعده رجعنا إلى العديل الذي جعله الله معادلاً للصيام وهو الإطعام فيجب على المريض

المستمر مرضه وعلى الكبير من ذكر وأنثى أن يُطعما عن كل يوم مسكينًا سواء أطعما بالتمليك بأن دفعا إلى الفقراء طعامًا أو كان بالإطعام بالدعوة يدعو مساكين بعدد أيام الشهر فيعشيهم كما "-كان أنس بن مالك -رضي الله عنه- يفعل حين كَبر صار يجمع ثلاثين مسكينًا فيعشيهم". ويكون ذلك بدلاً عن صوم الشهر وخلاصة الجواب: أن المرض على قسمين مرض يرجى زواله فيقضي، ومرض ملازم فيُطعم عن كل يوم مسكينًا، وأما إذا كان الإنسان في بلاد غير إسلامية ووجب عليه إطعام فإن كان في هذه البلاد مسلمون من أهل الاستحقاق أطعمهم وإلا فإنه يُصرفه إلى أي بلد من بلاد المسلمين التي تحتاج إلى هذا الإطعام، والله أعلم. تصوم ولا فدية سؤال: تزوجت امرأة وعليها صيام عشرة أيام من رمضان فهل أفدي لها -علمًا بأنها كانت ليست على ذمتي-، أم على والدها، وهي الآن حامل في الشهر الثامن، فهل تصوم (1) ؟ الفتوى: بسم الله الرحمن الرحيم. إذا ولدت فلتصم الأيام الثمانية التي عليها ولا فدية. فدية المريض سؤال: هل على المريض الذي لا يرجى برؤه صيام أم فدية، وإن كان فدية هل يجوز إخراجها مقدمًا؟ وهل تدفع لشخص واحد أم لعدة أشخاص؟ وإن حدث أن بريء من المرض فهل يجب عليه القضاء أم يسقط عنه القضاء (2) ؟ (محمود زكي الهواري - سلطنة عمان)

_ (1) من رسالة للشيخ بخطه عليها توقيعه بتاريخ 2/10/1406 هـ. (2) المسلمون عدد (15) .

الفتوى: إذا بريء من المرض لا يلزمه الصيام؛ لأنه أدى ما يجب عليه وبرئت ذمته، وقد سبقت الإجابة على باقي نقاط السؤال. مصاب بالصرع، ولم يصم شهر رمضان، فهل عليه القضاء أو الإطعام؟ سؤال: إني مصاب بمرض الصرع، ولم أتمكن من صوم شهر رمضان المبارك، وذلك لاستمراري على العلاج ثلاث أوقات يوميًا، وقد جربت صيام يومين، ولم أتمكن علمًا بأني متقاعد، وتقاعدي يصل إلى ثلاث وثمانين دينارًا شهريًا، وصاحب زوجة وليس لي أي وارد غير تقاعدي فما حكم الشرع في حالتي إذا لم أتمكن من إطعام ثلاثين مسكينًا خلال شهر رمضان. وما هو المبلغ الذي أدفعه (1) ؟ الفتوى: إذا كان هذا المرض الذي ألمَّ بك يرجى زواله في يوم من الأيام فإن الواجب عليك أن تنتظر حتى يزول هذا المرض ثم تصوم لقول الله تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185] أما إذا كان هذا المرض مستمرا لا يُرجى زواله فإن الواجب عليك أن تُطعم عن كل يوم مسكينا، ويجوز أن تصنع طعامًا غداء أو عشاء وتدعو إليه مساكين بعدد أيام الشهر وتبرأ ذمتك بذلك، ولا أظن أحدًا يعجز عن هذا إن شاء الله تعالى، ولا حرج عليك إذا كنت لا تستطيع أن تُطعم هؤلاء المساكين في شهر واحد لا حرج أن تطعم بعضهم في شهر، وبعضهم في شهر حسبما تقدر عليه. ***

_ (1) فتاوى نور على الدرب.

الاعتكاف الاعتكاف وشروطه سؤال: هل الاعتكاف في شهر رمضان سنّة مؤكدة؟ وما شروطه في غير رمضان؟ (1) . (عاطف محمد علي يوسف - الرياض) الفتوى: الاعتكاف في رمضان سُنة فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته واعتكف أزواجه من بعده وحكى أهل العلم إجماع العلماء على أنه مسنون ولكن الاعتكاف ينبغي أن يكون على الوجه الذي من أجله شرع وهو أن يلزم الإنسان مسجدًا لطاعة الله سبحانه وتعالى بحيث يتفرغُ من أعمال الدنيا إلى طاعة الله بعيدًا عن شئون دنياه ويقوم بأنواع الطاعة من صلاة وذكر وغير ذلك وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف ترقُّبا لليلة القدر والمعتكف يبعُد عن أعمال الد-نيا فلا يبيع ولا يشتري ولا يخرج من المسجد ولا يتَّبع جَنَازة ولا يعود مريضًا، وأما ما يفعله بعض النَّاس من كونهم يعتكفون ثم يأتي إليهم الزُّوار أثناء الليل وأطراف النهار وقد يتخلل ذلك أحاديث مُحَرَّمة فذلك مُنَاف لمقصود الاعتكاف. ولكن إذا زاره أحد من أهله وتحدث عنده فذلك لا بأس به فقد ورد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن زَارته صفية وهو معتكف فتحدثت عنده. المهم أن يجعل الإنسان اعتكافه تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى. هل للمعتكف أن يقوم بتعليم أحد أو إلقاء درس سؤال: هل يصح للمعتكف أن يقوم بتعليم أحد أو إلقاء درس؟ (2) . الفتوى: الأفضل للمعتكف أن يشتغل بالعبادات الخاصة كالذِّكر والصلاة. وقراءة القرآن وما أشبه ذلك، لكن إذا دعت الحاجة إلى تعليم أحد أو التَّعلم فلا بأس، لأن هذا من ذكر الله عز وجلَّ.

_ (1) المسلمون عدد (15) . (2) فتاوي الحرم (1408 هـ) .

اعتكف وترك الوظيفة

اعتكف وترك الوظيفة سؤال: رجل معتكف وهو موظف، والدوام -أي نهاية العمل- في الوظائف إنما ينتهي في الخامس والعشرين من رمضان فما حكم ذلك؟ (1) . الفتوى: لا شك أن هذا الذي اعتكف وترك ما يجب عليه من البقاء في الوظيفة، لا شك أنه مجتهد، ولكن الاجتهاد أيها الإخوة: إذا لم يكن مَبنيًا على قواعد شرعية، فإنه اجتهاد خاطيء، قد يُثَاب الإنسان عليه لكونه اجتهد وأراد الحق، لكن يجب أن يكون اجتهادنا مبنيًا على الكتاب والسُّنة. فالذي ترك واجب الوظيفة، وجاء يعتكف، كالذي يهدم مصراً ويبني قصرًا؛ لأنه قام بشيء مستحب، ولم يقل أحد بوجوبه من المسلمين: فإن العلماء مجمعون على أن الاعتكاف لا يجب إنما هو سُنَّة. وأما القيام بواجب الوظيفة، فإنه داخل في قوله تعالى: (يا أيها الذين امنوا أوفوا بالعقود) [المائدة:1] . وفي قوله: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) [الإسراء:34] . فهذا الرجل ترك واجبًا لفعل مستحب، ولهذا يجب عليه أن يقطع الاعتكاف، ويذهب إلى وظيفته، إذا كان يريد السَّلامة من الإثم. فإن بقي في اعتكافه، فإنه يكون قد اعتكف في زمن مستحق لغيره وقواعد الفقهاء تقتضي أن اعتكافه لا يَصِحُّ في هذه الحال، لأنه في زمن مغصُوب أو يشبه المغصُوب. ولقد أحببت أن أنَبِّه على ذلك لأجل أن يعرف الإخوة الحريصون على فعل الخير أنه لابد من مراعاة القواعد الشرعية والأدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من أجل أن يبني اجتهاده على حق، فيعبد الله على بصيرة. ***

_ (1) فتاوى الحرم (1408 هـ) .

مسائل تتعلق بالصوم هل أصوم وأصلي عن والدي المتوفى سؤال: أُصلِّي لأبي المُتَوَفَّى صلاة النافلة في الحرم هل يجوز ذلك والصدقة والصوم؟ الفتوى: نعم يجوز للإنسان أن يتصدق عن والده أو الدته أو أقاربه أو غيره هؤلاء من المسلمين ولا فرق بين الصدقات والصلوات والصيام والحج وغيرها ولكن السؤال الذي ينبغي أن نقوله: هل هذا من الأمور المشروعة وأن المشروع في حق الولد أن يدعو لوالده دعاء، إلا في الأمور المفروضة التي تدخلها النيابة فإنه يُؤدي عن والده ما افترض الله عليه ولم يؤده كما لو مات والده وعليه صيام فقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيه صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَليُّه" ولا فرق في ذلك بين أن يكون الصِّيام صيام فَرْض بأصْلِ الشَّرع كصيام رَمَضان أو إلزام الإنسان نفسه كما في صيام النَّذرَ. والله أعلم. *** ما دخل الصوم بالصلاة سؤال: يعيب بعض علماء المسلمين على المسلم الذي يصوم ولا يصلي، فما دخل الصلاة في الصيام، فأنا أريد أن أصوم لأدخل مع الداخلين من باب الريان، ومعلوم أن رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، أرجو التوضيح وفقكم الله؟ (1) الفتوى: الذين عابوا عليك أنك تصوم ولا تُصَلِّي على صواب فيما عابوه عليك، وذلك لأن الصلاة عمود الإسلام، ولا يقوم الإسلام إلا بها، والتارك لها كافر خارج من ملة الإسلام، والكافر لا يقبل الله منه صِيامًا، ولا صدقة، ولا حجًا ولا غيرها من الأعمال الصالحة لقول الله تعالى: (وما منعهم أن تقبل

_ (1) فتاوى الصيام.

منهم نفقاتهم إِلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إِلا وهم كارهون) [التوبة: 54] . وعلى هذا فإذا كنت تصوم ولا تصلي، فإننا نقول لك: إن صيامك باطل غير صحيح، ولا ينفعك عند الله، ولا يقربك إليه. وأما ما تَوَهَّمْتَهُ من أن رمضان إلى رمضان مكَفِّرًا لما بينهما نقول لك: إنك لم تعرف الحديث الوارد في هذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ وَالجُمُعة إلى الجُمُعَة وَرَمَضَان مُكفَرِّات لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائر". فاشترط النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتكفير رمضان إلى رمضان أن تجتنب الكبائر، وأنت أيها الرجل الذي لا تُصَلِّي وتَصُوم لم تجتنب الكَبَائر، فأي كبيرة أعظم من ترك الصلاة، بل إن ترك الصلاة كفر، فكيف يُمكن أن يكفر الصِّيام عنك، فَتركُ الصَّلاة كفْرٌ. ولا يُقبلُ منك الصِّيام. فعليك يا أخي أن تتوب إلى ربك. وأن تقوم بما فرض الله عليك من صلاتك ثم بعد ذلك تصوم. ولهذا لما بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذًا إلى اليمن قال: "وليكُنْ أوَّل مَا تَدعُوهُم إلَيه شَهَادةُ أن لا إله إلا الله، وأن مُحمدًا رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أنَ الله افترض عليهم خمس صلوات لكل يوم وليلة" فبدأ بالصلاة ثم الزكاة، بعد ذكر الشهادتين. *** التدرج في الصوم سؤال: هل حدث تدرج في صيام رمضان كالأمر في تحريم الخمر؟ (1) . (شذى قنديل محمد - أبها) الفتوى نعم حصل تدرج فحين نزل الصوم كان من شاء صام ومن شاء أطعم ثم بعد ذلك صار الصوم واجبًا لقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) [البقرة: 185] .

_ (1) المسلمون عدد (15) .

التَدرج الآخر لهم أنهم كانوا إذا ناموا بعد الإفطار أو صلوا العشاء لا يحل لهم الأكل والشرب والجماع إلا عند غروب اليوم التالي ثم خفف عنهم قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] . فكانت المحظورات على الصائم إذا نام أو صلى العشاء ثم نسخ ذلك فكانت جائزة إلى أن يتبين الفجر. *** كيف يكون الصيام درسًا للتقوى؟ كيف يكون الصيام درسًا للتقوى ووقاية من الشرور والآثام (1) ؟ الفتوى: إن الصوم التزام بكل الأخلاق الحميدة ودرس يفيد الإنسان. هل يضاعف الصوم في الحرم سؤال: هل يضاعف الصوم في الحرم كما في الصلاة؟ الفتوى: الصَّلاة في مكة أفضل من غيرها بلا ريب ولهذا ذُكِر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينما كان مُقيمًا في غزوة الحديبية كان في الحلَّ ولكن كان يُصَلِّي في الحرَّم أي داخل أميال الحرم وهذا يدل أن الصلاة في الحرم أي فيما دخل في الأميال أفضل من الصلاة في الحِل وذلك لِفَضل المكان وقد أخذ العلماء من هذه قاعدة قالوا فيها: إن الحسنات تُضَاعف في كل مكان وزمان فاضل، كما أن الحسنات تضاعف أيضًا باعتبار العامل كما ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لاَ تَسُبُّوا أصْحَابِي فَوَالَّذي نَفْسي بِيَدِهِ لَوْ أن أحَدَكُم أ-نفَقَ مِثل أحدٍ ذَهبًا مَا بَلَغَ مُدِّ أحَدُهُم وَلا نَصيفه" إذًا فالعبادات تتضاعف باعتبار العامل وباعتبار الزمان وباعتبار المكان كما تتفَاضل أيضًا باعتبار نسبها وهيئتها وهذا أمر معلوم ولا يتسع المقام لبسطه

_ (1) المسلمون العدد (15) .

وشرحه ولكننا نقول: إن الصلاة في مكة أفضل من الصلاة في غيرها ونقول إن الصلاة في المسجد الحرام نفسه تتضاعف فتكون بمائة ألف صلاة فيما عداه وقد أخذ أهل العلم من ذلك أن الصِّيام يُضاعف في مكة ويكون أفضل من الصِّيام في غيرها وذلك لشَرف مكانه على أن الصِّيام إمساك وليس بعمل يحتاج إلى مكان ولا زمان سوى الزَّمان الذي شرع فيه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وقد ورد في حديث عن ابن ماجه بإسناد ضعيف أن: "مَنْ صَامَ رَمَضَان في مَكة وَقَامَ مِمَّا تَيَسَّر منْه كُتبَ لَهُ أجْرُ مائة ألف رَمَضان" وهذا إسناده ضعيف ولكن يُستأنسُ به ويدل على أن صَوم رَمَضانَ في مكة أفضَل من صَومٍ في غيرها. صوم الوصال سؤال: ما هو صوم الوصال وهل هو سُنَّة؟ (1) . (أحمد محمود غريب - الفجيرة) الفتوى: صوم الوصال أن لا يفطر الإنسان في يومين فيواصل الصيام يومين متتاليين وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه وقال: "مَنْ أرادَ أن يُوَاصِلَ فَليُوَاصِل إلى السحر" والمواصل للسحر من باب الجائز وليست من باب المشروع والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حث على تعجيل الفطر وقال: "لا يَزَالُ النَّاسُ بخَيْر مَا عَجَّلُوا الفطر" لكنه أباح لهم أن يواصلوا إلى السحر فقط فلما قالوا: يا رسول الله إنك تواصل فقال: "إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكمْ". صوم النذر سؤال: امرأة تسأل تقول: إنها نذرت أن تصوم شهر رجب من كل عام ثم كبرت بها السن وعجزت عن الصيام فماذا تفعل؟ (2) . الفتوى: أولاً: أنصح جميع إخواني المسلمين بالبعد عن النذر لأن

_ (1) المسلمون عدد (15) . (2) فتاوى نسائية.

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النذر وقال: "إنهُ لا يَأتِي بخَير وَإنَّما يُستَخْرَجُ به منَ البَخيل" وقد أشار الله عز وجل إلى النهي عنه في القرآن فقال تعالى: (وأَقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة) [النور: 53] فإذا كان كذلك فلا تنذر فإن نذرت فإن كان طاعة وجب عليك الوفاء به لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "مَنْ نَذَرَ أنْ يُطيعَ الله فَليُطعْه" سواء كان هذا النَّذر مَشُروطًا بشَرط حُصُول نِعمة أو اندِفاع نقمة أو كان نذَرًا مطلقًا، أرجو الانتباه: نذر الطاعة قد يكون مَشْرُوطا بحُصول نعمة أو اندفاع نقمة وقد يكون مُطلقا بلا شرط هذه ثلاثة أحوال، إذا قال قائل لله علي نذر أن أصوم غدًا. هذا نذر طاعة أم لا؟ نذر طاعة مطلق أو مقيد؟ مطلق -يعني ما له سبب، حسنًا إذا قال: إن نجحت في الامتحان فللَّه عليَّ نذر أن أصوم ثلاثة أيام- هذا مقيد بحصول مصلحة أو باندفاع نقمة؟ بحصول مصلحة إذا قال: إن شفى الله مريضي فللَّه عليَّ نذر أن أصوم شهرًا، هذا نذر طاعة مقيد باندفاع نقمة وهو المرض، وعلي هذا فنَذرُ الطاعة يجب الوفاء به، ولكن نذر شهر رجب نسأل هذه الناذرة لماذا خصّت شهر رجب بالنذر؟ إن قالت لأنني اعتقد أن تخصيص رجب بالصوم عبادة. قلنا لها هذا نذر مكروه ولا يجب الوفاء به؛ لأن تخصيص رجب بالصوم مكروه -يعني يكره للإنسان أن يَخُصَّ رجب بذاته من بين سائر السنة-، أما إذا كانت نذرت شهر رجب لأنه الشهر الموالي لحُصُول الحادث لا لعينه فإنها تصومه فإن عجزت فإن النَّذر الواجب يحذى به حذو الواجب في أصل الشَّرع. وهنا سؤال مني لكم، لو قال قائل: لله عليَّ نذر أن ألبس هذا الثَّوب أيجب عليه أن يوفي نذره أم لا؟ الجواب لا يجب أن يوفي به لأن نذر المباح حكمه حكم اليمين فالآن إن شاء لبس الثوب ولا عليه شيء وإن شاء لم يلبس ووجب عليه أن يُكَفِّر كفارة يمين وهي إطعام عشرة مساكين أو كُسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة. ***

الإسراف في مائدة الإفطار سؤال: الإفراط في إعداد الأطعمة للإفطار هل يقلل من ثواب الصوم؟ (1) . الفتوى: لا يُقَلِّل - من ثواب الصَّوم والفعل المُحرم بعد انتهاء الصوم لا يقلل من ثوابه ولكن ذلك يدخل في قوله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إِنه لا يحب المسرفين) [الأعراف: 31] . فالإسراف نفسه محظور والاقتصاد نصفُ المعيشة وإذا كان لديهم فضل فليتَصَدَّقوا به فإنه أفضل من الإفراط في إعداد الأطعمة. *** الموت في رمضان سؤال: يقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذَا جَاءَ رَمَضَان فتحَتْ أبْوَابُ الجَنَّة وَغُلِّقَت أبْوَابُ النار" هل معنى ذلك أن من يموت في رمضان يدخَل الجنة بغير حساب؟ (2) . الفتوى: ليس الأمر كذلك بل معنى هذا أن أبواب الجنة تُفَتَّح تنشيطًا للعاملين ليتسَنَّى لهم الدَّخول وتُغلَق أبواب النار لأجل انكفَاف أهل الإيمان عن المعاصي حتى لا يلجوا هذه الأبواب وليس معنى ذلك أن من مات في رمضان يدخل الجنة بغير حساب إنما الَّذين يدخلون الجنة بغير حساب هم الَّذين وصفهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: "هم الذين لا يَستَرقُونَ وَلا يَكتُوونَ ولاَ يَتَطَيَّرُون وَعَلَى ربِّهم يَتَوَكَلون". ***

_ (1) المسلمون عدد (15) . (2) المسلمون عدد (15) .

مراتب الفرض ومراتب الفضل سؤال: سمعت أن الصيام مراتب فما صحة هذا القول وهل لكل منها ثواب خاص بها؟ (1) . الفتوى: إذا قصد بالمَرَاتب الفرض والنَّفل فهذا صحيح والفرض أفضل من النفل أما مَراتَب الفَضل والأجر عند الله باعتبار الصَّائمين فهنا يختلف اختلافًا كبيراً بحسب ما فعله الإنسان أثناء الصّوم من التزام بالأخلاق والأداب الإسلامية وعدم الالتزام بها وبِحَسْب ما يكون في قلبه من الإخلاص. فوائد الصوم الاجتماعية سؤال: هل للصوم فائدة اجتماعية؟ الفتوى: نعم له فوائد اجتماعية منها شُعُور النَّاس بأنهم أمة واحدة يأكلون في وقت واحد ويصومون في وقت واحد ويشعر الغني بنعمة الله ويعطف على الفقير ويقلل مزالق الشيطان لابن آدم. وفيه تقوى الله وتقوى الله تقوّي الأواصر بين أفراد المجتمع. علامات ليلة القدر سؤال: ما هي علامات ليلة القدر؟ (2) . الفتوى: من علامات ليلة القدر أنها ليلة هادئة وأن المؤمن يَنشَرحُ صدره لها، ويطمئن قلبه، وينشط في فعل الخير، وأن الشَّمس في صباحها تطلع صافية ليس لها شعاع. ***

_ (1) المسلمون عدد (15) . (2) فتاوى الحرم (1408 هـ) .

من فتاوى الشيخ محمد مخلوف مفتي مصر سابقا

من فتاوى الشيخ محمد مخلوف مفتي مصر سابقًا (*) [1] فدية الصوم عن المريض سؤال: " طوخ - قليوبية" مرض رجل بالربو وأمره الأطباء بالإفطار في رمضان في العام السابق فأفطر بعض أيامه ولما شرع في القضاء ضايقه الربو كثيرًا فلم يتم. فهل يجوز له الفطر في رمضان الآتي أو لا؟ وهل إذا أفطر يكفي أن يخرج فدية عن كل يوم أفطره؟ (الجواب) : المريض بالربو ونحوه إذا غلب على ظنه زيادة مرضه أو إبطاء برئه بأمارة أو تجربة أو إخبار طبيب مسلم حاذق، جاز له الفطر ووجب عليه قضاء ما أفطره من أيام رمضان بعد زوال العذر الذي رخص الشارع له في الفطر من أجله، ولا فدية عليه عند الحنفية خلافًا للشافعية حيث قالوا: بوجوب الفدية لكل يوم قَدَح من الحنطة مع القضاء، فان استمر العذر حتى مات المريض فلا تجب عليه الوصية بالفدية لعدم إدراكه عدة من أيام آخر. ولو مات بعد زوال العذر ولم يقض وجبت عليه الوصية بها لإدراكه عدة من أيام أخر ووجب على وليه إخراجها من ثلث مال الموصى، فإن لم يوص بها جاز لوليه التبرع بها. أما المرض الذي يتحقق معه اليأس من الصحة بأن فنيت قوة المريض أو أشرف على الفناء وعجز عن الصيام كالمصاب بالفالج أو السل الشديد أو السرطان أو نحو ذلك (ومنه الربو إذا ثبت أنه لا يرجى برؤه) فإنه في حكم الشيخ الفاني فيفطر وتجب عليه الفدية وهي إطعام مسكين عن كل يوم أفطره. فإن لم يقدر على الفدية استغفر الله تعالى والله غفور رحيم. ويلزم المريض المسئول عنه أن يستشير الطبيب المعالج إذا كان مسلمًا حاذقًا عن أثر صومه في رمضان المقبل في صحته. فإن أخبره بأنه يفضي إلى زيادة

_ (*) من كتاب "فتاوى شرعية وبحوث إسلامية" طبع دار الاعتصام.

خبر الطبيب غير المسلم

مرضه أو إبطاء برئه أفطر وقضى بعد زوال. وله أن يعتمد على التجربة السابقة إذا كانت قريبة العهد بحيث لا ينتظر تغير حاله في هذه المدة، والله تعالى أعلم. [2] الترخيص للمريض في الفطر سؤال: اعتراه مرض بسبب عملية جراحية في شهر رمضان، فأفطر اثني عشر يومًا ولم يقضها إلى الآن ويريد أن يكفر عن الصوم فكيف تكون الكفارة شرعًا، وطلب الجواب قبل حلول شهر رمضان التالي؟ (الجواب) : المريض إذا غلب على ظنه بأمارة أو تجربة أو إخبار طبيب مسلم حاذق أن صومه يفضي إلى هلاكه أو زيادة مرضه أو إبطاء شفائه أو نحو ذلك جاز له الفطر في رمضان شرعًا ووجب عليه قضاء ما أفطره من رمضان في أيام أخر ولا كفارة عليه قال تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) . ولا يلزم عند الحنفية أن يكون القضاء قبل رمضان التالي ولا أن تكون أيامه متتابعة بل يجوز أن تكون بعده وفي أيام متفرقة وفي ذلك تيسير وسعة، والله أعلم. [3] خبر الطبيب غير المسلم سؤال: شاب مرض بالسل في سنة (1948م) واستمر في علاجه إلى سنة (1952) ، ثم خرج من المصحة ولا يزال يتردد عليها كل شهرين أو ثلاثة للاطمئنان على حالته، وقد أفطر شهر رمضان مدة المرض كلها، والطبيب المعالج له مسيحي، وأخبره بأن الصوم يضره صحيًا. فهل يقبل قوله ويؤخر القضاء إلى أن يصرح له بالصوم؟ (الجواب) : المرض من الأعذار المبيحة للفطر شرعًا. فإذا أفطر المريض فعليه القضاء بعد زوال العذر لقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) . ويعتبر العذر قائمًا إذا أخبره طبيب مسلم حاذق بأنه لا يزال

بحالة يضره الصوم معها، أو علم ذلك من نفسه بطريق التجربة أو بظهور أمارة تدل عليه. واشترط الحنفية في الطبيب الإسلام والحذق، ويكفي فيه أن يكون مستور الحال، وجزم الزيلعي باشتراط العدالة فيه أيضًا، وضعفه في البحر والنهر. وقال الطحاوي: وإذا أخذ بقول طبيب ليس فيه هذه الشروط وأفطر، فالظاهر لزوم الكفارة كما لو أفطر بدون أمارة ولا تجربة لعدم غلبة الظن والناس عنه غافلون. واشترط الشافعية في الطبيب: الإسلام والعدالة. واشترط المالكية في أن يكون مأمونًا عارفًا كما في "الخطاب" و"الشرح الكبير" ولم ينصوا على اشتراط الإسلام، وللاحتياط عند الاشتباه في قيام المرض أو زواله يلزم أن يعرض المريض نفسه على طبيب مسلم حاذق، فإن منعه من الصوم بقيام العذر امتنع وإن لم يمنعه صام، والله أعلم. [4] فتوى أخرى في فدية الصيام عن الميت سؤال: مرضت سيدة مرضًا شديدًا في شهر رمضان فلم تستطع أن تصوم منه سوى ستة أيام، واستمر مرضها إلى أن توفيت في شهر صفر التالي له دون أن تقضي ما فاتها من أيامه، فهل يجوز لابنها أن يخرج فدية عن صوم هذه الأيام التي فاتتها؟ (الجواب) : ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي في قوله الجديد، وأحمد والليث وأبو عبيد، إلى أن الولي يطعم عن الميت في قضاء رمضان لكل يوم مسكينًا، ولا يصوم عنه، لما أخرجه عبد الرزاق عن عائشة موقوفًا أنها قالت: "لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم". ولما أخرجه النسائي عن ابن عباس موقوفًا أنه قال: "لا يصوم أحد عن أحد". ولما روى عن ابن عمر موقوفًا: "من مات وعليه صيام شهر يطعم عنه مكان كل يوم مسكينًا" وعن عائشة قالت: "يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام عنه". وسئل ابن عباس عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر وعليه صيام رمضان فقال: "أما رمضان فليطعم عنه، وأما النذر فيصام عنه".

والولي هو القريب وارثا كان أو غير وارث علي ما اختاره النووي في "شرح مسلم". وقيل هو الوارث خاصة وقيل هو العصبة خاصة. وذهب الحنفية إلى أنه هو المتصرف في المال فيشمل الوصي ولو أجنبيًا كما ذكره ابن عابدين في الصوم والى أن الفدية التي يخرجها الولي عن الميت تؤخذ من ثلث مال الميت وجوبًا إن أوصي بإخراجها، وجوازا إن لم يوص، فإن تبرع بها الولي جاز، معلقا على مشيئة الله، وكان ثوابها للميت والله أعلم. [5] حكم فطر الحامل والمرضع سؤال: هل يجوز الإفطار للحامل أو المرضع إذا خافتا من الصيام على الجنين أو الرضيع ... وهل يلزمهما القضا والفدية أو يلزمهما أحدهما؟ (الجواب) : لاخلاف في أنه يجوز للحامل الإفطار إذا خافت على الجنين، وللمرضع إذا خافت على الرضيع، لحديث أنس بن مالك الكعبي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم". (رواه الخمسة) ، وليس المراد من الخوف مجرد التوهم والتخيّل، بل غلبة الظن بلحوق الضرر به بأمارة أو تجربة أو إخبار طبيب مسلم حاذق، وذهب بعض الفقهاء ومنهم الإمام ابن حزم إلى وجوب الإفطار عليهما في هذه الحالة لسقوط الصوم عنهما. والقائلون بجواز الفطر لهما، منهم من أوجب عليهما القضاء والفدية، وإليه ذهب سفيان ومالك والشافعي وأحمد، ومنهم من أوجب القضاء فقط، وإليه ذهب الحنفية، وهو مذهب عليّ من الصحابة والحسن من التابعين. وذهب إسحاق إلى أنهما يفطران ويطعمان ولا قضاء عليهما وإن شاءتا قضتا ولا إطعام عليهما. ومثلُ الخوف منهما على الجنين والرضيع، خوفُ الحامل على نفسها من المرض الذي يستتبعه الحمل، وخوف المرضع على نفسها من المرض الذي يستتبعه الرضاع إذا كان بطريق من الطرق التي ذكرناها، فيجوز لكل منهما الفطر إذا وُجد الخوف المذكور، والله أعلم.

[6] تأثير الصيام في المرضى بالقرحة سؤال: هل يجوز للمريض بالقرحة في المعدة -أو الاثني عشر- الفطر في رمضان؟ وهل يضره الصيام؟ (الجواب) : قُدِّم إلينا هذا السؤال من كثيرين، فرأينا أن نستفسر عن هذا المرض، وتأثير الصيام في المرضى به من العالم الحجة الدكتور سليمان عزمي "باشا" الأستاذ بكلية الطب سابقًا، فتفضل سعادته بالبيان التالي: "ومن المشاهدات الثابتة لدى الأطباء أن الجوع ضار بمن يشكو من القرحة في المعدة أو الاثني عشر؛ لأنه يحدث للمريض ألمّا يختلف في شدته، وقد يؤدي إلى مضاعفات تختلف في خطورتها". فمن المعروف عن أعراض هذا المرض، أن حموضة المعدة تتزايد بعض الطعام، وتبلغ قمتها بعد ساعتين إلى أربع ساعات من تناوله، وفي هذه الفترة التي تبلغ فيها الحموضة زيادتها، يشعر المريض بألم شديد في معدته. ومن أهم مسكِّنات هذا الألم، ما عرفه المرضى بالإحساس والمشاهدة، وما عرفه الطب بالخبرة والتجربة. فأما ما عرفه المرضى بالمشاهدة، فهو أن الألم يكون في شدته أثناء الجوع وتخف حدته بل تزول بعد تناول الطعام لتعود ثانية في دورتها الآخذة في الازدياد. وأما معرفة الأطباء بالخبرة فهو وصف الأدوية التي تهبط إفراز المعدة حتى لا يزيد إفرازها ولا تزيد حموضتها، وتعطي هذه عادة قبل الطعام. كذلك تعطي له الأدوية التي تعادل الحموضة وهي المعروفة عند الأطباء بالقلويات أو ما شابهها من الأدوية المستحدثة، التي لها نفس هذه الخاصية لأنها تتحد مع الأحماض فتقلل الحموضة فيخف الألم، وهي تعطي عادة بعد الطعام بساعة أو ساعتين. ومن القواعد الأساسية للعلاج المسلَّم بها من أخصائي الأمراض الباطنية والتي تحتمها المشاهدات، إعطاء الغذاء لتفادي الجوع بكميات صغيرة على فترات

منظمة، متقاربة بحيث تكون الفترة بين الوجبات أربع ساعات، وعلى أن تكون من الأطعمة المسموح بها لهذا المرض. كذلك استعمال الدواء لابد أن يكون على فترات مثل هذه الفترات، منها ما هو قبل الأكل ومنها ما هو بعده بساعة أو ساعتين. وعليه نرى من طبيعة العلاج في حد ذاته أن الإفطار محتم، وأن الصيام ضار، سواء أكان لراحة المريض وتخفيف آلامه أم لنظام العلاج وشفاء المرضى. ولا أعرف دواء في تهبيط الإفراز أو تخفيف الحموضة أو تعادلها يستمر مفعولة مدة تقارب مدة الصيام. ويفهم بالبديهة أن امتلاء المعدة بعد الجوع الشديد بالغذاء أو بالماء ضار أيما ضرر بالمعدات المريضة خصوصًا المصابة بالقرحة، ولذلك ينصح الطب دائمًا هؤلاء المرضى، بتقليل كميات الطعام وتقريب فتراته على النحو الذي بيناه، كما ينصح بتقليل كميات الطعام للأصحاء عمومًا محافظة على سلامة معداتهم وعدم إصابتها بالأمراض، ومن مبادئ الطب الحديث: "عالج صحتك بوسائل المحافظة عليها، ولا تنتظر أن تمرض فتعالج لتستردها". هذا ما قاله الطبيب الحجة الثقة في تأثير الصوم في المريض بهذه القرحة، وقد نص الحنفية كما في البدائع على أن المرض المرخص في الفطر هو الذي يخاف أن يزداد بالصوم، وعلى أن المرض يوجب الفطر إذا خيف منه الهلاك، وإلقاء النفس إلى التهلكة حرام، ومن أفطر لهذا العذر وجب عليه القضاء بعد زواله. قال تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) . والله أعلم. *** [7] حكم فطر صوم رمضان للمرضى بالبول السكري سؤال: هل مرض البول السكري يبيح الفطر للمريض في كل أحواله؟ (الجواب) : فرض الله تعالى الصوم على الصحيح المقيم، ورخص

للمريض أن يفطر إذا أجهده المرض بقوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) . فليس كل مرض يبيح الفطر عند جمهور الأئمة، والمرجع في بيان ما يبيحه، وما لا يبيحه إلى رأي الطبيب المسلم الحاذق، أو إلى التجربة الصادقة، أو دلالة الحال كما نص عليه الفقهاء. ومرض البول السكري تختلف حالاته، وقد رأيت للإجابة عن هذا السؤال أن أستطلع رأي الفاضل الثقة (الدكتور محمد ناجي المحلاوي) الطبيب الاخصائي الأستاذ للأمراض الباطنية بكلية الطب بالجامعة فأجاب بما يأتي: يظهر السكر في البول، في حالات مختلفة نجملها بما يلي: أولا: قد يظهر السكر في البول بدون ارتفاع نسبته في الدم بسبب خلل خلقي في الكُلى، وقد ينشأ عنه انخفاض نسبة السكر في الدم عن المعدل الطبيعي للجسم. وعند ذلك يجب الإفطار، حتى يمكن تعويض الجسم عما يفقده من السكر الذي تفرزه الكلى في البول، وإلا نتج عن الصيام نقص كبير في كمية السكر في الدم، تظهر آثاره في علامات مرضية شديدة منها الرعشة وتهييج الأعصاب والقيء والعرق الغزير، واضطراب التفكير، بل قد تشبه في بعض الأحيان، تأثير الخمر في حالات السكر البين. ثانيًا: قد يظهر السكر في البول عند بعض السيدات أثناء الرضاعة، وهذه حالة ليست مرضية، وحكم الإفطار فيها هو نفس حكم إفطار المرضع بوجه عام. ثالثًا: وقد يحدث مرض البول السكري نتيجة لخلل في تمثيل المواد السكرية والنشوية (أي قدرة الأنسجة على استعمالها في عمليات الاحتراق) ويعزي هذا الخلل في الأغلب إلى نقص مادة الأنسولين في الجسم. وهي المادة التي تفرزها غدة البنكرياس، وهذا هو المرض المشهور "بالسكر"، وهو يظهر في درجات تتفاوت تفاوتا كبيرًا في الخفة والشدة. فهناك حالات خفيفة لا يكاد يظهر فيها السكر في البول، إلا بكمية قليلة وفي فترات قصيرة. وهذه الحالات لا يضرها الصيام بل قد يفيدها وخصوصًا إذا كان المريض بدينًا (سمينًا) .

أما في الحالات الشديدة حيث يبلغ ارتفاع نسبة السكر في الدم مبلغًا كبيرًا. وحيث يظهر السكر بكميات كبيرة في البول باستمرار فإن الفطر ضروري؛ لأن الجسم لا غنى له عن التغذية المستمرة المنظمة، لتوفير المواد السكرية اللازمة لعمليات الاحتراق المستمرة في الأنسجة، مع إعطاء كميات الأنسولين اللازمة. ويضاف إلى ذلك أن المريض في هذه الحالات يفرز كميات كبيرة جدًا من البول، فيفقد بذلك كميات كبيرة من الماء، يجب تعويضها بالشرب، وإذا صام المريض فيها فإن الأنسجة تلجأ إلى المواد الدهنية المخزونة، وقد ينتج عن ذلك تراكم بقايا تمثيل هذه المواد إلى درجة كبيرة، قد تسبب تسمم الجسم بهذه المواد، وقد تصل إلى درجة الغيبوبة المعروفة (بالكوما) . وفيما بين الحالات الخفيفة والحالات الشديدة التي ذكرناها حالات متوسطة يختلف حكمها من حيث الإفطار، فيترك للطبيب المعالج تقديرها وإبداء الرأي فيها". (دكتور محمد ناجي المحلاوي) فعلى المسلم الذي يريد الخروج من العهدة والتحري في أمر الدين إذا أصيب بمرض السكر أن يعرض نفسه على طبيب مسلم حاذق موثوق به في دينه لفحصه والوقوف على درجة مرضه بواسطة تحليل البول أو الدم أو هما، وبيان أثر الصوم في حالته، فقد يخبره بوجوب الفطر حتى لا يلقي بنفسه إلى التهلكة فيتبع رأيه، وقد يخبره، بوجوب الصوم، والله أعلم. *** [8] الحقنة الشرجية في رمضان مفطرة سؤال: هل الحقنة الشرجية مفطرة للصائم؟ (الجواب) : الحقن في الشرج هو إدخال أي مادة سائلة من فتحة الشرج إلى الأمعاء الغليظة، إما بقصد طرد الفضلات وهي التي يستعمل فيها عادة البايونج أو الماء والصابون ونحوه مما لا يمكث في الأمعاء إلا يسيرًا ثم يقذف مع الفضلات من هذه الفتحة، وإما بقصد إمداد الجسم بالغذاء أو الدواء أو السائل

في الحالات المرضية التي يتعذر فيها إعطاء هذه المواد من طريق الفم أو حقنها في الوريد أو العضل أو تحت الجلد، وفي هذه الحالات تترك هذه المواد حتى تمتص، هذا ما قاله الأطباء الحاذقون. وكيفما كان فإدخال هذه المواد السائلة من فتحة الشرج إلى الأمعاء مفطر شرعًا باتفاق الأئمة في المذاهب الأربعة (1) ، إذ الأمعاء من الجوف كالمعدة وسائر الجهاز الهضمي، وما يدخل فيه -اختيارًا- مفطر، لحديث: "الفطر مما دخل"، رواه أبو يعلى في "مسنده" مرفوعًا عن عائشة، وذكره البخاري تعليقًا فقال: وقال ابن عباس وعكرمة: الفطر مما دخل وليس مما خرج، والمراد الدخول من المنافذ المعروفة بدلالة العرف. وقد نص الحنفية على أن من احتقن أفطر ووجب عليه القضاء ولا كفارة عليه في الأصح، وفسروا الاحتقان بصب الدواء في الدبر بواسطة الحقنة، وبمثله قال الحنابلة كما في "المغني"، والشافعية كما في "المجموع"، والمالكية كما في "الشرح الكبير" (وإن خالفوا الطب بقولهم إن السائل يصل بالحقنة الشرجية إلى المعدة) . وفي "المجموع" للنووي أن هذه الحقنة مفطرة على المذهب سواء كانت قليلة أو كثيرة وسواء وصلت إلى المعدة أم لا، وبه قطع الجمهور ونقله ابن المنذر عن عطاء والثوري وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وحكاه العبدري وسائر الأصحاب عن مالك، ونقله المتولي عن عامة العلماء (2) والله أعلم. ***

_ (1) يراجع قول شيخ الإسلام ابن تيمة عن الحقنة الشرجية وفتوى الشيخ ابن عثمين، والأولى: الترك. خروجًا من خلاف العلماء. (2) وخالف ابن حزم فقال: إن ما يدخل إلى الجوف من الدبر أو الإحليل أو الأذان أو العين أو الأنف أو من جرح في البطن أو في الرأس لا يفطر، وقال: إننا ما نهينا عن أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله (راجع "المحلى" (ص 214 جـ 6) وعليه فالحقن بجميع أنواعها لا تفطر، والمعول عليه قول الجمهور.

[9] شرب الدخان في نهار رمضان مفطر سؤال: هل شرب الدخان المعروف مفسد للصوم شرعًا؟ (الجواب) : نص الحنفية على أن الدخان عامة إذا دخل حلق الصائم بدون صنع منه، لا يفسد صومه لعدم إمكان التحرز عنه، فصار كالبلل يبقى في الفم بعد المضمضة لعدم القدرة على الامتناع عنه. وأما إذا أدخله حلقه بصنعه وإرادته أيًا كان الدخان، وبأي صورة كان إدخاله، وهو متذكر صومه، فإن صومه يفسد شرعًا لإمكان التحرز عنه. وقد فرع العلامة الشرنبلالي على ذلك حكم شرب الدخان المعروف كما في "إمداد الفتاح" وشرحه على الوهبانية فقال: بلزوم الكفارة مع القضاء في حالة فساد الصوم، وهي الحالة الثانية المذكورة بناء على الأصح في وجوب الكفارة بتناول ما يميل إليه الطبع، وتنقضي به شهوة البطن. وتابعه العلامة ابن عابدين في حاشية الدر، ولا شك أن الدخان المعروف من أشد ما تستدعيه الشهوة وتميل إليه نفوس شاربيه، حتى إن أكثرهم يصبر على الجوع والظمأ الشديدين، ولا يكاد يصبر على تركه، ففي شربه في نهار رمضان عمدًا القضاء والكفارة على الأصح، والله أعلم. *** [10] قضاء الصوم سؤال: من (لبنان - حمانا) رجل ترك صيام رمضان ثلاث سنوات لإصابته خلال هذه المدة بمرض السل، ثم من الله عليه بالشفاء، ولكنه فوجىء بمنعه من الصوم ثلاث سنوات أخرى بعد التقرير الطبي عن حالته الصحية فمذا يفعل تجاه ما فاته من أيام رمضان وتجاه المستقبل؟ (الجواب) : لا شك أن هذا الرجل في المدة الأولى معذور في الفطر بعذر المرض، وكذلك في المدة الثانية لقول الأطباء إن الصوم يضره صحيًا فيها فهو معذور أيضًا متى كان الأطباء مسلمون حاذقين مأمونين.

صيام رمضان في شمال أوربا

ومن ترك الصوم في رمضان لعذر المرض لا يجب عليه القضاء حتى يقدر عليه فيدرك عدة من أيام أخر. فإذا لم يقض بعد زوال العذر والقدرة على الصوم حتي شارف الموت، وجب عليه الوصية بالفدية بقدر ما أدرك من الأيام الأخر إذا كان له مال، ووجب على وليه الذي له حق التصرف في ماله إخراج الفدية عنه من ثلث ماله الباقي بعد التجهيز ووفاء الديون بدون توقف على إجازة الورثة، ولو زادت الفدية عن الثلث لا يجب الزائد إلا بإجازة الورثة. وإن لم يوص بالفدية قبل موته جاز أن يتبرع عنه وليه بالفدية، ويرجى قبولها بمشيئة الله تعالى فتسقط عنه المطالبة بالصوم في الآخرة وإن بقى عليه الإثم للتأخير بدون عذر كما لو كان عليه دين لإنسان وماطله، حتى مات فأوفاه عنه وصيُّه أو غيره. وأما إذا استمر العذر حتى مات بدون قضاء ما فاته فإنه لا تجب عليه الوصية بالفدية لعدم إدراكه عدة من أيام أخر. (والخلاصة) أن هذا الرجل لا يلزمه الصوم في المدة الثانية ما دام الأطباء الأمناء الحذاق قد قرروا أنه يضره في صحته، وينظر في أمر القضاء بعد زوال العذر على حسب ما بيناه، والله أعلم. *** [11] صيام رمضان في شمال أوربا سؤال: تلقى فضيلة المفتي استفتاء من أعضاء البعثات المصرية، عن حكم الشريعة الغراء في صيام رمضان للمسلمين المقيمين في شمال أوربا، حيث تبلغ مدة صوم اليوم فيه 19 ساعة، وقد تزيد إلى 22 ساعة أو أكثر، فأرسل فضيلته إليهم بالطائرة الفتوى الآتي نصها، ومهَّد فيها بما يحبب لهم الصلاة والصوم خوفًا عليهم من الافتتان في هذه البلاد. (الجواب) : إن التشريع الإسلامي في العبادات قد بني على توثيق الصلات بين العبد وربه، وحسن قيام العباد بحق الله تعالى الذي أفاض عليهم نعمة الوجود، ومن عليهم بالفضل والجود والخير والإحسانه: (وإِن تعدوا نعمة

الله لا تحصوها) . فهي تربية وتهذيب، ونظام وإصلاح يرقى بالفرد والمجتمع إلى مراقي السعادة والفلاح. ورأسها وعمادها الصلاة، وهي مناجاة بالقلب واللسان بين العبد ومولاه يشهد فيها العبد افتقاره لخالقه، وإحسان الخالق إليه مع استغنائه عنه، ويعلم عن يقين أن الأمر كله لله، وأن لا معبود بحق سواه، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. ومن أهمها الصيام وهو رياضة روحية تُعِدُّ النفوس البشرية للسمو إلى معارج الكمال، والتحليق في أجواء العلم والعرفان وتُعوِّدها الصبر والثبات والقوة والعزة، وتصفِّيها من شوائب المادية وعوائق الجسمية، وتبغِّض إليها المآثم والمنكرات، وتحبِّب إليها الفضائل والمكرمات. وقد بنى تشريع الصوم كما بنى التشريع الإسلامي عامة على السماحة والتيسير والطاقة والرفق بالناس، فلم يكن فيه إعنات ولا إرهاق، ولم يكن فيه حرج ولا عسر - قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) . وقال في الصوم: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) . وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا به ما استطعتم" وفي الحديث الصحيح: "سددوا وقاربوا". هذه السماحة، وهذا اليسر، قد ظهر جليا في فريضة الصوم، في الترخيص بالفطر للمسافر ولو كان صحيحًا، لما يلازم السفر غالبًا من المشقات والمتاعب، وللمريض لضعف احتماله وحاجته إلى الغذاء والدواء، حتى لا تتفاقم علته أو يبطىء برؤه، ولمن ماثلهما في الضرورة والاحتياج إلى الفطر، كالحامل التي تخاف على نفسها أو جنينها المرض أو الضعف، والمرضع التي تخشى ذلك على نفسها أو رضيعها، والطاعن في السن الذي لا يقدر على الصوم. فأباح الإسلام لهؤلاء فطر رمضان على أن يقضي كل من المسافر

والمريض والحامل والمرضع ما أفطره في أيام أخر خالية من الأعذار، وعلى أن يخرج الشيخ الفاني فدية الصوم عن كل يوم أفطره حسبما بين في الفقه. والصوم الشرعي يبتدئ من طلوع الفجر وينتهي بغروب الشمس كل يوم، فتختلف مدته باختلاف عروض البلاد، وكيفما كانت المدة فإن مجرد طولها لا يعدُّ عذرًا شرعيًا يبيح الفطر، وإنما يباح الفطر إذا غلب على ظن الإنسان بأمارة ظهرت أو تجربة وقعت أو بإخبار طبيب حاذق أن صومه هذه المدة يفضي إلى مرضه أو إلى إعياء شديد يضره، كما صرح به أئمة الحنفية، فيكون حكمه حكم المريض الذي يخشى التلف أو أن يزيد مرضه أو يبطئ شفاؤه إذا صام. هذا هو المبدأ العام في رخصة الفطر وفي التيسير على المكلفين. وكل امرئ بصير بنفسه، عليم بحقيقة أمره، يعرف مكانها من حِلِّ الفطر وحرمته. فإذا كان صومه المدة الطويلة يؤدي إلى إصابته بمرض أو ضعف أو إعياء يقينًا أو في غالب الظن بإحدى الوسائل العلمية التي أومأنا إليها، حل له الترخص بالفطر، وإذا كان لا يؤدي إلى ذلك حرم عليه الفطر. والناس في ذلك مختلفون ولكل حالة حكمها "والله يعلم السر وأخفى" والله أعلم. *** سؤال: سألت طبيبًا فاضلاً فأْخبرني بأن انقطاع النزيف من الأنف لا يتوقف على الاستلقاء على الظهر، بل يمكن قطعه باستنشاق الماء البارد في الوضع العادي بدون الاستلقاء، فلا ضرورة تدعو الصائم إلى الاستلقاء وقت النزف حتى ينصب الدم في حلقه فيفطر بابتلاعه. (الجواب) : لذلك نفتي السائل بأنه ما دام في الإمكان علاج النزف باستنشاق الماء البارد، لا يجوز الالتجاء إلى الاستلقاء الذي يفضي إلى الإفطار، فإذا تفاقم الأمر وقرر طبيب حاذق ضرورة اتخاذ وسيلة أخرى للعلاج والإنقاذ تؤدي إلى الإفطار، كان هذا الصائم من أرباب الأعذار، فيفطر وعليه القضاء والله أعلم. ***

[12] العجز عن الصوم وحكمه سؤال: شخص اضطره المرض إلى فطر أيام من رمضان فما هو الواجب عليه شرعًا؟ (الجواب) : مذهب الحنفية أن المريض الذي رخص له الشارع في الفطر، يجب عليه قضاء ما أفطره من أيام رمضان بعد زوال العذر، لقوله تعالى: (ومن كان مريضًا أو على سفر فعدَّة من أيام أخر) ولا فدية عليه، خلافًا للشافعية حيث قالوا بوجوب القضاء والفدية لكل يوم مُدٌ من حنطة. فإن استمر مرضه إلى أن مات لم يلزمه القضاء ولم يجب عليه الإيصاء بالفدية لأن وجوبه فرع وجوب القضاء. فإذا زال العذر، ولم يقض ما فاته مع القدرة حتى شارف الموت، وجب عليه الإيصاء بالفدية من ثلث ماله، فإن أوصى - وجب على وليه أن يفدي عنه بعد موته عن كل يوم مثل فطرة الصوم (عن كل يوم نصف صاع من بُرَّ أوَ صاع من تمر أو شعير أو قيمة ذلك عند الحنفية) . وإن لم يوص وتبرع عنه وليه بالفدية جاز وسقط عن الفرض، وإن بقى عليه إثم تأخيره كما لو كان على الميت دين، وماطل فيه حتى مات فأوفاه عنه وليه، فإنه يسقط عنه الدين، ولكن يبقى عليه إثم المماطلة والتأخير. صوم الولي عن الميت: وهل يصح صوم الوليِّ عن الميت؟ اختلف الفقهاء في ذلك. 1- فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي في قوله الجديد، إلى أن الولي لا يصوم عن الميت بل يطعم عنه لكل يوم مسكينًا لما أخرجه النسائي عن ابن عباس موقوفًا: "لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد" ولما أخرجه عبد الرزاق عن عائشة موقوفًا: "لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم". (ولا يقال) قد جاء في "الصحيحين" عن ابن عباس أنه قال: "جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر

أفأقضيه عنها. فقال: "لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ " قال: نعم قال: "فدين الله أحق أن يقضى". وعن عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه". (لأنا نقول) : إن هذا منسوخ لأن فتوى الراوي بخلاف مرويه بمنزلة رواية الناسخ. هذا ما قالوه، وقد رده الشوكاني في "نيل الأوطار"، بأن الحق اعتبار ما رواه الصحابي دون ما رآه، وما ورد مرفوعًا في الباب يردّ ذلك كله. 2- وذهب أحمد والليث وأبو عبيد إلى أن الولي لا يصوم عن الميت في قضاء رمضان، وأما في قضاء النذر فيصوم عنه. 3- وذهب ابن حزم إلى أن الولي يصوم عن الميت وجوبا أي صوم كان نذرًا أو غيره. 4- وذهب الجمهور ومنهم الشافعي في القديم إلى أن الولي يصوم استحبابًا عن الميت. وقال النووي: إنه المختار من قول الشافعي، وقال به طاووس، والحسن والزهري وقتادة وأبو ثور والأوزاعي، وإليه ذهب أصحاب الحديث. وقال البيهقي: هذه سنة ثابتة لا أعلم في صحتها خلافًا بين أصحاب الحديث. من هو الوليُّ: وقد اختلف الفقهاء في المراد بالولي؛ فاختار النووي أنه القريب واراثًا أو غير وارث، وقيل هو الوارث خاصة، وقيل هو العصبة، وذهب الحنفية إلى أنه المتصرف في المال، فيشمل الوصي ولو أجنبيًا، كما ذكره ابن عابدين في الصوم. جعل ثوب الصوم للميت: ومع أن الحنفية قد ذهبوا إلى أنه لا يصوم أحد عن أحد أخذًا من حديث ابن عباس، إلا أنهم قالوا: إن للوليِّ وغيره أن يجعل ثواب صومه وصلاته

للميت تبرعًا بمثابة الصدقة، لما صرح به في الهداية من أن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره، صلاة أو صومًا أو صدقة أو حجًا أو غيره. وفي "البدائع" إن قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد" إنما هو في حق الخروج عن العهدة لا في حق الثواب. فإن من صام أو صلى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات أو الأحياء جاز، ويصل الثواب إليهم عند أهل السنة والجماعة. وقد بينا ذلك تفصيلاً في فتوانا المسجلة بدار إفتاء الديار المصرية بتاريخ 14 أغسطسى سنة (1947م) برقم (377) ، مع تذييلها بتعليقات هامة وأسانيد شرعية وطبعت بمفردها في أغسطس سنة (1947م) . المريض الفاني: وينبغي أن يُعلم -تتمة لهذا البحث- أن المريض الذي تحقق اليأس من صحته، أو الذي تتناقص -صحته- في كل يوم إلى أن - يموت، وهو المسمى (بالشيخ الفاني) لنفاء قوته، أو لإشرافه على الفناء حتى عجز عن الصوم يرخَّص له فطر رمضان وتجب عليه الفدية عن كل يوم أفطره لو كان موسرًا ويخير بين دفعها في أول الشهر أو في آخره، ولا يجب عليه القضاء، ولكنه إذا قدر على الصوم بعد أن أخرج الفدية وجب عليه قضاء ما أفطره، إذ الفدية خلف عن الصوم المعجوز عنه لا غير، ومن هذا يتبين ما يجب على المريض في كل حال، والله أعلم بالصواب. [13] هل وضع مرهم البواسير يفطر سؤال: رجل مصاب بالبواسير ولابدَّ له حين قضاء الحاجة من إدخال أصبعه في الموضع المعروف للتنظيف والتسوك بالمرهم الموصوف فهل ذلك يفسد صومه وهل يباح له الفطر لذلك شرعًا؟ (الجواب) : قد نص الحنفية على أن إدخال الأصبع في هذا الموضع مبتلة

يفسد الصوم فإذا لم يكن لهذا المريض بُدُّ من إجراء ما ذكر في وقت الصوم كان من أرباب الأعذار المبيحة للفطر وعليه القضاء بعد البراء. والله أعلم (1) . [14] صوم رمضان سؤال: في الأقطار التي لا تطلع فيها الشمس أشهرًا أو يطول النهار فيها كثيرًا. تقيم كريمتي وزوجها الآن في ألمانيا، وقد كتبت إلي تستفهم عن الواجب عليها وعلى المسلمين هناك في شهر رمضان بالنسبة إلى الصيام، حيث تقول: إن الشمس تستمر طالعة 20 ساعة وتختفي أربع ساعات، فهل يلزمهم الصيام قبل طلوع الشمس بساعة ونصف وهو وقت طلوع الفجر وعلى ذلك فيصومون إحدى وعشرين ساعة ونصف، ويفطرون ساعتين ونصفا أم ماذا؟ وما حكم الصلاة أيضًا في هذه البلاد، وكذلك في البلاد التي تستمر فيها الشمس طالعة نحو ستة أشهر وتغيب نحو ستة أشهر. هذا يا صاحب الفضيلة ما نريد الاستفهام عنه فلعلنا نظفر في وقت قريب بما يزيل العقبات عن المقيمين في تلك البلاد ببيان حكم الله تعالى تيسيرًا عليهم وتبيانًا لسماحة الدين الحنيف. (الجواب) : اطلعنا على السؤال - ونفيد: بأنه فيما يختص بالبلاد التي تغيب فيها الشمس ستة أشهر أو نحو ذلك. اختلف الفقهاء في وجوب الصلاة على المقيمين بها وعدم وجوبها، فقال بعضهم: لا تجب عليهم الصلاة لعدم وجود السبب وهو الوقت. وقال بعضهم تجب عليهم الصلاة وعليهم أن يقدروا لها أوقاتها بالقياس على أقرب البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم، والقول الأخير قول الشافعية وهو قول مصحح عند الحنفية وهو الذي اخترناه للفتوى مراعاة لحكمة تشريع الصلاة. وفيما يختص بصوم أهل هذه البلاد. فإنه واجبٌ عليهم، وعليهم أن

_ (1) ينظر ما سبق من الفتاوى.

فتوي هامه في حمل المأموم للمصحف في صلاة التراويح

يتحروا عن دخول شهر رمضان وعن مدة الصيام فيه بالقياس على أقرب البلاد التي شهد أهلها الشهر وعرفوا وقت الإمساك والإفطار فيه، وهو كذلك مذهب الشافعية الذي اخترناه للفتوى. وأما البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم إلا أن مدة طلوعها تبلغ نحو عشرين ساعة، فبالنسبة للصلاة يجب عليهم أداؤها في أوقاتها لتميزها تميزًا ظاهرًا - وبالنسبة للصوم يجب عليهم الصوم في رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس هناك، إلا إذا أدى الصوم إلى الضرر بالصائم وخاف من طول مدة الصوم الهلاك أو المرض الشديد، فحينئذ يرخص له الفطر، ولا يعتبر في ذلك مجرد الوهم والخيال وإنما المعتبر غلبة الظن بواسطة الأمارات أو التجربة أو إخبار الطبيب الحاذق بأن الصوم يفضي إلى الهلاك أو المرض الشديد أو زيادة المرض أو بطء البرء، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص فلكل شخص حالة خاصة. وعلى من أفطر في كل هذه الأحوال قضاء ما أفطره بعد زوال العذر الذي رخص له من أجله الفطُر، والله تعالى أعلم (1) . حمل المأموم للمصحف في صلاة التراويح سُئل عن حمل المأموم للمصحف في صلاة التراويح؟ وأجاب فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظة الله- بقوله: "لا أعلم لهذا أصلاً والأظهر: أن يخشع ويطمئن ولا يأخذ مصحفًا بل يضع يمينه على شماله كما هي السنة: (يضع يده اليمنى على كفه اليسرى الرسغ والساعد ويضعهما على صدره) هذا هو الأرجح والأفضل وأخذ المصحف يشغله عن هذه السنن، ثم قد يشغل قلبه وبصره في مراجعة الصفحات والآيات عن سماع الإمام، فالذي أرى أن - ترك ذلك هو السنة وأن يستمع وينصت ولا

_ (1) من كتاب "فتاوى شرعية وبحوث إسلامية" طبع دار الاعتصام.

يستعمل المصحف فإن كان عنده علم فتح على إمامه وإلا فتح غيره من الناس، ثم لو قُدر أن الإمام غلط ولم يفتح عليه ما ضر ذلك في غير الفاتحة إنما يضر في الفاتحة خاصة لأن الفاتحة ركن لابد منها أما لو ترك بعض الآيات من غير الفاتحة ما ضره ذلك إذا لم يكن وراءه من ينبهه ولو كان واحد يحمل المصحف ويفتح على الإمام عند الحاحة فلعل هذا لا بأس به أما أنَّ كل واحد يأخذ مصحفا فهذا خلاف السنة" (1) . أ. هـ. ***

_ (1) مجلة التوحيد السنة الثانية والعشرون العدد التاسع.

الباب الثاني والعشرون الصوم ورمضان في واحة الشعر

الباب الثاني والعشرون الصوم ورمضان في واحة الشعر زاد بزاد وياشتان بينهما ... من ذاق طعم شراب القوم يشريه

قصيدة لمصطفى الصادق الرافعي في رمضان

يقول مصطفى الصادق الرافعي - أديب الإسلام: فديتك زائرًا في كل عام ... تحيا بالسلامة والسلام وتقبل كالغمام يفيض حينا ... ويبقى بعده أثر الغمام وكم في الناس من كلف مشوق ... إليك وكم شجيّ مستهام رمزت له بألحاظ الليالي ... وقد عيّ الزمان عن الكلام فَظل يَعَدّ يَوَمًا بْعد يَوَمًا ... كما اعتادوا لأيام السقام ومد له رواق الليل ظلا ... ترف عليه أجنحة الظلام فبات وملء عينيه منام ... لتنفض عنهما كسل المنام ولم أر قبل حبك من حبيب ... كفى العشاق لوعات الغرام فلو تدري العوالم ما درينا ... لحنت للصلاة وللصيام بني الإسلام هذا خير ضيف ... إذ غشي الكريم ذرا الكرام (1) يلمكم على خير السجايا ... ويجمعكم على الهمم العظام فشدوا فيه أيديكم بعزم ... كما شد الكمى على الحسام وقوموا في لياليه الغوالي ... فما عاجت عليكم للمقام وكم نفر تغرهم الليالي ... وما خلقوا ولا هي للدوام وخلوا عادة السفهاء عنكم ... فتلك عوائد القوم اللئام يحلون الحرام إذا أرادوا ... وقد بان الحلال من الحرام وما كل الأنام ذوي عقول ... إذا عدوا البهائم في الأنام ومن روّته مرضعة المعاصي ... فقد جاءته أيام الفطام (2)

_ (1) الذرا: بفتح الذال: المنزل والستر. (2) ديوان مصطفى صادق الرافعي (31) .

قصيدة الشاعر محمود عواد

رمضان (*) (* *) الخيرُ باد فيك والإحسانُ ... والذّكرُ والقرآن يا رمضانُ والصوم فيك عبادةٌ ورياضة ... تسموا بها الأرواحُ والأبدانُ والشرُّ فيك مكبّلٌ ومغلل ... والبرُّ فيكَ مجلل هتانُ واللَّيل فيك نسائمٌ هفهافة ... رَقصت لطيب عبيرها الرهبانُ والفجرُ فيك عبادةٌ وتلاوةٌ ... والصبُّح فيك سعاية وأمانٌ والرُّوح فيكَ طليقة رفرافة ... أحلامُها الغفرانُ والرِّضوانُ والجسمُ فيك حبيسةٌ أطماعه ... لا يستريحُ إذا سما الوجدانُ والناس فيك تآلفٌ قد ضمَّهم ... وأظَّلهم ظلُّ الهُدى الفينانُ فكأنَّهم جسمٌ يئنُّ إذا اشتكَى ... عضوٌ به وكأنَّه بنيانُ بالصبر جئت وبالهُدى وكلاهُما ... زادُ الشهيد إذا خلا الميدانُ ذكراكَ هذِي والزَّمان زمانٌ ... والمسلمون تآذر إخوانُ والحاكمونَ منفَّذون شريعة ... وضع الإله يحثهم إذعانُ والعابدون الراكعون تسابقوا ... يحدو بهم نحو الصلاة أذان لم يبق فيك اليوم غيرُ مظاهر ... وموائد بالمشتهى تزدانُ ومآذنٌ تهفوا البطون لصوتها ... وتصايح تجري به الصبيانُ وتكاسلٌ طول النهار وسهرةٌ ... رقص بها غمزت به الألحانُ أيريد أهل الشرك هجرة شرعنا ... لتُمجِّد الأصنامُ والأوثانُ

_ (*) "الاعتصام" العدد الثالث السنة السادسة والعشرون رمضان (1383 يناير 1964م) . (* *) للشاعر محمود عواد - دار الوفاء للطباعة والنشر.

مناجاة للشاعر أحمد محمد الصديق

لا غير شرع الله يجمعُ شملنا ... مهما أشار بحقِّه المجَّانُ ما وحد الأوطان غير محمدٍ ... ما ضمَّهما عدنانُ أو قطحانُ جمع الشَّتيت فكان أكرم أمةٍ ... فخرت بمجد رقِّيها الأزمانُ أنسيت دنيا العزِّ يوم تجمَّعت ... فيك الرَّجالُ وكلُّهم ألوانُ فصهيبٌ ابن الروم جنب محمد ... والفارسُّ المهتدي سلمانُ وبلالُ فوق البيت يهتف للورى ... في الحقِّ لا أسياد أو عبدانُ يومًا غَزانا الكُفر تحت صليبه ... أجنادُه الأسبانُ والطليانُ فالدِّين جمَّعها لأكبر نجدة ... لا الحربُ جمعها ولا الطُّغيانُ إن تسأل الآثارَ فهي مجيبةٌ ... أو تسأل الأخبارَ فهي لسانُ مناجاة (*) قِفي ها هُنا في رحابِ الهُدَى ... ولله يا نفسُ فاسْتَسْلِمي أطَل عَلى النّاسِ شَهْرُ الصَّيام ... فبُشْراكِ بالوافِدِ المُكْرم هَلُمّي هَلُمّي بهِ نَحْتَفي ... ونُعْلِنُ عَنْ فرحَةِ المَقْدَم أعيذُكِ مِنْ نَزَغاتِ الهوَى ... وفي مَوْسِم الخِصْبِ أنْ تُحرَمي على عَتَباتِ الرّضا والسّلام ... أَطيلي الوُقوفَ ولا تَسْأَمي فإنْ جادَ بالعَفْوِ رَبُّ السمَّاءِ ... فحسْبُكِ ذلكَ مِنْ مَغْنَم وحسبُكِ أَنّا عَفَرْنا الجَبينَ ... لدَيهِ وفي حِصْنِهِ نَحْتَمِي ***

_ (*) من ديوان "نداء الحق" للشاعر أحمد محمد الصديق.

في رحاب رمضان للشاعر أحمد محمد الصديق

أيا نفسُ إنا نشُقُّ الطريقَ ... على شَوْكِ مِحْنَتِنا المُوْلِم نُريدُ لأمتنا أنْ تَسيرَ ... على المَنْهَج الواضحِ القيِّم نُريدُ الحَياةَ التي تَرْتَقِي ... وتَسمو بها همةُ المُسْلِم فنَجْهَرُ بالأمرِ بينَ الأنام ... ونصدعُ بالحق مِلءَ الفَم ونَخْلَعُ قَيْدَ الهَوانِ الثّقِيلِ ... ونَنْهَضُ مِنْ كَهفِنا المُظلِم ونَكتُبُ بالنُورِ "فتحا" جديدا ... و"بَدْرا" نُسَطرها بالدم وتِلكَ الأمانيُّ مَرْهُونة ... بأقدارها في الغَدِ المُلهَم *** صِيامُكِ يا نفسُ فيهِ الخَلاصُ ... مِنَ الضعْفِ والعَجْزِ والمأثَم ومِعْراجُكَ الفَذ تَقْوى الإِله ... فَرَكْضا إلى الله لا تُحْجِمي في رحاب رمضان نَبّهْتَ فينا أنفُسا وَعُقُولا ... وحَلَلْتَ للخَيْرِ العَميم رَسولاً رَمَضانُ يا رَوْضَ القُلوبِ تَحِيّةً ... خَطَرَتْ تَجُر إلى حماكَ ذُيُولا قدْ جِئْتَ مَرْجُوا لأكرم نَفْحَةٍ ... تَذَرُ الفُؤادَ بسِحْرِها مَتْبولا رَمَضانُ حسبُكَ ما شَرُفْتَ بِهِ فقَدْ ... فُضلت مِنْ رَبِّ السَّماء تفْضيلا غَصَّتْ رِحابُكَ بالتُّقاة وَهَوَّمَتْ ... فيكَ المَلائِكُ صعدا ونُزُولا وتتبابَعَتْ رَحَماتُ ربكَ شُرعًا ... كالغَيْثِ فاضَ مُبارَكا مَقْبُولا أَيامُكَ الغَرّاءُ طاهِرَةُ الرُّؤى ... مِثلُ الحَمائِم تَسْتَحِتمُّ أَصِيلاً وَجْهُ الحَياةِ على ضِفافِكَ مُشرقٌ ... وأريجُكَ الذّاكي يَهُب عَليلا

تَسْمو بهِ الأرْواحُ فَهْيَ طَلِيقَة ... رَغِبَتْ إلى كَنَفِ الخُلودِ رَحِيلاً حَنَّتْ لمغْناها القَديم فلمْ تجدْ ... إلا سَبيلَكَ للخُلودِ سَبيلا نِبْراسُكَ الوَضاءُ يُعْلِنُ للورَى ... شَرع السمَاءِ مُنَزَّلا تَنْزِيلا آياتُهُ الزّهْراءُ فيدكَ تَلألأتْ ... وَحْيًا يُقيمُ إلى الفلاح دليلا سادَتْ بِهِ حينَ استَقامَتْ أمةٌ ... واعْتَزَّ مَنْ في النيرِ كانَ ذَليلاً قدْ كانَ مَدْرَسَةٌ تُعد أئمّةً ... نَشأوا على النَّهْجِ القَويم عُدولا وكأنهمْ في اللهِ قلب واحِدٌ ... يَحْيا بنِعْمَةِ ربِّهِ مَوْصولا *** رَمَضانُ هلْ لي وَقْفة أستَرْوِحُ الذ ... كْرَى وَأشُفُ طَلها العْسُولا إنا لنَسْبَحُ في الهَجيرِ فَهَبْ لنَا ... مِنْ ماءِ كَوْثَرِكَ العَزيزِ قَليلاً إنّا لَفِي زَمَن مَسيخٍ وجهُهُ ... قَدْ مَرغوهُ سُبَّةً وَوحُولا الصّالحونَ أولُو النهي في أهْلِهِ ... غُرَباءُ سيمُوا الخَسفَ والتنّكيلا أَتَخالُ عَصْرَ الجاهِلِيةِ قدْ مَضى؟! ... لا لَمْ يَزَلْ عهدُ الظلام طَولا! كمْ مِنْ أبي جَهْلٍ تَراهُ مكابِرًا ... وتَراهُ يُوقِعَ في المفاسِدِ جِيلاً! أدْهى عُصورِ الجاهِليةِ عَصْرُنا ... فاعْجَبْ لهُ بالعِلم صارَ جَهُولا! العِلمُ بينَ يَدَيْهِ سَطوَةُ غاشِمٍ ... جَحَدَ الإِلهَ.. وَأَخْطأ التّأويلا وغَدا سِلاحُ العِلم فوقَ رِقابِنا ... شبَحًا يُخِيفُ مَصِيرَنا المجْهُولا لَيْل ونْ طالَتْ غَياهِبُ ظُلمِهِ ... فلَسَوفَ يَتْلوهُ الصباحُ جَميلا ***

رَمَضانُ!.. هلْ لي وَقْفَة أَسْتَرْجِعُ الـ ... ـماضِي ... وأرْتَعُ في حِماهُ جَذُولا؟ يَستَعْذِبُ الأملُ المعَذَّبُ رِحلَةً ... تَخِذَتْ مِنَ المجْدِ التليدِ مَقيلا أَبطالَ "بَدْرٍ" يا جِباهًا شُرِّعَتْ ... للشمسِ تَحْكي وجْهَهَا المصْقُولا كنتُمْ على تاجِ الزَّمانِ لآلئًا ... لعَتْ ... وكنْتُمْ فَجْرَهُ المأمُولا حَطَّمْتُمُ الشِّرْكَ المُصَعِّرَ خَدَّهُ ... فَارْتَدَّ مَشْلولَ الخُطى مَخْذولا غَنَّيْتُ يومَ "الفَتْح" مُصْحَفَ مَجدِكُمْ ... طَرِبًا ... أُرَتِّلُ آيَهُ تَرْتِيلا ولمَحْتُ مَكَّةَ في الخَيالِ وقدْ عَنَتْ ... لِلحَقِّ ... زائِغَةَْ العُيونِ ذُهولا وطَلائعُ الجُنْدِ البَواسِلِ أَتْرَعَتْ ... طُرقاتِها بَحْرا يَفِيضُ سُيُولا وأَكادَ أَنْظُرُ للنَّبِي مُطأطئًا ... متواضعًا ... جَمَّ الوَقِارِ.. جَليلا وَيَصيحُ "جاءَ الحقُّ" وهوَ يُبيدُآ ... لِهَةَ الضلالِ ... ويمْحَقُ التّضْليلاً أَينَ الطغاةُ الآثِمونَ؟ لقد عَفا ... عنهمْ ... فَكانُوا للرّسُولِ قَبِيلاً أَتَرى لَهُمْ سَنَدًا مِنَ الصنَم الذي ... يَهّوي كَثِيبًا في الرُّغَام مَهِيلا؟! لا يَسْتَوِي رَب السَّماءِ وربُّهم ... لكن عِبْءَ الحَقَّ كانَ ثقِيلا *** يا إِخْوةَ الإسْلام.. إِنَّ سبيلَنا ... للنّصْرِ يَسْتَدْعي الفَتَى المسْئولا يُعْلي على الحَقِّ المُبينِ لِواءَنا ... حُرِّا.. ويَطْرُدُ غاصِبًا ودَخِيلا هِيَ ذي أفاعي الغَدْرِ تَنْفُثُ سُمَّها ... أَفَلا نُحطمُ نابَها المهزُولا؟! لوْ سادَ حُكُم اللهِ فينا لمْ تَهُنْ ... في القُدْسِ قبْلَةُ مُصْطَفانا الأولى كَلا ... ولا كانَ الجِهادُ تَظاهُرا ... وَالدِّ-ينُ في أَو-طانِنا مَغْلولا ***

تأملات في رمضان لأحمد محمد الصديق

رَمَضانُ هذي مِنْ فُيوضِكَ رَشْفَةٌ ... بَلَّتْ لأحْشاءِ الشَّجِيِّ غَليلا جِئْنا لنَنْعَمَ في لِقاكَ.. ونحتَفي ... بكَ فِتْيةً عَرَفُوا الهُدَى وكُهولا ولَكَ الجَوانِحُ رائحًا أَو غادِيًا ... مَثْويً تَحِل به رِضًا وقَبُولا تأملات في رمضان (*) أَطِليّ عَلَيْنا مِنْ سَمائِكِ كالبَدْرِ ... فلَيْلُ السُّرَى مِنْ حَوْلِنا تائِهُ الفَجْرِ أَطِليّ ... فَفِي طَياتِكِ النورُ والهُدى ... هُوَ البَلسَمُ الشّافي لأدْوائِنا الكُثْرِ ويا ذِكْرَياتِ المجْدِ سِفْرُك حافِلٌ ... تُطَالِعُنا آياتُهُ مِنْ حِمى "بَدْرِ" وتَنْفَحُنا مِنْ رَوْعةِ "الفَتْحِ" نفْحَةٌ ... تَموجُ لها الأحْلاَمُ ضاحِكَةَ الثغْرِ رَأَيْنا فُلولَ الشِّرْكِ كيفَ تَحطمَتْ ... على صخْرَةِ الإيمانِ في وَقْعَةِ الدّهْرِ وكيفَ تَحَدّى الفَجْرُ جَيشَ ظَلامِهمْ ... وخَطَّ سَبيلَ المؤمِنينَ إلى النّصْرِ وأَعْلَنَ أَنَّ الحَق لابُدَّ ظافِرٌ ... ولوْ بعْدَ حِينٍ فانَتظِرْ ساعَةَ الصفْر رَسُولُ الهُدى قدْ كانَ للناسِ رَحْمَةً ... تَشِعُّ بأنْوارِ الهِدايةِ والبِرّ أَقامَ بعَيْنِ الله دَوْلتَهُ الّتي ... هِيَ العَدْلُ في أَعْلى مَراتِبهِ الغُرِّ وَكنّآ بِه خيرَ الأنام.. فما لَنا ... نُخالِفُهُ نَحْوَ الضلالَةِ والخُسْرِ؟! بَواتِرُنا كانَتْ إذا التمعت ضحى ... يَبِيتُ لَها كسْرى وقَيْصَرُ في ذُعْرِ حضارتنا كانت هي العلم والتقى ... ولكنَّ هذا العَصْرَ يَفْخَرُ بالعُهْرِ تَدورُ بِنا الأيامُ.. والكُلُّ غافلٌ ... وها نحنُ في التيّهِ البَعيدِ.. ولا نَدْري

_ (*) أحمد محمد الصديق من ديوان "نداء الحق".

ولولا انْتِفاضُ الروح يَدْفَعُ رَكبَنا ... ويَبْعَثُ ما في مَعْدِنِ التُرْبِ مِنْ تِبْرِ ولولا كِتابُ الله يَنْسابُ نورُهُ ... حياة.. لباتَ الكونُ أَشْبَهَ بالقَبْرِ وأمْسَتْ بُيُوتُ الظّاعِنينَ مَلاعِبًا ... لِريح البِلى والقَصْرُ يَنْعَى على القَصْرِ فيا إِخْوةَ الإسلام عُودُوا لِربكُمْ ... لَقَدْ ضَل مِنا الرّكبُ في المَهْمَهِ القَفْرِ وَقَدْ رانَ لَيْلُ الجاهليةِ ضارِبًا ... سُرادِقَهُ.. لا يَستَقيمُ على أَمْرِ رَحيمُ بِنا رَبّ السماءِ ... وإنهُ ... لَيُمْهلُ.. والإنْسانُ يُمْعِنُ في الكُفْرِ أَلا أيها الإنسانُ إنكَ كادِحٌ ... ولابُدَّ أنْ تَلقي غَدًا حاصِلَ العُمْرِ فَإِمّا نَعيما كنتَ تَرْجوهُ مُوقِنا ... وإما جَحيمًا -كنتَ تَغْدُوهُ -بالشَّر *** دَعَا رَمضانُ الخَيْرِ كل مُرابِطٍ ... لَدَيْه.. فَلَبى المؤمنونَ على الإثْرِ وطافَتْ بهم ريحُ الجِنانِ عَليلةً ... تَهُب مِنَ الرحَمنِ.. ذائِعَةَ النشْرِ تَنَفسَ فيها الخُلدُ حينَ تفتحَتْ ... أزاهيرُهُ البَيْضاءُ في "ليلةِ القَدْرِ" فَطُوبى لِمَنْ يَحْظى بِشَمَ عَبيرِها ... فَيَسْجُدُ مَغْشيًا عَلَيْهِ مِنَ البِشْرِ ويَضرعُ في حُب ويَبكي من الجَوَى ... ويَكْتُمُ أشواقًا تَأجحُ كالجَمْر ويُصْغِي إلى صَوْتِ السماءِ كأنَهُ ... صَدى خَفَقاتِ القَلبِ يَنْبِض في الصَدرِ صيامُكَ مِفْتاح لِكُل فَضيلَة ... يُزودُكَ التقوى. ويُغْريكَ بالطُّهْرِ فقلْ مُخلِصًا: آمَنْتُ باللهِ واستَقِمْ ... وأحْسِنْ لَهُ الأعْمَالَ في السِّر والجَهْرِ هنا مَصْنَعُ الأبطالِ.. يَصْنَعُ أمَّةً ... وينفُخُ فيها قوةَ الرّوح والفِكْرِ.. ويَخلَعُ عنها كل قَيْد يَعوقُها ... ويُعْلي منارَ الحَق.. والصدْقِ والصبْرِ تَصومُ إذا صامَتْ عَنِ الفُحْشِ والخَنا ... وتُفطِرُ في مَنْأي عَنِ الرِّجْسِ والجَوْرِ

ربيع الروح للسيد الصديق حافظ

لَها العِيدُ بُشْرى في الحَياةِ.. ومثلُهُ ... وأفضَلُ منْهُ يَوْمَ تُبْعَثُ في الحَشْرِ ربيع الروح (*) "رمضانُ" "أقبلَ قُمْ بنا يا صاح" ... هذا أوانُ تَبَتُّلِ وصَلاح! الكونُ معطارٌ بطيبِ قُدُومِهِ! ... روْحٌ وريحانٌ ونفحُ أَقَاحِي! "صفْوٌ أتيحَ فخذْ لنفسكَ قِسْطَهَا ... فالصفوُ ليْسَ على المَدَىَ بمتَاح"! واغنم ثواب صيامِه وقيامِه ... تسعدْ بخيرٍ دائِمٍ وفَلاح! *** كم مؤمنٍ لم تُلهِهِ الدُّنْيَا فَلَمْ ... يستبدل الأتْراحَ بالأفْراح (1) ! قَوّام ليلٍ نائمٌ عنه الكَرَى ... الصَوَّامُ واع صَاحِ! وحلفِ شيطان غوىَ لم يزلْ ... عبدا لبنتِ الكرِمْ والأقْدَاح! في لَيْلَة زُمرُ المعاصي تنْتشِي ... ونهاره في غفلة ومزاح! "رمَضانُ" لا يَثْنِيه عنْ آثَامِه! ... واهي العقيدة في إهَابِ وَقاح (2) ! *** الصَّومُ يُعْلِي مَنْ وَضيع غرائز ... وطبائع سُودِ الوجُوهِ قِبَاح تلك الغرائز كمْ لها مِنْ صوْلة ... مسْعُورَةِ الأنيَابِ ذاتِ نُبَاح!

_ (*) ديوان شعر السيد الصديق حافظ. (1) الباء تدخل على المتروك في هذا التعبير قال تعالى: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) . (2) واهي: ضعيف. إهاب: جلد.

والنَفْسُ إنْ سَقَّتْ وهِيض جَنَاحُها (1) ... فالصَّوْمُ معْراج بِغيرِ جَنَاح! الصّوْمُ يمنحنا مشاعرَ رَحْمَة ... وتعاونٍ، وتعفُّف، وسَمَاح! "رمضانُ" فيه ليلةٌ خير لَنَا ... مِنْ ألفِ شهْرِ في الزَّمَانِ صِباحِ! فيها تَنَزَّلُ بالسَّلام مَلائِك (2) ... والرَوحُ حتى مطلع الإصْباح! قد أنزِل القرآن فيها جامعًا ... لمراشِدِ التهذيب والإصْلاحِ! ومصدِّقًا للرُّسْلِ فيما بَلّغُوا ... عن مُنْزِلِ الأسْفَارِ والألوَاح! هذا كتاب الله زادُ مُسَافر ... وبرودُ ماءٍ في الهَجِير قَرَاح (3) ! أقبلْ عليه فإن من نفحاته ... تقوى القلوبِ، وبهجةَ الأرواح! يا ليلةَ القدْر امنَحِي أيامَنا ... فضلَ الكريم المنعْم الفَتَّاحِ! رباه إنّي فِي ضَلاَلٍ حائر ... عان أنوءُ بحِمْلِي الفَدَّاح! هَذِ خُطايَ على الطريق ضريرة ... يكْبُو غُدُوِّي باكِيًا ورَوَاحِي! ثارتْ بِيَ الشهوَاتُ فاصرفْ شَرَّهَا ... عنِّي وكَفْكِفْ ثَوْرَتِي وجِمَاحي! يا نُور هذا الكونِ هَبْ لبَصِيَرتِي ... قبسا من المِشْكَاةِ والمِصْبَاحِ! إني لِمَا أنْزَلتَ مِنْ خير فَقير ... فاغْنِنِي واملأ بعفْوِكَ سَاحي! وامُدد يَديْك أبي إني هَالِك ... وامنُنْ عَلَيَّ بتوبْة وَصَلاح! واجعَلْ صِيَامَيَ راحةً لمتَاعِبِي ... واجعل قِيَامِي بَلسَما لجِرَاحِي (4) !

_ (1) سقت: دنت من الخطايا، المعنى: إن تدنت النفس في الخطيئة فإن الصوم يعرج بها، وينأى بها عن الرذائل. (2) تنزل: أي نتنزل حذفت تاء تخفيفًا قال تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها) . (3) إن كتاب الله زاد المؤمن في رحلة الحياة، والماء البارد الذي يدفع عنه لهب هجيرها اللافح. (4) مجلة الأزهر الجزء التاسع، السنة الخامسة والستون.

ذلك هو الصوم لمحمد عبد الرحمن صان الدين

ذلك هو الصوم (*) يا عظيم البَطنِ.. حاذِرْ ... قد أتى.. شهر الصيام فُقْتَ في الإنفاق حدَّ الطَّوْقِ.. في صُنْع الطعام حَسْبك الإسرافُ والتبذير ... شهرًا.. كل عام وتقشفْ بعد عيد الفطر، وامْسِكْ بالزمام يا إلهي!.. ضاع في الشهوات.. مفهومُ التسامِي! *** كيف تصفو رُوح مَرْءٍ ... نفسُهُ للطُّعْم وَلهَى فيقضِّي يومَ صوم ... في شُرُودٍ ... يتشهَّى فكرُه عن ذِكْرِ رب الصَّوْم.. ناءٍ.. يتلهَّى! والذي مِنْ (فِيِهِ) يُؤذي السمع والإحساس ... أدْهَى! *** ما الصيِّامُ الحقُّ إلاْ ... مَرْتَع للرُّوح خِصْب فيه أثْمار ونهر ... ناقعُ الإرْوَاء عذْب لذة الأرواح فيه ... عن طعام الجسم.. تربو يَطعَمُ الصُّوَّامُ من جُوع ... من الزراق ... قربُ كيف يظمى أو يُعاني ... الجوع.. مَنْ يرعِاه رب؟ ***

_ (*) ديوان للشاعر/ محمد عبد الرحمن صان الدين.

إرهاف للإحساس لصان الدين

أيها الراجي ثِمار الصوم ... أعْط الصومَ حقَه من خشوع واصطبار ... والتذِاذ بالمشَقَّه وانطلاق في سبيل العيش.. في رِفَّق ورقه طارحا عن روحك المغلول.. بالشهوات رِبْقه إن في هذا لِعَبْد الجسم طول العام عِتْقه *** في صيام الشهر طبُّ ... ليس يدريه طبيبُ فيه أسرار يعيها ... صائم حقًا أريب فيه غيث من صفاء ... ترتوي منه القلوب فيه للأرواح سَبْحٌ ... دونه الكون الرحيب صائم في دِرعْ تقوى ... تنْجَلي عنه الكروب (1) إرهاف للإحساس (*) أطلِقِ الأرواح من أصْفَادها ... في بهيج من رياض الأتقياءْ (2) غاديات رائحات كالسنا ... سابحات بين آفاق الضياءْ (3) إنها يا شهر ظمأى فاسقها ... مشتهاها من ينابيع الصفاءْ شهوة الأجساد قد ألقت بها ... في قفار، ليس فيها من رَوَاءْ ما غذاء الجسم في ألوانه ... فيه للأرواح شيء من حِبَاءْ (4)

_ (1) مجلة الأزهر الجزء التاسع - السنة السادسة والستون. (*) ديوان شعر محمد عبد الرحمن صان الدين. (2) أصفادها: قيودها. (3) السنا: الضوء. (4) حباء: عطاء.

إنما الأرواح تحيا بالذي ... في صيام الجسم تُزجيه السماءْ (1) يا ربيع الروح أقل، واعطها ... صولجان الحكم في دنيا الشقاء كي يعيش الناس من آلائها ... في رفاء، وازدهار، وارتقاء (2) هل درى أهل الحجا أن الذي ... شيطن الإنسان في الأرض اشتهاء؟ (3) زورق الشيطان في وجدانه ... طُعْمَة فيها مع الإفراط داء ما ارتقت إلا بزهد أنفس ... في طعام عنه عاشت في غَنَاء واطمأنت في حياة الروح لا ... تبتغي إلا لُقَيمات، وماء إنما سلطانها من دونه ... كل سلطان به الإنسان باءْ (4) حَسْبُهُ أن أخضع النفس التي ... تَسترِقُّ الناس حتي الأقوياء (5) أي سلطان يكف النفس عن ... موبقات غير قيد كالوجاء (6) إنه الصوم الذي أوحى به ... -رحمة بالناس- رب الحكماء فيه ترويض لطبع جامح ... فِيه رَوْح، فيه للمرضى شفاء (7) فيه للإحساس إرهاف فلا ... يأخذ الدنيا بعين الأغبياء ليت من قد أفطروا فيه وَعَوْا ... ما به قد جاء خير الأنبياء! في كتاب مُنْزَل أو سنَّة ... من بيان ليس فيه من خفاء من تَعَامَى عن هُدَاه عامدًا ... فَليسِرْ في غَيه أنى يشاء

_ (1) تزجيه: ترسله. (2) آلائها: نعمها. (3) الحجا: العقل. (4) باء: رجع. (5) تسترق: تستعبد. (6) موبقات: مهلكات، والوجاء: قطع مصدر الشهوة. (7) روح: راحة وترويح.

شهر الرضا والنور

إنَّما الدنيا سرابٌ خادع ... يصرف اللاهي به عَمَّا وراء (1) كل لَذاتٍ بها موقوتة ... شفي ثناياها بذور الانتهاء فاصرف الإحساس عنها وانتظر ... دائم اللذات في دار البقاء إ-نه آتٍ -بلا رَيْب- فلا ... تغمِضِ الأجفان عن آتي القضاء (2) شهر الرضا والنور (*) ألا أقبِلْ هُدى ورضًا ونُورَا ... وخيرًا عامرًا يغْشَى المَزُورَا نُعِدُّ ليُمْن موسمك التّهاني ... نَعُدُّ ليوم مقْدمك الشّهورا لنملأ بالندا المُهَجَ الصَّوادِي ... ونَرْوي من سنَا التّقوى الصّدورا بنور تلاوةِ القرآنِ نُجْلِي ... بصائرنا.. نضيء بها القُبورا نصومُ.. -نقومُ في- شوق وجد ... وعند الله نحْتسبُ الأجورا بِكَ الأرواحُ ترشفُ وهْي ظمأى ... شرابًا.. منكَ تسكُبه طهورا تَلَقّاهُ.. فيُسكرها هيامًا ... وتُسْقَاهُ.. فَتغمُرها سرورا فُيوضاتٌ من المنّان تَتْرَى ... مواكبُها.. نُعاينُها سُطورا بآياتٍ من التنزيل تُحْيي ... عزائمنا.. فتأَبى أن تخُورا فتلك إشارَةٌ بالقُرْب تُسْدَى ... فتدفَعُ عنكَ شرًا مستطيرا وتلك إشارةٌ بالعفْو تُزْجَى ... فأوقن أنّ لِي ربِّا غُفورا

_ (1) عما وراء: المراد به الآخرة التي تأتي بعد الدنيا والحياة. (2) مجلة منبر الإسلام. (*) ديوان شعر لفريد قرني.

أشرق يا رمضان للشيخ أبو زيد إبراهيم سيد

وتلك تشير للعُقبى.. لتخَشى ... بها يومًا عبوسًا قمْطريرا ويا رمضانُ يا كرمًا وجُودًا ... تخوضُ البُشْريات بها بُحورا بكَ الحسناتُ يا شهْر التجلّي ... يضاعفُها لنا المولى.. كثيرا وأرضُ المسلمين.. -لكل -برٍّ ... تعجُّ مساجدًا.. وتموجُ دُورا وأبوابُ الجنانَ.. مفتّحات ... حُلاها ازيَّنَتْ.. غُرفا وحُورا وأبواب الجحيم.. مغلقات ... وتجتنب الشياطين.. الظهورا وفيكَ بليلة القدْر العطايا ... وإنَّ لشانها الأمرَ الخطيرا هلالكَ.. حلوُ موعدِه ابتهاجٌ ... يفيضُ على الجميع.. رضًا ونُورا (1) أشرق.. يا رمضان (*) أشرق على الأكوان يا رمضان ... فلأنت فيها صبحها الريان أشرق وفجر في البرية فجرها ... إن الوجود إلى السنا ظمآن أو ما حملت إلى الحياة حياتها ... فهدى الحياة وروحها القرآن ناديت كل العالمين لشرعة ... في ظلها تتوحد الأكوان لا لون بل لا جنس فيها سابقٌ ... بل بالتقى فيها الفتى يزدان فيها بلالٌ للشموس مزاحمٌ ... والمسلمون بِظلها إخوان وبنورها الإسلام عانق مجده ... ولحكمه قد دانت التيجان هي شرعة طلعت صباحًا زاهرًا ... فالكون من نورٍ لها مزدان بعثت حصا الصحراء فانتفض الحصا ... قممًا بها كم يزدهي الشجعان

_ (1) مجلة منبر الإسلام. (*) ديوان شعر للشيخ أبو زيد إبراهيم سيد.

والرمل أورق بالفوارس والقنا ... وتفجر الإيمان والفرقان والليل ليل الجاهلية قد هوى ... وهوت على أقدامه الأوثان والليل ليل الجاهلية قد هوى ... وهوت على أقدامه الأوثان والصبح يكتسح الظلام ضياؤه ... ويرن في سمع الورى آذان الله أكبر أي روحٍ قد سرت ... فصحا على أنوارها الإنسان إنَّ الحياة الحق في ظل الهدى ... قرآن ربي إنه الفرقان *** يا أيها الشهر الكريم ومن به ... تسمو النفوس ويخشع الوجدان فالصوم تزكية النفوس وطهرها ... ولكبح كل زرية ميزان والصوم تربية الضمير فمن سما ... فيه الضمير تألق الإيمان كم صائم والصوم منه مبرؤ ... وبرجسه يتفاخر الشيطان صوم الجوارح أن تكف عن الأذى ... لا صوم في صوم به أضغان والصوم صدق وانطلاق عزيمةٍ ... في الله يكبو دونها الكسلان والنصر في بدرٍ وجالوتٍ أما ... أزكى عزيمة جنده رمضان كم صاغ دين الله أعظم قادةٍ ... بهم ازدهت وتفاخرت أوطان في الليل رهبان قيامٌ سُجّدٌ ... وإذا النهار أتى هم الفرسان تلقاهم القرآن في أخلاقهم ... وسلوكهم هم للهدى عنوان سل أرض أندلس تجبك حضارة ... وعدالةٌ غنَّت بها الأسبان الفتح بالأخلاق قبل سيوفهم ... كان الأساس وما بهم عدوان يا أيها الشعر العظيم تحية ... هل منك درسٌ يأخذ الإنسان

شهر الصيام لصالح أحمد البوريني

في عصرنا عصر الفضاء وذرة ... يغلي بعالم عصرنا بركان والعلم ما هو للسلام وإنما ... هو في التقدم يسحق العمران مقياس حسن الاختراع وخيره ... كم من نفوسٍ تأكل النيران إن الوحوش بغابها قد روعت ... وخلا من الغاب القصي أمان عجبا أيا رمضان ما أنا قائل ... عيَّ البيانُ فهل لديك بيانُ وكأنني بالصوت ملء مسامعي ... وهديره رعدت به الآذان عودوا لينبوع الضياء فإنه ... فيه السعادة إنه القرآن (1) شهر الصيام (*) واحة أنت في صحاري الوجود ... ونسيم يرف بين الورود في زمان الجفاف أنت ربيع ... وشعاع في حالكات العهود فيك حارت قرائح ملهمات ... تبعث الشعر من قرار الهمود كل طرف البيان هو حسير ... عن بلوغ المدى ودرك الشهود شق سهم الضياء ستر الدياجي ... فالضلالات هاويات البنود حينما شع في الفضاء بريق ... باسم الثغر من هلال السعود فتح الكون صدره لحبيب ... رحمة الله فيه بعض الوفود لبس الكون حلة الطهر منه ... حين وافى على ثنايا الوجود نشر النور في دروب الحيارى ... أطلق القلب من إسار القيود يا حبيب القلوب أنت قريب ... ما طواك الزمان خلف الحدود

_ (1) مجلة منار الإسلام. (*) ديوان شعر لصالح أحمد البوريني.

إيه شهر الصيام أقبلت تسعى ... صادق الوعود وافيًا بالعهود مشفق القلب مخلص الود تبغي ... وصل من كان مخلفًا للوعود مشرق الوجه ما رجاؤك إلاَّ ... أن تتوب الحشود إثر الحشود زائر الخير أنت فينا كريم ... ولطيف المقام حلو الورود وافد البشر أنت ضيف عزيز ... والمضيفون في شتات الجهود جمع الشمل أيها الشهر إنا ... في اشتياق لكسر طوق الجمود وحد الصف ما أرى الناس إلاَّ ... تتمنى زوال هذي الحدود أيها الشهر أنت سفر المعالي ... أنت شمس الزمان بين العقود أول الحظ ر-حمة -تتلألأ ... تزرع الحب في فؤاد الحقود تنزع اليأس من قلوب عصاة ... أمل العفو حظ أهل الجدود بشر التائبين بشرى أمان ... يا نعتاق من خزي نار الخلود وهنيئًا للمتقين بشهر ... يرف الجود من نداه بجود (1) ***

_ (1) مجلة منار الإسلام.

اعتذار إلى الشهر المبارك لمحمود مفلح

اعتذار إلى الشهر المبارك (*) . جِئْتَ والجُرحُ غائرٌ في فُؤادي ... وحَكايا بُطولَتي كالرَّماد وأنا واقفٌ ألمْلِمُ أشْتاتي ... وأَرْنو إلى وجوه العِبادِ أتَّقِي الشمسَ باليدْينِ وأحْيَا ... في زمانٍ يَنوءُ بالأصْفادِ أيُّ شيء لم يقتلوهُ جِهارًا ... أو يَبيعوه جُمْلةً في المزادِ؟ حملوا جُثَّةَ الضَمير إلى القبرِ ... وعادوا في خَشْعةِ الزُّهادِ!! *** أخْمدتَنْي ضراوَةُ الغزْو حتى ... بِتُّ أغْزو منْ شِقْوَتي أولادِي وعلى وقْع خُطوتِي نَبَتَ الإثمْ ... وَضَجَّتْ في مِخلبي أحْقادِي عصرنُا يَا شقِيقتي عصُر صَيْد ... كمْ هتَفْنا لِجُرْأةِ الصيادِ *** جئتَ يا شهرَنا العظيمَ فَإنّي ... خَجِلٌ منكَ من خُطاي وزادي جئتَ بالسيفِ والجوادِ ولكنْ ... أيْن من أدْمنوا ظُهُورَ الجيادِ هَا هُوَ السيفُ قد تَكَفَّنَ بالصمتِ ... تَوارَي في عتْمة الأغْمَادِ أكلتْهُ السُّنونُ.. بال عليه الدَّهـ ... ـر.. أضْحى أُلعَوبةً للقُرادِ فَقَدَ الشهوةَ الحميمةَ للضّرْبِ ... تَوَارى عنْ مسرح الأمجادِ وعَلَى بابنا يَمُوءُ جَوادٌ ... لمْ أجِدْ فيها (مَلمَحا) للجواد لمْ تُفجرْهُ عاصِفاتُ الليالي ... لا وَلا هزَّه الأسَى في بِلادي ***

_ (*) محمود مفلح من ديوان "إنها الصحوة إنها الصحوة".

إيهِ يا شهرَنا العظيمَ فإنّي ... سَقَطتْ أصْبُعي وضاع زِنادي! مُنذُ قَرْن وفي فَمي أغْنِيات ... لمْ تُحرِّكْ شرارة في الرمادِ لَطَمَتْ وجهِيَ الأعاصيرُ هانَتْ ... في عُروقي عَرَاقَةُ الأجْدادِ بَيْنَ كأسٍ وقَيْنَة بِت أحيا ... مُسْتَهَامًا بِقَدِّها المَيادِ *** نحن يا شهرَنا العظيمَ غَدَوْنا ... أرْنبات تَفر منْ صيادِ وغَدَتْ خيمةُ الأخوةِ في الريح ... بِلا أعْمُد (1) ولا أوْتادِ كتَبتْنا الأيام في هامِشِ السطرِ ... رَوَتْنا من غيرِ ما إسْنادِ كمْ بَتَرْنا يَدَ الأثِيم فصِرْنَا ... نَلثُمُ اليومَ خِنجر الجلاد سيدا واحدًا عَبَدْنَا وَها نَحـ ... ـنُ نُعَانِي من تُخْمةِ الأسْيادِ *** عُفْوَ طُهْر الأنْفاسِ منكَ فَإني ... قدْ فَقَدتُ النجيب منْ أولادي ملعب، للنُّجوم أنتَ وفوق النجم ... شَعَّت فيما مضى أعْيادي فيكَ غَنَّتْ بمسْمَع الدهرِ "بَدر" ... وحَدَا موكبَ الرجالِ الحَادي وتَلَوْنا الأوْرادَ فيكَ فرَاحَ ... النصرُ يَجْري على خُطَا الأوْرادِ وهدَمْنا مَنَابرَ الشركِ حتى ... فَقَدَ الشركُ ظله في بلادي مَنحَتْنا الآياتُ وجْها فكنا ... وانْبِلاجَ السَّنَى على مِيعادِ *** إِيهِ يا شهرَنا العظيم شُموخا ... قَدْ تَنَسمْتُ منْ شَميم الوادي ضُمنَا ... ضُمنا إليكَ فَإنا ... لمْ نَزَلْ من بَنيكَ وَالأحْفادِ أطلِقْ الرُّوحَ من عِقالِ التَوابيـ ... ـتِ وزينْ أيَّامَنَا بالجِهادِ

_ (1) أعمُد: أعْمِدَةُ.

رمضان الشاعر يس الفيل

رمضان (*) بالحب فيِك.. تلاقَتْ الأرواحُ ... أتُرى.. عليها -إذ تبوحُ- جناح؟ تمضي شهورُ العام.. وهي مع الهوى ... تمضي، وفي غبنِ الهوى تنداحُ ويلوحُ طيفُك.. بعد غيبتك التي ... سكنت بليل، لم ينرْهُ صباحُ فإذا بهذا الحب.. يورقُ صحوةً ... وإذا بِمَن ألِفُوا الكساحَ.. صِحَاحُ وأذا بأفياء الهداية برزخ ... يَلِجُ القلوبَ عطاؤُه الفوَاحُ وإذا بصوتِ الحق يهتفُ: يا ربا ... تيهي.. فكَمْ لكِ في الصيام فَلاحُ *** رمضانُ.. منذُ وعيتُ.. أنتَ بخاطري ... فوق البيان.. وإن زهَا.. فسماحُ كل التصور دونَ قدرك روعة ... كُل الموارد -إنْ أردتُ- شحاحُ .. ماذا أقول، وفيكَ يعجزُ منطقي؟ ... أتراهُ يسبر غَوْرَكَ الملاحُ؟ يا زورقَ الحُث اتئد برغائبي ... وأعِنْ.. فإن دمَ المُحَبِّ مباحُ عُدْ بيَ إلى جزرِ العقيق.. وخلني ... زمنًا.. تغازلُ رشفتي أقداحُ عَلي إذا امتلكَ الطريقَ. توقدي ... وهَفَا إلى نغم اليقينِ براحُ أشدو.. بما لِمْ تَسْتَطِعْهُ مزاهر ... صَدِئَتْ.. ولم ينهضْ بها إصلاحُ عَلِّي أصوغُ من البَيَانِ يتيمةً ... تزهو بها، وتفاخِرُ الألواحُ أنا في رحابكَ.. تستحيل حقيقتي ... ملأ.. عليه من الصفاء وشاحُ قد يستبدُ الجوع بي، ويهُدني ... ظمأ.. ويخفت في مداي كفاح

_ (*) ديوان شعر للشاعر يس الفيل.

رمضان الشاعر الكبير محمد حسن فقي

لكنَّ تقوى الله.. تحفزُ همتي ... ويشدُ من أزري لديكَ صلاحُ وأراك يا رمضان.. رحلةَ مؤمن ... ألِفَ الطريقَ، وآنستهُ بِطَاحُ وأراك حينَ تجيءُ.. توقظُ مَا غَفَا ... عامًا، بقلب أثخنتهُ جراحُ فإذا بآلاء اليقين تُظِلُني ... وإذا المحبةُ.. غدوةٌ ورواحُ وإذا أنا روحٌ تحلِّقُ في المدى ... لسنىً يلوحُ، وللصفاء يتاحُ *** حسبي رضا.. أن أستظلَ بليلةٍ ... هي للمُحَاسَبِ.. في الحسابِ.. نجاحُ حسبي.. وحسبُ العمر.. أن جهادَنَا ... بالعمر.. أوْرَقَ.. أمْ طَوَتْهُ رياحُ والعمرُ.. في دَرَك الغِوَايَة رحلةٌ ... تجتاحُها.. أنَّي مَضَتْ.. أشْبَاحُ فإلامَ يا رمضان يَلفَحُنَا أسى ... وبنا تدورُ.. على القلوبِ.. رِمَاحُ؟ جَمِّعْ قلوبَ المسلمين.. على الهُدَى ... إن الصَفَاءَ علَى يَدَيكَ مُتَاحُ وأنرْ لِمَنْ غُلِبُوا شِعَاب جهَادِهم ... فالمتعَبُونَ علَى المروءةِ ناحُوا إنا علَى الإيمانِ.. رَغمَ جِرَاحنا ... نخطو.. ونأملُ.. أنْ يُطِل صَبَاحُ رمضان (*) رمضان.. في قلبي هما هم نشوة ... من قبل رؤية وجهك الوضاء وعلى فمي طعم أحس بأنه ... من طعم تلك الجنة الخضراء لا طعم دنيانا، فليس بوسعها ... تقديم هذا الطعم للخلفاء ما ذقت قط ولا شعرت بمثله ... أفلا أكون به من السعداء ***

_ (*) ديوان للشاعر الكبير: محمد حسن فقي.

قالوا بأنك قادم، فتهللت ... بالبشر أوجهنا.. وبالخيلاء وتطلعت نحو السماء نواظر ... لهلال شهر نضارة ورواء تهفو إليه، وفي القلوب وفي النهى ... شوق لمقدمه، وحسن رجاء لم لا نتيه مع الهيام.. ونزدهي ... بجلال أيام.. ووحي سماء؟ بهما نحلق في الغمام، ونرتوي ... من عذبه.. ونصول في الأجواء ونشف أرواحًا فننهج منهجًا ... نفضي به لمرابع الجوزاء ونصح أجسادًا، فلا نشكوا الونى ... أبدل ولا نشكوا من الأدواء فنعود كالأسلاف أكرم أمة ... وأعز في السراء والضراء *** رمضان.. ما أدري ونورك غامر ... قلبي فصبحي مشرق، ومسائي أأنال بعد مثالبي ومساوئي ... بك منهما، بعد القنوط شفائي نفسي تحدثني بأنك شافع ... عند المهيمين لي من الأسواء وبأنني سأنال منك حمايتي ... ووقايتي من معضل الأرزاء ما أنت إلا رحمة ومحبة ... للناس من ظلم قسا.. وعداء فلقد كرمت من السماء بما أتى ... من وحيها.. وشرفت بالإطراء سدت الشهور فأنت سيد عامها ... بل أنت سيد دهرها المتنائي مهما أقول، فلن تطول مقالتي ... شم الذرى، ولوامع الأسماء *** رمضان.. من بعد الكدورة مسني ... منك الجلال بحكمة ونقاء قد كنت أسدر في الضلال وأرتمي ... في حضنه بتبذل وغباء

حتى لقيتك فارعويت عن الخنى ... وكرهت كل ضلالة وعماء شتان ما بين الخلاعة والتقى ... أو بين عقل نابه وخواء *** رمضان جئت وقومنا في محنة ... والدين.. جازت حدها.. نكراء زعماؤنا -إلا القليل- تورطوا ... فيها، فشقوتنا من الزعماء صبغوا الصوارم من دماء شعوبهم ... في الأرض، والأجواء والدأماء تلك الدماء زكية يا ليتها ... سالت لأجل كرامة وجلاء وتنكروا للدين، فهو خرافة ... في زعمهم جازت على الآباء حتى غدونا في صميم بلادنا ... شذاذ آفاق من الغرباء إن الزعامة حين تخضع رغبة ... في الحكم.. تصبح لعنة الشرفاء كلا، فلا بالدين يعصف كيدهم ... أبدًا، ولا العربية العرباء الدين صرح شامخ متوسد ... كنف الجبال، وهامة الصحراء لم تجد فيهم حكمة ووداعة ... بالهمس.. أو بصراحة الصرحاء فإذا استحى أو خاف منهم خائف ... من سوء دعوته.. دعا بخفاء سخروا بكل مسالم.. وتهكموا ... جهلاً وموجدة على الخلصاء الفرد يعصف بالجماعة ضاربًا ... صفحا عن التشريع والإفتاء فإذا نصحت له تنفج وانتضى ... سيفا يسيل دما على النصحاء لو لم يكن نذلا لما حسب العلا ... وقفا ولا إرثا من الآباء مهلا.. فرب جريمة لم تنتقم ... من ربها انتقمت من الأبناء ولربما عجلت فراح بطعنة ... ممن أسال دماءهم.. نجلاء

كم أرعن أوحت له نزغاته ... بالموبقات.. فلج في الإفناء ريعت به الدنيا وزلزل سمعها ... وضميرها من أسوأ الأنباء لكنه استخذي وقد لاحت له ... نذر الصوارم أيما استخذاء سحقا لطاغية إذا نزلت به ... أقداره أمسى من الجبناء يبكي الذي سفك الدماء بريئة ... تعسًا له من سافك بكاء من سامنا خسفًا ولاقى مصرعًا ... لم يلق غير شماتة وهجاء *** رمضان أثقلنا عليك ولم نكن ... يومًا على أحد من الثقلاء عفوًا، فإن نفوسنا في نشوة ... تسري من الأعضاء للأعضاء من بعد ما اصطبرت على لأوائها ... رقصت وقد وافيت من لألاء محبورة بثوابها.. مغمورة ... بعطائها.. مسرورة بلقاء لازلت فينا قادمًا ومودعًا ... تسدي فنثني نحن خير ثناء *** يا ذا الجلال.. وأنت خير مؤمل ... للخاطئين.. وأنت خير وقاء أوغلت في سبل الهوى فإذا الهوى ... يمسي وطائي المشتهي وغطائي وفناؤك الممتد أرحب ساحة ... من أن يضيق بآثم خطاء ضاقت علي منازلي ومرابعي ... ومسالكي.. وجفا الجنوب كسائي ودلفت في جنح الدياجر خائفا ... ونكصت حين أبى عليّ فنائي لم يبق لي إلاك فارحم آبقًا ... من ناره.. بالروضة الغناء إني أحن لزهرها وثمارها ... وتحسن برد ظلالها أحشائي

سأطوف في أرجاائها متهللاً ... متوسلاً بعقيدة سمحاء رغم الأثام ثوت بصدري صخرة ... شماء لذت بها من الأنواء يا صخرتي الشماء.. إن تتوسلي ... لله أشد بصخرتي الشماء فأنا الفقير إليه في ملكوته ... والفقر يقصد سيد الكرماء ما أستريب بعدله وفضله ... أو أستريب بتوبتي ودعائي (1) ***

_ (1) مجلة المنهل العدد (503) .

رمضان للشاعر محمد بن علي السنوسي

رمضان (*) رمضان يا شهر الصيام الحـ ... ـر من أسر الظلام أطلق بأضواء الهدى ... أسر النفوس من الحطام وأنر بقدسي الصفاء ... رؤى الحياة من القتام وانضح عواطفنا تقى ... وأكمر نوازعنا وئام رمضان يا أمل النفوس ... الظامئات إلى السلام يا شهر بل يا نهر ينهل ... من عذوبته الأنام طافت بك الأرواح سابحة ... كأسراب الحمام بيض يجللها التقى ... نورًا ويصقلها الصيام رفافة كشذى الزهور ... نقية كندى الغمام شفافة الإحساس قانتة ... مهذبة الكلام عزت على الأهواء ... وارتفعت على دنيا الرغام وسمت إلى النور الذي ... غمر الوجود به ابتسام نور من الفرقان يرفعها ... إلى أسمى مقام آياته تشفى السقام ... ولفظه يطفي الأوام رمضان معذرة فإنا ... لا وراء ولا أمام نمنا وأسرى المدلجون ... وما عسى يجد النيام؟ طال الطريق بنا وضل ... وهذا منكبنا الزحام

_ (*) شعر محمد بن علي السنوسي.

ولوى الطموح عنانه ... وانقد من يدنا الزمام سخرت بنا الأهواء ... وانطلقت تقهقه في عرام وتخاذلت همم النفوس ... فلا انطلاق ولا اقتحام حال يغص بها الكرام ... شجى ويبتهج اللئام رمضان رب فم تمنع ... عن شراب أو طعام ظن الصيام عن الغذاء ... هو الحقيقة في الصيام وهوى على الأعراض ... ينهشها ويقطع كالحمام يا ليته إذ صام صام ... عن النمائم والحرام واستاك إذ يستاك عن ... كذب وزور وإجرام وعن (القيام) لو أنه ... فيما يحاوله استقام رمضان نجوى مخلص ... للمسلمين وللسلام تسمو بها الصلوات ... والدعوات تضطرم اضطرام لله جل جلاله ... ذي البر والمنن الجسام أن يلهم الله الهداة ... الرشد في كل اعتزام (1) ***

_ (1) المنهل العدد (502) .

رمضان للشاعر الكبير حسين عرب

رمضان (*) بشرى العوالم، أنت يا رمضان ... هتفت بك الأرجاء والأكوان والشعر والأفكار، وهي عتية ... ينتابها لجلالك الإذعان لك في السماء كواكب وضاءة ... ولك النفوس المؤمنات مكان *** الشرق، يرقب في هلالك طالعًا ... يعنو لديه، الكفر والطغيان وبك استهام فؤاد كل موحد ... يسمو به الإخلاص والإيمان سعدت بلقياك الحياة، وأشرقت ... وانهل منك، جمالها الفتان وتعلمت عنك الحصانة والحجى ... فانجاب عنها، الهم والخذلان وتذكرت فيك العروبة، مجدها ... هل مجدها، إلا الذمار يصان *** يا باعث الآمال، تخفق ثرة ... بالخير، ليس يشوبها بهتان ومحرر الأخلاق، من قيد الهوى ... إن عمها من زيغه طوفان بشراك، تفتر الثغور، لوقعها ... جذلا، ويخفق خاطر وجنان والبشريات صدى النعيم المرتجى ... نصتْ به الآيات والأيان ما إن تمرد عن نظامك معشر ... إلا وحق عليهم الخسران العبقرية فيك، جلجل صوتها ... لما تنزل بالهدى القرآن الدين عنها والحياة، تفردًا ... مجدا، وفاض بنورها الوجدان وتهلل الحق الصراح بنفحة ... علوية، فيها هدى وبيان

_ (1) ديوان الشاعر الكبير حسين عرب.

يا مشعلا قبس الحقيقة، بعد أن ... أعيت عن استقصائها، الأذهان ومبددا حلك الضلالة، حينما ... عم الدنا، من زيفها فيضان كانت كما زعم الغواة (حضارة) ... يختال فيها الفرس والرومان ذلت وذل على المدى عُبّادهُا ... في الغابرين، وشاه منها الشان ولقد طلعت بشمسها، مدنية ... قدسية، تعنو لها الأخدان شيدت علي الحق القويم، فشيدت ... مجدا، يسير بذكره الركبان *** أشرق بنورك في الربوع، وكان لها ... أملاً، يزول بلمحه العدوان واذكر (فلسطين) الذبيحة، أرضها ... مجلى الردى، وسماؤها نيران فجر اليهود بها، وزاد فجورهم ... مستعمر، بعهوده خوان دارت عليها الدائرات فأصبحت ... ينساب فيها، البؤس والأحزان شيخ تخضب بالدماء، ومصلح ... يُنفى وحام للذمار يهان وفتى يعذب في السجون، وغادة ... تسبي، وطفل دمعه هتان تلك الحضارة تنجلي أسرارها ... عنهم، فلا كانت ولا هم كانوا تدمي العيون لها، ويرتاع النهى ... من هولها، وتصدع الآذان (1) **

_ (1) مجلة المنهل العدد (502) .

رمضان عدت ولم تزل للشاعر أحمد سالم باعطب

رمضان.. عدت ولم تزل (*) رمضان بالحسنات كفك تزخر ... والكون في لألاء حسنك مبحر يا موكبًا أعلامه قدسية ... تتزين الدنيا له وتعطر أقبلت رحمى فالسماء مشاعل ... والأرض فجر من جبينك مسفر وبسطت بالقربات مائدة الهدى ... تلقى بها الأرواح ما تتخير هتفت لمقدمك النفوس وأسرعت ... من حوبها بدموعها تستغفر لأمت بتوبتها جراح ذنوبها ... والنفس تسمو بالصيام وتطهر *** رمضان بالقرآن ليلك عاطر ... ويطيب يومك بالدعاء ويزهر كم للبطولة فيك من إشراقة ... بالنصر تسحب ذيلها تتبختر فجرت بي بدر ينابيع الفدا ... كثبانها مسك يضوع وعنبر أرض تربّي النبل في جنباتها ... نشأت تسبح ربها وتكبر أرض من الإيمان تنسج درعها ... إن دق ناقوس الوغى تتفجر عزفت سنابك خيلها أنشودة ... أودى بها كسرى وجن القيصر *** وحملت من حطين أروع لوحة ... مازلت ذا شغف بها تستأثر وشهدت معركة العبور صحيفة ... في المجد تهزأ بالغزاة وتسخر ***

_ (*) ديوان شعر للشاعر أحمد سالم باعطب.

رمضان عدت ولم تزل خطواتنا ... في كل منعطف بنا تتعثر رمضان إنا الصابرون على الأذى ... تدمي مشاعرنا ولا نتأثر رويت سيوف عداتنا وسيوفنا ... ببيض تكاد من الصدى تتكسر رمضان عدت ولم تزل كلماتنا ... يغتالها الصمت الرهيب فتقبر رمضان عدت ولم تزل بسماتنا ... تصلى العذاب على الشفاه فتصهر لا النصح أخصب حين أجدب وعينا ... أبدًا ولا عذر يقال فنعذر يكفي عقوقًا أننا من غفلة ... نختال في نعم الإله ونكفر أرواحنا كلت بها عزماتها ... جوعى تسحّر بالوعود وتفطر رمضان عصر الظلم أخرج قيأة ... في جعبتي صفاقة وتجبر والسلم مهزلة يبيع فصولها ... زمن بقانون الحجى متحجر والعدل مات قبيل سن بلوغه ... قتلته أطماع عليه تسيطر هذي سراييفو تئن وما رأت ... من أهلها من يستجيب وينصر عقمت ديار المسلمين فلم يعد ... زيد بن حارثة يصول وجعفر *** رمضان إن أبصرتنا في غابة ... أسرى وروض الطهر فينا مقفر ورأيتنا أمما ممزقة الخطا ... وشبابها بمصيرها مستهتر وتبدلت أخلاقها وتحورت ... فالخوف حلم والضياع تحرر والغدر حزم والخيانة فطنة ... والصبر أن تحيا وحقك مهدر فارفع يديك إلى السماء لعلنا ... بوسيلة من ربنا نتغير (1)

_ (1) مجلة المنهل العدد (513) .

هلال الرحمة

هلال الرحمة (*) تناظرت الأيام يومًا بخشعة ... لتبدي ما تخفي سترٌ بليلةِ لتكشف ما وَارَى الزمان بكنهه ... وتظهر ما يحويه منها بسبحةِ لتطلب حقًا في التساوي فكلها ... دقائق تمضي في الزمان بلمحةِ ودورة ساعات النهار بسعيه ... وكبوة أجفان الليالي بظلمة فهذا زمان الناس يوم وليلة ... وكلّ زمان الناس عدٌ بقسمة وكل شهور الناس أيّامُ تنقضي ... وكلّ سنين الناس تمضي بحسبة فيا لقضاء الحق أحكم بأزْمُن ... لنيطق بيان العدل فينا بشرعة ومن يا تُرى قاضي لتلك بليلنا؟! ... لنرقب ما يقضي بتلك القضية! *** فطَلَّ هلال في السماء برونق ... يموج ويعلو في الفضاء كَدُرَّهِ يسير ويسْري في المنازل سابحًا ... ويمضي بآلاء الإِله العظيمة رويدكم يا أيها الصحب وقفةً ... بعين بصير بل بنور البصيرة فنحن جديد الناس بيضٌ كصفحة ... ونحن سويعات الدهور لجولة ندور ونجري في الزمان وكلنا ... يعد عن الإنسان يمضي بنسخة ونأتي بكورًا كي يسطر فعله ... فكلّ حريُّ أن يصان بهمة وكل حري أن يسجل بالهدى ... ويكتب بالإحسان سعيًا لجنة ولكن أَزْمَانَ الإِله تفاضل ... بمحكم تنزيل الكتاب وسنة ***

_ (1) ديوان للشاعر/ محمد عبد الرحمن صان الدين.

فذا عرفات الحج أعلي مقامُه ... وفُضِّل عن أيامنا بمزية وذا بشهور الناس شهر مبارك ... وذا بليال الناس فاز بسورة وإني هلال الصوم من ذا يفوقني ... أُهلُّ على الإنسان في خير طلعة ففيّ جهاد النفس تغدو كليلةً ... وتسمو على دنيا المتاع الرخيصة ويعلو هتاف العقل صوتًا مدويًا ... ليسري بقاعات الضمير برعشة وفيّ تَشفُّ الروحُ ترقى لتعتلي ... لتنعم فيوصل العوالي الزهية وتضحي قلوب المؤمنين رهيفةً ... وتشرق أغوارُ الفؤاد برحمة *** أنا رمضان الخير بشرى إلى الورى ... أنا رمضان الزاد بين العشيرة أنا رمضان البر جودوا ببركم ... أنا رمضان الفوز جدوا لجنة فهل يَا تُرى شهري كمثل شهوركم؟! ... وفيّ تباريح القلوب بأنه وفي قيام الليل زلفى لخالقٍ ... وفيّ تراويح العباد بِذِلِةِ وفيّ كتابُ الله أنزل للورى ... ليحكم بالإحسان بين البريةِ أتانا بنور الحق يسطع بالهدى ... لتشرق أعماق القلوب بحكمة أتانا بهدي الله والعدلُ حكْمُهُ ... أتانا بآيات الكتاب السّنية بليلةِ قدر لا تبارى وفضلها ... حريّ بأن يُسعى إليها بعزمة ففيها فيوض من كريم بفضله ... وفيها غياث للعباد برحمة وفيها عظيم القدرِ والقدرُ عنده ... فيارب وفقنا لتلك المثوبة ويارب اقبلنا بشهر فضيلة ... ويارب أعتقنا بشهر المبرة ***

أنا صائم للشاعر محمد هاشم رشيد

فهيا إلى الرحمن يا ناس أقبلوا ... بقلب سليم من دنايا الدنية نشمر عزم الجد شوقًا لنوره ... ونمضي على درب الصراط السوية وأن نُشْرعَ الأفلاكَ في بحر توبة ... لعل شراع التوب يحظى بمنة وعل شراع الأوب يلقى قبوله ... ليحظى برضوان الإله وروضةِ فأطرقت الأيامُ خجلى منيبةً ... ودانت لحُكْم الحق ذاكم بميزة ودانت شهور الناس للصوم وانبرت ... تقبل أعناق الهلال برغبة وطابت نفوس القوم والجمع بهجة ... برؤية إشراق الهلال بطلة وقالوا أبا الخيرات عذرًا لجمعنا ... وأهلا بشهر الصوم شهر المحبة أنا صائم (*) أنا صائم.. ومضى يتمتم في خشوع وابتهال وعلى أسرته المضيئة.. بالقداسة.. والجلال فيض من الأنوار.. يومض كالصباح على التلال كصحيفة الأبرار.. كالقلب المعدل بالوصال *** وبناظريه تسأول.. عذب تدفق في حنان وتطلع يطوي المدى.. وبغوص في لج الزمان فكأنما عيناه في.. ثبج الأشعة كوكبان أو كوتان.. مطلتان.. على فراديس الجنان ***

_ (*) للشاعر محمد هاشم رشيد.

أنا صائم.. ومضى يتمتم.. لم يثر.. لم يعتد لم تنتفخ أوداجه.. حنقا.. ولم يتهدد لكنه عبر الطريق.. وسار نحو المسجد بسكينة القلب الوقور.. ونشوة المتعبد *** أنا صائم.. ومضى يتمتم.. وهو يرنو للسماء والطهر وشحه.. ولفعه.. بأردية الضياء لم يصغ للكلم المسف.. ولا تطاول لاعتداء بل سار في ألق القداسة.. تحت أجنحة الصفاء *** ومضى يفكر.. لم يعد للتمتمات على الشفاه إلا اختلاج صامت.. تعيا المدارك عن مداه أنا صائم.. وأنا هنا.. مازلت.. انتظر الصلاة لكنني.. ماذا صنعت؟ وما سأصنع.. للحياة؟ *** هي بضع ساعات.. وأغرق في الشراب وفي الطعام وأعود أشعر بالدم المنساب.. ينتشل الحطام لكن إخوتي الضعاف النائمين على الرغام

الصائمين عن الحياة المفطرين.. على الحمام *** ماذا صنعت لهم؟ ولم أصنع سوى النزر اليسير ولدى من نعم الإله وبره الفيض الغزير مالي سأتركه.. يعانق كل ذي قلب كسير ويداي أجدر بالسلاح.. لرد عدوان المغير *** وأتى المساء.. ولم يجيء فطفقت أنتظر الصباح وأنا أحاول أن أراه.. في الغدو أو الرواح حتى بصرت به.. يطل إليّ.. من ألفي وشاح يختار فيها المعدمون.. بأوجه غر صباح ورأيته.. أبصرت صوته.. وقد حمل السلاح ومضى مع الثوار.. يدلج في الروابي والبطاح والتمتمات البيض في شفتيه.. في لون الجراح فعرفت أسرار الصيام وكنه "حي على الفلاح" ويقول الشاعر: يا شهر مفترض الصوم الذي خلصت ... فيه الضمائر والإخلاص للعمل أرمضت يا رمضان السيئات لنا ... بشربنا للتقى علا على نهل وليت ظلك عنا غير منتقل ... بصالح وخشوع غير منفصل وليت شهرك حول غير منقطع ... صوم وبر ونسك فيه متصل

ويقول محمد توفيق خانكي تحت عنوان: "خواطر صائم": يا من إذا مرض الإنسان يشفيه ... أوْ جاع يطعمه أو هام يسقيه فرضت فرضًا علينا كم نقدسه ... وبارتياح لدينا كم نحييه أهلاً بشهر صيام فيه غبطتنا ... وفيه لذتنا فيما نعانيه من كان ذاق الطوى أو كان في عطش ... طول النهار وذكر الله في فيه أغناه عن كل ما أضحى يغذيه ... وصار أعذب من ماء يرويه الآمنا لرضاء الله ملجؤنا ... إليه يا حبذا ما قد تعانيه قد خص بالعز دومًا أهل طاعته ... وخصّ بالذل عبدًا راح يعصيه فكم يذوق محب من صبابته ... صنوف مسغبة غبراء ترديه يحيا ويفرح مذ يلقى القبول فلا ... تحجم أخا الحب عن قرض تؤديه (1) ويقول شاعر آخر: شهر الشهور أتى بالخير أجمعه ... عن سابغ العفْوِ والغُفران لم يَحُلِ فيه الشياطين قد سُدَّتْ منافذُها ... وسُلسِلَتْ مَالَهَا في الشر من أمل! يا نفس للفوز هذي فرصة سَنَحتْ ... دَعِي الوساوسَ والزَّلات وامتثلي فَقُوتِكِ اليوَم: أذكار وأدْعية ... مِلء المحارِيب، ملِء السهْلِ والجبل أما الشرابُ، فكأس لا شراب بها! ... فمِلؤُها الصَّفْوُ يَشْفي شِرة الغُلل صفْو بِهِ الروح ترقى في معارجها ... والجسم يسمو عن الإفراط في الأكلِ ***

_ (1) "قرة العين في رمضان والعيدين" لعلي الجندي (2/16) .

قصيدة للأخضر الجزائري

محمد الأخضر الجزائري عن هلال رمضان: املأ الدنيا شعاعا ... أيها النور الحبيب اسكب الأنوار فيها ... من بعيد وقريب ذكر الناس عهودا ... هي من خير العهود يوم كان الصوم معنى ... للتسامي والصعود ينشر الرحمة في الأر ... ض على هذا الوجود يفتح الأرواح للحب ... ويمضي بالصدود وتكاد العين أن تنظر ... من خلف الحدود وتكاد اليد أن تلمس ... أسباب الخلود هو عهد قد تقضى ... كله بر وجود وفي وداع رمضان: بالأمس أقبل مشرق الميلاد ... شهر التقاة وقبلة العباد في موكب الأفراح خط رحاله ... وأقام في بشر وفي إسعاد حلم يمر وفرصة مرغوبة ... كالطيف لا كبقية الآماد واليوم شد إلى الرحيل متاعه ... قد زود الدنيا بخير الزاد لا أوحش الر-حمن منك- منازلا ... خير الليالي بين كل معاد رمضان تأتي والوجود معرس ... وتجيء أثرك بهجة الأعياد وإذا عزمت على الرحيل فإنما ... حزن الفراق يحز في الأكباد (1)

_ (1) ديوان "فلسفة الحياة" (60) ، لعبد الغفار الدلاش.

أمل السماء قصيدة ليس الفيل

مصطفى حمام: أنا يا شهرنا الكريم وفيّ ... أنا باق على هوى رمضان إن أيامك الثلاثين تمضي ... كلذيذ الأحلام للوسنان أمل السماء (*) تتغير الدنيا.. ولا تتغير ... ومدى الزمان تجيء، لا تتأخر في كل عام أنت أكرمُ زائر ... للأرض، تهدي من بها يتعثر لكننا.. والظلم يفترش الربى ... ونفوسنا مما تبرى تتحسر لم ندر كيف إلى التسامي نهتدي ... والأقوياء على الضعاف تجبروا *** رمضان.. يا شهر التحرر، ليتنا ... من جاهلية فكرنا نتحرر رمضان تأتي واللظى يغتالنا ... والحب في جنباتنا يتكسر والظلم يفتد بالأحبة، والمدى ... مما يراه، على المدى يتفجر والجوع يفترس العباد، فترتمي ... كتلا مواكبُهم، هنا تتضور وخزائن الأموال خلف سدودها ... بِضراوة الحرمان.. لا تتأثر *** حتام يا رمضان يصرخ جائع ... ويئن ظمآن.. ويسقط معسر؟ الصوم فيك فريضة، ولحكمة ... شُرِع الصيامُ لعالم يتدبر

_ (*) ديوان للشاعر يس الفيل.

قصيدة للشاعر محمد الأسمر

لكننا.. والنفس مال بها الهوى ... نعدو.. ولكن الخطى تتقهقر فإلى متى هذا الضلال وعالمي ... رغم الغواية بالهداية أجدر؟ *** رمضان يا أمل السماء لأمة ... بك لم تزل عبر المدى تستبشر ثبت على التقوى قلوب أحبتي ... وامنح هداك لعالم يتدهور واهد الهداة إلى مرافيء دينهم ... واحفظ خطاهم في الطريق ليعبروا واحمل إلى ملأ السماء تحية ... من أمة بصيامها تتطهر ما زلت يا رمضان أكرم زائر ... للأرض، تهدي من بها يتعثر ولسوف تبقى فرحة أبدية ... ليست تُمل، وإن تكن تتكرر (1) *** يقول الشاعر محمد الأسمر في ديوانه "بين الأعاصير" (592) : رعى الله شهر الصوم أما نهاره ... فغاب وأما ليله فهو ساهرُ وحيّا رجالاً حين لاح هلاله ... مشت بهم مشي النسيم البشائر بطان إذا ما الشمس أرخت قناعها ... خماص إذا ما أقبلت وهي سافر خضوعًا لمن فوق السموات عرشه ... ويعلم منهم ما تكن السرائر هو الله فاعبده العبادة كلها ... إذا راح يلهو بالعبادة فاجر * ويقول الشاعر مصطفى حمام: انفثوا السحر يا رجال البيان ... فأطيلوا الحديث عن رمضان العزيز الحبيب اسْمَح منْ أهل ... علينا وأكرم الضيفان

_ (1) مجلة منار الإسلام، العدد التاسع - السنة السادسة عشر.

قصيدة للشاعر محمد هارون الحلو

النصيح المعلم الواعظ الها ... دي رسول الحنان والإحسان حدثونا عن راحة القيد فيه ... حدثونا عن نعمة الحرمان هو للناس قاهر دون قهر ... وهو سلطانهم بلا سلطان قال: جوعوا نهاركم فأطاعوا ... خشعا يلهجون بالشكران قال: افنوا الدجى بنسك وذكر ... فتباروا في طاعة الرحمن إفسحوا لي في الذاكرين مكانا ... ومكان في مجلس القرآن هيئوا لي منارة احتفي بالفجر ... فيها مجلجلة بالأذان ويقول الشاعر محمد هارون الحلو: الله أكبر لاح وجه المشرق ... بهلاله وجبينه المتألق رمضان أقبل بالبشائر والهدى ... وبسلسل من بره المتدفق قدس من الصلوات في نفحاته ... ما شاء كل منهمُ أن يستقي حفوا به وقد استحف نفوسهم ... فيض الجلال به وحسن الرونق شهر به غدر الليالي أشرقت ... في الدهر بالأمل السني الشيق مرحى هلال الصوم عدت بطلعة ... وضاء سنا جبين مشرق والله أودع فيك من أسراره ... روحا بغير البر لم يتخلق هو ذلك الشهر الكريم تحدثت ... عن السماء بسرها المتغلق سطعت بنور الله فيك حقيقة ... تهدي لسعي في الزمان موفق ويقول الشاعر محمود جبر: رمضان يا طهر النفوس ... هرعت استجديك وقدك واعف يومك عن الحديث ... لا يطابق منك قصدك

شعر للشيخ عبد الله بن علي في وداع رمضان

وأذيب ليلك في التبتل ... أبتغي الأنوار عندك أنت المفضل في السماء ... وبالكتاب خصصت وحدك يا معبد المتهجدين ... فزعت استهديك رشدك يا قلب ذلك من تحب ... فَسُق له يا قلب وجدك واشرح له شوق الجوا ... رح وابتغ الإحسان جهدك ضل الذي لا يستطيب ... شذا رباك وعرت وردكْ رمضان يا روض الخلود ... أنا اللهيف رجوتُ سعدكْ ويقول الشيخ عبد الله بن علي في وداع رمضان: خليليّ شهر الصوم زمّت مطاياه ... وسارت وفود العاشقين بمسراه فيا شهر لا تبعدْ لك الخير كله ... وأنت ربيع الوصل يا طيب مرعاه مساجدنا معمورة في نهاره ... وفي ليله والليل يحمد مسراه عليك سلام الله شهر قيامنا ... وشهر تلاقينا بدهر أضعناه ويقول الشاعر اليمني عبد العزيز الدريني: أي شهر قد تولى ... يا عباد الله عنا حق أن نبكي عليه ... بدماء لو عقلنا كيف لا نبكي لشهر ... مرّ بالغفلة عنا ثم لا نعلم أنا ... قدد طُردنا أو قُبلنا كان هذا الشهر نورًا ... بيننا يزهو حسنا فاجعل اللَّهم عقباه ... لنا نورًا حسنًا ***

قصيدة للشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري

وأخيرًا مع الشاعر الذي يستمطر الدمع من رقة شعره.. مع عمر بهاء الدين الأميري، وقد كتب في رمضان هذي القصائد. يقول في ديوانه "قلب ورب" في قصيدة "الصيام والغذاء": جدد حياتك بالصيام ... فبالصيام غذاء روحكْ داوِ الذي تشكوا بتقوى ... الله، تبرأُ من قروحكْ واغنم أوَيْقات التجلي ... في الطريق إلى نزوحك اشحذ سُمُوك عن حياة ... اللغو، وادأب في طموحكْ وارقَ الذُّرا ودع الثرى ... طال المقام على سفوحِكْ ويقول في قصيدة "في العبء": يا ربّ ... يا رب.. عبد في صَدَىً (1) وطِوَىً (2) مُوله.. نائس (3) منْ غربة لِنَوى تداولته كف الدهر وانطلقت يسعى به هائمًا في لهفة وجوى قلب مواجعه في خفقة ضرعتْ يدعو.. ويدعو.. ويرجو للعليل دَوا ***

_ (1) الصدى: العطش. (2) الطِوى: الجوع (3) النائس: المتحرك المتذبذب.

قصيدة "رمضان العافية" للأميري

وقال في قصيدته "رمضان العافية": قالوا: سيتعبك الصيامُ وأنت في السبعين مضني فأجبت بل سيشد من عزمي، ويحبو القلب أمنًا ذكرًا.. وصبرًا.. وامتثالاً الذي أغنى وأقنى ويمدني.. روحًا وجسمًا بالقوى معنى ومبنى رمضان عافية فصمة تُقىً، لتحيا مطمئنا ويقول في ليلة القدر قصيدة "نشوة القدر": ما نبا سيفي ولا دهري أبي مُذ تخذت الله فَذا مأربا وتوجهت إلى كرسيه أرمق العرش، وتقديسي ربا مسلفا جسمي وروحي للسنا وخلاياي تعيش الطرب غمر الأكوان بالنشوة في ليلة القدر، سُمْوّا مجتبى

قصيدة "كل وهمته" للأميري

وتجلى النور في قلبي رضًا فاض إنعامًا.. وأسدى وحَبَا ويقول في رمضان في قصيدة "كل وهمته": تتالت دقائقه مطمئنة وفرّت.. ومرّت كبرق الأسنة له وَقْعُه.. ولَهُ لمعُهُ أفانين: فيضٌ.. وفرض.. وسنة وكل وهمته.. والتجلي مشاع، ولله فضل ومنّة فمن كان في قلبه نورُه سما.. ونما في ليالي المظنة ومن كان في القلب ديجوره سألنا له الله كشف الدجنة ويقول في قصيدته "برق في منام ليلة قدر": أبرقٌ؟ وكيف! وما أرعدا؟! أم النورُ في البون.. حرا بدا؟ ومن أي أفق؟ ثرى أم ذُرا ومن أيّ نبع أفاض النّدى؟! تراءى.. ولا.. ليس من وجهة! فلا.. لا ثرى.. لا ذُرا.. لا مدى!

وفي ليلة القدر.. غفوًا وصحوًا متى؟ كم.. وكم؟ أزلا سرمدا وأُسمعت لا من فم نغمةً جِنَانيّة ما لها من صدى تزف لي المجد والسعد في تجلّ.. وتوردني الموردا إذا كدتُ أزلق عن أوجه تبدت.. ومدّت لجذبي يدا وقال لي القلب: إني هنا لديّ السنا.. والمُنى.. والجدا فملت إلى لا نهاياته وبادرني حفقة منجدا وأنعم بالذكر كنهي رضا وأدنى لمنطلقي الفرقدا نضا عن كياني حجاب الهوى وعيني غطىّ.. فلم تشهدا وبصرّ عقلي بسرّ الدنا وقد صاغها ربها معبدا وذراتها.. ذرّة.. ذرّة تُصَلي.. فتابعها واقتدى

قصيدة "رمضان" في وداع رمضان للأميري

وعُدْت رويدا.. رويدا.. إلى جذوري.. وعايشتُها مُصْعِدا ولكن بروحيَ.. شوقي بكى وذوقي ذكا.. وقصيدي شدا وأخيرًا يقول في وداع رمضان - في قصيدة "رمضان": ذهبت راؤُهُ.. ونونُ ختامه فانبرى في الحديث عن أيامه قال شهري مضى.. ويا فوز عبد لم ينم عن صيامه وقيامِهْ.. هو قد برّ نفسه فتصدى للتجليّ.. واشتد في إقدامهْ والرحيم الرحمن برّ مناهُ.. فتجلى له بفيض سلامه أنا حيّ في قلبه، وستبقى ليلة القدر في سنا أحلامه وأخيرًا "حتى ترضى" يقول الأميري.. ونختم بها: لك الحمد طوعًا.. لك الحمد فَرْضا وثيقًا عميقًا.. سماءً وأرضًا لك الحمد صمتًا.. لك الحمد ذكرًا لك الحمد خفقًا حثيثا.. ونبضا

لك الحمد ملء خلايا جَناني وكل كياني.. رنوا وغمضا إلهي وجاهي إليك اتجاهي وطيدًا مديدًا لترضى فأرضي وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين. سيد بن حسين العفاني ***

§1/1